موارد الظمآن لدروس الزمان

عبد العزيز السلمان

بسم الله الرحمن الرحيم فوائد عَظِيمَة النفعِ قال بعضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى سَبِيْلِ النُصْحِ والإِرْشَادِ: يَا هَذَا إنَّمَا خُلِقَتِ الدُّنْيَا لِتَجُوزَهَا لا لِتَحُوزَهَا، ولِتَعْبُرَها لا لِتَعْمُرها فاقْتُلْ هَوَاكَ الْمَائِلَ إِلَيْهَا ولا تُعَوّلْ عَلَيهَا. واعْلَمْ أَنَّ الدُنْيَا مَزْرعةُ النَّوائِبِ ومَشْرَعَةُ المَصَائِبِ ومُفَرّقَةُ المَجَامِعِ ومُجْرِيَةُ المَدَامِعْ. (1) اللِّيْلُ والنَّهار يَعْمَلان فِيْكَ فاعْمَلْ فيهما أَعْمَالاً صَالِحَةً تَرْبَحَ وتَحْمَدِ العَاقِبةَ الحَمَيْدَة إن شاء الله تعالى. فائدة: حفْظُ الأَوْقَاتِ تُفيْد الأَعْمَارَ وَتُكْثِرُ الآثارْ والله الموفق. وَالوَقْتَ أَنْفَسُ ما عُنِيْتَ بِحْفظِهِ ... وَأرَاهُ أَسْهَلَ مَا عَليْكَ يضِيْعُ آخر: ... والعُمر أنفسُ مَا لإنسان مُنْفِقُهُ ... فاجْعَلْهُ في طَاعَةِ الرحمنِ مَصْرُوْفًا (2) المَلائِكةُ يَكْتُبَان مَا تَلفَّظُ به، فَاحْرَصْ عَلَى أنْ لا تَنْطِقَ إلاَّ بِمَا يَسُرُّكَ يَوم القِيَامِة مِن ذِكر الله وما وَلاه. (3) اعْلَم أنَّ قِصَرَ الأمَلِ عليه مَدِارٌ عظيم وحِصْنُ قِصَرِ الأمَلِ ذِكْرُ الموِتِ وحِصْنُ حِصْنِهِ ذِكْرُ فِجْأَةِ الموتِ وَأخْذُ الإِنسان على غِرَّةٍ وغَفْلةٍ، وهُوَ في غِرُرٍ وفُتُور عن العمل للآخرة، فأحفظ هذه الفوائد وأعمل بها تُفْلح وتَربَحْ إنْ شاءَ الله تعالى.

وَقَالَ بَعْضهم: الواجِبُ عَلَى الإِنْسَانِ المُبَادَرَةُ إلَى الأَعْمَالَ الصَّالِحَةِ عَلَى أَيَّ حَالٍ كَانْ وَأنْ يَنْتَهِزَ فُرصْةَ الإمْكَانِ قَبْلَ مُفَاجأَةِ هَادِمِ اللَّذَاتِ وأَنْ يَتَوكِّلَ عَلَى اللهِ وَيَطْلُبَ مِنْهُ العَوْنَ في تَيْسِيْرهَا إلَيْهِ وَصَرْفِ المَوانِعِ الحَائِلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا. آخر: ... مُنَايَ مِن الدُّنْيَا عُلُومٌ أبثُهَا ... وأنْشُرُهَا في كُلِ بَادٍ وحَاضِرِ دُعَاءً إِلَى القُرْآنِ والسُنَّةِ الَّتِي ... تَنَاسَى رِجُالٌ ذِكْرَهَا في المَحاضِرِ وَقَدْ أبْدِلُوهَا الجَرَائِد تَارةً ... وتِلْفَازِهِمْ رأَسُ الشُرور المنَاكِرِ ومِذْيَاعهِمْ أيْضًِا فلا تَنْس شَرَّهُ ... فكَمْ ضَاعَ مِن وَقْتٍ بِهَا بالخَسَائِرِ آخر: ... كُلُ امْرئٍ فِيمَا يَدِينُ يُدَانُ ... سُبْحَانَ مَنْ لَمْ يَخْلُ مِنْ عِلْمِهِ مَكَانُ يَا عَامِرَ الدُّنْيَا لِيَسْكُنَها وَمَا ... هِيَ باللَّتي يَبْقَى بِهَا سُكَّانُ تَفْنَى وتَبْقَى الأَرضُ بَعْدَكِ مِثْلَمَا ... يَبْقَى المَكَانُ وتَرْحَلْ الرُّكْبَانُ أَأُسَرُّ بالدنيا بكُلِّ زِيَادَةٍ ... وزِيَادَتِيْ فِيهَا هِيَ النُقْصَانٌ آخر: ... كَأَنَّكَ لم تَسْمعْ بأخْبَار مَن مَضَى ... ولمْ تَرَ في البَاقِينَ مَا يَصْنَعُ الدَّهرُ فِإِنْ كُنِتَ لا تَدري فَتِلْكَ دِيَارُهُم ... عَليها مَجَالُ الرِّيحِ بَعَدكَ والقَطْرُ وَهَلْ أَبْصَرَتْ عَينَاكَ حيًّا بِمنزِلٍ ... عَلَى الأَرضِ إِلاَّ بالفَنَاءِ لَهُ قَبْرُ وَأَهْلُ الثَّرَى نَحْوَ المَقَابِرِ شُرّعٌ ... وَلَيْسَ لَهْمُ إِلاَّ إِلَى رَبَّهمْ نَشْرُ على ذَاكَ مَرُّوا أجْمَعُونَ وهكذا ... يَمُرُّونَ حتّى يَسْتَردُّهُم الحَشْرُ فَلاَ تَحْسَبنَّ الوَفْرَ مَالاً جَمْعَتَهُ ... ولكنَّ مَا قَدَّمْتَ مِن صَالِحِ وَفْرُ وَلَيْسَ الذِي يَبْقَى الذِي أَنْتَ جَامعٌ ... ولكنَّ مَا أَوْلَيْتَ مِنْهُ هُوَ الذُّخْرُ قَضَى جَامِعُوا الأَمْوَالِ لَمْ يَتَزَوَّدُوا ... سِوَى الفَقْرِ يَا بُؤْسًا لِمَنْ زَادُهُ الفَقْرُ بَلَى سَوفَ تَصْحُو حِيْنَ يَنْكَشِفُ الغَطَا ... وَتَذْكرُ قَوْلي حِيْنَ لا يَنْفَعُ الذِّكْرُ وَمَا بَيْنَ مِيُلادِ الفَتَى وَوَفَاتِهِ ... إِذَا نَصَحَ الأَقْوَامُ أَنْفسَهُمْ عُمْرُ لأَنَّ الذِي يَأْتِي كَمِثْلِ الذِي مَضَى ... وما هُو إِلاَّ وَقْتُكَ الضَّيِّقُ النَّزْرُ فصَبْرًا على الأَوقاتِ حَتَّى تَحُوْزَهَا ... فَعَمَّا قَلِيْلٍ بَعْدَهَا يَنْفَعُ الصَّبْرُ تَقْضِي المآربَ والسَّاعَاتُ سَاعِيَةٌ ... كأنَّهُنَّ صِعَابٌ تَحتَنَا ذُلُلُ آخر: ... طالَ التَّبَسُط مِنَّا في حَوَائِجنَا ... وَإنَّمَا نَحْنُ فَوق الأرض أَضْيَافُ

أحاديث في الحث على الأعمال الصالحة التي تنفع الإنسان حيا وميتا

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ أَحَدُ العُلَماءِ رَحِمَهُ الله تَعالى: عَلَيْكَ يَا أَخِي بمُحَارَبَةِ الشَّيْطَانِ، وقَهْرِهِ، وذَلِكَ لِخَصْلَتَيْن أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَدُوٌ مُظلٌ مُبين، لا مَطْمَعَ فِيهِ بِمُصَالحَة وَاتَّقَاءِ شَرّه أَبَدًا، لأِنَّه لاَ يُرْضِيْهِ وَيُقْنِعُهُ إِلاَّ هَلاَكُكَ أَصْلاً، فَلا وَجْهَ إِذًا للأَمْنِ مِنْ هَذَا الْعَدُوْ وَالْغَفْلَةِ عَنْهِ، قَالَ اللهُ جَلَّ وعَلاَ: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ، وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} ، وَالخَصْلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ مَجْبُولٌ عَلَى عَدَاوَاتِكَ، ومُنْتَصِبٌ لِمُحَارِبَتِكَ، في اللَّيْلِ والنَّهَارِ يَرْمِيْكَ بسِهَامِهِ، وأَنْتَ غَافِلٌ عَنْهُ، ثُمَّ هُوَ لَهُ مَعَ جَمِيْعِ المؤمِنِيْنَ عَدَاوَةٌ عَامَةٌ، وَمَعَ المُجْتَهِدِ في العِبَادَةِ وَالعِلْمِ عَدَاوَةٌ خَاصَةٌ، ومَعَهُ عَلَيْكَ أَعْوَانُ: نَفْسُكَ الأمَّارَةِ بالسَّوْء، والهَوَى، والدُّنْيَا، وَهُوَ فارِغٌ وَأَنْتَ مَشْغُول، وَهُوَ يَرَاكَ وَأَنْتَ لاَ تَرَاه، وأَنْتَ تَنْسَاهُ وَهَوَ لاَ يَنْسَاكَ، فَإِذًا لاَ بُدَّ مِن مُحَارَبَتِهِ وَقَهْرِهِ، وَإِلاَّ فَلا تَأَمَنْ الفَسَادَ وَالهَلاكَ وَالدَّمَار، وَمُحَارَبَتُهُ بالاسْتِعَاذَةِ باللهِ والإِكثارِ من ذِكْرِهِ. شعرًا: ... إِذَا شئتَ أَنْ تَلْقَى عَدُوَّكَ رَاغِمًا ... فَتُحْرِقَهُ حُزُنًا وَتَقْتُلَهُ غَمًّا فَعَلَيْكَ بالإِخْلاصِ وَالزُّهْدِ والتُّقَى ... فَمَنْ فَازَ فِيهَا مَاتَ حُسَّادُهُ هَمًّا آخر: ... وَلِمَ أَرَى كَالإِخْلاصِ للهِ وَحَدَهُ ... وَلا مِثل تقوْاهُ وَإكْثَارِ ذِكْرِهِ فَصْلٌ اعْلَمْ وَفَّقَنا اللهُ وَإيَّاكَ وَجَمِيْعَ المُسْلِميْنَ أنَّهُ لَم يُؤْثَرْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الصَّحَابَةِ وتَابِعْيِهْم بإِحْسَانٍ تَعْظِيْمُ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ البِدَعِ وَالمُوَالِيْنَ لأَهْلِ البِدَعِ وَالمُنَادِيْنَ بِمُوَالاتِهمْ، لأَنّ أَهْلِ البِدَعِ مَرْضَى قُلُوب، وَيُخْشَى عَلَىَ مَنْ خَالطَهُمْ أَو اتَّصَلَ بِهِمْ أَنْ يَصِلَ إِلِيْهِ مِنْ مَا بِهِِِمْ مِنَ هَذَا الدَّاءِ العُضَال، لأِنّ المَرِيْضَ يُعْدِي الصَّحَيْحَ وَلاَ عَكسْ، فَالْحَذَرَ الحذرَ مِنْ جَمِيعِ أهْلِ

البدَعِ، وَمِنْ أهْلِ البِدَعِ الذَيْنَ يَجِبُ البُعْدُ عَنْهُمْ وَهِجَرانُهُمْ: الجَهْمِيَّةُ، والرَّافضَةُ، وَالْمُْعَتِزلَةُ، والْمَاتُرِيْدِيَّةُ، وَالخَوَارُِج، والصُّوْفِيَّةُ، والأَشَاعَرة، وَمَنْ عَلَىَ طَريْقَتِهمْ مِنَ الطَّوَائِف المُنْحَرِفَةِ عن طريقة السَّلَفْ، فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أنْ يَحْذّرَهُمْ وَيُحَذِرَّ عَنْهُمَ وصلى الله على محمد وآله وسلم. فائدة: وَقْتُ الإِنسان هُو عُمره وَمَادَة حَيَاتِه الأبدِيَّة في النَّعِيم المقيم وَمَادةُ المعِيْشَةِ الضَّنْكِ في العَذَابِ الأَلِيْم وَهو يَمَرُ مَرَّ السِّحَابْ. شعرًا: ... إني أَبُثُّكَ مِنْ حَدِيثِي ... إِنَّ الحَدِيثَ لَهُ شُجُونُ غَيَّرْتَ مَرْقَدَ نَوْمِي ... لَيلاً فَفَارَقَنِي السُّكُونُ قُلْ لِي فَأَوَّلَ لَيْلَةٍ ... في القَبْرِ كَيْفَ تَرَى يَكُونُ آخر: ... يَا مَنْ سِينَا عَنْ بَنِيهْ ... جَاءَ اليَقِينُ فَوَجَّهُوهْ مَثِّلْ لِنَفْسِكَ قَوْلَهُمْ ... جَاءَ اليَقِينُ فَوَجَّهُوهْ وَتَحَلَّلُوا مِنْ ظُلْمِهِ ... قِبْلَ المَمَاتِ وَحَلِّلُوهُ آخر: ... أَعْوامُ لَهْوٍ كَانَ يُحْزِنُ ذِكْرُهُا ... قَلْبُ اللَّبِيبُ لِفَقْدِهَا لِلطَّاعَةِ لَوْ أَنَّهَا مُلِئَتْ بِذِكْرِ إِلهِنَا ... وَتِلاَوَةِ القُرْآنِ زَالَتْ نَدَامَتِي آخر: ... بِطَاعَتِكَ الإله تَنَالُ عِزًا ... وَتَسْعَدُ يَا فَتَى يَوْمَ الجَزَاءِ آخر: ... عَلَيْكَ بِذِكْرِ اللهِ في كُلِّ لَحْظَةٍ ... فَمَا خَابَ عَبْدٌ لِلْمُهَيْمِنِ يَذْكُرُ لَوْ يَعْلَمُ العَبْدُ مَا فِي الذِّكْرِ مِنْ شَرَفٍ ... أَمْضَى الحَيَاةَ بِتَسْبِيحٍ وَتَهْلِيلٍ فائدة: العِلْمُ بِمَا جَاءَ عَنِ اللهِ جَلَّ جَلاَلُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤهُ وَمَا جَاءَ عَن رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - خَيْرُ مِيْرَاثٍ والتَّوفيقُ مِن اللهِ خَيْرُ قاَئِدْ، والاجْتِهَادُ في طاعَةِ اللهِ خَيْرُ بِضَاعَة، ولا مَالَ أَحْسَنُ مِن عَمِل الرَّجُلِ في يَدِهُ، ولا مُصِيْبَةَ أَعْظم مِن الكُفْرِ باللهِ ولا عَوِينَ أَوْثَقَ من الاعْتِمَادِ على اللهِ جَلَّ جَلاَلُهْ، ثم مُشَاوَرَةِ

أَصْحَابِ الرَّأْي السَّدِيد مِن المُؤْمِنِيْن، وَلا أَوْحَشَ مِن الكِبْرِ، والكُفْرِ والعُجْبِ، والنَّفَاق، والإِلْحَادْ. وقال يحيى بنُ معاذ: عَجِبْتُ مِن ثلاثة: رجُل يَرائي بَعِمْلِهَ مخُلوقًا مِثْلَه وَيتركُ أنْ يَعْمَلَهُ للهِ، وَرَجُل يَبْخَلُ بِمالهَ وَربهُ يستقرْضُه مِنه فلا يُقْرِضُهُ مِنه شَيْئًا، وَرَجُل يَرغَبُ في صُحْبةِ المخُلوقَين وَمَوَّدتِهَم والله يَدْعِوهُ إِلَى صُحْبَتِهِ وَمَودَتهِ. ملاحظة: لا يسمح لأي إنسان أن يَخْتَصِرَهُ أوْ يَتَعَّرضَ له بما يُسَمُّونَه تَحقِيقًا لأِنَّ الاختصار سَبَبٌ لِتعطيِلٍ الأصْلِ والتحقيق أرَى أَنَّهُ اِتِهَامٌ لِلْمُؤُلِف، ولا يُطْبع إلا وقفًا لله تعالى على مَن يَنْتَفِعُ بِهِ مِن المسلمين. فائدة عَظِيْمَةُ النَّفَعْ لِمَْن وَفَّقَهُ الله ما أَنْعَم الله على عَبْدٍ نِعْمَةً أَفْضَلَ مِنْ أنْ عَرَّفَه لا إِلهَ إِلا الله، وفهَّمَهُ مَعْنَاهَا، وَوَفَّقَهُ لِلَعَمِلِ بِمُقْتَضَاهَا، والدَّعْوَةِ إِليْهَا. شعرًا: ... عَلَيكَ مِنَ الأُمورِ بِما يُؤَدِي ... إِلى سُنَنِ السَلامَةِ وَالخَلاصِ وَما تَرْجُو النَجاةَ بِهِ وَشيكاً ... وَفَوزاً يَومَ يُؤخَذُ بِالنَواصِي آخر: عَجِبْتُ لِمَنْ يَعْمُرُ قُصُورًا فَسِيحَةً ... لِيَسْكُنَهَا وَقْتًا قَلِيلاً وَيَرْحَلُ وَيَتْرُكَ قَبْرًا فِِيهِ يَسْكُنُ وُحْدَهُ ... زَمَانًا طَوِيلاً ثُمَّ يَأْتِي يُهَرْوِلُ إِلِى مَوْقِفٍ فِيهِ يِشِيبُ وَلِيدُهُ ... وَتُسْقِطُ ذَاتَ الحَمْلِ فِيهِ وَتَذْهَلُ وَمِنْ بَعْدِهِ الأَهْوَالُ لَوْ قَدْ رَأَيْتَهَا ... لَطَلَّقْتَ دُنْبًا بِالثَلاَثِ مُعَجِّلُ فَلِلِهِ دُرُّ الزَّاهِدِينَ بِجَيْفَةٍ ... عَلَيْهَا أُنَاسٌ جَاهِلُونَ وَغُفَّلُ آخر: آخِرُ يُسَّرُ بِصَفْوِ عَيْشَتِهِ الجَهُولُ ... وَتُعْجِبُهُ الإقَامَةُ وَالحُلُولُ وَدُونَ مُقَامُه حَادٍ حَثِيثٌ ... عَنِيفُ السَّوْقِ وَالمَوْتُ السَّبِيلُ

سَبِيل مَا تَوَجَّهَ فِيهِ سَفُرٌ ... فَكَانَ لهُمْ إَلَى الدُّنْيَا قُفُولُ طَرِيقٌ يَسْتَوِي لِلْخَلْقِ فِيهِ ... مَسَالِكَهم وَيَخْتَلِفُ المُقِيلُ يُطَافُ عَلَيهِمُ بكُؤوس لَهْوِ ... وَمَزْجُ كُؤُوسِهَا الدَّاءُ الدَّخِيلُ وَتَصْقَلُ وَجْهَهَا لَهُمُ خِدَاعًا ... وَتَحْتَ صِقَالِهَا السَّيفُ الصَّقِيلُ آخر: ... أَكَبَّ بَنُوا الدُّنْيَا عَلَيهَا وَإِنَّهُمْ ... لَتَنْهَاهُمْ التَّقْوىَ عَنْهَا لَو انْتَهَوْا أَيُّهَا النَّاظِرُ بَعْدِي في كِتَابِي ... مُسْتَفِيدًا مِنْهُ مَرْغُوبَ الطُّلاَبِ قَاطِفًا مِنْهُ ثِمَارًا نُسِّقَتْ ... بِاجْتِهَادِي بِمَشِيبِي وَالشَّبَابِ اهْدِ لِي مِنْكَ دُعَاءً صًالحًِا ... وَتَحَرَّى فِيهِ أَوْقَاتَ الإِجَابِ آخر: (تَضَرُّعٌ إِلَى اللهِ جَلَّ وَعَلاَ) قَرُبَ الرَّحِيلُ إِلى دِيَار الآخرة ... فَاجْعَلْ بِفَضْلِكِ خَيْرُ عَمْرِي آخِرَهْ وَارْحَمْ مَقِيلِي في القُبُور وَوِحْدَتِي ... وَارْحَمْ عِظَامِي حِينَ تَبْقَى نَاخِرَةْ فَأَنَا الْمُسَيَكينُ الذي أَيَامُهُ ... وَلَّتْ بِأَوْزَارٍ غَدَتْ مُتَوَاتِرْةْ فَلَئِنْ طُرِدْتُ فَمَنْ يَكُنْ لِي رَاحِمًا ... وَبِحَارُ جُودِكَ يَا إَلهِي زَاخِرَةْ يَا مَالِكِي يِا خِالِقِي يِا رِازِقِي ... يِا رَاحِمِي الشيخ الكَبِيرِ وَنِاصِرُهْ مَا لِي سِوَى قَصْدِي لِبَابِكَ سَيِّدِي ... فَاجْعَلْ بِفَضْلِكَ خَيْرَ عُمْرِي آخِرَهْ آخر: ... دَعْ عَنْكَ ذِكْرَ فُلانَةً وَفُلانِ ... وَاتْرُكْ لِمَا يُلْهِي عَنِ الرَّحْمَنِ وَاعْلَمْ بَأَنَّ المَوْتَ يَأْتِي بَغْتَةً ... وَجِمِيعَ مَا فَوْقَ البَسِيطَةِ فَانِ فَإِلى مَتَى تَلْهُو وَقَلْبُكَ غَافِلٌ ... عَنِ ذِكْرِ يَوْمِ الحَشْرِ وَالِميزَانِ أَتَرَاكَ لَمْ تَكُ سَامِعًا مَا قَدْ أَتَى ... في النَّصِ في الآيَاتِ بِالقُرْآنِ فَانْظُرْ بِعَيْنِ الاعْتِبَارِ وَلا تَكُنْ ... ذَا غَفْلَةٍ عَنْ طَاعَةِ الدَّيَانِ (فَصْلٌ) (1) (فوائدُ عظيمةُ النفعَ جِدًّا مما قاله العلماء: إعْلَمْ أنَّ قِصَرَ الأمل عليه مَدَارٌ

عظيم، وَحِصْنُ قِصَرِ الأمَلِ ذكْرُ الموت، وحِصْنُ حصْنِهِ ذكر فجأة الموت وَأخْذُ الإَنْسَانِ على غِرَّةٍ وغِفْلُةٍ وفي غُرور وفُتُورِ عن العمل للآخِرةْ) . (2) (اللَّيْلُ والنَّهارُ يَعْمَلان فيْكَ، فاعْمَلْ فيهما أعْمَالاً صَالِحَةً تَرْبَح وَتَحْمِدَ العَاقِبةَ الحَمِيْدَة إنْ شاءَ الله تَعالى) . والله الموفق. وقال عيسى بن مريم عليه السلام: عَجبْتُ لِثلاثةٍ: لِغَافل ولَيْسَ بِمَغْفُولِ عَنْهْ، ومُؤَمِّلٍ دُنْيَاهُ والموتُ يَطلُبه، وبَانٍ قَصْرًا والقَبْرُ مَسْكَنُهُ. (3) (الملائكةُ يَكْتُبَان مَا تلَفَّظُ به، فاحْرَصْ عَلَى أن لا تَنْطِقَ إلا بِمَا يَسُرَّكَ يَوْمَ القِيَامَةْ كالْباقِيَاتِ الصَّالِحاتِ وَمَا وَالاهَا) . شِعرًْا: ... وَإِنَّ أَحْسَنَ بَيْتٍ قَالَهُ رَجُلٌ ... بَيْتٌ تَضَمَّنَ تَوحِيدَ الذِّي خَلَقَ آخر: إِذَا المرءُ لَمْ يَعْصِي الإلَهَ بِفِعْلِهِ ... وَلا قَوْلِهِ فَهُوَ الأَدِيبُ المُهَذَّب آخر: تَمْضِي حَيَاتُكَ ثُمَّ تَبْقَى صَفْحَةٌ ... كَتَبْتَ يَدَاكَ سُطُورُهَا قَبْلَ الرَّدَى مَهْمَا مَكَثْتَ فَأَنْتَ ضَيْفٍ رَاحِلٌ ... عَنْ ذِي الدِّيَار اليومَ حَتْمًا أَوْ غَدَا فَاتْرُكْ إِذًا أَثَرًا لِذِكْرِكَ صَالحًا ... إِنْ كُنْتَ تَبْغِي أَنْ يَدُومَ مُخَلَّدا (وَاسْأَلْ بِمَا سَأَلَ الخَلِيلُ إَلَهَهُ ... فِي سُورَةِ الشُّعَرَاء سُؤَالاً مُسَدَّدًا) (فصل) ومَن أرادَ طِبَاعَتِهِ ابْتغَاءَ وَجْه الله تَعَالى لا يُريْدُ به عرضًا مِن الدُّنيا، فقد أُذِنَ لَه في ذلك وَجَزَى الله خيرًا مَن طَبََعَهُ وَقْفًا لِلَّهِ، أو أعانَ على طبعِهِ، أو تَسَبَّبَ لِطَبْعِهِ وتوزيعه على إخوانه المسلمين. فقد وَرَدَ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إِنَّ الله يُدْخِلُ في السَّهْمِ الوَاحِدِ ثلاثة نَفَرٍ الجَنَّة: صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ في صَنْعَتِهِ الخيْرَ، والرَّامِيْ بِهِ، ومُنْبِلَه» الحديث. رواه أبو دود. وورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إِذَا مَاتَ الإِنسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له» . الحديث رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ زَيْدْ بن خَالد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنّ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ جَهَزَ غَازيًا في سَبيلِ الله فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلف غازيًا في أهْله بِخَير فَقَدْ غزا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ مِمَّا يلحَقُ المؤْمِن مِن عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ ونَشَرهُ، وَوَلدًا صَالحًا ترَكَهُ، أو مُصْحَفًا ورَّثهُ، أو مَسْجِدًا بَنَاهُ، أوْ بَيْتًا لاِبْن سَبِيْل بَنَاه، أوْ نَهْرًا أجْرَاهُ، أوْ صَدَقَةَ أخْرِجَهَا مِنْ مَالِهِ في صِحَّتِهِ وحَيَاتِهِ تَلْحَقُهُ مِن بَعْدِ مَوْتِهِ» . رواه ابن ماجَة، وابن خُزَيْمَة. وَرَوَاهُ البَزَّارُ مِن حَدِيث أنسٍ إِلا أَنَّهُ قال: «سَبْعٌ تَجْرِي للْعَبْدِ بَعْدَ مَوْتِهِ وهو في قبره: مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا، أوْ كَرى نهَرًا، أَوْ حَفَرَ بئرًا، أوْ غَرسَ نَخْلاً، أوْ بَنَى مَسْجِدًا، أوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا، أوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ له بَعْدَ مَوْتِهِ» . فائدة عظيمة النَّفع وَقَفَ قومَ على عَالِمَ فَقَالوا: لَهُ إِنَّا سَائِلِوُكَ أفَمُجِيبُنَا أَنْتَ قَالَ: سَلُوا وَلا تُكْثُرُوْا فإِنَّ النَّهار لَنْ يَرْجِعَ، والعُمَرَ لَنْ يَعُودْ، والطَّالِبَ حَثْيث في طَلَبَه، قالوا: فأوْصِنَا، قال: (تَزوَّدُوا عَلَى قَدْرِ سَفرِكْمْ، فَإنَّ خَيْرَ الزَّاد مَا أبْلَغَ البُغْيَةَ، ثُمَّ قَالَ:الأيَّامُ صَحَائِفَ الأعمال فخلِدُهْا أحْسَنَ الأعمال، فإنَّ الفُرصَ تَمرُّ مَرَّ السَّحَاب والتَّوانِيَ مِن أخْلاق الكُسالى، ومنَ اسْتَوطْنَ مَرْكَبَ العَجْز عَثَرَ بِه، وتَزَوَّجَ التَّوانِيَ بالكَسل فَوُلِدَ بَيْنَهُمَا الخُسْران) أ. هـ. شعرًا: مَا مَضَى فَاتَ وَالمُؤَمَّلُ غَيْبٌ ... وَلَكَ السَّاعَةُ التي أَنْتَ فِيهَا فائدة عظيمة النَّفع أَشْرَفُ الأشْيَاءِ قَلْبُكَ وَوَقْتُكَ، فإذَا أَهْمَلْتَ قَلْبَكَ وضيَّعْتَ وَقْتَكَ، فَمَاذَا بَقِيَ مَعَك، كلُ الفَوَائِدِ ذَهَبَتْ. شعرًا: وَذَكِّرْ بَالْتُقَى قَلْبًا غَفُولاً ... فَلَوْلا السَّقْيُ مَا نَمَتْ الزُّرُوعُ

خطبة الكتاب

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم خُطْبَةِ الْكِتَاب الحمدُ للهِ الذي تَفَرَّدَ بالجلالِ والعظمةِ والعِِزِ والكبرياءِ والجَمَالِ وأَشْكرُهُ شُكرَ عَبدٍ مُعْترفٍ بالتقصيرِ عن شكرِ بعض ما أوليهُ مِن الأنعام والأفضال وأَشهد أنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيَكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ - صلى الله عليه وسلم -. وَبَعْدُ فَبِمَا أَنِي رَأَيتُ كِتَابَ المَنَاهلِ الحسان مطلوبًا ومرغوبًا فيه ورأَيتُ أَني أَوّسِعُهُ وَأَزِيدُ فيهِ زِيادَاتٍ كَثِيْرَةً مَا بَيْنَ حِكَمٍ وأَحْكامٍ وَقَوَاعِدَ وَمَوَاعظَ وآدابٍ وأخلاقٍ وقصائِدَ زُهْدياتٍ لِيَكُونَ جَامِعًا نَافِعًا صَالِحًا ومُنَاسِبًا لِرَمَضَانَ وَغَيْرِهِ وِللْعَالِمِ والمُتَعَلِّمِ وِللأئَمَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَبَذَلْتُ وُسْعِي وَاعْتَنَيْتُ جُهْدِي في تَهْذِيْبِهِ وَتَنْقِيْحِهِ وَتَرْتِيْبِهِ وَقَدْ أكْمَلتُ تَشْكِيْلَهُ لِيَعْذُبَ لِلسِّامِعِ والقَارِئِ وَيَسْهُلَ عَلَيهِ. وأَسْأَلُ اللهَ الحَيَّ القَيُّومَ العَلِيَّ العَظِيمَ القَويَّ العَزِيزَ ذَا الجَلالِ والإِكرامِ الوَاحدَ الأحدَ الفردِ الصَّمدَ الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُوْلَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفْوًا أَحَدْ الحَلَيمَ الكَريمَ القَريبَ المُجِيْبَ أَنْ يَجْعَلَ عَملَنَا خَالِصًا لِوَجْهِهِ الكَرِيمِ مُقَرِّبًا لَنَا وَلِمنْ قَرَأَهُ وَسَمِعَهُ لَدَيْهِ في جَناتِ النَعِيْمِ وأَنْ يَأَجرَ مَنْ طَبَعَهَ وَمَنْ أَعَانَ عَلى طَبْعِهِ وَمَنْ تَسَبَّبَ لِطَبْعِهِ مَدَى اللَّيَالي والأَيَّام وأَنْ يَغْفِرَ لَنَا وَلَهُ وَلِوَالِدِيْنَا وَوَالِدَيْهِ، وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِهِ إِنَهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين، وصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. عبد العزيز بن محمد السَّلمان

آخر: لا تَبْكِ للدُّنْيَا وَلا أَهْلَهَا ... وَابْكِ لِيوْمٍ تَسْكُنِ الْحَافِرَةْ وَابْكِ إِذَا صِيحَ بأَهْلِ الثَّرَى ... فاجْتَمَعُوا في سَاعَةِ السَّاهِرَةْ وَيْلَكِ يَا دُنْيَا لَقَدْ قَصَّرَتْ ... آمَالُ مَنْ يَسْكُنُكِ الآخِرَةْ آخر: قِفْ دُونَ دِينِكَ فِي الْحَيَاةِ مُجَاهِدًا ... إِنَّ الْحَيَاة عَقِيدَةٌ وَجِهَادُ آخر: إِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عُمْرِكَ فَاحْتَرِزْ ... عَلَيْهِ مِن الإِنْفَاقِ في غَيْرِ وَاجِبِ وَسَمَّيْتُ هَذَا الكِتَابَ الجَامِعَ المُسَلِّي لِقَاِرِئِه وَسَامِعِهِ: (مَوَارِدَ الظَّمْآنِ لِدُرِوْسِ الزَّمَان) حِكَم وأَحْكَام وَقَواعِد وَمَوَاعِظ وآداب وأَخْلاق حِسان أَسِيرِ خَلْفَ رِكَابِ النُّجْبِ ذَا عَرَجٍ > مُؤَمَّلاً جَبَرَ مَا لاقَيْتُ مِنْ عِوَجِ فَإِنَّ لَحِقْتُ بِهِمْ مِنْ بَعدِ مَا سَبَقُوا > فَكَمْ لِرَب السَّمَا فِي النَّاسِ مِنْ فَرجِ وَإِنْ ظَلَلْتُ بقَفْرِ الأرضِ مُنْقَطِعًا > فَمَا عَلَى عَرَجٍ فِي ذَاكَ مِنْ حَرَجِ (هَذَا الكِتَاب وقف لله تَعَالى عَلَى طَلبة العلمْ) وَغَيرهمْ مِمَنْ يُريد الانتفَاع به واحْذر أُيُّهَا الأخ من بَيْعِهِ أوْ تَعْطِيْلِهِ. بِاللهِ يَا قَارِئًا كُتُبِي وَسَامِعَهَا ... أَسْبِلْ عَلَيْهَا رِدَاءَ الْحُكْمَ والْكَرَمِ وَاسْتُرْ بِلُطْفِكَ مَا تَلْقَاهُ مِنْ خَطَاءٍ ... أَوْ أَصْلِحَنْهُ تُثَبْ إِنْ كُنْتَ ذَا فَهَمِ فَكَمْ جَوادٍ كَبَى والسَّبْقُ عَادَتُه ... وَكَمْ حُسَامٍ نَبَا أَوْ عَادَ ذُو ثُلْمٍ وَكُلُّنَا يَا أَخِي خَطَآءُ ذُو زَلَلٍ ... والْعُذْر يَقْبَلُهُ ذُو الْفَضْلِ والشِّيَمِ

الأركان الستة وكيفية الإيمان بها

آخر:: ... مَن الذِّي مَا سَاءَ قَطْ ... وَمَنْ لَهُ الْحُسْنَى فَقَطْ آخر: أَخَا الْعِلْمِ لا تَعْجَلْ لَعِيْب مُصَنِّفٍ ... وَلَمْ تَتَيَقَّنْ زَلَّةً مِنْهُ تَعْرَفُ فَكَمْ أَفْسَدَ الرَّاوِي كَلامًا بِنَقْلِهِ ... وَكَمْ حَرَّفَ الْمَنْقُول قَوْمٌ وَصَحَّفُوا وَكَمْ نَاسِخٍ أَضْحَى لِمَعْنَى مُغَيَّرًا ... وَجَاءَ بِشَيْءٍ لَمْ يُرِدْهُ الْمُصَنَّفِ آخر ... سَلِ الإِلَهَ إِذَا نَابَتُكَ نَائِبَةٌ ... فَهُوَ الذِيِ يُرْتَجَى مِنْ عِنْدِهِ الأَمَلُ فَإِنْ مُنِحَتَ فَلا مَنٌ وَلا كَدَرٌ ... وَإِنْ َرَدِدْتَ فَلا ذِلٌ وَلا خَجَلُ (فصل) الأركان الستة وكيفية الإيمان بها: الأولُ: الإيمانُ بالله جَلَّ جَلالُه: وهو الاعتقاد الجازم بأن الله رَبَّ كُلّ شَيءٍ ومَلِيكهُ وأنَّه الخَالِق الرازق المُحْيِي المِمُيْت المُدَبِّر لِجمَيع الأُمور. وأنه المستحق لأنْ يُفْرَدَ بالعُبُودِيَّةِ والذَّلِ والخُضُوعِ وجَمِيعِ أَنواع العِبادة، وأنه المتصفُ بصفاتِ الكمال المنزه عن كل عيبٍ ونقص، وهذا هو الأساس الأول الذي يَقُوم بِنَاء شَخْصِيَّةِ المُسْلِمِ عليه. شعرًا: ... عَلَيْكَ بِتَوْحِيدِ الإِلِهِ فَإِنَّهُ ... هُوَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى بِهَا يُتَمَسَّكُ آخر ... تَأَمَّلْ صحِيفَاتِ الْوُجُود فَإِنَّهَا ... مِنْ الْجَانِبِ السَّامِي إِلَيْكَ رَسَائِلُ وَقَدْ خَطَّ فِيهَا لَوْ تَأَمَّلْتَ خَطَّهَا ... أَلا كُلَّ شَيْء مَا خَلا الله بَاطِلُ 2- الركن الثاني: الإيمان بالملائكة: الإيمان بالملائكة: هو التصديقُ الجازمُ بأَنَّ لله ملائكةً مَوْجُودِينَ مَخلوقِينَ مِن نُور، وأنهم كَما وصَفَهم الله عبادٌ مُكْرمُونَ يُسبحونَ الليلَ والنهارَ لا يَفْتُرون وأنهم لا يَعْصُون الله ما أَمرهم وَيَفعلون مَا يُؤَمَرون، وأنَّهم قَائِمِونُ بِوَظائِفهم التِي أَمَرَهَمُ الله بالقيام بها.

ويِجبُ الإِيمانُ على التفصيَلِ بمن وَرَدَ تَعْيينهُ باسمهِ المخصوصِ كَجبرِيل ومكيائيل وإسرافيل ورضوان ومَالك، فَجبريلُ هو الموكلُ بأَداءِ الوَحْي وهو الروحُ الأمين، ومِيْكَائِيلُ المُوكلُ بالقَطْرِ، وإسرافيلُ الموكلُ بالصورِ، ومَلَكُ الموتِ الموكلُ بِقَبْضِ الأَرْوَاحِ. ومنهم الموكلُ بأعمالِ العِباد، وهُمْ الكرَامُ الكَاتُبِون، ومنهم الموكلُ بِحفْظِ العَبْدَ مِن بينَ يديهِ ومن خَلْفهِ وهُمُ المعَقّبَاتُ، ومنهم الموكلُ بالجنةِ ونَعيْمِهَا وهُمْ رِضوانُ ومَن مَعَهُ. ومنهم الموكلُ بالنَّارِ وعَذابها وهُمْ ماَلِكُ ومَن مَعَه، ومنهم الموكلُ بِفتنةِ القبر وَهم مُنْكَرٌ ونكِير، ومنهم حملةُ العرشِ. ومنهم الموكلُ بالنُّطَف في الأرحامِ وكتابة ما يراد بها، ومنهم ملائكةٌ يَدخُلُون البيَتَ المعمورَ يَدخُلُه كُلَّ يومٍ سَبْعُونَ ألفًا ثم لا يَعُودُون، ومنهم ملائكةٌ سَيَّاحُونَ يَتّبعُون مَجالِسَ الذِكرِ وغير ذلك. ويَجِبُ الإِيمانُ بِمن لم يَردْ تعْيِينهُ باسمهِ المخصوصِ أو تَعْيِينُ نوعِهِ المخصوصِ إجمالاً والله أعلم بعَدَدِهَم، قال تعالى: {كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ} الآية، وقال تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ} الآية. فجعل الإيمانَ هو الإيمانُ بهِذِه الجملةِ، وسَمَّى مَن آمنَ بهذه الجملةِ مُؤْمِنين كما جَعَلَ الكافرين مَن كَفَر بهِذِه الجُملةِ بقوله: {وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ} الآية. وفي حديث جبريل: «أن تُؤْمِنَ باللهِ وملائكتهِ وكُتُبِه» الحديث فهذه الأصول اتَّفقَتْ عليها الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولم يؤمن بها حقيقة الإيمان إلا الرسلُ وَأتباع الرسل.

إيمَانُنَا بالله ثُمَّ برُسلِهِ ... وَبِكُتبِهِ وَقِيَامَةِ الأبدَانِ وَبِجُندِهِ وَهُم الملاَئِكَةُ الأولَى ... هُم رُسلُهُ لمصَالِحِ الأكوَانِ هَذِي أصُولُ الدِّين حَقًّا لاَ أصُـ ... ـولُ الخَمسِ للقَاضِي هوَ الهَمَدَانِ آخر ... وَبَعْدَ حَمْد الله أنّي أَشْهَدُ ... أنْ لا إله مُسْتَحِقًا يُعْبَدُ إِلا إِلا لَهُ الْوَاحدُ الْفَردُ الصَّمَدْ ... مَن جَلَّ عَنْ زَوْجٍ وَكُفْء وَوَلَدْ وَأَنَّ طَه خَيْرُ مَنْ قَدْ أَرْسِلا ... يَدْعُو إِلى التَّوْحِيد سَائِرَ المَلا صَلَّى عَلَيْهِ الله ذو الجلالِ ... مَا دَامَتِ الأَيْام والليالي وآله وصَحْبهِ الْكِرَامِ ... السَّادَةِ الأَئمَّةِ الأَعلامِ (فصل) : 3- الركن الثالث: الإيمان بكتب الله: الإيمان بكتب الله هو التصديق الجازم بأن لله كتبًا أنزلها على أنبيائه ورسله وهي من كرمه حقيقة، وأنها نور وهدى، وأن ما تضمنته حق وصدق ولا يعلمن عددها إلا الله. وأنه يجب الإِيمان بها جملة إلا ما سمي منها وهي التوراة والإنجيل والزبور والقرآن وصحف إبراهيم وموسى فيجب الإيمان بها على التَّفْصِيل. قال الله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ} ، وقال: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} ، وقال: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} ، وقال: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} فيجب الإيمان بها على التفصيل والبقية إجمالاً. ويجب مع الإيمان بالقرآن وأنه منزل من عند الله الإيمان بأن الله تكلم به حقيقة، كما تكلم بالكتب المنزلة على أنبيائه ورسله، وأنه المخصوص بمزية الحفظ من التغيير والتبديل والتحريف. قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، وقال: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} .

ومنزلة القرآن من الكتب المتقدمة كما ذكر الله فيه قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} ، وقال: {َمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} . وقال: {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . قال المفسرون: مهيمنًا مؤتمنًا وشاهدًا على ما قبله من الكتب، ومصدقًا لها يعني: يصدق ما فيها من الصحيح، وينفي ما وقع فيها من تحريف وتغيير وتبديل، فما شهد له بالصدق فهو المقبول، وما شهد له بالرد فهو المردود. وله يخضع كل متمسك بالكتب المتقدمة ممن لم ينقلب على عقبيه. وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} . ويجب على كل أحد إِتباعُه ظاهرًا وباطنًا والتمسك به والقيام بحقه، قال الله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ، وقال: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} . وأوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتاب الله فقال: «خذوا بكتاب الله وتمسكوا به» . وفي حديث علي مرفوعًا: «إنها ستكون فتن» . قلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: «كتاب الله» وذكر الحديث. ومعنى التمسك به والقيام بحقه حفظه وتلاوته، والقيام به آناء الليل والنهار، وتدبر آياته وإحلال حلاله وتحريم حرامه، والانقياد لأوامره، والانزجار بزواجره، والاعتبار بأمثاله والاتعاظ بقصصه، والعمل بمحكمه،

والإيمان بمتشابهه، والوقوف عند حدوده، والذب عنه لتحريف الغالين المبطلين والنصيحة له بكل معانيها والدعوة إليه على بصيرة. وفي جواب أهل العلم والإيمان: السلف متفقون على أن القرآن هو المهيمن المؤتمن الشاهد على ما بين يديه من الكتب، وهو أعلى منها درجة، فإنه قرر ما فيها من الخبر عن الله وعن اليوم الآخر، وزاد ذلك بيانًا وتفصيلاً. وبين الأدلة والبراهين على ذلك وقرر نبوة الأنبياء كلهم ورسالة المرسلين، وقرر الشرائع الكلية التي بعثت بها الرسل، وجادل المكذبين بالكتب والرسل بأنواع الحجج والبراهين. وبين عقوبات الله لهم ونصره لأهل الكتب المتبعين لها وبين ما حرف منها وبدل وما فعله أهل الكتاب في الكتب المتقدمة، وبين أيضًا ما كتموه مما أمر الله بِبَيَانِهِ. اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا وَفَّقْتَ إليه القَوْم وأَيْقِظْنَا من سِنة الغَفْلَةِ والنَّوم وارزِقْنَا الاستعدادَ لِذَلِكَ اليَوْمِ الذي يَرْبَحُ فيه المُتَّقُونَ، اللَّهُمَّ وعامِلنَا بإحْسَانِكَ وَجُدْ علينا بِفَضْلِكَ وامْتِنانِكَ واجعلنا من عِبادِكَ الذينَ لا خَوفٌ عليهم ولا هُمْ يَحْزَنُون، اللَّهُمَّ ارحَمْ ذُلَّنَا بَيْنَ يَدَيْكَ واجعلْ رَغْبَتَنَا فِيما لَدَيْكَ، ولا تحرمنا بِذُنوبنا، ولا تَطْرُدْنَا بعُيوبنا، واغْفِرْ لَنِا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ منْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصَحْبِهِ. مِنْ أَهْمَلَ الدِّيْنَ لا تَأْمَن عَقَارِبَهُ ... وَلَوْ تَسَمَّى بإِخْلاصِ بِنِيَّاتِ لآِدَمَ جَاءَ إِبْلِيْسٌ وَقَال لَهُ ... إِنّيْ لَكُمْ نَاصِحٌ فاسْمَعْ مَقَالاتِي فَاقْسَمَ الخُبْثُ في رَبِيْ وَنَزَلَّهُمْ ... مِن الجِنَانِ إِلىَ دَارِ الأَذَيَّاتِيْ وصلى الله عَلَى محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعين.

الإيمان برسل الله وموضوع الرسالة

(فصل) : 4- الركن الرابع: الإيمان بالرسل: الإيمان بالرسل هو التصديق الجازم بأن لله رسلاً أرسلهم لإِرشاد الخلق في معاشهم ومعادهم. اقتضت حكمة اللطيف الخبير أن لا يهمل خلقه، بل أرسل إليهم رسلاً مبشرين ومنذرين. فيجب الإيمان بمن سمى الله منهم في كتابه على التفصيل، والإِيمان جملة بأن لله رسلاً غيرهم، وأنبياء لا يحصى عددهم إلا الله ولا يعلم أسماءهم إلا هو جل وعلا. قال الله تعالى: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} وعَدَدُ المذكورين في القرآن خمسة وعشرون وهم: آدم، نوح، إدريس، صالح، إبراهيم، هود، لوط، يونس، إسماعيل، إسحق، يعقوب، يوسف، أيوب، شعيب، موسى، هارون، اليسع، ذو الكفل، داود، زكريا، سليمان، إلياس، يحيى، عيسى، محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. اللَّهُمَّ أَتْمِمْ عَلَيْنَا نِعْمَتَكَ الوَافِيَةَ وَارْزُقْنَا الإخْلاصَ فِي أَعْمَالِنَا وَالصِّدْقَ في أَقْوَالِنَا وَعُدْ عَلَيْنَا بِإصْلاحِ قُلُوبِنَا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِهِ وَصَحْبِه. (فَصْلٌ) : وَمَوْضُوعُ الرِّسَالةِ: التَّبْشِيرُ والتَّنْذِير، قال تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} . والحكمةُ في ذلك دعوةُ أُممهم إِلى عِبادةِ اللهِ وَحْدَهُ. قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} وأفضل المرسلين أولو العزم، وهم المذكورون في سورة الشورى. قال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ

ما يجوز على الرسل وما يجب لهم

وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} الآية، وقال: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} . وأفضل أولياء الله أنبياؤه، وأفضل أنبيائه المرسلون، وأفضل المرسلين أولوا العزم، وأفضل أولي العزم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتم النبيين وإمام المتقين وسيد ولد آدم، وإمام الأنبياء إذا اجتمعوا، وخطيبهم إذا وفدوا. صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، وصاحب لواء الحمد والحوض المورود، وشفيع الخلائق يوم القيامة، وصاحب الوسيلة الذي بعثه الله بأفضل كتبه، وشرع له أفضل شرائع دينه، وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس. وجمع له ولأمته من الفضائل والمحاسن ما فرق فيمن قبلهم وهم آخر الأمم خلقًا وأولهم بعثًا، ومن حين بعثه الله جعله الفاروق بين أوليائه وبين أعدائه. فلا يكون وليًا لله إلا من آمن به وبما جاء وابتعه ظاهرًا وباطنًا، ومن ادعى محبة الله وولايته وهو لم يتبعه فليس من أوليائه، بل من خالفه كان من أعدائه وأولياء الشيطان. أ. هـ. واللهُ أعْلَمْ، وَصَلى اللهُ عَلى مُحَمَّدٍ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمْ. (فَصْلٌ) مَا يَجُوز عَلَى الرُسُلِ وما يَجِبُ عَلَينا نَحْوهمْ الواجب علينا نحو الرسل والأشياء التي تجوز عليهم والأدلة على صدقهم وما أيدهم الله به: يجب علينا تصديقهم وأنهم بلغوا جميع ما أرسلوا به على ما أمروا به وبينوه بيانًا واضحًا شافيًا كافيًا لا يسع أحدًا ممن أرسلوا إليه جهله ولا يحل خلافه.

قال الله تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} ، وقال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} الآية، ويجب علينا الإيمان بأنهم معصومون من الكبائر. وأما الصغائر فقد تقع منهم، والكتاب والسنة يدلان على ذلك ولكن لا يقرون عليها، بل يوفقون للتوبة منها ويجب احترامهم وأن لا يفرق بينهم. ومَن كَفَر بنبيٍّ مِِن الأنبياء فقد كفر بسائر الأنبياء، فإن الإيمان واجب بكل نبي بعثه الله إلى أهل الأرض. فمن رد نبوته للحسد أو للعصبية أو للتشهي تبين أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيمانًا شرعيًا وإنما هو عن غرض وهوى وعصبية. أ. هـ. ويجب الاهتداء بهديهم والائتمار بأمرهم، والكف عن ما نهوا عنه، ويجب الاعتقاد أنهم أكمل الخلق علمًا وعملاً، وأصدقهم وأبرهم وأكملهم أخلاقًا، وأن الله خصهم بفضائل لا يلحقهم فيها أحد، وبرأهم من كل خلق رذيل. ويجب محبتهم وتعظيمهم، ويحرم الغلو فيهم ورفعهم فوق منزلتهم، ويجوز في حقهم شرعًا وعقلاً: النوم، والنكاح، والأكل، والشرب، والجلوس، والمشي، والضحك، وسائر الأعراض البشرية التي لا تؤدي إلى نقص في مراتبهم العالية. فهم بشر يَعْتَرِيهم ما يعتري سائر أفراده فيما لا علاقة له بتبليغ الأحكام وتمتد إليهم أيدي الظلمة وينالهم الاضطهاد، وقد يقتل الأنبياء، كما أخبر الله بذلك في كتابه بقوله سبحانه: {وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} . ومن الأدلة على ما ذكرنا أولاً من أنه يجوز في حقهم أشياء قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي

الأدلة على صدقهم

الْأَسْوَاقِ} وقال عز من قال: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ} . وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء» ، وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمرض ويتألم ويشتكي، وكان يصيبه الحر والبرد، والجوع والعطش والغضب والضجر والتعب، ونحو ذلك مما لا نقص عليه فيه. شِعْرًا: وَأَهَوَى مِن الفِتْيَان كُلَّ مُوَحِّدٍ ... مُلازِم ذِكْرِ الله في كُلِّ لَحْظَةِ لَهُ هِمَّةٌ تَعلوُ عَلَى كُلِّ هِمَّةٍ ... كَمَا قَدْ عَلاَ القُطْبُ النُّجُوم العَلِيَّةِ اللَّهُمَّ إِنَا نَسأَلُكَ باسْمِكَ الأَعْظم الأَعَز الأَجَلَ الأَكرمِ الذي إذَا دُعِيتَ بِهِ أَجَبْتَ، وإذَا سُئِلْتَ بِهِ أعْطَيْتَ، ونَسْأَلُكَ بوجهِكَ الكَريم أكْرَمَ الوُجُوه وأَعَزَّ الوُجُوه، يَا مَنْ عَنَتْ لَهُ الوُجُوهُ، وخَضَعَتْ لَهُ الرّقابُ، وخَشَعَتْ لَهُ الأَصْواتُ، يا ذَا الجَلال والإِكرام، يَا حَيُّ يا قَيُّوم يا مَالِكَ الملك يا مَن هُو على كل شيء قدير، وبكُلّ شيءٍ عليم، وبكل شيءٍ مُحِيط، يا مَن لا يَعْزُبُ عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين، نسأَلُكَ أن تَغْفِر سِيئاتِنَا وتُبَدْلْهَا بِحَسَنَات يا أكرم الأكرمين. اللَّهُمَّ أنظِمْنَا في سِلْكِ عِبَادكَ المخلصينَ ووفقْنَا للقِيَامِ بأَرْكانِ دِينكِ القَويمِ وَنَجِّنَا مِن لَفَحَاتِ الجَحِيمِ وأَسْكِنَّا في جَناتِ النَّعيم، واغفرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْياءِ مِنهُم وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وصَلَّى اللهُ عَلَى مُحمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ) : وَأَمَّا الأَدِلَّةُ عَلَى صِدْقِ الرُسُلِ فَكَثِيرة، وأَعْظَمُهَا شَهَادَةُ اللهِ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ صَادِقون. قال الله تعالى: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} ، وقال عز شأنه: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} .

من أعلام نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم -

وقال عز من قائل عن إسماعيل عليه السلام: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} ، وقال عن إبراهيم: {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً} ، وقال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . فسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب إلى غير ذلك من الأدلة، فهم أصدق الخلق على الإطلاق، عليهم أفضل الصلاة والسلام، وأيدهم بالدلائل الدالة على صدقهم في دعواهم الرسالة. فمن أعلام نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القرآن العظيم الذي أعجز الورى كلهم، ومثل انشقاق القمر، وحراسة السماء بالشهب ومعراجه إلى السماء، إلى سدرة المنتهى، إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام، وكفاية الله أعداءه وعصمته من الناس، وإجابة دعائه، وإعلامه بالمغيبات الماضية، والمستقبلة. فالقرآن جاء به ذكر عن آدم ونشأته وما وسوس به إليه إبليس وما وقع له من الهبوط إلى الأرض بعد أن كان في الجنة وحدثنا عن نوح عليه السلام وما لقيه من قومه من أذى وسخرية. وما دعا الله به وما أرشده الله إليه من صنع الفلك وركوبه وإنجائه وأصحاب السفينة ودعوته لابنه وعصيانه له، وانهمار السماء، وتفجر الأرض عيونًا، وغرق الكافرين، ونجاة المؤمنين. وأخبر القرآن عن موسى عليه السلام، وما تم عند ولادته، وما وقع له في مصر، وما حدث له في مدين، وما رآه في جبل طور، وما كف به من أعباء الرسالة، وما دار بينه وبين فرعون من حوار، وما جرى من السحرة، وما انتهى إليه أمر فرعون وملئه وموسى وقومه. وأخبر القرآن الكريم عن عيسى وأمه عليهما السلام، وما وقع لهما من

الخوارق، وما صنعه لهما بنوا إسرائيل من مكائد، وأخبره عن غيرهم من الأنبياء. قال الله تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} الآيات. وقال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ} الآية. وقال: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} . فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعلمها عن مشاهدة ولكن أعلمه إياها الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وقال تعالى: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ} . وأخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمور غيبية عن القرآن. قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ} الآية، وتحقق الوعد وقال: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ} الآية. وقال: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} ، وقوله: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} الآية، فكان ما أخبر به على أتم الوجوه. ومن هذا الباب إخباره عن مكنون الضمائر فيما أتى به من القرآن فقال: {إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ} وقال الله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} إلى غير ذلك من الآيات. قال الشيخ: ومثل إخبار أهل الكتاب قبله، وبشارة الأنبياء به. ومثل إخبار الكهان والهواتف به، ومثل قصة الفيل، التي جعلها الله آية في عام مولده من العجائب الدالة على نبوته. ومثل امتلاء السماء ورميها بالشهب التي ترجم بها الشياطين، بخلاف

ما كانت العادة عليه قبل مبعثه، وبعد مبعثه، ومثل إخباره بالغيوب التي لا يعلمها أحد إلا بتعليم الله من غير أن يعلمه إياها بشر. أ. هـ. وكما أيد الله موسى بالآيات البينات، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} وكما أيد الله سائر رسله، مع انضمام ذلك إلى أحوالهم الجليلة، وأخلاقهم الفاضلة الجميلة، من سلامة الفطرة والعفاف، والكرم والشجاعة، والعدل والنصح. وقال: ولا ريب من أن من لقي الله بالإِيمان بجميع ما جاء به الرسول مجملاً مقرًا بما بلغه من تفصيل الجملة غير جاحد لشيء من تفاصيلها أن يكون بذلك من المؤمنين، إذ الإِيمان بكل فرد من تفصيل ما أخبر به الرسول وأمر به غير مقدور للعباد، إذ لا يوجد أحد إلا وقد خفي عليه بعض ما قاله الرسول. أ. هـ. وقال: ضمن الله السعادة لمن أطاعه وأطاع رسوله وتوعد بالشقاء لمن لم يفعل ذلك، فطاعة الرسول هي مناط السعادة وجودًا وعدمًا، وهي الفارقة بين أهل الجنة والنار ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرق بين الناس فدل الخلق بما بينه لهم. وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فمن اجتهد بطاعة الله ورسوله بحسب الاستطاعة كان من أهل الجنة والله يرفع درجات المتقين المؤمنين بعضهم على بعض بحسب إيمانهم وتقواهم. أ. هـ. أَلا إِنَّ السِباقَ سِباقُ زُهدٍ ... وَما في غَيرِ ذَلِكَ مِن سِباقِ وَيَفنى ما حَواهُ المُلكُ أَصلاً ... وَفِعلُ الخَيرِ عِندَ اللَهِ باقِ سَتَألَفُكَ النَدامَةُ عَن قَريبٍ ... وَتَشهَقُ حَسرَةً يَومَ المَساقِ أَتَدري أَيُّ ذاكَ اليَومِ فَكِّر ... وَأَيقِن أَنَّهُ يَومُ الفِراقِ

الإيمان بالبعث

فِراقٌ لَيسَ يُشبِهُهُ فِراقٌ ... قَدِ اِنقَطَعَ الرَجاءُ عَنِ التَلاق آخر: إني أبثك من حديثي ... إن الحديث له شجونُ فارقت موضع نومي ... ليلاً ففارقني السكونُ قل لي فأولَ ليلةٍ ... في القبر كيف تَرى تَكُونُ اللَّهُمَّ اجْعَلْ خَيْرَ أَعْمَالِنَا خَوَاتِمهَا وَخَيْرَ أَيَّامِنَا يَوْمَ لِقَائِكَ، اللَّهُمَّ ثَبّتْنَا عَلَى قَوْلِكَ الثّابِتِ وَأَيدنَا بِنَصْرِكَ وَارْزُقْنَا مِنْ فَضْلِكَ وَنَجِّنَا مِنْ عَذَابِكَ. اللَّهُمَّ وَفِقنا لِمَا وَفَّقْتَ إِلَيْهِ القَوْم وأيْقِظْنَا مِن سِنةِ الغَفْلَةِ وَالنَّوْم وَأرزِقْنَا الاستعدادَ لذَلِكَ اليَوْم الذي يَرْبَحُ فيه المُتَّقُونَ، اللَّهُمَّ وعامِلنَا بإِحْسَانِكَ وَجُدْ علينا بِفَضْلِكَ وامْتِنَانِكَ واجعلنا مِن عِبادِكَ الذين لا خَوفٌ عليهم ولا هُمْ يَحْزَنُون، اللَّهُمَّ ارحَمْ ذُلَّنَا بَيْنَ يَدَيْكَ واجعلْ رَغْبَتَنَا فِيما لَدَيْكَ، ولا تَحرِمِنَا بِذُنوبنا، ولا تَطْرُدْنَا بعُيوبِنا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْياءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) : 5- الركن الخامس: الإيمان بالبعث: البعث لغة: التحريك والإثارة. وشرعًا: إعادة الأبدان وإدخال الأرواح فيها، فيخرجون من الأَجْداث أحياء مهطعين إلى الداعي، كما ذكر الله تعالى: {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} . وقال: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} الآيتين. وقال: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ} . {وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * قُل كُونُواْ

الإيمان بالقدر

حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} . وقال: {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} . وقال: {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} . وقال: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} . وقال: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً} الآيتين. وقال: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ} ، وقال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} . وقال: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} . وقال: {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} . وقال: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ} . وقال: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ} . وقال: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا} . 6- الركن السادس: الإيمان بالقدر: الإيمان بالقدر: التصديق الجازم بأن كل خير وشر فهو بقضاء الله وقدره، وأنه الفعال لما يريد لا يكون شيء إلا بإرادته ولا يخرج عن مشيئته. وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد لأحد عن القدر المقدور ولا يتجاوز ما خط في اللوح المحفوظ، وأن الله خالق أفعال العباد من الطاعات والمعاصي. ومع ذلك فقد أمر العباد ونهاهم وجعلهم مختارين لأفعالهم غير مجبورين

تعريف التوبة وبيان شروطها وحكمها

عليها، بل هي واقعة بحسب قدرتهم وإرادتهم يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وبهذا الركن تتم الأركان. أَفْعَالُنَا مَخْلُوقَةٌ لله ... لَكِنَّها كَسْبٌ لَنا يَا لاهِيْ وكُلَُّ مَا يَفْعَلُه العَبادُ ... مِن طَاعَةٍ أو ضِدّهَا مُرَادُ لِرَبِّنَا مِن غَيْرِ ما اضْطِرارِ ... مِنْهُ لَنَا فافْهَمْ وَلا تُمارِي (فائدة عظيمة النفع) ما أَنْعَم الله على عَبْدٍ نِعْمَةً أًفْضَلَ مِنْ أنْ عَرَّفَه لا إِلهَ إِلا الله، وفهَّمَهُ مَعْنَاهَا، وَوَفَّقَهُ لِلَعَمِلِ بِمُقْتَضَاهَا، والدَّعْوَةِ إِليْهَا. قَال بَعْضُهُمْ: شِعْرًا: فَقُمْ وَحقّقْ دِينَكَ القَوِيمَا ... بِفَهْمِ مَعْنَاهَا لِتَسْتَقِيمَا وَهُوَ بِأَنْ ثُثبِتَ مَا قَدْ أَثْبَتَتْ ... لِرَبِنَا كَذَاك تَنْفِي ما نَفَتْ اللَّهُمَّ إِلَيْكَ بِدُعَائِنَا تَوَجَّهْنَا وَبِفنائكَ أَنَحْنَا وَإِيَّاكَ أَمَّلْنَا وَلِمَا عِنْدَكَ مِن الكَرَمِ وَالجُودِ وَالإحْسَانِ طَلَبْنَا وَمِنْ عَذَابِكَ أَشْفَقْنَا وَلِغُفَرانِكَ تَعَرَّضْنَا فاغَفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ وَصَلَى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. الفصل الأول في التوبة من المعاصي اعْلَمْ وَفَقَنَا اللهُ وإياكَ وَجَميعَ المُسلمينَ: أن الذنوبَ حجابٌ عن اللهِ، والانصرافُ عن كِلِ ما يُبْعِدُ عن اللهِ واجبٌ، وإنما يَتمُ ذلكَ بالعلم والندمِ والعزمِ، فإنَه مَتَى لَمْ يَعْلَمْ أَنْ الذنوبَ أسْبابُ البُعْدِ عن اللهِ لَمْ يَنْدَم على الذنوب ولم يَتَوَجَّعْ بِسَبَبِ سُلُوكِهِ طَرِيقَ البُعْدِ، وإِذَا لَمْ يَتَوَجَّعْ لَمْ يَرْجِعْ، والتَّوْبَةُ: الرجوعُ عَن المَعْصِيةِ إلى الطاعةِ وهِيَ واجبةٌ مِنْ كل

ذَنْبٍ، فإن كانت المعصية بينَ العبدِ وبينَ ربِهِ تَعالى لا تَتَعَلَّقُ بِحَقِّ آدمِيٍ، فلها ثَلاثَةُ شُروطٍ: الأولُ: الإِقلاعُ عَنْ المعْصِيةِ التي هُو مُتَلَبِّسٌ بِهَا، وَعَلامَتُهُ مُفَارَقَةُ الذنب فَوْرًا. الثاني: النَّدَمُ عَلَى فِعْلَها، وَعَلامَتُهُ طُوْلُ الحُزْنِ على مَا فَاتَ وورد عن ابن مسعودِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «النَدمُ تَوبة» . شِعْرًا: يَتُوبُ عَلَى يَدِي قَوْمٌ عُصَاةُ ... أَخَافَتْهُم مِنَ البَارِي ذُنُوبُ وَقَلْبِي مُظْلِمٌ فِي طُولِ مَا قَدْ ... جَنَى فَأَنَا عَلَى يَدِ مَن أتُوبُ كَأنِّي شَمْعَةٌ مَا بَيْنَ قَوْمٍ ... تُضِيء لَهُمْ وَيُحْرِقُهَا اللَّهِيبُ آخر: أَلا مَنْ لِقَلبٍ في الهَوى غَيرَ مُنتَهِ ... وَفي الغَيِّ مِطواعٍ وَفي الرَشدِ مُكرَهِ أُشاوِرُهُ في تَوبَةٍ فَيَقولُ لا ... وَإِِْن قُلتُ تَأتي فِتنَةٌ قالَ أَينَ هي آخر: عَلامَةُ مَنْ يَخْشَى الإِلهِ فؤادُهُ ... إذا صَدَرَتْ مِنْه المعاصِي تألْمَا وأتَبْعَهَا حَالاً بِتَوبَةِ صَادِقٍ ... عن الذَّنْبِ في عَزْمٍ لهُ مُتَنَدِّمَا الغَفْلة عن ذِكر الله وما ولاه أشد الأعداء ضَررًا على الإِنسان فإيَّاك أن تغفل عن ذكر الله ولا لحظة. الثالثُ: العَزْمُ أَنْ لا يَعُوْدَ إلى معْصِيةٍ أبَدًا، وَعَلامَتُهُ التَّدَارُكُ لِمَا فَاتَ وَإصْلاحُ مَا يَأتي، فإنْ كَانَ المَاضِيْ تَفْرِيطًا في عِبادةٍ قَضَاهَا، أَوْ مَظْلَمةٍ أدَّهَا، أَوْ خَطِيئَةٍ لا تُوجِبُ غَرَامَةً حَزِنَ إِذْ تَعَاطَاهَا. فإن فُقِدَ أَحَدُ الشُرُوطِ الثَّلاثِةِ لَمْ تَصِحَّ تَوْبَتُهُ. وإنْ كَانَتْ المعصيَةُ تَتَعَلَّقُ بآدميٍ، فَشُرُوطُها أرْبَعَةُ: الثلاثةُ الشُروطُ المذكورةُ، والرابعُ: أن يَبْرَأَ مِنْ حَقّ صَاحِبها، فإنْ كَانتْ مالاً أو نحوَهُ رَدَّهُ إِليهِ، إِنْ كانَ مَوْجُودًا

النصح في التوبة وما يتضمنه والحث عليها

أَوْ رَدَّ بدَلَهُ عندَ تَلَفِهِ مِن قِيْمَةٍ أو مِثْلٍ، وإنْ كَانَتْ حَدَّ قذفٍ وَنَحْوَه مَكّنَهُ مِنْهُ أَوْ طَلَبَ عَفْوَهُ، وإنْ كَانَتْ غِيْبَةٍ اسْتَحَلَّهُ مِنْهَا إنْ كَانَ عَاقِلاً حَلِيمًا، يَغْلِبُ عَلَى الظَن أَنَّهُ إِذَا جَاءَهُ أخُوُهُ المُسْلِمُ نادِمًا تائبًا عَفَا عَنْهُ وَسَامَحَهُ، وَإِلا فَلْيَسْتَغْفرَ لَهُ. لِمَا وَرَدَ عَن أنس قال: قَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنْ مِنْ كَفَّارَةِ الغِيْبَةِ أَنْ تَستغفرَ لِمن اغْتَبْتَهُ تَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِنَا وَلَهُ» . وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ كَاْنَتْ عِنْدَهُ مظلمةٌ لأخِيهِ ِمْن عِرْضٍ أَوْ مَالٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ منهُ اليومَ قَبلَ أنْ لا يكونَ دِرْهَمٌ ولا دينارٌ، إنْ كانَ له عملٌ صالحٌ أُخِذَ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِئآتِ صَاحِبِهِِ فَحُمِلَ عَليه» . وَقَدْ أَمَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتًعالَى بِالتَّوْبَةْ، وَبيَّنَ مَا لِلِتَّائِبِينَ مِنَ الكَرَامَةِ والأِجْرِ، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} . (فَائِدَةٌ عَظِيمَةُ النَّفْعِ) مِنْ أَصُولِ النِّعَم نِعمةَ العِلْمِ فَهْيَ نِعْمَةٌ كُبْرَىَ يتَوقَّفُ عَليهَا رُقِيُّ الإِنْسَانِ وَسَعَادَتُهُ فَتَحْصِيلُهُ نِعْمَة والانتِفَاعُ بِهِ نِعْمَةْ، وَالنَّفْعُ بِهِ نِعْمَةْ، وتَخْلِيدُهُ وَنَقْلُهُ لِلأَجْيَال نِعْمَةْ، وَنَشْره للِنَّاسِ نِعْمَةْ، والدَّعْوَةُ إِلَيْهِ نِعْمَةْ، وَهَكَذَا ... إلخ. واللهُ أَعْلَمْ، وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ وَسَلَّمَ. (فَصْلٌ) : قال ابنُ القَيّم رحمهُ الله: والنُّصْحُ في التوبِة يَتَضَمَّنُ ثَلاثَةَ أَشْيَاء: الأَولُ: تَعْمِيمُ جَمِيْعَ الذُنُوبِ واستغْراقُهَا بها بِحَيْثُ لا تَدَعُ ذَنْبًا إِلا تَنَاوَلَتْهُ، وَالثاني: إجماعُ العَزْم والصِّدْقِ بَكُلِّيَتِهِ عَلَيْهَا بحَيْثُ لا يَبْقَى تَرَدُدٌ ولا تَلَوُّمٌ ولا انْتظِارٌ بَلْ يُجْمِعُ كلَّ إِرَادَتِهِ وَعَزِيْمَتِهِ مُبَادِرًا بِهَا.

والإجماع على وجوبها والأدلة على ذلك

الثالثُ: تَخْلِيصُهَا مِن الشَّوَائِبِ والعِلَلِ القَادِحَةِ في إخْلاصِهَا وَوُقُوعِهَا لِمَحْضِ الخَوْفِ مِن خَشْيَةِ اللهِ، والرَّغْبَةِ فِيمَا لَديْهِ، والرَّهْبَةِ مِمَّا عِندَهُ لا كَمَنْ يَتُوبُ لِحِفْظِ جَاهِهِ وحرْمَتِهِ وَمَنْصِبهِ ورياسَتِهِ، أو لِحفْظِ حَالِهِ أو لِحِفْظِ قُوَّتِهِ وَمَالِهِ أو اسْتِدْعَاء حَمْدِ النَّاسِ أو لِهَربٍ مِن ذَمِّهمْ أَوْ لِئَلا يَتَسَلَّطْ عَلَيْهِ السُفَهَاءُ أو لِقَضَاءِ نَهْمَتِهِ مِن الدنيا أو لإِفلاسِهِ وَعَجْزِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِن العِلَلِ التي تَقدَح في صِحَّتِهَا وَخُلُوصِهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. أ. هـ. وأخْبَرَ أَنَّهُ غَفَّارٌ لِذُنُوبِ التَّائِبينَ، فقال عَزَّ شأَنُه: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} . وقال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وأخبرَ سبحانَه أنه يُحِبُ التوابين، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} . وقال النَبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا أيُها النَّاسُ تُوبُوا إلى اللهِ واستَغْفِرُوهُ فإني أَتُوبُ في اليوم مائةَ مَرة» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «والله إني لأستغفرُ اللهِ وأَتُوبُ إليهِ في اليومِ أكثرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّة» . رواه البخاري. شعرًا: لَيْسَ الظَرِيفُ بِكَامِلٍ في ظَرْفِهِ ... حَتَّى يَكُونَ عَن الحَرَام عَفِيفًا فإذا تَوَرَّعَ عَنْ مَحَارِمِ رَبِهِ ... فَهُنَاكَ يُدْعَى في الأنامِ ظَرِيفًا وقال - صلى الله عليه وسلم -: «اللهُ أَشَدُ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِليهِ مِنْ أَحدِكُم كانَ على رَاحِلتِه بأرض فلاةٍ فانفَلَتَتْ منه وَعَليهَا طَعامُه وَشَرَابُه فأَيس منها، فأتَى شَجرةً فاضْطَجَعَ في ظِلِّهَا وَقَدْ أَيسَ مِن رَاحلَتِهِ فَبَيْنَمَا هُو كَذَلِكَ

إِذْ هُوَ بِهَا قائِمةً عندهُ فأَخَذَ بِخِطامِهَا، ثُمَّ قَال مِن شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أنْتَ عَبْدِي وأنا رَبُكَ، أخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ» . الحديث رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ تَعَالى يَبْسُطُ يَدَهِ بالليلِ لِيَتُوبَ مُسيءُ النهارِ ويَبْسُطُ يَدَهَ بالنهار ليَتُوبَ مُسِيءُ الليلُ حتَّى تَطْلُعَ الشمسُ مِن مَغُرِبِهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. والأحاديثُ في هذا كَثِيرةٌ، والإجماعُ مُنْعَقِدٌ عَلى وُجُوبِ التَّوبَةِ لأَمْرِ اللهِ ورسولِهِ بها، ولأن الذنوبَ مُهْلِكاتٌ مُبْعداتٌ عن اللهِ فَيَجِبُ الهَرَبُ مِنْها على الفَورِ ولْيَحْذَرْ الإِنسانُ كُلَّ الحذرِ مِن الذنوبِ الكبَائِر والصَّغائِر. وُوُجُوبُ التوبةِ مِن الكبائر أَهَمُّ وآكدُ، والإصْرارُ على الصغيرةِ أيضًا كبيرةٌ، فلا صَغِيرةَ مع الإِصْرارِ ولا كَبيرةَ مَعَ التوبةِ والاسْتِغْفارِ. وَتَواتُرُ الصَّغَائِرِ عظيمُ التأْثيرِ في تسْويدِ القلب وهوَ كَتَواتُر قَطَراتِ الماءِ على الحَجَر، فإِنه يُحْدِثُ فيهِ حُفْرَةً لا مَحَالةَ مَعَ لِينَ الماءِ وَصَلابةِ الحجرِ فَعَلَى العاقِل أن يَسْتَرصِدَ قَلبَهُ باسْتِمْرَارٍ ويُراقِبَ حركاتِهِ وَيُسجّلَ تَصَّرُفَاتِهِ ولا يَتَسَاهلَ ولا يقولَ إنها مِن التوافِهِ الصِغارِ وَصَدَقَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حيثُ يقولُ: «إِياكُمْ وَمُحَقّراتِ الذُنُوب فإِنهنَّ يجْتمعْنَ عَلَى الرَّجُل يُهْلكنَهْ» . فوائد: انبَسَطَ آدَمُ في أكْلَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فيهَا فَكَانَتْ سَبَبَ نُزُولِهِ مِنَ الجَنِّة وَنوح كَلِمَة وَاحِدَةٌ عَلَى غَيْرَ وجْههَا نُوْدِي {فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ} - الآية، وخليل الرَّحمنُ لَم يَكُن منه إلا هَفْوةٌ وَاحِدَةٌ فكَم تضرع واسْتَغْفَر، ثم يُونُسَ غَضْبَةٌ واحِدة فَسُجِنَ في بَطْن الحُوتْ. أ. هـ. شِعْرًا: ولا تَحِتقر كيدَ الضعِيف فربما ... تِموت الأفاعي من سُمُوم العَقَارِبِ وقد هدَّ قَدْمًا عَرشَ بِالْقِيس هُدهُدٌ ... وَخرب حَفر الفأر سَدَّ مآربِ آخر: لا تَحْقِرَنَّ عَدُوًا لأنَ جَانِبُهُ ... وَلَوْ يَكُونُ قَلِيلَ الْبَطْشِ والْجَلَدِ فَلِذُبَابَةِ في الْجُرْحِ الْمَدِيدِ يَدٌ ... تَنَالَ مَا قَصَّرَتْ عنه يَدُ الأسَدِ

آخر: ... ولا تَحْقِرَنَّ عَدوًا رَمَا ... ك وإنْ كان في سَاعِدَيْهِ قِصَرْ فَإنَّ السُّيُوفَ تَحُزُّ الرِّقَا ... بَ وَتَعْجَزُ عَمَّا تَنَالُ الإِبَرْ آخر: ... لا تَهَاوَنْ بِصَغِيرٍ من عَدَا ... فَقَدِيمًا كَسَرَ الرُّمْحَ الْقَلَمُ آخر ... لا تَحْقِرَنَّ صَغِيرًا في مُخَاصَمَةٍ ... إِنَّ الْبَعُوضَةَ تُدْمِي مُقْلَةَ الأَسَدِ وكما أنَّ خيرَ الأعْمالِ الصالحةِ أدْوَمُها وإنْ قَلَّ، وأيضًا الكبائرُ قَلَّما تَقَعُ مِن غِير سَوابِقَ وَمُقَدِّماتٍ من الصَغَائِر، فَمَثَلاً الزنا - والعِياذُ باللهِ - قَلّمَا يَقَعُ فَجَأَةً بل تَتَقَدَّمُ عليهِ مُرَاوَدَةٌ أو قُبْلَةٌ أو لمسٍ. شعرًا ... أَأَحُورُ عَنْ قََصْدِي وَقَد بَرَحَ الخَفا ... وَوَقََفْتُ مِنْ عُمْرِي القَصِيرِ عَلى شَفا وَأَرَى شُؤونَ العَينِ تُمسِكُ ماءَهَا ... وَلَقَبلَ ما حَكَتِ السَحابَ الوُكَّفا وَأَخالُ ذاكَ لِعِبرَةٍ عَرَضَت لَها ... مِن قَسوَةٍ في القَلبِ أَشبَهتِ الصَفا وَلَقَلَّ لي طولُ البُكاءِ لِهَفوَتي ... فَلَرُبَّما شَفَعَ البُكاءُ لِمَن هَفا إِنَّ المَعاصِيَ لا تُقيمُ بِمَنزِلٍ ... إِلا لِتَجعَلَ مِنهُ قاعاً صَفصَفا وَلَو أَنَّني داوَيتُ مَعطَبَ دائِها ... بِمَراهِمِ التَقوى لَوافَقتِ الشِفا وَلَعِفتُ مَورِدَها المَشوبَ بِرَنقِها ... وَغَسَلتُ رَينَ القَلبِ في عَينِ الصَفا وَهَزَمتُ جَحفَلَ غَيِّها بِإِنابَةٍ ... وَسَلَلتُ مِن نَدَمٍ عَلَيها مُرهَفا وَهَجَرتُ دُنيا لَم تَزَل غَرّارَةً ... بِمُؤَمِّليها المُمحِضينَ لَها الوَفا سَحَقَتهُمُ وَدِيارَهُم سَحقَ الرَحا ... فَعَلَيهُمُ وَعَلى دِيارِهُم العَفا وَلَقَد يُخافُ عَلَيهِمُ مِن رَبِّهِم ... يَومَ الجَزاءِ النارَ إِلا إِن عَفا إِنَّ الجَوادَ إِذا تَطَلَّبَ غايَةً ... بَلَغَ المَدى مِنها وَبَذَّ المُقرِفا شَتّانَ بَينَ مُشَمِّرٍ لِمَعادِهِ ... أَبَداً وَآخَرَ لا يَزالُ مُسَوِّفا إِنّي دَعَوتُكَ مُلحِفاً لِتُجيرَني ... مِمّا أَخافُ فَلا تَرُدَّ المُلحِفا قال بَعضُ العُلمَاء: مِن عَجيب ما نقَدْتُ مِن أَحْوالِ الناس كَثْرةَ ما

ناحُوا على خرَابِ الدِّيارِ ومَوتِ الأقارِب والأسلافِ والتَّحَسُّرِ على الأرْزَاقِ بذمِ الزمانِ وأهلهِ وذِكرِ نكدِ العَيْشِ فيه. وقَدْ رَأوَا مِن انهدامِ الإِسلامِ وَشعَثِ الأَديانِ وموت السُّننِ وظهورِ البدع وارتكاب المعاصِي وتقضي العُمَر في الفارغِ الذي لا يُجْدِي والقبيحِ الذي يُؤبق ويُؤذِي. فلا أجدُ منهم مَن ناح على دِينِه ولا بَكى عَلى فارِطِ عُمِرهِ ولا آسَى على فائتِ دَهِره. وما أرَى لذَلك سَبَبًا إلا قِلةَ مُبَالاتِهم في الأديان وعظمَ الدنيا في عُيونهم ضِدَّ ما كان عليه السلفُ الصالحُ يَرْضَون بالبلاغِ وَيَنُوحُونَ على الدين. أ. هـ. وكُلُ كَسْرٍ فإِنْ اللهِ يَجْبُرُهُ ... وما لِكَسْرِ قَنَاةِ الدِّينِ جُبْرَانُ آخر: تُفَكّرُ في نُقْصَان مَالِك دَائِمًا ... وتَغْفل عن نُقْصَانِ دِينَكَ والعُمْرِ وَيَثْنِيكَ خَوْفُ الفَقْرِ عن كُلِّ طاعةٍ ... وخِيفَةُ حَالٍ الفَقْرِ شَرٌ مِن الفَقْرِ اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا تَوفيقًا يَقِينًا عَنْ مَعَاصِيكِ وَأَرَشِدْنَا إلى السَّعْيِ فِيمَا يُرْضِيكَ وأَجِرْنَا يَا مَوْلانَا مِنْ خِزْيكَ وَعَذَابِكَ وَهَبْ لَنَا مَا وَهَبْتَهُ لأَوْلِيَائِكَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلَك التَّوبَةَ وَدَوامَها، وَنَعُوذُ بِكَ مِن المَعْصِيَةِ وأَسْبَابها، اللَّهُمَّ أفِضِ علينا مِن بَحْرِ كَرَمِكَ وَعَوْنِك حَتَى نَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا على السّلامَةِ مِن وَبَالِها وَارْأُفْ بِنَا رَأْفَةَ الحَبِيبِ بِحَبِيبِهِ عِنْدَ الشّدَائِدِ وَنُزُولِها، وارْحَمْنا مِن هُمُومِ الدّنْيَا وَغُمومِها بالرَّوْحِ والرّيْحانِ إِلى الجنةِ وَنَعِيمِها، وَمَتَّعْنا بالنَّظَرِ إِلى وَجْهكَ الكريم في جَنَّاتِ النَّعيمْ مَعَ الذين أَنْعَمْتَ عليهم من النبيينَ والصّدّيقينَ والشَّهداءِ والصّالِحين، واغْفِرْ لَنَا ولوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ المُسْلِمينَ، الأَحياءِ منهم والميتينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبِهِ أَجْمَعِينَ.

ما ذكره ابن القيم من آثار المعاصي وذكر أضرارها

الفَصْلُ الثَّاني: قال ابنُ القَيمِ رَحِمهُ اللهُ: وللمَعَاصِي من الآثارِ المُضِرَّةِ بالقلبِ والبَدَن في الدنيا والآخرةِ ما لا يَعْلمُهُ إلا الله، فمنها: أنها مَدَدٌ مِنَ الإِنسانِ يَمُدُّ بِهِ عَدُوَّهُ عليهِ وَجَيْشٌ يُقَوِّيهِ بهِ على حَرْبِهِ ومِن عُقُوباتِها أَنَّهَا تَخُونُ العَبْدَ أَحْوَجَ ما يكون إلى نفْسِهِ. ومنها: أنها تُجَرِّئُ العبدَ على مَنْ لم يكُنْ يَجْتَرئُ عَليهِ. وَمنها: الطَبْعُ على القلب إذا تكاثَرَتْ حتى يَصيرَ صَاحبُ الذَنْب منَ الغافِلين، كما قال بعضُ السَلَفِ في قوله تَعَالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} هو الذَنْبُ بعدَ الذنْب، وقال: هو الذَنْبُ على الذنْبِ حتى يَعْمَى القلبُ. وأصْلُ هذا أنَّ القَلْبَ يَصْدأُ مِنَ المعصيةَ فإِذا زادَتْ غَلَبَ الصدأُ حتى يَصيرَ رَانًا ثم يغلبُ حتى يَصِيرَ طَبْعًا وَقَفْلاً وَخَتْمًا فَيَصِيرَ القلبُ في غِشَاوةٍ وَغِلافٍ. ومنها: إفْسادُ العقلِ فإنَّ العقلَ نُورٌ والمعصيةُ تُطْفئُ نُورَ العقلِ. ومنها: أن العبدَ لا يَزالُ يَرْتَكِبُ الذُنوبَ حتى تَهونَ عليهِ وَتَصْغُرَ في قلبِهِ. ومنها: أنْ يَنْسَلخَ مِنَ القلبِ اسْتِقْباحُها فتصيرَ لهُ عادةً. ومنها: أنَّ المعاصِيِ تَزْرَعُ أَمْثَالَها وَيُوَلِّدُ بعضُها بَعضًا. ومنها: ظُلْمَةٌ يَجِدُها في قلبِهِ يُحِسُّ بِها كما يُحِسُّ بِظُلْمَةِ الليلِ. ومنها: أَنَّ المعاصِيَ تُوهنُ القلبَ والبَدَنَ أَمّا وَهَنُها لِلْقِلب فَأمْرٌ ظاهِرٌ بل لا تَزَالُ تُوهِنُهُ حتى تُزيلَ حَيَاتَهُ بالكُلِّيةِ وأمَّا وَهَنُها للبَدَنِ فإنّ المؤمن قُوتُهُ في قلبِهِ وكُلّما قَويَ قلبُهُ قَوِيَ بَدَنُه. ومَنْها: أَنّ المعاصِيَ تَمْحَقُ بَرَكَةَ العُمْرَ إذْ أنَّ المَعاصِيَ كُلَّها شُرُورٌ. وَمِنْهَا: شَمَاتةُ الأَعْدَاءِ فَإِنّ المَعَاصِيَ كُلَّها أَضْرارٌ في الدِّينِ والدُّنْيَا وَهَذَا مَا يُفَرِّحُ العَدُوَّ وَيُسِيءُ الصَّديقَ.

وَمِنْهَا تَعْسِيرُ أُمُوِرِهِ فَلا يَتَوَجَّهُ لأِمْرٍ إِلا يَجِدُهُ مغْلَقًًَا دُوْنَه أَوْ مُتَعسِّرًا عَلَيْه. وَمِنْهَا الْوَحْشَةُ التي تَحْصُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاس وَلاسِيَّمَا أَهلُ الخَيْر. وَمِنْهَا حِرْمَانُ دَعْوَةِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - وَدَعُوَةِ الملائِكَةِ لِلَذِيْنَ تَابُوا وَمِنْهَا أنَّ الذُنُوبَ تَدْخُلُ العَبْدَ تَحْتَ لَعْنَةِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. شِعْرًا: ألا طُوبَى لِمَنْ أَمْسَى وأضْحَى ... خَفِيفَ الظَّهْرِ مِنْ ثِقْلِ الذُنُوبِ يَغِيْبُ عَنِ الأباعِدِ والأدَانِيْ ... لِخَلْوتِهِ بِعَلام الغُيُوبِ آخر: لا تَقْنَطَنْ مِن عِظَمِ الذُنُوب ... فَرَبُّ العباد رحِيمٌ رؤوف ولا تَمْضِيَنَّ عَلَى غَيْرِ زَادْ ... فإنَّ الطَّرِيقُ مَخَوْفٌ مَخُوفْ وَمِنْهَا: أَنَّها تُحْدِثُ في الأرْضِ أَنَواعًا مِنَ الفَسَادِ في المِيَاهِ وَالهَوَاءِ والزّروِع وَالثَّمَارِ والمَسَاكِن. وَمِنْهَا: أَنَّها تُطْفِئُ مِنَ الْقَلْبِ نارَ الغَيرَةِ. وَمِنْهَا: ذَهَابُ الحيَاءِِ الذِي هُوَ مَادَّةُ حَيَاةِ القلبِ. وَمِنْهَا: أَنَّها تُضْعِفُ في القلبِ تَعْظِيمَ الرّبِّ وَتُضْعِفُ وَقَارهُ في قَلْبِ العَبْدِ. وَمِنْهَا: أَنّها تَسْتَدْعِي نِسْيَانَ اللهِ لِعَبْدِهِ وَتَركهِ. وَمِنْهَا: أَنَّهَا تُخْرِجُ العَبْدَ مِنْ دَائِرةِ الإِحْسَانِ وَتَمْنَعُهُ ثَوابَ المُحْسِنِين. وَمِنْهَا: أَنَّها تُضْعِفُ سَيْرَ القَلبِ إلى اللهِ والدّارِ الآخِرَةِ. وَمِنْهَا: أَنَّّها تَصْرِفُ القلب عنْ صِحَّتِهِ واسْتِقَامَتِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّها تُعْمِي بَصِيرَةَ القلبِ وَتَطْمِسُ نُورَهُ وَتَسدُّ طُرقَ العِلْم. وَمِنْهَا: أَنَّها تُصَغِّرُ النَفْسَ وَتَحْقِرُهَا وَتَقْمَعُهَا عن الخير. وَمِنْهَا: أنَّ العَاصِيَ في أَسْرِ شَيْطَانِهِ وَسِجْنِ شَهَواتِهِ. وَمِنْهَا: سُقُوطُ الجَاهِ والمَنْزلَةِ والكَرَامَةِ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ خَلْقِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّها

تُوجِبُ القَطيعَةَ بينَ العبْدِ وَبينَ رَبِّهِ. وَمِنْهَا: أَنَّهَا تَسْلُبُ صَاِحِبِهَا أَسْمَاءَ المَدْحِ والشرَفِ. وَمِنْهَا: أَنَّهَا تَجْعَلُ صَاحِبهَا من السَفَلَةِ. انتهى. شعرًا: ... تَبِيتُ عَلَى المَعَاصِي والمَسَاوِي ... فَأَنْتَ بِغَفْلةٍ والله بِتَّا يُديمُ عليكَ إِحْسَانًا وفَضْلاً ... وَأْنَت تُدِيمُ لُؤْمًا أًيْنَ كُنْتَا وبالعِصْيَانِ تَخطُرُ باخْتيالٍ ... سَكِرْتَ مِنَ الغُرورِ وما صَحَوْتَا أَفِقْ مِنْ َغَفْلَةٍ وَأِنْب لِرَبٍّ ... تَنَلْ منهُ السَّماحَ إذَا أَنَبْتَا وتَظْفَرُ بِالقَبُولِ وبالأمَاني ... وفي الدَّارَيْن بالإِسْعَادِ فُزْتَا آخر ... أَلا أَيُّها المُسْتَطْرِفُ الذَّنْبَ جَاهِدًا ... هُوَ اللهُ لاَ تَخْفَى عَلَيْهِ السَّرَائِرُ فإنْ كُنْتَ لَمْ تَعْرِفْهُ حِينَ عَصَيْتَهُ ... فإنَّ الذِي لاَ يَعْرِفُ اللهُ كَافِرُ وإِنْ كُنْتَ عن عِلْمٍ وَمَعُرفَةٍ بِهِ ... عَصَيْتَ فَأَنْتَ المُسْتَهِينُ المُجَاهِرُ فَأَيَّةُ حَالَيْكَ اعْتَقَدْتُ فإنَّهُ ... عَليمٌ بِمَا تُطْوَى عَلَيْهِ الظَّمائِرُ آخر ... أَحذِرْكَ أَحذِرْكَ لا أَحذِرْكَ واحدةً ... عَنِ المَعَاصِي وخُصَّ الشِرْكَ باللهِ فإنَّهُ أَعْظَمُ الآثامِ أَجْمَعِهَا ... وَصَاحِبُ الشِّرْكِ أَعْدَى الناسِ لِلهِ ومِن عُقُوباتِ الذُنُوب أنها: تَصْرِفُ القَلْبَ عن صِحَّتِهِ واسْتِقَامَتِهِ إلى مَرَضِهِ وانْحِرَافِهِ، فَلا يَزَالُ مَرِيضًا مَعْلُولاً لا يَنتفعُ بالأغذيةِ التي بها حَياتُه وصَلاحهُ. فإن تأثير الذنوب في القلب كتأثير الأمراض في الأبدانِ، بل الذنوب أمراضُ القلوب ودَاؤُها، ولا دَواءَ لَهَا إلا تَركُها. اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِسُلُوكِ مَنَاهِجَ المُتَّقِينِ، وَخُصَّنَا بِالتَّوْفيقِ المُبِينُ، وَاجْعَلْنَا بِفَضْلِكَ مِنَ المقَرَّبِينَ الذِينَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) : وقد أجمع السائرون إلى الله أنَّ القلوبَ لا تُعطي مُنَاهَا حَتَّى تصل إلى

مَوْلاَهَا، وَلا تَصِلُ إِلَى مَوْلاَهَا حَتَّى تَكُونَ صَحِيحَةً سَلِيمَةً، ولا تكون صَحِيحَةٌ سَلِيمَةً حَتَّى يَنْقَلِبَ دَاؤُهَا فَيَصِيرَ نَفْسَ دَوَائِهَا. ولا يَصِحُ لَهَا ذَلكَ إَلا بِمُخَالَفَةِ هَوَاهَا، فهواها مرضُها، وشفاها مخالفتهُ، فإن استحكم المرض قتل أو كاد. وكما أنَّ مَن نَهَى نفسهُ عن الهوى كانت الجنة مأواه، كذلك يكون قلبه في هذه الدار في جنة عاجلة لا يشبه نعيم أهلها نَعيمًا البتة. بل التفاوتُ الذي بين النعيمين كالتفاوت الذي بين نَعِيمَ الدنيا ونعيم الآخرة، وهذا أمر لا يصدق به إلا من بَاشَرَ قلبه هذا وهذا. ولا تحسب أن قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} مقصور على نعيم الآخرة وجحيمها فقط، بل في دورهم الثلاثة كذلك. أعني: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، فهؤلاء في نعيم، وهؤلاء في جحيم، وهل النعيم إلا نعيم القلب؟ وهل العذاب إلا عذاب القلب؟ . وأي عذابٍ أَشَدُّ مِنَ الخوفِ والهمَّ والحزنِ وضيقِ الصدرِ وإعراضِهِ عن الله والدار الآخرة وَتَعَلُّقِهِ بغيرِ اللهِ وانقطاعِهِ عن اللهِ؟ بكل واد منه شعبة، وكل شيء تعلق به وأَحَبَّهُ مِن دونِ اللهِ فإنه يَسُومُه سُوءَ العذاب. فَكُلُ مَنْ أَحَبَّ شيْئًا غيرَ اللهِ عُذِبَ به ثَلاثَ مَرَّات: في هذه الدار، فهو يعذب به قبل حصوله حتى يحصل، فإذا حَصَل عُذِّبَ به حَال حُصولِهِ بالخوفِ مِن سَلْبِهِ وفواتِهِ والتنغيصِ والتنكيدِ عليه وأنواع المعارضات، فإذا سُلِبَهُ اشْتَدَّ عَذَابهُ عليه. فهذه ثلاثةُ أنواع من العذاب في هذه الدار. وأما في البرزخ فعذاب يقارنه أَلَمُ الفراق الذي لا يرجى عوده، وألم فوات ما فاته مِن النعيم العظيم باشتغاله بضده، وألم الحِجَابِ عن الله، وألم الحسرةِ التي تقطع الأَكباد.

فالهَمُ والغَمُ والحسرةُ والحزنُ تعمل في نفوسهم نظير ما تعمل الهوام والديدان في أبدانهم، بل عَمَلُها في النفوس دائم مستمر حتى يردها الله إلى أجسادها، فحينئذٍ ينتقل العذاب إلى نوع هو أدهى وأمر. فأين هذا مِن نعيم مَنْ يرقص قلبه طربًا وفرحًا وأُنسًا بربه، واشتياقًا وارتياحًا بحبه وطمأنينة بذكره؟ حتى يقول بعضهم في حال نزعه: وأطرباه. ويقول الآخر: إن كان أهل الجنة في مثل هذا الحال إِنهم لفي عَيْشٍ طيب. وقال الآخر: مَسَاكينُ أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا لَذيذَ العيشِ فيها وما ذاقوا أَطْيَبَ ما فيها. ويقول الآخر: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف. ويقول الآخر: إِنَّ في الدنيا جنة مَن لم يدخلها لم يدخل جنة الآخر. فيا مَن باع حظه الغالي بأبخس الثمن، وغبن كُلَّ الغبنِ في هذا العقد وهو يرى أنه قد غَبَنَ، إذا لم تكن لك خبرة بقيمة السلعة فاسأل المقومين. فيا عجبًا مِن بِضَاعَةٍ مَعَكَ اللهُ مُشْتَرِيها، وثَمَنُها جَنَّةُ المأْوىَ، والسفيرُ الذي جرى على يده عقد التبايع وضمن الثمن عن المشتري هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد بِعْتَهَا بغايةِ الهوان!! . هَل الدُّنْيَا وما فيهَا جَمِيعًا ... سِوَى ظِلٍّ يَزُولُ مَعَ النَّهَارِ تَفَكَّر أَيْنَ أَصْحَابُ السَّرَايَا ... وَأَرْبَابُ الصَّوافِنِ والعِشَارِ وَأَيْنَ الأَعْظَمُونَ يَدًا وَبَأْسًا ... وَأَيْنَ السَّابِقُونَ لِذِي الفِخَارِ وَأَيْنَ القَرْنُ بَعْدِ القَرْنِ مِنهُمْ ... مِنْ الخُلَفَاء والشُمِ الكِبَارِ كأَنْ لَمْ يُخْلَقُوا أَوْ لَمْ يَكُونُوا ... وهَلْ أَحَدٌ يُصَانُ مِنَ البَوارِ واللهُ أَعْلَمْ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

أمثلة لأضرار الذنوب والمعاصي في الأمم الماضية

(فَصْلٌ) : ومن عقوباتها أنها تؤثر بالخاصة في نقصان العقل فلا تَجدُ عاقِلين أَحَدهما مُطِيعٌ والآخرُ عاصٍ إِلا وَعَقْلُ المطيع منها أَوْفَرُ وأَكْمَلُ وفِكْرُهُ وَرَأَيُهُ أَسَدُّ والصوابُ قَرِينه. ولِهَذا تِجَدُ خِطاب القُرآن إنما هو مَعَ أولى الألباب والعقول كقوله: {وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} وقوله: {فَاتَّقُواْ اللهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} وقوله: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} ونظائر ذلك كثيرة. وكيف يكون عاقلاً وَافِرَ العقل مَن يَعصِي مَن هو في قبضته وفي داره وهو يعلم أنه يراه ويشاهده فيعصيه، وهو بعينه غير متوار عنه ويستعين بنعمه على مَسَاخِطه ويَستدعِي كل وقت غَضَبَه عليه ولَعْنَتَهُ له وإِبعادَهُ مِن قُرْبِهِ، وطَرْدهُ من بابه وإعراضَه عنه وخذلانَه له والتخليةَ بينه وبين نفسه وعدوه وحرمانه من رضاه وحبه، وقرة العين بقربه والفوز بجواره والنظر إلى وجهه في زمرة أوليائه إلى أضعاف ذلك مِن كرامة أهل الطاعة وأضعاف أضعاف ذلك مِن عقوبة أهل المعصية. شِعْرًا ... يَا ذا الذي حَمَّلَهُ جَهْلُهُ ... مِن الْمَعَاصِي فَوْقَ ما يَقْوَى البَسْ مِنْ التَّوْبَةِ دِيباجةً ... مُعْلَمَةً بالنُسْكِ والتَقْوَى واعْلَمْ بأنْ لَسْتَ تُرَى نَاجِيًا ... إِنْ لَمْ تُطِعْ مَنْ يَعْلم السِّرَ والنَّجْوى آخر: قِفَا نَبْكي مِن عظمِ الذُنُوبِ وَفتكِها ... وَتَضْيِيْعِنا الأَوقات في غَيْر وَاجِبِ ونَسْتَدْركُ الماضِي بِتَوبَةِ صَادِقٍ ... وَنَسْتَقْبِل الآتِي بِجِدِّ المُوَاضِبِ وَنَعْمَلُ أَعْمَالاً حِسَانًا لَعَلّهَا ... تُكَفِّرُ عَنَّا مُفْضِعَات المَعَائِبِ آخر: ... إِذَا المَرْءُ لَمْ يَلْبَسْ لِبَاسًا من التُقَى ... تَقَلَّبَ عرْيَانًا وَإِنْ كَانَ كَاسِيًا وَخَيْرُ خِصَالِ المرءِ طَاعَةُ رَبِهِ ... ولا خَيْرَ في مَنْ كَان لِلَّهِ عَاصِيًا فأي عقل لمن آثر لذة أو يوم أو دهر ثم تنقضي كأنها حلم لم يكن على هذا النعيم المقيم والفوز العظيم؟ بل هو سعادة الدنيا والآخرة. ولولا العقل الذي تَقُوم عليه به الحجة لكان بمنزلة المجانين، بل قد يكون

المجانين أحسن حالاً منه وأسلم عاقبة، فهذا مِن هذا الوجه. وأما تأثيرها في نقصان العقل المعيشي فلولا الاشتراك في هذا النقصان لَظَهَرَ لِمُطِيعِنَا نُقْصَانُ عقل عاصينا، ولكن الجائحة عامة، والجنون فنون. ويا عجبًا لو صَحَّتِ العُقُولُ لَعَلمت أَنَّ الطرِيقَ الذي يحصل به اللذةُ والفرحةُ والسرورُ وطيّبُ العيشِ إنما هو في رضاء مَن النعيمُ كُلُه في رِضَاه والألمُ والعذابُ كله في سَخَطِهِ وغَضَبِهِ. ففي رضاه قرةُ العيون، وسرورُ النفوس، وحياةُ القلوب، ولَذَّةُ الأرواح، وطِيبُ الحياةِ ولذةُ العَيشِ وأَطْيَبُ النعيم ممَّا لَو وُزنَ منه مثقالُ ذَرةٍ بنعيم الدنيا لم تَفِ بِهِ بل إذا حَصلَ لِلقلْبِ مِن ذلكَ أَيْسَرُ نَصِيبٍ لم يَرْضَ بالدنيا وما فيها عَوضًا منه. ومَعَ هذا فهو يَنْعَمُ بنَصِيبِهِ أَعْظَمُ مِن تَنَعُّم المترفين فيها، ولا يَشُوبُ تَنَعُّمهُ بذلك الحظِ اليسيرِ ما يشوبُ تَنَعُمُّ المترفين مِن الهموم الغموم والأحزانِ والمعارضاتِ، بل قد حَصَلَ على النعيمين وهو ينتظر نعيمين آخرين أعظم منهما. انتهى. لِلَّهِ قَومٌ أَطَاعُوا الله خَالقَهُمْ ... فآمَنُوا واسْتَقامُوا مِثْلَ ما أَمروا والوَجُدُ والشوقُ والأفْكارُ قُوتُهمُوا ... ولازَمُوا الجِد والادْلاجَ في البُكَرِ آخر ... إِذا ما كَسَاكَ لله سِرْبَاك صِحَّةٍ ... وَلَمْ تَخْلُ مِنْ قُوتًا يَحِلٌ ويعذُبُ فلا تَغْبِطَنَّ المُتْرَفِينَ فَإِنَّهُمْ ... بِمِِقْدَارِ مَا يُكْسُونَ في الوْقَتِ يُسْلَبُ آخر: أَفادَتْني القَنَاعَةُ كُلَّ عِزٍ ... وَأَيُّ غِنىً أعَزَ مِنَ القَنَاعَةْ فَصَيِّرْهَا لِنَفْسِكَ رَأْسَ مَالٍ ... وصَيّرْ بَعْدَهَا التَّقْوى بضَاعَةْ تَحُزْ رِبْحَيْنِ تَغْنَى عن بَخِيلٍ ... وتَنْعَمُ في الجِنَانِ بِصَبْرِ سَاعَةْ آخر ... أَخَصُّ الناس بالإِيمانِ عَبْدٌ ... خَفِيفُ الحَاذِ مَسْكَنُهُ القِفَارُ لَهُ في اللِّيْلِ حَظٌ مِن صَلاةٍ ... ومِن صَوْمٍ إِذَا جَاءَ النَّهَارُ

وقُوتُ النَفسِ يَأتِي في كَفَافٍ ... وكَانَ لَهُ على ذَاكَ اصْطِبَارُ وفيه عِفَّةُ وبِهِ خُمُولٌ ... إِليْهِ بالأَصَابعَ لا يُشَارُ وقَلَّ البَاكِيَاتُ عَليّه لَمَّا ... قَضَى نَحْبًا ولَيْسَ لَهُ يَسَارُ فَذَالِكَ قَدْ نَجا مِنْ كُلِّ شَرٍّ ... ولَمْ تَمْسَسْهُ يَوْمَ البَعْثِ نارُ اللَّهُمَّ قَوِ إِيمانَنَا بِكَ وبملائكتِكَ وَبِكُتُبِكَ وَبِرُسُلِكَ وباليومِ الآخر وبالقدرِ خيرِه وشرِّهِ اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِطَاعَتِكَ وَحُلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعْصِيتِكَ وألْهِمْنَا ذِكرَكَ وَشُكْرَكَ واجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِين واغْفِرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وصلَّى اللهُ عََلَى نَبينا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبهِ أَجْمَعِينَ. الفصل الثالث: قَالَ ابنُ القَيّم رَحمَه اللهُ تعالى: ممَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الذنوبَ والمَعَاصيَ تَضُرُ ولا بُدَّ أَنَّ ضَرَرَهَا في القَلْبِ كَضَرِرِ السُّمُومِ في الأبدان على اختلاف دَرَجَاتِها في الضَرَرِ. وهَلْ في الدُنيا والآخِرَةِ شَرٌّ وداءٌ، إِلا بِسَبَبِ الذُنوبِ والمعاصي؟ إِلى أَنْ قالَ رحِمَهُ اللهُ: فَمَا الذِي أَخْرَجَ الأَبَوَيْنَ مِنَ الجنةِ والنَعيمِ واللَّذةِ والبَهْجَةِ والسُرور إِلى دَارِ الآلام والأحْزَانِ والمصائِب وما الذي أَخْرجَ إبْليسَ مِنْ مَلَكوتِ السَمَاءِ وَطَرَدَهُ وَلَعَنَهُ وَمَسَخَ ظَاهِرَهُ وبَاطِنَهُ فَجَعَلَ صُورَتَهُ أَقْبَحَ صُورَة وأَشْنَعَهَا وبَاطنَهُ أَقْبَحَ مِنْ صُورَتِهِ وَأشْنَعَ وَبُدّلَ بالقُرْب بُعْدًا، وبالرَّحْمَةِ لَعْنَةً، وبالجَمَال قُبْحًا، وبالجنةِ نارًا تَلظَّى، وبالإيمانِ كُفْرًا، وَبِمْوَالاةِ الوَليّ الحَميدِ عَدَاوَةً وَمُشَاقّةً، وبزَجَلِ التَّسْبيحِ والتَّقْدِيسِ والتَّهْلِيل زَجَلَ الكُفْرِ والفُسوقِ والعِصْيَانِ، فَهَانَ عَلى الله تعالى غَايَة الهَوَانِ وسَقطَ مِنْ عَيْنِهِ غايَةَ السُقوط وحَلَّ عليْهِ غَضَبُ الربِّ تعالى فأهْوَاهُ، وَمَقتهُ أَكْبَرَ المَقْتِ فأرْدَاهُ، فَصَارَ قَوَّادًا لِكُلِّ فاسِقٍ ومُجْرِمٍ رَضِيَ لِنَفْسِهِ بالقِيادِةِ بَعْدَ تِلْكَ العِبَادَةِ والسِّيادَةِ.

فَعِياذًا بِكَ اللَّهُمَّ مِنْ مُخالفَةِ أَمْرِكَ وارْتِكَاب نَهْيِك. وَمَا الذِي أَغْرَقَ أَهْلَ الأَرْض كُلَّهمْ حَتَّى عَلا المَاءُ فَوقَ رُؤُوسِ الجِبَال. وَمَا الذي سَلّطَ الريحَ على قَومِ عادٍ حتى ألْقَتْهم مَوْتَى على وَجْهِ الأرض كأنَّهم أعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ودمَّرَتْ مَا مَرّتْ عليه مِنْ دِيارِهِمْ وحُرُوثِهِمْ وزُرُوعِهِمْ وَدَوابِّهِمْ حتى صارُوا عِبْرةً للأُمَمِ إلى يومِ القِيامة. وَمَا الذي أرْسل على قومِ ثَمُودَ الصَيْحَةَ حتى قَطَعَتْ قُلوبَهم في أَجْوَافِهِمْ وَماتُوا عن آخِرِهم، وما الذي رَفَعَ قُرى اللُوطيّةِ حتى سَمعتْ الملائكةُ نِبَاحَ كِلابِهم ثم قَلَبَها عليهم فَجَعَل عالِيها سافِلَها فأهلكهم جميعًا ثم أَتْبَعَهم حجارةً مِنْ السماءِ أَمرَها عليهم فجمع عليهم مِنْ العُقوبَةِ ما لم يَجْمعه على أًمَّةٍ غيرِهِم، ولإِخوانِهِم أمثالهُا قال تعالى: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} . وَمَا الذي أرسل عَلى قَوم شُعَيْبٍ سَحَابَ العذاب كالظُّلَل فَلَمَّا صَارَ فوقَ رؤوسِهمْ أَمْطَرَ عليهم نارًا تلظَّى. وَمَا الذي أَغْرَقَ فرعونَ وقومَهُ في البحر ثم نُقِلَتْ أرْوَاحُهُم إلى جَهَنَّمَ، فالأَجْسَادُ لِلْغَرَقِ والأَرواحُ لِلْحَرَقِ، وَمَا الذي خَسَفَ بقارُونَ ودَارِهِ ومالِهِ وأهْلِهِ. وَمَا الذِي أهلَكَ القُرُونَ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ بأنواع العُقوباتِ ودَمَّرها تدميرًا. وَمَا الذي أهلكَ قومَ صاحِبِ يس بالصيحِة حتى خَمَدُوا عنْ آخِرِهِم. وَمَا الذي بعثِ على بني إسْرائيلَ قومًا أُولي بأسٍ شديدٍ فجاسُوا خِلال الدِّيارِ وَقَتلوا الرِجالِ وسَبَوُا الذُرّيةَ والنساءَ، وأحْرقوا الديارَ ونَهبُوا الأموالَ، ثم بَعَثَهُم عليهم مَرَّةً ثانِيَةً فأَهْلَكُوا ما قَدِرُوا عليه وتَبَّروا ما عَلَوْا تتْبيرًا، وَمَا الذِي سَلَّط عليهم أنواعَ العُقوباتِ مَرَّةً بالقتل والسَّبْي وخَراب البلادِ ومِرَّةً بِجَور الملوكِ ومَرَّةً بمَسْخِهِمْ قِرَدَةً وخنازيرَ وآخِرُ ذلك أقسم الربُّ تبارك وتعالى لَيَبْعَثنَّ عليهم إلى يوم القيامة مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ العذاب. اللَّهُمَّ أتْمِمْ عَلَيْنَا نِعْمَتَكَ

قصيدة زهدية، الصغيرة من الذنوب تعظم بأسباب

الوَافِيَةَ وَارْزُقْنَا الإخْلاص فِيْ أعْمَالِنَا وَالصِّدْقَ في أَقْوَالِنَا وَعُدْ عَلَيْنَا بإصْلاح قُلُوبِنَا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. شِعْرًا: دَعُونِي عَلَى نَفْسِيْ أَنُوحُ وأَنْدُبُ ... بِدَمْعٍ غَزِيرٍ وَاكِفٍ يَتَصَبَّبُ دَعُونِي عَلَى نَفْسِيْ أَنُوحُ فإِنَّني ... أَخُافُ على نَفْسِي الضَّعِيفةِ تَعْطَبُ وَإِنِي حَقِيقٌ بالتَضرُّع والبُكَا ... إذا مَا هَذَا النُّوامُ واللَّيْلُ غَيْهَبُ وَجَالَتْ دَوَاعِي الحُزِنِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ... وغَارَتْ نُجُومُ اللَّيْلِ وانْقضَّ كَوْكَبُ كَفَى أَنَّ عَيْنِي بِالدُمُوعِ بَخِيْلَةٌ ... وأَنِّي بآفَاتِ الذُنُوبِ مُعَذَّبُ فَمَنْ لِي إِذا نَادَىَ المُنادِي بِمَنْ عَصَى ... إِلَى أَيْنَ إِلْجَائِي إِلَى أَيْنَ أَهْرُبُ وَقَدْ ظَهَرَتْ تِلْكَ الفَضَائِحُ كُلُّهَا ... وَقَدْ قُرِّبَ المِيزانُ والنارُ تَلْهَبُ فَيَا طُولَ حُزْنِي ثُمَّ يَا طُولَ حَسْرَتِي ... لَئِنْ كُنْتُ في قَعْرِ الجحِيمِ أُعَذَّبُ فَقَد فَازَ بالمُلْكِ العَظيمِ عِصَابةٌ ... تَبيتُ قِيَامًا في دُجَى اللَّيلِ تَرْهَبُ إِذا أَشْرَفَ الجَبَّارُ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ ... وقد زُيِّنتْ حُورُ الجِنانِ الَكوَاعِبُ فَنَادَاهُمُ أَهْلاً وسَهْلاً وَمَرْحَبًا ... أَبَحْتُ لَكُمْ دَارِي وما شِئْتُمُ اطْلُبُوا قال العلماءُ: وتعظُمُ الصغيرةُ بأسبابٍ منها: أنْ يَسْتَصْغِرَها الإِنسانُ ويَسْتَهينَ بها فلا يَغْتمَّ بسبَبِها ولا يُبَالي، ولكنَّ المؤمنَ المُجِلَّ للهِ المُعَظِّمَ له هو المستعظمُ لِذَنْبِهِ وإنْ صَغُر فإنَّ الذنْبَ كُلَّما استعظَمَهُ العَبْدُ َصَغُرَ عِنْدَ اللهِ تعالى وكُلَّما استصغرَهُ كَبُرَ عِنْدَ اللهِ تعالى فإنَّ استعظامَهُ يَكونُ عَنْ نُفُورِ القلبِ مِنْهُ وكَراهيَتِهِ لَهُ. قال ابنُ مسعودٍ: إنَّ المؤمنَ يَرَى ذَنْبَهُ كَأَنَّهُ في أَصلِ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الفَاجِرَ يَرَى ذَنْبَهُ كذُبابٍ وقَعَ على أنفِهِ فقال بِهِ هَكَذَا، أخْرجاه في الصحيحين. وفي البُخاري مِنْ حَديثِ أنسٍ رضي الله عنه:

نصيحة والد لولده

إنكُمْ لَتَعْلَمون أَعْمَالاً هِي أَدَقُّ في أعْينِكُم مِنْ الشَّعْر كُنَّا لَنَعُدُّها على عَهدِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ المُوبِقَاتِ. وقَالَ بلالُ بنُ سعدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لا تَنْظُرْ إِلى صِغَرِ الخَطِيئةِ ولكنْ انظُرْ إلى عَظَمَةِ مَنْ عَصَيْتَ. ومنها: السُرورُ بِها والتَبَجُّجُ بسبَبها واعتِقَادُ التَّمَكُّنِ منها نِعْمةً حتى إنَّ المُذنِبَ المُجاهِر بالمَعَاصِي لَيَفْتخِرُ بها فيقولُ: ما رَأَيْتَنِي كَيف شَتَمتُهُ وكَيْفَ مَزَّقْتُ عِرْضَه وَكَيْفَ خَدَعْتُهُ في المُعَامَلةَ. ومنها: أن يَتَهَاونَ بِستْرِ اللهِ عَلَيهِ. ومنها: أن يُجاهِرَ بالذنْبِ ويُظْهِرَهُ وَيَذْكُرَهُ بَعْدَ فِعْلِهِ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «كلُ أُمَّتِي مُعًافى إِلا المُجاهِرُون» . ومِنها أنْ تَصْدُرَ الصغيرةُ عنْ عالمِ يُقْتَدَى بِهِ فَذَلِكَ عظيمٌ، لأَنه يَتْبَعُهُ عليها خَلْقٌ كثيرٌ، ويَبْقَى أثَرُهَا بَعْدَهُ. واللهُ أَعْلَمْ. اللَّهُمَّ أَيْقَظْنَا مِن نَوْم الغَفْلَةِ ونَبِّهْنَا لاِغْتِنَامِ أَوقَاتِ المُهْلَةِ وَوَفِّقْنَا لِمَصَالِحِنَا واعْصِمْنَا مِنْ قَبَائِحِنَا وَذُنُوبِنَا ولا تُوآخِذْنَا بِمَا انْطَوتْ عليه ضَمَائِرُنُا وَأَكَنَّتْهُ سَرَائِرَنَا واغفر لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وصلى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أجمعين. (فَصْلٌ) : مِن نَصِيحَةِ وَالدٍ لَوَلَدِهْ اعْلَمْ أَنَّ مَن تفكر في الدنيا قبلَ أن يُوجد رَأَى مُدَّةً طَوِيلَةً، فإذَا تَفَكَّرَ فيها بَعدَ أَن يَخْرُجُ منها رأيي مدةً طويلةً وعَلَمَ أن اللبُثَ في القبور طويل، فإذَا تفكر في يوم القيامة عَلَم أنه خمسون ألف سنَة. فإذا تفكرَ في اللبثِ في الجنةِ أو النار عَلِمَ أنه لا نهايةَ لَهُ. فإذا عَاد إلى النظر في مِقدار بَقَائِهِ في الدنيا فَرَضْنَا ستِين سنة مثلاً فإنه يَمضي منها ثلاثون سَنَة في النوم، ونحو مِن خمسَ عَشرَ في الصِبى.

قصيدة زهدية

فإذا حسب الباقي كان أكثره في الشهوات والمطاعِم والمَكاسِبِ فإذا خَلَصَ ما لِلآخِرَةِ وَجَدَ فيه مِن الرياء والغَفْلَةِ كَثِيرًا، فبماذا تَشْتَري الحياةَ الأبديةَ وإنما الثمنُ هذهِ الساعات؟ فانتبه يا بُنَيَّ لنفسْك، واندم على ما مضى من تفريطك واجتهد في لحاق الكاملين ما دام في الوقت سعة. واسْقِ غُصْنَكَ، مادامتْ فيه رُطوبة، واذكر سَاعَتَكَ التي ضاعَتْ فكَفَى بها عِظَةٍ. ذَهَبتْ لَذةُ الكَسَلِ فيها وفاتَتْ مراتبُ الفضائل. وقد كان السلف الصالح رحمهم الله يُحِبُّونَ جَمْعَ كُلِ فَضيلة ويبكون على فواتِ واحدةٍ منها. قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: دَخَلنَا على عابد مَريض، وهو يَنْظُر إلى رجليه ويبكي، فقلنا: مَالَكَ تَبْكي؟ فقال: ما اَغَبَرَّتا في سبيل الله. وَبَكىَ آخرُ، فقالوا: ما يبكيك؟ فقال: عليّ يوم مضى ما صمتُهُ وعلي ليلةَ ذَهبتْ ما قمتها. واعلم يا بُني أن الأيام تُبْسِطُ ساعات، والساعات تبسط أَنفَاسًا، وَكُلُ نَفَسٍ خِزَانَةٌ، فاحْذَرْ أَن يَذهبَ نَفَسٌ بغيرِ شَيء، فَتَرَى في القيامة خِزَانَةٌ فَاِرَغةً فَتَنْدَمَ وَلا ينفعكَ الندم. آخر ... وَالوَقْتَ أَنْفَسُ ما عُنِيْتَ بِحْفظِهِ ... وَأَرَاهُ أَسْهَلَ مَا عَليْكَ يضِيْعُ آخر: يَا جَامِعَ المَالِ الكثيرِ لِغَيرِهِ ... إِنَّ الصغِّيرَ مِن الذُّنُوبِ كَبِيرُ هَل في يَدَيْكَ عَلَى الحَوَادِثِ قُوَّةٌ ... أَمِ هَلِ عَليَكْ َمِنَ المنُونِ خَفَيرُ أَمْ مَا تَقُولُ إِذَا ضَعَنْتَ إِلى الليلِي ... وإِذَا خلا بك مُنْكَرٌ وَنَكِيرُ آخر: مَشَيبُ النَّوَاصِي لِلْمَنُونِ رَسُولُ ... يُخَبِّرُنَا أَنَّ الثَّواءَ قَلِيلُ فَصيحُ إِذا نَادىَ وإَِنْ كَانَ صَامِتًا ... مُثيرُ المعَانِي لِلنُّفوسِ عَذُولُ فُوا عَجَبًا مِن مُوقِنِ بِفَنَائِهِ ... وآمَالُه تَنْمُوا ولَيسَ يَحُولُ

أَمِن بَعْدِما بعد جَاوَزْتَ سَبْعين حَجَّةً ... وقد آنَ مِنِّي لِلقُبورِ رَحِيلُ أُئَمِلُ آمَالاً وأَرْغَبُ في الغِنَى ... بِدارٍ غنَاهَا يَنْقَضِي وَيزُولُ وإِنَّ إمْرًا دُنْيَاهُ أَكْبَرُ هَمهِ ... وَيُؤْثِرُهَا حُبًا لَهَا لَجَهُولُ فَكَمْ عَالِمٍ والجَهْلُ أَوْلَى بِعِلْمِهِ ... لَهُ مَقْوَلٌ عِنْدَ الخِطَابَ طَوِِيلُ وَكَمْ مِنْ قَصِيرٍ في عُلُوم كَثِيرَةٍ ... لَهُ مَخْبَرٌ لِلصَّالِحَاتِ وَصُولُ فَمَا العِلْمُ إلا خَشْيَةُ الله والتُقَى ... فكلُ تِقِي في العُيونِ جَلَيلُ فيا رَبِ قَدْ عَلَّمْتَنِي سُبُلَ الهُدَى ... فأصْبَحْتُ لا يَخْفَى عَلّي سَبِيلُ ويَا رَبَّ هَبْ لي مِنْكَ عَزمًا على التُقى ... فَأَنْتَ الذِي مَا لي سِوَاهُ يَنِيلُ آخر: المرءُ يَجْمعُ والدُّنيا مُفرِّقَةٌ ... والعُمْرُ يَذْهَبُ والأَيَّامُ تُخْتَلِسُ ونَحْنُ نَخْبطُ في ظَلْمَاءَ لَيسَ بها ... بَدْرٌ يُضِيءُ ولا نَجْمٌ ولا قَبَسُ فَكَمْ نُرِتِّقُ خَرْقًا لَيسَ مُرتَتِقًا ... فِيها ونَحْرُسُ شَيئًا لَيس يَنْحَرسُ وكَمْ نَذِلُّ وفِينَا كلُّ ذِي أَنَفٍ ... وَنَسْتَكِينُ وفِينَا العزُّ والشَّوَسُ وكيفَ يَرْضَى لَبِيبٌ أَنْ يَكُونَ لَهُ ... ثُوْبٌ نَقِيٌ وعِرْضٌ دُونَه دَنِسُ اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا القيامَ بحقِك، وباركْ لنا في الحلالِ مِنْ رِزقِكَ، ولا تفضحنا بين خلقك، يا خيرَ مَنْ دعاه داعٍ وأفضلَ مَنْ رجاه راج يا قاضِيَ الحاجات ويا مجيبَ الدعواتِ هَبْ لنا ما سألناه وحَقِّقْ رجاءَنا فيما تمنيناه وأمّلْناه يا مَنْ يملكُ حوائجِ السائلينَ ويعلمُ ما في ضَمائر الصامتين، أذنا بِردَ عفوك، وحلاوة مَغْفِرَتِك، يا أرحمَ الراحمين. اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبِنَا واجْعَلِ الإيمانَ لَنَا سِراجًا ولا تَجْعَلَهُ لَنَا اسْتِدْرَاجًا واجْعَلْهُ لَنَا سُلَّمًا إلى جَنَّتِكْ ولا تَجْعلهُ لنا مَكْرًا مِنْ مَشيئَتِكْ إِنَّك أنْتَ الحليمُ الغفورُ الشَّكُورُ يا أرحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

وقت قبول التوبة، وأمثلة للتسويف بها

الفصل الرابع واعلمْ أََنَّ التوبة إذا صحتْ بأَن اجْتمعتْ شروطُها وانْتفَتْ مَوانِعُها قُبِلتْ بلا شكٍ إذا وَقَعتْ قبلَ نزولِ الموتِ، لو كانتْ عن أيّ ذنْبٍ كانَ، وقبلَ طُلوع الشمسِ مِنْ مغْرِبِها كما قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} . وأخرجَ الإِمامُ أحمدُ، والترمذيُّ عن ابن عُمَر أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: «إنّ الله تعالى يَقْبَلُ توبةَ العبْدِ ما لمْ يُغَرْغِرْ» . أيْ ما لم تَبْلُغْ روحُهُ حُلْقومَهُ فيكونُ بمَنْزلةِ الشيءِ الذي يَتَغَرغْر بِهِ المَرِيضُ، والغَرْغَرةُ أَنْ يُجْعلَ المَشْرُوبُ في الفمِ ويُرَدَّدَ إلى أصْل الحَلْقِ ولا يُبْلَعَ، فهذه الحالُة حَالَةُ حُضور الموتِ وبعدَ حُضوِر الموتِ لا يُقْبَلُ من العاصِين تَوبةٌ ولا مِنَ الكَافرينَ رُجوعٌ كما قال تعالى عن فِرعون: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} . ومِنَ المُعَوّقاتِ الضَّارَّةِ التَّسْويفُ بالتَّوْبَةِ فَمِنْ أَيْنَ يَعْلمُ الإِنسانُ أنَه يَبْقَى إلى أنْ يَتوبَ فَتارِكُ المُبَادَرَةِ بالتوِبة بَيْن خَطَرَيْن عَظِيمَين، أحَدُهُما: أَنْ تَتَرَاكَمَ الظُلْمَةُ على قَلْبِهِ مِنَ المَعَاصِي حتى تَصِير رَيْنًا وَطَبْعًا، وثانِيهمَا:أنْ يُعَاجِلَهُ المَرَضُ فلا يَجِدَ مُهْلةً لِلاشْتِغالِ بِمَحْوِ مَا وَقعَ مِنَ الظلمةِ في القَلْبِ فَيَأتي رَبَّه بقلبٍ غيرِ سَليمٍ ولا يَنْجُو إلا مَنْ أتى الله بقلبٍ سليمٍ. ويَجبُ على الإِنسانِ أنْ لا يَمْتَنِعَ مِنَ التوبةِ خَشْية الوُقُوعِ في ذَنْبٍ مَرّةً أُخْرَى فإِنّ هذا ظنٌ يُدْخِلُهُ الشَّيْطَانُ في قلْبِهِ ليُؤخِرَ التوبةَ وَلَرُبَّمَا يَقُولُ في نَفْسِهِ سَأسْتَمِرُّ في المعاصِي أياَّمَ شَبَابي وصِحَّتي ثُمَّ أتوبُ بعدَ ذلك، وهكذا يُسَوِّفُ ويُؤخِّرُ، وإذا بالموتِ أو المرضِ يُفاجئُهُ فلا يَجدُ مُتَّسعًا للتوبةِ

والرّجوع إلى الله. نعوذُ باللهِ مِنْ سوءِ الخاتِمَةِ. ولِذَلكَ كان السَّلَفُ الصالحُ تكَادُ تنخلعُ قلوبُهم في كلِ مَرْضةٍ يَمْرَضُونَها، لاحْتِمالِ أنْ تكون تلك المَرْضَةُ إخراجًا لهم مِنَ الدُنيا قبلَ أن يَتَمَكَّنُوا مِنْ تَدارُكِ ما فاتَ مِنَ الهَفَواتِ بالتوبة النّصُوحِ ولِلاسْتِكْثَارِ مِنَ الباقياتِ الصالحاتِ. ومَرِضَ مرةً بعضُ الصالحينَ فدخَلَ عليهِ أصحابُهُ يَعُودُونَهُ فقالوا له: كيفَ تجدُكَ؟ قال: مُوَقِّرًا بالذنوبِ، فقالوا: هَلْ تَشْتَهي شيئًا؟ قال: نعم! أنْ يَمُنَّ عليَّ ربي بالتوبةِ عن كلِ ما يَكَرَهُ قبلَ موتي. وقد قال العلماءُ: ما مِثالُ المُسَوّفِ بالتوبةِ إلا مثال مَنْ احتاج إلى قلْع شجرةٍ فرآها قَويةً لا تنقلعُ إلا بمشقةٍ شديدةٍ فقال: أوْ أَخِّرُها سنة ثُم أعودُ إليها وهو يعلمُ أنّ الشجرة كُلما بَقِيتْ ازدادتْ قوةً لرُسُوخِها وكلما طال عُمُرُهُ ازْدَادَ ضَعْفُه فلا حَماقةَ في الدنيا أعظمُ مِن حَماقِتهِ إذْ عَجَزَ معَ قُوَّتِهِ عن مُقاومةِ ضعيفٍ فأخَذَ يَنْتَظِرْ الغَلَبَةَ عليه إذا ضعُفَ هو في نفسِهِ وقويَ الضعيفُ. قال ابُن القيمِ رحمه الله: إذا أرادَ اللهُ بعبدِهِ خَيْرًا فَتَحَ لهُ أبوابَ التوبةِ والندَمِ والانكِسارِ والذُلِ والافتقارِ والاستِعانَةِ بِهِ وصِدْق اللجأ إليهِ ودوامَ التضرُّع والدعاءِ والتقرب إليه بما أمكنَ مِنَ الحسنات ما تكون تلكَ السَّيئَةُ به سببَ رحمتِهِ حتى يقولَ عدُوُّ اللهِ: يالَيتَني تركتُهُ ولمْ أُوقِعْهُ وهذا معنى قول بعض السلفِ: إنّ العبدَ لَيَعْمَلُ الذنبَ يَدْخُلُ بِهِ الجنةَ، ويَعملَ الحسنةَ يدخلُ بها النارَ، قالوا: كيفَ؟ قال: يعملُ الذنبَ فلا يزالُ نُصْبَ عينيهِ خائفًا منهُ مُشْفِقًا وَجلاً باكيًا نادِمًا مُسْتَحْيًا مِنْ رَبِّهِ تعالى ناكِسَ الرأسِ بَينَ يدَيهِ مُنْكسرَ القَلْبِ له فيكونُ ذلك الذنبُ أنفعَ له مِنْ طاعات كثيرةٍ بما ترتَّبَ عليه مِنْ هذه الأموِر التي بها سعادُة العبدِ وفلاحُهُ حتى يكونَ ذلك الذنبُ سبَبَ دخولِ الجنةِ. ويَفْعَلُ الحَسَنةَ فلا يَزَالُ يَمُنُّ بها على ربِّهِ ويَتَكَبَّرُ بها وَيَرَى نَفْسَهُ شيئًا

قصيدة زهدية والحث على حفظ الوقت

ويُعجَبُ بها ويَسْتَطيلُ بها ويقولُ بها ويقولُ: فَعَلْتُ وفَعَلْتُ، فيُورِثُهُ مِنَ العجبِ والكِبْرِ والفجْرِ والاسْتِطالَةِ ما يكونُ سبَبَ هلاكِهِ. فإذا أرادَ اللهُ تعالى بهذا المسكينِ خيْرًا ابْتَلاهُ بأمرٍ يَكْسرُهُ به ويُذِلُّ به عُنقَهُ ويُصَغِّرُ بِهِ نَفْسَهُ عندَه، وإذا أراد بهِ غيرَ ذلك خَلاهُ وعجبهُ وكبرهُ وهذا هو الخذْلانُ المُوجِبُ لِهَلاكِهِ فإنَّ العارفينَ كلَّهمْ مُجْمعون على أن التوفيقَ: هو أنْ لا يَكِلَكَ اللهُ تعالى إلى نفسِكَ، والذلَّ أنْ يَكِلَكَ الله إلى نفسِكَ. انتهى. يا مَنْ يُغِيْثُ الوَرَى مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا ارْحَمْ عِبادًا أَكُفَّ الفَقْر قَدْ بَسَطُوا عَوَّدْتَهُمْ بَسطَ أرْزَاقٍ بِلا سَببٍ سِوى جَمِيلِ رَجَاءٍ نَحْوَهُ انْبَسَطُوا وَعَدْتَ بالفَضْلِ في وِرْدٍ وفي صَدَرٍ بالجُودِ إنْ أَقْسَطُوا والحِلْمِ إنْ قَسَطُوا عَوارِفُ ارْتَبَطَتْ شُمُّ الأُنُوفِ بها وكُلُّ صَعْبٍ بقَيْدِ الجُودِ يَرْتَبِطُ يا مَنْ تَعَرّفَ بالمَعْرُوفِ فاعْتَرَفَتْ بِجَمِّ إنْعامِهِ الأَطْرافُ والوَسَطُ وعَالِمًا بخَفِيَّات الأُمُورِ فلا وَهْم يَجُوزُ عليهِ لا ولا غَلَطُ عَبْدٌ فَقِيرٌ بِبَابِ الجُودِ مُنْكَسِرًا مِنْ شأنِهِ أنْ يُوافي حِينَ يَنْضَغِطُ مَهْمَا أَتَى لِيَمُدَّ الكَفَّ أخْجَلهُ قَبَائِحٌ وخَطايَا أَمْرُها فَرَطُ

خوف السلف من الذنوب

يا واسِعًا ضَاقَ خَطْوُ الخَلْقِ عنْ نِعَمٍ مِنْهُ إذا خَطبُوا في شُكْرِها خَبَطُوا وناشِرًا بِيَدِ الإِجْمالِ رَحْمَتَهُ فلَيْسَ يَلْحَقُ منه مُسْرِفًا قَنَطُ ارْحَمْ عِبادًا بضَنْكِ العَيشِ مَا لَهُمُوا غَيرُ الدُجْنةِ لُحْفٌ والثَّرى بُسُطُ لَكِنَّهُمُ مِنْ ذُرَي علْياكَ في نَمَطُ سَامٍ رفيع الذُرَى ما فَوقَه نَمَطُ وَمَنْ يَكُنْ بالذِي يَهْواهُ مُجْتمِعًا فما يُبالي أقَامَ الحَيُّ أَمْ شَحَطُوا نَحْنُ العَبِيدُ وأَنْتَ المَلكُ لَيْسَ سِوَى وكُلُّ شَيءٍ يُرَجَّى بَعْدَ ذا شَطَطُ اللَّهُمَّ وَفّقْنَا لِصاَلح الأَعْمَالَ، ونَجِّنَا من جميعِ الأَهْوَالِ، وأَمنا مِنَ الفَزَع الأكْبَر يومَ الرْجْفِ والزلْزَالْ واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا، وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ منْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ) : كان سَلَفُنَا الصالحُ حَرِيصينَ على الوقتِ وعلى حِفْظِ الكَلامِ فلا يَصرفونَ أوقاتَهم إلا للآخِرة ولا يَتَكَلَمُون إِلا لَهَا مُبْتَعِدِينَ عن النِفَاقِ والرِياءِ والكَلامِ الفَارِغِ. فقد كان الفضيل رحمه الله جالسًا وَحْدَهُ في المسجد الحرام فجاء إليه أَخٌ له فقال له: ما جَاءَ بكَ؟ قال: المؤانَسَةِ يا أَبَا عَلي. فقال: هِيَ والله بالمواحَشَةِ أَشْبَهْ. هَلْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَزَيَنَ لِي وأتَزَينُ لَكَ، وتَكْذِبُ لِي وأكْذِبُ لَكَ، فإِمَّا أَنْ تَقُومَ عَنِي أو أقومَ عَنْك.

لِقَاءُ الناسِ لَيْسَ يُفِيدُ شَيئًا ... سِوَى الهَذَايانِ مِن قِيل وقَال فَاقْلِلْ مِنْ لِقَاءِ الناسِ إِلا ... لأَخْذِ العِلْمِ أَوْ إِصْلاحِ حَالِ وهكذا كان السلف لا يَتَلاقَون إلا لله ويحترزون في جميع أعمالهم وأقوالهم حتى كيف أصبحتَ وكيفَ أمسيتَ وكيفَ حَالُكَ وفي الجواب عن ذلك. فقد قال حاتمُ الأَصَمُ لِحَامِدُ اللَّفَافِ: كَيفَ أَنْتَ في نَفْسِكَ؟ فقال: بسلامَةٍ وعَافِية. فَكَرِهَ حَاتمُ جَوابَهُ وقال: يا حَامِدُ السلامةُ مِن وَرَاءِ الصِّرَاطِ، والعافية في الجَنة. وكان إذا قَيلَ لِعيسَى عليه السلام: كَيفَ أصبحَت؟ يَقُولُ: أَصْبَحْتُ لا أَمْلِكُ تقدَيمَ ما أَرْجُوا ولا أسْتطيعُ دَفْعَ ما أُحَاذِرُ وأَصْبَحتُ مُرْتَهنًا بعَمَلِي والخَيْرُ كلهُ في يَدِ غيري ولا فقيرَ أفقَر مِني (أيْ إلى الله عَزَّ وَجَل صَاحبُ الخير والغِنى) . وكان الربيعُ بنُ خيثم إذا قِيل لَهُ: كَيفَ أَصبحتَ؟ قال: ضَعِيفًا مُذْنِبًا أَسْتَوفي رزْقِي وأنتظُر أَجَلي. وقِيلَ لأُوَيْس القَرْنِي: كَيْفَ أَصْبَحَتَ؟ قال: كَيفَ يُصِحُ رَجُلٌ إذا أمْسَى لا يدْرِي أنه يُصْبِحُ، وَإِذَا أَصْبَحَ لا يَدْري أَنَّهُ يمُسِي. وهكذا كانَ سَلَفُنا الصالحُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم ومع هذا فقد كانوا دائمًا يَسْأَلُونَ اللهَ العَونَ والنَّصْرَ والرُشْدَ والتَّوفِيقَ لِمَا يُحُبِهُ وَيَرضَاه. شِعْرًا: إِذَا لَمْ يُعنكَ اللهُ فِيمَا تُرِيدُهُ ... فَلَيْسَ لِمَخْلُوق إِليهِ سَبِيلُ وَإِنْ هُوَ لم يَنْصُرْكَ لم تَلْقَ نَاصِرًِا ... وإِنْ عَزَّ أنْصَارٌ وجَلَّ قَبِيلُ وإِنْ هُو لَمْ يُرْشِدْكَ في كُلِّ مَسْلَكٍ ... ضَلَلْتَ وَلَو أنَّ السِّمَاكَ دَلْيلُ قال بَعْضُ العُلمَاء: أَعْظَمُ المعاقَبةِ أَنْ لا يُحِسَّ المعاقَبُ بالعقوبة، وأشَدُ مِن ذلك أَنْ يَقَعَ السرورُ بما هو عُقُوبة، كالفَرَحِ بالمِالِ الحَرامِ، والتَّمكُّنِ مِن الذُنُوب، ومَن هَذِهِ حَالُه لا يَفُوزُ بطاعَةْ. وقال آخر: الغُمُومُ ثَلاثَةْ: (1) غَمُّ الطَّاعَةْ أَنْ لا تُقْبَلْ، (2) غَمُّ المَعْصِيةِ أنْ لا تُغْفَر، (3) غَمُّ المَعْرِفَة أَنْ تُسْلَبْ. وقال آخِر: إذا عَصَيْتَ الله في مَوْضعِ فلا تفارقَ الموضعَ حَتَّى تعمل فيه

طَاعة وَتقيم فيه عِبَادَة فَكَما يشهد عَلَيْكَ إِذَا اسْتُشْهِدْ يَشهد لك، وكذَلِكَ ثوبك إِنْ عَصَيْتَ الله فِيه فكن كما ذكرته لك. شِعْرًا ... يا نَاظِرًا يَرْنوا بِعَيْنِيَ راقِدِ ... ومُشَاهِدِ لِلأَمْرِ غَيْرَ مُشَاهِدِ تَصِلُ الذُّنُوبَ إِلى الذُّنُوبِ وتَرتَجي ... فَوْزَ الجِنَانِ ونَيْل أَجْرِ العَابِدِ ونَسِيتَ أنَّ اللهَ أَخْرجَ آدَمًا ... مِنْهَا إِلىَ الدُنْيَا بِذَنْبٍ واحِدِ وَقَال: وَإنِّي تَدَبَّرْتُ أَحْوالَ أَكْثَرِ العُلَماءِ المُتَزهِّدِين فَرأَيتُهمْ في عُقوباتٍ لا يحُسُّونَ بها، وَمُعْظَمُهَا مِن قِبَل طَلَبِهم لِلرِّيَاسَةِ. فالعَالِمُ مِنهم يَغْضَبُ أَنْ رُدَّ عليه خَطَؤُه، وَالوَاعظُ مُتَصَنَّعٌ بِوَعْظِهِ، والمُتَزَهِّدُ مُنَافِقٌ أَوْ مُرَاءٍ. فأولُ عُقُوباتِهم إعراضُهم عن الحَقِ شُغْلاً بالخَلقِ، ومن خفيِّ عُقوباتِهم سَلبُ حَلاوةِ المناجاةِ، ولَذةِ التَّعَبُدِ. إلا رجَالٌ مُؤمنونَ ونساءٌ مؤمنات، يَحفظُ الله بهم الأرضَ، بَواطِنُهم كَظَوارِهِم بل أَحْلى، وسرَائُرهم كَعَلانِيتِهمْ بل أحلى، وهِمَمُهُمْ عند الثُريَا أعلى. إن عُرفَوا تَنَكَّرُوا، وإن رُئِيُتْ لهم كرامةٌ أنكَرُوا. فالناسُ في غَفَلاتِهم، وهم في قَطْعِ فَلاتِهم تُحِبُّهُم بِقَاعُ الأرضِ، وتَفْرَحُ بِهم أَمْلاكُ السماء. نسأل الله عز وجل التوفيقَ لإتباعهم، وأَن يَجْعَلَنَا مِن أتباعهم. شِعْرًا ... خُذْ مِنْ شَبَابِكَ قَبْل الموتِ والهَرَم ... وَبَادِرِ التَّوبَ قَبْلَ الفَوتِ والنَّدَمِ واعْلَمْ بأنَكَ مَجْزِيٌّ ومُرْتَهُنٌ ... وَرَاقَب الله واحْذَرْ زلَّةَ القَدمِ فَلَيْسَ بَعْدَ حُلُولِ المَوْتِ مَعْتَبةٌ ... إلا الرُّجاءُ وعَفْوُ اللهِ ذِي الكَرَمَ آخر ... يَقَولُون: أسْبَابُ الحَيَاةِ كَثِيرةٌ ... فَقُلْتُ: وأَسْبَابُ المَنُونِ كَثِيرُ وما هَذِهِ الأَيَّامُ إِلا مَصَائِدٌ ... وأَشْرَاكُ مَكْرُوه لَنَا وغُرورُ يُسَارُ بِنا فِي كُلِّ يَومٍ ولَيْلَةٍ ... فكَمْ ذَا إِلى ما لاَ نُريدُ نَسِيرُ وما الدَّهرُ إلا فَرْحَةٌ ثُمَّ تَرْحَةٌ ... وما النَّاسُ إلا مُطْلَقٌ وأَسِيرُ اللَّهُمَّ ألْهِمْنَا ذِكْرِكَ وشُكْركَ وَوَفِقْنَا لِمَا وَفّقْتَ لَهُ الصّالحين من خَلْقِكَ،

أسباب فساد الناس

واغْفَرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ) : قال أحد العلماء وأما زَمَانَنَا فقد قَيَّدَ الطَّمَعُ أَلْسُنَ العُلماء فَسَكَتُوا إذْ لَمْ تُسَاعِدْ أقْوَالَهُم أفْعَالُهُم ولو صَدُقوا الله لكانَ خيرًا لهم. فإذا نَظَرْنا إلى فَسَادِ الرَّعِيَّةِ وَجَدْنا سَبَبَهُ فَسَادَ المُلُوكِ. وَإِذَا نَظرْنَا إِلَى فَسَادِ المُلوكِ وَجَدْنا سَبَبَهُ فسادَ العُلماء والصَّالِحين. وإِذَا نَظَرْنَا إِلى فَسَادِ العُلماءِ والصَّالِحِينَ وَجَدْنَا سَبَبَهُ ما اسْتَولى عَلَيْهم مِن حُبِّ المالِ والجاهِ وانْتِشَارِ الصِّيْتِ ونَفَاذِ الكَلِمةِ ومُداهَنَةِ المَخْلُوقِين وَفَسَادِ النِّياتِ في الأقْوال والأَعْمالِ. فإذِا أرَادَ وَاحِدٌ منهم أَنْ يُنْكِرَ على وَاحِدٍ مِن الرَّعِيةِ لم يَسْتَطِعْ ذلك. وقال وُهَيْبُ بنُ الوَرْدِ: لَو أَنَّ عُلمَاءَنا عَفَا الله عنا وعنهم نَصَحُوا لله في عِبَادِهِ، فَقَالُوا: يَا عِبَادَ الله اسْمَعُوا ما نُخْبركُمْ عن نبيكم - صلى الله عليه وسلم - وصالح سَلَفِكم مِن الزُّهْدِ في الدنيا فاعْمَلُوا بِهِ. ولا تَنْظُروا إِلى أَعْمَالِنَا هَذِهِ الفَسْلَةِ، كانُوا قد نصَحُوا لِلَّهِ في عِبَادِهِ، ولَكّنِهم يَأْبَونَ إلا أَنْ يَجُرُّوا عِبادَ اللهِ إِلى فِتنهِم وما هُم فيه. وقال بعضُ العُلماء: اعْلَمْ أنَّ لِلْعَالِِمِ العَامِلِ بِعِلْمِهِ حَقِيقَةً عَلاماتَ وَأَمَارَات تُفَرِّقُ بينَه وبَيْنَ عُلماءِ اللِّسَانِ المُخَلِّطِينَ المُتِبعِين لِلْهَوى المَؤثَرين للدنيا على الآخرة. فَمِن عَلاماتِ العَالِمِ الحَقِيقِي المُمْتَاز أَنْ يَكُونَ مُتَواضِعًا خَائِفًا وَجَلاً مُشْفِقًا مِن خَشَيَةِ اللهِ زَاهِد في الدنيا قَانِعًا باليَسِير مِنها هَمُّهُ وشُغْلُه فِيمَا يُصْلحُ آخِرَتَه. مُلْتَمِسًا لِلْفُقَراءِ المُتَمَسِّكِينَ بِدينِهِم الخَالِية بُيُوتُهم مِن المَلاهِي والمُنكراتِ الذِين لَيْسَ لَهم مَوَارِد ولا مَسَاكِن لِيُسْعِفَهم بِمَا يَقْدِرُ عَليه مِن مال وَجَاه مُخْلِصًا لِلَّهِ في ذلك لا يُريدُ مِنه جَزَاءً ولا شكورًا.

علامات العالم الحقيقي العامل بعلمه

ناصِحًا لِعبادِ الله شَفيقًا عليهم رَحِيمًا بِهم، آمرًا بالمعروف فاعِلاً لَهُ وناهيًا عن المنكر، ومُجْتَنَبًا لَهُ ومُسارعًا في الخَيرات ملازمًا للعبادات ليلاً ونهارًا، سِرًا وجهارًا وملازمًا لذكر الله وحمده وشكره. دالاً على الخير داعيًا إلى الهدى، ذَا صَمْتٍ وتَوأدَة وَوَقار وسَكينَةِ محبًا لأهل الطاعة سالكًا طريق أهل السنة والجماعة، حَسَنُ الأخلاق، واسِعَ الصَّدْر، ليِّن الجَانِب، مَخْفُوض الجنَاح للمؤمنين، لا متكبرًا، ولا مُتَجَبرًا، ولا طامعًا في الناس، ولا حريص على الدنيا، ولا مؤثرًا لها على الآخرة. ولا منهمكًا بجمع المال، ولا مانعًا عن حقه، ولا فظًا ولا غليظًا، ولا مُمَاريًا، ولا مُخاصمًا بالباطل، ولا سَيء الأخلاق، ولا ضَيِّقَ الصدر محبًا لأولياء الله ومبغضًا لأعدائه. ولا مُدَاهَنًا، ولا مُخَادعًا، ولا غشَّاشًا، ولا مُقَدِّمًا للأغنياء على الفقراء، ولا مُرائِيًا، ولا مُحبًا للْولايات والرياسات. وبالجملة فيكون مُتَّصفًا بجميع ما يحثُّه عليه الكتاب والسنة مُؤْتَمِرًا بما يأمُرانِهِ به مِن الأخلاقِ المحمودةِ والأعمالِ الصالحةِ. مُجَانِبًا لما يَنْهى عنه كتابُ الله وسنةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِن الأخلاقِ والأعمالِ المذمومةِ، وهذه صفاتٌ يَنْبَغِي أَنْ يَتَّصِفَ وَيَتَحَلَّى بها كُلُ مُؤمنٍ، إلا أنَّ العالمَ وطَالبَ العِلم أَوْلَى أن يتصفَ بها ويحافظ عليها ويدعوَا إليها لأنه قدوةٌ يُقْتَدَى به. ويَنْبَغِي لِلْعَالِمَ أَنْ يَكُونَ حَديثهُ مَعَ العَامَّةِ في حَالِ مُخَالَطَتِهِ لَهمُ في بيان الواجباتِ والمحرماتِ ونوافلَ الطاعاتِ وذكِرِ الثوابِ والعقابِ على الإحسانِ والإِساءَة لِيَصُونَ وقْتَهُ وَوَقْتَهُم عَمَّا لا يَنْفَعُ فيه، ويكونُ كلامهُ بعِبارةٍ يَعْرَفُونَها ويَفْهَمُونَها، ويُبَيِّنُ لهَمُ الأمُورَ التِّي هم مُلابسُونَ لها ولا يَنْبَغِي له أنْ يَسْكُتَ حتى يُسْأَل وهو يَعْلَمُ أَنّهمُ مُحَتاجُونَ إليهِ أَوْ مُضْطَرُّون.

من لطائف البلايا وفوائدها

إلَهِي لا تُعَذّبْنِي فَإنِّي ... مُقِرٌّ بالذّي قَدْ كانَ مِنِّي وَمَا لِي حِيْلَةٌ إلا رَجَائِي ... وَعَفْوكَ إنْ عَفَوْتَ، وَحُسْنُ ظَني فكَمْ مِنْ زَلّةٍ لِي في البَرايَا ... وأَنْتَ عَليّ ذُو فَضْلٍ وَمَنٍّ يَظُنُّ النّاسُ بِي خَيْرًا، وإِنِّيْ ... لشَرُّ النّاسِ إنْ لم تَعْفُ عَني أُجَنُّ بِزهْرَةِ الدّنْيَا جُنُونًا ... وَأُفِِنْي العُمْرَ فيها بالتَّمَني وَبَيْنَ يَدَيَّ مُحْتَبسُ ثَقِيلٌ ... كأنِّي قد دُعِيْتُ لَهُ كَأنِّي وَلَوْ أَنِّي صَدَقْتُ الزُّهْدَ فيها ... قَلَبْتُ لأَهْلِهَا ظَهْرَ المِجَنِّ اللَّهُمَّ إنا نَسْأَلُكَ نَفْسًا مُطْمَئِنَّةً، تُؤمِنُ بِلقَائِكْ وتَرْضَى بِقَضائِكْ، وتَقْنَعُ بِعَطَائِكْ، يا أرْأفَ الرائفين، وأرحم الراحمين. اللَّهُمَّ إنا نَسْأَلُكَ التوفيق لما تُحِبُّه مِن الأعمال، ونسألُكَ صِدْقَ التوكلِ عليكْ، وحُسْنَ الظَنِّ بِكَ يَا رَبَّ العالمين. اللَّهُمَّ اجعلنا من عبادك المُخْبِتِين، الغُرِّ المُحَجَّلِين الوَفْدِ المُتَقَبِّلين. اللَّهُمَّ إنا نَسْأَلُكَ حَيَاةً طَيِّبةً، ونَفْسًا تَقِيَّةً، وعِيْشَةً نَقِيَّةً ومِيْتَةً سَويَّةً، ومَرَدًّا غَيْرَ مُخْزِي ولا فاضح. اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أهلِ الصَّلاحِ والنَّجَاحِ والفَلاحِ، ومِن المُؤَيَّدِينَ بِنَصْرِكَ وتَأْييدِكَ ورِضاكَ. اللَّهُمَّ افْتَحْ لِدُعَائِنا بابَ القَبُولِ والإِجَابةِ واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ) قال ابنُ رجب رحمه اللهِ: مِن لَطَائِفِ البَلايَا وفوائِدِها تكفيرُ الخطايا بها والثواب على الصبر عليها، وهل يثاب على البلاء نَفْسِهِ، فيه اختلاف بين العلماء. ومنها: تذكير العبد بذنوبه فربما تاب ورجع منها إلى الله عز وجل. ومنها: زوالُ قسوة القلوب وحدوثُ رقَّتِها. قال بعضُ السلف إن العبدَ

لَيُمْرضُ فيذكرُ ذُنُوبَهَ فَيَخْرُجَ منه مثلُ رَأَسِ الذباب من خشيةِ اللهِ فيغفرُ له. ومنها: انْكِسارُهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَ وذِلَّهُ وذلك أَحَبُ إلى اللهِ مِن كثيرٍ مِن طاعاتِ الطائعين. ومنها: أنها تُوجِبُ لِلعبدِ الرجُوعَ بِقلبه إلى الله عز وجل والوقوفَ ببابه والتضرعَ لَهُ والاستكانة وذلك مِن أعظَمِ فوائِدِ البَلاءِ وقد ذَمَّ اللهُ مَن لا يَسْتكينُ لَهُ عند الشدائد. قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} (المؤمنون: 76) وقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} (الأنعام: 42) . وفي بعضِ الكتبِ السابقةِ: إِن الله لَيبتلِي العبدَ وهو يُحبُّه لِيَسْمَعَ تَضَرُعَه. وقال سعيدُ بنُ عبد العزيز قال داودُ عليه السلام: سبحانَ مُستخرجِ الدعاء بالبَلاء وسبحانَ مُستخرجِ الشكرِ بالرَّخَاءِ. ومَرَّ أبو جعفر محمدُ بنُ علي بمحمدِ بن المنكدر وهو مَغْمُومٌ فسأل عن سبب غمه فقيل له: الديْنَ قَد فَدحَه. فقال أَبو جعفر: أفِتحَ له في الدعاء؟ قِيلَ: نعم، قال: لقد بورك لعبد في حاجة أكثر منها من دعاء ربه كائنه ما كانت. وكان بعضهم في الدعاء عند الشدائد يحب تعجيل إجابته خشية أن يُقطع عما فتح له. وقال ثابت: إذا دعا الله المؤمنُ بدعوة وكلَّ الله جبريل بحاجته فيقول الله: لا تعجل بإجابته فإني أحب أن أسمعَ صوتَ عبدِي المؤمن. وَرُوِيَ مرفوعًا من وجوه ضعيفة: رأى بعضُ السلف رب العزة في نومه فقال: يا رب كم أدعوك ولا تجيبني. قال: إني أحب أن أسمع صوتك. ومنها أن البلاء يوصل إلى قلبه لذة الصبر عليه أو الرضا به وذلك مقام عَظِيم جدًا. وقد تقدمت الإشارة إلى فضل ذلك وشرفه. ومنها أن البلاء يقطع قلب

المؤمن عن الإلتفات إلى المخلوق ويوجب له الإقبال على الخالق وحده. وقد حكى الله عن المشركين إخلاص الدعاء له عند الشدائد فكيف بالمؤمنين. شِعْرًا: لَحَىَ الله مَنْ لا يَعْبُدُ الله وَحْدَهُ ... ومَنْ حَبْلُهُ في الدِّينْ غَيرِ مَتِينِ ومَن هُو ذُوْ لَوْنَيْنِ شَرُّ مُنَافِقٍ ... ومَنْ هُو للأسْرَارِ غير مَكِينِ والبلاء يوجب للعبد تحقيق التوحيد بقلبه وذلك على أعلى المقامات وأشرف الدرجات. وفي الإِسرائيليات يقول الله عز وجل: البلاء يجمع بيني وبينك والعافية تجمع بينك وبين نفسك. وإذا اشتد الكرب وعظم الخطب كان الفرج حينئذٍ قريبًا في الغالب. قال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا} (يوسف 110) . وقال تعالى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} (البقرة 214) . وأخبر عن يعقوب عليه السلام أنه لم ييأس من لقاء يوسف وقال لإخوته: {اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ} . وقال: {عَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً} (يوسف 83) . ومن لطائف أسرار اقتران الفرج باشتداد الكرب، أن الكرب إذا اشتد وعظم وتناهى وجُدِ الإِياس من كشفه من جهة المخلوق ووقع التعلق بالخالق استجاب له وكشف عنه. فإن التوكل هو قطع الاستشراف باليأس من المخلوقين كما قال الإمام أحمد. واستدل عليه بقول إبراهيم عليه السلام لما عرض عليه جبريل في الهواء وقال له: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا.

والتوكل من أعظم الأسباب التي تطلب بها الحوائج فإن الله يكفي من توكل عليه كما قال: {َمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطلاق 3) . قال الفضيل والله ولو يئست من الخلق حتى لا تريد منهم شيئًا لأعطاك مولاك كما تريد، قال بعضهم: قَالُوا حُظُوضٌ وَأَقسَامٌ فقُلَتُ لَهُمْ ... نَعَمْ ولَكِنْ عَلَيْنَا السَّعْيُ والطَّلَبُ ولِلْمَطَالِبِ أَسْبَابٌ مُقَدَّرةٌ ... وَبَذْلُ سَعيِكَ في مَطْلُوبِكَ السَّبَبُ آخر: عَلامَ سُؤَالُ الناسِ والرِّزْقُ وَاسعٌ ... وأَنْتَ صَحِيحٌ لم تَخُنْكَ الأصَابعُ فَكُنْ طَالِبًا لِلرِّزْقِ من رَازِقِ الغِنَى ... وخَلِّ سُؤالَ الناسِ فالله صَانِعُ ومنها: أن العبد إذا اشتد عليه الكرب فإنه يحتاج حينئذٍ إلى مجاهدة الشيطان لأنه يأتيه فيقنطه ويسخطه فيحتاج العبد إلى مجاهدته ودفعه فيكون في مجاهدة عدوه ودفعه دفع البلاء عنه. ولهذا في الحديث الصحيح: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي فيدع الدعاء» . ومنها: أن المؤمن إذا استبطأ الفرج وأيس منه ولاسيما بعد كثرة دعائه وتضرعه ولم يظهر له أثر الإِجابة رجع إلى نفسه باللائمة ويقول لها: إنما أُتِيتُ من قِبلِك ولو كان فيك خير لأجبت. وهذا اللوم أحب إلى الله من كثير من الطاعات فإنه يوجب انكسار العبد لمولاه وتفريج الكرب، فإنه تعالى عند المنكسرة قلوبهم من أجله. على قدر الكسر يكون الخير. قال وهب: تعبد رجل زمانًا ثم بدت له إلى الله حاجة فصام سبعين سبتًا يأكل في كل سبت أحد عشرة تمرة ثم سأل الله حاجته فلم يعطها فرجع إلى نفسه فقال منك أُتيت، لو كان فيك خير لأعطيت حاجتك.

فنزل إليه عند ذلك ملك فقال: يا ابن آدم ساعتك هذه خير من عبادتك التي مضت وقد قضى الله حاجتك. أهين لهم نفسي لكي يكرمونها ... ولن تكرم النفس التي لا تهينها فمن تحقق هذا وعرفه وشاهده بقلبه علم أن نعم الله على عبده المؤمن في البلاء أعظم من نعمه عليه في الرخاء. وهذا تحقيق معنى الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرًا، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له وليس ذلك إلا للمؤمن» . ومن ها هنا كان العارفون بالله لا يختارون إحدى الحالتين على الأخرى بل أيهما قدر الله رضوا به وقاموا بعبوديته اللائقة. وفي المسند، والترمذي عن أبي أمامة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عرض علي ربي بطحاءِ مكة ذهبًا فقلت: لا يا رب ولكن أشبع يومًا وأجوع يومًا، فإن جعت تضرعت إليك وذكرتك وإن شبعت شكرتك وحمدتك» . قال عمر: ما أبالي أصبحت على ما أحب أو على ما أكره لأني لا أدري الخير فيما أحب أو فيما أكره. وقال عمر بن عبد العزيز: أصبحت ومالي سرور إلا في مواقع القضاء والقدر. وَكَنُ بالذي قد خَطَّ باللوح رَاضِيًا ... فلا مَهْرَبٌ مِمَّا قَضَاهُ وَخَطَّهُ وإنَّ مَعَ الرِزْقِ اشْتراطُ التِمَاسِهِ ... وقد يَتَعَدَّى إن تَعَدَّيْتَ شَرْطَهُ فلو شاء ألْقَى في فِمَ الطيْرَ قُوتَهُ ... ولكنَّّهُ أوْحَى إلى الطَّيْرِ لَقْطَهُ فائدة عظيمة النفع: التَّوحِيدْ مَفْزَعُ أَعْدَاءِ اللهِ وَأَوْلِيائِهِ فَأمَّا أَعْدَاؤُه فيُنجِيهِم مِن كربِ الدنيا. قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} وَأَمَّا أَوْلِيَاؤُهُ فَيُنَجِيهِم بِهِ مِن كربِ الدنيا والآخرة وَشدَائدِها.

ولِذَلِكَ فَزِعَ إِليه يُونُسُ فنجَّاه الله مِن تِلكَ الظُلماتِ وفَزِعَ إِليهِ أَتْبَاعُ الرُسُل فنجَو به مِمَّا عَذَّبَ بِِهِ المشركون في الدنيا وما أَعَدَّ لَهُمْ في الآخِرة. ولما فَزِعَ إِليه فِرْعون عندَ مُعَايَنة الهَلاك وإدْرَاكِ الغَرقِ لَهُ لَمْ يَنْفَعْهُ. لأِنَّ الإِيمانَ عِنْدَ المعاينة لا يُقْبَل هذه سنة الله في عِبادِهِ. فما دُفِعَتْ شَدَائِدُ الدنيا بِمِثْلِ التَّوْحِيدْ. ولذلِكَ كَان دُعَاء الكَرْبِ التوحيد ودعوة ذي النون التي ما دعا بها مكروب إلا فَرَّج اللهُ كَرْبَهُ بالتوحيد. فلا يُلْقِي في الكرَبِ العَظائم إلا الشِّرك. ولا يُنْجِي منها إلا التوحيد. فهو مَفْزعُ الخَلِيقَةِ ومَلْجَؤهَا وحِصْنُها وغِيَاثُها. شِعْرًا: ... عَلَيْكَ بِتَوحِيدِ الإِله فَإِنَّهُ ... نَجَاةٌ فَلا تُهْمِلْ كَلامي وَخُذْ بِهِ شِعْرًا: أذَلّ الحَرْصُ والطّمَعُ الرِّقابَا ... وقَد يَعْفو الكَريمُ إذا اسْتَرَابًا إذا أتَّضَحَ الصّوابُ فلا تَدَعْهُ ... فإِنّكَ قَلّمَا ذُقتَ الصَّوابًا وَجَدْتَ لَهُ على اللَّهَواتِ بَرْدًا ... كَبَرْدِ الماءِ حِينَ صَفَا وطابًا ولَيس بحاكِمٍ مَنْ لا يُبَالي ... أأخطَأ في الحُكُومَةِ أَمْ أصابًا وإن لِكُلِّ تَلْخِصٍ لَوجْهًا ... وإنَّ لِكُلّ ذِي عَمَلٍ حِسَابًا وإنَّ لِكُلِّ مُطّلَع لَحَدا ... وإنَّ لِكُلّ ذِي أجَلٍ كِتابًا وكُلُّ سَلامَةٍ تَعِدُ المنَايَا ... وكُلُّ عِمارَةٍ تَعِدُ الخَرابًا وكُلُّ مُمَلَّكٍ سَيَصِيرُ يَوْمًا ... وما مَلَكَتْ يَدَاهُ مَعًا تُرابًا أَبَتْ طَرَفَاتُ كُلِّ قَريرِ عَين ... بها إلا اضْطِرابًا وانْقِلابًا كَأَنَّ مَحَاسِنَ الدّنْيا سَرابٌ ... وأيُّ يَدٍ تَنَاوَلتِ السرَّابًا وإنْ يَكْ مُنْيَةٌ عَجِلَتْ بِشَيءٍ ... تُسَرُّ به فإِنَّ لَهَا السَّرابًا فَيا عَجَبًا تَمُوتُ، وأَنتَ تَبْني ... وتَتَّخِذ المَصَانِعَ والقِبابًا

أَرَاكَ وكُلَّمَا فَتَّحْتَ بَابًا ... مِنَ الدّنْيا فَتَحْتَ عَلَيْكَ نَابًا ألمْ تَرَ أنّ غُدْوَةَ كُلِّ يَوْمٍ ... تَزِيدُكَ مِن مَنِيَّتِكَ اقْتِرَابًا وحُقّ لِمُوقِنٍ بالمَوْتِ أَنْ لا ... يُسَوِّغَهُ الطَّعامَ ولا الشّرَابًا يُدَبِّرُ ما تَرَى مَلِكٌ عَزِيزٌ ... بِهِ شَهِدَتْ حَوادِثُهُ وغَابًا أَلَيْسَ اللهُ في كُل قَريبًا؟ ... بَلَى! مِن حَيثُ مَا نُودِي أَجَابًا ولم تَرَ سَائِلاً لِلَّهِ أَكْدَى ... ولمْ تَرَ راجِيًا لِلَّهِ خَابًا رَأَيْتَ الرُّوحَ جَدْبَ العَيشِ لَمَّا ... عَرفتَ العَيشَ مَخْضبًا واحْتِلابًا وَلسْت بِغَالِب الشَّهَوَاتِ حَتَّى ... تُعِدَّ لَهُنَّ صَبْرًا واحْتِسَابًا فَكُلُّ مُصِيبَةٍ عَظُمَتْ وَجَلّتْ ... تَخِفُّ إذا رَجَوْتَ لَها ثَوَابًا كَبرنا أَيُّهَا الأَتْرابُ حتى ... كأنا لم نَكُنْ حِينًا شَبَابًا وَكَنَّا كالغُصُونِ إذا تَثَنَّتِ ... مِنَ الرّيحانِ مُونِعَةً رِطَابًا إلى كَمْ طُولُ صَبْوتَنا بِدارٍ ... رَأْيَتَ لها اغْتِصابًا واسْتِلابًا ألا ما لِلكُهُولِ ولِلتَّصَابِي ... إذا مَا اغْتَرَّ مُكْتَهِلٌ تَصَابَى فَزعْتُ إلى خِضَابِ الشّيِبِ مِنّي ... وإنَّ نُصُولَهُ فَصَحَ الخِضَابَا اللَّهُمَّ يا عظيم العفو، يا واسع المغفرة، يا قريب الرحمة، يا ذا الجلال والإكرام، هب لنا العافية في الدنيا والآخرة. اللَّهُمَّ يا حيُّ ويا قيُّوم فَرِّغْنَا لما خَلَقْتَنَا له، ولا تُشْغِلْنَا بما تَكَفَّلْتَ لنا به واجعلنا مِمَّن يُؤمِنُ بلقَائِك ويَرْضَى بقَضَائِك، ويقنعُ بعطائك ويخشَاكَ حَقَّ خَشْيَتك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. حكم وفوائد قال أحدُ العُلَمَاءِ: لا يَكُنْ همُّ أحدِكم في كثرةِ العَمَلَ، ولكن ليكن هَمُّه في إحكامِهِ وإتقانِهِ، وتحسينِهِ.

فإن العبدَ قد يُصَلِّي وهو يَعْصِي الله في صلاتِهِ، وقد يَصومُ وهو يَعْصِي الله في صِيامِهِ. وقِيل لآخر: كيفَ أصْبَحتَ؟ فبكى، وقال: أَصْبَحتُ في غفْلةٍ عن الموتِ مَعَ ذُنُوبٍ كثيرةٍ قد أحَاطَتْ بِي وأجلٍ يُسْرِعُ كُلَّ يومٍ في عُمُري، ومَوئْل لَسْتُ أدْرِي علامَا أَهْجِمُ ثم بَكَى. وقال آخر: لا تَغْتَم إلا مِن شيءٍ يَضُرُكَ غَدًا (أَيْ في الآخرة) ولا تَفْرَحْ بشيءٍ لا يَسرُكَ غدًا، وأنفعُ الخوفِ ما حَجزَكَ عن المعاصي، وأطالَ الحُزْنَ مِنْكَ على ما فاتَكَ مِن الطاعِة، وألْزَمَكَ الفِكْرَ في بَقيةِ عُمُرِكَ. وقال آخر: عليكَ بصُحْبةِ مَن تُذَكِّرُكَ اللهَ عزَّ وَجَلَّ رُؤيَتُهُ، وتَقَعُ هَيْبَتُه على باطِنِكَ، ويَزيُدُ في عَمَلِكَ مَنْطِقُه. ويُزَهِّدُكَ في الدنيا عَمَلهُ، ولا تَعْصِي اللهِ مادُمْت في قُرْبِهِ يَعِظكَ بلِسانِ فِعْلِهِ ولا يَعِظُكَ بِلِسانِ قَوْلِهِ. قال إسرافيل: حَضَرتُ ذِي النون المِصِري وهو في الحَبْسِ وقد دَخَلَ الشُرطِيُّ بِطعامٍ لَهُ فقامَ ذُو النونِ فَنَفَضَ يَدَهُ (أيْ قَبضها عن الطعام) . فقيل له: إن أخاك جَاءَ به، فقال: إنه على يَدَيْ ظالم، وقَالَ بعضُهم يُوبِّخُ نَفْسَهُ وَيَعِظُها: يا نَفْسُ بادِرِي بالأوقاتِ قبلَ انْصِرامها، واجْتَهدي في حَراسَةِ لَيَالي الحَياةِ وأَيَّامِهَا. فكأنَّكِ بالقُبورِ قد تَشَقَّقَتْ، وبالأمُوُر وقد تَحَقَّقَتْ، وبِوجُوُه المتقينَ وقد أشْرَقَتْ، وبرُؤُوسِ العُصَاةِ وقدَ أَطْرَقَتْ قال تعالى وتقدس: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} يا نفس أمَّا الوُّرعون فقد جَدَّوا، وأما الواعظُون فقد نَصَحُوا. انْتَهى.

صاحب البصيرة إذا صدرت من

واللهُ أَعْلَمْ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِِهِ وَسَلَّمَ. (فَصْلٌ) اعلَمْ أنَّ صَاحِبَ البصِيرةِ إذا صَدَرَتْ منه الخَطِيئةُ فلهُ نَظَرٌ إلى أُمور أَحَدُهَا: أنْ ينظرَ إلى أمرِ اللهِ ونَهْيِهِ فيُحْدِثَ له ذلك الاعترافَ بكونِهَا خَطِيئَةً، والإِقْرَارَ على نفسِه بالذَنْب، والثاني: أنْ ينظرَ إلى الوعدِ والوعيدِ فيُحِدَث له ذَلِكَ خوفًا وخشْيةً تحْمِلُهُ على التوبةِ، والثالثُ: أَنْ يَنْظُرَ إلى تَمْكِينِ اللهِ لَهُ مِنهَا وَتَخْلِيَتِهِ بَيْنَه وَبَيْنَها وَتَقْدِيرِها عليه وأنه لو شاء لَعَصَمَهُ مِنْهَا فَيُحْدثَ له ذلك أنواعًا مِنَ المعرفِة باللهِ وأسمائِهِ وصِفَاتِهِ وحِكْمَتِهِ ورَحْمَتِهِ وعَفوِهِ وحِلمِهِ وكرمِِهِ وتوجبُ له هذه المعرفةُ عُبوديةً بهذه الأسماءِ لا تحصُلُ بِدُونِ لَوَازِمِهَا البَتَّةَ وَيَعْلَمُ ارتباطَ الخلق والأمرِ والجزاءِ والوعْدِ والوعيدِ بأسمائِهِ وصِفَاتِهِ وأنَّ ذلك بموجبِ الأسماءِ والصفاتِ وأثرها في الوجودِ وأنَّ كلَ اسم وصِفةٍ مُقْتَضٍ لأثَرهِ وَمُوجِبُهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ لا بُدَّ منه. وَهَذَا المَشْهَدُ يُطْلِعُهُ على رِياضٍ مُونِقَةً مِن المَعَارِفِِ والإيمانِ وأسْرَارِ القَدَرِ والحِكمَةِ يَضِيقُ عن التعبيرِ عنها نِطاقُ الكَلِمِ فَمِنْ بَعضِهَا ما ذكره الشيخُ (يُريدُ صاحِبَ المنازلِ) : أنْ يَعْرِفَ العبدُ عِزَّتَهُ في قَضَائِهِ وَهُوُ أنَّهُ سُبْحَانَهُ العَزِيز الذي يَقْضِي بما يشاءُ وأنه لِكمالِ عزتِهِ حَكَمَ على العبدِ وقضى عليهِ بأنْ قلبَ قَلْبِهُ وصرَّفَ إرَادَتَه على ما يَشَاءُ وحالَ بين العَبْدِ وقلبِهِ وَجَعَلَهُ مُريدًا شائِيًا لِمَا شَاءَ مِنْهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ وهذا مِنْ كَمالِ العِزَّةِ، إذْ لا يَقْدِرُ عَلى ذلِكَ إلا اللهُ وغايةُ المَخْلُوقِ أَنْ يَتَصَرَّفَ في بَدَنِكَ وظاهِرِكَ، وأمَّا جَعْلُكَ مُرِيدًا شائيًا لِمَا يَشَاؤُهُ مِنْكَ وَيُرِيدُهُ فلا يَقْدرُ عليهِ إلا ذُو العِزَّةِ البَاهِرَةِ. فإذا عرف العبدُ عِزَّ سيدِهِ ولا حظَ بقلبِهِ وتمكَّنَ شهودُهُ مِنْهُ كان الاشتغالُ بهِ عن ذُلِّ المَعصيةِ أولى بهِ وأنفعَ له لأِنَّهُ يَصِيرُ مَعَ اللهِ لا مَعَ

علامات التوبة المقبولة وموجباتها وحقائقها

نَفْسِهِ، ومِنْ مَعْرِفِة عِزتِهِ في قَضَائِهِ أنْ يَعْرِفَ أنه مُدَبَّر مَقْهُورٌ ناصيتُهُ بِيدِ غيرِهِ لا عِصْمَةَ لَه إلا بِعِصْمَتِهِ ولا تَوفيقَ له إِلا بِمَعُونَتِهِ فهُوَ ذَليلٌ حقيرُ في قبضةِ عَزيزٍ حميدٍ. وَمِنْ شُهودِ عزَّتِهِ في قَضَائِهِ أنْ يَشْهَدَ أنَّ الكَمَالَ والحَمْدَ والغِنَى التامَّ والعزةَ كلهَا لِلهِ وأنَّ العَبْدَ نَفْسَهُُُ أوْلى بالتقصيرِ والذمِ والعَيبِ والظُلمِ والحَاجةِ وكُلَّمَا ازدادَ شُهودُهُ لِذِلّهِ وَنَقْصِهِ وَعَيْبِهِ وَفَقْرِهِ ازدادَ شهودُهُ لِعزَّةِ اللهِ وَكَمالِهِ وَحَمْدِهِ وَغِنَاهُ وكذلك بالعكسِ فنقْصُ الذنْبِ وذِلتُهُ يُطْلعُهُ على مَشْهَدِ العِزّةِ. ومنها: أن العبدَ لا يُريدُ مَعْصِيَةَ مَوْلاهُ مِنْ حَيثُ هِيَ مَعْصِيةٌ فإذا شَهِدَ جَرَيَانَ الحُكْمِ وَجَعْلَهُ فَاعلاً لِمَا هُوَ مُختارٌ، له مُرِيدًا بإرَادتِهِ وَمَشيئِتِه واختيارِهِ فكأنَهُ مُخْتَارٌ غَيْرُ مُخْتَارٍ مُرِيدٌ شاءٍ غيرُ شاءٍ فهذا يَشْهَدُ عِزةَ اللهِ وعَظَمَتَهُ وكَمَالَ قُدْرَتِهِ. شعرًا: أَحْسِنْ بربِّك ظَنًا إنَّهُ أَبَدًا ... يَكْفي المُهِمَّ إِذا مَا عَزَّ أَوْ نابًا لا تَيأَسَنَّ لِبَابَ سُدَّ في طَلَبٍ ... فالله يَفْتَحُ بَعْدَ البَابِ أَبْوابًا ومِنْ ذلك أن يَعرفَ بِرَّهُ سبحانَه في سَتْرِهِ عليهِ حالَ ارتكابِ المعصيةِ معَ كمالِ رؤيتِهِ لهُ ولو شاء لَفَضَحَهُ بينَ خَلْقِهِ فَحَذِرُوه وهذا مِن كمالِ بِرِّهِ ومِنْ أسمائِه البَرُّ، وهذا البرُّ من سيدِهِ كان عن كمالِ غِنَاهُ وَكمالِ فقْرِ العبدِ إليهِ فيشتغلُ بمطالعَةِ هذه المِنةَ وَمُشَاهَدَةِ هَذَا البِرِّ والإحسانِ والكرم فيَذهَلُ عن ذِكرِ الخَطِيئَةِ فَيَبْقَى مَعَ اللهِ سبحانه وذلك أَنْفَعُ لهُ مِن الاشتغالِ بجنايَتِهِ وَشُهُودِ ذُلِّ المَعْصِيَةِ فإنَّ الاشْتِغَالَ باللهِ والغَفْلةَ عَمَّا سِوَاهُ هُوَ المَطْلَبُ الأعلى والمقصَد الأسْنَى.

ومنها: شُهودُ حِلْمِ اللهِ سبحانه وتعالى في إمْهَالِ رَاكِبِ الخَطِيئَةِ مُطْلقًا ولو شاءَ لَعاجَلَه بالعُقُوبَةِ ولكِنَهُ الحَلِيمُ الذي لا يَعْجَلُ فَيُحْدِثُ له ذلك مَعْرِفةَ رَبِهِ سبحانه باسْمِهِ الحليمِ ومُشَاهَدَةَ صفةِ الحِلْمِ والتَّعَبُدِ بهذا الاسمِ. والحكمةُ والمصلحةُ الحاصلةُ ومن ذلك بتوسّطِ الذَنْبِ أحبُّ إلى اللهِ وأصلحُ للعبدِ وأنفَعُ من فَوْتِها، ووجودُ الملزومِ بدونِ لازمِهِ مُمْتَنِعٌ ومنها مَعْرِفَةُ العَبْدِ كَرَمَ رَبِهِ في قُبولِ العذرِ منه إذا اعتذرَ إليهِ بنحْوِ ما تقدم مِن الاعتذارِ لا بالقَدَرِ فإنه مخاصَمَتُه وَمُحَاجّة. ومنها: أنْ يَشهدَ فضلَهُ في مَغفرتِهِ فإن المَغْفِرَةَ فضْلٌ مِن اللهِ وإلا فَلَو أَخَذَ بمحْض حَقِّهِ كان عادِلاً مَحْمُودًا. وإِنَّمَا عَفْوُهُ بِفَضْلِهِ لا باسْتِحْقاقِكَ فَيُوجِبُ ذَلِكَ شُكرًا وَمَحَبةً وإنابَةً إليه وفَرَحًا وابْتِهَاجًا بِهِ ومَعْرِفَةً لَهُ باسْمِهِ الغَفَّارِ وَمُشَاهَدَةً لِهَذِهِ الصِّفَةِ وَتَعَبُّدًا بِمُقْضَاهَا وَذَلِكَ أَكْمَل ُفي العُبُودِيَّةِ والمَحَبَّةِ والمَعْرِفَة. وَمِنْهَا: أَنْ يُكْمِلَ لِعبدِهِ مَرْتَبَةَ الذُلِ والخُضُوعِ والانْكِسَارِ بَينَ يَدَيْهِ والافتقارِ إِليه. إِنِّ الشَّرَائِعَ أَلْقَتْ بَيْنَنَا حِكَمًا ... وَأَوْرَثَتَنَا أَفَانِينَ المُوَدَّاتِ وَهَلْ رَأيْتَ كَمِثْلِ الدِّينِ مَنْفَعَةً ... لِلْعَبْدِ تُوصِلُهُ أَعْلَى الكَرَامَاتِ اللَّهُمَّ أَيْقظَ قُلُوبَنَا وَنَوِّرْهَا بِنُورِ الإِيمَان وَثَبَّتْ مَحَبَّتكَ في قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَارْزُقْنَا الْمَعْرفَةَ بكَ عَنْ بَصِيرَةً وَأَلْهِمَنَا ذِكْرَكَ وَشُكْركَ وَوَفّقْنَا لِطَاعَتِكَ وامْتِثَالِ أَمْرِكْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، واللهُ أَعْلَمْ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. (فَصْلٌ) : ومنها: أنَّ أَسْمَاءَ الربِ تَقْتَضِي آثارَها اقْتضاءَ الأَسْبَابِ التَّامَّةِ لِمُسبَّباتِها فاسمُ السميعِ البصيرِ يَقْتَضِي مسْمُوعًا وَمُبْصرًا واسْمُ الرَّزَّاقِ

يَقْتَضِي مَرْزُوقًا واسْمُ الرحيمِ يَقْتَضِي مَرْحُومًا وكذلك أسماء: (الغَفورِ، والعَفُوِّ، والتوابِ، والحَليم) يَقْتَضِي مَنْ يَغْفِرُ لَهُ وَيَتُوبُ عليه وَيَعْفو وَيَحْلُم وَيَسْتَحِيلُ تَعْطِيْلُ هَذِهِ الأسْمَاءِ والصفاتِ إذْ هِيَ أَسْمَاءٌ حُسْنَى وَصِفَاتُ كَمَالٍ وَنُعوتُ جَلالٍ وأَفعالُ حِكمةٍ وإحسانٍ وَجُودٍ فلا بدّ مِن ظهورِ آثارِها في العالَم. وإلى هذا أشار أعلمُ الخلقِ باللهِ صلواتُ اللهِ وسلامهُ عليهِ حيثُ يَقولُ «لو لم تُذْنبوا لذهب الله بكمْ وَلَجَاء بقوم يُذْنِبُونَ ثم يسْتَغْفرُونَ فَيَغْفِرُ لهم» وأَنْتَ إذا فرضْتَ الحيوان بجُمْلَتِهِ مَعْدُومًا فَمَنْ يَرْزُقُ الرَّزَّاقُ سبحانه وإذا فَرَضَتْ المَعْصِيَةَ والخَطِيئَةَ مُنْتَفِيةً عن العالَم فلِمَنْ يغفرُ؟ وعمَّنْ يَعْفُو؟ وعلى مَن يتوبُ وَيَحْلَم؟ وإذا فرضْتَ الفاقات كُلَها قد سُدَّتْ والعبيدَ أغنياءَ مُعَافِين فأَيْنَ السُؤالُ والتَّضَرُّعُ والابْتِهَالُ والإِجَابةُ وَشُهودُ المنةِ والتخصيصُ بالإنعام والإكرامِ فسُبْحانَ مَنْ تَعرَّف إلى خَلقِهِ بجميعِ أنواعِ التعرّفاتِ وَدَلّهم عليه بأنواعِ الدلالاتِ. انتهى. شعرًا: دَع المَعَاصِي عَنْكَ في مَعْزلٍ ... وتُبْ إلى مَن هو نِعْمَ الغِيَاثْ فليْسَ يُحْظَ بِجَدِيد الرّضَا ... عَبْدٌ عَلَيه حَسَنَاتٌ رِثَاثْ آخر: وذُقْتُ مَرَارةَ الأشْيَاطُرًا ... فما طَعْمٌ أَمَرّ مِنَ المعَاصِي آخر: حَتَّى مَتَى تُسْقَى النُفوسُ بكأسِها رَيْبَ المَنونِ وأَنْتَ لاهٍ تَلْعَبُ عَجَبًا لأَمْنِكَ والحَيَاةُ قَصِيرَةٌ وَبِفَقْدِ إلفٍ لا تَزَالُ تُرَوَّعُ أَفَقَدْ رَضِيتَ بأنْ تُعلّلَ بالمُنَى وإِلَى المنِيَّةِ كُلَّ يَومٍ تُدْفَعُ

لا تَخْدعَنَّكَ بَعْدَ طُولِ تَجارُبٍ دُنْيًا تَغُرُّ بوصْلِهَا وسَتُقْطَعُ أَحْلامُ نَوْمٍ أَوْ كَظِلٍّ زَايلٍ إِنّ اللَّبيبَ بِمِثْلِها لا يُخْدَعُ وَتَزَوَّدَنَّ لِيَومَ فَقْرِكَ دَائِمًا أَلِغَيْر نَفْسِكَ لا أَبَا لَكَ تَجْمَعُ آخر: ... يا عَبْدُ كَمْ لَكَ مِن ذَنْبٍ وَمَعْصِيةٍ ... إنْ كُنْتَ نَاسِيهَا فالله أحْصَاها يا عَبْدُ لا بُدَّ مِنِ يومٍ تَقَوم لَهُ ... وَوَقْفَةٍ لَكَ يُدْمِي الكَفَّ ذِكْرَاها إذَا عَرَضْتُ على نَفسي تَذكُرَهَا ... وَسَاءَ ظنَّي قُلْتُ أَسْتَغْفِرُ اللهَ آخر: ما زُخْرُفُ الدُّنْيَا وزُبْرُجُ أَهْلِهَا ... إلا غُرُورٌ كُلُّهُ وَحُطَامُ ولَرُبَّ أَقْوَام مَضَوا لِسَبِيلِهمْ ... ولَتمضِينَّ كَمَا مَضَى الأقْوَامُ ولَرُبَّ ذِي فُرشٍ مُمَهَّدَة لَهُ ... أَمْسَى عَلَيْهِ مِن التُّرَابِ رُكَامُ والموتُ يَعمل والعُيونُ قَريرةٌ ... تلْهُوا وتَلْعَبُ بالمنَى وتَنَامُ كُلٌ يَدُورُ على البَقَاء مُؤَملاً ... وَعَلى الفَنَاءِ تُدِيرُهُ الأيامُ والدَّائِمُ الملكوتِ رَبٌ لم يَزَلْ ... مَلِكًا تَقَطَّعُ دُونَهُ الأوهَامُ فالحمدُ لله الذِي هُوَ دَائِمٌ ... أَبَدًا ولَيْسَ لِمَا سواهُ دَوَامُ اللَّهُمَّ اعْتقْنَا مِن رقِّ الذُّنُوبْ، وخَلِّصْنَا مِن أَشَرِ النُّفوسْ، وأَذْهِبْ عَنَّا وَحْشَةَ الإِسَاءَةْ وطَهِّرْنا مِن دَنَسِ الذُّنُوبَ، وباعِدْ بَيْنَنا وبَيْنَ الخَطَايَا وأجِرْنا مِن الشيطان الرجيم. آخر ... أَقُولٌ وطَرْفي غَارقٌ بِدُمُوعِهِ ... لِمَا قَدْ جَرَى لِي في الذُنُوب تَمادِي فَهَلْ مِن تَلافي سَاعَةٍ أَشْتَفِي بهَا ... أُجَدِّدُ فيهَا تَوْبَةَ بِسَدَادِ وأَسْأَلُ مَوْلاي القَبُول لِدْعوتِيْ ... فَغَايَةُ سُؤْلي هَذِهِ وَمُرَادِي

آخر: ... يا أَيُهَا الزاهِدُ بالزُّهْدِ ... عَرِّجْ مِن الهَزْلِ إلى الجِدِّ فَبَعْدَ نُورِ الشَيْبِ لا يُرْتَجى ... لِلْمَرءِ إِلا ظُلْمَةُ اللّحْدِ فاحْتَلْ مِن التَّوبةِ في أجْرِه ... إن شِئْتَ سُكْنى جَنّةِ الخُلْدِ اللَّهُمَّ يا فالقَ الحب والنَّوَى، يا مُنْشِئَ الأجْسَادِ بَعْدَ البلَى يا مُؤْوي المنْقَطِعِينَ إِليْه، يا كَافِي المُتَوَكِّلينَ عليه، انْقَطَعَ الرَّجَاءُ إلا مِنْكَ، وخابَتِ الظُنُونُ إلا فِيكَ، وضَعُفَ الاعْتمادُ إِلا عَلَيْكَ نسألُكَ أنْ تُمْطَرَ مَحْلَ قُلُوبِنَا مِن سَحائِبِ بِرِّكَ وإحْسَانِكْ وأَنْ تُوِفقَّنا لِمُوجِباتِ رَحْمَتِكَ وعَزَائِم مَغفرتِكَ إنكَ جَوادٌ كريم رؤوفٌ غفور رحيم. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ. (فَصْلٌ) وقالَ رَحِمَهُ اللهُ: لِلتَوْبةِ المقبولةِ علاماتٌ: مِنْهَا: أنْ يكونَ بعدَ التوبةِ خيرًا مِمّا قبلَها. ومنها: أنَّه لا يزالُ الخوفُ مُصَاحِبًا لهُ لا يأمنُ مكرَ اللهِ طرْفةَ عيْنٍ، فخوفُهُ مُسْتَمِرُّ إلى أنْ يَسْمَعَ قولَ الرُسُلَ لِقبِض رُوُحِهِ (41: 30) {أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} فهُنا يَزُوْلُ الخوفُ. ومنها: انْخِلاعُ القَلْبِ وَتَقَطُّعُهُ نَدَمًا وَخَوْفًا وهذا على قَدْرِ عِظَمَ الجِنَايةِ وَصِغَرهَا. وهذا تأويلُ ابنُ عُيَيْنةَ لقولِهِ تعالى (9: 110) : {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} . قال: تَقْطعُها بالتَّوْبَةِ. وَلا رَيْبَ أنَّ الخَوفَ الشدِيدَ مِنَ العُقوبةِ العَظيمَةِ يُوجِبُ انْصِداعَ القَلْبِ وانْخِلاعَهُ. وهذا هُوَ تَقَطُعُهُ وهذا حَقِيقَةُ التَّوْبَةِ لأَنَهُ يَنْقَطِعُ قَلْبُهُ حَسْرَةً على ما فَرَطَ منهُ وَخَوفًا مِنْ سُوء عاقَبتِهِ فمَنْ لم يَنْقَطِعْ قَلْبُهُ في الدنيا على مَا فَرَّطَ حَسْرةً وَخَوْفًا تَقَطَّعَ في الآخِرَةِ إذا حُقَّتِ الحَقَائِقُ وعايَنَ ثَوابَ المُطِيعينَ وَعِقَابَ العاصينَ فلا بُدَّ مِنْ تَقَطّعَ القَلْبِ إما في الدُنيا وإما في الآخرة. إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ من التُقى ... وأَبْصَرْتَ بَعْدَ المَوْتَ مَنْ قَدْ تَزَّوَدَا نَدِمْتَ عَلَى أنْ لا تكُون كَمِثْلِهِ ... وَأَنَّكَ لَمْ تُرْصِدْ كَمَا كَان أَرْصَدَا

آخر: وما أقَبَحَ التفّرْيط في زَمَنِ الصّبَا ... فكيَفْ به والشّيْبُ في الرَّأس شَامِلٌ تَرَحَّلْ مِنَ الدنْيَا بِزَاد مِن التّقَى ... فَعُمْرَكَ أَيْامٌ تُعَدٌّ قَلائِلُ آخر: وَإِذَا رُزِقْتَ مِن الحَلال تجاةً ... فابْذِلَ لَهَا في مَرَاضي الله مُجْتَهِدًا ومِنْ مُوْجِباتِ التوبةِ الصحيحةِ أَيْضًا كَسْرَةٌ خاصَّةُ تَحْصُلُ لِلْقَلْبِ لا يشْبِهْهَا شَيءٌ، ولا تكونُ لِغَيْرِ المُذْنِبِ لا تَحْصُلُ بجُوعٍ ولا رِياضَةٍ ولا حُبٍ مُجرَّدٍ وإنَّمَا هِيَ أمْرٌ، وَرَاءَ هذا كُلِّهِ تُكَسِّرُ القَلْبَ بَيْنَ يَدَي الرَّب كَسْرةً تامةً قد أَحَاطَتْ بهِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ وألقَتْهُ بين يَدَي رَبِهِ طَرِيحًا ذَلِيلاً خَاشِعًا كََحَالِ عَبْدٍ جَانٍ أَبَقَ مِنْ سَيّدِهِ فَأُخِذَ فأُحضِرَ بينَ يَدَيهِ ولم يَجدْ مَنْ يُنِجيهِ مِن سَطْوتِهِ وَلَم يَجْدْ منه بُدًا ولا عنه غَناءً ولا مِنْهُ مَهْرَبًا وَعَلِمَ أنّ حَيَاتَهُ وَسعادَتَه وفلاحَه ونجاحَه في رِضَاهُ عنهُ، وقدْ عَلِمَ إحاطةَ سَيّدِهِ بِتَفَاصِيلِ جِنَايَاتِهِ، هذا مَع حُبِّهِ لِسَيّدِهِ وشِدَّةِ حاجتهِ إليهِ وعِلْمِهِ بِضَعْفِهِ وَعَجَزِهِ وَذُلِّهِ وَقُوَّةِ سيدِهِ وَعِزَّتِهِ. فَيَجْتَمِعُ في هَذِه الأَحْوَالِ كَسْرَةٌ وذُلٌ وَخُضُوعٌ ما أنفعَهَا لِلْعَبِدِ وما أجْدَى عائِدَتُهَا عليهِ وما أعظمَ جبْرُهُ بها وما أقرَبَهَ بها مِن سَيِّدِهِ فليْسَ شَيءٌ أحَبَّ إلى سَيِّدِهِ مِن هذِهِ الكسْرةِ والخُضوعِ والتذللِ والإخْباتِ والانطِراحِ بَيْنَ يَدَيْهِ والاسْتِسْلامِ لَهُ. فلِلهِ مَا أَحْلَى قَوْلَهُ في هذِهِ الحَالِ أَسْأَلُكَ بعِزّكَ وَذُلِي إلا رَحِمْتَنِي. أسألك بقٌوتكِ وَضعْفِي، وبِغِنَاكَ عَنّي وَفَقْرِي إليكَ هذِهِ ناصِيَتِي الكاذبةُ الخاطئةُ بينَ يَدَيْكَ، عَبِيدُكَ سِوَايِ كثيرٌ وليسَ لي سَيِّدٌ سِوَاكَ لا مَلجأَ ولا مَنْجَى مِنْكَ إلا إليكَ أسْأَلُكَ مَسْألةِ المِسكينِ، وأبْتَهِلُ إليكَ ابْتِهَالَ الخَاضِعِ الذليل، وأدعُوكَ دُعاءَ الخائِفِ الضَرِيرِ سُؤالَ مَنْ خَضَعَتْ لَكَ رَقَبتُهُ، وَرَغِمَ لك أنفُه، وفاضَتْ لَكَ عَيْنَاهُ، وذَلَّ لَكَ قَلْبُهُ. فَهَذَا وأمثالُه مِنْ آثَارِ التَوبةِ المَقْبُولَةِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ذلِك في قَلْبِهِ

فَليتَّهِمْ تَوبَتَهِ وَلْيَرْجِعْ إلى تَصْحِيحِها فَمَا أصْعَبَ التَوبةَ الصَّحِيحَةَ بالحَقِيقَةِ وَمَا أَسْهَلَها باللسانِ والدَّعْوَى، وَمَا عَالجَ الصَّادِقُ بِشيءٍ أَشَدّ عَلَيهِ مِنَ التَّوْبَةِ الخالِصةِ الصَّادِقةِ ولا حَوْلَ وَلا قُوةَ إِلا باللهِ. وَحَقائِقُ التَّوْبَةِ ثَلاثَةٌ: وَعَدَّ منها اتْهامَ التوبةِ قال: لأنها حقٌ عليهِ لا يَتَيَقّنُ أنه أدَّى هذا الحقَ على الوجهِ المطلوبِ مِنْهُ الذي يَنْبَغِي لهُ أَنْ يُؤدّيِهُ عليه، فيخافُ أنه ما وفَّاها حَقَها وأنها لم تُقبلْ منه وأنه لمْ يبذلْ جُهدَه في صِحَّتِها، وأنها تَوْبَةُ عِلّةٍ وهو لا يَشْعُرُ بها كَتَوْبةِ أرْبَابِ الحَوَائِجِ والإِفلاسِ والمُحَافِظِينَ على حَاجَاتِهِم وَمَنازِلِهمْ بينَ النَّاسِ. أَوْ أَنَّهُ تَابَ مُحَافَظَةً على حَالِهِ فَتَابَ لِلْحَالِ لا خَوْفًا مِن ذِي الجَلال، أو أنه تَابَ طَلَبًا لِلرَّاحَةِ مِنَ الكدِّ في تَحْصِيلْ الذنْبِ أو اتِّقاءِ ما يَخافُهُ على عِرْضِهِ وَمَالِهِ وَمَنْصِبِهِ أو لِضَعْفِ داعِي المعصيةِ في قلبِهِ وَخُمُودِ نارِ شَهْوتِهِ أو لِمُنافاةِ المعصِيَةِ لِمَا يَطْلِبُهُ مِنَ العلمِ والرزقِ وَنَحْوِ ذلك مِنَ العِلَلِ التي تَقْدَحُ في كونِ التَّوْبةِ خَوْفًا مِنَ اللهِ وتعظيمًا لَهُ ولِحُرُمَاتِهِ وإجْلالاً لَهُ وَخَشْيَةً مِنْ سُقُوطِ المنْزِلةِ عندَهُ وعن البُعْدِ والطردِ عَنْهُ والحِجابِ عن رُؤْيةِ وَجْهِهِ في الدَارِ الآخِرَةِ فَهَذِهِ التَوْبَةُ لَوْنٌ وَتَوْبَةُ أَصحابِ العِللِ لَوْن قال: ومِنَ اتّهِامِ التَّوْبَةِ ضَعْفُ الْعَزِيمَةِ والتِفَاتُ الْقَلْب إِلى الذَّنْبِ الْفَيْنَةَ بَعدَ الفينةِ وتذكُّرُ حَلاوَةِ مُوَاقَعَتِهِ. ومِنَ اتّهَامِ التَّوْبَةِ طُمَأْنِينَتُهُ وَوثوقُهُ مِنْ نفسِهِ بأنَهُ قَدْ تَابَ حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ مَنْشُورًا بالأمانِ فَهَذِهِ مِن عَلامَاتِ التُّهْمَةِ. وَمِنْ عَلامِاتِهَا جُمُودُ الْعَيْنِ واسْتِمْرَارُ الْغَفْلَةِ وأنْ لا يَسْتَحْدَثَ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَعْمَالاً صَالِحةُ لَمْ تَكُنْ له قَبْلَ الْخَطِيئةِ. شِعْرًا: خُذْ مِن شَبَابِكَ قَبْلَ الْمَوْتِ والْهَرَمِ ... وَبَادِرِ التَّوبَ قَبْلَ الْفَوتِ وَالنَّدَمِ واعْلَمْ بأنَّكَ مَجْزِيٌ وُمرْتَهَنٌ ... وَرَاقِب الله واحْذَرْ زلَّةِ الْقَدَمِ

فوائد ونصائح ومواعظ

فَلَيْسَ بَعْدَ حُلُولِ الموتِ مَعْتَبَةٌ ... إِلا الرَّجاَءُ وعَفْو الله ذِي الكَرَمِ آخر: احْفَظْ مَشِيبَكَ مِنْ عَيْبٍ يُدَنِّسُهُ ... إِنَّ البَيَاضَ سَرِيعُ الحَمْلِ لِلدَّنَسِ واللهُ أَعْلَمْ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. (فَصْلٌ) فِي وَصَايَا وَفَوَائِدَ وَمَوَاعِظَ وَآدَابْ أَوْصَى بَعضُهم، فقال: إذا عَصَيْتَ الله بِمَوضعٍ بأن حَصل مِنكَ ذَنْبٌ فاعْمَلْ في ذَلِكَ الموضعِ طَاعةً كاسْتِغْفَارٍ وذِكْرٍ لِلَّهِ ونَحْوِ ذَلِكَ فكما يَشْهَدُ عَليكَ يَشهَدُ لَكَ. قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} . وَكُلَّمَا تَذَكَّرْتَ ذَنْبًا صَدَرَ مِنْكَ فَتُبْ عَقِبَ ذِكْركَ إَيَّاهُ تَوبةً نَصُوحًا وأَكْثِرْ مِنَ الاستغفار. قال الله جل وعلا: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} . وقال تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَّحِيماً} . احْرِصْ عَلى أن تَنْوِيَ فِعْلَ الخير، وإذا حَدَّثَتْكَ نفسُكَ بِشَرٍ فاعْزِمْ على تَرْكِهِ لِلَّهِ. فعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله عز وجل: (إِذَا تَحَدَّثَ عَبدي بَأَنْ يَعمل حَسَنَةً فأنا أكتُبُها له حَسَنَةً ما لم يعمل، فإذا عَمِلَهَا فأنا أكتُبُها بعَشْرِ أَمْثالِها) . وإذا تَحَدَّثَ بأن يَعْمَلَ سَيِئَةً فأنا أغْفِرُهَا لَهُ ما لم يَعْمَلْها فإذا عَمِلَهَا فأنا أكتُبَها له بِمِثْلِهَا. ومما أوصَى به بعضُهم قال عَلَيكَ بِذِكْرِ اللهِ قَائمًا وقَاعدًا وعَلى جَنْبِكَ في السر والعلانية وفي الملا. قال الله جل وعلا: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ

جُنُوبِهِمْ} . وقال: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} ، وقال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} . وقال تعالى: {وَاذْكُرُواْ اللهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} . شِعْرًا: عَلَيْكَ بِذِكْرِ الله في كُلِّ سَاعَةٍ ... فَمَا خَابَ عَبْدٌ لِلْمُهَيْمِنِ يَذْكُرُ آخر: ... عَلَيْكَ بِذِكْرِ الله دَوْمًا فإنَّهُ ... بِهِ يَطْمَئِنُّ القَلْبُ فالْزَمْهُ تَسْعَدِ فلا تُبق في يَوْمِ السلامَةِ لحَظَةً ... تفوتُكَ لم تذكُر به الله وَحْدَهُ وعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، إِنْ ذَكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في مَلأ ذكْرته في مَلأ خَيرٍ منهم، وإن تَقَرَّبَ إِليَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إليه ذِرَاعًا، وإن تَقَرَّبَ إِليّ ذراعًا تَقَرَّبْتُ إليه بَاعًا، وإن أَتانِي يَمْشِي أَتَيْتًه هَرْولَةِ» . احْرِصْ على صِيَانَةِ الوَقْتِ وَثابْر على إتْيَانِ جَميعِ مَا يُقَرِّبُك إلى الله مِن الأعمال وبالأخص الإكثار مِن كلمة الإخلاص وهي: لا إلهَ إلا الله. واعلم أنها كلمة التوحيد والتوحيد لا يماثله شيء، وهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وهي كلمة الحق، ودعوة الحق. وهي أعلا كلمة وأشرف كلمة وأحسن كلمة وأفضل كلمة وأنجى كلمة وما أنعم الله على عبد نعمةً أفضل من أن عرفه لا إله إلا الله وفَهَّمَهُ مَعْنَاهَا وَوَفَّقَهُ لِلْعَملِ بِمُقْتَضَاهَا وعليكَ بالقِيامِ بما افْتَرضَ اللهُ عَلَيْكَ ومُلاَزَمَتِهِ على الوَجهِ الأكمَلِ الذي أمركَ اللهُ جَلَ وَعَلاَ أن تقومَ فيه. قال الله جل وعلا: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} . وفي حديث سفيان بن عبد الله قال: قلتُ: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غَيْركَ قال: «قل آمنتُ بالله ثم اسْتَقِمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وفي حديث ثوبان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اسْتَقِيمُوا ولن تُحْصُوا وأعلموا

أَنَّ خَيرَ أَعْمَالِكم الصلاة ولا يُحَافِظ على الوضوءِ إلا مُؤمن» . وفي روايةٍ للإِمام أحمد: «سَدِدُوا وقاربُوا ولا يُحَافِظُ على الصلاة إلا مُؤمنِ» . وعليكَ بمراعاةِ أَقْوَالِكَ كَما تُرَاعِي أَعْمَالَك فإنَّ أَقوالَكَ مِن جملةِ أَعْمَالِكَ قال الله جل وعلا: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} . وقال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} واحْذّرْ الإقامةَ بينَ أَظْهُرِ الكفار فإن في ذلك تشجيعًا للكفار وإهانةً لِدين الإسلام وإعلاءً لِكَلِمَةِ الكفر. نسأل اللهُ العافية، فَعَلى المسلم أنْ يَحْفَظَ أولادَهُ عن الذهاب إلى بلاد الكفار ويَنْصَحَ مَنْ يَقْبَلَ منه مِن قَرَابَتِهِ وأصْدِقائِهِ وجميع المسلمين. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنا بَريءٌ مِن كل مسلم يُقِيمُ بين أظهُر المشركين لا تَرَآءى نَارَاهُما» . رواه أبو داود، والترمذي. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «مَن جَامَعَ المشركَ وَسَكَنَ مَعَهُ فإنه مثلُه» . رواه أبو داود. وعليك بتلاوة القرآن بِتَفَهُّمٍ وتَدَبُرَّ وتَفكُرٍ ونَظَرٍ فيما تَتْلُوهُ إلى ما حُمِدَ فيه مِنَ النُعُوتِ والصِفاتِ التي وَصَفَ اللهُ جَلَّ وَعَلا بها مَن أَحَبَّهُ مِن عِبَادِهِ فاتَّصِفْ بها. وما ذَمَّهُ اللهُ في القرآن مِن الصفاتِ فاجْتَنِبْهَا فإنَّ الله جَلَ وَعَلاَ ما أنْزَلَهَا في كتابِهِ وذَكَرَهَا لك وَعَرَّفَكَ بِهَا إلا لِتَعْمَلَ بِهَا. فإذا قَرَأْتَ القُرآنَ فاجْمَعْ قَلْبَكَ وحَضِّرْه وفَكِّرْ فِيمَا تَتْلُو وما أشكلَ عَلَيْكَ فَطَالِعْ مَعْنَاهُ في التَّفْسِيرْ إِنْ كُنْتَ تُحْسِنُ ذَلِكَ وإلا فاسْأل أهْل الذِكْرِ. قال الله جَل وَعَلاَ وتقَدس: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} . ولا أفضلَ مِن تِلاوَةِ كلامِ اللهِ فأفْضَلُ الكلامِ كلامُ الملكِ العَلاَّم جل وعلا وتقدس. وكُلُ ذِكْرٍ وَرَدَ فَضْلُهُ في خَبرَ أَوْ أَثَرٍ فهو بعدَ كلام الله فالتَّسْبِيحُ والتهليلُ والتكبيرُ والتحميدُ بَعْدَ التِلاوةِ وَبعدَهُنَّ الصلاةُ على رسَول - صلى الله عليه وسلم -. وعليك بمُجَالَسَةِ مَن تَنْتَفِعُ بمُجَالَستِهِ في دِينِكَ مِن عِلْمِ تَسْتَفيِدُهُ أو عَمَل

فائدة عظيمة النفع

يَكونُ فيهِ أوْ خُلُق حَسَن يكون عليه تَكْسِبُهُ مِن صُحْبَتِِهِ. وعَلَيْكَ بالبَذَاذَهة فإنها مِن الإِيمَانِ وهيَ تَرْكُ الزِّينَةِ وعَدَمُ التّرَفُّهِ ورثَاثَةُ الهَيْئَةِ والرِضَا بالدُونِ مِن الثِياب لِمَا وَرَدَ في الحديث: «إن البَذَاذَةَ مِن الإيمان» وفي الحديث الآخر: «إن الله عز وجل يُحِبُّ المُتَبَذِّلَ الذِي لا يُبَالِي مَا لَبسَ» وفي الحديث الآخر: «ومَن تَرَكَ لُبْسَ ثَوْبِ جَمَالٍ وهو يَقْدِرُ عليهِ - أَحْسِبُهُ قال تواضعًا - كَسَاهُ الله حلة الكرامة» . رواه أبو داود. شِعْرًا: ومَن يَرْتَضِِي أَدْنَى اللِّباسِ تَواضُعًا ... سَيُكْسَى الثِّيَابَ العَبْقَرِيَّاتِ في غَدِ آخر: اطْلُبْ كَفافًا فما في الأرض مِنْ أَحَدٍ ... نَالَ الكَفَافَ عَلى تَقْوَى وإِرْشَادِِ مِنْ مَلْبَسٍ وَشَرَابٍ بَعْدَ مَطْعَمِهِ ... في حَيْثُ خَيَّمَ في غَوْرِ وإنْجَادِ إِلا حَوَى الفَوْزَ في الدنيا وَآجِلِهَا ... إذا أَعِينَ بِنَفْسٍ شِحُّّّهَا زَادِ لاَ تَتْعَبَنَّ فإنَّ الرِّزْقَ عَنْ قَدَرٍ ... يَأْتِيكَ طَالِبُهُ مِنْ غير مِيعَادِ واللهُ أَعْلَمْ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. [فائدة عظيمة النفع] اعْلَمْ أَنَّ مَن كان دَاؤُهُ المعصية فَشِفَاؤهُ الطاعة، وَمَن كان دَاؤهُ الغَفْلَةُ فشِفاؤه اليَقَظة، ومَن كان داؤهُ كَثْرةُ الأشغال فشفاؤه في تفريغ البال. فمن تَفَرَّغَ مِن هُموم الدنيا قلبُه، قَلَّ تَعَبُه وتَوَفَّر مِنَ العِبَادة نصيبه، واتصل إلى الله مَسِيرهُ، وارتفع في الجنة مَصيره، وتمكن مِن الذِكر والفِكر والورع والزهد والاحتراس من وساوس والشيطان، وغوائل النفس. ومن كثر في الدنيا هَمُّه، أظلم طريقُهْ، ونصَبَ بَدَنُه، وضَاعَ وَقتُه، وتَشَتَّتَ شملُه، وطاشَ عَقْلُه، وانعقد لِسَانُه عن الذكر لِكثَرْة هُمومه

موعظة من نصيحة والد لولده

وغمُومه، وصار مُقَيَّدَ الجوارح عن الطاعة، مِن قلبِه في كل وادٍ شُعْبَة، ومِن عُمرِه لكل ِ شغل حِصَّة. فاستعذ بالله من فضول الأعمال والهموم فكل ما شغل العبد عن الرب فهو مشئوم، ومن فاته رضى مَولاه فهو محروم، كل العافية في الذكر والطاعة، وكل البلاء في الغفلة والمخالفة، وكل الشفاء في الإنابة والتوبة، وانظر لو أن طبيبًا نصرانيًا نهاك عن شرب الماءِ البارد لأجل مَرضِ في جَسَدِك لأطعتَه في ترك ما نهاك عنه، وأنتَ تعلم أن الطبيب قد يَصْدُق وقد يكذب وقد يُصْيبُ وقد يخُطئ وقد يَنصَحُ وقد يَغشُ، فما بالك لا تترك ما نهاك عنه أنصحُ الناصحين وأصدق القائلين وأوفى الواعدين لأَجْلِ مَرَضِ القلب الذي إذا لم تشفَ منه فأنتَ من أهْلَكِ الهالكين. تَبْغِيْ الوُصُولَ بسَيْرَ فيه تَقْصِيْرُ ... لاَ شَكَّ أنَّكَ فِيْما رُمْت مغْرُوْرُ قَدْ سَار قَبْلَكَ أَبْطَالٌ فَمَا وَصِلُواْ ... هَذا وفي سَيْرهَمْ جِدٌ وَتَشْمِيْرُ يا مُدَّعِي الحُبَّ في شَرْعِ الغَرامِ وَقَدْ ... أَقَامَ بَيَّنَةً لَكِنّهَا زُوْرُ أَفْنَيْتَ عُمْرَكَ في لَهْوٍ وفي لَعِبٍ ... هَذَا وَأَنْتَ بَعْيدُ الدَّارِ مَهْجُوْرُ لَوْ كَانَ قَلْبُكَ حَيًا ذُبْتَ مِنْ كَمَدٍ ... مَا لِلْجرَاح بَجِسْمِ المَيْتِ تَأْثِيْرُ اللَّهُمَّ إنَّا نَسْألُكَ نَفْسًا مُطْمئنةً تُؤمِنُ بِلقَائِكَ وَتَرضَى بقَضَائك، اللَّهُمَّ إنا نَسأَلُكَ باسْمِكَ الطاهِرِ الطَّيبِ المُبَارَكِ الأحَبِّ إليك الذي إذا دُعِيتَ به أَجَبْتَ، وإذا سُئِلْتَ به أعْطَيْتَ، وإذا اسْتُرْحِمْتَ به رَحِمْتَ، وإذا استفرجْتَ به فَرَّجَتْ أَنْ تَغْفِرَ سَيئاتنا وتُبدلها لنا بِحَسَنات يَا أَرْحَم الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (1) موعظة كَتَبَ عَليُّ بنُ أبي طالبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلى وَلَدِهِ الحُسَيْن مِنْ عبدِ اللهِ

عَليٍّ أمِير المؤمنينَ الوَالِدِ الْفَانِي الذَّامِّ للدُّنْيَا السَّاكِن مَسَاكِنَ الْمَوْتَى، إِلى الْوَلَدِ الْمُؤمِّلِ مَا لا يُدْرَكُ السَّالِكِ سَبِيلَ مَنْ قَدْ هَلَكَ، عُرْضَةُ الأَسْقَامِ وَرَهِينَةُ الأيامِ وأَسِير الْمَنَايَا وَقَرِينُ الرَّزَايَا وَصَرِيعُ الشَّهَوَاتِ وَنُصُب الآفاتِ وَخَلِيفَةُ الأَمْوَاتِ. يا بُنيَّ إِنْ بَقيْتُ أو فَنِيْتُ فإني أُوصِيكَ بِتَقْوى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعِمَارَةِ قَلْبِكَ بِذِكْرِهِ والاعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ فإنَّ الله يَقُولُ: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ} الآية وأيُّ سَبَبٍ يا بُنَيَّ أَوْثَقُ مِنَ سَبَبٍ بَيْنَكَ وَبيْنَ اللهِ عزَّ وجلّ. أَحْيي قلبَكَ بالمَوْعِظَةِ وَنَوِّرْهُ بالحِكْمَةِ وَقَوِّهِ بالزُهْدِ وَذَلِّلْهُ بالَمْوتِ وَقرّرْهُ بالفَنَاءِ وَحَذِّرْهُ صَوْلةَ الدَهْر وَتَقَلُّبَ اللَيَالي. واعْرضْ عليهِ أَخْبَارَ الماضِينَ وَسِرْ في دِيارهِمْ وآثارِهْمْ فانظُرْ مَا فَعَلُوا وأيْنَ حَلُّوا فَإَنَكَ تَجِدُهُم قَدِ انْتَقَلُوا مِنْ دَارِ الغُرورِ وَنَزَلُوا دارَ الغُرْبَةِ. شِعْرًا: سَلِ الأَيَّامَ مَا فَعَلَتْ بِكِسْرى ... وقَيْصَرَ والقُصُورَ وَسَاكِنيْهَا أما اسْتَدَعَتْهُم لِلْمُوتِ طُرًا ... فَلَمْ تَدَعِ الحَلِيمَ ولا السَّفيهَا دَنَتْ نحَو الدَّني بسَهْمِ خطْبٍ ... فأصْمَتْهُ ولَمْ تدَعِ الوَجِيهَا أَما لَوْ بِيعَتِ الدُّنْيَا بِفِلْسٍ ... أنِفْتُ لِعَاقِلٍ أَنْ يَشْتَرِيهَا وكأَنك عنْ قَليلٍ يا بُنيَ قد صِرْتَ كأحَدِهِمْ فبعْ دُنْيِاكَ بِآخِرَتِِكَ وَلاَ تَبعُ آخِرَتَك بدُنياكَ وَدَع القَوْلَ فِيمَا لا تَعْرفُ والأمْرَ فِيمَا لا تُكَلَّفُ وَمُرْ بالمعروفِ بِيَدِكَ وَلِسَانِكَ وَكُنْ مِن أَهْلِهِ وأَنْكِرِ المُنْكَرَ بِيَدِكَ وَلِسَانِكَ وَبَايْنْ مَنْ فَعَلَهُ. وَخضْ الغَمَرَاتِ إِلى الحَقِّ وَلاَ تَأخُذْكَ في اللهِ لَوْمَةُ لائِمَ واحْفَظْ

وَصِيَّتي فلا خَيْرَ في عِلْمٍ لا ينفَعُ، واعْلَمُ أنه لا غِنَى بك عن حُسْن الارتِيَادِ مَعَ بَلاغِكَ مِنَ الزادِ. فإنْ أَصبْتَ مِنْ أهلِ الفَاقَة مَنْ يَحْتَمِلُ عَنْكَ زَادَكَ فيُوَافِيكَ بهِ في مَعَادِكَ فاغْتَنِمْهُ فإنَّ أمامَكَ عقبةً كَؤُودًا لا يُجاوزُها إلا أخَفُّ الناسِ حِمْلاً. وَأَجْمِلْ في الطَلَبِ وَأَحْسِنْ في المَكْسَبِ فَرُبَّ طَلَبٍ قدْ جَرَّ إلى حَرْبٍ وإنَّمَا المَحْروبُ مَنْ حُربَ دِينَهُ والمَسلوبُ مَنْ سُلِبَ يَقينَهُ، واعْلَمْ أَنهُ لا غِنَى يَعْدِلُ الجَنةَ ولاَ فقرَ يَعْدِلُ النارَ والسلام عليكَ ورحمةُ الله. وَقال بَعْضُهم: لا غِنَى يَعْدِل رَضِى الله ولا فَقْرَ يَعْدِلُ سَخْطَهُ. قال النَّاظم: وكُنْ بينَ خَوفٍ والرَّجَا عاملاً لِمَا ... تَخَافُ وَلاَ تَقْنَطْ وُثُوقًا بِمَوعِدِ تَذَكَّرْ ذُنوبًا قَدْ مَضَيْن وَتُبْ لَهَا ... وَتُبْ مُطْلقًا مَع فَقْدِ عِلْمِ التَّعَمُّدِ وبادِرْ مَتَابًا قَبْلَ يُغْلَقُ بَابُهُ ... وَتُطوَى على الأعمالِ صُحْفُ التزَوُّدِ فحِينَئِذٍ لا يَنْفَعُ المَرْءَ تَوْبَةٌ ... إذا عَايَنَ الأَمْلاكَ أَوْ غَرْغَرَ الصَّدِي ولا تَجْعَلِ الآمَالَ حِصْنًا فَإِنَّهَا ... سَرَابٌ يَغُرُّ الغافلَ الجاهلَ الصَّدِي فَبَيْنَا هُوْ مُغْتَرًا يُفُاجِئُهُ الرَّدَى ... فَيُصْبحُ نَدْمَانًا يَعَضُّ على اليَدِ وَتَوْبَةُ حقِّ اللهِ يَسْتَغْفرُ الفَتَى ... وَيَندمُ يَنْوِي لا يَعودُ إِلَى الرَّدَي وإِنْ كَانَ مِمَّا يُوجِبُ الْحَدَّ ظَاهِرًا ... فَسِتْرُكَ أَوْلَى مِنْ مُقِرٍّ لِيُحْدِدَ وإِنْ تَابَ مِنْ غَصْبٍ فيُشرَطُ رَدُّهُ ... وَمَعْ عَجْزِهِ يَنْوي مَتَى وَاتَ يَرْدُدِ وَمِنْ حَدِّ قَذْفٍ أَوْ قِصَاصٍ مَتَابُهُ ... بِتَمْكِينِهِ مِنْ نَفْسِهِ مَعَ مَا أَبْتُدِي وَتَحْلِيلُ مَظْلُومٍ مَتَابٌ لِنَادِمٍ ... تَدَارُكُ عُدْوَانِ اللِسَانِ أَوِ اليَدِ لِلَّهِ دَرّ قَومٍ بادَرُوا الأَوْقاتِ، واسْتَدْركُوا الْهَفَوات، فالعَينُ مَشْغُولةٌ بالدَّمْع عن المحرَّماتِ، واللسانُ مَحبوسٌ في سِجْن الصَّمْت عن الهَلَكَاتْ، والكفُّ قد كُفَّتْ بالخوفِ عن الشهوات، والقَدَم قد قُيِّدت بِقَيدِ المحاسبَات.

حث على مبادرة الأوقات وذكر طبقات المغترين

والليلُ لدَيْهِمُ يَجْأَرُونَ فيه بالأصْواتْ، فإذا جَاءَ النهارُ قَطَعُوهُ بمُقَاطَعة اللَّذات، فكَمِ مِن شَهْوَةٍ مَا بَلَغُوهَا حَتَّى الممات. فتيقَّظْ لِلِحَاقِهم مِن هَذِهِ الرَّقَدات، ولا تَطْمَعَنَّ في الخَلاص مَعَ عَدمِ الإخلاص في الطاعات، ولا تُؤَمّلنّ النجاة وأنت مقيمٌ على الموبقات. قال الله جل وعلا: {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وقال: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} . شِعْرًا: أَفْنَيْتَ عًمْرَكَ والذُنُوبُ تَزِيدُ ... والكَاتِبُ المُحْصِي عَلَيْكَ شَهِيدٌ كم قُلْتَ لَسْتُ بِعَائِدٍ في سَوْءَةً ... وَنَذَرْتَ فيها ثُمَّ تَعُودُ حَتَّى مَتَى لا تَرْعَوِي عَنْ لَذَّةٍ ... وحِسَابُهَا يومَ الحِسَابِ شَدِيدُ وَكَأَنَّنِي بِكَ قَدْ أَتَتْكَ مَنِيِّةٌ ... لا شَكَ أَنَّ سَبِيلِهَا مَوْرُودُ شِعْرًا: أَخِي قَدْ طَالَ لبثُكَ فِي الفَسَاد ... وَبِئْسَ الزَّادُ زَادُكَ لَلْمَعَادِ صَبَِا مِنْكَ الفُؤَادُ فَلَمْ تَزَعْهُ ... وَجِدْتَ إَلَى مُتَابَعَةِ الفُؤَادِ وقادَتْكَ المَعَاصَي حَيْثُ شَاءَتْ ... وَأَلْفَتْكَ امْرَءًا سَلِسَ القِيادِ لَقَدْ نُودِيتَ لِلتِّرْحَالَ فاسْمَعْ ... ولا تَتَصامَمَنَّ عن المُنَادِي كَفَاكَ مَشِيبُ رأسِكَ مِنْ نَذِيرٍ ... وَغالَبَ لَونُهُ لَوْنَ السَّوَادِ اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْهَا عَلى قَوْلِكَ الثَّابِتْ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وفي الآخِرةِ، واجْعَلْنَا هُدَاة مُهْتَدينَ وَتَوفَّنَا مُسْلِمينَ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ. اللَّهُمَّ اجْعَلْ إِيمَانِنا بِكَ عَمِيقًا وسَهِّلْ لَنَا إِلَى مَا يُرْضِيكَ طَرِيقًا وَالطَفْ بِنَا يَا مَوْلاَنَا وَوَفِقْنَا لِلْبَاقِياتِ الصَّالِحَاتِ تَوْفِيقًا، واغفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى وَآلِهِ وصَحْبِهِ. (فَصْلٌ) فِيمَا يَنْبَغِي التَّنْبِِيهُ عَلَيْه والتحذير مِن ارتِكَابِهِ قال ابنُ الجوزي رحمه الله: المسلمون المُغترّون طبقاتٌ:

الطبقةُ الأولى: (طَبَقَةُ العُلُمَاءِ) : وَهُمْ قَوْمٌ أَحْكَمُوا العِلْم وَتَركُوا العملَ بِهِ ظنًا منهُم أنَّهُمْ قد حَفِظُوا الشريعَة فَلَهُم عِندَ اللهِ قَدْرٌ، ولو حَقَّقُوا النَّظَرَ، لَعِلمُوا أنَّ العِلْم لا يُرادُ إلا لِلْعَمَلِ وكأنّهم يَزِيدُونَ مِنَ الحُجَّةِ عليهِم. ومنهم قومٌ أحْكموا العِلْمِ والعَمَلَ إِلا أنَهُمْ لم يُصْلِحُوا الصِّفَاتِ البَاطِنَة المَذْمُومَةَ مِنَ الكِبْرِ والحَسَدِ والرِّياءِ ولَمْ يَدْرُوا أنَّ هَذِهِ شُعَلٌ تَعْمَلُ في بَيْتِ القَلبِ فَتُحْرِقُ بَوَاطِنَ الْمَعْرِفَةِ. قُلْتُ: وَهؤلاءِ كَمَريضٍ ظَهَرَ بهِ جُرُوحٌ أَصْلُها في البَاطِن فأمَرَ الطَّبِيبُ مَنْ بهِ ذلكَ أنْ يَغْسِلَ الظَّاهرَ بدَوَاءٍ وأمَرَهُ بشُرْب دَوَاءٍ آخَرَ لِمَا نَشَأَ عنه الظاهرُ فاسْتَعْمَل ما لِلَّظاهِرِ وَتَرَك ما لِلْبَاطِنِ فأزال مؤقتًا ما بظاهِرِه وَأَمَّا مَا في بِاطِنِهِ فِعَلَى حَالِهِ. فَلَوْ شَرِبَ ما لِلْبَاطِنِ مِنَ الدَّوَاءِ بَرِئَ الظاهرُ إذا أَرَادَ اللهُ واسْتراحَ ظَاهرُهُ وبَاطنُه، فكذلك الذنوبُ والمعاصِي إذا اخْتَفَتْ في القلبِ ظهرَ أثرُها على جَوَارِحِ الإنسانِ. ومِن العُلَمَاءِ قومٌ سَلِمُوا مِنْ هذِهِ الآفاتِ، لَكِنَّهم في خِدْمةِ الهَوَى مِنْ حيثُ لا يعلمون فهم يُصَنِّفون وَيَتَكَلَّمُون ومُرادُهم ذِكْرُهم بذلكَ وَمَدْحُهم وَكَثَرَةُ إتباعِهِم وهذهِ الآفةُ مِن خَبَايَا النفوسِ لا يَفْطِنُ لها إلا الأكياسُ مِن الناسِ. الطبقة الثانية: (طبقةُ العُبَّاد) : فمنهم مَن حققوا التَّعبُّد إلا أنه يَرى نفسَهُ فهو مَغرورٌ بذلكَ، ومنهم: مَن ترَكَ كثيرًا مِنَ الفَرائضِ شُغْلاً بالنَّوافِلِ فَمِنْهُمْ مِنْ يُدْرِكُهُ الوَسْواسُ في نِيَّةِ الصلاةِ ثم يَتْرُكُ قَلْبَه في باقِيها يَسْرَحُ في الغَفَلاتِ. وَمنهم: مَن يُكْثِرُ التِلاَوَةَ ولا يعملُ بما يَتْلو، ومنهم مَنْ يصومُ ولا يتحفَّظُ

مِنْ غَيْبتِهِ، وَمِنْهُمْ: مَنْ يخرجُ إلى الحجِّ ولا يخرجُ من المظالمِ، ولا يَنْظُرُ في نَفَقَتِهِ، ومنهم: مَنْ يجاورُ بمكةَ وَيَنْسى الحُرمَة، ومنهم: مَنْ يأمرُ بالمعروفِ وَيَنْسَى نفسَه. قلتُ: وأهلَه وأولاَدَهُ. ومنهم: مَنْ يَزْهَدُ في المالِ وهو راغبٌ في الرياسةِ بالزُهْدِ. ومنهم: مَنْ يتخلقُ بأخلاقِ الفقراء فِي صُوَرِ ثيابهِمْ وَمُرَقَّعَاتِهِمْ وَيَتْرُك أخلاقَهُم الباطِنَة، فيشبعُ من الشهواتِ، وينامُ الليلَ ولا يعرفُ واجباتِ الشرْع. قلتُ: وهؤلاءِ غرورُهم عظِيمٌ كما قال بعضُ العلماءِ لأنهمْ يظنون أنهم يُحبون في اللهِ ورسولهِ وما قَدروا على تحقيق دقائق الإخلاصِ إلا وهم مُخلِصون، ولا وَقَفوا على خبايا النفس إلا وهم مُنَزَّهون، وهم أَحَبُّ في الدنيا مِنْ كل أحد وَيُظهرون الزُّهدَ في الدنيا لِشِدَّةِ حِرصِهِم عليها وَقوةِ رغبتهمْ فيها. قال بعضهم فيمن يُظْهِرُ الزهدَ في الدنيا وهو حريصٌ عليها: أَظْهَرُوا لِلنَّاسِ زُهْدًا ... وعلى الدِّينَار دَارُوا وَله صَلُّوا وصَامُوا ... وله حَجُوا وزَارُوا لَو يُرى فَوْقَ الثُريَّا ... وَلَهُمُ رِيشٌ لَطَارُوا يَحُثُّون على الإخلاصِ وهُمْ غيرُ مخلصينَ وَيُظْهرونَ الدُعاءَ إلى اللهِ وَهُمْ منه فارُّونَ، وَيُخَّوِّفُونَ باللهِ وهُمْ آمِنون. ويذُكِّرون باللهِ وهُمْ له ناسُون، ويحُثُّون على التمسكِ بالسنةِ بالدقيقِ والجليلِ وهم لها نابِذُون وَيَذمّون الصفاتِ المذمومةَ وهُمْ بها مُتَّصِفونَ، وكأنه لمْ يَطرُقْ أسمْاعَهُمْ قولُهُ تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} . وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} . وقولُهُ تعالى حكايةً عمَّا قال شُعيبُ:

{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} وَوَرَدَ عن ابنِ عباسٍ: أنه جاءه رجلٌ فقال: إني أُريد أن آمُرَ بالمعروفِ وأنهَى عن المُنْكَر. قال: أبَلَغْتَ ذلك؟ قال: أرجو. قال: إنْ لَمْ تَخشَ أن تَفْتَضِحَ بثلاثِ آياتٍ من كتابِ اللهِ فافْعَلْ. يشيرُ ابنُ عباس إلى الآياتِ المتقدمةِ. الطبقةُ الثالِثةُ: (أَرْبابُ الأموالِ) فَمِنْهم: قومٌ يَحْرِصِونَ على بناءِ المساجدِ والْمدَارسِ ويَكْتُبونَ أَسْمَاءَهُم عليها لِتَخْلِيدِ ذِكْرهِمْ وَمَنْ أرادَ وجهَ اللهِ لَمْ يُبالِ بِذْكر الخَلْقِ وهؤلاء قَال بعضُ العلماءِ: إنهم اغْتَرُّوا مِن وَجْهَيْن: أَحَدُهُما: أنَّهم اكْتَسَبوها مِنَ الظُلْمِ والشُبُهاتِ والرُشَاءِ والجِهَاتِ المَحْظُورةِ، فهؤلاءِ تَعَرَّضُوا لِسَخَطِ اللهِ في كَسْبِها فإذا عَصَوُا اللهَ في كَسْبِها فالواجبُ عليهمْ التَوْبةُ وَرَدُّ الأموالِ إلى أربابها إنْ كانُوا أحْيَاءً، وإلى وَرَثَتِهِمْ إنْ كانُوا أَمْوَاتًا، وإنْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ وَرَثَةٌ فالواجِبُ عليهمْ أنْ يَصْرِفُوها في أهمِّ المَصَالِحِ وَرُبما يكُونُ الأهَمُّ تَفْرِقَتَها على المساكينِ. والوجهُ الثاني: أنَّهمُ يَظُنُونَ بأنفُسِهِمْ الإِخْلاصَ وَقَصْدَ الخَيرِ في الإنفاقِ وعُلوِّ الأبْنِيَة. ولو كُلِّفَ واحدٌ منهم أنْ يُنْفِقَ دِينارًا على مِسكينٍ لم تَسْمَحْ َنْفُسُه بذلك، لأنَّ حُبَّ المدْحِ والثناءِ مُسْتَكِنٌّ في باطِنِهِ. ومنهُمْ: قَومٌ يَتَصَدَّقُونََ ولكنْ في المَحَافِلِ وَيُعطُون مَنْ عادتُهُ الشُكرُ وإفشاءُ المعروفِ. ومنهُمْ: مَنْ يُكْثِرُ الحَجَّ وَرُبما تركَ جِيرانَهُ جياعًا. ومنهم: قومٌ يَجْمَعُون المالِ وَيَبخَلونَ بإخراجِهِ، ثم يَشْتَغِلُونَ بالعَباداتِ البَدَنِيَّةِ التي لا تحتاجُ إلى نفقةٍ كالصيامِ والصلاةِ، ولا يَدْرونَ أَنَّ جِهادَ النفسِ في البخلِ المُهلِكِ أوْلى. شِعْرًا: لَقَدْ خَابَ مَنْ غَرَّتْهُ دُنْيًا دَنِيَّةٌ ... وما هِيَ أنْ غرَّتْ قُرُونًا باطَائِلِ

أَتَتْنَا عَلى زِيِّ العَزيزِ بِثَينَةٍ ... وَزِينَتِهَا فِي مِثْلِ تِلْكَ الشَّمَائِلِ فَقُلْتُ لَهَا غُرِي سِوَايَ فإِنَّنِي ... عَزوفٌ عن الدُّنْيَا وَلسْتُ بِجَاهِل وَهَبْها أَتَتْنا بالكُنوزِ وَدُرِّهَا ... وأَمْوَالِ قَارُونٍ وَمُلْكِ القَبائِل أَليْسَ جَمِيعًا لِلفَنَاءِ مَصِيرُهَا ... وَيُطْلبُ مِنْ خُزَّانِها بالطَّوائِلِ فَغُرِّي سِوايَ إِنَّنِي غَْيُر رَاغِبٍ ... لِمَا فِيكِ مِنْ غِرٍ وَمُلْكٍ ونائِلِ وَقَدْ قَنِعَتْ نَفْسي بِمَا قد رُزِقْتُهُ ... فَشَأْنِكِ يا دُنْيَا وأَهْلَ الغَوَائِلِ فإِنّي أَخَافُ اللهُ يَوْم لِقَائِهِ ... وأَخْشَى عِقَابًا دَائِمًا َغَيْرَ زَائِل اللَّهُمَّ نَجّنا برحمتِكَ مِن النارِ وعافِنا من دار الخِزْيَ والبَوَار، وَأَدْخِلنا بفَضْلِكَ الجنةَ دارَ القَرار وعامِلْنَا بكَرَمِكَ وَجودِكَ يا كَرِيمُ يا غَفارُ. اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ في قُلُوبِنَا وَقوِّهَا وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُور الإيمانِ واجعلنا هُداةً مُهْتَدِين وآتِنا في الدُّنيا حَسَنَةً وفي الآخِرِةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النارِ واغْفِرْ لَنَا ولوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (2) موعظة: اعلم يا بُنَيَّ وَفَّقَكَ اللهُ لِلصَّواب أنه لم يتميز الآدمي ُّبالعقل إلا لِيَعْمَل بمُقتضاه، فاسْتَحْضر عَقْلَكَ، وأَعْمِلْ فِكْرَكَ، واخْل بِنَفْسِكَ تَعْلَم بالدليلَ أنكَ مَخْلُوق مُكَلَّف، وأنَّ عليكَ فرائض أنتَ مُطَالبٌ بها. وأن الملكَين يُحْصِيَان أَلفاظَكَ وَنَظَرَاتِكَ، وَأنَّ أنفاسَ الحي خُطَاه إلى أَجَلِهِ، وَمِقْدارُ اللُّبثِ في الدنيا قَلِيل، والحبسُ في القُبور طَوِيل، والعذابُ على مُوافَقَة الهَوى وبيل. فأينَ لَذّةُ أَمْس؟! رَحَلَتْ وأَبْقَتْ نَدَمًا، وأينَ شَهْوةُ النفسِ؟ كم نَكَّسَتْ رَأْسًا، وَزَلَّتْ قَدَمًا، وما سَعِدَ مَن سَعِدَ إلا بِخِلاف هَواهُ، ولا شَقِيَ مَن شَقِيَ إلا بإيثار دُنياه.

فاعتبرْ بِمَنْ مَضَى مَن المُلُوكِ والزُهَّادِ، أَيْنَ لَذَّةُ هَؤلاءِ وأَيْنَ تَعَبُ أولئك؟ بَقِيَ الثوابُ الجزيلُ، والذِكرُ الجميلُ لِلصَّالِحينَ، والمقالةُ القَبِيحَةُ والعقابُ الوبيلُ لِلعاصِين. وكَأَنَّه ما جَاعَ مَن جَاعَ وَلا شَبعَ مَن شَبعَ، واعْلَمْ أنَّ الكَسَلَ عن الفضائِل بِئسَ الرَّفِيقِ، وحب الراحة يورث من الندم ما يربو على كل لذة، فانتبه واتعب لنفسك. واعلم أَنَّ طَلَبَ الفَضائِل نِهَايَةُ مُرَادِ المُجْتَهِدين، ثم الفضائلُ تَتَفاوتُ، فَمِن الناسِ مَن يَرى الفضائلَ الزُهْدَ في الدنيا، ومنهم مَن يراهَا التَّشَاغُلَ بالتعبدِ، وعلى الحقيقةِ فَليستَ الفضائلُ الكاملةُ إلا الجمع بينَ العلم والعمل. شِعْرًا: حَيَاةُ الفَتَى والله بالعلِمِ والتّقُىَ ... إذَا لَمْ يَكُونَا لا اعتبارَ لِذَاتِهِ وَمَنْ لَمْ يَذُقْ ذلَّ التَّعَلُم سَاعَة ... تَجَرَّع كَأْسَ الذُّلِ طُولَ حَيَاتِهِ فوائِدْ: مِنْ حِكَمِ أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه: العلم خير من المال، العلمَ يَحرسك وأنت تَحرس المال، المال تنقصه النفقة والعلم يَزكُو على الإنفاق، بالعلم يَكسِبُ الإنسانُ الطاعةَ في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته، العلم حاكم والمال محكوم عليه. فإذا حصلا رفعا صاحبهما إلى تحقيق معرفة الخالق سبحانه وتعالى، وحركاه إلى محبته وخشيته والشوق إليه، فتلك الغاية المقصودة، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم، وليس كل ما يريد مرادًا ولا كل طالب وَاجِدًا، ولكن على العبد الاجتهاد وكل ميسر لما خلق له والله المستعان. يَا خَالِقِي عبدُكَ الخاطِي الحَزينُ لَقَدْ ... أتاكَ مُنْكَسِرًا فاجْبُرْ لِمُنْكَسِرِ مُسِتَغْفِرًا مِن ذُنُوبٍ لاَ عِدَادَ لَهَا ... بِعَفْوِكَ الجمّ يَا رَحْمَنُ لا تَذَرِ فلاَ تَدَعْني مَلِيكَ العَرْش مُطَّرحًا ... بَينَ النَّوَائِب والأسْدَامِ والغِيرَ

حَسْبِي لَدَىَ المُوبِقَاتِ الصُّمِ أَنْتَ فَلاَ ... نَرجُو سِواكَ لِنَيْلِ السُؤْلِ والوَطَر عَليكَ يا ذا العَطَا والمنِ مُعْتَمَدِي ... في كُلِّ خَطبٍ أتَى بالغَيْرِ والضَّرَرِ فَاغْفِرْ وَأَكْرِمْ عُبَيْدًا مَالَهُ عَمَلٌ ... من الصَّوالح يا رَحْمنُ في العُمُرِ لَكِنَّهُ تَائِبٌ ممَّا جَنَاهُ فَقَدْ ... أَتَاكَ مُسْتَغْفِرًا يَخْشَى مِن السَّقَرِ فإِن رَحِمْتَ على مَنْ جَاء مُفْتَقِرًا ... فأنْتَ أهْل به يا ربِّ فاغْتَفِرِ وإنْ تُعَذِّبْ فإني أَهْلُ ذاكَ وذا ... عَدْلٌ قَوِيم بلا لَوْمٍ ولا نُكُرِ ثم الصلاةُ على خَير الخليقةِ مَن ... كَفَاهُ مُعْجِزَةً الشقُ في القَمَرِ وآلهِ الطيبينَ الطُهْرِ قَاطَبِةٍ ... وَصَحبهِ المُكْرَمِينَ السَّادَةِ الغُرَرِ مَا هَبِّتِ الريحُ واهْتَزَ النباتُ بِها ... وما تَغَنَّتْ حَمَامُ الأَيْكِ فِي السَّحَرِ فائدة: قال أَحَدُ العُلَمَاءِ رَأَيْتُ كَثِيرًا مَا يُزَيَّنُ لِطَالِبِ العِلْمِ أّيَّامَ الاخْتِبَارِ قِرَأَةُ مَا لَيْسَ مُطَالِبًا بِهِ في الاخْتِبَارِ، وَهَذَا مِنْ مَرَضِ النَّفْسِ وَتَسْوِيلِ الشَّيطَانِ تَضْعِيفًا لِلْهِمَّةِ والنَّشَاطْ، فإِنَّ العِلْمَ المُطَالِبَ بِهِ فِيه تَكْلِيفٌ وَإِلزَامَ وَتحمُّلٌ وَأَدَاء، فَهْوَ ثَقِيلَ عَلَى النَّفْسِ الوَانِيَةِ، والعِلْمُ الذِي لَمْ يُطَالَبْ بِهِ لاِ تِكْلِيفَ بِهِ فَهوَ خَفِيفٌ عَلَى النَّفْسِ وَهَذَا مِن هَوَى النَّفْسِ وَسَرِقَةِ الشَّيْطَانِ لَهُ لأَنَّهُ اِنْحرَاف عن الصَّوابِ النافِع. اللَّهُمَّ أعْطِنا من الْخَيْرِ فَوقَ ما نَرْجُو، واصْرِفْ عنَّا مِن السُّوءِ فَوقَ ما نَحْذَرُ. اللَّهُمَّ عَلِّقْ قُلُوبَنَا بِرَجائِكَ واقْطَعْ رَجَاءَنَا عَمَّنْ سِوَاكَ اللَّهُمَّ إنَّكَ تَعْلَمُ عُيُوبَنَا فاسْتُرْهَا وتَعْلَمَ حَاجَاتِنَا فَاقْضِهَا كَفَى بِكَ وليًّا وكَفَى بِكَ نَصِيرًا يا رَبَّ العالمينَ. اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِسُلُوكِ سَبِيلِ عِبَادِكَ الأَخْيارِ واغْفِرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْياءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمتكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحمِّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. الفصل الثامن: الطبقةُ الرابعةُ طبقةُ العَوامّ وغُرورُهُمْ ِمْن وُجوهٍ: فمنهم: مَنْ يُصَلِّي كَيْفَمَا اتَّفَقَ ولا يَسْأَلُ عَمَّا يُصْلِحُ الصلاة وما يُفسِدُهُا. ومنهم مَنِ

يُواظِبُ على النوافِل كالتراويحِ، ولا تكادُ تَجِدْهُ في صلاةِ الجَماعةِ، ومنهم: مَنْ يلازِمُ مَجَالِسَ الوَعْظِ ولا يَعْمَلُ بِمَا يَسْمَعُ ولا يَنْتَهِي عَنْ قَبيحِ ما يَأْتي، كأَنَّ المقصودَ الحُضُورُ فقطْ. قُلْتُ: لأنّ مَجَالسَ الذِكْرِ والإرْشادِ إنّما تُفيدُ لِكَوْنِهَا مُرَغِّبَةً في الخَيْرِ وباعِثةً في الغالِبِ عليه فإنَّ لَمْ يَنْشَأُ عنها ذَلِكَ فلا خيرَ فيها وصِفةُ هؤلاءِ كما قال بعضُ العُلماءِ: كمِثْلِ مريض يَحْضُرُ مَجَالِسَ الأطباءِ وَيَسْمَعُ مِنهم ما يَصِفونَهُ مِن الأدويةِ ولا يَفْعَلُها ولاَ يَشْتَغِلُ بها فأيُّ فائِدةٍ يَحْصُلَ عَليها. فكُل وَعْظٍ لا يُغيّرُ مِنكَ صِفةً تَتَغَيَّرُ بِها أفعالُك حتى تُقْبِلَ على اللهِ عزَّ وجَلَّ وَتُعْرِضُ عن الدُّنْيَا وَتُقْبِلُ إِقْبالاً قويًّا، فإِنْ لَمْ تَفْعلْ فذلكَ كان زيادَة حُجةٍ عليكَ، وهذا غُرورٌ عظيمٌ. ومنهم: مَنْ يَتَنَفَّلُ بالعباداتِ وَيُهْمِلُ الفرائضَ. ومنهم: مَنْ يَتَطَّوعُ بالخيرِ وَيُكثرُ التسبيحَ معَ معامَلَتِهِ بالرِّبا واسْتِعْمَالِ الغِشِّ، وَرُبَما صاحَ على وَالِدَيهِ وَأَخذَ أَعْراضَ الناسِ، وَجُمهورُ الناسِ قد اتَّكَلوا على العفْو والحلمِ فهُمْ مُصِرّون على ذُنوبٍ وخطايا فإذا ذَكَرْت لهمُ العُقوبَةَ قالُوا: هو كريمٌ وَينْسَوْنَ أنه شَدِيدُ العِقابِ، ومنهم: أقوامٌ يَسْتَعْجِلُون المعصيةَ مُوَافقةً لِلْهَوى وَيُضْمِرون أننا سَنَتُوبُ وَيُسَوِّفُونَ بالتوبةِ، ومِنَ العُصاةِ مَنْ يَغْتَرُّ بِفِعْلِ خيرٍ فربما تَصَدّقَ أوْ سبَّحَ وَظَنَّ أَنَّ هذا يُقاوَمُ ذُنوبَهُ. وَيَنْسَى مَا حَصَلَ مِنه مِنَ الغِيبَةِ والكَذِبِ والرِّياءِ وغيرِ ذلكَ مِن المعاصِي التي تَقْضِي على الحَسَنَاتِ التي أمثالُ الجبالِ. ومِنَ المغترِّين مَنْ َيغرُّهُ صلاحُ آبائِهِ وربما قال: أبِي يَشْفَعُ لي ولا يَدْري أنَّ أباه فُضِّل بالتقوَى وكان مَعَ التَّقْوى خائفًا؟ ومِنْ أينَ له أن يَشْفَعَ

لَهُ، أو مَا سَمِعَ قوله تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} . ولَمْ يعلمْ أنَّ نوحًا عليهِ السلامُ أرادَ أنْ يَحْمِلَ ابْنَهُ مَعَهُ في السفينةِ فَمُنِعَ منْ ذلكَ وَأغرَقَ اللهُ ابَنَهُ مَعَ المُغرَقِينَ. وفي الحديث الصحيحِ أنَّ رسولَ اللهَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: «يا فاطمَةُ لا أُغْنِي عنكِ مِنَ اللهِ شيئًا» . فالعاقلُ مَنْ عَمِلَ على الحِرْصِ وأخَذٍ بالأَحْوَطِ فَمَنْ تأمَّلَ العِلمَ وَتَصَفَّحَهُ وَشاوَرَ العقلَ دَلّهُ على الحزْمِ فَسَلِمَ مِنَ الاغْتِرَارِ. واللهُ الموفِّقُ. وطبقةٌ أخرى أَكَبُّوا على تِلاوةِ كِتابِ اللهِ وَتَرَكُوا تَدَبُّرَهُ والعملَ بهِ، وَرُبما خَتَموه في يَومٍ وَليلةٍ بِألْسِنَتِهِمْ، أما قلوبُهُمْ فهي في أوديةِ الدنيا تَردَّدُ، ولا تَتَفَكَّر في معاني القرآنِ لِتَنْزجِرَ بزواجرِه وَتتعظَ بمواعِظِهِ وتقِفَ عندَ أوامِرِه ونَواهِيه وَتَعْتَبِرَ بمواضِعِ الاعْتبارِ. فَمَنْ قَرَأَ كتابًا عِدَّة مرَاتٍ وَتَركَ العَمَلَ بهِ يُخْشَى عَليهِ مِن العُقُوبَةِ. وَطَبَقَةٌ اغْتَرُّوا وَأَكْثرُوا الصِّيامَ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لا يَحْفَظُونَ ألْسِنَتَهُمْ عن الغِيبَةِ والنميمةِ والكذِبِ والتمَلُّقِ عندَ الفُسَّاقِ وأعْدَاءِ الدِينِ وَلا يَعْرِفُونَ الوَلاءَ والبَراءَ ولا يَحْفَظُونَ بُطُونَهُمْ عن الْحَرامِ وَلا أَعْيُنَهُم عن النَّظَر المُحَرَّمِ وَلا أسْمَاعَهُم عنِ الملاهِي والمُنكَراتِ وَلاَ يَقُومُونَ عَلى أَولادِهِمْ وَيَأْمُرُونهم. وطبقةٌ أخْرَى أَكثَرتْ مِنْ نَوافِلِ الحَجِّ مِنْ غَيرِ خُرُوجٍ مِنَ الْمَظَالِمِ وَقَضَاءِ الدُيُونِ، واسْتِرْضَاءِ الوَالِدَيْن وَلا طَلَبُوا لِذلِكَ الزَّادَ الحلاَلَ، وَرُبَّمَا ضَيَّعُوا صَلاَة الجَمَاعَةِ أو الصَّلاَةِ المكتُوبَةَ، وَرُبَّمَا كانُوا لا يُبالُونَ بالنَّجَاسَاتِ، وَرُبَّمَا كان نَفَقَةُ أَحَدِهِمْ حَرَامًا كُلَّه َهوَ وَرُفَقَاؤُهُ، وَرُبَّمَا كانَ

مُرَائِيًا في إنْفَاقِهِ فَيَعْصِي اللهَ في كَسْبِ الحرَامِ أولاً وفي إنفاقِهِ لِلرّياءِ ثانيًا. نَعُوذُ باللهِ من الغُرورِ. وفِرقةٌ أخذَتْ في طَرِيقِ الأَمِر بالمَعْرُوفِ وإرْشادِ الخَلْقِ وأنكَرُوا على الناسِ وتَركُوا أَنْفُسَهُم وَأوْلادَهُم وَمَنْ يَخْشَوْنَهم أو يَرجُونهم. وَفِرْقَةٌ أُخرى غَلَبَ عليها البُخلُ فلا تَسْمَحُ نُفوسُهم بأداءِ الزكاةِ كَامِلةً مُكَمّلةً يُخْرِجُ مِقدارَ رُبْعِهَا فقط وَيَتَأولُ الباقِي وَيَعِدُ أنه إذا وَجَدَ فقيرًا أعطاهُ وَيَرى أنَّ ما يدفُعهُ إذا تقدَّم فقيرٌ في بعضِ الأيامِ وأعطاهُ كافيًا ورُبما كانتْ زكاتُهُ عدَدَ أيامِ السنةِ مئاتٍ مِنَ الريالات نعوذُ بالله من الغُرورِ. قُلْتُ: ومنهم مَن يَدفعُ زكاتَه إلى مَن يَخْدِمه أَوْ يَخْدِم أَهْلَه وهذا خَطَأ فانْتِبهْ ونَبِّهْ فإنَّ هذا العَملَ وقَايَةً لِمَالِهِ وَلَيْسَ زَكَاةَ وَلا يَخْفَى إلا عَلَى مَنْ عَمِيَتْ بَصِيرَتَهُ وَغَلَبَ عَلَيْهِ البُخْلُ والشُحُ. اللَّهُمَّ أَنظِمْنا في سِلكِ حِزبِكَ المُفلِحِين، واجْعلنا مِنْ عبادِكَ المُخْلِصين وآمِنَّا يومَ الفَزَع الأكَبرِ يومَ الدِين، واحْشُرْنَا مَعَ الذين أَنْعَمْتَ عَليهَم مِنَ النَبيين والصِّدِّيقين والشُهداء والصالحينِ واغْفِرْ لَنَا، وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحياءِ منهمْ والميتينَ بِرَحْمَتِكَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِِ أَجْمَعِينَ. شِعْرًا: الموتُ في كُلِّ حِينٍ يَنْشُرُ الْكَفَنَا ... ونَحْنُ في غَفْلَةٍ عما يُرَادُ بِنَا لا تَطْمَئِنَّ إلى الدُّنْيَا وَبَهْجتها ... وإنْ تَوَشَّحْتَ مِنْ أَثْوَابِهَا الحَسَنَا أَيْنَ الأَحِبَّةُ والجِيرانُ ما فَعلُوا ... أينَ الذين هُمُ كانُوا لَنَا سَكَنَا سَقَاهُم الموتُ كأسًا غَيْرَ صَافِيَةً ... فَصَيَّرَتْهُمْ لأطْبَاقِ الثَّرَى رُهُنَا تَبْكِي المَنَازِلُ مِنْهُمْ كُلَّ مُنْسَجِمٍ ... بالمَكْرُمَاتِ وتَرْثِي البِرَّ والمِنَنَا حَسْبُ الحِمَام لَو أَبْقاهُمْ وأَمْهَلَهُمْ ... أَلا يَظُنُّ عَلَى مَعْلُومِهِ حسَنَا اللَّهُمَّ أظِلنَا تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِكَ يَوْمَ لا ظِلّ إلا ظِلَّكَ وَلا بَاقٍ إلا وَجْهُكَ

وَاسْقِنا مِنْ حَوْضِ نَبيّك شرْبةَ هَنيئَةً لا نَظْمَأً بَعْدَهَا أَبَدًا حَتَّى نَدْخُلَ الجَنَّةْ، اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكْرِكِ وَشُكْرِكَ وَوَفِقْنَا لِمَا وَفّقْتَ لَهُ الصّالِحِينَ مِنْ خَلْقِكَ، واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. موعظة: خطب عمرُ بنُ عبدِ العزيز آخرَ خطبةٍ خَطَبَهَا فَقَالَ فيهَا: أمَا بَعدُ: (إنكمْ لمْ تُخلقوا عَبَثًا، ولَنْ تُتْرَكُوا سُدَى، وإنَّ لَكُمْ مَعَادًا ينزلُ اللهُ فيهِ للفَصْلِ بينَ عبادِهِ، فقدْ خابَ وخسِرَ مَنْ خَرَجَ مِنْ رحمةِ اللهِ التي وَسِعَتْ كُلَّ شَيء وَحُرِمَ جَنَّةً عَرْضُهَا السَّمَاوَاتِ وَالأرضُ، أَلا تَرَوْنَ أَنَّكُمْ في أَسْلابِ الهَالِكِينَ، وَسَيَرِثُهَا بَعْدَكُمْ البَاقُونَ كَذَلِكَ حَتَّى تُرَدُّ إِلَى خَيْرِ الوَارِثِينَ، وَفي كُلِّ يَوْمٍ تَشَيِّعُونَ غَادِيًا وَرَائِحًا إِلَى اللهِ قَضَى نَحْبَهُ وَانْقَضَى أَجَلُهُ فَتَدَعُونَهُ في صَدْعٍ مِن الأَرْضِ غَيْرَ مُوَسَّدٍ وَلاَ مُمَهَّدٍ، قَدْ خَلَعَ الأَسْبَابَ، وَفَارَقَ الأَحْبَابَ، وَسَكَنَ التُرَابَ، وَوَاجَهَ الحِسَابَ، غَنِيَا عَمَّا خَلَفْ، فَقِيرًا إَلَى مَا أَسْلَفَ، فَاتَّقُوا اللهَ قَبْلَ نُزُولِ المَوْتِ وَانْقِضَاءََ مَوَاقِيتِهِ، وَإِنِّي لأََقُولُ لَكُمْ هَذِِهِ الْمَقَالَةَ وَمَا أَعْلَمُ عِنْدَ أََحَدٍ مِنَ الذُّنُوبِ أَكْثَرُ مِمَّا أَعْلَمُ عِنْدِِي، وَلَكِنْ أَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، ثُمَّ رَفَعَ طَرَفَ رِدَائِهِ وَبَكَى حَتَّى شَهَقَ ثُمَّ نَزَلَ، فَمَا عَادَ إِلَى الْمِنْبَرِ بَعْدَهَا حَتَّى مَاتَ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ. شِعْرًا: وَلَسْتُ أَرَى السَّعَادَةَ جَمْعَ مَالٍ ... وَلكِنَّ الْتَّقِيَّ هُوَ السَّعِيدُ وَتَقْوَى اللهُ خَيْرِ الزَّادِ ذِخْرًا ... وَعِنْدَ اللهَ لِلأتْقَى مَزِيدُ وَمَا لاَبُدَّ أَنْ يَأْتَي قَرْيبٌ ... وَلَكِنَّ الذِّي يَمْضَي بَعِيدُ آخر: أَتَبْكِي لِهَذَا الْمَوْتِ أَمْ أَنْتَ عَارْف ... بِمَنْزِلَةٍ تَبْقَى وَفِيها المَتَالِفُ كَأَنَّكَ قَدْ غُيِّبْتَ في اللَحْدِ والثَرَى ... فَتَلْقَى كَمَا لاَقَى القُرونُ السَّوَالِفُ أَرَى الْمَوْتَ قَدْ أَفْنَى القُرون التي مَضَتْ ... فَلَمْ يَبْقَ ذُو أُلْفٍ يَبْقَ آلِفُ

فصل في العلم وفضله ويليه موعظة

كَأَنَّ الفَتَى لَمْ يَغْنَ في الناسِ سَاعَةً ... إذا عُصِبَتْ يَوْمًا عليهَ اللَّفَائِفُ وَقَامَتْ عَلَيهِ عُصْبةٌ يَنْدُبُونَهُ ... فَمُسْتَعْبِرٌ يَبْكِي وَآخَرُ هاتِفُ وَغُودِرَ في لَحْدٍ كَرِيهٍ حُلُولُهُ ... وَتُعْقَدُ مِنْ لِبْنٍ عَلَيْهِ السَّقَائِفُ يَقِلُّ الغنَى عَنْ صاحِبَ اللَّحدِ والثَرَى ... بِمَا ذَرَفَتْ فيهِ العُيُونٌ الذَّوَاِرفُ ومَا مَنْ يَخَافُ الْبَعْثَ والنارَ آمِنٌ ... وَلَكِن حَزِينٌ مُوجِعُ القلبِ خَائِفُ إذا عَنَّ ذِكْرُ الموتِ أَوْجَعَ قَلْبَهُ ... وَهَيَّجَ أَحْزَانًا ذُنُوبٌ سَوَالِفُ اللَّهُمَّ يَا عَظِيمَ الْعَفْو، يَا وَاسِعَ المَغْفِرَةِ يَا قَرٍيبُ الرَّحْمَةِ، يَا ذا الجلالِ والإكرامِ، هَبْ لَنَا العَافِيةَ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. اللَّهُمَّ يَا حَيُّ وَيَا قَيُّوم فَرِّغْنَا لِمَا خَلَقْتَنَا لَهُ، وَلاَ تُشْغِلْنَا بِمَا تكَفَّلْتَ لَنَا بِهِ، واجعلنا مِمَّن يُؤمِنُ بِلقَائِكِ، ويَرْضَى بِقَضَائِكَ، وَيَقْنَعُ بِعَطَائِكْ، وَيَخْشَاكَ حَقَّ خَشْيَتِكْ. اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَنَا رَغَدًا، ولا تُشْمِتْ بِنَا أَحَدَ. اللَّهُمَّ أنظْمْنَا في سِلْكِ حِزْبِكَ المُفْلِحِين، واجْعلنا مِنْ عِبَادِكَ المُخْلَصِينَ وآمِنَّا يَوْمَ الفَزَعِ الأكْبَرِ يَوْمَ الدِّين، واحشُرْنَا معَ الذينَ أنعمْتَ عَليهم مِنَ النَّبِيين والصِّدِّيقينَ والشُهداء والصالحين، واغْفِرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْياءِ مِنهُم وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. فصلٌ في العِلْمِ وفضْلِهِ العِلْمُ صفةٌ يُمَيَّزُ المُُتَّصِفُ بِهَا تميزًا جَازِمًا، وقيلَ: هو إدراكُ الشيءِ بحَقيقتِهِ، والعلِمُ فضلُهُ أُشْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ كُلِ مَا اكْتَسَبَهُ الإنسانُ وأَشْرَفُ مُنْتَسِبٍ وأنْفَسُ ذَخيرةٍ تُقْتَنَى وأطلب ثمرةٍ تُجْتَنَى، بِهِ يُتَوَصَّلُ إِلَى الحَقَائِقِ وَإِذَا عَمِلَ بِهِ الإِنْسَانُ على وَفْقِ الشريعةِ أَدْرَكَ رِضَا الخَالِقِ. والعِلْمُ لاَ يُوصَلُ إِلَى مَعْرِفَةِ فَضْلِهِ وَجَلاَلَةِ قَدْرِهِ إِلا بِالعِلْمِ وَلاَ

يَضِيعُ صَاحِبُ العِلْمُ الدِّينِيّ الصَّحِيحِ الذِّي جَاءَ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلاَ يَفْتَقِرُ كَاسِبُ الِعْلِم وَلاَ يَخيبُ طَالِبُهُ وَلا تَنْحَطُّ مَرَاتِبُهُ ما دامَ مُطَبِّقًا لِعِلْمِهِ بِالعَمَلِ وَلا يَجْهَلُ شَرَفَ العِلْمِ إِلا الجَاهِلُ لِقُصُورِ فَهْمِهِ عَنْ عَظِيمِ مَنَافِعِهِ وَكَريمَ مَواقِفِهِ، وَحامِلُُهُ الصائنُ له عن الأدْنَاسِ عَزيزٌ عندَ الناسِ إِنْ قَالَ فَكلامُهُ مَرْمُوقٌ بعَينِ التَّقْدِير وَإِنْ أَمَر فأمرُهُ مَسْمُوع. وَهُوَ وَسِيلَةٌ لِلْفَضائِلِ وهو نُورٌ زَاهِرٌ لِمَنْ اسْتضاءَ بِهِ وَقُوتٌ هَنِيءٌ لِمَنْ تَقوَّتَ بِهِ تَرْتَاحُ بِهِ الأَنْفُسُ إِذْ هُوَ غِذَاءُهَا وَتَفْرَحُ بِهِ الأَفئِدةُ إَذْ هُوَ قُوَاهَا. شِعْرًا: أَجَلُّ مَا يُبْتَغَى دَوْمَا وَيُكْتَسَبُ ... وَيُقْتَنَى مِنْ حُلَى الدُّنْيَا وَيُنْتَخَبُ عِلْمُ الشَّرِيَعَةِ عِلْمُ النَّفْعِ قَد رُفِعَتْ ... لِمَنْ يُزَاولُهُ بَيْنَ الوَرَى رُتَبُ إِنْ عَاشَ عَاشَ سَعِيدًا سَائِدًا أَبَدًا ... لا يُسْتَظَامُ ولا يُشْنَا فَيُجْتَتَبُ وَإِنْ يَمُتْ فَثَنَاءٌ سَائِدٌ أَبَدًا ... وَبَعْدَهُ رَحْمَةٌ ترجَى وَتُرْتَقَبُ وَهُوَ يَدُلُّ على الخيرِ، وَعَوْنٌ على المُروءَةِ وَهُوَ الصَّاحِبُ في الغُرْبَةِ والمُؤْنِسُ في الْخَلْوَةِ، والشَّرَفُ في النَسَبِ وَلِلْعِلْمِ آثارٌ جليلةُ القدْرِ كَمْ جَلَّ بِهِ مِنْ حَقيرٍ. وَكُلَّمَا كَانَ الرَّجُلُ أَعْلَمَ كَانَ جَلِيلاً عِنْدَنَا. مَضَى سَلَفُنَا الصَّالِحُ العَامِلُونَ بِعِلْمِهِمْ الوَرِعُونَ الذين لا تأخُذُهم في اللهِ لَوْمةُ لاَئِمٍ الذَّينَ إِذَا ذُكِرُوا وَمَا قَامُوا بِهِ مِنْ نَصْرِ دِينِ اللهِ والدعوةِ إِلَيْهِ استَنَارْتَ المَجَالِسُ وَأَسْفَرَتْ الوُجُوهُ وَارْتَاحَتْ الأَنْفُسُ وَقَوِيَتْ الْقُلُوبُ وَنَشِطَتْ الأبْدَانُ عَلَى الطَّاعَاتِ والعِبَادَاتِ وَوَدَّ المُسْتَمِعُونَ المُحِبُّونَ لِلدِّينِ وَأَهْلِهِ أَنْ يَزْدادُوا مِنْ أَخْبَارِهِمْ وَسِيَرِهِمْ وَذَلِكَ بِمَا وَهبَهُمُ اللهُ مِنَ الْعِلْمِ الدِّيني وَالتَّمَسُّكِ بِهِ

وَآثارِهِ الجَليلةِ، وَكَانُوا خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِيينَ وَكَانُوا أَشْجَعَ الناسِ لأنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ الأجَلَ لاَ يُطِيلُهُ الجُبْنُ وَكَانُوا أَغْنَى الْعَالَمِ نُفُوسًا وَأَقْوَاهُمْ تَوَكُّلاً عَلَى اللطِيفِ الخبيرِ لأنَّهُمْ رَضُوا بِقِسْمَةِ مَوْلاَنَا العليمِ الحكيمِ، وَكَانُوا مَحَطَّ رِحَالِ الكَرَمِ والجُودِ لأنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ البُخلَ لاَ يُرْضِي اللهَ، وَكَانُوا في الحِلْمِ كَالجبالِ الرَّاسِياتِ لأنَّهُم عَرَفُوا مَا لِلْحِلْمِ مِنْ مَزَايَا دُنْيَا وَأُخْرَى. وَكَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ الَبلاَيَا بِالصَّبْرِ الجَمِيلِ لِعِلْمِهِمْ أَنَّهَا بِتَقْدِيرٍ وَتَصْرِيفِ الحَكِيمِ الخَبيرِ وَكَانُوا دَائِمًا يَسْتَقْبِلُونَ النِعَمَ بِالشُكِرِ وَالحَمْدِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللهِ لِجَزْمِهِمْ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهُمْ وَلاَ مِنْ سَائِرِ المَخْلُوقِينَ بَلْ مِنْ الكَرِيمِ الدَّائِمِ الإِحْسَانِ الذِّي عَمَّ إِحسانُهُ الخَلايَقَ كُلَّهُمْ، وَكَانُوا يُحِبُّون الخيرَ لِبَعْضِهِمْ كَمَحَبَّتِهِمْ لأنْفُسِهِمْ عَمَلاً بِقَوْلِ الرسولِ الكريمِ: «لا يُؤمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحبُ لِنَفْسِهِ» وَلِعِلْمِهِمْ أَنَّ كَرَاهَتَهُمْ لاَ تُحْدِثُ أيَّ تَغَيّرُ وَقَدْ عَرَفُوا قَوْلَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابنِ عباسٍ: «يَا غُلامُ احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ ... » الحَديث رواهُ الترمذي. وَكَانُوا لا يُحُّبونَ الشرَّ وَأْهَلُه وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ. وَكَانُوا يُرَاقِبُونَ مَوْلاَهُمْ دَائِمًا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم وأَنَّه أَحَاطَ بِكُلِّ شيءٍ عِلْمًا فَلِهَذَا كَانُوا إِذَا قَالُوا أَوْ فَعَلُوا تَحَرَّوْا مَا يُرْضِيهِ جَلَّ وَعَلاَ فِيمَا يَقُولُونَهُ وَيَفْعَلُونَهُ وَهَكَذَا كَانُوا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَتَحَرَّكُوا أَوْ يَسْكنوا باسْتِشَارَةِ مَا وَهَبَهُمُ اللهُ مِنَ العِلمِ الدِّينِي يَتَحَرَّكُون وَيَسْكنون لِهَذَا كانوا لليومِ مَوْضِعَ إِعْجَابٍ وَنَالُوا فوقَ هَذا رِضَى رَبِّ العَالمينَ هكذا كَانُوا بِبَرَكَاتِ مَا وَهَبَهُمْ مَوْلاَهُمْ مِنَ العلمِ الدِيني والتمسُّكِ بِهِ تَمَامًا. وَكَانُوا أَزْهَدَ النَّاسِ في الدُّنْيَا لأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ حَقَارَتِهَا وَسُرْعَةَ زَوَالِهَا

وَكَثْرَة هُمُومِهَا وَغُمُومِهَا وإِشْغَالِهَا عَنْ طَاعةِ اللهِ وَلذلكَ كَانَ النَّاسُ يُقَدِّرُونَهُمْ وَيَضَرِبُونَ بِهِمُ الأَمثالَ وَأَنْتَ تَرَى أَنه على قَدْرِ قَنَاعَةِ العُلَمَاءِ في الدُّنْيَا تَكُونُ مَكَانتُهُمْ في نُفُوسِ النَّاسِ والتَفَافُهُم حَوْلَهم والاسْتِمَاعُ لِنَصائِحِهمْ والانقيادُ لإِرْشَاداتِهِمْ وَالرُّجوعُ إِليهِمْ فَيمَا يُشْكِلُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى قَدْرِ تَعَلّقِ العُلََمَاءِ بَالدُّنْيَا وَتَوَجُهِهِمْ إِليها تَكُونُ زَهَادَةُ الناسِ في العُلماءِ وَعَدمُ الثِّقَةِ بَهَمْ واتِّهَامُهُمْ وَالنُفْرَةُ مِنْهُمْ وأَكْلُ لُحُومِهِمْ وَعَدَمُ قُبُولِ كَلاَمِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ وَنَصَائِحِهِمْ فَلاَ يَسْمَعُونَ لَهُمْ قَوْلاً وَلاَ يُعَوِّلُون عَلَيهِمْ في مَا يَجْهَلُونَهُ وَيَحْرَصُونَ عَلَى البُعْدِ عَنْهُمْ وَيَسْتَثْقِلُونَهَمْ والسَّبَبُ الوَحِيدُ كَمَا عَلِمْتَ أَولاً هو التعلقُ بالدُّنْيَا ضِدَّ مَا عَلَيْهِ السلفُ الصَّالِحُ. قَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: اعْلَمْ أَيَّهَا الإِنْسَانُ أَنَّ الدُّنْيَا مَنْزِلةٌ وَلَيْسَتْ بِدَارِ قَرارٍ وَالإِنْسَانُ مُسَافر فَأَوّلُ مَنَازِلهِ بَطْنُ أمهِ وَآخرُ مَنَازِلهِ لحَدُ قَبْرِهِ، وَإِنمَّا وَطَنُهُ وَقَرَارُهُ وَمُكْثُهُ واسْتِقْرَارُهُ بَعْدَهَا في هَذَا. وَاخْتَصَرُ أَحَدُ العُبَّادِ فَقَالَ: مَا تأَسُّفِي عَلَى دَارِِ الهُمُوم والأَنْكاَدِ وَالأَحْزَانِ وَالخَطَايَا والذُّنُوبِ، وَإنَّمَا تَأُسُّفِي عَلَى لَيْلَةٍ نِمْتُهَا، وَيَوْمٍ أَفْطَرْتُهُ، وَسَاعَةٍ غَفَلْتُ فِيهَا عَنْ ذِكْرِ الله ثّمَّ مَاتَ رَحِمَهُ اللهُ. وَقَالَ مُطَرِّفُ بنُ الشَّخِيرِ: إِنَّ هَذَا الموتَ نَغَّصَ عَلَى النَّعِيمِ نَعِيمَهُمْ، فاطْلُبُوا نَعِيمًا لاَ مَوْتَ فيهَ، فَكيْفَ وَوَرَاءَهُ يوم يُعَدُّ فيهِ الجَوَابُ وَتَدْهَشُ فيهِ الأَلْبَابُ، وَتفْنَى في شَرْحِهِ الأَقْلاَمُ والكُتَّابُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كُلُّ سَنَةٍ تَنْقَضِي مِنَ الإِنْسَانِ فَكَالمرحَلةِ. وَكُلَّ شَهْرٍ يَنْقَضِي مِنْهُ فَكَاسْتِرَاحَةِ المُسَافِر في طَرِيق، وَكُلُّ أُسْبُوعٍ فَكَقَرية تَلقَاهُ. وكُلُّ يَوْمٍ فَكَفَرْسَخٍ يَقْطَعُهُ. وَكُلُّ نَفَس كَخَطْوةٍ يَخْطُوهَا. وَبقَدرِ كُلِّ نَفَسٍ يَتَنَفَّسُهُ يَقْرُبُ مِنَ الآخِرَةِ وَهَذِهِ الدُّنْيَا قِنْطَرَةٌ فَمَنْ عَمَّرَ القَنْطَرةَ وَاسْتَعْجَلَ بِعمارتِهَا فَنيَ فِيهَا زَمَانُهُ.

وَنَسِيَ المنزِلةَ التي هِيَ مَصيرُهُ وَمَكَانُه. وَكَانَ جَاهِلاً غَيْرَ عَاقلٍ. وَإِنمَّا العاقلُ الذِّي لاَ يَشْتَغِلُ في دُنْياهُ إِلا لاِسْتِعْدَادِهِ لِمَعادِهِ وَيْكَتَفِي مِنْهَا بِقدَرِ الحاجةِ وَمَهْمَا جَمَعَهُ فَوقَ كِفَايَتِهِ كَانِ سُمًّا نَاقِعًا وَيَتَمَنَّى أَنْ تَكُونَ جَميعُ خَزَائِنِهِ وَسَائِرِ ذَخَائِرِهِ رَمَادًا وَتُرَابًا لاَ فِضَّةً ولاَ ذَهَبًا وَلَوْ جَمَعَ مَهْمَا جَمَعَ. فَإنَّ نَصِيبَهُ مَا يَأْكُلَهُ وَيَلْبِسُهُ لا سِوَاهُ وَجَمِيعُ مَا يُخلّفهُ يَكُونُ عَلَيْهِِ حَسْرَةً وَنَدَامَةً وَيَصْعُبُ عَلَيْهِ نَزْعُهُ عِنْدَ مَوْتِهِ فَحلاَلُهَا حِسَابٌ. وَحَرامُهَا عَذَابْ. إِنْ كَانَ قَدْ جَمَعَ المَالَ مِنْ حَلاَلٍ طُلِبَ مِنْهُ الحِسَابَ. وَإِنْ كَانَ قَدْ جَمَعَ مِنْ حَرَامٍ وَجَبَ عَلَيْهِ العَذَابُ. وَكَانَ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ حَسْرَتِهِ حُلُولُ العَذَابِ في حُفْرَتِهِ وَمَعَ هَذَا جَمِيعُهُ إِذَا كَانَ إِيمانُه صَحِيحًا سَالِمًا لِحَضْرَةِ الدَّيَانِ. فَلا وَجْه لِيَأْسِهِ مِنْ الرَّحْمَةِ والرضوان. فَإِنَّ الله جَواد كَريمٌ غَفُورٌّ رَحِيم. واعْلَمْ أَنَّ رَاحَةَ الدُّنْيَا أَيامٌّ وَأَكْثَرُهَا مُنَغَصٌّ بالتّعب مَشُوبٌ بِالنَّصبَ. وَبِسَبَبِهَا تَفُوتُ رَاحَة الآخرةِ التي هِيَ الدائمةُ والمُلْكُ الذي لاَ نِهَايَةَ لَهُ وَلا فَنَاء. فَيَسْهُلَ عَلَى العاقل أنْ يَصْبِرَ في هذهِ الأَيَّامِ القَلاَئِل لِينالُ رَاحةً دَائِمَةً بِلا انقضاء. شِعْرًا: وَمَنْ يَصْطَبِرْ لِلْعِلْمِ يَظْفَرْ بِنَيْلِهِ ... وَمَنْ يَخْطُبُ الحَسْنَاءَ يَصْبِر عَلَى البَذْلِ وَمَنْ لاَ يُذِلُّ النَّْفَس في طَلَبِ العُلَى ... يَسِيرًا يَعَشْ دَهْرًا طَوِيلاً أَخَاذْلُ قَالَ ابْنُ القَيِّم رَحِمَهُ اللهُ: كُلُّ مَنْ أَثَرَ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ العِلْمِ واسْتَحَبَّهَا فَلا بُدَّ أنْ يَقُولَ عَلى اللهِِ غَيرَ الحقّ في فَتْوَاهُ وَحُكْمِهِ في خَبَرِهِ وَإِلزَامِهِ لأِنَّ أَحكامَ الربِّ سُبْحَانَهُ كَثِيرًا مَا تَأْتِي عَلى خِِلافِ أَغْراضِ النَّاسِ، وَلاَ سِيَّمَا أهلُ الرِّيَاسَةِ والذِّين يَتَّبِعُون الشُّبُهاتِ فإِنَّهُمْ لا تَتِمُّ لَهُمْ أَغْرَاضُهُمْ إَلا بِمُخَالَفَةِ الحقِّ وَدَفْعِهِ كَثِيرًا فَإِذَا كَانَ العَالِمُ والحَاكِمُ مُحِبِّينَ لِلرِّيَاسَةِ مُتَّبِعِينَ لِلْشَهَوَاتِ

لَمْ يَتِمَّ لَهُمَا ذَلِكَ إِلا بِدَفْعِ مَا يُضَادُّهُ مِنَ الحَقِّ وَلاسِيَّمَا إَذَا قَامَتْ لَهُ شُبْهَةٌ فَتَتَّفِقُ الشُّبْهَةُ وَالشَّهْوَةُ وَيثُورُ الهَوَى فَيَخْفَى الصَّوَابُ وَيَنْطَمِسُ وَجْهُ الحَقِّ، وَإِذَا كَانِ ظَاهرًا لا خَفَاءَ بِهِ وَلا شُبْهَةَ فِيهِ أَقْدَمَ عَلَى مُخُالَفَتِهِ وقال لِي: مَخْرَجٌ بِالتَّوْبَةِ وَفي هَؤلاءِ وَأَشْبَاهِهِِمْ قال تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} . فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ أَخَذُوا العَرَضَ الأَدْنَى مَعَ عِلْمِهِمْ بِتَحْرِيمِهِ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ عَرَضَ لَهُمْ عَرَضٌ آخَرُ أَخَذُوهُ فَهُمْ مُصِّرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ الحَامِلُ لَهُمْ عَلى أَنْ يَقُولُوا عَلى اللهِ غَيْرَ الحَقِّ فَيَقُولُونَ هَذَا حُكْمُهُ وَشَرْعُهُ وَدِينُهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ دِينَهُ وَشَرْعَهُ وَحُكْمَهُ يُخَالِفُ ذَلِكَ أَوْ لا يَعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ دِينُه وَشَرْعُه وَحُكْمُه فَتَارَةً يَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا يَعْلَمُونَ وَتَارَةً يَقُولُونَ عَلَيْهِ مَا يَعْلَمُونَ بُطْلانَهُ. قَالَ وَهَؤُلاءِ لا بُدَّ أَنْ يَبْتَدِعُوا في الدِّينِ مَعَ الفُجُورِ في العَمَلِ فَيَجْتَمِعُ لَهُمْ الأَمْرَانِ فَإِنَّ إتِّبَاعْ الهَوَى يُعْمِي عَيْنَ القَلْبِ فَلا يُمِيزِ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالبِدْعَةِ أَوْ يُنَكِسُهُ فَيَرَى البِدْعَةَ سُنَّةً وَالسُّنَّةَ بِدْعَةً فَهَذِهِ آفَةُ العُلَمَاءِ إِذَا آثَرُوا الدُّنْيَا وَاتَّبَعُوا الرِيَّاسَاتِ وَالشَّهَوَاتِ وَهَذِهِ الآيَاتِ فِيهِمْ إَلَى قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} . فَهَذَا مَثَلُ عَالِمِ السُّوءِ الذي يَعْمَلُ بِخَلافِ عِلْمِهِ. وَخِتَامًا فَإِنَّ العَاقِلَ اللَّبِيبِ يِتَأَسَّفُ عَلِى إِهْمَالِ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ

رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُتُبِ أَهْلَ العِلْمِ وَالإِيمَانِ يَبْنَى عَلَيْهِمَا الغُبَارُ وَيُسْتَبْدَلُ بِهِمُا قَتْلُ الوَقْتِ في أَلُوْوَ كَمْ بَاعَ فُلاَنٌ وَكَمْ شَرَىَ فُلاَنٌ وَأَيْنَ قَضَيْتَ العُطْلَةَ فِيهِ وَأَيْنَ تَقْضِي المُسْتَقْبَلَةَ وَارْفَعْ الجَرِيدَةَ وَأَعْطِنِي الأُخْرَى وَأَيْنَ المَجَلَّةُ الفُلانِيَّةُ وَمَا الذي ظَهَرَ في التِّلِفِزْيُونِ وَمَاذَا بِالإذَاعَةِ الفُلانِيَّةِ هَذَا وَأَمْثَالُهُ كُثِيرٌ مِنْ نَوَاحِي مَعْلُومَاتِنَا مَعْشَرَ هَذَا الجِيلِ يَشِّبُ الوَاحِدُ مِنَّا وَيَشِيبُ وَهُوَ جَاهِلٌ بِسَيرِ سَلَفِنَا وَتَطْبِيقِهِا وَالإقْتِدِاءِ بِمَنْ أَمَرَنَا سَيَّدُنُا ومولانا بِإتِّبَاعِهِمْ مِنْ رُسُلِهِ الكِِرَامِ وَمَنْ اقْتَدَى بِهِمْ وَحَذَا حَذْوَهُمْ وَنَهَجَ مَنْهَجُهُمْ مِمَّنْ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقهمْ مولاهم يُنفِقُونَ، {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً} إلى آخر السورة. اللَّهُمَّ إَليْكَ بِدُعَائِنَا تَوَجَّهْنَا وَبِفَائِكَ أَنَخْنَا وَإِيَاكَ أَمَّلْنَا وَلِمَا عِنْدِكَ مِنَ الجُودِ وَالإِحْسَانِ طَلَبْنَا وَلِرَحْمَتِكَ رَجَوْنَا وَمِِنْ عَذَابِكَ أَشْفَقْنَا وَلِغُفْرَانِكَ تَعَرَّضْنَا. اللَّهُمَّ أَحْيِي قُلُوبًا أَمَاتَهَا البُعْدُ عَنْ بَابِكَ وَلا تُعَذِّبْنَا بَأَلِيمِ عَقَابِكَ يَا أَكْرَمَ مَنْ سَمَحَ بِالنَّوَالِ وَجَادَ بَالأَفْضَالِ، اللَّهُمَّ أَيْقِضْنَا مِنْ غَفْلَتِنَا بِلُطْفِكِ وَإِحْسَانِكَ، وَتَجَاوَزْ عَنْ جَرَائِمِنِا بِعَفْوِكَ وَغُفْرِانِكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. هَذِهِ قَصِيدَةٌ تَحْتَوِي عَلَى الحَثِّ عَلَى طَلَبِ العِلْمِ وَالزُّهْدِ في الدُّنْيَا وَالإِقْبَالِ عَلَى الآخِرَةْ. تَفُتُّ فُؤَادَكَ الأَيَّامُ فَتًا وَتَنْحَتُ جِسْمُكَ السَّاعَاتُ نَحْتًا

وَتَدْعُوكَ الْمَنُونُ دُعَاءَ صَدْقٍ أَلا يَا صَاحِ أَنتَ أُريدَ أَنْتَا أَرَاكَ تُحِبُّ عِرْسًا ذَاتَ غَدْرٍ أَبَتَّ طلاقَها الأكْيَاسُ بَتًّا تَنَامُ الدَّهْرَ وَيْحَكَ، فِي غَطِيطٍ بِهَا حَتَّى إِذَا مِتَّ انْتَبَهْتَا فَكَمْ ذَا أَنْتَ مَخْدُوعٌ فَحَتَّى مَتَى لا تَرْعَوِي عَنْهَا وَحَتَّى؟! أَبَا بَكْرٍ دَعَوْتُك لَوْ أَجبتَ إِلى مَا فِيهِ حَظَّكَ لَوْ عَقِلْتَا إِلى عِلْمٍ تكونُ بهِ إمامًا مُطَاعًا إِنْ نَهَيْتَ وإِنْ أَمَرْتَا وَيَجْلو ما بِعَيْنِكَ مِنْ غِشَاءٍ وَيَهْدِيكَ الصِّراطَ إذا ضَلَلْتَا وَتَحْمِلُ منهُ فِي نَادِيكَ تَاجًا وَيَكْسُوكَ الْجَمَالَ إِذَا اغْتَربْتَا يَنَالُكَ نَفَعُهُ ما دُمْتَ حيًّا وَيَبْقَى ذِكْرُهُ لَكَ إِنْ ذَهَبْتَا هُوَ الْعَضْبُ الْمُهَنَّدُ لَيْسَ يَكْبُو تَنَالُ بِهِ مَقَاتِلَ مَنْ ضَرَبْتَا وَكَنْزٌ لا تخافُ عليهِ لِصًّا خَفِيفُ الْحَمْلِ يُوجَدُ حَيثُ كُنْتَا يَزِيدُ بِكَثْرةِ الإِنْفَاقِ مِنْهُ

وَيَنْقُصُ إِنْ بِهِ كَفًّا شَدَدْتَا فلو قَدْ ذُقْتَ مِنْ حَلْواهُ طَعْمًا لآثرْتَ التَّعَلُّمَ وَاجْتهدْتَا وَلَمْ يَشْغَلْكَ عنهُ هَوىً مُطاعٌ وَلا دُنْيَا بِزُخْرِفُهَا فُتِنْتَا وَلا يُلْهِيكَ عَنْهُ أَنِيقُ رَوْضٍ ولا خَوْدٌ بزينَتِهَا كَلِفْتَا فَقُوْتُ الرُّوحِ أرْواح الْمَعَالِي وَلَيْسَ بَأنْ طَعِمْتَ وأنْ شَرِبْتَا فَوَاظِبْهُ، وَخُذْ بالْجِدِّ فِيهِ فَإِنْ أَعَطَاكَهُ البارِي أَخَدْتَا وَإِنْ أُوتِيتَ فِيهِ بِطوُلِ بَاعٍ وَقَالَ النَّاسُ: إِنَّكَ قَدْ سَبَقْتا فلا تَأمَنْ سُؤالَ اللهِ فِيهِ بِتَوْبِيخٍ، عَلِمْتَ فهلْ عَمِلْتَا؟! وَضَافِي ثَوْبِكَ الإحسان لا أنْ وَلَيْسَ بأَن تَعَالى أَوْ رَئِسْتَا وإنْ أَلْقَاكَ فَهْمُكَ فِي مَهَاوٍ فَلَيْتَكَ ثُمَّ لَيْتَكَ مَا فَهِمْتَا إذا ما لمْ يُفِدْكَ العلمُ خَيْرًا فَخيرٌ مِنْهُ أَنْ لَوْ قَدْ جَهِلْتَا سَتَجْنِي مِنْ ثِمَارِ اللَّهْوِ جَهْلاً

وَتَصْغَرُ في العُيُونِ إذا كَبِرْتَا وَتُفْقِدُ إِنْ جَهِلْتَ، وَأَنْتَ بَاقٍ وَتُوجَدُ إِنْ عَلِمْتَ إِذا فُقِدْتَا سَتَذْكُرُ لِلنَّصِيحَةِ بَعْدَ حِينٍ وَتَطْلُبُهَا إذا عَنْهَا شُغِلْتَا وَسَوْفَ تَعَضُّ مِنْ نَدَمٍ عَلَيْهَا وَسَوْفَ تَعَضُّ مِنْ نَدَمٍ عَلَيْهَا إِذَا أَبْصَرْتَ صَحْبَكَ في سَمَاءٍ وَقَدْ رُفِعُوا عَليكَ، وَقَدْ سُفِلْتَا فراجعها وَدَعْ عَنْكَ الهُوَيْنَا فَمَا بِالبُطْءِ تُدْرِكُ ما طَلَبْتَا وَلا تَحْفِلْ بِمَالِكَ، وَالْهُ عنهُ فَليسَ المَالُ إلا ما عَلِمْتَا وَلَيسَ لِجَاهِلٍ في الناسِ مَغْنَىً وَلَوْ مُلْكُ الأنَامِ لَهُ تَأَتَّى سَيَنْطَقُ عَنْكَ مَالُكَ في نَدِيٍّ وَيَكْتُبُ عنكَ يَومًا إِنْ كَتَبْتَا وَما يُغْنِيكَ تَشْييدُ الْمَبَانِي إذا بالجَهْلِ دِينَك قد هَدَمْتَا جَعَلْتَ المَالَ فَوْقَ العِلْمِ جَهْلاً لَعَمْرُكَ في القَضِيَّةِ مَا عَدَلْتَا وَبَيْنَهُمَا بِنَصِّ الوَحْي فَرْقٌ سَتَعْلَمُهُ إِذا (طَه َ) قَرَأْتَا

لَئِنْ رَفَعَ الغَنِيُّ لِوَاءَ مَالٍ فَأنْتَ لِوَاءَ عِلمِكِ قَدْ رَفَعْتَا وَإِنْ جَلَسَ الْغَنِيُّ عَلَى الْحَشَايَا فَأنْتَ عَلَى الْكَوَاكِبِ قَدْ جَلَسْتَا وَإِنْ رَكِبَ الْجِيادَ مُبسَوَّمَاتٍ فَأنْتَ مِنْاهِجَ التَّقْوَى رَكِبْتَا وَمَهْمَا افْتَضَّ أَبْكَارَ الْغَوَانِي فَكَمْ بِكْرٍ مِنَ الحِكَمِ افْتَضَضْتَا وَلَيْسَ يَضُرُّكَ الإِقْتَارُ شَيْئًا إِذَا مَا أَنْتَ رَبَّكَ قَدْ عَرَفْتَا فِيامَا عِنْدَهُ لَكَ مِنْ جَزِيلٍ إِذَا بِفِنَاءِ طاعتِهِ أَنَخْتَا فَقَابِلْ بالقَبُولِ صَحيحَ نُصْحِي وَإِنْ أَعْرَضْتَ عَنْهُ فقَدْ خَسِرْتَا وَإِنْ رَاعَيْتَهُ قَوْلاً وَفِعْلاً وَعَامَلْتَ الإِلَهَ بِهِ رَبِحْتَا فَلَيْسَتْ هَذِه الدُّنْيَِا بشيءٍ تَسُوؤكَ حُقْبَةً، وَتَسُرُّ وَقْتَا وَغَايَتُهَا إِذَا فَكَّرْتَ فِيها كَفِئكَ، أَوْ كَحُلْمِكَ إِنْ رَقَدْتَا سُجِنْتَ بِهَا وَأَنْتَ لَهَا مُحِبٌ فكَيفَ تُحبُّ مَنْ فِيهَا سُجِنْتَا وَتُطْعِمُكَ الطَّعَامَ وَعَنْ قَلِيلٍ

.. سَتُطْعَمُ مِنْكَ مَا مِنْهَا طَعِمْتَا وَتَعْرَى إِنْ لَبِسْتَ بِهَا ثِيَابًا وَتُكْسَى إنْ مَلابِسَهَا خَلَعْتَا وَتَشْهَدُ كُلَّ يَوْمٍ دَفْنَ خِلٍّ كَأنك لا تُرادُ بِمَا شَهِدْتَا وَلَمْ تُخْلَقْ لِتَعْمُرَهَا وَلَكِنْ لِتَعْبُرَها فَجِدَّ لِمَا خُلِقْتَا وَإِنْ هَدَمْتَ فَزِدْهَا أَنْتَ هَدْمًا وَحَصِّنُ أَمْرَ دِينِكَ مَا اسْتَطَعْتَا ولا تَحْزَنْ لِمَا قَدْ فَاتَ مِنْها إِذَا مَا أَنْتَ فِي أُخْرَاكَ فُزْتَا فَلَيْسَ بِنَافِعٍ ما نِلْتَ مِنْهَا مِنْ الفانِي إِذَا الباقي حُرِمْتَا وَلا تَضْحَكْ مَع السُّفَهَاءِ جَهْلاً فَإنَّكَ سَوْفَ تَبْكِي إِنْ ضَحِكْتَا وَكَيْفَ بِكَ السُّرورُ وأنتَ رَهْنٌ وَلا تَدْرِي غَدًا أَنْ لَوْ غُلَبْتَا؟! وَسَلْ مِنْ رِبِّكَ التَّوْفِيقَ فِيهَا وَأَخْلِصْ في الدُّعاء إِذَا سَأَلْتَا وَنَادِ إذ سُجِنْتَ بِهِ اعْتِرافًا كَمَا نَادَاهُ ذُو النُّونِ بنُ مَتَّى وَلازِمْ بَابَهُ قَرْعًا عَسَاهُ سَيَفْتَحُ بابَهُ لَكَ إِنْ قَرَعْتَا

وأكْثِرْ ذِكْرَهُ في الأرِضِ دَابًّا لِتُذْكَرَ في السماءِ إِذَا ذَكَرْتَا وَلا تَقُلِ الصَّبَا فِيهِ امْتِهالٌ وَفَكِّرْ كَمْ صَغِيرِ قَدْ دَفَنْتَا وَقُلْ لِي: يَا نَصِيحِي لأَنْتَ أَوْلَى بِنُصْحِكَ إِذْ بِعَقْلِكَ قَدْ عُرِفْتَا فَتَعْذِلُني عن التَّفريطِ يَوْمًا وَبَالتَّفْرِيطِ دَهْرَكَ قَدْ قَطَعْتَا وَفِي صَغِرِي تُخوِّفُنِي الْمَنَايَا وَمَا تَجْرِي بِبَالِكَ حِينَ شِخْتَا وَكُنْتَ مَعَ الصِّبَا أَهْدَى سَبِيلاً فَمَا لَكَ بَعْد شَيْبِكَ قَدْ نُكِسْتَا وَهَا أَنَا لَمْ أَخُضْ بَحْرَ الخَطَايَا كَمَا قَدْ خُضْتَهُ حَتَّى غَرِقْتَا وَلَمْ أَشْرَبْ حُمَيَّا أَمْ دَفْرٍ وَأَنْتَ شَرِبْتَهَا حَتَّى سَكِرْتَا وَلَمْ أحْلِلْ بَوَادٍ فِيهِ ظُلْمٌ وَأَنْتَ حَلَّلْتَ فِيهِ وَانْتَهَكْتَا وَلَمْ أَنْشَأ بَعَصْرٍ فِيهِ نَفْعٌ وَأَنْتَ نَشَأْتَ فِيهِ فَمَا انْتَفَعْتَا وَنَادَاكَ الكِتَابُ فَلْم تُجِبْهُ وَنَبَّهَكَ الْمَشِيبُ فما انْتَبَهْتَا وَقَدْ صَاحبْتَ أعْلامًا كَثِيرًا

فَلَمْ أَرَكَ انْتَفَعْتَ بِمَنْ صَحِبْتَا وَيَقْبُحُ بَالْفَتَى فِعْلُ التَّصَابِي وَأَقْبَحُ منه شَيْخُ قَدْ تَفَتَّى فَأَنْتَ أَحَقُّ بَالتَّفِنِيدِ مِنِّي وَلَوْ سَكَتَ الْمُسِيءُ لِمَا نَطَقْتَا فَنَفْسَكَ ذُمَّ لا تَذْمُمْ سِوَاها بَعْيبٍ فَهِي أَجْدَرُ إِنْ ذَمَمْتَا وَلَوْ بَكَتِ الدِّمَا عَيْنَاكَ خَوْفًا لِذَنْبِكَ لَمْ أَقُلْ لَكَ قَدْ أَمِنْتَا فَمَنْ لَكَ بَالأمَانِ وَأَنْتَ عَبْدٌ أُمِرْتَ فَمَا ائْتَمَرْتَ وَلا أَطَعْتَا فَسِرْتَ الْقَهْقَرَى وَخَبَطْتَ عَشْوًا لَعَمْرُكَ لَوْ وَصِلْتَ لَمَا رَجَعْتَا ثَقُلْتَ مِنَ الذُّنُوبِ وَلَسْتَ تَخْشَى لِجَهْلِكَ أَنْ تَخِفَّ إِذًا وُزِنْتَا وَلَوْ وَافَيْتَ رَبَّكَ دُونَ ذَنْبٍٍ وَنَاقَشَكَ الحِسَابَ إِذَا هَلَكْتَا لَمْ يَظْلمْكَ فِي عَمَل وَلَكِن عَسَيرٌ أَنْ تقُومَ بما حَمَلْتَا تَوَجَّعُ لِلْمُصِرِّ عَلَى الخَطَايَا وَتَرْحَمُهُ وَنَفْسَكَ مَا رَحِمْتَا وَلَوْ قَدْ جِئْتَ يَوْمَ الْفَصْلِ فَرْدًا وَأَبْصَرْتَ الْمَنَازِلَ فِيهِ شَتَّى

لأعَظَمْتَ النَّدَامَةَ فِيهِ لَهْفًا عَلَى مَا فِي حَيَاتِكَ قَدْ أَضَعْتَا تَفِرُّ مِنْ الْهَجِيرِ وَتَتَقِيهِ فَهَلا مِن جَهَنَّمَ قَدْ فَرَرْتَا!! وَلَسْتَ تُطيقُ أَهْوَانَها عَذَابًا ولو كُنْتَ الْحَدِيدَ بِها لَذُبْتَا وَلا تكْذِبْ فَإنَّ الأَمْرَ جَدٌّ وَلَيَسَ كَمَا حَسِبْتَ وَمَا ظَنَنْتَا أَبَا بَكْرٍ كَشَفْت أَقَلَّ عَيْبِي وَمَا اسْتَعْظَمْتَهُ مِنْهَا سَتَرْتَا فَقُلْ مَا شِئْتَ فِي مِن الْمَخَازِي وَضَاعِفْهَا فَإنَّكَ قَدْ صَدَقْتَا وَمَهْمَا عَبْتَنِي فَلِفَرْطِ عِلْمِي بِبَاطِنَتِي كَأنَّكَ قَدْ مَدَحْتَا وَلا تَرْضَى الْمَعَائبَ فَهِيَ عارٌ عَظِيمٌ يُورِثُ الإِنْسَانَ مَقْتَا وَتَهْوَى بَالوَجِيهِ مِنَ الثُّرَيَا وَتُبْدِلُهُ مَكانَ الْفَوْقِ تَحْتَا كَذَا الطَّاعَاتُ ُتبِلِغُكَ الدَّرَارِي وَتَجْعَلُكَ القَرِيبَ وإنْ بَعُدْتَا وَتَنْشُرُ عَنْكَ فِي الدُّنْيَا جَمِيلاً فَتَلْقَى البِرَّ فِيها حَيْثُ شِئْتَا وتُمسِي في مَسَاكِنِهَا عَزِيزًا

وَتَنْجِي الحَمْدَ مِمَّا قَدْ غَرَسْتَا وَأَنْتَ اليومَ لمْ تُعْرِفْ بِعَيْبٍ وَلا دَنَّسْتَ ثَوْبَك مُذْ نَشَأْتَا وَلا سَابَقْتَ في مَيْدَانِ زُورٍ وَلا أَوْضَعْتَ فِيهِ وَلا خَبَبْتَا فَإنْ لَمْ تَنْأَ عنهُ نَشَبْتَ فِيهِ فَمَنْ لَكَ بَالخَلاصِ إِذَا نَشَبْتَا؟! وَدَنِّسَ مِنْكَ مَا طَهَّرْتَ حَتَّى كَأنَّكَ قَبْلَ ذلكَ مَا طَهُرْتَا وَصِرْتَ أَسِيرَ ذَنْبِكَ فِي وِثَاقٍ وَكَيْفَ لَكَ الفِكَاكُ وَقَدْ أُسِرْتَا؟! فَخَفْ أبْنَاءَ جِنْسِكَ وَاخْشَ مِنْهُمْ كَمَا تَخْشَى الضَّرَاغِمَ والسَّبَنْتَا فَخَالِطْهُم وَزَايلْهُمْ حِذارًا وَكُنْ كالسَّامِري إِذَا لُمْستَا وَإِنْ جَهِلُوا عَلَيْكَ فَقُلْ سَلامٌ لَعَلَّكَ سَوْفَ تَسْلَمُ إِنْ سَلِمْتَا وَمَنْ لَكَ بالسَّلامَةِ فِي زَمَانٍ يُزِلُّ الْعُصْمَ إِلا إِنْ عُصِمْتَا وَلا تَلْبثْ بَحَيٌ فِيهِ ضَيْمٌ يُمِيتُ القَلْبَ إلا أَنْ كُبِلْتَا فَغَرِّبْ فالتَّغْرُّبُ فِيهِ خَيْرٌ وَشَرِّقْ إنْ بِرِيْقِكَ قَدْ شَرِقْتَا

فَلَيْسَ الزُّهْدُ في الدُّنْيَا خُمُولاً فأنْتَ بها الأميرُ إذا رَهِدْتَا فَلَوْ فَوقَ الأَمِيرِ يكُونُ عَالٍ عُلُّوًا وارْتِفَاعًا كُنْتَ أَنْتَا فإنْ فارَقْتَهَا وَخَرجْتَ منها إلى دارِ السَّلامِ فقد سَلِمْتَا وإنْ أكْرَمْتَها وَنَظَرْتَ فِيهَا بَإجْلالٍ فَنفسَكَ قَدْ أَهْنَتَا جَمَعْتُ لَكَ النَّصَائحَ فَامْتَثِلْهَا حَيَاتَكَ فَهِيَ أَفْضَلُ مَا امْتَثَلْتَا وَطوَّلْتُ العِتَابَ وَزِدْتُ فيهِ لأَنَّكَ في البَطَالةِ قَدْ أَطَلْتَا فَلا تَأْخُذْ بَتَقْصِيرِي وَسَهْوي ... وَخُذْ بِوَصِيَّتِي لَكَ إِنْ رُشِدْتَا وَقَدْ أَرْفَقْتُهَا سِتًّا حِسَانًا ... فَكَانَا قَبْلَ ذَا مِأةً وَسِتًّا وَصَلَّى اللهُ مَا أَوْرَقْ نَضَارٌ ... عَلَى الْمُخْتَارِ في شَجَرٍ وَحَنَّا اللَّهُمَّ يَا مَنْ خَلَقَ الإِنْسَانَ في أَحْسَنِ تَقْويمٍ وَبِقُدْرَتِهِ التي لا يُعْجِزُهَا شَيْءٌ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِي رَمِيمٌ نَسْأَلُكَ أَنْ تَهْدِينَا إِلى صِرَاطِكَ الْمُسْتِقيمِ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصَّدِّيقِينَ والشُّهَدَاءِ والصَّالِحِينَ، وَأَنْ تَغْفِرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْياءِ مِنهُم وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. موعظة: عباد الله سَيَصْحُو السَّكرانُ من سُكْره، حِينَ لا يُمْكِنِهُ تَلافي أَمْرهْ وَسَيْنَدَمُ المضيع على تَضْييعه، إِذَا قَابلَهُ أَمْر صَنِيعهْ، وَسَيُقْصرُ الأَمَلَ من أمله وقْتَ هجُومِ أجَله، وتعذر الزيادة في عَمَله، والخروج من بين مالهِ وَأَهْلِهْ.

هُنَالِكَ يَستحَيلُ حُلْوُ العيش مُرًا وَيَنْقَلبُ عُرْفُ الأمر نُكْرًا، ويَعْلمِ جَامِعُ الحطام الذِي أَضَاعِ بِهِ أَوْقَاتَهُ أن الباقيات الصالحات أَبْقَى ذِكرَا وأنفعُ ذُخْرَا، ليس في ظل الدنيا مقيل ولا على هَذِهِ الحياةِ تَعويلِ. كَيْفَ يطمعُ عاقِلٌ في الإقامة بدار الرحيل، كيف يَضحَك من هو مَحْفُوفَ بمُوجبات البُكاء والعَويل، أسْمَعَنا النَّاصِحُ فَتَصَامَمْنَا، وَأيْقَظَتْنَا الغيَرُ فَتَنَاومْنَا، وَرَضِينَا بَالْحَياةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخرِة، واشْتَرَيْنَا مَا يَفْنَى بِمَا يَبْقَى فَتِلْكَ إِذًا صفقَةٌ خَاسِرَة. أَيْنَ الآذَانُ الْواعِية، أيْنَ الأعْيُنُ البَاكِية، قَوْلٌ بلا فِعَال وأمْرٌ بلا امتثال رُسُلُ مَلَكِ الموت في كُل نَفَس تَدْنُوا إلى أنْفُسِنَا وأجْسَادُ أَحِبَّتِنَا تحتَ أطباق الثرى هَامدة. قد أو حَشَتْ منهم دِيَارُهُمْ، وَدَرَسَتَ رُسُومُهَم وآثارُهم، وتقطعت بالبلاء أوَصالُهم، وَمَحَتْ أَيْدِي الحَوادثِ والقُبور مَحَاسِنَ تِلكَ الصُّورَ، وأطْبَقُت عَليهم ضُلَماتُ تِلْكَ الحُفَر. فلا شَمس فيها ولا نُور ولا قَمر، ونَحْنُ عَمَّا قَريب إلى مَا صاروا إليه صائرون، وبالكأس الذي شربوا منه شارِبُون ثم مع هذا اليقين إلى دار الغرور راكنون. طُوبَى لِمَنْ فِي مَراضي رَبِّه رَغَبَا ... وَعَنْ مَصَارِعِ أهلِ اللَّهْو قَدْ هَرَبَا قَدْ وَطَّنَ النفسَ أنَّ اللهَ سَائلُهُ ... فَفَرَّ مِنْهُ إِلَيْهِ مُهِيبًا هَرَبَا وَللتُقَى مَرْكَبٌ يَنْجُو برَاكِبِهِ ... فَيَا نَجَاةَ الذي مَعْ أَهْلِهِ رَكَبَا وَلِلْهُدَى رُفْقَةٌ فَاسْعَدْ بِصُحْبَتِهْمِ ... فَيَا سَعَادَةَ مَن أَهلَ الهدُى صَحَبَا لِلَّهِ دُرُّ عِبَادٍ قُرْبَهُ طَلَبُوا ... لَمْ يَطْلُبُوا فِضَّةً منه ولا ذَهَبَا سَارُوا بَعْزِمِ وَتَشْمِير وَمَا اتَّخَذُوا ... فِي سَيْرِ دُنْيَاهُمُوا لَهْوًا وَلا لَعِبَا

فصل في العلم والحث على تعلمه والأدلة على ذلك

الصِّدْقُ مَرْكَبُهم والحقُ مَطْلَبُهُمْ ... لا زُورَ مَازَجَ دَعْواهُم ولا كَذِبَا اللَّهُمَّ علمْنَا مَا يَنْفَعْنَا وانْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا وَبَارِكْ لَنَا فِي عُلومِنَا وَأَعْمَالِنَا وَأَعْمَارِنَا وَأصْلِحْ نَيَّاتِنَا وَذُرَّيَاتِنَا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فصل) ومما ورد في فضل العلمِ والحثِّ على تَعلُّمِهِ وتعليمِهِ ما يلي مِنَ الأحاديث: 1– فعن معاوية رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» . رواهُ البخاريُّ، ومسلمُ. 2- وعن عبد الله يعني ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا فَقَّهَهُ فِي الدِّينِ وألهمه رشده» . رواهُ البَزَّارُ، والطَّبَرَانِي فِي الْكَبِيرِ بإسنادٍ لا بَأْسَ بِهِ. وعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ القِيَامةِ، ومَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ في الدنيا والآخرة، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلا حَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ ونَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وَمَنْ أبَطأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وأبو داوودَ، والتُّرْمُذِي، والنَّسائي، وابنُ ماجَة، وابنُ حِبَّان في صحيحِهِ، والحاكمُ وقال: صحيحٌ على شَرْطِهِمَا.

4– وعن أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْمَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بما يصنع وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ حتى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وفَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا إنما وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» . رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي. 5– وعن صَفْوَانُ بن عَسَّالٍ الْمُرَادِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَيْتُ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَّكِئٌ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى بُرْدٍ لَهُ أحمر، فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي جِئْتُ أَطْلُبُ الْعِلْمَ، فَقَالَ: «مَرْحَبًا بطالبِ الْعِلْمِ، إنَّ طَالِبُ الْعِلْمِ تحُفُّهُ الْمَلائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا، ثُمَّ يَرْكَبُ بَعْضُهُم بَعْضًا حَتَّى يَبْلُغُوا السَّمَاءَ الدُّنْيَا مِنْ مَحُبِّتهِمْ لِمَا يَطْلُبُ» . رواه أحمد، والطبراني بإسناد جيدٍ واللفظ له، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح الإسناد. وروى ابن ماجة نحوه باختصار ويأتي لفظه إن شاء الله تعالى. تَرَفَّقَ بِمَنْ يَأْتِيكَ لِلْعِلْمِ طَالِبًا ... وَقُلْ مَرْحَبًا يَا طَالِبَ العِلْم مَرْحَبَا فَهَذَا الذي أَوْصَى بِهِ سَيِّدُ الوَرَى ... كَمَا قَدْ رَوَى الخُدْريُّ عَنْهُ وَرَحَّبَا وَمَنْ سَهَّلَ اللهُ الطَّرِيقَ لِجَنَّةٍ ... لَهُ الجَدِيرُ بِالتَّرحُّبِ وَالحِبَا آخر: مُنَايَ مِن النُيا عُلومٌ أَبُثُّهَا ... وَأَنْشُرُهَا في كُلِّ بَادٍ وَحَاضِرِ دُعَاءٌ إلَى القُرآنِ وَالسُّنَّةِ التِّي ... تَنَاسَى رِجَالٌ ذِكْرَهَا في المَحَاضِرِ وَقَدْ أَبْدَلُوهَا بِالجَرَائِدِ تَارَةً ... وَتِلْفَازِهْمِ رَأسُ الشُّرُورِ المَنَاكِرِ وَمِذْيَاعِهِمْ أَيْضًا فَلا تَنْسَ شَرَّهُ ... فَكَمْ ضَاع مِنْ وَقْتٍ بِهِ بالخَسَائِرِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ

صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَوَاضِعُ الْعِلْمِ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ كَمُقَلِّدِ الْخَنَازِيرِ الْجَوْهَرَ وَاللُّؤْلُؤَ وَالذَّهَبَ» . رواه ابن ماجة وغيره. وَرُوِيَ عن ابن عباس رضي اللهُ عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ جَاءهُ أَجَلُهُ وهو يَطْلُبُ العِلْمَ لَقِيَ اللهَ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبينَ النَّبيينَ إِلا دَرَجَةُ النُّبُوَّةِ» . رواهُ الطَبراني في الأوسط. 6– وَرُوِي عَنْ سَخْبَرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَرَّ رَجُلانِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُذَكِّرُ، فَقَالَ: «اجْلِسَا فَإِنَّكُمَا عَلَى خَيْرٍ» ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، قَامَا، فَقَالا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ قُلْتَ لَنَا: «اجْلِسَا، فَإِنَّكُمَا عَلَى خَيْرٍ» أَلَنَا خَاصَّةً، أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً؟ فقَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَطْلُبُ الْعِلْمَ، إِلا كَانَ كَفَّارَةَ مَا تَقَدَّمَ» . رواه التُرْمُذِي مختصرًا، وَالطَّبَرَانِي في الكبير واللفظُ لهُ. قال بَعضُ العلماء: مَن غَرَسَ العلم اجْتَنَى النباهَةِ، وَمَنْ غَرَسَ الزُّهْدَ اجْتَنَى العِزَّةَ، وَمَنْ غَرَسَ الإِحسان اجْتَنَى المحبةَ، وَمَنْ غَرَسَ الفكرة اجْتَنَى الحِكْمَةَ، وَمَنْ غَرَسَ الوَقَارَ اجْتَنَى المَهَابَة، وَمَنْ غَرَسَ المَدَارَة اجْتَنَى السَّلامَة، وَمَنْ غَرَسَ الكِبَرَ اجْتَنَى المَقْتَ، وَمَنْ غَرَسَ الحِرْصَ اجْتَنَى الذِّلَّةَ، وَمَنْ غَرَسَ الطَّمَعَ اجْتَنَى الخِزْيَ، وَمَنْ غَرَسَ الحَسَدَ اجْتَنَى الحُزْنَ والكَمَدَ. 7- وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما اكْتَسَبَ مُكْتَسِبٌ مِثْلَ فَضْلِ عِلْمٍ يَهْدِي صَاحِبَهُ إِلى هُدَى أَوْ يَرُدَّهُ عَنْ رَدَى وَمَا استقامَ دِينُهُ حتى يَسْتَقِيمَ عَمَلُه» . رواه الطبراني في الكبير واللفظُ والصغيرِ إلا أنه قَال فيهِ: حتى يَسْتَقِيمَ عَقلُهُ. وإسنادُهُمَا متقارِبٌ. 8- وَرُوِيَ عن أبي ذَرّ، وأبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنهُما قالا:

لبابٌ يتعلمُهُ الرجلُ أحَبُّ إلى الله مِنْ أَلفِ رَكْعَةٍ تَطَوُّعًا وقالا: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا جاءَ الموتُ لِطَالِبِ العِلْمِ وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الحَالةِ ماتَ وهو شهيدٌ» . رواه البزارُ، والطبرانيُّ في الأوسطِ إلا أنه قال: «خيرٌ له مِنْ أَلفِ رَكْعة» . 9- وعنْ أبي ذَرّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا أَبَا ذَرٍّ لأَنْ تَغْدُوَ فَتَعَلَّمَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ مِائَةَ رَكْعَةٍ وَلأَنْ تَغْدُوَ فَتَعَلَّمَ بَابًا مِنْ الْعِلْمِ عُمِلَ بِهِ أَوْ لَمْ يُعْمَلْ بِهِ خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ أَلْفَ رَكْعَةٍ» . رواه ابن ماجة بإسنادٍ حسنٍ. شِعْرًا: إذا ما شِئتَ أَنْ تَسْمُو وَتُسْمَى ... وَتُدْرِكَ رَاحَةً رُوحًا وَجِسْمًا فَقُمْ لِطَرِيقِ أَهْلَ العِلْمِ سَعْيًا ... لِتَقْفُوا مَعْهُمُوا أَثَرًا وَرَسْمًا فَإِنْ حَصَّلْتَ مَطْلُوبًا وَإلا ... ظَفِرْتَ بِأَكْبَرِ الشَّرَفَيْنِ قَسْمَا فَأَكْرَمُ مَا حَوَاهُ المَرْءُ عِلْمٌ ... بِهِ يُهَدَى وَيَهْدِي مَنْ أَلَمَّا وَلَيْسَ يُفِيدُ الْكَوْنَ عَبْدًا ... إِلَى العَلْيَاءِ يَسْرِي وَهْوَ أَعْمَى فَكَمْ أَبْدَى ضِيَاءُ العِلْمِ رُشْدًا ... وَأَذْهَبَ ظُلْمَةً وَأَزَالَ غَمًا فَنَحْمَدُ رَبَّنَا إِذْ مَنَّ لُطْفًا ... بِهِ في رُشْدِنَا وَأزَالَ غَمًّا آخر: إذَا مِتُّ فانْعِيْنِقي إلِى العِلْمُ والنِّهَى ... وَمَا حَبُّرتْ كِفِّيْ بِمَا في المَحَابَرِ فَإِنِّي مِنْ قَوْمٍ بِهِمْ يَضِحُ الهُدَى ... إِذَا أَظْلَمَتْ بالقَوْمِ طُرْقُ البَصَائِرِ 10- وعن أبي هُريرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالاهُ وَعَالِمًا ومُتَعَلِّمًا» . رواه التُرمُذِي، وابنُ ماجة، والبَيْهَقِي. وقالَ الترمذيُّ: حَدِيثٌ حَسَن. 11- وعن ابن مسعودٍ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ حَسَدَ إِلا فِي اثْنَيْنِ: رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ،

وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ الحِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا» . رواه البخاري، ومسلم. 12- وعن أبي موسى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قالَ رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ وَأَنْبَتَتْ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَزرَعَوْا، وَأَصَابَ طَائِفَةً أُخْرَى مِنْهَا إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالى وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِيَ اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» . رواه البخاري، ومسلم. شِعْرًا: اعْمَلْ بِعِلْمِكَ تُؤْتَ حِكْمَةً إِنَّمَا ... جَدْوَى عُلومِ المَرْءُ نِهْجَ الأَقْوَمِ وَإِذَا الفَتَى قَدْ نَالَ عِلْمًا ثُمَّ لَمْ ... يَعْمَلْ بِهِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمِ آخر: وَاعْلَمْ بأنَّ العِلْمَ أَرفعُ رُتْبَةً وَأَجَلُّ مكتسبًا وَأَسْنَى مَفْخَرٍ فَاسْلُكْ سبيلَ المُقْتَفِينَ لَهُ تَسُدْ إِنَّ السِّيادَةَ تُقْتَنَى بالدَّفْتَر والعالِمُ المدعُوُّو حَبْرًا إِنَّمَا سَمَّاهُ باسمِ الحَبْرِ حَمْلُ المَحْبَرِ تَسْمُوا إِلَى ذِي العِلْمِ أَبْصَارُ الوَرَى وَتَغُضُّ عن ذِي الجَهْلِ لا بَلْ تَزْدَرِي وَمُضَمَّرُ الأقلامِ يَبْلغُ أَهلُها مَا ليسَ يُبْلغُ بِالعِتَاقِ الضُّمَّرِ والعِلمُ ليس بنافِعٍ أَرْبَابَهُ

ما لَمْ يُفْدْ عَمَلاً وَحُسْنَ تَبَصُّرِ فاعْمَلْ بعلْمِكَ تُوفِ نَفسَك وزنْهَا لا تَرْضَى بالتَّضييعِ وَزْنَ الْمُخْسِّرِ آخر: وَبَّخْتَ غَيْرَكَ بِالْعَمَى فَأفَدْتَهُ ... بَصَرًا وَأَنْتَ مُحَسِّنٌ لِعَمَاكَا كَفَتِيلَةِ الْمِصْبَاحِ تَحْرِقُ نَفْسَهَا ... وتُضِيءُ للأَعْشَى وأَنْتَ كَذاكَا آخر: جَزَى اللهُ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ مَثُوبَةً ... وَبَوأَهُم فِي الْخَلْدِ أَعْلَى الْمَنَازِلِ فَلَولا اعْتِنَاهُم بالْحَدِيثِ وحِفْظِهِ ... وَنَفْيهُمُ عَنْهُ ضُروبَ الأَبَاطِلِ وَإنْفَاقَهُمْ أَعْمَارَهُمْ فِي طِلابِهِ ... وَبَحْثِهُمُ عَنْهُ بِجِدٍ مُوَاصلِ لِمَا كَانَ يَدْرِي مَنْ غَدَا مُتَفَقهًّا ... صَحِيح حَدِيثٍ مِنْ سَقِيم وَبَاطِلِ وَلَمْ يَسْتَبْنِ مَا كَانَ فِي الذِّكْرِ مُجْمَلاً ... وَلَمْ نَدْرِي فَرْضًا مِنْ عُمُومِ النَّوافِلِ لَقَدْ بَذَلُو فِيهِ نُفُوسًا نَفِيسَةً ... وَبَاعُوا بِحَظِّ آجلٍ كُلَّ عَاجِلِ فَحُبُّهمُ فَرْضٌ عَلَى كُلَّ مُسْلمٍ ... وَلَيْسَ يُعَادِيهم سِوَى كُلّ جَاهلِ اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَعْرِفَتِكَ بَأسْمَائِكَ وَصِفَاتِكَ وأَفْعَالِكَ وارْزُقْنَا الرِّضَا بِقَضَائِكَ وَقَدَرِكَ والتَّوكُّلَ عَلَيْكَ فِي كُلِّ ضَيْقٍ وَسَعَةٍ وَشَدَّةٍ وَرَخَاءٍ وَكَلَّ مَا تَيَسَّرَ، اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِسُلُوكِ صِِرَاطِكَ الْمُسْتَقِيمِ وَجَنِّبْنَا جَمِيعَ مَا يُغْضِبُكَ يَا كَرِيمُ وَأَعِذْنَا مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ والْجَحِيمْ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ 11) 13- عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، أوْ مُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لابنِ

السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ تَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ» . رواهُ ابنُ ماجَة بإسنادٍ حَسنٍ، والبيهقيُّ. 14- وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا مَاتَ ابن آدم انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، أوْ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ الناسُ بِهِ، أوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وغيرُهُ. 15- وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلانِ: أَحَدُهُمَا عَابِدٌ، وَالآخَرُ عَالِمٌ، فَقَالَ عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ: «فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ» ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ» . رواهُ التِّرْمِذِي. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ عائشة مختصَرًا قَالَ: «مُعَلِّمُ الْخَيْرِ يَسْتَغْفِرُ لهُ كلُّ شَيءٍ حتَّى الْحِيتَانُ في الْبَحْرِ» . 16- ورُويَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا عُبِدَ اللَّهُ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ فِقْهٍ فِي دِينٍ، وَفَقِيهٌ واحدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ وَلِكُلِّ شَيْءٍ عِمَادٌ، وَعِمَادُ هَذَا الدِّينِ الْفِقْهُ» . وقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لأَنْ أَجْلِسَ سَاعَةً فَأَفْقَهَ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ أَنْ أُحْيِىَ لَيْلَةً الْقدْر. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي، والْبَيْهَقِي. إِلا أَنَّهُ قَالَ: أَحَبُّ إليّ مِنْ أَنْ أُحْيِي لَيْلَةً إِلى الصَّبَاحِ. وقَالَ الْمَحْفُوظَ: هَذَا اللفْظُ مِنْ قَوْلِ الزُّهَرِيُّ. شعرًا: تَعَلَّمْ يَا فَتَى والْعُودُ رَطْبً ... وَطِينُكَ لَيِّنٌ والْعُمْرُ قَابلْ وَحَسْبُكَ يَا فَتَى شَرفًا وَفَخْرًا ... سُكُوتُ الْحَاضِرينَ وَأَنْتَ قَائِلْ 17- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّهُ مَرَّ بِسوقِ الْمَدِينةِ فَوقَفَ عليها، فقَالَ يَا أَهْلَ السُّوقِ مَا أَعْجَزَكُمْ؟ قَالَوا: وَمَا ذَاكَ يَا أَبَا هُرَيْرُةَ؟

قَالَ: ذَاكَ مِيرَاثُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُقْسَمُ، وَأَنْتُمْ هَا هُنَا ألا تَذْهَبُونَ فَتَأَخُذُونَ نَصِيبَكُمْ مِنْهُ. قَالَوا: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي الْمَسْجِدِ فَخَرَجُوا سِرَاعًا وَوَقَفَ أَبُو هُرَيْرَةَ لَهُمْ حَتَّى رَجَعُوا فَقَالَ لَهُمْ: مَا لَكُمْ؟ فقَالَوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قَدْ أَتَيْنَا الْمَسْجِدَ، فَدَخَلْنَا فيه فَلَمْ نَرَ فِيهِ شَيْئًا يُقْسَمُ، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ: ومَا رَأَيْتُمْ فِي الْمَسْجِدِ أَحَدًا؟ قَالَوا: بَلَى، رَأَيْنَا قَوْمًا يُصَلُّونَ، وَقَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَقَوْمًا يَتَذَاكَرُونَ الْحَلالَ وَالْحَرَامَ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَيْحَكُمْ فَذَاكَ مِيرَاثُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ الطَّبَرَانِي فِي الأَوْسَطِ بإسنادٍ حَسَنٍ. 18- وَعَنْ جَابَرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعِلْمُ عِلْمانِ: عِلْمُ في الْقَلْبِ فذاكَ الْعِلْمُ النَّافِعُ، وعِلْمٌ عَلَى اللَّسَانِ فَذَاكَ حُجَّةُ اللهِ عَلَى ابْنِ آدمَ» . رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الخَطيبُ بإسْنَادٍ حَسَن. وَرَوَاهُ ابنُ عبدِ الْبَرِّ النَّمِرِي فِي كتابِ الْعِلْمِ عن الْحَسَن مُرْسَلاً بإسنادٍ صَحِيحٍ. شعرًا: لا خَيْرَ فِي الْعِلْمِ إنْ لَمْ يَرْقَ صَاحُبُه ... عَلَى أَسَاسٍ مِنَ الأَخْلاقِ في الصِّغَرِ كَمْ عَالمٍ فَاسِدٌ ضَلَّتْ مَذَاهِبُهُ ... وَقَدْ غَدَا عِلمُهُ شَرًا عَلَى الْبَشَرِ إَبْلِيسُ أَعْلَمْ الْفِسْقِ قَاطِبةً ... والنَّاسُ تَلْعَنُهُ فِي الْبَدْوِ والْحَضَرِ الْعِلْمُ كَالْغَيْثِ والأَخْلاقُ مَزْرَعَةٌ ... إِنْ تَخْبُثِ الأَرْضُ تَذْهَبِ نِعْمَةُ الْمَطَرِ والجهلُ أَفْضَلُ مِنْ عِلْمٍ يُدَنِّسُهُ ... نُضْجُ الرَّذِيلَةِ مِنْ أَخْلاقِ مُقْتَدِرِ 19- وَعَنْ زَرِّ بن حُبَيْشٍ قَالَ: أَتَيْتُ صَفْوَانَ بن عَسَّالٍ الْمُرَادِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: مَا جَاء بِكَ؟ قُلْتُ: الْعِلْمُ. قَالَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ خَارِجٍ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ إِلا وَضَعَتْ لَهُ الْمَلائِكَةُ أَجْنَحَتِهَا رِضًا بِمَا يَصْنَعُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذيَّ وَصَحَّحه. وابنُ ماجَة واللفظُ لهُ، وابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَالْحَاكِمْ. وقَالَ: صَحيحُ الإِسْنَادِ.

وَرَوَى عَبْدُ اللهِ بن عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِمَجْلِسَيْنِ أحدُهُما يذْكرون الله تعالى والآخرون يَتَفَقَّهُون، فقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كلا مَجْلِسَيْنِ عَلَى خَيْر، وأَحَدُهَمَا أَحَبُّ إليّ مِنْ صاحِبِهِ. أَمَّا هَؤلاءِ فَيَسْأَلُونَ اللهَ تَعالى وَيَذْكُرُونَهُ فَإنْ شَاءَ أَعْطَاهُمْ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُمْ، وَأَمَّا الْمَجْلِسُ الآخَرُ فَيَتَعَلَّمُونَ الفِقْهَ وَيُعَلِّمُونَ الْجَاهِلَ وإنما بُعِثْتُ مُعَلِّمًا» . وَجَلَسَ إِلى الْفقهِ. ورُوِي عَنْ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «خِيَارُ أُمَّتِي عُلَمَاؤُها، وَخِيارُ عُلمَائِهَا فُقَهَاؤُهَا» . يَمُوتُ قَوْمٌ وَيُحْيِي الْعِلْم ذِكْرهُمُ ... والْجَهْلُ يُلْحِقُ أَحْيَاءٌ بأًمْوَاتِ آخر: ... تَعَلَّمْ فإنَّ الْعِلْمَ زَينٌ لأهْلِهِ وَفَضْلٌ وَعنوانٌ لِكُلِّ الْمَحَامِدِ وَكُنْ مُسْتَفِيدًا كُلَّ يَومٍ زِيادَةً مِنْ الْعِلْمِ واسْبحْ في بُحُورِ الْفَوَائِدِ تَفَقَّهْ فإنَّ الْفِقْهَ أَفْضَلُ قَائِدٍ إِلى الْبِرِّ والتَّقوَى وَأَعْدَلُ قَاصِدِ هُو الْعلْمُ الْهَادِي إلى سُنَنِ الْهُدَى هُوَ الْحِصْنُ يُنْجِي مِنْ جَمِيعِ الشَّدائِدِ فَإِنْ فَقِيهًا وَاحِدًا مُتَورِّعًا أَشَدُّ عَلى الشَّيطانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدِ آخر: ... وَعَابَ سَمَاعِي للْحَدِيثِ بُعَيْدَمَا ... كَبْرتُ أُنَاسٌ هُمْ إلى الْعَيْبِ أَقْرَبُ وَقَالُوا إِمَامٌ فِي عُلُومِ كَثِيرَةٍ ... يَرُوحُ وَيَغْدُ سَامِعًا يَتَطَلَّبُ فَقُلْتُ مُجِيبًا عَنْ مَقَالَتِهِمْ وَقَدْ ... غَدَوْتُ لِجَهْلٍ مِنْهُمُ أَتَعَجَّبُ إِذَا اسْتَدْرَكَ الإِنْسَانُ مَا فَاتَ مِنْ عُلا ... فِللْحَزْمِ يُعْزَى لا إلى الْجَهْلِ يُنْسَبُ آخر: ... يَلُومُونِي إِنْ رُحْتُ فِي الْعِلْمِ دَائِبًا ... أَجْمَعُ مِنْ عَنْدِ الرُّوَاة فُنُونَهُ

فَيَا عَاذِلي دَعْنِي أَغَالِي بقِيمَتِي ... فَقِيمَةُ كُلُّ النَّاسِ مَا يَحْسِنُونَهُ آخر: ذَوُوا الْعِلْمِ فِي الدُّنْيَا نُجومُ هِدَايةٍ إِذَا غَابَ نَجْمٌ لاحَ بَعْدُ جَدِيدُ بِهمْ عَزَّ دِينُ اللهِ طُرًّا وَهُمْ لَهُ مَعَاقِلُ مِنْ أَعْدَائِهِ وَجُنُودُ آخر ... وَمَا أَنَا بَالْغَيْرَانِ مِنْ دُونِ جَارتي ... إذَا أَنَا لم أُصْبِحْ غَيوُرًا عَلَى الْعِلْمِ آخر: أَرَى الْعِلْمِ أَعْلَى رُتْبَةً فِي الْمَراتِبِ ... ومِنْ دُونِهِ عِزُّ الْعُلَى فِي الْمَوَاكِبِ فَذُو الْعِلْم يَبْقَى عِزَّهُ مُتَضَاعِفًا ... وَذُو الْجَهْلِ بَعْدَ الْمَوْتِ تَحْتَ التَّرَائِبِ فَهَيْهَاتَ لا يَرْجُو مَدَاهُ مَنْ ارْتَقَى ... رُقِيَّ وَليّ الْمُلْكِ وَالي الْكَتَائِبِ سَأُمْلِي عَلَيْكُمْ بَعْضَ ما فِيهِ فَاسْمَعُوا ... فَبِي حَصَرٌ عن ذِكْرِ كُلَّ الْمَنَاقِبِ هُو النُّورُ كُلُّ النُّورِ يَهْدِي عن الْعَمَى ... وَذُو الْجَهْلِ مَرَّ الدَّهْرِ بَيْنَ الْغَيَاهِبِ هُو الذُّرْوَةُ الشَّمْاءُ تَحْمِِي مَنْ الْتَجَا ... إِلَيْهَا وَيَمْشِي آمِنًا فِي النَّوَائِبِ بِهِ يَنْتَجِي والنَّاسُ في غَفَلاتِهِمْ ... بِهِ يَرْتَجِي والرُّوحُ بَين التَّرَائِبِ بِهِ يَشْفَعُ الإِنْسَانُ مَنْ رَاحَ عَاصِيًا ... إِلى دَرَكِ النِّيرَانِ شَرِّ الْعَواقِبِ فَمَنْ رَامَه ُرَامِ الْمَآرِبَ كُلَّهَا ... وَمَنْ حَازَهُ قَدْ حَازَ كُلَّ الْمَطَالِبِ هُوَ الْمَنْصِبُ الْعَالِي فَيَا صَاحِبَ الْحَجَا ... إِذَا نِلْتَهُ هَوِّنْ بِفْوتِ الْمَنَاصِبِ فَإِنْ فَاتَتَ الدُّنْيَا وَطِيبُ نَعِيمِهَا ... [فَغَمَّضْ] فَإِنَّ الْعِلْمَ خَيْرُ الْمَوَاهِبِ آخر: ... الْعِلْمُ إِنْ لَمْ تَكْتَنِفْهُ شَمَائِلٌ ... تُعْلِيهِ كَانَ مَطِيَّةَ الإِخْفَاقِ لا تَحْسَبَنَّ الْعِلْم يَنْفَعُ وَحْدَهُ ... مَا لَمْ يُتَوَّجْ رَبُّهُ بِخَلاقِ كَمْ عَالِمٍ مَدَّ الْعُلُومَ حِبَائِلاً ... لِوَقِيعَةٍ وَقَطِيعَةٍ وَفِرَاقِ

من كلام ابن القيم وغيره في العلم وفضله وشرفه وعموم الحاجة إليه

وَفَقِيهِ قَوْمٍ ظَلَّ يَرْصُدُ فِقْهَهُ ... لِمَكِيدَةٍ أَوْ مُسْتَحِلَّ طَلاقِ يَمْشِي وَقَدْ نُصِبَتْ عَلَيْهِ عمَامَةٌ ... كَالْبُرْجِ لَكْنِ فَوْقَ تلِّ نِفَاقِ وَطَبِيبِ قَوْمٍ قَدْ أَحَلَّ لِطِبِّهِ ... ما لا تُخِلُ شَريعَةُ الْخَلاقِ قََتَل الأجِنَّةِ فِي الْبُطُونِ وَتَارةً ... جَمَعَ الدَّرَاهِمَ مِنْ دَمِ مِهرَاقِ آخر: مَا الْفَخْرُ إِلا لأَهْلِ الْعِلْمِ إِنَّهُمْ ... عَلَى الْهُدَى لِمَنْ اسْتَهْدَى أدلاءُ وَقِيمَة الْمَرْءِ ما قَدْ كَانَ يُحْسِنُهُ ... والْجَاهِلُونَ لأَهْلِ الْعِلْمِِ أَعْدَاءُ فَعِشْ بِعِلْمِ تَفُزْ حَيًّا بِهِ أَبَدَا ... النَّاسُ مَوْتَى وَأَهْلُ الْعِلْمِ أَحْيَاءُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. (فَصْلٌ 12) قَالَ ابنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: الأَصْلُ الأولُ فِي الْعِلْمِ وَفَضْلِهِ وَشَرَفِهِ وَبَيَانِ عُمُومِ الْحَاجَةِ إِليهِ وَتَوَقُّفِ كَمَالِ الْعبدِ ونَجَاتِهِ في مَعِاشِهِ وَمَعادِهِ عليهِ. قَالَ اللهُ تعالى: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} استشْهدَ سبحانه بأولي العلمِ على أَجَلِّ مَشْهودٍ عَلَيْهِ وَهُو توحيدُهُ فقَالَ: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ} وَهَذا يدلُّ على فضْلِ الْعِلْمِ وأهلِهِ مِنْ وُجوِهٍ. أَحدُها: استشهادُهُمْ دُونَ غَيْرِهمْ من الْبَشَر، والثاني: اقترانُ شهادَتِهِمْ بِشَهَادِتِهِ، والثالثُ: اقترَانُها بشهادَةِ مَلائِكتِهِ، والرابعُ: أنّ في ضِمْنِ هذا تزْكِيَتَهُمْ وَتَعْدِيلَهُمْ فإنّ اللهَ لا يستشْهِدُ من خلقِهِ إلا العُدولَ ومنْهُ الأثَرُ الْمَعْرُوفُ عن النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَحْمِلُ هذا الْعِلْمَ مِنْ كلِّ خَلَفِهِ عُدُوله ينفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الغالين وانْتِحَالَ الْمُبْطِلينَ وَتَأويلَ الْجَاهِلين» .

والْخَامِسُ: أَنَّهُ وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهمْ أَوْلَي الْعِلْمِ وهذا يدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِهِمْ بهِ وَأَنهُمْ أَهْلُهُ وَأَصْحَابُهُ لَيْسَ بِمُسْتَعَارٍ لَهُمْ. السَّادِسُ: أنَّهُ سُبْحَانَهُ اسْتشهد بنفسِهِ وَهو أجلُّ شاهدٍ ثُمْ بِخِيارِ خلقِهِ وهم ملائكتُهُ والْعلماءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَكْفِيهِمْ بِهَذَا فَضْلاً وَشَرفًا. السَّابعُ: أَنَّهُ اسْتَشْهَدَ بِهمْ على أجَلِّ مشهودٍ بِهِ وَأَعظمِهِ وَأَكْبرهِ وَهو شهادةُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ والعَظِيمُ الْقَدْرِ إِنَّما يَسْتَشْهِدُ عَلى الأمرِ العظيمِ أكابِرَ الْخَلْقِ وَسَادَاتِهمْ. الثامِن: أنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ شَهَادَتَهُمْ حُجَّةً عَلَى الْمنكِرِينَ فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَدِلَّتِهِ وآيَاتِهِ وَبَرَاهِينِهِ الدَّالة على توحيدِهِ. التاسع: أنَّهُ سُبْحَانَهُ أَفردَ الْفعلَ الْمُتضمنَ لِهَذِهِ الشَّهادَةِ الصَّادرةِ منهُ ومِنْ مَلائكتِهِ وَمِنْهُمْ وَلَمْ يعطِفْ شهادَتَهُمْ بِفِعْلٍ آخَرَ غَيْرَ شِهادتِهِ. وهذا يدلُ على شدةِ ارتباطِ شهادتِهمْ بشهادِتِهِ فكأنَّهُ سُبْحانَه شَهِدَ لنفْسِهِ بَالتَّوْحِيدِ على ألسِنَتهِمْ وأنْطَقَهُمْ بِهَذِهِ الشَّهْادةِ فَكَانَ هو الشاهدّ بِها لِنَفْسِهِ إِقامَةً وَإِنْطَاقًا وَتَعْلِيمًا وَهُمْ الشَّاهِدُونَ بِهَا لَهُ إقْرارًا واعْتِرَافًا وَتَصْدِيقًا وَإِيمَانًا. العاشرُ: أنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَهُمْ مؤدّينَ لحقِّهِ عندَ عبادِهِ بهذهِ الشهادةِ فَإِذَا أدَّوْهَا فَقَدْ أدّوا الحقَّ المشهودَ بِهِ فَثبتَ الحقُّ المشهودُ بِهِ فَوَجَبَ عَلى الْخَلْقِ الإقرارُ بِهِ وَكَانَ ذلك غايةَ سَعَادَتِهمْ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ وَكلُّ مَنْ نالهُ الْهُدَى بشهادتِهم وَأقرَّ بهذا الحقِّ بسببِ شهادتِهم فلهُمْ مِنَ الأَجْرِ مثلُ أَجْرِهِ أَيْضًا فَهِذِهِ عَشرةَ أوجُهٍ في هذه الآيةِ. الحادي عَشَرَ: في تفضيلِ العلْمِ وأَهْلِهِ أَنَّهُ سبحانه نَفَى التسْويَةَ بَيْنَ أَهْلِهِ وبينَ غَيْرِهِمْ كما نفى التسويةَ بين أصحاب الجنة وأصحاب النار.

فقَالَ تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} كما قَالَ تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} وَهَذا يَدُلُّ عَلى غايةِ فَضْلِهِمْ وَشَرَفِهِمْ. الوجهُ الثاني عَشَرَ: أنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ أَهْلَ الْجَهْلِ بِمَنْزِلَةِ الْعُمْيانِ الذينَ لا يُبْصِرونَ فقَالَ: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} فَمَا ثَمَّ إِلا عَالِمْ أَوْ أَعْمَى وَقَدْ وَصَفَ سُبْحَانَه أَهْلَ الْجَهْلِ بأنَّهمْ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ في غير مَوْضِعٍ مِنْ كتابِهِ. شعرًا: مَا أَقْبَحَ الْجهْلَ يُبْدِي عَيْبَ صَاحِبهِ ... لِلنَّاظِرين وعن عَيْنَيْهِ يُخْفِيهِ كَذَالِكَ الثُومُ لا يَشْمُمْهُ آكِلُهُ ... والناسُ تَشْتَمُّ نَتَنَ الرِّيحِ مِنْ فِيهِ الوجهُ الثالثَ عَشَرَ: أنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخبَرَ عَنْ أُولي الْعِلْمِ بَأنَّهُمْ يَرَوْن أنَّ مَا أُنْزِلَ إليهِ مِنْ رَبِّهِ حَقٌّ وَجَعل هذا ثَنَاءً عَلَيْهِمْ وَاسْتِشْهَادًا بهم. فقَالَ تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} . الوجهُ الرابعَ عَشَرَ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِسُؤالهِمْ والرجوعِ إِلى أقْوَالِهمْ وَجَعَلَ ذَلِكَ كَالشَّهَادَةِ مِنْهُمْ. فقَالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} وَأَهْلُ الذَّكْرِ هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى الأَنْبِيَاءِ. الْوَجْهُ الْخَامِسَ عَشَرَ: أنَّهُ سُبْحَانَهُ شَهِدَ لأَهْلِ الْعِلْمِ شَهَادَةً في ضِمْنِهَا الاسْتِشْهادُ بِهِمْ عَلى صِحَّةِ ما أَنْزَلَ اللهُ على رَسولِهِ فقَالَ تعالى: {أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصْلٌاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} .

الوجهُ السادسَ عَشَرَ: أنَّهُ سُبْحَانَهُ سَلَّى نَبيَّهُ، بإيمانِ أهلِ الْعِلْمِ به وَأمَرَهُ أَنْ لا يَعْبَأ بَالجْاَهِلِينَ شَيْئًا. فقَالَ تَعَالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً * قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} وهذا شَرَفٌ عظيمٌ لأهْلِ الْعِلْمِ وَتَحْتَه أنَّ أَهْلَهُ الْعَالِمُونَ قَدْ عَرَفوهُ وآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوا فَسواءٌ آمنَ بِهِ غيرُهُم أوْ لا. الوجهُ السابعَ عَشَرَ: أنهُ سُبْحَانَهُ مَدَحَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ وَشَرَّفَهُمْ بَأنْ جَعَلَ كِتَابَهُ آياتٍ بَيْناتٍ فِي صُدورِهِمْ وَهَذِهِ خاصةٌ وَمَنْقَبَةٌ لَهُمْ دَوُنَ غَيْرِهِمْ. فقَالَ تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ. {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} وَسَواءً كَانَ الْمَعْنَى أَنَّ الْقُرْآنَ مُسْتَقِرٌ فِي صُدُوِرِ الذين أوتوا الْعِلْمَ ثابتٌ فِيهَا مَحْفوظٌ وَهَو في نفسِهِ آياتٌ بيناتُ فيكونُ أَخبَرَ عَنهُ بَخَبَرَيْنِ. أَحدُهُمَا: أنه آياتٌ بيناتٌ. الثاني: أنهُ محفوظٌ مُسْتَقرٌّ ثَابتٌ في صدورِ الذين أوتوا العلمَ. أو كان الْمَعْنَى أَنَّهُ آيات بينات في صدورهم أي كونُه آياتٍ بيناتٍ مَعْلومٌ لَهمْ ثابتٌ في صدورِهِمْ والْقَوْلانِ مُتَلازِمانِ لَيْسَا بمُخْتَلِفَيْن. وَعلى التَّقْدِيرَيْنِ فَهوَ مَدْحٌ لَهُمْ وَثَنَاءُ عليهم في ضِمْنِهِ الاستشهادُ بِهمْ فتأمَّلْهُ. الوجهُ الثامنَ عَشَرَ: أنهُ سُبْحَانَهُ أمرَ نَبيَّهُ أَنْ يَسْأَلَهُ مَزِيدَ الْعِلْمِ فقَالَ تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} وَكَفَى بِهَذَا شَرفًا لِلْعِلْمِ أَنْ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَسْأَلَهُ

الْمَزيدَ مِنْهُ. اللَّهُمَّ عَلِّمْنَا مَا يَنْفَعْنَا وَانْفَعْنَا وَارْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا. شعرًا: ... الْعِلْمُ مُبْلِغُ قَوْمٍ ذُرْوَةَ الشَّرَفِ وَصَاحُب الْعِلْمِ مُحْفُوظٌ مِن التَّلَفِ يَا صَاحِبَ الْعِلْمِ مَهْلاً لا تُدَنّسَهُ بَالْمُوبِقَاتِ فَمَا لِلْعِلْمِ مِنْ خَلَفِ الْعِلْمُ يَرَفَعُ بَيْتًا لا عِمَادَ لَهُ وَالْجَهْلُ يَهْدِمُ بَيْتَ الْعِزِّ والشَّرَفِ الوجهُ التاسِعَ عَشَرَ: أنهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ عَنْ رَفْعِهِ دَرَجاتِ أهلِ الْعِلْمِ وَالإِيمَانِ خَاصَّةً. فقَالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} . قَصِيدةٌ في الْحَثِّ على طَلَبِ الْعِلْمِ: يَا تَارِكًا لِمَرَاضِي اللهِ أَوْطَانًا وَسَالِكًا فِي طَرِيقِ الْعِلْمِ أَحْزَانَا كُنْ باذِلَ الْجدِّ فِي عِلْم الحديثِ تَنَلْ كُلَّ الْعُلومِ وَكُنْ بالأَصْلِ مُشْتَانَا فَالْعِلْمُ أَفْضَلُ مَطْلُوبٍ وَطَالبُهُ مِنْ أَكَمْلِ النَّاسِ مِيزَانًا وَرُجْحَانَا وَالْعِلْمُ نُورٌ فَكُنْ بَالْعِلْمِ مُعْتَصِمًا إِنْ رُمْتَ فَوْزًا لَدَى الرَّحْمَنِ مَوْلانَا وَهُوَ النَّجَاةِ وَفِيهِ الْخَيْرِ أَجْمَعَهُ وَالْجَاهِلُونَ أَخَفَّ النَّاسِ مِيزَانَا وَالْعِلْمُ يَرْفَعُ بَيْتًا كَانَ مُنْخَفِضًا

وَالْجَهْلُ يَخْفِضُهُ لَوْ كَانَ مَا كَانَا وأرفعُ الناسِ أهلُ الْعِلْمِ مَنْزِلةً وَأَوْضَعَ النَّاسِ مَنْ قَدْ كان حَيْرَانَا لا يَهْتَدِي لِطَرِيقِ الْحَقِّ مِنْ عَمَهٍ بَلْ كَانَ بِالَجَهْلِ مِمَّنْ نَال خُسْرانَا تَلقاهُ بَيْنَ الوَرَى بالْجَهْلِ مُنْكَسِرًا لا يَدْرِ مَا زَانَهُ في النَّاسِ أَوْ شَانَا وَالْعِلْمُ يَرْفَعُهُ فَوْقَ الْوَرَى دَرَجَا وَالنَّاسُ تَعْرفُهُ بالْفَضْلِ إِذْ عَانَا وَطَالبُ العِلمِ إِنْ يَظْفَرْ بِبُغْيَتِهِ يَنَالُ بالعلمِ غُفْرانًا وَرِضْوَانَا فَاطْلُبْهُ مُجْتَهِدًا مَا عِشْتَ مُحْتَسِبًا لا تَبْتَغِي بَدَلاً إِنْ كُنْتَ يَقْظَانَا مَنْ نَالَهُ نَالَ فِي الدَّارَيْنِ مَنْزِلَةً أَوْ فَاتَهُ نَالَ خُسرانًا وَنُقْصَانَا وَبَاذِلُ الْجِدِّ فِي تَحْصِيلِهِ زَمَنًا وَلَمْ يَكنْ نَالَ بَعْدَ الْجِدِّ عُرْفَانَا فَلَنْ يَضِيعَ لَهُ سَعْيٌّ وَلا عَمَلٌ عِنْدَ الإِلَهِ وَلا يُولِيهِ خَسْرَانَا فَطَالِبُ الْعِلْمِ إِنْ أَصْفَى سَريرَتَهُ يَنَالُ مِنْ رَبِّنَا عَفْْوًا وَرِضْوَانَا فَالْعِلْمُ يَرْفَعُ فِي الْخُلْدِ مَنْزِلَةً وَالْجَهْلُ يُصْلِيهِ يَوْمَ الْحَشْرِ نِيرَانَا

.. والْجَهْلُ في هذِهِ الدُّنْيَا يَنْقُصْهُ وَالْعِلمُ يَكْسُوهُ تاجَ الْعِزِّ إِعْلانَا وَإِنْ تُرِدْ نَهْجَ هذا الْعِلْمِ تَسْلُكُهُ أَوْ رُمْتَ يَوْمًا لِمَا قَدْ قُلْتَ بُرْهَانَا فَألْقِ سَمْعًا لِمَا أُبْدِي وَكُنْ يَقْظًا وَلا تَكُنْ غَافِلاً عَنْ ذَاكَ كَسْلانَا قَدْ أَلَّفَ الشَّيْخَ فِي التَّوْحِيدِ مُخْتصَرًا يَكْفِي أَخَا اللُبِّ إِيضَاحًا وَتِبْيَانَا فِيهِ الْبيانُ لتَوْحِيدِ الإِلهِ بِما قَدْ يَفْعَلُ الْعَبْدُ لِلطَّاعاتِ إِيمِانَا حُبًّا وَخَوْفًا وَتَعْظِيمًا لَهُ وَرَجَا وَخَشْيَةً مِنْهُ لِلرَّحْمَنِ إذْعَانَا كَذَاكَ نَذْرًا وَذَبْحًا وَاسْتَغَاثَتُنَا والاستعانةُ بالْمَعْبُودِ مَوْلانَا وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ يَفْعَلُهُ للهِ مِنْ طَاعَةٍ سِرًّا وَإِعْلانَا وَفِيهِ تَوْحيدُنَا رَبَّ الْعِبَادِ بِمَا قَدْ يَفْعَلُ اللهُ أَحْكَامًا وَإِتْقَانًا خَلْقًا وَرِزْقًا وَإِحْيَاءً وَمَقْدُرةً بالاخْتِرَاعِ لِمَا قَدْ شَاءَ أَوْ كَانَا وَيَخْرُجُ الأمرُ عَنْ طَوْقِ الْعَبادِ لَهُ وَذَاك مِنْ شَأْنِهِ أَعْظِمْ بهِ شَانَا وَفِيهِ تَوْحِيدُنَا الرَّحْمَنَ أَنَّ لَهُ

.. صِفَاتِ مَجْدٍ وَأسْمَاءً لِمَوْلانَا تِسْعٌ وَتَسعُونَ اسْمًا غَيرَ مَا خَفِيتْ لا يَسْتَطِيعُ لَهَا الإِنْسَانُ حُسْبَانَا مِمَّا بِهِ اسْتَأْثَرَ الرَّحْمَنُ خَالِقُنَا أَوْ كَانَ علَّمَهُ الرَّحْمَنُ إِنْسَانَا نُمِرُّهَا كَيْفَ جَاءت لا نُكَيِّفْهَا بَلْ لا نُؤَوِّلَهَا تَأْوِيلَ مَنْ مَانَا وَفِيهِ تَبْيَانُ إِشْرَاكٍ يُنَاقُضُهُ بَلْ مَا يُنَافِيهِ مِنْ كُفْرَانِ مَنْ خَانَا أَوْ كَانَ يَقْدَحُ فِي التَّوْحِيدِ مِنْ بِدَعٍ شَنْعاءَ أَحْدَثَهَا مَنْ كان فَتَّانَا أَوْ الْمَعَاصِي الَّتِي تُزْرِي بِفَاعِلِهَا مِمَّا يُنَقِّصُ تَوْحِيدًا وَإِيمَانَا فَسَاقَ أَنْوَاعَ تَوْحِيدِ الإِلهِ كَمَا قَدْ كانَ يَعْرفُهُ مِنْ كَانَ يَقْظَانَا وَسَاقَ فِيهِ الذي قد كان يَنْقُضُهُ لِتَعْرِفَ الْحقَّ بالأضْدَادِ إِمْعَانَا مُضْمِّنًا كُلَّ بَابٍ مِنْ تَرَاجُمِهِ مِنْ النُّصوصِ آحَادِيثًا وَقُرْآنَا فَالشيخُ ضَمَّنَهُ ما يَطْمَئِنَّ لَهُ قَلْبُ الْمُوَحِّدِ إِيضَاحًا وَتِبْيَانَا فَاشْدُدْ يَدَيْكَ بِهِ فِي الأَصْلِ مُعْتَصِمًا يُورِثْكَ فِيمَا سِوَاهُ اللهُ عِرْفَانَا

وَانْظُرْ بِقَلْبِكَ في مَبْنَى تَرَاجُمِهِ تَلقَى هُنالِكَ لِلتَّحْقِيقِ عُنْوَانَا وَلِلْمَسَائِلِ فَانْظُرْ تَلْقَهَا حِكْمً يَزْدَادَ مِنهنَّ أَهْلُ الْعِلْمِ إِتْقَانَا وَقُلْ جَزَى اللهُ شَيْخَ الْمُسْلِمِينَ كَما قَدْ شَادَ لِلْمِلَّةِ السَّمْحَاءِ أَرْكَانَا فَقَامَ لِلَّهِ يَدْعُو النَّاسَ مُجْتَهِدًا حَتَّى اسْتَجَابُوا لَهُ مَثْنَى وَوُحْدَانَا وَوَحَّدُوا اللهَ حَقًّا لا شَرِيكَ لَهُ مِنْ بَعْدِ مَا انْهَمَكُوا فِي الْكُفْرِ أَزْمَانَا وَأَصْبَحَ الناسُ بعدَ الْجَهْلِ قَدْ عَلِمُوا وَطَالَ مَا هَدَمُوا لِلدِّين بُنْيَانَا وَأَظْهَرَ اللهُ هَذَا الدِّينَ وَانْتَشَرَتْ أَحْكَامُهُ فِي الْوَرَى مِنْ بَعْدِ أَنْ كَانَا بَالْجَهْلِ وَالْكُفْرِ قَدْ أَرْسَتْ مَعَالِمُهُ لا يَعْرِفُ النَّاسُ إِلا الْكُفْرِ أَزْمَانَا يَدْعُونَ غَيْرَ الإِلِهِ الْحَقَّ مِنْ سَفَهٍ وَيَطْلُبُونَ مِنَ الأَمْوَاتِ غُفْرَانَا وَيَنْسِكُونَ لِغَيْرِ اللهِ مَا ذَبَحُوا وَيَنْذِرُونَ لَغَيْرِ اللهِ قُرْبَانَا وَيَسْتَغِيثُونَ بَالأَمْوَاتِ إِنْ عَظُمَتْ وَأَعْضَلَتْ شِدَّةُ مِنْ حَادِثٍ كَانَا وَيَنْدِبُونَ لَهَا زَيْدًا لِيَكْشِفَها

بَلْ يَنْدِبُونَ لَهَا تَاجًا وَشُمْسَانَا فَزَالَ ثَمَّ بِهَذَا الشَّيخِ حِينَ دَعَا مَنْ صَدَّ أَوْ نَدَّ عَنْ تَوْحِيدِ مَوْلانَا فَلَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَدْعُو وَلِيجَتَهُ يَوْمًا بِنَجْدٍ وَلا يَدْعُونَ أَوْثَانَا بَلْ الدُّعَا كَلُّهُ وَالدِّينُ أَجْمعُهُ للهِ لا لِسِوَى الرَّحْمَنِ إِيمَانَا فَاللهُ يُعْلِيهِ فِي الْفِرْدَوْسِ مَنْزِلَةً فَضْلاً وَجُودًا وَتَكْرِيمًا وَإِحْسَانَا وَاللهُ يُولِيهِ أَلْطَافًا وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً مِنْهُ إِحْسَانًا وَرِضْوَانَا ثُمَّ الصَّلاةُ عَلَى الْمَعْصُومِ سَيَّدِنَا أَزْكَى الْبَرِيةِ إِيمَانًا وَعِرْفَانَا مَا نَاضَ بَرْقٌ وَمَا هَبَّ النَّسِيمُ وَمَا مِسَّ الْحَجِيجُ لِبَيْتِ اللهِ أَرْكَانَا أَوْ قَهْقَهَ الرَّعْدُ فِي هَدْبَاءَ مُدْجِنَةٍ أَوْ نَاحَ طَيْرٌ عَلَى الأَغْصَانِ أَزْمَانَا وَلآلِ والصَّحْبِ ثُمَّ التَّابِعينَ لَهُمْ عَلَى الْمَحَجَّةِ إِيمَانًا وَإِحْسَانَا اللَّهُمَّ هَبْ لَنَا مَا وَهَبْتَهُ لأَوْلِيَائِكَ وَتَوَفَّنَا وَأَنْتَ رَاضٍ عَنَّا وَقَدْ قَبِلْتَ اليسيرَ مِنَّا وَاجْعَلْنَا يَا مَوْلانَا مِنْ عِبَادِكَ الذين لا خوفٌ عليهم ولا هُمْ يَحْزَنونَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ احْفَظْنَا بَالإِسْلامِ قَائِمِينَ واحْفَظْنَا بَالإِسْلامِ قَاعِدِينَ واحْفَظْنَا بَالإِسْلامِ رَاقِدِينَ

وَلا تُشمِتْ بنا الأَعْدَاءَ وَلا الْحَاسِدينَ، اللَّهُمَّ وَعَافِنَا مِنْ مِحَنِ الزَّمَانِ وعَوَارضِ الْفِتنِ فَإِنَّا ضُعَفَاءِ، عَنْ حَمْلِهَا وَإِنْ كُنَّا مِنْ أَهْلِهَا فَعَافيتُكَ أَوْسَعُ يَا واسعُ يا عليمُ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ 13) : وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحانَهُ فِي كِتَابِهِ بِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ، أَحَدُهَا هَذَا. والثَّانِي قَوْلُهُ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} . (والثالثُ) قوله تعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} (والرابعُ) قوله تعالى: {وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً * دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} فَهَذِهِ أَرْبَعةُ مَوَاضِعَ فِي ثَلاثةٍ مِنْهَا الرِّفَعةُ بالدرجاتِ لأهْلِ الرِّفْعةِ بالْجِهَاتِ فعادَتْ رِفْعَةُ الدرجاتِ كُلِّهَا إِلى الْعِلْم والْجِهَادِ اللذَيْنِ بِهِمَا قِوامُ الدِّينِ. الوجهُ العشرون: أنَّهُ سُبْحَانَه اسْتَشْهَدَ بَأهْلِ الْعِلْمِ وَالإِيمَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلى بُطْلانِ قَوْلِ الْكُفَّارِ فقَالَ تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} . الوجهُ الحادِي والعشرونَ: أنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَهْلُ خَشْيَتِهِ بَلْ خَصَّهُمْ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ بِذَلِكَ. فقَالَ تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} .

شعرًا: لا يَنَالُ الْعِلْمَ شَخْصٌ وَقْتُهُ ضَائِعٌ عِنْدَ الْمَلاهِي والْكُرَهْ والتَّلافِيزَ وَمِذْيَاعِ الضَّرَرْ وَكَذَا الْفِدْيُو فَحَذِّرْ وَاحْذَرَهْ (فَصْلٌ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} وَهَذَا حَصْرٌ لِخَشْيَتِهِ في أُولِي الْعِلْمِ. وقَالَ تعالى: {جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ أَهْل خَشْيَتِهِ هُمْ الْعُلَمَاءِ. فَدَلّ عَلَى أَنْ هَذَا الْجَزَاءِ الْمَذْكُورَ لِلعلماءِ بمجموعِ النَّصَّيْنِ. وقَالَ ابنُ مَسْعِودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: كَفَى بَخشيةِ اللهِ عِلْمًا، وَكَفَى بَالاغْتِرَارِ بَاللهِ جَهْلاً. الوجهُ الثانِي والعشرون: أنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ عَنْ أَمْثَالِهِ التِي يَضْرُبها لِعبادِهِ يَدُلُّهم على صِحَّةِ مَا أَخْبَرَ بِهِ أَنَّ أَهْلَ العلمِ هُمْ الْمُنْتَفِعُونَ بِهَا الْمُخْتَصُّونَ بعِلْمِهَا فقَالَ تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} وفي القرآنِ بِضْعةٌ وَأَرْبَعونَ مَثَلاً وكان بعضُ السَّلَفِ إِذَا مَرَّ بِمَثَلٍ لا يفهَمُهُ يَبْكِي وَيَقَولُ: لَسْتَ مِنْ الْعَالِمِين. الوجهُ الثالثُ والعشرون: أنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ مُنَاظَرَةَ إِبْرَاهِيمَ لأبيهِ وَقَوْمِهِ وَغَلَبتِهِ لَهُمْ بَالْحُجةِ وَأَخْبَر عَنْ تَفْضِيلِهِ بذلكَ وَرْفعِهِ دَرجَتَهُ بعلمِ الْحُجَّةِ فقَالَ تَعَالَى عُقَيْبَ مُنَاظَرَتِهِ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ فِي سُورةِ الأنْعَامِ: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} قَالَ زَيْدُ بنُ أَسْلَمَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: نَرْفَعُ درجاتٍ مَنْ نَشاءُ بِعلمِ الْحُجَّةِ.

الوجهُ الرابعُ والعشرون: أنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ ووضَعَ بَيْتَهُ الْحَرامَ والشهرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائدَ لِيُعْلِمَ عِبَادَهُ أَنَّهُ بُكلِ شَيءٍ عَلِيمٌ وَعَلى كُلِ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فقَالَ تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} فَدَلَّ عَلى أَنْ عِلمَ الْعِبَادِ بربِّهِمْ وَصِفَاتِهِ وَعبادَتِهِ وَحْدَهُ هُو الْغَايةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْ الْخَلْق وَالأَمْرِ. شعرًا: الْعِلُم يَغْرِسُ كَلَّ فَضْلٍ فَاجْتَهِدْ أَنْ لا يفوتَكَ فَضلُ ذَاكَ المَغْرسُ وَاعْلَمْ بَأنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ يَنَالُهُ مَنْ هَمُّهُ فِي مَطْعَمٍ أَوْ مَلْبَسِ إِلا أَخُو الْعِلْمَ الذي يَزْهُو بِهِ فِي حَالَتَيْهِ عَارِيًا أَوْ مُكْتَسِي فَاجْعَلْ لِنَفْسِكَ مِنْهُ حَظًّا وَافِرًا وَاهْجُرْ لَهُ طِيبَ الرُّقادِ وَعَبِّسِ فَلَعلَّ يَوْمًا إِنْ حَضَرْتَ بِمَجْلِسٍ كُنْتَ الَّرئِيسَ وَفَخْرَ ذَاكَ الْمَجْلِسِ آخر: شُغِلنا بِكَسبِ العِلمِ عَن مَكسَبِ الغِنى ... كَشُغلِهِمُ عَن مَكسَبِ العِلمِ بِالوَفرِ فَصارَ لَهُم حَظٌّ مِنَ الجَهلِ وَالغِنى ... وَصارَ لَنا حَظٌّ مِنَ العِلمِ وَالفَقرِ آخر: ... إِذَا مَا اعْتزَ ذُو عِلْمٍ بعِلمٍ ... فَعِلْمُ الْفِقْهِ أَوْلَى باعْتِزَازِ فكَمْ طِيبِ يَفُوحُ ولا كَمِسْكٍ ... وَكَمْ طَيْرٍ يَطِيرُ ولا كَبَازِي آخر: لَيْسَ الْحَياةَ بَأنْفَاسٍ تُرددهَا ... إِنْ الْحَياةَ حَيَاةُ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ

آخر: يَا طَالبَ الْعِلْمِ لا تَرْكَنْ إلى الْكَسَلِ ... واعْجَلْ فَقَدْ خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلِ وَاسْتَعْمِلْ الصَّبْرَ فِي كَسْبِ الْعُلْومِ وَقُلْ ... أَعُوذُ بالله مِنْ عَلْمٍ بِلا عَمَلِ آخر: ... الْفِقْهُ أَنْفَسُ شَيْءٍ أَنْتَ ذَاخِرُهُ ... مَنْ يَدْرُسِ الْعِلْمِ لَمْ تَدْرُسْ مَفَاخِرُهُ فَاكْسَبْ لِنَفْسِكَ مَا أَصْبَحْتَ تَجْهَلُهُ ... فَأوَّلُ الْعِلْمِ إِقْبَالٌ وَآخرُهُ آخر: وَمَنْ بَغَى نيل فِقْهٍ وَهُوَ فِي دَعَةٍ ... كَمَنْ بَغَى مِنْ صَفَاةٍ دَرَّ حَلابِ آخر: الْعِلْمُ يَمْنَعُ أَهْلَهُ أَنْ يُمْنَعَا ... فاسْمَحْ بِهِ تَنَلْ الْمَحَلَ الأَرْفَعَا وَاجْعَلْهُ عِنْدَ الْمُسْتَحِقِّ وَدِيعَةً ... فَهُوَ الذِي مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُودَعَا وَالْمُسْتَحِقُّ هو الذي إنْ حَازَهُ ... يَعْمَلْ بِهِ أَوْ إِنْ تُلْقِنَهُ وَعَا آخر: ... إِذَا لَمْ يزِدْ عِلمُ الفتى قلبَهُ هُدىً ... وسيرتَهُ عَدلاً وأخلاقَهُ حُسْنا فبَشِّرْهُ أنَّ اللهَ أولاهُ فِتنَةً ... تُغَشِّيهِ حِرماناً وتُوسِعُهُ حُزْنا آخر: ... بِقَدْرِ الِجِدِّ تُكْتَسَبُ الْمَعَالِي ... وَمَنْ طَلَبَ الْعُلا سَهِرَ اللَّيَالِي نَزومُ العِزَّ ثُم تَنَامُ عَنْهُ ... يَغُوصُ الْبَحْرَ مِنْ طَلَبَ اللآلِي آخر: ... عَوِّدْ بَنِيكَ عَلَى الآدَابِ فِي الصِّغَرِ كَيْمَا تَقَرَّ بِهمْ عَيْنَاكَ فِي الْكِبَرِ فَإِنَّمَا مَثَلُ الآدَابِ تَجْمَعُهَا في عُنْفُوَانِ الصِّبَا كالنَّقْشِ فِي الْحَجَرِ هِي الْكُنُوزُ الَّتِي تَنْمُو ذَخَائِرُهَا وَلا يَخَافُ عَلَيْهَا حَادِثُ الْغِيَر ج

.. إِنَّ الأَدِيبَ إِذَا زَلَّتْ به قَدَمٌ يَهْوِي على فُرُشِ الدِّيباجِ والسُّرُرِ آخر: حَاولْ جَسيمَاتِ الأُمُور ولا تِنِي ... إِنَّ الْمَحَامِدَ وَالعُلا أَرْزَاقُ وَارْْغَبْ بنفسِكَ أَنْ تَكُونَ مُقْصِرًا ... عَنْ غَايةٍ فِيهَا الطُّلابُ سِبَاقُ لَوْ لمَ ْيَكُنْ مِنْ فَضْلِ العِلْمِ إلاَّ أَنَّ الجُهَّالَ يَهَابُونَكَ وَيُجلُّونَكَ وَأَنَّ العُلماءَ العَامِلُونَ بِعِلْمِهِمْ البَعِيدُونَ عن الرِيَاءِ وَحُبِّ الظُّهُورِ يُحِبُونَكَ وَيُكْرِمُونَكَ لَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا دَعِيًا إِلى وُجُوبِ طَلَبِهِ، فَكَيْفَ بِسَائِرِ فَضَائِلِهِ في الدُّنيا والآخِرَة. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ نَقصِ الجهلِ إلا صَاحِبَه يَحُسِدُ العُلماءَ وَيُحْتَقَرُ عندَ الناسِ حَتى عندَ أهلِهِ وأَقْرِبَائِهِ وجِيرَانِهِ فَكَيْف بسائِر رَذَائِلِه وَمَسَاوِيهِ في الدُّنيا وَالآخِرَةِ. ولو لم يكن مِنْ فَضْلِ الْعِلْمِ إِلا أَنَّهُ يُقْطَعُ المشتَغِلَ بِهِ عن الوَسَاوِسِ المُضنِيَةِ وَالأَفْكارِ الرَّدِيئَةِ ومَطَارِح الآمالِ التي لا تُفيد غَيْرَ الهمِ والغَمِ لكانَ ذلك أَعْظَمُ دَاعٍ فَكْيفَ وَلَهُ مِنْ الْفَضَائِلَ وَالْمَحَاسِن ما يَطُول ذِكْرُهُ. أَلا رُبَّ مَنْ قَدْ أنْحَلَ الزُّهدُ جِسْمِهُ ... كَثِيرَ صَلاةٍ دَائمُ الصومِ عابِدُ يَرُوم وِصَالاً وَهو بالطُرْقِ جَاهِلٌ ... إِذَا جُهِلَ الْمَقْصُودُ قََدْ خَابَ قاصِدُ قليلٌ مِن الأَعمالِ بالعِلمِ نَافِعٌ ... كثيرُ مِن الأَعمَالِ بالجَهْلِ فاسِدُ اللَّهُمَّ اعفُ عنْ تَقْصِيرنَا في طَاعَتِكَ وَشُكْرِكَ، وأَدِمْ لَنَا لُزومَ الطَّريقِ إلى ما يُقْرِّبُنَا إِليكْ وَهَبْ لَنَا نَورًا نَهْتِدِيَ بِهِ إِليكَ، وَيَسِّرْ لَنَا مَا يَسَّرْتَهُ لأهْلِ مَحَبَّتِكَ، وَأَيْقِظْنَا مِنْ غَفْلاتِنَا، وَأَلْهِمْنَا رُشْدَنَا، وَاسْتُرْنَا فِي دُنْيَانَا وَآخِرَتِنَا، وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ المتقين، وَأَلْحِقْنَا بِعبَادِك الصالِحينْ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيَّتينَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

(فَصْلٌ) الوجهُ الخامسُ والعشرونَ: أنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ بَالْفَرَحِ، بِمَا آتَاهُمْ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعونَه الناسُ فقَالَ: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} وَفَسَّرَ اللهُ الْفَضْلَ بالإيمانِ وَرَحْمَتَهُ بالقرآنِ والإيمانُ والقرآنُ هَما الْعِلمُ النافعُ والعملُ الصالحُ والهُدَى وَدينُ الْحَقِّ وَهُمَا أفضلُ عِلْمٍ وأفضلُ عَمَلٍ. الوجهُ السادسُ والعشرون: أنَّهُ سُبْحَانَهُ شَهِدَ لِمَنْ آتَاهُ الْعِلْمَ بأنهُ قد آتاهُ خَيْرًا كثيرًا فقَالَ تعالى: {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} قَالَ ابن قُتَيْبَةَ، وَالْجُمْهورُ: الْحكمةُ: إصابةُ الحقِّ والعملُ بِهِ وَهِيَ الْعِلْمُ النَّافُع والعَمَلُ الصالحُ. الوجهُ السابعُ والعشرونَ: أنَّهُ سُبْحَانَهُ عَدَّدَ نِعَمِهُ وَفَضْلَهُ على رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجعلَ مِنْ أَجَلِّهَا أَنْ آتَاهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمْ فَقَالَ تَعَالى: {وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} . الوجهُ الثامِنُ والعشرونَ: أنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَكر عِبادَهُ الْمُؤْمِنينَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ وَأَمَرَهُمْ بِشُكْرِهَا وَأَنْ يَذْكُرُوهُ عَلَى إِسْدَائِها إلَيْهِمْ فقَالَ تَعَالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} . الوجهُ التاسعُ والعشرون: أنَّهُ سُبْحَانَهُ لِمَا أَنْ عَرَّفَهُمْ فَضْلَ آدمَ بالْعِلْمِ وَعَجْزَهُم عَنْ مَعْرِفَةِ مَا عَلَّمَهُ قَالَ لَهُمْ: {أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} فَعَرَّفَهُمْ

سبحانه نَفْسَهُ بالعِلمِ، وأنه أحاطَ عِلمُهُ بِظاهِرِهِمْ وَبَاطِنِهمْ وَبِغيبِ السَّماواتِ وَالأرضِ، فَتَعَرَّفَ إَلَيْهِمْ بِصِفَةِ الْعِلْمِ، وَعَرَّفَهُمْ فَضْلَ نَبَيِّهِ وَكَليمِهِ بالعِلْمِ وَعَجْزَهُمْ عَمَّا آتَاهُ آدمَ مِنْ العِلْمِ وَكَفَى بِهَذَا شَرَفًا لِلْعِلْمِ. وَبَيَانُ فَضْلِ العِلْمِ مِنْ هذه القصةِ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ في آدَمَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ مَا كَانَ بِهِ أَفْضَل مِنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمَخْلُوقاتِ، وأرادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يُظْهِرَ لِمَلائِكَتِهِ فَضْلَهُ وَشَرَفَهُ فَظَهَرَ لَهُمْ أَحْسَنَ مَا فِيهِ وَهُوَ عِلْمُهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ أَشْرَفُ مَا فِي الإِنْسَانِ وَأَنَّ فَضْلَهُ وَشَرَفَهُ إِنَّمَا هُو بَالْعِلْمِ وَنَظِيرُ هذا ما فَعَلََهُ بِنَبِيِّهِ يُوسُفَ عليهِ السلامُ لَمَّا أَرَادَ إِظْهَارَ فَضْلِهِ وَشَرَفِهِ عَلَى أَهْلِ زَمَانِهِ كُلِّهِمْ أَظْهرَ للمَلِكِ وأَهلِ مِصرَ مِنْ عِلْمِهِ بتأْويلِ رؤياهُ مَا عَجَزَ عَنْهُ علماءُ التعبيرِ فَحينئذٍ قَدَّمَهُ وَمَكَّنَهُ وَسَلَّم إليهِ خزائنَ الأرْضِ، وَكَانَ قَبلَ ذَلِكَ قَدْ حَبَسَهُ عَلى ما رآهُ مِنْ حُسْنِ وجهِهِ وَجَمَالِ صُورتِهِ، ولَما ظَهَرَ لَهُ حُسْنُ صُورةِ علمِهِ وَجَمالُ مَعْرِفَتِهِ أَطْلَقهُ مِنْ الْحَبْسِ وَمَكَّنَهُ في الأرْضِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ صُورَةَ الْعِلْمِ عِنْدَ بَنِي آدَمَ أَبْهَى وَأَحْسَنُ مِنْ الصورةِ الْحِسِّيَّةِ ولو كانتْ أجْملَ صُورةٍ. وَهَذا وجهٌ مستقلٌّ في تَفْضِيلِ الْعِلْمِ مضافٌ إِلى مَا تَقَدَّمَ فَتَمَّ بِهِ ثَلاثين وَجْهًا. الوجهُ الحادِي والثلاثون: أنَّهُ سُبْحَانَهُ ذَمَّ أَهْلَ الْجَهْلِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرةٍ مِنْ كِتَابِهِ. الوجهُ الثانِي والثلاثون: أنَّ الْعِلْمَ حَياةٌ وَنُورٌ، وَالْخَيْرُ كله سَبَبُهُ النَّورُ والْحَياةُ، فَإنَّ النورَ يكشِفَ عَنْ حقائِقِ الأشْيَاءِ وَيُبَيِّنُ مَرَاتِبَها، وَالْحَياةُ هي الْمُصَحِّحَةُ لِصفاتِ الْكمالِ الْمُوجِبَةُ لِتَسْدِيدِ الأَقْوَالِ وَالأعْمَالِ فَكُلَّمَا تَصَرَّفَ مِنَ الْحياةِ فَهُوَ خَيْرٌ كلُهُ كالْحَياءِ الذي سببُهُ كمالُ حياةِ القلبِ وَتَصَوُّرُهُ حَقيقةَ القُبْحِ وَنُفرتُهُ مِنْهُ وَضِدُّهُ الوَقاحةُ والفُحْشُ وَسَبَبُهُ موتُ

القلبِ وعدمُ نُفْرتِهِ مِنَ القبيحِ وكالْحَيَا الذي هو المطرُ الذي بهِ حياةُ كلِّ شيءٍ قَالَ تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} كَانَ مَيْتًا بَالْجَهْلِ قَلْبُهُ فَأحياهُ بالعِلْمِ وَجَعَلَ لَهُ مِنَ الإِيمَانِ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي الناسِ. الوجهُ الثالثُ والثلاثون: أنَّ الله سُبْحَانَهُ جَعَلَ صَيْدَ الكلبِ الْجَاهِلِ مَيْتَةً يَحرُمُ أكلُها وأباحَ صَيْدَ الكلبِ الْمُعَلَّمْ وهذا أيضًا مِنْ شَرَفِ الْعِلْمِ أَنَّهُ لا يُباحُ إلا صَيْدُ الكلبِ الْعَالِم، وَأَمَّا الْكَلْبُ الْجَاهلُ فَلا يَحِلُّ أَكلُ صَيْدِهِ فدلَّ عَلى شَرَفِ الْعِلْمِ وَفَضْلِهِ. شعرًا: إِذَا مَا أُنَاسٌ فَاخرُونَا بِمَالِهمْ ... فَإنِّي بِمِيراثِ النَّبِيين فَاخِرٌ أَلَمْ تَرَ الْعِلْمِ يُذْكَرُ أَهْلُه ... بِكُلِّ جَمِيلٍ فِيهِ وَالْعَظمُ نَاخرْ سَقَى اللهُ أَجْدَاثًا أَجَنَّتْ مَعاشِرًا ... لهمُ أَبْحُرٌ مِنْ كُلِّ عِلْمٍ زَوَاخِرُ آخر: الْعِلْمُ بالتَّوْحِيدِ أَفْضَلُ مُكْتَسَبْ ... ثُمَّ الْحَدِيث يَتْلُوهُ فَنِعْمَ الأَدَبْ فاشْدُدْ يَدَيْكَ بِحَبْلَيْهِمَا ... فَلِحَبْلَيْهِمَا أَقْوى سَبَبْ هَذَا هُو الْكِنْزُ الذي ... يَبْقَى إِذَا فَنِي الذَّهَبْ وقَالَ رحمه الله: الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لعبادته الجامعة لمحبته وإيثار مرضاته، المستلزمة لمعرفته، ونصب للعباد علمًا لا كمال لهم إلا به. وهو: أن تكون حركاتهم كلها موافقة على وفق مرضاته ومحبته، ولذلك أرسل رسله وأنزل كتبه، وشرع شرائعه. فكمال العبد الذي لا كمال له إلا به: أن تكون حركاته موافقة لما يحبه الله منه ويرضاه له. ولهذا جعل إتباع رسوله - صلى الله عليه وسلم - دليلاً على محبته. قَالَ تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .

فالمحب الصادق يرى خيانة منه لمحبوبه أن يتحرك بتحركة اختيارية في غير مرضاته، وإذا فعل فعلاً مما أبيح له بموجب طبيعته وشهوته تاب منه كما يتوب من الذنوب، ولا يزال هذا الأمر يقوى عنده حتى تنقلب بها مباحاته كلها طاعات. فيحتسب نومه وفطره وراحته كما يحتسب قومته وصومه واجتهاده، وهو دائمًا بين سراء يشكر الله عليها، وضراء يصبر عليها، فهو سائر إلى الله تعالى دائمًا في نومه ويقظته. قَالَ بعض العلماء: الأكياس عاداتهم عبادات الحمقى، والحمقى عباداتهم عادات. شعرًا: لا يحَقْرِ الرَّجُلُ الْعَظِيمُ دَقِيقَةً ... فِي السَّهْوَ فِيهَا لِوضِيعِ مَعَاذِرُ فَكَبَائِر الرجُل الصَّغِيرِ صَغَائِرٌ ... وَصَغَائِرُ الرجُل الْكَبِير كَبَائِرُ آخر: دَعْ التَّعْلِيلَ والتَّسْويفَ وَاقْبِلْ ... عَلى مَوْلاكَ تَغنَمْ نَيْلَ حَظِّ أدِمْ بالْحَزْمَ إقْبَالاً عَليْهِ ... عَسَى تَحْظَى بَتَوْفِيقٍ وَحِفْظِ وَنَقِّ الْقَلْبَ مِنْ شُبُهَاتِ زَيْغٍ ... تَرَاهُ مَعْنَويًّا ثُمَّ لَفْظِي وَرِدْ حَوْضَ الشَّرِيعَةِ مَعْ صَفَاءٍ ... وَجَانِبْ كُلَّ ذِي حَسَدٍ وَغَيْظِ وَرَقِّ النَّفْسَ بَالْعِرْفَانِ تَزْكُو ... وَتَظْفَرْ بَالْمُنَى مِنْ كُلِّ وَعْظِ وقَالَ بعض السلف: حبذا نوم الأكياس وفطرهم يغبنون به سهر الحمقى وصومهم، فالمحب الصادق إن نطق نطق لله وبالله، وإن سكت سكت لله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فسكونه استعانة على مرضات الله فهو لله وبالله ومع الله. ومعلوم أن صاحب هذا المقام، أحوج خلق الله إلى العلم، فإنه لا تتميز له الحركة المحبوبة لله من غيرها ولا السكون المحبوب لله من غيره إلا بالعلم. فليست حاجته إلى العلم كحاجة من طلب العلم لذاته.

ولأنه في نفسه صفة كمال، بل حاجته إليه كحاجته إلى ما به قوام نفسه وذاته. ولهذا اشتدت وصاة شيوخ العارفين لمريديهم بالعلم وطلبه، وإنه من لم يطلب العلم لم يفلح، حتى كانوا يعدون من لا علم له من السفلة. قَالَ ذو النون وقد سئل من السفلة؟ فقَالَ: من لم يعرف الطريق إلى الله ولا يتعرفه. وقَالَ أبو زيد: لو نظرتم إلى الرجل وقد أعطي من الكرامات حتى يتربع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود ومعرفة الشريعة. وقَالَ أبو حمزة البزازي: مَن عَلِمَ طريقَ الحقِّ سُهِّلَ عليه سُلُوكُه، ولا دليل على الطريقةِ إلا متابعةُ الرسولِ في أَقواله وأفَعاله وأَحواله. وقَالَ محمد بن الفضل الصوفي الزاهد: ذهاب الإسلام على يدي أربعة أصناف من الناس. صِنْفٌ لا يَعْمَلُونَ بما يَعْلَمُون. وَصِنْفٌ يَعْمَلُونَ بما لا يَعْلَمُون. وَصِنْفٌ لا يَعْمَلونَ ولا يَعْلمَون. وَصِنْفٌ يَمْنَعُونَ الناسَ مِن التَّعَلم. قلت: الصنف الأول: من له علم بلا عمل، فهو أضر شيء على العامة، فإنه حجة لهم في كل نقيصة ومخسة. والصنف الثاني: العابد الجاهل، فإن الناس يحسنون الظن به لعبادته وصلاحه فيقتدون به على جهله. وهذان الصنفان هما اللذان ذكرهما بعض السلف في قوله: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون.

فإن الناس إنما يقتدون بعلمائهم وعبادهم، فإذا كان العلماء فجرة، والعباد جهلة، عمت المصيبة بهما، وعظمت الفتنة على الخاصة والعامة. والصنف الثالث: الذين لا علم لهم ولا عمل، وإنما هم كالأنعام السائمة. والصنف الرابع: نواب إبليس في الأرض، وهم الذين يثبطون الناس عن طلب العلم والتفقه في الدين، فهؤلاء أضر عليهم من شياطين الجن، فإنهم يحولون بين القلوب وبين هدى الله وطريقه. فهؤلاء الأربعة الأصناف، هم الذين ذكرهم هذا العارف رحمة الله عليه وهؤلاء كلهم على شفا جرف هار، وعلى سبيل الهلكة. وما يَلْقَى العَالِمُ الداعِي إلى الله ورسوله ما يَلقَاهُ من الأذَى والمحاربةِ إلاَّ عَلى أَيْدِيهم. والله يَسْتَعْمِل مَن يشاء في سَخَطِهِ، كما يَسْتَعْمِلُ مَن يَشاء في مَرْضَاتِهِ إنه بعباده خبير بصير. ولا ينكشفُ سِرُّ هذه الطوائف وطريقتهم إلا بالعلم، فعاد الخير بحذافيره في العلم وموجبه، والشر بحذفيره إلى الجهل وموجبه. شِعْرًا: مَعَ الْعِلْمِ فَاسْلُكْ حَيْثَمَا سَلَكَ الْعِلْمُ ... وَعَنْهُ فَكَاشِفْ كُلَّ مَنْ عِنْدَهُ فَهْمُ فَفِيهِ جَلاءٌ لِلْقُلُوبِ مِنْ العَمَى ... وَعَوْنٌ عَلى الذِين الذي أمْرُهُ حَتْمُ آخر: ... لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعِلْمِ إِلا أَنَّهُ ... يَذَرَ الضَّئِيلَ مِن الرِّجَالِ مَهِيبَا آخر: ذَوُوا العِلْم في الدُّنْيَا نُجُومُ هِدَايَةٍ ... إِذَا غَابَ نَجْمٌ لاحَ بَعْدُ جَدِيدُ بِهِمْ عَزَّ دِينُ الله طُرًّا وَهُمْ لَهُ ... مَعَاقِلُ مِن أَعْدَائِه وجُنُودُ وَلَوْ لَمْ يَقُمْ أَهْلُ الحديثِ بِنَقْلِهِ ... فَمَنْ كَانَ يَرْوِي عِلْمَهُ وَيُفِيدُ هُمُوا وَرِثُوا عِلْمَ النَّبوةِ وَاحْتووْا ... مِنْ الْفَضل ما عنه الأَنامُ رُقُودُ وَهُمْ كَمَصَابِيح الدُّجَى يُهْتَدَى بِهِمْ ... وَمَا لَهُمُوا بَعْدَ الْمَمَاتِ خُمُودُ اللَّهُمَّ يَسِّرْ لَنَا أَمْرَ الرِّزْقِ وَاعْصِمْنَا مِِنْ الْحِرْصِ وَالتَّعَبِ في طلبهِ وَمِنْ شَغْل

كلام ابن رجب حول العلم والعلماء وبعده قصيدة زهدية

القَلْبِ وَتَعلُّقِ الْهَمِّ بِهِ، وَمِنْ الذُّلِّ لِلخَلْقِ بِسَبَبَهِ وَمِنْ التَّفْكِيرِ وَالتَّدْبِيرِ فِي تَحْصِيلهِ، وَمِنْ الشُّحِّ وَالْحِرْصِ عَلَيْهِ بَعْدَ حُصُولِهِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمَيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) : قَالَ ابن رجب: فالعلماء بما أنزل الله على رسوله هم الأدلاء والذين يُهتَدى بهم في ظلمات الجهل والشبهِ والضلالِ فإذا فُقدُوا ضَلَّ السالكُ. وقد شُبِّهَ العلماءُ بالنجوم، والنجومُ فيها ثلاثٌ فوائد: يُهْتَدى بها في الظلمات، وهي زِينة للسماء، ورجومٌ للشياطين الذين يسترقون السمع منها. والعلماءُ في الأرض يجتمع فيهم هِذِهِ الأَوْصافُ الثلاثةُ: بهم يُهْتَدى في الظلمات، وهُم زينةُ للأرض، وهم رجومٌ للشياطين الذين يخلطون الحق بالباطل ويُدْخِلونَ في الدين ما ليس منه مِن أهل الأهواء. وما دام العلم باقيًا في الأرض فالناسُ في هُدَى. وبقاءُ العلمِ بقاءُ حَمَلَتِهِ فإذا ذَهَبَ حَمَلتهُ ومَن يقوم به وقع الناسُ في الضلال كما في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ صدور الرجال وَلَكِنْ يذهب الْعُلَمَاءِ فإِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» . شِعْرًا: مَا أَكْثَرَ الْعِلْمِ وما أَوْسَعَهْ ... مَنْ ذَا الذي يَقْدِرُ مِنْ الْخَلْقِ أَنْ يَجْمَعَهْ إِنْ كُنْتَ لا بُدَّ لَهُ طَالِبَا ... فَجِدَّ فِيهِ وَالتَمِسْ أَنْفَعَهْ وخرج الترمذي مِنْ حَدِيث جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَال: «هَذَا أَوَانٌ يُخْتَلَسُ الْعِلْمُ مِنَ النَّاسِ حَتَّى لاَ يَقْدِرُوا مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ» .

فَقَالَ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ: يَا رَسُولَ اللهُ كَيْفَ يُخْتَلَسُ مِنَّا الْعِلْم وَقَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ؟ فَوَاللَّهِ لَنَقْرَأَنَّهُ وَلَنُقْرِئَنَّهُ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا. فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ إِنْ كُنْتُ لأَعُدُّكَ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَمَاذَا تُغْنِى عَنْهُمْ» ؟ . قَالَ جُبَيْرٌ بِنْ نُفَيْرَ: فَلَقِيتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ فَقُلْتُ أَلاَ تَسْمَعُ مَا يَقُولُ أَبُو الدَّرْدَاءِ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي قَالَ. فقَالَ: صَدَقَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَوْ شِئْتَ لأخَبَرْتُكَ بِأَوَّلِ عِلْمٍ يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ: الْخُشُوعُ، يُوشِكُ أَنْ تَدْخُلَ الْمَسْجِدَ الْجَامع فَلاَ تَرَى فِيهِ خَاشِعًا. وخرجه النسائي من حديث جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ عَوْفِ بنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بنحوه. وفي حديثه (فذكر - صلى الله عليه وسلم - ضلالةَ اليهود والنصارى على ما في أيديهم من كتاب الله) ، قَالَ جبيرُ بنُ نفيرُ: فلقيت شدادَ بن أوس فحدثتهُ بحديث عوفِ بن مالك فقَالَ: صَدَقَ، ألا أخبرك بأول ذلكَ؟ يُرْفَعُ الخشوعُ حتى لا تَرى خَاشِعًا. وخرج الإمام أحمد من حديث زياد بنْ عن النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ ذَكَرَ شَيْئًا فَقَالَ: «ذَاكَ عِنْدَ أَوَانِ ذَهَابِ الْعِلْمِ» . فذكر الحديث وقَالَ فيه: «أَوَلَيْسَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ لَا يَعْمَلُونَ بِشَيْءٍ مِمَّا فِيهِمَا» ؟ ولم يذكر ما بعدها. ففي هذه الأحاديث أنِ ذَهَابَ الْعِلْمِ بذَهَابِ العمل وأن الصحابة فسروا ذلك بذَهَابِ الْعِلْمِ الباطن من القلوب وهو الخشوع. كذا روي عن حذيفة: أن أول ما يرفع من العلم الخشوع.

فإن العِلْمَ كَمَا قَالَ الحسنُ عِلْمَان: عِلْمُ اللسانِ فذاك حَجُةُ اللهِ على ابن آدم، وعلْمُ في القلبِ فذَاك العِلْمُ النافِعُ. وروي عن الحسن مرسلاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: «إِنَّ أَقْوَامًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ وَرَسَخَ فِيهِ نَفَعَ» . فالعلمُ النافعُ هو ما بَاشرَ القلبَ فأوْقَرَ فيه معرفَة اللهِ وعظمته وخَشْيتهِ وإجلالَه وتَعْظِيمهُ ومحبته، ومتى سَكَنَتْ هذِه الأشياءُ في القلبَ خَشَعَ فَخَشَعَتَ الجوارُح تَبَعًا لَهُ. وفي صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْبٍ لا يَخْشَعُ» . وهذَا يَدُلُ على أن العلْمَ الذي لا يوِجِبُ الخشوعَ لِلْقَلْبِ فهو عِلْمٌ غَيْرُ نَافعٍ. وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يَسْأَلُ الله علمًا نافعًا. وفي حديث آخر: «سَلُوا الله علمًا نافعًا وتَعوذُوا باللهِ مِنْ علمٍ لا ينفع» . وأما العلمُ الذي على اللسان فهو حُجَّةُ اللهِ على ابنِ آدم كما قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «والقرآنُ حُجُّةٌ الله لَكَ أَوْ عَلَيْكَ» . فإذا ذهبَ مِن الناسِ العلمُ الباطنُ بَقِيَ الظَّاهرُ على الألسنةِ حُجَّةً. ثم يَذْهبُ الْعِلْمُ الذي هو حجةٌ بذَهَابِ حَملته ولا يَبْقَى مِن الدِّين إلا اسْمُهُ ولا مِن القرآن إلا رَسْمُهُ، فَيَبْقَى الْقرآنُ في المصاحفِ ثم يُسْرى به في آخر الزمان فلا يَبْقَى مِنْه في المصاحفِ ولا في القلوب شيء. ومن هنا قَسَّم مَنْ قَسَّمَ مِن العلماء إلى باطنٍ وظاهر: فالباطن: ما باشَرَ القلوبَ فأثْمرَ لها الخشيةَ والخشوعَ والتعظيمَ والإِجلالَ والمحبةَ والأنْسَ والشوقَ. والظاهرُ: ما كان على اللسانِ فَبِهِ تَقُومُ حُجَّةُ الله على ابن آدم.

وَكَتَبَ وَهْبُ بنُ مُنَبه إلى مكحول: إنكَ امرؤٌ قَدْ أصبْتَ بِما َظَهر مِن عِلْمِ الإِسْلام شَرفًا فَاطْلُبْ بِمَا بَطَنَ مِنْ عَلْمِ الإِسْلام مَحَبَّةً وَزُلْفىَ. وفي رواية أنه كَتَبَ إليه: أنكَ قد بَلَغْتَ بظاهرِ عِلْمِكَ عِنْدَ النَّاس مَنْزلةً وَشَرفًا فَاطُلب بباطِنِ عِلمكَ عندَ الله منزلةً وزُلْفَى. وَاعلم أَنَّ إِحْدَى الْمَنْزِلَتَيْنِ تَمنعُ مِن الأخُرْى. فأشارَ وَهْبَ بِعلمِ الظاهرِ إلى علمِ الفَتَاوي والأَحْكَامِ، والحلالِ والحرام، والقصصِ والوعظِ وهو مَا يظهُر على اللسان، وهذا العلمُ يوجَبُ لِصَاحِبهِ مَحبة الناسِ لَهُ وَتَقَدُّمُه عندهم فَحَذَّرَهُ من الوقوفِ عندَ ذلكَ والركون إليهِ والالتفاتِ إلى تعظيمِ الناس ومحبتهم فإن مَن وَقَفَ مَعَ ذلك فقد انقطعَ عن الله وانْحَجَبَ بنظرهِ إلى الخلقِ عن الحق. وأَشَاَر بعلمِ الباطنِ إلى العِلم الذي يُبَاشرُ الْقُلوبَ فيحدِثُ لها الخشيةَ والإجْلالَ والتعظيمَ، وأَمَرهُ أَن يَطْلُبِ بهذا المَحبةَ مِن الله والقربَ مِنهُ والزُلْفَى لَدَيه. وكان كثيرٌ مِن السلفِ كَسُفْيَانِ الثوري وغيره يُقَسِّمُونَ العلماءَ ثلاثةَ أقسام: عالمٌ بالله وعالمٌ بأمرِ الله ويُشِيرُون بذلكَ إلى مَن جَمَعَ بَيْنَ هَذَين الْعَلْمَيْنِ الْمُشَارُ إليهما: الظاهر والباطنِ. وهؤلاءُ أشرفُ العُلماء وهم المَمدُوحُونَ في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} ، وقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً} إلى قوله: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} . وقَالَ كثير من السلف: ليس العلم كثرةُ الرواية ولكن العلمُ الخشيةُ. وقَالَ بعضهُم: كَفَى بِخَشَيةِ الله عِلْمًا وكفَى بالاغترار بالله جَهْلاً. ويَقُولُون أيضًا: عالمٌ بالله ليس عالم بأمر الله وهُم أصْحَابُ العِلم الباطن الذين

يَخْشَونَ الله ولَيْسَ لَهم اتِّساعٌ في العلم الظاهر. ويَقُولَونَ: عالمٌ بَأمرِ الله ليسَ بِعَالِمٍ بالله، وهم أصحابُ العلم الظاهر الذينَ لا نَفَاذَ لهَمُ في العلمِ الباطنِ وليس لهم خَشْيَةٌ وَلا خُشُوعٌ، وهؤلاءِ مَذْمُومُونَ عِند السلفَ. وكان بعضهُم يقول: هذا هو العلم الفَاجِرُ. وهؤلاء الذينَ وَقَفُوا مَعَ ظاهرِ العِلمِ ولم يصل العلمُ النافعُ إلى قلوبهم ولا شَمُوا لَهُ رَائِحَتَهُ غَلَبَتْ عَلَيْهم الغفلةُ والقَسوةُ والأعراضُ عن الآخرة والتنافُسُ في الدنيا ومحبةُ العُلوِ فيها والتقدم بينَ أَهلها. وقد مُنعوا إحْسَانَ الظن بِمَنْ وَصَلَ الْعِلمُ النَّافعُ إلى قلوبهم فلا يُحبونهم ولا يُجالِسونهم وربما ذَمُّوهُم وقَالَوا: ليسوا بعلماء، وهذا مِن خداع الشيطان وغرُورُه لِيَحْرِمَهم الوصولَ إلى العلم النافعِ الذي مدحه اللهُ ورسولهُ وسلفُ الأمة وأئمتها. ولهذا كانَ علماءُ الدنيا يُبغضُون علماءَ الآخرة وَيَسْعَونَ في أذاهم جُهْدَهُم كما سَعَوا في أذَى سَعيدِ بن المسيب، والحسنِ، وسفيان الثوري، ومالك، وأحمد وغيرهم من العلماء الربانيين. وذلك لأن علماءَ الآخرةِ خلفاءُ الرسل وعلماءَ السوءِ فيهم شبهٌ مِن اليهود وهم أعداءُ الرسلِ وقتلة الأنبياء ومَن يأمر بالقسطِ من الناس، وهم أشدُ الناس عَدَاوَةً وحسدًا للمؤمنين. وَلِشِدَّةِ مَحبتهم للدنيا لا يُعظمُون علمًا ولا دِينًا وإنما يُعَظِمُونَ المالَ والجاهَ والتقدمَ عند الملوكَ. إِذَا الْعِلْمُ لَمْ تَعَمَلْ به كان حُجَّةً ... عَلَيْكَ وَلَمْ تُعْذَرْ بِمَا أَنْتَ حَامِلُ فَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَبْصَرْتَ هَذَا فَإِنَّمَا ... يُصَدِّقُ قَوْلَ الْمَرْءِ مَا هُوَ فَاعِلُ آخر: قالوا فلانٌ عالمٌ فاضلٌ ... فأكرمُوهُ مثلما يَرْتضي

فوائد نافعة حول الإفتاء والاستفتاء

فقلتَ لما لمْ يكنْ ذا تقىً ... تَعَارَضَ المانعُ والمقتضي اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِسُلُوكِ مَنَاهِج المتقِين وَخَصَّنَا بالتَّوفِيق المُبين واجْعَلْنَا بِفَضْلِكَ مِنْ عِبَادِكَ المُخْلِصِين الذين لا خَوْفٌ عَلَيْهم ولا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. [فَوائدُ نَافِعةٌ حَوْلَ الإِفْتَاءِ والاِسْتِفْتَاءِ] اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن الفُتْيَا أمرها عظيم، ولقد كان السلف رحمهم الله يأبون الفُتْيَا، وَيُشَدِّدُونَ فيها ويَتَدَافَعُون عكس ما عليه علماء هذا العصر. فعن عبد الرحمن بن أبي ليلي قَالَ: أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسْئَلُ أَحَدُهُم عن المسألة فَيَرُدَّهَا هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول. وفي رواية ما منهم مَن يُحَدِّث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه إياه، ولا يُسْتَفْتَى عن شيء إلا ود أَنَّ أخاه كفاه الفُتيا. وأنكر الإمام أحمد وغيره على مَن يَهْجمُ على الجواب لِخَبَرِ: أجْرَؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار. وقَالَ الإمام أحمد: لا ينبغي أن يجيب في كل ما يُسْتَفْتَى فيه، وقَالَ: لا ينبغي للرجل أن يعرض نفسه لِلْفُتْيَا حتى يكون في خمس خصال: أحدها: أنْ تكون له نية، وهي أن يخلص لله تعالى، ولا يقصد رياسة ولا نحوها، فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور، ولا على كلامه نور. الثانية: أن يكون له حلم ووقار وسكينة، وإلا لم يتمكن من فعل ما تصدى له من بيان الأحكام الشرعية. الثالثة: أن يكون قويًا على ما هو فيه وعلى معرفته، وإلا فقد عَرَّضَ نَفْسَه لَخَطَرٍ عظيم.

الرابعة: الكفاية، وإلا أبْغَضَهُ الناس، لأنه احتاج إلى الناس وإلى الأخذ مما في أيديهم، فيتضررون منه. الخامسة: معرفة الناس بأن يكون بصيرًا بمكرهم وخداعهم، ليكون حذرًا منهم لئلا يوقعوه في المكروه. وإليك ما ورد في ذلك، نقل الميموني عن الإمام أحمد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه سئل عن حديث، فقَالَ سلوا أصحاب الغريب فإني أخاف أن أتكلم في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالظن فأخطي. وقَالَ أبو داود الطيالسي: سَمعْتُ شُعْبةَ قَالَ: سألتُ الأصمعي عن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنه لَيُغَانُ على قلبي» ، ما مَعْنَى يُغَان؟ قَالَ: فقَالَ لي هذا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فَقُلْتُ: نعم. فقَالَ: لو كان عن غير النبي - صلى الله عليه وسلم - لَفَسَّرْتُ ذلك ولكن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا أَجْتَرِئُ عليه. وعن الأصمعي عن مُعْتَمِرُ بنُ سُليمان عن أبيه قَالَ: كانوا يتقون حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يتقون تفسير القرآن. وكان الإمام أحمد يجيء إلى أبي عبيد يسأله في الغريب روى ذلك الخلال. وقَالَ ابن عباس: إذا ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله وقَالَ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إمام المسلمين وسيد العالمين يسأل عن الشيء فلا يجيب حتى يأتيه الوحي من السماء. وقَالَ الشعبي: لا أدري نصف العلم. وقَالَ أحمد في رواية المروذي: كان مالك يسْئَلَ عن الشيء فَيُقَدِّم ويؤخِّر يَتَثَبَّت وهؤلاء يقيسون على قوله ويقولون: قَالَ مالك. وعن علي بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: من عِلْمِ الرجل أن

يقول لما لا يَعْلَم: الله أعْلم، لأن الله عز وجل قَالَ لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} . وصح عن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: العلم ثلاثة: كتابٌ ناطِقٌ، وسنة ماضية، ولا أدري. وقَالَ أحمد في رواية المروذي: ليس كل شيء ينبغي أن يُتَكلم فيه وذكر أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُسْأل فيقول: «لا أدري حتى أسأل جبريل» . وقَالَ عبد الله: سَمِعْتُ أبي يقول: كان سفيان لا يكاد يفتي في الطلاق ويقول مَنْ يُحْسِنُ ذا من يُحْسِنُ ذا. وقَالَ في رواية الحارث: وَدِدْتُ أنه لا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ عن مسألة أو ما شيء أشد علي من أن أسأل عن هذه المسائل البلاء يُخْرِجُه الرجلُ عن عُنُقِه ويُقَلِّدك. وخاصَّة مَسائل الطلاق والفُروج، ونقل الأثرم عنه أنه سأله عن شيء فقلت: كيف هو عندك؟ فقَالَ: وما عندي أنا. وسَمِعْتُه يقول: إنما هو يعني العِلْمِ ما جاء من فوق. وقَالَ سفيان: من فتنة الرجل إذا كان فقيهًا أن يكون الكلام أحب إليه من السكوت. وقَالَ المروذي: قُلْتُ لأبي عبد الله: إن الْعَالِمَ يظنون عنده عِلْمُ كل شيء، فقَالَ: قَالَ ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إن الذي يُفْتِي الناسَ في كل ما يَسْتَفْتُونَه لمَجْوُن. وأنكر عبد الله على من يَتَهَجَّم في المسائل والجَوابات. قَالَ: وَسَمِعْتُ أبا عبد الله يقول: لِيَتَّقِ الله عَبْدٌ ولينظر ما يقول وما يتكلم فإنه مسئول. وقَالَ: من أفتى الناس ليس يَنَبغِي له أن يُحِيلَ الناسَ على مذهبه ويُشَدِّد عليهم.

وقَالَ في رواية القاسم: إنما يَنْبَغِي أن يُؤمر الناسُ بالأمر البين الذي لا شك فيه ولَيْتَ الناس إذا أمِرُوا بالشيء الصحيح أن لا يجاوزوه. ونقل محمد بن أبي طاهر عنه أنه سئل عن مسألةٍ في الطلاق، فقَالَ: سَلْ غيري ليس لي أن أفتي بالطلاق بشيء. وقَالَ في رواية ابن منصور: لا ينبغي أن يُجِيبَ في كل ما يُسْتَفْتَى. وصح عن مالك أنه قَالَ: ذِلٌ وَإهَانَةٌ لِلْعَالِمْ أَنْ تجيب كُلَّ مَن سَأَلَكَ. وقَالَ أيضاً: كلُّ مَن أَخْبَرَ النَّاسَ بكل مَا يَسْمَعُ فهُو مَجْنُون. وقَالَ أحمد: وفي رواية أحمد بن علي الأبار وقَالَ له رجل: حَلَفْتُ بِيَمِين لا أَدْرِي إيش هي. قَالَ: لَيْتَ أنك إذا دَرَيْتَ دَرَيْتَ أَنَا. وقَالَ في رواية الأثرم: إذا هاب الرجل شيئًا فلا ينبغي أن يحمل على أن يقول. وقَالَ في رواية المروذي: إن الذي يُفْتِي الناسَ يَتَقَلَّدُ أَمْرًا عَظِيمًا، وقَالَ يُقْدِمْ على أمرٍ عظيم يَنْبَغِي لِمَنْ أَفْتَى أَنْ يَكُون عالمًا بقول مَن تقدم وإلا فلا يُفْتِي. وقَالَ في رواية الميموني: من تكلم في شيء ليس له فيه إمام أخاف عليه الخطأ. وقَالَ الثوري: لا نزال نتعلم ما وجدنا من يعلمنا. وقَالَ أحمد: نحن الساعة نتعلم، وسأله إسحاق بن إبراهيم عن الحديث الذي جاء: «أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار» ما معناه. قَالَ أبو عبد الله: يُفتي بما لم يسمع. وقَالَ محمد بن أبي حرب: سمعت أبا عبد الله، وسُئِلَ عنَ الرجل يفتي بغير علم، قَالَ: يروى عن أبي موسى قَالَ: يمرق من دينه.

ونقل المروزي: أن رجلاً تكلم بكلام أنكره عليه أبو عبد الله قَالَ: هذا من حبه الدنيا يُسْئَلُ عن الشيء الذي لا يحسن فيحمل نفسه على الجواب. ونحو هذا عن حماد، وقَالَ: كنت أسائل إبراهيم عن الشيء فيعرف في وجهي أني لم أفهم فيعيده حتى أفهم روَى ذلك الخلال وغيره. اللَّهُمَّ نَجِّنَا برحمتك من النار وعافِنا من أُرِ الْخِزْي والبَوَارِ وأدْخِلنا بِفَضْلِكَ الْجَنَةَ دارَ القرارِ وعامِلْنَا بكَرَمِكَ وَجُودِكَ يا كريمُ يا غَفارُ، وَاغْفِرْ لنا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْياءِ مِنهُم وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وصَلَّى الله على مُحمَّدٍ وعلى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ) : قَالَ ابن وهب عن يونس عن الزهري: أن أبا بكر الصديق رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حدث رجلاً بحديث فَاستَفْهَمَهُ الرجل فقَالَ الصديق هو: كما حدثتك، أيُّ أرض تقلني إذا قلت بما لا أعلم. وروى نحوه من غير وجه عن أبي هريرة مرفوعًا: من أَفْتَى بفتيا غَير ثِبْتٍ فيها فإنما إثمه على الذي أفتاه. وفي لفظ: من أفتى بفتيا بغير علم كان إثم ذلك على الذي أفتاه. رواهما أحمد. وروى الثاني أبو داود، والأول ابن ماجة. وهو حديث جيد له طرق مذكورة في حواشي المنتقى. وقَالَ الثوري عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود قَالَ: من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون، وقَالَ مالك: عن يحيى بن سعيد عن ابن عباس مثله. وقَالَ الزهري عن خالد بن أسلم قَالَ: كنا مع ابن عمر فسأله أعرابي أَتَرِثُ العمة؟ فقَالَ: لا أدري، قَالَ: أنت لا تدري، قَالَ: نعم اذهب إلى العلماء فاسألهم، فلما أدبر الرجل قَبَّلَ ابن عمر يده فقَالَ: نِعْمَ ما قَالَ أبو عبد الرحمن سئل عما لا يدري فقَالَ: لا أدري.

وقَالَ سفيان بن عيينة والثوري عن عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قَالَ: أَدْرَكْتُ عِشْرِينَ وَمِائَةً مِنْ الأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ يُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ إلا وَدَّ أَنَّ أَخَاهُ كَفَاهُ إيَّاهُ. ولا يُسْتَفْتَى عن شيء إلا ودَّ أن أخاه كفاه الفتوى. هذا لفظ رواية الثوري، ولفظ ابن عيينة: إذا سئل أحدهم عن المسألة ردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول. وقَالَ أبو حصين وعثمان بن عاصم التابعي: إن أحدكم يُفتى في المسألة ولو وَرَدَتْ على عمر لجمع لها أَهْلَ بَدْرٍ. وقَالَ القاسم، وابن سيرين: لأن يَمُوتَ الرجل جاهلاً خير له مِن أن يقول ما لا يعلم، وقَالَ مالك عن القاسم بن محمد: إنَّ مِن إكرام المرء لنفسه أن لا يقول إلا ما أحاط به علمه. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَيْلٌ لِمَنْ يَقُولُ لِمَا لا يَعْلَمُ: إنِّي أَعْلَمُ. وَقَالَ مَالِكٌ: مِنْ فِقْهِ الْعَالِمِ أَنْ يَقُولَ: لا أَعْلَمُ فَإِنَّهُ عَسَى أَنْ يُهَيَّأَ لَهُ الْخَيْرُ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا سَمِعْتُ مَالِكًا سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَجْلانَ يَقُولُ: إذَا تَرَكَ الْعَالِمُ لا أَدْرِي أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ. وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بنُ رَاهْوَيه عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ دَاوُد بنْ أَبِي الزُّبَيْر الزُّبَيْرِيِّ عَنْ مَالِكِ بْنِ عَجْلانَ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَذَكَرَهُ وَقَدْ سَبَقَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَلَمْ يُجِبْهُ فَقَالَ الرَّجُلُ: إنَّ فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْئًا فَأَجِبْنِي. فَقَالَ: إنْ يَكُنْ فِي نَفْسِك مِنْهَا مِثْلُ أَبِي قُبَيْسٍ أَحَبَّ إلَيَّ أَنْ يَكُونَ فِي نَفَسِي مِنْهَا مِثْلُ الشَّعْرَةِ. وَقَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: سَأَلَ رَجُلٌ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَطَالَ تَرْدَادُهُ إلَيْهِ فِيهَا وَأَلَحَّ عَلَيْهِ فَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ يَا هَذَا إنِّي لَمْ أَتَكَلَّمْ إلا فِيمَا أَحْتَسِبُ فِيهِ الْخَيْرَ وَلَسْتُ أُحْسِنُ مَسْأَلَتَكَ هَذِهِ.

وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: الْعَجَلَةُ فِي الْفَتْوَى نَوْعٌ مِنْ الْجَهْلِ وَالْخُرْقِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ لا يَكَادُ يُفْتِي فُتْيَا وَلا يَقُولُ شَيْئًا إلا قَالَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْنِي وَسَلِّمْ مِنِّي. ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ. وَلا سِيَّمَا إنْ كَانَ مَنْ يُفْتِي يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَيْسَ أَهْلاً لِلْفَتْوَى لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ وَلا يَعْلَمُ النَّاسَ ذَلِكَ مِنْهُ. فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ إفْتَاءُ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْحَالِ بِلا إشْكَالٍ فَهُوَ يُسَارِعُ إلَى مَا يَحْرُمُ لا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْحَامِلُ عَلَى ذَلِكَ عَرَضَ الدُّنْيَا. وَأَمَّا السَّلَفُ فَكَانُوا يَتْرُكُونَ ذَلِكَ خَوْفًا وَلَعَلَّ غَيْرَهُ يَكْفِيهِ، وَقَدْ يَكُونُ أَدْنَى لِوُجُودِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ. قَالَ ابْنُ مَعِينٍ: الَّذِي يُحَدِّثُ بِالْبَلْدَةِ وَبِهَا مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ بِالْحَدِيثِ فَهُوَ أَحْمَقُ. وَقَالَ مَالِكٌ: مَا أَفْتَيْتُ حَتَّى شَهِدَ لِي سَبْعُونَ أَنِّي أَهْلٌ لِذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَسَحْنُونٌ أَجْسَرُ النَّاسِ عَلَى الْفُتْيَا أَقَلُّهُمْ عِلْمًا. وقَالَ سَحْنُونٌ: أَشْقَى النَّاسِ مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ. وَقَالَ: فِتْنَةُ الْجَوَابِ بِالصَّوَابِ أَشَدُّ مِنْ فِتْنَةِ الْمَالِ. وَقَالَ سُفْيَانُ: أَدْرَكْتُ الْفُقَهَاءَ وَهُمْ يَكْرَهُونَ أَنْ يُجِيبُوا فِي الْمَسَائِلِ وَالْفُتْيَا حَتَّى لا يَجِدُوا بُدًّا مِنْ أَنْ يُفْتُوا. وَقَالَ: أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْفُتْيَا أَسْكَتُهُمْ عَنْهَا وَأَجْهَلُهُمْ بِهَا أَنْطَقُهُمْ فِيهَا. وَبَكَى رَبِيعَةُ فَقِيلَ مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: اُسْتُفْتِيَ مَنْ لا عِلْمَ لَهُ. وَقَالَ: وَلَبَعْضُ مَنْ يُفْتِي هَا هُنَا أَحَقُّ بِالسِّجْنِ مِنْ السُّرَّاقِ.

وقَالَ بعضُ العلماءِ لِبَعْض المفِتين: إذا سُئِلْتَ عن مسألة فلا يكن هَمُّكَ تَخْلِيصَ السَّائلَ، ولكن ليكُنْ هُمُّكَ تخليصَ نفسِكَ. وقَالَ عمرو بن دينار لما جلس قتادة للفتيا: تدري في أي عمل وقعت؟ وقعت يا قتادة بين الله وبين خلقه، وقلت: هذا يصلح، وهذا لا يصلح. وقَالَ بعضهم: إن العالم داخل بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل بينهم. وكان ابن سيرين إذا سئل عن الشيء من الحلال والحرام تغير لونه وتبدل حتى كأنه ليس بالذي كان. وكان النخعي يسأل فتظهر عليه الكراهة ويقول: ما وجدت أحدًا تسأله غيري. وقَالَ آخر: إذا سئلت عن مسألة فتفكر فإن وجدت لنفسك مخرجًا فتكلم وإلا فاسكت. وعن مالك: أنه كان إذا سئل عن المسألة كأنه واقف بين الجنة والنار. وقَالَ النخعي: قد تكلمتُ ولو وجدت بدًا ما تكلمت وإن زمانًا أكون فيه فقيه أهل الكوفة لزمان سوء. وقَالَ ابن عيينة: ليس هذا الأمر لمن ود أن الناس احتاجوا إليه إنما هذا الأمر لمن ود أنه وجد من يكفيه. وسئل عمر بن عبد العزيز عن مسألة فقَالَ: ما أنا على الفتيا بِجَري. اللَّهُمَّ أحْينا في الدنيا مؤمنينَ طائعينَ وتوفَّنا مسلمينَ تائبينَ، واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) : ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ مَا رَوَيَ عَنْ أَبِي هُريرةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاس قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ يُرْدِ الله بِهِ خَيْرًا يُفِقِّهْهُ في الدِّين» .

رُوِيَ عن مجاهد أنه قَالَ: (الفقيهُ مَن يَخَافُ الله عَزَّ وَجَلَّ) . وُروِيَ عَنْ عَلَيَّ بِنْ أَبِي طَالب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه قَالَ: (ألا أخبركم بالفقيه مَن لم يُقَنِّطِ النَّاسِ مِنْ رَحمةِ اللهِ، ولم يُؤَمِنْهُمْ مِنْ مَكْرِ الله، وَلَمْ يُرَخَّصْ لهم في مَعَاصِي الله، وَلَمْ يَدَعِ القرآن رَغْبَةً إلى غيره) . وقَالَ ابنُ مسعود: (كفى بخشيةِ الله عِلْمًا، وكَفَى بالاغْتِرارِ به جَهْلاً) . وَرُويَ عن عُمَرَ أنه كَتَبَ إِلى أبي موسى الأشعري: (إِنَّ الْفِقْهَ لَيْسَ بكثرة السَّرْدِ، وَسَعَةِ الهذَر، وكثرة الرواية، وإنما الفقْهُ خَشْيَة اللهِ عز وجل) . وقَالَ أَحَد العُلَماء: إن كَمَالَ علم العالم ثلاثة: تركُ طلب الدنيا بِعِلْمِهِ، ومحبَّتُه الانتفاع لمن يَجْلِسُ إليه، ورأفتُه بالناس. وَرُوِيَ عن مَطَر الوَرَّاقِ قَالَ: سألتُ الحسنَ عن مسألة فقَالَ فيها، فَقُلْتُ: يا أبا سَعِيد: يأبْىَ عليكَ الفُقَهاء. فقَالَ الحسنُ: ثَكِلتْكَ أمُّكَ يَا مَطَر، الفقيهُ الوَرعُ الزاهدُ المقيمُ عَلَى سُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يَسْخَر بِمَنْ أَسْفَل منه، ولا يَهْزَأ بِمَنْ فوَقَهُ، ولا يأخذ على علْمٍ عَلَّمَهُ الله إيَّاهُ حُطَامًا. عن الحسن قَالَ: الفقيهُ المُجْتَهدُ في العبادة: الزاهدُ في الدنيا المقيمُ على سنةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعنه قَالَ: الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصيرُ في دِينِهِ المجتهدُ في العبادة. وعن وهب بن منبه قَالَ: الفقيهُ العفيفُ المتمسكُ بالسنة أولئك أتباعُ الأنبياء. وقَالَ سُفيانُ الثوري: الفقيهُ يَعُدُّ البلاءَ نِعْمَةٍ والرَّخَاءَ مُصِيبَةٍ وَأفقَهُ منه مَن لم يَجْتَرِئْ على الله عز وجل في شيء لِعِلَّةٍ بِهِ. وقَالَ غيره: إن الفقيهَ كُلَّ الفَقِيهَ من فَقُهَ في القرآن وَعَرَفَ مَكْيَدَة الشيطان.

وقَالَ الفضيلُ بنُ عياضٍ: (إنما الفقيهُ الذي أنطَقَتْهُ الخَشْيَةُ، وأسْكَنَتْهُ الخَشْيَةُ، إِنْ قَال قَالَ بالكتاب، وإن سَكَتَ سَكَت بالكتاب، وإن اشْتَبَهَ عليه شيءٌ وَقَفَ عنده وَرَدَّهُ إلى عَالمِهِ) . وَعَنْ الْحَسَنْ قَالَ: إنا لنُجَالِسُ الرَّجُلَ فَنَرى إن به عِيًّا وما بِهِ عِيٌ وإنَّه لَفَقِيْهٌ مُسْلِمٌ. قَالَ: وكيعُ أسْكَتَتْهُ الْخَشْيَةُ. وقَالَ الشَّعْبِي: لَسْنَا بِعُلَمَاءٍ وَلا فُقَهَاء وَلَكِنَّنَا قَوْمٌ قَدْ سَمِعْنَا حَدِيثًا فَنَحْنُ نُحَدِّثكم بما سَمِعْنَا إِنَّمَا الفقيه مَن وَرِعَ عَن مَحَارِم اللهِ والعَالِمُ مَنْ خَافَ اللهَ عز وجل. واسْتَفْتَى رَجلٌ الشَّعْبِي فقَالَ: أيها العالِمُ أَفْتِنِي فقَالَ: إِنما العَالِم مَن يَخافُ الله. وَعَنْ جَابِرْ: أَنَّهُ تَلا قَوَلَ الله تعالى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} . فقَالَ: العَالِمُ الذي عَقَلَ عَنْ اللهِ أَمْرَهُ فَعَمِلَ بِطاعَةِ اللهِ واجْتَنَبَ سَخَطَهُ. وسئل عبدُ الله بنُ المُبارَكِ هَلْ لِلْعُلَماءِ عَلامةٌ يُعْرَفُونَ بِهَا؟ قَالَ: علامةُُ العَالِم مَن عَمِلَ بِعِلْمِهِ وَاسْتَقَلَّ كَثِيرَ الْعِلْمِ وَالْعَمَل مِن نَفْسِهِ. وَرَغِبَ فِي عِلْمِ غَيْرِهِ وَقَبِلَ الحَقَّ مِن كلِ مَنْ أَتاهُ بِهِ وَأَخَذَ الْعِلْمِ حَيْثُ وَجَدَهُ فَهَذِهِ عَلامَةَ العَالِم وَصِفَتهُ. قَالَ المروَذِي: فذكرتُ ذلك لأبي عَبدِ اللهِ فقَالَ: هَكذا هُو. قِيلَ لابن الْمُبَارَكِ كَيْفَ يُعْرفُ العالمِ الصَّادِقُ؟ فقَالَ: الذي يَزْهدُ في الدنيا وَيَعْقِلُ أَمْرَ آخِرَتِهِ. وقَالَ الزهري: لا نَثِقُ لِلنَّاس بِعَمَلِ عَامِلٍ لا يَعْلم، وَلا نَرْضَى لَهم بعلْمٍ عَالمٍ لا يَعْمَل.

وقَالَ الحسن كان الرجل إذا طَلَبَ بَابًا مِن العلمِ لم يَلْبِثْ أن يرى أثر ذلك في تَخَشُّعِهِ وَبَصَرِه ولِسَانِهِ ويَدِه وزُهْدِهِ وَصَلاتِهِ وَبَدَنِهِ وَإِنْ كان الرجل لَيَطْلُب البابَ مِن العلم فَلَهُو خَيْرٌ لَهُ مَن الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. ورُوِيَ عن أحَدِ العلماء أنه قَالَ: أدركتُ الفُقَهَاءَ بالمدينة يَقُولُونَ: لا يَجُوزُ أن يَنَصَب نَفْسَهُ لِلْفَتْوَى ولا يَجُوزُ أن نسْتَفْتِي إلا الموثوق في عَفافِهِ وعَقلِهِ وَصَلاحِهِ وَدِينِهِ وَوَرَعِهِ وَفَقِهْهِ وحِلْمِهِ ورِفِقِهِ وِعِلْمِهِ بأحْكَام القرآنِ والمحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ. عالمًا بالسنة والآثار وبمن نقلها والمعمول به منها والمتروك. عالمًا بوجوه الفقه التي فيها الأحكام عالمًا باختلاف الصحابة والتابعين. فإنه لا يَسْتَقِيم أَنْ يكُونَ صَاحِبَ رَأيَ له علم بالكتاب والسنة والأحاديث والاختلاف ولا صاحب حديث ليس له علم بالفقه والاختلاف ووجوه الكلام فيه، وليس يَسْتَقِيم واحدٌ منهما إلا بصاحِبه ومَن كان مِن أهل العلمِ والفقهِ والصلاحِ بِهَذِهِ المنزلةِ إلا أنَّ طُعْمَتَهُ مِن الناسِ وحَاجَاتَهُ مُنْزَلةٌ بهم وهو محمولٌ عليهم فليسَ بموضِعِ الفَتْوَى ولا مَوْثُوق في فَتْوَاهُ ولا مأمُونٌ على الناس فيما اشْتَبَهَ عليهم. نختم هذا الكلام بما قَالَه شيخُ الإسلام ابنُ تيمية رحمه الله: فعَلى كل مُؤْمِنٍ أن لا يَتَكَلَّمَ في شيءٍ مِن الدينِ إلا تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - ولا يَتَقَدَّمَ بينَ يَدَيهِ بلِ يَنظر مَا قَالَ فيكونُ قوله تَبَعًا لِقَوْلِهِ وَعَمَلُه تَبَعًا لأَمْرِهِ فَهَكَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ ومنَ سَلَكَ سَبِيلَهُم مِن التابِعِينَ لَهُم بإِحسانٍ وأَئِمَةِ المسلمين رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أجمعين. العِلْمُ قَالَ الله وقَالَ رَسُولُهُ ... قَالَ الصَّحابَةُ هُمْ أُولُوا الْعِرْفَانِ اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِن الشَّكِ بَعْدَ اليَقِينِ، وَمِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، ومِن

قصيدة زهدية وعظيمة

شَدَائِدِ يَوْم الدِّين، وَنَسْأَلَكَ رِضَاكَ وَالْجَنَّةِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ سَخَطِكَ والنَّارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْنَا إِذَا عَرِقُ الْجَبِينُ وَاشْتَدَّ الْكَرْبُ وَالأَنِينُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْياءِ مِنهُم وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وصَلَّى الله على مُحمَّدٍ وعلى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. شعرًا: دَعِ التَّشَاغُلَ بِالْغِزْلانِ والْغَزَلِ ... يَكْفِيكَ مَا ضَاعَ مِنْ أَيَّامِكَ الأُوَلِ ضَيَّعْتَ عُمْرَكَ لا دُنْيَا ظَفَرْتَ بِهَا ... وَكُنْتَ عَنْ صَالِحِ الأَعْمَال في شُغُلِ تَرَكْتَ طُرْقَ الهُدَى كَالشمس ِواضِحَةٍ ... وَمِلْتَ عنها لمُعْوَجِّ مِنَ السُّبُلِ وَلَمْ تَكُنْ نَاظِرًا في أْمِر عَاقِبَةٍ ... أأَنْتَ فِي غَفْلَةٍ أَمْ أَنْتِ في خَبَلِ يَا عَاجِزًا يَتَمَادَى فِي مُتَابَعَةِ النَّـ ... نَفْسِ اللجُوجِ وَيَرْجُو أَكْرَم النُّزلِ هَلا تَشَبَّهْتَ بالأَكْيَاسِ إِذْ فَطِنُوا ... فَقَدَّمُوا خَيْرَ مَا يُرْجَى مِنَ الْعَمَلِ فَرَّطْتَ يَا صَاحِ فَاسْتَدْرِكْ عَلَى عَجَلٍ ... إِنَّ المنَيَّةَ لا تَأتي على مَهَلِ هَلْ أَنْذَرَتْكَ يَقِينًا وَقْتَ زَوْرَتِها ... أَوْ بَشَّرَتْكَ بِعُمْرٍ غَيْرِ مُنْفَصِلِ هَيْهَاتَ هَيْهاتَ مَا الدُّنْيَا بِبَاقِيَةٍ ... وَلا الزَّمَانُ بِمَا أَمَّلْتَ فيه مَلَي لا تَحْسَبَنَّ اللَّيَالي سَالمَتَ أحَدًا ... صَفْوًا فَمَا سَاَلمَتْ أَلا عَلى دَخَلِ وَلا يَغُرَّنْكَ مَا أَوْلَيْتَ مِنْ نِعَمٍ ... فَهَلْ رَأيْتَ نَعِيمًا غَيْرَ مُنْتَقِلِ كَمْ مِنْ فَتىً جَبَرَتْهُ بَعْدَ كَسْرَتِهِ ... فَقَابَلَتْهُ بِجُرْحٍ غَيْرِ مُنْدَمِلِ إلامَ تَرْفُلُ في ثَوْبِ الغُرُورِ عَلَى ... بِسَاطِ لَهْوَكَ بَيْنَ التِّيهِ وَالجَذَلِ وَالشَّيبُ وَافَاكَ مِنْهُ نَاصِحٌ حَذِرٌ ... فَمَا بِهِ كُنْتَ إِلا غَيْرَ مُهْتَبِلِ وَلَمْ تُرَعْ مِنْهُ بَلْ أَصْبَحَتَ تَنْشُدُهُ ... إِنِّي اَتَّهَمْتُ نَصِيحَ الشَّيْبِ في عَذَلِ وَسِرْتَ تَطْلُبُ حَظَّ النَّفْسِ مِنْ سَفَهٍ ... فَبَهْجَةُ العُمْرِ قَدْ وَلَّتْ وَلَمْ تَصِلِ وَمَالَ عَصْر التَّصَابِي مِنْكَ مُرْتَحِلاً ... وَحَالةٌ عَنْ طَرِيقِ الغَيِّ لَمْ تَحُلِ أَقْسَمْتُ بالله لَوْ أَنْصَفْتَ نَفْسَكَ مَا ... تَرَكْتَهَا باكْتِسَابَ الوزْرِ فِي ثِقَلِ أَمَا عَلِمْتَ بَأنَّ اللهَ مُطَّلِعٌ ... عَلَى الضَّمَائِرِ والأَسْرَارِ وَالحِيَلِ

وكُلُّ خَيْرٍ وَشَرٍّ أَنْتَ فَاعِلُهُ ... يُحْصى ولو كُنْتَ في الأسْتَارِ والكِلَلِ أَمَا اعْتَبَرْتَ بتَرْدَادِ المَنُونِ إلى ... هِذِى الخليقَةِ في سَهْلٍ وَفِي جَبَلِ وَسَوْفَ تَأتي بلا شَكٍّ إِليكَ فَما ... أَخِّرْتَ عَمَّنْ مَضَى إلا إلى أجَلِ لكِنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَدَيْكَ فَخُذْ ... بالحزْم وانْهَضْ بَعَزْمٍ مِنْك مُكْتَمَلِ دَعَ البطَالَةَ والتَّفْرِيطَ وَابْكِ عَلَى ... شَرْخِ الشَّبَابِ الذي وَلَّى وَلمْ يَطُلِ وَلَمْ تُحَصَّلْ بِهِ عِلْمًا وَلا عَمَلاً ... يُنْجِيكَ مِنْ هَوْلِ يَوْمِ الحادثِ الجللِ وَابْخَل بِدِينِكَ لا تَبْغِي بِهِ عَوَضًا ... وَلَوْ تَعَاظَمَ وَاحْذَرْ بِيْعَةِ السَّفَلِ وَاتْلُ الْكِتَابَ كِتَابَ اللهُ مُنْتَهِيًا ... عَمَّا نَهَى وَتَدبَّرْهُ بِلا مَلَلِ وَكُلُّ مَا فِيهِ مِنْ أَمْرٍ عَلَيْكَ بِهِ ... فَهُوَ النَّجَّاةُ لِتَالِيهِ مِنْ الظُلَلِ وَلازِمِ السُّنَّةَ الغَرَّاءَ تَحْظَ بِهَا ... وَعَدِّ عَنْ طُرُقِ الأَهْوَاءِ وَاعْتَزِلِ وَجَانِبِ الْخَوْضَ فِيمَا لَسْتَ تَعْلَمُهُ ... واحْفَظْ لِسَانَكَ وَاحْذَرْ فِتْنَةَ الجَدَلِ وَكُنْ حَرِيصًا عَلَى كَسْبِ الحَلال وَلَوْ ... حَمَّلْتَ نَفْسَكَ فِيهِ غَيْرَ مُحْتَمَلِ وَاقْنَعْ تَجدْ غُنْيَةً عَنْ كُلِّ مَسْأَلَةٍ ... فَفِي القَنَاعَةِ عَزٌّ غَيْرُ مُرْتَحِلِ وَاطْلُبْ مِنْ اللهِ وَاتْرُكْ مَنْ سِوَاهُ تَجِدْ ... مَا تَبْتَغِيهِ بِلا مَنٍّ ولا بَدَلِ وَلا تُدَاهِنْ فَتَى مِنْ أَجْلِ نِعْمَتِهِ ... يَوْمًا وَلَوْ نِلْتَ مِنْهُ غَايَةَ الأَمَلِ وَاعْمَلْ بعَِلْمِكَ لا تَهْجُرْهُ تَشْقَ بِهِ ... وَانْشُرهُ تَسْعَدْ بِذْكِر غَيْرِ مُنْخَذِلِ وَمَنْ أَتَى لَكَ ذَنْبًا فَاعْفُ عَنْهُ ولا ... تَحْقِدْ عَلَيْهِ وَفِي عُتْبَاهُ لا تطُلِ عَسَاكَ بَالْعَفْوِ أَنْ تُجْزَى إِذَا نُشِرَتْ ... صَحَائِفٌ لَكَ مِنْهَا صِرْتَ فِي خَجَلِ وَلا تَكُنْ مُضْمِرًا مَا لَسْتَ تُظْهرُهُ ... فَذَاكَ يَقْبَحُ بَيْنَ النَّاسِ بَالرَّجُلِ وَلا تَكُنْ آيِسًا وارْجُ الكَرِيمَ لِمَا ... أَسْلَفْتَ مِنْ زَلَّةٍ لَكِنْ على وَجَلِ وَقِفْ عَلَى بَابِهِ المَفْتُوحِ مُنْكَسِرًا ... تَجْزِمْ بَتَسْكِينَ مَا فِي النَّفْسِ مِنْ عِلَلِ وَارْفَعْ لَهُ قَصَّةَ الشَّكوَى وَسَلْهُ إِذَا ... جَنَّ الظَّلامُ بِقَلْبً غَيْرَ مُشْتَغِلِ وَلازِمْ البَابَ وَاصْبِرْ لا تَكُنْ عَجِلاً ... وَاخْضَعْ لَهُ وَتَذَلَّلْ وَادْعُ وابْتَهِلِ

مما قاله العلماء والأدباء في العلم

ونَادِ يَا مَالِكِي قَدْ جِئْتُ مُعْتَذِرًا ... عَسَاكَ بَالْعَفْوِ والغُفْرَانِ تَسْمَحُ لِي فَإنَّني عَبْدُ سُوءٍ قَدْ جَنَى سَفَهًا ... وَضَيَّعَ العُمْرَ بَيْنَ النَّوْمِ والكسَلِ وَغَرَّهُ الحِلْمُ والإِمْهَالُ مِنْكَ لَهُ ... حَتَّى غَدَا فِي المَعَاصِي غَايَةَ المُثْلِ وَلَيْسَ لِي غَيْرُ حُسْنِ الظَّنْ فِيكَ فَإِنْ ... رَدَدْتِني فَشَقَاءٌ كَانَ في الأزَلِ حَاشَاكَ مِنْ رَدِّ مِثْلِي خَائِبًا جَزَعًا ... وَالعَفْوُ أَوْسَعُ يَا مَوْلاي مِنْ زَلَلِي وَلَمْ أَكُنْ بِكَ يَوْمًا مُشْرِكًا وَإِلى ... دِينٍ سَوَى دِينِكَ الإِسْلامِ لَمْ أَمِلِ وَكَانَ ذَلِكَ فَضْلاً مِنْكَ جُدْتَ بِهِ ... وَلَيْسَ ذَاكَ بسَعْيٍ كَانَ مِنْ قَبَلِي اللَّهُمَّ ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَهَبْ لَنَا تَقواك واهدِنا بِهُدَاك ولا تكِلنَا إلى أحدٍ سِوَاكْ وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ كُلِّ همٍّ فَرَجَا، وَمِنْ كُلِّ ضَيْقٍ مَخْرَجَا، اللَّهُمَّ أعْذَنا بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَبِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، واحْفَظْ جَوَارِحَنَا مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِكَ، واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ 15) ومما قَالَهُ العُلماءُ والأُدَباءُ والْحُكماءُ في فَضْلِ العِلمِ والْحَثِّ عَليهِ تَعْلُّمًا وَتَعْلِيمًا قَالَ عَلَيُّ بنُ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: النَّاسُ أَبْنَاءُ ما يُحْسِنُونَ. وقَالَ مُصْعَبُ بنُ الزُّبَيْر: تَعَلَّمْ العِلْمَ فَإِنْ لَمْ يكُنْ لَكَ جَمَالٌ كان العلمُ لك جَمالاً، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ مَالٌ كَانَ لك مَالاً. وقَالَ عَبْدِ الملكِ بنُ مَروانَ لِبَنِيهِ: يا بَنِيَّ تعلَّموا العلمَ فَإنْ كُنْتمْ سادةً فُقْتُمْ وإنْ كُنتمْ وَسَطًا سُدْتُمْ، وإنْ كنتُمْ سُوقَةً عِشْتُمْ. وقَالَ بعضُ الحكماءِ: العلمُ شَرَفٌ لا قَدْرَ لَهُ والأَدَبُ مَالٌ لا خَوْفَ عليهِ. وقَالَ بعضُ الأُدَباءِ: العلمُ أفضَلُ خَلَفٍ والعملُ بِهِ أَملُ شَرَفٍ. وقَالَ بعض البُلَغاءِ: تَعَلَّمْ العلمَ فَإنَّهُ يُقَوِّمُك وَيُسَدِّدُكَ صَغِيرًا وَيُقَدِّمُكَ وَيُسَوّدُكَ كَبِيرًا، وَيُصْلِحُ زَيْفَك وفاسِدَكَ، وَيُرْغِمْ عَدُوَّكَ وحاسِدَكَ، وَيَقُوِّمْ عِوَجَكَ وَمَيْلَكَ، وَيُصَحِّحُ هِمَّتَكَ وَأَمَلَكَ. قلت: وهذا صحيحٌ في حَقِّ العاقلِ اللبيب القابلِ لذلِكَ دُون الأحْمَقِ المُتَكِّبِر الْجَاهِلِ جَهْلاً مُرَكَّبًا قَالَ بَعْضُهُمْ:

قصيدة لابن مشرف في مدح العلم ويليها موعظة

شعرًا: ... كالثَّوْر عَقْلاً وَمِثْلُ التَّيْسِ مَعْرِفةً فَلا يفرق بَيْنَ الْحَقُّ والفَنَدِ الجهل شَخْصٌ يُنَادِي فَوقَ هَامَتِهِ لا تَسْأَلْ الرَّبْعِ مَا فِي الرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ الْعِلْمُ للرَّجُلِ اللَّبِيبُ زِيادَةٌ وَنَقِيصَةٌ للأَحْمَقِ الطَيَّاشِ مَثْلُ النَّهَارِ يزِيدُ أَبْصَارَ الوَرَى نُورًا وَيُعْشِي أعْيُنَ الخُفَّاشِ شعرًا: ... ما الفَخْرُ إلا لأَهْلِ الْعِلْمِ إنَّهُمُ عَلَى الْهُدَى لِمَنِ اسْتَهْدَى أَدِلاءُ وَقَدْرُ كلّ امرئٍ مَا كَانَ يُحْسِنُهُ وَالْجَاهِلُونَ لأَهْلِ الْعِلْمِ أَعْدَاءُ فَفُزْ بعِلمٍ تَعِشْ حَيًّا بِهِ أَبَدَا النَّاسُ مَوْتَى وَأَهْلُ الْعِلْمِ أَحْيِاءُ آخر: ... تَعَلَّم فَلَيسَ المَرءُ يولَدُ عالِماً وَلَيسَ أَخو عِلمٍ كَمَن هُوَ جاهِلُ وَإِنَّ كَبيرَ القَومِ لا عِلمَ عِندَهُ صَغيرٌ إِذا اِلتَفَّت عَلَيهِ الجَحافِلُ وَإِنَّ صَغيرَ القَومِ إِن كانَ عالِماً كَبيرٌ إِذا رُدَّت إِلَيهِ المَسَائِلُ آخر: ... يَقولُ أَنا الكَبيرُ فَبَجِّلوني ... أَلا هَبِلَتكَ أُمُّكَ مِن كَبيرِ إِذا كانَ الصَغيرُ أَعَمَّ نَفعاً ... وَأَمضى في الحَوائِجِ وَالأُمورِ وَأَنفَذَ في النَوائِبِ إِن أَلَمَّت ... فَما فَضلُ الكَبيرِ عَلى الصَغيرِ

وقَالَ بَعْضُهُمْ: العالِمُ يَعْرِف الجاهِلَ لأنَّهُ كَان جَاهِلاً بالأولِ، والجاهلُ لا يَعرفُ العالِمَ لأنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا، وَرُبَّمَا ذَمَّ العالِمَ وَعِلْمَهُ. قَالَ بعضُهُمْ: أَتَانَا أَنْ سَهْلاً ذَمَّ جَهْلاً عُلومًا لَيْسَ يَعْرفُهُنَّ سَهْلُ عُلومًا لَو قَرَاهَا مَا تَلاهَا وَلكنَّ الرِّضَا بالجهلِ سَهْلُ آخر: دَعِ الْجَاهِلَ المفتونَ لا تصحَبَنَّهُ ... وَجَانِبه لا يغري بِعقِلِكَ ضَيْرُهُ فَإِنَّ الذي أمْسَى عَدُوًا لِنَفْسِهِ ... دَلِيلٌ عَلى أَنْ لا يُصَادِقَ غَيرَهُ وَدَخَلَ على الْخَلِيلِ ابنٌ لَهُ مُتَخَلِّفٌ وَهو يُقَطِّعُ بَيْتَ شِعْرٍ فَخَرَجَ وقَالَ: إِنَّ أَبِي قَدْ جُنَّ. فقَالَ أَبُوهُ: لَو كُنتَ تَعلَمُ ما أَقولُ عَذَرتَني أَو كُنتَ تَفَهَمُ ما أَقولُ عَذَلتُكا لِكِن جَهِلتَ مَقَالَتي فَعَذَلتَني وَعَلِمتُ أَنَّكَ جاهِلٌ فَعَذَرتُكا وَكُلُّ مَا وَرَدَ فِي ذَمَّ الْجَهْلِ فَهُوَ مَدْحٌ لِلْعِلْمِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} ، وقَالَ لِرَسُولِهِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ: {إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} ، وقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ: {أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} ، وقَالَ جَلَّ وَعَلا لِنَبِيِّهِ: {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} ، وقَالَ تَعَالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالَوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} ، وقَالَ تعالى: {وََإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالَوا سَلَاماً} ، وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعويمر: «كيفَ أنتَ يا عُوَيْمِرُ إذا قِيلَ لك يَوْمَ القِيامَةِ: أَعَلِمْتَ أمْ جَهِلْتَ فَإنَّ

قُلْتَ: عَلِمْتُ قِيلَ لك: فَمَا عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ، وَإِنْ قُلْتَ: جَهِلْتَ قِيلَ لك: فَمَا كَانَ عُذْرُكَ فيما جَهِلْتَ ألا تَعَلَّمْتَ» . رَوَاهُ ابنُ عَسَاكِرَ في تَاريخِهِ عَنْ أبي الدَّرْدَاءِ. وَهَذا مِمَّا يَدُلُّ على شَنَاعَةِ الْجَهْلِ وَقُبْحِهِ وَمَهَانَتِهِ وَرَذَالَتِهِ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ خَلْقِه. وقَالَ آخر: إِنَّ الْجَهْلَ يَحُطُ أَوُلي الْمَرَاتِب ويُصَغِرُّ ذَوِي الْمَنَاصِبِ. شعرًا: ... مَنْ جَادَ بالْعِلْم أَحْيَا العَالَمُونَ لَهُ ... بَدِيعَ حَمْدٍ بِمَدْح الفِعْلِ مُتَّصِلِ يَمُوتُ قَوْمٌ فَيُحْيي العِلْمُ ذِكْرَهُمُوا ... والْجَهْلُ يُلْحِقُ أَمْوَاتًا بَأمْوَاتِ شعرًا: ... إِذَا مَا الجهلُ خَيَّمَ في بِلادٍ ... رَأَيْتَ أَسُودَهَا مُسِخَت قُرودَا آخر: ... وَفي الجَهلِ قَبلَ المَوتِ مَوتٌ لأَهلِهِ فَأَجسامُهُم قَبلَ القُبورِ قُبورُ وَإِنَّ اِمرَءاً لَم يُحيى بِالعِلمِ مَيِّتٌ فَلَيسَ لَهُ حَتّى النَشورِ نُشورُ آخر: ... معَ العِلْم فَاسْلُكْ حَيْثَ مَا سَلَكَ العِلْمُ وَعَنْهُ فَكَاشِفْ كُلَّ مَنْ عِنْدَهُ فِهْمُ فَفِيهِ جَلاءٌ لِلْقُلوبِ مِنَ العَمَى وَعَوْنٌ عَلى الدِّينِ الذي أَمْرُهُ حَتْمُ فَإِنِّي رَأَيْتُ الْجَهْلَ يُزْرِي بَأهْلِهِ وَذو العِلْمِ في الأَقْوَامِ يَرْفَعُهُ العِلْمُ يُعَدُّ كَبيرَ القَوْمِ وَهُو صغيرُهُمْ ويَنْفُذُ منهُ فيهِمُ القولُ والحُكْمُ وأيُّ رَجاءٍ في امرئٍ شَابَ رَأَسُهُ وَأَفْنَى سَنِيهِ وَهُوَ مُسْتَعْجِمٌ فَدْمُ وأيُّ رَجاءٍ في امرئٍ شَابَ رَأَسُهُ وَأَفْنَى سَنِيهِ وَهُوَ مُسْتَعْجِمٌ فَدْمُ

يَرُوحُ وَيَغْدُو الدَّهْرَ صَاحِبُ بَطْنَةٍ تَرَكَّبَ في أحْضَانِهَا اللَّحْمُ والشَّحْمُ إِذَا سُئِلَ الْمِسْكِينُ عَنْ أَمْرِ دِينِهِ بَدَتْ رُخَصَاءُ العيِّ في وَجْهِهِ تَسْمُّو وَهَلْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ أَقْبَحَ مَنْظَرَا مَنْ أُشِيبَ لا عِلْمٌ لَدَيْهِ وَلا حُكْمُ هِي السَّوْأَةُ السَّوْءَاءُ فَاحْذَرْ شَمَاتِها فأوَّلُهَا خِزْيٌ وَآخَرُهَا ذَمُّ فَخَالِطْ رُوَاةَ العِلمِ واصْحَبْ خِيارَهُمْ فَصُحْبَتُهُمْ زَينٌ وَخِلْطَتُهُمْ غُنْمُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ فَإنَّهُمْ ... نُجُومٌ إِذَا مَا غَابَ نَجْمٌ بَدَا نَجْمُ فَوالله لَوْلا الْعِلْمِ مَاتَّضَح الهُدَى ... وَلا لاحَ مِنْ غَيْبِ الأمُورِ لَنَا رَسْمُ اللَّهُمَّ يا عالم الخفيات، ويا رفيع الدرجات، ويا غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا أنت إليك المصير. نسألك أن تذيقنا بر عفوك، وحلاوة رحمتك، يا أرحم الراحمين، وارأف الرائفين، وأكرم الأكرمين. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) : قَالَ في مِنْهَاجِ اليَقِين: واعْلَمْ أنَّ كُلَّ العُلومِ شَرِيفَةٌ، وَلِكُلِّ عِلْمٍ مِنْهَا فَضِيلَةٌ، والإحاطةُ بجميعِها مُحَالٌ لِعَجْز عُقُولِ الْبَشرِ عَنْ إحَاطَتِهَا أَوْ لِعَدَمِ تَنَاهِي الأَعْمَار وإحاطَةِ الغيرِ الْمُتَناهِي بالْمُتَناهِي مُحَالٌ وقيلَ لِبَعْضِ الْحُكَمَاءِ: مَنْ يَعْرِفُ كلَّ العُلوم؟ فقَالَ: كلُّ النَّاسِ. قُلْتُ: مَا يَعْلَمُ كُلَّ الْعُلومِ إلا الله جَلَّ وَعَلا. قَالَ تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} وَرُوِيَ عنِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنهُ قَالَ: «مَنْ ظَنَّ أَنَّ لِلْعِلْمِ غَايَةٍ فَقَدْ

بَخَسَهُ حَقَّهُ وَوَضَعَهُ في غَيْر مَنْزِلَتِهِ التِي وَصَفَهُ الله بِهَا حَيْثُ يَقُولُ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} . انتهى. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: سَألَ أَهْلُ الكتاب رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن الروحِ فأنزل الله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الآية. فقَالَوا: تَزْعُمُ أَنَّا لَمْ نَؤْتَ مِنَ الْعِلْمِ إلا قَلِيلاً وَقَدْ أوُتِينَا التوراةَ وهي الْحِكْمَةُ {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} قَالَ: فنزلت: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} الآية. قَالَ: مَا أُوتِيتُمْ مِنْ عِلْمٍ فَنَجَّاكُمْ اللهُ بِهِ مِنَ النَّارِ فَهُوَ كَثِيرٌ طَيّبٌ، وَهو في عِلْم اللهِ قليلٌ. وقَالَ بعضُ العُلَمَاءِ: لَوْ كُنَّا نَطْلبُ العِلْمِ لِنبْلُغَ غايَتَهُ كُنَّا قَدْ بَدَأنَا بالنَّقَيصةِ وَلكِننا نَطْلبُهُ لِنُنَقصَ في كلّ يومٍ مِنَ الْجَهْلِ وَنَزْدَادَ في كلَّ يَوْمٍ مِنَ الْعِلْمِ. شِعْرًا: الْعِلْمُ نُورٌ فلا تُهْمِلْ مَجَالِسَهُ ... وَاعْمَلْ جَمِيلاً يُرى فالْفضْلُ في الْعَمَلِ لا تَرْقُدِ اللَّيْلَ ما في النَّوْمَ فائِدةٌ ... لا تَكْسَلَنَّ تَرَى الْحُرْمان في الْكَسَلِ آخر: ... إِذَا لَمْ تَكُنْ حَافِظًا وَاعِيًا ... فَجَمْعُكَ لِلْكُتْبِ لا يَنْفَعُ آخر: ... وَبَادِرْ بَاللَّيْلِ بَدرِسِ العُلُومِ ... فَإنَّمَا اللَّيلُ نَهَارُ الأَرِيبْ آخر: احْفَظْ الْعِلْمَ مَا اسْتَطَعْتَ ... فإِنَّكَ إِنْ كُنْتَ خَامِلاً رَفَعَكَ وَاتْرُكِ الْجَهْلَ مَا اسْتَطَعْتَ ... فَإنَّكَ إِنْ كُنْتَ عَالِيًا وَضَعَكَ آخر: ... مَا حَوى العِلْمِ جَمِيعًا أَحُدٌ ... لا وَلَوْ حَاوَلَهُ أَلْفَ سَنَةْ إِنَّمَا الْعِلْمُ كَبَحْرٍ زَاجِرٍ ... فَاتَّخِذْ مِنْ كُلِّ شيءٍ أَحْسَنَهْ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ إِلى مَعْرِفَةِ جَمِيعِ العُلُومِ سَبِيلٌ وَجَبَ صَرْفُ الاهتمامِ إلى مَعْرِفَةٍ أَهَمَّهَا والْعنَايَةُ بَأَوْلاها وأفضَلِهَا وأوْلَى الْعُلومِ وَأَفْضَلُهَا علمُ الدِّينِ الْمُبِيِّنِ بالكتابِ والسُّنةِ والْمُسْتَنبَذِ منهُما لأنَّ النَّاسَ بِمعرفَةِ علومِ الشَّرْحِ يَرْشُدُون وَيَهْتَدُونَ، وَبِجَهْلِهِ يَضِلّونَ. ولا تَصِحُّ الْعبادةُ مِمَّنْ لا يَعْرِفُ صِفَتَهَا وَلا شُرُوطَها

ولا أرْكَانَهَا والذي يجبُ على المكلَّفِ تعلُّمُهُ من العلوم الدينية كلًّ ما يحتاجُهُ في عِبَادَاتِهِ وَمُعَامَلاتِهِ وَمَا عَدا ذَلِكَ مِنْ العُلومِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ مَا هُو وَسِيلةٌ فَمُسْتَحبٌّ. قَالَ الله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) : قَالَ بعضُ العُلَمَاءِ الْمُحَققينَ على قولِ اللهِ تعالى: {وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ} وَلِيَجْعَلُوا غَرَضَهُمْ وَمَرْمَى هِمَّتِهِمْ في التَّفَقُّهِ إنْذَارَ قَومِهِمْ وإرْشَادَهُمْ والنصيحةَ لَهُمْ لا ما يُنْتِجُهُ بَعْضُ الْعُلَماءِ مِنْ الأغْرَاضِ الْخَسِيسَةِ وَيَؤُمُّونَه مِنَ الْمَقَاصِدِ الرَّكِيكَةِ مِنْ التَّصدُّرِ والتَّرَؤْسِ والتَّبَسُّطِ في البلادِ والتشبُّهِ بالظَلَمَةِ في مَلابِسِهِم وَمَسَاكِنِهمْ وَمَرَاكِبِهِمْ وَعَادَاتِهمْ وَمُنَافَسَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَفُشُوّ دَاءِ الضرائرِ بَيْنَهُمْ وانقلاب حَمالِيقِ أحَدِهِمْ إذا لَمَحَ بِبَصَرِهِ مَدْرَسَةً لآخَر أَو شِرْذِمَةً جَثُوا بَيْنَ يَدِيْهِ وَتَهَالُكُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَوْطَّأَ الْعَقِبِ دُونَ النَّاسِ كُلُّهِمْ فَمَا أبْعَد هَؤُلاءِ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً} . آخر: ... وَصْن العُلومَ عن المَطَامِعِ كُلِها ... لتَرى بأنّ العِزَّ عِزَّ اليَأسِ فَالْعِلْمُ ثَوْبٌ والصَّفَاتِ طِرَازهُ ... وَمَطَامِعُ الإِنْسَان كالأدْنَاسِ آخر: ... وَاِذا طَلَبت العِلمَ فَاِعلَم أَنَّهُ ... حِمْلٌّ ثَقِيلٌ فَانْتَخِبْ مَا تَحْمِلُ وَإِذا عَلِمتَ بِأَنَّهُ مُتَفاضِلٌ ... فَاِشغَل فُؤادَكَ بِالَّذي هُوَ أَفْضَلُ آخر: كَأنَّك لَمْ تَتْعَبْ مِنْ الدَّهْرِ لَيْلَةً ... إِذَا أَنْتَ أَدْرَكْتَ الذي أَنْتَ تَطْلُبُ شِعْرًا: ... اجْعَل العِلْمِ يَا فَتَى لَكَ قَيْدًا ... واتَّقِ اللَه لا تَخُنْهُ رُوَيْدَا لا تَكُنْ مِثْلَ مَعْشر فُقَها ... جَعَلُوا الْعِلْمَ لِدَّرَاهِمِ صَيْدَا طَلَبُوهُ فَصَيَّرُوهُ مَعَاشًا ... ثم كادُوا بِهِ الْبَرِيِّةِ كَيْدَا آخر: ... يُقَالُ خِصَالُ الْعِلْمِ أَلْفٌ ... ومَنْ جَمَع الْخِصَالَ الأَلْفَ سَادَا وَيَجْمَعَهَا الصَّلاحُ فَمْنَ تَعَدَّى ... مَذَاهِبَهُ فَقَدْ جَمَعَ الْفَسَادَا

آخر: يَقُولُونَ لِي فِيكَ انْقِبَاضٌ وإنَّما ... رَأَوْا رَجُلاً عنْ مَوْقِفِ الذلِّ أحْجما وَما زِلْتَ مُنْحَازًا بِعِرْضِي جَانِبًا ... عَن الذَّمِّ أَعْتَدُّ الصِّيَانَةَ مَعْنَمَا أَرَى النَّاسَ مَنْ دَانَاهُمُ هَانَ عِنْدَهُمْ ... وَمَنْ أَكْرَمَتْهُ عِزَّةُ النَّفْسَ أُكْرِمَا إِذَا قِيلَ هَذَا مَوْردٌ قُلْتُ قَدْ رَأى ... وَلكنَّ نَفْسَ الْحُرِّ تَحْتَمِلُ الظَّمَا أَنَهْنِهُهَا عَنْ بَعْضِ مَا قَدْ يَشِينُهَا ... مَخافةَ أَقْوَالِ العِدا فِيمَ أَوْ لِمَا فَأُصِبْحُ عن عَيبِ اللئم مُسَلَّمًا ... وَقَدْ رَحْتُ في نَفْسَ الكريم مُعَظَّمَا فَإنْ قُلْتَ زَنْدَ العِلْمِ كَابَ فَإنَّما ... كَبَا حَيْثُ لَمْ تحْمَى حِمَاهُ وَأَظْلَمَا وَلَوْ أَنَّ أَهْلُ الْعِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ ... وَلَوْ عَظَّمُوهُ فِي النُّفُوسِ لَعُظِّمَا وَلَكِنْ أَهَانُوهُ فَهَانُوا وَدَنَّسُوا ... مُحَيَّاةُ بالأطماعَ حَتَّى تَجَهَّمَا وَلَمْ أَقْضِ حَقَّ الْعِلْمِ إِنْ كَانَ كُلمَّا ... بَدَا طَمَعٌ صَيَّرْتُهُ لِي سُلَّمَا وَكَمْ طَالبِ رِقّي بنُعْمَاهُ لم يَصِلْ ... إليه وإنْ كَانَ الرَّئِيسَ المُعَظَّمَا وَكَمْ مِنْ نِعْمَةٍ كانَتْ على الْحُر نِقْمَةً ... وَكَمْ مَغْنَمٍ يَعْتَدُهُ الْحُرّ مَغْرَمَا وَلِكن إِذَا مَا اضْطَرني الضُّرُّ لم أبِتْ ... أقَلّبُ فِكْرِي مُنْجدًا ثُمْ مُتْهِمَا إِلى أَنْ أَرَى مَالا أَغُصُّ بِذِكِرهِ ... إِذَا قُلْتُ قد أَسْدَى إليَّ وَأَنْعَمَا وَلَمْ أَبْتَذِل في خِدْمَةِ العلم مُهْجَتِي ... لأَخْدِمَ مَنْ لاقِيتُ لَكِنْ لأخْدَمَا أأشْقَي بِهِ غَرْسًا وأَجْنِيهِ ذِلَّةً ... إِذًا فاتّباعُ الْجَهْلِ قَدْ كَانَ أَحْزَمَا اللَّهُمَّ تَوَفَّنَي مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) : ثُم اعْلم أَنَّ مَنْ لَمْ يَصُنْ نَفسَهُ بوِقَايِتَهَا عنِ الْمُحَرَّمَاتِ وَمُخِلِّ الْمُرُؤاتِ لَمْ يَنْفَعْهُ عَلمُهُ؛ لأَنَّ الْعِلْمَ للعَملِ فَكَما لا ينفعُ السلاحُ للمجاهِدِ مَا لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ، ولا الكتُبُ النَّافِعَةُ الْمُستَمَدَّةُ من الكِتَابِ ما لَمْ يُطَالعها وَيَتَعَلَّمْ مِنها، ولا الأطْعمَةُ النَّفِيسَةُ الْمُدَّخَرَةُ لِلْجائِعِ مَا لَمْ يَأْكلْ مِنْهَا، فَكَذَلِكَ الْعِلْمُ. وَقَديمًا قيلَ:

يُحَاوِلُ نَيْلُ الْمَجْدِ والسَّيف مُغْمَدٌ ... وَيَأمَل إِدْرَاكُ العُلَى وَهُوَ نَائِمُ آخر: إِذَا كُنْتَ تَهْوَى أَنْ تَعِيشَ بِذِلَّةٍ ... فَلا تَسْتَعِدّنَّ الْحُسَامَ الْيَمَانِيَا ولا تَسْتَطِيلَنَّ الرِّمَاحَ لِغَارِةٍ ... وَلا تَسْتَجِيدَنَّ الْعِتَاقَ الْمَذَاكِيَا فصِيانةُ النفسِ أصْلُ الفضائِلِ لأنَّ مَنْ أَهْمَلَ نَفْسَهُ ثِقَةٌ بِما مَنَحَهُ اللهُ مِنْ فَضيلةِ عِلْمِهِ وَتَوَكّلاً على ما يلزَمُ الناسَ مِنْ صِيانَتِهِ سَلَبُوهُ فضيلةَ عِلمِهِ وَوَسَمُوهُ بقبيحِ تَبَذُّلِهِ فلم يَفِ ما أُعْطِي مِنَ العِلْمَ بما سَلَبَهُ منُه التبذّل لأنّ القبيحَ أشْيَعُ منَ الْجَمِيلِ والرذيلةُ مَشْهُورَةٌ تُنقَلُ وتُذَاع بسُرْعَةٍ لِمَا في طِباعِ الناس مِن الحسدِ والبُغْضِ والحِقدِ ونِزاعِ المنافَسَةِ فَتَنْصَرِفُ عُيونُهُمْ عن المحاسِنِ إلى المَسَاوِي فلا يُنْصِفُونَ مُحْسِنًا ولا يجاملون ولا يُسامحونَ مُسيئًا يَذكُرون المَسَاوِي كُلَّها غالِبًا لاسِيَّما إذا كان المَرْموقُ عالمًا فإنّ زَلّتَهُ عِندَهُم لا تُقَالَ وَهَفْوَتَهُ لا تُعْذَرُ لأنَّ العيْبَ الصغيرَ يَعْظُمُ في حَقِّ أَهْلِ المُرْوَآت والعَيْبَ في الجاهلِ المغمورِ مَغْمورٌ ولهذا يَنْبَغِي للعالِمِ أنْ يُحْسِنَ أخلاقَهُ وَخَلُقَهُ لِيُقْتَدَى بِهِ وَيَسْلَمَ عِرضُهُ مِن الطعنِ والاعتراضاتِ. قَالَ بعض العلماء: أَيُّهَا الْعَالِمُ إِيَّاكَ إيَّاكَ الزَّلَلْ ... وَاحْذَرْ الْهَفْوَةَ والْخَطْبَ الْجَلَلْ هَفْوَةُ العَالِم مُسْتَعْظَمَةْ ... إِذْ بِهَا أَصْبَحَ في الْخَلْقِ مَثَلْ وَعَلَى زَلَّتِهِ عُمْدَتُهُمْ ... فَبِهَا يَحْتَجُّ مَنْ أَخْطَأ وزَلْ لا تَقُلْ يَسْترْ عَليَّ الْعِلْمُ زَلَّتِي ... بَلْ بِها يَحْصُل في العِلْمَ الخلَلْ إِنْ تَكُنْ عِنْدَكَ مُسْتَحْقَرَةْ ... فَهِيَ عِنْدَ اللهِ والنَّاسِ جَبَلْ لَيْسَ مَنْ يَتْبَعُهُ الْعَالمُ في ... كُلِّ مَا دَقَّ مِن الأَمْرِ وَجَلْ مِثْلُ مَنْ يَدْفعُ عَنْهُ جَهْلُهُ ... إِنْ أَتَى فَاحِشَةً قِيلَ قَدْ جَهِلْ انْظُرِ الأَنْجُمَ مَهْمَا سَقَطَتْ ... مَنْ رَآهَا وَهِي تَهْوي لَمْ يُبَلْ

فإذا الشمسُ بَدَتْ كَاسِفَةً ... وَجَلَّ الْخَلْقُ لَهَا كُلَّ الوَجَلْ وَتَرَاءَتْ نَحْوَهَا أَبْصَارُهُمْ ... في انْزعَاجِ واضْطِرَابٍ وَوَجَلْ وَسَرى النَّقْصُ لَهُمْ مِنْ نَقْصِهَا ... فَغَدَتْ مُظْلِمَةً مِنْهَا السُّبُل وَكَذَا العَالِمُ في زَلَّتِهْ ... يَفْتِنُ العَالَمَ طَرًا ويُضِلْ آخر: ... أَرَى الْعِلْمَ كالْمِرَآةِ يَصْدَأُ وَجْهُهُ وَلَيْسَ سِوى حُسْن الْخَلاق مِنْ جَالِي وَلَوْ وَازَنَ الْعِلْمَ الْجِبَالَ ولم يَكُنْ لَهُ حُسْنُ خُلْقٍ لَمْ يَزِنْ وزْنَ مِثْقَالِ وَإِنَّ الْمَسَاوِي زِهْيَ في خُلقِ عَالِمٍ لأقْبَحُ مِنْهَا وِهْيَ فِي خُلْق جُهَّالِ آخر: وَالعِلمُ إِن لَم تَكتَنِفهُ شَمائِلٌ ... تُعليهِ كانَ مَطِيَّةَ الإِخفاقِ لا تَحسَبَنَّ العِلمَ يَنفَعُ وَحدَهُ ... ما لَم يُتَوَّج رَبُّهُ بِخَلاقِ ورُوِي عنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنهُ قَالَ: تعلَّمُوا العلمَ وَعَلِّمُوهُ ولا تَكُونُوا جَبَابِرةَ العُلماءِ فلا يَقُوم جَهْلُكُم بِعِلْمِكُم. وقَالَ في مِنْهَاجِ اليَقِين: وينبغي لِمَنْ اسْتَدَلَّ بِفِطْرَتِهِ على اسْتِحْسَانِ الفضائِلِ واستِقْبَاحِ الرذائِلِ أَنْ يَنْفِيَ عَنْ نَفْسِهِ رَذائِلِ الجَهْلِ بفضائِلِ العِلْمِ ويَنْفِيْ غَفْلَةَ الإهْمَالِ باسْتِيْقَاظِ المُعَانَاةِ ويَرْغَب في العلم رَغْبَةَ مُتَحَقِّقِ لِفَضائِلِهِ واثقٍ بِمَنَافِعِهِ وَلا يُلْهيهِ عنْ طَلَبِِهِ كثرةُ مالٍ وُجِد ولا نفوذُ أمرٍ وَعُلُوُّ مَنْزِلَةٍ فإنَّ مَنْ نفذَ أَمرُهُ فَهُوَ إلى العِلْمِ أحوجُ ليكونَ أَمرُهُ وَنَهيهُ على البَراهينِ الشَّرْعِيةِ وَمَنْ عَلَتْ مَنزلَتُهُ فهو بالعلم أَحَقُّ لِيُعْرَفَ فَضْلَهُ ونهيهُ على البراهينِ الشرْعِيَّةِ. شِعْرًا: لَو كانَ هَذا العِلمُ يَحصُلُ بِالمُنى ... ما كانَ يَبقى في البَرِيَّةِ جاهِلُ فاجهِد وَلا تَكسَل وَلا تَكُ غافِلاً ... فَنَدامَةُ العُقبى لِمَن يَتكاسَلُ

شِعْرًا: يقولونَ ذِكرُ المَرءِ يبقى بنَسلِهِ ... وليسَ لهُ ذكرٌ إذا لم يكُنْ نَسْلُ فقلتُ لُهمْ نَسلي بدائعُ حِكمَتي ... فَمنْ سَرَّهُ نَسلٌ فأنّا بِذا نَسلوا شِعْرًا: تَفَّننْ وَخُذْ منْ كُلِّ عِلْمٍ فإنَّما يفوقُ امرُوءٌ في كل فَنٍّ لهُ عِلْمُ فَأنْتَ عَدُوٌ لِلذي أنْتَ جَاهلٌ بِهِ ولِعلْمٍ أَنْتَ تُتْقِنُهُ سِلْمُ آخر: العِلمُ زَينٌ وَتَشْرِيفٌ لِصَاحِبِهِ فاِطلُبْ هُدِيتَ فُنُونَ العِلمِْ وَالأَدَبا كَمْ سَيِّدٍ بَطَلٍ آبَاؤُهُ نُجُبٌ كَانَا الرُؤوسَ فَأَمْسَى بَعدَهُم ذَنَبَا وَمُقرِفٍ خامِلِ الآبَاءِ ذِي أَدَبٍ نَال المَعَاليَ بِالآدابِ وَالرُتبَا الْعِلْم زَيْنٌ وَذُخْرٌ لا فَنَاءَ لَهُ نِعْمَ القَرينُ إِذَا مَا صَاحِبٌ صَحِبَا قَدْ يَجْمَعُ الْمَالَ شَخْصٌ ثُمَّ يُحْرَمُهُ عَمَّا قَلِيلٍ فَيَلْقَى الذُّلِّ والْحَرَبَا وَجَامعُ العلمِ مَغْبُوطٌ بِهِ أَبَدَا وَلا يُحاذرُ مِنْهُ الْفَوْتَ والسَّلَبَا يا جامِع العِلمِ نعم الذخر تجمعه لا تعدلن بهِ درًا وَلا ذَهبا

آخر: بَعْضُ الرِّجَالِ لَهُ رَأيٌ وَمَعْرِفةٌ ... يَدْرِي وَيَعْلَمُ أَنَّ الوَقْتَ مِنْ ذَهَبِ وَهَمُّهُ في عُلُومِ الدَّينِ يُتْقِنُهَا ... وَهُمُ أَقْرَانِهِ في اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ آخر: ولا تَطْلُبَنَّ الْعِلْمَ لِلْمَالِ وَالرِّيَا فَإنَّ مَلاكَ الأَمْرِ في حُسْنِ مَقْصَدِ وَكُنْ عَامِلاً بَالْعِلْمِ فِيمَا اسْتَطَعْتُهُ ليُهْدَى بِكَ الْمَرءُ الذي بِكَ يَقْتَدِي حَرِيصًا عَلى نَفَعِ الْوَرَى وَهُدَاهُمْ تَنَلَ كُلَّ خَيْرٍ فِي نَعيمٍ مُؤَبَّدِ (فَصْلٌ) : وقَالَ في منهاجِ اليَقينِ: (واعلمْ أنَّ لكلِّ مَطْلُوبٍ باعِثًا والباعثُ على المطلوبِ شيئآنِ: رغبةً، أو رَهْبةٌ، فليكنْ طالبُ العلمِ رَاغِبًا رَاهِبًا أما الرَغبةُ ففي ثوابِ اللهِ تعالى لطالِبي مَرْضَاتِهِ وحافِظِي مُفْتَرَضاتِهِ بإقامَتِها وتعليمِها مَنْ لا يَعْلَمُها والأمْرُ بالمعروفِ، وأما الرَهْبَةُ فمِنْ عِقابِ اللهِ تعالى لِتاركِي أوامِرِهِ وَمُهْمِلي زواجِرِهِ فإذا اجْتَمَعَتْ الرغبةُ والرهبةُ أدَّتَا إلى كُنْهِ العلمِ وحقيقةِ الزُهدِ بإِذنِ اللهِ لأنَّ الرغبةُ في الثوابِ أقوَى الباعثَينِ على العلمِ والباعثُ الآخرُ حُبُّ النَّبَاهَةِ ونَحِوها والَرهبةُ منَ العِقابِ أَقوَى السَّبَبَيْنِ في الزُهْدِ وَقَدْ قَالَتِ الحُكماءُ: (أَصْلُ العِلْمِ الرَغبةُ وَثَمَرَتُهُ السعادةُ وأَصْلُ الزُهْدِ الرَّهْبةُ وثَمَرَتُهُ العِبَادةُ) فإذا اقتَرَنَ العِلمُ والزُهدُ فقدْ تمَّتْ السعادةُ الدِّينِيةْ والدُنْيَوِيَّةُ وعمَّتْ الفَضِيلةُ. وقد رُوِيَ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنهُ قَالَ: «من ازْدادَ في العِلْمِ رُشدًا ولمْ يزدَدْ في الدنيا زُهْدًا لم يزدَدْ مِن اللهِ إلا بُعْدًا» . وقَالَ مالكُ بنُ دينارٍ: مَنْ لم يُؤْتَ مِنَ العلمِ ما يَقْمَعُهُ فما أوتِي منهُ لا يَنفعُهُ. وقَالَ بعضُ الحُكماءِ: الفقيهُ بغيرِ وَرَع كالسِّراجِ يُضِيءُ البيتَ وَيَحْرِقُ نَفْسَهُ، وبالتالي فالعِلمُ فَضْلُهُ يَعْرِفُهُ كلُّ مُنْصِفٍ

والناسُ يَحتاجُونَ إليهِ في كُلِّ وقتٍ قَالَ حَرْبٌ: سمعتُ أحمدَ بن حَنبلٍ يقولُ: الناسُ مُحتَاجُونَ إلى العِلْمِ قبلَ الخُبْزِ والماءُ، لأنَّ العِلْمَ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الإِنْسِانُ في كُلِّ سَاعَةٍ، وَالخُبْزُ وَالمَاءُ في اليومِ مرةً أو مرَّتيْنِ. وقَالَ شيخُ الإسلامِ ابن تيميةَ في قصيدةٍ له حلَّ بها لُغْزًا لَفْظةَ عِلم: والعلمُ بالرحمنِ أَولُ صَاحِبٍ وَأَهمُّ فَرْضِ اللهِ في مَشْرُوعِهِ وَأَخُو الدِّيَانَةِ طَالِبٌ لِمَزِيدِهِ أَبَدًا وَلمَّا يَنْهِهِ بِقُطُوعِهِ والْمَرْءُ حَاجَتُهُ إِلَيْهِ أَشَدُّ مِنْ فَقْرِ الْغِذَاءِ لِعِلْمِ حُكْمِ صَنِيعِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ والطَّعَامُ فإنَّما يَحْتَاجُهُ فِي وَقْتِ شِدَّةِ جُوعِهِ وَهُو السَّبِيلُ إِلى الْمَحَاسِنَ كُلَّهَا والصَّالِحَاتُ فَسَوْأةً لِمُضِيعِهِ آخر: كَمْ مِنْ حَيَاءٍ وَكَمْ عَجْزٍ وَكَمْ نَدَمٍ ... جَمٍّ تَوَلَّدَ لِلإِنْسَانِ مِنْ كَسَلِ [إِيَّاكَ عَنْ كَسَلٍ فِي الْبَحْثِ عَنْ شُبُهٍ ... فما عَلِمْتُ وَمَا قَدْ شَذَّ عَنْكَ سَلِ] وَإِذَا أَرَدْتَ مِنْ الْعُلومِ أَجَلَّهَا ... نَفَعًا وَأَزْكَاهَا وَأَعْلَى الْمَطْلبَ فَعُلُومُ تَوْحِيدِ الإِلهِ وَبَعْدَهُ ... فِقْهٌ بِدِينٍ فَهُوَ أَعْلَى الْمَكْسَبِ آخر: حَدِيث رِجَالِ العلم أَهْوَى وَأشْتَهِي ... كَمَا يشتهِى الماءَ المُبَرَّد شاربُهْ وَأفْرَحُ أنْ ألْقَاهُمُوا فِي بُحُوثِهِمْ ... كَمَا يَفْرَحُ المرءُ الذي آبَ غَائبُهْ آخر: ... كُلَّ العُلوم سِوَى الْقُرْآن مشغلةٌ ... إلا الْحَدِيثَ وإلا الفقهَ في الدِّينِ

الْعِلْمُ مُتبعٌ مَا قِيلَ حَدَّثَنَا ... وَمَا سِوَى ذَاكَ وسْوَاسُ الشَّيَاطِينِ واعْلم أنَّ الكَسَلُ مِن قِلَّةِ التأَمُّلِ في مَنَاقِبِ العِلْمِ وفَضَائِلِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُتْعِبَ نفسُه على التَّحْصِيلِ والجدَ والمُواظَبَةِ بالتأملِ في فَضَائِل العِلم، فإن العِلمَ يَبْقَى [ببقاءِ المعلومات] والمالَ يَفْنَى، كَمَا قَالَ أَمِيرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب كرم الله وجهه: رَضِينَا قِسْمَةَ الْجَبَّارِ فِينَا ... لَنَا عِلْمٌ وَلِلجُهَّالِ مَالُ فَإنَّ الْمَالَ يَفْنَى عَنْ قَرِيبٍ ... وَإنَّ الْعِلْمَ يَبْقَى لا يَزَالُ آخر: فَتَعَلَّمُوا فَالْعِلْمِ مُفْتَاحُ العُلا ... لَمْ يَبْقَ بَابًا لِلسَّعَادَةِ مُغْلَقًا ثُمَّ اسْتَمِدُّوا مِنْهُ كُلَّ قُوَاكُمُ ... إنَّ القَوِيَّ بكُلِ أَرْضٍ يُتَّقَى آخر: احْرَصْ عَلَى كُلَّ عِلْمٍ تَبْلُغ الأمَلا ... وَلا تُوَاصِلُ لِعِلْمٍ وَاحِدٍ كَسَلا فَالنَّحْلُ لَمَّا رَعَتْ مِنْ كُلَّ فَاكِهَةٍ ... أَبْدَتْ لَنَا الْجَوْهَرَيْنَ الشَّمْعَ والعَسَلا الشَّمْعُ باللَّيْلِ نُورٌ يُسْتَظَاء بِهِ ... وَالشَّهْدُ يُبْرِي بإذِنْ البَارِئ الْعِلَلا وَيُرْوَى عَنْ مُعاذٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: تَعَلَّمُوا العِلْمَ فإنّ تعلُّمَهُ لِلّهِ خَشْيَةً وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ ومُدَارَسَتَهُ تَسْبِيحٌ والبَحْثَ عنهُ جِهَادٌ وَتَعْلِيَمهُ مَنْ لا يَعْلَمُ صَدَقَةٌ وَبَذْلَهُ لأهْلِهِ قُرْبَةٌ وَهُوَ الأَنيِسُ في الوَحْدةِ والصاحِبُ في الخَلْوَةِ والدّلِيل على الدِّين والمُصَبِّرُ على السرَّاءِ والضَّرَّاءِ والوَزِيرُ عِندَ الإخِلاء والقَرِيبُ عندَ الغُرَباءِ وَمَنارُ سَبيلِ الجَنّةِ يَرْفَعُ اللهُ بِهِ أقْوَامًا فيجعلُهُمْ في الخَيْرِ قَادةً سادةً هُدَاةً يُقْتَدَى بهم أَدِلِّةً لِلْخَيرِ تُقْتَفَى آثارُهمْ وَتُرْمَقُ أَفْعالُهُمْ وَتَرْغَبُ الملائكةُ في خُلَّتِهمْ وبأَجنِحَتِهَا تمْسَحُهُمْ وَكُلُّ رَطْبِ ويابسٍ لهُمْ يَستغْفرُ حَتَّى حِيتَانُ البَحْرِ وَهَوامُّهُ وَسِبَاع البَرِّ وَأَنْعامُهُ والسَّماءُ وَنُجُومُها، لأنَّ العِلْمَ حَيَاةُ القُلُوب مِنَ العَمَى وَنُورُ الأبْصَارِ مِنِ الظُلَمِ وَقوَّةُ الأبْدانِ مِنَ

الضَّعْفِ يَبْلُغْ بِهِ العَبْدُ مَنَازلَ الأَبْرارِ والدَّرَجَاتِ العُلَى وَمُدَارَسَتُهُ بالقيام به يُطاع اللهُ عزَّ وجلَّ وَبِهِ يُعْبَدُ، وَبِهِ يُوَحَّدُ، وَبِهِ يُمَجَّدُ، وَبِهِ يُتَوَرَّعُ، وَبِهِ تُوصَلُ الأَرْحَامُ، وَبِهِ يُعرفُ الحَلالُ والحرامُ، وهو إمامٌ والعَمَلُ تابعُهُ يُلْهَمُهُ السُعداءُ وَيُحْرَمُهُ الأَشْقِياءُ. ووردَ عنْ خالدِ بن عبدِ الرحمنِ بن أبي بَكْرَةَ عن أبيه عن النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اغدُ عالمًِا أو متعلمًا أو مُسْتَمِعًا أو مُحِبًا ولا تكنْ الخامسة فَتَهْلِكَ» . وعن أبي هريرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الدُنيا مَلْعُونَةٌ مَلْعُوْنٌ ما فِيها إلا ذِكرُ اللهِ وما وَالاه أَوْ مُعَلِمٌ أَوْ مُتَعلّم» . وعن عطاءِ بن السائبِ عن الحَسنِ قَالَ: أُغْدُ عالِمًا أو متعلِّمًا أو مستمِعًا ولا تكُنْ رابعًا فَتَهْلِكَ. وعن الحسن أنّ أبا الدرداءِ قَالَ: كُنْ عَالِمًا أَوْ مُتَعلِّمًا أو مُحِبًا أو مُتَّبِعًا ولا تكنْ الخامسَ فتهْلِكَ. قَالَ: قلتُ لِلْحَسَنِ وما الخامسُ؟ قَالَ: المُبْتَدِعُ. شِعْرًا: كَفَى بالعِلم في الظُّلُماتَ نُورٌ ... يُبَيّنُ في الْحيَاةِ لَنَا الأُمُورَا فَكَمْ نَالَ الذَّليلُ بِهِ اعْتِزَازًا ... وَكَمْ لَبِسَ الْحَزِينُ بِهِ سُرُورًا تَزِيدُ بِهِ الْعَقُول هُدَىً وَرُشْدَا ... وَتَسْتَعْلى النُّفُوسُ بِهِ شُعُورَا اللَّهُمَّ أَيْقِظْ قُلُوبَنَا وَنَوِّرْهَا بِنُورِ الإِيمانْ وَثَبِّتْ فِيهَا مَحَبَّتَكِ ومَحَبَّةَ أَوْلِيائِكَ وعِبَادَكَ الصَّالِحِينَ وَارْزقْنَا المَعْرِفَةَ بِكَ على بَصِيرَة وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكَركَ وَاجْعَلْ آخِرَ كَلِمَةٍ نَتَكَلَّمُ بهَا كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ وَثَبِّتْنَا عَلى قَولِكَ الثَّابِتِ في الحَياةِ الدُّنيا وَفي الآخِرَة إِنَّك عَلى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٍ وبالإِجابَةِ جَدِيرٌ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. شِعْرًا: عَلَى الْعِلْمِ نَبْلَيْ إِذَ قَدِ انْدَرَسَ الْعِلْمُ ... أَوْ لَمْ يَبْقَ فِينَا مِنْهُ رُوْحٌ وَلا جِسْمُ

وَلَكِنْ بَقِيَ رَسْمُ من الْعِلْمِ دَارِسُ وَعَمَّا قَلِيلٍ سوف يَنْطَمِسُ الرَّسْمُ فَآنَ لَعَيْنٍ أَنْ تَسِيلَ دُموعُها وَآنَ لِقَلْبٍ أَنْ يُصَدِّعَهُ الْهَمُّ فَإنَّ بِفَقْدِ العِلْمِ شَرًّا وَفَتْنَةً وَتَضْيِيعَ دِينٍ أَمْرُهُ وَاجبٌ حَتْمُ وَمَا سَائِرُ الأَعْمَالِ إلا ضَلالَةٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْعَامِلِينَ بِهَا عِلْمُ وَمَا النَّاسُ دُونَ الْعِلْمِ إِلا بِظُلْمَةٍ مِنَ الْجَهْلِ لا مِصَباحَ فِيهَا وَلا نِجْمُ فَهَلْ يُهْتَدَى إِلا بِنَجْمِ سَمَائِهِ إِذَا مَا بَدَا مِنْ أُفْقِهِ ذَلِكَ النَّجْمُ فَهَذَا أَوَانُ القبْضِ لِلْعِلْمِ فَلَينُحْ عليه الذي في الْحُبِّ كَانَ لَهُ سَهْمُ فَلَيْسَ بِمُبْقِي الْعِلْمِ كَثْرةُ كُتْبِهِ فَمَاذَا تَفِيدُ الْكُتْبُ إِنْ فَقَدَ الْفَهْمُ؟ وَمَا قَبْضُهُ إلا بِمَوْتِ وُعَاتِهِ فقبضُهُمُ قَبضٌ لَهُ وَبِهمْ يَنْمُو فَجِدَّ وَأدِّ الْجَهْدَ فِيهِ فَإِنَّهُ لِصَاحِبِهِ فَخْرٌ وَذُخْرٌ بِهِ الْغُنْمُ فَعَارٌ عَلَى الْمَرْءِ الذي تَمَّ عَقْلُهُ وَقَد أَمَّلَتْ فِيهِ الْمُرُوءةُ والْحَزْمُ إِذَا قِيلَ مَاذَا أَوْجَبَ اللهُ يَا فَتَى؟

أجابَ بلا أدْرِي وأنَّى لِي الْعِلْمُ وَأَقْبَحُ مِنْ ذَا لَوْ أَجَابَ سُؤالَه بِجَهْلٍ فإنّ الْجَهْلَ مَوْدِدٌ وَخْمُ أَيَرْضَى بأنَّ الْجَهْلَ مِنْ بَعْضِ وَصْفِهِ وَلَوْ قِيلَ يَا ذَا الْجَهْلِ فارَقَهُ الْحِلْمُ فَكَيْفَ إِذَا مَا البَحْثُ مِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ جَرَى وَهُوَ بَيْنَ الْقِوْمِ لَيْسَ لَهُ سَهْمُ تَدُورُ بِهمْ عَيْنَاهُ لَيْسَ بِنَاطِقٍ فَغَيْرَ حَرِيٍّ أَنْ يُرَى فَاضِلاً فَدْمُ وَمَا الْعِلْمُ إِلا كَالْحَيَاةِ إِذَا سَرَتْ بِجْسِمٍ حَيَا وَالْمَيْتُ مَنْ فَاتَهُ الْعِلْمُ وَكَمْ فِي كِتَابِ اللهِ مِنْ مِدْحةٍ لَهُ يَكَادُ بِهَا ذُو الْعِلْمِ فَوْقَ السُّهَى يَسْمُو وَكَمْ خَبَرٍ في فَضْلِهِ صَحَّ مُسْنَدًا عَنْ الْمُصْطَفَى فَاسْأَلْ بِهِ مَنْ لَهُ عِلْمُ كَفَى شَرَفًا لِلْعِلْمِ دَعْوَى الوَرَى لَهُ جَمِيعًا وَيَنْفِي الْجَهْلَ مِن قُبْحِهِ الفَدْمُ فَلَسْتُ بِمُحْصٍ فَضْلَهُ إِنْ ذَكَرْتُهُ فَقَدْ كَلَّ عَنْ إحصائِهِ النَّثْرُ وَالنَّظْمُ فَيَا رَافِعَ الدُّنْيَا عَلَى الْعِلْمِ غَفْلَةً حَكَمْتَ فَلَمْ تُنْصِفْ وَلَمْ يُصِبِ الْحُكْمُ أَتَرْفَعُ دُنْيَا لا تُسَاوِي بَأسْرِهَا جَنَاحَ بَعُوضٍ عِنْدَ ذِي العَرْشِ يا فَدْمُ

وَتُؤثِرُ أَصْنَافَ الْحُطَامِ عَلَى الذِي ... بهِ العِزُّ في الدَّارَيْنِ وَالْمُلْكُ والْحُكْمُ وَتَرغَبُ عَنْ إرْثِ النَّبِيينَ كُلِّهمْ ... وَتَرْغَبُ في مِيرَاثِ مَنْ شَأْنَهُ الظُّلْمُ وَتَزْعُمُ جَهْلاً أَنَّ بَيْعَكَ رَابِحٌ ... فَهْيَهَاتَ لَمْ تَرْبَحْ ولَمْ يَصْدُقِ الزَّعْمُ أَلَمْ تَعْتَبِرْ بالسَّابِقِينَ؟ فَحَالُهُمْ ... دَلِيلٌ عَلَى أَنْ الأَجَلَّ هُوَ الْعِلْمُ فَكَمْ قَدْ مَضَى مِنْ مُتْرَفٍ مُتَكَبِّرٍ ... وَمِنْ مَلِكٍ دَانَتْ لَهُ الْعُرْبُ والْعَجْمُ فَبَادَوا فلمْ تَسْمَعْ لَهُمْ قَطُّ ذَاكِرًا ... وَإِنْ ذَكَرُوا يَوْمًا فَذَكَرَهُمْ الذَّمُ فَكُنْ طَالِبًا لِلْعِلْمِ حَقَّ طِلابِهِ ... مَدَى الْعُمْرُ لا يُوهِنُكَ عَنْ ذَلِكَ السَّأمُ وَهَاجِرْ لَهُ فِي أَيَّ أَرْضٍ وَلَوْ نَأتْ ... عَلَيْكَ فَإعْمَالَ الْمَطِيِّ لَهُ حَتْمُ وَأَنْفِقْ جَمِيعَ الْعُمْرِ فِيهِ فَمَنْ يَمُتْ ... لَهُ طَالِبًا نَالَ الشَّهَادَةَ لا هَظْمُ فَإِنْ نَلْتَهُ فَلْيَهْنِكَ الْعِلْمُ إِنَّهُ ... هو الغَايةُ العُلْيَاءُ واللَّذَةُ الْجِسْمُ دا جدا

فَلِلَّهِ كَمْ تَفْتَضُّ مِنْ بِكْرِ حِكْمَةٍ وَكَمْ دُرَّةٍ تَحْظَى بِهَا وَصْفَهَا اليُتْمُ وَكَمْ كَاعِبٍ حَسْنَاءَ تكشِفُ خِدْرَهَا فَيُسْفِرُ عَنْ وَجْهٍ بهِ يَبْرأُ السُّقْمُ فَتَلْكَ التِي تَهْوَى ظَفِرْتَ بِوَصْلِهَا لَقَدْ طَالَ مَا فِي حُبِّهَا نَحَلَ الْجِسْمُ فَعَانِقْ وَقَبَّلْ وَارْتَشِفْ مِنْ رُضَابِهَا فَعَدْلُك عن وَصْلِ الْحَبِيبِ هُو الظُّلْمُ فَجَالِسْ رُواةَ الْعِلْمِ واسْمَعْ كلامَهُمْ فَكَمْ كَلْمٍ مِنْهُمْ بِهِ يَبْرَأُ الكَلْمُ وَإنْ أَمَرُوا فَاسْمَعْ لَهُمْ وَأَطِعْ فهُمْ أُولُوا الأَمْرِ لا مَنْ شَأْنُهُ الْفَتْكُ والظُّلْمُ مَجَالِسُهُمْ مِثْلُ الرِّيَاضِ أَنِيقَةٌ لَقَدْ طَابَ مِنْهَا اللوْنُ وَالرِّيح وَالطَّعْمُ أَتْعَتْاضُ عَنْ تِلْكَ الرِّيَاضِ وَطِيبهَا مَجَالِسَ دُنْيَا حَشْوُهَا الزُّورُ والإِثْمُ فَمَا هِي إِلا كَالْمَزَابِلَ مَوْضِعًا لَكُلِّ أَذَىً لا يُسْتَطَاعُ له شَمُّ فَدُرْ حَوْلَ قَالَ اللهُ قَالَ رَسولُهُ وَأَصْحَابُهُ أَيْضًا فَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ وَمَا الْعِلْمُ آراءُ الرِّجَالَ وَظنُّهُمْ أَلَمْ تَدْرِ أَنَّ الظَّنَّ مِنْ بَعْضِهِ الإِثْمُ

وَكُنْ تَابِعًا خَيْرَ القُرُونِ مُمَسِّكًا بآثَارِهِمْ فِي الدِّينِ هذا هُوَ الْحَزْمُ وَصَلِّ إِلهَ الْعَالَمِينَ مُسَلِّمًا عَلَى مَنْ بِهِ للأنْبِيَاءِ جَرَى الْخَتْمُ كَذَا الآلِ والأَصْحَابِ مَا قَالَ قائلٌ عَلَى الْعِلْمِ نَبْكِي إِذْ قَدِ انْدَرَسَ الْعِلْمُ والله أعلُم، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. موعظة: عبادَ اللهِ انْتَهزوا فُرَصَ الزَّمَانْ، قبل تعذر الإمكان قَبْلَ أَنْ تنقل من اسْمِ مَازَال إلى خَبَرَ كَانَ، فَانْتَبِهْ يَا مَنْ نظنه صَاحٍ وإذا هو سكران. فَمَا كلُ حينٍ مُمْكِنُ الفوَز بالْمُنَى ... ولا كُلُ وَقْتٍ يُرْفَعُ الْحُجْبُ لِلْعَبْدِ عَبادَ الله كيفَ يَثِقُ بالْحَيَاةِ مِنْ الْمَنَيَّةُ تَقْفُوا إِثْرَهُ وَتَقِفُ لَهُ في دَرْبِهْ، كَيْفَ يَرْجُو رَاحَةَ الدنيا من لا رَاحَةَ لَهُ دُونَ لقاء رَبِّه. تالله لو كانت الدنيا صافية المشارب من كل شائب مُيَسَّرَةَ المطالب لكُل، طالب باقيةً علينا لا يسلبها منا سالب، لكانَ الزاهد فيها هو اللبيب الصائب، لأنها تشغل عن الله والنِّعَمُ إذَا أشْغَلَتْ عن المنعم كانت من المصَائب. أيا رَاضِعَ الدنيا انْفَطِمْ عَنْ رِضَاعِهَا ... فَقَدْ آنَ تَنْهَاكَ عَنْهَا الشَّوائِبُ أَلا عَامِلٌ فِيهَا لَيُنْقِذَ نفسَه ... ألا مُؤْمِنٌ فيها سَيَخْلُد راغِبُ أَلا آسِفٌ ذُو لَوْعَةٍ وَتَحَرُّقٍ ... أَلا نَائِحٌ في مأْتَمِ الْحُزْنِ نَادِبُ أَلا مُذْنِبٌ مُسْتَغْفِرٌ مِنْ ذُنُوبِهِ ... أَلا خَائِفٌ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ رَاهِبُ أَلا خَاشِعٌ خَوْفًا مِنَ الله خَاضِعُ ... أَلا نَاحِلٌ شَوْقًا إِلى اللهِ ذَائِبُ سَتَلْقَونَ مَا قَدَّمْتُمُوا اليَومَ في غِدٍ ... وَكُلُّ امْرِئٍ يُجْزَى بِمَا هُو كَاسِبُ

فصل الإخلاص والنية في العلم والأدلة على ذلك

اللَّهُمَّ يا سامِع كل صوت، ويا بارئ النفوس بعد الموت، يا مَن لا تشتبهُ عليه الأصوات، يا عظيم الشأن، ويا واضع البرهان، يا مَن هو كل يوم في شأن، اغفر لنا ذنوبنا إنكَ أنتَ الغفور الرحيم. اللَّهُمَّ امنَنْ علينا بإصلاح عيوبنا واجعل التقوى زادنا وفي دينكَ اجتهادنا وعليك توكلنا واعتمادُنَا، واغْفِرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْياءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينِ. الفَصْلُ التَّاسِعُ في الإِخْلاصِ والنِّيَّةِ اعْلَمْ رَحِمَكَ اللهُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَشُوبَهُ غَيْرُه فَإِذَا صُفِّيَ عَنْ شَوبِهِ وَخَلَصَ عَنْهُ سُمِّيَ خَالِصًا، وَيُسَمَّى الفِعلُ الْمُصَفَّى الْمُخْلَصَ إخْلاصًا. قَالَ الله تعالى: {مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ} فَإنَّما خُلُوصُ اللبَنِ أَنْ لا يَكُونَ فِيهِ شَوْب من الدَّمِ والفَرْثِ وَمِنْ كُلِّ ما يُمْكنُ أَنْ يُمْتَزَجُ بِهِ وَالإِخْلاصُ يُضَادُّهُ الإِشْرَاكُ، الْمُخْلِصُ الصادقُ هُوَ الذِي لا يُبَالِي لَوْ خَرَجَ كلُّ قَدْرٍ له في قلوبِ الْخَلْقِ مِنْ أَجْلِ إِصْلاحِ قَلْبِهِ ولا يُحِبُّ إطْلاعَ الناسِ عَلى أعْمَالِهِ. وقَالَ حُذَيْفَةُ الْمَرْعَشِي رَحِمَهُ اللهُ: الإِخْلاصُ: أَنْ تَسْتَوِيَ أَفْعَالُ الْعبدِ فِي الظَّاهِر والباطِنِ. وقَالَ غَيْرُهُ: الإِخْلاصُ: إفْرَادُ الحقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى بالطَّاعَةِ بالْقَصْدِ. وَهُوَ أَنْ يُرِيدَ بِطاعتِهِ التقرُّبَ إلى اللهِ تَعَالى دونَ شَيْءٍ آخَرَ مِنْ تَصَنُّعٍ لِمَخْلُوقٍ أَوْ اكْتِسَابِ مَحْمَدَةٍ عِنْدَ الناسِ أَوْ مَحَبَّةِ مَدْحٍ مِنَ الْخَلْقِ أَوْ مَعْنَى مِن الْمَعانِي سِوىَ التقرُّبِ إلى اللهِ. وقَالَ آخر: نَظَرَ الأكياسُ في تفسيرِ الإخْلاصِ فَلَمْ يَجِدُوا غَيْرَ هَذَا أَنْ تَكُونَ حَرَكَتُهُ وَسكونُهُ في سِرِّهِ وَعلانِيَّتِهِ للهِ تَعَالى لا يُمَازِجُهُ نَفْسٌ ولا هَوَىً ولا دُنْيَا. وقَالَ بَعْضُهُمْ: الإخْلاصُ التَّوَقِّي عَنْ مَلاحَظَةِ الْخِلْقِ،

والصِّدْقُ التَّنَقِّي مِنْ مُطَاوَعَةِ النَّفْسِ فالمخلصُ لا رِياءَ لَهُ، والصَّادِقُ لا إِعْجَابَ لَهُ. وقَالَ آخر: ثَلاثٌ مِنْ علاماتِ الإخْلاص: اسْتواءُ الْمَدْحِ والذَّمِّ مِنَ العَامَة، ونِسْيَانُ رؤيةِ الأَعْمَالِ في الأعمالِ، واقتِضَاءُ ثوابِ العمل في الآخرة. وقد وَرَدَ في فَضْلِ الإخلاصِ آياتٌ وَأَحاديُث، قَالَ الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ، وقَالَ: {أََلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} ، وقَالَ تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ} ، وقَالَ: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} وقَالَ: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} . وَأَخْبَرَ تَعَالى عَمَّا قَالَهُ الْمُخْلِصُونَ مِنْ عِبَادِهِ: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً} ، وقَالَ: {وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} . وقَالَ تعالى: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللهِ} . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ خَرَجَ حَاجًا فَمَاتَ كُتِبَ لَهُ أَجْرُ الْحَاجِّ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَمَنْ خَرَجَ مُعْتَمِرًا فَمَاتَ كُتِبَ لَهُ أَجْر الْمُعْتَمِرِ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. ومَنْ خَرَجَ غَازِيًا في سَبِيلِ الله فماتَ كُتِبَ لَهُ أَجْرِ الْغَازِي إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . وَعَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ فَارَقَ الدُّنْيَا عَلَى الإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ فارقها وَاللَّهُ عَنْهُ رَاضٍ» . رَوَاهُ ابنُ ماجة، والحاكمُ وقَالَ: على شَرْطِ الشيخين.

وَعَنْ أَبِي سَعِيدِ الْخُدَرِيّ: عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ في حَجَّةِ الوَدَاع: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ ليس بَفْقَيهٍ، ثَلاثٌ لا يُغَلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ امرئ مؤمن: إِخْلاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، والَمُنَاصَحَةُ للأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ فَإِنَّ دَّعْاءهم محِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ» . رواه البزَّارُ بإسنادٍ حَسَنٍ، ورواهُ ابنُ حِبَّانِ في صحيحِهِ مِنْ حديثِ زَيْدِ بن ثابتٍ. وعن مُصْعَبِ بن سعدٍ عن أبيه رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه ظَنَّ أنَّ لَهُ فَضْلاً على مَنْ دونَهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا يَنْصُرُ اللهُ هَذِه الأمةَ بضَعِيفها بدعْوَتِهِمْ وَصَلاتِهِمْ وَإخلاصِهِمْ» . رَوَاهُ النسائي وغيرُه. وما وردَ عَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ومَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. شِعْرًا: إِذَا شِئتَ أَنْ تُدْعَى كَرِيمًا مُهَذَّبًا ... تَقِيًّا سَرِيًّا مَاجِدًا فَطِنًا حُرًّا فَكُنْ مُخْلِصًا للهِ جَلَّ جَلالُهُ ... وَكَنْ تَابِعًا لِلْمُصْطَفَى تُحْرِزِ الأَجْرَا وَإِنْ مَا بَدَا مِنْ صَاحِبٍ لَكَ زَلَّةٌ ... فَكُنْ أَنْتَ مُحْتَالاً لِزَلَّتِهِ عُذْرَا آخر: جُرُوحُ الْمَعَاصِي لِلْفُؤادِ تُذِيبُ ... وَلَيْسَ سِوَى تَقْوَى الإِلهِ طَبِيبُ وَحَسْبُكَ أَنْ تُخْلِصْ لَمْنَ خَلَقَ الوَرَى ... وَتَسْأَلَهُ دَوْمًا لَعَلَّ يُجِيبُ وَعَنْ جَابِرٍ بن عبد الله قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ فَقَالَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالاً مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلا كَانُوا مَعَكُمْ حَبَسَهُمْ الْمَرَضُ» . وفي رواية: «إِلا شَرِكُوكُمْ فِي الأَجْرِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وفي روايةٍ: «حَبَسَهُمْ الْعُذرُ» .

وعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا قَالَتْ: قَالَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنْ الأَرْضِ خُسِفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ» ، قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: «يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وعن مَعْنَ بْنَ يَزِيدَ قَالَ: كَانَ أَبِي يَزِيدُ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ فَجِئْتُ فَأَخَذْتُهَا فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا إِيَّاكَ أَرَدْتُ. فَخَاصَمْتُهُ إِلَى رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ» . رواه البخاري. وفي حديث سَعْدٍ بن أبي وقاص أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ له: «إِنَّكَ لَنْ تُخلفَ فَتَعْمَلَ عَمَلاً تبتغي به وجه الله إِلا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً» . الحَدِيثِ. وعن أَبَي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَامِكُمْ وَلا إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأشعري قَالَ: سُئِلَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ: فلان جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ.

وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُ به وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، فقَالَ: مَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حتى أُلْقِيَ فِي النَّارِ» . وفي الصحيحينِ مِنْ حَديث ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ» ، وَعَنْ أَبِي كَبْشَةَ الأَنْصارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ هَذِهِ الأُمَّةِ مَثَلُ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالا وَعِلْمًا فَهُوَ يَعْمَلُ بِهِ فِي مَالِهِ يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالا وََهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ هَذَا عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ» . قَالَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَهُمَا فِي الأَجْرِ سَوَاءٌ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يُؤْتِهِ عِلْمًا فَهُوَ يَخْبِطُ فِيهِ يُنْفِقُهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، وَرَجُلٌ لَمْ يُؤْتِهِ مَالاً وَلَم يُؤْتِهِ عِلْمًا يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ هَذَا عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ» . قَالَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ» . وقَالَ عُمرُ: رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَفْضَلُ الأَعْمَالِ أَدَاءُ مَا افْتَرَضَ اللهُ تَعَالى، والوَرَعَ عَمَّا حَرَّمَ اللهُ تَعَالَى، وَصَدَقَ النَّيَةِ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: دُلُّوني على عَمَلٍ لا أَزَالُ بِهِ عَامِلاً لله تَعالى فَقِيلَ لَهُ: انو الخيرَ فإنكَ لا تَزَالُ عاملاً وَإنْ لَمْ تَعْمَلْ، فالنيةُ الصَّالِحَةُ بِعَمَلِ وإن عُدِمَ العَمَلُ لِعُذْرٍ

شَرْعِي، فإنَّ مَنْ نَوى أَنْ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فَنَامَ كُتِبَ لَهُ ثَوَابَ مَا نَوى أَنْ يَفْعَلَهُ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيث: «ما مِنْ رجلِ يكونُ لهُ سَاعَةً من اللَّيلِ يَقُومُهَا فَيَنَامُ عَنْهَا إِلا كُتِبَ لَهُ أَجْرَ صَلاتِهِ وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً تُصُدِّقَ بِهِ عَليهِ» فَالْمَرْءُ مَا دَامَ قَدْ أَسْلَم وَجْهَهُ للهِ وأخلصَ نِيَّتَهُ لله فإنَّ حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ وَنَوْمَاتِهِ وَيَقْظَاتِهِ تُحْسَبُ خَطَوَاتٍ إلى مَرْضَاةِ اللهِ. قَالَ بَعضُ السلفِ: إنِّي لأَسْتَحِبُ أَنْ يَكُونَ لِي فِي كُلِّ شَيْءٍ نيةُ حَتَّى في أكلي وَشُرْبِي وَنَوْمِي وَدُخُولِ الْخَلاءِ وفي كلِ ذَلِكَ مِمَّا يُمْكِنُ أن يُقْصَد بِهِ التقربَ إلى اللهِ تَعَالى لأَنَّ كُلَّ مَا هُو سَبَبٌ لِبَقَاء البَدَنِ وَفََرَاغِ القلبِ مِنَ مُهِمَّاتِ الدينِ فَمْنْ قَصَدَ مِنْ الأَكْلِ التَّقَوِّي علَى العبَادَة ومن النكاح العَفَافَ وَتَحْصِينَ الدين وَتَطَييبَ قَلْبِ أهلِهِ والتَّوصُّل إلى وَلَدٍ يَعْبُدُ الله بَعْدَهُ أُثِيبَ على ذلك. وَلا تَحْتَقِرْ شَيْئًا مِنْ حَرَكَاتِكَ وَسَكَنَاتِكَ فَصْلاح النِّيَّةِ وَإخْلاصُ القلبِ لِرَبِّ العالمينَ يَرْفَعَانِ مَنْزلَةَ العَمَلِ الدُّنْيَوي البَحْتِ فَيَجْعَلانِهِ عِبَادَةً مُتَقَبَّلَةً كَمَا أَنْ فَسَادَ النِّيَّةِ يَنْزلُ بالطَّاعَاتِ وَتَنْقَلِبُ مَعَه مَعَاصِي فلا يَنَالُ المرء بَعْدَ التَّعَب في أدَائِهَا إِلا الْفُشَلُ وَالْخَسَارَة. اللَّهُمَّ يَا مُصْلِحَ الصَّالِحِينَ أَصْلِحْ فَسَادَ قُلُوبِنَا واسْتُرْ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ عُيُوبَنَا وَاغْفِرْ بِعَفْوكَ وَرَحْمَتِكَ ذُنُوبَنَا وَهَبْ لَنَا مُوبِقَاتِ الْجَرَائِر واسترْ عَلَيْنَا فَاضِحَاتِ السَّرَائِر ولا تُخلِنَا في مَوْقَفِ الْقِيَامَةِ مِنْ بَرْدِ عَفْوِكَ وَغُفْرانِكَ وَلا تَتْرُكْنَا مِنْ جَمِيلِ صَفْحِكَ وَإحْسَانِكَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) : قَالَ ابن القيم رحمه الله: لا يَجْتَمِعُ الإخلاصُ في القلبِ وَمَحَبَّةُ الْمدحِ والثَّنَاءِ والطَّمَعِ فِيمَا عِنْدَ الناسِ إِلا كَمَا يَجْتَمِع الْمَاءُ والنارُ

والضبُ والحوتُ، فإذا حَدَثَتْكَ نَفْسُكَ بطلَبِ الإخلاصِ فَأقْبِلْ عَلى الطَّمَعِ أَولاً فَاذْبَحْهُ بِسِكينِ اليأسِ، واقبلْ على الْمدَحِ والثناءِ فازْهَدْ فِيهِمَا زُهْدَ عُشَّاقِ الدُّنْيَا فِي الآخرةِ، فإذا استقامَ لك ذَبحُ الطَّمعِ والزهدُ في الثناءِ والمدحِ سَهُلَ عَلَيْكَ الإخْلاصُ فإن قلتَ: وما الذي يُسَهِّلُ عَلَيَّ ذَبْحَ الطَّمَعِ والزُّهْدَ في الثناءِ والمدحِ قلتُ: أمَّا ذَبْحَ الطَّمعِ فَيُسَهّلُهُ عَلَيْكَ يَقِينًا أَنَّهُ لَيْسَ شَيءٌ يَطْمَعُ فِيهِ إِلا وَبيدِ اللهِ وَحدَهُ خِزَانَتُهُ لا يَمْلِكُهَا غَيْرُهُ وَلا يُؤْتَى الْعَبْدُ منها شَيْئًا سِوَاهُ، وأما الزُّهْدُ في الثناءِ والْمدحِ فَيُسَهّلهُ عَلَيْكَ عِلْمُكَ أنَّهُ ليسَ أَحَدٌ يَنْفَعُ مَدْحُهُ وَيَزِينُ، وَيَضُرُّ ذَمُهُ وَيَشِينُ إلا اللهُ وَحْدَهُ، قَالَ ذلك الأعرابيُ للنَبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن مَدْحِي زَيْنٌ وَذَميِ شَيْنٌ، فَقَال النَبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذلكَ اللهٌ عَزَّ وَجَلَّ» . فازهَدْ في مَدْحِ مَن لا يَزينُك مَدْحُهُ وفي ذَمِّ مَن لا يَشِينُكَ ذَمُّهُ، وارْغَبْ في مَدْحِ مَن كُل الزَّينِ في مَدْحِهِ وَكلُّ الشَيْنِ في ذَمِّهِ، ولن يَقْدرْ عَلى ذَلكَ إلا بالصَّبر واليَقينِ فَمَتَى فَقَدْتَ الصَّبْرَ واليقينَ كُنْتَ كَمَنْ أَرادَ سَفرًا في البَحْرِ في غَيْرِ مَرْكَبٍ، قَالَ الله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} ، وقَالَ: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} . وقد يَعْجَزُ عن عمل الخيرِ الذي يَتَمَنَّى فِعْلَهُ لِضَعْفِ بَدَنِه أو قِلَّةَ مَالِهِ ولكن اللهُ المطلعُ على السَّرَائِر اللطيفُ الخبيرُ يُثِيبُ الحَرِيصَ على فِعْلِ الخَيرِ كما في الحَدِيثِ إذا مَرِضَ العَبْدُ أو سَافَرَ كُتِبَ له ما كانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا. وفي غزوةِ العُسْرَةِ تَقَدَّمَ إلى رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجالٌ يُرِيدُون أنْ يُقَاتِلوا الكفارَ وأن يَجُودُوا بأنفُسِهم في سبيلِ اللهِ فقَالَ

الآفات التي تعرض للعامل في عمله

لهم النبيُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا أَجِدُ مَا أحْمِلُكُمْ عليه فعادُوا وفي حُلُوقِهِمْ غُصَّةٌ لِتَخَلُّفِهم عن ميدَانِ القِتَالِ في سبِيل اللهِ وفيهم نَزَلَ: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ} فَنَوَّهُ النبيُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإيمانِهِمْ وإخلاصِهِم وقَالَ لِلْجَيْشِ السّائِرِ مَعَه: «إن بالمدينةِ لَرِجَالاً مَا سِرْتُم مَسِيرًا ولا قَطعْتُمْ وادِيًا إلا كانُوا مَعَكُم» . الحديث. وَتَقدم قَرِيبًا. اللَّهُمَّ أعْطِنَا مِن الخيرِ فوقَ مَا نَرْجوه واصْرف عَنا مِن السوءِ فوقَ مَا نَحْذر فإنكَ تَمحُو مَا تَشَاء وَتَثْْبت وعندك أُم الكِتاب. اللَّهُمَّ واجعلنَا ممَّن يأخُذ الكِتاب باليمن، واجعلنَا يَوم الفزعِ الأَكْبَر آمِنين، وَأَوْصِلْنَا بِرَحْمَتِكَ وَكَرمِكَ إِلى جَنَّاتِ النَّعِيمْ، اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا عَلَى نَهْجِ الاسْتِقَامَةِ وَأَعِذْنَا مِنْ مُوجبَاتِ الحَسْرةِ وَالنَّدَامَةِ يَوْمَ القِيَامِة وَخَفِّفْ عَنَّا ثُقْلَ الأوزار، وَارْزُقَنَا عِيشَةَ الأَبْرَارِ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَميعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. الفَصْلٌ العاشر وقَالَ ابن القيم رحمه الله: يَعْرِضُ لِلْعَامِل في عَمَلِهِ ثلاثُ آفاتٍ: رؤيتُهُ، وملاحظتُه، وطلبُ العَوَضِ عليه ورضاهُ بهِ وَسكونُهُ إليه. ففي هذه الدرجةِ يَتَخَلَّصُ مِن هَذِهِ البَلِيَّةِ. فالذي يُخَلِّصُه مِن رُؤَْيِة عَمَلِهِ مُشَاهَدَتُهُ لِمنَّةَ الله لا مشيئته هو، كما قَالَ تَعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وأنَّهُ آلةٌ مَحْضَة وأنه لَو خُلي وَنَفْسَه لم يكنْ مِن فِعْلِهِ الصَّالِح شَيءٌ، فإنَّ النَّفْسَ جَاهِلةٌ ظالِمةٌ طَبْعُهَا الكَسَلُ وإيثارُ الشهواتِ والبطالةُ، وهي مَنْبَعُ كُلِّ شَرٍ ومأوى كُلِّ سُوءٍ، وما كانَ هَكَذَا لم يَصْدُرْ

التحذير مما يخل بالعمل كالرياء وطلب المال والجاه

مِنهُ خَيْرٌ وَلا هُو مِن شَأْنِهِ فَالخَيرُ الذي يَصْدُرُ مِنها إِنَّمَا هُوَ مِن اللهِ وبِهِ، لا من العبد ولا بِهِ، كما قَالَ تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ} ، وقَالَ أهلُ الجنة: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} ، وقَالَ تبارك وتعالى لرسوله: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} ، وقَالَ تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} الآية. فكلُ خيرٍ في العبدِ فهو مُجَرَّدُ فضلِ اللهِ وَمنَّتِهِ وإحسانِهِ وَهُوَ المَحْمُودُ عليهِ فرؤيةُ العبدِ لأَعْمَالِهِ في الحقيقةِ كَرُؤْيتهِ لِصفاتِهِ الخَلْقِيَّةِ مِن سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وإدْرَاكِهِ وَقُوَّتِهِ، بَلْ مِن صِحّتِهِ وَسَلامَةِ أعضائِهِ ونحو ذلكَ، فالكلُ مُجَرَّدُ عَطَاءِ اللهِ وَنعمتِهِ وَفَضْلِهِ فالذي يُخَلِّصُ العَبْدَ مِن هذِهِ الآفةِ مَعْرِفَةُ رَبِّهِ وَمَعْرِفَةُ نَفْسِهِ. والذي يُخَلِّصُهُ مِن طلبِ العِوَضِ على العملِ عِلْمُهُ بأنه عَبْدُ مَحْضٌ، والعَبْدُ لا يَسْتَحقُّ على خِدْمَتِهِ لِسَيّدَهِ عِوَضًا ولا أجْرَةَ، إذْ هُو يَخْدِمُهُ بِمُقْتَضي عُبُودِيَتِهِ، فَمَا يَنَالَه مِن سَيِّدِهِ مِن الأجر والثَوابِ تَفَضَّلٌ منه وإحسانٌ إليهِ وإنْعَامٌ عليهِ لا مُعَاوَضَةَ، إذِ الأُجْرَةُ إِنَما يَسْتَحِقُّهَا الحُرُّ أو عَبْدُ الغَيْرِ فأمَّا عَبْدُ نَفْسَهُ فلا. والذي يُخلِصُه مِنَ رِضَاهُ بِعَمَلِهِ وَسُكُونِهِ إِليهِ أَمْرَانِ. أَحدُهُمَا: مطالعةُ عُيُوبِهِ وآفاتِهِ وَتَقصيرِهِ فيه وما فيهِ مِن حَظِ النَّفْسِ والشيطانِ، فَقَلَّ عَمَلٌ مِن الأَعْمَالِ إلا ولِلشَّيْطَانِ فيه نَصِيب وإنْ قَلَّ وَلِلنَّفْسِ فيه حظ. الثاني: عِلْمُهُ بما يَسْتَحِقُّهُ الربُّ جَلَ جَلالُه مِن حُقُوقِ العُبوديةِ وآدابِهَا الظاهرةِ وَالباطنةِ وشروطِهَا وأَنَّ العَبْدَ أضعفُ وأَعجزُ مِن أنْ يُوَفِيها

حَقًا وأن يَرْضَى بِهِ لِربّهِ فالعَارِف لا يَرضَى بشيءٍ مِن عَمَلِه لِرَبِّه وَلا يَرْضَى نَفْسَهُ لِلَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ وَيَسْتَحِي مِن مُقَابَلَةِ اللهِ بِعَمَلِهِ. وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يُصَلِّي فِي اليوم واللَّيْلَةِ أَرْبَعْمائَةِ رَكْعَةٍ، ثُمَّ يَقْبِضُ عَلى لِحَيَتِهِ وَيَهُزُهَا وَيَقُولُ لِنَفْسِهِ: يَا مَأْوَى كُلِّ سُوءٍ وهل رَضِيتُكَ لِلَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ. وقَالَ بَعْضُهُمْ: آفَةُ الْعَبْدِ رِضَاهُ عَنْ نَفْسِهِ وَمَنْ نَظَرَ إِلى نَفْسِهِ بَاسْتِحْسَانِ شيْءٍ مِنْها فَقَدْ أَهْلَكَهَا وَمَنْ لَمْ يَتَّهِمْ نَفْسَهُ على دَوَامِ الأَوْقَاتِ فهو مَغْرُورٌ. انتهى. وَخِتَامًا فَعَلَى الْمُسْلِم الْمخلصِ أن يَحْذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ أَنْ يَمْتَزِجَ بإخلاصِ عَمَلهِ شَيْءٌ آخرُ مِن رياءٍ أَوْ غَيرهِ كَمَنْ يَصُومُ لِيَنْتَفِعَ بالْحُمِيةِ الْحَاصِلةِ بالصَّوْمِ وَمَعَ قَصدِ التَّقربِ، أو يُعْتقَ رَقيقَهُ ليَتَخَلَّصَ مِنْ مَؤنَتِهِ وَسُوءِ خُلُقِهِ، أَوْ يَحُجَّ لِيَصِحَّ بَدَنُه بِحَرَكَةِ السَّفَرِ أَوْ لِيَتَخَلَّصَ مِنْ شَرٍّ يَعْرُضُ لَهُ بِبَلَدِهِ، أَوْ يَغْزُو لِيَتَمَرَّنُ عَلَى الْحَرْبِ وَيُمَارِسَها، أَوْ يَتَعَلم العِلْمَ لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ طَلَبَ مَا يَكْفِيهِ مِنْ الْمال، أو لِيَكونَ عَزيزًا بَيْنَ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ وَعَشِرَتِهِ، أَوْ لِيَكُونَ مَالُهُ مَحْرُوسًا بِعِزِّ العِلْمِ عَن الأطمَاع، أَوْ عَادَ مَرِيضًا لِيُعَادَ إنْ مَرِضَ، أَوْ شَيَّعَ جَنَازةً لِيُشَيَّعَ جَنَائِزَ أَهْلِهِ، أَوْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِيَعْرِفَ بَالْخَيرِ وَيُذْكَرَ بِهِ وَيُنْظَرَ إِلَيْهِ بَعَيْنِ الصَّلاحِ والوَقَارِ، أَوْ تَصدقَ لِيُثْنَى عَلَيْهِ وَيقَالَ: أَنَّهُ كَرِيمٌ يَبْذُلُ الْمَالَ، أو قَامَ بِمَشَارِيعَ خَيْرِيَّةٍ لِيُثْنَى عَلَيْهِ فَكلُ هَذِهِ وَنَحْوَهَا مِن مُكَدِّرَاتِ صَفْوِ الإخلاصِ نَسْأَل اللهُ العصمةَ لَنَا ولإخْوَانِنَا مِنْهَا. وَكَمْ مِنْ أَعْمَالِ يَتْعَبُ الشخصُ فِيها وَيَظُنُّ أَنَّهَا خَالِصَةً لِوَجْهِ اللهِ، ويكونُ فِيها مَغْرُورًا لأنه لا يَرَى وَجْهَ الآفةِ فِيها، فَدقائقُ الآفاتِ قَلَّمَا تَسْلَمُ الأعمالُ منها. قَالَ بعضُ السلفِ: لا يَزَالُ العَبْدُ بِخَيْرٍ ما عَلِمَ مَا الذي يُفْسِدُ عليهِ

عَمَلهُ فلا غِنَى بالْعَبدِ عن مَعْرِفَةِ مَا أُمِرْنَا بَاتَّقَائِهِ مِن الرَّياءِ وَغَيْرِهِ وَلاسِيمَا الرَّيَاءُ إذْ وُصِفَ بالْخَفَاءِ فِي الْحَدِيثِ: أنه أخفَى مِن دَبِيبِ النَّملِ فَمَا خَفِيَ لا يُعْرَفُ إِلا بِشِدَّةِ التَّفَقُدِ وَنَفَاذِ البصيرةِ بِمَعْرِفَةٍ لَهُ حِينَ يَعْرُضُ وَإلا لَم يَنْفَعِ التفقدُ لِمَا لا يُعْرَفُ. فَبالْخَوْفِ والْحذرِ يَتَفَقَّدُ الْعَبْدُ الرِّيَاءَ، وَبِمَعْرِفَتِهِ بِبَصَرِهِ حِينَ يَعْرِضُ لَهُ. وَمِنْ فَوَائِد الإخلاصِ: أنه يَمُدُّ جَأْشَ صَاحِبه بِقُوَّةٍ فلا يَتَبَاطأَ أَنْ يَنْهَضَ لِلدّفاعِ عَن الْحَق. وَمِنْ فَوَائِدِهِ: أنه يَشْرَحُ صَدْرَ صَاحِبِهِ للأنْفاقِ في وُجُوهُ البِرِ فَتَجدُهُ يَؤثِرُهَا بِجَانِبٍ مِنْ مَالِهِ وَإِنْ كَانَ بِهِ خَصَاصَةٌ. وَمِنَ فوَائِدِهِ أَنه: يُعَلِّم صَاحِبَه الزُّهْدَ في عَرَضِ الدُّنْيَا، فَلا يُخْشَى مِنْهُ أَنْ يُنَاوِئَ الْحَقَّ أو يُلْبِسَه بِشَيْءٍ مِنْ البَاطِلِ، وَلَو أُعْطِيَ الشَّيْءَ الكثيرَ مِن الْمَال. وَمِنَ فوائِدِهِ: أَنه يَحْمِلُ القاضِي على تَحْقِيقِ النَّظَرِ في القَضَايَا فلا يَتَسَرَّع في القَضِيَّةِ وَيفْصِلُ فِيهَا إلا بَعْدَ أَنْ يَتَثَبَّتَ وَيَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ. وَمِنَ فَوائِدِهِ: أنه يَحْمِلُ الْمُعَلِّمَ أنْ يَبْذِلَ جُهْدَهُ في إيضاحِ مَا خَفِيَ عَلَى التَّلْميذِ، وَأنْ لا يَبْخَلَ على الطلابِ بِمَا تَسَعُه أَفْهامُهُم مِن الْمَبَاحِثَ الْمُفِيدَةٍ. وَمِنَ فَوَائِدِهِ: أَنْ الأَسْتَاذَ يَحْرِصُ عَلَى أَنْ يَسْلُك في طَرِيقَةِ التَّدرِيس ِالأَسَالِيبَ التي تُجَدِّدُ نَشَاطَهُمْ وَتَحْفِزُهُمْ إلى التَّعَمُقِ في الْمَسَائِل. وَمِنَ فوائِدِ الإخلاصِ: أنه يَمْنَعُ التاجِرَ مِنْ الْخِيانَةِ فلا يَخُونُ الذي يأتمنُه في صِنْفٍ مِن أَصْنَافِ البِضَاعَةِ، أَوْ قِيمَتِهَا. وَمِنَ فوائِدِ الإخلاصِ: أَنَّهُ يَحْمِلُ صَاحِبَهُ عَلَى إِجَادَةِ الْعَمَلِ وَأَنْ يَكُونَ مُحْسِنًا فِيهِ وَمِن فوائِدِهِ: أنه يَمْنَعُ الكاتبَ أَنْ يَقْلِبَ بَعْضَ الْحَقَائِقِ أَوْ يَكْسُوهَا لونًا غَيْرَ لَوْنِهَا. وَمِنَ فوائدِ الإخلاصِ: أَنَّهُ يَحْمِلُ صَاحِبَه عَلَى تَجَنُّبِ الغِشِّ فَكُلُّ غَشاشِ فهو

ذكر بعض فوائد الإخلاص وبعد ذلك موعظة

ليسَ بِمُخْلِصٍ، وَتَقَدَمَ حَدِيثُ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» وَمِنَ فَوَائِدِ الإخلاصِ: أَنَّهُ يَحْمِلُ صاحِبَهُ عَلَى الوَفَاءِ بَالْعَهْدِ وَالْوَعْدِ، وَمِنَ فَوَائِدِ الإخلاصِ: أَنَّهُ يَحْمِلُ صاحِبَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ عَمَلَهُ لِلْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ سَوَاء. وَمِنَ فَوَائِدِهِ: أَنَّهُ يَحْمِلُ صاحِبَهُ عَلَى تَنْظِيمِ أعمَالِهِ. ومِنْ فوائِدِهِ: أَنَّ الْمُتَّصِفَ به يكونُ مُقَدَّرًا مَرْمُوقًا بَعْينِ الاحْتِرَامِ وَالإجْلالِ، وَمِنَ فَوَائِدِهِ: أَنَّهُ يَحْمِلُ صاحِبَهُ عَلَى الابْتِعَادِ عن الرِّشَوةِ، وَمِنَ فَوَائِدِهِ: أَنَّهُ يَحْمِلُ صاحِبَهُ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ والعَقدْ وَزِيرًا أَوْ رَئِيسًا أَوْ مُدِيرًا أَنْ يَتَحَرَّى للأعْمَالِ الأتقَى والأرضى، الذي تُوجَدَ فِيهِ الْمُؤهلاتُ حَقيقةً، وَهيَ القوةُ والأمانةُ والْحفظُ والعلمُ. عاملاً بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَن اسْتَعْمَلَ رَجُلاً عَلَى عِصَابَةٍ وَفِيهم مَن هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ الله وَرَسُولَهُ والْمُؤْمِنين» . وَمِنَ فوائِدِهِ: أَن العَمَل الْخَالِصَ الَقَلِيل مِنْهُ يَجْزِي كَمَا في حَدِيثِ معاذٍ أنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «أَخلِصْ العَمَلَ يُجْزِكَ مِنْهُ الْقَلِيلُ» . قَالَ بَعْضُهم: أَنا الزَّعِيمُ لِمَنْ يُخْلِصْ لِخَالِقِهِ ... وَيَعْمَلَ الصَّالِحَات أَنْْ يُحْرزَ الرَّشَدَا آخر: وَأحْسَنُ وَجْهٍ في الوَرَى وَجْهُ مُخْلِصٍ ... لِمَنْ خَلَقَ الأَشْيَاءَ رَبِّ البَرِيَّةِ وَأَيْمَنُ كَفِ في الوَرَى كَفُ مُحْسِنٍ ... يُرِيدُ رِضَى الْخَلاقِ نِعْمَ الإِرَادَة آخر: ... وَإِذَا افْتَقَرْتَ إلى الذَّخَائِرِ لَمْ تَجِدْ ... ذُخْرًا يَكُونَ كَصَالح الأَعْمَالِ آخر: ... وَاللهُ لا يَرْضَى بِكَثْرِةِ فِعْلِنَا ... لَكِنْ بَأَحْسَنِهِ مَعَ الإِيمَانِ فالعَارِفُونَ مُرَادُهُم إِحْسَانَهُ ... وَالْجَاهِلُونَ عَمُوا عَن الإِحْسَانِ وَمِنَ فَوَائِدِ الإِخْلاصِ: أَنَّ العَبْدَ لا يَتَخَلَّصُ مِن الشَّيْطَانِ إلا بالإِخْلاصِ، قَالَ اللهِ إِخْبَارًا عَمَّا قَالَه إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللهُ: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} ، وَمِنَ فَوَائِدِ الإخلاصِ: أَنَّهُ يُمِيِّزُ العَمَلَ مِن العُيُوبِ كَتَمْيِيزِ نَفْسَهُ وَيُجِمُّهَا لِلْعَمَلِ لِيَتَقَّوَى عَلَى العِبَادة يكونُ نَوْمُهُ عِبَادَةً.

اللَّهُمَّ افْتَحْ لِدُعَائِنَا بَابَ القَبُولِ والإِجَابَةِ واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (موعظة) : عِبَادَ اللهِ أَخْلِصُوا في أَعْمَالِكُمْ كُلَّهَا لا فَرْقَ بَيْنَ عَمَلٍ وَعَمَلٍ سَوَاءٌ أَكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَمْ كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لِخَلْقِ اللهِ، وَسَواءٌ أَكُنْتُم بَيْنَ الْخَلْقِ وأنتمُ تَعْمَلُونَ أَمْ كُنْتُمْ في مَحَلٍ خَفِي لا يَرَاكُم إلا اللهُ والكرامُ الكاتبونَ، وَسَواءٌ أَكنتُم في سَرَّاءَ وَقْتِ العَمَلِ أَمْ في ضَرَّاءَ. ذَلِكَ الإِخْلاصُ هو أَنْ تَعْمَلَ العَمَلِ الصَّالِحَ لا تُريدُ جَزَاءً عَليهِ إِلا مِن اللهِ يَكُونُ ذَلِكَ قَصْدُكَ قبلَ العَمَلِ وَحَينِ مُبَاشَرَتِهِ وَبَعدَ الفَرَاغِ مِنْهُ لا تَذْكُرُهُ بِلِسَانِكَ إلا مِن بَابِ التَّحَدُّثِ بِنَعَمِ اللهِ أَوْ لِيَقْتَدِي بِكَ غَافِلٌ مُتَّبعٌ لِهَوَاهُ، بِهَذَا يَكُونُ الْعَمَلُ عِبَادَةً حَقًّا وَتَكُونَ أَنْتَ مِن العَابِدينَ وَبِهَذَا يَثْمِرُ عَمَلُكَ القَبُولَ عندَ رَبِّكَ وَعِنْدَ الناسِ، وَبِهَذَا تَكُونَ أَقْوَى النَّاسِ لأَنْ وَلِيَّكَ حِينَئِذٍ يَكُونَ مَوْلاكَ الَقَوِيُّ الْمَتِينُ وبهذا تكونُ مِنْ أَهْلِ الكَرَامَةِ في هَذه الدار وفي دَار الْجَزَاءِ. شعرًا: لِلهِ دَرُّ نُاسٍ أَخْلَصُوا العَمَلا ... عَلَى اليَقِين وَدَانُوا بالذي أُمِرُوا أَوْلا هُمُوا نِعَمًا فَازْدَادَ شُكْرهُمُوا ... ثُمَّ ابْتَلاهُم فَأرْضوْهُ بِمَا صَبَرُوا وَفَّوْا لَهُ ثُمَّ وَافَوْهُ بِمَا عَمِلُوا ... إِذًا سَيُوفِيهُموا إِذَا نُشِرُوا آخر: عَلَيْكَ بإخلاصِ العِبَادَةِ لِلَذِي ... لَهُ نِعَمُ لا تَنْحَصِي وَفَضَائِلُ آخر: إِذَا قِيلَ أَي النَّاس خَيْرٌ فَقُلْ لَهُمْ ... عِبَادٌ لِمَوْلاهُمْ أَنَابُوهُ وَأَخْلَصُوا أَمَّا إِذَا عَمِلْتَ العَمَلَ الصَّالِحَ لِيُقْبِلَ عَلَيْكَ النَّاسُ وَيَقُولُوا إِنَّكَ مِنْ الصَّالِحِينَ فأنتَ إِذًا تكونُ مُرَائِيًا لا تُخْلِص العَمَلَ بَلْ تَشْركْ مَعَه النَّاظِرينُ فتكونُ في دَعْوَى تَمْحِيصِِ العملِ للهِ تَعالى لَسْتَ بَصَادِقٍ بَلْ مِنْ الكاذبين. وَانْظُرْ كَيْفَ تَكُونَ حَالُ مَنْ يَكْذِبُ عَلى مَنْ لا تَخْفَى عليهِ خَافيةٌ،

قصيدة حث على التمسك بالكتاب والسنة

لا في الأرضِ ولا في السماءِ، إن الْمُرَائِيَ مَهْمَا أَخْفَى رِيَاءَهُ يُظْهِرُ اللهُ تعالى ما فِي قَلْبِهِ لِلْعَالِمِينَ، رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ يَعْمَلُ فِي صَخْرَةٍ لَيْسَ لَهَا بَابٌ وَلا منفذٌ لأَخَرَجَ الله عَمَلُهُ لِلنَّاسِ كَائِنًا مَا كَانَ» . وَلِذَلِكَ يَكُونُ لأعمالِ الْمُرَائِي مِن السَّمَاجَةِ في نُفُوسِ الناسِ مَالاً يَحْكِيهِ اللَّسَانُ وَلِهَذَا يَكُونُ مَرْذُولاً ثَقِيلاً عِنْدَ النَّاسِ، وَمِنْ هَذَا تَرَاهُ يَتَوَدَّدُ إلى النَّاسِ وَيَضْحَكُ إِلَيْهِمْ وَنُفُورُهُمْ عنه عِبْرَةٌ عند العقلاء، ثم هو عندَ اللهِ أَسْوأُ حَالاً خصوصًا في اليومِ الذي يَشِيبُ فيه الأطفالُ فقد يُُؤْمَرُ بِهِ إِلى النَّارِ وَلَهُ مِنَ الأَعْمَالِ أَمْثَالَ الْجِبَالِ لكنَّهَا لِمَّا لَمْ يُرْد بِهَا وَجْهَ اللهِ خَالِصَةً صَارَتْ وَبالاً عَلَيْهِ نَعوذُ باللهِ مِن الرِّيَاءِ. وَقَدِّم أَحاديثَ الرَسولِ وَنَصُّهُ ... عَلى كُلِّ قَولِ قَد أتى بِإِزّائِهِ فَإِن جاءَ رأيٌ لِلحَديثِ مَعارِضًا ... فَلِلرّأي فَاِطرَح وَاِستَرِح مِن عَنائِهِ فَهَل مَعَ وُجودِ البَحرِ يَكفي تَيِّمِمٌّ ... لِمَن لَيسَ مَعذورًا لدى فُقَهائِهِ وَهَل يوقِدُ الناسُ المَصابيحَ لِلضِيا ... إِذا ما أَتى ردأ الضُحى بِضِيائِهِ سَلامي عَلى أَهلِ الحَديثِ فَإِنَّهُم ... مَصابيحُ عِلمٍ بَل نُجومُ سَمائِهِ بِهِم يَهتَدي مَن يَقتَدي بَعُلومِهِم ... وَيَرقى بِهِم ذو الداءِ عِلَّةِ دائِهِ وَيَحيى بِهِم مَن ماتَ بِالجَهلِ قَلبَهُ ... فَهُم كَالحَيا تُحي البِقاعِ بِمائِهِ لَهُم حَللٌّ قَد زَيَّنَتْهُمْ مِنَ الهُدَى ... إِذا مَا تَرَدَّى ذُو الرَدَى بِرِدائِهِ وَمَن يَكُن الوَحيَ المَطَهَّرُ عَلَمَهُ ... فَلا رَيبَ في تَوفيقِهِ وَاِهتِدائِهِ وَما يَستَوي تالي الحَديثِ وَمَن تَلا ... زَخارِفَ مِن أَهوائِهِ وَهَذائِهِ وَكُن راغِباً في الوَحيَ لا عَنهُ راغِباً ... كَخابِطِ لَيلٍ تائِهٍ في ردُجائِهِ إِذا شامَ بَرقَ في سَحابٍ مَشى بِهِ ... وَإِلا بقي في شَكَّهِ وَاِمتِرائِهِ وَمَنْ قَالَ ذَا حِلٌّ وهَذَا مُحَرَّمٌ ... غير دَليلٍ. فهو مَحْضُ افترائِهِ

فصل في محاسبة النفس والطريق إليها وبماذا تحصل

وَكُلُّ فَقيهٍ في الحَقيقَةِ مُدَّعٍ ... وَيَثِبُ بِالوَحيَينِ صِدقَ اِدِّعائِهِ هُما شاهَدا عَدلٍ وَلَكِن كِلاهُما ... لَدى الحُكمِ قاضٍ عادِلٍ في قَضائِهِ فَوا حَرَّ قَلبي مِن جَهولٍ مُسَوَّدٍ ... بِهِ يُقْتَدَى في جَهلِهِ لِشَقائِهِ يَرى أَنها دَعوى اِجتِهادٍ صَريحَةٍ ... فَواعَجَبًا مِن جَهلِهِ وَجَفائِهِ فَسَلهُ أَقول اللَهِ ماذا أَجَبتُمُ؟ ... لِمَن هُوَ يوم الحَشرِ عِندَ نَدائِهِ أَيَسأَلُهُم ماذا أَجَبتُم مُلوكَكُم؟ ... وَما عَظمُ الإِنسانِ مِن رُؤَسائِهِ أَمِ اللَهُ يَومَ الحَشرِ يَمتَحِنُ الوَرى ... بِماذا أَجابوا الرُسُلَ مِن أَنبِيائِهِ إِذا قُلت قَولَ المُصْطَفَى هُوَ مُذهَبِيٌّ ... مَتى صَحَّ عِندي لَم أَقُل بِسَوائِهِ وَهَل يَسألُ الإِنسانَ عَن غَيرِ أَحمَدٍ ... إِذا ما ثَوى في الرَمسِ تحتَ تُرابِهِ وَهَل قَولُهُ يا رَبِّ قَلَّدتَ غَيرَهُ ... لَدى اللَهِ عُذرٌ يَومِ فَصْلِ قَضائِهِ فَهَيهاتَ لا َغنى الفَتى يَومَ حَشرِهِ ... (سِوى حُبِّهِ رَبّ الوَرى وَاِتِّقَائِهِ) (وَحُبِّ رَسُولِ اللهِ بَل كلِّ رُسلِهِ ... وَمَنْ يَقْتِفَي آثارَهُمْ باهْتِدَائِهِ) اللَّهُمَّ نُوِّرْ قُلُوبَنَا وَاجْعَلِ الإِيمَانَ لَنَا سِرَاجًا وَلا تَجْعَلَه لَنَا اسْتِدْرَاجًا وَاجْعَلْهُ لَنَا سُلَّمًا إلى جَنَّتِكَ وَلا تَجْعَلَهُ لَنَا مَكْرًا مِنْ مَشِيئَتِكَ إِنَّكَ أَنْتَ الْحَلِيمُ. اللَّهُمَّ يا مَنْ لا تَضُرَّهُ الْمَعْصِيةُ ولا تَنْفَعَهُ الطَّاعَةِ أَيْقِظْنَا مِنْ نَوْمِ الغَفْلَةِ وَنَبَّهْنَا لاغْتِنَامِ أَوْقَاتِ الْمُهْلَةِ وَوِفِّقْنَا لِمَصَالِحْنَا وَاعْصِمْنَا مِنْ قَبَائِحْنَا وَلا تُؤاخِذْنَا بِمَا انْطَوَتَ عَلَيْهِ ضَمَائِرُنَا وَأَكَنَّتْهُ سَرائِرُنَا مِنْ أَنْوَاعِ القَبَائِحِ والْمَعَائِبِ التي تَعْلَمُهَا مِنَّا، وامنُنْ عَلَيْنَا يَا مَوْلانَا بِتَوْبَةٍ تمحو بها عنا كُلَّ ذَنْبٍ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْياءِ مِنهُم وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. الفَصْلٌ الحادي عشر في محاسبة النفس اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين أنه يَجِبُ على الإنسان أولاً:

أن يَعلمَ أنه عبدٌ مَرْبُوبٌ لا نَجَاةَ لَهُ إلا بِتقوى اللهِ وَلا هلاكَ عليه بَعْدَهَا، ثم يُفَكِّرُ (لأي شيءٍ خَلَقهُ ُاللهُ ولِمَا خَرَجَ فِي هَذِهِ الدَّارِ الفانية فَيَعْلَمَ أنه لم يُخْلَقْ عَبْثًا كما قَالَ الله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} ، وقَالَ: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} وإنِّما وُضِعَ فِي هَذِهِ الدَّارِ لِلْبَلْوَى وَالاخْتَِبَارِ هَلْ يَطِيعُ رَبَّهُ فَيَنْتَقِلْ إلى دَارِ نَعِيمٍ أَبْدِي سَرمَدِي أَوْ يَعصِي رَبَّهُ فَينتقل إلى عذابِ الأبدِ إلى جَهَنَّمَ وَبئسَ الْمِهَاد. إِذَا فَهِمَ ذَلِكَ عَلمَ أنهُ لا نَجَاةَ لهُ إلا بطَاعَةِ رَبِّهِ وَأَن الدليلَ على طاعَةِ اللهِ الْعلمُ ثُم العملُ بأمرِهِ وَنَهْيهِ في مَوَاضِعه وَعِلَلِهِ وَأسْبَابِهِ وَلَنْ يَجدَ ذَلِكَ إلا في كتابِ الله وَسنةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنَّ الطَّاعَةَ سَبِيل النجاةِ والعِلْمُ هُوَ الدَّلِيلُ على السبيلِ. قَالَ الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} . ثم يَتَأَمَّلُ مَا أَمَامَهُ من الشَّدَائِدِ والْكُرَبَ والعَقَبَاتِ وَالأَهْوَال التي أَوْضَحَها اللهُ في كِتابِهِ وَبَيْنَهَا رَسُوله صَلَّى اللَّهُ عَلَى وسلم، قَالَ تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} ، وَقَوْلُهُ: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} ، وقَالَ: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ، وقَالَ {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} ، وقَالَ: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} ، وقَالَ: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} . - فإذا عَلِمَ أَنَّهُ مُنَاقَشٌ في الْحِسَابِ عَنْ مثاقِيلِ الذَّرِّ فِي يَوْمٍ كان

مقدارُه خَمسينَ أَلْفَ سَنَةٍ أَحَوج ما يَكونُ إلى الْحَسَناتِ وَغُفْرانِ السَّيْئاتِ تَحقَّقَ أنّه لا يُنْجِيهِ مِنْ هَذِهِ الأخْطارِ إلا اعْتمَادُه على الله وَمَعُونَتِهِ عَلَى مُحَاسَبَةِ نَفْسِهِ وَمُرَاقَبَتِهَا وَمُطَالَبَتِهَا فِي الأنْفَاسِ والْحَرَكَاتِ وَمُحَاسَبَتِهَا في الْخَطَرَاتِ واللَّحَظَاتِ فَمَنْ حَاسَب قَبْل أَنْ يُحَاسَبَ خَفَّ في القيامةِ حِسَابُه وَحَضَر عِندَ السّؤال جوابُه وَحَسُن مُنْقَلبه وَمآبُه. قَالَ ابنُ القيِّم رَحِمَهُ اللهُ: هَلاكُ الْقَلْبِ مِنْ إِهْمَالِ مُحَاسَبتِهَا وَمنْ مَوَافَقِتَهَا وإتِّبَاع هَواهَا وفي الْحَدِيثِ قَالَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الأماني» . دَانَ نَفْسَهُ: أي حَاسَبَها. وذكر الإمامُ أَحْمَدُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وزنُوهَا قبل أنْ تُوزَنوا، فَإِنَّه أَهونُ عَليكُم في الْحِسَابِ غَدًا أَنْ تُحَاسَبُوا أَنْفُسَكُمْ اليوم، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ يومئذٍ تُعرضونَ لا تَخْفَى مِنْكَمْ خَافِية عَلى اللهِ. وَذَكَر أَيْضًا عَن الْحَسَن لا تَلْقَى الْمُؤمِنَ إلا يُحَاسبُ نَفْسه ماذا أَردْتُ بكَلْمتي ماذا أردُت بِشرْبَتِي؟ والفَاجرُ يَمْضِي قُدُمًا لا يُحاسبُ نَفسُه. وقَالَ قَتادةُ في قَوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} ، أَضَاعَ نَفْسَهُ وَغُبِنَ مَعَ ذَلِكَ تَرَاهُ حَافِظًا لِمَا لَهُ مُضِيَّعًا لِدِينِهِ. وقَالَ الْحَسنُ: إنَّ العبْدَ لا يَزَالُ بَخير مَا كَانَ لَهُ وَاعظٌ مِنْ نَفْسِه وكانَتِ الْمُحاسبةُ مِنْ هِمَّتِهِ، وقَالَ مَيمُونُ بن مُهرانِ: لا يَكونُ الْعَبْدُ تَقَيًّا حَتَّى يَكُونُ لنْفسهِ أَشَدَّ مُحَاسَبةٍ مِنَ الشَّريكِ، وَلِهَذَا قِيلَ: النَّفْسُ كالشَّرِيكِ الْخَوَّانِ إِنْ لَمْ تُحَاسبُه ذَهَبَ بِمَالِكَ، وقَالَ مَيمُونُ أَيْضًا: إِنْ التَقيَّ أَشَدُّ مُحاسبةً لِنَفْسِهِ مِنْ سُلْطَانٍ قَاضٍ وَمِنْ شَرِيكٍ شَحِيحٍ.

حق على العاقل أن لا يغفل عن أربع ساعات

وَذَكَرَ الإِمْامُ أَحْمدُ عنْ وَهْبٍ قَالَ: مكْتُوبٌ في حِكْمَةِ دَاوُود. حَقَّ عَلَى العَاقِل أَنْ لا يَغْفلَ عَنْ أَرْبَعِ سَاعَاتٍ: سَاعَةٍ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٍ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٍ يَخْلُو فِيهَا مَعْ إِخْوَانِهِ الذينَ يُخْبِرُونَهُ بِعُيوبِهِ وَيَصَدُّونَه عَنْ نَفْسُهُ، وَسَاعةٍ يُخَليَّ فيهَا بَيْنَ نَفسه وَبَيْنَ لذّتِهَا فِيمَا يَحُلّ وَيَجْمُلُ، فَإِنَّ في هَذِهِ السَّاعةِ عَوْنًا عَلَى تِلكَ السَّاعَاتِ وَإجْمَامًا للقُلوبِ. وقَالَ الْحَسَنُ: الْمؤمِنُ قوَّامٌ عَلى نَفْسه للهِ وإنّما يَخُفَّ الْحِسَابُ يَوْمَ القِيامَةِ عَلَى قَوْمٍ حَاسَبُوا أَنْفُسَهُمْ في الدُّنْيَا، وَإِنَمَّا شَقَّ الحِسَابُ يَوْمَ القِيَامِةِ عَلَى قَوْمٍ أَخَذُوا هَذَا الأَمْرَ مِنْ غَيرِ مُحاسبةٍ. إِنَّ الْمُؤمنَ يَفْجَؤهُ الشَّيْءَ يُعْجبُه فيقولُ: واللهِ إنّي لأَشْتَهِيكَ وإنَّكَ لمَنْ حَاجتِي وَلَكنْ واللهِ مَا مِنْ صِلَةٍ إِليْكَ هَيْهَاتَ حِيلَ بَيْنِي وَبِينِكَ وَيَفْرطُ مِنْهُ الشَّيءُ فَيرِجعُ إلى نَفْسِه فَيقُولُ: مَا أَردْتَ إِلى هَذا، مَا لِي وَلِهَذَا، وَاللهِ لا أعودُ إلى هَذَا أَبَدًا إِنَّ الْمُؤمِنينَ قَوْمٌ وَفَقَهُم القُرآنُ وَحَالَ بَيْنَهُم وَبَيْنَ هَلَكتهِمْ إنّ المؤمنَ أسيرٌ في الدُّنْيَا يَسْعَى في فَكَاك رَقَبته لا يَأْمِنُ شَيْئًا حَتَّى يَلْقَى اللهَ لِيَعْلَم أَنَّه مَأْخُوذٌ عَلَيْهِ فِي سَمْعِهِ وَفي بَصَرِهِ وفي لِسَانِهِ وفي جَوارِحِهِ. اللَّهُمَّ أَيْقِظْ قُلُوبَنَا وَنَوِّرْهَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبَّتْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَارْزُقْنَا الْمَعْرِفَةِ بِكَ عَنْ بَصِيرَةٍ وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَوَفَّقْنَا لِطَاعَتِكَ وَامْتِثَالِ أَمْرِكَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) : قَالَ ابنُ القيّمِ: رَحِمَهُ اللهُ عَلى قَوْلِ صَاحِبِ الْمَنَازِل: المحَاسَبةُ لَهَا ثَلاثَةُ أرْكَانٍ، أحدُهَا: أَنْ تُقايِسَ بَيْنَ نِعمتهِ وَجِنَايَتكَ يَعْنِي تُقَايسَ بَيْنَ مَا مِن اللهِ وَمَا مِنْكَ فَحِينَئذٍ يَظْهرُ لَكَ التَّفاؤتُ وَتَعَلمُ أَنَّهُ لَيْسَ إلا عَفوهُ وَرَحْمَتُه أَوْ الْهَلاكُ والعَطَبُ وَبِهَذِهِ الْمقَايسةِ تَعْلمُ أنَّ الربَّ رَبُّ وَالْعَبْدَ عَبْدٌ

وَيتبيّنَ لكَ حَقِيقَةُ النَّفسِ وَصِفَاتُهَا وَعَظمةُ جَلالِ الرُّبُوبيَّةِ وتفرد الرَّبُ بَالكمَالِ والأَفْضَالِ وأنّ كلّ نِعمةٍ فَضْلٌ، وَكُلَّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ وَأَنْتَ قَبْلَ هَذِهِ الْمقَايَسةِ جَاهلٌ بِحقيقةِ وَبِرُبُوبيّةِ فَاطِرِهَا وَخَالِقهَا. فإذَا قَايَستَ ظَهرَ لك أنّها مَنْبَعُ كلِّ شَرٍ وأسَاسُ كلِّ نَقْصٍ وأنْ حَدَّهَا الْجَاهلَةُ الظَّالِمَةُ وأنَّهُ لَوْلا فَضْلُ الله ورَحْمَتُه بَتَزْكِيَتِهِ لها مَا زَكَتْ أَبدًا وَلَوْلا هُداهُ مَا اهْتَدَتْ وَلولا إرشَادهُ وَتَوْفِيقُهُ لما كانَ لَها وُصُولٌ إلى خَيرٍ البتَّةَ وَإنّ حُصول ذَلِكَ لَها مِنْ بَارِئها وَفَاطِرَها، ثُمَّ تُقايس بينَ الْحَسناتِ والسَّيئاتِ فَتعلمُ بِهذهِ الْمُقَايسة أيُّهما أكثرُ وأرجَحُ قَدْرًا وَصِفَة. قَالَ: وهذه الْمُقَايَسةُ تَشُقّ عَلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ ثَلاثَةُ أَشْيَاءٍ: نُورُ الْحِكْمةِ، وَسُوءُ الظَّنِّ بالنَّفسِ، وَتَمييزُ النَّعمةِ مِنْ الفِتْنةِ، يَعْني أنّ هَذِهِ الْمُقايسة والْمُحَاسَبة تَتَوقَفُ عَلى نُورِ الْحِكْمَةِ وَهُو النور الذي نَوَّرَ اللهُ بِهِ قلوبَ أتْبَاعِ الرُّسُلِ فبقدْرِهِ تَرَى التَّفاوتَ وَتَتَمَكَّنَ مِن الْمُحاسبةِ، نُورُ الْحِكْمةِ هَا هُنَا هُوَ العِلْمُ الذي يُميّزُ بهِ العْبدُ بينَ الْحقَّ والباطِلِ، والْهُدى والضَّلالِ، والضَّارِّ والنَّافعِ، والكاملِ والنَّاقِص، والْخَيرِ والشَّرِ وَيُبْصِرُ بهِ مَرَاتَبَ الأَعْمالَ رَاجِحِهَا وَمَرْجُوحِهَا وَمَقْبُولَهَا وَمَرْدُودِهَا كلّما كان حَظهُ مِن هَذَا النُّورِ أَقْوَى كَانَ حَظَهُ مِنْ الْمُحَاسبةِ أَكْمَلَ وَأَتَمَّ. أَمَّا سُوءُ الظَّنِّ بالنَّفس فإنّما احتَاجَ إليْه لأَنّ حُسنَ الظَّنِ بالنَّفسِ يَمْنعُ مِنْ كَمالِ التَّفتيشِ وَيُلبِّسُ عَلَيْهِ فَيَرَى الْمَسَاوئ محاسنَ والعُيوبَ كَمَالاً وَلا يُسيُء الظَّنَ بِنَفْسِهِ إلا مَنْ عَرفهَا، وَمَنْ أَحْسنَ ظَنَّه بِنَفْسِهِ فَهُو مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِنَفْسِهِ. وَأَمَّا تَمْييزُ النَّعْمَةِ مِنْ الفتْنةِ فَلْيَفْرِقْ بين النَّعْمةِ الَّتِي يَرى بِهَا الإِحْسَانَ واللُّطفَ وَيُعَانَ بِهَا عَلى تَحْصِيل سَعادتِهِ الأَبْديِّةِ وَبَيْنَ النِّعْمَةِ الَّتِي يَرَى بِها الاسْتدراجَ فَكْم مِنْ مُسْتَدَرَجٍ بالنِّعم وهو لا يَدْري

النفس منبع كل شر وأساس كل نقص ولا بد من سوء الظن بها ومشاطرتها على حفظ الجوارح

مَفْتونٌ بِثَنَاءِ الْجُهّالِ عَلَيْهِ مَغْرُورٌ بِقَضاءِ اللهِ حَوَائِجَه وَسَترِهِ عَلَيْهِ، وأكْثَرُ النَّاسِ عنْدهُم أَنَّ هَذِهِ الثَّلاثةَ عَلامةُ السَّعَادَةِ والنَّجَاحِ، ذلك مَبلغُهم مِنْ العلمِ وَقَدْ مُثلتِّ النَّفسُ معَ صَاحِبهَا في الْمَالِ، وَكَمَا أنَّهُ لا يَتِمُّ مقْصُودُ الشّرِكَةِ من الرّبْحِ إلا بالْمُشَارَطَةِ عَلى مَا يَفْعلُ الشَّريكُ أَولاً ثُُمّ بِمطالعَةِ مَا يَعمَلُ والإِشْرَافُ عَلَيْهِ وَمُراقَبتِهِ ثَانيًا، ثُمَّ بِمحَاسَبتهِ ثَالثًا، ثُمّ بِمنْعِهِ مِنَ الْخِيانَةِ أنْ اطّلعَ عَلَيْهَا رَابعًا، فَكذلكَ النّفسُ يُشارِطُها أَوَّلاً على حِفظِ الْجَوارِحِ السَّبعَةِ الَّتِي حِفظُهَا هوَ رأسُ الْمَال والرِّبْحُ بَعدَ ذَلِكَ فَمَنْ لَيْسَ لَهُ رَأسُ مَالٍ كَيْفَ يَطْمَعُ في الرِّبْحِ؟ وَهَذِهِ الْجَوارِحُ السَّبْعةُ هِيَ: الَعْينُ، والأُذُنُ، والفَمْ، واللِّسَانُ، والفَرْجُ، واليَدُ، والرِّجْلُ هِيَ مَرْكَبُ العَطَبِ والنَّجَاةِ، فَمِنْهَا عَطِبَ مَنْ عَطِبَ بإهْمَالِهَا وَعَدَمِ حِفْظَها، وَنَجَا مَنْ نَجَا بِحِفْظِهَا وَمُرَاعَاتِهَا فَحَفِظُهَا أَسَاسُ كلِّ خَيرٍ، وَإهْمَالُها أَسَاسُ كَلِّ شَرٍ، قَالَ الله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} . وقَالَ تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} فإذا شارطَهَا على حِفظِ هَذِهِ الْجَوارِحِ وانتَقَل مِنْهَا إِلى مُطَالَعتها والإِشْرَافِ عَلَيْهَا وَمُراقبَتِهَا فَلا يُهُملها فإنّه إنْ أَهْمَلهَا لَحْظَةً وَقَعتْ في الْخِيَانةُ ولا بُدّ فَإنْ تَمادَى على الإِهْمَالِ تَمَادَتْ فِي الْخِيانَةِ حَتَّى يَذْهَبَ رَأسُ الْمَالِ كُلِّهِ فَمَتى أَحَسَّ بالْخُسْرَانِ وَتَيَقّنهُ اسْتَدْرَكَ مِنْهَا مَا يَسْتَدْرُكُه الشَّرِيكُ مِنْ شَريكِهِ مِن الرُّجُوع عَلَيْهِ بِمَا مَضَى والقِيَام بالْحِفْظ والْمُرَاقَبةِ في الْمُسْتَقْبَلِ وَلا مَطْمَع لَهُ فِي فَسْخِ هذِهِ الشِّرِكَةِ مَعَ هذا الْخَائِنِ فَليَجْتهدْ في مُراقَبتهِ وَمُحَاسَبَتهِ وَلِيَحْذَرْ مِنْ إهْمَالِهِ، وَيُعينُهُ عَلَى هَذِهِ الْمُرَاقَبةِ والْمحَاسَبةِ مَعرفتُهُ أَنَّهُ كُلّما اجْتهَدَ فِيهَا اليَومَ استَراحَ منْهَا غَدًا إذا صَارَ الْحِسَابُ إلى غَيْرِهِ وَكُلّما أَهَمَلهَا اليَوْمَ اشْتَدّ عليهِ الْحِسَابُ غَدًا،

وَيعُينهُ عَليهَا أيضًا مَعْرفتُهُ أَنَّ ربْحَ هذه التِّجَارَةِ سُكْنَى الفِرْدَوسِ والنَّظَر إلى وَجْهِ الرَّبِّ وَخَسَارتِها دَخولُ النَّار والْحِجَابِ عَنْ الرَّبِّ فَإِذَا تَيَقَنَ هَذَا هَانَ عَليْهِ الْحِسَابُ اليَومَ. فَحَقُّ على الحازِم الْمُؤمِنِ بالله واليَومِ الآخِر أَنْ لا يَغْفُلَ عنْ مُحَاسَبَةِ نفسِهِ والتّضِييقِ عليهَا في حَركَاتهَا وَسَكناتِهَا وَخَطَواتِهَا فَكلُّ نَفسٍ مِنْ أنْفَاس العُمْرِ جَوهَرةٌ نَفِيسةٌ لا خَطَر لَهَا يُمكنُ أن يَشتَرِي بِهَا كنْزًا مِن الكنوز لا يَتَنَاهَى نَعيمُهُ أبدُ الآبادِ. فإضاعةُ هذه الأنفاسُ أو مُشتَرى صَاحِبهَا بِها ما يَجلبُ هلاكَهُ خُسرانٌ عَظيمٌ لا يَسْمَحُ بِمْثِلِهِ إِلا أجْهلُ النَّاسِ وَأحْمَقهُم وأقلُّهم عَقْلاً وَإنَّما يَظْهَرُ لَهمْ حَقيقةَ هَذَا الْخُسرانِ يومَ التغابُن {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} ، {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ} ، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} ، {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} . عَلَيْكَ بِمَنْعِ نَفْسِكْ عَنْ هَوَاهَا ... فَمَا شَيْءٌ أَلَذَّ مِنَ الصَّلاحَ تَأهَّبْ لِلْمَنِيَّةِ حَيْنَ تَغْدُو ... كَأَنَّكَ لا تَعِيشُ إلى الرَّوَاحَ فَكَمْ مِنْ رَائحٍ فِينَا صَحِيحٍ ... نَعَتْهُ نُعَاتُهُ قَبْلَ الصَّباحَ وَبَادِرْ بالإِنَابَة قَبْلَ مَوْتٍ ... عَلَى مَا فِيكَ مِنْ عِظَمِ الْجُنَاحَ وَلَيْسَ أَخُو الرَّزَانَةِ مَنْ تَجَافَى ... وَلَكنْ مَنْ تَشَمَّرَ لِلْفَلاحَ اللَّهُمَّ افْتَحْ لِدُعَائنا بَابَ الْقُبُولِ والإِجَابَةِ واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (3) (موعظة) أيُّهَا الْمُسْلمونَ لَقد تَراكَمَتْ عَلَيْكُم الذَّنوبُ وأنتمْ في غَيِّكمْ ولهوَكِمْ

موعظة بليغة في الحث على التفتيش على النفس

في دُنْياكمْ مُشْتَغِلونَ أحاطَتْ بكم البَلايَا مِنْ كُلّ جَانِبٍ وَلَسْتمُ لإِصْلاحِ أَنْفسِكمْ تَجنحُونَ، كُلّما أوضَحَ لكمْ الواعظُ طَريقَ الْهَدَايةِ تعامَيْتمُ فَلا أَنتُم بالكُروبِ مُعتَبِرونَ، وَلا مِن البَلايَا مُنْزَجرِونَ أَمَا سَمِعْتُمْ قولَ اللهِ جَلَّ وعَلا: {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} . وقَالَ: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ} ، وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} أَيُّهَا الْمُسْلِمْ انْظرْ في نَفْسِكَ هَلْ تَجِدُها عَامِلةً بمقْضَى الدّينِ؟ هلِ أَتيْتَ بالصَّلاة على الوْجَهٍ الأَكْملِ واجْتَنُبتَ الْمَعَاصِي الْمُنَافِية لِلدِّينِ هل أَدَّيت الزَّكَاةَ كامِلةً مُكَمَّلةً بِيَقِينٍ فَتّش هَلْ تَجِدُ فِيهَا حياءً مِن اللهِ بيَقينٍ؟ هَلْ أَنْتَ سالمٌ مِن الكذبِ والْخِيانَةِ والاحْتِيَالِ؟ هَلْ سَالِمٌ مِنَ الرِّياءِ في أَقْوَالِكَ وَأَعْمَالِكَ؟ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ الرِّبَا فِي مَعَامَلاتِكَ؟ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ الْمُدَاهَنَةِ والنِّفَاقِ؟ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ الغِيبَةِ والنَّمِيمَةِ والبَهْتِ واللَّعْنِ وسيءِ الْمَقَالاتِ؟ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ الْغِشِّ في بَيْعِكَ وَشِرَائِكَ وَسَائِر تَصرُّفَاتِكَ؟ هَلْ أَنْتَ صَائِنٌ لِسَانَكَ عَنْ مَا يَضْركَ مِن الأقوال والأعَمِالَ؟ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ الكِبْرِ والإعْجَابِ وَقَطِيعَةِ الرَّحمِ والْعُقُوقِ؟ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ أذِيَّةِ الْجَارِ؟ هَلْ قَلبُكَ لَيِّنٌ رَحُوم تَرْحَمُ الْمِسْكِينَ وَتُكْرِمُ الْيَتِيمَ؟ هَلْ أَنْتَ تَقْضِي حُقُوقَ النَّاسِ بُدونِ مِطالٍ ولِجَاجٍ؟ هَلْ أَنْتَ تُحِبُّ في اللهِ وَتُبْغِضُ في اللهِ؟ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ حَلْقِ اللِّحْيَةِ أَوْ صَبْغِهَا أَوْ الدُّخانِ؟ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ الْخَنَافِسَ وَالتَّواليتِ ونحوِ ذَلِكَ مِنْ الأخْلاقِ السَّافِلاتِ؟ هَلْ بَيْتُكَ خَالٍ عَنْ صُوَرِ ذَواتِ الأَرْوَاحِ وَهْلُ هُوَ خَالٍ مِن الْمِذياعِ والتَّلِفْزيُونِ والسِّينَماتِ؟ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ مِنْ بَيْعِ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ؟ هَلْ قُمْتَ عَلَى أَوْلادِكَ لِلصَّلاةِ

والتَّوجِيهِ إلى الأعمالِ الصَّالحةِ والأَخْلاقِ الْحَمِيدةِ فَعَلَيْكَ أنْ تَتَفَقَّدَ لِنفْسِكَ بِدقَّةٍ كُلَّ يَومِ وتُعَالِجْ مَا بِكَ مِنْ هَذِهِ الأمْرَاض الْمُهْلِكَاتَ فَإنَّهَا أَشَدُّ ضَرَرًا وَفَتَكًا مِنْ أَمْرَاضِ البَدَنِ التِي لا نَصْبِرُ عَلَيْهَا إِنْ لَمْ نَجِدْ لَهَا عِلاجًا ذَهَبْنَا إلى الْخَارِج رَجَاءَ بُرْئِهَا واللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ وَسَلَّمَ. (فَصْلٌ) قَالَ: وَمُحَاسَبَةُ النَّفْسِ نَوْعَانِ أَمَّا الأَولُ: فَيقِفْ عِنْدَ أَوَّلِ هِمَّتِهِ وَإرَادَتِهِ وَلا يُبَادِرُ بالْعملِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُجْحَانُهُ على تركِهِ، قَالَ الْحسنُ: رَحِمَ اللهُ عَبْدًا وَقفَ عندَ هَمِّهِ فَإِنْ كانَ للهِ مَضَى وَإِنْ كَانَ لَغَيْرِهِ تَأخَّرَ. النُّوع الثَّانِي: مُحَاسَبَةٌ بَعْدَ العَمَلِ، وهو ثلاثَةُ أَنْوَاعٍ: أحدُهَا مُحَاسَبَتُهَا عَلَى طَاعَةٍ قَصَّرَتْ فِيهَا مِنْ حَقَّ اللهِ فَلَمْ تُوقِعْهَا عَلَى الوَجْهِ الذي يَنْبَغِي. وَحَقُّ اللهِ في الطَّاعاتِ بِمُرَاعات سِتَّةِ أُمُورٍ وهِيَ: الإخْلاصُ في العمل والنصيحةُ للهِ فيه وَمُتَابَعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ وَشُهُودُهُ مَشْهَدَ الإحْسَانِ فيهِ، وَشُهُودُ مِنَّةِ اللهِ عَلَيْهِ فِيهِ، وَشُهُودُ تَقْصِيرِهِ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَيُحَاسِبُ نَفْسَهُ هَلْ وَفّى هَذِهِ الْمَقَامَاتِ حَقَّهَا، وَهَلْ أَتَى فِي هَذِهِ الطَّاعَاتِ، الثَّانِي: أَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَهُ عَلَى عَمَلٍ كَانَ تَركَهُ خَيرًا لَهُ مِن فعله. الثَّالث: أَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَهُ عَلَى أَمْرٍ مباحٍ أَوْ مُعْتَادٍ لَما فَعَلَهُ، وَهَلْ أَرَادَ بِهِ اللهِ والدَّارَ الآخِرةَ فَيَكُونُ رَابِحًا فِيهِ أَوْ أَرَادَ بِهِ الدُّنْيَا وَعَاجِلَتَهَا فَيَخْسَرُ ذَلِكَ الرِّبْحَ وَيَفُوتُهُ الظَّفَرُ بِهِ. قَالَ: وَجِمَاعُ ذَلِكَ أَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَه أولاً عَلَى الْفَرَائِضِ فَإِذَا تَذَكَّرَ فِيهَا نَقْصًا تَدَارَكَهُ إِما بِقَصَاءٍ أَوْ إِصْلاحٍ ثُمَّ يُحَاسِبُ عَلَى الْمَنَاهِي فَإنْ عَرَفَ أَنَّهُ ارْتَكَبَ مِنْهَا شَيْئًا تَدَارَكَهُ بالتَّوْبَةِ والاسْتِغْفَارِ والْحسناتِ الْمَاحِيةِ ثُمَّ يُحَاسِبُ نَفْسَه على الْغَفْلَةِ فإن كَانَ قَدْ غَفَلَ عَمَّا خُلِقَ لَهُ تَدَارَكَهُ بالذِّكْرِ والإِقْبَالِ على الله.

موعظة بليغة لبعض العلماء على قوله تعالى: ? ولا تكونوا كالذين نسوا الله ? الآية

ثُمَّ يُحَاسِبُهَا بِمَا تَكَلَّمَ به لِسَانُهُ أَوْ مَشَتْ بِهِ رِجْلاهُ أَوْ بَطَشَتْهُ يَدَاهُ أَوْ سَمِعَتْهُ أُذْنَاهُ مَاذَا أَرَدْتَ بِهَذَا، وَلِمَ فَعَلْتُ، وَعَلَى أَيْ وَجْهٍ فَعَلْتُهُ، وَيَعْلَمُ أنَّه لا بُدَّ أَنْ يُنْشَرَ لِكلَّ حَرَكةٍ وَكَلِمَةٍ مِنْه دِيوانٌ لِمَ فَعَلْتَهُ وَكَيْفَ فَعَلْتَهُ فَالأوَّلُ: سُؤالٌ عَنْ الإِخْلاصِ. والثَّانِي: سُؤالٌ عَنْ الْمُتَابَعَةِ: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، وقَالَ: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ} ، وقَالَ: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ} فَإِذَا سُئِلَ الصَّادِقونَ وحُوسِبُوا عَلَى صِدْقِهِمْ فَمَا الظَّنُ بالكَاذِبينَ؟ وقَالَ قَتَادة: كَلِمَتَانِ يُسئلُ عَنْهُمَا الأوَّلَونَ والآخِرونَ: مَاذَا كُنْتمُ تَعْبُدونَ؟ وماذا أجبْتمُ الْمُرَسلينَ. فَيُسألونَ عن الْمَعْبُودِ، وعَنِ العِبَادَةِ. وقَالَ تَعَالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} . شِعْرًا: تَصَاوَنْ عَن الأَنْذَالِ مَا عِشْتَ واكْتَسِبْ ... لِنَفْسِكَ كَسْبًا مِن خِلالٍ تَصُونُهَا وَمَا لِلْفَتَى بِرٌّ كَمِثلِ عَفَافِهِ ... إِذَا نَفْسُهُ اخْتَارَتْ لَهَا مَا يَزِينُهَا إِذَا النَّفْسُ لَمْ تَقْنَعْ بِقَسْمِ مَلِيكِهَا ... عَلَى مَا أَتَى مِنْهُ فَمَا ثَمَّ دِينُهَا قَالَ مُحَمَّدُ بنُ جَريرٍ: يَقُولُ الله تَعَالى: (لِيَسْألنَّكُم اللهُ عزَّ وَجلَّ عن النَّعيمِ الذِي كُنْتمْ فِيهِ فِي الدُّنْيَا: مَاذَا عَمِلتمُ فيهِ؟ وَمِنْ أَيْنَ وَصَلتُم إِليهِ؟ وَفِيمَ أصَبْتُمُوُه؟ وَمَاذَا عملتم بِهِ؟) ، وقَالَ قَتَادَةَ: إِنَّ اللهَ سَائِلٌٌ كُلَّ عَبْدٍٍ عَمَّا اسْتَوْدَعهُ مِنْ نِعمَتِهِ وَحَقِّهِ، والنَّعِيمُ الْمَسْئُولُ عَنه نَوعانِ: نَوْعٌ أُخِذَ مِنْ حِلِّهِ وصُرفَ في حَقِّهِ فُيسَأل عَنْ شُكْرِهِ، ونَوْعُ أُخَذَ بِغيرِ حِلِّه وَصُرِف فِي غَيْرَ حَقَّه فُيسأَلُ عَن مُستَخرَجه وعن مَصرَفِهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى وُجوبِ الْمُحَاسَبِةِ قَولهُ تَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} الآية. (1) اعْلم أَيَّها الإِنسان أن النفسَ الأمارةَ بالسُّوء عَدُوّةٌ لَكَ مَعَ إِبْلِيسَ لَعَنهُ

الله، وإنما يَتَقَوَّى عَلَيْكَ الشَّيْطَانُ بِهَوَى النَّفْسِ وَشَهَواتِهَا، فَهِيَ سِلاحُه الذِي يَصِيدُ بِهِ وَهَلْ أَوْقَعَ إِبْلِيسَ فِي كَبْرِهِ وَمَعْصِيَتِهِ إلا نَفْسُهُ، قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلا وَتَقَدَّسَ: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} . فلا تَغُرَنَّكَ نَفْسُكَ بالأَمَانِي والغُرُورِ لأنَّ مِنْ طَبْعِ النَّفْسِ الأَمْنُ والغَفْلَة والرَّاحَةُ والفَتْرةُ والكَسَلُ والعَجْزُ فَدَعْواهَا بَاطِلٌ وَكُلُ شَيْءٍ مِنْهَا غُرورٌ وَإِنْ رَضِيتَ عنها واتَّبَعْتَ أَمْرَهَا هَلَكْتَ، وَإِنْ غَفَلْتَ عَنْ مُحَاسَبَتِها غِرَقْتَ، وإنْ عَجَزْتَ عن مُخَالَفَتِهَا واتَّبعتَ هَواهَا قَادَتْكَ إلى النَّارِ. (فَصْلٌ) : وَفِي مُحَاسَبةِ النفسِ عِدة مصالحٍ، أَوَّلاً: الإِطلاعُ عَلى عُيوبها وَمَنْ لَمْ يطّلعْ عَلَى عَيْبِ نَفْسِهِ لَمْ يُمْكنهُ إزَالتهُ، ومِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْلا أَنَّ اللهَ وَفَّقَ العَبدَ لِمُحَاسَبَتِهَا لَشِقِيَ في القِيامَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُحَاسَبَةَ لِلنَّفْسِ مِنْ الكَياسَةِ وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِرَاحَةُ الْمُحَاسِبِ مِن التَّعَبِ الطَّويل يَوْمَ القِيَامَةِ، وَمنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لا يَتَحسّرُ الْمُحَاسِبُ فِي القِيَامَةِ كَالذينَ لَمْ يُحَاسِبُوا أَنْفُسَهم، ومِن ذَلِكَ تَمْرِينُ النَّفْسِ عَلَى العِبَادَةِ والْمُدَاوَمَةِ عَلَى ذِكرِ اللهِ لَيْلاً وَنَهَارًا. شِعْرًا: عَلَيْكَ بِذِكْر اللهِ فِي كُلِّ لَحْظِةٍ ... فَمَا خَابَ عَبْدٌ لِلْمُهَيْمنِ يَذكُرُ آخر: ثَلاثَةٌ يَجْهَلُ مِقْدَارُهَا ... الأَمْنُ والصِّحَّةُ والدِّينِ فَلا تَثِقْ إلا بِمَنْ أَمْرُهُ ... مَا بَيْنَ كَافٍ وَنُونٍ يَكُونْ وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُحَاسبة تُضْعفُ الأعْمالَ السَّيئةَ وَتُوقِّفُهَا، وَمِن ذَلك أنَّها تَحُضُّ الإِنْسَانَ عَلى أَعْمالِ الصَّالِحةِ، وَمِن ذَلك أنَّها تُخلِّصُ النَّفْسَ مِن العُجْب ورُؤْيَةِ العَملِ، ومن ذلك أنَّ الْمُحَاسبةَ تَفْتحُ للإِنْسَانِ بَابَ الذُّلِ والانْكِسَارِ والْخُضُوعِ للهِ، وَمِن ذلكَ أَنَّهَا تَدْعُو الإنسانَ إلى أَنْ يَنْظُرَ فِي حَقَّ الله عليه. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّها تُوجبُ للإنسانِ أَنْ يمقُتَ نَفْسَهُ وَيَعلَمَ أنَّ النَّجاةَ لا تَحْصُلُ إلا بِعَفوِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ.

وإذَا تَأملْتَ حَال أكْثَر النَّاسِ وَجَدتَهمُ بِضِدْ ذَلِكَ يَنْظُرونَ فِي حَقِّهم على الله ولا يَنْظرُونَ في حَقِّ اللهِ عَلَيْهم ومنْ هُنَا انقَطعُوا عِن اللهِ وَحُجبَتْ قُلوبُهم عَنْ مَعْرفِتهِ وَمَحَبَّتِهِ والشَّوْقِ إلى لِقَائِهِ والتَّنْعِيمِ بذكْرهْ وهذا غَايةُ جَهْلِ الإِنسانِ بربّهِ وَبِنفسه فُمُحَاسَبْةُ النَّفسِ هَيَ نَظَرُ العَبْدِ في حقَّ الله عَلَيْهِ أَوّلاً ثُمَّ نَظَرَهُ هَلْ قَامَ به كما يَنْبَغِي ثَانِيًا. وَيَنْبَغِي للإنسان أنَّه إذَا حَاسَبَ نَفْسه فَرَآهَا قَدْ قَارفَتْ مَعْصيةً أَنْ يَتوبَ تَوْبَةً نَصُوحًا وَيُتْبعُ السَّيئةَ بالْحَسَناتِ التِي تَمْحُوهَا فقدْ وَرَدَ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «وأَتْبعْ السَّيئَةَ الْحَسَنةَ تَمْحُها» . وإنْ تَوَانى عَنْ بَعْضِ الفَضَائِلَ أَوْ فَاتَتهُ نِسْيانًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَدْرِكَ جَبْرَ مَا نَقَصَ بالنَّوافِل، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حِينَ فَاتَتْهُ صَلاةَ العصْرِ في جَمَاعةٍ أنَّه تَصَدَّق بأرْضَ كانتَ له قِيمتُهَا مَائِتَا ألفِ دِرْهَمٍ. وَرُوِيَ عنه: أنَّه شَغَلَهُ أمرٌ عَن المغْرب حتّى طَلعَ نَجمَانٍ فَلمَّا صَلاها أعْتَقَ رَقَبتينِ. وَفَاتَتْ ابنُ أبي رَبِيعَةَ رَكْعتَا الفجر فأعتَقَ رَقَبةً. وَوَرَدَ أَنَّ ابنَ عُمرَ كَانَ إِذَا فَاتَتهُ صَلاةٌ في جَمَاعِةٍ أَحيَا تِلكَ اللَّيْلَةِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَجْعِلُ عَلَى نَفْسِه صَوْمُ سنَةٍ، أَوْ الْحَجُّ مَاشِيًا، أَوْ التَّصدَقُ بالشيءِ الكَثير كلُّ ذَلك مؤاخَذَهٌ لهَا بما فِيهِ نَجَاتُها. والله أعْلَمُ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَىَ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. (4) موعظة رُوِيَ عَنْ عَلَيَّ بن أبي طَالب أنّه قَالَ: لا تَكُنْ مِمَّنْ يَرْجُو الآخرةَ بَغْيرِ عَمَلٍ ويَؤخرُّ التَّوْبةَ لِطُولِ الأَملِ وَيقَولُ في الدُّنيَا بِقوْلِ الزَّاهدِينَ، ويعَملُ فيها عَمَلَ الرَّاغِبينَ، إِنْ أُعْطِيَ مِنَ الدُّنيا لَمْ يَشْبَعْ، وإن مُنْعَ منهَا لَمْ يَقْنَعْ، وَيَأْمُرُ النَّاسَ بِمَا لا يَأْتِيهِ، يُحِبُّ الصَّالِحينَ وَلا يَعْملُ أَعمَالَهم، وَيَبْغَضُ الْمُسيئينَ وَهُوَ مِنْهُمْ، يَكرهُ الْموْتَ لِكَثرةِ ذُنوبه، ويُقيمُ على ما يَكَرهُ لَهُ الْمَوْتَ،

إنْ سَقِمُ ظَلَّ نَادمًا، وإنَ صَحّ أمِنَ لاهِيًا، يَعجبُ مِن نفسِه إذَا عُوفيَ، ويَقنَطُ إذَا تَغلِبهُ نفْسُهُ على ما يَظُنُّ ولا يَغلِبُهَا على ما يَسْتِقينُ، ولا يَثقُ منِ الرَّزقِ بما ضُمِنَ لهُ، ولا يَعْملُ مِن العَمَلِ بمَا فُرِضَ عَلَيْهِ إِنْ اسْتغَنى بَطِرَوان افتقرِ قَنِطَ وحَزنَ فهو منَ الذّنبِ في حَال النَّعمة والمِحْنة مُوقرٌ، يَطلبُ الزيادة ولا يشكرُ، ويتكلّفُ مِن الناس مالاً يُؤمرُ، ويضيّعُ الموتَ ولا يُبادرُ الفَوْتَ، يَستكبرُ مِن مَعصيةِ غيرِهِ ما يَسهُلُ أكثرُه مِن نفْسه. مَزاهرُ اللهّوِ مع الأغْنياءِ أحبُّ إليهِ مِن الذِّكرِ مع الفُقراءِ، يَحكمُ على غيرِهِ لِنفسِهِ ولا يَحكمُ عليها لِغَيرِهِ. اللَّهُمَّ يا حَيُّ يَا قَيُّومُ يا ذَا الجلال والإكرام أَسْأَلُكَ بأَسْمَائِكَ الحُسْنَى وصِفَاتِكَ العلْيَاءِ أَنْ تُعِزَّ الإِسْلامَ وَالمُسْلِمِينَ وَأَنْ تُذِلَّ الشِّرْكَ وَالمُشْرِكِينْ وَأَنْ تُدمِّرَ أَعْدَاءَ الدِّينِ. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ. شِعْرًا: تَجَهَّزِي بِجِهَاز تَبْلِغِينَ بِهِ ... يَا نَفْسُ قَبْلَ الرَّدَى لَمْ تُخْلَقِي عَبَثَا وَسَابِقِي بَغْتَةً الآجَالِ وانْكَمِشِي ... قَبْلَ الْلِزَام فلا مَلْجَا ولا غَوثا وَلا تَكُدِّي لِمَنْ يَبْقَى وَتَفتَقِري ... إنَّ الرَّدَى وارِثُ البَاقِي وَمَا وَرَثَا وَاخْشِي حَودِثَ صَرْفِ الدَّهْر في مَهَلٍ ... وَاسْتَيْقِظِي لا تَكُونِي كالَّذِي بَحَثَا عَنْ مُدْيَةٍ كَانَ فِيهَا قَطْعُ مُدَّتِهِ ... فَوافَتْ الْحَرْثَ مَحَرُوثًا كَمَا حُرِثَا مَنْ كَانَ حِينَ تُصِيبُ الشَّمْسُ جَبْهَتَهُ ... أَوْ الغُبَارُ يَخَافُ الشَّينَ والشَّعَثا وَيَألَفُ الظِّلَّ كَيْ تَبْقَى بِشاَشَتُهُ ... فَسَوْفَ يَسْكُنُ يَوْمًا رَاغِمًا جَدَثا فِي قَعْرِِ مُوحِشَةٍ غَبْرَاءَ مُقفِِْرَةٍ ... يُطِيلُ تَحْتَ الثَّرَا فِي جَوْفِهَا اللِّبَثَا آخر: ... وَنَفْسَكَ فَازْجُرْهَا عن الْغِيَ والْخَنَا ... وَلا تَتَّبعْهَا فَهِي أُسُّ الْمَفَاسِدِ وَحَاذِرْ هَواهَا مَا اسْتَطَعْتَ فَإنَّهُ ... يَصُدُّ عَنْ الطَّاعَاتِ غَيْرَ الْمُجَاهِدِ وَإِنَّ جِهَادَ النَّفسْ حَتْمٌ عَلى الفَتَى ... وَإِنَّ التُّقى حَقًا لَخَيْرُ الْمَقَاصِدِ فَإنْ رُمْتَ أَنْ تُحْظَى بِنَيْلِ سَعَادَةٍ ... وَتُعْطَى مَقَامَ السَّالِكينَ الأَمَاجِدِ فَبَادِرْ بَتَقوى اللهِ واسْلُكْ سَبِيلَها ... ولا تَتَّبعْ غَيَّ الرَّجِيمِ الْمُعَانِدِ

وَإِيَّاكَ دُنْيَا لا يَدُومُ نَعِيمُهَا ... وَإِنَّكَ صَاحِ لَسْتَ فِيهَا بِخَالِدِ تَمَسَّكَ بِشَرْعِ اللهِ وَالْزَمَ كِتَابَهُ ... وَبِالعِلْمِ فاعْمَلْ تَحْوِ كُلَّ الْمَحَامِدِ اللَّهُمَّ امنُنْ علينَا بإصْلاحِ عُيوبِِنَا واجعلْ التقّوى زادَنا وفي دِينِكَ اجتهادَنا وعليك توكّلنا واعتَمادُنَا، واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَارُزْقْنَا حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يَنْفَعُنَا حُبُّهُ عِنْدَكَ، اللَّهُمَّ وَمَا رَزَقْتَنَا مِنْ مَا نُحِّبُ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لَنَا فِيمَا تُحِبُّ، اللَّهُمَّ وَمَا زَوَيْتَ عَنَّا مِمَّا نُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لَنَا فَيمِا تُحِبُّ، واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ منهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. الفصل الثالث عشر (5) في مَوْعِظَةٍ جَلِيلْةٍ قال بعضُ العلماءِ على قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . كَشفتْ لَنَا هَذِهِ الآيةُ الشريفةُ عن سُنةٍ من سُنن اللهِ تعالى وهي: أنَّ مَن غَفلَ عن تَذكُّرُّ الله فَنَسِيَهُ وأَلْهتهُ دُنياهُ عن العملِ للدّارِ الآخرةِ أنساهُ الله نفَسَه التي بينَ جنبيهِ فلا يَسعىَ لما فيه نَفُعها ولا يأخُذُ في أسْبابِ سَعَادِتِهَا وإصْلاحِهَا وما يكمّلُها ولا السّعيُ في إزالةِ عِللها وأمراضِها التي تَؤولُ بها إلى الفساد والدّمارِ والهلاكِ وهذا مِنْ أعظمِ العُقوبةِ لِلْعَامَةِ وَالخَاصَّةِ، فَأَيُّ عُقُوبةٍ أَعْظَمُ مِنْ عُقُوبَةِ مَنْ أَهْمَلَ نَفْسَُهُ وَضَيَّعَهَا ونَسِيَ مَصَالِحَها ودَاءَها ودَوَاءَها وأسبابَ سَعادتِها وصَلاحِها وحَياتِها الأَبَدِيَّة في النَّعِيمِ المقيم. ومَن تأملَ هذا المَوضِعَ تَبيَّنَ لَهُ أنَّ أَكْثَرَ هَذَا الخَلْقَ قَدْ نَسُوا أنْفُسَهُمْ وضَيَّعُوهَا وأَضَاعُوا حَظَّهَا مِن اللهِ وباعُوها رَخيصَةً بثَمَن بَخْس بَيعَ المغْبُونِ

ويَظْهَرُ ذلكَ عندَ الموتِ ويَتَجَلَّى ذلكَ يَومَ التغابُن يَومَ لا يَنْفَعُ نفسًا إيمَانُها لمَ تَكُنْ آمنَتْ مِن قبلُ أو كَسَبَتْ في إيمَانهِا خَيْرًا، إِنهَا لحَسْرةٌ على كلّ ذي غَفلةٍ دُونَها كلّ حَسْرَةٍ، هؤلاء هُمُ الذينَ اشتروا الضلالةَ بالهدى فما رَبِحتْ تجارتُهم وما كانوا مُهتدين. وأما الرَّابحُون فهمُ الذينَ أنارَ اللهُ قُلُوبَهُم للْحَقِّ فَعَرَفُوا الدُّنيَا وقِيْمتها وقالْوا: مَا مِقْدَارُ هَذِهِ الدُّنْيَا من أوَّلِهَا إلى آخِرِها حَتَّى نَبْيعَ حَظّنا مِن الله تَعالى والدّارِ الآخرة بها فكيفَ بِمَا يَنال العَبْدَ منها في هذا الزّمن القصير الذَي هُوَ في الحَقِيْقَةِ كَغَفْوَةِ حُلْمٍ لا نِسْبة له إلى دَارِ القَرارِ البتّةَ. قال الله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} ، وقال: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} هَؤُلاءِ هُمُ الكَيِّسونَ الذين عَلموا حقيقَةَ الدُّنْيَا كَمَا عَلِمُوا قِلّةَ لُبثِهم فيها وأنّ لهم دارًا غيرَ هذه الدارِ دَار الحَيوان وَدَار البقاءِ اتّجَرُوا تِجَارَة الأكْياسِ ولم يَغْتَرّوا بتجارة السُّفهاءِ مِن الناس فَظَهَر لهم يومَ التّغابنِ رَبْح تِجَارَتِهم وَمِقْدَار ما اشْتَرُوا، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} . وفي هذا المَعْنَى يَقُول عُمرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إنمَا الدُّنْيَا أَملٌ مُخْتَرمٌ. أي: مُنْتَقَض وبَلاغٌ إلى دارٍ غيرها وسَيرٌ إلى المَوْتِ لَيْسَ فيه تَعْرِيْجٌ، فَرحِمَ اللهُ امْرءًا أفكَرَ في أَمرِهِ ونَصَحَ لِنَفْسِهِ ورَاقبَ رَبّه واستقالَ ذَنْبَه وتابَ إلى رَبِّهِ. إلى أن قال: إيّاكم والبطْنَةَ فإنها مَكْسَلةٌ عن الصَّلاة، ومَفْسَدَةٌ لِلْجِسْمِ ومُؤَدّيَةٌ لِلسُّقمِ، وعَلِيكمُ بالقَصْدِ في قُوتِكمْ فهو أبعدُ عن السَّرفِ وأصَحُّ لِلْبَدَنَ وأقْوى على العِبَادَةِ إنَّ العَبْدَ لَنْ يَهْلَكَ حَتَّى يُؤْثرَ شَهْوَتَهُ على دِينِهِ.

ومِنَ العَجَبِ العُجَاب أنَّ العَبْدَ يَسْعَى بِنفسِهِ في هَوَانِ نَفْسِهِ وَهُوَ يَزعُمُ أَنَّهَا لَهَا مُكْرمٌ ويَجْتَهِدُ في حِرْمَانِهَا مِن حُظوظِها وشرفِها وهو يَزعمُ أنّه يَسْعَى في حِفظِهَا ويَبْذِلُ جُهدَهُ في تَحقِيرهَا وتَصْغِيرهَا وتَدْنِيسِهَا وهو يَزعِمُ أنّه يَسْعَى في صَلاحِها، وكََان بَعْضُ السَّلفِ يَقول في خُطبَتِهِ: ألا رُبَّ مُهِينٌ لِنَفْسِهِ وهو يَزْعمُ أنَّهُ مُكْرِمٌ لَهَا ومُذلٌ لِنَفْسِهِ وهو يَزْعُمُ أنه مُراعٍ لحقِّها وكفَى بالمرءِ جَهْلاً أن يَكُونَ مَعَ عَدوهِ لِنَفْسِِهِ يَبلغُ منها بفِعلِهِ ما لا يَبْلغُهُ مِنها عَدوُّه. شِعْرًا: لَعَمْرُكَ مَا الرَّزِيَّةُ فَقْدُ مَالٍ ... يَكُونُ بِفَقْدِهِ مَنْ مُعْدِمِينَا وَلَكِنَّ الرَّزِيَّةَ فَقْدُ دِينٍ ... يَكُونُ بِفَقْدِهِ مِنْ كَافِرِينَا آخر: مَا يَبْلُغُ الأَعْدَاءُ مِنْ جَاهِلٍ ... مَا يَبْلُغُ الجَاهِلُ مِنْ نَفْسِهِ فالعاقلُ هو الذي يعملُ مُجِدًا لآخِرَتِهِ ولا يُنسِيهُ نَصيبهُ مِن الدنيا حَظّه مِنَ الآخِرة عَاملاً بقوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ولَو أنّه تَأَمَّلَ قَلِيلاً لَوجدَ أنّ لَذائِذَ الدُّنيا مُتولّدةٌ مِنْ آلامِهَا فَمثلاً لَذَّةُ الطّعامِ لا تَتحَقَّقُ إلا بِأَلمِ الجوَع ولذةُ الشّرابِ لا بدَّ أنْ يَسبِقَها حُرقَةُ العَطش ولذّةِ النَوّم لا يَجَدُ الإنْسانُ لها شَوقًا إِلا بَعْدَ أنَ يُضنِيهِ التَّعبُ الشَّديدُ وَهُنَاكَ نَوعٌ آخرُ مِنْ الحِكمةِ غَفلَ عنْهُ الكَثيرونَ مِنَ النّاسِ وهوَ أنّها بمثابةِ بَرَاطِيلَ تَحمْلُ الإِنْسانَ على قَوامِه وبَقاءِ حَيَاتهِ فَلذّةُ الطّعامِ تَدفعُه إلا ألا يَهمِلَ جسْمهُ من الغِذَاء ولوَلا ما جَعلَ اللهِ مِن لَذّةِ النّكاح لانقرضَ النّوع الإِنْسانيُّ مِنَ الوُجُودِ ولما وَجدنَا دَابةً تَدُبُّ علَى وَجْه الأَرْضِ ولا طَائِرًا يَطيرُ في السّماءِ وكذلكَ فَرْحَةُ الأُمِ بطِفْلِهَا تُنْسِيهَا آلامَ الحَمْلِ والوَحْمِ والوِلادةِ والتّعبِ والنَصَب والرَّضَاع والسّهرِ الطَويل في التّمريضَ ممَا يَقُضّ مَضْجعهَا ويُنسيَها نَفسَها فَسُبحانَ الحكيمِ العلَيمِ الذّي خَلَق كلَّ شَيءٍ فقدّرهُ تقْديرًا. انتهى

كتاب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز في ذم الدنيا

بتصرف يسير. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (6) مَوْعِظة كَتَبَ الحَسَنُ إلى عُمَر بنِ عبدِ العزيز في ذَمِّ الدُّنْيَا كِتابًا طَويلاً قال فيه: أمَّا بعدُ فَإنّ الدُّنيا دَارُ ظَعَنٍ ليْسَتْ بدارِ مُقَامِ وإنّما أُنزلَ إليهَا آدمُ عُقوبةً فاحْذرْهَا يا أَميرَ المؤمنين فإنَّ الزّادَ منهَا تَركُها والغِنَى فيها فَقرُهَا تُذلّ من أَعزّها وَتُفقرُ منْ جمعها كالسُّمِ يأَكلهُ مَن لا يَعْرفُهُ وَهُوَ حَتْفُه فاحْذرْ هَذِهِ الدّارَ الغرّارةَ الخَتّالةَ الخدّاعةَ وكُن أَسَرَّ ما تَكونُ فِيهَا أحذَرْ ما تكونُ لهَا، سُرورُهَا مشُوبٌ بالحُزنِ وَصفوها مشُوبٌ بالكَدِر فلوْ كان الخَالقُ لم يُخْبره عنْها خبرًا وَلم يَضْرِبْ لَهَا مَثَلاً لَكُنْتُ قَدْ أَيقظْتُ النَّائِمَ ونبَّهتُ الغَافلَ فَكيفَ وَقدْ جَاء مِن اللهِ عزّ وجلّ عنها زَاجِرٌ وَفِيهَا واعِظٌ فما لَهَا عِنْدَ الله سبحانه قَدْرٌ ولا وَزْنٌ، ما نَظَرَ إليها مُنذُ خَلقَها وَلَقَدْ عُرِضَتْ على نبيّنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَفاتِيحُهَا وَخَزَائنُهَا لا يَنقصُ عند الله جَناحَ بَعوضةٍ فأَبى أنْ يَقبَلَهَا وَكَرِهَ أن يُحبَّ ما أبغَضَهُ خَالقهُ أو يَرفَعَ ما وَضَعه مليكُه، زَواها اللهُ عن الصّالحين اختيارًا، وَبَسَطَهَا لأعْدَائِه اغْتِرَارًا أَفَيَظُنُّ المغْرورُ بها أنّه أُكْرِمَ بِهَا وَنَسِيَ ما صَنَعَ اللهُ بمحمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينَ شدَّ على بَطْنِهِ الحَجَرَ، واللهِ ما أحدٌ مِنَ النَّاسِ بُسِطَ لَهُ في الدُّنيا فَلمْ يَخَفْ أَنْ يَكُونَ مَكْرًا إلا كان قَدْ نقَص عقْلُه وَعَجَزَ رَأيهُُ وما أَمْسَكَ عن عَبدٍ فلم يَظُنّهُ خيرًا لهُ فيهَا إلا نَقَصَ عقْلُهُ وَعَجَزَ رأيهُ. شِعْرًا: إِلَى دُنْيَاكَ انْظُرْ بِاعْتِبَارٍ ... تَجِدْهَا دَارَ ذُلٍّ مَعَ فَنَاءِ إلَى كَمْ تَحْمِلُ الأوْزَارَ فِيهَا ... مَعَ الشَّهَواتِ تَسْرِي يا مُرَائِي أَمَا آنَ انْتِبَاهَكَ مِنْ غُرُورٍ ... بِهِ أَصْبَحْتَ بَيْنَ الأَغْبِيَاءِ تَيِقَّظْ وانْتَبِهْ واقْبِلْ بِقَلْبٍ ... عَلَى مَوْلاكَ تَظْفَرْ بِاهْتِدَاءِ

نصيحة للشيخ الواسطي

وَقِفْ بِالبابِ وَاطْلُبْ مِنْهُ عَفْوًا ... عَسَى تَحْظَى بِصُبِْحٍ أَوْ مَسَاءِ اللَّهُمَّ يَا حيُّ ويا قيُّوم فَرِّغْنَا لما خَلَقْتَنَا له، ولا تُشْغِلْنَا بما تَكَفَّلْتَ لنا بهِ واجعلنا مِمَّن يُؤمِنُ بلقَائِك ويَرْضَى بقَضَائِك، ويقنعُ بعطائِكُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ) : وقال الشّيخُ الواسِطيُّ في بعض رَسائِلهِ: إذا أرادَ الله بعبدٍ خيرًا أقامَ في قلبِهِ شَاهِدًا منْ ذكر الآخرة يُريدُ فَناءَ الدُّنيا وَزَوَالَها وبقاءَ الآخرةِ ودوامها فَيُزهّدهُ في الفَانِي وَيُرَغّبُهُ في الباقي، فَيبدأُ في السّير والسُلوكِ في طريقِ الآخرة وأوّلُ السيرِ فيهَا تَصحيحُ التَّوبةِ، والتّوبةُ لا تتمُّ إلا بالمُحاسبةِ ورعَايةِ الجَوارح السّبعةِ، العينُ والأُذنُ واللّسانُ والبَطْنُ والفَرْجُ واليَدُ والرِّجلُ وكفِّها عن جميع المحَارم والمكَارِهِ والفضُول هذا أحدُ شَطْرَي الدّين وَيَبْقَى الشّطرُ الآخرُ وهو القيامُ بالأوامِرِ فَتَحْقِيقُ الشّطرِ الأوّلِ وهو تَركُ المناهِي مِنْ قلبهِ وَقالبهِ. أَما القَالَب فلا يَعصِي اللهَ بجَارحةٍ مِن جَوارحِهِ ومتَى زلَّ أو أخْطأَ تابَ، وأما القلبُ فَتُنَقّي منه المُوبقاتُ المُهلِكاتُ مثلُ: الرّياءِ، والعجْب، والكِبْر، والحَسَد، والبُغْضِ لِغَيرِ اللهِ، وَحُبِّ الدّنيا، وردِّ الحقّ واستثقالِهِ، والازْدِرَاءِ بالخَلْقِ وَمَقْتُهم وَغَيرُ ذلك مِن الكَبائِر القَلبيّةِ التي هِي في مُقَابَلَةِ الكَبائرِ القَالَبيةِ مِن شُرْبِ الخَمْرِ، والزّنَا، والقَذْفِ وغيرِ ذلك فهذِِهِ كَبَائِرٌ ظاهِرَةُ وَتِلْكَ كَبَائرٌ بَاطِنةٌ. وكلاهما ضرر. قال: فَمَنْ انْطَوى على شَيءٍ مِن الكبائرِ البَاطنيّة ولم يَتُبْ حَبِطَ عَمَلُه بدليل لا يدخل الجَنّةَ مَن كان في قلبهِ مثقالُ ذرةٍ مِن كِبَر وجاء: إنّ الحسدَ يأكلُ الحسناتِ كما تأكلُ النارُ الحطبَ، وجاء بقول الله تعالى: " أنا أغْنى الشُّرَكاءِ عن الشركِ مَنْ عمِلَ عملاً فأشركَ مَعِيَ فيه غَيري تَركْتُه وشركه ". وقال تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} .

شِعْرًا: وَإِنَّ أَحْسَن قَوْلٍ أَنْتَ قَائِلُهُ ... قَوْلٌ تَضَمَّنَ تَوْحِيدَ الذِّي خَلَقَا فمتَى تَنقَّى القلبُ مِن مثْلِ هذهِ الخَبائِثَ والرَّذَائِل طَهُرَ وَسَكَنتْ فيه الرّحمةُ في مكان البُغضِ، والتواضُع في مَقَابلةِ الكِبْر، والنّصيحةُ في مُقابلَةِ الغِشِّ، والإخلاصُ في مقابلةِ الرَّياءِ، ورؤية المنّةِ في مُقابَلةِ العُجْب، ورؤيةُ النفس فعند ذلكَ تَزْكوا الأَعمالُ وَتَصْعَدُ إلى اللهِ تعالى وَيَطْهُرُ القلبُ وَيَبْقَى مَحَلاً لِنَظَر الحَقِّ بِمَشيئَةِ اللهِ وَمَعُونَتِهِ فَهَذَا أحَدُ شَطْريْ الدِّين وهو رِعايَةُ الجَوارحِ السّبعةِ على المآثم والمحَارم وإنما تَصْلُح وَتَطْهُرُ بِرِعَايَةِ القلب وَطَهارَتِهِ مِن المُوبِقَاتِ والجَرائِمِ. وَمَعْنى المُوبقاتِ: المهلكات. أ. هـ. آخر: خِصَالٌ إِذَا لَم يَحْوِهَا المَرْءُ لم يَنَلْ ... منالاً مِنَ الدَّارِينَ يَكْسُبُ بِهِ حَمْدَا يَكُونُ تَقِيًا مُخْلِصًا وَمُتَابِعًا ... لِصَفْوَةِ خَلِقِ اللهِ أَعْنِي مُحَمَّدَا وقال ابنُ القيم رحمه اللهُ: والقلوبُ ثلاثةٌ: قَلبٌ خالٍ مِن الإِيمانِ وجَمِيعِ الخَيرِ، فذلِكَ قَلبٌ مُظلمٌ قد اسْتَرَاحَ الشَّيطانُ مِن إلقاءِ الوَسَاوِسَ إِليه لأنه قد اتَّخذهُ بَيْتًا وَوَطَنًا، وَتَحَكَّمَ فِيهِ بِمَا يُرِيدُ وَتَمَكَّنَ مِنْهُ غَايَةَ التَّمَكُّنِ، القَلْبُ الثَّانِي: قَلبٌ قد استَنَارَ بِنُورِ الإيمان وأُوقَد فيه مِصبَاحُه لكن عليه ظُلْمَةُ الشَّهَوَاتِ وَعَوَاصِفُ الأَهْوِيةِ فلِلشَّيْطَانِ هُنَاكَ إقْبَالٌ وإِدْبارُ ومَجَالاتٌ وَمَطَالِعُ فالحَرْبُ دُوَلٌ وَسِجَال، وَتَخْتَلِفُ أَحْوالُ هذا الصّنفِ بالْقِلَّةِ والكَثْرَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أوقاتُ غَلَبَتِهِ لِعَدُوّهِ أَكْثَرُ، وَمِنْهُم مَنْ أوقاتُ غَلَبَةِ عَدوّهِ أكْثرُ، ومِنهم مَنْ هو تَارةً وتَارة. القلبُ الثّالثُ: قَلبٌ مَحْشوٌ بالإِيمانِ قَد اسْتَنَارَ بِنُورِ الإِيمانِ وانْقَشَعَتْ عَنه حُجُبُ الشّهواتِ وأقْلَعَتْ عنه الظُّلُمَاتُ فَلِنُوِرِه في صَدْرِهِ إِشْرَاقٌ ولِذَلِكَ الإِشْراقُ إيقَادٌ لَوْ دَنَا منه الوسْوَاسُ احْترقَ بِهِ فَهُوَ كالسّماءِ

الّتي حُرسَتْ بالنّجوم فَلوْ دَنَا مِنْهَا الشّيطانُ يَتخطّاها رُجِمَ فَاحْترق. وَلَيْستِ السّماءُ بأَعظَمَ حُرْمةٍ من المؤْمن وحِراسَةُ الله تعالى لَهُ أَتمُّ منْ حراسَةِ السّماء، والسّماءُ مُتَعبّدُ الملائكةِ وَمُسْتَقَرُّ الوحي، وفيها أَنْوارُ الطَّاعاتِ وَقَلْبُ المؤْمنِ مُسْتَقر التّوحِيدِ والمحبّةِ والمعْرِفةِ والإِيمانِ، وفَيهِ أنْوارُهَا فهوَ حَقيقٌ أَنْ يُحرَسَ وَيُحفَظَ مِن كَيْدِ العدوِّ فَلا يَنَالُ مِنْهُ إِلا خَطْفةً تَحْصلُ له على غِرّةٍ وَغَفْلةٍ مِنْ العَبْدِ إذْ هُو بَشَرٌ وَأَحْكَامُ الْبَشَرِيّةِ جَارِيَةٌ عَلَيْهِ مِن الغَفلةِ والسّهو والذّهُول وَغَلبةِ الطَبع. انتهى. هذه قصيدة لِبَعْضِهم فيها غُلُوٌ صَلّحْنَا مَا فِيهَا مِن الغَلَطِ الاعْتِقَادِيْ وَجَعَلْنَا على ما فيه تَصْلِيح أَقْوَاسًا: تَيَقَّضْ لِنَفْسٍ عَنْ هُدَاهَا تَوَّلْتِ ... وَبَادِرْ فَفِي التَّأْخِيرِ أَعْظَمُ خَشْيَةِ فَحَتَّامَ لا تَلْوى لِرُشْدٍ عِنَائَها ... وَقَدْ بَلَغَتْ مِنْ غَيِّهَا كُلَّ بُغَيَةِ وَأَمَّارَةٌ بالسُّوءِ لَوَّامَةُ لِمَنْ ... نَهَاهَا فَلَيْسَتْ لِلْهُدَى مُطْمَئِنَّةِ إِذَا أَزْمَعَتْ أَمْرًا فَلَيْسَ يَرُدُّهَا ... عَنِ الفِعْلِ إِخَوَانُ التُّقَى وَالْمَبَّرةِ وَإِنْ مَرَّ فَعْلَ الخَيْرِ في بَالِهَا أَنْثَنَى ... أَبُو مُرَّةٍ يَثْنِيهِ في كُلِّ مَرَّةِ وَلِي قَدَمٌ لَوْ قُدِّمَتْ لِظُلامَةٍ ... لَطَارَتْ وَلَوْ أَنِّي دُعِيتُ لِقُرْبَةِ لَكُنْتُ كِذِي رِجْلَيْنِ رِجْلٌ صَحِيحَةُ ... وَرِجْلٌ رَمََى فِيهَا الزَّمَانُ فَشُلَّتِ وَقَائِلَةً لَمَّا رَأَتْ مَا أَصَابَنِي ... وَمَا أَنَا فِيهِ مِنْ لَهِيبٍ وَزَفْرَتِي رُوَيْدَكَ لا تَقْنَطْ وَإِنْ كَثُرَ الخَطَا ... وَلا تَيْأَسَنْ مِنْ نَيْلِ رَوْحٍ وَرَحْمَةِ مَعَ العُسْرِ يُسْرٌ وَالتَّصَبُّرُ نُصْرَةٌ ... ولا فَرَجٌ إلا بِشِدَّةِ أَزْمَةِ (وَكَمْ عَامِلِ أَعْمَالَ أَهْلَ جَهَنَّمٍ ... فَلَمَّا دَعَى المَوْلَى أُعِيدَ لِجَنَّةِ) فَقُلْتُ لَهَا جُوزِيتِ خَيْرًا عَلَى الذِّي ... مَنَحْتِ مِنَ البُشْرَى وَحُسْنِ النَّصِيحَةِ فَهَلْ مِنْ سَبِيلٍ لِلنَّجَاةِ مِنَ الرَّدَى ... وَمَا حِيلَتِي في أَنْ تُفَرَّجَ كُرْبَتِي (فَقَالَتْ فَطِبْ نَفْسًا وَقُمْ مُتَوَجِّهًا ... لِرَبَّكَ تَسْلَمْ مِنْ بَوَارٍ وخَيْبَةِ)

كتاب الصلاة وتعريفها

(فَكَمْ آيِسٍ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ فَالْتَجَا ... إِليْهِ فَحُطَّتْ عَنْهُ كُلُّ خَطِيئَةِ) (فَدَيْتُكَ فَاَقْصِدْهُ بِذُلٍّ فَإِنَّهُ ... يُقِيلَ بَنِي الزَّلاتِ مِنْ كُلِّ عَثْرِةِ) (إِذَا مَا أَتَوهُ تَائِبِينَ مِن الذِّي ... جَنَوْهُ مِنَ الآثامِ تَوْبَةَ مُخْبِتِ) وَصِلِّ إِلهِي كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ... عَلَى أَحْمَدِ المُخْتَارِ أَزْكَى البَرِيَّةِ اللَّهُمَّ اجْعَلنَا مِنْ حِزْبِكَ المفْلِحِينَ وَعِبادِكَ الصَّالِحينَ الذين أهّلتهم لِخِدْمَتِكَ. اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ في قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا، وارْزُقْنَا مَحَبَّةُ أَوْلِيائِكَ وَأَصْفِيائِكَ واجْمَعَنَا وَإِيَّاهُمْ في دَارِ كَرَامَتِكَ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ، وَأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى محمدٍ وعَلى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. كتاب الصلاة: الصّلاةُ لغةً: الدّعاءُ قَال اللهُ تَعَالَى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} ، والصّلاةُ في الشّرع: أَقْوالٌ وَأَعْمَالٌ مَخْصُوصَةٌ مُفْتَتَحةٌ بالتَّكْبِير مُخْتتمة بالتَّسْلِيم وَسُمّيتْ صَلاةٌ لاشْتِمالِها على الدُّعاءِ، وقِيلَ: لأنها ثانيةُ الشّهادتين، وقيل: لأنها صِلةٌ بَيْنَ العَبْدِ وبَيْنَ رَبِهِ. وقيل: لما تَتَضَمّنُ من الدّعاءِ والخُشُوع والخَشْيَةِ، وقيل: لأَنَّ المُصَلِّي يَتْبعُ مَن تَقَدَّمَهُ، والصّلاة عِمَادُ الدّين، قال في مَراصِد الصّلاة للقَسطلاني: الحِكْمةُ في فَرْض الصَّلاة وَتَخْصِيصِهَا بالخَمْس، أحَدُهَا: أنّ الأنْفُسَ البَشَريّةَ الْمُقْتَضِيةَ للشَّهْوةِ والغفلةِ والسَّهوِ والنسّيانِ والشّره في العَمَلِ والفْتَرةِ عَنْهُ فاقْتضتْ الحِكْمةُ أن تذكر نِسيَانَها وَتُوقظَ غَفَلَتَهَا وَتُقْمَعَ شَهْوتَهَا بقَطعِهَا عن عاداتِها ومَنُاجَاتِها الذي كَفَلها بنعَمِهِ وغَذّاها بجُوده وَكَرمِهِ ولعلْمِهِ بِضَعفِ قُواها لم يَجْعل هَذِهِ العِبَادَةَ إلا في أَوْقَاتٍ يَكْثُرُ الْفَرَاغُ فِيهَا مِن إشْغَالِ العَادَاتِ وهذا هُوَ الحكمةُ في تَنْقِيصِهَا مِن الخَمْسِين إلى الخمس. والوجه الثاني: أن العبدَ في هذِه الدارِ يَعْمَلُ لِنَجَاتِهِ في الدارِ

الأَخْرَى وهِيَ مُشْتَمِلةٌ على أَهْوَالٍ وَمَشَاقٍ وَمَتَاعِبَ وأَمَامَ العبدِ دُونَهَا خَمْسُ عَقَبَاتٍ: الأولَى: الدُّنيا وشرُورُهَا وآفَاتُهَا ومَحْذُورَاتُها وَشَوَاغلُها وَعَلائِقُهَا القاطِعَةُ عن مَزيدِ السَّعَادَةِ. الثانيةُ: الموتُ وما يُخْشَى مِن فِتْنَتِهِ وشِدَّةِ سَكَرَاتِهِ وما يُشَاهَدُ عندَهُ مِن الأُموِر العِظَامِ والآلامِ الجسَامِ. الثالثة: الْقَبْرُ وضَيْقَتُهُ وَوَحْشَتُهُ وَسُؤَالُ مُنْكَرٍ وَنَكِير، وذَلك صَعْبٌ خَطِيرٌ. الرابعةُ: المَحْشِرُ: وَهو لَهُ وَما فِيهِ مِن الخَوفِ الشَّدِيدِ والْفَزَعِ الأكِيدِ. الخامسةُ: الحِسَابُ وما يُخْشَى فيه بَعْدَ العِتابِ من وُقُوعِ العِقابِ فكان فِعْلُ الصَّلوَاتِ الخَمْسِ مُسَهِّلاً لِهَذِهِ العَقباتِ مُحَّصِّلاً لِنَيلِ المَسَرَّاتِ في دَارِ الكَرَامَاتَ وَهِيَ أَجلُّ مَبَانِي الإِسْلامِ بَعْدَ الشَّهَادتَيْنِ وَمَحَلُّهَا مِن الدِين مَحَلُ الرأسِ مِن الجَسَدِ فَكَمَا أَنَّهُ لا حَيَاةَ لِمَنْ لا رَأَسَ لَهُ، فَكَذَلِكَ لا دِينَ لِمَنْ لا صَلاة لَهُ. وَهِيَ خَاتِمَةُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ آخِرِ عَهْدِهِ مِن الدُّنيا فَعَن أنسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: كانَتْ عَامَّةُ وَصِيَّةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حَضَرَتْهُ الوَفاةٌ وَهُوَ يُغَرْغِرَ بِنَفْسِهِ: «الصلاةَ وما مَلَكَتْ أَيمانُكُم» . رواه أحمد، وأبو داود. وهيَ أوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ كَمَا وَرَدَ بِذَلِكَ الحديثُ عن أبي هريرةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: سَمعتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقولُ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلاتُهُ فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ» . الحديث أخرجه الترمذي. وهِيَ أَكْبَرُ عَوْنٍ لِلْعَبْدِ على مَصَالِحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ قال تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} ، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}

فَبِمُدَاوَمَةِ العَبْدِ عَلى الصَّلاةِ تَقْوَى رَغْبَتُهُ في الخَيْرِ وَتَسهُلُ عليهِ الطاعاتُ وَتَهُونُ عَليهِ المشَاقُ وَتَسْهُلُ عليهِ المصائِبُ وَيُيَسِّرُ اللهُ لَهُ أُمُورَهُ وَيُبَارِكُ لَهُ في مَالِهِ وأَعْمَالِهِ وَتَنْهَاهُ عن الفَحْشَاءِ والمُنْكَرِ كَمَا قال تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} الآية. وفي الصحيح المتفق عليه مِن رواية أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال سمعتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقولُ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ» ؟ قَالُوا: لا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ، قَالَ: «فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا» . وَوَرَدَ مِن حَديثِ ثوبانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قَال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَقِيمُوا ولَنْ تُحْصُوا واعْلَمُوا أنَّ خَيْرَ أعْمَالِكُم الصَّلاةُ ولا يُحافِظُ على الوضوءِ إلا مُؤمِنُ» ، وعن عثمانَ بن عَفَّان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا من امْرئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلاةَ مَكْتُوبَةٌ فيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وخُشُوعَهَا ورُكُوعَهَا إلا كانَتْ كَفَارَةً لِما قَبْلَهَا مِنَ الذُنُوبِ مَا لَم تَؤْتَ كَبِيرَةٌ وذلكَ الدّهْرَ كُلَّهُ» . وفي البخاري، ومسلم عن ابن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تعالى؟ فَقَالَ: «الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا» . قَلَتُ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» . قَلَتُ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . قَالَ حَدَّثَنِي بِهِنَّ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي. وأَخْرَجَ الإمامُ أحمدُ عن رجلٍ من أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيُّ العَمَل أفْضَلُ؟ قال: سَمِعْتُهُ قال: «أَفْضَلَ العَمَلِ الصلاةُ لِوَقْتِهَا وبِرُّ الوالِدَين والجهَاد» . ورواته محتج بهم في الصحيح.

تقسيم القلوب إلى ثلاثة لابن القيم ويليها كتاب الصلاة

اللَّهُمَّ ثبّتْ مَحَبَّتِكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَارْزُقْنَا الْقِيامَ بِطَاعَتِكَ وَجَنِّبْنَا مَا يُسْخِطُكَ وَأَصْلِحْ نِيَّاتِنَا وَذُرِّيَاتِنَا وَأَعِذْنَا مِنْ شَرِّ نُفُوسَنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا وَأعِذْنَا مِنْ عَدُوِّك وَاجْعَلْ هَوَانَا تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. (فصل) قال ابنُ القَيمِ رَحِمَهُ اللهُ: إذَا وَقَفَ في الصَّلاةِ صَاحِبُ القَلْبِ العَامِرِ بِمَحَبَّةِ اللهِ وَخَشْيَتِهِ والرَّغْبةِ فِيه وإجْلالِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَقَفَ بِقَلْبٍ مُخْبِتٍ خَاشِعٍ لَه قَرِيب مِنْهُ سَلِيمٍ مِن مُعَارَضَاتِ السُوءِ قَدْ امْتَلأتْ أرْجَاؤه بالهَيْبَةِ وَسَطَعَ فَيهِ نُورُ الإِيمانِ وَكُشِفَ عَنْهُ حِجَابُ النَّفْسِ وَدُخَانُ الشَّهواتِ فَيَرْتَعُ في رِياضِ مَعَانِي القُرْآنِ وخَالَطَ قَلْبَهُ بَشَاشَةُ الإِيمانِ بِحَقَائِقِ الأسْمَاءِ والصِّفَاتِ وَعُلُّوِهَا وَجَلالِهَا الأَعْظَمِ وَتَفَرُّدِ الربِ سُبحَانه بِنُعُوتِ جَلالِهِ وصفاتِ كَمَالِهِ. فاجْتَمَعَ هَمُّهُ على اللهِ وَقرَّتْ عَيْنُهُ بِهِ وأَحَسَّ بقُرْبِهِ مِن اللهِ قُرْبًا لا نَظِيرَ لَهُ فَفَرَّغَ قَلْبَهُ لَهُ وأَقْبَلَ عَليهِ بِكُلِّيتِهِ وَهَذَا الإِقْبَالُ مِنهُ بَيْنَ إقْبَالَينِ مِن رَبّهِ فإنه سبحانَهُ أَقْبَلَ عليهِ أَوَّلا فانْجَذَبَ قَلْبُهُ بإقْبَالِهِ فلمّا أَقْبَلَ على رَبِّهِ حُظِيَ مِنْهُ إِقْبَالاً آخَرَ أَتَمَّ مِن الأَوَّلِ. وهَا هُنَا عَجِيبَةٌ مِن عَجَائِبِ الأسْمَاءِ والصفاتِ تَحْصُلُ لِمَنْ تَفَقَّهَ قَلْبُه في مَعَانِي القُرآنِ وَخَالَطَ بَشَاشَةَ الإِيمانِ بها قَلْبُهُ بحَيْثُ يَرَ لكمْ اسْمٍ وصفةٍ مَوْضِعًا مِن صَلاتِهِ وَمَحَلاً مِنها فإذَا انْتَصَبَ قائمًا بَيْنَ يَدَيْ الربِ تبَاركَ وتعالَى شاهَدَ بِقَلْبِهِ قَيومِيَّتَهُ وإذا قال: الله أكْبَرُ شاهَدَ كِبْرِياءَهُ. وإذا قال: سبحانَكَ اللَّهُمَّ وبِحَمْدِكَ وَتَبَاركَ اسْمُكَ وتَعَالَى جَدُّكَ

ولا إلهَ غَيْرَكَ شاَهد بِقَلْبِهِ رَبًا مُنَزَّهًا عَن كُلِّ عَيْبِ سَالِمًا مِن كُلِّ نَقْصٍ مَحْمًودًا بِكُلِ حَمْدٍ فَحَمْدُهُ يَتَضَمَّنُ وَصْفَهُ بِكلِ كَمَالٍ وَذلك يَسْتَلزِمُ بَرَاءَتَهُ مِن كُلِّ نَقْصٍ تَبَارَكَ اسْمُهُ فَلا يُذْكْرُ على قَلِيلِ إِلا كَثَّرَهُ ولا عَلى خَيْرٍ إِلا أَنْمَاه وَبارَكَ فيهِ ولا على آفةٍ إِلا أذْهَبَهَا ولا على الشيطانِ إِلا طَرَدَهُ خَاسِئًا دَاحِرًا وكمالُ الاسْمِ مِن كَمَال مُسَمَّاهُ فإذا كانَ هذا شأنُ اسْمِهِ الذي لا يَضُرُّ مَعَهُ شيءٌ في الأَرضِ ولا في السماءِ فَشَأْنُ المُسَمَّي أَعْلا وأجَلُ وتعالى جَدَّهُ أَيْ ارْتَفَعَتْ عَظَمَتُه وَجَلَّتْ فَوقَ كُلِّ عَظَمَةٍ وَعَلا شَأْنُهُ عَلى كُل شأنٍ وَقَهَرَ سُلْطَانُه على كُلِّ سُلْطَانٍ فَتَعَالَى جَدُّهُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ شَرِيكَ فِي مُلْكِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ أَوْ فِي إلهيَّتِهِ أَوْ فِي صِفَاتِهِ كَمَا قَالَ مؤمِنُوا الجِن وأَنَّهُ تعالى جد ربنا ما اتخذَ صَاحِبَةً ولا ولدًا فكَمْ في هَذِهِ الكلماتِ مِن تَجلّ لِحَقَائِقَ الأَسْمَاءِ والصِّفَاتِ على قَلْبِ العارِفِ بِها غَيْرِ المُعَطّلِ لِحَقَائِقِها وإذَا قَالَ: أعُوذُ باللهِ مِن الشيطانِ الرجيمِ فقد آوى إلى رُكْنِهِ الشَّدِيدِ واعتصَمَ بحَوْلِهِ وَقَوَّتِهِ من عَدُوّه الذي يُرِيدُ أَن يَقْطَعَهُ عن رَبِهِ وَيُبَاعِدَهُ عن قرْبِهِ لِيَكُونَ أَسْوَأَ حَالاً. فإذَا قَالَ: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَقَفَ هُنَيْهَةً يَسِيرَةً يَنْتَظِرُ جَوَابَ رَبِّهِ لَهُ بِقولِهِ: حَمِدَنِي عَبْدِي. فإذا قال: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} ، انتظرَ الجَوابَ بِقولِهِ: أثْنَى عَليَّ عَبْدِي فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، انتظرَ جَوَابَهُ بِقولِهِ مَجَّدَنِي عَبْدِي. فَيَا لَذَّةَ قَلْبِهِ وَقُرَّةَ عَيْنِهِ وَسُرُورِ نَفْسِهِ بِقَولِ رَبِّهِ: عَبْدِي ثلاَث مرَّاتٍ فَواللهِ لَولا مَا عَلَى القُلُوبِ مِنْ دُخَانِ الشَّهَواتِ وغَيْمِ النُّفُوسِ لاسْتُطِيرتَ فَرَحًا وَسُرُورًا بقولِ رَبَها وَفَاطِرِهَا وَمَعْبُودِهَا حَمِدَنِي عَبْدِي وأَثْنَى عَليَّ عَبْدِي وَمَجَّدَنِي عَبْدِي ثُمَّ يَكُونُ لِقَلْبِهِ مَجَالٌ مِن شُهُودِ هَذِهِ الأسْمَاءِ الثلاثةِ

التي هِيَ أُصُولُ الأَسْمَاءِ الحُسْنَى وَهِيَ: اللهُ، والربُّ، والرحمنُ فَشَاهَدَ قَلْبُهُ من ذِكْرِ اسْمِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلهًا مَعْبُودًا مَوْجُودًا مَخْوفًا لا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ غَيْرُهُ وَلا تَنْبَغِي إِلا لَهُ قَدْ عَنَتِ لَهُ الْوُجُوهُ وَخَضَعَتْ لَهُ المَوْجُودَاتُ وَخَشَعَتْ لَهُ الأَصْوَاتِ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِنْ مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ {وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} . وكذالكَ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا وَخَلقَ الجِنَّ والإنْسَ والطيرَ والوحشَ والجنةَ والنارَ وكذلك أرسلَ وأَنْزَلَ الكتبَ وَشَرَعَ الشرائعَ وألْزَمَ العِبَادَ الأمرَ والنَّهْيَ. وَشَاهَدَ مِن ذِكْرِ اسْمِهِ رَبَّ العالمين قَيُّومًا قَامَ بِنَفْسِهِ وقَامَ بِهِ كُلُ شَيءٍ فَهُوَ قَائِمٌ عَلى كُلِ نَفْسٍ بِخَيْرِهَا وَشَرِّهَا قَدْ اسْتَوى على عَرْشِهِ وَتَفَرَدَ بِتَدْبِيرِ مُلْكِهِ فالتَّدْبِيرُ كُلُّهُ بِيَدِهِ مَصِيرُ الأُمُورِ كُلِّهَا إِليهِ فَمَراسِيمُ التَّدْبِيرَاتِ نَازِلَةٌ مِن عِنْدِهِ عَلَى أَيْدِي مَلائِكَتِهِ بالعَطَاءِ والمَنْعِ والخَفْضِ والرَّفْعِ والإِحْياءِ والأَمَانَةِ والتَّوْبَةِ والْعَزْلِ والْقَبْضِ والْبَسْطِ وَكَشْفِ الْكُرُوبِ وإِغَاَثُةِ الْمَلْهُوفِ وإِجَابَةِ الْمُضْطَرَِينَ {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى ولا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ ولا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ولا رَادَّ لأمْرِهِ ولا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِِهِ تَعْرُجُ الملائِكةُ والرُّوحُ إِلَيْهِ وَتُعْرَضُ الأَعْمَالِ أَوَّلَ النَّهَارِ وآخِرَهُ عليهِ فَيُقَدِّرُ الْمَقَادِيرِ وَيُوَقِّتُ الْمَوَاقِيتَ ثُمَّ يَسُوقُ الْمَقَادِيرَ إِلى مَوَاقِيتِهَا قَائِمًا بِتَدْبِيرْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَحِفْظِهِ وَمَصَالِحِهِ. ثم يَشْهَدُ عندَ ذِكْرَ اسْمِهِ الرَّحْمَن جَلَّ جَلالُهُ رَبًّا مُحْسِنًا إِلى خَلْقِهِ بِأَنْوَاعِ الإِحْسَانِ مُتَحَبِبًّا إِليهم بصُنُوفِ النِّعَمِ وَسَعَ كُلَّ شَيءٍ رَحْمَةً وعِلْمًا وأَوْسَعَ كُلَّ مَخْلُوقٍ نِعْمَةً وَفَضْلاً فَوَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيءٍ وَوَسِعَتْ نِعْمَتُهُ

كُلَّ حَيٍ فَبَلَغَتْ رَحْمَتُهُ حَيْثُ بَلَغَ عِلْمُهُ فاسْتَوَى على عَرْشِهِ بِرَحْمَتِهِ وَخَلَقَ خَلْقَهُ بِرَحْمَتِهِ وأَنْزَلَ كُتُبَهُ بِرَحْمَتِهِ وأَرْسَلَ رُسُلَهُ بِرَحْمَتِهِ وَشَرَعَ شَرَائِعَهُ بِرَحْمَتِهِ وَخَلَقَ الجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ والنارَ أيضًا بِرَحْمَتِهِ فإِنها سَوْطُهُ الذي يَسُوقُ بِهِ عِبَادَهُ المؤمنينَ إلى جَنَّتِهِ وَيُطَهِّرُ بِهَا أدْرَانَ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ أَهْلِ مَعْصِيَتِهِ وَسِجْنُهُ الذي يَسْجِنُ فيهِ أَعدَاءَهُ مِنْ خَلِيقَتِهِ. فَتَأَمَّلْ مَا في أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَوَصَايَاهُ وَمَوَاعِظِهِ مِنَ الرَّحْمَةِ الْبَالِغَةِ والنِّعْمَةِ السَّابِغَةِ وَمَا فِي حَشْوِهَا مِنَ الرَّحْمَةِ والنَّعِمْةِ فَالرَّحْمَةُ هِيَ السَّبَبُ الْمُتَّصِلُ مِنْهُ بِعِبَادِهِ كَمَا أَنَّ الْعُبُودِيَّةَ هِيَ السَّبَبُ الْمُتَّصِلُ مِنْهُمْ بِهِ فَمِنْهُمْ إِليهِ الْعُبُودِيَّةُ وَمِنْهُ إِليهِم الرَّحْمَةُ. وَمِنَ أَخَصَّ مَشَاهِدِ الاسْمِ شُهُودُ الْمُصَلِّي نَصِيبُهُ مِنَ الرَّحْمَةِ الذِّي أَقَامَهُ بِهَا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ وَأَهَّلَهُ لِعُبُودِيَتِهِ وَمُنَاجَاتِهِ وَأَعْطَاهُ وَمَنَعَ غَيْرَهُ وَذَلِكَ مِنْ رَحْمَتِهِ بِهِ. فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فَهُنَا شَهِدَ الْمَجْدَ الذي لا يَلِقُ بِسَوى الْمَلكِ الحَقِ الْمُبِينَ فَشَهِدَ مَلِكًا قَاهِرًا قَدْ دَانَتْ له الْخَلِيقَةُ وَعَنَتْ لَهُ الْوُجُوهُ وَذَلَّتْ لِعَظَمَتِهِ الْجَبَابِرَةُ وَخَضَع لِعِزَّتِهِ كُلُّ عَزِيزٍ فَيَشْهَدُ بِقَلْبِهِ مَلِكًا عَلى عَرْشِ السَّمَاءِ مُهَيْمِنُا لِعِزَّتِهِ تَعْنُوا الْوُجُوهُ وَتَسْجُدُ وإِذَا لَمْ تُعَطَّلْ صِفَةٌ حَقِيقَيْةً صِفةَ الْمُلْكِ أَطْلَعَتْهُ عَلى شُهُودِ حَقَائِقِ الأَسْمَاءِ والصِّفَاتِ التي تَعْطِيلُهَا تَعْطِيلٌ لِمُلْكِهِ وَجَحْدٌ لَهُ فَإِنَّ الْمَلكَ الْحَقَّ التَّامَّ الْحَقَّ لا يَكُون إِلا حَيًّا قَيُّومًا سَمِيعًا بَصِيرًا مُدَبِّرًا قَادِرًا مُتَكَلِّمًا آمِرًا نَاهِيًا مُسْتَوِيًا عَلى سَرِيرِ مَمْلَكَتِهِ يُرْسِلُ إِلى أَقَاصِي مَمْلَكَتِهِ بأوامِرِهِ فَيَرْضَى على مَنْ يَسْتَحِقَ الرِّضَا وَيُثِيبُهُ وَيُكْرِمُهُ وَيُدْنِيهِ، وَيَغْضَبُ عَلى مَنْ يَسْتَحِقُ الْغَضَبَ وَيُعَاقِبُهُ وَيُهِينُهُ وَيُقْصِيهِ وَيَقْصِي مَن يَشَاءُ، لَهُ دَارُ عَذَابِ وَهِيَ النَّارُ وَلَهُ دَارُ سَعَادَةٍ وَهِيَ

الْجَنَّةُ. فَيُعَذِبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ وَيُعْطِي مَن يَشَاءُ وَيُقَرِّبُ مَن يَشَاء. فَمَنْ أَبْطَلَ شَيْئًا مِن ذَلكَ أَوْ جَحَدَهُ وأَنْكَرَ حَقِيقَتَهُ فَقَدْ قَدَحَ فِي مُلْكِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى وَنَفى عَنْهُ كَمَا لَهُ وَتَمَامَهُ. وكذلكَ مَنْ أَنْكَرَ عُمُومَ قَضَائِه وَقَدَرِهِ فَقَدْ أَنْكَرَ عُمُومَ مُلْكِهِ وَكَمَالِهِ فَيَشْهَدُ الْمُصَلِّي مَجْدَ الربِ تَعاَلَى فِي قَولِهِ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فَفِيهَا سِرُّ الْخَلْقِ والأَمْرِ والدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَهِيَ مُتَضَمِّنَةُ لأَجَلِّ الْغَايَاتِ وأفضلِ الْوَسَائِلِ. فأَجَلُّ الْغَايَاتِ عُبُودِيتُهُ وَأَفْضَلُ الْوَسَائِلَ إِعَانَتُهُ فَلا مَعْبُودَ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ إِلا هُوَ ولا مُعِينَ على عِبَادَتِهِ غَيرُهُ فَعِبَادَتُهُ أَعْلَى الْغَايَاتِ وإِعَانَتُهُ أَجَلُّ الْوَسَائِلِ وَقَدْ أَنْزَلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى مائة كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ جَمَعَ مَعَانِيهَا فِي أَرْبَعَةِ. وَهِيَ: التَّوْرَاةُ، والإِنْجِيلُ، والْقُرْآنُ، والزَّبُورُ. وَجَمَعَ مَعَانِيهَا فِي الْقُرْآنِ وَجَمَعَ مَعَانِيهِ فِي الْمُفَصَّلِ وَجَمَعَ مَعَانِيهِ فِي الْفَاتِحَةِ وَجَمَعَ مَعَانِيهَا فِي إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. وقد اشْتَمَلَتْ هذِهِ الْكَلِمَةُ على نَوْعَيْ التَّوْحِيد وَهُمَا تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ وَتَوْحِيدُ الأُلُوهِيَّةِ وَتَضَمَّنَتْ التَّعَبُدَ باسْمِ الربِ واسمِ اللهِ فَهوَ يُعْبَدُ بالأُلُوهِيَّةِ وَيُسْتَعَانُ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَيَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ بِرَحْمَتِهِ فكانَ أوَّلُ السُّورَةِ ذِكْرُ اسْمِ اللهِ والربِّ والرحمنِ تَطَابَقًا لأَجْلِ الْمَطَالِبِ مِن عِبَادِتِهِ وَإِعَانَتِهِ وَهِدَايَتِهِ وَهو الْمُنْفَرِدُ بإعْطَاءِ ذَلِكَ كُلِّهِ لا يُعِينُ عَلى عِبَادَتِهِ سِوَاهُ وَلا يَهْدِي، سِوَاهُ ثُمَّ يَشْهَدُ الدَّاعِي بَقَوْلِهِ: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} شِدّةَ فَاقَتِهِ وَضَرُورَتِهِ إِلى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ التي لَيْسَ هُو إلى شيءٍ أَشَدَّ فاقةً وَحَاجَةً مَنْهُ إِليهَا الْبَتَةَ فإنَّه مُحْتَاجٌ إِليه في كُلِ نَفَسٍ وَطَرفَةِ عَيْنٍ وَهَذَا الْمَطْلُوبُ مِن

الدُّعَاءِ لا يَتِمُ إلا بالهِدَايَةِ إلى الطَّرِيقِ المُوصِلُ إِليْهِ سُبْحانَهُ والْهِدَايَةِ فيهِ أيْ هِدَايَةِ التَّفْصِيلِ وَخَلْقِ الْقُدْرَةِ على الْفِعْلِ وَإِرَادَتِهِ وَتَكْوِينِهِ وَتِوْفِيقِهِ لإِيقَاعِهِ عَلى الْوَجْهِ الْمَرْضِي الْمَحْبُوبِ للرَّبِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَحِفْظِهِ عَليهِ مِنْ مُفْسِدَاتِهِ حَالَ فِعْلِهِ وَبَعْدَ فِعْلِهِ. وَلَمَّا كاَنَ الْعَبْدُ مُفْتَقِرًا فِي كُلّ حَالٍ إِلى هَذِهِ الْهِدَايَةِ فِي جَمِيعِ مَا يأْتِيهِ وَيَذَرُهُ مِنْ أُمُورٍ قَدْ أَتَاهَا عَلى غَيرِ الْهِدَايَةِ فَهو يَحْتَاجُ إِلى التَّوْبَةِ مِنْهَا. وأُمُورٍ هُدى إِلى أَصْلِهَا دُونَ تَفْصِيلِهَا أَوْ هُدِيَ إِليهَا مِن وَجْهِ دُونَ وَجْهٍ فَهُوَ يَحْتَاجُ إِلى تَمَامِ الْهِدَايَةِ فِيهَا لِيَزْدَادَ هُدَى. وأُمُورٍ يَحْتَاجُ إِلى أَنْ يَحْصُلَ لَهُ مِن الْهِدَايَةِ فِيهَا بالْمُسْتَقْبَلِ مِثلَ مَا حَصَلَ لَهُ فِي الْمَاضِي. وَأُمُورٍ هُوَ خَالٍ عَنْ اعْتِقَادٍ فِيهَا فَهُوَ يَحْتَاجُ إلى الهِدَايَةِ فِيهَا. وَأُمُورٍ لَمْ يَفْعَلْهَا فَهُوَ يَحْتَاجُ إِلى فِعْلِهَا عَلَى وَجْهِ الْهِدَايَةِ. وأُمُورٍ قَدْ هُدِي إِلى الاِعْتِقَادِ الْحَقِّ والْعَمَلِ والصَّوابِ فِيهَا فهو مُحْتَاجُ إِلى الثَّبَاتِ عَلَيْهَا إِلى غَيْرِ ذَلكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْهِدَايَةِ. فَرَضَ اللهُ سبحانَهُ عليه أنْ يَسْأَلَ هَذِهِ الْهِدَايَةِ في أَفْضَلِ أَحْوَالِهِ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ فِي الْيَوْمِ واللَّيْلَةِ ثم بَيَّنَ أَنَّ أَهْلَ هَذِهِ الْهِدَايَةِ هُمْ الْمُخْتَصُوَن بِنِعْمَتِهِ دُونَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ الذَّيْنَ عَرَفُوا الْحَقَّ وَلَمْ يَتَّبِعُوهُ وَدُونَ الظَّالِينَ وَهُمْ الذينَ عَبَدُوا اللهَ بِغَيرِ عِلْمٍ فَالطَّائِفَتَانِ اشْتَرَكَتَا فِي الْقَوْلِ فِي خَلْقِهِ وَأمْرِهِ وأسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ بِغَيرِ عِلْمٍ فَسَبِيل ُالْمُنْعِمْ عَلَيْهِم مُغَايرَةُ لِسَبِيلِ أَهْلِ البَّاطلِ كُلِّهَا عِلْمًا وَعَمَلاً فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ هَذَا الثَّنَاءِ والدُّعَاءِ والتَّوحِيدِ شُرِعَ لَهُ أَنْ يَطْبَعَ عَلَى ذَلكَ بِطَابع مِنْ التأمِينِ

يَكُونُ كالخَاتِمِ لَهُ وَافقَ فِيه مَلائِكَةَ السَّماءِ وهذا التأمِينُ مِن زِينَةِ الصلاةِ كَرَفْعِ اليدِيْنِ الذِي هُوَ زِينَةُ الصلاةِ وإتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ وَتَعْظِيمَ أَمْرِ اللهِ وَعُبُودِيَةُ الْيَدَيْنِ وَشِعَارُ الاِنْتِقَالِ مِن رُكْنٍ إِلى رُكْنٍ ثُمَّ يَأَخُذُ فِي مُنَاجاَةِ رَبِّهِ بِكلامِهِ واسْتِمَاعِهِ مِنْ الإِمَامْ بالإِنْصَاتِ وَحُضُورِ الْقَلْبِ وَشُهُودِهِ. وقال رحمه الله: والقول الجامع في تفسير الصراط المستقيم: أنه الطريق الذي نصبه الله لعباده على ألسنة رسله، وجعله موصلاً لعباده إليه، ولا طريق لهم سواه، وهو إفراده بالعبودية وإفراد رسله بالطاعة، وهو مضمون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، ونكتة ذلك وعقده أن تحبه بقلبك كله وترضيه بجهدك، فلا يكون في قلبك موضع إلا معمور بحبه، ولا تكون إرادة إلا متعلقة بمرضاته، وهذا هو الهدى وهو معرفة الحق والعمل به وهو معرفة ما بعث الله به رسله والقيام به فقل ما شئت من العبارات التي هذا أحسنها. وقال: والطريق إلى الله واحد لا تعدد فيه، وهو صراطه المستقيم الذي نصبه موصلاً لمن سلكه إلى الله فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه إلى ربه طريق العلم والتعليم قد وفر عليه زمانًا مبتغيًا به وجه الله فلا يزال عاكفًا على طريق العلم حتى يصل من تلك الطريق إلى الله ويفتح له الفتح الخاص، أو يموت في طريق طلبه فيرجى له الوصول إلى مطلبه، ومنهم من يكون سيد عمله الذكر، ومنهم من يكون طريقه الإِحسان والنفع المتعدى، ومنهم من يكون طريقه الصوم، ومنهم من يكون كثرة تلاوة القرآن، ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنهم من يكون طريقه الحج والاعتمار، ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق وتجريد الهمة ودوام المراقبة وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة، ومنهم الجامع الفذ السالك إلى الله في كل واد الواصل إليه من كل طريق،

فهو جعل وظائف عبودية قبلة قلبه ونصب عينيه وقد شارك أهل كل عمل وذلك فضل الله. وقال رَحِمَهُ اللهُ ولما كان طالبُ الصراط المستقيم طَالِبَ أَمْرٍ أَكْثَرُ النَّاسِ نَاكِبُونَ عَنْهُ، مرِيدًا لِسُلُوكِ طَرِيقٍ مُرَافِقُهُ فيها في غَايَةِ الْقِلَّةِ والْعِزَّةِ، والنُّفُوسُ مَجْبُولَةٌ علَى وحْشَةٍ التَّفَرُّدِ، وعلى الأنس بالرفيق. نَبَّهَ اللهُ سُبْحَانه على الرفيق في هذه الطريق، وأنَّهمُ هم الذين {أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} . فأَضَاف الصِّرَاطَ إلى الرفِيقِ السالِكينَ لَهُ، وهُم الذين أَنْعَم اللهُ عليهم، لِيزُولَ عَن الطالِبِ لِلْهِدَايَةِ وسُلُوكِ الصِّرَاطِ وحْشَةُ تَفَردُّهِ عن أهِل زَمَانِهِ وبَنِي جِنْسِهِ، وَلِيَعْلم أَنْ رَفِيقَهُ في هَذا الصراط هم الذين أَنْعم اللهُ عليهم. فلا يَكْتَرِثْ بِمُخَالَفَةِ النَّاكِبينَ عنه لَهُ فإنهم هم الأقَلُونَ قَدْرًا وإن كانوا الأكْثَرِينَ عَدَدًا، كما قَالَ بعضُ السلفِ: عليكَ بطريق الحقِّ ولا تَسْتَوحِشْ لِقِلَّةِ السَّالِكِين، وَإيَّاكَ وَطَرِيقَ البَاطِلَ وَلا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الهَالِكِينَ. وَكُلَّمَا اسْتَوْحَشْتَ في تَفَرُّدِكَ فَانْظُرْ إلى الرَّفِيقِ السَّابِقِ وَاحْرِصْ عَلَى اللِّحَاقِ بِهِمْ، وَغُضِّ الطَّرْفَ عَنْ مَنْ سِوْاهُمْ فَإِنَّهُمُ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا، وَإِذَا صَاحُوا بِكَ في طَرِيقِ سَيْرِكَ فَلا تَلْتَفِتْ إِلَيْهِمْ. قَالَ وَلَمَّا كَانَ سُؤالُ اللهِ الْهِدَايةِ إِلى الصَّرَاطَ الْمُسْتَقِيمِ أَجَلَّ الْمَطَالِبِ، وَنَيْلُهُ أَشْرَفَ الْمَوَاهِبِ عَلَّمَ اللهُ عِبَادِهُ كَيْفِيَّةَ سُؤالِهِ، وأَمَرَهُمْ أَنْ يُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْهِ حَمْدَهُ والثَّنَاءَ عَلَيْهِ وَتَمْجِيدَهُ. ثم ذَكَرَ عُبُودِيَّتَهُمْ وَتَوْحِيدَهُمْ فَهَاتَانِ وسِيلَتَانِ إِلى مَطْلُوبهم تَوَسُّلٌ

إِليه بأسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَتَوسُّلٌ إِليه بِعُبُودِيَّتِهِ وَهَاتَان الْوَسِيلَتَان لا يَكَادُ يُرَدُّ مَعْهُمَا الدُّعَاءُ. ويُؤيِّدْهُما الْوَسِيلَتَانِ الْمَذْكُورَتَانِ فِي حَدِيثَيْ الاسْم الأعظم اللَّذَيْنِ رواهما ابن حبَّان في صَحِيحه، والإِمام أحمد، والترمذي. أَحَدُهما: حَدِيثُ بُرَيْدَةَ عن أبيه قال سَمِعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً يَدْعُو ويقول: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بأني أَشْهَدُ أَنَّكَ اللهُ الذي لا إِلهَ إلا أَنْتَ الأَحَدُ الصَّمَدُ الذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ولم يكن له كُفْوًا أحَد. فقال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سَأَلَ الله باسْمِهِ الأَعْظَمْ الذي إذا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وإذا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى» . قال الترمذيُ: حَدِيثٌ صحيح. فهذا تَوَسُّلٌ إلى الله بتَوحِيدِهِ، وشَهَادَةِ الدَّاعِيَ لَهُ بالْوَاحْدَانِيَّةِ وثبوتِ صِفاتِهِ المدلُولِ عليها باسمِ الصَّمَدِ. وهو كما قال ابن عباس: العَالِمُ الذي كَمُلَ عِلْمُهُ القادِرُ الذي كَمُلَتْ قُدْرَتُهُ وفي رواية: (هو السيدُ الذي قَدْ كَمُلَ فيه جَمِيعُ أنواعِ السؤدَدِة) . وقال سعيد بن جبير: هو الكاملُ في جَميعِ أَقوالِهِ وَصِفاتِهِ وأفْعالِهِ. والثاني: حَدِيثُ أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ رَجُلاً يَدْعُو: اللَّهُمَّ إني أسألكَ بأن لك الحمد لا إله إلا أنْتَ المنان بَدِيعُ السماوات والأرض؛ ذا الجلال والإكرام، يا حَيُّ يا قَيُّوم. فقال: «لقد سأل الله باسمه الأعظم» . فهذا توسل إليه بأسمائِهِ وصفاته. وقد جمعت الفاتحة الوسيلتين وهما: التوسل بالحمد، والثناء عليه وتمجيده والتوسل إليه بعبوديته وتوحيده.

ثم جاء سؤال أهم المطالب وأنجح الرغائب وهو الهداية بعد الوسيلتين فالداعي به حقيقٌ بالإجابة. ونظير هذا دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يدعو به إذا قام يصلي من الليل. رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس: «اللَّهُمَّ لك الحمد أنتَ نور السماوات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنتَ قيوم السماوات والأرض ومن فيهن. ولك الحمد أنتَ الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق، والنبيون حق والساعة حق ومحمد حق. اللَّهُمَّ لكَ أسلمتُ، وبكَ آمَنْتُ، عليك تَوَكَّلْتُ، وإليك أَنَبْتُ، وبكَ خاصَمْتُ، وإليكَ حَاكَمْتُ. فاغفِرْ لي ما قَدَّمْتُ وما أخَّرْتُ، وما أسررتُ وما أعلنت، أنْتَ إلهي لا إله إلا أنْتَ» ، فذكر التوسلَّ إليه بِحَمْدِهِ والثَّناء عليه، وبِعُبُودِيَّتِهِ ثم سأله المغفرة. اللَّهُمَّ يَا مَنْ خَلَقَ الإنسانَ في أَحْسَنِ تَقْويم وَبِقُدْرَتِهِ التي لا يُعْجِزُها شيءٌ يُحْيي العِظَامَ وهي رَمِيمٌ، نسأَلك أَنْ تَهْدِينا إلى صِراطِك المستقيم، صِراط الذيْنَ أَنْعَمْتَ عَليهم من النَّبيينَ والصِّدِِيقِينَ والشُّهَداءِ والصَّالِحَينَ، وَأَنْ تَغْفِرَ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فصل) عِبَادَ اللهِ إِن الصلاةَ عِمادُ الدِّينِ وأَعْظَمُ أَرْكَانِ الإِسْلامِ بَعْدَ الشهادَتَين مَنْ حَافَظَ عَلَيهَا فَهُوَ السَّعِيدُ، وَمَنْ أَضَاعَهَا وأَهْمَلَهَا فهو الشَّقِيُ الْعَنِيدُ، وقد أَمَرَ اللهُ بالمحافظةِ عَلَيْهَا وَأَمَرَ بِإقَامَتِهَا فِي آياتً كَثِيرَةٍ قال

تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى} ، وَقَالَ: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} ، وَقَالَ: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} . وَقَالَ: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} ، وَقَالَ: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} الآية. وَقَالَ: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ} ، وَقَالَ: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} ، الآية. وقَالَ: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ} ، وقَالَ: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} ، قال ابنُ عَبَّاسٍ: يُقِيمونَ الصَّلاةَ بِفُروضِهَا. وقال الضَّحاكُ: عَن ابنِ عباسٍ: إقامةٌ الصَّلاةِ إتْمَامُ الرُّكُوعِ والسُّجود والتِّلاوةِ والْخُشُوعِ والإقبالِ عليهِ فيهَا. وقال قَتَادَةُ: إقامَةُ الصَّلاةِ الْمُحَافَظَةُ عَلى مَوَاقِيتِهَا وَوُضُوئِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِها. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إقامَتُها: الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَوَاقِيتِهَا وإسْبَاغُ الطَّهُورِ فِيهَا وإتْمَامُ رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَتِلاوَةِ الْقُرْآنِ فِيهَا والتَّشَهّدُ والصَّلاةُ عَلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَثَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلى الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا فِي أَحَادِيثَ كثيرةٍ مِنْهَا مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَمْسٌ مَنْ جَاءَ بِهِنَّ مَعَ إِيمانٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ مَنْ حَافَظَ على الصَّلَواتِ الْخَمْسِ عَلى وُضُوئِهِنَ وَرُكُوعِهِنَّ وَمَواقِيتِهِنَّ، وَصَامَ رَمَضَانَ، وَحَجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً، وآتَى الزَّكَاة طَيَّبةً بِهَا نَفْسُهُ، وأدّى الأمانة» . قيل: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا أَدَاءُ الأمانَةِ؟ قَالَ: «الْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ إِنَّ اللهَ لَمْ يَأْمَنْ ابنَ آدَمَ على شيءٍ مِنْ دِينِهِ غَيْرَها» . رواه الطبراني. وعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ثَلاثٌ أَحْلِفُ عَلَيْهِنَّ لا يَجْعَلُ اللهُ مَنْ لَهُ سَهْمٌ في الإِسْلام كَمَنْ لا سَهْمَ لَهُ وَأَسْهُمُ الإِسْلامِ ثلاثةٌ: الصَّلاةُ، والصَّومُ، والزَّكَاةُ. ولا يَتَولَّى اللهُ عَبْدًا

فصل في مكانة الصلاة وأهميتها والأدلة على ذلك

فِي الدُّنْيَا فَيُوَلِّيهِ غَيْرَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُحِبُّ رَجلٌ قَوْمًا إِلا جُعِلَ مَعَهُمْ» . الحديثَ رواهُ أحمدُ بإسنادٍ جيدٍ، ورواهُ الطَّبَراني في الْكَبِير مِنْ حديثِ ابنِ مَسْعُودٍ. وَعَنْ عمر بن مُرَّة الجُهَنِي قَالَ: جَاءَ رَجلٌ إِلى النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرأَيْتَ إِنْ شَهِدتُ أَنْ لا إلهَ إلا اللهَ، وأَنكَ رَسُولُ اللهِ، وَصَليتُ الصَّلواتِ الْخَمْسِ، وأدَّيْتُ الزَّكاةَ، وَصُمْتُ رَمَضَانَ وَقُمْتُهُ فَمِنْ مَنْ أَنَا؟ قَالَ: «من الصِّدِيقِينَ والشُّهَدَاءِ» . رواهُ البَزَّارُ، وابنُ خزيمةَ، وابنُ حِبَّان في صَحِيحَهُمَا، واللفظُ لابنِ حِبَّانَ. ومن الأَدِلَةِ الدَّالةِ عَلى وُجُوبِهَا مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِن الكِتَابِ والسُّنَّةِ قَولهُ تَعَالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} ، وأَمَّا السُّنَّةُ فَعَنْ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شِهَادةِ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وإِقَام الصَّلاةِ، وإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصِيامِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً» . وأَجْمَعَتِ الأمةُ عَلى وُجُوبِ خَمْسِ صَلَواتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَفُرضَتْ الصَّلاةُ لَيْلةَ الإِسْرَاءِ قَبْلَ هِجْرَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْو خَمْسِ سِنينَ وِقِيلَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ. اللَّهُمَّ وَفِقْنَا للاسْتِعْدَادِ، واهْدِنَا إِلى سَبِيل الرَّشَادِ، وَوَفقْنَا للعَمَلِ الصَّالِحِ ليومِ الْمَعَاد، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ، الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. فصل: وَيَحْرمُ تَأْخِيرُ الصَّلاةِ عَنْ وَقْتِهَا عَلَى الْقَادِر عَلى فِعْلِهَا

الذَّاكِرِ لَهَا إِلا لِنَاوِي الْجَمْعِ لِنَحْوِ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ لأنه يَجبُ إيقاعُهَا في الوقتِ فإذا خَرَجَ وَقْتَهُا وَلم يأتِ بِهَا كَانَ تَارِكًا لِلواجِبِ مُخَالِفًا لِلأَمْرِ وَلِئَلا تفُوتَ فائدةُ التأقِيتِ. وَأَمَّا الدَّليلُ عَلى جَوازِه للعُذْرِ وَتَحْرِيمه لِغيرِ الْعذْر فَحَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ مَرْفُوعًا: «لِيْسَ في النَّوْم تَفْرِيطَ إنما التفريط في الْيَقَظِةَ أَنْ تُؤَخِر الصَّلاةَ إِلى أَنْ يَدْخَلَ وَقْتَ أَخْرَى» ، وَقَدْ وَرَدَ في تَفْسِير قولهِ تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} ، عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ تأخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا وَسَمَّاهُمْ مُصَلِّينَ لَكنَّهُمْ لِمَا تَهَاونُوا بِهَا وَأخَروهَا عَنْ وَقْتِهَا وَعَدهُم بِويل وَهُوَ شِدّةُ الْعَذَابِ وَقِيلَ هُوَ وَادٍ فِي جَهَنَّمْ لَوْ سُيّرتْ فِيهِ جِبَالُ الدُّنْيَا لذَابَتْ مِنْ حَرِّهِ وَهُوَ مَسْكَنْ مَنْ يَتَهَاوَنُ بالصَّلاةِ ويُؤخِرُّهَا عَنْ وَقْتِهَا إِلا أَنْ يَتُوبَ وَيَنْدَمَ وَيَعْزَمَ أَنْ لا يَعُودَ وَيَتُوبَ اللهُ عَليهِ وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ الْمُرَادُ بِذِكْرِ اللهِ فِي هَذِهِ الآيةِ الصَّلواتُ الْخَمْسُ فَمَنْ اشْتُغِلَ بِمَالِهِ فِي بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ وَمَعِيشَتِهِ وَضِيعَتِهِ وَأَوْلادِهِ عَنْ الصَّلاةِ فِي وَقْتِهَا كَانَ مَنْ الْخَاسِرينَ. وفي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيْفَ أَنْتِ إِذَا كَانتْ عَليكَ أَمْرَاءُ يُمِيتُونَ الصَّلاةَ» ، أَوْ قَالَ: «يُؤَخِّرُونَهَا عَنْ وَقْتِهَا» . وَقَالَ تَعَالَى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ} ، قَالَ ابنُ مَسْعُودٍ وَإِبْرَاهِيمْ: أَخَّرُوهَا عَنْ وَقْتِهَا. وَقَالَ سَعِيدْ بِنْ الْمُسَيِّبْ: هُوَ أَنْ لا يُصَلِّي الظُّهْرَ حَتى يَأْتِي الْعَصْرُ وَلا الْعَصْرَ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَجَاحِدُ الصَّلاةِ مَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لا يَجْهَلُ وُجُوبَهَا كَمَنْ نَشَأَ بِدَارِ الإِسْلامِ فَهَذَا يَكْفُرُ بِجَحْدِهِ لأَنَّهُ مُكذبٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وإجْمَاعِ الأمَّةِ وَيَصِيرُ مُرْتَدًا

فصل في الأدلة على كفر تارك الصلاة

وأمّا أَنْ يَكُونَ مِمَنْ يَجْهَلُ وُجوبَهَا كَمَنْ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ، وَكَحَدِيثِ عَهْدِ بإسْلامٍ فَهَذَا يُعَرَّفُ وُجُوبَهَا فإنْ أَصَرَّ عَلَى الْجَحْدِ كَفَرَ. فإنْ تَرَكَهَا تَهَاوُنًا وَكَسَلاً دَعَاهُ إِمَامٌ أَوْ نَائِبُهُ إِلى فِعْلِهَا فِإنْ أَبَى حَتَّى تَضَايَقَ وَقْتُ التي بَعْدَهَا وَجَبَ قَتْلُه وَمُدَّةُ اسْتِتَابةِ الْجَاحِدِ لِوُجُوبِهَا وَتَارِكِهَا تَهَاوُنًا وَكَسَلاً ثَلاثَةِ أَيْامٍ بِلَيَالِيهَا كَسَائِر الْمُرْتَدينَ، وَيُضِيقُ عَلَيْهِمَا وَيُدْعَيانِ كُلَّ وَقْتٍ صلاةٍ إِلَيْهَا فإنْ تَابَا بِفعْلِهَا مَعْ إِقْرَارِ الْجَاحِدِ لِوُجُوبِهَا خُلِّيَ سَبِيلُهُمَا وإِلا ضُرِبَتْ عُنُقُهُمَا. وحيثُ كَفَر فإنَّه يُقْتَلُ بَعْدَ الاسْتِتَابَةِ وَلا يُغَسَّلُ وَلا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَلا يُرقُّ وَلا يُسْبَى لَهُ وَلَدٌ وَلا أَهْلٌ كَسَائِرِ الْمُرْتَدِينَ. اللَّهُمَّ اعْصِمْنَا عَنْ الْمَعَاصِي والزَّلات وَوفّقْنَا للعَمَلِ بالبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. (فصل) في الأَدِلَّةِ عَلَى كُفْرِ تَارِكِ الصَّلاةِ والدَّلِيلُ عَلَى كُفْر تَارِكِ الصَّلاةِ قَوْلُه تَعَالَى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ْ، وقَالَ: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} ، وقال تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمْ: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} الآية. وعَنْ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ يَقُولُ: «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاةِ» . رواه الجماعة إلا البُخَارِيُّ، والنِّسَائي. وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: «الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ» . رواه الْخَمْسَةُ. وفي الحديث الآخَر: «مَنْ تَرَكَ الصَّلاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» . رواه أَحْمَدُ بإسْنَادٍ عَنْ مَكْحُولٍ وَهو مرْسَلٌ جيدٌ. وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَرَوْنَ شَيْئًا مِنْ الأَعْمَالِ تَرْكُهُ كُفْرٌ غَيْرَ الصَّلاةِ. رواهُ التِّرمِذِي. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بنِ الْعَاصِ أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلاةَ يَوْمًا فَقَالَ: مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نُورًا وَلا بُرْهَانًا وَلا نَجَاةً وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ. رَواهُ أَحْمَدُ. وقالَ عُمَرُ: لاحظَّ في الإسْلامِ لمنْ تَرَكَ الصَّلاةَ. وقَالَ عَليٌ: مَنْ لَمْ يُصَلّ فَهُو كَافِرٌ. وقالَ ابنُ حَزْمِ: وقدْ جَاءَ عَنْ عُمَرَ، وعَبْدِ الرحمَن بِنْ عَوْفٍ، ومعاذِ بنِِ جَبَل، وأبي هُريرةَ وغيرهم مِنَ الصحابةِ: أن مَنْ تَرَكَ صَلاةَ فَرْضٍ واحدةٍ متعمِّدًا حَتَى يَخرجَ وَقتُها فَهُوَ كافِرٌ مُرْتَدٌ. وَقَالَ الْحَافظُ عَبْدُ الْحَقّ الإِشْبيلي فِي كِتَابِهِ: ذَهَبَ جُمَْلةٌ مِنْ الصَّحَابِةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلى تَكْفِيرِ تَارِكِ الصَّلاةِ مُتَعَمِدًا لِتَرْكِهَا حَتَّى يَخْرجَ وَقْتُها مِنْهُم عُمَرُ بنُ الْخَطَّاب، وَمعاذُ بنُ جَبَلٍ، وَعَبْدُ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ، وابنُ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٌ، وَأَبو الدَّرْدَاءِ وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَلي. وَمِنْ بَعْدِهِمْ: أَحْمَدُ بِنُ حَنْبَلٍ، وإسْحَاق، وعبدُ اللهِ ابنُ الْمُبَارَكِ، وَإبْرَاهِيمُ الْنَّخَعِي، والْحَكَمُ بِنُ

موعظة

عيينةَ، وأَيُّوبُ السِّخْتِيانِي، كل هؤلاء ذَهَبوا إلى تَكْفِير تاركِ الصَّلاةِ حتى يخرجَ وَقْتُهَا. وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ تَرَكَ الصَّلاةَ مُتَعَمِّدًا مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ حَتَّى أَدْخَل وَقَتًا فِي وَقتٍ فَهُو كافرٌ. اللَّهُمَّ هَبْ لَنَا مَا وَهَبْتَهُ لِعِبَادِكَ الأَخْيار وانْظُمْنَا في سِلْكِ الْمُقَرَّبينَ والأَبْرَارِ وآتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وفي الآخَرِةَ حَسَنَةً وقِنَا عَذَابَ النَّار، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. (8) موعظة أيُّهَا النَّاس إِنَّ سُبُلَ الْعَافِيَةِ مُنْدَرِسَةٌ لِقلَّةِ سُلاكِهَا وإنَّ عللَ الْقُلوبِ الْقَاسِيةِ مؤذنةٌ بِهَلاكِهَا وإِنَّ رُسُلَ الْمَنُونِ قَانِصَةُ لا تُفْلِتُ أَحَدًا مِنْ شِبَاكِهَا فَمَا للعيونِ نَاظِرَةٌ وَلا تُبْصِرُ وَمَا للقلوب قاسيةٌ وَلا تُفَكِّرُ وَمَا للعقولِ طَائِشَةٌ لاهِيةٌ بِجَمْعِ الدُّنْيَا وَلا تَشْعُرُ، وَمَا لِلنِّفُوسِ قَاسِيَةٌ وَلا تَذكرُ أَغَرَّهَا إِنْظَارُهَا وإمْهَالُهَا أَمْ بَشّر بالنَّجَاةِ صَالحُ أَعْمَالِهَا أَمْ لَمْ يَتَحققْ عِنْدَهَا من الدُّنْيَا زَوَالِهَا. شِعْرًا: أَمَدُ الحَيَاةِ كَمَا عَلِمْتَ قَصِيرُ ... وَعَلَيْكَ نَقَّادٌ بِهَا وَبَصِيرُ عَجَبًا لِمُغْتَرٌّ بِدَارِ فَنَائِهِ ... وَلَهُ إِلَى دَار البَقَاءِ مَصِيرُ آخر: ... وَلَسْتَ أَرى السَّعَادَةَ جَمَعْ مَالٍ ... وَلكن التقيَّ هُو السَّعِيدُ وَتَقْوَى الله خَيْرُ الزَّادِ ذُخْرًا ... وَعِنْد الله للأتقى مَزِيدُ وَمَا لا بُدَّ أَنْ يَأَتِي قَرِيبٌ ... وَلكِنَّ الذي يَمْضِي بَعِيدُ آخر: هَوِّنْ عَليكَ فَمَا الدُّنْيَا بِدَائِمَةٍ ... وَإِنَّمَا أَنْتَ مِثلُ النَّاسِ مَغْرُورُ وَلَوْ تَصَوَّرَ أَهْلُ الدَّهْرَ صُورَتَهُ ... لَمْ يُمْسِ مِنْهُمْ لَبِيبٌ وَهُوَ مَسْرُورُ تَاللهِ لَقَدْ شَمِلَتْ الْقُلُوبُ الْغَفْلَةِ فاسْتَحْكَمْ عَلَى الْقُلُوبِ أَقْفَالُهَا، فَكأنَ قَدْ كَشَفَ الْموتُ لأَهْلِ الْغَفْلَةِ قِنَاعَهُ وَأَطْلَقَ عَلَى صِحَاحِ الأَجْسَامِ

أَوْجَاعَهُ وَحَقَّقَ بِكلِ الأَنَامِ إِيَقاعَهُ وَلَمْ يَمْلِكْ أَحَدٌ مِنْ الْخَلْقِ دِفَاعَهُ فَخَفَقَ مِن الْمَنُزِولِ به فُؤادُهُ وَرَحِمَهُ أَعْدَاؤُهُ وَحُسَّادُه وَقَرُبَ عَنْ أَهْلِهِ وَوَطَنِهِ بِعَادُهُ والْتَحَقَ بِذُلّ الْيُتْمِ أَوْلادُه فيالَهُ مِنْ وَاقِعٍ فِي كُرَبِ الْحَشَارِجِ إلى أَنْ أَدْرِجَ فِي تَلْكَ الْمَدَارِج وَقَدِمَ عَلَى الله ذِي الْمَعَارِج فِي مَنْزِلَ لا يَبْرَحُ مِنْهُ مَنْ نَزَلَهُ حَتَّى يَلْحَقَ آخِرُ الْخلقِ أَوَّلَهُ فَانْتَبِهُوا رَحَمَكُمْ اللهُ قَبلَ أَنْ يَصلَكُمْ الدُّورُ واسْتدْركوا مَا فَاتَكمْ ومَا قَصَّرْتَمْ بِهِ مِن الأََعْمَالِ الصَّالِحَةِ عَلى الْفَورِ. أَفَيَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ اللهَ خَلَقَ الْخَلْقَ لِيُهْمِلَهُ. كَلا واللهِ لَيَبْعَثَنَّ الْخَلْقَ بَعْدَ مَا أَمَاتَهُ وَلَيَسْأَلَنَّ عَنْ الرَّسُولِ وَمَنْ أَرْسَلَه وَلَيُوَفِيَنَّ كُلَّ عَامِلٍ مَا عَمِلَهُ. اللَّهُمَّ يا مَنْ لا تَضرُّهُ الْمَعْصِيةُ ولا تَنْفعُهُ الطَّاعةَ أيْقِظْنَا مِنْ نَومِ الْغفلةِ وَنَبِّهْنَا لاغْتِنَامْ أَوْقَاتِ الْمُهْلَةِ وَوَفِّقْنَا لِمَصَالِحِنَا واعْصِمْنَا من قَبِائِحِنَا ولا تُؤاخِذْنَا بما انْطَوَتْ عليهِ ضَمَائِرُنَا واكَنَّتْهُ سَرائِرُنَا مِنْ أَنْواعِ الْقَبَائِحِ والْمعائِبِ التي تَعْلَمُها مِنا، وامنُنْ علينا يا مولانا بتوبةٍ تَمْحُو بِهَا عَنَّا كُلِّ ذَنْبِ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِنَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. تَبَيَّنَ ثَغْرُ الْفَجْرِ لَمَّا تَبَسَّمَا ... فَسُبْحَانَ مَنْ في الذِّكْرِ بَالْفَجْرِ أَقْسَمَا فَصَلِّ عَلَى الْمَبْعُوثِ لِلْخَلْقِ رَحْمَةً ... عَسَى شَمَلَتْنَا أَوْ لَعَلَّ وَرُبَّمَا كَمَا شَمَلَتْ آل الرسُولِ وَصَحْبِهِ ... فَأكْرِمْ بِهِمْ آلاً وَصَحْبًا وَأَعظِمَا أَتَى بَالْهُدَى نُوراً إِلَيْنَا وَنِعْمَةً ... وَقَدْ كَانَ وَجهُ الكَوْنِ بالشِّرْكِ مُظْلِمَا فَجَلَّى بَأَنْوَارِ الهُدَى كُلَّ ظُلْمَةٍ ... وَأَطْلَعَ في الآفَاقِ لِلدِّينِ أَنْجَمَا أَتَى بِكِتَابٍ أَعْجَزَ الْخَلْقَ لَفْظَهُ ... فَكُلُ بَلِيغ عُذْرُهُ صَارَ أَبْكَمَا تَحَدَّى بِه أَهَلَ البَلاغَةِ كُلَّهُمْ ... فَلَمْ يَفْتَحُوا فِيمَا يُعَارِضُهُ فَمَا حَوىَ كُلَّ بُرْهَانٍ عَلَى كُلِّ مَطْلَبٍ ... وَيَعْرِفُ هَذَا كُلُّ مَنْ كَان أَفْهَمَا

وَأَخْبَرَ فِيهِ عَنْ عَوَاقِبَ مَن عَصَى ... بَأنَّ لَهُ بَعْدَ الْمَمَاتِ جَهَنَّمَا وَعَنْ مَنْ أَطَاعَ اللهَ أَنَّ لَهُ غَدًا ... نَعِيمًا بِهِ مَا تَشْتَهِي النَّفْسُ كُلَّمَا مُحَمَّدٌ الْمَبْعُوثُ لِلْخَلْقِ رَحْمَةً ... فَصَلِّ عَليهِ مَا حَييْتَ مُسَلِّمَا وَأَسْرَى به نَحْوَ السَّمَاوَاتِ رَبُّه ... وَأرْكَبَهُ ظَهْرَ البُرَاقِ وَأَكْرَمَا وَقَدْ فُتِحَتْ أَبْوابُها لِصُعُودِهِ ... فَمَا زَالَ يَرْقَى مِنْ سَمَاءٍ إِلى سَمَا وَلاقَى به قَوْمًا مِنْ الرُّسْلِ كُلُّهُمْ ... يَقُولُ لَهُ يَا مَرْحَبًا حِينَ سَلَّمَا وَكَانَ بِهِ فَرْضُ الصَّلاةِ وَحَبَّذَا ... تَرَدُّدُهُ بَيْنَ الكَلِيمِ مُكَلِّمَا وَصَيَّرَهَا مِنْ بَعْدِ خَمْسِينَ خَمْسَةً ... فُروضًا وَأَمْرُ اللهِ قَدْ كَانَ مُبْرَمَا وَعَادَ إلى بَيْتِ أُمْ هَانئ مُخْبِرًا ... لَهَا بالذِي قَدْ كَانَ مِنْهُ وَمُعْلِمَا فَخَافَتْ عَلَيْهِ أَنْ يُكَذِّبَهُ الْمَلا ... وَيَزْدَادُ مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ عَمَى فَجَاءَ إِلى الْبَيْتِ الْعَتِيقَ فَأخْبَرَ الْـ ... ـعِبَادَ فَمِنْهُمْ مَنْ بِتَكْذِيبِهِ رَمَى وَكَانَ بهِ الصَّدِّيقُ خَيْرَ مُصدِّقٍ ... فَصَدَّقَ خَيْرَ الرُّسْلِ فَي خَبَرِ السَّما مُحَمَّدًا الْمَبْعُوثَ لِلْخَلْقِ رَحْمَةً ... فَصَلِّ عَلَيهِ مَا حَيْيتَ مُسَلِّمَا وَقُمْ حَامِدًا للهِ في كُلِّ حَالَةٍ ... تَجِدْ حَمْدَهُ في يَوْمِ حَشْرِكَ مَغْنَمَا وَصَلّ عَلَى الْمَبْعُوثِ لِلْخَلْقِ رَحْمَةً ... مَحمَّدٍ الْمُخْتَارِ والآلِ كُلَّمَا سَرَى البَرْقُ مِنْ أَرْجَاء مَكَّةَ أَوْ سََرَى ... نَسِيمٌ عَلَى زَهْرِ الرُّبَى مُتَبَسِّمَا وَرَضِّيْ عَلَى الأَصْحَابِ أَصْحَابِ أَحْمَدٍ ... وَكُنْ لَهُمْ فِي كُلِّ حَينٍ مُعَظَّمَا اللَّهُمَّ انْظِمْنَا فِي سَلْكِ عِبَادِكَ الْمُخْلِصِينَ وَوَفّقْنَا لِلْقِيامِ بَأْرْكَانِ دِينْكَ الْقَويمِ وَنَجِّنَا مِنْ لَفَحَاتِ الْجَحِيمِ وأَسْكِنَّا فِي جَنَّاتِ النَّعِيمْ واغفرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَميع المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. (فَصْلٌ) إذا فَهِمْتَ ما تَقَدَّمَ مِنْ مَحَاسِن الصلاةِ وحِكَمِهَا وَحُكْمُ تَأْخِيرِهَا

الناس في الصلاة على مراتب خمس موضحة لابن القيم رحمه الله

وَتَرْكِهَا فَاعْلمْ أَنَّ النَّاسَ فِي الصَّلاةِ عَلَى مَرَاتِبَ خَمْسٍ ذكرها الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله فقال: أَحَدُهَا: مَرْتَبةُ الظَّالِمِ لِنَفْسِهِ الْمُفَرِّطِ وَهُوَ الذِّي انْتَقَصَ مِنْ وُضِوئِهَا وَمواقِيتُهَا وَحُدُودِهَا وَأَرْكَانِهَا. الثاني: مَنْ يُحَافِظُ عَلى مَواقِيتُهَا وَحُدودِهَا وَأَرْكَانِهَا الظاهِرَةِ وَوُضوئِهَا لَكِنْ قَدْ ضَيعَ مُجاهَدَةَ نَفْسِهِ فِي الْوَسْوَسَةِ فَذَهَبَ مَعَ الْوسَاوِسِ والأَفْكَارِ. الثالثُ: مَنْ حَافَظَ عَلى حُدُودِهَا وأَرْكَانِهَا وَجَاهَدَ نَفْسَهُ فِي دَفْعٍ الْوَسَاوسِ والأَفْكَار فَهُوَ مَشْغولٌ بِمُجَاهَدَةِ عَدُوِّهِ لِئلا يَسْرِقَ صَلاتَهَ فَهُوَ فِي صَلاةٍ وَجِهَادٍ. والرَّابعُ: مَنْ إِذَا قَامَ إلى الصَّلاةِ أَكْمَلَ حُقُوقَهَا وَأَرْكَانَهَا وَحُدُودَهَا واسْتَغرقَ قَلْبُه مُرَاعَاةَ حُدُودِهَا وَحُقوقِهَا لِئلا يَضِيعَ شَيءٌ مِنْهَا بَلْ هَمُّهُ كلّه مَصْرُوفٌ إِلى إِقَامَتِهَا كَمَا يَنْبَغِي إِكْمَالِهَا وِإِتْمَامُهَا، قَدْ اسْتَغْرقَ قَلْبُه شَأْنَ الصلاةِ عُبُودِيَّةُ ربِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهَا. الخامِسُ: مَنْ إِذَا قَامَ إِلى الصَّلاةِ قَامَ إِلَيْهَا كَذَلِكَ وَلَكِنْ مَعَ هَذَا قَدْ أَخَذَ قَلْبَه وَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ نَاظِرًا بِقَلْبِهِ إِلَيْهِ مُرَاقِبًا لَهُ مُمْتَلِئًا مِنْ مَحَبَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ كَأَنَّهُ يَرَاهُ وَيُشَاهِدهُ، وَقَدْ اضْمَحَلَّتْ تِلْكَ الْوَسَاوِسُ والْخَطَرَاتُ وارْتَفَعَتْ حُجُبُهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ فَهَذَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي الصَّلاةِ أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ وَهَذَا فِي صَلاتِه مشغولٌ بِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَرِيرُ الْعَيْنِ. فالقِسْمُ الأوَّلُ: مُعَاقَبٌ. والثاني: مُحَاسَبٌ. والثَّالثُ: مُكَفَّرٌ عَنْهُ. والرَّابعُ:

مُثَابٌ. والْخَامِسُ: مُقَرَّبٌ مِنْ رَبِّهِ لأَنَّ لَهُ نَصِيبًا مِمَّنْ جُعلَتْ قُرّةُ عينه في الصَّلاةِ فَمَنْ قَرَّتْ عَيْنُه بِصَلاتِهِ فِي الدُّنْيَا قَرَّتْ عَيْنُهُ بِقُرْبِهِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الآخِرَةِ وَقَرَّتْ عَيْنِهِ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَمَنْ قَرَّتْ عَيْنُه باللهِ قَرَّتْ بِهِ كُلُّ عَيْنٍ وَمَنْ لَمْ تَقَرَّ عَينُه باللهِ تَعالى تَقَطَّعَتْ نَفْسُهُ عَلَى الدُّنْيَا حَسَرَات. وَقَدْ رُوِيَ أَنْ الْعَبْدَ إِذَا قَامَ يُصَلِّي قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (ارْفَعُوا الْحُجُبِ فَإِذَا الْتَفَتَ قَالَ: أَرْخُوهَا وَقَدْ فُسِّرَ هَذا الالْتِفَاتُ بالْتِفَاتِ الْقَلْبِ عَنْ الله عَزَّ وَجَلَّ إِلى غَيْرِهِ فَإِذَا الْتَفَتَ إِلى غَيْرِهِ أُرْخِيَ الْحِجَابُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَبْدِ فَدَخَلَ الشَّيْطَانُ وَعَرَضَ عَلَيْهِ أُمُور الدُّنْيَا وَأَرَاهُ إيَّاهَا فِي صُورَةِ الْمِرْآةِ وَإِذَا أَقْبَلَ عَلَى اللهِ وَلَمْ يَلْتَفِتِ لَمْ يَقْدِرْ الشَّيْطَان عَلى أَنْ يَتَوَسَّطَ بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وَبَيْنَ ذَلِكَ الْقَلْبِ وَإِنَّمَا يَدْخلُ الشَّيْطَانُ إذَا وَقَعَ الْحِجَابُ فإن فَرَّ إلى اللهِ تَعَالَى وَأَحْضَرَ قَلْبَهُ فَرَّ الشَّيْطَانُ فَإِنْ الْتَفَت حَضَرَ الشَّيْطَانُ فَهُوَ هَكَذَا شَأْنُه وَشَأْنُ عَدُوّهِ فِي الصَّلاةِ. اللَّهُمَّ اجْعَلْ في قُلوبِنَا نُورًا نَهْتَدي بِهِ إِلَيْكَ وَتَولَّنَا بِحُسْنِ رِعَايَتِكَ حَتَّى نَتَوَكَلَ عَلَيكَ وَارْزُقْنَا حَلاَوَةَ التَّذلُّلِ بَينَ يَدَيكَ فاَلعزِيزُ مَنْ لاَذَ بِعزِّك والسَّعِيدُ مَن الْتَجَأَ إلى حِمَاكَ وَجُودِكَ والذليلُ مَنْ لَمْ تَؤَيّدْهُ بعنايَتِكَ والشَّقِيُّ مَنْ رَضِيَ بالإِعْرَاضِ عنْ طَاعَتِكَ. اللَّهُمَّ نَزِّهُ قُلُوبِنَا عَنْ التَّعَلق بِمَنْ دُونَك واجْعَلْنَا مِنْ قوم تَحبُّهُمْ ويُحِبُونَكَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ. اللَّهُمَّ اسْلك بِنَا مَسْلَكَ الصَّادِقِينَ الأَبْرَارْ، وَألْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الْمُصْطَفينَ الأَخْيَارِ، وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارْ واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى عَلى قَوْلِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - في الْحَدِيثِ: «وآمُرُكُمْ بالصَّلاةِ فَلا تَلْتَفِتُوا فَإِنَّ اللهُ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ» .

الالتفات في الصلاة منهي عنه وهو قسمان

الالْتِفَاتُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي الصَّلاة قِسْمَان: أَحَدُهُمَا: الْتِفَاتُ الْقَلْبِ عن الله عَزَّ وَجَلَّ إِلى غَيْرِ اللهِ تَعَالَى. والثَّانِي: الْتفاتُ الْبَصَرِ وَكِلاهُمَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَلا يَزَالُ اللهُ مُقْبِلاً عَلَى عَبْدِهِ مَا دَامَ الْعَبْدُ مُقْبِلاً عَلى صَلاتِهِ فَإِذَا الْتَفَتَ بِقَلْبِهِ أَوْ بَصَرِهِ أَعْرَضَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ وَقَدْ سُئْلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ التِفَاتِ الرَّجُلِ فِي صَلاتِهِ فَقَالَ: «اخْتِلاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلاة ِالْعَبْدِ» . وفي أَثَرِ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى إِلى خَيْرٍ مِنِّي، ومِثَالُ مَنْ يَلْتَفتُ في صَلاتِهِ بِبَصَرِهِ أَوْ بِقَلْبِهِ مَثَلُ رَجُلٍ قَدْ اسْتَدْعَاهُ السُّلْطَانُ فَأَوقَفَهُ بَيْنَ يَدَيهِ وأَقْبَلَ يُنَادِيهِ وَيُخَاطِبُهُ وَهُوَ فِي خِلالِ ذَلكَ يَلْتَفِتُ عَنْ السُّلْطَانِ يَمِينًا وَشِمَالاً وَقَدْ انْصَرَفَ قَلْبُهُ عَنْ السُّلطانِ فَلا يَفْهَمُ مَا يُخَاطِبُهُ بِهِ لأَنَّ قَلْبَهُ لَيْسَ حَاضِرًا مَعَهُ فَمَا ظَنُّ هَذَا الرَّجل ِأَنْ يَفْعَلَ بِهِ السُّلْطَانُ أَفَلَيْسَ أَقَلُّ الْمَرَاتِبِ فِي حَقّهِ أَنْ يَنْصَرِفَ مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ مَمْقُوتًا مُبْعِدًا قَدْ سَقَطَ مِنْ عَيْنَيْهِ. فَهَذَا الْمُصَلِّي لا يَسْتَوِي وَالْحَاضِرُ الْقَلْبِ الْمُقْبِلُ عَلَى اللهِ تَعَالى في صَلاتِهِ الذي قَدْ أَشْعَرَ قَلْبَهُ عَظَمَةَ اللهِ الذي هُوَ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيهِ فَامْتَلأَ قَلْبُهُ مِنْ هَيْبَتِهِ وَذَلَّتْ عُنُقُهُ لَهُ واسْتَحَى مِنْ رَبِّهِ تَعَالى أَنْ يُقْبلَ عَلى غَيرهِ أَوْ يَلْتَفِتَ عَنْهُ. وَبَيْنَ صَلاتَيْهِمَا كَمَا قَالَ حَسَّانُ بنُ عَطِيَّةَ: إِنَّ الرَّجُلَيْنِ لَيَكُونَانِ في الصَّلاةِ الْوَاحِدَةِ وَإِنَّ مَا بَيْنَهُمَا في الْفَضْلِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ وَذَلِكَ أَنَّ أَحَدَهُمَا مُقْبِلٌ بِقَلْبِهِ عَلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ والآخَرُ سَاهٍ غَافِلٌ فَإِذَا أَقْبَلَ الْعَبْدُ عَلَى مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابٌ لَمْ يَكُنْ إِقْبالاً ولا تَقْرِيبًا فَمَا الظنُّ بالْخَالِق عَزَّ وَجَلَّ وإِذَا أَقْبَلَ عَلى الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابُ الشَّهَوَاتِ والْوَسَاوِسِ، والنَّفْسُ مَشْغُوفَةٌ بِهَا مَلأَى مِنْهَا فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلكَ

غضب الشيطان عند قيام العبد إلى الصلاة

إِقْبَالاً، وَقَدْ أَلْهَتْهُ الْوَسَاوِسُ والأَفْكَارُ وَذَهَبَتْ بِهِ كلَّ مَذْهَبٍ بِهَا. قِصَّةٌ تُنَاسِبُ الْمَوْضُوعَ أَلْقِ لِهَا سَمْعَكَ وَحَضِّرْ قَلْبَكَ، قِيلَ إِنَّ السَّفْاحَ كَانَ يُحَدِّثُ أَبَا بَكْرٍ الْهُذَلِيْ يَوْمًا، فَعَصَفَتْ رِيحٌ فَأَسْقَطَتْ طِشْتًا مِنْ السَّطْحِ عَلَى الْمَجْلِسِ، فَارْتَاع الْحَاضِرُونَ وَلَمْ يَتَحَرّك الْهُذَلِيُّ، وَلَمْ تَزَلْ عَيْنُه مُطَابِقَةً لِعَيْنِ السَّفْاحِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ، فَقَالَ السَّفْاحُ: مَا أَعْجَبَ شَأْنَكَ يَا هُذَلي، أَيْ: لَمْ تَرْتَاع وَلَمْ تَلْتَفِتْ. فَقَالَ: إِنَّ الله تَعَالى يقول: {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} وَأَنَا لِي قَلْبُ وَاحِدٌ فَلَمَّا شُغِلَ بِمُحَادَثَةِ أَمِير الْمُؤْمِنِين لَمْ يَكن فيه لِمُحَادَثَةِ غَيْرِهِ مَجَال فَلو انْقَلَبتِ الْخَضْرَاءُ عَلَى الْغَبْراء مَا حَسَسْتُ بِهَا وَلا وَجّهْتُ لها قَلْبِي، فَقَالَ السَّفْاحُ: لِئنْ بَقِيتُ لأَرَفَعَنَّ مَكَانَكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِمَالٍ جَزِيلٍ وصِلةً كَبِيرة، فَانْظُر بالله عَلَيْكَ وَاعْتَبِرْ فِي اسْتِغْرَاقِ قَلْبِ الْهُذَلِيْ وَانْغِمَارِهُ بِمُحَادَثةِ مَخْلُوقٍ مِثلِهِ، وَزِنْ حَالَهُ بِحَالِكَ فِي وِقُوفِكَ فِي الصَّلاةِ بَيْنَ يَدَيْ الله عز وجل، وقَد أَقْبَلَ عَليكَ بِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ ورَفَعَ مِنْ بَيْنِكَ وَبَيْنَهِ الْحُجُب، فهل تجدُ قَلْبَكَ إِذَا دَخَلْتَ فِي الصَّلاة حَاضِرًا وَمُنْغَمِرًا وَمُسْتَغْرِقًا فِي تَعْظِيمِ الله الذي ليس كمثله شيء وهو السميع الْبَصِير. اللَّهُمَّ اغْمُرْ قُلوبَنَا بِذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ، وَوَفِّقْنَا لامْتِثَالِ أَمْرِكَ وَأَمَّنَا مِنْ سَطْوَتِكَ وَمَكْرِكَ واجْعَلْنَا مِنْ أَوْلِيَائِكَ الْمُتَّقِينَ وَحِزْبِكَ المفلحِينَ واغْفِرْ لَنَا وَمَتِّعْنَا بالنَّظَرِ إِلى وَجْهِكَ الكْريم في جَنَّاتِ النَّعِيمْ مَعَ الذين أنْعَمْت عليهم من النبيينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَدَاءِ والصَّالِحين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ) : وقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: والعَبْدُ إِذَا قَامَ فِي الصَّلاةِ غَارَ الشَّيْطَانُ مِنْهُ فَإنَّهُ قَدْ قَامَ فِي أَعْظَمِ مقَامٍ وَأَقْربِهِ وَأَغْيَظِهِ للشَّيْطَانِ وَأَشَدِّهِ عَلَيْهِ. فَهُو يَحْرَصُ وَيَجتَهِدُ كُلَّ الاجْتِهَادَاتِ أَنْ لا يُقِيْمَه فيه، بَلْ لا يَزَالُ بِهِ يَعِدُهُ

وبيان من تكفر الصلاة سيئاته وهو من جعلت قرة عينه ونعيم قلبه

وَيُمَنِّيهِ وَيُنْسِيهِ وَيَجِلبْ عَلَيْهِ بَخَيْلِهِ وَرَجلِهِ حَتَّى يُهَوِّنَ عَلَيْهِ شَأَنَ الصَّلاةِ فَيَتَهَاوَنُ بِهَا فَيَتْرُكُهَا. فَإنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ مِنْهُ وَعَصَاهُ العَبْدُ وَقَامَ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ أَقْبََل عَدُوُّ اللهِ حَتَّى يَخْطُر بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ وَيَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَلْبِهِ فَيُذَكِّرَه فِي الصَّلاةِ مَا لَمْ يَذكُرْ قَبْلَ دُخُولِهِ فِيهَا حَتَّى رُبَّمَا كَانَ قَدْ نَسِي الشَّيْءَ والحَاجَةَ وأَيِسَ مِنْهَا، فَيُذْكِرَهُ إِيَّاهَا في الصَّلاةِ لِيَشْغَلَ قَلْبَهُ بِهَا، وَيَأْخُذَه عَن اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقُومُ فِيهَا بلا قَلْب فلا يَنَالُ مِنَ إقْبالِ اللهِ تعالَى عَلَيْهِ وَكَرَامَتِهِ وَقُربِهِ مَا يَنَالُهُ الْمقبلُ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ الحاضِرُ القَلْب في صَلاتِهِ فَيَنْصِرفُ مِنْ صَلاتِهِ مِثلَ مَا دَخَلَ فِيهَا بِخَطَايَاهُ وَذُنُوبِهِ وأثْقَالِهِ لَمْ تَخُفَّ عَنْهُ بالصَّلاةِ. فالصَّلاةُ إنَّمَا تُكَفِّرُ سَيئاتِ مَنْ أَدَّى حَقَّهَا وَأَكْمَلَ خُشوعَهَا، وَوَقَفَ بَيْنَ يَدي اللهِ تَعَالى بِقَلْبِهِ وَقَالَبِهِ، فَهَذَا إِذَا انْصَرَفَ مِنْهَا وَجَدَ خِفَّةً فِي نَفْسِهِ، وَأَحَسَّ بأثقَالٍ وُضِعَتْ عَنْهُ، فَوَجَدَ نَشَاطًا وَرَاحَةً وَرَوحًا حتَّى أنَّهُ يَتَمنَّى أنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا لأنَّها قُرَّةُ عَينهِ وَنَعِيمُ رُوحِهِ وَجَنَّةُ قَلْبِهِ وَمُسْتَرَاحُه في الدُّنْيَا فَلا يَزَالُ كَأنَّهُ في سِجْنٍ وَضِيْقٍ حَتَّى يَدْخلَ فِيهَا فَيَسْتَريحُ بِها لا مِنْهَا. المُحِبُّونَ يَقولُونَ: نُصَلّي فَنَسْتَرِيحُ بِصَلاتِنَا كَمَا قَالَ إِمَامُهم وَقُدْوَتُهم وَنَبِيُّهُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا بِلالُ أَرِحْنَا بالصَّلاةِ» . وَلَمْ يَقُلْ: أَرِحْنَا مِنْهَا. وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ» . فَمَنْ جُعَلْت قُرةُ عَيْنِهِ في الصَّلاةِ كَيْفَ تَقَرُّ عَيْنُه بِدُونِهَا وَكَيْفَ يَطِيقُ الصَّبْرُ عَنْهَا فَصَلاةُ هَذَا الحَاضِرِ بِقَلْبِهِ الذي قُرّةُ عَيْنِهِ في الصَّلاةِ هِيَ التِي تَصْعَدُ وَلَهَا نُورٌ وَبُرْهَانٌ حَتَّى يُسْتَقْبَلَ بِهَا الرَّحْمَنُ فَتَقُولُ: حَفِظَكَ اللهُ تَعَالى كَمَا حَفِظْتَنِي، وأمَّا صَلاةُ الْمُفَرِّطِ الْمُضَيّعِ لِحُقُوقِهَا وَحُدُودِهَا وَخُشُوعِهَا فَإنَّهَا

تُلَفُّ كَمَا يُلَفُّ الثَّوْبُ الخَلِقُ وَيُضْرَبُ بِهَا وَجْهُ صَاحِبِهَا وَتَقُولُ: ضَيَّعَكَ اللهُ كَمَا ضَيَّعْتَنِي. وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ عَنْ ابن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَرْفَعُهُ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُتِمُّ الوُضُوءَ إلى أَمَاكِنِهِ ثُمَّ يَقُومُ إلى الصَّلاةِ فِي وَقْتِهَا فَيُؤَدِّيهَا للهِ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَنْقُصْ مِنْ وَقْتِهَا وَرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَمَعَالِمَهَا شَيْئًا إِلا رُفِعَتْ لَهُ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بَيْضَاءَ مُسْفِرةً يَسْتَضِيءُ بِنُورهَا مَا بَيْنَ الخَافِقين حَتَّى يَنْتَهِي بِهَا إلى الرَّحْمَن عزَّ وَجَلَّ. وَمَنْ قَامَ إلى الصَّلاةِ فَلَمْ يُكْمِلْ وَضُوءَهَا وَأَخَّرَهَا عَنْ وَقْتَهَا واسْتَرَقَ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا وَمَعَالِمَهَا رُفِعَتْ عَنْهُ سَوْدَاءَ مُظْلِمَةً ثُمَّ لا تُجَاوِزُ شَعَرَ رَأْسِهِ تَقُولُ: ضَيَّعَكَ اللهُ كَمَا ضَيَّعْتَنِي» . وَللهُ دَرُّ إسْمَاعِيلَ الْمُقْرِي رَحِمَهُ اللهِ حَيْثُ قَالَ: تُصَلِّي بَلا قَلْبٍ صَلاةً بِمِثْلِهَا يَكُونُ الفَتَى مُسْتَوْجِبًا لِلْعُقُوبَةِ تَظَلُّ وَقَدْ أَتَمَّمَهَا غَيْر عَالِمِ تَزِيُدُ احْتِيَاطًا رَكْعَةً بَعْدَ رَكْعَةِ فَوَيْلَكَ تَدْرِي مَنْ تُنَاجِيهِ مُعْرِضًا وَبَيْنَ يَدِي مَنْ تَنْحَى غَيرَ مُخْبِتِ تَخَاطِبُهُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ مُقْبِلاً عَلَى غَيْرِهِ فِيهَا لِغَيْرِ ضَرُورَةِ وَلَوْ رَدَّ مَنْ نَاجَاكَ لِلْغَيرِ طَرْفَهُ تَمَيَّزْت مِنْ غَيْظٍ عَلَيْهِ وَغَيرَةِ أَمَا تَسْتَحِي مِنْ مَالِكِ الْمُلكِ أَنْ يَرَى صُدُودَك عَنْه يَا قَلِيلَ الْمُرُؤَةِ

لكل مطلوب مفتاح وذكر بعض المفاتيح

إلَهِي اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ وَخُذْ بِنَا إلى الحَقِّ نَهْجًا في طَرِيقِ السَّوِيَّةِ اللَّهُمَّ انْظِمْنَا فِي سِلْكِ عِبَادِكَ الْمُفْلِحِينَ واجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الْمُخْلِصِينَ الذينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا. اللَّهُمَّ قَنِّعْنَا مِنْ الدُّنْيَا بَاليَسِير وَسَهِّلْ عَلَيْنَا كُلَّ أَمْرٍ عَسِيرٍ وَوَفِّقْنَا لِمَا تُحِبُّهُ وَتَرْضَاهُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير وَأَسْكِنَّا دَار كَرَامَتِكَ يَا مَنْ هُو مَلْجَؤُنَا وَمَلاذُنَا وَإلَيْهِ الْمَصِيرُ واجْعَلْ لَنَا مِنْ كُلِّ هَمَّ فَرَجَا وَمِنْ كُلِّ ضَيْقٍ مَخَرَجًا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ إِخْوَانِنَا المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فصل) فائدةٌ جَليلةٌ قَالَ ابْنُ القَيّم رَحِمَهُ اللهُ فِي حَادِي الأَرْوَاحِ: وَقَدْ جَعَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ لِكلّ مَطْلوبٍ مِفْتَاحًا يُفْتَحُ بِهِ فَجَعَلَ مِفْتَاحَ الصَّلاةِ: الطَّهورِ، وَمِفْتَاحَ: الحَجِّ الإِحْرَامُ، وَمفتاحَ البِّرِ: الصَّدَقَةُ، وَمِفْتَاحَ الجَنَّةِ: التَّوْحِيدُ، ومِفتاحَ العِلم: حُسْنُ السَّؤَالِ، وَحُسْنَ الإِصْغَاءِ، وَمفتاحَ النَّصْرِ والظَّفَرِ: الصَّبْرُ، وَمفتاحَ الْمَزيدِ: الشُّكْرُ، وَمِفْتَاحَ الوِلايَةِ:المَحَبَّةُ، وَمِفْتَاحَ الرَّغْبَةِ فِي الآخِرةِ: الزُّهْدَ في الدُّنْيَا. وَمفتاحَ الإيمانِ: التَّفكرُ فِيمَا دَعَا اللهُ عِبَادَهُ إلى التَّفَكُر فيهِ، وَمَفْتَاحَ الدُّخُولِ عَلَى اللهِ: إسلامَ القَلْبِ وَسَلامَتَهُ لَهُ والإخْلاصَ لَهُ في الحبّ والبُغْضِ لَهُ والفعلَ والتَّرْكَ، ومفتاحَ حياةِ القَلْبِ: تَدبّرَ القَرْآنِ، والتَضَرُّعَ بالأسْحَارِ، وَتَرْكَ الذُّنوبِ، وَمَفْتَاحَ حُصُولِ الرَّحْمَةِ: الإِحسانُ في عِبَادَةِ الخَالِقِ والسَّعْي فِي نَفْعِ عَبِيدِهِ، وَمَفْتَاحَ الرِّزْقِ: السَّعْيُ مع الاسْتَغَفَارِ والتَّقْوَى، ومِفْتَاحَ العِزّ: طَاعَةُ اللهِ، وَمِفْتَاحَ الاسْتعدَادِ للآخِرَةِ: قَصْرُ الأمَلِ، وَمِفْتَاحَ كُلَّ

خَيْرُ: الرَّغْبَةُ فِي اللهِ والدَّارَ الآخِرَةَ، وَمُفْتَاحُ كُلِّ شَرٍ: حُبُّ الدُّنْيَا وَطُولُ الأمَلِ. وَهَذَا بَابٌ عَظِيمٌ مِنْ أَنْفَعِ أَبْوابِ العِلْمِ وَهُو مَعْرِفَةُ مَفَاتِيحِ الخَيرِ والشَّرِ ولا يُوَفَّقُ لِمَعْرِفَتِهِ وَمُرَاعَاتِهِ إلا مَنْ عَظُمَ حَظَّهُ وَتَوْفِيقه فإنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى جَعَلَ لِكُلِّ خَيْرٍ وَشَرٍ مِفْتاحًا وَبَابًا يَدْخَلُ مِنْهُ إِلَيْهِ كَمَا جَعَلَ الشَّرْكَ وَالْكِبْرَ والإِعْرَاضَ عَمَّا بَعَثَ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ وَالغَفْلَةُ عَنْ ذِكْرِهِ والقِيامِ بِحَقِّهِ مِفْتَاحًا لِلنَّارِ وَكَما جَعَلَ الخَمْرَ مِفْتَاحَ كُلِّ إثْمٍ، وَجَعَلَ الغِنَاءَ مُفْتَاحَ الزِّنَا، وَجَعَل إطْلاقَ النَّظَرِ فِي الصُّوَرِ مِفْتَاحَ الخَيْبَةِ والحِرْمَانِ، وَجَعَلَ الْمَعَاصِي مِفْتَاحَ الُكْفِر، وَجَعَلَ الكَذِبَ مِفْتَاحَ النِّفَاقِ، وَجَعَل الشُّحَ والحِرْصَ مِفْتَاحَ البُخْلِ وَقَطِيعَةَ الرَّحِم وأَخْذَ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ حِلّهِ، وَجَعَلَ الإعْرَاضَ عَمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِفْتَاحَ كُلِّ بِدْعَةٍ وَضَلالٍ، وَهَذِهِ أُمُورٌ لا يُصَدِّقُ بِهَا إِلا كُلُّ مَنْ لَهُ بَصِيرةٌ صَحِيحةٌ وَعَقْلٌ يَعْرِفُ بِهِ مَا فِي نَفْسِهِ. انْتَهَى. وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى: عَلامَةُ تَعْظِيمِ الأَوَامِر والنَّواهِي رِعَايَةُ أَوْقَاتِهَا وَحُدُودِهَا والتَّفْتيشُ عَلَى أَرْكَانِهَا وَوَاجِبَاتِهَا وَكَمَالِهَا والحِرْصُ على تَحَيُّنِها في أَوْقَاتِهَا والْمُسَارَعَةِ إلِيْهَا عَنْدَ وُجُوبِهَا والحُزْنُ والكآبَةُ والأسَفُ عِنْدَ فَوَاتِ حَقٍّ مِنْ حُقوقِهَا كَمَنْ يَحْزَنُ عَلَى فَوَاتِ الجَمَاعَةِ وَيَعْلَمُ أَنَّهَا لَوْ تُقُبِّلَتْ مِنْهُ صلاتُهُ مُنْفَرِدًا فَإنَّهُ قَدْ فَاتَهُ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ ضِعْفًا. وَلَوْ أَنَّ رَجُلاً يُعَانِي البَيْعَ والشِّرَاءَ يَفُوتُهُ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ فِي بَلَدِهِ مِنْ غَيْرِ سَفَرٍ وَلا مَشَقَّةٍ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ دِينَارًا لأَكلَ يَديهِ نَدَمًا وَأَسَفًا فَكَيْفَ وَكُلُّ ضِعْفٍ مِمَّا تُضَاعَفُ بِهِ صَلاةُ الجَماعَةِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ وَأَلْفِ أَلْفٍ وَمَا شَاءَ اللهُ تَعَالى.

خسارة من فاتته الصلاة مع الجماعة وبيان الصلاة الكاملة

فَإذَا فَوَّتَ العَبْدُ على نَفْسِهِ هَذا الربْحِ، وَكَثيرٌ مِن العُلَماءِ يَقُولُ: لا صَلاةَ لَهُ وَهُوَ بَارِدُ القَلْب فارغٌ مِن هَذِهِ الْمُصِيبةِ غَيرُ مُرْتَاعٍ لَهَا فَهَذَا مِنْ عَدَم تَعْظِيمِ أَمْرِ اللهِ تَعَالى فِي قَلْبِهِ وَكَذَلِكَ إذا فَاته أَوَّلُ الوَقْتِ الذي هو رضوانُ اللهِ تَعَالى، أوْ فَاتَه الصَّفُ الذي يُصَلِّي اللهُ وَمَلائِكَتُه عَلَى مَيَامِنِهِ وَلَوْ يَعلمُ العَبْدُ فَضِيْلَتَهُ لَجَالَدَ عَليهِ وَلَكَانَتْ قُرْعَةً. وكذلكَ لو فَوَّتَ الجَمْعَ الكَثيرَ الذي تُضَاعَفُ الصَّلاةُ بِكَثْرَتِهِ وَكُلَّمَا كَثُرَ الجَمْعُ كانَ أَحَبَّ إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَكُلَّمَا بَعُدَتْ الخُطَا كَانَ كُلَ خُطْوَةٍ تَحُطُّ خَطِيئةً وَأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَةً وَكَذَلِكَ لَوْ فَوَّتَ الخُشُوعَ في الصَّلاةِ وَحُضَورَ القلبِ فِيمَا بَيْنَ يَدَي الرَّبِ وَتَعَالى الذي هُوَ رُوحُ الصَّلاة وَلُبُّهَا فَصَلاةٌ بِلا خُشُوعٍ ولا خُضُوعٍ كَبَدَنٍ مَيّتٍ لا رُوحَ فِيهِ أَفَلا يَسْتَحِي العبد أَنْ يُهْديَ إلى مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ عَبْدًا مَيِّتًا أَوْ جَارِيَةً مَيِّتَةً، فَمَا ظَنُ هَذَا العَبْدِ أَنْ تَقَعَ الهِديَّةُ مِمَّنْ قَصَدَهُ بِهَا مِنْ مَلِكٍ أَوْ أَمِيرٍ أَوْ غَيرِهِ، فَهَكَذَا سُوء الصَّلاةِ الخَالِيَةِ مِنْ الخُشُوعِ والحُضُورِ وَجَمْعِ الهِمَّةِ عَلَى اللهِ تَعَالى فِيهَا بِمَنْزِلةِ هَذِهِ الأمَةِ أَوْ العَبْدِ الْمَيِّتِ الذي يُريدُ إهْدَاءَهُ إلى بَعْضِ الْمُلْوكِ. وَلِهَذا لا يَقْبَلُهَا اللهُ تَعَالى مِنه وإنْ أسقَطتْ الفُرض في أحكام الدنيا ولا يُثِيبُه عَلَيْهَا فَإنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبِدِ مِن صَلاتِهِ إلا مَا عَقَلَ مِنْهَا، كَمَا في السُّنَنِ وَمَسندِ الإمَامِ أحمدَ وَغَيْرِهِ عَن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِن العَبْدَ لَيُصَلِّي الصَّلاةَ وَمَا كَتبَ لَهُ إلا نَصْفِهَا، إلا ثُلُثَهَا، إلا رُبُعَهَا، إلا خُمُسَهَا، حَتَّى بَلَغَ عُشْرَهَا» . وَيَنْبغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ سَائِرَ الأَعْمَالِ تَجْرِي هَذَا المَجْرَى فَتَفَاضُلُ الأعمالِ عندَ اللهِ تعالى بِتَفاضُلِ مَا في القُلُوبِ مِن الإِيمان والإِخلاصِ والمَحَبَّةِ وتوابِعِهَا.

والناقصة ويليها قصيدة زهدية وعظية

وَتَفاضُلِ الأَعْمَالِ يَتْبَعُ مَا يَقُو مُ بِقَلْبِ صَاحِبِهَا مِن الإِيمَانِ حَتَّى يَكُونَ العَامِلانِ كِلاهُمَا في رُتْبَةٍ تَبْدُو لَنَا بِعِيَانِ هَذَا وَبَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَا والأَرْضِ في فَضْلٍ وفي رُجْحَانِ وَيَكُونُ بَيْنَ ثَوابِ ذَا وَثَوابِ ذَا رُتب مُضَاعَفَةٌ بِلا حُسْبَانِ هَذَا عَطَاءُ الرِّبِ جَلَّ جَلالُهُ وَبَذاكَ تُعْرَفُ حِكْمَةُ الرَّحْمنِ فَالْمَدَارُ عَلَى أَعْمَالِ القُلُوبِ فَإذا كانَ القَلْبُ حَاضِرًا وَمُلْقٍ سَمْعَهُ لِمَا يَسْمَعْ وَلِمَا يَنْطِقُ هُوَ بِهِ مِنْ قَرَاءَةٍ وَتَكْبِيرٍ وَتَسْبِيحٍ وَقَوْلِ: رَبي اغفرْ لي، وَقول: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَمَعَانِي الفاتِحَةِ والتَّحياتِ وَنحو ذلكَ مِنْ صَلاتَهِ، وَأَمَّا الغَافِلُ الذي لا يَتَدَبَّرُ وَلا يَتَفَهَّّمُ وَيَعْبَثُ ولا يَهْتَمُ لَهَا فَهَذَا مَحْصُولُهُ ضَئِيلٌ جَدًا أَو معدوم. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد خاتم الأنباء والمرسلين المبعوث رحمةً للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين ومَن تَبِعَهُم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا. شِعْرًا: لَكَ الحَمْدُ يَا ذَا الجُودِ والمَجْدِ والعُلا تَبَارَكْتَ تُعْطِي مَنْ تَشَاءُ وَتَمْنَعُ إِلهي وَخَلاقِي وَسُؤلِي وَمَوْئِلي إِلَيْكَ لدَى الإعْسَارِ واليْسرِ أَفْزَعُ

إِلَهِي لَئِنْ خَيَّبْتَنِي أَوْ طَرَدْتَنِي فَمَنْ ذَا الذي عَمَّا أُحَاذِرُ يَنْفَعُ إِلَهي لَئِن جُلتُ وَجَمَّت خَطيئَتي فَعَفوُكَ عَن ذَنبي أَجَلُّ وَأَوسَعُ إِلَهي لَئِن أَعطَيتَ نَفسي سُؤلُها فَها أَنا في رَوْضِ النَدامَةِ أَرتَعُ إِلَهي تَرى حالي وَفَقري وَفاقَتي وَأَنتَ مُناجاتي الخَفيَّةِ تَسمَعُ إِلَهي فَلا تَقطَع رَجائي وَلا تُزِغ فُؤادي فَلي في سَيبِ جُودِكَ مَطمَعُ إِلَهي أَجِرني مِن عَذابِكَ إِنَّني أَسيرٌ ذَليلٌ خائِفٌ لَكَ أَخضَعُ إِلَهي فَآنِسني بِتَلقينِ حُجَّتي إِذا كانَ لي في القَبرِ مَثوىً وَمضجَعُ إِلَهي لَئِن عَذَّبتَني أَلفَ حَجَّةٍ فَحَبلُ رَجائي مِنكَ لا يَتَقَطَّعُ إِلَهي أَذِقني طَعمَ عَفوكَ يَومَ لا بَنونٌ وَلا مالٌ هُنَالِكَ يَنفَعُ إِلَهي لَئِنْ لَم تَرعَني كُنتُ ضائِعًا وَإِن كُنتَ تَرعاني فَلَستُ أَضيعُ إِلَهي إِذا لَم تَعفُ عَن غَيرِ مُحسِنٍ فَمنَ لَمسيءٍ بِالهَوى يَتَمَتَّعُ إِلَهي لَئِن قصَّرتُ في طَلبِ التُقى

موعظة بليغة عبارة عن خطبة وكل موعظة تصلح خطبة مما ذكر إذ كملت الشروط والأركان

فَلَسْتَ سِوَى أَبْوَابِ فَضْلِكَ أَقْرَعُ إِلَهي أَقلْنِي عَثرَتِي وامَحُ زَلَّتِي فَإِنِّي مُقِرٌ خَائِفٌ مُتَضَرِّعُ إِلَهي لَئْن خَيَّبْتَنِي وَطَرَدتَنِي فَمَا حِيلَتِي يَا رَبُّ أَمْ كَيْفَ أَصْنَعُ إِلَهِي حَلِيفُ الْحُبِّ باللَّيلِ سَاهرٌ يَنَاجِي وَيَبْكِي والْغَفُول يُهَجِّعُ إِلَهي لَئِنْ تَعْفُوُ فَعَفْوكَ مُنْقِذِي وَإنِّي يَا رَبِّ الْوَرَى لَكَ أَخْضَعُ اللَّهُمَّ يَا مَنْ لا تَضُرَّهُ الْمَعْصِيةَ ولا تنفعُهُ الطَّاعَة أَيْقِظْنَا مِنْ نَوْمِ الْغَفْلَةِ وَنَبِّهْنَا لاغْتِنَامِ أَوْقَاتِ الْمُهْلَةِ وَوَفِّقْنَا لِمَصَالِحِنَا واعْصِمْنَا مِنْ قَبَائِحِنَا وَلا تُؤاخِذْنَا بِمَا انْطَوَتْ عَليهِ ضَمَائِرُنَا وَأَكَنَّتُهُ سَرائِرُنا مِنْ أَنْوَاعِ الْقَبَائِحِ والْمَعائِبِ الَّتِي تَعْلَمُهَا مِنَّا، وَامْنُنْ عَلَيْنَا يَا مَوْلانَا بِتَوْبَةٍ تَمْحُو بِهَا عَنَّا كلَ ذَنْبٍ. اللَّهُمَّ ارْحَمْ عِبَادًا غَرَّهُمْ طُولُ إِمْهَالِكَ وَأَطْمَعَهُمْ دَوَامُ إِفْضَالِكَ وَمَدُّوا أَيْدِيَهُمْ إِلى كَرَمِ نَوَالِكَ وَتَيَقَّنُوا أَن لا غِنَى لَهُمْ عَنْ سُؤالِكَ وَجُدْ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ بِرَحْمَتِكَ الْوَاسِعَةِ واغفر لِنَا وَلَهُمْ وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ يا ربَّ العالَمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (9) موعظة عِبَادَ اللهِ تَغَيَّرَ النَّاسُ فِي أَحْوَالِهم الدِّيِنِيَّةِ تَغَيِّرًا يُدْهِشُ النَّاظِرِينَ في زَمَنٍ قَلِيلٍ، هَذِهِ الصَّلاةِ التي هِي آكَدُ أركَانِ الإِسْلامِ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ وَهِيَ عَمُودُ الإِسْلامِ قَدْ أَعْرَض عنها الكثيرُ مِنْ النَّاسِ غَيْرَ مُبَالِينَ بِذَلِكَ جَهِلُوا مَا هِيَ الصَّلاةَ وأيُّ قِيْمَةٍ قِيْمَتُهَا وَمَا مَنْزِلَتُهَا بَيْنَ الطَّاعَاتِ، وَمَا

علموا أَنَّهَا الصِّلَةُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ وَلِذَلِكَ هِيَ تُطَهِّرُ الْمُصَلِّي مِنْ جَمِيعِ ذُنُوبِهِ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ كَالزِّنَا واللِّواطِ َوَأَكْلِ الرِّبَا. وَيَزِيدُكَ مَعْرِفَةً بِهَا أَنْ تَعْرِفَ مَالَهَا مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَوَضَأَ لَهَا ذَهَبَتْ ذُنُوبُ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ مَعَ ذِهَابِ الْمَاءِ فَإِذَا تَشَهَّدَ بَعد الْوُضُوءِ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَدْخلُ مِنْ أَيُّهَا شَاءَ فَإِذَا مَشَى إِلَى الْمَسْجِدِ كَانَ لَهُ بِكُلِ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا تَحُطُّ عنه خَطِيئَةٌ وَرُفِعَ لَهُ دَرَجَةً فَإِذَا انْتَظَر الصَّلاةَ فَإِنَّهُ لا يَزَالُ في صلاةٍ. وَأَمَّا الْمُؤَذِّنُونَ فَهُمْ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَشْهَدُ لَهُمْ كلُّ مَا يَسْمَعُهُم حتَّى الأَشْجَارَ والأَحْجَارَ. وَمَنْ قَالَ مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ ثُمَّ دَعَا عَقِبَهُ وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَمَّا قَمُّ الْمَسْجدِ وَتَنْظِيفُهُ فَهُوَ مَهْرُ الْحُورِ الْعِينِ فِي الْجَنَّاتِ وَمَنْ بَنَي لَهُ مَسْجِدًا وَلَو كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ. والْخُلاصَةُ أَنْ الْمُؤْمِنَ بِصَلاتِهِ أَبَعَدَ النَّاسِ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ والْفَوَاحِشِ والزِّنَا واللِّوَاطِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ والدخانِ والْمَيْسَرِ وَقَوْلِ الزُّورِ والسِّرِقَةِ والْقَتْلِ والْقَذْفِ وحَضُورِ آلاتِ اللَّهْوِ: الْمَذْيَاعِ، والتِّلفزيونِ، والسِّينماءِ، والْبَكَمَاتِ، وأَبْعَدَ النَّاسِ عَنْ الْغِشِّ والرِّبَا والْبَخْسِ والْمَكْرِ والْخِدَاعِ وَغَيْرَهِمَا مِمَّا يُخِلُّ بالدِّينِ أَوْ يُنَقِّصُ الْمُرؤَةَ والشَّرَفَ، إِذْ مِنْ غَيْرِ الْمَعْقُولِ أَنَّ مَنْ بَلَغَ بِهِ حُبُهُ فِي الاسْتقامَةِ أَنْ يَقِفَ أَمَامَ سَيِّدِه وَمَوْلاهُ الذي رَبَّاهُ وَرَبَّى جَمِيعَ الْعَالَمِين بِنِعَمِهِ وَيَسْتَهْدِيهِ طَرِيقَ الْهِدَايَةِ وَقَدْ قَدَّرَ رَبَّهُ وَرَكَعَ لَهُ وَسَجَدَ وَحَمَدَهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ وَشَكَرَ لَهُ أَنْ يُرَى بَعْدَ ذَلِكَ جَوَّالاً فِي طُرُقِ الْغَوَايَةِ والْمَآثِمِ الَّتِي يَنْتَابُهَا الْفُسَّاقُ الذِّين مَرَدُوا عَلى الْفُجُورِ وَتَفَنَّنُوا فِيهِ.. صَدَقَ اللهُ العظيم.

ذكر بعض فوائد الصلاة وذكر طرف من بعض فوائد صلاة النوافل

{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} هَذِهِ مِنْ ثَمَرَاتِ الصَّلاةِ. اللَّهُمَّ ألْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لِلْقِيَامِ بِحَقِّكَ وَبَارِكْ لَنَا فِي الْحلال مِنْ رِزْقَكَ وَلا تَفْضَحْنَا بَيْنَ خَلْقِكَ يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلَ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ يَا قَاضِيَ الْحَاجَاتِ وَمُجِيب الدّعَواتِ هَبْ لَنَا مَا سَأَلْنَاهُ وَحَقِّقْ رَجَاءَنَا فِيمَا تَمَنَّيْنَاهُ يَا مِنْ يَمْلِكُ حَوائِجَ السَّائِلين وَيَعْلَمُ مَا فِي ضَمَائِر الصَّامِتِينَ أَذِقْنَا بِرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةَ مَغْفِرَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ أَجْمَعِينَ. فَصْلٌ: في ذِكْرِ بَعْضِ فَوَائِد صَلاةِ الْجَمَاعَةِ وَبَيانِ حُكْمِهَا وَأدلةِ وَجُوبِهَا وَذِكْرِ طَرَفٍ مِنْ فَوَائِدِ صَلاةِ الرَّوَاتِبِ والنَّوافِل اعلمْ وَفَّقْنَا اللهُ وإيَّاكَ وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ أَنَّهُ شُرِعَ لِهذِهِ الأَمَّةِ الاجْتِمَاعُ لِلْعِبَادَةِ فِي أَوْقَاتٍ مَعْلُومَةٍ، فَمِنْهَا مَا هُو فِي الْيَوْمِ واللَّيْلَةِ لِلْمَكْتُوبَاتِ، وَمِنْهَا مَا هُو فِي الأُسْبُوعِ وَهُوَ صَلاةُ الْجُمُعَةِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ فِي السَّنَةِ مُتَكَّرِرٌ وَهُوَ صَلاةُ العِيدَيْنِ لِجَمَاعَةِ كُلِّ بَلَدٍ، وَمِنْهَا مَا هُو عَامٌ في السَّنَةِ وَهُوَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَذَلِكَ لأَجْلِ التَّوَاصُلِ والتَّوَادُد والتَّعَاوُنِ والتَّآخِي والتَّآلُفِ والتَّعَارُفِ والتَّعَاطُفِ والتَّرَاحُمِ، وَقُوَّةٌ لِلرَّابِطَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، ومُضَاعَفَةَ الأَجْرِ بالاجْتِمَاعِ، وَكَثْرَةِ الْخُطَى، وَلِتَعْلِيمْ الْجَاهِلِ لأِحْكَامِ الصَّلاةِ. فَصَلاةُ الْجَمَاعَةِ هِيَ الْمُتَكَرِّرُ يَوْمَيًّا الاجْتِمَاعُ لَهَا فِي الْمَسَاجِدِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ وُجُوبَ عَينِ على الرِّجَالِ الْقَادِرِينَ حَضَرًا وَسَفَرًا حَتَّى فِي شِدَّةِ الْخُوْفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ} ، وقال تعالى: {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَثْقَلُ الصَّلاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلاةُ العِشَاءِ وصَلاةُ الْفَجْرِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا

والأدلة على وجوب صلاة الجماعة

فِيهِمَا لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا. وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بالصَّلاةِ فَتُقَامَ ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيَصَلِّي بالنَّاسِ ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حِزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إِلَى قَوْمٍ لا يَشْهَدُونَ الصَّلاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ في النَّارِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَنَّ رَجُلاً أَعْمَى قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلَى الْمَسْجِدِ فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فَيُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ فَرَخَّصَ لَهُ فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَالَ: «هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ» ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَأَجِبْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، والنسائي. وروى أبو داود عَنْ عَمْرِو ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْمَدِينَةَ كَثِيرَةُ الْهَوَامِّ وَالسِّبَاعِ وَأَنَا ضَرِيرُ الْبَصَرِ شَاسِعُ الدَّارِ وَلِي قَائِدٌ لا يُلائِمُنِي فَهَلْ تَجِدُ لِي رخصةً أن أصلي في بيتي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاء» قَالَ: نعم. قَالَ: «فَأَجِبْ فَإِنِّي لا أَجِدُ لَكَ رُخْصَةً» . فَهَذَا رَجُلٌ ضَرِيرٌ شَكَا مَا يَجِدُ مِنْ الْمَشَقَّةِ فِي مَجِيئِهِ إِلى الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ لَهُ قَائِدٌ يَقُودُهُ إِلَيْهِ وَمَعْ هَذَا لَمْ يُرَخِّصْ لَهُ النبيُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاةِ في بَيْتِهِ فَكَيْفَ بِمَنْ يَكُونُ صَحِيحُ الْبَصَرِ مُتَوَفِّرةٌ الأَنْوَارُ فِي طَرِيقهِ وَهُوَ آمِنٌ عَلَى نَفْسِهِ وأهلِهِ ومالِهِ. ومَعَ ذَلكَ لا يُجِيبُ دَاعِيَ اللهِ الذي خَلَقَهُ وَرَزَقَهُ وَأَعْطَاهُ وَأَقْنَاهُ وَوَعَدَهُ إِنْ أَطَاعَهُ بِجَمِيعِ مَا تَطْلَبُهُ نَفْسُهُ وَتَمَنَّاهُ، وَهَدَّدَ وَتَوَعَدَ مَنْ عَصَاهُ واتَّبَعَ هَوَاه. وعن ابن عباسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلمْ يَأتِ فَلا صَلاةَ لَهُ إلا مِنْ عُذْرٍ» . وأخرجَ الحاكمُ في مُسْتَدْرَكَهِ عَنْ ابنِ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثلاثةُ لَعَنَهُم اللهُ، مَن تَقَدَّمَ قَوْمًا

وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، وامْرأةٌ بَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ، وَرَجُلٌ سَمِعَ حَي عَلَى الصَّلاةِ حَيّ عَلى الْفَلاحِ ثُمَّ لَمْ يُجِبْ» . وَحَدِيثِ: «لا صَلاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إِلا بالْمَسْجدِ» . رُوِيَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا. عن ابن عباس قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَمعَ النداء فلمْ يَمْنَعْهُ مِنْ إتِّبَاعِهِ عُذْرٌ» . قالُوا: ومَا العُذْرُ؟ قال: «خوْفٌ أو مَرَضٌ لم تُقْبَلْ منه الصلاةُ التي صَلَّى» . شِعْرًا: وَأحسَنُ صَوْتٍ لَذَّ عِنْدِي سَمَاعُهُ ... سَمَاعُ أَذَانٍ مِنْ مَنَارَةِ مَسْجِدِ يُنَادي بَتَوحِيدِ الذي جَلَّ شَأْنُهُ ... فَيَا نَفْسُ صَلَّيَ لِلْمُهَيمِنُ واعْبُدِي آخر: وَأَحْسَنُ صَوْتٍ في الوَرى صَوْتٍ دَاعِيًا ... إلى الله لِلْخَمْسِ الصَّلَوَاتِ تُشْهَدُ وعن معاذِ بن أنس عن رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْجَفاءُ كلُ الْجَفَاءِ والكفر والنِّفَاقُ مَنْ سَمِعَ مُنَادِيَ اللهِ يُنَادِي إِلى الصلاةِ فلا يُجِيبُهُ» . رواه أحمد، والطبراني. وعن أبي الدرداءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما مِنْ ثَلاثَةٍ في قَرْيَةٍ ولا بَدْوٍ لا تُقَامُ فِيهم الصَّلاةُ إلا قد اسْتَحَوَذَ عليهم الشيطانُ فَعَلَيْكَ بالْجَمَاعَةِ فإنما يَأكُلُ الذِّئْبُ الْقاصية» . رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي. وعن أمير المؤمنينَ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: (ما بالُ أقْوَامٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنْ الصلاةِ فَيَتَخَلَّفُ لِتَخَلُّفِهِم آخَرُونَ لأَنْ يَحْضُروا الصلاةَ أَوْ لأَبْعَثَنَّ عليهم مَن يُجَافِي رِقَابِهم) . وقال ابنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللهَ غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلى هؤلاءِ الصلواتِ

فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة …………………

الْخَمْسِ حَيْثُ يُنَادَى بِهنَّ فَإنَّ اللهَ تعالى شَرَعَ لِنَبِيكمُ سُنَنَ الْهُدَى وإِنَّهُنَّ مِن سُنَنِ الْهُدَى وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُم في بُيُوتِكم كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ في بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَظَلْلتمْ ولَقَدْ رَأَيْتَنَا وَما يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ) . وقال أبو هريرةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (لأَنْ تَمْتَلِئ أُذُنُ ابن آدَمَ رَصَاصًا مُذَابًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْمَعَ حَيَّ على الصلاةِ حَيَّ على الفلاحِ ثُمَّ لَمْ يُجِبْ) . وسُئِلَ ابنُ عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ رَجُلٍ يَقُومُ اللَّيْلَ ويَصُومُ النَّهَارَ وَهُوَ لا يَشْهَدُ الْجُمْعَةَ والْجَمَاعَةَ فقال: هُو في النارِ. ولَمَّا كانَ عَتَّابُ بنُ أسيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالِيًا للنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلَ مَكَّة فَسَمِعَ بِرِجَالٍ يَتَخَلَّفُونَ عن الصلاةِ في الْمَسَاجِدِ جَمَاعةً فقال: يا أهلَ مَكَّة واللهِ لا أَسْمَعُ بِرِجَالٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنْ الصَّلاةِ في الْجَمَاعَةِ في الْمَسَاجِد إلا ضَرَبْتُ أَعْنَاقهم فَعَلم الصحابةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم بِذَلِكَ فَزَادَهُ رِفْعَةً عِنْدَهُم وارْتَفَعَ قَدْرُهُ. وصلاةُ الْعِشَاءِ والْفَجْرِ في جَمَاعَةٍ أَشَدُّ تَأْكِيدًا لِما وَرَدَ عَنْ عُثْمَانَ بِن عفانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: سَمِعْتُ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيلِ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأنَّمَا صَلَّى الليلَ كُلَّهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وفي رواية الترمذي عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ شَهِدَ الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ لَهُ قِيَامُ نِصْفِ لَيْلَةٍ وَمَنْ شَهِدَ الْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ كَانَ لَهُ كَقِيَامِ لَيْلَةٍ» . قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ولَوْ يَعْلَمُونَ ما فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وعنه

أدلة على فضل الصلاة في جماعة والحث على تسوية الصفوف …

قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ صَلاةٌ أَثْقَلُ صَلاةٍ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنْ صَلاةُ الْفَجْرِ والْعِشَاءِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظِّهِ مِنْ لَيْلَةِ الْقَدْرِ» . رواه الطبراني في الكبير. وَعَنْ جُنْدَبِ الْقَسْرِيَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ صَلَّى صَلاةَ الصُّبْحِ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ فَلا يَطْلُبَنَّكُمْ اللَّهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ مَنْ يَطْلُبْهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ يُدْرِكْهُ ثُمَّ يَكُبَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فهذا نَهْيٌ مِنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن التَّعَرُّضِ لِمَنْ هُوَ فِي ذِمَّةِ اللهِ بِشيءٍ مِنْ السُّوءِ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْحَجَاجَ مَعَ جُورِهِ وَظُلْمِهِ وَتَعْدِيهِ لِحُدُودِ اللهِ كَانَ يَسْأَلُ كُلَّ مَنْ يُؤْتَى بِهِ نَهَارًا صَلَّيْتَ الصُّبحَ فِي جَمَاعَةٍ فَإنْ قَالَ: نَعَمْ خَلَّى سَبِيلَهُ مَخَافَةَ أَنْ يطلبَهُ اللهُ بشيءٍ من ذِمتهِ. وَعَنْ ابن عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنَّا إِذَا فَقَدْنَا الرَّجلَ في الْفَجْرِ والْعِشَاءِ أسأنا بهِ الظنَّ. رواه الطبرانِي، وابنُ خُزَيْمَةَ في صَحِيحِهِ. اللَّهُمَّ أَنْظِمْنَا فِي سِلْكِ عِبادِكَ الْمُفْلِحِينَ واحْشُرْنَا مَعَ الذينَ أَنْعمتَ عَلَيْهم مِن النَّبيينَ والصِّدِيقينَ والشُّهَداءِ والصَّالِحينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْفَعَ ذِكْرَنَا وَأَنْ تَضَعَ وِزْرَنَا وَتُصْلِحَ أَمْرَنَا وَتُطَهِّرَ قُلُوبَنَا وَتُنَوِّرَ قُبُورَنَا وَتَغْفِرَ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَميع المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيِنَ. (فَصْلٌ) : وَصَلاةُ الْجَمَاعَةِ تفضلُ على صلاةِ الفذِّ بسبعٍ وعشرينَ درجةً

وبيان ما يعتبر في ذلك وهو الرقبة والأكعب ………………

كمَا وردَ عَنْ ابنِ عمرَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «صَلاةُ الْجَمَاعَةِ تفضلُ صلاةَ الفذِ بسبعٍ وعشرينَ درجةً» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلاةُ الرَّجلِ فِي جَمَاعَةٍ تَضْعُفُ عَلَى صَلاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِ خَمْسًا وَعَشْرِينَ ضِعْفًا وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ لا يُخْرِجُه إِلا الصَّلاةَ لَمْ يَخْطُو خَطْوَةً إِلا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةً وَحُطَّتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزلْ الْمَلائكةُ تُصلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلاهُ مَا لَمْ يَحْدِثْ، تَقُولُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ وَلا يَزَالُ في صلاةٍ ما انتظرَ الصَّلاةَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَوَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «مَنْ صَلَّى أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي جَمَاعَةٍ يُدْرِكُ التَّكْبِيرَةَ الأُولَى كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَتَانِ مِنْ النَّارِ، وَبَرَاءَةٌ مِنْ النِّفَاقِ» . رَوَاهُ الترمِذي وَغَيْرُه مِنْ حَدِيث أنسٍ وَهُوَ حَدِيث حَسنٌ صَحَّحَهُ الْحَاكمُ وغيرهُ. وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ الصَّفِ الأَوّلِ وإتْمَامِ الصُّفوف ما يَلي فعن جَابر بن سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «ألا تَصُفونَ كَمَا تَصُفُّ الْملائِكةُ عِنْدَ رَبِّهَا» فقُلنَا يَا رسولَ اللهِ وكيفَ تصفُّ الْمَلائكةُ عند رَبِّهَا؟ قَالَ يُتمُّونَ الصُّفُوفَ الأوّل وَيَتَرَاصُّون في الصّفِّ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ والصَّفِّ الأولِ ثُم لمْ يَجِدُوا إلا أَنْ يَسْتهِمُّوا عَليهِ لاسْتَهمُّوا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ مناكِبنَا في الصَّلاةِ ويقولُ: «اسْتَووا ولا تَخْتَلِفُوا

وبيان ما يقال بعدما يكبر للصلاة ……………………

فَتَخْتَلِفَ قُلوبُكم لَيَلِني مِنْكُمْ أُولُوا الأحْلام والنُّهَى ثُمّ الذين يَلُونَهم ثُمَّ الذين َلونَهُم» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَنسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَووا صُفوفَكُم فإنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِ مِنْ تَمَامِ الصَّلاةِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَلَّلُ الصَّفَّ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَى نَاحِيَةٍ يَمْسَحُ صُدُورَنَا وَمَنَاكِبَنَا وَيَقُولُ: «لا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ» . وَكَانَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الصَّفِ الأُوَلِ» . رواهُ أبو داودَ بإسنادٍ حَسَنٍ. وَعَنْ ابن عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَقِيمُوا الصُّفُوفَ وَحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ وَسُدُّوا الْخَلَلَ وَلِينُوا بِأَيْدِي إِخْوَانِكُمْ ولا تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللَّهُ» . رواهُ أبو دَاوَدَ. اللَّهُمَّ رَغَبْنَا فيما يبقى، وزهدنا فيما يَفَنى، وهب لنا اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يُعَوَّلُ في الدين إلا عليه، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) : وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَبَّرَ للصلاةِ يَسْتَفْتِحُ. فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَبَّرَ فِي الصَّلاةِ سَكَتَ هُنَيَهَةً قَبْلَ الْقِرَاءَةَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَرَأَيْتَ سُكُوتَكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ قَالَ: «أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بَالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ» . رواهُ الْجَمَاعَةُ إلا الترمِذي.

مقدار القراءة في الركعتين الأوليين في الظهر والآخرتين ………

وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبيَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَفْتَحَ الصَّلاةَ قَالَ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلا إِلَهَ غَيْرَكَ» . رواهُ أبو دَاودَ، والدَّارَقُطْنِي. وَكَانَ يَتَعَوَّذُ قبلَ الْقِرَاءةِ في الرَّكعةِ الأولَى بعدَ الاستفتاحِ فَعَنْ أبِي سعيدٍ الْخُدَريّ عَنْ النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كانَ إِذَا قامَ إلى الصلاةِ استفتحَ ثم يَقُول: «أُعوذُ باللهِ السَّميع الْعَليمِ مِن الشيطان الرجيمِ مِنْ هَمْزِه وَنَفْخِِهِ وَنَفْثِه» . رَواه أحمدُ، والتِّرمِذيّ. وَقَالَ ابنُ الْمُنْذِرِ جَاءَ عَنْ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ قَبْلَ الْقَراءةِ «أعوذُ باللهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدريّ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلاةِ الظُّهْرِ في الرَّكَعَتَيْنِ الأَوْلَيَيْنِ في كُلِّ رَكْعَةٍ قَدْرَ ثَلاثِينَ آيةً وَفِي الأَخَريَيْنٍ قَدْرَ خَمْسَةَ عَشَر آيةً، أَوْ قَالَ نِصْفَ ذَلِكَ، وَفِي الْعَصْرِ فِي الرَّكعَتَيْنِ الأَوْليينِ فِي كل رَكعةٍ قَدْرُ خَمْسَ عَشْرَة آيةً، وَفِي الأَخْرَيَيْنِ قدرَ نِصْفِ ذلكَ. رواهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ جُبير بن مُطْعِمٍ قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرْأَ في الْمَغْربِ بالطُّورِ. رواهُ الْجَماعةُ إلا الترمِذيّ. وَعَنْ ابنِ عبَّاسٍِ أَنَّ أَمَّ الْفَضْلِ بِنْتَ الْحَارِثِ سَمِعَتْهُ وَهُوَ يَقْرَأ: والْمُرْسَلاتِ عُرْفًا فَقَالَتْ: يا بُنَيَّ لَقْد ذَكَّرْتَنِي بِقرائَتِكَ هَذِهِ السُّوَرَةَ إِنَّها لآخِرُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا فِي الْمَغْرِبِ. رواهُ الْجَمَاعَةُ إلا ابنُ مَاجَة. وَقَالَ أبُو بَرْزَةَ الأَسْلَمِيّ كانَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي

مقدار التسبيح في الركوع والسجود وما يقال بعد الرفع من الركوع

الصُّبْحَ فَيَنْصَرِفُ الرجلُ فَيُعْرِفُ جَليسَهُ، وكان يَقرأُ في الركعتينِ أو أحَدِهِمَا مَا بَيْنَ السَّتِينَ إِلى الْمائةِ. متفقٌ على صِحَّتِهِ. وَفِي صَحيح مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبْحَ بِمَكَّةَ فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى إِذَا جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى وَهَارُونَ أَوْ ذِكْرُ عِيسَى أَخَذَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْلَةٌ فَرَكَعَ. وَرَوى النِّسائِيّ من حَديثِ ابنِ مسعودٍ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأَ في المغربِ بالدُّخانِ. وفي صَحيحِ مسلمٍ من حديثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ: كَانَتْ صَلاةُ الظُّهْرِ تُقَامُ فَيَنْطَلِقُ أَحَدُنَا إِلَى الْبَقِيعِ فَيَقْضِي حَاجَتَهُ ثُمَّ يَأْتِي أَهْلَهُ فَيَتَوَضَّأُ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى الْمَسْجِدِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى. وَقَالَ أَبُو سَعيدٍ الْخُدري كُنَّا نَحْرِزُ قِيامَ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الظهرِ والعصرِ فَحَزَرْنَا قيامَه في الركعتَيْنِ الأوْلَيَيْنِ مِن الظُّهْرِ قدرَ (أَلَمِ تنزيلُ السَّجْدة) . وَحَرزنَا قيامَه في الأخريينِ قدرَ النصفِ من ذلكَ وحزرنَا قيامَه في الركعتين الأوْلَيَينِ من الْعَصْرِ على النَّصفِ مِنْ ذلك. وفي روايةٍ بَدَلَ قولِه تنزيلُ السجدةِ قدرَ ثلاثينَ آيةً، وفي الأخْرَيَيْنِ قدرَ خَمْسَةَ عَشَرَ آيةَ وفي الْعَصْرِ في الركعتين الأوْلَيَيْنِ في كُلِّ رَكْعةٍ قَدَر خَمسةَ عَشرةَ وفي الأخْرَيَينِ قَدَر نِصفِ ذَلِكَ.

وَفِي سُننِ النَّسَائِي عَنْ الْبَرَّاءِ قَالَ: كَانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِنا الظهرَ فَنَسْمَعُ مِنْهُ الآية من سُورَةِ لِقْمَانَ والذَّارِياتِ وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ طُولَ صَلاةِ الرَّجُلِ وَقِصرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّة مِن فَقْهِهِ فَأطِيلُوا الصَّلاةَ واقْصِرُوا الْخطبة» . وَعَنْ ابنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّكُمْ فِي زَمَانٍ الصَّلاةُ فيهِ طَويلَةٌ والْخطبة فِيهِ قَصِيرَةُ وَعُلمَاؤُه كَثيرٌ وَخُطَبَاؤُه قَليلٌ وَسَيَأتِي عَلَى النَّاسِ زَمانٌ الصَّلاةُ فيهِ قصيرةٌ والْخُطبةُ فيهِ طويلةٌ. وَأَخْرَجَ الْبُخَاري، وأَبُو دَاودَ، والترمِذي مِن حَديثِ زَيْدٍ بن ثابتٍ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ في المغربِ بُطُولَى الطُّولَيَيْنِ. زادَ أبو داودَ قلتُ: ومَا طُولَى الطوليين؟ قَالَ: الأَعْرَافُ. قالَ الْحَافظُ في الفتح: إنهُ حَصلَ الاتفاقُ على تفسيرِ الطُّولَى: بالأعراف. وَعَنْ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ أَنسٍ قَالَ: مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْبَهَ صَلاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْفَتَى يَعْنِي: عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ: فَحَزَرْنَا فِي رُكُوعِهِ عَشْرَ تَسْبِيحَاتٍ وَفِي سُجُودِهِ عَشْرَ تَسْبِيحَاتٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وأبو داودَ، والنَّسائِي. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَالَ: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءُ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءُ الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمِلْءُ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، والنسائي. وَرواهُ من حَدِيثِ ابنِ أبي أوفى وزادَ فيهِ بعدَ قولِهِ منْ شَيءٍ بَعْدُ

أسوة الناس سرق الذي يسرق من صلاته

اللَّهُمَّ طَهرنِي بالثَّلجِ والبَردِ والماءِ، اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي مِنْ الذُّنُوبِ والْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأبْيَضُ مِن الدَّنَسِ. اللَّهُمَّ إِنَّا نسألكَ العافية في الدُّنيا والآخرَةِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْعَفَو والْعَافيةَ في دِيننَا ودُنيانَا وآخِرتنَا وَأَهْلِنَا وَمَالِنَا، اللَّهُمَّ اسْتُر عَوراتِنا وَأَمنِ روعاتِنا واحْفَظنا مِن بين أيدينا ومنِ خَلفنا وَعن أيمانِنَا وعن شَمائِلنا ومن فَوقِنا ونَعُوذ بعَظمَتِكَ أَنْ نُغْتَالَ من تَحْتِنا واغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا واستر عُيُوبَنَا واكْشِفْ كُرُوبَنَا وأصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وألِّفْ في طاعَتِكَ وَطَاعةِ رَسُولِكِ بَيْنَ قُلُوبنَا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وفِي الْمُسْند من حديثِ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَسْوَأُ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِي يَسْرِقُ مِنْ صَلاتِهِ» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَسْرِقُ صَلاتَه؟ قَالَ: «لا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلا سُجُودَهَا» ، أَوْ قَالَ: «لا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ» . فَصَرَّحَ بأنهُ أسْوأ حالاً مِنْ سَارِقِ الأَمْوالِ. وفِي الْمُسْند من حديثِ سالمٍ عن أبي الْجَعْدِ عن سَلْمَانَ هُو الْفَارسي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّلاةُ مكيالٌ فمَن وفَى وُفيَّ له ومَنْ طَفَّفَ فقدْ علمتُم ما قالَ اللهُ في الْمُطَفِّفِينَ» . وقالَ ابنُ الْقيمِ رحمهُ اللهُ: والإيجازُ هو الذي كانَ يَفْعَلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا الإِيجازُ الذي كان يَظَتنهُ مَنْ لَمْ يَقِفْ عَلى مِقْدارِ صَلاتِهِ فإنَّ الإِيجَازَ أَمرٌ نَسبِيّ إِضَافِي راجِعٌ إلى السُّنَّةِ لا إلى شَهوةِ الإِمَامِ وَمَنْ خلفَهُ. فَلمَّا كانَ يقرأُ في الْفَجْرِ بالسِّتينَ إلى الْمائةَ كَان هَذا الإِيجَازُ بالنِّسْبَةِ

مقدار القراءة في صلاة الصبح

إلى سِتِّماتةٍ إلى ألفٍ ولَمَّا قرأ في المغربِ بالأعْرَافِ كَان هَذا الإِيجازُ بالنِّسْبَةِ إلى الْبَقَرةِ. وَيَدُلُّ عَلى هَذا أَنَّ أنسًا نفسه قَال في الْحَدِيثِ الذي رَواهُ أبو داودَ، والنسائِي مِنْ حَديثِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ كَيْسَانَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ وَهْبِ بْنِ مَأنُوسَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْبَهَ صَلاةً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْفَتَى يَعْنِي: عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَحَزَرْنَا فِي رُكُوعِهِ عَشْرَ تَسْبِيحَاتٍ وَفِي سُجُودِهِ عَشْرَ تَسْبِيحَاتٍ. وأنسٌ أَيْضًا هُو الْقَائلُ في الْحَدِيثِ الْمُتَّفقِ عليهِ: إني لا آلُو أن أُصلِّي بكمُ كَما كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِنَا. قالَ ثابتٌ: كانَ أَنسٌ يصنعُ شيئًا لا أراكُم تَصْنَعُونَهُ كَانَ إِذَا رَفَعَ رأسَه مِن الركوعِ انتصبَ قائمًا حَتَّى يَقُول الْقَائلُ: قد نَسِيَ. وإِذَا رفَع رأسَه مِنْ السَّجْدةِ مَكَثَ حَتَّى يَقُول الْقَائلُ: قد نَسِيَ. وَأنسٌ هُوَ الْقائلُ هذَا، وهُوَ الْقَائلُ: مَا صليتُ وراءَ إمامٍ أَخفَّ صلاةً ولا أَتمَّ صلاةً مِنْ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحديثُه لا يُكَذِّبُ بعضُه بَعْضًا. وَمِمَّا يُبَينُ مَا ذَكَرنَاهُ مَا رَواهُ أبو دَاودَ في سُننِه من حَديثِ حَمَّادِ بن سَلمةَ أَخبرَنا ثابتُ وَحُميدُ عَنْ أَنسِ بن مالكٍ قَالَ: ما صَلْيتُ خَلفَ رجلٍ أَوجَز صَلاةً مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَمَامٍ. وَكَانَ رَسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قَالَ: «سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» . قامَ حتى نقولَ قَدْ أَوْهِمَ فَجَمَعَ أنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في هَذا

الحث على الخشوع في الصلاة والتحذير من السرعة فيها ……

الْحَديثِ الصَّحِيح بَيْن الأخبارِ بإِيجَازِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلاةَ وإِتْمَامِهَا وَبَيَّنَ فِيهِ أَن مِنْ إِتْمَامِهَا الذِّي أَخْبَرَ بِهِ إِطَالَةُ الاعتدَالينِ حَتَّى يَظُنُّ الظانُّ أَنَّهُ قَدْ أَوْهَمَ أَوْ نَسِيَ مِنْ شِدَّةِ الطُّولِ. وَفِي الصَّحِيحَينِ عَنْ الْبَراءِ بن عازبٍ قَالَ: رَمَقْتُ الصَّلاةَ مَعْ مُحمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدْتُ قِيامَه فَرَكْعتَه فاعْتِدَالِهِ بَعدَ الركوعِ فسجدَتَه فجلسَتَه بين السَّجْدَتِينِ، فَسَجْدَتَهُ، فَجَلْسَتَهُ مَا بَيْنَ التسليمِ والانْصِرَافِ قريبًا مِن السَّواءِ. اللَّهُمَّ ارْحَمْنَا إِذَا عَرِقَ الْجَبينُ وكَثُرَ الأنينُ وأَيِسَ مِنَّا الْقَريبُ والطبيبُ وَبكى عَلَيْنَا الصديقُ والحبيبُ وَارحَمْنَا يَا مَولانَا إِذَا وَارانَا التُّرابُ وَوَدَّعَنَا الأحْبَابُ وَفَارَقْنَا النَّعِيمَ وانقطَع عَنَّا النَّسِيم، وَاغْفِرْ لَنَا ولِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْنَا قَبْلَ أَنْ تَشهْدَ عَلَيْنَا الْجَوَارِحَ وَنَبِّهْنَا مِنْ رَقَدَاتِ الغفلاتِ وَسَامِحْنَا فَأَنْتَ الْحَلِيمُ الْمُسَامِحُ وَانْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا وَعَلِّمْنَا مَا يَنْفَعْنَا فَمِنْكَ الْفَضْلُ والْمَنَائِحُ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ) : وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ بَعْدَ أن ذَكرَ الْمُسْرعينَ فيها الذينَ يَمُرُّونَ فِيهَا مَرَّ السهمِ: وهَذَا كُله تلاعبٌ بالصَّلاةِ، وَتَعْطِيلٌ لهَا وخِدَاعٌ مِنْ الشيطانِ وخلافٌ لأمِر اللهِ ورسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيثُ قالَ تعالى: {أَقِيمُواْ الصَّلاةَ} فَأَمَرَنَا بإقامَتِهَا وَهُوَ الإِتْيَانُ بِهَا قائِمَةً تَامةَ القيامِ والركوعِ والسُّجودِ والأذكَارِ. وَقَدْ عَلَّقَ سُبحانَهُ الْفَلاحَ بَخُشُوعِ الْمُصَلِّي فِي صَلاتِه فَمَنْ فَاتَهُ خُشُوعُ الصَّلاةِ لَمْ يَكُنْ من أهلِ الْفَلاحِ وَيَسْتَحِيلُ حُصُولُ الْخُشوعِ مَعَ الْعَجَلَةِ والنَّقْرِ قَطْعًا بل لا يَحْصُلُ الْخُشُوعُ إلا مَعَ الطُّمَأنينةِ وَكُلَّما زادَتْ الطمأنينةُ ازدَاد خُشُوعًا وَكُلمَا قلَّ خُشوعُه اشتدَتْ عَجَلَتُه حَتَّى تَصيْرَ حَرَكةُ

وبيان معنى إقامتها وأن المصلين كثيرون والمقيمين لها قليلون ……

يديهِ بِمَنْزِلَةِ العَبَث الذي لا يَصْحَبُه خُشوعٌ ولا إقبالٌ على العُبُوديةِ، ولا معرفةُ حَقِيقةِ العبوديةِ. واللهُ سُبْحَانَه قَد قَالَ: {أَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} ، وَقَالَ: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ} ، وَقَالَ: {وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ} ، وقالَ إبراهيمُ عليهِ السلامُ: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ} ، وقَالَ لِمُوسَى: {فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} فلنَ تُكادُ تَجدُ ذِكْر الصلاةِ في مَوْضُوعٍ مِنْ التَّنْزِيلِ إلا مقرونًا بإقامَتِهَا. فَالمُصَلُّونَ في الناس قَليلٌ ومُقيمُ الصلاةِ مِنهُم أقلُّ القليلِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الحاجُّ قليلٌ والرَّاكِبُ كَثيرٌ، فالعَامِلونَ يعملونَ الأعمال المأمُورِ بِهَا على التَّرويجِ تَحِلَّهَ القَسَمِ وَيقولونَ: يَكْفينا أدنَى ما يقعُ عليه الأَسمُ ولَيْتَنَا نأتي به. ولو عَلِمَ هَؤلاءِ أنَّ المَلائكةَ تَصْعدُ بصلاتهمْ فتَعرضُها على الرّبِّ جلَّ وعلاَ بمنْزِلةَ الهَدَايَا التِّي يتقرّبُ بِهَا النّاسُ إلى مُلوكِهمْ وكُبرائِهم، فليسَ مَنْ عَمِدَ إِلى أَفْضلِ مَا يَقْدرُ عليهِ فَيُزَيّنه، ويُحسّنهُ، ما استطاعَ ثم يَتَقَرَّبُ به إلى مَنْ يَرجُوهُ، وَيَخَافُه، كَمَنْ يَعْمِدُ إلى أَسْقَطِ مَا عِنْدَهُ وَأهونِهِ عليهِ فَلْيَسْتَرِيح مِنْه وَيَبْعَثه إلى مَنْ لاَ يَقَعُ عِنْدَهُ بِمَوْقِع. وَليسَ مَنْ كَانَتْ صَلاَتُهُ رَبيعًا لِقَلْبِهِ، وَحَياةً لَهُ، وَرَاحَةً وَقُرَّةً لِعَيْنِهِ، وَجَلاَءً لِحُزْنِهِ وَذَهَابًا لِهَمِّهِ وَغَمِّهِ، وَمَفْزَعًا لَهُ في نوائِبِهِ وَنوَازِلِهِ، كَمَن هِي سِجْنٌ لِقَلْبِهِ، وَقَيْدٌ لِجَوَارِحِهِ، وَتَكْلِيفٌ لَهُ، وَثقلٌ عَلَيهِ، فَهِيَ كَبِيرَةٌ عَلَى هَذَا وَقُرَّة عَينٍ وَرَاحَةٌ لِذَلِكَ. وَقَالَ تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} فإنمَّا كبُرَت على غير هؤلاء لخُلُّو قُلُوبهم مِنْ مَحَبَّةِ اللهِ تعالى وَتْكبِيرِهِ وَتَعْظِيمِهِ

الذكر بعد الصلاة والاستغفار والدعاء وسياق بعض الوارد من السور

والخُشُوعِ لَهُ وَقِلَّةِ رَغبَتِهِمْ فيهِ فَإنَّ حُضُورَ العَبْدِ في الصَّلاةِ وَخُشُوعُهُ فِيهَا وَتَكْمِيلُهُ لَهَا واسْتِفْرَاغُهُ وُسْعَهُ فِي إِقَامَتِهَا وَإِتْمَامِهَا عَلَى قَدْرِ رَغْبَتِهِ في اللهِ. قَالَ الإمامُ أحمدُ: في رواية مُهَنَّا بن يَحْيَى: إِنَّمَا حَظُّهُمْ مِنَ الإسلامِ عَلى قدرِ حَظهمِ مِنَ الصلاةِ، وَرغبتهِم في الإسلامِ عَلى قدر رغبتِهِم في الصلاةِ فَاعْرَفْ نَفْسَكَ يَا عَبْدَ اللهِ وَاحْذَرْ أَنْ تَلْقَى اللهَ عزَّ وَجلَّ وَلاَ قَدْرَ لِلإسْلامِ عِندَكَ فَإنَّ قَدْرَ الإِسْلامِ في قَلْبِكَ كَقَدْرِِ الصَّلاةِ في قَلْبِكَ. (فصل) فأما صُورتُها الظاهرة في القيام والقراءة ُوالركوعُ والسجودُ وَنحو ذلك مِن وظائف الصلاة الظاهرة. وأما حقيقتُها الباطنةُ فمِثلُ الخشوع والإخباتِ وحُضُورِ القلبِ وكمال الإخلاصِ. مَنْ لَمْ يَكُنْ مُخْلِصًا لِلهِ في العَمَلِ ... فَلَيْسَ يَنْفَعُهُ قَوْلٌ وَلاَ عَمَلُ والتدبر والتفهم لمعاني القراءة ومعاني التسبيح ونحو ذلك من وظائف الصلاة الباطنة. فظاهر الصلاة حفظ البدن والجوارح وباطن الصلاة حفظ القلب. ومن المحافظة على الصلاة والإقامة لها كمال الطهارة والاحتياط في البدن والثوب والمكان. قال عليه الصلاة والسلام: «الطهور شطر الإيمان» وفي الحديث الآخر: «الطهور مفتاح الصلاة وإسباغ الوضوء وتثليثه من غير وسوسة ولا إسراف» . فإن الوَسْوَسَةَ في الطهارة والصلاة من عمل الشيطان يُلَبِّسُ بها على مَن ضَعُف عقلهُ وقَلَّ علمه.

والآيات والكلمات والأحاديث

وقد وردت الأحاديث الصحيحة: «أن مَن توضأ فَأَحْسَنَ الوضوء خَرجَتْ خطاياه مِن أعضائه ودخل في الصلاة نقيًا من الذنوب» . ومن المحافظة على الصلاة والإقَامَة لها المبادرة بها في أول مَوَاقِيتها وفي ذلك فضلٌ وأجر عظيم. وهو دليل على محبة العبد لربه وعلى المسارعة في مرضاته ومحابه قال - صلى الله عليه وسلم -: «أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله» . وقبيح بالمؤمن العاقل أن يدخل عليه وقت الصلاة وهو على شغل من أشغال الدنيا فلا يتركه ويقوم إلى فريضة الله التي كتبها الله عليه فيؤديها. وما يفعل ذلك إلا من عظمت غفلته وقلَّت معرفته بالله وعظمته وضعُفتْ رَغبته فيما أعَدّ الله لأوليائه في الدار الآخرة. وأما تأخيرها عن وقْتها فلا يَجُوزُ وفيه إثم عظيم. ومِن المحافظة على الصلاة والإقامة لها: الخشوع وحُضور القلب وتدبرُ القِراءة وفهمُ مَعَانيها واسْتشعارُ الخُضُوعِ والتواضُعِ لله عند الركوع والسجود. وامْتِلاَءُ القلب بتعظيم الله وإجلاله وتقديسه عند التكبير والتسبيح وجميع أجْزَاءِ الصلاة. والحرص والاجتهاد في دفع الخواطر والهواجيس في شؤون الدنيا والإعراض عند حديث النفس في ذلك. ويكون همه في الصلاة وحُسنُ تأدِيتِهَا كما أمر الله. فإن الصلاة مع الغفلة وعدم الخشوع والحضور قليلة الجدْوَى. فاجتهد في تدَبُّر ما تقول من كلام ربك واحرص على الطمأنينة فيها. فإن الذي لا يتم الركوع والسجود في الصلاة سارق لها كما ورد في الحديث وورد أن من حافظ عليها وأتمها تخرج بيضاء تقول: حفظك الله كما حفظتني. والذي لا يتم الصلاة تخرج سَوْدَاءَ مُظْلِمة تقولُ: ضَيَّعَكَ الله كما ضَيَّعْتَني ثم تُلَفُّ كما يُلَفُّ الثوبُ الخَلَق فيضربُ بِها وجْهُهُ.

رأَى رَجُلٌ حَاتم الأصم واقفًا يَعِظُ النَّاسَ فقال: يا حاتَمُ أرَاكَ تَعظُ الناسَ أَفَتُحْسِنُ أَنْ تُصَلي؟ قَالَ: نعم. قال: كيف تُصَلي؟ قال: أقومُ بالأمرِ وأمْشِي بالسَّكِينَة وأدْخُل بالْهِيبَة وأُكَبِّرُ بالْعَظَمَةِ وأقرأ بالترتيل واجْلِسُ للتشهد بالتمام وأسلم على السنة وأسَلِمُهَا إلى ربي وأحْفَظُها أيامَ حَياتي وأرْجِعُ باللَّومِ على نفسِي وأخَافُ أن لا تُقْبَلَ منِّي وأرجُو أن تُقْبَلَ منِّي وَأَنَا بَيْنَ الرَّجَا والْخَوف وأشكر مَن عَلَّمَني وَأَعَلِّمُ مَن سَألنِي وأحمدُ رَبي إذ هَدَاني. اللَّهُمَّ اكْتُبْ في قُلُوبِنَا الإِيمانَ وأيِّدْنَا مِنْكَ يا نُورَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ اللَّهُمَّ وافْتَحْ لِدُعَائِنَا بَابَ الْقَبُولِ والإِجَابَةِ واغْفِرْ لَنَا وارحمنا برحمتك اللَّهُمَّ اسْلُكْ بِنَا سَبِيلَ الأَبْرَارِ واجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الْمُصْطَفِينَ الأَخْيَارِ، وامْنُنْ عَلَيْنَا بِالْعَفْوِ والْعِتْقِ مِن النَّار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ) : يُسَنُّ ذِكْرُ اللهِ والدُّعَاء والاسْتِغْفَارُ عَقبَ الصَّلاةِ الْمَكْتُوبةِ كَمَا وَرَدَ فِي الأَخْبَار فَيقُولُ: أستغفرُ اللهَ ثلاثَ مراتٍ وَيقول: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلامُ ومنكَ السَّلامُ تَبَارَكْتَ يا ذَا الْجَلالِ والإكرامِ كَمَا وَرَدَ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلاثًا وَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلامُ وَمِنْكَ السَّلامُ تَبَارَكْتَ يا ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ» . رواه الجماعة إلا البخاري. ومِمَّا وَرَدَ مِنْ الذِّكْرِ: ما رُويَ عَنْ عبدِ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ حِينَ يُسَلِّمُ: «لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ الْعَليّ الْعَظِيم وَلا نَعْبُدُ إِلا إِيَّاهُ لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» . قَالَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ

صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهَلِّلُ بِهِنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ. رواه أحمد، ومسلم. ومِمَّا وَرَدَ مَا رَوَى الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ مَكْتُوبة: «لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ،لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ويُسَبّحُ ثَلاثًا وثَلاثِينَ، وَيَحْمَدُ ثلاثًا وثلاثينَ، ويُكَبِّرُ ثلاثًا وثلاثينَ لِمَا فِي الصَّحِيحَينِ مِنْ رواية أبي صالح السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ وتَمَامُ الْمائَةِ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، لَهُ الْمُلكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وهو على كلِ شيءٍ قَدِير، وَيَعْقِدُهُ بيدِهِ وَيَعْقِدُ الاستغفارَ بيدِه» . أي يَضْبِطُ عَدَدهُ بأصَابِعِهِ. وعن عبدِ الله بن عمرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَصْلَتَانِ لا يُحْصِيهمَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ إِلا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَهُمَا يَسِيرٌ وَمَنْ يَعْمَلُ بِهِمَا قَلِيلٌ يُسَبِّحُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ عَشْرًا وَيُكَبِّرُ عَشْرًا وَيَحْمَدُ عَشْرًا» . فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْقِدُهَا بِيَدِهِ «فَتِلْكَ خَمْسُونَ وَمِائَةٌ بِاللِّسَانِ وَأَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ فِي الْمِيزَانِ وَإِذَا آوَى إلى فِراشِهِ سَبَّحَ وَحَمِدَ وَكَبَّرَ مِائَةً فَتِلْكَ مِائَةٌ بِاللِّسَانِ وَأَلْفٌ بالْمِيزَانِ» . رواه الخمسة، وصححه الترمذي. وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمَ بَنِيه هؤلاء الْكَلِماتِ ويقول: إنَّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَوَّذُ بِهنَّ دُبُر الصلاة اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. رواه البخاري، والترمذي وصححه. وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ إِذَا صَلَّى

الحث على المحافظة على الرواتب والنوافل وذكر فوائدها ……

الصُّبْحَ حِينَ يُسَلِّمُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا وَرِزْقًا طَيِّبًا وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً» . رواه أحمد، وابنَ ماجة. وعن أبي أُمَامَةَ قَال: قِيلَ: يا رسولَ اللهِ أيُّ الدُّعَاء أسْمَعْ قال: «جَوفُ الليلِ الآخرِ ودُبُر الصلواتِ الْمَكْتوباتِ» . وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ لَمْ يَقْعُدْ إِلا مِقْدَارَ مَا يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلامُ وَمِنْكَ السَّلامُ تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ» . رواه أحمد، ومسلم، والترمذي، وابن ماجة. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ سَبَّحَ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ وَحَمِدَ اللَّهَ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ وَكَبَّرَ اللَّهَ ثَلاثًا وَثَلاثِينَ فَتْلِكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ» . وَقَالَ: «تَمَامَ الْمِائَةِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وفي رواية أخرى: أن التكبيرَ أربعةً وثلاثون. وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لا تَدَعَنَّ دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ أَنْ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ» . رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي بسند قوي. وعن أبي أمامةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَن قَرأ آيةَ الْكُرْسِي دُبُرّ كُلّ صلاةٍ مَكْتُوبةٍ لَمْ يَمْنَعُهُ من دخولِ الْجَنَّةِ إلا الْموتُ» . رواه النسائي، وصححه ابن حبان، وزاد فيه الطبراني: «وقل هو الله أحد» . وعنه قال: ما دَنَوتُ من رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دُبُرِ مكتوبةٍ ولا تَطُوع إلا سَمِعْتُهُ يقولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَخَطايَايَ كُلَّها، اللَّهُمَّ انْعِشْنِي وَاجْبُرْنِي واهدنِي لِصالحِ الأعمال والأخلاقِ إنَّه لا يَهْدِي لِصَالِحهَا وَلا يصرفُ سيئِهَا إلا أنت» .

وعن أبي سعيدٍ الخُدرِي أنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا فَرَغَ مِنْ صَلاتِهِ لا أَدْرِي قَبْلَ أَنْ يُسْلِّمَ أَوْ بَعْدَ أَنْ يُسَلِّم يقول ُ: «سُبحانَ ربِّكَ رَبِّ الِعزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلاَمٌ على المرسلين، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين» . وعن أنس قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ إِذَا انْصَرَفَ مِن الصلاةِ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ خَيْرَ عُمْرِي آخِرَهُ، وَخَيْرَ عَمَلِي خَوَاتِمَهُ، وَاجْعَلْ خَيْرَ أَيَّامِي يَومَ أَلقَاك» . وعن أبِي بكرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقولُ في دُبُرِ الصلاةِ: «اللَّهُمَّ إني أعوُذُ بِكَ مِن الكفرِ والفقرِ وَعَذَابِ القَبْرِ» ، وعن أنسِ بن مالكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى الغداةَ في جَمَاعةٍ ثم قَعَدَ يَذْكُرُ اللهَ حتَّى تَطْلَعُ الشمسُ ثم صَلَّى رَكْعَتَيْن كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَة» ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَامَّةً، تَامَّةً، تَامَّةً» . وَعَنْ أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قال في دُبُرِ صَلاةِ الصُّبحِ وهَو ثانٍ رِجْليَهِ قَبْلَ أَنْ يَتكلَّمُ: لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، لَهُ الملكُ ولهُ الحَمْدُ يُحْيِي وَيُميت وهوَ عَلى كُلِّ شيءٍ قَدير عَشْرَ مَرَّاتٍ كُتِبَ لَهُ عَشرُ حسناتٍ وَمُحِيَ عنهُ عَشرُ سَيئاتٍ وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ وَكَانَ يَوْمَهُ ذَلِكَ في حِرْزٍ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَحُرِسَ مِنَ الشِّرْك بالله تَعَالَى» . قالَ التِّرْمِذيُّ: هذا حَديثٌ حسن. وفي بَعْضِ النُّسخ صَحيحٌ. وعن الحَارثِ بنِ مسلم التَّمِيميَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ لي النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا صَلَّيتَ الصُّبحَ فَقُلْ قَبْلَ أنْ تَتَكَلَّمَ: اللَّهُمَّ أجرْنِي مِنَ النَّارِ سَبْعَ مَرَّاتٍ فَإِنَّكَ إِنْ مُتَّ مِنْ يَوْمِكَ كَتَبَ اللهُ لكَ جِوَارًا مِنَ النَّارِ وإذا صَليَّتَ المغربَ فَقُلْ قَبْلَ أَنْ تَتَكَلَّمَ اللَّهُمَّ أَجِرْنِي مِنَ النَّارِ سَبْعَ مَرَّاتٍ

من فوائد الصلاة ما ذكر ابن القيم

فَإِنَّكَ إِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلتكَ كَتَبَ الله لكَ جِوارًا مِن النَّارِ» . رواه النسائيُّ وهذا لفظهُ، وأبو داود. وعن أبي أيّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قالَ إذا أصْبَحَ: لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريك لَهُ، لَهُ الملكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيءٍ قَدِير عَشْرَ مَرَّاتٍ كَتَبَ اللهُ لهُ بِهِنَّ عَشْرَ حَسَناتٍ وَمَحَا بِهِنَّ عَشَرَ سَيئَاتِ وَرَفَعَ لَهُ بِهِنَّ عَشْرَ دَرَجَاتٍ وكُنَّ لَهُ عَدْلَ عِتَاقَة أَرْبَعَ رِقَابٍ وَكُنَّ لَهُ حَرَسًا حَتَّى يُمْسِي وَمَنْ قَالَهُنَّ إِذَا صَلَّى المغربَ دُبْرَ صَلاتِهِ فَمِثْلُ ذَلِكَ حَتَّى يُصْبِحَ» . رواه أحمدُ، والنَّسَائيُّ، وابنُ حِبَّانَ في صَحِيحهِ وَهذَا لفْظهُ. وعن أبي أمَامَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ دُبُرَ صَلاةِ الغَدَاةِ: لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، لَهُ الملكُ ولهُ الحَمْدُ يُحْيِي وَيُميتُ بيدهِ الخيرُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرِ مائة مَرَّةً قَبْلَ أَنْ يُثْنِي رِجْليهِ كَانَ يَوْمَئِذٍ مِنْ أَفْضَلِ أَهْلِ الأرضِ عَمَلاً إلا مَنْ قَالَ مِثْلِ مَا قَالَ أَوْ زَادَ عَلَى مَا قَالَ» . رواه الطَّبَرَانِيُّ في الأوسطِ بإسنادٍ جيدٍ. ورُويَ عن معاذِ بن جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: «مَنْ قَالَ بعدَ صَلاةِ الفَجْرِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ وبعدَ العَصْرِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ الذِّي لا إلهَ إلا هُو الحيُّ القيُّومُ وَأَتُوبُ إليهِ كُفِّرتْ عَنْهُ ذُنُوبِهِ وإنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البحْر» . رواه ابنُ السني في كتابِهِ. وفي مُسندِ الإمامِ أحمد، وَسُنَنِ ابنِ ماجة، وَكِتَابِ ابن السنِي عن أمِ سَلمةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا قَالَتْ: كَانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا صَلَّى الصُّبح قال: «اللَّهُمَّ إِني أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا وَعَمَلاً مُتَقبَّلاً وَرِزْقًا طيبًا» . وعن صهيْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحركُ شَفَتيهِ بعد صلاةِ الفَجْرِ بِشَيءٍ فقلتُ: يا رَسولَ الله ما هَذَا الذي

تَقُولَ قالَ: «اللَّهُمَّ بِكَ أُحَاوِلُ وَبِكَ أُصَاوِلُ، وَبِكَ أُقَاتِلُ» ، وَيُسْتَحَبُّ الجهرُ بالتَّسبيحِ والتَّهْلِيلِ وَالتَّحْمِيدِ والتَّكْبيرِ لِقَوْلِ ابنِ عَبَّاسٍ: كُنْتُ أَعْلَمُ إِذَا انصَرفُوا بِذَلِكَ إِذَا سَمِعْتُهُ. وفي رِوَايةٍ: كُنْتُ أَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلاةِ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتَّكْبِيرِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. اللَّهُمَّ قوي إيماننا بك وبملائكتك وبرسلك وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لطاعتك وامتثال أمرك واجعلنا من عبادك المفلحين الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فصل) وَمِنْ تَمامِ المُحافَظَةِ عَلى الصَّلاةِ حُسْنُ المُحافظةِ على الرَّوَاتِبِ والنَّوَافِلِ وَهَذهِ المُطْلَقةُ فيها فَوائِدُ كَثِيرةٌ منها تكفيرُ السَّيئات وتكثيرُ الحَسَناتِ وَرَفْعُ الدرجَاتِ وَجَعلُ القُلوبِ مُتَّصلةً باللهِ مُعَظَّمَةٌ لَهُ وَأَنها سَبَبٌ لِتَقْوِيَةِ الحَيَاءَ مِنَ اللهِ ومنها التَلَذُّذُ بالمنَاجاةِ. وَمِنْهَا الحصولُ في منزلةِ المُبَاهَاةِ فِيمَنْ أقيْمَ مِنَ الملائكةِ في تلكَ الحالات. ومنها الشكرُ والنعمُ المتجددةُ والمَواهبُ المُتَعَدّدَةُ، وَعِمَارَة لِلْقُلُوبِ التي خُلِقَتْ لِذِكْرِ اللهِ تَعَالى. ومنها حِفْظُ الزَّمَنِ عَن ضَيَاعِهِ في غَيرِ طَاعةِ اللهِ. ومنها تكميلُ ما نقصَ مِن الفرائضِ، كما وَرَدَ في الحديث مِن رواية أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إنَّ أوَّلَ ما يُحَاسَبُ بِهِ العبدُ يومَ القيامةِ مِن عملِهِ صَلاتُهُ فإن صَلَحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِِنْ فَسَدَتْ فقد خَابَ وَخَسِرَ فَإِن انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْئًا فَإن الربَّ عزَّ وَجَلَّ يقول: (انْظُروا هَلْ لِعَبْدِي مِن تَطَوُّعِ فَيُكَّمِلُ بها ما نَقَصَ مِنَ الفَرِيضَةِ) ثم يكون سَاَئِرُ عَمَلِه على ذلكَ» .

قصيدة زهدية وعظية تحتوي على توبيخ النفس

أخرجه الترمذي. وَمِنْهَا: مَحَبَّةُ اللهِ لَهُ، كما وَرَدَ في الحديث: (ولا يَزَالُ عبدي يَتَقَرَّبُ إليَّ بِالنوافلِ حتَّى أُحِبَّهُ فإذا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الذِّي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ التي يِبْطِشُ بِهَا وَرِجْلُهُ التي يَمْشِي بِهَا وَلَئِنْ سَأَلني لأعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأُعيذَنَّهُ) . رواه البخاري. ومنها: أنها سَبَبٌ لِتَسْهِيل عُسْر المَوْقِفِ في الحَشْرِ وَتَخْفِيفِ الحِسَابَ في دَارِ المآبِ لأَنَّهُ يَكْثِرُ ثَوَابُهُ إِذا وَفَقَّهُ اللهُ لِلتَّقَرُّبِ بِالنوافلِ، وَمِنْهَا: نَضَارَةُ الوَجْهِ وَتَنْشِيطِ الجَوَارِحِِ ومنها: أَنَّهَا تُوقِظُ الضَّمِير ومنها الاقْتِداءُ بالصالحينَ، ومنهَا: غَرْسُ الصِّدْقِ وَالأمانَةِ في النُّفُوسِ، وَمِنهَا: أنَّ النَّوَافِلَ تُقَوِّي شَجَرَةَ الإيمانِ وَتُنَمِّي الإيمانَ، وَمِنها: السُّمُوُّ إلى دَرَجَةِ الكَمَالِ، وَمِنها: أَنَّهُ إذا قَطَعه عنها مَرَضٌ أو سَفَرٌ كُتِبَتْ لَهُ كَامِلةً كما في حديث أبي مُوسَى الأَشْعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «إَذا مَرِضَ العَبْدُ أَو سَافَرَ كُتِبَ له ما كان يَعْمَلُ صَحِيحًا مقيمًا» . روه البخاري. ومنها: مَحَبَّةُ أَهْلِ السَّمَاءِ لِمَنْ أَحَبَّهُ الله كما في حديث أبي هريرة أنَّ الله تعالى: إذا أَحَبَّ عَبْدًا دعا جِبْرِيلَ فقال: إني أُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبَّهُ فَيُحِبُّهُ جِِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي في السَّمَاءِ فَيقولُ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أهلُ السماءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ القَبُولُ في الأرضِ. ومنها: اسْتِعْمَالِ نِعْمَةِ المُنْعِمِ في طاعتِهِ وهذا في غَايَةِ الحُسْنِ ولا يَخْفَى عَلى عاقلٍ أَنْصَفَ مِنْ عَقْلِهِ، ومنها: مُخَالَفَةُ المنافقين الذينَ إذا قاموا إلى صلاةِ الفريضةِ قاموا كسالى يُراءون النَّاسَ وَلا يذكرون اللهَ إلا قليلاً. ومنها: القُرْبُ مِن اللهِ للحديث المتقدم وَلِحَدِيثَ: «أَقْرَبُ ما يكون العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُو سَاجِد» . ومنها: مُخَالَفَةُ المُشْرِكِينَ العَابِدِينَ لِمَنْ لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي شَيئًا وَأَنْتَ تعبدُ مَن يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ وَيَعْلَمُ وَيُحْيِي وَيُمِيتُ وَهو حَيٌّ لا يَمُوتُ ومنها قِيامُ العبدِ بينَ يَدَيْ سَيِّدِهِ مَقَامَ المُتَضَرَّعِ المتذَلِّلِ المسْكِينِ الضَّعِيفِ وَاضعًا يَدَهُ

اليُمْنَى على اليُسْرَى مُظْهِرًا العَجْزَ وَالضَّعْفَ وَأنه لا حَوْلَ ولا قوةَ إلا باللهِ العلي العظيمِ. اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ صِدْقَنَا في رَجَاءِ رِفْدِكَ وَخَالِصَ وِدِّكَ، يَا مَنْ عَمَّ الخلائقَ كَرمُه وجودُهُ، يَا أَوَّلَ بِلا بِدَايَةٍ وَيَا آخِرُ بِلا نِهَايَةٍ، يَا وَاحِدٌ لا شَريكَ لُهُ نَسْأَلكَ أَنْ ترحمَ ضَعْفَنَا وَتَغْفِرَ ذَنْبَنَا وَتَرْأَفَ بِنَا يَا رَؤُوفٌ يَا رَحِيم، ولا تَحْرِمْنَا لَذَّةَ النَّظَرِ إِلى وَجْهِكَ الكَريمِ في جناتِ النعيمِ. اللَّهُمَّ وَفِّقَنَا لِصَالِحِ الأَعْمَالَ، وَنَجِّنَا مِن جَمِيعِ الأهْوَالِ، وَأَمِّنَا مِنَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ يَوْمَ الرجْفِ وَالزِلْزَالِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ) : وقال ابنُ القيمِ رحمه الله: وأما فوائدُ الصلاةِ فَكثيرةٌ: أوَّلاً امتثالُ أَوَامِرِ اللهِ وَمُوَافَقَةُ اللهِ مَلائِكَتِهِ وتكفيرُ السيئاتِ وزيادةُ الحسناتِ ورفعةُ الدرجاتِ. ومنها: أنها سَبَبٌ لإجَابَةِ الدُّعَاء وَلِشَفَاعَةِ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقُربِ مِنْهُ وَلِكِفَايَةِ الهَمِّ والغَمِّ وَقَضَاءِ الحَوَائِجِ وَسَبَبٌ لِصَلاةِ اللهِ على المُصَلِّي وَصَلاَةُ مَلائِكَتِهِ وَهِيَ زَكَاةٌ لِلْمُصَلِّي وَطُهْرَةٌ لَهٌ وَسَبَبٌ لِلْتَبْشِيرِ بالجَنَّةِ والنَّجَاِة مِنَ النَّارِ وَسَبَبٌ لِرَدِّ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السلام وَلِتَذْكِيرِ العَبْدِ مَا نَسِيَهُ وَلِطِيبِ المَجْلِسِ وَأْن لا يَعُودُ عَلى أَهْلِهِ حَسْرَةً وَلِنَفْيِ الفَقْرِ والبُخْلِ وَلِلنَّجَاةِ مَنْ نَتَن المَجْلِسِ الذي لا يُذْكَرُ اللهُ فيهِ وَلا رَسولُه وَلِتَمَامِ الكلامِ وَبَرَكَتِهِ وَلِوُفُورِ نُورِ العَبْدِ عَلى الِصراطِ وَلِلْخُرُوجِ مِنَ الجَفَاءِ ولإِبْقَاءِ الثَّنَاءِ الحَسَن لِلْمُصَلى عليه بين السماء والأرض وَلِلَبَرَكَةِ في ذَات المُصَلِّي عُمرهِ وَعَمَلِهِ وَأسباب مَصَالِحِهِ وَلِنَيلِ رَحْمَةِ اللهِ وَلِدَوَامِ مَحَبتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزِيَادَتِهَا وَتَضَاعُفِهَا وَلِمَحَبَّةِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسَبَبٌ لِحَيَاةِ القَلْبِ وَهِدَايَتِهِ وَسَبَبُ عَرْضِ اسم

الْمُصَلِّي على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسببُ لِتَثْبِيتِ الْقَدمَ على الصِّرَاطِ والْجوَاز عَلَيْهِ وَمُتَضَمِّنَةٌ لِذِكْرِ اللهِ وَشَكْرِهِ وَمَعْرِفَةِ إِنْعَامِ اللهِ على عَبِيدِهِ بإرسالِهِ ولأَدَاءِ قَليلٍ مِنْ حَقِّهِ. وهي دعاءٌ مِنْ الْعَبدِ وسؤالُهُ نَوعَان: أحدُهُما: سؤال مَطَالِبِهِ وَمَا يَنْوِيه. والثاني: سؤالهُ أنْ يُثْنِي عَلى حبيبهِ وخليلهِ وَيَزيدَ في تَشْريفِهِ وتكريمِهِ ورفْعِه ذكرَهُ ولا رَيبَ أَنّ الله يُحِبُ ذلكَ وَرَسُولُهُ يُحبُّهُ فالْمُصَلِّي قَدْ صَرَفَ سُؤاله لِما يُحِبُّهُ اللهُ ورَسُولُهُ وآثَر ذلكَ على طَلبِ حَوائجِهِ وَمَحابِّهِ هُو، بَلْ كانَ هَذَا الْمَطْلُوبُ مِن أَحَبِّ الأُمُورِ إِليهِ والْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ فَمَنْ آثرَ اللهَ على غَيرِه آثرَهُ اللهُ عَلى غيرِهِ. وَهَا هُنَا نُكْتَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ عَلَّمَ أُمَّتُهُ دِينَهُ وَمَا جَاءَ بهِ وَدَعَاهُمْ إِليهِ وَصَبر على ذلِكَ وَهِيَ: أَنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له مِن الأَجْرِ الزَّائِدِ على أَجْرِ أُمّتِهِ مِثْلُ أُجُورِ مِنْ تَبِعَهُ فَالدَّاعِي إِلى سُنَّتِهِ وَدِينِهِ والْمُعَلِّمُ الْخَيْرِ لِلأُمَّةِ إِذَا قَصَدَ تَوْفِيرَ هَذَا الْحَظ لِرَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَرفَهُ إليهِ وَكانَ مَقْصُودَهُ بدُعَاءِ الْخَلقِ إلى اللهِ التقرُّبَ إِليهِ بإرشادِ عبادِهِ وَتَوْفِير أُجُورِ الْمُطِيعِينَ لَهُ على رسولِهِ مَعَ تَوْفِيَتِهِمِ أُجُورَهُمْ كامِلة كَان لَهُ مِنْ الأَجْرِ بدعوته وتَعْلِيمهِ بِحَسَب هذِه النَّيةِ وذلكَ فضلُ اللهِ يؤتيه مَن يشاء. اللَّهُمَّ أَرِنَا الْحَقَّ حَقًا وَارْزُقْنَا إتِّبَاعَه، وَأرِنا الباطل باطلاً وجَنِبْنَا إتِّبَاعَهَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. شِعْرًا: إلى كَمْ تَمَادَى فِي غُرُورٍ وَغَفْلَةٍ ... وَكَمْ هَكَذَا نَوْمٌ إلى غَيرِ يَقْظَةِ لَقَدْ ضَاعَ عُمْرٌ سَاعَةٌ مِنه تُشْتَرى ... بِمِلءِ السَّما وَالأرضِ أيَّةَ ضَيْعَةِ

أَتَرْضَى مِنْ العَيْشِ الرَّغِيدِ وَعَيْشَةٍ ... مَعْ الْمَلأ الأعْلَى بَعِيْشِ البَهِيمَةِ فَبَادُرَّةً بَيْنَ الْمَزَابِلِ أُلْقِيَتْ ... وَجَوْهَرَةً بِيعَتْ بَأَبْخَسِ قِيمَةِ أَفَانٍ بِبَاقٍ تَشْتَرِيهِ سَفَاهَةً ... وَسَخَطًا بِرِضْوَانٍ وَنَارًا بِجَنَّةِ أَأَنْتَ صَدِيقٌ أَمْ عَدُوٌ لِنَفْسِهِ ... فَإِنَّكَ تَرْمِيهَا بِكُلِّ مُصِيبَةِ وَلَوْ فَعَلَ الأَعْدَا بِنَفْسِكَ بَعْضَ مَا ... فَعَلْتَ لَمَسَّتْهُمْ لَهَا بَعْضُ رَحْمَةِ لَقَدْ بِعْتَهَا هَوْنًا عَلَيْكَ رَخِيصَةً ... وَكَانَتْ بِهَذَا مِنْكَ غَيْرَ حَقِيقَةِ كَلِفْتَ بِهَا دُنْيَا كَثِيرٍ غُرُورُهَا ... تُقَابِلُنَا فِي نُصْحِهَا فِي الخَدِيعَةِ عَلَيْكَ بِمَا يُجْدِي عَلَيْكَ مِنْ التُّقَى ... فَإنَّكَ فِي سَهْوٍ عَظِيمٍ وَغَفْلَةِ تُصَلِّي بَلا قَلْبٍ صَلاةً بِمْثلِهَا ... يَكُونُ الفَتَى مُسْتَوْجِبًا لِلْعُقُوبَةِ تُخَاطِبُهُ إِيَّاكَ نَعْبُدْ مُقْبِلاً ... عَلَى غَيرِه فِيهَا لِغَيرِ ضَرُورَةِ وَلَوْ رَدَّ مَن نَاجَاكَ لِلْغَيْرِ طَرْفَةُ ... تَمَيَّزتَ مِنْ غَيْظٍ عَليهِ وَغَيْرَةِ فَوَيْلَكَ تَدْرِي مَنْ تُنَاجِيهِ مُعْرِضًا ... وَبَيْنَ يَدِي مَن تَنْحَنِي غَيْرَ مُخْبِتِ أيَّا عَامِلاً لِلنَّارِ جِسْمُكَ لَيَّنٌ ... فَجَرَّبهُ تَمْرِينًا بَحَرِّ الظَّهِيرَةِ وَدَرِّبْهِ فِي لَسْعِ الزَّنَابِيرِ تَجْتَرِي ... عَلَى نَهْشِ حَيَّاتٍ هُنَاكَ عَظِيمَةِ فَإنْ كُنْتَ لا تَقْوَى فَوْيْلَكَ مَا الذي ... دَعَاكَ إلى إسْخَاطِ رَبِّ البَرِيَّةِ تَبَارزه بَالْمُنْكَراتِ عَشِيَّةِ ... وَتُصْبِحُ في أَثْوَابِ نُسْكٍ وَعِفَةِ نَسِيءُ بِهِ ظنًّا وَتُحْسِنُ تَارَةً ... عَلَى حَسْبِ مَا يَقْضِي الهَوى بالقَضِيَّةِ فَأَنْتَ عَلَيْهِ أَجْرَى منكَ عَلَى الوَرَى ... بِمَا فِيكَ مِنْ جَهْلٍ وَخُبْثِ طَويَّةِ تَقُولُ مَعَ العِصْيانِ رَبي غَافِرٌ ... صَدَقْتَ وَلَكِنْ غَافِرٌ بِالمَشِيئَةِ وَرَبُّكَ رَزَّاقٌ كَمَا هُوَ غَافِرٌ ... فَلِمْ لا تُصَدِّقْ فِيهمَا بالسَّوِيَّةِ فَكَيْفَ تُرَجِّي العَفْوَ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ ... وَلَسْتَ تُرجِّي الرِّزْقَ إلا بحِيلَةِ عَلَى أَنَّهُ بالرِّزْق كَفَّلَ نَفْسَهُ ... وَلَمْ يَتَكَفَّلْ لِلأنَامِ بَجَنَّتِي وَمَا زَلْتَ تَسْعَى بالذي قَدْ كُفِيتَهَ ... وَتُهْمِلَ ما كُلِفَتَهُ مِنْ وَظِيفَةِ

الزكاة أحد أركان الإسلام

.. إِلَهِي أَجِرْنَا مِنْ عَظِيمِ ذُنُوبِنَا ... وَلا تُخْزِنَا وانْظُرْ إِلِيْنَا بِرَحْمَةِ وَخُذْ بِنَواصِينَا إِليكَ وَهَبْ لَنَا ... يَقِينًا يَقينًا كُلَّ شَكٍ وَرِيبَةِ إِلَهِي اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ وَخُذْ بِنَا ... إلى الحَقِّ نَهْجًا فِي سَواء الطَّريقَةِ وَكُنْ شُغْلَنَا عَنْ كُلِّ شُغْلِ وَهَمَّنَا ... وَبُغْيتَنَا عن كُلِّ هَمٍّ وَبُغْيَةِ وَصَلَّ صَلاةً لا تَنَاهَى عَلى الذي ... جَعَلْتَ بِهِ مِسْكًا خِتَامَ النُّبوَّةِ اللَّهُمَّ انْهَجْ بِنَا مَنَاهِجَ الْمُفْلِحِين وأَلْبِسْنَا خِلَعَ الإِيمَانِ والْيَقِينَ وَخُصَّنَا مِنْكَ بالتَّوْفِيقِ الْمُبِين وَوَفِّقْنَا لِقَوْلِ الْحَقِّ وإتَّبَاعِهِ وَخَلَّصْنَا مِنْ الْبَاطِل وابْتِدَاعِهِ وَكَنْ لَنَا مَؤَيِّدًا وَلا تَجْعَلْ لِفَاجِرٍ عَلَيْنَا يَدًا وَاجْعَلْ لَنَا عَيْشًا رَغَدًا وَلا تُشْمِتْ بِنَا عَدوًّا وَلا حَاسِدًا وَارْزُقْنَا عِلْمًا نَافِعًا وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً وَفَهْمًا ذَكِيًّا وَطَبْعًا صَفِيًّا وَشِفًا مِنْ كُلّ دَاءٍ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. 31 - كتاب الزكاة ويبحث في: 1- الأموالِ التي تجب فيها الزكاة. 2- نِصابِ الزكاة. 3- مَصارفِ الزكاة. 4- تعريفِ أهلِ الزكاةِ وبيانِ مِقدارِ ما يعطاهُ كلُّ صِنْف. 1- الأموالِ التي تجب فيها الزكاة: اعْلَمْ - رَحِمَك الله - أن اللهَ سبحانَهُ وَتَعَالى أَوْجَبَ على المؤمنين أصحابِ الأموالِ الزَّكويَّةِ زكاةً لِمن ذَكَرَهُمْ اللهُ في كتابِهِ، وقَسَّمها بَيْنَهُم وَرَتَّبَ الثوابَ عَلَى أدائِها، والْعِقَابَ على مَنْعِها، وقَرَنَها بالصلاةِ في مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ من كِتَابِهِ، تَعْظِيمًا لِشَأنِهَا، وَتَنْبِيهًا بِذِكْرِهَا، وَحَثًّا عَلى أَدَائِها لِتَطْهِيرِ النَّفس ِمِن دَرَنَ الشُّحِ وَالْبُخْلِ، ودَفعِ النَّفْسِ إلى

بيان ما تجب فيه، نصاب الزكاة، وصفة زكاة الفضة ………

الْجُودِ، والتَّصَدُّقِ والإِنْفَاقِ في مَراضِي اللهِ تعالى لِتَحْصِيلِ النَّماءِ والزِّيادةِ والْبَركَةِ والْفَلاحِ والطَّهَارَةِ، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} . فَالزَّكَاةِ تُطَهِّرُ الْمُزَكِّي مِنْ أَنْجَاسِ الذُّنُوبِ، وَتَنُقِّيهِ مِنْ أَوْسَاخِهَا وَتُزَكِّي أَخَلاقَه بالتَّحَلِّي بالْجُودِ والسَّخَاءِ وَتُمَرِّنُهُ عَلَى السَّخَاءِ الذي يُحِبُّه كُلُّ بَرٍ وَفَاجِرٍ وَتُبْعِدُه عَنْ الشُّحِّ الذي هُو مَذْمُومٌ عندَ كلَّ أَحدٍ وَتُطَهِّرُ الْقَلْبَ عَنْ حُبِّ الدنيا ببذلِ الْيَسِيرِ فالْيَسِيرُ هُوَ الْوَاجِبُ وهوَ بذلُ الْقَلِيل مِنْ الكثيرِ قال تعالى: {وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} ، وقال تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} ، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} . فالشَّارِعُ الْحَكِيمُ اللطيفُ بعبادِهِ أَوْجَبَ شَيئًا يَسِيرًا بَعدَ مُدَّةٍ طَويلِةٍ إذا اعتادَ الإِنسانُ إِخْرَاجَهُ مِن الْمَالِ الْمَحْبُوبِ طَبْعًا امْتِثَالاً لأَمْرِ اللهِ ورَسُولِهِ اسْتَفَادَ حُبَّ خالِقِهِ الذي رَزَقَهُ إيَّاهُ وَوَعَدَهُ أَنْ يَخْلِفَ عليهِ مَا أنْفَقَهُ. قال تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} ، وقال: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلا وَمَلَكَانِ يَنْزِلانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا» . وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال تعالى: أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ يُنْفِقْ عَلَيْكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. فصل: إذا فَهمْتَ ذَلكِ فاعلَمْ أنَّ الزكاةَ هِيَ أحدُ أركانِ الإِسلام

وَمَبَانِيه الْعِظَامِ الْمُشَارُ إليها بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «بُنِيَ الإِسْلامُ على خَمْسٍ» ذَكَر منها إيتاءَ الزكاةِ. وَتَجَبُ الزَّكَاة في خمسةِ أشياءَ: 1- بهيمةِ الأنعامِ وهي: الإبلُ والبقرُ والغنمُ. 2- الخارجِ مِنْ الأرضِ ومَا في مَعْنَاهُ كالْعَسَلِ الْخَارجِ مِن النحلِ. 3- عُرُوضِ التجارةِ. 4- الأَثْمَانِ. 5- الثِّمَارِ. ولا زكاةَ في شيءٍ مِن ذلكَ حَتَّى يَبْلَغَ نِصَابًا، ولا زَكاةَ في مالٍ حَتَّى يَحوُل عليهِ الْحولُ، إلا في الخارج مِنَ الأرضِ لِقولِهِ تعالى: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وإلا نِتَاجَ السَّائِمَةِ، وَرِبْحَ التِّجارةِ فإنَّ حَوْلَهُما حَوْلُ أَصْلِهِما إنْ كَانَ نِصَابًا، وإلا فابتدَاء الحولِ مِنْ حينِ كَمُلَ نِصَابًا. وَمَنْ كَانَ عندَهُ مالٌ وعليه دَيْنٌ فإن كان بمقدار ما عنده فلا زكاةَ فيه، فإن كان عندَه عشرةُ آلافٍ وعليه دينٌ عَشَرَةُ آلافٍ فَأَصْبَحَ مَا يَمْلِكُ شَيئًا، وإِنْ كَانَ عندَه عِشْرُونَ أَلْفًا وعليه عَشَرَةُ زَكَّى عَشَرَةً، وَإِنْ كَانَ عليهِ عَشْرُونَ وعندَه عَشَرَةٌ فَلَيْسَ عليه شَيءٍ ولَهُ الأَخذُ مِن الزكاةِ لأَنَّهُ مِنْ الفُقَراءِ ولأنه غارِمٌ. وَيُضَمَّ الْمُسْتَفَادُ إلى نِصَابٍ بيدِهِ مِن جِنْسِهِ، أو في حُكْمِهِ في وُجُوبِ الزَّكاةِ لا في الْحَوْلِ، فَيُرَكِي كلَّ واحدٍ إذا تَمَّ حَوْلُهُ. وَتجبُ الزكاةُ فيما زَادَ على النصابِ بحسَابِهِ إلا في السائِمةِ فلا زَكاةَ في وَقْصِهَا لما رَوَى أبُو عُبَيْدَةَ في غَرِيبِهِ: (وليسَ في الأوقاصِ صدقةَ) ، وقال: (الْوَقُصُ ما بَيْنَ الْفَرْضَيْنِ) .

أو الذهب من الأوراق وما يتعلق بذلك وزكاة الصبي والمجنون …

أَمَّا عُرُوضُ التِّجَارَةِ فهو كُل ما أُعِدَّ لِلْبَيْعِ والشرَاءِ لأَجْلِ الرِّبْحِ والتَّكسُّبِ من جَمِيع السِّلَعِ التُّجَارِيةِ: كالْمُجَوْهَرِاتِ والأَطْعِمَةِ والأَقْمِشَةِ والسَّيَّارَاتِ والْمَكَائِنِ. والثَّابِتَاتِ: كالْعَقَاراتِ من أَرَاضٍ وبُيُوتِ ونحوها، إذا تَمَلَّكَهَا بِفِعْلِهِ بِنَيَّةِ التِّجارةِ وَبَلَغَتْ قِيمَتُهَا نِصَابًا، لِمَا وَرَدَ عن سَمُرَةَ بن جُنْدِبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: (إنّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنَا أَنْ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِمَّا نُعِدُّه لِلْبَيْعِ) . رواه أبو داود. فَتُقَوَّمُ الْعُرُوضُ إِذَا حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ، وَأَوَّلُهُ مِنْ حِينِ بُلُوغِ الْقِيمَةِ نِصَابًا بالأَحَصِ لِلْفُقَراءِ مِنْ ذَهَبٍ أو فِضَّةٍ، ولا يُعْتَبَرُ مَا اشْتُرِيتْ بِهِ، وَيُخْرَجُ رُبُعُ عُشْرِ قِيمَتِهَا. وَمَنْ استفادَ مَالاً خارجًا عن ربحِ التجارَةِ كالأَجرةِ والرَّاتبِ ونحوهما، فإنه يَبْتَدِي حَوْلاً مِنْ حينِ الاسْتِفَادَةِ إن كان نِصابًا، وإلا فَمِنْ كَمَالِهِ وَيُزَكِّيهِ إِذَا تَمَّ حَوْلُه. وَأما الأثمانُ، وهِيَ النُّقُودُ مِن ذَهَبٍ أو فِضَّة، أو مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِن فُلُوسٍ أو أَوْراقٍ نَقْدِيَّةٍ، وكذلكَ حُلِيَّ الذَّهَبِ والفضةِ إِذا بَلَغَ نِصَابًا بنفسِهِ، أو بما يَضُم إليهِ من جِنْسِهِ أَوْ في حُكْمِهِ ولم يكن مُعَدًا لِلاسْتعمالِ أو للإعَارَة ِ، فَإن أُعِدَّ للاستِعمالِ أو للإعَارَةِ فَلا زَكَاةَ فيه. وأقلُّ نِصَابَ الذَّهَبِ عِشْرُونَ مِثْقَالاً، وفيها نِصْفُ مِثْقَالٍ وَهو رُبعَ العُشْرِ، لِحَديثِ عائشةَ وابن عُمرَ - رضِيَ اللهُ تعالى عنهما - مرفوعًا: (أنه كَانَ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ مِثْقَالاً نِصفَ مِثْقَال) . رواه ابنُ ماجَة. والله أعلم، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. 2- فصل: والنِّصَابَ مِنَ الذَّهب بِالجنيهِ السُّعُوديّ أَحَدَ عَشَرَ جُنَيْهًا وَنِصفُ جُنَيهٍ تَقْرِيبًا، وكذلكَ بالجُنيهِ الإِفرَنْجي أَحَدَ عَشَرَ جُنَيْهًا وَنِصفُ جُنَيْهٍ تَقْرِيبًا، وَأَقَلُّ نِصَابُ الفِضَّةِ مَائَتَا دِرْهَمٍ، وَبالرِّيَالِ العَرَبي

زكاة الحبوب والثمار وما يشترط في ذلك وأنها لا تكرر ………

سِتةٌ وَخَمْسُونَ رِيالاً تَقْرِيبًا، وبِالرِّيالِ الفَرَنْسي ثَلاثةٌ وَعِشْرُونَ رِيَالاً تَقْرِيبًا. وَأما الأوْرَاقُ المَوْجُودَةُ فإذا مَلَكَ مِنْهَا مَا يُقَابِلُ نِصَابًا مِنَ الفِضَّةِ وَحَالَ عَلَيْهِ الحَولُ فَإنَّهُ يُخْرِجُ منها رُبُعَ العُشْرِ. وَمَنْ كان عِنْدَهُ فِضَّةَ وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ زَكاتها مِنَ الأَوْرَاقِ المَوْجُودَةِ المُتَعَامَلِ فِيها نَظَرَ إلى قِيمَةِ الفِضَّةِ مِنَ الأَوْرَاقِ وَأَخْرَجَ رُبُعَ عُشْرِ المُقَابِلِ لَهَا فَمَثَلاً إذا كان عِنْدَهُ أَلفُ رِيالٍ مِنَ الفِضَّةِ يُسَاوِي ثَلاثَة آلافٍ مِن الأَوْرَاقِ أَخْرَجَ عَن الفِضَّةِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ رِيَالاً هِي مُقابِلُ زَكاةِ الألْفِ مِن الفِضَّةِ وهي خَمْسٌ وَعِشْرُون. وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ ذَهَبٌ وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ زكاتهُ مِنَ الأَوْرَاقِ المُتَعَامَلِ فِيها نَظَرَ إِلى قِيمةِ الذَّهَبِ مِنَ الأَوْرَاقِ وَأَخْرَجَ رُبُعَ عُشْرِ المُقَابِلِ لَهَا فَمَثَلاً إِذَا كَان عِنْدَهُ مائةُ جُنَيْهٍ وَكَانَ الجُنَيْهُ يُساوِي خَمْسِينَ رِيَالاً (50) فَتكون المائَة في خمسةِ آلاَفِ رِيَال فَزَكَاتُهَا مِنَ الأَوْرَاقِ مِائَةَ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ رِيَالاً هُوَ مُقَابِلُ زَكَاةِ مِائة الجُنَيْهِ وهو جُنَيْهَانِ وَنِصْفُ جُنَيْهٍ مِنْ زَكَاةِ المائةِ وهو جُنَيْهَانِ ونِصْفٌ. وَتَجِبُ الزكاةُ في مالِ الصَّبِيِّ وَالمَجْنُونِ لِعُمُومِ حَديثِ مُعَاذِ لَمَّا بَعَثَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى اليَمَنِ، وَيُخْرِجُ عَنهما وَليُّهُما في مَالِهِما مِنْ مَالِهِمَا. اللَّهُمَّ ألهمنا ذكركَ ووفقنا لِلقيام بحقكَ، وخلّصنا مِن حقوقِ خلقكَ، وباركْ لنا في الحلالِ مِنْ رِزْقِكَ، وَلا تَفْضَحْنا بينَ خَلقكَ، يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلَ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ يا قَاضِيَ الحَاجَاتِ، ومُجِيبَ الدعواتِ، هَبْ لَنَا ما سَأَلْناهُ، وحقق رَجَاءَنَا فِيما تَمَنَيْنَاهُ، يَا مَنْ يَمْلِكُ حَوَائِجَ السائِلينَ وَيعلمُ ما في صُدُورِ الصَّامِتِيَن أذقنا بَرْدَ عَفْوِكَ وَحلاَوَةَ مَغْفِرَتِكَ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا بَدِيع

متى تجب في الحبوب والثمار ومتى تستقر ………………

السَّمَاواتِ نَسْأَلُكَ أَنْ تُوفِّقَنا لِمَا فِيهِ صَلاَحُ دِينِنَا وَدُنْيَانَا، وَأَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا وَأَكْرِمْ مَثْوَانَا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. (فصل) 3- وَأَمَّا زَكاةُ الخَارِجِ مِنَ الأَرضِ فَتَجِبُ في كُلِّ مكِيلٍ مُدَّخَرٍ مِن الحَبِّ كَالقَمْحِ والشَّعِيرِ وَالذُرَةِ وَمِنَ الثَمرِ كالتَمْرِ وَالزَّبِيبِ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ} وقولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ والعُيُونُ أو كان عَثِريًا العُشْرُ وفيما سُقِي بالنَّضحِ نِصْفُ العُشْرِ» . رواه البخاري. وَإنما تَجِبُ فِيه بِشَرْطَينِ الأولُ: أن يَبْلُغَ نِصابًا وَقَدْرُهُ بَعْدَ تَصْفِيَةِ الحبِ وَجَفَافِ الثمرِ خَمْسَةُ أوسُقٍ، والوسَقُ سِتُّونَ صَاعًا نَبَوِيًّا فَتكونُ خَمْسَةُ الأَوْسُقِ (300) ثَلاثمائةِ صَاعٍ بِالصَّاعِ النَبَوي وبالصَّاعِ الحَالِي مائَتَيْنِ وَثمَانِيةٍ وَعِشْرِينَ صَاعًا وَوَزْنُ الصَّاعِ النبوي بالرِّيَالِ الفَرَنْسِي ثَمَانُونَ رِيالاً (80) وَوَزْنُ الصَّاعِ الحَالي بالرِّيَالِ الفَرَنْسِي مائَةُ وَأَرْبَعَةٌ (104) فيكونُ زَائِدًا على الصَّاعِ النَّبَوِي بِخُمُسٍ وَخُمُسِ الخُمُسِ تَقْرِيبًا. والشرط الثاني: أن يكون مالكًا لِلنِّصَابِ وَقْتَ وُجُوبِهَا فَوَقْتُ الوُجُوبِ في الحَبِّ إِذا اشْتَد وفي الثَّمَرِ إذا بَدَا صَلاَحُها لأنه حِينَئِذٍ يُقصَدُ لِلأَكْلِ وَالإِقتِيَاتِ بِهِ فأَشْبَهَ اليَابِسَ وعن عائشَةَ أنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يَبْعَثُ عَبْدَ اللهِ بنَ رَوَاحَةَ إِلى يَهُودَ فَيَخْرِصُ عليهم النَّخْلَ حِينَ يَطِيبُ قَبْلَ أَنْ يُؤكَلَ مِنْهُ. رَواه أبو داود. وَيَجْبُ فَيما سُقِيَ بِلا مَؤنَةٍ العُشْرِ وَفيما سُقِيَ بِكُلْفَة نِصْفُ العُشُر

وما الذي ينبغي للإمام نحوها ويلي ذلك موعظة وجيزة ………

لِحَدِيثِ ابن عمرَ مَرفوعًا: «فيما سَقَت السَّمَاءُ الْعُشْرُ وفيما سُقِيَ بالنَّضْحِ نصفُ الْعَشْرِ» . رواه أحمد، والبخاري. وللنسائي، وأبي داود، وابن ماجة: «فيما سَقَتِ السماءُ والأنهارُ والْعيونُ أو كان بَعْلاً الْعشرُ وفيما سُقِيَ بالسَّوانِي والنُّضْحِ نصفُ الْعُشْرِ» . ويَجِبُ إخْرَاجُ زَكَاةِ الْحَبِّ مُصَفَّى مِنْ قِشْرِهِ وَالثَّمَرِ يَابِسًا لِمَا وَرَدَ عَنْ عَتَّابِ بنِ أُسَيْدٍ أَن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَنْ يُخْرِصَ الْعنبُ زبيبًا كما يُخْرَصُ التَّمْرُ ولا يُسَمَّى زَبِيبًا ولا تَمْرًا حَقِيقَةً إلا اليابسُ وقِيسَ الباقِي عليهما. ولا يَستَقِرُّ وُجُوبُها إلا بجَعْلِهَا في الْجَرِينِ أو في الْبَيْدَرِ أو في الْمِسْطَاحِ ونَحوِهِ. فإن تَلِفَتِ الْحُبُوبُ والثِّمَارُ التي تَجِبُ فِيها الزكاةُ قبلَ الْوضعِ بالْجَرين ونحوِهِ بَغَيْرِ تَعَدٍّ منه سَقَطَتْ، خُرصَتْ أو لم تُخْرَصْ، وإِنْ تَلِفَ الْبَعْضُ مِنَ الزرعِ والثَّمَرَ قَبْلَ الاسْتِقْرَارِ زَكّى الْبَاقِي إن كان نِصَابًا وإلا فلا زَكاةَ فيه لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ فيما دُونَ خَمْسةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» . ولا تَتَكَرَّرُ زَكاةُ الْمُعَشَّر إِذَا لَم يَقْصُدْ بِهِ التِّجَارَةَ فإن كَانَتْ مُعَدَّةُ لِلتِّجَارَةِ كالذي يَشْتَرِي الْبُرَّ أو الأَرُزَّ أو الزَّيْتَ يَتَربَّصُ بِهِ أو يُقَطِّعُهُ فَهَذِهِ تُعْتَبَرُ عُرُوضًا إذَا كَانْتَ تَبْلُغُ نِصَابًا كُلَّمَا دَارَ عَلَيْهَا الْحَولُ قَوَّمَهَا بالأنْفَعِ لِلْفُقَراءِ من عَيْنٍ أَوْ وَرَقٍ ولا يُعْتَبَرُ مَا اشْتُرِيَتْ بِهِ. وَيُسْتَحَبُّ لِلإِمَامِ بَعْثُ خَارِصٍ لِثَمَرِ النَّخْلِ والْكَرْمِ إذا بَدَا صَلاحُها. وَشَرْطِ كَوْنهُ مُسْلَمًا أَمِينًا خَبِيرًا لِحَدِيث عائشة قالَتْ: كان عليه الصلاةُ والسلامُ يَبْعَثُ عَبْدَ اللهِ بنَ رَوَاحَةَ إِلى الْيهودِ يَخْرِصُ عليهم النَّخِيلَ قَبْلَ أنْ يُؤْكَلَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

شروط الخارص وما يجب أن يتركه لرب المال ……………

وفي حديثِ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ عَلَى النَّاسِ مَنْ يَخْرُصُ عَلَيْهِمْ كُرُومَهُمْ وَثِمَارَهُمْ. رواه الترمذي، وابن ماجة. وَصَحَّ عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَرَصَ على امرأةٍ بِوَادِي الْقُرَى حَديقَةً لَهَا وَحَدِيثُها في مُسْنَدِ أحمدَ. وَيَجِبُ أنْ يُتْرُكَ الْخَارِصُ لِرَبِّ الْمَالِ الثُّلثَ أَوْ الرُّبعَ فَيَجْتَهِدُ السَّاعِي بَحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ لِحَدِيثِ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا خَرَصْتُمْ فَخُذُوا وَدَعُوا الثُّلُثَ فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبْعَ» . رواه الخمسة. واللهُ أَعْلَمْ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ. (10) موعظة أَيُّهَا الْغَافِلُ رَاقِبْ مَنْ يَرَاكَ فِي كُلِّ حَالٍ، وَطَهِّر سِرَّكَ فَهُوَ عَلِيمٌ بِمَا يَخْطُرُ بَالْبَالِ، إلى مَتَى تَمِيلُ مَعَ الزَّخَارفَ وَإِلى كَمْ تَرْغَبْ لِسَمَاعِ الْمَلاهِي والْمَعَازِفِ والْمُحَرَّمَاتِ أَمَا آنَ لكَ أَنْ تُجَالِسَ صَاحِبَ الدِّين والصَّلاحِ الْعاكِفِ عَلَى عَمَلِهِ يَقْطَعُ لَيْلَهُ بالْقِيامِ حَتَّى الصَّبَاحِ وَنَهَارَهُ بالصِّيامِ لا يَمِلُّ وَلا يَتَوانَى رَجَاءَ الْفَوزِ بالأَرْبَاحِ، وَأَنْتَ فِي غَمْرِةِ هَوَاكَ مَفْتُونًا فِي الاِنْهِمَاكِ بِدُنْيَاكَ وكأني بكَ وقد هَجَمَ عَلَيْكَ مَا بَدَّدَ شَمْلَكَ وَأَوْهَنَ قُوَاكَ وَافْتَرَسَكَ مِنْ بَيْنِ أَهْلِكَ وَعَشِيرَتِكِ وَأَخِلائِكَ وَتَخَلَّى عَنْكَ خَلِيلُكَ وَأَصْدِقَاؤكَ لا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّ مَا نَزِلَ بِكَ وَلا تَجِدُ له كاشِفًا فانْتَبِهْ مَا دَامَ جِسْمُكَ صَحِيحًا والْعَمَلُ مِنْكَ فِي إِمْكَان. اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِصَالِحِ الأعْمالِ وَنَجِّنا مِن جميعِ الأهوالِ وأَمِّنَّا مِن الفزعِ والرجفِ والزِلزال، واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

حث على البحث عن المستحق بدقة وبيان مصاريف الزكاة ……

33- فصلٌ في بيانِ مصارف الزكاة: ويُشْتَرَطُ لإِخْرَاجِهَا نِيَّةٌ مِنْ مُكَلَّفٍ، لَحَدِيثِ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» . فَيَنْوِي الزَّكَاةَ، أو الصدقةَ الواجبةَ أَوْ صَدَقَةَ الْمَالِ. ويُسنُّ أَنْ يُفَرِّقَ زَكاتَهُ على أقاربِهِ الذين لا تَلزَمُهُ مَؤونَتُهُم لما وَرَدَ عَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَهِيَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ اثِنْتَانِ: صَدَقَةٌ، وَصِلَةٌ» . رواه أَحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، والدارمي. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ الْمُخْرِجُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا مَغْنَمًا، وَلا تَجْعَلْهَا مَغْرَمًا. ويَحْمَدُ اللهَ على تَوْفِيقِهِ لأَدَائِهَا، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَعْطَيْتُمْ الزَّكَاةَ فَلا تَنْسَوْا ثَوَابَهَا أَنْ تَقُولُوا: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا مَغْنَمًا وَلا تَجْعَلْهَا مَغْرَمًا» . رواهُ ابن ماجة. وَيَقُولُ الآخِذُ وهو الْفَقِيرُ أَوْ الْمِسْكِينُ أو أَحَدُ الأَصْنَافِ: آجَرَكَ اللهُ فِيمَا أَعْطَيْتَ وَبَارَكَ لَكَ فِيمَا أَبْقَيْتَ وَجَعَلُهُ لَكَ طَهُورًا. قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} أَيْ ادْعُ لَهُمْ، كَمَا رَوى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن أبي أوفى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أُتِيَ بصَدَقَةِ قومٍ صَلَّى عليهِم. فأتاه أبيّ بصَدَقَتِهِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّي عَلَى آلِ أبِي أوفَى» . وللمُزَكِّيِ دفعُها إلى الإِمامِ وَإلى السَّاعِي، ويَبْرَأُ بذَلِكَ، ولا

يُجْزِي دَفْعَها إلى كافِرٍ غير مؤلَّف، وَلاحَظَّ فِيها لِغَنِيّ وَلا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ، لِمَا وَرَدَ عن عبدِ الله بن عَدِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجلَين أخْبَرَاهُ أنهما أَتَيَا النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلانِهِ مِنْ الصَّدَقَةِ فَقَلَّبَ فِيهما الْبَصَرَ وَرَآهُما جَلْدَيْن فقال لَهُما: «إِنْ شِئتُمَا أَعْطَيتُكُمَا ولا حَظَّ لِغَنِي ولا لِقَوي مُكْتَسِب» . فالواجبُ تأمُلُ حالِ السائل، والتَّفَرُسُ فِيهِ كما فَعَل النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكم من إنسانِ يَدَّعي الفقَر وَهو غَنِي. وَكَمْ مِن مُتَعَارِجٍ وما بِهِ عَرَجٌ ولكِنْ لأَمْرٍ مَا تَعاَرُجُهُ. وَكَمْ مِنْ حَامِلِ وَرَقَةٍ يَأْكُلُ بِهَا لا يَدْرِي مَا فِيهَا وَلَوْ بَرَّقْتَ وَسَبَرْتَ بِدقٍ لَوَجَدْتَ الْعَجَائِبَ، لأنَّ الوازِع الدِّيِنِي قَدْ ضَعُفَ جِدًا واخْتَلَطَ الْحَابِلُ بالنَابِلِ فَلا يُمَيِّزُ الفقيرُ والْمُسْتَحِق للَّزكاةِ إلا إنْسَانٌ مُتَبَصِّرٌ بَعْدَ التَّأَمُلِ والْبَحْثِ التَّامِ والْحَرِيصُ على إبْرَاءِ ذِمَّتِهِ وَإِيصَالِ زَكَاتِهِ إِلى الْمُسْتَحِقِّ لِهَا يَعْرِفُ كَيْفَ يِجِدُ مَوْضِعَها تَمَامًا مِمَن لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا الْمُحْتَاجِين الْمُخْتَفِينَ الْحَيِّينَ الأَرَامِلَ ذَوِيْ الْعَوائِلِ، ورُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعَ سَائلاً يَسْألُ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فَقَالَ لِرَجُلٍ مِنْ قَومِهِ عَشِّ السَّائلَ فَعَشَّاهُ، ثُمَّ سَمِعَهُ ثَانِيًا يَسَألُ فَقَالَ: أَلَمْ أقلْ لَكَ عَشِّ السَّائلَ؟ قَالَ: قَدْ عَشَّيتُهُ فَنَظَرَ عُمُرُ لَه فإذا تَحْتَ يَدِهِ مِخْلاةٌ مَمْلُوءةٌ خُبْزًا فقال: لَسْتَ سَائِلاً لِكنَّكَ تَاجرٌ ثم أَخَذَ الْمِخْلاةَ وَنَثَرَهَا بَيْنَ يَدَيْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ وَضَرَبَهُ بالدُّرةِ وقال: لا تَعُدْ. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنيٍ وَلا لِذِي مِرَّةٍ سَويٍّ» . رواه أحمدُ، وأبو داود. ولا يَدْفَعُ بالزكاةِ مَذَمَّةً، ولا يَقِي بِها مَالَهُ، ولا يَسْتَخْدِمُ بها ويَلْزَمُ الإنسانُ الذي يُرِيدُ إِبْرَاءَ ذِمَّتِهِ صَحِيحًا أَنْ يُفَتِّشَ على أهلِ العوائدِ

ويَسْألْ عنهم بدِقّةٍ مِنْ يَعْرِفُ حَالَهُم مِن جِيرانٍ وَأَقَارِبَ حَتَّى يَتَأكَّدَ هَلْ هُمْ أَغْنِياءُ فلا يَدْفَعُهَا إليهِم لأنَّ دَفْعَهَا لهَم مَع الغنى وجُودُهُ كَعَدَمِهِ فلا تَبْرَأُ ذِمْتُهُ وَتَبْقَى الزَّكاةُ فِي ذِمَّتِهِ وَلا يَحْمِلُه الْحَياءُ فَيُعْطِي صَاحِبَ الْغِنَى قُبْلَ أنْ يَبْحَثَ عنه هَلْ هو على فَقْرِه. لأَنَّ كَثيرًا مِن الْفُقَراء في وَقْتِنَا انْفَتَحَ لَهُمْ أَبْوَابُ الرِّزْقِ مِن أَوْلادٍ أَوْ بَنَاتٍ أَوْ عَقَارٍ أَوْ شُؤونٍ وَلا يُبَالِي بغَضَبِ مِنْ مَنَعَهُ عَادَتَهُ مَعَ اسْتِغْنَائِهِ وَيَلْتَمِسُ رِضَا اللهِ جلَّ وَعَلا وَسَواء كَانُوا أقْرِبَاءَ أَوْ غَيْرَ أَقْربَاء. وَلا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ لِغَيْرِ الأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الْمَذْكُورِينَ في الآية قال الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . فلا يَجُوزُ صَرْفُها في بِنَاءِ الْمَدَارِسِ أو الْمَسَاجِدِ، ولا وَقْفِ مَصَاحِفَ، ولا كُتْبِ علمٍ. ولا تكفينِ مَوْتَى، ولا تَوْقِيفِ مَقَابِرَ ولا غيرِهَا مِنْ جِهَاتِ الْخَير، لأَنَّ اللهَ تعالى تَوَلَّى الْحُكم فيها بنَفْسِهِ، فقدْ وَرَدَ عن زِيادِ ابنِ الْحارثِ الصُّدائِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أتيتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبايَعْتُهُ، فذكرَ حديثًا طويلاً، فأَتاهُ رجلَ فقال: اعْطِنِي مِنِ الصَّدقَةِ، فَقَال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن اللهَ لم يَرْضَ بحُكْم نَبِي ولا غَيْرِهِ في الصَّدَقَاتِ، حَتَّى حَكَم فيها فَجَزَّأَهَا ثمانيةَ أجْزاءِ، فإن كَنتَ مِن تلكَ الأَجْزاءِ أَعطيتُكَ» . فيأخُذُ الْفَقِيرُ وهو مَن لا يَجدُ شيئًا أو بَعْضَ الْكِفَايةِ مِن الزكاة تَمَامَ كِفَايتِهِ مَعَ عَائِلَتِهِ سَنَةً لأَنَّ وُجُوبَ الزكاةِ يَتَكَرَّرُ بتكرر الْحَوْلِ.

موعظة بليغة في الحث على الاستعداد للموت ……………

وَيَأْخذُ الْمِسْكِينُ وهو مَن يَجدُ الْكِفَايَةَ أَوْ نِصْفَهَا تَمَامَ كِفَايَتِهِ مَعَ عَائِلتِهِ سَنةً لأنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ يَتَكررُ بِتكرُرِ الْحَوْلِ. ويُعْطَى مِن الزكاةِ الْعامِلُ وَهُوَ كَجَابٍ وَحَافِظٍ. وَكَاتِبٍ وَقَاسِمٍ وَجَامِعِ الْمَوَاشِي وَعَدَّدِهَا وَكَيَّالٍ ووزانٍ وَسَاعٍ وراعٍ وَحَمَّالٍ وَجَمالٍ قَدْرَ أجرتِهِ وإنْ تَلَفَتْ في يَدِهِ بلا تَفْريطٍ منه فَيُعْطَى أُجْرَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لأنَّ لِلإِمَامِ رَزْقُهُ على عَمَلِه مِن بَيْتِ الْمَالِ. وَيُعْطَى مِن الزَّكَاةِ الْمُؤَلِّفُ وهوَ السِّيدُ الْمُطَاعُ فِي عَشَيرتِهِ مَا يَحْصُلُ بِهِ التأليفُ لأنه الْمَقْصُودُ. 5- ويُعْطَى مِن الزكاةِ الرِّقابُ وهُم الْمكاتَبُونَ وفَاءَ دَينِ الْكتابِةِ وَيَجُوزُ أَنْ يُفِدِي مِن الزكاةِ أسيرًا مُسْلِمًا في أيدي الْكفار. 6- ويُعْطَى الْغارِمُ مِن الزَّكَاةِ وهو مَنْ تَدَيَّنَ لإِصْلاحِ ذاتِ بَيْنٍ أو تَحَمَّلَ بَسَبَبِ إتْلافِ نَفْسٍ أَو مَالٍ أََوْ نَهْبًا أو مَالاً لِتَسْكِينِ فِتنِةٍ وَقَعَتْ بَيْنَ طَائفَتَيْنِ وَيتوقَّفُ صُلُحُهُمَا على مَنْ يَتَحَمَّلُ ذَلكَ أو تَدَيّنَ لِشِرَاءِ نَفْسِهِ مِن كُفَّارٍ أو لِنَفْسِهِ في مُبَاحٍ وأَعْسَرَ وَفَاءَ دَينِهِ كمكاتَبٍ، وَدَينُ اللهِ كَدَينِ الآدَمِي. 7- ويُعْطَى الْغَازِي في سَبِيلِ اللهِ ما يَحْتَاجُ لِغَزْوِهِ ذِهَابًا وإِيَابًا وإقامةً في أرضِ الْعَدُوِّ ونحو ثَمَنِ سِلاحٍ ودِرْعٍ وفَرَسٍ لِفَارِسٍ ويُعْطَى مِن الزَّكاةِ ابنُ السَّبِيل وهو الْمُسَافِرُ الْمُنْقَطَعُ بهِ بغير بلدِهِ ما يُبَلِّغُه بَلَدَهُ أو مُنْتَهَى قَصْدِه وعَوْدِهِ إليهَا إن لم يَكُنْ سَفَرُهُ مُحْرَمًا أو مَكْرُوها. واللهُ أَعْلَمْ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. (11) موعظة عبادَ الله إنَّ وُجُودَ الْمَوتِ بينَ النَّاسِ مَوْعِظَةٌ كُبْرَى لو كَانُوا يعقلون

فإنه بلِسَانِ الْحَالِ يقولُ لِكُلِّ واحدٍ مِنا: سَأنْزلُ بكَ يومًا أو لَيلةً كما ترى الناسَ بعَيْنِكَ يَمُوتُونَ وقد يَكُونُ لأَحَدِهِم مِن المالِ والجاهِ والقوَّةِ والْجَمَالِ والْعِلمِ والْفَصَاحَةِ والْمَرْكَزِ الدُّنَيوي ما يُدْهشُ النَّاظرينَ لَهُ، وقد يكونُ قَدْ طَالَ عُمُرُهُ وطالَ أمَلُهُ حتى مَلَّ ومُلَّ مِنْهُ. وَبَيْنَ ما هو في حالٍ مِن النَّشَاطِ قويٌ مشْدُودٌ أسْرُهُ، ذو هِمَّةٍ تَضِيقُ بِها الدُّنيا، قَدْ أَقْبَلَتْ عليهِ الدُّنْيَا مِنْ كُلِّّ جهَةٍ، وَزَهَتْ لَهُ، إذا تَرَاهُ جُثَّةً هَامِدَةً أشْبَهَ بِأعْجَازِ النَّخْلِ الْخَاوِية لا حِسَّ لَهُ ولا حَرَكَةَ ولا أقوالٌ وَلا أفعالٌ قَدْ ضَيَّقَ على مَنْ حَوْلَهُ وإذا لَمْ يُسْرِعُوا بِهِ إلى الدَّفْنِ يَكُونُ جيفةَ مِنْ الْجِيفِ تُؤْذِي رَائِحَتُهَا الْكَرِيهةُ كَلَّ مَنْ قَرُبَ منها، هَذا كُلُّهُ يكونُ بعدَ ذلكَ النَّشَاطِ والْقُوَى لأنَّ هَادِمَ اللَّذَاتِ نَزَلَ بِهِ. وبَعْدَ نُزُولِه لا تَسْألُ كان لَهُ ما كَانَ، وفي الحالِ تُصْبحُ زَوْجَتُه أرْمَلَةٌ ويُصْبحُ أَوْلادُهُ أَيْتَامًا. وفي الْحَالِ تُقَسّم أَمْوَالُهُ التي جَمَعَهَا وَقَاسَى على جَمْعِهَا الشَّدَائِدَ. لأَنَّ الْمَوْتَ يُزيلُ مُلْكَهُ وينْقُلُهُ إلى مُلْكِ وَرَثَتِهِ نَقْلاً تَعْجَزُ عن نَقْضِهِ الأَيامُ، نَعَمْ إنَّهُ بالموت يزولُ مَالُه كُلُهُ وهِيَ أَكْبَرُ مُصِيبَةٍ مَاليَّةٍ. وأَكْبَرُ مِنَها أَنَّهُ يُسْألُ عنه كُلّهِ دَاخلاً وخَارجًا مِن حَلالٍ أَمْ مِن حَرَامٍ وبَعْدَ مُدَّةٍ يَسيرةٍ يُنْسَى هُو وَيُنْسَى مالُه وَيُنسَى جَاهُهُ ويُنْسَى مَرْكَزُهُ وَمَكَانَتُهُ ولو كان مَلِكًا أوْ وَزِيرًا ومَا كأنُه رَأَتْهُ الْعُيُونُ ولا سَمِعَتْ كَلامَهُ الآذانُ كما شِعْرًا: لِمَنْ يَا أَيُّهَا الْمَغْرُورُ تَحْوِي ... مِنَ الْمَالِ الْمُوَفَّرِ والأَثَاثِ سَتَمْضِي غَيْرَ مَحْمُودٍ فَرِيَدًا ... وَيَخْلُو بَعْلُ عِرْسِكَ بالتُّرَاثِ وَيَخْذُلُكَ الوَصيَّ بَلا وَفَاءٍ ... وَلا إصْلاحِ أَمْرِ ذِي التِّيَاثِ لَقَدْ وَفَّرْتَ وِزْرًا مَرَّ حِينًا ... يَسُدُّ عَلَيْكَ سُبْل الانْبِعَاثِ فَمَا لَكَ غَيْرَ تَقْوى الله حِرْزٌ ... وَلا وَزَرٌ وَمَا لَكَ مِنْ غَيَّاثِ

موعظة بليغة في الحث على التأهب للموت ………………

إن الناسَ يَرَوْنَ الْمَوْتَ كلَّ يَوْمٍ بأعْيُنِهم في بُيُوتِهِم أَوْ فِي الْمُسْتَشْفَيَاتِ، وَيَرَوْنَ مَالَهُ مِنْ آثارٍ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ بِمُجَرَّدِ أَنْ يَمُوتَ بَيْنَهُمْ مَيّتٌ يَكُونُ مَنْهُمْ مَعَ مَوْتِهِ هَذَا مَا يُدْهِشُ الأَفْكَارَ فَتَرَى مِنْ أَقَارِبَهِ مَنْ يَتَسَابَقُونَ إِلَى الْبَحثِ عَمَّا خَلَّفَ، وانْتِهَابِ مَا اتَّصَلَتْ إِليه أيْديهِمِ من ماله، وربَّمَا شَبَّتْ بَيْنَ وَرَثَتِهِ الْحُرُوبُ مِن أَجْلِ أَنْ يَتَمَيَّزَ كُلُ وَاحدٍ منهم في التَّرِكَةِ عَمَّنْ سِوَاهُ وَقَدْ تَشْتَدُّ بِهِم تِلكَ الْعَدَاوَةُ تَعْمَلُ عَمَلَهَا مَا بَقِيتْ تِلكَ. يَفْعَلونَ هَذَا كُلَّهُ عَقِبَ مَنْ يَمُوتُ بَدَلَ أنْ يَعْتَبُرُوا ويَتَّعِظُوا بِهِ فَيُزِهِّدُهُمْ هَذَا التَّفْكِيرُ والاِعْتِبَارُ فِي ذَلِكَ المَالِ الفَانِي الذَّاهِبُ عَنْ أَيْدِيهِمْ عَنْ قَرِيبٍ كَمَا ذَهَبَ عَنْهُ مَنْ وَصَلَ إِلَيْهِمْ مَنْ طَرِيقِهِ لَقَدْ سَبَقَ أَقْوَامٌ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بالْمَوْتِ حَقَّ الإِيمَانِ فَكَانُوا يُقَدِّرُون الدُّنْيَا حَقَّ التَّقْدِيرِ كَانُوا يَعْرَفُونَ أَنَّهَا فَانِيَةٌ وَأَنَّهَا غَرَّارَةٌ خَدَّاعَةٌ وَأَنَّهُمْ تَارِكُوهَا يَوْمًا رَغْمَ أَنُوفِهِمْ لا رُجُوعَ بَعْدَهُ لِقَلِيلٍ مِنْهَا وَلا كَثِيرٍ قَرؤُوُا قَوْلَهُ تَعَالَى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} فاسْتَعِدُّوا واقَرؤُوُا قَوْلَهُ تَعَالَى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللهِ بَاقٍ} فَكَانُوا إِذَا حَصِلَ لَهُمْ شَيء مِنْ الدُّنْيَا صَرَفُوا ذَلِكَ لِمَا يَنْفَعُهُمْ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ. وَإِذَا سَمِعْتَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَ الدُّنْيَا فَلِمَا ذَكَرْنَا. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الصَّدَقَةَ كُنَّا نُحَامِلُ عَلَى ظُهُورِنَا فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِشَيءٍ كَثيرٍ فَقَالُوا: مُرَائِي، وَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَّدَقَ بِصَاعٍ فَقَالُوا: إِنَّ اللهً لَغَنِيٌّ عَنْ صَاعِ هَذَا، فَنَزَلَتْ الآيةُ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . ومِنْ طَرِيقٍ آخَرَ حَثَّ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّدَقَةِ

يَعْنِي في غَزْوَةِ تَبُوكَ فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بَنْ عَوْفٍ بأَرْبَعَةِ آلافٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَالِي ثَمَانِيَةُ آلافٍ جِئْتُكَ بِنِصْفِهَا وَأَمْسَكْتُ بِنِصْفِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيمَا أَمْسَكْتَ وَفِيمَا أَعْطَيْتَ» . وَجَاءَ أبُو عُقَيْل بَصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولُ للهِ أَصَبْتُ صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ صَاعٍ أَقْرَضْتُهُ لِرَبِّي، وَصَاعِ لِعِيالِي. قَالَ: فَلَمَزَهُ الْمُنْافِقُونَ، وقاَلُوا: مَا أَعْطَى ابْنُ عَوْفٍ إلا رِياءُ، وقَالُوا: أَلَمْ يَكُنْ اللهُ وَرَسُولُهُ غَنَيِّينِ عَنْ صَاعِ هَذَا، وَهَكَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ يَجْعَلُونَ مَا نَالُوا مِنَ الدُّنْيَا وَسِيلَةً إلى الآخرة. شِعْرًا: ... ألا إنَّ رِزْقَ الله لَيْسَ يَفوتُ ... فلا تُرَعَنْ إِنَّ القَليلَ يَقُوتُ رَضِيتُ بِقسْمِ الله حَظًّا لأنَّهُ ... تكفَّلَ رِزْقِي مَنْ لَهُ الْمَلَكُوتُ سَأَقنعُ بالمالِ القَليلِ لأنني ... رَأَيتُ أَخَا المالِ الكثِيرِ يمُوتُ آخر: إذا اكْتَسَب المالَ الفَتَى مِنْ وُجُوهِهِ وَأحْسَنَ تَدبِيرًا لَهُ حِينَ يَجْمَعُ وَمَيَّزَ فِي إنْفَاقِهِ بَيْنَ مُصْلِحٍ مَعِيشَتَهُ فِيمَا يَضُرُ وَيَنْفَعُ وَأرْضَى بِهِ أَهْلَ الحُقُوقِ وَلَمْ يُضِعْ بِهِ الذُّخْرَ زَادًا لِلَّتِي هِيَ أَنْفَعُ فَذَاكَ الفَتَى لا جَامِعَ الْمَالِ ذَاخِرًا لأولادِ سُوءٍ حَيْثُ حَلُّوا وَأَوْضَعُوا آخر: فَكَّرْتُ في المالِ وفي جَمْعِهِ ... فَكَانَ مَا يَبْقَى هُوَ الفَانِي وَكَانَ مَا أَنْفَقْتُ في أوجهِ الـ ... ـبرِّ بِمَعْرُوفٍ وَإحْسَانِ هو الذي يَبْقَى وَأَجْزَي بِهِ ... يَوْم يُجازَى كُلُّ إنْسَانِ اللَّهُمَّ أنْظُمْنَا في سِلْكِ الْفَائِزِنَ بِرِضْوانِكَ، واجْعَلْنَا مِنْ الْمُتَّقِينَ الذِينَ

فصل ما ورد من الوعيد الشديد في ترك الصلاة ……………

أعْدَدْتَ لَهُمْ فَسِيحَ جَنَّاتِكَ، وأَدْخِلْنَا بِرَحْمَتِكَ فِي دَارِ أَمَانِكَ وعافنا يا مَوْلانا في الدُّنْيَا والآخِرةِ مِن جَمِيعِ الْبَلايَا وأجْزِلْ لِنَا مِنْ مَوَاهِب فَضْلِكَ وَهِبَاتِكَ وَمَتَّعْنَا بالنَّظَر إلى وَجْهِكَ الْكَريمِ مَعَ الذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَدَاءِ والصَّالِحِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فصل) 34– فِيَما وَرَدَ مِن الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ على تَرْكِ الزَّكَاة: إذا فَهِمْتَ ما تَقَدَّمَ مِمَّا تَجِبُ فيه الزكاةُ وبيانِ نِصَابِ الزكاةِ ومَصْرفها وما يَنْبَغِي أنْ يَقولَ الدَّافِعُ والْمَدْفُوعُ إليهِ. فاعْلَمْ أَنَّها مَا خَالَطَتْ مَالاً إلا أفسدَتْهُ ومحقتْ بَرَكَتَهُ وأيُّ خَيْرٍ وَنَفْعٍ فِي مالٍ مَمْحُوقِ الْبَرَكَةِ بَاقٍ شَرُّهُ وفِتْنَتُهُ وشُغْلُ الْبدنِ والْقَلبِ وإتْعَابُهُما؟ والْمَحْقُ: مِنْهُ ما هُوَ ظَاهِرٌ، وَهَوُ ذَهَابُ صُورَة الْمَالِ، وَرُجُوعُ الإِنْسَانِ بَعْدَ الاسْتِغْنَاءِ فَقِيرًا، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ لِخَلْقٍ كثيرٍ مِنْ الْمُتَسَاهِلِينَ بَأَمْرِ الزَّكَاةِ. وَمِنْ الْمَحْق: مَحْقُ بَاطِنٌ وهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ في الصُّورَةِ مَوْجُودًا وَكَثِيرًا ولكنْ لا يَنْتَفِعُ فيه صاحبُهُ لا في دِينِهِ في وجُوهِ الْبَرِّ والْمَشَارِيعِ الْخَيرِيَّةِ وبَذْلِ الْمَعْروفِ، ولا يَنْتَفَعُ فيه في نَفْسِهِ ومروءَتِهِ بالسَّتْرِ والصِّيانِةِ، ومَعَ ذلِكَ يَتَضَرَرُ بهِ تَضرُرًا كَثِيرًا بإمْسَاكِهِ عن حَقِّهِ وَوَضْعِهِ في غَيْر جَهَتِهِ إمَّا بِإنْفَاقِهِ بَالْمَعَاصِي والْعِيَاذُ باللهِ وَإمَّا فِي الشَّهَوَاتِ الْبَهِيمِيَّةِ التِي لا نَفْعَ فِيهَا وَلا حَاصِل. وقد وَرَدَ في مَنْعِ الزَّكاةِ عن اللهِ ورسُولِهِ تَشْدِيدَاتٌ هَائِلةٌ وَتَهْدِيدَاتٌ

عظيمة ويُخْشَى عَلَى مَانِعِ الزكاةِ مِن سُوُءِ الْخَاتِمِةِ والتَّعرُّضِ لوعيد اللهِ وغَضَبِهِ والْخُروجِ مِن الدُّنْيَا على غَيرِ مِلَّةِ الإِسلامِ ومِمَّا جَاءَ مِن الْوَعِيدِ في حَقِّ مَنْ بَخِلَ بِهَا أَوْ قَصَّرَ فِي إِخْرَاجِهَا قولُه تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} . شِعْرًا: فَإنْ تجمع الآفاتُ فَالْكُفْرُ شَرَّهَا وَشرٌ مَعَ الكُفْر النَّفِاقُ مع البُخْلِ شِعْرًا: ثلاث مُهْلِكَاتٌ لا مَحَالةْ ... غَوَى نَفْسٍ يَعُود إلى البَطَالَةْ وَشُحٌ لا يَزَالُ يُطَاعَ دَأبًا ... وَعُجْبٌ ظَاهرٌ في كُلِّ حَالَةْ وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلا فِضَّةٍ لا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ» . قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالإِبِلُ؟ قَالَ: «وَلا صَاحِبُ إِبِلٍ لا يُؤَدِّي حَقَّهَا - وَمِنْ حَقِّهَا حَلَبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا - إِلا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ

قَرْقَرٍ أَوْفَرَ مَا كَانَتْ لا يَفْقِدُ مِنْهَا فَصِيلا وَاحِدًا تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا وَتَعَضُّهُ بِأَفْوَاهِهَا كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ» . قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ؟ قَالَ: «وَلا صَاحِبُ بَقَرٍ وَلا غَنَمٍ لا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ لا يَفْقِدُ مِنْهَا شَيْئًا لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ وَلا خَلْجَاءُ وَلا عَضْبَاءُ تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بِأَظْلافِهَا كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أَوَّلَهَا رُدَّ عَلَيْهِ آخِرَهَا فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ» . وَعَنْ جَابِر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مِنْ صَاحِبِ إِبلٍ لا يَفْعَلُ فِيها حَقَّهَا إِلا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ، وَقَعَدَ لَها بِقَاعٍ قَرْقَرٍ تَسْتَنُّ عَلَيْهِ بِقَوائِمِهَا وَأَخْفَافِهَا ولا صَاحِبِ بَقَرٍ لا يَفْعَلُ فِيهَا حَقَّهَا إلا جَاءَتَ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَوْفَرَ مَا كَانَتْ وَقَعَدَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ فَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا، وَتَطَؤُهُ بِأَظْلافِهَا، لَيْسَ فِيهَا جَمَّاءُ ولا مُنْكَسِرٌ قَرْنُهَا ولا صَاحِبِ كِنْزٍ لا يَفْعَلُ فِيهِ حَقَّهُ إلا جَاءَ كَنْزُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ شُجَاعًا، أَقْرَعَ يَتْبَعُهُ فَاتِحًا فَاهُ، فَإِذَا أَتَاهُ فَرَّ مِنْهُ، فَيُنَادِيهِ خُذْ كَنْزِكَ الذي خَبَّأْتَهُ فَأنَا عَنْهُ غَنِيٌ، فَإِذَا رَأَى أَنْ لا بُدّ مِنْهُ سَلَكَ يَدَهُ في فِيهِ فَيقْضِمُهَا قَضْمَ الْفَحْلَ» . وَفِي رِوَايةٍ للنَّسَائِي قال: قالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ رَجُلٍ لا يُؤَدِّي زَكاةَ مَالِهِ إلا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاع مِنْ نَارِ فَتُكْوَى بِهَا جَبْهَتُهُ وَجَنْبُهُ وَظَهْرُهُ في يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ» . اللَّهُمَّ هَبْ لَنَا ما وهَبتهُ لأوْلِيائكَ وَتَوفّنَا وأنتَ رَاضٍ عَنَّا وقد قَبلْتَ الْيَسيرَ

منَّا واجْعَلْنَا يا مَوْلانَا مِنْ عِبَادِكَ الذينَ لا خَوْفَ عَليهمْ ولا هُمُ يَحْزَنُونَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ) : وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَجلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ أَنْ أَدَّى الرَّجُلُ زَكاةِ مَالِهِ فقالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أدى زَكَاةَ مَالِهِ فَقْدَ ذَهَبَ عَنْهُ شَرُّهُ» . وَعَنْ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى مَلإٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَجَاءَ رَجُلٌ خَشِنُ الشَّعَرِ وَالثِّيَابِ وَالْهَيْئَةِ حَتَّى قَامَ عَلَيْهِمْ فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: بَشِّرْ الْكَانِزِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، ثُمَّ يُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضِ كَتِفِهِ وَيُوضَعُ عَلَى نُغْضِ كَتِفِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيِهِ فَيَتَزَلْزَلُ. ثُمَّ وَلَّى فَجَلَسَ إِلَى سَارِيَةٍ وَتَبِعْتُهُ وَجَلَسْتُ إِلَيْهِ وَأَنَا لا أَدْرِي مَنْ هُوَ فَقُلْتُ: لا أُرَى الْقَوْمَ إِلا قَدْ كَرِهُوا الَّذِي قُلْتَ، قَالَ: إِنَّهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا، قَالَ لِي خَلِيلِي، قُلْتُ: مَنْ خَلِيلُكَ؟ قَالَ: النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتُبْصِرُ أُحُدًا» ؟ قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَى الشَّمْسِ مَا بَقِيَ مِنْ النَّهَارِ وَأَنَا أُرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرْسِلُنِي فِي حَاجَةٍ لَهُ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ إِلا ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ وَإِنَّ هَؤُلاءِ لا يَعْقِلُونَ، إِنَّمَا يَجْمَعُونَ، لا وَاللَّهِ لا أَسْأَلُهُمْ دُنْيَا وَلا أَسْتَفْتِيهِمْ عَنْ دِينٍ حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلََّ» . وفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّهُ قَالَ: «بَشِّرْ الْكَانِزِينَ بِكَيٍّ فِي ظُهُورِهِمْ فَيَخْرُجُ مِنْ جُنُوبِهِمْ وَبِكَيٍّ مِنْ قِبَلِ أَقْفَائِهِمْ حَتَّى يَخْرُجُ مِنْ جِبَاهِهِمْ» قَالَ: ثُمَّ تَنَحَّى فَقَعَدَ، قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَذَا قَالُوا: هَذَا أَبُو ذَرٍّ، قَالَ:

فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: مَا شَيْءٌ سَمِعْتُكَ تَقُولُ قُبَيْلُ؟ قَالَ: مَا قُلْتُ إِلا شَيْئًا قَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قُلْتُ مَا تَقُولُ فِي هَذَا الْعَطَاءِ قَالَ: خُذْهُ فَإِنَّ فِيهِ الْيَوْمَ مَعُونَةً فَإِذَا كَانَ ثَمَنًا لِدِينِكَ فَدَعْهُ. وَروي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سَمِعْتُ مِنْ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَدِيثًا عن رسولِ اللهَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما سَمِعْتُهُ مِنْهُ، وكُنْتُ أَكْثَرَهُم لُزُومًا لِرَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال عُمَرُ: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما تَلِفَ مَالٌ في بَرٍ ولا بَحْرٍ إلا بحبسِ الزكاة» . وَعَنْ عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُا - قالتْ: قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما خَالَطَتِ الصَّدَقَةُ - أو قال الزكاةُ - مالاً إلا أفْسَدَتْهُ» . وعن الْحَسَنِ: أَنَّ رَسُولََ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «حَصِّنُوا أَمْوَالكُم بالزَّكاةِ، ودَاوُوا مَرْضَاكُم بالصَّدَقَةِ، واسْتَقْبِلُوا أَمْوَاجَ الْبَلاءِ بالدُّعَاءِ والتَّضَرُّعِ» . فَتَأَمَّلْ يَا أَخِي الآياتِ الْكَرِيمَاتِ والأَحَادِيثِ الشَّرِيفَاتِ. وانْظُر كَيْفَ يُؤتَى بالْمَالِ الذِي كان يُحِبُّهُ مَانِعُ الزَّكَاةِ حُبًّا شَدِيدًا ويُعزُّهُ الْعِزَّ الذِي يَصِلُ بِهِ إلى أَنْ يُمْسِكُهُ وَيَجْمَعَهُ وَيُوَعِيهِ وَلا يُفَرِّطُ في شَيءٍ مِنْهُ، حَتَّى مَا كَانَ مِنْهُ حَقًّا لِلْفُقَرَاءِ الْبُؤْسَاءِ الْمَسَاكِينِ يُؤتَى بِهِ بَعَيْنِهِ وَيُجْعلُ صَفَائِحَ، وَمَعَ أَن هَذِهِ الصَّفَائِحَ مِن نَارٍ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ لِتَشْتَدَّ حَرَارَتُهَا وَتَزْدَادَ لِيَكُونَ ألْمُهَا الْوَاقِعُ عَلَى بَدَن مَانِع الزَّكاةِ بَالِغًا النِّهَايَةَ فِي الشِّدَّةِ حِينَ يُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ. وَتَخْصِيصُ هَذِهِ الأَعْضَاءِ الثَّلاثَةِ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لأنَّ الْمُعَذَّبَ

وَهُو مَانِعُ الزَّكاةِ إِذَا جَاءَهُ الْفَقِيرُ يَسْأَلُهُ شَيْئًا مِنْ حَقِّهِ عَبَّسَ وَجْهَهُ وَعَقَدَ جَبِينَهُ عُبُوسًا وَتَعْقِيدًا يَدُلُ على كَرَاهَتِهِ لِهَذَا السُّؤالِ. فَإِذَا أَلَحّ الْفَقِيرُ عَلَيْهِ زادَ فِي عُبُوسِهِ أَنْ يَضُنَّ بِمُوَاجَهَةِ ذَلِكَ الْفَقِيرِ فَيَنْتَقِلُ مِن الْمُواجَهَةِ إلى الانْحِرَافِ عَنْهُ وَيَجْعَلُ جَنْبَهُ فِي وَجْهِ الْمِسْكِينِ السَّائِلِ مُبَالَغَةً في إظهارِ الْكَرَاهِيَةِ لِسُؤالهِ. شِعْرًا: فُرِضَتْ عَليَّ زكاةُ مَا مَلكَتْ يَدِيْ ... وَزكاةُ جَاهِي أَنْ أَعِيَن فَأَشْفَعَا فَإِذَا مَلكْتَ فَجُدْ فَإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ ... فاجْهَدْ بِوُسْعِكَ كُلَّهِ أَنْ تَنْفَعَا فإذا ازْدَادَ الْفَقِيرُ واشْتَدَّ فِي الطَّلَبِ والإِلْحَاحِ بَالَغَ الْمَسْئوُلُ فِي الْغَضَبِ فانْصَرَفَ عَنْهُ وَوَلاهُ ظَهْرَهُ مَاشِيًا مِنْ مَكَانِهِ وَتَارِكًا لَهُ يَهْوي في هُوَّاتٍ احْتِياجِهِ بدُونِ أي اكْتِرَاثٍ فَلمَّا كَانَ هَذَا حَالُ تِلْكَ الأَعْضَاءِ الثَّلاثَةِ في الدُّنْيَا خُصَّتْ في الآخِرِةِ بالْكَيَّ بِتِلْكَ الصَّفَائِحِ التي هِيَ مَالُه وبذلك يَعْرِفُ أَنهُ يُهانُ بالْمَالِ الذي كان يُعزّهُ في دُنْياه. وَلو كان يُهِينُهُ بالدُّنْيا بِمُفَارِقَةِ مَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ منه لَكَانَ سَببًا لإِكْرَامِهِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الرَّهِيبِ الْمُفْزِعِ. وانْظُرْ كَيْفَ تَأتِي نِعَمُهُ إبلُهُ وَبَقَرُهُ وَغَنَمُهُ التي لَمْ يُؤَدِّ حَقَّ اللهِ فيها أَقْوَى مَا كَانَتْ وَأَوْفَرَهْ فَتَطَؤُهُ الإِبلُ بأخْفَافِهَا وَتَعَضُّهُ بَأنْيَابِهَا الْحَادَّةِ وَتَطؤُهُ الْبقَرُ والْغَنَمُ بَأظلافِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا السَّليمَةِ لِيَكُونَ النَّطْحُ بِهَا أَوْجَعَ وَآلَمَ وَلا تَجِيءُ بَقَرُةٌ ولا نَعْجَةٌ إِلا وَلَها قَرْنَاها لَيْسَ بِهِمَا أَيُّ مَانِعٍ يَمْنَعُ مِنْ تَوْجِيههِمَا إِلَيْهِ وَطَعْنِ الْمَانِعِ بِهَمَا الطَّعْنَ الأليمَ. وإنِّمَا كانَتْ أَقْوى مَا كَانَتْ لِيَكُونَ وطؤُها ونَطْحُهَا وَعَضُّهَا بِمُنْتَهى الْقُوَّةِ. وَإِذَا كَانَ مَبْطُوحًا لَهَا وهِيَ تَتَردَّدُ عَلَيهِ بالْوَطْءِ كَانَ أَمْكَنَ لَهَا فِي فِعْلِ مَا تُعَذِّبُهُ بِهِ وَهَذَا الْعَذابُ لا يكونُ زَمَنُه قَلِيلاً وَلَكنَّهُ يَدُومُ مَا دَامَ الْمَوقِفُ.

ومِقْدَارُ الْمَوْقِفِ خَمْسُونَ أَلفَ سَنَةٍ وَنَوْعٌ آخَرَ مِن الْعَذَابِ خَاصٌ بِمَانِعِ الزَّكاةِ وهو أنْ يُوضَعَ حَجَرٌ مُحْمَى عَلَيهِ وَقَدْ زِيدَ في حَرَارَتِهِ فَأُحْمِي عَلَيْهِ كَذَلِكَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ فلا يَتَحَمَّلُ اللَّحْمُ شِدَّةً حَرَارَتِهِ فَيَذُوبُ ذَوَبانًا فَيَدْخُلُ الْحَجَرُ الْجِسْمَ واللَّحْمُ يَذَوْبُ أَمَامَهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْقِطْعَةِ الرَّقِيقَةِ التِي في طَرَفِ الْكتِفِ. ثُمَّ يُوضَعُ عَلَى هَذِهِ الْقِطْعَةِ الرَّقِيقَةِ وَقَدْ عَادَ الْجِسْمُ إِلى مَا كَانَ عَلَيْهِ فَيُفْعَلُ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ يَخْرُجُ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيِهِ وَيَزِيدُ في الألَمِ حَالَ التَّعْذِيبِ أنَّ الْحَجَرَ يَتَزَلْزَلُ لا يَمُرُّ فِي الْبَدَنِ مُسْتَقِيمًا وَقْتَ نُفُوذِهِ. نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُعَامِلَنَا بِعَفْوِهِ وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ لا يَكُونُ هَذَا الْعَذَابُ كَافِيًا فَيَكُونُ سَبِيلَهُ إِلى النَّار التِي فِيهَا أَلْوَانُ الْعَذَابِ الأَلِيم مِنْ زَقُّومٍ وَحَمَيمٍ وَغَسَّاقٍ وَضَرِيعٍ وَويلٍ وَغِسْلِينٍ. وَلِمَنْعِ الزَّكَاة ِشَكْلٌ آخَرٌ مِن الشُّؤْمِ الدُّنْيوي غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ كَمَا فِي حَدِيثِ «مَا تَلِفِ مَالٌ فِي بَرّ وَلا بَحْرٍ إلا بَحَبْس الزَّكَاةِ» فَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنُّهُ أَيُّ مَالٍ يَضِيعُ فِي أيِّ مَكَانٍ في بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ سَبَبُ تَلَفِهِ تَرْكُ الزَّكَاةِ. وَهِيَ عُقُوبَةٌ تَعْكِسُ عَلَى الْمَانِعِ قَصْدهَ، إذْ هُوَ يَقْصِدُ بِمَنْعِهِ لَهَا تَكْثِيرُ الْمَالِ والْهُرُوبِ من نَقْصِهِ بإخْراجِ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ مِنْهُ. ولوَ أَخْرَجَ الْقدْرَ الْوَاجَبَ وهُوَ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ، لَحُفْظَ مَالُه بإذْنِ اللهِ ولكانَ لَهُ ثَوابٌ عظيمٌ هوَ ثَوابُ رُكْن مِنْ أَرْكَانِ الإِسْلامَ، لكانَ لَهُ مِن الْفضْلِ عَلَى الْمُعْطَى مَا لا يَنْسَاهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ. أَمَّا الْعُقُوبَةُ الأَخْرويَّةُ فالنَّارُ الِّتِي قال الله تعالى عنها: {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى} .

فَعَلَيْكَ أَيُّهَا الْعَاقِلُ أَنْ تُحَاسِبِ نَفْسَكَ بِدَقَّةٍ وَتُقَوِّمَ مَا أعْدَدْتَه لِلبَيْعِ والشِّرِاءِ وأن تُبْرِئ ذِمَّتَكَ بَيَقِينٍ بإخراجِ الزكاةِ كُلِّهَا إِذَا تَمْ الْحَولُ، وأَنْ لا تَدْفَعَهَا إلا لِمَنْ تَعَلَّمُ أَنَّهُ مِمَّنْ يَسْتِحِقها يَقِينًا أَوْ يَغْلِبُ عَلَى الظنِّ أَنَّهُ مِن أهلِها. شِعْرًا: أيَا جَامِعَ المالِ الكَثِيرِ بَجَهْلِهِ ... سَتَجْنِي جَنَى الخُسْرَانِ مِنْ حَيْثُ تَرْبَحُ أَلَمْ تَنْظُرِ الطَّاوُوسِ مِنْ أَجْلِ رِيشِهِ ... لِمَا فِيهِ مِنْ شبْهِ الدَّنَانيرِ يُذْبَحُ آخر: وَمَا المال إلا حَسْرةٌ إنْ تَرَكْتَهُ ... وَغُنْمٌ إِذَا قَدَمْتَهُ مُتَعَجِّلُ آخر: وَمَا فِي الأَرْض أشقَى من كُفورٍ ... عَصَى الرَّحْمنَ واتَّبَعَ الملاهِي تَرَاهُ دَائِمًا في جَمْعِ مَالٍ ... مَخَافَةَ فَقَرِهِ أَوْ لِلتَّبَاهِي آخر: وَمَا حَاجَتي في المال أَبْغِي وُفُورُهُ ... إِذَا لَمْ أَقَدِّمْهُ لِيْوِمِ التَّغَابُنِ واحْذَرْ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ التَّهَاوُنِ بِتَرْكِ شَيءٍ مِنْهَا أَوْ التَّسْويفِ بِهَا أَوْ سُلُوك الطُّرقِ الْمُلْتَويِةِ لِلتَّخَلُّصِ مِن أَدَائِهَا أَوْ التَّحَايلُ على تَرْكِ شَيءٍ مِنْهَا فَكُلُّ حِيلةٍ تُسْتَعْمَلُ لِتَضِييعِ حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللهِ أَوْ حُقُوقِ عِبَادِهِ أَوْ تَبِيحُ مَا حَرَّمَ اللهُ أَوْ تُحَرَّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ فَهِيَ مِنْ الْحِيلِ الْمُحَرَّمَةِ التِي سَيُجَازَى عَليها أشَدَّ الْجَزَاءِ وَمَا رَبُّكَ بِظلامٍ لِلْعَبِيد. ويَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكاةِ لِحَولَين فَأَقَلَّ إِذَا كَمُلَ النِّصَابُ لِمَا وَرَدَ عَنْ عَلِيٍّ عَلْيه السَّلامُ: أَنَّ الْعَبَّاسَ بن عبد الْمُطَّلب سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَعْجِيلِ صَدَقَتِهِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ. رواه الخمسة إلا النسائي. وعن أبي هريرةَ قال: بَعَثَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمُرَ على الصدقةِ فَقِيلَ: مَنَعَ ابنُ جَميلٍ، وخالدُ بنُ الوليدِ، والْعَبَّاسُ فقال رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما يَنْقِمُ ابنُ جَمِيلٍ إلا أنَّهُ كان فقيرًا فأغْنَاهُ اللهُ

ذكر بعض آداب الزكاة وما يلاحظ في ذلك ……………

ورسولهُ، وَأَما خالدٌ فإنكم تظلمون خالدًا وقد حَبَسَ أدْرَاعَهُ وأَعْتَادَهُ فِي سبيلِ اللهِ، وأَمَّا العَبَّاسُ فَهِيَ حَقٌ عَلَيَّ ومثلُهَا مَعَهَا» ، ثُمَّ قَال يَا عُمَرُ: «أَمَا شَعرْتَ أَنَّ عَمَّ الرجل صِنُو أبيهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا مَا قَطَعَ قُلُوبَنَا عن ذِكرك واعفُ عن تَقْصِيرنَا في طاعَتِكَ وشُكْرِكْ وأدمْ لَنَا لزُومَ الطريق إليكَ وهَبْ لَنَا نورًا نَهْتَدِي بِهِ إليكَ واسْلُكْ بنا سَبِيلَ أَهْلِ مَرْضَاتِكَ واقْطِعْ عَنَّا كُلَّ ما يُبعدُنا عَنْ سَبِيلِكَ ويَسِّرْ لَنَا ما يَسَّرْتَهُ لأَهْلِ مَحَبَّتِكَ وأَيْقِظْنَا مِنْ غَفَلاتِنَا وأَلْهِمْنَا رُشْدَنَا وَحَقَّقْ بِكَرَمِكَ قَصْدَنَا واسْتُرْنَا في دُنْيانا وآخرتِنَا واحْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ الْمُتَّقِينَ وأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فصل) * في بعض آداب الزكاة: قال في منهاجِ القاصِدين: اعلم أن على مُرِيد الزكاةِ وظائفًا: الوَظِيفَةُ الأُولَى: أن يَفْهَمَ الْمرادَ مِنَ الزكاةِ، وهو ثَلاثَة أَشْيَاءَ: ابْتِلاءُ مُدَّعِي مَحَبةِ اللهِ تعالى بإخراجِ مَحْبُوبِهِ والتَّنزُّهُ عن صفةِ الْبُخْلِ الْمُهْلِكِ، وشُكْرُ نعمة الْمالِ. الوَظِيفَةُ الثَّانِيةُ: الإِسْرَارُ بإخْرَاجِهَا لقوله تعالى: {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ} وحديثِ السَّبعةِ وَعَدَّ مِنهم: «رَجُلاً تَصَدَّقَ بِصَدَقةٍ فأخْفَاهَا حتى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ» لِكَوْنِهِ أَبْعَدَ عن الرِّياءِ والسُّمْعَةِ، وفي الإِظْهَارِ إِذْلالٌ لِلْفَقِيرِ أَيْضًا، فإنْ خَافَ أَنْ يُتَّهَمَ بِعَدَمِ الإِخْرَاجِ أَعْطَى مَن لا يُبَالِي مِنَ الْفُقَراءِ بالأخْذِ بَيْنَ الْجَمَاعَةِ عَلانِيةً وَأَعْطَى غَيْرَهُ سِرًا.

الوظيفةُ الثالثةُ: أَنْ لا يُفْسِدَها بالمَنِّ والأذَى. وَذَلِكَ أَنَّ الإِنْسَانَ إِذَا رَأَى نَفْسَهُ مُحْسِنًا إِلى الفَقِيرِ مُنْعِمًا عَلَيْهِ بالإعْطَاءِ، رُبَّمَا حَصَلَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَلَوْ حَقَّقَ النظرَ لَرَأَى الفقيَرَ مُحْسِنًا إِلَيْهِ، بِقَبُولِ حَقِّ الله الذي هُوَ طُهْرٍ لَهُ، وَإِذَا اسْتَحْضَرَ مَعْ ذَلِكَ أَنَّ إِخْرَاجَهُ لِلزَّكَاةِ شُكْرٌ لِنِعْمَةِ الْمالِ، فلا يَبْقَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الفَقِير مُعَامَلَةٌ، وَلا يَنْبَغِي أَنْ يَحْتَقِرَ الفَقِيرَ بِفَقْرِهِ لأنَّ الفَضْلَ لَيْسَ بالْمالِ ولا النَّقْصِ بعدَمِهِ. شِعْرًا: أَكْرِمْ يَدَيْكَ عَنْ السُّؤالِ فَإنَّمَا ... قَدْرُ الحَيَاةِ أَقَلُّ مِنْ أَنْ تَسَألا آخر: وِإِذَا افْتَقَرْتَ فَلا تَكُنْ مُتَخَشِّعًا ... تَرْجُو الفَضَائِلَ عَنْدَ غَيْر الله آخر: يَقُولُ النَّاسُ لِي في الكَسْبِ عَارٌ ... فَقُلْتُ العَارُ في ذُلّ السُّؤالِ آخر: إِذَا كَفَّكَ الْمَيْسُورُ والعْرِضُ وَافِرٌ ... فَكل الذي فوق الكَفاف فُضُولُ آخر: وَمَا هِيَ إلا جَوْعَةٌ إِنْ سَدَدْتَهَا ... فكُلُّ طَعَامٌ بَيْنَ جَنْبَيْكَ وَاحِدُ الوظيفةُ الرابعةُ: أَنْ يَسْتَصْغِرَ العَطيَّة، فَإنَّ الْمُسْتَعِظمِ لِلْفِعْل مُعْجَبٌ بِهِ، وَقَدْ قِيلَ: لا يَتِمُّ الْمَعْرُوفُ إلا بِثلاثٍ: بِتَصغيرِهِ، وَتَعْجِيلِهِ، وَسَتْرِهِ. الوظيفةُ الخامسةُ: أَنْ يَنْتَقِي مِنْ مَالِهِ أَحلَّه وأَجْوَدَهُ وَأَحَبَّهُ إليهِ، أَمَّا الحِلُّ فإنَّ اللهَ تَعَالَى طَيَّبٌ لا يَقْبَلُ إلا طَيّبًا، وَأَمَّا الأَجْوَدُ فَقَدْ قَالَ الله تَعَالى: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} . وَعَنْ عبد اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطُّ هُوَ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: «إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا» . قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ، غَيْرَ أَنَّهُ لا يُبَاعُ أَصْلُها وَلا يُورَثُ وَلا يُوهَبُ. قال: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ فِي الْفُقَرَاءِ وَذَوِيِ الْقُرْبَى وَفِي الرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ

وَالضَّيْفِ لا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ، وفِي لَفْظ: غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ. رواه الجماعة. وَعَنْ أَنَسَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَكْثَرَ الأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالا مِنْ نَخْلٍ وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ. قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَيْكَ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ مَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ تعالى فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَمَرَكَ اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَخٍ بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ» . فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَسَّّّّّّمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَيَنْبَغِي أنْ يُلاحِظَ في ذلك أمرين: أَحَدُهُمَا: حَقُّ اللهِ سبحانه وتعالى بالتَّعْظِيمِ لَهُ، فَإنَّهُ أَحَقَّ مَن اخْتيرَ لَهُ، وَلَوْ أَن الإنسانَ قَدَّمَ إلى ضِيفِهِ طعامًا رَدِيئًا لأوغَرَ صَدْرِهِ. والثاني: حَقُّ نَفسِهِ فإن الذي يُقَدِّمُهُ هو الذي يَلْقَاهُ غِدًا في القيامَةِ فَيْنَبَغِي أَنْ يَخْتَارَ الأَجْودَ لِنَفْسِهِ، وَأَمَّا أَحَبَّهُ إليه فَلقوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} . وكان ابن عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - إِذَا اشتدَّ حبُّه لِشَيءٍ من مَالِهِ قَرَّبَهُ للهِ عَزَّ وجلَّ. وَرُوِيَ أنه نَزَلَ الجُحفَةَ وَهُوَ شَاكٍ، فقال: إنّي لأشْتَهِي حِيتَانًا فَالتَمَسُوا لَهُ فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ إلا حُوتًا فَأَخَذَتْهُ امْرأتُهُ فَصَنَعَتْهُ،

ثم قَرَّبَتْهُ إِليهِ فأتى مسكينٌ، فقال ابنُ عُمَر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: خُذْهُ، فَقَالَ لَهُ أَهْلُهُ: سَبْحَانَ اللهِ قَدْ عَنِّيتَنا وَمَعَنَا زَادٌ نَعْطِيهِ، فَقَالَ: إن عبدَ الله يُحبُه. وَرُوِيَ أَنَّ سَائِلاً وَقَفَ بِبَابِ الربيع بن خَيْثَمَ رحمهَ اللهُ تَعَالى، فَقَالَ: أَطْعِمُوهُ سُكَّرًا، فَإِنَّ الرَّّبِيعَ يُحِبُّ السُّكر. الوظيفةَ السادِسَةُ: أَنْ يََطْلُب لِصَدَقَتِهِ مَن تَزكُو بِهِ، وَهُمْ خُصُوصُ مِنْ عُمُومِ الأصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، وَلَهُمْ صِفَاتٌ: الأَولى: التَّقْوَى، فَلْيَخُصَّ بِصَدَقَتِهِ الْمُتَّقِينَ فَإنَّهُ يَرُدُّ بِهَا همَهَم إلى اللهِ تعالى، وفي الحديث الذي رواه ابنَ حبانَ في صحيحهِ عن أبي سعيدِ الخدري عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَطْعِمُوا الأتْقِيَاءَ وأَوْلُوا مَعْرُوفَكُمْ المؤمنين» . وقد كانَ عَامِرُ بِنُ عَبْدِ اللهِ بن الزبير يَتَخَيَّرَ العُبَّادِ وَهُم سُجُودٌ فيأتيهم بالصُّرَّةِ فِيهَا الدَّنَانيرُ والدَّراهِمُ فَيَضَعُهَا عِنْدَ نِعَالِهِم بِحَيثُ يُحِسونَ بِهَا وَلا يَشْعُرون بِمَكَانِهِ، فَقِيلَ لَهُ: مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُرْسِلَ بها إليهم؟ فيقُولُ: أَكَرَهُ أَنْ يَتَمَعَّرَ وَجْهُ أَحَدِهِم إِذَا نَظَر إلى رَسُولِي. الصِّفةُ الثَّانيةُ: العِلمُ فإن إعطَاءَ العالِم إعانَةٌ عَلَى العِلْمِ وَنَشْرِ الدِّينِ، وَذَلِكَ تَقْوِيَةٌ لِلشَّرِيعَةِ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَرَى الإِنْعَام مِنَ اللهِ وَحدَهُ وَلا يَلْتَْفِتُ إلى الأسْبَابِ إلا بَقَدْرِ مَا نُدِبَ إِلِيْهِ مِنْ شُكْرِهَا، فَأَمَّا الذي عَادَتُهُ الْمَدْحُ عندَ العَطَاءِ فَإنَّه سَيذُمُّ عِنْدَ الْمَنْعِ. الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يكونَ صَائِنًا لِفَقْرِهِ، سَاتِرًا لِحَاجَتِهِ، كَاتِمًا لِلشَّكْوَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ} . شِعْرًا: كَمْ فاقَةٍ مَسْتُورَةٍ بِمُرُوةٍ ... وَضَرُورَةٍ قَدْ غُطِّيَتْ بِتَجَمُّلِ ومِن ابتِسَامٍ تَحْتَهُ قَلْبٌ شَجِ ... قَدْ خَامَرَتْهُ لَوْعَةٌ مَا تَنْجَلِي

موعظة بليغة في الحث على إخراجها

وَمن آداب الْمُزَكِّي التي تَتَأَكَّدُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ طَيَّبَ النَّفْسِ بإخْرَاجِهَا فَرِحًا مَسْرُورًا مُسْتَبْشِرًا بِقَبُولِ الفقيرِ الْمُسْتَحِقِّ لِزَكَاتِهِ، وَلْيَحْذَرْ مَنْ أَنْ يَكُونَ كَارِهًا لإخْرَاجِهَا فَإنَّهُ مِنْ صِفَاتِ المنافِقِين، قال الله تعالى: {وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أن المنافِقَ يُصَلي ولكن لا يَأْتِيهَا إِلا وَهُوَ كَسْلان وَقَدْ يُزَكِّي ولكن مَعَ الكَرَاهَةِ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ تَشَبَّه بقَومٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» . وفي لفظ: «ليسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بغيرنا» . وهو حديث جيد. والله أعلم. اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْهَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتْ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينِ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينِ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِكَ تَهْدِي بِهَا قُلُوبَنَا، وَتَجْمَعُ بِهَا شَمْلَنَا، وَتَلُمُّ بَهَا شَعْثَنَا، وَتَرْفَعُ بِهَا شَاهِدَنَا، وَتَحْفَظُ بِهَا غِائِبَنَا، وَتُزكِّي بِهَا أَعْمَالِنَا، وَتُلْهِمْنَا بِهَا رُشْدَنَا، وَتَعْصِمْنَا بِهَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين. اللَّهُمَّ يا هادِي الْمُضِلِّينَ وَيَا رَاحِمَ الْمُذْنِبِينَ، وَمُقِيلَ عَثَرَاتِ العَاثِرِينَ، نَسْأَلُكَ أَنْ تُلْحِقْنا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِن النَّبِيينَ والصِّدِّيقِينِ والشُّهَدَاء والصالحين آمين يا رب العالمين. (موعظة) : عبادَ اللهِ إن كُنْتُمْ فِي سِعَةٍ مِنْ العَيْشِ فَاحْمِدُوا اللهَ تَعَالى أَنْ جَعَلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الإِيْسَارِ وَأَدِيمُوا شُكْرَهُ يُدِمْ عَلَيْكُمِ النِّعْمَةَ وَيَزِدْهَا، وَهُو الكريمُ الجوادُ. ومِن تَمَامِ النِّعمَةِ أَنْ تَنَسَّخُوا مِنْ الزَّكَاةِ بَإخْرَاجِهَا كَامِلَةً إلى ذَوي الحَاجَاتِ لعلَّكم أنْ تَفُوزُوا بالخَلَفِ والثَّوَابِ الجَزِيلَ مِنْ فَاطِرِ الأَرْضِ والسَّمَاوَاتِ، أحْسِنُوا إلى عِبَادِ الله كَمَا أَحْسَنَ اللهَ إِلَيْكُمُ وَرَاعُوا عِنْدَ الإحْسَانِ الأدَبَ فلا تَمُنُّوا عَلَى الفَقِيرِ وَلا تُؤذُوه فَإنَّ ذَلِكَ مُحْبِطٌ لِلأعمَالِ واسْتُرُوا عَطَاءَكُم مُخْلِصِينَ مُتَيَقِنِينَ أَنَّ حَاجَتَكُمْ إلى الثَّوَابِ وَتَكْفِيرِ الذُّنُوبِ أَشَدُّ مِنْ حَاجَةِ الفَقِير إلى ما تُخْرِجُونَ. واعْلَمُوا أن إِحْسَانَكُمْ إنَّمَا هُو لأَنْفُسِكُم وَاعْصُوا الشيطانَ فَإنَّهُ يَأْمُرُ بَالبُخْلِ وَيَنْهَى عَنْ

فصل فيمن تحل له الصدقة والتحذير لمن لا تحل له

العَطْفِ على الْمَسَاكِين، يُخْيفُكُمْ إِنْ تَصَدقتُم أنْ يَذَهَبَ مَالَكُمْ وَأَنْتُمْ تَعَلَمُونَ أَنَّ نَصِيحَةَ الْعَدُوِّ مَهْلَكَةٌ، وَقَد أَخْبَر َاللهُ جَلَّ وَعَلا أَنَّ الشَّيْطَانَ للإنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِين وأخْبَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أنَّهُ مَا مِنْ يَوْمٍ يَصْبَحُ العِبَادُ إلا مَلَكَانِ يَنْزِلانَ فَيَقُولُ أحَدَهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مِنْفِقًا خَلَفًا، ويَقُولُ الآخرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا» . رواه البخاري. اللَّهُمَّ اعْصِمْنَا عَنْ الْمُخَالَفةِ والعصيانِ وألْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ يَا كرِيمُ يَا مَنَّان، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ. اللَّهُمَّ اعصِمْنَا عَنْ المخالفةِ والعصيانِ وَأَلْهِمْنَا ذِكَرَكَ وَشُكْرَكَ يَا كِريمُ يَا مَنَّانَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ اللَّهُمَّ انْهَجْ بِنَا مَنَاهِجَ الْمُفْلِحِينَ وَأَلْبِسْنَا خِلَعَ الإِيمَانِ وَالْيَقِينَ، وَخصَّنَا مِنْكَ بالتَّوْفِيقِ الْمُبين، وَوَفِّقْنَا لِقَوْلِ الحَقِّ وإتِّبَاعِهِ وَخَلِّصْنَا مِنْ البَاطِل وابْتِدَاعِهِ وَكُنْ لَنَا مُؤَيِّدًا وَلا تَجْعَلَ لِفَاجِرِ عَلَيْنَا يَدًا وَاجْعَلْ لَنَا عَيْشًا رَغَدًا وَلا تُشْمِتْ بِنَا عَدُوًّا وَلا حَاسِدًا، وَارْزُقْنَا عِلْمًا نَافِعًا وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً، وَفِهْمًا ذَكِيًّا وَطَبْعًا صَفِيًّا وَشَفًا مِنْ كُلِّ دَاء، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. (فَصْلٌ) : فِيمَنْ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةِ: اعْلَمْ وَفَّقْنَا اللهُ وَإيَّاكَ وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مِمَّا يَتَعَيَّنُ على كُل مُؤْمنٍ أَنْ يَصُونَ نَفْسَه عنه، مَسأَلةَ النَّاسِ إِلا عَنْدَ الضَّرُورَةِ أَوْ الحَاجَةِ الشَّدِيدِةِ التي لا بُدَّ لَهُ مِنْهَا وَلا غِنَى لَهُ عَنْهَا، وَذَلِكَ لِمَا وَرَدَ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلالِيِّ قَالَ: تَحَمَّلْتُ حَمَالَةً فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَسْأَلُهُ فِيهَا فَقَالَ: «أَقِمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَآمُرَ لَكَ بِهَا» ثُمَّ قَالَ: «يَا قَبِيصَةُ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لا تَحِلُّ إِلا لأَحَدِ ثَلاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ، أَوْ رَجُلٌ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، أَوْ قَالَ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ وَرَجُلٌ

أحاديث في التحذير من المسألة لمن لم تسقه إليه

أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ يَقُولُون: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلانًا فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ - أَوْ قَالَ -: سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ فَمَا سِوَاهُنَّ مِنْ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتٌ يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا» . واللهُ أَعْلَمْ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. فَصْلٌ فِي التَّحْذِيرُ مِنْ أَخْذِ الصَّدَقَةِ لِمن لا تَحِلُّ لَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلِل مِنْهُ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ» . وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةٌ مِنْ لَحْمٍ» . وَعَنْ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تُلْحِفُوا فِي الْمَسْأَلَةِ فَوَاللَّهِ لا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا فَتخرِجُ لَهُ مَسْأَلَتُهُ مِنِّي شَيْئًا أَنَا كَارِهٌ لَهُ فَيُبَارَكَ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتُهُ» . وَعَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ حَطَبٍ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا - يَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ - خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ» . فالعاقل يعمل جهده ولا يميل إلى الكسل والملل وحب الراحة وقديمًا قيل: إِنَّ التَّوَانِي زَوَّجِّ العَجْزَ بِنْتَهُ ... وَسَاقَ إِلِيْهَا حِيْن زَوَّجَهَا مَهْرَا فِرَاشًا وَطِيئًا ثُمَّ قَالَ لَهَا اتْكِي ... قُصَارًا كُمَا لا بُدَّ أَنْ تَلِدَا الفَقْرَا آخر: كَمْ من حَيَاءٍ وَكَمْ عَجْزٍ وَكَمْ نَدَمً ... جَمٍّ تَولَّدَ للإنْسَانِ مِنْ كَسَلِ

آخر: دَعِي نَفْسِي التَّكَاسُلَ والتَّوَانِ ... وَإلا فَالْبَسِي ثَوابَ الهَوَانِ فَلَمْ نَرَى لِلْكُسَالى الحَظُ يَجْنِي ... ثِمَارًا غَيْرَ حِرْمَانِ الأَمَانِي وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الْمَسَائِلُ كدُوحٌ يَكْدَحُ بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ فَمَنْ شَاءَ أَبْقَى عَلَى وَجْهَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَ إِلا أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ ذَا سُلْطَانٍ أَوْ فِي أَمْرٍ لا يَجِدُ مِنْهُ بُدّ» . وعن عبدِ الله بن مسعودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَن سَأَلَ النَّاسَ وله ما يُغْنِيهِ جَاءَ يَوْمَ القيامة ومسألتَه خُمُوشُ أَوْ خُدُوشُ أو كُدُوحُ» ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ وما يُغْنِيه؟ قَال: «خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ قِيمَتْهَا مِنْ الذَّهَبِ» . ولأبِي دَاوُدَ عَنْ سَهْلِ بِنْ الحَنْظَلِيَّةِ قِيلِ: وَمَا الغِنَى الذي لا يَنْبَغِي مَعَهُ المسألة؟ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْرُ مَا يُغَدِّيهِ أَوْ يُعْشِيهِ» . وَعَنْ أَنَسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلاً مِنْ الأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ فَقَالَ: «مَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ» ؟ قَالَ: بَلَى حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ، وَقَعْبٌ نَشْرَبُ فِيهِ الْمَاءِ، قَالَ: «ائْتِنِي بِهِمَا» . فَأَتَاهُ بِهِمَا فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ وَقَالَ: «مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ» ؟ قَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ» ؟ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا قَالَ: رَجُلٌ أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ! فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ فَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا الأَنْصَارِيَّ وَقَالَ: «اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ، وَاشْتَرِ بِالآخَرِ قَدُومًا فَأْتِنِي بِهِ» فأتى به فَشَدَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُودًا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: «اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ وَلا أَرَيَنَّكَ

خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا» فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا وَبِبَعْضِهَا طَعَامًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لا تَصْلُحُ إِلا لِثَلاثَةٍ: لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ، أَوْ لِذِي غُرْمٍ مُقْطِعٍ، أَوْ لِذِي دَمٍ مُوجِعٍ» . شِعْرًا: يَا نَفْسُ جُدِّي تَذُوقي لَذَّةِ العَمَلِ ... وَوَاظِبِي لَذَّةِ الإِحْسَانِ في مَهْلٍ فَكُلُ ذِي عَمَلٍ بَالخير مُغْتَبِطُ ... وفي بَلاءٍ وَلُؤْمٍ كُل ذِي كَسَلٍ وللترمذي نحوه عَنْ حُبْشِيِّ بْنِ جُنَادَةَ وفيه: «وَمَنْ سَأَلَ النَّاسَ لِيُثْرِيَ بِهِ مَالَهُ كَانَ خُمُوشًا فِي وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَرَضْفًا يَأْكُلُهُ فِي جَهَنَّمَ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيُقِلِّلْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُكْثِرْ» . وَعَنْ ابن مَسعودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَزَلَتْ فَاقَةٌ بِهِ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ، وَمَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِاللَّهِ فَيُوشِكُ اللَّهُ لَهُ بِرِزْقٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ» . شِعْرًا: ... لَمَّا افْتَقَرْتُ لِصَحْبِي مَا وَجَدْتُهُمُوا ... لَجأتُ لله لِبَّانَ وَأَغْنَانِي وَاهَا َعلى بُذْل وجْهِيِ للوَرَى سَفِهًا ... وَلَوْ بَذَلْتَ إلى مَوْلاي وَالاني آخر: وَلَيْسَ الغِنَى وَالفَقْرُ مِنْ حِيلَةِ الفَتَى ... ولاكِنِّهَا الأَرْزَاقُ يقسِمُها ربي وَعَنْ أَبِي كَبْشَةَ عَمْروٍ بِن سَعْدِ الأَنَّمَارِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «ثَلاثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ: مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً صَبَرَ عَلَيْهَا إِلا زَادَهُ اللَّهُ عِزًّا، وَلا فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ» . أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا. شِعْرًا: صُنِ الوجْهَ الذي إِنْ لَمْ تَصُنْهُ ... بَقِيتَ وَأَنْتَ فِي الدُّنْيَا ذَلِيلُ وعِشْ حُرًّا وَلا يَحْمِلْكَ ضُرٍّ ... عَلَى مَرْعَىً لَهُ غِبٌ وَبِيلُ

موعظة في الحث على القناعة يليها قصيدة في الحث عليها أيضا …

.. فَلَيْسَ الرَّأَيُ إلا الصَّبْرُ حَتَّى ... يُدِيلُ اليُسْرَ مَوْلاكَ الجَلِيلُ وَعَنْ ثَوْبان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ يَتَكَفَّل لِي أَنْ لا يَسْأَل النَّاسَ شَيْئًا أَتَكَفَّلُ لَهُ الجَنَّةِ» ؟ فَقُلْتُ: أَنَا! فَكَانَ لا يَسْأَلْ أَحَدًا شَيْئًا. وعن حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ «يَا حَكِيمُ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وكان كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ، والْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى» . قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا. شِعْرًا: ... وَلَيْسَ بِزِينٍ لامْرِئٍ بَذْلُ وَجْهِهِ ... إلى غَيْرِ رَبِّ العَرْشِ بَارِي البَرِيَّةِ آخر: إِنَّ الغِنيَّ هُوَ الغَنِيُّ بِرَبِّهِ ... وَلَوْ أَنَّهُ عَارِي الْمَنَاكِبُ حَافِي آخر: وَإِذَا طَلَبْتَ مِنْ الحَوَائِجَ حَاجَةً ... فَادْعُ الإِلَهُ وَأحْسِنَ الأعْمَالا فَلَيُعْطِيَنَّكَ ما أَرَادَ بِقُدْرَةٍ ... فَهُو اللطِّيفُ لِمَا أَرَادَ فِعَالا وَدَعِ العِبَادِ وَلا تَكُنْ بِطلابَهمِ ... لَهجًا تَضَعْضَعُ لِلْعِبَادِ سُؤالا إن العبادَ وَشَأْنَهُم وَأُمُورَهُمْ ... بَيَدِ الإِلَهِ يُقَلّبُ الأحْوَالا آخر: أَيَا مَنْ لا يَخِيبُ لَدَيْهِ رَاجِ ... وَلَمْ يُبْرِمْهُ إلحَاحُ الْمُنَاجِي وَيَا ثِقَتِي عَلَى ظُلْمِي وَجُرْمِي ... وَإِيثَارِيِ التَّمَادِي فيِ اللِّجَاجِ أَقِلْنِي عَثَرَتِي وَتَلافُ أَمْرِي ... وَهَبْ لِي مِنْكَ عَفوًا واقْضِ حَاجِ فَمَا لِي غَيْر إقْرَارِي بِذَنْبِي ... لِنَفْسِي دُونَ عُذْرٍ واحْتِجَاِج مَوْعِظَةٌ: عِبَادَ اللهُ مَا أَحْسَنَ أَنْ يَعِيشَ الْمَرْءُ قَانِعًا بِمَا رَزَقَهُ اللهُ في هَذِهَ الحَيَاةِ فَلا يَمُدُّ بَصَرَهُ إلى مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ وَلا تَتَطَلَّعُ نَفْسَُهُ إلى سَلْبِ حُقُوقِ النَّاسِ أَوْ ظُلْمِهِمْ والاعْتِدَاءِ عَلَى مَا وَهَبَ اللهُ لَهُمْ مِنْ نِعَمٍ جِسَامٍ فَإنَّ القَانِعَ يَشْعُرُ وَيُحِسُّ

بِسَكِينَةً وَطُمَأنِينةً كَمَا يَشْعُرْ بَأنَّهُ غَنِيُّ عَنْ كُلِّ الخلق قال الشاعر: إِذَا كُنْتَ في الدُّنْيَا قَنُوعًا ... فَأَنْتَ وَمَالِكُ الدُّنْيَا سَوَاءُ آخر: وَإِنَّ اقْتِنَاعَ النَّفسِ مِن أَحْسَنِ الغِنَى ... كَمَا أَنْ سُوءَ الحِرْصِ مِنْ أَعْظَمِ الفَقْرَ وَذَلِكَ أَنْ لَهُ نَفْسًا رَاضِيةً بِمَا قَسَم الله آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً لَمْ يَتَسَرَّبْ إِلِيْهَا الجَشَعُ وَالطَّمَعُ اللذَانِ هُمَا مِنْ أَقْبَحِ القَبَائِحِ وَأَسْوَأ الشَّمَائِلَ وَلا يَزَالُ صَاحِبُ هَذَيْنَ أَوْ أَحَدُهُمَا إِلا وَهُو مَذْمُومٌ وَبَأَقْبَحِ الصِّفَاتِ مَوْسُومٌ لا تَعْرُضُ لَهُ القِنَاعَةِ وَلَوْ كَانَتَ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا لَهُ. قَدْ مَلأَ حُبَهَا قَلْبَهُ وَغَمَرَ مَحَبَّتُها والتَّفَانِي فِي طَلَبَا قَلْبَهُ وَصَارَ لا يَرْضَى مِنْهَا باليسِير وَلا يَقْنَعُ بالكَثِيرِ وَقَلَّمَا تَجِدُ مُتَّصِفًا بِهَذَا الوَصْفِ إلا وَهُوَ مُتَشَتِّتُ الفِكْرُ قَلِيلُ الرَّاحَةِ عِنْدَهُ مِنْ الحَسَدِ والهَلَعِ وَضَعْفِ التَّوَكُّلِ عَلى الله الشَّيْء الكَثِيرَ الذي يُخْشَى عَلَيْهِ مَعَ اسْتِدَامَتِهِ مَعَهُ مِنْ سُوءِ الخَاتِمَةِ. شِعْرًا: ... فَإِن تَكُنِ الدُنيا تُعَدُّ نَفيسَةً ... فَإِنَّ ثَوابَ اللَهِ أَعَلَى وَأَنْبَلُ وَإِنْ تَكُنِ الأَرْزَاقُ حَظًا وَقِسمَةً ... فَقِلَّةُ حِرصِ المَرءِ في الكَسْبِ أَجمَلُ وَإِن تَكُنِ الأَموالُ لِلتَركِ جَمعُها ... فَما بالُ مَتروكٍ بهِ المَرْءُ يَبخَلُ آخر: دَعِ الضَراعَةَ لِلمُحتاجِ مِثلِكَ إِذ ... ما في الخَلائِقِ طُرًا غَيْرَ مُحْتَاجِ واضْرَعْ إلى سَيِّدٍ تُغْنِي مَوَاهبُهُ ... عَنْ غَيْرِهِ وَهُوَ كِنْزُ القاصِدِ الرَّاِجي وَكَيفَ تَرجو سِوى المَولى وَأَنتَ تَرى ... ما في البَرِيَّةِ طَرًا غَيرَ مُحتاجِ آخر: فَاطْلُبْ إِلى مَلك الْمُلُوك ولا تَكُنْ ... بادِي الضَّرَاعَةِ طَالِبًا مِن طَالِبِ آخر: أَرَى اليأسَ مِنْ أَنْ تَسْأَلِ النَّاسِ رَاحَةً ... تميتُ بِهَا عُسْرًا وَتَحْيِي بِهَا يُسْرَا أَمَّا القَانِعُ ذُو النَّفْسِ الأَبَيَّةِ الرَّاضِيَةِ الْمُطْمَئِنَّةِ الْمُتَوَكِّلَةِ عَلَى اللهِ فَيُرْجَى لَهَا أَنْ تَنَالَها الآيَة الكَرِيمَةُ: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} الآية. قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًا فِي بَدَنِهِ مَعَهُ قُوتَ يَوْمِهِ فَكَأنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذِافِيرَهَا» .

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا مِنْ يَوْمٍ إلا يُنَادِي فِيهِ مَلَكٌ مِنْ تَحْتِ العَرْشِ يا ابْنَ آدَمَ قَلِيلٌ يَكْفِيكَ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٌ يُطْغِيكَ. شِعْرًا: لا تَجْزَعَنَّ لِعُسْرَةٍ مِنْ بَعْدِهَا ... يَسْرَانِ وَعْدٌ لَيْسَ فِيهِ خِلافُ كَمْ عُسْرَةٍ ضَاقَ الفَتَى بِنُزُولِهَا ... لِلَّهِ فِي أَعْقَابِهَا أَلْطَافُ آخر: كَمْ كَافِرٍ باللهِ أَمْوَالِهِ ... تَزْدَادُ أَضْعَافًا عَلَى كُفْرِهِ وَمُؤمِنٌ لَيْسَ لَهُ دِرْهَمٍ ... يَزْدَادُ إِيمَانًا عَلَى فَقْرِهِ لا خَيْرَ فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ عَاقِلاً ... يَمُدُّ رِجْلَيهِ عَلَى قَدْرِهِ وَقَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: أَطْيَبُ العَيْشِ القَنَاعَةُ وَأَنْكَدُ الْعَيْشِ الجَشَعُ وَمِنْ الأَخْلاقِ الذَّمِيمَةِ التي تَجْعَلُ الإِنْسَانَ بَخِيلاً بِمَا فِي يَدِهِ مُتَطَلِّعًا لِمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ الحِرْصُ والإفْرَاطُ في حُبِّ الدُّنْيَا وَجَمْعِهَا وَلَوْ أَدَّى ذَلِكَ إلى إهْدَارٍ الكَرَامَةِ وَإرَاقَةِ مَاءِ الوَجْهِ فَالْحَذرَ عِبَادَ اللهِ مِنْ الحْرِصِ عَلَى الدُّنْيَا فَإنَّ حُبَّهَا رَأْسُ كُلُّ خَطِيئَةٍ. شِعْرًا: إِنْ رُمْتَ عِزًا على فَقْرٍ تُكَابِدِ ... فَاسْتَغْنِ عَنْ مَالِ أَهْلِ البَذْخِ والبَطَرِ فَإنِّمَا النَّفْسُ مَا لَمْ تَنْأ عَنْ طَمَعٍ ... فَرِيسَةٌ بَيْنَ ذُلِّ النَّفْسِ والظُّفُرِ آخر: أَلا إِنَّما الدُنيا مَطِيَّةُ راكِبٍ ... تَسِيرُ بِهِ فِي مَهْمَةٍ وَسِبَاسِبِ فَإنَّا إلى خَيْرٍ يَسُرُّ نَوَالُهُ ... وَأمَّا إِلى شَرٍّ وَسُوءِ مَعَاطِبِ فَلولا ثَلاثٌ هُنَّ أَفْضَلُ مَقْصَدٍ ... لَمَا كُنْتُ فِي طُولِ الحَيَاةِ بِرَاغِبِ مُلازَمَةُ خَيْرِ اعْتِقَادٍ مُنَزِّهًا ... عَنْ النَّقْصِ وَالتَّشْبِيهِ رَبَّ الْمَوَاهِبِ وَنَشْرُ عُلُومِ لِلشَّرِيعَةِ نَاظِمًا ... عُقُودِ مُعَانِيهَا لِتَفْهِيمْ طَالِبِ وَصَوْنِي نَفْسِي عَنْ مُزَاحَمَةٍ عَلَى ... دَنِيِّ حُطَامٍ أَوْ عَلَى مَنَاصِبِ فَفِي ذَاكَ عَزٌّ بِالقُنُوعِ وَرَاحَةٌ ... مُعَجَّلةٌ مِنْ خَوْفِ ضِدِّ مُغَالِبِ وَحَسْبُكَ فِي ذَا قَوْلُ عَالِمِ عَصْرِهِ ... مَقَالُ مُحِقٍّ صَادِقٍ غَيْرِ كَاذِبِ كَمَالَ الفَتَى بالعِلْم لا بَالْمَنَاصِبِ ... وَرُتْبَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَسْنَى الْمَرَاتِبِ

آخر: إِذَا مَا حَذرتَ الأمر فَاِجعَل إزاءَه ... رُجُوعًا إلى رَبٍّ يَقِيكَ المَحَاذِرَا وَلا تَخْشَ أَمْرًا أَنْتَ فِيهِ مُفوِّضٌ ... إِلى اللَّهِ غَايَاتٍ لَهُ وَمَصَادِرَا وَكُنْ للّذِي يَقْضِي بِهِ اللهُ وَحْدَه ... وَإنْ لَمْ تَوَافِقُه الأَمَانِيُّ شَاكِرَا وَلا تَفخَرنْ إلا بِثَوبِ صِيانَةٍ ... إِذَا كُنْتَ يَومًا بَالفَضِيلَةِ فَاخِرَا وَإنِّي كَفيلٌ بِالنَّجَاء مَنَ الأَذَى ... لِمن لَم يَبتْ يَدْعُو سَوى الله نَاصِرَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي مُنَاجَاتِهِ لِرَبِّهِ: إِلَهِي وَسَيِّدِي وَمَوْلاي وَعِزتِكَ وَجَلالِكَ مَا أَرَدْتُ بِمَعْصِيتَكَ مُخَالَفَتَكَ، وَمَا عَصَيْتُكَ إِذْ عَصَيْتُكَ وأَنَا بِكَ جَاهِلٌ، وَلا بِعُقُوبَتِكم مُسْتَخِفٌ، وَلكِنْ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي، وَغَلبَتْ عَلَيَّ شَقْوَتِي، واغْتَرَرْتُ بِسِتْرِكِ الْمُرْخِي عَلَيَّ فَعَصيْتُكُ بِجَهْلِي وَخَالَفْتُكَ بَسَفِهي وَأَسْوَأَتَاهُ مِنْ الوُقُوفِ بَيْنَ يَدْيَكَ وَأخَجَلاه من العَرْضِ عَلَيْكَ، فَكَمْ أَتُوبُ وَأَعُود، وَأَعَاهِدُ وَأَنْقُضُ العُهُودِ. آخر: ... وَإنِّي امْرؤُ بالطَّبِعْ أُلْغِي مَطَامِعِي وَأزْجُرْ نَفْسِي طَابِعًَا لا تَطَبُّعَا وَعِنْدِي غِنَى نَفْسٍ وَفَضْلُ قَنَاعَةٍ وَلَسْتَ كَمَنْ إِنْ ضَاقَ ذَرْعًا تَضَرُّعَا وَإِنْ مَدَّ نَحْوَ الزَّادِ قَوْمٌ أَكُفَّهَا تَأَخَّرْتُ بَاعًا إِنْ دَنَا القَوْمِ أَصْبُعَا وَمُذْ كَانَتْ الدُّنْيَا لَدَيَّ دَنِيئَةً تَعَرَّضْتُ لِلإعْرَاضِ عَنْهَا تَرْفُّعَا وَذَاكَ لِعِلْمِي إِنَّمَا اللهُ رَازِقٌ فَمَنْ غَيْرُهُ أَرْجُو وَأَخْشَى وَأَجْزَعَا فَلا الضَّعْفُ يُقْصِي الرِّزْقَ إِنْ كَانَ دَانِيًا ولا الحَوْلُ يُدْنِيهِ إِذَا مَا تَجَزَّعَا فَلا تَبْطِرَنْ إِنْ نِلْتَ مِنْ دَهْرِكَ الغِنَى وَكُنْ شَامِخًا بَالأَنْفِ إنْ كُنْتَ مُدْقِعًا

أحاديث وآثار في الحث على الورع والزهد في الدنيا ………

فَقَدْرُ الفَتَى مَا حَازَهُ وَأَفَادَهُ مِنْ العِلْمِ لا مَالٌ حَوَاهُ وَجَمَّعَا فَكُنْ عَالِمًا فِي النَّاسِ أَوْ مُتَعَلِّمًا وَإِنْ فَاتَكَ القِسْمَانِ أَصْغِ لِتَسْمَعَا وَلا تَكُ لِلأَقْسَامِ مَا اسْتَطَعْتَ رَابِعَا فَتَدْرَأَ عَنْ وُرْدِ النَّجَاةِ وَتُدْفَعَا اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ نَسْأَلُكَ أَنْ تُوفِّقْنَا لِمَا فِيهِ صَلاحَ دِينِنَا وَدُنْيَانَا وَأَحْسِنْ عَاقِبَتِنَا وَأَكْرِمْ مَثْوَانَا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا. اللَّهُمَّ يَا مَنْ لا تَضُرُّهُ الْمَعْصِيَةُ وَلا تَنْفَعُه الطَّاعَةِ أَيْقِظْنَا مِنْ نَوْمِ الغَفْلَةِ وَنَبِّهْنَا لاغْتِنَامِ أَوْقَاتِ الْمُهْلَةِ وَوَفِّقْنَا لِمَصَالِحْنَا وَاعْصِمْنَا مِنْ قَبَائِحْنَا وَذُنُوبَنَا وَلا تُؤاخِذْنَا بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ ضَمَائِرُنَا وَأكنَّتْهُ سَرَائِرُنَا مِنْ أَنْوَاعِ القَبَائحِ والْمَعَائبِ التي تَعْلَمُهَا مِنَّا وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. فصل: عَنْ عَوْف بن مَالِكٍ الأَشْجَعِي قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - تِسْعَة أَوْ ثَمَانِيَة أَوْ سَبْعَةً فَقَالَ: «أَلا تُبَايعُونَ رَسُولَ اللهِ» ؟ وَكُنَّا حَدِيثِي عَهْدِ بِبَيْعَةٍ، فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ! ثُمَّ قَالَ: «أَلا تُبَايعُونَ رَسُولَ اللهِ» ؟ قَالَ: فَبَسَطْنَا أَيْدِيْنَا وَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ الله فَعَلامَ نُبَايعُكَ؟ قَالَ: «أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَالصَّلَواتُ الخَمْسُ، وَتُطِيعُوا اللهَ، وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفيَّةً، وَلا تَسْأَلُونَ النَّاسَ شَيْئًا، فَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا يُنَاولُهُ إِيَّاهُ» . شِعْرًا: مَنِ استعانَ بغَيرِ اللهِ في طَلَبٍ ... فإنَّ ناصِرَهُ وعَجزٌ وخِذْلانُ آخر: مَنِ استعانَ بغَيرِ اللهِ في طَلَبٍ ... أَجَابَ كُلَّ سؤال عن هَلٍ بِلَمِ

آخر: فَحَسِّنِ الوَعْدَ بالإنْجَازِ تُتْبعُهُ ... إِذَا مَوَاعِيدُ قَوْمٍ شَانَهَا الخُلُفُ إنِّي لأَكْرِمُ وَجْهِي أَنْ أَوْجِّهَهُ ... عِنْدَ السُّؤالِ لِغَيْرِ الواحِدِ الصَّمَدِ عَزُّ القَنَاعَةِ وَالإِيمَانُ يَمْنَعُنِي ... مِنْ التَّعَرُض لِلْمَنَانَةِ النَّكِدَ رَضِيتُ بِاللهِ فِي يَوْمِي وَفِي غَدِهْ ... وَاللهُ أَكْرَمُ مَأْمُولِ لِبَعْدِ غَدِ آخر: ... اسْتَرْزِقِ الله فالأرَزَاقَ في يَده ... ولا تَمُدُّّ إلى غَيْرِ الإِلهِ يَدَا آخر: ... مَا شِقْوَةُ المَرْء في فَقرٍ يَعيشُ بِهِ ... وَلا سَعَادَتُهُ يَوْمًا بإكثار إنَّ الشَّّّّّّّّقيَّ الذي في النارِ مَنْزِلُهُ ... وَالفَوْزَ فَوْزُ الذي يَنْجُو مِن النَّارِ وَعَنْ زَيْدِ بِنْ أَسْلَمَ قَالَ: شَرِبَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَبِنًا فَأعْجَبَهُ، فَسَأَلَ الذي سَقَاهُ: مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ؟ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى مَاءٍ - قَدْ سَمَّاهُ - فَإِذَا نَعَم ُمِنْ نَعم الصَّدَقَةِ وَهُمْ يَسْقُونَ، فَحَلَبُوا مِنْ أَلْبَانها فَجَعَلْتُهُ فِي سَقَائِي فَهُو هَذَا فَأَدْخَلَ عُمَرُ يَدَهُ فِي فَمِهِ فَاسْتَقَاءَ. أَي: أَخْرَجَهُ مِنْ جَوْفِهِ. وَعَنْ عُمَرَ بِنْ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِينِي العَطَاءَ، فَأَقُولُ أَعْطِهِ أَفْقَرَ مِنِّي، فَقَالَ: «خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ وَتَصَدَّقْ بِهِ، فَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا المَالِ وَأَنْتَ غَيْرَ مُشْرِفٍ وَلا سَائِلٍ، فَخُذْهُ، وَمَا لا فَلا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ ابْنِ السَّاعِدِي قَالَ: اسْتَعْمَلَنِي عُمَرُ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْهَا وَأَدَّيْتُهَا إِلِيْهِ أَمَرَ لِي بِعَمَالَةٍ. فَقُلْتُ: إِنَّمَا عَمِلْتُ للهِ، قَالَ: خُذْ مَا أُعْطِيْتَ فَإِنِّي قَدْ عَمِلْتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَمَّلَنِي، فَقُلْتُ مِثْلَ قَوْلِكَ. فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَعْطِيْتَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْأَلَهُ فَكُلْ وَتَصَدَّقْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَعَنْ أَبِى سَعِيدٍ أَنَّ أُنَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ: «مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ» . رَوَاهُ الخَمْسَةُ. وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» . رَوَاهُ البُخَارِي، وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا. وَقَدْ اشْتَمَلَ الحَدِيثَانِ الأَخِيرَانِ عَلَى جُمَلٍ جَامِعَةٍ نَافِعَةٍ: الأولى: قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ» . فَفِيهَا الحَثُّ عَلَى مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ عَلَى انْصِرَافِهَا عَنْ التَّعَلَقُّ بَالْمَخْلُوقِينَ، وَذَلِكَ بِالاسْتِعْفَافِ عَمَّا فِي أَيْدِيهِمْ، فَلا يَطْلُبُ مِنْهُم شَيْئًا لا بِلِسَانِ الحَال ولا بِلِسَانِ الْمَقَالِ بَلْ يَكُونُ مُعْتمدًا على الله وحْدَهُ. شِعْرًا: ... أَحْسنْ الظَّنَّ بَربّ عَوَّدك ... حَسَنًا أَمْسَى وَسوَّى أَوَدَكْ إنَّ رَبًا يَكْفِيكَ الذي ... كَانَ بالأمْسِ سَيَكْفِيكَ غَدَكْ آخر: ... إِذَا مَا شِئْتَ طِيبَ العَيْشٍ فَانْظُرْ ... إِلى مَنْ بَاتَ أَسْوَأُ مِنْكَ حَالا وَاَخْفَضَ رُتْبَةً وَأَقَلَّ قَدْرًا ... وَأَنْكَدَ عَيْشَةً وَأَقَلَّ مَالاً آخر: لا تَسْأَلَنَّ إلى صَدِيق حَاجَةً ... فَيَحُولُ عَنْكَ كَمَا الزَّمَانُ يَحُولُ وَاسْتَعْن بالشيءِ القلِيلِ فَإنَّهُ ... مَا صَانَ عِرْضُكَ لا يُقَالَ قَلِيلُ مَنْ عَفَّ خَفَّ عَلَى الصَّدِيقِ لِقَاؤهُ ... وَأَخُو الحَوائجِ وَجْهُهُ مَمْلُولُ وَأَخُوكَ مَنْ وَفَّرْتَ مَا في كَفِهِ ... وَمَتَى عَلِقْتَ بِهِ فَأَنْتَ ثَقِيلُ آخر: ... نَصَحْتُكَ لا تَأتِي لِمَخْلُوقٍ سَائِلاً ... وَتَتْرُكُ بَابَ الله ذي الفَضْلِ جَانِبًا وَفي الجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ: وَهِي قَوْلُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ

يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ» . الحَثُّ عَلَى الاسْتِغْنَاءِ باللهِ والثِّقَةِ بِهِ وَالاعْتِمَادِ عَلَيْهِ فِي الدَّقِيقِ والجَلِيلِ. وَالثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرُهُ اللهُ» . فَفِيهَا أَيْضًا الحَثُّ عَلَى مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ عَلَى الصَّبْرِ الذي هُوَ حَبْسُ النَّفْسِ عَلَى مَا تَكْرَهُ تَقَرُّبًا إلى اللهِ لأنَّهُ يَحْتَاجُ إلى الصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ حَتَّى يُؤَدِّيهَا وَعَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ حَتَّى يَتْرُكَهَا للهِ وَإلى الصَّبْرِ عَلَى أَقْدَارِ اللهِ الْمُؤْلِمةِ فَلا يَتَسَخَّطْ. وَفِي الحَدِيثِ الآخَرِ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ الغِنَى عَنْ كِثْرَةِ العْرَضِ ... » . إلخ بَيَانٌ أَنَّ الغِنَى لَيْسَ بِسَعَةِ الثَّرْوَةِ وَوَفْرَةِ الْمَالِ وَكثْرَةِ الْمَتَاعِ، وَلَكِنْ الغِنَى غَنَى النَّفْسِ، فَمَنِ اسْتَغْنَى بِمَا فِي يَدِه عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَلَمْ تَشْرُفْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ وَلَمْ تَتَطَلَّعْ إِلَيْهِ فَهُوَ الْغِنيُّ الجَدِيرُ بِلَقَبِ الغَنِيّ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِ مُقِلاً، إِذْ رَضَاهُ بِمَا قَسَمَ اللهُ وَعِفَّتُهُ وَزُهْدهُ وَقَنَاعَتُهُ جَعَلَتْهُ فِي دَرَجَةٍ مِنْ الغِنَى دُونَهَا بِطَبَقَاتِ أَهْلِ الثَّرَاءِ الذينَ حُرمُوا الزَّهَادَةَ وَالقَنَاعَةَ وَالرِّضَا بِمَا كَتَبَ اللهُ لَهُمْ، الذِينَ تَذْهَبُ أَنْفُسُهُمْ حَسْرَةً إِذَا فَأتَتْهُم صَفَقَةٌ أَوْ ضَاعَتْ عَلَيْهِمْ فُرْصَةٌ. بَلْ مَا جَاءَهُ رِضَيَ بِهِ وَقَنِعَ بِخَلافِ مِنْ كَثُرَ مَالُهُ وَتَشَعَّبَتُ أَمْلاكُهُ وَصَارَ قَلْبُهُ مُوَزِّعًا بَيْنَ ضَيْعَتِهِ وَعِمَارَاتِهِ وَذَهبِهِ وَفِضَّتِهِ وَأَوْرَاقِهِ وَسَائِرِ أَمْوَالِهِ وَلَيْسَ لَهُ هَمَّ إِلا جَمْع الْمَالِ فَهُوَ مَعْشُوقُهُ يَحْرِصُ عَلَيْهِ أَشدَّ الحِرْصِ، واسمع إلى من يصرف المُبالغة في المدح إلى المخلوق وينسى الخالق: مَنْ زَارَ بَابَكَ لَمْ تَبْرحْ جَوَارِحُهُ ... تَرْوي أَحَادِيث ما أَوْلَيْتَ مِنْ منَنَ فَالْقَلْبُ عَنْ جَابْرٍ وَالكَفُ عَنْ صِلَةٍ ... وَالْعَيْنُ عَنْ قُرَّةٍ والسَّمْعُ عَن حَسَنِ آخر: وَمَا فِي الأَرْضِ أَشْقَى مِنْ جَهَولٍ ... عَصَى رَبَّ العِبَادِ مَدَى الحَيَاةِ يُضَيّعُ عُمْرهُ في جَمْع مَالٍ ... مَخَافَةَ فَقْرِهِ أو لِلتَّبَاهِي

وَيَتَمَيَّزُ غَيْظًا إذا فَاتَهُ مِنْهُ القَلِيلُ وَبُودّه لَوْ ضَمَّ مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ إِلى مَا فِي يَدِهِ لا يَتَلذَّذُ بِمَأْكَلِ وَلا بِمَشْرَبٍ وَلا يَرْتَاحُ لِمُنَادَمَةِ جَلِيسٍ لاشْتِغَالِ قَلْبِهِ بِهِ فَهَذَا هُوَ الفَقِيرُ حَقًّا المَحْرُومْ صِدْقًا وَصَدَقَ مَنْ قَالَ: آخر: وذي حِرْصٍ تَرَاهُ يَلُمُّ وَفْرًا ... لِوَارثهِ وَيَدْفعُ عن حِمَاهُ كَكَلْبِ الصَّيْد يُمْسِكُ وَهُوَ طَاوٍ ... فَرِيَستَهُ لِيَأْكُلَهَا سِوَاهُ آخر: أَصْبَحَت الدُّنْيَا لَنَا عِبْرَةً ... والْحَمْدُ لله عَلى ذالِكَا قَدْ أَجْمَعَ النَّاسَ على ذَمِّهَا ... وَمَا أَرَى مِنْهُمْ لَهَا تَارِكَا آخر: يُفْنِي البَخِيلُ بجَمْعِ المالِ مُدَّتَهُ ... وَلِلْحَوَادِثِ وَالوُرَّاثِ مَا يَدَعُ كَدُودَةِ القَزِّ مَا تَبْنِيهِ يَهْدِمُهَا ... وَغَيْرُهَا بالذي تَبْنِيهِ يَنْتَفِعُ آخر: ... إِذَا زَادَكَ الْمَالُ افْتِقَارًا وَحَاجَةً ... إِلى جَامِعِيهِ فَالثَّرَاءُ هُوَ الفَقْرُ آخر: وَمَنْ يُنْفِقْ السَّاعَاتِ في جَمْعِ مَالِهِ ... مَخَافَة فَقْرٍ فَالذي فَعَلَ الفَقْرُ اللَّهُمَّ يسِّرْ لَنَا أَمْرَ الرِّزْقِ وَاعْصِمْنَا مِنْ الحِرْصِ وَالتَّعبِ فِي طَلَبِهِ وَمَنْ شَغْل القَلْبِ وَتَعَلُّقِ الهَمِّ بِهِ، وَمِنْ الذُّلِّ لِلْخَلْقِ بِسَبَبِهِ وَمِنْ التَّفْكِير والتَّدْبِيرِ فِي تَحْصِيلِهِ، وَمَنْ الشُّحِّ وَالحِرْصِ عَلَيْهِ بَعْدَ حُصُولِهِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. مَوْعِظَةٌ: عِبَادَ اللهِ أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ العَزيزِ العَلام الحَيِّ القَيُّومِ الذي لا يَنَامُ وَأُوصِيكُمْ في مُعَامَلَتِهِ بِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ فِي الأَقْدَامِ وَالأَحْجَامِ وَالفَزَعِ إِلَيْهِ عِنْدَ تفَاقُمْ الشَّدَائِدِ واشْتِبَاهِ الأَحْكامِ، وَالاعْتِمَادِ عَلَيْهِ فِي الدَّقِيقِ وَالجَلِيل، والتَّسْلِيم لَهُ في النَّقْض وَالإِبْرَام، وَالرَّغْبَةِ فِيمَا لَدَيْهِ فَبيَدَيهِ

قصيدة في مدح رب العزة تبارك وتعالى والتحذير عن الدنيا …

الخَيْرُ وَهُو الكَرِيمُ الجَوَادُ، وَمَقَابَلَةِ قَضَائِه بِحَقِيقَةِ الرِّضَى وَالاسْتِسْلامِ، أَمَا شَرَّفكمُ وَفَضَّلَكمُ بِجَزِيلِ العُقُولِ وَالإِفْهَامِ، أَمَّا أَوْضْحَ لَكُمْ الطَّريقَ المُوصِلَ إلى دَارِ السَّلامِ، أَمَّا بَعَثَ إِلَيْكُمْ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - لِتَبْلِيغِ الشَّرَائِعَ وَالأحْكَامِ، أَمَّا أَنْزَلَ عَلَيْهِ الذِّكْرَ لِيُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا أَوْدَعَهُ فِيهِ مِنْ الأَحْكَام، أَمَا دَعَاكُمْ إِلى التَّوَكّلِ عَلَيْهِ وَالاعْتِصَامِ، أَمَّا حَثَّكُم إلى العَمَلَ فِيمَا يُقَرِّبُ إلى دَارِ السَّلامِ، أَمَّا حَذَّرَكُمْ عَوَاقِبَ مَعَاصِيهِ وَنَهَاكُمْ عَنْ الآثَامِ، أَمَا أنْذَركُم هَوْلَ يَوْمٍ أَطْوَلَ الأَيَّامِ، اليَوْمُ الذي يَشِيبُ فِيهِ الوِلْدَانْ، وَتَنْفَطِرُ فِيهِ السَّمَاءُ، وَتَنْكَدِرُ فِيهِ النُّجُومِ، وَتَظْهَرُ فِيهِ أَمُورٌ عِظَامٌ، أَمَّا خَوَّفكمُ مَوَارِدُ الحَمَامِ، أَمَا ذَكَّرَكُمْ مَصَارِعَ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ الأَنَامِ، أَمَا أَمَدَّكُم بالأبْصَارِ وَالأَسْمَاعِ وَصِحَّةِ الأَجْسَامِ، أَمَا وَعَدَكَمُ بِقَبُولِ تَوْبَةِ التَّائِبِينَ رَحْمَةً مِنْهُ جَرَتْ بِهِ الأَقْلامُ، فَوَاللهِ لَحُقَّ لِهَذَا الرَّبِ العَظِيمِ أَنْ يُطَاعَ فَلا يُعْصَى عَلَى الدَّوَامِ، فَيَا أَيُّهَا الشُّيُوخُ بَادِرُوا فَمَا لِلزرْعِ إِذَا أَحْصَدَ إلا الصِّرَامُ، وَيَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ جُدُّوا في العَمَلِ فُرَبُّ امْرئٍ مَا بَلَغَ التَّمَامَ، وَاحْذَرُوا عِقَابَ رَبِّكُم يَوْمَ يُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ، يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضِ غَيْرَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ وَبَرَزُوا للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ، يَوْمٌ مَا أَطْوَلَ الوُقُوفَ فِيهِ وَأثْقَلَهُ عَلَى كُلِّ مُجْرِمٍ جَبَّارٍ يَوْمَ الْمُنَاقَشَةِ فِيهِ عَنْ الفَتِيلِ والنَّفِيرِ والقِطمِيرِ وَصَغَائِرَ الأعْمَالَ وَالكَبَائِرْ، فَتَأَهَّبُوا لِذَلِكَ اليَوْمِ العَظِيمِ وَاسْتَعِدوا لَهُ أَتَمَّ اسْتِعْدَادٍ. اللَّهُمَّ يَا عَظِيمَ العَفْوِ يَا وَاسِعَ الْمغْفِرَةِ يَا قَرِيبَ الرِّحْمةَ يَا ذَا الجَلالِ وَالإِكْرَامِ فَرِّغْنَا لِمَا خَلَقْتَنَا لَهُ، وَلا تَشْغَلْنَا بِمَا تَكَفَّلْتَ لَنَا بَهِ وَهَبْ لَنَا العَافِيةَ في الدُّنْيَا وَالآخِرة، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلىَ آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. لَكَ الحَمْدُ والنَّعْمَاءُ وَالْمُلْكُ رَبَّنَا ... وَلا شَيْءَ أَعْلا مِنْكَ مَجْدًا وَأَمْجَدًا

مَلِيكٌ عَلَى عَرْشِ السَّمَاءِ مُهَيْمِنٌ لِعِزَّتِهِ تَعنو الوجوهُ وَتَسجُدُ فَسُبْحَانَ مَنْ لا يَقْدِرُ الخَلْقُ قَدْرَهُ وَمَنْ هُوَ فَوْقَ العَرْشِ فَرْدٌ مُوَحَّدٌ وَمَنْ لَمْ تُنَازِعْهُ الخَلائِقُ مُلْكَهُ وَإِنْ لَمْ تُفَرِّدْهُ العِبَادُ فَمُفْرَدُ مَليكُ السَمَاواتِ الشِدادِ وَأَرضِها وَلَيسَ بِشَيءٍ عَن قَضاهُ تَأَوُّدُ هَوَ اللهُ باري الخَلقِ وَالخَلقُ كُلُّهُم إِماءٌ لَهُ طَوعاً جَميعاً وَأَعبُدُ وَأنَّى يَكونُ الخَلقُ كَالخالِقِ الَذي يُمِيتُ وَيُحْيِي دَائِبًا لَيْسَ يَهْمدُ تُسَبِّحُهُ الطَّيْرُ الجَوَانِحُ في الخَفَا وَإذْ هِيَ فِي جَوِّ السَّمَاءِ تُصَعِّدُ وَمِنْ خَوْفِ رَبِّي سَبَّحَ الرَّعْدُ فَوْقَنَا وَسَبَّحَهُ الأَشْجَارُ والوَحْشُ أَبَّدُ وَسَبَّحَهُ النِّيْنَانُ وَالبَحْرُ زَاخِرًا وَمَا طَمَّ مِنْ شَيءٍ وَمَا هُوَ مُقْلَدُ أَلا أَيُّهَا القَلْبُ الْمُقِيمُ عَلَى الهَوَى إلى أيِّ حِينٍ مِنْكَ هَذَا التَّصَدُّدُ عَنْ الحَقِّ كَالأَعْمَى الْمُمِيطِ عَنْ الهُدَى وَلَيْسَ يَرُدُّ الحَقَّ إلا مُفَنَّدُ وَحَالاتُ دُنْيًا لا تَدُومُ لأَهلِهَا

فصل في صدقة التطوع وما ورد من الآثار الشرعية في فضلها …

فَبَين الفَتَى فِيهَا مَهِيبٌ مُسَوَّدُ إِذا اِنْقَلَبَتْ عَنهُ وَزَالَ نَعِيمُهُا وَأَصبَحَ مِن تَربِ القُبورِ يوَسَّدُ وَفَارَقَ رُوحًا كَانَ بَيْنَ جَنانِهِ وَجاوَرَ مَوْتَى مَا لَهُم مُتَرَدَّدُ فأَي فَتىً قَبلي رأَيتَ مُخَلَّدًا لَهُ في قَديمِ الدَهرِ ما يَتَوَدَّدُ فَلَم تَسلَم الدُنيا وَإِن ظَنَّ أَهلُها بِصِحَّتِها وَالدَهرُ قَد يَتَجَرَّدُ أَلَستَ تَرى في ما مَضَى لَكَ عِبرَةً فَمَه لا تَكُن يا قَلبُ أَعمى يُلَدَّدُ فَكُن خائِفًا لِلمَوتِ وَالبَعثِ بَعدَهُ وَلا تَكُ مِمَّن غَرَّهُ اليَومُ أَو غَدُ فَإِنَّكَ في دُنْيَا غُرُورٍ لأَهْلِهَا وَفِيهَا عَدُوٌّ كَاشِحُ الصَّدْرِ يُوْقِدُ اللَّهُمَّ أحْي قُلُوبًا أَمَاتَهَا البُعْدُ عَنْ بَابِكَ، وَلا تُعَذّبْنَا بَأليمِ عِقَابِكَ يَا أَكْرَمَ مَنْ سَمَحَ بالنَّوَالِ وَجَادَ بَالأفْضَالِ، اللَّهُمَّ أَيْقَضْنَا مِنْ غَفْلَتِنَا بُلطْفِكَ وَإِحْسَانِكَ، وَتَجَاوَزْ عَنْ جَرَائِمِنَا بَعَفْوِكَ وَغُفْرَانِكَ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. فَصْلٌ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُعْ 1- مَا وَرَدَ مِنْ الآثَارِ الشَّرْعِيَّةِ في فَضْلِهَا.

أحاديث في الحث على الصدقة وبيان آثارها

2- أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ جُهْدٌ مِنْ مُقِلٍّ. 3- بَيَانُ عِظَمِ ثَوَابِ الصَّدَقَةِ في شَهْرِ رَمَضَانَ، وفي الحَرَمَيْنِ. 4- الأَوْلَوِيَّةُ في الصَّدَقَةِ لِلأقرِبَاءِ وَطُلابِ العِلْمِ. 1- مَا وَرَدَ مِنْ الآثَارِ الشَّرْعِيَّةِ في فَضْلِهَا: تُسَنُّ صَدَقَةُ التَّطَوُعِ في كُلِّ وَقْتٍ، قَالَ تَعَالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً ... } الآية. وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلاَ يَقْبَلُ اللَّهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ، فإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ جَابِرِ قَالَ: كُنَّا فِي صَدْرِ النَّهَارِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوِ الْعَبَاءِ، مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ. فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَأَمَرَ بِلاَلاً فَأَذَّنَ وَأَقَامَ فَصَلَّى، ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إِلَى آخِرِ الآيَةِ {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} وَالآيَةَ الَّتِي فِي الْحَشْرِ {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ مِنْ دِرْهَمِهِ مِنْ ثَوْبِهِ مِنْ صَاعِ بُرِّهِ مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ حَتَّى قَالَ: «وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» ، قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَتِفُهُ تَعْجَزُ عَنْهَا بَلْ قَدْ عَجَزَتْ. ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ

رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَهَذَا الكَلامُ البَلِيغُ دَعْوَةٌ إلى التَّنَافُسِ في الخَيْرِ والتَّسَابُقِ في افْتِتَاحِ مَشْرُوعَاتِهِ. وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ. فَقَالَ: هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُمِائَةِ نَاقِةٍ كُلُّهَا مَخْطُومَةٌ» . وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعَا: «إِنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَتَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ» . رَوَاهُ التِّرمذِي وَحَسَّنَهُ. وَكَمَا أَنَّهَا تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَهِيَ تُطْفِئُ الذُّنُوبَ وَالخَطَايَا كَمَا يُطْفِئُ الماءُ النَّارَ. وَعَنْ مِرْثَد بن عَبْدِ اللهِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَقُولُ: «إِنَّ ظِلَّ الْمُؤمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ صَدَقَتُهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَصَدَقَةُ السِّرِّ أَفْضَلُ مِنْ صَدَقَةِ العَلانِيَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالى: {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ} . وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُم اللهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّهُ» . وَذَكَرَ مِنْهُمْ: «رَجُلاً تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ

حديث سعيد بن المسيب في حماية الله للإنسان بسبب ما وفقه له

فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وفي رواية الترمذي عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ فَقَال: «أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلاَةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ شِعَارُ الصَّالِحِين» . ثُمَّ تَلاَ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} وَفِي بَعْضِ الآثَارِ: بَاكِرُوا بَالصَّدَقَةِ فَإنَّ البَلاءَ لا يَتَخَطَّاهَا. وَفِي حَدِيثِ سَعِيدِ بِنْ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنِ سُمْرَةَ بِنْ جُنْدَبِ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا وَكُنَّا فِي صُفَّةٍ بَالْمَدِينَةِ فَقَامَ عَلَيْنَا فَقَالَ: «إِنِّي رَأَيْتُ البَارِحَةَ عَجَبًا، رَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي أَتَاهُ مَلكَ الْمَوْتِ لِيَقْبِضَ رُوُحَهُ فَجَاءَ بِرُّهُ بِوَالِدَيْهِ فَرَدَّ مَلَكَ الْمَوْتِ عَنْهُ، وَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي قَدْ بُسِطَ عَلَيْهِ عَذَابُ القَبْرِ فَجَاءَهُ وُضُوئُهُ فَاسْتَنْقَذَهُ مَنْ ذَلِكَ، وَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي قَدْ احْتَوَشَتْهُ الشَّيَاطِينِ فَجَاءَهُ ذِكْرُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَطَرَدَ الشَّيَاطِينَ عَنْهُ، وَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي قَدْ احْتَوَشَتْهُ مَلائِكَةُ العَذَابِ فَجَاءَتْهُ صَلاتِهِ فَاسْتَنْقَذَتْهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي يَلْتَهِبُ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «يَلَهْثُ عَطَشًا كُلَّمَا دَنَا مِنْ حَوْضٍ مُنِعَ وَطُرِدَ فَجَاءَهُ صِيَامُ رَمَضَانَ فَسَقَاهُ وَأَرْوَاهُ، وَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي، وَرَأَيْتُ النَّبِيِّينَ جُلُوسًا حِلَقًا حِلقًا كُلَّمَا دَنَا إِلى حِلْقَةٍ طُرِدَ فَجَاءَهُ غُسْلُهُ مِنْ الجَنَابَةِ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَأَقْعَدَهُ إِلى جَنْبِي، وَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي بَيْنَ يَدَيْهِ ظُلْمَةٌ وَمِنْ خَلْفِهِ ظُلْمَةٌ وَعَنْ يَمِينِهِ ظُلْمَةٌ وَعَنْ يَسَارِهِ ظُلْمَةٌ وَمِنْ فَوْقِهِ ظُلْمَةٌ وَهُوَ مُتَحَيِّرٌ فِيهَا فَجَاءَهُ حَجُّهُ وَعُمْرَتُهُ فَاسْتَخْرَجَاهُ مِنْ الظُّلْمَةٌ وَأَدْخَلاهُ فِي النُّورِ، وَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي يَتَّقِي بِوَجْهِهِ وَهَجَ النَّارِ وَشَرَرَه فَجَاءَتْهُ صَدَقَتُهُ فَصَارَتْ سُتْرَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ

من صالح الأعمال وكلام شيخ الإسلام على هذا الحديث ……

وَظَلَّلَتْ عَلَى رَأْسِهِ وَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي يُكَلِّمُ الْمُؤْمِنينَ. وَلا يُكَلمُونَهُ فَجَاءَتْهُ صِلَتُهُ لِرِحِمِهِ فَقَالَتْ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ إِنَّهُ كَانَ وَصُولاً لِرِحِمِهِ فَكَلِّمُوهُ فَكَلَّمَهُ الْمُؤْمِنُونَ وَصَافَحُوهُ وَصَافَحَهُمْ، وَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي قَدْ احْتَوَشَتْهُ الشَّيَاطِينُ فَجَاءَهُ أَمْرُهُ بالْمَعْرُوفِ وَنَهْيهِ عَنْ الْمُنْكَرِ فَاسْتَنْقَذَهُ مِنْ أَيْدَيِهِمْ وَأَدْخَلَهُ فِي مَلائِكَةِ الرَّحْمَةِ، وَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتِيهِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ حِجَابٌ فَجَاءَهُ حُسْنُ خُلُقِهِ فَأَخَذَ بِيَدِهِ وَأَدْخَلَهُ عَلَى اللهِ. وَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي قَدْ ذَهَبَتْ صَحِيفَتُهُ مِنْ قِبَل شِمَالِهِ فَجَاءَهُ خَوْفُهُ مِنْ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَأَخَذَ صَحِيفَتَهُ فَوَضَعَهَا فِي يَمِينِهِ، وَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي خَفَّ مِيزَانَهُ فَجَاءَهُ أفْرَاطُهُ فَثَقَّلُوا مِيزَانَهُ، وَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي قَائِمًا عَلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ فَجَاءَهُ رَجَاؤُهُ فِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَاسْتَنْقَذَهُ مِنْ ذَلِكَ وَمَضَى. وَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي قَدْ أَهْوَى فِي النَّارِ فَجَاءَتْهُ دمْعَتُهُ التِي بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَاسْتَنْقَذَتْهُ مِنْ ذَلِكَ. وَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي قَائِمًا عَلَى الصِّرَاطِ يَرْعُدُ كَمَا تَرْعُدُ السَّعْفَةُ فِي رِيحٍ عَاصِفٍ فَجَاءَه حُسْنُ ظَنِّهِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَسَكَنَ رِعْدَتَهُ وَمَضَى، وَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي يَزْحَفُ عَلَى الصِّرَاطِ وَيَحْبُو أَحْيَانًا وَيَتَعَلَّقُ أَحْيَانًا فَجَاءَتْهُ صَلاتُهُ فَأَقَامَتْهُ عَلَى قَدَمَيْهِ وَأَنْقَذَتْهُ، وَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي انْتَهَى إِلى أَبْوابِ الجَنَّةِ فَغُلِّقَتْ الأَبْوَابُ دُونَهُ فَجَاءَتْهُ شِهَادَةُ أَنْ لا إِلهَ إلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ فَفُتِحَتْ لَهُ الأَبْوابُ وَأَدْخَلتُهُ الجَنَّةُ» . رَوَاهُ الحَافِظُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِي. قَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: وَكَانَ شَيْخُ الإِسْلامِ ابنْ تَيمِيَّةَ قَدَّسَ اللهُ رُوحَهُ يُعَظِّمُ شَأَنْ هَذَا الحَدِيثِ، وَبَلَغَنِي عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ شَوَاهِدُ الصِّحَّةِ عَلَيْهِ. انْتَهَى.

الحث على الصدقة ما دام الإنسان صحيح وبيان المسكين حقه …

وَبِمُنَاسَبَةِ سِيَاقِهِ هُنَا قَوْلُهُ: «فَجَاءَتْهُ صَدَقَتُهُ فَصَارَتْ سِتْرًا بِيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ وَظَلَّلَتْ عَلى رَأْسِهِ» . قَالَ رَحِمَهُ اللهَ: وَفِي تَمْثِيلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّدَقَةِ بِمَنْ قُدِّمَ لِيُضْرَبَ عُنُقُهُ فَافْتَدَى نَفْسَهُ مِنْهُمْ بِمَالِهِ كِفَايَةَ، فَإنَّ الصَّدَقَةِ تَفْدِي العَبْدَ مِنْ عَذَابِ اللِه تَعَالى فَإنَّ ذُنُوبَهُ وَخَطَايَاهُ تَقْتَضِي هَلاكَهُ فَتَجِيءُ الصَّدَقَةُ تَفْدِيهِ مِنْ العَذَابِ وَتَفُكُّهُ مِنْهُ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ لَمَّا خَطَبَ النِّسَاءَ يَوْمَ العِيدِ: «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ» . وَكَأَنَّهُ حَضَّهُنَّ وَرَغْبَهُنَّ عَلَى مَا يَفْدِينَ بِهِ أَنْفُسَهُنَّ مِنْ النَّارِ. اللَّهُمَّ قَوِّ إِيمَانَنَا بِكَ وَبِمَلائِكَتِكَ وَبِكُتُبِكَ وَبِرُسُلِكَ وَبَاليَوْمِ الآخِر، وَبالقَدَرِ خَيْره وَشَرهِ، وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ، اللَّهُمَّ وَاجْعَلْ قُلُوبَنَا مَمْلُوءَةً بِحُبِّكَ، وَأَلْسِنَتَنَا رَطْبَةً بِذِكْرِكَ، وَنُفُوسَنَا مُطِيعَةٌ لأَمْرِكَ، وَأَمِّنَا مِنْ سَطْوَتِكَ وَمَكْرِكْ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ العَافِيةَ فِي دِينِنَا وَدُنْيَانَا وَأخْرَانَا وَأَهْلُنَا وَمَالِنَا، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا وَأَمِّنْ رَوْعَاتِنَا، وَاحْفَظَنَا مِن بَيْنَ أَيْدِينَا وَمِنْ خَلْفَنَا وَعَنْ أَيْمَانِنَا وَعَنْ شَمَائِلنَا وَمِنْ فَوقَنا، وَنَعُوذُ بعَظَمَتِكَ أَنْ نُغْتَالَ مِنْ تَحْتِنَا، وَاغْفِرْ لَنَا ولِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيِنَ. (فَصْلٌ) : وَصَدَقَةُ التَّطَوُعِ بِطَيْبِ نَفْسٍ أَفْضَلُ مِنْهَا بِدُونِهِ لِمَا فِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ الغَاضِرِي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ثَلاثَ مِنْ فَعَلهُنَ فَقَد ذَاقَ طَعْمَ الإيِمَانِ: مَنْ عَبَدَ اللهَ وَحْدَهُ، وَعَلِمَ أَنْ لا إِله إِلا الله، وَأَعْطَى زَكَاةَ مَالِهِ طَيِّبةً بِهَا نَفْسِهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. والصَّدَقَةُ في الصِّحَّةِ أَفْضَلْ مِنْهَا فِي غَيْرِهَا، وَلِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: «أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى، وَلاَ تُهْمِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ: لِفُلاَنٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

فَالعَاقِلُ مَنْ يُسَابِقُ فِي مَيْدَانِ الخَيْرَاتِ بِمَا يُقَدِّمُهُ مِنْ الصِّلَةِ وَالإِحْسَانِ لإِخْوَانِهِ الفقَرَاءِ الذين أَنَاخَ الفَقْرُ عَلَيْهِمْ وَعَضَّهُمْ البُؤْسُ بِنَابِهِ وَأَوْجَعَهُمْ بِكِلابِهِ الذين لا مَوَارِدَ لَهُمْ لا قَلِيلٌ وَلا كَثِيرٌ، الذين لَوْ رَأَيْتَهُمْ لظَنَنْتَهُمْ مِنْ الأَغْنِيَاءِ وَأَهْلِ الثَّرْوَةِ وَالْمَالِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُقَاسُونَهُ مِنْ الدِّيوُنِ لِمَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ مِنْ الصِّغَارِ وَالكِبَارِ، وَمَا يُقَاسُونَ مِنْ أَلَمِ الجُوعِ وَالفَقْرِ وَالشِّدَةِ والعُسْرِ لَكَنْ يَمْنَعُهُمْ الحَيَاءُ وَعِزَّةُ النَّفْس أَنْ يَمُدُّوا أَيْدِيهِمْ لِلسُّؤَالِ وَأَنْ يَطْلُبُوا الرِّزْقَ إلا مِنْ اللهِ الكَبِيرِ الْمُتَعَالِي الرَّزَّاقِ وَهَؤُلاِء هُمْ الذين يَنْبَغِي الاعْتِنَاءُ بِهِمْ وَالبَحْثُ عَنْ أَحْوَالِهِمْ وَذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ جِيرَانِهِمْ وَأَقْرِبَائِهِمْ حَتَّى تَقَعَ الصَّدَقَةُ مَوْقِعَهَا وَقَد وَرَدَ فِي القُرْآنِ وَصَفُهُمْ قَالَ تَعَالَى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ} . وَأَوْصَى بِهِمْ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفِي الحَدِيثِ الذي رَوَاهُ البُخَارِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَكِنِ الْمِسْكِينُ الَّذِي لاَ يَجِدُ غِنىً يُغْنِيهِ، وَلاَ يُفْطَنُ لهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ، وَلاَ يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسُ» . وَلَمَّا كَانَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ حَرِيصِيْنَ جِدًّا عَلَى مَا يُقَرِّبُ إلى اللهِ مِن أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ سَأَلَ أَحَدُهُم النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ فَأجَابَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ» أَيْ الجِسْمُ «مُعَافًا فِي البَدَنِ» ، تَتَمَتَّعُ بِقَواكَ العَقْلَيَّةِ والجَسْمِيَّةِ، «شَحِيحٌ تَأْملُ الغِنَى» ، أَيْ تَطْمَعُ فِيهِ لِقُدْرَتِكَ عَلَيْهِ عَنْ طَرِيقِ الْمَكَاسِبَ وَالأَرْبَاحَ وَتَخْشَى الفَقْرَ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الصَّدَقَةُ فِي هَذِهِ الحَالِ أَفْضَلُ لِمَا تَسْتََدْعِيهِ مِنْ شِدَّةِ مُجَاهَدَةِ النَّفْسِ عَلى إِخْرَاجِ الْمَالِ مَعَ قِيامِ الْمَانِعِ وَهُو الشُّحُّ فَإخْرَاجُهُ حِينَئِذٍ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى قُوَّةِ الإِيمَانِ وَحُسْنِ النِّيَّةِ

وَصِحَّةِ القَصْدِ وَشِدَّةِ الرَّغْبَةُ فِيمَا يُقَرِّبُ إلى اللهِ «ولا تُهْمِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومُ» ، أي بَلَغَتِ الرُّوحُ مَجْرَى النَّفْسِ وَذَلِكَ عِنْدَ الغَرْغَرَةِ «قُلْتِ كَذَا، وَلِفُلانِ كَذَا» وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ الْمُوصِي وَالْمُوصَى لَهُ، فَالْحَدِيثِ يُرْشِدْنَا إِلى أَنَّهُ لا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُؤَخِّرِ الصَّدَقَةَ إلى وَقْتُ مُعَايَنَةِ الْمَوْتِ وَالإِيذَانِ بَالانْصِرَافِ عَنْ الدُّنْيَا وَمُفَارَقَةِ نَعِيمَهَا وَقَدْ نَبَّهْنَا اللهُ جَلَّ وَعَلا عَلَى هَذَا حَيْثُ يَقُولُ: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} . شِعْرًا: فَعُقبى كُلِّ شَيءٍ نَحنُ فيهِ ... مِنَ الجَمعِ الكَثيفِ إِلى شَتاتِ وَما حُزناهُ مِن حلٍّ وَحُرمٍ ... يُوَزَّعُ في البَنينِ وَفي البَناتِ وَفيمَن لَم نُؤَهِّلهُم بِفلسٍ ... وَقيمَةِ حَبَّةٍ قَبلَ المَماتِ وَتَنسانا الأَحِبَّةُ بَعدَ عَشرٍ ... وَقَد صِرنا عِظاماً بالِياتِ كَأَنّا لَم نُعاشِرهُم بِوُدٍّ ... وَلَم يَكُ فيهِمُ خِلٌّ مُؤاتِ آخر: وَمَا طَربْتُ لِمَشْرُوبٍ أَلَذُ بِهِ ... وَلا لِعِشْقِ ظَبَاءِ العُجْمِ وَالعَرَبِ لَكِنْ طَرِيتُ إِلى وَقْتٍ أَنَالَ بِهِ ... غِنَىً فَأبذِلُهُ فِي طَاعَةِ الصَّمَدِ آخر: ... وَمَا ضَرَّنِي إِتْلافُ عُمْرِي كُلِّهِ ... إِذَا كَانَ وَقْتِي فِي رِضَا خَالِقِي يَجْرِي اللَّهُمَّ قَوِّي إِيمَانِنَا بِكَ وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ، اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ، وَأَمِّنَّا مَنْ سَطْوَتِكَ وَمَكْرِكَ، اللَّهُمَّ أَنْظِمْنَا فِي سِلكَ حِزبكَ الْمُفِلِحِين، وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الْمُخْلِصِينَ، وَآمِّنَّا يومَ الفَزَعَ الأَكْبر يومَ الدِّين، وَاحْشُرْنَا مَعَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيين وَالصِّدقِينَ والشُّهْداء والصالحِينِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

أفضل الصدقة جهد المقل والأدلة على أن الأعمال الصالحة ……

(فَصْلٌ) رَوَى البُخَارِي مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عُنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ» ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلاَّ مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ. قَالَ «فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ، وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ الْعَبْدُ: مَالِي مَالي، وَإنِّمَا مَالَهُ مِنْ مَالِهِ ثَلاثٌ: مَا أَكَلَ فَأَفْنَى، أَوْ لَبِسَ فَأَبْلَى، أَوْ أَعْطَى فَأَقْنَى، وَمَا سِوَى ذَلِكَ ذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِنَّاسِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 2- وَأَفْضَلُ الصَّدَقَةِ جُهْدٌ مِنْ مُقلِ: وَكَانَ السَّلَفُ يُؤْثِرُون َعلَىَ أَنْفُسِهِمْ فَيُقَدِّمُونَ الْمَحَاوِيجَ عَلَى حَاجَةِ أَنْفُسِهِمْ وَيَبْدَؤُونَ بِالنَّاسِ قَبْلَهُمْ فِي حَالِ احْتِيَاجِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ جُهْدِ الْمُقِلِّ» . وَهَذَا الْمَقَامُ أَعْلَى مِنْ حَالَ الذِينَ وَصَفَهُمْ اللهُ بِقَوْلِهِ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً} ، وَقَوْلِهِ: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} فَإِنَّ هَؤُلاءِ تَصَدَّقُوا وَهُمْ يُحِبُّونَ مَا تَصَدَّقُوا بِهِ وَقَدْ لا يَكُونَ لَهُمْ حَاجَةٌ إِلَيْهِ وَلا ضَرُورَةِ وَهؤلاء آثُروا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَعَ خَصَاصَتْهِمْ وَحَاجَتِهِمْ إلى مَا أَنْفَقوهُ، وَمِنْ هَذَا الْمَقَامِ تَصَدَّقَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِجَمِيعِ مَالِهِ فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ» ؟ فَقَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمْ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَهَكَذَا الْمَاءُ الذي عُرِضَ عَلَى عِكْرِمَةَ وَأَصْحَابِهِ يَوْمَ اليَرْمُوكِ فَكُلٌّ مِنْهُمْ يَأْمُرُ بِدَفْعِهِ إلى

تضاعف عن الأمكنة الفاضلة ………………………

صَاحِبهِ وَهُوَ جَرِيحٌ مُثْقلٌ أَحْوَجَ مَا يَكُونَ إِلى الْمَاءِ، فَرَدَّ الآخَرُ إلى الثَّالِثِ فَمَا وَصَلَ إلى الثَّالِث حَتَّى مَاتُوا عَنْ آخِرَهِمْ وَلَمْ يَشْرَبْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ. 3- بَيَانُ عِظَمْ ثَوَابِ الصَّدَقَةِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَفِي الحَرَمِينِ: وَالصَّدَقَةِ فِي رَمَضَانِ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي غَيْرِهِ لِحَدِيثِ ابْنُ عَبَّاسَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونِ فِي رَمَضَانِ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانِ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآن، فَلَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدُ بَالخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ) . وَلأَنَّ الصَّدَقَةَ فِي رَمَضَانَِ إِعَانَةٌ عَلَى أَدَاءِ فَرِيضَةِ الصَّوْمِ، وَفِي أَوْقَاتِ الحَاجَاتِ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي غَيْرِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} . وَالصَّدَقَةُ فِي كُلِّ زَمَانٍ فَاضِلٍ كَالعَشْرِ، أَفْضَلُ مِنْهَا فِي غَيْرِهَا لِحَدِيثِ ابنِ عَبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «مَا مَنْ أَيَّامِ العَمَلُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إلى اللِه مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ» . يَعْنِي: أَيَّامِ العَشْرِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَلا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: «وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ» . وَالصَّدَقَةُ فِي الحَرَمَيْنِ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي غَيْرِهِمَا لِتَضَاعُفِ الحَسَنَاتِ بَالأمْكِنَةِ الفَاضِلَةِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عَنْ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «صَلاةٌ في مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلا الْمَسْجِدَ الحَرَامَ» . وَزَادَ في

الأولى في الزكاة والصدقة الأقرباء الفقراء وطلاب العلم والجيران الفقراء …

رِوَايَةٍ: «فَإِنِّي خَيْرُ الأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ مَسْجِدِي خَيْرُ الْمَسَاجِدِ» . وَزَادَ: «صَلاةٌ فِي الْمَسْجِدْ الحَرَامَ أَفْضَلُ مِنْ مائةِ أَلْف صَلاة فِيمَا سِوَاهُ» . اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا وَفَّقْتَ إِلَيْهِ القَوْمِ وَأَيْقِظْنَا مِنْ سِنَةِ الغَفْلَةِ وَالنَّوْمِ وَارْزُقْنَا الاسْتِعْدَادَ لِذَلِكَ اليَوْمِ الذي يَرْبَحُ فِيهِ الْمُتَّقُونَ، اللَّهُمَّ وَعَامِلْنَا بَإحْسَانِكَ وَجُدْ عَلَيْنَا بِفَضْلِكَ وَامْتِنَانِكَ وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الذين لا خَوْفٌ عَلَيْهُمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، اللَّهُمَّ ارْحَمْ ذُلَّنَا بَيْنَ يَدَيْكَ وَاجْعَلْ رَغْبَتِنَا فِيمَا لَدَيْكَ، وَلا تَحْرِمْنَا بِذُنُوبِنَا، وَلا تَطْرُدْنَا بِعُيُوبِنَا، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فصل) 4- الأَوْلَوِيَّةِ فِي الصَّدَقَةِ لِلأَقْرَبَاءِ وَالجَارِ وَطُلابِ العِلْمِ: وَالصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحَمِ أَفْضَلُ مِنْهَا عَلَى غَيْرِهِ لاسِيَّمَا مَعَ عَدَاوَةٍ، أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَفْضَلِيَّتِهَا فِي القَرَابَةِ فَلِحَدِيثِ سَلْمَانَ الْمُتَقَدِّمَ: «الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحمِ ثِنْتَانِ: صَدَقَةٌ، وَصِلَةٌ» . وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَبِي طَلْحَةَ: «وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ» . فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللهِ فقَسَّمَهَا أَبُو طَلْحَةٍ فِي أَقَارَبِهِ وَبِنِي عَمِّهِ. وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى التَّأَكُّدِ مَعَ العَدَاوَةَ فَلِمَا وَرَدَ عَنْ أُمِّ كُلْثُومِ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الكَاشِحْ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِي وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ. وَعَنْ حَكِيمِ بِنْ حِزَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إِنَّ رَجُلاً سَأَلَ

رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّدقَاتِ أَيُّهَا أَفْضَلُ؟ قَالَ: «عَلَى ذِي الرَّحِمِ الكَاشِحِ» . ثُمَّ الصَّدَقَةُ عَلَى الجَارِ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ تَعَالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} . وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا زَالَ جَبْرِيلُ يُوصِينِي بَالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» . وَعَنْ أَبِي شَرِيحُ الخُزَاعِي: أَنَّ النَّّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « ... وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليوْمِ الآخِرِ فَلَيُحْسِنْ إِلى جَارِهِ» . وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَخُصَّ بالصَّدَقَةِ مَنْ اشْتَدَّتْ حَاجَتَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} ، وَكَوْنُهَا عَلَى عَالِمٍ أَفْضَلُ، لأَنَّ فِي إِعْطَائِهِ إِعَانَةُ عَلَى العِلْمِ وَنَشْرِ الدِّينِ وَذَلِكَ لِتَقْوَيَةِ الشَّرِيعَةِ، وَكَوْنُهَا عَلَى صَاحِبِ دِينٍ أَفْضَلُ، وَكَذَا عَلَى ذِي عَائِلَةٍ أَفْضَلُ مِمَّنْ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَالْمَنُّ بَالصَّدَقَةِ كَبِيرَةٌ، وَيَبْطُلُ الثَّوَابُ بِهِ، قَالَ تَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى} . وَمَنْ أَخْرَجَ شَيْئًا يَتَصَدَّقُ بِهِ، أَوْ وَكَّلَ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ لا يَتَصَدَّقُ بِهِ اسْتُحِبَّ أَنْ يُمْضِيَهُ، وَلا يَجِبُ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَخْرَجَ طَعَامًا لِسَائِلِ فَلَمْ يَجِدْهُ عَزَلَهُ حَتَّى يَجِيءَ آخَرُ. وَقَالَهُ الحَسَنُ. وَيَتَصَدَّقُ بالجَيِّدٍ وَلا يَقْصِدُ الخَبِيثَ فَيَتَصَدَّقَ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالى: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ}

موعظة بليغة في التهيؤ للارتحال إلى المقابر ويلهيا قصيدة زهدية …

وَأَفْضَلُ الصَّدَقَةِ جُهْدُ الْمُقِلِّ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا قِيلَ: يَا رَسُولِ الله أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ جُهْدُ الْمِقِلِّ» . لَيْسَ العَطَاءُ مِنْ الفُضُولِ سَمَاحَةً ... حَتَّى تَجُودَ وَمَا لَدَيْكَ قَلِيلُ آخر: إِنِّي لأَعْسِرُ أَحْيَانًا فَيُدْرِ كُنْفِي ... بُشْرَى مِنْ اللهِ إِنَّ العُسْرَ قَدْ زَالا يَقُولُ خَيْرُ الوَرَى فِي سُنَّةٍ ثبتَتْ ... أنْفِقْ وَلا تَخْشَ مِنْ ذِي العَرْشِ إِقْلالا موعظة أخْوَانِي إِنَّكُمْ فِي دَارٍ هِيَ مَحَلُّ العِبَرِ وَالآفَاتِ، وَأَنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ، وَالطَّرِيقُ كَثِيرَةُ الْمُخَافَاتِ، فَتَزَوَّدُوا مِنْ دُنْيَاكُم قَبْلَ الْمَمَاتِ، وَتَدَارَكُوا هَفَوَاتِكُمْ قَبْلَ الفَوَاتِ، وَحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ وَرَاقِبُوا اللهَ فِي الخَلَواتِ، وَتَفَكَّرُوا فِيمَا أَرَاكُمْ مِنْ الآيَاتِ، وَبَادِرُوا بالأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، وَاسْتَكْثِرُوا فِي أَعْمَارِكُمْ القَصِيرَةِ مِنْ الحَسَنَاتِ، قَبْْلَ أَنْ يُنَادِي بِكُمْ مُنَادِ الشَّتَاتِ، قَبْلَ أَنْ يُفَاجِئكُمْ هَادِمُ اللَّذَاتِ، قَبْلَ أَنْ يَتَصَاعَدَ مِنْكُمْ الأَنِينُ وَالزَّفَرَاتِ، قَبْلَ أَنْ تَنْقَطِعَ قُلُوبَكُمْ عِنْدَ فِرَاقِكُمْ حَسَرَاتٍ، قَبْلَ أَنْ يَغْشَاكُمْ مِنْ غَمَّ الْمَوْتِ الغَمَرَاتُ، قَبْلَ أَنْ تُزْعَجُوا مِنْ القُصُورِ إلى بُطُونِ الفَلَوَاتِ، قَبْلَ أَنْ يُحَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ مَا تَشْتَهُونَ مِنْ هَذِهِ الحَيَاةِ، قَبْلَ أَنْ تَتَمَنَّوا رُجُوعَكُمْ إلى الدُّنْيَا وَهَيْهَاتَ. شِعْرًا: أَيَا لا هِيًا في غَمْرَةِ الجَهْلِ وَالهَوَى صَرِيعًا عَلَى فُرُشِ الرَّدَى يَتَقَلَّبُ تَأَمَّلْ هَدَاكَ اللهُ مَا ثَمَّ وَانْتَبِهْ فَهَذَا شَرَابُ القَوْمِ حَقًّا يُرَكَّبُ وَتَرْكِِيبُهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ إنْ تَفُتْ

في الحث على التزود لدار القرار ……

فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ الْمَنِيّةِ مَطْلَبُ فَيَا عَجَبًا مِنْ مُعْرِضٍ عَنْ حَيَاتِهِ وَعَن حَظهِ العَالي وَيَلْهُو وَيَلْعَبُ وَلَوْ عَلِمَ المَحْرُومُ أَيَّ بِضَاعَةٍ أَضَاعَ لأَمْسَى قَلْبَهُ يَتَلَهَّبُ فَإِنْ كَانَ لا يَدْرِي فَتِلْكَ مُصِيُبَةٌ وَإِنْ كَانَ يَدْرِي فَالْمُصِيبَةُ أَصْعَبُ بَلَى سَوْفَ يَدْرِي حِينَ يَنْكَشِفُ الغِطَا وَيُصْبِحُ مَسْلُوبًا يَنُوحُ وَيَنْدِبُ وَتَعْجَبُ مِمَّنْ بَاعَ شَيْئًا بِدُونِ مَا يُسَاوِي بِلا عِلْمٍ وَأَمْرُكَ أَعْجَبُ لأَنَّكَ قَدْ بِعْتَ الحَيَاةَ وَطِيْبَهَا بِلَذَّةِ حُلْمٍ عَنْ قَلِيلٍ سَيَذْهَبُ فَهَلا عَكَسْتَ الأَمْرَا إِنْ كُنْتَ حَازِمًا وَلَكِنْ أَضَعْتَ الحَزْمَ والحُكْمُ يَغْلِبُ تَصُدُّ وَتَنْأى عَنْ حَبِيبِكَ دَائِمًا فَأَيْنَ عَنْ الأَحْبَابِ وَيْحَكَ تَذْهَبَ سَتَعْلَمُ يَوْمَ الحَشْرِ أَيَّ تِجَارَةٍ أَضَعْتَ إِذَا تِلْكَ الْمَوَازِينُ تُنْصَبَ اللَّهُمَّ يَا عَالَم الخَفياتِ وَيَا سَامِعَ الأَصْوَاتِ وَيَا بَاعِثَ الأَمْواتِ وَيَا مُجِيبَ الدَّعَوَاتِ وَيَا قَاضِي الحَاجَاتِ يَا خَالَق الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ أَنْتَ اللهُ الأحدُ الصمدُ الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد، الوَهَّابُ الذي لا يَبْخَلُ

الفوائد المترتبة على أداء الزكاة وبذل صدقة التطوع …………

وَالحِليمُ الذي لا يَعْجَلُ، لا رَادَّ لأمْركَ وَلا مُعَقِّبَ لِحُكَمِكَ، نَسْأَلَكَ أَنْ تَغفرَ ذُنوبَنَا وَتُنَورَ قلوبنَا وَتُثَبِّتَ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَتُسْكِنَنَا دَارَ كَرَامَتِكَ إِنك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) : في ذِكْرِ طِرَفٍ مِنَ الفَوَائِدِ المُتَرَتِّبَةِ عَلَى أَدَاءِ الزَّكَاةَ وَبَذْلِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ والْمَضَارِّ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى مَنْعِ الزَّكَاةِ: أولاً: 1- امْتَثَالُ أَمْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ. 2- تَقْدِيمُ مَا يُحِبُّهُ اللهُ عَلَى مَحَبَّةِ الْمَالِ. 3- أَنَّ الصَّدَقَةَ بُرْهَانٌ عَلَى إِيمَانِ صَاحِبِهَا كَمَا فِي الحَدِيثِ وَالصَّدقَةُ بُرْهَانٌ. 4- شُكْرُ نِعْمَةِ اللهِ الْمُتَفَضِّلِ عَلَى الْمُخْرِجِ بِمَا أَعْطَاهُ مِنْ الْمَالِ. 5- السَّلامَةُ مِنْ وَبَالِ الْمَالِ في الآخِرَةِ. 6- تَنْمِيَةُ الأَخْلاقِ الحَسَنَةِ وَالأَعْمَالِ الفَاضِلَةِ الصَّالِحَةِ. 7- التَّطْهِيرُ مِنْ دَنَسِ الذُّنُوبِ وَالأخْلاقِ الرَّذِيلَةِ قَالَ اللهَ تَعَالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} . 8- أَضْعَافُ مَادَّةِ الحَسَدِ وَالحِقْدِ وَالبُغْضِ أَوْ قَطْعِهَا كُلِّيًا. 9- تَحْصِينُ الْمَالِ وَحِفْظِهِ لِحَدِيثِ: «حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بَالزَّكَاةِ» . 10- إِنَّ الصَّدَقَةَ دَوَاءٌ مِنْ الأَمْرَاضِ لِحَدِيثِ: «دَاوُو مَرْضَاكُمْ بَالصَّدَقَةِ» .

11- الاتِّصَافِ بَأَوْصَافِ الكُرَمَاءِ. 12- إِنَّهَا سَبَبٌ لِدَفْعِ البَلاءَ. 13- التَّمَرُّنِ عَلى البَذْلِ والعَطَاءِ. 14- أَنَّهَا سَبَبٌ لِدَفْعِ جَمِيعِ الأَسْقَامِ لِحَدِيثِ: «بَاكِرُوا بالصَّدَقَةِ فَإِنَّ البَلاءَ لا يَتَخَطَّاهَا» . 15- أَنَّهَا سَبَبٌ لِجَلْبِ الْمَوَدَّةِ لأنَّهَا إِحْسَانٌ، وَالنُّفُوسُ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا. 16- أَنَّهَا سَبَبٌ لِلدُّعَاءِ مِنْ القَابِضِ لِلدَّافِعِ وَتَقَدَّمَتْ الأَدِلَّةُ. 17- أَنَّ مَنْعَ الزَّكَاةِ سَبَبٌ لِمَنْعِ القَطْرِ لِحَدِيثِ: «وَلا مَنَعُوا الزَّكَاةَ إِلا حٌبِسَ عَنْهُمْ القَطْرُ» . 19- الفَوْزُ بَالْمَطْلُوبِ وَالنَّجَاةِ مِنْ الْمَرْهُوبِ، قَالَ اللهُ تَعَالى: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وَقَدْ فُسِّرَ الفَلاحَ بِأَنَّهُ الفَوْزُ بَالْمَطْلُوبِ وَالنَّجَاةُ مِنْ الْمَرْهُوبِ وَهَذَا مِنْ جَوَامِعِ الكَلِمْ. 20- أَنَّهَا تَدْفَعُ مَيْتَةَ السَّوءِ كَمَا فِي الحَدِيثِ: «إِنَّ الصَّدَقَةَ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ وَتَدْفَعُ مِيْتَةَ السُّوءِ» . 21- أَنَّ الْمُتَصَدِّقَ يَكُونُ فِي ظَلِّ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ كَمَا فِي الحَدِيثِ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ وَذَكَرَ مِنْهُمْ َرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ» . الحَدِيثِ وَتَقَدَّمَ، وِفِي الحَدِيثِ الآخَرِ: «وَإِنَّمَا يَسْتَظِلُّ الْمُؤْمِنُ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ» . 22- الفَوْزُ بالثَّنَاءِ مِنْ اللهِ لأنَّ اللهَ مَدَحَ الْمُنْفِقِينَ وَالْمُتَصَدِّقِينَ.

23، 24، 25 - الفَوْزَ بالأَجْرِ مِنْ اللهِ وَالأَمْنِ مِمَّا يُخَافُ مِنْهُ وَنَفْي الحَزَنَ عَنًهُمْ قَالَ اللهُ تَعَالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} . 26- أَنَّ أَدَاءَ الزَّكَاةِ سَبَبٌ لِنُزُولِ القَطْرِ كَمَا أنَّ مَنْعَهَا سَبَبٌ لِحَبْسِهِ. 27- أَنَّهَا سَبَبٌ لِمَحَبَّةِ اللهِ لأنَّ الْمُتَصَدِّقَ مُحْسِنٌ عَلَى الْمُتَصَدِّقِ عَلَيْهِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. اللَّهُمَّ نَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنْ النَّارِ وَعَافِنَا مِنْ دَارِ الخِزْيِ وَالبَوَادِ، وَأَدْخِلْنَا بِفَضْلِكَ الجَنَّةِ دَارَ القَرَارِ، وَعَامِلْنَا بِكَرَمِكَ وَجُودِكَ يَا كِرِيمُ يَا غَفَّارُ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) : 28- السَّلامَةُ مِنْ كُفْرِ نِعْمَةِ اللهِ. 29- الخُرُوجُ مِنْ حُقُوقِ اللهِ وَحُقُوقِ الضُّعَفَاءِ. 30، 31، 32- أَنَّهَا سَبَبٌ لِلرِّزْقِ وَالنَّصْرِ كَمَا فِي الحَدِيثِ: «وَكَثْرَةُ الصَّدَقَةِ فِي السِّرِّ وَالعَلانِيَةِ تُرْزَقُوا وَتُنْصَرُوا وَتُجْبَرُوا» . 33- أَنَّهَا تُطْفِئُ عَنْ أَهْلِهَا حَرَّ القُبُورِ كَمَا فِي الحَدِيثِ: «إِنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ عَنْ أَهْلِهَا حَرَّ القُبُورِ» . 34- أَنَّهَا تَزِيدُ فِي العُمْرِ كَمَا فِي الحَدِيثِ: «أَنَّ صَدَقَةَ الْمُسْلِمِ تَزِيدُ فِي العُمْرِ» . 35- السَّلامَةُ مِنْ الَّلعْنِ الوَارِدِ فِي مَانِعِ الزَّكَاةِ لِمَا رَوَى الأَصْبَهَانِي عَنْ عَلَيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (لَعَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ

الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَهُ وَكَاتِبَهُ، وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ، وَمَانِعَ الصَّدَقَةِ وَالْمُحَلِّلَ وَالمُحَلَّلَ لَهُ) . 36- الفَوزُ بالقُرْبِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ قَالَ تَعَالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} . وَقَالَ: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} الآيَةِ. 37- الوَعْدُ بَالخَلَفِ لِلْمُنْفِقِ لِحَدِيثُ: «اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا» . 38- الظَّفَرُ بِدُعَاءِ الْمَلائِكَةِ لِلْمُنْفِقِ. 39- أَنَّ فِي إخْرَاجِ الزَّكَاةِ حَلٌّ لِلأَزَمَاتِ الاقْتِصَادِيَّةِ وَسُوءِ الحَالَةِ الاجْتَمَاعِيَّةِ فَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الأَمْوَالِ الزَّكَويَّةِ تَنَسَّخُوا مِنْهَا وَوَضَعُوهَا فِي مَوَاضِعِهَا لَقَامَتْ الْمَصَالِحُ الدِّينِيَّةِ والدُّنْيَوِيَّةِ وَزَالَتْ الضَّرورَاتِ وَانْدَفَعَتْ شُرُورُ الفُقُرَاءِ وَكَانَ ذَلِكَ أَعْظَمُ حَاجِزِ وَسَدّ يَمْنَعُ عَبَثَ الْمُفْسِدِينَ، وَفِي الْحَدِيثِ: «وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَمَلَهُم عَلى أَنْ سَفُكُوا دِمَاءَهُم وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ» . 40- أَنَّ اللهَ يُعِينُ الْمُتَصَدِّقَ عَلَى الطَّاعَةِ وَيُهَيِّئْ لَهُ طَرِيقُ السَّدَادِ وَالرَّشَادِ وَيُذَلِّلُ لَهُ سُبُلَ السَّعَادَةِ قَالَ اللهُ تَعَالى: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} . 41- أَنَّ مَنْعَ الزَّكَاةِ يُخَبِّثُ الْمَالَ الطَّيِّبَ لِحَدِيثِ: «مَنْ كَسَبَ طَيِّبًا خَبَّثَهُ مَنْعُ الزَّكَاةِ، وَمَنْ كَسَبَ خَبِيثًا لَمْ تُطَيِّبْهُ الزَّكَاةُ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِي في الكَبِيرِ مَوْقُوفًا بِإسْنَادٍ مُنْقَطِعٍ. 42- أَنَّ مَنْعَ الزَّكَاةِ سَبَبٌ لِتَلَفِ الْمَالِ لِحَدِيثِ: «مَا تَلِفَ مَالٌ فِي بَرٍّ

وَلا بَحْرٍ إلا بَحَبْسِ الزَّكَاةِ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِي فِي الأَوْسَطِ وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ. 43- أَنَّ مَنْعَ الزَّكَاةِ سَبَبٌ لِلابْتِلاءِ بِالسِّنِينَ لِمَا فِي الحَدِيثِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مَنَعَ قُوْمٌ الزَّكَاةَ إلا ابْتَلاهُم اللهُ بالسِّنِينَ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِي فِي الأَوْسَطِ وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ. 44- أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤَدِّي حَقَّ اللهِ فِي مَالِهِ أَنَّهُ أَحَدُ الثَّلاثَةِ الذين هُمْ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عُرِضَ عَلَيَّ أَوَّلُ ثَلاثَةٍ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ: فَالشَّهِيدُ، وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَنَصَحَ لِسَيِّدِهِ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ، وَأَمَّا أَوَّلُ ثَلاثَةٍ يَدْخُلُونَ النَّارَ: فَأَمِيرٌ مُسَلِّطٌ، وَذُو ثَرْوَةٍ مِنْ مَالٍ لا يُؤَدِّي حَقَّ اللهِ فِي مَالِهِ، وَفَقِيرٌ فَخُورٌ» . رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ، وَابْنُ حِبَّانَ مُفَرَّقًا فِي مَوْضِعِينِ. 45، 46- أَنَّ الصَّدَقَةَ يُذْهِبُ اللهُ بِهَا الكِبْرَ وَالْفَخْرَ لِحَدِيثِ: «إِنَّ صَدَقَةَ الْمُسْلِمِ تَزِيدُ فِي العُمْرِ وَتَمْنَعُ مَيْتَةَ السُّوءِ وَيَذْهَبُ بِهَا الكِبْرُ وَالفَخْرُ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِي. 47- السَّلامَةُ مِنْ التَّطْوِيقِ بِالشُّجَاعِ الأَقْرَعِ كَمَا في الحَدِيثِ: «مَا مِنْ أَحَدٍ لا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ إِلا مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَطَوَّقُ بِهِ عُنُقَهُ» . 48- السَّلامَةُ مِنْ صِفَةِ الْمُنَافِقِيَن لِمَا فِي الحَدِيثِ: «ظَهَرَتْ لَهُمْ الصَّلاةُ فَقَبِلُوهَا، وَخَفِيَتْ لَهُمْ الزَّكَاةُ فَأَكَلُوهَا أُولَئِكَ هُمْ الْمُنَافِقُونَ» . رَوَاهُ البَزارُ. 49، 50- «إِنَّ البَلاءَ لا يَتَخَطَّى الصَّدَقَةَ وَأَنَّهَا تَسُدُّ سَبْعِينَ بَابًا مِنْ

السُّوءِ» . رَوَاهُ الطَّبَرانِي فِي الكَبِيرِ، وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بَاكِرُوا بِالصَّدَقَةِ فَإِنَّ الْبَلاَءَ لاَ يَتَخَطَّاها» . رَوَاهُ الْبَيْهَقِي مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا عَلَى أَنَسٍ وَلَعَلَّهُ أَشْبَهُ. 51- أَنَّ الصَّدَقَةَ حِجَابٌ مِنْ النَّارِ لِمَنْ احْتَسَبَهَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ سَعْدٍ أَنَّها قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ أَفْتِنَا عَنْ الصَّدَقَةِ فَقَالَ: «إِنَّهَا حِجَابٌ مِنْ النَّارِ لِمَنْ احْتَسَبَهَا يَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِي. 52- أَنَّ إخْرِاجَ الصَّدَقَةِ يُؤْلِمُ سَبْعِينَ شِيْطَانًا، لِمَا وَرَدَ عَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يُخْرِجُ شَيْئًا مِنْ الصَّدَقَةِ حَتَّى يَفُكَّ عَنْهَا لِحْيَيْ سَبْعِينَ شَيْطَانًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِي، وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ. 53- أَنَّ اللهَ يُسَخِّرُ لِلْمُتَصَدِّقِ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِنُمُوِّ مَالِهِ كَبَرَكَةٍ فِي ظَماءِ نَهْرٍ وَسَقْيِ أَرْضٍ، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَا رَجُلٌ فِي فَلاَةٍ مِنْ الأَرْضِ فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابٍة: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاج قَدْ اسْتَوْعَبَتِ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ فَإِذَا رَجُلٍ قَائِمٍ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمَسْحَاتِهِ فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: فُلاَنٍ للإسْمِ الذي سَمِعْ فِي السَّحَابَةِ فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنْ اسْمِي؟ قال: سَمِعْتُ فِي السَحَابِ الذي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ لاسْمِكَ فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا؟ قَالَ: أَمَّا إِذَ قُلْتَ فَإِنِّي أنْظُرُ إلى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَأتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلثَه، وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلَثهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

54- أَنَّ الصَّدَقَةَ لا تُنْقِصُ الْمَالَ خِلافًا لِمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ الجُهَّالِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ» . الحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 55- أَنَّ الصَّدَقَةَ إِذَا كَانَتْ مِنْ كَسْبِ طَيِّبِ فَإِنَّ اللهَ يَقْبَلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَرُبُّهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلا يَقْبَلُ اللهُ إِلا الطَّيبَ فَإِنَّ اللهَ يَقْبَلها بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكم فُلُوِّه حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 56- أَنَّ الصَّدَقَةَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْمَعِيَّةِ الخَاصَّةِ لأَنَّ الْمُتَصَدِّقَ مُحْسِنٌ وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالى: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} . 57- أَنَّ الْمُصَّدِقِينَ يُضَاعِفُ اللهُ لَهم ثَوَابَ أَعْمَالِهم الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلى سَبْعِمائةِ ضِعْفٍ إِلى حَيْثُ شَاءَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ تَعَالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} . 58- «أَنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ وَتَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ» . رَوَاهُ التِّرمذي، وابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَقَالَ التِّرمِذِي: حَسَنٌ غَرِيبٌ. 59- أَنَّ بِإخْرَاجِ الزَّكَاةِ كُلَّ سَنَةٍ يَرَى الفُقَرَاءُ أَنَّ الأَغْنِيَاء لَهُمْ فَضْلٌ عَلَيْهِمْ فَيُدَافِعُونَ عَنْهُمْ مَا اسْتَطَاعُوا أَمَّا كَفُّ اليَدِ عَنْهُمْ وَمَنْعُ مَعْرُوفِهِمْ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِمْ فَإِنَّهُ يُوغِرُ صُدُورَهُمْ وَيَمْلَؤُهَا حِقْدًا عَلَيْهِمْ وَيَجْتَهِدُونَ فِي سَلْبِ حَيَاتِهِمْ لِلْوُصُولِ إِلى أَمْوَالِهِمْ الْمَخْوُزْنَةِ فَتَكُونُ الحَيَاةُ مُهَدَّدَةٌ وَالأَمْنُ مَفْقُودًا.

موعظة بليغة في التحذير عن المعاصي …

60- أَنَّ مَنْعَ الصَّدَقَاتِ يُزِيلُ النِّعَمَ وَيُخَرِّبُ الدِّيَارَ العَامِرَةَ وَتَأَمَّلْ قِصَّةَ أَصْحَابِ الجَنَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي سُورَةِ نُ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ قَالَ تَعَالى: {فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ * فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ} . إِلى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} . وَتَأَمَّلْ قِصَّةَ ثَعْلَبَةَ في سُورَةِ التَّوْبَةِ قَالَ تَعَالى: {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} . وَاللهُ أَعْلَم وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ. (13) موعظة عِبَادَ اللهِ إِنَّ الْمُؤْمِنَ باللهِ حَقًّا يَبْتَعِدُ عَنْ الْمَعَاصِي كَمَا يَبْتَعِدُ عَنْ النَّارِ فَإِذَا زَلَّ مَرَّةً مِنَ الْمَرَّاتِ اضْطَرَبَتْ أَعْصَابُهُ وَجَعَلَ قَلْبُهُ يَخْفِقُ وَأَصَابَهُ نَدَمٌ عَظِيمٌ وَكُلَّمَا تَذَكَّرَ تِلْكَ الهَفْوَةِ احْمَرَّ وَجْهُهُ خَجَلاً وَهَاجَتْ عَلَيْهِ أَحْزَانُهُ وَتَذَكَّرَ عِصْيَانَهُ لِسَيِّدِهِ وَمَوْلاهُ وَلا يَزَالُ مُوجَعَ القَلْبِ مِنْكَسِرُهُ حَتَّى يُفَارِقُ الدُّنْيَا وَيُوَارَى في التُّرَابِ. هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عَنْ الْمُؤْمِنِ، وَلا يُعْرَفُ سِوَاهُ فِي أَهْلِ الإِيمَانِ لأَنَّهم يُدْرِكُونَ تَمَامًا أَنَّهُم إِنْ عَصَوا خَالِقَهُم وَرَازِقَهُم أَنَّهُم سَيَنْدَمُونَ وَيُعَاقَبُونَ إِنْ لَمْ يَتُوبُوا إِلى مَوْلاهُمْ، هَذَا مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ، وَانْظُرْ مَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ النَّاسِ اليَوْمَ فِي هَذَا العَصْرِ الْمُظْلِمِ مِنْ الجُرْأَةِ عَلَى انْتِهَاكِ مَحَارِمِ اللهِ تَتَمَثَّلُ أَمَامَكَ حَالُهُم بِحَالَةِ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِثَوَابٍ وَلا عِقَابٍ تَرَاهُمْ قَدْ أَضَاعُوا الصَّلاةِ، وَأَصَرُّوا عَلَى مَنْعِ الزَّكَاةِ إِلا النَّوَادِرَ مِنْهُمْ، تَرَاهُم يُطَارِدُونَ النِّسَاءَ فِي الأَسْوَاقِ، وَيَشْرَبُونَ الدُّخَانَ عَلنًا

وَيَحْلِقُونَ اللحَى، كَذَلِكَ وَيَغُشُّونَ فِي مُعَامَلاتِهم، تَرَاهُمْ أَمَامَ الْمَلاهِي وَالْمُنْكَرَاتِ لِيلاً وَنَهَارًا، تَرَاهُمْ يُوَالُونَ أَعْدَاءَ اللهِ وَيُعَظِّمُونَهُمْ، تَرَاهُمْ لَمْ يَكْتَفُوا بالْمَعَاصِي فِي بِلادِهِم بَلْ يَذْهَبُونَ إلى البِلادِ الأُخْرَى، بِلادِ الفِسْقِ وَالفُجُورِ وَالحُرِّيَةِ وَيُنْفِقُونَ فِيهَا الأَمْوَالَ الطَّائِلَةَ فِي مَا يُغْضِبُ اللهَ الذي أَغْنَى وَأَقْنَى وَلَكِنْ لِيَعْلَمْ هَؤُلاءِ الفَسَقَةُ أَنَّ اللهَ لا يَغْفَلُ عَنْ أَعْمَالِهِم السَّيِّئَةِ وَسَوْفَ تَشْهَدُ عَلَيْهِم بِهَا الأَرْضُ وَالسَّمَاوَاتِ، وَلا تَبْكِي عَلَيْهِمْ لا هَذِهِ وَلا هَذِهِ يَوْمَ يَتَجَرَّعُونَ كَأْسَ الْمَمَاتِ، وَيَشْهَدُ بِهَا عَلَيْهِمْ الْمَلَكَانِ كَاتِبُ الحَسَنَاتِ، وَكَاتِبُ السَّيِّئَاتِ، وَيَشْهَدُ بِهَا عَلَيْهِمْ الحَفَظَةَ الذينَ يَتَعَاقَبُونَ عَلَى حِفْظِهِمْ تَعَاقُبَ الحُرَّاسِ وَيَشْهَدُ بِهَا عَلَيْهِمْ جَوَارِحُهُمْ التي بَاشَرَتْ فِعْلَ الْمَعَاصِي وَيَشْهَدُ بِهَا خَيْرُ شَاهِدٍ وَهُوَ مَوْلاهُمْ جَلَّ وَعَلا الذي تَسْتَرِي الشَّهَادَةُ عِنْدَهُ وَالغُيُوبُ، وَيَشْهَدُ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ كُتُبُ أَعْمَالِهِمْ التي كُلُّ مَا فَعَلُوا بِهَا مَكْتُوبٌ حَتَّى إِذَا رَأَوْهَا يَوْمَ القِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي حِسَابٍ فَزِعُوا وَقَالُوا: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} ، كُلُّ هَؤُلاءِ يَشْهَدُونَ عَلَى العَاصِينَ بالْمَعَاصِي فَيُسَجِّلُونَ عَلَيْهِمْ مَا قَدَّمَتْهُ أَيْدِيهِمْ وَلَيْسَ لِذَلِكَ نَتِيجَةٌ إِنْ لَمْ يَتُوبُوا إِلا غَضَبُ الرَّبِّ عَلَيْهِمْ، وَإلْقَاؤُهُمْ في دَارِ المُجْرِمِينَ الجَانِينَ جَهَنَّمَ، وَإِذَا كَانَ الأَمْرُ هَكَذَا فَلِمَاذَا يَفْرَحُ العُصَاةُ، وَمِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ التِي لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ. التِي تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ. شِعْرًا: وَلَم يَمرُر بِهِ يَومٌ فَظيعٌ ... أَشَدُّ عَلَيهِ مِن يَومِ الحِمامِ وَلَم يَمرُر بِهِ يَومٌ فَظيعٌ ... أَشَدُّ عَلَيهِ مِن يَومِ الحِمامِ وَيَومُ الحَشرِ أَفظَعُ مِنهُ هَولاً ... إِذا وَقَفَ الخَلائِقُ بِالمَقامِ فَكَم مِن ظالِمٍ يَبقى ذَليلاً ... وَمَظلومٍ تَشَمَّرَ لِلخِصامِ وَشَخصٍ كانَ في الدُّنْيَا فَقيراً ... تَبَوَّأَ مَنزِلَ النُجبِ الكِرامِ

فصل في البشارة في دخول شهر رمضان

وَعَفوُ اللَهِ أَوسَعُ كُلّ شَيءٍ ... تَعالى اللَهُ خَلاقُ الأَنامِ آخر: وَكَيْفَ قَرَّتْ لأهْلِ العِلْمِ أَعْيُنُهُمْ أَوْ اسَتَلَذُّوا لِذِيذَ النَّوْمِ أَوْ هَجَعُوا وَالمَوْتُ يُنْذِرُهُمْ جَهْرًا عَلانِيَةً لَوْ كَانِ لِلْقَوْمِ أَسْمَاعٌ لَقَدْ سَمِعُوا وَالنَّارُ ضَاحِيَةٌ لا بُدَّ مَوْرِدُهُمْ وَلَيْسَ يَدْرُونَ مَنْ يَنْجُو وَمَنْ يَقَعُ آخر: وَكَيْفَ يَلَذُّ العَيْشَ مَنْ كَانَ مُوقِنًا بَأَنَّ الْمَنَايَا بَغْتَةً سَتُعَاجِلُهْ وَكَيْفَ يَلَذُّ العَيْشَ مَنْ كَانَ مُوقِنًا بَأَنْ إِلهَ الخَلْقِ لا بُدَّ سَائِلُهْ نَسْأَلُ اللهَ تَعَالى النَّجَاةَ مِنْهَا وَأَنْ يُوَفِّقْنَا لِلأَعْمَالِ الْمؤَهِّلَةِ لِدَارِ الخُلْدِ وَأَنْ يُوَفقَ وُلاتَنَا لِلْقِيَامِ عَلَى هَؤُلاءِ المُجْرِمينِ، وَرَدْعِهِمْ وَإِلْزَامِهِمْ سُلُوكَ طُرِقِ الحَقِّ إِنَّهُ القَادِرُ عَلَى ذَلِكَ. اللَّهُمَّ اجْعَلْ في قُلُوبِنَا نُورًا نَهْتَدِي بِهِ إِلَيْكَ وَتَوَلَّنَا بِحُسْنِ رِعَايَتِكَ حَتَّى نَتَوَكَلَ عَلَيْكَ وَارْزُقْنَا حَلاوَةَ التَّذَلُّلَ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. الفَصْلُ الأَوَّلُ شَهْرُ رَمَضَانَ 1- دَرْسُ اليَوْمِ الأَوَّلِ: يَقُولُ اللهُ تَعَالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: يَقُولُ اللهُ تَعَالَى مُخَاطِبًا الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَآمِرًا لَهُمْ بِالصِّيَامِ وَهُوَ الإِمْسَاكُ عَنْ الطَّعَامِ، وَالشَّرَابِ، وَالوِقَاعِ، بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ للهِ عَزَّ وَجَلَّ لِمَا فِيهِ مِنْ زَكَاةِ النُّفُوسِ وَطَهَارَتِهَا وَتَنْقِيَتِهَا مِنْ الأَخْلاطِ الرَّدِيئَةِ وَالأَخْلاقِ الرَّّّذِيلَةِ وَذَكَرَ أَنَّهُ كَمَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ فَقَدْ أَوْجَبَهُ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَهِمْ فَلَهُم فِيهِمْ أُسْوَةٌ وَلِيَجْتَهِدَ هَؤُلاءِ فِي أَدَاءِ هَذَا الفَرْضِ أَكْمَلَ مِمَّا فَعَلَهُ أُولئِكَ. (انْتَهَى كَلامُهُ رَحِمَهُ اللهِ) . وَقَدْ وَرَدَتْ فِي فَضْلِهِ، وَمُضَاعَفَةِ أَجْرِهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ: رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالنِّسَائِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَشِّرُ أَصْحَابَهُ بِقُدومِ شَهْرِ رَمَضَانَ فَيَقُولُ: «جَاءَكُمْ شَهْرُ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ فِيهِ تُفْتَحُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينِ، وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ» . وَقَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: (هَذَا الحَدِيثُ أَصْلٌ فِي تَهْنِئَةِ النَّاسِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا بِشَهْرِ رَمَضَانَ) . وَفِي الحَدِيثِ الآخَرِ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي رَمَضَانَ لَتَمَنَّتُ أُمَّتِي أَنْ يَكُونَ رَمَضَانُ السَّنَةَ كُلَّهَا» . وَعَنْ عُبَادَةَ مَرْفُوعًا:

«أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرُ بَرَكَةٍ، يغْشَاكُمْ اللهُ فِيهِ، فَيُنْزِلُ الرَّحْمَةُ، وَيَحُطُّ الخَطَايَا، وَيَسْتَجِيبُ فِيهِ الدُّعاءَ، يَنْظُرُ اللهُ إِلى تَنَافُسِكُمْ فِيهِ، وَيُبَاهِي بِكُمْ مَلائِكَتَهُ، فَأَرُوا اللهَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خَيْرًا، فَإِنَّ الشَّقِي مَنْ حُرِمَ فِيهِ رَحْمَةً اللهِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ» . ولمسلم: «فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ» . وَفِي الصَّحِيحيْنِ عَنْ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ لاَ يَدْخُلُ مِنْهُ غَيْرُهُمْ» . وفي رواية: «فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ البَابُ» . وفي رواية: «من َدَخَلَ مِنْهُ شَرِبَ وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا» . ولمسلم أيضًا: عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مرفوعًا: «إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَأغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ» . وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النّيران،ِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ. وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ» . وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ» .

وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ثَلاَثَةٌ لاَ تُرَدُّ دَعْوَتُهُمُ: الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَالإِمَامُ الْعَادِلُ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ يَرْفَعُهَا اللَّهُ فَوْقَ الْغَمَامِ، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ: وَعِزَّتِي وَجَلالِي لأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذي وَحَسَنٌهُ، وابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ. اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِصَالِحِ الأَعْمَالَ، وَنَجِّنَا مِنْ جَمِيعِ الأَهْوَالِ، وَأَمَنّا مِنَ الفَزَع الأَكْبَر يومَ الرجْفِ والزلْزَالْ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. (فصل) وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أُعْطِيتْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ في رَمَضَانَ لَمْ تُعْطَهَا أُمَّةٌ قَبْلَهُمْ: خُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَتَسْتَغْفِرُ لَهُمْ الحِيتَانُ حَتَّى يُفْطِرُوا، وَيُزَيِّنُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ كُلَّ يَوْمٍ جَنَّتَهُ، ثُمَّ يَقُولُ: يُوشِكُ عِبَادِي الصَّالِحُونَ أَنْ يُلْقُوا عَنْهُمْ الْمُئْوَنَةَ، وَيَصِيرُوا إِلَيْكِ، وَتُصْفَدُ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينَ فلا يَخْلُصُوا فِيهِ إِلى مَا كَانُوا يَخْلصُونَ إِلْيهِ فِي غَيْرِهِ، وَيَغْفِرُ لَهُمْ في آخِر لَيْلَةٍ» . قِيلَ: يَا رَسُولُ اللَّهِ أَهِي لَيْلَةُ القَدْرِ؟ قَالَ: «لا، وَلَكِنَّ العَامِلَ إِنَّمَا يُوَفَّى أَجْرُهُ إِذَا قَضَى عَمَلَهُ» . وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - صَعِدْ الْمَنْبَرَ، فَقَالَ: «آمِينَ، آمينَ، آمِينَ» . قِيلَ يَا رَسُولُ اللهِ: إِنَّكَ صَعِدْتَ الْمِنْبَرَ فَقُلْتَ: «آمِينَ، آمينَ، آمِينَ» ، فَقَالَ: «إِنَّ جَبْرَيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ أَتَانِي فَقَالَ: مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهْ، فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ اللهُ قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ» . الحَدِيثِ.

وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَظَلَّكُم شَهْرُكُمْ هَذَا، بِمَحْلُوفِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مَرَّ بَالْمُسْلِمِينَ شَهْرٌ خَيْرُ لَهُمْ مِنْهُ، وَلا مَرَّ بِالْمُنَافِقِينَ شَهْرُ شَرٍّ لَهُمْ مِنْهُ بِمَحْلُوفِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّ اللهَ لَيَكْتُبُ أَجْرَهُ وَنَوَافِلَهُ قِبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُ، وَيَكْتُبُ إِصْرَهُ وَشَقَاءَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يُعِدُّ فِيهِ القُوتَ وَالنَّفَقَةَ لِلْعِبَادَةِ، وَيَعُدُّ فِيهِ الْمُنَافِقُ أتبَاعَ غَفَلاتٍ الْمُؤمِنِينَ وإتِّبَاعَ عَوْرَاتِهِم، فَغُنْمٌ يَغْنَمُهُ الْمُؤْمِنُ» . وَقَالَ بَنْدَارُ فِي حَدِيثِهِ: «فَهُوَ غُنْمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغْتَنِمُهُ الفَاجِرُ» . رَوَاهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرِهِ. وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو بِبُلُوغِ رَمَضَانَ، فَكَانَ إذَا دَخَلَ شَهْرُ رَجَبٍ قَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي رَجَبٍ وَشَعْبَانَ وَبَلِّغْنَا رَمَضَانَ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِي وَغَيْرُهُ. وَقَالَ عَبْدُ العَزِيزِ بن مَرَوَانَ: (كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَ عِنْدَ حُضُورِ شَهْرِ رَمَضَانَ: اللَّهُمَّ قَدْ أَظَلَّنَا شَهْرُ رَمَضَانَ وَحَضرَ فَسَلِّمْهُ لَنَا وَسَلِّمْنَا لَهُ، وَارْزُقْنَا صِيَامَهُ وَقِيامَهُ، وَارْزُقْنَا فِيهِ الجِدَّ وَالاجْتِهَادَ وَالنَّشَاطَ، وَأَعِذْْنَا فِيهِ مِنْ الفِتَنِ» . وَقَالَ مُعَلَّى بْنِ الفَضْلِ: كَانُوا يَدْعُونَ الله سِتَّةَ أَشْهُرِ أَنْ يُبَلِّغَهُمْ رَمَضَانُ، ثُمَّ يَدْعُونَهُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَنْ يَتَقَبَّلَهُ مِنْهُمْ. وَقَالَ يَحْيَى بِنْ أَبِي كَثِيرِ كَانَ مِنْ دُعَائِهِمْ: (اللَّهُمَّ سَلِّمْنِي إلى رَمَضَانَ وَسَلِّمْ لِي رَمَضَانُ وَتَسَلَّمْهُ مِنّي مُتَقَبَّلاً) . اللَّهُمَّ يَا مَنْ فَتَحَ بَابَهُ للطَّالِبَيْنَ، وَأَظْهَرَ غِنَاهُ لِلرَّاغِبينَ نَسْأَلُكَ أَنْ تَسْلَكَ بِنَا سَبِيلَ عِبَادِكَ الصَّادِقِينَ، وَأَنْ تَلْحِقَنَا بِعبَادِكَ الصَّالِحِينَ، اللَّهُمَّ أُحْيِ قُلُوبًا أَمَاتَهَا البُعْدُ عَنْ بَابِكَ، وَلا تَعذِّبْهَا بَأَلِيمٍ عِقَابِكَ، يَا كَرِيمُ يَا مَنَّانُ، يَا مَنْ جَادَ عَلَى

عِبَادِهِ بالأنْعَامِ وَالأفضَالِ، اللَّهُمَّ أَيْقِظْنَا مِنْ غَفْلَتِنَا بُلُطْفِكَ وَإِحْسَانِكَ وَتَجَاوَزْ عَنْ جَرَائِمْنَا بِعَفْوِكَ وَغُفْرَانِكَ، وَارْزُقْنَا مَا رَزَقْتَ أَوْلِيَاءِكَ، مِنْ نَعِيم قُرْبكِ، وَلَذَّةِ مُنَاجَاتِكَ، وَصِدْقِ حُبِّكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. وَخُذْ فِي بَيَانِ الصَّومِ غَيْرُ مُقَصِّرٍ عِبَادَةِ سِرِّ ضِدَّ طَبْعٍ مُعَوَّدِ وَصَبْرُ لِفَقْدِ الإِلْفِ مِنْ حَالَةِ الصِّبَا وَفَطْمٌ عَنْ المَحْبُوبِ وَالْمُتَعَوَّدِ فَثِقْ فِيهِ بَالْوَعْدِ القَدِيمِ مِنْ الذِي لَهُ الصَّوْمُ يُجْزِي غَيْرَ مُخْلِفِ مَوْعِدِ وَحَافِظْ عَلى شَهْرِ الصِّيَامِ فَإِنَّهُ لَخَامِسُ أَرْكَانٍ لِدِينِ مُحَمَّدِ تُغَلِّقُ أَبْوَابُ الجَحِيمِ إِذَا أَتَى وَتُفْتَحُ أَبْوَابُ الجِنَانِ لِعُبَّدِ تُزَخْرَفُ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَحُورُهَا لأَهْلِ الرِّضَا فِيهِ وَأَهْلُ التَّعَبُّدِ وَقَدْ خَصَّهُ اللهُ العَظِيمُ بِلَيْلَةٍ عَلَى أَلْفِ شَهْرٍ فُضِّلَتْ فَلْتُرَصَّدِ فَارْغِمْ بَأنْفِ القَاطِعِ الشَّهْرِ غَافِلاً وَأَعْظِمْ بَأَجْرِ الْمُخْلِصِ الْمُتَعَبِّدِ فَقُمْ لَيْلَةُ وَاطْوِ نَهَارَكَ صَائِمًا وَصُنْ صَوْمَهُ عَنْ كُلِّ مُوْهٍ وَمُفْسِدِ

موعظة بليغة عن كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثرها

اللَّهُمَّ أَهِلَّ شَهْرَنَا عَلَيْنَا بِالسَّلامَةِ وَالإِسْلامِ وَالأَمْنِ وَالإِيمَانِ، وَاغْفِرْ لَنَا كُلَّ قَبِيحٍ سَلَفَ وَكَانَ، وَأَعْتِقْنَا فِيهِ مِنْ لَفَحَاتِ النِّيرَان، وَأَعِنَّا عَلَى الخَيْرِ يَا كَرِيمُ يَا مَنَّانُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. موعظة عِبَادَ اللهِ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِِيحِهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ» . عِبَادَ اللهِ إِنَّ هَذَا الحَدِيثُ عَلَى إِيجَازِهِ لَيَحْتَوِي عَلَى وَصِيَّةٍ ثَمِينَةٍ مِنْ أَبْلَغِ الوَصَايَا وَأَقْيَمِهَا وَأَجَلِّهَا وَأَنْفَعِهَا فَقَدْ اشْتَمَلَ عَلى الأَمْرِ بِحِفْظِ عُضْوَينِ عَلَيْهِمَا مَدَارٌ عَظِيمٌ حَقِيقِينَ بِتَعَاهُدِهمَا بالرِّعَايَةِ وَالاسْتِقَامَةِ وَالرَّقَابَةِ وَالصِّيَانَةِ أَلا وَهمَا: اللسَانُ، وَالفَرْجُ، وَلا شَكَّ أَنَّهُمَا إِنْ أُطْلِقَ سَرَاحُهُمَا فِي الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَاتِ وَطُرُقِ الغَيِّ وَالفَسَادِ كَانَا أَصْلاً لِلْبَلاءِ وَالفِتْنَةِ وَالشِّرِّ وَالَهَلاكِ وَالدَّمَارِ. وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ وُقِيَ شَرَّ قَبْقَبِهِ وَذَبْذَبِهِ وَلَقْلَقِهِ فَقَدْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» . الحَدِيثِ أَخْرَجَهُ مَنْصُورُ الدَّيْلَمِي مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَالقَبْقَبُ: البَطْنُ. والذَّبْذَبُ: الفَرْجُ. وَاللقْلَقُ: اللسَانُ. فَهَذِهِ الشَّهَواتِ بِهَا يَهْلَكُ أَكْثَرُ الخَلْقِ وَسُئِلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّارَ فَقَالَ: «الأَجْوَفَانِ: الفَمَّ، وَالفَرْجُ» . فَالْعَاقِلُ مَنْ يُبْصِرُ مَوَاقِعَ الكَلامِ وَيَحْفَظُ لِسَانَهُ مِنْ الفُضُولِ وَالْهَذَيَانِ وَلا يَتَعَدَّى بِفَرْجِهِ زَوْجَتَهُ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينَهُ. شِعْرًا: إِذَا مَا أَرَدْتَ النُّطْقَ فَانْطِقْ بِحِكْمَةٍ ... وَزِنْ قَبْلَ نُطْقَ مَا تَقُولُ وَقَوِّمِ

فَمَنْ لَمْ يَزِنَ ما قال لا عَقْل عِنْدهُ ... وَنُطْقٌ بِوَزْنٍ كَالبِنَاءِ المُحَكَّمِ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ طُرْقَ المقالِ حَمِيدَةً ... تَجَمَّلْ بحُسْنِ الصَّمْتِ تُحْمَد وتَسْلَمِ فَكَمْ صَامِتًا يَلْقَى المَحَامِدَ دَائِمًا ... وَكَمْ نَاطِقٍ يَجْنِي ثِمارَ التَّنَدُّمِ وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» إِذَا فَهِمْتَ ذَلِكَ فَاْعْلَمْ أَنَّ زَلاتِ اللسَانِ عَظِيمَةٌ فَزَلَّةٌ مِنْ زَلاتِهِ قَدْ تُؤَدِّي بِالإنْسَانِ إلَى الهَلاكِ وَالعَطَبِ وَمُفَارَقَةِ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَأَصْدِقَائِهِ وَجِيرَانِهِ فَلْيَحْذَرْ الإِنْسَانُ مِمَّا يَجْرِي بِهِ لِسَانُهُ. قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ وَلا يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ» . الحَدِيثِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مَرْفُوعًا إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ أصبحت الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُذَكِّرُ اللِّسَانَ أَيْ تَقُولُ: اتَّقِ اللهِ فِينَا فَإِنَّكَ إِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإْن اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا» ، وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بَنْ الخطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى أَبا بَكْرٍ الصِّديقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ يَمُدُّ لِسَانَهُ بِيَدِهِ فَقَال لَهُ: مَا تَصْنَعُ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: هَذَا أَوْرَدَنِي المَوَارِدَ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ شَيءٌ مِنْ الجَسَدِ إلا يَشْكو إلى اللهِ اللِسَانَ عَلَى حِدَّتِهِ» . وَعَنْ ابنِ مَسْعُودٍ أَنَّه كَانَ عَلى الصَّفَا يُلَبِّي وَيَقُولُ: يَا لِسَانُ قُلْ خَيْرًا تَغْنَمْ وَاسْكُتْ عَنْ شَرٍّ تَسْلَمُ مِنْ قَبْلِ أنْ تَنْدَمَ فَقِيلَ: يَا أَبَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَهَذَا شَيءٌ تَقُولُه أَوْ شَيءٌ سَمِعْتَهُ فَقَالَ لا بَلْ شيءٌ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَكْثَرَ خَطَايَا ابْنِ آدَم في لِسَانِهِ» . وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَفَّ لِسَانَهُ سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ مَلَكَ غَضَبَهُ وَقَاهُ اللهُ عَذَابَهُ وَمَنْ اعْتَذَرَ إَلَى اللهِ قَبِلَ اللهُ عُذْرَهُ.

شِعْرًا: وَإِذَا خَشِيتَ مَلامةً مِنْ مَنْظِقٍ ... فاَخْزِنْ لِسَانَكَ في اللَّهَاةِ وَأَطْرِقِ وَاحْفَظْ لِسَانَكَ أَنْ تَقُولَ فَتُبْتَلَى ... إِنَّ البَلاءَ مُوَكَّلٌ بالمَنْطِقِ وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِخْزِنْ لِسَانَكَ إلا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّكَ بِذَلِكَ تَغْلِبُ الشَّيْطَانَ» . وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا رَأَيْتُم المُؤْمِنَ صَمُوتًا وَقُورًا فادْنُوا مِنْهُ فَإْنَّهُ يُلَقَّنُ الحِكْمَةَ» . وَأَخْرَجَهُ ابنُ مَاجَة مِنْ حَدِيثِ خَلادٍ بِلَفْظ: «إِذَا رَأَيْتُم الرَّجُلَ قَدْ أُعْطِيَ زُهْدًا في الدُّنْيَا وَقِلَّةَ مَنْطِقٍ فَاقْتَرِبُوا مِنْهُ فَإِنَّهُ يُلقَّى الحِكْمَةَ» . وَلا تَحْسَبَنَّ حِفْظَ اللِّسَانِ قَاصِراً عَلَى الصَّمْتِ في مَوْضِعِهِ أَوْ الكَلامَ بل يَتَعَدَّى إلَى حِفْظِهِ مِنْ طَعَامٍ مَشْبُوهٍ أَوْ حَرَامٍ وَإنَّ مِنْ المَعْلُومِ أَنَّ اللِّسَانَ هُو الوَسِيلَةُ لِمَضْغِ مَا يَأْكُلُهُ المَرْءُ وَقَذْفِهِ في المَعِدَةِ بَيْتِ الطَّعَامِ وَمُسْتَقَرُّهُ مِنْ الزَّلَلِ وَالحَرَامِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ في عَاقِبَةِ أَمْرَهِ. وَأَمَّا حِفْظُ الفَرْجِ فَبِتَرْكِ التَّعَدِّي عَلَى أَعْرَاضِ النَّاسِ وَحُرُمَاتِهِم وَوَضْعِهِ في الحَلالِ في الطُّرُقِ المَشْرُوعَةِ وَكفِّهِ عَن الزِّنَا وَالحَرَامِ وَالزِّنَا آفةٌ وَبَيْلَةٌ عَلَى المُجْتَمَعِ الإِنْسَانِي وَقَدْ بَيَّنَا مَضَارَّهُ في الجُزْءِ الثَّانِي. واللهُ أَعْلَمُ. عَجِبْتُ لِذي التَّجارِبِ كَيفَ يَسْهُو ... وَيَتْلُو اللَّهوَ بَعْدَ الإحتِباكِ وَمُرْتَهَنُ الفَضائِحِ وَالخَطايا ... يُقَصِّرُ بِاِجتِهادٍ لِلفِكاكِ وَموبِقُ نَفسِهِ كَسَلاً وَجَهَلاً ... وَمورِدُها مَخوفاتِ الهَلاكِ بِتَجديدِ المَآثِمِ كُلَّ يَومٍ ... وَقَصدٍ لِلمُحَرَّمِ بِاِنتِهاكِ سَيَعلَمُ حينَ تَفجُؤُهُ المَنايَا ... وَيَكثُفُ حَولَهُ جَمعُ البَواكي اللَّهُمَّ جُدْ عَلَيْنَا بِكَرمِكَ، وَافض علينا مِن نِعَمِكَ، وَتَغَمَّدْنَا بِرَحْمَتِكَ،

حكم صوم شهر رمضان ومن يجب عليه

وعاملنا بِرأفْتكْ، وَوَفِّقْنَا لِخدْمَتِكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ. اللَّهُمَّ مَكِّنْ حُبَّكَ في قُلُوبِنَا وَأَلْهِمْنَا ذَكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لامْتِثَالِ طَاعَتِكَ وَأَمْرِكَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فصل) 5- لا يَصِحُّ صَوْمُ رَمَضَانَ وَلا غَيْرُهُ مِنَ الصِّيَامِ الوَاجِبِ إلا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ لِكُلِّ يَوْمٍ. 1- حُكْمُ صَوْمِ رَمَضَانَ: صَوْمُ رَمَضَانَ فَرِيضَةً: وَالأصْلُ في فَرِيضَتِهِ: الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَالإِجْمَاعِ. أَمَّا الدَّلِيلُ مِنَ الكِتَابِ فُقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ البَيْتِ» . وَأَمَّا الإِجْمَاعُ، فَأَجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلَى فَرِيضَةِ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ. 2- بَيَانُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ: وَيُفْتَرَضُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ عَاقِلٍ بَالِغٍ قَادِرٍ أَدَاءٌ وَقَضَاءً وَلا يَجِبُ عَلَى كَافَرٍ - سَوَاءٌ كَانَ أَصْلِيًا أًوْ مُرْتَدًا - لإنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ لا تَصِحُّ مِنْهُ في حِالِ كُفْرِهِ، وَلا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} .

ما يثبت به شهر رمضان وما يترتب على ثبوت رؤية الهلال

وَلأنَّ فِي إِيجَابِ قَضَاءِ مَا فَاتَ في حَالِ كُفْرِهِ تَنْفِيرًا عَنِ الإِسْلامِ وَلَوْ أَسْلَمَ فِي أَثْنَائِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ مَا مَضَى مِنْ الأَيَّامِ وَيَصُومُ مَا بَقِيَ مِنَ الشَّهْرِ. وَلِحَدِيثِ ابن مَاجَة في وَفْدِ ثَقِيفٍ: قَدِمُوا عَلَيْهِ في رَمَضَانَ فَضَرَبَ عَلَيْهِمْ قُبَّةٌ بِالمَسْجِدِ. فَلَمَّا أَسْلَمُوا صَامُوا مَا بَقِيَ عَلَيْهِمْ مِنَ الشَّهْرِ، إِذْ أَنَّ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ عِبَادَةٌ مُفْرَدَةٌ. وَلا يَجِبُ الصَّوْمُ عَلَى مَجْنُونٍ، وَلا صَبِيٍّ حَتَّى يَبْلُغَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاثَةٌ: عَنْ الصَّبِي حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يَفِيقَ، وَعَنِ النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظَ» . وَأَمَّا اشْتِرَاطُ القُدْرَةِ عَلَى الصَّوْمِ فَلأَنَّ مَنْ لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِحَالٍ وَهُوَ الكَبِيرُ وَالعَجُوزُ - إَذا كَانَ الصَّوْمُ يُجْهِدُهُمَا وَيَشُقُّ عَلَيْهِمَا مَشَقَّةَ شَدِيدَةً - فَلَهُمَا أَنْ يُفْطِرَا وَيُطْعِمَا لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} : لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ فِي الشَّّّّّيْخِ الكَبِيرِ، وَالمَرْأَةِ الكَبِيرَةِ اللَّذَيْنِ لا يَسْتَطِيعَانِ الصَّوْمِ فَيُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا. وَرُوِيَ أَنَّ أَنس بنْ مَالِكٍ - رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - ضَعُفَ عَنِ الصَّوْمِ فَصَنَعَ جِفْنَةً مِنْ ثَرِيدٍ، فَدَعَا ثَلاثِينَ مِسْكِينًا فَأَطْعَمَهُمْ. وَالمرِيضُ الذي لا يُرْجَى بُرْؤُهُ، حُكْمُهُ حُكْمُ الشَّيْخِ الكَبِيرِ، يُطْعِمُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا. واللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. (فصل) 3- مَا يَثْبُتُ بِهِ الشَّهْرُ: وَيَجِبُ صَوْمُ رَمَضَانَ بِرُؤْيَةِ هِلالِهِ، أَوْ إِكْمَالِ شَعْبَانَ ثَلاثِينَ

لا بد للصوم من النية وحكم صوم التطوع

يَوْمًا وَتَثْبُتْ رُؤْيَةُ هِلالِ رَمَضَانَ بِخَبَرِ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ عَدْلٍ وَلَوْ عَبْدًا أَوْ أُنْثَى. قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} . وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بِنْ عُمَرَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإَذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غَمَّ عَلَيْكُمْ فَاقدُرُوا له» . وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: (تَرَاءى النَّاسُ الهِلالَ فَأَخْبَرْتُ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي رَأَيْتُهُ، فَصَامَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: (إِنَّ أَعْرَابِيًا جَاءَ إِلَى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَال: إِنِّي رَأَيْتُ الهِلالَ، فَقَالَ: «أَتَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ» ؟ قَالَ: نَعَم، قَالَ: «أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ» ؟ قَالَ: نَعَم، قَالَ: «فَأَذِّن فِي النَّاسِ يَا بِلالُ أَنْ يَصُومُوا غَدًا» . وَيُسْتَحَبُّ إِذَا رَأَى الهِلالُ أَنْ يَقُولَ مَا وَرَدَ، وَمِنْهُ حَدِيثُ ابنِ عُمَرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللهَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَى الهِلالَ قَالَ: «اللهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالأَمْنِ وَالإِيمَانِ، وَالسَّلامَةِ وَالإِسْلامِ، وَالتَّوْفِيقِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى» . وَمِنْهُ حَدِيثُ طَلْحَةَ بِن عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، (أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا رَأَى الهِلالَ قَالَ: «اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالأَمْنِ وَالإِيمَانِ، وَالسَّلامَةِ وَالإِسْلامِ، رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ، هِلالٌ رُشْدٍ وَخَيْرٍ» . وَإِنَّ حَالَ دُونَ مَطْلَعِ الهِلالِ لَيْلَةَ الثَّلاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ غَيْمٌ أَوْ قَتَرٌ أَوْ غَيْرُهُمَا، فَإِنَّهُ لا يِجِبُ صَوْمُهُ وَلا يُسْتَحَّبُ، بَلْ المَشْرُوعُ فِطْرُهُ لِمَا وَرَدَ

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأْكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاثِينَ» . وَعَنْ عَمَّارِ بِنْ يَاسِرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: (مَنْ صَامَ اليَوْمَ الذي يَشكُّ فِيهِ فَقَدْ عَصَى أَبَا القَاسِمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . وَعَنْ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنْهُما قَال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ حَالَ بَيْنَكُم وَبَيْنَهُ سَحَابٌ فَكَمِّلُوا العِدَّةِ ثَلاثِين وَلا تَسْتَقْبِلُوا الشَّهْرَ اسْتِقْبالاً» . وَيُسْتَثْنَى القَضَاء، والنَّذُرُ وَالعَادَةُ، فَيَجُوزُ صَوْمُهَا فِيهِ. وَعَنْ أَبي هُرَيْرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلا يَوْمَيْنِ إِلا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمُهُ» . واللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. (فصل) 4- فِيَما يَتَرتَّبُ عَلى ثُبُوتِ رُؤْيَةِ الهِلالِ: وإِذَا ثَبَتَ رُؤْيَةُ هِلالِ رَمَضَانَ بِبَلَدٍ لَزِمَ النَّاسَ كُلَّهُم الصَّوْمُ إِذَا اتَّفَقَتْ المَطَالِعُ لَما رَوَى (كُرَيْبٌ) قالَ: قَدِمْتُ الشَّامَ، وَاسْتَهَلَّ عَليّ رَمَضَانَ وَأَنَا بالشَّام، فَرَأَيْتُ الهِلالَ لَيْلَةَ الجُمُعَةَ، ثَمَّ قَدِمْتُ المَدِينَة في آخر الشَّهْر فَسَأَلَنِي عَبْدُ اللهِ بن عَبَّاسٍ. ثُمَّ ذَكَرَ الهِلالَ فَقَالَ: مَتَى رَأَيْتُم الهِلالَ؟ قُلْتُ: رََأَيْنَاهُ لَيْلَةَ الجُمُعَةَ فَقَالَ: أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ وَرَآهُ النَّاسُ، وَصَامُوا، وَصَامَ مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ: لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ فَلا نَزَالُ نَصُومَ حَتَّى نَكْمِلَ ثَلاثِينَ أَوْ نَرَاهُ. فَقُلْتُ: أَفَلا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَصَيَامِهَ؟ فَقَالَ: لا، هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -.

وَمَنْ رََأَى وَحْدَهُ هِلالَ رَمَضَانَ وَرُدَّ قَوْلُهُ لَزِمَهُ الصَّوْمُ وَجَمِيعُ أَحْكَامِ الشَّهْرِ مِنْ طَلاقٍ وَعِتْقٍ، وَغَيْرِهِمَا مُعَلَّقَيْنِ بِهِ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَلأَنَّهُ تَيَقَّنَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ فَلَزِمَهُ صَوْمُه وَأَحْكَامُهُ بِخِلافِ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ، وَمَنْ رَأَى وَحْدَهُ هِلالَ شَوَّالَ لَمْ يُفْطِرْ لِحَدِيثِ: «الفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ، وَالأَضْحَى يَوْمَ يُضْحِّي النَّاسُ» . وَحَدِيثِ: «الفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُونَ، وَالأَضْحَى يَوْمَ يُضْحُّونَ» . وَرَوَى أَبُو رَجَاءٍ عَنْ أَبِي قَلابَةَ: أَنَّ رَجُلَيْنِ قَدِمَا الْمَدِينَةِ وَقَدْ رَأَيَا الهِلالَ، وَقَدْ أَصْبَحَ النَّاسُ صِيامًا فَأَتيَا عُمَرَ، فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لأحَدِهِمَا: أَصَائِمٌ أَنْتَ؟ قَالَ: بَلْ مُفْطِرٌ. قَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَصُومَ وَقَدْ رَأَيْتُ الهِلالَ، وَقَالَ لِلآخَرِ، قَالَ إِنِّي صَائِمٌ، قَالَ مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: لَمْ أَكُنْ لأفْطِرَ وَالنَّاسُ صِيَامٌ. فَقَالَ لِلذِي أَفْطَرَ: لَوْلا مَكَانَ هَذَا لأَوْجَعْتُ رَأْسَكَ، ثُمَّ نُودِيَ فِي النَّاسِ أَنْ أَخْرُجُوا. وَإِنَّمَا أَرَادَ ضَرْبَهُ لإِفْطَارِهِ بِرُؤْيَتِهِ وَحْدَهُ، وَدَفَعَ عَنْهُ الضَّرْبَ لِكَمَالِ الشَّهَادَةِ بِهِ، وَلَوْ جَازَ لَهُ الفِطْرُ لَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ وَلا تَوَعَّدَهُ، وَإِنْ صَامَ النَّاسُ بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ: ثَلاثِينَ يَوْمًا فَلَمْ يَرَوْا الهِلالَ أَفْطَرُوا لِقَوْل النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَصُومُوا ثَلاَثِينَ ثُمَّ أَفْطِرُوا» . وَإِذَا قَامَتْ البََيِّنَةُ أَثْنَاءَ النَّهَارِ لَزِمَ أَهْلَ وُجُوبِ الصَّوْمِ الإِمْسَاكَ وَلَوْ بَعْدَ أَكْلِهِمْ لِتَعَذُّرِ إمْسَاكِ الجَمِيعِ فَوَجَبَ أَنْ يَأْتُوا بِمَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وَحَدِيثِ: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» . 5- لا يَصِحُّ صِيَامُ رَمَضِانَ إلا بِنِيَّةٍ مِنْ الليْلِ:

وَلا يَصِحُّ صَوْمَ رَمَضَانَ وَلا غَيْرِهِ مِنْ الصِّيَامِ الوَاجِبِ إلا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ لِكُلَّ يَوْمٍ. رَوَتْ حَفْصَةُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلاَ صِيَامَ لَهُ» . وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا مَرْفُوعًا: «مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَلاَ صِيَامَ لَهُ» . وَمَنْ نَوَى الصَّوْمَ مِنْ اللَّيْلِ ثُمَّ أَتَى بَعْدَ النِّيَّةِ فِي اللَّيْلِ بِمَا يُبْطِلُ الصِّيَامَ كَالأَكْلِ، لَمْ تَبْطُلُ النِّيَةُ لِظَاهِرِ الخَبَرِ وَلأَنَّ اللهَ أَبَاحَ الأَكْلَ إِلى آخِرِ اللَّيْلِ فَلَوْ بَطَلَتْ بِهِ فَاتَ مَحَلُّهَا، وَمَنْ خَطَرَ بِبَالِهِ أَنَّهُ صَائِمٌ غَدًا فَقَدْ نَوَى، لأَنَّ النِّيةَ مَحَلُّهَا القَلْبُ، وَالأَكْلُ وَالشُّرْبُ بِنِيَّةِ الصَّوْمِ نِيَّةٌ. قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: هُو حِينَ يَتَعَشَّى عَشَاءَ مَنْ يُرِيدُ الصَّوْمَ، وَلَوْ نَوَتْ حَائِضٌ أَوْ نُفَسَاءُ صَوْمَ غَدٍ وَقَدْ عَرَفَتْ أَنَّهَا تَطْهُرُ لَيْلاً صَحَّ لِمَشَقَّةِ الْمُقَارَنَةِ. وَاللهُ أَعْلَمُ. يَا ذَا الذي مَا كَفَاهُ الذَّنْبُ فِي رَجَبٍ ... حَتَّى عَصَى رَبَّهُ فِي شَهْر شَعْبَانِ لَقَدْ أَظَلَّكَ شَهْرُ الصَّوْمِ بَعْدهُمَا ... فَلا تُصَيِّرهُ أَيْضًا شَهْرَ عِصْيانِ وَاتْل القُرْآنَ وَسَبِّحْ فِيهِ مُجْتَهِدًا ... فَإِنَّهُ شَهْرُ تَسْبِيحٍ وَقُرْآنِ كَمْ كُنْتَ تَعْرِفُ مِمَّنْ صَامَ في سَلَفٍ ... مَنْ بَيْنِ أَهْلٍ وَجِيرَانٍ وَإخْوَانِ أَفْنَاهُمُ الْمَوْتُ واسْتبقاكَ بَعْدَهُمُ ... حَيًا فَمَا أَقْرَبَ القَاصِي مِنْ الدَّانِ اللَّهُمَّ أنْظُمْنَا فِي سِلْكِ الفَائِزِينَ بِرِضْوَانِكَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ الْمُتَّقِينَ الذِينَ أَعْدَدْتَ لَهُمْ فَسِيحَ جِنَانِكَ، وَأَدْخِلْنَا بِرَحْمَتِكَ فِي دَارِ أَمَانِكَ وَعَافِنَا يَا مَوْلانَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ مِنْ جَمِيعِ البَلايَا وَأَجْزِلْ لَنَا مِنْ مَوَاهِبِ فَضْلِكَ وَهِبَاتِكَ وَمَتِّعْنَا بَالنَّظَرِ إِلى وَجْهِكَ الكَرِيمِ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ

من يسن له الفطر ومن يباح له الفطر ومن عرض له جنون أو إغماء

المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ) وَيَبْحَثُ في: 1- حُكْمِ صَوْمِ التَّطَوّعِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ. 2- فِيمَنْ يُبَاحُ لَهُ الفِطْرُ وَمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ. 3- مَنْ عَرَضَ لَهُ جُنُونٌ أَوْ إِغْمَاءٌ. 1- حُكْمِ صَوْمِ التَّطَوّعِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ: وَيَصِحُّ صَوْمُ التَّطَوّعِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ لِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يَوْم فَقَالَ: «هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ» ؟ فَقُلْنَا: لا، فقَالَ: «فَإِنِّي إذَنْ صَائِمٌ» ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ، فَقَالَ: «أَرِنِيهُ فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا» فَأَكَلَ. وَزَادَ النِّسَائِي، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّمَا مَثَلُ صَوْمِ الْمُتَطَوِّعِ مَثَلُ الرَّجُلِ يُخْرِجُ مِنْ مَالِهِ الصَّدَقَةَ فَإِنْ شَاءَ أَمْضَاهَا وَإِنْ شَاءَ حَبَسَهَا» . وَمِنْ لَفْظٍ لَهُ أَيْضًا قَالَ: «يَا عَائِشَةُ، إِنَّمَا مَنْزِلَةُ مَنْ صَامَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ أَوْ فِي التَّطَوُّعِ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ أَخْرَجَ صَدَقَةَ مَالِهِ فَجَادَ مِنْهَا بِمَا شَاءَ فَأَمْضَاهُ وَبَخِلَ مِنْهَا بِمَا شَاءَ فَأَمْسَكَهُ» . شِعْرًا: وَفي النَّاس مَنْ أَعْطَى الجَمِيلَ بَدَيهَةً ... وَظَنَّ بِفِعْلِ الخَيْرِ لِمَّا تَفَكَّرَا آخر: وَمَا كُلُّ هَاوٍ لِلْجَمِيلِ بِفَاعِلٍ ... وَمَا كُلُّ فَعَّالٍ لَهُ بِمُتَمِّمِ قَالَ البُخَارِي: وَقَالَتْ أُمَّ الدَّرْدَاءِ: كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: عِنْدَكُمْ طَعَامٌ؟ فَإِنْ قُلْنَا: لا، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ يَوْمِي. قَالَ: وَفَعَلَهُ أَبُو طَلْحَةَ،

وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَحُذَيْفَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ. وَيُحْكَمُ بالصَّوْمِ الْمُثَابِ عَلَيْهِ مَنْ وَقْتَ النِّيَّةِ، لِحَدِيثِ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلَّ امْرِئٍ مَا نَوَى» . وَمَا قَبْلَهُ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ قَصْدُ القُرْبَةِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ لا يُوجَدَ مُنَافٍ غَيْر نِيَّةِ الإفْطَارِ، اقْتِصَارًا عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيلِ، وَنَظرًا إِلى أَنَّ الإِمْسَاكَ هُوَ الْمَقْصُودُ الأَعْظَمُ، فَلا يُعْفَى عَنْهُ أَصْلاً، فَإِنْ فَعَلَ قَبْلََ النِّيةِ مَا يُفَطِّرُهُ لَمْ يَجُزْ الصِّيَامُ، فَلا يَصِحُّ صَوْمُ مَنْ أَكَلَ ثُمَّ نَوَى بَقِيَّةَ يَوْمِهِ لِعَدَمِ حُصُولِ حِكْمَةِ الصَّوْمِ، وَيَصِحُّ تَطَوُّعُ حَائِضٍ وَنُفَسَاءَ طَهُرَتْ فِي يَوْمٍ بِصَوْمِ بَقِيَّتِهِ وَتَطَوُّعُ كَافِرٍ أَسْلَمَ فِي يَوْمٍ لَمْ يَأتِيَا فِيهِ بِمُفْسِدٍ مِنْ أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ وَنَحْوِهِمَا وَإِنْ بَلَغَ صَبِيُّ، أَوْ أَسْلَمَ كَافِرٌ، أَوْ أَفَاقَ مَجْنُونٌ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، وَهُمْ مُفْطِرُونَ، لَزِمَهُمْ الإِمْسَاكُ عَنْ مُفْسِدَاتِ الصَّوْمِ، لِحُرْمَةِ الوَقْتِ وَلِزَوَالِ الْمُبِيحِ، وَإِنْ طَهُرَتْ حَائِضٌ أَوْ نُفْسَاءَ، أَوْ قَدِمَ مُسَافِرٌ مُفْطِرٌ. فَعَلَيْهِمْ الإِمْسَاكُ وَالقَضَاءُ وَلا خِلاف فِي وُجُوبِ القَضَاءَ عَلَيْهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالى: { ... فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} . وَلِقَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - كُنَّا نَحِيضُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فُنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ. وَكَذَا الحُكْمُ فِي الْمَرِيضِ إِذَا صَحَّ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ وَكَانَ مُفْطِرًا. وَيُسَنُّ الفِطْرُ لِمُسَافِرٍ يُبَاحُ لَهُ القَصْرُ، وَلِمَرِيضٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، وَلِحَدِيثِ: «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: ثُمَّ قَالَ سَوُلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

« ... عَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللهِ التي رَخَّصَ لَكُمْ فَاقْبَلُوهَا» وَإنْ صَامِ أَجْزَأَهُ. ولِحَدِيْثِ: «هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ» . وَعن َحَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الأَسْلَمِيَّ أنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: َأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ قَالَ: «إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ» . وَاللهُ أَعْلَمَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ. (فصل) 2- فِيمَنْ يُبَاحُ لَهُ الفِطْرُ وَمَنْ يَجِبْ عَلَيِْهِ: وَيُبَاحُ الفِطْرُ، لِحَاضِرٍ سَافر في أَثْنَاءِ النَّهَارِ. لِحَدِيثِ أَبِي بَصْرَةَ الغِفَارِي: أَنَّهُ رَكِبَ فِي سَفِينَةِ مِنْ الفِسْطَاطَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، فَدَفَعَ، ثُمَّ قَرَّبَ غَدَاءَهُ، فَلَمْ يُجَاوِزْ البُيُوتَ حَتَّى دَعَا بَالسُّفْرَةِ، ثُمَّ قَالَ: اقْتَرِبْ! قِيلَ: أَلَسْتَ تَرَى البُيُوتَ؟ قال: أَتَرْغَبْ عَنْ سُنَّةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -؟ فَأَكَلَ. وَإنْ صَامِ أَجْزَأَهُ، لِحَدِيْثِ: «هِي رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ» . وَيُبَاحُ الفِطْرُ لِحَامِلٍ، وَمُرْضِعٍ، إِذَا خَافَتَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا، فَيُفْطِرَانُ وَيَقْضِيَانِ كَالْمَرِيضِ الخَائِفْ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ خَافَتَا عَلَى وَلِدَيْهِمَا أَفْطَرَتَا وَقَضَتَا، وَلَزِمَ وَليُّ الوَلَدِ إطْعَامُ مُسْكِينٍ لِكُلِّ يَوْمٍ لِقَوْلِهِ تَعَالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: «كَانَتْ رُخْصَةً لِلشَّيْخ الكَبِيرِ، وَالْمَرْأَةِ وَهُمَا يُطِيقَانِ الصِّيَامَ أَنْ يُفْطِرَا وَيُطْعِمَا مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا وَالحُبْلَى وَالْمُرْضِعُ إِذَا خَافَتَا عَلَى أَوْلادِهِمَا أَفْطَرَتَا وَأَطْعَمَتَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - وَلا مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَة وَلَيْسَ لِمَنْ جَازَ لَهُ الفِطْرُ بِرَمَضَانَ أَنْ يَصُومَ غَيْرَهُ فِيهِ لأَنَّهُ لا يَسْعُ غَيْرَ مَا فُرِضَ فِيهِ وَلا يَصْلحُ لِسِوَاهُ، وَيَجِبْ الفِطْرُ عَلَى مَنْ احْتَاجَهُ لإِنْقَاذِ مَعْصُومٍ مِنْ مَهْلَكَةٍ. كَغَرَقٍ لأَنَّهُ يُمْكِنْهُ تَدَارُكَ الصَّوْمِ بَالقَضَاءِ بِخَلافِ الغَرِيقِ وَنَحْوِهِ، وَيَجِبُ الفِطْرُ عَلَى الحَائِض وَالنُّفَسَاءَ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدَرِيْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 3- مَنْ عَرَضَ لَهُ جُنونٌ أَوْ إِغْمَاءٌ: وَمَنْ نَوَى الصَّوْمَ ثُمَّ جَنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ جَمِيعَ النَّهَارِ، وَلَمْ يُفِقْ جُزْءًا مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ لأَنَّ الصَّوْمَ: الإِمْسَاكُ مَعَ النِّيَّةِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: كُلَّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أُجْزِي بِهِ يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِي ... » . فَأَضَافَ التَّرْكَ إِلَيْهِ، وَهُوَ لا يُضَافُ إِلى المَجْنُونِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ وَالنَّيةُ وَحْدَهَا لا تُجزِي، وَيَصِحُّ الصَّوْمُ مِمَّنْ أَفَاقَ جُزْءًا مِنْهُ حَيْثُ نَوَى لَيْلاً لِصِحَّةِ إِضَافَةِ التَّرْكِ إِلَيْهِ إِذًا، وَيُفَارِقُ الجُنُونُ الحَيْضَ بِأَنَّهُ لا يَمْنَعُ الوُجُوبَ بَلْ يَمْنَعُ الصِّحَّةِ وَيَحْرُمُ فعْلُهُ، وَيَصَحُّ صَوْمُ مِنْ نَامَ جَمِيعَ النَّهَارِ لأَنَّ النَّوْمَ عَادَة لا يَزُولُ الإِحْسَاسُ بِهِ بالكُلِّية لأَنَّهُ مَتَى نُبِّهَ انْتَبَهَ. وَيَقْضِي مُغْمَى عَلَيْه زَمَنَ إغْمَائِهِ لأَنَّهُ مُكَلَّفٌ، وَلأَنَّ مُدَّةَ الإغْمَاء لا تَطُولُ غَالِبًا، وَلا ثَبْتُتْ الولايَةُ عَلَيْهِ، وَلا يَقْضِي مَجْنُونٌ زَمَنَ جُنُونِهِ لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِ. اللَّهُمَّ أحْي قُلُوبًا أَمَاتَهَا البُعْدُ عَنْ بَابِكَ، وَلا تُعَذّبْنَا بَأليمِ عِقَابِكَ يَا أَكْرَمَ مَنْ سَمَحَ بالنَّوَالِ وَجَادَ بَالإِفْضَالِ، اللَّهُمَّ أَيْقَضْنَا مِنْ غَفْلَتِنَا بُلطْفِكَ وَإِحْسَانِكَ،

موعظة في الحث على عدم الغفلة عن ذكر الله والتزود للآخرة

وَتَجَاوَزْ عَنْ جَرَائِمِنَا بَعَفْوِكَ وَغُفْرَانِكَ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (14) موعظة إخْوَانِي إِنَّ الغَفْلَةَ عَنْ اللهِ مُصِيبَةٌ عَظِيمَةٌ قَالَ تَعَالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} فَمَنْ غَفَلَ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَأَلْهَتْهُ الدُّنْيَا عَنْ العَمَلِ لِلدَّارِ الآخِرَةِ أنْسَاهُ العَمَلَ لِمَصَالِحَ نَفْسِهِ فَلا يَسْعَى لَهَا بِمَا فِيهِ نَفْعُهَا وَلا يَأْخُذُ فِي أَسْبَابِ سَعَادَتِهَا وَإِصْلاحِهَا وَمَا يُكَمِّلُهَا وَيَنْسَى كَذَلِكَ أَمْرَاضَ نَفْسِهِ وَقَلْبِهِ وَآلامَهُ فَلا يَخْطُرْ بِبَالِهِ مُعَالَجَتُهَا وَلا السَّعْي في إِزَالَةِ عِلَلِهَا وَأَمْرَاضِهَا التي تَؤُلُ إِلى الْهَلاكِ وَالدَّمَارِ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمُ العُقُوبَاتِ فَأَيُّ عُقُوبَةٍ أَعْظَمُ مِنْ عُقُوبَةِ مِنْ أَهْمَلَ نَفْسَهُ وَضَيَّعَهَا وَنَسِيَ مَصَالِحَهَا وَدَاءَهَا وَدَوَاءَهَا وَأَسْبَابَ سَعَادَتِهَا وَفَلاحِهَا وَحَيَاتِهَا الأَبَدِيَّةِ فِي النَّعِيمِ الْمُقِيمِ وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذَا الْمَوْضِعَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الخَلْقِ قَدْ نَسُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَيَّعُوهَا وَأَضَاعُوا حَظَّهَا وَبَاعُوهَا بِثَمَنٍ بَخْسٍ بَيْعَ الْمَغْبُونِ وَيَظْهَرُ ذَلِكَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَيَتَجَلَّى ذَلِكَ كُلَّهُ يَوْمَ التَّغَابُنِ {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ} الآيةُ. {يَوْمَ لَا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} إنَّهَا لَحَسْرَةٌ عَلَى كُلِّ ذِي غَفْلَةٍ دُونَهَا كُلُّ حَسْرَةٍ، هَؤُلاءِ هُمْ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ. نَسْأَلُ اللهَ العَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ. شِعْرًا: القَلْبُ أَعْلَمُ يَا عَذُولُ بِدَائِهِ ... مَا غَيَرُ دَاءِ الذَّنْبِ مِنْ أَدْوَائِهِ وَالذَّنْبُ أَوْلَى مَا بَكَاهُ أَخُو التُّقَى ... وَأَحَقُّ مِنْكَ بِجَفْنِهِ وَبِمَائِهِ فَوَمَنْ أُحِبُّ لأَعْصِيَنَّ عَواذِلي ... قَسَمًا بِهِ فِي أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ

قصيدة زهدية

مَنْ ذَا يَلُومُ أَخَا الذُّنُوبِ إِذَا بَكَى ... إِنَّ الْملامةَ فِيهِ مِنْ أَعْدَائِهِ فَوَحَقِّ مَنْ خَافَ الفُؤادُ وَعِيدَهُ ... وَرَجَا مَثُوبَتَهُ وَحُسْنَ جَزَائِهِ مَا كُنْتُ مِمَّنْ يَرْتَضِي حُسْنَ الثَّنَا ... ببَدِيعٍ نَظْمِي فِي مَدِيحٍ سِوَائِهِ مَنْ ذَا الذِي بَسَطَ البَسِيطَةَ لِلْوَرَى ... فُرُشًا وَتَوْجِيهًَا بِسَقْفِ سَمِائِهِ مَنْ ذَا الذِي جَعَلَ النُّجُومَ ثَواقِباً ... يَهْدِي بِهَا السَّارِينَ في ظَلْمَائِهِ مَنْ ذَا أَتَى بَالشَّمْسِ فِي أُفُقِ السَّمَا ... تَجْرِي بِتَقْدِيرٍ عَلَى أَرْجَائِهِ أَسِوَاهُ سَوَّاهَا ضِيَاءً نَافِعًا ... لا وَالذِي رَفَعَ السَّمَا بِبِنَائِهِ مَنْ أَطْلعَ القَمَرَ الْمُنِيرِ إِذَا دَجَى ... لَيْلٌ فَشَابَهَ صُبْحَِهُ بِضَيَائِهِ مَنْ طَوِّلَ الأَيَّامَ عِندَ مَصْيفها ... وَأَتَتْ قِصَارًا عِنْدَ فَصْلِ شَتَائِهِ مِنْ ذَا الذِي خَلَقَ الخَلائِقَ كُلَّهَا ... وَكَفَى الجَمِيعَ بِبِرِّهِ وَعَطَائِهِ وَأَدَرَّ لِلطِّفْلِ الرَّضِيعِ مَعَاشَهُ ... مَنْ أُمِّهِ يَمْتَصُّ طِيبَ غَذَائِهِ يَا وَيْحَ مَنْ يَعْصِي الإِلهَ وَقَدْ رَأَى ... إِحْسَانَهُ بِنَوَالِهِ وَنَدائِهِ وَرَأَى مَسَاكِنَ مَنْ عَصَى مِمَّنْ خَلا ... خِلْواً تَصِيحُ البُومُ في أَرْجَائِهِ وَدَع الجَبَابَرةَ الأَكَاسِرَةَ الأُلَى ... وَانْظَرْ لِمَنْ شَاهَدْتَ فِي عَلْوَائِهِ كَمْ شَاهَدَتْ عِينَاكَ ِمْن مَلِكٍ غَدَا ... يَخْتَالُ بَيْنَ جِيُوشِهِ وَلِوَائِهِ مَلأَتْ لَهُ الدُّنْيَا كُؤُوسًا حُلْوةً ... وَسَقَتْهُ مُرَّ السُّمِ فِي حَلْوائِهِ مَا طَلَّقَ الدُّنْيَا اخْتِيارًا إِنَّمَا ... هِيَ طَلْقَتْهُ وَمَتَّعَتْهُ بِدَائِهِ جَعَلَتْ لَهُ الأَكْفَانَ كسْوَةَ عُدَّةِ ... وَاللَّحْدَ سُكْنَاهُ وَبَيْتَ بَلائِهِ وَيَضُمُّهُ لا مُشْفِقًا فِي ضَمِّهِ ... حَتَّى تَكُونَ حَشَاهُ في أَحْشَائِهِ وَهُنَاكَ يُغْلَقُ لَحْدُهُ عَنْ أَهْلِهِ ... بِحِجَارَةٍ وَبَطِينَةٍ وَبِمَائِهِ وَيَزُورُهُ الْمَلكَانِ قَصْدَ سُؤَالِهِ ... عَنْ دِينِهِ لا عَنْ سُؤالِ سِوَائِهِ فَإِذَا أَجَابَ بـ (لَسْتُ) أَدْرِي أَقْبَلاً ... ضَرْبًا لَهُ فِي وَجْهِهِ وَقَفَائِهِ وَيَرَىَ مَنَازِلَهُ بقَعْرِ جَهَنَّمِ ... وَيُقيمُ فِي ضِيقِ لِطُولِ عِنَائِهِ

يَا رَبِّ ثَبِّتْنَا بِقَوْلٍ ثَابِتٍ ... عِنْدَ امْتِحَان العَبدِ تَحْتَ ثَرَائِهِ أَنَا مُؤْمَنٌ باللهِ ثُمَّ بِرُسْلِهِ ... وَبِكُتُبِهِ وَبِبَعْثِهِ وَلِقَائِهِ ثُمَّ الصَّلاةُ عَلَى الرَّسُولِ مُحَمَّدٍ ... وَالآلِ أَهْلِ البيتِ أَهْل كِسَائِهِ اللَّهُمَّ يَا مَنْ لا تَضُرُّهُ الْمَعْصِيَةُ وَلا تَنْفَعُه الطَّاعَةِ أَيْقِظْنَا مِنْ نَوْمِ الغَفْلَةِ وَنَبِّهْنَا لاغْتِنَامِ أَوْقَاتِ الْمُهْلَةِ وَوَفِّقْنَا لِمَصَالِحْنَا وَاعْصِمْنَا مِنْ قَبَائِحْنَا وَلا تُؤاخِذْنَا بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ ضَمَائِرُنَا وَأكنَّتْهُ سَرَائِرُنَا مِنْ أَنْوَاعِ القَبَائحِ والْمَعَائبِ التي تَعْلَمُهَا مِنَّا وامنُنْ عَلَيْنَا يَا مَوْلانَا بِتَوْبَةٍ تَمْحُ بِهَا عَنَّا كُلَّ ذَنِبٍ وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. مَوْعِظَة إخْوَانِي أَيْنَ أَحْبَابُكُمْ الذين سَلَفُوا أَيْنَ أَتْرَابُكم الذين رحَلُوا وَانْصَرَفُوا أَيْنَ أَصْحَابُ الأَمْوَالِ وَمَا خَلَّفُوا. نَدَمُوا وَاللهِ عَلَى التَّفْرِيط يَا لَيْتَهُمْ عَرَفُوا هَوْلَ مَقَامِ يَشِيبُ منه الوليد، إذا {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} . فَوَاعَجَبًا لَكَ كُلَّمَا دُعِيتَ إِلى اللهِ تَوَانَيْت، وَكُلَّمَا حَرَّكَتْكَ الْمَوَاعظُ إِلى الخيراتِ أَبُيت، وعلى غَيَّكَ وَجَهْلِكَ تَمَادَيْت، وَكَمْ حُذِّرت مَن الْمَنُون فما التَفَتَّ إلى قول الناصِحِ وَتَركْتَهُ وما بَالَيْت. يا مَنْ جَسَدُهُ حَيٌ وَلَكِنْ قلبه مَيْت، سُتَعَاين عند قُدُومِ هَادِم اللَّذاتِ مَا لا تَشْتَهِي وَتُرِيد {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} . كم أَزْعَجَ الْمَوتُ نُفُوسًا مِنْ دِيَارِهَا، وَكَمْ أَتَلَفَ البَلَى من أجسادٍ مُنَعَّمَةٍ لَمْ يُدَارِهَا، وَكَمْ أَذَلَّ في التُّرَابِ وَجُوهًا نَاعِمَةً بَعْدَ رِفْعَتِهَا وَاسْتَقْرَارِهَا.

انتبه يا أخي فالدنيا أَضْغَاثُ أحلام، ودارُ فَنَاءٍِ لَيْسَتْ بدَارِ مَقَام سَتَعْرِفُ وتفهم نُصْحِي لَكَ بعدَ أيام. وما غابَ عَنْكَ سَتَراه على التمام إذ أُكُشفَ الغِطاء عَنْكَ وَصَارَ بَصرُكَ حَديد، وهناك تَنْدَمُ ولاتَ ساعَة ندم. شِعْرًا: قُلْ للَّذِي أَلِفَ الذَّنُوبَ وَأَجْرَمَا ... وَغَدَا عَلَى زَلاتِهِ مُتَنَدِّمًا لا تَيْأَسَنْ واطْلُبْ كَرِيمًا دَائِمًا ... يُولِي الجَمِيلِ تَفْضُّلا وَتَكَرُّمَا يَا مَعْشَرَ العَاصِينَ جُودٌ وَاسِعٌ ... عِنْدَ الإِله لِمَنْ يَتُوبَ وَيَنْدَمَا يَا أَيُّهَا العَبْدُ الْمُسِيء إلى مَتَى ... تُفْنِي زَمَانَكَ فِي عَسَى وَلَرُبَّمَا بَادِرْ إِلى مَوْلاكَ يَا مَنْ عُمْرُهُ ... قَدْ ضَاعَ فِي عِصْيَانِهِ وَتَصَرَّمَا وَاسْأَلَهُ توفِيقًا وَعَفْوًا ثَم قُلْ ... يَا رَبَّ بَصِّرْنِي وَزِلْ عَنِّي العَمَا ثُمَّ الصلاةُ على النبي أَجَلُّ مِنْ ... قَدْ خَصَّ بالتَّقْرِيبِ مِنْ رَب السَّمَا وَعَلى صَحَابتِهِ الأفاضَلِ كُلِّهِم ... مَا سَبَّحَ الدَّاعِي الإِلهَ وَعَظَّمَا اللَّهُمَّ أَنْظِمْنَا فِي سِلكِ حَزبِكَ الْمُفْلِحِينَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ عَبِادَكِ الْمُخْلِصِينَ النَّبِيينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهداء والصالِحِينَ وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فصل) : يَحْرُمُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ عَاقَلٍ تَنَاوُلُ مُفَطِّرٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ رُخْصَةٍ وَلا مَرَضٍ لَمْ يَقْضِهِ صَوْمُ الدَّهرِ كُلَّهِ وَإِنْ صَامَهُ» . وَعَنْ أَبِِي أُمَامَةَ البَاهِلِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ

صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولَ: «بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ أَتَانِي رَجُلانِ، فَأَخَذَا بَضَبْعَيَّ، فَأَتِيَا بِي جَبَلاً وَعْرًا فَقَالا: اصْعَدْ، فَقُلْتُ: إِنِّي لا أُطِيقُهُ، فَقَالا: إِنَّا سَنُسَهِّلُهُ لَكَ، فَصَعَدْتَ حَتَّى إِذَا كُنْتَ فِي سََرَاةِ الجَبَلِ إِذَا بَأَصْوَاتٍ شَدِيدَةٍ، قُلْتَ: مَا هَذِهِ الأَصْوَاتُ؟ قَالا: هَذَا عُوَاءُ أَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ انْطَلَقَ بِي، فَإِذَا أَنَا بِقَوْمٍ مُعَلَّقِينَ بِعَرَاقِيبِهِمْ، مُشَقَّقَةً أَشْدَاقهُم، تَسِيلُ أَشْدَاقهُم دَمًا قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَؤُلاءِ؟ قَالَ: الذين يُفْطِرُونَ قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِمْ» . الحَدِيثِ رَوَاهُ ابنُ خُزَيْمَةَ، وابْنُ حِبَّانِ في صَحِيحِهِمَا. وَمِمَّا يَحْرُمَ عَلَى الصَّائِمِ الأَكْلُ وَالشُّرْبُ بَعْدَ تَبَيُّنِ الفَجْرِ الثَّانِي لِقَوْلِهِ تَعَالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ} . فَمَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ مُخْتَارًا ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ أَبْطَلَهُ، لأَنَّهُ فَعَلَ مَا يُنَافِي الصَّوْمَ لِغَيْرِ عُذْرٍ. 2- حُكْمُ مَا إِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا: وَلا يُفْطِرُ مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا، لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللهُ وَسَقَاهُ» . وَرَوىَ الْحَاكِمُ قَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَفْطَرَ في رَمَضَانَ نَاسِيًا فَلا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلا كَفَّارَةَ، وَمَنْ اسْتَقَاءَ فَسَدَ صَومُهُ، وَعَلَيْهِ قَضَاءٌ» . وَمَنْ ذَرَعَهُ القَيءُ فَلا شَيءَ عَلَيْهِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ ذَرَعَهُ الْقِيءُ فَلا قَضَاءَ عَلْيهِ، وَمَنْ اسْتَقَاءَ فَعَلَيْهِ القْضَاءُ» .

وَمِمَّا يُفْطِرُ: الْحِجَامَةُ، لِمَا وَرَدَ عَنْ شَدَّادِ بن أَوْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَتَى عَلى رَجُلٍ بِالبَقِيعِ وَهُو يَحْتَجِمُ في رَمَضَان، فَقَالَ: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ والْمَحْجُومُ» . وَعَنْ رَافِعَ بِنْ خدِيجٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ والْمَحْجُومُ» . وَمِمَّا يَحْرُمُ عَلَى الصَّائِمِ، وَيُبْطِلُ صِيامَهُ الْجِمَاعُ في نَهَارِ رمَضَانَ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ والْكَفَّارَةُ، وَهِيَ عِتْقُ رَقَبَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعُ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوُسٌ عِنْدَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: هَلَكْتُ يَا رَسُولُ اللهِ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا أَهْلَكَكَ» ؟ . قَالَ وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ رَقَبَةً» ؟ قَالَ: لاَ، قَالَ: «اجْلِسْ» . وَمَكَثَ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَيْنَمَا نَحْنُ عَلى ذَلِكَ أَتَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرقٍ فِيهِ تَمْرٌ - وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ الضَّخْمُ - قَالَ: «أَيْنَ السَّائِلُ» ؟ قَالَ: أنا قَالَ: «خُذْ هَذَا، فَتَصَدَّقْ بِهِ» . فقَالَ الرجل: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنّي يَا رَسُول الله؟ ، فوللهِ ما بَيْنَ لا بَيْتِها - يُرِيدُ الحَرَّتَيْن - أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أهْلِ بَيْتِي، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ثمَّ قَالَ: «أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَتَحْرُمُ الْمُبَاشَرَةُ فِيهَا دَوْنَ الفَرْجِ إِنْ ظَنَّ إِنْزَالا، فَإِنْ بَاشَرَ فِيهَا دُونَ الفَرْجِ، فَأَنْزَل مَنِيَّا فَسَدَ صَوْمُهُ، لأَنَّهُ إِنْزَالٌ عَنْ مُبَاشَرَةٍ، فَأَشْبَهَ الجِمَاعَ. وَمِمَّا يُفَطِّرُ: (الرِّدَّةُ عَنْ الإسْلامَ - أَعَاذَنَا اللهُ مِنْهَا) قَالَ اللهُ

موعظة بليغة في مسائل متعددة

تَعَالى: {لََئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الزُّمَر: 65) . وَقَالَ تَعَالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . (الْمَائِدَة: 5) . وَمِمَّا يُفَطِّرُ: إِيصَالُ الأَغْذِيةِ بَالإبْرَةِ إلى الجَوْفِ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ لأَنَّهُ فِي مَعْنَى الأَكْلِ وَالشَّرْبِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، وَأَمَّا الحُبُوبُ الغِذَائِيَّةِ وَالدَّوَائِيَّةِ وَالْمُشْتَرِكَةِ فَيُفْطِرُ مَنْ أَكَلَهَا. وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. مَوْعِظَةٌ عِبَادَ اللهِ إِنَّ قَوَارِعَ الأَيَّامِ خَاطِبَةٌ، فَهَلْ أُذُنٌ لِعِظَاتِهَا وَاعِيةٌ، وَإِنَّ فَجَائِعَ الْمَوْتِ صَائِبَةٌ فَهَلْ نَفْسٌ لأَمْرِ الآخِرَةِ مُرَاعِيَةٌ، إِنَّ مَطَالِعَ الآمَالَ إِلى الْمُسَارَعَةِ إلى الخَيْرَاتِ سَاعِيَةٌ أَلا فَانْظُرُوا بِثَواقِبِ الأَبْصَارِ وَالبَصَائِرِ فِي نَوَاحِي الجِهَاتِ وَالأقْطَارِ فَمَا تَرَوْنَ فِي حُشُودِكُمْ وَجُمُوعِكُمْ إلا الشَّتَاتَ وَلا تَسْمَعُوا فِي رُبُوعِكُم إلا فُلانٌ مَرِيضٌ وَفُلانٌ مَاتَ، أَيْنَ الآبَاءُ الأَكَابِرُ؟ أَيْنَ العُلَمَاءُ العَامِلُونَ بِعِلْمِهِمْ الذين لا تَأْخُذُهُمْ فِي الله لَوْمَةُ لائِمٍ الْمُنَاصِحُونَ لَوْلاتِهِمْ وَأَمَّتِهم الزَّاهِدُونَ فِي حُطَامِ الدُّنْيَا الفَانِيَةِ؟ أَيْنَ الكُرَمَاءُ الأَفَاضِلُ الذِينَ يَغَارُونَ إِذَا انْتُهِكَتْ المَحَارِمُ؟ أَيْنَ الهَاجِرُونَ الْمُصَارِمُونَ لِلفَاسِقِ وَالفَاجِرِ؟ أَيْنَ الْمُنَاصِرُونَ لِلْقَائِمِ عَلَى أَهْلِ الْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ؟ أَيْنَ أَهْلُ الوَلاءِ وَالبَرَاءِ المُحِبُّونَ في اللهِ الْمُبْغِضُونَ لأَعْدَائِهِ؟ أَيْنَ الْمُنَقُّونَ لِمَآكِلِهِمْ وَمَلابِسِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ عَنْ الحَرَامِ وَالْمُشْتَبِهِ وَهُوَ مَا كَانَ القَلْبُ في الأَقْدَامِ عَلَيْهِ وَالكَفِّ عَنْهُ حَائِرٌ؟ أَيْنَ الذينَ لا يَسْكُنُونَ إِلا بِرِضَا صَاحِبِ الْمُلْكِ خَوْفًا مِنْ الْمُخَاطَرَةِ

فِي صَلاتِهِمْ وَصِيَامِهِمْ وَنِكَاحِهِمْ وَمُكْثِهِمْ فِي الأَمْلاكِ الْمَسْكُونَة قَهْرًا وَغَضْبًا؟ أَيْنَ الْمُتَفَقِّدُونَ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ الذِينَ لَيْسَ لَهُم مَوَارِدٌ؟ عَثَرَتْ واللهِ بِهِمْ العَوَاثِرُ وَأَبَادَتْهُمْ السِّنِينُ الغَوَابِرُ، وَبَتَرَتْ أَعْمَارُهُم الحَادِثَاتُ البَوَاتِرُ وَاخْتَطَفَهَمُ عَقَبَاتٌ كَوَاسِر. وَخَلَتْ مِنْهُمْ الْمَشَاهِدُ وَالْمَحَاضِرُ وَعُدِمَتْ مِنْ أَجْسَادِهِمْ تِلْكَ الجَوَاهِرُ وَطَفِئَتْ مِنْ وُجُوهِهِمْ الأَنْوَارُ الزَّوَاهِرُ وَابْتَلَعَتْهُمْ الحُفَرُ وَالْمَقَابِرُ إِلي يَوْمِ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَلَوْ كُشِفَتْ عَنْهُمْ أَغْطِيَةُ القُبُورِ بَعْدَ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلاثِ لَيَالٍ لَرَأَيْتَ الأَحْدَاقَ عَلَى الخُدُودِ سَائِلَةٌ وَالأوْصَال بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ مَائِلَةٌ وَدِيدَانَ الأَرْضِ فِي نَوَاعِمِ تَلْكَ الأَبْدَانِ جَائِلَةٌ وَالرُّؤُوسَ الْمُوَسَّدَةُ عَلَى الإِيمَانِ زَائِلَةً يُنْكِرُهَا مَنْ كَانَ عَارِفًا بِهَا وَيَنْفُرُ عَنْهَا مَنْ لَمْ يَزَلْ آلِفًا بِهَا. فَلا يُعْرَفُ السَّيدُ مِنْ الْمَسُودِ وَلا الْمَلِكَ مِنْ الْمَمْلُوكِ وَلا الذَّكِيُّ مِنْ البَلِيدِ وَلا الغَنيُّ مِنْ الفَقِيرِ فَرَحِمَ اللهُ عَبْدًا بَادَرَ بالإقْلاعِ عَنْ السَّيِّئَاتِ وَوَاصَلَ الإِسْرَاعَ وَالْمُبَادَرَةَ فِي الأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ قَبْلَ انْقِطَاعِ مُدَدِ الأَوْقَاتِ وَطَيِّ صَحَائِفِ الْمُسْتَوْدَعَاتِ وَنَشْرِ فَضَائِحِ الاقْتِرَافَاتِ وَالجِنَايَاتِ فَلا تَغْتَرُّوا بِحَيَاةٍ تَقُودُ إلى الْمَمَاتِ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّمَا تُوْعَدُونَ لآتٍ فَالبِدَارَ الْبِدَارَ قَبْلَ أَنْ تَتَمَنَّوا الْمُهْلَةَ وَهَيْهَاتَ. اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا حِفْظَ جَوَارِحِنَا عَنْ الْمَعَاصِي مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَنَقِّ قُلُوبَنَا مِنْ الحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالإحَنْ. اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ شَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ وَعُضَالِ الدَّوَاءِ وَخَيْبَةُ الرَّجَاءِ وَزَوَال النِّعْمَةِ. اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بَالصَّلِحِينَ غَيْرَ

قصيدة زهدية وعظية

خَزَايَا وَلا مَفْتُونِينَ وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. شِعْرًا: نَمْضِي عَلَى سُبُلٍ كَانُوا لَهَا سَلَكُوا أَسْلافُنَا وَهُمُ لِلدِّين ِقَدْ شَادُوا لَنَا بِهِمْ أُسْوَةٌ إِذْ هُمْ أَئِمَّتُنَا وَنَحْنُ لِلْقَوْمِ أَبْنَاءٌ وَأَحْفَادُ وَالصَّبْرُ يَا نَفْسُ خَيْرٌ كَلُّهُ وَلَهُ عَوَاقِبٌ كُلُّهَا نُجْحٌ وَإِمْدَادُ فَاصْبِرْ هُدِيتََ فَإِنَّ الْمَوْتَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الأَنَامِ وَإِنْ طَاوَلْنَ آمَادُ وَالنَّاسُ فِي غَفَلاتٍ عَنْ مَصَارِعِهِمْ كَأَنَّهُمْ وَهُمْ الأَيْقَاظُ رُقَّادُ دُنْيَا تَغُرُّ وَعَيْشٌ كُلُّهُ كَدَرٌ لَوْلا النُّفُوسُ التِي لِلْوَهْمِ تَنْقَادُ كُنَّا عَدَدْنَا لِهَذَا الْمَوْتِ عُدِّتَهُ قَبْلَ الوَفَاةِ وَأَنْ تُحْفَرْنَ أَلْحَادُ فَالدَّارُ مِنْ بَعْدِ هَذِي الدَّارِ آخِرَةٌ تَبْقَى دَوَامًا بِهَا حَشْرٌ وَمِيعَادُ وَجَنَّةٌ أُزْلِفَتْ لِلْمُتَّقِينَ وَأَهْـ ـلُ الحَقِّ وَالصَّبْرِ أَبْدَالٌ وَأَوْتَادُ فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ مِنْ قَبْلِ الْمَمَاتِ وَلا تَعْجَلْ وَتَكْسَلْ فَإِنَّ الْمَرْءَ جَهَّادُ

بعض فوائد الصيام

لا يَنْفَعُ العَبْدَ إلا مَا يُقَدِّمَهُ فَبَادِرِ الفَوْتَ وَاصْطَدْ قَبْلَ تصْطَادُ وَالْمَوْتُ لِلْمُؤْمِنِ الأَوَّابِ تُحْفَتُهُ وَفِيهِ كُلُّ الذي يَبْغِي وَيَرْتَادُ لِقَا الكَرِيمِ تَعَالى مَجْدُهُ وَسَمَا مَعَ النَّعِيمِ الذي مَا فِي أَنْكَادُ فَضْلٌ مِنْ اللهِ إِحْسَانٌ وَمَرْحَمَةٌ فَالْفَضْلُ للهِ كَالآزَالِ آبَادُ فَالظَّنُ بِاللهِ مَوْلانَا وَسَيِّدِنَا ظَنٌ جَمِيلٌ مَعَ الأَنْفَاسِ يَزْدَادُ نَرْجُوهُ يَرْحَمُنَا نَرْجُوهُ يَسْتُرْنَا فَمِنْه لِلْكُلِّ إِمْدَادٌ وَإِيجَادُ نَدْعُوه نَسْأَلُهُ عَفْوًا وَمَغْفِرَةً مَعْ حُسْنِ خَاتِمَةٍ فَالعُمْرُ نَفَّادُ وَقَدْ رَضِينَا قَضَاءَ اللهِ كَيْفَ قَضَا وَاللُّطْفَ نَرْجُو وَحُسْنُ الصَّبْرِ إِرْشَادُ اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِسُلُوكِ مَنَاهِجَ المُتَّقِينِ، وَخُصَّنَا بِالتَّوْفيقِ المُبِينُ، وَاجْعَلْنَا بِفَضْلِكَ مِنَ المقَرَّبِينَ الذِينَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. فصل: 3- بَعْضُ فَوَائِدِ الصِّيَامِ: عِبَادَ اللهِ إِنَّ لِشَهْرِ رَمَضَانَ شَرَّفَهُ اللهُ فَوَائِدُ عَظِيمَةٌ وَمَنَافِعُ جَمَّةٌ وَآثَارٌ

حَسَنَةٌ فَهُوَ يَضْبِطُ النَّفْسَ وَيُطْفِئُ شَهْوَتَهَا فَإِنَّهَا إِذَا شَبِعَتْ تَمَرَّدَتْ فِي الغَالِبِ وَسَعَتْ فِي شَهَوَاتِهَا، وَإِذَا جَاعَتْ سَكَنَتْ وَخَضَعَتْ وَامْتَنَعَتْ عَنْ مَا تَهْوَى، فَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ذَلِكَ أَنَّهُ يَكسِر مِنْ شَهْوَةِ الشَّبَابِ حَتَّى لا تَطْغَى عَلَيْهِ الشَّهْوَةُ، فَكَانَ الصَّوْمُ وَسِيلَةً إلى كَفِّ النَّفْسِ عَنْ الْمَعَاصِي، فَسُبْحَانَهُ مِنْ إِلَهٍ حَكِيمٍ عَلِيمٍ، فَالصِّيَامُ يُرَبِّي في الإِنْسَانِ الفَضَائِلَ وَالإِخْلاصَ وَالأَمَانَةَ وَالصَّبْرَ عِنْدَ الشَّدَائِدَ، لأَنَّهَا إِذَا انْقَادَتْ للامْتِنَاعِ عَنْ الحَلالِ مِنْ الغَذَاءِ الذي لا غِنَى لَهَا عَنْهُ طَلَبًا لِمَرْضَاةِ اللهِ تَعَالى وَخَوْفًا مِِنْ أَلِيمِ عِقَابِهِ. فَالأحْرَى بِهَا أَنْ تَتَمَرَّنَ عَلَى الامْتِنَاعِ عَنْ الحَرَامِ الذي هِيَ غَنِيَّةٌ عَنْهُ وَتُبْعِدَ عَنْهُ كُلَّ البُعْدِ فَلا يَغْدُرُ وَلا يَخُونُ وَلا يُخْلِفُ وَعْدًا وَلا يَكْذِبَ وَلا يُرَائِي. فَإِذَا وَفَّقَهُ اللهُ لِصَوْنِ صِيَامِهِ عَنْ الْمُفْسِدَاتِ وَالْمُنْقِّصَاتِ فَالصَّوْمُ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ سَبَبٌ فِي اتِّقَاءِ المَحَارِمِ وَقُوَّةِ العَزِيمَةِ وَالتَّحَلِّي بالفَضَائِلِ وَالتَّخَلِّي عَنْ الرَّذَائِلِ، وَإِلى هَذَا أَشَارَ جَلَّ وَعَلا بِقَوْلِهِ: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فَالصَّوْمُ يَدْعُو إلى شُكْرِ نِعْمَةِ اللهِ، إِذْ هُوَ كَفُّ النَّفْسِ عَنْ الطَّعَام وَالشَّرَابِ وَمُبَاشَرَةِ النِّسَاءِ، وَكُلَّ هَذَا مِنْ جَلائِلِ نِعَمِ اللهِ عَلى خَلْقِهِ. وَالامْتِنَاعِ عَنْ هَذِهِ النِّعَمِ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ إلى آخِرِهِ يُعَرِّفُ الإنْسَانَ قَدْرَهَا، إِذْ لا يُعْرَفُ فَضْلُ النِّعْمَةِ إلا بَعْدَ فَقْدِهَا فَيَبْعَثُه ذَلِكَ عَلَى القِيَامِ بِشُكْرِهَا وَشُكْرِ النِّعْمَةِ وَاجِبٌ عَلَى العِبَادِ، وَإِلى هَذَا

أَشَارَ بِقَوْلِهِ تَعَالى: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . وَأَيْضًا فَالصِّيَامُ يَبْعَثُ في الإِنْسَانِ فَضِيلَةَ الرَّحْمَةِ بَالْفُقَرَاءِ وَالعَطْفِ عَلَى البَائِسِينَ، فَإِنَّ الإِنْسَانَ إِذَا ذَاقَ أَلَمَ الجُوعِ في بَعْضِ الأَوْقَاتِ تَذَكَّرَ الفَقِيرَ الجَائِعَ فِي جَمِيعِ الأَوْقَاتِ فَيُسَارِعُ إلى رَحْمَتِهِ وَالإِحْسَانِ إِلَيْهِ. قِيلَ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَكَانَ كَثِيرَ الجُوعِ: لِمَ تَجُوعُ وَأَنْتَ عَلى خَزَائِنِ الأرْضِ. فَقَالَ: إنِّي أَخَافُ أَنْ أَشْبَعَ فَأَنْسَى الجَائِعَ. وَمِنْ فَوَائِدِ الصِّيَامِ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ يُنَقِّي الجِسْمَ مِنْ الفَضَلاتِ الرَّدِيئَةِ وَرُطُوبَاتِ الأَمْعَاءِ، وَيَشْفِي كَثِيرًا مِنْ الأَمْرَاضِ بَإِذْنِ اللهِ تَعَالى، وَفِيهِ مِنْ الْمَزَايَا الصَّحِيَّةِ مَا شَهِدَ بِهِ العَدُوُّ قَبْلَ الصَّدِيقِ، فَسُبْحَانَهُ مِنْ إِلَهٍ عَلِيمٍ حَكِيمٍ. وَمَنْ فَوَائِدِ الصِّيَامِ أَنَّهُ يُقَوِّي النَّفْسَ عَلَى البَّرِ وَالحِلْمِ وَهُمَا تَجَنُّبِ كُلِّ مَا مَنْ شَأْنِهِ إِثَارَةُ الغَضَبِ لأَنَّ الصَّوْمَ نِصْفُ الصَّبْرِ، وَالصَّبْرُ نِصْفُ الإِيمَانِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِمَا رَوَاهُ النِّسَائِي عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ في حَدِيثِهِ الطَّويلِ: أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «أَلا أَدُلَكَ عَلَى أَبْوَابِ الخَيْرِ» ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «الصَّوْمُ جُنَّةٌ» فَالصَّوْمُ جُنَّةٌ مِنْ العَذَابِ وَمِنْ الأخْلاقِ السَّيِّئَةِ. وَمِنْ يُلاحِظْ حَالَ الصَّائِمِينَ الْمُوَفِّقِينَ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَحَرِّي الطَّاعَةِ وَتَحرِّي سُبُلَ الخَيْرَاتِ وَالابْتِعَادِ عَنْ الْمَعَاصِي وَالرَّغْبَةِ فِي الإحْسَانِ يُدْرِكُ أَنَّ الصَّوْمَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الهِدَايَةِ، وَيُدْرِكُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالى: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} وَيُدْرِكُ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّوْمُ جُنَّةٌ» . وَيُدْرِكُ مَا فِيهِ مِنْ تَهْذِيبِ النَّفْسِ

وَتَطْهِيرِهَا مِنْ الأَخْلاقِ الْمَوْبُوءَةِ وَتَرْوِيضِهَا عَلَى الطَّاعَاتِ وَإعْدَادِهَا لِلسَّعَادَتَيْنِ الدُّنْيَويَّةِ وَالأَخْرَوِيَّةِ، وَحَسْبُكَ فِي فَضْلِ الصِّيَامِ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» . يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: «يَذَرُ شَهَوَتِهِ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ لأَجْلِي فَالصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» . قَالَ ابْنُ القَيمِّ رَحِمَهُ اللهُ وَقَدْ اخْتُلِفَ في وُجُودِ هَذِهِ الرَّائِحَةِ مِنْ الصَّائِمِ هَلْ هِيَ فِي الدُّنْيَا أَوْ في الآخِرَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ وَفَصْلُ النِّزَاعِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُقَالَ حَيْثُ أَخْبَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَأَنَّ ذَلِكَ الطِّيبَ يَكُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَلأَنَّهُ الوَقْتُ الذي يَظْهَرُ فِيهِ ثَوَابُ الأَعْمَالِ وَمُوجِبَاتِهَا مِنْ الخَيْرِ وَالشَّرِّ فَيَظْهَرُ لِلْخَلْقِ طِيْبُ ذَلِكَ الخُلُوفُ عَلَى الْمِسْكِ كَمَا يَظْهَرُ فِيهِ دَمُ الْمَكْلُومِ فِي سَبِيلِهِ كَرَائِحَةِ الْمِسْكِ وَكَمَا تَظْهَرُ فِي السَّرَائِرِ وَتَبْدُو عَلَى الوُجُوهِ وَتَصِيرُ عَلانِيَّةً وَيَظْهَرُ فِيهِ قُبْحُ رَائِحَةِ الكفَّارِ وَسَوادُ وُجُوهِهمْ وَحَيْثُ أَخْبَرَ بَأَنَّ ذَلِكَ حِينَ يَخْلُفُ وَحِينَ يُمْسُونَ فَلأنَّهُ وَقْتُ ظُهُورِ أَثَرِ العِبَادَةِ وَيَكُونَ حِيَنَئذٍ طِيبُهَا عَلَى رِيحِ الْمِسْكِ عِنْدَ اللهِ تَعَالى وَعِنْدَ مَلائِكَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الرَّائِحَةُ كَرِِيهَةُ لِلْعِبَادِ. فَرُبَّ مَكْرُوهٍ عِنْدَ النَّاسِ مَحْبُوبٌ عِنْدَ اللهِ تَعَالى وَبَالْعَكْسِ فَإِنَّ النَّاسَ يَكْرَهُونَهُ لِمُنَافَرَتِهِ لِطَبَاعِهِمْ وَاللهُ تَعَالى يَسْتَطِيبُهُ وَيُحِبُّهُ لِمَوَافَقَتِهِ لأَمْرِهِ وَرِضَاهُ وَمَحَبَّتِهِ فَيَكُونُ عِنْدَهُ أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ عِنْدَنَا فَإِذَا كَانَ يَوْمَ القِيَامَةِ ظَهَرَ هَذَا الطِّيْبُ لِلْعِبَادِ وَصَارَ عَلانِيَةً. وَهَكَذَا سَائِرُ آثَارِ الأَعْمَالِ مِنْ الخَيْرِ وَالشَّرِّ وَإِنَّمَا يَكْمُلُ ظُهُورُهَا وَيَصِيرُ عَلانِيَةً فِي الآخِرَةِ. شِعْرًا: لله قومٌ أَخْلَصُوا في حُبِّهِ ... فَكَسَا وجُوهَهُمُ الوَسِيمَةَ نُورَا

ذَكَرُوا النَّعِيمَ فَطَلَّقُوا دُنْيَاهُمُوا ... زُهْدًا فَعوضَهُمْ بِذَاكَ أُجُورَا قَامُوا يَنُاجُون الإِلهَ بَأَدْمُعٍ ... تَجْرِي فَتَحْكِي لؤْلُؤًا مَنْثُورَا سَتَرُوا وَجُوهَهُمُوا بَأسْتَارِ الدُّجَى ... لَيْلاً فَأَضْحَتْ فِي النَّهَارِ بِدُورَا عَمِلُوا بِمَا عَلِمُوا وَجَادُوا بَالذِي ... وَجَدُوا فَأَصْبَحَ حَظَّهُمْ مَوْفُورَا وَإِذَا بَدَا لَيْلٌ سَمِعْتَ حَنِينَهُمْ ... وَشَهِدْتَ وَجْدًا مِنْهُمُوا وَزَفِيرَا تَعَبُوا قَلِيلاً فِي رِضَا مَحْبُوبِهم ... فَأَرَاحَهُمْ يَوْمَ اللِّقَاءِ كَثِيرَا صَبَرُوا عَلَى بَلْوَاهُمُوا فَجَزَاهُمُوا ... يَوْمَ القِيَامَةِ جَنَّةً وَحَرِيرَا يَا أَيُّهَا الغِرُّ الحَزِينُ إِلى مَتَى ... تُفْنِي زَمَانَكَ بَاطِلاً وَغُرُورَا بَادِرْ زَمَانَكَ وَاغْتَنِمْ سَاعَاتِهِ ... وَاحْذَرْ تَوَانَاكَيْ تَحُوزَ أُجْورَا وَاضْرَعْ إِلى الْمَوْلى الكَرِيمِ وَنَادِهِ ... يَا وَاحِدًا فِي مُلْكِهِ وَقَدِيرَا مَا لِي سِوَاكَ وَأَنْتَ غَايَةُ مَقْصَدِي ... وَإِذَا رَضِيتَ فِنْعَمَةً وَسُرُورَا اللَّهُمَّ اهْدِنَا بِهُدَاكَ إِلى صِرَاطِكَ الْمُسْتَقِيم وَوَفِّقْنَا لِلْقِيَامِ بِحَقِّكَ عَلَى الوَجْه الْمَطْلُوبِ يَا كَرِيمُ وَاجْعَلْنَا يَا مَوْلانَا مِمَّنْ أَتَاكَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. (فصل) : يَجُوزُ لِمَنْ جَامَعَ بِاللَّيْل أَنْ لا يَغْتَسِل حَتَّى يَطْلَعِ الفَجْرِ، وَصَوْمُهُ صَحِيحٌ، لِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - أَنَّ رَجُلاً قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُدْرِكُنِي الصَّلاَةُ وَأَنَا جُنُبٌ أَفَأَصُومُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَنَا تُدْرِكُنِي الصَّلاَةُ وَأَنَا جُنُبٌ فَأَصُومُ» . فَقَالَ: لَسْتَ مِثْلَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. فَقَالَ: «وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي» . وَعَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلاَمٍ ثُمَّ يَصُومُ في رمضان) .

ذكر أشياء تخفى على بعض الناس في الصيام

وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ لا حُلُمٍ، ثُمَّ لا يُفْطِرُ وَلا يَقْضِي. لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ لَزِمَهُ الغُسْلُ لَيْلاً مِنْ جُنُبٍ وَحَائِضٍ وَنُفَسَاءَ انْقَطَعَ دَمَّهَا، وَكَافِرٍ أَسْلَمَ، أَنْ يَغْتَسِلَ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ الثَّانِي. وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ في نَهَارِ رَمَضَانَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلاً وَجَبَ عَلَى مَنْ رَآهُ إِعْلامُهُ لأَنَّهُ مِنْ بَابِ الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْي الْمُنْكَرِ، وَمِنْ بَابِ النَّصِيحَةِ لِلْمُسْلِمِ. وَمَنْ أَكَلَ شََاكًّا فِي طُلُوعِ الفَجْرِ، وَدَامَ شَكُّهُ، فَلا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِظَاهِرِ الآيَةِ، وَإِنْ أَفْطَرَ يَظُنُّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَابَتْ، وَلَمْ تَغِبْ فَعَلَيْهِ القَضَاءِ، لِمَا رَوَى هِشَام عَنْ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ امْرأَتُهُ عَنْ أَسْمَاءَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قَالَتْ: (أَفْطَرْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمِ غَيْمٍ ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ) . قِيلَ لِهِشَامِ بن عُرْوَةَ - وَهُوَ رَاوِي الحَدِيثِ - أُمِرُوا بِالْقَضَاءِ؟ قَالَ: لاَ بُدَّ مِنْ قَضَاءٍ؟ وَلا يَفْسُدُ صَوْمُ مَنْ طَارَ إِلى حَلْقِهِ ذُبُابٌ، أَوْ غُبَارٌ مِنْ طَرِيقٍ، أَوْ دَقِيقٍ أَوْ دُخَانٍ، لِعَدَمِ إمْكَانِ التَّحَرُّزِ مِنْهُ وَأَمَّا الدُّخَانُ الذي بُليَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمُحَرَّمٌ وَيُفْطِرُ مِنْ شَرِبَهُ. وَلا يُفْطِرُ إنْ فَكَّرَ فَأَنْزَلَ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عُفِي لأَمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَتَكَلَّمْ» . وَلا يُفْطِرُ إِنْ احْتَلَمَ، لأنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ. وَمَنْ اغْتَسَلَ، أَوْ تَمَضْمَضَ، أَوْ اسْتَنْشَقَ فَدَخَلَ الْمَاءُ إلى حَلْقِهِ بِلا

ذكر أشياء تحرم ويتأكد تحريمها في حق الصائم

قَصْدٍ، لَمْ يفْسُدْ صَوْمِهِ، لِمَا وَرَدَ مِنْ أنَّ عَائِشَةِ وَأَمِّ سَلَمَةٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَتَا: (نَشْهَدُ عَلى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ كَانَ لَيُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ احْتِلاَمٍ ثُمَّ يَغْتَسِلُ) . وَتُكْرَهُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالاسْتِنْشَاقِ لِلصَّائِمِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَسْبِغْ الْوُضُوءَ، وَخَلِّلْ بَيْنَ الأَصَابِعِ، وَبَالِغْ فِي الاسْتِنْشَاقِ، إلا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا» . وَاللهُ أَعْلَم. اللَّهُمَّ اجْعَلْ قُلُوبَنَا مَمْلُوءة بِحُبِّكَ وَأَلْسِنَتِنَا رَطِبَةً بِذِكْرِكَ وَنُفُوسَنَا مُطِيعَةَ لأَمْرِكَ وَارْزَقْنَا الزُّهْدَ في الدُّنْيَا وَالإِقْبَالَ عَلَى الآخِرَةِ وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فصل) : 2 - ذِكْرُ أَشْيَاءَ تَحْرُمُ وَيَتَأَكَّدَ تَحْرِيمُهَا فِي حَقِّ الصَّائِمِ: يَجبُ اجْتِنَابُ كُلِّ كِذْبٍ مُحَرَّمٍ، أَمَّا الكَذِبُ لِتَخْلِيصِ مَعْصُومٍ مِنْ قَتْلِ فَوَاجبٌ. قُلْتُ: وَيَتَرجَّحُ عِندي مِثْلُهُ أَيْضًا تَخْلِيصُ مَالِهِ مِنْ ظَالِمٍ أَوْ قَاطِعِ طَرِيقٍ أَوْ غَاصِبٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَالْمَالُ مُثْمَنٌ وَالأَحْسَنُ يَتَأَوَّلُ، وَلإصْلاحٍ بَيْنَ الزَّوْجَيْن فَمُبَاحٌ لِمَا وَرَدَ عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولَُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ وَيَقُولُ خَيْرًا أَوْ يَنْمِى خَيْرًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الدَّاعِي إلى الكَذِب مَحَبَّةُ النَّفْعِ الدُّنْيَوِي وَحُبُّ التُّرَاثِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُخْبِرَ يَرَى أَنَّ لَهُ فَضْلاً عَلَى الْمُخْبَر بِمَا عَلَّمَهُ فَهُوَ يَتْشَبَّهُ بِالعَالِمِ الفَاضِلِ فَيَظُنُّ أَنَّهُ يَجْلِبُ بِمَا يَقُولُهُ فَضْلاً وَمَسَرَّةً وَهُوَ يَجلِبُ بِهِ نَقْصًا وَفَضِيحَةً فَالكذِبُ رَذِيلَةٌ مَحْضَةٌ مِنْ أَرْذَلِ الرَّذَائِلِ يُنْبِئُ عَنْ تَغَلْغُلِ الفَسَادِ فِي نَفْسِ صَاحِبَها وَعَنْ سُلُوكٍ يُنْشِئُ الشَّرَّ إنْشَاءً فَالكَذِبُ يَتَصَدَّعُ

بِهِ بُنْيَانُ المَجْتَمَعِ وَبِهِ يَخْتَلُّ سَيْرُ الأُمُورِ، وَيُسْقِطُ صَاحِبَهُ مِنْ العُيُونِ وَلا يُوثَقُ فِي قَوْلِهِ، وَلا يُوثَقُ بِهِ فِي عَمَلٍ، وَلا يَرْغَبُ لَهُ مَجْلِسٌ، وَأَحْادِيثُهُ عِنْدَ النَّاسِ مَتْرُوكَةٌ، وَشَهَادَتُهُ مَرْدُودَةٌ وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُطْبَعُ الْمُؤمِنُ عَلَى الخِلالِ كُلَّهَا إِلا الخِيَانَةَ وَالكذِبَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَعَنْ بَهْزِ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا: «وَيْلٌ لِلْذِي يُحَدِّثُ لِيُضْحِكَ بِهِ القَوْمَ وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ» . وَعَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: مَا كَانَ خُلُقٌ أَبْغَضَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ مِنَ الْكَذِبِ وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَكْذِبُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَذْبَةَ فَمَا يَزَالُ فِي نَفْسِهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَعَلَمَ أَنَّهُ أَحْدَثَ مِنْهَا تَوْبَةً. رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَفِي الحَدِيثِ الآخَرِ أَنَّهُ قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيَكُونُ الْمُؤمِنُ كذَّابًا قَالَ: «لا» . الحَدِيثِ رَوَاهُ مَالِكُ، وَالبَيْهَقِي فِي شُعَبْ الإِيمَانِ. وَقَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: إِيَّاكَ وَالكَذِبَ فَإنَّهُ يُفْسِدُ عَلَيْكَ تَصَوُّرَ الْمَعْلُومَاتِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ وَيُفْسِدُ عَلَيْكَ تَصْوِيرَهَا وَتَعْلِيمَهَا لِلنَّاسِ فَإنَّ الكَاذِبَ يُصَوِّرُ الْمَعْدُومَ مَوْجُودًا وَالْمَوْجُودَ مَعْدُومَا وَالحَقَّ بَاطِلاً وَالبَاطِلَ حَقًّا وَالخَيْرَ شَرًّا فَيُفْسَدُ عَلَيْهِ تَصْوُّرَهُ وَعِلْمَهُ عُقُوبَةً لَهُ ثُمَّ يُصَوِّرُ ذَلِكَ فِي نَفْسِ الْمُخَاطَبِ الْمُغْتَرِ بِهِ الرَّاكِنُ إِلَيْهِ فَيُفسِدُ عَلَيْهِ تَصَوُّرَهُ وَعِلْمَه وَنَفْسُ الكَاذِبِ مُعْرِضَة عَنْ الحَقِيقَةِ الْمَوْجُودَةِ تَرَّاعَةٌ إِلى العَدَمِ مُؤْثِرَةٌ لِلْبَاطِلِ وَلِهَذَا كَانَ الكَذِبُ أَسَاسُ الفُجُورِ.

كَمَا قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِى إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِى إِلَى النَّارِ» . وَأَولُ مَا يَسْرِي الكذِبُ مِنْ النَّفْسِ إِلى اللِّسَانِ فَيُفْسِدُهُ ثُمِّ يَسْرِي إلى الجَوَارِحِ فَيُفْسِدُ عَلَيْهَا أَعْمَالَهَا كَمَا أَفْسَدَ عَلَى اللسَانِ أَقْوَالِهِ فَيَعُمُّ الكَذِبَ أَقْوَالَهُ وأعْمَالَهُ وَأَحْوَالَهُ فَيَسْتَحْكِمُ عَلَيْهِ الفَسَادُ وَيَتَرَامَى دَاؤهُ إلى الهُلَكَةِ إنْ لَمْ يَتَدَارَكْهُ اللهُ بِدَوَاءِ الصِّدْقِ بِقَلْعِ تِلْكَ الْمَادَّةِ مِنْ أَصْلِهَا. وَلِهَذَا كَانَ أَصْلُ أَعْمَالِ القُلُوبِ كُلِّهَا الصِّدْقَ وَأَضْدَادُهَا مِنْ الرِّيَاءِ وَالعُجْبِ وَالكِبُرِ وَالفَخْرِ والخُيلاءِ وَالبَطَرِ وَالأشَر والعَجْزِ وَالكَسَلَ وَالجُبْنِ وَالْمَهَانَةِ وَغَيْرِهَا أَصْلُهَا الكَذِبُ فَكُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ ظَاهِرٌ أَوْ بَاطِنٌ فَمَنْشَؤُهُ الصِّدْقُ وَكُلُّ عَمَلٍ فَاسِدٍ ظَاهِرٍ أَوْ بَاطِنٍ فَمَنْشَؤُوهُ الكَذِبُ، وَاللهُ تَعَالى يُعَاقِبُ الكَذَّابَ بَأَنْ يُقْعِدَهُ وَيُثَبِّطَهُ عَنْ مَصَالِحِهِ وَمَنَافِعِهِ وَيُثِيبُ الصَّادِقَ بَأَنْ يُوَفِّقَهُ لِلْقِيَامِ بِمَصَالِحِ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ. وكان الصدق في صدر الإسلام أساسًا في القول والعمل والمعاملة، وخصوصًا فيما يتعلق بالدين وحفظ الحديث. فقد وُرِثَتْ عن العُلماء الأوائل عُلومُ الدين مَضْبُوطة كامِلَةً كَمَا أُنزِلَت على رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وحَدَّث عنها. وكان عُلماءُ الدين وجامِعُوا أَحَادِيثِ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَتَحرونَ صِدقَ الُمَحِّدِث بِشَكْلٍ عَجِيبٍ. يَدْرُسُونَ حَيَاتَه وَيَتَحقَّقونَ مِنْ أَقواله وأَعماله وأنه يأكل مِنْ كسْب يَدِهِ وَلَمْ يَدخل على سلطان في صُحْبَةٍ أَوْ وَظِيفَةٍ. وَأنه يُطبّقُ تَعَالِيمَ الدِّينِ كَاملةً ولم تُعْهَدْ عليه كِذْبَة في حَيَاته. فعندها يُؤْخَذُ عنه الحديث النبوي.

ومثالٌ عَلَى مَا ذُكِرَ عن الإمام أحمد رحمه الله أنه سَمِعَ بِوجُودِ حَدِيثٍ عندَ عَالمٍ بدمَشق فسافَر إليهِ مِنْ بغداد حتى وَصَل دمشق فمكث مُدَّةً يسأل عن العالم وعن أخلاقه وَمُعَامَلِته وكلامه. حتى إذا وَثَقَ مِن صِدقه أتاه مُبَكِّرًا بعد أن اغتسل وتطيب ولبس أحسنَ ثيابِه إجْلالاً لِلْحَدِيثِ وَلِمَنْ يحمله. ولما اقتربَ مِن بَيْته وَجَدَ العَالِمَ خارجًا مِن بَيْتهِ يَقودُ حِمارَهُ وقد كان حَمَالاً يَكتَسِبُ رِزقَه. فَرَفَضَ الحِمَارُ أَنْ يَسِيرَ مَعهُ فَحاوَل أَنْ يَجُره أو يسُوقه بمُخْتَلَفِ الوَسَائِلِ وَيأْبَى الحِمار. فَجَمَعَ لَه طَرفَ جُبَّتِهِ وَقَدَّمَهُ لِلْحِمارِ لِيُوهِمه أَنَّ في الجُبَّةِ شَعِير أَو نحوه فَتَبعَه الحِمَار. فَنَظَر الإِمام أحمد إلى الجبة فوجَدَهَا خَالِيَةً ما فيها شيء. فَتَرَكَ أحمدُ العالم والأخْذَ عنه حَيثُ تَبَيَّنَ له كَذبُهُ على الحِمار. فلا يُؤْتَمَن على الحديث الشريف. أ. هـ. سَلامِي عَلَى أَهْلِ الحَدِيثِ فَإِنَّنِي ... نَشَأْتُ عَلَى حُبِّ الأَحَادِيثَ مِن مَهْدِي هُمُوا بَذَلُوا في حِفْظِ سُنَّةِ أَحْمَدٍ ... وَتَنْقِيحِهَا مِنْ جُهْدِهِمْ غَايةَ الْجُهْدِ وَأَعْنِي بِهِ أَسْلافَ أُمَّةِ أَحْمَدٍ ... أُولَئكَ في بَيْتِ القَصِيدِ هُمُوا قَصْدِي أُوَلئكَ أَمْثَالِ البُخَارِي وَمُسْلمٍ ... وَأَحْمَدَ أَهْلُ الجِدِّ فِي العِلم والجَدِّ بُحُورٌ وَحَاشَاهُمْ عَنْ الجَزْر إِنَّمَا ... لَهُمْ مَدَدٌ يَأْتِي مِنْ اللهِ بالمدِّ رَوَوْا وَارْتَوَوْا مِنْ بَحْرِ عِلْمِ مُحَمَّدٍ ... وَلَيْسَتْ لَهُمْ تِلْكَ الْمَذَاهِبِ مِنْ وَرْدِ كَفَاهُمْ كتابُ اللهِ وَالسُّنَةُ التِي ... كَفَتْ قَبْلَهم صَحْبَ الرَّسُولِ ذَوِي المَجْدِ فَمُقْتَدِيًا بَالحقِ كُنْ لا مُقَلِّدَا ... وَخَلِّ أَخَا التَّقْلِيدِ فِي الأَسْرِ بالقدِّ فَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْمَقِّلدِ في الهُدى ... وَمَنْ يَقْتَدِي وَالضِّدُّ يُعْرَفُ بالضِّدِّ

التحذير من الكذب وتأكده في حق الصائم

فَمَنْ يَقْتَدِي أَضْحَى إِمَام مَعَارَفٍ ... وَكَانَ أُوَيْسًا فِي العِبَادَةِ وَالزُّهْدِ فَمَا اسْتُجْلِبَتْ مَصَالِحُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ بِمِثْلِ الصِّدْقِ وَلا مَفَاسِدُهُمَا وَمَضَارُّهُمَا بِمِثْلِ الكَذِبْ قَالَ تَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} ، وَقَالَ: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} ، وَقَالَ: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} . شِعْرًا: عَلَيْكَ بِالصِّدِقِ وَلَوْ أَنَّهُ ... أَحْرَقَكَ الصِّدْقُ بِنَارِ الوَعِيدْ وَاطْلُبْ رِضَى المَوْلَى فَأشقى الوَرَى ... مَنْ أَسْخَطَ المَوْلَى وَأَرْضَى العَبِيدْ آخر: عَوِّدْ لِسَانَكَ قَوْلَ الصِّدْقِ تَحْظَ بِهِ إِنَّ الِّلسَانَ لِمَا عَوَّدْتَ يَعْتَادُ مُوَكَّلٌ بِتَقَاضِي مَا سَنَنْتَ لَهُ فِي الصِّدْقِ وَالكِذْبِ فَانْظُرْ كَيْفَ يَرْتَادُ اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْهَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتْ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينِ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينِ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ. وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فصل) : في بَيَانِ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ وَيَتَنَوَّعُ الكَذِبُ إِلى أَنْوَاعٍ، فَمَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بَأَمْوَالِ النَّاسِ وَأَعْرَاضِهم وَأَنْفُسِهم هُوَ مِنْ أَشَدِّ الكَبَائِرِ وَأَقْبَحِ الجَرَائمِ التي تُضِرُّ بَالْمُجْتَمعِ الإِنْسَانِي، وَتَقْضِي عَلى العَدْلِ، فإنَّ الذِي يَقُولُ الزُّورَ لِيَقْتَطِعَ حُقُوقَ عِبَادِ اللهِ أَوْ يَثْلِمَهُمْ فِي أَعْرَاضِهِمْ مِنْ كُلِّ مَا يَضُرُّ الإِنْسَانِيَّةَ وَيُؤْلِمُهَا.

وَقَدْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِغَضَبِ اللهِ وَكَانَ سَبَبًا في بَثِّ الفَوْضَى وَإِغْرَاءِ الْمُجْرِمِينَ عَلى اقْتِرَافِ الْجَرَائِمْ فَيَنَالُونَ مِنْ أَعْرَاضِ النَّاسِ وَأَمْوَالِهِمْ مَا يَشْتَهُونَ وَهُمْ آمِنُونَ مِنْ العُقُوبَةِ لأَنَّهُمْ يَجِدُونَ شَاهِدَ الزُّورِ يُسَاعِدُهُمْ عَلَى الإفْلاتِ مِنْهَا، وَقَدْ أَكْبَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَرَ قَوْلِ الزُّورِ وَأَعْظَمَ جُرْمَهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ قَالَ: «الإِشْرَاكُ بَاللهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ» . وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فَقَالَ: «أَلا وَقَوْلَ الزُّورِ» . فَمَا زَالَ يُكرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ. فَجُلُوسُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ اتِّكَائِهِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ، وَصَدَّرَ قَوْلُه بَأَدَاةِ التَّنْبِيهِ وَكَرَّرَ كَلِمَتَهُ حَتَّى شَقَّ عَلَى نَفْسِهِ وبَدَا الغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، وَتَمَنَّى أَصْحَابُهُ لَوْ سَكَتَ. وَقَوْلُ الزُّورِ يَشْمَلُ الشَّهَادَةَ بِالبَاطِلِ وَالْحُكْمَ الْجَائِرَ وَرَمْيَ الأَبْرِيَاءِ وَالْقَوْلَ عَلَى اللهِ بِلا عِلْمٍ. وَعَنْ خُرَيْمِ بِنْ فَاتِكٍ، قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاةَ الصُّبْحِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَامَ قَائِمًا، فَقَالَ: «عُدِلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ بِالإشْرَاكِ بِاللَّهِ» . ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَرَأ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وابْنُ مَاجَة. وَشَاهِدُ الزُّورِ يُسِيءُ إِلى نَفْسِهِ إِذْ يَبِيعُ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ، وَيُسِيءُ إِلى مَنْ شَهِدَ لَهُ بِإعَانَتِهِ عَلَى ظُلْمِهِ، وَيُسِيءُ إِلى منْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ في إِضَاعَةِ حَقِّهِ، وَيُسِيءُ إِلى القَاضِي الذي جَلَسَ يَتَحَرَّى الْعَدْلَ لِيحُكُم بِهِ وَيُنْصِفَ الضّعَفَاءِ مِنْ الأَقْوِيَاءِ وَيَنْتَزِعَ حَقَّ الْمَظْلُومِ مِنْ الظَّالِمَ بَأَنَّهُ بِشَهَادَتِهِ بِالزُّورِ يُظَلِّلُه وَيَسُدُّ أَمَامَهُ طَرِيقَ الْحَقِّ وَيَفْتَحْ بَابَ البَاطِلِ. وَبِهَذَا يَشُلُّ يَدَ العَدَالَةِ أَنْ تَقْتَصَّ لِلْمَظْلُومِ مِنْ الظَّالِمِ وَيُسِيءُ شَاهِدُ الزُّورِ إِلى أَوْلادِهِ وَأُسْرَتِهِ لأَنَّهُ يُلَوِّثَهَا بِهَذِهِ السُّمْعَةِ السَّيِّئَةِ وَالفَائِهَةِ

في التحذير من الغيبة

القَبِيحَةِ وَيَحْمِلُ النَّاسَ عَلى أَنْ يَقُولُوا لَهُمْ عَائِلَةُ الْمُزَوِّرِ، وَأَعْظِمْ بِهَا مِنْ أَذِيَّةٍ لِلْمُسْتَقِيمِينَ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي الْحَدِيث أَنَّ الكَذبَ مِنْ صِفَاتِ النِّفَاقِ. اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِن الشَّكِ بَعْدَ اليَقِينِ، وَمِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، ومِن شَدَائِدِ يَوْم الدِّين، وَنَسْأَلُكَ رِضَاكَ وَالْجَنَّةِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ سَخَطِكَ والنَّارِ، اللَّهُمَّ أَتْمِِمْ عَلَيْنَا نِعْمَتِكَ الوَافِيَةَ وَارْزُقْنَا الإِخْلاصَ فِي أَعْمَالِنَا وَالصِّدْقَ فِي أَقْوَالِنَا وَعُدْ عَلَيْنَا بإصْلاحِ قُلُوبِنَا وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) في التَّحْذِيرِ مِنْ الغِيبَةِ وَيَجِبُ اجْتِنَابَ الغَيْبَةِ قَالَ اللهُ تَعَالى: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً} أَيْ لا يَتَنَاوَلْ بَعْضُكُمْ بَعْضَا بِظَهْرِ الغَيْبِ بِمَا يَسُوؤُهُ ثُمَّ ضَرَبَ تَعَالَى لِلْغَيْبَةِ مَثَلاً فَقَالَ: «أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ» ، وَعَنْ البرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ أَرْبَى الرِّبَى اسْتِطَالَةُ الرَّجُلِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ» . وَفي الْحَدِيثِ الآخَرِ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «أَنَّ مِنْ الكَبَائِرِ اسْتِطَالَةُ الْمَرْءِ فِي عِرْضِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ» . فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَلِّل كَلامَهُ إلا في ذكْرِ الله وَمَا وَلاهُ لِيَسْلَمُ وَيَغْنَمْ.

أسْنَى كَلامِكَ مَا أَردْتَ بِفِعْلِهِ ... رُشْدًا وَخَيْر كَلامِكَ التَّسْبِيحُ شِعْرًا: أَقْلِلْ كَلامَكَ وَاسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهِ ... إِنَّ البَلاءَ بِبَعْضِهِ مَقْرُونُ وَاحْفَظْ لِسَانَكَ وَاحْتَفِظْ مِنْ غَيِّه ... حَتَّى يَكُونَ كَأنَّهُ مَسْجُونُ وَكِّلْ فُؤادَكَ باللِّسَانِ وَقُلْ لَهُ ... إِنَّ الكَلامَ عَلَيْكُمَا مَوْزُونُ آخر: إِنْ صُمْتَ عَنْ مَأكل العَادِي وَمَشْربِهِ ... فَلا تُحَاولْ عَلَى الأَعْراضِ إِفْطَارَا يَغْدُ عَلَى كَسْبِ دِينَارٍ أَخُو عَمَلَ ... لَوْ يُوزَنُ الإِثْمُ فِيهِ كَانَ قِنْطَارَا وَعَنْ سَعِيدِ بن زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا الاسْتِطَالة في عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الغِيبَةُ؟ قِيلَ: قَدْ حَدَّهَا النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ رَوَى أَبو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ» ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ» . قَالَ (أحدهم) : أَفَرَأَيْت إنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: «إنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْته، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَمِنْ الغَيْبَةِ التَّمْثِيلِيَّاتِ لِلأَشْخَاصِ وَالْهَيْئَاتِ وَمُحَاكَاتِهِمْ في اللِّبَاسِ عَلَى وَجْهِ التَّنَقُّصِ وَالاسْتِهْتَارِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُنْهَمِكُونَ فِي أَكْلِ لُحُومِ الغَوَافِلِ. فَتَكُونُ الغِيبَةُ بِالتَّعْرِيضِ وَبِالكِنَايَةِ وَبِالْحَرَكَةِ وَبِالرَّمْزِ وَالإِشَارَةِ بِاليَدِ وَكُلُّ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْمَقْصُودُ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الغِيبَةِ وَهُوَ حَرَامٌ. فَقَدْ وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيْنَا امْرَأةٌ فَلَمَّا وَلَّتْ أَوْمَأَتُ بِيَدِي أَيْ قَصِيرَةُ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «اغْتَبْتِهَا» . وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرمِذِي وَصَحَّحَهُ، قَوْلُ عَائِشَةَ عَنْ صَفِيَّةَ أَنَّهَا: قَصِيرَةٌ وَأَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ» .

وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بَالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «وَنَظَرَ فِي البَابِ فَإِذَا قَوْمٌ يَأْكُلُونَ الْجِيف، قال: مَنْ هَؤُلاء يَا أَخِي يَا جِبْرِيلُ» ؟ قَالَ الذين يَأكُلُونَ لُحُومَ النَّاس» . شِعْرًا: عَلامَ رَغِبْتَ بَالأَوْزَار حَتَّى ... رَغِبْتَ عَنْ القِيامِ بَكُلِّ فَرْضِ بِضُرِّ النَّاسِ كَمْ تَغْدُوا وَلُوْعًا ... بَأَنْيَابِ تُمَزِّقُ كُلَّ عَرْضِ فَوَاعَجَبًا لِمُغْتَابٍ زَنِيم ... بِزُورِ القَوْلِ وَالبُهْتَانِ يَمْضِي وَلَمْ يَخْتَرْ سُلُوكًا غَيْرَ غَدْرٍ ... بِهِ قَرْضَ الأَكَارِمَ شَرَّ قَرْضِ يَظَلُّ عَلَى الفَسَادِ وَلَيْسَ يَدْرِي ... بَأَنَّ الله بَيْنَ النَّاسِ يَقْضِي آخر: بَلاءٌ لَيْسَ يُشْبِهُهُ بَلاء ... عَدَاوَةِ غَيْرَ ذِي حَسَبٍ وَدِينِ يُبِيحُكَ مِنْهُ عِرْضًا لَمْ يَصُنْهُ ... وَيَرْتَعُ مِنْكَ فِي عِرْض مَصُونِ آخر: إِذَا لَؤمَ الفَتَى لَمْ يَخْشَ مِمَّا ... يُقَالُ وَإِنْ تَرَادَفَهُ الملامُ آخر: وَذِي حَسَدٍ يَغْتَابُنِي حَيْثُ لا يَرَى ... مَكَانِي وَيُثْنِي صَالحًا حَيْثُ أَسْمَعُ تَوَرَّعْتُ أَنْ أغْتَابَهُ مِنْ وَرَائِهِ ... بِمَا لَيْسَ فيهِ وَهُوَ لا يَتَوَرَّعُ وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَكَلَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ أَكْلَةً فَإِنَّ اللَّهَ يُطْعِمُهُ مِثْلَهَا فِي جَهَنَّمَ، وَمَنْ كُسِيَ ثَوْبًا بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ يَكْسُوهُ مِثْلَهُ فِي جَهَنَّمَ، وَمَنْ قَامَ بِرَجُلٍ مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُومُ بِهِ مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. فَالغِيبَةُ عَادَةٌ مَرْذُوَلَةٌ، كَثِيرًا مَا تَقْطَعُ الصِّلَةَ بَيْنَ النَّاسِ، وَتُثِيرُ الأَحْقَادَ، وَتُشَتِّتُ الشَّمْلَ، ثُمَّ هِيَ مَعْ ذَلِكَ مَضِيَعَةٌ لِلْوَقْتِ بَالاشْتِغَالِ بِمَا يَضُرُّ الإِنْسَانَ، وَلا يَنْفَعُهُ. وَمِمَّا تَقَدَّمَ يَتَبَيَّنُ تَحْرِيمُ الغِيبَةِ وَخَطَرُهَا وَشَرّهَا فَإِذًا يَجِبُ الإنْكَارُ عَلَى الْمُغْتَابِ وَرَدْعُهُ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ امْرِئٍ يَخْذُلُ مُسْلِمًا فِي مَوْطِنٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ إلا خَذَلَهُ اللهُ في مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنْ امْرئٍ مُسْلِمٍ يَنْصُرُ امْرَءًا مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلا نَصَرَهُ اللهُ في مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ» . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أُذِلَّ عِنْدَهُ مُؤْمِنُ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى نَصْرِهِ فَلَمْ يَنْصُرْهُ أَذَلِّهُ اللهُ عَلَى رُؤوسِ الْخَلائِقِ» . وَقَالَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خُطْبَتِهِ: لا يُعْجِبَنَّكُمْ مِنْ الرَّجُلِ طَفْطَفَتُهُ وَلَكِنْ مِنْ أَدَّى الأَمَانَةَ، وَكَفَّ عَنْ أعْرَاضِ النَّاسِ فَهُوَ الرَّجُلُ. وَقَالَ أَيْضًا: كَفَى بِالْمَرْءِ عَيْبًا أَنْ يَسْتَبِينَ لَهُ مِنْ النَّاسِ مَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ وَيَمْقَتُ النَّاسَ عَلَى مَا يَأْتِي. قَالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ: اعْلَمْ أَنَّ الغِيْبَةِ مَعَ تَحْرِيمِهَا شَرْعًا وَعَقْلاً هِيَ عَيْنُ العَجْز وَنَفْسُ اللُؤْمِ وَدَلِيلُ النَّقْصَ تَأبَاهَا العُقُولُ الكَامِلَةُ وَالنُّفُوسُ الفَاضِلَةُ لِمَا فِيهَا مِنْ انْحِطَاطِ الرُّتْبَةِ وَانْخِفَاضِ الْمَنْزِلَةِ. قَالَ عَلَيُّ بن الْحُسَيْنَ: الغِيْبَةِ إِدَامُ كِلابِ الناسِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يَا ابْنَ آدَمَ لَنْ تَنَالَ حَقِيقَةَ الإيمَانِ حَتَّى لا تَعِيبَ النَّاسَ بِعَيْبٍ هُوَ فِيكَ وَتَبْدَأَ بِذَلِكَ الْعَيْبِ مِنْ نَفْسِكَ فَتُصْلِحهُ فَمَا تُصْلِحُ عَيْبًا إِلا تَرَى عَيْبًا آخَرَ فَيَكُونُ شُغْلُكَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِكَ. وَقِيلَ لِرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمْ: مَا نَرَاكَ تَعِيبُ أَحَدًا وَلا تَذُمُّهُ فَقَالَ: مَا أَنَا عَلَى نَفْسِي بِرَاضٍ فَأَتَفَرَّغَ مِنْ عَيْبِهَا إلى غَيْرِهَا وَلَقَدْ أَحْسَنَ القَائِلُ: شَرُّ الوَرَى مَنْ بِعَيْبِ النَّاسِ مُشْتَغِلاً ... مُثْلُ الذُّبَابِ يُرَاعِي مَوْضِعْ العِلَلِ آخر: وَأُكْرِرُ نَفْسِي عَنْ جَزَاءِ بِغِيبَةٍ ... وَكُلُّ اغْتِيَابٍِ جُهْدُ مَا لا لَهُ جُهْدُ

آخر: إِيَّاكَ إيَّاكَ أَعْرَاضَ الرِّجَالِ فَإِنْ ... رَاقَتْ بِفِيْكَ فَإِنَّ السُّمَ فِي الدَّسَم آخر: ... إِذَا مَا ذَكَرْتَ النَّاسَ فَاتْرُكْ عُيُوبِهُمْ ... فَلا عَيْبَ إلا دُونَ مَا مِنْكَ يُذْكَرُ فَإِنْ عِبْتَ قَوْمًا بِالذي هُوَ فِيهَمْ ... فَذَلِكَ عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ مُنْكَرُ آخر: يَمْنَعُنِي مِنْ عَيْبِ غَيْرِي الذِي ... أَعْرَفُهُ عَنْدِي مِنْ العَيْبِ عَيْبِي لهمُ بالظن مِنّي بَدَا ... وَلَسْتَ مِنْ عَيْبِي فِي رَيْبِ إِنْ كَانَ عَيْبِي غَابَ عَنْهُمْ فَقَدْ ... أَحْصَى عُيوبِي عَالم الغَيْبِ وَبالتَّالِي فَخَطَرُ اللِّسَانِ عَظِيمٌ لَيْسَ كَغَيْرِهِ مِنْ الأَعْضَاءِ فَإِنَّ العَيْنَ لا تَصِلُ إِلى غَيْرِ الأَلْوَانِ وَالصُّوَرِ وَالأُذَنُ لا تَصِلُ إلى غَيْرِ الأَصْوَاتِ وَاليَدُ لا تَصِلُ إِلى غَيْرِ الأَجْسَامِ وَاللَّسَانُ يَجُولُ في كُلِّ شَيْءٍ وَبِهِ يَبِينُ الإيمَانُ مِنْ الكُفْرِ. لعُمْركَ مَا لِلْمَرْءِ كالرَّبِ حَافِظُ ... وَلَيْسَ سِوَى القُرْآن لِلْمَرْءِ وَاعِظُ لِسَانك لا يُلقِيكَ فِي الغي لَفَظُهُ ... فَإِنَّكَ مَأْخُوذٌ بِمَا أَنْتَ لافِظُ وَقَدْ رَوَى أَنَسُ بِنْ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لا يَسْتَقِيمَ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُه وَلا يَسْتَقِيمَ قَلْبُه حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ» . قُل لِلَّذي لَسْتُ أَدْرِي مِن تَلَوُّنِهِ ... أَنَاصِحٌ أَمْ عَلى غِشٍّ يُداجيني إِنّي لأَكْثِرُ مِمّا سُمتَني عَجَبًا ... يَدٌ تَشُجُّ وَأُخْرَى مِنْكَ تَأسُوني تَغتابَني عِنْدَ أَقْوَامٍ وَتَمْدَحُنِي ... في آخَرينَ وَكُلٌّ عَنْكَ يَأتِينِي هَذَانِ أَمْرَانِ شَتَّى الْبَوْنُ بَينَهُمَا ... فَاِكفُف لِسَانَك عَن ذمِّي وَتَزَينِي لَو كُنْتُ أَعْلَمُ مِنْكَ الوِدَّ هَانَ إذًا ... عَلَيَّ بَعْضُ الَّذي أَصْبَحْتَ تُولِينِي لا أَسْأَلُ النَّاسَ عَمَّا فِي ضَمَائِرهم ... مَا فِي ضَمِيري لهمُ مِن ذَاكَ يَكْفِينِي أَرْضَى عن الْمَرْءِ مَا أَصْفَى مَوْدَّتَهُ ... وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ البَغْضَاءِ يُرْضِينِي وَاللهِ لَوْ كَرِهَتْ كَفِّي مُصَاحَبَتِي ... لَقُلْتُ إِذْ كَرِهَتْ قُرْبى لَهَا بَيْنِي

ثم انْثَنَيْتُ على الأخْرَى فَقُلْتُ لَهَا ... أَنْ تُسْنِدِينِي وِإلا مِثْلَهَا كُونِي لا أَبْتَغِي وُدَّ مَنْ يَبْغِي مُقَاطَعَتِي ... وَلا أَليِنُ لِمَنْ لا يَبْتَغِي لَيْنِي إِنِّي كَذَاكَ إِذَا أَمْرٌ تَعرَّضَ لِي ... خَشِيتُ مِنْهُ عَلَى دُنْيَايَ أَوْ دِينِي خَرَجْتُ مِنْهُ وَعِرْضِي مَا أُدَنّسُهُ ... وَلَمْ أَقُمْ غَرَضًا لِلَّنْذِلِ يَرْمِينِي رُبَّ امرِئٍ أَجْنَبِيٍّ عَنْ مُلاطَفتِي ... مَحْضِ المَوَدَّةِ في البَلْوَى يُوَاسِينِي ومُلْطفٍ بِي مُدَارٍ ذِي مُكَاشَرةٍ ... مُغْضٍ عَلَى وَغَر في الصَّدْرِ مَكْنُونِ لَيْسَ الصَّدِيقُ الذي تُخْشَى بَوَادرهُ ... وَلا العَدُوّ عَلَى حال بِمَأمُونِ يَلُومنِي النَّاسُ فِيمَا لَوْ أُخُبِّرِهُم ... بالعُذْرِ مِنِّي فِيه لَمْ يَلُومُونِي اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِصَالِحِ الأَعْمالِ وَاكْفِنَا بِحَلالِكَ عَنْ حَرَامِكَ وَبِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرْ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. (فَصْلٌ) : وَفي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – عَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا يَزِلُّ بِهَا في النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ» . وَأَخْرَجَ الترمِذي وَلَفْظهُ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنَ الشَّرِّ مَا يَعْلَمُ مَبْلَغَهَا يَكْتُبُ اللهُ لَهُ بِهَا عَلَيْهِ سَخَطَهُ إِلى يَوْمِ القِيامَةِ» . رَوَاهُ في شَرْحِ السُّنَّةِ، وَرَوَاهُ مَالِكُ، وَالتِّرْمِذي، وَابْنُ مَاجَة نَحْوَهُ. فَالغِيبَةُ مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ وَمِنَ الذُّنُوبِ التِّي قَلَّ مَنْ يَسْلَمُ مِنْهَا كَالكَذِبِ وَالرِّيَاءِ وَالرِّبَا وَالمُدَاهَنَة. وَإِذَا فَهِمْتَ مَا سَبَقَ فَاعْلَمْ أَنَّ الذُّنُوبَ المُتَعَلِّقَةِ بِحُقُوقِ العِبَادِ لا تُمْحَى إلا أَنْ عَفَوْا عَنْهَا أَوْ رُدَّتْ لَهُمْ مَظَالِمَهُمْ، فَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الدَّوَاوِينُ عِنْدَ اللهِ ثَلاثَةٌ: دِيوَانٌ لا يَعْبَأُ اللهُ بِهِ شَيْئاً، وَدِيوَانٌ لا يَتْرُكُ اللهُ مِنْهُ شَيْئاً، وَدِيوَانٌ لا يَغْفِرُهُ اللهُ فَأَمَّا الدِّيوَانُ الذِي لا يَغْفِرُهُ اللهُ فَالشِّرْكُ بِاللهِ» .

الدواوين ثلاثة أثقلها ديوان ظلم العباد

قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} الآية، وقال تعالى: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ} . وَأَمَّا الذِي لا يَعْبَأُ اللهُ بِهِ شَيْئاً فَظُلمُ العَبْدِ نَفْسَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ مِنْ صَوْمِ يَوْمِ تَرَكَهُ أَوْ صَلاةٍ، فَإِنَّهُ يَغْفِرُ ذَلِكَ وَيَتَجَاوَزَ إنْ شَاءَ، وَأَمَّا الدِّيوَانِ الذِي لا يَتْرُكُ مِنْهُ شَيْئاً فَظُلمُ العِبَادِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا القِصَاصُ لا مَحَالَةَ. رَوَاهُ أَحْمَدَ فِي مُسْنَدِهِ، وَالحَاكِمْ فِي مُسْتَدْرَكِهِ فَظُلْمُ العَبْدِ نَفْسَهُ بِيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ هُوَ أَخَفُّ الدَّوَاوِينِ وَأَسْرَعُهَا مَحْوًا فَإِنَّهُ يُمْحَى بِالتَّوْبَةِ وَالاسْتِغْفَارِ والحَسَنَاتِ المَاحِيَةِ وَالمَصَائِبِ المُكَفِّرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلا رَيْبَ أَنَّ الغِيبَةَ جَنَابَةٌ عَلَى أَعْرَاضِ النَّاسِ وَهُمْ غَافِلُونَ فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يَتَحَلَّلَ لِمَنْ اغْتَابَهُ وَيَطْلُبَ مِنْهُ العَفْوَ إِنْ كَانَ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ وَيَتُوبُ وَيَتَنَدَّمُ وَيَسْتَغْفِرُ لِمَنْ اغْتَابَهُ وَيَذْكُرُهُ بِمَا فِيهِ مِنَ الخِصَالِ الحَسَنَةِ عِنْدَ مَنِ اغْتَابَهُ عِنْدَهُمْ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَرْحَمَهُ وَيَغْفِرَ لَهُ إِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ أَنَسٍ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ كَفَّارَةِ الغِيبَةِ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لِمَنْ اغْتَبْتَهُ تَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلَهُ» . وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا تَرَتَّبَ عَلَى الغِيبَةِ مَصْلَحَةٌ أَوْ دَرْءُ مَفْسَدَةٍ كَانَتْ لازِمَةً وَإِذَا تَرَتَّبَ عَلَيْهَا أَمْرٌ جَائِزٌ فَجَائِزَةٌ، وَيُمْكِنْ ضَبْطُ الأَوَّلُ في خَمْسَةِ أُمُورٍ أَوْ سِتَّةِ أُمُورٍ. الأَوَّلُ: المَظْلُومُ الذِي يُرِيدُ أَنْ يَشْكُو لِمَنْ يَرْفَعُ مَظْلَمَتَهُ، فَلَهُ أَنْ يَذْكُرَ عَيْبَ ظَالِمِهِ الذِي يَحْتَاجُ إِلَيَهِ في بَيَانِ حَقِّهِ. الثَّانِي: الاسْتِعَانَةُ عَلَى تَغْييرِ المُنْكَرِ لِمَنْ يَظُنُّ أَنَّ لَهُ قُدْرَةً عَلَى إِزَالَتِهِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَقُولُ: إِنَّ فُلانًا ارْتَكَبَ كَذَا وَفَعَلَ كَذَا.

الثَّالِثُ: الاسْتِفْتَاءُ فَإِنَّهُ يَجُورُ لِلْمُسْتَفْتِي أَنْ يَقُولَ لِلْمُفْتِي: إِنَّ فُلانًا ظَلَمَنِي فِي كَذَا وَكَذَا، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ مَثَلاً؟ الرَّابِعُ: التَّحْذِيرُ فَيُحَذِّرُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ شَرَّ مَنْ يَتَصَدَّى لِلزَّعَامَةِ فِي أُمُورِهِمْ العَامَّةُ، أَوْ مَنْ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ القَضَاءُ فِي مَصَالِحِهِمْ؛ أَوْ مَنْ يَتَصَدَّى لإفْتَائِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ، كَالزُّعَمَاءِ فِي الشّؤون الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَويَّةِ وَالشُّهُودِ وَالْمُدَرِّسِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّنْ يُشْتَرَطُ فِيهِمْ الأَمَانَةِ والاتِّصَافِ بِمَكَارِمِ الأَخْلاقِ، فَيَصِحُّ أَنْ يُبَيِّنَ مَا فِيهِمْ مِنْ النَّقَائِصْ وَالعُيُوبِ وَيَرْفَعَ بَأمْرِهِمْ لَيُبْعَدُوا. الْخَامِسُ: أَنْ يَتَجَاهَرَ بِفِسْقِهِ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافَى إلا الْمُجَاهِرُونَ» . حَذَارِ حَذارِ مِنْ شَيْطَانِ إنْسٍ ... بِهِ لَعِبَ الْهَوَى مَع شَرِّ َرَهْطِ يُرِيكَ تَمَلُّقًا مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ ... وَيُبْدِي لِلخِدَاعِ لِسَانَ بَسْطِ رُويْدَكَ لا تُغَرَّ بِهِ وَحَاذِرْ ... وُقُوعَكَ فِي حَضِيضِ هَوانِ سُخْطِ فَلا تَصْحَبْ سِوَى خِلٍّ تَحَلَّى ... بِإيمَانٍ قَويمٍ لَيْسَ يُخْطِي تَنَلْ عِزًّا وَمَجْدًا وَاعْتِبَارًا ... وَرَبُّكَ خَيْرَ فَضْلٍ مِنْهُ يُعْطِي اللَّهُمَّ وفقنا لِصَالِح الأعمال واكفنا بِحَلالِكَ عَنْ حَرَامِكَ وَبِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِواك إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدير. وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. (فَصْلٌ) وَأَسْبَابُ الغِيبَةِ أَحَدَ عَشَرَ: 1- تَشَفِّي الغَيْظِ بِذِكْرِ مَسَاوِي الْمَوْقُوعِ في عِرْضِهِ بِالغِيبَةِ قَوْلاً أَوْ فِعْلاً. مُوَافَقَةُ الأَقْرَانِ وَالزُّمَلاءِ وَمُسَاعَدَتُهُمْ وَيَرَى ذَلِكَ فِي حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ، وَأَنَّهُ لَوْ أَنْكَر عليهم اسْتَثْقَلُوه فيُسَاعِدُهم على ذلك.

قصيدة في التحذير من الغيبة ويليها الحث على اجتناب ما لا يحل

3- أَنْ يَسْتَشْعِرَ مِنْ إِنْسَانٍ أَنَّهُ سَيَقْصِدُهُ وَيُطَوِّلُ لِسَانَهُ عَلَيْهِ أَوْ يَقْبِّحَ حَالَهُ عِنْدَ مُحْتَشِمٍ فَيُبَادِرَهُ فَيَطْعَنُ فِيهِ لِيُسْقِطَ شَهَادَتَهُ أَوْ يَبْتَدِئ بِذكر ما فيه صَادِقًا عَلَيْهِ لِيَكْذِبَ عَلَيْهِ بَعْدَهُ فَيُروجُ كذِبَهُ بِالصِّدْقِ الأول نَسأل الله العافية. وَلْيَحْذَرِ الإنْسَانُ مِنْ ذِي الوَجْهَين الذي يَأْتِي هَؤُلاء بوجْه وهَؤُلاء بوجه قال بعضهم: يَسْعَى عَلَيْكَ كَمَا يَسْعَى إِلَيْكَ فَلا ... تَأْمَنْ غَوَائِلَ ذِي وَجْهَينُ كَذَّابِ 4- أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ شَيْءٌ فَيَذْكُرَ أَنَّ الذِي فَعَلَهُ فُلانٌ وَيَتَبَرَّأَ مِنْهُ مَعَ أَنَّ التَّبَرُّأَ يَحْصَلُ بِدُونِ أَنْ يَذْكُرَ الغَيْرَ بِشَخْصِهِ. 5- أَنْ يَنْطَوِي عَلَى عَدَاوَةِ شَخْصٍ وَيَحْسِدَهُ فَيَرْمِيهِ بِمَساوِئ وَمَعائِبَ يَنْسِبُهَا إِلَيْهِ لِيَصْرِفَ وُجُوهَ النَّاسِ عَنْهُ وَيُسْقِطَ مَهَابَتَهُ وَمَكَانَتَهُ مِنْ النُّفُوسِ وَيَقْصِدُ بِذَلِكَ إِثْبَاتُ فَضْلِ نَفْسِهِ وَلَكِنَّ العَاقِلَ اللَّبِيبَ يَعْرِفُ أَنَّهُ مَا أَضَرُّ عَلَى الأَعْدَاءِ وَلا أَشَدُّ مِنْ التَّمَسُّكِ بِالأَخْلاقِ الفَاضِلَةِ وَالاعْتِرَافِ بالفَضْلِ لأَهْلِهِ كَمَا قِيلَ: وَمَا عَبَّرَ الإِنْسَانُ عَنْ فَضْلِ نَفْسِهِ ... بِمِثْل اعْتِقَادِ الفَضْلِ فِي كُلِّ فَاضِلِ وَلَيْسَ مِنْ الإنْصَافِ أَنْ يَدْفَعَ الفَتَى ... يَدَ النَّقْصِ عَنْهُ بِانْتِقَاصِ الأَفَاضِلِ آخر: أَرَى كُلَّ إنْسَانٍ يَرَى عَيْبَ غَيْره ... وَيَعْمَى عَنْ العَيب الذي هو فيه وما خَيْرُ مَنْ تَخْفَى عَلَيْهِ عُيُوبُهُ ... وَيَبْدُو لَهُ العَيْبُ الذي بَأَخِيهِ وَكَيْفَ أَرَى عَيْبًا وَعَيْبِي ظَاهِرٌ ... وَمَا يَعْرِفُ السَّوْءاتِ غَيْرُ سَفِيهِ فَإِذَا رَأَيْتُ إِنْسَانًا مُبْتَلَى بِسَبِ الغَوَافِلِ وَأَكْلُ لُحُومِهم يُريد بذلكَ رِفعةَ نَفْسِهِ وَخَفْضِ الغَيْرِ كَأنْ يَقُولَ: فلانٌ جَاهِلٌ، أَوْ فَهْمُهُ ضَعِيف، أو لا يُحْسِنُ التعليمَ، أو عِبَارَتُه رَكِيكَةٌ، أَوْ لا يُحْسِنُ الْخِطَابَةَ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا تَتَدَرَّجُ بِهِ إِلى إظْهَارِ فَضْلٍ لِنَفْسِهِ بِسَلامتِهِ مِنْ تِلْكَ العُيوبِ وَالنَّقَائِصِ، فَقل له: اتقِ الله هذا لا يَرفَعُكَ

وَلا يزيلُ مَا فِيكَ مِن النقائصِ اقْتَصِرْ على تَأملِ عُيوبكَ فَهُو أَوْلَى بِكَ يا مَغْرُور. 6- أَنْ يَقْدَحَ عِنْدَ من يُحِبُّ الشَّخْصَ حَسَدًا لإكَرَامِهِمْ وَمَحَبَّتِهِمْ لَهُ. 7- أَنْ يَقْصِدَ اللَّعِبَ وَالهَزَلَ وَالْمُزَاحَ وَالْمُطَايَبَةِ وَيُضْحِكَ النَّاسِ. 8- السُّخْرِيَةُ وَالاسْتِهْزَاءُ بِالشَّخْصِ اسْتِحْقَارًا لَهُ وَهُوَ يَجْرِي فِي الْحُضُورِ وَالغَيْبَةِ وَمَنْشَؤُهُ التَّكَبُّرُ وَاسْتِصْغَارُ الْمُسْتَهْزَأ بِهِ وَازْدِرَاءُهُ. وَهَذَا غَالبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ نَزلَتْ هِمَّتُهُ وَرَكَّتْ حالتُه وَصَارَ يُضْحِكُ النَّاس. شِعْرًا: إِنْ صُمْتَ عَنْ مَأْكَلِ العادي وَمَشْرَبِهِ ... فَلا تُحَاوِلْ عَلَى الأعْرضَ إِفْطَارَا 9- أَنْ يَتَعَجَّبَ مِنْ فِعْلِ الغَائِبِ لِلْمُنْكَرِ وَهَذَا مِنْ الدِّينِ لَكِنْ أَدَّى إِلى الغَيبَةِ بِذِكْرِ اسْمِهِ فَصَارَ مُغْتَابًا مِنْ حَيْثُ لا يَدْرِي. 10- أَنْ يَغْتَمَّ لِسَبَبْ مَا يُبْتَلَى بِهِ فَيَقُولُ مِسْكِينٌ فُلانٌ قَدْ غَمَّنِي أَمْرُهُ وَمَا أبْتُلِي بِهِ مِنْ الْمَعْصِيَةِ وَغَمّهُ وَرَحْمَتَهُ خَيْرٌ لَكِنْ سَاقَهُ إِلى شَرٍّ وَهُوَ الغِيبَةُ مِنْ حَيْثُ لا يَدْرِي أَنَّهُ صَاغَهَا بِصِيغَةِ التَّرَحُّمِ وَالتَّوَجُّعِ. 11- إظْهَارُ الغَضَبِ للهِ عَلَى مُنْكَرٍ قَارَفَه إِنْسَانٌ فَيَذْكُرُ الإنْسَانَ بِاسْمِهِ وَكَانَ الوَاجِبُ أَنْ يُظْهِرَ غَضَبَهُ عَلَى فَاعِلِهِ وَلا يُظْهِرَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ بَلْ يَسْتُرُ اسْمَهُ وَهَذِهِ الثَّلاثَةُ رُبَّمَا تَخْفَى عَلَى العُلَمَاءِ وَطَلَبَةِ العِلْمِ فَضْلاً عَنْ العَوَامِّ وَلِذَلِكَ تَسْمَعُ مِنْهُمْ كَثِيرًا مَا يَقُولُونَ فُلانُ وَنِعْمَ لَوْلا أَنَّهُ يَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا يُعَامِلُ بالرِّبَا مَثَلاً وَكَانَ الوَاجِبُ نُصْحُهُ بَدَلَ الغِيبَةِ، وَلَكِنْ يَا أَخِي بَشِّرْ الموقوع في عِرْضِهِ بِغيبَةٍ أَوْ قَذْفٍ أَوْ سَبٍّ أَوْ نَمٍّ أَوْ نَحْو ذلك بأنَّهُ سَيَفرحُ وَيَسْترُ حِينَ مَا يَأخُذُ حَسَنَاتٍ مَا تَعِبَ بِهَا فِي لَيْل ولا نَهَارٍ صَيْفٍ وَلا شِتَاءٍ وَهَلْ أَحْلَى وَأَلَذَ مِنْ حَسَنَاتٍ تَأَتِيكَ مَا تَعِبْتَ بِهَا. شِعْرًا: ... يُشَارِكُكَ الْمُغْتَابُ فِي حَسَنَاتِهِ وَيُعْطِيكَ أَجْرَى صَوْمِهِ وَصَلاتِهِ

وَيَحْمِلُ وِزْرًا عَنْكَ ظَنَّ بِحَمْلِهِ عَنْ النُّجْبِ مِنْ أَبْنَائِهِ وَبَنَاتِهِ فَكَافِيهِ بِالْحُسْنَى وَقُلْ رَبِّ جَازِهِ بِخَيْرٍ وَكَفِّرْ عَنْهُ مِنْ سَيَّئَاتِهِ فَيَا أَيُّهَا الْمُغْتَابُ زِدْنِي فَإِنْ بَقِي ثَوَابُ صَلاةٍ أَوْ زَكَاةٍ فَهَاتِهِ فَغَيْرُ شَقِيٍّ مِنْ يَبِيتُ عَدُوُّهُ يُعَامِلُ عَنْهُ اللهَ فِي غَفَلاتِهِ فَلا تَعْجَبُوا مِنْ جَاهِلٍ ضَرَّ نَفْسَهُ بإمْعَانِهِ فِي نَفْعِ بَعْضِ عُدَاتِهِ وَأَعْجَبُ مِنْهُ عاَقِلٌ بَاتَ سَاخِطًا عَلَى رَجُلٍ يُهْدِي لَهُ حَسَنَاتِهِ وَيَحْمِلُ مِنْ أَوْزَارِهِ وَذُنُوبِهِ وَيَهْلَكُ فِي تَخْلِيصِهِ وَنَجَاتِهِ فَمَنْ يَحْتَمِلْ يَسْتَوْجِبِ الأجْرَ وَالثَّنَا وَيُحْمَدُ في الدُّنْيَا وَبَعْدَ وَفَاتِهِ وَمَنْ يَنْتَصِفْ يَنْفَخْ ضِرًا مَا قَدْ انْطَفَى وَيَجْمَعُ أَسْبَابَ الْمَسَاوِي لِذَاتِهِ فَلا صَالِحٌ يُجْزَى بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلا حَسَنٌ يُثْنَى بِهِ فِي حَيَاتِهِ يَظَلَّ أَخُو الإِنْسَانِ يَأْكُلُ لَحْمَهُ كَمَا فِي كِتَابِ اللهِ حَالَ مَمَاتِهِ وَلا يَسْتَحِي مِمَّنْ يَرَاهُ وَيَدَّعِي

من النظر كالنظر إلى الاجتناب

بَأنَّ صِفَاتِ الكَلبِ دُونَ صِفَاتِهِ وَقَدْ أَكَلا مِنْ لَحْمِ مَيْتٍ كِلاهُمَا وَلَكَنْ دَعَى الكَلْبَ اضْطِرَارُ اقْتِيَاتِهِ تَسَاوَيْتُمَا أَكْلا فَأشْقَاكُمَا بِهِ غَدَا مَنْ عَلَيْهِ الْخَوْفُ مِنْ تَبَعُاتِهِ وَمَا لِكَلامِ مَرَّ كَالرِّيحِ مَوْقِعٌ فَيَبْقَى عَلَى الإِنْسَانُ بَعْضُ سِمَاتِهِ اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا حِفْظَ جَوَارِحِنَا عَنْ الْمَعَاصِي مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَنَقِّ قُلُوبَنَا مِنْ الحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالإحَنْ. اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ شَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ وَعُضَالِ الدَّاءِ وَخَيْبَةُ الرَّجَاءِ وَزَوَال النِّعْمَةِ. اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بَالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلا مَفْتُونِينَ وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ، يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلَ مَن رَجَاهُ رَاجٍ يَا قَاضِي الْحَاجَاتِ، وَمُجِيبَ الدَّعَواتِ، هَبْ لَنَا مَا سَألناهُ، وَحَقق رَجَاءَنا فِيمَا تَمَنَيْنَاهُ، يَا مَنْ يَملِكُ حَوَائِجَ السَّائِلِينَ وَيَعْلَمُ مَا فِي صُدُورِ الصَّامِتِينَ أَذِقْنَا بَرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةِ مَغْفِرَتِكَ وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فصل) : ومِِمَّا يَتَأَكَّدُ اجْتِنَابِهِ وَلا يَتِمُّ الصِّيَامُ لِمَنْ لَمْ يَجْتَنِبْهُ النَّظَرُ إلى الْمَرْأَةِ الأَجْنَبِيَّةِ وَالرَّجُلِ الأَمْرَدِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَةٍ شَرْعِيَّةٍ لأَنَّ الْمَرْأَةَ كُلُّهَا عَوْرَةٌ لا يَصِحُّ أَنْ يَرَى مَنْ لَيْسَ مِنْ مَحَارِمِهَا شَيْئًا مِنْ جَسَدِهَا وَلا شَعْرَهَا الْمُتَّصِلِ بِهَا وَمَا تَفْعَلُهُ بَعْضُ نِسَاءِ هَذَا الزَّمَانِ مِنْ التَّبَرُّجِ وَالتَّجَمُّلُ فِي الأَسْوَاقِ مَا هُو مُجَاهَرَةٌ بِالْمَعَاصِي وَتَشَبُّهُ بِنِسَاءِ الإفْرَنْجِ. فَمِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ وَأَفْظَعَهَا خُرُوجُ الْمَرْأَةُ كَاشِفَةً رَأْسِهَا أَوْ عُنُقَها أَوْ نَحَرَهَا أَوْ ذِرَاعَيْهَا أَوْ سَاقَيْهَا أَوْ وَجْهِهَا أَوْ الْجَمِيعَ أَوْ الثِّيَابِ الْمُظْهِرَةِ

لِلْمَفَاتِنِ أَوْ اللِّبَاسِ الشَّفَافِ الذي وَجُودُهُ كَعَدَمِهِ لا يَسْتُرُ مَا تَحْتَهُ فَهَذَا دَاخِلٌ فِي التَّبَرجُّ فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَمْنَعَ نِسَاءَهُ وَمَنْ لَهُ عَلَيْهِنَّ وِلايَة وَيَقْبَلْنَ مِنْهُ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ وَيُلِزْمُهُنَّ السِّتَر وَالتَّحفُّظَ ويَنْصَحَ إِخْوَانَهُ الْمُهْمِلِينَ لِلمُتَّصِفَاتِ بِذَلِكِ. وَمِنْ الآدَابِ التِي أَمَرَ الله تَعَالَى بِهَا نِسَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَنهُنَّ القُدْوَةُ الْحَسَنَةَ فِي العَفَافِ وَالتُّقَى وَالتَّسَتُّرِ وَالْحَيَاءِ وَالإيمانِ وَمَعَ حَيَاءِ النَّاسِ مِنْهُنَّ وَاحْتِرَامِهِمْ لَهُنَّ مَا ذَكَرَهُ تَعَالى فِي سُورَةِ الأَحْزَابِ بِقَوْلِهِ: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} . قَالَ مُقَاتِلُ: التَّبَرُّجُ أَنَّهَا تُلْقِي الْخِمَارَ عَلَى رَأْسِهَا وَلا تَشُدُّهُ فَيُوَارِي قَلائِدَهَا وَقُرْطَهَا وَعُنُقَهَا وَيَبْدُو ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْهَا وَذَلِكَ التَّبَرُّجُ. وَقَالَ تَعَالى آمِرًا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ عَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ فَلا يَنْظُرُوا إِلا لِمَا أَبَاحَ لَهُمْ النَّظَرُ إِلَيْهِ: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} . قَالَ أَبُو حَيَّانٍ فِي تَفْسِيرِهِ: قُدِّمَ غَضُّ البَصَرِ عَلَى حِفْظِ الفُرُوج لأَنَّ النَّظَرَ بَرِيدُ الزِّنَا وَرَائِدُ الفُجُورِ وَالبَلْوَى فِيهِ أَشَدُّ وَأكْثَرُ لا يَكَادُ يَقُدْرُ عَلَى الاحْتِرَازِ مِنْهُ، وَهُو البَابُ الأَكْبَرُ إلى القَلْبِ وَأَعْمَرُ طُرُقِ الْحَوَاسِّ إِلَيْهِ وَيَكْثُرُ السُّقُوطُ مِنْ جِهَتِهِ. وَقَالَ تَعَالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} ، وَقَالَ تَعَالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} ، قَالَ البَغَوِي: أَيْ خِيَانَتُهَا، وَهِيَ اسْتِرَاقُ النَّظَرِ إِلى مَا لا يَحِلُّ. قَالَ مُجَاهِدُ: هُوَ نَظَرُ الأَعْيُنِ إلى َمَا نَهَى اللهُ عَنْهُ. عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

قَالَ: «كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ الزِّنَا، مُدْرِكٌ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ، الْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الاِسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلاَمُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. شِعْرًا: تَخَيَّرَ مِنَ الطُّرْقِ أَوْسَاطَهَا ... وَعَدِّ عَنِ الجَانِب المُشْتَبِهْ وسَمْعَكَ صُنْ عن سَمَاعِ القَبِيحِ ... كَصَوْنِ اللِّسَانِ عَنِ النُّطْقِ بِهْ فَإِنَّكَ عِنْدَ اسْتِمَاعِ القَبِيحِ ... شَرِيكٌ لِقَائِلِهِ فَانْتَبِهْ وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «النَّظْرَةُ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ مَنْ تَرَكَهَا مِنْ مَخَافَتِي أَبْدَلْتُهُ إِيمَانًا يَجِدُ حَلاوَتُهُ فِي قَلْبِهِ» . وَرَوَى الأصْبَهَاني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كُلُّ عَيْنٍ بَاكِيَةٌ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلا عَيْنًا غَضَّتْ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ، وَعَيْنًا سَهِرَتْ في سَبِيلِ اللهِ، وَعَيْنًا خَرَج مِنْهَا مِثْلُ رَأْسِ الذُّبَابِ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ» . وَأَخْرَجَهُ الإمَامُ أًحْمَدُ، وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، وَقَالَ: صَحِيحُ الإِسْنَادِ. وَاعْتَرَضَهُ المُنْذِرِي. عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «اضْمَنُوا لِى سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنُ لَكُمُ الْجَنَّةَ: اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إِذَا ائْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ» . وَقَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: وَالنَّظَرُ أَصْلُ عَامَّةِِ الحَوَادِثِ التي تُصِيبُ الإِنْسَانَ فَإِنَّ النَّظْرَةَ تُوَلِّدُ خَطْرَةً، ثُمَّ تُوَلِّدُ الخَطْرَةُ فِكْرَةً، ثُمَّ تُوَلِّدُ الفِكْرَةُ شَهْوَةً، ثُمَّ تُوَلِّدُ الشَّهْوَةُ إِرَادَةً ثُمَّ تَقْوَى فَتَصِيرُ عَزِيمَةً جَازِمَةً فَيَقَعْ الفِعْلُ وَلا بُدَّ مَا لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ. وَفي هَذَا قِيلَ: الصَّبْرُ عَلَى غَضِّ النَّظَرَ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى أَلَمٍ بَعْدَه.

كُلُّ الحَوَادِثِ مَبْدَاهَا مِنَ النَّظَرِ ... وَمُعْظَمُ النَّارِ مِن مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ وَالعَيْنُ أَصْلْ عِنَاهَا فِتْنَةُ النَّظَرِ ... وَالقَلْبُ كُلُّ أَذاهُ الشُّغْلُ بِالفِكَرِ كَمْ نَظْرَةٍ نَقَشَتْ في القَلْبِ صُورَةَ من ... رَاحَ الفُؤَادُ بِهَا في الأسْرِ وَالحَذَرِ وَالمَرْءُ مَا دَامَ ذَا عَيْنٍ يُقَلِّبُهَا ... في أَعْيُنِ العِيْن مَوقُوفٌ على الخَطَر يَسُرُّ مُقْلَتَهُ مَا ضَرَّ مُهْجَتَهُ ... لا مَرْحَبًا بِسَرُورٍ جَاءَ بِالضَّرَرِ فَالقَلْبُ يَحْسُدُ نُورَ العَيْنِ إِذَْ نَظَرَتْ ... وَالعَيْنُ تَحْسُدُهُ حَقًا عَلَى الفِكَرِ يَقُولُ قَلْبِي لِعَيْنِي كُلَّمَا نَظَرَتْ ... كَمْ تَنْظُرِينَ رَمَاكِ اللهُ بِالسَّهَرِ فَالعَيْن تُورثُهُ هَمًا فَتُشْغِلُهُ ... وَالقَلْبُ بالدَّمْعِ يَنْهَاهَا عَنِ النَّظَرِ هَذَانِ خَصْمَانِ لا أَرْضَى بِحُكْمِهِمَا ... فَاحْكُمْ فَدَيْتُكَ بَيْنَ القَلْبِ وَالبَصَرِ اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا وَفَّقْتَ إليه القَوْم وأَيْقِظْنَا من سِنة الغَفْلَةِ والنَّوم وارزِقْنَا الاستعدادَ لِذَلِكَ اليَوْمِ الذي يَرْبَحُ فيه المُتَّقُونَ، اللَّهُمَّ وعامِلنَا بإحْسَانِكَ وَجُدْ علينا بِفَضْلِكَ وامْتِنانِكَ واجعلنا من عِبادِكَ الذينَ لا خَوفٌ عليهم ولا هُمْ يَحْزَنُون، اللَّهُمَّ ارحَمْ ذُلَّنَا بَيْنَ يَدَيْكَ واجعلْ رَغْبَتَنَا فِيما لَدَيْكَ، ولا تحرمنا بِذُنوبنا، ولا تَطْرُدْنَا بعُيوبنا، واغْفِرْ لَنِا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ منْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فصل) : وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيّ: «يَا عَلي لا تُتْبِع النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإِنَّ لَكَ الأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالدَّارِمِي. وفي حَدِيثِ جَرِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظْرَةِ الفُجَاءَةِ فَقَالَ: «اصْرِفْ بَصَرَكَ» . وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أبِي هُرَيْرَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ مِنْ امْرَأَةً

تحربم الخلوة بالمرأة بدون محرم والتحذير من اتخاذ صبي

مَا يُعْجِبُهُ فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ» . وَعَنْ ابنِ مَسْعُودِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ فَإِذَا خرَجَتْ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذي. وَعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي النِّسَاءِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَنْظُرُ إلى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ أَوَّل مَرَّةٍ ثُمَّ يَغُضُّ بَصَرَهُ إِلا أَحْدَثَ اللهُ لَهُ عِبَادَةٌ يَجِدُ حَلاوَتَهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. شِعْرًا: لا تَخلُ بِامرأَةٍ لَدَيكَ بريبَةٍ لَو كُنتَ في النُسّاكِ مِثلَ بَنانِ وَاغْضُضْ جُفُونَكَ عَنْ مُلاحَظَةِ النِّسَاء وَمَحَاسِنِ الأَحْدَاثِ وَالصِّبْيَانِ إِنَّ الرِجالَ الناظِرينَ إِلى النِّسَاءِ مِثلُ الكِلابِ تَطوفُ بِاللُحمَانِ إِن لَم تَصُن تِلكَ اللُحومَ أُسودُها أُكِلَت بِلا عِوَضٍ وَلا أَثمانِ آخر: لَيْسَ الشجاعُ الذي يَحْمِي فَرِيسَتَهُ ... عِنْدَ النِزَالِ ونارُ الحَرْبِ تَشْتَعِلُ لَكِنَّ مَنْ غَضَّ طَرْفَا أَوْ ثَنَى قَدَمًا ... عَنْ الْحَرَامِ فَذَاكَ الدرِاعُ البَطَلُ

يخلو بهم أو اتخاذ خادمة تخلو بالرجال

اللَّهُمَّ نَجّنا برحمتِكَ مِن النارِ وعافِنا من دار الخِزْيَ والبَوَار، وَأَدْخِلنا بفَضْلِكَ الجنةَ دارَ القَرار وعامِلْنَا بكَرَمِكَ وَجودِكَ يا كَرِيمُ يا غَفارُ وَاغْفِرْ لَنَا يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَل مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ يَا قَاضِي الْحَاجَاتِ، وَمُجِيبَ الدَّعواتِ، هَبْ لَنَا مَا سَأَلْنَاهُ، وَحَقق رَجَاءَنا فِيمَا تَمَنْيَنْاهُ، يَا مَنْ يَمْلِكُ حَوَائِجَ السائِلينَ وَيَعلمُ مَا في صُدُورِ الصَّامِتينَ أذقنا بَرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةَ مَغْفِرَتِكَ وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فصل) : قَالَ شَيْخُ الإِسْلامِ رَحِمَهُ اللهُ: يُقَالُ إِنَّ غَضَّ البَصَرِ عَنْ الصُّورَةِ التِي يُنْهَى عَنْ النَّظَرِ إِلَيْهَا كَالْمَرْأَةِ وَالأَمْردِ الْحَسَنِ يُورِثُ ثَلاثَ فَوَائِدَ: إحْدَاهَا: حَلاوَةِ الإِيمَانِ، وَلَذَّتَهُ التِي هِيَ أَحْلَى وَأَطْيَبُ مِمَّا تَرَكَهُ للهِ، فَإنَّ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا للهِ عَوَّضَهُ اللهُ خَيْرًا مِنْهُ. الفَائِدَةُ الثانيَةُ: أَنَّ غَضَّ البَصَرِ يُورِثُ نُورَ القَلْبِ وَالفَرَاسَةِ. الفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: قُوَّةُ القَلْبِ وَثَبَاتِهِ وَشَجَاعَتُهُ فَيَجْعَلُ اللهُ لَهُ سُلْطَانَ البَصِيرَةِ مَعَ سُلْطَانِ الْحُجَّةِ، فَإِنَّ فِي الأَثَرِ (الذِي يُخَالِفُ هَوَاهُ يَفْرَقُ الشَّيْطَانُ مِنْ ظِلِّهِ) . وَإِذَا كَانَ النَّظَرُ إلي مَنْ لا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ مُحَرَّمًا فَالْخَلْوَةُ بِمَنْ لا تَحِلُّ مُحَرَّمَةٌ مِنْ بَابَ أَوْلى وَأَحْرَى لأَنَّ الوَسَاوِسَ الشَّيْطَانِيَّةِ تَجِدُ لَهَا مَجَالاً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَثَوَرَانِ الشَّهْوَةِ يَجِدُ لَهُ مُبَرِّرًا فَيَضْعُفُ العَقْلُ عِنْدَ هَذَا، وَلا يَكُونُ لَهُ تَأْثِير عَلَى زَجْرِ الشَّهْوَةِ فَتَسُوقُهُ نَفْسُهُ الأَمَّارَةُ بالسُّوءِ إِلى الفَاحِشَةِ، لِهَذَا نَهَى الْمُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَلْوَةِ فَقَدْ رُوِي عَنْ ابن عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا يَخْلُوَنَّ أَحَدُكُمْ بامْرَأَةٍ إلا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ» . فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قَالَ: «الْحَمْوُ الْمَوْتُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالْحَمْوُ: قَرِيبُ الزَّوْجِ كَأَخِيهِ وَابْنِ أَخِيهِ وَابْنِ عَمِّهِ. وَعَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلاَ لاَ يَخْلُو رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَان» . رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَالتِّرْمِذِي فِي جَامِعِهِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَاليَوْمِ الآخِر فَلا يَخْلُوَنَّ بامْرَأَةٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مَحْرَمٌ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِي فِي الكَبِير. وَرَوَى الطَّبَرَانِي أَيْضًا عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِيَّاكَ وَالْخُلوَةُ بِالنِّسَاءِ وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَلا رَجُلٌ بامْرَأَةٍ إِلا وَدَخَلَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمَا وَلأَنْ يَزْحَمَ الرَّجُلُ خَنْزِيرًا مُتَلِطِّخًا بِطِينٍ أَوْ حَمَأةٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَزَحَمَ مَنْكِبُهُ مَنْكِبَ امْرَأَةٍ لا تَحِلُّ لَهُ» . وَمِنْ أَخْطَرِ مَا يَكُونُ عَلَى النِّسَاءِ خِدْمَةُ الرِّجَالِ فِي البُيُوتِ إِذَا كَانَ هُنَاكَ اخْتِلاطٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُنَّ خُصُوصًا إِذَا كَانَ الرُّجُلُ الْمُسْتَخدَمُ مِنَ الشُّبَّانِ وَإِنْ كَانَ لَهُ وَسْمَةُ جَمَالٍ فَأَقْرَبُ إِلى الْخَطَرَ وَقَدْ يَكُونُ أَشَبَّ مِنْ صَاحِبِ البَيْتِ وَأَجْمَل وَهُوَ مَلازِمٌ لِلبَيْتِ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ وَهُوَ تَحْتَ أَمْرِ الزَّوْجَةِ أَوْ نَحْوِهَا وَفِي إِمْكَانِهَا إِبْقَاؤُهُ أَوْ طَرْدُهُ فَالْخَطَرُ عَظِيمٌ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ ذَا شَرَفٍ وَمَكَانَةٍ، وَتَأَمَّلْ قِصَّة امْرَأَةِ العَزِيزِ مَعَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامِ حَيْنَ رَاوَدَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعَاذَ بِاللهِ مِنْ شَرِّهِنَّ وَكَيْدِهِنَّ فَعَصَمَهَ اللهُ عِصْمَةً عَظِيمَةً وَحَمَاهُ فامْتَنَع أَشَدَّ الامْتِنَاعِ عَنْهَا وَاخْتَارَ السِّجْنَ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا في غَايَةِ

موعظة في الحث على صون النساء عن الخروج إلا لحاجة ماسة أو ضرورة

مَقَامَاتِ الكَمَالِ أَنَّهُ مَعَ شَبَابِهِ وَجَمَالِهِ وَكَمَالِهِ تَدْعُوهُ سَيِّدَتُهُ وَهِي امْرَأَةُ عَزِيزِ مَصْرَ وَهِيَ مَعَ هَذَا في غَايَةِ الْجَمَال وَالْمَالَ وَالرِّيَاسَةِ وَيَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ وَيَخْتَارُ السِّجْنَ عَلَى ذَلِكَ خَوْفًا مِنْ اللهِ وَرَجَاءَ ثَوَابِهِ وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ مِنْ السَّبْعَةِ الذِينَ يُظلُّهُمْ اللهُ فِي ظِلِّهِ: «رَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتَ مَنْصَبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافَ اللهُ» . وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّم. شِعْرًا: مَا مِنْ جَمِيلٍ مِنْ الدُّنْيَا وَلا حَسَنٍ ... إِلا وَمِنْ فَضْلِ رَبِّ العَرشِ ذِي الْمِنَنِ أَعْظِمْ بِهَا مِنَّةً لَكِنْ يُخَفِّفُها ... شكْرِي لِرَبِّي فِي سِرِّي وَفِي عَلَنِ اللَّهُمَّ يَسر لَنَا سَبِيلَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدَا وَاجْعَلْ مَعُونَتَكَ العُظْمَى لَنَا سَنَدًا وَاحْشُرْنَا إِذَا تَوَفَّيْتَنَا مَعَ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ الذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (موعظة) : عِبَادَ اللهِ نَحْنُ فِي زَمَنٍ كُلُّهُ عَجَائبٌ يُعْجِبُ العَاقِلُ اللَّبِيبُ وَمِنْ أَعْجَبِ مَا فِيهِ أَنَّ الرِّجَالَ أَصْبَحُوا لا سُلْطَانَ لَهُمْ عَلَى النِّسَاءِ إِلا النَّادِرَ القَلِيلَ، نَعْمَ أَصْبَحْنَا فِي زَمَنٍ لِلنِّسَاءِ فِيهِ جَبَرُوتٌ أَمَامَهُ الرِّجَالُ فِي حَالٍ ضَئِيلٍ انْعَكَسَ الأَمْرُ فَصَارَ القَوِيُّ ضَعِيفًا وَالضَّعِيفُ قَوِيًّا فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكِّ مِنْ ذَلِكَ فَاخْرُجْ وَانْظُر فِي الشَّوَارِعِ تَرَى النِّسَاءَ تَجُولُ فِي الشَّوَارِع ذَاهِبَاتٍ أَيبَاتٍ وَيَتَثَنِّينَ فِي تَبَخْتُرُهِنِّ عَلَيْهِنَّ مِنْ الزِّينَةِ مَا يُرْغِمُ عَلَى النَّظَرِ إِلَيْهِنَّ كُلُّ مِنْ لَهُ عَيْنَانِ. وَلا تَسْأَلْ عَمَّا يُحْدِثُهَ ذَلِكَ النَّظَرِ فِي نُفُوسِ الشُّبَّانِ وَأَشْبَاهِ الشُّبَّانِ تَرَاهُ إِذَا لَمََحَها أَتْبَعَهَا نَظَرَهُ ثُمَّ جَرَى وَرَاءَهَا لأنَّهُ يَفْهَمُ مِنْ هَيْئَتِهَا وَتَثِنَّيَهَا وَتَلَفُّتِهَا فَهْمًا لا يُقَالُ لَهُ إِنَّهُ فِيهِ غَلْطَانٌ، إنَّه يَفْهَمُ أَنَّهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ تُرِيدُ مِنْهُ مَا تُرِيدُ مَا عَرَضَتْ نَفْسَهَا فِي الشَّارِعِ بِذَلِكَ التَّهَتُّكِ وَذَلِكَ الازْدَيَانُ وَهِيَ فِي بَيْتِهَا أَمام زَوْجِهَا الذِي يَنْبَغِي أَنْ تَتَجَمَّلَ لَهُ تَكُونُ بِحَالةٍ تَشْمَئِزُّ مِنْ

رُؤْيَتِهَا نَفْسُ الإِنْسَانِ، تَلْبَسُ لَهُ أردى الْمَلابِسَ وَلا تَمَسُّ طِيبًا وَلا تَعْتَنِي لَهُ، فَإِذَا أَرَادَتْ الْخُرُوجَ بَذَلَتْ مِنْ العِنَايَةِ فِي تَجْمِيلِ نَفْسِهَا مَا يُلْهِبُ نَارَ الشَّوْقِ إِلَيْهَا في نُفُوسِ النَّاظِرِينَ. وَهَذِه حَالَةٌ تَجْعَلُ العُيُونَ وَقْفًا عَلَى النَّظَرِ إِلى تِلْكَ الأَجْسَامِ وَتَشْغَلُ القُلُوبَ شُغْلاً بِهِ تَنْسَى كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى نَفْسَهَا وَرَبَّهَا وَمَا لَهُ عَلَيْهَا مِنْ وَاجِبَاتٍ، وَتَوَجِّهُ الأَفْكَارَ إِلى أُمُورٍ دَنِيئَةٍ يَقْصُدْهَا مِنْ أُولَئِكَ النِّسَاءِ أَرْبَابُ النُّفُوسِ الدَّنِيئَاتِ، بَلْ وَتَدْفَعُ النُّفُوسَ دَفْعًا تَسْتَغِيثُ مِنْهُ الفَضِيلةُ وَيَغْضَبُ لَهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ. إِنَّ الرِّجَالَ النَّاظِرِينَ إِلى النِّسَا ... مِثْلُ الكِلابِ تَطُوفُ بِاللُّحْمَانِ إِنْ لَمْ تَصُن تِلْكَ اللُّحُومَ أُسُودُهَا ... أُكِلَتْ بِلا عِوَضٍ وَلا أَثْمَانِ إِنَّ أُولَئِكَ النِّسَاءُ زَوْجَاتُ وَبَنَاتُ وَأَخَوَاتُ رِجَالٍ يَرَوْنَهُنَّ بَأَعْيُنهِمْ في الشَّوَارِعِ بِتِلْكَ الْحَالِ يَرَوْنَهُنَّ وَلَيْسَ لَهُمْ مِنْ الغَيْرَةِ مَا يُفهِمْ أَنَّهُمْ مِنْ صَنْفِ الرِّجَالِ، وَأَمَامَهُمْ يُجْرِينَ الزِّينَةِ التِي يَخْرُجْنَ بِهَا إِلى تِلْكَ الْمِيَادِينَ الْمَلأَى بالأنْذَالِ، وَبَعْضُهُمْ يَسْتَصُحِبُ زَوْجَتَهُ مَعَهُ سَافِرَةً فِي الشَّوَارِعِ وَرُبَّمَا فَهِمَ بَعْضُ الفُسَّاقِ أَنَّهُ يَتَصَيَّدُ لِهَا وَذلِكَ يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ. أَيُّهَا الأَخُ عَصَمَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ أَنْتَ أَقْوَى عَقْلاً وَأَقْوَى دِينًا مِنْ الْمَرْأَةِ لا خِلافَ في ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَعْصِمْكَ اللهُ تَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ مِنْكَ مَعَ الْمَرْأَةِ مَا يَكُونَ إِذَا وَقَعَ نَظَرُكَ عَلَى مَا لَهَا مَنْ بِهَاءٍ وَجَمَالٍ فَتَأَكَّدْ كُلَّ التُّأكُدِّ أَنَّ تَمَنِّي الْمَرْأَةِ أَقْوى مِنْ تَمَنِّي الرَّجُلِ إِذَا وَقَعَ نَظَرُهَا عَلَى جَمِيلٍ مِنْ الرِّجَالِ وَلا تَشُكُ أَنَّهَا بَعْدَ رُؤيَتِهَا الْجَمِيلَ تَتَمَنَّى فِرَاقَكَ إِلَيْهِ وَرُبَّمَا دَعَتْ عَلَيْكَ، نَحْنُ فِي جُوِّ مَوْبُوءٍ بِفَسَادِ الأَخْلاقِ، مِنْ تَعَرَّضَ

لَهُ أَصَابَهُ مِن ذَلِكَ الوَبَاء مَا يُضَيِّعُهُ في دُنْيَاهُ وَفِي الدِّينِ. فَصُنْ نِسَاءَكَ عَنْ الْخُرُوجِ إِلَيْهِ إِنْ أَرَدْتَ الْعَافِيةَ وَِإِلا فَلا تَلُمْ إِلا نَفْسَكَ إِذَا أَصْبَحْتَ فِي عِدَادِ الضَّائِعِينَ وَالضَّائِعَاتِ أَنْتَ تَرَى كُلَّ يَوْمٍ مَا يَكُونُ في الطُّرُقِ لِنِسَاءِ غَيْرِكَ فَلا تَشُكَّ أَنَّ نِسَاءِكَ يُلاقِيَن مِثْلَهُ وَأَشَدَّ مِنْهُ وَأَيُّ رَجُلٍ يَرْضَى أَنْ تَخْرُجَ نِسَاؤُهُ لِيَلْعَبَ بِعَفَافِهِنَّ وَشَرَفِهِنَّ مَنْ لا دَينِ لَهُ وَلا شَرَفَ وَلا أَخْلاقَ، إِنَّ الْبَهِيمَ يَغَارُ وَمَعَارِكُ ذُكُورِ الْبَهَائِمِ عَلى إِنَاثِهَا مَعْرُوفَةٌ، فَلا تَكُنْ أَقَلَّ غَيْرَةً مِنْ الْبَهِيمِ، وَلَوْلا أَنَّنَا نَرَى بِأَعْيُنِنَا مَبْلَغَ ضَعْفِ رِجَالِنَا أَمَامَ النِّسَاءِ مَا صَدَّقْنَا أَنْ يَسْتَصْحِبَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ سَافِرَةً رَاكِبَةً أَوْ غَيْرَ رَاكِبَةٍ تَقْدُمُهُ. اللَّهُمَّ أَذِقْنَا عَفْوَكَ وَغُفْرَانَكَ وَاسْلُكْ بِنَا طَرِيقَ مَرْضَاتِكَ، وَعَامِلَنَا بِلُطْفِكَ وَإِحْسَانِكَ وَاقْطَعْ عَنَّا مَا يُبْعِدُ عَنْ طَاعَتِكَ، اللَّهُمَّ وَثَبِّتْ مَحَبَّتِكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوّهَا وَيَسِّرْ لَنَا مَا يَسَّرْتَهُ لأَوْلِيَائِكَ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) : أَيًُّهَا الأخُ أَنْتَ الذِي تَلَقَى الْمَشَاقَّ مِنْ حَرٍّ وَبَرْدٍ وَأَنْتَ مَشْغُولٌ بَالكدِّ لأجْلِ جَلْبِ الرِّزْقِ، يَكُونُ مِنْكَ ذَلِكَ لِتُطْعِمَ الْمَرْأَةِ وَتَكْسُوهَا وَتَنْعِمُ عَلَيْهَا فَفَضْلِكُ عَلَيْهَا كَبِيرٌ كَمَا قَالَ تَعَالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} وأَنْتَ أَرْجَحَ مِنْهَا عَقْلاً وَأَكْمَلْ دِينًا فَمِنْ الْغَلَطِ أَنْ تَكُونَ مَعَهَا كَالْعَبْدَ الْمَمْلُوكَ يَصْرِفُهُ مَوْلاهُ كَيْفَ شَاء. وَإِذَا كَنْتَ كَمَا ذَكَرَ اللهُ قَوَّامًا عَلَيْهَا فَأَنْتَ مَسْئُول عَنْهَا لأَنَّكَ رَاعِيهَا وَالرَّاعِي مَسْئُول عَنْ رَعَيَّتِهِ، فَأَنْتَ مُثَابْ إِنْ وَجَهْتَهَا إِلى عَمْل الْخَيْرِ، وَآثِمْ إِنْ سَكَتَّ عَنْهَا وَهِيَ تَعْمَل أَعْمَلاً لَيْسَتْ مَرْضَيَّة، فَانْظُرْ مَاذَا عَلَيْكَ مِنْ الإِثْمِ فِي خُرُوج زَوْجَتَكَ وَمَا يَتَرَتَبْ عَلَيْهِ مِنْ بَلايَا مَرَئِيْة وَغَيْر

فصل فيما يستحب للصائم أن يقوله أو يفعله وبأن من يسن عليه الفطر

مَرْئِيَّةٍ، فَحُلْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا تَعْلَمُ أَنَّ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهَا وَكُلُّ عَمَلٍ يُغْضِبُ رَبَّكَ، وَإِلا فَأَنْتَ شَرِيكَ لَهَا فِي كُلَّ مَا لَها مِنْ أَوْزَارٍ. أ. هـ. كُلُّ هَذَا سَبَبُهُ مُخَالَطَةُ رَبَائِبِ الاسْتِعْمَارِ الذِّينَ تَشَبَّهُوا بِهِ وَقَلَّدُوهُ فِي الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ، وَقَلَّدَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ نِسَائِنَا، وَصَدَقَ الْمُصْطَفََى - صلى الله عليه وسلم - حَيْثُ يَقُولُ: «لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذرَاعٍ حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ دَخَلَ حُجْرَ ضَبِّ لَدَخَلْتُمُوهُ وَحتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ بِالطَّرِيقِ لَفَعَلْتُمُوهُ» . فَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا باللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلِ. أ. هـ. كَفى بِالمَرءِ عاراً أَن تَراهُ ... مِنَ الشَأنِ الرَفيعِ إِلى اِنحِطاطِ عَلى المَذمومِ مِن فِعلٍ حَريصًا ... عَلى الخَيراتِ مُنقَطِعَ النَشاطِ يُشيرُ بِكَفِّهِ أَمراً وَنَهيًا ... إِلى الخُدّامِ مِن صَدرِ البِساطِ يَرى أَنَّ المَعازِفَ وَالمَلاهي ... مُسَبِّبَةُ الجَوازِ عَلى الصِراطِ لَقَد خابَ الشَقِيُّ وَضَلَّ عَجزًا ... وَزالَ القَلبُ مِنهُ عَنِ النِياطِ آخر: وعَاقِبَةُ الصَّبْرِ الْجَمِيلِ حَمِيدَةٌ ... وَأَفْضَلُ أَعْمَال الرِّجَال التَّدَيُّنُ ولا عَارَ إِنْ زَالَتْ عَنِ الْمَرْءِ نِعْمَةً ... وَلَكِنَّ عَارًا أَنْ يَزُولَ التَّدَيُّنُ اللَّهُمَّ اعْمُرْ قُلُوبَنا وَأَلْسنَتنا بِذِكْرِك وَشُكْرِك وَوَفِّقْنَا للامْتِثَالِ لأَمْرِكَ وَأمِّنا مِنْ سَطوتِكَ وَمَكْرِكَ واجْعَلْنَا مِنْ أَوْلِيَائِكَ الْمُتَّقِينَ وَحِزْبِكَ الْمُفْلِحِينَ، اللَّهُمَّ أَلْحِقْنَا بِعِبِادِكَ الصَّالِحِين الأَبْرَار، وآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارْ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) : فِيمَا يُسْتَحبُّ أَنْ يَقُولَهُ أَوْ يَفْعَلَهُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَسَحَّرَ لِلصَّوْمِ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السُّحُورِ بَرَكَةً» .

وعَنْ عَمْرو بن العَاص قَالَ: قَالَ رسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فَصْلَ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلةُ السَّحَرِ» . وعَنْ ابن عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عنْهُمَا - أَنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ على الْمُتَسَحِّرِينَ» . وَعَنْ الْعِرْبَاضِ بن سَارِيَةَ قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى السَّحُورِ في رَمضَانَ فَقَالَ: «هَلُمَّ إِلى الْغَدَاءِ الْمُبَارَكِ» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نِعْمَ سَحُورُ الْمُؤْمِنِ التَّمْرُ» . وَيَنْبَغِي أَنْ يُخَفِّفَ عَشَاءَهُ فِي ليَاَلِي رَمَضَانَ لِيَهْضِمَ طَعَامَهُ قَبْلَ السَّحُورِ ولأِنَّ الامْتِلاءَ مِنَ الطَّعَامِ رُبَّمَا يَكُونُ سَبَبًا لِلتُّخَمْ. وَعَنْ الْمِقْدَادِ بْنِ مَعْدِ يكْرِبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَا مَلأَ ابن آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أَكَلاتٍ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لامَحَالَةَ فَثُلُثٌ طَعَامٌ، وَثُلُثٌ شَرَابٌ، وَثُلُثٌ نَفَسٌ» . شِعْرًا: تَوَقَّ إِذا مَا اسْطَعْتَ إِدخالُ مَطعَمٍ ... عَلى مَطعَمٍ مِن قَبلِ فِعْلِ الْهَواضِمِ وَكُلُّ طَعامٍ يَعجَزُ السِنُّ مَضغَهُ ... فَلا تَبتَلِعْهُ فَهوَ شَرٌّ الْمَِطَاعِِمِِ والشَّبَعُ مَذْمُومٌ لأنَّهُ يُوجِبُ تَكَاسُلَ الْبَدَنِ وَكَثْرَةُ النَّوْمِ وَبَلادَةِ الذِّهْنِ وَذَلِكَ يُكْثِرُ الْبُخَّارُ في الرَّأسِ حَتَّى يُغَطِّي مَوْضِعَ الذَّكْرِ والْفِكْرِ والْبَطْنَةُ تَذْهبُ الْفِطْنَةَ وَتَجْلِبُ أَمْرَاضًا عَسِرةً، وَمَقَامُ الْعَدْلِ أَنْ لا يَأْكُلَ حَتَّى تَصْدُقَ شَهْوَتُهُ وَأَنْ يَرْفَعَ يَدَهُ وَهُوَ يَشْتَهِي وَنِهَايَةُ مَقَامِ الْحُسْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ} ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُلُثٌ طَعَامٌ، وَثُلُثٌ شَرَابٌ، وَثُلُثٌ نَفَسٌ» .

والأكْلُ عَلَى مَقَامِ الْعَدْلِ يُصِحُّ الْبَدَنَ وَيُبْعِدُ الْمَرَضَ بِإذْنِ اللهِ وَيُقَلِّلُ النَّوْمَ وَيُخَففُ الْمَؤُنَةَ وَيُرَقِّقُ الْقَلْبَ وَيُصَفِّيْهِ فَتَحْسُنُ فِكْرَتُهُ وَتُسَهِّلُ الْحَرَكَاتِ والتَّعْبِيرَاتِ، والشَّبَعُ يُمِيتُ الْقَلْبَ وَمِنْهُ يَكُونُ الْفَرَحُ والْمَرَحُ وَالضَّحِكُ. وَيُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ السَّحُورِ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ. قَال أَنَسٌ قُلْتُ لِزَيْدٍ: كَمْ كَانَ بَيْنَ الأَذَانِ وَالسَّحُورِ؟ قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِمَا وَرَدَ في الْبُخَاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كُنْتُ أَتَسَحَّرُ فِي أَهْلِي، ثُمَّ تَكُونُ سُرْعَتِي أَنْ أُدْرِكَ السُّجُودَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لاَ يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ وأخَّرُوا السَّحُور» . وَعَنْ ابن عَطِيَّةَ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَمَسْرُوقٌ عَلى عَائِشَةَ فَقُلْنَا: يَا أَمَّ الْمُؤمِنِين رَجُلانِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّد أَحَدُهُمَا: يُعَجِّلُ الإفْطَارَ وَيُعَجِّلُ الصَّلاةَ، والآخرُ: يُؤخِّرُ الإفْطَارَ وَيُؤخِّرُ الصَّلاةَ، قَالَتْ: أَيُّهُمَا يُعَجّل الإفْطَارَ وَيُعَجِّلَ الصَّلاةَ؟ قُلْنَا: عَبْدُ اللهِ بن مَسْعُودٍ، قَالَتْ: هَكَذَا صَنَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والآخَرُ: أَبوُ مُوسَى. وَلأَنَّ السَّحُورَ يُرَادُ بِهِ التَّقَوِّي عَلَى الصَّوْمِ. فَكَان التَّأْخِيرُ أَبْلَغَ فِي ذَلِكَ وَأَوْلَى، وَيُسَنُّ تَعْجِيلُ فِطْرٍ إِذَا تَحَقَّقَ الْغُرُوبَ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّ أَحَبَّ عِبَادِي إِليَّ أَعْجَلُهُمْ فِطْرًا» .

ما يقول الصائم إذا أفطر والحث على الفطر على الحلال

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَزَالُ الدِّينُ ظَاهِرًا مَا عَجَّلَ النَّاسُ الْفِطْرِ، لأَنَّ الْيَهُودَ والنَّصَارَى يُؤَخِّرُونَ» . وَلِحَدِيث سَهْل وَحَدِيث أَبِي عَطيَّة وَقَدْ تَقَدَّمَا قَرِيبًا. اللَّهُمَّ اسْلُكْ بِنَا سَبِيل عِبَادِكَ الأَبْرَارِ واجْعَلْنَا مِن عِبَادِكَ الْمُصْطَفِينَ الأَخْيَارَ وامْنُنْ عَلَيْنَا بالْعَفْوِ والْعِتْقِ مِن النَّارِ واحْفَظْنَا مِنْ الْمَعَاصِي فِيمَا بَقِيَ مِن الأَعْمَارِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) : وَيُسَنُّ أَنْ يَكُونَ فِطْرُهُ عَلَى رُطَبٍ، فَإِنْ عَدِمَ فَتَمْرٌ، فَإِنْ عَدِمَ فَمَاءٌ، لِمَا وَرَدَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُفْطِرَ عَلى رُطَبَات قَبْلَ أَنْ يُصَلِّي فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَات فَتَمَراتٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُن تَمَرَاتٍ حَسَا حَسَوَاتِ مِنْ مَاءٍ، وَعَنْ سَلْمَانَ بن عَامِرٍ الضَّبِّي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا أَفْطَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيَفْطَر عَلى تَمْرٍ، فَإِنَّهُ بَرَكَةٌ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ تَمْرًا فالْمَاءُ فَإِنَّهُ طَهُورٌ» . والْفِطْرُ قَبْلَ صَلاةِ الْمَغْربِ أَفْضَلُ، لِحَدِيث أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: (مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يصَلِّي حَتَّى يُفْطِرَ، وَلَوْ شَرْبَةَ مَاءٍ) . إذا رُمْتَ أَنْ تَشْرَبْ فَكُنْ قَاعِدًا تَفُزْ ... بِسُنَّةِ خَيْرِ الْخَلْقِ أَعْنِي مُحَمَّدًا فَقَدْ صَحَّحُوا شُرْبًا لَهُ وَهُوَ قَائِمٌ ... وَلَكِنْ بَيَانًا لِلْجَوازِ فَسَدِّدَا وَيُسْتَحَبُّ قَوْلُ الصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ: اللَّهُمَّ لَكَ صُمْتُ وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرْتُ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. لِمَا وَرَدَ عَنْ مُعَاذِ بنِ زَهْرَةَ: أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَفْطَرَ قَالَ: «ذَهَبَ الظَّمَأُ وابْتَلَّتْ الْعُرُوقُ، وَثَبَتَ الأجْرُ إِنْ شَاءَ الله» ، وَثَبَتَ عَن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لِلصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ دَعْوَةُ لا تَرَدُّ» . وَلِحَدِيثَي ابنْ

الدعاء عند الفطر وآداب الدعاء

عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالا: كَان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَفْطَرَ قَالَ: «اللَّهُمَّ لَكَ صُمْنَا وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرْنَا، اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُُ الْعَلِيمُ» . وَعَنْ عَبْد اللهِ بن الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: أَفْطَرَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ سَعْدِ بن مُعَاذٍ، فَقَالَ: «أَفْطَرَ عِنْدَكُم الصَّائِمُونَ وَأَكَلَ طَعَامَكُمْ الأَبْرَارُ وَصَلَّتْ عَلَيْكُمْ الْمَلائِكَةُ» . وَعَلَى الإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ أَنْ يَكُونَ فِطْرُهُ عَلَى حَلالٍ وَأَنْ يَحْذَرَ أَنْ يَكُونَ على حَرَام، فَإِنْ أَكَلَ الْحَرَامِ مِنْ جُمْلَةِ مَوَانِعِ قَبُولِ الدُّعَاءِ، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ طَيَّبٌ وَلا يَقْبَلُ إلا طَيِّبًا، وإِنَّ الله أَمَرَ الْمُؤمِنينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} ، وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ، - ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ - أَشْعثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّمَاء وَيَقَولَ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ! وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ» . فَإِيَّاكَ إِيَّاكَ الرِّبَا فَلَدِرْهَمٌ ... أَشَدُّ عِقَابًا مِنْ زِنَاكَ بِنُهَّدِ وَتَمْحَقُ أَمْوَالُ الرِّبَا وَإِنْ نَمتْ ... وَيَرْبُو قَلِيلُ الحِلِّ فِي صِدْقِ مَوْعِدِ آخر: المالُ يَذْهَبٌ حِلُّهُ وَحَرَامُهُ ... يَوْمًا وَتَبْقَى في غَدٍ آثَامِهِ لَيَسْ التَّقِيُّ بُمِتْقَّ لإِلهِهِ ... حَتَّى يَطِيبَ شَرَابِهِ وَطَعَامِهِ وَفِي الْحَدِيثِ: «أَلا إِنَّ أَوَّلَ مَا يُنْتِنُ مِنْ الإِنْسَانِ بَطْنُهُ فَمَنْ اسْتَطَاعَ أَلا يَأْكُلَ إِلا طَيِّبًا فَلْيَفْعَلْ» . الْحَدِيثِ. وَمِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ أَنْ يَكُونَ مِنْ صَمِيمِ القَلْبِ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ادْعُوا الله

وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاهٍ وَأَنْ يَكُونَ دُعَائَهُ في السَّرَّاءِ والضَرَّاءِ» . فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالكُرَبِ فَليُكْثِرْ الدُّعَاء في الرِّخَاءِ وَأَنْ يَكُونَ بالتَّضَرُّعِ بالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ» . قَالَ اللهُ تَعَالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} ، وَقَالَ: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} ، وَقَالَ فِي حَقِّ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلامُ: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} وَأَنْ يَفْتَتِحَ الدُّعَاء بالثَّنَاءِ عَلَى اللهِ وَالصَّلاةِ عَلَى نَبِيِّهِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رَوَى التِّرْمِذِي وَغَيْرَهُ عَنْ فضَالَةَ بن عُبَيْدٍ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاعِدًا إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَجِلْتَ أَيُّهَا الْمُصَلِّي إِذَا صَلِّيْتَ فَقَعَدْتَ فَاحْمَدِ اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُه وَصَلِّ عَلَيِّ ثُمَّ ادْعُهُ» . قَالَ ثُمَّ صَلى رَجُلٌ آخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ فَحَمِدَ اللهَ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا الْمُصَلِّي ادْعُ تَجِبْ» . وَعَنْ عُمَرَ قَالَ: إِنَّ الدُّعَاءَ مَوقُوفٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا يَصْعَدُ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى تُصَلي عَلَى نَبِيِّكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْ يُخْفَى الدُّعَاءَ. قَالَ الْحَسَنُ: بَيْنَ دَعوةِ السِّرِ وَدَعْوَةِ العَلانِيَةِ سَبْعُونَ ضِعْفًا وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَقَدْ جَمَعَ القُرْآنَ وَمَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لقد فَقِهَ الفِقْهَ الكَثِيرَ وَمَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لِيُصَلي الصَّلاةِ الطويلَةَ في بَيْتِهِ وَعندَهُ الزُّوَّارُ مَا يَشْعُرونَ بِهِ، وَلَقَدْ أَدْرَكْنَا أَقْوَامًا مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ مِنْ عَمَلٍ يَقْدُرُونَ أَنْ يَعْمَلُوهُ فِي السرِ فَيَكُونُ عَلانيةً أَبَدًا وَلَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ

حكم قضاء رمضان ويليه موعظة

يَجْتِهدُونَ في الدعاءِ وَمَا يُسْمَعُ صَوْتٌ إِنْ كَانَ إِلا هَمْسًا بَينَهُم وبينَ رَبِّهم وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ يَقُولُ: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} وَذَلكَ أَنَّ اللهَ ذَكرَ عَبْدًا صَالِحًا رَضِيَ فِعْلَهُ فَقَالَ: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً} . شِعْرًا: إِلى مَتَى يَا عَيْنُ هَذَا الرُّقَادُ أَمَا آنَ أَنْ تَكْتَحِلِي بِالسُّهَادِ تَنَبَّهِي مِنْ رَقْدَةٍ وَانْظُرِي مَا فَاتَ مِنْ خَيرٍ عَلَى ذِي الرُّقَادِ يَا أَيُّهَا الغَافِلُ فِي نَوْمِهِ قُمْ لِتَرى لُطْفَ الكَرِيمِ الْجَوَادِ مَوْلاكَ يَدْعُوكَ إلى بَابِهِ وَأَنْتَ فِي النَّوْمِ شَبِيهُ الْجَمَادِ وَيَبْسُطُ الكَفَّينَ هَلْ تَائِبٌ مِنْ ذَنْبِهِ هَلْ مِنْ لَهُ مِنْ مُرَادِ وَأَنْتَ مِنْ جَنْبٍ إِلى جَانِب تدور في الفرش ولين المهاد يدعوك مولاك إلى قربه وَأَنْتَ تَخْتَارُ الْجَفَا وَالبِعَادِ كَمْ هَكَذَا التَّسْوِيفُ فِي غَفْلَةٍ لَيْسَ عَلَى العُمْرِ العَزِيزِ اعْتِمَادِ لَقَدْ مَضَى لَيْلُ الصَّبَا مُسْرِعًا وَنِيرُ صُبْحِ الشَّيْبِ فَوْقَ الفُؤَادِ أَفِقْ فَإِنَّ اللهََ سُبْحَانَهُ

رَحْمَتُهُ عَمَّتْ جَمِيعَ العِبَادِ اللَّهُمَّ تَوفَّنَا مُسْلِمِينَ وَألْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ ألْهِمْنَا شُكْرَكَ آنَاء اللَّيْل وَالنَّهَارِ، وَثَبِّتْنَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. (فَصْلٌ) : فِي أَحْكَامِ القَضَاءِ وَيُسْتَحَبُّ قَضَاءُ رَمَضَانَ فَوْرًا مَعَ سَعَةِ وَقْتٍ مُسَارَعَةً لِبَرَاءَةِ الذِّمَةِ وَيُسَنَّ التَّتَابُعْ فِي قَضَائِهِ لأَنَّهُ أَشْبَهُ بَالأَدَاءِ وَأَبْعَدُ عَنْ الْخِلافِ. وَيَجُوزُ تَفْرِيقُهُ لِمَا وَرَدَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَضَاءَ رَمَضَانَ إِنْ شَاءَ فَرَّقَ وَإِنْ شَاءَ تَابَعَ» . وَرَوَى الأَثْرَمُ بِإسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بن الْمُنْكَدِرِ أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ تَقْطِيعِ قَضَاءِ رَمَضَانَ، فَقَالَ: «لَوْ كَانَ عَلَى أحَدَكُمْ دَيْنٌ فَقَضَاهُ مِنْ الدِّرْهَمِ وَالدِّرْهَمِينِ حَتَّى يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدِّينِ، هَلْ كَانَ قَاضِيًا دِينَهُ» ؟ قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «فَاللهُ أَحَقُّ بِالعَفْوِ واَلتَّجَاوُزِ مِنْكُمْ» . قَالَ البُخَارِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاس - رَضِِيَ اللهُ عَنْهُمَا - لا بَأْسَ أَنْ يُفَرِّقَ لِقَوْلِهِ تَعَالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} مُتَتَابِعَاتٍ، فَسَقَطَتْ مُتَتَابِعَاتِ. وَلا يَجُوزُ تَأْخِيرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ إِلى رَمَضَانَ آخَرَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، لِمَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ عَليَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَ إِلا فِي شَعْبَانَ.

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: إِنْ كَانَتْ إحْدَانَا لَتُفْطِرُ فِي زَمَانِ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا تَقْدِرُ أَنْ تَقْضِيهِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلا فِي شَعْبَانَ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلتِّرْمِذِي: قَالَتْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَا كُنْتُ أَقْضِي مَا يَكُونُ عَليَّ مِنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ إِلا فِي شَعْبَانَ حَتَّى تُوفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِذَا لَمْ يَبْقَ مِنْ شَعْبَانَ لا قَدْرُ مَا عَلَيْهِ، وَجَبَ القَضَاءُ فَوْرًا مُتَابِعًا لِضِيقِ الوَقْتِ، كَأَدَاءِ رَمَضَانَ فِي حَقَّ مَنْ لا عُذْرَ لَهُ. وَلا يُكْرَهُ القَضَاء في عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ، فَإِنْ أَخَّرَ القَضَاءَ لِغَيْرِ عُذْرٍ حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ آخَرَ فَعَلَيْهِ مَعَ القَضَاءِ إِطْعَامُ مُسْكِينٍ لِكُلِّ يَوْمٍ وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَمْ يُرَوَ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلافُهُ قَالَهُ في الشَّرْحِ. وَمَنْ فَاتَهُ رَمَضَانُ قَضَا عَدَدَ أَيَّامِهِ تَامًّا كَانَ أَوْ نَاقِصًا لأَنَّ القَضَاءَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِعَدَدِ مَا فَاتَهُ كَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَيَجُوزُ أَنْ يَقْضِي يَوْمَ صَيْفٍ عَنْ يَوْمِ شِتَاءٍ وَأَنْ يَقْضِي يَوْمَ شِتَاءٍ عَنْ يَوْمِ صَيْفٍ. وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ. (فصل) : ثُم اعْلَمْ وَفَّقَنَا وَإِيَّاكَ اللهُ لِطَاعَتِهِ أَنَّ لِلصِّيَامِ مَحَاسِنَ كَثِيرَةً وَهِيَ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِي ثَبَّتْنَا اللهُ وَإِيَّاكَ وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ فَمِنْهَا: أَنَّ الإِنْسَانَ إِذَا جَاعَ بَطْنُهُ انْدَفَعَ جُوعُ كَثِير مِنْ حَوَاسِهِ فَإِذَا شَبعَ بَطْنُهُ جَاعَ عَيْنُه وَلِسَانُهُ وَيَدُهُ وَفَرْجُهُ فَكَانَ تَشْبِيعُ النَّفْسِ تَجْوِيعًا لِهَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ، وَفِي تَجْوِيعِ النَّفْسِ تَشْبِيعُهَا فَكَانَ هَذَا التَّجْوِيعُ أَوْلَى وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا جَاعَ عَلِمَ حَالُ الفُقَرَاءِ فِي جَوْعِهِمْ فَيَرْحَمُهُمْ

وَيُعْطِيهِمْ مَا يَسُدُّ بِهِ جَوْعَهُمْ إِذْ لَيْسَ الْخَبَرُ كالْمُعَايَنَةِ لا يَعْلَمُ الرَّاكِبُ مَشَقَّة الرَّاجِلَ إِلا إِذَا تَرَجَّلَ. وَمِنْ مَحَاسِنِ الصِّيَامِ في فَرْضِهِ وَشَرْعِهِ أَنَّهُ لَمْ يُفْرَضْ فِي كُلِّ العُمْرِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْحُسْنِ بَلْ فُرِضَ شَهْرًا مِنْ كُلِّ سَنَةٍ شَهْرَ رَمَضَانَ وَرُخِصَّ فِي الإِفْطَارِ عِنْدَمَا يَحْصُلُ لَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ عُذْرٌ وَأَيْضًا أَمُرَ بالصَّوْمِ فِي النَّهَارِ وَأُبِيحَ في اللَّيْلِ الإِفْطَارُ، وَهَذَا مِنْ لُطْفِ اللهِ أَمَرَ عِبَادَهُ عَلى وَجْهِ يُمْكِنُ لَهُمْ فِيهِ إحْرَازُ الفَضِيلَةِ وَاكْتِسَابُ الوَسِيلَةِ وَمِنْ ذَلِكَ إنَّهُ خَصَّ الصِّيَامَ بالنَّهَارِ لأَنَّ الأَكْلَ فِيهِ مُعْتَادٌ، وَالنَّوْمُ في اللَّيْلِ مُعْتَادٌ وَمِنْ مَحَاسِنِ الصَّوْمِ اكْتِسَابِ مَكَارِمِ الأَخْلاقِ لأَنَّ قِلةَ الأَكْلِ مِنْ مَحَاسِنِ الأَخْلاقِ. وَلِذَلِكَ لَمْ يُحْمَدْ أَحَدٌ بِكَثْرَةِ الأَكْلِ وَيُحْمَدُ عَلى قِلَّةِ الأَكْلِ يَحْمِدُهُ كُلُّ ذِي دِينٍ فِي كُلِّ حِينٍ وَلَمْ يُرَوَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الأَنْبِيَاءِ كُثْرَةُ الأَكْلِ وَمِنْ جُمْلَةِ الْمَحَاسِنِ فِي الصِّيَامِ أَنَّ اللهَ مِنْ لُطْفِهِ بِعِبَادِهِ لَمْ يَشْتَرِطْ في القَضَاء مَا في الأداءِ مَنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَمْ يَشْتَرِطْ في القَضَاء طُولَ اليَوْمِ باليَوْمِ وَلا حَرَارَتَهُ وَلا بُرُودَتَهُ فَإِذَا أَفْطَرَ فِي أَطْوَلِ يَوْمٍ ثُمَّ قَضَاهُ فِي أَقْصَرِ يَوْمٍ أَجْزَاهُ وَكَفَاهُ. وَمِنْ جُمْلَةِ الْمَحَاسِنِ فِي الصَّوْمِ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرَطْ فِيهِ قِرَانُ النِّيَةِ عِنْدَ الشُّرُوعِ كَمَا فِي سَائِرِ العِبَادَاتِ لأَنَّ هَذَا الوَقْتِ وَقْتُ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ قَلَّمَا يَقِفُ العَبْدُ عَلَيْهِ فَلوَ شُرِطَ لَضَاقَ الأمْرُ عَلَى النَّاسِ فَيَسَّرَ الأَمْرَ عَلَى عِبَادِهِ حَتَّى أَجَازَ الصَّوْمَ بِنِيَّةٍ مُتَقَدِّمَةٍ تَقَعُ بِجُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ وَإِنْ طَرَأ عَلَيْهِ الأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالرَّفَثُ لأَنَّ اللهَ أَبَاحَ الأَكْلَ وَالشُّرْبَ إلى آخِرِ اللَّيْلِ فَلَوْ بَطَلَتْ بِهِ فَاتَ مَحَلُّهَا.

اللَّهُمَّ اسْلُكْ بِنَا سَبِيلَ عِبَادِكَ الأَبْرَارِ، وَنَجِّنَا مِنْ عَذَابِ النَّارِ، وأَسْكِنَّا الْجَنَّةَ دَارَ القَرَارِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) : كَتَبَ عُمر بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ إِلى القُرَضِي: أَمَّا بَعَدُ فَقَدْ بَلَغَنِي كِتَابُكَ تَعِظُنِي وَتَذْكُرُ مَا هُو لِي حَظٌّ وَعَلَيْكَ حَقَّ وَقَدْ أَصَبْتَ بِذَلِكَ أَفْضَلَ الأَجْرِ إِنَّ الْمَوْعِظَةَ كَالصَّدَقَةِ بَلْ هِيَ أَعْظَمُ أَجْرًا وَأَبْقَى نَفْعًا وَأَحْسَنُ ذُخْرًا وَأَوْجَبُ عَلى الْمُؤْمِن حَقًّا، لِكَلِمَةُ يَعِظُ بِهَا الرَّجُلُ أَخَاهُ لِيَزْدَادَ بِهَا فِي هُدىً وَرَغْبَةٌ خَيْرٌ مِنْ مَالِ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ بِهِ إِلَيْهِ حَاجَةٌ، وَلِما يُدْرِكُ أَخُوكَ بِمَوْعِظَتِكَ مِنْ الْهُدَى خَيْرٌ مِمَّا يَنَالُ بِصَدَقَتِكَ مِنْ الدُّنْيَا وَلأَنْ يَنْجُو رَجُلٌ بِمَوْعِظَتِكَ مِنْ هَلَكَةٍ خَيْر مِنْ أَنْ يَنْجُو بِصَدَقَتِكَ مِنْ فَقْرٍ. فَعِظْ مَنْ تَعِظُ لِقَضَاءِ حَقٍّ عَلَيْكَ وَاسْتَعْمِلْ كَذَلِكَ نَفْسَكَ حِينَ تَعِظْ وَكُنْ كَالطَّبِيبِ الْمُجَرِّبِ العَالِمِ الذِي قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا وَضَعَ الدَّوَاءَ حَيْثُ لا يَنْبَغِي أَعْنَتَ نَفْسَهُ، وَإِذَا أَمْسَكَ مِنْ حَيْثُ يَنْبَغِي جَهْلَ وَأَثِمَ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُدَاوِي مَجْنُونًا لَمْ يُدَاوِهِ، وَهُوَ مُرْسَلٌ حَتَّى يَسْتَوْثِقَ مِنْهَ وَيُوَثِّقَ لَهُ خَشْيَةَ أَنْ لا يَبْلُغَ مِنْهُ مِنْ الْخَيْرِ مَا يَتَّقِي مِنْهُ مِنْ الشَّرِ وَكَانَ طِبُّهُ وَتَجْرِبَتُهُ مِفْتَاحُ عَمَلِه، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ الْمِفْتَاحُ عَلى البَابِ لِكَيْمَا يُغْلَقُ فَلا يُفْتَحُ أَوْ ليُفْتَحَ فَلا يُغْلَقُ وَلَكِنْ لِيُغْلَقَ فِي حِينِهِ وَيُفْتَحَ فِي حِينِهِ. وَكُنْ نَاصِحًا لِلْمُسْلِمِينَ جَمِيعهِمْ بِإرْشَادِهِمْ لِلْحَقِّ عِنْدَ خَفَائِهِ وَمُرْهُمْ بِمَعْرُوفِ الشَّرِيعَةِ وَانْهَهُمْ عَنْ السُّوءِ وَازْجُرْ ذَا الْخَنَا عَنْ خَنَائِهِ وَعِظْهُمْ بَآيَاتِ الكِتَابِ بِحِكْمَةٍ لَعَلَّكَ تُبْرِي دَاءَهُمْ بِدَوَائِهِ

صلاة التراويح وبيان كيفية صلاة التراويح

فَإِنَّ يَهْدِ مَوْلانَا بِوَعْظِكَ وَاحِدًا تَنَلْ مِنْهُ يَوْمَ الْحَشْرِ خَيْرَ عَطَائِهِ وَإلا فَقَدْ أَدَّيْتَ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْكَ وَمَا مَلَكَتْ أَمْرَ اهْتِدَائِهِ اللَّهُمَّ ألْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لِلْقِيَامِ بِحَقِّكَ وَبَارِكْ لَنَا فِي الْحلال مِنْ رِزْقَكَ وَلا تَفْضَحْنَا بَيْنَ خَلْقِكَ يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلَ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ يَا قَاضِيَ الْحَاجَاتِ وَمُجِيب الدّعَواتِ هَبْ لَنَا مَا سَأَلْنَاهُ وَحَقِّقْ رَجَاءَنَا فِيمَا تَمَنَّيْنَاهُ يَا مِنْ يَمْلِكُ حَوائِجَ السَّائِلين وَيَعْلَمُ مَا فِي ضَمَائِر الصَّامِتِينَ أَذِقْنَا بِرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةَ مَغْفِرَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمينَ. اللَّهُمَّ يَا مَنْ خَلَقَ الإِنْسَانَ في أَحْسَنِ تَقْويمٍ وَبِقُدْرَتِهِ التي لا يُعْجِزُهَا شَيْءٌ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِي رَمِيمٌ نَسْأَلُكَ أَنْ تَهْدِينَا إِلى صِرَاطِكَ الْمُسْتِقيمِ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصَّدِّيقِينَ والشُّهَدَاءِ والصَّالِحِينَ، وَأَنْ تَغْفِرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمِ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ) في صَلاةِ التَّرَاوِيحِ وَيَبْحَثُ في: 1- مَشْرُوعِيَّةِ صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ. 2- صِفَةِ أو كَيْفِيَّةِ التَّرَاوِيحِ. 3- مَذَاهِبِ العُلَمَاَءِ رَحِمَهُم الله في عَدَدِ رَكَعَاتِهَا. 4- مَا يُسْتَحَبُّ فِيهَا. 1- مَشْرُوعِيَّةِ صَلاَةِ التَّرَاوِيحِ.

التراويح سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

التَّرَاوِيحُ سُنَّةٌ مَؤَكَّدةٌ سَنَّهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي الْمَسْجِدَ فَصَلَّى بِصَلاتِهِ نَاسٌ ثُمَّ صَلَّى الثَّانِيَةَ فَكَثَرَ النَّاسُ ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنْ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: «رَأَيْتُ الذِي صَنَعْتُمْ فَلَمْ يَمْنَعِنِي مِنْ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ» . وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَتْ: (كَانَ النَّاسُ يُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ فِي رَمَضَانَ باللَّيْلِ أَوْزَاعًا مَعَ الرَّجُلِ الشَّيْءَ مِنْ القُرْآنِ، فَيَكُونُ مَعَهُ النَّفَرُ الْخَمْسَةُ، أَوْ السَّبْعَةُ، أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ يُصَلُّونَ بِصَلاتِهِ، قَالَتْ: فَأَمَرِنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أنْصِبَ لَهُ حَصِيرًا عَلَى بَابِ حُجْرَتِي، فَفَعَلْتُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ صَلَّى العِشَاءَ الآخِرَةِ فاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مَنْ فِي الْمَسْجِد فَصَلَّى بِهِمْ. وَذَكَرْتُ القِصَّةَ بِمَعْنَى مَا تَقَدَّمَ، غَيْرَ أَنَّ فِيهَا أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ) . وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نَفِيرٍ عَنْ أَبِي ذَر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُصَلِّ بِنَا حَتَّى بَقِي سَبْعٌ مِنَ الشَّهْرِ فَقَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ: لَوْ نَفَّلْتَنَا بَقِيَّةَ لِيْلَتِنَا هَذِهِ فَقَالَ: «مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامَ حَتَّى يَنْصَرِفَ كَتَبَ اللهُ لَهُ قِيَامَ لِيْلَةٍ» . ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بِنَا حَتَّى بَقِي ثَلاثٌ مِنَ الشَّهْرِ فَصَلَّى بِنَا فِي الثَّالِثَةِ وَدَعَا أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ حَتَّى تَخَوَّفنَا الفَلاحَ، قَلْتُ لَهُ: وَمَا الفَلاحَ؟ قَالَ: السُّحُورُ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِي اللهُ عَنْهُ - قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرَغِّبُ في قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرُهُمْ بِعَزِيمَةٍ) ،

الذي عليه جمهور المسلمين عشرون ركعة بدون وتر

فَيَقُولَ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . وَعَنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ: أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فَرَضَ صِيَامَ رَمَضَانِ، وَسَنَنْتُ قِيَامَهُ فَمَنْ صَامَهُ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا خَرَجَ مِنْ ذِنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أَمُّهُ» . وَعَنْ زَيْدِ بن ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّخَذَ حُجْرَةٌ فِي حَصِيرِ فَصَلَّى فِيهَا لَيَالٍ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ نَاسٌ، ثُمَّ فَقَدُوا صَوْتَهُ لَيْلَةً فَظَنُّوا أَنَّهُ نَامَ، فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَتَنَحْنَحُ لِيَخْرُجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: «مَا زَالَ بِكُمْ الذِي رَأَيْتُ مِنْ صَنِيعِكُمْ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ، وَلَوْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ مَا قُمْتُمْ بِهِ، فَصَلُّوا أَيُّهَا النَّاسُ فِي بُيُوتِكُمْ فَإِنَّ أَفْضَلَ صَلاةِ الْمَرْءِ في بَيْتِهِ إِلا الصَّلاةَ الْمَكْتُوبَةَ» . 2- صِفَةِ أو كَيْفِيَّةُ صَلاةِ التَّرَاوِيحِ: صَلاةِ التَّرَاوِيحِ بِجَمَاعَةٍ أَفْضَلُ، قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: (كَانَ عَلي، وَجَابِرُ، وَعَبْدُ اللهِ - رَضِي اللهُ عَنْهُم - يُصَلُّونَهَا جَمَاعَةً) ، وَرُوِيَ عَنْ عَلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أَنَّهُ كَانَ يَجْعَل لِلرِّجَالِ إِمَامًا وَلِلنِّسَاءِ إمَامًا) . وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إِنَّ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ أَهْلَهُ وَأَصْحَابَهُ وَقَالَ: «إِنَّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامَ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلِهِ» . وَيَجْهَرُ الإِمَامُ بالقِرَاءَةِ لِنَقْلِ الْخَلَفِ عَن السَّلَفِ. وَيُسَلِّمُ مِنْ كُلَّ رَكْعَتَيْنِ، وَوَقْتَهَا بَعْدَ صَلاةِ العِشَاءِ، قَبْلَ الوِتْرِ إِلى طُلُوعِ الفَجْرِ، وَفِعْلُهَا فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلٌ، لأَنَّ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاهَا ثَلاثَ لَيَالٍ مَتَوَالِيَةً، كَمَا رَوَتْ عَائِشَةَ - رَضِي اللهُ عَنْها - وَمَرَّةً ثَلاثَ لَيَالٍ

مُتَفَرِّقَةٍ كَمَا رَوَى أُبُو ذَرّ قَالَ: مَنْ قَامَ مَعِ الإِمَامَ حُسِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ، وَكَانَ أَصْحَابَهُ يَفْعَلُونَهَا فِي الْمَسْجِدْ أَوْزَاعًا فِي جَمَاعَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ فِي عَهْدِهِ. وَالوَقْتَ أَنْفَسُ ما عُنِيْتَ بِحْفظِهِ ... وَرَاهُ أَسْهَلَ مَا عَليْكَ يضِيْعُ شِعْرًا: ... وَمَا اللَّيْل إلا لِلمُنِيب مَطِيَّةٌ ... وَمِيدَانُ سَبْق لِلذِي يَتَهَجَّدُ آخر: يَهْوَى الدَّيَاجِي إِذَا الْمَغْرُورُ أَغْفَلِهَا ... كَأَنَّ شُهْبَ الدَّيَاجِي أَعْيَنٌ نُجُلُ آخر: إِذَا شَمَّ الفَتَى بَرْقَ الْمَعَالِي ... فَأَهْوَنُ فَائِتٍ طَيْبُ الرِّقَادِ وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن القاَرِئْ قَالَ: (خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بُنِ الْخَطَّابِ في رَمَضَانَ إِلى الْمَسْجِدِ فَإِذَا النَّاسُ أَوْزَاعٌ مَتَفَرِّقُونَ يُصَلِّي الرَّجُلُ لِنَفْسِهِ، وَيُصَلِّي الرَّجُلُ فَيُصَلِّي بِصَلاتِهِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلاءِ علَىَ قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ. ثُمَّ عَزَمَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبِيّ بِنْ كَعْبٍ ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيْلَةً أُخْرَى وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاةِ قَارِئِهِمْ، فَقَالَ عُمَرُ: (نِعْمَتْ البِدْعَةُ هَذِهِ، وَالتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنْ التِي يَقُومُونَ) . يَعْنِي: آخِرُ اللَّيْلِ، وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ. فَدَلَّتْ هَذِهِ الأَخْبَارُ وَغَيْرِهَا عَلَى أَنَّ فِعْلَ التَّرَاوِيحِ جَمَاعَةً أَفْضَلُ مِنْ الانْفِرَادِ وَكَذَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَأَهْلِ الأَمْصَارِ عَلَى ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَتَجُوزُ فُرَادَى وَاخْتَلَفَ أَيَّتُهما أَفْضَلُ لِلقَارِئ، قَالَ البَغَوِي وَغَيْرِه: الْخِلافُ بِمَنْ يَحْفَظُ القُرْآنَ، وَلا يَخَافُ الكَسَلَ عَنْهَا لَوْ انْفَرَدَ، وَلا تَخْتَلُّ الْجَمَاعَةُ بِتَخَلُّفِهِ، فَإِنْ فُقِدَ أَحَدُ هَذِهِ الأمُورِ فَالْجَمَاعَةُ أَفْضَلُ بِلا خِلافٍ وَأَمَّا عَدَدُ صَلاةِ التَّرَاوِيحِ فَقَالَ القَاضِي: لا خِلافَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدٌّ لا يُزَادُ عَلَيْهِ وَلا يَنْقُصْ مِنْهُ. فَاخْتَارَ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَجُمْهُورُ العُلَمَاءِ عِشْرِينَ رَكْعَةً لِمَا رَوَى مَالِكُ فِي (الْمُوَطَّأِ) عَنْ يَزِيدِ بن رُومَانَ قَالَ: (كَانَ النَّاسُ فِي زَمَنِ عُمَرَ يَقُومُونَ فِي رَمَضَانَ بِثَلاثِ وَعِشْرِينَ رَكْعَةً) .

وَقَالَ السَّائِبُ بِنْ يَزِيدَ: لِمَّا جَمَعَ عُمَرَ النَّاسَ عَلَى أُبِيّ بِنْ كَعْبٍ، وَكَانَ يُصَلِّي بِهِمْ عِشْرِينَ رَكْعَةً. وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ فِي كِتَابِهِ (الشَّافِي) : عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ عِشْرِينَ رَكْعَةً. وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلامِ: لَهُ أَنْ يُصَلِّيهَا عِشْرِينَ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ في مَذْهَب أَحْمَدَ، وَالشَّافِعِي، وَلَهُ أَنْ يُصَلِّيهَا سِتًّا وَثَلاثِينَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَلَهُ أَنْ يُصَلِّي إِحْدَى عَشْرَةَ، وَثَلاثَ عَشْرَةَ وَكُلُّهُ حَسَنٌ، فَيَكُونَ تَكْثِيرُ الرَّكَعَاتِ أَوْ تَقْلِيلُهَا بِحَسْبِ طُولِ القِيَامِ وَقِصَرِهِ. وَقَالَ: الأَفْضَلُ يَخْتَلِفُ باخْتِلافِ الْمُصَلِّينَ فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ احْتَمَالٌ بِعَشْرِ رَكْعَاتٍ وَثَلاثٍ بَعْدَهَا، كَمَا كَانَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي لِنَفْسِهِ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ فَهُو الأَفْضَلُ، وَإِنْ كَانُوا لا يَحْتَمِلُونَهُ، فَالْقِيَامُ بِعِشْرِينَ هُوَ الأَفْضَلُ وَهُوَ الذِي يَعْمَلُ بِهِ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ وسَطٌ بَيْنَ العَشْرِ وَالأَرْبَعِينَ، وَإِنْ قَامَ بَأَرْبَعِينَ وَغَيْرِهَا جَازَ، وَلا يَكْرَهُ شَيءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ فِيهِ عَدَدٌ مُؤَقَّتُ لا يُزْدَادُ فِيهِ وَلا يُنْقَصُ مِنْهُ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَقَدْ يَنْشَطُ العَبْدُ فَيَكُونُ الأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ تَخْفِيفِهَا. وَقَالَ: قِرَاءَةُ القُرْآنِ في التَّرَاوِيحِ سُنَّةٌ باتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ مِنْ أَجْلِ مَقْصُودِ التَّرَاوِيحِ قِرَاءَةُ القُرْآنِ فِيهَا لِيَسْمَعُوا كَلامَ اللهِ، فَإِنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ فِيهِ نَزَلَ القُرْآنِ - فِيهِ كَانَ جِبْرِيلُ يُدَارِسُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. انْتَهَى كَلامَهُ رَحِمَهُ اللهُ. وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) 4- مَا يُسْتَحَبُّ فِيهَا: وَعَلَى الإِمَامِ أَنْ يَتَّقِي اللهَ فَلا يُسْرِعُ سُرْعَةً تَمْنَعُ الْمَأْمُومِ مِنْ الإِتْيَانِ بِرُكْنٍِ كَالطُمْأَنِينَةِ، أَوْ وَاجِبٍ كَتَسْبِيحِ رُكُوعِ وَتَسْبِيحِ سُجُودِ، أَوْ

قَوْلِ: رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَمَنَ الْمُؤْسِفِ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ، أَثْقَلُ الأَئِمَةِ عِنْدَهُ مَنْ يُصَلِّي التَّرَاوِيحَ بِخُشُوعٍ وَخُضُوعٍ وَاطْمِئْنَانٍ، وَلِذَا يَفِرُّونَ مِنْهُ وَيَذْهَبُونَ إِلى مَنْ يُسْرِعُ بِهَا وَلا يُتِمُّها عَلَى الوَجْهِ الْمَشْرُوعِ، وَلا يَطْمَئِنُّ بِهَا، وَالطَّمَأْنِينَةُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلاةِ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسِيءِ في صَلاتِهِ لَمَا أَخَلَّ بِالطُّمَأنِينَةِ: «ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» . وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» . وَكَانَ السَّلَفُ يَعْتَمِدُونَ عَلَى العُصِيّ مِنْ طُولِ القِيَامِ. وَعَنْ الأَعْرَجِ قَالَ: (مَا أَدْرَكْنَا النَّاسَ إلا وَهُمْ يَلْعَنُونَ الكَفَرَةَ فِي رَمَضانَ. وَقَالَ: وَكَانَ القَارِئُ يَقْرَأُ سُورَةَ البَقَرَةِ فِي ثَمَانِ رَكَعَاتٍ، وَإِذَا قَامَ بِهَا فِي اثْنَتَي عَشْرَةَ رَكْعَةً رَأَى النَّاسُ أَنَّهُ قَدْ خَفَّفَ) . وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بِنْ بَكْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: كُنَّا نَنْصَرِفُ فِي رَمَضَانَ مِنْ القِيَامِ فَنَسْتَعْجِلُ الْخَدَمَ بالطَّعَامِ مَخَافَةَ فَوْتِ السُّحُورِ، وَفِي أُخْرَى: (مَخَافَةَ الفَجْرِ) . وَعَنْ السَّائِبِ بن يَزِيدَ قَالَ: أَمَرَ عُمَرُ أُبَيّ بن كَعْبٍ، وَتَمِيمًا الدَّارِي - رَضِي اللهُ عَنْهُم - أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ فِي رَمَضَانَ بِإحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةٍ، فَكَانَ القَارِئُ يَقْرَأُ بِالْمِئِينَ حَتَّى كُنَّا نَعْتَمِدُ عَلَى العُصيِّ مِنْ طُولِ القِيَامِ، فَمَا كُنَّا نَنْصِرِفُ إِلا فِي فُرُوعِ الفَجْرِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ بِسُورَةِ القَلَمِ فِي عِشَاءِ الآخِرَةِ مِنْ الليلةِ الأَوْلَى مِنْ رَمَضَانَ بَعْدَ الفَاتِحَةِ لأَنَّها أَوَّلُ مَا نَزَلَ مِنْ القُرْآنِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لا يَنْقُصَ عَنْ خَتْمَةٍ فِي التَّرَاوِيحِ لِيَسْمَعَ النَّاسُ جَمِيعَ القُرْآنِ. وَيَتَحَرَّى أَنْ يَخْتِمَ آخِرَ التَّرَاوِيحِ قَبْلَ رُكُوعِهِ وَيَدْعُو.

شِعْرًا: وَلَيْسَ فَتَى الفِتْيَانِ مِنْ كَانَ هَمُّهُ ... جَرَائِدَ يَقْرَأهَا وَمِذْيَاعَ يَسْمَعُ وَلَكِنْ فَتَى الفِتْيَانِ مِنْ كَانَ هَمُّهُ ... قِرَاءَةُ قُرْآنٍ فَيَتْلُو وَيَسْمَعُ وَلِشَيْخِ الإِسْلامِ فِي ذَلِكَ دُعَاءٌ جَامِعٌ شَامِلٌ. وَقَالَ: رُوِيَ أَنَّ عِنْدَ كُلِّ خَتْمَةٍ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ. وَقَالَ العُلَمَاءُ: يُسْتَحَبُّ لِقَارِئِ القُرآنِ إِذَا خَتَمَهُ أَنْ يَجْمَعَ أَهْلَه فَإِنَّهُ روي عن أنسِ بن مالكٍ أنه كان يَجْمَعُ أَهْلَهُ عند خَتْمِ القُرآنِ. وعنه أنه إذا أشْفَى على خَتْمِ القُرآن بالليل بَقِيَ أَرْبَعُ سُورٍ أَوْ خَمْس فَإِذَا أَصَبَحَ جَمَعَ أَهْلَهُ فَخَتمه ودعا، وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ عَلِمَ بالخَتْمِ أَنْ يَحْضُرَهُ. ورُوِي عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ رَجُلاً كَانَ يَقْرأ في مَسْجِدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان ابنُ عباسٍ يجعَلُ عليه رَقيبًا. فإذا أَرادَ أن يختمَ قال لِجُلَسَائِهِ: قُومُوا بنا حتى نَحْضُرَ الخاتِمَةِ. وعن مجاهد: كانوا يَجْتَمِعُونَ عند خَتْمِ القُرآن وَيَقُولُونَ: الرحمةُ تنزل. وعن الحَكَمِ بن عُتَيْبَةَ قَالَ: كَانَ مُجَاهِدُ وعنده ابْنُ أَبي لُبَابَةَ وَأُنَاسٌ يَعْرِضُونَ القُرْآنَ فَإِذَا أَرَادُوا أَنْ يَخْتِمُوهُ أَرْسَلُوا إِلَيْنَا وَقَالُوا: إِنَّا نُرِيدُ أَنْ نَخْتِمَ فَأَحْبَبْنَا أَنْ تَشْهَدُونَا فَإِنَّهُ يُقَالُ: إِذَا خُتِمَ القُرآن نَزَلَتِ الرَّحْمَةُ عند خَتْمِهِ، أو حَضَرَتِ الرحمةُ عند خَتْمِهِ. وقال وُهَيْبُ بنُ الوَرْد: قال لي عَطَاءٌ: بَلَغَنِي أَنَّ حُمَيْدَ الأَعْرجَ يُرِيدُ أَنْ يَخْتِمَ القُرآنَ فَانْظُرْ إِذَا أَرَادَ أن يَخْتِمَ فَأخْبِرْنِي حَتَّى أَحْضُرَ الْخَتْمَةَ. وقال في المغني: (فَصْلٌ) : فِي خَتْمِ القُرْآنِ: قَالَ الفَضْلُ بن زِيَادٍ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ فُقُلْتُ أَخْتمُ القُرْآنِ أَجْعَلُهُ في الوِتْرِ أَوْ فِي التَّرَاوِيحِ؟ قَالَ: اجْعَلْهُ فِي التَّرَاوِيحِ حَتَّى يَكُونَ لَنَا دُعَائَيْن. قُلْتُ: كَيْفُ أَصْنَعُ؟ قَالَ إِذَا فَرِغْتَ مِنْ آخِرِ القُرْآنِ فَارْفَعْ يَدَيْكَ قَبْلَ أَنْ تَرْكَعَ وادُعْ بِنَا وَنَحْنُ في الصَّلاةِ وَأَطِلِ القِيَامِ. قُلْتُ: بِمَا أَدْعُو؟

قصيدة زهدية أصولية ويليها موعظة

قَالَ: بِمَا شِئْتَ. قَالَ: فَفَعَلْتُ بِمَا أَمَرَنِي وَهُوَ خَلْفِي يَدْعُو قَائِمًا وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ. قَالَ حَنْبَلُ: سَمِعْتُ أَحْمَدُ يَقُولُ في خَتمِ القُرْآنِ: إِذَا فَرَغْتَ مِنْ قِرَاءِة: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فَارْفَعْ يَدَيْكَ فِي الدُّعَاء قَبْلَ الرُّكُوعِ. قُلْتُ: إِلى أَيُّ شَيْءٍ تَذْهَبُ فِي هَذَا؟ قَالَ: رَأَيْتُ أَهْلَ مَكَّةَ يَفْعَلُونَهُ، وَكَانَ سُفْيَانُ بَنْ عُيَيْنَةَ يَفْعَلْهُ مَعْهُم بِمَكَّةَ. قَالَ العَبَّاسُ بنُ عَبْدِ العظيم وَكَذَلِكَ أَدْرَكْنَا الناسَ بالبَصْرَةِ وَبِمَكَّةِ. وَيَرْوِي أَهْلُ المدينةِ فِي هَذَا شَيْئًا وَذَكَر عَنْ عُثْمَانَ بنِ عفان. وقالَ في الشرح الكبير مِثْلَ مَا قال في الْمُغْنِي، وقال في الأذكار: وَيُسْتَحَّبُ حُضُورُ مَجْلِسِ الْختمِ لِمَنْ يَقْرَأ وَلِمَنْ لا يُحْسِنُ أَنْ يَقرأ فَقَد رُوِينَا في الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ الحُيَّضَ بالخروج يومَ العِيدِ فلْيَشْهَدْنَ الخيرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِين. وَوَرَدَ: لا يَجْتَمعُ مَلاءٌ فَيَدْعُو بَعْضُهم ويُؤمِّنُ بَعْضُهُمْ إلا أجَابَهمُ الله. (طب، ك، ق) . تَمَسَّكَ بِحَبَّلِ اللهِ وَاتَّبِعِ الْهُدَى ... وَلا تَكُ بِدْعيًا لَعَلَّكَ تَفْلِحُ وَدِنْ بِكِتَابِ اللهِ وَالسُّنَنِ التِي ... أَتَتْ عَنْ رَسُولِ اللهِ تَنْجُو وَتَرْبَحُ وَقُلْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ كَلامُ مَلِيكِنَا ... بِذَلِكَ دَانَ الأَتْقِيَاءُ وَأَفْصَحُوا وَقُلْ يَتَجَلَّى اللهُ لِلْخَلْقِ جَهْرَةٍ ... كَمَا البَدْوُ لا يَخْفَى وَرَبُّكَ أَوْضَحُ وَلَيْسَ بِمَوْلُودٍ وَلَيْسَ بِوَالِدٍ ... وَلَيْسَ لَهُ شِبْهُ تَعَالى الْمُسَبَّحُ وَقَدْ يُنْكِرُ الْجَهْمِيُّ هَذَا وَعِنْدَنَا ... بِمِصْدَاقِ مَا قُلْنَا حَدِيثٌ مُصَحَّحُ رَوَاهُ جَرِيرٌ عَنْ مَقَالِ مُحَمَّدٍ ... فَقُلْ مِثْلَ مَا قَدْ قَالَ في ذَلِكَ تَنْجَحُ وَقَدْ يُنْكِرُ الْجَهْمِيُّ أَيْضًا يَمِينَهُ ... وَكِلْتَا يَدَيْهِ بِالفَوَاضِلِ تُفْتَحُ وَقُلْ يَنْزِلُ الْجَبَّارُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ ... بِلا كَيْفٍ جَلَّ الوَاحِدُ الْمُتَمَدِّحُ إِلى طَبَقِ الدُّنْيَا يَمُنُّ بِفَضْلِهِ ... فَتُفْرَجُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَتُفْتَحُ يَقُولُ أَلا مُسْتَغْفِرًا يَلْقَ غَافِرًا ... وَمُسْتَمْحِنًا خَيْرًا وَرَزِقًا فَيَمْنَحُ رَوَى ذَاكَ قَوْمٌ لا يُرَدُّ حَدِيثُهُمْ ... أَلا خَابَ قَوْمٌ كَذَبُوهُم وَقُبِّحُوا

وَقُلْ إِنَّ خَيْرَ النَّاسِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ ... وَزِيْرَاهُ قِدْمًا ثُمَّ عُثْمَانَ الأَرْجَحُ وَرَابِعْهُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ بَعْدَهُمْ ... عَلَيّ حَلِيفُ الْخَيْرِ بِالْخَيْرِ مُمْنَحُ وَإِنَّهُمُوا وَالرَّهْطُ لا شَكَّ فِيهِمْ ... عَلَى نُجَبِ الفِرْدَوْسِ بِالْخُلْدِ تَسْرَحُ سَعِيدٌ وَسَعْدٌ وَابنُ عَوْفٍ وَطَلْحَةٌ ... وَعَامِرُ فَهْرٍ وَالزُّبَيْرُ الْمُمَدَّحُ وَقُلْ خَيْرُ قَوْلٍ فِي الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ ... وَلا تَكُ طَعَّانًا تَعِيبُ وَتَجْرَحُ فَقَدْ نَطَقَ الوَحْيُ الْمُبِينُ بِفَضْلِهِمْ ... وَفِي الفَتْحِ آيٌ لِلصَّحَابَةِ تَمْدَحُ وَبِالقَدَرِ الْمَقْدُورِ أَيْقَنْ فَإِنَّهُ ... دَعَامَةِ عَقْدَ الدِّينِ وَالدِّينُ أَفْيَحُ وَلا تُنْكِرنَ جَهْلاً نَكِيرًا وَمُنْكَرًا ... وَلا الْحَوْضِ وَالْمِيزَانَ إِنَّكَ تُنْصَحُ وَقُلْ يُخْرِجُ اللهُ العَظِيمُ بِفَضْلِهِ ... مِنَ النَّارِ أَجْسَادًا مِنْ الفَحْمِ تُطْرَحُ عَلَى النَّهْرِ فِي الفِرْدَوْسِ تَحْيَا بِمَائِهِ ... كَحَبِّ حَمِيلِ السَّيُلِ إذْ جَاءَ يَطْفَحُ وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ لِلْخَلْقِ شَافِعٌ ... وَأَنَّ عَذَابَ القَبْرِ بِالْحَقِّ مُوْضَحُ وَلا تُكْفِرَنْ أَهْلَ الصَّلاةِ وَإِنْ عَصَوا ... فَكُلُّهُمْ يَعْصِي وَذُو العَرْشِ يَصْفَحُ وَلا تَعْتَقِدْ رَأَيْ الْخَوَارِجْ إِنَّهُ ... مَقَالٌ لِمَنْ يَهْوَاهُ يُرْدِي وَيَفْضَحُ وَلا تَكُ مُرْجِيًّا لَعُوبًا بِدِينِهِ ... أَلا إِنَّمَا الْمُرْجِي بِالدِّينِ يَمْزَحُ وَقُلْ إِنَّمَا الإِيْمَانُ قَوْلٌ وَنِيَّةً ... وَفِعْل عَلَى قَوْلِ النَّبِي مُصَرَّحُ وَيَنْقُصُ طَوْرًا بِالْمَعَاصِي وَتَارَةً ... بِطَاعَتِهِ يَنْمَى وَفِي الوَزْنِ يَرْجَحُ وَدَعْ عَنْكَ آرَاءَ الرِّجَالِ وَقَوْلَهُمْ ... فَقَوْلُ رَسُولِ اللهِ أَزْكَى وَأَرْجَحُ وَلا تَكُ مِنْ قَوْمٍ تَلَهَّوا بِدِينِهِمْ ... فَتَطْعَنَ فِي أَهْلِ الْحَدِيثِ وَتَقْدَحُ إِذَا مَا اعْتَقَدْتَ الدَّهْرَ يَا صَاحِ هَذِهِ ... فَأَنْتَ عَلَى خَيْرٍ تَبِيتُ وَتُصْبِحُ اللَّهُمَّ هَبْ لَنَا مَا وَهَبْتَهُ لِعَبَادِكَ الأَخْيَارِ وَانْظُمْنَا فِي سِلْكِ الْمُقَرِّبِينَ وَالأَبْرَارِ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَاغْفِرَ لَنَا

وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. موعظة عباد الله: تَصَرَّمَت الأَعْوامُ عَامًا بَعْدَ عَام، وأنتم في غَفْلَتِكمُ ساهون نيام. أما تُشَاهِدُونَ مَواقِع المنايا، وحلولَ الآفاتِ والرَّزَايَا. وَكيفَ فاز وأفلحَ المتقون، وكيفَ خَابَ وخَسرَ المبطلون المفرطون، فياليتَ شِعْرِي على أي شيءٍ تُطْوَى صَحَائِفُ الأعمال. أعَلىَ أعْمالٍ صَالِحَةٍ وتوبةٍ نَصُوح تُمْحَى بها الآثامْ؟ أم علىَ ضِدهَا فَلْيَتُبِ الجاني إلى رَبِّه فالعملُ بالخِتام. فاتقوا الله عبادَ اللهِ واستدِركُوا عُمُرًا ضيعتمُ أَوَّلَهُ، فإنَّ بَقَيِةَ عُمُرِ الْمُؤْمِنِ لا قيمة له. فرحِمَ اللهُ عَبْدًا اغتنمَ أيامَ القُوةِ والشبابِ وأسرعَ بالتوبةِ والإنابةِ قَبلَ طي الكِتابْ، وأخَذَ نَصِيبًا مِن الباقياتِ الصالحات قَبْلَ أن يَتَمَنَّى سَاعةً وَاحِدَةً مِنْ سَاعَاتِ الْحَيَاةِ. أينَ مَنَ كان قَبْلَكُم في الأوقاتِ الماضيةِ؟ أما وَافَتْهَمُ المنايا وَقَضَتْ عَليهم القَاضيَةُ، أين آباؤُنَا؟ وأينَ أمهَاتنا؟ أينَ أقارِبُنَا؟ وأينَ جِيرَانُنا؟ أَيْنَ مَعَارفُنا؟ وأينَ أصْدِقَاؤنَا؟ رَحَلُوا إلى القُبور وقلَّ واللهِ بَعدهَم بقَاؤُنا. هَذِهِ دُورُهَمُ فِيهَا سِوَاهمُ، هَذا صَدِيقُهم قَد نَسِيَهَمْ وَجَفَاهمُ. أخبارهُم السَّالَفةُ تُزعجُ الأَلْبَابْ، وادِّكَارِهُم يَصْدَعُ قُلُوبَ الأحباب. وأَحْوَالَهُم عِبرةٌ لِلْمُعْتَبِرينَ. فتأملوا أَحْوال الراحلين، واتعظُوا بالأمَمِ الماضِين، لعل القلبَ القاسيَ يلين. وانْظُرُوا لأَنْفُسِكم ما دُمْتُمْ في زَمَنِ الإمهالِ، واغْتَنِمُوا فِي حَيَاتِكمُ صَالحَ الأعمالِ، قَبلَ أن تقولَ نفسٌ: يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ، فيقالُ: هَيْهَاتَ فَاتَ زَمَنُ الإِمْكَانِ، وَحَصَلَ الإِنْسَانُ على عَمَلِهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ عِصْيَان. فَنَسْأَلُكَ اللَّهُمَّ يَا كَرِيمُ يَا مَنَّان أن تختم أعمالنا بالعفو والغفران، والرحمة، والجود والامتنان، وأن تجعل وقتنا مباركًا حميدًا، وَتَرْزُقَنَا فِيهِ رِزْقًا واسِعًا وتَوفيقًا وَتَسْدِيدًا. اللَّهُمَّ اخْتمُ بالصالحاتِ أعمالنا، وأصلح لنا جميع أحوالنا. أَفي كُلَّ يَوْمِ لي مُنَىً أَسْتَجدُّهَا ... وَأَسْبَابُ دُنْيًا بِالغرورُ أَوَدُّهَا؟

مشروعية صلاة الوتر وبيان وقته وبيان عدد الوتر أقله وأكثره

وَنَفْسٌ تَزَيَّا لَيْتَهَا في جَوَانِحٍ ... لِذِي قُوَّةٍ يَسْطِيعُهَا فَيَرُدُّهَا تَعَامَهُ عَمْدًا وَهِيَ جِدُّ بَصيرَةً ... كَمَا ضَلَّ عَنْ عَشَواءَ باللّيلِ رًشْدُهَا إِذَا قُلْتُ يَوْمًا: قَدْ تَنَاهَى جِمَاحُهَا ... تَجَانَف لي عَنْ مَنْهَج الحَقِّ بُعْدُهَا وَأَحسَبُ مَولاهَا كَما يَنْبَغي لَهَا ... وَإِنِّي مِنْ فَرْطِ الإِطَاعَةِ عَبْدُهَا وَأْهَوَى سَبِيلاً لا أُرَى سَالِكًا بِهَا ... كَأَنِّي أَقْلاهَا وَغَيرِي يَوَدُّهَا وَأَنْسَى ذُنُوبًا لِي أَتَتْ فَاتَ حَصْرُهَا ... حِسَابِي وَرَبِّي لِلْجَزَاءِ يَعُدُّهَا أُقرُّ بِهَا رَغْمًا وَلَيْسَ بِنَافعِي ... -وَقَدْ طُوِيَتْ صُحْفُ المَعَاذِيرُ- جَحْدُهَا وَلَمْ أَرَ كَالدُّنْيا تَصُدُّ عَنِ الذي ... يَوَدُّ مُحِبُّوهَا فَيَحْسُنُ صَدُّهَا وَتَسْقِيهُمُ منِهْاَ الأُجَاجَ مُصَرَّدًا ... وَكَيْفَ بِهَا لَوْ طَابَ لِلْقَوم عدُّها؟ أَرَاهَا عَلَى كُلِّ العُيُوب حَبِيبَةً ... فَيَا لِقُلُوبَ قَدْ حَشَاهُنَّ وُدُّهَا وَحُبُّ َبني الدُّنيا الحياة مَسِيئَةً ... بِهِمْ ثَلَمَةٌ بِالنَّفْسِ أَعْوزَ سَدُّها سَقَى الله قَلْبًا لَمْ يَبِتْ فِي ضُلُوعِهِ ... هَواهَا وَلَمْ يَطْرُقْ نَوَاحِيهِ وَجْدُهَا تَخَفَّفَ مِن أَزْوَادِهَا مِلْءَ طَوْقِهِ ... فَهَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ ذَلِكَ فَقدُها اللَّهُمَّ يَا مَنْ عَمَّ البَرِيَّةِ جُودُهُ وَإِنْعَامِهُ نَسْأَلُكَ أَنْ تَتَفَضَّلَ عَلَيْنَا بِعَفْوِكَ وَغُفْرَانكِ، وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. فصل في مَشْرُوعِ صَلاةِ الوِتْرَ، وَحُكْمَهَا. وَوَقْتِ صَلاةِ الوِتْرَ. وَالقِرَاءَةِ المُسْتَحَبَّةُ فِيهَا. وَعَدَدِ رَكَعَاتِهَا. وَدُعَاءِ القُنُوتِ في الوِتْرِ. 1- مَشْرُوعِيَّةُ صَلاةِ الوِتْرِ، وَحُكْمُهَا: الوِتْر سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ لِمُدَاوَمَتِهِ - صلى الله عليه وسلم - عليه في حَضْرِهِ وفي سَفَرِ، وَلِمَا وَرَدَ عَنْ

عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: (لَيْسَ الوِتْرُ بحَتْمِ كَهَيْئَةَ المَكْتُوبَةً، وَلَكِنْ سُنَّةٌ سَنَّهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -) رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَالنَّسَائِي وَحَسَّنَهُ، وَالحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَة) وَلَفْظُهُ: إِنَّ الوتْرَ لَيْسَ بحَتْم وَلا كَصَلاتِكُمْ، وَلَكِنَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوْتَرَ، فَقَالَ: «يَا أَهْلَ القُرْآنِ أَوْتِرُوا فَإِنَّ اللهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الوِتْرَ» . وَعَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَامَ شَهْرَ رَمَضَانَ، ثُمَّ انْتَظَرُوهُ مِنَ القَابِلَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ وَقَالَ: «خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُم الوتْرُ» . رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَعَنْ ابن عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْتَرَ عَلَى بَعِيرِهِ. رَوَاهُ الجَمَاعَةُ. 2- وقت صلاة الوتر: وَوَقْتَ الوِتْرِ بَعْدَ صَلاةِ العِشَاءِ وَسُنَّتِهَا لِمَا رَوَى خَاجَةُ بنُ حُذَافَةُ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ غَدَاةٍ، فَقَالَ: «لَقَدْ أَكْرَمَكُمْ اللهُ بِصَلاةٍ هِي خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمُرِ النِّعَم» ، قُلْنَا: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الوِتْرُ فَيمَا بِيْنَ صَلاةِ العِشَاءِ إِلَى طُلُوعِ الفَجْرِ» . رَوَاهُ الخَمْسَةُ إلا النِّسَائِي. وَرَوَى أَبُو بَصْرَةَ: أَنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ زَادَكُمْ صَلاةً فَصَلُّوَها مَا بَيْنَ صَلاةِ العِشَاءِ إلِى صَلاةِ الصُّبْحِ، الوِتْرُ» . رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ. وَلِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: «أَوْتِرُوا قَبْلَ أَنْ تُصْبِحُوا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا خَشِيتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَالأَفْضَلُ فِعْلُهُ سَحَرًا، لِقَوْلِ عَائِشَةَ: مِنْ كُلِّ الليلِ قَد أَوْتَرَ رَسُولُ

اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْتَهَى وِتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَمَنْ كَانَ لَهُ تَهَجُّدٌ جَعَلَ الوِتْرَ بَعْدَهُ، وَمَنْ خَشِي أَنْ لا يَقُومَ، أَوْتَرَ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ، لَمَا وَرَدْ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ خَافَ أَنْ لاَ يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرْ آخِرَهُ فَإِنَّ صَلاَةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ وَذَلِكَ أَفْضَلُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضْيَ اللهُ عَنْهُما - أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَإِنَّ أَحَبَّ مَنْ لَهُ تَهَجُّدٌ مُتَابَعَةَ الإِمَامِ في وُتْرِهِ قَامِ إِذَا سَلَّمَ الإِمَامُ وَأَتَى بِرَكْعَةٍ بَعْدَ الوِتْرِ شَفَعَ بِهَا رَكْعَةَ الوِتْرِ. ثُمَّ إِذَا تَهَجَّدَ أَوْتَرَ فَينَالُ فَضِيلَةَ مُتَابَعَةِ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصِرَف، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ» . صَحَّحَهُ التِّرْمِذِي. وَيَنَالُ فَضِيلَةَ جَعْلِ وِتْرِهِ آخِر صَلاتِهِ لِحَدِيثِ: «اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا» . مُتَفَّقٌ عَلَيْهِ. وَيَقْضِيهِ مَعَ شَفْعِهِ إِذَا فَاتَ وَقْتُهُ لِحَدِيثِ أبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَامَ عَنِ الوِتْرِ أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّ إِذَا أَصْبَحَ أَوْ ذَكَرَهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاودَ. وَلا يَصِحُّ الوِتْرُ قَبْلَ صَلاةِ العِشَاءِ لِعَدَمِ دُخُولِ وَقْتِهِ، وَأَقَلَّ الوِتْرِ رَكْعَةٌ، وَلا يُكْرَهُ الإِتْيَانُ بِهَا مُفْرَدَة وَلَوْ بِلا عُذْرٍ مِنْ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِمَا لِمَا ورد عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِي اللهُ عَنْهُما - أَنَّهُمَا سَمِعَا النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْوِتْرُ رَكْعَةٌ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمُ.

وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوِتْرُ حَقٌّ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِخَمْسِ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بِثَلاَثٍ فَلْيَفْعَلْ» . رَوَاهُ الخَمْسَةُ إلا التٍّرْمِذِي. وَثَبَتَ عَنْ عَشَرَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ الوِتْرَ رَكْعَةٌ مِنْهُمْ: أَبُو بَكْرِ، وَعُمَرُ، وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ أَهْلِ العِلْمِ: مَالِكٍ، وَالشَّافِعِي وَغَيْرِهِمْ - رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى. وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّى مَا بَيْنَ صَلاَةِ الْعِشَاءِ إِلَى الْفَجْرِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ) . وِفِي لَفْظٍ: كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةٍ وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ. وَأَدْنَى الكَمَالِ فِي الوِتْرِ ثَلاثُ رَكَعَاتٍ بِسَلامَيْنِ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللهِ بِنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الوِتْرِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «افْصِلْ بَيْنَ الوِاحِدَةِ وَالثِّنْتَيْنِ بِالتَّسْلِيمِ» . رَوَاهُ الأَثْرَمُ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يُسَلِّمُ بِيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ وَالرَّكْعَةِ بِالتَّسْلِيمِ في الوِتْرِ، حَتَّى أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِبِعْضِ حَاجَتِهِ. رَوَاهُ البُخَارِي. وَيَجُوزُ سَرْدُ الثَّلاثِ بِسَلامٍ وَاحِدٍ، فَلا يَجْلِسْ إلا فِي آخِرِهِنَّ، وَتَجُوزُ كَمَغْرِبِ. وَمَنْ أَدْرَكَ مَعَ الإِمَامِ رَكْعَةً مِنَ الثَّلاثِ فَإِنْ كَانَ الإِمَامُ يُسَلِّمُ مِن كُلِّ اثْنَتَيْنِ أَجْزَأَ لأَنَّ أَقَلَّ الوِتْرِ رَكْعَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الإِمَامُ يُسَلِّم مِنْ كُلِّ اثْنَتَينِ قَضَى، لِحَدِيثِ: «مَا أَدْرَكْتُمُوهُ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكم فَاقضُوا» . وَلأنَّ القَضَاءِ يَحْكِي الأَدَاءَ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِتَدَبُّرِ كِتَابِكَ وَإِطَالَةِ التَّأَمُّلِ فِيهِ وَجَمْعِ الفِكْرِ عَلَى مَعَانِي آيَاتِهِ اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قَوَاعِدَ الإِيمَانِ فِي قُلُوبِنَا وَشَيِّدْ فِيهَا بُنْيَانَهُ وَوَطِّدْ فِيهَا أَرْكَانَهُ وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) : وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الأُولى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، وَفِي الثَّانِيَةِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وَفِي الثَّالِثَةِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لِحَدِيثِ عَائِشَةَ: (كَانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يُوتِرُ بِثَلاثٍ لا يَفْصِلُ فِيهِنَّ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنِّسَائِي. وَعَنْ أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ بـ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى، وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنِّسَائِي، وَزَادَ: وَلا يُسَلِّمُ إلا فِي آخِرِهِنَّ، وَلأَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِي عَنْ عَائِشَةَ نَحْوُهُ، وَفِيهِ كُلُّ سُورَةٍ في رَكْعَةٍ، وَفِي الأَخِيرَةِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَالمعَوِّذَتَينِ. والسُّنَّةُ لِمَنْ أَوْتَرَ بِمَا زَادَ عَلى رَكْعَةٍ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْصِلُ بَيْنَ الشَّفْعِ وَالوِتْرِ، وَيُسِنُّ فِعْلُ الرَّكْعَةِ عَقِبَ الشَّفْعِ بَلا تَأْخِيرٍ لَهَا عَنْهُ، وَإْنَ صَلَّى الإِحْدَى عَشْرَةَ كُلَّهَا بِسَلامٍ وَاحِدٍ بَأَنْ سَرَدَ عَشْرًا وَتَشَهَّدَ

التَّشَهُّدَ الأوَّلَ، ثُمَّ قَامَ فَأَتَى بِالرَّكْعَةِ حَازَ، أَوْ سَرَدَ الجَمِيعِ وَلَمْ يَجْلِسَ إِلا فِي الأَخِيرَةْ جَازَ لَكِنْ الصِّفَةُ الأُولَى أَوْلَى لأَنَّهَا فِعْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 4- عدد ركعاتها: يَجُوزُ الوِتْرُ بِخَمْسٍ وَبِسَبْعٍ وَبِتِسْعٍ، فَإِنْ أَوْتَرَ بِتِسْعٍ سَرَدَ تَمَامًا وَجَلَسَ وَتَشَهَّدَ التَّشَهُّد الأوَّلَ وَلَمْ يُسَلِّم، ثُمَّ إِذَا صَلَّى التَّاسِعَةَ وَتَشَهَّدَ سَلَّمَ، لِمَا وَرَدَ عَنْ سَعِيدِ بْنَ هِشَامِ قَالَ: انْطَلَقْتُ إِلَى عَائِشَةَ فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأَ الْقُرْآنَ؟ قلتُ: يَا أُمَّ الْمُؤمِنينَ أَنْبِئيني عَنْ وَتْرِ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: كُنَّا نُعِدُّ لَهُ سِوَاكَهُ وَطَهُورَهُ فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ مَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَهُ مِنَ اللَّيْلِ، فَيَبُولُ وَيَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّى تِسْعَ رَكَعَاتٍ لاَ يَجْلِسُ فِيهَا إِلاَّ فِي الثَّامِنَةِ فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ ثُمَّ يَنْهَضُ وَلاَ يُسَلِّمُ فَيُصَلِّى التَّاسِعَةَ ثُمَّ يَقْعُدُ فَيَذْكُرُ اللَّهَ وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُوهُ ثُمَّ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا فَيُسْمِعُنَا ثُمَّ يُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ مَا يُسَلِّمُ وَهُوَ قَاعِدٌ فَتِلْكَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يَا بُنَيَّ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَأَنْ أَوْتَرَ بِسَبْعٍ أَوْ بِخَمْسٍ لَمْ يَجْلِسْ إِلا فِي آخِرِِهَا لِمَا وَرَدَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوتِرُ بِسَبْعٍ وَبِخَمْسٍ لا يَفْصِلُ بَيْنَهُنَّ سَلامٌ وَلا كَلامٌ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنِّسَائِي، وَابْنُ مَاجَة. وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً يُوتِرُ مِنْ ذَلِكَ بِخَمْسٍ ولاَ يَجْلِسُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ فِي آخِرِهِنَّ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. واللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.

دعاء القنوت ويليه قصيدة لابن عبد القوي

فصل في دعاء القنوت في الوتر: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْنُتَ في الرَّكْعَةِ الأَخِيرَةِ بَعْدَ الرُّكُوعِ لأَنَّهُ صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَنَسٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَنْ عَمْرُو، وَعَلي: أَنَّهُمَا كَانَا يَقْنُتَانِ بَعْدَ الرُّكُوعِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالأَثْرَمُ. وَلَوْ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيِهِ ثُمَّ قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ جَازَ لِحَديث أبي بن كَعْبٍ: أَنَّ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْنُتُ قَبْلَ الرُّكُوعِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَرَوَى الأَثْرَمُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ كَانَ يَقْنُتُ في الوِتْرِ، وَكَانَ إِذَا فَرَغَ مِنَ القِرَاءَةِ كَبَّرَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَنَتَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ابْنِ الخَطِيبِ: وَالقُنُوتُ: الدَّعَاءُ وَهُوَ مَا رُوِي عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّهُ قَنَتَ فَقَالَ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ وَنَسْتَهْدِيكَ وَنَسْتَغْفِرُكَ وَنَتُوبُ إِلَيْكَ، وَنُؤْمِنُ بِكَ وَنَتَوَكَّلُ عَلَيْكَ، وَنُثْنِي عَلَيْكَ الخَيْرَ كُلَّهُ وَنَشْكُرُكَ وَلا نَكْفُرَكَ وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَفْجُرُكَ. اللَّهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَلَكَ نُصَلِّي وَنَسْجُدُ وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ نَرْجُو رَحْمَتَكَ وَنَخْشَى عَذَابَكَ إِنَّ عَذَابَكَ الجِدَّ بِالكُفَّارِ مُلْحِقٌ. وَرَوَى الحَسَنُ بنُ عَلِي - رَضِي اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: عَلَّمَنِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَاتٌ أَقُولُهُنَّ في قُنُوتِ الوِتْرِ وَهُنَّ: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شِرَّ مَا قَضَيْتَ، فَإْنَّكَ تَقْضِي وَلا يُقْضَى عَلَيْكَ إِنَّهُ لا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، وَلا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ» . وَعَنْ عَلِي بِنْ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي وِتْرِهِ: «اللَّهُمَّ إِنِي أَعُوذُ بِرَِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِعَفْوِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَبِكَ مِنْكِ، لا نُحْصِي ثََنَاءٌ عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا

أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» . رَوَاهُ الخَمْسَةُ ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِحَدِيثِ الحَسَنِ بِنْ عَلِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَفي آخِرِهِ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ. رَوَاهُ النِّسَائِي. وَعَنْ عُمَرَ: (الدُّعَاءُ مَوْقُوفٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، لا يَصْعَدُ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى تُصَلِّي عَلَى نَبِيَّكَ) . رَوَاهُ التِّرْمِذِي. ثُمَّ يَمْسَحُ وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ هُنَا، وَخَارِجَ الصَّلاةِ إِذَا دَعَا. لِعُمُومِ حَدِيثَ ابنِ عُمَرَ - رَضِي اللهُ عَنْهُمَا -: كَانَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ، لا يَحُطُّهُمَا حَتَّى يَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ. رَوَاهُ التِّرْمِذِي. وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «فَإِذَا فَرَغْتَ فَامْسَحْ بِهِمَا وَجْهَكَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَة. وَيُؤَمِّنُ المُنْفَرِدُ الضَّمِيرَ، وَإِذَا سَلَّمَ مِنَ الوِتْرِ سُنَّ قَوْلُهُ: «سُبْحَانَ المَلِكِ القُدُّوسِ» - ثَلاثَ مَرَّاتٍ - يَرْفَعُ صَوْتَهُ فِي الثَّالِثَةِ، لِمَا رَوَى أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذِا سَلَّمَ فِي الوِتْرِ قَالَ: «سُبْحَانَ المَلِكِ القُدُّوسِ» . وَزَادَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ يُطِيلُ في آخِرِهِنَّ. وَفِي رِوَايةٍ لِلنِّسَائِي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِنْ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ يَقُولُ إِذَا سَلَّمَ: «سُبْحَانَ الملكِ القُدُّوسِ» ثَلاثًا، وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالثَّالِثَةِ. وَصَلِّ بِشَهْرِ الصَّوْمِ عَشْرِينَ رَكْعَةً ... تَرَوِايحَ فِي جَمْعٍ وَبِالوِتْرِ شَيِّدِ وَقُمْ بَعْدَهَا وَاشْفَعْ هُدِيتَ بِرَكْعَةٍ ... لِتُوتِرَ إِمَّا شِئْتَ بَعْدَ التَّجَهُّدِ وَأَفْضَلُ نَفْلِ المَرْءِ لَيْلاً بِبَيْتِهِ ... فَقُمْ تِلْوَ نِصْفٍ مِثْلِ دَاوُدَ فَاسْجُدِ وَإِنْ شِئْتَ اجْهَرْ فِيهَ مَا لَمْ تَخَفْ أَذَى ... لإِبْعَادِ شَيْطَانٍ وَإِيقَاظِ رُقَّدِ وَخُذْ قَدْرَ طَوْقِ النَّفْسِ لا تَسْأَمَنَّهُ ... وَقِلْ تَسْتَعِنْ بِالنَّوْمِ عِنْدَ التَّجَهُّدِ

كتاب الفضائل

فَإِنْ لَمْ تُصَلِّ فَاذْكُرِ اللهِ جَاهِدًا ... وَتُبْ وَاسْتَقِلْ مِمَّا جَنَيْتَ وَسَدِّدِ فَلا خَيْرَ فِي عَبْدٍ نَؤُومٍ إِلَى الضُّحَى ... أَمَا يَسْتَحِي مَوْلاً رَقِيبًا بِمَرْصَدِ يُنَادِيهُ هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَ سُؤْلَهُ ... وَمُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرْ لَهُ وَيُؤَيَّدِ اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا تَوْفِيقًا يَقِينًا عَنْ مَعَاصِيكَ وَأَرْشِدْنَا إِلَى السَّعْي فَيمَا يُرْضِيكَ وَأَجِرْنَا يَا مَوْلانَا مِنْ خِزْيِكَ وَعَذَابِكَ وَهْبَ لَنَا مَا وَهَبْتَهُ لأَوْلِيَائِكَ وَأَحْبَابِكَ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ انْظِمْنَا فِي سِلْكِ حِزْبِكَ المُفْلِحِينَ، وَاجْعَلنا مِنْ عِبَادِكَ المُخْلَصِينْ وَأَمِّنَا يَوْمَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ يَوْمَ الدِّينْ، وَاحْشُرْنَا مَعَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) : وَيَبْحَثُ فِي: 1- مَا وَرَدَ مِنَ الحَثِّ عَلَى الاجْتِهَادِ فِي العَشْرِ الأَخِيرِ مِنْ رَمَضَان، وَالحَثِّ عَلَى القِيَامِ عُمُومًا. 2- مَا وَرَدَ في فَضْلِ هَذَا العَشْرِ الأَخِيرِ، وَالحَثِّ عَلَى القِيَامِ عُمُومًا. 3 - مَا وَرَدَ في لَيْلَةِ القَدْرِ مِنَ الفَضْلِ وَذِكْرِ عَلامَتِهَا. 1- مَا وَرَدَ مِنَ الحَثِّ عَلَى الاجْتِهَادِ في العَشْرِ الأَخِيرَةِ مِنْ رَمَضَانَ: يُسْتَحَبُّ الاجْتِهَادُ وَالحِرْصُ عَلَى مُدَاوَمَةِ القَيَامِ في العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَان وَإِحْيَاؤُهَا بِالعِبَادِةِ وَاعْتِزَالُ النِّسَاءِ وَأَمْرُ الأَهْلِ بِالاسْتِكْثَارِ مِنَ الطَّاعَةِ فِيهَا، لِمَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -: (أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ الأوَاخِرُ أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَشَدَّ الْمِئْزَرَ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

ما ينبغي أن يفعل في ليالي عشر رمضان الأخيرة

وَعْنَهَا قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَهِدُ فِي العَشْرِ الأَوِاخِرِ مِنْهُ مَالا يَجْتَهْدُ فِي غَيْرِهِ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِي مِنْ حَدِيثِ عَلِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُوقِظُ أَهْلَهُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ يُطِيقُ الصَلاةَ) . وَفِي التِّرمِذِيُّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِي اللهُ عَنْهُا - قَالَتْ: (لَمْ يَكُن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَقِيَ مِنْ رَمَضَانَ عَشْرَةُ أَيَّامٍ يَدَعُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهِ يُطِيقُ القِيَام إِلا أَقَامَهُ) . 2- مَا وَرَدَ فِي فَضْلِ هَذَا العَشْرِ الأَخِيرِ: عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . رَوَاهُ الجَمَاعَةُ إِلا ابْن مَاجَة. وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ القَدرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: «قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُّوٌ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. قَالَ ابنُ جَرِيرٍ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَغْتَسِلُ، وَيَتَطَيَّبُ فِي اللَّيَالِي التِّي تَكُونُ أَرْجَى لِلَيْلَةِ القَدْرِ. وَرُوِيَ عَنْ أَنْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَيْلَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ اغْتَسَلَ وَتَطَيَّبَ وَلَبِسَ حُلَّةً وَأْزَرَارًا وَرِدَاءً، فَإِذَا أَصْبَحَ طَوَاهُمَا فَلْمَ يَلْبَسْهُمَا إِلَى مِثلِهَا مِنْ قَابِلَ. وَقَالَ حَمَّادُ بنُ سَلََمَةَ: كَانَ ثَابِتٌ وَحُمَيْدٌ يَلْبِسَانِ أَحْسَنَ ثِيَابِهِمَا

وَيَتَطَيَّبَانِ وَيُطَيِّبَانِ المَسْجِدَ بِالنُّضُوحِ وَالدُّخْنَةٍ فِي اللَّيْلَةِ التي تُرْجَى فِيهَا لَيْلَةُ القَدْرِ فَيُسْتَحَبُّ فِي اللَّيَالِي التي تُرْجَى فِيهَا لَيْلَة القَدْرِ التَّنَظُّفُ وَالتَّطَيُّبُ وَالتَّزَيُّنِ بِالغُسْلِ وَالطِّيبِ وَاللبَاسِ الحَسَن كَمَا شُرِعَ ذَلِكَ فِي الجُمَعِ وَالأَعْيَادِ، وَكَذَلِكَ يُشْرِعُ أَخْذَ الزِّينَةِ مِنَ الثِّيَابِ في سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} . وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِي اللهُ عَنْهُمَا -: (اللهُ أَحَقُّ أَنْ يُتَزَيَّنَ لَهُ) . وَرُوِيَ عَنْهُ مَرْفُوعًا عَنِ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلا يَكْمُلُ التَّزَينُ الظَّاهِرُ إِلا بِتَزْيينِ البَاطِنِ بِالتَّوْبَةِ وَالإِنَابَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَتَطْهِيرِهِ مِنْ أَدْنَاسِ الذُّنُوبِ، وَاللهُ سُبْحَانُهُ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَجْسَامِكُمْ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» . شِعْرًا: إِذَا صَدَرَتْ مِنْكَ الذُّنُوبِ فَدَاوِهَا ... بِرَفْعِ يَِد فِي اللَّيْلِ وَاللَّيْلُ مُظْلِمُ وَلا تَقْنَطَنَّ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّمَا ... قُنُوطُكَ مِنْهَا مِنْ خَطَايَاكَ أَعْظَمُ فَرَحْمَتُهُ لِلْمُحْسِنِينَ كَرَامَةٌ ... وَرَحْمَتُهُ لِلْمُذْنِبِينَ تَكَرُّمُ آخر: عَلَيْكَ بِإِخْلاصِ العِبَادَةِ لِلَّذِي ... لَهُ نِعَمٌ لا تَنْحَصِي وَفضَائِلُ فَمَنْ وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيُزَيّنْ ظَاهِرَهُ بِاللِّبَاسِ، وَبَاطِنَهُ بِلِبَاسِ التَّقْوَى، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} . عِبَادَ اللهِ: إِنَّ عَشْرَكُمْ هَذَا هُوَ العَشْرُ الأَخِيرُ، وَفِيهِ الخَيْراتُ وَالأجُورُ الكَثِيرَةُ تَكْمُلَ فِيهَ الفَضَائِلُ، وَتَتِمُّ فِيهِ المَفَاخِرُ، وَيَطَّلَعُ عَلَى عِبَادِهِ الرَّبُ العَظِيمُ الغَافِرُ وَيُنِيلُهُمْ الثَّوَابَ الجَزِيلَ الوَافِرَ فِيهِ تَزْكُو الأَعْمَالُ وَتَنَالُ الآمَالُ، وَقَدْ ذَكَرَ جَلَّ وَعَلا مِنْ مَحَاسِنِ أَهْلِ الإِيمَانِ، أَنَّهُم تَتَجَافى جُنُوبُهُم عَنِ المَضَاجِعِ، عَنْ مُعَاذِ بنِ جَبَل عَنِ النبي صَلَّى

اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} ، قَالَ: هِيَ قِيَامُ العَبْدِ أَوَّلَ اللَّيْلِ. وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ رَجُلَين: رَجُلٌ ثَارَ مِن وَطَائِهِ وَلِحَافِهِ مِنْ بِيْنِ حِبِّهِ وَأَهْلِهِ إِلَى صَلاتِهِ رَغبَةً فِيمَا عِنْدِي وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدِي» . الحَدِيث. وَقَالَ الحَسَنُ، وَمُجَاهِدُ، وُمالِكُ، وَالأَوْزَاعِي وَغَيرُهُم: (إِنَّ المُرَادَ بِالتَّجَافِي القِيَامُ لِصَلاةِ النَّوَافِلِ بِاللَّيْلِ) ، وِفِي آيَةِ سُورَةِ الذَّارِيَاتِ أَخْبَرَ جَلَّ وَعَلا أَنَّهُم كَانُوا يَنَامُونَ القَلِيلَ مِنَ اللَّيْلِ وَيَتَهَجَّدُونَ مُعْظَمَهُ قَالَ تَعَالَى: {كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} . قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: مَا تَأْتِي عَلَيْهِمْ لَيْلةٌ يَنَامُوا حَتَّى يُصْبِحُوا إِلا يُصَلُّونَ فِيهَا شَيْئًا، إِمَّا مِنْ أَوَّلِهَا أَوْ مِنْ أَوْسَطْهَا. وَقَالَ الحَسَنُ: كَابَدُوا قِيَامَ اللَّيلِ فَلا يَنَامُوا مِنَ اللَّيْلِ إِلا قَلِيلَهُ. شِعْرًا: خُضُوعٌ وَخَوْفٌ وَاحْتِشَامٌ وَذِلَّةٌ ... وَهَذَا لِمَنْ يَرُجو النَّجَاةَ قَلِيلُ فَهَلْ لِي مِن الأَحْزَانِ حَظُّ مُوَفَّرٌ ... وَهَلْ لِي إِلَى طُولِ البُكَاءِ سَبِيلُ لَعَلِّي أَنْ أُحْظَى بِقُرْبٍ وَلَذَّةٍ ... وَيَحْصُلُ لِي بَعْدَ الفِرَاقِ وُصُولُ آخر: يَا عَاشِقَ العَيْشِ فِي الدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا ... هَلْ أَخْلَدِ النَّاسَ مَا حَازَوْا وَمَا عَمَرُوا عَلَيْكَ بِاللَّيْلَ فِي الأَذْكَارِ تُعمرهُ ... وَدَعْ مَلذَّاتِهِ الأخْرَى لِمَنْ كَفَرُوا لَغَمْسَة في جِنَانِ الخُلْدِ خَاطِفَةً ... تُنْسِيكَ مَا مَرَّ مِنْ بُؤْسٍ لَهُ خَطَرُ آخر: ... وَأَهْوَى مِنَ الفِتْيَانِ كُلَّ مُوَحَّدٍ ... يُلازِمَ ذِكْرَ اللهِ يَهوى التَّعَبُّدَا نَفَى النَّومَ عَنْ عَيْنَيْهِ نَفْسٌ تَقِيَّةٌ ... لَهَا فِي ظَلامِ اللَّيْلِ طُولُ تَهَجَّدِ وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمِ.

فصل وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «عَلَيْكُمِ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُم، وَهُوَ قُرْبُكُم مِنْ رَبِّكم وَمَغْفِرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ وَمَنْهَاةٌ عَنِ الإِثْمِ» . وَقَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: كَانَ الأَحْنَفُ بنُ قَيسٍ يَقُولُ: عَرَضْتُ عَمَلِي عَلَى عَمَلِ أَهْل الجَنَّةِ، فَإِذَا قَوْمٌ قَدْ بَايَنُونُا بَوْناً بَعِيدَا، وَإِذَا قَوْمٌ لا تُبْلَغُ أَعْمَالُهُمْ، كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، وَعَرضْتُ عَمَلِي عَلَى عَمِلِ أَهْلِ النَّارِ، فَإِذَا قَوْمٌ لا خَيْرَ فِيهِمْ مُكَذِّبُون بِكِتَابِ اللهِ وَلرُسُلِ اللهِ، مُكَذِّبُون بِالبَعْثِ بَعْدَ المَوْتِ، فَقْدَ وَجَدْتُ مِن خَيْرِنَا مَنْزِلةٌ قَوْماً خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِنْ زَيْدٍ بِنْ أَسْلَمَ: قَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِِي تَمِيمٍ لأَبِي: يَا أَبَا أُسَامَةَ صِفَة لا أَجْدُهَا فِينَا، ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى قَوْمًا فَقَالَ: {كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} وَنَحْنُ واللهِ قَلِيلاً مَا نَقُومُ، فَقَالَ لَهُ أَبِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: طُوبَى لَمَنْ رَقَدَ إِذَا نَعَسَ، وَاتَّقَى اللهُ إِذَا اسْتَيْقَظَ. وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بنِ سَلامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينةَ انْجَفَلَ النَّاسُ عَنْهُ، فَكُنْتُ فِيمَنْ انْجَفَلَ، فَلَمَّا رَأَيْتُ وَجْهَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرِفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّاب، فَكَانَ أَوَّلَ مَا سَمِعْتُ مَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الأَرْحَامَ، وَأَفْشُوا السَّلامِ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الجَنَّةْ بِسَلامٍ» . لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيِّنَةٌ ... كَانَتْ بَدِيهَتُهُ تَأْتِيكَ يَا الخَبَرَ اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ فِيهَا وَقَوِّهَا وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَارْزُقْنَا حُبَّ أَوْلِيَائِكَ وَبُغْضَ أَعْدِائِكَ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي

موعظة بليغة يليها قصيدة زهدية وعظيمة

الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. موعظة إِخْوَانِي: إِنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ كَمَا عَلِمْتُمْ فِيهِ فَضْلٌ عَظِيمٌ وَثَوَابٌ جَزِيلٌ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ جَلَّ وَعَلا، وَهُوَ مِنْ أَثْقَلِ شَيْءٍ عَلَى النَّفْسِ وَلا سِيَّمَا بَعْدَ أَنْ يَرْقُدَ الإِنْسَانُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ خَفِيفًا بِالاعْتِيَادِ، وَتْوطِينِ النَّفْسِ وَتَمْرِينِهِا عَلَيْهِ وَالمُدَاوَمَةِ وَالصَّبْرِ عَلَى المَشَقَّةِ وَالمُجَاهَدَةْ في الابْتِدَاءِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْشَرِحُ وَيَنْفَتِحُ بَابُ الأُنْسِ بِاللهِ وَتَلَذُّ لَهُ المُنَاجَاةُ وَالخَلْوَةُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لا يَشْبَعُ الإِنْسان مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ، فَضْلاً عَنْ أَنْ يَسْتَثْقِلَهُ أَوْ يَكْسَلَ عَنْهُ كَمَا وَقَعَ لِكَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ. قَالَ بَعْضُهُم: أَهْلُ اللَّيْلِ فِي لَيْلِهِم أَلَذُّ مِنْ أَهْلِ اللَّهْوِ فِي لَهْوِهِمْ وَيَا بُعْدَ مَا بَيْنَ الحَالَتَينَ، فَسُبْحَانَ مَنْ وَفَّقَ أَقْوَامًا فَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِالنَّوَافِل، وَأَبْعَدَ بِحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ آخَرِينَ فَهُمْ عَنْ مَا يَنْفَعهم فِي حَاضِرِهم وَمَآلِهِم غَافِلُونَ. شِعْرًا: ذُنُوبُكَ يَا مَغْرُورُ تُحْصَى وَتُحْسَبُ وَتَجْمَعُ فِي لَوْحٍ حَفِيظٍ وَتُكْتَبُ وَقَلْبُكَ فِي سَهْوٍ وَلَهْوٍ وَغَفْلَةٍ وَأَنْتَ عَلَى الدُّنْيَا حَرِيصٌ مُعَذَّبُ تُبَاهِي بِجَمْعِ المَالِ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ وَتَسْعَى حَثِيثًا فِي المَعَاصِي وَتُذْنِبُ أَمَا تَذْكُرُ المَوْتَ المُفَاجِيكَ فِي غَدٍ أَمَا أَنْتَ مِن بَعْدِ السَّلامَةِ تَعْطَبُ

أَمَا تَذْكُرُ القَبْرَ الوَحِيشَ وَلَحْدَهُ بِهِ الجِسْمُ مِنْ بَعْدِ العَمَارَةِ يَخْرُبُ أَمَا تَذْكُرُ اليَوْمَ الطَّوِيلَ وَهُوَ لَهُ وِمِيزَانَ قَسْطٍ لِلْوَفَاءِ سَيُنْصَبُ تُرُوحُ وَتَغْدُو فِي مَرَاحِكَ لاهِيًا وَسَوْفَ بِأَشْرَاكِ المَنِيَّةِ تَنْشَبُ تُعَالِجُ نَزْعَ الرُّوحِ مِنْ كُلِّ مَفْصِلٍ فَلا رَاحِمٍ يُنْجِى وَلا ثَمَّ مَهْرَبُ وَغُمضَتِ العَيْنَانِ بَعْدَ خُرُوجِهَا وَبُسِّطَتْ الرِّجْلانِ وَالرَّأْسُ يُعْصَبُ وَقَامُوا سِرَاعًا فِي جِهَازَكَ أَحْضَرُوا حَنُوطًا وَأَكْفَانًا وَلِلْمَاءِ قَرَّبُوا وَغَاِسُلَك المَحْزُونُ تَبْكِي عُيُونُهُ بِدَمْعٍ غَزِيرٍ وَاكِفٍ يَتَصَبَّبُ وَكُلُّ حَبِيبٍ لُبُّهُ مُتَحَرِّقٌ يُحَرِّكُ كَفَّيْهِ عَلَيْكَ وَيَنْدُبُ وَقَدْ نَشَرُوا الأَكْفَانَ مِنْ بَعْدِ طَيِّهَا وَقَدْ بَخَّرُوا مَنْشُورَهُنَّ وَطَيَّبُوا وَأَلْقُوكَ فِيمَا بَيْنَهُنَّ وَأَدْرَجُوا عَلَيْكَ مَثَانِي طَيِّهُنَّ وَعَصَّبُوا وَفِي حُفْرَةٍ أَلْقَوْكَ حَيْرانَ مُفْرَدًا تَضُمَّكَ بَيِدَاءٌ مِنَ الأَرْضِ سَبْسَبُ إِذَا كَانَ هَذَا حَالُنَا بَعْدَ مَوْتِنَا فَكَيْف يَطِيبُ اليَومَ أَكْلٌ وَمَشْرَبُ؟!

وَكَيْفَ يَطِيبُ العَيْشُ وَالقَبْرُ مَسْكنٌ بِهِ ظُلُمَاتٌ غَيْهَبٌ ثُمَّ غَيْهَبُ وَهَوْلٌ وَدِيدَانٌ وَرَوْعٌ وَوَحْشَةٌ وَكُلُّ جَدِيدٍ سَوْفَ يَبْلَى وَيذْهَبُ فَيَا نَفْسُ خَافِي اللهَ وَارْجِي ثَوَابَهُ فَهَادِمُ لَذَّاتِ الفَتَى سَوْفَ يَقْرُبُ وَقُولِي إِلَهِي أَوْلِنِي مِنْكَ رَحْمَةً وَعَفْوًا فَإِنَّ اللهَ لِلذَّنْبِ يُذْهِبُ وَلا تُحْرِقَنْ جِسْمِي بِنَارِكَ سَيِّدِي فَجِسْمِي ضَعِيفٌ وَالرَّجَا مِنْكَ أَقْرَبُ فَمَا لِي إَلا أَنْتَ يَا خَالِقَ الوَرَى عَلَيْكَ اتِّكَالِِي أَنْتَ لِلْخَلْقِ مَهْرَبُ وَصَلِّي إَلَهِي كُلَّمَا ذَرَّ شَارِقٌ عَلَى أَحْمَدَ المُخْتَارِ مَا لاحَ كَوْكَبُ اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّكِ بَعْدَ اليَقِينِ، وَمِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَمِنْ شَدَائِدِ يَوْمِ الدِّينِ، وَنَسْأَلكَ رِضَاكَ وَالجَنَّةَ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ سَخَطِكَ واَلنَّارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمْنَا إِذَا عَرِقَ الجَبِينُ وَاشْتَدَّ الكَرْبُ وَالأَنِينُ، اللَّهُمَّ عَافِنَا مِنْ مَكْرِكَ وَزَيِّنَّا بِذِكْرَكَ وَاسْتَعْمِلْنَا بَأَمْرِكَ وَلا تَهْتِكَ عَلَيْنَا جَمِيلَ سِتْرِكَ وَامْنُن عَلَيْنَا بِلُطْفِكَ وَبِرِّكَ وَأَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ، اللَّهُمَّ سَلَّمْنَا مِنْ عَذَابِكَ وَآمِنَّا مِنْ عَقَابِكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

فضائل ليلة القدر وعلاماتها والأحاديث الواردة في ذلك

ليلة القدر فضائلها وعلاماتها عن ابن عمر - رَضِي اللهُ عَنْهاُ - قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَانَ مُتَحَرِّيًا فَلْيَتَحَرَّهَا لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ - أَوْ قَالَ -: تَحَرُّوهَا لَيْلةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ» . يَعْنِي لَيْلَةَ القَدْرِ. رواه أحمد بإسناد صحيح. وعن ابن عباس - رَضِي اللهُ عَنْهُمَا -: أَنَّ رَجُلاً أَتَى نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنِّي شَيْخُ كَبِيرٌ عَلِيلٌ يَشُقُّ عَلَيّ القِيامُ فَأْمُرْنِي بِلَيلةٍ لَعَلَّ اللهَ يُوَفِقُنِي فيِهَا لِلَيْلةِ القَدْرِ، فَقَالَ: «عَلَيْكَ بالسَّابِعَةِ» رواه أحمد. وَعَنْ زِرِّ بِن حُبَيْشٍ قَالَ: سَمِعْتُ أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ يَقُولُ: وَقِيلَ لَهُ إِنَّ عَبْدَ اللهِ بن مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقولُ: مَنْ قَامَ السَّنَةَ أَصَابَ لَيْلَةَ القَدْرِ، فَقَالَ أُبَيّ: واللهِ الذي لا إله إلا هُو إِنَّهَا لَفِي رَمَضَانَ يَحْلِفُ مَا يَسْتَثْنِي، وَاللهِ إِنِّي لأَعْلَمُ أَيَّ لَيْلَةٍ هِيَ، هِيَ اللَّيْلَةُ التي أَمَرَنَا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِيَامِهَا هِيَ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعْشرِينَ، وَأَمَارَتُهَا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ في صَبِيحَةِ يَوْمِهَا لا شُعَاعَ لَهَا. رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي وصححه. وَرَوَى البُخَارِيُّ عن أبي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: اعْتَكَفْنَا مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العَشْرَ الأَوْسَطَ مِنْ رَمَضانَ، فَخَرَجَ صَبِيحَةَ عِشْرِينَ فَخَطَبَنَا وَقَالَ: «إِنِّي رَأَيْتُ لَيْلَةَ القَدْرِ ثم أنسِيتُهَا أَوْ نَسَيْتُهَا، فالتَمسُوهَا في العَشْرِ الأوَاخِرِ في الوِتْرِ، إني رَأَيْت ُأَنِّي أَسْجُدُ في مَاءٍ وَطِينٍ فَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيَرْجِعْ» . فَرَجَعْنَا وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةٌ، فَجَاءَتْ سَحَابَةٌ فَمَطَرَتْ حتى سَالَ

سَقْفُ الْمَسْجِدِ وَكَانَ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ - وَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْجُدُ في الْمَاءِ وَالطِّينِ، حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِينِ فِي جَبْهَتِهِ. وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بن أَنِيس: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رَأَيْتُ لَيْلَةَ القَدْرِ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا وَإِذَا بِي أَسْجُدُ صَبِيحَتهَا فِي مَاءٍ وَطِينٍ» . قَالَ: فَمُطِرْنَا في لَيْلَةِ ثلاثٍ وَعِشْرِينَ فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْصَرفَ، وَإنَّ أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ. رواه أحمد، ومسلم وزاد. وَعن أبي بكرةَ: أنه سَمِعَ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: «التَمِسُوهَا في تِسْعٍ بَقِينَ أَوْ سَبْعٍ بَقِينَ، أَوْ خَمْسٍ بَقِينَ، أَوْ ثَلاثٍ بَقِينَ، أَوْ آخرَ لَيْلةٍ» . قَالَ: وَكَانَ أُبُو بَكْرَةَ يُصَلِّي في العِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ صَلاتَهُ في سَائِرِ السَّنَةِ فَإِذَا دَخَلَ العَشْرُ اجْتَهد. رواه أحمد، والترمذي وصححه. وعن أبي نَضْرَةَ عن أبي سعيدٍ في حديث لَهُ: أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ على الناس فَقال: «يا أيُّهَا النَّاسُ إنها كانَتْ أُبِينَت لي ليلةُ القَدْرِ، وَإني خَرَجْتُ لأُخْبِرَكُم بِهَا فَجَاءَ رَجُلانِ يَحْتَقَّانِ مَعْهُمَا الشَّيْطَانُ فَنَسِيتُهَا، فالتَمِسُوهَا في العَشْرِ الأواخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، التَمِسُوهَا في التَّاسِعَةِ، وَالْخَامِسَةِ، وَالسَّابِعَةِ» . قَالَ: قُلْتُ يَا أَبَا سَعِيدٍ: إنكم أَعْلَمُ بِالعَدَدِ مِنَّا، فقال! أَجَل نَحْنُ أَحَقُ بِذَلِكَ مِنْكُمْ، قَالَ: قُلْتُ: مَا التَّاسعةُ، والسابعةُ، والخامسةُ؟ قَالَ: إِذَا مَضَتْ وَاحِدَةٌ وَعِشْرُونَ فَالتِي تَلِيهَا اثْنَانِ وَعِشْرُونَ فَهِيَ التَّاسِعَةُ، فإذا مَضَتْ ثَلاثٌ وَعِشْرُونَ فَالتِي تَلِيهَا السَّابِعَةُ، فإذا مَضَتْ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ فَالتِي تَلِيهَا الْخَامِسَةُ. رواه أحمد، ومسلم.

وعن ابن عباس - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «التَمِسُوهَا في العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَةَ القَدْرِ في تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى» . رواه أحمد، والبخاري، وأبو داود. وَفِي رِوَايَة: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هِي فِي العَشْر الأخِيرِ، سَبْعٌ يَمْضِينَ، أَوْ تِسْعٌ يَبْقِينَ، يَعْنِي لَيْلَةَ القَدرِ» . رواه البخاري. وعن ابن عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – أَنَّ رِجَالاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرُوا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي المنامِ في السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ في السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِّيًا فَلْيَتْحَرَّهَا في السَّبْعِ الأَوَاخِرِ» . وَلِمُسْلِمٍ قَالَ: أُرِيَ رَجُلٌ أّنَّ لَيْلَةَ القَدْرِ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ في الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فَاطْلُبُوهَا في الوِتْرِ مِنْهَا» . وعن عائشة - رَضِي اللهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَحَرُّوا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِن رمضان» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالبُخَارِيُّ. وَعَنْ عُبَادَةَ بن الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُخْبِرَنَا بِلَيْلَةِ القَدْرِ فَتَلاحَى رَجُلانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: «خَرَجْتُ لأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ القَدْرِ فَتَلاحَى فلانٌ وَفلانٌ فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ فَالتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ» . رَوَاهُ البخاري.

الحث على قيام ليلة القدر والاجتهاد فيها بالعبادة

وَعن عبدِ الله بن أُنَيْسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قال: قُلْتُ يَا رسولَ اللهِ، إنَّ لِي بَادِيةً أَكُونُ فيها وأنا أُصَلِّي فِيهَا بِحَمْدِ اللهِ، فَمُرْنِي بِلَيْلَةٍ أَنْزِلُها إِلى هَذَا الْمَسْجِدِ فَقَالَ: «انْزِلْ ثَلاثَ وَعِشْرِين» . رواه أبو داود. قِيلَ لابْنِهِ: كَيْفَ كَانَ أَبُوكَ يَصْنَعُ؟ قَالَ: كَانَ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ إِذَا صَلَّى العَصْرَ فَلا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلا لِحَاجَةٍ حَتَّى يُصَلِّي الصُّبْحَ، فَإِذَا صَلَّى الصُّبْحَ، وَجَدَ دَابَّتَهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَجَلَسَ عَلَيْهَا وَلَحِقَ بِبَادِيَتِهِ. قَالَ البَغَوِي: وَفِي الْجُمْلَةِ: أَبْهَمَ اللهُ هذِهِ اللَّيْلَةَ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ لِيَجْتَهِدُوا بِالعِبَادَة لَيَالِي رَمَضَانَ طَمَعًا في إِدْرَاكِهَا، كَمَا أَخْفَى سَاعَةَ الإِجَابَةِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَأَخْفَى الصَّلاةَ الوُسْطَى في الصلواتِ، الْخَمْسِ، واسْمَهُ الأَعْظَمَ فِي الأَسْمَاءِ، وَرِضَاهُ في الطَّاعاتِ لِيَرْغَبُوا في جَمِيعِهَا وَسَخَطَهُ فِي الْمَعَاصِي لِيَنْتَهُوا عَنْ جَمِيعِهَا وَأَخْفَى قِيَامَ السَّاعَةِ لِيَجْتَهِدُوا في الطاعاتِ حَذَرًا مِن قِيَامِهَا. إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَعَلِمْتَ مَا وَرَدَ مِنْ الحَثِ عَلَيْهَا، فَاعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ مُوَفَّقٍ مُرِيدٍ لِلْكَمَالِ وَالسَّعَادَةِ الأَبَدِيَّةِ أَنْ يَبْذِلَ وُسْعَهُ وَيَسْتَفْرِغَ جُهْدَهُ فِي إِحْيَاءِ لَيَالِي العَشْرِ الأَخِيرِ وَقِيَامِهَا لَعَلَّهُ أَنْ يُصَادِفَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ الْجَلِيلَةَ التِي اخْتَصَّ اللهُ تَعَالى بِهَا هَذِهِ الأُمَّةَ، وَآتَاهُمْ فِيهَا مِنْ الفَضْلِ مَا لا يَحْصُرُهُ العَدَدُ. فَيَا عِبَادَ اللهِ إِنَّ هَذَا عَشْرُ. شَهْرٍ. مُبَارَكِ اللَّيَالِي وَالأَيَّامِ وَهُوَ سَبَبٌ لِمَحْوِ الذُّنُوبِ وَالآثامِ، وَفِيهِ يَتَوَفَّرُ جَزِيلُ الشُّكْرِ وَالإِنْعَامِ، فَاعْتَذِرُوا فِيهِ إلى الْمَوْلَى الكَرِيمِ، وَأَقْبَلُوا بِقُلُوبِكُمْ إِلَيْهِ وَقِفُوا بِالْخُضُوعِ لَدَيْهِ، وَانْكَسِرُوا بَيْنَ يَدِيْهِ فَإِنَّهُ رَحِيم كريم.

عِبَادَ اللهِ: إِنَّكُمْ الآنَ في رَمَضَانَ، وَهُوَ وَحْدَهُ عُمُرٌ طَوِيلٌ لِمَنْ رَامَ الثَّوَابَ الجَزِيلَ، فَإِنَّ فِي لَيَالِيْهِ لَيْلَةً وَاحِدةً خَيْرًا مِن أَلفِ شَهْرٍ، قَالَ الله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} فاجْتَهِدُوا رَحِمَكُم اللهُ بِإخْلاصِ الأَعْمَالِ للهِ جَلَّ وَعَلا وَبَادِرُوا بِالتَّوْبَةِ وِالاستغفارِ وَالابتهالِ إِلَى ذِي الجلالِ وَالإِكرامِ. واعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّ المَوْتَى في قُبُورِهِمْ يَتَحَسَّرُونَ عَلَى زِيَادَةٍ فِي أَعْمَالِهِم بِتَسْبِيحَةٍ أَوْ تَحْمِيدَةٍ أَوْ رَكْعَةٍ، رُئِيَ بَعْضُهُمْ فِي المَنَامِ فَقَالَ: مَا عِنْدَنَا أَكْثَرَ مِنَ النَّدَامةِ، وَمَا عِندكُم أَكْثَرَ مِنَ الغْفَلَةِ، وَرُئِيَ بَعْضُهُم فََقَالَ: قَدِمْنَا عَلَى أَمْرٍ عَظْيمْ نَعْلَمْ وَلا نَعْمَل، وأنتم تَعْلَمُونَ وَلا تَعْمَلُون واللهِ لَتَسْبِيحَةٌ أَوْ تَسْبِيحَتَانِ، أَوْ رَكْعَةٌ أَوْ رَكْعَتَانِ فِي صَحِيفَةِ أَحَدِنَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. وفي الترمذي: مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ إِلا نَدِمَ، إِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَدِمَ أن لا يكونَ ازْدَادَ، وَإن كان مُسِيئًا نَدِمَ أَن لا يَكونَ اسْتَعْتَبَ. يا أيُّها العَبْدُ قُمْ لِلَّهِ مُجْتَهِدًا وَانْهَضْ كَما نَهَضَتْ مِنْ قَبْلِكَ السُّعَدَا هَذِي لَيالِي الرِّضَا وَافَتْ وَأَنْتَ عَلَى فِعْلِ القَبِيحِ مُصِرًّا مَا جَلَوْتَ صَدَا قُمْ فَاغْتَنِمْ لَيْلَةً تَحْيَا النُّفُوسُ بِهَا وَمِثْلُهَا لَمْ يَكُنْ في فَضْلِهَا أَبَدَا طُوبَى لِمَنْ مَرَّةً فِي العُمْرِ أَدْرَكَهَا وَنَالَ مِنْهَا الذي يَبْغِيهِ مُجْتَهِدَا

وبعده قصيدة زهدية يليها موعظة وحث على حفظ الوقت

فَلَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ قَالَ خَالِقُنَا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ هَنِيئًا مَنْ لَهَا شَهِدَا وَيَنْزِلُ الرُّوحُ فِيها والملائِكُ مِنْ عِنْدَ المُهَيْمِنِ لا نُحْصِي لَهُم عَدَدَا يا فَوْزَ عَبْدٍ حُظِي فِيها فَوَفَّقَهُ رَبِّي قَبُولاً فَعَاشَ عِيشَةَ السُّعَدَا وَفَازَ بِالأَمْنِ وَالغُفَرَانِ مُغْتَبِطًا وَنَالَ مَا يَرْتَجِي مِنْ رَبِّهِ أَبَدَا فَاطلبْ مِن الله إنْ وَافَيْتَهَا سَحَرًا جَنَّاتِ عَدْنٍ تَكُنْ مِنْ جُمْلَة السُّعَدا وَابكِ ونحْ وَتَضرعْ فِي الدُّجَا أَسَفًا عَلَى كَبَائِرَ لا تُحْصِي لَهَا عَدَدَا ثُمَّ الصَّلاة على المُخْتَارِ مَا طَلُعَتْ شَمْسٌ وَمَا سَارَ سَارٍ فِي الفَلا وَحَدَا اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا وَفَّقْتَ إليه القَوْم وأَيْقِضْنَا من سِنة الغَفْلَةِ والنَّوم وارزقْنَا الاستعدادَ لِذَلِكَ اليَوْمِ الذي يَرْبَحُ فيه المُتَّقُونَ، اللَّهُمَّ وعامِلنَا بإحْسَانِكَ وَجُدْ علينا بِفَضْلِكَ وامْتِنانِكَ واجعلنا من عِبادِكَ الذينَ لا خَوفٌ عليهم ولا هُمْ يَحْزَنُون. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلَك التَّوبَةَ وَدَوامَها، وَنَعُوذُ بِكَ مِن المَعْصِيَةِ وأَسْبَابها، اللَّهُمَّ أفِضِ علينا مِن بَحْرِ كَرَمِكَ وَعَوْنِك حَتَى نَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا على السّلامَةِ مِن وَبَالِها وَارْأُفْ بِنَا رَأْفَةَ الحَبِيبِ بِحَبِيبِهِ عِنْدَ الشّدَائِدِ وَنُزُولِها، وارْحَمْنا مِن هُمُومِ الدّنْيَا وَغُمومِها بالرَّوْحِ والرّيْحانِ إِلى الجنةِ وَنَعِيمِها، اللَّهُمَّ ارحَمْ ذُلَّنَا بَيْنَ يَدَيْكَ واجعلْ رَغْبَتَنَا فِيما لَدَيْكَ، ولا تحرمنا بِذُنوبنا، ولا تَطْرُدْنَا بعُيوبنا،

وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. موعظة خَطَبَ أَحَدُ الصَّالِحِينَ فَقَالَ: أَيُّهَا اللاهِي المَغْرُورِ بِنَفْسِهِ كَأَنِي بِكَ وَقَدْ أَتَاكَ رَسُولُ رَبِّكَ لا يَقْرَعُ لَكَ بَابًا وَلا يَهَابُ صَحَابًا وَلا يَقْبَلُ مِنْكَ بَدِيلاً وَلا يَأْخُذُ مِنْكَ كَفِيلاً وَلا يَرْحَمُ لَكَ صَغِيرًا وَلا يُوَقِّرُ فِيكَ كَبِيرًا حَتَّى يُؤَدِّيكَ إِلَى قَبْرٍ مُظْلِمَةٍ أَرْجَاؤُهُ كَفِعْلِهِ بِالأُمَمِ الخَالِيَةْ وَالقُرُونِ المَاضِيَةِ. أَيْنَ مَنْ سَعَى وَاجْتَهَدَ وَجَمَعَ وَعَدَّدَ وَبَنَى وَشَيَّدَ، وَزَخْرَفَ وَنجَّدَ، وبالقليل لَمْ يَقْنَعْ، وَبالكثير لَمْ يُمَتَّعْ. أَيْنَ مَنْ شَيَّدَ القُصُورَ، وَنَسَى القُبُورَ، أَيْنَ مَنْ قَادَ الجُنُودَ ونشر البُنُودَ، أَضْحُوا رُفَاتًا تَحْتَ أَطْبَاقَ الثَّرى وَأَنْتُم عن قَرِيبٍ بكأسهِمِ شَارِبُون ولِسَبِيلِهم سَالِكُونَ. يُحَوَّلُ عَن قَريبٍ مِن قُصورٍ ... مُزَخرَفَةٍ إِلى بَيتِ التُرابِ فَيُسْلَمَ فيهِ مَهجوراً فَريداً ... أَحاطَ بِهِ شُحوبُ الاِغتِرابِ وَهَولُ الحَشرِ أَفظَعُ كُلِّ أَمرٍ ... إِذا دُعِيَ اِبنُ آدَمَ لِلحِسابِ وَأَلفى كُلَّ صالِحَةٍ أَتاها ... وَسَيِّئَةٍ جَناها في الكِتابِ لَقَد آنَ التَزَوُّدُ إِن عَقِلنا ... وَأَخذُ الحَظِّ مِن باقي الشَبابِ آخر: قَدْ نَادَتِ الدُّنْيَا عَلَى نَفْسِهَا ... لَوْ كانَ في العَالَمِ مَنْ يَسْمَعُ كَمْ وَاثِقٍ بالعُمْرِ أَفْنَيْتُهُ ... وَجَامِعٍ بَدَّدْتُ مَا يَجْمَعُ آخر: وَالعُمْرُ أَنْفَسُ مَا الإِنْسَان مُنْفِقُهُ ... فَاجْعَلْهُ فِي طَاعَةِ الرَّحْمِنِ مَصْرُوفَا

قال في حادي الأرواح كلاما في الحث على العمل الصالح والتشويق

قال ابن الجوزي رحمه الله: ينبغي للإنسان أن يعرف شرفَ زمانِهِ، وقدر وَقتهِ، فلا يضيع منه لحظةً في غير قربه. ويُقَدّمُ الأفضلَ فالأفضلَ مِن القول والعمل. ولتكن نيتُهُ في الخير قائمةً مِن غير فُتور. (وقد كان جماعة من السلف يُبَادِرون اللحظات) فَنُقل عن عامر ابن عبد قيس: أَنَّ رَجُلاً قال له: (كَلّمْنِي) فقال له: (أَمْسِكِ الشمسَ) . ودخلوا على بعض السلف عند موتهِ، وهو يُصلي، فقيل له، فقال: (الآن تُطوىَ صَحِيفَتِي) . فإذا علم الإنسان أنه وإن بالغ في الجد بأن الموتَ يقطعه عن العمل، عَمِلَ في حَيَاتِهِ مَا يَدُومُ لَهُ أَجْرُهُ بَعدَ مَوتِهِ. فإن كان له شيء في الدنيا، وقَّف وَقْفًا، وغرسَ غرسًا، وأجرى نهرًا، ويَسْعَى في تحصيل ذُريةٍ تذكر الله بعدهُ، فيكون لَهُ أَجر، أو أن يصنف كتابًا في العلم. فإن تَصنيفُ العالم ولدُهُ المخلد وأن يكون عاملاً بالخير عالمًا فيه فينقلُ مِن فِعْلِهِ ما يقتدي به الغيرُ فذلك الذي لم يمتْ. واللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وِسَلَّمَ. تَذَكَّر وَلا تَنْسَ المَعادَ وَلا تَكُن كَأَنَّكَ مُخْلىً لِلمَلاعِبِ مُمْرَجُ وَلا تَنْسَ إِذْ أَنْتَ المُوَلْوَلُ حَوْلَهُ وَنَفْسُكَ مِنْ بَيْنِ الجَوانِحِ تَخْرُجُ وَلا تَنْسَ إِذ أَنْتَ المُسَجَّى بِثَوبِهِ وَإِذ أَنتَ في كَربِ السِّيَاقِ تُحَشْرجُ

وَلا تَنْسَ إِذْ أَنْتَ المُعَزَّى قَرِيبُه وَإِذْ أَنْتَ في بَيْضٍ مِنَ الرَّيْطِ مُدْرَجُ وَلا تَنْسَ إِذْ يَهْدِيكَ قَوْمٌ إِلَى الثَّرَى إِذَا مَا هَدَوْكَاهُ انْثَنَوْا لَمْ يُعَرِّجُوا وَلا تَنْسَ إِذْ قَبْرٌ وَإِذْ مِنْ تُرَابِهِ عَلَيكَ بِهِ رَدْمٌ وَلِبْنٌ مُشَرَّجُ وَلا تَنْسَ إِذْ تُكْسَى غَدًا مِنْهُ وَحْشَةً مَجَالِسُ فيهِنَّ العَناكِبُ تَنْسِجُ وَلا بُدَّ مِنْ بَيْتِ انْقِطَاعٍ وَوَحْدَةٍ وَإِنْ سَرَّكَ البَيْتُ العَتِيقُ المُدَبَّجُ أَلا رُبَّ ذي طِمْرٍ غَدًا في كَرَامَةٍ وَمَلكٍ بِتِيجَانِ الهَوانِ مُتَوَّجُ لَعَمْرُكَ مَا الدُّنْيَا بِدارِ إِقامَةٍ وَإِنْ زَخْرَفَ الغَاوُونَ فِيهَا وَزَبْرَجُوا اللَّهُمَّ طَيِّبْنَا لِلَقَائِكْ، وَأَهِّلْنَا لَوَلائِكَ وَأَدْخِلْنَا مَعَ المَرْحُومِينَ مِنْ أَوْلِيَائِكَ، وَتَوفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنِا بِالصَّالِحِينَ. اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ، وَتِلاوَةِ كِتَابك، واجْعَلْنَا مِنْ حِزْبِكَ المُفْلِحِينَ، وَأَيِّدْنَا بِجُنْدِكِ المَنْصُورِينِ، وَارْزُقْنَا مُرَافَقَةَ الذينَ أَنْعَمْتَ عليهم من النبيينَ والصِّدِيقين والشهداء والصَّالحين. اللَّهُمَّ يَا فَالِقَ الحَبِّ وَالنَّوَى، يا مُنْشِئَ الأَجْسَادِ بَعْدَ البَلَى يَا مُؤْوي المُنْقَطِعِينَ إِلَيْهِ، يَا كَافِي المُتَوكِّلِينَ عَليه، انْقطَعَ الرِّجَاءُ إِلا مِنْكَ، وَخَابَتِ الظُّنُونُ إلا فِيكَ، وَضَعُفَ الاعْتِمَادُ إلا عَلَيْكَ، نَسْأَلُكُ أَنْ تُمْطِرَ مَحْلَ قُلُوبِنَا

ذكر بعض الأدعية الواردة وأدلتها

مِنْ سَحَائِبَ بِرَّكَ وَإِحْسَانِكَ وَأَنْ توفقنا لِمُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ وَعَزَائِم مَغْفِرَتِكَ إِنَّكَ جَوادٌ كريم رَؤوفٌ رَحِيم. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. فصل في ذكر بعض الأدعية الواردة عباد الله اغتنموا هذه الأوقات الشريفة وأكثروا فيها من الدعاء فإن الدعاء له أثر عظيم وموقع جسيم. وهو مخ العبادة ولا سيما إذا كان بقلب حاضر وصادفا إخباتًا وخشوعًا وانكسارًا وتضرعًا ورقة وخشية واستقبل القبلة حال دعائه وكان على طهارة. وجدد توبة وأكثر من الاستغفار وبدأ بحمد الله وتنزيهه وتمجيده وتقديسه والثناء عليه وشكره ثم صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك. ودعا بدعاء مشروع باسم من أسماء الله الحسنى مناسب لمطلوبه. فإن كان يريد علمًا قال: يا عليم علمني. وإن كان يطلب رحمة قال: يا رحمن ارحمني. وإن كان يطلب رزقًا قال: يا رزاق ارزقني ونحو ذلك. ولم يمنع من الدعاء مانع كأكل الحرام وقطيعة رحم وعقوق ونحو ذلك. وتحرَّى أوقات الإجابة وأتى بأسبابها وهي الاستجابة لله تعالى بالانقياد لأوامره والانتهاء عن ما نهى عنه. فالله أصدق القائلين وأوفى الواعدين قال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} . وقال عز من قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} .

وقال جل وعلا: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} . وقال تبارك وتعالى: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} . وقال تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} . وقال: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً} . ومن أوقات إجابة الدعاء إذا اجتمعت الشروط وانتفت الموانع ثلث الليل الأخير. ويوم الجمعة عند صعود الإمام المنبر أو في آخر ساعة من يومها وعند الآذان. وبين الآذان والإقامة. وعند نزول الغيث. وعند فطر الصائم. وعشية عرفة. وفي حالة السجود. وفي ليلة القدر. وفي أدبار الصلوات. وفي أدبار النوافل. وعند ختم القرآن. وعند البكاء والخشية من الله. وفي جَوْفِ الليل. وعِنْدَ دعاءِ المُسْلم لأَخِيهِ بِظَهْرِ الغَيْبِ. وَبَعْدَ زَوَالَ الشَّمسِ عَن كَبِدِ السَّمَاءِ.

قال بعضهم: قالوا شرُوطُ الدُّعاءِ المُسْتَجَابِ لَنَا ... عَشْرٌ بِهَا بَشِّرِ الدَّاعِي بِأَفْلاحِ طَهَارَةٌ وَصَلاةٌ مَعْهُمَا نَدَمٌ ... وَقْتٌ خُشُوعٌ وَحُسْنُ الظَّنِ يَا صَاحِ وَحِلُّ قُوتٍ وَلا يُدْعَى بِمَعْصِيَةٍ ... وَاسْمٌ يُنَاسِبُ مَقْرُونٌ بألْحَاحِ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) : في الأَدِلَّةِ لِمَا تَقَدَّمَ عَنْ ابن عباس رَضِي اللهُ عَنْهُمَا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في ثلثِ الليلِ الأخِير: «إِنَّها ساعةٌ مَشْهُودَةُ وَالدُّعَاءُ فيها مُسْتَجَاب» . أخرجه الحاكمِ، والترمذي. وعن ابن عمر قال: نادى رَجُلٌ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَيُّ الليلِ أَجْوَب دعوةً. قال: «جَوْف الليلِ الأخِيرِ» . أخرجه البزار، والطبراني بسند صحيح. وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرَ يومَ الجمعةِ. فقال: «فيه ساعةٌ لا يُوافِقُهَا عبد مسلمٌ وهو قَائِمُ يُصَلِّي يَسْألُ الله شَيْئًا إلا أعطَاهُ» . أخرجه الشيخان. وعن عثمان بن أبي العاص الثَّقَفِي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تُفْتَحُ أبوابُ السماء نصِفَ الليل فينادي مُنَادٍ: هَلْ مِنْ دَاع فَيُسْتَجَابَ له، هَلْ مِنْ سائل فَيُعْطَى، هَلْ مِنْ مَكْرُوبٍ فَيُفَرَّجَ عَنْهُ، فَلا يَبْقَى مُسْلم فَيَدْعُو بِدَعْوَة إلا اسْتَجَابَ لَهُ إلا زَانِيَةً تَسْعَى بفرجها أو عَشَّارًا» . أخرجه الطبراني بسند صحيح.

وعن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثُ ساعات لِلْعَبْدِ الْمُسْلِمِ ما دَعَا فيهن إلا اسْتُجِيبَ لَهُ ما لم يَسْأَلْ قَطِيعَةَ رَحمِ أَوْ مَأْثمًا» . وعن أبي الدرداء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يَقُول: «دَعْوَةُ الْمُسْلِمِ لأخِيهِ بِظهر الغَيْبَ مُسْتَجَابَةٌ عِند رَأَسِهِ مَلَكُ مُوكَلٌ كُلَما دَعَى لأخِيهِ بِخَيْرٍ قَالَ الملكُ الْمُوكلُ به: آمِينَ وَلَكَ بِمِثْل» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. حِينَ يَؤَذَّنُ لِلصَّلاة حتى يسكت وحينَ يَلْتَقِي الصَّفَان حتى يحكم اللهُ بينهما وحينَ يَنزلُ المطرُ حتى يسكن. أخرجه أبو نُعَيْم في الحلية. وعن سهل بن سعد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا مالت الشمس عن كبد السماء قَدْرَ شِرَاكٍ قامَ فَصَلَّى أربعَ ركعات قلتُ: يا رسول الله ما هذه الصلاة. قال: «مَن صَلاهُنَّ فقد أحْيَا لَيْلَتَه هذه ساعة تُفْتَح فيها أبوابُ السَّمَاءِ وَيُسْتَجَابُ فِيهَا الدعاء» . أخرجه أبو نعيم في الحلية. وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا فاءَتِ الأفْيَاءُ وَهَبَّتِ الأَرواحُ فارْفَعُوا إلى الله حَوَائِجَكُم فَإِنَّها سَاعَةُ الأَوَّابِينَ» . أخرجه أبو نعيم في الحلية. وعن عطاء قال: (ثلاثُ خِلالٍ تُفْتَحُ عِندهُنَّ أَبْوابُ السَّماء فَتَحَرَّوْا الدُّعاءَ عندهن: عند الأذانِ، وعند نُزُولِ الغَيث، وعندَ التقاءِ الزَّحْفَين) . أخرجه سعيد بن منصور. وعن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لِلصَّائِمِ عند فِطْرِهِ دعوةٌ مُسْتَجَابَة» . أخرجه النسائي.

وعن أبي هريرة عن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثٌ حَقٌّ على الله أن لا يَرُدُّ لهم دعوة الصائم حتى يُفْطِر، والمظلومُ حتى يَنْتَصِر، والمسافر حتى يرجع» . أخرجه البزار. وعن عبد المطلب بن عبد الله بن حَنْطَت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مِن أفضل الدعاء الدعَاء يوم عرفة» . أخرجه سعيد بن منصور في سننه. وعن جابر قال: سمعت رسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن في الليل لساعة لا يوافقها رَجُلٌ مسلم يسأل الله خَيْرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إِيَّاهُ وذلك كُلَّ لَيْلَةٍ» . أخرجه مسلم. وعن سهل بن سعد مرفوعًا قال: «سَاعَتَانِ تُفْتَح لَهُمَا أبوابُ السماء وقَلَّ دَاعٍ تُردُّ دَعْوته: حين يحضر النداء، والصف في سبيل الله» . أخرجه البخاري في الأدب. وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اثْنَتَانِ لا تُرَدَّان: الدعاء عند النداء، وحينَ البأس حينَ يُلْحِمُ بَعْضُهُم بَعْضًا» . أي يَنْشَب بَعْضُهم بِبَعْضٍ في الحَرْب. أخرجه الحاكم في المستدرك. وعن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الدُّعَاءُ مُسْتَجَابٌ مَا بَيْنَ النِّدَاءِ وَالإِقَامَةِ» . أخرجه أبو داود، والترمذي، والحاكم. وعن أبي أمامة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا نَادَى المنادى فُتَّحَتِ أبواب السماء واسْتُجِيبَ الدُّعَاءُ فَمَنْ نَزَلَ بِهِ كَرْبٌ أَوْ شدةٌ فَلْيَتَحَرَّ الْمُنَادِي فَيُجِيبُه. ثم يقول: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ الصاَّدقةِ المستجابة المستجاب لها دعوة الحق وكلمة التقوى أحْينَا وأمِتْنَا عليها واجْعَلْنَا مِنْ خِيَار أهلها أحياءً وأمواتا ثم يسأل الله حاجَتهَ» . أخرجه الحاكم.

عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لِلصَّائِمِ عند فِطْهرهِ دعوةٌ مستجابة» . أخرجه النسائي. وعن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إني نُهِيتُ أن أقرأَ القرآن رَاكعًا وسَاجِدًا، فأما الركوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الربَّ وأما السجودُ فاجْتَهدُوا فِيهِ مِن الدعاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لكم» . أخرجه مسلم. وعن عبادة بن الصَّامِتِ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ يَوْمًا وَحَضَر رَمَضَانُ: «أتاكم شهرُ بَركَةٍ فِيهِ تَنزلُ الرحمةُ وَتُحَطُ الْخَطَايَا وَيُسْتَجَابُ الدُّعَاء» . وأخرج في الأوسط عن عمرَ بن الخطاب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ذَاكرُ الله في رمضان مغفورٌ لَهُ، وسَائلُ الله فيه لا يَخِيب» . أخرجه الطبراني. ورُوِي أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء. ورُوِي مَن صلى فريضة فله دعوة مستجابة. ومَن ختم القرآن فله دعوة مُستجابة. وعن رَبِيعَة بن وقاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثُ مواطن لا تُرَدُّ فيها دعوةُ عَبد، رجلٌ يكون في بَرِيَّةٍ حَيْثُ لا يراه إلا اللهُ. ورجلٌ يكون معه فِئَةٌ فيفر عنه أصحابهُ فَيَثْبُتُ. ورجلٌ يَقُومُ مِن آخر الليل» . أخرجه أبو نعيم في أخبار الصحابة. وعن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا فُتِحَ على العبد الدُّعَاءُ فَلْيَدْعُ رَبَّهُ فإن الله تعالى يستجيب» . أخرجه الترمذي. وعن خالد الحذَّاء قال: (كان عيسى عليه السلام يقول: إذا وجدتم قَشْعَرِيرَةً ودمعة فادعوا عند ذلك) . أخرجه أحمد في الزهد.

ورُوِي: (اغْتَنِمُوا الدعاء عند الرِّقَّةِ فَإِنَّها رَحْمَة) . ورُوِي: (الدعاء بين الأذان والإقامة مستجاب) . ورُوِي: (عند أذَان المؤذن يستجاب الدعاء، فإذا كان الإقامة لا ترد دعوته) . وعن أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كانت له إلى الله حاجة فليدع بها دُبُرَ صلاة مفروضة» . أخرجه بن عساكر. وعن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مع كل ختمة دعوة مستجابة» . وأخرجه من وجه آخر بلفظ آخر: «عند ختم القرآن دعوة مستجابة وشجرة في الجنة» . أخرجه البيهقي في شعيب الإيمان. فعليكُم عِبَادَ اللهِ بالاجتهادِ بالدعاءِ، وَعَلَيْكُمْ بِجَوامِعِ الدُّعَاءِ التي تَجْمَعُ خيرَ الدُّنْيَا وَالآخرةِ، وفي الصحيحين: كان أَكْثَرُ دُعَاءِ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ آتِنَا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار» . ومِن دعائهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سَافَرَ: (أنه كانَ يَتَعَوَّذُ مِن وَعْثَاءِ السَّفرِ وكآبةِ الْمَنْظَرِ، والحَورِ بَعْدَ الكَوْرِ، وَدَعْوَةِ الْمَظْلُومِ، وَسَوءِ الْمَنْظَرِ في الأَهْلِ وَالْمَالِ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. ومِن مَا وَرَدَ عن أبي بكرةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعَوَاتِ الْمَكْرُوبِ اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فلا تَكِلْنِي إِلى نَفْسِي طَرْفةَ عَيْنٍ وأصلِحْ لي شَأْنِي كُلَّهُ لا إلهَ إِلا أَنْتَ» . رواه أبو داود. وعن أبي سَعِيد الخُدَري قال: قال رَجُلٌ لَزِمَتْنِي هُمُومٌ وَدُيُونٌ يا رسولَ اللهِ، قَالَ: «أَفَلا أُعَلِّمُكَ كَلامًا إِذَا قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللهُ هَمَّكَ وَقَضَى عَنْكَ دِينَكَ» . قَالَ: قُلْتُ بَلَى، قَالَ: «قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ العَجْزِ وَالكَسَلِ، وَأَعُوذُ

بِكَ مِن البُخْلِ والْجُبْنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ» . قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَ هَمِّي وَقَضَى عَنِّي دَيْنِي. رواه أبو داود. وَمِنْ دُعَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى والعَفَافَ وَالغِنَى، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاهْدِنِي وَعَافِنِي وَارْزُقْنِي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ وَفَجَاءَةِ نِقْمَتِكَ وَجَمِيعِ سَخَطِكَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَلْمٍ لا يَنْفَعْ، وَمِنْ قَلْبٍ لا يَخْشَعْ، وَمِنْ نَفْسٍ لا تَشْبَعْ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لا يُسْتَجَابُ لَها» . وقالت أُمُّ سَلَمَةَ - رضي الله عنها -: كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)) . وَمِنْ دُعَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَأَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ» . وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَعَوّذُوا بِاللهِ مِنْ جَهْدِ البَلاءِ وَدَرَكِ الشَّقَاءِ وَسُوءِ القَضَاءِ وَشَمَاتَةِ الأعداءِ» . وَمِنْ دُعَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاهَا» . وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنْ ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَانَ يَقُولْ: «اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ لا إِله إلا أَنْتَ أَنْ تُضِلِّنِي، أَنْتَ الْحَيّ الذي لا يَمُوت وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ يَمُوتُون» . واللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

فصل: وَمِنْ دُعَائِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ إِنّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الفَقْرِ وَالقِلَّةِ وَالذِّلّةِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَُظْلِمَ وَأُظْلَمْ» . وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ مِنْ خَمْس: مِنَ الْجُبْنِ، وَالبُخْلِ، وَسُوءِ العُمُرْ، وَفِتْنَةِ الصّدْرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ) . رواهُ أبو داودَ، والنَّسَائِي. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الِّشَقاقِ وَالنِّفَاقِ وَسُوءِ الأَخْلاقِ» . رواهُ أبو دَاود. وَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُوعِ فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخِيَانَةِ فَإِنَّهَا بِئْسَتْ البِطَانَة» . رَواهُ أبُو داودَ، والنِّسائي، وابن مَاجَةَ. وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ البَرَصِ وَالْجُذَامِ وَالْجُنُونِ وَمِنَ سِيّءِ الأَسْقَامِ» . رواهُ أبُو داودَ، والنِّسَائي. وَعَنْ قُطْبَةَ بِنْ مَالِكٍ - رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ - قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولْ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ مُنْكِرَاتِ الأَخْلاقِ وَالأَعْمَالِ وَالأَهْوَاءِ وَالأَدْوَاءِ» . رواه الترمذي. وَعَنْ شُتَيْرَ بْنَ شَكَل بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ عَلِّمْنِي تَعَوِيذًا أَتَعَوَّذُ بِهِ قَالَ: «قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ سَمْعِي وَشَرِّ بَصَرِي وَشَرِّ لِسَانِي وَشَرِّ قَلْبِي وَشَرِّ عَيْنِي» . رواهُ أبو داودَ، والترمذي، والنِّسَائِي.

وَعَنْ أَبِى الْيَسَرِ أَنَّ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَدْمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ التَّرَدِّي، وَمِنَ الْغَرَقِ، وَالْحَرَقِ، وَالْهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ يَتَخَبَّطَنِي الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَمُوتَ فِي سَبِيلِكَ مُدْبِرًا، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَمُوتَ لَدِيغًا» . رواه أبو داود، والنسائي. ومن دعائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلِي وَخَطئِي وَعَمْدِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، ومَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ، وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا عَلّمهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصّدِيقَ قَالَ له: «قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أنسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إلْظوا بِيَا ذَا الجلالِ والإكرامْ» . أيْ: الزَمُوا هذِهِ وَألِحُّوا بِهَا وَدَاوِمُوا عَلَيْهَا. وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الكَسَلِ وَالْهَرَمِ وَالْمَغْرَمِ وَالْمَأثَمِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ النارِ وَفِتْنَةِ النَّارِ وَفَتْنَةِ القَبْرِ وَعَذَابِ القَبْرِ وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الغِنَى وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الفَقْرِ وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَالِ اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَاي بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالبَرَدِ وَنَقِّ قَلْبِي كَمَا يُنَقَّى الثوبُ الأبيضُ مِن الدَّنَسْ وباعدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ عَبْدُ اللهِ بن يَزِيدِ الْخَطْمِي عَنْ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ أنَّهُ كَانَ يَقُولُ في دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي حَبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يَنْفَعْنِي حُبُّه عِنْدَكَ اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ قُوةً لِي فِيمَا تُحِبّ، اللَّهُمَّ مَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا فِيمَا تُحِبُّ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِي. شِعْرًا: إِلَهُ الوَرَى حَتْمٌ عَلَى النَّاسِ حَمْدُهُ ... لِمَا جَادَ مِنْ فَضْلٍ عَلَيْهِمْ بِلا مَنِّ آخر: فلو كان يَسْتَغْنِي عَنْ الشُّكْرِ مَاجِدٌ ... لِعَزَّةِ نَفْسٍ أَوْ عُلوٍ مَكَانَ لَمَا أَمَرَ الله العِبَادَ بِشُكْرِهِ ... فَقَالَ اشكرُوا لِي أَيُّهَا الثَّقَلانِ وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كانَ مِنْ دُعَاءِ دَاودَ يَقُول: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ حُبُّكَ وَحُبِّ مَنْ يُحِبُّكَ والعَمَلُ الذي يُبَلِّغْنِي حُبُّكَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبُّكَ أَحَبَّ إِليَّ مِنْ نَفْسِي وَمَالِي وَأَهْلِي وَمِنْ الْمَاءِ البَارِدِ» . الْحَديثْ رَوَاهُ التِّرْمِذِي. وَعَنْ أُمِّ مَعْبَدٍ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «اللَّهُمَّ طَهِّرْ قَلْبِي مِنَ النِّفَاقِ وَعَمِلِي مِن الرِّيَاءِ وَلِسَانِي مِنَ الكَذِبِ وَعَيْنِي مِن الْخِيَانَةِ فَإِنَّكَ تَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْينِ وَمَا تُخْفِي الصُّدورْ» . رواه البَيْهَقِي في الدَّعَواتِ الكبير. وَعَنْ عَبْدُ اللهِ بِنْ عُمْرو قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولْ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الصِّحَةَ والْعِفِّةَ وَالأَمَانَةَ وَحُسْنَ الْخُلقْ والرِّضَى بَالقَدَرْ» . رواهُ البيهقِي في الدَّعَواتِ الكبيرْ. جاء عن معقل بن يسار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «من قَالَ حينَ يُصبحُ ثلاثَ مراتٍ أَعُوذُ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وقرأ ثلاثَ آياتٍ من آخرِ سورةِ الحشرِ وكَلَّ الله بهِ سَبْعِينَ ألفَ مَلَكٍ يُصَلُون عليه حتى يُمْسِي وَإِنْ مَاتَ فِي ذَلِكَ اليوم ماتَ شَهِيدًا، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي كَانَ بِتلكَ المنزلةِ» . حَسَّنَةُ وغربَه الترمذي.

اللَّهُمَّ أعذْنَا بِمَعافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَبِرَضَاكَ مِنْ سَخْطِكَ واحْفَظ جَوارِحَنَا مِنْ مُخَالَفَة أمْرك وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. مَوْعِظَة عِبَادَ اللهِ إِن النَّاسَ في هَذَا الزَّمَنْ لَمْ يَعْرِفُوا رَبَّهُمْ الْمَعْرِفَةَ التِي تَليقُ بِجَلالِهِ وَعَظَمَتِهِ وَلَوْ عَرَفُوهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ لَمْ يَكُونُوا بَهِذِهِ الْحَال لأنَّهُ مِنْ كَانْ باللهِ أَعْرَفْ كَانَ مِنْهُ أَخْوَفْ إِنَّ العَارِفَ باللهِ يَخْشَاهُ فَتَعْقلُهُ هَذِهِ الْخَشْيَةِ بإِذْن اللهِ عَمَّا لا يَنْبَغِي مِنْ الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ قَالَ اللهُ تَعَالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} . العارِفُ بِاللهِ لا يَجْرَؤُ أَنْ يُحَرّكَ لِسَانَهُ بِكَلِمَةٍ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ أَفْعَالٍ أَوْ أَقْوالٍ كالغيبةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالكَذِبِ وَالْقَذْفِ والْفِسْقِ وَالسُّخْرِيَةِ والاسْتِهْزاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلا يَسْتَعْمِلُ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ في عَمَلٍ لَيْسَ بِحَلالِ بَلْ يَكُفُّ بَصَرَهُ وَسَمْعَهُ وَيَدَهُ وَرِجْلهُ عَنْ الْمُحَرَّمَاتْ لأنَّهُ يُؤمِنُ حَقَّ الإيمانِ بأنّ اللهَ جَلَّ وَعَلا مَهْمَا تَخَفَّى وَتَسَتَّرَ العَبْدُ عَنْهُ فإنَّهُ يَرَاهُ. وَالْعَارِفُ باللهِ لا يَنْطَوِي عَلَى رَذِيلَةٍ كَالْكِبْرِ والْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَسُوءِ الظَّنِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الرَّذَائِلِ الْمَمْقُوتَاتِ لأنَّهُ يُصَدَّقُ أَنَّ اللهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْء في الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا تُكِنّهُ الصُّدورُ، كَمَا يَعْلَمُ العلانِيَة، فَلا يَسْتريحُ العَارِفُ حَتَّى يَكُونَ باطِنُهُ كَظَاهِرِهِ مُطَهّرًا مِنْ كُلِّ فَحْشَاءٍ وَكذلك لا تَسْمَعُ مِنْ فَمِ العَارِفِ عِنْدَ نُزُولِ الْمَصَائِبِ وَالبَلايَا وَالشَّدَائِدِ إلا الْحَسَنَ الْجميلٌ فَلا يَغْضَبُ لِمَوْتِ عزيزٍ أَوْ فَقْدِ مَالٍ أَوْ مَرَضٍ شَدِيدٍ طَوِيلٍ لأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنْ غَضَبَهُ وَتَسَخُّطُهُ يُفَوِّتُ عَلَيْهِ أَجْرَهُ وَلا يَرُدَّ مَا فَاتَ كَمَا قِيل:

لا تَلقَ وَقْتَكَ إِلا غَيرَ مُكتَرِثٍ ... مادامَ يَصحَبُ فيهِ روحَكَ البَدَنُ فَما يَدومُ سُرورُ ما سُرِرتَ بِهِ ... وَلا يَرُدُّ عَلَيكَ الفائِتَ الحَزَنُ وَلا يَيْأَسُ العَارِفُ مِنْ زَوَالِ شِدّةٍ مَهْمَا اسْتَحْكَمَتْ فَإِنَّ الْفَرَجَ بِيَدِ اللهِ الذي قَالَ وَقَوْلُهُ الْحَقْ: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} ولا يَيْأَسُ مِنْ حُصُولِ خَيْرٍ مَهْمَا سَمَا وَابْتَعَدَ لأنَّهُ يُؤْمِنُ أَنَّ الأَمْرَ بِيَدِ مَنْ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا قَالَ لَهُ: كُنْ فَكَانَ وَإِنْ بَدَا مُحَالاً في نَظَرِ الْجُهَلاءِ وَلا يَقْنَطُ العَارِفُ وَلا يُقَنِّطُ مُؤْمِنًا مِنْ رَحْمَةِ الله التي وَسِعَتْ كُلِّ شَيءٍ وَإِنْ كَانَتْ ذُنُوبُهُ أَمْثَالَ الْجَبَالِ وَالرِّمَالِ وَلا يُؤَمِّنُ العَارِفُ مُسْتَقِيمًا مِنْ العَذَابِ مَهْمَا كَانَ العَمَلُ مِنْ الصَّالِحَاتْ لأنَّهُ يَغْفِرُ الذّنُوب جَمِيعًا وَأَنَّهُ لََهُ الْحُجّةُ الْبَالِغَةُ وَأَنْ القُلُوبِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِهِ جَلِّ وَعَلا فَلا تَغْفَل عَنْ ذَلِكَ وَإنْ أَهْمَلَهُ الكَثِيرُ مِنْ النَّاسِ. قَالَ أَحَدُ العُلِمَاء: الغمُومُ ثَلاثةٌ: غَمُّ الطَّاعةِ أَنْ لا تُقْبَل، وَغَمُّ الْمَعْصِيةِ أَنْ لا تَغْفَرْ، وَغَمُّ الْمَعْرِفَةِ أَنْ تُسْلبَ. عَلَيكَ مِنَ الأُمورِ بِما يُؤَدّي ... إِلى سُنَنِ السَلامَةِ وَالخَلاصِ وَما تَرجو النَجاةَ بِهِ وَشيكاً ... وَفَوزاً يَومَ يُؤخَذُ بِالنَواصي فَلَيسَ تَنالُ عَفوَ اللَهِ إِلا ... بِتَطهيرِ النُفوسِ مِنَ المَعاصي وَبِرِّ المُؤمِنينَ بِكُلِّ رِفقٍ ... وَنُصحٍ لِلأَداني وَالأَقاصي وَإِن تَشدُد يَدًا بِالخَيرِ تُفلِح ... وَإِن تَعدِل فَما لَكَ مِن مَناصِ آخر: اغْتَنِمْ في الْفَرَاغِ فَضْلَ رُكُوعٍ ... فَعَسَى أَنْ يكُون مَوْتُكَ بَغْتَةْ كَم صَحيحٍ رَأَيْتَ مِنْ غَيْرِ سُقْمٍ ... ذَهَبَتْ نَفْسُهُ الْعَزِيزَةُ فَلْتَةْ اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكَرِكَ وَارْزُقْنَا الاسْتَقَامَةَ طَوْعَ أَمْرِكْ وَتَفْضَّلْ عَلَيْنَا بَعَافِيَتكَ وَجِزيلِ عَفْوِكَ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا الْقِيَامِ بِحَقِّكْ وَبَارِكْ لِنَا فِي الْحَلالِ مِنْ رِزْقِكْ، وَلا تَفْضَحْنَا بَيْنَ خَلْقِكْ، يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلَ مَن رَجَاهُ رَاجٍ يا قَاضِيَ الْحَاجَاتِ وَيَا مُجِيبَ الدَّعَوَاتِ هَبْ لَنَا مَا سَأَلَنَاهُ وَحَقَّقْ

زكاة الفطر وما ورد فيها من الآثار ومقدارها وبيان من تجب عليه

رَجَاءَنَا فِيمَا تَمْنَّيْنَاهُ وأُمّلْنا يَا مَنْ يَمْلِكُ حَوَائِجَ السَّائِلِينَ وَيَعْلَمُ مَا فِي ضَمَائِرِ الصَّامِتِينِ أَذِقْنَا بَرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةَ مَغْفِرِتكَ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) 1- زكاةُ الفِطِر ومَا وَرَدَ مِنْ الآثار في شَرْعِيَّتِهَا: زكاةُ الفطِر واجِبةٌ بالفِطْرِ مِن رَمَضَانَ لِمَا رَوَى ابنُ عُمَرَ - رضي الله عنهما -: (أن رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاةَ الفِطْرِ في رَمَضَانَ عَلَى النَّاس صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أو صَاعًا مِنْ أَقِطٍٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ حُرٍ وَعَبْدٍ ذَكَرٍ وأنثَى من المسلمين) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وعنهُ: (أن رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِزَكَاةِ الفطرِ أنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ الناسِ إلى الصلاة) . وعنْ أبي سعيدِ الْخُدْري: كُنَّا نُخْرِّجُ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعام، أو صَاعًا من تَمْرٍ، أو صاعًا من أَقِطٍ، أو صاعًا مِن زَبِيبْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ سَعِيدُ بنُ الْمُسَيَّبْ وَعُمرُ بنُ عبدِ العزيز - رَحِمَهُمَا الله - في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} : هُوَ زكاةُ الْفِطْر. وَأُضِيفَتْ هَذِهِ الزكاةُ إلى الفطرِ لأنَّهَا تَجِبُ بالفِطْرِ مِنْ رَمَضَان وهذِهِ يُرَادُ بها الصدقةُ عن البدنِ والنفسِ وَمَصْرَفُهَا كَزكاةِ الْمَالِ لِعُمُومُ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء ... } الآية. ولا يَمْنَعُ وُجُوبَهَا دَيْنٌ إِلا مَعَ طَلَبْ، وَهِيَ وَاجِبةً عَلَى كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ ذَكرٍ وأنْثى مِن المسلمين، فَضُلَ لَهُ عَنْ قوتِهِ، وَمَنْ تَلْزَمُهْ مَئُونَتِهِ يَوْمَ

وبمن يبدأ من وجبت عليه فطر متعددة وحكمها عن الجنين

العيدِ وَلَيْلَتِهِ صَاعُ لأنَّ النَّفقةَ أَهَمُّ فَيجِبُ البَدَاءَةُ بِهَا لقولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ابْدأ بِنَفْسِكْ» . رَوَاهُ مُسْلمْ. وفي رِوَاية: «.... وابْدأ بِمَنْ تَعُولْ» . رواه الترمذي. وَيُعْتَبَرُ كونُ ذلكَ الصاعُ فاضلاً عمَّا يَحْتَاجُهُ لِنَفْسِهْ، وَمَنْ تَلْزمُهُ مَئُونَتِهِ مِنْ مَسْكَنٍ وَخَادِمٍ وَدَابةٍ وَثِيَابٍ بِذْلة ونَحوِهِ، وَكُتُبٍ يَحْتَاجُهَا لِنظْرٍ لأنَّ هَذِهِ حَوَائِجُ أصليةٌ يَحْتَاجُ إليها كالنفقةِ، وتَلْزَمُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ مَنْ يَمُونُهُ مِن المسلمِينْ كزوجةٍ وعبدٍ وولدٍ لِعُمُومِ حَدِيثِ ابنِ عُمرَ - رَضي الله عَنْهُمَا -: (أَمرَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصدقةِ الفطرِ عن الصغيرِ والكبيرِ مِمَّنْ تَمُونُون) . رواه الدَّارقُطْنِي. فَإِنْ لَمْ يَجْدهُ لِجميعهِمْ بدأ بِنَفْسِهْ، فَزَوَجَتِهِ، فَرَقِيقِهِ، فَأمّهِ، فَأبِيهِ، فَوَلَدِهِ، فأقْرَبَ في مِيراثٍ، وَيُقْرعُ مَعَ الاسْتواءِ. أَمَّا دَليلُ البدّاءةِ بالنفسِ فَلِحَدِيثِ: «ابْدأ بِنفسكَ، ثُمَّ مَنْ تَعُولُ» . وَأَمَّا الزَّوْجَةِ فلوجُوب نَفَقَتِهَا في حَالَهِ اليُسْرِ وَالعُسْرِ لأنِّهَا عَلَى سَبِيلِ الْمُعَاوَضَةِ. وَأَمَّا الرَّقِيقِ فلوجُوبِ نَفَقَتِهِ مَعَ الإعْسَارِ بِخلافِ الأَقَارِبِ لأنَّها صِلةٌ تَجبُ مَعَ اليَسَارِ دُونَ الإِعْسَارِ. وَأَمَّا الأُمَ فلقِولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأَعرابِّي حِيَنَ قَالَ لَهُ: مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: «أُمَّكَ» . قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «أُمَّكَ» . قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «أُمَّكَ» . قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «أَبُوكَ» . ولأنَّها ضَعِيفةٌ عن الكَسْبِ.

وقت وجوب صدقة الفطر ووقت استحباب إخراجها

وَأَمَّا الأَبِّ فَلَمَا سَبقْ وَحَدِيثْ: «أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ» . وَأَمَّا الوَلدِ فَلِقُرْبِهِ وَوُجُوبِ نَفَقَتِهِ في الْجُمْلَةِ. وَأَمَّا الأَقربِ في الْمِيرَاثِ فلأنهُ أولى مِنْ غَيْرِهِ كَالْمِيرَاُث. وَتُسْتَحَبُّ عَنْ الجَنِين لِفِعْلِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَعَنْ أَبِي قُلابَةَ قَالَ: (يُعْجِبُهُمْ أَنْ يُعْطُوا زَكَاةَ الفطرِ عن الصغيرِ والكبيرِ حَتَّى عَنْ الْحَمْلِ في بَطْنِ أمِهِ) . رواهُ أبو بَكْرَ. ولا تَجِبْ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِر: (كل من نَحْفَظُ عنهُ لا يُوجِبُهَا عَنْ الْجَنِينْ، وَتَجِبُ عَلَى اليتيم، وَيُخْرِجَ عنهُ وَليهُ مِنْ مَالِهِ) . وَلا يَلْزَمُ الزَوجَ فِطرةُ زَوْجَةٍ نَاشِزٍ وَقْتَ الوجُوبِ، ولا تَلْزمُ الزوجَ فِطرةَ مَنْ لا تَلْزمهُ نَفْقَتُهَا كَغْيِر المدْخُولِ بِهَا إِذَا لَمْ تُسَلُّمْ إليه والصغيرةِ التِي لا يُمْكِنُ الاسْتِمْتَاعُ بِهَا. وَمَنْ لَزِمَ غَيْرَهُ فطِرْتُهُ كَالزَّوْجَةِ، فأخرج عن نَفسِهِ بَغْير إذنِ مَنْ وَجَبتُ عَلَيْهِ أَجْزأَ. وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمِ. 2- فَصْلُ في وقتِ وجوبٍ صَدَقَةِ الفطرِ، والأفضل مِنْه: وَتَجِبُ زكاةُ الفِطِر بغُرُوبِ شَمْسِ لَيْلَةِ الفِطْرِ لِقَولِ ابن عباس - رضي اللهُ عنهُمَا -: (فَرَضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَةَ الفِطْرِ طُهْرةً لِلصَّائِمِ من اللَّغْوِ والرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينَ) . رواه أبو داود، والحاكم وقَالَ: على شرطِ البخاري فأضافَ الصدقةَ إلى الفطرِ فكَانَتْ وَاجِبَةً بِهِ لأنَّ الإِضَافَةَ تَقْتَضِي الاخْتِصَاصَ.

وحكم تأخيرها وماذا يعمل من فوت وقتها

وأَوَّلْ فِطْرٍ يَقَعُ مِنْ جَمِيعِ رَمَضَانَ بِمَغِيبِ الشَّمْسِ مِنْ لَيْلَةِ الفِطْرِ، فَمْن أَسْلَمَ بَعْد الغُروبْ أَوْ تَزَوَّجَ بَعدَ الغُروبِ فَلا فِطرةَ وإنْ وُجِدَ ذلكَ قَبْلُ بَأَنْ أَسلمَ أو تَزَوَّجَ، أَوْ وُلِدَ لَهُ ولد، أَوْ مَلَكَ عَبْدًا، أَوْ أَيْسَر قَبْلَ الغُروبِ وَجَبَتِ الفِطْرَةُ لِوُجُودِ السَّبَبَ فالاعْتِبَارُ بِحَالِ الوُجُوبِ. وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الغُرُوبِ هُوَ، أَوْ زَوْجَتَهِ، أَوْ رَقِيقُهُ، أَوْ قريبُه وَنَحوه، أَوْ أَعْسَرَ، أَوْ أبَانَ الزَّوجةَ، أَوْ أعتقَ العبدَ، أوْ بَاعَهُ أو وَهَبَهُ لَمْ تَجِبِ الفِطْرَةُ لِمَا تَقَدَّمْ. وَلا تَسْقُطُ الفِطْرَةُ بَعْد وُجُوبِهَا بِموتٍ وَلا غِيْرُه، وَالأَفْضَلُ إِخْرَاجُهَا يومَ العيدِ قَبْلَ الصَّلاة لِمَا فِي الْمُتَّفَقِ عليهِ مِنْ حَدِيث ابنِ عُمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - مرفوعًا، وفي آخرِه: «وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلى الصَّلاةِ» . وفي حديثِ ابن عباسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: (مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصلاةِ فَهِيَ زكاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَن أَدَّاهَا بَعْدَ الصلاةِ فَهِيَ صَدَقةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ) . وَتُكْرَهُ بَعْدَهَا خُرُوجَا مِن الْخِلافِ وِلِقَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَغْنُوهُم عَنِ الطَّلبِ فِي هَذَا اليومِ» . رواه سعيدُ بنُ منصور. فإذا أَخَّرَهَا بَعَدَ الصَّلاةِ لَمْ يَحْصُلِ الاغْنَاءِ لَهُمْ في هَذَا اليومِ كُلِّهِ. ويَحْرُمُ تَأْخِيرُهَا عَنْ يَوْمِ العِيدِ مَعَ القُدْرَةِ، لأَنَّهُ تَأْخِيرٌ لِلْحَقِّ الوَاجبِ عَنْ وَقْتِهِ، وكان عليه الصَلاةُ والسَّلامَ يَقْسِمُهَا بَيْنَ مُسْتَحِقِيهَا بَعدَ الصَّلاةِ فَدَلَّ على أَنَّ الأَمْرَ بِتَقْدِيمِهَا عَلَى الصَّلاةِ لِلاسْتِحْبَابِ.

من وجبت عليه فطر متعددة محل إخراجها

وَيَقْضِيهَا مِنْ أَخَّرَهَا لأَنَّهُ حَقٌّ مَالِي وَجَبَ، فلا يَسْقُطُ بِفَوَاتِ وَقْتِهِ كَالدَّيْنِ، وَتُجْزِي قَبْلَ العِيدِ بَيوْمٍ أَوْ بِيَوْمَيِّنِ لِقَولِ ابنِ عُمَرَ - رضي اللهُ عنهما -: (كَانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الفِطْرِ بَيَوْمٍ أَوْ يَوَمَينِ) . رواه البخاري. وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلى جَمِيعِهم فَيَكُونُ إِجْمَاعًا، وَلأَنَّ ذَلِكَ لا يُخِلُّ بالْمَقْصُودِ، إذْ الظَّاهِرُ بَقَاؤُهَا أَوْ بَعْضُهَا إِلى يَومِ العيدِ. وَمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ فَطْرَةُ غَيْرِهِ أَخْرَجَهَا مَعْ فِطْرَتِهِ مَكَانَ نَفْسِهِ، لأَنَّها طُهْرَةً لَهُ، وَفِطْرةُ مَنْ بَعْضُهُ حَرٌ وَبَعْضُهُ رَقِيقٌ، وَفَطْرَةِ قنٍّ مُشْتَرَك. وَفطْرَةٍ مَنْ لَهُ أَكْثَرُ منِ وَارثِ أَوْ مُلْحَقٌ بَأَكْثَرَ منِ وَاحد تُقُسَّطُ وَمَن عَجَز مِنْهُمْ لَمْ يَلْزَمِ الآخرَ سِوَى قِسْطِهِ. وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمِ. (فَصْلٌ) 3- الوَاجِبُ في الفِطْرَةِ: الواجِبُ عَلى كُلِّ شَخْصٍ صَاعُ بُرٍ، أَوْ مِثْلُ مَكِيلِهِ مِنْ تَمْرٍ، أَوْ زَبِيبٍ، أَوْ أَقطٍ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ - رضي الله عنه -: (كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الفِطْرِ، إِذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أقط) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَيُجزي دَقيقُ البُرِّ وَالشَّعِيرِ إِذَا كَانَ بِوَزْنِ الْحَبِّ، نَصَّ عَلَيْهِ، وَاحْتَجَّ بِزِيَادَةٍ تَفَرَّدَ بِهَا ابْنُ عُيَيْنَةَ: إِنْ أَحَدًا لَمْ يَذْكُرْهُ فِيهِ قَالَ: بَلْ هُوَ فِيهِ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي. قَالَ الْمَجْدُ: بَلْ هُوَ أَوْلَى بَالأَجْزَاءِ لأَنَّهُ كَفَى مُئُونَتَهُ كَتَمرٍ مَنْزُوعٍ نَوَاهُ وَيُخْرُجُ مَعْ عَدْمِ ذَلِكَ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ حَبٍّ يُقْتَاتٍ كَذُرَّةٍ وَدُخنٍ وَباَقِلاءَ لأَنَّهُ أشْبَهُ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَكَانَ أَوْلَى.

مقدار الواجب وحكم إخراج الدقيق والقيمة وشرائها

وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ الْجَمَاعَةٌ فِطْرَهُمْ لِوَاحِدٍ، وَأَنْ يُعْطِيَ الوَاحِدُ فِطْرَتَهُ لِجَمَاعَةٍ. وَلا يُجْزِي إِخْرَاجُ القِيمَةِ لأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. وَيَحْرُمُ عَلَى الشَّخْصِ شِرَاءُ زَكَاتِهِ وَصَدَقَتِهِ مِمَّنْ صَارَتْ إِلَيْهِ لِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: (لا تَشْتِره ولا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ، وَإِنْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ، فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَحَسَمًا لِمَادّة اسْتِرْجَاعِ شَيْءٍ مِنْهَا حَيَاءً، أَوْ طَمْعًا فِي مِثْلِهَا، أَوْ خَوْفًا أَنْ لا يُعْطِيَهُ بَعْدُ فَإِنْ عَادَتْ إِلَيْهِ بِإرْثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ أَخَذَهَا مِنْ دِينِهِ مِنْ غَيْرِ شرَطٍْ وَلا مُوَاطَأَةٍ طَابَتْ بِلا كَرَاهَةٍ لِعَدْمِ الْمَانِعِ وَلِحَدِيثِ بُرَيْرَة - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إِنِّي تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّي بِجَارِيَةٍ وَإِنَّهَا مَاتَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَجَبَ أَجْرُكِ وَرَدَّهَا عَلَيْكِ الْمِيرَاثُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. رَوَاهُ الجَمَاعَةُ إلا البُخَاريُّ، وَالنَّسَائِي. وَيُجْزِي إخْرَاجُ صَاعٍ مَجْموعٍ مِنْ تَمْرٍ وَزَبِيبٍ وَبُرٍّ وَشَعِيرٍ وَأَقط كَمَا لَوْ كَانَ خَالِصًا مِنْ أَحَدَهَا. وَلا يُجْزِي مُخْتَلِطُّ بَأكْثَرِ مِمَّا لا يُجْزِي. وَلا يُجْزِي إخْرَاجُ مَعِيبٍ كَمُسَوِّسٍ، وَمَبْلُولٍ، وَقَدِيمٍ تَغَيَّرَ طَعْمُهْ. وَالأَفْضَلُ تَمْرٌ لِفِعْلِ ابنِ عُمَرْ، قَالَ نَافِعُ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - يُعْطِي التَّمْرَ إلا عَامًا وَاحِدًا أَعْوَزَ التَّمْرُ فَأَعْطَى شَعِيرًا. رواهُ أَحْمَدُ، والبُخَارِي.

والمعيب والمختلط بغيره

وقَالَ لَهُ أَبُو مَجْلَز: إِنَّ اللهَ قَدْ أَوْسَعْ. وَالْبُرُّ أَفْضَلْ فقَالَ: إِنَّ أَصْحَابِي سَلَكُوا طَرِيقًا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أُسْلُكَهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَاحْتَجَّ بِهِ. وَظَاهِرُهُ أَنَّ جَمَاعَةَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يُخْرِجُونَ التَّمُر وَلأَنَّهُ قُوتُ وَأَقْرَبُ تَنَاوُلاً وَأَقَلُّ كُلْفَةِ وَيَلِيهِ فِي الأَفْضَلِيَّةِ الزّبِيبُ لأَنَّ فِيهِ قَوْتًا وَحَلاوَةً وَقِلّةَ كُلْفَةِ، ثُمَّ البُرُّ لأَنَّ الْقِيَاسَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْكُلْ لكِنْ تُركَ اقْتِدَاءً بالصَّحَابَةِ فِي التَّمْرِ وَمَا شَارَكَهُ فِي الْمَعْنَى وَهُوَ الزَّبِيبُ ثُمَّ الأَنْفَعُ فِي الاقتِياتِ وَدَفْعِ حَاجَةِ الْفَقِير، ثُمَّ شَعِيره ثُمَّ دَقِيقُ شَعِيرْ، ثُمَّ سَوْيقُهُمَا، ثُمَّ أقِطْ، والأفضَلُ أَنْ لا يُنْقَصَ مُعْطَى مِنْ فِطَرةٍ عَنْ مُدُّ بُرٍ أَوْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ غَيْرِهِ لِيُغْنِيَهُ عَنِ السُّؤالِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَغْنُوهُمْ عَنْ السُّؤَالِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ» . وَيُسَنُّ التَّكْبِيرُ الْمُطْلَقُ وَهُوَ الذي لَمْ يُقَيَّدُ بَأَدْبَارِ الصَّلَواتْ والْجَهْرُ بِهِ فِي لَيْلَتَيْ العِيدَيْنِ إِلى فَرَاغِ الْخُطْبَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالى: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} وَعَنْ عَليَّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ حَتَّى يُسْمِعَ أَهَلَ الطَّرِيق وَصِفَةُ التَّكْبِيرِ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، لا إِلهَ إِلا اللهُ، الله أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ وَللهِ الْحَمْدِ. وَفِي كُلِّ عَشْرِ ذِي الْحِجّةِ. قَالَ البُخَارِيُّ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إِلى السُّوقِ في أَيَّامِ العَشْرِ يُكَبِّرَانِ وَيُكَبّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهمَا، وَالتَّكْبِيرُ الْمُقَيّدُ في الأضْحَى عَقِبَ كُلِّ فَرِيضَةٍ صَلاهَا فِي جَمَاعَةِ مِنْ صَلاةِ الفَجْرِ يَوم عَرَفَة إِلى عَصْرِ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لِحَدِيثِ جَابِر أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الصُّبْحَ يَوْمَ عَرَفَةَ ثُمَّ أقْبَلَ عَلَيْنَا فَقَالَ: «اللهُ أَكْبَرُ» . وَمَدَّ التَّكْبِيرَ إلى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيق. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي بِمَعْنَاهُ إِلا الْمُحْرِم فَيُكَبَّرُ مِنْ صَلاةِ ظُهْرِ يَوْمِ النَّحْرِ إلى آخرِ أيامِ التشريق.

فصل يحتوي على موعظة لتدارك بعض الفائت

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الْمُتَّقِينَ الأبْرَارِ وَأَسْكِنَّا مَعْهمُ في دَارِ القَرارِ اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا بِحُسْن الإِقْبَالِ عَلَيْكَ وَالإِصْغَاءِ إِلَيْكَ وَوَفِّقْنَا لِلتَّعَاوُنِ فِي طَاعَتِكَ وَالْمُبَادَرَةِ إِلى خِدْمَتكَ وَحُسْن الآداب في مُعَامَلَتِكَ وَالتَّسْلِيم لأَمْرِكَ وَالرِّضَا بِقَضَائِكَ وَالصَّبْر على بَلائِكَ وَالشُّكْر لِنَعْمَائِكَ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ نَفْسًا مُطْمَئِنَّةٌ تُؤمِنُ بِلِقَائِكَ وَتَرْضَى بِقَضَائِكَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ باسْمِكَ الطَّاهِرِ الطَّيبِ الْمُبَارَكِ الأَحَبِّ إليك الذي إذا دُعِيتَ بِهِ أَجَبْتَ وَإِذَا سُئِلْتَ بِهِ أَعْطَيْتَ وَإِذَا اسْتُرْحَمْتَ بِهِ رَحِمْتَ، وَإِذَا استفرجْتَ بِهِ فَرَّجَتْ أَنَ تَغْفِرَ سَيَّئاتنا وتُبدلها لَنَا بِحَسَنَاتِ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) : الْحَمْدُ للهِ غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ البَشِيرُ النَّذِيرُ - صلى الله عليه وسلم - أولي الْجِدِّ في العبادَةِ والتشْمِيرِ. عِبَادَ اللهِ إِنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى الرَّحِيلِ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَحْسَنَ فَعَلَيْهِ بالتَّمَامِ، وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ فَرَّطَ فِيهِ فَلْيَخْتِمْهُ بالْحُسْنَى، فَالعَمَلُ بَالْخِتَامِ، وَبَادِرُوا رَحِمَكُمْ اللهُ أَوْقَاتَ شَهْركُم الباقِيَةَ وَاسْتَدْرِكُوا مَا مَضَى مِنْهُ بالْحَسْرَةِ وَالنَّدَمِ واخْتِمُوُه بالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ والرُّجُوعِ إِلى صَالِحِ العملْ. عِبَادَ اللهُ كَمْ أُنَاسٍ صَلُّوا فِي هَذَا الشَّهْرِ صَلاةَ التَّرَاوِيحِ وَأَوْقَدُوا فِي الْمَسَاجِدِ طَلَبًا للأَجْرِ الْمَصَابِيحِ وَنَسَخُوا بِإِحْسَانِهمْ كُلَّ فِعْلٍ قَبِيحٍ، وَقَبْلَ التَّمَامِ سَكَنُوا الضَّرِيحَ، وَلَمْ يَنْفَعُهُمْ الْمَالُ والآمَالُ لِمَا نُقِلُوا، رَحَلُوا عَنِ الدُّنْيَا قِدْمًا قِدْمًا وَنُقِضَ مَا بَنَوْهُ هَدْمًا هَدْمَا أَدَارَتْ عَلَيْهِمْ الْمَنُونُ رَحَاهَا وَأَحَلَّتْ وُجُوهَهُمْ في الثَّرَى فَمَحَاهَا.

وَهَذَا حَالُكَ عَنْ قَرِيبِ فَتَيَقَّظْ يَا قَلِيلَ الزَّادِ، وَحَادِي رَحِيلِهِ قَدْ حَدَى تَأَهَّبْ لِلتَّلفِ وَتَهَيَّأ لِلرَّدَى ذَهَبَ عَنْكَ شَهْرُ الصِّيَامِ وَوَدَّعَكَ وَسَارَتْ فِيهِ قَوَافِلُ الصَّالِحِيَن وَجَهْلُكَ مَنَعَكَ والتَّوْبِيخُ مُتَوَفَّرٌ فَمَا أَرْجَعَكَ وَلا أَزْعَجَكَ وَأَنْتَ تُؤَمِّلُ مَنَازِلَ العَامِلِينَ بَأفْعَالِ الغَافِلِينَ فَمَا أَطْعَمَكَ. يَا مَنْ أَصْبَحَ سَاعِيًا إِلى مَا يَضُرَّهُ سَتَعْلَمُ مَنْ يَأَتِي غَدًا حَزِينًا مُتَنَدِّمًا كَمْ مِنْ صَائِمٍ يَفْضَحُهُ الْحِسَابُ وَالعَرْضِ، وَكَمْ مِنْ عَاصٍ فِي هَذَا الشَّهْرُ تَسْتَغِيثُ مِنْهُ الأَرْضُ فَيَالَيْتَ شِعْرِي مِنْ الْمَقْبُولِ مِنَّا فَنُهَنِّيهِ عَلَى تَوْفِيقِ اللهِ لَهُ بِحُسْنِ عَمَلِهِ، وَيَا لَيْتَ شِْعْرِي مِنْ الْمَطْرُودُ فَنُعَزِّيهِ بِسوءِ عَمَلِهِ، فَيَا أَيُّهَا الْمَقْبُولُ هَنِيئًا لَكَ بِثَوابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرِضْوَانِهِ وَرَحْمَتِهِ وَغُفْرَانِهِ وَقَبُولِهِ وَإِحْسَانِهِ وَعَفْوِهِ وَامْتِنَانِهِ. وَيَا أَيُّهَا الْمَطْرُودُ بإصْرَارِهِ، وَطُغْيَانِهِ وَظُلْمِهِ وَغَفْلَتِهِ وَخُسْرَانِهِ وَتَمَادِيهِ فِي عِصْيَانِهِ لَقَدْ عَظُمَتْ مُصِيبَتُكَ وَخَسِرْتَ تِجَارَتكَ وَطَالَتُ نَدَامَتُكَ فَيَا لَهَا مِنْ خُسَارَةٍ لا تُشْبِهُهَا خَسَارَةً للهِ دُرَُّ أَقْوَامٍ حَرَسُوا بَالتُّقَى أَوْقَاتَهُمْ وَتَدَرْعُوا دُرُوعَ الْمُرَاقَبَةِ فِي صَبْرِهِمْ وَجَمَعُوا بَيْنَ الصِّدْقِ وَالإِخْلاصِ فِي ذِكْرِهِمْ صَبَرُوا بَاليَقِينِ عَلَى ظَمَأِ الْهَوَاجِرِ وَبَسَطُوا أَقْدَامَهُمْ عَلَى بِسَاطِ الدّيَاجِر وَعَمِلُوا لِيَوْمٍ فِيهِ القُلُوبُ لدَى الْحَنَاجِرِ. أَقْبَلُوا على خِدْمَةِ رَبِّهِمْ إقْبَالَ عَالِمْ وَمَا سَلَكُوا إلا الطريقَ السَّالِمُ تَذَكَّرُوا ذُنُوبَهُمْ القَدَائِمَ فَجَدَّدُوا التَّوْبَةَ بِصِدْقِ العَزَائِمْ وَعَدُّوا التَّقْصِيرَ مِنْ العَظَائِمِ وَبَدَّلُوا الْمُهْجَ الكِرَائِمَ فَإِذَا أَجَنَّ اللَّيْلُ فَسَاجِدُ وَقَائِمُ، وَلا يَخَافُونَ فِي اللهِ لَوْمَةَ لائِم، أَيْنَ أَنْتَ وَهُمْ؟ فَهَلْ تَرَى السَّاهِرَ كَالنَّائِمْ؟ كَلا وَلا الْمُفْطِرَ كالصَّائِمْ. قَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: مَنْ أَرَادَ اللهُ بِهِ خَيْرًا فَتَحَ لَهُ بَابَ الذُّلِّ

والانْكِسَارِ وَدَوَامِ اللجُوءِ إِلى اللهِ تَعَالى وَالافْتِقَارِ إليه وَرُؤْيَةِ عُيُوبِ نَفْسِهِ وَجَهْلِهَا وَعُدْوَانِهَا وَمُشَاهَدَةِ فَضْلِ رَبِّهِ وَإِحْسَانِهِ وَرَحْمَتِهِ وَجُودِهِ وَبِرِّهِ وَغِنَاهُ وَحَمْدِهِ. فالعارفُ: سَائِرُ إلى اللهِ تَعَالى بَيْنَ هَذَيْنِ الْجِنَاحَيْنِ لا يُمْكِنَهُ أنْ يَسِيرَ إلا بِهِمَا فَمَتَى فَاتَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَهُوَ كالطَّيْرِ الذي فُقِدَ أَحَدُ جِنَاحَيْهِ. وقَالَ شَيْخُ الإِسْلامِ ابنُ تَيْمِيَّةِ رَحِمَهُ اللهُ: العَارِفُ يَسِيرُ إلى اللهِ بَيْنَ مُشَاهَدَةِ الْمِنَّةِ وَمُطَالَعَةِ عَيْبِ النَّفْسِ وَالعَمَلِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ العَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنَعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي إِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ» . فَجَمَعَ فِي قولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبُوءُ لَكَ بِنَعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي» . بَيْنَ مُشَاهَدَةِ الْمِنَّةِ وَمُطَالَعَةِ عَيْبِ النَّفْسِ وَالْعَمَلِ. فَمُشَاهَدَةُ الْمِنَّةِ تُوجِبُ الْمَحَبَّةَ وَالْحَمْدَ والشُّكْرَ لِوَلِيّ النِّعَمِ وَالإِحْسَانِ وَمُطَالَعَة عَيْبِ النَّفْسِ وَالْعَمَلِ تُوجِبُ لَهُ الذُّلَّ وَالاِنْكِسَارَ وَالافْتِقَارَ وَالتَّوْبَةَ فِي كُلِّ وقت وَأَنْ لا يَرَى نَفْسَهُ إِلا مُفْلِسًا وَأَقْرَبُ بَابٍ يَدْخُلُ مِنْهُ العَبْدُ عَلَى الله تعالى هُوَ بَابُ الإِفْلاسِ فَلا يَرَى لِنَفْسِهِ حَالاً وَلا مَقَامًا وَلا سَبَبًا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَلا وَسِيلَة مِنْهُ يَمُنُّ بِها. بَلْ يَدْخُلُ عَلَى اللهِ مِنْ بَابِ الافْتِقَارِ الصَّرْفِ وَالإِفْلاسِ الْمَحْضِ دُخُولَ مِنْ كَسَرَ الفَقْرُ وَالْمَسْكَنَةُ قَلْبَهُ حَتَّى وَصَلَتُ تِلْكَ الكَسْرَةُ إلى سُوَيْدَائِهِ فَانْصَدَعَ وَشَمَلَتْهُ الكَسْرَةُ مِنْ كُلِّ جِهَاتِهِ وَشَهِدَ ضَرُورَتَهُ إلى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَكَمَالَ فَاقَتِهِ وَفَقْرِهِ إِلَيْهِ وَأَنَّ فِي كُلِّ ذَرَةٍ مِنْ ذَرَّاتِهِ الظَّاهِرَةِ فَاقةٌ تَامةٌ وَضَرُورَةً إلى رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالى وَأَنَّهُ إِنْ تَخَلَّى عَنْهُ طَرْفَةَ عين هَلَكَ

إذا أراد الله بعبد خيرا فتح له باب الذل والانكسار

وَخَسِرَ خسارَةَ لا تُجْبَرُ إلا أَنْ يَعُودَ إلى الله تعالى وَيَتَدَارَكَهُ بِرَحْمَتِهِ. انْتَهَى. شِعْرًا: يا رَبِّ عَفوَكَ عَن ذي تَوبَةٍ وَجلٍ ... كَأَنَّهُ مِن حذارِ النَّارِ مَجنونُ قَد كانَ قَدَّمَ أَعمالاً مَقارِفَةً ... أَيّامَ لَيسَ لَهُ عَقلٌ وَلا دينُ آخر ... دَعِ البُكَاءَ عَلى الأطْلالِ وَالدَّارِ وَاذْكُرْ لِمَنْ بَانَ مِنْ خِلِّ وَمِنْ جَارِ وَأَذْرِ الدُّمُوعَ نَحِيبًا وَابْكِ مِنْ أَسَفٍ عَلَى فِرَاقِ لِيَالٍ ذَاتَ أَنْوَارِ عَلَى لَيَالٍ لِشَهْرِ الصَّوْمِ مَا جُعِلَتْ إِلا لِتَمْحِيصِ آثَامِ وَأَوْزَارِ يَا لائِمِي في البُكَاءِ زِدْنِي بِهِ كَلَفًا وَاسْمَعْ غَرِيبَ أَحَادِيثِي وَأَخْبَارِي مَا كَانَ أَحْسَنَنَا وَالشَّمْلُ مُجْتَمِعٌ مِنَّا الْمُصَلِّي وَمِنَّا القَانِتُ الْقَارِي وَفِي التَّرَاوِيحِ للرَّاحَاتِ جَامِعَةٌ فِيهَا الْمَصَابِيحُ تَزْهُو مِثْلَ أَزْهَارِي فِي لَيْلِهِ لَيْلَةُ القَدْرِ التِي شَرُفَتْ حَقًّا عَلَى كُلِّ شَهْرٍ ذَاتَ أَسْرَارِ تَتَنَزَّلُ الرُّوحُ وَالأَمْلاكُ قَاطِبَةً بِإِذْنِ رَبٍّ غَفُورٍ خالقٍ بَارِي شَهْرٌ بِهِ يُعْتِقُ اللهُ العُصَاةَ وَقَدْ أَشْفُوا عَلَى جُرُفٍ مِنْ خُطَّةِ النَّارِ

قصيدة لتوديع شهر رمضان

نَرْجُوا الإِلَهَ مُحِبَ العَفْوِ يَعْتِقُنَا وَيَحْفَظُ الكُلَّ مِنْ شَرٍّ وَأَكْدَارِ وَيَشْمَلُ العَفْوُ وَالرِّضْوَانِ أَجْمَعْنَا بِفَضْلِكَ الْجَمِّ لا تَهْتِكْ لأَسْتَارِ فَابْكُوا عَلَى مَا مَضَى فِي الشَّهْرِ وَاغْتَنِمُوا مَا قَدْ بَقِي فَهُو حَقٌّ عَنْكُمُ جَارِي اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامِ وَالْمُسْلِمِينَ وَانْصُرْ الإِسْلامَ وَالْمُسْلِمِينَ وَاجْعَلْ كَلِمَتِكَ هَيِ العُلْيَا إِلى يَوْمِ الدِّينِ وَاخْذِلْ الكَفَرَةَ وَأَعْوَانَهُمْ وَالْمُلْحِدِينَ وَالْمُبْتَدِعِينَ وَأَصْلِحْ مَنْ فِي صَلاحِهِ صَلاحُ الإِسْلامَ وَالْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِكْ مَنْ كَانَ فِي هَلاكِهِ هَلاكٌ للإسْلامِ وَالْمُسْلِمِينَ وَوَلِّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ خِيَارَهُمْ يَا رَبَّ العَالَمِينِ وَلَمَّ شَعْثَهُم واجْمَعْ شَمْلَهُمْ وَوَحِّدْ كَلِمَتَهُمْ وَانْصُرْهُمْ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ وَاَحْفَظْ بِلادَنَا مِنْ الفَسَقَةِ وَالْمُجْرِمِينِ وَأَصْلِحْ أَوْلادَنَا وَاشْفِ مَرْضَانَا وَعَافِ مُبْتَلانَا وَارْحَمْ مَوْتَانَا وَخُذْ بَأَيْدِنَا إِلى كُلِّ خَيْرٍ وَاعْصِمْنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ وَاحْفَظْنَا مِنْ كُلِّ ضُرّ واغْفِرْ اللَّهُمَّ للمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ إِنَّكَ قَرِيبٌ مُجِيبٍ اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلا مَبْلَغَ عِلْمِنَا وَلا إِلى النَّارِ مَصِيرَنَا وَلا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا بِذُنُوبِنَا مَنْ لا يُخَافُكَ فِينَا وَلا يَرْحَمْنَا وَلا تُؤاخِذْنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا وَلا تَسْلِبْ نِعْمَتَكَ عَنَّا وَكُنْ مَعَنَا حَيْثُمَا كُنَّا يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) : وَيَبْحَثُ فِي: 1- مَا وَرَدَ مِنْ الْحَثِّ عَلَى قِرَاءَةِ القُرْآنِ الْكَرِيمِ. 2- مَا جَاءَ فِي فَصْلِ حَمْلِ القُرْآنِ وَتِلاوَتِهِ. 3- مَا وَرَدَ فِي فَصْلِ تَدَبُّرِ القُرْآنِ وتَفَهُّمِهِ. 4- مَا وَرَدَ فِي اسْتِحْبَابِ تَرْتِيلِ القرآنِ الْكَرِيمِ.

فصل في تلاوة القرآن الكريم وذكر ما ورد في فضل حمل القرآن

5- مَا وَرَدَ فِي بَيَانِ عِظَمِ بَعْضِ السِّوَر. 6- اسْتِحْبَابُ تَحْسِينِ الصَّوْتِ في التِّلاوَة. 7- يَنْبَغِي الْخُشُوعُ والْخَشْيَةُ وَالبُكَاءُ عِنْدَ تِلاوَةِ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى. 8- مَا وَرَدَ فِي تَعَاهُدِ الْقُرْآنِ وَالتَّرْهِيبِ مِنْ نِسْيَانِهِ. 1- مَا وَرَدَ مِنْ الْحَثِّ عَلَى قِرَاءَةِ القُرْآنِ الْكَرِيمِ: يُسْتَحَبُّ حِفْظُ القُرْآنِ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ، وَالإِكْثَارُ مِنْ تِلاوَتِهِ كُلَّ وَقْتُ لأَنَّ تِلاوَتَهُ مِنْ أَفْضَلِ العِبَادَاتِ وَأَعْظَمِ القُرُبَاتِ وَأَجَلِّ الطَّاعَاتِ وَفِيهَا أَجْرٌ عَظِيمٌ وَثَوَابُ جَسِيمٌ مِنْ الْمَوْلَى الكَرِيمْ وَلاسِيَّمَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ قَالَ الله تَعَالى آمِرًا رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِلاوَةِ كِتَابِهِ العَزِيزِ وإبْلاغِهِ إلى النَّاسِ: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ} . وَأَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الذين يَتْلُونَ كِتَابِهِ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَعْمَلُونَ بِمَا فِيهِ مِنْ إِقَامِ الصَّلاةِ وَالإِنْفَاقُ مِمَّا رَزَقَهُمْ اللهُ تَعَالى فِي الأَوْقَاتِ الْمَشْرُوعَةِ لَيْلاً وَنَهَارًا سِرًّا وَعَلانِيَّةً فقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} . وَعَنْ عُثْمَانٍ بنِ عَفَّانٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» . رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَمُسْلِم. 2- مَا جَاءَ فِي فَضْلِ حَمْلِ القُرْآن: وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قَالَت: قَالَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ مَاهِرٌ بِهِ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَة،

وَالذي يَقْرَأُ القُرْآنَ وَهُوَ يَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌ لَهُ أَجْرَانِ» . رَوَاهُ البُخَارِي. وَعَنْ أََبِي أُمَامَةَ البَاهِليُّ - رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اقْرَءُوا القرآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمْ. وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ فَاقْرَءُوهُ فَإِنَّ مَثَلَ الْقُرْآنِ لَمَنْ تَعَلَّمَهُ فَقَرأَهُ وَقَامَ بِهِ كَمَثَلِ جِرَابٍ مَحْشُوٍّ مِسْكًا تَفُوحُ رِيحُهُ فِي كُلَّ مَكَانٍ وَمَثَلُ مَنْ تَعَلَّمَهُ فَرَقَدَ وَهُوَ فِي جَوْفِهِ كَمَثَلِ جِرَابٍ أُوكِي عَلَى مِسْكٍ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِي، وَالنَّسَائِي، وَابْنُ مَاجَة. وَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشعَرِي - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنُ الذي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الأَتْرُجَّةِ رِيحُهَا طَيّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنُ الذي لا يَقْرَأُ القُرْآنَ مَثَلُ التَّمْرَةِ لا رِيحَ لَهَا وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ حُلْوٌ، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الذي يَقْرَأُ القُرْآن مَثَلُ الرَِّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْمُنَافِق الذي لا يَقْرَأ القُرْآنَ كَمَثِلِ الحَنْظَلَةِ لَيْسَ لَهَا رِيحُ وَطَعُمْهَا مُرٌّ» . رَوَاهُ البُخَارِي، وَمُسْلِم. وَعَنْ ابن عُمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - عَنِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا حَسَدَ إلا في اثْنَتينِ: رَجُلٍ آتَاهُ اللهُ القرآنْ فَهُوَ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٍ تَعَلَّمَ عِلْمًا فَهُوَ يُعَلِّمُ النَّاسَ مِنْهُ» . رَوَاهُ البُخَارِي، وَمُسْلِم. وَعَنْ ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الذي لَيْسَ فِي جَوْفِهِ شَيْءٌ مِنْ القُرْآنِ كالبَيْتِ الْخَرب» . رواهُ الترمذي، وقَالَ: حديثٌ حَسَنْ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ في بَيْتٍ من بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ إِلا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ، وَغَشَيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدِهِ» . أخرج البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَفَرَسُهُ مَرْبُوطة عِنْدَهُ إِذْ جَالَتِ الْفَرَسُ فَسَكَتَ فَسَكَنَتْ فَقَرَأَ فَجَالَتِ الْفَرَسُ، فَسَكَتَ وَسَكَنَتِ الْفَرَسُ فَقَرَأَ فَجَالَتِ الْفَرَسُ ثُمَّ قَرَأَ فَجَالَتِ الْفَرَسُ فَانْصَرَفَ. وَكَانَ ابْنُهُ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا فَأَشْفَقَ أَنْ تُصِيبَهُ فَلَمَّا أَخَذَهُ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى يَرَاهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ حَدَّثَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: «اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ، اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ» . قَالَ: فَأَشْفَقْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى وَكَانَ مِنْهَا قَرِيبًا فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَانْصَرَفْتُ إِلَيْهِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ الْمَصَابِيحِ فَخَرَجَتْ حَتَّى لاَ أَرَاهَا. قَالَ «وَتَدْرُونَ مَا ذَاكَ» ؟ قَلْتُ: لاَ. قَالَ: «تِلْكَ الْمَلاَئِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ وَلَوْ قَرَأْتَ لأَصْبَحَتْ يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهَا لاَ تَتَوَارَى» . فالْعَاقِلُ مَنْ يُكْثِرُ تَلاوتهُ وَاسْتِذْكَارِهِ للاهْتِدَاءِ بِهَدْيهِ وَالاسْتِرْشَادِ بِمَواعِظِهِ وَالاعْتِبَارِ بِقَصَصِهِ وَالالْتِقَاطِ مِنْ دُرَرِهِ وَحِكَمِهِ وَالاسْتِضَاءَةِ بِنُورِهِ كَيْفَ لا وَهُوَ أَسَاسُ الفَصَاحَةِ وَيَنْبُوعُ البلاغَةِ وَالبَرَاعَةِ فَتَجِدُ الْخَطِيبَ الْمُصْقِعَ وَالشَّاعِرَ البَلِيغَ يَقْتَبِسَانِ مِنْ آيَاتِهِ وَيَسْتَمِدَّانِ مِنْ عُذُوبَةِ أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ مَا يُزَيْنَانِ بِهِ كَلامَهُمَا وَيُحَسِّنَانِ بِهِ مَقَامَهَُا. شِعْرًا: سَأَصْرِفُ وَقْتِي فِي قَرَاءَةِ مَا أَتَى ... عَنْ اللهِ مَعْ مَا جَاءَنَا مِنْ رَسُوله فَإِنَّ الْهُدَى وَالْفَوْزَ وَالْخَيْرَ كُلَّهُ ... بِمَا جَاءَ عَنْ رَبِّ العِبَادِ وَرُسْلِهِ وَهُوَ أَسَاسُ الشَّرِيعَةِ الإِسْلامَيةِ وَمِنْهُ تُسْتَمَدَّ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةُ وَالْمَسَائِلُ الفقْهيةُ وَالْحَقُّ أنهُ عِمَادُنَا فِي أَمْر دِينِنَا وَدُنْيَانَا.

القُرْآنُ أَصْلُ أُصُولِ الدين قَاطِبَةً ... فَكُنْ هُدِيتَ بِهِ مُسْتَمْسِكًا وَثِقَا قَالَ يحيى بن أكثم: كان للمأمون وهو أمير إذْ ذَاكَ مجلس نظر فدخل في جملة الناس رجل يهودي حسن الثوب الوجه طيب الرائحة قال: فتكلم فأحسن الكلام والعبارة. فلما تقوض المجلس دعاه المأمون فقَالَ له: إسْرَائيلِي؟ قال: نعم. قال: أَسْلِمْ حتى أفعل بك وأصنع ووعده فقال: ديني ودين آبائي وانصرف. قال: فلما كان بعد سنة جاء مُسْلِمًا فتكلم على الفقه فأحسن الكلام فلما تفوض المجلس دعاه المأمون وقال: أَلَسْتَ صَاحِبَنا بالأمس؟ قَالَ: بلى. قال: فما كان سَبَبُ إسلامك؟ قال: انصَرفْتُ مِن حَضْرتِكَ فأحْبَبْتُ أن أمْتَحِنَ هذه الأديانَ وأنت تراني حَسَنُ الخط فَعَمَدْتُ إلى التوراة فكتبتُ ثلاثَ نُسَخ فَزِدْتُ فِيهَا وَنَقَصْتُ وأدْخَلْتُها الكَنِيسَةَ فاشتريت مني. (المعنى مَا بَارَتْ تَصَرَّفَت وَطَافَت ما حُقِّقَ فيها ولا انتبه لِتَحْرِيفِهَا) . وعمدت إلى الإنجيل فكتبتُ ثلاث نسخ فَزِدْتُ فيها وَنَقَصْتُ وأدخلُتها البَيَعَةَ فاشتريت مني. وعمدت إلى القرآن فَعَمِلْتُ ثلاثَ نسخ وَزِدْتُ فِيها وَنَقَصْتُ وأدْخَلْتُهَا الوَرَّاقِيَن فَتَصَفَّحُوهَا. فلما وَجَدُوا فيها الزِّيَادَةِ وَالنُقِصانَ رَمُوا بها فلم يَشْتَرُوهَا فَعَلمْتُ أنَّ هذا كتابٌ مَحْفُوظ فكان هذا سَبَبُ إسلامي. قال يحيى بنُ أكثم: فَحَجَبْتُ تِلكَ السنةَ فَلَقِيتُ سُفيانَ بن عُيَيْنَةَ فَذكرتُ له الخَبَر فقال لي: مِصْدَاقُ هذا في كتاب الله قال: قُلْتُ في أيِّ مَوْضعٍ؟ قال: في قوله تعالى في التوراة والإنجيل: {بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللهِ} فَجَعَلَ حِفْظَهُ إليهم فَضَاع وقال عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فحفظه الله جل وعلا علينا فلم يضع.

شِعْرًا: عَلَيْكَ بِقَوْلِ اللهِ حِفْظًا فَإِنَّهُ ... هُوَ الذُّخْرُ فِي يَومٍ تَشِيبُ الذَّوَائِبْ وَقَولِ رسول الله أيضًا فإنَّه ... بِهِ مَعْ كِتَابِ الله تُؤْتى الْمَطَالِبُ وفَّقَنَا اللهُ وَجِميعَ المسلمِينَ لِلتَّمَسُّكِ بكِتَابِهِ والْمُسَارَعَةِ إلى امْتِثَالِ أَمْرِهِ واجْتِنَاب نَهْيه والوُقُوفِ عِنْدَ حَدَّهِ والتَّفكر في أمثالِهِ وَمُعْجِزهْ والتَّبصَّرُ في نُور حِكمهِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وَعَنْ عَبْدُ اللهِ بِنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ، اعْتَزَلَ الشَّيْطَانَ يَبْكِي وَيَقُولُ: يَا وَيْلَهُ!» . وَفِي رِوَايَة: «يَا وَيْلي! أُمِرَ ابنُ آدمَ بالسِّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةِ وَأُمِرْتُ بالسجودِ فَأَبَيْتُ فَلِيَ النارُ» . رَوَاهُ مُسْلِمُ، وَأَبُو دَاود. وَعَنْ النَّوَاسِ بِنْ سِمْعَان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يُؤْتَى بالقرآنِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الذين كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا تَقْدُمُهُ سُورَةُ البَقَرةِ، وَآلِ عمرانَ» وَضَرَبَ لَهُمَا رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاثةَ أَمْثَالٍ مَا نَسِيتُهُنَّ بَعْدُ قَالَ: «كَأَنَّهَما غَمَامَتَاِن أَوْ ظُلَّتَانِ سَوْدَوَانِ بَيْنَهُمَا شَرَقٌ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فُرْقَانٌ مِنْ طَيْرٍ صَوَافٍ يُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهما» . رواه مسلم. وَعَنْ عَبْدُ اللهِ بن مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتابِ اللهِ تَعَالى فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بَعَشْرِ أَمْثَالِهَا لا أَقُولُ: ألَم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلامٌ حَرْف، وَمِيمٌ حَرْفٌ» . رواه أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي.

وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَوْصِنِي قَالَ: «عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ فَإِنَّهُ رَأْسُ الأَمْرِ كُلِّهِ» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ زِدْنِي، قَالَ: «عَلَيْكَ بِتَلاوَةِ القُرْآنَ فَإِنَّهُ نُورٌ لَكَ فِي الأرْضِ، وَذُخْرٌ لك في السماء» . رواه ابن حبان. شعرًا: مَنْ يُرِدْ مُلْكَ الْجِنَانِ ... فَلْيَدَعِ عَنْهُ التَّوَانِي وَليَقُمْ في ظَلَمَةِ الْـ ... لَيْلِ إلى نُورِ القُرْآنِ وَليَصِلْ صَوْمًا بِصَوْمٍ ... إِنَّ هَذَا الْعَيْشَ فَانِ إِنَّمَا العَيْشَ جِوَرُ الْـ ... ـلَهِ فِي دَارِ الأَمَانِ آخر: اقْطَعْ زَمَانِكَ بالْقُرْآنِ تَفْهَمُهُ ... وَمَا أَتَى عَنْ رَسُولِ الله مِنْ كَلمِ وَاتْرُكْ مَجَالِسَ قَومٍ لَيْسَ عِنْدَهُمْ ... سِوَى الْمَآثِمِ مِنْ فِعْلٍ وَمِنْ كَلِمِ آخر: إِذَا شِئْتَ أَنْ تُخْطَى بِجَنَّةِ رَبِّنَا ... وَتَفُوزَ بالفَضْلِ العَظِيمِ الدَّائِمِ فَاعْمَلْ بِمَا قَالَ الإِلهُ وَقَوْلِ مَنْ ... خَتَمَ الإِلهُ بِهِ النُّبُوةَ فَاعْلَمِ وَعَنْ عَبْدُ اللهِ بِنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ فَقَدْ اسْتَدْرَجَ النُّبُوَّةِ بَيْنَ جَنْبَيْهِ غَيْرَ أَنَّهُ لا يُوحَى إِلِيْهِ، لا يَنْبَغِي لِصَاحِبِ القُرْآنِ أَنْ يَجِدَ مَعَ مَنْ وَجَدَ، وَلا يَجْهَلَ مَعَ مَنْ جَهِلَ وَفِي جَوْفِه كلامُ اللهِ» . رواه الحاكم. وروى عن علي بن أَبي طالبٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ فَاسْتَظْهَرَهُ فَأَحَلَّ حَلالَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ أَدْخَلَهُ اللهَ الْجَنَّةَ وَشَفَّعَهُ فِي عَشْرَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ كُلُّهمُ قَدْ وَجَبَتْ لَهُمْ النارُ» . رواه ابن ماجة، والترمذي. وعن أبي ذَرٍ - رَضِيَ اللهُ عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا ذَرٍ لأَنْ تَغْدُوَ فَتَتَعَلَّمَ آيَةً مِنْ كِتَابِ الله خيرٌ لَكَ مِنْ أَنْ

تُصَلِّي مائَةَ رَكْعَةٍ، وَلأَنْ تَغْدُوا فَتَتَعَلَّمَ بَابًا مِنْ العِلْمِ عُمِلَ بِهِ أَوْ لَمْ يَعْمَل بِهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تُصَلِّي أَلَفَ رَكْعَةٍ» . رواه ابن ماجة. اللَّهُمَّ اهْدِنَا إلى سَوَاءِ السَّبِيلْ وَوَفِّقْنَا لِلْفِقْهِ في دِينَكَ القَوِيمِ وَاجْعَلْنَا مِنْ العَامِلينَ بِهِ قَوْلاً وَفِعْلاً الدَّاعينَ إليه، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) مَا وَرَدَ فِي فَضْلِ تَدَبُّرِ القُرْآنِ وتَفَهُّمِهِ يُسْتَحَبُ التَّعَوُذَ لِمَنْ أَرَادَ الشُّرُوعَ في القِرَاءَةِ بَأَن يَقُولَ: (أُعُوذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) لِقَولِهِ تَعَالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} . وَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ يَقُولُونَ: أعوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ العليمِ مِنْ الشيطانِ الرَّجِيمِ، فَإِنْ قَطَعَ القِرَاءَة قَطَعَ تَرْكٍ عَلَى أَنْ لا يَعُودَ قَرِيبًا إِلَيْهَا أَعَادَ التَّعَوُذَ الأَوَّلَ، وَإِنْ تَرَكَهُ قَبْل القِرَاءَةِ فَيَتَوَجَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا ثُمَّ يَقْرَأُ لأَنَّ وَقْتَهَا قَبْلَ القِرَاءَةِ للاسْتِحْبَابِ فَلا يَسْقُطُ تَرْكَهَا إِذًا وَلأَنَّ الْمَعْنَى يَقْتَضِي ذَلِكَ. فَإِذَا شَرَعَ فِي القِرَاءَةِ فَلَيَكُنْ شَأْنُهُ التَّدْبُرَ وَلِيَحْذَرْ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ بَعْضِ الْهَمَجِ يَقْرَأَ القُرْآنَ وَعُيُونُهُ تَجُولُ فِيمَا حَوْلَهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ يَتَلاعَبُ بالقُرْآنِ وَلا يَهْتَمُ لَهُ قَالَ تَعَالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} ، وَقَالَ تَعَالى في مَعْرَضِ الإِنْكَارِ: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} . فالمؤمنُ العاقلُ المُحُب للهِ وَرَسولِهِ تِلاوةُ القرآنِ وَتَفَهُّمُهُ عِنده أَلَذُّ الأَشْيَاءِ وَأَنْفَعَهَا لِقَلْبِهِ.

ولا يَملُ من تِلاوته ولا يقنعُ بتلاوته دُونَ أن يَطْلُبَ فَهْمَ مَعَاني ما أرادَ الله عز وجل من تَعْظِيمِهِ وَتَبْجِيلِهِ وَتَقْدِيسِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَأَمْرِهِِ وَنَهْيِهِ وَإِرْشَادِهِ وَآدَابِهِ وَوَعَدِهِ وَوَعِيدِهِ. وَيَعْلَم أنه لا ينال مَنَافِعَ آخِرَتِهِ وَلا الفَوْزَ بِهَا وَالنَّجَاةَ مِنْ هُلْكَتِهَا إِلا بإتباع القرآن الدَّال على كل نَجاة والْمُنْجِي لَهُ مِن كُلِّ هَلَكَةٍ. قَالَ الله جل وعلا: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} الآية أَنْزَلَهُ اللهُ جَلَّ وَعَلا عَلَى عباده لِيُعُرِّفَهُم بِهِ نَفْسَه وَيُذَكِّرهُمْ بِهِ أَيَادِيَهُ وَيُنَبِّههم به من رَقدَاتِ الغَافِلين. وَيُحْيِيَ قُلُوبَهُم ويُنَوِّرَ أَبْصَارَهُم وَيَشْفِي صُدُورَهُم وَيزُيلَ جَهْلَهَا وَيُنْفِي شُكُوكَهَا وَدَنَسَهَا وَزَيْفَهَا وَيُوضِحَ سَبِيلَ الْهُدَى وَيكْشِفَ بِهِ العَمَى وَالشُّبُهَاتِ. وَيُزيلَ نوازعَ الشَّيْطَانِ وَوَسَاوسَ الصُّدُورِ وَيُغْنِي بِهِ مِنْ فِهْمَهُ وَيَنْعَمَ بِهِ مَنْ كَرَّرَ تِلاوَتَهَ وَيَرْضَى بِهِ عَمَّنْ اتَّبَعَهُ. هُوَ صِرَاطُ اللهِ الْمُسْتَقِيم الذي مَن سَلَكَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ أَوْقَفَهُ على الرغائب وَسَلَّمَهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَهَالِكِ وَخَفَّفَ عَنْهُ أَهْوَالَ يومِ العَرْضِ والنُّشُورِ. وَأَوْرَدَهُ رِيَاضَ جَنَّاتِ النعيم. هُوَ حَبْلُ اللهِ الْمَتِين الذي لا انقطاعَ لَهُ مَن تَمَسَّكَ بِهِ نَجَا قال الله جل وعلا وتقدس لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} . ومَن أَعْرضَ عنه عَطِبَ قال جل وعلا: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} .

ومَن ابتغى الهدى مِن غيره ضَل، ومَن فَهِمَهُ نَطَقَ بالحكم، وجَرَى على لسانه بحسنِ الموعظة، وكان مِن العلماء بالله جل وعلا. ومَن عقل عن الله جَلَّ ذِكْرُه ما قال فقد اسْتَغْنَى به عن كل شيء وعَزَّ بِهِ مِنْ كلِ ذُل. لا تَتَغَيَّر حَلاوَتُهُ ولا تُخْلِقُ جِدَّتُه في قلوب المؤمنين به على كثرة الترداد والتكرارِ لتلاوته. لأنه كلام الحي القيوم، وكل كلام غير القرآن والأحاديث الصحيحة التي جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنها تُمَلُّ من كَثْرة تَرْدَادها. أما القرآنُ وما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنَّ المؤمِن كُلَّ مَا كرره ازْدَادَ رَغْبةً وَنَشاطًا وَمَحَبَّةً لِلَكَلامِ وَلِمَنْ تَكَلَّم بِهِ وَهَذا مَوجُودٌ عندَنا في فِطَرِنَا فإنا نَسْمَعُ الكَلامَ مِمَّنْ نُحِبُّ مِنْ الْخَلْقِ. ومن نُعَظِّمُ قَدْرَهُ فَتَرْتَاحُ لِذَلِكَ قُلُوبُنَا. فكيفَ بكلام ربنا رب العالمين الذي خَلَقَنَا وَرَزَقَنَا وَأَعْطَانَا وَآوَانَا وَعَافَانَا وَهَدَانَا. شِعْرًا: جَمِيعُ الكُتْبِ يُدْركُ مَنْ قَرَاهَا ... فُتُورٌ أَوْ كَلالٌ أَوْ سَآمَةْ سِوَى القُرآن فَافْهَمْ وَاسْتَمِعْ لِي ... وَقَوْلِ الْمُصْطَفَى يَا ذَا الشَّهَامَةْ وقد تكلم به حَقِيقة، وأنزله على محمد - صلى الله عليه وسلم - مع الأَمِين مِنْ ملائكته. فالواجب علينا الإصغاءُ وَالتَّفَهُّمُ لِمَا يُتْلَى مِنْ كَلام رَبَّنَا جَلَّ وَعَلا وتقدس. وَأَنْتَ تعلم أَنَّهُ إِذَا كَان لِلذِّي يُحَدِّثُكَ عِنْدَكَ قَدْرٌ أَصْغَيْتَ إلى حَدِيْثِهِ باسْتِمَاعِ ما يَقُولُ وَتَفْهُم مَعَانِي مَا يَصِفُ. ولو كان يَحْكِيهِ لَكَ عن حَاكِي لَفَعَلْتَ ذَلِكَ حُبًّا مِنْكَ لِقَائِلِهِ وَتَعْظِيمًا لِلْمُتَكَلِّم بهِ.

ولو أطلعَهُ اللهُ على قَلْبَكِ وَأَنْتَ غافلٌ مُتَشَاغِلٌ عَنْهُ لا تُلْقِي لَهُ بَالَكَ وَلا تَفْهَمِ عَنْهُ قَوْلَه. لأبْغَضَكَ وَعَلِمَ إِنَّكَ مُسْتَهِينٌ بِهِ سَاهٍ عَنْ حَدِيثهِ وَلا تَهْتَمَّ بِهِ وَلَمْ تَعْبَأ بِفَهْمِ قوله لِقِلَّةِ قَدْرِهِ وَقَدْرِ حَدِيثِهِ عِندَكَ. وَلو كَانَ عَنِدَكَ قَدْرٌ لأَصْغَيْتَ لِحَدِيثِهِ وَلَمْ تَلهَ عَنْ تَفَهُّمِهِ وَإِنَّمَا لَهَوْتَ عَنْ حَدِيثِ مِنْ حَدَّثَكَ مِنْ الْخَلْقِ لأَنَّهُ غَابَ عَنْهُمْ عِلْمُ ضَمِيرَكَ. وَلَوْ كَانَ بَادِيًا وَظَاهِرًا لَهُمْ مَا فِيهِ لأَحْضَرْتَ عَقْلَكَ إِلَيْهم وإليهم وإلى كَلامِهم وَحَدِيثهم، وَلَمْ تَرْضَ لَهُم بالاستماعِ دُونَ الفَهْمِ لَهُ، ولا بالفَهْمِ له دُونَ تَحْبُّبِهمْ عَلَى قَدْرِ حَدِيثِهمِ. لِتُعْلمَهُم أنَّكَ قد فِهَمْتَ عَنْهُمْ ولم تَرْضَ لَهُم بالجَوابَ دُون أَنْ تُوَافِقَهم فَتُعَظِّمَ ما عَظَّمُوا وَتَسْتَحَسَّنَ مَا اسْتَحْسَنُوا وَتَسْتَقْبِحَ مَا اسْتَقْبَحُوا. هَذَا وَأَكْثَرُ حَدِيثهم لَغْوٌ وَلَهْوٌ وَليس فيه مَنْفَعَةَ ولا دُنْيَا وَلا حَقَّ لهم يُؤكدُوهُ عَلَيْكَ بِقَوْلِهم ولا يَرْضَون عَنْكَ بِفَهْمِهِ وَلا تُحِبُّ لَهُمْ أَنْ يَسْخَطُوا عَلَيْكَ إِنْ لَمْ تَكُنْ تَفْهَمُه وَتَقُومُ به. فكيف بالرب العظيم الكريم الذي سَهَّلَ لَكَ مُنَاجَاتَه، وَلَمْ يتكلم به لَغْو ولا قالَهُ لَهْوًا وَلَعِبًا ولا عَبْثًا، ولا خَاطب به سَهْوًا ولا تَفَكُّهَا تعالى الله عَزَّ وجل عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا. وَإِنَّمَا تَكَلَّم بِهِ مُخَاطِبُهُ قَصْدًا وَإِرَادَةً وتوكِيدًا لِلْحُجَّة عليكَ وعلى خَلْقِهِ إعْذَارًا إِلَيْهِمْ وَإِنْذَارًا. فَعَرَّفَنَا بِهِ أَنْ لا إِلَه غَيْرُهُ وَأَمَرَنَا بِمَا يَرْضَى بِهِ عَنَّا وَيُقَرِّبُنَا مِنْهُ ويُوجِبُ لَنَا جِوَارَهُ والقُرْبَ مِنْهُ وَالنَّظَر إِلِيه.

ويُوجِبُ لَنَا بِهِ إِنْ رَكِبْنَا مَا يَسْخِطُهُ عَذَابَهُ الأَلِيمْ في خُلُودَ الأَبَدَ الذي لا انقطاعَ لَهُ وَلا زَوَالَ وَلا رَاحَة. وَنَدَبَنَا فيه إلى الأَخْلاقِ الكَريمة والمنازِلِ الشَّريفَةِ وَقَدْ قَالَ أَصْدقُ القائلين وَأوفى الواعدين إنَّ مَا أَنْزَلَه مِن كَلامه شِفَاءٌ لِمَا في الصُّدُور وَهُدىً ورحمةِ للمؤمنين. فما أَحَقُّ مِن غَفَل عن فَهْمِ كِتابهِ أنْ يَسْتَحِي مِن رَبِّهِ عَزَّ وَجَل ويأَسَفْ عَلَى مَا مَضَى مِن عُمُرهِ وَمَرَضِ قَلْبِهِ وَهو لا يَزْدَادُ إِلا سُقْمًا وَمَرَضًا وذلك لِقَلةِ مُبَالاتِهِ. تَرَكَ طَلبَ شِفَائِهِ بِمَا قَالَ الله وتدَبُّرِ ما تكلم به خَالِقُه ومَولاه وَقَدْ رآه مَولاهُ وهو يَعْتَنِي بِفَهم كِتابِ مَخْلُوقٍ وَحَدِيثهِ. وَلَيْسَ فِي كِتَابِ هذا المخلوق وَحَدِيثِهِ إِيَّاهُ خُلُودُ الأَبَدِ فِي النَّعِيم ولا النَّجَاةُ مِنْ العَذَابِ الأليم الذي لا يَنْقَطِعُ. بل رُبَّمَا أَن فيه ما الاشتغالُ به ضَرَرٌ عليه وَمَسْخَطَةٌ لِرَبه عَزَّ وَجَلَّ أَوْ لَعَلَّ فِيهِ مَا الاسْتِغْنَاءُ بِغَيرهِ أَولى أو حَاجَة لا قَدْرَ لَهَا أَوْ خبَرٌ تَافِه. أَوْ حَاجَةٌ بكُلْفَةٍ لا يأْمَلُ لَهَا مُكَافَأةً ولا يحَثُهُ عَلَى القِيَام بِهَا إلا خَوفُ عَذْلِهِ وَلَوْمِهِ. فَكيفَ تَكُونُ حَالُنا عند ربنا تبارك وتعالى وقد عَلِم مِنَّا أَنَّنَا قَلِيلٌ تَعْظِيمُنَا لَهُ. ونَحْن لا نَعْبَأ بفَهْم كلامه وتَدَبُّر قوله فيما خاطب به كما نَعْبَأ بفهم كُتْبِ عَبِيده وحَدِيثهم الذين لا يَملكونَ لَنَا وَلا لأَنْفُسِهم ضَرًا وَلا نَفْعًا وَلا مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا.

فَتَبَارَكَ مَنْ يَمْلِكُ ذلك كُلَّهُ إلى أن قال رحمه الله: فغدًا نَقْدَمُ على الله عز وجل فَنَلْقَاهُ وَيُسَائِلُنَا عَنْ كتابه الذي أنزل إلينا مُخَاطِبًا لَنَا به وكيفَ فهِمنا عنه وكيفَ عَمِلْنَا بِهِ وَهَلْ أَجْللناهُ وَرَهِبْنَاهُ وَهَلْ قُمنا بِحَقِّهِ الذي أَمَرَنَا بهِ وَجَانبنا ما نهانا عنه. ألم تَسْمَع مَسَائِلَهُ الجن والإنس جميعًا يوم القيامة بِمَا أَقَامَ عليهم به الحجة في الدنيا من تلاوة آياته عليهم من رُسُلِهِ وأنه قَطَعَ بذلك عُذْرَهُم وَأدْحَضَ به حُجَّتَهُم. فقال جَل وعلا يَوْمَ العَرْضِ: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا} ، وقال جل وعلا: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} انتهى باختصار وتصرف يسير. شِعْرًا: يا رَبِّ إِن عَظُمَن ذُنوبي كَثرَةً ... فَلَقَد عَلِمتُ بِأَنَّ عَفوَكَ أَعظَمُ إِن كانَ لا يَرجوكَ إِلا مُحسِنٌ ... فَمَن ذَا الذِي يَرْجُو وَيَدْعُو المُجرِمُ أَدعوكَ رَبِّ كَما أَمَرتَ تَضَرُّعًا ... فَإِذا رَدَدتَ يَدي فَمَن ذا يَرحَمُ مَالِي إِلَيْكَ وَسِيلَةٌ إِلا الرَّجَا ... وَجَمِيلُ عَفْوِكَ ثُمَّ إِنِّي مُسْلِمُ اللَّهُمَّ رَغِّبْنَا فِيمَا يَبْقَى، وَزَهِّدْنَا فِيمَا يَفْنَى، وَهَبْ لَنَا اليَقِينَ الذي لا تَسْكُنُ النُّفُوسُ إِلا إِلَيْهِ، وَلا يَعَوَّلُ فِي الدِّينِ إِلا عَلَيْهِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ بِعِزِّكَ الذِي لا يُرَامْ ومُلْكِكَ الذِي لا يُضَامْ وَبِنُورِكَ الذِي مَلأَ أَرْكَانَ عَرْشِكَ أَنْ تَكْفِينَا شَرَّ مَا أَهْمَّنَا وَمَا لا نَهْتَمُ بِهِ وَأَنْ تُعِيذَنَا مِنْ شُرُورُ أَنْفُسْنَا وَمِنْ سَيَّئَات أَعْمَالِنَا،

مما ورد في فضل القرآن وتفهمه واستحباب ترتيله

اللَّهُمَّ يا عليمُ يا حَلِيمُ يَا قَوِيُ يَا عَزِيزُ يَا ذَا المنِ وَالعَطَا وَالعِزِ والكَبْرِيَا يَا مَنْ تَعْنُوا لَهُ الوُجُوه وَتَخْشَعُ لَهُ الأَصْوَاتْ، وَقِّفْنَا لِصَالِحِ الأَعْمَالِ وَاكْفِنَا بِحَلالِكَ عَنْ حَرَامِكَ وَبِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكْ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرِ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) 4- مَا وَرَدَ فِي اسْتِحْبَابِ تَرْتِيلِ القُرْآنِ الكَرِيم: وَيُسْتَحَبُّ لِقَارِئِ القُرْآنِ أَنْ يُرَتِّلَ قِرَاءَتَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} . وَثَبَتَ عَنْ أمّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُا - أَنَّها تَنْعَتُ قِرَاءَةَ مُفَسَّرَةً حَرْفًا حَرفًا. رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍ - رَضِي اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا» . رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود، والنسائي. وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سُئِلَ أَنَسٌ كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: كَانَتْ مَدًّا مَدًّا. ثُمَّ قَرَأَ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، يَمُدُّ بِـ {بِسْمِ اللَّهِ} ، وَيَمُدُّ بِـ {الرَّحْمَنِ} ، وَيَمُدُّ بِـ {الرَّحِيمِ} . رواه البخاري. وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ يُرَجِّعُ فِي قِرَاءتِهِ. رواه البخاري، ومسلم. وَقَدْ رَوَى أَبُو ذَرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَامَ لَيْلَةً بِآيةٍ

قال ابن القيم: عشرة أشياء ضائعة وبعدها ذكر ما ورد في فضل

يُرَدِّدُهَا: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} وَقَامَ تَمِيمٌ الدَّارِي بآيةِ: {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} وَقَالَ أَبُو سُلَيْمانَ: إِنِّي لأَقِيمُ فِي الآيةِ أَرْبَعَ لَيَالٍ أَوْ خَمْسَ. وَقَالَ ابنُ مَسْعُودٍ: مِنْ خَتَم القُرْآنَ نَهَارًا غُفِرَ لَهُ ذَلِكَ اليَوْمِ، وَمَن خَتَمَه لَيْلاً غُفِرَ لَهُ تِلكَ اللَّيْلِ. وَعَنْ طَلْحَةَ بن مُصَرِّفٍ قَالَ: مَنْ خَتَمَ القُرْآنَ فِي أَيِّ سَاعةٍ مِنْ النَّهَارِ كَانَتَ صَلَّتْ عليه الملائكةُ حَتَّى يُمْسِي أَوْ أي سَاعَةٍ مِنْ لَيل كَانَتْ صَلَّتْ عليه الْمَلائكةُ حَتَّى يُصْبحُ. اللَّهُمَّ نَوّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَأَعِنَّا عَلَى أَنْفُسِنَا وَالشَّيْطَان وَأيِّسْهُ مِنَّا كَمَا أَيَّسْتَهُ مِنْ رَحْمَتِكَ يَا رَحْمَنَ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (موعظة) : قَالَ ابن القَيْم رَحِمَهُ الله: عَشَرَةُ أَشْيَاء ضَائِعَةٌ لا يُنْتَفَعُ بِهَا: عِلْمٌ لا يُعْمَلُ بِهِ، وَعَمَلٌ لا إِخْلاصَ فِيهِ وَلا إقْتِدَاءَ فِيهِ بِكِتَابِ اللهِ وَسنةِ رَسولِهِ - صلى الله عليه وسلم - فَإِنَّهُ لا يُوَفَّقُ لَهُمَا إِذَا لَمْ يُخْلِصِ العَمَلَ، وَمَالٌ لا يُنْفَقُ مِنْهَ فَلا يُسْتَمْتِعُ بِهِ جَامِعُهُ في الدُّنْيَا وَلا يُقَدِّمُهُ أَمَامَهُ لآخِرَتِهِ، وَقَلْبٌ فَارِغٌ مِنْ مَحَبَّةِ اللهِ وَالشَّوْقِ إلى لِقَائِهِ وَالأُنْسِ بِهِ، وَبَدَنٌ مُعَطَّلٌ مِنْ طَاعَةِ الله وَخَدْمَتِهِ، وَمَحَبَّةُ لا تَتَقَيّدُ بِرَضَا الْمَحْبُوب وامتثالِ أوامِرِهِ. وَوَقْتٌ مُعَطَلٌ مِنْ اسْتِدْرَاكِ فَارِطٍ وَاغْتِنَامُ بِرٍ وَقُرْبَةٍ، وَفِكْرٌ يَجُولُ فِيمَا لا يَنْفَعُ وَخِدْمَةُ مَنْ لا يُقَرِّبُكَ خِدْمَتُهُ إِلى اللهِ وَلا تَعُودُ عَلَيْكَ بِصَلاحِ دُنْيَاكَ، وَخَوْفُكَ وَرَجاَؤُكَ مِمَّنْ نَاصِيَتُهُ بيدِ اللهِ وَهُوَ أَسِيرٌ في قَبْضَتِهِ وَلا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلا ضَرًّا وَلا مَوْتًا وَلا حَياةً وَلا نُشُورًا. وَأَعْظَمُ هذِهِ الإِضَاعَاتِ: إِضَاعَةُ القَلْبِ، وَإِضَاعَةُ الوَقْتِ. فَإِضَاعَةُ القَلْب عن الله مِن إِيَثار الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَة، وإضَاعَةُ الوَقْتِ مِنْ طُولِ

الأمل، فَاجْتَمَعَ الفَسَادُ كَلُّهُ في إتِّبَاعِ الْهَوَى وَطُولِ الأَمَلِ وَالصَّلاحِ كُلُّهُ فِي إِتِّبَاعِ الْهُدَى وَالاسْتِعْدَادِ لِلقَاءِ اللهِ. إلى أنْ قال: وللهِ عَلَى عَبْدِهِ أَمْرٌ أَمَرَهُ بِهِ وَقَضَاءٌ يَقْضِيهِ عَلَيْهِ وَنِعَمٌ يُنْعَمُ بِهَا عَلَيْهِ فَلا يَنْفَكُ مِنْ هَذِهِ الثَّلاثَةِ والقَضَاء نوعانِ إِمَّا مَصَائِبُ وَإِمَّا مَعَائِبُ وَلَهُ عَلَيْهِ عُبُودَيَّةَ في هَذِهِ الْمَرَاتِب كُلِّهَا فَأَحَبُّ الْخَلْقِ إِليهِ مِنْ عَرَفَ عَبُودَيتَهُ في هَذِهِ الْمَرَاتِبَ كُلِّهَا وَوَفَّاهَا حَقَّهَا فَهَذَا أَقَرَبُ الْخَلْقِ إِلَيْهِ وَأَبْعَدُهُمْ مِنْهُ مِنْ جَهْلَ عُبُودَيَتَهُ فَعَطَلهَا عِلْمًا وَعَمَلاً. اللَّهُمَّ ثَبتنَا على قَولِكَ الثابِت في الحَيَاة وفي الآخِرَة وآتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابِ النَّارِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ افْتَحْ لِدُعَائِنَا بَابَ القَبُولِ وَالإِجَابَةِ وَوَفِّقْنَا لِلتَّوْبَة النَّصُوحِ وَالإِنَابَةِ وَثَبَّتْ مَحَبَّتكَ في قُلُوبِنَا تَثْبِيتَ الْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ وَألْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَثَبِّتْنَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتَ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) 5- مَا وَرَدَ فِي عِظَمِ فَضْلِ بَعْضِ السُّورِ: وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي لَيْلَةٍ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» . قَالُوا: وَكَيْفَ يَقْرَأُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: « {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وعن عبد الله بن عُمَر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «لم

بعض صور القرآن وآياته

يَفْقَهْ مَن قَرَأَ القُرآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلاثٍ» . رواه الترمذي، وأبو داود، والدارمي. وَعَنْ عَبْدِ الله بن عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَلا يَسْتَطِيعَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأ أَلْفَ آيَةٍ فِي كُلّ يَوْمِ» ؟ قَالُوا: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْرَأَ أَلْفَ آيَةٍ كُلَّ يَوْمِ؟ قَالَ: «أَمَا يَسْتَطِيعُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ألْهَاكُمْ التَّكَاثُرْ» . رَوَاهُ البَيْهَقِي. وَقَالَتْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -: (وَلا أَعْلَمُ نَبِيَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ القُرْآنَ في لَيْلَةٍ ... ) . الْحَدِيثَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ ابن مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: (لا تَنْثِروُهُ نَثْرَ الرّمْلِ ولا تَهُذّوهُ هَذّا الشَّعْر قِفُوا عِنْدَ عَجَائِبِهِ وَحَرِّكُوا بِهِ القُلُوبَ وَلا يَكُنْ هَمُّ أَحَدُكُمْ آخَرَ السُّورَةِ) . رَوَاهُ البَغوي. وَعَنْ ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: (لأَنْ أَقْرَأَ سُورَة أُرَتِّلهَا أحبُّ إِليَّ مِنْ القُرْآنِ كُلَّه) . وَقَدْ نُهي عَنْ الإِفْرَاطِ في الإِسْرَاعِ وَيُسَمَّى (الْهَذْرَمَةَ) فَثَبَتَ عَنِ ابن مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلاً قَالَ لَهُ: اقْرَأُ الْمُفَصّلَ في رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودْ: كَهَذَا الشِّعْر، إِنَّ قَوْمًا يَقْرَؤوُنَ القُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيهِمْ وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ فَرَسَخَ نَفَعْ) . رواهُ البخارِي، وَمُسْلِم. قَالَ ابنُ القَيّم رَحِمَهُ الله: إِذَا أَرَدتَ الانْتِفَاعَ بالقُرْآنِ فَاجْمَعْ قَلْبَكَ عِنْدَ تِلاوَتِهِ وَسَمَاعِهِ وَأَلْقِ سَمْعَكَ وَاحْضَرْ حُضُورَ مَنْ يُخَاطِبَهُ بِهِ مَنْ يَتَكَلَّم بِهِ مِنْهُ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ خِطَابٌ مِنْهُ لِكَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ، قَالَ تَعَالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} وَذَلِكَ أَنْ تَمَامَ التَّأْثِيرَ لَمَّا كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى مُؤَثّرٍ مُقْتَضِي وَمحل قابلٍ وَشُرِطَ لِحُصُولِ الأثر انْتِفَاءُ الْمَانع الذي يَمْنَعُ مِنْهُ تَضَمَّنَتِ الآية بَيَانِ ذَلِكَ كُلِّهِ بَأَوْجَزِ لَفْظِ وَأَبْيَنهِ عَلَى الْمُرَادْ.

استحباب تحسين الصوت في التلاوة

وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلام: وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنّ أَفْضَلَ القِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالصَّلاةِ وَغَيْرَ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ حَالَ الرجل فالقراءةُ بِتَدَبُّرٍ أَفْضَلُ مِنْ القِرَاءَةِ بِلا تَدَبّرٍ، وَالصَّلاةُ بِخُشُوعٍ وَحُضُورِ قَلْبِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلاةِ بِدُونِ ذَلِكَ. 6- اسْتِحْبَابُ تَحْسِينِ الصَّوْتِ في التِّلاوَةْ: يُسْتَحَبّ لِقَارِئ القُرْآنِ أَنْ يُحْسِّنَ صَوْتَهُ بِالقِرَاءَةِ، لأَنَّ تَحْسِينَ الصّوتِ بالقِرَاءَةِ مُعِينٌ عَلَى حُضُورِ الْقَلْبِ وَخُشُوعِهِ وَبَاعِثٌ عَلَى حُسْنِ الاسْتِمَاعِ وَالإِصْغَاءِ إِلى القُرْآنِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالقُرْآنِ» . رواهُ البخاري. وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ كَمَا أَذِنَ لِنَبِيٍ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالقُرآنِ وَيَجْهَرُ بِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. شِعْرًا: وَلَيْسَ فَتَى الفِتْيَانِ مَنْ كَانَ هَمُّهُ ... جَرَائِدَ يَقْرأها وَتَلْفَاز يَنْظُرُ وَلَكِنْ فَتَى الفِتْيَانِ مَنْ كَانَ هَمَّهٌ ... قِرَاءةُ القُرْآنِ وَلِلْقَلْبِ يَحْظِرُ آخر: اصْرِفْ هُمُومَكَ لِلْقُرْآنِ تَفَهَمَهُ ... وَاعْمَلْ بِهِ كَيْ تَنَالَ الأَجْرَ وَالشَّرَفَا قَالَ جُمهُورُ العُلماءِ: مَعْنَى (لَمْ يَتَغَنَّ) ، أَيْ لَمْ يُحْسِّنْ صَوْتَهُ. وَعَنْ البَراءِ بِنْ عَازِب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «زَيّنُوا القُرْآنَ بأصْوَاتِكُمْ» . رواهُ أحمدُ، وأبُو دَاودَ، وابن ماجة، والدَّارِمي. وعنه أيضًا قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «حَسِّنُوا القرآن بَأصْوَاتِكُم فَإِنَّ الصَّوتَ الْحَسَنَ يَزِيدُ القرآنَ حُسْنًا» . رواه الدارمي. وَرَوَى مُسْلَمٌ في صَحِيحَهِ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِي - رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ - قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لأبي موسى: «لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقَرَاءَتكَ

الخشوع والخشية والبكاء عند تلاوة كلام الله تعالى

البَارحَة، لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِير آلِ داودْ» . قال العلماءُ: الْمُرادُ بالْمِزْمَارِ هُنَا: الصَّوتُ الْحَسَنُ. اللَّهُمَّ قَابِلَ سَيْئَاتِنَا بِإحْسَانِكَ، وَاسْتُرْ خَطِيئَتِنَا بِغُفْرَانِكَ وَأذْهِبْ ظُلْمَةَ ظُلْمِنَا بِنُورِ رِضْوَانِكَ وَاقْهَر عَدُوَّنَا بِعِزِّ سُلْطَانِكَ فَمَا تَعَوَّدَنَا مِنْكَ إِلا الْجَمِيلْ، اللَّهُمَّ اسْلكْ بِنَا مَسْلَكَ الصَّادِقِينِ الأَبْرَارَ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الْمُصْطَفِينَ الأخْيَارِ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فصل) 7- يَنْبَغِي الْخُشُوعُ وَالْخَشْيَةُ وَالبُكَاءُ عِنْدَ تِلاوَةِ كِتَابِ اللهِ تعالى: وَيُسْتَحَبُّ البكاءُ عِنْدَ تلاوَةِ القرآن، وَهُوَ صِفَةُ العَارِفِينَ وَشِعَارُ عِبادِ اللهِ الصالحين، قَالَ اللهُ تَعَالَى في وَصفِ الخاشِعينَ مِنْ عِبادِه عِنْدَ تلاوةِ كِتَابِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} سورةَ الإِسْرَاء. شِعْرًا: وَكُلُّ تِلاوَةٍ فَتُمَلُّ إِلا ... كَلامُ اللهِ مَعَ قَوْلِ الرَّسُولِ وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالى الأَنْبِيَاءَ الْمُكْرَمِينَ وَخَوَاصَّ الْمُرْسَلِين، وَذَكَرَ فَضَائِلَهُمْ وَمَرَاتِبَهُمْ أَخْبَرَ إِنَّهُمْ كَانُوَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن (خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً) ، وَقَال اللهُ تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} . وَقَدْ وَرَدَتْ فِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ. وَآثَارٌ لِلسَّلَف فَمِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ

عَنْ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «اقْرَءُوا القُرْآنَ وَابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكُوا» . وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بن مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ لِي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْرَأْ عَلَيَّ» . قُلْتُ: أأقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ ! قَالَ: «فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي» . فَقَرَأْتُ مِنْ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلى هَذِهِ الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا} ، قَالَ: «حَسْبُكَ الآنَ» . فالْتَفَتُ إَلِيْهِ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ مُطْرِفِ بن عَبْدُ اللهِ بن الشَّخِّيرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمُرْجَلِ مِن البُكاءِ. أَخْرَجَهُ الْخَمْسَةُ إلا ابنَ ماجة، وصَحَّحَهُ ابنُ حِبَّان. وَلَمَّا اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَهُ قِيلَ لَهُ: الصَّلاةَ، فَقَالَ: «مُرُوا أَبَا بَكْرِ فَلْيُصَلِّ بالناسِ» . قَالَتْ عَائِشَةَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقيقٌ إِذَا قَرَأ غَلَبهُ البُكاء، قَالَ: «مُرُوهُ فَلْيُصَلِّ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. شِعْرًا: وَأَهوى مِنَ الفِتيانِ كُلَّ مُحَافِظٍ ... عَلَى طَاعَةِ الرَّحْمَن في كُلِّ سَاعَةِ وَيَتْلُو كِتَابَ اللهِ سِرًا وَجَهْرَةً ... وَبِاللَّيْلِ قَوَّامًا بِسَجْدٍ وَرَكْعَةِ آخر: يُحْيِي اللَّيَالِي إِذَا الْمَغْرُورُ أَغْفَلَهَا ... كَأَنَّ شُهْبَ الدَّيَاجِي أَعْيُنٌ نُجُلُ آخر: إِذا شامَ الفَتى بَرقَ المَعالي ... فَأَهوَنُ فائِتٍ طيبُ الرُقادِ آخر: وَباَدِرِ الَّلْيَل بِدَرْسِ العُلوم ... فَإِنَّمَا اللَّيْلُ نهار الأَرِيبْ وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ صَلَّى بِالْجَمَاعَةِ الصُّبْحَ فَقَرَأَ سُورَةَ يُوسُفَ فَبَكَى حَتَّى سَالَتْ دُمُوعُهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ كَانَ في صَلاةِ العِشَاءِ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُ بَكَى حَتَّى سَمِعُوا بُكَاءَهُ مِنْ وَرَاءِ الصُّفُوفِ.

موعظة بليغة في الحث على توقير كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

وَقَرَأَ عُمَرَ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ بِالنَّاسِ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَاللَّيْل إِذَا يَغْشَى فَلَمَّا بَلَغَ: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} خَنَقَتْهُ العَبْرَةُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَنْفُذَهَا فَرَجَعَ حَتَّى إِذَا بَلَغَهَا خَنَقَتْهُ العِبْرَةُ فَلَمْ يَسْتَطِع أَنْ يَنْفُذَهَا فَقَرَأَ غَيْرَهَا. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَالُ العُلَمَاءِ فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهُمَا عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى التَّيْمِي أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ مَنْ أُوتِيَ مِنْ الِعْلِمِ مَا لا يَبْكِيهِ لَخَلِيقٌ أَنْ قَدْ أُوتِيَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لا يَنْفَعَهُ، لأَنَّ اللهَ تَعَالى نَعَتَ أَهْلَ العِلْمِ فَقَالَ: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ} وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَلِجُ النَّارِ مَنْ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ» . الْحَدِيثِ رواه الترمذي. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «عَيْنَانِ لا تَمَسَّهُمَا النَّارِ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرِسُ فِي سَبِيلِ اللهِ» . رواه الترمذي. وَيُسْتَحَبُّ إِذَا مَرَّ بآيةِ رَحْمَةٍ أَنْ يَسْأَلَ اللهَ مِنْ فَضْلِهِ وَإِذَا مَرَّ بآيةِ عَذَابٍ أَنْ يَسْتَعِيذَ باللهِ مِنْ الشَّرِّ أَوْ مِنْ العَذَابِ أَوْ يَقُولَ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ العَافِيَةِ) أَوْ يَقُولَ: (أَسْأَلُكَ الْمُعَافَاةِ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ) أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَإِذَا مَرَّ بِآيةِ تَنْزِيهِ نَزَّهَ اللهَ تَعالى فَقَال: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالى) أَوْ: (تَبَارَكَ وَتَعَالى) أَوْ: (جَلَّتْ عَظَمَةُ رَبَّنَا) فَقَدْ صَحَّ عَنْ حُذَيْفَةَ بن اليَمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: صَلَّيْتُ مَعَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ البَقَرَةِ، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ المائِةْ ثُمَّ مَضَى، فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ فَمَضَى، ثُمَّ افْتَتَحَ آلِ عِمْرَانِ فَقَرَأَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا يَقْرُأَ مُتَرَسِّلاً إِذَا مَرَّ فِيهَا بِتَسْبِيحِ سََبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤالِ سَأَلَ وَإِذَا مَرَّ بِتَعْوَّذِ تَعَوَّذْ ثُمَّ رَكَعَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. (موعظة) : عِبَادَ اللهِ إِنَّ مِنْ تَعْظِيمِ رَبِّنَا جَلَّ وَعَلا تَعْظِيمَ كُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الإِيمَانِ فَمَنِ اسْتَخَفَّ بِكِتَابِ اللهِ أَوْ آيَةٍ مِنْهُ أَوْ اسْتَخَفَّ بِرُسُلِهِ خَسِرَ كُلَّ الْخُسْرَانِ. عِبَادَ اللهِ أَيْنَ الغِيرَةُ الدِّينِيَّةُ كُلَّ يَوْمٍ نَجِدُ الكُتَبَ

التِي تَحْتَوِي عَلَى التَّوْحِيدِ وَعَلى الآيَاتِ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَعَلَى الأحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ مُلْقَاتٍ مَعَ القَمَائِمِ وَفِي الْحُفَرِ القَذِرَةِ تُدَاسُ بِالنِّعَالِ وَتُلَوَّثُ بالأَقْذَارِ تُلَوَّثُ تَلْوِيثًا مِنْهُ العَوَاظِفُ الإِيمَانِيَّةِ أَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْمُنْكَرَاتِ لِمَاذَا لا تُصَانُ وَتُرْفَعُ أَوْ تُقْبَرُ في مَحِّلٍ طَاهِرٍ. قُولُوا لِمَنْ يُلْقِيهَا وَلِمَنْ يَقْدِرُ عَلى مِنْعِهِمْ مِنْ إِلْقَائِهَا: اتَّقُوا اللهَ هَذِهِ حَالَةٌ وَاللهِ تُؤْلِمَ النُّفوسَ، وَتُشْمِتُ بِنَا الأَعْدَاءِ قُولُوا لَهُمْ: كَيْفَ تَسْمَح نُفُوسُكُمْ تَلْقُونَهَا هَذَا الإلْقَاءِ الْحَقِيرَ وَكَذَلِكَ كُتُبُ فَقْهٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا آيَاتٌ وَلا أَحَادِيثٌ يَنْبَغِي احْتِرَامِهَا وَرَفْعُهَا. وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي التَّنْبِيهِ عَلَى بَعْضِ الكُتُبِ التِي جُمِعَ وَالعِيَاذُ باللهِ بِهَا مَعَ الآيَاتِ القُرْآنِيةِ والأحاديثِ النبويةِ صُوَرٌ ذَوَاتِ الأَرْوَاحِ وَقَدْ تَكُونُ فَوْقَ الآيَةِ خُصُوصًا إِذَا أطْبِقَ الكِتَابُ وَهَذَا وَاللهِ اسْتَهَانَةٌ عَظِيمَةٌ وَاسْتِخْفَافٌ بالآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ وَالكُتُبِ الدِّينِّيةِ لا يَجُوزُ السّكوتُ عَلَى هَذِهِ الْحَالةِ الْمُزْرِيَةِ. وَمِمَّا يَنْبَغِي التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ هُو عَدَمُ وَضْع الآيَاتِ وَالأحَادِيثِ فِي الْجَرَائِدِ بَلْ يُشَارُ إِلى مَحَلاتِهَا وَأَرْقَامِهَا لأَنَّ الْجَرَائِدَ صَارَتْ قِسْمٌ كبيرٌ مِنْ قِمَامَةِ الْمَحِلاتِ وَفِيهَا صُورُ ذَواتِ الأَرْوَاحِ وَهَذِهِ حَالَةُ مُخِيفَة إِنْ دَامَتْ مَعَ مَا انْتَشَرَ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ والْمَعَاصِي التِي مَلأتِ البرِّ والبَحْرَ يُخْشَى أَنْ تُحِيطَ بِهِمْ عُقُوبَتُهَا. نَسْأَلُ الله أَنْ يُنَجِّينَا مِنْ عُقُوبَتِهَا وَأَنْ يُوقِضَ وَلاتَنَا وَيُنَبِّهَهَمْ لإِزَالتِهَا وَتَطْهيرِ الأَرْضِ مِنْهَا إِنَّهُ القَادِرُ عَلَى ذَلِكَ وَلا أَرَى مَخْلِصًا لِلإنْسَانِ الذِي قَدْ ابْتُلِيَ بِشِراءِ الْجَرِيدَةِ حَمَّالَةِ الْكَذِبِ قَتَّالةِ الَوْقتِ إلا أَنَّهُ يُحْرِقُهَا مِنْ حِينَ يَخْلَصُ مِنْ قِرَاءتِهَا لِيَسْلَمَ مِنْ بَاقِي شُرُورِهَا وَأَوْزَارِهَا.

وَسَوْفَ يُنَاقَشُ عَنْهَا يَومَ القِيامَةِ عَنْ الوَقْتِ الذِي ضَيَّعَهُ فِيهَا وَالْمَالُ الذي أَنْفَقهُ فِيهَا وَمَا حَصَلَ بِسَبَبِهِ عَلَى الآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ التِي فِيهَا مِنْ الاسْتِهَانَةِ وَالامْتِهَانِ وَإِخْرَاجِ الْمَلائِكَةِ عَنْ الْمَحَلِّ التِي وَضَعَهَا فِيهِ إِذَا كَانَ فِيهَا صُوَرِ ذَوَاتِ الأَرْوَاحِ حَيْثُ أَنَّ الْمَلائِكَةَ لا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةَ. قَالَ بَعْضُهُمْ: شِعْرًا: أَلا ارْعِوَاءَ لِمَنْ كَانَتْ إِقَامَتُهُ عِنْدَ الْمَذَايِيعِ وَالتَّلْفَازِ وَالطَّربِ مُضَيِّعًا فِيهَا عُمْرًا مَا لَهُ عِوَضٌ إِذَا تَصْرَّمَ وَقْتٌ مِنْهُ لَمْ يَؤُبِ أَيَحْسِبُ العُمْرَ مَرْدُودًا تَصَرّمُهُ هَيْهَاتَ أَنْ يَرْجِعَ الْمَاضِي مِنْ الْحُقُبِ أَمْ يَحْسَبُ العُمْرَ مَا وَلَّتْ أَوَائِلُهُ يَنَالُ بَعْدَ ذَهَابِ الْعُمْرِ بِالذَّهَبِ فَبَادِرِ العُمْرَ قَبْلَ الفَوْتِ مُغْتَنِمًا ِ مَا دُمْتُ حَيًّا فَإِنَّ الْمُوتَ فِي الطَّلَبِ وَأَحْرِصْ وَبَادِرْ إِذَا مَا أَمْكَنَتْ فُرَصٌ في كَسْبِ مَا تُحْمَدَنْ عُقْبَاهُ عَنْ رَغَبِ مِنْ نَفْعِ ذِي فَاقَةٍ أَوْ غَوْثِ ذِي لَهَفٍ أَوْ فِعْلِ بِرِّ وَإِصْلاحٍ لِذي شَغَبِ فالْعُمْرُ مُنْصَرِمٌ وَالوَقتُ مُغْتَنَمٌ وَالدَّهْرُ ذُو غَيْرَ فَأجْهَدْ بِهِ تُصِبِ

فاعْمَلْ بِقَوْلِي وَلا تَجْنَحْ إِلى فَدَمٍ مُخَادِعِ مُدَّعٍ لِلْعِلْمِ وَالأَدَبِ يَرَى السَّعَادَةَ فِي كَسْبِ الْحُطَامِ وَلَوْ حَوَاهُ مَعَ نَصَبٍ مِنْ سُوءِ مُكْتَسَبِ فَالرَّأْيُ مَا قُلْتُهُ فَاعْمَلْ بِهِ عَجَلاً وَلا تَصِخْ نَحْوَ فَدْمٍ غَيْرِ ذِي حَدَبِ فَغَفْلَةُ الْمَرْءَ مَعَ عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ عَنْ وَاضِحٍ بَيْنَ مِنْ أَعْجَب العَجَبِ اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَارْزُقْنَا مَحَبَّةُ أَوْلِيَائِكَ وَأَصْفِيَائِكَ، وَاجْمَعْنَا وَإِيَّاهُمْ فِي دَارِ كَرَامَتِكَ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ وَأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا لِكِتَابِكَ مِنَ التَّالِينَ وَلَكَ بِهِ مِنْ العَامِلِينَ وَبِمَا صَرَّفْتَ فِيهِ مِنْ الآيَاتِ مُنْتَفِعين وإلى لَذِيذِ خِطَابِهِ مُسْتَمِعينَ وَلأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ خَاضِعِينَ وبالأعمالِ مُخْلِصِينَ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فصل) : وقال مُحمدُ بن الحسين: يَنْبَغِي لِمَنْ عَلَّمَهُ اللهُ القُرْآن وَفَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَحْمِلْهُ. وَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ القُرْآنِ وَأَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتِهِ. وَمِمَّن وَعَدَهُ اللهُ مِنْ الفَضْل العظيم. وَمِمَّن قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} قِيلَ: يَعْملون به حَقَّ العَمَل. وَمِمَّنْ قَالَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الذي يَقْرأ القُرْآن وهو مَاهِرٌ بِهِ مَعَ السَّفَرةِ الكرام

البَرَرَةِ وَالذِي يَقْرَأ القرآن وهو يَتَتَعْتَعُ فيه عليه شاقٌ لَهُ أجْرَان» . رواه البخاري. وقال بِشْرُ بنُ الحارث الزاهدُ المعروف سَمِعْتُ عيسى بن يُونُسَ يَقُولُ: إذا خَتَمَ العَبْدُ القرآن قَبَّل الملَكَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ. فَيَنْبَغِي لِلإنسان الموفق أنْ يَجْعَلَ القُرآنَ كَلامَ رَبِّ العزَّةِ وَالْجَلالِ رَبِيعًا لِقَلْبهِ يَعْمُرُ بِهِ مَا خَرَّبَ مِنْ قَلْبِهِ يَحْرِصُ كُلَّ الْحِرْصِ على تِلاوَتِهِ وَتَفَهُّمِهِ وَالعَمَل به. فَيَتَأَدَّبُ بآدابهِ وَيَتَخَلَّقُ بِأخْلاقِ شَرِيفَةٍ يَتَمَيَّزُ بِهَا عَنْ سَائِرِ الناس مِمَّنْ لا يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ. فَأَوَّلَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَعْمِل تَقْوَى اللهِ فِي السِّرِ وَالعَلانِيَةِ بِاسْتِعْمَالِ الوَرَعَ فِي مَطْعَمِهِ، وَمَشْرَبِهِ، وَمَلْبَسِهِ، وَمَسْكَنِهِ، ومُعَامَلَتِهِ، وَبَيْعِهِ، وَشِرَائِهِ. وَأَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِزَمَانِهِ وَفَسَادَ أَهْلِهِ، فَيَحْذَرهم عَلى دِينِهِ مُقْبِلاً عَلَى شَأنه مُهْتَمًا بإصْلاحِ مَا فَسَدَ مِنْ أَمْرِهِ، حَافِظًا لِلسَانِهِ، مُمَيّزًا لِكَلامِهِ. إِنْ تَكلَّمَ تَكَلَّمَ بِعِلْم إِذَا رَأَى الكلامَ صَوَابًا يَخَافُ مِنْ لِسَانِهِ أَشَدَّ مِمَّا يَخَافُ مِنْ عَدّوِهِ قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ» . وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ وُقِيَ شَرَّ قَبْقَبِهِ وَذَبْذَبِهِ وَلَقْلَقِهِ فقد وَجَبَتْ لَهُ الجنة» أخرجه الديلمي من حَديث أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. القَبْقَبُ: البطن، والذَّبَذبُ: الفرج، وَاللَّقْلَقُ: اللِّسَان. وَأَنْ يَكُونَ قَلِيلَ الضَّحِك مِمَّا يَضْحَكُ منه النَّاسُ لِسُوءِ عَاقِبَةِ الضَّحِكِ، فَإِنْ سُرَّ بِشَيْءٍ مِمَّا يُوَافِقُ الحَقَ تَبَسَّمَ. وَيَتَجَنَّبُ كثرة المزاح (لأَنَّهُ فِي الغَالب لِلْعَدَاوَةِ مِفْتَاح) فَإِنْ مَزَحَ قَالَ حَقًّا، بَاسِطَ الوَجْهِ طَيْبَ الكَلامِ، لا يَمْدَحُ نَفْسَهِ بِمَا فِيهِ فَكَيْفَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ.

وَمَا حَسَنٌ أَنْ يَمْدَحَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ ... وَلَكِنَّ أَخْلاقًا تَذُمُّ وَتَمْدَحُ آخر: (وَدَعْوَةَ الْمَرْءِ تُطْفِئ نُورَ بَهْجَتِهِ ... هَذَا بِحَقٍّ فَكَيْفَ الْمُدَّعِي زَللا) وَأَنْ يَحْذَرَ نَفْسَهُ أَنْ تَغْلِبَهُ عَلَى مَا تَهْوَى مِمَّا يُسْخِطُ مَوْلاه. وَلا يَغْتَابُ أَحَدًا، وَلا يُحَقِّرُ أَحَدًا، وَلا يَسُبُّ أَحَدًا، وَلا يَشْمُتُ بِمُصِيبَةٍ، وَلا يَبْغِي على أحَد، وَلا يَحْسِدُ أَحَدًا، وَلا يُسِيءُ الظَّنَّ إِلا بِمَنْ يَسْتَحِقَ ذَلِكَ. وَيَجْعَلَ الكتاب والسُنَّة والفِقْهَ فِيهما دَلِيلَهُ إِلى كُلَّ خُلُقٍ حَسَن جَمِيل وَأَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِجَوَارِحِهِ عَمَّا نَهَى اللهُ عَنْهُ. إِنْ مَشَى بِعِلْمٍ وَإِنْ قَعَدَ بِعِلْم، حَافِظًا لِلِسَانِهُ وَيده عما لا يعْنِيه، ولا يَجْهَل فَإِن جُهل عليه حَلُم. وَلا يَظْلِمُ، وَإِنْ ظُلِمَ عَفَا عَمَلاً بقوله تعالى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} ولا يَبْغِي وَإِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ، يَكْظِم غَيْظَهُ لِيُرضِي رَبَّهُ عَزَّ وَجَل (وَيغِيظَ عَدُّوهُ الذي لا يَأْلُو جُهْدًا في السَّعِي في هَلاكِهِ) . اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، نَسْأَلُكَ أَنْ تَكْفِينَا مَا أَهْمَّنَا وَمَا لا نَهْتَمُّ بِهِ، وَأَنْ تَرْزُقَنَا الاسْتَعْدَادِ لِمَا أَمَامَنَا، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ الْمُتَّقِينَ الأبْرَارِ وَأَسْكِنَّا مَعَهمُ في دَارِ القَرَارَ، اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا بِحُسْن الإقْبَالِ عَلَيْكَ وَالإِصْغَاءِ إِلَيْكَ وَوَفَّقَنَا لِلتَّعَاوُنِ فِي طَاعَتِكَ والْمُبَادَرَةِ إلى خِدْمَتكَ وَحُسْن الآدَاب في مُعَامَلَتِكَ وَالتَّسْلِيم لأَمْرِك والرِّضَا بِقَضَائِكَ والصَّبْر عَلى بَلائِك والشّكْر لِنَعْمَائِكَ، اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإيمَانِ وَثَبِّتْهَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَألْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ يَا أَكْرَامَ الأَكْرَمِينَ وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

والكتب التي تستمد منها وما ينبغي لمن علمه الله القرآن

(فصل) : وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: وَأَنْ يَكُونُ (أَيْ مِنْ عَلَّمَهُ اللهُ القُرْآنِ وَفَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنَ لَمْ يَحْمِلْهُ) مُتَوَاضِعًا في نَفْسِهِ إِذَا قِيلَ لَهُ الْحَقَّ قَبِلَهُ مِن صَغِيرٍ أَوْ كَبِير يَطْلُبُ الرّفْعَة مِن اللهِ لا مِن المخلُوقين. مَاقِتٌ لِلْكِبْرِ خَائفِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُ، لا يَتَأَكَّلُ بالقُرْآنِ ولا يُحِبُّ أَنْ يَقْضِي بِهِ الْحَوَائِجَ. وَلا يَسْعَى إِلى أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ، وَلا يُجَالِسُ بِهِ الأَغْنِياءَ لِيُكْرمُوه. إِنْ كَسَبَ النَّاسُ مِن الدنيا الكَثِيرِ بَلا فِقْهٍ وَلا بَصِيرَةٍ كَسَبَ هُو القَلِيل بِفِقْهٍ وَعِلْمٍ. إِنَّ لََبِسَ النَّاسُ اللَّيِّنَ الفَاخِرَ لَبِسَ هُوَ مِنْ الْحَلالِ مَا يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ، إِنْ وُسّعَ عَلَيْهِ وَسَّعَ، وَإِنْ أُمْسِكَ عَلَيْهِ أَمْسَك. يَقْنَعُ بالقَلِيل فَيْكَفِيهِ، وَيَحْذَرُ عَلَى نَفْسِهِ مِن الدُّنْيَا مَا يُطْغِيه، يَتْبَعُ وَاجِبَاتَ القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. يَأَكُلُ الطَّعَامِ بِعْلمٍ، وَيَشْرَبُ بِعِلْمٍ، وَيَلْبَسُ بِعِلْمٍ، وَيُجَامِعُ أَهْلَهُ بِعِلْمٍ، وَيَصْطَحِبُ الإِخْوَانَ بِعِلْمٍ، وَيَزْوُرهُم بِعِلْمٍ، وَيَسْتَأَذِنُ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ، وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ، وَيُجَاورُ جَارَهُ بِعلم. يُلْزِمُ نَفْسَهِ بِرَّ وَالِدَيْهِ فَيخَفِضْ لَهُمَا جَنَاحَهُ، وَيَخْفَضُ لِصَوْتِهَما صَوْتَه وَيَبْذِلُ لَهُمَا مَالَهُ، وَيَنْظُرُ إِلِيْهِمَا بِعَيْنِ الرَّحْمَةِ والوَقَارِ، يَدْعُو لَهُمَا بالرَّحْمَةِ وَالبَقَاءِ وَيَشْكرُ لَهُمَا عِنْدَ الكِبر، ولا يضجر منهما، ولا يَحْقِرُهُمَا. إِنْ اسْتَعَانَا بِهِ عَلَى مَعْصِيَةٍ لَمْ يُطعْهُمَا لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ» . وَإِنْ اسْتَعَانَا بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ أَعَانَهُمَا وَيَرْفُقُ بِهِمَا فِي مَعْصِيَتهِ إِيَّاهُمَا حَيْثُ لَمْ يُعِنهمَا عَلَى الْمَعْصِيَةِ. وَيَكُونُ ذَلِكَ بحُسْنِ الأَدَب لِيَرْجِعَا عَنْ قَبِيحِ مَا أَرَادَ مِمَّا لا يَحْسُنُ بِهِمَا فِعْلُه.

ويَصِلُ رَحِمَهُ، وَيَكْرَهُ القَطِيعَةِ، وَمِنْ قَطَعَهُ لَمْ يَقْطَعَهُ، وَمَنْ عَصَى اللهَ فِيهِ أَطَاعَ اللهَ فِيهِ، يَصْحَبُ الْمُؤْمِنِينَ بِعِلمٍ، وَيُجَالِسُهُم بِعلمٍ، ومَن صَحِبَهُ نَفَعَهُ. حَسَنُ الْمُجَالَسَةِ لِمَنْ جَالَسَ، إِنْ عَلَّمَ غَيْرَهُ رَفقَ بِهِ، وَلا يُعَنِّفُ مَن أَخْطَأَ وَلا يُخْجِلُهُ. رَفِيقٌ فِي أُمُوره صَبُورٌ عَلَى تَعْلِيم الْخَيْر، يَأْنَسُ بِهِ الْمُتَعَلِّمُ، وَيَفْرحُ بِهِ الْمُجَالِسُ، مُجَالَسَتُهُ تُفِيدُ خَيْرًا. مُؤدِّبٌ لِمَنْ جَالَسَهُ بآدَابِ القُرآن والسُّنَّةِ إِنْ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ، فالقُرْآنُ والسُّنَّةُ مُؤدِّبَانِ لَهُ. يَحْزَنُ بِعِلْمٍ وَيَبْكِي بِعِلْم، وَيَتصَدَّقُ بِعِلم، وَيَصُومُ بِعِلم، ويحجُّ بِعِلْمٍ، ويُجَاهِدُ بِعِلم. وَيَكْتَسِبْ بعلمٍ، ويُنفِقُ بِعلمٍ، وَيَنبَسِطُ في الأُمُورِ بِعِلْمٍ، وَينقبض عَنْها بعِلمٍ. قَدْ أَدَّبَهُ القُرْآنِ والسُّنَّةِ يَتَصَفَحُ القُرْآنَ لِيُؤدِّبَ بِهِ نَفْسَهُ، وَلا يَرْضَى مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يُؤَدِّيَ مَا فَرضَ اللهُ عليه بِجَهْلٍ. قَدْ جَعَلَ العِلْمَ والفِقْهَ دَلِيلَهُ إِلى كل خيرَ إذا دَرَسَ القُرْآنَ فَبِحُضُورِ فِهْمٍ وَعَقْل. همَّتُهُ إِيقَاعُ الفَهْمِ لِمَا ألْزَمَهُ اللهُ مِنْ إتِّبَاع ما أَمَرَ وَالانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَى. لَيْسَ هِمَّتُهُ مَتَى أَخْتِمُ السُّورَةَ، هِمَّتُهُ مَتَى أسْتَغْنِي بالله عن غَيرِهِ، مَتَى أكُونُ مِنْ الْمُتَّقِين. مَتَى أَكُونُ مِنْ المحسنين، مَتَى أَكُونُ مِنْ الْمُتَوَكِّلِين، مَتَى أَكُونُ مِنْ الْخَاشِعِينَ، مَتَى أَكُونُ مِنْ الصَّابِرِينَ.

مَتَى أَكُونُ مِنْ الصَّادِقِين، مَتَى أَكُونُ مِنْ الْخَائِفِينَ، مَتَى أَكُونُ مِن الرَّاجين، مَتَى أَزْهَدُ في الدنيا، مَتَى أَرْغَبُ في الآخرة. مَتَى أَتُوبُ مِنَ الذُّنُوبِ، مَتَى أَعْرِفُ النِّعَمَ المُتَوَاتِرَةِ، مَتَى أَشْكُرُ اللهِ عَلَيْهَا، مَتَى أَحْفَظُ لِسَانِي. مَتَى أَسْتَحِي مِنْ اللهِ حَقَّ الحَيَاء، مَتَى أشْتَغِلُ بَعْيبي، مَتَى أُصْلِحُ مَا فَسَدَ مِنْ أَمْرِي، مَتَى أُحَاسِبُ نَفْسِي. مَتَى أَتَزَوَّدُ لَيْوَمِ مَعَادِي، مَتَى أَكُونُ عن اللهِ رَاضِيَا، مَتَى أَكُونُ بِلَقَائِهِ وَاثِقًا، مَتَى أَكُونُ بَزَجْرِ القُرْآنِ مُتَّعِظًا، مَتَى أَنْصَحُ للهِ. مَتَى أَخْلِصُ له عَمَلي، مَتَى أُقِصِّرُ أَمَلِي، مَتَى أَتَأَهَّبُ لِيَوْمِ مَوْتِي وَقَدْ غُيِّبَ عَنِّي أَجَلي. مَتَى أَعْمُر قَبْرِي، مَتَى أَفكِّرُ في الموقفِ وَشِدَّتِهِ، مَتَى أَفَكِّرُ فِي خَلْوَتِي مَعَ رَبِّي. مَتَى أَحْذَرِ مِمَّا حَذَّرني منه ربي من نار حَرُّهَا شَدِيدٌ وَقَعْرُهَا بَعِيد لا يَمُوتُ أَهْلُها فَيَسْتَرِيحُوا وَلا تُقَال عَثْرتُهم، ولا تُرْحَمُ عَبْرتهم. طَعَامُهُم الزقُومُ وشرابُهم الحَميم، قال تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} ، وقال: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} الآية. نَدِمُوا حَيْث لا يَنْفعُ النَّدمُ وَعضُّوا عَلَى الأيْدِي أَسَفًا على تَقْصِيرهم في طَاعَةَ اللهِ وَرَكُونهمِ لِمَعاصي الله. فقال قائلٌ منهم: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} ، وقال قائل: {رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} . وقال قائل: {أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} . وقال قائل: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} .

وقال قائل: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً} . شِعْرًا: أمَا سَمِعْتَ بَأكْبَادٍ لَهُمْ صَعَدْت ... خَوْفًا مِنْ النَّارِ فَانْحَطَّتْ إِلى النَّارِ أمَا سَمِعْتَ بِضَيْقٍ في مَكَانِهِمُوا ... وَلا فِرَارَ لَهُمْ مِنْ صَالِي النَّارِ أمَا سَمِعْتَ بِحِيَّاتٍ تَدِبُّ بِهَا ... إِلِيْهُمُوا خُلِقَتْ مِنْ مَارَجِ النَّارِ فِيهَا إِلَهِي بَأَحْكَامٍ وَمَا سَبَقَتْ ... بِهِ قَدِيمًا مِنْ الجناتِ والنَّارِ أَدْعُوكَ أَنْ تَحْمِي الَعَبْدَ الضَّعِيفَ فما ... لِلْعَبْدِ مِنْ جَسَدٍ يَقْوَى عَلَى النَّارِ وَالشَّمْسُ مَا لِي عَلَيْهَا قَطُّ مِنْ جَلدٍ ... فَكَيْفَ يَصْبُر ذُو ضَعْفٍ عَلَى النَّارِ اللَّهُمَّ اخْتِمْ بالأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ أَعْمَارِنَا وَحَقِّقْ بِفَضْلِكَ آمَالِنَا وَسَهِّلْ لِبُلُوغِ رِضَاكَ سُبُلَنَا وَحَسِّنْ في جَمِيعِ الأَحْوَالِ أَعْمَالِنَا يَا مُنْقِذُ الغَرْقَى وَيَا مُنْجِي الْهَلْكَى وَيَا دَائِمَ الإِحْسَانِ أَذِقْنَا بُرْدَ عَفْوِكَ وَأَنِلْنَا مِنْ كَرَمِكَ وَجُودِكَ مَا تَقَرُّ بِهِ عُيُونَنَا مِنْ رُؤْيَتِكَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فصل) : وقال رحمَهُ اللهُ تَعَالى: فَأَمَّا مَن قَرَأَ القُرْآنِ لِلدُّنْيَا، فَإِنَّ مِن أَخْلاقِهِ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِحُرُوفِ القُرْآن مُضَيِّعًا لِحُدُودِهِ مُتُعَظِّمًا في نَفْسِهِ مُتكَبِّرًا عَلَى غَيْرِهِ. قَد اتَّخَذَ القُرْآنَ بِضَاعَةً يَتَأَكَّلُ بِهِ الأَغْنِيَاءِ، وَيَسْتَقْضِي بِهِ الْحَوَائج، يُعْظِّمُ أبْنَاءَ الدُّنْيَا، وَيحْقِّرُ الفُقَرَاءِ. إِنْ عَلَّمَ الغَنِيِّ رَفَقَ بِهِ طَمْعًا في دُنْيَاه، وإِنْ عَلَّمَ الفَقِيرَ زَجَرَهُ وَعَنَّفَهُ لأَنَّهُ لا دُنْيَا لَهُ يَطْمَعُ فِيهَا.

يسْتَخْدُم به الفُقَراءَ، وَيَتْيهُ بِهِ عَلَى الأَغْنِيَاء إنْ كَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ أَحَبَّ أَنْ يَقْرَأَ لِلْمُلُوكِ وَيُصَلِّي بِهِمْ طَمَعًا في دُنْيَاهُم. وَإِنْ سَأَلَهُ الفُقَراءُ الصَّلاةَ بِهمِ ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِقِلَّةِ الدنيا في أيديهم وَإِنَّما طَلَبُهُ الدنيا حَيْثُ كَانَتْ رَبَضَ عِنْدَهَا. يَفْخَرَ على الناسِ بالقرآن وَيَحْتَجُّ عَلَى مَنْ دُونِهُ فِي الْحِفْظِ بِفَضْلِ مَا مَعَهُ مِنْ القِرَاءَاتِ. فَتَرَاهُ تَائِهًا مُتَكَبّرًا كَثِيرَ الكَلامِ يَعِيبُ كُلِّ مَنْ لَمْ يَحْفَظْ كَحِفْظِهِ. وَمَنْ عَلِم أَنَّهُ يَحْفَظُ كَحِفْظِهِ طَلَبَ عَيْبَه، مُتَكبَرًا في جَلْسَتِهِ، مُتَعَاظِمًا في تَعْلِيمِهِ لِغَيْرِهِ، لَيْسَ لِلْخُشُوعِ فِي قَلْبِهِ مَوْضِعٌ، كَثِيرُ الضَّحِكِ والخَوض فيما لا يَعْنِيهِ. يَشْتَغِلُ عَمَّنْ يأخُذُ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ مَنْ جَالَسَهُ. هو إلى اسْتَمَاع حَدِيثِ جَلِيسِهِ أَصْغَى مِنْهُ إِلَى اسْتِمَاعِ مَن يَجِبُ عَلَيْهِ أنْ يَسْتَمِعَ لَهُ. يُوري أنَّهُ لَمْ يَسْتَمِعْ حَافِظًا فَهُوَ إِلى كَلامِ النَّاسِ أَشْهَى مِنْهُ إلى كلام الله عَزَّ وجَل. لا يَخْشَعُ عند اسْتِمَاعِ القُرْآن، ولا يَبْكِي وَلا يَحْزَنْ وَلا يَأْخُذُ نَفْسَه بالفِكر فيما يُتْلَى عَليه وقد نُدِبَ إلى ذلك. رَاغِبٌ في الدنيا وما قَرَّبَ مِنْهَا لَهَا يَغْضَبُ وَيَرْضَى إِنْ قَصَّرَ رَجُلٌ فِي حَقِّهِ قَالَ أَهْلُ القرآن: لا يُقَصَّرُ في حُقُوقِهِم وَأهْل القرآن تُقْضَى حَوَائِجُهُم. يَسْتَقْضِي من الناس حَقَ نَفْسِهِ وَلا يَسْتَقْضِي مِنْ نَفْسِهِ مَا للهِ عَليها يَغْضَبُ عَلى غَيْرِهِ ولا يَغْضَبُ على نَفْسِهِ للهِ. لا يُبَالِى مَنْ أَيْنَ اكْتَسَبَ مِنْ حَرَامٍ أَوْ مِنْ حَلال قد عَظُمَتِ الدنيا في قلبه إن فاته شيءٌ منها لا يَحِلُ لَهُ أَخْذُهُ حَزنَ على فَوْتِهِ.

لا يَتَأَدَّبُ بآدابِ القُرْآنِ ولا يَزْجُزُ نَفْسَهُ عَنْ الوَعْدِ وَالوَعِيد لاهٍ غَافِل عَمَّا يَتْلُو أَوْ يُتْلَى عَليه. همَّتُهُ حِفْظُ الحُرُوفِ إِنْ أَخْطَأَ في حَرْفٍ سَاءَهُ ذلك لِئلا يَنْقُصُ جَاهُهُ عِنْدَ المَخْلُوقِينْ فَتَنْقُصُ رُتْبَتُهُ عندهم. فَتَرَاهُ مَحْزُونًا مَغْمُومًا بِذَلِكَ وَمَا قَدْ ضَيَّعَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهُ مِمَّا أَمَرَ اللهُ بِهِ فِي القُرْآنِ أَوْ نَهَى عَنْهُ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِهِ. أخْلاقُهُ في كثير من أموره أخْلاقُ الجُهَّالِ الذين لا يَعْلَمُون لا يأخُذُ نَفْسَهُ بالعَمل بما أوْجَبَ اللهُ عَلَيْهِ فِي القُرْآن إذا سَمِعَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} . فَكَان من الواجب عليه أن يُلْزمَ نَفْسَهُ طَلَبَ العِلْمِ لِمَعْرَفَةِ مَا نَهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فينتهِي عنه إلى أن قال رحمه الله تعالى: فأَمَّا العَاقِلُ إِذَا تَلَى القُرآن اسْتَعْرَضَ القُرآنَ فَكَان كَالمرآة يَرَى بِهَا مَا حَسُنَ مِن فِعْلِهِ وَمَا قَبُحَ مِنْهُ. فَمَا حَذَّرَهُ مَوْلاهُ حَذِرَهُ وَمَا خَوَّفَهُ بِهِ مِنْ عِقَابِهِ خَافَهُ وَمَا رَغَّبَهُ فِيهِ مَوْلاهُ رَغِبَ فِيهِ وَرَجَاهُ. فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ أَوْ مَا قَارَبَ هَذِهِ الصِّفَةِ فَقَدْ تَلاهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ وَرَعَاهُ حَقَّ رِعَايتِهِ وَكَانَ لَهُ القُرْآنُ شَاهِدًا وَشَفِيعًا وَأَنِيسا وَحِرْزَا. ومَنْ كانَ هَذا وصْفه نَفَعَ نَفْسَهُ وَنَفَعَ أَهْلَهُ وعَاد على وَالِدَيْهِ وعَلى ولَدِهِ كُلُّ خَيْرٍ في الدنيا والآخرة. انتهى كلامه باخْتِصَار وتصَرُّف يسير. فَطُوبَى لِمَنْ أَرْضَى الإِلَهَ مُسَارعًا ... إلى سُبُلٍ تَهْدِيه لِلرِّحْلَةِ الأُخْرَى وَقَامَ وَصَلَّى فِي الدَّيَاجِي وَدَمْعُهُ ... عَلى خَدِّهِ تَجْرِي بِمُقْلَتِهِ العَبْرَا وَأَخْلَصَ للهِ الَعِظيمِ قِيامَهُ ... وَرَاقَبَهُ سِرًا وَرَاقَبَهُ جَهْرَا وأَحْيَا لَيَالِي عُمْرِهِ بِقِيَامِهِ ... إلى رَبِّهِ في اللَّيْلِ وَامْتَثَلَ الأَمْرَا

الحث على تعاهد القرآن والترهيب من نسيانه

فَذَاكَ بِحَمْدِ اللهِ في طَيْب عيشَةٍ ... يَفُوزُ بِهَا صَومًا وَيُحْظَى بِهَا فِطْرَا اللَّهُمَّ قَابِلْ سَيِّئَاتِنَا بِإحْسَانِكَ، وَاسْتُر خَطِيئَتِنَا بِغُفْرَانِكَ وَاذْهبْ ظُلَمَةَ ظُلْمِنَا بِنُور رِضْوَانِكْ، وَاقْهَر عَدُوَّنَا بِعِزِّ سُلْطَانِكَ، فَمَا تَعُودَنَا مِنْكَ إِلا الْجَمِيل، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) : 8- مَا وَرَدَ فِي تَعَاهُدِ القُرْآنِ الكريمْ، والتَّرْهِيبِ مِنْ نِسْيَانِهِ، واَلإعْرَاضِ عَنْه: يُسَنُّ خَتْمُهُ في كُلِّ أُسْبُوع لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللهِ بن عَمْرو - رَضِي اللهُ عَنْهَا -: «وَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ لَيَالٍ وَلاَ تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ بن حَنْبَل - رَحِمَهمَا الله - كَانَ أَبِي يَخْتِمُ القُرآنَ في النَّهَارِ فِي كُلِّ أُسْبُوع، يَقْرأُ كُلَّ يَوْمِ سُبْعًا لا يكادُ يَتْرَكَهُ نَظَرًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَبدِ اللهِ بن عَمْرو - رَضِي اللهُ عَنْهُمَا -: «واقْرَأْهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ» . وَإِنْ قَرَأَ فِي ثَلاثٍ فَحَسَنْ، لِمَا وَرَدَ عَنْ عَبدِ اللهِ بن عَمْرو - رَضِي اللهُ عَنْهُمَا - قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي قُوَّةً، قَالَ: «اقْرَأْ في كُلِّ ثَلاثٍ» . رواهُ أبُو داودْ. ولا بَأسَ فِيمَا دُونَها أَحْيَانًا، وَفِي الأَوْقَات الفَاضِلِةِ كَرَمَضَانَ، خُصُوصًا اللَّيَالِي التِي تُطْلَبُ فِيهَا لَيْلَةُ القدر. وَيَنْبَغِي لِقَارِئِ القُرْآنِ أنْ يَتَعَّهدَهُ بالْحِفْظِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى تِلاوَتِهِ، وَلَيْحَذَرْ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ هُجْرَانِهِ وَتَرْكِ التَّعَهُّدِ لَهُ، فَيَتَعَّرضَ بِذَلِك لِنِسْيَانِهِ وَتَرْكِ العَمَلِ بِهِ الذِي هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ. قالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ الله: هَجْرُ الْقُرْآنِ أَنْوَاع:

هجران القرآن أنواع متعددة

أَحَدُهُمَا: هَجْرُ سَمَاعِهِ، والإيمانِ بِهِ، وَالإِصْغَاءِ إِلَيْهِ. والثَّاني: هَجْرُ العَمَلِ بِهِ والوُقُوفِ عِندَ حَلالِهِ وَحَرَامِهِ، وَإِنْ قَرَأَهُ وَآمَنَ بِهِ. شِعْرًا: لا شَيْءَ مِثْلَ كَلامَ اللهِ تَحْفَظُهُ ... حِفْظًا قَوِيًّا وَتَعْمَلْ فِيهِ مُجْتَهِدَا وَالثَّالثْ: هَجْرُ تَحْكِيمِهِ وَالتَّحَاكُمْ إِلَيْهِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ وَاعْتِقَادِ أَنَّهُ لا يُفِيدُ اليَقِينِ وَأَنَّ أَدَلَّتَهُ لَفْظِيةَ لا تُحَصِّلُ العِلمَ. والرَّابِعْ: هَجْرُ الاسْتِشْفَاءِ وَالتَّدَاوِي بِهِ في جَمِيعِ أَمْرَاضِ القُلُوبِ وَأَدْوَائِهَا، فَيَطْلُب شِفَاءَ دَائِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَيَهْجُرُ التَّدَاوِي بِهِ. وَالْخَامِسُ: هَجْر تَدَبُّرِهِ وَتَفَهُّمِهِ وَمَعْرِفَةِ مَا أَرَادَ الْمُتَكَلِّمِ مِنْهُ. وَكُلُّ هَذَا دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} . وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمِدْ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةْ: أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلاً مُسْتَلْقِيًا عَلَى قَفَاهُ، وَرَجُلاً قَائِمًا بِيَدِهِ فَهْرٌ أَوْ صَخْرَةٌ فَيَشْدَخُ بِهَا رَأْسَهُ: فَيَتَدَهْدَهْ، فَإِذَا ذَهَبَ لِيَأْخُذَهُ عَادَ رَأْسَهُ كَمَا كَانَ فَيَصْنَعُ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقِيلَ لَهُ: رَجُلٌ أَتَاهُ اللهُ القُرْآنَ فَنَامَ عَنْهُ بَاللَّيْلِ وَلَمْ يَعْمَل بِهِ بِالنَّهَارْ، فَهُوَ يَفْعَلُ بِهِ ذَلِكَ إِلى يومِ القِيامَ. وَفي حدِيثِ عَمْرو بن شُعَيْب مَرْفُوعًا: «يُمَثَّلُ القُرآنُ يَومَ القِيَامَةِ رَجُلاً فَيُؤْتَى بالرَّجُلِ قَدْ حَمَلَهُ فَخَالَفَ أَمْرَهُ فَيَتَمَثَّلُ لَهُ خَصْمًا، فَيقُولُ: يَا رَبْ، حَمَّلْتَهُ إِيَّاي فَبِئْسَ حَامِلٌ تَعَدَّى حُدُودِي، وَضَيَّعَ فَرَائِضِي، وَرَكَبَ مَعْصِيَتِي وَتَرَكَ طَاعَتِي، فَمَا يَزَالُ يَقْذِفُ عَلَيْهِ بالْحُجَجِ حَتَّى يُقَالُ

شَأنَكَ بِهِ فَيأخُذُ بِيَدِهِ فَمَا يُرْسِلَهُ حَتَّى يُكِبَّهُ على مِنْخِرِهِ في النَّارِ» . الحديث. شِعْرًا: ثلاثَةُ أَسْفَارٍ هَنِيئًا لِمَنْ لَهَا ... يُلازِمُهَا حِفْظًا وَدَرْسًا وَيَفْهَمُ كِتَابَ إِلهِ الْخَلْقِ جَلَّ جَلالُهُ ... كَذَاكَ البُخَارِي ثُمَّ يَتْلُوهُ مِسْلِمُ وَعَنْ سَعْدِ بِنْ عُبَادَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ امْرِئِ يَقْرَأُ القرآن ثُمَّ يَنْسَاهُ إلا لَقِيَ اللهَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَجْذَمْ» . رواهُ أبو داود. وَعَنْ أَبِي مَوْسىَ الأَشْعَرِي - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «تَعَاهَدُوا هَذَا القُرْآنْ - فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه - لَهُوْ أَشَدَّ تَفَلُّتًا مِنْ الإِبْلِ مِنْ عُقُلِهَا» . رَوَاهُ البخاري، ومسلم. وَعَنْ ابن عُمَرَ - رَضِي اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ القُرآنِ كَمَثَلِ الإِبلِ الْمُعَلَّقَةْ إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ أَطَلْقَهَا ذَهَبَتْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - تَكَفَّلَ الله لِمَنْ قَرَأ القُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أَنْ لا يَضِلَّ في الدُّنْيَا وَلا يَشْقَى في الآخرة، ثُمَّ قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} . أ. هـ. وَرَوَى أَنَسٌ - رَضِي اللهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «عُرضَتْ عَلَيَّ أَجُورَ أُمَّتِي حَتَّى القِذَاةَ يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنْ المسجدِ وَعُرِضَتْ عَلَيَّ ذُنُوبَ أمتي فلمْ أَرَ ذَنْبًا أَعْظَمَ مِنْ سُورَة منِ القرآنِ أَوْ آيَةٍ أَوُتيِهَا الرَّجُلَ ثُمَّ نَسِيَهَا» . وَيَا لِلأَسفِ اسْتَبْدَلُوا الْخَبِيثَ بالطَّيِّبِ أَكَبَّوا عَلَى الجَرَائِدِ وَالمَجَّلاتِ وَالكُتُبِ الْخَلِيعَاتِ بَدَل تِلاوَةِ كِتَابِ الله فَلا حَوْلَ ولا قُوةَ إلا باللهِ العَلي العظيم، وهو حَسْبُنَا ونَعْمَ الوَكِيل.

التمسك بالقرآن والحذر من الاعراض عنه

شِعْرًا: قَدْ بَلَوْتُ النَّاسَ حَتَّى ... لَمْ أَجِدْ شَخْصًا أَمِينَا وَانْتَهَتْ حَالِي إِلى أَن ... صِرْتُ في البَيْتِ حَزِينَا أَمْدَحُ الوَحْدَةَ حِينًا ... وَأَذُّمُ الْجَمْعَ حِينَا إِنَّمَا السَّالِمُ مَنْ لَمْ ... يَتَّخِذْ خَلْقًا قَرِينَا وَفِي الْحَدِيثِ الذي رَوَاهُ التِّرْمِذِي وَغَيْرُه عَنْ عَلَيَّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «إِنَّهَا سَتَكُونُ فِتْنٌ» . قُلْتُ: فمَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ، هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللهُ، وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللهُ، وَهُوَ حَبْلُ اللهِ الْمَتِينُ وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، هُوَ الَّذِي لاَ تَزِيغُ بِهِ الأَهْوَاءُ وَلاَ تَلْتَبِسُ بِهِ الأَلْسُنُ، وَلاَ تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ وَلاَ تَشْبَعُ مِنْهُ العُلَماءُ، مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» . وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. (فَصْلٌ) : إِذَا فَهِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ القُرْآنِ قَدْ بُيِّنَ فِيهِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ العِبَادِ مِنْ أَصُولِ الدِّينِ وَفُروعِهِ وأحكام الدَّارِينِ حَتَّى أَنَّهُ تَعَالى يُثَنِّي الأُمُورَ الكِبَارَ التِي يَحْتَاجُ القَلْبُ لِمُرُورِهَا عَلَيْهِ كُلَّ وَقِتِ وَإِعَادَتِهَا فِي كُلِّ سَاعَةِ بَألفاظٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَدلةٍ مُتَنَزِّعَةٍ لِتَسْتَقِرَّ في القلوبْ. قَالَ تَعَالى لِرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} ، وَقَالَ: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} ، وَقَالَ تَعَالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} فَفِيهِ بَيَانُ الحلالِ والحرامِ وَالثَّوَابِ والعِقَابِ وَهُدىً مِنْ الضَّلالَةِ، رَحْمَةً لِمَنْ صَدَّقَ بِهِ وَعَمِلَ فِيهِ وَحَكَّمَهُ في الدَّقِيقِ وَالجَلِيلِ وَالوَيْلُ لِمَنْ رَجَعَ إلى القَوَانِينِ وَتَرَكَهُ فَكُلُّ حُكْمٍ سِوَى حُكْمِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ مَرْدُودُ، وَكُلُّ حَاكِمٍ بَغْيِرِ حُكْمِهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ فَهُو طَاغُوتُ

كَافِرِ باللهِ وَمَا أكْثَرَهم في هذا الزَمَنِ الْمُحَكِّمِينَ لِلْقَوَانِينِ الوَضْعِيَّةِ وَالأَنْظِمَةِ الْحَالِيَّةِ. قَالَ اللهُ تَعَالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} وَهَذَا عَامٌ شَامِلٌ فَمَا مِنْ قَضِيَّةٍ إِلا وَللهِ فِيهَا حُكْم، قَالَ اللهُ تَعَالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} وَقَالَ تَعَالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} فَهَذِه الآيةُ الْجَلِيلَةُ القَدْرِ عَظِيمَةُ الموقِعْ كَبِيرَةُ الفَائِدَةِ حَسَنَةُ الْمَغْزَى اخْتَارَهَا الرَّبُّ سَبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِيَخْتِمَ بِهَا كِتَابَهُ الكَرِيمَ وَوَحْيَهُ المعْجِزَ وَأَحْكَامَ شَرِيعَتِهِ السَّمْحَةِ وَدِينَهُ الْحَنِيفْ. وَمِنْ مَزَايَا هَذِهِ الآيةِ الكَرِيمَةِ التِي انْفَرَدَتْ بِهَا عَمَّا بَقِيَ مِنْ السِّورُ والآياتِ أَنَّ الله أَكْمَلَ بِهَا الدِّينَ بِمَعْرِفَةِ الأَحْكَامِ الشَّرعِيَةِ مِنْ الفَرَائِض وَالسُّنَنِ وَالحُدُودِ وَالأحكامِ وَالحلالِ وَالحرامِ وَلَمْ يَنْزِلُ بَعْدَهَا حَلالٌ وَلا حَرَامٌ وَلا شَيْءٌ مِنَ الفَرَائِض وَأَتمّ بِهَا النّعمَةُ على عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِدَايَتِهِمْ لأَحْكَامِهِ وَتَوْفِيقِهِم لِمَعْرِفَةِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَحَلالِهِ وَحَرَامِهِ وَإنجازِهِ سُبْحَانَهُ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} . فَكَانَ مِنْ تَمَامِ نِعْمَتِهِ أَنْ دَخَلُوا مَكَّةَ آمِنِينَ مُطْمَئِنِينَ لَمْ يُخَالِطُهُمْ أَحَدٌ مِن المشْرِكِينَ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ اخْتَارِ لِهَذِهِ الأُمَّةَ دِينِ الإِسْلامِ وَمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنْ الأَدْيَانِ كُلِّهَا بَيَانًا لِشَرَفِ هَذَا الدِّينِ وَاعْتِنَاءِ بِأَمَّةِ مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - وَحَسْبُنَا مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . وَهَذَا مَا دَعَا كَعْبُ الأحبارُ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ وَكَانَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ اليهودِ أَنْ يَقُولَ لِخَلِيفَةِ الْمُسْلِمِينَ عُمُرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا أَمِيرَ المؤمنينَ آيةٌ في كِتَابِكم تَقْرءُونَهَا لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ اليهودِ نَزَلَتْ لاتَّخَذْنَاهَا عِيَا وَأَقْمَنَا لَهَا مُحْتَفَلاً في كُلِّ عَامِ نُجَدِّدُ ذِكْرَاهَا وَنَتَدَارَسُ فَضَائِلَهَا الكثيرةِ وَذِكْرَيَاتِهَا العَطِرَةِ.

يحب الرجوع إلى الكتاب والسنة في الدقيق والجليل

فَيَبْتَدِرُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَائِلاً: أيُ آيةِ هِيَ؟ قَالَ كَعْب: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} فَيُجِيبُهُ أَمِيرُ المؤمنينَ بِكُلِّ تَؤُدَةٍ وَسَكِينَةِ قَائِلاً: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ وَالْمَكَانَ الذي نَزَلَت فيهِ على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ. وَفِي رِوَايةِ إسحاقَ بنِ قبيصَة: نَزَلَتْ يَوْمَ جُمُعَةٍ يَوْمَ عَرَفَةَ وَكِلاهُمَا بِحَمْدَ اللهِ لَنَا عِيدًا. أ. هـ. وَمِنَ الأدلَةِ على وُجُوبِ الرُّجُوعِ إلى الكِتَابِ وَالسَّنةِ عِندَ التَّحَاكُمِ مَا يَلِي: قَالَ تَعَالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} . وَقَالَ تَعَالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ} الآية. وَقَالَ تَعَالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية. وَقَالَ تَعَالى: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} الآية. وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «تَرَكْتُكُمْ عَلى الْمَحَجَّةِ البَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلا هَالِكٌ» . وَقَالَ فِيمَا صَحَّ عَنْهُ: «مَا بُعِثَ مِنْ نَبِيَّ إِلا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أَمَّتَهُ على خَيْرِ مَا يَعْلَمَهُ لَهُمْ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ شَرِّ مَا يَعْلَمَهُ لَهُمُ» . وَقَالَ أَبُو ذَرْ: لَقَدْ تُوُفِّي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَا طَائُرٌ يُقَلِّبُ جِنَاحَيْهِ في السَّمَاءِ إِلا ذَكَرَ لَنَا مِنْهُ عِلْمًا. وَلا شَكَّ أَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ كِتَابِ اللهِ وَسَنَّةَ رَسُولِهِ وَاعْتَاضَ عَنْهُمَا بالقَوَانِينِ الوَضْعِيَّةِ أَنَّهُ كافرٌ كُفْرٌ نَاقِلٌ عَنِ الْمِلَّةِ الإِسْلامِيَّةِ وَكَذَا مَنِ اسْتَهْزَأَ بالقُرْآنِ أَوْ طَلَبَ تَنَاقُضَهُ أَوْ دَعْوَى أَنَّهُ مُخْتَلِفٌ أَوْ مُخْتَلِقٌ أَوْ أَثْبَتَ شَيْئًا نَفَاهُ القُرْآنُ أَوْ نَفَا مَا أَثْبَتَهُ القُرْآنُ فَقَدْ كَفَرَ. قَالَ تَعَالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} ، وَقَالَ: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} ،

وَلا خِلافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّ مَنْ جَحَدَ مِنْ القُرْآنِ سُورَةً أَوْ آيَةً أَوْ كَلِمَةً أَوْ حَرْفًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ أَنَّهُ كَافِرٌ، وَقَالَ عَلِيٌّ: مَنْ كَفَرَ بِحَرْفٍ مِنْهُ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ كُلِّهِ. وَكَذَا مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَسَعُهُ الْخُروجُ عَنْ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، كَمَا وَسِعَ الخَضْرُ الخروجُ عن شَرِيعَةِ مُوسى، أَوْ زَعَمَ أَنَّ هَدْيَ غَيْرِ مُحَمَّدٍ أَفْضَلُ مِنْ هَدْيِهِ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ أَحْسَنْ؛ أَوْ زَعَمَ أَنَّهُ لا يَسَعُ النَّاسَ في مِثْلِ هَذِهِ العُصُورِ إلا الخِروجُ عن الشريعةِ، وَأَنَّهَا كَانَتْ كافيةٌ في الزَّمَانِ الأَوَّلِ فَقَطْ وَأَمَّا في هَذِهِ الأزْمِنَةِ فَالشَّرِيعَةِ لا تُسَايِرُ الزَّمَنَ ولا بُدَّ مِنْ تَنْظِيمِ قَوَانِينِ بِمَا يُنَاسِبُ الزَّمَنُ، فَلا شَكَّ أَنَّ هَذا الاعْتِقَادِ إِذَا صَدَرَ مِنْ إِنْسَانٍ فَإِنَّهُ قَدْ اسْتَهَانَ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَتَنَقَّصَهُمَا وَلا شَكَّ في كُفْرِهِ وَخُروجِهِ مِنْ الدِّينِ الإسْلامِي بالكُلِّيَّةِ. وَكَذَلِكَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُحْتَاج لِلشَّرِيعَةِ فِي عِلْمِ الظَّاهِرِ دَوُنَ البَاطِنْ، أَوْ فِي عِلْمِ البَاطِنِ فَقَطْ أَوْ فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ دُونَ عِلْمِ الْحَقِيقَةِ أَوْ أَنَّ هَذِهِ الشَّرَائِعِ غَيْرَ مَنْسُوخَةٍ بِدِينِ مُحَمَّدٍ، أَوْ اسْتَهَانَ بِدِينِ الإِسْلامِ، أَوْ تَنَقَّصَهُ أَوْ هَزَلَ بِهِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ شَرَائِعِهِ أَوْ بِمَنْ جَاءَ بِهِ وَكَذَلِكَ أَلْحَقَ بَعْضُ العُلَمَاءِ الاسْتِهَانَةِ بِحَمَلَِتهِ لأَجْلِ حَمْلِهِ فَهَذِهِ الأمورُ كُلُّهَا كُفْر. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} . اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا وَفَّقْتَ إِلَيْهِ القَوْم وَأَيْقِظْنَا مِنْ سِنَةِ الغَفْلَةِ وَالنَّوْم وَارْزُقْنَا الاسْتِعْدَادَ لِذَلِكَ اليَوْمِ الذِي يَرْبَحُ فِيهِ الْمُتَّقُونَ، اللَّهُمَّ عَامِلْنَا بِإحْسَانِكَ وَجُدْ عَلَيْنَا بِفَضْلِكَ وَامْتِنَانِكَ وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، اللَّهُمَّ ارْحَمْ ذُلَّنَا بَيْنَ يَدَيْكَ وَاجْعَلْ رَغْبَتَنَا فِيمَا لَدَيْكَ وَلا تَحْرِمْنَا بِذُنُوبِنَا، وَلا تَطْرُدْنَا بِعُيوبِنَا، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ

في الحذر من الحكم بغير ما أنزل الله والرد على القانونيين

مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فصل) وَقَالَ فِي تَحْذِيرِ أَهْلِ الإِيمَانِ عَنِ الحُكْمِ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ بَعْدَ سِيَاقِهِ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} الآيتين. ثُمَّ لَوْ لَمْ يَكُنْ في القُرْآنِ الْمَجِيدِ فِي الزِّجْرِ عَنِ إتِّبَاعَ القَوَانِينِ البَشَرِيَّةِ غَيْرُ هَذِهِ الآيةِ الكَرِيمَةِ لَكَفَتْ العَاقِلَ اللَّبِيبَ الذي أُوتِيَ رُشْدَهُ وَأَهَمَّهُ صَلاحُ قَلْبِهِ عَنْ تَطَلُّبِ غَيْرِهَا فَكِيفَ وَالقُرْآنِ كُلَّهُ يَدْعُو إِلى تَحْكِيمِ مَا أَنْزَلَ اللهُ وَعَدَمِ تَحْكِيمِ مَا عَدَاهُ، إِمَّا تَصْرِيحًا وَإِمَّا تَلْوِيحًا وَلَهُ جَاهَدَ وَيُجَاهِدُ مِنْ عِبَادِ اللهِ الْمُتَّقِينَ مِنْ لَدُنْ بُعِثَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إلى يومِ تَقُومُ السَّاعَةِ. وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لا تَزَالُ طَائِفَةُ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرينَ عَلَى الْحَقِّ لا يَضُرَّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلا خِلافُ مَن خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأتِيَ أَمْرُ اللهِ» . وَأَنَّهُ قَالَ: «لا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلى ضَلالَةٍ» . فعَلَمِنْاَ بِذَلِكَ أَنَّ مِنَ الْمُمْتَنِعُ بِالسَّمْعِ أَنْ يَتَمَالأ العَالَمُ كُلَّهُمْ شَرْقًا مِنْ أُمَّةِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى إتِّبَاعِ القَوَانِينِ البَشَرِيَّةِ وَعَدَمِ الْمُبَالاةِ بالْحُكْمِ الشَّرْعِي بَلْ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ وَلَوْ وَاحدٌ يُنْكِرُ عَلَى هَؤلاءِ الكُلِّ إِمَّا بِلِسَانِهِ إِنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَفْتِكُوا بِهِ وَإِمَّا بِقَلْبِهِ وَظَنَّ الفَتْكَ بِهِ كَمَا قَدْ كَانَ أَيَّامَ الاسْتِبْدَادِ. وَالغَرَضُ بَيَانُ أَنَّ طَائِفَةً عَلَى الْحَقِّ لا تَزَالُ تُقَاتِلُ وَتُجَاهِدُ عَلَى تَحْكِيمِ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِاللِّسَانِ وَالبَيَانِ وَالبَدَنِ وَالسِّنَانِ وَالمالِ وَكلِّ مُمْكِنٍ لِنَوْعِ الإِنْسَانِ وَأَنَّ بِهِ يتِمُّ نِظَامُ العَدْلِ وَالْمُلْكِ وَالدِّينِ وَالدُّنْيَا وَبِهِ يَسْتَقِيمُ أَمْرُ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ وَتَكْمُلَ لَهُمُ الرَّاحَةُ وَالأَمْنُ وَالْحُرِّيَةُ التَّامَةُ وَالسِّيَاسَةُ العَامةُ لِجَمِيعِ الْمِلَلِ والرِّعَايَا الْمُخْتَلِفَةِ الأَصْنَافِ وَالألْسِنَةِ وَالأَمزِحَةِ.

وَمَنْ شَكَّ فِي هَذَا فَلْيَنْظُرِ الفَرْقَ بَيْنَ حَالِ الإِسْلامِ في هذه القُرُونِ الْمُتَأَخّرَةِ التِي عُطَّلَتْ فِيهَا حُدُودُ الشَّريعَةِ وَأَحْكَامُهَا وَحَالِهِ فِي القُرُونِ الْمُتَقَدِّمَةَ التِي مَا كَانَتْ عَلَى شَيءٍ أَحْفَظُ مِنْهَا عَلَى أَحْكامِ الشَّريعَةِ وَأَرْعَى لَهَا يَجِدِ الْفَرقَ كَمَا بَيْنَ الثَّرَى وَالثُّرَيَّا، وَكَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: نَزَلُوا بِمَكَّةَ في قِبَائِلِ هَاشِمٍ ... وَنَزَلْتُ بِالْبَيْدَاءِ أَبْعَدَ مَنْزِل أَلا تَرَى أَنَّ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ بَعْدَ وَفَاةِ نَبِيِّهَمْ - صلى الله عليه وسلم - فَتَحُوا مَا فَتَحُوا مِنْ أَقَالِيم البُلْدَانِ وَنَشَرُوا الإِسْلامَ وَالإيمان والقُرآنِ في مُدَّةِ نَحْوِ مائِةِ سَنَةٍ مَعَ قِلَِّة عَدَدِ الْمُسْلِمِين وَعُدَدِهِمْ وَضِيقِ ذَاتِ يدِهمْ وَنَحْنُ مَعَ كَثْرَةِ عُدَدِنَا وَوَفْرَةِ عَدَدِنَا وَهَائِلِ ثَرْوَتِنَا وَطَائِلِ قَوَّتِنَا لا نَزْدَادُ إلا ضُعْفًا وَتَقَهْقُرًا إلى الوَرَى وَذُلاً وَحَقَارَةً في عيُونِ الأَعْدَاءِ ذَلِكَ لأَن مَنْ لا يَنْصُرُ دِينَ الله لا يَنْصُرُهُ اللهُ قَالَ اللهُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} فَرَتَّب نَصْرَهم على نَصْرِهِ بِإقَامَةِ طَاعَتهِ وَطَاعَةِ رَسُولِه. وَقَالَ شَيْخُ الإِسْلامَ رَحِمَهُ اللهُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} . فَمَنْ لَمْ يَلْتَزِمُ تَحْكِيمِ اللهِ وَرَسُولِهِ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهم فَقَدْ أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِنَفْسِهِ أَنْ لا يُؤْمِنُوا. وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُلْتَزِمًا لِحُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لِكَنْ عَصَى وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَهذَا بِمَنْزِلَةِ أَمْثَالِهِ مِنْ العُصَاة فَمَنْ لَمْ يَلْتَزِمُ حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ فَهُوَ كَافرُ وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى الأُمَّةِ في كلِّ مَا تَنَازَعَا فِيهِ مِنْ الأُمُورِ الاعْتِقَادِيَّةِ وَالعَمَليّةِ. فالأُمُورُ الْمُشْتَرِكَةُ بَيْنَ الأُمَّةِ لا يُحْكَمُ فِيهَا إِلا بالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَيْسَ لأحَدٍ

مؤيدة بالأدلة والبراهين

أَنْ يُلْزِمَ النَّاسَ بِقَوْلِ عَالِم ولا أَمِيرٍ ولا شَيخٍ ولا مَلِكٍ وَحُكَّامُ المسلمينَ في الأمُورِ المُعَيَّنَةِ لا يَحْكُمونَ في الأمورِ الكُلِّيَةِ وَإِذَا حَكمَوا في الْمُعِينَاتِ فَعَليهِمْ أَنْ يَحْكُمُوا بِمَا في كِتَابِ اللهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِمَا في سُنَّة َرسولِ اللهِ فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا اجْتَهَدَ الْحَاكمُ بِرأيه. انتهى. لأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - لِمَا بَعَثَ مُعَاذًا إلى اليمنِ قَالَ: «بِمَ تَحْكُمْ» ؟ قَالَ بِكِتَابِ اللهِ «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ» ؟ قَالَ: بِسنةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ» ؟ قَالَ: أجْتَهِدُ رَأَيِي. قَالَ: «الْحَمْدُ اللهِ الذي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِمَا يُرْضِي رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -» . وفي كِتَابِ عُمْرَ بِنْ عَبْدِ العزيزِ إلى عُرْوَة كَتَبْتَ إليَّ تَسْأَلَنِي عَنْ القضاءِ بَيْنَ النَّاسِ وَإِنَّ رَأَسَ القَضَاءِ إِتَّبَاعُ مَا فِي كِتَابِ اللهِ ثُمَّ القَضَاءُ بِسُنَّةِ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ بِحُكمِ أَئِمَّة الْهُدَى ثُمَّ اسْتِشَارَةِ ذَوِي العلمِ وَالرَّأيِ وَذُكِرَ عَنْ سُفْيَانَ ابنُ عُيَينَةِ قَالَ: كَانَ ابنُ شُبْرَمَةَ يَقُولَ: مَا في القَضَاءِِ شَفَاعَةٌ لِمُخَاصِمٍ ... عِنْد اللَّبِيبِ ولا الفَقِيهِ العَالِمِ هَوِنْ عَلَيَّ إِذَا قَضَيْتُ بِسُنَّةٍ ... أَوْ بالكِتَابِ بِرَغْمِ أَنْفِ الرَّاغِمِ وَقَضَيْتُ فِيمَا لَمْ أَجِدْ أَثَرًا بِهِ ... بِنَظَائِرِ مَعْرُوفَةٍ وَمَعَالِمٍ وَعَنْ بن وَهْبِ قَالَ: قَالَ مَالِكُ: الْحُكْمُ حُكْمَانِ حُكْمٌ جَاءَ بِهِ كِتَابَ اللهَ، وَحُكْمُ أَحْكَمَتَّهُ السُّنَة، قَالَ: وَمُجْتَهِدٌ رَأْيَهُ فَلَعَلَّهُ يُوَفقْ. وَقَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهَ عَلى قَوْلِهِ تَعَالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} الآية: فَأَقْسَمَ سُبْحَانَه بَأَجلِّ مُقْسَمٍ بِهِ وَهُو بِنَفْسِهِ عَزَّ وَجَل عَلَى أَنَّهُ لا يَثْبُتُ لَهُمُ إيمَانَ ولا يَكُونُونَ مِنْ أَهْلِِهِ حَتَّى يُحَكِّمُوا الرَّسُولَ - صلى الله عليه وسلم - في جميعِ مَوَارِدِ النِّزَاعِ في جميعِ أَبْوَابِ الدِّينَ فَإِنَّ لَفْظَةَ (مَا) مِنْ صِيغِ العُمُوم تَقْتَضِي نَفْيَ الإِيمَانِ أَوْ يُوجَدَ تَحْكِيمُهُ في جميعِ مَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ. وَلَمْ يَقْتَصِر عَلَى هَذا حَتَّى ضَمَّ إليه انْشِرَاحُ صُدِورِهم بِحُكْمِهِ حَيْثُ لا

يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهم حَرَجًا وَهُو الضيقُ وَالحَصْرُ مِنْ حُكْمِه بَلْ يَقْبَلُوا حُكْمَهُ بالانْشِرَاحِ وَيُقَابِلُوهُ بِالتَّسْلِيمِ لا أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَهُ على إغْمَاضِ وَيَشْرَبُونَ عَلى قَذَيّ فَإِنَّ هَذَا مُنَافٍ للإيمَان بَلْ لا بدُ أَنْ يَكُونَ أَخْذُهُ بِقُبولٍ وَرِضَا وانْشِرَاحِ صُدُورٍ. وَمَتَى أَرَادَ العَبْدُ أَنْ يَعْلَم هَذَا فَلْيَنْظُر في حالِهِ وَيُطَالِعُهُ في قَلْبِهِ عِنْدَ وُرُودِ حُكْمِهِ عَلَى خِلافِ هَواهُ وَغَرضِهِ فَسُبْحَانَ اللهِ كَمْ مِنْ حَزَازَةِ فِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ مِنْ كَثِيرٍ النُّصُوصِ وَبِودِّهِمْ أَنْ لَوْ لَمْ يَرِدْوَكَمْ مِنْ حَرَارَةٍ في أَكْبَادِهِم مِنْهَا وَكَمْ مَنْ شَجَى فِي حُلُوقِهِم مِنْهَا وَمِنْ مُوْرِدَهَا سَتَبْدُوا لَهَمْ تِلَكَ السَّرَائِرُ بالذي يَسُوءُ وَيُخْزِي يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرِ. ثُمَّ لَمْ يَقْتَصرُ سُبْحَانَهُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى ضَمَّ إليهِ قَوْلَه تعالى: {وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} فذكرَ الفِعْلَ مُؤَكَّدًا بِمَصْدَرِهِ القَائِم مَقَامَ ذِكْرُهِ مَرَّتِين وَهُوَ الخُضُوعُ لَهُ والانقيادُ لِمَا حَكَمَ بِهِ طَوْعًا وَرِضًا وَتَسْلِيمًا لا قَهْرًا وَمُصَابَرَةً كَمَا يُسْلِمُ المقهُورُ لِمَنْ قَهَرَهُ كُرْهًا بَلْ تَسْلِيمَ عَبْدٍ مُطِيعٍ لِمَوْلاهُ وَسَيِّدِِهِ الذِي هُوَ أَحَبُّ شيء إليهِ يَعْلَمُ أنّ سَعَادَتَهُ وَفَلاحهَ في تَسْلِيمهِ إِلَيْهِ وَيَعْلَمُ بأنَّهُ أَوْلى بِهِ مِنْ نَفْسِهِ وَأَبَرَّ بِهِ مِنْهَا وأرْحَمُ بِهِ مِنْهَا وَأَنْصَحَ لَهُ مِنْهَا وَأَعْلَمُ بِمَصَالِحِهِ مِنْهَا وَأَقْدَرَ على تَخْلِيصِهَا. وَأمَّلْ لِهَذَا الْمَعْنَى المذكُورِ في الآيةِ بوجُوهٍ عَدِيدَةٍ مِنْ التَّأَكِيدِ أولها تصديرُها بالقسم يَتضَّمَّن الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُه: لا يظمنون، وثانيها: تأكيده بنفس القسم، وثالثها: تأكيده بالمُقْسَمِ بِهِ وَهُوَ إقْسَامهُ بِنَفْسِهِ لا بشيَءٍ من مَخْلُوقَاتِهِ، ورَابعًا: تأكِيدُه بانتِفاءِ الحَرَجِ وَهُوَ وُجُودُ التَّسْلِيم، وخامُسُها: تأكيدُ الفِعْل بالْمَصْدَرِ ومَا هَذا إلا لِشِدَّة الحاجةِ إلى هذا الأمْرِ العَظِيمِ وَأَنَّهُ مِمَّا يُعْتَنَى بِهِ وَيُقَرَّرُ في نُفُوسِ العِبَادِ. وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمِ.

(فصل) وَقال رَحِمَهُ الله: لَمَّا أَعْرَض النَّاسُ عَنْ تَحْكِيمِ الكِتَابِ وَالسُّنةِ وَالْمُحَاكَمَةِ إِلَيْهِمَا وَاعْتَقَدُوا عَدَمَ الاكْتِفَاءِ بِهِمَا وَعَدلوا إلى الآرَاءِ وَالقياسِ وَالاسْتِحْسَانِ وَأَقْوَالِ أَهْلِ الآرَاءِ عَرَضَ لَهَمْ مِنْ ذَلِكَ فَسَادٌ في فِطَرِهِمْ وَظُلْمَةٌ في قُلُوبِهم وَكَدَرٍ في أفْهَامِهِمْ وَمَحْقٍ في عُقُولِهِم فَعَمَّتْهمُ هَذِهِ الأُمُورُ وَغَلَبَتْ عَلَيْهِمْ حَتَّى رَبَّى فِيهَا الصَّغِيرُ وَهَرِمَ عَلَيْهَا الكَبِيرُ فَلَمْ يَرَوْهَا مُنْكَرًا. فَجَاءَتهمْ دَوْلَةٌ أُخْرَى أَقَامَتْ فِيهَا البِدَعَ مَقَامَ السُّنَن، والْهَوى مَقَامَ الرُّشْدِ، وَالضَّلالَ مَقَامَ الْهِدَايَةِ، والْمُنْكَرَ مَقَامَ الْمَعْرُوفِ، وَالْجَهْلَ مَقَامَ العِلْمِ، وَالرِّيَاءِ مَقَاَم النَّصِيحَةِ، وَالظُلْمَ مَقامَ العَدْلِ، فَصَارَتْ الدَّولَةُ وَالْغَلَبَةُ لِهَذِهِ الأُمُور وَأَهْلُها هُمُ الْمُشَارُ إليهم. فَإِذَا رَأَيْتَ هَذِهِ الأُمُورَ قَدْ أَقْبَلَت وَرَايَاتِهَا قَدْ نُصِبَتْ وَجُيُوشَهَا قَدْ رَكِبَت فَبْطنُ الأَرْضِ واللهِ خَيْرٌ مِنْ ظَهْرها وَقُلل الجبالِ خَيْرٌ مِنْ السُّهولِ وَمُخَالَطَة الوَحْش أسْلَمُ مِنْ مُخَالَطَةِ النَّاسِ. اقْشَعْرَّتِ الأَرْضُ وَأظْلَمَتِ السَّمَاءُ وَظَهَرَ الفَسَادُ في البرِّ وَالبَحْرِ مِنْ ظُلْمِ الفَجَرَةِ، وَذَهَبَتْ البَرَكَاتُ وَقلّتِ الْخَيْرَاتُ، وَهَزلَتِ الوحْشُ وَتَكَدَّرْتِ الْحَيَاةُ مِنْ فِسْقِ الظَّلَمةِ وَبَكَى ضُوءُ النَّهَارِ وَظُلْةُ اللَّيْل مِنْ الأَعْمَالِ الْخَبِيثَةِ والأَفْعَالِ الفَظِيعَةِ، وَشَكَا الكِرَامُ الكَتابُونَ وَالْمُعَقَّباتُ إلى رَبِّهم مِنْ كَثْرَةِ الفَواحِشِ وَغَلَبَةِ الْمُنْكَرَاتِ وَالقَبَائِحْ. وَهَذَا وَالله مُنْذِرُ بِسَيْلِ عَذَابٍ قَدْ انْعَقَدَ غَمَامُهُ وَمُؤذِنٌ بَلِيْلِ قَدْ ادْلَهَمَّ ظَلامُهُ فَاعْزِلوا عَنْ طَرِيق هذا السَّيلُ بِتَوْبَةٍ نَصُوحٍ مَا دَامتِ التَّوبَةُ مُمْكِنَةٌ وَبَابُها مَفْتُوحًا وَكَأَنَّكُمُ بِالْبَابِ وَقَدْ أَغُلِقُ وَبالرَّهْنِ وَقَدْ غَلِقَ وَبِالْجِنَاحِ وَقَدْ عَلِقَ وَسَيَعْلَمُ الذِين ظَلَمُوا أيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُون.

وَقَالْ: واللهِ مَا خَوْفِي الذُّنُوبَ فَإِنَّها ... لَعَلَى سَبِيلِ الْعَفْوِ وَالغُفْرَانِ لَكِنَّمَا أَخْشَى انْسِلاخَ القَلْبِ مِنْ ... تَحْكِيمِ هَذَا الوحْي والقُرْآنِ وَرِضَا بآرَاءَ الرِّجَالِ وَخُرْصِهَا ... لا كَانَ ذَاكَ بِمِنَّةِ الْمَنَّانِ فَبأيّ وَجْهٍ أَلْتَقِي رَبِّي إِذَا ... أَعْرَضْتُ عَنْ ذَا الوَحْي طُولَ زَمَانِ وَعَزْلتُهُ عَمَّا أُرِيدُ لأَجْلِهِ ... عَزْلاً حَقِيقِيًا بلا كِتْمَانِ اللَّهُمَّ ألْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لِلْقِيَامِ بِحَقِّكَ وَبَارِكْ لَنَا فِي الْحلال مِنْ رِزْقَكَ وَلا تَفْضَحْنَا بَيْنَ خَلْقِكَ، يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلَ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ، يَا قَاضِيَ الْحَاجَاتِ وَمُجِيب الدّعَواتِ هَبْ لَنَا مَا سَأَلْنَاهُ وَحَقِّقْ رَجَاءَنَا فِيمَا تَمَنَّيْنَاهُ يَا مِنْ يَمْلِكُ حَوائِجَ السَّائِلين وَيَعْلَمُ مَا فِي ضَمَائِر الصَّامِتِينَ أَذِقْنَا بِرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةَ مَغْفِرَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ أَجْمَعِينَ. (فصل في ذكر طرق مما حدث في بعض السنين من الأزبية والأمراض) أْجْدَبَتِ الأَرضُ في سنةِ ثماني عشرة فكانت الريحُ تسقِي تُرابًا كالرماد فسُمِّي عامَ الرمادة وجعلتِ الوحُوشُ تَأْوِي إلى الإنس، فآلىَ عُمَرُ ألا يذوق سمنًا ولا لبنًا ولا لحمًا حتى يحيى الناسُ واستسقَى بالعباس فَسُقُوا. وفيها كان طاعون عَمَواسٍ مات فيه أبُو عُبيدةَ، ومُعَاذُ، وأَنسُ وفي سنة أربع وستين وقع طاعون بالبصرة وماتَتْ أُمُ أمِيرِهِم فما وَجَدُوا من يَحْمِلَها. وفي سنة ست وتسعين كان طاعون الجارفُ هَلكَ في ثلاثة أيامٍ سَبْعُونَ ألْفًا وماتَ فيه لأَنَسٍ ثَمَانُون ولَدًَا وكانَ يموتُ أهلُ الدارِ فَيُطَيَّنُ البابُ عليهم. وفي سنة إحدى وثلاثين ومائة ماتَ أول يوم في الطاعون سَبْعُونَ ألْفًا في الثاني نَيِّفٌ وسبعون ألفًا وفي الثالث خمد الناس. وفي سنة أربع وثلاثين وثلاث مائة ذُبِحَ الأطفالُ وأُكِلَتُ الجيفُ وبيعَ العَقَارُ بِرُغْفَان واشْتَرى لِمُعِزِّ الدَّوْلَة كَرُّ بِعَشْرِينَ أَلفٍ دَرهم.

وفي سنة أربع وأربعين وثلاثمائة أصابَ أهل البصرةِ حَرٌّ فكانوا يتساقطون مَوْتَى في الطُّرقَاتِ. وفي سنة ثمان وأربعين وأربعمائة عَمَّ القُحْفُط فأُكِلتِ الميتةُ وبلغ المكوك من برز البقلة سَبْعَ دَنَانِير، والسفر جَلَةُ، والرمانةُ دِينَارًا، والخيارةُ واللينوفرةُ دينارًا، وَوَرَدَ الخبرُ من مِصر بأن ثلاثةً مِن اللُّصُوص نَقَبُوا دَارًا فوُجِدُوا عندَ الصباح مَوْتَى أحَدُهم على بابِ النقبِ، والثاني على رَأْسِ الدَّرَجَةِ، والثالثُ على الثياب الْمُكَوَّرَةِ. وفي السنة التي تليها وقعَ وَبَاءٌ فكان تُحْفَرُ زِيبةٍ لِعَشْرِينَ وَثَلاثِينِ فَيُلْقَونَ فِيها وتابَ الناسُ كُلُّهم وَأَرَاقُوا الخمورَ وَلزِمُوا المساجدَ. وفي سنة ستٍ وخمسينَ وأرْبِعِمِائةٍ وَقَعَ الوَبَاءُ وَبَلَغَ الرطلُ من التمرِ الهِندي أربعةَ دَنانير وفي سنة اثنتين وستين وأربعمائة اشتد الجُوعُ والوَبَاءُ بِمِصْرِ حتى أَكلَ النَّاسُ بَعضُهم بَعْضًا وبيع اللَّوزُ وَالسُّكَّر بِوَزْنِ الدَّرَاهِم والبيضةُ بِعَشْرَةِ قَراريط وَخَرَجَ وَزِيرُ صَاحِب مَصْر إليه فنزلَ عَنْ بَغْلَتِهِ فأخَذَهَا ثَلاثَة فأَكَلُوها فَصُلَبُوا فأَصْبَحَ الناسُ لا يَرَوْنَ إلا عِظَامَهُمَ تَحْتَ خَشَبِهِم وَقَدْ أُكِلُوا، وَفِي سَنة أربع وستين وأربعمِائة وقعَ الموتُ في الدوابِ حَتَّى إِنَّ رَاعِيًا قامَ الغنمِ وَقْتَ الصباحِ لِيَسُوقَهَا فَوَجَدوهَا كُلَّها مَوْتَى. ذكر ذلك ابن الجوزي رحمه الله. وفي سنة أربع وثلاثين وثلاثمائةٍ وَقَعَ غَلاءٌ شَدِيدِ ببغداد حتى أَكَلُوا الميتةَ وَالسَّنَانيرَ والكلابَ، وَكَان مِن النَّاس مَنْ يَسْرِقُ الأولادَ فَيَشْوِيهِم ويأَكْلُهُم. وَكَثُرَ الوَبَاءُ في الناس حتى كان لا يَدْفُنُ أحَدٌ أَحَدًا بَلْ يُتْركُونَ على الطرق فَيَأَكلُ كَثِيرًا منهم الكلاب. وبِيعَةُ الدُّور بالخُبْزِ وانْتَجَع الناسُ إلى البَصْرة فكان منهم من ماتَ في الطريق.

وذَكَرَ رحمه الله أن في سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة في جماد الأولى غَلَتِ الأسعارُ ببغداد جِدًا وكَثُرت الأمطارُ حَتى تهدم البناء ومات كَثيرٌ مِن الناس تحتَ الهدم وتَعَطَّلَت أكثرُ المساجد مِن قلة الناس. وَنَقَضَتْ قيمةُ العقار حتى بيع منه بالدرهم ما يُسَاوي الدينار وخَلَت الدُّور وكان الدَّلالُون يُعْطُونَ مَنْ يَسْكنُها أُجْرَةً لَيَحْفَظَها مِن الداخلين إليها ليُخَرِّبُوهَا. وكَثُرَتِ الكَبَسَاتُ مِن اللَّصُوص بالليل حتى كان الناس يَتَحَارسُون وكُثرتِ الفِتنُ مِن كُلِّ جِهة فإِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ. أ. هـ. وفي سنة ثلاثٍ وثلاثين وخمسمائة كانت زَلْزَلَةٌ عظيمةٌ بمدينةِ جَبْرَتْ فماتَ بِسَبَبِهَا مائتا ألف وثلاثون ألفًا وصَار مكانها ماءً أسودَ عَشَرَةَ فَرَاسِخَ فِي مثلها. وزُلْزلَ أَهلُ حَلَب في لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ ثَمانينَ مَرَّة فوضعَ السلطانُ مَحْمُودُ مُكُوسًا كثيرةً على الناس وكَثُرِت الأدعيةُ لَهُ. قال: وفي سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة كانت زلزلةٌ عظيمةٌ بالشام هَلَكَ بسببها خَلْقٌ كثير لا يَعلَمُهم إلا الله. وتَهدَّمَ أكثرُ حَلَب وحَماة وشِيرز وحِمص وكَفَر طَابَ وَحِصْن الأكراد والْمَعَرَّة وقَامِيَة واللاذقِيَّة وأنطاكية وطَرَابُلس. قال: وقال ابنُ الجوزي: وأما قَامِية فَسَاخَت قَلْعَتُهَا، وتل حران انقسم قسمين فأبْدَى نَوَاوِيسَ وبُيوت كثيرة في وسطه. وتَهَدَّمَتْ أَسْوَارُ أكثرِ مُدُنِ الشَّامِ حتى أن مَكْتبًا مِن مدينة حَماة انْهدم على مَن فِيهِ مِنْ الصغار فَهَلَكُوا عن آخِرهم. وفي سنة أربع وعشرين ومائتين زلزلة فرغانة فمات فيها خمسة عشر ألفًا. وفي السنة التي تليها رجفت الأهوازُ وَتَصَدَّعَتِ الجبالُ وهَرَبَ أَهْلُ البلد إلى البحر والسفن ودامت ستة عشر يومًا.

وفي السنة التي تليها مطر أهل تيما مطرًا وبردًا كالبيض فقتل به 370 إنسانًا. وسمع في ذلك صوت يقول: ارحم عبادك، اعف عن عبادك. ونظروا إلى أثر قَدِمٍ طولها ذراعٌ بلا أصابع وعَرْضُهَا شِبْرٌ وبين الخطوتين خمسة أذرع أو ستة. فاتبعوا الصوت فجعلوا يسمعون صوتًا ولا يرون شخصًا. وفي سنة 233 رجفت دمشق رجفة انقضت منها البيوت وسقطت على من فيها فمات خلق كثير. وأنكفأت قرية في الغوطة على أهلها فلم ينج منهم إلا رجل واحد. وزلزلت أنطاكية فمات منها عشرون ألفًا. وفي السنة التي تليها هبت ريح شديدة لم يعهد مثلها فاتصلت نيفًا وخمسين يومًا. وشملت بغداد والبصرة والكوفة وواسط وعبادان والأهواز، ثم ذهبت إلى همدان فأحرقت الزرع، ثم ذهبت إلى الموصل فمنعت الناس من السعي وتعطلت الأسواق، وزلزلت هراة فوقعت الدور. وذكروا أشياء كثيرة غريبة عجيبة يطول ذكرها اقتصرنا منها على هذا الطرف اليسير الذي ربما يكون سببًا للاعتبار والتيقظ والرجوع إلى الله. نسأل الله الحي القيوم العلي العظيم الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد أن يوقظ قلوبنا ويستر عيوبنا ويغفر ذنوبنا ويثبتنا على قوله الثابت في الحياة الدنيا والآخرة إنه سميع قريب على كل شيء قدير. شِعْرًا: صَرَفْتُ إلى رَبِّ الأَنَامِ مَطَالِبِي ... وَوَجَّهْتُ وَجْهِي نَحْوَهُ وَمَآرِبِي إلى الْمَلِكِ الأَعْلَى الذِي لَيْسَ فَوْقَهُ ... مَلِيكٌ يُرَجَّى سَيْبُهُ في الْمَتَاعِبِ إلى الصَّمَدِ البَرِّ الذِي فَاضَ جُودُهُ ... وَعَمَّ الوَرَى طُرًا بِجَزْلِ الْمَوَاهِبِ مُقِيلفْي إِذَا زَلَّتْ بِي النَّعْلُ عَاثِرًا ... وَأَسْمَحَ غَفَّارٍ وَأَكْرَمْ وَاهِبِ فَمَا زَالَ يُولِينِي الْجَمِيلَ تَلَطُّفًا ... وَيَدْفَعُ عَنِّي فِي صُدُورِ النَّوَائِبِ وَيَرْزُقْنِي طِفْلاً وَكَهْلاً وَقَبْلَهَا ... جَنِينًا وَيَحْمِينِي وِبِيَّ الْمَكَاسِبِ

إِذَا أَغْلَقَ الأَمْلاكُ دُونِي قُصُورَهُمْ ... وَنَهْنَهَ عَنْ غِشيانِهِمْ زَخْرُ حَاجِبِ فَزِعْتُ إلى بَابِ الْمُهَيمِنِ طَارِقًا ... مُدِلاً أُنَادِي باسْمِهِ غَيْرَ هَائِبِ فَلَمْ أَلَفِ حُجَّابًا وَلَمْ أَخْشَ مِنْعَةً ... وَلَوْ كَانَ سُؤلِي فَوْقَ هَامِ الكَوَاكِبِ كَرِيمٌ يُلَبِّي عَبْدَهُ كُلَّمَا دَعَا ... نَهَارًا وَلَيْلاً في الدُّجَى وَالغَيَاهِبِ سَأسْألَهُ مَا شِئْتُ إِنَّ يَمِينَهُ ... تَسِحُّ دِفَاقًا بِاللُّهَيِّ وَالرَّغَائِبِ فَحَسْبِي رَبِّي الْهَرَّاهِزِ مَلْجًأ ... وَحِرْزًا إِذَا خِيفَتْ سِهَامُ النَّوَائِبِ اللَّهُمَّ انْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا وَعَلِّمْنَا مَا يَنْفَعْنَا وَوَفِّقْنَا لِلْعَمَلِ بِمَا فَهَّمْتَنَا اللَّهُمَّ إِنْ كُنَّا مُقَصِّرينَ فِي حِفْظِ حَقِّكَ وَالوَفَاءِ بِعَهْدِكَ فَأَنْتَ تَعْلَمُ صِدْقَنَا فِي رَجَاءِ رِفْدِكَ، وَخَالِص وُدِّكَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ أَعْلَمُ بِنَا مِنَّا فَبِكَمَالِ جُودِكَ تَجَاوَزْ عَنَّا، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ. اللَّهُمَّ وَفِقنا لِمَا وَفَّقْتَ إِلَيْهِ القَوْم وأيْقِظْنَا مِن سِنةِ الغَفْلَةِ وَالنَّوْم وَارزِقْنَا الاستعدادَ لذَلِكَ اليَوْم الذي يَرْبَحُ فيه المُتَّقُونَ، اللَّهُمَّ وعامِلنَا بإِحْسَانِكَ وَجُدْ علينا بِفَضْلِكَ وامْتِنَانِكَ واجعلنا مِن عِبادِكَ الذين لا خَوفٌ عليهم ولا هُمْ يَحْزَنُون، اللَّهُمَّ ارحَمْ ذُلَّنَا بَيْنَ يَدَيْكَ واجعلْ رَغْبَتَنَا فِيما لَدَيْكَ، ولا تَحرِمِنَا بِذُنوبنا، ولا تَطْرُدْنَا بعُيوبِنا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْياءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فصل) وقَالَ الشَّيخُ مُحَمَّدٌ بن إبْرَاهِيمَ في رَدّه على مُحَكِّمِي القَوَانِين: إنَّ مِنَ الكُفْر الأكْبَرَ الْمُسْتَبِينِ تَنْزيلُ القَانُونِ اللَّعِينِ مَنْزِلَةَ مَا نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِ محمدِ - صلى الله عليه وسلم - لِيَكُونَ مِنْ الْمُنْذِرِين بلسانٍ عَربي مبينٍ في الحُكْمِ بِهِ بَيْنَ العالمين والرَّدِ إلَيْهِ عِنْدَ تَنَازُع المتنازعين مَنَاقَضَةً وَمُعَانَدَةً لِقَوْلِ الله عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} .

وَقَدْ نَفى اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعالى الإيمانَ عَنْ مَنْ لَمْ يُحَكِّمُ النَّبِيَ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهِمْ نَفْيًا مُؤكَّدًا بِتَكَرُّرِ أَدَاةَ النَّفْيِ وَبِالقَسَم قالَ تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} . قَالَ: وَتَأَمَّلْ مَا في الآية الأولى وَهِيَ قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} الآية، كَيْفَ ذَكَرَ النَّكِرَةَ وَهِيَ قَوْلُه: {شَيْءٍ} في سِيَاق الشَّرطِ وَهو قوله جَلَّ شَأْنُهُ: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ} المفيدُ العُمُومِ فِيمَا يُتَصَوَّرُ التَّنَازُع فيه جِنْسًا وَقَدْرًا. ثُمَّ تَأَمَّلْ كَيْفَ جَعَلَ ذَلِكَ شَرْطًا في حُصُولِ الإيمانِ بِاللهِ واليومِ الآخر بقولهِ: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} ثُمَّ قَالَ جَلَّ شَأْنه: {ذَلِكَ خَيْرٌ} فَشَيْءُ يُطْلِقُ اللهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَيْرٌ لا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ شَرٌّ أَبَدًا بَلْ هُوَ خَيْرٌ مَحْضٌ عَاجِلاً وَآجِلاً. ثُمَّ قَالَ: {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} ، أي: عَاقِبةً في الدُّنْيَا والآخرةِ فَيُفِيدُ أَنَّ الرَّدَ إلى غَيْرَ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ التَّنَازُع شَرٌّ مَحْضٌ وَأسْوأ عَاقِبةً في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ عَكْسَ مَا يَقُولُهُ الْمُنَافِقُونَ: {إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} وَقَوْلِهِمْ: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} . وَلِهَذَا رَدَّ اللهُ عليهم قَائِلاً: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} وَعَكْسُ مَا يَقُولُهُ القَانُونِيُّونَ مِنْ حُكْمِهِم عَلَى القَانُونِ بِحَاجَة العَالَم بَلْ ضَرُورَتِهم إلى التَّحَاكُمْ إِلَيْهِ وَهَذَا سُوءُ ظَن صِرْفٌ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - وَمَحْضُ اسْتنِقاصٍ لِبَيان الله ورَسوله والحكم عليه بعدم الكِفَايَةِ للنَّاسِ عِنْدَ التَّنَازِعُ وَسُوءِ العَاقِبَةِ في الدُّنْيَا والآخِرَةِ إِن هَذَا لازِمٌ لَهُمْ. قالَ: وَقَدْ نَفَى اللهُ الإيمانَ عَنْ مَنْ أَرَادَ التحاكُم إلى غَيرِ مَا جَاء بهِ الرَّسولُ - صلى الله عليه وسلم -

مِنْ المنافقينَ كَمَا قالَ تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً} . فإنَّ قَوْله: (يَزْعُمُونَ تَكْذِيبِ لَهُمْ فِيمَا ادَّعَوهُ مِنْ الإيمَانِ) فَإِنَّهُ لا يَجْتَمِعُ التَّحَاكُمِ إلى غَيرِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ الإِيمَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَصْلاً بَلْ أَحَدهُمَا يُنَافِي الآخَرَ وَالطَّاغُوتُ مُشْتَقٌ مِنْ الطُّغْيَانِ وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الحَدِّ فَكُلُّ مَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ حَاكَمَ إلَى غَيْرِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَقَدْ حَكَمَ بالطَّاغُوتِ وَحَاكَمَ إِلَيْهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ حَقَّ كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَكُونَ إلى خِلافِهِ فَقَدْ طَغَى وَجَاوَزَ حَدَّهُ حُكْمًا أَوْ تَحْكِيمًا فَصَارَ بِذَلِكَ طَاغُوتًا لِتَجَاوُزِهِ حَدّه. قَالْ: وَتَأَمَّلْ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} تَعْرِفُ مِنْهُن مُعَاندةَ القَانُونِيّينَ وَإِرَادَتَهُمْ خِلافَ مُرادِ اللهِ مِنْهُم حَوْلَ هَذَا الصَّدَدِ فَالْمُرَادُ مِنْهُمْ شَرْعًا وَالذِي تُعِبِّدوا بِهِ هُوَ الكُفْرُ بالطَّاغِوتِ لا تَحْكِيمُهْ {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} . ثُمَّ تَأَمَّلْ قَوْلِهُ: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً} كَيْفَ دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ ضَلالٌ وَهَؤلاِء القَانُونِيُّون يَرْوَنَه مِن الْهُدى كَمَا دَلّتِ الآيَةُ على أَنَّهُ مِنْ إِرَادَةِ الشَّيْطَانِ هِيَ عَكْسُ مَا يَتَصَوَّرَهُ القَانُونِيُّونَ فَتَكُونُ عَلَى زَعمِهم مُرَادَاتُ الشَّيْطَانِ هِيَ صَلاحُ الإِنْسَانَ وَمُرَادُ الرَّحْمَنِ وَمَا بَعَثَ بِهِ سَيِّدَ وَلَدِ عَدْنَانَ مَعْزولاً مِنْ هَذَا الوصفِ وَمُنَحَّىً عن هَذَا الشَّأن. وَقَدْ قَالَ تَعَالى مُنْكِرًا عَلَى هَذَا الضَّرْبَ مِنَ النَّاسِ وَمُقَرِّرًا ابْتِغَاءَهم أَحْكَامَ الْجَاهِليةِ وَمُوَضِّحًا أَنَّهُ لا حُكْمَ أَحْسَنُ مِنْ حُكمِهِ: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الآيةُ الكريمة وَكَيفَ دَلَّتْ أَنْ قِسْمَةَ الْحُكْمِ ثُنَائِيَّةْ وَأَنَّهُ لَيْسَ

بَعْدَ حَكْمِ اللهِ تَعَالى إلا حُكْمَ الْجَاهِليةَ الْمُوضِّحُ أَنَّ القَانُونِيُّينَ في زُمْرَةِ أَهْلِ الْجَاهِلَيةَ شَاءوُا أَمْ أَبَوا بَلْ هُمْ أَسْوَأُ حَالاً مِنْهُمْ وَأَكْذَبُ مِنْهُم مَقَالاً ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِليةِ لا تَنَافُسَ لَدَيْهم حَولَ هَذَا الصَّدَدْ. وَأَمَّا القَانُونِيُّونَ فَمُتَنَاقِضُونَ حَيْثُ يَزْعُمُونَ الإِيمَانَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسولُ - صلى الله عليه وسلم - وَيُنَاقِضُونَ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً، وَقَدْ قَالَ اللهُ في أمْثَالِ هَؤُلاءِ: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} . ثُمَّ انْظُر كَيْفَ رَدَّتْ هَذِهِ الآيَةُ الكريمةُ على القَانُونِيَّينَ ما زَعَمُوُهُ مِنْ حُسْنِ زُبَالةِ أَذْهَانِهِمْ وَنُحَاتَةِ أَفْكَارِهِمْ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . قَال الحَافِظُ بن كَثِيرٍ في تَفْسِيرِ هَذِين الآية: يُنْكِرُ تَعَالى عَلى مَنْ خَرَجَ مِنْ حُكْمِ اللهِ الْمُشْتَمِلُ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ النَّاهِي عَنْ كُلِّ شَرٍّ وَعَدلَ إلى مَا سِوَاهُ في الآرَاءِ وَالأَهْوَاءِ وَالاصْطِلاحَاتِ التِي وَضَعَها الرِّجَالُ بِلا مُسْتَنَدٍ مِنْ شَرِيعَةِ اللهِ كَمَا كَانَ أَهْلُ الجاهِليةَ يَحْكُمونَ بِهِ مِنَ الضَّلالاتِ وَالْجَهَالاتِ مِمَّا يَضَعُونَهُ بآرَائِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ وَكَمَا يَحْكُمُ بِهِ التَّتَارُ مِنْ السِّيَاسَاتِ الْمَلَكِيّةِ التِي يُقَدّمُونَها عَلَى الْحُكْمِ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّة رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم -. فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ يَجِبُ قِتَالَهُ حَتَّى يَرْجَعُ إلى حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ فَلا يُحَكِّمُ سِوَاهُ في قَلِيلٍ وَلا كَثيرٍ قَالَ تَعَالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} وَعَنْ حُكْمِ اللهِ يَعْدِلُونُ {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ، أيْ: وَمَنَ أَعْدَلُ مِن اللهِ في حُكْمِهِ لِمَنْ عَقَلَ مِنْ اللهِ شَرْعَهُ وآمَنَ بِهِ وَأَيقَنَ وَعَلِمَ أَنَّ اللهَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمُ مِنْ الوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا فَإِنَّهُ تَعَالى العَالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ القَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ العَادِلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ. وَقَالَ تَعَالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ،

{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . فَانْظُرْ كَيْفَ سَجَّلَ تَعَالى عَلَى الحَاكِمِينَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهِ بالْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالفِسْقِ وَمِنَ الْمُمْتَنَعِ أَنْ يُسَمِّي اللهُ سُبْحَانَهُ الحاكِمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ كَافِرًا وَلا يَكُونُ كَافِرًا بَلْ هُوَ كَافر مُطْلَقًا إِمَّا كُفْرُ عَمَلٍ وَإِمَّا كُفْرُ اعْتِقَاد. وَمَا جَاءَ عَنْ ابنِ عَبَّاسٍ في تَفْسِير هَذِهِ الآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الحَاكِمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ كَافِرٌ إِمَّا كُفْرُ اعْتِقَادٍ نَاقِلٍ عَنْ الْمِلَّةِ وَإِمَّا كُفْرُ عَمَلٍ لا يَنْقُلِ عَنْ الْمِلَّةِ. قَالَ: وَهَذِهِ الْمَحَاكِمُ الآن في كَثِيرٍ من أَمْصَارِ الإسْلامِ مُهَيَّأةٌ مَفْتُوحَةُ الأبْوَابِ وَالنَّاسُ إليها أَسْرَابٍ إثْرَ أَسْرَابٍ يَحْكُم حُكَّامُهَا بَيْنَهُمْ فِيمَا يُخَالِف حُكْمَ الكِتَابِ وَالسُّنةِ مِنْ أَحْكَامِ ذَلِكَ القَانُونِ وَتُلْزِمُهُمْ بِهِ وَتَحْتمهُ عَلَيْهم فأيُّ كُفْرٍ فَوقَ هَذا الكُفْرِ وَأيُّ مُنَاقَضَةٍ لِلشَّهَادَةِ بَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسَولُ الله بعدَ هَذِهِ الْمُنَاقَضَةِ نَسْأَلُ الله العِصْمَةَ عَنْ جَمِيعِ الْمَعَاصِي وَأَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى قَوْلِهِ الثَّابِتُ في الحياة الدُّنْيَا وفي الآخِرَةِ. أهـ. وَمِمَّا قِيلَ فِي الحَثِّ عَلَى التَمَسُّكِ بِالقُرآنِ الكَرِيمِ مَا قَالَهُ الصَّنْعَاني: وَلَيْسَ اغْتِرَابُ الدِّينِ إلا كَمَا تَرَى ... فَهَلْ بَعْدَ هَذا الاغْتِرَابُ إِيَابُ وَلَمْ يَبْقَ لِلرَّاجِي سَلامَةَ دَينِهِ ... سِوَى عُزْلَةٍ فِيهَا الْجَلِيسُ كِتَابُ كِتَابٌ حَوَى كُلَّ العُلومِ وَكُلَّمَا ... حَوَاهُ مِنْ العلمِ الشَّريفِ صَوابُ فَإِنْ رُمْتَ تَارِيخًا رَأَيْتُ عَجَائِبًا ... تَرَى آدَماً إذْ كَانَ وَهُوَ تُرَابُ وَلاقِيتَ هَابِيلاً قَتِيلَ شَقِيقَهِ ... يُوَارِيهِ لَمَّا أَنْ رَآهُ غُرَابُ وَتَنْظُرُ نُوحًا وَهُوَ في الفُلْكِ قَدْ طَغَى ... عَلَى الأَرْضِ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ عُبَابُ وَإِنْ شِئْتَ كُلَّ الأَنْبِيَاءِ وَقَوْمَهُمْ ... وما قَالَ كُلُّ مِنْهُمُوا وَأَجَابُوا وَجَنَّاتِ عَدْنٍ حُورَهَا وَنَعِيمَا ... وَنَارًا بِهَا لِلْمُشْرِكِينِ عَذَابُ

فَتِلْكَ لأَرْبَابِ التُّقَاءِ وَهَذِهِ ... لِكُلِّ شَقِي قَدْ حَوَاه عِقَابُ وَإِنْ تُرِدِ الوَعْظَ الذِي إِنْ عَقَلْتَه ... فَإِنَّ دُموعَ العَينِ عَنْهُ جَوَابُ تَجِدْهُ وَمَا تَهْوَاهُ مِنْ كُلِّ مَشْرَبٍ ... وَلِلرُّوحَ مِنْهُ مَطْعَمٌ وَشَرَابُ وَإِنْ رُمْتَ إبْرَازَ الأَدِلَّةِ في الذِي ... تُرِيدُ فَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ تُجَابُ تَدُلُّ عَلَى التَّوْحِيدِ فِيهِ قَوَاطِعٌ ... بِهَا قُطِّعَتْ لِلْمُلْحِدِينَ رِقَابُ وَمَا مَطْلَبٌ إِلا وَفِيهِ دَلِيلُهُ ... وَلَيْسَ عَلَيْهِ لِلذَّكِي حِجَابُ وَفِيهِ الدَّوَاءُ مِنْ كُلَّ دَاءٍ فَثِقْ بِهِ ... فَوَالله ما عَنْهُ يَنُوبُ كِتَابُ يُرِيكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَغَيْرُه ... مَفَاوِزُ جَهْلٍ كُلَّهَا وَشِعَابُ يَزِيدُ عَلى مَرِّ الجَدِيدِينِ جِدَّةً ... فَأَلْفَاظُهُ مَهْمَا تَلَوتَ عَذَابُ وَآيَاتِهِ فِي كُلِّ حِينٍ طَرِيَّةٌ ... وَتَبْلَغُ أَقْصَى العُمْرِ وَهِيَ كِعَابُ وَفِيهِ هُدَىً لِلْعَالَمِينَ وَرَحْمَةٌ ... وَفِيهِ عُلُومٌ جَمَّةٌ وَثَوَابُ اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا لِكِتَابِكَ مِنْ التَّالِينِ وَلكَ بِهِ مِنْ العاملينَ وَبِمَا صَرَّفْتَ فِيهِ مِنْ الآيات مُنْتَفِعينِ وَإلى لَذِيذِ خِطَابِه مُسْتَمِعينَ وَلأوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ خَاضِعين وَالأَعْمَالِ مُخْلِصِين، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) فِي فَضَائِلِ ذِكْرِ اللهِ يُسْتَحَبُّ الإِكْثَارُ مِنْ ذِكْرِ اللهِ تَعَالى فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَلاسَيَّمَا في رَمَضَانَ قَالَ اللهُ تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} ، وقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} ، وقال: {وَاذْكُرُواْ اللهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} ، وقال: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} ، وقال: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} الآية، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ} . وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «كَلِمَتَانِ

خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. شِعْرًا: اذْكُرْ إِلَه العَالَمِينَ جَهْرًا ... فَإِنْ خَشِيتَ سُمْعَةً فَسِرَّا وَاخْتَرْ مِنْ الأَذْكَارِ مَا قَدْ أُثِرَا ... عن النَّبِيّ الْمُصْطَفَى وَاشْتَهَرَا وَادْعُ لَدَى الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ ... بِمَا دَعَى الْمُخْتَارُ مِنْ دُعَاءِ فَكُلُ مَأْثُورٍ مِنْ الأَذْكَارِ ... أَوْ مِنْ دُعَاءٍ صَحَّ في الأخبارِ فَاحْرِصْ عليه والْزَمْ الْمُتَابَعَةْ ... فَإِنَّها مِنْ الْمَزَايَا النَّافعَةْ وَسِرْ عَلَى نَهْجِ النَّبِيّ وَسَيْرِهِ ... وَلا تُتَابِعْ مِنْ رَضِي بِغَيْرِهِ وَعَنْهُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لأَنْ أَقُولُ سُبْحَانَ اللهِ وَالحمدُ للهِ، وَلا إله إلا الله، واللهُ أَكْبَرْ، أَحَبَّ إلي مِمَّا طَلَعْت عليهِ الشَّمْسَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وعنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ. فِي كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلةٍ مِائَةَ مَرَّةٍ كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ وَكُتِبَ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِي وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بَأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلاَّ رَجُلٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْهُ» . وقال: «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» . مُتَّفُقٌ عَلَيْهِ. شِعْرًا: ما أَنعَمَ العيشَةَ لَو أَنَّ الفَتى ... يُلْهَمُ تَسْبِيحًا لِخَلاقِ الوَرَى وَقَدْ تَحَلّى بِالسَّخَاءِ والتُّقَى ... لَيَقْتَدِي مَنْ قَصْدُهُ سُبلُ الْهُدَى وَعَنْ أَبِي أَيْوُبِ الأنْصَارِي - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، عَشْرَ مِرَاتٍ كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ» . مُتَّفَقٌّ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِى ذَرٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَلاَ أُخْبِرُكَ بِأَحَبِّ الْكَلاَمِ إِلَى اللَّهِ» ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرْنِي بِأَحَبِّ الْكَلاَمِ إِلَى اللهِ. فَقَالَ: «إِنَّ أَحَبَّ الْكَلاَمِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَبَّحَ اللهَ مِائَةً بِالْغَدَاةِ وَمِائَةً بِالْعَشِيِّ كَانَ كَمَنْ حَجَّ مِائَةَ حَجَّةٍ، وَمَنْ حَمِدَ اللَّهَ مِائَةً بِالْغَدَاةِ وَمِائَةً بِالْعَشِيِّ كَانَ كَمَنْ حَمَلَ عَلَى مِائَةِ فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . أَوْ قَالَ: «غَزَا مِائَةَ غَزْوَةٍ، وَمَنْ هَلَّلَ اللهَ مِائَةً بِالْغَدَاةِ وَمِائَةً بِالْعَشِيِّ كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ مِائَةَ رَقَبَةٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَمَنْ كَبَّرَ اللهَ مِائَةً بِالْغَدَاةِ وَمِائَةً بِالْعَشِيِّ لَمْ يَأْتِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَحَدٌ بِأَكْثَرَ مِمَّا أَتَى بِهِ إِلاَّ مَنْ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أَوْ زَادَ عَلَى مَا قَالَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذي، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَفِي الصَّحِيحَينِ عَنْ عَلِيٌ أَنَّ فَاطِمَةَ أَتَتِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَشْكُو إِلَيْهِ مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِنَ الرَّحَى، وَبَلَغَهَا أَنَّهُ جَاءَ رَقِيقٌ فَلَمْ تُصَادِفْهُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ، فَذَهَبْنَا نَقُومُ فَقَالَ: «عَلَى مَكَانِكُمَا» . فَجَاءَ وَقَعَدَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى بَطْنِي فَقَالَ: «أَلاَ أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَا، إِذَا أَخَذْتُمَا مَضْجِعَكُمَا فَسَبِّحَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ، فَهْوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ» . وَجَاءَ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ وَقَرَأَ ثَلاَثَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى يُمْسِي وَإِنْ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَاتَ شَهِيدًا، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِى كَانَ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ» . حَسَّنَهُ التِّرِمذي وغرَّبه. شِعْرًا: الذّكْرُ بالْمَأثِور نِعْمَ القُرْبَةَ ... وَرُتْبَةُ الذَّاكِرِ أَعْلَى رُتْبَةْ لأَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الرَّغَائِبِ ... كَمَا عَلِمْتَ بَعْدَ فِعْلِ الوَاجِبِ

وَأَفْضَلُ الذِّكْر كَلامُ الله ... كَمَا أَتَانَا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَبَعْدُ هَذَا الذِّكِرِ بالْمَأثُورِ ... عَنِ النَّبِيّ الْمُصْطَفَى البَشِيرِ كَالْحَمْدِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ ... كَمَا أَتَى فِي الْخَبَر الْمَشْهُورِ أَمَا لَدَى الإِطْلاقِ فَالتَّهْلِيلِ ... أَفْضَلُ مَا قَدْ قُلْتَ أَوْ تَقُولُ كَذَاكَ الاسْتِغْفَار ثُمَّ الْحَوْقَلَة ... كَمَا رَوَتْهُ السُّنَّةُ الْمُفَضَّلَةْ فاذْكُرْ إِلهَ العَالَمِينَ دَائِمًا ... وَدُمْ عَلَى أَذْكَارِهِ مُلازِمًا وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. (فَصْلٌ) وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ: (جُمْدَانُ) فَقَالَ: «سِيرُوا هَذَا جُمْدَانُ سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ» . قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. عَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللهِ: «يَقُولُ اللهُ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. عَلَيكَ بِذِكرِ اللَهِ في كُلِّ سَاعَةٍ ... تجد نَفْعَهُ يوم الجزاءِ مَوَفَّرَا وَعَنْ أَبِى مُوسَى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَا عَبْدَ اللهِ ابْنَ قَيْسٍ أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

شِعْرًا: لَو قيلَ لي ما تَمَنّى قُلتُ مُبْتَدِرًا ... دَوَامَ ذِكْرً لِخلاقَ السَّمَاوَاتِ وَأَن أُلازِم في الدُنيا لِطَاعَتِهِ ... وَأنْ أَوَفّقْ لإِتْقَانِ الْعِبَادَاتِ آخر: وَعُدَّ مِن الرحمن فَضْلاً وَنِعْمَةً ... عَلَيْكَ إِذَا مَا جُزْتَ عُمْرَ مُحَمَّدِ وَأَكْثِرْ مِنْ التَّهْلِيلِ في كُلّ سَاعَةٍ ... فَإِنَّك لا تَدْرِي مَتَى العُمْرُ يَنْفَدُ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الله تعالى يَقُولُ: أَنَا مَعَ عَبْدِي إِذَا ذَكَرَنِي، وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ» . رَوَاهُ البُخَارِي. وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلاَمِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ. قَالَ: «لاَ يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللهِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِي وَحَسَّنَهُ، وابن ماجة، وصححه ابن حبان، والحاكم. وَرَوَى عُمَرُ بن الخطابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ذَاكِرُ الله في رَمَضَانَ مَغْفُورٌ لَهُ، وسائلُ الله فِيهِ لا يَخِيبُ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِي في (الأَوْسَطِ) ، والبيهقي، والأصبهاني. وَعَنْ أَبِي سَعِيدِ الخدري - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «البَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ: لا إِلهَ إلا اللهُ، وسبحانُ اللهِ، واللهُ أكْبَرُ، والْحَمْدُ للهِ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلا باللهِ» . أخرجه النسائي، وصححه ابن حبان، والحاكم. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَلا أَخبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكَمْ مِنْ إنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالوَرَقِ، وَخَيْرٌ لَكم مِنْ أَنْ تلْقُوا عَدُوَّكُم فَتَضْرُبُوا أَعْنَاقَكُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُْم» ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: «ذِكُرُ اللهِ» . وعَنْ عَبْدِ الله بن بُسْرٍ قال: جَاءَ أَعْرَابِي إلى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أَيُّ الناس خَيْرٌ؟ فَقَالَ: «طُوبَى لِمَنْ طَالَ عُمْرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ» . قَالَ: يَا رَسُولَ الله أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَنْ تُفَارِقَ الدُّنْيَا وَلِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْر الله» .

فصل في فضل ذكر الله وما ورد في ذلك من الأحاديث

شِعْرًا: إِذَا أَلْهِمَ الإنْسَان ذِكرا لِرَّبِهِ ... وَكَانَ بَأَرْكَانَ العِبَادَاتِ آتِيَا فَذَاكَ الفَتَى لا مَنْ يَكُونَ مُضَيِّعًا ... لأَمْرِ الذي فَوْقَ السَّمَاوَاتِ عَالِيَا آخر: فَوَائِدُ في ذِكْرِ الإِلَهِ كَثِيرَةٌ ... وَإِنْ كَانَ مَنْ يَعْبَأ بِهِنَّ قَلِيلُ فَكُنْ يَا أَخَا اللبُّ الكَرِيمِ مُحَافِظًا ... عَلَيْهَا تَفُزْ بَالأجْرِ وَهُوَ جَزِيلُ آخر: ... لا يَبْلَغُ الْمَجْدَ أَقْوَامٌ وَإِنْ كَرَمُوا ... حَتَّى يُطِعُوا لِخَلاقِ السَّمَاوَاتِ وَيَسْتَقِيمُوَا عَلَى مَا يَرْتَضِيهِ لَهُمْ ... وَيُكْثِرُوا ذِكْرَهُ في كُلِّ أَوْقَاتِ وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. (فَصْلٌ) : قال ابنُ القَيم رحِمه اللهُ: قراءة القُرْآنِ أفضلُ مِن الذِّكْرُ وَالذِّكْرُ أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ، هَذَا مِنْ حَيْثُ النَّظَرِ لِكُلِّ مِنْهُمَا مُجَرَّدًا وَقَدْ يَعْرُضُ لِلْمَفْضُولِ مَا يَجْعَلَهُ أَوْلَى بَلْ يُعَيَّنُهُ فَلا يَجُوزُ أَنْ يَعْدَلَ عَنْه إلى الفَاضِلِ وهذَا كَالتَّسْبِيحِ في الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنَّهُ أَفْضَل مِنْ قِرَاءَةِ القرْآنِ فِيهِمَا بَلْ مَنْهِيٌّ عَنْهَا نَهَي تَحْرِيمٍ أَوْ كَرَاهَةٍ. لما ورد عن ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: كَشَفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - السِّتَارَةَ وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِى بَكْرٍ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلاَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ، أَلاَ وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» . رواه أحمد، ومسلم، والنسائي، وأبو داوُد. وكذا التسبيحُ والتحميدُ في مَحَلِهِمَا أَفْضَلُ من القِرَاءَةِ وَكَذَا التَّشهدُ وَكذلكَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي واهْدِنِي وَعَافِنِي وَارْزُقْنِي بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ أَفْضَلُ من القراءَةِ وكذلك الذكُر عقِبَ السَّلام من الصلاةِ ذِكْرُ التَّهْلِيلِ والتسبيحِ والتكبيرِ والتحميدِ أَفْضَلُ من الاشتغالِ عنه بالقِرَاءَةِ.

وَكَذَلِكَ إِجَابَةُ الْمُؤَذِّنِ وَالقَولُ كَمَا يَقُولُ أَفْضَلُ مِنْ القِرَاءَةِ وَإِنْ كَانَ فَضْلُ القُرْآنِ عَلى كُلِ كَلامٍ كَفَضْلِ اللهِ تَعَالى عَلَى خَلْقِهِ لَكِن لِكُلِ مَقَامٍ مَقَالٍ مَتَى فَاتَ مَقَالَهُ فِيهِ وَعَدَلَ عَنْه إلى غيرِهِ اخْتَلَّتْ الْحَكِمةُ وَفُقِدَتِ الْمَصْلَحَةُ مِنْهُ. عَلَيْكَ بِذِكْرِ الله دَوْمًا فَإِنَّهُ ... بِهِ يَطْمَئِنُّ القَلْبُ فألْزَمْهُ تَسْعَدِ آخر: جَمْعُ الكُتْبِ يُدْرِك مَنْ قَرَاهَا ... مَلالٌ أَوْ فُتُورٌ أَوْ سَآمَةْ سِوَى القُرْآنِ فَافْهَمْ وَاسْتَمِعْ لِي ... وَقَولِ الْمُصْطَفَى يَا ذَا الشَّهَامَةْ وَهَكَذَا الأَذْكَارُ الْمُقَيَّدَةُ بِمَحَالٍ مَخْصُوصَةٍ أَفْضَلُ مِنْ القِرَاءَةِ الْمُطْلَقَةُ، وَالقِرَاءَةُ الْمُطْلَقَةُ أَفْضَلُ مِن الأَذْكَارِ الْمُقَيَّدَةِ بِمَحَالٍ مَخْصُوصَةٍ وَالقِرَاءَةُ الْمُطْلَقَةُ أَفْضَلُ مِن الأَذْكَارِ الْمُطْلَقَةِ، اللَّهُمَّ إِلا أَنْ يَعْرُضَ لِلْعَبْدِ مَا يَجْعَلَ الذِّكْرَ أَوْ الدُّعَاءِ أَنْفَعَ لَهُ مِنْ القُرْآنِ مِثَالُهُ أَنْ يَتَفَكَّرَ في ذُنُوبِهِ فَيُحْدِثُ لَهُ تَوْبَةً مِنْ اسْتِغْفَارٍ أَوْ يَعْرُضُ لَهُ مَا يَخَافُ أذَاهُ مِنْ شَيَاطِين الإنْسِ وَالْجِنِ فَيَعْدِلَ إِلى الأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ التِي تُحَصِّنُهُ وَتَحُوطُه. وَكَذَلِكَ أَيْضًا قَدْ يَعْرِضُ لِلْعَبْدِ حَاجَةٌ ضَرُورِيَّةٌ إِذَا اشْتَغَلَ عَنْ سُؤَالِهَا بِقَرَاءً وَذَكْرٍ لَمْ يَحْضُرْ قَلْبُهُ فِيهَا وَإِذَا أَقْبَلَ عَلَى سُؤَالِهَا وَالدُّعَاءِ إِلَيْهَا اجْتَمَعَ قَلْبُهُ كُلُهُ عَلَى اللهِ تَعَالى وَأَحْدَثَ لَهُ تَضَرُّعًا وَخُشُوعًا وَابْتِهَالاً فَهَذَا قَدْ يَكُونُ اشْتِغَالُهُ بالدُّعَاءِ وَالْحَالَةِ هَذِهِ أَنْفَعُ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ القِرَاءَةِ وَالذِّكِرْ أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ أَجْرًا. شِعْرًا: وَمَن يُنْفِقُ السَّاعَاتِ في ذِكْرِ رَبِّهِ ... يَعِيشُ حَمِيدًا وَهُوَ في الْحَشْرِ مُكْرَمُ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن للهِ مَلائكةٌ يَطُوفُونَ في الطُّرُق يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللهِ تَنَادُوا: هَلِمُّوا إلى حَاجَتِكُمْ. قَالَ: فَيَحُفُونَهُم بأجنِحَتِهِم إلى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَسْأَلُهُم رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلمُ بِهِم مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالَ: يَقُولونَ: يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ

ويُمَجِّدُونَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْن؟ قَالَ: فَيَقُولُون: لا واللهِ ما رَأَوْكَ قَالَ: فَيَقُولُ: كَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي. قَالَ: فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا. قَالَ: فَيَقُولُ: فَمَا يَسْأَلُونَ؟ قَالُوا: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ. قَالَ: فَيَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لا وَاللهِ يَا رَبُّ مَا رَأَوْهَا. قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا. قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا لَكَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً. قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قَالَ: يَقُولُونَ: مِن النارِ. قَالَ: فَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لا واللهِ يَا رَبُّ مَا رَأَوْهَا. قَالَ: يَقُول: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوَا أَشَدَّ فِرَارًا وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً. قَالَ: فَيَقُولُ: فأُشْهِدُكُمْ أَنِّي غَفَرْتُ لَهُمْ. قَالَ: يَقُولُ مَلَكٌ مِنْ الْمَلائِكَةِ: فِيهِمْ فُلانٌ لَيْسَ مِنْهم إِنَّما جَاءَ لِحَاجَةٍ، قَالَ: هُمُ الْجُلَسَاءُ لا يَشْقَى جَلِيسُهُمْ» . وَلِذَلِكَ حَثَّ - صلى الله عليه وسلم - على الْجُلُوسِ في مَجَالِسِ الذِّكْرِ وَشَبَّهَهُ بِرَوْضَةِ الْجَنَّةِ. وَرَوَى التِّرمذُي عَنْ أَنَسِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قال: قال رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا» . قَالُوا: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: «حِلَقُ الذِّكْرِ» . وروى أبو داود عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لاَ يَذْكُرُونَ اللهَ فِيهِ إِلاَّ قَامُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ وَكَانَ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً» . وروى مسلم عَنْ حَنْظَلَةَ بن الربيع الأَسَدِي قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ. قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا تَقُولُ، قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ كَأَنَّا رَأْيَ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا. قَالَ: أَبُو بَكْرٍ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ ذَلك. فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى

رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللهِ نَكُونُ عِنْدَكَ وَتُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ كَأَنَّا رَأْيَ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِى الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِى طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً» . ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. قَالَ أَحَدُ العُلَمَاءِ: إِذَا حَصَلَ الأُنْسِ بِذِكْرِ اللهِ انْقَطَعَ عَنْ ذِكْرِ مَا سِوَى اللهِ ومَا سِوَى الله عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الذِي يُفَارِقُ عِنْدَ الْمَوْتَ فَلا يَبْقَى مَعَهُ في القَبْرِ أَهْلٌ، وَلا مَالٌ، وَلا وَلَدٌ، ولا وِلايَةٌ، وَلا يَبْقَى إِلا عَمَلُهُ الصَّالِحُ ذِكْرُ الله وَمَا وَلاهُ. فَإِنْ كَانَ قَدْ أَنِسَ تَمَتَّعَ بِهِ وَتَلَذَّذَ بِانْقِطَاعِ العَوَائِقِ الصَّارَفَةِ عَنْهُ إِذْ ضَرُورَاتُ الحَاجَاتِ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنْ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ولا يَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ عَائِقٌ فَكَأَنَّهُ جُلِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَحْبُوبِهِ فَعَظُمَتْ غِبْطَتُهُ وَتَخَلَّصَ مِنْ السِّجْنِ الذي كان مَمْنُوعًا بِهِ عَمَّا أُنْسُهُ. وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ فِي رَوْعَتِي أَحْبِبْ مَا أَحْبَبْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ» . أَرَادَ بِهِ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا فَإِنَّ ذَلِكَ يَفْنِى بالموتِ في حَقِّهِ فَكُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ. أهـ. اللَّهُمَّ ألْهِمْنَا مَا أَلْهَمْتَ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ، وَأَيْقِظْنَا مِنْ رُقْدَةِ الغَافِلِينَ إِنَّكَ أَكْرَمُ مُنْعِمٍ وَأَعَزُّ مُعِين، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ الإِيمَانَ هَادِمًا لِلسيئات كَمَا جَعَلْتَ الكُفْرَ عَادِمًا للحَسَنَاتِ وَوَفِّقْنَا للأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ تَوَكَّلَ عَلْيَكَ فَكَفيتَهُ، واسْتَهْدَاكَ فَهَدَيْتَهُ وَدَعَاكَ فَأحَبْتَهُ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(نصيحة) اسْمَعْ يَا مُضَيَّعَ الزَّمَانَ فِيمَا يَنْقُصُ الإِيمَان مُعْرضًا عن الأرباح وَمُتَعَرِضٌ للخُسْران لقد سُرَّ بِفِعْلِكَ الشامِتْ. يَا مَنْ يَفْرحُ بالعِيدِ لِتَحْسِين لِبَاسِهِ، وَيُوقِنُ بالموتِ وما اسْتَعَدَّ لِبَأسهِ ويَغْتَر بإخوانهِ وَأَقْرانِه وَجُلاسِه، وكأنه قد أمِنَ سُرْعَةَ اخْتِلاسِهْ. يَا غَافِلاً قَدْ طُلِبْ، وَيَا مُخَاصِمًا قَد غُلِبْ، ويا واثقًا قد سُلِبْ، إيَّاكَ والدُّنْيَا فما الدُّنْيَا بدَائِمة، لَقَدْ أبانَتْ لِلنَّوَاظِرِ عُيُوبَها وَكَشَفَتْ لِلْبصَائِرِ غُيُوبَها وَعَدَّدَتْ عَلَى المَسَامِهِ ذُنُوبَها، وَمَا مَرَّتْ حتى أَمَرَّتْ مَشْرُوبَهَا. فلذاتُها مِثْلُ لمعَانِ البَرْق وَمُصِيبَتُهَا وَاسِعَةُ الْخَرْق، سَوَّتْ عَوَاقِبُهَا بَيْنَ سُلطانِ الغرب والشرق فما نجا منها ذو عَدَدْ ولا سلم فيها صاحبُ عُدَدْ مَزَّقَت الكُلَّ بكَفِّ البُدَدْ ثم وَلَّتْ فما أَلْوَتْ على أَحَدْ. قال - صلى الله عليه وسلم -: «سبعة يُظِِلِّهُمْ الله في ظِلِّه» منهم: «رجل دَعَتْه امرأةٌ ذاتُ مَنْصِبٍ وجمال فقال: إنِّي أخافُ الله» . اسْمَعْ يَا مَنْ أَجَابَ عَجُوزًا هَتْمَا عَمْيَا صَمًّا جَرْبَا سَودَاءَ شَوهَاء مُقْعَدة على مَزْبَلَةَ ولكن غَلَبَتْ عَليكَ مَحَبَّتُهَا عُرضَتْ على النبي - صلى الله عليه وسلم - بطحاء مكة ذَهَبَا فَأبَى أَنْ يَقْبَلهَا. مَا هذه الدنيا بدَارِ مَسَرَةٍ ... فَتَخَوَّفِي مَكْرًا لَهَا وَخِدَاعَا بَيْنَا الفَتَى فيهَا يُسَرُّ بِنَفْسِهِ ... وَبِمَالِهِ يَسْتَمْتِعُ اسْتِمْتَاعَا حَتَّى سَقَتْهُ مِنْ الْمَنِيَّةِ شَرْبةً ... وَحَمَتْهُ فيه بعدَ ذَاكَ رَضَاعَا فَغَدًا بِمَا كَسَبَتْ يَداهُ رَهِينَةً ... لا يَسْتَطِيعُ لِمَا عَرَتْهُ دِفَاعَا لَوْ كَانَ يَنْطِقُ قال مِنْ تَحْتَ الثرى ... فلْيُحْسِنِ العمَلَ الفَتَى مَا اسْتَطَاعَا اللَّهُمَّ اجْعَلِ الإِيمَانَ هادِمًا لِلسيئات، كَمَا جَعَلْتَ الكُفْرَ هَادِمًا

لِلْحَسَنَاتِ وَوَفِّقْنَا للأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ تَوَكَّلَ عَلَيْكَ فَكَفيْتَهُ واسْتَهْدَاكَ فَهَدَيْتَهُ وَدَعَاكَ فَأجَبْتَهُ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فصل في فوائِدِ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى) قال ابنُ القيم - رحمه اللهُ -: وفي ذِكرِ اللهِ أَكْثَرُ مِنْ مائةِ فَائِدَةٍ يرْضِي الرَّحْمَنَ وَيَطْرُد الشَّيْطَانَ وَيُزِيلُ الْهَمَّ وَيَجْلِبُ الرزقَ وَيَكْسِبُ الْمَهَابَةَ وَالْحَلاوَةَ وَيُورِثُ مَحَبَّةَ اللهِ التي هِيَ رُوحُ الإسْلامِ. وَيُورِثُ الْمَعْرِفَةَ وَالإِنَابَةَ وَالقُرْبَ وَحَيَاةَ القَلْبِ وَذِكْرُ اللهِ لِلْعَبْدِ هُوَ قُوتُ القَلْبِ وَرُوحُهُ وَيَجْلِي صَدَاهُ وَيَحُطُ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ الدَّرَجَاتِ وَيُحْدِثُ الأُنْسَ وَيُزِيلُ الوَحْشَةَ. وَيُذَكِّرُ بِصَاحِبِهِ وَيُنْجِي مِنْ عَذَابِ اللهِ وَيُوجِبُ تَنَزُّلَ السَّكِينَةَ وَغَشَيَانَ الرَّحْمَةِ وَحُفُوفَ الْمَلائِكَةِ بالذاكِرِ وَيَشْغَلُ عن الكَلامِ الضَّارِ وَيُسْعِدُ الذاكِرَ وَيُسْعِدُ بِهِ جَلِيسَهُ مِنَ الْحَسْرَةِ يَوْمِ القِيَامَةِ وَهو مَعَ البُكَاءِ سَبَبُ لإِظلالِ اللهِ العبدَ يَوْمَ الْحَشْرِ الأَكْبَرِ في ظِلِ عَرْشِهِ. وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِعَطَاءِ الله لِلذَّاكِرِ أَفْضَلُ مَا يُعْطِي السَّائِلِينَ، وَأَنَّهُ أَيْسَرُ العِبَادَاتِ وَهُوَ مِنْ أَجَلِّهَا وَأَفْضَلِهَا؛ وَأَنَّهُ غِرَاسُ الْجَنَّةِ، وَأَنَّ العَطَاءَ وَالفضل الذِي رُبِّبَ عليه لم يُرَتَّبْ على غَيْرِهِ، وَأَن دَوَامَ الذِكْرِ لِلرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالى يُوجِبُ الأَمَانَ مِنْ نِسْيَانِهِ الذِي هو سَبَبُ شَقَاءِ العَبْدِ في مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ. شِعْرًا: لا شَيْء مِثْلَ كَلامِ اللهِ تَحْفَظُهُ ... حِفْظًا رَصِينًا وَتَعْمَلْ فِيهِ مُجْتَهِدًا شِعْرًا: لَوْ يَعْلَم العَبْدُ مَا فِي الذِّكْرِ مِنْ شَرَفٍ ... أَمْضَى الْحَيَاةَ بِتَسْبِيحٍ وَتَهْلِيلِ آخر: ... ما أَنعَمَ الْعِيشَةَ لَو أَنَّ الفَتَى ... يُلْهَمْ تَسْبِيحًا لِخَلاقِ الوَرَى

وَأَن الذِكْرَ يُسَيِّرُ العَبْدَ وَهُوُ في فِرَاشِهِ وَفِي سُوقِهِ، وأن الذِكْرَ نُورُ الذَّكِرِ في الدُّنْيَا وَنُورٌ لَهُ في قَبْرِهِ وَنُورٌ لَهُ في مَعَادِهِ وأن في القَلْبِ خَلَّةٌ وَفَاقَةٌ لا يَسُدُهَا شَيْءٌ البَتَّةَ إلا ذِكْرُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَن الذِكْرَ يَجْمَعُ مَا تَفَرَّق عَلَى العَبْدِ مِنْ قَلْبِهِ وَإِرَادَتِهِ وَهُمُومِهِ وَغَرْمِهِ وَالذِّكْرُ يُفَرِّقُ مَا اجْتَمَعَ عليه من الْهُمُومِ وَالغُمُومِ وَالأحزانِ وَالحَسَرَاتِ عَلى مَوْتِ حُظُوظِهِ وَمَطَالِبِه وَيُفَرِّقُ مَا اجْتَمَعَ عَلَى حَرْبِهِ مِنْ جُنْدِ الشَّيْطَانِ. وَأَنْ الذِّكْرَ يُنَبَّهُ القَلْبَ مِنْ نَوْمِهِ وَيُوقِظْهُ، وَالْقَلْبُ إِذَا كَانَ نَائِمًا فَاتَتْهُ الأَرْبَاحُ وَالْمَتَاجِرُ، وَأَن الذِكْرَ شَجَرَةٌ تُثْمِرُ الْمَعَارِفَ وَالأَحْوَالِ التِي شَمَّرَ إليها السَّالِكُونَ فَلا سَبِيلَ إلى نَيْلِ ثِمَارِهَا إلا مِنْ شَجَرَةَ الذِّكْرِ. وَأَنَّ الذَّاكِرَ قَرِيبٌ مِنْ مَذْكُورِهِ وَمَذْكُورِهِ مَعَهُ وَهَذِهِ الْمَعِيَّةُ مَعِيَّةٌ خَاصَةٌ، وَأَنَّ الذكرَ يَعْدِلُ عِتْقَ الرِّقَابِ وَنَفَقَةَ الأَمْوَالِ وَالْحَمْلَ عَلَى الْخَيْلِ في سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنَّ الذِّكْرَ رَأَسُ الشُّكْرِ وَأَنَّ أَكْرَمَ الْخَلْقِ على اللهِ من الْمُتَّقِينَ مَنْ لا يَزَالُ لِسَانُهُ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللهِ. وَأَن في القَلْبِ قَسْوَةً لا يُذِيبُهَا إِلا ذِكْرُ اللهِ تعالى وَإِنّ الذِكْرَ شِفَاءُ القَلْبِ وَدَوَاؤُهُ وَالغَفْلَةَ مَرَضُهُ، وَأَن الذِكْرَ أَصْلُ مَوالاةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنَّهُ مَا اسْتُجْلِبَتْ نِعمُ اللهِ وَاسْتُدْفِعَتْ نِقَمُهُ بِمِثْلِ ذِكرِ اللهِ. شِعْرًا: ... عَلَيْكَ بِذِكْرِ الله في كُلِّ لَحْظَةٍ ... فما خَابَ عَبْدٌ لِلْمُهَيْمِنِ يَذْكُرُ آخر: فَجَالِسْ رِجَالَ العِلْمَ وَاحْفَظْ حَدِيثَهُمْ ... ولاتَكُ للجُهَّالِ يَوْمًا مُوَاخِيَا وَلازِم فَتَىً في كُلِّ وَقْتٍ مُلازِمٌ ... لِذِكْرِ الذِي فَوْقَ السَّمَاوَاتِ عَالِيَا لَعَلَّكَ أَنْ تَعْتَادَ لِلذِّكْرِ مِثْلَهُ ... فَتُحْرِز غُفْرَانًا وَأَعْلَى الأَمَانَينَا وَأن الذِكْرَ يُوجِبُ صَلاةَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَلائِكَتِهِ عَلَى الذَّاكِرِ وَأَنَّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَسْكُنَ رِيَاضَ الْجَنَّةِ في الدُّنْيَا فَلَيْسَتَوْطِنْ مَجَالِسِ الذِّكْرِ فَإِنَّهَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ،

وَأن مَجَالِسَ الذِّكْرِ مَجَالِسُ الملائِكَة. وَأَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبَاهِي بِالذَّاكِرِينَ مَلائِكَتَهُ وَأَنَّ مُدْمِنَ الذِّكْر يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَهُوَ يَضْحَكُ وَأَن جَمِيعَ الأَعْمَالِ إِنَّمَا شُرِعَتْ إِقَامَةً لِذِكْرِ اللهِ تعالى، وأن أَفْضَلَ أَهْلِ كلِ عَمَلٍ أَكْثَرُهُمْ فِيهِ ذِكْرًا للهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَفْضَلُ الصُّوَامِ أَكْثَرُهُمْ ذِكْرًا للهِ عَزَّ وَجَلَّ. وأنَّ ذِكْرَ اللهِ يُسَهِّلُ الصَّعْبَ وَيُيَسِرُ العَسِيرَ وَيُخَفَّفَ الْمَشَاقَ، وَأَنَّ ذِكْرَ اللهِ يَذْهَبُ عَنْ القلبِ مَخَاوِفَهُ كُلَّهَا، وَلَهُ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ في حُصُولِ الأَمْنِ، وَأَن في الاشتغالِ بالذِكر اشْتِغَالاً عَنْ الكلام البَاطِلِ مِنْ الغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَاللَّغْوِ، وَأَنَّ عُمَّالَ الآخِرَةِ كُلُهُم في مَضْمَارِ السِّبَاقِ وَالذَّاكِرُونَ أَسْبَقُهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَضْمَارِ وَلكِن الفَتَرَةُ وَالغُبَارُ يَمْنَعَانِ مِنْ رُوْيَةِ سَبْقِهِم. فَإِذَا انْجَلَى الغُبَارُ وَانْكَشَفَ رَآهُمْ النَّاسُ، وَقَدْ حَازُوا قَصَبَ السَّبْقِ وَأَنْ الذِّكْرَ سَبَبٌ لِتَصْدِيقِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ عَبْدَهُ. فَإِنَّهُ أَخْبَرَ عن اللهِ بأَوْصَافِ كَمَالِهِ ونُعُوتِ جَلالِهِ فَإِذَا أَخْبَرَ بِهَا الْعَبْدُ صَدَّقَهُ رَبُّهُ وَمَنْ صَدَّقَهُ اللهُ لَمْ يُحْشَرَ مَعَ الكَاذِبِينَ وَرُجِي لَهُ أَنْ يُحْشَرَ مَعَ الصَّادِقِينَ. شعرًا: وَدَاوِمْ وَلازِمْ قَرْعَ بابٍ مُؤَمِّلاً ... فَمَا خَيَّبَ الْمَوْلَى رَجَاءَ مُؤَمَّلِ وَصَابِرْ فَمَا نَالَ العُلا غَيْرَ صَابِرٍ ... وَقُلْ وَاعِظًَا لِلنَّفْسِ عِنْدَ التَّمَلْمُلِ مَعَ الصَّبْرِ إحْدَى الْحُسْنَيين مُنَاكِ أَوْ ... مُنَايَا كِرَامِ فَاصْبِري وَتَحَمَّلِ وَدَاوِ لِسُقْمِ القَلْبِ واعْمُرْ خَرَابَهُ ... بِذِكْرِ الذي نَعْمَاهُ لِلْخَلْقِ تَشْمَلُ آخر: لَوْ يَعْلَم النَّاسُ مَا في الذِّكرِ مِنْ شَرَفٍ ... لَمْ يُلْهِهِمْ عَنْهُ تَجْمِيعُ الدَّنَانِيرِ وَلَمْ يُبَالُوا بَأَوْرَاقٍ وَلا ذَهَبٍ ... وَلَوْ تَحْصَّل آلافُ القَنَاطِيرِ اللَّهُمَّ ألْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لِلْقِيَامِ بِحَقِّكَ وَبَارِكْ لَنَا فِي الْحلال مِنْ رِزْقَكَ وَلا تَفْضَحْنَا بَيْنَ خَلْقِكَ يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلَ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ يَا قَاضِيَ

الْحَاجَاتِ وَمُجِيب الدّعَواتِ هَبْ لَنَا مَا سَأَلْنَاهُ وَحَقِّقْ رَجَاءَنَا فِيمَا تَمَنَّيْنَاهُ يَا مِنْ يَمْلِكُ حَوائِجَ السَّائِلين وَيَعْلَمُ مَا فِي ضَمَائِر الصَّامِتِينَ أَذِقْنَا بِرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةَ مَغْفِرَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. فَصْلٌ وَمِنُ فَوَائِد الذِّكْر أَيْضًا مَا ذَكَرَهُ ابنُ القَيِّم رَحِمَهُ اللهَ: أَنَّ دُورَ الْجَنَّةِ تُبْنَى بالذِّكْرِ، فَإِذَا أَمْسَكَ الذَّاكِرُ عَنْ الذِّكْرِ أَمْسَكت الملائِكَةُ عن البنَاء، وَأنَّ الذِكْرَ سَدٌّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ جَهَنَّمَ فَإِذَا كَانَتْ لَهُ إلى جَهَنَّمَ طريقُ عَمَلٍ مِن الأَعْمَالِ، كان الذِكْرُ سَدًّا في تِلْكَ الطريقِ، وَأَنَّ الملائِكَةِ تَسْتَغْفِر لِلذَّاكِر كَمَا تَسْتَغْفِرُ لِلتَّائِبِ، وَأَنَّ الْجِبَالَ والقِفَارَ تَتَبَاهَى وَتَسْتَبْشَرُ بِمَنْ يَذْكُر اللهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهَا، وَأَنَّ كَثْرَةَ ذِكْرَ الله عَزَّ وَجَلَّ أمانٌ مِنْ النِّفَاقِ، فإنّ الْمُنَافِقِينَ قَلِيلُوا الذِّكْرِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالى في الْمُنَافِقِينَ: {وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً} وَأَنَّ للذكْرَ مِنْ بَيْنَ الأعمَال لَذَّةً لا يُشْبِهُهَا شَيْءٌ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلعَبْدِ مِنْ ثَوَابِهِ إلا اللَذَّةِ الْحَاصِلَةِ لِلذَّاكِرَ وَأَنَّهُ يَكْسُو الوجْه نَضْرَةً في الدُّنْيَا وَنُورًا في الآخِرَةِ وَأَنْ في دَاوَمَ الذِّكْرِ في الطَّرِيق والبيتِ والْحَضَرِ وَالسَّفَرِ وَالبِقَاعِ تَكْثِيرًا لِشُهُودِ العَبْدِ يومَ القِيَامَةِ فَإِنَّ البُقْعَةَ وَالدَّارَ وَالْجَبَل والأَرْضَ تَشْهَدُ للذَّاكرِ يَوْمَ القيامَة. وَإِنّ الذِّكْرَ يُعْطِي الذَّاكِرَ قُوةً حَتَّى أَنَّهُ لِيفَعَلُ مَعْ الذكْرِ مَا لَمْ يَظنَّ فِعْلَهُ بِدونِهِ قالَ: وَقَدْ شَاهَدتُ من قُوَّةِ شَيْخ الإِسْلامِ ابنِ تَيْمِيَّةَ في سُنَنِه وَكَلامِهِ وَإِقْدَامِهِ وَكِتَابَتَه أمْرًا عَجِيبًا فَكَانَ يَكْتُبُ في اليومِ مِنْ التَّصْنِيفِ ما يَكْتُبُه النَّاسِخُ في جُمْعَةٍ وَأَكْثَرْ. ما دُمْتَ تَقْدِرْ فأكْثِرْ ذِكْرِ خَالِقِنَا ... وَأَدِّ وَاجِبَهُ نَحْوَ العِبَادَاتِ فَسْوَفَ تَنْدَمُ إِنْ فَرطَّتَ في زَمنٍ ... مَا فِيهِ ذِكْرٌ لِخَلاقِ السَّمَاوَاتِ وَقَدْ عَلَّمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ابْنَتَهُ فاطمةَ وعليًّا - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أن يُسَبِّحَا كلّ

لَيْلَةِ إِذَا أَخَذَ مَضَاجِعُهُمَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ، ويَحْمَدَا ثَلاثًا وَثَلاثِين، وَيُكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلاثِين، لَمَّا سَأَلْتُهُ الْخَادِمَ وَشَكَتْ إِلَيْهِ مَا تُقَاسِيهِ مِنْ الطَّحْنِ وَالسَّعْي والْخِدْمَةَ فَعَلَّمَهَا ذَلِكَ، وَقَالَ: «إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادَم» . فَقِيلَ إِنَّ مَنْ دَاوَمَ عَلَى ذَلِكَ وجَد قُوةً في عَمَله مُغْنِيَةً عَنْ خَادِمْ، قَالَ: وَسَمِعْتُ شَيْخَ الإسْلامِ ابنُ تَيْمِيَّةِ - رَحِمَهُ الله تعالى - يَذْكُر أَثَرًا في هَذَا البَابِ، وَيَقُول: إنّ الملائكة لَمَّا أُمِروا بِحَمْلِ العَرْشِ، قَالُوا: يَا رَبَّنَا كَيْفَ نَحْمِلُ عَرْشَكَ وَعَلَيْهِ عَظَمَتُكَ وَجَلالَكْ، فَقَالَ قُولُوا: لا حَوْلَ ولا قوة إلا بالله. فَلَمَّا قَالُوا حَمَلُوهُ حَتَّى رَأَيْتُ ابن أبي الدُّنْيَا قَدْ ذَكَر هَذَا الأَثَر بِعَيْنه عَنْ اللَّيْثِ بن سَعْد عَنْ مُعَاويةِ بن صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مَشْيَخَتُنَا أَنَّهُ بَلَغَهُم أنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ حِين كانَ عَرْشُه على الماءِ حملة العَرْشِ قَالُوا: رَبَّنَا لِمَ خَلَقْتَنَا؟ قَالَ: خَلَقْتُكمْ لِحَمْلِ عَرْشِي. قَالُوا: رَبَّنَا وَمَنْ يَقْوَى عَلَى حَمْلِ عَرْشِكَ وَعَلْيِهِ عَظَمَتُكَ وَجَلالُكَ وَوَقَارِكَ؟ قَالَ: لِذَلِكَ خَلقْتكم، فَأَعادُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ مِرَارًا فَقَالَ: قُولُوا: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلا بالله فَحَمَلُوه. قَالَ: وَهَذِهِ الكَلِمَةُ لَهَا تَأْثِيرٌ عَجِيب في مُعَانَاةِ الأَشْغَالِ الصَّعْبَةِ وَتَحَمُّلِ المشاقِّ والدُّخُولِ على الْمُلوكِ وَمَنْ يُخَافُ، وَرُكُوب الأَهْوَالِ، وَلَهَا أَيْضًا تَأْثِير في دَفْعِ الفَقْر، قَالَ: وَمَبْنَى الدِّينِ عَلَى قَاعِدَتَيْنَ: الذِّكْرِ، وَالشُّكْرِ. إِذا رُمْتَ أَنْ تَحْظَى بِعِزِّ بِرِفعَةٍ ... بِدُنْيَاكَ وَالأُخْرَى لِنَيْلَ السَّعَادَةِ عَلَيْكَ بِذِكْرِ الله جَلَّ جَلالُهُ ... وَإِيَّاكَ أَنْ تَغْفُلْ وَلَوْ قَدْرَ لَحْظَةِ آخر: إِلَهُ الوَرَى حَتْمٌ عَلَى النَّاسِ حَمْدُهُ ... لِمَا جَادَ مِنْ فَضْلٍ عَلَيْهِمْ بِلا مَنِ وَلَيْسَ الْمُرادُ بِالذِّكْرِ مُجَرّدَ ذِكْرِ اللسانِ بَلْ الذِّكْرُ لِقَلْبِي وَاللِّسَانِي وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ مَعْرِفَته وَالإيمانَ بِهِ وَبِصِفَاتِ كَمَالِهِ وَنُعُوتِ جَلالِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بأنواعِ اْلَمْدِح وَذَلِكَ لا يَتِمُّ إلا بِتَوْحِيدِهِ فَذِكْرُه الْحَقِيقِي يَسْتَلْزِمُ ذِكْرَ نِعَمِهِ وَآلائِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلى خَلْقِهِ.

وَأَمَّا الشُّكْر فَهُو القِيَامُ بِطَاعَتِهْ فَذِكْرُهُ مُسْتَلْزِمٌ لِمَعْرِفَتِهِ وَشُكْرُهُ مُتَضِمّنٌ لِطَاعَتِهِ وَهُمَا الغَايةُ التِي خُلَقَ لأَجْلِهَا الْجِنُّ وَالإِنْس. (فائدة) : قَالَ الشَّيْخُ تَقِي الدِّين: مَنْ ابْتُلِيَ بِبِلاءِ قَلْبٍ أَزْعَجَهُ فَأَعْظَمُ دَوَاءٍ لَهُ قُوّةُ الالْتِجَاءِ إلى اللهِ وَدَاومُ التَّضَرُّعِ وَالدُّعَاءِ فَإِنْ يَتَعَلمّ الأَدْعِيَةَ الْمَأْثُورَةَ وَيَتَوَخّى الدُّعاءِ في مَظَانِّ الإِجَابَةِ مِثْلُ آخِرَ اللَّيْلِ وَأَوْقَاتِ الآذَانِ وَالإِقَامَةِ وَفِي السُّجُودِ وَإدبارِ الصَّلَواتْ وَيَضُمُّ إِلى ذَلِكَ الاسْتِغْفَارِ. وَلَيْتَخِّذُ وِرْدًا مِنْ الأَذْكَارِ طَرْفَي النَّهَارِ وَعِنْدَ النَّوْمِ وَلِيَصْبِرُ عَلَى مَا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ الْمَوَانِع والصَّوَارِفِ فَإِنَّهُ لا بد أَنْ يُؤَيّدَهُ اللهُ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيَكْتُبَ الإيمَانَ في قَلْبِه وَلِيْحَرْصَ عَلى عَمُودُ الدِّينِ، وَلِيَكُنْ هُجَيْرَاهُ لا حَوْلَ وَلا قِوَّةَ إلا بِاللهِ العَلي العظيمْ. فَإِنَّهُ بِهَا يَحْمِلُ الأَثْقَالَ وَيُكَابِدُ الأَهْوَالَ، وَيَنَالُ رَفِيعَ الأَحْوَالِ وَلا يَسْأَمُ مِن الدُّعَاءِ وَالطَّلَبْ، فَإِنَّ العَبْدَ يُسْتَجَابُ لَهُ مَا لَمْ يَعْجَل وَلِيَعْلَمَ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الفَرَج مَعَ الكَرْب وَأنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرَا، وَلَمْ يَنَلْ أَحَدٌ شَيْئًا مِنْ عَمِيمِ الْخَيْرِ إلا بِالصَّبْرِ والله الموفق. شِعْرًا: ... لا تَقْصُدِ النَّاسَ إِذَا أَدْبَرَتْ ... دُنْيَاكَ وَاقْصُدْ مِنْ جَوَادٍ كَرِيم كيفَ يُرَجى الرِّزْقُ مِنْ عِنْدِ مَنْ ... يَطْلُبُ الرِّزْقَ مِنْ الرَّبِ الرَّحِيم آخر: يا أَيُّهَا الطَّالِبُ مِنْ مِثلِهِ ... رِزْقًا لَهُ جُرْتَ عَنِ الحِكمَةِ لا تَطلُبَنَّ الرِّزْقَ مِنْ طَالِبٍ ... مِثْلُكَ مُحْتَاجُ إِلى الرَّحْمَةِ وَاِرغَبْ إِلى اللهِ الَّذي لَمْ يَزَلْ ... في يَدِهِ النِّعْمَةُ وَالنِّقْمَةِ شِعْرًا: بِذِكْرِكَ يَا مَوْلَى الوَرَى نَتَنَعَّمُ ... وَقَدْ خَابَ قَوْمٌ عَنْ سَبِيلِكَ قَدْ عَمُوا شَهِدْنَا يَقِينًا أَنَّ عِلْمَكُ وَاسِعٌ ... فَأَنْتَ تَرى مَا في القُلوبِ وَتَعْلَمُ إِلَهِي تَحَمَّلْنَا ذُنُوبًا عَظِيمَةً ... أَسَأْنَا وَقَصَّرْنَا وَجُودُكَ أَعْظَمُ

وَحَقِّكَ مَا فِينَا مُسِيءٌ يَسُرُّهُ ... صُدُودُكَ عَنْهُ بَلْ يَخَافُ وَيَنْدَمُ سَكَتْنَا عَنْ الشَّكْوَى حَيَاءً وَهِيبَةً ... وَحَاجَاتُنَا بِالْمُقْتَضَى تَتَكَلَّمُ إِذَا كَانَ ذُلُّ العَبْدِ بالحال نَاطِقًا ... فَهَلْ يَسْتَطِيع الصَّبْرَ عَنْهُ وَيَكْتُمُ إِلَهِي فَجُدْ واصْفَحَ وَأَصْلِحْ قُلُوبَنَا ... فَأَنْتَ الذِي تُولِي الْجَمِيلَ وَتُكْرِمُ وَأَنْتَ الذِي قَرَّبْتَ قَوْمًا فَوَافَقُوا ... وَوَفَّقْتَهُم حَتَّى أَنَابُوا وَأَسْلَمُوا وَقُلْتَ اسْتَقَامُوا مِنَّةً وَتَكَرُّمًا ... فَأَنْتَ الذِي قَوَّمْتَهُم فَتَقَوَّمُوا لَهُمْ في الدُّجَى أُنْسٌ بِذِكْرِكَ دَائِمًا ... فَهُمْ في اللَّيَالِي سَاجِدُونَ وَقُوَّمُ نَظَرْتَ إِلَيْهِمْ نَظْرَةً بِتَعَطُفٍ ... فَعَاشُوا بِهَا وَالنَّاسُ سَكْرَى وَنُوَّمُ لَكَ الْحَمْدُ عَامِلْنَا بِمَا أَنْتَ أَهْلُهُ ... وَسَامِح وَسَلِّمْنَا فَأَنْتَ الْمُسَلِّمُ اللَّهُمَّ ألْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لِمَا وَفِّقْتَ لَهُ الصَّالِحِينَ مِنْ خَلْقِكَ اللَّهُمَّ أحْي قُلُوبًا أَمَاتَهَا البُعْدُ عَنْ بَابِكَ، وَلا تُعَذّبْنَا بَأليمِ عِقَابِكَ يَا أَكْرَمَ مَنْ سَمَحَ بالنَّوَالِ وَجَادَ بَالأفْضَالِ، اللَّهُمَّ أَيْقَضْنَا مِنْ غَفْلَتِنَا بُلطْفِكَ وَإِحْسَانِكَ، وَتَجَاوَزْ عَنْ جَرَائِمِنَا بَعَفْوِكَ وَغُفْرَانِكَ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) : قالَ في حَادِي الأَرْوَاحِ: وَلِمَّا عَلِمَ الْمُوَفّقُونَ مَا خُلِقُوا لَهُ وَمَا إِيجَادُهُمْ لَهُ رَفَعُوا رُؤوسَهُمْ فَإِذَا عَلمُ الْجَنَّةِ قَدْ رُفِعَ لَهُمْ شَمَّرُوا إِلَيْهِ وَإِذَا صِرَاطُهَا الْمُسْتَقِيم قَدْ وَضَحَ لَهُمْ فاسْتَقَامُوا عَلَيْهِ وَرَأَوْا مِنْ أَعْظَمِ الغَبَنِ بَيْعُ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. وَفِي أَبَدٍ لا يَزُول ولا يَنْفَذْ بِصُبَابهِ عَيْشٍ إِنَّمَا هُوَ أَضْغَاثُ أَحْلامٍ أَوْ كَطِيفٍ زَارَ في الْمَنَامِ مَشُوبٍ بِالنَّغْص مَمْزُوجٍ بَالغُصَصِ إِنْ أَضْحَكَ قَلِيلاً أَبْكَى كَثِيرًا وَإِنْ سَرَّ يَوْمًا أحزَنَ شُهُورًا آلامُهُ تَزِيدُ عَلَى لَذّاتِهِ وَأَحْزَانُهُ أَضْعَافُ مَسَّرَاتِهِ أَوَّلُهُ مَخَاوِِفُ وَآخِرُهُ مُتَألِفُ.

فَيَا عَجَبًا مِنْ سَفِيهٍ في صُورةِ حَكيم وَمَعْتُوهٍ في مِسْلاخِ عاقِل آثرَ الحَضَّ الفانِي الخَسِيسَ على الحضّ الْبَاقي النَّفِيس باعَ جَنَّةٍ عَرْضُها الأَرْضُ والسَّمَاوَاتُ بِسِجْنٍ ضَيِّقٍ بَيْنَ أَرْبَابَ الْعَاهَاتِ وَالْبَلِّيَاتِ وَمَسَاكِنَ طَيَّبَةً في جَنَّاتِ عَدْنٍ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار بِأَعْطَانٍ ضَيِّقَةٍ آخِرُها الْخَرابُ وَالبَوارُ. وأبكارَا عُرْبًا أَتْرابًا كَأنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ والْمَرْجَانُ بِقَذرَاتٍ دَنِسَاتٍ سَيِّئَاتِ الأخْلاقِ مُسَافِحَاتِ أَوْ مُتَّخِذَاتِ أَخْذانٍ وَحُورًا مقْصُوراتًا في الخِيامِ بِخَبْيثَاتِ مُسَيَّباتٍ بَيْنِ الأنام، وَأنْهَارًا مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبينَ بِشَرَابٍ نَجَسٍ مُذْهِبٍ لِلْعَقْلٍ مُفْسِدٍ لِلدُّنْيَا وَالدِّين، وَلَذَّةِ النَّظَرِ إِلى وَجْهِ العَزِيزِ الرَّحِيمِ بِالتَّمَتُّعِ بِرُؤْيَةِ الْوَجْهِ القَبِيحْ الذَّميم. وَسَمَاعَ الخِطَابِ مِن الرحمن بِسَماعَ الْمَعازِفِ وَالْغِنَاءِ وَالألْحَانِ، والجُلُوسِ على مَنَابِرِ اللُّؤْلؤ واليَاقُوتِ وَالمُرْجَانِ وَالزَّبَرْجَدِ وَيَوْمَ المزيدِ بالجُلُوسِ في مَجَالِسِ الفُسُوقِ مَعَ كُلِّ شيطانٍ مَرِيدٍ. وَإِنَّمَا يَظْهَرُ الْغَبْنُ الفاحِشُ في هَذَا البيع يومَ القِيَامَةِ وَيَتَبَيَّنَ سَفهُ بَائِعِهِ يَوْمَ الْحَسْرَةِ والنَّدَامَةِ إَذَا حُشِرَ المُتَّقُونَ إلى الرَّحْمَنِ وفْدًا وسِيقَ المُجْرِمُون إلى جَهَنَّم وِرْدًا وَنَادَى المُنَادِي عَلَى رُؤوس الأشْهادِ لِيَعْلَمَنَّ أَهْلُ المَوقف مَنْ أولى بِالكَرَمِ مِنْ بَيْنِ العَبَادْ. فَلَوْ تَوَهَّمَ المُتَخَّلِّفُ عَنْ هَذِهِ الرِّفَقَةُ وَمَا أُعِدَّ لَهُم مِنَ الإكْرَامِ وَادُّخِرِ لَهُمْ مِنَ الفَضْلِ وَالإِنْعَامِ وَمَا أُخْفِى لَهُم مِنْ قُرَّةِ أَعْينٍ لَمْ يَقَعُ على مِثْلِها بَصَرٌ ولا سَمِعَتْهُ أُذنٌ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ عَلِمَ أَيُّ بِضَاعَةٍ أَضَاعْ وَأَنَّهُ لا خَيْرَ لَهُ في حَيَاتِهِ وَهُوَ مَعْدُودٌ مِن سَقَطِ الْمَتَاعُ. وَأنَّ الْقَوْمَ قَدْ تَوَسَّطُوا مُلْكًا كَبِيرًا لا تَعْتَرِيه الآفَاتُ وَلا يَلْحَقُه الزَّوَالُ وَفَازُوا بِالنَّعِيمِ المقيم في جِوَارِ الرَّبِ الكَبيرِ المُتَعَالِ فَهُمْ في رَوْضَاتِ الجَنَّاتِ

يَتَقَلَّبُونَ وَعَلى أَسِرَّتِهَا تَحْتَ الحِجَالِ يَجْلِسُونَ وعلى الفُرُشِ التي بَطَائِنُهَا مِن إسْتَبْرَقِ يَتَّكِئُونَ وبِالحُورِ العِينِ يَتَمَتَّعُونَ. وبأنواع الثِّمارِ يَتَفَكَّهُونَ {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ * لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، {يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} تاللهِ لقَدْ نُودِي عليها في سُوقِ الْكَسَادِ فَمَا قَلَّبَ وَلا اسْتَامَ إِلا أَفْرَادٌ مِنَ العِبَادِ. وقال رحمه الله في النونية: بِاللهِ ما عُذْرَ امْرِءٍ هُو مُؤْمِنٌ ... حَقًا بِهَذَا لَيْسَ بِالْيَقْظَانِ بَلْ قَلْبُهُ في رَقْدَةٍِ فَإِذَا اسْتَفا ... ق فَلُبْسُهُ هُوَ حُلَّةُ الْكَسْلانِ تَاللهِ لَوْ شَاقتْكَ جَنَّاتُ النَّعِيـ ... ـمِ طَلَبْتَهَا بِنَفَائِسِ الأَثْمَانِ وَسَعَيْتَ جُهْدَكَ في وَصَالِ نَوَاعِمٍ ... وَكَوَاعِبٍ بِيضِ الوُجُوهِ حِسَانِ جُلَيَتْ عَلَيْكَ عَرائسٌ والله َلْو ... تُجْلَى عَلَى صَخْرٍ مِنَ الصُّوَّانِ رَقَّتْ حَواشِيهِ وَعاد لَوَقْتِهِ ... يَنْهَالُ مِثْلَ نَقَىً مِنَ الكُثْبَانِ لَكِنَّ قَلْبَك في القَسَاوَةِ جَازَ حَدَّ ... الصَّخْرَةِ وَالْحَصْبَاءِ في أَشْجَانِ لَوْ هَزَّكَ الشَّوْقُ المُقِيمُ وَكُنْتَ ذَا ... حِسٍّ لَمَا اسْتَبْدَلْتَ بِالأَدْوَانِ أَوْ صَادَقَتْ مِنْكَ الصِّفَاتُ حَياةَ قَلْـ ... ـب كُنْتَ ذَا طَلَبٍ لِهَذَا الشَّانِ حُورٌ تُزَفُّ إلَى ضَرِيرٍ مُقْعَدٍ ... يا مِحْنَةَ الحَسْنَاءِ بِالْعُمْيَانِ شَمْسٌ لِعَنِّينٍ تَزَفُ إليه مَا ... ذَا حِيلَةُ الْعِنّيْنِ في الْغَشَيَانِ يَا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ لَسْتِ رَخِيصَةً ... بَل أَنْتِ غَالية على الْكَسْلانِ يا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ ليس يَنَالُهَا ... بالألْف إلا واحدٌ لا اثْنَانِ يا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ ماذا كَفُوهَا ... إلا أَولُو التَّقْوَى مَعَ الإِيمَانِ يا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ سُوقُكِ كَاسِدٌ ... بِيْنَ الأَرَاذِلِ سَفْلَةِ الْحَيَوَانِ

يا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ أَيْنَ المُشْتَرِي ... فَلَقَدْ عُرِضْتِ بِأَيْسَرِ الأَثْمَانِ يا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ هَلْ مِنْ خَاطِبٍ ... فَالْمَهْرُ قَبْلَ المَوْتِ ذُو إِمْكَانِ يا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ كَيْفَ تَصَبُّرْ الْـ ... خُطَّابُ عَنْكِ وَهُمْ ذُوُو إِيمَانِ يا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ لَوْلا أَنَّهَا ... حُجِبَتْ بَكُلِّ مَكَارِهِ الإِنْسَانِ مَا كَانَ عَنْهَا قَطُ مِن مُتَخَلِّفٍ ... وَتَعَطّلتْ دَارُ الجَزَاءِ الثَّانِي لَكْنَّهَا حُجِبَتْ بِكُلِّ كَرَيهَةٍ ... لِيَصُدَّ عَنْهَا المُبْطِلُ المُتَوْانِي وَتَنَالُهَا الهِمَمُ التِي تَسْمُو إِلَى ... رَبِّ العُلَى بِمَشِيئَةِ الرَّحْمَنِ اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ الْمُتَّقِينَ الأبْرَارِ وَأَسْكِنَّا مَعْهمُ في دَارِ القَرارِ، اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا بِحُسْن الإِقْبَالِ عَلَيْكَ وَالإِصْغَاءِ إِلَيْكَ وَوَفِّقْنَا لِلتَّعَاوُنِ فِي طَاعَتِكَ وَالْمُبَادَرَةِ إِلى خِدْمَتكَ وَحُسْن الآداب في مُعَامَلَتِكَ وَالتَّسْلِيم لأَمْرِكَ وَالرِّضَا بِقَضَائِكَ وَالصَّبْر على بَلائِكَ وَالشُّكْر لِنَعْمَائِكَ، اللَّهُمَّ طَهِّرْ قُلُوبَنَا مِنَ النِّفَاقِ وَأَخْلِصْ عَمَلَنَا مِنَ الرِّيَاء وَمَكْسَبَنَا مِنَ الرِّبَا وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْهَا عَلَى طَاعَتِكْ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) في فَضَائِل الاسْتِغْفَار يُسْتَحَبُّ الإِكْثَارُ مِن الاسْتِغْفَار في كُلِّ وَقْتٍ وَيتَأَكَّدُ في الزَّمَانِ الفَاضِل وَالمَكَانِ الفَاضِلْ، قال تَعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} ، وقال: {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} ؛ وقال تعالى مُخْبِرًا عن نوح: { ... فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ} الآيَةْ، وقَالَ تَعَالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ} ،

وقَالَ تَعَالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَّحِيماً} . وَعَنْ شَدَّادٍ بنُ أوسٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – عَنِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «سَيِّدُ الاسْتِغْفَارُ أَنْ يَقُولَ العَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْت، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلِي، وَأَبُوء بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي، إِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ» . وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا – قَال: إِنَّا كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في المَجْلِسِ يَقُول: «رَبَّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَابُ الغَفُور» . مائةَ مَرَّةْ. وَعَنْ عَبْدُ اللهِ بنْ بُسْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «طٌوبَى لِمَنْ وُجِدَ في صَحِيفَتِهِ اسْتِغْفَارًا كَثِيرًا» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَرْفَعُ الدَّرَجَة لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ في الجَنَّة فَيَقُولُ: يَا رِبِّ أَنَّى لِي هَذِهِ؟ فَيَقُولُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكْ» . شِعْرًا: يِا ذَا المَعَارِجَ أَنْتَ الله أَسْألهُ ... وَأَنْتَ يَا رَبِّ مَدْعوٌّ وَمَسْئُولُ أَدْعُوكَ أَدعُوكَ يَا قَيُّومُ فِي ظُلَمَ ... وَكُل دَعٍ بِحُلْوِ النَّوْمِ مَشْغُولُ تُعْطِي لِمَنْ شِئْتَ مَنْ يَسْأَلُكَ مِنْ سَعَةٍ ... وَالخَيْرُ مِنْكَ لِمَنْ ناَدَاكَ مَبْذُولُ تَغْفِرْ ذُنُوبِي وَتَخْتُمُ لِي بَخَاتِمِةٍ ... تُرْضِيكَ عَنِّي وَظَنِّي فِيكَ مَأمُولُ وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عُنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ لَزِمَ الاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِب» .

وَعَنِ الأَغَرَّ الْمُزْنِي – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة» . وَقَالَ حُذَيْفَةْ: كُنْتُ ذَرِبَ اللِّسَانِ عَلِى أَهْلِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يُدْخِلَنِي لِسَانِي النَّارْ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «فَأَيْنَ أَنْتَ مِنَ الاسْتِغْفَار، فَإِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللهُ في اليْوَمِ مِائَةَ مَرَّة» . أَخْرَجَهُ النِّسَائِي. وَعَنْ زَيْدٍ مَوْلَى رَسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ قَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدْ. وَعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الخُدْرِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ قَالَ حِينَ يَأْوِي إِلَى فِرَاشِهِ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيَّ الْقَيُّومَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ - ثَلاَثَ مَرَّاتٍ - غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبَهُ وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ رَمْلِ عَالِجٍ وَإِنْ كَانَتْ عَدَدَ أَيَّامِ الدُّنْيَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِي. وعنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالى: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ منك وَلاَ أُبَالِى، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلاَ أُبَالِى يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً» . رَوَاهُ التِّرْمِذِي. وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمِ. (فَصْلٌ) : وَعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الخُدْرِي – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – عَنِ النَّبِيَ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «قَالَ إِبْلِيسُ: وَعِزَّتِكَ لا أَبْرَحُ أَغْوي عِبادَكَ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ في أَجْسَادِهُم، فَقَالَ: وَعِزَّتِي وَجَلالِي لا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ ما اسْتَغْفَرُونِي» . وَعَنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ

تَسُرُّهُ صَحِيفَتُهُ فَلْيُكْثِر فِيهَا مِنَ الاسْتِغْفَارْ» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُ – عَنِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئةً نُكِتَتْ في قَلْبِهِ نُكْتَةٌ، فَإِنْ هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَتْ، فَإِنْ عَادْ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُو قَلْبَهُ، فَذَلِكَ الرَّانُ الذِي ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} » . وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أَنَّ رَسُول اللهُ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «إِنَّ لِلْقُلُوبِ صَدَأٌ كَصَدَأ النُّحَاسِ، وَجَلاؤُهَا الاسْتِغْفَارُ» . وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ بنُ مَالِكٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في مَسِيرَةٍ فَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا الله» فَاسْتَغْفَرْنَا، فَقَالَ: «أَتِمُّوهَا سَبِعِينَ مَرَّة» . فَأَتْمَمْنَاهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ عَبْدٍ وَلا أَمَةٍ يَسْتَغِفِرُ اللهَ في يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةٌ إِلا غَفَرَ اللهُ لَهُ سَبْعُمِائَةَ ذَنْب، وَقَدْ خَابِ عَبْدُ أَوْ أَمَة عَمِلَ في يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعِمائَةِ ذَنْبٍ» . وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ تَعَالَى فَيَغْفِرُ لَهُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِم. وَفِي حَدِيثِ سَلْمَانْ: «فاسْتَكْثِروا فِيهِ مِنْ خِصْلَتِيْنِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمُ فَشَهَادَةُ أَنَّ لا إِلَهَ إَلا اللهَ، والاسْتِغْفَارُ، وَأَمَّا التِي لا غِنَى بِكُمْ عَنْهُمَا فَتَسْأَلُونَهُ الجَنَّةَ، وَتَعُوذُونَ بِهِ مِنَ النَّارْ» . فَهَذِهِ الخِصَالُ الأَرْبَعُ المَذْكُورَةِ في الحَدِيثِ كُلٌّ مِنْهَا سَبَبٌ لِلْمَغْفِرَةِ وَالعْتقِ مِنَ النَّار فَأمَّا كَلِمَةُ الإِخْلاصِ فَإِنَّهَا تَهْدِمُ الذُّنُوبِ وَتَمْحُوهَا مَحْوًا وَلا تُبِقِي ذَنْبًا، وَلا يَسْبِِقُهَا عَمَلٌ، وَهِي تَعْدِلُُ عِتْقُ الرِّقَابِ الذِي يُوجِبُ العِتْقَ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ أَتَى بِهَا حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي أَعْتَقَهُ اللهُ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ قَالَهَا

إلى الجنة وما أعد الله فيها وبعده أبيات من النونية

خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ» . وَأَمَّا كَلِمَةُ الاسْتِغْفَارُ فَمِنْ أَعْظَمُ أَسْبَابِ المَغْفِرَةْ. فَإِنَّ الاسْتِغْفَارَ دُعَاءٌ بِالمَغْفِرَةِ، وَدُعَاءُ الصَّائِمِ إِذَا اجْتَمَعَتْ لَهُ الشُّرُوطُ وَانَتَفَتْ المَوَانِعَ مُسْتَجَابٌ حَالَ صِيَامِهِ وَعِنْدَ فِطْرِهِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: (وَيَغْفِرُ اللهُ إِلا لِمَنْ أَبِى، قَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: يَأْبَى أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللهُ) . وَقَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ: يَا بُنَيَّ عَوِّدْ لِسَانِكَ الاسْتِغْفَارَ، فَإِنَّ لِلَّهِ سَاعَاتٍ لا يَرُدُّ فِيهِ سِائِلاً، وَقَدْ جَمَعَ اللهُ بَيْنَ التَّوْحِيدِ والاسْتِغْفَارِ في قَوْلِهِ: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} . وَفِي بَعْضِ الآثَارْ: أَنَّ إِبْلِيسَ قَالَ: أَهْلَكْتُ النَّاسَ بِالذُّنُوبِ وَأَهْلَكُونِي بِالاسْتِغْفَارِ، وَلا إِلَهَ إِلا اللهُ. وَالاسْتِغْفَارُ خِتَامُ الأَعْمَال الصَّالِحَةِ كُلِّهَا فَيُخْتَمُ بِهِ الصَّلاةُ، والحَجُّ، وَالْقِيامُ في اللَّيْلِ، وَيُخْتَمُ بِهِ المَجَالِسُ، فَإِنْ كَانَتْ ذِكْرًا كَانَ كَالطَّابِعَ عَلَيْهَا وَإْنِ كَانَتْ لَغْوًا كَانَ كَفَّارَةٌ لَهَا، فَكَذَلِكَ يَنْبِغِي أَنْ يُخْتَتَم صِيَامُ رَمَضَانَ بالاسْتِغْفَارِ يُرَفِّعُ مَا تَخَرَّقَ مِنَ الصِّيَامِ بِاللَّغْوِ وَالرَّفَثِ (وَيَجْتَهِدُ في الإِكْثَارِ مِنَ الأَعْمَالِ وَالتَّقَلُّلِ مِنَ شَوَاغِلِ الدُّنْيَا وَالإِقْبَالِ عَلَى الآخِرَةِ مَا دَامَ في قَيْدِ الحَياَةِ) . وَمِنْ عِظَةِ الحَسَنَ الْبَصْرِي لِعُمَرَ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الدُّنْيَا دَارُ ظَعَنِ لَيْسَتْ بَدَارَ إِقَامَة، لَهَا فِي كُلِّ حِينٍ قَتِيلٍ تُذِلَّ مِنْ أَعَزَّهَا وَتُفْقِرُ مَنْ جَمَعَهَا هِيَ كَالسُّمِّ يَأْكُله مَنْ لا يَعرِفُهُ وَفِيهِ حَتْفُهُ فَكُنْ فِيهَا كَالمُدَاوِي جِرَاحُهُ يَحْتَمِي قَلِيلاً مَخَافَةَ مَا يَكْرَهُ طَوِيلاً وَيَصْبِرُ عَلَى شِدَّةِ الدَّوَاءِ مَخَافَةِ طُولِ الدَّاءِ، فَاحْذَرْ هَذِهِ الدُّنْيَا الخَدَّاعةَ الغَدَّارَةَ الخَتَّالَةَ التِي قَدْ تَزَيَّنَتْ بِخِدَعِهَا وَقَتَلَتْ بَغُرُورِهَا وَتَحَلَّتْ بِآمَالَهَا وَسَوَّفَتْ بِخُطَّابِهَا.

فَأَصْبَحَتْ كَالعَرُوسَ المَجْلِيَّةِ، العُيُونُ إِلَيْهَا نَاظِرَةٌ وَالْقُلُوبُ عَلَيْهَا وَالِهَةٌ وَهِي لأَزْوَاجِهَا كُلِّهِمْ قََالِيَة، فَلا الْبَاقِي بِالْمَاضِي مُعْتَبِرٌ وَلا الآخِرُ بِالأوَّلِ مُزْدَجِرٌ فَعَاشِقٌ لَهَا قَدْ ظَفِرَ مِنْهَا بِحَاجَتِهِ فَاغْتَرَّ وَطَغَى وَنَسِي المَعَادَ فَشَغَلَ فِيهَا لُبَّهُ حَتَّى زَلَّتْ بِهِ قَدَمُهُ فَعَظُمَتْ نَدَامَتُهُ وَكُثُرَتْ حَسْرَتُهُ وَاجْتَمَعْتَ عَلَيْهِ سَكَرَاتُ الْمَوْتِ وَتَأَلُمِهُ وَحَسَرَاتُ الفَوْتِ بِغُصَّتِهِ وَرَاغِبٌ فِيهَا لَمْ يُدْرِك مِنْهَا مَا طَلَبْ وَلَمْ يُرِجْ نَفْسَهُ مِنَ التَّعَبِ فَخَرَجَ بِغَيْرِ زَادٍ وَقَدَمَ عَلَى غَيْرِ مِهَادٍ. فَاحْذَرْهَا يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ وَكُنْ أَسَرَّ مَا تَكُونُ فِيهَا أَحْذَرُ لَهَا فَإِنَّ صَاحِبَ الدُّنْيَا كُلَّمَا اطْمَأَنَّ فِيهَا إِلَى سُرُورٍ أَشْخَصَتْهُ إِلَى مَكْرُوهٍ وَضَارٍ وَقَدْ وَصَلَ الرَّخَاءُ مِنْهَا بِالْبَلاءِ وَجُعِلَ البَقَاء إلى فَناءِ فَسُرُورُهَا مُشُوبٌ بِالأَحْزَانْ، أَمَانِيهَا كَاذِبَةٌ وَآمَالُهَا بَاطِلَةٌ وَصَفْوهَا كَدَرٌ وَعَيْشُهَا نَكَدٌ وَابْنُ آدَمَ فِيهَا عَلَى خَطَرٍ. أ. هـ. شِعْرًا: فَيَا أَيُّهَا النَّاسِي لِيَوْمِ رَحِيلِهِ ... أَرِاكَ عَنِ الموتِ المُفِرِّقِ لاهِيًا أَلا تَعْتَبِرُ بِالرَّاحِلِينَ إِلَى الْبَلَى ... وَتَرْكِهُمُ الدُّنْيَا جَمِيعًا كَمَا هَيَا وَلَمْ يَخْرُجُوا إِلا بِقُطْنٍ وَخِرْقَةٍ ... وَمَا عَمَّرُوا مِنْ مَنْزِلٍ ظَلَّ خَالِيَا وَأَنْتَ غَدًا أَوْ بَعْدَهُ فِي جِوَارِهِمْ ... وَحِيدًا فَرِيدًا فِي المَقَابِر ثَاوِيَا اللَّهُمَّ يا مَنْ لا تَضُرَّهُ الْمَعْصِيةُ ولا تَنْفَعَهُ الطَّاعَةِ أَيْقِظْنَا مِنْ نَوْمِ الغَفْلَةِ وَنَبَّهْنَا لاغْتِنَامِ أَوْقَاتِ الْمُهْلَةِ وَوِفِّقْنَا لِمَصَالِحْنَا وَاعْصِمْنَا مِنْ قَبَائِحْنَا وَذُنُوبنَا وَلا تُؤاخِذْنَا بِمَا انْطَوَتَ عَلَيْهِ ضَمَائِرُنَا وَأَكَنَّتْهُ سَرائِرُنَا مِنْ أَنْوَاعِ القَبَائِحِ والْمَعَائِبِ التي تَعْلَمُهَا مِنَّا، وامنُنْ عَلَيْنَا يَا مَوْلانَا بِتَوْبَةٍ تمحو بها عنا كُلَّ ذَنْبٍ، اللَّهُمَّ أنْظُمْنَا فِي سِلْكِ الفَائِزِينَ بِرِضْوَانِكَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ الْمُتَّقِينَ الذِينَ أَعْدَدْتَ لَهُمْ فَسِيحَ جِنَانِكَ، وَأَدْخِلْنَا بِرَحْمَتِكَ فِي دَارِ أَمَانِكَ وَعَافِنَا يَا مَوْلانَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ مِنْ جَمِيعِ البَلايَا وَأَجْزِلْ لَنَا مِنْ مَوَاهِبِ فَضْلِكَ وَهِبَاتِكَ وَمَتِّعْنَا بَالنَّظَرِ إِلى وَجْهِكَ الكَرِيمِ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ

فصل في الاعتكاف وما يتعلق به

وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) في أَحْكَامِ الاعْتِكَافِ في المَسْجِدْ الاعْتِكَافُ لُغَةً: لُزُومِ الشَّيْءِ، وَحَبْسُ النَّفْسِ عَلَيْهِ بِرًّا كَانَ أَوْ غَيْرُهُ، وَفِي الشَّرْعِ: لُزُومِ مُسْلِمٍ لا غُسْلَ عَلَيْهِ، عَاقِلٍ وَلَوْ مُمَيَّزًا مَسْجِدًا وَلَوْ سَاعَةً مِن لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ لِطَاعَةِ اللهِ. وَهُوَ سُنَّةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَفِي رَمَضَانَ آكَدَهُ، وَآكَدَهُ عَشْرهُ الأَخِيرُ لِمَا وَرَدْ عَنْ عَائِشَةَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهَا – قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانْ) . وَعَنْ أَنَسٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: (كَانَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانْ فَلَمْ يَعْتَكِفْ عَامًا، فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ المُقْبِلِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ) . أَمَّا كَوْنُهُ لا يَصِّحُ مِنَ الكَافِرْ، فَلأَنَّهُ مَنْ فُرُوعِ الإِيمَانِ، وَلا يَصِحّ مِنْهُ كَالصَّوْمِ، وَأَمَّا مَنْ زَالَ عَقْلُهُ كَالمَجْنُونِ فَلأنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلَِ العِبَادَاتِ فَلَمْ يَصِحّ مِنْهُ. أَمَّا كَوْنُهُ لا غُسْلَ عَلَيْهِ فَلِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهَا -: «إِنّي لا أُحِلُّ المَسْجِدَ لِحَائِضٍٍ وَلا جُنُبْ» . وَأَمَّا كَوْنُهُ فِي مَسْجِدٍ فَلِقَوْلِهِ تَعَالِى: {وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وَلا يَصِحُّ إِلا فِي مَسْجِدٍ تُقَامُ فِيهِ الجَمَاعَةْ، لأَنَّ الاعْتِكَافَ في غَيْرِهِ يُفْضِي إِمَّا تَرْكِ الجَمَاعَةِ، أَوْ تَكَرُّرِ الخُرُوجِ إِلَيْهَا كَثِيرًا مَعَ إِمْكَانِ التَّحَرُّزِ مِنْهُ وَهُوَ مُنَافٍ لِلاعْتِكَاف.

والاعْتِكَافُ فِي مَسْجِدٍ تُقَامُ فِيهِ الجُمَعُ أَفْضَلُ، لِئَلا يَحْتَاجَ إَلَى الخُروجِ إِلَيْهَا، وَلأنَّ ثَوَابَ الجَمَاعَةِ فِي الجَامِعِ أَكْثَرُ وِلأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - اعْتَكَفَ فِي المَسْجِدِ الجَامِعِ. وَيَجِبُ الاعْتِكَافُ بِالنَّذْرِ، قَالَ ابْنُ المُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْلُ العِلْمِ عَلَى أَنَّ الاعْتِكَافُ لا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ فَرْضًا إِلا أَنْ يُوجِبَ المَرْءُ عَلىَ نَفْسِهِ الاعْتِكَافُ نُذْراً لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ الله فَلْيُطِعِهُ» . وَالأَفْضَلُ أَنْ يَعْتَكِفَ بِصَوْمِ، وَلأَنَّ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَعْتَكِفُ في شَهْرِ رَمَضَانَ، فَإِن اعْتَكَفَ بِغَيْرِ صَوْمٍ جَازَ، لِحَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي نَذَرْتُ فِي الجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ، قَال: «فَأَوْفِ بِنَذْرِكَ» . وَلَوْ كَانَ الصَّوْمُ شَرْطًا فِيهِ لَمَا صَحَّ اعْتِكَافُ اللَّيْلِ، وَكَالصَّلاةِ وَسَائِرِ العِبَادَاتِ. وَلا يَصِحُّ اعْتِكَافُ الأَبْنَِيَةِ لأنَّهُ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ، وَلِحَدِيثِ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَاتِ» . وَمَنْ نَذَرَ الاعْتِكَافَ أَوْ الصَّلاةَ فِي مَسْجِدٍ غَيْرِ الثَّلاثَة، وَهِيَ: المَسْجِدُ الحَرَامُ، وَمَسْجِدُ المَدِينَةِ، وَالمَسْجِدُ الأَقْصَى، جَازَ لَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي غَيْرِهِ لأنَّهُ لا مَزِيَّةَ لِبَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ. وَإِنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ لَزِمَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِيهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: كُنْتُ نَذَرْتُ فِي الجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ، قَالَ: «أَوْفِ بِنَذْرِكَ» . وَلأنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ المَسَاجِدُ، وَلا يَجُوزُ أَنْ يُسْقِطَ فَرْضَهُ بِمَا دُونَهُ.

وَإِنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدِ المَدِينَةِ جَازِ لَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ في المَسْجِدِ الحَرَامِ لأنَّهُ أَفْضَلَ مِنْهُ وَلِمْ يَجُزْ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي المَسْجِدِ الأَقْصَى لأنَّ مَسْجِدَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أَفْضَلُ مِنْهُ. وَإِنْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي المَسْجِدَ الأَقْصَى جَازَ لَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي أَيِّ المَسْجِدَيْنِ أَحَبَّ لأنَّهُمَا أَفْضَلَ مِنْهُ. بِدَلِيل قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفَ صَلاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلا المَسْجِدَ الْحَرَامِ» . وَلا يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ لِغَيْرِ عُذْرٍ لِمَا رَوْتَ عَائِشَةُ - رَضِي اللهُ عَنْهَا – قَالَتْ: (إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيُدْخِلُ عَلَيَّ رَأْسَهُ وَهُوَ فِي المَسْجِدِ فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ لا يَدْخُلَ البَيْتَ إِلا لِحَاجَةٍ إِذَا كَانَ مُعْتَكِفًا» . وَعَنْهَا - رَضِي اللهُ عَنْهَا – قَالَتْ: (السُّنَّةُ عَلَى المُعْتَكِفِ أَنْ لا يُعُودَ مَرِيضًا، وَلا يَشْهَدَ جَنَازَةً، وَلا يَمِسُّ امْرَأَةً وَلا يُبَاشِرَهَا، وَلا يَخْرُجَ لِحَاجِةِ إِنْسَانِ إِلا مِمَّا لا بُدَّ مِنْهُ، وَلا اعْتِكَافَ إِلا بِصَوْمٍ، وَلا اعْتِكَافُ إلا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ) . فَإِنْ خَرَجَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ بَطُلَ اعْتِكَافُهُ، لأنَّ الاعْتِكَافَ اللُّبْثُ في المَسْجِدِ فَإِذَا خَرَجَ فَقَدْ فَعَلَ مَا يُنَافِيهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كَمَا لَوْ أَكَلَ فِي الصَّوْمِ ذِاكِرًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ لِحَاجَةِ الإِنْسَانِ وَلا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ، وَكَذَا إِنْ خَرَجَ مِنَ المَسْجِدَ نَاسِيًا لِمْ يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» . وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُعْتَكِفِ التَّشَاغُلِ بِفعل القُرَبِ كَقِرَاءَةِ القُرْآنِ وَالأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةِ، وَالصَّلاةِ وَذِكْرُ اللهِ وَنَحْوَ ذَلِكْ. وَسُنَّ لَهُ اجْتِنَابُ مَا لا يَعْنِيهِ مِنْ جَدَلٍ وَمِرَاءٍ وَكَثْرَةِ كَلامٍ لَمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي

هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ» . (فائدة) : قيل للقمان: مَا بَلَغَ ما نَرى؟ يُرِيدُونَ الفَضْلَ، قال: صِدْقُ الحَدِيثِ، وَأَدَاءُ الأَمَانة، وَتركُ مَا لا يَعْنِي. شِعْرًا: عَلَى فِيكَ مِمَّا لَيْسَ يُغْنِيكَ شَأْنُهُ ... بِقُفِلٍ وَثَيقٍ مَا اسْتَطْعَتْ فَاقْفِلِ اللَّهُمَّ يَا خَالِقَ الخَلْقِ يَا قَيُّومُ نَسْألُكَ بِأَسْمائِكَ الحُسْنَى أَنْ تنصُرَ الإِسْلامِ وَالمُسْلِمِينَ وَأَنْ تُعْلِي بِفَضْلِكَ كَلِمَةَ الحَقِّ وَالدِّينِ وَأْن تَشْمَلَ بِعَنَايَتِكَ وَتَوْفِيقِكِ كُلَّ نَصَرَ الدِّينَ وَأَنْ تَمْلأ قُلُوبَنَا بِمَحَبِّتَكَ وَمَحَبَّةِ مِنْ يُحبُّكَ وَأَنْ تَأْخُذَ بِنَوَاصِينَا إِلَى مَا تَرْضَاهُ وَأَنْ تَرْزُقْنَا الاسْتِعْدَادَ لِمَا أَمَامَنَا وَأَنْ تُهَوِّنَ أَمْرَ الدُّنْيَا عَلَيْنَا، وَأَنْ تَغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) في بِنَاءِ المسَاجِدِ وَآدَابِهَا وَيَبْحَثْ فِي: 1- مَا وَرَدَ فِي الحَثِّ عَلَى بِنَاءِ المَسَاجِدِ وَثَوَابِهَا العَظِيم. 2- مَا وَرَدَ فِي صِيَانَةِ المَسَاجِدِ عَنِ الأَقْذَارِ وَتَنْظِيفِهَا. 3- مَا وَرَدَ فِي تَجَنُّبِ آكِلِ البَصَلِ وَالثَّوْمِ الصَّلاةِ في المَسَاجِدِ وَإِبْعَادِ الصَّغِيرِ والمجنون. 4- يَنْبَغِي تَجْنِيبُ المَساجِدِ البيعَ وَالشِّرَاء وَرَفْعَ الصَّوْتِ وَنُشْدَانَ الضَّالَةِ فِيهَا. 5- حُرْمَةُ المُبَالَغَةِ فِي زَخرَفَةِ المَسَاجِدِ. 6- كَرَاهَةُ إلتْزَامُ مَوْضِعٍ مُعَيّنٍ مِنَ المَسْجَدِ لِلصَّلاةِ لِغَيْرِ الإمَامْ.

1- مَا وَرَدَ في الحَثِّ عَلَى بِنَاءِ المساجِدِ وَثَوَابِهَا العظيمْ: بِنَاءُ المَسَاجِدِ في الأَمْصَارِ وَالقُرَى وَالمَحَالِّ وَنَحْوِهَا حَسَبِ الحَاجَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَيُسْتَحَبُّ اتِّخَاذُ المَسَاجِدِ فِي الدَّورِ، وَتنْظِيفِهَا وَتَطْييبِهَا، قَالَ تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ... } الآية. لما روت عائشة - رضي الله عنها – قالت: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببناء المَسَاجِدِ فِي الدّورِ، وَأَنْ تُنَظِّفَ وَتُطَيَّبْ. شِعْرًا: وَلَمْ أَرَى لِلْخَلائِقِ مِنْ مُرَبٍّ ... كَعْلْمِ الشَّرْعِ يُؤخَذُ عَنْ ثِقَاتِ بِبَيْتِ اللهَ مَدْرَسَةِ الأَوَالَي ... لِمَنْ يَهْوَى العُلُومُ الرَّاقِيَاتَ وَعَنْ عُثْمَانَ بنُ عَفَّانٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُول: «مَنْ بِنْى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الجَنَّة» . وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – عَنِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ كَمَفْحِصَ قَطَاةٍٍ بَنَى لَهُ بَيْتًا فِي الجَنَّة» . وَعَنْ عُمَرَ بنُ الخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: سَمِعْتُ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُول: «مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا يُذْكَرُ فِيهِ الله، بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا في الجنة» . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ بَنَى بَيْتًا يُعْبَدُ اللهُ فِيهِ مِنْ مَالٍ حَلالٍ بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا في الجَنَّة» . وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةٍ - رَضِي اللهُ عَنْهَا - عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لا يُرِيدُ رِيَاءً وَلا سُمْعَةً بِنَى اللهُ لُهُ بَيْتًا فِي الجنة» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللهُ عُنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ مَمَّا يَلْحَقُ المُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، أَوْ وَلَدًا صَالِحًا تَرَكَه، أَوْ مُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صَحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، تَلْحَقُهُ بَعْدِ مَوْتِهِ» .

فصل في الحث على بناء المساجد وصيانتها وما يصان عنه المسجد

وَأَحَبُّ البِلادِ إِلى اللهِ مَسَاجِدُهَا، وَأبغَضُ البلادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَحَبُّ البلادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا وَأَبْغَضُ البِلادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا» . اللَّهُمَّ أَتْمِمْ عَلَيْنَا نِعْمَتَكَ الوَافِيَةَ وَارْزُقْنَا الإخْلاصَ فِي أَعْمَالِنَا وَالصِّدْقَ في أَقْوَالِنَا وَعُدْ عَلَيْنَا بِإصْلاحِ قُلُوبِنَا، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) : 2- مَا وَرَدَ في صِيَانَةِ الْمَسَاجِدِ وَتَنْظِيفِهَا: وَيُسَنُّ صِيَانَةُ المَسَاجِدِ عَنْ كُلِّ وَسَخٍ، وَقَذَرٍ، وَقَذَاةٍ، وَمُخَاطٍ، وَبُصَاقٍ، وَتَقْلِيمِ أَظْفَارٍ، وَقَصِّ شَارِبٍ، وَحَلْقِ رَأْسٍ، وَنَتْفِ إِبْطٍ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «عُرِضَتْ عَلَيّ أُجُورُ أَعْمَالِ أُمَّتِي حَتَّى الْقَذَاةَ يُخْرِجُهَا الرَّجُل مِنَ المَسْجِدِ» . وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عُنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «البُصَاقُ في المَسْجِدِ خَطِيئَة، وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أَنَّ امرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدِ فَفَقْدِهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَ عَنْهَا بَعْدَ أَيَّامٍ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا مَاتَتْ، فَقَالَ: «فَهَلا أَذَنْتُمُونِي» ؟ فَأَتَى قَبْرَهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا. وَعَنْ سُمْرَةَ بنُ جُنْدَبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نَتْخِذَ الْمَسَاجِدِ فِي دِيَارِنَا وَأَمَرَنَا أَنْ نُنَظِّفُهَا. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِي اللهُ عَنْهُمَا – قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ يَوْمًا إِذَا رَأَى نُخَامَةً فِي قَبْلَةِ المَسْجِدِ فَتَغَيَّظَ عَلَى النَّاس ثُمّ حَكَّهَا - قَالَ: وَأَحْسِبْهُ قَالَ -: فَدَعَا بِزَعْفَران فَلَطَّخَهُ بِهِ، وَقَالَ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قِبَلَ وَجْهِ

أَحِدِكُمْ إِذَا صَلَّى فَلا يُبْصُقُ بَيْنَ يَدَيْهِ» . وَعَنْ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللهُ عُنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ تَفَلَ تِجَاهَ الْقِبْلَةِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتَفْلُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ» . وَعَنْ أَبِي سَهْلَةَ السَّائِبِ بنِ خَلادٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ رَجُلاً أَمَّ قَوْمًا فَبَصَقَ فِي القِبْلَةِ وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَنْظُرُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ فَرَغَ: «لا يُصَلِّي لَكُمْ هَذَا» . فَأَرَادَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُصَلِّي لَهُمْ فَمَنَعُوهُ وَأَخْبَرُوهُ بِقَوْلِ رِسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «نَعَمْ» . وَحَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّكَ آذَيْتَ اللهَ وَرَسُولَهُ» . 3- مَا وَرَدَ فِي تَجَنُّبِ آكِلِ البَصَلِ وَالثَّوْمِ الصَّلاةَ فِي المَسَاجِدِ وإبعادِ الصَّغِيرِ وَالمجنونِ عنهما: يُسَنُّ صِيانَةُ المَساجِدِ عَنْ رَائحةٍ كريهةٍ مِنْ بَصَلٍ وَثُومٍ وَكُرَّاتٍ وَنَحْوهَا لِمَا وَرَدَ عَنْ أَنْسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَكَلَ مِنْ هِذِهِ الشَّجَرَةِ فَلا يَقْرَبَنَا وَلا يُصَلّينَ مَعَنَا» . وَعَنِ ابْنُ عُمَرِ - رَضِي اللهُ عَنْهُمَا – أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مِنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ – يَعْنِي الثُّومَ – فَلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا» . وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللهُ عُنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزِلْنَا – أَوْ -: فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا» . وَفِي رِوَايِةٍ لِمُسِلْمٍ: «مَنْ أَكَلَ البَصَلَ وَالثُّومَ وَالكُرَّاثَ، فَلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا فَإِنَّ المَلائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا تَأَذّى مِنْهُ بَنُوا آدَمَ» . وَعَنْ عُمَرَ بنُ الخَطَّاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أَنَّهُ خَطَبَ يَوْمَ الجُمُعَة فَقَالَ في خُطْبَتِهِ: (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ تَأكُلُونَ شَجَرَتَيْنِ لا أَرَاهُمَا إِلا خَبِيثَتَيْنِ، الْبَصَلُ، وَالثّومُ وَلَقَدْ رَأيتُ رَسولَ اللهَ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا وَجَدَ رِيحَهُمَا مِنَ الرَّجُل فِي الْمَسْجِدِ أَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ إِلَى البَقِيعِ فَمَنْ أَكَلَهُمَا فَلْيُمْتُهَا طَبْخا) .

اللَّهُمَّ أعْطِنا من الْخَيْرِ فَوقَ ما نَرْجُو، واصْرِفْ عنَّا مِن السُّوءِ فَوقَ ما نَحْذَرُ. اللَّهُمَّ عَلِّقْ قُلُوبَنَا بِرَجائِكَ واقْطَعْ رَجَاءَنَا عَمَّنْ سِوَاكَ اللَّهُمَّ إنَّكَ تَعْلَمُ عُيُوبَنَا فاسْتُرْهَا وتَعْلَمَ حَاجَاتِنَا فَاقْضِهَا كَفَى بِكَ وليًّا وكَفَى بِكَ نَصِيرًا يا رَبَّ العالمينَ. اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِسُلُوكِ سَبِيلِ عِبَادِكَ الأَخْيارِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) : يُسَنُّ أَنْ يُصَانَ الْمَسجِدِ عَنْ صَغِيرٍ لا يُمَيّزُ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ وَأَنْ يُصَانَ عَنْ مُجْنُونٍ حَالَ جُنُونِهِ، وَعَنْ لِغَطٍ، وَخُصُومَةٍ، وَكَثْرَةِ حَدِيثٍ لاغٍ، وَرَفْعِ صَوْتٍ بِمَكْرُوهٍ، وَعَنْ رَفْعِ الصِّبْيَانِ أَصْوَاتَهُمْ بِاللَّعِبِ وَغَيْرِهِ، وَيُمْنَعَ فِيهِ اخْتِلاطُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَإِيذَاءُ المُصَلّينَ وَغَيْرِهِم بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَيُمْنَعُ السَّكْرَانُ مِنْ دُخُولِهِ. وَعَنْ وَاثِلَةَ بنُ الأُسْقعِ: أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُم صِبْيَانِكُم وَمَجَانِينكَمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ، وَاتّخِذُوا عَلَى أَبْوَابِهَا المَطَاهِرَ وَجَمَّرُوهَا في الجُمَعِ» . وَعَنْ عَبْدِ الله - يَعْنِي ابنُ مَسْعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «سَيَكُونُ في آخرُ الزَّمَانِ قُوْمٌ يَكونُ حَدِيثُهُمْ في مَسَاجِدِهِمْ لَيْسَ لِلِّهِ فِيهم حَاجِةٌ» . رَأَى أَبُو مُسْلِم الخَوَلانِي جَمَاعَةً فِي المَسْجِدِ فَمَالَ إِلَيْهِمِ لِيَجْلِسَ مَعَهُمْ وَظَنَّ أَنَّهُمْ فِي ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى فَوَجَدَهُمْ في ذِكْر الدُّنْيَا فَقَالَ: أَنْتُمْ في سُوقِ الدُّنْيَا وَحَسِبْتُ أَنكُم في سُوقِ الآخِرة وَأَعْرض عَنْهُمْ. وَعَنْ حَكِيم بن حِزامٍ - رَضِيَ اللهُ عُنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُقَامُ الحدودُ في المَسَاجِدِ، وَلا يُسْتَقَادُ فِيهَا» . وَعَنِ الحَسَنِ – رَحِمَهُ اللهُ – مُرْسَلاً قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَأْتِي

حكم زخرفة المساجد وحكم التزام موضع معين من المسجد

عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَكُونُ حَدِيثُهُم في مَسَاجِدِهم في أَمْرِ دُنْيَاهُم فَلا تُجَالِسُوهُم فَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهم حَاجَةْ» . وَعَنْ السَّائِب بنُ يَزيدٍ قَالَ: (كُنْتُ نَائِمًا في الْمَسْجِدِ فَحَصَبَنِي رَجُلٌ فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ عُمَرُ بن الْخَطَّاب فقال: اذْهَبْ فَأْتِنِي بِهَذَيْن فَجِئْتُهُ بِهِمَا فَقَالَ: مِمَّنْ أنْتُمَا - أَوْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ قَالا: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفُ قَالَ: لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لأَوْجَعْتُكُمَا تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -) . وَعَنْ مَالِكِ قَالَ: بَنَى عُمَرُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - رَحَبَةٍ نَاحِيَةِ تُسَمَّى (البَطْحَاء) وَقَالَ: مَنْ كَانَ يُرِيدِ أَنْ يَلْغَطَ أَوْ يُنْشِدَ شِعْرًا، أَوْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ فَلْيَخْرُجْ إلى هَذِهِ الرَّحَبَةِ. وَعَنْ أبي هُرَيْرَة - رَضِيَ اللهُ عُنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا اتَّخَذَ الفَيء دُولاً وَالأمانةُ مُغْنَمَا وَالزكاةُ مَغْرمًا وَتُعلّمَ لِغَيْرِ الدِّينِ وَأطاعَ الرَّجُلٌ امْرَأتَهُ وَعَقَّ أُمَّهْ، وَأَدْنَى صَدِيقهُ وَأَقْصَى أَبَاهُ، وَظَهَرِتِ الأَصْواتُ في الْمَسَاجِدِ وَسَادَ القبيلةَ فَاسْقُهُمْ، وَكَانَ زَعِيمُ القَومِ أَرْذَلَهُمْ، وَأُكْرَمَ الرّجُلُ مَخَافَةِ شَرِّه وظَهرتِ القَيْنَاتُ والمعازفُ، وشُرِبَتِ الخمورُ، ولَعَنَ آخِرُ هَذِهِ الأُمَّةُ أَوْلَهَا فَارْتَقِبُوا عِنْدَ ذَلِكَ رِيحًا حَمْرَاءَ وَزَلْزَلَةَ وَخَسْفَا وَمَسَخَا، وَقَذْفَا وَآياتِ تَتَابَع كَنِظَامِ قُطِعَ سلْكه فَتَتَابَعْ» . شِعْرًا: قَدِّم لِنَفسِكَ تَوبَةً مَرجُوَّةً ... قَبلَ المَماتِ وَقَبلَ حَبسِ الأَلسُنِ بادِر بِها عُلَقَ النُفوسِ فَإِنَّها ... ذُخرٌ وَغُنمٌ لِلمُنيبِ المُحسِنِ 4- يَنْبَغِي تَجْنِيبُ الْمَسَاجِدِ البَيْع والشرّاء، ورَفْع الصّوتِ وَنَشْدَانْ الضَّالةِ فِيهَا. واللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّم. (فَصْلٌ) : وَيَحْرَمُ فِي الْمَسْجِد البيعُ وَالشِّرَاء، فَإِنْ فَعَلَ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لِحَدِيثِ عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن

البيع والابتياعِ وعَنْ تَنَاشُدِ الأَشْعَار في المساجِدِ) . رواهُ أحْمد، وأبو داود، والنِّسَائي، والترمذي وحَسّنه. وَيُسَنُّ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ بَاعَ أَوْ اشْتَرَى في المسجد: لا أَرْبَحَ اللهُ تِجَارَتَك، لِمَا وَرَدَ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لاَ أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ وَإِذَا رَأَيْتُمْ مَنْ يَنْشُدُ ضَالَّةً فَقُولُوا: لاَ رَدَّها اللَّهُ عَلَيْكَ» . رواهُ الترمذي، والدارمي. وَمِمَّا يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهُ، والتحذيرُ عَنْهُ وَإِبْعَادُهُ عَنْ المساجدِ الكُتُبِ التِي فِيهَا صُورُ ذَوَاتِ الأَرْوَاحِ، كَالهِجَاءِ لِلسَّنَةِ الأولى الاِبْتِدَائِيَةِ، وَكَالمطالَعَةِ لِسَائِرِ السَّنَواتِ وَكالعلومِ، فإنَّ بَعْضَ التَّلامِيذِ يَأتُونَ بِهَا إِلى المسَاجدِ لِيُطَالِعوا فِيهَا وَإِذَا تَخَلَّقَتْ وَضَعَها في المسجد، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ ابنِ عُمَرَ - رَضِي اللهُ عَنْهُمَا – قَالَ: وَعَدَ رَسُولَ اللهِ جِبْرِيلُ أَن يَأْتِيَهُ فَرَاثَ عليهِ حَتَّى اشْتَدَّ عَلَى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرَج فَلَقِيهَ جِبْرِيلُ فَشَكا إليه فقال: (إنَّا لا نَدْخُلِ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ ولا سُورة) . رواهُ البُخَاري. وَيُسَنُّ صَوْنُ المسجد عن إنْشَادِ شِعْرٍ قَبِيحٍ، وَإِنْشَادِ ضَالَّة وَنُشْدَانِهَا، وَيُسَنُّ لِسَامِع نُشْدَانِ الضَّالة أَنْ يَقُول: لا رَدّهَا الله عَلَيْكَ، لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هريرة - رَضِيَ اللهُ عُنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَمِعَ رَجُلاً يُنْشِدُ فِي المسجدِ ضَالَّةً فَلَيْقُلْ: لا أَدَّاهَا الله إليكَ، فَإِنَّ المساجِدَ لَمْ تُبْنَ لِهَذَا» . رَواهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِم، وابن مَاجَة. وَعَنْ بُرَيْدَةَ: أَنَّ رَجُلاً نَشَدَ في المسجِدِ فَقَال: مَنْ دَعَا إلى الجَمَل الأحْمَر؟ فقال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا وَجَدْتَ، إِنَّمَا بُنِيَتِ المساجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ» . رواهُ أحْمَدُ، وَمُسْلِمُ، وابن ماجَة. 5- حُرْمَةِ الْمُبَالَغةِ في زَخْرَفَةِ الْمَسَاجِدْ:

وَتَحْرُمُ زَخْرَفَتُهَا بِنَقْشٍ وَصِبْغٍ وَكِتَابَةٍ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُلْهِي الْمُصَلِّي عَنْ صَلاتِهِ غَالِبًا، وَإِنْ فُعِلَ ذَلِكَ مِنْ مَالِ الوقْفِ حَرُمَ فِعْلُه، وَوَجَبَ ضَمَانُ مَالِ الْمُوْقَفِ الذي صُرِفَ فِيهِ لا لِمَصْلَحةٍ فِيهِ. عَنْ ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا أُمِرْتُ بِتَشيِدِ المساجد» . قَالَ ابن عَبَّاس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: (لَتُزَخْرِفُنَّها كَمَا زَخْرَفَتِ اليهودُ والنّصارى» . رواه أبو داود. وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاس في المساجد» . رواهُ الخمسةُ إلا الترمذي. وقالَ البخارِي: - رَحِمَهُ الله - قالَ أبو سَعيد: كَانَ سَقْفُ المسجدِ مِنْ جَريدِ النَّخل وأمَرَ عُمَرُ بِبِنَاءِ المسجِدِ وَقَال: أَكِنَّ الناسَ مِن المطر، وَإِيَّاكَ أن تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ النَّاسَ. وَيَنْبَغِي أَنْ لا يَسْتَعْمِلَ النَّاسُ حُصُرَ المسجدِ وَقَنَادِيلَهُ وَسَجَاجِيدَهُ وَبُسَطَهُ وَسَائِرَ ما وُقِفَ لِمَصَالِحِه في مَصَالِّهِمْ، كالأعراسِ وَيَجِبُ صَرْفُ الوَقْفِ لِلْجِهَةِ التِي عَيَّنَهَا الواقِفْ. 6- كَراهةُ التِزَامِ مَوْضِع مُعَيَّنٍ مِنَ الْمَسْجِدِ للصَّلاةِ لِغيرِ الإمام: وَيَكْرَهُ لِغَيْرِ الإِمَامِ مُدَاوَمَةُ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ مِن المَسجدِ لا يُصَلي إلا فِيه لِمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن شبل قال: نَهَى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ: «نَقَرْةِ الغُرابْ، وَافْتِرَاشِ السَّبْع، وَأنْ يُوَطّنَ الرِّجلُ المكانَ في المسجد كَمَا يُوَطّنُ البَعِيرُ» . رواهُ أبو داود، والنِّسائي، والدّارمي. فَإِنْ دَاوَمَ عَلى الصلاة بموضعٍ فَلَيْسَ هو أَوْلَى مِنْ غَيْرهِ فَإِذَا قَامَ مِنْه فلغيره أجُلُوسُ فِيهِ لِحَدِيثِ: «مَنْ سَبَقَ إلى مباحٍ فَهُوَ لَه» . قالَ في الاختِيَارَاتِ الفقهيةِ وَإِذَا فَرَشَ مُصلى وَلَمْ يَجْلِس عليه لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَلِغَيْرِهِ رَفْعُهُ في أَظْهَرِ قَوْلَي العُلَماء قُلْتُ: وَمِثْلُهُ وَضْعُ خِرْقَة أوْ عَصَا أو نَعْل أوْ تَقْدِيم خَادِمٍ أَوْ وَلَدٍ ثُمَّ إِذَا حَضَرَ قامَ عَنْهُ وَجَلَسَ فِيهِ فَهَذَا لا يَجوزُ. والله أعلم.

وَقَالَ في إِغَاثَةِ اللَّهْفَانْ: وَلَمْ يُصَلِّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على سُجَّادَةٍ قَطْ وَلا كَانَتْ السُّجّادَةُ تُفْرَشُ بَيْنَ يَدَيْهِ بَلْ كَانَ يُصَلّي عَلَى الأَرْض وَرُبَّمَا سَجَدَ على الطِّينِ وَكانَ يُصَلّي عَلى الْحَصِيرِ فَيُصَلي على ما اتَّفَقَ بَسْطُهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ صَلَّى على الأَرض. قَالَ النَّاظِمُ لاخْتِيَارَاتِ شَيْخِ الإِسْلام بن تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ الله: وَوَضْعُ الْمُصَلّي في الْمَسَاجِدِ بِدْعَةٌ ... وَلَيْسَ مِنَ الْهَدْي القَوِيمِ الْمُحَمَّدِ وَتَقْدِيمُهُ في الصّفِ حَجْرٌ لِرَوْضِةٍ ... وَغَصْبٌ لَهَا عَنْ دَاخِلٍ مُتَعَبِّدِ وَيُشْبِهُهُ وَضْعُ العَصَاءِ وَحُكْمُهَا ... كَحُكْم الْمُصَلَّى في ابْتِدَاعِ التَّعَبُّدِ بَلَى مُسْتَحَبَّ أَنْ يُمَاطَا وَيُرْفَعَا ... عَنْ الدَّاخِلينَ الرَّاكِعينَ بِمَسْجِدِ لَئِنّ لَمْ يَكُنْ هَذَا بِنَص مُقَرَّرٍ ... وَلا فِعْلُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ فَخَيْرُ الأُمُورِ السَّالِفَاتُ عَلى الْهُدَى ... وَشَرُّ الأمورِ الْمُحْدَثَاتُ فَبَعّدِ اللَّهُمَّ أَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ الأَبْرَارْ، وَآتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) في الأيَّامِ التِي يُسَنّ أَوْ يَكْرَهُ صِيَامُها وَيَبْحثُ في: 1- مَا وَرَدَ مِنَ الثَّوَابِ العظيم في صَوْم بَعْضِ الأَيَّام. 2- بَيَانُ الأَيَّامِ التِي يُكْرَهُ أَوْ يَحْرُمَ صِيَامُهَا، وَالنَّهْي عَنِ التَّشَبُّهِ بالغير. 1- مَا وَرَدَ مِنَ الثَّوَابِ العظيم في صَوْم بَعْضِ الأَيَّام: يُسَنُّ صِيَامُ أَيَّامِ البيضْ، وَهِيَ الثَّالثُ عَشَرَ وَالرَّابعُ عَشَرَ والخامِسُ عشر، لِمَا

وَرَدَ عَنْ أَبَي ذَرٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا صُمْتَ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاَثَا فَصُمْ: ثَلاَثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ» . رواهُ الترمِذى. وَعَنْ قَتَادَة بْنِ مِلْحَانُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قالَ: (كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يأمُرنا بِصِيَامِ أَيَّامِ الْبِيضِ ثَلاَثَ عَشْرَةَ، وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَخَمْسَ عَشْرَةَ) . رواه أبو داود وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: (أَوْصَانِي خَلِيلِي - صلى الله عليه وسلم - بصِيَامِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيِ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. عَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: (أَوْصَانِي خَلِيلِي - صلى الله عليه وسلم - بِثَلاَثٍ لَنْ أَدَعَهُنَّ مَا عِشْتُ: بِصِيَامِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَلاَةِ الضُّحَى وَبِأَنْ لاَ أَنَامَ حَتَّى أُوتِرَ) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَيُسَنّ صِيامُ أَيَّامِ الاثنين والخَمِيسِ، وَسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أنّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يومِ الاثْنِينِ فَقَالَ: «ذَلِكَ اليَوْمُ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ فِيهِ، وَأَنْزِلَ عَليَّ فِيهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَوْم الاثْنَيْنِ والخَمِيس فَأُحِبُّ أنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ» . رواهُ التّرمِذي، وَقَال: حَدِيثُ حَسَنٌ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِغَيْرِ صَوْم. وَعَنْ أَبِي أَيُّوبٍ الأنْصَارِيّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمّ أتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيامِ الدَّهْرِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَاسْتَحَبَّ صِيَامُ سِتَّةٍ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالِ أَكْثَرُ العُلَمَاء وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَطَاوُوسٍ، والشَّعْبِي، وَمَيْمُونِ بْنِ مَهْرَان وَهُوَ قَوْلُ ابْنُ الْمُبَارَكْ - رَحِمَهُمُ الله - وأكْثَرُ العُلَمَاء: عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ صِيَامُها مُتَتَابَعة أولُ الشَّهْرِ ثَانِي الفُطْر وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوع: «مَنْ صَامَ سِتَّةَ أَيَّامٍ بَعْدَ الفِطْرُ مُتَتَابِعَة فَكَأَنَّمَا صَامَ السَّنَة» . أخْرَجَهُ الطَّبَرَانِي وَغَيْرِهِ.

وَفِي حَدِيثِ عِمْرَان بنُ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قال لِرَجُل: «إِذَا أَفْطَرْتَ فَصُمْ» . وَإِنَّمَا كَانَ صِيَامُ رَمَضَانَ وإتِّبَاعُهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوّالَ يَعْدِلُ صِيَامَ الدَّهْرِ لأَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا. وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ مُفْسَّرًا مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «صِيَامُ رَمَضَانَ بِعَشْرَةِ أَشْهُر، وَصِيَامُ سِتَّةِ أَيَّامٍ بِشَهْرَيْنِ، فَذَلِكَ صِيَامُ السَّنَةِ» . يَعْنِي صِيَام رَمَضَانَ وَسِتّةِ أَيَّامٍ بَعْدَهْ. أَخْرَجَه: الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِي وَهَذَا لَفْظُ ْ. وَخَرَّجَهُ: ابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، صَحَّحَهُ أَبُو حَاتِم الرَّازِي. وَيُسَنُّ صِيَامُ يومِ عَرَفَة لِغَيْرِ حَاجٍّ بِهَا، وَشَهْرُ الْمُحَرَّمِ وَآكِدُهُ العَاشِرُ ثُمَّ التَّاسِعُ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عُنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانِ شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلاةِ بَعْدُ الفَرِيضَةِ صَلاةُ اللَّيْلِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وفي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ قَال: قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ مَنْ يَصُومُ الدَّهْرَ كلَّه؟ قَالَ: «لاَ صَامَ وَلاَ أَفْطَرَ» . وقال: «لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يُفْطِرْ» . قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمَيْنِ وَيُفْطِرُ يَوْمًا؟ قَالَ: «وَيُطِيقُ أَحَدٌ» . قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا؟ قَالَ: «ذَلِكَ صَوْمُ دَاوُدَ» . قَالَ: كَيْفَ مَنْ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمَيْنِ؟ قَالَ: «وَدِدْتُ أَنِّى طُوِّقْتُ ذَلِكَ» . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ثَلاَثٌ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، فَهَذَا صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ، صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ، وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ احْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ ابن عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَامَ يَوْمَ عَاشُورَاء وأَمَرَ بِصِيَامِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْهُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: «لَئِنْ بَقِيتُ إلى قَابِلٍ لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (نَهَى عَنْ صَوْم يومِ عَرَفَة بِعَرَفَةَ) . رَوَاهُ أَبُو دَاود، والنِّسَائِي، وابنُ خُزَيْمَةَ في صَحِيحِهِ. وَيُسَنُّ صِيَامِ تَسْعُ ذِي الحِجَّةِ، لِمَا وَرَدَ عَنْ ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ أَيَّام العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إلى الله مِنْ هَذِهِ الأَيَّامْ» . يَعْنِي أَيَّامِ العَشْرِ قَالُوا: يَا رسولَ اللهِ وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: «وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعُ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ» . رَوَاهُ البُخَارِي. شِعْرًا: تَكَلَّمْ بِمَا يَنْفَعْكَ في الدِّينِ إِنَّمَا ... كَلامُكَ حَيُّ وَالسُّكُوتُ جَمَادُ وَدَاوِمْ عَلَى ذِكْرِ الإِلَهِ فَإِنَّهُ ... شِفَاءُ لِقَلْبٍ قَدْ غَشَاهُ فَسَادُ وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عُنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ أَيَّامِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ أَنْ يُتَعَبَّدَ فِيهَا مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ وَإِنَّ صِيَامَ يَوْمٍ فِيهَا لَيَعْدِلُ صِيَامَ سَنَةٍ، وَلَيْلَةٍ فِيهَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ» . رواهُ ابن ماجة، والتِّرْمِذِيُّ وقالَ: حديثٌ غريب. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلَك التَّوبَةَ وَدَوامَها، وَنَعُوذُ بِكَ مِن المَعْصِيَةِ وأَسْبَابها، اللَّهُمَّ أفِضِ علينا مِن بَحْرِ كَرَمِكَ وَعَوْنِك حَتَى نَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا على السّلامَةِ مِن وَبَالِها وَارْأُفْ بِنَا رَأْفَةَ الحَبِيبِ بِحَبِيبِهِ عِنْدَ الشّدَائِدِ وَنُزُولِها، وارْحَمْنا مِن هُمُومِ الدّنْيَا وَغُمومِها بالرَّوْحِ والرّيْحانِ إِلى الجنةِ وَنَعِيمِها، وَمَتَّعْنا بالنَّظَرِ إِلى وَجْهكَ الكريم في جَنَّاتِ النَّعيمْ مَعَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصّدّيقينَ والشَّهداءِ والصّالِحين، واغْفِرْ لَنَا ولوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ المُسْلِمينَ، الأَحياءِ منهم والميتينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصحبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) : في بَيَانِ الأَيَّامِ التِي يُكْرَه أَوْ يُحْرَم صِيَامُهَا وَالنَّهْيِ عَنْ التَّشَبُّه بالغَيْرِ

وَيُكْرَهُ إِفْرَادُ رَجَبَ بِالصَّوْمِ، وَالْجُمُعَةِ، وَالسَّبْتِ، أَمَّا رَجَبٌ: فَلما رَوى أَحْمد - رَحِمَهُ الله - عَنْ خَرْشَةَ بِنْ الْحُرِّ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ يَضْرِبُ أَكُفَّ المُترِّجِبين حَتَّى يَضعُوها في الطَّعَامِ وَيَقُولُ: كُلُوا! فَإِنَّمَا هُوَ شَهْرٌ كَانَتْ تُعَظِمُهُ الْجَاهِلِيَّةُ. وَبِإسْنَادِهِ عَنْ ابن عُمَرْ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَأَى النَّاس وَمَا يَعِدّونَهُ لِرَجَبْ كَرِهَه وَقَالَ: (صُومُوا مِنْهُ وَأَفْطِرُوا) . وَأَمَّا الْجُمُعَة: فَلِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا تُخُصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةَ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي، ولا تُخُصُّوا يَومَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ من بَيْن الأَيَّامِ إِلا أَنْ يَكُونَ في صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْهُ - رَضِيَ اللهُ عُنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَصُومَنّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلا أَنْ يَصُومَ يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ يَوْمًا بَعْدَه» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا السَّبْتُ: لِمَا رَوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ عَنْ أُخْتِهِ - رَضِي اللهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لاَ تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إِلاَّ فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلاَّ لِحَاءَ عِنَبَةٍ، أَوْ عُودَ شَجَرَةٍ فَلْيَمْضُغْهُ» . رواهُ الخمسَةُ إِلا النِّسَائِي. وَيُكْرَهُ تَقَدُّمِ رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عُنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَقْدِمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلا يَوْمَيْنِ إلا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَيُكْرَهُ صَوْمُ الدَّهْرِ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا صَامَ مَنْ صَامَ الأَبَدْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلِمُسْلِمْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بِلَفْظِ: «لا صَامَ وَلا أَفْطَرَ» .

وَيُكْرَهُ صَوْمِ النَّيْرُوزِ وَالْمَهْرَجَانِ وَكُلَّ عِيدٍِ لِلْكُفَّارَ، أَوْ يَوْمٍ يُفْرِدُونَهُ بِالتَّعْظِيمِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُوَافَقَةِ الكُفَّار في تَعْظِيمِهَا قَالَ عَبْدُ اللهِ بن عُمَرَ - رَضِي اللهُ عَنْهُمَا -: مَنْ تَأَسَّى بِبِلادِ الأَعَاجِمِ نَيْرُوزِهِمْ وَمَهْرَجَانِهمْ وَتَشَبَّهَ بِهم حَتَّى يَمُوتُ حُشرَ مَعَهُمْ. قَالَ الشَّيْخُ وَغَيْرِهِ: مَا لَمْ يُوافِقْ عَادَةً أَوْ يَصُمْهُ عَنْ نَذْرٍ وَنَحْوِهْ قَالَ: وَكَذَلِكَ يَوْمُ الْخَمِيسِ الذي يَكُونُ في آخِر صَوْمِهِمْ كَيَومِ (عيدِ المائِدَةِ) وَيَوْمِ الأَحد الذي يُسَمّونَهُ (عِيْدَ الفُصْحِ) و (عيد النُّورِ) و (العيدِ الكَبِيرِ) وَنَحْو ذَلِكَ لَيْسَ لِلْمُسْلِمْ أَنْ يُشَابِهَهُمْ في أَصْلِهِ وَلا فِي وَصْفِهِ. وَقَالَ: لا يَحِلّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَشَبَّهُوا في شَيْء مِمَّا يَخْتَصُّ بأعْيَادِهِم لا مِنْ طَعامٍ، وَلا مِنْ لِبَاسٍ، وَلا اغْتِسَالٍ، وَلا إِيقَادِ نِيْرَانٍ، ولا تَبْطِيلِ عَادَةٍ مِنْ مَعِيشَةٍ أَوْ عِبَادَةٍ أَوْ غَيْر ذَلِكَ، وَلا تُمَكَّنُ الصّبْيَانِ وَنَحْوِهِمْ مِن اللَّعِبَ التِي في الأَعْيَادِ، وَلا إِظْهَارِ زِينَةٍ. وَبِالْجُمْلَةِ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَخُصُّوا أَعْيَادَهُمْ بِشَيءٍ مِنْ شَعَائِرِهِمْ بَلْ يَكُونُ يَوْمَ عِيدِهم عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ كَسَائِرِ الأَيَّامِ، لا يَخُصَّهُ الْمُسْلِمُونَ بِشَيءٍ مِنْ خَصَائِصَهِمْ. وَتَخْصِيصُهُ بِمَا تَقَدَّمَ لا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءْ، بَلْ قَدْ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ العُلَمَاءَ إلى كُفْرِ مَنْ يَفْعَلُ هَذِهِ الأُمُورَ لِمَا فِيهَا مِنْ تَعْظِيمِ شَعَائِرِ الْكُفْرِ لأنهم أَعْدَاءٌ الله والمسلمين ولا يألون جهدًا فيما يَضُرُّ الْمُسْلِمِين. شِعْرًا: تَوق مُعَادَات الإلهِ فإنَّهَا ... مُكَدِّرةٌ لِلصَّفْوِ في كُلِّ مَشْرَبِ آخر: إِذا وَتَرتَ أمرًا فَاِحذَر عَداوَتَهُ ... مَن يَزرَعِ الشَوكَ لا يَحصُد بِهِ عِنَبا إِنَّ العَدُوَّ وَإِن أَبدى مُسالَمَةً ... إِذا رَأى مِنكَ يَوماً غِرَّةً وَثَبا آخر: وَمَا غُرْبَةُ الإنْسَانِ في شُقَّةِ النَّوى ... وَلكنَّهَا وَاللهِ في بَلَدِ الكُفْر

وقَدْ اشْتَرَطَ عُمَرُ وَالصَّحَابَةُ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِين أَن لا يُظْهِرُوا أَعْيَادَهُمْ في دِيَارِ الْمُسْلِمِينْ فَكَيْفَ إِذَا أَظْهَرَها الْمُسْلِمُونَ؟ حَتَّى قَالَ عُمَرُ بن الخَطَّاب: لا تَتَعَلَّمُوا رِطَانةَ الأَعَاجِمِ، وَلا تَدْخُلُوا عَلَى المشركين في كَنَائِسِهمْ يَوْمَ عِيدِهِمْ، فَإِنَّ الشُّخْطَةَ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَفْعَلُ مَا يُسْخِطُ اللهِ بِهِ عَلَيْهِمْ مِمَّا هُوَ مِنْ شَعَائِرِهِمْ؟ وَقَالَ عُمَرُ: مَا تَعَلّمَ رَجُلٌ الفَارِسِيَّةَ إلا خَبَّ وَلا خَبَّ إلا نَقَضَتْ مَرُوءَتُهْ. وَقَدْ قَالَ غَيْرُ واحد من السَّلَفِ في قَوْلِهِ تَعَالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} قَال: أَعْيَادُ الكُفَّارِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا في شُهُودِهَا مِنْ غَيْرِ فِعْل فَكَيْفَ بِالأَفْعَالِ التِي هِيَ مِنْ خَصَائِصِهَا؟! وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - في الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَشَبّهَ بقومٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» . وَفِي لَفْظ: «لَيْسَ مِنّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا» . وَهُوَ حَدِيثٌ جَيّدٌ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي التَّشَبُّهِ - وَإِنْ كَانَ مِنْ العَادَاتِ فَكَيْفَ التَّشَبُّهِ بِهِمْ فِيمَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ؟ وَقَالَ شَيْخُ الإسْلامِ رَحِمَهُ الله: اعْتِيَادُ اللّغَةِ يُؤَثِّر في العَقْلِ والخُلُقِ والدِّينِ تَأْثِيرًا قَوِيًّا بَيِّنًا بِحَسَبِ تِلْكَ اللُّغَةِ. وَقَالَ في اقْتِضَاءِ الصِّرَاطِ المستقيم: عن نافِع عَنْ ابنُ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ يُحْسِنُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بالعَرَبِيّة فَلا يَتَكَلّمُ بالعُجْمَةِ فَإِنَّهُ يُوَرّثُ النِّفَاق» . قَالَ ابنُ القيمِ - رَحِمَهُ الله - عَلَى حَدِيث: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» أَي بالانْدِمَاجِ وَتَلاشَتْ شَخْصِيَّتُه فِيهم فَمَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلا عَنْ تَعْظِيمٍ وَإِكْبَارٍ لَهُمْ فَهُوَ لِذَلِكَ يُلْغِي شَخْصِيَّتَهُ وَيَتَلاشَى في شَخْصِيَّةِ الآخَرين، فَمَنْ تَشَبَّهَ بالرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابِهِ بِإلْغَاءِ شَخْصِيَّةِ الجاهليةِ السَّفِيهَةِ وَانْدِمَجِ في مَعْنَوِيَّةِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابِهِ عِلْمًا وَعَمَلاً وَاعْتِقَادًا وَأَدَبًا، فَهُوَ بِلا شَكٍ مِنْهُمْ.

وَمَنْ تَشَبَّعَ بالإِفْرِنْجِ فِي لِبَاسِهِم وَأَخْلاقِهِمْ وَنُظُمِهِمْ وَمُعَامَلَتِهِمْ فَهُوَ بِلا شَكّ إِفْرَنْجِي غَيْرُ مُسْلِمٍ، وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمْ، فَلِهَذَا التَّشَبُّهِ وَنَتَائِجِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ نَرَى الْمُعْظِّمِينَ للنَّصَارَى وَالوَثَنِيِّينَ الْحَرِيصِينَ عَلَى التَّشَبُّهِ بِهِمْ والانْدِمَاجِ فِيهِمْ يُعَاوِنُونَهُمْ على الضَّرَرِ بِدِينِهم وَبِلادِهِمْ وَأُمَمِهِم عَنْ قَصْد وَعَنْ غَيْرِ قَصْدٍ. أهـ. وَيُكْرَهُ وصَالٌ إِلا مِنَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الْوِصَالِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: فَإِنَّكَ تُوَاصِلُ يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ: «وَأَيُّكُمْ مِثْلِي إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي» . فَلَمَّا أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا عَنِ الْوِصَالِ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلاَلَ، فَقَالَ: «لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلالُ لَزِدْتُكُمْ» . كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ، حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلا يَجُوزُ صَوْمُ العِيدَيْن عَنْ فَرْضٍ أَوْ تَطَوُّعٍ وَإِنْ قَصَدَ صِيَامَهَا كَانَ عَاصِيًا وَلا يُجْزءُ عَنْ الفَرْضِ. وَلا يَجُوزُ صِيَامُ أَيَّام التَّشْرِيقِ إِلا عَنْ دَمِ مُتْعَةٍ وَقَرَانٍ لِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عَنْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّهُ نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ: يَوْمِ الْفِطْرِ، وَيَوْمِ النَّحْرِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى أَبُو عُبَيْد مَوْلَى أَزْهَرْ قَالَ: شَهِدْتُ العِيدَ مَعَ عُمَرَ ابنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - فَقَالَ: (هَذَانِ يَوْمَانِ نَهَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صِيَامِهِمَا: يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ، وَاليَوْمُ الآخَرُ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسْكُكُمْ) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَمَّا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، فَلِمَا رُوِيَ عَنْ نُبَيْشَةِ الهُذَلِي - رَضِيَ اللهُ عُنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ عَائِشَةِ وابن عُمَرَ - رَضِي اللهُ عَنْهُمْ - أَنَّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: (نَهَى عَنْ صَوْمِ خَمْسَةِ أَيَّامٍ في السَّنَةِ: يَوْمِ الفِطْرِ، وَيَوْمِ النَّحْرِ، وَثَلاثَةِ أَيَّام التَّشْرِيق) . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي. اللَّهُمَّ نَجَّنَا بِرَحْمَتِكَ مِن النَّارِ وَعَافِينَا مِنْ دَارِ الْخِزْيِ وَالبَوَارِ وَأَدْخِلْنَا بِفَضْلِكَ الْجَنَّةَ دارَ القَرارِ وَعَامِلْنَا بِكَرَمِكَ وَجُودِكَ يَا كَرِيمُ يَا غَفَّارُ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَوَائِدْ) : مُجَالَسةُ العَارِفِ الزَّاهِدِ تَدْعُو مِنْ سَتٍّ إلى سِتْ: مِنَ الشَّكِ إلى اليَقِينْ. وَمِنْ الرِّيَاءِ إِلى الإِخْلاصِ. وَمِنْ الغُفْلَةِ إِلى الذِّكْرِ. وَمِنْ الرَّغْبَةِ في الدُّنْيَا إِلى الرَّغْبَةِ في الآخِرَةِ. وَمِنْ الكِبْرِ إِلى التَّوَاضُعِ. وَمِنْ سُوءِ الطَّوِيَّةِ إلى النَّصِيحَةْ. الأَفْضَلُ في أَوْقَاتِ السَّحَرِ الاشْتِغَالُ بِقِرَاءَةِ القُرْآن وَالصَّلاةُ وَالاسْتِغْفَارِ. وفي وقت الأذان إجابة المؤذن والدعاء لأنه وقت إجابة. وفي وقت الصلوات الخمس الاستعداد لها والجد والاجتهاد والحرص على طرد الأفكار الصادة عن تأمل معاني الآيات والتسبيح والتكبير. والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه، والمبادرة إلى تأديتها في أول وقتها والخروج إلى الجامع وإن بعد كان أفضل لكثرة الخطا. والأفضلُ في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالمال أو الجاه أو البدن، الاشتغالُ بمساعدته وإغاثَتِهِ. والأفضلُ في وقتِ قراءة القُرآن الحرص على تدبره وتفهمه حتى كأَنَّ اللهَ

الأيام التي يسن صيامها والتي يكره صيامها والتي يحرم صيامها

تعالى يخاطبه به وَيَعزِمُ على تنفيذ أوامره واجتناب نواهيه. والأفضلُ في عشر ذو الحجة الاجتهاد والحرص على الإكثار من الأعمال الصالحة والدعاء والتضرع والإكثار من قراءة القرآن وذكر الله. والأفضل في الوقوف بعرفة الاجتهاد في الدعاء والتضرع والإكثار من قول: لا إله إلا الله. والأفضل في العشر الأخير من رمضان لزوم المساجد والخلوة والاعتكاف وتلاوة القرآن. والإكثار من الباقيات الصالحات والحرص على إخراج الزكاة في هذا الشهر المبارك وإفطار الصوام. والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته عيادتهُ، وحُضُورُ جنازته وتشييعُه وتقديم ذلك على خلواتك وَجَمْعِيَّتِكَ. والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاةِ الناس لك أداءُ واجبِ الصبر مع خلطتك بهم دون الهرب منهم. فإن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضلُ مِن الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه. والأفضلُ خلطتهم في الخير فهي خَيرٌ من اعْتِزَالِهِم فيه واعتزالهُم في الشر أفضل فإنْ علم أنه إذا خالطهم أزالهُ أو قلَّلَهُ فخلطتهم حينئذٍ أفضلُ من اعْتِزَالِهِم. شِعْرًا: إِنّي أَرِقتُ وَذِكرُ المَوتِ أَرَّقَني ... وَقُلتُ لِلدَّمْعِ أَسْعِدني فَأَسْعَدَني يَا مَنْ يَمُوتُ فَلَمْ يَحْزَنْ لِمَيتَتِهِ ... وَمَنْ يَمُوتُ فَمَا أَوْلاهُ بِالحَزَنِ تَبغي النَجاةَ مِنَ الأَحْدَاثِ مُحتَرِسًا ... وَإِنَّمَا أَنْتَ وَالعِلاتُ في قَرَنِ يَا صَاحِبَ الرُّوحِ ذي الأَنْفَاسِ في البَدَنِ ... بَينَ النَهارِ وَبَينَ اللَّيْلِ مُرتَهَنِ لَقَلَّما يَتَخَطّاكَ اِختِلافُهُمَا ... حَتّى يُفَرِّقَ بَينَ الرُّوحِ وَالبَدَنِ

طِيبُ الحَياةِ لِمَنْ خَفَّتْ مَئُونَتُهُ ... وَلَمْ تَطِبْ لِذَوِي الأَثقالِ وَالمُؤَنِ لَم يَبقَ مِمّن مَضَى إِلا تَوَهُّمُهُ ... كَأَنَّ مَنْ قَدْ مَضَى بِالأَمْسِ لَمْ يَكُنِ وَإِنَّمَا المَرءُ في الدُّنْيَا بِسَاعَتِهِ ... سَائِلْ بِذلِكَ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالزَمَنِ مَا أَوْضَحَ الأَمْرَ لِلْمُلْقِي بِعِبرَتِهِ ... بَيْنَ التَفَكُّرِ وَالتَجْرِيبِ وَالفِطَنِ أَلَسْتَ يَا ذَا تَرَى الدُّنْيَا مُوَلِّيَةً ... فَمَا يَغُرُّكَ فِيهَا مِنْ هَنٍ وَهَنِ لأَعْجَبَنَّ وَأَنّى يَنْقَضي عَجَبِي ... النَّاسُ في غَفلَةٍ وَالْمَوْتُ في سَنَنِ وَظاعِنٍ مِن بَياضِ الرَّيْطِ كُسْوَتُهُ ... مُطَيَّبٍ لِلْمَنايا غَيْرِ مُدَّهِنِ غادَرتُهُ بَعدَ تَشيِيعَيهِ مُنجَدِلاً ... في قُربِ دارٍ وَفي بُعدٍ عَنِ الوَطَنِ لا يَستَطيعُ اِنتِقاصاً في مَحَلَّتِهِ ... مِنَ القَبيحِ وَلا يَزدادُ في الحَسَنِ الحَمدُ لِلَّهِ شُكراً ما أَرى سَكَنًا ... يَلوي بِبَحبوحَةِ المَوتى عَلى سَكَنِ ما بالُ قَومٍ وَقَد صَحَّت عُقولُهُمُ ... فيما اِدَّعوا يَشتَرونَ الغَيَّ بِالثَمَنِ لِتَجذِبَنّي يَدُ الدُنيا بِقُوَّتِها ... إِلى المَنايا وَإِن نازَعتُها رَسِني وَأَيُّ يَومٍ لِمَن وافى مَنِيَّتَهُ ... يَومٌ تَبَيَّنُ فيهِ صورَةُ الغَبَنِ لِلَّهِ دُنيا أُناسٍ دائِبينَ لَها ... قَدِ اِرتَعَوا في رِاضِ الغَيِّ وَالفِتَنِ كَسائِماتٍ رَواعٍ تَبتَغي سِمنًا ... وَحَتفُها لَو دَرَت في ذَلِكَ السِمَنِ اللَّهُمَّ اسْلُكْ بِنَا مَسْلَكَ الصَّادِقِينَ الأَبْرَارْ، وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الْمُصْطَفِينَ الأَخْيَار، وَآتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. اللَّهُمَّ أحْي قُلُوبًا أَمَاتَهَا البُعْدُ عَنْ بَابِكَ، وَلا تُعَذّبْنَا بَأليمِ عِقَابِكَ يَا أَكْرَمَ مَنْ سَمَحَ بالنَّوَالِ وَجَادَ بَالإِفْضَالِ، اللَّهُمَّ أَيْقَظْنَا مِنْ غَفْلَتِنَا بُلطْفِكَ وَإِحْسَانِكَ، وَتَجَاوَزْ عَنْ جَرَائِمِنَا بَعَفْوِكَ وَغُفْرَانِكَ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ) : في الْحَثِّ عَلَى تَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عِبَادَ اللهِ عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللهِ فَإِنَّهَا وَصِيَّةُ اللهِ لِلأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللهَ} فَمَا مِنْ خَيْرٍ عَاجِلٍ وَلا آجِلٍ ظَاهِرٍ وَلا بَاطِنٍ إِلا وَتَقْوَى اللهِ سَبِيلٌ مُوصِلٌ إِلَيْهِ وَوَسِيلَةٌ مُبْلِغَةٌ لَهُ وَمَا مِنْ شَرٍّ عَاجِلٍ وَلا آجِلٍ ظَاهِرٍ وَلا بَاطِنٍ إلا وَتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ حِرْزٌ مَتِينٌ وَحُصْنٌ حَصِينٌ لِلسَّلامَةِ مِنْهُ وَالنَّجَاةِ مِنْ ضَرَرِهِ. شِعْرًا: خِصَالٌ إِذَا لَمْ يَحْوِهَا المرء لَمْ يَنَلْ ... مَنَالاً مِنْ الأُخْرَى يَكُونُ لَهُ ذُخْرَا يَكُونُ لَهُ تَقْوَى وَزُهْدٌ وَعِفَّة ... وَإِكْثَارُ أَعْمَالٍ يَنَالُ بِهَا أَجْرَا آخر: لَيْسَ يَبْقَى عَلَى الْجَدِيدَيْنِ إِلا ... عَمَلٌ صَالِحٌ وَذِكْرٌ جَمِيلْ آخر: ... وَمَا في النَّاس أَحْسَنُ مِنْ مُطِيعٍ ... لِخَالِقِهِ إِذَا عُدَّ الرَّجَالُ آخر: لَنِعْمَ فَتَى التَّقْوَى فَتَى طَاهر الْخُطَا ... خَمِيصٌ مِنْ الدُّنْيَا تقيُّ الْمَسَالِكِ فَتَىً مَلَكَ الأَهْوَاءَ أَنْ يَعْتَبِدْنَهُ ... وَمَا كُلُّ ذِي لُبٍّ لَهُنَّ بِمَالِكِ وَكَمْ عَلَّقَ اللهُ العظيمُ في كِتَابِهِ العَزِيزِ عَلَى التَّقْوَى مِنْ خَيْرَاتٍ عَظِيمَةٍ وَسَعَادَاتٍ جَسِيمَةٍ مِنْ ذَلِكَ الْمَعِيَّةُ الخاصَّةُ الْمُقْتَضِيَةُ للحفظ والعِنَايَةِ والنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ، قَالَ تَعَالى: {وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} وَمِنْ ذَلِكَ الْمَحَبَّةُ لَمِنَ اتَّقَى اللهَ، قال الله تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} . وَمِنْ ذَلِكَ التَّوْفِيقُ لِلْعِلْمِ قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ} وَمِنْ ذَلِكَ نَفْيُ الخَوْفِ والحُزْنِ عَنِ المُتَّقِي المُصْلِح قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} وَمِنْ ذَلِكَ الفُرْقَانُ عِنْدَ الاشْتِبَاهِ وَوَقُوعِ الإشْكَالِ وَالكَفَّارَةِ لِلسَّيِّئَاتِ وَالمَغْفِرَةِ لِلذُّنُوبِ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .

وَمِنْ ذَلِكَ النَّجَاةُ مِنَ النَّارِ قَالَ اللهُ تَعَالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا} ، وَقَالَ تَعَالى: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} ، وَمِنْ ذَلِكَ الْمَخْرَجُ مِنْ الشَّدَائِدِ وَالرِّزْقُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ، قَالَ تَعَالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} . وَمِنْ ذَلِكَ اليُسْرُ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} ، وَمِنْ ذَلِكَ عِظَمُ الأَجْرِ، قَالَ تَعَالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} ، وَمِنْ ذَلِكَ الوَعْدُ مِنَ اللهِ بِالْجَنَّةِ، قَالَ تَعَالَى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ} الآيَاتْ، إِلى قَوْلِهِ: {مَن كَانَ تَقِيّاً} . شِعْرًا: وَأَحْسَنُ وَجْهٍ في الوَرَى وَجْهُ مُتَّقٍ ... وَأَقْبَحُ وَجْهٍ فِيهِمْ وَجْهُ كَافِرِ آخر: وَمِنْ أَضْيَعِ الأَشْيَاءِ مُهْجَةُ ذِي التُّقَى ... يَجُوزُ عَلَى جَوْبَائِهَا حُكْمُ جَائِرِ وَقَالَ تَعَالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} ، وَقَالَ تَعَالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} ، وَقَالَ تَعَالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} ، وَقَالَ تَعَالى: {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} . وَمِنْ ذَلِكَ الكَرَامَةُ عِنْدَ اللهِ بالتَّقْوَى، قَالَ تَعَالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ، إِذَا فَهِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ التَّقْوَى هِيَ امْتِثَالُ الأَوَامِرْ وَاجْتِنَابُ النَّوَاهِي، فَالْمُتَّقُونَ هُمُ الذِّينَ يَرَاهُم اللهُ حَيْثُ أَمْرَهُمْ وَلا يُقْدِمُونَ عَلَى مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ. الْمُتَّقُونَ هُمُ الذين يَعْتَرِفُونَ بالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِمْ وَيَعْرِفُونَهُ وَيُؤَدُّونَهُ، وَيُنْكِرُونَ البَاطِلَ وَيَجْتَنِبُونَهُ وَيَخَافُونَ الرَّبَّ الْجَلِيلَ الذِي لا تُخْفَى عَلَيْهِ خَافِيةٌ، الْمُتَّقُونَ يَعْمَلُونَ بِكِتَابِ اللهِ فَيُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَهُ وَيُحِلُّونَ مَا أَحَلَّهُ.

وَلا يَخُونُونَ فِي أَمَانَةٍ، وَلا يَرْضُونَ بِالذُّلِّ وَالإِهَانَةِ، وَلا يَعْقُونَ وَلا يَقْطَعُونَ، وَلا يُؤْذُونَ جِيرَانَهُمْ، وَلا يَضْرِبُونَ إِخْوَانَهُمْ، يَصِلُونَ مَنْ قَطَعَهُمْ، وَيُعْطُونَ مَنْ حَرَّمَهُمْ، وَيَعْفُونَ عَمَّنْ ظَلَمَهُمْ، الْخَيْرُ عِنْدَهُمْ مَأْمُولٌ، وَالشَّرُّ مِنْ جَانِبِهِمْ مَأْمُونٌ، لا يَغْتَابُونَ، وَلا يَكَذِبُونَ، وَلا يُنَافِقُونَ. وَلا يَنمُّونَ، وَلا يَحْسِدُونَ، وَلا يُرَاءُونَ، وَلا يُرَابُونَ، وَلا يَقْذِفُونَ، وَلا يَأْمُرُونَ بِمُنْكَرِ وَلا يَنْهَوْنَ عَنْ مَعْرُوفْ، بَلْ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهُونَ عَنِ الْمُنْكَرْ، تِلْكَ صِفَاتُ الْمُتَّقِينَ حَقًّا الذينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُون. إِخْوَانِي لَوْ تَحَلَّى كُلِّ مِنَّا بِالتَّقْوَى لِحَسُنَ عَمَلُهُ، وَخَلُصَتْ نِيّتُه، وَاسْتَقَامَ عَلَى الْهُدَى، وَابْتَعَد عَنِ الْمَعَاصِي وَالرَّدَى، وَكَانَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ النَّاجِينَ. شعرًا: لَحَى اللهُ قَلبًا باتَ خِلْوًا مِنَ التُّقَى ... وَعَينًا عَلَى ذَنْبٍ مَضَى لَيْسَ تَذرِفُ وَإِنّي أُحِبُّ كُلَّ مَنْ كَانَ ذَا تُقَى ... وَيَزْدَادُ في عَيْنِي جَلالاً وَيَشْرُفُ شِعْرًا: يُرِيدُ الْمَرْءُ أَنْ يُؤْتَى مُنَاهُ ... وَيَأْبَى الله إلا مَا أَرَادَا يَقُولُ الْمَرْءُ فَائِدَتِي وَمَالِي ... وَتَقْوَى الله أَفْضَلُ مَا اسْتَفَادَا آخر: عَلَيكَ بِتَقْوَى اللهَ في كُل حَالَةٍ ... تَجِدْ نَفْعَهَا يَوْمَ الحِسَابِ الْمُطَوُّلِ أَلا إِنَّ تَقْوَى الله خَيْرُ بِضَاعَةٍ ... وَأَفْضَلُ زَادِ الظاعِنِ الْمُتَحَمِّلِ وَلا خَيْرَ في طُولِ الْحَيَاةِ وَعَيْشِهَا ... إِذِ أَنْتَ مِنْهَا بِالتُّقَى لَمْ تَزَوَّدِ آخر: لَعَمرُكَ مَا مَالُ الفَتَى بِذَخِيرَةٍ ... وَلَكِنَّ تَقْوَى الله خَيْرُ الذَّخَائِرِ وَأَنْفَعُ مَنْ صَافَيْتَ مِنْ كان مُخْلِصًا ... لِمَنْ لَمْ تَغِبْ عَنْهُ خَفَايَا الظَّمَائِرِ آخر: وَمَا رَفَع النَّفْسَ الْحَقِيرَةَ كالتُّقَى ... وَلا وَضَعَ النَّفْسَ الرَّفِيعَةِ كَالْكُفْرِ

(فَصْلٌ) : وَصْفُ المؤمنِ التَّقِي لِلإِمَامِ عَلَيَّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الْمُتَّقُونَ هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ مَنْطِقُهُمْ الصَّوَابُ وَمَلْبَسُهُمْ الاقْتِصَادُ وَمَشْيُهُمْ التَّوَاضُعُ غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَوَقَّفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ، نَزَلَتْ أَنْفُسهم مِنْهُمْ في البَلاءِ كَمَا نَزَلَتْ في الرَّخَاءِ وَلَوْلا الأَجَلُ الذي كَتَبَ اللهُ لَهُمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ شَوْقًا إِلى الثَّوَابِ وَخَوْفًا مِنَ الْعِقَابِ. عَظُمَ الْخَالِقَ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ في أَعْيُنِهِمْ فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنْعِمُونَ، وَهُمْ وَالنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُون قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ وَشُرُورَهُمْ مَأْمُونَةٌ وَأَجْسَادُهُمْ نَحِفَةٌ وَحَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ وَأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ صَبَرُوا أَيَّامًا قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةٌ طَوِيلَةٌ وَتِجَارَةٌ مُرِيحَةٌ يَسّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ. آخر: لَعَمْرِي مَا مَالُ الفَتَى بِذَخِيرَةً ... وَلَكِنَّ تَقْوَى اللهِ خَيْرُ الذَّخَائِرِ آخر: وَمَا رَفَعَ النَّفْسَ الْحَقِيرَةَ كَالتَّقُىَ ... وَلا وَضَعَ النَّفْسَ النَّفِيسَة كَالْكُفْرِ أَرَادَتْهُمْ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا وَأَسَرتْهُمْ فَفَدُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا أَمَّا اللَّيْلُ فَصَافُونَ أَقْدَامَهُمْ تَالِين لأَجْزَاءِ القُرْآنِ يُرَتِّلُونَهُ تَرْتِيلاً يُحْزِنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَائِهِمْ. فَإِذَا مَرُّوا بِآيةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعًا وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقًا وَظَنُّوا أَنَّهَا نَصْبَ أَعْيُنِهِمْ وَإِذَا مَرُّوا بِآيةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ وَظَنُّوا أَنَّ زَئِيرَ جَهَنَّم وَشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِم فَهُم حَانُونَ عَلَى أَوْسَاطِهم مُفْتَرِشُونَ لِجِبَاهِهِم وَأَكُفِّهِم وَرُكَبِهِم وَأَطْرَافِ أَقْدَامِهِم يَطْلُبُونَ إِلى اللهِ تَعَالى في فَكَاكِ رِقَابِهم وَأَمَّا النَّهَارُ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ أَبْرَارُ أَتْقِيَاءُ. قَدْ بَرَاهم الْخَوفٌ بَرْيَ القِدَاحِ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ النَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى وَمَا

بالقَوْمِ مِن مَرَضٍ وَيَقُولُ قَدْ خُولِطُوا وَلَقَدْ خَالَطَهُم أَمْرٌ عَظِيمٌ؟ لا يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهم القَلِيلَ وَلا يَسْتَكْثِرُونَ الكَثِيرَ فَهُمْ لأَنْفُسِهِم مُتَّهَمُونَ وَمِن أَعْمَالِهِم مُشْفِقُونَ إِذَا زُكِيَ أَحَدُهُم خَافَ مِمَّا يُقَالُ فَيَقُولُ: أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي وَرَبِي أَعْلَمُ بِي مِنْ نَفْسِي اللَّهُمَّ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ وَاجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لا يَعْلَمُونَ. فَمِنْ عَلامَةِ أَحَدِهِم أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً في دِينٍ وَحَزْمًا في لِيْنٍ وَإِيمَانًا فِي يَقِينٍ وَحَرْصًا في عِلْمٍ، وَعِلْمًا في حِلْمٍ وَقَصْدًا في غِنَى وَخُشُوعًا في عِبَادَةٍ وَتَحَمُّلاً في فَاقَةٍ وَصَبْرًا في شِدَّةٍ وَطَلبًا في حَلالٍ وَنَشَاطًا في هُدَى وَتَحَرُّجًا عن طَمَعٍ. شِعْرًا: وَإِذا بَحَثتُ عَنِ التَقِيِّ وَجَدتُهُ ... رَجُلاً يُصَدِّقُ قَولَهُ بِفِعالِه وَإِذا اِتَّقى اللَهَ اِمرُؤٌ وَأَطاعَهُ ... فَيَدَاهُ بَينَ مَكارِمٍ وَمَعالِي وَعَلى التَقِيِّ إِذا تَرَسَّخَ في التُقى ... تاجانِ تاجُ سَكينَةٍ وَجَمَالِ وَإِذَا تَنَاسَبَتِ الرِّجَالُ فَمَا أَرَى ... نَسَبًا يَكُونُ كََصَالِحِ الأَعْمَالِ آخر: ... تَجَمَّل بالتَّقَى إِنْ رُمْتَ عِزًا ... فَتَقْوَى اللهِ أَشْرَفُ ما اقْتَنَيْتَا وَأَكْثِرْ ذِكْرَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ ... لِتَسْعَدَ في الْمَعَادٍ إِذَا أَتَيْتَا آخر: ... تَزَوَّدْ وَمَا زَادَ اللَّبِيبِ سَوَى التَّقْوَى ... عَسَاكَ عَلَى الْهَوْلِ العَظِيم بِهَا تَقْوَى فَمَنْ لَمْ يُعَمِّرْ بالتُّقَى جَدَثًا لَهُ ... فَمَنْزِلُهُ فِي خُلْدِهِ مَنْزِلٌ أَوْهَى آخر: ... وَمَا لِبَسَ الإنْسَانُ أَبْهَى مِنْ التُّقَى ... وَإِنْ هُوَ غَالَى فِي حِسَانِ الْمَلابِسِ آخر: ... يَقُولُونَ لي هَلْ للمكَارِمِ وَالعَلى ... قِوَامٌ فَفِيهِ لَوْ عَلِمْتَ دَوَامُهَا فَقُلْتُ لَهُمْ وَالصَّدْقُ خُلْقٌ أَلِفْتُهُ ... عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللهِ فَهِيَ قَوَامُهَا (فَصْلٌ) التَّقَيُّ يَعْمَلُ الأَعْمَالَ الصَّالِحَةِ وَهُوَ عَلَى وَجْلٍ يُمْسِي وَهْمُّهُ الشُّكْرُ، وَيُصْبِحُ وَهَمُّهُ الذِّكْرُ يَبِيتُ حَذِرًا وَيُصْبِحُ فَرِحًا، حَذِرًا لِمَا حَذِرَ مِن الغَفْلَةِ

النهي عن التشبه بالكفار والأدلة على ذلك ويلي ذلك فوائد عظيمة

وَفَرِحًا بِمَا أَصَابَ مِنْ الفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ، إِنْ اسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِيمَا تَكْرَهُ، لَمْ يُعْطِهَا سُؤلَهَا فِيمَا تُحِبُّ. قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيمَا لا يَزُولُ، وَزَهَادَتُه فِيمَا لا يَبْقَى، يَمْزِجُ الْحِلْم بالعِلْم، وَالقَولَ بالعَمَلَ، تَرَاهُ قَرِيبًا أَمَلُهُ، قَلِيلاً زَلَلُهُ، خَاشِعًا قَلْبُهُ، قَانِعَةً نَفْسُه، مَنْزُورًا أَكْلُهُ سَهْلاً أَمْرُهُ، حَرِيزًا دِينُهُ، مَيَّتَةً شَهْوَتُهُ مَكْظُومًا غَيْظُهُ، الْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ وَالشَّرُ مِنْهُ مَأْمُونٌ. إِنْ كَانَ فِي الغَافِلِينَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ وَإِنْ كَانَ فِي الذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنْ الْغَافِلِينَ يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ وَيُعْطِي مِنْ حَرَمَهُ وَيَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ، بَعِيدًا فُحْشَهُ، لِينًا قَوْلُهُ، غَائِبًا مُنْكَرُهُ، حَاضِرًا مَعْرُوفُهُ، مُقْبِلاً خَيْرُهُ، مُدْبِرًا شَرُّهُ، في الزَّلازِلِ وَقُورٌ، وَفِي الْمَكَارِهِ صَبُورٌ وَفِي الرَّخَاءِ شَكُورٌ. لا يَحِيفُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ، وَلا يَأْثَمُ فِيمَنْ يُحِبُّ، يَعْتَرِفُ بالْحَقِّ قََبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ، لا يُضَيّعُ مَا اسْتُحْفِظَ، وَلا يَنْسَى مَا ذُكِرَ، وَلا يُنَابِزْ بِالأَلْقَابِ، وَلا يُضَارَّ بِالْجَارِ، وَلا يَشْمُتُ بِالْمُصَابِ، وَلا يَدْخُلُ في البَاطِلِ، وَلا يَخْرُجُ مِنْ الْحَقِّ. إِنْ صَمَتَ لَمْ يَغُمُّه صَمْتُهُ، وَإِنْ ضَحَكَ لَمْ يَعْلُ صَوْتُهُ، وَإِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتَّى يَكُونَ اللهُ هَوْ الذي يَنْتَقِمُ لَهُ، نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ، أَتْعَبَ نَفْسَهُ لآخِرَتِهِ وَأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ. شِعْرًا: لا خَيْرَ فِيمَنْ لا يُرَاقِبُ رَبَّهُ ... عِنْدَ الْهَوَى وَيُحَاذِرُ النِّسْيَانَا إِنَّ الذِي يَبْغِي الْهَوَى وَيُريدُهُ ... كَمُواخِي شَيْطَانُهُ شَيْطَانَا حَجَبَ التُّقَى بَابَ الْهَوَى فَأَخ التُّقَى ... عَفُّ الْخَلِيقَةِ زَائِدٌ إِيْمَانَا آخر: عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ أَسْنَى الفَضَائِل ... تُعَدُ مِنْ القَومَ الكِرَام الأَمَاثِلِ فَمَا الْمَرءُ إلا بالتُّقَى يَرْتَقِي إِلى ... سَنَامِ الْمَعَالِي فِي مَقَامِ الأَفَاضِلِ

آخر: ... الْعِلْمُ وَالتَّقْوَى وَطَاعَة رَبّنَا ... تَكْسُ الرِّجَال مَهَابَةً وَجَلالا وَهيَ الطَّرِيقُ لِمَنْ أَرَادَ السَّلامَة ... وَهِيَ السَّلاحُ لِمَنْ أَرَادَ جِدَالا بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ وَنَزَاهَةً، وَدُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنْهُ لِينٌ وَرَحْمَةٌ، لَيْسَ تَبَاعُدُه بِكبْرٍ وَعَظَمَةٍ، وَلا دُنُوُّهُ بِمَكْرٍ وَخَدِيعَةٍ. قَالَ: فَصَعَقَ هَمَّامُ صَعْقَةً كَانْتَ نَفْسُهُ فِيهَا. فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلامُ: أَمَّا وَاللهِ لَقَدْ كُنْتُ أَخَافُهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا تَصْنَهُ الْمَوَاعِظُ البَالِغَةُ بِأَهْلِهَا فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: فَمَا بَالُكَ يَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: وَيْحَكَ إِنْ لِكِلِّ أَجَلٍ وَقْتًا لا يَعْدُوهُ وَسَبَبًا لا يَتَجَاوَزُه. أ. هـ. شِعْرًا: عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللهِ لا تَتْرُكُونَهَا ... فَإِنَّ التُّقَى أَقْوَى وَأَوْلَى وَأَعْدَلُ لِبَاسُ التُّقَى خَيْرُ الْمَلابس كُلِّهَا ... وَأَبْهَى لِبَاسًا في الوُجُودِ وَأَجْمَلُ فَمَا أَحْسَنَ التَّقْوَى وَأَهْدَى سَبِيلَها ... بِهَا يَنْفَعُ الإِنْسَانَ مَا كَانَ يَعْمَلُ فَيَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ بادِر إلى التُّقَى ... وَسَارِعْ إلى الْخَيْرَاتِ مَا دُمْتَ مُمْهَلُ وَأَكْثِرْ مِن التَّقْوَى لِتَحْمِدَ غِبَّهَا ... بِدَارِ الْجَزَاء دَارٍ بِهَا سَوْفَ تَنْزِلُ وَقَدِّمْ لِمَا تَقْدَمْ عَلَيْهِ فَإِنَّمَا ... غَدًا سَوْفَ تُجْزَى بالذِي سَوْفَ تَفْعَلُ وَأَحْسِنْ وَلا تُهْمِلْ إِذَا كُنْتُ قَادِرًا ... فَأَنْتَ عَنْ الدُّنْيَا قَرِيبًا سَتَرْحَلُ وَأَدِّ فُرُوضَ الدِّينِ وَأتْقِنْ أَدَاءَهَا ... كَوَامِلَ في أَوْقَاتِهَا وَالتَّنفل وَسَارِعْ إِلى الْخَيْرَاتِ لا تَهْمِلنَّهَا ... فَإِنَّكَ إِنْ أَهْمَلْتَ مَا أَنْتَ مُهْمَلُ وَلَكِنْ سَتُجْزَى بالذي أَنْتَ عَامِلٌ ... وَعَنْ مَا مَضَى عَنْ كُلِّ شَيْءٍ سَتُسْأَلُ وَلا تُلْهِكَ الدُّنْيَا فَرَبُّكَ ظَامِنٌ ... لِرِزْقِ البَرَايَا ظَامِنٌ مُتَكَفِلُ وَدُنْيَاكَ فَاعْبُرْهَا وَأخْرَاكَ زِدْ لَهَا ... عَمَارًا وَإِيثَارًا إِذَا كُنْتَ تَعْقِلُ فَمَنْ آثرَ الدُّنْيَا جَهُولٌ وَمَنْ يَبِعْ ... لأُخْرَاهُ بِالدُّنْيَا أَضَلُّ وَأَجْهَلُ وَلَذَّاتُهَا وَالْجَاهُ وَالعِزُ وَالغِنَى ... بَأَضْدَادِهَا عَمَّا قَلِيلٍ تَبَدَّلُ

فمَنْ عَاشَ في الدُّنْيَا وَأَطَالَ عُمْرُهُ ... فَلا بُدَّ عَنْهَا رَاغِمًا سَوْفَ يُنْقَلُ وَيَنْزِلُ دَارًا لا أَنِيسَ لَهُ بِهَا ... لِكُلِ الوَرَى مِنْهُمْ مَعَادٌ وَمَوْئِلُ وَيَبْقَى رَهِينًا بالترابِ بِمَا جَنَى ... إلى بَعْثِهِ مِنْ أَرْضِهِ حِينَ يَنْسِلُ يُهَالُ بَأَهْوَالٍ يَشِيبُ بِبِعْضِهَا ... وَلا هَوْلَ إلا بَعْدَهُ الْهَوْلَ أَهْوَلُ وَفِي البَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ نَشْرُ صَحَائِفِ ... وَمِيزَانُ قِسْطٍ طَائِشٍ أَوْ مُثَقَّلُ وَحَشْرٌ يَشِيبٌ الطفْلُ مِنْهُ لِهَوْلِهِ ... وَمِنْهُ الْجِبَالِ الرَّاسِيَاتُ تَزَلْزَلُ وَنَارٌ تَلَظَّى في لَظَاهَا سَلاسِلٌ ... يُغَلُّ بِهَا الفُجَارُ ثُمَّ يُسَلْسَلُ شَرَابُ ذَوِي الإِجْرَامِ فِيهَا حَمِيمُهَا ... وَزقُومُهَا مَطْعُومُهُمْ حَيْنَ يُؤَكَلُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِثْلُهُ ... مِنْ الْمُهْلِ يَغْلِي في البُطُونِ وَيَشْعَلُ يَزِيدُ هَوْانًا مِنْ هَوَاهَا وَلا يَزَلْ ... إِلى قَعْرِهَا يَهْوِي دَوَامًا وَيَنْزِلُ وَفِي نَارِهِ يَبْقَى دَوَامًا مُعَذَّبًا ... يَصِيحُ ثُبُورًا وَيْحَهُ يَتَوَلْوَلُ عَلَيْهَا صِرَاطٌ مَدْحَضٌ وَمَزَلَّةٌ ... عَلَيْهِ البَرَايَا فِي القِيَامَةِ تُحْمَلُ وَفِيهِ كَلالِيبٌ تَعَلَّقُ بالوَرَى ... فَهَذَا نَجَا مِنْهَا وَهَذَا مُخْرَدَلُ فَلا مُذِيبٌ يَفْدِيهِ مَا يَفْتَدِي بِهِ ... وَإِنْ يَعْتَذِرْ يَوْمًا فَلا الْعُذْرُ يُقْبَلُ فَهَذَا جَزَاءُ الْمُجْرِمِينَ عَلَى الرَّدَى ... وَهَذَا الذِي يَوْمَ القِيَامَةِ يَحْصُلُ أَعُوذُ بِرَبِّي مِن لَظَى وَعَذَابِهَا ... وَمِنْ حَالِ مَنْ يَهْوي بِهَا يَتَجَلْجَلُ وَمَنِ حَالِ مَنْ فِي زَمْهَرِيرٍ مُعَذَّبٍ ... وَمِن كَانَ في الأَغْلالِ فِيهَا مُكَبَّلُ وَجَنَّاتُ عَدْنٍ زُخْرِفَتْ ثُمَّ أُزْلِفَتْ ... لِقَوْمٍ عَلَى التَّقْوَى دَوَامًا تَبَتَّلُ بِهَا كُلُّ مَا تَهْوَى النُّفُوسُ وَتَشْتَهِي ... وَقُرَّةُ عَيْنٍ لَيْسَ عَنْهَا تَرَحَّلُ مَلابِسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَسُنْدُسٌ ... وَإِسْتَبْرَقٌ لا يَعْتَرِيهِ التَّحَلُّلُ وَمَأْكُولُهم مِنْ كُلِّ مَا يَشْتَهُونَهُ ... وَمِنْ سَلْسَبِيلٍ شُرْبُهُم يَتَسَلْسَلُ وَأَزْوَاجُهُم حُورٌ حِسَانٌ كَوَاعِبٌ ... عَلَى مِثْلِ شَكْلِ الشَّمْسِ بَلْ هُوَ أَشْكَلُ يُطَافُ عَلَيْهِم بِالذِي يَشْتَهُونَهُ ... إِذَا أَكَلُوا نَوْعًا بآخَرَ بُدِّلُوا

فَوَاكِهُهَا تَدْنُوا إلى مَنْ يُريدُهَا ... وَسُكَّانِهَا مَهْمَا تَمَنُّوهُ يَحْصُلُ وَأَنْهَارِهَا الأَلْبَانِ تَجْرِي وَأَعْسَلٌ ... تَنَاوُلُهَا عِنْدَ الإِرَادَةِ يَسْهُلُ بِهَا كُلَّ أَنْوَاعِ الفَوَاكِهِ كُلَّهَا ... وَخَمْرٌ وَمَاءٌ سَلْسَبِيلٌ مُعَسَّلُ يُقَالُ لَهُمْ طِبْتُمْ سَلِمْتُمْ مِن الأَذَى ... سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِالسَّلامَةِ فَادْخُلُوا بَأَسْبَابِ تَقْوَى اللهِ والعَمَلِ الذِي ... يُحِبُّ إلى جَنَّاتِ عَدْنٍ تَوَصَّلُوا إِذَا كَانَ هَذَا وَالذِي قَبْلَهُ الْجَزَاء ... فَحَقٌّ عَلَى العَيْنَيْنِ بِالدَّمْعِ تُهْمِلُ وَحَقٌّ عَلَى مَنْ كَانَ بِاللهِ مُؤْمِنًا ... يُقَدِّمْ لَهُ خَيْرًا وَلا يَتَعَلَّلُ وَأَنْ يَأْخُذَ الإِنْسَانُ زَادًا التُّقَى ... وَلا يَسْأَمِ التَّقْوَى وَلا يَتَمَلْمَلُ وَإِنَّ أَمَامَ النَّاسِ حَشْرٌ وَمَوْقِفٌ ... وَيَوْمٌ طَوِيلٌ أَلْفُ عَامٍ وَأَطْوَلُ يَا لَكَ من يَوْمٍ عَلَى كُلَّ مُبْطِلٍ ... فَضِيعٍ وَأَهْوَالُ القِيَامَةِ تُعْضِلُ تَكُونُ به الأَطْوَادُ كَالعِهْنِ أَوْ تَكُنْ ... كَثِيبًا مَهِيلاً أَهْيلاً يَتَهَلْهَلُ بِهِ مِلَّةُ الإِسْلامِ تُقْبَلُ وَحْدَهَا ... وَلا غَيْرَهَا مِنْ أَي فَيَبْطُلُ بِهِ يَسْأَلُونَ النَّاسُ مَاذَا عَبَدْتُمُوا ... وَمَاذَا أَجَبْتُم مَن دَعَا وَهُوَ مُرْسَلُ حِسَابُ الذي يَنْقَادُ عَرْضٌ مُخَفَّفٌ ... وَمَن لَيْسَ مُنْقَادًا حِسَابٌ مُثَقَّلُ وَمِنْ قَبْلِ ذَاكَ الْمَوْتُ يَأْتِيكَ بَغْتَةً ... وَهَيْهَاتَ لا تَدْرِي مَتَى الْمَوْتُ يَنْزِلُ كُؤُسُ الْمَنَايَا سَوْفَ يَشْرَبُهَا الوَرَى ... عَلَى الرَّغْمِ شُبَّانٌ وَشِيبٌ وَأَكْهُلُ حَنَانَيْكَ بَادِرْهَا بِخَيْرٍ فَإِنَّمَا ... عَلَى الآلةِ الْحَدْبَا سَرِيعًا سَتُحْمَلُ إِذَا كُنْتَ قَدْ أَيْقَنْتَ بِالْمَوْتِ وَالْفَنَا ... وَبِالْبَعْثِ عَمَّا بَعْدَهُ تَغْفُلُ أَيَصْلُحُ إِيمَانُ الْمَعَادِ لِمُنْصِفٍ ... وَيَنْسَى مَقَامَ الْحَشْرِ مَنْ كَانَ يَعْقِلُ إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنْ التُّقَى ... ابن لِي ابن يَوْمَ الْجَزَا كَيْفَ تَفْعَلُ أَتَرْضَى بأَنْ تَأْتِي القِيَامَةَ مُفْلِسًا ... عَلَى ظَهْرِكَ الأَوْزَارُ بِالْحَشْرِ تَجْمِلُ إِلَهِي لَكَ الفَضْلُ الذي عَمَّمَ الوَرَى ... وَجُودٌ عَلَى كُلِ الْخَلِقْيَةِ مُسْبَلُ وَغَيْرُكَ لَوْ يَمْلِكْ خَزَائِنَكَ التِي ... تَزِيدُ مَعَ الإِنْفَاقِ لا بُدَّ يَبْخَلُ

.. وَإِنِّي بِكَ اللَّهُمَّ رَبِّي لَوَاثِقٌ ... وَمَا لِي بِبَابٍ غَيْرِ بَابِكَ مَدْخَلُ وَإِنِّي اللَّهُمَّ لَكَ بِالدِّينِ مُخْلِصًا ... وَهَمِّي وَحَاجَاتِي بِجُودِكَ أُنْزِلُ أُعوذُ بِكَ اللَّهُمَّ مِن سُوءِ صُنْعِنَا ... وَأَسْأَلُكَ التَّثْبِيتَ أُخْرَى وَأَوَّلُ إِلَهِي فَثَبِّتْنِي عَلَى دِينكَ الذِي ... رَضِيتَ بِهِ دِينًا وَإِيَّاهُ تَقْبَلُ وَهَبْ لِي مِنْ الفِرْدَوْسِ قَصْرًا مُشَيَّدًا ... وَمُنَّ بِخَيْرَاتٍ بِهَا أَتَعَجَّلُ وَللهِ حَمْدٌ دَائِمٌ بِدَاوَمِهِ ... مَدَى الدَّهْرِ لا يَفْنَى وَلا الْحَمْدُ يَكْمُلُ يَزِيدُ على وَزْنِ الْخَلائِقِ كُلِّهَا ... وَأَرْجَحُ مِن وَزْنِ الْجَمِيعِ وَأَثْقَلُ وَإِنِّي بِحَمْدِ اللهِ في الْحَمْدِ أَبْتَدِي ... وَأَنْهِي بِحَمْدِ اللهِ قَوْلِي وَأَبْتَدِي صَلاةً وَتَسْلِيمًا وَأَزْكَى تَحِيَّةً ... تَعُمُّ جَمِيعَ الْمُرْسِلِينَ وَتَشْمَلُ وَأَزْكَى صَلاة اللهِ ثُمَّ سَلامُهُ ... عَلَى الْمُصْطَفَى أَزْكَى البَرِيَّةِ تَنْزِلُ آخر: ... مَطَالبُ النَّاسِ في دُنْيَاكَ أَجْنَاسُ ... فَاقْصُدْ فَلا مَطْلَبٌ يَبْقَى وَلا نَاسُ وَارْضَى القَنَاعَةَ مَالاً وَالتُّقَى حَسَبًا ... فَمَا عَلَى ذِي تُقىً مِنْ دَهْرِه بَاسُ وَإِنْ عَلَتْكَ رُؤُوْسٌ وَازْدَرَتْكَ فِفِي ... بِطْنِ الثَّرَى يَتَسَاوَى الرِّجْلُ وَالرَّاسُ آخر: ... عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ واقْتَنَعْ بِرِزْقِهِ ... فَخَيْرُ عِبَادِ اللهِ مِنْ هُوَ قَانِعُ وَلا تُلْهِكَ الدُّنْيَا وَلا طَمَعٌ لَهَا ... فَقَدْ يُهْلِكُ الْمُغْرُورَ فِيهَا الْمَطَامِعُ وَصَبْرًا عَلَى نَوْبَاتِ مَا نَابَ وَاعْتَرِفُ ... فَمَا يَسْتَوِي حُرٌ صَبُورٌ وَجَازِعُ أَعَاذلُ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنْ الفَتَى ... إِذَا حَشْرَجَتْ بِالنَّفْسِ مِنْهُ الأَضَالعَ آخر: للهِ قَوْمٌ أَطَاعُوا اللهِ خَالِقَهُمْ ... فَآمَنُوا وَاسْتَقَامُوا مِثْلَ مَا أَمُرُوا وَالوَجْدُ وَالشَّوقُ وَالأَفْكَارُ قُوتُهُمُوا ... وَلازَمُوا الْجِدَّ وَالإِدْلاجَ في البُكَرِ وَبَادِرُوا لِرِضَا مَوْلاهُمُوا وَسَعَوْا ... قَصْدَ السَّبِيل إِليهِ سَعْيَ مُؤْثمِرِ وَشَمَّرُوا وَاسْتَعَدُّوا وِفْقَ مَا طُلِبُوا ... وَاسْتَغْرُقُوا وَقْتَهُمْ فِي الصَّوْمِ وَالسَّهَرِ وَجَاهَدُوا وَانْتَهَوْا عَمَّا يُبَاعِدُهُمْ ... عَنْ بَابِهِ وَاسْتَلانُوا كُلَّ ذِي وَعَرِ

الحث على التقوى وبيان فوائدها ويليها وصف المتقي

.. جَنَّاتُ عَدْنٍ لَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ بِهَا ... فِي مَقْعَدِ الصِّدْقِ بَيْنَ الرَّوْضِ وَالزَّهَرِ لَهُمْ مِنَ اللهِ مَالا شَيْءَ يَعْدِلُهُ ... سَمَاعُ تَسْلِيمِهِ وَالفَوْزُ بِالنَّظَرِ اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا تَوْفِيقًا يَقِينًا عَنْ مَعَاصِيكَ وَأَرْشِدْنَا إِلى السَّعْيِ فِيمَا يُرْضِيكَ، وَأَجِرْنَا يَا مَوْلانَا مِنْ خِزْيكَ وَعَذَابِكَ وَهَبْ لَنَا مَا وَهَبْتَهُ لأَوْلِيَائِكَ وَأَحْبَابِكَ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) قال اللهُ تَباركَ وتعالى وَتَقَدَّس: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} . قال بعض أهل العلم: في هذه الآية فوائد منها: أنَّ أصْل أَمْرِ المتَّقِين السَّلامَةُ وَإِنْ عَرِضَ طَيْفٌ بَعْضِ الأَحْيَان. ومنها: إذَا مَسَّهم والْمَسَّ مُلامَسَة مِن غيرِ تمكُنٍ كالكفار فإن الشيطان يَتَجَرَّد عليهم ويَخْتَلس مِن قُلُوب المتَّقِينِ المؤمنين حِينَ تَنَامُ العُقُولُ الْحَارِسَةِ لِلْقُلُوب. فإذا اسْتَيْقَظُوا انْبَعَثَ مِن قلوبهم جُيُوشُ الاسْتِغْفَار والذلَةِ إلى اللهِ تعالى والافتقار فاْسَترجَعُوا مِن الشيطان ما اختلسَهُ وأخذوا منه ما افَترِسَه. ومنها: أَنَّهُ أشارَ بالطيف إلى أَنَّهُ لا يُمْكِنُهُ أَنْ يأتي القلوبَ الدائمة الْمُسْتَيْقِظَةِ إنما يأتِي القُلُوبَ في حِينَ منامِها يَرْجُو غَفْلَتَهَا ومن لا نوم لَهُ فَلا طَيف يَردُ عليه. ومنها: أنَّ الطَيْفِ الذي في مَنَامِكَ فإذا اسْتَيْقَظْتَ فلا وُجُودَ لَهُ. ومنها: أَنَّهُ قال: تَذَكَّرُوا ولم يَقلْ ذَكَرُوا إِشَارَةً إِلى أَنَّ الغَفْلَةَ لا يَطْرُدُهَا الذكر مِن غَفْلَةِ القلب إِنَّمَا يَطْرُدُهَا التذكر والاعتبار لأَنَّ الذكر مَيْدَانُه اللسان والتذكر مَيْدَانُه القلب.

ومنها أنه قال: تذكروا فحذف مُتَعَلَّقِةِ ولم يَقُلْ تذكَّرُوا الجنةَ والنار والعقوبة لأن التذكر الماحي لِطَيف الْهَوى مِن قلوب المتقين على حساب مَرَاتِبِ المتقين. وَمَرْتَبَة التَّقوى يَدْخُلُ فيها الرسُل والأنبياء والصِّديقُونَ والأولياء والصالحون والمسلمون فتقوى كل أحد على حسب مقامه. لذلك يَذْكَرُ كُلُ واحِدٍ على حَسَب مَقَامِهِ فلو ذكر قِسْمًا مِن أَقْسَام التَّذَكْرِ لم يدخُلْ فيه إلا أَهْلُ ذَلِكَ القِسْم. شِعْرًا: أَعْلَى الْمَمَالِكِ مَا التَّقْوَى لَهُ أُسُسٌ ... وَطَاعَةُ الله في سِرٍ وَإِعْلانِ وَالعَدْلُ بَيْنَ عِبَادِ اللهِ كُلِّهمُوا ... لا فَرْقَ بَيْنَ شَرِيفٍ مِنْهُمْ أَوْ أَنِي ومنها: قولُه سُبْحَانَهُ: {فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} كَأَنَّهُ لم يَذْكُر أَعْلَى ذَلِكَ مِنَّا مِنْه سُبْحَانَه عليهم كَأَنَّهُم لَمَّا اسْتَيْقَظُوا ذَهَبَتْ سَحَابَةُ الغَفْلَةِ فأَشْرَقَتْ شمسُ البَصِيرَةِ. ومنها التَّوْسِيعُ عَلَى المتقين لأنه لو قال إنَّ الذِينَ اتَّقَوْا لا يَمَسُّهُم طَيْفٌ من الشيطان خَرَجَ كل أَحَدٍ إِلا أَهْل العِصْمَةِ فَأَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يُوَسِّعَ دَائَرَة رَحْمَتِهِ. انتهى. ثم اعلم وفقنا اللهُ وَإِيَّاك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أَنَّ التقوى التي أَعَدَّ اللهُ الجنة لأهلها قيلَ: إِنَّهَا امْتثالُ الأوامر واجتنابُ النواهي. وقيل: هِيَ اتقاءُ الشَّركِ فَمَا دُونَهُ مِنْ ذَنْبٍ مِنْ كُلَّ مَا نَهَى الله عنه واتقاءَ تَضْيِيعِ وَاجِبٍ مِمَّا افْتَرَضَ الله. وهي وَصِيَّةُ لِلأوَّلين والآخِرِين، قَالَ الله جل وعلا: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللهَ} .

وقال جل وعلا: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} . وقد روى في الحديث إن المنادي يُنَادِي يوم القيامة: {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} فَتَرْفَعُ الْخَلائِقُ رؤوْسَهم يَقُولُونَ: نَحْنُ عِبَادُ الله عَزَّ وَجَلَّ. ثم يُنَادِي الَّثانية: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} فَيُنَكِسُ الكُفَّارُ رَؤُوْسَهُمِ، وَيَبْقَى الْمُوَحِدُون رَافِعِي رُؤوسَهُم. وَيَبْقَى أَهْلُ التَّقْوَى رَافِعِي رُؤُوْسَهُمْ قَدْ أَزَالَ عَنْهُمْ الرِّبُ الكَرِيمُ الْخَوِفَ والْحَزَنَ كَمَا وَعَدَهُمْ وَهُوَ أَصْدَقُ القائِلِينَ وَأَوْفَى الْوَاعِدِين وَأَكْرَمُ الأَكْرَمِين لا يَخْذُلُ وَلِيَّهُ ولا يُسْلِمُهُ عِنْدَ الْهَلَكَة. شِعْرًا: لَوْ أَنَّنِي خُيّرتُ كُلَّ فَضِيلَةٍ ... ما اخْتَرْتُ إِلا طَاعَةَ الرَّحْمَنِ كَُلُّ الأُمُورِ تَزُول عَنْكَ وَتَنْقَضِي ... إلا التُّقَى وَفَضَائِلُ الإيمَانِ آخر: حَقُّ التُّقَى وَإِنْ لَمْ يُدْنِهِ نَسَبٌ ... فَرَضٌ عَلى كُلِّ مَنْ لِلدِّينَ يَنْتَسِبُ (مَوْعِظَةٌ) : عِبَادَ اللهِ لَقَدْ ضَاعَتْ أَعْمَارِنَا فِي الْقِيلِ وَالْقَالِ، وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ، والْمُدَاهَنَةِ، وَالانْهِمَاكِ في الدُّنْيَا، إِلى أَنْ اسْتَلْحَقَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ جُزْءًا مِنْ اللَّيْلِ مُضَافًا إِلى النَّهَارِ، وَكَأَنَّنَا لَمْ نُخْلَقْ إِلا لِهَذِهِ الأَعْمَالِ، أَفَلا نَسْتَيْقِظُ مِنْ غَفْلَتِنَا، وَنَحْفَظُ أَلْسِنَتِنَا عَنْ نَهْشِ أَعْرَاضِ الغَوَافِلِ، وَالطَّعْنِ فِي الأَحْسَابِ وَالأَنْسَابِ، وَنَصْرِفَ جُلَّ الأَوْقَاتِ، إِلى البَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، التِي هِيَ خَيْرٌ عِنْدَ رِبِّنَا ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدا، وَنَذْكُرَ مَوْلانَا الذِي فَضْلُهُ عَلَيْنَا مِدْرَارٌ، فَإِنَّ الذِّكْرَ عَاقِبَتُهُ الْجَنَّةُ دَارُ الكَرَامَةِ وَالْقَرَارِ، مَعَ رِضَى رَبِّنَا الذِي دُونُهُ كُلُّ ثَوَابٍ، تَاللهِ لَوْ عَرَفْتُم قِيمَةِ هَذِهِ النَّصِيحَةِ لَبَادَرْتُمْ إِلى الْعَمَلِ بِهَا كُلَّ البِدَارِ فَإِنَّكَ وَأَنْتَ تَذْكُرُ الله أَفْضَلِ مِمَّنْ يُفَرِّقُ الذَّهَبَ وَالفِضَّةِ وَسَائِرَ الأَمْوَالِ

وَأَفْضَلُ مِنْ أَنْ تُجَاهِدَ العَدُو فَيَضْرِبَ عُنُقَكَ، أَوْ تَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتَكُونَ مِنْ الشُّهَدَاءِ الأَبْرَارِ، كَيْفَ لا وَالذِّكْرُ خَيْرِ الأَعْمَالِ وَأَزْكَاهَا، وَأَرْفَعَهَا لِلدَّرَجَاتِ عِنْدَ مَوْلانَا الوَّهَّابُ حَسْبُ الذَّاكِرِ أَنْ تَحُفَّهُ الْمَلائِكَةُ، وَتَنْزِلُ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ، وَتَغْشَاهُ الرَّحماتُ، وَمَنْ في الوُجُودِ مِثْلُ الذَّاكِرُ، وَهُوَ وَقْتُ ذِكْرِهِ للهِ بَارِي الكَائِنَاتِ، وَمَنْ مِثْلُهُ في الدُّنْيَا وَهُوَ بالذِّكْرِ في حِصْنٍ يَحْفَظَهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَوَسَاوِسَهِ الفَاتِنَاتِ، وَمَنْزِلَةُ الذَّاكر بَيْنَ الغَافِلِينَ كَمَنْزِلَةِ الْحَيّ بَيْنَ الْمَيِّتِينَ، ذِكْرُ الله يُنِيرُ القلبَ، وَيُوقِظَهُ وَيُحْييهِ وَيُزِيلُ رَانَهُ وَيَهْدِيهِ إِلى الْحَقِّ، قَالَ تَعَالَى: {أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} . شِعْرًا: مَا مَاتَ مَنْ يَتْلُوا الْقُرْآنَ دَوَامَهُ ... يَعْمَلْ بِمَا فِيهِ مِنْ الأَحْكَامِ آخر: يَا لَيْتَ أَلْفُ لِسَانٍ أَسْتَعِينُ بِهَا ... عَلَى قِرَاءَةِ قُرْآنٍ وَتَهْلِيلِ بِسْمُ الله الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ خَاتِمَةٌ، وَصِيَّةٌ، نَصِيحَةْ اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا يُحِبَّهُ الله وَيَرْضَاهُ أَنَّ مِمَّا يَجِبُ الاعْتِنَاءُ بِهِ حِفْظًا وَعَمَلاً كلام الله جَلَّ وَعَلا وَكَلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ وَفَّقَهُ الله تعالى أَنْ يَحُثَّ أَوْلادَه عَلَى حِفْظ القُرآن وما تَيَسَّرَ مِن أَحَادِيث النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - الْمُتَّفَق على صحَّتِها عنه كَالبُخَارِي وَمُسْلِم. وَمِنْ الفقه مُخْتصرَ المقنِع لِيَيسَّرَ لَهُ اسْتِخْرَاجُ المسائل وَيَجْعَلُ لأَوْلادِهِ مَا يَحُثُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ. فَمَثلاً يَجْعَلُ لِمَنْ يَحْفَظُ القُرآنَ على صَدْرِهِ حِفْظًا صَحِيحًا عَشَرَةَ آلافِ أَوْ أَزْيَد أَوْ أَقَلْ حَسَبَ حَالِهِ في الغِنَى.

ومِن الأحَادِيث عُقُودَ اللُؤلؤ والمرجَان فيما اتفق عَلَيْهِ الإِمَامَان البُخَارِي ومسلم، يَجْعَلُ لِمَنْ يَحْفَظٌ ذَلِكَ سِتَّة آلاف. فَإِنْ عَجَزُوا عَنْ حِفْظِهَا فالعُمدة في الحديث يَجْعَلُ لِمَنْ حَفِظَها ثلاثة آلاف، أَوْ الأربعين النَّوَوِيَّةِ وَيَجْعَل لمن يَحْفَظْهَا أَلْفًا. وَيَجْعَلُ لِمَنْ يَحْفَظُ مُخْتَصَرَ المقنع في الفقه أَلْفَيْن مِن الرَّيَالاتِ فالغَيْبُ سَبَبٌ لِحِفِظِ المسائل وَسَبَبٌ لِسُرعَةِ اسْتِخْرَاج ما أُرِيدَ مَن ذَلِكَ وَمَا أَشْكَلَ مَعْنَاه أَوْ يُدَخِّلُهُم في مَدَارِسِ تَحْفِيظِ القُرْآنِ فَمَدَارِسُ تَعْلِيمِ القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ هَيِ مَدَارِسُ التَّعْلِيم العَالي الْمُمْتَازِ البَاقِي النَّافِعِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ أَوْ يُدْخلهم في حَلَقَاتِ تَحْفِيظِ القُرْآن الكرِيم الموجودة في الْمَسَاجِد. شِعْرًا: وَلَمْ أَرَى لِلْخَلائقِ مِنْ مُرْبٍّ ... كَعِلْمٍ الشَّرْعِ يُؤخَذُ عَنْ ثِقَاتِ بِبَيْتِ اللهِ مَدْرَسَةِ الأَوَالِي ... لِمَنْ يَهْوَى الْعُلُومَ الرَّاقِيَاتِ فَمَنْ وَفَّقَهُ الله لِذَلِكَ وَعَمِلَ أَوْلادُهُ بِذَلِكَ كَانَ سَبَبًا لِحُصُولِ الأَجْرِ مِنْ الله وَسَببًا لِبِرِّهِم بِهِ وَدُعَائِهِم لَهُ إِذَا ذَكَرُوا ذَلِكَ مِنْهُ وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ سَببًا مُبَارَكًا يَعْملُ بِهِ أَوْلادُهُ مَعَ أولادهم فَيزيدُ الأَجْرُ لَهُ وَلَهم. نَسَأْل اللهُ أَنْ يُوَفِّق الْجَمِيع لِحُسْنِ النَّيَة. (فَائِدَةٌ) : وَاعْلَمْ أَنَّ الأَوْلادَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الذَّكَاءَ وَعُلوِّا الْهِمَّةِ فيُعْطَى كُلِّ وَاحِدٍ مَنْزِلَتَه، وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِاخْتَياراتِهِ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ الصِّبْيَانَ يَجْتِمَعُونَ لِلَّعِبِ فَيَقُولُ عَالِي الْهِمَّةِ: مَنْ يَكُونُ مَعِي؟ وَيَقُولُ: قَاصِر الْهِمَّةِ: مَنْ أَنَا مَعَهْ؟ شِعْرًا: الْعِلْمُ أَعْلَى وَأَحْلَى مَالَهُ اسْتَمَعَتْ ... أُذْنٌ وَأَعْرَبَ عَنْهُ نَاطِقٌ بِفَمِ الْعِلْمُ غَايَتُه القُصْوَى وَرُتْبَتُهُ ... الْعُلْيَاءُ فَاسْعَوا إِلَيْهِ يَا ذَوِيْ الْهِمَمِ لَلْعِلْمُ أَشْرَفُ مَطْلُوبٍ وَطَالَبُهُ ... للهِ أَكْرَمُ مَن يَمْشِي عَلَى قَدَمِ

الْعِلْمُ نُورٌ مُبِينٌ يَسْتَضِيءُ بِهِ ... أَهْلُ السَّعَادَةِ وَالْجُهَالُ في الظُلَمِ الْعِلْمُ أَعْلَى حَيَاةٍ لِلْعِبَادِ كَمَا ... أَهْلُ الْجَهَالَةِ أَمْوَاتٌ بَجَهْلِهم الْعِلْمُ وَاللهِ مَيراثُ النُّبُوةِ لا ... مِيراثَ يُشْبِهُهُ طَوْبَى لِمُتْسَمِ لأَنَّهُ إِرْثُ حَقٍ دَائِمٍ أَبَدًا ... وَمَا سَوَاهُ إِلى الإِفْنَاءِ وَالْعَدَمِ الْعِلْمُ مِيزَانُ شَرْعُ اللهِ حَيْثُ بِهِ ... قِوَامُهُ وَبِدُونِ الْعِلْمِ لَمْ يَقُمِ وَسُلْطَةُ الْعِلْمِ تَنْقَادُ الْقُلُوبُ لَهَا ... إلى الْهُدَى وَإلى مَرْضَاةِ رَبِهِم وَيَذْهَبُ الدِّينُ وَالدُّنْيَا إِذَا ذَهَبَ العِـ ... ـلْمُ الذِي فِيهِ مَنْجَاةٌ لِمُعْتَصِمِ الْعِلْمُ يَا صَاحِ يَسْتَغْفِرْ لِصَاحِبِهِ ... أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِينَ مِن لمَمِ كَذَاكَ تَسْتَغْفِرُ الْحِيتَانُ في لِجَجٍ ... مَنْ البِحَارِ لَهُ فِي الضَّوءِ وَالظُّلَمِ وخارجَ في طِلابَ العِلْمِ مُحْتَسِبًا ... مُجَاهدٌ في سَبِيلِ اللهِ أَيَّ كَمِي وأَنَّ أَجْنِحَةَ الأَمْلاكِ تَبْسُطُها ... لِطَالِبِيهِ رَضِىً مِنْهُمْ بِصُنْعِهِمْ وَالسَّالِكُونَ طَرِيقَ الْعِلْمِ يُسْلِكُهُمْ ... إِلى الْجِنَانِ طَرِيقًا بَارِئَ النَّسَمِ وَالسَّامِعُ الْعِلْمَ وَالوَاعِي لِيَحْفَظهُ ... مُؤْذِيا نَاشِرًا إِيَّاهُ في الأُمَمِ فَيَا نَضَارَتَهُ إِذَا كَانَ مُتصفًا ... بِذَا بِدَعْوَةِ خَيْرِ الْخَلْقِ كُلِّهْمُ كَفَاكَ فِي فَضْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ رُفِعُوا ... مِنْ أَجْلِهِ دَرَجَاتٍ فَوْقَ غَيْرِهِمُ وَكَانَ فَضْلِ أَهْلِ أَبِينَا في القَدِيمِ عَلَى ... الأَمْلاكِ بالْعِلْمِ مِنْ تَعْلِيمِ رَبِهمُ كَذَالِكَ يُوسُفُ لَمْ تَظْهَرْ فَضِيلَتُهُ ... لِلْعَالِمِينَ بِغَيْرِ الْعِلْمِ وَالْحِكم وَقَدَّمَ الْمُصْطَفَى بِالْعِلْمِ حَامِلَهُ ... أَعْظَمْ بِذَلِكَ تَقْدِيمًا لِذِي قَدم كَفَاهُمُوا أَنْ غَدَوْا لِلْوَجى أَوْعِيَةُ ... وَاضْحَتِ الآي مِنْهُ فِي صُدُورِهِم وَأَنْ غَدَوْا وُكلاءٌ في القِيَامِ بِهِ ... قَوْلاً وَفِعْلاً وَتَعْلِيمًا لِغَيْرِهِم وَخَصَّهُم رَبُّنَا قَصْرًا بِخَشْيَتِهِ ... وَعَقْلِ أَمْثَالِهِ فِي أَصْدَقِ الْكَلِمِ وَمَعْ شَهَادَتِهِ جَاءَتْ شَهَادَتُهُمْ ... حَيْثُ اسْتَجَابُوا وَأَهْلُ الْجَهْلِ فِي صَمَمِ وَالعَالِمُونَ عَلَى العُبَّادِ فَضْلِهِمُ ... كَالْبَدْرِ فَضْلاً عَلَى الدُّرِي فَاغْتَنِمِ

.. وَبَالْمِهُمِّ الْمُهِمِّ ابْدَأْ لِتَدْرِكَهُ ... وَقَدِّمِ النَّصَ عَلَى الآرَاءِ فَافْتَهِمِ قَدِّمْ وُجُوبًا عُلُومَ الدِّينِ إِنْ رِهَا ... يَبْيِنُ نَهْجُ الْهُدَى مِنْ مُوجِبِ النَّقْمِ وَكُلُّ كَسْرِ الفَتَى فَالدِّينُ جَابُرهُ ... وَالْكَسْرُ في الدِّينِ صَعْبٌ غَيْرُ مُلْتَئِمِ مَا الْعِلْمِ إلا كِتَابُ اللهِ أَوْ أَثَرٌ ... يَجْلُوا بِنُورِ هُدَاهُ كُلَّ مُنْبِهِمِ مَا ثَمَّ عِلْمٌ سِوَى الوَحْيِ الْمُبِينِ وَمَا ... مِنْهُ اسْتُمِدَّ إِلا طُوبَى لِمُغْتَنِمِ وَالكَتْمُ لِلِعِلْمِ فَاحْذَرْ إِنَّ كَاتِمَهُ ... فِي لَعْنَةِ اللهِ وَالأَقْوَامِ كُلِّهُمِ وَمِنْ عُقُوبَتِهِ أَنْ في الْمَعَادِ لَهُ ... مِنْ الْجَحِيمِ لِجَامًا لَيْسَ كَاللُّجُمِ وَكَاتِمُ العِلْمِ عَمَّنْ لَيْسَ يَحْمِلُهُ ... مَاذَا بِكِتْمَانْ بِلا صَوْنٌ فَلا تُلمِ وَإِنَّمَا الْكَتْمُ مَنْعُ العِلْمِ طَالِبُهُ ... مِن مُسْتَحِقٍ لَهُ فَافْهَمْ ولا تَهِمِ وَاتْبِعِ الْعِلْمِ بِالأَعْمَالِ وَادْعُ إِلى ... سَبِيلِ رَبَّكَ بِالتِّبْيَانِ وَالْحِكَمِ وَأَصْبَره عَلَى لاحِقٍ مِنْ فِتْنَةٍ وَأَذَى ... فِيهِ وَفِي الرُّسْلِ ذِكْرَى فَاقْتَدِهْ بِهِم لِوَاحَدٌ بِكَ يَهْدِيهِ الإِلِهُ لِذا ... خَيْرٌ غَدًا لَكَ مِن حُمْرٍ مِن النَّعَمِ وَاسْلُكْ سَواءَ الصَّراطِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا ... تَعْدلْ وَقُلْ رَبِّي الرَّحْمَنُ وَاسْتِقمِ يَا طَالبَ الْعِلْمِ لا تَبْغِي بِهِ بَدَلاً ... فَقد ظِفْرت وربِّ اللوحِ والقلمِ وَقَدِّسِ الْعِلْمَ وَاعْرِفْ قَدْرَ حُرْمَتِهِ ... في القَوالِ وَالفِعل والآدابِ فالتَزمِ وَاجْهَدْ بِعَزْمٍ قَوي لا انِثنَاءَ لَهُ ... لَوْ يَعَلْمَ ُالمرءُ قَدْرَ الْعِلْمِ لَمْ يَنَمِ وَالنُّصْحَ فابْذِلْهُ لِلطُّلابِ مُحْتَسِبًا ... فِي السِّرِ وَالْجَهْرِ وَالأَسْتَاذَ فَاحْتَرِمِ ومَرْحَبًا قُلْ لِمَنْ يَأْتِيكَ يَطْلُبِهُ ... وَفِيهِمْ احْفَظْ وَصَايَا الْمُصْطَفَى بِهِم وَالنِّيَةُ اجْعَلْ لِوَجْه اللهِ خَالِصَةٌ ... إِنْ البِنَاءُ بِدُونِ الأَصْلِ لَمْ يَقُمِ وَمَنْ يَكُنْ لِيَقُولُ الناسُ يَطْلُبِهُ ... أَخْسِرْ بِصَفُقُتِهِ فِي مَوْقِفِ النَّدَمِ وَمَنْ بِهِ يَبْتَغِي الدُّنْيَا فَلَيْسَ لَهُ ... يَوْمَ القِيَامَةِ مِن حَظ ولا قِسمِ إِيَّاكَ وَاحْذَرْ مماراتِ السَّفِيهِ بِهِ ... كَذَا مُبَاهَاتٍ أَهْلِ العِلْمِ لا ترم فَإِنْ أَبْغَضَ كُلِّ الْخُلْقِ أَجْمَعُهُمْ ... إِلى الإِلهِ أَلَدَّ النَّاسِ في الْخِصَمِ

.. وَالعُجْبَ فَاحْذَرْهُ إِنَّ العُجْبَ مُجْتَرِفٌ ... أَعْمَالَ صَاحِبِهِ فِي سُيْلِهِ العَرِمِ آخر: ضَيَّعْتَ عُمْرِكَ يَا مَغْرُورُ في غَفَلِ ... قُمْ لِلتَّلاقِي فَأَنْتَ اليَوْمَ فِي مَهَلِ وَاسْتَفْرِغِ الدَّمْعَ مِمَّا فَاتَ مِنْ زَمَنٍ ... وانْدُبْ بِتَوْبَة عَلَى أَيَّامِكَ الأُولِ بَادِرْ إِلى صَالِحِ الأَعْمَالِ مُجْتَهِدًا ... فَالنُّجْعُ فِي الْجِدِّ وَالحِرْمَانُ فِي الكَسَلِ كُنْ لا محالةَ في الدُّنْيَا كَمُغْتَرِب ... عَلَى رَحِيلِ دَنَى أَوْ عَابِرِ السُّبُلِ دَارُ الْخُلُودِ مَقَامًا دَارُ آخِرَةٍ ... إِنَّ الإقَامةَ في الدُّنْيَا إِلى أَجَلِ وَكُلُّ مِن حَلَّ في الدُّنْيَا فَمُرْتَحِلٌ ... يَوْمًا لِمَنْزِلَةٍ في إثْرِ مُرْتَحِلِ هَلا اعْتَبَرْتُ فَكَمْ حَلُّوا وكَمْ رَحَلُوا ... وَإِنَّما النَّاسُ في حِلٍّ وَمُرْتَحِلِ إِذَا تَجَهَّمَ أَمْرٌ لا مَرَدَّ لَهُ ... لَمْ يُغْنِ عَنْكَ اقْتِنَاءُ الْمَللِ وَالْحُلَلِ يَقُومُ عَنْكَ الأطِبَّاءِ وَالصِّدِيقُ إِذًا ... وَقَدْ طَوَوْا صُحُفَ التَّدْبِيرِ وَالْخُيَلِ فَيُدْرِجُونَكَ في الأَكْفَانِ مُنْتَزِعًا ... عَنْكَ الثِّيَابُ مِنْ الأَبْرَادِ وَالْحُلَلِ وَيُودِِعُونَكَ تَحْتَ الأَرْضِ مُنْفَرِدًا ... وَيَتْركُونَكَ مَحْجُوبًا مِنْ الْمُقَلِ وَقَائِلٌ مِنْهُمْ قَدْ كَانَ خَيْرَ أَبٍ ... وَقَائِلٌ مِنْهُمُ قَدْ كَانَ خَيْرُ وُلِي فَبَعْدَ ذَلِكَ لا يَدْرُونَ مَا فَقَدُوا ... وَهَمُّهُمْ في اقْتِسَامِ الإِرْثِ بِالْجَدَلِ وَبَعضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ مُخَاصَمَةٍ ... وَإِنَّهُمْ بَيْنَ مَنْصُورٍ وَمُنْخَذِلِ وَيَأْخُذُونَ قَرِيبًا فِي مَعَايِشِهِمْ ... لا يَذْكُرونَكَ في خِلْوٍ وَمُحْتَفَلِ يَا أَيُّهَا الغِرُّ لا تَغْرُرْكَ صُحْبَتُهُمْ ... خَيْرُ الْمَصَاحِبِ عِنْدي صَالِحُ العَمَلِ فِيمَ التَّغَافُلُ وَالأَيَّامُ دَائِرَةٌ ... فِيمَ التَّكَاسُلْ وَالأَحْوَالُ في حِوَلِ فِيمَ العَوِيلُ لَدَى دَارٍ خَلَتْ وَعَفَتْ ... فِيمَ البُكَاءُ عَلَى الآثَارِ وَالطُّلَل وَفِيمَ التَّصَابِي وَأَيَّامُ الصِبَا غَبَرَتْ ... فِيمَ النَّسِيبُ وَلا إِبَانُ لِلْغَزَلِ فَكَيْفَ تَلْعَبُ وَالْخَمْسُونَ قَدْ كَمُلَتْ ... وَكَيْفَ تَلْهُو وَنَارُ الشَّيْبِ في شُعَلِ دَعْ ذِكْرَ لَيْلَى وَلُبْنَة وَازْدِيَادِهِمَا ... ثُم ارتَحِالهما من هَذِهِ الْحُلَلِ

.. تِلْكَ الْعَوَانِي وَإِنْ أَخْلَصْنَ خُلَّتَها ... وَاللهِ لَسْنَ بَرِيئَاتٍ مِنْ الدَّخَلِ طحُبُّ الأَحِبَّةِ حُرْمَانٌ وَمَنْدَمَةٌ ... فَالْغُولُ عَاقَبَةٌٌ لِلشَّارِبِ الثَّمِلِ يَا رَبِّ صَلِّ وَسَلِّمْ دَائِمًا أَبَدًا ... عَلَى نَبِيِّكَ طه سَيّدِ الرُّسُلِ (فَصْلٌ) قال أحد العلماء: لا يكن هم أحدكم في كثرة العمل، ولكن ليكن همه في إحكامه وإتقانه وتحسينه، فإن العبد قد يُصَلي وهو يَعْصِي الله في صلاته، وقد يصوم وهو يَعْصِي الله في صيامه. وقيل لآخر: كيفَ أَصْبَحْتَ؟ فبكى، وقال: أصبحتُ في غَفْلَةٍ عَظِيمَةِ عن الموت مَعَ ذُنُوب كثيرة قد أحاطت بي، وأجلٌ يسرع كل يوم في عمري، ومَوْئِلِ لستُ أدري علامَا أهجم، ثم بكى. وقال آخر: لا تَغْتَم إلا مِن شيء يَضُرك غدًا (أي في الآخرة) ولا تفرح بشيءٍ لا يَسُركَ غدًا، وأنفعُ الخوف ما حَجَزَكَ عن المعاصي، وأطال الْحُزْنَ مِنْكَ على ما فاتك من الطاعة، وَأَلْزَمَكَ الفِكْرَ في بَقِيةِ عُمرك. وقال الآخر: عليك بصحبة من تُذَكِّرُك الله عز وجل رُؤيَتُه، وتقع هَيْبَتُه على باطنك، ويزيُدُ في عَملك مَنْطِقُه، ويُزْهِدُكَ في الدُّنْيَا عَمله، ولا تعصي الله ما دُمْتَ في قُربه، يَعِظكَ بِلِسَانِ فِعْلِهِ ولا يَعِظُكَ بِلِسَانِ قَوْلِهِ. قال إِسرافيل: حضرتُ ذي النون المصري وهو في الحبس وقد دَخل الشُرطي بطعام له، فقام ذُو النون فنفض يده (أي قبضها عن الطعام) . فقيل له: إن أخاك جَاءَ به فقال: إنه على يَدَيْ ظالم، قال: وسمعتُ رجلاً سأله ما الذي أتعبَ العبادَ وأضْعَفَهُم؟ فقال: ذكر المقام، وقلةُ الزاد، وخوفُ الحساب، ولم لا تذوبُ أبدانُ العمال وتذهلُ عُقولُهم، والعرضُ على الله جل وعلا أمامَهم، وقراءة كتبهم بين أيديهم. والملائكة وقوفٌ بين يدي الجبار يَنْتَظِرونَ أَمْرَهُ في الأخبار والأشرار، ثم مَثَّلوا هذا في نفوسهم وَجَعَلُوه نُصْبَ أَعْيُنِهِم.

وقال: سَقَمُ الجسد في الأوجاع وسقم القلوب في الذنوب، فكما لا يجد الجسد لذة الطعام عند سقمه، كذلك لا يجد القلب حلاوة العبادة مع الذنوب. وقال: مَن لم يعرف قدر النعم، سُلِبَهَا مِن حَيثُُ لا يعلم. ما خلع الله على عبد خلعة أحسنَ ولا أشرفَ مِن العقل ولا قلده قلادة أجمل من العلم ولا زينه بزينة أفضل من الحلم وكمال ذلك التقوى. وقال آخر: أدركتُ أقوامًا يَسْتَحْيُونَ مِن الله في سَوادِ الليل مِن طُول الْهَجْعَةِ، إِنَّمَا هو على الجنب فإذا تَحَرَّك قال لنفسه: لَيْسَ لك قومي خُذِي حَظَّكِ مِن الآخِرَةِ. وقال أبو هاشم الزاهد: إن الله عز وجل وَسَمَ الدنيا بالوحشة، ليكن أنْسُ المريدين به دونها، وليُقْبل المطيعُونَ له بالإعراض عنها، وأهْلُ المعرفة بالله فيها مُسْتَوْحِشُون، إلى الآخرة مُشْتَاقُون. ونظر أبو هاشم إلى شريك القَاضي يَخْرجُ مِن دَارِ يحيى بن خالد فبكى وقال: أعوذ بالله من عِلْمٍ لا ينفع. وقال أسود بن سالم: ركعتان أصليهما أحب إلي من الجنة بما فيها. فقيل له: هذا خطأ، فقال: دَعُونَا من كلامكم، رَأَيْتُ الْجَنَّةَ رضا نَفْسِي، وركعتين أصليهما رضا رَبي، ورضاء ربي أَحَبُّ إِليَّ مِن رضا نفْسِي، تأمل يا أخي دقَّةَ هذا الفهم لله دره. وقال وهيب: الإيمان قائد، والعمل سائق، والنفس بينهُما حَرون، فإذا قادَ القائدُ ولن يَسُقِ السَّائِقُ لم يُغن ذلك شيئًا. وإذا سَاقَ السائقُ ولم يقد القائد لم يغن ذلك شيئًا، وإذا قادَ القَائِدُ وساقَ السائقُ اتَّبَعَتْهُ النفسُ طوعًا وكرهًا وطابَ العملَ. قال بعضهم يوبخ نفسه ويعظها: يا نَفْسُ بادري بالأوقاتِ قبل انصرامها، واجتهدِ في حراسة لَيَالي الحياة وأيامها، فكأنكِ بالقبور قد تشَقَّقَتْ وبالأمور وقد تَحَقَّقَت، وبوجوه المتقين وقد أشرقت، وبرؤوس العصاة وقد أطرقت، قال تعالى وتقدس: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} ، يا نفس أما الوَرعُونَ فقد

جَدُّوا، وأما الخائفون فقد استعدوا، وأما الصالحون فقد فرحوا وراحوا وأما الواعظون فقد نصحوا وصاحوا. العلم لا يحصل إلا بالنصب والمال لا يجمع إلا بالتعب، أيها العبد الحريص على تخليص نفسه إن عزمت فبادر وإن هممت فثابر واعلم أنه لا يدرك العز والمفاخر من كان في الصف الآخر. اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْهَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتْ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينِ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينِ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ. وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) قال ابن مسعودٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - الصراطُ المستقيمُ، تَرَكَنَا مُحمدٌ في أَدْنَاهُ وَطَرَفُه في الْجَنَّةِ، وعن يمينه جَوَادٌ وثَمّ رجالٌ يدعونَ مَنَ مَرَّ بِهم، فمَن أخذَ في تلك الْجَوادِ انتهتْ به إلى النار، ومَن أخذ على الصِّراطِ انتهى به إلى الجنة. ثم قرأ ابن مسعود: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} خرجه ابن جرير وغيره. فالطريقُ الموصلُ إلى الله واحدٌ، وهو صراطهُ المستقيمُ، وبقيةُ السُّبُلِ كُلَّها سُبُل الشيطانِ، مَن سَلَكَها قَطَعَتْ بِهِ عن الله، وأوصَلَتْهُ دَارَ سَخَطِهِ وَغَضَبِهِ وَعِقَابِه، فربما سَلكَ الإنسانُ في أولِ أمرِهِ على الصراطِ المستقيم ثم يَنْحَرِفُ عَنه آخِرَ عُمُرِه فيسلكُ سُبُلَ الشيطانِ فيقطعُ عن الله فَيَهلكُ. «إن أحدَكُم ليعملُ بعملِ أهل الجنةِ حتى ما يكونُ بينه وبينهَا إلا ذراعٌ أَوْ باعٌ فيعمُل بعملِ أَهل النار فَيَدخلُ النَّارَ» . وربما سلكَ بالرجل أولاً بعض سُبُلِ الشيطَان ثم تُدركُه السعادةُ فيسلكُ الصراطَ المستقيمَ في آخر عُمُرِهِ فيصلُ به إلى الله.

والشأنُ كُلَّ الشأنِ في الاستقامةِ على الصراطِ المستقيمِ مِن أول السير إلى الله {ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} ، {وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} . ما أكثرَ مَن يَرْجِعُ أثناءَ الطريق وَيَنْقَطِعُ، فإن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} . شِعْرًا: خَلِيلِيَّ قُطَّاعٌ الطَّرِيقِ إِلى الْحِمَا ... كَثِيرٌ وَأَمَّا الوَاصِلُونَ قَلِيلُ وفي الحديث الصحيح الإلهي (القدسي) يقول الله عز وجل: (مَن تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَن تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَة) . وفي المسند زيادة: (والله أعلا وأجل، والله أعلا وأجل) . وفيه أيضًا يقول الله: (ابنَ آدمَ قُمْ إِليَّ وَامْش إِليَّ أَهُرْوِلْ إِلَيْكَ) . (فَصْلٌ) وقال رحمه الله: الوصولُ إلى الله نَوعان: أحَدُهما: في الدنيا، والثاني: في الآخِرَةِ. فأما الوصولُ الدنيويُ فالمَرادُ به: أن القلوبَ تصلِ إلى مَعْرفَتِهِ، فإذا عَرَفَتْهُ أحبته، وأنِسَتْ به فوجَدْتُه منها قريبًا وَلِدُعَائِها مُجيبًا، كَما في بعض الآثار: (ابنَ آدمَ اطلبني تجدني فإن وجَدتني وجدتُ كُلَّ شيءٍ، وإن فِتُكَ فَاتكَ كُلّ شيءٍ) . الصراطُ المستقيمُ في الدنيا يشتملُ على ثلاثِ درجاتٍ: درجةِ الإسلامِ، ودرجةِ الإيمان، ودرجةِ الإحسان. فمن سَلَكَ دَرَجَةَ الإِسلامِ إلى أن يَمُوتَ عليها مَنَّعتْهُ مِن الخلودِ في النارِ، ولم يَكُنْ له بُدُّ مِن دُخُولِ الجنة، وإن أصابَهُ قبلَ ذلكَ مَا أَصَابَهُ.

ومَن سَلَكَ على دَرَجَةِ الإيمانِ إلى أن يموتَ عليها مَنَعْتهُ مِن دخولِ النارِ بالكليةِ فإن الإيمانِ يُطْفِئُ لَهَبَ نارِ جهنم حتى تقولَ: يا مُؤْمَنُ جُزْ فَقَدْ أطفأ نُورُكَ لَهَبِي. وفي المسند عن جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مرفوعًا: «لا يَبْقى بَرٌ ولا فاجِرٌ إلا دَخَلها فتكونُ على المؤمنِ بَرْدًا وَسَلامًا كَمَا كانَتْ على إبراهيم، حَتَّى إن لِلنَّارِ ضَجِيجًا مِن بَرْدِهِم، هذَا مِيرَاثٌ وَرِثَه المحبون مِن حَالِ أبِيهم إبراهيم عليه السلام» . ومَن سلك على درجة إحسان إلى أن يموت عليها وَصِلَ بعدَ الموتِ إلى الله: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} . وفي الحديث الصحيح: ((إذَا دخلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ نادَى: يا أهل الجنةِ إن لكم عند الله مَوعدًا يُريدُ أن يُنْجِزَكُمُوهُ. فيقولون ما هو: ألم يبيض وجوهنا؟ ألم يثقل موازيننا؟) . فوالله ما أعطاهُم الله شيئًا أَحَبَّ إليهم ولا أقرّ لأعينهم من النظر إليه)) ، وهو الزيادةُ ثم تلا: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} . كُلُّ أهلِ الجنةِ يَشْتَرِكُونَ في الرُّوَايةِ ولكن يَتَفَاوتُون في القُربِ في حال الرؤيةِ. عُمُومُ أهلِ الجنةِ يَرَوْنَ رَبَّهم يومَ المزيدِ وهو يوم الجمعة، وخواصُهم يَنْظُرونَ إلى وجه الله في كُلَّ يَوْمٍ مَرتَين بكرةً وعَشِيًا. العارفونَ لا يُسَلِّيهِم عن مَحْبُوبِهم قَصْرٌ ولا يُرْويهمِ دونَه نَهْرٌ. شِعْرًا: وَيَرونَهُ سُبحانَهُ مِن فَوقِهم ... نَظَر العِيانِ كَمَا يُرَى القَمَرانِ هذا تَواتَر عن رسولِ اللهِ لم ... يُنْكِرهُ إلا فَاسِدُ الإيمانِ وأتى به القُرآنُ تَصْرِيحًا وَتَعْـ ... ـريضًا هُمَا بِسِياقِهِ نَوْعانِ وَهِيَ الزيادةُ قَدْ أَتَتْ في يُونُسٍ ... تَفْسِيرَ مَنْ قَدْ جاءَ بالقرآن وهو المزِيدُ كذاكَ فَسِّرِهُ أبو ... بَكرٍ هو الصديقُ ذُو الإيمان

وعليه أصحابُ الرسول تَتَابَعُوا ... هم بعدهم تَبِعِيّةَ الإحسان وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. (فَصْلٌ) وفي المسند عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: «أن أَدنَى أَهلِ الجنةِ مَنزلةً لَيَنْظُرُ في مُلْكه أَلفَي سنة يَرى أقصاه كما يرى أدناه، يَنْظرُ إلى أَزْوَاجِهِ وَخَدَمِهِ، وَإِنْ أفضَلهُم مَنزلةً لمن يَنْظُرْ إلى وجْهِ الله تباركَ وَتَعالى كُلَّ يَومٍ مَرَّتين» . وخرجه الترمذي ولفظه: «إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ إِلَى أَزْوَاجِهِ ونَعِيمِهِ وَخَدَمِهِ وَسُرُرِهِ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ» . وأكرمُهم على الله من ينظرُ إلى وَجْههِ غُدْوَةً وَعَشِيًّا ثم قرأ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} . ولهذا المعنى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح حديث جرير بن عَبْدِ اللهِ البَجَلي: «إنكم سَتَرونَ رَبَّكُم يومَ القيامة كما ترونَ القمرَ ليلةَ البدرِ لا تُضَامُونَ في رُؤْيَتِه» ، قال: «فإن اسْتَطَعْتُم أَن لا تُغْلِبُوا على صلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشمسِ وَصَلاةٍ قَبْل غُروبِها فَافْعَلُوا» ، ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} . ولما كان هذانِ الوَقْتَانِ في الجنة وقتان للرؤية في خواصِ أهلِ الجنةِ، خَصَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - على المحافظة على الصلاة في هذين الوقتين في الدنيا فَمَنْ حَافَظَ على هاتين الصلاتين في الدنيا في هذين الوقت وصلاهُما على أكمل وُجُوهِمَا وخُشُوعِهِمَا وَحُضُورِهما وأدَبِهِما فإنه يُرْجَى له أن يكونَ مِمَّن يَرَى الله في هذين الوقتين في الجنة، لاسيما إن حافظ بعدَهُما على الذكر وأنواعِ العِبادات حتى تطلعَ الشمسُ أو تغربَ. فإنَ وَصَلَ العبدُ ذَلِكَ بدُلجةِ آخر الليلِ فَقَدْ اجتمعَ له السيرُ في الأوقات الثلاثة وهي: الدُلْجَةُ، والغَدوةُ، والرَّوْحَةُ، فيوشكُ أن يَعْقِبَه الصِدقُ في هذا

السيرِ الوصول الأعظم إلى ما يطلبه في مقعد صدق عند مليك مقتدر. مَن لَزِمَ الصِّدق في طلبهِ أداهُ الصِّدْقُ إلى مَقْعَدِ الصِّدْق {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} . المحبُ لا يَقْطَعُ السؤالَ عَمَّنْ يُحِبُّ وَيَتَحَسَّس الأخبارَ وينْسِمُ الرِّيَاحَ وَيَسْتَدِلُ بآثار السلوكِ على الطريق إلى محبوبه. لقد كَبُرتْ هِمَّةٌ الله مَطلوبُهَا وشرفَتْ نفسٌ الله مَحْبُوبُها {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} . شِعْرًا: ما للمحبِ سوى إرادة حِبه ... إنّ المحبَّ بكُلِ بَرٍ يُصْرَعُ قيمةُ كلِ امرئٍ ما يَطْلُبُ فَمَن كَانَ يَطْلُبُ الله فلا قِيمَةَ له من طَلَبَ الله فَهُو أَجَلّ مَنْ أن يُقَوَّمَ، ومن طَلَب غَيْرَهُ فهو أخَسُّ مِن أن يكونَ لهُ قِيمَة. قال الشبلي: مَن ركن إلى الدُّنْيَا أحْرَقَتْهُ بِنَارِهَا فصارَ رمادًا تَذْرُوهُ الرياحُ، ومَن ركن إلى الآخرِة أحرقته بنورِها فصار سبيكةَ ذهبٍ ينتفعُ به، ومَن ركن إلى الله أحرقه نُورُ التوحيد فصارَ جَوْهَرًا لا قيمة لَهُ. واللهُ أَعْلَم. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. (فَصْلٌ) في قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} هذه الآية كانت تَشْتَدُ على الخائفين من العارفين فإنها تَقْتَضِي أن من العباد مَن يَبْدُو له عندَ لِقَاء الله ما لم يكن يحتسب، مثل أن يكون غافلاً عما بين يديه مُعْرِضًا غير مُلتفتٍ إليه ولا يَحْتِسِبُ له ولهذا قال عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لو أن لِي مُلْكَ الأرض لافتديتُ به مِن هَوْلِ المطلعِ.

وفي الحديث: «لا تمنوا الموتَ فإن هولَ المطلعِ شديد، وإن مِن سعادةِ المرءِ أن يطَولَ عُمره ويَرزقه الله الإنابة» . وقال بعضُ حكماء السلف: كم مَوقِفِ خِزيٍ يومَ القيامةِ لم يَخْطُر على بالك قط. ونظير هذا قوله تعالى: {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} . واشتملَ على ما هو أعم مِن ذلك وهو أن يكون له أعمالٌ يرجو بها الخيرَ فتصيرُ هباءً منثورًا وتبدلُ سيئات وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} . وقال: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} . وقال الفضيلُ في هذه الآية: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} قال: عملوا أعمالاً وحسبوا أنها حسنات فإذا هي سيئات. وقَرِيبٌ من هذا أن يعملَ الإنسانُ ذنبًا يَحْتَقِرُهُ وَيَسْتَهوِنُ به فيكون هو سَبَبَ هلاكِهِ. كما قال تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} . وقال بعضُ الصحابةِ: إنكم تعملون أعمالاً هي في أعينكم أدقُ مِن الشعر، كنا نعهدها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الموبقات، وأصعبُ مِن هذا من زُيّنَ له سوءُ عمله فرآه حسنًا. قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} . قال ابن عيينة: لَمَّا حَضَرَتْ مُحمدَ بنَ المنكدر الوفاةُ جَزِعَ فَدَعُوا له أبا حازم فجاءَ فقال له: ابن المنكدر: إن الله يقول: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} فأخاف أن يبدوَ لي من الله ما أكن أحتسب. فجعلا يبكيان جميعًا. خرجه ابن أبي حاتم، وزاد ابن أبي الدنيا. فقال له أهله: دعوناك لتخفف عليه فزدته فأخبرهم بما قال.

وقال الفضيلُ بنُ عياض: أُخبِرتُ عن سليمان التيمي أنه قِيلَ له: أنتَ أنت ومن مثلك؟ فقال: مه لا تقولوا هذا لا أدري ما يَبْدُو لي من الله. سمعتُ الله يقول: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} . وكان سفيان الثوري يقول عند هذه الآية: ويلٌ لأَهْلِ الرياء من هذه الآية، وهذا كما في حديث الثلاثة الذين هم أولُ من تَسُعّرُ بهم النار، العالم، والمتصدق، والمجاهد. وكذلك من عَمِل أعمالاً صالحةً وكانت عليه مظالمِ فهو يظن أن أعماله تنجيه فيبدو له ما لم يكن يحتسب، فيقتسمُ الغرماءُ أعماله كلّها ثم يفضلُ لهم فضلٌ فيطرحُ من سيئَاتهم عليه ثم يطرح في النار. وقد يناقش الحساب فيطلب منه شكرُ النعم فتقوم أصغر النعم فتستوعب أعماله كلها وتبقى بقيةٌ فيطالب بشكرها فيعذب. ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «مَن نوقش الحساب عذب أو هلك» . وقد يكون له سيئات تحبط بعضَ أعماله أو أعمال جوارحه سوى التوحيد فيدخل النار. وفي سنن ابن ماجة من رواية ثَوْبَانَ مَرْفُوعًا: «إِنَّ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَجِيءُ بَأَعْمَالٍ أَمْثَال الجِبَالْ فَيَجْعَلُهَا اللهُ هَبَاءً مَنْثُورًا» . وَفِيهِ: «وَهُمِ قَومٌ مِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ وَلَكِّنَهُمْ قَومٌ إِذَا خَلُوا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهكُوهَا» . وَخَرَّجَ يَعْقُوبُ بنُ أبي شُعْبَةِ، وابنُ أبي الدُّنْيَا في حَدِيثِ سَالِمٍ مَوْلى أبي حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا: «ليَجاءُ يَوْمَ القِيَامَةِ بَأَقْوَامٍ مَعَهُمْ مِن الْحَسَنَاتِ مِثْلُ جِبَالِ تِهَامَةَ حَتَّى إِذَا جِيءَ بِهِمْ جَعَلَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ هَبَاءً ثُمَّ أَكَبَّهُمْ في النَّارِ» . قال سَالِمٌ: خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مِنْهُمْ. فَقَالَ: «أَمَّا إِنَّهُمْ كَانُوا يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَأْخُذُونَ هُنَيْهةً من اللَّيْلِ، ولَعَلَّهُم كَانُوا إِذَا عَرَضَ لَهُمْ شَيْءٌ سِرًّا حَرَامًا أَخَذُوهُ فَأَدْحَضَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ» . وَقَدْ يُحْبِطُ العَمَلُ بآفِةٍ مِنْ رِيَاءٍ خَفِيٍّ أَوْ عُجْبٍ بِهِ ونحوِ ذَلِكَ ولا يَشْعُرُ بهِ صَاحِبُه.

قال ضَيْغَمُ العابِدُ: إن لم تأتِ الآخرةُ بالسرور لقد اجتمع عليه الأمران: هَمُّ الدُّنْيَا، وشَقَاءُ الآخِرَة. فقيل له: كيفَ لا تأتيه الآخرة بالسرور وهو يتعبُ في دار الدنيا ويدَأب؟ قال: كيف بالقَبُول، كيف بالسلامة. ثم قال: كم مِن رجل يَرى أنه قد أصلحَ عَمَلَهُ يُجمَعُ ذلك كلّه يومَ القيامة ثم يضربُ به وَجْهَهُ ومِن هنا كان عامر بن عبد قيس وغيره يقلقون مِن هذه الآية: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} . وقال ابنُ عَون: لا تثق بكثرةِ العملِ، فإنك لا تَدْرِي يُقْبَلُ منكَ أم لا؟ ولا تأمن ذُنوبَك فإنك لا تَدري هَلْ كفّرتْ عنكَ أم لا؟ لأن عَمَلَكَ عنكَ مُغَيَّب كُلُه لا تَدْرِي ما الذي صَانِع به. وبكَى النَّخعي عندَ الموتِ وقال: أنتظرُ رَسُولَ رَبي ما أدري أيُبَشِّرُني بالجنة أو النار. اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْهَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتْ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينِ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينِ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ. وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وعن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: دعا رجل فقال: اللَّهُمَّ إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت الحنان المنان بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام يا حي يا قيوم. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أتدرون بما دعا» ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «والذي نفسي بيده لقد دعا باسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب وإذا سئل به أعطى» . أخرجه أصحاب السُّنَن. عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «دعوة ذي النون إذْ

دَعَى وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سُبْحَانكَ إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب له» . رواه الترمذي، والنسائي، والحاكم وقال: صحيح الإسناد. وعن معاوية بن أبي سُفيان قال: سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَن دَعَا بهؤلاء الكلمات الخمس لم يسأل الله شيئًا إلا أعطاه: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله» . رواه الطبراني بإسناد حسن. وعن معاذ بن جبل قال: سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً وهو يقول: يا ذا الجلال والإكرام. فقال: «قد اسْتُجِيبَ لَكَ فَسَلْ» . رواه الترمذي. اللَّهُمَّ اجعلنا مُكْثِرينَ لِذِكرِك مُؤدِّينَ لِحَقِّك حافظين لأمرك راجين لِوَعْدِكَ راضين في جميع حالاتنا عَنك، راغبين في كُلِّ أمُورنا إليك مُؤمِّلِينَ لِفَضْلِك شاكرين لِنِعَمِك، يا مَن يحب العفو والإحسان، ويأمر بهما اعفُ عنا، وأحْسنْ إلينا، فإنكَ بالذي أنت له أهلٌ من عَفوك أحق منا بالذي نحن له أهل مِن عُقُوبتك. اللَّهُمَّ ثَبّتْ رَجَاءَكَ في قلوبنا، واقطعه عَمَّنْ سِوَاك، حتى لا نَرْجُو غيرَكَ ولا نستعين إلا إياك، يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين. اللَّهُمَّ هب لنا اليقين والعافية، وإخلاص التوكل عليك، والاستغناء عن خلقك، واجعل خير أعمالنا ما قارب آجالنا. اللَّهُمَّ اغننا بما وفقتنا له من العلم، وزينا بالحلم وأكرمنا بالتقوى وجَمِّلْنَا بالعافية. اللَّهُمَّ افتح مَسَامِعَ قلوبنا لِذِكرك وارزُقْنا طاعتك وطاعةَ رسولك ووفقنا للعمل بكتابك وسنة رسولك. اللَّهُمَّ إنا نسألك الهدى، والتُّقَى والعَافِيَةَ وَالغِنَى، ونعوذ بكَ مِن دَرَكِ

الشقَاءِ ومن جهْدِ البَلاء ومن سُوءِ القَضَاء ومن شَمَاتَةِ الأعداء. اللَّهُمَّ لك الْحَمْدُ كُلَّه، ولك الملك كُلَّه، وبِيدِكَ الخير كلّه، وإليك يَرْجِعُ الأمر كله عَلانِيتُه وسرِهُ، أهلُ الحمدِ والثناءِ أَنْتَ، لا إله إلا أنت سُبحانك إنك على كل شيء قدير. اللَّهُمَّ اغفر لنا جميع ما سَلَف منا مِن الذنوب، واعْصِمْنَا فيما بَقى مِن أعمارنا، ووفقنا لِعَمَل صَالِحٍ تَرضَى به عنا. اللَّهُمَّ يا سامعِ كل صوت ويا بارئ النفوس بعد الموت، يا مَن لا تشتَبهُ عليه الأصوات، يا عظيم الشأن، يا واضحِ البرهان، يا مَن هو كل يوم في شأن اغفر لنا ذنوبنا إنكَ أنت الغفور الرحيم. اللَّهُمَّ يا عظيم العفو، يا واسع المغفرة، يا قريب الرحمة، يا ذا الجلال والإكرام هب لنا العافية في الدنيا والآخرة. اللَّهُمَّ يا حيُّ ويا قيُّوم فَرِّغْنَا لِمَا خَلَقْتَنَا له، ولا تُشْغِلْنَا بِمَا تَكَفَّلْتَ لنا به، واجعلنا مِمَّنْ يُؤمِنُ بِلِقَائِك، ويَرْضَى بقَضَائِك، ويقنعُ بعطائك، ويخشاكَ حَقَّ خَشْيَتِك. اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَنَا رَغَدَا، ولا تشمِتْ بِنَا أحَدَا. اللَّهُمَّ رَغِّبْنَا فيما يبقى، وزهدنا فيما يَفْنَى، هب لنا اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يُعَوَّلُ في الدين إلا عليه. اللَّهُمَّ إنا نسألك بعزك الذي لا يرام وملكك الذي يضام وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفينا شر ما أهمنا وما لا نهتم به وأن تعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. اللهم يا عليم يا حليم يا قوي يا عزيز يا ذَا المن والعطا والعز والكبرياء يا من تَعْنُوا له الوجُوه وتخشع له الأصوات، وفقنا لصالح الأعمال واكفنا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك إنك على كل شيء قدير.

اللَّهُمَّ إنا نسألك رحمة من عندك تَهْدِي بها قُلُوبَنَا، وَتَجْمِعُ بها شَمْلَنَا، وتَلمُ بها شَعْثَنَا، وترفع بها شاهدنا، وتَحفَظُ بها غَائِبنًا، وتزكي بها أعمالنا، وتلهمنا بها رشدنا، وتعصمنا بها من كل سوء يا أرحم الراحمين. اللَّهُمَّ ارزقنا من فضلك، واكفنا شر خلقك، واحفظ علينا دِينَنَا وصحةَ أبداننا. اللَّهُمَّ يا هادِي المضلين ويا راحم المذنبين، وَمُقِيل عثراتِ العاثرين، نسألك أن تُلْحِقْنا بعبادك الصالحين الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يا رب العالمين. اللَّهُمَّ يا عالم الخفيات، ويا رفيع الدرجات، ويا غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا أنت إليك المصير، نسألك أن تذيقنا برد عفوك، وحلاوة رحمتك، يا أرحم الراحمين، وأَرْأفَ الرائفين وأكرمَ الأكرمين. اللَّهُمَّ اعْتِقْنَا مِن رِقِّ الذُّنُوب وَخَلِّصْنَا مِن أَشَرِّ النُّفُوسْ، وَأَذْهِبْ عَنَّا وَحْشَةَ الإِسَاءَةْ، وَطَهِّرْنا مِن دَنَسِ الذنوب، وباعِدْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْخَطَايَا وأجرْنا من الشيطان الرجيم. اللَّهُمَّ طَيِّبْنَا لِلقَائِكَ، وأهِّلْنَا لِوَلائِكَ وَأَدْخِلْنَا مَعَ الْمَرْحُومِينَ مِن أَوْلِيَائِكَ، وَتَوفّنَا مُسْلِمِين وألحقنَا بالصالحين. اللَّهُمَّ أعِنَّا على ذِكْرِكَ وشُكْرِكَ وحُسْنِ عِبَادَتِكْ، وتِلاوَةِ كِتَابِكَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ حِزْبِكَ الْمُفْلِحِينَ، وَأَيِّدْنَا بِجُنْدِكَ المَنْصُورين، وارْزُقْنَا مُرافَقَةَ الذينَ أَنْعَمْتَ عليهم مِن النبيينَ والصِّدِيقين والشهداء والصَّالحين. اللَّهُمَّ يا فالقَ الحب والنَّوَى، يا مُنْشِئ الأجْسَادِ بَعْدَ البلى يا مُؤْوي المنْقَطِعِينَ إليه، يا كافي المُتَوَكِّلينَ عليه، انقطَعَ الرَّجَاءُ إلا مِنْكَ، وخابَت الظُّنُون إلا فِيكْ، وضَعُفَ الاعْتِمَاد إلا عَلَيْكَ نَسْأَلُكَ أَنْ تُمْطِرَ مَحْل قُلُوبِنَا مِن سَحَائِبِ بِرِّكْ وإحْسَانِكَ وَأَنْ توفقنا لِموجِبَاتِ رحمتك وعَزَائِم مغفرتك إنكَ جواد كريم رؤوف غفور رحيم.

اللَّهُمَّ إنا نسألك قلبًا سليمًا، ولسانًا صادقًا، وعملاً متقبلاً، ونسألك بركة الحياة وخير الحياة، ونعوذ بك من شر الحياة، وشر الوفاة. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ باسْمِكَ الأَعْظَمَ الأَعَزَّ الأَجَلَّ الأَكْرمِ الذي إِذَا دُعِيتَ بِهِ أَجَبْتَ وَإِذَا سُئِلْتَ بهِ أَعْطَيْتَ. ونَسْأَلُكَ بِوَجْهِكَ الكَرِيمِ أَكْرَمَ الوُجُوه، يا من عَنَتْ لَهُ الوجُوهُ وَخَضَعَتْ لَهُ الرِّقَابُ، وَخَشَعَتْ لَهُ الأَصْوَاتُ، يَا ذَا الْجَلالِ وَالإكْرَامِ. يا حيُّ يَا قَيُّومُ، يا مَالكَ الملكِ، يَا مَنْ هُوَ على كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ، وَبِكُلِ شَيْءٍ عَلِيمِ لا إله إلا أَنْتَ، بِرَحْمَتِكَ نَسْتَغِيثْ، ومِن عَذَابِكَ نَسْتَجِير. اللَّهُمَّ اجعلنا نَخْشَاكَ حَتَّى كَأَننا نَرَاك وَأسعِدْنَا بِتَقْوَاك، ولا تُشْقِنَا بِمِعْصِيَتك. اللَّهُمَّ إِنك تسمعُ كلامَنَا، وترى مَكاننا، وَتَعْلم سِرِّنَا وَعَلانِيتَنَا لا يَخْفَى عَلَيْكَ شيءٌ من أمرنا نحن البؤساءُ الفُقراءُ إليك، المُسْتَغِيثُون الْمُسْتَجِيرُونَ الوجلُونَ المشفقُونَ المعترفُون بِذُنُوبنا، نَسْأَلُك مَسألةَ المسكين، وَنَبْتَهلُ إليك ابْتِهَالَ الْمُذْنبِ الذَّليِل ِ، وَنَدْعُوكَ دُعَاءَ الْخَائِف الضرير. اللَّهُمَّ يا مَن خَضَعَتْ لَهُ رقَابنَا، وفاضَتْ لَهُ عبَارَاتُنَا، وَذَلَّت له أَجْسَامُنَا، وَرَغِمَتْ له أُنُوفُنَا، لا تَجْعَلْنَا بِدُعَائِكَ أَشْقِيَاء، وكن بنا رؤوفًا يا خَير المَسْؤُلِين. اللَّهُمَّ إنا نَسْأَلُكَ نَفْسًا مُطْمَئِنَّةً، تُؤْمِنُ بِلِقَائِكْ وَتَرْضَى بِقَضَائِكَ، وَتَقْنَعُ بِعَطَائِكَ، يا أرأف الرائفين، وأرحم الراحمين. اللَّهُمَّ إنا نَسْأَلُكَ التوفيق لِمَا تُحِبُّه مِن الأعمال، ونسألُكَ صِدْقَ التوكلِ عليكْ، وَحُسْنَ الظَّنْ بِكَ يَا رَبَّ العَالمين. اللَّهُمَّ اجعلنا من عِبَادِكَ الْمُخْبِتِينَ، الغُرِّ الْمُحَجَّلِين الوَفْدِ الْمُتَقَبلِين. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ حَيَاةً طَيِّبةً، وَنَفْسًا تَقِيَّةً، وَعِيشَةٍ نَقِيَّةً، وَمَيَّتَةً سَويَّةً، وَمَرَدًا غَيْرَ مُخْزِي وَلا فاضح.

اللَّهُمَّ اجعلنا من أهل الصلاح والنجاح والفلاح، ومن المؤيدين بنصرك وتأييدك ورضاك يا رب العالمين. (اللَّهُمَّ مَالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تَشَاء وتُعِز مَن تشاء وتُذِلُ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيرُ إِنّكَ على كل شيءٍ قدير) . يا وَدُودُ يَا ذَا العرش المجيد يا مُبْدِئُ يَا مُعِيدِ يَا فَعَّالٌ لِمَا تُرِيدِ نسألك بنور وجهك الذي ملأ أركان عَرشك وبقُدرتك التي قدرت بها على جميع خلقكَ وبرحمتك التي وسِعَت كل شيء لا إله إلا أنت أن تغفر ذنوبنَا وَسَيئاتِنَا وَأَنْ تبدلها لنا بحسنات إنك جوادٌ كريم رؤوفٌ رحيم. اللَّهُمَّ افتح لدعائنا باب القبول والإجابة، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. عبد العزيز بن محمد بن سلمان شِعْرًا: تَزَوَّجَت البَطَالةُ بالتَّوانِي ... فَأَوْلَدَهَا غُلامًا مَع غُلامَهْ فَأَمَّا الابْنُ سَمَّوْهُ بِفَقْرٍ ... وَأَمَّا البِنْتُ سَمَّوْهَا نَدَامَةْ آخر: أُقِلِّبُ كُتُبًا طَالَما قَدْ جَمَعْتُهَا ... وَأَفْنَيْتُ فيها العَيْنَ والعَيْنَ وَالْيَدَا وَأَصْبَحْتُ ذَا ظَنٍ بِهَا وَتَمَسُّكٍ ... لِعِلْمِي بِمَا قَدْ صُغْتُ فِيهَا مُنْضَّدَا وَأحْذَرُ جُهْدِي أَنْ تَنَالَ بِنَائِلٍ ... مَهِينٌ وَأَنْ يَغْتَالَهَا غَائِلُ الرَّدَى وَاعْلَمْ حَقًّا أَنَّنِي لَسْتُ بَاقِيًا ... فَيَالَيْتَ شِعْرِي مَنْ يُقَلِّبُهَا غَدَا آخر: ... نَصِيبكُ مِمَّا تَجْمَعَ الدَّهْرَ كُلَّهُ ... رِدَاءانِ تُلْوَى فِيمَا وَحُنُوطُ آخر: ... تَجرّدْ مِنَ الدُّنْيَا فإنّك إنّما ... خَرجْتَ إلى الدُّنيا وأنتَ مُجَرَّدُ آخر: ... فَمَا تَزَوَّدَ مِمَّا كَانَ يَجْمَعُهُ ... سِوَى حَنُوطٍ غَداةَ البَيْن في خِرَقِ وَغَيْرَ نَفْحَةِ أعوادٍ تُشَبُّ لَهُ ... وقلَّ ذَلِكَ مِنْ زَادٍ لِمُنْطَلِقِ

ومن أراد طباعته ابتغاء وجه الله لا يريد به عرضًا من الدنيا فقد أُذِنَ له وجزى الله خيرًا من طبعه وقفًا أو أعان على طبعته أو تسبب لطبعه وتوزيعه على إخوانه من المسلمين فقد ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله» وورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، ومنبله» الحديث رواه أبو داود، وورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعوا له» . الحديث. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. الجزء الأول: تَمَّ هَذَا الْجُزْءُ بِعَوْنِ اللهِ وَتَوْفِيقِهِ وَنَسْأَلُ اللهُ الْحَيَّ القَيَّومُ العَلِيُّ العَظِيمَ ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ الوَاحِد الفَرْدَ الصَّمَدَ الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفْوًا أَحَد أنْ يُعِزَّ الإِسْلامَ وَالْمُسْلِمِينَ وَأَنْ يَخْذُلَ الكَفَرَةَ والْمُشْرِكِينَ وَأَعْوَانَهُمْ وَأَنْ يُصْلِحَ مَنْ في صلاحه صَلاحٌ لِلإِسْلامِ وَالْمُسْلِمِينَ وَيُهْلِكَ منْ في هَلاكِهِ عز وصلاح للإِسْلامِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يَلُمَّ شَعَثِ الْمُسْلِمِينَ وَيَجْمَعَ شَمْلَهُمْ وَيُوَحِّدَ كَلِمَتَهُمْ وَأَنْ يَحْفَظَ بِلادَهُمْ وَيُصْلِحَ أَوْلادَهُمْ وَيَشْفِ مَرْضَاهُمْ وَيُعَافِي مُبْتَلاهُمْ وَيَرْحَمَ مَوْتَاهُمْ وَيَأْخُذَ بَأَيْدِينَا إِلى كُلِّ خَيْرٍ وَيَعْصِمَنَا وَإِيَّاهُمْ مِنْ كُلِّ شَرٍّ وَيَحْفَظْنَا وَإِيَّاهم مِن كُلِّ ضُرٍ، وَأَنْ يَغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. والله المسئول أن يجعل عملنا هذا خالصًا لوجهه الكريم وأن ينفع به نفعًا عامًا إنه سميع قريب مجيب على كل شيء قدير. والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين. ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثرًا. عبد العزيز المحمد السلمان شِعْرًا ... مَثِّلْ لِنَفْسِكَ أَيُّهَا الْمَغْرُورُ ... يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَاءُ تَمُورُ قَدْ كُوِّرَتْ شَمْسُ النَّهَارِ وَأُضْعِفَتْ ... حَرَّا عَلَى رُؤوسِ العِبَاد تَفُورُ

وَإِذَا الْجِبَالَ تَعَلّقَتْ بِأُصُولِهَا ... فَرَأََيْتَهَا مِثْلَ السَّحَابِ تَسِيرُ وَإِذَا النُّجُومُ تَسَاقَطَتْ وَتَنَاثَرَتْ ... وَتَبَدَّلَتْ بَعْدَ الضِّيَاءِ كُدُورُ وَإِذَا الْعِشَارُ تَعَطَّلَتْ عَنْ أَهْلِهَا ... خَلَتِ الدِّيَارُ فَمَا بِهَا مَعْمُورُ وَإِذَا الْوُحُوشَ لَدَى القِيَامَةِ أُحْضِرَتْ ... وَتَقُولُ للأَمْلاكِ أَيْنَ نَسِيرُ فَيُقَالُ سِيرُوا تَشْهَدُونَ فَضَائِحًا ... وَعَجَائِبًا قَدْ أُحْضِرَتْ وَأُمُورُ وَإِذَا الْجَنِينُ بِأُمِّهِ مُتَعَلَّقٌ ... خَوْفَ الْحِسَابِ وَقَلْبُهُ مَذْعُورُ هَذَا بِلا ذَنْبٍ يَخَافُ لِهَوْلِهِ ... كَيْفَ الْمُقِيمُ عَلَى الذُّنُوبِ دُهُورُ وَخِتَامًا فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ اللَّبِيبِ أَنْ لا يُضَيِّعَ أَيَّامَ صِحَّتِهِ وَفَرَاغَ وَقْتِهِ بِالتَّقْصِيرِ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَأَنْ لا يَثِقَ بِسَالِفِ عَمَلٍ وَيَجْعَلَ الاجْتِهَادَ غَنِيمَةَ صِحَّتِهِ وَيَجْعَلَ العَمَلَ فُرْصَةَ فَرَاغِهِ. فَلَيْسَ الزَّمَانُ كُلُّهُ مُسْتَعِدًّا وَلا مَا فَاتَ مُسْتَدْرِكًا. بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وَصِيَّةٌ مُفِيدَةٌ جدًا. مَنْ عَلِم قُرْبَ الرَّحِيل اسْتَكْثَر من كَلِمةِ الإِخْلاص لا إله إلا اللهُ، وَقِرَاءة القُرْآن، والاسْتِغْفَار، والبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ للهِ، ولا إِله إلا اللهُ، خُصُوصًا إِذَا كَانَ قَدْ جَاوَزَ خَمْسِينَ سَنَة، لأَنَّهُ قَدْ قَارَبَ سَاحِلَ الأَجَلْ بِعُلُوّ سِنِّه، وكذالَكَ يَنْبَغِي أَنْ يُبَادِرَ اللَّحَظَاتِ، وَيَنْتَظَرَ الْهَاجِمَ بِمَا يَصْلَحُ لَهُ فَقَدْ كَانَ في قَوْسِ الأَجَلَ مَنْزَع زَمَانِ الشَّبَاب، واسْتَرْخَى الوَتَرُ بِالمشيب عن سِيَّةِ القوس، فانْحَدَرَ القَلْب، وَضَعُفَتِ القُوَى أن يُوتِر، وَمَا بقي إلا الاسْتِسْلامُ لِمُحَارِبِ التَّلَف، فالبِدَارَ البِدَارَ إلى التَّنْظُف، وَلِيَكُون القُدُوم عَلى طَهَارِةَ، فَوَا أَسَفًا لِمهُدَّدَ بِالْمَوْتِ في كل لحظة كيْفَ يَغْفُلُ وَيَهْمِِلِ وَكَيْفَ يَطِيبُ عَيْشُهُ. اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِصَالِحِ الأَعْمَالِ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

الجزء الثاني

وَقْفٌ للهِ تَعَالَى تَأْلِيفُ الفَقِير إلى عَفْوِ رَبِّهِ عَبدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ السّلمانِ المدرس في معهد إمام الدعوة بالرياض سابقاً الجزء الثاني

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَقَفَ قَوْمٌ عَلَى عَالِم فَقَالُوا: إِنَا سَائِلُوكَ أَفَمُجِيبُنَا أَنْتَ؟ قَالَ: سَلُوا وَلا تُكْثِرُوا، فَإِنَّ النَّهَارَ لَنْ يَرْجِعَ وَالْعُمُرَ لَنْ يَعُودَ، وَالطَّالِبَ حَثِيثٌ فِي طَلَبِهِ. قَالُوا: فَأَوْصِنَا. قَالَ: تَزَوَّدُوا عَلَى قَدْرِ سَفَرِكُمْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّاد مَا أَبْلَغَ الْبُغْيَةَ. ثُمَّ قَالَ: الأَيَّامُ صَحَائِفُ الأَعْمَارِ فَخَلّدُوهَا أَحْسَنَ الأَعْمَال، فَإِنَّ الْفُرَصَ تَمُرُّ مَرَّ السَحَابِ، والتَّوَانِي مِنْ أَخْلاقَ الْكُسَالَى وَالْخَوَالِفِ، وَمَنِ اسْتَوْطَنَ مَرْكَبَ الْعَجْزِ عَثَرَ بِهِ. وَتَزَوَّجَ التَّوَانِي بِالْكَسَلِ فَوُلِدَ بَيْنَهُمَا الْخُسْرَانُ. أ. هـ. قَالَ بَعْضُهُمْ: تَزَوَّجَتِ الْبَطَالَةَ بالتَّوَانِي ... فَأَوْلَدَهَا غُلامًا مَعَ غُلامِهْ فَأَمَّا الابْن سَمُّوه بِفَقْرٍ ... وَأَمَّا الْبِنْت سَمُّوهَا نَدَامَة آخر: ... يَا سَاكَنَ الدُّنْيَا تَأَهْبْ ... وَانْتَظِرْ يَوْمَ الْفُرَاقِ وَأَعَدَّ زَادًا لِلرَحِيلِ ... فَسَوْفَ يُحْدَى بِالرِّفَاقِ وَابْكِ الذُّنُوبَ بِأَدْمُعٍْ ... تَنْهَلْ مِنْ سَحب الْمَآقِ يَا مَنْ أَضَاعَ زَمَانَهُ ... أَرَضِيتَ مَا يَفْنَى بِبَاقٍ آخر: ... أُقَلِّبُ كَُتْبًا طَالَمَا قَدْ جَمَعْتُهَا ... وَأَفْنَيْتُ فِيهَا الْعَيْن وَالْعَيْن وَالْيَدَا وَأَصْبَحْتُ ذَا ظَنٍ بِهَا وَتَسَمَّكٍ ... لِعِلْمِي بِمَا قَدْ صُغْتُ فَيهَا مُنَضَّدَا واحْذَرْ جهدي أَنْ تَنَالَ بِنَائِلٍ ... مهِين وَأََنْ يُغتالها غائل الردى واعْلَمْ حَقًّا أَنَّنِي لَسْتُ بَاقِيًا ... فَيَا لَيْتَ شِعْرِي مَنْ يقلبها غَدًا الْمُرَاقَبَةُ فِي ثَلاثَةِ أَشْيَاءٍ: مُرَاقَبَةُ اللهِ فِي طَاعَته بِالْعَمَل الَّذِي يُرْضِيه، وَمُرَاقَبَةُ اللهِ عِنْدَ وُرُودِ الْمَعْصِيةِ بِتَرْكِهَا، وَمُرَاقَبَةُ اللهِ فِي الْهَمِّ وَالْخَوَاطِرِ وَالسِّرّ وَالإِعْلانِ. قَالَ تَعَالَى: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنَّ لمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» .

(1) الليْل والنَّهَارَ يَعْمَلانِ فِيكَ فَاعْمِلْ فِيهِمِا أِعْمَالاً صَالِحَة تَرْبَحُ وَتُحْمَدُ الْعَاقِبَة الْحَمِيدَة إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. شِعْرًا: ... وَلَيْلُكَ شَطْرُ عُمرك فَاغْتَنِمْهُ ... وَلا تَذْهَبْ بِشَطْرِ الْعُمُرِ نَوْمًا آخر: ... يُحْيِي الليَالِي إِذَا الْْمَغْرُور أَغْفَلَهَا ... كَانَ شُهْبَ الدَّيَاجِي أَعْيُنٌ نُجلُ (2) الْمَلائِكَة يَكْتُبَان مَا تَلْفِظُ بِهِ فَاحْرِصْ عَلَى أَنْ لا تَنْطِق إِلا بِمَا يَسُرُّكَ يَوْم الْقِيامَةِ. أَشْرَفُ الأَشْيَاءِ قَلْبُكَ، وَوَقْتُكَ، فَإَذَا أَهْمَلْتَ قَلْبَكَ وَضَيْعَتَ وَقْتَكَ فَمَاذَا يَبْقَى مَعَكَ كُلُّ الْفَوَائِدِ ذَهَبَتْ، وَقْتُ الإِنْسِانَ هُوَ عُمُرهُ وَمَادَة حَيَاتِهِ الأَبَدِيّة فِي النَّعِيم الْمُقِيمِ وَمَادَة الْمَعِيشَةِ الضَّنْكِ فِي الْعَذَابِ الأَلِيمِ وَهُوَ يَمُر مَرَّ السَّحَاب. (3) اعْلَمْ أَنَّ قِصَرَ الأَمَلِ عَلَيْهِ مَدَارٌ عَظِيم وَحِصْن الأَمَلِ ذِكْرُ الْمَوْتَ وَحِصْنُ حِصْنِهِ ذِكْرُ فَجْأَة الْمَوْت وأَخْذ الإِنْسَان عَلَى غِرّة وَغَفْلَة وَهُوَ فِي غُرُورٍ وَفُتُورٍ عَنْ الْعَمَل لِلآخِرَةِ. نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُوقِظَ قُلُوبَنَا إَِنَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٍ، اللَّهُمَّ صَلِّي عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وسلم. شِعْرًا: ... إِذَا شَامَ الْفَتَى بَرْقَ المْعَالِي ... فَأَهْوَن فَائِتٍ طِيبُ الرُّقَادِ آخر: ... وَبَادِر الليل بِدَرْسِ الْعُلُوم ... فِإِنَّمَا الليل نَهَارُ الأَرِيب

بسم الله الرحمن الرحيم شعرًا: قَالَ بَعْضُهُمْ: بَلَوْتُ الطِّيبَاتِ فَلَمْ أَجِدْهَا ... تَفِي ِبِالْعُشْرِ مِنْ طِيبِ الْعُلُومِ وَنَادَمْتُ الْصِحَابَ وَنَادَمُونِي ... فَمَا بِالْكُتَبِ عِنْدِي مِنْ نَدِيمٍ وَلَمْ أَرَى فِي كُنُوزِ النَّاس ذُخْرًا ... كَمِثْلَ مَوَدَةَ الْحُرِّ الْكَرِيمِ مُلاحَظَة: لا يُسْمَح لأَيِ إِنْسَانٍ أَنْ يَخْتَصَرُهُ أَوْ يَتَعَرَض لَهُ بِمَا يُسَمُونَهُ تَحْقِيقًا لأَنَّ الاخْتِصَارَ سَبَبٌ لِتَعْطِيلِ الأَصْلِ. وَالتَّحْقِيقَ أَرَى أَنَّهُ اتِّهَامٌ لِلْمُؤَلِفِ، وَلا يُطْبَعُ إِلا وَقْفًا للهِ تَعَالَى عَلَى مَنْ يَنْتَفَعَ بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِين. ((فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ النَّفْع لِمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ)) مَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً أَفْضَلَ مِنْ أَنْ عَرَّفَهُ لا إله إلا الله، وَفَهَّمَهُ مَعْنَاهَا، وَوَفَّقَهُ لِلْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا، وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهَا. شِعْرًا: ... الذِّكْرُ أَصْدَقُ قَوْلٍ فَافهَمْ الْخَبَرَا ... لأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ قَدْ أَنْشَأَ الْبَشَرَا فَاعْمَلْ بِهِ إِنْ تُرِدْ فَهَمًا وَمَعْرِفَةً ... يَا ذَا الْنُهَى كَيْ تَنَالَ الْعِزَّ وَالْفَخْرَا وِتَحْمِدَ اللهَ فِي يَوْمِ الْمِعَادَ إِذَا ... جَاءَ الْحِسَابُ وَعَمَّ الْخَوْفُ وَانتَشَرَا للهِ دَرُ رِجَالٍ عَامِلين بِهِ ... يَدِقُ وَمَا قَدْ جَلَّ وَاشْتَهَرَا آخر: ... جَمِيعُ الْكُتُبِ يُدْرِكُ مَنْ قَرَاهَا ... مِلالٌ أَوْ فُتُورٌ أَوْ سَآمَه سِوَى الْقُرْآن فافهم واستمَعْ لي ... وقول المصطفى يَا ذَا الشَّهَامَةِ آخر: ... صَافي الْكَرِيمَ فَخَيْرُ مَنْ صَافَيْتُهُ ... مَنْ كَانَ ذَا دِينٍ وَكَانَ عَفِيفًا

بسم الله الرحمن الرحيم " فَصْلٌ " وَمَنْ أَرَادَ طِبَاعَتَهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ تَعَالَى لا يُرِيدُ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، فَقَدْ أُذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَجَزَى اللهُ خَيْرًا مَنْ طَبَعَهُ وَقْفًا للهِ، أَوْ أَعَانَ عَلَى طَبْعِهِ، أَوْ تَسَبَّبَ لِطَبْعِهِ وَتَوْزِيعِهِ عَلَى إِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِين، فَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللهَ يُدْخَلُ فِي السَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلاثَة نَفَرٍ: صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ وَالرَّامِي بِهِ، وَمُنْبِلِهِ» . الْحَدِيث رَوَاهُ أَبُو داود. وَوَرَدَ عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلَهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، أَوْ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَد صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» . الْحَدِيث. رَوَاهُ مُسْلِم. وَعَنْ زَيْدِ بِنْ خَالِدِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ جَهَزَّ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللهِ فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَّفَ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ أَوَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ أَوْ بَيْتًا لِابْنِ سَّبِيلِ بَنَاهُ أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ تَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه وَابْنُ خُزَيْمَة. وَرَوَاهُ الْبَزَارُ مِنْ حَدِيثِ أَنَس إِلا أَنَّهُ قَالَ: «سبع تجري للعبد بعد موته وَهُوَ فِي قبره: مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا أَوْ كَرَى نَهْرًا أَوْ حفر بِئْرًا أَوْ غَرَسَ نَخْلاً أَوْ بَنَى مَسْجِدًا أَوْ وَرَثَّ مُصْحَفًا أَوْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ» . اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّوم يَا عَلِيٌّ يَا عَظِيم يَا ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ يَا نُورِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، إِنَّكَ تَفَضَّلْتَ عَلَيْنَا وَأَعْطَيْتَنَا الإِسْلامَ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَسْأَلُكَ فَلا تَحْرِمْنَا الْجَنَّة وَنَحْنُ نَسْأَلُكَ، اللَّهُمَّ صَلى على مُحَمَّدٍ وآله وَصَحْبِهِ وَسَلّم.

" فصل " في الوعظ والإرشاد

" فصل " فِي الْوَعْظ وَالإِرْشَاد اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِين لِمَا يُحِبَّهُ وَيَرْضَاهُ أَنْ الدَّعْوَةَ إِلَى اللهِ عَمَلُ الأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِين صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهمْ أَجْمَعِين، وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ نُوَّابُ عَنِ الأَنْبِيَاءِ فِي هَذَا الأَمْر الْخَطِيرِ فَهُمْ أُمَنَاءُ اللهِ عَلَى شَرْعِهِ وَالْحَافِظُونَ لِدِينِهِ الْقَويِمِ وَالْقَائِمُونَ عَلَى حُدُود اللهِ وَالْعَارِفُونَ بِمَا يَجِبُ للهِ مِنْ كَمَالٍ وَتَنْزِيهٍ. لِذَلِكَ كَانَ أَئِمَّة الْمُسْلِمِين المْخُلِصُونَ فِي أَعْمَالُهُمْ الصَّادِقُونَ فِي أَقْوَالِهِمْ الْبَعِيدُونَ عَنْ الرِّيَاءِ وَحَبِّ الشُّهْرَة وَالْمَدْحِ يَسِيرُونَ بِالْخَلْقِ نَحْوَ سَعَادَتِهِمْ بِمَا يُعَلِّمُونَهُمْ مِنْ أُمُورِ دِينِهِمْ وَبِمَا يُرْشِدُونَهُمْ إِلِيْهِ مِنَ التَّحَلِّي بِالْفَضِيلَةِ والتَّخَلِّي عَنْ الرَّذِيلَةِ وَاعْتَقَدَ النَّاسُ فِيهِمْ ذَلِكَ وَأَمّلُوهُمْ لَهُ فَأَحَلُّوهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ مَحَلاً لَمْ يَبْلُغْهُ سِوَاهُمْ مِنَ الْبَشَرِ حَتَّى اكْتَسَبُوا فِي قُلُوبِهِمْ مَكَانَةً يُغْبَطُونَ عَلَيْهَا وَرَبَحُوا مَنْزِلَةً تَصْبُوا إِلَيْهَا نُفُوسِ ذَوِي الْهِمَّةِ الْعَالِيةِ وَالْفَضْلِ. وَنَاهِيكَ بِقَوْمِ إِذَا فَعَلُوا لَحَظَتْهُمْ الْعُيُونُ وَإِذَا قَالُوا: أَصْغت الآذَان وَوَعَتِ الْقُلُوب وَحَكَتِ الأَلْسُن فَهُمْ مَطْمَح الأُنْظَار وَمَوْضع الثَّقَةِ والْحُجَّةِ الْبَالِغَةِ وَالْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ وَالنُّورِ السَّاطِعِ، قَالَ الله تَعَالَى ": {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} شِعْرًا: ... مَحَاسِنُ أَصْنَافِ الدُّعَاةِ كَثَيرَةٌ ... وَمَا قَصَبَاتُ السَّبْقِ إِلا لأحمد آخر: ... لا يُدْرِكُ الْمَجْدَ إِلا مُخْلِص وَرِع ... كَثَير ذِكْرِ لِخَلاقِ السَّمَاوَات مُتَابِعٌ لِرَسُول اللهِ دَيْدَنَهُ ... تِلاوَة الذِّكْرِ مَعَ حِفْظٍ لأَوْقَاتٍ آخر: ... وَأَحْسَنُ مُقْرُونِينَ فِي لَفْظٍ نَاطِقٍ ... ثَنَاء عَلَى رَبِّ الْعِبَادِ وَشُكْرِهِ الْمَعْنَى لا أَحَد أَحْسَنُ كَلامًا وَطَرِيقَةً وَحَالَةً مِمَنْ دَعَا النَّاسَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَطَاعَةِ رَسُلِهِ وَذَلِكَ بِتَعْلِيمِ جَاهِلِيهُمْ وَوَعَظَ غَافِلَهُمْ وَنَصْحِ مُعْرِضْهُمْ وَمُجَادَلَةِ مُبْطِلِهِمْ بِالأَمْر بِعِبَادَةِ اللهِ بِجَمَيعَ أَنْوَاعِهَا وَالْحَثِ عَلَيْهَا وَتَحْسِينِهَا وَتَحْبِيبِهَا

مَهْمَا أَمْكَن وَالزَّجْرِ عَمَّا نَهَى اللهُ وَرَسُولِهِ عَنْهُ وَتَقْبِيحِهِ وَالتَّحْذِير مِنْهُ بِكِلِ وَسِيلَةٍ وَطَرِيقَةٍ تُوجِبُ تَرْكِهِ. وَكَانَ الْحَسَنُ إِذَا تَلا هَذِهِ الآيَةِ يَقُولُ: هَذَا حَبِيبُ اللهِ، هَذَا وَلِيُّ اللهِ، هَذَا صَفْوَةِ اللهِ، هَذَا خَيْرَةُ اللهِ، هَذَا أَحَبُّ أَهْلِ الأَرْضِ إِلَى اللهِ، أَجَابَ اللهَ فِي دَعْوَتِهِ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى مَا أَجَابَ فِيهِ مِنْ دَعْوَتِهِ، وَعَمَلٍ صَالِحًا فِي إِجَابَتِهِ. وقَالَ فِي هِدَاية الْمُرْشِدِينَ: إِنَّ أَوَّلَ وَاجِبٍ عَلَى الدَّاعِيَ الْعِلْمُ بِالْقُرَآنِ وَالْمُرَادُ بِالنَّظَرِ قَبْل كُلّ شَيْء عَلَى كَوْنِهِ هُدًى وَمَوْعِظَةً وَعِبْرَةٍ. وَكَذَلِكَ السُّنَّةِ وَمَا صَحَّ مِنْ أَقْوَالِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - وَسِيرَتِهِ وَسِيرَةِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَالسَّلَفِ الصَّالِحُ وَبِالْقَدْرِ الْكَافِي مِنْ الأَحْكَامِ وَأَسْرَارِ التَّشْرِيعِ مَعَ الصِّدْقِ فِي نَشْرِهَا فَإِنَّ مَرْتَبَتِه التَّبْلِيغُ عَنْ اللهِ لَمْ تَكُنْ إِلا لِمَنِ اتَّصَفَ بِالْعِلْمِ مَعَ الصِّدْقِ. وَالْمُرْشِدُ وَارِثُ لِهَذِهِ الْمَرْتَبَةِ وَلِيَتَمَكَّنَ مِنْ تَعْلِيمِ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ فَلا يَزِيغُ فِي عَقِيدَتِهِ وَلا يَعْجِرُ عَنْ إِقْنَاعِ النُّفُوسِ الْمُتَطَلِّعَةِ إِلَى مَعْرِفَةِ أَسْرَارِ الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَيَكُونُ الإِذْعَانُ لَهُ أَتَمُ وَالْقُبُولِ مِنْهُ أَكْمَلُ. فَأَمَّا الْجَاهِلَ فَضَالٌّ مُضِلٌّ وَضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ، وَمَا يُفْسِدُهُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُهُ إِذْ لا تَمْيِيزَ لِجَاهِلٍ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَلا مَعْرِفَةَ عِنْدَهُ تَرْشُدُ إِلَى إِصْلاحِ الْقُلُوبِ وَتَهْذِيبِ النُّفُوسِ. شِعْرًا: ... رَيَاسَاتِ الرَّجَالِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ... وَلا تَقْوَى الإِلَهِ هِي الْخَسَاسَةِ آخر: ... وَكُل رِئَاسَةٍ فِي جَنْبِ جَهْل ... أَحَطُ من الْجلوس على الكناسة وَأَشْرَفُ مَنْزِلٍ وَأَعَزُّ عِزٍّ ... وَخَيْرُ رِيَاسَةٍ تَرْكِ الرِّيَاسَةِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصَرِىُّ رَحِمَهُ اللهُ: الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ، وَفِي الْحِكَمِ: مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا بِغَيْرِ دَلِيلٍ ضَلَّ، وَمَنْ تَمَسَّكَ بِغَيْرِ أَصْلٍ زّلَّ.

وَأَمَّا الْكَاذِبُ فَلا خَيْرِ فِيهِ وَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ عَلَى اللهِ، لِهَذَا حَرَّمَ اللهُ الْقَوْلَ عَلَيْهِ بِلا عِلْمٍ، وَجَعَلَهُ مِنْ أَفْحَشِ الْكَبَائِرِ. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وَهَذَا يَعُمُّ الْقَوْلَ عَلَى اللهِ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَذَاتِه وَأَفْعَالِهِ وَفِي دِينِهِ وَشَرْعِهِ. وقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَتَّصِفَ بِهِ الدَّاعِيَ الْعَمَلُ بِعِلْمِهِ فَلا يُكَذِّبُ فِعْلَهُ قَوْلُهُ، وَلا يُخَالِفُ ظَاهِرَهَ بَاطِنَهُ، فَلا يَأْمُرُ بِشَيْء إِلا وَيَكُونُ أَوْلَ عَامِلٍ بِهِ، وَلا يَنْهَى عَنْ شَيْء إِلا وَيَكُون أَوْلُ تَارِكٍ لَهُ، لِيَفِيدَ وَعْظِهِ وَإِرْشَادِهِ. فَأَمَّا إِنْ كَانَ يَأْمُرُ بِالْخَيْرِ وَلا يَفْعَلُهُ وَيَنْهَى عَنْ الشَّرِّ وَهَوَ وَاقِعٌ فِيهِ، فَهُوَ بِحَالِهِ عَقَبَةٌ فِي سَبِيلِ الإِصْلاحِ، وَهَيْهَاتَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ، فَإِنَّهُ فَاقِدُ الرُّشْدِ فِي نَفْسِهِ فَكَيْفَ يَرْشُدُ غَيْرَهُ. شِعْرًا: ... الْعِلْمُ فِي شَرْطِهِ لِِمَنْ حَصَّلَهُ ... أَنْ يَحْمِدَ اللهَ وَيَعْمَلَ بِه آخر: ... يَا آمِرَ النَّاسِ بِالْمَعْرُوفِ مُجْتَهِدًا ... إِنْ رَأَى عَامِلاً بِالْمُنْكَرِ انْتَهَرَهُ ابْدَأْ بِنَفْسِكَ قَبْلَ النَّاسِ كُلَهُمْ ... فَأَوْصِهَا وَاتْلُ مَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} اللَّهُمَّ اجْعَلنَا مِنَ التَّالِينَ لِكِتِابِكَ الْعَامِلِينَ بِهِ الْمُحِلِّلِينَ حَلالَهُ الْمُحَرْمِينَ حَرَامَهُ الْمُمْتَثِلِينَ لأَوَامِرِهِ الْمُجْتَنِبِينَ نَوَاهِيهِ الْمُتَعِظِينَ بِمَوَاعِظِهِ الْمُنْزَجِرِينَ بِزَوَاجِرِهِ الْمُتَفَكِّرِينَ فِي مَعَانِيهِ الْمُتَدَبِّرِينَ لأَلْفَاظِهِ الْبَاكِينَ الْمُقَشْعِرينَ عِنْدَ تِلاوَتِه وَسَمَاعِهِ.

واغْفِر لَنَا وَلِوَالِدِينَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأَحْيَاء مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " فَصْلٌ " قَالَ مَالِكُ بِن دِينَارٍ: إِنَّ الْعَالِمَ إِذَا لَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ زَلَتْ مَوْعِظَتِهِ عَنْ الْقُلُوبَ كَمَا يَزِلُ الْقَطْرُ عَنْ الصَّفَا فَإِنَّ مَنْ حَثَّ عَلَى التَّحَلِّي بِفَضِيلَةٍ، وَهَوَ عَاطِلٌ مَنْهَا، لا يُقْبَلْ قَوْلُهُ، كَمَنْ يَحُثُّ النَّاسَ عَلَى الْحِلْمِ وَالصَّبْرِ وَالْكَرَمِ وَهُوَ بِضِدِّ ذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} وَمِثْلُ ذَلِكَ مَنْ يَنْهَى عَنْ الأَخْلاقِ السَّاقِطَةِ وَالْبِدَعِ وَالْمَلاهِي وَهَوَ مُتَلَوِّثُ بِهَا كَمَنْ يَنْهَى عَنْ الدُّخَانِ أَبِي الْخَبَائِثِ وَالْخَمْرِ أُمِّ الْخَبَائِثِ وِهُوَ يَشْرَبُهُمَا، وَكَمَنْ يَأْمُرُ بِالابْتِعَادِ عَنْ التلفزيون وَالْمِذْيَاعِ وَالسِّينمَاءِ وَالْبَكْمَاتِ، وَهُوَ يَشْتَرِيهَا أَوْ يَحْظُرُهَا. وَكَمَنْ يَنْهَى عَنْ حَلْقِ اللِّحْيَةِ وَالْخَنَافِسِ وَالتَّشَبُهِ بِالنِّسَاءِ وَالْمُرْدِ وَالْكُفَّارِ وَهُوَ مُتَلَبِّسُ بِهَا، وَكَمَنْ يَنْهَى عَنْ الْكُورَةِ وَهُوَ يَحْضَرُهَا، أَوْ يَنْهَى عَنْ بَيْعِ هَذِهِ الْمَلاهِي وَشِرَائِهَا وَتَصْلِيحِهَا وَهُوَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، فَهَذَا يُقَابِلُ قَوْلُهُ بِالرَّدِ، وَلا يُعَامِلُ إِلا بِالإِعْرَاضِ، وِالإِهْمَالِ، بَلْ مَحَلُ سُخْرِيَةِ، وَاسْتِهْزَاءِ فِي نَظَرِ الْعُقَلاءِ. شِعْرًا: ... وَأَخْسَرُ النَّاسِ سَعْيًا مَنْ قَضَى عُمُرًا ... فِي غَيْرِ طَاعَةِ مَنْ أَنْشَاهُ مِنْ عَدَمٍ آخر: ... سَلِ الإِلَهَ إِذَا نَابَتْكَ نَائِبَةٍ ... فَهُوَ الَّذِي يُرْتَجَى مِنْ عِنْدِهِ الأَمَلُ فَإِنْ مَنَحْتَ فَلا مَنّ وَلا كَدَرٌ ... وَإِنْ رَدَدْتَ فَلا ذُلٌّ وَلا خَجَلُ قَوْلٌ جَمِيلٌ وَأَفْعَالٌ مُقَبَّحَةٌ ... يَا بُعْدَ مَا بَيْنَ ذَاكَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ فَإِنَّ مَنْ تَنَاوَلَ شَيْئًا فَأَكْلُهُ وَقَالَ للناسِ: لا تُنَاوِلُوهُ، فَإِنَّهُ سُمٌّ مُهْلِكٌ سَخِرَ

النَّاس مِنْهُ، واستهزؤا بِه وَاتَّهَمُوهُ فِي دِينِِهِ وَعِلْمِهِ وَوَرَعِهِ، وَكَأَنَّهُ بِزَجْرِهِ وَنَهْيهِ حَرَّضَهُمْ عَلَيْهِ، فَيَقُولُونَ لَوْلا أَنَّهُ لَذِيذٌ مَا كَانَ يَسْتَأْثِرُ بِهِ. كَذَلِكَ الدَّاعِي إِذَا خَالَفَ فِعْلَهُ قَوْلَهُ، أَمَّا الائْتِمَار بِمَا سَيَأْمُرُهُمْ بِهِ أَوْلاً، وَالتَّخَلُّقُ بِمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ فَهُوَ وَاقِعٌ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ، وَأَقْرَبُ إِلَى إِذْعَانِ الرَّاغِبِينَ. فَمَنْ لَمْ يُكَابِدْ قِيَامَ الليلِ وَسَهَرِهِ، فَكَيْفَ يُسْمَعُ مِنْهُ فَضْلَ قِيَامِ الليلِ، وَكَمَنْ يَحُثُّ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالْمُشَارَكَةِ فِي الأَعْمَالِ الْخَيْرِيْةِ وَالْمَشَارِيعِ الدِّينِيَّةِ، وَلا يُسَاهِمُ فِيهَا أَبَدًا، فَهَذَا لا يَقْبَلُ قَوْلُهُ، وَيَكُونُ مِمَّنْ يُعِينَ عَلَى سَبِّهِ، وَغِيبَتِهِ، لِمَا عَرِفْتَ مِنْ أَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى صَالِحِ الأَعْمَالِ وَمَكَارِمِ الأَخْلاقِ تَرْبِيَة، وَالتَّرْبِيَة النَّافِعَة إِنَّمَا تَكُون بِالْعَمَل، لأنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْقُدْوَةِ الصَّالِحَةِ وَالأُسْوَةِ الْحَسَنَةِ، لا بُمُجَرَّدِ الْقَوْلِ. يَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ مَا فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ عَنْ الْمُسَوِّرِ بِنْ مخرمةِ، قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَصْحَابِهِ: «قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلُقُوا» . فوَاللهِ مَا قَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَة فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ. فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: يَا نَبِيَّ اللهِ أَتُحِبُّ ذَلِكَ، أَخْرَجَ ثُمَّ لا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِكَلِمَةٍ حَتَّى تَنْحِرَ بُدَنَكَ وَتَدْعُو حَالِقَكَ فَيَحْلِقُكَ. فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ، نَحَرَ بُدَنَهُ وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا، حَتَّى كَادَ يَقْتِلُ بَعْضهُمْ بَعْضًا أَيْ ازْدِحَامًا وَغَمًّا. وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: أَتَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى نَهْرٍ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وَالنَّاسُ صِيَامٌ فِي يَوْمِ صَائِفٍ مُشَاةٌ وَنَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ فَقَالَ: «اشْرَبُوا أَيُّهَا النَّاسُ» . قَالَ: فأبوا. قَالَ: «إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إِنِّي أَيْسَرُكُمْ إِنِّي رَاكِبٌ» . فَأَبَوا، فَثَنَى

رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَخْذَهُ فَنَزَلَ فَشَرِبَ وَشَرِبَ النَّاسُ، وَمَا كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَشْرَبَ ... رَوَاهُ أحمد. قَالَ: فَإَذَا لَمْ يَكُنْ الدَّاعِي إِلا ذَا قَوْلٍ مُجَرَّدٍ مِنَ الْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ نَصِيبُ الْمَدْعُو مِنْهُ إِلا الْقَوْلَ، وَأَيْضًا فَمِثْل الْمُرْشِدِ مِنَ الْمُسْتَرْشِدِ مِثْل الْعُودِ مِنَ الظِلِّ، فَكَمَا أَنَّهُ مُحَالٌ أَنْ يَعْوَجَّ الْعُودُ وَيَسْتَقِيمَ الظِلُّ كَذَلِكَ مُحَالٌ أَنْ يَعْوَجَّ الْمُرْشِدُ وَيَسْتَقِيمَ الْمُسْتَرْشِدُ. قَالَ الْغَزَالِي فِيمَا كَتَبَهُ إِلَى أَبِي حَامِدٍ أحمد بِنْ سَلامَة بِالْمُوصَلِ: أَمَّا الْوَعْظُ فَلَسْتُ أَرَى نَفْسِي أَهْلاً لأَنَّ الْوَاعِظَ زَكَاةُ نِصَابِهِ الاتِّعَاظ فَمَنْ لا نِصَابَ لَهُ كَيْفَ يُخْرِجُ الزَّكَاةَ وَفَاقِدُ النُّورِ كَيْفَ يَسْتَنِيرُ بِهِ غَيْرُهُ وَمَتَى يَسْتَقِيمُ الظِلُّ وَالْعُودُ أَعْوَجُ وَلِهَذَا قِيلَ: شِعْرًا: ... يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ ... هَلا لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَّعْلِيم تَصِف الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ مِنَ الضِّنَا ... كَيْمَا يَصِحُ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيمٌ مَا زِلْتَ تَلْقِحُ بِالرَّشَادَ عُقُولَنَا ... عِظْتَ وَأَنْتَ مِنَ الرَّشَادِ عَدِيمٌ ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهِهَا عَنْ غَيِّهَا ... فَإَذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمٌ فَهُنَاكَ يُقْبَلُ مَا تَقُولُ وَيُقْتَدَى ... بِالرَّأْيِ مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِي مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمٌ آخر: ... وَكُنْ نَاصِحًا للمُسْلِمِينَ جَمِيعُهُمْ ... بِإِرْشَادِهِمْ للحَقِّ عِنْدَ خَفَائِهِ وَمُرْهُمْ بِمَعْرُوفِ الشَّرِيعَةِ وَانْهِهِمْ ... عَنْ السُّوءِ وَازْجُرْ ذَا الخَنَا عَنْ خَنَائِهِ وَعِظْهُمْ بِآيَاتِ الإِلَهِ بِحِكْمَةٍ ... لَعَلَّكَ تُبْرِي دَاءَهُمْ بِدَوَائِهِ فَإِنْ يَهْدِ مَوْلانَا بِوَعْظِكَ وَاحِدًا ... تَنَلْ مِنْهُ يَوْمَ الْحَشْرِ خَيْرَ عَطَائِهِ وَإِلا فَقَدْ أَدَيْتَ مَا كَانَ وَاجِبًا ... عَلَيْكَ، وَمَا مَلَكْتَ أَمْرَ اهْتِدَائِهِ قَالَ وَقَوْلُ اللهُِ تَعَالَى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ

الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} تَعْجَبُ لِلْعُقَلاءِ مِنْ هَذَا الْمَسْلَكِ الْمَعِيبِ، وَلِلْتَعَجُّبِ وُجُوهٌ مَنْهَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ إِرْشَادُ الْغَيْرِ إِلَى الْخَيْرِ وَتَحْذِيرِهِ مِنَ الشَّرِّ وَإِرْشَادُ النَّفْسَ إِلَيْهِ وَتَحْذِيرِهَا مِنْهُ مُقَدَّمٌ بِشَواهِدِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ. أَمَّا الْعَقْلُ فَبَدِيهِيّ، وَأَمَّا النَّقْلُ فَكَثِيرَةٌ مَنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً} ، وَعَن خَلِيل اللهِ إِبْراهيم {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} ، فَمَنْ وَعَظَ غَيْرَهُ وَلَمْ يَتَّعِظْ فَكَأَنَّهُ أَتَى بِمَا لا يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ السَّلِيمِ. شِعْرًا: ... تَمَسَّكْ بِتَقْوَى اللهِ فَالْمَرء لا يَبْقَى ... وَكُلّ امْرِئٍ مَا قَدْمَتْ يَدُهُ يَلْقَى وَلا تَظْلِمَنَّ النَّاسَ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ ... وَلا تَذْكُرَنَّ إِفْكًا وَلا تَحْسِدَنَّ خَلَقًا وَلا تَقْرِبَنَّ فِعْلَ الْحَرَامِ فَإِنَّهُ ... لَذَاذَتَهُ تَفْنَى وَأَنْتَ بِهِ تَشْقَى وَعَاشِرْ إِذَا عَاشِرْتَ ذَا الدِّينِ تَنْتَفِعُ ... بِعِشْرَتِهِ واحْذَرْ مُعَاشَرَةِ الْحَمْقَى وَدَار عَلَى الإِطْلاقِ كُلاً وَلا تَكُنْ ... أَخَا عجل فِي الأَمْر وَاسْتَعْمَلِ الرِّفْقَا وَخَالِفْ حُظُوظ النَّفْسِ فِيمَا تَرُومُهُ ... إِذَا رُمْتَ لِلْعَلْيَا أَخَا اللُّبِّ أَنْ تَرْقَى تَعَوَّد فِعَال الْخَيْرِ جَمْعا فَكُلَّما ... تَعَوَّدَهُ الإِنْسَانُ صَارَ لَهُ خُلُقًا اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لِلْقِيَامِ بِحَقِّكَ وَخَلِّصْنَا مِنْ حُقُوقِ خَلْقِكَ، وَبَارِكْ لَنَا فِي الْحَلالِ مِنْ رِزْقِكَ وَلا تَفْضَحْنَا بَيْنَ خَلْقِكَ يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلُ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ، يَا قَاضِيَ الْحَاجَاتِ، وَمُجِيبَ الدَّعَوَاتِ، هَبْ لَنَا مَا سَأَلْنَاهُ، وَحَقَّقْ رَجَاءَنَا فِيمَا تَمَنَّيْنَاهُ، يَا مَنْ يَمْلِكُ حَوَائِجَ السَّائِلِينَ وَيَعْلَمُ مَا فِي صُدُورِ الصَّامِتِينَ أَذِقْنَا بَرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَة مَغْفِرَتُكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

" فَصْلٌ " وَمِنْهَا أَنَّ الْوَاعِظَ الْفَاعِلَ لِلْمُحَرَّمَاتِ الْمُحَذِّرَ عَنْهَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْمَعْصِيةِ لأَنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ لَوْلا أَنَّ هَذَا الْوَاعِظَ مُطَّلِعٌ عَلَى أَنَّهُ لا أَصْلَ لِهَذِهِ التَّخْوِيفَاتِ لَمَا أَقْدَمَ عَلَى الْمَنَاهِي وَالْمُنْكَراتِ فَيَكُونُ دَاعِيًا إِلَى التَّهَاوُنِ بِالدِّينِ وَالْجُرْءَةِ عَلَى الْمَعَاصِي، وَهَذَا مُنَافٍ لِلْغَرَضِ مِنَ الْوَعْظِ فِلا يَلِيقُ بِالْعُقَلاءِ. وَمِنْهَا أَنَّ غَرَضَ الدَّاعِي تَرْوِيجُ كَلامِهِ وَتَنْفِيذُ أَمْرِهِ فَلَوْ خَالَفَ إِلَى مَا نَهَى عَنْهُ صَارَ كَلامُهُ بِمَعْزِلٍ عن الْقُبُولِ وَهَذَا تَنَاقُضٌ لا يَلِيقُ بِالْعُقَلاءِ. وَفِي مِثْلِ هَذَا يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: عُلَمَاءُ السُّوءِ جَلَسُوا عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ يَدْعُونَ إِلَيْهَا النَّاسَ بِأَقْوَالِهِمْ وَيَدْعُونَهُمْ إِلَى النَّارِ بِأَفْعَالِهِمْ، فَكُلَّما قَالَتْ أَقْوَالُهُمْ لِلْنَاسِ هَلُمُّوا قَالَتْ أَفْعَالُهُمْ لا تَسْمَعُوا مِنْهُمْ فَلَوْ كَانَ مَا دَعَوا إِلَيْهِ حَقًّا كَانُوا أَوَّلَ الْمُسْتَجِيبِينَ لَهُ، فَهُمْ فِي الصُّوَرِ أَدِلاءِ وَفِي الْحَقِيقَة قُطَّاعُ طَرِيقٍ. قُلْتُ: وَمَا أَكْثَر هَؤُلاءِ فِي زَمَنِنَا. وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: سَيَأْتِي عَلَى النَّاسَ زَمَانٌ يَمْلَحُ فيه عُذُوبَةِ الْقُلُوب فَلا يَنْتَفَعَ بِالْعِلْمِ يَوْمَئِذٍ عَالِمُهُ وَلا مُتَعَلِّمَهُ فَتَكُون قُلُوب عُلَمَائِهِمْ مِثْل السِّبَاخِ مِنْ ذَوَاتِ الْمِلْحِ يَنْزِلُ عَلَيْهَا قَطْرَ السَّمَاءِ فَلا يُوَجَدُ لَهَا عُذُوبَة. وَذَلِكَ إِذَا مَالَتْ قُلُوبُ الْعُلَمَاءِ إِلَى حُبِّ الدُّنْيَا وَإِيثَارِهَا عَلَى الآخِرَة فَعِنْدَ ذَلِكَ يَسْلُبُهَا اللهُ تَعَالَى يَنَابِيعَ الْحِكْمَةِ وَيُطْفُئُ مَصَابِيحَ الْهُدَى مِنْ قُلُوبِهِمْ فَيُخْبِرُكَ عَالِمُهُمْ حِينَ تَلْقَاهُ أَنَّهُ يَخْشَى اللهَ بِلِسَانِهِ وَالْفُجُورُ ظَاهِرٌ فِي عَمَلِهِ. قُلْتُ: وَمَا أَكْثَرُ هَؤُلاءِ فِي زَمَنِنَا فَتَأَمْلْ وَدَقِّقِ النَّظَرَ تُصَدِّق. وَمِنَ الْعَجِيبِ مَا حَدَثَ فِي زَمَنِنَا تَجِدُ بَعْضهُمْ يَحْمِلُ شَهَادَةَ الدُّكْتُورَاة أَوْ الْمَاجِسْتِيرِ أَوْ هُمَا وَيُعْطَى فِيهَا شَهَادَةً فِي الْفِقْهِ الإِسْلامي.

وَهُوَ مَا يُحْسِنُ إِلا مَا كَتَبَ فِيهِ بَحْثًا، إِمَّا مَوْضُوع الرِّبَى أَوْ السَّرقة أَوْ الْخَمْرِ مَثَلاً، وَلا يُجِيدُ غَيْرَ هَذَا الْمَوْضُوع الَّذِي حَصَلَ عَلَى هَذِهِ الشَّهَادَةِ بِسَبَبِهِ. بَلْ الْفَرَائِض التَّي نَصِفُ الْعِلْم لا يُجِيدُهَا فَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ الْعَلِي الْعَظِيم. فَمَا أَخْصَبَ الأَلْسُنَ يَوْمَئْذٍ وَمَا أَجْدَبُ الْقُلُوبَ، قَالَ: فَوَاللهِ الَّذِي لا إله إِلا هَوَ مَا ذَلِكَ إِلا وَاللهُ أَعْلَمُ، كما قَالَ بَعْضُهُمْ: لأَنَّ الْمُعَلِّمِينَ عَلَّمُوا لِغَيْرِ اللهِ وَالْمُتَعَلِّمِينَ تَعَلَّمُوا لِغَيْرِ اللهِ. شِعْرًا: ... لَعَمْرُكَ مَا الأَبْصَارَ تَنْفَعُ أَهْلَهَا ... إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُبْصِرِينَ مِنْ بَصَائِرِ وَبِالْحَقِيقَة إِذَا نَظَرْتَ إِلَى الأَكْثَرِيَّةِ السَّاحِقَةِ مِمَّنْ حَوْلَكَ مِنْ أَسَاتِذَةٍ وَمُدَرِّسِي وَطُلابٍ وَجَدْتَ هَيْبَةَ الإِسْلامِ وَالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالشَّهَامَةِ وَالرُّجُولَةِ الإِسْلامِيَّة قَدْ نُزِعَتْ مِنْهُمْ يَحْلِقُونَ لِحَاهُمْ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ. وَيُوفِّرُونَ شَوَارِبَهُمْ وَيَجْعَلُونَ تَوَالِيَاتٍ، وَرُبَّمَا خَنْفَسُوا وَتَجِدُهُمْ يُجَالِسُونَ الْفَسَقَةَ وَيَنْدَمِجُونَ مَعَهُمْ وَبَعْضُهُمْ تَجِدَهُ يَشْرَبُ أَبَا الْخَبَائِثِ الدُّخانَ وَرَبَّمَا فَعَلَهُ أَمَامَ الطُّلابِ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ. وَلا تَجِدُهُ فِي الْغَالِبِ يُصَلِّي مَعَ الْجَمَاعَةِ وَيُعَامِلُ الْمُعَامَلَة التِّي لا تَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ وَتَجِدَهُ يَجْلِسُ أَمَامَ التَّلَفزيُون وَعِنْدَ الْمِذْيَاعِ وَأَغَانِيهِ وَعِنْدَ السِّينماء وَالْفِيدْيُو وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ التَّي قَتَلَتِ الأَخْلاقَ. وَيُحِبُّ الشُّهْرَةَ وَالظُّهُورِ رِيَاءً وَسُمْعَةً فَكَيْفَ يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنَّ مِثْلَ هَؤُلاءِ يَأْمُرُونَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ يَنْهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ، كَلا وَاللهِ إِنَّهُمْ لا يُزِيلُونَ الْمُنْكَرِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَلا عَنْ بُيُوتِهِمْ التَّي فِيهَا مِنَ الْمُنْكَرَاتِ مَا يُدْهِشُ الأَسْمَاعَ وَالأبَْصَارَ وَالْعُقُولِ.

شِعْرًا: ... إِذَا لَمْ يُعِنْكَ اللهُ فِي طَلَبِ الْعُلا ... فَسَعْيَكَ فِي جَمْعِ الْفَضَائِلِ ضَائِعٌ آخر: ... لَيْسَ الْجَمَالُ بِأَثْوَابٍ تُزَيِّنُنَا ... إِنَّ الْجَمَالَ جَمَالُ الْعِلْمِ وَالأَدَبِ فَعِلْمُ هَؤُلاءِ الْعِلْمُ الَّذِي يَضُرُّ وَلا يَنْفَعُ وَهُوَ الَّذِي اسْتَعَاذَ مِنْهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِقَوْلِهِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ وَقَلْبٍ لا يَخْشَعُ وَدُعَاءٍ لا يُسْمَعُ» . (فَابْعِدْ عَنْهُمْ وَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مِنْهُمْ أَيُّهَا الْمُعَافَى) . شِعْرًا: ... صَارَ الأَسَافِلُ بَعْدَ الذُّلِ أَسْنِمَةً ... وَصَارَتْ الرَّوسُ بَعْدُ الْعِزِّ أَذْنَابًا لَمْ تَبْقَ مُأْثَرَةٌ يَعْتَدُهَا رَجُلٌ ... إِلا التَّكُاثُرُ أَوْرَاقًا وَأَذْهَابًا آخر: ... وَلَمْ أَقْضِ حَقَّ الْعِلْمِ إِنْ كَانَ ... كُلَّما بَدَا طَمَعٌ صَيَّرْتُهُ لِي سُلَّمًا وَلَمْ أَبْتَذِلْ فِي خِدْمَةِ الْعَلْمِ مُهْجَتِي ... لأخدمُ مَنْ لاقَيْتُ لِكِنْ لأُخْدَمَا أَأَشْقَى بِهِ غَرْسًا وَأَجْنِيهُ ذِلَّةً إِذًا ... فَاتّبَاعُ الْجَهْلِ قَدْ كَانَ أَحْزَمَا فَإِنْ قُلْتُ زَنْدَ الْعِلْمِ كَابٍ فَإِنَّهُمَا ... كَبَا حِينَ لَمْ تُحْمَى حِمَاهُ وَأَظْلَمَا وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ ... وَلَوْ عَظَّمُوهُ فِي النُّفُوسِ لَعُظِّمَا وَلَكِنْ أَهَانُوهُ فَهَانُوا وَدَنَّسُوا ... مَحْيَاهُ بِالأَطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا وَنَعُودُ إِلَى كَلامِنَا السَّابِقِ حَوْلِ الآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَالآيَةُ كَمَا تَرَى نَاعِيَةً عَلَى كُلِّ مَنْ يَعِظُ غَيْرَهُ وَلا يَتَّعِظُ بِسُوءِ صَنِيعِهِ وَعَدَمِ تَأَثُّرِهِ، وَإِنَّ فِعْلَهُ فِعْلَ الْجَاهِلُ بِالشَّرْعِ أَوْ الأَحْمَقُ الَّذِي لا عَقْلَ لَهُ فَإِنَّ الأَمْر بِالْخَيْرِ مَعَ حِرْمَانِ النَّفْسِ مِنْهُ مِمَّا لا يَتَّفِقُ وَقَضِيَّةَ الْعَقْلِ وَالْمُرَادُ بِهَا حَثُّهُ عَلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَالإِقْبَالِ عَلَيْهَا بِالتَّكْمِيلِ لِتَقُومَ بِالْحَقِّ فَتُكَمِّلَ غَيْرَهَا. وقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} فَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ مِنْ اللهِ لِمَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مُقَصِّرٌ كّمَنْ يَكْذِبُ فِي قَوْلِهِ أَوْ يَخْلُفُ مَا وَعَدَ.

وَعَنْ أُسَامَةَ بِنْ زَيْدٍ بِنْ حَارِثَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقَ أَقْتَابَ بَطْنِهِ فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ فِي الرَّحَى فَيَجْتَمِعَ إِلَيْهِ أَهْلِ النَّارِ فَيَقُولُونَ يَا فُلانُ مَا لَكَ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: بَلَى كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلا آتِيهِ وَأَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بَي رِجَالاً تُقْرَضُ شِفَاهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنَ النَّارِ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ فَقَالَ: الْخُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا يَعْقِلُونَ» . رَوَاهُ ابن حبان فِي صحيحه. وَإِنَّمَا يُضَاعَفْ عَذَابُ الْعَالِمِ فِي مَعْصِيتِهِ لأَنَّهُ عَصَى عَنْ عِلْمٍ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} وَلأَنَّهُ قُدْوَةٌ فَيَزِلُّ بِزَلَتِهِ خَلْقٌ كَثِيرُونَ، وَلِذَلِكَ قِيلَ زِلْةُ الْعَالِمِ زَلْةُ الْعَالَمِ. وَقِيلَ كَالسَّفِينَة إِذَا غَرَقَتْ غَرَقَ مَعَهَا أُمَمٌ مَا يُحْصِيهُمْ إِلا اللهُ. وَفِي الْخَبَرِ: «وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيْئِةً فَعَلَيْهِ وِزْرَهَا وَوِزْرَ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا» . وَذَلِكَ أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ اقْتَدَوا بِهِمْ فِي السُّوءِ فَيَنَالُهُمْ مِثْلَ عِقَابِ أَتْبَاعِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} ، وَقَالَ: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ} . قَالَ: وَجُمْلَةُ الأَمْرِ أَنَّ مَنْ فَتَحَ بَابِ الشَّرِّ لِغَيْرِهِ وَسَهَّلَ لَهُ الدُّخُولَ فِيهِ فَقَدْ عَظُمَ عَذَابُهُ، وَكَذَلِكَ مَنْ دَعَا إِلَى خَيْرٍ وَأَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَسَهَّلَ لَهُ طَرِيقَهُ فَقَدْ عَظُمَ قَدْرُهُ وَحَسَنَ جَزَاؤُهُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالتّرمذي، وَقَالَ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ: «مثل الَّذِي يُعَلِّمُ الْخَيْرَ وَلا يَعْمَلُ بِهِ مِثْلُ الْفَتِيلَةِ تُضِيءُ لِلنَّاسِ وَتَحْرِقُ نَفْسَهَا» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِي فِي الْكَبِيرِ عَنْ أَبِي بُرْزَةَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ.

وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: وَيْلٌ لِلْجَاهِلِ مَرْة وَلِلْعَالِمِ سَبْعَ مَرَّاتٍ. وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: قَصَمَ ظَهْرِي رَجُلانِ عَالِمٌ مُتَهْتِكٌ وَجَاهِلٌ مُتَنَسِّكٌ، فَالْجَاهِلُ يَغُرُّ النَّاسَ بِنُسُكِهِ وَالْعَالِمُ يَغُرُّهُمْ بِتَهَتُّكِهِ. وَقَالَ حَكِيمٌ: أَفْسَدَ النَّاسَ جَاهِلٌ نَاسِكٌ وَعَالِمٌ فَاجِرٌ؛ هَذَا يَدْعُو النَّاسَ إِلَى جَهْلِهِ بِنُسُكِهِ، وَهَذَا يُنَفِّرُ النَّاسَ عَنْ عِلْمِهِ بِفِسْقِهِ. وَمِنْهَا التَّواضُعُ وَمُجَانَبَةُ الْعُجْبِ، فَذَلِكَ بِالدُّعَاةِ وَالْمُرْشِدِينَ أَلْيَق وَلَهُمْ أَلْزَم لأَنَّ النَّاسَ بِهِمْ يَقْتَدُونَ، وَكَثِيرًا مَا يُدَاخِلُهُمْ الْعُجْبِ لِتَوَحُّدِهِمْ بِفَضِيلَةِ الْعِلْمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ نَظَرُوا حَقَّ النَّظَرِ وَعَمِلُوا بِمُوجَبِ الْعِلْمِ لَكَانَ التَّوَاضُعُ بِهِمْ أَوْلَى، وَمُجَانَبَةُ الْعُجْبِ بِهِمْ أَحْرَى وَأَنْسَبُ، لأَنَّ الْعُجْبَ نَقْصُ يُنَافِي الْفَضْلَ، فَلا يَفِي مَا أَدْرَكُوهُ مِنْ فَضِيلَةِ الْعِلْمِ بِمَا لَحِقَهُمْ مِنْ نَقْصِ الْعُجْبِ وَالْكِبْرِ. شِعْرًا: ... دَعْ الْكِبْرَ وَاجْنَحْ لِلتوَاضُعِِ تَشْتَمِلْ ... وِدَادَ مَنِيعِ الْوُِدِّ صَعْبٌ مَرَاقُهُ وَدَاوِِ بِلِينٍ مَا جَرَحْتَ بِغِلْظَةٍ ... فَطِيبُ كَلامِ الْمِرْءِ طُبُّ كَلامِهِ آخر: ... جِئْ بِالسَّمَاحِ إِذَا مَا جِئْتَ فِي غَرَضٍ ... فَفِي الْعُبُوسِ لِدَى الْحَاجَاتِ تَصْعِيبٌ سَمَاحَةُ الْمَرْءِ تُنَبِئُ عَنْ فَضِيلَتِهِ ... فَلا يَكُنْ لَكَ مَهْمَا اسْتَطَعْتَ تَقْطِيبٌ ج وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «قَلِيلُ الْفِقْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرِ الْعِبَادَةِ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلاً إِذَا أُعْجِبَ بِرَأْيِهِ، وَإِنَّمَا النَّاسُ رَجُلانِ مُؤْمِنٌ وَجَاهِلٌ فَلا تُؤْذِ الْمُؤْمِنَ، وَلا تُحَاوِرُ الْجَاهِلَ» . وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - لأَبِي ثَعْلَبَةَ حِينَ ذَكَرَ آخِرَ هَذِهِ الأُمَّةِ وَمَا تَؤُولُ إِلَيْهِ مِنَ الْحَوَادِثِ: «إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوىً مُتَّبِعًا، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاودُ. وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «ثَلاثٌ مَهْلِكَاتٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوَىً مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الأَوْسَطِ، وَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللهُ مَوْضُوعُ التَّوَاضُعِ، وَافِيًا بِأَدِلَّتِهِ وَعِلَةُ إِعْجَابِ الْمُعْجَبِ بِعَمَلِهِ، وَنَظَرُهُ إِلَى كَثْرَةِ مَنْ دُونِهِ مِنْ الْجُهَّالِ وَانْصِرَافُ نَظَرِهِ عَنْ مَنْ فَوْقَهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، فِإِنَّهُ مَا حَوَى الْعِلْمَ كُلَّهُ أَحَدٌ مِنْ

الْخَلْقِ، فَمَا مِنْ عَالِمٍ إِلا وَفَوْقُهُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} ، فَاللهُ جّلَّ وَعَلا هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ كُلَّ شَيْء، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} ، وَقَالَ: {وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، وَقَالَ: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} ، وَقَالَ: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} . وَقَلَّمَا تَجِدُ مُعْجَبًا بِعِلْمِهِ شَامِخًا بِأَنْفِهِ إِلا وَهُوَ قَلِيلُ الْعِلْمِ ضَعِيفُ الْعَقْلِ لأَنَّهُ يَجْهَلُ قَدْرَهُ وَيَحْسِبُ أَنَّهُ نَالَ مِنْهُ أَكْثَرَهُ، وَاللهُ يَقُولُ: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} ، قَالَ: وَمِنْهَا أَنْ لا يَبْخَلَ بِتَعْلِيمِ مَا يُحْسِنُ وَلا يَمْتَنِعُ مِنْ إِفَادَةِ مَا يَعْلَمُ فَإِنَّ الْبُخْلَ بِهِ ظُلْمٌ وَلُؤْمٌ وَالْمَنْعُ مِنْهُ إِثْمٌ. شِعْرًا: ... إِذَا مَا مَاتَ ذُو عِلْمٍ وَتَقْوَى ... فَقَدْ ثَلمَتْ مِنَ الإِسْلامِ ثُلْمَهْ وَمَوْتُ الْعَادِلِ الْمَلِكِ الْمُوَلَّى ... لِحُكْمِ الْخَلْقِ مَنْقَصَةً وَقَصْمَهْ وَمَوْتُ الْعَابِدِ الْمَرْضِيِّ نَقْصٌ ... فَفِي مَرْآهُ لِلأَسْرَارِ نَسْمَهْ وَمَوْتُ الْفَارِسِ الضِّرْغَامِ هَدْمٌ ... فَكَمْ شَهَدَتْ لَهُ بِالنَّصْرِ عَزْمَهْ وَمَوْتُ فَتَى كَثِيرِ الْجُودِ نَقْصٌ ... لأَنَّ بَقَاءَهُ فَضْلٌ وَنِعْمَهْ فَحَسْبُكَ خَمْسَةٌ يُبْكَى عَلَيْهمْ ... وَمَوْتُ الْغَيْرِ تَخْفِيفٌ وَرَحْمَهْ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} ، وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «لا تَمْنَعُوا الْعِلْمَ أَهْلَهُ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ فَسَادُ دِينِكُمْ وَالْتِبَاسُ بَصَائِرِكُمْ» . ثُمَّ قرأ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} .

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ عَلَى هَذِهِ الآيَةِ: هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ كَتَمَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الدَّلالاتِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمَقَاصِدِ الْصَحِيحَةِ وَالْهُدَى النَّافِعُ لِلْقُلُوب، مِنْ بَعْدِ مَا بَيَنَهُ اللهُ تَعَالَى لِعِبَادَهُ فِي كُتِبِهِ، التَّي أَنْزَلَهَا عَلَى رُسُلِهِ، أ. هـ. وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِجَامٌ مِنْ نَارٍ» . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّهُ قَالَ: لَوْلا آيَةُ فِي كِتِابِ اللهِ مَا حَدَّثْتُ أَحَدًا شَيْئًا {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الآيَة، وَمِمَّا يُحْسِنُ بِالدَّاعِي وَالْمُرْشِدِ أَنْ يَتَحَلَّى بِالْوَرَعِ بِاتِّقَاءِ الشُّبُهَاتِ، وَالْبُعْدِ مِنْ مَوَاضِعِ الرِّيبَةِ، وَمَسَالِكِ التُّهْمَةِ. فَإِنَّ ذَلِكَ أَبْرَأُ لِدِينِهِ وَأَسْلَمُ لِعِرْضَهَ، وَأَدْعَى إِلَى الانقِيادِ لَهُ لأَنَّ حَالَ الدَّاعِي يُؤَثِّرُ فِي الْقُلُوبِ أَكْثَرُ مِنْ مَقَالِهِ، فَإَذَا كَانَ وَرِعًا تَقِيًّا مُتَجَنِّبًا مَا فِيهِ شُبْهَةٌ اقتَدَى بِهِ النَّاسُ، وَأَحَبُّوهُ وَقَبِلُوا وَعْظَهُ وَإِرْشَادَهُ، وَهَكَذَا كَانَتْ صِفَةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابِهِ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ. واحْذَرْ يَا أَخِي كُلّ الْحَذَرِ مِنْ احتِكَارِ الْكُتُبِ الدِّينِيَّةِ الْمُحْتَوِيَةِ عَلَى قَالَ اللهُ وَقَالَ رَسُولِهِ وِأَخْذ شَيْء من الدُّنْيَا بِاسْمِ تَحْقِيقٍ أَوْ نَشْرٍ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ، نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ مِمَّا ابتُلُوا بِهِ. شِعْرًا: ... لَوْلا الشَّيَاطِينَ لَمْ تَسْمَعْ سِوَى لَهْجٍ ... بِالذَّكْرِ أَوْ مَا أَتَى عَنْ سَيِّدِ الْبّشَرَ آخر: ... لَوْلا الشَّيَاطِينَ صَارَ النَّاسُ كُلَهُمْ ... عَلَى الْحَنِيفِيةِ السَّمْحَاءِ عُبَّادُ فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِتَمْرَةٍ سَاقِطَةٍ فَقَالَ: «لَوْلا أَنْ تَكُونَ مِنْ الصَّدَقَةِ لأَكَلْتُهَا» . وَقَدِمَ عَلَى عُمَر مِسْكٌ وَعَنْبَرٌ مِنَ الْبَحْرَيْنِ. فَقَالَ: «وَاللهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً حَسَنَةَ الْوَزْنِ تَزِنُ لِي هَذَا الطِّيبَ حَتَّى أَقْسِمَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. فَقَالَتْ امْرَأَتَهُ عَاتِكَةُ: أَنَا جَيِّدَةُ الْوَزْنِ فَأَنَا

أَزِنُ لَكَ، قَالَ: لا. فَقَالَتْ: لِمَ؟ قَالَ: لأَنِّي أَخْشَى أَنْ تَأْخُذِيهِ، فَتَجْعَلَيْهِ هَكَذَا، وَأَدْخَلَ أَصَابِعَهُ فِي صِدْغَيْهِ وَتَمْسَحِي بِهِ فِي عُنُقِكِ فَأُصِيبُ فَضْلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَكَانَ يُوزَنُ بَيْنَ يَدَيّ عُمَرَ بِنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِسْكٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَسَدَّ أَنْفُهُ بِيَدِهِ؛ حَتَّى لا تُصِيبُهُ الرَّائِحَةَ، وَقَالَ: وَهَلْ يَنْتَفِعَ مِنْهُ إِلا بِرِيحِهِ. قَالَ ذَلِكَ لَمَّا اسْتَبْعَدَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَهَذَا مِنْ وَرَعِ الْمُتَقِينَ. قُلْتُ: وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يِتَّصِفَ بِهِ أَيْضًا قَطْعُ الْعَلائِقِ حَتَّى لا يِكْثُرَ خَوْفُهُ، وَيَقْطَعَ الطَّمَعَ عَنْ الخْلائِقِ فَلا يَكُونُ لَهُ عِنْدَهُمْ حَاجَةٌ تُذِلَّهُ لَهُمْ، وَتَدْعُوهُ إِلَى الْمُدَاهَنَةِ، وَالإِغْضَاءِ عَنْ أَعْمَالِهُمْ الْقَبِيحَةِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةِ الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهمْ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} . {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} شِعْرًا: ... وَفِي النَّفْسِ حَاجَاتٌ وِفِي الْمَالِ قِلْةٌ ... وَلَنْ يَقْضِي الْحَاجَاتِ إِلا الْمُهَيْمِنِ آخر: ... إِنْ حَالَ دُونَ لِقَاءِكِمْ بَوَّابُكُمْ ... فَاللهُ لَيْسَ لِبَابِهِ بَوَّابٌ آخر: ... فَاضْرَعْ إِلَى اللهِ لا تَضْرَعْ إِلَى النَّاسِ ... وَاقْنَعْ بِعِزٍّ فَإِنَّ الْعِزَّ فِي الْيَاسِ وَاسْتَغْنِ عَنْ كُلّ ذِي قُرْبَى وَذِي رَحِمٍ ... إِنَّ الْغَنِيَّ مَنِ اسْتَغْنَى عَنْ النَّاسِ وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْحُذَّاقِ أَنَّهُ كَانَ لَهُ كَلْبٌ وَلَهُ صَدِيقٌ قَصَّابٌ يّأْخُذُ مِنْهُ لِكَلْبِهِ بَعْضَ السَّوَاقِطِ، فَرَأَى عَلَى الْقَصَّابِ مُنْكَرًا يَتَعَاطَاهُ، وَقَالَ: لا بُدَّ أَنْ أُبْرِيَ ذِمْتَي وَأَنْصَحَهُ، وَلَكِنْ أَبَدَأُ أَوْلاً بِقَطْعِ الطَّمَعِ فَدَخَلَ الْبُسْتَانَ وَأَخْرَجَ الْكَلْبَ وَطَرَدَهُ ثُمَّ جَاءَ وَاحْتَسَبَ عَلَى الْقَصَّابِ وَنَصَحَهُ وَأَغْلَظَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْقَصَّابُ: سَوْفَ لا أُعْطِيكَ لِكَلْبِكَ شَيْئًا أَبَدًا. فَقَالَ: أَنَا حَاسِبٌ لِهَذَا الْكَلامِ مَا أَتَيْتُكَ إِلا بَعْدَ أَنْ طَرَدْتُ الْكَلْبَ عَنْ بُسْتَانِي. فَمَنْ لَمْ يَقْطَعِ الطَّمَعَ، وَيَسُدُّ بَابَهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْحِسْبَةِ. قُلْتُ: وَمِثْلَهُ

عِنْدِي فِي الْغَالِبِ مَنْ يُوَالِي الْعَطَاء عَلَى إِنْسَانٍ فَيَبْعُدُ إِذَا رَآهُ صَدَرَ مِنْهُ مَعْصِيةً أَوْ مَعَاصِي أَنَّهُ يَنْصَحُهُ أَوْ يُنْكِرُ عَلَيْهِ لأَنَّهُ يَرْجُوهُ وَيَخَافُهُ، يَرْجُو الصِّلَةَ وَيَخَافُ قَطْعُهَا، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى ذَلِكَ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ فَيَبْعُدُ أَيْضًا قُبُولِ صَاحِبِ الْفَضْلِ لِلنَّصِيحَةِ مِنْ ذَلِكَ الشَّخْصِ الْمُنْتَظَرِ لِمَا فِي يَدِهِ، نَسْأَلُ اللهَ الْعِصَمَةَ. وَكَمْ ضّلَّ عَنْ الطَّرِيقِ السَّوِيِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الإِيمَانِ بِسَبَبِ مُدَاهَنَةِ الْمُدَاهِنِ وَتَغْرِيرِهِ لَهُمْ، هَذِهِ قِيمَةُ النَّاصِحِ، وَالْمُدَاهِن عِنْدَ الْمُؤْمِنِ الصَّادِقِ الإِيمَانِ وَلَكِنْ نَرَى النَّاسَ الْيَوْم عَكَسُوا الأَمْر فِي هَذِهِ الأَزْمَانِ، لا مُنْتَهى لِحُبِّهِمْ مَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ ذَنْبًا عَظِيمًا، وَلا غَايَةَ لِبُغْضِهِمْ مَنْ أَرْشَدَهُمْ إِلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ وَرُبَّمَا هَجَرُوهُ جَزَاءَ نُصْحِهِ، وَأَمَّا الْمُدَاهِنُ وَالْمُتَمَلِقُ الْمُنَافِقُ ذُو الْوَجْهَينِ فَبِكَلِمَةٍ مِنْ مُدَاهَنَاتِهِ، أَوْ وِشَايَاتِهِ أَوْ تَمَلُّقَاتِهِ أَوْ كَذِبَاتِهِ يَمْلِكُ قُلُوبَ الْكَثِيرِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الزَّمَان وَقَدْ يُرَفَّعُ وَيُقَدِّر مَنِ اتَّصَفَ بِالصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ كَمَا قِيلَ: آخر: ... (مَتَى مَا تُدَان أَوْ تَكُنْ ذَا تَمَلْقٍ ... وَنَمٍّ وَبَهْتٍ تَخْتَطِبْكَ الْمَرَاتِبُ) (وَإِنْ تَجْمَعِ الإِخْلاصَ وَالصِّدْقِ وَالْوَفَا ... وَعِلْمًا وَحِلْمًا تَجْتَنِبُكَ الْمَنَاصِبُ) آخر: ... لا تُنْكِرِي يَا عَزُّ إِنْ ذَلَّ الْفَتَى ... ذُو الأَصْلِ وَاسْتَولَى لَئِيمُ الْمُحْتِد إِنَّ الْبُزَاةَ رُؤسُهُنَّ عَوَاطِلُ ... وَالتَّاجُ مَعْقُودٌ بِرَأْسِ الْهُدْهُدِ آخر: ... حَذَفْتُ وَغَيْرِي مُثَبِّتْ فِي مَكَانِهِ ... كَأَنِّي نُونُ الْجَمْعِ حِينَ يُضَافُ آخر: ... مَنْ أَهْمَلَ الدِّينَ لا تَأْمَنْ عَقَارِبَهُ ... وَلَوْ تَسَمَّى بِإِخْلاصٍ بِنِيَّاتٍ لآدَمٍ جَاءَ إِبْلَيْسٌ وَقَالَ لَهُ ... إِنِّي لَكْمُ (نَاصِحٌ فَاسْمَعْ مَقَالاتِي فَأَقَسَمَ الْخُبَثُ فِي رَبِّي وَنُزُلُهُمْ ... مِنَ الْجِنَانِ إِلَى دَارِ الأَذِيَّاتِ اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لِسَبِيلِ الطَّاعَةِ، وَثَبتنَا عَلَى إِتِّبَاعِ السُّنْةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَلا تَجْعَلْنَا مِمَّنْ عَرَفَ الْحَقَّ وَأَضَاعَهُ، وَأَخْتِمْ لَنَا بِخَيْرٍ مِنْكَ يَا كَرِيمُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا

" موعظة "

وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْياءَِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " مَوْعِظَة ": عِبَادَ اللهِ إِنَّ مِنْ أَخَصِّ صِفَاتِ الْمُؤْمِن عَمَلُهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ " وَمَحَبَتُهُ لِلنَّاصِحِينَ. وَكُلَّما اجْتَهَدَ الْمُسْلِمُ وَبَالَغَ فِي النَّصِيحَةِ لإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ قَوِيَتْ مَحَبَّتُهُ فِي قُلُوبِ إِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَمَّا الْمُدَاهِنُ وَالْمُتَمَلِّقُ الَّذِي يُحَسِّنُ لِكُلِّ إِنْسَانٍ حَالَهُ، وَلَوْ كَانْتْ حَالَةَ إِجْرَامٍ وَفَسَادٍ فَهَذَا يُنَفِّرُ مِنْهُ الْمُؤْمِنُونَ، وَلا يُحِبُّونَهُ وَيَرَوْنَ صَدَاقَتُهُ مُصِيبَةً وَبَلِيَّةً فَلِذَا يَبْتَعِدُونَ عَنْهُ كُلّ الْبُعْدِ. لأَنَّهُ إِنْ صَحْبَ مُسْتَقِيمًا ادْخَلَ عَلَيْهِ الْعُجْبَ فِي عَمَلِهِ، وَخَيَّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ مِنْ صَفْوَةِ عِبَادِ اللهِ الْمُتَّقِينَ، فَيَغُرُّهُ بِنَفْسِهِ. وَالْمَرءُ إِذَا اغْتَرَّ هَوَى فِي هُوَّةِ الأَشْقِياءِ. وَإِذَا صَحِبَ الْمُدَاهِنُ الْمُتَمَلِقُ مُعَوَّجًا زَادَ اعْوِجَاجَهُ حَيْثُ أَنَّهُ يُفْهِمُهُ بِمُدَاهَنَتِهِ أَنَّهُ مِنْ خِيارِ الْفُضَلاءِ وَمَنْ الأَجِلاءِ النُّبَلاء. وَمَتَى فَهِمَ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ اسْتَمَرَّ وَتَمَادَى فِي اعْوِجَاجِهُ، وَقَوِيَتْ وَتَمَكَّنَتْ مِنْهُ الأَخْلاقُ الْفَاسِدَةُ، وَمَاتَ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ الشَّنِيعَةِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ النَّاصِحُ الْمُحِبُ لأَخِيهِ مَا يُحِبُ لِنَفْسِهِ فَيَفْهَمُ الْمُهَذَّبُ الْمُتَنَوِّرُ أَنَّهُ مَهْمَا كَانَ كَمَالُهُ أَنَّهُ مُقَصِّرٌ فِي شُكْرِ مَوْلاهُ الَّذِي جَعَلَهُ مِنْ بَنِي آَدَمَ وَلَمْ يَجْعَلْهُ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَوَفَّقَهُ لِلإِيمَانِ، وَتَفَضَّلَ عَلَيْهِ بِالْحَوَاسِّ الْخَمْسِ وَغَيرِهَا وَوَهَبَهُ الْعَقْلَ، وَسَائِرَ النِّعَمِ التَّي لا تُعَدُّ وَلا تُحْصَى. وَمَتَى فَهِمَ أَنَّهُ مُقَصِّرٌ، حَمِدَ مَوْلاهُ وَشَكَرَهُ عَلَى مَا أَوْلاهُ وَجَدَّ وَاجْتَهَدُ فِيمَا بِهِ رُقِيُّهُ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ، وَإِنْ رَأَى مُعْوَجًّا أَفْهَمَهُ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنٍ نَقْصٍ وَوَضَّحَ لَهُ عُيُوبَهُ، وَمَا عِنْدَهُ مِنْ تَقْصِيرٍ فِي دِينِهِ وَحَثَّهُ عَلَى الْجَدِّ وَالاجْتِهَادِ وَالسَّعْيِ إِلَى مَعَانِي الأَخْلاقِ.

وَمَتَى عَرِفَ الْعَاقِلُ نَقْصَهُ، وَأَنَّ الضَّرَرَ عَائِدٌ إِلَيْهِ، أَقْلَعَ عَنْهُ، وَأَصْبَحَ مِنَ الْمُهَذَّبِينَ الْمُتَنَوِّرِينَ الصَّاعِدِينَ إِلَى أَوَجِ الْكَمَالِ، فِكَمْ اهْتَدَى بِإِذْنِ اللهِ بِسَبَبِ الْمُؤْمِنِ النَّاصِحِ مِنْ أُنَاسٍ قَدْ تَاهُوا وَتَمَادَوْا فِي الضَّلالِ. وِاسْمَعْ إِلَى قَوْلِ الإِمَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ لَمَّا ذَكَرَ نُفَاةِ الصِّفَاتِ أَهْلَ الْبِدَعِ وَحَيْرَتِهِمْ وَشُبُهَاتِهِمْ وَشُكُوكُهُمْ وَأَنَّهُ جَرَّبَ ذَلِكَ وَأَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ تِلْكَ الشِّبَاكِ وَالْمَصَايِدِ حَتَّى أَتَاحَ لَهُ الْمَوْلَى بِفَضْلِهِ مَنْ نَشَلَهُ وَأَوْضَحَ لَهُ تِلْكَ الشُّبَهِ وَأَزَاحَ عَنْهُ تِلْكَ الشُّكُوكِ وَهُوَ شَيْخُ الإِسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَةِ رَحِمَهُ اللهُ فَقَالَ فِي النُّونِيَّةِ: يَا قَومُ بِاللهِ العَظِيمِ نَصِيحةٌ ... مِن مُشفِقٍ وَأخٍ لَكُمْ مِعَوَانِ جَرَّبتُ هَذَا كُلَّهُ وَوَقَعتُ فِي ... تِلكَ الشِّبَاكِ وَكُنْتُ ذَا طَيَرَانِ حَتَّى أَتَاحَ لِيَ الإِلهُ بِفَضلِهِ ... مَنْ لَيْسَ تَجْزِيهِ يَدِي وَلِسَانِي حَبْرًا أتَى مِن أرضِ حَرَّانٍ فَيَا ... أَهْلاً بِمَن قَدْ جَاءَ مِنْ حَرَّانِ فَالله يَجزِيهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ... مِن جَنَّةِ الْمَأَوَى مَعَ الرِّضوَانِ أخَذَتْ يَدَاهُ يَدِي وَسَارَ فَلَمْ يَرِمْ ... حَتَّى أرَانِي مَطلَعَ الإِيمَانِ وَرَأيتُ أعلاَمَ المدِينَةِ حَولَهَا ... نَزَلَ الهُدَى وَعَسَاكِرُ القُرآنِ وَرَأيتُ آثاراً عَظِيماً شَأنُهَا ... مَحجُوبَةً عَن زُمرَةِ العُميَانِ وَوَرِدْتُ رَأسَ الماءِ أبيَضَ صَافِياً ... حَصبَاؤهُ كلآلىء التِّيجَانِ وَرَأيتُ أكوَاباً هُناكَ كَثِيرةً ... مِثلَ النُّجُومِ لوَارِدٍ ظَمآنِ وَرَأيتُ حَوضَ الكَوثَرِ الصَّافِي الذِي ... لاَ زَالَ يَشخُبُ فِيهِ مِيزَابَانِ مِيزابُ سُنَّتِهِ وَقَولُ إِلَهِهِ ... وَهُمَا مَدَى الأَزْمَانِ لاَ يَنِيَانِ وَالنَّاسُ لاَ يَرِدُونَهُ إلاَّ مِن الـ ... آلافِ أفرَاداً ذَوُوْ إيمَانِ اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبَّكَ وّحُبَّ الْعَمَلِ الَّذِي يُقَرِّبْنَا إِلَى حُبِّكَ، اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لِلْقِيَامِ بِحَقِكَ وَبَارِكْ لَنَا فِي الْحَلالِ مِنْ رِزْقِكَ وَلا

في ذكر نماذج من صبر النبي - صلى الله عليه وسلم -

تَفْضَحْنَا بَيْنَ خَلْقِكَ يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلُ مِنْ رَجَاهُ رَاج، اللَّهُمَّ اجْعَلنَا مِنْ أَهْلِ الصَّلاحِ وَالنَّجَاحِ وَالْفَلاحِ، وَمَنْ الْمُؤَيِّدِينَ بِنَصْرِكَ وَتَأْيِيدِكَ وَرِضَاكَ، اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَوَفِّقْنَا لامْتِثَالِ أَمْرِكَ وَاجْتِنَابِ نَهُيِكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِينَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. "فصل": فِي ذِكْرِ نَمَاذِجِ مِنْ صَبْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الشَّدَائِدِ وَالأَذَى فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ وَمِنْ تَحَمُّلِهِ - صلى الله عليه وسلم - لِلشَّدَائِدِ وَالأَذَى في الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ مَا وَرَدَ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَأُخِفْتُ فِي اللهِ وَمَا يَخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَمَا لِي وَلِبِلالٍ مَا يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلا مَا يُوَارِي إِبِطِ بِلالٍ» . أَخْرَجَهُ أحمد. وَعِنِدَ الْبَيْهَقِيّ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ قَالَ لَهُ - صلى الله عليه وسلم -: يَا ابْنَ أَخِي إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَاءُونِي وَقَالُوا كَذَا وَكَذَا فَأَبِقِ عَلَيَّ وَعَلَى نَفْسِكَ، وَلا تُحَمِّلُنِي مِنِ الأَمْر مَا لا أَطِيقُ أَنَا وَلا أَنْتَ، فَاكْفُفْ عَنْ قَوْمِكَ مَا يَكْرَهُونَ مِنَ قَوْلِكَ، فَظَنَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ قَدْ بَدَا لِعَمِّهِ فِيهِ، وَأَنَّهُ خَاذِلَهُ، وَمُسَلِّمَهُ، وَضَعُفَ عَنْ الْقِيَامَ مَعَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَا عَمّ لَوْ وَضَعْتَ الشَّمسَ فِي يَمِينِي وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي، مَا تَرَكْتُ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ أَوْ أَهْلََكَ فِي طَلَبِهِ» . ثُمَّ اسْتَعْبَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَبَكَى. فَلَمَّا وَلَّى قَالَ لَهُ حِينَ رَأَى مَا بَلَغَ الأَمْرُ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: يَا ابْنَ أَخِي. فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ. فَقَالَ: امْضِ لأَمْرِكَ وَافْعَلْ مَا أَحْبَبْتَ فَوَاللهِ لا أُسَلِمَكَ لِشَيْء أَبَدًا. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بِنْ جَعْفَر، قَالَ: لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ عَرَضَ

لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَفِيهٌ مِنْ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ فَأَلْقَى عَلَيْهِ تُرَابًا، فَرَجَعَ عَلَى بَيْتِهِ فَأَتَتْهُ امْرَأةٌ مِنْ بَنَاتِه تَمْسَحُ عَنْ وَجْهِهِ التُّرَابَ وَتَبْكِي، فَجَعَلَ يَقُولُ: «أَيْ بُنِيَّة لا تَبْكِينَ فَإِنَّ اللهَ مَانِعُ أَبَاكِ» . وَيَقُولُ: «مَا بَيْنَ ذَلِكَ مَا نَالَتْ قُرَيْشُ شَيْئًا أَكْرَهُهُ حَتَّى مَاتَ أَبُو طَالِبٍ ثُمَّ شَرَعُوا» . وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمُ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ: لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ تَجَهَّمُوا بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: «يَا عَمُّ! مَا أَسْرَعَ مَا وَجَدْتُ فَقْدَكَ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ الْحَارِثِ بِنْ الْحَارِثِ قُلْتُ: لأَبِي مَا هَذِهِ الْجَمَاعَة؟ قَالَ: هَؤُلاءُ قَوْمٌ اجْتَمَعُوا عَلَى صَابِئٍ لَهُمْ فَنَزَلْنَا فَإَذَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدْعُو النَّاسَ إِلَى تَوْحِيدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالإِيمَانَ بِهِ وَهُمْ يَرُدُّونَ عَلَيْهِ وَيُؤْذُونَهُ حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ النَّهَارَ، وَانْصَدَعَ النَّاسُ عَنْهُ أَقْبَلَتِ امْرَأَةٌ قَدْ بَدَا نَحْرُهَا تَحْمُلُ قَدَحًا وَمنْدِيلاً فَتُنَاوَلَهُ مَنْهَا فَشَرِبَ وَتَوَضَّأَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: «يَا بُنَيَّةَ خَمْرِي عَلَيْكِ نَحْرِكِ وَلا تَخَافِينَ عَلَى أَبِيكِ» . قُلْنَا: مَنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: هَذِهِ زَيْنَبُ بِنْتُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا. قَالَ الْهَيْثَمِي: رِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَبْدَ اللهِ بِن عُمَرو رَضْيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: مَا أَكْثَرَ مَا رَأَيْتَ قُرَيْشًا أَصَابَتْ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا كَانَتْ تُظْهِرُ مِنْ عَدَاوَتِهِ، قَالَ: حَضَرْتُهُمْ وَقَدْ اجْتَمَعَ أَشْرَافُهُمْ فِي الْحِجْرِ. فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَبَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ قَطُّ. سَفَّهَ أَحْلامَنَا وَشَتَمَ آبَاءَنَا وَعَابَ دِينَنَا وَفَرَّقَ جَمَاعَاتِنَا، وَسَبَّ آلِهَتَنَا. لَقَدْ صَبَرْنَا مِنْهُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ، أَوْ كَمَا قَالُوا. قَالَ: فَبَيِنَمَا هُمْ فِي ذَلِكَ طَلَعَ عَلَيْهمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَقَبَلَ يَمْشِي حَتَّى اسْتَقْبَلَ الرُّكْنَ ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ طَائِفًا بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا مَرَّ بِهِمْ غَمَزُوهُ: - أَيْ أَشَارُوا إِلَيْهِ - بِبَعْضِ مَا يَقُولُ، قَالَ: فَعَرِفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ. ثُمَّ مَضَى فَلَمَّا مَرَّ بِهِمْ الثَّانِيَة بِمِثْلِهَا فَعَرِفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ مَضَى فَلَمَّا

مَرَّ بِِهِمْ الثَّالِثَةَ فَغَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا فَقَالَ: «أَتَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَمَا وَالذَّي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بَالذَّبْحِ» . فَأَخَذَتِ الْقَوْمَ كَلِمَتُهُ، حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُل ٌإِلا كَانَ عَلَى رَأْسِهِ طَائِرٌ وَاقِعٌ حَتَّى إِنَّ أَشَدَّهُمْ فِيهِ وَضَاءَة قَبْلَ ذَلِكَ لَيَرْفَؤُهُ بِأَحْسَنِ مَا يَجِدُ مِنَ الْقَوْلِ حَتَّى لَيَقُولُ: انْصَرَفْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، انْصَرِفْ رَاشِدًا فَوَاللهِ مَا كُنْتَ جَهُولاً. فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدِّ اجْتَمَعُوا فِي الْحِجْرِ وَأَنَا مَعَهُمْ، فَقَالَ بَعْضهُمْ لِبَعْضِ: ذَكَرْتُمْ مَا بَلَغَ مِنْكُمْ وَمَا بَلَغَكُمْ عَنْهُ حَتَّى إِذَا بَادَاكُمْ بِمَا تَكْرَهُونَ تَرَكْتُمُوهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ فِي ذَلِكَ إِذَا طَلَعَ عَلَيْهمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَوَثَبُوا عَلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَأَطَافُوا بِهِ يَقُولُونَ: أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ كَذَا وَكَذَا لِمَا كَانَ يَبْلُغُهُمِ مِنْ عَيْبِ آلِهَتِهِمْ وَدِينِهِمْ. قَالَ فَيَقُولُ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «نَعَم أَنَا الّذِي أَقُولُ ذَلِكَ» . قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلاً مِنْهُمْ أَخَذَ بِمَجْمَعِ رِدَائِهِ، وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ دُونَهُ يَقُولُ وَهُوَ يَبْكِي: أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولُ رَبِيَ اللهُ. ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ فَإِنَّ ذَلِكَ لأَشَدَّ مَا رَأَيْتُ قُرِيْشًا بَلَغَتْ مِنْهُ قَطُّ. وَأَخْرَجَ أَبُو يَعَلَى عَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَقَدْ ضَرَبُوا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّةً حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَجَعَلَ يُنَادِي: وَيْلَكُمْ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولُ رَبِّيَ الله. فَقَالُوا: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: أَبُو بَكْرٍ الْمَجْنُونُ. وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَبُو يَعْلَى عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَهُوا بِأَبِي بَكْرٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ. قَالَتْ: فَرَجَعَ إِلَيْنَا أَبُو بَكْرٍ فَجَعَلَ لا يَمَسُ شَيْئًا مِنْ غَدَائِرِهِ - أَيْ جَدَائِلِهِ إِلا جَاءَ مَعَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ. وَأَخْرَجَ الْبَزَارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ مُحَمَّد بِنْ عُقَيْلٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ

خَطَبَهُمْ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ أَشْجَعُ النَّاسِ؟ فَقَالُوا: أَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: أَمَّا أَنَا مَا بَارَزَنِي أَحُدٌ إِلا انْتَصَفْتُ مِنْهُ، وَلَكِن هُوَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَّ اللهُ عَنْهُ؛ إِنَّا جَعَلْنَا لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَرِيشًا فَقُلْنَا: مَنْ يَكُونُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِئَلا يَهْوَى إِلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَواللهِ مَا دَنَا مِنَّا أَحَدٌ إِلا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ شَاهِرًا بِالسَّيْفِ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لا يَهْو إِلَيْه أَحَدٌ إِلا أَهْوَى إِلَيْه فَهَذَا أَشْجَعُ النَّاسِ. قَالَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَخَذَتْهُ قُرَيْشٍ فَهَذَا يُحَادُّهُ وَهَذَا يُتِلْتِلُهُ وَيَقُولُونَ: أَنْتَ جَعَلْتَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا؟! فَوَاللهِ مَا دَنَا مِنَّا أَحَدٌ إِلا أَبُو بَكْرٍ يَضْرِبُ هَذَا وَيُجَاهِدُ هَذَا وَيُتَلْتِلُ هَذَا، وَهُوَ يَقُولُ: وَيْلَكُمْ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً يَقُولُ: رَبِّيَ اللهِ. ثُمَّ رَفَعَ عَلِيُّ بُرْدَةً كَانَتْ عَلَيْهِ فَبَكَى حَتَّى أَخْضَلَ لِحْيَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: أَنْشِدُكُمْ اللهَ أَمُؤْمِنُ آلَ فِرْعَوْنَ خَيْرٌ أَمْ هُوَ؟ فَسَكَتَ الْقَوْمَ. فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: فَوَاللهِ لَسَاعَةٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِنَ مُؤمِنِ آل فِرْعَوْنَ، ذَاكَ رَجُلٌ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ، وَهَذَا رَجُلٌ أَعْلَنَ إِيمَانَهُ ... . الْحَدِيث. وَفِيهِ يَقُولُ أَبُو مِحْجَنُ الثَّقّفِيُّ. شِعْرًا: ... وَسُمِّيتَ صِدِّيقًا وَكُنْتَ مُهَاجِرًا ... سِوَاكَ يُسَمَّى بِاسْمِه غَيْر مُنْكَرٍ وَبِالْغَارِ إِذَا سُمِّيتَ بِالْغَارِ صَاحِبًا ... وَكُنْتَ رَفِيقًا لِلنَّبِيِّ الْمُطَهَّرِ سَبَقْتَ إِلَى الإِسْلامَ وَاللهُ شَاهِدٌ ... وَكُنْتَ جَلِيسًا بِالْعَرِيشِ الْمُشَهَّرِ اللَّهُمَّ يَسْرِّ لَنَا سَبِيلَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ وَهَيْئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا وَاعْلِ مَعُونَتِكَ الْعُظْمَى لَنَا سَنَدًا وَاحْشُرْنَا إِذَا تَوَفَّيْتَنَا مَعَ عَبَادِكَ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " فَصْلٌ ": أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عُرْوَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ أَبِي

الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِأَشَّدِ شَيْء صَنَعَهُ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي فِي حِجْرِ الْكَعْبَةِ إِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ عُقْبَةُ بْن أَبِي مُعَيْطٍ فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيَدًا. فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حَتَّى أَخَذَ بِمَنْكِبِهِ، وَدَفَعَهُ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَقَالَ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولُ رَبِّي الله وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ.. الآيَة. وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عُرْوَةَ بِن الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: مَا رَأَيْتُ قُرِيْشًا أَرَادُوا قَتْلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - إِلا يَوْمًا ائْتَمَرُوا بِهِ وَهُمْ جُلُوسٌ فِي ظِلّ الْكَعْبَةِ وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي عِنْدَ الْمَقَامِ، فَقَامَ إِلَيْهِ عُقْبَة بِن أَبِي مُعَيْطٍ فَجَعَلَ رِدَاءَهُ فِي عُنُقِهِ ثُمَّ جَذَبَهُ حَتَّى وَجَبَ لِرُكْبَتِهِ سَاقِطًا، وَتَصَايَحَ فَظَنُّوا أَنَّهُ مَقْتُول. فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضْيَ اللهُ عَنْهُ يَشْتَدُّ حَتَّى أَخَذَ بِضَبْعَيْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ وَرَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ: «أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولُ رَبِّيَ اللهَ " الْحَدِيث. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بِنْ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمَسْجِدِ وَأَبُو جَهْلٍ وَشَيْبَةُ وَعُتْبَةُ أَبْنَاءُ رَبِيعةَ وَعُقْبَةُ بِن أَبِي مُعَيْطٍ وَأُمَيَّةُ بن خَلَفٍ وَرَجُلانِ آخَرَانِ كَانُوا سَبْعَةً، وَهُمْ فِي الْحِجْرِ وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي فَلَمَّا سَجَدَ أَطَالَ السُّجُودِ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَيْكُمْ يَأْتِي جَزُورِ بَنِي فُلانٍ فَيَأْتِينَا بِفَرْثِهَا فَنَكْفَئَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فَانْطَلَقَ أَشْقَاهُمْ عُقْبَة بِنْ أَبِي مُعَيْطٍ فَأَتَى بِهِ فَأَلْقَاهُ عَلَى كَتِفِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ سَاجِدٌ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأنَا قَائِمٌ لا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَتَكَلَّمَ، لَيْسَ عِنْدِي مِنْعَةً تَمْنَعَنِي، إِذَا سَمِعْتُ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَقْبَلَتْ حَتَّى أَلْقَتْ ذَلِكَ عَنْ عَاتِقِه. ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْ قُرَيْشًا تَسُبُّهُمْ فَلَمْ يَرْجِعُوا إِلَيْهَا شَيْئًا، وَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأْسَهُ كَمَا كَانَ يَرْفَعُ عِنْدَ تَمَامِ السُّجُودِ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلاتَهُ

قَالَ: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشِ ثَلاثًا، عَلَيْكَ بِعُتْبَة، وَعُقْبة، وَأَبِي جَهْلِ وَشَيْبَةَ» . ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَلَقِيَهُ أَبُو الْبُخْتُرِي بِسَوْطٍ يِتَخَصَّرُ بِهِ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْكَرَ وَجْهَهُ فَقَالَ مَا لَكَ: فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «خَلِّ عَنِي» . قَالَ: عَلِمَ اللهُ لا أُخْلِي عَنْكَ أَوْ تُخْبِرْنِي مَا شَأْنُكَ، فَلَقَدْ أَصَابَكَ شَيْء. فَلَمَّا عَلِمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ غَيْرُ مُخَلٍّ عَنْهُ أَخْبَرَهُ. فَقَالَ: «إِنَّ أَبَا جَهْلٍ أَمَرَ فَطَرَحَ عَلَيَّ الْفَرْثِ. فَقَالَ أَبُو الْبُخْترِيِّ: هَلُمَّ إِلَى الْمَسْجِدِ فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو الْبُخْتريِّ فَدَخَلا الْمَسْجِدَ. ثُمَّ أَقَبَلَ أَبُو الْبُخْتريِّ إِلَى أَبِي جَهْلٍ فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَكَمَ! أَنْتَ الَّذِي أَمَرْتَ بِمُحَمَّدٍ فَطُرِحَ عَلَيْهِ الْفَرْثَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَرَفَعَ السَّوْطَ فَضَرَبَ بِهِ رَأْسَهُ. قَالَ: فَثَارَ الرِّجَال بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ. قَالَ: وَصَاحَ أَبُو جَهْلٍ وَيْحَكُمْ هِي لَهُ إِنَّمَا أَرَادَ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُلْقِيَ بَيْنَنَا الْعَدَاوَةَ، وَيَنْجُو هُوَ وَأَصْحَابُهُ ... . الْحَدِيث. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ يَعْقُوبِ بِنْ عُتْبَة بِنْ الْمُغِيرَة بِن الأَخْنَسِ بِنْ شُرِيْق حَلِيفُ بَنِي زُهْرَة مُرْسَلاً، أَنَّ أَبَا جَهْلٍ اعْتَرَضَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالصَّفَا فَآذَاهُ. وَكَانَ حَمْزَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ صَاحِبَ قَنْصٍ وَصَيْدٍ، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ فِي قَنْصِهِ، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ وَكَانَتْ قَدْ رَأَتْ مَا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: يَا أَبَا عِمَارَةَ لَوْ رَأَيْتَ مَا صَنَعَ تَعْنِي أَبَا جَهْلِ بِابْنِ أَخِيكَ. فَغَضَبَ حَمْزَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَمَضَى كَمَا هُوَ قَبْلُ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهِ. هُوَ مُعَلْقُ قَوْسَهُ فِي عُنُقِهِ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَوَجَدَ أَبَا جَهْلٍ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قُرَيْشٍ فَلَمْ يُكَلِّمْهُ حَتَّى عَلا رَأْسَهَ بِقَوْسِهِ، فَشَجَّهُ فَقَامَ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى حَمْزَةٍ يُمْسِكُونَهُ عَنْهُ، فَقَالَ حَمْزَةُ: دِينِي دِينُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ، فَوَاللهِ لا أَنْثَنِي عَنْ ذَلِكَ، فَامْنَعُونِي مِنْ ذَلِكَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَلَمَّا أَسْلَمَ حَمْزَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَزَّ بِهِ رَسُولَ اللهِ وَالْمُسْلِمُونَ، وَثَبَتَ

لَهُمْ بَعْضُ أَمْرِهِمْ، وَهَابَتْ قُرِيْشٌ وَعَلِمُوا أَنَّ حَمْزَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ سَيَمْنَعَهُ. قَالَ الْهَيْثَمِيُّ: وَرَجَالُهُ ثِقَاتٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْم فِي دَلائِلِ النُّبُوَّةِ عَنْ عُرْوَةَ بِنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: وَمَاتَ أَبُو طَالِبٍ وَازْدَادَ مِنَ الْبَلاء عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِشِدَّةٍ، فَعَمَدَ إِلَى ثَقِيفٍ يَرْجُو أَنْ يُؤْزِرُوهُ وَيَنْصُرُوهُ، فَوَجَدَ ثَلاثَةَ نَفَرٍ مِنْهُمْ، سَادَةُ ثَقِيفٍ، وَهُمْ أُخْوَةُ عَبْدُ يَالِيلٍ بنِ عَمْرُو، وَحَبِيبُ بن عَمْرُو، وَمَسْعُودُ بِنْ عَمْرُو، فَعَرَضَ عَلَيْهمْ نَفْسَهُ، وَشَكَا إِلَيْهُمْ الْبَلاءَ، وَمَا انْتَهَكَ قَوْمُهُ مِنْهُ. فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَنَا أَسْرِقُ ثِيَابَ الْكَعْبَةِ إِنْ كَانَ اللهُ بَعَثَكَ بِشَيْء قَطُّ. وَقَالَ: آَخَرُ وَاللهِ لا أُكَلِّمَكَ بَعْد مَجْلِسَكَ هَذَا كَلِمَةً وَاحِدَةً أَبَدًا لأَنْ كُنْتَ رَسُولاً لأَنْتَ أَعْظَمُ شَرَفًا وَحَقًا مِنْ أَنْ أُكَلِّمُكَ. وَقَالَ الآخَرُ: أَعَجَزَ اللهُ أَنْ يُرْسِلَ غَيْرِكَ. وَأَفْشُوا ذَلِكَ فِي ثَقِيفٍ الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ: وَاجْتَمَعُوا يَسْتَهْزِؤُنَ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَقَعَدُوا لَهُ صَفَّيْنِ عَلَى طَرِيقِهِ، فَأَخَذُوا بِأَيْدِيهِمْ الْحِجَارَةَ فَجَعَلَ لا يَرْفَعُ رِجْلَهُ وَلا يَضَعُهَا إِلا رَضَخُوهَا بِالْحِجَارَةِ وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَسْتَهْزِؤَنَ وَيَسْخَرُونَ. فَلَمَّا خَلُصَ مِنْ صَفَيْهِمْ وَقَدَمَاهُ تَسِيلانِ بِالدِّمَاء، عَمَدَ إِلَى حَائِطٍ مِنْ كُرومِهِمْ فَأَتَى حَبَلَةً مِنْ الْكَرْمِ فَجَلَسَ فِي أَصْلِهَا مَكْرُوبًا مُوجَعًا تَسِيلُ قَدَمَاهُ الدِّمَاء فَإَذَا فِي الْكَرْمِ عُتْبَةَ بِن رَبِيعَة وَشَيْبَةَ بن رَبِيعَة فَلَمَّا أَبْصَرَهُمَا كَرِهَ أَنْ يَأْتِيهُمَا لِمَا عَلِمَ مِنْ عَدَوَاتُهُمَا للهِ وَلِرَسُولِهِ وَبِهِ الَّذِي بِهِ فَأَرْسَلا إِلَيْهِ غُلامُهُمَا عَدَّاسًا بِعِنَبٍ وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ مِنْ أَهْلِ نينوى، فَلَمَا أَتَاهُ وَضَعَ الْعِنَبَ بَيْنَ يَدَيْهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «بِسْمِ اللهِ» . فَعَجَبَ عدَّاسٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مِنْ أَيْ أَرْضٍ أَنْتَ يَا عَدَّاس ""؟ قَالَ: أَنَا مِنْ أَهْلِ نينوى. فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مِنْ أَهْلِ مَدِينَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ يُونُسُ بِنْ مَتَّى ""؟ فَقَالَ لَهُ عدَّاسٌ: وَمَا يُدْرِيكَ مَنْ يُونُسُ بِنْ مَتَّى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ مِنْ شَأْنِ يُونُسُ مَا عَرِفَ.

وكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَحْقِرُ أَحَدًا يُبَلِّغُهُ رِسَالاتِ اللهِ تَعَالَى، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرْنِي خَبَرَ يُونُسُ بِنْ مَتَّى، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ شَأْنِ يُونُسُ بِنْ مَتَّى مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ شَأْنِهِ خَرَّ سَاجِدًا لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ جَعَلَ يُقَبِّلُ قَدَمَيْهِ وَهَمَا تَسِيلانِ الدِّمَاء. فَلَمَّا أَبْصَرَ عُتْبَةُ وَأَخُوهُ شَيْبَةُ مَا فَعَلَ غُلامُهُمَا سَكَتَا، فَلَمَّا أَتَاهُمَا قَالا لَهُ: مَا شَأْنُكَ سَجَدْتَ لِمُحَمَّدٍ وَقَبَّلْتَ قَدَمَيِّهِ، وَلَمْ نَرَكَ فَعَلْتَ هَذَا بِأَحَدِنَا. قَالَ: هَذَا رَجُلٌ صَالِحٌ حَدَّثَنِي عَنْ أَشْيَاءَ عَرِفْتُهَا مِنْ شَأْنِ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ تَعَالَى إِلَيْنَا يُدْعَى يُونُسُ بِنْ مَتَّى فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ فَضَحِكَا وَقَالا: لا يَفْتِنُكَ عَنْ نَصْرَانِيْتِكَ أَنَّهُ رَجُلٌ يَخْدَعُ. ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى مَكَّةَ ... . انْتَهَى. اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَوألهمنا ذِكْرَكَ، اللَّهُمَّ أَنْظِمْنَا فِي سِلْكِ حِزْبِكَ الْمُفْلِحِينَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الْمُخْلَصِينَ وَآمِنَّا يَوْمَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ يَوْمَ الدِّين، وَاحْشُرْنَا مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهمْ مِنَ النَّبِيينَ وَالصِّدِيقِينَ وَالشُّهَدَاءَ وَالصَّالِحِينَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " فَصْلٌ ": أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَويه عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَوْ رَأَيْتُنِي وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ صَعَدَ الْغَارَ فَأَمَّا قَدِمَا رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَتَفَطَرَتَا، وَأَمَّا قَدَمَايَ فَعَادَتْ كَأَنَّهُمَا صَفْوَانٌ، قَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَتَعَوَّدْ الْحُفْيَةَ. وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كُسِرَتْ رُبَاعِيْتِهِ يَوم أُحُدٍ وَشُجَّ رَأْسَهُ فَجَعَلَ يَسْلُتُ الدَّمَّ عَنْ وَجْهِهِ، ويَقُولُ: «كَيْفَ يَفْلَحُ قَوْمُ شَجُّوا نَبِيَّهُمْ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللهِ، فَنَزَلَ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} الآيَة.

وَعِنْد الطَّبَرَانِيِّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أُصَيبَ وَجْهُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ أُحُدٍ، فَاسْتَقْبَلَهُ مَالِكُ بِنْ سِنَانٍ فَمَصَّ جُرْحَهُ ثُمَّ ازْدَرده - أى ابتلعه - قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَنْ خَالَطَ دَمُّهُ دَمِّي فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَالِكِ بِنْ سِنَانٍ. وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِذَا ذَكَرَ يَوْمَ أُحُدٍ قَالَ: ذَاكَ يَومُ كُلُّهُ لِطَلْحَةَ ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُ قَالَ: كُنْتُ أَوْلُ مَنْ فَاءَ يَوْمَ أُحُدٍ فَرَأَيْتُ رَجُلاً يَقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ دُونَهُ، وَأَرَاهُ قَالَ: حَمِيَّةً. قَالَ: فَقُلْتُ: كُنْ طَلْحَةَ حَيْثُ فَاتَنِي مَا فَاتَنِي فَقُلْتُ يَكُونُ رَجُلاً مِنْ قَوْمِي أَحَبُّ إِلَيَّ. وَبَيْنِي وَبَيْنِ الْمُشْرِكِينَ رَجُلاً لا أَعْرِفُهُ وَأنَا أَقْرَبُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْهُ وَهُوَ يَخْطَفُ الْمَشْيَ خَطْفًا لا أَخْطُفُهُ. فَإِذَا هُوَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِنِ الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَانْتَهَيْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَقَدْ كُسِرَتْ رُبَاعِيَّتِه، وَشَجَّ فِي وَجْهِهِ، وَقَدْ دَخَلَ فِي وَجْنَتَهُ حَلَقَتَا مِنْ حِلَقِ الْمِغْفَرِ. قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «عَلَيْكُمَا صَاحِبُكُمَا» . يُرِيدُ طَلْحَةَ، وَقَدْ نَزَفَ فَلَمْ نَلْتَفِتْ إِلَى قَوْلِهِ، قَالَ: وَذَهَبْتُ لأَنْزِعَ ذَلِكَ مِنْ وَجْهِهِ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةُ: أُقْسِمُ عَلَيْكَ بِحَقِّي لَمَا تَرَكْتَنِي فَتَرَكْتُهُ. فَكَرِهَ تَنَاوُلُهَا بِيَدِهِ فَيُؤْذِي رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَزَمَّ عَلَيْهَا بِفِيهِ أَيْ عَضَّ عَلَيْهَا، فَاسْتَخْرَجَ إِحْدَى الْحَلَقَتَيْنِ وَوَقَعَتْ ثَنِيَّتِهِ مَعَ الْحَلَقَةِ وَذَهَبْتُ لأَصْنَعَ مَا صَنَعَ. فَقَالَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ بِحَقِي لَمَا تَرَكْتَنِي. قَالَ: فَفَعَلَ مِثَلَ مَا فَعَلَ فِي الْمَرَّةِ الأُولَى فَوَقَعَتْ ثَنِيَّتِهِ الأُخْرَى مَعَ الْحَلَقَةِ. فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسَ هَتْمًا فَأَصْلَحْنَا مِنْ شَأْنَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ أَتَيْنَا طَلْحَةَ فِي بَعْضِ الْجفَارِ، فَإَذَا بِهِ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ طَعْنَةً وَرَمْيَةً وَضَرْبَةً وَإِذَا قَدْ قُطِعَتْ أُصْبُعهُ فَأَصْلَحْنَا مِنْ شَأْنِهِ. اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَارْزُقْنَا الْقِيَامَ بِطَاعَتكَ وَجَنِّبْنَا مَا يُسْخِطُكَ وَأَصْلِحْ نِيَّاتِنَا وَذُرِّيَاتِنَا وَأَعِذْنَا مِنْ شَرِّ نُفُوسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالَنَا وَأَعِذْنَا مِنْ عَدُوّكَ وَاجْعَلْ هَوَانَا تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُكَ - صلى الله عليه وسلم - وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا

موعظة تتضمن الثناء على الصحابة

وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " مَوْعِظَةْ " عِبَادَ اللهِ إِنَّ اللهَ اخْتَارَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - وَخَصَّهُ بِمَزَايَا لَمْ تَكُنْ لأَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ وَاخْتَارَ لَهُ أَصْحَابًا خَيْرَةَ النَّاسِ مِنْ خَلْقِهِ، وَخَصَّهُمْ بِمَزَايَا لَمْ تَكُنْ لِسِوَاهُمْ مِنَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ، حَاشَا الأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ، وَأَثْنَى عَلَيْهمْ، سُبْحَانَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ تَنْبِيهًا عَلَى جَلالَةِ قَدْرِهِمْ، وَعَلُوِ مَنْزِلَتِهِمْ، وَعِظَمِ فَضْلِهِمْ، وَشَرَفِهِمْ. قَالَ تَعَالَى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} . وَقَالَ تَعَالَى يَصِفُهُمْ بِشِدَّةِ الرَّحْمَةِ وَلِينَ الْجَانِبِ لِبَعْضِهِمْ بَعْضًا وَشِدَّتِهِمْ عَلَى الْكُفَّارِ الْمُعَانِدِينَ {مُحَمَّدٌ رَسُول اللهِ والَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءَ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانَا سِيماهم فِي وجوهم من أثر السجود} . وَقَالَ تَعَالَى يَصِفُ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارَ بِأَفْضَلِ مَا يَصِفُ بِهِ إِنْسَانًا {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «خَيْرُ الْقُرُونَ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، وَلَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ أَصْبَرَ النَّاسِ بَعْدَ الرُّسُلِ عَلَى الأَذَى فِي اللهِ فَلَقَدْ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبَّنَا اللهَ وَصُبَّ عَلَيْهمْ الأَذَى مِنْ كُلِّ صَوْبٍ، فَلَمْ يَزِدْهُمْ إِلا

ذَلِكَ إِيمَانًا. قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} ، وَقَالَ: {وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} الآيَة. وَإِذَا كَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَرْفَعُ النَّاسِ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ دَرَجَةً وَأَعْلاهُمْ مَكَانًا بِشَهَادَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ فَلا عَجَبَ أَنْ يُعْلِنَ الْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - بِفَضْلِهِمْ وَيُحَذِّرُ مِنْ سَبِّهِمُ وَمَقْتِهِمْ، وَيَقُولُ فَيمَا رَوَى الترمذِيُّ: «اللهَ اللهَ فِي أَصْحَابِي لا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغِضَهُمْ، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللهَ يُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ» . وَيَقُولُ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهُمْ وَلا نصيفَهِ، فَأَصْحَابُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لا يَشُكُ عَاقِلٌ أَنَّهُمْ هُمْ الَّذِي حَازُوا قَصَبَاتِ السَّبْق، وَاسْتَوْلُوا عَلَى مَعَالِي الأَمُورِ مِنَ الْفَضْلِ وَالْمَعْرُوفِ وَالصِّدِقِ وَالْعِفَّةِ، وَالْكَرَمِ وَالإِحْسَانِ، وَالْقَنَاعَةَ، وَعُلُوَ الْهِمَّةِ، وَالنَّزَاهَةَ، وَالشَّجَاعَةَ، وَالتُّقَى وَالتَّوَاضُعِ، وَنَحْو ذَلِكَ. فَالسَّعِيدُ مَنْ اتَّبَعَ طَرِيقَهُمْ، وَاقْتَفَى مَنْهَجُهُمْ الْقَوِيم، وَالشَّقِيُّ مَنْ عَدَلَ عَنْ طَرِيقِهِمْ، وَلَمْ يَتَحَقَّقَ بِتَحْقِيقِهِمْ، فَأَيُ خِطَّةِ رُشْدِهِمْ لَمْ يَسْتَوْلُوا عَلَيْهَا، وَأَيُ خُصْلَةٍ خَيْرٍ لَمْ يُسْبِقُوا إِلَيْهَا، لَقَدْ وَرَدُوا يَنْبُوعَ الْحَيَاةِ عَذْبًا صَافِيًا زُلالاً. وَوَطَّدُوا قَوَاعِدَ الدِّينِ، وَالْمَعْرُوفِ فَلَمْ يَدْعَوا لأَحَدٍ بَعْدَهُمْ مَقَالاً. فَتَحُوا الْقُلُوبَ بِالْقُرَآنِ، وَالذِّكْرِ وَالإِيمَانِ، وَالْقُرَى بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ. وَبَذلُوا النُّفُوسَ النَّفِيسَة فِي مَرْضَاةِ رَبِّهِمْ، فَلا مَعْرُوفَ إِلا مَا عُرِفَ عَنْهُمْ، وَلا بُرْهَانَ إِلا مَا بِعُلُومِهِمْ كُشِفَ، وَلا سَبِيلَ نَجَاةَ إِلا مَا سَلَكُوهُ وَلا خَيْرَ سَعَادَةٍ إِلا مَا حَقَّقُوهُ وَحَلَّوهُ فَرِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهمْ، مَا تَحَلَّتِ الْمَجَالِسُ بِنَشْرِ ذِكْرِهِمْ، وَمَا تَنَمَّقَتِ الطُّرُوفُ بِعُرْفِ مَدْحِهِمْ وَشُكْرِهِمْ:

نموذج من صبر خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبي بكر الصديق رضي الله عنه وعمر وعثمان وعلي وبعض الصحابة رضوان الله عليهم

شِعْرًا: ... وَلَيْسَ فِي الأُمَّةِ كَالصَّحَابَةِ ... بِالْفَضْلِ وَالْمَعْرُوفِ وَالإِصَابَةِ فَإِنَّهُمْ قَدْ شَاهَدُوا الْمُخْتَارَ ... وَعَايَنُوا الأَسْرَارَ وَالأَنْوَارَا وَجَاهَدُوا فِي اللهِ حَتَّى بَانَا ... دِينُ الْهُدَى وَقَدْ سَمَا الأَدْيَانَا وَقَدْ تُلِيَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ ... مِنْ فَضْلِهِمْ مَا يَشْفِي مِنْ غَلِيلِ وَفِي الأَحَادِيثِ وَفِى الأَخْبَارِ ... وَفِى كَلامِ الْقَوْمِ وَالأَشْعَارِ مَا قَدْرَ رَبَا مِنْ أَنْ يُحِيطَ نَظْمِي ... بِبَعْضِهِ فَاسْمَعْ وَخُذْ مِنْ عِلْمِي آخر: ... قُوْمٌ لَهُمْ عِنْدَ رَبِّ الْعَرْشِ مَنْزِلَةً ... وَحُرْمَةً وَبُشَارَاتٍ وَإِكْرَامِ فَازُوا بِصُحْبَةِ خَيْرِ الْخَلْقِ وَاتَّصَفُوا ... بِوَصْفِهِ فُهُمْ لِلنَّاسِ أَعْلامُ فَفِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِيقِ قَدْ وَرَدَتْ ... آثَارُ فَضْلٍ لَهَا فِي الذِّكْرِ أَحْكَامُ وَبَعْدَهُ عُمَر الْفَارُوق صَاحِبُهُ ... بِهِ تَكَمَّلَ بِالْفَارُوقِ إِسْلامُ وَهَكَذَا الْبَّرُّ عُثْمَانُ الشَّهِيدُ لَهُ ... فِي الليلِ وُرِدٌ وَبِالْقُرَآنِ قَوَّامُ وَلِلإِمَامِ عَلِيّ الْمُرْتَضَى مِنَحٌ لَهُ ... احْتِرَامٌ وَإِعْزَازٌ وَإِكْرَام هُمُ الصَّحَابَةُ لِلْمُخْتَارِ قَدْ وَضَّحُوا ... طُرُقَ الْهُدَى وَعَلَى الطََّاعَاتِ قَدْ دَامُوا " فَصْلٌ ": ذِكْرُ نَمَاذِج مِنْ صَبْرِ الصَّحَابَةِ عَلَى الأَذَى وَالشَّدَائِدَ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ فَأَوْلُ ذَلِكَ فِي تَحَمُّلِ أَبِي بَكْرٍ أَخْرَجَ الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ الأَطْرَابُلْسِيّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا اجْتَمَعَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانُوا ثَمَانِيَةً وَثَلاثِينَ رَجُلاً أَلَحَّ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الظُّهُورِ فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّا قَلِيلٌ» . فَلَمْ يزل أَبُو بَكْرٍ يُلِحُّ حَتَّى ظَهَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَتَفَرَّقَ الْمُسْلِمُونَ فِي نَوَاحِي الْمَسْجِدِ كُلُّ رُجُلٍ فِي عَشِيرَتِهِ. وقَامَ أَبُو بَكْرٍ فِي النَّاسِ خَطِيبًا وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ فَكَانَ أَوْلُ خَطِيبٍ دَعَا إِلَى اللهِِ وَإِلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَثَارَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ فَضُرِبُوا فيِ نَوَاحِي الْمَسْجِدِ ضَرْبًا شَديدًا، وَوُطِأَ أَبُو بَكْرٍ وَضُرِبَ ضَرْبًا

شَدِيدًا وَدَنَا مِنْهُ الْفَاسِقُ عُتْبَةُ بن رَبِيعَة فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بِنَعْلَيْنِ مَخْصُوفَتَيْنِ، وَيُحَرِّفُهُمَا لِوَجْهِهِ وَنَزَا عَلَى بَطْنِ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى مَا يُعْرَفُ وَجْهُهُ مِنْ أَنْفِهِ. وَجَاءَ بَنُو تَمِيمٍ يَتَعَادُونَ فَأَجْلَتْ الْمُشْرِكِينَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَحَمِلَتْ بَنُو تَمِيمٍ أَبَا بَكْرٍ فِي ثَوْبٍ حَتَّى أَدْخَلُوهُ مَنْزِلَهُ وَلا يَشُكُّونَ فِي مَوْتِهِ، ثُمَّ رَجَعَتْ بَنُو تَمِيمٍ فَدَخَلُوا الْمَسْجِدَ وَقَالُوا: وَاللهِ لَئِنْ مَاتَ أَبُو بَكْرٍ لَنَقْتُلّنَ عُتْبَةَ بن رَبِيعةَ فَرَجَعُوا إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَجَعَلَ أَبُو قُحَافَةُ وَبَنُوا تَمِيمٍ يُكَلِّمُونَ أَبَا بَكْرٍ حَتَّى أَجَابَ فَتَكَلَّمَ آخِر النَّهَارَ فَقَالَ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَمَسُّوا مِنْهُ بِأَلْسِنَتِهِمُ وَعَذَلُوهُ ثُمَّ قَامُوا وَقَالُوا لأُمِّهِ أُمِّ الْخَيِرِ: انْظُرِي أَنْ تُطْعِمِيهِ شَيْئًا أَوْ تُسْقِيهِ إِيَّاهُ. فَلَمَّا خَلَتْ بِهِ أَلَحَّتْ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ فَقَالَتْ: مَا لِي عِلْمٌ بِصَاحِبِكَ. فَقَالَ: إذْهَبِي إِلَى أُمِّ جَمِيلٍ بِنْتِ الْخَطَّابِ، فَاسْأَلِيهَا فَخَرَجَتْ حَتَّى جَاءَتْ أُمَّ جَمِيلٍ فَقَالَتْ: إِنْ أَبَا بَكْرٍ يَسْأَلُكِ عَنْ مُحَمَّدٍ بن عَبْدِ اللهِ. فَقَالَتْ: مَا أَعْرِفُ أَبَا بَكْرٍ وَلا مُحَمَّدَ بن عَبْد اللهِ، وَإِنْ كُنْتِ تُحِبِّينَ أَنْ أَذْهَبَ مَعَكِ إِلَى ابْنِكِ؟ قَالَتْ: نَعَم. فَمَضَتْ مَعَهَا حَتَّى وَجَدَتْ أَبَا بَكْرٍ صَرِيعًا دَنِقًا، فَدَنَتْ أُمُّ جَمِيلٍ وَأَعْلَنَتْ بِالصِّيَاحِ، وَقَالَتْ: وَاللهِ إِنَّ قَوْمًا نَالُوا هَذَا مِنْكَ لأَهَلِ فِسْقٍ وَكُفْرٍ، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَنْتَقَمَ اللهُ لَكَ مِنْهُمْ. قَالَ: فَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَتْ: هَذِهِ أُمُّكَ تَسْمَعُ. قَالَ: فَلا شَيْءَ عَلَيْكِ مَنْهَا. قَالَتْ: سَالِمٌ صَالِحٌ. قَالَ: أَيْنَ هُوَ؟ قَالَتْ: فِي دَارِ ابْنِ الأَرْقَمِ. قَالَ: فَإِنَّ للهِ عَلَيَّ أَنْ لا أَذُوقَ طَعَامًا وَلا أَشْرَبُ شَرَابًا أَوْ آتِيَ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَمْهَلَنَا حَتَّى إِذَا هَدَأَتْ الرِّجْلُ وَسَكَنَ النَّاسُ خَرَجْنَا بِهِ يَتَّكِئُ عَلَيْهِمَا حَتَّى ادْخَلنَاهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: فَأَكَبَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَبَّلَهُ وَأَكَبَّ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَرَقَّ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَقَةً شَدِيدَةً.

إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ، لَيْسَ بِي بَأْسٌ إِنَّ مَا نَالَ الْفَاسِقُ مِنْ وَجْهِي، وَهَذِهِ أُمِّي بَارٌة بِوَلَدِهَا وَأَنْتَ مُبَارَكٌ فَأْدُعُهَا إِلَى اللهِ، وَادْعُ اللهَ لَهَا عَسَى اللهُ أَنْ يَسْتَنْقِذَهَا بِكَ مِنَ النَّارِ. قَالَ: فَدَعَا لَهَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَدَعَاهَا إِلَى اللهِ فَأَسْلَمَتْ وَأَقَامُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ فِي الدَّارِ شَهْرًا وَهُمْ تِسْعَةٌ وَثَلاثُونَ رَجُلاً. وَقَدْ كَانَ حَمْزَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَسْلَمَ يَوْمَ ضُرِبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَدَعَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِعُمَرِ بن الْخَطَّابِ أَوْ لأَبِي جَهْلِ بن هُشَامٍ فَأَصْبَحَ عُمَر وَكَانَتْ الدَّعْوَةُ يَوْمَ الأَرْبَعَاءِ فَأَسْلَمَ عُمَرُ يَوْمَ الْخَمِيسِ. فَكَبَّرَ رَسُولُ اللهِ وَأَهْلُ الْبَيْتِ تَكْبِيرَةً سُمِعَتْ بِأَعْلا مَكْةَ. وَخَرَجَ أَبُو الأَرْقَمِ وَهُو أَعْمَى كَافِرٌ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِبَنِي عبيدِ الأَرْقَمِ فَإِنَّه كَفَرَ. فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ عَلامَ تُخْفِي دِينَنَا وَنَحْنُ عَلَى الْحَقّ وَيُظْهِرُوا دِينَهَمْ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: يَا عُمَر إِنَّا قَلِيلٌ قَدْ رَأَيْنَا مَا لَقِينَا. فَقَالَ عُمَرُ: فَوَالذِّي بَعَثَكَ بِالْحَّقِ لا يَبْقَى مَجْلِسٌ جَلَسْتُ فِيهِ بِالْكُفْرِ إِلا أَظْهَرْتُ فِيهِ الإِيمَانَ. ثُمَّ خَرَجَ وَطَافَ بِالْبَيْتِ. ثُمَّ مَرَّ بِقُرَيْش وَهِيَ تَنْتَظِرُهُ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ بنُ هِشَامٍ: يَزْعُمُ فُلانٌ أَنَّكَ صَبَوْتَ؟ فَقَالَ عُمَرُ: أَشْهَدُ أَنْ لا إله إلا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَوَثَبَ الْمُشْرِكُونَ إِلَيْهِ وَوَثَبَ عَلَى عُتْبَة وَبَرَكَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ يَضْرِبُهُ، فَجَعَلَ عُتْبَةُ يَصِيحُ فَتَنَحَّى النَّاسُ، فَقَامَ عُمَرُ حَتَّى أَعْجَزَ النَّاس وَاتْبَعَ الْمَجَالِسَ التَّي كَانَ يُجَالِسُ فِيهَا فَيُظْهِرُ الإِيمَانُ. ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَيْهمْ، قَالَ: مَا عَلَيْكَ بِأَبِي وَأُمِّي

وَاللهِ مَا بَقَي مَجْلِسٌ كُنْتُ أَجْلِسُ فِيهِ بِالْكُفْرِ إِلا أَظْهَرْتُ فِيهِ الإِيمَانَ غَيْرَ هَيَّابٍ وَلا خَائِفٍ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَخَرَجَ عُمَرُ أَمَامَهُ وَحَمْزَةُ بن عَبْدِ الْمُطّلِبِ حَتَّى طَافَ بِالْبَيْتِ، وَصَلَّى الظُّهْرَ مُؤَمِّنًا، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى دَارِ الأَرْقَمِ وَمَعَهُ عُمَرُ، ثُمَّ انْصَرَفَ عُمَرُ وَحْدَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَط إِلا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إَلا يَأْتِينَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - طَرَفَيّ النَّهَارَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا، فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَهَاجِرًا نَحْوَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغَمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ أَخْرَجَنِي قَوْمِي فَأُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الأَرْضِ وَأَعْبُدُ رِبِّي. قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: فَإِنَّ مِثْلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ لا يُخْرَجُ وَلا يَخْرُجُ؛ إِنَّكَ تُكْسِبُ الْمَعْدُومِ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتحْمِلُ الْكَلَّ، وَتُقْرِي الضَّيْف وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، فَأنَا لكَ جَارٌّ ارْجِعْ وَاعْبُدْ رَبَّكَ فِي بَلَدِكَ. فَرَجَعَ وَارْتَحَلَ مَعَهُ ابنُ الدَّغِنَةِ فَطَافَ ابنُ الدَّغِنَةِ عَشِيَّةً فِي أَشْرافِ قُرَيْشٍ فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لا يُخْرَجُ مِثْلُهُ وَلا يَخْرُجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلاً يَكْسِبُ الْمَعْدُِومَ وَيَصِلُ الرَّحِمَ وَيَحْمِلُ الْكَلَّ وَيُقْرِي الضَّيْفَ وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. فَلَمْ تَكْذِبْ قُرَيْشٌ بِجِوَارِ ابنِ الدَّغِنَةِ. وَقَالُوا لابنِ الدَّغِنَةِ: مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَلِيُصِّلِ فِيهَا وَلْيَقْرَأَ مَا شَاءَ وَلا يُؤْذِينَا بِذَلِكَ، وَلا يَسْتَعْلِنْ بِهِ فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا. فَقَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لأَبِي بَكْرٍ. فَلَبِثَ أَبُو بَكْرٍ بِذَلِكَ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ وَلا يَسْتَعْلِنُ بِصَلاتِهِ وَلا يَقْرَأُ فِي غَيْرِ دَارِهِ، ثُمَّ بَدَا لأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَا مَسْجِدًا بِفنَاءِ دَارَهُ، وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ

الْقُرْآنَ فَيَتَقَذَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ - أَيْ يَزْدَحِمُونَ عَلَيْهِ - وَأَبْنَاؤُهُمْ وَهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلاً بَكَّاءً لا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافُ قُرِيْشٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ، فَقَدِمَ عَلَيْهمْ فَقَالُوا: إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ بِجوَارِكَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهُ فَقَدْ جَاوَزَ ذَلِكَ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفنَاءِ دَارِهِ فَأَعْلَنَ بِالصَّلاةِ وَالْقِرَاءَةِ فِيهِ، وَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا، فَانْهَهُ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصَرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ، وَإِنْ أَبَى إِلا أَنْ يُعْلِنَ ذَلِكَ فَسَلْهُ مِنْ أَنْ يَرَّدَ إِلَيكَ ذِمَّتِكَ، فَإِنَّا قَدْ كَرِهَنَا أَنْ نَخْفُرَكَ، وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لأَبِي بَكْرٍ الاسْتِعْلانَ. قَالَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَاقَدْتُكَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ تُرْجِعَ إِلَيَّ ذمَّتِي. فَإِنِّي لا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبَ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنِّي أَرُدُّ إِلَيكَ جَوَارُكَ وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. هَذَا قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ تَحَمُّلِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ وَجَعَلَ جَنَّةَ الْفِرْدَوْسِ مَثْوَانَا وَمَثْوَاهُ فَلَهُ مِنَ الْفَضْلِ وَالسَّابِقَةِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ، وَلَقَدْ قَدَّمَهُ الْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - عَلَى جَمِيعِ الصَّحَابَةِ قَالَ فِي النُّونِيَّةِ مَا قَالَ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - لأَبِي بَكْرٍ: شِعْرًا: ... وَيَقُولُ فِي مَرَضِ الْوَفَاةِ يَؤُمُّكُمْ ... عَنِّي أَبُو بَكْرٍ بِلا رَوَغَانِ وَيَظِلُّ يَمْنَعُ مِنْ إِمَامِةِ غَيْرِهِ ... حَتَّى يُرَى فِي صُورِةِ مَيَلانِ ويَقُولُ لَوْ كُنْتُ الْخَلِيلَ لِوَاحِدٍ ... فِي النَّاسِ كَانَ هُوَ الْخَلِيلُ الدَّانِ لَكِنَّهُ الأَخُ وَالرَّفِيقُ وَصَاحِبِي ... وَلَهُ عَلَيْنَا مِنْهُ الإِحْسَانِ ويَقُولُ لِلصِّديق يَوْم الْغَارِ لا ... تَحْزَنْ فَنَحُنُ ثَلاثَةٌ لا اثْنَانِ اللهُ ثَالِثُنَا وَتَلْكَ فَضِيلَةٌ ... مَا حَازَهَا إِلا فَتًى عُثْمَانِ

اللَّهُمَّ اجْعَلنَا مِنَ التَّالِينَ لِكِتَابِكَ الْعَامِلِينَ بِهِ، الْمُحَلِّلِينَ حَلالَهُ الْمُحَرِمِينَ حَرَامَهُ الْمُمْتَثِلِينَ لأَوَامِرِهِ الْمُجْتَنِبِينَ نَوَاهِيهِ الْمُتَّعِظِينَ بِمَوَاعِظِهِ الْمُنْزَجِرِينَ بِزَوَاجِرِهِ الْمُتَفَكِّرِينَ فِي مَعَانِيهِ الْمُتَدَبِّرِينَ لأَلْفَاظِهِ الْبَاكِينَ الْمُقَشْعِرِينَ عِنْدَ تِلاوَتِهِ وَسَمَاعِهِ، اللَّهُمَّ اعْفُ عَنْ تَقْصِيرِنَا فِي طَاعَتِكَ وَشُكْرِكَ وَأَدِمْ لَنَا لُزُومَ الطَّرِيقِ إِلَى مَا يُقَرِّبُنَا إِلَيْكَ. وَهَبَ لَنَا نُورًا نَهْتَدِي بِهِ إِلَيْكَ وَيَسِّرْ لَنَا مَا يَسَّرْتَهُ لأَهْلِ مَحَبَّتِكَ وَأَيْقِظْنَا مِنْ غَفَلاتِنَاوألهمنا رُشْدَنَا وَاسْتُرْنَا فِي دُنْيَانَا وَآخِرَتِنَا وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ الْمُتَّقِينَ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ تَوَكَّلَ عَلَيْكَ فَكَفَيْتَهُ، وَاسْتَهْدَاكَ فَهَدْيتَهُ وَدَعَاكَ فَأَجَبْتَهُ، اللَّهُمَّ سَلِّمْنَا مِنْ شُرُورِ أَنْفِسِنَا التَي هِيَ أَقْرَبُ أَعْدَائِنَا وَأَعِذْنَا مِنْ عَدُوّكَ وَاعْصِمْنَا مِنْ الْهَوَى وَمِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَمَكِّنْ مَحَبَّتِكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَاوألهمنا ذِكْرِكَ وَشُكْرَكَ وَفَرِّج قُلُوبِنَا بِالنَّظَرِ إِلَى وَجِهَكَ الْكَرِيمِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " فَصْلٌ " أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ ابن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا أَسْلَمَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: أَيْ قُرَيْشٍ أَنْقَلُ لِلْحَدِيثِ؟ فَقِيلَ لَهُ: جَمِيلُ بن مَعْمَرٍ فَغَدَا عَلَيْهِ. قَالَ عَبدُ اللهِ: وَغَدَوْتُ أَتْبَعُ أَثَرَهُ وَأَنْظُرُ مَا يَفْعَلُ وَأنَا غُلامٌ اعْقِلُ كُلَّمَا رَأَيْتُ حَتَّى جَاءَهُ فَقَالَ: أَعَلِمْتَ يَا جَمِيل أَنِّي أَسْلَمْتُ وَدَخَلْتُ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: فَوَاللهِ مَا رَاجَعَهُ حَتَّى قَامَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ، وَاتَّبَعَهُ عُمَرُ وَاتَّبَعْتُهُ أَنَا حَتَّى قَامَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ وَصَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتهُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ وهم أَنِدَيتُهُمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ أَلا إِنَّ ابٍنَ الْخَطَّابَ قَدْ صَبَأَ. قَالَ: يَقُولُ عُمَرُ مِنْ خَلْفِهِ: كَذِبَ وَلَكْنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَشَهِدْتُ أَنْ لا إله إلا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَثَارُوا إِلَيْهِ، فَمَا بَرِحَ يُقَاتِلُونَهُ حَتَّى قَامَتْ الشَّمْسُ عَلَى رُؤوسِهِمْ. قَالَ: وَطَلَحَ: - أي أَعْيَا - فَقَعَدَ وَقَامُوا عَلَى رَأْسِهِ، وَهُوَ

إسلام عثمان وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما

يَقُولُ: افْعَلُوا مَا بَدَا لَكُمْ فَأَحْلِفُ بِاللهِ أَنْ لَوْ قَدْ كُنَّا ثَلاثمَائِة رَجُلٍ لَقَدْ تَرَكْنَاهَا لَكُمْ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا لَنَا. قَالَ: فَبَيْنَمَا عَلَى ذَلِكَ إِذَا أَقْبَلَ شَيْخٌ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَيْهِ حُلَّةٌ حَبِرَة وَقَمِيصٌ مَوَشَّى حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهمْ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ فَقَالُوا: صَبَأَ عُمَرُ. قَالَ: فَمَه، رَجُلٌ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَمْرًا، فَمَاذَا تُرِيدُونَ؟ أَترَونَ بَنِي عَدِيّ يُسْلِمُونَ لَكُمْ صَاحِبهُمْ هَكَذَا، خَلُّوا عَنْ الرَّجُلِ. قَالَ: فَوَاللهِ لَكَأَنَّمَا كَانُوا ثَوْبًا كُشِطَ - أَيْ كُشِفَ عَنْهُ، قَالَ: فَقُلْتُ لأَبِي بَعْدَ أَنْ هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ: يَا أَبَتِ مَنِ الرَّجُلُ الَّذِي زَجَرَ الْقُوْمَ عَنْكَ بِمَكَّةَ يَوْمَ أَسْلَمْتَ وَهُمْ يُقَاتِلُونَكَ؟ قَالَ: وَذَاكَ أَيْ بُنَي الْعَاصُ بن وَائِلٍ السَّهْمِيّ. وَهَذَا إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ قَوِيّ. أَخْرَجَ ابْنُ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدٍ بن إِبْرَاهِيم التَّيْمِي، قَالَ: لَمَّا أَسْلَمَ عُثْمَانُ بن عَفَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَخَذَهُ عَمُّهُ الْحَكَمُ بْن أَبِي الْعَاصِ بن أُمَيَّةَ فَأَوْثَقَهُ رِبَاطًا، قَالَ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ آبَائِكَ إِلَى دِينٍ مُحْدَثٍ، وَاللهِ لا أَحُلُّكَ أَبَدًا وَلا أَفَارِقَهُ، فَلَمَّا رَأَى الْحَكَمُ صَلابَتُهُ فِي دِينِهِ تَرَكَهُ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ عَنْ مَسْعُودٍ بن خِرَاشٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إِذَا أُنَاسٌ كَثِيرٌ يَتَّبِعُونَ شَابًا مُوثقًا بِيَدِهِ فِي عُنُقِهِ، قُلْتُ: مَا شَأْنَهُ؟ قَالُوا: هَذَا طَلْحَةُ بن عُبَيْدِ اللهِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - صَبَأَ وَامْرَأَةٌ وَرَاءَهُ تُدَمْدِمُ وَتَسُبُّه. قُلْتُ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: الصِّمَّةُ بِنْت الْحَضْرَميّ أُمُّهُ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكُ عَنْ إِبْرَاهِيمِ بن مُحَمَّدٍ بن طَلْحَة قَالَ: قَالَ لِي طَلْحَةُ بن عُبَيْد اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:: حَضَرْتُ سُوقَ بُصْرى فَإَذَا رَاهِبٌ فِي صَوْمَعَتِه يَقُولُ: سَلُوا أَهْلَ هَذَا الْمُوسِم أَفِيهُمْ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ. قَالَ طَلْحَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: نَعَم أَنَا. فَقَالَ: هَلَ ظَهَرَ أحمد بَعْدُ؟ قَالَ: قُلْتُ: وَمَنْ

الزبير بن العوام رضي الله عنه

أحمد؟ قَالَ: ابْن عَبْدِ اللهِ بن عَبْدِ الْمُطَّلِب هَذَا شَهْرُهُ الَّذِي يَخْرُجُ فِيهِ وَهُوَ آخِرُ الأَنْبِيَاءِ مَخْرَجُهُ مِنَ الْحَرَمِ، وَمُهَاجِرَه إِلَى نَخْل وحرة وَسِبَاخٍ، فَإِيَّاكَ أَنْ تُسْبَقَ إِلَيْهِ. قَالَ طَلْحَةُ: فَوَقَعَ فِي قَلْبِي مَا قَالَ، فَخَرَجْتُ سَرِيعًا حَتَّى قَدِمْتُ مَكَّة فَقُلْتُ: هَلْ كَانَ مِنْ حَدَثٍ؟ قَالُوا: نَعَم، مُحَمَّد بِن عَبدِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الأَمِين تَنَبَّأَ، وَقَدْ تَبِعَهُ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ. قَالَ: فَخَرَجْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقُلْتُ: اتَّبَعْتَ هَذَا الرَّجُلُ؟ قَالَ: نَعَم فَانْطَلِقْ فَادْخُلْ عَلَيْهِ فَاتَّبِعُهُ فَإِنَّه يَدْعُو إِلَى الْحَقِّ فَأََخْبَرَهُ طَلْحَة بِمَا قَالَ الرَّاهِبُ. فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ بِطَلْحَةَ فَدَخَلَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَسْلَمَ طَلْحَةُ وَأَخْبَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَمَا قَالَ الرَّاهِبُ فَسُرَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ وَطَلْحَة أَخَذَهُمَا نَوْفَلُ بن خُوَيْلَدِ بن الْعَدَوِيَّةِ فَشَدَّهُمَا في حَبْلٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَمْنَعْهُمَا بَنُو تَمِيمٍ. وَكَانَ نَوْفَلُ بن خُوَيْلِدٍ يُدْعَى ((أَسَدُ قُرَيْشٍ)) فلِذَلِكَ سَمَّى أَبُو بَكْرٍ وَطَلْحَةَ الْقَرِينَيْنِ ... . فَذَكَرَ الْحَدِيثِ. وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَفِي حَدِيثُهُ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: اللَّهُمَّ اكْفِنَا شَرَّ ابن الْعَدَوِيَّةِ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ أَبِي الأَسْوَدُ قَالَ: أَسْلَمَ الزُّبَيْرُ بن الْعَوَّامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَهُوَ ابْن ثَمَانُ سِنِينَ، وَهَاجَرَ وَهُوَ ابْن ثَمَان عشرة سنة وَكَانَ عَمُّ الزُّبَيْرِ يُعَلِّقُ الزُّبَيْر فِي حَصِيرٍ وَيُدَخِّنُ عَلَيْهِ بِالنَّارِ وَهُوَ يَقُولُ: ارْجِعْ إِلَى الْكُفْرِ. فيَقُولُ الزُّبَيْرُ: لا أَكْفُرُ أَبَدًا. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ أَيْضًا عَنْ حَفْصِ بن خَالِدٍ قَالَ حَدَّثَنِي شَيْخٌ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنَ الْمُوصِلِ قَالَ: صَحِبْتُ الزُّبَيْرُ بن الْعَوَّامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فَأَصَابَتْهُ جَنَابَةً بِأَرْضٍ قَفْرٍ فَقَالَ: اسْتُرْنِي. فَسَتَرْتُهُ فَحَانَتْ مِنِّي الْتِفَاتَة فَرَأَيْتُهُ مُجَدّعًا بِالسِّيوفِ. قُلْتُ: وَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُ بِكَ آَثَارًا مَا رَأَيْتُهَا بِأَحَدٍ قَطٍ؟ قَالَ: وَقَدْ رَأَيْتَ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: نَعَم. قَالَ: أََمَا وَاللهِ مَا مَنْهَا جِرَاحَةٌ إِلا مَعَ

بلال بن أبي رباح رضي الله عنه

رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَفِي سَبِيلِ اللهِ. وَعِندَ أَبِي نُعَيْمٍ عَنْ عَلِيّ بن زَيْدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ رَأَى الزُّبَيْرَ وَإِنَّ في صَدْرِهِ لأَمْثَالُ الْعُيُونِ مِنْ الطَّعْنِ وَالرَّمْي. أَخْرَجَ الإِمَامُ أحمد وَابْنُ مَاجَةُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ الإِسْلامَ سَبْعَةٌ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بَكْرٍ وَعمارُ وَأُمُّهُ سُمَيَّة وَصُهَيْبٌ وَبِلالٌ وَالْمِقْدَادُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ. فَأَمَّا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَمَنَعَهُ اللهُ بِعَمِّهِ، وأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ اللهُ بِقَوْمِهِ، وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمْ الْمُشْرِكُونَ فَأَلْبَسُوهُمْ أَدْرُعَ الْحَدِيدِ وَصَهَرُوهُمْ فِي الشَّمْسِ فَمَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلا وَقَدْ أَتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا إِلا بِلال فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهُ فِي اللهِ، وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ فَأَخَذُوهُ فَأَعْطُوهُ الْوِلْدَان فَجَعَلوُا يَطُوفُونَ بِهِ فِي شِعَابِ مَكَّة وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْم فِي الْحِلْيَةَ عَنْ هُشَام بن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ وَرَقَةُ بن نَوْفَل يَمُرُّ بِبِلالٍ وَهُوَ يُعَذَّبُ وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ. فيَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ، اللهُ يَا بِلالُ ثُمَّ يُقْبِلُ وَرَقَةُ بن نَوْفَلِ عَلَى أُمَيَّةَ بن خَلَفٍ وَهُوَ يَصْنَعُ ذَلِكَ بِبِلالٍ فيَقُولُ: احْلِفُ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ لَئِنْ قَتَلْتُمُوهُ عَلَى هَذِهِ لاتَّخِذَّنَهُ حَنَانًا. حَتَى مَرَّ بِهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِيقِ يَوْمًا وَهُمْ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ فَقَالَ لأُمَيَّة: أَلا تَتَّقِي اللهَ فِي هَذَا الْمِسْكِين حَتَّى مَتَى؟ قَالَ: أَنْتَ أَفْسَدْتُهُ فَأَنْقِذْهُ مِمَّا تَرَى. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَفْعَلُ عِنْدِي غُلامٌ أَسْوَدٌ أَجْلَدُ مِنَْهُ وَأَقْوَى عَلَى دِينِكَ أُعْطِيكَهُ بِهِ. قَالَ: قَدْ قَبِلْتُ. قَالَ: هُوَ لَكَ فَأَعْطَاهُ أَبُو بَكْرٍ غُلامَه ذَلِكَ وَأَخَذَ بِلالاً فَأَعْتَقَهُ. ثُمَّ اعْتَقَ مَعَهُ عَلَى الإِسْلامِ قَبْل أَنْ يُهَاجِرَ مِنْ مَكَّةَ سِتَ رِقَابٍ بِلال سَابِعُهُمْ. وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ ابْنِ إِسْحَاقٍ كَانَ أُمَيَّةُ يُخْرِجُهُ إِذَا حَمِيَتِ الشَّمْسِ فَيَطْرحُهُ عَلَى ظَهْرِهِ فِي بَطْحَاءِ مَكَّة ثُمَّ يَأْمُرُ بِالصَّخْرَةِ الْعَظِيمَةِ فَتُوضَعُ عَلَى صَدْرِهِ ثُمَّ يَقُولُ: لا تَزَالُ هَكَذَا حَتَّى تَمُوتَ أَوْ تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ وَتَعْبَدَ اللاتَ وَالْعُزَّى.

آل ياسر عمار وأبوه وأمه رضي الله عنهم

وَهُوَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ الْبَلاءِ: أَحَدٌ أَحَدٌ. قَالَ عَمَّارُ بْن يَاسِرَ وَهُوَ يُذَكِّرُ بِلالاً وَأَصْحَابِهِ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْبَلاء وَاعْتَاقِ أَبَا بَكْرٍ إِيَّاهُ وَكَانَ اسْمُ أَبِي بَكْرٍ عَتِيقًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. جَزَى اللهُ خَيْرًا عَنْ بِلالٍ وَصَحْبِهِ ... عَتِيقًا وَأَخْزَى فَاكِهًا وَأَبَا جَهْلٍ عَشِيَّةَ هَمَّا فِي بِلالٍ بِسَوْءَةٍ ... وَلَمْ يَحْذَرَا مَا يَحْذُرُ الْمَرْءِ ذُو عَقْلٍ بِتَوْحِيدِهِ رَبّ الأَنَامِ وَقَوْلُهُ ... وَلَمْ يَحْذَرَا مَا يَحْذُرُ الْمَرْءِ ذُو عَقْلٍ فِإِنْ يَقْتُلُونِي يَقْتُلُونِي فَلَمْ أَكُنْ ... لأُشْرِكَ بِالرَّحْمَنِ مِنْ خِيفَةِ الْقَتْل فَيَا رَبّ إِبْرَاهِيمَ وَالْعَبْدِ يُونُس ... وَمُوسَى وَعِيسَى نَجِّنِي ثُمَّ لا تُبْلِ لِمَنْ ظَلّ الْغَيَّ مِنْ آلِ غَالِبٍ ... عَلَى ضَرِ بر كَانَ مِنْهُ وَلا عَدْل اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا وَاجْعَلْ الإِيمَانَ لَنَا سِرَاجًا وَلا تَجْعَلْهُ لَنَا اسْتِدْرَاجًا وَاجْعَلْهُ لَنَا سُلَّمًا إِلَى جَنَّتِكَ وَلا تَجْعَلُهُ لَنَا مَكْرًا مِنْ مَشِيئَتِكَ إِنَّكَ أَنْتَ الْحَلِيمُ الْغَفُورُ، اللَّهُمَّ أَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ الأَبْرَارِ، وِآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَة حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " فَصْلٌ ": أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ والْبَيْهَقِيُّ وَابْن عَسَاكِرُ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بِعَمارٍ وَأَهْلِهِ وَهُمْ يُعَذَبُونَ. فَقَالَ: «أَبْشِرُوا آلَ عَمَّارٍ وَآلَ يَاسِرٍ فَإِنَّ مَوْعِدَكُمْ الْجَنَّةِ» . قَالَ الْهَيْثَمِيُّ: رِجَالُ الطَّبَرَانِيِّ رِجَالُ الصَّحِيحِ غَيْرَ إِبْرَاهِيمَ بْن عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمُقوم وَهُوَ ثِقَةٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو أحمد الْحَاكِم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن جَعُفَرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَاسِرٍ وَعَمَّارٍ وَأُمِّ عَمَّارٍ وَهُمْ يُؤْذَوْنَ فِي اللهِ تَعَالَى فَقَالَ لَهُمْ: «صَبْرًا آل يَاسِرٍ صَبْرًا آل يَاسِرٍ فَإِنَّ مَوْعِدَكُمْ الْجَنَّةِ» . رَوَاهُ ابْنُ الْكَلْبِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا نَحْوَهُ وَزَادَ: وَعَبْدِ اللهِ بْنِ يَاسِرٍ. وَزَادَ: وَطَعَنَ أَبُو جَهْلٍ سُمَيَّةِ فِي قُبُلِهَا فَمَاتَتْ وَمَاتَ يَاسِرٌ فِي الْعَذَابِ وَرُمِيَ عَبْدُ اللهِ فَسَقَطَ.

وَعِنْدَ أحمد عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَوْلُ شَهْيدٍ فِي أَوَّلِ الإِسْلامِ اسْتُشْهِدَ أُمُّ عَمَّارٍ سُمَيَّةُ طَعَنَهَا أَبُو جَهْلٍ بِحَرْبَةٍ فِي قُبُلِهَا. وَعَنْ عَمْرُو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: أَحْرَقَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرِ بِالنَّارِ. قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمُرُّ بِهِ وَيُمِرُّ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ فيَقُولُ: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى عَمَّارٍ كَمَا كُنْتِ عَلَى إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلامُ، تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةِ» . فَقَتَلَهُ أَحَدُ الْمُقَاتِلِينَ مَعَ مُعَاوِيَةٍ. شِعْرًا: ... وَلا غُرْوَ بِالأَشْرَافِ إِنْ ظَفِرَتْ بِهِمُ ... كِلابُ الأَعَادِي مِنْ فَصِيحٍ وَأَعْجَمِيٍّ فَحَرْبَةُ وَحْشِيُّ سَقَتْ حَمْزَةَ الرّدَى ... وَمَوْتُ عَلِيٍّ مِنْ حُسَامِ ابْنِ مُلَجَّمٍ وَعِنْد الْحَاكِمِ فِي الْكُنَى وَابْنُ عَسَاكِرٍ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْبَطْحَاءِ إِذْ بِعَمَّارِ وَأَبِيهِ وَأُمِّهِ يُعَذَّبُونَ فِي الشَّمْسِ لِيَرْتَدُوا عَنْ الإِسْلامِ. فَقَالَ أَبُو عَمَّارٍ: يَا رَسُول اللهِ الدَّهْرُ هَكَذَا؟ فَقَالَ: «صَبْرًا يَا آلَ يَاسِرٍ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لآلِ يَاسِرٍ وَقَدْ فَعَلْتَ» . وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمُ فِي الْحِلْيَةِ ج (1) ص (140) عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّد بْن عَمَّارٍ قَالَ: أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ، فَلَمَّا أَتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: شَرٌّ يَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. مَا تُرِكْتُ حتَّى نِلْتُ مِنْكَ وذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فَكَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟ قَالَ: أَجِدُ قَلْبِي مُطْمَئِنٌ بِالإِيمَانِ. قَالَ: «فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعَدٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ نَحْوَهُ. أَخْرَجَ ابْنُ سَعَدٍ عَنْ الشِّعَبِي قَالَ: دَخَلَ خَبَّابُ بْن الآرَت رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَأَجْلَسَهُ عَلَى مُتَّكَئِهِ فَقَالَ: مَا عَلَى الأَرْضِ أَحَدٌ أَحَقُّ بِهَذَا الْمَجْلِسِ مِنْ هَذَا إِلا رَجُل وَاحِد. قَالَ لَهُ خَبَّابُ: مَنْ هُوَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: بِلالٌ. فَقَالَ خَبَّابٌ: مَا هُوَ أَحَقُّ مِنِّي إِنَّ بِلالاً كَانَ لَهُ فِي الْمُشْرِكِينَ مَنْ يَمْنَعُهُ اللهُ بِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِي أَحَدٌ يَمْنَعُنِي، فَلَقَدْ رَأَيْتنِي يَوْمًا، أَخَذُونِي فَأَوْقَدُوا لِي نَارًا، ثُمَّ سَلَقُونِي فِيهَا ثُمَّ وَضَعَ رَجُلٌ رِجْلَهُ عَلَى صَدْرِي

من كلام عيسى عليه السلام

فَمَا اتَّقَيْتُ الأَرْضَ – أَوَ قَالَ: بَرْدَ الأَرْضِ - إِلا بِظَهْرِي، ثُمَّ كَشَفَ عَنْ ظَهْرِهِ فَإَذَا هُوَ قَدْ بَرَصَ، أَيْ مِنْ أَثَرِ التَّعْذِيبِ بِالنَّارِ. وَأَخْرَجَ أحمد عَنْ خَبَّابٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ رَجُلاً قَيِّنًا وَكَانَ لِي عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَيْنٍ فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ. فَقَالَ: لا وَاللهِ لا أَقْضِيَنَّكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -. فَقُلْتُ: لا وَاللهِ لا أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَث. قَالَ: فَإِنَّي إِذَا مِتُّ ثُمَّ جَئْتنِي وَلِي ثَمَّ مَالٌ وَوَلَدٌ فَأُعْطِيَكَ. فَأَنْزَلَ اللهُ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} إِلَى قَوْلِهِ: {وَيَأْتِينَا فَرْداً} . وَعِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ الشِّعبِيِّ قَالَ: سَأَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِلالاً عَمَّا لَقِيَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. فَقَالَ خَبَّابٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! انْظُرْ إِلَى ظَهْرِي. فَقَالَ عُمَرُ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ. قَالَ: أَوْقَدُوا لِي نَارًا فَمَا أَطْفَأَهَا إِلا وَدَكَ ظَهْرِي. شِعْرًا: ... إِنَّ الشَّدَائِدَ قَدْ تَغْشَى الْكَرِيمَ لأَنْ ... تُبِينُ فَضْلَ سَجَيَاهُ وَتُوضِحُهُ كَمَبْرَدِ الْقَيِّنِ إِذْ يَعْلُو الْحَدِيدَ بِهِ ... وَلَيْسَ يَأْكُلُهُ إِلا لِيُصْلِحَهُ قَالَ عِيسَى بْن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ: أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِكُمْ مُجَالَسَةً؟ قَالُوا: بَلَى يَا رُوحِ اللهِ. قَالَ: مَنْ تُذَكِّرُكُمْ بِاللهِ رُؤْيَتُهُ وَيُزِيدُكُمْ فِي عَمَلِكُمْ مَنْطِقِهِ وَيُشَوِّقُكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ عَمَلُهُ. وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ لِلْحَوَارِيِّينَ: وَيْلُكُمْ، يَا عَبِيدَ الدُّنْيَا كَيَفَ تُخَالِفُ فُرُوعكُمْ أُصُولَكمْ وَأَهْوَاؤكمْ عُقُولَكمْ، قَوْلُكُمْ شِفَاءٌ يٌبْرِؤُ الدَّاءَ، وَفِعْلُكُمْ دَاءٌ لا يَقْبَلُ الدَّوَاءَ لَسْتُمْ كَالْكرْمَةِ التَّي حَسُنَ وَرَقُهَا وَطَابَ ثَمَرُهَا وَسَهُلَ مُرْتَقَاهَا، وَلَكِنَّكُمْ كَالسُّمْرَةِ التَّي قَلَّ وَرَقُهَا وَكَثُر شَوْكُهَا وَصَعُبَ مُرْتَقَاهَا. وَيْلُكُمْ يَا عَبِيدَ الدُّنْيَا جَعَلْتُمْ الْعَمَلَ تَحْتَ أَقْدَامِكِمْ مَنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَجَعَلْتُمْ الدُّنْيَا فَوْقَ رُؤسِكِمْ لا يُمْكِنُ تَنَاوُلهَا فَلا أَنْتُمْ عَبِيدٌ نُصَحًا وَلا أَحْرَارٌ كِرَامٌ. وَيِلُكُمْ يَا أُجَرَاءُ السُّوءِ، الأَجْرُ تَأْخُذُونَ وَالْعَمَلَ تُفْسِدُونَ سَوْفَ تَلْقَوْنَ مَا

أبو ذر رضي الله عنه

تَحْذَرُونَ إِذَا نَظَرَ رَبُّ الْعَمَل فِي عَمَلِهِ الَّذِي أَفْسَدْتُمْ وَأَجْرِهِ الَّذِي أَخَذْتُمْ. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: اتَّخِذُوا الْمَسَاجِدَ بيوتًا، وَالْبيوتَ مَنَازِلَ، وَكُلُوا بَقْلَ الْبَرِيَّةِ، وَاشْرَبُوا الْمَاءَ الْقُرَاحَ، وَانْجُوا مِنَ الدُّنْيَا سَالِمِينَ. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ لِلْحَوَارِيِّينَ: لا تَنْظُرُوا فِي أَعْمَالِ النَّاسِ كَأَنَّكُمْ أَرْبَابٌ، وَانْظُرُوا فِي أَعْمَالِكُمْ كَأَنَّكُمْ عَبِيدٌ، فَإِنَّمَا النَّاسُ رَجُلانِ مُبْتَلَى وَمُعَافَى فَارْحَمُوا أَهْلَ الْبَلاءِ، وَاحْمِدُوا اللهَ عَلَى الْعَافِيَةِ. وَقَالَ: عَجَبًا لَكُمْ تَعْمَلُونَ لِلدُّنْيَا وَأَنْتُمْ تُرْزَقُونَ فِيهَا بِلا عَمَلٍ، وَلا تَعْمَلُونَ لِلآخِرَةِ وَأَنْتُمْ لا تُرْزَقُونَ فِيهَا بِلا عَمَلٍ. اللَّهُمَّ سَلِّمْنَا مِنْ جِمِيعِ الآفَاتِ وَعَافِنَا مِنْ أَسْبَابِ الْمِحَنِ وَالْبَلِيَّاتِ، وَوَفِّقْنَا لِلْعَمَلِ بِالْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ وَارْفَعْ لَنَا فِي مَرْضَاتِكَ الدَّرَجَاتِ وَمَتِّعْنَا بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ فِي فَسِيحِ الْجَنَّاتِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، اللهُمَّ يَا مَنْ لا تَضُّرُهُ الْمَعْصَيَةُ وَلا تَنْفَعُهُ الطّاعَةُ أَيْقِظْنَا مِنْ نَوْمِ الْغَفْلَةِ، وَنَبِّهْنَا لاغْتِنَامِ أَوْقَاتِ الْمُهْلَةِ وَوَفِّقْنَا لَمَصَالِحِنَا وَاعْصِمْنَا مِنْ قَبَائِحِنَا، وَلا تُؤَاخِذُنَا بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ ضَمَائِرِنَا، وَأَكَنَّتْهُ سَرَائِرُنَا مِنْ أَنْوَاعِ الْقَبَائِحِ وَالْمَعَائِبِ التَّي تَعْلَمُهَا مِنَّا، وَامْنُنْ عَلَيْنَا يَا مَوْلانَا بِتَوْبَةٍ تَمْحُو بِهَا عَنَّا كُلَّ ذَنْبٍ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. فَصْلٌ: أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا بَلَغَ أَبَا ذَرٍّ مَبْعَثُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لأَخِيهِ: ارْكَبْ عَلَى هَذَا الْوَادِي فاعْلَمْ عِلْمَ هَذَا الرَّجُل الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيُّ يَأْتِيهُ الْخَبَر مِنَ السَّمَاءِ وَاسْمَعْ قَوْلُهُ ثُمَّ ائْتِنِي، فَانْطَلَقَ الأَخُ حَتَّى قَدِمَهُ وَسِمَعَ مِنْ قَوْلِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَبِي ذَرٍ فَقَالَ لَهُ: رَأَيْتُهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الأَخْلاقِ وَكَلامًا مَا هُوَ بَالشِّعْرِ. فَقَالَ: شَفَيْتَني مِمَّا أَرَدْتُ. فَتَزَوَّدَ حِمْل شَنَّةٍ فِيهَا مَاءٌ حَتَّى قَدِمَ مَكْةَ فَأَتَى الْمَسْجِدَ فَالْتَمَسَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَلا يَعْرِفُهُ وَكَرِهَ أنَّ يَسْأَلَ عَنْهُ حَتَّى أَدْرَكَهُ بَعْضُ اللَّيلِ اضْطَجَعَ فَرَآهَ عَلِيٌّ

رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَعَرَفَ أَنَّهُ غَرِيبٌ فَلَمَّا رَآهُ تَبِعَهُ فَلَمْ يَسْأَلْ وَاحِدٌ مَنْهُمَا صَاحَبَهُ عَنْ شَيْء حَتَّى أَصْبَحَ. ثُمَّ احْتَمَلَ قِرْبَتَهُ وَزَادَهُ إِلَى الْمَسْجِدَ وَظَلَّ ذَلِكَ الْيَوْمُ وَلا يَرَاهُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَمْسَى، فَعَادَ إِلَى مَضْجَعَهُ، فَمَرَّ بِهِ عَلِيٌّ فَقَالَ: أَمَا آنَ لِلرَّجُلَ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَهُ، فَأَقَامَهُ، فَذَهَبَ بِهِ مَعَهُ، لا يَسْأَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَنْ شَيْء، حَتَّى إِذَا كَانَ الْيَوْم الثَّالِثِ، فَعَادَ عَلِيٌّ ذَلِكَ فَأَقَامَ مَعَهُ. ثُمَّ قَالَ: أَلا تُحَدَّثَنِي مَا الَّذِي أَقْدَمَكَ؟ قَالَ: إِنْ أَعْطَيْتَنِي عَهْدًا وَمِيثَاقًا لِتُرْشِدَنِي فَعَلْتُ. فَفَعَلَ، فَأَخْبَرَهُ قَالَ: فَإِنَّهُ حَقٌّ وَهُوَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَإَذَا أَصْبَحْتَ فَاتَّبِعْنِي حَتَّى تَدْخُلَ مَدْخَلِي فَفَعَلَ، فَانْطَلَقَ يَقْفُوهُ، حَتَّى دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَدَخَلَ مَعْهُ فَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ وَأَسْلَمَ مَكَانَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إرْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ فَأَخْبِرْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي. قَالَ: والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لأَصْرُخَنَّ بِهَا بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى الْمَسْجِدَ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتَهُ: أَشْهَدُ أَنْ لا إله إلا الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ. ثُمَّ قَامَ الْقَوْمُ فَضَرَبُوهُ حَتَّى أَضْجَعُوهُ، وَأَتَى العَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَيْلَكُمْ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مِنْ غِفَارٍ وَأَنَّ طَرِيقَ تِجَارَتِكُمْ إِلَى الشَّامِ فَأَنْقَذَهُ مِنْهُمْ. ثُمَّ عَادَ مِنَ الْغَدِّ بِمِثْلِهُا فَضَرَبُوهُ وَثَارُوا فَأَكَبَّ العَبَّاسُ عَلَيْهِ. وَعِنْدَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنِّي أَشْهَدُ أَن لا إله إلا الله وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَقَالُوا: قُومُوا إِلَى هَذَا الصَّابِئُ فَقَامُوا فَضُرِبَتُ لأَمُوتَ. فَأَدْرَكَنِي العَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيَّ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهمْ فَقَالَ: وَيْلُكُمْ تَقْتُلُونَ رَجُلاً مِنْ غِفَارٍ وَمَتْجَرُكُمْ وَمَمَرُّكُمْ عَلَى غِفَارٍ فَأَقْلَعُوا عَنِّي.

فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحْتُ الْغَدَّ رَجَعْتُ فَقُلْتُ: مِثْلَ مَا قُلْتُ بِالأَمْسِ، فَقَالُوا: قُومُوا إِلَى هَذَا الصَّابِئُ فَصُنِعَ بِي مِثْلَ مَا صُنِعَ بِالأَمْسِ فَأَدْرَكَنِي العَبَّاسُ فَأَكَبَّ عَلَيَّ وَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتُهُ بِالأَمْسِ. شِعْرَاً: ... طَالِع تَوَارِيخ مَنْ فِي الدَّهْرِ قَدْ وُجِدُوا ... تَجِدْ خُطُوبًا تُسَلِّي عَنْكَ مَا تَجِدُ تَجِدُ أَكَابِرَهُمْ قَدْ جُرِّعُوا غُصَصًا ... مِنْ الرَّزَايَا بِهَا قَدْ فُتِّنَتْ كُبُدُ عَزْلٌ وَنَهْبٌ وَضَرْبٌ بِالسِّيَاطِ يَلي ... حَبْسٌ وَقَتْلٌ وَتَشْرِيدٌ لِمَنْ زَهِدُوا وَإِنْ وُقِيتَ بِِحَمْدِ اللهِ شَرَّتَهُمْ ... فَلْتَحْمد اللهَ فِي الْعُقْبَى كَمَنْ حَمِدُوا آخر: ... وَلا يَلْبَثُ الْجُهَّالُ أَنْ يَتَهَظَّمُوا ... أَخَا الدِّين مَا لَمْ يَسْتَعِنْ بِسَفِيهِ آخر: ... وَمَنْ يَحْلَمْ ولَيْسَ لَهُ سَفِيهٌ ... يُلاقِي الْمُعْضِلاتِ مِنَ النُّذُولِ آخر: ... مَا إِنْ نَفَى عَنْكَ قَوْمًا قُرْبُهُمُ ضَرَرٌ ... كَمِثْلِ قَمْعِكَ جُهَّالاً بِجُهَّالٍ آخر: ... تَعْدُ الذِّئَابِ عَلَى مَنْ لا كِلابَ لَهُ ... وَتَتَّقِي مَرْبَضَ الْمُسْتَأْسِدِ الْحَامِي وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِم يَقُولُ أَبُو ذَرٍ: فَرَمَانِي النَّاسُ حَتَّى كَأَنِّي نَصْبُ أَحْمَرُ فَاخْتَبَأْتُ بِيْنَ الْكَعْبَةِ وَأَسْتَارِهَا وَلَبِثْتُ فِيهَا خَمْسَ عَشْرَةَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مَا لِي طَعَامٌ وَلا شَرَابٌ إِلا مَاءُ زَمْزَمَ. قَالَ: وَلَقِينَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَدْ دَخَلا الْمَسْجِدَ فَوَاللهِ أَنِّي لأَوْلُ النَّاسِ حَيَّاهُ بِتَحِيَّةِ الإِسْلامِ. فَقُلْتُ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ! فَقَالَ: «وَعَلَيْكَ السَّلامُ وَرَحْمَةُ اللهِ، مَنْ أَنْتَ» . فَقُلْتُ: رَجُلٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ. فَقَالَ صَاحِبُهُ: ائْذَنْ لي يَا رَسُولَ اللهِ فِي ضِيَافَةِ اللَّيْلَةِ، فَانْطَلَقَ بِي إِلَى دَارٍ فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ فَقُبِضَ لِي قَبَضَاتُ مِنْ زَبِيبٍ. قَالَ: فَقَدِمْتُ عَلَى أَخِي فَأَخْبَرْتُهُ أَنِّي أَسْلَمْتُ. قَالَ: فَإِنِّي عَلَى دِينِكِ، فَانْطَلَقَنَا إِلَى أُمِّنَا فقَالَتْ: إِنِّي عَلَى دِينِكُمَا. قَالَ: وَأَتَيْتُ قَوْمِي فَدَعَوْتُهُمْ فَتَبِعَنِي بَعْضهُمْ. وأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْم فِي الْحِلْيَةِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَقَمْتُ مَعَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَكَّةَ فَعَلَّمَنِي

موعظة في الحث على التأهب للرحيل

الإِسْلامَ وَقَرَأْتُ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْئًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُظْهِرَ دِينِي. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إَنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ أَنْ تُقْتَلَ» . قُلْتُ: لا بُدَّ مِنْهُ وَإِنْ قُتِلْتُ. قَالَ: فَسَكَتَ عَنِّي فَجِئْتُ وَقُُرَيْشٌ حِلَقًا يَتَحَدَّثُونَ فِي الْمَسْجِدِ فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنْ لا إله إلا الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ. فَانْتَفَضَتِ الْحِلَقُ فَقَامُوا فَضَرَبُونِي حَتَّى تَرَكُونِي كَأَنِّي نُصُبٌ أَحْمَر، وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ قَدْ قَتَلُونِي، فَأَفَقْتُ فَجِئْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرَأَى مَا بِي مِنَ الْحَالِ. فَقَالَ: «أَلَمْ أَنْهَكَ» ؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُول اللهِ كَانْتْ حَاجَةُ فِي نَفْسِي فَقَضَيْتُهَا. فَأَقَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: «الْحَقْ بِقَوْمِكَ فَإَذَا بَلَغَكَ ظُهُورِي فَأْتِنِي» . وَعَنْ أَبِي ذَرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَيْتُ مَكَّةَ فَمَالَ عَلَيَّ أَهْلِ الْوَادِي بِكُلِّ مَدَرَةٍ وَعَظْمٍ، فَخَرَرْتُ مَغْشِيًّا عَلَيَّ، فَارْتَفَعْتُ حِينَ ارْتَفَعْتُ كَأَنِّي نُصُبٌ أَحْمَر. آخر: ... تَسْطُوا الْكِلابَ عَلَى أُسْدِ الشَّرّ سَفَهًا ... وَالْبَازُ الأَشْهَبُ يَخْشَى صَوْلَةَ الْحَجَلِ شِعْرَاً: ... وَالْقِرْدُ يَضْحَكُ مِنْ نِمْرٍ عَلَى هُزُءٍ ... وَالْكَلْبُ يُوعِدُ لَيْثَ الْغيلِ بِالْغِيَلِ آخر: ... وَإِنِّي لأَسْتَبِقِي إِمْرَأَ السُّوء عَدَّةً ... لِعَدْوَةِ عَرِيضِ مِنَ الْقَوْمِ جَانِبِ أَخَافُ كِلابَ الأَبْعَدِينَ وَهَرْشَهَا ... إِذَا لَمْ تُهَارِشْهَا كِلابُ الأَقَارِبِ " موعظة ": عِبَادَ اللهِ تَزَوَّدُا لِلرَّحِيلِ، فَقَدْ دَنَتْ الآجَالُ وَاجْتَهِدُوا وَاسْتَعِدُّوا لِلرَّحِيلِ، فَقَدْ قَرُبَ الارْتِحَالُ، وَمَهِّدُوا لأَنْفُسِكُمْ صَالِحَ الأَعْمَالِ، فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ بِالْفُرَاقِ وَإِنَّ الآخِرَة قَدْ أَشْرَفَتْ لِلتَّلاقِ فَتَزَوَّدُوا مِنْ دَارِ الانْتِقَالِ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ. وَاسْتَشْعِرُوا التَّقْوَى فِي الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ وَأحْذَرُوا التَّفَاخُرَ والتَّكَاثُرَ فِي الدُّنْيَا بِجَمْعِ الْحُطَامِ وَاكْتِسَابِ الآثَامِ وَإِيَّاكُمْ وَالاغْتِرَارَ بِالآمَالِ فَوَرَاءَكُمْ الْمَقَابِرُ ذَاتُ الْوَحْشَةِ وَالْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَالْكُرُبَاتِ وَتَضَايُقِ الأَنْفَاسِ وَالأَهْوَالِ الْمُفْضعاتِ.

سعيد بن زيد وزوجته رضي الله عنهما وقصة إسلام عمر

فَسَوْفَ تَرَوْنَ مَا لَمْ يَكُنْ لَكُمْ فِي حِسَابٍ إِذَا نُودِيتُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ حُفَاةً عُرَاةً غُرُلاً مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي وَتَعَلَّقُ الْمَظْلُومُونَ بَالظَّالِمِينَ وَوَقَفْتُمْ بَيْنَ يَدَيِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحَلَّ بِكِمْ كَرْبُ الْمَقَامِ وَاشْتَدَّ بِالْخَلْقِ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ الزّحَامُ وَأُخِذَ الْمُجْرِمُونَ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ وَبُرِّزَتْ جَهَنَّمُ تُقَادُ بِسَبْعِينَ أَلْفِ زِمَامٍ مَعَ كُلّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا وَالْخَزَنَةُ حَوْلَهَا غِلاظٌ شِدَادٌ. وَيَنَادِي عِنْدَ ذَلِكَ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الْجَبَّارِ فيَقُولُ: هَلْ امْتَلأتِ؟ وَتَقُولُ: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ. هُنَالِكَ يَنْخَلِعُ قَلْبُكَ وَتَتَذَكَّرُ مَا فَرَطْتَ فِيهِ مِنَ الأَوْقَاتِ وَتَنْدِمُ وَلاتَ سَاعَةَ مَنْدَمٍ وَتَتَمَنَّى أَنْ لَوْ زِيدَ فِي الْحَسَنَاتِ وَخُفِفَ مِنَ السَّيِّئَاتِ وَلَكِنْ أَنَّى لَكَ بِهَذا وَهَيْهَاتَ {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} . اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لِلاسْتَعْدَادِ لِمَا أَمَامَنَا، اللَّهُمَّ وَقَوِّي إِيمَانَنَا بِكَ وَبِمَلائِكَتِكَ وَبِكُتِبِكَ وَبِرُسُلِكَ وَبِالْيَوْم الآخَرِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبِنَا وَاشْرَحْ صُدُورِنَا وَوَفِّقْنَا لِمَا تُحِبُّهُ وَتَرْضَاهَوألهمنا ذَكْرِكَ وَشُكْرِكَ، اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لِصَالِحِ الأَعْمَالِ، وَنَجِّنَا مِنْ جَمْيعِ الأَهْوَالِ، وَأَمِّنَا مِنَ الْفَزَعِ الأَكْبَرُ يَوْمَ الزَّحْفِ وَالزَّلازِلَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاء مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " فَصْلٌ ": مَا أَصَابَ سَعِيدَ بْن زَيْد وَزَوْجَتهُ فَاطِمَةِ أُخْت عُمَرٍ. أَخْرَجَ ابْنُ سَعَدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجَ عُمَرٌ مُتَقَلِّدًا السَّيْفَ فَلَقِيَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زهرةٍ قَالَ: أَيْنَ تَعْمِدُ يَا عُمَرُ؟ فَقَالَ: أُرِيدُ أَنْ أَقْتُلَ مُحَمَّدًا. قَالَ: وَكَيْفَ تَأْمَنْ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي زُهْرَةَ إِذ قَتَلْتَ مُحَمَّدًا. قَالَ. فَقَالَ لَهُ عُمَر: مَا أَرَاكَ إِلا قَدْ صَبَأْتَ وَتَرَكْتَ دِينِكَ الَّذِي كُنْتَ عَلَيْهِ. فَقَالَ: أَفَلا أَدُلُكَ عَلَى مَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: أُخْتُكَ، وَخَتَنُكَ قَدْ صَبَوَا وَتَرَكَا دِينِكَ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ.

قَالَ: فَمَشَى عُمَرُ ذَامِرًا حَتَّى أَتَاهُمَا وَعِنْدَهُمَا رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ يقَالَ خَبَّابُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: فَسَمِعَ خَبَّابُ حِسَّ عُمَرَ فَتَوَارَى فَدَخَلَ عَلَيْهِمَا فَقَالَ: مَا هَذِِهِِ الْهَيْمَنَةُ التِّي سَمِعْتُهَا عِنْدَكُمْ. قَالَ: وَكَانُوا يَقْرَءُونَ {طه} فَقَالا: مَا عِنْدَنَا حَدِيثًا تَحَدَثْنَاهُ بَيْنَنَا. قَالَ: فَلَعَلَّكُمَا قَدْ صَبَوْتُمَا. قَالَ: فَقَالَ لَهُ خَتَنُهُ: أَرَأَيْتَ يَا عُمَرُ إِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي غَيْرِ دِينِكِ؟ فَوَثَبَ عُمَرُ عَلَى خَتَنِهِ فَوَطَأَهُ وَطْأً شَدِيدًا فَجَاءَتْ أُخْتُهُ فَدَفَعَتْهُ عَنْ زَوْجِهَا فَنَفَحَهَا بِيَدِهِ – أَيْ لَطِمَهَا - فَدَمَى وَجْهَهَا فقَالَتْ - وَهِيَ غَضْبَى -: يَا عُمَر إِنْ كَانَ الْحَقُّ فِي غَيْرِ دِينِكَ أَشْهَدُ أَنْ لا إله إلا الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ. فَلَمَّا يَئِسَ عُمَرُ قَالَ: اعْطُونِي الْكِتَابَ هَذَا الَّذِي عِنْدَكُمْ فَأَقْرَأَهُ. قَالَ: وَكَانَ عُمَرُ: يَقْرَأُ الْكُتُبَ. فَقَالَتْ أُخْتُهُ: إِنَّكَ رِجْسٌ وَلا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ فَاغْتَسِلْ وَتَوَضَأَ. قَالَ. فَقَامَ وَتَوَضَّأَ ثُمَّ أَخَذَ الْكِتَابَ فَقَرَأَ {طه} حَتَّى انْتَهَى إِلَى قُوْلُهُ {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: دُلُّونِي عَلَى مُحَمَّدٍ فَلَمَّا سَمِعَ خَبَّابٌ قَوْلَ عُمَرِ خَرَجَ مِنْ الْبَيْتِ فَقَالَ: أَبْشِرْ يَا عُمَرُ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُون دَعْوَةَ رَسُولِ اللهِ لَكَ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ بِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ أَوْ بَعُمَرِ بْنِ هُشَامٍ. قَالَ: ورَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الدَّارِ التِّي فِي أَصْلٍ الصَّفَا فَانْطَلَقَ عُمَرُ حَتَّى أَتَى الدَّارَ. قَالَ: وَعَلَى بَابِ الدّارِ حَمْزَةٌ وَطَلْحَةٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وَأُنَاسٌ مِنْ أَصْحَاب رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا رَأىَ حَمْزَةٌ وَجَلَ الْقَوْمِ مِنْ عُمَرٍ قَالَ حَمْزَةٌ: نَعَمْ فَهَذَا عُمَرُ فَإِنْ يُرِدِ اللهُ بِعُمَرِ خَيْرًا يُسْلِمُ وَيَتْبَعُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَإِنْ يُرِدْ اللهُ غَيْرَ ذَلِكَ يَكُنْ قَتْلُهُ عَلَيْنَا هَيِّنًا. قَالَ: وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دَاخِلٌ يُوَحَى إِلَيْهِ قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَتَى عُمَرَ فَأَخَذَ بِمَجَامِعِ ثَوْبِهِ وَحَمَائِلِ السَّيْفِ وَقَالَ: مَا أَنْتَ بِمُنْتَهٍ يَا عُمَرُ حَتَّى

يُنْزِلَ اللهُ بِكَ مِنَ الْخِزِي وَالنَّكَالِ مَا أَنْزَلَ بِالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، اللَّهُمَّ هَذَا عُمَرُ ابْن الْخَطَّابِ اللَّهُمَّ أَعِزَّ الدِّينَ بِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ. قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ. فَأَسْلَمَ وَقَالَ: أُخْرُجْ يَا رَسُول اللهِ. أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ عَنْ عُثْمَان قَالَ: لَمَّا رَأَى ابْنُ مَظْعُونٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَا فِيهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْبَلاء وَهُوَ يَغْدُو وَيَرُوحُ فِي أَمَانٍ مِنَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: وَاللهِ إَنَّ غَدْوِي وَرَوَاحِي آمِنًا بِجِوَارِ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ وَأَصْحَابِي وَأَهْلِ دِينِي يَلْقُونَ مِنَ الأَذَى وَالْبَلاء مَا لا يُصِيبُنِي لَنَقْصٌ كَبِيرٌ فِي نِفْسِي. فَمَشَى إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَقَالَ: لا يَا أَبَا عَبْدَ شَمْسٍ وَفَتْ ذِمّتُكَ قَدْ رَدَدْتُ إِلَيْكَ جِوَارَكَ. قَالَ: لِمَ يَا ابْنَ أَخِي لَعَلَّهُ آذَاكَ أَحَدٌ مِنْ قِوْمِي؟ قَالَ: لا وَلَكِنِّي أَرْضَى بِجوَارِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلا أُرِيدُ أَنْ أَسْتَجِيرَ بِغَيْرِهِ. قَالَ: فَانْطَلِقْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَارْدُدْ عَلَيَّ جَوَارِي عَلانِيَةً كَمَا أَجَرْتُكَ عَلانِيَةً. قَالَ: فَانْطَلَقَا ثُمَّ خَرَجَا حَتَّى أَتَيَا الْمَسْجِدَ فَقَالَ لَهُ الْوَلِيدُ: هَذَا عُثْمَانٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَدْ جَاءَ يَرُدُّ عَلَيَّ جِوَارِي. قَالَ لَهُمْ: قَدْ صَدَقَ قَدْ وَجَدْتُه وَفِيًّا كَرِيمَ الْجِوَارِ وَلَكْنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ لا أَسْتَجِيرَ بِغَيرِ اللهِ فَقَدْ رَدَدْتُ عَلَيْهِ جِوَارَهُ. ثُمَّ انْصَرَفَ عُثْمَانُ وَلَبِيدُ بْن رَبِيعَة بْن مَالِكٍ بْن كِلابٍ الْقَيْسِيُّ فِي الْمَجْلِسِ مِنْ قُرَيْشِ يَنْشِدُهُمْ فَجَلَسَ مَعَهُمْ عُثْمَان فَقَالَ لَبِيدٌ وَهُوَ يَنْشِدُهُمْ: أَلا كُلُّ شَيْء مَا خَلا اللهَ بَاطِلٌ. فَقَالَ عُثْمَانٌ: صَدَقْتَ. فَقَالَ: وَكُلُّ نَعِيمٍ لا مَحَالَةَ زَائِلٌ. فَقَالَ عُثْمَانٌ: كَذِبْتَ، نَعِيمُ الْجَنَّةِ لا يَزُولُ. قَالَ لَبِيدُ بْن رَبِيعَةِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشِ وَاللهِ مَا كَانَ يُؤْذَى جَلِيسُكُمْ فَمَتَى حَدَثَ فِيكُمْ هَذَا؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: إِنَّ هَذَا سَفِيهٌ مِنْ سُفَهَاءٍ مَعَهُ قَدْ فَارَقُوا دِينِنَا فَلا تَجِدَنَّ فِي نَفْسِكَ مَنْ قَوْلِهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ عُثْمَانٌ حَتَّى

مصعب بن عمير رضي الله عنه

سَرَى – أَيْ عَظُمَ أَمْرُهُمَا فَقَامَ إِلَيْه ذَلِكَ الرَّجُلَ فَلَطَمَ عَيْنَهُ فَخَطَرَهَا وَالْوَلِيدُ بْن الْمُغِيرَةِ قَرِيبٌ يَرَى مَا بَلَغَ مِنْ عُثْمَانٍ. فَقَالَ: أَمَا وَاللهِ يَا ابْنَ أَخِي إِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ عَمَّا أَصَابَهَا لَغَنِيَّةِ! لَقَدْ كُنْتَ فِي ذِمَّةٍ مَنِيعَةٍ. فَقَالَ عُثْمَانٌ: بَلَى وَاللهِ إِنَّ عَيْنِي الصَّحِيحَةُ لَفَقِيرَةٌ إِلَى مَا أَصَابَ أُخْتَهَا فِي اللهِ، وَإِنِّي لَفِي جوَارِ مَنْ هُوَ أَعَزُّ مِنْكَ وَأَقْدَرَ يَا أَبَا عَبْدَ شَمْسٍ. وَقَالَ عُثْمَانُ بْن مَظْعُونٍ فِيمَا أُصِيبَ مِنْ عَيْنِهِ: شِعْرَاً: ... فَإِنْ تَكُ عَيْنِي فِي رِضَى اللهِ نَالَهَا ... يَدَا مُلْحِدٍ فِي الدِّينِ لَيْسَ بُمُهَتَدِ فَقَدْ عَوَّضَ الرَّحْمَنُ مَنْهَا ثَوَابُهُ ... وَمَنْ يَرْضَهُ الرَّحْمَنُ يَا قَوْمُ يَسْعَدِ فَإِنِّي وَقَدْ قُلْتُمْ غَوِيٌّ مُضَلَّلٌ ... سَفِيهٍ عَلَى دِينِ الرَّسُولِ مُحَمَّدِ أُرِيدُ بِذَاكَ الْحَقَّ وَالْحَقُّ دِينُنَا ... عَلَى رَغْمِ مَنْ يَبْغِي عَلَيْنَا وَيَعْتَدِي اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ سِرَّنَا وَعَلانِيَّتِنَا وَتَسْمَعُ كَلامَنَا وَتَرَى مَكَانَنَا لا يَخْفَى عَلَيْكَ شَيْء مِنْ أَمْرِنَا نَحْنُ الْبُؤَسَاءِ الْفُقَرَاءِ إِلَيْكَ الْمُسْتَغِيثُونَ الْمُسْتَجِيرُونَ بِكَ نَسْأَلُكَ أَنْ تُقَيِّضَ لِدِينِكِ مَنْ يَنْصُرُهُ وَيَزِيلُ مَا حَدَثَ مِنْ الْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَيُقِيمُ عَلَمَ الْجِهَادِ وَيَقْمَعُ أَهْلَ الزَّيْغِ وَالْكُفْرِ وَالْعِنَادِ اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكْرِكَ وَوَفْقِنَا لِلْقِيَامِ بِحَقِّكَ بَارَكَ لَنَا فِي الْحَلالِ مِنْ رِزْقِكَ وَلا تَفْضَحْنَا بَيْنَ خَلْقِكَ يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلُ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ يَا قَاضِيَ الْحَاجَاتِ وَمُجِيبَ الدَّعَوَاتِ هَبْ لَنَا مَا سَأَلَنَاهُ وَحَقِّقْ رَجَاءَنَا فِيمَا تَمَنَّيْنَاهُ يَا مَنْ يَمْلِكُ حَوَائِج السَّائِلِينَ وَيَعْلَمُ مَا فِي ضَمَائِرِ الصَّامِتِينَ أَذِقْنَا بَرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةَ مَغْفِرَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " فَصْلٌ ": أَخْرَجَ ابْنُ سَعَدٍ عَنْ مُحَمَّدٍ الْعَبْدَرِيّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ مُصْعَبُ بْن عُمَيْرِ فَتَى مَكَّةَ شَبَابًا وَجَمَالاً وَكَانَ أَبَوَاهُ يُحِبَّانَهُ وَكَانَتْ أُمُّهُ مَلِيئَةً – أَيْ غَنِيَّة كَثِيرةَ الْمَالِ - تَكْسُوهُ أَحْسَنُ مَا يَكُونُ مِنَ الثِّيَابِ، وَأَرَّقَهُ، وَكَانَ أَعْطَرُ أَهْلِ مَكَّةَ، يَلْبِسُ الْحَضْرَمِيُّ مِنَ النِّعَالِ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَذْكُرُهُ

وَيَقُولُ: «مَا رَأَيْتُ بِمَكَّةَ أَحْسَنَ لُمَّةً، وَلا أَرَقَ حُلَّةً، وَلا أَنْعَمَ نِعْمَةً مِنْ مُصْعَب بْن عُمَيْرٍ. فَبَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدْعُو إِلَى الإِسْلامِ فِي دَارِ أَرْقَمٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ وَصَدَّقَ بِهِ، وَخَرَجَ فَكَتَمَ إِسْلامَهُ، خَوْفًا مِنْ أُمِّهِ وَقَوْمِهِ، فَكَانَ يَخْتَلِفُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سِرًّا فَبَصُرَ بِهِ عُثْمَانُ بن طَلْحَةٍ يُصَلِّي فَأَخْبَرَ أَمَّهُ وَقَوْمَهُ فَأَخَذُوهُ فَحَبَسُوهُ فَلَمْ يَزَلْ مَحْبُوسًا، حَتَّى خَرَجَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فِي الْهِجْرَةِ الأُولَى، ثُمَّ رَجَعَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ حِينَ رَجَعُوا، فَرَجَعَ مُتَغَيْرَ الْحَالِ قَدْ خَرَجَ فَكَفَّتْ أُمُّهُ عَنْهُ مِنَ الْعَذْلِ. وَأَخْرَجَهَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: نَظَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى مُصْعَبِ بْن عُمَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مُقْبِلاً عَلَيْهِ إِهَابِ كَبْشٍ - أَيْ جَلْد كَبْشٍ - (قَدْ تَمَنْطَقَ بِهِ) - أَي شّدَّهُ فِي وَسَطِهِ، فَقَالَ: «انْظُرُوا إِلَى هَذَا نَوَّرَ اللهُ قَلْبَهُ وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ بَيْنَ أَبَوَيْنِ يُغْذُوَانه بِأَطْيَبِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَلَقَدْ رَأَيْتَ عَلَيْهِ حُلَّةً شَرَاهَا - أَوْ شُرِيَتْ - بِمَائَةِ دَرْهَمٍ فَدَعَاهُ حُبُّ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى مَا تَرَوْنَ. وَأَخْرَجَ التّرمُذِيُّ وَحَسَّنَهُ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ رَاهَوِيهُ عَنْ عَلِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: خَرَجْتُ فِي غَدَاةٍ شَاتِيَةٍ مِنْ بِيْتِي جَائِعًا حَرصًا قَدْ أَذْلَقَنِي الْبَرْدُ، فَأَخَذْتُ إِهَابًا مَعْطُونًا كَانَ عِنْدنَا فَجَبَبْتُهُ. ثُمَّ أَدْخَلْتُهُ فِي عُنُقِي ثُمَّ حَزَّمْتُهُ عَلَى صَدْرِي اسْتَدْفِئُ بِهِ، فَوَاللهِ مَا فِي بَيْتِي شَيْء آكلُ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ فِي بَيْتِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لَبَلَغَنِي، فَخَرَجْتُ فِي بَعْضِ نَوَاحِي الْمَدِينَةِ، فَاطَّلَعْتُ إِلَى يَهُودِيٍّ فِي حَائِطٍ مِنْ ثَغْرَةِ جِدَارِهِ، فَقَالَ: مَا لَكَ يَا أَعَرْابِيُّ هَلْ لَكَ فِي كُلّ دَلْو بِتَمَرَةٍ، فَقُلْتُ: نَعَم فَافْتَحْ الْحَائِطَ فَفَتَحَ لِي فَدَخَلْتُ أَنْزِعُ دَلْوًا وَيَعْطِينِي تَمْرَةً حَتَّى امْتَلاءَتْ كَفْي. قُلْتُ: حَسْبِي مِنْكَ الآن.

عبد الله بن حذافة رضي الله عنه مع ملك الفرس

ثُمَّ جِئْتُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ، وَهُوَ فِي عُصَابَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَاطَلَّعَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنِ عُمَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي بُرْدَةٍ لَهُ مَرْقُوعَةٍ، فلمَّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ وَرَأىَ حَالَهُ الَّذِي هُوَ عَلَيْهَا فَذَرِفَتْ عَيْنَاهُ، فَبَكَى ثُمَّ قَالَ: «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا غَدَا أَحَدُكُمِ فِي حُلَّةٍ وَرَاحَ فِي أُخْرَى، وَسُتِرَتْ بِيوتَكْمْ كَمَا تُسْتَرُ الْكَعْبَةَ قُلْنَا نَحْنُ يَوْمَئِذٍ خُيْرٌ نُكْفَى الْمُؤْنَةَ، وَنَتَفَرَّغُ لِلْعِبَادَةِ. قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ خَيْرٌ مِنْكُمْ يَوْمئِذٍ» . وَاللهُ أَعْلَمُ. اللَّهُمَّ أَنْظِمْنَا فِي سِلْكِ الْفَائِزِينَ بِرِضْوَانِكَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ أَعْدَدْتَ لَهُمْ فَسِيحَ جَنَّاتِكَ، وَأَدْخِلْنَا بِرَحْمَتِكَ فِي دَارِ أَمَانِكَ وَعَافِنِا يَا مَوْلانَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة مِنْ جَمِيعِ الْبَلايَا وَأَجْزِلْ لَنَا مِنْ مَوَاهِبِ فَضْلِكَ وَهِبَاتِكَ وَمَتِّعْنَا بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " فَصْلٌ ": قِصْةُ عَبْدِ اللهِ بْنِ حُذَافَةِ السَّهْمِيّ مَعَ مَلِكِ الْفُرْسِ مَشْهُورَةٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ فِي السُّنَّةِ السَّادِسَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ حِينَ عَزَمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَبْعَثَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ بِكُتُبٍ إِلَى مُلُوكِ الأَعَاجِمِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الإِسْلامِ. وَلَقَدْ كَانَ - صلى الله عليه وسلم - يُقَدِّرُ خُطُورَةَ هَذِهِ الْمُهِمَّةَ فَهَؤُلاءِ الرُّسُلِ سَيَذْهَبُونَ إِلَى بِلادٍ نَائِيَةٍ لا عَهْدَ لَهُمْ بِهَا مِنْ قَبْلُ، يَجْهَلُونَ لُغَاتِهِمْ وَلا يَعْرِفُونَ شَيْئًا عَنْ أَخْلاقِ مُلُوكِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ سَيَدْعُونَ هَؤُلاءِ إِلَى تَرْكِ مَا عَلَيْهِ آبَاؤهُمْ وَالدُّخُولِ فِي دِينِ الإِسْلامِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الإِلْحَادِ وَالْكُفْرِ. إِنَّهَا رِحْلَةٌ خَطِيرَةٌ الذَّاهِبُ إِلَيْهَا مَفْقُودٍ، وَالْعَائِدُ مَنْهَا مَوْلُودٌ، لِذَلِكَ جَمَعَ الْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - أَصْحَابَهُ وَقَامَ فِيْهِمْ خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَتَشَهْدَ ثُمَّ

قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَ بَعْضَكُمْ إِلَى مُلُوكِ الأَعَاجِمِ، فَلا تَخْتَلِفُوا عَلَيَّ، كَمَا اخْتَلَفَتْ بَنُوا إِسْرَائِيل عَلَى عِيسَى بن مَرْيَم. فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: نَحْنُ يَا رَسُولَ اللهِ نُؤَدِّي عَنْكَ مَا تُرِيدُ، فَابْعَثْنَا حَيْثُ شِئْتَ، انْتَدَبَ - صلى الله عليه وسلم - سِتَّةً مِنَ الصَّحَابَةِ لِيَحْمِلُوا كُتُبَهُ إِلَى مُلُوكِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَكَانَ أَحَدُ هَؤُلاءِ السِّتَّةِ عَبْد اللهِ بن حَذَافَةَ السَّهْمِيُّ، اخْتَارَهُ لِحَمْلِ رِسَالَتِهِ إِلَى كِسْرَى مَلِكِ الْفُرْسِ. فَجَهَّزَ عَبْدُ اللهِ رَاحِلَتَهُ وَوَدَّعَ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ، وَمَضَى إِلَى غَايَتِهِ تَرْفَعُهُ النّجَادُ وَتَحُطُّهُ الْوِهَادُ، حَتَى دِيَارِ فَارِسٍ، فَاسْتَأْذَنَ بِالدُّخُولِ عَلَى مَلِكِهَا، وَأَخْطَرَ أَعْوَان الْمَلِكِ بِالرِّسَالَةِ التَّي يَحْمِلُهَا بِأَنَّهَا ذَاتَ اهْتِمَامٍ. عِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ كِسْرَى بِإِيوَانِهِ فَزُيِّنَ، وَدَعَا عُظَمَاءِ فَارِسٍ لِحُضُورِ مَجْلِسِهِ، فَحَضَرُوا، ثُمَّ أَذِنَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ حُذَافَةَ بِالدُّخُولِ، فَدَخَلَ عَبْدُ اللهِ بْن حُذَافَة عَلَى سَيِّدِ فَارِسٍ، مُشْتَمِلاً شَمْلَتُهُ، مُرْتَدِيًا عبَاءَتِهِ الصَّفِيقَةِ، عَلَيْهِ بَسَاطَةُ الأَعْرَابِ. لَكْنَّهُ عَالِي الْهِمَّةِ، مَشْدُودَ الْقَامَةِ، تَأَجَجُ بَيْنَ جَوَانِحِهِ عِزَّةُ الإِسْلامِ فَلَمَّا رَآهُ كِسْرَى مُقْبِلاً أَشَارَ إِلَى أَحَدِ رِجَالِهِ بِأَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ الْكِتَابَ. فَقَالَ: لا، إِنَّمَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أَدْفَعُهٌ لَكَ يَدًا بِيَدٍ لا أُخَالِفُ أَمْرَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ كَسْرَى لِرِجَالِهِ: اتْرُكُوهُ يَدْنُو مِنِّي، فَدَنَا مِنْ كِسْرَى، فَنَاوَلَهُ كِتَابَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِهِ. ثُمَّ دَعَا كِسْرَى كَاتِبًا عَرَبِيًّا مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَفُضَّ الْكِتَابَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِ، فَإَذَا فِيهِ " بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إِلَى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسٍ، سَلامٌ عَلَى مَنِ اتْبَعَ الْهُدَى» . وَلَمَّا سَمِعَ كِسْرَى هَذَا الْمِقْدَارَ مِنْ الرِّسَالَةِ اشْتَعَلَ غَضَبَهُ فِي صَدْرِهِ

فَاحْمَرَ وَجْهَهُ وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ، لأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَدَأَ بِنَفْسِهِ، فَجَذَبَ الرِّسَالَةَ مِنْ يَدِ كَاتِبِهِ، وَجَعَلَ يُمَزِّقُهَا، دُونَ أَنْ يَعْلَمَ مَا فِيهَا، وَيَقُولُ: أَيَكْتُبْ لِي بِهَذَا وَهُوَ عَبْدِي. ثُمَّ أَمَرَ بِعَبْدِ اللهِ بْنِ حُذَافَةَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مَجْلِسِهِ، فَأُخْرِجَ مِنَ الْمَجْلِسِ، وَهُوَ لا يَدْرِي مَاذَا يَكُونُ بَعْدُ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ مَا لَبِثَ أَنْ قَالَ: وَاللهِ مَا أُبَالِي عَلَى أَيُّ حَالٍ أَكُونَ بَعْدُ أَنْ أَدَّيْتُ كِتَابَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَرَكِبَ رَاحِلَتُهُ وَانْطَلَقَ. وَلَمَّا سَكَتَ غَضَبَ كِسْرَى، أَمَرَ أَنْ يَرُدُّوهُ إِلَيْهِ، فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَأَرْسَلُوا فِي أَثَرِهِ، وَطَلَبَوُهُ فِي الطَّرِيقِ، فَلَمْ يَجِدُوُه، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ كِسْرَى، وَتَمْزِيقِهِ الْكِتَابَ، فَمَا زَادَ عَلَيْهِ الصَّلاة وَالسَّلامُ عَلَى أَنْ قَالَ: «مَزَّقَ الله مُلْكَهُ» . أَمَّا كِسْرَى فَكَتَبَ إِلَى بَاذَانِ نَائِبِهِ عَلَى الْيَمَنِ، أَنْ ابْعَثْ إِلَى هَذَا الرجل الَّذِي ظَهَرَ بِالْحِجَازِ رَجُلَيْنِ جَلِدَيْنِ مِنْ عِنْدِكَ، وَمُرْهُمَا أَنْ يَأْتِيَانِ بِهِ، وَحَمَّلَهُمَا رِسَالةً لَهُ يَأْمُرهُمَا بِأَدَائِهَا لَهُ، وَيَأْمُرْهُ فِيهَا بِأَنْ يَنْصَرِفَ مَعَهُمَا إِلَى لِقَاءِ كِسْرى دُونَ إِبْطَاءٍ. وَطَلَبَ إِلَى الرَّجُلَيْنِ أَنْ يَقِفَانِ عَلَى خَبَرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَسْتَقْصِيَا أَمْرَهُ، وَأَنْ يَأْتِياهُ بِمَا يَقِفَانِ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِهِ مِنْ مَعْلُومَاتٍ. فَخَرَجَ الرَّجُلانِ حَتَّى بَلَغَا الطَّائِفَ، فَوَجَدَا رِجَالاً تُجَّارًا مِنْ قُرِيْشٍ فَسَأَلاهُمْ عَنْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَالُوا: هُوَ فِي يَثْرِب، ثُمَّ مَضَى التُّجَّارِ إِلَى مَكَّةَ فَرِحِينَ مُسْتَبْشِرِينَ، وَجَعَلُوا يُهَنُّونَ قُرَيْشًا، وَيَقُولُونَ: قُرُّوا عَيْنًا فَإِنَّ كِسْرَى تَصَدَّى لِمُحَمَّدٍ وَكَفَاكُمْ شَرَّهُ. أَمَّا الرَّجُلانِ فَيَمِمَّا وَجْهَيْهِمَا شَطْرَ الْمَدِينَةِ، حَتَّى إِذَا وَصَلا إِلَيْهِمَا، لَقِيَا

النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَدَفَعَا إِلَيْهِ رِسَالَةَ بَاذَانَ، وَقَالا لَهُ: إِنَّ مَلِكَ الْمُلُوكِ كِسْرَى كَتَبَ إِلَى مَلِكِنَا بَاذَانَ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْكَ مَنْ يَأْتِيهِ بِكِ. وَقَدْ أَتَيْنَاكَ لِتَنْطَلِقَ مَعَنَا فَإِنَّ أَجَبْتَنَا كَلَّمْنَا كِسْرَى بِمَا يَنْفَعُكَ، وَيَكُفُّ أَذَاهُ عَنْكَ، وَإِنْ أَبَيْتَ فَهُوَ مَنْ قَدْ عَلِمْتَ سُطْوَتَهُ، وَبَطْشَهُ، وَقُدْرَتُهُ عَلَى إِهْلاكِكَ، وَإِهْلاكِ قَوْمِكَ. فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَقَالَ لَهُمَا: «ارْجِعَا إِلَى رِحَالِكُمَا الْيَوْم، وَأْتِيَا غَدًا فَلَمَّا غَدَوَا عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْيَوْم التَّالِي، أَخْبَرَهُمَا بِأَنَّ اللهَ قَتَلَ كِسْرَى حَيْثُ سَلَّطَ عَلَيْهِ ابْنَهُ ((شيرويه)) فِي لَيْلَةِ كَذَا مِنْ شَهْرِ كَذَا. فَحَدَّقَا فِي وَجْهِهِ وَبَدَتِ الدَّهْشَةُ عَلَى وَجْهَيْهِمَا، وَقَالا: أَتَدْرِي مَا تَقُولُ: أَنَكْتُبْ بِذَلِكَ لِبَاذَانَ. قَالَ: «نَعَم، وَقُولا لَهُ إِنْ دِينِي سَيَبْلُغُ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مُلْكَ كِسْرَى، وَإِنَّكَ إِنْ أَسْلَمْتَ، أَعْطَيْتُكَ مَا تَحْتَ يَدَيْكَ، وَمَلَّكْتُكَ عَلَى قَوْمِكَ وَخَرَجَ الرَّجُلانِ مِنْ عِنْدَ الرَسُولِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ وَقَدِمَا عَلَى بَاذَانَ وَأَخْبَرَاهُ الْخَبَرَ. فَقَالَ: لَئِنْ كَانَ مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ حَقًّا فَهُوَ نَبِيٌّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَسَنَرَى فِيهِ رَأْيًا. فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ قَدِمَ عَلَى بَاذَانَ كَتَابَ شِيرَويه. وَفِيهِ يَقُولُ: أَمَّا بَعْدُ. فَقَدْ قَتَلْتُ كِسْرَى وَلَمْ أَقْتُلُهُ إِلا انْتِقَامًا لِقَوْمِنَا فَقَدْ اسْتَحَلَّ قَتْلَ أَشْرَافِهِمْ وَسَبَى نِسَائِهِمْ وَانْتَهَبَ أَمْوَالَهُمْ فَإَذَا جَاءَكَ كِتَابِي هَذَا فَخُذْ لِي الطَّاعَة مِمَّنْ عِنْدكَ. فَلَمَّا قَرَأَ بَاذَانُ الْكِتَابَ ((كِتَابَ شيرويه)) طَرَحَهُ جَانِبًا وَأَعْلَنَ دُخُولُهُ فِي الإِسْلامِ وَأَسْلَمَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْفُرْسِ بِالْيَمَنِ.. انتهى. اللَّهُمَّ أَنْظِمْنَا فِي سِلْكِ الْفَائِزِينَ بِرِضْوَانِكَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ أَعْدَدْتَ لَهُمْ فَسِيحَ جَنَّاتِكَ بِرَحْمَتِكَ فِي دَارِ أَمَانِكَ، وَعَافِنَا يَا مَوْلانَا

عبد الله بن حذافة مع ملك الروم

فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة مِنْ جَمِيعِ الْبَلايَا، وَأَجْزِلْ لَنَا مِنْ مَوَاهِبِ فَضْلِكِ وَهِبَاتِكِ وَمَتِّعْنَا بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصْبِحِهِ أَجْمَعِينَ. " فَصْلٌ " عَبْدُ اللهَ بن حُذَافَة وَقِصَّتُهُ مَعَ مَلِكِ الرُّومِ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: وَجَّهَ عُمَرُ بن الْخَطَّابَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ جَيْشًا إِلَى الرُّومِ وَفِيهِمْ رَجُل يُقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بن حُذَافَة مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَسَرَهُ الرُّومُ فَذَهَبُوا بِهِ إِلَى مَلِكِهِمْ فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ هَذَا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لَهُ الطَّاغِيَةُ: هَلْ لَكَ أَنْ تَنَصَّرَ وَأُشْرِكَكَ فِي مُلْكِي وَسُلْطَانِي. فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ: لَوْ أَعْطَيْتَنِي مَا تَمْلِكُ وَجَمِيعَ مَا مَلَكَتْهُ الْعَرَب عَلَى أَنْ أَرْجَعَ عَنْ دِينِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - طَرْفَةَ عَيْنٍ مَا فَعَلْتُ. قَالَ: إِذَا أَقْتُلُكَ. قَالَ: أَنْتَ وَذَاكَ. فَأَمَرَ بِهِ فَصُلِبَ، وَقَالَ لِلرمَاةِ: ارْمُوهُ قَرِيبًا مِنْ بَدَنِهِ قَرِيبًا مِنْ رِجْلَيْهِ، وَهُوَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ وَهُوَ يَأْبَى. ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَأُنْزِلَ ثُمَّ دَعَا بِقِدْرٍ فَصُبَّ فِيه حَتَّى احْتَرَقَ، ثُمَّ دَعَا بِأْسِيرِيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَرَ بِأَحَدِهِمَا فَأُلْقِيَ فِيهَا، وَهُوَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّصْرَانِيَّةَ، وَهُوَ يَأْبَى ثُمَّ أَمَرَ بِهِ أَنْ يُلْقَى فِيهَا، فَلَمَّا ذَهَبَ بِهِ بَكَى، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ بَكَى فَظَنَّ أَنَّهُ جَزِعَ، فَقَالَ: رُدُّوهُ فَعَرَضَ عَلَيْهِ النَّصْرَانِِيَّةَ فَأَبَى فَقَالَ: مَا أَبْكَاكَ إِذًا. قَالَ: أَبْكَانِي أَنِّي قُلْتُ فِي نَفْسِي تَلْقَى السَّاعَةَ فِي هَذَا الْقِدْرِ فَتَذْهَبَ فَكُنْتُ اشْتَهِي أَنْ يَكُونَ بِعَدَدِ كُلِّ شَعْرَةٍ فِي جَسَدِي نَفْسٌ تُلْقى فِي اللهِ. قَالَ لَهُ الطَّاغِيَةُ:

قصيدة وعظية زهدية تضرع إلى رب العزة

هَلْ لَكَ أَنْ تُقَبْلَ رَأْسِي وَأُخْلِيَ مِنْكَ، قَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ: وَعَنْ جَمِيعِ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: وَعَنْ جَمِيعِ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ. قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَقُلْتُ فِي نفسي: عَدُوٌّ مِنْ أَعْدَاءِ اللهِ، أُقَبِّلُ رَأْسَهُ يُخَلِّي عَنْي وَعَنْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ، لا أُبَالِي فَدَنَا مِنْهُ فَقَبَّلَ رَأْسَهُ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ الأُسَارَى، فَقَدِمَ بِهُمْ عَلَى عُمَر فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُقَبِّلَ رَأْسَ عَبْدِ اللهِ بن حُذَافَة، وَأَنَا أَبْدَأُ. فَقَامَ عُمَرُ فَقَبَّلَ رَأْسَهُ. اللَّهُمَّ اجْعَلنَا مِنَ الْمُتَّقِينَ الأَبْرَارِ وَأَسْكِنَّا مَعَهُمْ فِي دَارِ الْقَرَارِ، اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا بِحُسْنِ الإِقْبَالِ عَلَيْكَ وَالإِصْغَاءِ إِلَيْكَ وَوَفِّقْنَا لِلتَّعَاوُنِ فِي طَاعَتكَ وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى خِدْمَتِكَ وَحُسْنِ الآدابِ فِي مُعَامَلَتِكَ وَالتَّسْلِيمِ لأَمْرِكَ والرِّضَا بِقَضَائِكَ وَالصَّبْرِ عَلَى بَلائِكَ وَالشُّكْرِ لِنَعْمَائِكَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. أَسِيرُ الْخَطَايَا عِنْدَ بَابِكَ يَقْرَعُ ... يَخَافُ وَيَرْجُو الْفَضْلَ فَالْفَضْلُ أَوْسَعُ مُقِرٌّ بِأَثْقَالِ الذُّنُوبِ وَمُكْثِرٌ ... وَيَرْجُوكَ فِي غُفْرَانِهَا فَهُوَ يَطْمَعَ فَإِنَّكَ ذُو الإِحْسَانِ وَالْجُودِ وَالْعَطَا ... لَكَ الْمَجْدَ وَالإِفْضَالَ وَالْمَنَّ أَجْمَعَ فَكَمْ مِنْ قَبِيحٍ قَدْ سَتَرْت عَنْ الْوَرَى ... وَكَمْ نِعَمٌ تتَرَى عَيْنًا وَتُتْبَعُ وَمَنْ ذَا الَّذِي يُرْجَى سِوَاكَ وَيُتَّقَى ... وَأَنْتَ إِلَهُ الْخَلْقِ مَا شَئْتَ تَصْنَعُ فَيَا مَنْ هُوَ الْقُدُّوسُ لا رَبَّ غَيْرَهُ ... تَبَارَكْتَ أَنْتَ اللهُ لِلْخَلْقِ مَرْجِعُ وَيَا مَنْ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى فَوْقَ خَلْقِهِ ... تَبَارَكْتَ تُعْطِي مَنْ تَشَاءُ وَتَمْنَعُ بِأَسْمَائِكَ الْحُسُنْى وَأَوْصَافِكَ الْعُلَى ... تَوَسَّلَ عَبْدٌ بَائِسٌ يَتَضَرَّعُ أَعِنِّي عَلَى الْمَوْتِ الْمَرِيرَةِ كَأْسُهُ ... إِذَا الرُّوحُ مِنْ بَيْنِ الْجَوَانِحِ تُنْزَعُ وَكُنْ مُؤْنِسِي فِي ظُلْمَةِ الْقَبْرِ عِنْدَمَا ... يُرَّكَمُ مِنْ فَوْقِي التُّرَابَ وَأُودَعُ وَثَبِّتْ جَنَانِي لِسُؤَالِ وَحُجَّتِي ... إِذَا قِيلَ مَنْ رُبٌّ وَمَنْ كُنْتَ تَتْبَعُ وَمِنْ هَوْلِ يَوْمِ الْحَشْرِ وَالْكَرْبِ نَجِّنِي ... إِذَا الرُّسُلِ وَالأَمْلاكِ وَالنَّاسِ خُشَّعٌ وَيَا سَيِّدِي لا تُخْزِنِي فِي صَحِيفَتِي ... إِذَا الْصَّحْفُ بَيْنَ الْعَالَمِينَ تُوَزَّعُ وَهَبْ لِي كِتَابِي بِالْيَمِينِ وَثَقِّلَنَّ ... لِمِيزَان عَبْدٍ فِي رَجَائِكَ يَطْمَعُ

سعيد بن عامر الجمحي وخبيب

.. وَيَا رَبِّ خَلِّصْنِي مِن النَّارِ إِنَّهَا ... لَبِئْس مَقَرّ لِلْغُوَاة وَمَرْجِعُ أَجِرْنِي أَجِرْنِي يَا إِلَهِي فلَيْسَ لِي ... سُوَاكَ مَفَرٌّ أَوْ مَلاذٌ وَمَفْزَعُ وَهَبْ لِي شِفَاءٌ مِنْكَ رَبِي وَسَيِّدِي ... فَمَنْ ذَا الَّذِي للضُّرِّ غَيْرَكَ يَدْفَعُ فأَنْتَ الَّذِي تُرْجَى لِكَشْفِ مُلَمَّةٍ ... وَتَسْمَعَ مُضْطَرًّا لِبَابِكَ يَقْرَعُ فقَدْ أَعْيتِ الأَسْبَابُ وَانْقَطَعَ الرَّجَا ... سِوَى مِنْكَ يَا مَنْ لِلْخَلائِقِ مَفْزَعُ إِلَيْكَ إِلَهِي قَدْ رَفَعْتُ شِكَايَتِي ... وَأَنْتَ بِمَا أَلْقَاهُ تَدْرِي وَتَسْمَعُ فَفَرِّجْ لَنَا خَطْبًا عَظِيمًا وَمُعْضِلاً ... وَطَرَبًا يَكَادُ الْقَلْبُ مِنْهُ يُصَّدَعُ وَمَاذَا عَلَى رَبِّي عَزِيزٌ وَفَضْلَهُ ... عَلَيْنَا مَدَى الأَنْفَاسِ يَهْمِي وَيَهْمَعُ فَكَمْ مِنَحٍ أَعْطَى وَكَمْ مِحَنٍ كَفَى ... لَهُ الْحَمْدُ وَالشُّكْرَانُ وَالْمِنُّ أَجْمَعُ وَأَزْكَى صَلاةِ اللهِ ثُمَّ سَلامُهُ ... عَلَى الْمُصْطَفَى مَنْ فِي الْقِيَامَةِ يَشْفَعُ اللَّهُمَّ انْهَجْ بِنَا مَنَاهِجَ الْمُفْلِحِين وأَلْبِسْنَا خِلَعَ الإِيمَانِ والْيَقِينَ وَخُصَّنَا مِنْكَ بالتَّوْفِيقِ الْمُبِين وَوَفِّقْنَا لِقَوْلِ الْحَقِّ وإتَّبَاعِهِ وَخَلَّصْنَا مِنْ الْبَاطِل وابْتِدَاعِهِ وَكَنْ لَنَا مَؤَيِّدًا وَلا تَجْعَلْ لِفَاجِرٍ عَلَيْنَا يَدًا وَاجْعَلْ لَنَا عَيْشًا رَغَدًا وَلا تُشْمِتْ بِنَا عَدوًّا وَلا حَاسِدًا وَارْزُقْنَا عِلْمًا نَافِعًا وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً وَفَهْمًا ذَكِيًّا وَطَبْعًا صَفِيًّا وَشِفًا مِنْ كُلّ دَاءٍ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " فَصْلٌ " " سَعِيْدُ بْنُ عَامِرٍ الجُمَحِيُّ وخُبَيْبٌ " خُبَيْبٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ أَحَدُ الْمُعَذَّبِينَ فِي اللهِ الثَّابِتِِينَ عَلَى الإِيمَانِ بِاللهِ ثُبُوتَ الْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ وَمِمَّنْ حَضَرَهُ يَوْمَ قَتْلِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ سَعِيدُ بن عَامِرِ الْجَمَحِيُّ: خَرَجَ إِلَى التَّنْعِيمِ فِي ظَاهِرَةِ مَكَّة بِدَعْوَةٍ مِنْ زُعَمَاءِ قُرَيْش لِيَشْهَدَ

مَعَهُمْ مَصْرَعَ خُبَيْبٍ بن عُدَيٍّ أَحَدَ صَحَابَةِ مُحَمَّدٍ بَعْدَ أَنْ ظَفَرَ بِهِ الأَعْدَاءُ الْمُشْرِكُونَ غَدْرًا. وقَدْ أَقْدَرَهُ اللهُ أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ رُؤْيَةِ أَسِيرِ قُرَيْشٍ مُكَبَّلاً بِقُيُودِهِ يُسَاقُ إِلَى الْمَوْتِ، فَوَقَفَ سَعِيدٌ يَطُلُّ عَلَى خُبَيْبٍ وَهُوَ يُقَدَّمُ إِلَى خَشَبَةِ الصَّلْبِ وَسُمِعَ صَوْتَ خُبَيْبٍِ الثَّابِتُ الْهَادِئُ يَقُولُ إِنْ شَئْتُمْ أَنْ تَتْرُكُونِي أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ مَصْرَعِي فَافْعَلُوا. ثُمَّ نَظَرَ سَعِيدٌ إِلَيْهِ وَهُوَ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَيُصَلَّي رَكْعَتَيْنِ يَا لِحُسْنِهِمَا وَيَا لِتَمَامِهِمَا وَسَمِعَهُ وَهُوَ يَقُولُ: لَوْلا أَنْ تَظُنُوا أَنِّي أَطَلْتُ الصَّلاةَ جَزِعًا مِنَ الْمَوْت لا اسْتَكْثَرْتُ مِنَ الصَّلاةِ. ثُمَّ رَأَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ يُمَثِّلُونَ بِخُبِيْبٍ حَيًّا وَيَقْطَعُونَ مِنْهُ الْقِطْعَةَ تِلْوَ الْقِطْعَةِ وَيَقُولُونَ لَهُ أَتُحِبّ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ مَكَانَكَ وَأَنْتَ نَاجٍ، فيَقُولُ والدِّمَاء تَنْزِفُ مِنْهُ وَالرُّوحُ تَتَسَلَّلُ مِنْ بَدَنِهِ: وَاللهِ مَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ آمِنًا وَادِعًا فِي أَهْلِي وَوَلَدِي وَأَنَّ مُحَمَّدًا يُوخَزُ بِشَوْكَةٍ. وَلا غُرْوَ بِالأَشْرَافِ إِنْ ظَفَرَتْ بِهُمْ ... كِلابُ الأَعَادِي مِنْ فَصِيحٍ وَأَعْجَمِ فَحَرْبَةُ وَحْشِيّ سَقَتْ حَمْزَةَ الرَّدَى ... وَمَوْتُ عَلِيٍّ مِنْ حُسَامِ ابن مُلْجَمِ ثُمَّ أَبْصَرَ سَعِيدٍ بن عَامِر خُبَيْبًا وَهُوَ يَرْفَعُ بَصَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ مِنْ فَوْقِ خَشَبَةِ الصَّلْبِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا وَاقْتُلْهُمْ بِدَدًا وَلا تُبْقِي مِنْهُمْ أَحَدًا. ثُمَّ خَرَجَ رُوحُهُ الطَّيِّبَةُ وَبِهِ الشَيْءُ الْكَبِيرُ مِنْ ضَرَبَاتِ السِّيُوفِ وَطَعَنَاتِ الرِّمَاحِ. ثُمَّ إِنْ سَعِيدَ أَخَذَ دَرْسًا، فَعَلِمَ أَنَّ الْحَيَاةَ الْحَقْةَ عَقِيدَةٌ، وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللهِ حَتَّى الْمَوْتَ، وَعَلِمَ أَنَّ الإِيمَانَ الثَّابِتَ لا يُزِلْزِلَهُ شَيْءٌ الْبَتَّة. وَعَلِمَ أَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي تَبْلُغُ مَحَبَّتُهُ وَالذَّبُّ عَنْهُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ إِنَّمَا هُوَ رَسُولٌ مُؤَيْدٌ مِنَ السَّمَاءِ، عِنْدَ ذَلِكَ شَرَحَ اللهُ صَدْرَ سَعِيد بن عَامِر لِلإِسْلامِ

فَقَامَ فِي مَجْمَعٍ مِنَ النَّاسِ وَأَعْلَنَ بَرَاءَةَ مَا عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ وَهَاجَرَ سَعِيدُ بن عَامِر إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَزَمَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَشَهِدَ مَعَهُ خَيْبَرَ، وَمَا بَعْدَهَا مِنَ الْغَزَوَاتِ. وَلَمَّا تُوُفِيَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ظَلَّ سَيْفًا مَسْلُولاً فِي يَدَيْ خَلِيفَتِيِّ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَكَانَا يَعْرِفَانِ لَهُ صِدْقَهُ وَتَقْوَاهُ. وَلَمَّا آلَتِ الْخِلافَةُ إِلَى عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَتَاهُ سَعِيدُ فَقَالَ لَهُ: يَا عُمَرُ أُوصِيكَ أَنْ تَخْشَى اللهَ فِي النَّاسِ، وَلا تَخْشَى النَّاسَ فِي اللهِ، وَأَنْ لا يُخَالِفَ قَوْلُكَ فِعْلَكَ، فَإِنَّ الْقَوْلَ مَا صَدَّقَهُ الْفِعْلُ. يا عُمَر أَقِمْ وَجْهَكَ لِمَن وَلاكَ اللهُ أَمْرُهُ مِنَ بَعِيدِ الْمُسْلِمِينَ وَقَرِيبِهِمْ، وَأَحِبَّ لَهُمْ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ وَأَهْلِ بَيْتِكَ، وَاكْرَهْ لَهُمْ مَا تَكْرَهُ لِنَفْسِكَ وَأَهْلِ بَيْتِكَ، وَخُضِ الْغَمَرَاتِ إِلَى الْحَقِّ وَلا تَخَفْ فِي اللهِ لَوْمَةَ لائِمٍ. فَقَالَ عُمَر: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ يَا سَعِيدُ؟ فَقَالَ: يَسْتَطِيعُهُ مِثْلُكَ مِمَّنْ وَلاهُمْ اللهُ أَمْرَ أَمَّةِ مُحَمَّدٍ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ أَحَدٌ. عِنْدَ ذَلِكَ دَعَا عُمَرُ سَعِيدًا إِلَى مُسَاعَدَتِهِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّا مُوَلُوكَ حَمْصَ. فَقَالَ: يَا عُمَر نَشَدْتُكَ اللهَ لا تَفْتِنِي. فَغَضَبَ عُمَرُ وَقَالَ: وَيْحَكُمْ وَضَعْتُمْ هَذَا الأَمْرَ فِي عُنُقِي ثُمَّ تَخَلَّيْتُمْ عَنِّي، وَاللهِ لا أَدَعُكَ ثُمَّ أَلْزَمَهُ بِحِمْص وَقَالَ: أَلا نَفْرِضُ لَكَ رِزْقًا؟ : وَمَا أَفْعَلُ بِهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ عَطَائِي مِنْ بَيْتِ الْمَالِ يَزِيدُ عَنْ حَاجَتِي. ثُمَّ مَضَى وَالِيًا عَلَى حِمْص وَمَا مَضَى إِلا زَمَنٌ يَسِيرُ حَتَّى جَاءَ بَعْضُ أَهْلِ حِمْص إِلَى عُمَر فَقَالَ: اكْتُبُوا أَسْمَاءَ الْفُقَرَاءِ عِنْدَكُمْ بِحِمْص حَتَّى أَسُدَّ حَاجَتِهِمْ، فَرَفَعُوا لَهُ كِتَابًا فِيهِ بَعْضُ الْفُقَرَاءِ الْمَوْجُودِينَ بِحِمْص وَمِنْ جُمْلَةِ الْفُقَرَاءِ الْمَكْتُوبِينَ سَعِيد بن عَامِرِ الْجَمَحِيّ.

فَقَالَ عُمَر مَنْ سَعِيد بن عَامِرٍ، فَقَالُوا: أَمِيرُنَا. قَالَ: أَمِيرُكُمْ فَقِيرٌ؟ قَالُوا: نَعَم، وَاللهِ إِنَّهُ لَيَمُرُّ عَلَيْهِ الأَيَّامُ الطِّوَالُ، وَلا يُوقَدُ فِي بَيْتِهِ نَارٌ. فَبَكَى عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بُكَاءً شَدِيدًا، حَتَّى بَلَّتْ دُمُوعُهُ لِحْيَتَهُ. ثُمَّ عَمِدَ إِلَى أَلْف دِينَارٍ فَجَعَلَهَا فِي صُرَّةٍ وَقَالَ: اقْرَؤُا عَلَيْهِ السَّلامَ وَقُولُوا لَهُ يَسْتَعِينُ بِهَذَا عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِهِ فَجَاءُوهُ بِهَا فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا وَأَخْبَرُوهُ، جَعَلَ يُبْعِدُهَا عَنْهُ، وَيَسْتَرْجِعُ. فَجَاءَتْ زَوْجَتَهُ وَقَالَتْ لَهُ: مَا شَأْنُكَ؟ أمَاتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، قَالَتْ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: دَخَلَتْ عَلَيَّ الدُّنْيَا لِتُفْسِدَ آخِرَتِي وَحَلَّتِ الْفِتْنَةِ فِي بَيْتِي. قَالَتْ: تَخَلَّصَ مَنْهَا. قَالَ: هَلْ تُعِينِينِي عَلَى ذَلِكَ. قَالَتْ: نَعَم. فَوَزَّعَهَا عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ لَمْ يَمْضِ إِلا مُدَّةً يَسِيرَةً حَتَّى أَتَى عُمَر عَلَى حِمْصٍ يَتَفَقَّدُهَا وَيَسْأَلُ عَنْ أَمِيرِهِمْ وَسِيرَتِهِ مَعَهُمْ، وَهَلْ نَقَمُوا عَلَيْهِ بشَيْء، فَذَكَرُوا أَرْبَعَ: أحدها: قَالُوا أَنَّهُ لا يخَرَجَ إِلَيْنَا حَتَّى يتَعَالَى النَّهَارَ. فَسَأَلَ عُمَرُ سَعِيدًا: لِمَاذَا؟ فَقَالَ: إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَقُولَ ذَلِكَ، وَلَكِنَ حَيْثُ أَنَّهُ لا بُدَّ مِنْ تَوْضِيحِهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لأهْلِي خَادِمٌ فَأَقُومُ الْصُّبْحَ فَأَعْجِنُ لَهُمْ عَجِينَهُمْ، ثُمَّ انْتَظِرَهُ يَخْتَمِرُ، ثُمَّ أَقُومُ فَأَخْبِزَهُ لَهُمْ، ثُمَّ أَتَوَضَّأُ وَأَخْرَجَ إِلَيْهِمْ. وَأَمَّا الثَّانِيَة: فَقَالُوا: أَنَّهُ لا يُجِيبُ أَحَدًا بِالليْلِ، فَسَأَلَهُ عُمَرُ فَقَالَ: إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَذْكُرُهُ، وَلَكْن لَمَّا أَنَّهُ لا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُ النَّهَارَ لَهُمْ وَلِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ الليْلَ. قَالَ عُمَر: وَمَا هِيَ الثَّالِثَة؟ قَالُوا: أَنَّهُ لا يخَرَجَ يَوْمًا مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ: أَنَّهُ لَيْسَ لي خَادِمٌ، ولَيْسَ عِنْدِي ثِيَابٌ غَيْرَ التِي عَلَيَّ فَأَنَا أَغْسِلُهَا فِي الشَّهْرِ مَرَّة وَأَنْتَظِرُهَا حَتَّى تَجِفَّ، ثُمَّ أَخْرَجُ إِلَيْهِمْ آخِرَ النَّهَارَ.

وَأَمَّا الرَّابِعَة: فَقَالُوا أَنَّهُ تُصِيبَهُ غَشْيَة فِي بَعْضِ الأَوْقَاتِ فَيَغِيبَ عَمَّنْ فِي الْمَجْلِسِ، فَسَأَلَهُ عُمَرُ عَنْهَا فَقَالَ: إِنِّي حَضَرْتُ مَصْرَعَ خُبَيْب بن عَدِيٍّ، وَأَنَا مُشْرِكٌ وَرَأَيْتُ قُرَيْشًا تُقَطِّعُ جَسَدَهُ وَهِيَ تَقُولُ: أَتُحِبُّ أَنْ يَكُونَ مَكَانَكَ مُحَمَّدًا؟ فَقَالَ: وَاللهِ مَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ آمِنًا وَأَهْلِي وَوَلَدِي وَأَنَّ مُحَمَّدًا تَشُوكُهُ شَوْكَة. فَإِذَا ذَكَرْتُ ذَلِكَ الْمَشْهَدَ وَأَنَّي لَمْ أَنْصُرُهُ ظَنَنْتُ أَنَّ اللهَ لا يَغْفِرَ لِي فَتُصِيبَنِي تِلْكَ الْغَشْيَة. ثُمَّ بَعَثَ لَهُ عُمَرُ بِأَلْف دِينَارٍ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى حَوَائِجِهِ، فَلَمَّا عَلِمَتْ زَوْجَتَهُ قَالَتْ: الْحَمْدُ لله الَّذِي أَغْنَانَا عَنْ خِدْمَتِكَ أشْتَرِ لَنَا مُؤْنَة وَاسْتَأْجِر لَنَا خَادِمًا فَقَالَ لَهَا: وَهَلْ لَكَ فِيمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: نَدْفَعُهَا إِلَى مَنْ يَأْتِينَا بِهَا وَنَحْنُ أَحْوَجُ مَا نَكُونُ إِلَيْهَا. قَالَتْ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: نُقْرِضُهَا اللهُ قَرْضًا حَسَنًا. قَالَتْ: نَعَم وَجُزِيتَ خَيْرًا فَمَا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ حَتَّى وَزَّعَهَا عَلَى الأَيْتَامِ وَالأرَامِلِ وَالْمَسَاكِينِ. فرَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ لَقَدْ كَانَ مِنَ الَّذِينَ يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفِسِهِمْ. أ. هـ باختصار. شِعْرًا: ... وَمَا النَّاس إِلا رَاحِلُونَ وَبَيْنَهُمْ ... رِجَال ثَوَتْ آثَارُهُمْ كَالْمَعَالِمِ بِعِزَّةِ بَأْسٍ وَطَلاعِ بَصِيرَةٍ ... وَهَزَّةِ نَفْسٍ وَتَسَاع مَرَاحِم حُظُوظُ كَمَالٍ أَظْهَرَتْ مِنْ عَجَائِبِ ... بِمْرَآتِ شَخْص مَا اخْتَفَى فِي الْعَوَالِمِ وَمَا يَسْتَطِيعُ الْمَرْءُ يَخْتَصُّ نَفْسَهُ ... أَلا إِنَّمَا التَّخْصِيصُ قِسْمَةُ رَاحِمٍ وَمَنْ عَرِفَ الدُّنْيَا تَيَقَّنَ أَنَّهَ ... مَطِيَّةُ يَقْظَانٍ وَطِيْفَةُ حَالِمٍ فَلِلهِ سَاعٍ فِي مَنَاهِجِ طَاعَة ... لإِيَلاف عَدْل أَوْ لإتْلافِ ظَالِمِ اللَّهُمَّ طَهِّرْ قُلُوبَنَا مِنَ النِّفَاقِ وَاخَلْصْ عَمَلَنَا مِنَ الرِّيَاءِ وَمَكْسَبْنَا مِنَ الرِّبَا وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْهَا عَلَى طَاعَتِكَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا، اللَّهُمَّ اعْطِنَا مِنَ الْخَيْرِ فَوْقَ مَا نَرْجُو وَاصْرِفْ عَنَّا مِنَ السُّوءِ فَوْقَ مَا نَحْذَرُ. اللَّهُمَّ عَلِّقْ قُلُوبَنَا بِرَجَائِكَ وَاقْطَعْ رَجَاءَنَا عَمَّنْ سِوَاكَ. اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ عُيُوبَنَا فَاسْتُرْهَا، وَتَعْلَمُ

البراء بن مالك الأنصاري

حَاجَاتَنَا فَاقْضِهَا كَفَى بِكَ وَلِِيًّا وَكَفَى بِكَ نَصِيرًا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ. اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِسُلُوكِ سَبيلَ عِبَادِكَ الأَخْيَارِ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِيينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " فَصْلٌ ": لِلْبَرْاءِ بن مَالِك الأَنْصَارِيّ أَخُو أَنَسِ بن مَالِكِ خَادِمِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ الْبَراءُ شُجَاعًا قَتَلَ مَائَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ مُبَارَزَةً وَهُوَ وَحْدُهُ غَيْرَ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ فِي غِمَارِ الْمَعَارِكِ مَعَ الْمُحَارِبِينَ. وَبَعْد أَنْ الْتَحَقَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِالرَّفِيقِ الأَعْلَى ارْتَدَّ قَبَائِلٌ مِنَ الْعَرَبِ وَخَرَجُوا مِنَ الإِسْلامِِ، وَلَمْ يَبْقَ إِلا أَهْلُ مَكَّةِ وَالْمَدِينَةِ، وَجَمَاعَاتٍ مُتَفَرِّقَة هُنَا وَهُنَاكَ مِمَّنْ ثَبِّتْ اللهُ قُلُوبَهُمْ عَلَى الإِيمَانِ. وَصَمَدَ الصَّدِيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِهَذِهِ الْفِتْنَةِ الْمُدَمِّرَةِ الْعَمْيَاءِ صُمُودَ الْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ، وَجَهَّزَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ أَحَدَ عَشَرَ جَيْشًا. وَعَقَدَ لِقَادَةِ هَذِهِ الْجُيُوشِ أَحَدَ عَشَرَ لِوَاءَ وَدَفَعَ بِهِمْ فِي أَرْجَاءِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ لِيُعِيدُوا الْمُرْتَدِّينَ إِلَى سَبِيلِ الْهُدَى وَالْحَقِّ. وَكَانَ أَقْوَى الْمُرْتَدِّينَ بَأْسًا وَأَكْثَرُهُمْ عَدَدًا بَنُوا حَنِيفَةَ، أَصْحَاب مُسَيْلَمَة الْكَذَّاب فقَدْ اجْتَمَعَ مَعَ مُسَيْلَمَة مِنْ قَوْمِهِ وَحُلَفَائِهِ أَرْبَعُونَ أَلْفَ وَكَانَ أَكْثَرُهُمْ قَدْ اتَّبَعُوا مُسَيْلَمَة عَصَبِيَّة لا إِيمَانًا بِهِ. فلِذَلِكَ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ وَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُسَيْلَمَةَ كَذَّابٌ وَمُحَمَّدًا صَادِقٌ لَكِنْ كَذَابَ رَبِيعَة أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ صَادِقِ مُضْرٍ: قَدَرَ اللهُ أَن جَيْشَ مُسَيْلَمَة يَهْزِمُ أَوْلَ جَيْشٍ خَرَجَ إِلَيْهِ مِنْ جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ بِقِيَادَةِ عَكْرِمَة بن أَبِي جَهْلٍ. فَأَرْسَلَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ جَيْشًا ثَانِيًا بِقِيَادَةِ خَالِدِ بن الْوَلِيدِ حَشَدَ فِيهِ وُجُوهَ الصَّحَابَةِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ.

وَكَانَ فِي طَلِيعَةِ هَؤلاءِ الْبَرَاءُ بن مَالِكِ الأَنْصَارِي وَنَفَرٌ مِنْ كُُمَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْتَقَى الْجَيْشَانِ فِي أَرْضِ الْيَمَامَةِ، فَمَا هُوَ إِلا أَنْ رَجَحَتْ كَفَّةُ مُسَيْلِمَة وَأَصْحَابِهِ وَزُلْزَلَتْ الأَرْضُ تَحْتَ أَقْدَامِ الْمُسْلِمِينَ وَطَفِقُوا يَتَرَاجَعُونَ عَنْ مَوَاقِفِهِمْ حَتَّى اقْتَحَمَ قَوْمُ مُسَيْلَمَة وَمَنْ مَعَهُ فَسْطَاد خَالِدِ بن الْوَلِيدِ وَاقْتَلَعُوهُ مِنْ أُصُولِهِ. عَنْدَ ذَلِكَ شَعَرَ الْمُسْلِمُونَ بِالْخَطَرِ الدَّاهِمِ وَأَدْرَكُوا أَنَّهُمْ إِنْ يُهْزَمُوا أَمَامَ مُسَيْلَمَة فَلَنْ تَقُومَ لِلإِسْلامِ قَائِمَةً، وَهَبَّ خَالِدٌ إِلَى جَيْشِهِ فَأَعَادَ تَنْظِيمِهِ فَمَيَّزَ الْمُهَاجِرِينَ عَنْ الأَنْصَارِ، وَمَيَّزَ أَبْنَاء الْبَوَادِي عَنْ هَؤلاءِ وَهَؤلاءِ، وَجمَعَ أَبْنَاءَ كُلَّ أَبٍّ تَحْتَ رَايَةٍ وَاحِدَةٍ لِيُعْرَفَ بَلاءُ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ، وَلْيُعْلَمْ مِنْ أَيْنَ أَتَى الْمُسْلِمُونَ. ثُمَّ دَارَتْ رَحَى الْحَرْبِ مَعْرَكَةً ضَرُوسٍ لَمْ يُعْرَفْ لَهَا نَظِيرٌ، وثَبَتَ قَوْمُ مُسَيْلَمَة فِي سَاحَاتِ الْوَغَى ثُبُوتَ الْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ وَلَمْ يُبَالُوا بِكَثْرَةِ مَا قُتِلَ مِنْهُمْ، وَأَبْدَى الْمُسْلِمُونَ مِنَ الشَّجَاعَةِ وَالْبُطُولَةِ مَا لَوْ جُمِعَ لكَانَ مَلْحَمَة مِنْ رَوَائِعِ الْمَلاحِمِ. فَهَذَا ثَابِتٌ بن قَيْس حَامِلُ لِوَاءَ الأَنْصَارِ يَتَحَنَّطُ وَيَتَكَفَّنُ وَيَحْفُرُ لِنَفْسِهِ حُفْرَةً فِي الأَرْضِ فَيَنْزِلُ فِيهَا إِلَى نِصْفِ سَاقِهِ وَيَبْقَى ثَابِتًا يُجَالِدُ عَنْ رَايَةِ قَوْمِهُ حَتَّى خَرَّ صَرِيعًا شَهِيدًا. وَهَذَا زَيْدُ بن الْخَطَّابِ أَخُو عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يُنَادِي فِي الْمُسْلِمِينَ أَيُّهَا النَّاسُ عُضُّوا عَلَى أَضْرَاسِكُمْ وَاضْرِبُوا فِي عَدِوِّكَمْ وَامْضُوا قُدُمًا، أَيُّهَا النَّاسُ وَاللهِ، لا أَتَكَلَّمُ بَعَدَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَبَدًا حَتَّى يُهْزَم مُسَيْلَمْة أَوْ أَلْقَى اللهُ فَأُدْلِي إِلَيْهِ بِحُجَّتِي، ثُمَّ كَرَّ عَلَى قَوْمِهِ فَمَا زَالَ يُقَاتِلُ حَتَّى قُتِلَ. وَهَذَا سَالِمُ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَة يَحْمِلُ رَايَةَ الْمُهَاجِرِينَ فَيَخْشَى عَلَيْهِ قَوْمُهُ أَنْ

يَضْعَفَ أَوْ يَتَزَعْزَعَ فَقَالُوا لَهُ: إِنَّا لَنَخْشَى أَنْ نُؤْتَى مِنْ قِبَلَكَ فَقَالَ: إِنْ أُتِيتُمْ مِنْ قِبَلِي فَبِئْسَ حَامِلُ الْقُرْآنُ أَكُونُ، ثُمَّ كَرَّ عَلَى أَعْدَاءِ اللهِ كَرَّةً بَاسِلَةً حَتَّى أُصِيبَ. فَلَمَّا رَأَى خَالِدُ أَنَّ الْوَطِيسَ حَمَى وَاشْتَدَّ الْتَفَتَ إِلَى الْبَرَاءِ بن مَالِك وَقَالَ: إِلَيْهِمْ يَا فَتَى الأَنْصَارِ، فَالْتَفَتَ الْبراءُ إِلَى قَوْمِهِ وَقَالَ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ لا يُفَكِّرَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِالرُّجُوعِ إِلَى يَثْرِبَ، فَلا مَدِينَةَ لَكُمْ بَعْدَ الْيَوْمِ، وَإِنَّمَا هُوَ اللهُ وَحْدَهُ، ثُمَّ الْجَنَّة. ثُمَّ حَمَلَ عَلَى الأَعْدَاءِ وَحَمَلُوا مَعَهُ وَانْبَرَى يَشُقُّ الصُّفُوفَ، وَيَعْمَلُ السَّيْف فِي رِقَابِ أَعْدَاءِ اللهِ حَتَّى زُلْزِلَتْ أَقْدَامُ مُسَيْلَمَةٍ وَأَصْحَابِهِ، فَلَجَؤُوا إِلَى الْحَدِيقَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِحَدِيقَةِ الْمَوْتِ لِكَثْرَةِ مَنْ قُتِلَ فِيهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَأَغْلَقَ مُسَيْلَمَةُ وَآلافٌ مَعَهُ مِنْ جُنْدِهِ الأَبْوَابِ وَتَحَصَّنُوا بِعَالِي جُدْرَانِهَا وَجَعَلُوا يُمْطِرُونَ الْمُسْلِمِينَ بِنِبَالِهِمْ مِنْ دَاخِلِهَا فَتَتَسَاقَطُ عَلَيْهمْ تَسَاقُطَ الْمَطَر. عَنْدَ ذَلِكَ تَقَدَّمَ الْبَرَّاءُ بن مَالِكٍ وَقَالَ: يَا قَوْمِ ضَعُونِي عَلَى تِرْسٍ وَارْفَعُوا التِّرْسَ عَلَى الرِّمَاحِ ثُمَّ اقْذِفُونِي بِالْحَدِيقَةِ قَرِيبًا مِنْ بَابِهَا فَأَمَّا أَنْ أُسْتشهدَ وَإمَّا أَنْ أَفْتَحَ الْبَابَ. وَفِي زَمَنٍ يَسِيرٍ جَلَسَ الْبراءُ عَلَى التِّرْسِ وَرَفَعَتْهُ الرِّمَاحُ وَأَلْقَتْهُ فِي حَدِيقَةِ الْمَوْتِ قُرْبَ الْبَابِ بَيْنَ الآلافِ الْمُؤَلَّفَة مِنْ جُنْدِ مُسَيْلَمَةٍ. فَنَزَلَ عَلَيْهُمْ نُزُولَ الصَّاعِقَة فَجَالَدَهُمْ أَمَامَ بَابِ الْحَدِيقَةِ حَتَّى قَتَلَ عَشْرَةً مِنْهُمْ، وَفَتَحَ الْبَابَ لِلْمُسِلِمِينَ وَبِهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ جِرَاحَةٌ فَتَدَفَّقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْحَدِيقَةِ مِنْ حِيطَانِهَا وَأَبْوَابِهَا وَاعَمَلُوا السِّيُوفَ فِي رِقَابِ الْمُرْتَدِينَ حَتَّى قَتَلَوا مِنْهُمْ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا وَوَصَلُوا إِلَى مُسَيْلَمَة الْكَذَّابِ فَقَتَلُوهُ. ثُمَّ حَمَلُوا الْبَرَاءَ بن مَالِكٍ إِلَى رَحْلِهِ لَيُدَاوَى فِيهِ وَأَقَامَ عَلَيْهِ خَالِدُ بن الْوَلِيد شَهْرًا يُعَالِجَهُ حَتَّى أَذِنَ اللهُ لَهُ بِالشِّفَاءِ وَظَلَّ الْبراءُ بَعْدُ ذَلِكَ يَتَمَنَّى الشَّهَادَةَ الَّتِي فَاتَتْهُ يَوْمَ الْحَدِيقَةِ حَتَّى فَتَحَ تَسْتر مِنْ بِلادِ الْفُرْسِ فِي إِحْدَى الْقِلاع الْمُمَرَّدَة.

فَحَاصَرَهُمْ الْمُسْلِمُونَ وَأَحَاطُُوا بِهُمْ فَلَمَّا طَالَ الْحِصَارُ وَاشْتِدَّ الْبَلاءُ عَلَى الْفُرْسِ جَعَلُوا يَدُلُّونَ مِنْ فَوْقِ أَسْوَارِ الْقَلْعَةِ سَلاسِلَ مِنْ حَدِيدٍ عُلِّقَتْ بِهَا كَلالِيب مِنْ فُولاذٍ حُمِيَتْ بِالنَّارِ فَكَانَتَ تَنْشِبُ فِي أَجْسَادِ الْمُسْلِمِينَ وَتَعْلِقُ بِهُمْ فَيَرْفَعُونَهُمْ إِلَيْهِمْ إِمَّا مَوْتَى وَإِلا عَلَى الْمَوْتِ فَعَلَقَ كَلُوبٌ مَنْهَا بِأَنَس بن مَالِكِ أَخِي الْبَرَاءِ بن مَالِكِ. فَوَثَبَ الْبَراءُ عَلَى جِدَارِ الْحِصْنِ وَأَمْسَكَ السِّلْسِلَةَ الَّتِي مَسَكَتْ أَخَاهُ وَجَعَلَ يُعَالِجُ الْكِلابَ لِيُخْرِجَهُ مِنْ جَسَدِ أَخِيهِ وَأَخَذَتْ يَدَاهُ تَحْتَرِقُ فَلَمْ يُبَالِ إِلَى أَنْ خَلَّصَ أَخَاهُ وَهَبَطَ إِلَى الأَرْضِ بَعْدَ أَنْ صَارَتْ يَدَهُ عِظَامًا لَيْسَ عَلَيْهَا لَحْمٌ ثُمَّ دَعَا الْبَراءُ رَبَّهُ أَنْ يَرْزُقُهُ الشَّهَادَةَ فَأَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ وَاسْتَشْهَدَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ. أ. هـ، بِاخْتِصَارٍ مِنْ صُوَرٍ مِنْ حَيَاةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ. شِعْرًا: ... لَهْفِي عَلَى سُرِجَ الدُّنْيَا الَّتِي طُفِئَتْ ... وَلا يَزَالُ لَهَا فِي النَّاسِ أَنْوَارُ لَهْفِي عَلَيْهِمْ رِجَالاً طَالَمَا صَبَرُوا ... وَهَكَذَا طَالِبُ الْعَلْيَاءِ صَبَّارُ لَهْفِي عَلَيْهِمْ رِجَالاً طَالَمَا عَدَلُوا ... بَيْنَ الأَنَامِ وَمَا حَابُوا وَلا مَارُوا مَالُوا يَمِينًا عَنْ الدُّنْيَا وَزَهْرَتُهَا ... لأَنَّهَا فِي عُيُونِ الْقَوْمِ أَقْذَارُ وَصَاحَبُوهَا بِأَجْسَادِ قُلُوبِهِمْ ... طَيْرٌ لَهَا فِي ظِلالِ الْعَرْشِ أَوْكَارُ اللَّهُمَّ قَوِّ مَحَبَتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَثَبِّتْنَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَة وَاجْعَلنَا هُدَاهً مُهْتَدِينَ سِلْمًا لأَوْلِيَائِكَ حَرْبًا لأَعْدَائِكَ، اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ سِرَّنَا وَعَلانِيَّتِنَا وَتَسْمَعُ كَلامَنَا وتَرَى مَكَانَنَا لا يَخْفَى عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِنَا نَحْنُ الْبُؤَسَاءُ الْفُقَرَاءُ إِلَيْكَ الْمُسْتِغِيثُونَ الْمُسْتَجِيرُونَ بِكَ نَسْأَلُكَ أَنْ تُقَيِّضَ لِدِينِكَ مَنْ يَنْصُرُهُ وَيُزِيلُ مَا حَدَثَ مِنَ الْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَيُقِيمُ عَلَمَ الْجِهَادِ وَيَقْمَعُ أَهْلَ الزَّيْغِ وَالْكُفْرِ وَالْعِنَادِ وَنَسْأَلُكَ أَنْ تَغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

أم سلمة رضي الله عنها

" قِصَة " لأُمِّ سَلَمَة وَمَا حَصلَ لَهَا مِنَ الأَذَى اسْمَهَا هِنْدُ بنْتُ أَبِي أمية سَيِّدٌ مِنْ سَادَاتِ مَخْزُومٍ الْمَرْمُوقِينَ وَجَودًا يُقَالَ لَهُ زَادَ الرَّاكِبِ لأَنَّهُ إِذَا سَافَرَ لا يَتْرُكُ أَحَدًا يُرَافِقَهُ وَمَعَهُ زَادٌ بَلْ يَقُومُ بِرِفْقَتِهِ مِنَ الزَّادِ، وَزَوْجُ أُمِّ سَلَمَةَ عَبْدُ اللهِ بن عَبْدَ الأَسَدِ أَحَدُ الْعَشْرَةِ السَّابِقِينَ إِلَى الإِسْلامِ لَمْ يُسْلِمْ قَبْلَهُ إِلا أَبُو بَكْرٍ وَنَفَرٌ قَلِيلٌ. أَسْلَمَتْ أُمُّ سَلَمَةَ مَعَ زَوْجِها فَكَانَتْ هِيَ الأُخْرَى مِنَ السَّابِقَاتِ إِلَى الإِسْلامِ، وَلَمَّا شَاعَ خَبَرُ إِسْلامِهَا هَاجَتْ قُرَيْشٌ وَجَعَلَتْ تَصُبُّ عَلَيْهِمَا الأَذَى الشَّدِيدِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ بِهِمَا وَلَمْ يُزَلْزِلْهُمَا وَلَمْ يَتَرَدَّدَا. وَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِمَا الأَذَى وَأَذِنَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأَصْحَابِهِ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْحَبَشَةِ كَانَا فِي طَلِيعَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَمَضَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَزَوْجُهَا إِلَى دِيَارِ الْغُرْبَةِ وَخَلَّفَتْ وَرَاءَهَا فِي مَكَّةٍ بَيْتَهَا الْفَسِيحِ الْعَالِي، وَعِزَّهَا الشَّامِخُ، وَأقْرِبَائِهَا وَمَالَهَا مُحْتَسِبَةً الأَجْرَ مِنَ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ مُحْتَقِرَةٌ مَا تَرَكَتْ فِي جَانْبِ مَرْضَاةِ اللهِ. وَبِالرَّغْمِ مِمَّا حَصُلَ لأُمِّ سَلَمَةَ وَمَنْ هَاجَرَ مَعَهَا مِنَ الْحَفَاوَةِ وَالإِكْرَامِ وَالتَّقْدِيرِ، فقَدْ كَانَ الشَّوْقُ يَحْدُوهَا إِلَى مَهْبَطِ الْوَحْي وَإِلَى النَّبِيِّ الْكّرِيمِ. ثُمَّ تَتَابَعَتْ الأَخْبَارِ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي مَكَّةَ قَدْ كَثُرُوا وَاقْتَوُوا وَعُزُّوا، وَأَنَّ إِسْلامَ حَمْزَةَ وَعُمَرَ بن الْخَطَّابِ قَدْ شَدَّ أَزْرَهُمْ وَكَفْكَفَ شَيْئًا مِنْ أَذَى قُرَيْشٍ عَنْ الْمُسْلِمِينَ. فَعَزَمَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى الْعَوْدَةِ إِلَى مَكَّةِ يَحْدُوهُمْ الشَّوْقُ وَيَدْعُوهُمْ الْحَنِينَ، فَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَة وَزَوْجُهَا مَعَ الْعَازِمِينَ عَلَى الْعَوْدَةِ. لَكْنْ سُرْعَانَ مَا تَبَيْنَ لِلْعَائِدِينَ أَنَّ مَا نُقِلَ لَهُمْ مِنَ الأَخْبَارِ أَنَّهُ كَانَ مُبَالَغًا

فِيهِ وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ قَابَلُوا زِيَادَةً الْقُوةِ وَالْعِزَّةِ بِالتَّهَوْرِ وَالتَّفَنُنِ فِي التَّعْذِيبِ وَتَرْوِيعِهِمْ وَإِزْعَاجِهِمْ وَأَذَاقُوهُمْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ. عَنْدَ ذَلِكَ أَذِنَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَصْحَابِهِ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَعَزَمَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَزَوْجُهَا عَلَى الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ لَكِنَّ هِجْرَتَهُمَا لَمْ تَكُنْ كَمَا ظَنَّا أَنَّهَا سَهْلَةٌ بَلْ كَانَتْ صَعْبَةً عَسِرَةً خَلَّفَتْ وَرَاءَهَا مَأْسَاةً تَهُونُ دُونَهَا كُلَّ مَأْسَاةٍ. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: وَلَمَّا عَزَمَ أَبُو سَلَمَة عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَعَدَّ لِي بَعِيرًا، ثُمَّ حَمَلَنِي عَلَيْهِ وَجَعَلَ طَفْلَنَا سَلَمَةَ فِي حِجْرِي، وَمَضَى يَقُودُ بِنَا الْبَعِيرَ، وَهُوَ لا يَلْوي عَلَى شَيْء، وَقَبْلَ أَنْ نََفْصِِلَ عَنْ مَكَّةَ رَأَنَا رِجَالٌ مِنْ قَوْمِي مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ فَتَصَدُّوا لَنَا. وَقَالُوا لأَبِي سَلَمَة: إِنْ كُنْتَ قَدْ غَلَبْتَنَا عَلَى نَفْسِكَ فَمَا بَالُ امْرَأَتَكَ وَهِي بِنْتِنَا، فَعَلامَ نَتْرُكُكَ تَأْخُذهَا مِنَّا وَتَسِيرُ بِهَا ثُمَّ وَثَبُوا عَلَيْهِ وَانْتَزَعُونِي، وَمَا إِنْ رَآهُمْ قَوْمَ زَوْجِي بَنُو عَبْدِ الأَسَدِ يَأْخُذُونَنِي أَنَا وَطِفْلِي حَتَّى غَضِبُوا غَضَبًا شَدِيدًا. وَقَالُوا: لا وَاللهِ لا نَتْرُكَ الْوَلَدَ عِنْدَ صَاحِبَتْكُمْ بَعْدَ أَنْ انْتَزَعْتُمُوهَا مِنْ صَاحِبِنَا انْتِزَعًا فَهُوَ ابْنُنَا وَنَحْنُ أَوْلَى بِهِ، قَالَتْ: ثُمَّ طَفِقُوا يَتَجَاذَبُونَ الطِّفْلَ بَيْنَهُمْ حَتَّى ضَرُّوا يَدَهُ وَأَخَذُوهُ. وَبَعْدَ لَحَظَاتٍ وَجَدْتُ نَفْسِي مُمَزَّقَةَ الشَّمْلِ وَحِيدَةً فَرِيدَةً فَزَوْجِي اتَّجَهَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِرَارًا بِدِينِهِ وَنَفْسِهِ وَوَلَدِي اخْتَطَفَهُ بَنُو عَبْدِ الأسَدِ مِنْ بَيْنَ يَدَيَّ خَطْفًا مُحَطَّمًا مُهَيَّضًا. أَمَّا أَنَا فقَدْ اسْتَوْلَى عَليَّ بَنُو مُخْزُومٍ قَوْمِي وَجَعَلُونِي عِنْدَهُمْ فَفَرَّقَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابَنِي فِي سَاعَةٍ قَالَتْ، وَمَنْ ذَلِكَ جَعَلْتُ أَخْرَجَ كُلَّ غَدَاةٍ إَِلَى الأَبْطَحِ

فَأَجْلِسُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي شَهِدَ مَأْسَاتِي، وَاسْتَعِيدُ فِيهَا صُورَةَ اللحَظَاتِ الَّتِي حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَ زَوْجِي وَوَلَدِي فِيهَا. وَأَظَلُّ أَبْكِي حَتَّى يُخَيَّمَ عَلَيَّ الليلِ وَبَقِيتُ عَلَى ذَلِكَ قَرِيبًا مِنْ سَنَةٍ، قَالَتْ: إِلَى أَنْ مَرَّ بِي رَجُلٌ مِنْ بِنِي عَمِّي فَرَقَّ لِحَالِي وَرَحِمَنِي، قَالَ لِبَنِي قَوْمِي: أَلا تَطْلِقُونَ هَذِهِ الْمِسْكِينَةَ فَرَّقْتُمْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا وَوَلَدِهَا وَمَا زَالَ بِهُمْ حَتَّى قَالُوا لِي: الْحِقِي بِزَوْجِكِ إِنْ شَئْتِ. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: وَلَكِنْ كَيْفَ لِي أَنْ أَلْحِقْ بِزَوْجِي فِي الْمَدِينَةِ وَاتْرُكُ فَلِذَةَ كَبْدِي وَلَدِي فِي مَكَّة عِنْدَ بَنِي عَبْد الأَسَدِ. قَالَتْ: وَرَأَى بَعْضُ النَّاسِ مَا أُعَالَجُ مِنْ أَحْزَانٍ وَأَشْجَانٍ فَرَقَّتْ قُلُوبُهُمْ لِحَالِي وَكَلَّمُوا بَنِي عَبْد الأَسَد فِي شَأْنِي وَاسْتَعْطَفُوهُمْ عَلَيَّ فَرَدُّوا لِي وَلَدِي سَلَمَة. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: فَأَعْدَدْتُ بَعِيرِي وَوَضَعْتُ وَلَدِي فِي حِجْرِي وَخَرَجْتُ مُتَوَجِّهَةً إِلَى الْمَدِينَةِ أُرِيدُ زَوْجِي وَمَا مَعِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ. قَالَتْ: وَمَا وَصَلْتُ التَّنْعِيمَ حَتَّى لَقِيتُ عُثْمَانَ بن طَلْحَة فَقَالَ: إِلَى أَيْنَ يَا بِنْتَ زَادَ الرَّاكِبِ؟ فَقُلْتُ: أُرِيدُ زَوْجِي فِي الْمَدِينَةِ. قَالَ: أَمَا مَعَكِ أَحَدٌ؟ قُلْتُ: لا وَاللهِ إِلا الله. ثُمَّ ابَنِي هَذَا. قَالَ عثمانُ: وَاللهِ لا أَتْرُكِكِ أَبَدًا حَتَّى تَبْلُغِي الْمَدِينَة. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: ثُمَّ أَخَذَ بِخُطَامِ بَعِيرِي وَانْطَلَقَ يَهْوِي بِي قَالَتْ: فوَاللهِ مَا رَأَيْتُ أَكْرَمَ مِنْهُ وَلا أَشْرَفَ وَسَارَ مَعِي حَتَّى بَلَغْنَا الْمَدِينَةَ. فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى الْقَرْيَة بِقِبَاء لِبَنِي عَمْرُو بن عَوْفٍ قَالَ: زَوْجُكِ فِي هَذِهِ الْقَرْيَة فَادْخُلِيهَا عَلَى بَرَكَةِ اللهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إِلَى مَكَّة وَنَزَلَتْ عَلَى زَوْجِهَا وَقَرَّتْ عَيْنُهَا بِهِ وَبِوَلَدِهَا. ثُمَّ بَعْدُ ذَلِكَ شَهِدَ أَبُو سَلَمَةَ بَدْرًا وَعَادَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ انْتَصَرُوا نَصْرًا مُؤْزَّرًا، وَشَهِدَ أُحُدًا وَأَبْلَى بَلاءً حَسَنًا، لَكِنَّهُ خَرَجَ مَنْهَا وَقَدْ جُرِحَ

جُرْحًا بَلِيغًا فَمَا زَالَ يُعَالِجَهُ حَتَّى تَوَارَى لَهُ أَنَّهُ قَدْ انْدَمَلَ وَالْتَأَمَ. لَكِنِ الْجُرْحُ كَانَ بِنَاؤهُ عَلَى فَسَادٍ، فَمَا لَبِثَ أَنْ نَفَرَ وَالْزَمَ أَبَا سَلَمَة الْفَرَاش. وَبَيْنَمَا أَبُو سَلَمَة يُعَالِجُ جَرْحَه قَالَ لِزَوْجَتِهِ: يَا أُمَّ سَلَمَة سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لا يُصِيبُ أَحَدًا مُصِيبَةً فَيَسْتَرْجِعُ عِنْدَ ذَلِكَ ويَقُولُ: «اللَّهُمَّ عِنْدَكَ احْتَسِبُ مُصِيبَتِي هَذِهِ، اللَّهُمَّ اخُلُفْنِي خَيْرًا مَنْهَا إِلا أَعْطَاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ» . وَظَلَّ أَبُو سَلَمَةَ عَلَى فراشِ مَرَضِهِ أَيَّامًا وَفِي ذَات صَبَاحٍ أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى بَيْتِهِ لِيَعُودُهُ، فَلَمْ يَكَدْ يُجَاوِزُ بَابَ الدَّارِ حَتَّى فَارَقَ أَبُو سَلَمَةَ الْحَيَاةَ. فَأَغْمَضَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَبَا سَلَمَةَ وَقَالَ: إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ اتْبَعَهُ الْبَصَرُ وَرَفَعَ - صلى الله عليه وسلم - طَرْفُهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَبِي سَلَمَة وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِّينَ وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ وَافْسَحْ لَهُ قَبْرَهُ وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ» . ثُمَّ مَا كَادَتْ تَخْرُجُ مِنْ حِدَادٍ حَتَّى تَتَابَعَ عَلَيْهَا الْخُطَّاب فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ إِلَيْهَا يَخْطُبُهَا فَأَبَتْ أَنْ تَسْتَجِيبَ لَهُ. ثُمَّ تَقَدَمَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ فَرَدَّتْهُ كَمَا رَدَّتْ صَاحِبَهُ. ثُمَّ تَقَدَّمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ فِيَّ خِلالاً ثَلاثًا فَأَنَا امْرَأَةٌ شَدِيدَةُ الْغَيْرَةِ فَأَخَافُ أَنْ تَرَى شَيْئًا مِنِّي يُغْضِبُكَ فَيُعَذِّبُنِي اللهُ. وَأَنَا امْرَأَةٌ قَدْ دَخَلْتُ فِي السِّنِّ وَأَنَا امْرَأَةٌ ذَاتَ عِيالٍ. فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «أَمَّا مَا ذَكَرْتِ مِنْ غِيرتكِ فَإِنِّي أَدْعُو اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُذْهِبَهَا عَنْكَ. وَأَمَّا مَا ذَكَرْتِ فِي السِّنِّ فَقَدْ أَصَابَنِي مِثْلُ الَّذِي أَصَابَكِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتِ مِنَ الْعِيَالِ فَإِنَّمَا عِيَالُكِ عِيَالِي» . ثُمَّ تَزَوَّجُهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَهَا وَاخْلَفَهَا خَيْرًا مِنْ أَبِي سَلَمَة.

قصيدة وعظية

ومُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْم لَمْ تَكُنْ أُمُّ سَلَمَةَ فَقَط، بَلْ كَانَتْ أُمًّا لِلْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا وَجَعَلَ جَنَّةَ الْفِرْدَوْسِ مَثْوَانَا وَمَثْوَاهَا. أ. هـ. اللَّهُمَّ أَنْظِمْنَا فِي سِلْكِ الْفَائِزِينَ بِرِضْوَانِكَ، وَاجْعَلنَا مِنَ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ أَعْدَدْتَ لَهُمْ فَسِيحَ جَنَّاتِكَ، وَادْخِلْنَا بِرَحْمَتِكَ فِي دَارِ أَمَانِكَ، وَعَافِنَا يَا مَوْلانَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة مِنْ جَمِيعِ الْبَلايَا وَاجْزِلْ لَنَا مِنْ مَوَاهِبِ فَضْلِكَ وَهِبَاتِكَ وَمَتِّعْنَا بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. فَيَا وَيْحَ مَنْ شَبَّتْ عَلَى الزَّيْغِ نَفْسُهُ ... إِلَى أَنْ دَهَاهَا الشَّيْبُ وَهُوَ نَذِيرُ وَمَاتَ وَمَا لاقَى سِوَى الْخِزْي وَالشَّقَا ... وَوَبَّخَهُ بَيْنَ الْقُبُورِ نَكِيرُ وَلاقَى إِلَهَ الْعَرشِ فِي ثَوْبِ حَسْرَةٍ ... وَقَدْ كَانَ فِي ثَوْبِ الْغُرُورِ يَدُورُ فَقَالَ خُذُوهُ لِلْجَحِيمِ مُكَبَّلاً ... وَصِلُوهُ نَارًا إِنَّهُ لَكَفُورَ وَيَا فَوْزَ مَنْ أَدَّى مَنَاسِكَ دِينِهِ ... وَعَاشَ سَلِيمُ الْقَلْبِ وَهُوَ طَهُورُ وَتَابِعَ دِينَ الْحَقِّ فِقْهًا وَحِكْمَةً ... وَلَبِّي نَدَاءَ اللهِ وَهُوَ شَكُورُ فهَذَا الَّذِي فِي الْخُلْدِ يَنْعَمُ بَالُهُ ... وَتَحْظَوْا بِهِ بَيْنَ الأَرَائِكِ حُورُ فَلا تُهْمِلُوا يَا قَوْمِ آدَابَ دِينِكُمْ ... فَهَجْرُ طَرِيقِ الأَنْبِيَاءِ فُجُورُ وَمَا الْعَيْشُ إِلا غَمْضَةٌ وَالْتِفَاتِةٌ ... وَحُلْوُ أَمَانِي فَوْتُهَنَّ مَرِيرُ وَمَا الْمَرْءُ إِلا طَائِرٌ وَجَنَاحُهُ ... مُرُووْ لَيَالِي الْعُمْرِ وَهُوَ قَصِيرُ وَمَا الْمَوْتُ إِلا جَارِحٌ لا يَعُوقُهُ ... إِذَا انْقَضَّ بُنْيَانٌ عَلا وَقُصُورُ وَرَامِي الْمَنَايَا لا تُرَدُّ سِهَامُهُ ... سَوَاءٌ لَدَيْهَا حَاكِمٌ وَحَقِيرُ وإنَّا وَإِنْ عِشْنَا زَمَانًا مُطَوَّلاً ... وَطَابَ لَدَيْنَا الْعَيْشَ وَهُوَ نَظْيرُ فَبَطْنُ الثَّرَى حَتْمًا مَحَطُ رِحَالِنَا ... وَهَلْ ثَمَّ حَيٌّ مَا حَوَتْهُ قُبُورُ وَيَا لَيْتَهَا كَانَتْ نِهَايَةُ ضَعْنِنَا ... وَلَكِنَّ عُقْبَى الظَّاعِنِينَ نُشُورُ

.. وَحَشْرٌ مُهَوَّلٌ وَازْدِحَامٌ بِمَوْقِفٍ ... عَلَى كُلِّ إِخْوَانِ الضِّيَاع عَسِيرُ وَمَصْرَفُهُ سِجْنٌ لِمَنْ عَاشَ لاهِيًا ... بِهِ لَهَبٌ يَشْوِي الحَشَا وَسَعِيرُ وُخُضْرُ جِنَانِ لِلَّذِي مَاتَ تَائِبًا ... وَكَانَ لَهُ فِي الدَّاجِيَاتِ زَفِيرُ فَلا تُسْلِمُوا لِلنَّارِ حَرَّ وُجُوهِكُمْ ... وَلا تُغْضِبُوا الرَّحْمَنَ فَهُوَ غَيُورُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ وَاسْأَلُوهُ حَنَانَهُ ... فَوَاللهِ رَبِّي إِنَّهُ لَغَفُورُ وَلا يَغْتَرِرْ ذُو الْجَاهِ مِنْكُمْ بِجِاهِهِ ... فَأَكْبَرُ عَاتٍ فِي الْمَعَادِ حَقِيرُ وَعَنْ جَاهِهِ وَالْمَال مَنْ مَاتَ ... خَارِجٌ وَأَغْنَى غَنِيٍ إِذْ يَمُوتُ فَقِيرُ وَلا تُلْهِكُمْ دُنْيًا أَبَادَتْ وَأَهْلَكَتْ ... مُلُوكَ قُرُونٍ عَدُّهُنَّ كَثِيرُ وَإِنَّا وَإِنْ كَانَتْ أَسَافِلُ قَوْمَنَا ... تَسَاوَى لَدَيْهُمْ مُؤْمِنٌ وَكَفُورُ وَبَاعُوا بِدُنْيَاهُمْ فَضَائِلَ دِينِهِمْ ... وَفَاسِقُهُمِ لِلْمَاكِرِينَ نَصِيرُ فقَدْ أَسْخَطُوا الرَّحْمَنَ حَتَّى أَهَانَهُمْ ... وَلَيْسَ لَهُمْ لِلإِنْتِقَامِ شُعُورُ فَمِنَّا أُنَاسَ فِي الدَّيَاجِي نَوَاحُهُمْ ... تَبين لَهُمْ عِنْدَ البُكَاء صُخُورُ يُنَادِوْنَ يَا رَحَمْنَ لُطْفًا فَإِنَّنَا ... عَهِدْنَاكَ عَطْفًا لِلْمَلْهُوفِ تُجِيرُ فَيَا مُصْلِحَ الأَحْوَالِ جَمِّلْ شُؤُونَنَا ... فأَنْتَ لإِِصْلاحِ الشُّؤُونِ جَدِيرُ وأَنْتَ إِلَهُ الْعَالَمِينَ بَأَسْرِهِمْ ... وَأَنْتَ سَمِيعٌ عَالِمٌ وَبَصِيرُ فَلا يَأْسَ إِذْ أَنْتَ الْقَدِيرُ وَكُلُّ مَنْ ... تَوَلاهُ يَأْسٌ مِنْكَ فَهُوَ كَفُورُ وَصَلَّ وَسَلِّمْ يَا إِلَهِي تَفَضُّلاً ... عَلَى مَنْ بِذِكْرَاهُ الْقُلُوبُ تُنِيرُ مُحَمَّدُ قُطْبُ الْمَرْسَلِينَ وَمَنْ رَحَى ... رِسَالَتِهِمْ جَمْعًا عَلَيْهِ تَدُورُ اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ طَهِّرْ قُلُوبَنَا مِنَ النِّفَاقِ وَعَمَلَنَا مِنَ الرِّيَاءِ وَأَلْسِنَتَنَا مِنَ الْكَذِبِ وَأَعْيُنَنَا مِنَ الْخِيَانَةِ إِنَّكَ تَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورِ. وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

نماذج من سيرة بعض العلماء المخلصين

نَمَاذِجٌ مِنْ سِيرَةِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْمُخْلَصِينَ وَنُصْحِهِمْ لِوُلاةِ الأُمُورِ وَبُعْدِهِمْ عَنْ الطَّمَعِ وَالْجَشَعِ عَكْسَ مَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ عُلَمَاءِ هَذَا الزَّمَان عَنِ الأَوْزَاعِيِّ عَبْد الرَّحْمَنِ بن عَمْرو قَالَ: بَعَثَ إِلَيَّ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَا بِالسَّاحِلِ فَأَتَيْتُهُ، فَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَيْهِ وَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ بِالْخِلافَةِ، رَدَّ عَلَيَّ وَاسْتَجْلَسَنِي، ثُمَّ قَالَ لِي: مَا الَّذِي أَبْطَأَ بِكَ عَنَّا يَا أَوْزَاعِيُّ. قَالَ: قُلْتُ: وَمَا الَّذِي تُرِيدُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: أُرِيدُ الأَخَذَ عَنْكُمْ وَالاقْتِبَاسَ مِنْكُمْ. قَالَ فَقُلْتُ: فَانْظُرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لا تَجْهَلَ شَيْئًا مِمَّا أَقُولُ لَكَ، قَالَ: كَيْفَ أَجْهَلُهُ وَأَنَا أَسْأَلُكَ عَنْهُ وَفِيهِ وَجَّهْتُ إِلَيْكَ وَأَقْدَمْتُكَ لَهُ. قَالَ: قُلْتُ: أَخَافُ أَنْ تَسْمَعَهُ، ثُمَّ لا تَعْمَلَ بِهِ، قَالَ: فَصَاحَ بِي الرَّبِيعُ وَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى السَّيْفِ، فَانْتَهَرُهُ الْمَنْصُورُ وَقَالَ: هَذَا مَجْلِسُ مَثُوبَةٍ لا مَجْلِسَ عُقُوبَةٍ فَطَابَتْ نَفْسِي، وَانْبَسَطَتُ فِي الْكَلامِ. فقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَدَّثَنِي مَكْحُولٌ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ بِشرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَيُّمَا عَبْدٍ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنَ اللهِ فِي دِينِهِ فَإِنَّهَا نِعْمَةٌ مِنَ اللهِ سِيقَتْ إِلَيْهِ، فَإِنَّ قَبِلَهَا بِشُكْرٍ وَإِلا كانَتْ حُجَّةً مِنَ اللهِ عَلَيْهِ لِيَزْدَادَ بِهَا إِثْمًا وَيَزْدَادَ اللهُ بِهَا سَخَطًا عَلَيْهِ» . يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَدَّثَنِي مَكْحُول عَنْ عَطِيَّةَ بن يَاسِر قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:" أَيُّمَا وَالٍ مَاتَ غَاشًّا لِرَعِيَّتِهِ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّة» . يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ كَرِهَ الْحَقَّ فقَدْ كَرِهَ اللهُ، إِنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ، إِنَّ الَّذِي لَيَّنَ قُلُوبَ أُمَّتُكُمْ لَكُمْ حِينَ وَلاكُمْ أُمُورَهُمْ لِقَرَابَتِكُمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ كَانَ بِهُمْ رَؤوفًا رَحِيمًا مُوَاسِيًا لَهُمْ بِنَفْسِهِ فِي ذَاتِ يَدِهِ مَحْمُودًا عِنْدَ اللهِ وَعَنْدَ النَّاسِ، فَحَقِيقٌ بِكَ أَنْ تَقُومَ لَهُ فِيهِمْ بِالْحَقِّ، وَأَنْ تَكُونَ بِالْقِسْطِ لَهُ فِيهِمْ قَائِمًا وَلِعَوْرَاتِهِمْ سَاتِرًا لا تُغْلَقْ عَلَيْكَ دُونَهُمْ الْحِجَابَ، تَبْتَهِجْ بِالنِّعْمَةِ عِنْدَهُمْ وَتَبْتَئِسْ بِمَا أَصَابَهُمْ مِنْ سُوءٍ.

يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ كُنْتَ فِي شُغْلٍ شَاغِلٍ مِنْ خَاصَّةِ نَفْسِكَ عَنْ عَامَّةِ النَّاسِ الَّذِينَ أَصْبَحْتَ تَمْلِكُهُمْ أَحْمَرَهُمْ وَأَسْوَدَهُمْ مُسْلِمَهُمْ وَكَافِرَهُمْ وَكُلٌّ لَهُ عَلَيْكَ نَصِيبٌ مِنَ الْعَدِلِ، فَكَيْفَ بِكَ إِذَا انَبْعَثَ مِنْهُمْ فِئَامٌ، ولَيْسَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلا وَهُوَ يَشْكُو بَلِيَّةً أَدْخَلْتَهَا عَلَيْهِ أَوْ ظَلامَةً سُقْتَهَا إِلَيْهِ. يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَدَّثَنِي مَكْحُولٌ عَنْ عُرْوَةَ بن رُوَيْم قَالَ: كَانَ بِيَدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جَرِيدَةٌ يَسْتَاكُ بِهَا وَيُرَوِّعُ بِهَا الْمُنَافِقِينَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدٌ مَا هَذِهِ الْجَرِيدَةُ الَّتِي كَسَرْتَ بِهَا قُلُوبَ أُمَّتِكَ وَمَلأْتَ قُلُوبَهُمْ رُعْبًا؟ فَكَيْفَ بِمَنْ شَقَّقَ أَسْتَارَهُمْ وَسَفَكَ دِمَاءَهُمْ وَخَرَّبَ دِيَارَهُمْ، وَأَجْلاهُمْ عَنْ بِلادِهِمْ وَغَيَّبَهمْ الْخَوْفُ مِنْهُ. يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَدَّثَنِي مَكْحُولُ عَنْ زِيَادةِ عَنْ حَارِثَةَ عَنْ حَبِيبِ بن مَسْلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دَعَا إِلَى الْقِصَاصِ مِنْ نَفْسِهُ فِي خَدْشٍ خَدَشَهُ أَعْرَابِيٌّ لَمْ يَتَعَمَّدَهُ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدٌ إِنَّ اللهَ لَمْ يَبْعَثَكَ جَبَّارًا وَلا مُتَكَبِّرًا. فَدَعَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الأَعْرَابِيَّ فَقَالَ: «اقْتَص مِنِّي» . فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ قَدْ أَحْلَلْتُكَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، وَمَا كُنْتُ لأَفْعَلَ ذَلِكَ أَبَدًا، وَلَوْ أَتَيْتَ عَلَى نَفْسِي. فَدَعَا لَهُ بخَيْرٍ. يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رَضِّ نَفْسَكَ لِنَفْسِكَ، وَخُذْ لَهَا الآمَانَ مِنْ رَبِّكَ وَارْغَبْ فِي جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَات وَالأَرْض، الَّتِي يَقُولُ فِيهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَقَيْدُ قَوْسِ أَحَدِكمْ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» . يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ الْمُلْكَ لَوْ بَقِيَ لِمَنْ قَبْلكَ لَمْ يَصِلْ إِلَيْكَ، وَكَذَا لا يِبْقَى لَكَ كَمَا لَمْ يَبْقَ لِغَيْرِكَ. يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَدْرِي مَا جَاءَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَة عَنْ جَدِّكَ {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} قَالَ: الصَّغِيرَةُ التَّبَسُّم وَالْكَبِيرةُ

الضَّحِك. فَكَيْفَ بِمَا عَمِلَتْهُ الأَيْدِي وَحَصَدَتْهُ الأَلْسُنُ. يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَوْ مَاتَتْ سِخْلَةٌ عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ ضُيِّعَتْ لَخَشِيتُ أَنْ أُسْأَلَ عَنْهَا، فَكَيْفَ مِمَّنْ حُرِمَ عَدْلُكَ وَهُوَ عَلَى بُسَاطِكَ. يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَدْرِي مَا جَاءَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَة عَنْ جَدِّكَ {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي الزبور: يَا دَاودُ إِذَا قَعَدَ الْخِصْمَانِ بَيْنَ يَدَيْكَ، فَكَانَ لَكَ فِي أَحَدِهُمَا هَوَى، فَلا تَتَمَنَّيَنَ فِي نَفْسِكَ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ لَهُ فَيَفْلَحُ عَلَى صَاحِبِه، فَأَمْحُوكَ عَنْ نُبُوَّتِي ثُمَّ لا تَكُونُ خَلِيفَتِي، وَلا كَرَامَةَ، يَا دَاودُ إِنَّمَا جَعَلْتُ رُسُلِي إِلَى عِبَادِي رُعَاةً كَرُعَاةِ الإِبِلِ، لِعِلْمِهِمْ بِالرِّعَايَةِ وَرِفْقِهِمْ بِالسِّيَاسَةِ لِيَجْبُرُوا الْكَسِيرَ وَيُدَلِّهُوا الْهَزِيلَ عَلَى الْكَلاءِ وَالْمَاءِ. يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّكَ قَدْ بُلِيتَ بِأَمْرٍ لَوْ عُرِضَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ لأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلَنَّهُ وَأَشْفَقْنَ مِنْهُ. يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بن جَابِرَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عُمْرَةَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ اسْتَعْمَلَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَرَآهُ بَعْدَ أَيَّامٍ مُقِيمًا فَقَالَ لَهُ: مَا مَنَعَكَ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى عَمَلِكَ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ لَكَ مِثْلَ أَجْرِ الْمُجَاهَدِ فِي سِبِيلِ اللهِ. قَالَ: لا. ثُمَّ قَالَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا مِنْ وَالٍ يَلِي شَيْئًا مِنْ أُمُورِ النَّاسِ إِلا أُتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيامَة مَغْلُولَةٌ يَدَهْ إِلَى عُنُقِهِ، لا يَفُكَّهَا إِلا عَدْلُهُ، فَيُوقَفُ عَلَى جِسْرٍ مِنَ النَّارِ يَنْتَفِضُ بِهِ ذَلِكَ الْجِسْرِ انْتِفَاضَةً تُزِيلُ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ عَنْ مَوْضِعِهِ، ثُمَّ يُعَادُ فَيُحَاسَبُ، فَإِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَجَا بِإِحْسَانِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا انْحَرَفَ بِهِ ذَلِكَ الْجِسْرُ فَيَهْوَى بِهِ فِي النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِمَّنْ سَمِعْتَ؟ قَالَ: مِنْ أَبِي ذَرٍّ وَسَلْمَانٍ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا عُمَرُ فَسَأَلَهُمَا فَقَالا: نَعَمْ. سَمِعْنَا

مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ عُمَرُ: وَاعُمَرَاهُ مَنْ يَتَوَلاهَا بِمَا فِيهَا. فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَنْ سَلَتَ اللهُ أَنْفَهُ، وَأَلْصَقَ خَدَّهُ بِالأَرْضِ. قَالَ. فَأَخَذَ الْمَنْدِيلَ فَوَضَعَهُ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ بَكَى وَانْتَحَبَ حَتَّى أَبْكَانِي. ثُمَّ قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ سَأَلَ العَبَّاسُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - إِمَارَةَ مَكَّة أَوْ الطَّائِف أَوْ الْيَمَن، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: يَا عَبَّاسٌ يَا عَمَّ النَّبِيِّ نَفْسٌ تُحْيِيهَا خَيْرٌ مِنْ أَمَارَةٍ لا تُحْصِيهَا» . نَصْيحَةٌ مِنْهُ لِعَمِّهِ وَشَفَقَةٌ عَلَيْهِ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لا يُغْنِي عَنْهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِذْ أَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} ، فَقَالَ: «يَا عَبَّاسُ وَيَا صَفِيَّةُ وَيَا فَاطِمَةُ بِنْت مُحَمَّدٍ إِنِّي لَسْتُ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنَّ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ» . وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بن الخطاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لا يَقْسِمُ أَمْرَ النَّاسِ إِلا حَصِيفُ الْعَقْلِ أَرِيبُ الْعَقَدِ، لا يَطَّلَعُ مِنْهُ عَلَى عَوْرَةٍ، لا يُخَافُ مِنْهُ عَلَى حُرَّةٍ، وَلا تَأْخُذُهُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لائِمٍ. وَقَالَ: الأُمَرَاءُ أَرْبَعَةٌ: فَأَمِيرٌ قَوِي ظَلفَ نَفْسَهُ وَعُمَّالَهُ، فَذَلِكَ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ يَدُ اللهِ بَاسِطَةٌ عَلَيْهِ الرَّحْمَة. وَأَمِيرٌ فِيهِ ضَعْفٌ ظَلفَ نَفْسَهُ وَأَرْتَعَ عُمَّالَهُ لِضَعْفِهِ، فَهُوَ عَلَى شَفَاءِ هَلاكٍ إِلا أَنْ يَرْحَمَهُ اللهُ، وَأَمِيرٌ ظَلفَ عُمَّالُهُ لِضَعْفِهِ وَارْتَعَ نَفْسَهُ فذَلِكَ الْحُطَمَة، الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «شَرُّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ» . فَهُوَ الْهَالِكُ وَحْدَهُ، وَأَمِيرٌ أَرْتَعَ نَفْسهُ وَعُمَّالُهُ فَهَلَكُوا جَمِيعًا. وقَدْ بَلَغَنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أَتَيْتُكَ حِين أَمَرَ اللهُ بِمُنَافِخِ النَّارِ فَوُضِعَتْ عَلَى النَّارِ تُسَعَّرُ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَقَالَ لَهُ: «يَا جِبْرِيلُ صِفْ لِيَ النَّارَ» . فَقَالَ إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ بِهَا فَأَوْقَدَ عَلَيْهَا أَلْفَ عَامٍ حَتَّى احْمَرَّتْ، ثُمَّ أَوْقَدَ عَلَيْهَا أَلْفَ عَامٍ حَتَّى اصْفَرَّتْ، ثُمَّ أَوْقَدَ عَلَيْهَا أَلْفَ عَامٍ حَتَّى اسْوَدَتْ، فَهِيَ سَوْدَاءٌ مٌظْلِمَةٌ، لا يُضِئُ جَمْرُهَا، وَلا يُطْفَأُ لَهَبُهَا، والَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ

أَنَّ ثَوْبًا مِنْ ثِيابِ أَهْلِ النَّارِ أُظْهِرَ لأَهْلِ الأَرْضِ لَمَاتُوا جَمِيعًا وَلَوْ أَنَّ ذَنُوبًا مِنْ شَرَابِهَا صُبَّ فِي مِيَاهِ الأَرْضِ جَمِيعًا قَتَلَ مَنْ ذَاقَهُ، وَلَوْ أَنْ ذِرَاعًا مِنَ السّلْسلَةِ الَّتِي ذَكَرَ اللهُ وُضِعَ عَلَى جِبَالِ الأَرْضِ جَمِيعًا لَذَابَتْ وَمَا اسْتَقَلَّتْ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلاً ادْخِلَ النَّارَ ثُمَّ أُخْرِجَ مَنْهَا لَمَاتَ أَهْلُ الأَرْضِ مِنْ نَتَنِ رِيحِهِ وَتَشْوِيهِ خَلْقِهُ وَعِظَامِهِ. فَبَكَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَبَكَى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ لِبُكَائِهِ؟ فَقَالَ: أَتَبْكِي يَا مُحَمَّدٌ وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخْرَ، فَقَالَ: «أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا، وَلَمْ بَكَيْتَ يَا جِبْرِيلُ وَأَنْتَ الرُّوحُ الأَمِينُ أَمِينُ الله عَلَى وَحْيِهِ. قَالَ: أَخَافُ أَنْ أُبْتَلِي بِمَا ابْتُلِي بِهِ هَارُوتٌ وَمَارُوتُ، فَهُو الَّذِي مَنَعَنِي مِنَ اتِّكَالِي عَلَى مَنْزِلَتِي عِنْدَ رَبِّي، فَأَكُونُ قَدْ أَمِنْتُ مَكْرَهُ، فَلَمْ يَزَالا يَبْكِيانِ حَتَّى نُودِيَا مِنَ السَّمَاءِ، يَا جِبْرِيلُ، وَيَا مُحَمَّدٌ إِنَّ اللهَ قَدْ أَمْكَنَكُمَا أَنْ تَعْصِيَاهُ، فَيُعَذِبَاكُمَا، وَفَضْلُ مُحَمَّدٍ عَلَى سَائِرِ الأَنْبِيَاءِ كَفَضْلِ جَبْرِيلِ عَلَى سَائِرِ الْمَلائِكَةِ. وقَدْ بَلَغَنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُبَالِي إِذَا قَعَدَ الْخِصْمَانِ بَيْنَ يَدَيّ عَلَى مَنْ مَالَ الْحَقُّ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ، فَلا تُمْهِلْنِي طَرْفَةَ عَيْنٍ. يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ أَشَدَّ الشِّدَّةِ الْقِيامُ للهِ بِحَقِّهِ، وَإِنَّ أَكْرَمَ الْكَرَمِ عَنْ الله التَّقْوَى، وَإِنَّهُ مَنْ طَلَبَ الْعِزَّ بِطَاعَةِ اللهِ رَفَعَهُ اللهُ وَأَعَزَّهُ. وَمَنْ طَلَبَهُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ أَذَلَّهُ، وَوَضَعَهُ، فَهَذِهِ نَصِيحَتِي إِلَيْكَ وَالسَّلامُ عَلَيْكَ، ثُمَّ نَهَضْتُ. فَقَالَ لِي: إِلَى أَيْنَ؟ فَقُلْتُ: إِلَى الْوَلَدِ وَالْوَطَنِ، بِإِذْنِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ شَاءَ اللهُ. فَقَالَ: قَدْ أَذِنْتَ لَكَ، وَشَكَرْتُ لَكَ نَصِيحَتُكَ، وَقَبِلْتُهَا، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ لِلْخَيْرِ وَالْمُعِينُ عَلَيْهِ، وَبِهِ أَسْتَعِينُ، وَعَلَيْهِ أَتَوَكَلُ، وَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الْوَكِيل فَلا تَخْلني بِمُطَالَعَتِكَ إِيَّايَ، بِمِثْلِ هَذَا فَإِنَّكَ الْمَقْبُولُ الْقَوْلَ غَيْرُ الْمُتَهَم فِي النَّصِيحَةِ. قُلْتُ: أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللهُ. وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

" فَصْلٌ " وَلَمَّا اسْتَوْلَى الْمَلِكُ الصَّالِحُ عَلَى دِمَشْقَ اسْتَعَانَ بِالإِفْرِنْجِ، وَاصْطَلَحَ مَعَهُمْ عَلَى أَنْ يُسْعِفُوهُ ضِدَّ أَخِيهِ، مَلْك مِصْرَ وَيُعْطِيهُمْ مُقَابِلَ مَعُونَتِهِمْ صَيْدَا وَقَلْعَةَ الشَّقِيفِ، وَغَيْرِهِا مِنْ حُصُونِ الْمُسْلِمِينَ. وَدَخَلَ الصَّلِيبِيُّونَ دِمَشْقَ، لِشِرَاءِ الصَّلاحِ فَاسْتَفْظَعَ الشَّيْخُ الْعِزُّ بن عَبْدِ السَّلامِ لِذَلِكَ، وَغُمَّ غَمَّا شَدِيدًا، فَأَفْتَى بِتَحْرِيمِ بَيْعِ السِّلاحِ لِلإِفْرِنْجِ، وَتَرَكَ الدُّعَاء لِلسُّلْطَانِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ. وَنَدَّدَ بِخِيَانَةِ السُّلْطَانِ لِلْمُسِلِمِينَ، وَكَانَ مِمَّا دَعَا بِهِ فِي خُطَبِةِ: «اللَّهُمَّ أَبْرِمْ لِهَذِهِ الأُمَّةِ أَمْرَ رُشْدٍ تُعِزُّ فِيهِ وَلِيِّكَ، وَتُذِلُّ بِهِ عَدُوَّكَ، وَيُعْمَلُ فِيهِ بِطَاعَتِكَ، وَيُنْهَى فِيهِ عَنْ مَعْصِيَتِكَ، وَالنَّاسُ يُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَائِهِ "، فَبِمِثْلِ لَمْحِ الْبَرْقِ بَلَّغَ الْجَوَاسِيسُ الْمَلِكَ مَا فَعَلَهُ قَاضِى الْقُضَاةِ. وَمَا أَكْثَرُ الْمُبَلِّغِينَ وَالْمُتَوَدِّدِينَ وَالنَّمَّامِينِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَغَضِبَ السُّلْطَانُ، وَعَزَلَ الشَّيْخُ عَنْ الِقَضَاءِ فَرَحِلَ الشَّيْخُ عَنْ دِمَشْق إِلَى مِصْرَ، وَبَيْنَمَا هُوَ فِي الطَرِيقِ أَرْسَلَ السُّلْطَانُ فِي أَثَرِهِ، فَأَدْرَكَتْهُ رُسُلُ الْمَلِكِ الصَّالِحِ. وَطَلَبُوا مِنْهَ الرُّجُوعَ، وقَالُوا لَهُ: أنَّ السُّلْطَانَ عَفَا عَنْكَ وَسَيَرُدَّكَ إِلَى مَنْصِبِكَ عَلَى أَنْ تَنْكَسِرَ لَهُ وَتَعْتَذِرَ، وَتُقَبِّلُ يَدَهُ. فَقَالَ لَهُمْ الشَّيْخُ: أَنَا مَا أَرْضَى أَنْ يُقَبِّلَ يَدِي، فَضْلاً عَنْ أَنْ أُقَبِّلَ يَدَهُ يَا قَوْمِ أَنْتُمْ فِي وَادِي، وَأنَا فِي وَادِي، ثُمَّ مَضَى فِي طَرِيقِهِ حَتَّى وَصَلَ مِصْرَ. هكَذَا الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ لا تَأْخُذُهُمْ فِي اللهِ لَوْمَةَ لائِمٍ. اللَّهُمَّ قَوِّنَا بِالْيَقِينِ وَامْنَحْنَا التَّوْفِيقَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

" فَصْلٌ ": وَلَمَّا عَلِمَ مُنْذِرُ بن سَعِيدٍ قَاضِي الْجَمَاعَةِ بِقُرْطُبَةِ، أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ النَّاصِرِ بَنَى مَدِينَةَ الزَّهْرَاءِ وَوَضَعَ فِيهَا الصَّرْحَ الْمُمَرْدَ، وَاتَّخَذَ لِقُبْتِهِ قَرَامِيدَ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضْةِ. فَغَضِبَ الشَّيْخُ لِذَلِكَ، وَتَأَلَّمَ لِهَذَا الْبَذَخِ فِي مَالِ الدَّوْلَةِ وَعَلِمَ أَنَّهُ الْمَسْؤُولُ الأَوْلُ أَمَامَ بَدِيعِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْهِي عَنْ هَذَا السَّرْفِ الْمُضِرِّ بِصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. فَجَاءَ إِلَى النَّاصِر وَقَبَّحَ عَمَلَهُ هَذَا وَانَّبَهَ بِقَوْلِهِ: مَا ظَنَنْتُ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَخَزَاهُ اللهُ بَلَغَ بِكَ هَذَا الْمَبْلَغَ، وَلا أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ قِيَادِكَ هَذَا التَّمْكِين حَتَّى أَنْزَلَكَ اللهُ مَنَازِلَ الْكَافِرِينَ مَعَ مَا آتَاكَ اللهُ وَفَضَّلَكَ عَلَى الْعَالَمِينَ. فَاقْشَعَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ النَّاصِر مِنْ قَوْلِ الشَّيْخِ وَقَالَ لَهُ: أنْظُرْ مَاذَا تَقُولُُ؟ كَيْفَ أَنْزَلَنِي مَنَازِلَهُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ ألَيْسَ اللهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَة عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} . فَسَكَتَ النَّاصِرُ وَنَكَّسَ رَأْسَهُ سَاعَةً، وَاغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ مِنَ البُكَاءِ وَصَارَتْ دُمُوعُهُ تَجْرِي عَلَى خَدَّيْهِ وَلِحْيَتِهِ، خَوْفًا مِنَ اللهِ حَيْثُ وَصَلَتْ الْمَوْعِظَةُ الْخَالِصَةُ إِلَى قَلْبِهُ، وَتَأَثّرًا عَظِيمًا لأَنَّهَا مِنْ قَلْبٍ إِلَى قَلْبٍ. ثُمَّ قَالَ لِلْشَيْخِ: جَزَاكَ اللهُ عَنَّا وَعَنِ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، وَأَكْثَرَ فِينَا مِنْ أَمْثَالِكَ، فالَّذِي نَطَقْتَ بِهِ حَقٌّ وَاللهِ وَقَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ يَلْهَجُ بِالاسْتِغْفَارِ ثُمَّ أَمَر بِنَقْصِ سَقْفِ الْقُبَّةِ، وَعَادَ قَرَامِيدُهَا تُرَابًا. فَتَأَمَّلْ يَا أَخِي كَيْفَ أَنَّ سُلْطَانَ الدُّنْيَا وَالْمَادَةِ وَقَفَ خَاشِعًا أَمَامَ هَذَا العَالِمِ الَّذِي لا تَأْخُذُهُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لائِمٍ الَّذِي أَدَّى وَاجِبَهُ عَلَى الْوَجْهِ الأَكْمَلِ مُعْتَمِدًا

عَلَى فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا وَلَوْ كَانَ مِنْ عُلَمَاءِ هَذَا الْعَصْرِ الْمُظْلِمُ لَسَمِعْتَ غَيْرَ هَذَا فَلا حَوْلَ وَلا قُوَةَ إِلا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلِ. اللَّهُمَّ أَحْيِي قُلُوبًا أَمَاتَهَا الْبُعْدُ عَنْ بَابِكَ، وَلا تُعَذِّبْنَا بِأَلِيمِ عِقَابِكَ يَا أَكْرَمَ مَنْ سَمَحَ بِالنَّوَالِ وَجَادَ بِالإِفْضَالِ، اللَّهُمَّ أَيْقِظْنَا مِنْ غَفْلَتِنَا بِلُطْفِكَ وَإِحْسَانِكَ، وَتَجَاوَزْ عَنْ جَرَائِمِنَا بِعَفْوِكَ وَغُفْرَانِكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " فَصْلٌ ": وَذُكِرَ أَنَّهُ قَدِمَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْمَنْصُورُ مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللهُ حَاجًّا فَكَانَ يَخْرُجُ مِنْ دَارِ الْنَدْوَةِ إِلَى الطَّوَافِ فِي آخِرِ الليْلَ، يَطُوفُ وَيُصَلِّي وَلا يُعْلمُ بِهِ، فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرَ، رَجَعَ إِلَى دَارِ النَّدْوَةِ، وَجَاءَ الْمُؤَذِنُونَ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَأُقِيمَتِ الصَّلاةَ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ. فخَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ حِينَ أَسْحَرَ فَبَيْنَمَا هُوَ يَطُوفُ إِذْ سَمِعَ رَجُلاً عِنْدَ الْمُلْتَزِمِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ ظُهُورَ الْبَغْي وَالْفَسَادَ فِي الأَرْضِ، وَمَا يَحُولُ بَيْنَ الْحَقِّ وَأَهْلِهِ مِنْ الظُّلْمِ، وَالطَّمَعِ، فَأَسْرَعَ الْمَنْصُورُ فِي مَشْيِهِ، حَتَّى مَلَءَ مَسَامِعَهُ مِنْ قَوْلِهِ وَفَهِمَ قَوْلُهُ كُلَّهُ. ثُمَّ خَرَجَ فَجَلَسَ نَاحِيَةً مِنَ الْمَسْجِدِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَدَعَاهُ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ وَقَالَ لَهُ: أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ وَأَقْبَلَ مَعَ الرَّسُولِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: مَا هَذَا الَّذِي سَمِعْتُكَ تَقُولُ مِنْ ظُهُورِ الْبَغْيِ وَالْفَسَادِ فِي الأَرْضِ وَمَا يَحُولُ بَيْنَ الْحَقِّ وَأَهْلِهِ مَنْ الطَّمَعِ وَالظُّلْمِ، فَوَاللهِ لَقَدْ حَشَوْتُ مَسَامِعِي مَا أَمْرَضَنِي وَأَقْلَقَنِي. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَمَّنْتَنِي عَلَى نَفْسِي أَنْبَأْتُكَ بِالأُمُورِ مِنْ أُصُولِهَا

وَإِلا اقْتَصَرْتُ عَلَى نَفْسِي فَفِيهَا لِي شُغْلٌ شَاغِلٌ، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ آمِنٌ عَلَى نَفْسِكَ. فَقَالَ الَّذِي دَخَلَهُ الطَّمَعُ حَتَّى حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَقِّ وَإِصْلاحِ مَا ظَهَرَ مِنَ الْبَغْيِ وَالْفَسَاد فِي الأَرْضِ أَنْتَ. فَقَالَ: وَيْحَكَ يَدْخُلُنِي الطَّمَعُ وَالصَّفْرَاءُ وَالْبَيْضَاءُ فِي يَدِي وَالْحُلْوَ وَالْحَامِضَ فِي قَبْضَتِي؟ قَالَ: وَهَلَ دَخَلَ أَحَدًا مِنَ الطَّمَعَ مَا دَخَلَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللهَ تَعَالَى اسْتَرْعَاكَ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ فَأَغْفَلْتَ أُمُورَهُمْ وَاهْتَمَمْتَ بِجَمْعِ أَمْوَالَهُمْ. وَجَعَلْتَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ حِجَابًا مِنْ الْجِصَّ، وَالآجُرِ وَأَبْوابًا مِنَ الْحَدِيدِ وَحَجَبَةً مَعَهُمْ السِّلاحُ ثُمَّ سَجَنْتَ نَفْسَكَ فِيهَا عَنْهُمْ وَبَعَثْتَ عُمْالَكَ فِي جَمْعِ الأَمْوَالِ وَجِبَايَتِهَا. وَاتَّخَذْتَ وُزَرَاءَ وَأَعْوَانًا ظَلَمَةً إِنْ نَسِيتَ لَمْ يُذَكِّرُوكَ وَإِنْ ذَكَرَتَ لَمْ يُعِينُوكَ وَقَوَّيْتَهُمَ عَلَى ظُلْمِ النَّاسِ بِالأَمْوَالِ وَالْكِرَاعِ، وَالسِّلاحِ وَأَمَرْتَ بِأَنْ لا يَدْخُلَ عَلَيْكَ مِنَ النَّاسِ إِلا فُلانٌ وَفُلانٌ سَمَيْتَهُمْ وَلَمْ تَأْمُرْ بِإِيصَالِ الْمَظْلُومِ وَالْمَلْهُوفِ وَلا الْجَائِعِ وَلا الْعَارِي وَلا الضَّعِيفِ وَلا الْفَقِيرِ َوَلا أَحَدٌ إِلا وَلَهُ فِي هَذَا الْمَالِ حَقٌّ. فَلَمَّا رَآكَ هَؤُلاءِ النَّفَرُ الَّذِينَ اسْتَخْلَصْتَهُمْ لِنَفْسِكَ وَآثَرْتَهُمْ عَلَى رَعِيَّتِكَ وَأَمَرْتَهُمْ أَنْ لا يُحْجِبُوا عَنْكَ تُجْبِي الأَمْوَال وَلا تُقَسِّمُهَا قَالُوا: هَذَا قَدْ خَانَ اللهَ فَمَا لَنَا لا نَخُونُهُ وَقَدْ سُخِّرَ لَنَا. فَائْتَمَرُوا عَلَى أَنْ لا يَصِلَ إِلَيْكَ مِنْ عِلْمِ أَخْبَارِ النَّاسِ إِلا مَا أَرَادُوا وَأَنْ لا يَخْرُجُ لَكَ عَامِلٌ فَيُخَالِفُ لَهُمْ أَمْرًا إِلا أَقْصُوهُ حَتَّى تَسْقُطَ مَنْزِلَتهُ وَيَصْغَرُ قَدْرُهُ. فَلَمَّا انْتَشَرَ ذَلِكَ عَنْكَ وَعَنْهُمْ، أَعْظَمُهُمْ النَّاسَ - وَهَابُوهُمْ وَكَانَ أَوْلُ مَنْ صَانَعَهُمْ عُمَّالَكَ بِالْهَدَايَا وَالأَمْوَالِ لِيَتَقَوُّوا بِهُمْ عَلَى ظُلْمِ رَعِيَّتِكَ.

ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ ذَوُو الْقُدْرَةِ وَالثَّرْوَةِ مِنْ رَعِيَّتِكَ لِيَنَالُوا ظُلْمَ مَنْ دُونَهِمْ مِنَ الرَّعِيَّةِ فَامْتَلأَتْ بِلادُ اللهِ بِالطَّمَعِ بَغْيًا وَفَسَادًا وَصَارَ هَؤُلاءِ الْقَوْمُ شُرَكَاءَكَ فِي سُلْطَانِكَ وأَنْتَ غَافِلٌ. فَإِنْ جَاءَ مُتَظِّلِمُ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدُّخُولِ إِلَيْكَ وَإِنْ أَرَادَ رَفْعَ صَوْتَهُ أَوْ قِصَّتَهُ إِلَيْكَ عِنْدَ ظُهُورِكَ وَجَدَكَ قَدْ نَهِيتَ عَنْ ذَلِكَ، وَقَّفْتَ لِلنَّاسِ رَجُلاً يَنْظُرُ فِي مَظَالِمِهِمْ، فَإِنَّ جَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَبَلَّغَ بِطَانَتُكَ سَأَلُوا صَاحِبَ الْمَظَالِمِ أَنْ لا يَرْفَعَ مَظْلَمَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ لِلْمُتَظَلِّمِ بِهِ حُرْمَةٌ وَإِجَابَةٌ لَمْ يُمَكِّنَهُ مِمَّا يُرِيدُ خَوْفًا مِنْهُمْ. فَلا يَزَالُ الْمَظْلُومُ يَخْتَلِفُ إِلَيْهِ وَيَلُوذُ بِهِ وَيَشْكُو، وَيَسْتَغِيثُ وَهُوَ يَدْفَعُهُ وَيَعْتَلِي عَلَيْهِ، فَإِذَا جَهِدَ، وَأُخْرِجَ وَظَهَرْتَ صَرَخَ بَيْنَ يَدَيْكَ فَيُضْرَبُ ضَرْبًا مُبَرِّحًا، لِيَكُونَ نَكَالاً بِغَيْرِهِ، وَأَنْتَ تَنْظُرُ، وَلا تُنْكِرُ وَلا تُغْنِي، فَمَا بَقَاءُ الإِسْلامِ وَأَهْلهِ عَلَى هَذَا. وَلَقَدْ كَانَ بَنُو أُمَيَّة وَكَانَتْ الْعَرَبُ لا يَنْتَهِي إِلَيْهُمْ الْمَظْلُومُ إِلا رُفِعَتْ ظَلامَتُهُ إِلَيْهِمْ، فَيُنْصَفُ وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي مِنْ أَقْصَى الْبِلادِ حَتَّى يَبْلُغَ بَابَ سُلْطَانِهِمْ، فَيُنَادِي يَا أَهْلِ الإِسْلامِ فَيَبْتَدِرُونَهُ مَا لَكَ؟ فَيَرْفَعُونَ مَظْلَمَتَهُ إَلَى سُلْطَانِهِمْ فَيُنْصِفُ. ولَقَدْ كُنْتُ أَسَافِرُ إِلَى أَرْضِ الصِّين وَبِهَا مَلِكٌ فَقَدِمْتُهَا مَرَّةٌ وَقَدْ ذَهَبَ سَمْعُ مَلِكِهِمْ، فَجَعَلَ يَبْكِي. فَقَالَ وُزَرَاؤهُ: مَا لَكَ تَبْكِي لا بَكَتْ عَيْنَاكَ. فَقَالَ: أَمَا إِنِّي لَسْتُ أَبْكِي عَلَى الْمُصِيبَةِ الَّتِي نَزَلَتْ بِي، وَلَكْنْ أَبْكِي لِمَظْلُومٍ يَصْرُخُ بِالْبَابِ فَلا أَسْمَعُ صَوْتَهُ. ثُمَّ قَالَ: أَمَا إِنْ كَانَ ذَهَبَ سَمْعِي فَإِنَّ بَصَرِي لَمْ يَذْهَبْ، نَادُوا فِي النَّاسِ أَلا لا يَلْبِسُ ثَوْبًا أَحْمَرَ إِلا مَظْلُومًا، فكَانَ يَرْكَبُ الْفِيلَ وَيَطُوفُ النَّهَارَ هَلْ يَرَى مَظْلُومًا فَيُنْصِفَهُ.

هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مُشْرِكٌ بِاللهِ، قَدْ غَلَبَتْ رَأْفَتُهُ بِالْمُشْرِكِينَ، وَرِقَتُهُ، عَلَى شُحَّ نَفْسِهُ فِي مُلْكِهِ وَأَنْتَ مُؤْمِنٌ بِاللهِ، وَابْنُ عَمِّ نَبِيِّ اللهِ لا تَغْلِبَكَ رَأْفَتُكَ بِالْمُسْلِمِينَ، وَرَقَّتُكَ عَلَى شُحِّ نَفْسِكَ؛ فَإِنَّكَ لا تَجْمَعُ الأَمْوَالَ إِلا لِوَاحِدٍ مِنْ ثَلاثَةٍ. إِنْ قُلْتُ أَجْمَعُهَا لِوَلَدِي فَقَدْ أَرَاكَ اللهُ عِبَرًا فِي الطِّفْلِ الصَّغِيرِ يَسْقُطُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ وَمَا لَهُ عَلَى الأَرْضِ مَالٌ، وَمَا مِنْ مَالِ إِلا وَدُونُهُ يَدٌ شَحِيحَةٌ تَحْوِيهِ، فَمَا يَزَالُ اللهُ تَعَالَى يَلْطُفُ بذَلِكَ الطِّفْلَ حَتَّى تَعْظُمَ رَغْبَةَ النَّاس إِلَيْهِ، وَلَسْتَ الَّذِي تُعْطِي بَلِ اللهُ يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ. وَإِنْ قُلْتَ: أَجْمَعُ لأُشَيِّدَ سُلْطَانِي فَقَدْ أَرَاكَ اللهُ عِبَرًا فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا جَمَعُوهُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمَا أَعَدُّوا مِنَ الرِّجَالِ وَالسِّلاحِ وَالْكِرَاعِ وَمَا ضَرَّكَ وَوَلَدَ أَبِيكَ مَا كُنْتُمْ فِيهِ مِنْ قِلَّةِ الْجَدَّةِ وَالضَّعْفِ حِينَ أَرَادَ اللهُ بِكُمْ مَا أَرَادَ. وَإِنْ قُلْتَ: أَجْمَعُ لِطَلَبِ غَايَةٍ هِيَ أَجْسَمُ مِنْ الْغَايَةِ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا. فوَاللهِ مَا فَوْقَ مَا أَنْتَ فِيهِ إِلا مَنْزِلَةُ لا تُدْرَكُ إِلا بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ - يُرِيدُ الْجَنَّةَ وَصَدَقَ رَحِمَهُ اللهُ. يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ تَعَاقِبُ مَنْ عَصَاكَ مِنْ رَعِيَّتِكَ بِأَشَدِّ مِنَ الْقَتْلِ؟ قَالَ: لا. قَالَ: فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِالْمَلِكِ الَّذِي خَوَّلَكَ، وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنْ مُلْكِ الدُّنْيَا. وَهَوَ تَعَالَى لا يُعَاقِبُ مَنْ عَصَاهُ بِالْقَتْلِ، وَلَكِنْ يُعَاقِبُ مَنْ عَصَاهُ بِالْخُلُودِ فِي الْعَذَابِ الأَلِيمِ، وَهُوَ الَّذِي يَرَى مِنْكَ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبُكَ وَأَضْمَرَتْهُ جَوَارِحُكَ فَمَاذَا تَقُولُ إِذَا انْتَزَعَ الْمَلِكُ الْحَقُّ الْمُبِينُ مُلْكَ الدُّنْيَا مِنْ يَدَكَ وَدَعَاكَ إِلَى الْحِسَابِ هَلْ يُغْنِي عَنْكَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِمَّا كُنْتَ فَيهِ مِمَّا شَحِحْتَ عَلَيْهِ مِنْ مُلْكِ الدُّنْيَا.

فَبَكَى الْمَنْصُورُ بُكَاءً شَدِيدًا حَتَّى نَحَبَ وَارْتَفَعَ صَوْتُهُ، ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ احْتِيَالِي فِيمَا خُوِّلْتُ فِيهِ وَلَمْ أَرَ مِنَ النَّاسِ إِلا خَائِنًا؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْكَ بالأَئِمَّةِ الأَعْلامِ الْمُرْشِدِينَ. قَالَ: وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ: الْعُلَمَاءُ. قَالَ: قَدْ فَرُّوا مِنِّي، قَالَ: هَرَبُوا مِنْكَ مَخَافَةَ أَنْ تَحْمِلَهُمْ عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ طَرِيقَتِكَ مِنْ قِبَلِ عُمَّالِكَ. وَلَكِنْ افْتَحْ الأَبْوَابَ وَسَهِّلِ الْحِجَابَ، وَانْتَصِرْ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ، وَامْنَعْ الْمَظَالِمَ وَخُذْ الشَّيْءَ مِمَّا حَلَّ وَطَابَ وَاقْسِمْهُ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَأَنَا ضَامِنٌ عَلَى أَنَّ مَنْ هَرَبَ مِنْكَ أَنْ يَأْتِيَكَ، فَيُعَاوِنَكَ عَلَى صَلاحِ أَمْرِكَ، وَرَعِيَّتِكَ. فَقَالَ الْمَنْصُورُ: اللَّهُمَّ وَفِّقَنِي أَنْ أَعْمَلَ بِمَا قَالَ هَذَا الرَّجُلَ وَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَخَرَجَ فَصَلَّى بِهُمْ.. إلخ. شِعْرًا: ... مَا ضَرَّ مَنْ رَهِبَ الْمُلُوكَ لَوْ أَنَّهُ ... رَهِبَ الَّذِي جَعَلَ الْمُلُوكَ مُلُوكًا وَإِذَا رَجَوْتَ لِنِعْمَةً أَوْ نِقْمَةً ... فَارْجُ الْمَلِيكَ وَحَاذِرْ الْمَمْلُوكَا وَإِذَا دَعَوْتَ سِوَى الإلهِ فِإِنَّمَا ... صَيَّرْتُ لِلرَّحْمَنِ فِيكَ شَرِيكًا آخر: ... وَاللهُ بِالْغَيْبِ، وَالتَّقْدِيرِ مُنْفَرِدٌ ... وَمَا سِوَى حُكْمِهِ غَيٌّ وَتَضْلِيلٌ فَلا مُعَجِّلِ للمقضي آجله ... ولَيْسَ لِلْعَاجِلِ الْمقضي تَأْجِيلُ ثِقْ بِالْعَلِيمِ الَّذِي يَقْضِي الأُمُورَ وَلا ... يَغْركَ مَا دُونَهُ؛ فَالْكُلُّ تَعْلِيلُ اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلا مَفْتُونِينَ وَاغْفِرْ لَنَا. اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لِلْقِيَامِ بِحَقِّكَ وَبَارِكْ لَنَا فِي الْحَلالِ مِنْ رِزْقِكَ وَلا تَفْضَحْنَا بَيْنَ خَلْقِكَ يَا خَيْرِ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ، وَأَفْضَلَ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ، يَا قَاضِيَ الْحَاجَاتِ وَمُجِيبَ الدَّعَواتِ هَبْ لَنَا مَا سَأَلْنَاهُ وَحَقِّقْ رَجَاءَنَا فِيمَا تَمَنَّيْنَاهُ يَا مَنْ يَمْلِكُ حَوَائِجَ السَّائِلِينَ وَيَعْلَمُ مَا فِي ضَمَائِرِ الصَّامِتِينَ أَذِقْنَا بَرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةَ مَغْفِرَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. شِعْرًا: ... زِيَادَةُ الْمَرِءِ فِي دُنْيَاهُ نُقْصَانٌ ... وَرِبْحُهُ غَيْر مَحْضِ الْخَيْرِ خُسْرَانُ وَكُلُّ وِجْدَانِ حَظ لا ثَبَاتَ لَهُ ... فَإِنَّ مَعْنَاهُ فِي التَّحْقِيقِ فُقْدَانِ

يَا عَامِرًا لِخَرَابِ الدَّهْرِ مُجْتَهِدًا ... بِاللهِ هَلْ لَخَرَابِ الدَّهْرِ عُمْرَانُ وَيَا حَرِيصًا عَلَى الأَمْوَالِ تَجْمَعُهَا ... أَنَسِيتَ أَنَّ سُرُورَ الْمَالِ أَحْزَانُ رَاعِي الْفُؤادَ عَنْ الدُّنْيَا وَزُخْرُفُهَا ... فَصَفْوُهَا كَدْرٌ وَالْوَصْلُ هُجْرَانُ وَأَرْعَ سَمْعَكَ أَمْثَالاً أَفْصِلُهَا ... كَمَا يُفَصَّلُ يَاقُوتٌ وَمَرْجَانُ أَحْسِنْ إِلَى النَّاسِ تَسْتَعْبِدْ قُلُوبَهُمْ ... فَطَالَ مَا أَسْتَعْبَدَ الإِنْسَانَ إِحْسَانُ يَا خَادِمَ الْجِسْمِ كَمْ تَسْعَى لِخِدْمَتِهِ ... أَتَطْلُبُ الرِّبْحَ مِمَّا فِيهِ خُسْرَانُ أَقْبِلْ عَلَى النَّفْسِ وَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا ... فَأَنْتَ بِالنَّفْسِ لا بِالْجِسْمِ إِنْسَانُ وَإِنْ أَسَاءَ مُسِيئ فَلْيَكُنْ لَكَ فِي ... عُروضِ زَلَّتِهِ عَفْوٌ وَغُفْرَانُ وَكُن عَلَى الدَّهْرِ مِعْوَانًا لِذَي أَمَلٍ ... يَرْجُوا نَدَاكَ فَإِنَّ الْحُرَّ مِعْوَانُ وَأشْدُدْ يَدَيْكَ بِحْبِلِ اللهِ مُعْتَصِمًا ... فَإِنَّهُ الرُّكْنُ إِنْ خَانَتْكَ أَرْكَانُ مَنْ يَتَّقِ اللهَ يُحْمَدُ فِي عَوَاقِبِهِ ... وَيَكْفِيهِ شَرَّ مَنْ عَزُوا وَمَنْ هَانُوا مَنِ اسْتَعَانَ بِغَيْرِ اللهِ فِي طَلَبِ ... فَإِنَّ نَاصِرَهُ عَجْزُ وَخُذْلانُ مَنْ كَانَ للخَيْرِ مَنَّاعًا فلَيْسَ لَهُ ... عَلَى الحَقِيقَةِ إِخْوَانُ وَأَخْدَانُ مَنْ جَادَ بِالْمَالِ مَالَ النَّاسُ قَاطِبَةً ... إِلَيْهِ وَالْمَالُ لِلإِنْسِانِ فَتَّانُ مَنْ سَالَمَ النَّاسَ يَسْلَمْ مِنْ غَوَائِلِهِمْ ... وَعَاشَ وَهُوَ قَرِيرُ الْعَيْنِ خَذْلانُ مَنْ كَانَ لِلْعَقْلِ سُلْطَانٌ عَلَيْهِ غَدَا ... وَمَا عَلَى نَفْسِهُ لِلْحِرْصِ سُلْطَانُ مَنْ مَدَّ طَرْفًا بِفَرْطِ الْجَهْلِ نَحْوَ هَوَى ... أَغْضَى عَلَى الْحَقِّ يَوْمًا وَهُوَ خَزْيَانُ مَنِ إِسْتَشَارَ صُرُوفَ الدَّهْرِ قَامَ لَهُ ... عَلَى حَقِيقَةِ طَبْعِ الدَّهْرِ بُرْهَانُ مَنْ يَزَرَعِ الشَّرَّ يَحْصُدُ فِي عَوَاقِبِهِ ... نَدَامَةً وَلِحَصْدِ الزَّرْعِ إِبَّانُ مَنِ اسْتَنَامَ إِلَى الأَشْرَارِ نَامَ وَفِي ... قَمِيصِهِ مِنْهُوا صِلْ وَثُعْبَانُ كُنْ رَيِّقَ الْبِشْرِ إِنَّ الْحرَّ هِمْتُهُ ... صَحِيفَةٌ وَعَلَيْهَا الْبشرِ عُنْوَانَ وَرَافِقِ الرّققَ فِي كُلِّ الأُمُورِ فَلَمْ ... يَنْدَمْ رَفِيقٌ وَلَمْ يَذْمُمْهُ إِنْسَانُ وَلا يَغُرَّنَكَ حَظٌّ جَرَّهُ خَرَقٌ ... فَالْخَرْقُ هَدْمٌ وَرِفْقُ الْمَرالأ بُنْيَانُ

.. أَحْسِنْ إِذَا كَانَ إِمْكَانٌ وَمَقْدِرَةٌ ... فَلَنْ يَدُومَ عَلَى الإِحْسَانِ إِمْكَانُ فَالرَّوْضُ يَزْدَانُ بِالأَنْوَارِ فَاغِمُهُ ... وَالْحُرُّ بِالْعَدِلِ وَالإِحْسَانِ يَزْدَانُ دَعْ الْحُرَّ وَجْهِكَ لا تَهْتِكْ غَلالَتَهُ ... فَكُلُّ حُرٍّ لِحُرِّ الْوَجْهِ صَوَّانُ لا ضَلَّ لِلْمَرْءِ يَعْرَى مِنْ نُهًى وَتَقًى ... وَإِنْ أَظَلَّلتْهُ أَوْرَاقٌ وَأَفْنَانُ وَالنَّاسُ أَعْوَانُ مَنْ وَلتْهُ دَوْلَتُهُ ... وَهُمْ عَلَيْهِ إِذَا عَادَتْهُ أَعْوَانُ سَحْبَانُ مِنْ غَيْرِ مَالٍ بَأَقِلٌ حَصْرٌ ... بَأَقِلٌ فِي ثَرَاءِ الْمَالِ سَحْبَانُ ولا تُودِعِ السِّرِّ وَشَّاءً بِهِ مَذِلاً ... فَمَا رَعَى غَنَمًا فِي الدَّو سِرْحَانُ لا تَحسَبِ النَّاسَ طَبْعًا وَاحِدًا فَلَهُمْ ... غَرَائِزُ لَسْتَ تُحْصِيهُنَّ أَلْوَانُ مَا كُلُّ مَاءٍ كَصَدَّاءٍ لِوَارِدِهِ ... نَعَمْ وَلا كُلُّ نَبْتٍ فَهُوَ سَعْدَانُ لا تَخْدِشَنَّ بِمَطْلٍ وَجْهَ عَارِفَةٍ ... فَالْبِرُّ يَخْدِشُهُ مَطْلٌ وَلَيَّانُ لا تَسْتَشِرْ غَيْرَ نَدْبٍ حَازِمٍ يَقِظٍ ... قَدْ إسْتَوَى عِنْدَهُ سِرٌّ وَإِعْلانُ فَلتَدَابِيرِ فُرْسَانٌ إِذَا رَكَضُوا ... فِيهَا أَبَرُّوا كَمَا لِلْحَرْبِ فُرْسَانُ وَلِلأُمُورِ مَوَاقِيتٌ مُقَدَّرَةٌ ... وَكُلُّ أَمْرٍٍ لَهُ حَدٌ وَمِيزَانُ فَلا تكَنْ عَجِلاً فِي الأَمْرِ تَطْلبُهُ ... فَلَيْسَ يُحْمَدُ قَبْلَ النُّضْجِ بُحْرَانُ كَفَى مِن الْعَيْشِ مَا قَدْ سَدَّ مِنْ عَوَزٍ ... فَفِيهِ لِلْحُرٍ قُنْيَان وَغُنْيَانُ وَذُوا القَنَاعَةِ رَاضٍ مِنْ مَعِيشَتِهِ ... وَصَاحِبُ الْحِرْصِ إِنْ أَثْرَى فَغَضْبَانُ حَسْبُ الْفَتَى عَقْلُهُ جِلاً يُعَاشِرُهُ ... إِذَا تَحَامَاهُ إِخْوَانٌ وَخِلانُ هُمَا رَضِيعَا لِبانٍ حَكْمَةٌ وَتُقَى ... وَسَاكِنَا وَطَنٍ مَالٌ وَطُغْيَا إِذَا نَبَا بَكَرِيمٍ مَوْطِنٌ فَلَهُ ... وَرَاءَهُ فِي بَسِيطِ الأَرْضِ أَوْطَانُ يَا ظَالِمًا فَرِحًا بِالْعِزِّ سَاعِدَهُ ... إِنْ كُنْتَ فِي سَنَةٍ الدَّهْرُ يَقْضَانُ مَا إسْتَمْرأ الظُّلُمَ لَوْ أَنْصَفَتَ آكَلَهُ ... وَهَلْ يَلَدُّ مَذَاقُ الْمَرْءِ خُطْبَانُ يَا أَيُّهَا الْعَالِمُ المرضُيُ سِيرَتُهُ ... أَبْشِرْ فَأَنْتَ بِغَيْرِ الْمَاءِ رَيَّانُ وَيَا أَخَا الْجَهْلِ لَوْ أَصْبَحْتَ فِي لُجَجٍ ... فَأَنْتَ مَا بَيْنَهَا لا شَكٍّ ضَمْئآنُ

نصيحة أبي حازم لسليمان بن عبد الملك

.. وَلا تَحسبنَّ سُرُورًا دَائِمًا أَبَدًا ... مَن سَرَّهُ زَمَن سَاءتْهُ أَزْمَانُ يَا رَفِلاً فِي الشَّبَابِ الْوَجْفِ مُنْتَشِيًا ... مِنْ كَأْسِهِ هَلْ أَصابَ الرُّشْدَ نَشْوَانُ لا تَغْتَرِرْ بِشَبَابٍ زَائِلٍ خَضَلٍ ... فَكَمْ تَقَدَّمْ قِبْلَ الشَّيْبَ شُبُّانُ وَيَا أَخَا الشَّيْبِ لَوْ نَاصَحْتَ نَفْسَكَ لَمْ ... يَكُنْ لِمْثِلْكِ فِي الإِسْرَافِ إِمْعَانُ هَبِ الشَّيْبَةِ تُبْلَى عُذْرَ صَاحِبها ... مَا عُذْرُ أَشْيبَ يَسْتَهْوِيهِ شَيْطَانُ كَلُّ الذُّنُوب فَإِنَّ الله يَغْفِرُهَا ... إِنْ شَيَّعَ الْمَرْءِ إِخْلاصٌ وِإِيمَانُ وَكُلُّ كَسْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَجْبُرُهُ ... وَمَا لِكَسْرِ قَنَاةِ الدِّينِ جُبْرنُ نَصِيحَة أَبِي حَازِمٍ التَّابِعِي لِسُلَيْمَانٌ بن عَبْدِ الْمَلِكِ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا حَجَّ سُلَيْمَانٌ بن عَبْد الْمَلِكِ وَدَخَلَ الْمَدِينَةِ زَائِرًا لِقَبْرِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَمَعَهُ ابْن شِهَابٍ الزُّهَرِي وَرَجَاءُ بن حَيْوَة، فَأَقَامَ بِهَا ثَلاثَةَ أَيْامٍ، فَقَالَ: أَمَا هَا هُنَا رَجُلٌ مَمَّنْ أَدْرَكَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ فَقِيلَ لَهُ: بَلَى. هَا هُنَا رَجُلٌ يُقَالَ لَهُ أَبُو حَازِمٍ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ فَجَاءَهُ وَهُوَ أَقْوَرُ أَعْرَجُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ سُلَيْمَانٌ إزْدَرَتْهُ عَيْنُهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا حَازِمٍ: مَا هَذَا الْجَفَاءُ الَّذِي ظَهَرَ مِنْكَ وَأَنْتَ تُوصَفُ بِرُؤْيَةِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ فَضْلٍ وَدِينٍ تُذْكَرُ بِهِ. فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: وَأَيُ جَفَاءٌ رَأَيْتَ مِنِّي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ سُلَيْمَانٌ: أَنَّهُ آتَانِي وُجُوهُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَعُلَمَاؤهَا وَخِيَارُهَا، وأَنْتَ مَعْدُودٌ فِيهِمْ وَلَمْ تَأْتِنِي. فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: أُعِيذُكَ بِاللهِ أَنْ تَقُولَ مَا لَمْ يَكُنْ مَا جَرَى بَيْنِي وَبَيْنِكَ مَعْرِفَةٌ آتِيكَ عَلَيْهَا. قَالَ سُلَيْمَانٌ: صَدَقَ الشَّيْخُ. فَقَالَ: يَا أَبَا حَازِمٍ مَا لَنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ؟ فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: لأَنَّكُمْ أَخْرَبْتُمْ آخِرَتَكُمْ، وَعَمَّرْتُمْ دُنْيَاكُمْ، فَأَنْتُمْ تَكْرَهُونَ النَّقْلَةَ مِنَ الْعُمْرَانِ إِلَى الْخَرَابِ! قَالَ سُلَيْمَانٌ: صَدَقْتَ يَا أَبَا حَازِمٍ، فَكَيْفَ الْقُدُومُ عَلَى الآخِرَة؟ قَالَ: نَعَمْ: أَمَّا الْمُحْسِنُ فَإِنَّهُ يَقْدُمُ عَلَى الآخِرَة كَالْغَائِبِ يَقْدُمُ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ سَفَرٍ بَعِيدٍ.

وَأَمَّا قُدُومُ الْمُسِيئُ فَكَالْعَبْدِ الآبِقِ يُؤْخَذُ فَيَشُدّ كِتَافُهُ، فَيُؤْتَى بِهِ إِلَى سَيّدٍ فَظٍّ غَلِيظٍ، فَإِنَّ شَاءَ عَفَا وَإِنْ شَاءَ عَذَبَ! فَبَكَى سُلَيْمَانٌ بُكَاءً شَدِيدًا، وَبَكَى مَنْ حَوْلَهُ. ثُمَّ قَالَ: لَيْتَ شِعْرِي مَا لَنَا عِنْدَ اللهِ يَا أَبَا حَازِمٍ؟ فَقَالَ: اعْرِضْ نَفْسَكَ عَلَى كِتَابِ اللهِ، فَإِنَّكَ تَعْلَمُ مَا لَكَ عِنْدَ اللهِ. قَالَ سُلَيْمَانٌ: يَا أَبَا حَازِمٍ وَأَيْنَ أُصِيبُ تَلْك الْمَعْرِفَةِ فِي كِتَابِ اللهِ؟ قَالَ: عِنْدَ قوله تَعَالَى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ*وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} . قَالَ سُلَيْمَانٌ: يَا أَبَا حَازِمٍ فَأَيْنَ رَحِمَهُ اللهُ؟ قَالَ: «إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ " قَالَ سُلَيْمَانٌ: يَا أَبَا حَازِمٍ: مَنْ أَعْقَلُ النَّاسِ؟ قَالَ أَبُو حَازِمٍ: أَعْقَلُ النَّاسِ مَنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهَا النَّاسَ. قَالَ سُلَيْمَانٌ: فَمَنْ أَحْمَقُ النَّاسِ؟ فَقَالَ: مَنْ حَطَّ فِي هَوَى رَجُلٍ وَهُوَ ظَالِمٌ فَبَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنَيا غَيْرِهِ! قَالَ سُلَيْمَانٌ: فَمَا أَسْمَعُ الدُّعَاء؟ قَالَ أَبُو حَازِمٍ: دُعَاءُ الْمُخْبِتِينَ الْخَائِفِينَ. فَقَالَ سُلَيْمَانٌ: فَمَا أَزْكَى الصَّدَقَةِ عِنْدَ اللهِ؟ قَالَ: جُهْدُ الْمُقِلّ. قَالَ: فَمَا تَقُولُ فِيمَا ابْتُلِينَا بِهِ؟ قَالَ: اعْفِنَا عَنْ هَذَا وَعَنْ الْكَلامِ فِيهِ أَصْلَحَكَ اللهُ. قَالَ سُلَيْمَانٌ: نَصِيحَةٌ تُلْقِيهَا. فَقَالَ: مَا أَقُولُ فِي سُلْطَانٍ اسْتَوْلَى عُنْوَةً بِلا مَشُورَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَلا إجْتِمَاعٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَسُفِكَتِ فِيهِ الدِّمَاءُ الْحَرَامُ، وَقُطِعَتْ بِهِ الأَرْحَامُ، وَعُطِّلَتْ بِهِ الْحُدُودَ، وَنُكِّثَتْ بِهِ الْعُهُودَ، وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى تَنْفِيذِ الطِّينَة، وَالْجَمْعِ وَمَاذَا يُقَالَ لَكُمْ! فَقَالَ بَعْضُ جُلَسَائِهِ: بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا أَقْوَرُ!! أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يُسْتَقْبَلُ بِهَذَا؟ فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: أُسْكُتْ يَا كَاذِب، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ فِرْعَونَ هَامَانُ. وَهَامَانُ فَرْعَوْنَ!

إِنَّ اللهَ قَدْ أَخَذَ عَلَى الْعُلَمَاءِ لَيُبِيّنَنُهُ لِلنَّاسِ وَلا يَكْتُمُونَهُ، أَيْ لا يَنْبُذُونَهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ. قَالَ سُلَيْمَانٌ: يَا أَبَا حَازِمٍ: كَيْفَ لَنَا أَنْ نُصْلِحَ مَا فَسَدَ مِنَّا؟ فَقَالَ: الْمَأْخَذُ فِي ذَلِكَ قَرِيبٌ يَسِيرٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَاسْتَوى سُلَيْمَانٌ جَالِِسًا مِنَ إتِّكَائِهِ فَقَالَ: كَيْفَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: تَأْخُذَ الْمَالِ مِنْ حِلِّهِ، وَتَضَعُهُ فِي أَهْلِهِ، وَتَكُفُّ الأَكَفَّ عَمَّا نُهِيتَ عَنْهُ وَتُمْضِيهَا فِيمَا أُمِرْتَ بِهِ. قَالَ سُلَيْمَانٌ: وَمَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: مَنْ هَرَبَ مِنَ النَّارِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَنَبَذَ سُوءَ الْعَادَةِ إِلَى خَيْرِ الْعِبَادَةِ. فَقَالَ سُلَيْمَانٌ: اصْحِبْنَا يَا أَبَا حَازِمٍ، وَتَوَجَّهَ مَعَنَا تُصِبْ مِنَّا وَنُصِبُ مِنْكَ. فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: أَعُوذُ بِاللهِ من ذَلِكَ!. قَالَ سُلَيْمَانٌ: وَلِمَ يَا أَبَا حَازِمٍ؟ قَالَ: أَخَافُ أَنْ أَرْكَنُ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَيُذِيقُنِي اللهُ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ. فَقَالَ سُلَيْمَانٌ: فَتَزُورُنَا؟ قَالَ أَبُو حَازِمٍ: إِنَّا عَهِدْنَا الْمُلُوكَ يَأْتُونَ عَلَى الْعُلَمَاءِ، وَلَمْ يَكُنِ الْعُلَمَاءُ يَأْتُونَ الْمُلُوكَ، فَصَارَ فِي ذَلِكَ صَلاحُ الْفَرِيقَيْنِ، ثُمَّ صِرْنَا الآنَ فِي زَمَانٍ الْعُلَمَاءُ يَأْتُونَ الْمُلُوكَ، وَالْمُلُوكُ تَقْعُدُ عَنْ الْعُلَمَاءِ، فَصَارَ ذَلِكَ فَسَادُ الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا. اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لِمَا وَفَّقْتَ إِلَيْهِ الْقَوْمَ وَأَيْقِظْنَا مِنْ سِنَّةِ الْغَفْلَةِ وَالنَّوْمِ وَارْزُقَنَا الاسْتِعْدَادَ لِذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي يَرْبَحُ فِيهِ الْمُتَّقُونَ، اللَّهُمَّ وَعَامِلنَا بِإِحْسَانِكَ وَجُدْ عَلَيْنَا بِفَضْلِكَ وَامْتِنَانِكَ وَاجْعَلنَا مِنْ عِبَادِكَ الَّذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينِ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " فَصْلٌ ": قَالَ سُلَيْمَانٌ: فَأَوْصِنَا يَا أَبَا حَازِمٍ وَأَوْجِزْ: قَالَ: اتَّقِ اللهَ أَنْ لا يَرَاكَ حَيْثُ نَهَاكَ، وَلا يَفْقِدُكَ حَيْثُ أَمَرَكَ. قَالَ سُلَيْمَانٌ: ادْعُ لَنَا بِخَيْرٍ. فَقَالَ

أَبُو حَازِمٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ سُلَيْمَانٌ وَلِيًّا فَبَشِّرْهُ بِخَيْرِ الدُّنْيَا والآخِرَة، وَإِنْ كَانَ عَدُوُّكَ فَخُذْ إِلَى الْخَيْرِ بِنَاصِيَتِهِ. قَالَ سُلَيْمَانٌ: زِدْنِي. قَالَ: قَدْ أَوْجَزْتُ، فَإِنَّ كُنْتَ وَلِيَّهُ فَاغْتَبِطْ، وَإِنْ كُنْتَ عَدِوَّهُ فَاتَّعْظْ، فَإِنَّ رَحْمَتَهُ فِي الدُّنْيَا مُبَاحَةٌ وَلا يَكْتُبُهَا فِي الآخِرَة إِلا لِمَنِ اتَّقَي فِي الدُّنْيَا؛ فَلا نَفْعٌ فِي قَوْسٍ يَرْمِي بِلا وَتَرٍ. فَقَالَ سُلَيْمَانٌ: هَاتِ يَا غُلامٌ أَلْفَ دِينَارٍ. فَأَتَاهُ بِهَا. فَقَالَ: خُذْهَا يَا أَبَا حَازِمٍ. فَقَالَ: لا حَاجَة لِي بِهَا، لأَنِّي وَغَيْرِي فِي هَذَا الْمَالِ سَوَاءٌ، فَإِنْ سَوَيْتَ بَيْنَنَا وَعَدِلْتَ أَخَذْتُ، وَإِلا فَلا. لأَنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا لِمَا سَمِعْتَ مِنْ كَلامِي، وَإِنَّ مُوَسى بن عِمْرَان عَلَيْهِ السَّلامُ لَمَّا هَرَبَ مِنْ فِرْعَوْنَ وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ الْجَارِيَتَيْنِ تَذُودَانِ، فَقَالَ: مَا لَكُمَا مُعِينٌ؟ قَالَتَا: لا، فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ: «رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقَيرٍ " وَلَمْ يَسْأَلْ أَجْرًا. فَلَمَّا أَعْجَلَ بِالْجَارِيَتَيْنِ الانْصِرَافَ أَنْكَرَ ذَلِكَ أَبُوهُمَا، فَقَالَ لَهُمَا: مَا أَعْجَلُكُمَا الْيَوْم؟ قَالَتَا: وَجَدْنَا رَجُلاً صَالِحًا قَوِيًّا سَقَى لَنَا. قَالَ: مَا سَمِعْتُمَاهُ يَقُولُ؟ قَالَتَا: تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ وَهُوَ يَقُولُ: «رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٍ» . فَقَالَ: يَنْبَغِي لِهَذَا أَنْ يَكُونَ جَائِعًا. تَنْطَلِقُ إِحْدَاكُمَا لَهُ، فَتَقُولُ لَهُ: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا، فَأَتَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى إسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ: قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا. فَجَزَعَ مُوَسى مِنْ ذَلِكَ وَكَانَ طَرِيدًا فِي الْفَيَافِي وَالصَّحَارِي، فَقَالَ لَهُا: قُولِي لأَبِيكِ إِنَّ الَّذِي سَقَى يَقُولُ: لا أَقْبَلُ أَجْرًا عَلَى مَعْرُوفٍ إصْطَنَعْتُهُ. فَانْصَرَفَتْ إِلَى أَبِيهَا فَأَخْبَرَتْهُ، فَقَالَ: إذْهَبِي فَقُولِي لَهُ: أَنْتَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ قُبُولِ

مَا يَعْرُضُ عَلَيْكَ أَبِي وَبَيْنَ تَرْكِهِ، فَاقْبِلْ يُحِبُّ فَإِنَّهُ يَرَاكَ وَيَسْمَعَ مِنْكَ. فَأَقْبَلَ وَالْجَارِيَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهَبَّتْ الرِّيحُ، فَوَصَفَتْهَا لَهُ وَكَانَتْ ذَاتَ خَلْقٍ كَامِلٍ: فَقَالَ لَهَا كُونِي وَرَائِي وَأَرِينِي سَمْتَ الطَّرِيقِ. فَلَمَّا بَلَغَ الْبَابَ قَالَ: اسْتَأْذِنِي لَنَا. فَدَخَلَتْ عَلَى أَبِيهَا، فَقَالَتْ: إِنَّهُ مَعَ قُوَتِهِ لأَمِينٌ، فَقَالَ شُعَيْبُ: وَبِمَ عَرِفْتِ ذَلِكَ؟ فَأَخْبَرَتْهُ مَا كَانَ مِنْ قَوْلِهِ عِنْدَ هُبُوبِ الرِّيحُ عَلَيْهَا. فَقَالَ: ادْخِلِيهِ، فَدَخَلَ فَإِذَا شُعَيْبٌ قَدْ وَضَعَ الطَّعَامَ، فَلَمَّا سَلَّمَ رَحَّبَ بِهِ وَقَالَ: أَصِبْ مِنْ طَعَامِنَا يَا فَتَى. فَقَالَ مُوَسى: أَعُوذُ بِاللهِ. قَالَ شُعَيْبُ: لِمَ؟ قَالَ: لأَنَّي مِنْ بَيْتٍ لا نَبِيعُ دِينَنَا بِمِلْءِ الأَرْضِ ذَهَبًا. قَالَ شُعَيْبٌ: لا وَاللهِ مَا طَعَامِي كَمَا تَظُنُّ وَلَكِنَّهُ عَادَتِي وَعَادَةُ آبَائِي: نُقْرِي الضَّيْفَ، وَنُطْعِمُ الطَّعَامَ؛ فَجَلَسَ مُوَسَى فَأَكَلَ. وَهَذِهِ الدَّنَانِيرُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ كَانَتْ ثَمَنًا لِمَا سَمِعْتَ مِنْ كَلامِي فَلَئِنَّ آكُلُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمَ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ آخُذُهَا. فَأَعْجَبَ سُلَيْمَانٌ بِأَمْرِهِ عَجَبًا شَدِيدًا. فَقَالَ بَعْضُ جُلَسَائِهِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. إِنَّ النَّاسَ كُلُّهُمُ مِثْلَهُ، قَالَ: لا. قَالَ الزُّهَرِيُّ: إِنَّهُ لَجَارِي مُنْذُ ثَلاثِينَ سَنَة مَا كَلَّمْتُهُ قَط. فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: صَدَقْتَ لأَنَّكَ نَسِيتَ اللهَ فَنَسِيتَنِي وَلَوْ ذَكَرْتَ اللهَ لَذَكَرْتَنِي. قَالَ الزُّهَرِيُّ: أَتَشْتِمُنِي؟ قَالَ لَهُ سُلَيْمَانٌ: بَلْ أَنْتَ شَتَمْتَ نَفْسَكَ، أَوْ مَا عَلِمْتَ أَنَّ لِلْجَارِ عَلَى الْجَارِ حَقًّا؟ قَالَ أَبُو حَازِمٍ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا كَانُوا عَلَى الصَّوَابِ كَانَتْ الأُمَرَاءُ تَحْتَاجُ إِلَى الْعُلَمَاءِ، وَكَانَتْ الْعُلَمَاءُ تَفُرُّ بِدِينِهَا مِنَ الأُمَرَاءِ. فَلَمَّا رُئِي قَوْم مِنْ أَرَاذِلِ النَّاسِ تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَأَتَوْا بِهِ الأُمَرَاءَ، اسْتَغْنَتِ

الأُمَرَاءُ عَنْ الْعُلَمَاءِ وَاجْتَمَعَ الْقَوْمِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَسَقَطُوا وَهَلَكُوا. وَلَوْ كَانَ عُلَمَاؤنَا هَؤلاءِ يَصُونُونَ عِلْمَهُمْ لَكَانَتْ الأُمَرَاءُ تَهَابَهُمْ وَتُعَظِّمَهُمْ. فَقَالَ الزُّهَرِيُّ: كَأَنَّكَ إِيَّايَ تُرِيدُ وَبِي تُعَرِّضَ؟ قَالَ: هُوَ مَا تَسْمَعُ. قَالَ سُلَيْمَانٌ: يَا أَبَا حَازِمٍ عِظْنِي وَأَوْجِزْ. قَالَ: الدُّنَيْا حَلالُهَا حِسَاب، وَحَرَامُهَا عَذَابُ، وَإِلَى اللهِ الْمآبُ عَذَابَكَ أَوْ دَعْ. قالَ: لقد أوجزتَ فَأَخْبَرَنِي مَا مَالُكَ؟ قَالَ: الثِّقَةُ بِعْدِلِهِ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَى كَرَمِهِ وَحُسْنُ الظَّنِ بِهِ، وَالصَّبْرُ إِلَى أَجَلِهِ، وَالْيَأْسُ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ. قَالَ: يَا أَبَا حَازِمٍ: ارْفَعْ إِلَيْنَا حَوَائِجَكَ. قَالَ: رَفَعْتُهَا إِلَى مَنْ لا تُخْذَلُ دُونُهُ، فَمَا أَعْطَانِي مِنْهَا قَبِلْتُ، وَمَا أَمْسَكَ عَنِّي رَضِيتُ. مَعَ أَنَّي قَدْ نَظَرْتُ فَوَجَدْتُ أَمْرَ الدُّنْيَا يَؤُولُ إِلَى شَيْئَيْنِ، أَحَدُهُمَا لِي وَالآخِرِ لِغَيْرِي؛ فَأَمَّا مَا كَانَ لِي فَلَوْ احْتَلْتُ عَلَيْهِ بِكُلِّ حِيلَةٍ مَا وَصَلْتُ إِلَيْهِ قَبْلَ أَوَانِهِ وَحِينِهِ الَّذِي قُدِّرَ لِي. وَأَمِّا الَّذِي لِغَيْرِي فَذَلِكَ لا أَطْمَعُ فِيهِ، فَكَمَا مَنَعَنِي رَزَقَ غَيْرِي، كَذَلِكَ مَنَعَ غَيْرِي رِزْقِي، فَعَلامَ أَقْتُلُ نَفْسِي فِي الإِقْبَالِ وَالإِدْبَارِ! قَالَ سُلَيْمَانٌ: لا بُدَّ أَنْ تَرْفَعَ إِلَيْنَا حَاجَةً نَأْمُرُ بِقَضَائِهَا. قَالَ: فَتَقْضِيهَا؟ قَالَ: نَعَم. قَالَ: فَلا تُعْطِنِي شَيْئًا حَتَّى أَسْأَلُكَهُ، وَلا تُرْسِلْ إِلَيَّ حَتَّى آتِيكَ، وَإِنْ مَرِضْتُ فَلا تَعْدِنِي، وَإِنْ مِتُّ فَلا تَشْهَدُنِي. قَالَ سُلَيْمَانٌ: أَبَيْتَ يَا أَبَا حَازِمٍ. قَالَ: أَتَأْذَنُ لِي أَصْلَحَكَ اللهُ فِي الْقِيَامِ، فَإِنِّي شَيْخٌ قَدْ زَامَنْتُ. قَالَ سُلَيْمَانٌ: يَا أَبَا حَازِمٍ: مَسْأَلَةٌ مَا تَقُولُ فِيهَا. قَالَ: إِنْ كَانَ عِنْدِي عِلْمٌ أَخْبَرْتُكَ بِهِ، وَإِلا فَهَذَا الَّذِي عَنْ يَسَارِك يَزْعُمُ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْء يُسْأَلُ عَنْهُ إِلا وَعِنْدَهُ عِلْمٌ (يُرِيدُ الزُّهَرِيّ) فَقَالَ لَهُ الزُّهَرِيُّ: عَائِذًا بِاللهِ مِنْ شَرِّكَ أَيًّهَا الْمَرْءُ! قَالَ: أَمَّا مَنْ شَرِّي فقَدْ عَفِيتُ، وَأَمَّا لِسَانِي فَلا.

قَالَ سُلَيْمَانٌ: مَا تَقُولُ فِي سَلامِ الأَئِمَّةِ مِنْ صَلاتِهِمْ: أَوَاحِدَةٌ أَمْ اثْنَتَانِ؟ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ لِدَيْنَا قَدْ اخْتَلَفُوا عَلَيْنَا فِي ذَلِكَ أَشَدَّ الاخْتِلافِ. قَالَ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ؛ أَرْسِيكَ فِي هَذَا بخَيْرٍ شَافٍ. حَدَّثَنِي عَامِرُ بن سَعْدٍ بن أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ سَعْدٍ أَنَّهُ شَهِدَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُسَلِّمُ فِي الصَّلاةِ عَنْ يَمِينِه حَتَّى يُرَى بَيَاضَ خَدِّهِ الأَيْمَنِ ثُمَّ يُسَلِّمُ عَنْ يَسَارِهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضَ خَدِّهِ الأَيْسَرِ، سَلامًا يَجْهَرُ بِهِ. قَالَ عَامِرٌ: كَانَ أَبِي يَفْعَلُ ذَلِكَ. وَأَخْبَرَنِي سَهْلٌ بن سَعَدٍ السَّاعِدِيّ أَنَّهُ رَأَى عُمَرَ بن الْخَطَّابِ وَابْنَ عُمَرَ يُسَلِّمَانِ مِنَ الصَّلاةِ كَذَلِكَ، فَقَالَ الزُّهَرِيُّ: اعْلَمْ مَا تُحَدِّثُ بِهِ أَيُّهَا الرَّجُلُ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَعْبٌ شَدِيدٌ إِلا بِالتَّثْبِيتِ وَالْيَقِينِ. قَالَ أَبُو حَازِمٍ: قَدْ عَلِمْتُهُ وَرَوَيْتُه قَبْلُ أَنْ تَطْلَعَ أَضْرَاسَكَ فِي رَأْسِكَ. فَالْتَفَتَ الزُّهَرِيُّ إِلَى سُلَيْمَانٌ، قَالَ: أَصْلَحَكَ اللهُ، إن هَذَا الْحَدِيثَ مَا سَمِعْتُ بِهِ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَط، فَضَحِكَ أَبُو حَازِمٍ. ثُمَّ قَالَ: يَا زُهَرِيُّ أَحَطْتَ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كُلِّهُ؟ قَالَ: لا. قَالَ: فَثَلاثَةُ أَرْبَاعِهِ؟ قَالَ: لا. قَالَ: فَثُلُثُهُ؟ فَقَالَ: أَرَانِي ذَلِكَ، قَدْ رُويتُ وَبَلَغَنِي. فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: فَهَذَا مِنَ الثُّلُثِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْكَ وَبَقَى عَلَيْكَ إِسْمَاعِهِ. فَقَالَ سُلَيْمَانٌ: مَا ظَلَمَكَ مِنْ حَاجَّكَ. ثُمَّ قَامَ مَأْذُونًا لَهُ. فَأَتْبَعَهُ سُلَيْمَانٌ بَصَرَهُ، يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَيَعْجَبُ بِهِ. ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى جُلَسَائِهِ فَقَالَ: مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّهُ بَقِيَ فِي الدُّنْيَا مِثْل هَذَا. وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّدْ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.

نصيحة سفيان الثوري لهارون الرشيد

نَصِيحَةُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيّ لِهَارُون الرَّشِيدِ مِنْ عَبْدِ اللهِ هَارُون أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَخِيهِ فِي اللهِ سُفْيَان بن سَعِيدٍ الثَّوْرِيِّ. أَمَّا بَعْدُ يَا أَخِي، فقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ اللهَ آخَى بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ آخَيْتُمْ فِي اللهِ مُؤَاخَاةً لَمْ أَصْرِمْ فِيهَا حَبْلكَ، وَلَمْ أَقْطَعْ مَنْهَا وُدّكَ، وَإِنِّي مُنْطَو لِكَ عَلَى أَفْضَلِ الْمَحَبَّةِ، وَأَتَمِّ الإِرَادَةُ. وَلَوْلا هَذِهِ الْقلادَةِ الَّتِي قَلَدَنِيهَا اللهُ تَعَالَى لأَتَيْتُكَ وَلَوْ حَبْوَا، لِمَا أَجِدُ لَكَ فِي قَلْبِي مِنَ الْمَحَبَّةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ إِخْوَانِي إِلا زَارَنِي وَهَنَّأَنِي بِمَا صِرْتُ إِلَيْهِ. وقَدْ فَتَحْتُ بُيُوتَ الأَمْوَالِ، وَأَعْطَيْتُهُمْ مِنَ الْمَوَاهِبِ السَّنِيَّةِ، مَا فَرِحَتْ بِهِ نَفْسِي وَقَرَتْ بِهِِ عَيْنِي وَقَدْ اسْتَبْطَأْتُكَ، وَقَدْ كَتَبْتُ كِتَابًا مِنِّي إِلَيْكَ اعُلِمُكَ بِالشَّوْقِ الشَّدِيدِ إِلَيْكَ. وقَدْ عَلِمْتَ يَا أَبَا عَبْدَ اللهِ مَا جَاءَ فِي فَضْلِ زِيَارَةِ الْمُؤْمِنِ وَمُوَاصَلَتِهِ فَإِذَا وَرَدَ عَلَيْكَ كِتَابِي هَذَا فَالْعَجَلَ الْعَجَلَ. ثُمَّ أَعْطَىَ الْكِتَابَ لِعَبَّادِ الطَّالَقَانِيِّ وَأَمَرَهُ بِإِيصَالِهِ إِلَيْهِ، وَأَنْ يُحْصِي عَلَيْهِ بِسَمْعِهِ وقَلْبِهُ دَقِيقَ أَمْرَهُ وَجَلِيلِهِ لِيُخْبِرَهُ بِهِ، قَالَ عَبَّادٌ: فَانْطَلَقْتُ إِلَى الكُّوفَةِ فَوَجَدْتُ سُفْيَانَ فِي مَسْجِدِهِ، فَلَمَّا رَآنِي عَلَى بُعْدٍ قَامَ وَقَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَأَعُوذُ بِكَ اللَّهُمَّ مِنْ طَارِقٍ يَطْرَقُ إِلا بخَيْرٍ. قَالَ: فَنَزَلْتُ عَنْ فَرَسِي بِبَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَامَ يُصَلِّي وَلَمْ يَكُنْ وَقْتُ صَلاةٍ: فَدَخَلْتُ وَسَلَّمْتُ فَمَا رَفَعَ أَحَدٌ مِنْ جُلَسَائِهِ رَأْسَهُ إِلَيَّ، قَالَ فَبَقِيتُ وَاقِفًا وَمَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَعْرِضُ عَلَيَّ الْجُلُوسِ، وَقَدْ عَلَتْنِي مِنْ هِيبَتِهِمْ الرَّعْدَة، فَرَمِيتُ بِالْكِتَابِ إِلَيْهِ.

فَلَمَّا رَأَى الْكِتَابَ ارْتَعَدَ وَتَبَاعَدَ مِنْهُ كَأَنَّهُ حَيَّةٌ عُرِضَتْ لَهُ فِي مِحْرَابِهِ فَرَكَعَ وَسَجَدَ وَسَلَّمَ وَأَدْخَلَ يَدّهُ فِي كُمِّهِ وَأَخَذَهُ وقَلَّبَهُ بِيَدِهِ، وَرَمَاهُ إِلَى مَنْ كَانَ خَلْفَهُ، وَقَالَ: لِيَقْرَأَهُ بَعْضُكُمْ فَإِنِّي اسْتَغْفِرُ اللهَ أَنْ أَمَسُّ شَيْئًا مَسَّهُ ظَالِمٌ بِيَدِهِ. قَالَ عَبَّاد: فَمَدَّ بَعْضُهُمْ يَدَهُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَرْتَعِدُ كَأَنَّهُ حَيَّةٌ تَنْهِشُهُ ثُمَّ قَرَأَهُ فَجَعَلَ سُفْيَانُ يَبْتَسِمُ تَبَسُّمَ الْمُتَعَجِّبُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهِ، قَالَ:اقْلِبُوهُ وَاكْتُبُوا لِلظَّالِمِ عَلَى ظَهْرِهِ. فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْد اللهِ إِنَّهُ خَلِيفَةٌ فَلَوْ كَتَبْتَ إِلَيْهِ فِي بَيَاضٍ نَقِيّ لَكَانَ أَحْسَنُ. فَقَالَ: اكْتُبُوا لِلظَّالِمِ فِي ظَهْرِ كِتَابِهِ، فَإِنْ كَانَ اكْتَسَبَهُ مِنْ حَلالٍ فَسَوْفَ يُجْزَى بِهِ، وَإِنْ كَانَ اكْتَسَبَهُ مِنْ حَرَامٍ فَسَوْفَ يُصْلَى بِهِ وَلا يَبْقَى شَيْءٌ مَسَّهُ ظَالِمٌ بِيَدِهِ عِنْدَنَا، فَيَفْسِدَ عَلَيْنَا دِينَنَا، فَقِيلَ: مَا نَكْتُبُ إِلَيْهِ؟ قَالَ: اكْتُبُوا لَهُ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنَ الْعَبْدِ الْمَيْتِ سُفْيَانِ إِلَى الْعَبْدِ الْمَغْرُورِ بِالآمَالِ هَارُونِ الَّذِي سُلِبَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ، وَلَذَّةَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. أَمَّا بَعْدُ.. فَإِنِّي كَتَبْتُ إِلَيْكَ اعُلِمُكَ أَنَّي قَدْ صَرِمْتُ حَبْلَكَ، وَقَطَعْتُ وَدَّكَ، وَإِنَّكَ قَدْ جَعَلْتَنِي شَاهِدًا بِإِقْرَارِكَ عَلَى نَفْسِكَ فِي كِتَابِكَ بِمَا هَجَمْتَ عَلَى بَيْتِ الْمُسْلِمِينَ فَأَنْفَقْتَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَأَنْفَذْتُهُ بِغَيْرِ حُكْمِهِ، وَلَمْ تَرْضَ بِمَا فَعَلْتَ وَأَنْتَ نَاءٍ عَنِّي حَتَّى كَتَبْتَ إِلَيَّ تُشْهِدنِي عَلَى نَفْسِكَ. فَأَمَّا أَنَا فَإِنِّي قَدْ شَهِدْتُ عَلَيْكَ أَنَا وَإِخْوَانُكَ الَّذِينَ حَضَور قِرَاءَة كِتَابِكَ وَسَنُؤَدِّي الشَّهَادَةَ غَدًا بَيْنَ يَدَيِّ اللهِ الْحَكَمِ الْعَدْلِ. يَا هَارُونُ هَجَمْتَ عَلَى بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ. هَلْ رَضِيَ بِفِعْلِكَ الْمُؤَلَفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَا فِي أَرْضِ اللهِ، وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنَ السَّبِيلِ، أَمْ رَضِيَ بذَلِكَ حَمَلَةُ الْقُرْآنِ وَأَهْلُ

الْعِلْمِ يَعْنِي الْعَامِلِينَ، أَمْ رَضِيَ بِفِعْلِكَ الأَيْتَامُ والأرَامِلُ، أَمْ رَضِيَ بِذَلِكَ خَلْقٌ مِنْ رَعِيَّتِكَ. فَشُدَّ يَا هَارُونُ مِئْزَرَكَ، وَأَعِدّ لِلْمَسْأَلَةِ جَوَابًا وَلِلْبَلاءِ جِلْبَابًا، وَاعْلَمْ أَنَّكَ سَتَقِفُ بِيْنَ يَدَيِّ الْحَكَمِ الْعَدْلِ فَاتَّقِ اللهَ فِِي نَفْسِكَ إِذَ سُلِبْتَ حَلاوَةُ الْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَلَذَّةُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَمُجَالَسَةِ الأَخْيَارِ، وَرَضِيتُ لِنَفْسِكَ أَنْ تَكُونَ ظَالِمًا وَلِلظَّالِمِينَ إِمَامًا. يَا هَارُونُ.. قَعِدْتَ عَلَى السَّرِيرِ، وَلَبِسْتَ الْحَرِيرِ، وَأَسْبَلْتَ سُتُورًا دُونَ بَابِكَ، وَتَشَبَّهْتَ بِالْحَجَبَةِ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ثُمَّ أَقْعَدْتَ أَجْنَادَكَ دُونَ بَابِكَ، وَسَتْرك يَظْلِمُونَ النَّاسَ، وَلا يُنْصِفُونَ، وَيَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيُحِدُّونَ الشَّارِبِ، وَيَزْنُونَ وَيُحِدُّونَ الزَّانِيَ، وَيَسْرَقُونَ السَّارِق، وَيَقْتُلُونَ وَيُحِدُّونَ الْقَاتِلِ. أَفَلا كَانَتْ هَذِهِ الأَحْكَامُ عَلَيْكَ وَعَلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يَحْكُمُوا بِهَا عَلَى النَّاسِ. فَكَيْفَ بِكَ يَا هَارُونُ غَدًا إِذَا نَادَى الْمُنَادِي مِنْ قِبَلِ اللهِ احْشُرُوا الظَّلَمَةَ وَأَعْوَانَهُمْ، فَتَقَدَّمْتَ بَيْنَ يَدَيِّ اللهِ وَيَدَاكَ مَغْلُولَتَانِ إِلَى عُنُقِكَ لا يَفُكَّهُمَا إِلا عَدْلُكَ وَإِنْصَافُكَ، وَالظَّالِمُونَ حَوْلَكَ وَأَنْتَ لَهُمْ إِمَامٌ أَوْ سَائِقٌ إِلَى النَّارِ. وَكَأَنِّي بِكَ يَا هَارُونُ وَقَدْ أُخِذْتَ بِضِيقِ الْخِنَاقِ، وَوَرَدْتَ الْمَسَاقَ وَأَنْتَ تَرَى حَسَنَاتِكَ فِي مِيزَانِ غَيْرِكَ، وَسَيِّئَاتِ غَيْرِكَ فِي مِيزَانِكَ عَلَى سَيِّئَاتِكَ، بَلاءٌ عَلَى بَلاءٍ، وَظُلْمَةً فَوْقَ ظُلْمَةٍ. فَاتَّقِ اللهَ يَا هَارُونُ فِي رَعِيَّتِكَ، وَاحْفَظْ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - فِي أُمَّتِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ لَمْ يَصِرْ إِلَيْكَ إِلا وَهُوَ صَائِرٌ إِلَى غَيْرِكَ، وَكَذَلِكَ الدُّنْيَا تَفْعَلُ بِأَهْلِهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ تَزَوَّدَ زَادَ نَفْعَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَسِرَ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ، وَإِيَّاكَ ثُمَّ إِيَّاكَ أَنْ تَكْتُبَ إِلَيَّ بَعْدَ هَذَا، فَإِنِّي لا أُجِيبَكَ وَالسَّلام. وَلَمَّا وَلِيَ ابْنُ هبيرةً حُكْمُ الْعِرَاقِ جمَعَ فُقَهَاءَهَا وَاسْتَشَارَهُمْ فِيمَا يَفْعَلُ

صدع الحسن البصري بالحق

إِذَا أَمَرَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِالأَمْرِ وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّ فِيهِ ظُلْمًا فَالآن لَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْقَوْلَ. وَأَبَى الْحَسَنُ الْبَصَرِيّ رَحِمَهُ اللهُ إِلا أَنْ يَصْدَعَ بِالْحَقِّ وَيَنْقِذَ الشَّعْبَ مِنْ ظُلْمِ ابْن هَبِيرةً وينقذ ابن هبيرة مِنْ عَذَابِ اللهِ إِنْ أَطَاعَهُ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّ حَقَّ الرَّعِيَّةِ لازِمٌ لَكَ وَحَقٌّ عَلَيْكَ أَنْ تَحُوطَهُمْ بالنَّصِيحَة وَقَدْ قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةٌ يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ. اعْلَمْ أَنَّ حَقَّ اللهِ أَلْزَمَ مِنْ حَقِّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ يُطَاعَ وَلا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ يَا ابْنَ هبيرة اتَّقِ اللهَ فَإِنَّهُ يُوشُكُ أَنْ يَأْتِيَكَ رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ يُزِيلُكَ عَنْ سَرِيرِكَ وَيُخْرِجُكَ مِنْ سِعَةِ قَصْرِكَ إِلَى ضِيقِ قَبْرِكَ فَتَدَعُ سُلْطَانِكَ وَدُنْيَاكَ خَلْفَ ظَهْرِكَ وَتَقْدُمُ عَلَى رَبِّكَ وَتَنْزِلَ عَلَى عَمَلِكَ. يَا ابْن هَبِيرةَ إِنَّ اللهَ لَيَمْنَعُكَ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَلا يَمْنَعُكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ اللهِ وَإِنَّ أَمْرَ اللهِ فَوْقَ كُلِّ أَمْرٍ وَإِنِّي أُحَذِّرُكَ بَأْسَهُ الَّذِي لا يُرَدُّ عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ. فَقَالَ لَهُ ابن هبيرة: إرْبع عَلَى ظلعك أَيُّهَا الشَّيْخُ، وأعرض عَنْ ذكر أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ صَاحِبُ الْعِلْمِ وَصَاحِبُ الْحُكْمِ وصَاحِبُ الْفَضْلِ وَإِنَّمَا وَلاهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ أَمْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ لِعِلْمِهِ بِهِ وَمَا يَعْلَمُهُ مِنْ فَضْلِهِ وَنِيَّتِهِ. فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: يَا ابن هبيرة الْحِسَابُ وَرَائِكَ سَوْطٌ بِسَوْطٍ وَغَضَبٌ بِغَضَبٍ وَاللهُ بِالْمِرْصَادِ إِنَّكَ إِنْ تَلْقَى مَنْ يَنْصَحُ لَكَ فِي دِينِكِ وَيَحْمِلُكَ عَلَى أَمْرِ آخِرَتِكَ خَيْر مِنْ أَنْ إن تَلْقَى رَجُلاً يَغُرُكَ وَيُمَنِّيكَ. فَقَامَ ابْن هبيرة مِنَ الْمَجْلِسِ وَقَدْ اصْفَرَّ وَجْهُهُ وَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَعَلَيْهِ الْكَآبَة وَقَامَ الْحَسَنُ وَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ وَأَرْضَى رَبَّهُ وَأَخَلَصَ لَهُ وَنَصَحَ لأُمَّتِهِ وَهَكَذَا الْعُلَمَاءُ يَنْبِغِي أَنْ يَكُونُوا. شِعْرًا: ... لا شَيْءَ أَبْلَغُ مِنْ ذُلٍ يُجَرِّعُهُ ... أَهْلُ الْخَسِيسَةِ أَهْلَ الدِّينِ وَالْحَسَبِ

صدع ابن أبي ذئب بالحق أمام أبي جعفر

الْقَائِمِيَنَ بِمَا جَاءَ الرَّسُولُ بِهِ ... وَالْمُبْغِضِينَ لأَهْلِ الزَّيْغِ وَالرِّيَبِ آخر: ... وَلا يَلْبَثُ الْجُهَّالُ أَنْ يَتَهَضَّمُوا ... أَخا الْحِلْمِ مَا لَمْ يَسْتَعِنْ بِسَفِيهِ آخر: ... مَا إِنْ نَفَى عَنْكَ قَوْمًا أَنْتَ تَكْرَهُهُمْ ... كَمِثْلِ قَمْعُكَ جُهَّالاً بِجُهْالٍ آخر: ... وَالْعَاقِلُ النَّحْرِيرُ مُحْتَاجٌ إِلَى ... أَنْ يَسْتَعِينَ بِجَاهِلٍ مَعْتُوه آخر: ... وَمَنْ يَحْلُمْ ولَيْسَ لَهُ سَفِيهٌ ... يٌلاقِي الْمُعْضِلاتِ مِنَ الرِّجَالِ آخر: ... تَعْدُوا الذِّئَابُ عَلَى مَنْ لا كِلابَ لَهُ ... وَتَتَّقِي مَرْبَضَ الْمُسْتَنْفِر الحامي حَجَّ أَبُو جَعْفَرٍ فَدَعَا ابْنَ أَبِي ذِئْبٍ فَقَالَ: نَشَدْتُكَ بِاللهِ أَلَسْتُ أَعْمِلُ بِالْحَقِّ أَلَسْتُ تَرَانِي أَعْدِلُ. فقال ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ: أما إذا نشدتني بالله فأقول: اللهم لا أراك تعدل وإنك لجائر وإنك لتستعمل الظلمة وتدع أهل الخير. قال محمد بن عمر فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ بن إِبْرَاهِيم بن يَحْيَى وَأُخْبِرْتُ عَنْ عيسى بن عّلِيٍّ قَالُوا: فَظَنَنَّا أَنَّ أَبَا جَعْفَر سَيُعَاجِلَهُ بِالْعُقُوبَةِ فَجَعَلْنَا نَلِفُّ إِلَيْنَا ثِيَابَنَا مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَنَا مِنْ دَمِّهِ. فَجَزَعَ أَبُو جَعْفَرٍ وَاغْتَمَّ وَقَالَ لَهُ: قُمْ فأَخْرَجَ. تَأَمَّلَ يَا أَخِي هَلْ يُوَجَدُ هَذَا الطّرَازَ مِمَّنْ لا تَأْخُذُهُمْ فِي اللهِ لَوْمَةَ لائِمٍ، أَظُنُّهُ مَعْدُوم فِي هَذَا الوَقْت مَا فيه الْيَوْم مَنْ يَصْدَعُ بِالْحَقِّ فَلا حَوْلَ وَلا قُوَةَ إِلا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. دَخَلَ عَمْرُو بن عُبَيْدٍ عَلَى الْمَنْصُورِ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ أَعْطَاكَ الدُّنْيَا بَأَسْرِهَا فَاشْتَرِ مِنْهُ نَفْسَكَ بِبَعْضِهَا وَإِنِّي لأُحَذِّرَكَ لَيْلَةً تَتَمَحْضُ صِبِيحَتُهَا عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ قَالَ لَهُ عَنْ حَاشِيَتِهِ: إِنَّ هَؤُلاءِ اتَّخَذُوكَ سُلَّمًا لِشَهَوَاتِهِمْ. فأَنْتَ الآخِذُ بِالْقَرْنَيْنِ وَهُمْ يَحْلِبُونَ.

صدع رجل بالحق أمم الحجاج

فَاتَّقِ اللهَ فَإِنَّكَ مَيْتٌ وَحْدُكَ وَمُحَاسَبٌ وَحْدُكَ وَمَبْعُوثٌ وَحْدُكَ وَلَنْ يُغْنُوا عَنْكَ هَؤُلاءِ مِنْ رَبِّكَ شَيْئًا. فَقَالَ لَهُ: أَعِنِّي بِأَصْحَابِكَ فَأَسْتَعِينُ بِهُمْ دُونَ هَؤُلاءِ فَرَدَّ عَلَيْهِ: أَظْهِرِ الْحَقَّ يَتْبَعُكَ أَهْلُهُ. فَقَالَ لَهُ: أَلَكَ حَاجَةٌ قَالَ: نَعَمٌ. قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالَ: أَن لا تَبْعَثَ إِلَيَّ حَتَّى آتِيكَ. قَالَ: إِذَا لا نَلْتَقِي. قَالَ: عَنْ حَاجَتِي سَأَلْتَ ثُمَّ ذَهَبَ. قَالَ الْحَجَّاجُ لِيَحْيَى بن يَعْمُرٍ: مَا تَقُولُ فِي وَاسِطٍ (مَدِينَةٌ بَنَاهَا الْحَجَّاجُ) فَقَالَ لَهُ: مَا أَقُولُ فِيهَا وَقَدْ بَنَيْتَهَا مِنْ غَيْرِ مَالِكَ وَسَيَسْكُنُهَا غَيْرُ أَهْلِكَ. فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ فِي غَيْظٍ وَغَضَبٍ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا قُلْتَ. قَالَ: مَا أَخَذَ اللهُ تَعَالَى عَلَى الْعُلَمَاءِ مِنَ الْعَهْدِ أَلا يَكْتُمُوا النَّاسَ حَدِيثًا. فَقَالَ لَهُ: أَلَمْ تَخْشَ سَيْفَ الْحَجَّاجِ؟ فَقَالَ: لَقَدْ مَلأَتْنِي خَشْيَة اللهِ جَلَّ وَعَلا فَلَمْ تَدَعْ مَكَانًا لِخَشْيَةِ سِوَاهُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْحَجَّاجَ خَطَبَ يَوْمًا فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ الصَّبْرُ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ أَيْسَرُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى عَذَابِ اللهِ. فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: وَيْحُكَ يَا حَجَّاجٌ مَا أَصْفَقَ وَجْهكَ وَأَقَلَ حَيَاءكَ تَفْعَلُ مَا تَفْعَلُ وَتَقُولُ مِثْلَ هَذَا الْكَلامِ خبأتَ وَضَلَّ سَعْيُكَ. فَقَالَ لِلْحَرَس: خُذُوهُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ خِطْبَتِهِ قَالَ لَهُ: مَا الَّذِي جَرَّأَكَ عَلَيَّ؟ فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا حَجَّاجُ أَنْتَ تَجْتَرِئُ عَلَى اللهِ وَلا أَجْتَرِئُ عَلَيْكَ وَمَنْ أَنْتَ حَتَّى لا أَجْتَرِئُ عَلَيْكَ وَأَنْتَ تَجْتَرِئُ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ؟ فَقَالَ: خَلُّوا سَبِيلَهُ. فَأُطْلِقَ. وَدَخَلَ الْعِزُّ بن عَبْد السَّلام عَلَى السُّلْطَانِ فَوَعَظَهُ وَشَدَّدَ فِي الْمَوْعِظَةِ فَعَاتَبَهُ

وَلَدُهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ: هَذَا إجْتِمَاعٌ للهِ فَلا أُكَدِّرَهُ بِشَيْءٍ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا. يا بَنِي لَقَدْ رَأَيْتُ السُّلْطَانَ فِي تِلْكَ الْعَظَمَةِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أُهِينَهُ لِئَلا تَكْبُر نَفْسَهُ عَلَيْهِ فَتُؤْذِيهِ. وَلَقَدْ اسْتَحْضَرْتَ هَيْبَةَ اللهِ تَعَالَى إِذْ أُخَاطِبُهُ، فَصَارَ السُّلْطَانُ أَقَلَّ مِنَ الْقِطِّ عِنْدِي. وَلَوْ كَانَتْ بِنَفْسَي لَدَيْهِ حَاجَة مِنْ حَاجَاتِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُهُ الدُّنْيَا كُلَّهَا. وَأُجْبِرَ أَحَدُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنْ يَدْخُلَ عَلَى مَلِكِ مِصْرَ وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَلْبِسَ مَلابِسَ خَاصَّةً فَأَبَى وَقَالَ: كَيْفَ أَتَجَمَّلُ لَهُ بِلِبَاسٍ لا أَتَجَمَّلُ بِهِ لِرَبِّي فِي الصَّلاةِ. وَدَخَلَ عباد الخواص عَلَى إِبْرَاهِيم بن صَالِح وَهُوَ أَمِير فَلَسْطِين فَقَالَ لَهُ: يَا شَيْخُ عِظْنِي. فَقَالَ: بِمَ أَعِظُكَ أَصْلَحَكَ اللهُ بَلَغَنِي أَنَّ أَعْمَالَ الأَحْيَاءِ تُعْرَضُ عَلَى أَقَارِبَهُمْ مِنَ الْمَوْتَى فَانْظُرْ مَا يُعْرَضُ عَلَى رَسِولِهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ عَمَلِكَ فَبَكَى حَتَّى سَالَتْ دُمُوعَهُ عَلَى لَحْيَتَهُ. فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللهِ إِجْلالِ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ فَقَامَ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيّ، قَالَ: فَقَالَ بَعْدَ مُدَّة يَا أَبَا عَبْد اللهِ تَوَاضعنا لِعِلْمِكَ فَانْتَفَعْنَا بِهِ، وَتَوَاضَعْ لَنَا عِلْم سُفْيَان بن عُيَيْنَة فَلَمْ نَنْتَفِعْ بِهِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْمَهْدِيّ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ حَاجًّا جَاءَهُ مَالِك فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَأَمَرَ الْمَهْدِي ابْنَيْهِ الْهَادِي وَهَارُونَ الرَّشِيدِ أَنْ يَسْمَعَا مَنْهُ فَطَلَبَاهُ إِلَيْهِمَا فَامْتَنَعَ، فَعَاتَبَهُ الْمَهْدِي فِي ذَلِكَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِلْعِلْمِ نَضَارَةٌ، يُؤتَى أَهْلُهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: الْعِلْمُ أَهْلٌ أَنْ يُوَقَرَ وَيُوَقَرَ أَهْلُهُ فَأَمَرَهُمَا وَالِدْهُمَا بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ مُؤَدِّبُهُمَا أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِمَا، فَقَالَ: إِنَّ أَهْلَ هَذِهِ الْبَلْدَةِ يَقْرَءُونَ عَلَى الْعَالِمِ كَمَا يَقْرَأُ الصِّبْيَانِ عَلَى الْمُعَلِّمِ فَإِذَا أَخْطُوا أَفْتَاهُم فَرَجَعُوا إِلَى الْخَلِيفَة فَعَاتَبَهُ

الْمَهْدِيُّ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ سَمِعْتُ ابْنَ شِهَابٍ يَقُولُ سَمِعْنَا هَذَا الْعِلْم مِنِ رِجَالٍ فِي الرَّوْضَة سَعِيد بن الْمُسَيّب وَأَبُو سَلَمَة وَعُرْوَة وَالْقَاسِم بن مُحَمَّد وَسَالِم بن عَبْد اللهِ وَعَدَّ آخَرِينَ كُلّ هَؤُلاءِ يُقْرَأُ عَلَيْهمْ وَلا يَقْرَؤُون. فَقَالَ الْمَهْدِيُّ فِي هَؤُلاءِ قُدْوَةٌ صِيرُوا إِلَيْهِ فَاقْرَؤا عَلَيْهِ. أَرَادَ الْوَلِيدُ أَنْ يُوَلِّي يزيد بن مِرثد الِقَضَاءِ فَبَلَغَ ذَلِكَ يَزِيد فَلَبِسَ فروة وَقَلَبَهَا فَجَعَلَ الْجِلْدَ عَلَى ظَهْرِهِ وَالصُّوفَ خَارِجًا وَأَخَذَ بِيَدِهِ رَغِيفًا (أي خبزة) وَعِِرْقًا (آي عَظْم عَلَيْهِ لَحْم) وخَرَجَ بِلا رِدَاء وَلا قُلَنْسوة (أي أَصْلَع الرَّأْس) وَلا نَعْل وَلا خُفَّ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ وَيَأْكُلُ. فَقِيلَ لِلْوَلِيد: إِنَّ يَزِيدَ قَدْ اخْتَلَطَ (أي خرف) وَأُخْبِر بِمَا فَعَلَ فَتَرَكَهُ الْوَلِيدُ. قُلْتُ: وَفِعْلُ يَزِيد يَدُلُّ عَلَى وَرَعِهِ وَخَوْفِهِ مِنْ تَبِعَةِ الِقَضَاءِ لأَنَّ الِقَضَاءَ فِيهِ خَطَرٌ عَظِيمٌ وَلهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: يَحْرُمُ عَلَى مَنْ لا يُحْسِنَهُ وَلَنْ تَجْتَمِعَ فِيهِ شُرُوطُه الدُّخُول فِيهِ. وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «الِقَضَاة ثَلاثَةٌ وَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ وَاثْنَانٌ فِي النَّارِ» . وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ وَلِيّ الِقَضَاءُ فقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» . وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى الْقَاضِي الْعَدْلِ يَوْم الْقِيَامَةِ سَاعَة يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي تَمْرَةٍ قَط» . وَفِي لَفْظٍ: يُدْعَى الْقَاضِي الْعَدْل يَوْم الْقِيَامَةِ فَيلقى مِنْ شِدَّةِ الْحِسَابِ مَا يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي عمره قَط. تَرَكَ خَلَفٌ الْبَزَار الرِّوَايَةَ عَنْ الْكِسَائِي فَلَمْ يَرْوِي عَنْهُ مَعَ أَنَّهُ كَانَ أُسْتَاذُهُ وَهُوَ بِحَاجَةٍ إِلَيْهِ فِي تَصْنِيفِهِ كِتَاب الْقِرَاءَات وَلَمَّا أَنْ ضَايَقُوهُ لَمْ يَرْو عَنْهُ. قَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ، قَالَ لِي سَيِّدِي الرَّشِيدُ فَقُلْتُ: إِنَّ إِنْسَانًا مِقْدَارُ الدُّنْيَا عِنْدَهُ أَنْ يُجِلَّ أَهْلَهَا هَذَا الإِجْلال لَحَرِيٌّ أَنْ لا يُؤْخَذُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْعِلْمِ.

قُلْتُ: للهِ درة حَيْثُ لَمْ يَطْمَئِنَّ قَلْبُهُ لِمَنْ يُعَظِّمُ الدُّنْيَا. فَانْظُرْ رَحِمَكَ اللهُ إِلَى شِدَّةِ وَرَعِهِمْ وَتَرَفُّعِهِمْ وَتَنَزّهمْ عَنْ مُخَالَطَةِ الْمُلُوكِ وَأَهْلِ الدُّنْيَا، وَصِيانَةِ الْعِلْمِ وَإِعْزَازِهِ وَبِمِثْلِ هَذِهِ الأَخْلاق الْعَطِرَة وَالصِّفَاتِ الْفَاضِلَةِ عَظُمَ الإِسْلام وَأَهْله. دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى الْمَأْمُونِ كَانَ يِمْشِي فِي النَّاسِ فَيَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ دُونَ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا مِنْ قِبَلِ الْخَلِيفَةِ، فَاسْتَدْعَاهُ الْمَأْمُونُ وَقَالَ لَهُ: لِمَ تَأْمُرُ وَتُنْهَى وَقَدْ جَعَلَ اللهُ ذَلِكَ إِلَيْنَا وَنَحْنُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ} . فَقَالَ الرَّجُلُ: صَدَقْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْتَ كَمَا وَصَفْتَ نَفْسَكَ مِنَ السُّلْطَانِ وَالتَّمَكُّنِ غَيْرَ أَنَّا أَوْلِيَاؤُكَ وَأَعْوَانُكَ فِيهِ. وَلا يُنْكِرُ ذَلِكَ إِلا مَنْ جَهِلَ كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وَتَقَدَّسَ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} ، وَقَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:" المُؤْمِن للمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» . فَأَعْجَبَ الْمَأْمُونُ بِكَلامِهِ وَسُرَّ بِهِ وَقَالَ: مِثْلُكَ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ فَإمْضِ عَلَى مَا كُنْتَ عَلَيْهِ بِأَمْرِنَا وَعَنْ رَأْيِنَا. وَهَكَذَا حِين أَحْسَنَ الرَّجُلَ الاحْتِجَاج بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ انْقَطَعَتْ حُجَّة الْمَأْمُونِ، وَلَمْ يَجِدُ بُدًّا مِنْ إِقْرَارِ الرَّجُلَ عَلَى طَرِيقَتِهِ بِالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ. وَعَكْسُ هَذَا الرَّجُل دَخَلَ وَاعِظٌ عَلَى الْمَأْمُون فوعظه واغلظ عليه في القول فقال له المأمون: يَا رَجُل ارْفِقْ فَإِنَّ اللهَ بَعَثَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ إِلَى مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنِّي، وَأَمَرَهُ بِالرِّفْقِ. بَعَثَ مُوَسَى وَهَارُون إِلَى فِرْعَون، فَأَوْصَاهُمَا بِقَوْلِهِ " {فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً

لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} ، وَهُنَا كَانَ مَوْقِفُ الْمَأْمُونِ هُوَ الأَقْوَى لأَنَّ الدَلِيلَ مَعَهُ. بَعَثَ الأَمِيرُ طَاهِر بن عَبْد اللهِ إِلَى مُحَمَّد بن رافع بِخَمْسَةِ آلافِ دِرْهَمْ عَلَى يَدِ رَسُولِهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَعْد صَلاة الْعَصْرِ وَهُوَ يَأْكُلُ الْخُبْزَ مَعَ الْفِجْلِ، فَوَضَعَ كَيْس الدَّرَاهِم بَيْنَ يَدَيْهِ. فَقَالَ: بَعَثَ الأَمِيرُ طَاهِر بِهَذَا الْمَالِ إِلَيْكَ لِتُنْفِقَهُ عَلَى أَهْلِكَ. فَقَالَ: خُذْهُ خُذْهُ لا أَحْتَاجُ إِلَيْهِ فَإِنَّ الشَّمْسَ قَدْ بَلَغَتْ رُؤُوس الْحِيطَان وَإِنَّمَا تَغْرُبُ بِعْدَ سَاعَةٍ وَأَنَا قَدْ جَاوَزْتُ الثَّمَانِينَ سَنَة إِلَى مَتَى أَعِيشُ. فَرَدَّ الْمَالَ وَلَمْ يَقْبَلْ فَأَخَذَ الرَّسُولُ الْمَالَ وَذَهَبَ وَدَخَلَ عَلَى الشَّيْخِ ابْنَهُ وَقَالَ: يَا أَبَتِ لَيْسَ لَنَا اللَّيْلَة خُبْزٌ. قَالَ: فَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ خَلْفَ الرَّسُولَ لَيَرُدَّ الْمَالَ إِلَى صَاحِبِهِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَذْهَبَ ابْنَهُ خَلْفَ الرَّسُولِ فَيَأْخُذَ الْمَالَ، هَذَا مِنْ رَقَمِ وَاحِد فِي الزُّهْدِ. وَقَالَ أَحَدُ الزُّهَادُ لِلْمَنْصُورِ: اذْكُرْ لَيْلَةً تَبِيتُ فِي الْقَبْرِ لَمْ تَبِتْ لَيْلَةً مَثْلَهَا، وَاذْكُرْ لَيْلَةً تَمخض عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا لَيْلَةَ بَعْدَهَا. فَأَفْحَمَ الْمَنْصُور قَوْلُهُ فَأَمَرَ لَهُ بِمَالٍ فَرَدَّهُ وَقَالَ: لَوْ احْتَجْتُ إِلَى مَالِكَ مَا وَعَظْتُكَ. (للهِ دَرُّهُ مَا أَزْهَدُهُ بِالْحُطَامِ الْفَانِي) . وَقَالَ لابْنِهِ لَمَّا وَلاهُ الْعَهْدَ: إسْتَدِمْ النِّعْمَةَ بِالشُّكْرِ، وَالْقُدْرَةَ بِالْعَفْوِ، وَالنَّصْرَ بِالتَّوَاضُعِ، وَالتَّآلِفَ بِالطَّاعَةِ، وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ من الدُّنْيَا، وَنَصِيبَكَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَقَالَ لِلرَّبِيعِ: وَيْحَكَ لَقَدْ رَأَيْتُ مَنَامًا هَالَنِي رَأَيْتُ قَائِلاً وَقَفَ فِي بَابِ هَذَا الْقَصْرِ يَقُولُ: كَأَنِّي بِهَذَا الْقَصْرُ قَدْ بَادَ أَهْلُهُ ... وَأَوْحَشَ مِنْهُ أَهْلُهُ وَمَنَازِلُهُ وَصَارَ رَئِيسُ الْقَصْرِ مِنْ بَعْدِ بَهْجَةٍ ... إِلَى جَدَثٍ يُبْنَى عَلَيْهِ جَنَادِلُهُ

وَكَانَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِي الشَّرِيفِ فِي الْمَدِينَةِ فَدَخَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْمَهْدِي فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ إِلا قَامَ. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ لَمْ يَقُمْ. قَالَ الْمُسَيب بن زهير: قُمْ هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: إِنَّمَا يَقُومُ النَّاسُ لِرّبِّ الْعَالَمِينَ. فَقَالَ الْمَهْدِي: دَعْهُ فلَقَدْ قَامَتْ كُلُّ شَعْرَةٍ فِي رَأْسِي. فَهَكَذَا الْعُلَمَاءُ الْمُخْلَصُونَ الَّذِينَ يَحْفَظُ اللهُ بِهُمْ الإِسْلامَ وَيَرْفَعُ اللهُ بِهُمْ الْمُسْلِمِينَ. تَأَمَّلْ يَا أَخِي هَلْ يُوَجَدُ فِي زَمَنِنَا مِثْلَ هَؤُلاءِ مَا أَظُنُّ يُوَجَدُ وَلا رَقَم ثَلاثَة لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ. فَإِنْ قُلْتُ زَنْدَ الْعِلْمِ كَابٍ فَإِنَّمَا ... كَبَى حَيْثُ لَمْ تُحْمَى حِمَاهُ وَأَظْلَمَا وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوُه صَانَهُمُ ... وَلَوْ عَظَّمُوُه فِي النُّفُوسِ لَعُظِّمَا وَلَكِنْ أَهَانُوُه فَهَانُوا وَدَنَّسُوا ... مَحْيَاهُ بِالأَطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَمَا وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. عَنْ جَعْفَر بن يَحْيَى بن خَالِد الْبَرْمَكِيّ قَالَ: مَا رَأَيْنَا فِي الْقُرَاءِ أَحَدًا مِثْلَ عِيْسَى بن يُونس أَرْسَلْنَا إِلَيْه فَأَتَانَا بِالرِّقَةِ فَاعْتل قَبْل أَنْ يَرْجِعَ فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَمْرو وَقَدْ أَمَرَ لَكَ بِعَشرة آلاف فَقَالَ: هِيَ فَقُلْتُ خمسون ألفًا، قَالَ: لا حَاجَة لي فيها، فَقُلْتُ: لِمَ وَاللهِ لأهنئنكها هِيَ وَاللهِ مائة ألف. قَالَ: لا وَاللهِ لا يُتَحَدثُ أَهْل الْعِلْمِ أَنَّي أَكَلْتُ لِلسُّنَّةِ ثَمَنًا، أَلا كَانَ هَذَا قَبْل أَنْ تُرْسِلُوا إِلَيَّ، فَأَمَّا عَلَى الْحَدِيثِ فَلا وَاللهِ وَلا شَرابة مَاء وَلا هليلجة. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْمُرْوَزِيّ سَمِعْتُ أحمد بن حَنْبَل وَذَكَرَ وَرَعَ عَيْسَى بن يُونُس، قَالَ: قَدِمَ فَأُمِرَ لَهُ بِمَائَةِ أَلْفٍ أَوَ قَالَ بِمَالٍ فَلَمْ يَقْبَلْ، وَتَدْرِي ابْن كَمْ كَانَ عِيسَى أَرَادَ أَنَّهُ كَانَ حَدَثَ السِّنّ.

وَقَالَ مُحَمَّد بن الْمُنْكَدِرِ حَجَّ الرَّشِيدُ فَدَخَلَ الْكُوفَةَ فَرَكِبَ الأَمِينُ وَالْمَأْمُونُ إِلَى عِيْسَى ابن يُونُس فَحَدَثَهُمَا فَأَمَرَ لَهُ الْمَأْمُونُ بِعَشَرَةِ آلافِ دِرْهَمٍ. فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا فَظَنَّ أَنَّهُ اسْتَقَلَّهَا، فَأَمَرَ لَهُ بِعِشْرِينَ أَلْفًا، فَقَالَ عِيسَى: لا وَاللهِ ولا إهليلجه ولا شربة ماء عَلَى حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَلَوْ مَلأَتَ لِيَ هَذَا الْمَسْجِد ذَهَبًا إِلَى السَّقْفِ. للهِ دُرَّهُ هذا مِنْ رَقَمِ (1) فِي الزُّهْدِ. طَلَبَ الْخَلِيفَةُ هُشَام بن عَبْد الملك ذَاتَ يَوْمٍ أَحَدَ الْعُلَمَاءِ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا هُشَام ثُمَّ خَلَعَ نعَلَيْهِ وَجَلَسَ بِجَانِبِهِ. فَغَضِبَ هُشَام وَهَمَّ بِقَتْلِهِ وَلَمَّا تَحَدَّقَ مَعَهُ وَجَدَهُ عَالِمًا كَبِيرًا. فَلَمَّا انْتَهى الْحَدِيث عَاتَبَهُ بِقَوْلِهِ: لَقَدْ سَمَّيْتَنِي بِاسْمِي وَلَمْ تُكَلِّمْنِي أَوْ تَدعُنِي بِالْخِلافَةِ وَخَلْعَتَ نعَلَيْكَ وَجَلَسْتَ بِجَانِبِي فَلَمْ فَعَلْتَ ذَلِكَ. قال له: لم أدعك بالخلافة لأن الناس لم ينتخبوك كلهم، وَسَميتك ولم أكنك، لأن الله جَلَّ وَعَلا وَتَقَدَّسَ نَادَى الأَنْبِيَاءَ بِأَسْمَائِهِمْ، فَقَالَ: يَا عِيْسَى، يَا إِبْرَاهِيم، يا موسى، يَا نُوح، يَا دَاوُودُ. وَكَنَّى عَدُوَّهُ فَقَالَ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} . وَخَلَعْتُ نَعْلِي بِجَانِبِكَ وَأَنَا اخْلَعْهُمَا لَمَّا أَدْخُلُ بِيْتَ رَبِّي. وَجَلَسْتُ بِجَانِبِكَ لأَنِّي سَمِعْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" مَنْ سَرَّهُ أَنْ يمثل لَهُ الرِّجَال قِيَامًا فَلْيَتَبَوَءُ مَقْعِدَهُ مِنَ النَّارِ» . فَكَرِهْتُ لَكَ النَّارَ فَأَمَرَ لَهُ هُشَام بِمَالٍ فَلَمْ يَقْبَلْهُ وَانْصَرَفَ. تَأَمَّلْ يَا أَخِي هَذَا الْوَرَعُ عَنْ أَخْذِ شَيْء مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا عَلَى مَا حَدَّثَهما بِهِ وَقَالَ: لا يُتَحَدَّثُ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّي أَكَلْتُ لِلسُّنَّةِ ثَمَنًا. فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ يَأْكُلُ بِالْكُتُبِ الَّتِي تَحْتَوِي عَلَى الآيَاتِ وَالأَحَادِيثِ بِاسْمِ تَحْقِيقٍ أَوْ نَشْرٍ وَيَحْتَكِرُهَا نَسْأَلَ اللهُ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَة فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة. نَعُوذُ بِاللهِ

مِنْ عَمَى الْبَصِيرَةِ، قَالَ الله تَعَالَى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} وَأَكْثِرْ يَا أَخِي مِنْ قَوْلِ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي عَافَنَا مِمَّا ابْتَلاهُمْ، اللهُ يُعَافِيهِمْ وَلا يُبلانَا. وَيُرْوَى عَنْ أَبِي عَمْرو الزَّاهِد صَاحِب أَبِي العَبَّاس أَنَّ بَعْضَ الْوُزَرَاءِ أَرْسَلَ إِلَيْهِ مَبْلَغ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِقُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ لَيَجْرِِيَ عَلَيْهِ كِفَايَتَهُ فَقَالَ لِلرَّسُولِ الَّذِي أرسله أحد الوزراء قل لصاحبك أنا في جراية الذي مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا عَلَيْهِ رِزْقُهَا وَإِذَا غَضِبَ عَلَيَّ لَمْ يَقْطَع عَنِّي مَا يَجْرِيهُ عَلَيَّ " للهِ دُرَّهُ هَذَا مِنْ رَقَم (1) فِي الْعَفَافِ وَالزُّهْدِ» . اللَّهُمَّ اخْتِمْ بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ أَعْمَارَنَا وَحَقِّقْ بِفَضْلِكَ آمَالَنَا وَسَهِّلْ لِبُلُوغِ رِضَاكَ سُبُلَنَا وَحَسِّنْ فِي جِمِيعِ الأَحْوَالِ أَعْمَالَنَا، يَا مُنْقِذَ الْغَرْقَى وَيَا مُنْجِيَ الْهَلْكَى وَيَا دَائِمَ الإِحْسَانِ أَذِقْنَا بَرْدَ عَفْوِكَ وَأَنِلْنَا مِنْ كَرَمِكَ وَجُودِكَ مَا تَقِرُّ بِهِ عُيُونُنَا مِنْ رُؤْيَتِكَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. شِعْرًا: ... قُلْ الْحُمَاةُ وَمَا فِي الْحِيِّ أَنْصَارُ ... وَدَبَّرَ الأَمْرَ أَحْدَاثٌ وَأَعْمَارُ وَأَصْبَحَتْ دَارُنَا تَبْكِي لِفُرْقَتِهَا ... كُلَّ الْكِرَامِ الَّذِي بِالْجِدِّ قَدْ سَارُوا سَارُوا جَمِيعًا فَصَارُوا لِلْوَرَى سَمَرًا ... يَتْلُوا لِذِكْرَاهُمُ فِي الْحَي سَمَّارُ لَهْفِي عَلَيْهِمْ لَوْ أَنَّ الَّلْهفَ يَنْفَعُنِي ... جَدَّدْتُ لَهْفِي وَدَمْعَ الْعَيْنِ مِدْرَارُ مَا فِي الزَّمَانِ فَتَىً نَرْجُوهُ فِي حَدَثٍ ... وَلا رِجَالاً لَهُمْ فِي الْمَجْدِ إِخْطَارُ وَلا مُعِينًا عَلَى بَلْوَى يُدَافِعُهَا ... إِذَا الْغَرِيبُ جَفَاهُ الصَّحْبُ وَالْجَارُ سِوَى لِئَامٍ لَهُمْ بِالْغِشِّ سَرْبَلَةٌ ... وَفِي الْقُلُوبِ لَهُمْ بِالضِّعْنِ إِعْصَارُ وَالْحِقْدُ وَالْغِلُّ وَالْبَغْضَاءُ بَيْنَهُمُ ... لا يُفْلِحُوا أَبَدًا وَالْخَيْرُ يَنْهَارُ وَيَحْسُدُونَ عَلَى النَّعْمَاءِ صَاحِبَهَا ... وَيَشْمَتُونَ إِذَا مَا حَلَّ إِعْسَارُ وَالَّلمْزُ فِيهِمْ وَكُلَّ الْقُبْحِ قَدْ جَمَعُوا ... وَفِي الْقُلُوبِ مِنَ الأَحْقَادِ أَوْغَارُ لا خَيْرَ فِيهِمْ وَلا نُصْحًا نُؤَمِّلُهُ ... قَدْ فَارَقُوا الرُّشْدَ إِنْ حَلُّو وَإِنْ سَارُوا وَإِنْ بَدَا لَكَ أَمْرٌ بِالْمُنَى خَلِعٌ ... أَوْلَوْكَ غَدْرًا وَفِي أَفْعَالِهِمْ جَارُوا

.. لا تَقْرَبَنَّ لَهُمْ لا زِلت مُدَّرِعًا ... ثَوْبَ الْعَفَافِلَ وَحُطَّتْ عَنْكَ آصَارُ وَأَطْلُبْ جَلِيسًا كَرِيمَ النَّفْسِ مُلْتَمِسًا ... حُسْنَ الطِّبَاعِ وَلا تَعْرُوهُ أَغْيَارُ إِنْ غِبْتَ حَاذَ وَلا تُلْقِيهِ مُنْتَقِصًا ... لِلْعِرْضِ مِنْكَ وَلِلزَّلاتِ غَفَّارُ هَذَا هُوَ الْخِلُّ فَالْزَمْ إِنْ ظَفِرْتَ بِهِ ... وَمِثْلُ هَذَا لأَهْلِ اللُّبِّ مُخْتَارُ وَقَلَّ مِثْلا وَمَا ظَنِّي تُحَصِّلُهُ ... قَدْ قَلَّ فِي النَّاسِ هَذَا الْيَوْمَ أَحْرَارُ فَأْنَسْ بِرَبِّكَ قََعْرَ الْبَيْتِ مُلْتَزِمًا ... إلى الْمَمَاتِ فَهَذَا الْيَوْمَ إِبْرَارُ وَلِلصَّلاةِ فَلا تُهْمِلْ جَمَاعَتَهَا ... مَعَ جُمْعَةِ فَرْضُهَا مَا فِيهِ إِنْكَارُ وَالصِّدْقَ وَالْبِرَّ لا تَعْدُوهُمَا أَبَدًا ... مَنْ نَالَ ذَا فَلَهُ فِي الْحَمْدِ أَذْكَارُ وَأَلْزَمْ عَفَافًا وَلا تَتْبَعْ طَرِيقَ هَوَىً ... إِنَّ الْهَوَى لِلْوَرَى يَا صَاحِ غَرَّارُ وَأَذْكُرْ إِلَهًا فِي خَلْقِهِ مِنَنٌ ... تَجْرِي عَلَى النَّاسِ مِنْ جَدْوَاهُ أَنْهَارُ وَاحْفَظْ لِسَانَكَ عَنْ لَغْوٍ وَعَنْ رَفَثٍ ... مَا نَالَ فَضْلاً مَدَى الأَيَّامِ مِهْذَارُ وَأَرْحَمْ يَتِيمًا غَدَا بِالْيُتْمِ مُتَّصِفًا ... وَامْنَحْهُ لُطْفًا تُنَحَّى عَنْكَ أَوْزَارُ وَصِلْ قَرِيبًا وَلا تَقْطَعُ لَهُ رَحِمًا ... إِنَّ الْقَرِيبَ لَهُ بِالْحَقِّ إِيثَارُ وَبِرَّ جَارًا وَلا تَهْتِكْ مَحَارِمَهُ ... قَدْ جَاءَ فِيهِ مِنَ الآثَارِ إِخْبَارُ وَكُنْ حَلِيمًا وَلا تَغْضَبْ عَلَى أَحَدٍ ... فَالْحلُم فِيهِ لأَهْلِ الْحِلْمِ إِسْرَارُ وَتَمَّ نَظْمِي وَصَلَّى خَالِقِي أَبَدًا ... عَلَى الْمُشَفَّعِ مَنْ بِالرُّشْدِ أَمَّارُ وَآلِهِ الْغُرِّ مَعْ صَحْبٍ أَوْلَى كَرَمٍ ... مَا هَبَّتِ الرِّيحُ أَوْ مَا سَارَ سَيَّارُ اللَّهُمَّ قَنِّعْنَا مِنَ الدُّنْيَا بِالْيَسِيرِ، وَسَهِّلْ عَلَيْنَا كُلَّ أَمْرٍ عَسِيرٍ وَوَفِّقْنَا لِمَا تُحِبُّهُ وَتَرْضَاهُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَسْكِنَّا دَارَ كَرَامَتِكَ يَا مَنْ هُوَ مَلْجَؤُنَا وَمَلاذُنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ، وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ كُلّ هَمٍّ فَرَجًا وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا. وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

نماذج من إخلاص بعض العلماء

" فَصْلٌ " وَعَنْ أَبِي قُدَامَةَ السَّرْخَسِيّ قَالَ: قَامَ الْعمريُّ لِلْخَلِيفَةِ عَلَى الطَّرِيقِ فَقَالَ لَهُ: فَعَلْتَ وَفَعْلْتَ. فَقَالَ لَهُ: مَاذَا تُرِيدُ؟ قَالَ: تَعْمَلُ بِكَذَا وَتَعْمَلُ بِكَذَا. فَقَالَ لَهُ هَارِون: نَعْم يَا عَم نَعَم يَا عم. وَعَنْ سَعِيد بن سُلَيْمَان قَالَ: كُنْتُ بِمَكَّة فِي زُقَاقِ الشّطوي وَإِلَى جَنْبِي عَبْد اللهِ بن عَبْد الْعَزِيز الْعُمَرِيِّ وَقَدْ حَجَّ هَارُون الرَّشِيد. فَقَالَ لَهُ إِنْسَانٌ: يَا أَبَا عَبْد الرَّحْمَنِ هُوَ ذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَسْعَى قَدْ أُخْلِيَ لَهُ الْمَسْعَى. قَالَ الْعُمَرِيُّ لِلرَّجُلِ: لا جَزَاكَ اللهُ عَنِّي خَيْرًا، كَلَفْتَنِي أَمْرًا كُنْتُ عَنْهُ غَنِيًا. ثُمَّ تَعَلَّقَ نعَلَيْهِ (أَي لَبِسَهُمَا) . وَقَامَ فَتَبِعته وَأَقْبَلَ هَارُونُ الرَّشِيد مِنَ الْمَرْوَةِ يُرِيدُ الصَّفَا فَصَاحَ بِهِ: يَا هَارُونُ! فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ قَالَ: لَبَّيْكَ يَا عَمّ. قَالَ: ارْقِ الصَّفَا. فَلَمَّا رَقِيَهُ. قَالَ: ارْمِ بِطَرْفِكِ إِلَى الْبَيْتِ. قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. قَالَ: كَمْ هُمْ؟ قَالَ: وَمَنْ يَحْصِيهُمْ؟ قَالَ: فَكَمْ فِي النَّاسِ مِثْلِهِمْ؟ قَالَ: خَلْقٌ لا يُحْصِيهُمْ إِلا اللهُ. قَالَ: اعْلَمْ أَيُّهَا الرَّجُلُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُسْأَلُ عَنْ خَاصَّةِ نَفْسهُ وَأَنْتَ وَحْدُكَ تُسْأَلُ عَنْهُمْ كُلّهمْ فَانْظُرْ كَيْفَ تَكُونُ؟ قَالَ: فَبَكَى هَارُونُ وَجَلَسَ وَجَعَلُوا يُعْطُونَهُ مِنْدِيلاً مِنْدِيلاً لِلدُّمُوعِ. قَالَ الْعُمَرِيًّ: وَأُخْرَى أَقُولُهَا. قَالَ: قُلْ يَا عَمّ. قَالَ: وَاللهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيُسْرِفَ فِي مَالِهِ فَيَسْتَحِقُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ يُسْرِفُ فِي مَالِ الْمُسْلِمِينَ؟ ثُمَّ مَضَى وَهَارُونُ يَبْكِي. قَالَ مُحَمَّد بن خَلَف: سَمِعْتُ مُحَمَّد بن عَبْد الرَّحْمَنِ يَقُولُ: بَلَغَنِي أَنَّ هَارُونَ الرَّشِيد قَالَ: إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ أَحِجُّ كُلَّ سَنَةٍ مَا يَمنعنني إِلا رَجُل مِنْ وَلَدِ عُمَر ثُمَّ يُسْمِعُنِي مَا أَكْرَهُ.

وَقَدْ رَوِيَ لَنَا مِنْ طَرِيقٍ آخَرٌ أَنَّهُ لَقِيَهُ فِي الْمَسْعَى فَأَخَذَ بِلِجَامِ دَابَّتُهُ فَأَهْوَتْ إِلَيْهِ الأَجْنَادُ فَكَفَّهُمْ عَنْهُ الرَّشِيدُ فَكَلَّمَهُ فَإِذَا دُمُوع الرَّشِيد تَسِيلُ عَلَى مَعْرِفَةِ دَابَّتِهِ. ثُمَّ انْصَرَفَ. وَأَنَّهُ لَقِيَهُ مَرَّةً فَقَالَ: يَا هَارُونُ فَعَلْتَ وَفَعَلْتَ. فَجَعَلَ يَسْمَعُ مِنْهُ ويَقُولُ: مَقْبُولٌ مِنْكَ يَا عَمّ، عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ حَالِ النَّاسِ كِيتَ وَكِيتَ. فَقَالَ: عَنْ غَيْرِ عِلْمِي وَأَمْرِي. وَخَرَجَ الْعُمَرِيُّ إِلَى الرَّشِيدِ مَرَّةٌ لِيَعِظَهُ فَلَمَّا نَزَلَ الْكُوفَةَ زَحَفَ الْعَسْكَرُ حَتَّى لَوْ كَانَ نَزَلَ بِهِمْ مِائَةَ أَلْفٍ مِنَ الْعَدُوِّ مَا زَادُوا عَلَى هَيْبَتِهِ. ثُمَّ رَجَعَ وَلَمْ يَصِلُ إِلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي يَحْيَى الزُّهَرِيّ قَالَ: قَالَ عَبْد اللهِ بن عَبْد الْعَزِيز الْعُمَرِيّ عِنْدَ مَوْتِهِ: بِنِعْمَةِ رَبِّي أُحَدِّثُ أَنِّي لَمْ أُصْبِحُ أَمْلُكُ إِلا سَبْعَةَ دَرَاهِم مِنْ لِحَاءِ شَجَرٍ فَتَلْتُهُ بِيَدِيّ وَبِنِعْمَةِ رَبِّي أُحَدِّثُ: لَوْ إِنَّ الدُّنْيَا أَصْبَحَتْ تَحْتَ قَدَمِي مَا يَمْنَعُنِي أَخْذُهَا إِلا أَنْ أُزِيلَ قَدَمِي عَنْهَا؛ مَا أَزَلْتُهَا. اسْتَسْقَى مُوَسَى بن نُصَيْر فِي النَّاس فِي سنة 93 حِينَ أُقْحِطُوا بِإِفْرِيقية فَأَمَرَهُمْ بِصِيَامِ ثَلاثةَ أَيَّامٍ ثُمَّ خَرَجَ بِهُمْ وَمَيَّزَ أَهْل الذِّمَة عَنْ الْمُسْلِمِين وَفَرَّقَ بَيْنَ الْبَهَائِمِ وَأَوْلادَهَا ثُمَّ أَمَرَ بِالبُكَاءَ وَارْتِفَاع الضَّجِيجِ وَهُوَ يَدْعُو اللهَ تَعَالَى حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارَ ثُمَّ نَزَل فَقِيلَ لَهُ: أَلا دَعَوْتَ لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: هَذَا مَوْطِنٌ لا يُذْكَرُ فِيهِ إِلا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فَسَقَاهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَّا قَالَ ذَلِكَ. كَتَبَ زر بن حُبَيْش إِلَى عَبْدِ الْمَلِكَ بن مروان كِتَابًا يَعِظُهُ فِيهِ فكَانَ فِي آخِرِهِ: وَلا يُطْمِِعُُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي طُولِ الْحَيَاةِ مَا يَظْهَرُ مِنْ صِحَّةِ بَدَنِكَ فَأَنْتَ أَعْلَمُ بِنَفْسِكَ وَاذْكُرْ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الأَوَلُونَ. شِعْرًا: ... إِذَا الرِّجَالُ وَلَدَتْ أَوْلادُهَا ... وَبُلِِيَتْ مِنْ كِبَرِ أَجْسَادُهَا

وَجَعَلْتَ أَسْقَامَهَا تَعْتَادُهَا ... فَذِي زُوعٌ قَدْ دَنَا حَصَادُهَا فَلَمَّا قَرَأَ عَبْدُ الْمَلِكِ الْكتب بَكَى حَتَّى بَلَّ طَرَفَ ثَوْبَهُ بِدُمُوعِهِ ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ زر وَلَوْ كَتَبَ إِلَيْنَا بِغَيْرِ هَذَا كَانَ أَرْفَقَ بِنَا. شِعْرًا: ... يَا بَانِي الْقَصْرِ الْكَبِيرِ ... بَيْنَ الدَّسَاكِرِ وَالْقُصُورْ وَمُجَرِّر الْجَيْشِ الَّذِي ... مَلأَ الْبَسِيطَةَ وَالصُّدُورْ وَمُدَوِّخ الأَرْضِ الَّتِي ... أَعْيَتْ عَلَى مَرِّ الدُّهورْ أَمَا فَزِعْتَ فَلا تَدَعْ ... بُنْيَانَ قَبْرِكَ فِي الْقُبُورْ وَانْظُرْ إِلَيْهِ تَرَاهُ كَيْـ ... ـفَ إِلَيْكَ مُعْتَرِضًا يُشِيرْ وَاذْكُرُ رُقَادَكَ وَسْطَهُ ... تَحْتَ الْجَنَادِلِ وَالصُّخُورْ قَدْ بُدِّدتْ تِلْكَ الْجُيُو ... شُ وَغُيِّرْتَ تِلْكَ الأَمُورْ وَاعْتَضْتَ مِنْ لِينِ الْحَرِيـ ... ـرِ خُشُونَةَ الْحَجَرِ الْكَبِيرْ وَتُرِكْتَ مُرْتَهِنًا بِهِ ... لا مَالَ وَيْكَ وَلا عَشِيرْ حَيْرَانَ تُعْلِنُ بِالأَسَى ... لَهْفَانَ تَدْعُو بِالثُّبُورْ وَدُعِيتَ بِاسْمِكَ بَعْدَمَا ... قَدْ كُنْتَ تُدْعَى بِالأَمِيرِْ وَلأَنْتَ أَهْوَنُ فِيهِ مِنْ ... جُعْلٍ عَلَى نَتْنٍ يَدُورْ إِنْ لَمْ يَجُدْ بِالْعَفْوِ مَنْ ... يَعْفُو عَنْ الذَّنْبِ الْكَبِيرْ هَذَا هُوَ الْحَقُّ الْيَقِيـ ... ـنُ وَكُلُّ ذَاكَ هُوَ الْغُرُورْ اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ، وثبتها على قولك الثابت فِي الحياة الدُّنْيَا وفي الآخِرَة وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وألحقنا بعبادك الصالحين يَا أكرم الأكرمين ويا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " فَصْلٌ " وعن الفضل بن الربيع قَالَ: حج أَمِير الْمُؤْمِنِينَ الرشيد فأتاني فخرجت

مسرعًا فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لو أرسلت إلي أتيك. فَقَالَ: ويحك قَدْ حاك فِي نفسي شَيْء فَانْظُرْ لي رجلا أسأله. فَقُلْتُ: ها هنا سفيان بن عيينة. فَقَالَ: امض بنا إليه. فأتيناه فقرعت الْبَاب فَقَالَ من ذَا؟ فَقُلْتُ: أجب أَمِير الْمُؤْمِنِينَ. فخَرَجَ مسرعًا فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لو أرسلت إلي أتيتك. فَقَالَ لَهُ: خُذْ لما جئناك لَهُ رَحِمَكَ اللهُ. فحدثه ساعة ثُمَّ قَالَ لَهُ: عَلَيْكَ دين؟ قَالَ: نعم. فَقَالَ: أبا عَبَّاس اقض دينه، فَلَمَّا خرجنا قَالَ: مَا أَغنى عني صاحبك شَيْئًا، انْظُرْ لي رجلاً أسأله. فقُلْتُ لَهُ: ها هنا عبد الرزاق بن همام. قَالَ: امض بنا إليه فأتيناه فقرعت الْبَاب فَقَالَ: من هَذَا؟ قُلْتُ: أجب أَمِير الْمُؤْمِنِينَ. فخَرَجَ مسرعًا فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لو أرسلت إلي آتيتك. قَالَ: خذ لما جئناك لَهُ. فحادثه ساعة ثُمَّ قَالَ لَهُ: عَلَيْكَ دين؟ قَالَ: نعم. قَالَ: أبا عَبَّاس اقض دينه. فَلَمَّا خرجنا قَالَ: مَا أغنى صاحبك شَيْئًا انظر لي رجلاً أسأله. قُلْتُ: ها هنا الفضيل بن عياض. قَالَ: امض بنا إليه. فأتيناه فَإِذَا هُوَ قائم يصلي يتلو آية من الْقُرْآن يرددها. فَقَالَ: اقرع الْبَاب. فقرعت الْبَاب فَقَالَ: من هَذَا؟ فَقُلْتُ: أجب أَمِير الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: مَا لي ولأمير الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقُلْتُ: سبحان الله أما عَلَيْكَ طاعة؟ ألَيْسَ قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ:" لَيْسَ للمُؤْمِنِ أن يذل نَفْسهُ " فنزل ففتح الْبَاب ثُمَّ ارتقى إلى الغرفة فأطفأ المصباح ثُمَّ التجأ إلى زاوية من زوايا البيت. فدخلنا فجعلنا نجول بأيدينا فسبقت كف هارون قبلي إليه. فَقَالَ: يَا لها من كف مَا ألينها إن نجت غدًا من عذاب الله عز وجل.

فقُلْتُ فِي نفسي: ليكلمنه الليلة بكلام نقي من قلب تقي. فَقَالَ لَهُ: خذ لما جئناك لَهُ رَحِمَكَ اللهُ. فَقَالَ: إن عُمَر بن عبد العزيز لما وَلِيَ الخلافة دعا سالم بن عَبْد اللهِ، ومُحَمَّد بن كعب القرظي ورجَاءَ بن حيوة فَقَالَ لَهُمْ: إني قَدْ ابتليتُ بهَذَا البَلاء فأشيروا عليَّ. فعد الخلافة بَلاء وعددتها أَنْتَ وأصحابك نعمة. فَقَالَ لَهُ سالم بن عَبْد اللهِ: إن أردت النجاة غدًا من عذاب الله فصم عَنْ الدُّنْيَا وليكن إفطارك من الموت. وَقَالَ لَهُ مُحَمَّد بن كعب القرظي: إن أردت النجاة من عذاب الله، فليكن كبير الْمُسْلِمِين عندك أبًا وأوسطهم أخًا وأصغرهم عندك ولدًا فوقر أباك واكرم أخاك وتحنن على ولدك. وَقَالَ لَهُ رجَاءُ بن حيوة: إن أردت النجاة غدًا من عذاب الله عَزَّ وَجَلَّ فأحب لِلْمُسِلِمِينَ مَا تحب لنفسك واكره لَهُمْ مَا تكره لنفسك ثُمَّ مت إِذَا شَئْتَ. وإني أَقُول لَكَ: إني أخاف عَلَيْكَ أشد الخوف يوم تزل فِي الأقدام فهل معك رَحِمَكَ اللهُ من يشير عَلَيْكَ بمثل هَذَا؟ فَبَكَى هارون بُكَاء شَدِيدًا حَتَّى غشى عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُ: أرفق بأمير الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: يَا ابن أم الربيع تقتله أَنْتَ وأصحابك وأرفق به أَنَا ثُمَّ أفاق فَقَالَ لَهُ: زدني رَحِمَكَ اللهُ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بلغني أن عاملاً لعمر بن عَبْد الْعَزِيز شكا إليه. فكتب إليه عُمَر: يَا أخي أذكرك طول سهر أَهْل النار فِي النار مَعَ خلود الأبد وَإِيَّاكَ أن ينصرف بك من عِنْدَ الله فيكون آخر العهد وانقطاع الرجَاءَ. قَالَ: فَلَمَّا قَرَأَ اْلكِتَابَ طوى الْبِلاد حَتَّى قَدِمَ عَلَى عُمَر بن عَبْد الْعَزِيز فَقَالَ

له: مَا أقدمك؟ قَالَ: خلعت قلبي بِكِتَابِكَ لا أَعُود إلى ولاية أبدًا حَتَّى ألقى الله عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ: فَبَكَى هارون بُكَاء شَدِيدًا ثُمَّ قَالَ لَهُ: زدني رَحِمَكَ اللهُ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إن العَبَّاسَ عمّ المصطفى - صلى الله عليه وسلم - جَاءَ إلى النَّبِيّ فَقَالَ: يَا رَسُول اللهِ أمرني على إمارة فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «إن الإمارة حَسْرَة وندامة يوم القيامة فَإِنَّ استطعت أن لا تَكُون أميرًا فافعل» . فَبَكَى هارون بُكَاء شَدِيدًا وَقَالَ لَهُ: زدني رَحِمَكَ اللهُ فَقَالَ: يَا حسن الوجه أَنْتَ الَّذِي يسألك الله عَزَّ وَجَلَّ عَنْ هَذَا الخلق يوم القيامة، فَإِنَّ استطعت أن تقي هَذَا الوجه من النار فافعل، وَإِيَّاكَ أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك فَإِنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «من أصبح لَهُمْ غاشًا لم يرح رائحة الْجَنَّة» . فَبَكَى هارون وَقَالَ لَهُ: عَلَيْكَ دين؟ قَالَ: نعم دين لرَبِّي يحاسبَنِي عَلَيْهِ، فالويل لي إن سألني، والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم ألهم حجتي. قَالَ: إِنَّمَا أعني دين العباد. قَالَ: إن رَبِّي لم يأمرني بهَذَا، أمر رَبِّي أن أوحده وأطيع أمره، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} . فَقَالَ لَهُ: هَذِهِ ألف دينار خذها فَأَنْفِقْهَا عَلَى عِيَالِكَ وتقوى على عبادتك. فَقَالَ: سبحان الله أَنَا أدلك على طَرِيق النجاة وأَنْتَ تكافئني بمثل هَذَا؟ سلمك الله ووفقك. ثُمَّ صمت فَلَمْ يكلمنا فخرجنا من عنده فَلَمَّا صرنا على الْبَاب قَالَ هارون: أبا عَبَّاس إِذَا دللتني على رجل فدلني على مثل هَذَا، هَذَا سيد الْمُسْلِمِين.

فدخلت عَلَيْهِ امرأة من نسائه فقَالَتْ: يَا هَذَا قَدْ تَرَى مَا نَحْنُ فيه من ضيق الحال فلو قبلت هَذَا الْمَال فتفرجنا به. فَقَالَ لها: مثلي ومثلكم كمثل قوم كَانَ لَهُمْ بعير يأكلون من كسبه فَلَمَّا كبر نحروه فأكلوا لحمه. فَلَمَّا سمَعَ هارون هَذَا الكلام قَالَ: ندخل فعَسَى أن يقبل الْمَال فَلَمَّا علم الفضيل خَرَجَ فجلس فِي السطح على باب الغرفة، فَجَاءَ هارون فجلس إلى جنبه فجعل يكلمه فلا يجيبه فبينما نَحْنُ كَذَلِكَ إِذَا خرجت جارية سوداء فقَالَتْ: يَا هَذَا قَدْ أتعبت الشَّيْخ مُنْذُ اللَّيْلَة فانصرف رَحِمَكَ اللهُ. فانصرف. تأمل يَا أخي هل يوَجَد فِي زمننا من يَرُدُّ حطام الدُّنْيَا إِذَا عرض عَلَيْهِ، لا حول ولا قوة إِلا بِاللهِ العلي العَظِيم. هَذَا الله وأعْلَمْ أَنَّهُ من رقم (1) فِي الزهد. بَلِّغْ يَا أخي من يأكلون بالكتب الدينية باسم تحقيق ونشر وقل لَهُمْ قَالَ الله تَعَالَى: {قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ} واذكر لَهُمْ طريقة الرسل وأنهم لا يسألون النَّاس أجرًا. شِعْرًا: ... اعْلَمْ بِأَنَّ طَرِيقَ الْحَقِّ مُنْفَرِدٌ ... وَالسَّالِكُونَ طَرِيقَ الْحَقِّ أَفْرَادُ لا يَطْلُبُونَ وَلا تُطْلَبْ مَسَاعِيهُم ... فَهُمُ عَلَى مَهَل يَمْشُونَ قُصَّادُ وَالنَّاس فِي غَفْلَةٍ عَمَّا لَهُ قَصَدُوا ... فَجُلَهُمْ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ رُقَّادُ قيل: إن هارون الرشيد خَرَجَ فِي نزهة ومعه سُلَيْمَانٌ بن جعفر فَقَالَ لَهُ هارون: قَدْ كَانَتْ لَكَ جارية تغني فتحسن الغنا فأت بها فجاءت فغنت فَلَمْ تحسن الغنا فَقَالَ لها: مَا شأنك قَالَتْ: لَيْسَ هَذَا عودي. فَقَالَ للخادم جئها بعودها قَالَ: فَجَاءَ بالعود فوافق شيخنا يلقط النوى فَقَالَ: إبعد عَنْ الطَرِيق يَا شيخ فرفع الشَّيْخ رأسه فرأى العود فأخذه فضرب به الأَرْض. فأخذه الخادم وذهب به إلى صَاحِب الربع فَقَالَ: احتفظ بهَذَا فإنه سيطلبه أَمِير الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ لَهُ صَاحِب الربع: لَيْسَ ببغداد أعبد من هَذَا فَكَيْفَ يطلبه أَمِير الْمُؤْمِنِينَ.

فَقَالَ لَهُ: اسمَعَ مَا أَقُول لَكَ. ثُمَّ دخل على هارون الرشيد فَقَالَ لَهُ: إني مررت على شيخ يلقط النوى، فَقُلْتُ: تنح عَنْ الطَرِيق يَا شيخ. فرفع رأسه فرأى العود " أي عود الغنا " فأخذه وضرب به الأَرْض. فغضب هارون واستشاط واحمرت عَيْنَاهُ فَقَالَ سُلَيْمَانٌ بن جعفر: مَا هَذَا الْغَضَب يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إبعث إلى صَاحِب الربع يضرب عنقه ويرمي به فِي دجلة فَقَالَ: لا ولكن نَبْعَث إليه فنناظره أَوَّلاً. قَالَ: فبعث إليه فَجَاءَهُ الرَّسُول فَقَالَ: أجب أَمِير الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ نعم. قَالَ: أركب. قَالَ: لا فَجَاءَ يمشي حَتَّى أوقف على باب القصر فَقِيلَ لهارون: قَدْ جَاءَ الشَّيْخ. فَقَالَ لنداماه: أي شَيْء ترون نرفع من مَا قدامنا من الْمُنْكَر حَتَّى يدخل الشَّيْخ أَوْ تَقُوم إلى مجلس آخر لَيْسَ فيه منكر. فَقَالُوا: نقوم إلى مجلس آخر لَيْسَ فيه منكر فقاموا صغرة إلى مجلس لَيْسَ فيه منكر. ثُمَّ طلب الشَّيْخ فأدخل وفي كمه الكيس الَّذِي فيه النوى (أي الفصم) فَقَالَ لَهُ الخادم أَخْرَجَ هَذَا وادخل على أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: من هَذَا عشائي اللَّيْلَة. قَالَ: نَحْنُ نعشيك. قَالَ: لا حَاجَة لي فِي عشاكم. فَقَالَ لَهُ هارون: أي شَيْء تريد منه؟ فَقَالَ فِي كمه نوى فَقُلْتُ لَهُ: اطرحه وادخل على أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: دعه لا تطرحه فدخل على هارون وجلس. فَقَالَ هارون: يَا شيخ مَا حَمَلَكَ على مَا صنعت؟ قَالَ: وأي شَيْء صنعته؟ وجعل هارون يستحي أن يَقُولُ كسرت عودنا. فَلَمَّا أَكْثَر عَلَيْهِ فَقَالَ الشَّيْخ لهارون: إني سمعت آباءك وأجدادك يقرءون هَذِهِ الآيَة على المنبر: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} ورَأَيْت منكرًا فغيرته.

قَالَ: فغيره. قَالَ الراوي: فوَاللهِ مَا قَالَ إِلا هَذَا فَلَمَّا خَرَجَ أعطى هارون رجلاً بدرة يعنى عشرة آلاف درهم فَقَالَ لَهُ: اتبع الشَّيْخ فَإِنَّ رأيته يَقُولُ قُلْتُ لأمير الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَ لي فلا تعطه شَيْئًا وأتني به وإن رأيته لا يكلم أَحَدًا فأعطه البدرة. فَلَمَّا خَرَجَ من القصر تبعه ولم يره يكلم أَحَدًا فَقَالَ لَهُ: يَقُولُ لَكَ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ خذ هَذِهِ البدرة. فَقَالَ: قل لأمير الْمُؤْمِنِينَ: يردها من حيث أخذها. فَانْظُرْ رَحِمَكَ اللهُ كيف حفظه الله جَلَّ وَعَلا من سطوتهم ورد عَنْهُ كيدهم ببركة الإِخْلاص والتقوى لِرّبِّ الْعَالَمِينَ وَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لابن عَبَّاس: «يَا غلام احفظ الله يحفظك» . ولو كَانَ هَذَا من الجهلة المرائين لخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: اتفق لي مَعَ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ كَذَا وَكَذَا وَقَالَ لي وقُلْتُ لَهُ يتبجح بذَلِكَ ولا يقنع بعلم الله جَلَّ وَعَلا واطلاعه. هَذَا. الله أعْلَمْ أَنَّهُ من رقم (1) فِي الزهد. فينبغي التفطن لمثل هَذَا فإنه دَلِيل على مَا فِي الْقَلْب من الداء الدفين من الرياء وطلب الجاه والمنزلة فِي قُلُوب الخلق. وقَدْ روى النسائي وأَبُو داود أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إن الله لا يقبل من الْعَمَل إِلا مَا كَانَ خالصًا ويبتغي به وجهه» . فإن قُلْتُ: فما الَّذِي يميز لَنَا النِّيْة الصَّالِحَة الْخَالِصَة من النِّيْة الفاسدة وَمَا العلامة فِي ذَلِكَ والمعيار فِي صحته. قُلْتُ: محل الاعتبار فِي ذَلِكَ أن يرى الْمُنْكَر نَفْسهُ كالمكره على هَذَا الْفِعْل وكالمتكلف لَهُ والمتجشم المشقة فيه. ويود لو تصدى لهَذَا الْفِعْل غيره وكفاه الله به ويحب أن لا يعلم به أحد من النَّاس اكتفاء بعلم الله جَلَّ وَعَلا وتقدس واطلاعه عَلَيْهِ.

ويختار الكلام مَعَ ولي الأَمْر من سلطان أَوْ غيره فِي الْخُلْوَة على الكلام معه لا على رؤوس الأشهاد. بل يود لو كلمه سرًا وحده ونصحه خفية من غير حضور ثالث لهما ويكره أن يُقَالَ عَنْهُ أَوْ يحكي مَا اتفق لَهُ. ويكره أن يشتهر بذَلِكَ بين العامة بل لو أثر كلامه وغير المنكر بقوله ثُمَّ اشتهر عِنْدَ النَّاس نسبة ذَلِكَ إلى غيره لما شق عَلَيْهِ. ذَلِكَ إِذَا علم الله بحَقِيقَة الحال كفاية وَهُوَ المجازي كُلّ أحد بعلمه. ويكون قصده زَوَال الْمُنْكَر على أي وجه كَانَ ولو حصل لَهُ مَعَ زواله ازدراء وتنقص وسب وتغليظ كلام وذم بين النَّاس أَوْ إعراض وهجر ممن عادته الْمَوَدَّة لَهُ والإقبال عَلَيْهِ ونحو ذَلِكَ من الأَحْوَال التي تكرهها النُّفُوس وتنفر مَنْهَا الطباع. فهذه كُلّهَا من علامَاتَ الإِخْلاص وحسن الْقَصْد وابتغاء وجه الله تَعَالَى والدار الآخِرَة. وأما غير المخلص فبضد ذَلِكَ فيرى عِنْدَ نَفْسهُ نَشَاطًا إلى هَذَا الْفِعْل وإقبالا عَلَيْهِ وَسُرُورًا به ويحب أن يكون جهرًا فِي ملاء النَّاس لا سرًا ويحب أن يحكى عَنْهُ ذَلِكَ وأن يشتهر به وأن يحمد عَلَيْهِ. حتى أَنَّهُ لو نسب إِزَالَة الْمُنْكَر إلى غيره لقامت قيامته بل تجده ينقضي عمره وَهُوَ يحكي مَا اتفق لَهُ وَمَا قَالَ وَمَا قيل لَهُ متبجحًا بذَلِكَ بين أقرانه وزملائه وأبناء جنسه وَرُبَّمَا زَادَ فِي الْقِصَّة ونقص. ولو سبقه غيره إلى مَا كَانَ هُوَ قَدْ عزم عَلَيْهِ من ذَلِكَ وَرَجَعَ السُّلْطَان إلى قوله لثقل ذَلِكَ وشق عَلَيْهِ.

وَرُبَّمَا يَقُولُ لمن يطلعه على نيته: كنت عزمت على أن أدخل على السُّلْطَان فأَقُول لَهُ كَذَا وَكَذَا ولكن سبقني فلان ولكنه لم يتكلم كما ينبغي ولو دخلت عَلَيْهِ لقُلْتُ كَذَا وَكَذَا وفعلت كَذَا فهذه علامَاتَ على فساد النِّيْة وسوء الْقَصْد وعدم الإخلاص. هذه نماذج وأمثلة سقناها من سيرة الْعُلَمَاء المخلصين العاملين بعلمهم الَّذِينَ لا تأخذهم فِي الله لومة لائم. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلَّى الله على نبينا مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم. سأل المهدي الإمام مالكًا وَقَالَ لَهُ: هل لَكَ دار؟ فَقَالَ: لا. فأعطاه ثلاثة آلاف دينار وَقَالَ لَهُ: اشتر لَكَ بها دار، فأخذ وأبقاها عنده. فَلَمَّا أراد الرشيد الرحيل إلى بغداد قَالَ لمالك: ينبغي لَكَ أن تخَرَجَ معنا فإني عزمت أن أحمل النَّاس على الموطأ، كما حمل عثمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ النَّاس على الْقُرْآن. فَقَالَ لَهُ مالك: أما حمل النَّاس على الموطأ فلَيْسَ إلى ذَلِكَ سبيل لأن أصحاب رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - افترقوا بعده فِي الأمصار فحدثوا فعَنْدَ كُلّ أَهْل مصر علم. وقَدْ قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اختلاف أمتي رحمة» . وأما الْخُرُوج معك فلا سبيل إليه، قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الْمَدِينَة خَيْر لَهُمْ لو كَانُوا يعلمون» . وَقَالَ: «الْمَدِينَة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد» . وهذه دنانيركم كما هِيَ إن شَئتم فخذوها وإن شَئتم فدعوها يعني إِنَّكَ إِنَّمَا كلفتني مفارقة الْمَدِينَة بما اصطنعته لدي من أخذ هَذِهِ الدنانير، فالآن خذها فإني لا أوثر الدُّنْيَا وَمَا فيها على مفارقة الْمَدِينَة. هَذَا من رقم واحد فِي العفاف والزهد، لله دره هكَذَا الْعُلَمَاء العاملون المخلصون البعيدون عَنْ الشهرة والظهور والرياء.

شِعْرًا: ... إِذَا رُمْتَ أَنْ تَنْجُو مِنَ النَّارِ سَالِمًا ... وَتَنْجُوَ مِنْ يَوْمٍ مُهُولٍ عَصبْصَبِ وَتَحْظَى بِجَنَّاتٍ وَحُورٍ خَرَائِدٍ ... وَتَرْفُل فِي ثَوْبٍ مِن الْمَجْدِ مُعْجِبِ وَفِي هَذِهِ الدُّنْيَا تَعِيشُ مُنَعَّمًا ... عَزِيزًا حَمِيدًا نَائِلاً كُلَّ مَطْلَبِ فَمِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ فَاسْلُكْ سَبِيلَهَا ... هِيَ الْعُرْوَةُ الوُثْقَى لأَهْل التَّقَرُّبِ فَعَادِ الَّذِي عَادَى وَوَال الَّذِي لَهُ ... يُوَالِي وَأَبْغِضْ فِي الإِلهَ وَأَحْبِبِ فَمَنْ لَمْ يُعَادِي الْمُشْرِكِينَ وَمَنْ لَهُمْ ... يُوَالِي وَلَمْ يُبْغَضْ وَلَمْ يَتَجَنَّبِ فلَيْسَ عَلَى مِنْهَاجِ سُنَّةِ أحمد ... وَلَيْسَ عَلَى نَهْجٍ قَوِيمٍ مُقَرِّبِ وَأَخْلِصْ لِمَوْلاكَ الْعِبَادَةَ رَاغِبًا ... إِلَيْهِ مُنِيبًا فِي الْعِبَادَةِ مُدْئِبِ مُحِبًّا لأَهْلِ الْخَيْرِ لا مُتَكَرِّهًا ... وَلا مُبْغِضًا أَوْ سَالِكًا مَنْهَجًا وَبِ وَكُنْ سَلِسًا سَهْلاً لَبِيبًا مُهَذَّبًا ... كَرِيمًا طَلِيقَ الْوَجْهِ سَامِي التَّطَلُبِ إِلَى كُلِّ مَنْ يَدْنُو إِلَى مَنْهَجِ التُّقَى ... فَخَيْرِ الْوَرَى أَهْلُ التُّقَى وَالتَّقَرُّبِ وَمِنْهَجُهُمْ خَيْرُ الْمَنَاهِجِ كُلَّهَا ... وَمَوْكَبُهُمْ يَوْمَ اللِّقَا خَيْرُ مَوْكِبِ فهَذَا الَّذِي يَرْضَى لِكُلِّ مُوَحِّدِ ... وَهَذَا الَّذِي يُنْجِي بِيَوْمِ عَصَبْصَبِ وَذَلِكَ يَوْمٌ لَوْ عَلِمْتَ بِهَوْلِهِ ... لَبِتَّ لَعَمْرِي سَاهِدًا ذَا تَقَلُّبِ وَلَمْ تَتَلَذَّذْ بِالْحَيَاةِ وَطِيبهَا ... وَأَصْبَحْتَ فِيهَا خَائِفًا ذَا تَرَقُّبِ اللَّهُمَّ بارك فِي أسماعنا وأبصارنا ونور قلوبنا وأصلح ذات بيننا وألف بين قلوبنا واهدنا سبل السَّلام ونجنا من الظلمَاتَ إلى النور وجنبنا الفواحش مَا ظهر مَنْهَا وَمَا بطن وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ يَا حي يَا قيوم يَا بديع السَّمَاوَات وَالأَرْض نسألك أن توفقنا لما فيه صلاح ديننا ودنيانَا وأحسن عاقبتنا وأكرم مثوانَا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

" فصل ": في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

" فَصْلٌ ": فِي الأَمْر بالمَعْرُوْفِ والنَّهْي عَنْ المُنْكَر اعْلَمْ وفقك الله أن الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر يجبان وجوب كفائي يخاطب به الجميع، ويسقط بمن يقوم به، وإن كَانَ العَالِم به واحدًا تعين عَلَيْهِ، وإن كَانُوا جماعة لكن لا يحصل المقصود إِلا بِهُمْ جميعًا تعين عَلَيْهمْ. وأما تعريفهما، فالمعروف اسم جامَعَ لكل مَا عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى النَّاس. والْمُنْكَر ضده وعرفه بَعْضهُمْ بقوله: الْمُنْكَر اسم جامَعَ لكل مَا يكرهه الله وينهى عَنْهُ والمعروف اسم جامَعَ لكل مَا يحبه الله من الإِيمَان والْعَمَل الصالح. وقَدْ حبب الله إلينا الْخَيْر وأمرنا أن ندعو إليه، وكره إلينا الْمُنْكَر ونهانَا عَنْهُ، وأمرنا بمنع غيرنا منه، كما أمرنا بالتعاون على البر والتقوى. فَقَالَ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} . والأصل فِي وجوبهما: الكتاب والسنة والإجماع قَالَ الله تَعَالَى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . وأبان جَلَّ وَعَلا أننا بهما خَيْر الأمم فَقَالَ: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} . وفي المسند والسُّنَن مِنْ حَدِيثِ عمرو بن مرة عَنْ سالم بن أبي الجعد عَنْ أبي عبيدة بن عَبْد اللهِ بن مسعود عَنْ أبيه قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إن من كَانَ قبلكم كَانَ إِذَا عمل العامل الخطيئة جاءه الناهي تعذيرًا فَإِذَا كَانَ الغد جالسه وواكله وشاربه كأنه لم يره على خطيئة بالأمس فَلَمَّا رأى الله عَزَّ وَجَلَّ

ذَلِكَ مِنْهُمْ ضرب بقُلُوب بَعْضهُمْ على بعض ثُمَّ لعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى بن مريم ذَلِكَ بما عصوا وكَانُوا يعتدون. والَّذِي نفس مُحَمَّد بيده لتأمرن بالمعروف وتنهون عَنْ الْمُنْكَر ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الْحَقّ أطرا أَوْ ليضربن الله بقُلُوب بعضكم على بعض ثُمَّ ليلعنكم كما لعنهم» . وذكر ابن أبي الدُّنْيَا عَنْ إبراهيم بن عمرو الصنعاني: وحى الله إلى يوشع بن نون إني مهلك من قومك أربعين ألفًا من خيارهم وستين ألفًا من شرارهم. قَالَ: يَا رب هؤلاء الأَشْرَار فما بال الأخيار؟ قَالَ: إنهم لم يغضبوا لغضبي وكَانُوا يواكلونهم ويشاربونهم. وذكر أَبُو عُمَر بن عَبْد اللهِ عَنْ أبي عمران قَالَ: بعث لله عَزَّ وَجَلَّ ملكين إلى قرية أن دمراها بمن فيها فوجدوا فيها رجلاً قائمًا يصلي فِي مسجد فقالا: يَا رب إَِنْ فيها عبدك فلانًا يصلي؟ فَقَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: دمراها ودمراه معهم فإنه مَا تمعر وجهه فِيَّ قط. وذكر الحميدي عَنْ سفيان بن عيينة قَالَ حَدَّثَنِي سفيان بن سعيد عَنْ مسعر أن ملكًا أمر أن يخسف بقرية فَقَالَ: يَا رب إن فيها فلانًا العابد. فأوحى الله عَزَّ وَجَلَّ إليه أن به فابدأ فإنه لم يتمعر وجهه فِيَّ ساعة قط. وذكر ابن أبي الدُّنْيَا عَنْ وهب بن منبه قَالَ: لما أصاب داود الخطيئة قَالَ يَا رب اغفر لي قَالَ قَدْ غفرت لَكَ وألزمت عارها بَنِي إسرائيل قَالَ: يَا رب كيف وأَنْتَ الحكم العدل لا تظلم أَحَدًا أَنَا اعمل الخطيئة وتلزم عارها غيري. فأوحى الله إليه إِنَّكَ لما عملت الخطيئة لم يعجلوا عَلَيْكَ بالإنكار.

وأوضح سُبْحَانَهُ أن الأجر بهما عَظِيم فِي قوله تَعَالَى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} . ووصف الْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَات بأن بَعْضهُمْ أَوْلِيَاء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عَنْ الْمُنْكَر ويقيمون الصَّلاة ويُؤْتُونَ الزَّكَاة وَيُطَيعُونَ اللهَ ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم. وشهد الله بالصلاح للمؤمنين الَّذِينَ أضافوا إلى إيمانهم القيام بهما فَقَالَ تعالى: {مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} . وبين جل شأنه أن قَوْمًا من بَنِي إسرائيل استحقوا اللعن بتركهما فَقَالَ تَعَالَى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} . قَالَ القرطبي وبخ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى علماؤهم فِي تركهم نهيهم فَقَالَ: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} . قَالَ: ودلت الآيَة على أن تارك الْمُنْكَر الَّذِي لا ينهى عَنْهُ كمرتكبه. وَذَلِكَ أن الأمة فِي عهد استقامتها وتمسكها بالسُّنَن لا تترك بين أظهرها عاصيًا ولا معصية، فَإِذَا رأت شَيْئًا من ذَلِكَ ثارت ثورة الأسود ولم تسكن حَتَّى تذيقه مَا يستحق على معصيته. كل ذَلِكَ غيرة على دينها وطلبًا لمرضاة ربها. والعصاة والفسقة يرتدعون عِنْدَمَا يرون ردع إخوانهم.. انتهى كلامه.

شِعْرًا: ... وَأَهْوَى من الْفِتْيَان كُلَّ مَوفَّقٍ ... لِطَاعَةِ رَبِّ الْخْلِق بَارِي الْبَرِيَّةِ مُلازِمُ بَيْتِ الله يَتْلُوا كِتَابَهُ ... وَيَكْثِرُ ذِكْرَ الله فِي كُلِّ لَحْظَةِ وَيَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ حَسْبَ اقْتِدَارِهِ ... وَعَنْ مُنْكَرٍ يَنْهَى بِلُطْفٍ بِدَعْوَتِي وفي سورة الأعراف يخبرنا جَلَّ وَعَلا عما كَانَ من بَنِي إسرائيل وَمَا نزل بِهُمْ من الْعَذَاب فيَقُولُ: {وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} ، فأفادت هَذِهِ الآيات أن بَنِي إسرائيل صاروا إلى ثلاث فرق: فرقة ارتكبت المحذور واحتالوا على اصطياد الأسماك يوم السبت المحرم فيه الصيد، وفرقة نهت عَنْ ذَلِكَ واعتزلتهم، وفرقة سكتت فَلَمْ تفعل ولم تنه ولكنها قَالَتْ للمنكرة: لم تعظون قومًا الله مهلكهم أَوْ معذبهم عذابًا شَدِيدًا، أي لم تنهون هؤلاء وَقَدْ علمتم أنهم قَدْ هلكوا واستحقوا العقوبة من الله فلا فائدة فِي نهيكم إياهم. قَالَتْ لَهُمْ المنكرة: معذرة إلى ربكم أن فيما أخذ عَلَيْنَا من الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر ولعلهم يتقون أي ولعل لهَذَا الإنكار يتقون ما هم فيه ويتركونه ويرجعون إِلَى اللهِ تائبين فَإِذَا تابوا تاب الله عَلَيْهمْ ورحمهم. فَلَمَّا نسوا مَا ذكروا به (أي فَلَمَّا أبى الفاعلون قبول النَّصِيحَة) أنجينا الَّذِينَ ينهون عَنْ السُّوء وأخذنا الَّذِينَ ظلموا (أي الَّذِينَ ارتكبوا المعصية) بعذاب بئيس، فنصت الآيات على نجاة الناهين وهلاك الظالمين وسكتت عَنْ الساكتين.

قَالَ ابن عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: كَانُوا ثلاثة ثلث نهوا وثلث قَالُوا: لم تعظون قومًا الله مهلكهم أَوْ معذبهم عذابًا شَدِيدًا وثلث أصحاب الخطيئة فما نجا إِلا الَّذِينَ نهوا وهلك سائرهم. وَهَذَا إسناده جيد عَنْ ابن عَبَّاس. وفي الْحَدِيث الثابت عَنْ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أَبِي بَكْرٍ الصديق رصي اله عَنْهُ أَنَّهُ خطب النَّاس على منبر رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «أيها النَّاس إنكم تقرءون هَذِهِ الآيَة وتضعونها على غير موضعها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} . وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:" إن النَّاس إِذَا رأوا الْمُنْكَر فَلَمْ يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه» . وفي لفظ: «من عنده» . رَوَاهُ أَبُو داود والترمذي وَقَالَ: حديث حسن صحيح. وابن ماجة والنسائي ولفظه: إني سمعت رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إن القوم إِذَا رأوا الْمُنْكَر فَلَمْ يغيروه عمهم الله بعقاب» . وفي رواية لأبي داود سمعت رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَا من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثُمَّ يقدرون على أن يغيروا ثُمَّ لا يغيروا إِلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب» . وفي رواية: «إن النَّاس إِذَا رأوا الطالم فَلَمْ يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده» . وَقَالَ الشَّيْخ عَبْد اللهِ بن مُحَمَّد بن حميد: ولَقَدْ وصلنا إلى حد ماتت فيه الغيرة الدينية عِنْدَ كُلّ أحد ممن يرجى ويظن أنهم حماة الإِسْلام وأبطال الدين مِمَّا جعل العصاة يمرحون فِي ميادين شهواتهم ويفتخرون بعصيانهم بدون حسيب ولا رقيب. شِعْرًا: ... قُلْ لِلَّذِي بِقِرَاعِ السَّيْفِ هَدَّدَنَا ... لا قَامَ قَائِمٌ جَنْبِي حِينَ تَصْرَعُهُ قَامَ الْحَمَامُ إِلَى الْبَازِي يُهَدِّدُهُ ... وَاسْتَيْقَضَتْ لأُسُودِ أَصْبُعُهُ

ولو شئتَ لقُلْتُ: ولا أخشى لائمًا نَحْنُ فِي زمن علا فيه واعتز أرباب الرذائل وأصبحت الدولة لَهُمْ وأَهْل الفضيلة المتمسكون بأهداب دينهم عِنْدَمَا ينكرون على المجرمين إجرامهم يكونون كالمضغة فِي الأفواه البذيئة ترميهم بكل نقيصة وأقل مَا يقولون إنهم متأخرون جامدون فِي بقايا قرون الهمجية يستهزؤن ويقهقهون ويغمزون بالحواجب والعيون ويخرجون ألسنتهم سخرية واستهزاء بِهُمْ ويضحكون من عقولهم لما راجت الرذيلة هذا الرواج وَمَا درى هؤلاء أنهم فِي غاية من السقوط والهمجية لفساد عقولهم وبعدهم عن معرفة أوامر دينهم. وناهيك لو قام كُلّ منا بما عَلَيْهِ من الدعوة للإسلام والأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر وارشاد النَّاس وعظتهم وتذكيرهم بما فيه صلاحهم واستقامتهم لاستقر الْخَيْر والمعروف فينا وامتنع فُشُوُّ الشر والْمُنْكَر بيننا. أهـ. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد. قَالَ بَعْضُهُمْ: قُمْ يَا مُحَمَّدُ وَاسْتَمِعْ لِي يَا عُمَرْ ... وَاسْتَيْقِظَا فَالدِّينِ يَدْعُو لِلنَّصرْ وَغَدًا بَنُو الإِسْلامِ فِي زَيْغٍ فَمَا ... يَسْعَوْنَ إِلا لِلْمَلاهِيَ وَالْبَطَرْ تَرَكُوا هُدَى الدِّينِ الْحَنِيفِ الْمُعْتَبَرْ ... وَاسْتَبْدَلُوا الْعَيْنَ الصَّحِيحَةَ بِالْعَوَرْ وَنَسُوا أُصُولَ الدِّينِ مِنْ دَهْش وَقَدْ ... أَضْحَى نَصِيرُ الشَّرْعِ فِيهِمْ مُحْتَقَرْ وَالدِّين يَدْعُوهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ ... وَقُلُوبُهُمْ ضَلَّتْ وَقَدْ عَمِيَ الْبَصَرْ حَتَّى تَشَتَّتْ شَمْلَهُ وَاصْدَّعَتْ ... أَرْكَانُهُ وَأَسَاءَ مَثْوَاهُ الضّررْ فَإِلَى مَتَى هَذَا السُّكُوتُ وَقَدْ دَنَا ... وَقْتُ الْجِهَادِ وَمَا لَنَا عَنْهُ مَفَرْ عَارٌ وَأَيْمُ اللهِ أَنْ نَلْهُوَ وَقَدْ ... كَادَتْ معَالِمُ دِينِنَا أَنْ تَنْدَثِرْ فَكَفَاكُمُوا زَيْغًا وَهَجْرًا فَامْدُدُوا ... أَيْدِي الْخَلاصِ وَأَيِّدُوا الدِّينِ الأَغَرْ وَذَرُوا جِدَال الْمُلْحِدِينَ فَإِنَّهُمْ ... فَقَدُوا الرَّشَادَ وَكَانَ مَأْوَاهُمْ سَقَرْ

وَتَكَاتَفُوا فِي السَّعْيِ حَوْلَ نَجَاتِهِ ... لا يَثْنِ هِمَّتَكُمْ خُمُولٌ أَوْ ضَجَرْ فَاللهُ فِي عَوْنِ الْعِبَادِ إِذَا هُمُوا ... نَصَرُوا الْحَنِيفَ وَحَصَّنُوهُ مِنَ الْغَيْرْ اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لِلزُومِ الطَّرِيق الَّذِي يُقَرِّبنا إِلَيْكَ وَهَبْ لَنَا نُورًا نَهْتَدِي بِهِ إِلَيْكَ وَيَسِّرْ لَنَا مَا يَسَّرْتَهُ لأَهْلِ مَحَبَّتِكَ وَأَيْقِظْنَا مِنْ غَفَلاتِنَاوألهمنا رُشْدَنَا وَاستُرْنَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ عِبَادِكَ الْمُتَّقِينَ وَألْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " فَصْلٌ " وَقَالَ الشَّيْخ عَبْد اللهِ بن مُحَمَّد بن حميد رَحِمَهُ اللهُ.. وبعد: فلا يخفى مَا أصيب به الإِسْلام والمسلمون من الشرور والفتن والدواهي والمحن.. وأن الإِسْلام قَدْ أدبر وآذان بالوداع. والنفاق قَدْ أشرف وأقبل باطلاع.. والإسلام بدأ يرتحل من عقر داره لتقصير أهله إذ لم يشرحوا للناس محاسنه وفضائله وحكمه وأسراره. ولم يقوموا بالدعوة إليه بغرس محبته فِي الْقُلُوب.. بذكر مَا تقدم فَإِنَّ الآيات القرآنية الدالة على الدعوة أَكْثَر من آيات الصوم والحج الَّذِينَ هما ركنان من أركَانَ الإِسْلام الخمسة. والاجتماع المأمور به فِي قوله تَعَالَى " {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً} تهدمت مبانيه والإئتلاف والتعاون ذهب وذهبت معانيه.. فلا حول ولا قوة إِلا بِاللهِ. نرى الأَمْرَ بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر الَّذِي هُوَ ركن من أركَانَ الإِسْلام فِي قول طائفة من الْعُلَمَاء ضعف جانبه وكثر فِي النَّاس وتنوعت مقاصد الخلق وتباينت آرائهم. فالْمُنْكَر للمنكر فِي هَذِهِ الأزمنة.. يَقُولُ النَّاس فيه مَا أَكْثَر فضوله وَمَا أسفه

رأيه وَرُبَّمَا غمزوه بنقص فِي عقله.. ومن سكت وأخلد قيل: مَا أحسن عقله وَمَا أقوى رأيه فِي معاشرته للناس ومخالطته لَهُمْ. والله قَدْ جعل الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر فرقًا بين الْمُؤْمِنِينَ والمنافقين.. فأخص أوصاف الْمُؤْمِنِينَ المميزة لَهُمْ من غيرهم هُوَ الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر ورأس الأَمْر بالمعروف الدعوة إلى الإِسْلام وإرشاد النَّاس إلى مَا خُلِقُوا لَهُ وتبصيرهم بما دل عَلَيْهِ كتاب ربهم وسنة ونبيهم وتحذيرهم من مخالفة ذَلِكَ. قَالَ الإمام الغزالي فِي قوله تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} . وصف الله الْمُؤْمِنِينَ بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عَنْ الْمُنْكَر والَّذِي هجر الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر خارج عَنْ هؤلاء الْمُؤْمِنِينَ.. انتهى. وفي قوله تَعَالَى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} مَا يدل على أن الناجي هُوَ الَّذِي ينهى عَنْ السُّوء دون الواقع فيه والمداهن عَلَيْهِ. والأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر هُوَ الأساس الأعظم للدين. والمهم الَّذِي بعث الله لأجله النبيين ولو أهمل لاضمحلت الديانة وفشت الضلالة وعم الفساد وهلك العباد. إن فِي النهي عَنْ الْمُنْكَر حفاظ الدين وسياج الأداب والكمالات. فَإِذَا أهمل أَوْ تسوهل فيه تجرأ الفساق على إظهار الفسوق والفجور بلا مبالاة ولا خجل.. ومتى صار العامة يرون المنكرات بأعينهم ويسعونها بآذانهم زالت وحشتها وقبحها من نفوسهم ثُمَّ يتجرأ الكثيرون أَوْ الأكثر على ارتكابها. ولكن يَا للأسف استولت على الْقُلُوب مداهنة الخلق وانمحت عَنْهَا مُرَاقَبَة الخالق حيث اندرس من هَذَا الْبَاب عمله وعلمه وانمحى معظمه ورسمه واسترسل النَّاس فِي اتباع الأهواء والشهوات.

ولا شك أن الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر حفظ للشريعة وحماية لأحكامها تدل عَلَيْهِ بعد إجماع الأمة وإرشاد العقول السليمة إليه. الآيات القرآنية وَالأَحَادِيث النَّبَوِيَّة مثل قوله تَعَالَى: {لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} فدلت الآيَة الكريمة على عدم صلاحهم بمجرد الإِيمَان بِاللهِ والْيَوْم الآخِر حيث لم يشهد لَهُمْ بذَلِكَ إِلا بعد أن أضاف إليها الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر فقد ذم سبحانه وتعالى من لم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فَقَالَ تَعَالَى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} وَهَذَا غاية التشديد ونهاية التهديد. فبين سُبْحَانَهُ وتَعَالَى أن السبب للعنهم هُوَ ترك التناهي عَنْ الْمُنْكَر، وبين أن ذَلِكَ بئس الْفِعْل. ولا شك أن من رأى أخاه على منكر ولم ينهه عَنْهُ فقَدْ أعانه عَلَيْهِ بالتخلية بينه وبين ذَلِكَ الْمُنْكَر وَهُوَ عدم الجد فِي إبعاد أخيه عَنْ ارتكابه. قَالَ ابن عَبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لعنوا فِي كُلّ لسان على عهد مُوَسى فِي التوراة ولعنوا على عهد داود فِي الزبور. ولعنوا على عهد عيسى فِي الإنجيل. ولعنوا على عهد نبيكم مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - فِي الْقُرْآن. {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} . قَالَ القرطبي: وبخ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى علماءهم فِي تركهم نهيهم فَقَالَ: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} كما وبخ من سارع فِي الإثُمَّ بقوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} قَالَ: ودلت الآيَة على أن تارك النهي عَنْ الْمُنْكَر كمرتكب الْمُنْكَر أَوْ.. فَإِنَّ الأمة فِي عهد استقامتها وتمسكها بالسُّنَن لا تطيق أن تَرَى بين أظهرها

عاصيًا ولا معصية فَإِذَا رأت شَيْئًا من ذَلِكَ ثارت ثورة الأسد ولم تهدأ إِلا إِذَا أذاقت المجرم مَا يليق به وَمَا يستحق عَلَى قَدْرِ جريمته تفعل ذَلِكَ غيرة على دينها وطلبًا لمرضاة ربها. والمجرمون إِذَا رأوا ذَلِكَ كفوا عَنْ إجرامهم وبالغوا فِي التستر إِذَا أرادوا تلويث أنفسهم بما يرتكبون، فَإِذَا لم تسقهم الأنمة ولم تراع سنن دينها ضعفت غيرتها أَوْ إنعدمت كليًا فِي نفوسها إذ لو شاهدت مَا شاهدت من المعاصي.. إما أن يتحرك بعض أفرادها حركة ضعيفة لا يخاف معها العاصي ولا ينزجر عَنْ معصيته. وأما أن يتفق الجميع على الإغماض عَنْ ذَلِكَ العاصي فيفعل مَا يشاء بدون خوف ولا خجل إِذَا يرفع ذووا الإجرام رؤوسهم غير هيابين ولا خجلين من أحد. ولَقَدْ وصلنا إلى حد ماتت فيه الغيرة الدينية عِنْدَ كُلّ أحد ممن يرجى ويظن أنهم حماة الإِسْلام وأبطال الدين مِمَّا جعل العصاة يمرحون فِي ميادين شهواتهم ويفتخرون بعصيانهم بدون حسيب ولا رقيب. ولو شئت لقُلْتُ ولا أخشى لائمًا نَحْنُ فِي زمن علا فيه واعتز أرباب الرذائل. وأصبحت الدولة لَهُمْ. وأَهْل الفضيلة المتمسكون بأهداب دينهم عِنْدَمَا ينكرون على المجرمين إجرامهم يكونون كالمضغة فِي الأفواه البذيئة ترميهم بكل نقيصة وأقل مَا يقولون أنهم متأخرون جامدون فِي بقايا قرون الهمجية يبتسمون ويقهقهون ويغمزون بالحواجب والعيون ويخرجون ألسنتهم سخرية وإستهزاء بِهُمْ ويضحكون من عقولهم. لما راجت الرذيلة فِي هَذَا العصر هَذَا الرواج. وما درى هؤلاء المرذولون أنهم فِي غاية من السقوط والهمجية التي لَيْسَتْ دونها همجية لفساد عقولهم وبعدهم عَنْ معرفة أوامر دينهم. وناهيك لو قام كُلّ منا بما عَلَيْهِ من الدعوة إلى الإِسْلام والأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر وإرشاد النَّاس وعظتهم وتذكيرهم بما فيه صلاحهم واستقامتهم

لاستقر الْخَيْر والمعروف فينا وامتنع فشو السِّرّ والْمُنْكَر بيننا: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} . وقَدْ صرح الْعُلَمَاء رحمة الله عَلَيْهمْ بأنه يجب على الإمام أن يولي هَذَا المنصب الجليل والأَمْر الهام الَّذِي هُوَ فِي الحَقِيقَة مقام الرسل. محتسبًا يأمر بالمعروف وينهى عَنْ الْمُنْكَر.. وَيَكُون ذَا رأي وصرامة، وقوة فِي الدين، وعلم بالمنكرات الظاهرة. كما قَالَ تَعَالَى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . فدلت الآيَة الكريمة على أَنَّهُ يجب على الْمُسْلِمِين أن تَقُوم مِنْهُمْ طائفة بوظيفة الدعوة إلى الْخَيْر وتوجيه النَّاس وعظتهم وتذكيرهم إلى مَا فيه صلاحهم واستقامة دينهم وأن يكونوا على المنهج القويم. والصراط المستقيم. والمخاطب بهَذَا كافة الْمُسْلِمِين فهم المكلفون لا سيما الإمام الأعظم وأن يختاروا طائفة مِنْهُمْ تَقُوم بهذه الفريضة الهامة التي هِيَ أحد أركَانَ الإِسْلام فِي قول طائفة من الْعُلَمَاء. قِفَا نَبْكِ عَلَى رسوم علوم الدين والإسلام الَّذِي بدأ يرتحل من بلاده. ولكن يَا للأسف على منام الْقُلُوب وقيام الألسنة بالتقول والتأويل على الإِسْلام بما لا حَقِيقَة لَهُ. لَقَدْ انطمس المعنى وذهب اللب وَمَا بقى إِلا قشور ورسوم واكتفى الكثيرون من الإِسْلام بمجرد الانتساب إليه بدون أن يعملوا به ويقوموا بالدعوة إليه تحذيرًا وإنذارًا وأمرًا ونهيًا وتبصيرًا للناس بدينهم بذكر فضله وعظمته وإيضاح أسراره وحكمه وغرس العقيدة الحقة فِي قُلُوبهمْ. فهَذَا واجب الْمُسْلِمِين بَعْضهُمْ لبعض كُلّ عَلَى قَدْرِ استطاعته ومقدرته. هَذَا وأسأل الله أن يوفق الْمُسْلِمِين وولاة أمورهم لما فيه صلاحهم وصلاح

دينهم وأن يجمَعَ كلمتهم على الْحَقّ أَنَّهُ ولي ذَلِكَ والقادر عَلَيْهِ وَهُوَ حسبنا ونعم الوكيل. وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم تسَلِيمًا إلى يوم الدين. " فَصْلٌ " وَعَنْ أَبِي سعيد الخدري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سمعت رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فَإِنَّ لم يستطع فبلِسَانه فَإِنَّ لم يستطع فبقَلْبهُ وَذَلِكَ أضعف الإِيمَان " رَوَاهُ مُسْلِم. وعن ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا من نبي بعثه الله فِي أمة قبلي إِلا كَانَ لَهُ من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثُمَّ تخلف من بعدهم خلوف يقولون مَا لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مُؤْمِن، ومن جاهدهم بلِسَانه فهو مُؤْمِن، ومن جاهدهم بقَلْبهُ فهو مُؤْمِن، لَيْسَ وراء ذَلِكَ من الإِيمَان حبة خردل» . رَوَاهُ مُسْلِم. وعن حذيفة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «والَّذِي نفسي بيده لتأمرون بالمعروف ولتنهون عَنْ الْمُنْكَر أَوْ ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثُمَّ تدعونه فلا يستجاب لكم» . رَوَاهُ الترمذي، وَقَالَ: حديث حسن. وروى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ أن رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مر على صبرة طعام فادخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فَقَالَ: «مَا هذا يَا صَاحِب الطعام ""؟ فَقَالَ: أصابته السماء يَا رَسُول اللهِ. قَالَ: «أفلا جعلته فوق الطعام حَتَّى يراه النَّاس من غشنا فلَيْسَ منا» . فهَذَا نهي منه - صلى الله عليه وسلم - عَنْ منكر، هُوَ غش النَّاس فِي طعامهم وأجمعت الأمة على وجوب الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر. وأَخْرَجَ الإمام أحمد فِي المسند أن الوليد بن عقبة أخر الصَّلاة مرة فقام

عبد الله بن مسعود فثوب بالصَّلاة فصلى بِالنَّاسِ فأرسل إليه الوليد: مَا حَمَلَكَ على مَا صنعت أجاءك من أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أمر فيما فعلت أم ابتدعت؟ قَالَ: لم يأتني أمر من أَمِير الْمُؤْمِنِينَ ولم ابتدع ولكن أبى الله ورسوله عَلَيْنَا أن ننتظرك بصلاتنا وأَنْتَ فِي حاجتك. قَالَ شيخ الإِسْلام رحمة الله: لابد من العلم بالمعروف والْمُنْكَر والتمييز بينهما. الثاني أَنَّهُ لابد من العلم بحال المأمور والنهي، ومن الصلاح أن يأتي بالأَمْر والنهي بالصراط المستقيم وَهُوَ أقرب الطرق إلى حصول المقصود ولا بد من الرفق ولا بد أن يكون حليمًا صبورًا على الأَذَى فإنه لا بد أن يحصل لَهُ أذى فَإِنَّ لم يحلم ويصبر كَانَ مَا يفسد أَكْثَر مِمَّا يصلح فَلا بُدَّ مِنْ العلم والرفق والصبر، والعلم قبل الأَمْر والنهي، والرفق معه والصبر بعده. وَقَالَ سفيان: لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عَنْ الْمُنْكَر إِلا من كَانَ فيه خِصَال ثلاث: رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهى، عدل بما يأمر عدل، عدل بما ينهى، عَالِم بما يأمر، عَالِم بما ينهى. وَقَالَ عبد الملك بن عُمَر بن عَبْد الْعَزِيز لأبيه: يَا أَبَتِ مَا يَمْنَعُك أن تمضي لما تريد من العدل فوَاللهِ مَا كنت أبالي لو غلت بي وبك القدور فِي ذَلِكَ؟ قَالَ: يَا بَنِي إني إِنَّمَا أروض النَّاس رياضة الصعب إني أريد أن أجئ الأَمْر من العدل فأؤخر ذَلِكَ حَتَّى أُخْرِجَ معه طمعًا من طمع الدُّنْيَا فينفروا من هَذَا ويسكنوا لهذه. وَيُشْتَرِطُ فِي وُجُوبِ الإِنْكَارِ أَنْ يَأْمَنَ عَلَى نَفْسِهِ وَأهله وماله، فَإِنَّ خاف السب أَوْ سماع الكلام السيئ لم يسقط عَنْهُ والحزم أن لا يبالي لما ورد: «أفضل الجهاد كلمة حق عِنْدَ سلطان جائر» . وقوله: «لا يمنعن أحدكم هيبة النَّاس أن يَقُولُ بحق إِذَا عَلِمَهُ» .

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمُ رَحِمَهُ اللهُ: إِنْكَارُ الْمُنْكَرِ لَهُ أَرْبَعُ دَرَجَاتٍ: (الأُولَى) : أَنْ يَزُولَ وَيَخْلفه ضده. (الثَّانِيَة) : أَنْ يَقِلَّ وَإن لم يزل من جملته. (الثالثة) : أن يخلفه مَا هُوَ مثله. (الرابعة) : أن يخلفه مَا هُوَ شر منه. فالدَّرَجَتَانِ الأوليان مَشْرُوعَتَانِ، وَالثَّالِثَةِ مَوْضِعُ اجْتِهَاد والرابعة محرمة، وليحزر الآمْر والناهي من أن يخالف قوله أَوْ يأمر بما لا يأتمر به. شِعْرًا: ... رَأَيْنَاكَ تَنْهَى وَلا تَنْتَهِي ... وَتُسْمِعُ وَعْظًا وَلا تَسْمَعُ فَيَا حَجَر الشَّحْذِ حَتَّى مَتَى ... تَسَنُّ الْحَدِيدَ وَلا تَقْطَعُ فقَدْ ورد عَنْ أَنَس بن مالك رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار: قَالَ: قُلْتُ: من هؤلاء؟ قَالَ: خطباء أمتك من أَهْل الدُّنْيَا ممن كَانُوا يأمرون النَّاس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون» . وحتى لا يتعرض لسخرية النَّاس به واستهزائهم به وحتى تَكُون دعوته مقبولة. شِعْرًا: ... يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ ... هَلا لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ مِنَ الضَّنَى ... كَيْمَا يَصِحُّ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيمُ ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَإنْهَهَا عَنْ غَيِّهَا ... فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فأَنْتَ حَكِيمُ فَهُنَاكَ يُقْبَلُ مَا تَقُولُ وَيُقْتَدَى ... بِالرَّأْيِ مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ آخر: ... فَراكَ مِنَ الأَيَّامِ نَابٌ وَمِخْلَبُ ... وَخَانَكَ لَوْنُ الرَّأْسِ وَالرَّأْسُ أَشْيَبُ فَحَتَّامَ لا تَنْفَكُّ جَامِحَ هِمَّةٍ ... بَعِيدَ مَرَامِي النَّفْسِ وَالْمَوْتُ أَقْرَبُ تُسَرُّ بِعَيْشٍ أَنْتَ فِيهِ مُنَغَّصٌ ... وَتَسْتَعْذِبُ الدُّنْيَا وَأَنْتَ مُعَذَّبُ تُغَذِّيكَ وَالأَوْقَاتُ جسْمَك تَغْتَذِي ... وَتَسْقِيكَ وَالسَّاعَاتُ رُوحَكَ تَشْرَبُ وَتَعْجَبُ مِن آفَاتِهَا مُتَلَفِّتًا ... إِلَيْهَا لَعَمْرُ اللهِ فَعْلُكَ أَعْجَبُ

وَتَحْسِبُها بِالْبِشرِ تُبْطِنُ خُلَّةً ... فَيَظْهَرْ مِنْهَا غَيْرُ مَا تَتَحَسَّبُ إِذَا رَضِيتَ أَعْمَتْكَ عَنْ طُرُقِ الْهُدَى ... فَمَا ظَنُّ ذِي لُبٍّ بِهَا حِينَ تَغْضَبُ وَفِي سَلْبِهَا ثَوبَ الشَّبَابِ دَلالَةٌ ... عَلَى أَنَّهَا تُعْطِي خِدَاعًا وَتَسْلِبُ أَتَرْضَى بِأَنْ يَنْهَاكَ شَيْبُكَ وَالْحِجَا ... وَأَنْتَ مَعَ الأَيَّامِ تَلْهُو وَتَلْعَبُ والله أعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم. " فَصْلٌ " قَالَ شيخ الإِسْلام رَحِمَهُ اللهُ: من لم يكن فِي قَلْبهُ بغض مَا يبغضه الله ورسوله من الْمُنْكَر الَّذِي حرمه من الكفر والفسوق والعصيان، لم يكن فِي قَلْبهُ الإِيمَان الَّذِي أوجبه الله عَلَيْهِ فَإِنَّ لم يكن مبغضًا لشَيْء من المحرمَاتَ أصلاً لم يكن معه إيمان أصلاً. والحاصل أن الإِنْسَان يأتي من ذَلِكَ بما يستطيع ولا يقصر فِي نصرة دين الله ولا يعتذر فِي إسقاط ذَلِكَ بالأعذار التي لا تصح ولا يسقط بها مَا أوجب الله عَلَيْهِ من أمر الله، وعَلَيْهِ بالأخذ بالرفق واللطف وإظهار الشفقة والرحمة فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ مدار كبير عِنْدَ الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر. قَالَ الله تَعَالَى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ومن الحكم أن يدعو كُلّ أحد على حسب حاله وفهمه وقبوله وانقياده. وَمِنَ الْحِكْمَةِ الدَّعْوَةُ بالعلم والبداءة بالأهم، وبالأقرب إلى الأذهان والفهم وبما يكون قبوله أتم، والرفق واللين فَإِنَّ انقاد بالحكمة وإِلا فينتقل معه إلى الدعوة بالموعظة الحسنة، وَهُوَ الأَمْر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب. وليحذر من المداهنة فِي الدين، ومعناه أن يسكت الإِنْسَان عَنْ الأَمْر

بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر وعن قول الْحَقّ وَكَلِمَة الْعَدْلِ: طَمَعًا فِي النَّاسِ وَتَوَقُعًا لِمَا يَحْصُلُ مِنْهُمْ مِنْ جَاهٍ أَوْ مَالٍ أَوْ حُظُوظٍ الدُّنْيَا. وقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ لِعُمَر بِنْ صَالحٍ: يَا أَبَا حَفْصٍ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَان يَكُونُ الْمُؤْمِنُ فِيِهِ بَيْنَهُمْ مَثْل الْجِيفَةِ وَيَكُونُ الْمُنَافِقُ يُشَارُ إِلَيْهِ بِالأَصَابِعِ. فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ وَكَيْفَ يُشَارُ إِلَى الْمُنَافِقِ بِالأَصَابِعِ. فَقَالَ: يَا أَبَا حَفْصٍ صَيروا أَمْر اللهِ فُضُولاً. وَقَالَ المُؤْمِن: إِذَا رَأَى أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ أَوْ نَهْيًا عَنْ الْمُنْكَرِ لَمْ يَصْبِرْ حَتَّى يَأْمُرَ وَيَنْهى. قَالُوا: يَعْنِي هَذَا فُضُول. قَالَ: وَالْمُنَافِقِ كُلّ شَيْء يراه قَالَ بيده على فمه: «أي صمت فَلَمْ ينه ولم يأمر. فَقَالُوا: (نعم الرجل لَيْسَ بينه وبين الفضول عمل) . وقَدْ روي أن الجار يوم القيامة يتعلق بجاره ويَقُولُ: ظلمني. فيرد عَلَيْهِ بأنه مَا ظلمه ولا خانه فِي أَهْل ولا مال فيَقُولُ الجار: صدق إِنَّهُ لم يخني فِي أَهْل ولا مال ولكنه وجدني أعصي الله فَلَمْ ينهني. هَذَا الأثر بالمعنى. وَرُوِيَ حديث آخر: ويل للعَالِم من الجاهل حيث لا يعلمه. شِعْرًا: ... وَقَعْنَا فِي الْخَطَايَا وَالْبَلايَا ... وَفِي زَمَنِ انْتِقَاصٍ وَاشْتِبَاهِ تَفَانَى الْخَيْرُ وَالصُّلَحَاءُ ذَلُّوا ... وَعَزَّ بِذُلِّهِمْ أَهْلُ السَّفَاهِ وَبَاءَ الآمِرُونَ بِكُلِّ عُرْفٍ ... فَمَا عَنْ مُنْكَرٍ فِي النَّاسِ نَاهِ فَصَارَ الْحُرُّ لِلْمَمْلوكِ عَبْدًا ... فَمَا لِلْحُرِّ مِنْ قَدْرٍ وَجَاهِ فهَذَا شَغَلُهُ طَمَعٌ وَجَمَعٌ ... وَهَذَا غَافِلٌ سَكْرَانُ لاهِ آخر: ... إِذَا بِالْمَعْرُوفِ لََمْ أُثْنِ صَادِقًا ... وَلَمْ أَذْمُمِ الْجُبْسَ اللَّئِيمْ الْمُذَمِمَّا فَقِيمْ عَرَفْتُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ بِاسْمِهِ ... وَشَقَّ لِيَ اللهُ الْمَسَامِعَ وَالْفَمَا

آخر: ... أَرَى الإِحْسَانَ عِنْدَ الْحُرِّ حَمْدًا ... وَعَنْدَ النَّذْلِ مَنْقَصَةً وَذَمًّا كَقَطْرٍ صَارَ فِي الأَصْدَافِ دُرًا ... وَفِي نَابِ الأَفَاعِي سُمًّا آخر: ... إِذَا سَبَّنِي نَذْلٌ تَزَايَدْتُ رِفْعَةً ... وَمَا الْعَيْب إِلا أَنْ أَكُونَ مُسَابِبُهْ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ نَفْسِي عَلَيَّ عَزِيزَةٌ ... لَمَكَّنْتُهَا مِنْ كُلِّ نَذْل تُجَاوِبُهْ آخر: ... مَتَى تَضَعُ الْكَرَامَةَ فِي لَئِيمٍ ... فَإِنَّكَ قَدْ أَسَأْتَ إِلَى الْكَرَامَةْ آخر: ... لا تَلْطَفَنَّ بِذِي لوُمِ فَتُطَّغِيَهُ ... أَغْلظْهُ يَأْتِيكَ مِطْوَاعًا وَمِذْعَانَا إِنَّ الْحَدِيدَ تُلِينُ النَّارُ قَسْوَتَهُ ... وَلَوْ صَبَبْتَ عَلَيْهِ الْبَحْرَ مَا لانَا والله أعْلَمُ. وَصَلَّى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم. " فَصْلٌ " عَنْ عبادة بن الصامت رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: بايعنا رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على السمَعَ والطاعة فِي العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثره عَلَيْنَا وعلى أن لا ننازع الأَمْر أهله إِلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله تَعَالَى فيه برهان وعلى أن تَقُول بالحق أينما كنا لا نخاف فِي الله لومة لائم. رَوَاهُ الْبُخَارِيّ وغيره. وأَخْرَجَ أحمد وغيره مِنْ حَدِيثِ عَبْد اللهِ بن عمرو بن العاص: إِذَا رَأَيْت أمتي تهاب الظَالِم أن تَقُول لَهُ: إِنَّكَ ظَالِم فقَدْ تودع مِنْهُمْ. ولَقَدْ كَانَ سلفنا الصالح الكرام لَهُمْ مواقف عظيمة شريفة ونوادر طريفة وقصص غريبة وحكايات عجيبة دالة على صدق إيمانهم وقوة يقينهم وشدة ورعهم فكَانُوا لا يخشون فِي الله لومة لائم أَوْ كلمة مداهن أَوْ فرية مفتر أَوْ قوة ظَالِم بل يجاهرون بالحق بكل صراحة وينطقوا بالصدق وإن غضب الخلق ويأمرون بالمعروف وينهون عَنْ الْمُنْكَر فِي أشد المواقف وأحرجها. وإليك مَا كَانَ من موقف الصحابي الجريء أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَعَ مروان ابن الحكم أمير من قبل معاوية بن أبي سفيان فمن السنة

المأثورة والطريقة المعروفة من فعله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا خَرَجَ يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شَيْء يبدأ به الصَّلاة. ثُمَّ يَنْصَرِف فَيَقُوم مُقَابِل النَّاس والنَّاس جُلُوس عَلَى صُفُوفِهِمْ فَيَعِظُهُمْ وَيُوصِيهُمْ بتقوى الله ويأمرهم بحلال الله وينهاهم عَنْ حرامه، ثُمَّ ينصرف، قَالَ أَبُو سعيد: فَلَمْ يزل النَّاس على ذَلِكَ حَتَّى خرجتُ مَعَ مروان وَهُوَ أمير الْمَدِينَة فِي عيد الأضحى أَوْ الفطر فَلَمَّا أتينا المصلى إِذَا منبر بناه كثير بن الصلت التابعي الكبير والمولود فِي الزمن النبوي. فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي وفيه مخالفة للسنة الصحيحة والْعَمَل المأثور عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فجذبت بثوبه ليبدأ بالصَّلاة قبل الخطبة فجذبَنِي فارتفع على المنبر فخطب قبل الصَّلاة. فقُلْتُ لَهُ ولأصحابه: غيرتم وَاللهِ سنة رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه من بعده فأنهم كَانُوا يقدمون الصَّلاة على الخطبة فِي العيدين. فَقَالَ مروان: يَا أَبَا سعيد قَدْ ذهب مَا تعلم من تقديم الصَّلاة على الخطبة فِي العيدين. فَقُلْتُ: مَا أَعْلَمُ والله خَيْر مِمَّا لا أَعْلَمُ. لأن الَّذِي أَعْلَمُ طَرِيقَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي أمرنا باتباعه والتأسي به: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فَقَالَ مروان معتذرًا عَنْ ترك السنة: إن النَّاس لم يكونوا يجلسون لَنَا بعد الصَّلاة فجعلتها قبل الصَّلاة. فتأمل هَذَا الموقف المشرف الَّذِي وقفه أَبُو سعيد الخدري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وكيف جذب مروان بثوبه وَقَالَ لَهُ غيرتم: وَاللهِ ولم يخف صولة الإمارة وجاه الحكم وجاهر بالحق وأنكر البدعة وأمر بالسنة على رؤوس الأشهاد من النَّاس فحفظه الله ونصره وأيده وأعزه وصدق الله حيث قَالَ: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} .

وروي أن ضبة بن محصن العنزيّ قَالَ: كَانَ عَلَيْنَا أَبُو مُوَسى الأشعري أميرًا بالبصرة فكَانَ إِذَا خطبنا حمد الله وأثنى عَلَيْهِ وصلى على النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وأنشأ يدعو لعمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: فغاظني ذَلِكَ فقمت إليه فَقُلْتُ: أين أَنْتَ من صاحبه تفضله عَلَيْهِ فصنع ذَلِكَ جُمُعًا. ثُمَّ كتب إلى عُمَر يشكوني يَقُولُ: إن ضبة بن محصن العنزي يتعرض فِي خطبتي فكتب إليه عُمَر: أن أشخصه إِليَّ فأشخصني إليه فقدمت فضربت عَلَيْهِ الْبَاب، فَقَالَ: من أَنْتَ فَقُلْتُ: أَنَا ضبة. فَقَالَ: لا مَرْحَبًا ولا أهلاً. قُلْتُ: أما المرحب فمن الله، وأما الأَهْل فلا أَهْل لي، ولا مال فبما استحللت يَا عُمَر إشخاصي من مصري بلا ذنب أذنبته، ولا شَيْء آتيته، فَقَالَ: مَا الَّذِي شجر بينك وبين عاملي، قَالَ: قُلْتُ: الآن أخبرك به، أَنَّهُ كَانَ إذا خطبنا حمد الله وأثنى عَلَيْهِ وصلى على النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ أنشأ يدعو لَكَ فغاظني ذَلِكَ منه، فقمت إليه فَقُلْتُ لَهُ: أين أَنْتَ من صاحبه، تفضله عَلَيْهِ، فصنع ذَلِكَ جُمُعًا. ثُمَّ كتب إليك يشكوني، قَالَ: فاندفع رَضِيَ اللهُ عَنْهُ باكيًا، وَهُوَ يَقُولُ: أَنْتَ وَاللهِ أوفق منه وأرشد فهل أَنْتَ غافر لي ذنبي يغفر الله لَكَ. قَالَ: فَقُلْتُ: غفر الله لَكَ. قَالَ: ثُمَّ اندفع بَاكيًا، وَهُوَ يَقُولُ: وَاللهِ لليلة من أَبِي بَكْرٍ ويوم، خَيْر من عُمَر وآل عُمَر. وبعث الحجاج الظَالِم المشهور إلى الحسن فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ قَالَ: أَنْتَ الَّذِي تَقُول: قاتلهم الله قتلوا عباد الله على الدرهم والدينار. قَالَ: نعم. قَالَ: مَا حَمَلَكَ على هَذَا؟ قَالَ: مَا أخذ الله على الْعُلَمَاء من المواثيق {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} قَالَ: يَا حسن أمسك عَلَيْكَ لسانك وَإِيَّاكَ أن يبلغني عَنْكَ مَا أكره فافرق بين رأسيك وجسدك. نعود بِاللهِ من الظلمة وأعوان الظلمة من أمثال الحجاج. شِعْرًا: ... الظُّلْمُ نَارٌ فَلا تَحْقِرْ صَغِيرَتَهُ ... لَعَلَّ جَذْوَةَ نَارٍ أَحْرَقَتْ بَلَدَا ثُمَّ تطاول الزمن ومضت فترة منه فاندرس هَذَا الواجب وعفت أثاره

وامحت معالمه وانطوت أخباره وداهن النَّاس بَعْضهُمْ بَعْضًا وجبن النَّاس عَنْ المصارحة للولات فِي المخالفات إِلا نوادر مروا خلال القرون الأولى أما نَحْنُ فصَارَت شجاعتنا وصلابتنا وإنكاراتنا حول مَا يتعلق بالدنيا، أما ما يتعلق بالدين فلَيْسَ عندنا من الإنكار إِلا التلاوم فيما بيننا إِذَا أمن بعضنا من بعض فلا حول ولا قوة إِلا بِاللهِ العلي العَظِيم. قَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: قُلْ لِي مَتَى سَلِمَ الرَّسُولُ وَصَحْبُهُ ... وَالتَّابِعُون لَهُمْ عَلَى الإِحْسَانِ مِنْ جَاهِلٍ وَمُعَانِدٍ وَمُنَافِقٍ ... وَمُحَارِبٍ بِالْبَغْيِ وَالطُّغْيَانِ وَتَظُنُّ أَنَّكَ وَارِثًا لَهُمْ وَمَا ... نِلْتَ الأَذَى فِي نُصْرَةِ الرَّحْمَنِ كَلا وَلا جَاهَدْتَ حَقَّ جِهَادِهِ ... فِي اللهِ لا بِيَدٍ وَلا بِلِسَانِ مَنَّتْكَ وَاللهِ الْمَحَالَ النَّفْسُ فَاسْـ ... ـتَحْدِثْ سِوَى ذَا الرَّأْيِ وَالْحُسْبَانِ لَوْ كُنْتَ وَارِثَهُ لآذَاكَ الأَوْلَى ... وَرَثُوا عِدَاهُ بِسَائِرِ الأَلْوَانِ وقَدْ قيل: إن المنكرات أشبه بجراثيم الأمراض فِي تنقلها وانتشارها، والتأثر بها بإذن الله فَإِنَّ وجدت كفاحًا يحجر عَلَيْهَا فِي مكانها حَتَّى يقتلها ويبيدها سلم مَنْهَا موضعها، وسلم مَنْهَا مَا وراءه، وَإِذَا لم تجد كفاحًا وتركت وشأنها اتسعت دائرتها، وتفشت فِي جميع الأرجَاءَ وقضت على عناصر الحياة وعرضها للفناء والدمار. ومن هنا كَانَ أثر المنكرات غير خاص بمرتكبيها، وكَانَ الساكتون عَلَيْهَا عاملين على نشرها وإذعانها، وبهَذَا الموقف السلبي يكونون أهلاً لحلول العقاب بِهُمْ وإصابتهم بما يصاب به المباشرون لها. ومِمَّا يدل على هَذَا قوله تَعَالَى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} وَقَالَ الشَّيْخ عَبْد اللهِ بن مُحَمَّد بن حميد فِي آخر رسالة لَهُ

تتضمن الحث على الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر: قفا نبك على رسوم علوم الدين والإسلام الَّذِي بدأ يرتحل من بلاده، ولكن يَا للأسف على منام الْقُلُوب وقيام الألسنة بالتقول والتأويل على للإسلام بما لا حقيقة له. لقد انطمس المعنى وذهب اللب وما بقي إلا قشور ورسوم اكتفى كثيرون من الإسلام بمجرد الانتساب إليه بدون أن يعلموا به ويقوموا بالدعوة إليه تحذيرًا وإنذارًا وأمرًا ونهيًا وتبصيرًا للناس بدينهم بذكر فضله وعظمته وإيضاح أسراره وحكمه وغرس العقيدة الحقة فِي قُلُوبهمْ فهَذَا واجب الْمُسْلِمِين بَعْضهُمْ لبعض كُلّ عَلَى قَدْرِ استطاعته ومقدرته. أ. هـ. وقوله - صلى الله عليه وسلم - فِي حديث جابر: «أوحى الله عَزَّ وَجَلَّ إلى جبريل عَلَيْهِ السَّلامُ أن أقلب مدينة كَذَا وَكَذَا بأهلها، قَالَ: يَا رب إن فيهم فلانًا لم يعصك طرفة عين. قَالَ: فَقَالَ: أقلبها عَلَيْهِ وعَلَيْهمْ، فَإِنَّ وجهه لم يتمعر فِي ساعة قط» . وذكر الإمام أحمد عَنْ مالك بن دينار قَالَ: كَانَ حبر من أحبار بَنِي إسرائيل يغشى منزله الرِّجَال والنساء فيعظهم ويذكرهم بأيام الله فرأى بعض بنيه يغمز النساء فِي يوم فَقَالَ: مهلا يَا بَنِي فسقط من سريره فانقطع نخاعه وأسقطت امرأته وقتل بنوه. فأوحى الله إلى نبيهم أن أخبر فلانًا الحبر: أني لا أَخْرَجَ من صلبك صديقًا أَبدًا مَا كَانَ غضبك إِلا أن قُلْتَ: مهلا يَا بَنِي. إذا فهمت ذَلِكَ فاعْلَمْ أن الانتقام إِذَا وقع لَيْسَ هُوَ أخذًا للبرئ بجريمة المذنب كما يظن البعض، وإنما هُوَ أخذًا للمذنب بجريمة ذنبه، فالذنب ذنبان: ذنب يصدر عَنْ شخص، وَهُوَ الْفِعْل نَفْسهُ، وذنب يصدر عَنْ من يعلم هَذَا الذنب، وَهُوَ يقدر على مكافحته. ثُمَّ هُوَ يبعد نَفْسهُ عَنْ مكافحة هَذَا الذنب طمعًا فِي مال أَوْ مكانة وبذَلِكَ يكون شريكًا فِي الْعَمَل على نشره..أ. هـ.

وفي السُّنَن أن عَبْد اللهِ بن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حكم بكفر أَهْل مسجد بالكوفة قَالَ: واحد إِنَّمَا مسيلمة على حق فيما قَالَ: وسكت الباقون فأفتى بكفرهم جميعًا. أ. هـ من الدرر السنية. قُلْتُ: لأن الواجب عَلَيْهمْ أن يكذبوه ويقولوا لَهُ: كذبت بل هُوَ على باطل فالساكت شريك الفاعل لقدرته على الإنكار باللسان. وَقَالَ سفيان: إِذَا أمرت بالمعروف شددت ظهر المُؤْمِن وَإِذَا نهيت عَنْ الْمُنْكَر أرغمت أنف المنافق. شِعْرًا: ... لا يُدْرِكَ الْمَجْدَ إِلا مُخْلِصٌ وَرِعٌ ... يُرَاقِبُ الله فِي سِرٍّ وَإِعْلانِ وَلَيْسَ تَأْخُذُه فِي اللهِ لائِمَةٌ ... إِذَا رَأَى مُنْكَرًا فِي بَيْتِ إِنْسَانِ اللَّهُمَّ اجْعَلنَا من حزبك المفلحين، وعبادك الصالحين الَّذِينَ أهلتهم لخدمتك وجعلتهم آمرين بالمعروف فاعلين لَهُ، وناهين عَنْ الْمُنْكَر، ومجتنبين لَهُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ مرضى الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " فَصْلٌ " وكتب عُمَر بن عَبْد الْعَزِيز إلى بعض عماله، أما بعد فإنه لم يظهر الْمُنْكَر فِي قوم قط ثُمَّ لم ينههم أَهْل الصلاح مِنْهُمْ إِلا أصابهم الله بعذاب من عنده أَوْ بأيدي من يشاء من عباده، ولا يزال النَّاس معصومين من العقوبات والنقمَاتَ مَا قُمِعَ أَهْل الْبَاطِل واستخفى فيهم بالمحارم. فلا يظهر من أحد محرم إِلا انتقموا ممن فعله فَإِذَا ظهرت فيهم المحارم فَلَمْ ينههم أَهْل الصلاح أنزلت العقوبات من السماء إلى الأَرْض ولعل أَهْل

الإدهان أن يهلكوا ومعهم وإن كَانُوا مخالفين لَهُمْ، فإني لم أسمَعَ الله تبارك وتَعَالَى فيما نزل من كتابه عِنْدَ مثلة أهلك بها أَحَدًا نجى أَحَدًا من أولئك أن يكون الناهين عَنْ الْمُنْكَر. ويسلط الله على أَهْل تلك المحارم إَِنْ هُوَ لم يصبهم بعذاب من عنده أَوْ بأيدي من يشاء من عباده من الخوف والذل والنقم فإنه ربما انتقم بالفاجر من الفاجر وبالظَالِم من الظَالِم ثُمَّ صار كلا الفريقين بأعمالهما إلى النار، فنعوذ بِاللهِ أن يجعلنا ظالمين، أَوْ يجعلنا مداهنين للظالمين. وأنه قَدْ بلغني أَنَّهُ قَدْ كثر الفجور فيكم وأمن الفساق فِي مدائنكم وجاهروا بالمحارم بأمر لا يحب الله من فعله ولا يرضى المداهنة عَلَيْهِ، كَانَ لا يظهر مثله فِي علانية قوم يرجون لله وقارًا ويخافون منه غُيرًا وهم الأعزون الأكثرون من أَهْل الفجور، أي أَكْثَر من أهل الفجور وأعز مِنْهُمْ. ولَيْسَ بذَلِكَ مضى أمر سلفكم ولا بذَلِكَ تمت نعمة الله عَلَيْهمْ بل كَانُوا {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء} ، {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} . ولعمري إِنْ من الجهاد الغلظة على محارم الله بالأيدي والألسن والمجاهدة لَهُمْ فيه. وإن كَانُوا الآباء والأبناء والعشائر، وإنما سبيل الله طاعته. وَقَدْ بلغني أَنَّهُ بطأ بكثير من النَّاس عَنْ الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر، إتقاء التلاوم أن يُقَالَ فلان حسن الخلق، قليل التكلف، مقبل على نَفْسهُ، وَمَا جعل الله أولئك أحاسنكم أخلاقًا بل أولئك أسؤكم أخلاقًا. وما أقبل على نَفْسهُ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ، بَلْ أَدْبَرَ عَنْهَا، ولسلم من الكلفة

لها بل وقع فيها، وإذ رضي لنفسه من الحال غير مَا أمره الله به أن يكون عَلَيْهِ من الأَمْر بالمعروف، والنهي عَنْ الْمُنْكَر. وقَدْ دلت ألسنة كثير من النَّاس بآية وضعوها غير موضعها، وتأولوا فيها قول الله عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وصدق الله تبارك وتَعَالَى، ولا يضرنا ضلالة من ضل إِذَا اهتدينا، ولا ينفعنا هدي من اهتدى إِذَا ضللنا {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وإن مِمَّا عَلَى أَنْفُسِنَا وَأَنْفُسِ أولئك مما أمر الله به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا يظهر لله محرمًا إِلا انتقموا ممن فعله مِنْهُمْ، من كنتم، ومن كَانُوا، وقول من قَالَ إن لَنَا فِي أنفسنا شغلاً، ولسنا من النَّاس فِي شَيْء. ولو أن أَهْل طاعة الله رجع رأيهم إلى ذَلِكَ، مَا عمل لله بطاعة، ولا تناهوا لَهُ عَنْ معصية، ولقهر المبطلون المحقين، فصار النَّاس كالأنعام، أَوْ أضل سبيلاً، فتسلطوا على الفساق من كنتم ومن كَانُوا فادفعوا بحقكم باطلهم، وببصركم عماهم، فَإِنَّ الله جعل للأبرار على الفجار سلطانًا مبينًا، وإن لم يكونوا ولاة ولا أَئِمَّة. من ضعف عَنْ ذَلِكَ فليرفعه إلى أمامه فَإِنَّ ذَلِكَ من التعاون على البر والتقوى، قَالَ الله لأَهْل المعاصي: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ} . ولينتهين الفجار أَوْ ليهينهم الله بما قَالَ: {َنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} الآيَة. وذكر ابن أبي الدُّنْيَا عَنْ أَنَس بن مالك أَنَّهُ دخل على عَائِشَة هُوَ ورجل آخر فَقَالَ لها الرجل: يَا أم الْمُؤْمِنِينَ حدثينا عَنْ الزلزلة، فقَالَتْ: إِذَا استباحوا الزنا، وشربوا الخمور، وضربوا بالمعازف، غار الله عَزَّ وَجَلَّ فِي سمائه، فَقَالَ للأرض: تزلزلي بِهُمْ، فَإِنَّ تابوا ونزعوا وإِلا هدمها عَلَيْهمْ.

قَالَ: يَا أم الْمُؤْمِنِينَ أعذابا لَهُمْ؟ قَالَتْ: بل موعظة ورحمة للمؤمنين ونكالاً وعذابًا وسخطًا على الكافرين. فَقَالَ أَنَس مَا سمعت حديثًا بعد رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَا أشد فرحًا به مني بهَذَا الْحَدِيث. وذكر ابن أبي الدُّنْيَا حديثًا مرسلاً: أن الأَرْض تزلزلت على عهد رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فوضع يده عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَ: اسكني فإنه لم يأن لَكَ بعد. ثُمَّ التفت إلى أصحابه، فَقَالَ: «إن ربكم ليستعتبكم فاعتبوه» . ثُمَّ تزلزلت بِالنَّاسِ على عهد عُمَر بن الخطاب، فَقَالَ: أيها النَّاس مَا كَانَتْ هَذِهِ الزلزلة إِلا على شَيْء أحدثتموه، والَّذِي نفسي بيده لئن عادت لا أساكنكم فيها أبدًا. وفي مناقب عُمَر لابن أبي الدُّنْيَا أن الأَرْض على عهد عُمَر تزلزلت فضرب يده عَلَيْهَا، وَقَالَ: ما لك؟ أما إنها لو كَانَتْ القيامة حدثت أخبارك، سمعت رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: إِذَا كَانَ يوم القيامة فلَيْسَ فيها ذراع ولا شبر إِلا وَهُوَ ينطق. وكتب عُمَر بن عَبْد الْعَزِيز إلى الأمصار: أما بعد فإن هَذَا الرجف شَيْء يعاقب الله عَزَّ وَجَلَّ به العباد، وَقَدْ كتبت إلى الأمصار أن يخرجوا فِي يوم كَذَا وَكَذَا فِي شهر كَذَا وَكَذَا فمن كَانَ عنده شَيْء فليتصدق به، فَإِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} وقولوا كما قَالَ آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، وقولوا كما قَالَ يونس: {لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} . شِعْرًا: ... إِلَهِي لَكَ الْحَمْدُ الَّذِي أَنْتَ أَهْلُهُ ... عَلَى نِعَمٍ تَتْرَى عَلَيْنَا سَوَابِغُ وَقَدْ عَجِزَتْ عَنْ شُكْرِ فَضْلِكَ قُوَّتِي ... وَكُلُّ الْوَرَى عَنْ شُكْرِ جُودِكَ عَاجِزُ اللَّهُمَّ يَا عَالِم الخفيات ويا سامَعَ الأصوات ويا باعث الأموات ويا مجيب الدعوات ويا قاضي الحاجات يَا خالق الأَرْض والسماوات أَنْتَ الله الأحد

الصمد الَّذِي لم يلد ولا يولد ولم يكن لَهُ كفوًا أَحَد الوهاب الَّذِي لا يبخل والحليم الَّذِي لا يعجل لا رادَّ لأَمْرِكَ ولا معقب لحكمك نسألك أن تغفر ذنوبنا وتنور قلوبنا وتثَبِّتْ محبتك فِي قلوبنا وتسكننا دار كرامتك إِنَّكَ على كُلّ شَيْء قدير. وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين. " موعظة " قَالَ الله تَعَالَى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} ، قَالَ: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى} ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} فيا عباد الله لَقَدْ خاطبكم بهَذَا الخطاب الرائع ووصفهم بهَذَا الوصف العَظِيم، بأنهم خَيْر أمة أخرجت للناس، وأن مجتمعهم أعلا وأعز مجتمَعَ فِي العَالِم حاضره وماضيه لما اتصفوا به من الصفات الفاضلة، والأَخْلاق العالية، والغيرة الصادقة، على حدوده. وَهَذَا الوصف وَقْت أن كَانُوا متمسكين بتعاليم دينهم، وكَانَ الإِسْلام وبهاؤه يلوح فِي أَعْمَالُهُمْ، ومعاملاتهم، وأخلاقهم فلا غش ولا خداع ولا كذب ولا خيانة ولا غدرًا، ولا نميمة، ولا غيبة، ولا قطيعة هدفهم الِقَضَاءِ على المنكرات وإماتتها، وإعزاز المعروف ونشره بين الْمُسْلِمِين، وَهَذَا يدل على قوة إيمانهم، وشدة تمسكهم به ورغبة فِي النجاة التي وعد الله بها الناهي عَنْ السُّوء، قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} . فيا عباد الله تأملوا حالتنا الحاضرة، وحالة سلفنا الكرام الَّذِينَ كَانُوا كُلّ مِنْهُمْ يحب لأخيه مَا يحب لنفسه، ويرحم كبيرهم الصغير ويوقر الصغير الكبير، يتآمرون بالمعروف، ويتنأَهْوَن عَنْ الْمُنْكَر، ينصفون حَتَّى الأعداء من أنفسهم وأولادهم.

فالقوي عندهم ضعيف، حَتَّى يستوفي منه الْحَقّ، والضعيف عندهم قوي حَتَّى يؤخذ حقه، إِذَا فقدوا بحثوا عَنْهُ فَإِنَّ كَانَ مريضًا عادوه وَإِذَا مَاتَ شيعوه، وإن احتاج اقرضوه، وواسوه وإن نزل عَلَيْهمْ أكرموه. عاملين بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «مثل الْمُؤْمِنِينَ فِي توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إِذَا اشتكى منه عضو تداعى لَهُ سائر الجسد بالسهر والحمى "، وحديث: [المُؤْمِن للمُؤْمِنِ كالبنيان يشد بعضه بَعْضًا] . أما نَحْنُ فحالتنا حالة مخيفة جدًا لأننا على ضد مَا ذكرنا من حالة سلفنا ولا حَاجَة إلى تكرار، ألق سمعك وقَلِّبْ نظرك، وأحضر قلبك تَرَى ذَلِكَ بعين بصيرتك وتَرَى مَا يخيفك ويقلق راحتك ويقض مضجعك من المنكرات فِي البيوت والأسواق والبر والبحر، ولا أدري هل بيتك خال من المنكرات التي سأذكرها فهنيئا لَكَ إِنْ شَاءَ اللهُ ولا أظنه خال مَنْهَا. فَإِنْ تَنْجُ مِنْهَا تَنْجُ مِن ذِي عَظِيمَةٍ ... وَإِلا فَإِنِّي لا إِخَالُكَ نَاجِيًا وإن شككت ففتش على نفسك تجد ذَلِكَ، فالْمُنْكَر نراه بأعيننا ونسمعه بآذاننا بل وفي بيوتنا فهل بيتك خال من صورٍ ذوات الأرواح، هل هُوَ خال من المذياع، هل هُوَ خال من التلفزيون، والسينماء والبكمَاتَ ومسجلات الأغاني، هل هُوَ خال من شراب المسكرات، هل مَا يأتي لبيتك إِلا أناس طيبين طاهري الأَخْلاق، هل هُوَ خال من حالقي اللحى هل هُوَ خال من المخنفسين مطيلي أظافرهم تشبهًا باليهود، وهل هُوَ خال من المتشبهين بالمجوس والمتشبهين بالإفرنج، هل هُوَ خال ممن لا يشهدون صلاة الجماعة أَوْ لا يصلون أبدًا، هل هُوَ خال من النساء القاصات لرؤسهن المطيلات لأظفارهن، هل هُوَ خال من شرَّاب أب الخبائث الدخان، ونحوه من المنكرات وأما فِي الأسواق فحدث عَنْ كثرة المنكرات ولا حرج على حد قول المتنبي: شِعْرًا: ... وقَدْ وَجَدَتُ مَكَانَ الْقَوْلِ ذَا سِعَةِ ... فَإِنْ وَجَدتَ لِسَانًا قَائِلاً فَقُلِ

آخر: ... أَحْذِرْكَ أَحْذِرْكَ لا أَحْذِرْكَ وَاحِدَةَ ... عَن الْمِذَايِيعِ وَالتِّلْفَازِ وَالْكُرَةِ كَذَا الْمَجَلاتِ مَعَ صُحْفٍ وَنَحْوِهما ... مَا حَصَّلُوا مِنْهَا إِلا الإثُمَّ وَالْعَنَتِ كَمْ عِنْدَهَا ضَاعَ مِنْ وَقْتٍ بِلا ثَمَنٍ ... لَوْ كَانَ فِي الْبِرِّ نِلْتَ الأَجْرَ وَالصِّلَةِ ومَعَ ذَلِكَ فلا ألسنة تنطق ولا قُلُوب تتمعر إِلا النوادر، الموجود هُوَ التلاوم والقيل والقَالَ، والمداهنة، والجلوس مع أَهْل المعاصي، ومحادثتهم ومباشرتهم وأظهار البشر لَهُمْ وتعظيمهم وتقليدهم فِي الأقوال والأفعال. فيا عباد الله اتقوا الله واسلكوا طَرِيق سلفكم واصدعوا بالحق وأمروا بالمعروف وانهوا عَنْ الْمُنْكَر، واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، قَبْل أَنْ يَحِلَّ بِكم مَا حَل بمن قبلكم، وتضرب قُلُوب بعضكم على بعض، قبل فتنة لا تصيبن الَّذِينَ ظلموا منكم خاصة، قبل أن تُلعنوا كما لعن الَّذِينَ من قبلكم، بسبب عدم تناهيهم عَنْ الْمُنْكَر. قَالَ الله تَعَالَى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} . فَيَا عِبَادَ اللهِ إِنَّ الأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ لَمِنْ أَعْظَمِ الشَّعَائِرِ الإِسْلاميَّةِ، وَأَقْوَى الأُسُس التي يَقُومُ عَلَيْهَا بِنَاءُ الْمُجْتَمِعَاتِ النَّزِيهَةِ الرَّاقِيَةِ، فَإِذَا لم يكن أمر ولا نهي أَوْ كَانَ ولكن كالمعدوم، فعلى الأَخْلاق والمثل العليا السَّلام، ويل يومئذ للفضيلة من الرذيلة، وللمتدينين من الفاسقين والمنافقين. فيا عباد الله تداركوا الأَمْر قبل أن يفوت الأوان وتعضوا على البنان فقَدْ قَالَ لكم سيد ولد عدنان: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فَإِنَّ لم يستطع فبلِسَانه، فَإِنَّ لم يستطع فبقَلْبهُ وَذَلِكَ أضعف الإِيمَان» . عباد الله بالأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر نأمن بإذن الله على الدين من

الاضمحلال والتلاشي، ونأمن بإذن الله على الأَخْلاق الفاضلة من الذهاب والانحلال، والحذر والحذر من مخالفة القول للفعل، فتأثير الدعوة بالْفِعْل أقوى بكثير من الأقوال المجردة من الأفعال. وفي المسند وغيره مِنْ حَدِيثِ عروة عَنْ عَائِشَة قَالَتْ: دخل عليَّ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَقَدْ حفزه النفس فعرفت فِي وجهه أن قَدْ حفزه شَيْء، فما تكلم حَتَّى توضأ وخَرَجَ فلصقت بالحجرة، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أيها النَّاس إن الله عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لكم: مروا بالمعروف وانهوا عَنْ الْمُنْكَر، قبل أن تدعوني فلا أجيبكم، وتستنصروني فلا أنصركم، وتسألوني فلا أعطيكم. وَقَالَ العمري الزاهد: إن من غفلتك عَنْ نفسك وإعراضك عَنْ الله أن تَرَى مَا يسخط الله فتجاوزه، ولا تنهى عَنْهُ، خوفًا ممن لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا. قُلْتُ: وَمَا أَكْثَر المدلسين الساكتين الَّذِينَ يمرون بالجالسين أمام التلفزيون وعَنْدَ المذياع والكورة بل ولا يأمرونهم بالتي هِيَ أحسن ويمرون بأولادهم فِي فرشهم ولا يوقظونهم للصلاة وكَانَ أمرهم أمر مباح إن شَاءَ أنكر وإن شَاءَ ترك، وَقَالَ: من ترك الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر مخافة من المخلوقين نزعت منه الطاعة، ولو أمره ولده أَوْ بعض مواليه لا استخف بحقه. وذكر الإمام أحمد عَنْ عُمَر بن الخطاب: توشك القرى أن تخرب وهي عامرة. قيل: وكيف تخرب وهي عامرة، قَالَ: إِذَا علا فجارها أبرارها وساد القبيلة منافقوها. قُلْتُ: وَمِمَّا يؤيد ذَلِكَ قوله تَعَالَى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا} الآيَة، وإليك هَذَا نظم للأسباب التي بها حياة الْقَلْب فألق لها سمعك وأحضر قلبك تأتيك بعد الدُّعَاء. اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لما وفقت إليه القوم وأيقظنا من سنة الغَفْلَة والنوم وأرزقنا الاستعداد لِذَلِكَ الْيَوْم الَّذِي يربح فيه المتقون، اللَّهُمَّ وعاملنا بإحسانك وجد

عَلَيْنَا بِفَضْلِكَ وامتنانك وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون، اللَّهُمَّ ارحم ذلنا بين يديك واجعل رغبتنا فيما لديك، ولا تحرمنا بذنوبنا، ولا تطردنا بعيوبنا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا، اللَّهُمَّ اجعل قلوبنا مملؤة وألسنتنا رطبة بِذِكْرِكَ ونُفُوسنَا مطيعة لأَمْرِكَ وارزقنا الزهد فِي الدُّنْيَا والإقبال على الآخِرَة وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. شِعْرًا: ... حَمِدْتُ الَّذِي أَغْنَى وَأَقْنَى وَعَلّمَا ... وَصَيَّرَ شكْرَ الْعَبْدِ لِلْخَيْرِ سُلَّمَا وَأُهْدِي صَلاةً تَسْتِمَر عَلَى الرِّضَا ... وَأَصْحَابِهِ وَالآلِ جَمْعًا مُسَلِّمَا أَعَادَ لَنَا فِي الْوَحْي وَالسُّنَنِ الَّتِي ... أَتَانَا بِهَا نَحْوَ الرَّشَادِ وعَلَّمَا أَزَالَ بِهَا الأَغْلاف عَنْ قَلْبِ حَائِرٍ ... وَفَتَّحَ أَذَانَا أُصِمَّتْ وَأَحْكَمَا فَيَا أَيُّهَا الْبَاغِي اسْتنَارَةَ عَقْلِهِ ... تَدَبَّرْ كِلا الْوَحْيَيْنِ وَانْقَدْ وَسَلِّمَا فَعُنْوَانُ إسْعَادِ الْفَتَى فِي حَيَاتِهِ ... مَعَ اللهِ إِقْبَالاً عَلَيْهِ مُعَظِّمَا وَفَاقِدْ ذَا لا شَكَّ قَدْ مَاتَ قَلْبُهُ ... أَوْ اعْتَلَّ بِالأَمْرَاضِ كَالرِّينِ وَالْعَمَا وَآيَةُ سُقْمٍ فِي الْجَوَارِحِ مَنْعُهَا ... مَنَافِعَهَا أَوْ نَقْصُ ذَلِكَ مِثْلَمَا وَصِحَّتُهَا تَدْرِي بِإتْيَان نَفْعِهَا ... كَنُطْقِ وَبَطْشِ وَالتَّصَرُّفِ وَالنَّمَا وَعَيْنُ امْتِرَاضِ الْقَلْبِ فقدُ الَّذِي لَهُ ... أُرِيدَ مِن الإِخْلاصِ وَالْحُبِّ فَاعْلَمَا وَمَعْرِفَةٌ وَالشَّوْق إِلَيْهِ إِنَابَةً ... بِإِيثَارِهِ دُونَ الْمَحَبَّاتِ فَاحْكمَا وَمُوثِرُ مَحْبُوبٍ سِوَى اللهِ قَلْبُهُ ... مَرِيضٌ عَلَى جُرْفٍ مِنَ الْمَوْتِ وَالْعَمَا وَأَعْظَمُ مَحْذُورٍ خَفَى مَوْتُ قَلْبِهِ ... عَلَيْهِ لِشُغْلِ عَنْ دَوَاهُ بِصَدِمَا وَآيَةُ ذَا هُونُ الْقَبَائِحِ عِنْدَهُ ... وَلَوْلاهُ أَضْحَى نَادِمًا مُتَأَلِّمَا فَجَامِعَ أَمْرَاضٍ الْقُلُوبِ اتَّبَاعُهَا ... هَوَاهَا فَخَالِفَهَا تَصِحَّ وَتَسْلَمَا وَمِنْ شُؤْمِهِ تَرْكُ إِغْتِذَاءٍ بِنَافِعٍ ... وَتَرْكُ الدَّوَا الشَّافِي وَعَجْزٌ كِلاهُمَا إِذَا صَحَّ قَلْبُ الْعَبْدِ بَانَ ارْتِحَالُهُ ... إلى دَارِهِ الأُخْرَى فَرَاحَ مُسَلِّمَا وَمِنْ ذَاكَ إِحْسَاسُ الْمُحِبِّ لِقَلْبِهِ ... بِضَرْبٍ وَتَحْرِيكٍ إِلَى اللهِ دَائِمَا إلى أَنْ يُهَنَّا بِالإِنَابَةِ مُخْبِتًا ... فَيَسْكُنُ فِي ذَا مُطْمَئِنًا مُنَعَّمَا

.. وَيَصْحَبُ حُرًّا دَلَّهُ فِي طَرِيقِهِ ... وَكَانَ مُعِينَا نَاصِحًا مُتَيَمِّمَا وَمِنْهَا إِذَا مَا فَاتَهُ الْوِرْدُ مَرَّةً ... تَرَاهُ كَئِيبًا نَادِمًا مُتَأَلِّمَا وَمِنْهَا اشْتِيَاقُ الْقَلْبِ فِي وَقْت خِدْمَةٍ ... إِلَيْهَا كَمُشَتَدٍّ بِهِ الْجُوعُ وَالظَّمَا وَمِنْهَا ذِهَابُ الْهَمِّ وَقْتَ صَلاتِهِ ... بِدُنْيَاهُ مُرتَاحَا بِهَا مُتَنَعِّمَا وَيَشْتَدُّ عَنْهَا بَعْدَهُ لِخُرُوجِهِ ... وَقَدْ زَالَ عَنْهُ الْهَمَّ وَالْغَمُّ فَاسْتَمَا فَأَكْرِمْ بِهِ قَلْبًا سَلِيمًا مُقَرَّبًا ... إِلَى اللهِ قَدْ أَضْحَى مُحِبًّا مُتَيَّمًا وَمِنْهَا اجْتِمَاعُ الْهَمِّ مِنْهُ بِرَبِّهِ ... بِمَرْضَاتِهِ يَسْعَى سَرِيعًا مُعَظَّمَا وَمِنْهَا اهْتِمَامٌ يُثْمِرُ الْحِرْصَ رَغْبَةً ... بِتَصْحِيحِ أَعْمَالٍ يَكُونُ مُتَمِّمَا بِإِخْلاصِ قَصْدٍ وَالنَّصِيحَةَ مُحْسِنًا ... وَتَقْيِيدِهِ بِالاتِّبَاعِ مُلازِمًا وَيَشْهَدُ مَعْ ذَا مِنَّةَ الله عِِنْدَهُ ... وَتَقْصِيرَهُ فِي حَقِّ مَوْلاهُ دَائِمَا فَسِتٌ بِهَا الْقَلْبُ السَّلِيمُ ارْتِدَاءِهُ ... وَيَنْجُو بِهَا مِنْ آفَةِ الْمَوْتِ وَالْعَمَا فَيَا رَبِّ وَفَّقَنَا إلى مَا نَقُولُهُ ... فَمَا زِلْتَ يَا ذَا الطُّولِ بَرًّا وَمُنْعِمَا فَإِنِّي وَإِنْ بَلَغْتُ قَوْلَ مُحَقِّقٍ ... أَقِرُّ بِتَقْصِيرِي وَجَهْلِي لَعَلَّمَا وَلَمَّا أَتَى مِثْلِي إلى الْجَوِّ خَالِيًا ... مِنَ الْعِلْمِ أَضْحَى مُعْلِنًا مُتَكَلِّمَا كَغَابِ خَلا مِنْ أُسْدِهِ فَتَوَاثَبَتْ ... ثَعَالِبُ مَا كَانَتْ تَطَافِي فِنَا الْحِمَا فَيَا سَامِعَ النَّجْوَى وَيَا عَالِمَ الْخَفَا ... سَأَلْتُكَ غُفْرَانًا يَكُونُ مَعَمِّمَا فَأَجْرَأَنِي إِلا اضْطِرَارٌ رَأَيْتُهُ ... تَخَوَّفْتُ كَوْنِي إِنْ تَوَقَّفْتُ كَاتِمَا فَأَبْدَيْتُ مِنْ جُرَّاهُ مُزْجَى بِضَاعَتِي ... وَأَمَّلْتُ عَفْوًا مِنْ إِلَهِي وَمَرْحَمَا فَمَا خَابَ عَبْدٌ يَسْتَجِيرُ بِرَبِّهِ ... أَلَحَّ وَأَمْسَى طَاهِرَ الْقَلْبِ مُسْلِمَا وَصَلُّوا عَلَى خَيْرِ الآنَامِ مُحَمَّدٍ ... كَذَا الآلِ وَالأَصْحَابِ مَا دَامَتْ السَّمَا والله أعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.

الرد على منكري الجن

" فَصْلٌ " اعلم وَفَّقَنَا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع الْمُسْلِمِين لما يحبه ويرضاه وجعلنا وَإِيَّاكَ وإياهم من المصدقين لله فيما أخبروا به وحيث أَنَّهُ قَدْ كثر فِي زمننا المنكرون للجن وغالبهم يستندون فِي إنكارهم بأن طَرِيق معرفة وجودهم هِيَ النظر أَوْ السمَعَ أَوْ اللمس وأنهم لم يروا جنَّا ولم يسمعوهم ولم يمسوهم. ولكن عدم النظر أَوْ السمَعَ أَوْ اللمس أَوْ عدم وصول أحد الحواس الخمس إلى وجود الجن لا يقوم دليلاً على عدم وجودهم لا نقلاً ولا عقلاً أما العقل فإنه يجوز وجود كائن حي غير مرئي بالعين بدون واسطة المجهر المكتشف أخيرًا فَإِنَّ المكروب كائن حي خلقه الله وَهُوَ كثير فِي طبقات الجو ولا يمكن رؤيته بالعين. ومن لم يقر ويعتقَدْ مَا غاب عَنْ سمعه ولمسه لزمه إنكار الروح والآلام والعقل والجوع والظماء لأنها لَيْسَتْ مرئية ولا مسموعة ولا ملموسة ولا مذوقة وأما النقل فكثير فمن الأدلة قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ، وَقَالَ الله تَعَالَى آمرًا رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يخبر قومه أن الجن استمعوا لقراءة الْقُرْآن فآمنوا به وصدقوا لما قَالَ وتلا وانقادوا لَهُ كما فِي قوله تَعَالَى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} الآيات. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} . وَهَذَا من حكمة الله ولطفه بعباده البشر فلو كشف لَنَا عَنْ حقيقتهم وسلط نظرنا المحدود على ذواتهم لما أمكن وَاللهُ أَعْلَمُ أن يعيش الإِنْسَان معهم وَقَالَ تَعَالَى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانٌ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ} . وَقَالَ: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} . وَقَالَ فِي من سخر لسُلَيْمَانٌ: {وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} الآيات، وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ

الْمَسِّ} . قَالَ ابن عَبَّاس: «آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونًا يخنق» . رَوَاهُ ابْن أَبِي حَاتِم، قَالَ: وروي عَنْ عوف بن مالك وسعيد بن جبير والسدي والربيع بن أَنَس وقتادة ومقاتل بن حيان نَحْوَ ذَلِكَ إلى غير ذَلِكَ من الآيات. اللَّهُمَّ انهج بنا مناهج المفلحين وألبسنا خلع الإِيمَان واليقين، وخصنا منك بالتَّوْفِيق المبين، وَوَفِّقْنَا لقول الْحَقّ واتباعه وخلصنا مِنَ الْبَاطِلِ وابتداعه، وكن لَنَا مؤيدًا ولا تجعل لفاجر عَلَيْنَا يدًا واجعل لَنَا عيشًا رغدًا ولا تشمت بنا عدوًا ولا حاسدًا، وارزقنا عِلْمًا نافعًا وعملاً متقبلاً وفهمًا ذكيًا وطبعًا صفيًا وشفاءً من كل داء. واغفر لنا ولوالديْنا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آل وصحبه أجمعين. " فَصْلٌ " أما السنة فورد عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «إن عفريتًا من الجن تفلت عليَّ البارحة ليقطع علي الصَّلاة فأمكنني الله منه فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حَتَّى تصبحوا وتنظروا إليه فذكرت قول أخي سُلَيْمَانٌ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي} » . ورد أن صفية زوج النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - جاءت تزوره وَهُوَ معتكف فقام معها مودعًا حَتَّى بلغت باب المسجد فرآه رجلان من الأنصار فسلما عَلَيْهِ فَقَالَ: على رسلكما إِنَّمَا هِيَ صفية بنت حيي» . فقالا: سبحان الله يَا رَسُول اللهِ وكبر عَلَيْهِمَا فَقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «إن الشيطان يبلغ من الإِنْسَان مبلغ الدم وإني خشيت أن يقذف فِي قلوبكما شَيئًا» .

وَهَذَا صريح واضح فِي أن الشيطان يخترق الجسم البشري ويسري فيه كما يسري الدم ومَعَ خفائه فقَدْ التزم الشيطان لعنه الله فِي عداوته سبعة أمور: أربعة فِي قوله تَعَالَى: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ} وثلاثة مَنْهَا فِي قوله تَعَالَى: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} . وَهَذَا الإلتزام يبين أَنَّهُ عدو متظاهر بالعداوة ولِذَلِكَ فصل الله عداوته باشتمالها على ثلاثة أشياء: (السُّوء) وَهُوَ متنازل جميع المعاصي من الْقَلْب والْجَوَارِح، (والفحشاء) وهي مَا عظم جرمه وذنبه كالكبائر التي بلغت الغاية فِي الفحش وَذَلِكَ كالزنا واللواط. والقول على الله بلا علم فِي أسمائه وصفاته وشرعه. وروى مُسْلِم أن فتى من الأنصار قتل حية فِي بيته فمَاتَ فِي الحال فَقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -:" إن فِي الْمَدِينَة جنًا قَدْ أسلموا فَإِذَا رأيتم مِنْهُمْ شَيْئًا فآذنوه ثلاثة أيام فَإِنَّ بدا لكم بعد ذَلِكَ فاقتلوه فإنما هُوَ شيطان» . وهكَذَا تكررت الروايات الصحيحة أن الجن كَانُوا بالْمَدِينَة وَقَدْ أسلم بَعْضهُمْ وروى مُسْلِم فِي صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ رضي اله عَنْهُ أن رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا من مولود يولد إِلا نخسه الشيطان إِلا ابن مريم وأمه» . وروى مُسْلِم قول النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا منكم من أحد إِلا وكل الله به قرينه من الجن "، فرأى الصحابة أن قوله - صلى الله عليه وسلم - عام فَقَالُوا يَا رَسُول اللهِ وَإِيَّاكَ، أي حَتَّى أَنْتَ، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «وإياي لكن الله قَدْ أعانني عَلَيْهِ فأسلم فلا يأمرني إِلا بالْخَيْر» . وروى الْبُخَارِيّ فِي صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ قَالَ: وكلني رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -

بحفظ زكاة رمضان فأتاني أت فجعل يحثو من الطعام فأخفته وقُلْتُ: لأرفعَنْكَ إلى رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: دعني فإني محتاج ولي عيال وبي حَاجَة شديدة. قَالَ: فخليت عَنْهُ. فأصبحت فَقَالَ رَسُول اللهِ: «يَا أَبَا هريرة مَا فَعَلَ أسيرك البارحة» ؟ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُول اللهِ شكا حَاجَة شديدة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله، قَالَ: «أما أَنَّهُ كذبك وسيعود» . فرصدته فَجَاءَ يحثو من الطعام فعل ذَلِكَ ثلاث ليال كُلّ ذَلِكَ والرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:" أما أَنَّهُ قَدْ كذبك وسيعود» . فَلَمَّا كَانَ فِي الثالثة قُلْتُ: لأرفعَنْكَ إلى رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَهَذَا آخر ثلاث مرات تزعم إِنَّكَ لا تعود، فَقَالَ: دعني أُعْلَمُك كلمَاتٍ ينفعك الله بها. فَقُلْتُ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: إِذَا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حَتَّى ختم الآيَة فإنه لن يزال عَلَيْكَ من الله حافظ ولا يقربك شيطان حَتَّى تصبح. فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أما أَنَّهُ صدقك وَهُوَ كذوب. تعلم من تخاطب مُنْذُ ثلاث ليال يَا أَبَا هريرة» . قُلْتُ: لا. قَالَ: «ذَلِكَ شيطان» . عن أبي السائب أَنَّهُ دخل على أبي سعيد الخدري فِي بيته قَالَ: فوجدته يصلي فجلست أتنظره حَتَّى يقضي صلاته فسمعت تحريكًا فِي عراجين فِي ناحية البيت فالتفت فَإِذَا حية فوثَبِّتُ لأقتلها فأشار إليَّ أن أجلس فجلست فَلَمَّا انصرف أشار إلى بيت فِي الدار فَقَالَ: أتَرَى هَذَا البيت؟ فَقُلْتُ: نعم. فَقَالَ: كَانَ فيه فتى منَّا حديث عهد بعرس قَالَ: فخرجنا مَعَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى الخندق فكَانَ ذَلِكَ الفتى يستأذن رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بأنصاف النَّهَارَ فيرجع إلى أهله. فاستأذنه يَوْمًا فَقَالَ لَهُ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «خذ عَلَيْكَ سلاحك؛ فإٍني أخشى عَلَيْكَ قريظة» . فأخذ الرجل سلاحه ثُمَّ رجع فَإِذَا امرأته بين البابين قَائِمَة فأهوى

إليها بالرمح ليطعَنْهَا به فأصابته، فقَالَتْ: اكفف عَلَيْكَ رمحك وادخل البيت حَتَّى تنظر مَا الَّذِي أخرجني فَإِذَا بحية عظيمة منطوية على الفراش فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به ثُمَّ خَرَجَ فركزه فِي الدار فاضطربت عَلَيْهِ فما يدري أيهما كَانَ أسرع موتًا الحية أم الفتى قَالَ: فجئنا إلى رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فذكرنا ذَلِكَ لَهُ وقلنا: ادع الله يحييه لَنَا فَقَالَ: «استغفروا لصاحبكم» . ثُمَّ قَالَ: «إن بالْمَدِينَة جنًا قَدْ أسلموا فَإِذَا رأيتم مِنْهُمْ شَيْئًا فآذنوه ثلاثة أيام فَإِنَّ بدا لكم بعد ذَلِكَ فاقتلوه فإنما هُوَ شيطان» . وفي رواية عَنْهُ فَقَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إن لهذه البيوت عوامر فَإِذَا رأيتم شَيْئًا مَنْهَا فحرجوا عَلَيْهَا ثلاثة فَإِنَّ ذهب وإِلا فاقتلوه فإنه كافر» . وَقَالَ لَهُمْ: «اذهبوا فادفنوا صاحبكم» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:" إِذَا نودي بالصَّلاة أدبر الشيطان وله ضراط حَتَّى لا يسمَعَ التأذين فَإِذَا قضي النداء أقبل حَتَّى إِذَا وثب بالصَّلاة أدبر حَتَّى إِذَا قضي التثويب أقبل حَتَّى يخطر بين المرء ونفسه يَقُولُ: اذكر كَذَا واذكر كَذَا - لما لم يذكر من قبل - حَتَّى يظلّ الرجل مَا يدري كم صلى» . متفق عَلَيْهِ. (التثويب) : الإقامة، يخطر: يوسوس. وعن ابن مسعود رصي الله عَنْهُ قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - رجل نام حَتَّى أصبح قَالَ: «يعقَدْ الشيطان على قافية رأس أحدكم إِذَا هُوَ نام ثلاث عقَدْ يضرب على كُلّ عقدة عَلَيْكَ ليل طويل فارقَدْ، فَإِنَّ استيقظ فذكر الله تَعَالَى انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كُلّهَا فأصبح نشيطًا طيب النفس وإِلا أصبح خبيث النفس كسلان» . متفق عَلَيْهِ. اللَّهُمَّ أنظمنا فِي سلك حزبك المفلحين، واجْعَلنَا من عبادك المخلصين، وآمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين

الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " فَصْلٌ " وروى مُسْلِم عَنْ ابن مسعود قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تستنجوا بالروث، ولا بالعظام، فإنه زَادَ إخوانكم من الجن» . وورد فِي السنة الصحيحة باللفظ الصريح: أكل الشيطان، وشربه فقَدْ ورد: «إِذَا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله ويأخذ بشماله» . وَهَذَا لا يحتاج إلى شرح، ولا تأويل لوضوحه. وحديث الوادي الَّذِي نام فيه رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، عَنْ زيد بن أسلم قَالَ: عرس رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ليلة بطَرِيق مَكَّة، ووكل بلالاً يوقظهم للصلاة، فرقَدْ بلال ورقدوا، حَتَّى استيقظوا وَقَدْ طلعت عَلَيْهمْ الشمس، فاستيقظ القوم قَدْ فزعوا، فأمرهم رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أن يركبوا، حَتَّى يخرجوا من ذَلِكَ الوادي. وَقَالَ: «هَذَا واد فيه الشيطان» . فركبوا حَتَّى خرجوا من ذَلِكَ الوادي ثُمَّ أمرهم النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أن ينزلوا، وأن يتوضأوا وأمر بلالاً أن ينادي بالصلاة وصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس ثم انصرف، وَقَدْ رأى من فزعهم، فَقَالَ: «أيها النَّاس إن الله قبض أرواحنا ولو شَاءَ لردها إلينا فِي حين غير هَذَا، فَإِذَا رقَدْ أحدكم عَنْ الصَّلاة أَوْ نسيها، ثُمَّ فزع إليها فليصلها كما كَانَ يصليها فِي وقتها» . ثُمَّ التفت رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إلى أَبِي بَكْرٍ الصديق فَقَالَ: «إن الشيطان أتى بلالاً وَهُوَ قائم يصلي فأجمعه، ثُمَّ لم يزل يهديه كما يهدى الصبي حَتَّى نام، ثُمَّ دعا رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بلالاً فأخبر بلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل الذي أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أشهد إِنَّكَ رَسُول اللهِ. رَوَاهُ مالك فِي الموطأ مرسلاً.

وعن ابن مسعود قَالَ: خَرَجَ رجل من الإنْس فلقيه رجل من الجن فَقَالَ: هل لَكَ أن تصارعني، فَإِنَّ صرعتني علمتك آية إِذَا قرأتها حين تدخل بيتك لم يدخله شيطان، فصارعه فصرعه، فَقَالَ: إني أراك ضئيلاً، كَانَ ذراعيك ذرعا كلب، أهكَذَا أنتم أيها الجن، أم أَنْتَ من بينهم. قَالَ: إني فيهم لضليع فعاودني. فعاوده فصرعه الإنسي قَالَ: تقرأ آية الكرسي، فإنه لا يقرؤها أحد إِذَا دخل بيته إِلا خَرَجَ الشيطان وله خجيج كخجيج الحمار. فَقِيلَ لابن مسعود: أهو عُمَر؟ قَالَ: من عَسَى أن يكون إِلا عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. ومن ذَلِكَ مَا فِي مجيئ الشيطان فِي صورة شيخ نجدي فِي دار الندوة. ومن قصتها أنه اجتمع قريش للتشاور فِي أمر رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ أَهْل العلم بالأخبار هاجر أصحاب النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - مثل عُمَر بن الخطاب، وابنه وأخيه زيد بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وحمزة بن عبد المطلب، عم رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وزيد بن حارثة وغيرهم. وأقام رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بعد أصحابه ينتظر الأذن فِي الهجرة، ولم يتخلف معه بمَكَّة أحد من المهاجرين، إِلا من حبس، أَوْ فتن، إِلا أَبُو بَكْرٍ الصديق، وعلي بن أبي طالب وكَانَ أَبُو بَكْرٍ كثيرًا مَا يستأذن رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فيَقُولُ لَهُ: لا تعجل لعل الله أن يجعل لَكَ صاحبًا، فيطمَعَ أَبُو بَكْرٍ أن يكون هُوَ. ولما رأت قريش أن لرَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - شيعة، وأصحابًا من غير بلدهم، ورأوا خروج المهاجرين إليهم، حذروا خروج رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وعلِموا أَنَّهُ قَدْ اجمَعَ لحربهم فاجتمعوا فِي دار الندوة، وهي دار قصي بن كلاب، وكَانَتْ قريش لا تقضي أمرًا إلا فيها يتشاورون فيما يصنعون برَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حين خافوه. قَالَ ابن عَبَّاس: لما خرجوا فِي الْيَوْم الَّذِي اتعدوا لَهُ، كَانَ ذَلِكَ الْيَوْم

يسمى يوم الرحمة، فاعترض إبلَيْسَ فِي هيئة شيخ جليل، عَلَيْهِ بتلة أي كساء غليظ، فوقف على باب الدار، فَلَمَّا رأوه قَالُوا: من الشَّيْخ؟ قَالَ: شيخ من أَهْل نجد، سمَعَ بالَّذِي اتعدتم لَهُ، فَجَاءَ ليسمَعَ مَا تقولون، وعَسَى أن لا يعدكم منه رأيًا ونصحًا. قَالُوا: فأدخل. وقَدْ اجتمَعَ أشراف قريش، فَقَالَ بَعْضهُمْ لبعض: إنْ هَذَا الرجل قَدْ كَانَ من أمره مَا قَدْ رأيتم، وإنَا وَاللهِ مَا نأمنه عَنْ الوثوب عَلَيْنَا، فأجمعوا فيه رأيًا، فَقَالَ قائل: احبسوه فِي الحديد وأغلقوا عَلَيْهِ بابًا، ثُمَّ تربصوا به مَا أصاب أمثاله من الشعراء من الموت. فَقَالَ الشَّيْخ النجدي: لا وَاللهِ مَا هَذَا لكم برأي، وَاللهِ لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره إلى أصحابه فيثبوا عليكم فينزعوه منكم، مَا هَذَا لكم برأي فانظروا فِي غيره. فتشاوروا، ثُمَّ قَالَ قائل مِنْهُمْ: نخرجه عَنْ بلادنا، ثُمَّ إِذَا خَرَجَ فوَاللهِ لا نبالي أين ذهب. فَقَالَ الشَّيْخ النجدي: لا وَاللهِ مَا هَذَا لكم برأي ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قُلُوب الرِّجَال بما يأتي به، وَاللهِ مَا هُوَ رأي. فَقَالَ: أَبُو جهل: وَاللهِ لي رأيًا. قَالُوا: وَمَا هُوَ يَا أَبَا الحكم؟ قَالَ: أرى أن نأخذ من كُلّ قبيلة شابًا، ثُمَّ نعطي كُلّ فتى سيفًا، ثُمَّ يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد، فيقتلوه فتستريحوا منه فَإِنَّهُمْ إِذَا فعلوا ذَلِكَ تفرق دمه فِي القبائل جميعًا، فَلَمْ يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعًا، فرضوا بالعقل فعقلنا لَهُمْ. فَقَالَ الشَّيْخ النجدي: هَذَا هُوَ الرأي الَّذِي لا أرى غيره. فتفرق القوم على ذَلِكَ، فأتى جبريل النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: لا تبيت اللَّيْلَة على فراشك، فَلَمَّا كَانَ عتمة من الليل، اجتمعوا على بابه يرقبونه حَتَّى ينام فيثبون عَلَيْهِ.

فَلَمَّا رأى رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مكانهم قَالَ لعلي بن أبي طالب نم على فراشي وتسج بردائي الأخضر، فإنه لن يخلص إليك شَيْء تكرهه مِنْهُمْ، فَلَمَّا اجتمعوا على بابه قَالَ أَبُو جهل: إن محمدًا يزعم أنكم إن تابعتوه على أمره كنتم ملوك الْعَرَب، والعجم ثُمَّ بعثتم من بعد موتكم وجعلت لكم جنات كجنات الأردن، وإن لم تفعلوا كَانَ فيكم ذبح، ثُمَّ بعثتم من بعد موتكم، ثُمَّ جعلت لكم نار تحرقون فيها. قَالَ: وخَرَجَ عَلَيْهمْ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فأخذ حفنة من تراب ثُمَّ قَالَ: «نعم أَنَا أَقُول ذَلِكَ أَنْتَ أحدهم» . فأخذهم الله على أبصارهم عَنْهُ فلا يرونه وجعل ينثر ذَلِكَ التُّرَاب على رؤوسهم، وَهُوَ يتلوا عَلَيْهمْ {يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} إلى قوله: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} ، ولم يبق مِنْهُمْ رجلاً إِلا وَقَدْ وضع على رأسه ترابًا، ثم انصرف فأتاهم آتٍ فقال: ما تنتظرون ها هنا؟ قالوا: محمدًا. قال: خيبكم الله، والله خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلاً إلا وقد وضع على رأسه تراباً وانطلق لحاجته. قَالَ: فوضع كُلّ واحد مِنْهُمْ يده على رأسه فَإِذَا عَلَيْهِ تراب، ثُمَّ جعلوا يتطلعون فيرون عليًا على الفراش مُسجَّى ببرد رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فيقولون: وَاللهِ إن هَذَا لمُحَمَّد نائمًا فِي برده، فَلَمْ يبرحوا كَذَلِكَ حَتَّى أصبحوا. فقام علي عَنْ الفراش فَقَالُوا: وَاللهِ لَقَدْ صدقنا الَّذِي كان حدثنا وأنزل الله فِي ذَلِكَ: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} والشاهد هُوَ مجيء الشيطان ورؤيته وكلامه وَهُوَ أَبُو الجن لعنه الله. ومن ذَلِكَ صياح إبلَيْسَ يوم أحد أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قتل، فَلَمْ يشك فِي ذَلِكَ، حَتَّى طلع رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بين السعدين، قَالَ الراوي نعرفه بكتفيه إِذَا

مشى قَالَ: ففرحنا حَتَّى كأنه لم يصبنا مَا أصابنا، فاؤمأ نحونا.. الحديث. ومن ذَلِكَ مَا ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا استيقظ أحدكم من منامه فليتوضأ وليستنثر ثلاث مرات فَإِنَّ الشيطان يبيت على خياشيمه» . متفق عَلَيْهِ. ومن ذَلِكَ مَا ورد عَنْ أبي سعيد الخدري أن رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قام فصلى صلاة الصبح وَهُوَ خلفه فقرأ فالتبست عَلَيْهِ القراءة فَلَمَّا فرغ من صلاته قَالَ: لو رأيتموني وإبلَيْسَ فأهويتُ بيدي فما زلت اخنقه حَتَّى وجدتُ برد لعابه بين إصبعي هاتين الإبهام والتي تليها ولولا دعوة أخي سُلَيْمَانٌ أصبح مربوطًا بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان الْمَدِينَة» . وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " فَصْلٌ ": وَقَالَ شيخ الإِسْلام والجن يتصورون فِي صور الإنس، والبهائم فيتصورون فِي صور الحيات، والعقارب، وغيرها، وفي صور الإبل، والبقر والغنم، والخيل، والبغال، والحمير، وفي صور الطير، وفي صور بَنِي آدم، كما أتى الشيطان قريشًا فِي صورة سراقة بن مالك بن قشم، لما أرادوا الْخُرُوج إلى بدر، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} إلى قوله: {وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} . وذكر ابن أبي الدُّنْيَا فِي كتابه مكائد الشيطان أن رجلاً من أَهْل الشام من أمراء معاوية غضب ذات ليلة على ابنه، فأَخْرَجَهُ من منزله فخَرَجَ الغلام لا يَدْرِي أَيْنَ يَذْهَبُ، فَجَلَسَ وَرَاء الْبَابِ مِنْ خَارِج، فَنَامَ سَاعَة ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، وَبَابه يَخْمِشَهُ هِر أَسْوَدٌ بَرِّيٌ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الْهِّرُ الَّذِي فِي مَنْزِلِهِمْ. فَقَالَ لَهُ البريء: وَيْحَكَ افْتَحْ. فَقَالَ: لا أَسْتَطِيعُ. فَقَالَ: وَيْحَكَ ائْتِنِي بِشَيْء أَتَبَلَّغُ بِهِ، فَإِنِّي جَائِعٌ وَأنَا تَعْبَانٌ، هَذَا أَوَان مَجِيء مِنَ الْكُوفَةِ وَقَدْ حَدَثَ اللَّيْلَة

حَدَثٌ عَظِيم قُتِلَ عَلَيٌ بِن أَبِي طَالِبٌ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْهِّرُ الأَهْلِيُ: وَاللهِ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْء هَا هُنَا، إِلا وَقَدْ ذَكَرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ، غَيْر سفود كَانُوا يَشْوُونَ عَلَيْهِ اللَّحْمَ. فَقَالَ: ائْتِنِي بِهِ فَجَاءَهُ فَجَعَلَ يَلْحَسَهُ حَتَّى أَخَذَ حَاجَتَهُ وَانْصَرَفَ وَذَلِكَ بِمَرْأَى مِنَ الْغُلامِ وَسَمِعٍ، فَقَامَ إِلَى الْبَابِ فَطَرَقَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ أَبُوهُ، فَقَالَ: مَنْ؟ فَقَالَ: افْتَحْ. فَقَالَ: وَيْحَكَ مَا لَكَ؟ فَقَالَ: افْتَحْ. فَفَتَحَ فَقَصَ عَلَيْهِ خَبَرَ مَا رَأَى. فَقَالَ: وَيْحَكَ أَمَنَامٌ هَذَا؟ قَالَ: لا وَاللهِ. قَالَ: وَيْحَكَ، فَأَصَابَكَ جُنُونٌ بِعْدِي؟ قَالَ: لا وَاللهِ، وَلَكِنْ الأَمْر كَمَا وَصَفْتَ لَكَ. فَاذْهَبْ إِلَى مُعَاوِيَة الآن فاتخذ عِنْدَهُ بِمَا قُلْتُ لَكَ. فَذَهَبَ الرَّجُلُ فَاسْتَأْذَنَ عَلَى مُعَاوِيَة فَأَخْبَرَهُ خَبَرَ مَا ذَكَرَ لَهُ وَلَدُهُ، فَأَرَّخُوا ذَلِكَ عِنْدَهُمْ قَبْلَ مَجِيءِ الْبردِ، وَلَمَّا جَاءَتْ الْبردُ وَجَدُوا مَا أَخْبَرهمْ قَبْلَ مَجِيءِ الْبردِ، ولما جاءت البرد وجدوا مَا أخبروهم بِهِ مُطَابِقًا لِمَا كَانَ خَبَّرَ بِهِ الْغُلامُ. وَرُوِيَ أَنَّ سَعَدَ بْن عُبَادَة بَالَ بِجحر بِالشَّامِ ثُمَّ اسْتَلْقَى مَيِّتًا فَسُمِعَ مَنْ بِئْرٍ بِالْمَدِينَةِ قَائِلاً يَقُولُ: نَحْنُ قَتَلْنَا سَيِّدَ الْخَزْرَجَ سَعْد بْن عُبَادَة، رَمَيْنَاهُ بِسَهْمَيْنِ فَلَمْ نُخْطِي فُؤَادَهُ، فَحَفِظُوا ذَلِكَ الْيَوْم الَّذِي مَاتَ فِيهِ سَعْدُ فَوَجَدُوهُ الْيَوْم الَّذِي سُمِعَ فِيهِ الْخَبَرَ. وَاللهُ اعْلَمْ. اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لتدبر كتابك وإطالة التأمل فيه وجمَعَ الفكر على معاني آياته. اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قواعد الإِيمَان فِي قلوبنا وشيد فيها بنيانه ووطد فيها أركانهوألهمنا ذكرك وشكرك وآتنا فِي الدُّنْيَا حسنة وفي الآخِرَة حسنة، اللَّهُمَّ يَا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغَفْلَة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة وَوَفِّقْنَا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا وذنوبنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتيين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

" فَصْلٌ " وَقَالَ شيخ الإِسْلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ: ولا ريب أن الأوثان يحصل عندها من الشياطين، وخطابهم، وتصرفهم مَا هُوَ من أسباب ضلال بَنِي آدم، وجعل القبور أوثانًا، هُوَ أول الشرك، ولهَذَا يحصل عِنْدَ القبور لبعض النَّاس من خطاب يسمعه، وشخص يراه، وتصرف عجيب، مَا يظن أَنَّهُ من الميت. وقَدْ يكون من الجن والشياطين، مثل أن يرى القبر قَدْ انشق، وخَرَجَ منه الميت، وكلمه وعانقه وَهَذَا يرى عِنْدَ قبور الأَنْبِيَاء وغيرهم، وإنما هُوَ شيطان فَإِنَّ الشيطان يتصور بصور الإنس، ويدعي أحدهم أَنَّهُ النَّبِيّ فلان أَوْ الشَّيْخ فلان وَيَكُونُ كّاذِبًا فِي ذَلِكَ. وفي هَذَا الْبَاب من الوقائع مَا يضيق هَذَا الموضع عَنْ ذكره وهي كثيرة جدًا، والجاهل يظن أن ذَلِكَ الَّذِي رآه قَدْ خَرَجَ من القبر وعانقه أَوْ كلمه هُوَ المقبور أَوْ النَّبِيّ، أَوْ الصالح، أَوْ غيرهما، والمُؤْمِن العَظِيم يعلم أَنَّهُ شيطان، ويتبين ذَلِكَ بأمور: أحدهما أن يقرأ آية الكرسي بصدق، فَإِذَا قرأها تغيب ذَلِكَ الشخص، أَوْ ساخ فِي الأَرْض، أَوْ احتجب، ولو كَانَ رجلاً صالحًا أَوْ ملكًا أَوْ جنيًا مؤمنًا لم تضره آية الكرسي، وإنما تضر الشيطان كما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة: اقرأ آية الكرسى إذا أويت فراشك، فإنه لا يزال عَلَيْكَ من الله حافظ ولا يقربك شيطان حَتَّى تصبح، فَقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «صدقك وَهُوَ كذوب» . وَمِنْهَا أن يستعيذ بِاللهِ من الشياطين. وَمِنْهَا أن يستعيذ بالعوذة الشرعية، فَإِنَّ الشياطين كَانَتْ تعرض للأنبياء فِي حياتهم وتريد أن تؤذيهم، وتفسد عبادتهم كما جاءت الجن إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بشعلة من نار تريد أن تحرقه، فأتاه جبريل بالعوذة المعروفة، التي تضمنها

الْحَدِيث المروي عَنْ أبي التياح أَنَّهُ قَالَ: سأل رجل عَبْد الرَّحْمَنِ بن حبيش، وكَانَ شيخًا كبيرًا قَدْ أدرك النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -: كيف صنع رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حين كادته الشياطين؟ قَالَ: تحدرت عَلَيْهِ من الشعاب، والأودية، وفيهم شيطان معه شعلة من نار، يريد أن يحرق بها رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. قَالَ: فرعب رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فأتاه جبريل عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّد قل مَا أَقُول، قَالَ: قل: أعوذ بكلمَاتَ الله التامَاتَ، التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر مَا خلق، وذرأ وبرأ ومن شر مَا ينزل من السماء، ومن شر مَا يعرج فيها، ومن شرما يخَرَجَ من الأَرْض، ومن شر مَا ينزل فيها، ومن شر فتن الليل والنَّهَارَ، ومن شر كُلّ طارق يطرق إِلا طارقًا يطرق بخَيْر يَا رحمن. قَالَ: فطفئت نارهم، وهزمهم الله عَزَّ وَجَلَّ. وفي صحيح مُسْلِم عَنْ أبي الدرداء أَنَّهُ قَالَ: قام رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يصلي، فسمعناه يَقُولُ: «أعوذ بِاللهِ منك» . ثُمَّ قَالَ: أعلنك بلعنة الله ثلاثًا، وبسط يده يتناول شَيْئًا، فَلَمَّا فرغ من صلاته، قلنا: يَا رَسُول اللهِ سمعناك تَقُول شَيْئًا فِي الصَّلاة لم نسمعك تَقُول قبل ذَلِكَ، ورأيناك بسطت يدك. قَالَ: إن عدو الله إبلَيْسَ جَاءَ بشهاب من نار، ليجعله فِي وجهي، فَقُلْتُ: أعوذ بِاللهِ منك ثلاث مرات، ثُمَّ قُلْتُ: ألعَنْكَ بلعنة الله التامة فاستأخر، ثُمَّ أردت أن آخذه، ولولا دعوة أخينا سُلَيْمَانٌ لأصبح موثقًا يلعب به ولدان الْمَدِينَة. وكثيرًا من العباد يرى الكعبة تطوف به ويرى عرشًا عظيمًا، وعَلَيْهِ صورة عظيمة، ويرى أشخاصًا تصعد، وتنزل فيظنها الْمَلائِكَة ويظن أن تلك الصورة هِيَ الله، تَعَالَى وتقدس، وَيَكُون ذَلِكَ شيطانًا. وقَدْ جرت هَذِهِ الْقِصَّة لغير واحد من النَّاس، فمِنْهُمْ من عصمه الله

وعرف أَنَّهُ الشيطان، كالشَّيْخ عبد القادر فِي حكايته المشهورة، حيث قَالَ: كنت مرة فِي العبادة فرَأَيْت عرشًا عظيمًا، وعَلَيْهِ نور، فَقَالَ لي: يَا عبد القادر، أَنَا ربك، وَقَدْ حللت لَكَ مَا حرمت على غيرك. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: أَنْتَ الله لا إله إِلا هُوَ، أخسأ يَا عدو الله. قَالَ: فتمزق ذَلِكَ النور، وصار ظلمة، وَقَالَ: يَا عبد القادر نجوت مني بفقهك فِي دينك، وعلمك ومنازلتك، فِي أحوالك، لَقَدْ فتنت بهذه الْقِصَّة سبعين رجلاً. فَقِيلَ لَهُ: كيف علمت أَنَّهُ الشيطان، قَالَ: بقوله: لي حللت لَكَ مَا حرمت على غيرك، وَقَدْ علمت أن شريعة مُحَمَّد لا تنسخ ولا تبدل، ولأَنَّهُ قَالَ: أَنَا ربك، ولم يقدر أن يَقُولُ أنا الله الَّذِي لا إله إِلا أَنَا. ومن هؤلاء من اعتقَدْ أن المرئي هُوَ الله وصار هُوَ وأصحابه يعتقدون انهم يرون الله تَعَالَى، وفي اليقظة، ومستندهم مَا شاهدوه، وهم صادقون فيما يخبرون به، ولكن لم يعلموا أن ذَلِكَ هُوَ الشيطان. وَهَذَا قَدْ وقع كثيرًا لطوائف من جهال العباد يظن أحدهم أَنَّهُ يرى الله تَعَالَى بعينه فِي الدُّنْيَا لأن كثيرًا مِنْهُمْ رأى مَا ظن أَنَّهُ الله وإنما هُوَ شيطان. وكثير مِنْهُمْ من رأى من ظن أَنَّهُ نبي أَوْ رجل صالح أَوْ الخضر وكَانَ شيطانًا قَالَ: وَمِنْهُمْ من يظن أَنَّهُ ملك والملك يتميز عَنْ الجني بأمور كثيرة والجن فيهم الكفار والفساق والجهال وفيهم المؤمنون المتبعون لمُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - فكثيرًا ممن لم يعرف أن هؤلاء جن وشياطين يعتقدهم ملائكة وإنما هم من الجن والشياطين. قَالَ: والشياطين يوالون من يفعل مَا يحبونه من الشرك والفسوق والعصيان فتَارَّة يخبرونه ببعض الأمور الغائبة، ليكاشف بها، وتَارَّة يؤذون من يريد أذاه، بقتل، أَوْ تمريض، ونحو ذَلِكَ. وتَارَّة يجلبون لَهُ مَا يريد، من الإنس وتَارَّة يسرقون لَهُ مَا يسرقونه من

موعظة في التحذير من الإنهماك في الدنيا

أموال النَّاس من نقَدْ وطعام، وثياب وغير ذَلِكَ، فيعتقَدْ أَنَّهُ من كرامَاتَ الأَوْلِيَاء، وإنما يكون مسروقًا. وتَارَّة يحملونه فِي الهواء فيذهبون به إلى مكَانَ بعيد، فمِنْهُمْ من يذهبون به إلى مَكَّة عشية عرفة، ويعودون به فيعتقَدْ هَذَا كرامة، مَعَ أَنَّهُ لم يحج حج الْمُسْلِمِين لا أحرم ولا لبى ولا طاف بالبيت ولا بين الصفا والمروة ومَعَ أن هَذَا من أعظم الضلال. انتهى باختصار. اللَّهُمَّ أنظمنا فِي سلك حزبك المفلحين، واجْعَلنَا من عبادك المخلصين وآمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " موعظة " " فِي التَّحْذِيْر عَنْ الانْهِمَاكِ فِي الدُّنْيَا وَلَذَاتِهَا وَشَهَواتِهَا " عباد الله إن من نظر إلى الدُّنْيَا بعين البصيرة أيقن أن نعيمها ابتلاء، وحياتها عناء وعيشها نكد، وصفوها كدر وأهلها مَنْهَا على وجل إما بنعمة زائلة، أَوْ بلية نازلة أَوْ مَنيَّة قاضية. مسكين من اطمأن ورضي بدار حلالها حساب، وحرامها عقاب، إن أخذه من حلال حوسب عَلَيْهِ، وإن أخذه من حرام عذب به، من استغنى فِي الدُّنْيَا فتن، ومن افتقر فيها حزن، من أحبها أذلته، ومن التفت إليها ونظرها أعمته. شِعْرًا: (لَوْ كُنْتُ رَائِدَ قَوْمٍ ظَاعِنِينَ إلى ... دُنْيَاكَ هَذِي لَمَا أُلْفِيتَ كَذَّابَا) (لَقُلْتُ تِلْكَ بَلاءٌ نَبْتُهَا سَقَمٌ ... وَمَاؤُهَا الْعَذْبُ سُمٌ لِلْفَتَى ذَابَا)

الناس حول الدنيا قسمان وما حول ذلك

وَكَمْ كشف للسامعين عَنْ حَقِيقَة الدُّنْيَا وبين لَهُمْ قصر مدتها وانقضاء لذتها بما يضرب من الأمثال الحسية، قَالَ تَعَالَى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} . قَالَ بَعْضُهُمْ: مَيَّزْتَ بَيْنَ جَمَالِهَا وَفِعَالِهَا ... فَإِذَا الْمَلاحَةُ بِالْقَبَاحَةِ لا تَفِي حَلَفَتْ لَنَا أن لا تَخُونَ عُهُودَنَا ... فَكَأَنَّهَا لَنَا أَنْ لا تَفِي آخر: ... أَلا إِنَّمَا الدُّنْيَا غَضَارَةٌ أَيْكَةٍ ... إِذَا اخْضَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ جَفَّ جَانِبُ هِيَ الدَّارُ مَا الآمَالُ إِلا فَجَائِعًا ... عَلَيْهَا وَمَا اللَّذَاتُ إِلا مَصَائِبُ فَكَمْ سَخِنَتْ بِالأَمْسِ عَيْنٌ قَرِيرَةٌ ... وَقَرَّتْ عُيُونٌ دَمْعُهَا الآنَ سَاكِبُ فَلا تَكْتَحِلْ عَيْنَاكَ مِنْهَا بِعبرةٍ ... عَلَى ذَاهِب مِنْهَا فَإِنَّكَ ذَاهِبُ آخر: ... لِلْمَوْتِ فِينَا سِهَامٌ غَيْرُ مُخْطِئَةً ... مَنْ فَاتَهُ الْيَوْمَ سَهْمٌ لَمْ يَفُتْهُ غَدَا مَا ضَرَّ مَنْ عَرَفَ الدُّنْيَا وَغَدرَتَها ... أَنْ لا يُنَافِسَ فِيهَا أَهْلَهَا أَبَدَا آخر: ... لَحَى الله ذِي الدُّنْيَا مَرَادًا وَمَنْزِلاً ... فَمَا أَغْدَرَ الْمَثْوَى وَمَا أَوْبَأ الْمَرْعَى تَدَلَّلُ كَالْحَسْنَاءِ فِي حُسْنِ وَجْهِهَا ... وَلَكِنَّهَا فِي قُبْح أَفْعَالِهَا أَفْعَى نَرَى أَنَّنَا نَسْعَى لِخَيْرٍ نَنَالُهُ ... وَقَدْ وَطِئَتْ أَقْدَامُنَا حَيَّةً تَسْعَى " فَصْلٌ " شرح لَنَا العليم الحكيم فِي هَذِهِ الآيَة المتقدمة حال الدُّنْيَا التي إفتتن النَّاس بها الَّذِينَ قصر نظرهم وبين أنها من محقرات الأمور التي لا يركن إليها العقلاء فضلا عَنْ الافتنان بها والانهماك فِي طلبها وقتل الوَقْت فِي تحصيلها بأنها لعب لا ثمرة فيه سِوَى التعب، ولهو تشغل صاحبها وتلهيه عما ينفعه فِي آخرته،

وزينة لا تفيد المفتون بها شرفًا ذاتيًا كالملابس الجميلة والمراكب البهية والمنازل الرفيعة الواسعة، وتفاخر بالأنساب والعظام البالية ومباهات بكثرة الأموال والأولاد وعظم الجاه. ثُمَّ أشار جل شأنه إلى أنها مَعَ ذَلِكَ سريعة الزَوَال، قريبة الاضمحلال، كمثل غيث راق الزراع نباته الناشئ به، ثُمَّ يهيج ويتحرك وينمو إلى أقصى مَا قدره الله لَهُ فسرعان مَا تراه مصفرًا متغيرًا ذابلاً بعدما رأيته أخضر ناضرًا، ثُمَّ يصير من اليبس هَشِيمًا متكسرًا، ففيه تشبيه جميع مَا فِي الدُّنْيَا من السنين الكثيرة بمدة نبات غيث واحد يفنى ويضمحل ويتلاشى فِي أقل من سنة. إشارة إلى سرعة زوالها وقرب فنائها، وبعد مَا بين جَلَّ وَعَلا حقارة الدُّنْيَا وسرعة زوالها تزهيدًا فيها، وتنفيرًا وتحذيرًا من الانهماك فِي طلبها أشار إلى فخامة شأن الآخِرَة وفظاعة مَا فيها من الآلام وعظم مَا فيها من اللذات ترهيبًا من عذابها الأَلِيمِ، وترغيبًا فِي تحصيل النَّعِيم الْمُقِيم والعيش السَّلِيم مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وَالنَّاسُ فِيهَا قسمان فطناء قَدْ وفقهم الله فعلموا أنها ظِلّ زائل ونعيم حائل وأضغاث أحلام، بل فهموا أنها نعم فِي طيها نقم، وعرفوا أنها حياة فانية، وأنها معبر وطَرِيق إلى الحياة الباقية، فرضوا مَنْهَا باليسير، وقنعوا مَنْهَا بالقليل، فاستراحت قُلُوبهمْ من همها وأحزانها واستراحت أبدانهم من نصبها، وعنائها، وسلم لَهُمْ دينهم، وكَانُوا عِنْدَ الله هم المحمودين، فَلَمْ تشغلهم دنياهم عَنْ طاعة مولاهم. جعلوا النفس الأخَيْر وَمَا وراءه نصب أعينهم، وتدبروا ماذا يكون مصيرهم، وفكروا كيف يخرجون من الدُّنْيَا، وإيمانهم سالم لَهُمْ وَمَا الَّذِي يبقى معهم مَنْهَا فِي قبورهم، وَمَا الَّذِي يتركونه لأعدائهم فِي الدُّنْيَا، ومن لا يغنيهم من الله شَيْئًا {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ} ، {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً} ،

قصيدة للشافعي في التحذير من الدنيا

{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} ويبقى عَلَيْهمْ وبال مَا جمعوا وَمَا عمروا فِي غير طاعة الله. أدركوا كُلّ هَذَا فتأهبوا للسفر الطويل وأّعدوا الجواب للحساب، وقدموا الزَّاد للمعاد وخَيْر الزَّاد التَّقْوَى، فطُوبَى لَهُمْ خافوا فآمنوا وأحسنوا ففازوا وأفلحوا. وَقَالَ بعض الْعُلَمَاء يذم الدُّنْيَا ويحذر عَنْهَا. شِعْرًا: ... وَلَمْ يَطْلُبْ عُلُوَّ الْقَدْرِ فِيهَا ... وَعِزَّ النَّفْسِ إِلا كُلُّ طَاغِ وَإِنْ نَالَ النُّفُوسَ مِن الْمَعَالِي ... فَلَيْسَ لَنَيْلِهَا طَيْبُ الْمَسَاغِ إِذَا بَلَغَ الْمُرَادَ عُلاً وَعِزًّا ... تَوَلَّى وَاضْمَحَلَّ مَعَ الْبَلاغِ كَقَصْرٍ قَدْ تَهَدَّمَ حَافَتَاهُ ... إِذَا صَارَ الْبِنَاءُ إِلى الْفَرَاغِ أَقُولُ وَقَدْ رَأَيْتُ مُلُوكَ عَصْرِي ... أَلا لا يَبْغِيَنَّ الْمُلْكَ بَاغِ آخر: ... هِيَ الدُّنْيَا تَقُولُ بِمِلءِ فِيهَا ... حَذَارِ حَذَارِ مِنْ بَطْشِي وَفَتْكِي فَلا يَغْرُرْكُمُوا مِنِّي ابْتِسَامٌ ... فَقَوْلِي مُضْحِكٌ وَالْفِعْلُ مُبْكِي آخر: ... أفّ مِن الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا ... كَأَنَّهَا لِلْحُزْنِ مَخْلُوقَةْ هُمُومُهَا مَا تَنْقَضِي سَاعَةً ... عَنْ مَلِكٍ فِيهَا وَلا سُوقَةْ آخر: ... زَهِدْتُ فِي الْخَلْقِ طُرًا بَعْدَ تَجْرِبةً ... وَمَا عَليَّ بِزُهْدِي فِيهِمُ دَرَكُ إِنِّي لا عَجْبُ مِنْ قَوْمٍ يَقُودُهُمُوا ... حِرْصٌ إلى بُرَّةٍ مُلْكًا لِمَنْ مَلَكُوا أَوْ أَنْ يَذِلُّوا لِمَخْلُوقٍ عَلَى طَمَعٍ ... وَفِي خَزَائن رَبِّ الْعِزَّةِ إِشْتَرَكوا أَمَا وَرَبك لَوْ دَانُوا بِمَعْرِفَةٍ ... لَقَدْ أَصَابُوا بِهَا الْمَرْغُوبَ لَوْ سَلُكُوا مَنْ ذَا تُمَدُّ إِلَيْهِ الْكَفُّ فِي طَلَبِ ... بِمَا عَلَيْهَا وَأَنْتَ الْمَالِكُ الْمَلِكُ آخر: ... عَجِبْتُ لِمَخْلُوقٍ يُبَالِغُ فِي الثَّنَا ... عَلَى بَعْضِ خَلْقِ اللهِ يَرْجُ الدَّرَاهِمَا وَيَنْسَى الَّذِي مِنْهُ الْغِنَى وَلَهُ الثَّنَا ... وَيَأْمُرُ مَنْ يُعْطِي وَيَمْنَعُ مَنْ يَشَا آخر: ... إِنَّ لله عِبَادًا فُطَنَا ... طَلَّقُوا الدُّنْيَا وَخَافُوا الْفِتَنَا نَظَرُوا فِيهَا فَلَمَّا علمُوا ... أَنَّهَا لَيْسَتْ لِحَيّ سَكَنَا جَعَلُوهَا لُجَّةً وَاتَّخَذُوا ... صَالِحَ الأَعْمَالِ فِيهَا سُفُنَا

آخر: ... دَعِ الْحِرْصَ عَلَى الدُّنْيَا ... وَفِي الْعَيْشِ فَلا تَطْمَعْ وَلا تَجْمَعْ مِن الْمَالِ ... فَلا تَدْرِي لِمَنْ تَجْمَعْ فَإِنَّ الرزقَ مَقْسُومٌ ... وَسُوءُ الظَّنِّ لا يَنْفَعْ فَقِيرٌ كُلُّ ذِي حِرْصٍ ... غَنِيٌّ كُلُّ مَنْ يَقْنَعْ آخر: ... لا تَبْخَلَنَّ بِدُنْيَا وَهِيَ مُقْبِلَةٌ ... فَلا يَضُرُّ بِهَا التَّبْذِيرُ وَالسَّرَفُ وَإِنْ تَولَّتْ فَأَحْرَى أَنْ تَجُودَ بِهَا ... فَالشُّكْرُ مِنْهَا إِذَا مَا أَدْبَرَتْ خَلَفُ آخر: ... إِذَا كُنْتَ ذَا مَالٍ وَلَمْ تَكُ ذََا نَدَى ... فَأَنْتَ إِذَا وَالْمُقْتِرِينَ سَوَاءُ آخر: ... وَأَخْسَرُ النَّاسِ سَعْيًا مَنْ قَضَى عُمُرًا ... فِي غَيْرِ طَاعَةِ مَنْ أَنْشَاهُ مِنْ عَدَمِ آخر: ... لا تَغْتَرِبْ عَنْ وَطَنٍ ... تَزْدَادُ فِيهِ مِنْ تُقَى رَبٍّ جَوَدٍ مَاجِدٍ ... مَا لَهُ شَرِيكٌ يَا فَتَى أَكْثرْ هُدِيتَ ذِكْرَهُ ... تَنَلْ بِهِ الأَجْرَ الْجَسِيمْ يَوْمَ الْحِسَابِ وَالْجَزَا ... تَحْظَى بِجَنَّاتِ النَّعِيمْ اللَّهُمَّ ألحقنا بعبادك الأَبْرَار وأسكنا الْجَنَّة دار الْقَرَار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " فَصْلٌ ": والقسم الثاني من النَّاس جهال عمي البصائر لم ينظروا فِي أمرها ولم يكشفوا سوء حالها ومآلها، برزت لَهُمْ بزنتها ففتنتنهم، فإليها أخلدوا، وبها رضوا، ولها اطمأنوا، حَتَّى ألهتهم عَنْ الله تَعَالَى، وشغلتهم عَنْ ذكر الله، وطاعته، {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . قَالَ تَعَالَى: {إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} .

نعم إنهم نسوا الله وأهملوا حقوقه وَمَا قدروه حق قدره، ولم يراعوا لإنهماكهم فِي الدُّنْيَا وتهالكهم عَلَيْهَا مواجب أوامره ونواهيه حق رعايتها، فأنساهم أنفسهم آنساهم مصالحهم وأغفلهم عَنْ منافعها وفوائدها فصار أمرهم فرطًا فرجعوا بخسارة الدارين، وغبنوا غبنًا لا يمكن تداركه ولا يجبر كسره، وسيرون يوم القيامة من الأهوال مَا ينسيهم أرواحهم، وجعلهم حيارى ذاهلين يوم تذهل كُلّ مرضعة عَنْ مَا أرضعت وتضع كُلّ ذات حمل حملها وتَرَى النَّاس سكارى وَمَا هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد. وفي مثل هَذَا يَقُولُ أحد الْعُلَمَاء: اجتهادك فيما ضمن لَكَ مَعَ تقصيرك فيما طلب منك دَلِيل على انطماس بصيرتك. أقاموا الدُّنْيَا فهدمتهم، واغتروا بها من دون الله فأذلتهم، أكثروا فيها من الآمال وأحبوا طول الآجال ونسوا الموت وَمَا بعده من الشدائد فِي الدُّنْيَا والآخِرَة، قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} . شِعْرًا: ... إِذَا لَمْ تَخْشَ عَاقِبَةَ الْمَعَاصِي ... وَلَمْ تَسْتَحِيي فَاصْنَعَ مَا تَشَاءُ إِذَا مَا كُنْتَ ذَا قَلْبٍ قَنُوعٍ ... فَأَنْتَ وَمَالِكَ الدُّنْيَا سَوَاءُ وروى الترمذي مِنْ حَدِيثِ أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «من كَانَتْ الآخِرَة همه جعل الله غناه فِي قَلْبهُ وجمَعَ عَلَيْهِ شمله وأتت الدُّنْيَا وهي راغمة، ومن كَانَتْ الدُّنْيَا همه جعل فقره بين عينيه وفرق عَلَيْهِ شمله ولم يأته من الدُّنْيَا إِلا مَا قدر لَهُ، فلا يمسي إِلا فقيرًا ولا يصبح إِلا فقيرًا» . وما أقبل عبد على الله إِلا جعل الله قُلُوب الْمُؤْمِنِينَ تنقاد إليه بالود والرحمة، وكَانَ الله بكل خَيْر إليه أسرع. أ. هـ. وَقَالَ فِي عدة الصابرين، وَقَدْ أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنها لو ساوت عِنْدَ الله جناح

بعوضة مَا سقى كافرًا مَنْهَا شربة ماء وأنها أَهْوَن على الله من السخلة الميتة على أهلها. آخر: ... عَجَبًا لأَمْنِكَ وَالْحَيَاةُ قَصِيرَةٌ ... وَبِفَقْدِ إِلْفٍ لا تَزَالُ تُرَوَّعُ أَحْلامُ لليْلٍ أَوْ كَظِلٍّ زَائِلٍ ... إِنَّ اللَّبِيبَ بِمِثْلِهَا لا يُخْدَعُ فَتَزَوَّدَنَّ لِيَوْمِ فَقْرِكَ دَائِبًا ... أَلِغَيْر نَفْسِكَ لا أبالكَ تَجْمَعُ وأن مثلها فِي الآخِرَة كمثل مَا يعلق بإصبع من أدخل أصبعه فِي البحر وأنها ملعونة ملعون مَا فيها إِلا ذكر الله وَمَا ولاه، وعَالِم ومتعلم وأنها سجن المُؤْمِن وجنة الكافرين. وأمر الْعَبْد أن يكون فيها كأنه غريب أَوْ عابر سبيل ويعد نَفْسهُ من أَهْل القبور وَإِذَا أصبح فلا ينتظر المساء وَإِذَا أمسى فلا ينتظر الصباح. ونهى عَنْ اتخاذ مَا يرغب فيها، ولعن عبد الدينار وعبد الدرهم ودعا عَلَيْهِ بالتعس والانتكاس وعدم إقالة العثرة بالانتقاش. شِعْرًا: ... خَلِيلِيَّ إِنَّ الْمَالَ لَيْسَ بِنَافِعٍ ... إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي طَاعَةِ اللهِ يُنْفَقُ وَمَا خَابَ بَيْنَ الله وَالنَّاسِ عَامِلٌ ... لَهُ فِي التُّقَى أَوْفَى الْمَحَامِدِ سُوقُ وَلا ضَاقَ فَضْلُ اللهِ عَنْ مُتَعَفّفٍ ... وَلَكِنَّ أَخْلاقَ الرِّجَالِ تَضِيقُ وأخبر أنها خضرة حلوة أي تأخذ العيون بحظرتها والقُلُوب بحلاوتها، وأمر باتقائها والحذر مَنْهَا كما يتقى النساء ويحذر منهن وأخبر أن الحرص عَلَيْهَا، وعلى الرياسة والشرف يفسد الدين. وأخبر أَنَّهُ فِي الدُّنْيَا كراكب استظِلّ تحت شجرة فِي يوم صائف، ثُمَّ راح وتركها. وَهَذَا فِي الحَقِيقَة حال سكَانَ الدُّنْيَا كلهم، ولكن هُوَ - صلى الله عليه وسلم - شهد هَذِهِ الحال، وعمي عَنْهَا بنو الدُّنْيَا. ومر بِهُمْ وهم يعالجون خصًا لهم قَدْ وهي، فَقَالَ: «مَا أرى الأَمْرَ إِلا أعجل

حب الدنيا رأس الشرور والمعاصي كلها

من ذَلِكَ، وأمر بستر على بابه فُنُزِعَ. وَقَالَ: «" إِنَّهُ يذكرني الدُّنْيَا» . وأعْلَمَ النَّاس أَنَّهُ لَيْسَ لأحد مِنْهُمْ حق فِي سِوَى بيت يسكنه، وثوب يواري عورته وقوت يقيم صلبه. وأخبر أن الميت يتبعه أهله، وماله، وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله، وكَانَ يَقُولُ: «الزهد فِي الدُّنْيَا يريح الْقَلْب والبدن، والرغبة فِي الدُّنْيَا تطيل الهموم والحزن» . وكَانَ يَقُولُ: «من جعل الهموم كُلّهَا همًا واحدًا، كفاه الله سائر همومه، ومن تشعبت به الهموم فِي أوال الدُّنْيَا لم يبال الله فِي أي أوديتها هلك» . وأخبر أن بذل الْعَبْد مَا فضل عَنْ حاجته خَيْر لَهُ، وإمساكه شر لَهُ وأنه لا يلام على الكفاف، وأخبر أن عباد الله ليسوا بالمتنعمين فيها فَإِنَّ أمامهم دار النَّعِيم فهم لا يرضون بنعيمهم فِي الدُّنْيَا عوضًا من ذَلِكَ النَّعِيم. " نصيحة ": إِذَا استغنى النَّاس بالدُّنْيَا، فاستغن أَنْتَ بِاللهِ، وَإِذَا فرحوا بالدُّنْيَا، فأفرح أَنْتَ بِاللهِ، وَإِذَا أُنسوا بأحبابهم فأجعل أنسك بِاللهِ، وَإِذَا تعرفوا إلى كبرائهم لينالوا بِهُمْ العزة والكرامة فتعرف أَنْتَ إِلَى اللهِ، وتودد إليه تنل بذَلِكَ غاية العز والرفعة والكرامة. وفي حديث مناجاة مُوَسى: ولا تعجبنكما زينته ولا مَا متع به ولا تمدان إلى ذَلِكَ أعينكما، فَإِنَّهَا زهرة الدُّنْيَا، وزينة المترفين وإني لو شئت أن أزينكما من الدُّنْيَا بزينة يعلم فرعون حين ينظر إليها أن مقدرته تعجز عَنْ مثل مَا أوتيتما فعلت. ولكن أرغب بكما عَنْ نعيمها ذَلِكَ، وأزويه عنكما، وكَذَلِكَ أفعل بأوليائي، وقديمًا مَا أخرت لَهُمْ فِي ذَلِكَ فإني لأذودهم عَنْ نعيمها ورخائها كما يذود الراعي الشفيق غنمه عَنْ مراعي الهلكة وإني لأجنبهم سلوتها،

وعيشها كما يذود الراعي الشفيق إبله عَنْ مبارك العزة. وما ذَلِكَ لهوانهم عليَّ، ولكن ليستكملوا مصيبهم من كرامتي سالمًا موفرًا لم تكلمه الدُّنْيَا ولم يطغه الهوى. واعْلَمْ أَنَّهُ لم يتزين لي العباد بزينة هِيَ أبلغ من الزهد فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهَا زينة المتقين عَلَيْهمْ مَنْهَا لباس يعرفون به من السكينة، والخشوع سيماهم فِي وجوههم من أثر السجود. أولئك أوليائي حقًا فَإِذَا لقيتهم فاخفض لَهُمْ جناحك، وذل لَهُمْ قلبك ولسانك. وَقَالَ الحواريون: يَا عيسى من أَوْلِيَاء الله الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون؟ قَالَ: الَّذِينَ نظروا إلى باطن الدُّنْيَا، حين نظر النافس إلى عاجلها فأماتوا مَنْهَا مَا يخشون أن يميتهم، وتركوا مَا علموا أن سيتركهم، فصار استكثارهم مَنْهَا استقلالاً، وذكرهم إياهًا فواتًا، وَمَا عارضهم من رفعتها بغير الْحَقّ وضعوه. خلقت الدُّنْيَا عندهم فليسوا يجددونها، وخربت بينهم فليسوا يعمرونها، وماتت فِي صدورهم، فليسوا يحيونها، يهدمونها فيبنون بها آخرتهم، ويبيعونها، فيشترون بها مَا يبقى لَهُمْ. رفضوها فكَانُوا بها هم الفرحين، ونظروا إلى أهلها صرعى قَدْ حلت بِهُمْ المثلات، فأحيوا ذكر الموت وأماتوا ذكر الحياة. يحبون لله، ويحبون ذكره، ويستضيئون بنوره، ويضيئون به لَهُمْ خبر عجيب وعندهم الْخَبَر العجيب، بِهُمْ قام الكتاب، وبه قاموا وبهم نطق الكتاب، وبه نطقوا، وبهم علم الكتاب، وبه عملوا ليسوا يرون نائلاً مَعَ مَا نالوا، ولا أمانًا دون مَا يرجون، ولا خوفًا دون مَا يحذرون.

وَقَالَ: يَا بَنِي إسرائيل، اجعلوا بيوتكم كمنازل الأضياف فما لكم فِي العَالِم من منزل إن أنتم إِلا عابري سبيل. وَقَالَ: يَا معشر الحواريين أيكم يستطيع أن يبَنِي فوق موج البحر دارًا. قَالُوا: يَا روح الله من يقدر على ذَلِكَ؟ قَالَ: إِيَّاكُمْ والدُّنْيَا فلا تتخذوها قَرَارًا. وَقَالَ: حلاوة الدُّنْيَا مرارة الآخِرَة، ومرارة الدُّنْيَا، حلاوة الآخِرَة. وَقَالَ: يَا بَنِي إسرائيل تهاونوا بالدُّنْيَا تهن عليكم، وأهينوا الدُّنْيَا تكرم عليكم الآخِرَة، ولا تكرموا الدُّنْيَا تهن عليكم الآخِرَة، فَإِنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بأَهْل للكرامة، وكل يوم تدعوا إلى الفتنة والخسارة. قَالُوا: وَقَدْ تواتر عن السَّلَف أن حب الدُّنْيَا رأس الخطايا، وأصلها وقيل: إن عيسى بن مريم عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ: رأس الخطيئة حب الدُّنْيَا، والنساء حبالة الشيطان، والخمر جماع كُلّ شر. شِعْرًا: ... النَّارُ آخِرُ دِينَارِ نَطَقْتَ بِهِ ... وَالْهَمُّ آخِرُ هَذَا الدَّرهِمُ ْالْجَارِي وَالْمَرْءُ بَيْنَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ وَرِعًا ... مُعَذبُ الْقَلْبِ بَيْنَ الْهَمِّ وَالنَّارِ شِعْرًا: قَالَ الإمام الشَّافِعِي رَحِمَهُ اللهُ: خَبَتْ نَارُ نَفْسِي بِاشْتِعَالِ مَفَارِقِي ... وَأَظْلَِمَ لَيْلِي إِذَا أَضَاءَ شِهَابُهَا أَيَا بُومَةً قَدْ عَشَّشَتْ فَوْقَ هَامَتِي ... عَلَى الرَّغْمِ مِنِّي حِينَ طَارَ غُرَابُهَا رَأَيْتِ خَرَابَ الْعُمْرِ مِنِّي فَزُرْتَنِي ... وَمَأْوَاكِ مِنْ كُلِّ الدِّيَارِ خَرَابُهَا أَأَنْعَم عَيْشًا بَعْدَ مَا حَلَّ عَارِضِي ... طَلائِعُ شَيْبٍ لَيْسَ يُغْنِي خِضَابُهَا إِذَا اصْفَرَ لَوْنُ الْمَرْءِ وَابْيَضَّ شَعْرُهُ ... تَنَغَّصَ مِنْ أَيَّامِهِ مُسْتَطَابُهَا وَعِزَةُ عُمَرِ الْمَرْءِ قَبْلَ مَشِيبِهِ ... وَقَدْ فَنِيتَ نَفْسٌ تَوَلَّى شَبَابُهَا فَدَعْ عَنْكَ سَوْآتِ الأُمُورِ فَإِنَّهَا ... حَرَامٌ عَلَى نَفْسِ التَّقِي ارْتِكَابُهَا وَأَدِّ زَكَاةَ الْجَاهِ وَاعْلَمْ بِأَنَّهَا ... كَمِثْلِ زَكَاةِ الْمَالِ تَمَّ نِصَابُهَا

حب الدنيا فنون متنوعة كل فن يشتغل قسما من الناس

وَأَحْسِنْ إلى الأَحْرَارِ تَمْلِكْ رِقَابِهُمْ ... فَخَيْرُ تِجَارَاتِ الرِّجَالِ اكْتِسَابُهَا وَلا تَمْشِيَن فِي مَنكِبِ الأَرْضِ فَاخِرًا ... فَعَمَّا قَلِيلٍ يَحْتَوِيكَ تُرَابُهَا وَمَنْ يَذُقِ الدُّنْيَا فَإِنِّي طَعمتُهَا ... وَسِيقَ إِلَيْنَا عَذْبُهَا وَعَذابُهَا فَلَمْ أَرَهَا إِلا غُرُورًا وَبَاطِلاً ... كَمَا لاحَ فِي ظَهْرِ الْفَلاةِ سَرَابُهَا وَمَا هِيَ إِلا جِيفَةٌ مُسْتَحِيلَةٌ ... عَلَيْهَا كِلابٌ هَمُّهُنَّ اجْتِذَابُهَا فَإِنْ تَجْتَنِبْهَا كُنْتَ سِلْمًا لأَهْلِهَا ... وَإِنْ تَجْتَذِبْهَا نَازَعَتْكَ كِلابُهَا إِذَا انْسَدَّ بَابٌ عَنْكَ مِنْ دُونِ حَاجَةٍ ... فَدَعْهَا لأُخْرَى يَنْفَتِحْ لَكَ بَابُهَا فَإِنَّ قُرَابَ الْبَطْنِ يَكْفِيكَ مِلْؤُهُ ... وَيَكْفِيكَ سَوآت ِالأُمُورِ اجْتِنَابُهَا فَطُوبى لِنَفْسٍ أَوْطَنَتْ قَعْرَ بَيْتِهَا ... مُغْلَقَةَ الأَبْوَابِ مُرْخَىً حِجَابُهَا فَيَا رَبِّ هَبْ لِي تَوْبَةً قَبْلَ مَهْلَكٍ ... أُبَادِرُهَا مِنْ قَبْلِ إِغْلاقِ بَابِهَا فَمَا تَخْرَبُ الدُّنْيَا بِمَوْتِ شِرَارِهَا ... وَلَكِنْ بِمَوْتِ الأَكْرَمِينَ خَرَابُهَا اللَّهُمَّ ثبتنا على قولك الثابت فِي الحياة الدُّنْيَا وفي الآخِرَة، اللَّهُمَّ وأيدنا بنصرك وأرزقنا من فضلك ونجنا من عذابك يوم تبعث عبادك، اللَّهُمَّ اسلك بنا مسلك الصادقين الأَبْرَار، وألحقنا بعبادك المصطفين الأخيار، وآتنا فِي الدُّنْيَا حسنة وفي الآخِرَة حسنة، وقنا عذاب النار. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين. " فَصْلٌ " وعن سفيان قَالَ: كَانَ عيسى بن مريم يَقُولُ: حب الدُّنْيَا أصل كُلّ خطيئة والْمَال فيه داء كثير، قَالُوا: وَمَا دواؤه قَالَ: لا يسلم من الفخر والخيلاء. قَالُوا: فَإِنَّ سلم؟ قَالَ: يشغله إصلاحه عَنْ ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ. قَالُوا: وَذَلِكَ معلوم بالتجربة والمشاهدة، فإن حبها يدعوا إلى خطيئة ظاهرة وباطنة، ولا سيما خطيئة يتوقف تحصيلها عَلَيْهَا، فيسكر عاشقها حبها

قصيدة لبعضهم يكبت نفسه ويؤنبها

عن علمه بتلك الخطيئة، وقبحها وعن كراهتها واجتنابها. وحبها يوقع فِي الشبهات، ثُمَّ فِي المكروهات، ثُمَّ فِي المحرمَاتَ، وطالما أوقع فِي الكفر، بل جميع الأمم المكذوبة لأنبيائهم إِنَّمَا حملهم على كفرهم وهلاكهم حب الدُّنْيَا، فَإِنَّ الرسل لما نهوهم عَنْ الشرك والمعاصي التي كَانُوا يكتسبون بها الدُّنْيَا، حملهم حبها على مخالفتهم وتكذيبهم. فكل خطيئة فِي العَالِم أصلها حب الدُّنْيَا، ولا تنس خطيئة الأبوين قديمًا، فإنما كَانَ سببها حب الخلود فِي الدُّنْيَا، ولا تنس ذنب إبلَيْسَ وسببه حب الرياسة، التي محبتها شر من محبة الدُّنْيَا. وبسببها كفر فرعون وهامان وجنودهما، وأَبُو جهل وقومه، واليهود، فحب الدُّنْيَا والرياسة هُوَ الَّذِي عَمَرَ النار بأهلها. والزهد فِي الدُّنْيَا والزهد فِي الرياسة هُوَ الَّذِي عَمَرَ الْجَنَّة بأهلها. والسكر بحب الدُّنْيَا أعظم من السكر بشرب الخمر بكثير، وصَاحِب هَذَا السكر لا يفيق منه، إِلا فِي ظلمة اللحد، ولو انكشف عَنْهُ غطاؤه فِي الدُّنْيَا لعلم مَا كَانَ فيه من السكر، وأنه أشد من سكر الخمر والدُّنْيَا تسحر العقول أعظم سحر. قَالَ الإمام أحمد: حدثنا سيار حدثنا جعفر قَالَ سمعت مالك بن دينار يَقُولُ: اتقوا السحارة، اتقوا السحارة، فَإِنَّهَا تسحر قُلُوب الْعُلَمَاء. شِعْرًا: ... أَهْلُ الْمَنَاصِبِ فِي الدُّنْيَا وَرِفْعَتِهَا ... أَهْلُ الْفَضَائِلِ مَرْذُولُونَ عِنْدَهُمُ قَدْ أَنْزَلُونَ لأَنَّا غَيْرَ جِنْسِهَمُ ... مَنَازِلَ الْوَحْشِ فِي الإِهْمَالِ بَيْنَهُمُ فَمَا لَهُمْ فِي تَوَقِي ضُرِّنَا نَظَرٌ ... وَمَا لَهُمْ فِي تَرَقِّي قَدْرِنَا هِمَمُ فَلَيْتَنَا لَوْ قَدِرْنَا أَنْ نُعَرِّفَهُمْ ... مِقْدَارَهُمْ عِنْدَنَا أَوْ لَوْ دَرَوْهُ هُمُوا لَهُمْ مُريْحَانِ مِنْ جَهْلٍ وَفَرْطِ غِنَى ... وَعِنْدَنَا النَّافِعَانِ الْعِلْمُ وَالْهِمَمُ

أمثلة للدنيا متعددة

آخر: ... رَأَيْتُ النَّاسُ قَدْ مَالُوا ... إلى مَنْ عِنْدَهُ مَالُ وَمَنْ لا عِنْدَهُ مَالُ ... فَعَنْهُ النَّاسُ قَدْ مَالُوا والله أَعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم. " فَصْلٌ ": وأقل مَا فِي حبها أَنَّهُ يلهي عَنْ حب الله، وذكره، ومن ألهاه ماله عَنْ ذكر الله فهو من الخاسرين، قَالُوا: وإنما كَانَ حب الدُّنْيَا رأس الخطايا ومفسدًا للدين من وجوه، أحدها أنه يقتضي تعظيمها وهي حقيرة عِنْدَ الله. ومن أكبر الذُّنُوب تعَظِيم مَا حقره الله، وثانيها: أن الله لعَنْهَا، ومقتها، وأبغضها إِلا مَا كَانَ لَهُ فيها، ومن أحب مَا لعنه الله، ومقته وأبغضه، فقَدْ تعرض للفتنة، ومقته وغضبه. وثالثها: أَنَّهُ إِذَا أحبها صيرها غايته، وتوسل إليها بالأعمال التي جعلها الله وسائل إليه، وإلى الدار الآخِرَة، فعكس الأَمْر وقلب الحكمة فانتكس قَلْبهُ، وانعكس سيره إلى وراء. فها هنا أمران: أحدهما جعل الوسيلة غاية، والثاني التوسل بأعمال الآخِرَة إلى الدُّنْيَا، وَهَذَا شر معكوس من كُلّ وجه، وقلب منكوس غاية الانتكاس. وَهَذَا هُوَ الَّذِي ينطبق عَلَيْهِ حذو القذة بالقذة قوله تَعَالَى " {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَة إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} . وقوله: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً} ، وقوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ

الآخِرَة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَة مِن نَّصِيبٍ} . شِعْرًا: ... أَصْبَحَتِ الدُّنْيَا لَنَا عِبْرَة ... فَالْحَمْدُ للهِ عَلَى ذَلِكَ قَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى ذَمِّهَا ... وَمَا أَرَى مِنْهُمْ لَهَا تَارِكَا آخر: ... وَفي النَّفْسِ حَاَجاتٌ وَفي الْمَالِ الْقِلَّةٌ ... وَلَنْ يَقْضِي الْحَاجَاتِ إِلا الْمُهَيْمِنُ فهَذَا ثلاث آيات يشبه بعضها بَعْضًا وتدل على معنى واحد، وَهُوَ أن من أراد بعمله الدُّنْيَا وزينتها دون الله والدار الآخِرَة، فحظه مَا أراد، وَهُوَ نصيبه، لَيْسَ لَهُ نصيب غيره. وَالأَحَادِيث عَنْ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مطابقة لِذَلِكَ مفسرة لَهُ، كحديث أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي الثلاثة الَّذِينَ هم أول من تسعر بِهُمْ النار، الغازي والمتصدق، والقارئ الَّذِينَ أرادوا بذَلِكَ الدُّنْيَا والنصيب وَهُوَ فِي صحيح مُسْلِم. شِعْرًا: ... وَمَا تَحْسُنُ الدُّنْيَا إِذَا هِيَ لَمْ تُعِنْ ... بِآخِرَةٍ حَسْنَاءَ يَبْقَى نَعِيمُهَا آخر: ... غَدًا تُوَفَّى النُّفُوسُ مَا كَسَبَت ... وَيَحْصُدُ الزَّارِعُونَ مَا زَرَعُوا إِنْ أَحْسَنُوا أَحْسَنُوا لأَنْفُسِهِمْ ... وَإِنْ أَسَاءُوا فَبِئْسَ مَا صَنَعُوا فالعاقل من استعمل الدُّنْيَا فِي طاعة الله وجعلها مطية للآخرة. شِعْرًا: ... لِمَنْ تَطْلُبِ الدُّنْيَا لَمْ تُرَدْ بِهَا ... رِضَا الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ رَبِّ الْبَرِيَّةِ وفي سنن النسائي عَنْ أبي أمامة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رجل إلى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ يَا رَسُول اللهِ: رجل غزا يلتمس الأجر والذكر، ما له؟ فَقَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا شَيْء لَهُ» . فأعادها ثلاث مرات يَقُولُ لَهُ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا شَيْء لَهُ» . ثُمَّ قَالَ: «إن الله تَعَالَى لا يقبل إِلا مَا كَانَ خالصًا وابتغى به وجهه» . فهَذَا قَدْ بطل أجره وحبط عمله مَعَ أَنَّهُ قصد حصول الأجر لما ضم إليه

قصد الذكر بين النَّاس فَلَمْ يخلص عمله فبطل كله، قَالَ: ورابعها: أن محبتها تعترض بين الْعَبْد، وبين فعل مَا يعود عليه نفعه فِي الآخِرَة، لاشتغاله عَنْهُ بمحبوبه وَالنَّاس ها هنا مراتب. فمِنْهُمْ من يشغله محبوبه عَنْ الإِيمَان، وشرائعه. وَمِنْهُمْ من يشغله عَنْ الواجبات التي تجب عَلَيْهِ لله ولخلقه فلا يقوم بها ظاهرًا ولا باطنًا. وَمِنْهُمْ من يشغله حبها عَنْ كثير من الواجبات. وَمِنْهُمْ من يشغله عَنْ واجب يعارض تحصيلها وإن قام بغيره. وَمِنْهُمْ من يشغله عَنْ القيام بالواجب فِي الوَقْت الَّذِي ينبغي على الوجه الَّذِي ينبغي فيفرط فِي وقته وفي حقوقه. وَمِنْهُمْ من يشغله عَنْ عبوديته قَلْبهُ فِي الواجب، وتفريغه لله عِنْدَ أدائه، فيؤذيه ظاهرًا لا باطنًا، وأين هَذَا من عشاق الدُّنْيَا ومحبيها هَذَا من أنذرهم، وأقل درجات حبها أن يشغل عَنْ سعادة الْعَبْد وَهُوَ تفريغ الْقَلْب لحب الله، ولِسَانه لذكره وجمَعَ قَلْبهُ على لِسَانه وجمَعَ لِسَانه وقَلْبهُ على ربه، فعشقها ومحبتها تضر بالآخِرَة، ولا بد، كما أن محبة الآخِرَة تضر بالدُّنْيَا. وخامسها: أن محبتها تجعلها أَكْثَر هم الْعَبْد. وسادسها: أن محبتها أشد النَّاس عذابًا بها، وَهُوَ معذب فِي دوره الثلاث، يعذب فِي الدُّنْيَا بتحصيلها، وفي السعي فيها ومنازعة أهلها وفي دار البرزخ أي فِي القبر بفواتها، والحَسْرَة عَلَيْهَا، وكونه قَدْ حيل بينه وبين محبوبه على وجه لا يرجو اجتماعه به أبدًا ولم يحصل لَهُ هناك محبوب يعوضه عَنْهُ.

فهَذَا أشد النَّاس عذابًا فِي قبره، يعمل الهم، والغم، والحزن والحَسْرَة، فِي روحه مَا تعمل الديدان وهوام الأَرْض في جسمه. وسابعها: أن عاشقها ومحبها الَّذِي يؤثرها على الآخِرَة من أسفه الخلق وأقلهم عقلاً، إذ آثر الخيال على الحَقِيقَة، والمنام على اليقظة والظِلّ الزائل على النَّعِيم الدائم والدار الفانية على الدار الباقية إن اللبيب بمثلها لا يخدع. ثُمَّ عقَدْ فصلاً وذكر فيه أمثلة تبين حَقِيقَة الدُّنْيَا: المثال الأول: للعبد ثلاثة أحوال، حالة لم يكن فيها شَيْئًا، وهي مَا قبل أن يوَجَدَ، وحالة أخرى وهي من ساعة موته، إلى مَا لا نهاية لَهُ فِي البقاء السرمدي فلنفسه وجود بعد خروجها من البدن، إما فِي الْجَنَّة وإما فِي النار. ثُمَّ تعاد إلى بدنه، فيجازى بعمله، ويسكن إحدى الدارين فِي خلود دائم بين هاتين الحالتين وهي مَا بعد وجوده وَمَا قبل موته حالة متوسطة، وهي لأيام حَيَاتهُ فلينظر إلى مقدار زمانها، وينسبه إلى الحالتين، يعلم أَنَّهُ أقل من طرفة عين فِي مقدار عُمَر الدُّنْيَا. ومن رأى الدُّنْيَا بهذه العين لم يركن إليها، ولم يبال كيف تقضت أيامه فيها فِي ضر وضيق أَوْ فِي سعة ورفاهية ولهَذَا لم يضع النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة، وَقَالَ: «مَا لي وللدنيا، إِنَّمَا مثلي ومثل الدُّنْيَا كراكب قَالَ فِي ظِلّ شجرة، ثُمَّ راح وتركها» . وإلى هَذَا أشار المسيح بقوله عَلَيْهِ السَّلامُ: الدُّنْيَا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها. وَهُوَ مثل صحيح فَإِنَّ الحياة معبر إلى الآخِرَة، والمهد هُوَ الركن الأول، على أول القنطرة، واللحد هُوَ الركن الثاني على آخرها. ومن النَّاس من قطع نصف القنطرة. وَمِنْهُمْ من قطع ثلثيها، وَمِنْهُمْ من لم يبق لَهُ إِلا خطوة واحدة، وهو

قصيدة في ذم الدنيا والتحذير من الاغترار بها

غَافِل عَنْهَا وكيفما كَانَ فَلا بُدَّ مِنْ العبور، فمن وقف يبَنِي على القنطرة، ويزينها بأصناف الزينة، وَهُوَ يستحث على العبور فهو فِي غاية الجهل والحمق. المثال الثاني: شهوات الدُّنْيَا فِي الْقَلْب كشهوات الأطعمة فِي المعدة، وسوف يجد الْعَبْد عِنْدَ الموت لشهوات الدُّنْيَا فِي قَلْبهُ من الكراهة والنتن والقبح مَا يجده للأطعمة اللذيذة إِذَا انتهت فِي المعدة، غايتها، وكما أن الأطعمة كُلَّما كَانَتْ ألذ طعمًا وأكثر دسمًا وأكثر حلاوة كَانَ رجيعها أقذر، فكَذَلِكَ كُلّ شهوة كَانَتْ فِي النفس ألذ وأقوى فالتأذي بها عِنْدَ الموت أشد، كما أن تفجع الإِنْسَان بمحبوبه إِذَا فقده يقوى بقدر محبه المحبوب. شِعْرًا: ... طَالِبُ الدُّنْيَا بِحِرْصٍ وَعَجْل ... إِنَّمَا الدُّنْيَا كَظِلٍّ مُنْتَقِلْ نَحْنُ فِيهَا مِثْلُ رَكْبٍ نَازِلٍ ... لِمِقِيلٍ كُلَّمَا حَلَّ ارْتَحَلْ شِعْرًا: قَالَ بَعْضُهُمْ يخاطب نَفْسهُ: إلى مَ أَرَى يَا قَلْبُ مِنْكَ التَّرَاخِيَا ... وَقَدْ حَلَّ وَخْطُ الشَّيْبِ بِالرَّأْسِ ثَاوِيَا وَأَخْبَرَ عَنْ قُرْبِ الرَّحِيلِ نَصِيحَةً ... فَدُونَكَ طَاعَاتٍ وَخَلِّ الْمَسَاوِيَا وَعُضَّ عَلَى مَا فَاتَ مِنْكَ أَنَامِلاً ... وَفَجِّرْ مِنَ الْعَيْنِ الدُّمُوعَ الْهَوَامِيَا فَكَمْ مَرَّةٍ وَافَقْتَ نَفْسًا مَرِيدَةً ... فَقَدْ حَمَّلَتْ شَرًّا عَلَيْكَ الرَّوَاسِيَا وَكَمْ مَرَّةٍ أَحْدَثْتَ بِدْعًا لِشَهْوَةٍ ... وَغَادَرْتَ هَدْيًا مُسْتَقِيمًا تَوَانِيَا وَكَمْ مَرَّةٍ أَمْرَ الإِله نَبَذْتَهُ ... وَطَاوَعْتَ شَيْطَانًا عَدُوًّا مُدَاجِيَا وَكَمْ مَرَّةٍ قَدْ خُضْتَ بَحْرَ غِوَايَةٍ ... وَأَسْخَطْتَ رَبًّا بِاكْتِسَابِ الْمَعَاصِيَا وَكَمْ مَرَّةٍ بِرَّ الإِلهِ غَمَضْتَهُ ... وَقَدْ صِرْتَ فِي كُفْرَانِهِ مُتَمَادِيَا وَلا زِلْتَ بِالدُّنْيَا حَرِيصًا وَمُولَعًا ... وَقَدْ كُنْتَ عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ سَاهِيَا فَمَا لَكَ فِي بَيْتِ الْبَلا إِذَ نَزَلْتَهُ ... عَنْ الأَهْلِ وَالأَحْبَابِ وَالْمَالِ نَائِيًا فَتُسْأَلَ عَنْ رَبٍّ وَدِين مُحَمَّدٍ ... فَإِنْ قُلْتُ هَاهٍ فَادْرِ أَنْ كُنْتَ هَاوِيَا وَيَأْتِيكَ مِنْ نَارِ سَمُوم أَلِيمَة ... وَتُبْصُرُ فِيهَا عَقْرَبًا وَأَفَاعِيَا

وَيَا لَيْتَ شَعْرِي كَيْفَ حَالُكَ إِذْ نُصِبْ ... صِرَاطٌ وَمِيزَانٌ يُبينُ الْمَطَاوِيَا فَمَنْ نَاقَشَ الرَّحْمَنُ نُوقِشَ بَتّهً ... وَأُلْقِيَ فِي نَارٍ وَإِنْ كَانَ وَالِيَا هُنَالِكَ لا تَجْزِيهِ نَفْسُ عَنْ الرَّدَى ... فَكُلُّ امْرِئٍ فِي غَمِّهِ كَانَ جَاثِيَا اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قلوبنا على دينكوألهمنا ذكرك وشكرك اختم لَنَا بخاتمة السعادة وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ إنَا نسألك التوبة ودوامها، ونعوذ بك من المعصية وأسبابها، اللَّهُمَّ أفض عَلَيْنَا من بحر كرمك وعونك حَتَّى نخَرَجَ من الدُّنْيَا على السلامة من وبالها وارأف بنا رافة الْحَبِيب بحبيبه عِنْدَ الشدائد ونزولها، وارحمنا من هموم الدُّنْيَا وغمومها بالروح والريحان إلى الْجَنَّة ونعيمها، ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم فِي جنات النَّعِيم مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. المثال الثالث: لها ولأهلها فِي اشتغالهم بنعيمها عَنْ الآخِرَة وَمَا يعقبهم من الحسرات مثل أَهْل الدُّنْيَا فِي غفلتهم مثل قوم ركبوا سفينة فانتهت بِهُمْ إلى جزيرة فأمرهم الملاح بالْخُرُوج لِقَضَاءِ الحاجة وحذرهم الإبطاء، وخوفهم مُرُور السَّفِينَة. فتفرقوا فِي نواحي الجزيرة، فقضى بَعْضهُمْ حاجته وبادر إلى السَّفِينَة فصادف المكَانَ خَالِيًا، فأخذ أوسع الأماكن وألينها. ووقف بَعْضهُمْ فِي الجزيرة، ينظر إلى أزهارها وأنوارها العجيبة ويسمَعَ نغمَاتَ طيورها، ويعجبه حسن أحجارها، ثُمَّ حدثته نَفْسهُ بفوات السَّفِينَة، وسرعة مرورها، وخطر ذهابها فَلَمْ يصادف إِلا مَكَانًا ضَيِّقًا فجلس فيه.

وأكب بَعْضهُمْ على تلك الحجارة المستحسنة، والأزهار الفائقة فحمل مَنْهَا حمله فَلَمَّا جَاءَ لم يجد فِي السَّفِينَة إِلا مَكَانًا ضَيِّقًا، وزاده حمله ضيقًا، فصار محموله ثقلاً عَلَيْهِ، ووبالاً ولم يقدر على نبذه بل لم يجد من حمله بدًا ولم يجد لَهُ فِي السَّفِينَة مَوْضِعًا، فحمله على عنقه وندم على أخذه، فَلَمْ تنفعه الندامة، ثُمَّ ذبلت الأزهار، وتغيرت أريحها وآذاه نتنها. وتولج بَعْضهُمْ فِي تلك الغياض، ونسي السَّفِينَة، وأبعد فِي نزهته، حَتَّى إن الملاح نادى بِالنَّاسِ، عِنْدَ دفع السَّفِينَة، فَلَمْ يبلغه صوته، لاشتغاله بملاهيه، فهو تَارَّة يتناول من الثمر وتَارَّة يشم تلك الأزهار وتَارَّة يعجب من حسن الأشجار. وهو على ذَلِكَ خائف من سبع يخَرَجَ عَلَيْهِ، غير منفك من شوك يتشبث فِي ثيابه، ويدخل فِي قدميه أَوْ غصن يجرح بدنه أَوْ عوسج يخرق ثيابه، ويهتك عورته، أَوْ صوت هائل يفزعه. ثُمَّ من هؤلاء من لحق بالسَّفِينَة، ولم يبق فيها موضع، فمَاتَ على الساحل، وَمِنْهُمْ من شغله لهوه، فافترسته السباع ونهشته الحيات وَمِنْهُمْ من تاه فهام على وجهه حَتَّى هلك، فهَذَا مثال أَهْل الدُّنْيَا فِي اشتغالهم بحظوظهم العاجلة، ونسيانهم موردهم وعاقبة أمرهم، وَمَا أقبح بالعاقل أن تغره أحجار ونبات يصير هَشِيمًا. المثال الرابع: لاغترار النَّاس بالدُّنْيَا، وضعف إيمانهم بالآخِرَة أن رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لأصحابه: «إِنَّمَا مثلي ومثلكم ومثل الدُّنْيَا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء، حَتَّى إِذَا لم يدروا مَا سلكوا مَنْهَا أَكْثَر أم مَا بقي، أنفذوا الزَّاد، وحسروا الظهر، وبقوا بين ظهراني المفازة، لا زَادَ ولا حمولة، فأيقنوا بِالْهَلَكَةِ.

فبينما هم كَذَلِكَ، إذ خَرَجَ عَلَيْهمْ رجل فِي حلية يقطر رأسه، فَقَالُوا: إن هَذَا قريب عهد بريف، وَمَا جاءكم هَذَا إِلا من قريب، فَلَمَّا انتهى إليهم، قَالَ: يَا هؤلاء علام أنتم؟ قَالُوا: على مَا تَرَى. قَالَ: أرأيتم إن هديتكم على ماء رواء ورياض خضر مَا تجعلون لي؟ قَالُوا: لا نعصيك شَيْئًا. قَالَ: عهودكم ومواثيقكم بِاللهِ. قَالَ: فأعطوه عهودهم ومواثيقهم بِاللهِ لا يعصونه شَيْئًا. قَالَ: فأوردهم ماء ورياضًا خضرًا قَالَ: فمكث مَا شَاءَ الله. ثُمَّ قَالَ: يَا هؤلاء الرحيل، قَالُوا إلى أين، قَالَ إلى ماء لَيْسَ كمائكم ورياض لَيْسَتْ كرياضكم، قَالَ: فَقَالَ جل القوم، وهم أكثرهم: وَاللهِ مَا وَجَدْنَا هَذَا حَتَّى ظننا أن لن نجده، وَمَا تصنع بعيش هُوَ خَيْر من هَذَا؟ شِعْرًا: ... عَلَى الدُّنْيَا وَمَنْ فِيهَا السَّلامُ ... إِذَا مَلَكَتْ خَزَائِنَهَا اللِّئَامُ قَالَ: وقَالَتْ طائفة: وهم أقلهم: ألم يعطوا هَذَا الرجل عهودكم ومواثيقكم بِاللهِ لا تعصونه شَيْئًا، وقد صدقكم في أول حديثه فوالله ليصدقنكم فِي آخره، فراح بمن اتبعه، وتخلف بقيتهم، فبادرهم عَدُوّهمْ، فأصبحوا بين أسير وقتيل. شِعْرًا: ... إِذَا عَاجِلَ الدُّنْيَا أَلَمْ بِمَفْرَحٍ ... فَمَنْ خَلفهُ فَجْعٌ سَيَتْلُوُه آجِلُ وَكَانَتْ حَيَاةُ الْحَيِّ سَوْقًا إلى الرَّدَى ... وَأَيَّامُهُ دُونَ الْمَمَاتِ مَرَاحِلُ وَمَا لُبْثَ مَنْ يَغْدُو وَفِي كُلِّ لَحْظَةٍ ... لَهُ أَجْلٌ فِي مُدَّةِ الْعُمْرِ قَاتِلُ وَلِلْمَرْءِ يَوْمٌ لا مَحَالَة مَا لَهُ ... غَدٌ وَسْطَ عَامٍ مَا لَهُ الدَّهْرَ قَابِلُ كَفَانَا اعْتِرَافًا بِالْفَنَاءِ وَرُقْبَةً ... لِمَكْرُوهِهِ أَنْ لَيْسَ لِلْخُلْدِ آمِلُ آخر: ... أَرَانِي بِِحَمْدِ اللهِ فِي الْمَال زَاهِدًا ... وَفِي شَرَفَ الدُّنْيَا وَفِي الْعِزَّ أَزْهَدَا تَخَلَّيْتُ عَنْ دُنْيَايَ إِلا ثَلاَثَةً ... دَفَاتِرَ مِنْ عِلْمٍ وَبَيْتًا وَمَسْجِدَا

فصل في الحث على الألفة وحسن الخلق

غَنَيْتُ بِهَا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ حَوَيْتُهُ ... وَكُنْتُ بِهَا أَغْنَى وَأَقْنَى وَأَسْعَدَا وَكَمْ قَدْ رَأَيْنَا مِنْ عَزِيز مُشرَفٍ ... يَبِيتُ مَقَرًا بِالضَّلالَةِ مُجْهِدَا أَتَتْهُ الْمَنَايَا وَهُوَ فِي حِين غَفْلَةٍ ... فَأَضْحَى ذَلِيلاً فِي التُّرَابِ مُوَسَّدَا اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك فِي قلوبنا وثَبِّتْ إيماننا ونور بصائرنا واهدنا سبل السَّلام وجنبنا الفواحش مَا ظهر مَنْهَا وَمَا بطن،وألهمنا ذكرك وشكرك واعمر أوقاتنا بتلاوة كتابك وأرزقنا التدبر لَهُ والْعَمَل به فِي الدقيق والجليل وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " فَصْلٌ " المثال الخامس للدنيا وأهلها، وَمَا مثلها به - صلى الله عليه وسلم - كظِلّ شجرة، والمرء مسافر فيها إِلَى اللهِ، فاستظِلّ فِي ظِلّ تلك الشجرة فِي يوم صائف، ثُمَّ راح وتركها. فتأمل حسن هَذَا المثال، ومطابقته للواقع سواء، فَإِنَّهَا فِي خضرتها كشجرة، وفي سرعة انقضائها وقبضها شَيْئًا فشَيْئًا كالظِلّ والْعَبْد مسافر إلى ربه، والمسافر إِذَا رأى شجرة فِي يوم صائف لا يحسن به أن يبَنِي تحتها دارًا، ولا يتخذها قَرَارًا، بل يستظِلّ بها بقدر الحاجة، ومتى زَادَ على ذَلِكَ انقطع عَنْ الرفاق. المثال السادس تمثيله لها - صلى الله عليه وسلم - بمدخل إصبعه فِي الْيَمِّ، فالَّذِي يرجع به إصبعه من البحر هُوَ مثل الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إلى الآخِرَة. المثال السابع مَا مثلها به - صلى الله عليه وسلم - فِي الْحَدِيث المتفق على صحته مِنْ حَدِيثِ أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ إن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - جلس ذات يوم، على المنبر وجلسنا حوله، فَقَالَ: «إن مِمَّا أخاف عليكم من بعدي مَا يفتح عليكم

من زهرة الدُّنْيَا، وزينتها» . فَقَالَ رجل: يَا رَسُول اللهِ! أَوْ يأتي الْخَيْر بالشر؟ فصمت رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ قَالَ: كيف قُلْتُ؟ قَالَ: يَا رَسُول اللهِ أَوْ يأتي الْخَيْر بالبشر، فَقَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -::" إن الْخَيْر لا يأتي إِلا بالْخَيْر، وإن مِمَّا ينبت الربيع مَا يقتل حبطًا أَوْ يلم إِلا آكلة الخضر، أكلت حَتَّى إِذَا امتلأت خاصرتاها، استقبلت الشمس فثلطت وبالت، ثُمَّ اجترت فَعَادَتْ فأكلت. فمن أخذ مالاً بحقه بورك لَهُ فيه، ومن أخذ مالاً بغير حق، فمثله كمثل الَّذِي يأكل ولا يشبع» . فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن مِمَّا يخاف عَلَيْهمْ الدُّنْيَا، وسماها زهرة، فشبهها بالزهر، فِي طيب رائحته وحسن منظره، وقلة بقائه. فهذه الفقرة اليسيرة، من جوامَعَ كلمه - صلى الله عليه وسلم -، حوت على إيجازها بشارة الصحابة الكرام بما سيكون على أيديهم، من فتح الْبِلاد، وإخضاع العباد، وجلب الأموال الطائلة، والغنائم الكثيرة، وتحذيرهم من الغرور، والركون إلى هَذِهِ الأَشْيَاءِ الفانية، والأعراض الزائلة. وضرب - صلى الله عليه وسلم - مثلين حكيمين أحدهما مثل المفرط فِي جمَعَ الدُّنْيَا، والآخِر مثل المقتصد فيها، أما الأول، فمثله مثل الربيع وَذَلِكَ قوله فَإِنَّ مِمَّا ينبت الربيع مَا يقتل حبطًا أَوْ يلم، بأن يقارب الهلاك. فهَذَا المطر ماء ينزله الله لإغاثة الخلق وإرواء كُلّ ذي روح فرغم فوائده الكثيرة ومنافعه الغزيرة وَمَا يتسبب عَنْ ذَلِكَ من إنبات العشب والكلاء، يأكل منه الْحَيَوَان فيكثر فينتفخ بطنه، فيهلك أَوْ يقارب الهلاك، وكَذَلِكَ الَّذِي يكثر من جمَعَ الْمَال، يكون عنده من الجشع والشره، والحرص، مَا يتجاوز به الحد، لا سيما إِذَا جمَعَ الْمَال من غير حله، ومنع ذَا الْحَقّ حقه، فَإِنَّ لم يقتله قارب أن يقتله. شِعْرًا: ... تَوَقَّ مَصَارِعَ الْغَفَلاتِ وَاحْذَرْ ... فَلَيْسَتْ زِينَةُ الدُّنْيَا بِزِينَةْ وَقَصْرُكَ عَنْ هَوَاكَ فَكُلُ نَفْسٍ ... غَدَاةَ غدٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةْ

هِيَ الدُّنْيَا تَمُوجُ كَمَا تَرَاهَا ... بِمَا فِيهَا فَشَأْنَكَ وَالسَّفِينَةْ آخر: ... إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ غُرُورٌ ... وَالْجُهُولُ الْجَهُولُ مَنْ يَصْطَفِيهَا مَا مَضَى فَاتَ وَالْمَؤمَّلُ غَيْبٌ ... وَلَكَ السَّاعَةُ الَّتِي فِيهَا آخر: ... وَمَنْ لَمْ يَعْشَقِ الدُّنْيَا قَدِيمًا ... وَلَكِنْ لا سَبِيلَ إلى الْوُصُولِ آخر: ... وَمَنْ لَحَظَ الدُّنْيَا بِعَيْنٍ حَقِيرَةٍ ... فَقَدْ لَحَظَ الدُّنْيَا بِعَيْنِ الحَقِيقَةِ ولِذَلِكَ كثير من أَهْل الأموال قتلتهم أموالهم فَإِنَّهُمْ شرهوا فِي جمعها، واحتاج إليها غيرهم، فَلَمْ يصلوا إلى ذَلِكَ إِلا بقتلهم، أَوْ مَا يقارب ذَلِكَ من إذلالهم وقهرهم والضغط عَلَيْهمْ. وأما المثال الثاني: وَهُوَ مثال المقتصد فِي جمَعَ الدُّنْيَا، الطالب لحلها، فقَدْ مثل لَهُ - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «إِلا آكلة الخضر» . فكأنه قَالَ ألا انظروا آكلة الخضراء، واعتبروا بشأنها " أكلت حَتَّى إِذَا امتدت خاصرتاها " وعظم جنباها، أقلعت سريعًا " استقبلت عين الشمس " تستمرئ بذَلِكَ مَا أكلت وتجتره " فثلطت " ألقت مَا فِي بطنها من أذى سهلاً رقيقًا. وفي قوله: «استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت» . ثلاث فَوَائِد أحدها أنها لما أخذت حاجتها من المرعى تركته، وبركت مستقبلة عين الشمس، تستمرئ. الفائدة الثَّانِيَة أنها أعرضت عما يضرها من الشره فِي المرعى، وأقبلت على مَا ينفعها، مِنِ استقبال الشمس التي يحصل لها بحرارتها إنضاج مَا أكلته وإخراجه. الثالثة: أنها استفرغت بالبول والثلط مَا جمعته من المرعى فِي بطنها، فاستراحت بإخراجه ولو بقي فيها لقتلها، هكَذَا جامَعَ الْمَال مصلحته أن يفعل به كما فعلت هَذِهِ الشاة فتنبه لِذَلِكَ أيها المغفل الجموع المنوع. شِعْرًا: ... وَإِيَّاكَ وَالدُّنْيَا الدَّنِيَّةَ إِنَّهَا ... هِيَ السِّحْرُ فِي تَخْيِيلِهِ وَافْتِرَائِهِ

مَتَاعُ غُرُورٍ لا يَدُومُ سُرُورُهَا ... وَأَضْغَاثُ حُلْمٍ خَادِعٍ بِبَهَائِهِ فَمَنْ أَكْرَمَتْ يَوْمًا أَهَانَتْ لَهُ غَدًا ... وَمَنْ أَضْحَكَتْ قَدْ آذَنَتْ بِبُكَائِهِ وَمَنْ تُسْقِهِ كَأْسًا مِنْ الشَّهْدِ غُدْوَةً ... تُجَرِّعُهُ كَأْسَ الرَّدَى فِي مَسَائِهِ وَمَنْ تَكْسُ تَاجَ الْمُلْكِ تَنْزَعُهُ عَاجِلاً ... بِأَيْدِي الْمَنَايَا أَوْ بِأَيْدِي عَدَائِهِ أَلا إِنَّهَا لِلْمَرْءِ مِنْ أَكْبَرِ الْعِدَا ... وَيَحْسَبُهَا الْمَغْرُورُ مِنْ أَصْدِقَائِهِ فَلَذَّاتُهَا مَسْمُومَةٌ وَوَعُودُهَا ... سَرَابٌ فَمَا الظَّامِي رَوَى مِنْ عَنَائِهِ وَكَمْ فِي كِتَابِ اللهِ مِنْ ذِكْرِ ذَمِّهَا ... وَكَمْ ذَمَّهَا الأَخْيَارُ مِنْ أَصْفِيَائِهِ فَدُونَكَ آيَاتِ الْكِتَابِ تَجِدْ بِهَا ... مِن الْعِلْمِ مَا يَجْلُوا الصَّدَا بِجَلائِهِ وَمَنْ يَكُ جَمْعُ الْمَالِ مَبْلَغَ عِلْمِهِ ... فَمَا قَلْبهُ إِلا مَرِيضًا بِدَائِهِ فَدَعْهَا فَإِنَّ الزُّهْدَ فِيهَا مُحَتَّمٌ ... وَإِنْ لَمْ يَقُمْ جُلُّ الْوَرَى بِأَدَائِهِ وَمَنْ لَمْ يَذَرْهَا زَاهِدًا فِي حَيَاتِهِ ... سَتَزْهَدُ فِيهِ النَّاسُ بَعْدَ فَنَائِهِ فَتَتْرُكُهُ يَوْمًا صَرِيعًا بِقَبْرِهِ ... رَهِينًا أَسِيرًا آيِسًا مِن وَرَائِهِ وَيَنْسَاهُ أَهْلُوهُ الْمُفَدَّى لَدَيْهِمُ ... وَتَكْسُوهُ ثَوْبَ الرُّخْصِ بَعْدَ غَلائِهِ وَيَنْتَهِبُ الْوُرَّاثُ أَمْوَالَهُ الَّتِي ... عَلَى جَمْعِهَا قَاسَى عَظِيمَ شَقَائِهِ وَتُسْكِنَهُ بَعْدَ الشَّوَاهِقِ حُفْرَةً ... يَضِيقُ بِهِ بَعْدَ اتِّسَاعِ فَضَائِهِ يُقِيمُ بِهَا طولَ الزَّمَانِ وَمَا لَهُ ... أَنِيسٌ سِوَى دُودٍ سَعَى فِي حَشَائِهِ فَوَاهًا لَهَا مِنْ غُرْبَةٍ ثُمَّ كُرْبَةٍ ... وَمِنْ تُرْبَةٍ تَحْوِي الْفَتَى لِبَلائِهِ وَمَنْ بَعْدَ ذَا يَوْمَ الْحِسَابِ وَهَوْلُهُ ... فَيُجْزَى بِهِ الإِنْسَانُ أَوْ فِي جَزَائِهِ وَلا تَنْسَ ذِكْرَ الْمَوْتِ فَالْمَوْتُ غَائِبٌ ... وَلا بُدَّ يَوْمًا لِلْفَتَى مِنْ لِقَائِهِ قَضَى اللهُ مَوْلانَا عَلَى الْخَلْقِ بِالْفَنَا ... وَلا بُدَّ فِيهِمْ مِنْ نُفُوذِ قَضَائِهِ فَخُذْ أُهْبَةً لِلْمَوْتِ مِنْ عَمَلِ التُّقَى ... لَتَغْنَمَ وَقْتَ الْعُمْرِ قَبْلَ انْقِضَائِهِ وَإِيَّاكَ وَالآمَالَ فَالْعُمْرُ يَنْقَضِي ... وَأَسْبَابُهُا مَمْدُودَةٌ مِنْ وَرَائِهِ وَحَافِظْ عَلَى دِينِ الْهُدَى فَلَعَلَّهُ ... يَكُونُ خِتامَ الْعُمْرِ عِنْدَ انْتِهَائِهِ

الجليس الصالح والجليس السوء والتحذير من مصاحبة الأشرار

.. فَدُونَكَ مِنِّي فَاسْتَمِعْهَا نَصِيحَةً ... تُضَارِعُ لَوْنَ التِّبْرِ حَالَ صَفَائِهِ وَصَلَّى عَلَى طُولِ الزَّمَانِ مُسَلِّمًا ... سَلامًا يَفُوقُ الْمِسْكَ عَرْفَ شَدَائِهِ عَلَى خَاتِمِ الرُّسْلِ الْكِرَامِ مُحَمَّدٍ ... وَأَصْحَابِهِ وَالآلِ أَهْل كَسَائِهِ وَاتْبَاعِهِمْ فِي الدِّينِ مَا اهْتَزَّ بِالرُّبَا ... رِيَاضُ سَقَاهَا طَلَّهَا بِنَدَائِهِ اللَّهُمَّ اجعل قلوبنا مملؤة بحبك وألسنتنا رطبة بِذِكْرِكَ ونُفُوسنَا مطيعة لأَمْرِكَ وأرزقنا الزهد فِي الدُّنْيَا والإقبال على الآخِرَة واغفر لَنَا، اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لصالح الأَعْمَال، ونجنا مِنْ جَمِيعِ الأهوال، وأمنا من الفزع الأكبر يوم الرجف والزلزال، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " فَصْلٌ ": اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهَ وَإِيَّاكَ وَجَمِيع الْمُسْلِمِين لما يحبه ويرضاه، أن الألفة ثمرة حسن الخلق، والتفرق ثمرة سوء الخلق، فحسن الخلق يوجب التحاب، والتآلف والتوافق، وسوء الخلق يثمر التباغض، والتحاسد، والتدابر. ومهما كَانَ المثمر محمودًا، كَانَتْ الثمرة محمودة، وحسن الخلق لا تخفى فِي الدين فضيلته، وَقَالَ الله تَعَالَى لنبيه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ، وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «أَكْثَر مَا يدخل الْجَنَّة تقوىً وحسن الخلق» . وَقَالَ أسامة بن شريك قلنا: يَا رَسُول اللهِ مَا خَيْر مَا أعطى الإِنْسَان؟ فَقَالَ: «حسن الخلق» . وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «بعثت لأتمم مكارم الأَخْلاق» . وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «أَثْقَلُ مَا يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ خُلُقٌ حَسَنٌ» . وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «الْمُؤْمِنُ أَلِفٌ مَأْلُوفٌ، وَلا خَيْرَ فِيمَنْ لا يَأْلَفُ وَلا يُؤْلَفُ» . وَلأَبِي عَبْد الرَّحْمَنِ السَّلَمِيّ فِي آدَابِ الصُّحْبَةِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ: مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ لَهُ إِخْوَان صَالِحِينَ. وَلِلإِخَاءِ أربع خِصَال: الأُولَى: الْعَقْلُ الْمَوْفُورُ الْهَادِي إِلَى مَرَاشِدِ الأُمُورِ

توصية حول الجلساء الصالحين وأمثلة والحث على اختبارهم

بِإِذْنِ اللهِ فَإِنَّ الْحَمَقَ لا تَثَبِّتْ مَعَهُ مَوَدَّةٌ وَلا تَدُومُ مَعَهُ صُحْبَةٌ، لِعَدَمِ مُرَاعَاتِهِ حُقُوقِ الإِخَاءِ. وَالْخُصْلَةِ الثَّانِيَة: الدّيِنِ الْوَاقِفِ بَصَاحِبِهِ عَلَى الْخَيْرَاتِ، فَإِنَّ تَارِكَ الدِّينِ عَدُوٌ لِنَفْسِهِ يُلْقِيهَا فِي الْمَهَالِكِ، فَكَيْفَ يُرْجَى مِنْهُ نَفْعٌ وَمَوَدَّةٌ لِغَيْرِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: اصْطَحِبْ مِنَ الإِخْوَان صَاحِبَ الدِّينِ، وَالْحَسَبِ، وَالْرَأْيِ وَالأَدَبِ، فَإِنَّهُ عَوْنٌ لَكَ عِنْدَ حَاجَتِكَ، لأَنَّ دِينَهُ يُحَتِّمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، لأَنَّهُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِهِ وَيَدٌ عِنْدَ نَائِبَتِكَ، وَذَلِكَ مِنْ مُوجِبَاتِ رَأْيَهُ، وَحَسَبَهُ، وَأُنْسٌ عِنْدَ وَحْشَتِكَ لأَدَبِهِ. وَمِنْ كَلامِ بَعْضِ الْعَارِفِينَ: الأَخُ الصَّالِحُ خَيْرٌ مِنْ نَفْسِكَ، لأَنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، وَالأَخُ الصَّالِحُ لا يَأْمُرُ إِلا بِالْخَيْرِ. الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ مَحْمُودُ الأَخْلاقِ، مَرْضِيّ الأَفْعَالِ، مُؤْثِرًا لِلْخَيْرِ، آمِرًا بِهِ لِخَلِيلِهِ، كَارِهًا لِلشَّرِّ دِيَانِة، وَخُلُقًا، نَاهِيًا عَنْ الشَّرِّ مُرُوءَة وَحَسَبًا، فَإِنَّ مَوَدَّةَ الشَّرِّيرِ تُكْسِبُ الأَعْدَاءَ، وَتُفْسِدُ الأَخْلاقِ، وَلا خَيْرَ فِي مَوَدَّةٍ تَجْلِبُ عَدَاوَة، وَتُورِثْ مَذَّمَةً وَمَلامَة. وَقَدْ ضَرَبَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَيْنِ لِلْجَلَيْسَ الصَّالِحُ، وَالْجَلَيْسَ السُّوءِ، فَعَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مِثْلُ الْجَلَيْسَ الصَّالِحِ، وَالْجَلَيْسَ السُّوءِ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ، وَنَافِخِ الْكَيرِ، فَحَامِل الْمِسْك إِمَّا أَنْ يَحْذِيكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعُ مِنْهُ، وَأَمَّا أَنْ تَجِدُ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخٌ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يَحْرِقَ ثِيَابِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدْ مِنْهُ رِيحةً خَبِيثَةً» . مُتَفَقٌ عَلَيْهِ. هَذَا الْحَدِيثُ يُفِيدُ أَنْ الْجَلَيْسَ الصَّالِحَ جَمِيعَ أَحْوَالِ صِديقه معه خَيْر وبركة ونفع ومغنم مثل حامل المسك الَّذِي تنتفع بما معه منه، إما بهبة، أَوْ ببيع أَوْ أقل شَيْء مدة الجلوس معه، وَأَنْتَ قَرِيرِ النَّفْسِ، مُنْشَرِح الصَّدْرِ، بِرَائِحَةِ المسك

وَهَذَا تَقْرِيبٌ، وَتَشْبِيهٌ لَهُ بِذَلِكَ وَإِلا فَمَا يَحْصُلُ مِنْ الْخَيْرِ الَّذِي يُصِيبُهُ الْعَبْدُ مِنْ جَلِيسِهِ الصَّالِحُ أَبْلَغُ وَأَفْضَلُ مِنْ الْمِسْكِ الأَذْفَرِ، فَإِنَّهِ إِمَّا أَنْ يُعَلِّمُكَ أُمُورًا تَنْفَعُكَ فِي دِينِكَ، وَإِمَّا أَنْ يُعَلِّمُكَ أُمُورًا تَنْفَعُكَ فِي دُنْيَاكَ، أَوْ فِيهِمَا جَمِيعًا، أَوْ يَهْدِي لَكَ نَصِيحَةً تَنْفَعُكَ مُدَّةَ حَيَاتِكَ، وَبَعْدَ وَفَاتِكَ أَوْ يَنْهَاكَ عَمَّا فِيهِ مَضَرَّة لَكَ. شِعْرًا: ... عَاشِرْ أَخَا الدِّينِ كَيْ تَحْظَى بِصُحْبَتِهِ ... فالطَّبْعُ مُكْتَسَبٌ مِنْ كُلِّ مَصْحُوبِ كالرِّيحِ آخِذَةٌ مِمَّا تَمُرُّ بِهِ ... نَتْنًا مِن النَّتْنِ أَوْ طِيبًا مِن الطَّيْبِ فأنت معه دائمًا في منفعة، وربحك مضمون بإذن الله فتجده دائمًا يرى أنك مقصر في طاعة الله فتزداد همتك في الطاعة ويجتهد في الزيادة منها وتراه يبصرك بعيوبك ويدعوك إلى مكارم الأخلاق ومحاسنها بقوله وفعله وحاله. فالإنسان مجبول على التلقيد والاقتداء بصاحبه، وجليسه والطباع والأرواح جنود مجندة يقود بعضها بعضًا إلى الخير أو إلى الشر وأقل نفع يحصل من الجليس الصالح انكفاف الإنسان بسببه عن السيئات، والمساوي والمعاصي، رعاية للصحبة ومنافسة في الخير وترفعًا عن الشر والله الموفق. ومن ما فيستفاد من الجليس الصالح أنه يحمي عرضك في مغيبك، وفي ضرتك يدافع ويذب عنك ومن ذلك أنك تنتفع بدعائه لك حيًّا وميِّتًا. وأما مصاحبة الأشرار فهي السم الناقع، والبلاء الواقع، فتجدهم يشجعون على فعل المعاصي، والمنكرات، ويرغبون فيها ويفتحون لمن خالطهم وجالسهم أبواب الشرور ويزينون لمجالسيهم أنواع المعاصي. شِعْرًا: ... وَلا تَجْلِسْ إلى أَهْلِ الدَّنَايَا ... فَإِنَّ خَلائِقَ السُّفَهَاءِ تُعْدِي ويحثونهم على أذية الخلق، ويذكرونهم بأمور الفساد التي لم تدر في

المؤاخاة في الناس على وجهين

خلدهم، وإن همَّ بتوبة وانزجار عن المعاصي حسنوا عنده تأجيل ذَلِكَ، وطول الأمل، وأن ما أَنْتَ فيه أَهْوَن من غيره، وفي إمكانك التوبة، والإنابة إذا كبرت في السن. وما يقلدهم به ويكسبه من طباعهم أكثر من ما ذكرنا، وَكَمْ قادوا أصحابهم إلى المهالك. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وسلم. شِعْرًا: ... وأَهَوَى مِنَ الشُّبَّانِ كُلَّ مُجِيبٍ ... عن اللهوِ مِقْدَامًا إلى كُلِّ طَاعَةِ أَخُو عِفَّةٍ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ مُحَرَّمٍ ... وَذُر رَغْبَةٍ فِيمَا يَقُودُ لجنّةِ تَمَسَّكْ بِهِ إِنْ تَلْقَهُ يَا أَخَا التُّقَى ... تَمَسُكَ ذِي بُخْلٍ بِتِبْرٍ وَفِضَّةِ أُحِبُّ مِن الإِخْوَانِ كُلَّ مُواتِي ... وَكلّ غضيض الطَّرْفِ عن هَفَوَاتِي يُوَافِقُنِ فِيمَا بِهِ اللهُ رَاضِيًا ... وَيَحْفَظُنِي حَيًّا وَبَعْدَ مَمَاتِي آخر: ... وَلا خَيرَ في الدُّنيا إِذَا لَم تَزَرْ بِهَا ... حَبِيبًا وَلَمْ يَطرَبْ إِلَيكَ حَبِيبُ اللَّهُمَّ امنن عَلَيْنَا يا مولانَا بتوبة تمحو بها عنا كُلّ ذنب وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلمين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " فَصْلٌ ": وَكَمْ حث - صلى الله عليه وسلم - على أَهْل الدين فعن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «المرء على دين خليله فلينظر المرء من يخالل» . قَالَ الْعُلَمَاءُ: معناه لا تخالل إِلا من رضيت دينه وأمانته فإنك إذا خاللته قادك إلى دينه، ومذهبه، ولا تغرر بدينك ولا تخاطر بنفسك، فتخالل من لَيْسَ مرضيًا في دنيه ومذهبه. وَقَالَ سفيان بن عيينة: وقَدْ روي في تفسير هَذَا الْحَدِيث انظروا إلى فرعون معه هامان وانظروا إلى الحجاج معه يزيد بن أبي مسلم شر منه قُلْتُ: وانظروا إلى يزيد بن معاوية معه مسلم بن عقبة المري شر منه، انظروا إلى سُلَيْمَانٌ بن عبد الملك صحبه رجَاءَ بن حيوة الكندي أحد الأعلام الأفاضل فقومه وسدده.

وَعَنْ أَبِي سعيد الخدري عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «تصَاحِب إِلا مؤمنًا ولا يأكل طعامك إِلا تقيٌّ» . قَالَ الْعُلَمَاءُ: معنى الْحَدِيث لا تدعوا إلى مؤواكلتك إِلا الأتقياء، لأن المؤاكلة تدعو إلى الأفلة، وتوجبها، وتجمَعَ بين القُلُوب، يَقُولُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «فتوخ أن يكون خلطاؤك وذوو الاختصاص بك أَهْل التقوى» . وعن عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تلزموا مجالس العشائر فَإِنَّهَا تميت الْقَلْب، ولا يبالي الرجل بما تكلم ناديهم، وتفرقوا في العشائر فإنه أحرى أن تحفظوا في المقالة» . وَقَالَ بَعْضهمْ: ينبغي للمُؤْمِنِ أن يجانب طلاب الدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ يدلونه على طلبها ومنعها وَذَلِكَ يبعده عن نجاته ويقضيه عَنْهَا ويحرض ويجتهد في عشرة أَهْل الْخَيْر وطلاب الآخِرَة: شِعْرًا: ... اصْحَبْ مِن الإِخْوَانِ مَنْ أَخْلَصُوا ... للهِ فِي أَعْمَالِهِمْ واتَّقَوْا وَمَنْ إِذَا تَكَاسَلتَّ فِي طَاعَةٍ ... للهِ لامُوكَ ولا قَصَّروْا آخر: ... لَجَلْسَتِي مَعْ فَقِيهٍ مُخْلِصٍ وَرَعٍ ... أَنْفِي بِهَا الْجَهْلِ أَوْ أَزْدَدْ بِهَا أَدَبَا أَشْهَى إِلَيَ مِنَ الدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا ... وَمِلْئِهَا فِضَّةً أَوْ مِلْئهَا ذَهَبًا آخر: ... وَقارِن إِذا قارَنْتَ حُرًّا أَخًا تُقَى ... فَإِنَّ الْفَتَى يُزْرِي بِه قُرَنَاؤُهُ آخر: ... وَمَنْ يَكُنِ الْغُرَابَ لَهُ دَلِيلاً ... يَمُرُّ بِهِ عَلى جِيفِ الْكِلابِ كُلُّ مَنْ لا يَؤاخِيكَ فِي الله ... فَلا تَرْجُ أَنْ يَدُومَ إِخَاؤُهُ خَيْرُ خِلٍ أَفْدَتْهُ ذُو إِخَاءٍ ... كَانَ للهِ وُدُهُ وَصَفَاؤهُ وَقَالَ آخر: عَلَيْكَ بصحبة أَهْل الْخَيْر ممن تسلم منه في ظاهرك وتعينك رؤيته على الْخَيْر ويذكرك الله. قَالَ الْعُلَمَاءُ: قَدْ حَذَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - من مُجَالَسَة من لا يستفيد المرء به فضيلة، ولا يكتسب بصحبته علمًا وأدبًا.

وعن وديعة الأنصاري قال: سمعت عُمَر بن الْخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ وَهُوَ يعظ رجلاً: لا تتكلم فيما لا يعنيك، واعتزل عَدُوّكَ، واحْذَرْ صَدِيقكَ إِلا الأمين ولا أمين إِلا من يخشى الله ويطيعه، ولا تمش مَعَ الفاجر، فيعلمك من فجوره، ولا تطلعه على سرك ولا تشاور في أمرك إِلا الَّذِينَ يَخْشَوْنَ اللهَ سُبْحَانَهُ. ووعظ بَعْضهمْ ابنه فَقَالَ له: إياك وإِخْوَان السُّوء، فَإِنَّهُمْ يخونون من رافقهم، ويفسدون من صادقهم، وقربهم أعدى من الجرب، ورفضهم والبعد عنهم من استكمال الأَدَب والدين والمرء يعرف بقرينه، قال: والإِخْوَان اثنان فمحافظ عَلَيْكَ عَنْدَ البَلاء، وصديق لك في الرخاء، فاحفظ صديق البلية، وتجنب صديق العافية فَإِنَّهُمْ أعدى الأعداء وفي هَذَا المعنى يَقُولُ الشاعر: (أَرَى النَّاسَ إِخْوَانَ الرَّخَاءِ وَإِنَّمَا ... أَخُوكَ الَّذِي آخَاكَ عِنْدَ الشَّدَائد) (وَكُل خليل بالهوْينا ملاطِفٌ ... وَلكنَّمَا الإِخْوَانِ عِنْدَ الشَّدائد) آخر: ... إِذَا حَقَّقْتَ وِدًّا فِي صَدِيق ... فَزُرْهُ ولا تََخَفْ مِنْهُ مِلالا وَكُنْ كالشَّمْسِ تَطْلعُ كُلَّ يَوْمٍ ... وَلا تَكُ فِي زِيَارَتِهِ هِلالا آخر: ... فَما أَكثَرَ الإِخْوَانَ حِينَ تَعْدُّهُمْ ... وَلَكِنَّهُمْ فِي النَّائِبَاتِ قَليلُ آخر: ... وَكُلُّ مُقِلّ حِينَ يَغْدُو لِحَاجَةٍ ... إلى كُلّ يَلْقَى مِن النَّاسِ مُذْنِبُ وكان بَنُوا عَمِّي يَقُولُونَ مَرْحَبَا ... فَلمَّا رَأَوْنِي مُعْدِمًا مَاتَ مَرْحَبُ النَّاسُ أَعْوَانُ مَنْ دَامَتْ لَهُ نِعَمٌ ... وَالْوَيْلُ لِلْمَرَءِ إِنْ زَلَّتْ بِهِ قَدَمُ لمَّا رَأَيْتُ أَخِلائِي وَخَالِصَتِي ... وَالْكُلُّ مُنْقَبضٌ عَنِّي وَمُحْتَشِمُ أَبْدَوْا صُدُودًا وَإِعْرَاضًا فَقُلْتُ لَهُمْ ... أَذنَبْتُ ذَنْبًا فَقَالُوا ذَنْبُكَ الْعَدَمُ آخر: ... سَمِعْنَا بالصَّدِيق ولا نَراَهُ ... عَلى التَّحْقِيقِ يُوجَدُ فِي الأَنَام آخر: ... فَرِيدٌ مِن الخلانِ فِي كُلِّ بلدةٍ ... إِذَا عَظُمَ المطلوبُ قَلَّ الْمُسَاعِدُ آخر: ... وَإِنِّي رَأَيْتُ النَّاسَ إِلا أَقَلَهُمْ ... خِفَافَ الْعُهُودِ يُكْثِرونَ التَّنَقُّلا

.. بَنِي أُمِّ ذِي الْمَالِ الْكَثِير يَرَوْنَهُ ... وَإِنْ كَانَ عَبْدًا سَيِّدَ الْقَوْمِ جَحْفَلا وَهُمْ لِمُقلِّ الْمَالِ أَوْلادُ عَلَّةٍ ... وَإِنْ كَانَ مَحْضًا فِي الْعُمُومَةِ مُخْولا آخر: ... وَلَيسَ أَخُوكَ الدَّائِمُ الْعَهْدِ بِالَّذِي ... يَسُوءُكَ إِنْ وَليَّ وَيُرْضِيكَ مُقْبِلا وَلَكِنَّه النَّائِي إِذَا كُنْتَ آمِنًا ... وَصَاحِبُكَ الأَدْنَى إِذَا الأَمْرُ أَعْضَّلا آخر: ... دَعْوَى الإِخَاءِ مَعَ الرَّخَاءِ كَثِيرَةٌ ... وَمَعَ الشَّدَائدِ تُعْرَفُ الإِخْوَانُ وعن شريك بن عَبْد اللهِ كَانَ يُقَالُ: لا تسافر مَعَ جبان فإنه يفر من أبيه وأمه، ولا تسافر مَعَ أحمق، فإنه يخذَلِكَ أحوج ما تَكُون إليه، ولا تسافر مَعَ فاسق فإنه يبيعك بأكلة وشربة. وَعَنْ أَبِي مُوَسى الأشعري قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله خلق آدم عَلَيْهِ السَّلام من قبضة قبضها مِنْ جَمِيعِ أجزاء الأَرْض فَجَاءَ بنوا آدم عَلَى قَدْرِ الأَرْض، مِنْهُمْ الأحمر، والأسود، والأَبْيَض، والسهل، والحزن. قَالَ الْعُلَمَاء: في هَذَا الْحَدِيث بيان أن النَّاس أصناف، وطبقات، وأنهم متفاوتون في الطباع والأَخْلاق، فمِنْهُمْ الْخَيْر الفاضل، الذي ينتفع بصحبته، وصداقته، ومجاورته، ومشاورته، ومقارنته، ومشاركته، ومصاهرته ولا ينسى ما أسديت إليه من معروف عِنْدَمَا كَانَ مُحْتَاجًا. شِعْرًا: ... وَإِنَّ أَوْلَى الْمَوَالِي أَنْ تُوَالِيهُ ... عِنْدَا السُّرُور الَّذِي وَاسَاكَ فِي الْحَزَنِ إِنَّ الْكِرامَ إِذَا مَا أَيْسَرُوا ذَكَرُوا ... مَنْ كَانْ يَأْلَفُهُمْ فِي الْمَنْزِلِ الْخَشِنِ آخر: ... نَسِيبُكَ مَنْ نَاسَبْكَ فِي الدِّينُ والتُّقَى ... وَجَارُكَ مَنْ أَحْبَبْتَ فِي اللهِ قُرْبَهُ آخر: ... تَقِيُّ الدِّين يَجْتَنِبُ الْمَخَازِي ... وَيَحْمِيهِ عَنْ الْغَدْر الْوَفَاءُ آخر: ... كُلُّ الأَنَامَ بَنُو أَبٍ لَكِنَّمَا ... بِالدِّينِ تُعَرْفُ قِيَمةٌ الإِنْسَانِ آخر: ... إِذَا أَرَدْتَ شَرِيفَ النَّاسِ كُلِّهِمُ ... فانْظُرُ إلى مُخْلِصِ لله فِي الدِّين

وَمِنْهُمْ الرَّدِيء الناقص العقل الذي يتضرر بقربه، وعشرته، وصداقته وَجَمِيع الاتصالات به ضرر وشر، ونكد، وشبه ما لهَذَا الدلب المسمى الخنيز، وبَعْضهمْ يسميه شباب النار، فهَذَا النبت يمص الماء عن الشجر والزرع ويضيق عَلَيْهِ، ويضر من اتصل به. قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ في وصف المنحرفين مشبهًا لَهُمْ به وَهُوَ شبه مطابق: فَهُمُ لَدَى غَرْسِ الإِلَهِ كَمَثْلِ غَرْ ... س الدَّلبُ بَيْنَ مَغَارِسِ الرُّمانِ يَمْتَصُّ مَاءَ الزَّرْعِ مَعْ تَضْيِيقِهِ ... أَبَدًا عَلَيْهِ وَلَيْسَ ذَا قِنْوَانِ آخر: ... النَّاسُ مِثْلُ ضُرُوفٍ حَشْوُهَا صَبِرٌ ... وَفَوْقَ أَفْوَاهِهَا شَيْءٌ مِنْ الْعَسَلِ تَغُرُّ ذَائِقَهَا حَتَّى إِذَا كُشِفَتْ ... لَهُ تَبَيَّنَ مَا تَحْوِيهِ مِنْ دَخَلِ ومنها السباخ الخبيثة التي يضيع بذورها، ويبيد زرعها وما بين ذَلِكَ على حسب ما يشاهد منها ويوَجَدَ حسًا. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «النَّاس معادن)) . قال الخطابي على هَذَا الْحَدِيث، وفي هَذَا القول أيضًا بيان أن اختلاف النَّاس غرائز فيهم، كما أن المعادن ودائع مركوزة في الأَرْض فمنها الجوهر النفيس، ومنها الفلز الخسيس. وكَذَلِكَ جواهر النَّاس، وطباعهم، منها الزكي الرضي، ومنها الناقص الدنيء. وإذا كَانُوا كَذَلِكَ، وكَانَ الأَمْر على العيان مِنْهُمْ مشكلاً واستبراء العيب فيهم متعذّرًا فالحزم إذًا الإمساك عنهم، والتوقف عن مداخلتهم إلى أن تكشف المحنة عن أسرارهم وبواطن أمرهم فيكون عَنْدَ ذَلِكَ إقدام على خبرة أو إحجام عن بصيرة. شِعْرًا: ... وَقَلَّ مَنْ ضَمِنَتْ خَيْرًا طِوّيَتُهُ ... إِلا وَفي وَجْهِهِ للْخَيْرَ عُنْوَان ولعلك أسعدك الله إذا خبرتهم، وإذا عرفتهم أنكرتهم، إِلا من يخصهم

الثُّنْيَاءُ وَقَلِيْلٌ مَا هُمْ، وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ جَالِساً ذَاتَ يَوْمٍ وَقُدَامُه قَوْمٌ يَصْنَعُوْنَ شَيْئًا كَرِهَهُ مِن كَلامٍ وِلَغَطٍ، فقِيْل َ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلا تَنْهَاهُمْ؟ فَقَالَ: «لَوْ نَهَيْتُهُمْ عَنْ الْحجَون، لأَوَشَكَ بَعْضُهمْ أَنْ يَأَتِيهُ، وَلَيْسَتْ لَهُ حَاجَةٌ» . قَالَ الْخَطَّابِيّ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: قَدْ أَنْبَأَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِهَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الشَّرَّ طِبَاعٌ فِي النَّاسِ، وَأَنَّ الْخِلافَ عَادَةٌ لَهُمْ. قُلْتُ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قِصَةُ آدَمَ وَحَوَاءَ حِيْنَمَا نَهَاهُمَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنِ الأَكِلِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَكَلا مِنْهَا. فَبَعْضُ النَّاسِ نَهْيُهُ عَنْ الشَيْء كَأْنَّهُ إِغْرَاءٌ لَهُ فِيهِ، فَإِذَا نَهَيْتُه عَنْ شِدَةِ الإقْبَالِ على الدُّنْيَا والإقْلالِ مِنْ مَحَبَّتِهَا، ازْدَادَ وَفَطِنَ لأَشياءِ قَدْ نَسِيَهَا. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَإِذَا زَخَرَتَ النَّفْسَ عَنْ شَغَفٍ بِهَا ... فَكَأنَّ زَجْرَ غَويْهَا إِغْرَاؤُهَا قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الشَّرُّ فِي طِبَاعِ النَّاسِ، وَحُبِّ الْخِلافِ لَهُمْ عَادَةٌ، وَالْجَورُ فيهم سُنَّةٌ. وَلِذَلِكَ تَرَاهُمْ يُؤْذُونَ مَن لا يُؤْذِيهم، وَيَظْلِمُوْنَ مَنْ لا يَظْلِمُهُمْ، وَيُخَالِفُونَ مَنْ يَنْصَحُهُمْ، وَلا يمَنْعُهُمْ مِنَ الظُّلم إِلا خَوفٌ أَوْ رَجَاءَ. وَقَدِيمًا قِيْلَ: والظُّلْمُ مِنْ شِيمِ النُّفُوْسِ فَإِنَّ تَجِدْ ... ذَا عِفَّةٍ فَلِعلَّةٍ لا يَظْلِمُ قِيْلَ لِرَجُلٍ: أَمَا تَسْتَحِي تُؤْذِي جِيرَانَك؟ قَالَ: فَمَنْ أُوْذِيِ، أَأُوذِي مَنْ لا أَعْرَفُ. نَعُوذُ باللهِ مِنْ هَذِهِ الحالِ هَذَا مَطْبُوعٌ على الشَّرِّ والأَذِيَّةِ. وَاللهُ أَعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.

المؤمن يلتجئ إلى الله ثم المؤمن المنافق يلتجئ للمنافق

" فَصْلٌ ": إِذَا فَهِمْتَ ذَلِكَ فاعْلَمْ أَنَّ الإِخَاءَ فِيْمَا مَضَى غَالِبًا بَيْنَ الأَخَوَيْنِ كَانَ أَحَدُهُمْ يَعْتَمِدُ على الله ثُمَّ عَلَى أَخِيْهِ، وَيَطْمِئِنَ إِلَيْهِ، فِي مَهَامِهِ كُلّ الإطْمِئْنَانِ، كَانَ أَحَدُهُمْ يُؤآخِي أَخَاهُ على الصَّفَاءِ بَيْنَهُمْ وَالْحَنَانِ، كَأنَ الأَخَ نفس أخيه وربما زاد عنه في القيام بشئونه مرات، كان الأخ لا يؤآخي إلا إِذَا أَحَبَّ لأَخِيْهِ مَا يُحِبُ لِنَفْسِهِ. وكَانَ أَحَدُهُمْ يَدْخُلُ بَيْتَ أَخِيْهِ بِحَضْرَتِهِ وَيَأْخُذُ مِنْ خِزَانَتِه مَا يُرِيْدُ، كَانَ أحدُهم إِذَا سَأَلَ أَخَاهُ مَا هُو محتَاجٌ إِلَيْهِ أَنَبَ نَفْسه إِذْ أَهْمَلَهُ حَتَّى أَفْصَحَ هُوَ عَنْ حَاجَاتِه، كَانَ بَعْضُهُمْ يُلاحِظُ بَعْضًا فَإذَا رَأَى فُرْجَةً سَدَّهَا وَوَجْهُ أَخِيْهِ غَيْرُ مَبْذُولٍ. كَانَتْ الصُّحْبَةُ أَوْلاً صَافِيةً وَكَانَ الْحُبُ للهِ مَا فِيْهِ شَائبةٌ، أَوْ طَمَعٌ مِن الأطماعِ، وَحَيْثُ أَنَّ الصَّاحِب هُو الْعَضُدَ الأَقْوَى، وَالسَّاعِد الأَيْمَن لِلْمَرْءِ فِي حَيَاتِهِ وَمَا يَنْتَابُهُ فِي مُلِمَّاتِِهِ فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَخْتَارَ أصحابَهُ وَيَنْتَقِيَ جُلَسَاءَهْ وَيَنْتَخِبَهُمْ مِن ذَوِي السِّيْرَةِ الْمَحْمُوْدَةِ والعقل الرَّاجِحِ، وَالرَّأْيُ السَّدِيدِ، والدَِين الْمَتِين، وَلْيَحْذَرْ مِنْ مؤاخاةِ مَن لا يَصْلَحُ للأخوةِ، ولا يُرَاعِي حقَّ الْوِدَادَ وآدابِ الْمُجَالَسَةِ والْمَحَادَثَةِ. وَأوْصَى بَعْضُهُمْ ابنَهُ لَمَا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَقَالَ: يَا بُنِيَ إِذَا أَرْدَتَ صِحْبَةَ إنسانٍ فاصْحَبْ مَن إِذَا خَدَمْتَه صَانَكَ، وإن صَحِبْتَهُ زَانَكَ، اصحبْ مَنْ إِذَا مدَدْتَ يَدَكَ للخَيْرِ مَدَّهَا، وإن رَأى منكَ حَسَنَةً عَدَّهَا، وإن رَأَى منكَ سَيِّئَةً سَدَهَا. اصْحَب مَن إِذَا حَاوَلْتَ أَمْرًا أَعَانَك، وَنَصَرَكَ، وإن تَنَازَعْتُمَا فِي شَيْء آثَرَكَ، فَإِنْ يَسَّرَ اللهُ لََكَ بِصَاحبٍ مِن هَذَا الطِّرَازِ فاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِه. قَالَ الإِمَامُ الشَّافعي رَحِمَهُ اللهُ: لَوْلا القِيَامُ بالأسحار، وَصُحْبَةُ الأخيار، ما اخْتَرْتُ البَقَاءَ فِي هَذِهِ الدَّارِ. وَقَالَ بَعْضُ الأُدَبَاءِ: أَفْضَلُ الذَّخَائِرِ أَخٌ صَاحبُ وفَاءٍ.

وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءُ: (هُمُومُ رِجَالٍ فِي أُمُورٍ كَثِيرةٍ ... وَهَمٍيْ مٍن الدُّنْيَا صَدٍيقٌ مُسَاعِدُ) (نَكُونُ كَرُوحٍ بَيْنَ جِسْمَيْنِ قُسِّمَتْ ... فَجَسْمَهُمَا جِسْمَانِ والرُوحُ َواحِدُ) آخر: ... عَلَيْكَ من الإِخْوَانِ كُلَّ ثِقَاتِ ... حَمُولٍ لِعَبْءِ النَّائِبَاتِ مُوَاتِي فذاكَ بِهِ فاشْدُدْ يَدَيكَ وَلاَ تُرِدْ ... بِهِ بَدَلاً فِي عِيْشَةٍ وَمَمَاتِ يَحُوْطُكَ فِي غَيْبٍ ويَرْعَاكَ شَاِهداً ... ويَسْتُر مَا أَبْديْتَ مِن عَثَرَاتِ ومَنْ لِيْ بِهَذا لَيْتَ أَنِّي لَقِيْتُهُ ... فَقَاسَمْتُهُ مَاليْ مِن الحَسَنَاتِ آخر: ... ثِلاثُ خِصَالِ للصَّدِيقِ َجَعلتُهَا ... مُضَارعَةً للصَّوْمِ والصَّلواتِ مُوَاسَاتُهُ والصَّفحُ عَنْ عَثَراتِهِ ... وتَرْكُ ابْتِذَالِ السِّرِّ فِي الخَلَواتِ آخر: ... ومَنْ لَمْ يُغَمِّضْ عَيْنَهُ عَنْ صَدِِيقْهِ ... وَعَن بَعْضِ ما فِيْه يَمُتْ وهْوَ عَاتِبُ ومَنْ يَتَتَبَّعْ جَاهِداً كُلّ عَثْرةٍ ... يَجِدْهَا وَلاَ يَسْلَمْ لَهُ الدَهْرَ صَاحِبُ آخر: ... هم النَّاس فِي الدُّنْيَا فلا بُدّ مِن قَذَى ... يُلمُّ بِعَيْشٍ أَوْ يُكَدِّر مَشْرَبَا ومِن قِلّةِ الإنِصَافِ أَنَّكَ تَبْتَغِيْ ... الْمُهذَابَ فِي الدُّنْيَا ولَسْتَ المُهَدَّبَا آخر: ... وَكَمْ مِنْ أَخٍ لَمْ تَحْتمِلْ مِنْهُ خَلَّةً ... قَطَعْتَ وَلَمْ يُمَكنْكَ مِنُه بَدِيلُ وَمَنْ لَمْ يُرِدْ إِلاَّ خَلِيلاً مُهَذَّبًا ... فَلَيْسَ لَهُ فِي العَالِمِيْن خَلِيْلُ آخر: ... إِلْبَسْ عَلَى النَّقْصِ مَنْ تُصَاحِبُه ... يَدُمْ لَكَ الْوُدُ عِنْدَهُ أَبَدَا وَقَارِبْ النَّاسَ عَلَى عُقُولِهِمْ ... أَوْ لا فَعِشْ فِي الأَنَامِ مُنْفَرِدَا آخر: ... مَا صَاحِبُ الْمَرْءِ مَنْ إِنْ زَلَّ عَاقَبَهُ ... بَلْ صَاحِب الْمَرْءِ مَنْ يَعْفُوا إِذَا قَدِرَا فَإِنْ أَرَدْتَ وِصَالاً لا يكدِّرُهُ ... هَجْرٌ فَكُنْ صَافِيًا لِلْخِلِ إِنْ كَدِرَا آخر: ... إِذَا مَا كُنْتَ مُعْتَقِدًا صَدِيقًا ... فجربْهُ بِأَحْوَالٍ ثَلاِث مُشَارَكَة إِذَا مَا عَنَّ خَطْبٌ ... وَإِسْعَافٌ بِعَيْنٍ أَوْ أَثَاثِ وَسِرُّكَ فَأْتَمِنْهُ عَلَيْهِ وَانْظُرْ ... أَيَكْتُمُ أَمْ يُذِيعُ بِلا اكْتِرَاثِ فَإِنْ صَادَفْتَ مَا تَرْضَى وَإِلا ... فَإِنَّ الْمَرْءَ ذَا عُقَدِ رِثَاثِ

آخر: ... بِمَنْ يَثِقُ الإِنْسَانُ فِيمَا يَنُوبُهُ ... وَمِنْ أَيْنَ لِلْحُرّ الْكَرِيمِ صِحَابُ وَقَدْ صَارَ هَذَا النَّاسُ إِلا أَقَلَهُمْ ... ذِئَابًا عَلَى أَجْسَادِهِنَّ ثِيَابُ تَغَابَيْتُ عَنْ قَوْم فَظَنُّوا غَبَاوَةً ... بِمَفْرق أَغْبَانَا حَصَى وَتُرَابُ إِلَى اللهِ أَشْكُو أَنَّنَا بِمَنَازِلٍ ... تَحَكَّمُ فِي أسَادِهِنَّ كِلابُ آخر: ... لا تَغْتَر ربِبَنِي الزَّمَانِ وَلا تَقُلْ ... عِنْدَ الشَّدَائِدِ لِي أَخٌ وَحَمِيمُ جَرَّبْتُهُمْ فَإِذَا الْمَعَاقِرُ عَاقِرٌ ... وَالآلُ آلُ وَالْحَمِيمُ حَمِيمُ آخر: ... وَرُبَّ أَخٍ لَمْ يُدْنِهِ مِنْكَ وَالِدٌ ... أَبَرُّ مِن ابْنِ الأُمِّ عِنْدَ النَّوَائِبِ وَرُبَّ بَعِيدٍ حَاضِرٌ لَكَ نَفْعُهُ ... وَرُبَّ قَرِيبٍ شَاهِدٌ مِثْلَ غَائِبِ ورُوِيَ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قَالَ: «عليكم بإِخْوَان الصدق فَإِنَّهُمْ زينة فِي الرخاء وعصمة فِي البَلاء» . فإذا عزم الإِنْسَان على اصطفاء الإِخْوَان سبر أحوالهم قبل إخائهم وكشف عَنْ أخلاقهم قبل اصطفائهم. قَالَ بَعْضُهُمْ: شِعْرًا: ... كَمْ مِنْ أَخٍ لَكَ لَسْتَ تُنْكِرُهُ ... مَا دُمْتَ مِنْ دُنْيَاكَ فِي يُسْرِ مُتَصَنِّعٌ لَكَ فِي مَوَدَّتِهِ ... يَلْقَاكَ بِالتَّرْحِيبِ وَالْبِشْرِ يُطْرِي الْوَفَاءَ وَذَا الْوَفَاء ... وَيَلْحِي الْغَدْرَ مُجْتَهِدًا وَذَا الْعَذْرِ فَارْفُضْ بِإِجْمَالِ مَوَدَّةِ مَنْ ... يَقْلِي الْمُقِلَّ وَيَعْشَقُ الْمُثْرِي وَعَلَيْكَ مَنْ حَالاه وَاحِدَةٌ ... فِي الْعُسْرِ مَا كُنْتَ وَبِالْيُسْرِ آخر: ... أَبْلِ الرِّجَالَ إِذَا أَرَدَتَ إِخَاءِهُمْ ... وَتَوَسَّمَنَّ أُمُورهُمْ وَتَفَقَّدْ فَإِذَا ظَفِرْتَ بِذِي الأَمَانَةِ وَالتُّقَى ... فَبِهِ الْيَدَيْنِ قَرِيرَ عَيْنٍ فَأشْدُدِ آخر: ... غَايضْ صَدِيقَكَ تَكْشِفْ عَنْ ضَمَائِرِهِ ... وَتَهْتَكِ السِّتْر عَنْ مَحْجُوبِ أَسْرَارِ فَالْعُودُ يُنْبِيكَ عَنْ مَكْنُونِ بَاطِنِهِ ... دُخَّانهُ حِينَ تُلْقِيهِ عَلَى النَّارِ ولا تبعثه الوحدة على الإقدام قبل الخبرة، ولا حُسْن الظَّنِ على الاغترار بالتصنع.

التحذير من صحبة الأحمق

فإن التملق الَّذِي هُوَ القول الحسن مَعَ خبث الْقَلْب، مصائد العقول، والنفاق تدلَيْسَ الفطن، والملق والنفاق سجيتا المتصنع، ولَيْسَ فيمن يكون النفاق والملق سجاياه خَيْر يرجى، ولا صلاح يؤمل بل الشَّر والأَذَى فيه، فليكن اللبيب فطنًا حاذقًا، صَاحِب فراسة لا يُحْسِنُ الظَّنَّ بكل أحد. شِعْرًا: ... فَلا تُلْزِمَنَّ النَّاسَ غَيْرَ طِبَاعِهِمْ ... فَتَتْعَبَ مِنْ طُول الْعِتَاب وَيَتْعَبُوا فَتَارِكْهُمُ مَا تَارَكُوكَ فَإِنَّهُمْ ... إلى الشَّرِ مُذْ كَانُوا عَنْ الْخَيْرِ أَقْرَبُ وَلا تَغْتَررُ مِنْهُمْ بِحُسْنِ بَشَاشَة ... فَأَكْثَرُ إِيمَاضِ الْبَوَارق خُلَّبُ آخر: ... وَصَاحِبٌ لِي كَدَّاءِ الْبَطْنِ صُحْبَتُهُ ... يَوَدَّنِي كَوِدَادِ الذِّئْبِ لِلرَّاعِي يُثْنِي عَليَّ جَزَاهُ اللهُ صَالِحَةً ... ثَنَاءَ هِنْدٍ عَلَى رَوْحِ بنِ زِنْبَاعِ شِعْرًا: ... إِنِّي لأَعْرِفُ فِي الرِّجَالِ مُخَادِعًا ... يُبْدِي الصَّفَاءَ وَوِدُّهُ مَمْذُوقُ مِثْلُ الْغَدِيرِ يُرِيك قُرْبَ قَرَارِهِ ... لِصَفَائِهِ وَالْقَعْرُ مِنْهُ عَمِيقُ آخر: ... رَعَى اللهُ إِخْوَانَ التَّمَلُّقِ إِنَّهُمْ ... رَعَى اللهُ إِخْوَانَ التَّمَلُّقِ إِنَّهُمْ فَلَوْ وَفوا كَنَّا أُسَارَى حُقُوقِهِمْ ... تَرَاوحُ مَا بَيْنَ النَّسِيئَةِ وَالنَّقْدِ وقَالَ الحكماء: اعرف الرجل من فعله، لا من كلامه، وأعرف محبته من عينيه، لا من لِسَانه، وعَلَيْكَ بمن حالاه فِي العسر، واليسر واحدة أي يحبك كُلّ حين، سواء كنت غنيًا أَوْ فقيرًا أما إِخْوَان الرخاء فاتركهم. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلا خَيْرَ فِي وَدِّ امْرِئٍ مُتَلَوّنٍ ... إِذَا الرِّيحُ مَالَتْ مَالَ حَيْثُ تَمِيلُ جَوَّادٌ إِذَا اسْتَغْنَيْتَ عَنْ أَخْذِ مَالِهِ ... وَعِنْدَ احْتِمَالِ الْفَقْرِ عَنْكَ بِخَيْلُ فَمَا أَكْثَرُ الإِخْوَانِ حِينَ تَعَدُّهُمْ ... وَلَكِنَّهُمْ فِي النَّائِبَاتِ قَلِيلُ على أن الإِنْسَان موسوم بسمَاتَ من قارب، ومنسوب إليه أفاعيل من صَاحِب، قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «المرء مَعَ من أحب» . وقَالُوا: ما من شَيْء أدل على شَيْء من الصَاحِب على صاحبه وقديمًا قِيْل:

.. عَنِ الْمَرْءِ لا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ ... فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمَقَارِنِ يَقْتَدِي آخر: ... إِذَا كُنْتَ فِي قَوْمٍ فَصَاحِبْ خِيَارَهُمْ ... وَلا تَصْحَب الأَرْدَى فَتَرْدَى مَعَ الرَّدَى آخر: ... إِذَا بَخِلَ الصَّدِيقُ عَلَيْكَ يَوْمًا ... بِشَيْءٍ أَنْتَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فَمَثّلْ قَبْرَهُ فِي الأَرْضَ شَخْصًا ... وَقُلْ قَدْ مَاتَ لا أَسَفًا عَلَيْهِ آخر: ... النَّاس شِبْهُ ظُرُوف حَشْوِهَا صَبِرٌ ... وَفَوْقَ أَفْوَاهِهَا شَيْءٌ مِن الْعَسَلِ تحلوا لذائقها حَتَّى إِذَا انكشفت ... له تبين ما تحويه من دخل آخر: ... وَأَكْثَرْ مَنْ شَاوَرْتَهُ غَيْرُ حَازِمٍ ... وَأَكْثَرُ مَنْ صَاحَبْتَ غَيْرُ مُوَافِقِ إِذَا أَنْتَ فَتَشْتَ الرِّجَالِ وَجَدتَّهُمْ ... قُلُوبَ الأَعَادِي فِي جُلُودِ الأَصَادِقِ آخر: ... وَأَعْظم آفَاتِ الرِّجَالِ نِفَاقُهَا ... وَأَهْوَنُ مَنْ عَادَيْتَهُ مَن يُدَاهِنُ آخر: ... وَإِنْ قَرَّبَ السُّلْطَانُ أَخْيَارَ قَوْمِهِ ... وَاعْرَضَ عَنْ أَشْرَارِهِمْ فَهُوَ صَالِحُ وَإِنْ قَرَّبَ السُّلْطَانُ أَشْرَارَ قَوْمِهِ ... وَاعْرِضَ عَنْ أَخْيَارِهِمْ فَهُوَ طَالِحُ وَكُلُّ امْرِئٍ يُنْبِيكَ عَنْهُ قَرِينُهُ ... وَذَلِكَ أَمْرٌ فِي الْبَرِيَّةِ وَاضِحُ آخر: ... وَإِذَا أَرَدْت تَرَى فَضِيلَة صَاحِبٍ ... فَانْظُرْ بِعَيْنِ الْبَحْثِ مَنْ نُدَمَاؤُهُ فَالْمَرْء مَطْوِيٌ عَلَى عَلاتِهِ ... طَيَّ الْكِتَابِ وَصَحْبُهُ عُنْوَانُهُ آخر: ... تَحَرَّ إِذَا صَادَفْتَ مِنْ وِدُّهُ مَحْضُ ... يُصَانُ لَدَيْهِ الدِّينُ وَالْمَالُ وَالْعِرْضُ فَكُلُّ خَلِيلٍ مُنْبِئٌ عَنْ خَلِيلِهِ ... كَمَا عَنْ شُؤونِ الْقَلْبِ قَدْ أَنْبَأَ النَّبْضُ وَبِالصِّدْقِ عَامِلْ مَنْ تُحِبُّ مِن الْوَرَى ... وَإِلا فَذَاكَ الْحُبُّ آخِرُهُ الْبُغْضُ آخر: ... تَجَنَّبْ صَدِيقًا مِثْلَ مَا وَاحْذَرْ الَّذِي ... يَكُونُ كَعَمَرْوٍ بَيْنَ عُرْبٍ وَأَعْجَمِي فَإِنَّ قَرِينَ السُّوءِ يُرْدي وَشَاهِدِي ... كَمَا شرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ مِنْ الدَّمِ آخر: ... عَلَيْكَ بِأَرْبَابِ الصُّدُورِ فَمَنْ غَدَا ... مُضَافًا لأَرْبَابِ الصُّدُورِ تَصَدَّرَا وَإِيَّاكَ أَنْ تَرْضَى بِصُحْبَة نَاقِصٍ ... فَتَنْحَطَّ قَدْرًا مِن عُلاكَ وَتُحْقَرا فَرَفْعُ أَبُو مَنْ ثُمَّ خَفْضُ مُزَمَّلٍ ... يُبَيِّنُ قَوْلِي مُغْرِيًا وَمُحَذِّرَا والإشارة فِي قوله: «ثُمَّ خفض مزمل " إِلَى قوله امرئ القيس:

.. كَأَنَ أَبَانًا فِي عَرَانِينِ وَبْلِهِ ... كَبِيرُ أُنَاسٍ فِي بِجَادٍ مُزَمَّلِ وَذَلِكَ أن مزملاً صفةُ لكبير، فكَانَ حقه الرفع ولكن خفض لمجاروته المحفوض. كَانَ جندب بن عَبْد اللهِ الأنصاري صديقًا لعبد الله بن عباس فقَالَ لَهُ حين ودعه: أوصني يَا ابن عباس فإني لا أدري أنجتمع بعدها أم لا. فقَالَ: أوصيك يَا جندب ونفسي بِتَوْحِيدِ اللهِ وإخلاص الْعَمَل لله وإقام الصَّلاة وَإِيتَاء الزَّكَاة فَإِنَّ كُلّ خَيْر أتيت بعد هَذِهِ الخصال مقبول وإِلَى اللهِ مرفوع ومن لم يكمل هَذِهِ الأَعْمَال رد عَلَيْهِ ما سواها. وكن فِي الدُّنْيَا كالغريب المسافر واذكر الموت والْتَهُن الدُّنْيَا عَلَيْكَ فكأنك قَدْ فارقتها وصرت إِلَى غيرها واحتجت إِلَى ما قدمت ولم تنتفع بشَيْء مِمَّا خلفْتَ ثُمَّ افترقا. كتب عمر إِلَى ابنه عَبْد اللهِ: أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللهِ فَإِنَّ من اتقاه كفاه ومن أقرضه جزاه ومن شكره زاده، فاجعل التَّقْوَى عماد بصرك ونور قلبك. وأعلم أنه لا عمل لمن لا نية لَهُ، ولا جديد لمن لا خلق لَهُ، ولا إيمان لمن لا أمانة لَهُ، ولا مال لمن لا رفق لَهُ، ولا أجر لمن لا حسُنَّة لَهُ. اللَّهُمَّ اجعل فِي قلوبنا نورًا فَنَهْتَدِي بِهِ إليك وتولنا بحسن رعايتك حَتَّى نتوكل عَلَيْكَ وارزقنا حلاوة التذلل بين يديك. فالعزيز من لاذ بعزك والسَّعِيد من التجأ إِلَى حماك وجودك، والذليل من لم تؤيده بعنايتك، والشقي من رضي بالإعراض عَنْ طَاعَتكَ. اللَّهُمَّ نزه قلوبنا عَنْ التعلق بمن دونك وَاجْعَلْنَا مِنْ قوم تحبهم ويحبونك، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلكين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

الأصدقاء ثلاثة ويلي ذلك موعظة وقصيدة

" فَصْلٌ " والمؤاخاة فِي النَّاس على وجهين أحدهما أخوة مكتسبة بالاتفاق الجاري مجرى الاضطرار، وَالثَّانِيَة مكتسبة بالْقَصْد والاختيار، فَأَمَّا المكتسبة بالاتفاق فهي أوكد حالاً، لأنها تنعقَدْ عَنْ أسباب موجودة فِي الْمُتَآخِينَ، تعود المؤاخاة إِلَى تلك الأسباب، وهي موجودة فطرة. فالمؤاخاة ضرورية لا يمكن دفعًا،كما لا يمكن دفع الإيلام، والمكتسبة بالْقَصْد، تعقَدْ لها أسباب اختيارية، تنقاد إليها، وتعتمد عَلَيْهَا بحسب قوتها وضعفها، وَرُبَّمَا تَكُون تَكَلُّفًا وخديعة، فتصير المؤاخاة معاداة، وما كَانَ جاريًا بِالطَّبْعِ فهو ألزم، مِمَّا هُوَ حادث بالْقَصْد. إنما كَانَ كَذَلِكَ لأن الإتلاف بالتَّشَاكُلِ والتوافق، والتشاكل بالتجانس فإذا عدم التجانس من وجه، انتفى التشاكل من وجه ومَعَ انتفاء التشاكل يعدم الإئتلاف فثَبِّتْ أن التجانس، وإن تنوع أصل الإخاء وقاعدة الإئتلاف. وقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف فيها ائتلف وما تناكر مَنْهَا اختلف» . رَوَاهُ الْبُخَارِيّ، فالظواهر التي تبدو لَنَا ونراها فِي الاجتماعات العامة، ميل كُلّ امرئ إِلَى من يشاكله ويناسبه، روحَا وخلقَا، أَوْ دينَا، وأدبَا أَوْ مبدأ أَوْ مذهبَا أَوْ حرفة وعملاً. قِيْل: إن إياسًا سافر إِلَى بلد فَلَمَّا وصل وصادف بَعْض أَهْل البلد وجرى بينهم كلام قَالَ إلياس: عرفنا خياركم من شراركم فِي يومين؟ فقِيْل لَهُ: كيف؟ ؟ قَالَ: كَانَ معنا خيارنا وشرارنا فلحق كُلّ بشكله خيارنا لحقوا بخياركم وشرارنا لحقوا بشراركم فألف كُلٌّ شكله. أ.هـ. شِعْرًا: ... وَالأَلْفُ يَنْزِعُ نَحْوَ الآلِفِينَ كَمَا ... طَيْرَ السَّمَاءِ عَلَى أُلافِهَا تَقَعُ

آخر: ... إِذَا بُلِي اللَّبِيبُ بِقُرْبِ فَدْمِ ... تَجَرَّعَ فِيهِ كَاسَاتِ الْحُتُوفِ فَذُو الطَّبْعِ الْكَثِيفِ بِغَيْرِ قَصْدٍ ... يَضُرُّ بِصَاحِبِ الطَّبْعِ اللَّطِيفِ وَذَلِكَ أَنَّ بَيْنَهُمَا اخْتِلافًا ... كَحُمَّى الرّبْعِ فِي فَصْلِ الْخَرِيفِ آخر: ... وَإِيَّاكَ إِيَّاكَ الْمُزَاحَ فَإِنَّهُ ... يُطَمِّعُ فِيكَ الطِّفْلَ وَالرَّجُلَ النَّذْلا وَيُذَهِّبُ مَاءَ الْوَجْهِ بَعْدَ بَهَائِهِ ... وَيُورِثُ بَعْدَ الْعِزِّ صَاحِبَُهُ ذُلا آخر: ... تَوقَّ بَنِي الزَّمَانِ فَكَمْ خَلِيلٍ ... مِنْ الْخِلانِ مَذْمُوم الْخَلالِ وَخَفّفْ مَا اسْتُطَعْتَ فَكُلُّ نَذْلٍ ... يَرَى رَدَّ السَّلامِ مِن الثِّقَالِ وَلا تَنْظُرْ لِجِسْم الْمَرْءِ وَانْظُرْ ... دِيَانَتَهُ فَإِنَّ الْجِسْمَ آلِ وَإِنْ عَايَنْتَ ذَا فِسْقِ وَكُفْرِ ... فَخَفْهُ فَذَاكَ أَخْتَلُ مِنْ ذُؤَالِ آخر: ... إِذَا أَنْتَ سَارَرْتَ فِي مَجْلِسٍ ... فَإِنَّكَ فِي أَهْلِهِ مُتَّهَمْ فَهَذَا يَقُولُ قَدْ اغْتَابَنِي ... وَذَا يَسْتَرِيبُ وَذَا يَأْثَمُ آخر: ... وَقَدْ تَعَامَى رِجَالٌ لَوْ تَبَيَّنُ لَهُمْ ... سَجِيَّةُ النَّاسِ خَافُوا كُلَّ مَنْ أَمِنُوا ذَمَمْتُ وَقْتَكَ أَنْ نَابَتْكَ نَائِبَةٌ ... بِمِثْلِ مَا تَشْتَكِيهِ يُعْرَفُ الزَّمَنُ خِفْ مِنْ جَلِيسِكَ وَاصْمُتْ إِنْ بُلِيتَ بِهِ ... فَالْعِيُّ أَفْضَلُ مِمَّا يَحْبِكُ اللَّسِنُ آخر: ... كَانَ إِجْتِمَاعُ النَّاسِ فِيمَا مَضَى ... يُورِثُ لِلْبَهْجَةِ وَالسَّلْوَةْ فَانْقَلَبَ الأَمْرُ إِلَى ضِدِّهِ ... فَصَارَت السَّلْوَةُ فِي الْخَلْوَةْ شِعْرًا: ... مُخَالِطُ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا عَلَى خِطَرٍ ... وَفِي بَلاءٍ وَصَفْوٍ شِيبَ بِالْكَدَرَ كَرَاكِبِ الْبَحْرِ إِنْ تَسْلَمْ حُشَاشَتُهُ ... فَلَيْسَ يَسْلَمُ مِنْ خَوْفِ وَمِنْ حَذَرِ فتَرَى المجتمعين بعد مدة وجيزة من بدئ الاجتماع، قَدْ انقسموا جماعات، تتحدث كُلّ جماعة فِي شؤونها الخاصة، وأمورها المشتركة، وتتغير نفوسها إِذَا رأت دخيلاً بين جماعتها لا تربطه بِهُمْ صلة، ولا تجمعهم به جامعة، وعِنْدَمَا تركب فِي قطار، أَوْ سيارة أَوْ سفينة، أَوْ فِي مجلس من المجالس، تَرَى نفسك منجذبة إِلَى بَعْض الحاضرين مشمئزةً ونافرةً من الآخرين، وَرُبَّمَا أنه لم يكن قبل ذَلِكَ اجتماع ولا تعارف، ولا تعاد وتخاصم.

كلام حول الفكر النافع والفكر الضار

فالسِّرّ فِي هَذَا ما بينه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بهَذَا الْحَدِيث فهو يَقُولُ: «إن أرواح العباد ونفوسهم جنود مجتمعة، وجيوش مجيشة فالتي بينها تعارف وتشاكل وتوافق وتناسب، يألف بعضها بَعْضًا، ويسر باجتماعه، ويفرح لقائه، لاتفاق فِي المبدأ وتقارب فِي الروح» . روى أبو يعلى فِي مسنده عَنْ عمرة بنت عَبْد الرَّحْمَنِ قَالَتْ: كَانَتْ امرأة بمَكَّة مزاحة، فنزلت على امرأة مثلها فِي الْمَدِينَة، فبلغ ذَلِكَ عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فقَالَتْ: صدق حبي سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف مَنْهَا ائتلف، وما تناكر مَنْهَا اختلف» . فالأخيار الأَبْرَار الأتقياء الأمجاد الأطهار، إِذَا وجدوا فِي مجتمَعَ جذبوا أشباهم، أَوْ انجذبوا إليهم، وسرى بينهم تيار من المحبة جمَعَ قلوبهم وقوَّى روابطها وثَبّتْ صلتها. قَالَ بَعْضهمْ: لَعَمْرُكَ إِنَّ الْقَلْبَ نَحْوَكَ شَيِّقٌ ... وَأَنْتَ بِمَا أَلْقَى مِن الشَّوْقِ أَعْلَمُ فُؤُدُّكَ عَنْ وِدِّي إِلَيْكَ مُبَلِّغٌ ... وَقَلْبُكَ عَنْ قَلْبِي إِلَيْكَ يُتَرْجِمُ وكَذَلِكَ الأَشْرَار والفجار والفسقة والظلمة، إِذَا حضروا بناد بادر إليهم الفسقة، والمجرمون، والسفلل، واللؤماء، وجذبهم قرناؤهم، ونفروا ممن لا يتخلق بأخلاقهم، ولا يسير فِي ركابهم. قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «لو أن مؤمنًا دخل إِلَى مجلس فيه مائة منافق، ومُؤْمِن واحد لجَاءَ حَتَّى يجلس إليه، ولو أن منافقًا دخل إِلَى مجلس فيه مائة مُؤْمِن ومنافق واحد، لجَاءَ حَتَّى يجلس إليه» . وَهَذَا يدل على أن شبه الشيء منجذب إليه بِالطَّبْعِ، وإن كَانَ هُوَ لا يشعر به، وكَانَ مالك بين دينار يَقُولُ: «لا يتفق إثنان فِي عشرة إِلا وفي أحدهما

وصف عَنْ الآخِر، وأن أجناس الناس كأجناس الطير ولا يتفق نوعان من الطير فِي الطيران إِلا وبينهما مناسبة» .قَالَ: فرأى يَوْمًا غربًا مَعَ حمامة فعجب من ذَلِكَ فقَالَ: اتفقا وليسا من شكل واحد، ثُمَّ طارا فإذا هما أعرجان فقَالَ: من ها هنا اتفقا. وقَالَ بَعْض الحكماء: كُلّ إنسان إِلَى شكله كما أن كُلّ طير يطير مَعَ جنسه. قَالَ بَعْضُهُمْ: (لِكُلِّ امْرِئٍ شَكْلٌ يَقَرُ بِعَيْنِهِ ... وَقُرَّةُ عَيْنِ الْفَسْلِ أَنْ يَصْحَبَ الْفَسْلا) وَيَقُولُ الآخر: وَلَيْسَ أَخُوكَ الدَّائِمُ الْعَهْدِ بِالَّذِي ... يَذِمُّكَ إِنْ وَلَّى وَيُرْضِيكَ مُقْبِلاً وَلَكِنَّهُ النَّائِي إِذَا كُنْتَ آمِنًا ... وَصَاحِبُكَ الأَدْنَى إِذَا الأَمْر مُعْضِلاً آخر: ... مَنْ خَصَّ بِالشُّكْرِ الصَّدِيقَ فَإِنَّنِي ... أَحْبُو بِخَالِصِ شُكْرِيَ الأَعْدَاءَ نَكِّرُوا عَليَّ مَعَائِبِي فَحَذِرْتُهَا ... وَنَفَيْتُ عَنْ أَخْلاقِي الأَقْذَاءَ وَلَرُبَّمَا انْتَفَعَ الْفَتَى بِعَدُوِّهِ ... وَالسُّمُّ أَحْيَانًا يَكُون شِفَاءَ آخر: ... وَكَمْ مِنْ عَدُوّ صَارَ بَعْدَ عَدَاوَةِ ... صَدِيقًا مُجِلاً فِي الْمَجَالِسِ مُعَظِّمَا وَلا غُرْوَ فَالْعَنْقُودُ مِنْ بَعْد كَرْمِهِ ... يُرَى عِنَبًا مِنْ بَعْدِ مَا كَانَ حِصْرِمَا آخر: ... لَيْسَ الصَّدِيقُ الَّذِي يَلْقَاكَ مُتْبَسِمًا ... وَلا الَّذِي بِالتَّهَانِي وَالسُّرُورِ يُرَى إِنَّ الصَّدِيقُ الَّذِي يُولِي نَصِيحَتُهُ ... وَإِنْ عَرَتْ شِدَّةُ أَغْنَى بِمَا قَدِرَا آخر: ... عَاشِرْ مِنَ النَّاسِ مَنْ تَبْقَى مَزَدَّتُهُ ... فَأَكْثَرُ النَّاسِ جَمْعٌ غَيْرِ مُؤْتَلِفِ مِنْهُمْ صَدِيقٌ بِلا قَافٍ وَمَعْرِفة ... بِغَيْرِ فَاءٍ وَإِخْوَانٌ بِلا أَلِفِ آخر: ... إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يُنْصِفْ أَخَاهُ وَلَمْ يَكُنْ ... لَهُ غَائِبًا يَوْمًا كَمَا هُوَ شَاهَدُ فَلا خَيْرَ فِيهِ فَالْتَمِسْ غَيْرَهُ أَخًا ... كَرِيمًا عَلَى صِدْقِ الإِخَاءِ يُسَاعِدُ آخر: ... وَقُلْتُ أَخِي قَالُوا أَخَ مِنْ قَرَابَةً ... فَقُلْتُ لَهُمْ إِنَّ الشُّكُولَ أَقَارِبُ نَسِيبِي فِي رَأْي وَعَزْمِي وَهِمَّتِي ... وَإِنْ فَرَّقْتَنَا فِي الأُصُولِ الْمَنَاسِبُ وإذا عرفت رجالاً بالبر والتقى والاستقامة ونفرت مِنْهُمْ نفسك ونبأ عنهم

قلبك، فاعْلَمْ إِنَّكَ مريض، أما مرض شبهة وإِلا مرض شهوة، وأنك ناقص معيب، دونهم فِي الطهارة، فداو نفسك من عيوبها، وطهرها من أوزارها حَتَّى تتقابر الأرواح وتتشاكل النُّفُوس، فتحل الألفة محل النفرة. وإذا رَأَيْت نفسك تميل إِلَى من تعرفهم بالشَّر والفجور، والفسق والخلاعة والعهر فإتهم نفسك واستدرك عمرك قبل الفوت، وابتعد عنهم كُلّ البعد، وتب إِلَى الله واسأله أن يعافيك مِمَّا ابتلاهم. وإذا رَأَيْت نفسك تحدثك بأنك البر الأمين التقي المخلص أَوْ الإِنْسَان المهذب، فكذب نفسك فِي الإعجاب، وفي هَذَا الوهم الكاذب، وأعتقَدْ إِنَّكَ غر مخدوع، وأبله مفتون، ففتش فِي زوايا قلبك، تجد للباطل ركنًا، وللشيطان حظًا، وللفساد جوًا وَهَذَا ما جذب قلبك إِلَى الأَشْرَار. وإذا رأيتك تميل إِلَى الأخيار، وتحب مجالسهم، وتنجذب نفسك إليهم، مَعَ علمك بسوء سيرتك واعوجاج طريقتك، فاعْلَمْ أن فيك بقبة خَيْر، ولا يزال فيك أمل فَرَبِّ هَذِهِ البقية وَقَوِّ هَذَا الأمل، حَتَّى يرحل عَنْكَ الشَّر، وتدخل فِي حزب الْخَيْر. وكَذَلِكَ إِذَا رَأَيْت فِي نفسك بَعْض الميل للمجرمين، وأَنْتَ طاهر تقي نقي، فاعرف أن الشيطان قَدْ نفث فيك نفثة، وثغر فِي قلبك يغرة، فتدارك أمرك وتحصن منه واستعذ بِاللهِ قَالَ الله تَعَالَى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ} الآيَة، وقَالَ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} إِلَى آخر السورة أ. هـ. من الأَدَب النبوي. وَعَنْ أَبِي ذر أنَّه قَالَ: الصَاحِب الْخَيِّرُ خَيْر من الوحدة، والوحدة خَيْر من جلَيْسَ السُّوء، ومملي الْخَيْر خَيْر من الساكت، والساكت خَيْر من مملي الشَّر. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وسلم.

" فَصْلٌ " قَالَ بَعْض الحكماء: عداوة العاقل أقل ضررًا من مودة الأحمق لأن الأحمق ربما ضر وَهُوَ يقدر أن ينفع لعدم تمييزه بين النفع والضر فيتجاوز الحد، والعاقل لا يتجاوز الحد فِي مضرته فمضرته لها حد يقف عَلَيْهِ العقل إِذَا انتهى إلى ذَلِكَ الحد. ومضرة الجاهل لَيْسَتْ بذات حد والمحدود أقل ضررًا مِمَّا هُوَ غير محدود قَالَ بَعْضُهُمْ: شِعْرًا: ... وَلأَنْ يُعَادِي عَاقِلاً خَيْرٌ لَهُ ... مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ صَدِيقٌ أَحْمَقُ فَارْغَبْ بِنَفْسِكَ أَنْ تُصَادِقَ جَاهِلاً ... إِنَّ الصَّدِيقَ عَلَى الصَّدِيقِ مُصَدِّقُ وقَالَ بَعْض الأدباء من أشار عَلَيْكَ بمصاحبة جاهل لم يخل من أمرين إما أن يكون صديقًا جاهلاً، ما يعرف ولا يميز بَيْنَ مَنْ يَصْلُحُ لِلصُّحْبَةِ وَمَنْ لا يَصْلُحُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونُ هَذَا الْمُشِيرُ عَلَيْكَ عَدُوًّا لَكِنَّهُ عَاقِلٌ لأَنَّهُ يُشِيرُ بِمَا يَضُرُكَ وَيَحْتَالُ عَلَيْكَ بِالأَشْيَاءِ الَّتِي تَضُرُكَ، وَقَدِيمًا قِيْل: وَلا تَصْحَب الحمقى فذو الجهل أن يروا ... صلاحًا لأمرٍ يَا أَخَا الْحَزْمِ مُفْسِد ويقول الآخر: فعداوة مِنْ عَاقِلٍ مُتَجَمِّلٍ ... أَوْلَى وَأَسْلَم مِنْ صَدَاقَةِ أَحْمَقِ وقَالَ بَعْضهمْ: الأَصْدِقَاءُ ثَلاثَةٌ أَحَدُهُمْ كَالْغِذَاءِ لا بُدَّ مِنْهُ، وَالثَّانِي كَالدَّوَاءِ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَالثَّالِثُ كَالدَّاءِ لا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ قَط. وقَدْ قِيْلَ: مِثْل جُمْلَةِ النَّاسِ كَمِثْل الشَّجَرِ وَالنَّبَاتِ فَمِنْهَا مَا لَهُ ظِلّ ولَيْسَ لَهُ ثمر وَهُوَ مثل الَّذِي ينتفع به فِي الدُّنْيَا دون الآخِرَة، فَإِنَّ نفع الدُّنْيَا كالظِلّ السريع الزَوَال، ومنها ما لَهُ ثمر ولَيْسَ لَهُ ظِلّ.

ومنها ما لَيْسَ لَهُ واحد منهما كأم غيلان تمزق الثياب ولا طعم فيها ولا شراب ومثله من الْحَيَوَان الحية والعقرب والفأر ومثله فِي النَّبَات الخنيز فإنه يضيق على الزرع ويضر من لمسه ولا يؤكل ولا لَهُ تمر يؤكل. وَيَشْرَبُ مَاءَ الزَّرع وَيَعُوقُ نُمُوَّهُ ... إِذَا فَلا بُدَّ مِنْ الإِخْتِيَار قَبْلَ الْمُعَامَلَة شِعْرًا: ... لا تَشْكُرَنَّ فَتىً حَتَّى تُعَامِلَهُ ... وَتَسْتَبِينَ مِن الْحَالَينِ إِنْصَافَا فَقَدْ تَرَى رَجُلاً بَادِي الصَّلاحِ فَإِنْ ... عَامَلْتَهُ فِي حَقِيرٍ غَشَّ أَوْ حَافَا آخر: ... النَّاسُ شَتَّى إِذَا مَا أَنْتَ ذُقْتَهُمُ ... لا يَسْتَوُونَ كَمَا لا تَسْتَوِي الشَّجَرُ هَذَا لَهُ ثَمَرٌ حُلْوٌ مَذَاقَتُهُ ... وَذَاكَ لَيْسَ لَهُ طَعْمٌ وَلا ثَمَرُ إذا فهمت تفاوت النَّاس فِي العقل والدين فعَلَيْكَ قبل الصداقة أن تفحص عَنْ من تريد صداقته وإخاءه فإذا حصلت على من ترضاه دينًا وعقلاً وأدبًا فألزمه، كما قِيْل: أَبْلِ الرِّجَالَ إِذَا أَرَدْتَ إِخَاءَهُمْ ... وَتَوَسَّمَنَّ أُمُورَهُمْ وَتَفَقَّدِ فَإِذَا ظَفَرْتَ بِذِي الأَمَانَةِ وَالتُّقَى ... فِبهِ الْيَدَيْنِ قَرِيرَ عَيْنٍ فَاشْدُدِ آخر: ... لا تَمْدَحَنَّ امْرأً حَتَّى تُجَرِّبَهُ ... وَلا تَذُمَنَّهُ مِنْ غَيْرِ تَجْرِيبِ فَإِنَّ حَمْدَكَ مَنْ لَمْ تَبْلُهُ سَرَفٌ ... وَإِنَّ ذَمَّكَ بَعْدَ الْحَمْدِ تَكْذِيبُ آخر: ... جَامِلْ أَخَاكَ إِذَا اسْتَربْتَ بِوِدِّهِ ... وَانْظُرْ بِهِ عُقْبَى الزَّمَانِ يُعَاوِدُ فَإِنْ اسْتَمَرَّ عَلَى الْفَسَادِ فَخَلَّهِ ... فَالْعُضْوُ يُقْطَعُ لِلْفَسَادِ الزَّائِدِ وقَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة، ويجعل النَّاس فيها أربعة أقسام: متى خلط أحد الأقسام بالآخِر ولم يميز بينهما دخل عَلَيْهِ الشَّر. أحدهما: من مخالطته كالغذاء لا يستغنى عَنْهُ فِي الْيَوْم فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة، ثُمَّ إِذَا احتاج إليه خالطه هكَذَا على الدوام. وَهَذَا الضرب أعز من

الكبريت الأحمر وهم الْعُلَمَاء بِاللهِ وأمره، ومكايد عدوه، وأمراض الْقَلْب وأدويتها الناصحون لله ولرسوله ولخلقه. فهَذَا الضرب فِي مخالطتهم الرِّبْح كُلّ الرِّبْح. القسم الثاني: من مخالطته كالدواء، يحتاج إليه عَنْدَ المرض فما دمت صحيحًا فلا حَاجَة لَكَ فِي خلطته، وهم من لا يستغنى عَنْ مخالطتهم فِي مصلحة المعاش، وقيام ما أَنْتَ محتاج إليه من أنواع المعاملات والمشاركات والاستشارة والعلاج للأدواء ونحوها فإذا قضت حاجتك من مخالطة هَذَا الضرب بقيت مخالطتهم من القسم الثالث: وهم من مخالطتهم كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوته وضعفه. فمِنْهُمْ من مخالطته كالداء العضال، والمرض المزمن، وَهُوَ من لا تربح عَلَيْهِ فِي دين ولا دنيا، ومَعَ ذَلِكَ فَلا بُدَّ مِنْ أن تخسر عَلَيْهِ الدين والدُّنْيَا أَوْ أحدهما، فهَذَا إِذَا تمكنت منك مخالطته واتصلت، فهي مرض الموت المخوف. وَمِنْهُمْ من مخالطته كوجع الضرس يشتد ضربه عليك فإذا فارقك سكن الألم. وَمِنْهُمْ من مخالطته حمى الروح، وَهُوَ الثقِيْل البغيض، الَّذِي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك، ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك ولا يعرف نَفْسهُ فيضعها منزلتها، بل إن تكلم فكلامه كالعصى تنزل على قُلُوب السامعين، مَعَ إعجابه بكلامه وفرحه به. فهو يحدث من فيه كُلَّما تحدث، ويظن أنه مسك يطيب به المجلس، وإن سكت فأثقل من نصف الرحا العظيمة التي لا يطاق حملها ولا جرها على الأَرْض ويذكر عَنْ الشَّافِعِي رَحِمَهُ اللهُ أنه قَالَ: ما جلس إِلَى جانبي ثقِيْل إِلا وجدت الجانب الَّذِي يليه أنزل من الجانب الآخِر.

قَالَ بَعْضهمْ: يَا مَنْ تَبَرَّمَتِ الدُّنْيَا بِطَلْعَتِهِ ... كَمَا تَبَرَّمَتِ الأَجْفَانُ بِالسُّهُدِ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مُخْتَالاً فَأَحْسِبُه ... لِثقْل طَلْعَتِهِ يَمْشِي عَلَى كَبِدِي وقَالَ ابن القيم: ورَأَيْت يَوْمًا عَنْدَ شيخنا قدس الله روحه رجلاً من هَذَا الضرب، والشَّيْخ يحمله، وقَدْ ضعفت القوى عَنْ حمله، فالتفت إلي وقَالَ: مُجَالَسَة الثقِيْل حمى الربع، ثُمَّ قَالَ: لكن قَدْ أدمنت أرواحنا على الحمى، فصَارَت لها عادة أَوْ كما قَالَ: قال بعضهم: مَا حِيلَتِي فِي ثَقِيْلٍ قَدْ بُلِيتَ بِهِ ... مِنْ قُبْحِ طَلْعَتِهِ يَسْتَحْسَنُ الرَّمَدُ قَدْ زَادَ فِي الثِّقْلِ حَتَّى مَا يُقَارِبُه ... فِي ثِقْلِهِ أَحَدٌ حَتَّى وَلا أَحُدُ ومرض الشعبي فعاده ثقِيْل فأطال الجلوس ثُمَّ قَالَ للشعبي: ما أشد ما مر بك فِي مرضك؟ قَالَ: قعودك عِنْدِي. ومر به صديق لَهُ وَهُوَ بين ثقِيْلين فقَالَ لَهُ: كيف الروح؟ فقَالَ: فِي النزع يعني فِي شدة عظيمة. وبالجملة: فمخالطة كُلّ مخالف حمى للروح، فعرضية ولازمة. ومن نكد الدُّنْيَا على الْعَبْد أن يبتلى بواحد من هَذَا الضرب، ولَيْسَ لَهُ بد من معاشرته ومخالطته فليعاشره بالمعروف، حَتَّى يجعل الله لَهُ من أمره فرجًا ومخرجًا. القسم الرابع: من مخالطته الهلك كله ومخالطته بمنزلته بمنزلة أكل السم، فَإِنَّ اتفق لآكله ترياق، وإِلا فأحسن الله فيه العزاء، وما أكثر هَذَا الضرب فِي النَّاس لا كثرهم الله.

وهم أَهْل البدع والضلالة، والصادون عَنْ سُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الداعون إِلَى خلافها، الَّذِي يصدون عَنْ سبيل ويبغونها عوجًا، فيجعلون البدعة سُنَّة، والسُنَّة بدعة، والمعروف منكرًا والْمُنْكَر معروفًا. إن جردت التَّوْحِيد بينهم قَالُوا: تنقصت جناب الأَوْلِيَاء والصالحين. وإن جردت المتابعة لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالُوا: أهدرت الأَئِمَّة المتبوعين. وإن وصفت الله بما وصف به نَفْسهُ وبما وصفه به رسوله من غير غلو ولا تقصير قَالُوا: أَنْتَ من المشبهين. وإن أمرت بما أمر الله به ورسوله من المعروف ونهيت عما نهى الله عَنْهُ ورسوله من الْمُنْكَر قَالُوا: أَنْتَ من المفتونين. وإن تبعت السُنَّة وتركت ما خالفها قَالُوا: أَنْتَ من أَهْل البدع المضلين. وإن انقطعت إِلَى الله تَعَالَى، وخليت بينهم وبين جيفة الدُّنْيَا قَالُوا: أَنْتَ من المبلسين. وإن تركت ما أَنْتَ عَلَيْهِ واتبعت أهواءهم فأَنْتَ عَنْدَ الله من الخاسرين وعندهم من المنافقين. فالحزم كُلّ الحزم: التماس مرضاة الله تَعَالَى ورسوله بإغضابهم، وأن لا تشتغل باعتابهم، ولا باستعتابهم، ولا تبالي بذمهم ولا بغضهم فإنه عين كمالك كما قَالَ: وَإِذَا أَتَتْكَ مَذَمَّتِي مِنْ نَاقِص ... فَهِيَ الشَّهَادَةُ لِي بِأَنِّي فَاضِل وَقَالَ آخر: وَقَدْ زَادَنِي حُبًّا لِنَفْسِي أَنَّنِي ... بَغِيضٌ إِلَى كُلِّ امْرِئِ غَيْرِ طَائِلِ

الحب في الله والبغض في الله والتحذير من موالاة أعداء الله والأدلة على ذلك

فمن أيقظ بواب قَلْبهُ وحارسه من هَذِهِ المداخل الأربعة التي هِيَ أصل بَلاء العَالِم. وهي: فضول النظر، والكلام، والطعام، والمخالطة واستعمل ما ذكرناه من الأسباب التسعة التي تحزره من الشيطان فقَدْ أخذ بنصيبه من التَّوْفِيق. وسد عَنْ نَفْسهُ أبواب جهنم، وفتح عَلَيْهَا أبواب الرحمة، وانغمر ظاهره وباطنه. ويوشك أن يحمد عَنْدَ الْمَمَات عاقبة هَذَا الدواء، فعَنْدَ الْمَمَات يحمد القوم التقي، وفي الصباح يحمد القوم السري، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ لا رب غيره ولا إله سواه. أ. هـ. اللَّهُمَّ يَا عَالِم الخفيات ويا سامَعَ الأصوات ويا باعث الأموات ويا مجيب الدعوات ويا قاضي الحاجات يَا خالق الأَرْض والسماوات أَنْتَ الله الأحد الصمد الَّذِي لم يلد ولم يولد ولم يكن لَهُ كفوًا أحد الوهاب الَّذِي لا يبخل والحليم الَّذِي لا يعجل لا رادَّ لأَمْرِكَ ولا معقب لحكمك نسألك أن تغفر ذنوبنا وتنور قلوبنا وتثَبِّتْ محبتك فِي قلوبنا وتسكننا دار كرامتك إِنَّكَ على كُلّ شَيْء قدير وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " موعظة " عباد الله لا شَيْء أغلى عليكم من أعماركم وأنتم تضيعونها فيما لا فائدة فيه. ولا عدو أعدى لكم من إبلَيْسَ وأنتم تطيعونه، ولا أضر عليكم من موافقة النفس الإمارة بالسُّوء وأنتم تصادقونها، لَقَدْ مضى من أعماركم الأطايب، فما بقي بعد شيب الذوائب. يا حاضر الجسم والْقَلْب غائب، اجتماع العيب مَعَ الشيب من أعظم المصائب، يمضي زمن الصبا فِي لعب وسهو وغَفْلَة، يَا لها من مصائب، كفى زَاجِرًا وَاعِظاً تشيب منه الذوائب، يَا غافلاً فاته الأرباح وأفضل

التحذير من مشابهة أعداء الله وتوليهم وقربهم ومسكنتهم

المناقب، أين البُكَاء والحزن والقلق لخوف العَظِيم الطالب أين الزمان الَّذِي فرطت فيه ولم تخش العواقب، أين البُكَاء دمًا على أوقات قتلت عَنْدَ التلفزيون والمذياع والكرة والسينماء والفيديو والخمر والدخان والملاعب واللعب بالورق والقِيْل والقَالَ. كم فِي يوم الحَسْرَة والندامة من دمع ساكب على ذنوب قَدْ حواها كتاب الكاتب، من لَكَ يوم ينكشف عَنْكَ غطاؤك فِي موقف المحاسب، إِذَا قِيْل لَكَ: ما صنعت فِي كُلّ واجب، كيف ترجو النجاة وأَنْتَ تلهو بأسر الملاعب، لَقَدْ ضيعتك الأماني بالظن الكاذب، أما علمت أن الموت صعب شديد المشارب، يلقي شره بكأس صدور الكتائب، وأنه لا مفر منه لهارب فَانْظُرْ لنفسك واتق الله أن تبقى سَلِيمًا من النوائب، فقد بنيت كنسج العنكوت بيتًا، أين الذين علو فوق السفن والمراكب أين الَّذِينَ علو على متون النجائب، هجمت عَلَيْهمْ الْمَنَايَا فأصبحوا تحت النصائب وأَنْتَ فِي أثرهم عَنْ قريب عاطب، فَانْظُرْ وتفكر واعتبر وتدبر قبل هجوم من لا يمنع عَنْهُ حرس ولا باب ولا يفوته هرب هارب. اللَّهُمَّ يسر لَنَا سبيل الأَعْمَال الصالحات وهيئ لَنَا من أمرنا رشدًا واجعل معونتك العظمى لَنَا سندًا واحشرنا إِذَا توفيتنا مَعَ عبادك الصالحين الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. شِعْرًا: ... وَكَيْفَ قَرَّتْ لأَهْلِ الْعِلْمِ أَعْيُنُهُمْ ... أَوْ اسْتَلَذَّوْا لَذِيذَ النَّوْمِ أَوْ هَجَعَوا وَالْمَوْتُ يُنْذِرُهُمْ جَهْرًا عَلانِيَةً ... أَوْ كَانَ لِلْقَوْمِ أَسْمَاعٌ لَقَدْ سَمِعُوا وَالنَّارُ ضَاحِيَةٌ لا بُدَّ مَوْرِدُهُمْ ... وَلَيْسَ يَدْرُونَ مَنْ يَنْجُو وَمَنْ يَقَعُ قَدْ أَمْسَتْ الطَّيْرُ وَالأَنْعَامُ آمِنَةً ... وَالنُّونُ فِي الْبَحْرِ لا يُخْشَى لَهَا فَزَعُ

وَالآدَمِيُّ بِهَذَا الْكَسْبِ مُرْتَهِنٌ ... لَهُ رَقِيبٌ عَلَى الأَسْرَارِ يَطَّلِعُ حَتَّى يَرَى فِيهِ يَوْمَ الْجَمْعِ مُنْفَرِدًا ... وَخَصْمُهُ الْجِلْدُ وَالأَبْصَارُ وَالسَّمْعُ وَإِذْ يَقُومُونَ وَالأَشْهَادُ قَائِمَةً ... وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ وَالأَمْلاكُ قَدْ خَشعُوا وَطَارَتْ الصُّحُفُ فِي الأَيْدِي مُنْتَشِرَةً ... فِيهَا السَّرَائِرُ وَالأَخْبَارُ تَطَّلِعُ فَكَيْفَ بِالنَّاسِ وَالأَنْبَاءُ وَاقِعَةٌ ... عَمَّا قَلِيلٍ وَمَا تَدْرِي بِمَا تَقَعُ أَفِي الْجِنَانِ وَفَوْزٍ لا انْقِطَاعَ لَهُ ... أَمْ فِي الْجَحِيمِ فلا تُبْقِي وَلا تَدَعُ تَهْوِي بُسُكَّانِهَا طَوْرًا وَتَرْفُعُهُمْ ... إِذَا رَجَوْا مَخْرَجًا مِنْ غَمِّهَا قُمِعُوا طَالَ الْبُكَاءُ فَلَمْ يَنْفَعْ تَضَرُّعُهُمْ ... هَيْهَاتَ لا رِقَّةٌ تُغْنِي وَلا جَزَعُ اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك فِي قلوبنا وقوها ونور قلوبنا بنور الإِيمَان وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين وآتنا فِي الدُّنْيَا حسُنَّة وفي الآخِرَة حسُنَّة وقنا عذاب النار، اللَّهُمَّ أنظمنا فِي سلك الفائزين برضوانك، وَاجْعَلْنَا مِنْ المتقين الَّذِينَ أعددت لَهُمْ فسيح جنانك، وأدخلنا بِرَحْمَتِكَ فِي دار أمانك، وعافنا يَا مولانَا فِي الدُّنْيَا والآخِرَة مِنْ جَمِيعِ البلايا، وأجزل لَنَا من مواهب فضلك وهباتك ومتعنا بالنظر إِلَى وجهك الكريم مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " فَصْلٌ " وقَالَ ابن القيم: أصل الْخَيْر والشَّر من قبل الفكر، فَإِنَّ الفكر مبدأ الإرادة والطلب فِي الزهد، والترك، والحب والبغض وأنفع الفكر فِي مصالح المعاد وفي طرق اجتلابها، وفي دفع مفاسد المعاد وفي طرق اجتنابها، فهذه أربعة أفكار هِيَ أجل الأفكار، ويليها أربعة، فكر فِي مصالح الدُّنْيَا وطرق تحصيلها وفكر فِي مفاسد الدُّنْيَا وطرق احتراز مَنْهَا فعلى هَذِهِ الأقسام الثمانية دارت أفكار العقلاء.

ورأس القسم الأول، الفكر فِي آلاء الله ونعمه وأمره ونهيه وطرق العلم به، وبأسمائه وصفاته من كتابه وسُنَّة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وما والاهما، وَهَذَا الفكر يثمر لصاحبه المحبة، والمعرفة، فإذا فكر فِي الآخِرَة وشرفها ودوامها وفي الدُّنْيَا وخستها وفنائها أثمر لَهُ ذَلِكَ الرغبة فِي الآخِرَة والزهد فِي الدُّنْيَا. وكُلَّما فكر فِي قصر الأمل، وضيق الوَقْت، أورثه ذَلِكَ الجد والاجتهاد، وبذل الوسع فِي اغتنام الوقت. وهذه الأفكار تعلي همته وتحييها بعد موتها وسفولها وتجعله في واد والناس في واد. قَالَ بعضهم: فَكَّرْتُ فِي الْجَنَّةِ الْعُلْيَا فَلَمْ أَرَهَا ... تَنَالَ إِلا عَلَى جَسْرٍ مِن التَّعَبِ آخر: ... إِنَّ امْرَأً بَاعَ أُخْرَاهُ بِفَاحِشَةٍ ... مِن الْفَوَاحِشَ يَأْتِيهَا لِمَغْبُونُ وَمَنْ تَشَاغَلَ بِالدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا ... عَنْ جَنَّةِ مَا لَهَا مِثْلٌ لِمَفْتُونُ وَكُلُّ مَنْ يَدَّعِي عَقْلاً وَهِمَّتُهُ ... فِيمَا يُبْعَدُ عَنْ مَوْلاهُ مَجْنُونُ آخر: ... يَا مَنْ يُعَانِقُ دُنْيًا لا بَقَاءَ لَهَا ... يُمْسِي وَيُصْبِحُ فِي دُنْيَاهُ سَفَّارَا هَلا تَرَكْتَ لَدَى الدُّنْيَا مُعَانَقَةً ... حَتَّى تُعَانِقَ فِي الْفِرْدَوْسِ أَبْكَارَا إِنْ كُنْتَ تَبْغِي جِنَانَ الْخُلْدِ تَسْكُنُهَا ... فَاطْلُب رِضَى خَالِق الْجَنَّاتِ وَالنَّارَا وبإزاء هَذِهِ الأفكار الرديئة التي تجول فِي قُلُوب أكثر هَذَا الخلق كالفكر فيما يكلف الفكر فيه، ولا أعطى الإحاطة به من فضول العلم الَّذِي لا ينفع، كالفكر فِي كيفية ذات الله وصفاته مِمَّا لا سبيل للعقول إِلَى إدراكه به. ومنها الفكر فِي الصناعات الدقيقة التي لا تنفع بل تضر، كالفكر فِي الشطرنج والموسيقى وأنواع الأشكال، والتصاوير. قُلْتُ: وكل أنواع الملاهي. ومنها الفكر فِي العلوم التي لو كَانَتْ صحيحة لم يعطي الفكر فيها النفس كمالاً ولا شرفًا كالفكر فِي دقائق المنطق، والعلم الرياضي، والطبيعي، وأكثر

علوم الفلاسفة التي لو بلغ الإِنْسَان غايتها لم يكمل بذَلِكَ، ولم يزك نَفْسهُ. ومنها الفكر فِي الشهوات، واللذات وطرق تحصيلها، وَهَذَا وإن كَانَ للنفس فيه لذة لكن لا عاقبة لَهُ ومضرته فِي عاقبة الدنيا قبل الآخِرَة أضعاف مسرته. ومنها الفكر فيما لم يكن لو كَانَ كيف كَانَ، كالفكر فيما إِذَا صار ملكًا أَوْ وَجَدَ كنزًا أَوْ ملك ضيعة ماذا يصنع وكيف يتصرف، ويأخذ ويعطي وينتقم ونحو ذَلِكَ من أفكار السفل. ومنها الفكر فِي جزئيات أحوال النَّاس، ومجرياتهم، ومداخلتهم ومخارجهم، وتوابع ذَلِكَ من فكر النُّفُوس المبطلة الفارغة من الله ورسوله والدار الآخِرَة. ومنها الفكر فِي دقائق الحيل، والمكر، التي يتوصل بها إِلَى أغراضه وهواه مباحة كَانَتْ أَوْ محرمة. ومنها الفكر فِي أنواع الشعر، وصروفه وأفانينه فِي المدح والهجَاءَ والغزل والمراثي ونحوها، فإنه يشغل الإِنْسَان عَنْ الفكر فيما فيه سعادته وحَيَاتهُ الدائِمَّة. ومنها الفكر فِي المقدرات الذهنية التي لا وجود لها فِي الخارج ولا بِالنَّاسِ حَاجَة إليها البتة، وَذَلِكَ موجود فِي كُلّ علم حَتَّى فِي علم الفقه والأصول والطب، فكل هَذِهِ الأفكار مضرتها أرجح من منفعتها ويكفي فِي مضرتها شغلها عَنْ الفكر فيما هُوَ أولى به، وأَعُود عَلَيْهِ بالنفع عاجلاً وآجلاً.أ. هـ. شِعْرًا: ... يَا غَافِلاً عَنْ صُرُوفِ الْوَقْتِ فِي سِنَةٍ ... الْوَقْتَ يُوقِظُ الآيَاتِ وَالْعِبَرِ كَمْ ذَا تَنَامُ وَعَيْنُ الْوَقْتِ سَاهِرَةٌ ... لَهُ حَوَادِثُ فِي الْغُدْوَاتِ وَالْبُكَرِ لا تَأَمن الْوَقْتَ وَأَحْذَرْ مِنْ تَقَلُّبِهِ ... فَشِيمَةُ الْوَقْتُ شَوْبُ الصَّفْوِ بِالْكَدَرِ

وَارْغَبْ بِنَفْسِكَ عَمَّا سَوْفَ تُدْرِكُه ... فِعْلَ اللَّبِيبِ أَخِي التَّحْقِيقِ وَالنَّظَرِ مَاذَا يَغُرُّكَ مِنْ دَارِ الْفَنَاءِ وَمِنْ ... عُمْر يَمُرُّ كَمَثْلِ اللَّمْحِ بِالْبَصَرِ فَامْهَدْ لِنَفْسِكَ فَالسَّاعَاتُ فَانِيَةٌ ... وَالْعُمْرُ مُنْتَقِصٌ وَالْمَوْتُ فِِي الأَثَرِ آخر: ... يَا مَنْ تَبَجَّحَ بِالدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا ... كُنْ مِنْ صُرُوفِ لَيَالِيهَا عَلَى حَذَرِ وَلا يَغُرَّنَكَ عَيْشٌ إِنْ صَفَا وَعَفَا ... فَالْمَرْءُ مِنْ غُرر الأَيَّامِ فِي غَرَرِ إِنَّ الزَّمَانَ كَمَا جَرَّبْتَ خِلْقَتَهُ ... مُقَسَّمُ الأَمْرِ بَيْنَ الصَّفْوِ وَالْكَدَرِ اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وَوَفِّقْنَا للقيام بحقك، وخلصنا من حقوق خلقك، وبارك لَنَا فِي الحلال من رزقك، ولا تفضحنا بين خلقك، يَا خَيْر من دعاة داع وأفضل من رجاه راج يَا قاضي الحاجات، ومجيب الدعوات، هب لَنَا ما سألناه، وحقق رجاءنا فيما تنميناه، يَا من يملك حوائج السائلين ويعلم ما فِي صدور الصامتين أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " فَصْلٌ " اعْلَمْ وفقنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع الْمُسْلِمِين أن الحب فِي الله والبغض فِي الله، أصل عَظِيم من أصول الإِيمَان يجب مراعاته ولهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيث: «أوثق عرى الإِيمَان الحب فِي الله والبغض فِي الله "، وأكثر الله من ذكره فِي القرآن، قَالَ الله تَعَالَى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ} . فالمعنى أن لكم أيها المؤمنون فِي موالات الْمُؤْمِنِينَ مندوحة عن موالات الكفار، فلا تؤثرهم عَلَيْهمْ،وقوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ} المعنى ومن يتولاهم فهو برئ من الله والله برئ منه كقوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} .

وقوله: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} أي إِلا أن تخافوا على أنفسكم فِي إبداء العداوة للكافرين، فلكم فِي هَذِهِ الحال الرخصة فِي المسالمة والمهادنة، ولا فِي التولي الَّذِي هُوَ مَحَبَّة الْقَلْب الَّذِي تتبعه النصرة، بل يكون الْقَلْب مطمئنًا بالعداوة والبغضاء، ينتظر زَوَال المانع. وقَالَ الله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ} الآيَة. ففي هَذِهِ الآيات تحذير من الله لعباده الْمُؤْمِنِينَ عَنْ ولاية الكفار واتخاذهم بطانة أَوْ خصيصية وأصدقاء، يسرون إليهم، ويفضون لَهُمْ بأسرار الْمُؤْمِنِينَ، أَوَّلاً أنهم لا يقصرون فِي مضرة الْمُؤْمِنِينَ، وإفساد الأَمْر على الْمُؤْمِنِينَ ما استطاعوا إِلَى ذَلِكَ سبيلاً. ثانيًا: محبتهم ما شق على الْمُؤْمِنِينَ، وتمنيهم ضرر الْمُؤْمِنِينَ فِي دنياهم ودينهم. ثالثًا: أنهم يبدون العداوة والبغضاء فِي كلامهم وفي فلتات ألسنتهم. رابعًا: أن ما تخفيه صدورهم من البغضاء والعداوة أكبر مِمَّا ظهر لكم من أقوالهم وأفعالهم، ثُمَّ ذكر نوعًا آخر من التحذير عَنْ مخالطة الكافرين واتخاذهم بطانة. وفيه تنبيه على خطئهم فِي ذَلِكَ وقَدْ ضمنه أمورًا ثلاثًا كُلّ مَنْهَا يستدعي الكف عَنْ مخالطة الكفار، أَوَّلاً أنكم تحبونهم ولا يحبونكم، ثانيًا أنكم

تؤمنون بالكتاب كله ما نزل على نبيكم وما نزل على نبيهم، ثالثًا أنهم يداهنونكَمْ وينافقونكم فإذا لقوَكَمْ قَالُوا آمنا وَإِذَا خلوا مَعَ بَنِي جنسهم عضو عليكم الأنامل من الغيظ والبغض. وإنما فعلوا ذَلِكَ لما رأوا من ائتلاف الْمُسْلِمِين، واجتماع كلمتهم وصلاح ذات بينهم، ونصر الله إياهم، حَتَّى عجز أعداؤهم أن يجدوا إِلَى ذَلِكَ التشفي سبيلاً، فاضطروا إِلَى مداراتهم. وقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} . والآيات هَذِهِ تنادي بالنهي المطلق عَنْ الولاء لليهود والنَّصَارَى وعن الاستنصار بِهُمْ، والركون إليهم والثِّقَة بِهُمْ، وبمودتهم والاعتقاد فِي قدرتهم على إيصال خَيْر لِلْمُسِلِمِينَ، أَوْ دفع أذى بل هم على العكس لا يألون جُهْدًا فِي دفع النفع عَنْ الْمُسْلِمِين، وإيصال الضَّرَر والأَذَى لِلْمُسِلِمِينَ فانتبه يَا أخي واحذرهم وحذر عنهم. وَإِيَّاكَ ومدارتهم. يَقُولُونَ لِي الْعِدَا تَنْجِ مِنْهُمْ ... فَقُلْتُ مُدَارَاتُ الْعِدَا لَيْسَ تَنْفَعُ وَلَوْ أَنَّنِي دَارَيْتُ دَهْرِي حَيَّةً ... إِذَا مُكِّنَتْ يَوْمًا مِنَ اللَّسْعِ تَلْسَعُ آخر: ... إِذَا وَتَرْتَ أَمْرًا فَاحْذَرْ عَدَاوَتَهُ ... مَنْ يَزْرَعِ الشَّوْكَ لا يَحْصُدْ بِهِ عِنَبَا إِنَّ الْعَدُوَّ وَإِنْ أَبْدَى مُجَامَلَةً ... إِذَا رَأى مِنْكَ يَوْمًا فُرْصَةً وَثَبَا قَالَ شَّيْخ الإِسْلام: ولهَذَا كَانَ السَّلَف رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ يستدلون بهذه الآيات على ترك الاستعانة بِهُمْ فِي الولايات، فروى الإِمَام أحمد بإسناد صحيح عَنْ أبي مُوَسى الأشعري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ لعمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، إن لي كاتبا نَصْرَانِيًّا، قَالَ: ما لك قاتلك الله، أما سمعت الله يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} ألا اتَّخَذْتَ حَنِيْفيًا.

قَالَ: قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لي كتابته وله دينه، قَالَ: لا أكرمهم إِذَا أهانهم الله، ولا أعزهم إِذَا أذلهم الله ولا أدنيهم إِذَا أقصاهم الله» . بلغ يَا أخي من والاهم وولاهم ووثق بِهُمْ، وأحمد الله الَّذِي عَافَاكَ مِمَّا ابتلاهم به. ولما دل عَلَيْهِ معنى الكتاب وجاءت به سُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسُنَّة خلفائه الراشدين، التي أجمَعَ الْفُقَهَاء عَلَيْهَا بمخالفتهم، وترك التشبه بِهُمْ، ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: إن اليهود والنَّصَارَى لا يصبغون، فخالفوهم أمر بمخالفتهم قَالَ. وقَالَ تَعَالَى لنبيه عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام: {لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} وَذَلِكَ يقتضي تبرؤه مِنْهُمْ فِي جميع الأَشْيَاءِ، وَإِذَا كَانَ الله قَدْ برأ رسوله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ جَمِيعِ أمورهم، فمن كَانَ متبعًا للرسول - صلى الله عليه وسلم - حَقِيقَة كَانَ مُتَبَرِّئًا مِنْهُمْ، كتبرئه - صلى الله عليه وسلم - مِنْهُمْ ومن كَانَ موافقًا لَهُمْ كَانَ مُخًالِفًا لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بقدر موافقته لَهُمْ. وقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: إن مشابهتهم فِي بعض أعيادهم، توجب سرور قلبوهم بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْبَاطِلِ، خُصُوصًا إِذَا كَانُوا مقهورين، تحت ذل الْجِزْيَة والصغار، فَإِنَّهُمْ يرون الْمُسْلِمِين قَدْ صاروا فرعًا لَهُمْ فِي خصائص دينهم، فَإِنَّ ذَلِكَ يوجب قَسْوَة قُلُوبِهِمْ وانشراح صدورهم وَرُبَّمَا أطمعهم ذَلِكَ فِي انتهاز الفرص واستذلال الضعفاء. وقال رحمه الله: وكلما كانت المشابهة أكثر كان التفاعل فِي الأَخْلاق والصفات أتم حَتَّى يؤل الأَمْر إِلَى أن لا يميز أحدهما عَنْ الآخِر إِلا بالعين فقط. ولما كَانَ بين الإِنْسَان مُشَارَكَة فِي الْجِنْس الْخَاص، كان التفاعل فيه أشد، ثُمَّ بينه وبين سائر الْحَيَوَان مُشَارَكَة فِي الْجِنْس، المتوسط، فَلا بُدَّ مِنْ نوع تفاعل بقدره.

ثُمَّ بينه وبين النَّبَات مُشَارَكَة فِي الْجِنْس الْبَعِيد مثلاً، فَلا بُدَّ مِنْ نوع ما من المفاعلة: قَالَ: ولأجل هَذَا الأصل وقع التأثر والتأثير فِي بَنِي آدم، واكتساب بَعْضهمْ أَخْلاق بَعْض بالمُشَارَكَة والمعاشرة، وكَذَلِكَ الآدمي إِذَا عاشر نوعًا من الْحَيَوَان، اكتسب من بَعْض أخلاقه. ولهَذَا صَارَت الخيلاء والفخر فِي أَهْل الإبل، وصَارَت السكينة فِي أَهْل الغنم، وصار الجمالون والبغالون فيهم أَخْلاق مذمومة، من أَخْلاق الجمال والبغال، وَكَذَا الكلابون. قُلْتُ: وَهَذَا واضح مشاهد عَنْدَ الَّذِينَ يتأملون بدقة، فالمعاشرون للدجاج والحمام، والأرانب والحمر والبقر يأخذون من أخلاقها. قَالَ رَحِمَهُ اللهُ: وصار الْحَيَوَان الإنسي فيه بَعْض أَخْلاق الإنس من المعاشرة والمؤالفة وقلة النفرة، فالمشابهة والمشاكلة فِي الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة فِي الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي. قَالَ: وقَدْ رأينا اليهود الَّذِينَ عاشروا الْمُسْلِمِين، هم أقل كفرًا من غيرهم، كما رأينا الْمُسْلِمِين الَّذِينَ أكثروا من معاشرة اليهود والنَّصَارَى هم أقل إيمانًا من غيرهم، والمُشَارَكَة فِي الهدْي الظاهر، توجب أيضًا مناسبة وإتلافًا وإن بعد المكَانَ، والزمان، فهَذَا أيضًا أمر محسوس فمشابهتهم فِي أعيادهم ولو بالقليل، هُوَ سبب لنوع ما من اكتساب أخلاقهم التي هِيَ ملعونة. فنقول: مشابهتهم فِي الظاهر سبب ومظنة لمشابهتهم فِي عين الأَخْلاق والأفعال المذمومة، بل فِي نفس الاعتقاد، وتأثير ذَلِكَ لا يظهر ولا ينضبط ونفس الفساد الحاصل من المشابهة قَدْ لا يظهر ولا ينضبط وقَدْ يتعسر، أَوْ يتعذر زواله، بعد حصوله لو تفطن لَهُ.

وكل ما كَانَ سببًا إِلَى مثل هَذَا الفساد فَإِنَّ الشارع يحرمه كما دلت عَلَيْهِ الأصول المقررة. وقَالَ: إن المشابهة فِي الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة فِي الباطن. قَالَ: والمحبة والموالاة لَهُمْ تنافي الإِيمَان، قَالَ الله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء} إِلَى قوله تَعَالَى: {فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ} وقَالَ تَعَالَى فيما ذم به أَهْل الكتاب: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} الآيات إِلَى قوله: {وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} . فبين تَعَالَى أن الإِيمَان بِاللهِ والنَّبِيّ وما أنزل مستلزم لعدم ولايتهم فثبوت ولايتهم يوجب عدم الإِيمَان. انتهى كلامه. إذا فهمت ذَلِكَ، فاعْلَمْ أن المقصود من كُلّ ما ذكرنا، هُوَ إِنَّكَ تَكُون متيقظًا حَافِظًا لِمَن ولاك الله عَلَيْهمْ حسب قدرتك واستطَاعَتكَ مبعدًا لَهُمْ كُلّ البعد عَنْ الإتصال بالكفار، والسفر إِلَى بلادهم، والإقامة عندهم، لما وضحنا لَكَ سابقًا فَإِنَّ قبلت ذَلِكَ فهو المطلوب، والحمد لله على ذَلِكَ وإن أبيت قبول هَذِهِ النَّصِيحَة فسوف تعلم إِذَا انجلى الغبار، أفرس تحتك أم حمار، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ وعَلَيْهِ التكلان. أَلا رُبَّ نُصْحٍ يُغْلَقُ الْبَابُ دُونَهُ ... وَغِشٍ إلى جَنبِ السَّرِيرِ يُقَرَّبُ وَاللهُ أَعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وسلم. " فَصْلٌ " وقَالَ تَعَالَى: {تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} الآيتين. وقال:

{وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاء} . الآية. قَالَ ابن عباس: لا تميلوا. وقَالَ عكرمة: أن تطيعوهم أَوْ تودوهم، أَوْ تصطنعوهم، أي تولوهم الأَعْمَال، كمن يولي الفساق والفجار. وقَالَ الثوري: ومن لاق لَهُمْ دواة أَوْ برى لَهُمْ قلمًا أَوْ ناولهم قرطاسًا دخل فِي هَذَا. قَالَ بَعْض المفسرين فِي الآيَة: فالنهي متناول للانحطاط فِي هواهم، والانقطاع إليهم، ومصاحبتهم، ومجالستهم، وزيارتهم ومداهنتهم والرِّضَا بأَعْمَالُهُمْ والتشبه والتزيي بزيهم، ومد العين إِلَى زهرتهم، وذكرهم بما فيه تعظيمًا لَهُمْ. قُلْتُ: ما أكثر هَذَا فِي زمننا نسأل الله أن يحفظنا عَنْ ذَلِكَ. وقَالَ آخر: لا تستندوا وتطمئنوا إِلَى الَّذِينَ ظلموا وإلى الجبارين الطغاة الظالمين، أصحاب الجور والظلم الَّذِينَ يقهرون بقوتهم، ويظلمون لا تميلوا إليهم طالبين نصرتهم أَوْ حمايتهم مهما يكن فِي أيديهم من القوة والسُّلْطَان والْمَال، فَإِنَّ ركونكم إليهم على هَذَا النحو يقدح فِي اعتمادكم على الله، وفي إخلاصكم بالتوجه إليه وحده والاتكال عَلَيْهِ وحده والاعتزاز به وحده. والركون إِلَى الظلمة المتسلطين سواء كَانُوا أفردًا أَوْ كَانُوا دولاً يتمثل فِي صورٍ شتَّى، ومنه التعاون مَعَ الطغاة على الشعوب، الَّذِينَ لا يحكمون بما أنزل الله، ومنه معاهدات الحماية ومعاهدات الدفاع المشترك ومعاهدات الصداقة والتحالف مَعَ الَّذِينَ يؤذون الْمُؤْمِنِينَ فِي ديارهم، وكل صورة يتحقق فيها اعتماد الْمُسْلِمِين على أَهْل الظلم أفرادًا ودولاً والاستناد إِلَى قوتهم وعونهم ومساعدتهم. وقَالَ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} صدر هَذِهِ السورة نزل فِي حاطب بن أبي بلتعة، لما

كتب إِلَى المشركين، يخبرهم بمسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما ظنك بمن يعول على الكفرة ويعتمد عَلَيْهمْ ويتخذهم أَوْلِيَاء نسأل الله العصمة إنه القادر على ذَلِكَ. فيجب عَلَيْنَا معشر الْمُؤْمِنِينَ أن نتباعد عنهم ولا نقاربهم فِي المنازل ولا نذهب إليهم، ولا نكون معهم، وأن ننصح من كَانَ من الْمُسْلِمِين فِي بلادهم، بأن يهاجر عنهم، وأن نبين لَهُ، قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تستضيئوا بنار المشركين» . وقَالَ: «من جامَعَ المشرك أَوْ سكن معه فهو مثله» . وحديث: «أَنَا برئ من مُسْلِم بين أظهر المشركين لا ترائي نارهما» . وكَانَ - صلى الله عليه وسلم - يأخذ على أصحابه عَنْدَ البيعة يأخذ على يد أحدهم: «أن لا تَرَى نارك نار المشركين إلا أن تَكُون حربًا لَهُمْ» . شِعْرًا: ... شَرُّ الْبِلادِ بِلادٌ لا أَذَانَ بِهَا ... وَلا يُقَامُ بِهَا فَرْضُ الصَّلَوَاتِ وَلا زَكَاةٌ وَلا صَوْمٌ يَكُونُ بِهَا ... وَلا مَسَاجِدَ فِيهَا لِلْعِبَادَاتِ إِنِّي لأَعْجَبُ مِنْ شَخْصٍ يُقِيمُ بِهَا ... عِنْدَ الْمَعَادِي لِخَلاقِ السَّمَاوَاتِ آخر: ... إِرْحَلْ بِنَفْسِكَ مِنْ أَرْضٍ تُضَامُ بِهَا ... وَلا تَكُنْ لِفِرَاقِ الأَهْلِ فِي حَرَقِ مَنْ ذَلَّ بَيْنَ أَهَالِيهِ بِبَلْدَتِهِ ... فَالإغْتِرَابُ لَهُ مِنْ أَحْسَنِ الْخُلْقِ الْكُحْلُ نُوعٌ مِن الأَحْجَارِ مُنْطَرِحًا ... فِي أَرْضِهِ كَالثَّرَى يُرَى عَلَى الطُّرُقِ لَمَّا تَغَرَّبَ نَالَ الْعِزَّ أَجْمَعَهُ ... وَصَارَ يُحْمَلُ بَيْنَ الْجِفْنِ وَالْحَدَقِ آخر: ... إِذَا زِدْتَ فِي أَرْضٍ لِرَبِّكَ طَاعَة ... فَلا تَكْثِرَنْ مِنْهَا النُّزُوعَ لِغَيْرِهَا فَمَا هِيَ إِِلا بَلْدَةٌ مِثْلَ بَلْدَةٍ ... وَخَيْرُهُمَا مَا كَانَ عَوْنًا عَلَى التُّقَى آخر: ... إِذَا اغْتَرَبْ الْحُرُّ الْكَرِيمُ بَدَتْ لَهُ ... ثَلاثُ خِلالٌ كُلُّهُنَّ صِعَابُ تَفَرُّقُ أَلافُ وَبَذْلٌ لِهَيَبْةٍ ... وَإِنْ حُمَّ لَمْ يَعْطِفْ عَلَيْهِ صِحَابُ آخر: ... وَكُنْ فِي بَلْدَةٍ تَزْدَادُ فِيهَا ... لَدَى الْخَلاقِ مَرْتَبَةً وَقَدْرَا

فَخَيْرُ النَّاسِ مَنْ أَرْضَى إِلَهًا ... تَفَرَّدَ بِالْجَلالِ وَبِالْكَمَالِ وفي حديث معاوية بن حيدة مرفوعًا: «لا يقبل الله من مُسْلِم عملاً أَوْ يفارق المشركين» . أَخْرَجَهُ النسائي وورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ أنه أقسم لا يظلله سقف، هُوَ وقاطع رحم. فانتبه يَا من زين لَهُ سوء عمله فأتى بكفار خدامين أَوْ سواقين أَوْ خياطين أَوْ طباخين وأمِنْهُمْ على محارمه وهم أعداء الله ورسوله والْمُؤْمِنِينَ. هَذَا والعياذ بِاللهِ إجرام عَظِيم ومحاربة لله ورسوله الْمُؤْمِنِينَ ونشر للفساد فِي الْبِلاد الإِسْلامية. فَكَيْفَ بمن يذهب إِلَى بلاد الكفر ويجلس معهم، ويأكل ويشرب ويتبادل معهم الكلام بلين وبشر وينام ويصحو، ويقوم ويقعد وَهُوَ بينهم فِي تقلباته وحركاته وسكناته. ولَقَدْ وصل الأَمْر فِي هَذَا الزمن إِلَى أناسًا يبعثون أماناتهم أفلاذ أكبادهم إِلَى بلاد الكفر والشرك والحرية والفساد يتعلمون عَنْدَ أولئك الكفرة أعداء الإِسْلام وأهله الَّذِينَ تجب الهجرة من بلادهم وَرُبَّمَا كَانَ عَنْدَ الأولاد المبعوثين للتعلم عَنْدَ الكفرة مبادئ طيبة وأخلاق فاضلة فإذا ذهبوا إلى بلاد الكفر والعياذ بالله ضيعوا دينهم وأخلاقهم واعتادوا عَنْ قصد وعن غير قصد شرورًا وسمومًا يحملونها ثُمَّ يأتون بها فينفثونها بين الْمُسْلِمِين ثُمَّ يعدون أقرانهم ويزينون لَهُمْ طريقتهم فيهلكون ويهلكون ولا أدري ماذا عَنْدَ مضيع هَذِهِ الأمانة من الجواب إِذَا وقف بين يدي الجبار جَلَّ وَعَلا وسأله عَنْ هَذِهِ الأمانة وما أعقبت من شرور وفساد. هل يدعي أنه لا يعرف أنها بلاد كفر وإلحاد فيكون كاذبًا أَوْ يَقُولُ إنه يدري ولكنه لا يبالي بهذه الأمانة قولوا لَهُ: ألست تقرأ قول الله تَعَالَى: {إِنَّا

عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا} الآيَة. وقوله تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} هَذَا إِذَا كَانَ الباعث راضيًا بذَلِكَ أَوْ آمرًا به. فهل الكفار أَهْل لوضع هَذِهِ الأمانة عندهم أما تخشى الله هَذَا وَاللهِ جرم عَظِيم. قَالَ تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لَنَا من لدنك رحمة إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب، فَإِنَّهَا لا تعمى الأبصار ولكن تعمى الْقُلُوب التي فِي الصدور {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} . والشئ الَّذِي يضحك الإِنْسَان من جهه ويبكيه من جهة هُوَ أنه ربما يكون المرسلون من الَّذِينَ يعدون طاهرة قُلُوبهمْ ولكن غفلوا عَنْ هَذِهِ المسألة فلم يسألوا عَنْهَا هل يجوز لَهُمْ أم لا، ثُمَّ الشيء الثاني يأتي أناس آخرون لا يعرفون الولاء والبراء أَوْ يعرفونه ولكن يتساهلون فيأخذون الَّذِي جاءوا من بلاد الكفر يحملون شهاداتهم بالدوائر والولائم وَهَذَا والعياذ بِاللهِ تشجيعًا على المعاصي وحثًا عَلَيْهَا وإغراء بها نسأل الله العافية. لأن الواجب هجرهم والابتعاد عنهم ولو كَانُوا آباءهم أَوْ أبناءهم أَوْ إخوانهم كما هُوَ المعهود فِي الزمن الْبَعِيد والقريب فيمن جَاءَ من الْبِلاد التي مستعمرة للكفرة يهجر لا يكلم ولا يدعى ولا يجاب دعوته عَنْدَ المتمسكين بالدين تمامًا الصدَّاعين بالحق المخلصين لله الناصحين لله ولكتابه ولرسوله ولولاة الْمُسْلِمِين ولكن يَا للأسف ذهب النَّاس وبقي النسناس الَّذِينَ لا يعرفون الولاء والبراء إِلا فيما يتعلق بحطام الدُّنْيَا. شِعْرًا: ... فَمَا النَّاسُ لِلنَّاسِ الَّذِينَ عَهدْتَهُمْ ... وَلا الدَّارُ بِالدَّارِ الَّتِي كُنْتَ تَعْرِفُ آخر: ... أَلا رُبَّ نُصْحٍ يُغْلَقُ الْبَابُ دُونَهُ ... وَغِشٍّ إِلَى جَنْبِ الشَّرِيرِ يُقَرَّبُ آخر: ... بَذَلْتُ لَهُمْ نُصْحِي بِمُنْعَرِجِ اللَّوَى ... فَلَمْ يَسْتَبِينُوا الرُّشْدَ إِلا ضُحَى الْغَدِ

ويذكر عَنْ عيسى عَلَيْهِ السَّلام أنه قَالَ: تحببوا إِلَى الله ببغض أَهْل المعاصي، وتقربوا إِلَى الله بالبعد عنهم واطلبوا رضى الله بسخطهم فإذا كَانَ هَذَا مَعَ أَهْل المعاصي، فَكَيْفَ بالكفرة والمشركين والمنافقين أعداء الله ورسله والْمُؤْمِنِينَ. وقَدْ أجاب أبناء شيخ الإِسْلام مُحَمَّد بن عبد الوهاب لما سئلوا عَنْ السفر إِلَى بلاد المشركين للتجارة بما حاصله أنه يحرم السفر إِلَى بلاد المشركين إِلا إِذَا كَانَ المسلم قويًا لَهُ منعة يقدر على إظهار دينه وإظهار الدين تكفيرهم وعيب دينهم والطعن عَلَيْهمْ والبراءة مِنْهُمْ والتحفظ من موادتهم والركون إليهم واعتزالهم ولَيْسَ فعل الصلوات فقط للدين. أ. هـ. نسألُ اللهَ السلامةَ وَالعافية فيها أيها المعافى أحمد ربك حمدًا طيبًا مباركًا وأكثر من قول: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لَنَا من لدنك رحمة إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب، ومن قول يَا مقلب الْقُلُوب والأبصار ثَبِّتْ قلوبنا على دينك، ويا مصرف الْقُلُوب صرف قلوبنا إلى طَاعَتكَ. اللَّهُمَّ طهر قلوبنا من النفاق وعملنا من الرياء وألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة وآذاننا عَنْ الاستماع إِلَى ما لا يرضيك وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ وَوَفِّقْنَا لسلوك مناهج المتقين، وخصنا بالتَّوْفِيق المبين، وَاجْعَلْنَا بِفَضْلِكَ من المقربين الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون، اللَّهُمَّ ألهمنا ما ألهمت عبادك الصالحين، وأيقظنا من رقدة الغافلين إِنَّكَ أكرم منعم وأعز معين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. شِعْرًا: ... أَلا قُلْ لأَهْلِ الْجَهْلِ من كُلِّ مَنْ طَغَى ... عَلَى قَلْبِهِ رَيْنٌ مِنَ الرَّيْبِ وَالْعَمَا لَعَمْرِي لَقَدْ أَخْطَأْتُمُوا إِذْ سَلَكْتُمُ ... طَرِيقَةَ جَهْلٍ غَيُّهَا قَدْ تَجَهَّمَا أَيَحْسَبُ أَهْلُ الْجَهْلِ لَمَّا تَعَسَّفُوا ... وَجَاءُوا مِن الْعُدْوَانِ أَمْرًا مُحَرَّمَا

بِأَنَّ حِمَى التَّوْحِيدِ لَيْسَ بِرَبْعِهِ ... وَلا حِصْنِهِ مَنْ يَحْمِهِ أَنْ يُهَدَّمَا وَظَنُّوا سَفَاهًا أَنْ خَلَى فَتَوَاثَبَتْ ... ثَعَالِبُ مَا كَانَتْ تَطَا فِي فِنَا الْحِمَا أَيَحْسَبُ أَعْمَى الْقَلْبِ أَنَّ حُمَاتَهُ ... غُفَاةٌ فَمَا كَانُوا غُفَاةً وَنُوَّمَا فَإِنْ كَانَ فَدْمٌ جَاهِلٌ ذُو غَبَاوَةٍ ... رَأَى سَفَهًا مِنْ رَأْيِهِ أَنْ تَكَلَّمَا بِقَوْلٍ مِنْ الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ خَالَهُ ... صَوَابًا وَقَدْ قَالَ الْمقَالَ الْمُذَمَّمَا سَنَكْشِفُ بِالْبُرْهَانِ غَيْهَبَ جَهْلِهِ ... وَيَعْلَمُ حَقًّا أَنَّهُ قَدْ تَوَهَّمَا وَنُظْهِرُ مِن عَوْرَاتِهِ كُلَّ كَامِنٍ ... لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ جَاءَ إِفْكًا وَمَأْثَمَا رُوَيْدًا فَأَهْلُ الْحَقِّ وَيْحَكَ فِي الْحِمَى ... وَقَدْ فَوَّقُوا نَحْوَ الْمُعَادِينَ أَسْهُمَا وَتِلْكَ مِن الآيَاتِ وَالسُّنَنَ الَّتِي ... هِيَ النُّورُ إِنْ جَنَّ الظَّلامُ وَأَجْهَمَا فَيَا مَنْ رَأَى نَهْجَ الضَّلالَةِ نَيِّرَا ... وَمَهْيَعَ أَهْلِ الْحَقِّ وَالدِّيِن مُظْلِمَا لَعَمْرِي لَقَدْ أَخْطَأْتَ رُشْدَكَ فَاتَّئِدْ ... وَرَاجِعْ لِمَا قَدْ كَانَ أَقْوَى وَأَقْوَمَا مِن الْمَنْهَجِ الأَسْنَى الَّذِي ضَاءَ نُورُهُ ... وَدَعْ طُرُقًا تُفْضِي إِلَى الْكُفْرِ وَالْعَمَا وَمِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ فَاسْلُكْ طَرِيقَهَا ... وَعَادِ الَّذِي عَادَاهُ إِنْ كُنْتَ مُسْلِمَا وَوَالِ الَّذِي وَالَى وَإِيَّاكَ أَنْ تَكُنْ ... سَفِيهًا فَتُحْظَى بِالْهَوَانِ وَتَنْدَمَا أَفِي الدِّينِ يَا هَذَا مُسَاكَنَةُ الْعِدَا ... بِدَارِ بِهَا الْكُفْرِ أَدْلَهَمَّ وَأَجْهَمَا وَأَنْتَ بِدَارِ الْكُفْرِ لَسْتَ بِمُظْهِرٍ ... لِدِينِكَ بَيْنَ النَّاسِ جَهْرًا وَمُعْلِمَا بِأَيِّ كِتَابٍ أَمْ بِإِيَّةِ آيَةٍ ... أَخَذْتَ عَلَى هَذَا دَلِيلاً مُسَلَّمَا وَإِنَّ الَّذِي لا يُظْهِرُ الدِّينَ جَهْرَةً ... أَبْحَتْ لَهُ هَذَا الْمَقَامَ الْمُحَرَّمَا إِذَا صَامَ أَوْ صَلَّى وَقَدْ كَانَ مُبْغِضًا ... وَبِالْقَلْبِ قَدْ عَادَى ذَوِي الْكُفْرِ وَالْعَمَا ثَكَلَتْكَ هَلْ حَدَّثْتَ نَفْسَكَ مَرَّة ... بِمِلَّةِ إِبْرَاهِيم أَوْ كُنْت مُعْدَما فَفِي التّرمذي أَنَّ النَّبِيّ مُحَمَّدًا ... بَرِئَ مِنَ الْمَرْءِ الَّذِي كَانَ مُسْلِمًا يُقِيمُ بِدَارٍ أَظْهَرَ الْكُفْرَ أَهْلُهَا ... فَيَا وَيْحَ مَنْ قَدْ كَانَ أَعْمَى وَأَبْكَمَا أَمَا جَاءَ آيَاتٌ تَدُلُّ بِِأَنَّهُ ... إِذَا لَمْ يُهَاجِرْ مُسْتَطِيع فَإِنَّمَا

.. جَهَنَّمُ مَأْوَاهُ وَسَاءَتْ مَصِيرُهُ ... سِوَى عَاجِزٌ مَسْتَضْعَفٌ كَانَ مُعْدَما فَهَلْ عِنْدَكُمْ عِلْمٌ وَبُرْهَانَ حُجْة ... فَحَيَّا هَلا هَاتُوا الْجَوَابَ الْمُحَتَّما وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَجِيئُوا بِحُجَّةٍ ... لِتَدْفَعْ نَصًّا ثَابِتًا جَاءَ مُحْكَما وَلَكَنما الأَهْوَاء تَهْوى بِأَهْلِهَا ... فَوَيْلٌ لِمَنْ أَلَوْتَ بِهِ مَا تَأَلَّما أَلا فَأَفِيقُوا وَارْجِعُوا وَتَنْدَمُوا ... وَفِيئُوا فَإِنَّ الرَّشُدَ أَوْلَى مِنَ الْعَمَا وَظَنِّي بِأَنَّ الْحُبَّ للهِ وَالْوَلا ... عَلَيْهِ تَوَلَّى عَنْكُمُو بَلْ تَصَرَّما وَحُبُّكُمْ الدُّنْيَا وَإِيثَارُ جَمِعَهَا ... عَلَى الدِِّينَ أَضْحَى أَمْرهُ قَدْ تَحَكُّمَا لِذَلِكَ دَاهَنْتُمْ وَوَالَيْتُمُوا الَّذِي ... بِأَوْضَارِ أَهْلِ الْكُفْرِ قَدْ صَارَ مُظْلِما وَجَوَّزْتُمُوا مِنْ جَهْلِكُمْ لِمُسَافِرٍ ... إِقَامَتُهُ بَيْنَ الْغُوَاة تَحَكُّما بِغَيْرِ دَلِيلٍ قَاطِعٌ بَلْ بِجَهْلِكُمْ ... وَتَلْبِيس أَفَّاكَ أَرَادَ التَّهَكُّمَا وقَدْ قلْتُمُوا فِي الشَّيْخِ مَنْ شَاعَ فَضْلُهُ ... وَأَنْجَدَ فِي كُلِّ الْفُنُونِ وَالتهَمَا إِمَامِ الْهُدَى عَبْدِ اللَّطِيفِ أَخِي التُّقَى ... فَقُلْتُمْ مِنَ الْعُدْوَانِ قَولاً مُحَرَّمَا مَقَالَةَ فَدْمٍ جَاهِلٍ مُتَكَلِّفٍ ... يَرَى أَنَّهُ كُفْرًا فَقَال مِنَ الْعَمَا يُنَفِّرُ بَلْ قَدْ قلْتُمُوا مِنْ غَبَائِكُمْ ... يُشَدِّدُ أَوْ قُلْتُمْ أَشَدَّ وَأَعْظَمَا وَلَيْسَ يَضُرُّ السُّحْبُ فِي الْجَوِ نَابِحٌ ... وَهَلَ كَانَ إِلا بِالإِغَاثَةِ قَدْ هَمَا فَيَدْعُو لَهُ مَنْ كَانَ يَحْيَى بِصَوْبِهِ ... وَيُنَجِّهِ مَنْ كَانَ أَعْمَى وَأَبْكَما أَيُنْسَبُ لِلتَّنْفِيرِ وَهُوَ الَّذِي لَهُ ... رَسَائِلُ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا مَنْ تَوَهَّمَا يُؤَنِّبُ فِيهَا مَنْ رَأَى غَلْطَةً ... وَيَأْمُرُ أَنْ يَدْعُو بِلِينٍ وَيَحْلُمَا أَيُنْسَبُ لِلتَّشْدِيدِ إِذَا كَانَ قَدْ حَمَا ... حِمَى الْمِلَّة السَّمْحَاء أَنْ لا تُهْدَمَا وَغَارَ عَلَيْهَا مِنْ أُنَاسٌ تَرَخَّصُوا ... وقَدْ جَهِلُوا الأَمْرَ الْخَطِيرَ الْمُحَرَّمَا فَلَوْ كُنْتُمُوا أَعَلَى وَأَفْضَلَ رُتْبَة ... وَأَزْكَى وَأَتْقَى أَوْ أَجَلَّ وَأَعْلَمَا يُشَارُ إِلَيْكُمْ بِالأَصَابِعِ أَوْ لُكُمْ ... مِنَ الْعِلْمِ مَا فُقْتُمْ بِهِ مَنْ تَقَدَّمَا لِكُنَّا عَذَرْنَاكُمْ وَقُلْنَا أَئِمَّة ... جَهَابِذَة أَحْرَى وَأَدْرَى وَأَفْهَمَا

موعظة في أن الناس قسمان

.. وَلَكِنَّكُمْ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ مَا لَكُمْ ... مِنَ الْعِلْمِ مَا فُقْتُمْ بِهِ مَنْ تعَّلَمَا وَمِنْ أَصْغَر الطُّلاب لِلْعِلْمِ بَلْ لَكُمْ ... مُزْيَة جَهْلٍ غَيُّهَا قَدْ تَجَهَّمَا لِذَلِكَ أَقْدَمْتُمْ لِفَتْحِ وَسَائِلٍ ... وَقَدْ سَدَّهَا مَنْ كَانَ بِاللهِ أَعْلَمَا ثَكَلْتُمُوا هَلْ حَدَّثَتْكُمْ نُفُوسُكُمْ ... بِخْرِقِ سِيَاج الدِّين عَدْوًا وَمَأْثَمَا وَإِنَّ الْحُمَاةَ النَّاصِرِينَ لِرَبِّهِمْ ... بِخْرِقِ سِيَاج الدِّين عَدْوًا وَمَأْثَمَا عَلَى مَا يَشَأُ مِنْ كُلّ أَمْرٍ مُحَرَّمٍ ... وَلَيْسَ لَهُ مِنْ وَازِعٍ أَنْ تَكَلَّمَا وَإِنَّ حِمَى التَّوْحِيد أَفْقَر رَسْمُهُ ... فَقُلْتُمْ وَلَمْ تَخْشُوا عِتَابًا وَمَنْقَمَا فنَحْنُ إِذَا وَالْحَمْدُ للهِ لَمْ نَزَلْ ... عَلَى ثَغْرَةٍ الْمَرْمَى قُعُودًا وَجُثَّمَا أَلا فَاقْبَلُوا مِنَّا النَّصِيحَةَ وَاحْذَرُوا ... وَفِيئُوا إِلَى الأَمْر الَّذِي كَانَ أَسْلَمَا وَإِلا فَإنَّا لا نُوَافِقُ مَنْ جَفَا ... وَيَسْعَى بِأَنْ يُوطي الْحِمَى أَوْ يُهْدَمَا وَإِلا فَإنَّا لا نُوَافِقُ مَنْ جَفَا ... وَيَسْعَى بِأَنْ يُوطي الْحِمَى أَوْ يُهْدَمَا كَمَا أَنَّنَا لا نَرْتَضِي جُورَ مَنْ غَلا ... وَزَادَ عَلَى الْمَشْرُوعِ إِفْكًا وَمَأْثَما وَيَا مُؤْثَرَ الدُّنْيَا عَلَى الدِّينِ إِنَّمَا ... عَلَى قَلْبِكَ الرَّانُ الَّذِي قَدْ تَحَكَّمَا وَعَادَيْتَ بَلْ وَالَيْتَ فِيهَا وَلَمْ تَخَفْ ... عَوَاقِبَ مَا تَجْنِي وَمَا كَانَ أَعْظَما أَغَرَّتْكَ دُنْيَاكَ الدَّنِيَّة رَاضِيًا ... بِزَهْرَتِهَا حَتَّى أَبَحْتَ الْمُحَرَّمَا تَرُوقُ لَكَ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِ أَهْلِهَا ... كَأَن لَمْ تَصِرْ يَوْمًا إِلَى الْقَبْرِ مُعْدِمَا خَلِيًا مِنَ الْمَالِ الَّذِي قَدْ جَمَعْتَهُ ... وَفَارَقْتَ أَحْبَابًا وَقَدْ صِرْتَ أَعْظُمَا وَلَمَّا تَقَدَّمَ مَا يُنَجِّيكَ فِي غَدٍ ... مِنَ الدِّينِ مَا قَدْ كَانَ أَهْدَى وَأَسْلَمَا وَذَلِكَ أَنْ تَأْتِى بِدِينِ مُحَمَّدٍ ... وَمِلَّةِ إِبْرِاهِيمَ إِنْ كُنْتَ مُسْلِمَا تُوَالي َعلَى هَذَا وَتَرْجُو بِحُبِّهِمْ ... رِضَى الْمَلِك العْلام إِذَا كَانَ أَعَظْمَا وَتُبْغِضُ مَنَ عَادَى وَتَرْجُو بِبُغْضِهِمْ ... مِنَ اللهِ إِحْسَانًا وَجُودًا وَمَغْنَمَا فهَذَا الَّذِي نَرْضَى لِكُلِّ مُوَحِّد ... وَنَكْرَهُ أَسْبَابًا تُرِدْهُ جَهَنَّمَا وَصَلِّ إِلَهِي مَا تَأَلَّقَ بَارِقٌ ... عَلَى الْمُصْطَفَى مَنْ كَانَ بِاللهِ أعْلَمَا

.. وَآلٍ وَأَصْحَابٍ وَمَنْ كَانَ تَابِعًا ... وَتَابِعْهُمْ مَا دَامَتِ الأَرْضُ وَالسَّمَا " موعظة " عباد الله كلنا يعلم أن النَّاس قسمان، قسم انحاز إِلَى الله، وهؤلاء حزب الله الَّذِينَ قَالَ الله فيهم: {أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . وقسم انحاز إِلَى عدو الله إبلَيْسَ لعنه الله وهؤلاء حزب الشيطَانَ الَّذِينَ قَالَ الله فيهم: {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} فالأولون الَّذِينَ هم حزب الله لا تراهم يطيعون الشيطان أبدًا ولِذَلِكَ لا تجدهم يفسدون فِي الأَرْض، بل هم بركة فِي هَذَا الوجود. فإذا رَأَيْت مَسْجِدًا معمورًا فهم الَّذِينَ وفقهم الله لبنائه، وإن قِيْل لَكَ إنهم لا يظلمون، وينهون عَنْ الظلم والجور فصدق، وإن رَأَيْت مُحْتَاجًا سدت حاجته، فهم الَّذِينَ وفقهم الله لإنعاشه، وسدها وإن رَأَيْتَ عَارِيًا فهم الَّذِينَ وفقهم الله لكسوته، وإن قِيْل إن الْمُنْكَر الفلاني أزيل فهم الَّذِينَ وفقهم الله للتسبب فِي إزالته، وإن قِيْل لَكَ إن إصلاحًا فِي الأَرْض كَانَ صعبًا فسهل بإذن الله، فهم الَّذِينَ وفقهم الله لإزالته أَوْ تسهيله.وإن قِيْل إن أناسًا يدورون على البيوت يتفقدون الفقراء الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ موارد فهم الَّذِينَ وفقهم الله لِذَلِكَ، وإن قِيْل إن أناسًا يتفقدون من عَلَيْهِ دين فيتسببون لوفائه، فهم الَّذِينَ وفقهم الله لِذَلِكَ، وإن قِيْل: إنهم يعبدون الله عبادة من لا يمل ولا يفتر، فصدق بمجرد ما يقَالَ لَكَ. وإن قِيْل إن بَعْض البيوت وهي القليلة إِنَّكَ تسمَعَ فيها بالليل صوت بُكَاء وأنين وتهجدًا واستغفارًا، فهم أولئك الَّذِينَ وفقهم الله وجعلهم حزبه. وإن قِيْل لَكَ إن أناسًا عندهم عطف على الفقراء، ورحمة وإيثار وإحسان إِلَى الجار، ومواسات الضعفاء، وغير ذَلِكَ، مِمَّا يكاد فِي زمننا هَذَا أن يكون نادرًا فهم أولئك الَّذِينَ وفقهم العليم الخبير، وهؤلاء هم المهذبون المتنورون المتأدبون.

أما الفريق الثاني عصمنا الله وَإِيَّاكَ عَنْ طَرِيق سلوكهم، فهم حزب الشيطان لا يحصل فساد فِي الأَرْض إِلا مِنْهُمْ، لأنهم حزب الشيطان وإن قِيْل إن مؤمنًا قُتِلَ فهم الَّذِينَ قتلوه، أَوْ تسببوا لقتله، لا يختلف فِي ذَلِكَ اثنان، وإن قِيْل لَكَ أن سيارة سُرِقَتْ فهم الَّذِينَ سرقوها. وإن قِيْل إن منزلاً هوجم وَسُرِقَ فقل بلا تردد: هم الَّذِينَ هاجموه وسرقوه، وهل حزب الرحمن يعتدون مثل هَذَا العدوان، وإن قِيْل إن إنْسانًًا خطف وغيب ولا يعلم أين كَانَ، فقل هم الَّذِينَ خطفوه وغيبوه، وإن قِيْل إن مسلمًا ذا ثروة نشل وأخذ منه آلاف، فقل وهل ينشل ويخطف ويعبث بأموال النَّاس إِلا أولئك الأَشْرَار حزب الشيطان. حزب الله الموفقون الكمل بعيدون عَنْ المعاصي جدًا، فلا تَرَى الواحد مِنْهُمْ يتعمد الجلوس فِي الطرق، ويداوم الْمُرُور فيها لمطاردة النساء ومغازلتهن، ولا تراه يركب النساء بلا محرم ولا يدخلها لتشتري أَوْ يفصل عَلَيْهَا، ولَيْسَ معها محرم ولا تجده يبيع صور ذوات الأرواح، ولا يصورها، ولا يبيع البدع المنكرات، ولا يجلس عندها، وهي البدع المحرمة، التي حدثت فِي زمننا مثل التلفزيون والسينماء والمذياع، والكرة، والورق، والبكم والدخان والفديو ونحو هَذِهِ المنكرات التي قضت على الغيرة والمروءة والشيمة. نسأل الله العافية. ولا يغش الْمُسْلِمِين، ولا يكون ذا وجهين يتكلم عَنْدَ هؤلاء بوجه وعَنْدَ الآخرين بوجه، ولا ينافق ولا يوقع بريئًا فِي مأزق ولا يشهد بالزور، ولا يحظر عَنْدَ المنكرات، بل تراهم فِي مجالس الذكر يدورون حول ما يقربهم إِلَى الله. ولا تراهم يركنون إِلَى أعداء الله، ولا الفسقة ولا يعظمونهم ولا يتملقون لَهُمْ، ويضحكون معهم، كما يفعله السذج، الَّذِينَ لا يعرفون الولاء والبراء، ولا تنشرح صدورهم، ولا تهتز عواطفهم ولا تستريح قُلُوبهمْ، ولا يهدؤُ

بآلهم، ولا يسكن قلقهم، إِلا إِذَا زاحموهم وجالسوهم، ومازحوهم وعظموهم، ممن نسوا الله فأنساهم أنفسهم والتهوا عما هم إليه صائرون، فلم يحسبوا لَهُ حسابًا، قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} . وقَالَ تَعَالَى {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ} وقَالَ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} الآيَة. فالَّذِي ينبغي أن يتبع ويقتدى به من تمسك بكتاب الله، وامتلأ قَلْبهُ بمحبة الله، وفاض ذَلِكَ على لِسَانه، فلهج بذكر الله، ودعا إِلَى الله واتبع مراضيه، فقدمها على هواه وحفظ وقته فِي طاعة الله بعيدًا عَنْ أذية الْمُسْلِمِين لا يقابل الإساءة بمثلها بل يدفع بالتي هِيَ أحسن وَهَذَا حقًا هُوَ المهذب المتنور: لَمَّا عَفَوْتُ وَلَمْ أَحْقِدْ عَلَى أَحَدٍ ... أَرَحْتُ نَفْسِي مِنْ هَمِّ الْعَدَاوَاتِ إِنِّي أُُحَيِّي عَدُوِّي عِنْدَ رُؤْيَتِهِ ... لأَدْفَعَ الشَّرِّ عَنِي بِالتَّحِيَّاتِ وَأُحْسِنُ الْبَشرَ لِلإِنْسَانِ أُبْغِضُهُ ... كَأَنَّهُ قَدْ مَلا قَلْبِي مَوَدَّاتِ وَلَسْتُ أُسَلِّمُ مِمَّنْ لَسْتُ أَعْرِفُهُ ... فَكَيْفَ أَسْلَمُ مِنْ أَهْلِ الْمَوَدَّاتِ آخر: ... يَأْبَى فُؤَادِي أَنْ يَمِيلَ إِلَى الأَذَى ... حُبُّ الأَذِيَّةِ مِنْ طِبَاعِ الْعَقْرَبِ لِي إِنْ أَرَدْتُ مسَاءَةً بِمسَاءَةً ... لَوْ أَنَّنِي أَرْضَى بِبَرْقٍ خُلَّبِ حَسْبُ الْمُسِيءِ شُعُورُهُ وَمَقَالُهُ ... فِي سِرِّهِ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُذْنِبِ اللَّهُمَّ خفف عنا الأوزار وارزقنا عيشة الأَبْرَار واصرف عنا شر الأَشْرَار وأعتق رقابنا ورقاب آبائنا وأمهاتنا من النار يَا عزيز يَا غفار، اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وَوَفِّقْنَا للقيام بحقك وبارك لَنَا فِي الحلال من رزقك ولا تفضحنا بين خلقك يَا خَيْر من دعاه داع وأفضل من رجاه راج يَا قاضي الحاجات ومجيب الدعوات هب لَنَا ما سألناه وحقق رجاءنا فيما تمنياه يَا من يملك حوائج السائلين ويعلم ما فِي ضمائر الصامتين أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

قصة أبي عبيدة الجراح مع أبيه

" فَصْلٌ ": وداء فِي تفسير قوله تَعَالَى: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} الآيَة. أنها نزلت فِي أبي عبيدة. وإليك الْقِصَّة مسوقة بأكملها، أبو عبيدة بن الجراح رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، كَانَ صحابيًا جليلاً وبطلاً عظيمًا مِنْ أَبْطَالِ الإِسْلامِ مِنَ الْمُجَاهِدِينَ، حَرصَ أَبُوهُ عَبْدُ اللهِ عَلَى قَتْلِهِ فِي أَوْلِ لِقَاءٍ، لأَنَّ أَبَا عُبَيْدَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ تَرَكَ دِينَ أَبِيهِ، وَاعْتَنَقَ الإِسْلامَ، وَتَخَلَّفَ عَنْ قَافِلَةَ قُرَيْش، وَالْتَحَقَ بِقَافِلَةِ مُحَمَّد بن عَبْد اللهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مُؤْمِنًا بِدِينِهِ مُصَدِّقًا بِرِسَالَتِهِ. تَصَدَى عَبْد اللهِ لابْنِهِ مُحًاوِلاً قَتْلَهُ، فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَلَكن الابْن أَبْعَدَ عَنْهُ وَحَوَّلَ سَيْفَهُ عَنْ أَبِيهِ وَانْطَلَقَ إِلَى فِئَةٍ أُخْرَى غَيْرَ التي فِيهَا أَبُوهُ، يُقَاتِلُهَا وَيُجَاهِدُهَا وَافْتَرَقَ الرَّجُلانِ وَلَكن الأَبَّ بَحَثَ عَنْ ابْنِهِ حَتَّى الْتَقَى بِهِ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَرَفَعَ سَيْفَهُ عَلَيْهِ وَوَجَّهَ إِلَيْهِ ضَرْبَةً قَاضِيَةً اسْتَقْبَلَهَا أَبُو عُبَيْدَة بِحَرَكَةٍ خَفِيفَةٍ، جَعَلَتْهَا تهوى فِي الْفَضَاءِ. وَلَكن الأَبَّ مُصَمِّمٌ عَلَى أَنْ لا يَفْلِتَ الابْن مَهْمَا كَلَّفَهُ ذَلِكَ مِنْ غَالِي الثَّمَنَ فَبَحَثَ عَنْ ابْنِهِ هُنَا وَهُنَاكَ، وَنَقَّبَ عَنْهُ فِي كُلِّ مَكَانَ حَتَّى الْتَقَى بِهِ مَرَّةً ثَالِثَةً، وَرَفَعَ الرَّجُلَ سَيْفَهُ لِيُوَجِّهُ إِلَى ابْنِهِ ضَرْبَةً قَاضِيةً مُمِيتَةً يَشْفِي كلوم قَلْبه وَتَهْدَأَ بِهَا نَفْسُهُ الثَّائِرَةَ عَلَى ابْنِهِ الصَّابِئِ. وَهُنَا نَظَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ أَبَاهُ يَعْتَرِضُ وَيَتَصَدَّى لَهُ وَفِي اعْتِرَاضِهِ هَذَا

اعْتِرَاضٌ لِلإِسْلامِ، فَمَا أَبُو عُبَيْدَة إِلا جُنْدِيٌّ مِنْ الْجُنُودِ الْقَائِمِينَ بِنَصْرِ الإِسْلامِ، وَأَنَّ فِي تَصّدِّيهِ لَهُ سَدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِقَامَةِ دِينَ الرَّحْمَنِ، وَانْتِشَارِ كَلِمَةِ اللهِ فِي الأَرْضِ فَهَلْ يَصْمُتُ أَبُو عُبَيْدَة عَلَى هَذَا، وَهَلْ يَسْكُتَ عَلَى مَنْ يَحُولَ بَيْنَ دَعْوَةِ اللهِ أَنْ تَقُومَ فِي الأَرْضِ وَأَنْ تُنْشَرَ بَيْنَ النَّاسِ كَلا لَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ نَحْوَ أَبِيهِ وَأَعْرَضَ عَنْهُ مَرَّتَيْنِ. وَلَكِنَّ مَا دَامَ أَبُوهُ يَحْرِصَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، فَلْيَكُنْ هُوَ أَسْبَقُ مِنْ أَبِيهِ فِي حِرْصِهِ عَلَى قَتْلِهِ، كَذَلِكَ وَالْتَقَى السَّيْفَانِ وَتَقَابَلَ الرَّجُلانِ وَوَقَفَ الْخِصْمَانِ، وَفِي لَمْحَةٍ خَاطِفَة رَفَعَ الرَّجُلانِ سَيْفَهُمَا كُلٌّ يَحْرِصَ عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ، وَالانْتِصَارَ لِدِينِهِ. وَرَفَعَ أَبُو عُبَيْدَة يَدَهُ عَالِيةً خَفَّاقَةً، وَفِي سُرْعَةٍ أَهْوَى بِسَيْفِهِ الْبَتَّارِ عَلَى قَلْبِ وَالِدِهِ الْمُمْتَلِئ حِقْدًا وَغَضَبًا عَلَى الإِسْلامِ، ودعوة الإِسْلامِ، وَمَزَّقَ السَّيْفُ قَلْبَهُ، وَانْفَجَرَ الدَّمُ مِنْهُ بِكَثْرَةٍ وَكَانَتْ هَذِهِ السَّاعَةُ مِنْ سَاعَاتِ التَّارِيخِ الْفَاصِلَةِ. هَذَا مِنْ آثَارِ الْحُبِّ فِي اللهِ، وَالْبُغْضِ فِي اللهِ، وَهَذَا الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ تَكُونَ أَعْمَالُهُ كُلُّهَا مُنْطَبِقَةً عَلَى مَا تَأْمُرُ بِهِ الشَّرِيعَةُ الْمُطَهْرَةُ فَيُحِبُّ مِنَ النَّاسِ مَنْ نَهَجَ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ وَيَبْتَعِدُ عَنْ منْ حَادَ عَنْ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، وَلَوْ كَانَ أَقْرَبَ قَرِيبٍ. وَمَنِ اتَّبَعَ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ انْطَبَعَ فِي قَلْبهُ حبّ الْكَمَالِ وَالإِيمَانِ فَيَكُونَ عَدُوُّ اللهِ فِي نَظَرِهِ عَدُوًّا، وَحِينَئِذٍ يَرَى أَنْ أَعْظَمَ النَّاسِ قِيمَةٍ أَهْلُ الإِخْلاصِ وَالطَّاعَةِ وَأَحَطَّهُمْ مَنْزِلَةً أَهْلُ الْمَعَاصِي والشَّنَاعَةِ وَالْفَسَادُ فِي الأَرْضِ. وكَذَلِكَ كَانَ شأن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وشأن أصحابه رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ يحبون فِي الله، ويبغضون فِي الله يوادون الطائعين وإن كَانُوا بعداء ويعادون العاصين

ما أصاب اليوم المسلمون من موالاة

وإن كَانُوا أقرباء فرابطة التَّقْوَى عندهم أشد وأقوى من رابطة النسب والقرابة. وعن البراء بن عازب: أوثق عرى الإِيمَان الحب فِي الله والبغض فِي الله. وفي حديث مرفوع: «اللَّهُمَّ لا تجعل لفاجر عِنْدِي يدًا ولا نعمة فيوده قلبي فإني وجدت فيما أوحي إِلَيَّ {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} . رَوَاهُ بن مردويه وغيره. المعنى الآيَة بلفظ الخبر والمراد بها الإنشاء أي لا تجد قومًا يجمعون بين الإِيمَان بِاللهِ والْيَوْم الآخِر، والمحبة والموالاة لأعداء الله ورسوله. فلا يكون المُؤْمِنُ بِاللهِ والْيَوْم الآخِر حَقِيقَة إِذَا كَانَ عاملاً على مقتضى إيمانه، ولوازمه من محبة من قام بالإِيمَان وبغض من لم يقم به ومعاداته. وَلَوْ كَانَ أَقْرَب النَّاسِ إِلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الإِيمَان على الحَقِيقَة الَّذِي وجدت ثمرته ومقصوده فمن أحب أَحَدًا امتنع أن يوالي عدوه. ولَقَدْ أصاب المسلمون الْيَوْم من الموالاة لأعداء الله بَلاء شديد فتجد كثيرًا من النَّاس الَّذِينَ يدعون الإِيمَان يوالون أعداء الشرائع الدينية ويعظمونهم ويقدرونهم وينصرونهم على أبناء جنسهم ولو كَانَ فِي هَذَا ذل لَهُمْ ولأمتهم ولدينهم فإنَا لله وإنَا إليه راجعون. قَالَ فِي النونية: أَتُحِبُ أَعْدَاءَ الْحَبِيبِ وَتَدَّعِي ... حُبًّا لَهُ مَا ذَاكَ فِي إِمْكَانِ وَكَذَا تُعَادِي جَاهِدًا أَحْبَابُهُ ... أَيْنَ الْمَحَبَّة يَا أَخَا الشَّيْطَانِ لَيْسَ الْعِبَادَةُ غَيْرَ تَوْحِيدِ الْمَحَبَّـ ... ــةِ مَعَ خُضُوعِ الْقَلْبِ وَالأَرْكَان آخر: ... وَالْحُبُّ نَفْسُ وِفَّاقِهِ فِيمَا يُحِبْ ... وَبُغْضُ مَا لا يَرْتَضِي بِجِنَانِ

آخر: ... وَكُلُّ مَحَبَّةٍ فِي الله تَبْقَى ... عَلَى الْحَالَيْنِ فِي سِعَةٍ وَضِيقِ وَكُلُّ مَحَبَّةٍ فِيمَا سِوَاهُ ... فَكَالْحُلَفَاءِ فِي لَهْبِ الْحَرِيقِ آخر: ... إِذْ أَنْتَ لَمْ تَعْمَلْ بِشَرْعٍ وَلَمْ تُطِعْ ... أُولِي الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ التُّقَى وَالتَّسَدُّدِ وَلَمْ تَجْتَنِبْ أَعْدَا الشَّرِيعة كُلَهُمْ ... وَتَدْفَعُ عَنْهَا بِاللِّسَانِ وَبِالْيَدِ وَتَحْمِهَا عَنْ جُهَّالِهَا وَتَحُوطُهَا ... وَتَقْمَعُ عَنْهَا نُخْوَةَ الْمُتَهَدِّدِ فَلَسْتُ لَوْ عَلَّلْتَ نَفْسَكَ بِالْمُنَى ... بِذِي سُؤْدَدٍ بَادٍ وَلا قُرْبَ سُؤْدِدِ اللَّهُمَّ طهر قلوبنا من النفاق وعملنا من الرياء وألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة وآذاننا عَنْ الاستماع إِلَى ما لا يرضيك وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ يَا حي يَا قيوم يَا بديع السماوات والأَرْض نسألك أن توفقنا لما فيه صلاح ديننا ودنيانَا وأحسن عاقبتنا وأكرم مثوانَا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.؟ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " فَصْلٌ ": وَعَنْ أَبِي ذر مرفوعًا: «أفضل الأَعْمَال الحب فِي الله والبغض فِي الله» . رَوَاهُ أبو داود. وفي الصحيحين: «المرء مَعَ من أحب» . وعن علي مرفوعًا: «لا يُحِبُّ رَجُلٌ قومًا إِلا حُشِرَ مَعَهُمْ» . رَوَاهُ الطبراني بإسناد جيد. وقَدْ روى الإِمَام أحمد معناه عَنْ عَائِشَة بإسناد جيد أيضًا عَنْهَا مرفوعًا: «الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفاء فِي اللَّيْلَة الظلماء، وأدناه أن تحب على شَيْء من الجور، أَوْ تبغض على شَيْء من العدل وهل الدين إِلا الحب فِي الله والبغض فِي الله» . يفتخر بَعْض المتحذلقين أنه لا يكره أي إنسان، ولا يبغض أَحَدًا، وأنه يسلك مَعَ الفجرة والفسقة، ومَعَ أَهْل الدين والصلاح بل ومَعَ الكفرة والمنافقين، ويلقب نَفْسهُ ومن سلك مذهبه بأنه دبلوماسي، ويظن هَذَا فخرًا وكرمًا فِي الأَخْلاق ونبلاً وطيبًا.

أعداء الله بلاء شديد

ولكن من لا يعرف البغض، فلن يعرف الحب ومن لا يكره إنسانًا عاصيًا هيهات أن يحب عبدًا مطيعًا إن تحب مؤمنًا بسبب إخلاصه وتقواه فَكَيْفَ لا تبغضه إِذَا زال عَنْهُ سبب الحب فانقلب فاجرًا متهتكًا، تعفو عمن ظلمك ولكن ما رأيك فيمن ظلم نَفْسهُ وظلم عباد الله، ما رأيك فِي الزناة هاتكي الأعراض، ومدني الخمر وشارَبِي الدخان وحالقي لحاهم، وأَهْل الخنافس والتشبه بأعداء الله أعداء الإِسْلام ومن يشهدون الزور ولا يشهدون صلاة الجماعة، ويغتصبون الحقوق ويؤذون العباد ويخونون الدين والْبِلاد هل تحبهم أَوْ تبغضهم لله فتش عَنْ قلبك وحاسب نفسك هل تحبهم فتعينهم على الظلم أم تبغضهم وتحقرهم وتنابذهم وتبتعد عنهم عَسَى أن يرجعوا عَنْ غيهم وبغيهم لا مفر من أَنْ يكون لَنَا أعداء نبغضهم فِي الله كما يكون لَنَا أصدقاء نحبهم فِي الله. فيا عباد الله تقربوا إِلَى الله ببغض أَهْل المعاصي الظلمة والمنافقين كما تتقربون إليه بحب الصالحين، أشعروهم بمقتكم لآثامهم، وسخطكم على إجرامهم، ولا تتسامحوا فيما يمس الدين ولا تصفحون عمن يحارب رب العالمين، ولو كَانَ أقرب قريب. قَالَ الله جَلَّ وَعَلا لأشرف الخلق {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} ، أي لو ملت إليهم لأذقناك ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الْمَمَات أي ضاعفنا عَلَيْكَ الْعَذَاب فِي الدُّنْيَا والآخِرَة، لأن الذنب من العَظِيم يكون عقابه أشد من غيره. ومن ثُمَّ يكون عقاب الْعُلَمَاء على زلاتهم أشد من عقاب غيرهم من العامة، لأنهم يقتدون بالْعُلَمَاء، روي عَنْ قتادة أنه قَالَ: لما نزل قوله تَعَالَى {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} .. إلخ، قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ لا تكلني إِلَى نفسي طرفة عين» .

فينبغي للمُؤْمِنِ أن يتدبر هَذِهِ الآيَة ويستشعر الخشية ويسأل الله أن يثبته، ويستمسك بأهداب دينه، ويكثر من قول يَا مقلب الْقُلُوب ثَبِّتْ قلبي على دينك وَيَقُولُ كما قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّهُمَّ لا تكلني إِلَى نفسي طرفة عين» . فإذا كَانَ هَذَا الخطاب لأشرف الخلق فَكَيْفَ بغيره. وقَالَ تَعَالَى آمرًا رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالإعراض عمن تولى وأعرض عَنْ الذكر الحكيم والقرآن العَظِيم {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ} وعلى العكس من أقبل على كتاب الله ووقره وقدره وأحبه واتبعه ودعى إِليه نسأل الله العَظِيم أن يغرس محبته فِي قلوبنا ويرزقنا تلاوته والْعَمَل به. وقَالَ ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «من أحب فِي الله وعادى فِي الله وأبغض فِي الله ووالى فِي الله فإنما تنال ولاية الله بذَلِكَ. رَوَاهُ ابن أبي شيبة وابْن أَبِي حَاتِم. وفي حديث رَوَاهُ أبو نعيم وغيره عَنْ ابن مسعود قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ": أوحى الله إِلَى نبي من الأَنْبِيَاء أن قل لفلان العابد أما زهدك فِي الدُّنْيَا فتعجلت راحة نفسك، وأما انقطاعك إلي فتعززت به، فما عملت لي عَلَيْكَ؟ قَالَ: يَا رب وما لك علي؟ قَالَ: هل واليت لي وليًا، أَوْ عاديت لي عدوًا» . شِعْرًا: ... وَلَيْسَ فَتَى الْفِتْيَانِ مَنْ ضَاعَ وَقْتُهُ ... بِصُحْفٍ وَتِلْفَازٍ وَقِيْلَ وَقَالُوا وَلَكِنْ فَتَى الْفِتْيَانِ مَنْ طَاعَ رَبَّهُ ... وَصَارَ بِمَا يُرْضِي الإِلَهَ مِثَالُ آخر: ... لا تَحْسَبَنَّ الْمَوْتَ مَوْتَ الْبَلا ... لَكِنَّمَا الْمَوْتُ هُوَ الْكُفْرُ بِاللهِ كِلاهُمَا مَوْتٌ وَلَكِنْ ذَا ... أَشَدُّ مِنْ ذَاكَ لِجُحْدِهِ اللهَ آخر: ... وَحَسْبُكَ مِنْ ذُلٍّ وَسُوءِ صَنِيعِهِ ... رُكُوبُكَ مَا لا يَرْتَضِي اللهُ فِعْلَهُ " فائدة ": أقل النَّاس عقلاً من فرط فِي عمله فصرفه فِي غير طاعة الله، وأقل منه عقلاً من صرف وقته فِي معاصي الله، نسأل الله العافية.

الحث على صحبة أهل طاعة الله

وقَالَ تَعَالَى {وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} فعقَدْ تَعَالَى الموالاة بين الْمُؤْمِنِينَ، وقطعهم من ولاية الكافرين وأخبر أن الكفار بَعْضهمْ أَوْلِيَاء بَعْض، وإن لم يفعلوا ذَلِكَ وقع فتنة وفساد كبير، وَكَذَا يقع فهل يتم الدين أَوْ يقام علم الجهاد وعلم الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر إِلا بالحب فِي الله والبغض فِي الله والمعاداة فِي الله والموالاة فِي الله. ولو كَانَ النَّاس متفقين على طريقة واحدة ومحبة من غير عداوة ولا بغضاء لم يكن فرق بين الحق وَالْبَاطِل ولا بين الْمُؤْمِنِينَ والكفار ولا بين أَوْلِيَاء الرحمن وأَوْلِيَاء الشيطان. ومن موالاة الأعداء ومصادقتهم ما يفعله كثير من ضعفاء الإِيمَان من الذهاب إِلَى أعداء الله فِي أيام أعيادهم فيدخلون فِي كنائسهم وبيوتهم وأنديتهم وينهونهم بأعيادهم، والعياذ بِاللهِ. وأعظم من ذَلِكَ وأطم الَّذِينَ يدرسون على الكفار ويجلسون بين يَدَيّ الكافر والعياذ بِاللهِ ويأتون بشهادة من أعداء الله ورسوله والْمُؤْمِنِينَ، قَالَ الله جَلَّ وَعَلا: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} ، وقَالَ جَلَّ وَعَلا: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} فيا أيها المعافي أكثر من حمد الله وشكره وأسأله الثبات حَتَّى الممات. وقَدْ قِيْل فِي تفسير قوله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} أن المراد أعياد المشركين، وقَالَ عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إِيَّاكُمْ ورطانة الأعاجم وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم فِي كنائسهم. وقَالَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: اجتنبوا أعداء الله فِي عيدهم، ومن الأعياد المحدثة التي لا يجوز للمسلم حضورها لأنها أعياد باطلة ما يسمى بعيد الاستقلال،

كلام الشيخ حمد بن عتيق

وعيد الجلاء وعيد الجلوس، وعيد الثورة، ونحو ذَلِكَ من أعياد الكفرة والمنافقين وأتباعهم. وقَالَ الشَّيْخ حمد بن عتيق رَحِمَهُ اللهُ، ومن أعظم الواجبات على المُؤْمِن محبة الله ومحبة ما يحبه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة وَكَذَا ما يحبه من الأشخاص كالملائكة، وصالح بَنِي آدم، وموالاتهم وبغض ما يبغضه الله، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة وبَعْض من فعل ذَلِكَ فإذا رسخ هَذَا الأصل فِي قلب المُؤْمِن لم يطمئن إِلَى عدو الله، ولم يجالسه ولم يساكنه وساء نظره إليه. فَلَمَّا ضعف هَذَا الأصل فِي قُلُوب كثير من النَّاس واضمحل صار كثير مِنْهُمْ مَعَ أَوْلِيَاء الله كحاله مَعَ أعداء الله، يلقى كلا مِنْهُمْ بوجه طليق، وصَارَت بلاد الحرب كبلاد الإِسْلام، ولم يخش غضب الله الَّذِي لا تطيق غضبه السماوات والأَرْض والجبال الراسيات قُلْتُ: فَكَيْفَ لو رأى تدفق الكفرة على الْمُسْلِمِين وتدفق الشباب على بلاد الكفر. ولما عظمت الفتنة فتنة الدُّنْيَا، وصَارَت أكبر همهم ومبلغ علمهم حملهم ذَلِكَ على التماسها وطلبها ولو بما يسخط الله، فسافروا إِلَى أعداء الله فِي بلادهم، وخالطوهم فِي أوطانهم ولبس عَلَيْهمْ الشيطان أمر دينهم فنسوا عهد الله وميثاقه الَّذِي أخذ عَلَيْهمْ، فِي مثل قوله تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} . اللَّهُمَّ أنظمنا فِي سلك حزبك المفلحين، وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك المخلصين وآمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

" فَصْلٌ ": وقَالَ تَعَالَى لما ذكر حال المنافقين {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} ، قَالَ بَعْض المفسرين، أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالإعراض عَنْ المنافقين وإغلاظ القول عَلَيْهمْ وأن لا يلقاهم بوجه طلق، بل يكون وجهه مكفهرًا عابسًا متغيرًا من الغيظ فإذا كَانَ هذا مَعَ المنافقين، الَّذِينَ بين أَظْهُرِ الْمُسْلِمِين، يصلون معهم ويجاهدون معهم ويحجون فَكَيْفَ بمن يسافر إِلَى المشركين وأقام بين أظهرهم أيامًا ولياليا واستأذن عَلَيْهمْ فِي بيوتهم وبدأهم بالسَّلام وأكثر لَهُمْ التحية وألان لَهُمْ الكلام ولَيْسَ لَهُ عذر إِلا طلب العاجلة ولم يجعل الله الدُّنْيَا عذرًا لمن اعتذر بها قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ} الآيَة. وقَالَ الشَّيْخ سُلَيْمَانٌ بن سحمان رَحِمَهُ اللهُ: شِعْرًا: ... وَاللهُ حَرَّمَ مُكْثَ مَنْ هُوَ مُسْلِمٌ ... فِي كُلِّ أَرْضٍ حَلَّهَا الْكُفَّارُ وَلَهُمْ بِهَا حُكْم الْولايةِ قَاهِرٌ ... فَارْبَأَ بِنَفْسِكَ فَالْمَقَامُ شَنَارُ وَانْظُرْ حَدِيثًا فِي الْبَرَاءَةِ قَدْ أَتَى ... نَقَلُ الثِّقَاةِ رُوَاتُهُ الأّخْيَارُ فِيهِ الْبَرَاءَةُ بِالصَّرَاحَةِ قَدْ أَتَتْ ... مِنْ مُسْلِمٍ وَكَذَاكَ الآثَارُ قَدْ صَرَّحْتَ فِيمَنْ أَقَامَ بِبَلْدَةٍ ... مُسْتَوْطِنًا وَوُلاتُهَا الْكُفَّارُ وقَالَ فِي آخر كلامه: فالواجب على العاقل الناصح لنفسه النظر فِي أمره والفكر فِي ذنوبه ومجاهدة نَفْسهُ على التوبة النصوح، والندم على ما فات، والعزيمة على أن لا يعود، والتبديل بالْعَمَل الصالح وتقديم محبة الله على جميع المحاب وإيثار مرضاته على حظوظ النفس، فَإِنَّ كُلّ شَيْء ضيعه ابن آدم ربما يكون لَهُ منه عوض، فَإِن ضيع حظه من الله لم يكن لَهُ عوض، قُلْتُ: وقَدْ أحسن من قَالَ: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِذَا ضَيَّعْتُهُ عِوَضٌ ... وَمَا مِنَ اللهِ إِنْ ضَيَّعْتَه عَوَضُ آخر: ... وَإِنَّمَا رَجُلُ الدُّنْيَا وَوَاحِدُهَا ... مَنْ لا يُعَوِّلُ عَلَى أَحَدٍ سِوَى اللهِ

كلام ابن رجب رحمه الله حول الموضع السابق من تمام محبة الله

وقَدْ خاب من كَانَ حظه من الله دنيا يحتلب درها، والخاسر من خسر دينه وإن أفاد فِي دنياه نسأل الله بأسمائه الحسنى أن يأخذ بنواصيها إليه وأن يلزمنا كلمة التَّقْوَى وأن يجعلنا من أهلها وصلى الله على مُحَمَّد. شعرًا: بَكِيتُ فَمَا تَبْكِي شَبَاب صَبَاكَا ... كَفَاكَ نَذِيرُ الشَّيْبِ فِيكَ كَفَاكَا أَلَمْ تَرَ أَنَّ الشَّيْبَ قَدْ قَامَ نَاعِيًا ... مَكَانَ الشَّبَابِ الْغَضِّ ثُمَّ نَعَاكَا أَلَمْ تَرَ يَوْمًا مَرَّ إِلا كَأَنَّهُ ... بِإِهْلاكِهِ لِلْهَالِكِينَ عَنَاكَا أَلا أَيُّهَا الْفَانِي وَقَدْ حَانَ حِيْنُهُ ... أَتَطْمَعُ أَنْ تَبْقَى فَلَسْتَ هُنَاكَا سَتَمْضِي وَيَبْقَى مَا تَرَاهُ كَمَا تَرَى ... فَيَنْسَاكَ مِنْ خَلَّفْتَهُ هُوَ ذَاكَا تَمُوتُ كَمَا مَاتَ الَّذِينَ نَسيتَهُمْ ... وَتَنْسَى وَيَهْوَى الْحَيُّ بَعْدَ هَوَاكَا كَأَنَّكَ قَدْ أُقْصِيتَ بَعْدَ تَقَرُّبٍ ... إِلَيْكَ وَإِنْ بَاكٍ عَلَيْكَ بَكَاكَا كَانَ الَّذِي يَحْثُو عَلَيْكَ مِن الثَّرَى ... يُرِيدُ بِمَا يَحْثُو عَلَيْكَ رِضَاكَا كَأنَ خُطُوبُ الدَّهْرِ لَمْ تَجْرِ سَاعَة ... عَلَيْكَ إِذَا الْخَطْبُ الْجَلِيلُ دَهَاكَا تَرَى الأَرْضَ كَمْ فِيهَا رُهُون كَثِيرَةٌ ... غَلِقْنَ فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُنَّ فِكَاكَا اللَّهُمَّ أَنَا نسألك التَّوْفِيق للهداية والبعد عَنْ أسباب الجهالة والغواية ونسألك الثبات على الإِسْلام والسُنَّة، وأن لا تزيغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، ونعوذ بك من مضلات الفتن، وما ظهر مَنْهَا وما بطن ونسألك أن تنصر دينك، وكتابك ورسولك وعبادك الْمُؤْمِنِينَ وأن تظهر دينك على الدين كله ولو كره الكافرون. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد. " فَصْلٌ " وقَالَ ابن رجب رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: ومن تمام محبة الله محبة ما يحبه، وكراهة ما يكرهه، فمن أحب شَيْئًا مِمَّا كرهه الله، أَوْ كره شَيْئًا مِمَّا يحبه الله، لم يكمل توحيده وصدقه فِي قوله

لا إله إلا الله، وكَانَ فيه من الشرك الخفي بحسب ما كره مِمَّا أحبه الله، وما أحبه مِمَّا يكره الله قَالَ الله تَعَالَى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} ، وقَالَ الحسن: اعْلَمْ إِنَّكَ لن تحب الله حَتَّى تحب طاعته. وقَالَ بَعْضهمْ: كُلّ من ادعى محبة الله ولم يوافق الله فِي أمره فدعواه باطلة. وقَالَ يحيى بن معاذ: لَيْسَ بصادق من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده، وقَالَ رويم: المحبة الموافقة فِي جميع الأَحْوَال. وأنشد يَقُولُ: وَلَوْ قُلْتَ لِي مُتْ مُتُّ سَمْعًا وَطَاعَةً ... وقُلْتُ لِدَاعِي الْمَوْت أَهْلاً وَمَرْحَبَا خَصَائِصُ مَنْ تُشَاوِرُهُ ثَلاثٌ ... فَخُذْهَا مِنْ كَلامِي بِالْحَقِيقَةْ وِدَادٌ خَالِصٌ وَوُفُورُ عَقْلٍ ... وَمَعْرِفَةٌ بِحَالِكَ بِالْحَقِيقَةْ فَمَنْ تَمَّتْ لَهُ هَذِي الْمَعَانِي ... فَتَابِعْ رَأْيَهُ وِفْقَ الشَّرِيعَةْ وَإِنْ خَالَفَ كَلامَ اللهِ أَوْ ... كَلام الْمُصْطَفَى فَاحْذَرْ تُطِيع ويشهد لهَذَا المعنى قول تَعَالَى {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} وقَالَ الحسن: قَالَ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إِنَّا نحب ربنا شَدِيدًا، فأحب الله أن يجعل لحبه علامة فأَنْزَلَ هَذِهِ الآيَة. وَمِنْ هُنَا يعلم أنه لا تتم شهادة أن لا إله إلا الله الا بشهادة أن محمدًا رسول الله، فإذا علم أنه لا تتم محبة الله الا بمحبة ما يحبه وكراهة ما يكرهه، فلا طَرِيق إِلَى معرفة ما يحبه ويكرهه، إلا بإتباع ما أمر به واجتناب ما نهى عَنْهُ، فصَارَت محبته مستلزمة لمحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتصديقه ومتابعته. أَخْلِصْ لِمَنْ خَلَقَ الأَشْيَاءِ مِنْ عَدَمٍ ... وَاتْبَعْ رَسُولَ الْهُدَى فِيمَا أَتَاكَ بِهِ ولهَذَا قرن الله محبته ومحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فِي قوله تَعَالَى {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ} .

إلى قوله {أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} كما قرن طاعته وطاعة رسوله فِي مواضع كثيرة. شِعْرًا: ... وَإِنَّمَا يَتَسَامَى لِلْعُلَى رَجُلٌ ... فِي طَاعَةِ اللهِ لا تُلْهِيهِ أَمْوَالُ وقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاث من كن فيه وَجَدَ بهن حلاوة الإِيمَان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مِمَّا سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه الا لله، وأن يكره أن يرجع إِلَى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره إن يُلقى فِي النار» . وهذه حالة السحرة لما سكنت المحبة فِي قُلُوبهمْ سمحوا ببذل نفوسهم، وقَالُوا لفرعون: اقض ما أَنْتَ قاض. شِعْرًا: ... وَمَنْ تَكُنْ الْفِرْدَوْسَ هِمَّةُ نَفْسِهِِ ... فَكُلُّ الَّذِي يَلْقَاهُ فِيهَا مُجَيَّبُ ومتى تمكنت المحبة من الْقَلْب لم تنَبْعَث الْجَوَارِح إلا إِلَى طاعة الرب، وَهَذَا معنى الْحَدِيث الإلهي: «ولا يزال عبدى يتقرب إِلَيَّ بالنوافل حَتَّى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمَعَ به، وبصره الذى يبصر به ويده التِي يبطش بها ورجله التِي يمشى بها ". وَفِي بَعْض الروايات فبي يسمَعَ وبي يبصر. والمعنى أن محبة الله إِذَا استغرق بها الْقَلْب واستولت عَلَيْهِ لم تنَبْعَث الْجَوَارِح إلا إِلَى رضا الرب، وسارت النفس مطمئنة حينئذ بإرادة مولاها عَنْ مرادها وهواها، وَفِي بَعْض الكتب السابقة: من أحب الله لم يكن شَيْء عنده آثر من رضاه شِعْرًا: ... كَفَانِي فَخْرًا أَنْ أَمُوتَ مُجَاهِدًا ... وَحُبَّ إِلَهِي قَائِدِي مُنْذُ نَشْأَتِي وقَالَ: لا ينجو غدًا إلا من أتى الله بقلب سليم، لَيْسَ فيه سواه قَالَ تَعَالَى {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} وَهُوَ الطاهر من أَدناس المخالفات.

فأما المتلطخ بشَيْء من المكروهات، فلا يصلح لمجاورة حضرة القدوس إلا بعد أن يطهر بكير الْعَذَاب فإذا أزال عَنْهُ الخبث صلح حينئذ للمجاورة إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيبًا، فَأَمَّا الْقُلُوب الطيبة فتصلح للمجاورة من أول الأَمْر {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} ، {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} ، {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} . من لم يحرق نَفْسهُ الْيَوْم بنار الأسف على ما سلف أَوْ بنار الشوق إِلَى لقاء الْحَبِيب، فنار جهنم أشد حرًا ما يحتاج إِلَى تطهير بنار جهنم إلا من لم يكمل التَّوْحِيد والقيام بحقوقه. أول من تسعر بِهُمْ النار من الموحدين المراؤون بأَعْمَالِهُمْ وأولهم العَالِم والمتصدق والمجاهد للرياء، ولأن الرياء شرك ما تظاهر المرائى إِلَى الخلق بعمله إلا لجهله بعظمة الخالق، المرائي يزور التوقيع على اسم الملك ليأخذ البراطيل لنفسه، ويوهمهم أنه من خاصة الملك، وَهُوَ ما يعرف الملك بالكلية، نقش المرائي على الدرهم الزائف اسم الملك ليروج والبهرج لا يجوز ألا على غير الناقَدْ. وقَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: من أحب شَيْئًا سِوَى الله ولم تكن محبته لَهُ لله ولا لكونه معينًا لَهُ على طاعة الله، عذب فِي الدُّنْيَا قبل اللقاء كما قِيْل: شِعْرًا: ... أَنْتَ الْقَتِيلُ بِكُلِّ مَنْ أَحْبَبْتَهُ ... فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ فِي الْهَوَى مَنْ تَصْطَفِي فإذا كَانَ يوم القيامة، ولى الحكم العدل سُبْحَانَهُ كُلّ محب من كَانَ يحبه فِي الدُّنْيَا فكَانَ معه إمَّا منعمًا وإمّا معذبًا، ولهَذَا يمثل لمحب الْمَال ماله شجاعًا أقرع، يأخذ بلهزميته، يقول: أَنَا مالك أَنَا كنْزُك وصفح لَهُ صفائح من نار يكوى بها جنبه وجبينه وظهره. وَكَذَا عاشق الصور إِذَا اجتمَعَ هُوَ ومعشوقه على غير طاعة الله، جمَعَ بينهما فِي النار وعذب كُلّ منهما بصاحبه، قَالَ تَعَالَى {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} .

وأخبر سُبْحَانَهُ أن الَّذِينَ توادوا فِي الدُّنْيَا على الشرك يكفر بَعْضهمْ ببَعْض يوم القيامة، ويلعن بَعْضهمْ بَعْضًا ومأواهم النار وما لَهُمْ من ناصرين. فالمحب مَعَ محبوبه دنيا وأخرى، ولهَذَا يَقُولُ الله تَعَالَى يوم القيامة للخلق ألَيْسَ عدلاً مني أن أولي كُلّ رجل منكم ما كَانَ يتولى فِي دار الدُّنْيَا قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «المرء مَعَ من أحب» . وقَالَ تَعَالَى {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً} . وقَالَ تَعَالَى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ} إلى قوله: {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} قَالَ عُمَر بن الْخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أزواجهم أشباهم ونظراؤهم، وقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} . فقرن كُلّ شكل إِلَى شكله، وجعل معه قرينًا وزوجًا، البر مَعَ البر والفاجر مَعَ الفاجر. والمقصود أن من أحب شَيْئًا سِوَى الله فالضَّرَر حاصل لَهُ بمحبوبه إن وَجَدَ وان فقَدْ، فإنه إن فقَدْ عذب بفواته، وتألم عَلَى قَدْرِ تعلق قَلْبهُ به، وإن وجده كَانَ ما يحصل لَهُ من الألم قبل حصوله، ومن النكد فِي حال حصوله، ومن الحَسْرَة عَلَيْهِ بعد فواته، أضعاف ما فِي حصوله لَهُ من اللذة. وَهَذَا الأَمْر معلوم بالاستقراء والاعتبار والتجارب، ولهَذَا قَالَ النبى - صلى الله عليه وسلم - فِي الْحَدِيث الذى رَوَاهُ الترمذى وغيره: «الدُّنْيَا ملعونة ملعون ما فيها ألا ذكر الله وما والاه» . فذكره جميع أنواع طاعته فكل من كَانَ فِي طاعته فهو فِي ذكره، وإن لم يتحرك لِسَانه بالذكر، وكل من والاه فقَدْ أحبه وقربه فاللعنة لا تنال ذَلِكَ بوجه وهي نائلة كُلّ ما عداه.

اللَّهُمَّ ارزقنا العافية فِي أبداننا والعصمة فِي ديننا وأحسن منقلبنا وَوَفِّقْنَا للعمل بِطَاعَتكَ أبدًا ما أبقيتنا واجمَعَ بين خيري الدُّنْيَا والآخرة، اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك فِي قلوبنا وقوها وارزقنا القيام بِطَاعَتكَ وجنبنا ما يسخطك وأصلح نياتنا وذرياتنا وأعذنا من شر نُفُوسنَا وسيئات أعمالنا وأعذنا من عَدُوّكَ واجعل هوانَا تبعا لما جَاءَ به رسولك - صلى الله عليه وسلم - وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ) عباد الله كلمة التَّوْحِيد "لا إله إلا الله "، هِيَ العروة الوثقى وهي التِي فطر الله عَلَيْهَا جميع خلقه. ولها أركَانَ وشروط، فأركانها اثنان نفي وإثبات. وحد النفي من الإثبات (لا إله) ، أي نَافيًا جميع ما يعبد من دون الله. والأثبات (إلا الله) أي مثبتًا العبادة لله وحده لا شريك لَهُ فِي عبادته كما أنه لا شريك لَهُ فِي ملكه. وأما شروطها فسبعة لا تصح هَذِهِ الكلمة ولا تنفع قائلها إلا إِذَا استجمعت لَهُ الشروط التِي تلي. الأول: العلم، بمعناها نفيًا وإثباتًا، قَالَ الله تَعَالَى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إله إلا الله} وقَالَ {إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «من مَاتَ وَهُوَ يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الْجَنَّة» . الثانى: اليقين، أي استيقان الْقَلْب بها قَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} إِلَى قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} . وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الْجَنَّة» . وقَالَ - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة: «من لقيت وراء هَذَا

الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قَلْبهُ فبشره بالْجَنَّة» . كلاهما فِي الصحيح. الثالث: الإخلاص، قَالَ الله تعالى {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ، وقَالَ {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} ، وَعَنْ أَبِي هريرة قَالَ: قُلْتُ يا رسول الله من أسعد النَّاس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَقَدْ ظننت يَا أبا هريرة أن لا يسألنى عَنْ هَذَا الْحَدِيث أحد أولى منك لما رَأَيْتُ من حرصك على الْحَدِيث. أسعد النَّاس بشفاعتي يوم القيامة من قَالَ لا إله إلا الله خالصًا من قَلْبهُ أَوْ نَفْسهُ» . وعن أبي هريرة قَالَ: «سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «قَالَ الله تَعَالَى أَنَا أغنى الشركاء عَنْ الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» . رَوَاهُ مُسْلِم. الرابع: الصدق، قَالَ الله تَعَالَى {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} ، عن ابن عباس قَالَ: من جَاءَ بلا إله إلا الله وقَالَ {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) . وقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن مُحَمَّد رسول الله صدقًا من قَلْبهُ إلا حرمه الله عَلَى النَّارِ» . متفق عَلَيْهِ. وتقدم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قَلْبهُ» . الْحَدِيث رَوَاهُ مُسْلِم. وقَالَ - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي الذي علمه شرائع الإِسْلام: «أفلح إن صدق ". الخامس: المحبة قَالَ الله تَعَالَى {فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاث من كن فيه وَجَدَ بهن حلوة الإِيمَان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مِمَّا سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله» . الْحَدِيث. متفق عَلَيْهِ.

وقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حَتَّى أكون أحب اليه من والده وولده والنَّاس أجمعين ". متفق عَلَيْهِ. السادس: الانقياد لها ظاهرًا وباطنًا، قَالَ تَعَالَى {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} ، وقَالَ تَعَالَى {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} وقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حَتَّى يكون هواه تبعًا لما جئت به» . السابع: القبول لها، وقَدْ جمَعَ بَعْضهمْ شروط " لا إله إلا الله " في بيت فقال: علم يقين وإخلاص وصدقك مَعَ ... محبة وانقياد والقبول لها فلا يرد شَيْئًا من لوازمها ومقتضياتها، قَالَ تَعَالَى: {وَعَجِبُوا أَن جَاءهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} إِلَى قوله: {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} وقَالَ أيضًا فِي حق من لم يقبلها " إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إله إلا الله يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} . وعن أبي مُوَسى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فَكَانَتْ مَنْهَا طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكَانَ مَنْهَا أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها النَّاس فشربوا مَنْهَا وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هِيَ قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فَذَلِكَ مثل من فقه فِي دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذَلِكَ رأسًا ولم يقبل هدى الله الَّذِي أرسلت به» . متفق عَلَيْهِ. وقَدْ شهد الله لنفسه بالوحدانية فِي قوله تَعَالَى {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ

هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فقَدْ تضمنت هَذِهِ الآيَة الكريمة حَقِيقَة التَّوْحِيد والرد على جميع طوائف الضلال فقَدْ تضمنت أجّل شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها من أجل شاهد بأجل مشهود به وعبارات السَّلَف فِي "شهد" تدور على الحكم والِقَضَاءِ والأعلام والأخبار والبيان وهذه الأقوال كُلّهَا حق لا تنافي بينها فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وخبره وتتضمن إعلامه وإخباره وبيانه فلها أربع مراتب: فأول مراتبها: علم ومعرفة واعتقاد لصحة المشهود به وثبوته وثانيها: تكلمه بذَلِكَ وإن لم يعلم به غيره بل يتكلم بها مَعَ نَفْسهُ ويتذكرها ونطق بها أَوْ يكتبها. وثالثها: أن يعلم غيره بما يشهد ويخبره به ويبينه لَهُ ورابعها: أن يلزمه بمضمونها ويأمره به فشهادة الله سُبْحَانَهُ لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط تضمنت هَذِهِ المراتب الأربع علمه بذَلِكَ وتكلمه وإخباره لخلقه وأمرهم وإلزامهم به. فأما مرتبة العلم فَإِنَّ الشهادة تتضمنها ضرورة وإلا كَانَ الشاهد شاهدًا بما لا علم لَهُ به، قَالَ تَعَالَى {إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «على مثلها فاشهد» . وأشار إِلَى الشمس. وأما مرتبة التكلم والخبر فقَالَ تَعَالَى {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} فجعل ذَلِكَ مِنْهُمْ شهادة وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة ولم يؤدوها عَنْدَ غيرهم.

وأما مرتبة الإعلام فنوعان: إعلام بالقول، وإعلام بالْفِعْل، وَهَذَا شأن كُلّ معلم لغيره بأمرٍ، تَارَّة يعلمه به بقول وتَارَّة بفعل ولهَذَا كَانَ من جعل داره مَسْجِدًا وأبرزها وفتح طريقها وأذن للناس بالدخول والصَّلاة فيها معِلْمًا أنها وقف وإن لم يلفظ وَكَذَا شهادة الرب عَزَّ وَجَلَّ وبيانه وأعلامه يكون بقوله تَارَّة وبفعله أخرى فالقول ما أرسل به رسله وأنزل به كتبه وأما بيانه وإعلامه بفعله كما قَالَ ابن كيسان: شهد الله بتدبيره العجيب وأموره المحكمة عَنْدَ خلقه أن إلا اله إلا هو، وقَالَ الآخر: وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ آخر: ... لَهُ كُلُّ ذَرَّاهِ الْوُجُودِ شَوَاهِدٌ ... عَلَى أَنَّهُ الْبَارِي الإِلَهُ الْمُصَوِّرُ آخر: ... تَأَمَّلْ فِي نَبَاتِ الأَرْضِ وَانْظُرْ ... إِلَى آثَارِ مَا صَنَعَ الْمَلِيكُ عُيُونٌ مِنْ لُجَيْنَ شَاخَِصاتٌ ... بِأَحْدَاقٍ هِيَ الذَّهِبُ السَّبِيكُ عَلَى قُضُبِ الزَّبَرْجَدِ شَاهِدَاتٌ ... بِأَنَّ اللهَ لَيْسَ لَهُ شَرِيكُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا خَيْرُ الْبَرَايَا ... إِلَى الثَّقَلَيْنِ أَرْسَلَهُ الْمَلِيكُ آخر: ... تَأَمُلْ سُطُورَ الْكَائِنَاتِ فَإِنَّهَا ... مِنْ الْمَلِكِ الأَعْلَى إِلَيْكَ رَسَائِلُ وَقَدْ كَانَ فِيهَا لَوْ تَأَمَّلْتَ خَطَّهَا ... أَلا كُلَّ شَيْءٍ مَا خَلا اللهَ بَاطِلُ ومِمَّا يدل على أن الشهادة تَكُون بالْفِعْل قوله تَعَالَى {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} فهذه شهادة مِنْهُمْ على أنفسهم بما يفعلونه. وأما مرتبة الأَمْر بذَلِكَ والإلزام به فَإِنَّ مجرد الشهادة لا يستلزمه لكن الشهادة فِي هَذَا الموضع تدل عَلَيْهِ وتتضمنه. فإنه سُبْحَانَهُ شهد به شهادة من حكم به وقضى وأمر وألزم عباده كما قال

موعظة في فضائل كلمة التوحيد

تَعَالَى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} وقَالَ: {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً} والقرآن كله شاهد بذَلِكَ. ووجه استلزام شهادته سُبْحَانَهُ لِذَلِكَ أنه إِذَا شهد أنه لا اله إلا هُوَ فقَدْ أخبر ونبَّأ وأعْلَمَ وحكم وقضى أن ما سواه لَيْسَ بإله وأن ألوهية ما سواه باطلة. فلا يستحق العبادة سواه كما لا تصلح الإلهية لغيره، وَذَلِكَ يستلزم الأَمْر باتخاذه وحده إلهًا والنهى عَنْ إتخاذ غيره معه إلهًا ولا إله إلا الله هِيَ كلمة التَّوْحِيد التِي اتفقت عَلَيْهَا الرسل صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهمْ أجمعين. وما من رسول إلا جعلها مفتتح أمره وقضب رحاه كما قَالَ نبينا - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل النَّاس حَتَّى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عَزَّ وَجَلَّ» . وحق هَذِهِ الكلمة هُوَ فعل الواجبات وترك المحرمَاتَ. وأما فائدتها وثمرتها فالسعادة فِي الدُّنْيَا والآخِرَة لمن قالها عارفًا لمعناها عاملاً بمقتضاها، وأما مجرد النطق فلا ينفع لا بد من عمل. قَالَ شيخ الإِسْلام: من اعتقَدْ أنه بمجرد تلفظه بالشهادة يدخل الْجَنَّة ولا يدخل النار فهو ضال مخالف للكتاب والسُنَّة والإجماع. أ. هـ اللَّهُمَّ يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغَفْلَة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا وذنوبنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا واكنَّته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التِي تعلمها منا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الإحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. " موعظة " عباد الله إن لكلمة التَّوْحِيد فضائل عظيمة لا يمكن استقصاؤها مَنْهَا أنها

كلمة الإِسْلام وإنها مفتاح دار السَّلام فيا ذوي العقول الصحاح ويا ذوي البصائر والفلاح جددوا إيمانكم فِي المساء والصباح بقول لا إله إلا الله من أعماق قلوبكم متأملين لمعناها عاملين بمقتضاها. عباد الله ما قامت السماوات والأَرْض ولا صحت السُنَّة والفرض ولا نجا أحد يوم العرض إلا بلا إله إلا الله ولا جردت سيوف الجهاد، ولا أرسلت الرسل إِلَى العباد إلا ليعلمهم الْعَمَل بلا إله إلا الله. تالله إنها كلمة الحق ودعوة الحق وإنها براءة من الشرك ونجاة هَذَا الأَمْر ولأجلها خلق الله الخلق كما قَالَ تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقَالَ تَعَالَى {يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ} . قَالَ ابن عيينة رَحِمَهُ اللهُ: ما أنعم الله على عبد من العباد نعمة أفضل من أن عرفه لا إله إلا الله، وأن لا إله إلا الله لأَهْل الْجَنَّة كالماء البارد لأَهْل الدُّنْيَا ولأجلها أعدت دار الثواب، ودار العقاب ولأجلها أمرت الرسل بالجهاد. فمن قالها عصم ماله ودمه ومن أباها فماله ودمه حلال، وبها كلم الله مُوَسى كفاحًا وَهِيَ أَحْسَن الحسنات كما فِي المسند عَنْ شداد بن أوس وعبادة بن الصامت رضى الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لأصحابه: «ارفعوا أيديكم وقولوا لا إله إلا الله» . فرفعنا أيدينا ساعة فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده. وقَالَ: «الحمد لله اللَّهُمَّ بعثتني بهذه الكلمة، وأمرتني بها ووعدتني الْجَنَّة وإنك لا تخلف الميعاد» . ثُمَّ قَالَ: «أبشرو فَإِنَّ الله قَدْ غفر لكم وهي أحسن الحسنات وهي تمحو الذُّنُوب والخطايا. وفي سنن ابن ماجة عَنْ أم هانئ عَنْ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا إله إلا الله لا

تترك ذنبًا ولا يسبقها عمل» . وروي بعض السَّلَف بعد موته فِي المنام فقَالَ: ما أبقت لا إله إلا الله شَيْئًا وهي تجدد ما درس من الإِيمَان فِي الْقَلْب. آخر: ... وَإِنَّ أَصْدَقَ قَوْلٍ أَنْتَ قَائِلُهُ ... قَوْلٌ تَضَمَّنَ تَوْحِيدَ الَّذِي خَلَقَا وَفِي المسند أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لأصحابه: «جددوا إيمانكم» . قَالُوا: كيف نجدد إيماننا؟ قَالَ: «قولوا لا إله إلا الله، وهي التِي لا يعدلها شَيْء فِي الوزن فلو وزنت بالسموات والأَرْض لرجحت بهن، كما فِي المسند عَنْ عَبْد اللهِ بن عمرو رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أن نوحًا عَلَيْهِ السَّلام قَالَ لابنه عَنْدَ موته " آمرك بلا إله إلا الله فَإِنَّ السموات السبع والأرضين السبع لو وضعن فِي كفة ووضعت لا إله إلا الله لرجحت بهن، ولو أن السموات السبع والأرضين كن فِي حلقه مبهمة فصمتهن لا إله إلا الله. وأنها ترجح بالسموات والأرض كما فِي حديث عَبْد اللهِ بن عمرو رضي الله عَنْهُ أن مُوَسى عَلَيْهِ السَّلام قَالَ: يَا رب علمني شَيْئًا اذكرك وادعوك به. قَالَ: يَا مُوَسى قل لا إله إلا الله. قَالَ مُوَسى: يَا رب كُلّ عبادك يقولون هَذَا؟ قَالَ: يَا مُوَسى قل لا إله لا الله. قَالَ: لا إله إلا الله، إنما أريد شَيْئًا تخصني به؟ قَالَ: يَا مُوَسى لو أن السموات السبع والأرضين السبع وعامرهنَّ غيري فِي كفة ولا إله إلا الله فِي كفة مالت بهنَّ لا إله إلا الله. كَذَلِكَ ترحج فِي صحائف الذُّنُوب، كما فِي حديث السجلات، والبطاقة، وفي حديث عَبْد اللهِ بن عمرو فيما أَخْرَجَهُ أحمد والنسائي والترمذى عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -. اللَّهُمَّ نجنا بِرَحْمَتِكَ من النار وعافنا من دار الخزي والبوار وأدخلنا بِفَضْلِكَ الْجَنَّة دار الْقَرَار وعاملنا بكرمك وجودك يَا كريم يَا غفار واغفر لَنَا.

ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه اجمعين. "فَصْلٌ" وهي التِي تخرق الحجب حَتَّى تصل إِلَى الله عز وجل وإنها لَيْسَ لها دون الله حجاب، لما تقدم ولما في الترمذي عن عَبْد اللهِ بن عمرو وعن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قَالَ: «لا إله إلا الله لَيْسَ لها دون الله حجاب وأنها تفتح لها أبواب السماء، كما فِي حديث أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قَالَ: ما من عبد قَالَ: لا إله إلا الله مخلصًا إلا فتحت لها أبواب السماء حَتَّى تفضي إِلَى العرش» . ويروى عَنْ ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: «ما من شَيْئًا إلا بينه وبين الله حجاب، إله الا الله كما أن شفتيك لا تحجبها كَذَلِكَ لا يحجبها شَيْئًا حَتَّى تنتهي إِلَى الله عز وجل. وورد عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «من قَالَ لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ، لَهُ الملك وله الحمد وَهُوَ على كُلّ شىء قدير مخلصًا بها قَلْبهُ يصدق بها لسانه إلا فتح الله السماء فتقًا حَتَّى ينظر إِلَى قائلها من أهل الأرض، وحق لعبد نظر الله إليه أن يعطيه سؤاله، وهي الكلمة التِي يصدق الله قائلها. كما فِي حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضى الله عنهما عَنْ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِذَا قَالَ الْعَبْد لا إله إلا الله والله أكبر صدقه ربه وقَالَ لا اله الا أَنَا، وأنَا اكبر. وَإِذَا قَالَ لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ. قَالَ الله لا إله الا أَنَا وحدي لا شريك لي. وَإِذَا قَالَ لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ، له الملك ولَهُ الحمد. قَالَ الله لا إله إلا أَنَا لي الملك ولي الحمد، وَإِذَا قَالَ العبد لا إله إلا الله ولا

حول ولا قوة الا بِاللهِ، قَالَ الله: لا إله إلا أَنَا ولا حول ولا قوة إلا بي. وكَانَ يَقُولُ من قالها فِي مرضه ثُمَّ مَاتَ لم تطعمه النار، وهي أفضل ما قاله النبيون كما ورد ذَلِكَ فِي دعاء عرفة وهي أفضل الذكر كما فِي حديث جابر المرفوع أفضل الذكر لا إله إلا الله وعن ابن عباس رضى الله عنهما أحب كلمة إِلَى الله لا إله لا الله، لا يقبل الله عملاً إلا بها. وهي أفضل الأَعْمَال، وأكثرها تضعيفًا وتعدل عتق الرقاب وتَكُون حرزًا من الشيطان، كما فِي الصحيحين عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قَالَ لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ، لَهُ الملك وله الحمد وَهُوَ على كُلّ شىء قدير فِي يوم مائة مرة كَانَتْ لَهُ عدل عشر رقاب، وكتب لَهُ مائة حسنَّة ومحيت عَنْهُ مائة سَيِّئَة ولم يأت أحد بأفضل مِمَّا جَاءَ به، إلا واحد عمل أكثر من ذَلِكَ. وورد أن من قالها عشر مرات كَانَ كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل، وفي الترمذي عَنْ عمر مرفوعًا: «من قالها إِذَا دخل السوق» . وزَادَ فيها: «يحيى ويميت بيده الْخَيْر وَهُوَ على كُلّ شىء قدير، كتب الله لَهُ ألف ألف حسُنَّة، ومحى عَنْهُ ألف ألف سَيِّئَة، ورفع لَهُ ألف ألف درجة» . وَفِي رواية: «يُبنَى لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّة» . ومن فضائلها أنها آمان من وحشة القبر وهول المحشر كما فِي المسند وغيره عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ على أَهْل لا إله إلا الله وحشة فِي قبورهم ولا فِي نشورهم، وكأني بأَهْل لا إله إلا الله ينفضون التُّرَاب عَنْ رؤوسهم ويقولون: الحمد لله الذى اذهب عنا الحزن» . وَفِي حديث مرسل: «من قَالَ لا إله إلا الله الملك الحق المبين كُلّ يوم مائة مرة كَانَتْ أمانًا من الفقر، وأنسًا من وحشة القبر، واستجلب به الغنى، واستقرع به باب الْجَنَّة، وهي شعار الْمُؤْمِنِينَ إِذَا قاموا من قبورهم» .

ومن فضائلها أنها تفتح لقائلها أبواب الْجَنَّة الثمانية، يدخل من أيها شَاءَ. وفي الصحيحين عَنْ عبادة بن الصامت رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عَبْد اللهِ ورسوله، وكلمته ألقاها إِلَى مريم وروح منه، وأن الْجَنَّة حق، والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من فِي القبور، فتحت لَهُ أبواب الْجَنَّة الثمانية يدخل من أيها شَاءَ» . وفي حديث عَبْد الرَّحْمَنِ بن سمرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فِي قصة منامه الطويل، وفيه قَالَ: «رَأَيْت رجلاً من أمتي انتهى إِلَى أبواب الْجَنَّة فأغلقت دونه، فجأته شهادة أن لا إله إلا الله ففتحت لَهُ الأبواب وأدخلته الْجَنَّة» . ومن فضائلها أن أهلها وإن دخلوا النار بتقصيرهم فِي حقوقهم، فَإِنَّهُمْ لا بد أن يخرجوا مَنْهَا. وفي الصحيحين عَنْ أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «يَقُولُ الله وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن مَنْهَا من قَالَ لا إله إلا الله» . أ. هـ. وَاللهُ أَعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وسلم. " فَصْلٌ " قَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: أصل الأَعْمَال الدينية حب الله ورسوله كما أن أصل الأقوال الدينية تصديق الله ورسوله، وكل إرادة تمنع كمال حب الله ورسوله، وتزحم هَذِهِ المحبة فَإِنَّهَا تمنع كمال التصديق. فهى معارضة لأصل الإِيمَان أَوْ مضعفة لَهُ. فَإِنَّ قويت حَتَّى عارضت أصل الحب والتصديق كَانَتْ كفرًا أَوْ شركًا أكبر، وإن لم تعارضه قدحت فِي كماله وأثرت فيه ضعفًا وفتورًا فِي العزيمة والطلب، وهي تحجب الواصل وتقطع الطالب وتنكي الراغب. فلا تصلح الموالاة إلا بالمعاداة كما قَالَ تَعَالَى عَنْ إمام الحنفاء المحبين أنه قَالَ لقومه {أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} فلم تصلح لخليل الله هَذِهِ الموالاة والخلة إلا بتحقيق هَذِهِ المعاداة فإن

ولاية الله لا تصلح إلا بالبراءة من كُلّ معبود سواه. قَالَ تَعَالَى {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ)) . وقَالَ تَعَالَى {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَهُمْ يَرْجِعُونَ} أَي جعل هَذِهِ الموالاة لله والبراءة من كُلّ معبود سواه كلمة باقية فِي عقبه يتوارثها الأَنْبِيَاء وأتباعهم بَعْضهمْ عَنْ بَعْض. وهي كلمة لا إله إلا الله،وهي التِي وَرَّثَهَا إمام الحنفاء لأتباعه إِلَى يوم القيامة. وهي الكلمة التِي قامت بها الأَرْض والسموات وفطر الله عَلَيْهَا جميع المخلوقات، وعَلَيْهَا أسست الملة ونصبت القبلة، وجردت سيوف الجهاد. وهي محض حق الله على جميع العباد. وهي الكلمة العاصمة للدم والْمَال والذرية فِي هَذِهِ الدار المنجية من عذاب القبر وعذاب النار، وهي المنشود الذى لا يدخل أحد الْجَنَّة إلا به والحبل الذي لا يصل إِلَى الله من لم يتعلق بسببه. وهي كلمة الإِسْلام ومفتاح دار السَّلام، وبها انقسم النَّاس إِلَى شقي وسعيد ومقبول وطريد. وبها انفصلت دار الكفر من دار السَّلام وتميزت دار النَّعِيم من دار الشقاء والهوان. وهي العمود الحامل للفرض والسُنَّة ومن كَانَ آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الْجَنَّة» . وروح هَذِهِ الكلمة وسرها إفراد الرب جل ثناؤه وتقدست أسماؤه وتبارك اسمه وتَعَالَى جده ولا إله غيره بالمحبة والإجلال والتعَظِيم والخوف والرجَاءَ وتوابع ذَلِكَ، من التوكل والإنابة والرغبة والرهبة. فلا يحب سواه، بل كُلّ ما كَانَ يحب غيره فإنما هُوَ تبعًا لمحبته وكونه وسيلة إِلَى

زيادة محبته ولا يخاف سواه، ولا يرجو سواه ولا يتوكل إلا عَلَيْهِ، ولا يرغب إلا إليه، ولا يرهب إلا منه. ولا يحلف إلا باسمه، ولا ينذر إلا له، ولا يتأب إلا إليه، ولا يطاع إلا أمره، ولا يحتسب إلا به، ولا يستعان فِي الشدائد إلا به، ولا يلتجأ إلا إليه، ولا يسجد إلا لَهُ، ولا يذبح إلا لَهُ وباسمه. يجتمَعَ ذَلِكَ فِي حرف واحد هُوَ أن: لا يعبد بجميع أنواع العبادة إلا هُوَ. فهَذَا هُوَ تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، ولهَذَا حرم الله عَلَى النَّارِ أن تأكل من شهد أن لا إله إلا الله حَقِيقَة الشهادة، ومحال أن يدخل النار من تحقق بحَقِيقَة هَذِهِ الشهادة وقام بها كما قَالَ تَعَالَى {وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} فيكون قائمًا بشهادته فِي باطنه وظاهره وَفِي قَلْبهُ وقالبه. فإن من النَّاس من تَكُون شهادته ميتة. وَمِنْهُمْ من تَكُون نائِمَّة إِذَا نبهت انتبهت، وَمِنْهُمْ من تَكُون مضطجعة، وَمِنْهُمْ من تَكُون إِلَى القيام أقرب. وهي فِي الْقَلْب بمنزلة الروح فِي البدن. فروح ميتة وروح مريضة إِلَى الموت أقرب. وروح إِلَى الحياة أقرب، وروح صحيحة قَائِمَة بمصالح البدن. وفي الْحَدِيث الصحيح عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم -: «إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد عَنْدَ الموت إلا وجدت روحه لها روحًا» . فحياة هَذِهِ الروح بهذه الكلمة فكما أن حياة البدن بوجود الروح فيه وكما إن من مَاتَ على هَذِهِ الكلمة فهو فِي الْجَنَّة يتقلب فيها. فمن عاش على تحقيقها والقيام بها فروحه تتقلب فِي جنة المأوى وعيشها أطيب عيش، قَالَ تَعَالَى {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} .

فالْجَنَّة مأواه يوم اللقاء، وجنة المعرفة والمحبة والأُنْس بِاللهِ والشوق إِلَى لقائه والفرح به والرضى عَنْهُ وبه مأوى روحه فِي هَذِهِ الدار. فمن كَانَتْ هَذِهِ الْجَنَّة مأواه ها هنا كَانَتْ جنة الخلد مأواه يوم الميعاد، ومن حرم هَذِهِ الْجَنَّة فهو لتلك الْجَنَّة أشد حرمانًا. والأَبْرَار فِي نعيم وإن اشتد بِهُمْ العيش وضاقت بِهُمْ الدُّنْيَا، والفجار فِي جحيم وإن اتسعت عَلَيْهمْ الدُّنْيَا، قَالَ تَعَالَى {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} . وطيب الحياة جنة الحياة، قَالَ تَعَالَى {فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} ، فأي نعيم أطيب من شرح الصدر، وأي عذاب أشد من ضيق الصدر. وقَالَ تَعَالَى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَة لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . فالمُؤْمِن المخلص لله من أطيب النَّاس عيشًا وأنعمهم بالاً وأشرحهم صدرًا وأسرهم قلبًا، وهذه جَنَّة عاجلة قبل الْجَنَّة الآجلة؟ قَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا مررتم برياض الْجَنَّة فارتعوا» . قَالُوا: وما رياض الْجَنَّة؟ قَالَ: «حلق الذكر» . ومن هَذَا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الْجَنَّة» . ومن هَذَا قوله وقَدْ سألوه عَنْ وصاله فِي الصوم وقَالَ: «إني لست كهيئتكم إني أظِلّ عَنْدَ ربى يطعمني ويسقينى» . فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن ما يحصل لَهُ من الغذاء عَنْدَ ربه يقوم مقام الطعام والشراب الحسي، وأن ما يحصل لَهُ من ذَلِكَ أمر مختص به لا يشركه فيه غيره، فإذا أمسك عَنْ الطعام والشراب فله عوض عَنْهُ يقوم مقامه وينوب منابه ويغني عَنْهُ كما قِيْل:

لَهَا أَحَادِيثُ مِنْ ذِكْرَاكَ تَشْغَلُهَا ... عَنِ الشَّرَابِ وَتُلْهِيهَا عَنْ الزَّاد لَهَا بِوَجْهِكَ نُورٌ تَسْتَضِئُ بِهِ ... وَمِنْ حَدِيثِكَ فِي أَعْقَابِهَا حَادِي إِذَا اشْتَكَتْ مَنْ كِلالِ السَّيْرِ أَوْعَدَهَا ... رُوحُ اللقَاءِ فتحي عَنْدَ ميعَادِ وكُلَّما كَانَ وجود الشئ أنفع للعبد وَهُوَ إليه أحوج كَانَ تألمه بفقده أشد، وكُلَّما كَانَ عدمه أنفع كَانَ تألمه بوجوده أشد، ولا شَيْء على الإطلاق أنفع للعبد من إقباله على الله، واشتغاله بذكره وتنعمه بحبه، وإيثاره لمرضاته. بل لا حياة ولا نعيم ولا سرور ولا بهجة إلا بذَلِكَ. فعدمه ألم شَيْء لَهُ وأشد عذابًا عليه، وإنما تغيب الروح عَنْ شهود هَذَا الألم والْعَذَاب لا اشتغالها بغيره واستغراقها فِي ذَلِكَ الغير فتغيب به عَنْ شهود ما هِيَ فيه من ألم العقوبة بفراق أحب شَيْء إليها وأنفعه لها. وهذا بمنزلة السكران المستغرق فِي سكره الذى احترقت داره وأمواله وأهله وأولاده وَهُوَ لاستغراقه فِي السكر لا يشعر بألم ذَلِكَ الفوات وحسرته. حتى إِذَا صحا وكشف عَنْهُ غطاء السكر وانتبه من رقدة الخمر فهو اعْلَمْ بحاله حيئنذٍ، وهكَذَا الحال سواء عَنْدَ كشف الغطاء ومعاينة طلائع الآخِرَة والإشراف على مفارقة الدُّنْيَا والانتقَال مَنْهَا إِلَى الله. بل الألم والحَسْرَة والْعَذَاب هناك أشد بأضعاف أضعاف ذَلِكَ، فَإِنَّ المصاب فِي الدُّنْيَا يرجو جبر مصيبته فِي الدُّنْيَا بالعوض ويعلم أنه قَدْ أصيب بشَيْء زائل لا بقاء له، فَكَيْفَ بمن مصيبته بما لا عوض عَنْهُ ولا بدل منه ولا نسبة بينه وبين الدُّنْيَا جميعها. فلو قضى الله سُبْحَانَهُ بالموت من هَذِهِ الحَسْرَة والألم لكَانَ الْعَبْد جديرًا به، وأن الموت ليعد أكبر أمنيته وأكبر حسراته هذا لو كان الألم على مجرد الفوات.

قصيدة تحريضا على طلب العلم

كيف وهناك من الْعَذَاب على الروح والبدن أمور أخرى مِمَّا لا يقدر قدره؟ فتبارك من حمل هَذَا الخلق الضعيف هذين الأليمين العظيمين اللذين لا تحملهما الجبال الرواسي. فاعرض على نفسك الآن أعظم محبوب لَكَ فِي الدُّنْيَا، بحيث لا تطيب لَكَ الحياة إلا معه فأصبحت وقَدْ أخذ منك وحيل بينك وبينه أحوج ما كنت اليه، كيف يكون حالك هَذَا ومنه كُلّ عوض؟ فَكَيْفَ بمن لا عوض عَنْهُ؟ كما قِيْل: وَمَا ضَرَّنِي إِتْلافُ عُمْرِي كُلِّهِ ... إِذَا لِمَرَاضِي اللهِ أَصْبَحْتُ حَائِزَا وَفِي الأثر الإلهي: «ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب، وتكفلت برزقك فلا تتعب، ابن آدم اطلبَنِي تجدني فَإِنَّ وجدتني وجدت كُلّ شَيْء، وإن فتك فاتك كُلّ شَيْء، وأنَا أحب إليك من كُلّ شَيْء» . انتهى كلامه رَحِمَهُ اللهُ. شِعْرًا: ... كُلٌّ لَهُ مَطْلَبٌ يَسْعَى لِيُدْرِكَهُ ... مُسْتَحْسِنًا لِلَّذِي يرضَى وَيَهْوَاه وَذُو الدِّيَانَةِ يَسْعَى دَائِمًا أَبَدًا ... فِيمَا يَرَى أَنَّهُ يَرْضَى بِهِ الله اللَّهُمَّ علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ولا تجعل علمنا وبالاً علينا. اللَّهُمَّ قوى معرفتنا بك وبأسمائك وصفاتك ونور بصائرنا ومتعنا بإسماعنا وأبصارنا وقواتنا يا رب العالمين. وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين قَالَ الشَّيْخ سُلَيْمَانٌ بن سحمان رَحِمَهُ اللهُ: رَسَائِلُ إِخْوَانِ الصَّفَا وَالتَّوَدُّدِ ... إِلى كُلّ ذِي قَلْبٍ سَلِيمٍ مُوَحِّدِ وَمِنْ بَعْدِ حَمْدِ اللهِ وَالشُّكْرِ وَالثَّنَا ... صَلاةً وَتَسْلِيمًا عَلَى خَيْرِ مُرْشِدِ وَآلٍ وَصَحْبٍ وَالسَّلامُ عَلَيْكُمُ ... بِعَدِّ وَمِيضِ الْبَرْقِ أَهْلَ التَّوَدُّدِ وَبَعْدُ فَقَدْ طَمَّ الْبَلاءُ وَعَمَّنَا ... مِن الْجَهْلِ بِالدِّينِ الْقَوِيمِ الْمُحَمَّدِي بِمَا لَيْسَ نَشْكُو كَشْفَهُ وَانْتِقَادَنَا ... لِغَيْرِ الإِلهِ الْوَاحِدِ الْمُتَفَرِّدِ وَلَمْ يَبْقَ إِلا النَّزْرُ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ ... يُعَادِيهُمُ مِنْ أَهْلِهَا كُلُّ مُعْتَدِ فَهُبُّوا عِبَادَ اللهِ مِنْ نَوْمَةِ الرَّدَى ... إِلى الْفِقْهِ فِي أَصْلِ الْهُدَى وَالتَّجَرُّدِ

.. وَقَدْ عَنَّ أَنْ نُهْدِي إِلَى كُلِّ صَاحِبٍ ... نَضِيدًا مِن الأَصْلِ الأَصِيلِ الْمُؤَطَّدِ فَدُونَكَ مَا نُهْدِي فَهَلْ أَنْتَ قَابِلٌ ... لِذَلِكَ أَمْ قَدْ غِينَ قَلْبُكَ بِالدَّدِ تَرُوقُ لَكَ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِ أَهْلِهَا ... كَأَنْ لَمْ تَصِرْ يَوْمًا إِلَى قَبْرِ مَلْحَدِ فَإِنْ رُمْتَ أَنْ تَنْجُو مِن النَّارِ سَالِمًا ... وَتَحْظَى بِجَنَّاتٍ وَخُلْدٍ مُؤَبَّدِ وَرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ وَأَرْفَهِ حِبْرَةٍ ... وَحُورٍ حِسَانٍ كَالْيَوَاقِيتِ خُرَّدِ فَحَقِّقْ لِتَوْحِيدِ الْعِبَادَةِ مُخْلِصًا ... بِأَنْوَاعِهَا للهِ قَصْدًا وَجَرِّدِ وَأَفْرِدْهُ بِالتَّعْظِيمِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَا ... وَبِالْحُبِّ وَالرُّغْبَى إِلَيْهِ وَجَرِّدِ وَبِالنَّذْرِ وَالذَّبْحِ الذَّي أَنْتَ نَاسِكٌ ... وَلا تَسْتَغِثْ إِلا بِرَبِّكَ تَهْتَدِ وَلا تَسْتَعِنْ إِلا بِهِ وَبِحَوْلِهِ ... لَهُ خَاشِيًا بَلْ خَاشِعًا فِي التَّعَبُّدِ وَلا تَسْتَعِذْ إِلا بِهِ لا بِغَيْرِهِ ... وَكُنْ لائِذًا بِاللهِ فِي كُلِّ مَقْصَدِ إِلَيْهِ مُنِيبًا تَائِبًا مُتَوَكِّلاً ... عَلَيْهِ وَثِقْ بِاللهِ ذِي الْعَرْشِ تَرْشُدِ وَلا تَدْعُ إِلا اللهَ لا شَيْءَ غَيْرَهُ ... فَدَاعٍ لِغَيْرِ اللهِ غَاوٍ وَمُعْتَدِ وَفِي صَرْفِهَا أَوْ بَعْضِهَا الشِّرْكُ قَدْ أَتَى ... فَجَانِبْهُ وَاحْذَرْ أَنْ تَجِيءَ بُمؤِيدِ وَهَذَا الذِّي فِيهِ الْخُصُومَة قَدْ جَرَتْ ... عَلَى عَهْدٍ نُوحٍ وَالنَّبِيِّ مُحَمَّدِ وَوَحِّدْهُ فِي أَفْعَالِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ ... مُقِرًّا بِأَنَّ اللهَ أَكْمَلُ سَيِّدِ هُوَ الْخَالِقُ الْمُحْيِي الْمُمِيتُ مُدَّبِرٌ ... هُوَ الْمَالِكُ الرَّزَاقُ فَاسْأَلْهُ وَاجْتَدِ إِلى غَيْرِ ذَا مِنْ كُلِّ أَفْعَالِهِ الَّتِِي ... أَقَرَّ وَلَمْ يَجْحَدْ بِهَا كُلُّ مُلْحِدِ وَوَحِّدْهُ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ ... وَلا تَتَأَوَلْهَا كَرَأْي الْمُفَنَّدِ فلَيْسَ كَمِثْلِ اللهِ شَيْءٌ وَلا لَهُ ... سَمِيٌّ وَقُلْ لا كُفْوَ للهِ تَهْتَدِي وَذَا كُلُّهُ مَعْنَى شَهَادَةِ أَنَّهُ ... إِلهَ الْوَرَى حَقًّا بِغَيْرِ تَرَدُّدِ فَحَقِّقْ لَهَا لَفْظًا وَمَعْنَى فَإِنَّهَا ... لَنِعْمَ الرَّجَا يَوْمَ اللقَا لِلْمُوَحِّدِ وَهِيَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى فَكُنْ مُتَمَسِّكًا ... بِهَا مُسْتَقِيمًا فِي الطَرِيقِ الْمُحَمَّدِي فَكُنْ وَاحِدًا فِي وَاحِدٍ وَلِوَاحِدٍ ... تَعَالَى وَلا تُشْرِكْ بِهِ أَوْ تُنَدِّدِ

.. وَمَنْ لَمْ يُقَيِّدْهَا بِكُلِّ شُرُوطِهَا ... كَمَا قَالَهُ لأَعْلامُ مِن كُلِّ مُهْتَدِ فَلَيْسَ عَلَى نَهْجِ الشَّرِيعَةِ سَالِكًا ... وَلَكِنْ عَلَى أَرَاءِ كُلِّ ملدّدِ فَأَوَّلُهَا الْعِلْمُ الْمُنَافِي لِضِدِّهِ ... مِن الْجَهْلِ إِنَّ الْجَهْلَ لَيْسَ بِمُسْعِدِ فَأَوَّلُهَا الْعِلْمُ الْمُنَافِي لِضِدِّهِ ... مِن الْجَهْلِ إِنَّ الْجَهْلَ لَيْسَ بِمُسْعِدِ فَلَوْ كَانَ ذَا عِلْمٍ كَثِيرٍ وَجَاهِلٌ ... بِمَدْلُولِهَا يَوْمًا فَبِالْجَهْلِ مُرْتَدِ وَمِنْ شَرْطِهَا وَهُوَ الْقُبُولُ وَضِدُّهُ ... هُوَ الرَّدُ فَافْهَمْ ذَلِكَ الْقَيْدَ تَرْشُدِ كَحَالِ قُرَيْشٍ حِينَ لَمْ يَقْبَلُوا الْهُدَى ... وَرَدُّوهُ لِمَا أَنْ عَتَوْا فِي التَّمَرُّدِ وَقَدْ عَلِمُوا مِنْهَا الْمُرَادَ وَأَنَّهَا ... تَدَلُّ عَلَى تَوْحِيدِهِ وَالتَّفَرُّدِ فَقَالُوا كَمَا قَدْ قَالَهُ اللهُ عَنْهُمْ ... بِسُورَةِ (ص) فَاعْلَمَنْ ذَاكَ تَهْتَدِ فَصَارَتْ بِهِ أَمْوَالُهُمْ وَدِمَاءُهُمْ ... حَلالاً وَأَغْنَامًا لِكُلِّ مُوَحِّدِ وَثَالِثُهَا الإِخْلاصُ فَاعْلَمْ وَضِدُّهُ ... هُوَ الشِّرْكُ بِالْمَعْبُودِ مِنْ كُلِّ مُلْحِدِ كَمَا أَمَرَ اللهَ الْكَرِيمُ نَبِيَّهُ ... بِسُورَةِ تَنْزِيلِ الْكِتَابِ الْمُمَجَّدِ وَرَابِعُهَا شَرْطُ الْمَحَبَّةِ فَلْتَكُنْ ... مُحِبًّا لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ الْهُدِ وَإِخْلاصُ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ كُلِّهَا ... كَذَا النَّفْيُ لِلشِّرْكِ الْمُفَنَّدِ وَالدَّدِ وَمَنْ كَانَ ذَا حُبٍّ لِمَوْلاهُ إِنَّمَا ... يَتِمُّ بِحُبِّ الدِّينِ دِينِ مُحَمَّدِ فَعَادِ الذِّي عَادَى لِدِينِ مُحَمَّدٍ ... وَوَالِ الَّذِي وَالاهُ مِن كُلِّ مُهْتَدِ وَأَحْبِبْ رَسُولَ اللهِ أَكْمَلَ مَنْ دَعَى ... إِلى اللهِ وَالتَّقْوَى وَأَكْمَلَ مُرْشِدِ أَحَبَّ مِن الأَوْلادِ وَالنَّفْسِ بَلْ وَمِنْ ... جَمِيع ِالْوَرَى وَالْمَالِ مِنْ كُلِّ أَتْلَدِ وَطَارِفِهِ وَالْوَالِدَيْنِ كِلَيْهِمَا ... بِآبَائِنَا وَالأُمَّهَاتِ فَنَفْتَدِ وَأَحْبِبْ لِحُبِّ اللهِ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا ... وَأَبْغِضْ لِبُغْضِ اللهِ أَهْلَ التَّمَرُّدِ وَمَا الدِّينُ إلا الْحُبُّ وَالْبُغْضُ وَالْوَلا ... كَذَاكَ الْبَرَا مِنْ كُلِّ غَاوٍ وَمُعْتَدِ وَخَامِسُهَا فَالإِنْقِيَادُ وَضِدُّهُ ... هُوَ التَّرْكُ لِلْمَأْمُورِ أَوْ فِعْلُ مُفْسِدِ فَتَنْقَادُ حَقُّا بِالْحُقُوقِ جَمِيعَهَا ... وَتَعْمَلُ بِالْمَفْرُوضِ حَتْمًا وَتَقْتَدِ

.. وَتَتْرُكَ مَا قَدْ حَرَّمَ اللهُ طَائِعًا ... وَمُسْتَسْلِمًا للهِ بالْقَلْبِ تَرْشُدِ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ للهِ بِالْقَلْبِ مُسْلِمًا ... وَلَمْ يَكُ طَوْعًا بالْجَوَارِحِ يَنْقَدِ فَلَيْسَ عَلَى نَهْجِ الشَّرِيعَةِ سَالِكًا ... وَإِنْ خَالَ رُشْدًا مَا أَتَى مِنْ تَعَبُّدِ وَسَادِسُهَا وَهُوَ الْيَقِينُ وَضِدُّهُ ... وَهُوَ الشَّكُّ فِي الدِّينِ الْقَوِيمِ الْمُحَمَّدِي وَمَنْ شَكَّ فَلْيَبْكِي عَلَى رَفْضِ دِينِهِ ... وَيَعْلَمْ أَنْ قَدْ جَاءَ يَوْمًا بِمُؤْيِدِ وَيَعْلَمْ أَنَّ الشَّكَ يَنْفِي يَقِينَهَا ... فَلا بُدَّ فِيهَا بِالْيَقِينِ الْمُؤَكَّدِ بِهَا قَلْبُهُ مُسْتَيْقِنًا جَاءَ ذِكْرُهُ ... عَنِ السَّيِّدِ الْمَعْصُومِ أَكْمَلَ مُرْشِدِ وَلا تَنْفَعُ الْمَرْءَ الشَّهَادَةُ فَاعْلَمَنْ ... إِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَيِقنًا ذَا تَجَرُّدِ وَسَابِعُهَا الصِّدْقُ الْمُنَافِي لِضِدِّهِ ... مِن الْكَذِبِ الدَّاعِي إِلَى كُلِّ مُفْسِدِ وَعَارِفُ مَعْنَاهَا إِذَا كَانَ قَابِلاً ... لَهَا عَامِلاً بِالْمُقْتَضَى فَهُوَ مُهْتَدِ وَطَابَقَ فِيهَا قَلْبُهُ لِلِسَانِهِ ... وَعَنْ وَاجِبَاتِ الدِّينِ لَمْ يَتَبَلَّدِ وَمَنْ لَمْ يَقُمْ هَذِهِ الشُّرُوطُ جَمِيعُهَا ... بَقَائِلِهَا يَوْمًا فلَيْسَ عَلَى الْهُدِي إِذَا صَحَّ هَذَا وَاسْتَقَرَّ فَإِنَّمَا ... حَقِيقَتُهُ الإِسْلامُ فَاعْلَمْهُ تَرْشُدِ وَإِنْ لَهُ - فَاحْذَرْ هُدِيتَ - نَوَاقِضًا ... فَمَنْ جَاءَ مِنْهَا نَاقِضًا فَلْيُجَدِّدِ فَقَدْ نَقَضَ الإِسْلامَ وَارْتَدَّ وَاعْتَدَى ... وَزَاغَ عَنْ السَّمْحَاءِ فَلْيَتَشَهَّدِ فَمِنْ ذَاكَ شِرْكٌ فِي الْعِبَادَةِ نَاقِضٌ ... وَذَبْحٌ لِغَيْرِ الْوَاحِدِ الْمُتَفَرِّدِ كَمَنْ كَانَ يَغْدُو لِلْقِبَابِ بِذَبْحِهِ ... وَلِلْجِنِّ فِعْلَ الْمُشْرِكِ الْمُتَمَرِّدِ وَجَاعِلِ بَيْنَ اللهِ - بَغْيًا – وَبَيْنَهُ ... وَسَائِطَ يَدْعُوهُمْ فلَيْسَ بِمُهْتَدِ وَيَطْلُبُ مِنْهُمْ بِالْخُضُوعِ شَفَاعَةً ... إِلَى اللهِ وَالزُّلْفَى لَدَيْهِ وَيَجْتَدِ وَثَالِثُهَا مَنْ لَمْ يُكَفِّرْ لِكَافِرِ ... وَمَنْ كَانَ فِي تَكْفِيرِهِ ذَا تَرَدُّدِ وَصَحَّحَ عَمْدًا مَذْهَبَ الْكُفْرِ وَالرَّدَى ... وَذَا كُلُّهُ كُفْرٌ بِإِجْمَاعِ مَن هُدِي وَرَابِعُهَا فَالإعْتِقَادُ بِأَنَّمَا ... سِوَى الْمُصْطَفَى الْهَادِي وَأَكْمَلِ مُرْشِدِ لأَحْسَنُ حُكْمًا فِي الأُمُوِر جَمِيعِهَا ... وَأَكْمَلُ مِنْ هَدْي النَّبِيّ مُحَمَّدِ

.. كَحَالَةِ كَعْبٍ وَابنِ أَخْطَبَ وَالَّذِي ... عَلَى هَدْيِهِم مِنُ كُلِّ غَاوٍ وَمُعْتَدِ وَخَامِسُهَا يَا صَاحِ مَنْ كَانَ مُبْغِضًا ... لِشَيْءٍ أَتَى مِن هَدْي أَكْمَلِ سَيِّدِ فَقَدْ صَارَ مُرْتَدًا وَإِنْ كَانَ عَامِلاً ... بِمَا هُوَ ذَا بُغْضٍ لَهُ فَلْيُجَدِّدِ وَذَلِكَ بِالإِجْمَاعِ مِنْ كُلِّ مُهْتَدٍ ... وَقَدْ جَاءَ نَصُّ ذِكْرُهُ فِي (مُحَمَّدِ) وَسَادِسُهَا مَنْ كَانَ بِالدِّينِ هَازِئًا ... وَلَوْ بِعِقَابِ الْوَاحِدِ الْمُتَفَرِّدِ وَحُسْنُ ثَوَابِ اللهِ لِلْعَبْدِ فَلْتَكُنْ ... عَلَى حَذِرٍ مِنْ ذَلِكَ القِيْلِ تَرْشُدِ وَقَدْ جَاءَ نَصٌّ فِي (بَرَاءةَ) ذِكْرُهُ ... فَرَاجِعْهُ فِيهَا عِنْدَ ذِكْرِ التَّهَدُّدِ وَسَابِعُهَا مَنْ كَانَ لِلسِّحْرِ فَاعِلاً ... كَذَلِكَ رَاضٍ فِعْلَهُ لَمْ يُفَنِّدِ وَفِي سُورَةِ (الزَّهْرَاءِ) نَصٌّ مُصَرِّحٌ ... بِتَكْفِيرِهِ فَاطْلُبْه مِنْ ذَاكَ تَهْتَدِ وَمِنْهُ لَعَمْرِي الصَّرْفُ وَالْعَطْفُ فَاعْلَمَنْ ... أَخِي حُكْمَ هَذَا الْمُعْتَدِي الْمُتَمَرِّدِ وَثَامِنُهَا وَهِيَ الْمُظَاهَرَةُ الَّتِي ... يُعَانُ بِهَا الْكُفَّارُ مِنْ كُلِّ مُلْحِدِ عَلَى الْمُسْلِمِينِ الطَّائِعِينَ لِرَبِّهِمْ ... عِيَاذًا بِكَ اللَّهُمَّ مِنْ كُلِّ مُفْسِدِ وَمَنْ يَتَوَلَّى كَافِرًا فَهُوَ مِثْلُهُ ... وَمِنْهُ بِلا شَكٍّ بِهِ أَوْ تَرَدُّدِ كَمَا قَالَهُ الرَّحْمَنُ جَلَّ جَلالُهُ ... وَجَاءَ عَنْ الْهَادِي النَّبِيِّ مُحَمَّدِ وَتَاسِعُهَا وَهُوَ اعْتِقَادُ مُضَلِّلٌ ... وَصَاحِبُهُ لا شَكَّ بِالْكُفْرِ مُرْتَدِ كَمُعْتَقِدِ أَنْ لَيْسَ حَقًّا وَوَاجِبًا ... عَلَيْهِ اتِّبَاعُ الْمُصْطَفَى خَيْرِ مُرْشِدِ فَمَنْ يَعْتَقِدْ هَذَا الضَّلالَ وَأَنَّهُ ... يَسَعْهُ خُرُوجٌ عَنْ شَرِيعَةِ أَحْمَدِ كَمَا كَانَ هَذَا فِي شَرِيعَةِ مَنْ خَلا ... كَصَاحِبِ مُوَسَى حَيْثُ لَمْ يَتَقَيَّدِ هُوَ الْخَضِرُ المَقْصُوصُ في (الْكَهْفِ) ذِكْرُهُ ... وَمُوَسَى كَلِيمِ اللهِ فَافْهَمْ لِمَقْصَدِ وَهَذَا اعْتِقَادُ لِلْمَلاحِدَةِ الأَولَى ... مَشَايِخِ أَهْلِ الاتِّحَادِ الْمُفَنَّدِ كَنَحْوِ ابنِ سِينَا وَابنِ سَبْعِينَ وَالَّذِي ... يُسَمَّى ابنَ رُشْدٍ وَالْحَفِيدِ الْمُلَدَّدِ وَشَيْخٌ كَبِيرٍ فِي الضَّلالَةِ صَاحِبُ الْـ ... ـفُصُوصِ وَمَنْ ضَاهَاهُمُ فِي التَّمَرُّدِ وَعَاشِرُهَا الإِعْرَاضُ عَنْ دِينِ رَبِّنَا ... فَلا يَتَعَلَّمْهُ فَلَيْسَ بِمُهْتَدِ

نبذة من زهد النبي - صلى الله عليه وسلم-

.. وَمَنْ لَمْ يَكُنْ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ عَامِلاً ... بِهِ فَهُوَ فِي كُفْرَانِهِ ذُو تَعَمُّدِ وَلا فَرْقَ فِي هَذِي النَّوَاقِضِ كُلِّهَا ... إِذَا رُمْتَ أَنْ تَنْجُو وَلِلْحَقِّ تَهْتَدِ هُنَالِكَ بَيْنَ الْهَزْلِ وَالْجَدِّ فَاعْلَمَنْ ... وَلا رَاهِبِ مِنْهُمْ لِخَوْفِ التَّهَدُّدِ سِوَى الْمُكْرَهِ الْمَضْهُودِ إِنْ كَانَ قَدْ أَتَى ... هُنَالِكَ بِالشَّرْطِ الأَصِيدِ الْمُؤَكَّدِ وَحَاذِرْ هَدَاكَ اللهُ مِنْ كُلِّ نَاقِضٍ ... سِوَاهَا وَجَانِبْهَا جَمِيعًا لِتَهْتَدِ وَكُنْ بَاذِلاً لِلْجَدِّ وَالْجُهْدِ طَالِبًا ... وَسَلْ رَبَّكَ التَّثْبِيتَ أَيَّ مُوَحِّدِ وَإِيَّاهُ فَارْغَبْ فِي الْهِدَايَةِ لِلْهُدَى ... لَعَلَّكَ إِنْ تَنْجُو مِن النَّارِ فِي غَدِ وَصَلِ إِلَهِي مَا تَأَلَّقَ بَارِقٌ ... وَمَا وَخَدَتْ قُودٌ بِمَوْرٍ مُعَبَّدِ تَؤُمُّ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَمَا سَرَى ... نَسِيمُ الصَّبَا أَوْ شَاقَ صَوْتُ الْمُغَرِّدِ وَمَا لاحَ نِجْمٌ فِي دُجَى اللَّيْلِ طَافِحٌ ... وَمَا انْهَلَّ صَوْبُ فِي عَوَالٍ وَوُهَّدِ عَلَى السَّيِّدِ الْمَعْصُومِ أَفْضَلَ مُرْسَلٍ ... وَأَكْرَمَ خَلْقِ اللهِ طُرًا وَأَجْوَدِ وَمَا لاحَ نِجْمٌ فِي دُجَى اللَّيْلِ طَافِحٌ ... وَمَا انْهَلَّ صَوْبُ فِي عَوَالٍ وَوُهَّدِ عَلَى السَّيِّدِ الْمَعْصُومِ أَفْضَلَ مُرْسَلٍ ... وَأَكْرَمَ خَلْقِ اللهِ طُرًا وَأَجْوَدِ وَآلِ وَأَصْحَابٍ وَمَنْ كَانَ تَابِعًا ... صَلاةً دَوَامًا فِي الرَّوَاحِ وَفِي الْغَدِ اللَّهُمَّ أحي قلوبًا آماتها البعد عَنْ بابك، ولا تعذبنا بأليم عقابك يَا أكرم من سمح بالنوال وجاد بالأفضال، اللَّهُمَّ أيقظنا من غفلتنا بلطفك وإحسانك، وتجاوز عَنْ جرائمنا بعفوك وغفرانك، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " نبذة من زهده - صلى الله عليه وسلم - " كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أزهد النَّاس، ويكفيك فِي تعريف ذَلِكَ أن فقره - صلى الله عليه وسلم - كَانَ كَانَ فقر اختياري لا فقر اضطراري. لأنه - صلى الله عليه وسلم - فتحت عَلَيْهِ الفتوح وجلبت إليه الأموال، ومَاتَ

ودرعه مرهونة عَنْدَ يهودى فِي نفقة عياله، وَهُوَ يدعو: اللَّهُمَّ اجعل رزق آل مُحَمَّد قوتًا. وقَالَتْ عَائِشَة رضي الله عَنْهَا: ما شبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام تباعًا من خَبْزٍ حَتَّى مضى لسبيله، ولو شَاءَ لأعطاه الله ما لا يخطر ببال. وعَنْهَا قَالَتْ: ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دينارًا ولا شاة ولا درهمًا ولا بعيرًا ولَقَدْ مَاتَ وما فِي بيتي شَيْء يأكله ذو كبد الا شطرشعير في رف لي. وقَالَ لي: «إني عرض عليَّ ربِّي أن يجعل لي بطحاء مَكَّة ذهبًا، فَقُلْتُ: لا يارب أجوع يَوْمًا وأشبع يَوْمًا، فأما الْيَوْم الذي أجوع فيه فأتضرع إليك وادعوك، وأمَّا الْيَوْم الذي أشبع فيه فأحمدك وأثني عَلَيْكَ. وعَنْهَا قَالَتْ: إن كنا آل مُحَمَّدٍ لنمكث شهرًا ما نستوقَدْ نارًا، إن هُوَ إلا التمر والماء. وعَنْهَا قَالَتْ: لم يمتل جوف النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - شبعًا قط، ولم يبث إِلَى أحد شكوى. وكَانَتْ الفاقة أحب إليه من الغنى،وإن كَانَ ليظِلّ جائعًا يلتوي طول ليلته من الجوع، فلا يمنعه من صيام يوم ولو شَاءَ لسأل ربه جميع كنوز الأَرْض وثمارها ورغد عيشها ولَقَدْ كنت أبكي لَهُ رحمة مِمَّا أرى به وامسح بيدي على بطنه مِمَّا به من الجوع، وأَقُول نفسي لَكَ الفداء، لو تبلغت من الدُّنْيَا بما يقوتك. فَيَقُولُ: «يَا عَائِشَة ما لي وللدنيا، إخواني أولو العزم من الرسل صبروا على ما هُوَ أشد من هَذَا فمضوا على حالهم فقدموا على ربهم وأكرم مآبهم وأجزل ثوابهم. وأجدني أستحي إن ترفهت فِي معيشتي إن يقصرني غدًا دونهم وما من شَيْء أحب إِلَى من اللحوق بإخواني وإخلائي» . قَالَتْ: فما قام بعد إلا شهرًا ثُمَّ توفي - صلى الله عليه وسلم -. وعن عَائِشَة رضي الله عَنْهَا قَالَتْ: ما رفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قط غداء لعشاء ولا عشاء قط لغداء. ولا اتخذ من شَيْء زوجين لا قميصين ولا ردائين ولا إزارين ومن النعال، ولا رئي قط فارغًا فِي بيته إما يخصف نعلاً لرجل مسكين أَوْ يخيط ثوبًا لأرملة.

وعن أَنَس بن مالك أن فاطمة عَلَيْهَا السَّلام جاءت بكسرة خبز إِلَى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، فقَالَ: «ما هَذِهِ الكسرة يَا فاطمة "؟ قَالَتْ: قرص خبزته فلم تطب نفسي حَتَّى أتيك بهذه الكسرة، فقَالَ: «أما إنه أول طعام دخل فم أبيك مُنْذُ ثلاثة أيام. وروى مُسْلِم عَنْ النعمان قال: ذكر عمر ما أصاب النَّاس من الدُّنْيَا، فقَالَ: لَقَدْ رَأَيْت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يظِلّ يلتوي ما يجد من الدقل ما يملأ بطنه. وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: إن كَانَ ليمر بآل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأهلة ما يسرج فِي بيت أحد مِنْهُمْ سراج ولا يوقَدْ فيه نار إن وجدوا زيتًا ادهنوا به وإن وجدوًا ودكًا أكلوه. رَوَاهُ أبو يعلى ورواته ثقاة. وعن عَبْد اللهِ بن مسعود قَالَ: نام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حصير فقام وقَدْ أثر فِي جنبه، قلنا: يَا رَسُولَ اللهِ لو اتخذنا لَكَ وطاء. فقَالَ: «ما لي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظِلّ تحت شجرة ثُمَّ راح وتركها» . رَوَاهُ ابن ماجة والترمذي وحسنه. قَالَ عُمَر بن الْخَطَّاب: دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ على حصير فجلست فإذا عَلَيْهِ إزاره ولَيْسَ عَلَيْهِ غيره وَإِذَا الحصير قَدْ أثر فِي جنبه. وإذا أَنَا بقبضة من شعير نَحْوَ الصاع وقرظ فِي ناحية الغرفة، وَإِذَا أهاب معلق (الاهاب: الجلد) فابتدرت عيناي. فقَالَ: «ما يبكيك يَا ابن الخطاب "؟ فَقُلْتُ: يَا نبى الله وما لي لا أبكي وَهَذَا الحصير قَدْ أثر فِي جنبك وهذه خزانتك لا أرى إلا ما أرى، وذاك كسرى وقيصر فِي الثمار والأنهار وأَنْتَ نبي الله وصفوته وهذه خزانتك. قَالَ: «يا ابن الخطاب أما ترضى أن تَكُون لَنَا الآخِرَة ولهم الدُّنْيَا» . رَوَاهُ ابن ماجة بإسناد صحيح والحاكم وقَالَ: على شرط مُسْلِم. روى مُسْلِم فِي صحيحه عَنْ عَائِشَة رضي الله عَنْهَا قَالَتْ: توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما فِي رفي من شَيْء يأكله إلا شطر شعير فِي رف لي فأكلت منه حَتَّى طال عليَّ فكلته ففنى.

عَنْ ابن عباس أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يبيت الليالي المتتابعة طاويًا وأهله لا يجدون عشاء، وكَانَ عامة خبزهم الشعير. عن أبي هريرة أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يشد صلبه بالحجر من الغرث أي الجوع. بينما عَائِشَة رضي الله عَنْهَا تحدث ذات يوم إذ بكت قِيْل لها: ما يبكيك يَا أم الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَتْ: ما ملأت بطني من طعام فشئت أن أبكي إلا بكيت أذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما كَانَ فيه من الجهد. وعَنْهَا أيضًا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَتْ تأتى عَلَيْهِ أربعة أشهر ما يشبع من خبز بر. وعَنْهَا أيضًا: قَالَتْ ما شبع آل مُحَمَّد ثلاثًا من خبز بر حَتَّى قبض وما رفع عَنْ مائدته كسرة فضلاً حَتَّى قبض. عن الحسن (البصرى) قَالَ: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقَالَ: «والله ما أمسى فِي آل مُحَمَّد صاع من طعام» . وأنها لتسعة أبيات (بيوت زوجاته) وَاللهِ ما قالها استقلالاً لرزق الله ولكن أراد أن تتأسى به أمته.

عن ابن عباس قَالَ: وَاللهِ لَقَدْ كَانَ يأتي على آل مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - الليالي ما يجدون فيها عشاء. عن عَائِشَة رضي الله عَنْهَا قَالَتْ: ما شبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فِي يوم مرتين حَتَّى لحق بِاللهِ، ولا رفعنا لَهُ فضل طعام عَنْ شبع حَتَّى لحق بِاللهِ إلا أن نرفعه لغائب فقِيْل لها: ما كَانَتْ معيشتكم؟ قَالَتْ: الأسودان: الماء والتمر. وقَالَتْ: وكَانَ لَنَا جيران من الأنصار لَهُمْ ربائب يسقوننا من لبنها، جزاهم الله خيرًا. عن أَنَس بن مالك أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يجمع لَهُ غذاء ولا عشاء من خبز ولحم إلا على ضفف. اللَّهُمَّ نور قلوبنا بنور الإِيمَان وأعنا على أنفسنا والشيطان وآيسه منا كما آيسته من رحمتك يَا رحمان وآتنا فِي الدُّنْيَا حسُنَّة وَفِي الآخِرَة حسُنَّة وقنا عذاب النار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين. " فَصْلٌ " عن أَنَس بن مالك قَالَ: شهدت للنبي - صلى الله عليه وسلم - وليمة ما فيها خبز ولا لحم. وعن أَنَس بن مالك قَالَ: ما أعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رغيفًا مرفقًا بعينه حَتَّى لحق بربه ولا شاة سميطًا قط. عن عَائِشَة رضي الله عَنْهَا قَالَتْ: ما اجتمَعَ فِي بطن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - طعامان فِي يوم قط، إن أكل لحمًا لم يزد عليه، وإن كان تمرًا لم يزد عَلَيْهِ، وإن أكل خبزًا لم يزد عَلَيْهِ. وكَانَ رجلاً مسقامًا، وكَانَتْ الْعَرَب تنعت لَهُ فيتداوى بما تنعت لَهُ الْعَرَب وكَانَتْ العجم تنعت لَهُ فيتداوى. عن أبي نضر قَالَ: سمعت عَائِشَة رضي الله عَنْهَا تَقُول: إني لجالسة مَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فِي البيت. فأهدى لَنَا أَبُو بَكْرٍ رجل شاة فإني لا قطعها مَعَ

رسول الله فى ظلمة البيت. فقَالَ لها قائل: أما كَانَ لكم سراج؟ فقَالَتْ: لو كَانَ لَنَا ما يسرج به أكلناه. عَنْ عروة عَنْ عَائِشَة رضي الله عَنْهَا قَالَتْ: لَقَدْ مَاتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما شبع من خبز وزيت فِي يوم مرتين. عن عَائِشَة قَالَتْ: بلغني أن الرجل منكم يأكل من ألوان الطعام حَتَّى يلتمس لِذَلِكَ دواء يمرئه. فذكرت نبيكم - صلى الله عليه وسلم - فذاك الذي أبكاني، خَرَجَ من الدُّنْيَا ولم يملأ بطنه فِي يوم طعامين: كَانَ إِذَا شبع من التمر لم يشبع من الخبز، وَإِذَا شبع من الخبز لم يشبع من التمر. عن أَنَس بن مالك قَالَ: ما يرفع بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شَيْء قط ولا حملت معه طنفسة يجلس عَلَيْهَا. أخبرني الأعرج عَنْ أبي هريرة أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يجوع. قُلْتُ: لأبي هريرة وكيف ذَلِكَ الجوع؟ قَالَ: لكثرة من يغشاه وأضيافه، وقوم يلزمونه لِذَلِكَ، فلا يأكل طعامًا أبدًا إلا ومعه أصحابه، وأَهْل الحاجة يتبعونه من المسجد. فَلَمَّا فتح الله خيبر اتسع النَّاس بَعْض الاتساع، وفي الأَمْر بعد ضيق والمعاش شديد. هِيَ بلاد ظلف لا زرع فيها، إنما طعام أهلها التمر، وعلى ذَلِكَ أقاموا. ورُوي عَنْ جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: حضرنا عرس علي وفاطمة فما كَانَ عرسًا كَانَ أحسن منه حشونا الفراش يعني من الليف وأوتينا بتمر وزيت فأكلنا وكَانَ فراشها ليلة عرسها إهاب كبش. رَوَاهُ الْبَزَار (الاهاب: الجلد) . عن عامر الشعبي قَالَ: قَالَ علي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لَقَدْ تزوجت فاطمة وما لها ولي فراش غير جلد كبش ننام عَلَيْهِ بالليل ونعلف عَلَيْهِ الناضح بالنَّهَارَ وما لي ولها خادم غيرها.

وعن علي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما زوجه فاطمة بعث معها بخميلة ووسادة أدم حشوها ليف ورحيين وسقاء وجرتين. فقَالَ علي لفاطمة ذات يوم: وَاللهِ سنوت حَتَّى اشتكيت صدري (المعنى تعبت من إخراج الماء من البئر) وقَدْ جَاءَ الله بسبي فاذهبي فاستخدميه (أي اطلبي منه خادمًا) فقَالَتْ: وأنَا وَاللهِ لَقَدْ طحنت حَتَّى مجلت يدي من الْعَمَل. فأتت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقَالَ: «ما جَاءَ بك وما حاجتك أي بنية» . قَالَتْ: جئت لأسلم عَلَيْكَ واستحيت أن تسأله فرجعت. فقَالَ علي: ما فعلت؟ قَالَتْ: استحيت أن أسأله، فأتياه جميعًا فقَالَ علي: يَا رَسُولَ اللهِ: وَاللهِ لَقَدْ سنوت حَتَّى اشتكيت صدري. وقَالَتْ فاطمة: لَقَدْ طحنت حَتَّى مجلت يداي، وقَدْ جاءك الله عَزَّ وَجَلَّ بسبي وسعة فاخدمنا. فقَالَ: «وَاللهِ لا أعطيكما وادع أَهْل الصفة تطوى بطونهم لا أجد ما أنفق عَلَيْهمْ ولكني أبيعهم وأنفق عَلَيْهمْ. فرجعا وآتاهما النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، وقَدْ دخلا فِي قطيفتهما إِذَا غطيا رؤسهما تكشفت أقدامهما، وَإِذَا غطيا أقدامهما تكشفت رؤوسهما فثارا فقَالَ:: «مكانكما» . ثُمَّ قَالَ: «ألا أخبركما بخَيْر مِمَّا سألتماني» . قالا: بلى. قَالَ: «كلمَاتَ علمنيهن جبريل تسبحان فِي دبر كُلّ صلاة عشرًا، وتحمدان عشرًا، وتكبران عشرًا. وإذا أويتما إِلَى فراشكما، فسبحا ثلاثًا وثلاثين وأحمدا ثلاثًا وثلاثين، وكبرا أربعًا وثلاثين» . وقَالَ: فو الله ما تركتهن مُنْذُ علمنيهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

عن بريدة قَالَ: سمَعَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يَقُولُ: اللَّهُمَّ إني أسألك بأني أشهد أَنَّكَ أَنْتَ الله لا إله إلا أَنْتَ الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن لَهُ كفوًا أحد. فقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده لَقَدْ سأل الله باسمه الأعظم الَّذِي إِذَا دعي به أجاب وَإِذَا سئل به أعطى» . أَخْرَجَهُ أبو داود والترمذي. وعن أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: دعا رجل فقَالَ: اللَّهُمَّ إني أسألك بأن لَكَ الحمد لا إله إلا أَنْتَ الحنان المنان بديع السموات والأَرْض ذو الجلال والإكرام يَا حي يَا قيوم. فقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «أتدرون بما دعا "؟ قَالُوا: الله ورسوله أعْلَمُ. قَالَ: «والذي نفسي بيده لَقَدْ دعا الله باسمه الأعظم الذي إِذَا دعي به أجاب وَإِذَا سئل به أعطى» . أَخْرَجَهُ أصحاب السُّنَن. عن سعد بن أبي وقاص قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «دعوة ذي النون إذ دعى وَهُوَ فِي بطن الحوت لا إله إلا أَنْتَ سبحانك إني كنت من الظالمين» . فإنه لم يدع بها رجل مُسْلِم فِي شَيْء قط إلا استجاب لَهُ» . رَوَاهُ الترمذي والنسائي والحاكم وقَالَ: صحيح الإسناد. وعن معاوية بن أبي سفيان قَالَ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «من دعا بهؤلاء الكلمَاتَ الخمس لم يسأل الله شَيْئًا إلا أعطاه " لا إله إلا الله، والله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ، له الملك وله الحمد وَهُوَ على كُلّ شَيْء قدير، لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة الا بِاللهِ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ بإسناد حسن. وعن معاذ بن جبل قَالَ: سمَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً وَهُوَ يَقُولُ: (يَا ذا الجلال والإكرام) فقَالَ: «قَدْ استجيب لَكَ فسل» . رَوَاهُ الترمذي. قَالَ أحد الْعُلَمَاء: (إن الذكر باعتباره وسيلة القرب من الله هُوَ دَائِمًا دعاء)

وإن الدُّعَاء وَهُوَ التضرع والخضوع لله تَعَالَى وَهُوَ دَائِمًا ذكر) . ولَيْسَ بينهما من فرق إلا فِي اللون والشكل. وقَدْ وردت الآثار بما تَقُول: فقَدْ ورد فِي الأحاديث الشريفة أن الله تَعَالَى يَقُولُ: " من شغله القران وذكري عَنْ مسألتِي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين» . وقَدْ ورد فِي القران الكريم عَنْ سيدنا يونس أنه حينما التقمه الحوت نجاه تسبيحه: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} . وفي سورة "نون " يندم أصحاب الْجَنَّة - الحديقة - التِي طاف عَلَيْهَا طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم.. على أنهم لم يكونوا من المسبحين، وخاطبهم أوسطهم قائلاً: {أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} . والاستغفار؟ . أنه ذكر لا يتضمن دعاء لفظيًا ولكن الثمرات المترتبة عَلَيْهِ هائلة نفسية. يَقُولُ تَعَالَى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} . إن الاستغفار ثمرته: (1) المغفرة (2) والغيث (المطر الذي يروي الأَرْض فينبت الزرع ويروي به النَّاس والأنعام ظمأهم) (3) وإمداد الله للمستغفر بالأموال. (4) إمداده بالبنين. وأكثر من ذَلِكَ....

يَقُولُ الله تَعَالَى: {اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} ، من ثماره إِذًا زيادة القوة. اللَّهُمَّ طهر قلوبنا من النفاق وعملنا من الرياء وألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة وآذاننا عَنْ الاستماع إِلَى ما لا يرضك وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وألحقنا بِالصَّالِحِينَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " فَصْلٌ " ولَقَدْ حدث فِي مصر إن أحد الأثرياء الصالحين لم يجد سبيلاً - فِي فترة من الفترات - لري أرضه، وكاد الزرع يصبح حطامًا، فجلس الرجل وسط مزرعته الفسيحة.. وقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ قُلْتُ.. وقولك الحق: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً} وها أَنَا ذا يَا رب استغفرك راجيًا أن تفيض عَلَيْنَا من رحمتك. ثُمَّ أخذ فِي الاستغفار.. ومضت ساعات وَهُوَ يتابع الاستغفار فِي همة وَفِي ثقة بموعود الله تعالى، وَإِذَا بالسماء تتلبد بالغيوم.. وَإِذَا بالمطر ينزل فياضًا مدرارًا. ومن المعروف أن الصالحين حينما يصبهم ضعف يلجؤون إِلَى الله باستغفار فيتحقق لَهُمْ وعده: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} . ولَيْسَتْ هَذِهِ فحسب ثمار الاستغفار.. وَذَلِكَ أنه أيضًا يمنع أن يصيب الْعَذَاب الإِنْسَان. (6) {وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} . (7) ثُمَّ.. يَقُولُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

«من لزم الاستغفار جعل الله لَهُ من كُلّ هم فرجًا، ومن كُلّ ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب» . وثمار الاستغفار أوسع من ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا والآخِرَة. وألم يقل الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم -: «أفضل الدُّعَاء: الحمد لله؟» . والحمد لله، ألَيْسَتْ ذكرًا؟ وإذا كَانَ من الذكر ما هُوَ دعاء، أَوْ إِذَا كَانَ الذكر كله دعاء.. فَإِنَّ الدُّعَاء أيضًا يكون بغير الدُّعَاء اللفظي وبغير الذكر: فلإكثار من التوبة دعاء وذكر، ويترتب على الإكثار منه ما يَقُولُ الله تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} . وإذا أحب الله عبدًا من عباده بسبب الإكثار من التوبة فإنه يترتب على هَذَا الحب آثاره. «فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمَعَ به، وبصره الذي يبصر به، ويده التِي يبطش بها، ورجله التِي يمشئ بها، وإن سألني لأعطينه، وإن استعاذني لأعيذنه» . وإذا كَانَتْ التوبة ذكرًا أَوْ دعاء فإن التقوى دعاء نفيس. ألا تَرَى ما يَقُولُ الله تَعَالَى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} ؟ إن الله سُبْحَانَهُ يجعل لَهُ مخرجًا من كُلّ هم وضيق وأزمة بسبب تقواه ويرزقه الله من حيث يدري ولا يدري وَيَقُولُ سُبْحَانَهُ: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} ييسر سُبْحَانَهُ أموره كُلّهَا.

وَيَقُولُ الله تَعَالَى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} (انتهى) قصيدة: فيها تضرع إِلَى رب العزة والجلال والكبرياء والعظمة: يَا ذَا الْجَلالِ وَيَا ذَا الْجُودِ وَالْكَرَمِ ... قَدْ جِئْتُكَ خَائِفًا مِنْ زَلَّةِ الْقَدَمِ ذَنْبِي عَظِيمٌ وَأَرْجُو مِنْكَ مَغْفِرَةً ... يَا وَاسِعَ الْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ وَالْكَرَمِ دَعَوْتُ نَفْسِى إِلَى الْخَيْرَاتِ فَامْتَنَعَتْ ... وَأَعْرَضَتْ عَنْ طَرِيقِ الْخَيْرِ وَالنِّعَمِ خَسِرْتُ عُمْرِي وَقَدْ فَرَّطْتُ فِي زَمَنِي ... فِي غَيْرِ طَاعَةِ مَوْلاي فَيَا نَدَمِي حَمَلْتُ ثِقْلاً مِنْ الأَوْزَارِ فِي صِغَرِي ... يَا خَجَلِي فِي غَدٍ مِنْ زَلَّةِ الْقَدَمِ رَاحَ الشَّبَابُ وَوَلَّى الْعُمْرِ فِي لَعِبٍ ... وَمَا تَحَصَّلْتُ مِنْ خَيْرِ وَلَمْ أَقُمِِ زَمَانَ عَزْمِي قَدْ ضَيَّعْتُهُ كَسَلاً ... وَالْعُمْرُ مِنِّي انْقَضَى فِي غَفْلَةِ الْحُلُمِ قَدْ انْقَضَتْ عَيْشَتِي بِالذُّلِّ وَاأَسَفِي ... إِنْ لَمْ تَجِدْ خَالِقِي بِالْعَفْوِ وَالْكَرَمِ ذِي حَالَتِي وَانْكِسَارِي لا تُخَيِّبُنِي ... إِذَا وَقَعْتُ ذَلِيلاً حَافِي الْقَدَمِ أَتَيْتُ بِالذُّلِ وَالتَّقْصِير وَالنَّدمِ ... أَرْجُو الرِّضَا مِنْكَ بِالْغُفْرَانِ وَالْكَرَمِ سَارَ المجدُّونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَاجْتَهَدُوا ... يَا فَوْزَهُم غَنِمُوا الْجَنَّاتِ وَالنَّعَمِ شِفَاءُ قَلْبِي ذِكْرُ اللهِ خَالِقِنَا ... يَا فَوْزَ عَبْدٍ إِلَى الْخَيْرَاتِ يَسْتَقِمِ صَفَتْ لأَهْلِ التُّقَى أَوْقَاتُهُم سَعِدُوا ... نَالُوا الْهَنَا وَالْمُنَى بِالْخَيْرِ وَالْكَرَمِ ضَيَّعْتُ عُمْرِي وَلا قَدَّمْتُ لِي عَمَلاً ... أَنْجُو بِهِ يَوْمَ هَوْلِ الْخَوْفِ وَالزَّحَمِ طُوبَى لِعَبْدٍ أَطَاعَ اللهَ خَالِقَهُ ... وَقَامَ جَنْحَ الدُّجَى بِالدَّمْعِ مُنْسَجِمِ ظَهْرِي ثَقِيْلٌ بِذَنْبِي آهِ وَاأَسَفِي ... يَوْمَ اللِّقَاءِ إِذْ الأَقْدَامُ فِي زَحَمِ أَرْجُوكَ يَا ذَا الْعُلا كَرْبِي تُفَرِّجُهُ ... وَاشْفِ بِفَضْلِكَ لِي لِلْوَايَ مَعَ سَقَمِي غَفَلْتُ عَنْ ذِكْرِ مَعْبُودِي وَطَاعَتِهِ ... وَقَدْ مَشِيتُ إِلَى الْعِصْيَانِ فِي هِمَمِ فَاغْفِرْ ذُنُوبِي وَكُنْ يَا رَبِّ مُنْقِذَنَا ... مِن الشَّدَائِدِ وَالأَهْوَالِ وَالتُّهَمِ قَدْ اثْقَلَتْنِي ذُنُوبِي مَا لَهَا أَحَدٌ ... سِوَاكَ يَا غَافِرَ الزَّلاتِ وَاللِّمَمِ كُنْ مُنْجِدِي يَا إِلَهِي وَاعْفُ عَنْ زَلَلِي ... وَتُبْ عَلَيَّ مِن الآثَامِ وَاللِّمَمِ

.. لاحَ الْمَشِيبُ وَوَلَّى الْعُمْرُ فِي لَعِبٍ ... وَصِرْتُ مِنْ كُثْرَةِ الأَوْزَارِ فِي نَدَمِ مَضَى زَمَانِي وَمَا قَدَّمْتُ مِنْ عَمَلٍ ... يَا خَجْلَتِي مِنْ إِلَهِي بَارِيَ النَّسَمِ نَامَتْ عُيُونِي وَأَهْلُ الْخَيْرِ قَدْ سَهِرُوا ... أَجْفَانُهُمْ فِي ظَلامِ اللَّيْلِ لَمْ تَنَمِ قَامُوا إِلَى ذِكْرِ مَوْلاهُم فَقَرَّبَهُمْ ... وَخَصَّهُمْ بِالرِّضَا وَالْفَضْلِ وَالْكَرَمِ وَلَيْسَ لِي غَيْرَ الْخالقِ مِنْ سَنَدٍ ... أَرْجُوهُ يُولِينِي بِالْغُفْرَانَ وَالْكَرَمِ لا ارْتَجِي أَحَدًا يَوْمَ الزِّحَامِ سِوَى ... رَبِّ الْبَرِيَّةِ مَوْلى الْفَضْلِ وَالْكَرَمِ ثُمَّ الصَّلاةُ عَلَى الْمُخْتَارِ مِنْ مُضَرٍ ... مُحَمَّدٍ الْمُصْطَفَى الْمَخْصُوصِ بِالْكَرَمِ اللَّهُمَّ انهج بنا مناهج المفلحين وألبسنا خلع الإِيمَان واليقين، وخصنا منك بالتَّوْفِيق المبين، وَوَفِّقْنَا لقول الحق وإتباعه، وخّلصنا مِنَ الْبَاطِلِ وابتداعه، وكن لَنَا مؤيدًا، ولا تجعل لفاجر عَلَيْنَا يدًا، واجعل لَنَا عيشًا رغدًا، ولا تشمت بنا عدوًا ولا حاسدًا، وارزقنا عِلْمًا نافعًا وعملاً متقبلاً، وفهمًا ذكيًا صفيًا وشفاء من كُلّ داء، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يا أرحم الراحمين. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. اللَّهُمَّ اجعلنا مكثرين لذكرك مؤدين لحقك حافظين لأَمْرِكَ راجين لوعدك راضين فِي جميع حالاتنا عنك، راغبين فِي كُلّ أمورنا إليك مؤملين لفضلك شاكرين لنعمك، يَا من يحب العفو والإحسان، ويأمر بهما اعف عنا، وأحسن إلينا فإنك بالذي أَنْتَ له أَهْل من عفوك أحق منا بالذي نَحْنُ لَهُ أَهْل من عقوبتك. اللَّهُمَّ ثَبِّتْ رجاءك فِي قلوبنا، واقطعه عمن سواك، حَتَّى لا نرجو غيرك ولا نستعين إلا إياك يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ويا أكرم الأكرمين. اللَّهُمَّ أحينا فِي الدُّنْيَا مؤمنين طاعئين وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ تائبين، اللَّهُمَّ أعذنا من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرِّجَال

السلام سنة مؤكدة وله فوائد عديدة والأدلة على ذلك

وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " فَصْلٌ " اعْلَمْ وَفَّقَنَا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع الْمُسْلِمِين لما يحبه ويرضاه إن السَّلام تحية الْمُؤْمِنِينَ، وشعار الموحدين، وداعية للإخاء والألفة والمحبة بين إخوانهم الْمُسْلِمِين، والسَّلام تحية مباركة، وصفة طيبة كما ذكر الله سُبْحَانَهُ فِي كتابه الكريم قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} . وقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} ، والسَّلام كما أخبر الله تحية أَهْل الْجَنَّة فِي دار النعيم، قَالَ تَعَالَى: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} . وابتداء السَّلام سُنَّة مستحبة، ولَيْسَ بواجب وَهُوَ سُنَّة كفاية فَإِنَّ كَانَ المسلم جماعة كفى عنهم واحد يسلم ولو سلموا كلهم كَانَ أفضل، ورفع الصوت بابتداء السَّلام سُنَّة ليسمعه المسلم عليهم، كلهم سماعًا محققًا لحديث: «افشوا السَّلام بينكم» . وإن سلم على أيقاظ ونيام أَوْ سلم على من لا يعلم هل هم إيقاظ أَوْ نيام خفض صوته بحيث يسمَعَ الإيقاظ ولا يوقظ النيام، ولو سلم على إنسان ثُمَّ لقيه على قرب سن أن يسلم عَلَيْهِ ثانيًا وثالثًا وأكثر. ويسن أن يبداء قبل الكلام، لحديث من بدء بالكلام قبل السَّلام فلا تجيبوه. فينبغي لَكَ أيها الأخ أن تنصح كُلّ من ابتدأك بغير السَّلام وتعلمه بالْحَدِيث خُصُوصًا المكلمين لَكَ بالتليفون بقولهم: ألُ ألُ ولا يترك السَّلام إِذَا كَانَ يغلب على ظنه أنه لا يرد عَلَيْهِ.

المواضع التي يكره فيها السلام وحكم رد السلام

وإن دخل على جماعة فيهم علماء سلم أَوَّلاً على الجميع، ثُمَّ سلم على الْعُلَمَاء سلامًا ثانيًا تمييزًا لمرتبتهم وَكَذَا لو كَانَ فيهم عَالِم واحد، خصه بالسَّلام ثانيًا. ولا يسلم على امرأة أجنبية غير زوجة لَهُ، أَوْ ذات محرم، إلا أن تَكُون عجوزًا غير حسناء أَوْ تَكُون برزة، والمراد أنها لا تشتهى لأمن الفتنة ويكره السَّلام فِي الحمام ويكره السَّلام على من يأكل وعلى من يقاتل لا اشتغاله. ويكره السَّلام على من يبحثون فِي العلم، وعلى من يؤذن، وعلى من يقيم، ومحدّث بتشديد الدال وخطيب وواعظ ومستمع. ويكره السَّلام على مكرر فقه، ومدرس فِي علم مشروع، أو مباح ويكره السَّلام على من يبحثون فِي العلم. ويكره السَّلام على من يقضى حاجته، ويكره على من يتمتع بأهله وعلى مشتغل بالقضاء، ونحوهم من كُلّ من لَهُ شغل عَنْ رد السَّلام.ويكره أن يخص بَعْض طائفة لقيهم، ألا أن يكون بَعْضهمْ ممن يجب هجره، أَوْ يستحب. وإن بدأ بالسَّلام جميعًا، وجب على كُلّ منهما الرد، ولا ينزع يده من يد من يصافحه، حَتَّى ينزع يده من يده، إلا لحاجة كحيائه منه ونحوه وقَدْ نظم بَعْضهمْ المواضع التِي يكره فيه السَّلام فقَالَ: سَلامُكَ مَكْرُوهٌ عَلَى مَنْ سَتَسْمَعُ ... وَمِنْ بَعْدِ مَا أُبْدِي يُسَنُّ وَيُشْرَعُ مُصَلٍّ وَتَالٍ ذَاكِرٍ وَمُحَدِّثٌ ... خَطِيبٌ وَمَنْ يُصْغِي إِلَيْهِم وَيَسْمَعُ مكرِّرٌ فِقْهٍ جَالِسٌ لِقَضَائِهِ ... وَمَنْ بَحَثُوا فِي الْفِقْهِ دَعْهُمْ لِيَنْفَعُوا مُؤَذِّنٌ أَيْضًا مَعَ مُقِيمٍ مُدَرِّسٍ ... كَذَا الأَجْنَبِيَّاتِ الْفَتَيَاتُ أَمْنَعُ وَلُعَّابُ شِطْرَنْجٍ وَشِبْهٍ بِخَلْقِهِمْ ... وَمَنْ هُوَ مَعَ أَهْلٍ لَهُ يَتَمَتَعُ

قصيدة زهدية في الحث التأهب للموت

.. وَدَعْ كَافِرًا أَيْضًا وَكَاشِفَ عَوْرَةٍ ... وَمَنْ هُوَ فِي حَالِ التَّغَوُّطِ أَشْنَعُ وَدَعْ آكِلاً إِلا إِذَا كُنْتَ جَائِعًا ... وَتَعَلَّمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ يَمْنَعُ كَذَلِكَ أُسْتَاذٌ مُغَنٍ مُطَيِّرٌ ... فَهَذَا خِتَامٌ وَالزِّيَادَةُ تَنْفَعُ (وَزِدْتُ عَلَى هَذَا فَقُلْتُ مُتَمِّمًا ... بِمَا هُوَ مِثْلٌ أَوْ أَشَدُّ فَيُتْبَعُ) (وَمَنْ عِنْدَ تِلْفزْيُونِهِمْ سِينَمَائِهِمْ ... وَمَنْ لِمُذِيعِ الْمُنْكَرَاتِ تَسَمَّعُوا) مُصَوِّرٍ ذِي رُوحٍ وَحَالِق لِحْيَةٍ ... وَمَحْلُوقِهَا مَعَ ذِي الْخَنَافِسِ يَتْبَعُ (وَشَارِبُ دُخَّانٍ وَشَارِبُ شِيشَةٍ ... مُتَوْلِتُ رَاسٍ والْمَجَاهِرُ أَفْظَعُ) (وَشَارِبُ ذِى سُكْرٍ وَلاعِبُ كُورَةٍ ... وَمُصْلِحُ آلاتِ لِلهوِ فَيَمْنَعُ) (وَبَائِعُ آلاتٍ لِلَهْوِ وَمُطْربٍ ... وَمنْ هُوَ في سَبِّ الْغَوَافِلِ يُقْذِعُ) (وَبَائِعُ مَا قَدْ سِيقَ فِيمَا سَطَرْتُهُ ... مُسَاعَدُهُمْ أَوْ مَنْ لِذَاكَ يُشَجِّعُ) اللَّهُمَّ أن نواصينا بيدك وأمورنا ترجع إليك وأحوالنا لا تخفى عَلَيْكَ، وأَنْتَ ملجؤنا وملاذنا، وإليك نرفع بثنا وحزننا وشكايتنا، يَا من يعلم سرنا وعلانيتنا نسألك أن تجعلنا ممن توكل عَلَيْكَ فكفيته، واستهداك فهديته، وهب لَنَا من فضلك العَظِيم وَجُدْ عَلَيْنَا بإحسانك العميم يَا خَيْر من دعاه داع، وأفضل من رجاه راج يَا قاضى الحاجات ومجيب الدعوات هب لَنَا ما سألناه وحقق رجاءنا فيما تمنيناه يَا من يملك حوائج السائلين ويعلم ما فِي صدور الصامتين، أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وصلى الله وسلم على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين " فَصْلٌ " وأما رد السَّلام فَإِنَّ كَانَ المسلم عَلَيْهِ واحدًا، تعين عَلَيْهِ الرد للسلام، وإن كَانُوا جماعة رد السَّلام فرض كفاية عَلَيْهمْ، فَإِنَّ رد واحد مِنْهُمْ سقط

الفرض عَنْ الباقين، وإن تركوه كلهم أثموا كلهم، وإن رد كلهم فهو النهاية فِي الكمال قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} والسَّلام تحية من كَانَ قبلنا من الأَنْبِيَاء، وأتباعهم الْمُؤْمِنِينَ وتحية أبينا إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام، وضيفيه المكرمين فيما قصه الله عَلَيْنَا فِي القرآن الكريم بقوله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} . ومن السُنَّة المحبوبة البداءة بالسَّلام، لما ورد عَنْ أبي أمامة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إن أولى النَّاس بِاللهِ من بدأهم بالسَّلام» . رَوَاهُ أبو داود. وفي الْحَدِيث الآخِر: «وخيرهما الذي يبدأ بالسَّلام» . فاحذر عَافَانَا اللهُ وَإِيَّاكَ مِنْ ال. ويستحب أن يسلم عَنْدَ الانصراف من المجلس، لما ورد عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا انتهى أحدكم إِلَى المجلس فليسلم، فإذا أراد أن يقوم فليسلم فلَيْسَتْ الأولى بأحق من الآخِرَة» . ويستحب أن يسلم على الصبيان لما ورد عَنْ أَنَس أنه مرَّ على صبيان فسلم عَلَيْهمْ. وقَالَ: كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله. متفق عَلَيْهِ. شِعْرًا: ... سَابِقِ النَّاسِ بِالسَّلام فَفِي ذَا ... كَ إِذَا مَا اعْتَبَرْتَ خَمْسُ خِصَال كَاشِفُ الرَّيْبِ قَاطِعُ الْعَيْبِ مُحْيِي الْـ ... وِدِ سِتْرُ الأَحْقَادِ وَبَابُ الْوِصَال " موعظة ": إخواني لَيْسَ الأسف على دنيا آخرها الفوات والخراب ولا على أحوال نهايتها التحول والانقلاب، ولا على حطام حلاله حساب وحرامه عقاب، ولا على أعمار يتمنى المرء طولها فإذا طالت ملت، ولا على أماكن كُلَّما امتلأت بأهلها وازدهرت بِهُمْ أدبرت عنهم وخلت مِنْهُمْ.

وإنما الأسف الَّذِي لا يرجى لَهُ خلف وَقْت قتل على فراش السهو والغفلات، وعلى ليال وأيام تمضى فِي إتباع الملذات الفانية والشهوات، وعلى صحف تطوى ثُمَّ لا ترجع فيستدرك ما فات، وعلى نفوس يناديها لسان الشتات، وهي لا تقلع عما هِيَ عَلَيْهِ من الهفوات، وعلى ذنوب محصى صغيرها وكبيرها لا تقابل بالحسنات، وعلى قُلُوب غافلة فِي الغمرات، وعلى أعوام سريع مرورها كلمَعَ الجمرات، وعلى السُنَّة لا تشتغل، وتتلذذ بذكر فاطر السموات ألاترون شهركم كيف يسرع فيه البدار ثُمَّ يعقبه الامحاق فيا خيبة من ضاعت منه الليالى والأَيَّامُ، وغبن فِي ميدان السباق ويا خيبة من ضيع عمره بالقبائح العظام ويا خسارة من كَانَتْ تجارته الذُّنُوب والمعاصى والآثام. شِعْرًا: ... بُكَائِي عَلَى مَا قَدْ مَضَى مِنْ شَيْبَتِي ... وَلَمْ أَحْتَفِظْ فِيهَا عُلُومَ الشَّرِيعَةِ وَأَفْهَمُ مَا قَالَ الإِلهُ وَمَا أَتَى ... عَنْ الْمُصْطَفَى أَعْظمِ بِهَا مِنْ مُصِيبَتِي قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء الواجب على العاقل أخذ العدة لرحيله، فإنه لا يعلم متى يفجؤه أمر ربه، ولا يدري متى يستدعى، وأني رَأَيْت خلقًا كثيرًا غرهم الشباب ونسوا فقَدْ الأقران وألهاهم طول الأمل وَرُبَّمَا قَالَ العَالِم المحض لنفسه: «اشتغل بالعلم ثُمَّ اعمل به» . فيتساهل فِي الزهد بحجة الرَّاحَة ويؤخر الرجَاءَ لتحقيق التوبة ولا يتحاشى من غيبة أَوْ سماعها ومن كسب شبهة يأمل إن يمحوها بالورع وينسى إن الموت قَدْ يبغته. فالعاقل من أعطى كُلّ لحظة حقها من الواجب عَلَيْهِ فَإِنَّ بغته الموت رئي مستعدًا وإن نال الأمل ازداد خيرًا. قَالَ عمر بن عَبْد الْعَزِيز فِي خطبة لَهُ: إِنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بدار قرار دار

كتب الله عَلَى أَهْلِهَا مَنْهَا الظعن، فكم عامر قليل يخرب، وَكَمْ مقيم مغتبط عما قليل يظعن، فأحسنوا رحمكم الله مَنْهَا الرحلة، بأحسن ما يحظركم من النقلة وتزودوا فَإِنَّ خَيْر الزَّاد التَّقْوَى، إنما الدُّنْيَا كفئ ظلال قلص فذهب بين ابن آدم فِي الدُّنْيَا ينافس وبها قرير عين اذ دعاه الله بقدره ورماه بيوم حتفه فسلبه أثاره ودنياه وصير لقوم آخرين مصانعه ومعناه إِنَّ الدُّنْيَا لا تسر بقدر ما تضر أنها تسر قليلاً وتجر حزنًا طويلاً كما قِيْل: من سره زمن سأته أزمان شِعْرًا: ... إِذَا كُنْتَ بِالدُّنْيَا بَصِيرًا فِإِنَّمَا ... بَلاغُكَ مِنْهَا مِثْلُ زَادَ الْمُسَافِرِ إِذَا أَبْقَتِ الدُّنْيَا عَلَى الْمَرْءِ دِينَهُ ... فَمَا فَاتَهُ مِنْهَا فلَيْسَ بِضَائِرِ آخر: ... يَرَى رَاحَةً فِي كَثْرَةِ الْمَالِ رَبُّهُ ... وَكَثْرَةُ مَالِ الْمَرْءِ لِلْمَرْءِ مُتْعِبُ إِذَا قَلَّ مَالَ الْمَرْءِ قَلَّتْ هُمُومُهُ ... وَتَشْعَبُهُ الأَمْوَالُ حِينَ تَشَعَّبُ آخر: ... وَمَا أَجْمَعُ الأَمْوَالَ إِلا غَنِيمَةً ... لِمَنْ عَاشَ بَعْدِي وَاتِّهَامٌ لِرَازِقِي آخر: ... رَضِيتُ مِنَ الدُّنْيَا بِقُوتٍ يُقِيمُنِي ... فَلا ابْتَغِي مِنْ دُونِهِ أَبَدًا فَضْلاً وَلَسْتُ أَرُومُ الْقُوتَ إِلا لأَنَّهُ ... يُعِينُ عَلَى عِلْمٍ أَرُدُّ بِهِ جَهْلا آخر: ... يَا جَامِعًا مَانِعًا وَالْمَوْتُ يَتْبَعُهُ ... مُقَدِّرًا أَيِّ نَابَ فِيِه يُعْلقُهُ الْمَالُ عِنْدَكَ مَخْزُونُ لِوَارِثِهِ ... مَا الْمَالُ مَالُكَ إِلا يَوْمَ تَنْفَقُهُ جَمَعْتَ مَالاً فَفَكِّرْ هَلْ جَمَعْتَ لَهُ ... يَا جَامَعَ الْمَالِ أَيَّامًا تُفَرِّقُهُ لله دَرُّ فَتَىً يَغْدُو عَلَى ثِقَةٍ ... إِنَّ الَّذِي قَسَّمَ الأَرْزَاقَ يَرْزقُهُ فَالْعِرْضُ مِنْهُ مَصُونٌ لا يُدَنِّسُهُ ... وَالْوَجْهُ مِنْهُ جَدِيدٌ لَيْسَ يُخْلِقُهُ إِنَّ الْقَنَاعَةَ مَنْ يَحْلُلْ بِسَاحَتِهَا ... لَمْ يَلْقَى فِي ظِلِّهَا هَمًا يُؤرِّقُهُ آخر: ... يَقُولُ الْفَتَى ثَمَّرْتُ مَالِي وَإِنَّمَا ... لِوَارِثِهِ مَا ثَمَّرَ الْمَالَ كَاسِبُهُ يُحَاسِبُ فِيهِ نَفْسَهُ بِحَيَاتِهِ ... وَيَتْرُكُهُ نَهْبَا لِمَنْ لا يُحَاسِبُهُ شِعْرًا: ... أَيَا لِلْمَنَايَا وَيْحَهَا مَا أَجَدَّهَا ... كَأَنَّكَ يَوْمًا قَدْ تَوَرَدْتَ وِرْدَهَا

.. وَيَا لِلْمَنَايَا مَا لَهَا مِنْ إِقَالَةٍ ... إِذَا بَلَغَتْ مِنْ مُدَّةِ الْحَي حَدَّهَا أَلا يَا أَخَانَا إِنَّ لِلْمَوْتِ طَلْعَةً ... وَإِنَّكَ مُذْ صُوِّرْتَ تَقْصُدُ قَصْدَهَا وَلِلْمَرْءِ عَِنْدَ الْمَوْتِ كَرْبٌ وَغُصَّةٌ ... إِذَا مَرَّتِ السَّاعَاتُ قَرَبْنَ بُعْدَهَا سَتُسْلِمُكَ السَّاعَاتُ فِي بَعْضِ مَرِّهَا ... إِلَى سَاعَةٍ لا سَاعَةٌ لَكَ بَعْدَهَا وَتَحْتَ الثَّرَى مِنِّي وَمِنْكَ وَدَائِعٌ ... قَرِيبَةُ عَهْدٍ إِنْ تَذَكَّرْتَ عَهْدَهَا مَدَدْتَ الْمُنَى طُولاً وَعَرْضًا وَإِنَّهَا ... لَتَدْعُوكَ أَنْ تَهدَا وَأَنْ لا تَمُدَّهَا وَمَالَتْ بِكَ الدُّنْيَا إِلَى اللَّهْوِ وَالصِّبَا ... وَمَنْ مَالَتْ الدُّنْيَا بِهِ كَانَ عَبْدَهَا إِذَا مَا صَدَقْتَ النَّفْسَ أَكْثَرْتَ ذَمَّهَا ... وَأَكْثَرْتَ شَكْوَاهَا وَأَقْلَلْتَ حَمْدَهَا بِنَفْسِكَ قَبْلَ النَّاسِ فَاعْنَ فَإِنَّهَا ... تَمُوتُ إِذَا مَاتَتْ وَتُبْعَثُ حَمْدَهَا وَمَا كُلُّ مَا خَوَّلْتَ إِلا وَدِيعَةٌ ... وَلَنْ تَذْهَبِ الأَيَّامَ حَتَّى تَرُدَّهَا إِذَا أَذْكَرَتْكَ النَّفْسُ دُنْيًا دَنِيَةً ... فَلا تَنْسَ رَوْضَاتِ الْجِنَانِ وَخُلْدَهَا أَلَسْتَ تَرَى الدُّنْيَا وَتَنْغِيصَ عَيْشِهَا ... وَأَتْعَابَهَا لِلْمُكْثِرِينَ وَكَدَّهَا وَأَدْنَى بَنِي الدُّنْيَا إِلَى الْغَيِّ وَالْعَمَى ... لِمَنْ يَبْتَغِي مِنْهَا سَنَاهَا وَمَجْدَهَا هَوَى النَّفْسُ فِي الدُّنْيَا إِلَى أَنْ تَغُولُهَا ... كَمَا غَالَتِ الدُّنْيَا أَبَاهَا وَجَدَّهَا اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا للزوم الطَرِيق الَّذِي يقربنا إليك وهب لَنَا نورًا نهتد به إليك، ويسر لَنَا ما يسرته لأَهْل محبتك، وأيقظنا من غفلاتنا وألهمنا رشدنا واسترنا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة، واحشرنا فِي زمرة عبادك المتقين، يَا خَيْر من دعاه داع، وأفضل من رجاه راج، يَا قاضي الحاجات ومجيب الدعوات هب لَنَا ما سألناه وحقق رجاءنا فيما تمنيناه يَا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ما فِي صدور الصامتين، أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك. وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

الأحق بالبداءة بالسلام والحث على إفشائه

"فَصْلٌ" والأحق بالبداءة بالسَّلام أن يسلم الصغير على الكبير، والقليل على الكثير، والراكب على الماشي» . لما ورد عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ: «ليسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير» . متفق عَلَيْهِ. وفي رواية لمسلم "والراكب على الماشي» . ولَقَدْ ورد فِي إفشاء السَّلام وفضله أحاديث كثيرة، مَنْهَا ما رَوَاهُ الْبُخَارِيّ ومسلم وَأَبُو دَاود وابن ماجة عَنْ عَبْد اللهِ بن عمرو بن العاص رضي الله عَنْهُمَا أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الإِسْلام خَيْر؟ قَالَ: «تطعم الطعام، وتقرأ السَّلام على من عرفت ولم تعرف» . وأَخْرَجَهُ مُسْلِم وَأَبُو دَاود والترمذي، عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تدخلوا الْجَنَّة حَتَّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حَتَّى تحابوا، ألا أدلكم على شَيْء إِذَا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السَّلام بينكم» . وروى ابن حبان فِي صحيحه عَنْ البراء رضي الله عَنْهُ عَنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «افشوا السَّلام تسلموا» . وأخَرَجَ الترمذي وقَالَ: حسن صحيح عَنْ أبي يوسف عَبْد اللهِ بن سلام رضي الله عَنْهُ قَالَ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يَا أيها النَّاس افشوا السَّلام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والنَّاس نيام تدخلوا الْجَنَّة بسلام» . وأخَرَجَ الطبراني بإسناد حسن، عَنْ أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كنا إِذَا كنا مَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتفرق بيننا شجرة فإذا التقينا يسلم بعضنا على بَعْض. وأخَرَجَ الطبراني فِي الأوسط بإسناد جيد، وقَالَ: لا يروى إلا بهَذَا الإسناد عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أعجز النَّاس من عجز عَنْ الدُّعَاء، وأبخل النَّاس من بخل بالسَّلام» .

ورُوِيَ أيضًا عَنْ عَبْد اللهِ بن معقل رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي معاجمه الثلاثة بإسناد جيد قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - " أسرق النَّاس الَّذِي يسرق صلاته» . قِيْل: يَا رَسُولَ اللهِ وكيف يسرق صلاته. قَالَ: «لا يتم ركوعها ولا سجودها، وأبخل النَّاس من بخل بالسَّلام» . وأخَرَجَ الإِمَام أحمد والْبَزَار وإسناد الإِمَام أحمد لأ باس به. عَنْ جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رجلاً أتى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فقَالَ لفلان فِي حائطي عذقًا وأنه قَدْ آذاني وشق عليَّ مكَانَ عذقه فأرسل إليه - صلى الله عليه وسلم - فقَالَ: بعني عذفك الَّذِي فِي حائط فلان: قَالَ: لا. قَالَ: فهبه لي؟ قَالَ: لا. فقَالَ: بعنيه بعذق فِي الْجَنَّة. قَالَ: لا. فقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ما رَأَيْت الَّذِي هُوَ أبخل منك إلا الَّذِي يبخل فِي السَّلام» . وعن أبي الخطاب قتادة: قَالَ: قُلْتُ لأنس: أكَانَتْ المصافحة فِي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَ: نعم. متفق عَلَيْهِ. وعن البراء بن عازب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من مُسْلِمِينَ يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا» . رَوَاهُ أبو داود. وعن أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رجل يَا رَسُولَ اللهِ الرجل منا يلقى أخاه أَوْ صديقه أينحنى لَهُ؟ قَالَ: لا. قَالَ: أفيلتزمه ويقبله؟ قَالَ: لا. قَالَ: فيأخذ بيده ويصافحه. قَالَ: «نعم» . رَوَاهُ الترمذي وقَالَ: حديث حسن إِذَا فهمت ذَلِكَ فاعْلَمْ أن للسلام فَوَائِد عديدة مَنْهَا امتثال سُنَّة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. وقَدْ قَالَ: «من كَانَ من أمتي فليستن بسنتي» . ومنها الْخُرُوج من الحرمة على القول بوجوب ابتدائه وإن كَانَ المعتمد عَلَيْهِ أنه مستحب. ومنها الْخُرُوج من البخل وقَدْ ورد أنه لا يدخل جنة عدن بخيل وقَالَ - صلى الله عليه وسلم -:

«أي داء أدْوى من البخل» . والبخيل بغيض إِلَى الله بغيض إِلَى النَّاس بعيد من الْجَنَّة حبيب إِلَى الشيطان قريب إِلَى النيران. ومنها أن السَّلام يكون من الأسباب التِي تدخل صاحبها فِي الْجَنَّة كما مر فِي حديث عَبْد اللهِ بن سلام وأنه يوجب دخولها كما فِي حديث أبي سرح رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أخبرني بشَيْء يوجب الْجَنَّة؟ قَالَ: «طيب الكلام وبذل السَّلام وإطعام الطعام» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وابن حبان فِي صحيحه والحاكم وصححه. ومنها أن بذله من موجبات المغفرة، فقَدْ روى عَنْ أبي سرح بإسناد جيد قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ دلني على عمل يدخلني الْجَنَّة. قَالَ: «إن من موجبات المغفرة بذل السَّلام وحسن الكلام» . شِعْرًا: ... وَكُنْ بَشًّا كَرِيمًا ذَا انْبِسَاطٍ ... وَفِيمَنْ يَرْتَجِيكَ جَمِيلَ رَأْي بَعِيدًا عَنْ سَمَاعِ الشَّرِّ سَمْحًا ... نَقِيَّ الْكَفِّ عَنْ عَيْبٍ وَثَأْي مُعِينًا لِلأَرَامِلِ وَالْيَتَامَى ... أَمِين الْجَيْبِ عَنْ قُرْبٍ وَنَأْي وَصُولاً غَيْرَ مُحْتَشِمٍ زَكِيًّا ... حَمِيدَ السَّعْيِ فِي إِنْجَازِ وَأْي تَلَقَّ مَوَاعِظِي بِقَبُولِ صِدْقٍ ... تَفُزْ بِالأَمْنِ عِنْدَ حُلُولِ لأْي آخر: ... أَطِعْ مَوْلاكَ وَاسْأَلْهُ رِضَاهُ ... وَطِبْ نَفْسًا إِذَا حَكَم الْقَضَاءُ وَكُنْ رَجُلاً عَلَى الطَّاعَاتِ جَلْدًا ... وَشِيمَتُكَ السَّمَاحَةِ وَالسَّخَاءُ يُغَطَّى بِالدِّيَانَةِ كُلُّ عَيْبٍ ... وَكَمْ عَيْبٍ يُغَطِّيهِ السَّخَاءُ وَرِزْقُكَ لَيْسَ يَنْقُصُهُ التَأَنِّي ... وَلَيْسَ يَزِيدُ فِي الرِّزْقَِ الْعَنَاءُ إِذَا مَا كُنْتَ ذَا قَلْبٍ قَنُوع ... فَأَنْتَ وَمُثْرِيٌّ فِيهَا سَوَاءُ اللَّهُمَّ اجعلنا من المتقين الأبرار واسكنا معهم فِي دار الْقَرَار، اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا بحسن الإقبال عَلَيْكَ والإصغاء إليك، وَوَفِّقْنَا لِلتَّعَاوُن فِي طَاعَتكَ والمبادرة إِلَى

خدمتك وحسن الآداب فِي معاملتك والتسليم لأَمْرِكَ والرِّضَا بقضائك والصبر على بَلائِكَ وَالشُّكْر لنعمائك. وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين. " فَصْلٌ " ومن ذَلِكَ أن إفشاء السَّلام بين الْمُسْلِمِين يوجب المحبة والألفة والعطف والمحبة شأنها عَظِيم وقدرها جسيم. ومن فَوَائِد السَّلام أداء حق أخيه المسلم ففي صحيح مُسْلِم عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «حق المسلم على المسلم ست» . قِيْل: وما هن يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «إِذَا لقيته فسلم عليه» .. الْحَدِيث. ومنها أولويته بِاللهِ لما روى أبو داود والترمذي: أن أولى النَّاس بِاللهِ من بدأهم بالسَّلام. ومنها حوز الفضيلة لما أخَرَجَ الْبَزَار وابن حبان فِي صحيحه عَنْ جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والماشيان أيهما بدأ فهو أفضل» . وأخَرَجَ الطبراني فِي الكبير والأوسط وأحد إسنادي الكبير محتج بِهُمْ فِي الصحيح عَنْ الأغر أغر مزينة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر لي بجريب من تمر عَنْدَ رجل من الأنصار فمطلني به فكلمت فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقَالَ: «اغد يَا أبا بكر فخذ لَهُ من تمره» . فوعدني أَبُو بَكْرٍ المسجد إِذَا صلينا الصبح فوجدته حيث وعدني، فانطلقنا فكُلَّما رأى أبا بكر رجل من بعيد سلم عَلَيْهِ. فقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أما تَرَى ما يصيب القوم عَلَيْكَ

في السلام فوائد عديدة نذكر طرفا منها

من الفضل لا يسبقك إِلَى السَّلام أحد فكَانَ إِذَا طلع الرجل من بعيد باكرناه بالسَّلام قبل أن يسلم عَلَيْنَا. ومنها إدراك الفضيلة فِي إفشاء السَّلام الَّذِي هُوَ اسم الله وفضل الدرجة بنشرها لما أخَرَجَ البزاربسند جيد قوي والطبراني عَنْ ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «السَّلام اسم من أسماء الله تَعَالَى وضعه فِي الأَرْض، فافشوا السَّلام بينكم فَإِنَّ الرجل المسلم إِذَا مر بقوم فسلم فردوا عَلَيْهِ كَانَ لَهُ عَلَيْهمْ فضل درجة بتذكيره إياهم السَّلام فَإِنَّ لم يردوا عَلَيْهِ رد عَلَيْهِ من هُوَ خَيْر مِنْهُمْ» . ومن فَوَائِد السَّلام حصول الحسنات التي صحت بها الروايات. فأخَرَجَ أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والبيهقي وحسنه أيضًا عَنْ عمران بن حصين رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رجل إِلَى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فقَالَ: السَّلام عليكم. فرد عَلَيْهِ ثُمَّ جلس فقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «عشر» . ثُمَّ جَاءَ آخر فقَالَ: السَّلام عليكم ورحمة الله. فرد عَلَيْهِ فقَالَ: «عشرون» . ثُمَّ جَاءَ آخر فقَالَ: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فرد فجلس فقَالَ: «ثلاثون» . وَرَوَاهُ أبو داود عَنْ معاذ مرفوعًا بنحوه، وزَادَ ثُمَّ أتى آخر فقَالَ: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته. فقَالَ: «أربعون» . هكَذَا تَكُون الفضائل ومن فَوَائِد السَّلام حصول السلامة كما فِي حديث البراء المتقدم ويحتمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أفشوا السَّلام تسلموا» . يعني فِي الدُّنْيَا من الإثُمَّ والبخل أَوْ من أعم من ذَلِكَ من نكبات الدُّنْيَا ومن أهوال الآخِرَة وفضل الله واسع. ومنها تصفيته ود أخيك المسلم فقَدْ روى الطبراني فِي الأوسط عَنْ شيبة الحجبي عَنْ عمه مرفوعًا: «ثلاث يصفين لَكَ ود أخيك: تسلم عَلَيْهِ إِذَا لقيته، وتوسع لَهُ فِي المجلس، وتدعوه بأحب الأسماء إليه» .

ومنها حصول فضيلة الإِسْلام وخيرته كما فِي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص المتقدم وأيضًا من فوائده إحياء سُنَّة أبينا آدم عَلَيْهِ السَّلام، فقَدْ روى الْبُخَارِيّ ومسلم عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لما خلق الله آدم» . قَالَ: اذهب فسلم على أولئك - نفر من الملائكة جلوس - فاستمَعَ ما يحيونك فَإِنَّهَا تحيتك وتحية ذريتك قَالَ: السَّلام عليكم. فَقَالُوا: السَّلام عَلَيْكَ ورحمة الله. فزادوا ورحمة الله» . وقَالَ مجاهد: كَانَ عَبْد اللهِ بن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يأخذ بيدي فيخَرَجَ إِلَى السوق يَقُولُ: إني لأخَرَجَ ومالي حَاجَة إلا لأسلم ويسلم عليَّ فأعطي واحدة واحدة وآخذ عشرًا، يَا مجاهد إن السَّلام من أسماء الله تَعَالَى فمن أكثر السَّلام أكثر ذكر الله، ومنها موافقته تحية أَهْل الْجَنَّة فَإِنَّ تحية أَهْل الْجَنَّة فيها سلام كما قَالَ جل شأنه {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} . والسَّلام كما تقدم تحية الْمُؤْمِنِينَ وشعارهم فلا نبدأ أَهْل الكتاب أَوْ الذمة به. ففي حديث أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا تبدؤا اليهود والنَّصَارَى بالسَّلام فإذا لقيتم أحدهم فِي طَرِيق فاضطروه إِلَى أضيقها» . رَوَاهُ أحمد ومسلم. ولما روى أبو نصرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّا غادون على يهود فلا تبدوهم بالسَّلام وإن سلموا عليكم فقولوا: وعليكم» . ويحرم بداءتهم بكيف أصبحت أَوْ كيف أمسيت، أَوْ كيف أَنْتَ أَوْ كيف حالك، أَوْ كما يفعله ضعاف العقول والدين بقولهم لَهُمْ صباح النُّور أَوْ مساء الْخَيْر مَعَ رفع أيديهم نسأل الله العافية أَوْ يقولون لَهُمْ والعياذ بِاللهِ أهلاً ومرحبًا. ولو كتب إِلَى كافر وأراد أن يكتب سلامًا كتب سلام على من اتبع الهدى لما روى الْبُخَارِيّ أنه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ذَلِكَ فِي كتابه إِلَى هرقل عَظِيم الروم، ولأن ذَلِكَ معنى جامَعَ وإن سلم على من ظنه مسلمًا ثُمَّ تبين لَهُ أنه ذمي

حكم ابتداء اليهود والنصارى بالسلام

استحب للمسلم أن يَقُولُ للذمي: رد عليَّ سلامي لما رُوِي عَنْ ابن عمر أنه مَرَّ على رجل فسلم عَلَيْهِ فقِيْل: إنه كافر. فقَالَ: رد عليَّ ما سلمت عَلَيْكَ. فرد عَلَيْهِ فقَالَ: أكثر الله مالك وولدك. ثُمَّ التفت إِلَى أصحابه. فقَالَ: أكثر للجزية. وإن سلم أحد أَهْل الذمة لزم رده فيقَالَ: وعليكم أَوْ يقَالَ: عليكم بلا واو. وفي الصحيحين عَنْ عَبْد اللهِ بن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا سلم عليكم اليهود فإنما يَقُولُ أحدهم: السام عَلَيْكَ فقل لَهُ: وعَلَيْكَ» . هكَذَا بالواو. وفي لفظ: «عَلَيْكَ» . بلا واو وعن أَنَس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم» . رَوَاهُ أحمد. وفي لفظ للإمام أحمد: «فقولوا عليكم بلا واو» . وعن عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: دخل رهط من اليهود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: السام عليكم. ففهمتها فَقُلْتُ: وعليكم السام واللعنة. فقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مهلاً يا عَائِشَة فَإِنَّ الله يحب الرفق فِي الأَمْر كله» . فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوْ لم تسمَعَ ما قَالُوا؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «قَدْ قُلْتُ وعليكم» . متفق عَلَيْهِ. وفي لفظ قَدْ قُلْتُ: «عليكم» . لم يذكر مُسْلِم الواو وعَنْدَ الشَّيْخ تقي الدين يرد مثل تحيته فَيَقُولُ: وعَلَيْكَ مثل تحيتك ... انتهى. ومِمَّا يحرم ويجب النهي عَنْهُ ما يفعله كثير من النَّاس من السَّلام عَلَيْهمْ باليد بالإشارة وجعلها حذاء الرأس أَوْ وضعها على صدره احترامًا لأعداء الله وإشعارًا بأنه يحبهم نسأل الله العافية. قَالَ أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل سئل ايبتداء الذمى بالسَّلام إِذَا كَانَتْ لَهُ إليه حَاجَة؟ قَالَ: لا يعجبني. قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَيْسَ منا من تشبه بغيرنا لا تشبهوا باليهود ولا بالنَّصَارَى، فَإِنَّ تسليم اليهود إشارة الأصابع وتسليم النَّصَارَى إشارة بالأكف» . رَوَاهُ الترمذي عَنْ عَبْد اللهِ بن عمرو بن العاص. ورُوِيَ: لا تسلموا تسليم اليهود

هجران الكفار والفساق بالبدع ومظهر المعاصي

والنَّصَارَى فَإِنَّ تسليمهم إشارة بالكفوف والحواجب. تأمل يَا أخي سلام كثير من النَّاس تجده بالكفوف والحواجب فقط. اللَّهُمَّ نور قلوبنا بالإيمان وثبتها على قولك الثابت فِي الحياة الدُّنْيَا وفي الآخِرَة وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وألحقنا بعبادك الصالحين يَا أكرم الأكرمين ويا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. "فَصْلٌ " ويجب هجر من كفر أَوْ فسق ببدعة أَوْ دعا إِلَى بدعة مضللة أَوْ مفسقة وهؤلاء هم أهل الأهواء والبدع. وأما هجر من أظهر المعاصي وأعلنها فقِيْل: يسن. وقِيْل: يجب. قَالَ الإِمَام أحمد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إِذَا علم أنه مقيم على معصية وَهُوَ يعلم بذَلِكَ لم يأثُمَّ إن جفاه حَتَّى يرجع وإلا كيف يتبين للناس ما هُوَ عَلَيْهِ إِذَا لم ير منكر ولا جفوة من صديق. وقَدْ هجر - صلى الله عليه وسلم - كعبًا وصاحبيه وأمر أصحابه بهجرهم خمسين يَوْمًا وهجر - صلى الله عليه وسلم - زوجاته شهرًا. وهجرت عَائِشَة رضي الله عَنْهَا ابن اختها عَبْد اللهِ بن الزبير رضي الله عنهما مدة. وهجر جماعة من الصحابة وماتوا متهاجرين رضوان الله عَلَيْهمْ أجمعين. قَالَ أبو داود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إِذَا كَانَتْ الهجرة لله فلَيْسَ من هَذَا يعني من أحاديث الوعيد بالهجران بشَيْء. فإن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - هجر بَعْض نسائه أربعين يَوْمًا. وابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ هجر ابنا لَهُ إِلَى أن مَاتَ. والإمام أحمد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ هجر جماعة ممن أجابوا فِي المحنة مثل يحيي بن معين وعلي ابن المديني وَغَيْرِهمَا مَعَ فخامة شأنهم.

موعظة في مكانة الصلاة والحث عليها والتركد فيها

وَكَمْ إمام هجر صديقًا لَهُ كَانَ عزيزًا عَلَيْهِ لولا إنتهاكه لمحارم الله فصار بذَلِكَ كالجماد بل أدنى ويكفي من ذَلِكَ قصة النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ كعب وصاحبيه. وَاللهُ أَعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد. " موعظة " عباد الله لَقَدْ تغير أكثر أهل هَذَا الزمن فِي أحوالهم الدينية تغيرًا يدهش ذوى العقول تغيرًا من أمعن النظر فيهم ظن أنهم ليسوا من فريق الْمُؤْمِنِينَ. هذه الصَّلاة وهي عمود الإِسْلام آكد أركانه بعد الشهادتين أعرضوا عَنْهَا ولم يبالوا فيها جهلوا ما هِيَ الصَّلاة وأي قيمة قيمتها وما منزلتها بين سائر الطاعات. أما علموا أنها أول ما ينظر فيه من عمل الْعَبْد يوم القيامة فَإِنَّ وجدت تامة صَالِحَة قبلت منه وسائر عمله، وإن وجدت ناقصة ردت إليه وسائر عمله ثُمَّ تَكُون كالثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها. عباد الله إن الصَّلاة عبادة ومنجاة وقربى نظامها الركوع والسجود مَعَ التذلل والخضوع وأقولها. القراءة والتسيبح والإبتهال إِلَى الله وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم وروحها الإخلاص لله وسرها إظهار العبودية والإستكانة لعظمة الرب جَلَّ وَعَلا. إنها خمس صلوات فِي الْيَوْم واللَّيْلَة خمس وقفات يقفها الْعَبْد أمام سيده ومولاه خالقه ومدبر أمره ولها عَنْدَ الله ثواب خمسين صلاة شرعت لها الجماعة وأمر ببناء المساجد لأجلها وشرع لها الأذان لينتبه الغَافِل ويتذكر الناسي والجاهل إعلامًا لوقتها ليجتمَعَ المسلمون إليها ويؤدوها فِي جو يسوده الإخاء والمحبة والألفة.

وهي خَيْر العبادات وكَانَتْ قرة عين النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - كما فِي الْحَدِيث: «وجعلت قرة عينى فِي الصَّلاة» . وكَانَ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «أرحنا يَا بلال بالصَّلاة» . عباد الله إن الصَّلاة كما علمتم عماد الدين ونور اليقين ومصدر البر ومبعث الْخَيْر العميم وعصمة لمن وفقه الله عَنْ الفحشاء والْمُنْكَر ونجاة من خزي الدُّنْيَا وعذاب الآخِرَة. وقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيث: «الصَّلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء» . وذكرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا فقَالَ: «من حافظ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة» . عباد الله إن الصَّلاة من أجل الشعائر الدينية وأعظم المظاهر الإِسْلامية ومن أشرف العبادات وهي خَيْر ما يتقرب به الْعَبْد إِلَى الله وقَدْ كَانَ - صلى الله عليه وسلم - يصلي حَتَّى تورمت قدماه. عباد الله إِذَا فهمتم ما سبق من عظم شأن الصَّلاة فما بال قوم يهملونها ويتهاونون بها ويتكاسلون عَنْهَا عَنْدَ حلول وقتها، وما بال أقوم يؤدونها على عجل وعلى غير وجهها وينقرونها نقر الغراب كأنهم مكرهون عَلَيْهَا وينسون أنها وقفة أمام بديع السموات والأرض، فمن الْخَيْر أن تطول هَذِهِ الوقفة. قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه؛ فأطيلوا الصَّلاة وأقصروا الخطبة» . ومن المؤسف أنَّ أكثر الخطباء الْيَوْم عملوا بخلاف ذَلِكَ فأطالوا الخطبة وقصروا الصَّلاة فلا حول ولا قوة إلا بِاللهِ. عباد الله إن بَعْض النَّاس يؤدى الصَّلاة تعودًا لا تعبدًا وَهَذَا ما جعلها لا تنهاه عَنْ فحشاءٍ ولا منكر، لسان حالهم يَقُولُ: يَا إمام أرحنا من الصَّلاة. عباد الله إن الله جَلَّ وَعَلا أنعم عَلَيْنَا بنعم عظيمة لا تعد ولا تحصى جعلنا

فصل في الأخوة لله والألفة لله والصداقة في الله والحب في الله والله

من بني آدم وجعل لَنَا سمعًا وأبصارًا وأفئدة ومنحنا النَّشَاط والقوة وشد أسرنا ووهبنا الصحة والعافية والرزق وسهل عَلَيْنَا الحركة والسعى. هَذَا البعض اليسير من نعمه كله كرمًا منه وتفضلاً ولم يطلب منا إلا دقائق من يوم طويل نشكره فيها ونحمده ونسأله أن يعفو عنا ويرزقنا ويرحمنا ويحفظنا وأولادنا وأهلنا. وهذه لاتخَرَجَ عَنْ كونها لخيرنا فِي الدُّنْيَا والآخِرَة. فما لَنَا لا نقوم بهذه الدقائق بجد وإجتهاد وإخلاص ورغبة ونشاط ونسعى إِلَى مناجاة مولانَا وسيدنا راغبين ونحافظ على أوقات الصَّلاة ونقيمها على الوجه الأكمل، لا شك أن الْعَبْد عِنْدَمَا يحاسب نَفْسهُ يخجل ويستحي جدًا ويتذكر أن الصَّلاة التِي هِيَ صلة بينه وبين مولاه لا تأخذ من يومه إلا دقائق بينما لَهُ باقي الْيَوْم كله. اللَّهُمَّ ارزقنا المعرفة على بصيرة بك وبأسمائك وصفاتك وَوَفِّقْنَا لما تحبه وترضاه من الأَعْمَال وجنبنا ما تكرهه ولا ترضاه من الأقوال والأعمال وآتنا فِي الدُّنْيَا حسُنَّة وَفِي الآخِرَة حسُنَّة وقنا عذاب النار يَا عزيز ويا غفار واغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. " فَصْلٌ " " فيما ورد فِي الأخوة والألفة والصداقة فِي الله " عن أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «ثلاث من كن فيه وَجَدَ بهن حلاوة الإِيمَان من كَانَ الله ورسوله أحب إليه مِمَّا سواهما ومن أحب عبدًا لا يحبه إلا لله» . الْحَدِيث رَوَاهُ الْبُخَارِيّ ومسلم والترمذي والنسائي.

وَفِي رواية: «ثلاث من كن فيه وَجَدَ بهن حلاوة الإِيمَان وطعمه: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مِمَّا سواهما، وأن يحب فِي الله ويبغض فِي الله» . الْحَدِيث رَوَاهُ الْبُخَارِيّ ومسلم. وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تَعَالَى يَقُولُ يوم القيامة أين المتحابون بجلالي، الْيَوْم أظلهم فِي ظلي يوم لا ظِلّ إلا ظلي» . رَوَاهُ مُسْلِم. وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «سبعة يظلهم الله فِي ظله يوم لا ظِلّ إلا ظله: الإِمَام العادل، وشاب نشأ فِي عبادة الله، ورجل معلق قَلْبهُ فِي المساجد، ورجلان تحابا فِي الله اجتمعا عَلَيْهِ وتفرقا عَلَيْهِ، ورجل دعته امراة ذات منصب وجمال فقَالَ: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفلها حَتَّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خَالِيًا ففاضت عَيْنَاهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيّ ومسلم وَغَيْرِهمَا. وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أن رجلاً زار أخًا لَهُ فِي قرية أخرى فأرصد الله على مدرجته ملكًا فَلَمَّا أتى عَلَيْهِ قَالَ: أين تريد؟ قَالَ: أخًا لي فِي هَذِهِ القرية. قَالَ: هل لَكَ عَلَيْهِ من نعمة تربها؟ قَالَ: لا غير أني أحبه لله. قَالَ: فإني رسول الله إليك أن الله قَدْ أحبك كما أحببته فيه» . رَوَاهُ مُسْلِم. وعن أبي مُسْلِم قَالَ: قُلْتُ لمعاذ: وَاللهِ أني لأحبك لغير دنيا أرجو أن أصيبها منك ولا قرابة بيني وبينك. قال: فبأي شيء؟ قلت: لله. قال: فجذب جبوتي ثم قَالَ: أبشر إن كنت صادقًا فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «المتحابون فِي الله فِي ظِلّ العرش يوم لا ظِلّ إلا ظله، يغبطهم بمكانهم النبيون والشهداء» . قَالَ: ولقيت عبادة بن الصامت فحدثته بحديث معاذ.

شِعْرًا: ... وَكُلُّ مَحَبَّةٍ فِي اللهِ تَبْقَى ... عَلَى الْحَالَيْنِ فِي سِعَةٍ وَضِيقِ وَكُلُّ مَحَبَّةٍ فِيمَا سِوَاهُ ... فَكَالْحَلَفَاءِ فِي لَهَبِ الْحَرِيقِ آخر: ... إِذَا اعْتَذَرَ الصَّدِّيقَ إِلَيْكَ يَوْمًا ... مِنَ التَّقْصِير عُذْر فَتَىً مُقِرّ فَصِنْهُ مِنْ عِتَابِكَ وَاعْفُ عَنْهُ ... فَإِنَّ الْعَفْوِ شِيمَةُ كُلَّ حُرّ شِعْرًا: ... لا تَهْجُرَنَّ أَخَاكَ إِنْ أَبْصَرْتَهُ ... لَكَ جَافِيًا وَلِمَا تُحِبُّ مُجَافِيَا فَالْغُصْنُ يَذْبُلُ ثُمَّ يُصْبِحُ مَورِقًا ... وَالْمَاء يَكدُّرُ ثُمَّ يُصْبِحُ صَافِيًا فقَالَ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ عَنْ ربه تبارك وتَعَالَى: «حقت محبتي على الْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وحقت محبتي على المتناصحين فِيَّ، وحقت محبتي على المتباذلين فِيَّ. هم على منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء والصديقون» . رَوَاهُ ابن حبان فِي صحيحه. وعن عبادة بن الصامت رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأثر عَنْ ربه تبارك وتَعَالَى يَقُولُ: «حقت محبتي للمتحابين فِيَّ، وحقت محبتي للمتواصلين فِيَّ، وحقت محبتي للمتزاورين فِيَّ، وحقت محبتي للمتباذلين فِيَّ» . رَوَاهُ أحمد بإسناد صحيح. وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إن من عباد الله عباد ليسوا بأنبياء يغبطهم الأَنْبِيَاء والشهداء» . قِيْل: من هم لعلنا نحبهم. قَالَ: «هم قوم تحابوا بنور الله من غير أرحام ولا أنساب، وجوهم نور على منابر من نور لا يخافون إِذَا خاف النَّاس ولا يحزنون إِذَا حزن النَّاس» . ثُمَّ قرأ: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} . رَوَاهُ النسائي فِي صحيحه واللفظ لَهُ وَهُوَ أتم. وعن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إن من عباد الله لأناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأَنْبِيَاء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ فأخبرنا من هم.

قَالَ: «هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فو الله إن وجوهم لنور وإنهم لعلى نور ولا يخافون إِذَا خاف النَّاس ولا يحزنون إِذَا حزن النَّاس» . وقرأ هَذِهِ الآية {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} رَوَاهُ أبو داود. وعن عمار بن ياسر أن أصحابه كَانُوا ينتظرونه فَلَمَّا خَرَجَ قَالُوا: ما أبطاك عنا أيها الأمير قَالَ: أما إني سوف أحدثكم أَنَّ أخًا لكم ممن كَانَ قبلكم وَهُوَ مُوَسى عَلَيْهِ السَّلام قَالَ: يا رب حدثني بأحب النَّاس إليك قَالَ: ولم. قَالَ: لأحبه بحبك إياه. قَالَ: «عبد فِي أقصى الأرض أَوْ طرف الأرض سمَعَ به عبد آخر فِي أقصى أَوْ طرف الأرض لا يعرفه فَإِنَّ أصابته مصيبة فكأنما أصابته، وإن شاكته شوكتة فكأنَّما شاكته لا يحبه إلا لي فَذَلِكَ أحب خلقي إِلَي» . قَالَ: يَا رب خلقت خلقًا تدخلهم النار أَوْ تعذبهم فأوحى الله إليه» . كلهم خلقي. ثُمَّ قَالَ: ازرعْ زرعًا فَزَرَعَهُ فقَالَ: اسقه. فسقاه ثُمَّ قَالَ: قم عَلَيْهِ ما شَاءَ الله من ذَلِكَ فحصده ورفعه فقَالَ: ما فعل زرعك يَا مُوَسى؟ قَالَ: فرغت منه ورفعته. قَالَ: ما تركت منه شَيْئًا؟ قَالَ: ما لا خَيْر فيه أَوْ ما لا حَاجَة لي فيه. قَالَ: فكَذَلِكَ أَنَا لا أعذب إلا من لا خَيْر فيه» . قَالَ: ولو لم يكن فِي محبة الله إلا أنها تنجي محبة من عذابه لكَانَ ينبغي للعبد أن لا يتعوض عَنْهَا بشَيْء أبدًا. وسئل بَعْض الْعُلَمَاء: أين تجد فِي القرآن أن الْحَبِيب لا يعذب حبيبه؟ فقَالَ فِي قوله تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم} . الآية

موعظة بليغة في الحث على ذكر الله وأنه كنز من كنوز الجنة

اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لتدبر كتابك وإطالة التامل فيه وجمَعَ الفكر على معاني آياته. اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قواعد الإِيمَان فِي قلوبنا وشيد فيها بنيانه ووطد فيها أركانه وألهمنا ذكرك وشكرك وآتنا فِي الدُّنْيَا حسُنَّة وفي الآخِرَة حسُنَّة وقنا عذاب النار. وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين " موعظة " عباد الله لَقَدْ غفلت الألسُنَّة الْيَوْم عَنْ ذكر الله غَفْلَة تسر إبلَيْسَ وجنوده ولما غفلت الألسُنَّة غفلت الْقُلُوب عَنْ مُرَاقَبَة الله فِي السِّرّ والعلانية، ولما غفلت الْقُلُوب والألسُنَّة عَنْ ذكر الله اندفعت الْجَوَارِح فِي ميدان المعاصى إندفاعًا لا يصدق به إلا من تأمل النَّاس فِي تفننهم فِي الشرور وتسابقهم إليها. من تقليد للأجانب وشرب لدخان ومعاملات لا تجوز ونفاق وغش ونهش لأعراض الغافلين وخداع ومكر ورياء وربا وكبر وحسد وسماع للملاهي وحضورها وعقوق وشهادة زور ورشاء ومداهنات ونم وكذب ونحو ذَلِكَ. ولو تحركت الألسُنَّة بذكر الله لاستيقظت الْقُلُوب من غفلاتها القاتلات ولو استيقظت الْقُلُوب والتفتت إِلَى ذكر علام الغيوب ما رأيت جارحة من الْجَوَارِح تلتفت لشئ من المحظورات فَإِنَّ الغَفْلَة عَنْ ذكر الله هي أصل الشرور واليقظة هِيَ أصل الْخَيْر والسعادة فِي الدُّنْيَا والآخِرَة بإذن الله تَعَالَى. وإليك نماذج من كنوز ذكر الله تَعَالَى أولها كلمة الإخلاص لا إله إلا الله فَإِنَّهَا ترجح بكل ما سواها حَتَّى على الأرض والسماوات، وسبحان الله والحمد لله والله أكبر. فقَدْ رُوِي عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قَالَ: «لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إِلَى مِمَّا طلعت عَلَيْهِ الشمس» . رَوَاهُ مُسْلِم والترمذي.

شِعْرًا: ... وَمَنْ يُنْفِقُ السَّاعَاتِ فِي الذِّكْرِ رَابِحٌ ... يَفُزْ يَوْمَ لا ظِلٌّ سِوَى ظِلِّ رَبِّهِ آخر: ... مَنْ لَمْ يَكُنْ وَقْتُهُ ذِكْرٌ وَقُرْآنُ ... فَإِنَّ أَوْقَاتَهُ نَقْصٌ وَخُسْرَانُ وعن أم هانئ قَالَتْ: مر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ كبرت سني وضعفت أَوْ كما قَالَتْ: فمرني بعمل أعمله وأنَا جالسة. قَالَ: «سبحي الله مائة مرة فَإِنَّهَا تعدل مائة رقبة تعتقينها من ولد إسماعيل، واحمدي الله مائة تحميدة فَإِنَّهَا تعدل لَكَ مائة فرس مسرجة ملجمة تحملين عَلَيْهَا فِي سبيل الله، وكبري الله مائة تكبيرة فَإِنَّهَا تعدل لَكَ مائة بدنة متقلبة، وهللي الله مائة تهليلة» . قَالَ أبو خلف أحسبه قَالَ: تملأ ما بين السماء والأرض ولا يرفع يومئذ لأحد عمل أَفضل مِمَّا يرفع لَكِ إلا أن يأتي بمثل ما أَتيت» . رَوَاهُ أحمد بإسناد حسن واللفظ لَهُ والنسائي ولم يقل ولا يرفع إِلَى آخره ولا حول ولا قوة إلا بِاللهِ دواء من تسعة وتسعين داء أيسرها الْهَّمّ كما فِي الْحَدِيث الذي رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ. ولا حول ولا قوة إلا بِاللهِ كنز من كنوز الْجَنَّة وقول أعوذ بكلمَاتَ الله التامَاتَ من شر ما خلق حفظ لقائلها من العقرب ونحوها. ومن قَالَ: رضيت بِاللهِ ربًا وبالاسلام دينًا وبمُحَمَّد رسولاً فليبشر بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - زعيم لمن قالها: إِذَا أصبح أن يدخل الْجَنَّة. وقل: إِذَا أصبحت اللَّهُمَّ ما أصبح بي من نعمة أَوْ بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لَكَ، فلك الحمد ولك الشكر لتؤدي شكر يومك وقل مثلها إِذَا أمسيت لتؤدي شكر ليلتك. شِعْرًا: ... إِذَا مَا الْمَرْءُ أَخْطَأه ثَلاثٌ ... فَبِعْهُ وَلَوْ بِكَفٍ مِنْ رَمَادٍ رِضَا الرَّحْمَن مَعَ صِدْقٍ وَزُهْدٍ ... فَخُذْهَا وَاحْفَظَنْهَا فِي الْفُؤادِ

الحث على الحب في الله وما ورد فيه من الأحاديث

شِعْرًا: ... وَلوْلا ثَلاثٍ هُنَّ مِنْ لَذَّةِ الْفَتَى ... وَرَبُّكَ لَمْ أَحْفِلْ مَتَى قَامَ عُوَّدِي سِيَاحَةُ قَلْبِي فِي رِيَاضٍ أَرِيضَةً ... مِن الْعِلْمِ مُجْتَازًا عَلَى كُلِّ مَوْرِدِ وَتَسْبِيحُنَا للهِ جَلَّ جَلالُهُ ... عَشِيًّا وَبِالإِبْكَارِ فِي كُلِّ مَسْجِدِ وَتَرْتلُ آيَاتِ الْكِتَابِ مُنَوِّرًا ... بِهَا جَوْفَ لَيْلَ فِي قِيَامِ التَّهَجُّدِ اللَّهُمَّ يا حي يَا قيوم يَا من لا تأخذه سُنَّة ولا نوم مكن محبتك فِي قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وأعنَّا على القيام بِطَاعَتكَ والانتهاء عَنْ معصيتك، اللَّهُمَّ افتح لدعائنا باب القبول والإجابة فإِنَّا ندعوك دعاء من كثرت ذنوبه وتصرمت آماله وبقيت آثامه وانسبلت دمعته وانقطعت مدته دعاء من لا يرجو لذنبه غافرًا غيرك ولا لما يؤلمه من الخيرات معطيًا سواك يا رب العالمين. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. "فَصْلٌ " وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عَنْهُ عَنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَا أيها النَّاس اسمعوا واعقلوا واعلموا أن لله عَزَّ وَجَلَّ عبادًا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم وقربهم من الله» . فجثى رجل من الأعراب من قاصية النَّاس وألوى بيده إِلَى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأَنْبِيَاء والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله انعتهم لَنَا جلهم لَنَا - يعني صفهم لَنَا -. فسر وجه النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بسؤال الأعرابي. فقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «هم ناس من أفناء النَّاس ونوازع القبائل لم تصل بينهم أرحام متقاربة تحابوا فِي الله وتصافوا يضع الله لَهُمْ يوم القيامة منابر من نور فيجلسون عَلَيْهَا فيجعل وجوهم وثيابهم نورًا يفزع النَّاس يوم القيامة ولا يفزعون وهم أولياء الله لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون» . رَوَاهُ أحمد وأبو يعلى بإسناد حسن والحاكم وقَالَ: صحيح الاسناد

وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إن فِي الْجَنَّة لعمدًا من ياقوت عَلَيْهَا غرف من زبرجد لها أبواب مفتحة تضيء كما يضيء الكوكب الدري: قَالَ: قلنا: يَا رَسُولَ اللهِ من يسكنها؟ قَالَ: «المتحابون فِي الله والمتباذلون فِي الله والمتلاقون فِي الله» . رَوَاهُ البزار. وعن بريدة رضي الله عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إن فِي الْجَنَّة غرفًا تَرَى ظواهرها من بواطنها وبواطنها من ظواهرها أعدها الله للمتحابين فيه والمتزاورين فيه والمتباذلين فيه» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الأوسط. وعن أَنَس رضي الله عَنْهُ أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: متى الساعة؟ قَالَ: «وما أعددت لها» . قَالَ: لا شَيْء إلا إني أُحبُّ الله ورسوله. قَالَ: «أَنْتَ مَعَ من أحببت» . قَالَ أَنَس: فما فرحنا بشَيْء فرحنا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أَنْتَ مَعَ من أحببت» . قَالَ: أَنَس فأنَا أحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم» . رَوَاهُ مُسْلِم. ففي هَذَا الْحَدِيث بشارة لمن أحب الله ورسوله وأصحابه ومن اتبعهم واقتدى بِهُمْ ولهَذَا فرح أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهَذَا النبأ الحسن واغتبطوا لَهُ اغتباطًا فائقًا وإنما سروا به وفرحوا لأنهم كَانُوا يقيسون أنفسهم على شخص النبي - صلى الله عليه وسلم - فِي العبادة وكَانَ - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالْقَصْد فيها والرفق بأنفسهم. ففي حديث الْبُخَارِيّ عَنْ عَائِشَة رضي الله عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أمرهم، أمرهم من الأَعْمَال ما يطيقون، ويقولون: إِنَّا لسنا مثلك يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ الله قَدْ غفر لَكَ ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فيغضب حَتَّى يعرف فِي وحهه. ثُمَّ يَقُولُ: «أما وَاللهِ إني لأخشاكم لله وأتقاكم لَهُ» . وكأنهم يقولون أَنْتَ

مغفور لَكَ فلا تحتاج إِلَى كثرة أعمال بخلافنا فرد عَلَيْهمْ - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «أَنَا أولاكم بذَلِكَ لأني أتقاكم وأعلمك بِاللهِ» . مَنْ كَانَ كَذَلِكَ يكثر أعماله وتعظم عبادته لشدة خوفه من ربه وتمام معرفته بما يليق بجلال الله وعظمته ولأن نعم الله عَلَيْهِ أكثر من غيره قَالَ الله تَعَالَى: {وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} ولهَذَا سر الصحابة بما قاله النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لهَذَا الرجل السائل. وقَالُوا: فما فرحنا بشَيْء فرحنا بقول الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم -: «أَنْتَ مَعَ من أحببت لما وفقك الله لَهُ من حسن النِّيْة والْقَصْد من غير اجهاد فِي الْعَمَل وزيادة فِي العبادة. والحق أنه لا يتم ولا يكتمل إيمان الإنسان إلا بإيثار النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمحبة والتعَظِيم على سائر خلق الله ففي الْحَدِيث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حَتَّى أكون أحب إليه من والده وولده» . وفي رواية: «والنَّاس أجمعين» . ومن علامَاتَ محبته إيثار رضاه والْعَمَل بشريعته ونصر سنته والتآسي به فِي شمائله وسيرته الكريمة المباركة أما من ادَّعَى محبته ولم يؤثر بالْعَمَل شريعته فتلك دعوى باطلة وتبجح كاذب لأن صاحبها لم يقم حجة على صحة دعواه وأحقية ما ادعاه. اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لمحبتك ومحبة رسلك وأوليائك وعبادك الصالحين واغفر لَنَا اللَّهُمَّ اسلك بنا سبيل الأبرار وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك المصطفين الأخيار وامنن عَلَيْنَا بالعفو والعتق من النار واغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

حكم المصافحة وفوائدها وبدعها موعظة وقصيدة في مدح رب العزة والجلال

" فَصْلٌ " عن الوليد بن أبي مغيث عَنْ مجاهد قَالَ: إِذَا التقى المسلمان فتصافحا غفر لهما. قَالَ: قُلْتُ لمجاهد: بمصاحفة لهما؟ قَالَ مجاهد: أما سمعته يَقُولُ: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} . فقَالَ الوليد لمجاهد: أَنْتَ أعْلَمُ مني. وعن سلمان الفارسى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إن المسلم إِذَا لقى أخاه المسلم فأخذ بيده تحاتت عنهما ذنوبهما كما تحات الورق عَنْ الشجرة اليابسة فِي يوم ريح عاصف وإلا غفر لهما ذنوبهما ولو كانت مثل زبد البحار» . وقَالَ أبو عمرو الأوزعي حدثني عبدة بن لبابة عَنْ مجاهد ولقيته فأخذ بيدي فقَالَ: إِذَا التقا المتحابان فِي الله فأخذ أحدهما بيد صاحبه وضحك إليه تحاتت خطاياهم كما تحات ورق الشجر. قَالَ عبدة: فَقُلْتُ لَهُ: هَذَا يسير؟ فقَالَ: لا تقل ذَلِكَ فَإِنَّ الله يَقُولُ: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} . قَالَ عبدة: فعرفت أنه أفقه مني. " مَوْعِظَةٌ مِن كلامِ ابنِ الجَوْزِىْ رَحِمَهُ اللهُ " يا من يرجى الثواب بغير عمل ويرجى التوبة بطول الأمل تَقُول فِي الدُّنْيَا قول الزاهدين وتعمل فيها عمل الراغبين لا بقليل مَنْهَا تقنع، ولا بكثير مَنْهَا تشبع تكره الموت لأجل ذنوبك وتقيم على ما تكره الموت لَهُ من عيوبك. تغلبك نفسك على ما تظن ولا تغلبها على ما تستقين، ما تثق من الرزق بما ضمن لَكَ، ولا تعمل من الْعَمَل ما فرض عَلَيْكَ وتستكثر من معصية غيرك ما تحتقره من نفسك. أما تعلم إِنَّ الدُّنْيَا كالحية لين ملمسها والسم الناقع فِي جوفها يهوى ألبها.

الصبي الجاهل ويحذرها اللبيب العاقل كيف تقر عين من عرفها وما أبعد أن يفطم عَنْهَا من ألفها فتفكروا إخواني فِي أهل الصلاح والفساد وميزوا بين أهل الْخُسْرَانُ وأهل الأرباح فيا سرعان عمر يفنيه المساء والصباح. " شِعرٌ لبَعْضِ الصَّالِحِيْنَ فِي مَدْحِ رَبِّ العِزَّةِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى " يَا فَاطِرَ الْخَلْقِ الْبَدِيعِ وَكَافِلاً ... رِزْقَ الْجَمِيعِ سِحَابُ جُودِكَ هَاطِلُ يَا مُسْبِغَ الْبَرِّ الْجَزِيلِ وَمُسْبِلَ السِّـ ... ـتْرِ الْجَمِيلِ عَمِيمُ طَوْلِكَ طَائِلُ يَا عَالِمَ السِّرِّ الْخَفِيّ وَمُنْجِزَ الْـ ... وَعْدِ الْوَفِيِّ قَضَاءُ حُكْمِكَ عَادِلُ عَظُمَتْ صِفَاتُكَ يَا عَظِيمُ فَجَلَّ إِنَّ ... يُحْصِي الثَّنَاءَ عَلَيْكَ فِيهَا قَائِلُ الذَّنْبُ أَنْتَ لَهُ بِمَنِّكَ غَافِرٌ ... وَلِتَوْبَةِ الْعَاصِي بِحِلْمِكَ قَابِلُ رَبٌّ يُرَبِي الْعَالَمِينَ بِبِرِّهِ ... وَنَوَالُهُ أَبَدًا إِلَيْهِمْ وَاصِلُ تَعْصِيهِ وَهُوَ يَسُوقُ نَحْوَكَ دَائِمًا ... مَا لا تَكُونُ لِبَعْضِهِ تَسْتَاهِلُ مُتَفَضِّلٌ أَبَدًا وَأَنْتَ لِجُودِهِ ... بِقَبَائِح الْعِصْيَانِ مِنْكَ تُقَابِلُ وَإِذَا دَجَى لَيْلُ الْخُطُوبِ وَأَظْلَمَتْ ... سُبْلُ الْخَلاصِ وَخَابَ فِيهَا الآمِلُ وَآيَسَتْ مِنْ وَجْهِ النَّجَاةِ فَمَا لَهَا ... سَبَبٌ وَلا يَدْنُو لَهَا مُتَناوَلُ يَأْتِيك مِنْ أَلْطَافِهِ الْفَرَجُ الَّذِي ... لَمْ تَحْتَسِبْهُ وَأَنْتَ عَنْهُ غَافِلُ يَا مُوجِدُ الأَشْيَاءِ مِنَ أَلْقَى إِلَى ... أَبْوَابِ غَيْرِكَ فَهُوَ غِرٌّ جَاهِلُ وَمَنْ اسْتَرَاحَ بِغَيْرِ ذِكْرِكَ أَوْ رَجَا ... أَحَدًا سِوَاكَ فَذَاكَ ظِلٌّ زَائِلُ عَمَلٌ أُرِيدَ بِهِ سِوَاكَ فَإِنَّهُ ... عَمَلُ وَإِنْ زَعَمَ الْمُرَائي بَاطِلُ وَإَذَا رَضِيتَ فَكُلُّ شَيْءٍ هَيِّنٌ ... وَإِذَا حَصَلْتَ فَكُلُّ شَيْءٍ حَاصِلُ أَنَا عَبْدُ سُوءٍ آبِقٌ كُلٌّ عَلَى ... مَوْلاهُ أَوْزَارُ الْكَبَائِرِ حَامِلُ قَدْ أَثَقَلَتْ ظَهْرِي الذُّنُوبُ وَسَوَّدَتْ ... صُحُفِي الْعُيوُبُ وَسِتْرُ غَفْوِكَ شَامِلُ هَا قَدْ أَتَيْتَ وَحُسْنُ ظَنِّي شَافِعِي ... وَوَسَائِلِي نَدَمٌ وَدَمَعٌ سَائِلُ فَاغْفِرْ لِعَبْدِكَ مَا مَضَى وَارْزُقْهُ تَوْ ... فِيقًا لِمَا تَرْضَى فَفَضْلُكَ كَامْلُ

لذة كل أحد على حسب قدره وهمته وشرف نفسه

.. وَافْعَلْ بِهِ مَا أَنْتَ أَهْلُ جَمِيلِهِ ... وَالظَّنُّ كُلَّ الظَّنِّ أَنَّكَ فَاعِلُ اللَّهُمَّ إِنَا ظلمنا أنفسنا فاغفر لَنَا ذنوبنا وهب لَنَا تقواك واهدنا بهداك ولا تلكنا إِلَى أحد سواك. واجعل لَنَا من كُلّ هم فرجًا ومن كُلّ ضيق مخرجًا. اللَّهُمَّ أعذنا بمعافتك من عقوبتك وبرضاك من سخطك. اللَّهُمَّ إِنَا نسالك التَّوْفِيق للهداية والبعد عَنْ أسباب الجهالة والغواية ونسألك الثبات على الإِسْلام والسُنَّة وأن لا تزيغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ونعوذ بك من مضلات الفتن ما ظهر مَنْهَا وما بطن ونسألك أن تنصر دينك وكتابك ورسولك وعبادك الْمُؤْمِنِينَ وأن تظهر دينك على الدين كله ولو كره الكافرون. وَاللهُ أَعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد وآلِهِ وسلم. " فَصْلٌ " قَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: لذة كُلّ أحد على حسب قدره وهمته وشرف نَفْسهُ فأشرف النَّاس نفسًا وأعلاهم همة وأرفعهم قدرًا من لذته فِي معرفة الله ومحبته والشوق إِلَى لقائه والتودد إليه بما يحبه ويرضاه فلذته فِي إقباله عَلَيْهِ وعكوف همته عَلَيْهِ. ودون ذَلِكَ مراتب لا يحصيها إلا الله حَتَّى تنتهي إِلَى من لذته فِي أخس الأَشْيَاءِ من القاذورات والفواحش فِي كُلّ شَيْء من الكلام والأفعال والأشغال فلو عرض عَلَيْهِ ما يلتذ به الأول لم تسمح نَفْسهُ بقبوله ولا الالتفات إليه، وَرُبَّمَا تألمت من ذَلِكَ كما أن الاول إِذَا عرض عَلَيْهِ ما يلتذ به هَذَا لم تسمح نَفْسهُ به ولم تلتفت إليه ونفرت نَفْسهُ منه، وأكمل النَّاس لذة من جمَعَ لَهُ بين لذة الْقَلْب والروح ولذة البدن فهو يتناول لذاته المباحة على وجه لا ينقص حظه من الدار الآخِرَة ولا يقطع عَلَيْهِ لذة المعرفة والمحبة والأنس بربه فهَذَا ممن قَالَ تَعَالَى فيه {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}

وأبخسهم حظًا من اللذة من تناولها على وجه يحول بينه وبين لذات الآخِرَة فيكون ممن يقَالَ لَهُمْ يوم استيفاء اللذات {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا} . فهؤلاء تمتعوا بالطيبات وأولئك تمتعوا وافترقوا فِي وجه التمتع فأولئك تمتعوا بها على الوجه الذي أذن فيه فجمَعَ لَهُمْ بين لذة الدُّنْيَا والآخِرَة وهؤلاء تمتعوا بها على الوجه الذي دعاهم إليه الهوى والشهوة، وسواء أذن لَهُمْ فيه أم لا انقطعت عنهم لذة الدُّنْيَا وفاتهم لذة الآخِرَة. فلا لذة الدُّنْيَا دامت ولا لذة الآخِرَة حصلت لَهُمْ فمن أحب اللذة ودوامها والعيش الطيب فليجعل لذة الدُّنْيَا موصلة إِلَى لذة الآخِرَة بأن يستعين على فراغ قَلْبهُ لله إرادته وعبادته فيتناولها بحكم الاستعانة والقوة على طلبه لا بحكم مجرد الشهوة والهوى وإن كَانَ ممن زويت عَنْهُ لذات الدُّنْيَا فليجعل ما نقص مَنْهَا زيادة فِي لذة الآخِرَة ويجم نَفْسهُ ها هنا. بالترك ليستوفيها كاملة هناك. فطيبات الدُّنْيَا ولذاتها نعم العون لمن صح طلبه لله والدار الآخِرَة وكَانَتْ همته لما هناك. وبئس القاطع لمن كَانَتْ هِيَ مقصوده وهمته وحولها يدندن وفواتها فِي الدُّنْيَا نعم العون لطالب الله والدار الآخِرَة، وبئس القاطع النازع من الله والدار الآخِرَة فمن أخذ منافع الدُّنْيَا على وجه لا ينقص حظه من الآخِرَة ظفر بهما جميعًا وإلا خسرهما جميعًا. وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: سبحان الله رب العالمين لو لم يكن فِي ترك الذُّنُوب والمعاصي إلا إقامة المروءة وصون العرض وحفظ الجاه وصيانة الْمَال الَّذِي جعله الله قوامًا لمصالح الدُّنْيَا والآخِرَة ومحبة الخلق وجواز القول بينهم.

وصلاح المعاش وراحة البدن وقوة الْقَلْب وطيب النفس ونعيم الْقَلْب وانشراح الصدر والأمن من مخاوف الفساق والفجار وقلة الهم والغم والحزن وعز النفس عَنْ احتمال الذل وصون نور الْقَلْب أن تطفئه ظلمة المعصية وحصول المخَرَجَ لَهُ مِمَّا ضاق على الفساق والفجار. وتيسير الرزق عَلَيْهِ من حيث لا يحتسب وتيسير ما عسر على أرباب الفسوق والمعاصي وتسهيل الطاعات عَلَيْهِ وتيسير العلم والثناء الحسن فِي النَّاس وكثرة الدُّعَاء لَهُ والحلاوة التِي يكتسبها وجهه والمهابة التِي تلقى لَهُ فِي قُلُوب النَّاس. شِعْرًا: ... يَشْقَى رِجَالُ وَيَشْقَى آخَرُونَ بِهُمْ ... وَيُسْعِدُ الله أَقْوَامًا بِأَقْوَامِ وَلَيْسَ رِزْقُ الْفَتَى مِنْ حُسْنِ حِيلَتِهِ ... لَكِنْ حُظُوظُ مِنَ اللهِ لأَقْوَامِ كَالصَّيْدِ يُحْرمُهُ الرَّامِي الْمُجِيدُ وَقَدْ ... يَرْمِي فَيَرْزُقُهَ مَنْ لَيْسَ بِالرَّامِي وَانْتِصَارُهُمْ لَهُ وحميتهم لَهُ إِذَا أوذي أَوْ ظلم وذبهم عَنْ عرضه إِذَا اغتابه مغتاب وسرعة إجابة دعائه وزَوَال الوحشة التِي بينه وبين الله وقرب الملائكة منه. وبعد شياطين الإنس والجن منه وتنافس النَّاس على خدمته. وخطبهم لمودته وصحبته وعدم خوفه من الموت بل يفرح به لقدومه على ربه ولقائه لَهُ ومصيره إليه وصغر الدُّنْيَا فِي قَلْبهُ وكبر الآخِرَة عنده وحرصه على الملك الكبير والفوز العَظِيم فيها وذوق حلاوة الطاعة ووَجَدَ حلاوة الإِيمَان ودعاء حملة العرش ومن حوله من الملائكة لَهُ وفرح الكرام الكاتبين به ودعاءهم لَهُ كُلّ وَقْت والزيادة فِي عقله وفهمه وإيمانه ومعرفته وحصول محبة الله لَهُ وإقباله عَلَيْهِ وفرحه بتوبته. فهَذَا بَعْض آثار ترك المعاصي فِي الدُّنْيَا فإذا مَاتَ تلقته الملائكة بالبشرى من ربه بالْجَنَّة وبأنه لا خوف عَلَيْهِ ولا يحزن وينتقل من سجن الدُّنْيَا وضيقها إِلَى روضة من رياض الْجَنَّة ينعم فيها إِلَى يوم القيامة

فإذا كَانَ يوم القيامة كَانَ النَّاس فِي الحر والعرق وَهُوَ فِي ظِلّ العرش فاذا انصرفوا بين يدي الله أخذ به ذات اليمين مَعَ أوليائه المتقين وحزبه المفلحين وَذَلِكَ فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العَظِيم وَاللهُ أَعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم "فَصْلٌ " وقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: وَمِمَّا ينبغي أن يعلم: أن الرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إِلَى الْعَبْد وإن كرهتها نَفْسهُ وشقت عَلَيْهَا فهذه هِيَ الرحمة الحقيقية. فارحم النَّاس بك من شق عَلَيْكَ فِي إيصال مصالحك ودفع المضار عَنْكَ. فمن رحمة الأب بولده: أن يكرهه على التأديب بالعلم والْعَمَل ويشق عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ بالضرب وغيره ويمنعه شهواته التِي تعود بضرره ومتى أهمل ذَلِكَ من ولده كَانَ لقلة رحمته به. وإن ظن أنه يرحمه ويرفهه ويريحه فهذه رحمة مقرونة بجهل كرحمة الأم لهَذَا كَانَ من تمام رحمة أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ تسليط أنواع البَلاء على الْعَبْد فإنَّه أَعْلَمُ بمصلحته فابتلاؤه لَهُ وامتحانه ومنعه من أغراضه وشهواته: من رحمته به ولكن الْعَبْد لجهله وظلمه يتهم ربه بابتلاءه ولا يعلم إحسانه إليه بابتلائه وامتحانه. وقَدْ جَاءَ فِي الأثر: أن المبتلى إِذَا دُعِيَ لَهُ: اللَّهُمَّ ارحمه يَقُولُ الله سُبْحَانَهُ: كيف أرحمه من شَيْء به أرحمه. وفي أثر آخر: إن الله تَعَالَى إِذَا أحب عبده حماه الدُّنْيَا وطيباتها وشهواتها كما يحمى أحدكم مريضه. فهَذَا من تمام رحمته به لا من بخله عَلَيْهِ. كيف وَهُوَ الجواد الماجد الَّذِي لَهُ الجود كله وجود الخلائق فِي جنب جوده أقل من ذرة فِي جبال الدُّنْيَا ورمالها.

قصيدة في الحث على التوبة والتزود للآخرة

فمن رحمته سُبْحَانَهُ بعباده: ابتلاؤهم بالأوامر والنواهي رحمة وحمية لا حَاجَة منه إليهم بما أمرهم به فهو الغني الحميد ولا بخلاً منه عَلَيْهمْ بما نهاهم عَنْهُ فهو الجواد الكريم. ومن رحمته أن نغص عَلَيْهمْ الدُّنْيَا وكدرها لئلا يسكنوا إليها ولا يطمئنوا إليها ويرغبوا فِي النَّعِيم الْمُقِيم فِي داره وجواره فساقهم إِلَى ذَلِكَ بسياط الابتلاء والامتحان فمنعهم ليعطيهم وابتلاهم ليعاقبهم وأماتهم ليحييهم. ومن رحمته بِهُمْ: أن حذرهم نَفْسهُ لئلا يغتروا به فيعاملوه بما لا تحسن معاملته به كما قَالَ تَعَالَى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ} . قَالَ غير واحد من السَّلَف: من رأفته بالعباد حذرهم من نَفْسهُ لئلا يغتروا به. اللَّهُمَّ قابل سيئاتنا بإحسانك واستر خطئتنا بغفرانك وأذهب ظلمة ظلمنا بنور رضوانك واقهر عدونا بعز سلطانك فما تعوذها منك إلا الجميل، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين. شِعْرًا: ... أَتَأَمَلُ فِي الدُّنْيَا تُجِدُ وَتَعْمُرُ ... وَأَنْتَ غَدًا فِيهَا تَمُوتُ وَتُقْبَرُ تُلَقِّحُ آمَالاً وَتَرْجُو نِتَاجَهَا ... وَعُمْرُكَ مِمَّا قَدْ تَرْجِيهِ قَصرُ تَحُومُ عَلَى إِدْرَاكِ مَا قَدْ كُفِيتَهُ ... وَتَقْبَل فِي الآمَالِ فِيهَا وَتُدْبِر وَهَذَا صَبَاحُ الْيَوْم يَنْعَاكَ ضُوءه ... وَلَيْلَتِهِ تَنْعَاكَ إِنْ كَنْتَ تَشْعُر وَرِزْقَكَ لا يَعَدُوكَ إِمَّا مُعَجّل ... عَلَى حَالِهِ يَوْمًا وَإِمّا مؤخر فَلا تَأَمَنِ الدُّنْيَا وَإِنْ هِيَ أَقْبَلَتْ ... عَلَيْكَ فَمَا زَالَتْ تَخُونُ وَتَغْدُرُ فَمَا تَمَّ فِيهَا الصَّفْو يَوْمًا لأَهْلِهِ ... وَلا الرَّنْقَ إِلا رَيْثَمَا يَتَغَيّرُ

الصبر ما يسمى بأسماء مختلفة أبيات في مدح الصبر

شِعْرًا: ... وَمَا لاحَ نِجْمٌ لا وَلا ذَرَّ شَارِق ... عَلَى الْخَلْقِ إِلا بِحَبْلِ عُمْرِكَ يَقْصُرُ تَطَهَّرْ وَالْحِقْ ذَنْبَكَ الْيَوْم تَوْبَة ... لَعَلَّكَ مَنْهَا إِنْ تَطَهَّرَتْ تَطْهُرْ وَشَمِّرْ فَقَدْ أَبَدَى لَكَ الْمَوْتُ وَجْهَهُ ... وَلَيْسَ يَنَالُ الْفَوْز إِلا مُشَمِّر فَهَذِه الليَالِي مُؤْذِنَاتِكَ بِالْبَلَى ... تَرُوحُ وَأَيْامِ كَذَلِكَ تُبَكَّر وَاخْلِصْ لِدِينِ الله صَدْرًا وَنِيَّةً ... فَإِنَّ الَّذِي تُخْفِيهِ يَوْمًا سَيَظْهَرُ تَذَكَّرْ وَفَكَّرْ بِالَّذِي أَنْتَ صَائِرٌ ... إِلَيْهِ غَدًا إِنْ كُنْتَ مِمَّنْ يُفَكِّر فَلابُدَّ يَوْمًا إِنْ تَصِيرَ لِحُفْرَةٍ ... بِأَثْنَائِهَا تُطْوَى إِلَى يَوْمِ تُنْشَرُ اللَّهُمَّ اسلك بنا سبيل عبادك الأبرار وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك المصطفين الأخيار وَامْنُنْ عَلَيْنَا بِالْعَفْوِ وَالْعِتْقِ مِنْ النَّار واحفظنا من المعاصي فيما بَقي من الأعمار وأحسن بكرمك قصدنا واحشرنا فِي زمرة عبادك المتقين وألحقنا بعبادك الصالحين يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " فَصْلٌ " اعْلَمْ وَفَّقَنَا الله وإياك وَجَمِيع المسلمبن لما يحبه الله ويرضاه أن الصبر من أجل صفات النفس وأعلاها قدرًا وَهُوَ لغة حبس النفس عَنْ الجزع أي منعها من الاستسلام للجزع كى لا يترتب عَلَيْهِ فعل ما لا ينبغى فعله وبعبارة أخرى الصبر ثبات القوة المضادة للشهوة فِي مقاومتها. وما شرعًا فهو أعَمّ من ذَلِكَ لأنه حبس النفس عَنْ الجزع ومنعها عَنْ محارم الله، وإلزامها بأداء فرائض الله يدل عَلَيْهِ ما رُوِيَ عَنْ ابن عباس رضي الله عنهما أنه قَالَ: الصبر في القرآن على ثلاثة أوجه صبر على أداء فرائض الله وصبر عَنْ محارم الله، وصبر على المصيبة عَنْدَ الصدمة الأولى. شِعْرًا: ... وَعَاقِبَةُ الصَّبْرِ الْجَمِيلِ حَمِيدَةٌ ... وَأَفْضَلُ أَخْلاقِ الرِّجَالِ التَّدَيُّنُ

الحث على الصبر عند المصائب والكلام على الشكوى

وَلا عَارَ إِنْ زَالَتْ عَنْ الْمَرْءِ نَعْمَةٌ ... وَلَكِنْ عَارًا أَنْ يَزُولَ التَّدَيُّنُ آخر: ... إِذَا قُدِّرَ عَلَيْكَ أُخَّيَّ أَمْرًا ... بِمَكْرُوهٍ تَعَاظَمَ أَوْ بَلِيَّهْ فَلا تَعْجَلْ وَثِقْ بِاللهِ وَاصْبِرْ ... فَلِلرَّحْمَنِ أَلْطَافٌ خَفِيَّهَ وَإِيَّاكَ الْمَطَامِعَ وَالأَمَانِي ... فَكَمْ أُمْنِيَّةِ جَلَبَتْ مَنِيَّهْ وَقَالَ ابن القيم: الصبر حبس النفس عَنْ التسخط بالمقدور، وحبس اللسان عَنْ الشكوى، وحبس الْجَوَارِح عَنْ المعصية. فمدار الصبر على هَذِهِ الأركَانَ الثلاثة فإذا قام بها الْعَبْد كما ينبغي انقلبت المحنة فِي حقه منحة واستحالة البلية عطية وصار المكروه محبوبًا. فإن الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى لم يبتله ليهلكه، وإنما ابتلاه لميتحن صبره وعبوديته، فَإِنَّ لله تَعَالَى على الْعَبْد عبودية فِي الضراء كما لَهُ عَلَيْهِ عبودية فِي السراء، وله عبودية عَلَيْهِ فيما يكره كما لَهُ عَلَيْهِ عبودية فيما يحب. أ. هـ. شِعْرًا: ... اذا اشتد عسر فارج يسرًا فإنه ... قضى الله أن العسر يتبعه اليسر وعرف الصبر بَعْضهمْ بأنه باعث الدين أمام باعث الهوى، فَأَمَّا باعث الدين فهو قدرة العقل على قهر الشهوة والْغَضَب، لأنهما بطغيانهما يقودان المرء إِلَى ما لا يقره الدين ولا يرضاه العقل، فإذا ثَبِّتْ العقل أمام الشهوة والْغَضَب وقام بوظيفته على الوجه المطلوب فلا يجعل لهما عَلَيْهِ سلطانًا. ولا يسمح لهما بالطغيان، فينقاد لهما صاغرًا بل يكون هُوَ الآمْر الناهي فيسلك بهما سبيل الاعتدال، بلا إفراط ولا تفريط فإنه بذَلِكَ يستطيع بإذن الله أن يظفر بالصبر، عَنْ ما حرم الله والصبر على طاعته، وأن يحبس نَفْسهُ عَنْ الجزع عَنْدَ المصيبة، فلا يستفزه الجزع إِلَى قوله، أَوْ عمل ما لا يرضاه الله مهما كَانَ لنفسه فيه لذة. ومن ذَلِكَ الصبر على ايذاء النَّاس إياه، فإنه إِذَا اغضبه أحد بقول أَوْ

عمل، فَإِنَّ غضبه لا يطغى عَلَيْهِ، فيحمله على تعدى حُدُود اللهِ بل يكفيكهم غضبه حَتَّى يجرى على سنن الدين من القصاص العادل، أَوْ العفو إن كَانَ فيه مصلحة. وقِيْل فِي تعريفه هُوَ الثبات على الكتاب والسُنَّة، والتمشى مَعَ إرشاداتهما، لأن من ثَبِّتْ عَلَيْهِمَا فقَدْ صبر على المصائب، وعلى أداء العبادات، وعلى اجتناب المحرمَاتَ. ثُمَّ ان الصبر يسمى بأسماء مختلفة فمثلاً الصبر عَنْ شهوة الفرج والبطن أَوْ الْمَال الحرام يسمى عفة وورعًا ومنعها عن الجزع والفرار عَنْدَ لقاء الْعَدُوّ يسمى شجاعة ويقابله الجبن، ومنعها عَنْ التعدي على الغير عَنْدَ ثورة الْغَضَب يسمى حلمًا، وشجاعة، ويقابله التذمر والطيش. وعن إفشاء السِّرّ يسمى كتمان السِّرّ، وعن الإسراف فِي المآكل والمشارب يسمى زهدًا، وعن الغرور بالثروة والْمَال يسمى ضبط النفس، ويقابله البطر والخلاصة أن الصبر فضيلة يحتاجها المسلم فِي دينه ودنياه. فيجب على الإنسان أن يوطن نَفْسهُ على احتمال الشدائد والمكاره دون ضجر وانتظار النتائج مهما بعدت فكل ما هُوَ آت قريب، وعَلَيْهِ أن يوطنها على مواجة الأعباء مهما ثقُلْتُ بقلب لم تعلق به ريبة وعقل لا تطيش به كربة. وقَدْ أكد الله جَلَّ وَعَلا أن ابتلاء النَّاس أمر لا محيص عَنْهُ حَتَّى يأخذوا الأهبة، والاستعداد للنوازل، فلا تذهلهم المفاجاة، قَالَ تَعَالَى {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} . وقَالَ {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} وقَالَ: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}

وقَالَ تَعَالَى إخبارًا عما قاله سُلَيْمَانٌ عَلَيْهِ السَّلام {هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} وقَالَ تَعَالَى {آلم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} . الآية اصبر على مضض الادلاج فِي السحر ... وَفِي الرواح إِلَى الطاعات والبكر إني رأيت وَفِي الأَيَّام تجربة ... للصبر عاقبة محمودة الأثر وَقَلَّ مَنْ جَدَّ فِي أَمْرٍ تَطَلَّبَهُ ... وَاسْتَصْحَبَ الصَّبْرَ إِلا فَازَ بِالظَّفَرِ آخر: ... يَقُولُ لَكَ الإِثْبِات أَهْلُ التَّجَارِبِ ... تَصَبَّرْ فَعُقْبَى الصَّبْرِ نَيْلُ الْمَآرِبِ وَنَصُّ - كِتَابِ - اللهِ بِالصَّبْرِ - آمِرٌ ... وقَدْ وَعَدَ الصُّبَّارَ حُسْنَ الْعَوَاقِبِ وَيَقُولُ آخر: وَالصَّبْرُ مِثْلُ اسْمِهِ مُرٌّ مَذَاقَتُهُ ... لَكِنْ عَوَاقِبُهُ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَيَقُولُ آخَر: بَنَى اللهُ لِلأَخْيَارِ بَيْتًا سَمَاؤهُ ... هُمُومٌ وَأَحْزَانٌ وَجُدْرِانُهُ الضُّرُّ وَادْخَلَهُمْ فِيهِ وَأَغْلَقَ بَابَهُ ... وقَالَ لَهُمْ مِفْتَاحُ بَابِكِمْ الصَّبْرُ آخر: ... فَكَّرْتُ فِي الْجَنَّة الْعُلْيِا فَلَمْ أَرَهَا ... تُنَال إِلا عَلَى جِسْرٍ مِنَ التَّعَبِ فِي الصَّالِحَاتِ بِإِخَلاصٍ لِخَالِقنَا ... اجْهَدْ زَمَانَكَ إِنَّ الْوَقْتَ مِنْ ذَهَبِ آخر: ... أَيَطْمَعُ فِي الْعَلْيِاءِ مَنْ كَانَ مُشْرِكًا ... وَلَنْ يَبْلُغَ الْعَلْيَاءَ إِلا الْمُوحِّدُ آخر: ... يُرِيدُ الْمَعَالِي عَاطِلٌ مِنْ أَدَاتِهَا ... وَهَيْهَاتَ مِنْ مَقْصُوصَةٍ طَيَرَانُهَا وَلَوْ خَلالٌ سَنَّهَا الشَّرْعُ مَا دَرَى ... بُغَاةُ الْعُلَى مِنْ أَيْنَ تُؤْتَى الْمَكَارِمُ آخر: ... دَبُّوا إِلَى الْمَجْدِ وَالسَّاعُونَ قَدْ بَلَغُوا ... جُهْدَ النُّفُوسِ وِشَدُّوا نَحْوَهُ الأُزَرَا وَسَارُوا الْمّجْدَ حَتَّى مَلَّ أَكْثَرُهُمْ ... وَعَانَقَ الْمَجْدَ مَنْ وَافَى وَمَنْ صَبَرَا لا تَحْسَبِ الْمَجْدَ تَمْرًا أَنْتَ آكله ... لَنْ تَبْلُغُ الْمَجْدَ حَتَّى تَلْعَقَ الصَّبْرَ آخر: ... مُسْتِشْعِرُ الصَّبْرِ مَقْرُونٌ بِهِ الْفَرَجُ ... يُبْلَى وَيَصْبِرُ وَالأَشْيَاءِ تُنْتَهَجُ

حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ مَقْدُورَ غَايَتِهَا ... جَاءَتْكَ تَضْحَكُ عَنْ ظَلمَائِهَا السُّرُجُ يُقَدر اللهُ فَارْجُ اللهَ وَارضَ بِهِ ... فَفِي إِرَادَتِهِ الْغَمَاءُ تَنْفَرِجُ آخر: ... قُلِ الله مَنْ يَطْلُبْ رِضَاهُ يَنَلْ أَجْرَا ... وَيَسْتَسْهِلُ الأَخْطَارَ وَالْمَرَكَبَ الْوَعْرَا وَيُرْخِصُ فِي إِدْرَاكِهِ كُلَّ مَا غَلا ... وَيُنْفِقُ فِي أَدْنَى رَغَائِبِهِ الْعُمْرَا آخر: ... فَلا تَيْأَس إِذَا مَا سُدَّ بَابٌ ... فَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةُ الْمَسَالِكْ وَلا تَجْزَعْ إِذَا مَا اعْتَاصَ أَمْرٌ ... لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكْ آخر: ... بِقَدْرِ الْجِدِّ تُكْتَسَبُ الْمَعَالِي ... وَمَنْ طَلَبَ الْعُلا سَهِرَ اللَّيَالِي تَرُومُ الْعزِّ ثُمَّ تَنَامُ عَنْهُ ... يَغُوصُ الْبَحْرَ مَنْ طَلَبَ اللآلِي آخر: ... إِنَّ الأُمُورَ إِذَا انْسَدَّتْ مَسَالِكُهَا ... فَالصَّبْرُ يَفْتَحُ مِنْهَا كُلَّ مَارَتَجَا لا تَيْأَسَنَّ وَإِنْ طَالَتْ مَطَالِبُهُ ... إِذَا اسْتَعَنْتَ بَصَبْرِ أَنْ تَرَى فَرَجَا أَخْلِقْ بِذِي الصَّبْرِ أَنْ يُحْظَى بِحَاجَتِهِ ... وَمُدْ مِن الْقَرْعِ لِلأَبْوَابِ أَنْ يَلِجَا اللَّهُمَّ انظمنا فِي سلك حزبك المفلحين وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك المخلصين وأمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. اللَّهُمَّ اعطنا من الْخَيْر فوق ما نرجوه واصرف عنا من السُّوء فوق ما نحذر فإنك تمحو ما تشاء وتثَبِّتْ وعندك أم الكتاب. اللَّهُمَّ وَاجْعَلْنَا ممن يأخذ الكتاب باليمين، وَاجْعَلْنَا يوم الفزع الأكبر آمنين وأوصلنا بِرَحْمَتِكَ وكرمك إِلَى جنات النَّعِيم، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وصلى آله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين. " فَصْلٌ " وقَالَ تَعَالَى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} . وقَالَ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} .

فمن ابتلاه الله بنقص فِي ماله أَوْ منعه شَيئًا من شهوات الدُّنْيَا ولذاتها الفانية وعجز عَنْ تحصيله بالوسائل المشروعة أَوْ قبض لَهُ نفسًا أَبًا أَوْ أَخًا أَوْ أُمًا أَوْ ولد أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ أَوْ خاف من عدو فإنه لا دواء لَهُ إلا الصبر على ما أصابه. فإذا صبر المبتلى وعمل بقول ربه عَزَّ وَجَلَّ فقَدْ هانت عَلَيْهِ البلوى وضاع أثرها فاستراح من عذابها فِي الدُّنْيَا وفاز بالآخِرَة بالجزاء الحسن، فالفقير الَّذِي لا يذهب بلبه متاع الحياة وزينتها ولا يحزنه ما لا يستطيع الوصول إليه من المتاع الفاني سائر على ضوء إرشادات القرآن الكريم، مثل قوله تَعَالَى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} . وقوله: {قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ} بل مطمئن إِلَى ما قدره الله لَهُ فِي هَذِهِ الحياة من تعب ونصب، ويرضى بما قسم لَهُ فلا يسخط، ولا يفعل محرمًا فإنه لا بد أن يجعل الله لَهُ من أمره فرجًا فِي حَيَاتهُ الدُّنْيَا كما قَالَ تَعَالَى {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} وإذا اشتهت نَفْسهُ شَيْئًا وعدها بالْخَيْر وصبرها ومشى أموره عَلَى قَدْرِ حاله، ولا يكلف نَفْسهُ بالدين والقرض، قَالَ الله تَعَالَى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} . وقَالَ بَعْضهمْ: إِذَا رُمْتَ أَنْ تَسْتَقْرِضَ الْمَالَ مُنْفِقًا ... عَلَى شَهَوَاتِ النَّفْسِ فِي زَمَنِ الْعُسْرِ فَسَلْ نَفْسَكَ الانْفَاقَ مِنْ كَنْزِ صَبْرِهَا ... عَلَيْكَ وَإِنْضَارًا إِلَى زَمَنِ الْيُسْرِ فَإِنَّ فَعَلْتَ كُنْتَ الْغَنِيَّ وَإِنْ أَبَتْ ... فَكُلُّ مَنُوع بَعْدَهَا وَاسِعُ الْعُذْرِ آخر: ... أَفَادَتْنِي الْقَنَاعَةُ كُلَّ عِزٍ ... وَأَيُّ غِنىً أَعَزُّ مِن الْقَنَاعَةِ

فَصَيِّرْهَا لِنَفْسِكَ رَأَسَ مَالٍ ... وَصَيِّرْ بَعْدَهَا التَّقْوَى بِضَاعَةْ تَحُزْرِ بِحِينِ تَغْنَى عَنْ بَخِيلٍ ... وَتَنْعَمُ بِالْجِنَانِ بَصَبْرِ سَاعَةْ آخر: ... عَزِيزُ النَّفْسِ مَنْ رُزِقَ الْقَنَاعَة ... وَلَمْ يَكْشِفْ لِمَخْلُوقٍ قِنَاعَهْ وَقَدْ عَلِمُوا بِأَنِّي حِينَ شَدُّوا ... عُرَى الأَطْمَاعِ فَارَقْتُ الْجَمَاعَهْ إِذَا مَا فَاقَةٌ قرنت بِعِزٍّ ... وَكَانَتْ فِي التبذل لي ضراعَهْ نَفَضْتُ يَدَيَّ عَنْ طَمْعِي وَحِرْصِي ... وَقُلْتُ لِفَاقَتِي سَمْعًا وَطَاعَهْ آخر: ... أَلا إِنَّ رِزْقَ الله لَيْسَ يَفُوتُ ... فَلا تُرَعَنْ إِنَّ الْقَلِيلَ يَفُوتُ رَضِيتُ بِقَسِم اللهِ حَظًّا لأَنَّهُ ... تَكَفَّلَ رِزْقِي مِنْ لَهُ الْمَلَكُوتُ سَأَقْنَعُ بِالْمَالِ الْقَلِيلِ لأَنَّنِي ... رَأَيْتُ أَخَا الْمَالِ الْكَثِيرِ يَمُوتُ آخر: ... أَبَا مَالِكٍ لا تَسْأَل النَّاسَ وَالْتَمِسْ ... بَكَفيكَ فَضْل اللهِ وَاللهُ مُوسعُ وَلَوْ سُئِلَ النَّاسُ التُّرَابَ لأوَشَكُوا ... إِذَا قِيْل هَاتُوا أَنْ يَمِلُّوا وَيَمْنَعُوا آخر: ... لا تَقُولَنَّ إِذَا مَا لَمْ تَرُدْ ... أَنْ تَتِمّ الْوَعِدُ فِي شَيْء نَعَمْ حَسَنٌ قَوْلُ نَعَمْ مِنْ بَعْدِ لا ... وَقَبِيحُ قَوْلٌ لا بَعْدَ نَعَمْ إِنَّ لا بَعْدَ نَعَمْ فَاحِشَةٌ ... فَبِلا فَابْدَأ إِذَا خِفْتَ النَّدَمْ وَإِذَا قُلْتَ نَعَمْ فَاصْبِرْ لَهَا ... بِنَجَاحِ الْوَعْدِ إِنَّ الْخُلْفَ ذَمْ قَنُوعُ النَّفْسِ يَعْقُبهُ رَوَاح ... وَحِرْصُ النَّفْسِ لِلذُّلِّ الْهَوَانِ وَلَيْسَ بِزَائِدٍ فِي الرِّزْقِ حِرْصٌ ... وَلَيْسَ بِنَاقِصٍ مَعَهُ التَّوَانِ إِذَا الرَّحْمَنُ سَبَّبَ رِزْقُ عَبْدٍ ... أَتَاهُ فِي التَّنَائِي وَالتَّدَانِ أما الفقير الَّذِي يزين لَهُ الشيطان والهوى والنفس الأمارة بالسوء ما فِي أيدي النَّاس، فيفسد عَلَيْهِ قَلْبهُ بالوساوس الضارة، والأماني الكاذبة، والأحلام الباطلة، فيحسد النَّاس على ما أتاهم الله من فضله، مبعدًا عَنْ الصبر على الحالة المرضية لا يبالي بأي وسيلة يتمسك بها من الوسائل المحرمة، فِي الوصول إِلَى لذة محرمة لا تغني عَنْهُ شَيْئًا ولا تسد فقره فهو من

أشقى خلق الله لأنه بعمله هَذَا يكون قَدْ خسر دنياه وآخرته، وَذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ المبين. وكَذَلِكَ الغني يحتاج إِلَى الصبر على غناه لأنه مكلف بحقوق وواجبات لا يسهل على النفس فعلها من زكاة مال وإنفاق على من يُمُونُه وإغاثة ملهوف ... إلخ. ثُمَّ اعْلَمْ أن إظهار البلوى سواء كَانَتْ مرضًا أَوْ فقرًا أَوْ غيرهما إما أن يكون لله تَعَالَى كما قَالَ أيوب عَلَيْهِ السَّلام {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وكما قَالَ يعقوب {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ} فهَذَا لا ينافي الصبر. وإما أن يكون لغير الله فَإِنَّ كَانَ لحاجة كشرح العلة للطبيب أَوْ بيان المظلمة لمن يقدر على رفعها فإنه لا ينافي الصبر أيضًا ما دام راضيًا بقضاء الله وقدره، فلا يضجر ولا يتبرم مِمَّا ينْزِل به من البَلاء فَإِنِ اشتكى لغير الله من دون فائدة تبرمًا وتضجرًا لم يكن من الصابرين، ولم يستفد من مصيبته سِوَى عذاب الدُّنْيَا. شِعْرًا: ... ثَلاثٌ يَغُورُ الصَّبْرُ عِنْدَ حُلُولِهَا ... وَيَذْهَلُ عَنْهَا عَقْلُ كُلِّ لَبِيب خُرُوجُكَ قَهْرًا مِنْ بِلادٍ تَحُبُّهَا ... وَفِرْقَةُ إِخْوَان وَفَقْدُ حَبِيبِ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} وقوله {وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} وقوله {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} . وَكُلُّ مُصِيبَاتٍ أَتَتْنِي وَجَدْتُهَا ... سِوَى غَضَبِ الرَّحْمَنِ هَيِّنَةَ الْخَطْبِ فالمراتب ثلاث أخسها أن تشكو الله إِلَى خلقه وأعلاها أن تشكو نفسك إليه وأوسطها أن تشكو خلقه إليه. انتهى. قَالَ بَعْضُهُمْ:

الصبر فيه فوائد عديدة منها وهي أعلاها معية الله

وَيَمْنَعُنِي شَكْوَاي لِلنَّاسِ أَنَّنِي ... عَلِيلٌ وَمَنْ أَشْكُو إِلَيْهِ عَلِيلُ وَيَمْنَعُنِي شَكْوَاي لله إِنَّهُ ... عَلِيمٌ بِمَا أَشْكُوهُ قَبْلَ أَقُولُ آخر: ... لا تَشْكُونَّ إِلَى صَدِيقٍ حَالَةً ... فَاتَتْكَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ فَلِرَحْمَةِ الْمُتَوَجَّعِينَ مَضَاضَةٌ ... فِي الْقَلْبِ مِثْلُ شَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ وقَدْ أمر الله بالصبر فقَالَ جَلَّ وَعَلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} وقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ} وقَالَ {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} وأثنى الله على الصابرين فقَالَ: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} . وأخبر تَعَالَى أَنَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ فقَالَ {وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} وهذه معية خاصة تقتضي الحفظ والنصر والتأييد، وأخبر جَلَّ وَعَلا أن الصبر خَيْر لأصحابه، قَالَ تَعَالَى: {وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} وقَالَ: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} ، وإيجاب الجزاء لَهُمْ بأحسن أعمالهم فقَالَ: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وأخبر جَلَّ وَعَلا أن جزاءهم بغير حساب، فقَالَ: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} شِعْرًا: ... اصْبِرْا أُخَيَّ إِذَا نَابَتْكَ نَائِبَةٌ ... وَلا تَقُولَنَّ ذَرْعِي مِنْهَا قَدْ ضَاقَا فَبِالنَّوَائِبِ مَعَ صَبْرٍ يَجِدْ شَرَفًا ... كَالْبَدْرِ يَزْدَادُ فِي الظَّلْمَاءِ إِشْرَاقَا فَإِنَّ كَانَ للتسلي أَوْ المواساة فلا بأس شِعْرًا: ... وَأَبْثَثْتُ عُمْرا بَعْضَ مَا فِي جَوَانِحِي ... وَجَرَّعْتُهُ مِنْ مُرِّ مَا أَتَجَرَّعُ وَلا بُدَّ مِنْ شَكْوَى إِلَى ذِي حَفِيظَةٍ ... يُوَاسِيكَ أَوْ يُسْلِيكَ أَوْ يَتَوَجَّعُ وسيسأل عَنْ ضجره يوم القيامة خُصُوصًا إِذَا كانت شكواه مصحوبة ببَعْض العبارات التِي فيها جراءة على الله لأنه يشكو الإله القادر على المسكين.

الضعيف العاجز الَّذِي لا يغني عَنْهُ شَيْئًا كما قِيْل: (وَإِذَا شَكَوْتَ إِلَى ابنِ آدَمَ إِنَّمَا ... تَشْكُو الرَّحِيمَ إِلَى الَّذِي لا يَرْحَمُ) فتجد بعض الناس كثير التشكي إلى الناس يستأنس بالشكوى ويتلذذ بها كما قِيْل: تَلَذُّ لَهُ الشَّكْوَى وَإِنْ لَمْ يَجِدْ بِهَا ... صَلاحًا كَمَا يَلْتَذُّ بِإِلْحَكِّ أَجْرَبُ فالجاهل يشكو الله إِلَى النَّاس وَهَذَا غاية الجهل بالمشكو والمشكو إليه فإنه لو عرف ربه لما شكاه، ولو عرف النَّاس لما شكا إليهم لأنهم مساكين عاجزون. وَرُبَّمَا كَانُوا من المتشمتين الَّذِينَ يفرحون عليه ويفرحون بموته. وَلا تَشَكُّ إِلَى خَلْقٍ لِتُشْمِتَهُ ... شَكْوَى الْجَرِيحِ إِلَى الْغُرْبَانِ وَالرَّخَمِ آخر: ... كَمْ عَائِد رَجُلاً وَلَيْسَ يَعُودُهُ ... إِلا لِيَنْظُرَ هَلْ يَرَاهُ يَمُوتُ ورأى بَعْض السَّلَف رجلاً يشكو إِلَى رجل فاقته وضرورته فقَالَ: يَا هَذَا وَاللهِ ما زدت على أن شكوت من يرحمك إِلَى من لا يرحمك والعارف إنما يشكو إِلَى الله وحده. وأعرف العارفين من جعل شكواه إِلَى الله من نَفْسهُ لا من النَّاس فهو يشكو من موجبات تسليط النَّاس عَلَيْهِ فهو ناظر إِلَى قوله، وأخبر جَلَّ وَعَلا أنه ما يلقى الأَعْمَال الصَّالِحَة وجزاءها والحظوظ عَلَيْهَا إلا الصابرون فقَالَ عَنْ ما قَالَهُ أهل العلم والإيمان {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} . وأخبر جَلَّ وَعَلا أنه ما يلقى الخصلة التِي هِيَ دفع السئة بالحسُنَّة إلا الَّذِينَ صبروا فقَالَ {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} الآية. والصبر أنواع صبر على طاعة الله بالمحافظة عَلَيْهَا دومًا وبرعايتها

من أنواع الصبر الصبر عن المعاصي

إخلاصًا. ومن الصبر على طاعة الله وبر الوالدين ما داما موجودين وعدم التضجر والتأفف منهما واحتمال الأذى من القريب والجار والصديق والزميل، ومنه صبر الأستاذة على الطلبة وإحتمال التعب فِي ذَلِكَ، وكَذَلِكَ الأطباء المستقيمين المخلصين فِي معالجة المرضى، وصبر الغني على إخراج زكاته بدقة وصبر المريض والمسافر على الصَّلاة والطهارة لها، وصبر المجاهد والمتعلم والصادق فِي طلبه للعلم والحاج والساعي على الأرَامِل والمساكين. ومن مشقة السفر وعناء الطلب ومكافحة الأعداء والصبر على الأَمْر بالمعروف والنهي عَنْ الْمُنْكَر وقول الحق وإن كَانَ مرًا ومساعدة الضعيف والعاجز والعدل فِي الحكم وحفظ الأمانة والإنصاف من النفس والأقارب ومواصلة السعي فِي ما يرضي الله عَزَّ وَجَلَّ وحسن الخلق وإيناس المسلم الغريب والصمت عَنْ الكلام إلا فيما يعود إليك نفعه ومُرَاقَبَة الله فيما يقوله ويفعله. ودوام الشكر لله وصرف نعمه فِي طاعته، وإحترام أهل الدين وتقديرهم والذب عَنْ إعراضهم إِذَا إنتهكت، والصبر على الأولاد والأهل وحثهم على الصَّلاة والزَّكَاة وسائر الطاعات. وَاللهُ أَعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم. " فَصْلٌ " النوع الثانى: الصبر عَنْ معصية الله خوفًا من الله ورجَاءَ ثوابه وحياء من الرب جَلَّ وَعَلا أن يستعان بنعمه على معاصيه، فالصبر عَنْ المعاصي لازم لسعادة الإنسان فِي دنياه وآخرته، فَإِنَّ الله نهى عباده عَنْ الفحشاء والْمُنْكَر ليعيشوا فِي هَذِهِ الحياة الدُّنْيَا مطمئنين، لا ينال أحدهم من عرض أخيه بالقول والْفِعْل ولا يتعدى أحدهم على غيره فِي ماله وبدنه، ولا تغرهم الحياة الدُّنْيَا.

كلام الشيخ على صبر يوسف عليه السلام ويليه أبيات في الصبر

وزينتها فيسعون فِي الأرض فسادًا من أجل الحصول على لذاتها المضمخلة الفانية وشهواتها الخداعة الفاسدة. فمن يصبر على ضبط لِسَانه عَنْ الكلام المحرم فلا يغتاب ولا ينم ولا ينافق بالقول، ولا يكذب ولا يساعد بقوله ظالمًا، ولا يجادل بالْبَاطِل ولا يسخر بالمسلمين ولا يحلف إلا بِاللهِ صادقًا ولا يقذف مسلمًا ولا يخاصم ليقطع حق مُسْلِم ولا يشهد الزور ولا يؤذي مسلمًا بالفحش والبذاء، فإنه بذَلِكَ يتقى آفات لِسَانه التِي تفضي بالمرء إِلَى الهلاك. ومن صبر على حفظ فرجه فلا يستعمله إلا فيما أحله الله عملاً بقوله تَعَالَى {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} فإنه بذَلِكَ ينجو من شر غوائل الزنا واللواط وكَانَ أمينًا على سلامة عرضه وحفظه من الضياع. ومن صبر وربط عقله عَنْدَ غضبه فلا يبطش بيده ولا يحقَدْ بقَلْبهُ، وقَدْ ضبط لِسَانه فقَدْ سلم من مظَالِم خلق الله، وكَانَ مسلمًا حقاً كما قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «المسلم من سلم المسلمون من لِسَانه ويده» . قصة يوسف مَعَ امرأة العزيز وهي تتعلق فِي الصبر، وَمَمْلُوكًا وَالْمَمْلُوك أَيْضًا لَيْسَ وَازِعَهُ كَوَازِعِ الْحُرَّ وَالْمَرْأَة جميلة، وذات منصب وهي سيدة وقَدْ غاب الرقيب وهي الداعية إِلَى نفسها، والحريصة على ذَلِكَ أشد الحرص ومَعَ توعدته بالسجن إن لم يفعل والصغار ومَعَ هَذِهِ الدواعي كُلّهَا صبر اختيارًا وَإيثَارًا لِمَا عَنْدَ الله وَأَيْنَ هَذَا مِنْ صَبْرِهِ فِي الجب على ما كسبه وكَانَ يَقُولُ: الصبر على أداء الطاعات أكمل من الصبر على اجتناب المحرمَاتَ. وأفضل فَإِنَّ مصلحة فعل الطاعة أحب إِلَى الشارع من مصلحة ترك المعصية ومفسدة عدم الطاعة أبغض إليه وأكره من مفسدة وجود المعصية. انتهى.

قَالَ الإِمَام أحمد رَحِمَهُ اللهُ: ذكر الله سُبْحَانَهُ الصبر فِي القرآن فِي تسعين مَوْضِعًا. انتهى. وهي أنواع: مَنْهَا تعليق الإمامة فِي الدين به وباليقين، قَالَ الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} . فبالصبر واليقين، تنال الإمامة فِي الدين. ومنها ظفرهم بمعية الله سُبْحَانَهُ لَهُمْ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} . قَالَ أبو علي الدَّقَّاق: فاز الصابرون بعز الدارين لأنهم نالوا من الله معيته ومنها: أنه جمَعَ للصابرين ثلاثة أمور لم يجمعها لغيرهم وهي الصَّلاة منه عَلَيْهمْ ورحمته لَهُمْ، وهدايته إياهم، قَالَ تَعَالَى {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} . وقَالَ بَعْض السَّلَف: وقَدْ عُزِيَ على مصيبة نالته فقَالَ: ما لي لا أصبر وقَدْ وعدني الله على الصبر ثلاث خِصَال، كُلّ خصلة مَنْهَا خَيْر من الدُّنْيَا وما عَلَيْهَا ومنها: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَبَاحَ لَهُمْ أن يعاقبوا على ما عوقبوا به ثُمَّ أقسم قسمًا مؤكدًا غاية التأكيد أن صبرهم خَيْر لَهُ فقَالَ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} . فتأمل هَذَا التأكيد بالقسم المدلول عليه بالواو ثُمَّ باللام بعده ثم باللام التِي فِي الجواب. ومنها: أنه سُبْحَانَهُ حكم بالْخُسْرَانُ حكمًا عامًا على كُلّ من لم يؤمن ولم يكن من أهل الحق والصبر وَهَذَا يدل على أنه لا رابح سواهم فقَالَ تَعَالَى {وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر} . ولهَذَا قَالَ الشافعى: لو فكر النَّاس كلهم فِي هَذِهِ السورة لوسعتهم وَذَلِكَ أن الْعَبْد كما لَهُ فِي تكميل قوتية، قوة العلم وقوة الْعَمَل وهما الإِيمَان والْعَمَل الصالح وكما هُوَ محتاج إِلَى تكميل نَفْسهُ فهو محتاج إِلَى تكميل غيره وَهُوَ التواصي.

بالحق والتواصي بالصبر وَأَخِيَّة ذَلِكَ وقاعدته وساقه الَّذِينَ يقوم عَلَيْهِ إنما هُوَ الصبر. ومنها: أنه سُبْحَانَهُ خص أهل الميمنة بأنهم أهل الصبر والمرحمة الَّذِينَ قامت بِهُمْ هاتان الخصلتان ووصوا بها غيرهم فقَالَ تَعَالَى {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} . وقَالَ: الإنسان لا يستغنى عَنْ الصبر فِي حال من الأحوال فإنه بين أمر يجب عَلَيْهِ امتثاله وتنفيذه، ونهي يجب عَلَيْهِ اجتنابه وتركه، وقَدْ يجري عَلَيْهِ اتفاقًا، ونعمة يجب شكر المنعم عَلَيْهَا، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الأحوال لا تفارقه، فالصبر لازم إِلَى الْمَمَات. شِعْرًا: ... كُلُّ الْمَصَائِبِ قَدْ تَمُرُّ عَلَى الْفَتَى ... فَتَهُونُ غَيْرَ مُصِيبَةٍ فِي الدِّينِ آخر: ... هَوِّنْ عَلَيْكَ فَكُلُّ الأَمْرِ يَنْقَطِعُ ... وَخَلِّ عَنْكَ عِنَانَ الْهَمِّ يَنْدَفِعُ فَكُلُّ هَمٍّ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ فَرَجٌ ... وَكَلُّ أَمْرٍ إِذَا ما ضَاقَ يِتَّسِعُ إنَّ الْبَلاءَ وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ بِهِ ... فَالْمَوْتُ يَقْطَعُهُ أَوْ سَوْفَ يَنْقَطِعُ اللَّهُمَّ نور قلوبنا بنور الإِيمَان وثبتها على قولك الثابت فِي الحياة الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَة وَاجْعَلْنَا هداة مهدتين وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وألحقنا بعبادك الصالحين يَا أكرم الأكرمين ويا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين " فَصْلٌ " وكَانَ ما يلقى الْعَبْد فِي هَذِهِ الدار لا يخلو من نوعين: أحدهما يوافق هواه ومراده، والآخر مخالفه وَهُوَ محتاج إِلَى الصبر فِي كُلّ منهما، أما النوع الموافق لغرضه: فكالصحة والسلامة والجاه والْمَال وأنواع الملاذ المباحة وَهُوَ أحوج شَيْء إِلَى الصبر فيها من وجوه: أحدهما: أن لا يركن إليها ولا يغتر بها ولا تحمله على البطر والأشر والفرح المذموم الَّذِي لا يحبه الله وأهله.

الثانى: أن لا ينهمك فِي نيلها ويبالغ فِي استقصائها فَإِنَّهَا تنقلب إِلَى أضدادها. فمن بالغ فِي الأكل والشرب والجماع انقلب ذَلِكَ إِلَى ضده وحرم الأكل والشرب والجماع. الثالث: أن يصبر على أداء حق الله فيها ولا يضيعه فيسلبها. الرابع: أن يصبر عَنْ صرفها فِي الحرام، فلا يمكن نَفْسهُ من كُلّ ما تريده مَنْهَا فَإِنَّهَا توقعه فِي الحرام، فَإِنَّ احترز كُلّ الاحتراز أوقعته فِي المكروه، ولا يصبر على السراء إلا الصديقون. وقَالَ عبد الرحمن بن عوف رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر. ولِذَلِكَ حذر الله عباده من فتنة الْمَال والأزواج والأولاد فقَالَ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} وقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} . ولَيْسَ المراد من هَذِهِ العداوة ما يفهمه كثير من النَّاس، إنها عداوة البغضاء والمحادة بل، إنما هِيَ عداوة المحبة الصادة للأباء عَنْ الهجرة والجهاد وتعلم العلم والصداقة وغير ذَلِكَ من أمور الدين وأعمال البر. كما فِي جامَعَ الترمذى، مِنْ حَدِيثِ إسرائيل حدثنا سماك عَنْ عكرمة عن ابن عباس وسأله رجل عَنْ هَذِهِ الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} قَالَ: هؤلاء رِجَال أسلموا من أهل مَكَّة فأرادوا أن يأتوا النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم أن يأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فَلَمَّا أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورأوا النَّاس قَدْ فقهوا فِي الدين هموا أن يعاقبوهم فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} الآية. قَالَ الترمذى: هَذَا حديث حسن صحيح. وما أكثر ما فات الْعَبْد من الكمال والفلاح بسبب زوجته وولده وَفِي

الْحَدِيث: «الولد مبخلة مجبنة» . وقَالَ الإِمَام أحمد: حدثنا زيد بن الحباب قَالَ حدثني زيد بن واقَدْ قَالَ حدثني عَبْد اللهِ بن بريدة قَالَ سمعت أبي يَقُولُ: كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطبنا فَجَاءَ الحسن والحسين عَلَيْهِمَا قميصان أحمران يمشيان ويعثران. فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ثُمَّ قَالَ: «صدق الله إنما أموالكم وأولادكم فتنة، نظرت إِلَى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حَتَّى قطعت حديثي ورفعتهما» . وهذ من كمال رحمته - صلى الله عليه وسلم - ولطفه بالصغار وشفقته عَلَيْهمْ، وَهُوَ تعليم منه للأمة الرحمة والشفقة واللطف بالصغار. وإنما كَانَ الصبر على السراء شديد لأنه مقرون بالقدرة والجائع عَنْدَ غيبة الطعام أقدر منه على الصبر عَنْدَ حضوره، وكَذَلِكَ الشبق عَنْدَ غيبة المرأة أصبر منه عَنْدَ حضورها مشقة الصبر بحسب قوة الداعي إِلَى الْفِعْل وسهولته على الْعَبْد، فإذا اجتمَعَ فِي الْفِعْل هَذَا الأمران كَانَ الصبر عَنْهُ أشق شَيْء على الصابر وإن فقدا معًا سهل الصبر عَنْهُ، وإن وَجَدَ أحدهما وفقَدْ الآخر سهل الصبر من وجه وصعب من وجه، فمن لا داعي إِلَى القتل والسرقة وشرب المسكر وأنواع الفواحش ولا هُوَ مسهل. فصبره عَنْهُ أيسر شَيْء وأسهله، ومن أشتد داعيه إِلَى ذَلِكَ وسهل عَلَيْهِ فعله فصبره عَنْهُ أشق شَيْء ولهَذَا كَانَ صبر السُّلْطَان عَنْ الظلم، وصبر الشاب عَنْ الفاحشة، وصبر الغنى عَنْ تناول اللذات والشهوات عَنْدَ الله بمكَانَ. وَفِي المسند وغيره عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «عجب ربك من شاب لَيْسَتْ لَهُ صبوة» . ولِذَلِكَ استحق السبعة المذكورون فِي الْحَدِيث الَّذِينَ يظلهم الله في ظِلّ عرشه لكمال صبره ومشقته، فَإِنَّ صبر الإِمَام المتسلط على العدل فِي قسمه وحكمه.

ورضاه وغضبه وصبر الشاب على عبادة الله ومخالفة هواه. وصبر الرجل على ملازمة المسجد وصبر المتصدق على إخفاء الصدقة حَتَّى عَنْ بعضه وصبر المدعو إِلَى الفاحشة مَعَ كمال جمال الداعي ومنصبه، وصبر الْمُتَحَابِّينَ فِي الله على ذَلِكَ فِي حال اجتماعهما وافتراقهما، وصبر الباكي من خشية الله على كتمان ذَلِكَ وإظهاره للناس من أشق الصبر. شِعْرًا: ... أَمَا وَالَّذِي لا يَمْلُكُ الأَمْرَ غَيْرُهُ ... وَمَنْ هُوَ بِالسِّرِّ الْمُكَتَّمِ أعْلَمُ لَئِنْ كَانَ كِتْمَانُ الْمَصَائِبِ مُؤْلِمًا ... لإِعْلانِهَا عِنْدِي أَشَدُّ وَأَعْظَمُ وَبِي كُلُّ مَا يُبْكِي الْعُيُونَ أَقَلَّهُ ... وَإِنْ كُنْتَ مِنْهُ دَائِمًا أَتَبَسَّمُ آخر: ... وَقَدْ يَلْبَسُ الْمَرْءُ خَزَّ الثِّيَابْ ... وَمِنْ دُونِهَا حَالَةٌ مُضِنيَهْ كَمَنْ يَكْتَسِي خَدَّهُ حُمْرَةٌ ... وَعَلَّتُهَا وَرَمٌ فِي الرِّيَهْ ولهَذَا كَانَتْ عقوبة الشَّيْخ الزاني والملك الكذاب والفقير المحتال أشد العقوبات لسهولة الصبر عَنْ هَذِهِ الأَشْيَاءِ المحرمَاتَ عَلَيْهمْ لضعف دواعيها فِي حقهم، فكَانَ تركهم الصبر عَنْهَا مَعَ سهولته عَلَيْهمْ دليلاً على تمردهم على الله وعتوهم عَلَيْهِ، ولهَذَا كَانَ الصبر عَنْ معاصى اللسان والفرج من أصعب أنواع الصبر لشدة الداعي إليهما وسهولتها. فإن معاصي اللسان فاكهة الإنسان كالنميمة والغيبة والكذب والمراء والثناء على النفس تعريضًا وتصريحًا، وحكاية كلام النَّاس والطعن على من يبغضه ومدح من يحبه ونحو ذَلِكَ. فتتفق قوة الداعي وتيسر حركة اللسان فيضعف الصبر ولهَذَا قَالَ - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: «أمسك عَلَيْكَ لسانك» . فقَالَ: وإنَّا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقَالَ: «وهل يكب النَّاس فِي النار على مناخرهم إلا حصاد أَلْسِنَتِهِمْ» . ولا سيما إِذَا صَارَت المعاصي اللسانية معتادة للعبد، فإنه يعز عَلَيْهِ الصبر

عَنْهَا ولهَذَا تجد الرجل يقوم الليل ويصوم النَّهَارَ ويتورع من استناده إِلَى وسادة حرير لحظة واحدة ويطلق لِسَانه فِي الغيبة والنميمة والتفكه فِي أغراض الخلق. وَرُبَّمَا خص أهل الصلاح والعلم بِاللهِ والدين والقول على الله ما لا يعلم وكثير ممن تجده يتورع عَنْ الدقائق من الحرام والقطرة من الخمر ومثل رأس الإبرة من النجاسة، ولا يبالي بارتكاب الفرج الحرام وَاللهُ أَعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد. " فَصْلٌ " وقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: يندفع شر الحاسد عَنْ المحسود بعشرة أسباب: أحدهما: التعوذ بِاللهِ من شره والتحصن به واللجأ إليه، والله تَعَالَى سميع لإستعاذته، عليم بما يستعيذ منه. والسمَعَ هنا المراد به سمَعَ الإجابة لا السمَعَ العام فهو مثل قوله: (سمَعَ الله لمن حمده) . وقول الخليل - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء} ومرة يُقْرِنَهُ بِالعلم ومرة بالصبر لإقتضاء حال المستعيذ ذَلِكَ. فإنه يستعيذ به من عدو يعلم أن الله يراه ويعلم كيده وشره فأخبر الله تَعَالَى هَذَا المستعيذ أنه سميع لإستعاذته أي مجيب عليم بكيد عدوه، يراه ويبصره ليبسط أمل المستعيذ ويقبل بقَلْبهُ على الدُّعَاء. السبب الثانى: تقوى الله وحفظه عَنْدَ أمره ونهيه فمن اتقى الله تولى الله حفظه ولم يكله إِلَى غيره. قَالَ تَعَالَى: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} . وقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عباس: «احفظ الله يحفظك، واحفظ الله تجده تجاهك» . فمن حفظ الله حفظه الله، ووجده أمامه أينما توجه، ومن كَانَ الله حافظه وأمامه فمن يخاف ومن يحذر. السبب الثالث: الصبر على عدوه، وأن لا يقاتله ولا يشكوه ولا يحدث

نَفْسهُ بأذاه أصلاً. فما نصر على حساده وعدوه بمثل الصبر عَلَيْهِ، ولا يستطل تأخيره وبغيه. فإنه كلما بغى عَلَيْهِ كَانَ بغيه جندًا وقوة للمبغي عَلَيْهِ المحسود يقاتل به الباغى نَفْسهُ، وَهُوَ لا يشعر فبغيه سهام يرميها من نَفْسهُ إِلَى نَفْسهُ. ولو رأى المبغي عَلَيْهِ ذَلِكَ لسره بغيه عَلَيْهِ، ولكن لضعف بصيرته لا يرى إلا صورة البغي دون آخره وماله. وقَدْ قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} فإذا كَانَ الله قَدْ ضمن لَهُ النصر مَعَ أنه قَدْ استوفى حقه أولاً. فَكَيْفَ بمن لم يستوف شَيْئًا من حقه بل بغى عَلَيْهِ وَهُوَ صابر، وما من الذُّنُوب ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم وقَدْ سبقت سُنَّة الله: «أنه لو بغى جبل على جبل لجعل الباغي منهما دكًا» . السبب الرابع: التوكل على الله فمن يتوكل على الله فهو حسبه والتوكل من أقوى الأسباب التِي يدفع بها الْعَبْد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم، وَهُوَ أقوى الأسباب فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الله حسبه أي كافيه. ومن كَانَ الله كافيه وواقيه فلا مطمَعَ فيه لعدوه، ولا يضره إلا أذى لا بد منه كالحر والبرد والجوع والعطش. وإما أن يضره بما يبلغ منه مراده فلا يكون أبدًا. وفرق بين الأذى الذي هُوَ فِي الظاهر إيذاء لَهُ وَهُوَ فِي الحَقِيقَة إحسان إليه وإضرار بنفسه وبين الضَّرَر الذي يتشفى به منه. قَالَ بَعْض السَّلَف: جعل الله لكل عمل جزاء من جنسه، وجعل جزاء التوكل عَلَيْهِ نفس كفايته لعبده فقَالَ: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ولم يقل نؤته كَذَا وَكَذَا من الأجر كما قَالَ فِي الأَعْمَال، بل جعل نَفْسهُ سُبْحَانَهُ كافي عبده المتوكل عَلَيْهِ وحسبه وواقيه، فلو توكل الْعَبْد على الله حق توكله وكادته السماوات والأرض ومن فيهن لجعل لَهُ ربه مخرجًا من ذَلِكَ وكفاه ونصره

السبب الخامس: فراغ الْقَلْب من الإنشغال به والفكر فيه، وأن يقصد أن يمحوه من باله كُلَّما خطر لَهُ، فلا يلتفت إليه، ولا يخافه ولا يملأ قَلْبهُ بالفكر فيه، وَهَذَا من أنفع الأدوية، وأقوى الأسباب المعينة على على إندفاع شره فَإِنَّ هَذَا بمنزلة من يطلبه عدوه ليمسكه ويؤذيه. فإذا لم يتعرض لَهُ ولا تماسك هُوَ وإياه بل إنعزل عَنْهُ لم يقدر عَلَيْهِ. فإذا تماسكا وتعلق كُلّ منهما بصاحبه حصل الشَّر، وهكَذَا الأرواح سواء. فإذا علق روحه وشبثها به وروح الحاسد الباغي متعلقة به يقظة ومنامًا، لا يفتر عَنْهُ، وَهُوَ يتمنى أن تماسك الروحان ويتشبثا. فإذا تعلقت روح كُلّ منهما بالأخرى عدم الْقَرَار، ودام الشَّر حَتَّى يهلك أحداهما، فإذا جبذ روحه منه وصانها عَنْ الفكر فيه والتعلق به، وأن لا يخطره بباله. فإذا خطر بباله بادر إِلَى محو ذَلِكَ الخاطر، والإنشغال بما هُوَ أنفع لَهُ وأولى به، وبقى الحاسد الباغي يأكل بعضه بَعْضًا. فإن الحاسد كالنار، فإذا لم تجد ما تأكله أكل بعضها بَعْضًا، وَهَذَا باب عَظِيم النفع لا يلقاه إلا أصحاب النُّفُوس الشريفة والهمم العلية، وبين الكيس والفطن وبينه حَتَّى يذوق حلاوته وطيبه ونعيمه كأنه يرى من أعظم عذاب الْقَلْب والروح إشتغاله بعدوه، وتعلق روحه به، ولا يرى شَيْئًا ألم لروحه من ذَلِكَ. ولا يصدق بهذا إلا النُّفُوس المطمئنة الوادعة اللينة، التي رضيت بوكالة الله لها، وسكنت إليه، واطمأَنْتَ به، وعلمت أن ضمانه حق، ووعده صدق، وأنه لا أوفى بعهده من الله، ولا أصدق منه قِيلاً، فعلمت إن نصره لها أقوى وأثبت وأدوم، وأعظم فائدة من نصرها هِيَ لنفسها، أَوْ نصر مخلوق مثلها، ولا يقوى على هَذَا السبب إلا بالسبب السادس. وهو الإقبال على الله، والإِخْلاص لَهُ، وجعل محبته ورضاه والإنابة إليه فِي

محل خواطر نَفْسهُ، وأمانيها تدب فيها دبيب تلك الخواطر شَيْئًا فشَيْئًا حَتَّى يقهرها ويغمرها ويذهبها بالكلية. فتبقى خواطره وهواجسه وأمانيه كُلّهَا فِي محاب الرب، والتقرب إليه وتمليقه وترضيه، وإستعطافه وذكره، كما يذكر المحب التام المحبة محبوبه المحسن إليه الَّذِي قَدْ امتلأت جوانحه من حبه، فلا يستطيع قَلْبهُ إنصرافًا عَنْ ذكره ولا روحه إنصرافًا عَنْ محبته. فإذا صَارَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يرضى لنفسه أن يجعل بيت أفكاره وقَلْبهُ معمورًا بالفكر فِي حاسده والباغي عَلَيْهِ، والطَرِيق إِلَى الإنتقام منه، والتدبير عَلَيْهِ، هَذَا ما لا يتسع لَهُ إلا قلب خراب لم تسكن فيه محبة الله وإجلاله وطلب مرضاته. بل إِذَا مسه طيف من ذَلِكَ واجتاز ببابه من خارجه ناداه حرس قَلْبهُ: إياك وحمى الملك، اذهب إِلَى بيوت الخانات التِي كُلّ من جَاءَ حل فيها، ونزل بها، مالك ولبيت السُّلْطَان الَّذِي أقام عَلَيْهِ اليزك وأدار عَلَيْهِ الحرس، وأحاطه بالسور. قَالَ تَعَالَى حكاية عَنْ عدوه إبلَيْسَ، أنه قَالَ: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} ، فقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} وقَالَ: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} ، وقَالَ فِي حق الصديق يوسف صلى الله عَلَيْهِ وسَّلم: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} . فأعظم سعادة من دخل هَذَا الحصن، وصار داخل اليزك، لقد آوى إِلَى حصن لا خوف على من تحصن به ولا ضيعة على من آوى إليه، ولا مطمَعَ للعدو فِي الدنو إليه منه. {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} . وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

" فصل ": السبب السابع: تجريد التوبة إِلَى الله مِنَ الذُّنُوب التي سلطت عَلَيْهِ أعداءه، فَإِنَّ الله تَعَالَى يَقُولُ: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) ، وقَالَ لخَيْر الخلق وهم أصحاب نبيه دونه - صلى الله عليه وسلم - {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} . فما سلط على الْعَبْد من يؤذيه إلا بذنب يعلمه أَوْ لا يعلمه، وما لا يعلمه الْعَبْد من ذنوب أضعاف ما يعلمه مَنْهَا، وما ينساه مِمَّا عمله أضعاف ما يذكره، وَفِي الدُّعَاء المشهور: «اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنَا أعْلَمُ، واستغفرك مِمَّا لا أعْلَمُ» . فما يحتاج الْعَبْد إِلَى الاستغفار منه مِمَّا لا يعلمه أضعاف أضعاف ما يعلمه، فما سلط عَلَيْهِ مؤذ إلا بذنب. ولقى بَعْض السَّلَف رجل فأغلظ لَهُ ونال منه، فقَالَ لَهُ: قف حَتَّى أدخل البيت، ثُمَّ أخَرَجَ إليك، ودخل فسجد لله وتضرع إليه وتاب وأناب إِلَى ربه. ثُمَّ خَرَجَ إليه فقَالَ لَهُ: ما صنعت؟ فقَالَ: تبت إِلَى الله من الذنب الَّذِي سلطك به عليَّ. فلَيْسَ للعبد إِذَا بغى عَلَيْهِ وأوذي وتسلط عَلَيْهِ خصومه شَيْء أنفع لَهُ من التوبة النصوح. وعلامة سعادته: أن يعكس فكره ونظره على نَفْسهُ وذنوبه وعيوبه، فيشتغل بها وبإصلاحها وبالتوبة مَنْهَا، فلا يبقى فيه فراغ لتدبر ما أنزل به، بل يتولى هُوَ التوبة وإصلاح عيوبه، والله يتولى نصرته وحفظه والدفع عَنْهُ ولا بد. فما أسعده من عبد، وما أبركها من نازلة نزلت به، وما أحسن آثارها عَلَيْهِ، ولكن التَّوْفِيق والرشد بيد الله، لا مانع لما أعطى، ولا معطى لما منع. فما كُلّ أحد يوفق لهَذَا، لا معرفة به، ولا إرادة لَهُ، ولا قدرة عَلَيْهِ، ولا حول ولا قوة إلا بِاللهِ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

" فصل ": السبب الثامن: الصدقة والإحسان ما أمكنه، فَإِنَّ لِذَلِكَ تأثيرًا عجيبًا فِي دفع البَلاء، ودفع العين، وشر الحاسد، ولو لم يكن فِي هَذَا إلا بتجارب الأمم قديمًا وحديثًا لكفى به. فما تكاد العين والحسد والأَذَى يتسلط على محسن متصدق. وَإِذَا أصابه شي من ذَلِكَ كَانَ معاملاً فيه باللطف والمعونة والتأييد وكَانَتْ لَهُ فيه العافية الحميدة. فالمحسن المتصدق فِي خفارة إحسانه وصدقته، عَلَيْهِ من الله جنة واقية وحصن حصين. والجملة: فالشكر حارس النعمة من كُلّ ما يكون سببًا لزوالها. ومن أقوى الأسباب: حسد الحاسد والعائن، فإنه لا يفتر ولا يني ولا يبرد قَلْبهُ حَتَّى تزول النعمة عَنْ المحسود فحينئذ يبرد أنينه، وتنطفئ ناره، لا أطفأها الله. فما حرس الْعَبْد نعمة الله عَلَيْهِ بمثل شكرها، ولا عرضها للزَوَال بمثل الْعَمَل فيها بمعاصي الله، وَهُوَ كفران النعمة، وَهُوَ باب إِلَى كفران المنعم. فالمحسن المتصدق يستخدم جندًا وعسكرًا يقاتلون عَنْهُ وَهُوَ نائم على فراشه، فمن لم يكن لَهُ جند ولا عسكر، وله عدو، فإنه يوشك أن يظفر به عدوه، وإن تأخرت مدة الظفر، والله المستعان. السبب التاسع: وَهُوَ من أصعب الأسباب على النفس وشقها عَلَيْهَا، ولا يوفق لها إلا من عظم حظه من الله وَهُوَ إطفاء نار الحسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه، فكُلَّما ازداد أذى وشرًا وبغيًا وحسدًا، ازدادت إليه إحسانًا، وله نصيحة، وعَلَيْهِ شفقة. وما أظنك تصدق بأن هَذَا يكون، فضلاً عَنْ أن تتعاطاه، فاسمَعَ الآن قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ

وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . قَالَ: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} . وتأمل حال النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - إذ ضربه قومه حَتَّى أدموه، فجعل يسلت الدم عَنْهُ وَيَقُولُ: «اللهم اغفر لقومي فَإِنَّهُمْ لا يعلمون» . كيف جمَعَ فِي هَذِهِ الكلمَاتَ أربع مقامَاتَ من الإحسان، قابل بها إساءتهم العظيمة إليه أحدها: عفوه عنهم، والثاني: استغفاره لَهُمْ، والثالث: اعتذاره عنهم بأنهم لا يعلمون، والرابع: استعطافه لَهُمْ بإضافتهم إليه " اغفر لقومي "، كما يَقُولُ الرجل لمن يشفع عنده فيمن يتصل به، هَذَا ولدي، هَذَا غلامي، هَذَا صاحبي، فهبه لي. واسمَعَ الآن ما الَّذِي يسهل هَذَا على النفس، ويطيبه إليها وينعمها به. اعْلَمْ إن لَكَ ذنوبًا بينك وبين الله، تخاف عواقبها، وترجوه أن يعفو عَنْهَا ويغفرها لَكَ ويهبها لَكَ، ومَعَ هَذَا لا يقتصر على مجرد العفو والمسامحة حَتَّى ينعم عَلَيْكَ ويكرمك، ويجلب إليك من المنافع والإحسان فوق ما تؤمله. فإذا كنت ترجو هَذَا من ربك، وتحب أن يقابل به إساءتك فما أولاك وأجدرك أن تعامل به خلقه، وتقابل به إساءتهم ليعاملك الله تلك المعاملة. فإن الجزاء من حسن الْعَمَل، فكما تعمل مَعَ النَّاس فِي إساءتهم فِي حقك، يفعل معك فِي ذنوبك وإساءتك جزاءً وفاقًا، فانتقم بعد ذَلِكَ أَوْ اعف، وأحسن أَوْ اترك، فكما تدين تدان وكما تفعل معه يفعل معك. فمن تصور هَذَا المعنى، وشغل به فكره، هان عَلَيْهِ الإحسان إِلَى من أساء إليه، وَهَذَا مَعَ ما يحصل لَهُ بذَلِكَ من نصر الله ومعيته الخاصة، كما قَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - للذي شكي إليه قرابته، وأنه يحسن إليهم، وهم يسيئون إليه فقَالَ: «لا يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذَلِكَ» .

هَذَا مَعَ ما يتعجله من ثناء النَّاس عَلَيْهِ ويصيرون كلهم معه على خصمه فَإِنَّ كُلّ من سمَعَ إنه محسن إِلَى ذَلِكَ الغير، وَهُوَ مسيء إليه وَجَدَ قَلْبهُ ودعاءه وهمته مَعَ المحسن على المسيء وَذَلِكَ أمر فطري، فطر الله عَلَيْهِ عباده، فهو بذَلِكَ الإحسان قَدْ استخدم عسكرًا لا يعرفهم ولا يعرفونه ولا يريدون منه أقطاعًا ولا خيرًا. هَذَا مَعَ أنه لا بد له من عدوه وحاسده من إحدى حالتين: أما أن يملكه بإحسانه، فيستعبده وينقاد لَهُ ويذل لَهُ ويبقى النَّاس إليه، وأما يفتت كبده ويقطع دابره، وإن أقام على إساءته إليه، فإنه يذيقه بإحسانه أضعاف ما ينال منه بانتقامه. ومن جرب هَذَا عرفه حق المعرفة، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ والمعين، بيده الْخَيْر كله، لا إله غيره، وَهُوَ المسئول أن يستعملنا وإخواننا فِي ذَلِكَ بمنه وكرمه وَفِي الجملة ففي هَذَا المقام من الفَوَائِد ما يزيد على مائة منفعة للعبد عاجلة وآجلة. السبب العاشر: وَهُوَ الجامَعَ لِذَلِكَ كله، وعَلَيْهِ مدار هَذِهِ الأسباب وَهُوَ تجريد التَّوْحِيد، والترحل بالفكر فِي الأسباب إِلَى المسبب العزيز الحكيم، والعلم بإن هَذِهِ الآيات بمنزلة حركات الرياح وهي بيد محركها، وفاطرها وبارئها، ولا تضر ولا تنفع إلا بإذنه. فهو الَّذِي يحسن عبده بها، وَهُوَ الَّذِي يصرفها عَنْهُ وحده لا أحد سواه، قَالَ تَعَالَى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ} . وَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «واعْلَمْ أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشَيْء لم ينفعوك إلا بشَيْء كتبه الله لَكَ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشَيْء لم يضروك إلا بشَيْء كتبه الله عَلَيْكَ» . فيرى أن أعماله فكرة فِي أمر عدوه وخوفه منه واشتغاله به من نقص

توحيده، وإلا فلو جرد توحيده لكَانَ لَهُ فيه شغل شاغل والله يتولى حفظه والدفع عَنْهُ، ولا بد وإن مزج لَهُ وإن كَانَ مرة ومرة فالله لَهُ مرة ومرة. كما قَالَ بَعْض السَّلَف: من أقبل على الله بكليته أقبل الله عَلَيْهِ جملة ومن أعرض عَنْ الله بكليته أعرض الله عَنْهُ جملة ومن كَانَ مرة ومرة فالله مرة ومرة، فالتَّوْحِيد حصن الله الأعظم الَّذِي من دخله كَانَ من الآمنين. قَالَ بَعْض السَّلَف: من خاف الله خافه كُلّ شَيْء، ومن لم يخف الله أخافه من كُلّ شَيْء. هذه عشرة أسباب يندفع بها شر الحاسد والعائن والساحر، ولَيْسَ لَهُ أنفع من التوجه إِلَى الله وإقباله عَلَيْهِ، وتوكله عَلَيْهِ، وثقته به، وأن لا يخاف معه غيره، بل يكون خوفه منه وحده، ولا يرجو سواه، بل يرجوه وحده. فلا يعلق قَلْبهُ بغيره، ولا يستغيث بسواه، ولا يرجو إلا إياه، ومتى علق قَلْبهُ بغيره ورجاه وخافه وكل إليه وخذل من جهته، فمن خاف شَيْئًا غير الله سلط عَلَيْهِ، ومن رجا شَيْئًا سِوَى الله خذل من جهته وحرم غيره، وهذه سُنَّة الله فِي خلقه، ولن تجد لسُنَّة الله تبديلاً. شِعْرًا: ... وَإِذَا اعْتَمَدْتَ عَلَى الإِلَهِ حَقِيقَةً ... نَمْ فَالْمَخَاوِف كُلّهُنَّ أَمَان اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا الاستقامة طوع أمرك وتفضل عَلَيْنَا بعافيتك وجزيل عفوك. وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. شِعْرًا: ... أَرَى الصَّبْرَ مَحْمُودًا وعنَّهُ مُذَاهِبٌ فَكَيْفَ ... إِذَا مَا لَمْ يَكُنْ عَنْهُ مَذْهَب هُنَاكَ يَحِقّ الصَّبْرَ وَالصَّبْر وَاجِب ... وَمَا كَانَ مِنه لِلضَّرُورَة أَوْجَب هُوَ الْمَهْرَبُ الْمُنْجِي لَمَنْ أَحْدَقَتْ بِه ... مَكَارِه دَهْر لَيْسَ مِنْهُنَّ مَهْرَب

اعد خِلالاً فَليه لَيْسَ لِعَاقِلٍ ... مِنَ النَّاس إِنْ انْصَفَن عَنْهُنّ مَرْغَب لَبُوسُ جَمَالٍ جُنَّةٌ مِنْ شَمَاتَةٍ ... شِفَاءُ آسُّى يُثْنَى بِهِ وَيُثَوَّبُ فَيَا عَجَبًا لِشَيءٍ هَذِي خِلاله ... وَتَارِكْ مَا فِيهِ مِنْ الْحَظِّ أَعْجَبُ آخر: ... كُنْ حَلِيمًا إِذَا بُلِيتَ بغَيْضٍ ... وَصَبُورًا إِذَا أَتَتْكَ مُصِيبة فَاللَّيَالِي كَأَنَّهُنْ حُبَالَى ... مُثْقلات يَلِدْنّ كُلّ عَجِيب آخر: ... اصْبِرْ فَفِي الصَّبْرِ خَيْر لَوْ عَلِمْتَ بِهِ ... لَكُنْتَ بَارَكْتَ شُكْرَ أَصْحَابِ النِّعَمِ آخر: ... إِنِّي رَأَيْتُ الصَّبْرَ خَيْر مُعَوَّل ... فِي النَّائِبَاتِ لَمَنْ أَرَادَ مُعَوَّلا فَإِذَا نَبَا بي مَنْزِلٌ جَاوَزْتُهُ ... وَجَعَلْتَ مِنْهُ غَيْرَهُ لي مَنْزِلا وَإِذَا غَلا شَيْء عَلَيَّ تَرَكْتُهُ ... فَيَكُونُ أَرْخَصُ مَا يَكُونُ إِذَا غلا آخر: ... صَبِرْتُ عَلَى بَعْضِ الأَذَى خَوْف كله ... وَأَلْزَمْتُ نِفْسِي صَبْرَهَا فَاسْتَقَرَّت وَجَرَّعْتُهَا الْمَكْرُوهَ حَتَّى تَدَرَّبَتْ ... وَلَوْ حُمِّلْتَهُ جَمْلَةً لاشْمَأَزَّتْ فَيَا رَبِّ عِزّ جر لِلنَّفَسِ ذلةً ... وَيَا رَبّ نَفس بِالتَّذَلُل عَزَّتْ وَمَا الْعِزّ إِلا خِيفَة الله وَحْدَهُ ... وَمَنْ خَافَ مِنْهُ خَافَهُ مَا أقُلْتُ وَمَا صِدْقُ نَفْسِي إِنَّ فِي الصِّدْقِ حَاجَتِي ... فَارْضي بِدُنْيَايَ وِإِنْ هِيَ قَلَّت وَاهْجُرْ أَبْوَابِ الْمُلُوكَ فَإِنَّنِي ... أَرَى الْحِرْصَ جَلابَا لِكُلّ مَذَلّة إِذَا مَا مَدَدْتَ الْكَفَّ الْتَمْس الْغنى ... إِلَى غَيْرَ مَنْ قَالَ اسْأَلُونِي فَشُلَتْ إِذَا طَرَقَتْنِى الْحَادِثَاتِ بِنَكْبَةِ ... تَذَكَّرْتُ مَا عُوفِيت مِنْه فَقَلَّتْ وَمَا نَكْبَة إِلا وَللهِ مِنَّةٌ ... إِذَا قَابَلْتَهَا أَدْبَرْتَ وَاضْمَحَلْت اللَّهُمَّ باعد بيننا وبين خطايانَا كما باعدت بين المشرق والمغرب ونقنا من الخطايا كما ينقى الثوب الأَبْيَض من الدنس، اللَّهُمَّ ظلمنا أنفسنا فاغفر لَنَا ذنوبنا وهب لَنَا تقواك واهدنا بهداك ولا تكلنا إِلَى أحد سواك واجعل لَنَا من كُلّ هم فرجًا، ومن كُلّ ضيق مخرجًا، اللَّهُمَّ أعذنا بمعافاتك من عقوبتك وبرضاك من سخطك، واحفظ جوارحنا من مخالفة أمرك واغفر لَنَا

فصل أحاديث واردة في الصبر وذكر الثواب العظيم عليه

ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. "فَصْلٌ " وكما ورد فِي مدح الصبر والحث عَلَيْهِ آيات، ذكرنا طرفًا مَنْهَا فكَذَلِكَ وردت أحاديث نذكر إن شاء الله طرفًا مَنْهَا من ذَلِكَ ما ورد عَنْ صهيب بن سنان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «عجبًا لأمر المُؤْمِن إن أمره كله خَيْر ولَيْسَ ذَلِكَ لأحد إلا للمُؤْمِنِ إن أصابته سراء شكر فكَانَ خيرا لَهُ وإن إصابته ضراء صبر فكَانَ خيرًا لَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِم. وعن أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطى أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر» . متفق عَلَيْهِ. وعن أبي مالك الحارث بن عاصم الاشعرى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الطهور شطر الإِيمَان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السموات والأَرْض، والصَّلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلّ النَّاس يغدو فبائع نَفْسهُ فمعتقها أَوْ موبقها» . رَوَاهُ مُسْلِم. وعن أبي هريرة وأبي سعيد رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " ما يصيب المُؤْمِن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حَتَّى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه» . متفق عَلَيْهِ. وعن أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: إِذَا أراد الله بعبده الْخَيْر عجل لَهُ العقوبة فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أراد الله بعبده الشَّر أمسك عَنْهُ بذنبه حَتَّى يوافى به يوم القيامة» . وَقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «إن عظم الجزاء مَعَ عظم البَلاء، وإن

يندفع شر الحاسد عن الحسود بعشر أسباب

الله إِذَا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرِّضَا ومن سخط فله السخط» . رَوَاهُ الترمذي وقَالَ: حديث حسن. وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَيْسَ الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الَّذِي يملك نَفْسهُ عَنْدَ الْغَضَب» . متفق عَلَيْهِ. وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ما يزال البَلاء بالمُؤْمِن والمؤمنة فِي نَفْسهُ وولده وماله حَتَّى يلقى الله وما عَلَيْهِ خطيئة» . رَوَاهُ الترمذي. وقَالَ: حديث حسن صحيح. وعن مصعب بن سعد عَنْ أبيه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أي النَّاس أشد بَلاء، قَالَ: «الأَنْبِيَاء ثُمَّ الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل حسب دينه فَإِنَّ كَانَ فِي دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كَانَ فِي دينه رقة ابتلاه الله حسب دينه، فما يبرح البَلاء فِي الْعَبْد حَتَّى يمشي على الأَرْض وما عَلَيْهِ خطيئة» . رَوَاهُ ابن ماجة وابن أبي الدُّنْيَا والترمذي وقَالَ: حديث حسن صحيح. عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزال البَلاء بالمُؤْمِن والمؤمنة فِي جسده وَفِي ماله وَفِي ولده حَتَّى يلقى الله وما عَلَيْهِ خطيئة» . وقَالَ أَبُو هُرَيْرَةِ: دخل أعرابي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقَالَ لَهُ رسول الله: «أخذتك أم ملدم "؟ قَالَ: وما أم ملدم؟ قَالَ: «حر يكون بين الجلد واللحم» . قَالَ: ما وجدت هَذَا قط. قَالَ: «فهل أخذك الصداع» . قَالَ: وما الصداع. قَالَ: «عرق يضرب على الإِنْسَان فِي رأسه» . قَالَ: ما وجدت هَذَا قط فَلَمَّا ولى قَالَ: «من أحب أن ينظر إِلَى رجل من أهل النار فلينظر إِلَى هَذَا» . رَوَاهُ أحمد. وعن جابر قَالَ: استأذنت الحمى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقَالَ: «من هَذِهِ» قَالَتْ: أم ملدم فأمر بها إِلَى أَهْل قباء فلقوا مَنْهَا ما يعلم الله فأتوه فشكو ذَلِكَ إليه قَالَ: «ما شئتم إن شئتم أن أدعو الله فيكشفها عنكم وإن شئتم أن تَكُون لكم طهورًا» . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أَوْ يفعل. قَالَ: «نعم» قَالُوا: فدعها يَا رَسُولَ اللهِ.

الصبر طريقة الرسل وإليك ما جرى لبعضهم ويليه موعظة

شِعْرًا: ... تَطْرُقُ أَهْلُ الْفَضْلِ دَونَ الْوَرَى ... مَصَائِب الدُّنْيَا وَآفَاتِهَا كَالطَّيْرِ لا يُسْجَنُ مِنْ بِيْنَهَا ... إِلا الَّتِي تُطْرَبُ أَصْوَاتُهَا ولابن حبان فِي صحيحه من رواية العلاء بن المسيب عَنْ أبيه عَنْ سعد قَالَ: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي النَّاس أشد بَلاء قَالَ: «الأَنْبِيَاء ثُمَّ الأمثل فالأمثل يبتلى النَّاس على حسب دينهم، فمن ثخن دينه اشتد بلاؤه، ومن ضعف دينه ضعف بَلاؤه، وإن الرجل ليصيبه البَلاء حَتَّى يمشي فِي النَّاس وما عَلَيْهِ خطيئة» . وعن أبي سعيد أنه دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ موعوك عَلَيْهِ قطيفة فوضع يده فوق القطيفة، فقَالَ: ما أشد حُمَّاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «إِنَّا كَذَلِكَ يُشَدَّدُ عَلَيْنَا البَلاء ويضاعف لَنَا الأجر» . ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ من أشد النَّاس بَلاء؟ قَالَ " الأَنْبِيَاء "، قَالَ: ثُمَّ من؟ قَالَ: «الْعُلَمَاء» . قَالَ: ثُمَّ من؟ قَالَ: «الصالحون كَانَ أحدهم يُبْتَلى بِالْقَمْلِ حَتَّى يَقْتُله وَيُبْتَلى أَحدهم بالفقر حَتَّى ما يجد إلا العباءة يلبسها، ولا أحدهم كَانَ أَشد فَرَحًا بالبَلاء من أحدكم بالعطاء» . رَوَاهُ ابن ماجة وابن أبي الدُّنْيَا والحاكم واللفظ لَهُ وقَالَ: صحيح على شرط مُسْلِم. وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إن الرجل ليكون لَهُ عَنْدَ الله المنزلة فما يبلغها بعمل فما يزال يبتليه بما يكره حَتَّى يبلغه إياها» . رَوَاهُ أبو يعلى وابن حبان فِي صحيحه من طريقه وَغَيْرِهمَا. وعن مُحَمَّد بن خالد عَنْ أبيه عَنْ جده وكَانَتْ لَهُ صحبة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إن الْعَبْد إِذَا سبقت لَهُ من الله منزلة فلم يبلغها بعمل ابتلاه الله فِي جسده، أَوْ ماله، أَوْ فِي ولده، ثُمَّ صبر على ذَلِكَ حَتَّى يبلغه المنزلة التي سبقت لَهُ من الله عَزَّ وَجَلَّ» . رَوَاهُ أحمد وَأَبُو دَاود وأبو يعلى والطبراني فِي الكبير والأوسط.

وَرُوِيَ فيه أيضًا عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله ليجرب أحدكم بالبَلاء كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار، فمنه ما يخَرَجَ كالذهب الإبريز فذاك الَّذِي حماه الله من الشبهات ومنه ما يخَرَجَ دون ذَلِكَ فَذَلِكَ الَّذِي يشك بَعْض الشك ومنه ما يخَرَجَ كالذهب الأسود فَذَلِكَ الَّذِي افتتن» . وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. "موعظة " عباد الله كلنا ولله الحمد قَدْ رضي بِاللهِ ربًا وبالإسلام دينًا، وبمُحَمَّد نبيًا ورسولاً، وبالقرآن إمامًا، والكعبة قبلة، وبالْمُؤْمِنِينَ إِخوانًا وتبرأنَا من كُلّ دين يخالف دين الإِسْلام، وآمنا بكل كتاب أَنزله الله وبكل رسول أرسله الله، وبملائكة الله وبالقدر خيره وشره وبالْيَوْم الآخِر وبكل ما جَاءَ به مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الله، على ذَلِكَ نحيا وعَلَيْهِ نموت، وعَلَيْهِ نَبْعَث إنشاء الله من الآمنين الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون بفضله وكرمه. ثُمَّ اعلموا معاشر الإِخْوَان أنَّه من رضي بِاللهِ ربًا لزمه أن يرضى بتدبيره، واختياره لَهُ، وبمر قضائه، وأَن يقنع بما قسم لَهُ من الرزق، وأن يداوم على طاعته، ويحافظ على فرائضه، ويجتنب محارمه، ويكون صابرًا عَنْدَ بلائه، موطنًا نَفْسهُ على ما يصيبه من الشدائد، بعيدًا كل البعد عَنْ نار الجزع، التي تتأجج فِي قلب كُلّ امرئ يجهل بارئه ومولاه. فإن رَأَيْت نفسك أيها الأخ تريد أن تجزع عَنْدَ ملمة، فقف أمامها موقف الناصح القدير، أفهمها أنها هِيَ السبب فيما أنزل الله بها من بَلاء صغير أَوْ كبير. وإن لم تصدقك فاقرأ عَلَيْهَا قول الله تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} فإنها إِذَا سمعت ذَلِكَ وجهت اللوم

قصيدة تحتوي على الحث على الأخلاق الفاضلة

إلى نفسها على معاصيها، وهدأت الثورة الثقِيْلة. وأفهمها أن لَيْسَ بينها ولا بين ربها عداوة، فإنه بعباده الرءوف الرحيم، وأفهمها أن البلايا قَدْ تلزم الْعَبْد حَتَّى يصبح مغفورة ذنوبه كُلّهَا، صغيرها، والكبير، وأفهمها أن نتيجة ذَلِكَ أن صَاحِب البلايا يأتي يوم القيامة فِي أمن مولاه الكريم. فعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «من يرد الله به خيرًا يصب منه» . رَوَاهُ الْبُخَارِيّ. وَفِي حديث أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ: «إِذَا أراد الله بعبده الْخَيْر عجل لَهُ العقوبة فِي الدُّنْيَا» . وقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «إن عظم الجزاء مَعَ عظم البَلاء وإن الله إِذَا أحب قومًا ابتلاهم» . الْحَدِيث. وفي حديث أبي هريرة قَالَ: قَالَ: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما يزل البَلاء بالمُؤْمِن والمؤمنة فِي نَفْسهُ وولده وماله حَتَّى يلقى الله تَعَالَى وما عَلَيْهِ خطيئة» . رَوَاهُ الترمذي، وقَالَ: حديث حسن صحيح، أَفْهِمْ نفسك كُلّ ذَلِكَ فإنه يخفف عَنْهَا آلام البلايا، وَرُبَّمَا جعلها من المحبوبات. وأفهمها أن الله وعد الصابرين أن يجزيهم أجرهم بغير حساب وأفهمها أن الله حكيم فِي كُلّ تصرفاته، وقل لها أن الجزع لا يرد ما نزل من البلاء أبدًا، بل ما دبره الحكيم العليم لا بد من وقوعه فلا فائدة فِي الجزع والحزن، وقل إن عاقبة الجزع والتسخط النار، وعاقبة الصبر والرِّضَا بما قضاه الله الْجَنَّة، وقل أن شماتة الأعداء فِي الجزع، وغيظهم فِي الصبر، الَّذِي يتأكد لزومه على الرِّجَال والنساء. وتأكد واطمئن أنها إِذَا سمعت منك كُلّ ذَلِكَ رضيت بإذن الله كُلّ الرِّضَا، ولزمت الآداب، فتعيش كُلّ حياتها تروح وتغتدي فِي جنة رضاها،

مهما برحت بها البلايا والأوصاب، وبذَلِكَ مَعَ توفيق الله تَعَالَى تجمَعَ بين سعادة الدُّنْيَا والآخِرَة وهكَذَا تَكُون عواقب الصابرين الأبطال. شِعْرًا: ... وَأَصْبَحْتُ فِيمَا كُنْتُ أَبْغِي مِنَ الْغِنَا ... إِلَى الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ أَحْوَجَا وَحَسِبْتُ نَفْسِي بَيْنَ وَبَيْتِي وَمَسْجِدِي ... وقَدْ صِرْتُ مِثْل النِّسْرِ أَهْوَى التَّعَرّجَا آخر: ... مَا أَحْسَنَ الصَّبْر فِي الدُّنْيَا وَأَجْمَلَهُ ... عَنْدَ الإِلَهِ وَأنْجَاهْ مِنْ الْجَزَعِ مَنْ شَدَّ بِالصَّبْرِ كَفًا عِنْدَ مُؤْلِمَةٍ ... أَلْوَتْ يَدَاهُ بِحَبْلٍ غَيْرَ مُنْقَطِعٍ اللَّهُمَّ نور قلوبنا واشرح صدورنا ويسر أمورنا وأحسن منقلبنا وأيدنا بروح منك وَوَفِّقْنَا لما تحبه وترضاه وثبتنا بالقول الثابت فِي الحياة الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَة واغفر لَنَا ذنوبنا واستر عيوبنا واكشف كروبنا وأصلح ذات بينا وألف فِي طَاعَتكَ وطاعة رسولك بين قلوبنا واغفر لَنَا ولوالدين وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. " فَصْلٌ " ويكفي فِي مدح الصبر وشرفه وعلو مكانته وأَنَّه لا يناله إلا من وفقه الله، أن الصبر طريقة الرسل عَلَيْهمْ أفضل الصَّلاة والسَّلام، فقَدْ قَالَ الله تَعَالَى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وصفوة خلقه: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ} ، وقَالَ: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} . فبين تَعَالَى أن كُلَّ رسول أرسله إِلَى أمة من الأمم لاقى أذىً وألمًا من قومه وتكذيبًا، وقَالَ لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: آمرًا ومسليًا {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} الآية. ألا وإن من حكمة الله فِي تعريض صفوة خلقه لهذه المكاره والأذايا

وفي أمرهم بالصبر عَلَيْهَا إفهامًا لخلقه أَنَّ الدُّنْيَا دار بَلاءٍ واختبارٍ، لا دار مقامٍ ولذةٍ، واستقرارٍ، وأنها محدودة الأجل، مقصود مَنْهَا صالح الْعَمَل. فَانْظُرْ إِلَى آدم عَلَيْهِ السَّلام وما نزل به الآلام والأحزان أَخْرَجَهُ الله بفتنة إبلَيْسَ من جنته وأهبطه إِلَى الأَرْض ليعمرها هُوَ وأبناؤه، وهي دار العناء والفناء وذاق ثكل ولده هابيل باعتداء أخيه عَلَيْهِ قابيل. وانظر أول رسول أرسل إِلَى أَهْل الأَرْض نوح عَلَيْهِ وعلى نبينا أفضل الصَّلاة والسَّلام وقَدْ مكث يدعو قومه ألف سُنَّة إلا خمسين عامًا (950) وهم يهزؤون ويسخرون منه يدعوهم ليلاً ونهارًا سرًا وجهارًا ولم يتوانَا ولم يضجر ولم يمل بل واصل الجهود النبيلة الْخَالِصَة الكريمة بلا مصلحة لَهُ ولا منفعة مِنْهُمْ. ويحتمل فِي سبيل هَذِهِ الدعوة الاستكبار والإعراض، هَذِهِ المدة الطويلة والمستجيبون لا يزيدون، والمعرضون فِي زيادة، ولما أيس من إيمانهم أمر أن يصنع الفلك فكَانُوا إِذَا مروا عَلَيْهِ ضحكوا منه وسخروا وقَالُوا كَانَ بالأمس نبيًا والْيَوْم نجارًا ولا يزيد من جوابه على أن يَقُولُ: {إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحَِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} . وزَادَ بلاؤه أن أُغْرِقَ ابنه ينظر إليه ولا يستطيع لَهُ إنقاذًا إذ قَدْ غلب على الابن الشقاء فناجى ربه نوح فقَالَ لَهُ ربه: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} . ثُمَّ انظر إِلَى شيخ المرسلين وَجَدَ الْمُسْلِمِين خليل الرحمن عَلَيْهِ السَّلام وما تجرع من الغصص والآلام فقَدْ جد فِي دعوة أبيه إِلَى التَّوْحِيد حَتَّى هدده أبوه بالرجم والتعذيب وقومه قَالُوا: اقتلوه أَوْ احرقوه ثُمَّ ما جرى عَلَيْهِ حين أمر بذبح ابنه فأقَدِمَ عَلَى ذلك.

ثُمَّ انظر إِلَى مُوَسى وما جرى عَلَيْهِ وما لا قى فِي أول أمره وآخره مَعَ فرعون لعنه الله وقومه ثُمَّ انظر إِلَى عيسى عَلَيْهِ السَّلام وما لقيه من قذف أمه وقذفه رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا واضطهاد بنى إسرائيل قومه حَتَّى ائتمروا على صلبه. ثُمَّ انظر إِلَى لوط عَلَيْهِ السَّلام وما جرى لَهُ مَعَ قومه المنحرفين الشاذين المستهترين بالنذر، قَالَ تَعَالَى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ} الآية، فصبر إِلَى أن نصره الله وأرسل على قومه حاصبًا وجعل عاليها سافلها واللهُ على كُلّ شَيْء قدير وَهُوَ نعم المولى ونعم النصير. شِعْرًا: ... ثَمَانِيَةٌ حَتْمٌ عَلَى سَائِرِ الْوَرَى ... فَكُلّ امْرِئٍ لا بُدَّهُ مِنْ ثَمَانِيَهْ سُرُورٌ وَاجْتِمَاعٌ وَفُرْقَة ... وَعُسْر وَيُسْر ثُمَّ سِقَم وَعَافِيَهْ آخر: ... إِنَّ الْحَيَاةَ مَنَامٌ وَالْمَآل بِنَا ... إِلَى انْتِبَاه وَآتٍ مِثْل مُنْعَدِمِ وَنَحْنُ فِي سَفَرٍ نَمْضِي إِلَى حُفَرٍ ... فَكُلُّ آنٍ لَنَا قُرْبٌ مِنْ عَدَمِ وَالْمَوْتُ يَشْمُلُنَا وَالْحَشْرُ يَجْمَعُنَا ... وَبِالتُّقَى الْفَخْرُ لا بِالْمَالِ وَالْحَشَمِ صُنْ بِالتَّعَفُّفِ عِزَّ النَّفْسَ مُجْتَهِدًا ... فَالنَّفْس أَعْلَى مِن الدُّنْيَا لِذِي الْهِمَم وَاغْضُضْ عُيُونَكَ عَنْ عَيْب الأَنَام وَكُنْ ... بِعَيْبِ نَفْسِكَ مَشْغُولاً عَنْ الأُمَمِ فَإِنَّ عَيْبَكَ تَبْدُو فِيكَ وَصَمْتُهُ ... وَأَنْتَ مِنْ عَيْبِهِمْ خَال مِنَ الوَصْم جَازِي الْمُسِيء بِإِحْسِانٍ لِتَمْلِكَهُ ... وَكُنْ كَعَوْدٍ يِفُوحُ الطِّيب فِي الضَّرْمِ وَمَنْ تَطَلَّبَ خِلا غَيْرَ ذَي عِوَجٍ ... يَكُنْ كَطَالِبِ مَاءٍ مِنْ لَظَى الْفَحْمِ وقَدْ سَمِعْنَا حِكَايَاتِ الصِّدْيِق وِلَمْ ... نَخُلْهُ إِلا خَيَالاً كَانَ فِي الْحِلْمِ إِنَّ الإقَامَةِ فِي أَرْضٍ تُظَام بِهَا ... وَالأَرْضُ وَاسِعَةٌ ذُلٌّ فَلا تُقِمِ وَلا كَمِال بِدَارٍ لا بَقَاءَ لَهَا ... فَيَا لَهَا قِسْمَةٌ مِنْ أَعْظَمِ الْقِسَمِ دَارٌ حَلاوَتُهَا لِلْجَاهِلِينَ بِهَا ... وَمُرُّهَا لِذَوِي الأَلْبَاب وَالْهِمَمِ أَبْغِي الْخَلاصِ وَمَا أَخْلَصْتَ فِي عَمَلٍ ... أَرْجُو النّجَاة وَمَا نَاجَيْتَ فِي الظُّلْمِ لَكِنْ لِي أَملاً فِي الله يُؤْنِسُنِي ... وَحُسْنُ ظَنِّ بِهِ ذَا الْجُود وَالْكَرَمِ

من صبر الرسل شعيب وهود وصالح ويونس ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين

اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتَكْ فِي قلوبنا وقوها، اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا محبة أوليائك وبغض أعدائك وهجرانهم والابتعاد عنهم واغفر لَنَا، اللَّهُمَّ وَاجْعَلْنَا مِنْ المتقين الأَبْرَار واسكنا معهم فِي دار الْقَرَار، اللهم وَفَّقَنَا بحسن الإقبال عَلَيْكَ والإصغاء إليك وَوَفِّقْنَا لِلتَّعَاوُن فِي طَاعَتكَ والمبادرة إِلَى خدمتك وحسن الآدَاب فِي معاملتك والتسليم لأَمْرِكَ والرِّضَا بقضائك والصبر على بَلائِكَ وَالشُّكْر لنعمائك، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأحياء مِنْهُمْ والميتينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله صحبه أجمعين. " فَصْلٌ " ثُمَّ انظر إِلَى خطيب الأَنْبِيَاء عَلَيْهِ السَّلام، وما لا قى من قومه المتمردين على الحق والعدل، المفسدين فِي الأَرْض قطاع الطرق، والظلمة الَّذِينَ يفتنون النَّاس عَنْ دينهم، ويصدونهم، المقاتلين لمن يدعوهم إِلَى الأَعْمَال الصَّالِحَة والأَخْلاق الفاضلة بالقَسْوَة والغلظة، حيث يقولون: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ} الآية. ثُمَّ انظر إِلَى صالح عَلَيْهِ السَّلام حين دعاء قومه وما قابلوه به حين جَاءَ بالبينة الدالة على صدقه، فيعتدون عَلَيْهَا ويتحدونه باستعجال الْعَذَاب. ثُمَّ انظر إِلَى هود عَلَيْهِ السَّلام، واتهام قومه لَهُ بالسفاهة والكذب بلا ترو مِنْهُمْ ولا تدبر ولا دَلِيل، وأخيرًا يتحدونه بالْعَذَاب. وانظر إِلَى يونس وما لقي من قومه حَتَّى ضاق صدره بتكذيب قومه فأنذرهم بعذاب قريب، وغادرهم مغضبًا آبقًا فقاده الْغَضَب إِلَى شاطئ البحر، حيث ركب سفينةً مشحونةً وَفِي وسط لجة البحر ناوأتها الرياح والأمواج وأشرفت على الغرق، فساهموا على أن من تقع القرعة عَلَيْهِ يلقى فِي

فصل في تسهيل المصائب وما ورد فيها من الآيات والأحاديث وأقوال العلماء والحكماء فيها يهون وينسى المصائب بإذن الله

البحر لتخف السَّفِينَة فوقعت القرعة على يونس نَبِيّ اللهِ ثلاث مرات وهم يبخلون به أن يلقى من بينهم. فتجرد من ثيابه ليلقي نَفْسهُ وهم يأبون عَلَيْهِ ذَلِكَ، وأمر الله تَعَالَى حوتًا من البحر الأخضر أن يشق البحار وأن يلتقم يونس عَلَيْهِ السَّلام، ولا يهشم لَهُ لحمًا ولا يكسر لَهُ عظمًا فَجَاءَ ذَلِكَ الحوت وألقى يونس نَفْسهُ فالتقمه الحوت وذهب به. ولما استقر يونس فِي بطن الحوت حسب أنه قَدْ مَاتَ، ثُمَّ حرك رأسه ورجليه، وأطرافه، فإذا هُوَ حي فقام فصلى فِي بطن الحوت، وكَانَ من جملة دعائه يَا رب اتخذت لَكَ مَسْجِدًا فِي موضع لم يبلغه أحد من النَّاس، فهَذَا ما لقيه يونس عَلَيْهِ السَّلام، ذكر ذَلِكَ بَعْض الْعُلَمَاء رحمهم الله. ثُمَّ إِلَى ما لقيه صفوة الخلق مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - من قومه، من التكذيب والاستهزاء، والإيذاء في نَفْسهُ، وفيمن يتبعه من المستضعفين، حَتَّى ائتمروا على قتله، فهاجر إِلَى الْمَدِينَة تاركًا وطنه وعشيرته، وانظر ما لقيه فِي حروبهم، وقَدْ جرحوه، وكسروا رباعيته حَتَّى سال دمه. إذا نظرت إِلَى ذَلِكَ وإلى غيره علمت أنَّ الدُّنْيَا مشحونة بالمصائب والانكاد، وأنها دار ممر لا دار مقر، ولو كَانَتْ دار مقر واطمئنان، لكَانَ أولى بذَلِكَ رسل الله، وأنبياؤه، وأصفياؤه فالعاقل من يحرص على عقيدته الدينية كما يحرص على روحه فيحصنها من الزيغ والضلال، ويقوم بما فرض الله عَلَيْهِ، ويجتنب ما نهى الله عَنْهُ صابرًا على ما قدره الله عَلَيْهِ. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وسلم. " فَصْلٌ " اعْلَمْ وَفَّقَنَا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع الْمُسْلِمِين لما يحبه ويرضاه، أن لتسهيل

مما يسلى ما وعد الله به عباده في الجنة وأن المصائب لها آجال تنتهي بها وأن مع العسر يسرا وأن الفرج عند الكرب

المصائب والشدائد البدنية والمالية أسباب إِذَا قارنت حزمًا وصادقت عزمًا هان وقعها، وقل تأثيرها على الدين والْقَلْب والبدن، بأذن الله تَعَالَى. فأَوَّلاً الآيات وَالأَحَادِيث المتقدمة التي فيها مدح الصابرين وبشارتهم ووعدهم بالجزاء الحسن ومن ذَلِكَ أن يعلم أن مرارة الدُّنْيَا هِيَ بعينها حلاوة فِي الآخِرَة وحلاوة الدُّنْيَا هِيَ بعينها مرارة الآخِرَة، ولأن ينتقل من مرارة منقطعة إِلَى حلاوة دائِمَّة خَيْر من عكس ذَلِكَ. وقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «حفت الْجَنَّة بالمكاره وحفت النار بالشهوات "، وكَذَلِكَ قوله فِي الصحيح: «يؤتى يوم القيامة بأنعم أَهْل الدُّنْيَا من أَهْل النار فيصبغ فِي النار صبغة، ثُمَّ يقَالَ: يَا ابن آدم هل رَأَيْت خيرًا قط هل مر بك نعيم قط؟ فَيَقُولُ: لا وَاللهِ يَا رب، ويؤتى بأشد النَّاس بؤسًا فِي الدُّنْيَا من أَهْل الْجَنَّة فيصبغ فِي الْجَنَّة صبغة فيقَالَ لَهُ: يَا ابن آدم هل رَأَيْت بؤسًا قط هل مر بك شدة قط؟ فَيَقُولُ: لا وَاللهِ يَا رب " الْحَدِيث. ومن ذَلِكَ استشعار النفس بما تعلمه من نزول الْفَنَاء وتقضي المسار، وأن لها آجالاً منصرمةٌ ومددًا منقضيةً، إذ لَيْسَ للدنيا حالٌ تدوم ولا لمخلوق عَلَيْهَا بقاء كما قَالَ تَعَالَى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وقَالَ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} . شِعْرًا: ... بَنُو الوَقْتِ مِنْ فَجَعَاتِهِ فِي تَمَزُّقٍ ... فَكُلَهُمْ يَغْدُو بِشَلْوٍ مُقَدَّدِ وَإِنَّي رَأَيْتُ الوَقْتَ جَمًّا خُطُوبُهُ ... وَإِنْ لَمْ يُرَوْعْ حَادِث فكَأَنْ قَدِ وروى ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «ما مثلي ومثل الدُّنْيَا إلا كمثل راكب مال إِلَى ظِلّ شجرة فِي يوم صائف ثُمَّ راح وتركها» . ومنها أن يتصور انحلال الشدائد وانكشاف الهموم وأن الله قدرها فأوقات لا تنصرم قبلها ولا تستديم بعدها فلا تقصر تلك الأوقات بجزع

ولا تطول بصبر، وأن كُلّ يوم يمر بها يذهب مَنْهَا بشطر ويأخذ مَنْهَا بنصيب حَتَّى تنجلي وتنفرج ويزول ما كَانَ من المكاره والخطوب. وقَدْ قص الله عَلَيْنَا فِي كتابه قصصًا تتضمن وقوع الفرج بعد الكرب والشدة كما قص نجاة نوح ومن معه في الفلك من الكرب العظيم مع إغراق سائر أهل الأرض. وكما قص نجاة إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام من النار حين ألقاه المشركون فِي النار وأنه جعلها بردًا وسلامًا، وكما قص قصة إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام مَعَ ولده الَّذِي أمر بذبحة، ثُمَّ فداه الله بذبح عَظِيم. وكما قص قصة مُوَسى عَلَيْهِ السَّلام مَعَ أمه لما ألقته فِي اليم حَتَّى التقطه آل فرعون، وقصته مَعَ فرعون لما نجى الله سُبْحَانَهُ مُوَسى وأغرق عدوه فرعون وقَوْمه. وكما قص قصة أيوب ويونس ويعقوب، ويوسف عَلَيْهمْ السَّلام قصة قوم يونس لما آمنوا، وكما قص قصص مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - ونصره على أعدائه بإنجائه مِنْهُمْ فِي عدة مواطن، مثل قصته فِي الغار، وقصة يوم بدر، ويوم أحد، ويوم حنين. وكما قص الله قصة عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وأرضاها فِي حديث الإفك وبرأها الله مِمَّا رميت به، وقصة الثلاثة الَّذِينَ خلفوا حَتَّى إِذَا ضاقت عَلَيْهمْ الأَرْض بما رحبت، وضاقت عَلَيْهمْ أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، ثُمَّ تاب عَلَيْهمْ ليتوبوا. وَفِي السُنَّة من هَذَا المعنى شَيْءٌ كثير مثل قصة الثلاثة الَّذِينَ دخلوا الغار فانطبقت عَلَيْهمْ الصخرة، فدعوا الله بأَعْمَالُهُمْ الصَّالِحَة، ففرج الله عنهم، ومثل قصة إبراهيم وسارة مَعَ الجبار الَّذِي طلبها من إبراهيم ورد الله كيد الفاجر.

أبيات مسلية ومما يسلي التسلي بذوي الغير ممن أعظم منه في المصائب وأن النعم والنقم كلها زائرة زائلة

وَإِذَا اشتد الكرب وعظم الخطب كَانَ الفرج قريبًا فِي الغالب بإذن الله قَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا} ، وقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} . وأخبر عَنْ يعقوب أنه لم ييأس من لقاء يوسف وقَالَ لإخوته: اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله، وقَالَ: عَسَى الله إن يأتيني بِهُمْ جميعًا، ومن لطائف اقتران الفرج باشتداد الكرب، أن الكرب إِذَا اشتد، وعظم وتناهى، وُجِدَ الإياس من كشفه من جهة المخلوق، ووقع التعلق بالخالق. كما قَالَ الإِمَام أحمد واستدل عَلَيْهِ بقول إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام لما عرض لَهُ جبريل عَلَيْهِ السَّلام فِي الهواء، وقَالَ: ألك حَاجَة، فقَالَ: أما أليك فلا وإما إِلَى الله فبلَى والتوكل من أعظم الأسباب التي تطلب بها الحوائج. فإن الله يكفي من توكل عَلَيْهِ كما قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ، ومنها أن الْعَبْد إِذَا اشتد عَلَيْهِ الكرب فإنه يحتاج حينئذ إِلَى مجاهدة الشيطان لأنه يأتيه فيقنطه ويسخطه ومنها أن المُؤْمِن إِذَا استبطأ الفرج وآيس منه ولاسيما بعد كثرة دعائه وتضرعه ولم يظهر لَهُ أثر الإجابة رجع على نَفْسهُ باللأَئِمَّة وَيَقُولُ لها إنما أتيت من قبلك ولو كَانَ فيك خيرًا لأجبت وَهَذَا اللوم أحب إِلَى الله من كثير من الطاعات. أ. هـ. شِعْرًا: ... وَهَوِّنْ عَلَيْكَ فَكُلُّ الأَمْرِ تَنْقَطِعُ ... وَخَلّ عَنْكَ عَنَانَ يَنْدَفِعُ فَكُلّ هَمٍّ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ فَرَجُ ... وَكُلُّ أَمْرٍ إِذَا مَا ضَاق يَتَّسِعُ إِنَّ البَلاءَ وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ بِهِ ... فَاللهُ يُفَرِّجَهُ وَسَوْفَ يَنْقَطِعُ آخر: ... إِذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى الْيَأْسِ الْقُلُوبُ ... وَضَاقَ بِمَا بِهِ الصَّدْرُ الرَّحِيبُ وَأَوْطَأَتْ الْمَكَارِهْ وَاطْمَأَنَّتْ ... وَأَرْسَتْ فِي أَمَاكِنِهَا الْخُطُوبِ

وَلَمْ تَرَ لانْكِشَافِ الضُّرِّ وَجْهًا ... وَلا أَغْنَى بِحِيلَتِهِ الأَرِيبُ أَتَاكَ عَلَى قُنُوطٍ مِنْكَ غَوْثٍ ... يَمُنُّ بِهِ اللطِيفُ الْمُسْتَجِيبُ وَكُلُّ الْحَادِثَاتِ إِذَا تَنَاهَتْ ... فَمَوْصُولٌ بِهَا فَرَجٌ قَرِيبُ آخر: ... إِنَّ الأُمُورَ إِذَا مَا اللهُ يَسَّرَهَا ... أَتَتْكَ مِنْ حَيْثُ لا تَرْجُو وَتَحْتَسِب وَكُلُّ مَا لَمْ يُقَدِّرَهُ الإِلَهُ فَمَا ... يُفِيدُ حِرْصُ الْفَتَى فِيهِ وَلا النَّصَبُ ثِقْ بِالإِلَهِ وَلا تَرْكَنُ إِلَى أَحَدٍ ... فَاللهُ أَكْرَمُ مَنْ يُرْجَ وَيُرْتَقَبُ آخر: ... وَكَمْ للهِ مِنْ لُطْفٍ خَفِيٍّ ... يَدِقُّ خَفَاهُ عَنْ فَهْمِ الذَّكِيِّ وَكَمْ يُسْرٍ أَتَى مِنْ بَعْدِ عُسْرٍ ... وَفَرَّجَ لَوْعَةَ الْقَلْبِ الشَّجِيِّ وَكَمْ هَمٍّ تُسَاءُ بِهِ صَبَاحًا ... فَتَعْقُبُهُ الْمَسَرَّةُ بِالْعَشِي إِذَا ضَاقَتْ بِكَ الأَسْبَابُ يَوْمًا ... فَثِقْ بِالْوَاحِدِ الأَحَدِ الْعَلِيِّ وَاللهُ أَعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد وآله وسلم. " فَصْلٌ " ومنها أن يتسلَّى بذوِي الغير، ويتسلَّى بأولى العبر، ويعلم أنهم الأكثرون عددًا والأسرعون مددًا، فيستجد من سلوة الأسى وحسن العزاء إِلَى ما يخفف حزنه ويقلل هلعه. وقَالَ عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: الصقوا بذوي الغير تتسع قلوبكم. أي الَّذِينَ تنتقل أحوالهم إذ يتسلى مرقع الخف بالَّذِي مخرق خفه، ويتسلى مخرق الخف بالحاسر الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء، وتسلى الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء بالأعرج، والأعرج بالأقطع، وهكَذَا كُلّ يتسلى بمن هُوَ أعظم منه فِي المصيبة. والدُّنْيَا إِذَا تأملها اللبيب وجدها كُلّهَا متاعب وبلايا ومصائب، وقَدْ أحاطت بِالنَّاسِ من رؤوسهم إِلَى أقدامهم، فتَرَى مصابًا بالعلل والأسقام كُلَّما برئ من علة أصابته علة أخرى، كُلَّما شفاه الله من مرض جاءه مرض

آخر، وتجد هَذَا مصابًا بعقوق الأبناء لأنهم خرجوا عَنْ الصراط المستقيم، وسلكوا طَرِيق الشيطان، وتجد الآخر مصابًا بسوء خلق زوجته فهو معها دَائِمًا فِي شقاق وعناء ونشوز ولجاج. وتجد مصابًا بالفقر المدقع وَهَذَا تجده مصابًا بالعقم، وَهَذَا تجده مصابًا بكساد تجارته، وَهَذَا مصابًا ببوار زراعته، أَوْ صناعته، وَهَذَا مصابًا بجيران سوء يذيعون ما يسوءُ ويكتمون الْخَيْر، وتجده معهم دَائِمًا فِي لجاج، وَهَذَا تجده مَعَ أقربائه فِي شقاق وقطيعة، وشكاوى وتردد بين المحاكم والمناطق، وَهَذَا تجدع مَعَ شركائه أَوْ مَعَ أرحامه كَذَلِكَ فِي نكد. وتَرَى هَذَا لا حظ لَهُ فِي الحياة يجد ويجتهد ولا ينال مناه ويشقى ويتعب ولا يحصل على مبتغاه، وَهَذَا تجده مسلطين عَلَيْهِ والديه أَوْ أحدهما وَهَذَا تجده مظلومًا وَهَذَا مسجونًا، وهكَذَا إِلَى نهاية سلسلة الآلام التي لا تقف عَنْدَ حد ولا يحصيها عد، ولَقَدْ صدق من قَالَ: شِعْرًا: ... كُلُّ مَنْ لاقَيْتُ يَشْكُو دَهْرَهُ ... لَيْتَ شِعْرِي هَذِهِ الدُّنْيَا لِمَنْ آخر: ... أَلَحَّ عَلَيَّ السُّقْمُ حَتَّى أَلِفْتُهُ ... وَمَلَّ طَبِيبِي جَانِبِي وَالْعَوَائِدُ آخر: ... تَعَوَّدْتُ مَسَّ الشَّرَّ حَتَّى أَلِفْتُهُ ... وَأَسْلَمَنِي طُولُ البَلاءِ إِلَى الصَّبْرِ وَوَسَّعَ صَدْرِي لَلأَذَى كَثْرَةُ الأَذَى ... وَكَانَ قَدِيمًا قَدْ يضيق به صَدْرِي إِذَا أَنَا لِمْ أَقْبَلْ مِنَ الدَّهْرِ كُلَّمَا ... تَكَرَّهْتُهُ قَدْ طَالَ عُتْبِي عَلَى الدَّهْرِ آخر: ... رُوِّعْتُ بَالْبَيْنِ حَتَّى مَا أَرَاعَ لَهُ ... وَبِالْمَصَائِبِ فِي أَهْلِي وَجِيرَانِ آخر: ... تَعَزَّ بِحِسْنِ الصَّبْرِ عَنْ كُلِّ هَالِكِ ... فَفِي الصَّبْرِ مَسْلاةُ الْهُمُوم اللوَازِمِ إِذَا أَنْتَ لَمْ تَصْبِرْ عَزَاءً وَحِسْبَةً ... سَلَوْتَ كَمَا تَسْلُو قُلُوبُ الْبَهَائِمِ آخر: ... ولما رَأَيْتُ الوَقْتَ يُؤْذِنُ صَرْفُهُ ... بِتَفْرِيقِ مَا بَيْنِي وَبَيْنَ الْحَبَائِبِ رَجَعْتُ إِلَى نَفْسِي فَوَطَّنْتُهَا عَلَى ... رُكُوبِ جَمِيل الصَّبْرِ عَنْدَ النَّوَائِبِ وَمَنْ صَحِبَ الدُّنْيَا عَلَى سُوءِ فِعْلِهَا ... فَأَيَّامُهُ مَحْفُوفَةٌ بِالْمَصَائِبِ

موعظة لابن الجوزي تسلي بإذن الله عن المصائب.. الخ

وَمَنْ صَحِبَ الدُّنْيَا عَلَى سُوءِ فِعْلِهَا ... فَأَيَّامُهُ مَحْفُوفَةٌ بِالْمَصَائِبِ فَخُذْ خِلْسَةً مِنْ كُلِّ يَوْمٍ تَعِيشُهُ ... وَكُنْ حَذِرًا مِنْ كَآمِنَاتِ الْعَوَاقِبِ آخر: ... وَمَا خَيْرَ عَيْشُ نِصْفُهُ سِنَةُ الْكَرَى ... وَنِصَفٌ بِهِ نَعْتَلُ أَوْ نَتَوَجَّعُ مَعَ الوَقْتِ يَمْضِي بُؤْسُهُ وَنَعِيمُهُ ... كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَالوَقْتُ عُمْرُكَ أَجْمَعُ آخر: ... طُبِعَتْ عَلَى كَدَرٍ وَأَنْتَ تَرُومُهَا ... صَفْوًا مِنَ الأَقْذَارِ وَالأَكْدَارِ وَمُكَلِّفُ الأَيَّامِ ضَدَّ طِبَاعِهَا ... مُتَطَلِّبُ فِي النَّارِ جَذْوَةَ نَارِ وَإِذَا رَجَوْتَ الْمُسْتَحِيلَ فَإِنَّمَا ... تَبْني الرَّجَاءَ عَلَى شَفِِيرٍ هَارٍ آخر: ... وَمَا اسْتَغْرَبَتْ عَيْنِي فِرَاقًا رَأَيْتُهُ ... وَلا أَعْلَمَتْنِي غَيْرَ مَا الْقَلْبِ عَالِمُهُ آخر: ... وَهَبْنِي مَلَكْتُ الأَرْضَ طُرَّا وَنِلْتُ مَا ... أُنِيلَ ابْنُ دَاودٍ مِنَ الْمَالِ وَالْمُلْكِ أَلَسْتُ أَخَلِّيهِ وَأُمْسِي مُسَلَّمًا ... بِرَغْمِي إِلَى الأَهْوَالِ فِي مَنْزِلٍ ضَنْكِ آخر: ... مَتَى تَسْتَزِدْ فَضْلاً مِنَ الْعُمْرِ تَغْتَرِفْ ... بِسِجِلَّيْكَ مِنْ أَرْيِ الْخُطُوبِ وَصَابِهَا يُسَرُّ بِعُمْرَانِ الدِّيَارِ مُظَلَّلٌ ... وَعُمْرَانُهَا يَدْنُوهُ بِهَا مِنْ خَرَابِهَا وَلَمْ ارْتَضِ الدُّنْيَا أَوَانَ مَجِيئَهَا ... فَكَيْفَ أَرْتَضِائيها أَوْانَ ذَهَابِهَا آخر: ... لَمْ يَبْقَ فِى الْعَيْشِ غَيْرَ الْبُؤْسِ وَالنَّكَدِ ... فَاهْرَبْ إِلَى الْمَوْتِ مِنْ هَمٍّ وَمِنْ كَمَدِ مَلأَتَ يَا دَهْرُ عَيْنِي مِنْ مَكَارِهِهَا ... يَا دَهْرُ حَسْبُكَ قَدْ أَسْرَفْتَ فَاقْتَصِدْ قَالَ ابن الجوزى: ولولا الدُّنْيَا دارُ ابتلاء لم تعتور فيها الأمراض والأكدار ولم يضق العيش فيها على الأَنْبِيَاء والأخيار فآدم يعاني المحن إِلَى أن خَرَجَ من الدُّنْيَا، ونوح بكى ثلاثمائة عام، وإبراهيم يكابد النار وذبح الولد، ويعقوب بكى حَتَّى ذهب بصره، ومُوَسى يقاسى فرعون ويلقى من قومه المحن. وعيسى بن مريم لا مأوى لَهُ إلا البراري فِي العيش الضنك ومُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - يصابر الفقر وقتل عمه حمزة، وَهُوَ من أحب أقاربه إليه، ونفور قومه عَنْهُ، وقَدْ قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «الدُّنْيَا سجن المُؤْمِن وجنة الكافر» . فإذا بان بأنها دار ابتلاء وسجن ومحن فلا ينبغي إنكار وقوع المصائب فيها وقَالَ: رَأَيْتُ جمهور النَّاس إِذَا طرقهم المرض أَوْ غيره من المصائب اشتغلوا تَارَّة بالجزع والشكوى، وتَارَّة بالتداوي، إِلَى أن يشتد عَلَيْهمْ فيشغلهم اشتداده عَنْ الالتفات إِلَى

المصالح، من وصية أَوْ فعل خَيْر أَوْ تأهب للموت. فكم ممن لَهُ ذنوب لا يتوب مَنْهَا أَوْ عنده ودائع لا يردها، أَوْ عَلَيْهِ دين أَوْ زكاة أَوْ فِي ذمته ظلامة لا يخطر لَهُ تداركها، وإنما حزنه على فراق الدُّنْيَا إِذَا لا هم لَهُ سواها وَرُبَّمَا أفاق وأوصى بجور ... انتهى كلامه. شِعْرًا: ... لَحَى اللهُ دُنْيَا لا تَكُونُ مَطِيَّةً ... إِلَى دَارِكَ الأُخْرَى تَزُمَّ وَتَرْكَبُ عَجِبْتُ لَمَنْ يَرْجو الرِّضَا وَهُوَ مُهْمِلٌ ... وَتَسْوِِيفُنَا مَعَ ذَلِكَ الْعِلْمُ أَعْجَبُ وَمَا هَذِهِ الأَيَّام إِلا مَرَاحِلُ ... وَأَجْدَر أبِهَا تُقْضَى قَرِيبًا وَتَنضِبُ إِذَا كانَا الأَنْفَاسُ لِلْعُمْرِ كَالْخُطَا ... فَإِنَّ الْمَدَى أَدْنَى مَنَالاً وَأَقْرَبُ وقَالَ بَعْضهمْ: إن المرء إِذَا طرقه عما يتحيف صبره ويضيق صدره يعود إِلَى علمه بالدُّنْيَا كيف نصبت على النقلة، وجنبت طول المهلة وابتدأت للنفاد وشفع كونها للخراب، وأن الثاوي فيها راحل، والأَيَّامُ فيها مراحل موهوبها مسلوب وان أرخى إِلَى مهل، وممنوحها محروم وإن أرخى إِلَى أجل ولو خلد من سبق لما وسعت الأَرْض ولِذَلِكَ جعلت الدُّنْيَا دار قلعة ومحل نجعة. شِعْرًا: ... كم رأينا من أناس هلكوا ... وبكى أحبابهم ثُمَّ بُكُوا تَرَكُوا الدُّنْيَا لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ ... وَدَّهُمْ لَوْ قَدَّمُوا مَا تَرَكُوا كَمْ رَأَيْنَا مِنْ مُلُوكٍ سَوَقَةَ ... وَرَأَيْنَا سَوَقَةً قّدْ مَلَكُوا هَذَا حُكْمٌ مِنْ حَكِيمٍ قَادِرٍ ... سَلَّمَ الأَمْرِ لِمَنْ أَجَرْى الْفَلَكُ لا تَكُنْ مِمَّنْ يُقَلِّدُ مُلْحِدًا ... كَمْ جَهُولٍ بِاعْتِرَاضَاتٍ هَلَكَ آخر: ... اطِل جَفْوَةَ الدُّنْيَا وَدَعْ عَنْكَ شَأْنَهَا ... فَمَا الغَافِلُ الْمَغْرُورُ فِيهَا بِعَاقِلٍ وَلَيْسَ الأَمَانِي لِلْبَقَاءِ وَإِنْ جَرَتْ ... بِهَا عَادَةٌ إِلا تَعَالِيلُ بِاطِلِ يُسَارُ بِنَا نَحْوَ الْمَنُونِ وَإِنَّنَا ... لَنُسْعَفُ فِي الدُّنْيَا بِطَيِّ الْمَرَاحِلِ غَفَلْنَا عَنْ الأَيَّامِ أَطْوَلَ غَفْلَةٍ ... وَمَا حُوبُهَا الْمَجْنِيُّ مِنَا بغَافِلِ

ومما يسلي عن المصائب أن في المصائب مصالح للمؤمن

آخر: ... بِرُوحِي أُنَاسًا قَبْلَنَا قَدْ تَقَدَّمُوا ... وَنَادُوا بِنَا لَوْ أَنَّنَا نَسْمَعُ النِّدَا وَسَارَتْ بِهِمْ سَيْرَ المَطِيِّ نُعُوشُهمْ ... وَبَعْضُ َأِنينِ الْقَادِمِينَ لَهُمْ حُدَا وَأَمْسُوا عَلَى الْبِيْدَاءِ يَنْتَظِرُونَنَا ... إِلَى سَفَر يَقْضِي بَأَنْ نَتَزَوَّدَا فَرِيدُونَ فِي أَجْدَاثِهِمْ بِفِعَالِهِمْ ... وَكَمْ مِنْهُمْ مَنْ سَاقَ جُنْدًا مُجَنَّدَا تَسَاوَوْا عِدىً تَحْتَ الثُّرَى وَأَحِبَّةً ... فَلا فَرْقَ مَا بَينَ الأَحِبَّةِ وَالْعِدَى سَلِ الدَّهْرَ هَلْ أَعْفَى مِنَ الْمَوْتِ شَائِبًا ... غَدَاةَ أَدَارَ الْكَأْسَ أَمْ رَدَّ أَمْرَدَا آخر ... إِذَا مَا مَضَى الْقَرْنُ الَّذِي أَنْتَ فِيهِمْ ... وَخُلِّفْتَ فِي قَرْنٍ فأَنْتَ غَرِيبُ وَإِنْ امْرأً قَدْ سَارَ خَمْسِينَ حَجَّةً ... إِلَى مَنْهَلٍ مِنْ وِرْدِهِ لَقَرِيبُ آخر ... وَإِذَا حَمَلْتَ إِلَى الْقُبُورِ جَنَازَةً ... فَاعْلَمْ بِأَنَّكَ بَعْدَهَا مَحْمُولُ آخر ... قِفْ بِالْمَقَابِرِ وَاذْكُرْ إِنْ وَقَفْتَ بِهَا ... للهِ دُرُّكَ مَاذَا تَسْتُرُ الْحُفَرُ فَفِيهِمْ لَكَ يَا مَغْرُورُ مَوْعِظَةٌ ... وَفِيهِمْ لَكَ يَا مَغْرُورُ مُعْتَبَرُ كَانُوا مُلُوكًا تُوَارِيهِمْ قُصُورُهُمْ ... دَهْرًا فَوَارَتْهُمُ مِنْ بَعْدِهَا الْحُفَرُ اللَّهُمَّ يَا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغَفْلَة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة وَوَفِّقْنَا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا وذنوبنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " فَصْلٌ " وَمِمَّا يسلِي ويسهل المصائب أن يعلم الْعَبْد أنه لولا ما قدره الحكيم العليم على عباده من محن الدُّنْيَا ومصائبها لأصاب الإِنْسَان من أدواء الكبر والعجب والفرعنة وقَسْوَة الْقَلْب ما هُوَ سبب هلاكه عاجلاً وآجلاً، فمن رحمة أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ أن يتفقده فِي الأحيان بأنواع من أدوية المصائب تَكُون

ومما يسلي أن يعلم أن كل المصائب بقضاء الله وقدرته الخ

حمية لَهُ من هَذِهِ الأدوية، وتَكُون حفظًا لصحة عبوديته، فسبحان من يرحم ببلائه ويبتلى بنعائمه كما قِيْل: شِعْرًا: ... (قَدْ يَنْعِمُ اللهُ بِالبَلْوَى وَإِنْ عَظُمَتْ ... وَيَبْتَلِي اللهُ بَعْضَ الْقَوْمِ بِالنِّعَمِ) آخر: ... أَرَى بَصَرِي قَدْ رَابَنِي بَعْدَ حِدَّةٍ ... وَحَسْيُكَ دَاءً أَنْ تَصِحَّ وَتَسْلَمَا وَلَنْ يَلْبَثِ الْعَصْرَ إِنْ يَوْمًا وَلَيْلَةً ... إِذَا طَلَبَا أَنْ يُدْرِكَا مَا تَيَمَّمَا آخر: ... يَا سَائِلِي عَنْ حَالَتِي ... خُذْ شَرْحَهَا مُلَخَّصَا قَدْ صِرْتُ بَعْدَ قُوَّةٍ ... تَقُصُّ أَصْلادَ الْحَصَا أَمْشِي عَلَى ثَلاثَةٍ ... أَجْوَدُ مَا فِيهَا الْعَصَا آخر: ... قَدْ أَمْشِي عَلَى ثِنْتَيْنِ مُعْتَدِلاً ... فَصِرْتُ أَمْشِي عَلَى أُخْْرَى مِنَ الشَّجَرِ آخر: ... إِذَا اشْتَدَّتِ الْبَلْوَى تُخَفَّفُ بِالرِّضَا ... عَنْ اللهِ قَدْ فَازَ الرَّضِيُّ الْمُرَاقِبُ وَكَمْ نِعْمَةٍ مَقْرُونَةٍ بِبَلِيَّةٍ ... عَلَى النَّاسِ تَخْفَى وَالْبَلايَا مَوَاهِبُ فلولا أَنه سُبْحَانَهُ يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء لطغوا وبغوا وعتوا وتجبروا فدى الأَرْض. قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} ، فَإِنَّ من شيم النُّفُوس إِذَا حصل لها صحة وفراغ وأمر ونهي وكلمة نافذة من غير زاجر شرعي يزجرها تمردت وظلمت وسعت فِي الأَرْض فسادًا كما قِيْل: (وَالظُّلْمُ مِنْ شِيَمِ النُّفُوسِ فَإِنْ تَجِدْ ... ذَا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يَظْلِمُ) ومِمَّا يسلي ويسهل المصائب ويكون سببًا للصبر على المصيبة أن يعلم الإِنْسَان أن الجزع لا يرد المصيبة، بل يضاعفها، فتزيد المصيبة وأن الجزع يشمت الْعَدُوّ ويسؤ الصديق، وينهك الجسم، ويسر شيطانه ويضعف النفس، وقَدْ يحبط الْعَمَل، وَإِذَا صبر واحتسب أخزى الشيطان وأرضى الرب، وسر الصديق، وساء الْعَدُوّ، وَهَذَا من الثبات فِي الأَمْر الديني. وَمِمَّا يسلي ويسهل المصائب أن يوطن الإِنْسَان نَفْسهُ أن كُلّ مصيبة تأتيه

هي من عَنْدَ الله وأنها بقضائه وقدره وأنه سُبْحَانَهُ لم يقدرها عَلَيْهِ ليهلكه بها ولا ليعذبه وإنما ابتلاه ليمتحن صبره ورضاه وشكواه إليه وابتهاله ودعاءه. شِعْرًا: ... وَكُلُّ مُصِيبَات أَتَتْنِي فَإِنَّهَا ... سِوَى غَضَبِ الرَّحْمَنِ هَيِّنَةُ الْخَطْبِ فإِن وفق للرضا وَالشُّكْر فقَدْ أفلح، وإن تسخط ولم يرض فقَدْ خاب وخسر. قَالَ أبو الفرج بن الجوزي: علاج المصائب بسبعة أشياء. الأول: أن يعلم بأن الدُّنْيَا دار ابَتلاء وكرب لا يرجى منه راحة فِي الدُّنْيَا مهما طال العمر ومهما اجتمَعَ للإنسان فيها من أسباب الغنى والثروة وسواء فِي ذَلِكَ الصعاليك والمماليك والملوك فلَقَدْ أودع الله فِي كُلّ نفس ما شغلها. ولو أن الإِنْسَان عرف قدر الدُّنْيَا وما طبعت عَلَيْهِ من الكدر والانكاد والمصائب والأحزان وعرف أن ما فيها محض خداع وسراب، بقيعة يحسبه الظمآن ماء حَتَّى إِذَا جاءه لم يجده شيئًا واستعان بما وهبه الله من نور الدين وقصر أمله لما آثرت فيه المصائب بإذن الله لأن قوة الإِيمَان بِاللهِ وقضائه وقدره يثمران الهدى وَالطُّمَأْنِينَة والرضي بما قسم وقدر. الثاني: أن يعلم أن المصيبة ثابتة. الثالث: أن يقدر وجود ما هُوَ أكثر من تلك المصيبة. الرابع: النظر فِي حال من ابتلي بمثل هَذَا البَلاء فَإِنَّ التأسي راحة عظيمة يخفف الحزن أَوْ يزيله بالكلية. قَالَتْ الخنساء: وَلَوْلا كَثْرَةُ الْبَاكِينَ حَوْلِي ... عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلَكِنْ ... أَعَزِي النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأسِي آخر: ... حَاسِبْ زَمَانَكَ فِي حَالِي تَصَرُّفِهِ ... تَجِدْهُ أَعْطَاكَ أَضْعَافَ الَّذِي سَلَبَا نَفْسِي الَّتِي تَمْلِكُ الأَشْيَاءِ ذَاهِبَةً ... فَكَيْفَ أَبْكِي عَلَى شَيْء إِذَا ذَهَبَا

ومما يسلي أن يعلم أن تشديد البلا يخص الأخيار.. الخ

آخر: ... لا تَعْتِبْ الدَّهْرَ فِي خَطْبٍ رَمَاكَ بِهِ ... إِذَا اسْتَرَدَّ فَقِدْمًا طَالَ مَا وَهَبَا وَرَأْسُ مَالِكَ وَهِيَ الرَّوُحُ إِنْ سَلِمَتْ ... لا تَأْسَفَنَّ لِشَيْءٍ بَعْدَهَا ذَهَبَا آخر: ... وَلَوْلا الأَسَى مَا عِشْتَ فِي النَّاسِ سَاعَةً ... وَلَكِنْ مَتَى نَادَيْتُ جَاوَبَنِي مِثْلِي الخامس: مِمَّا يهون المصائب ويخففها ويبعث الإِنْسَان على حمد الله وشكره وينفي هموم الدُّنْيَا وغمومها النظر والتفكر والاعتبار فيمن هم أعظم مصيبة منك وانظر حالتك بعد زيارتك للمقبرة، وانظر فيمن قبر ومن سيقبر وحالتك بعد ما تمر بالسجن وتَرَى المعذبين فيه بأنواع الْعَذَاب كما قَالَ بَعْضُهُمْ واصفا للسجن ببغداد: مَحَلُّ بِهِ تَهْفُو الْقُلُوبُ مِن الأَسَى ... فَإِنْ زُرْتَهُ فَارْبُطْ عَلَى الْقَلْبِ بَالْيَدِ وانظر حالتك إِذَا دخلت المستشفيات ورَأَيْت الباكين والَّذِي يئن والَّذِي تحت العملية لقطع عضو أَوْ نحوه، وسائر أنواع البلايا تجدك إن كنت ممن وفقه الله مكثرًا لحمد الله وشكره حيث عَافَاكَ مِمَّا تَرَى وتسمَعَ. وَكَمْ من إنسان أتى لعلاج بسيط فَلَمَّا رأى ما فِي الإسعاف، ومن تحت العمليات ومن يئن ومن يجر ليغسل ومن قَدْ مَاتَ، ومن يعمل لكسوره الجبس، خَرَجَ يحمد الله ورأى أنه ما فيه شَيْء يوجب العلاج. السادس: رجَاءَ الخلف إن كَانَ من مضى يصح عَنْهُ الخلف كالولد والزوجة قِيْل للقمان: ماتت زوجتك. قَالَ: تجدد فراشي. وقَالَ الشاعر: هَلْ وَصْلُ عَزَّةَ إِلا وَصْلُ غَانِيَةٍ ... فِي وَصْلِ غَانِيَةٍ مِنْ وَصْلِهَا خَلَفُ آخر: ... قَدْ نَرْكَبُ الْكُرْه أَحْيَانًا فَيُفرِجُهُ ... رَبٌّ نرجِّيهِ فِي الضَّرَاء وَسَرَّائي السابع: طلب الأجر بالصبر فِي فضائله وثواب الصابرين وسرورهم فِي صبرهم فَإِنَّ ترقى إِلَى مقام الرِّضَا فهو الغاية. انتهى كلامه بتصرف. ومِمَّا يسلى ويسهل المصائب ويجلب الصبر بإذن الله أن يعلم أن تشديد

قصيدة زهدية وعظية مسلية لأهل المصائب

البَلاء يخص الأخيار، ولهَذَا لما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي النَّاس أشد بَلاء؟ قَالَ: «الأَنْبِيَاء ثُمَّ الأمثل فالأمثل يبتلى النَّاس عَلَى قَدْرِ دينهم فمن ثَخُنَ دينه اشتد بلاءه، ومن ضعف دينه ضعف بلاؤه، وإن الرجل ليصبه البَلاء حَتَّى يمشى على الأَرْض ما عَلَيْهِ خطيئة» . رَوَاهُ ابن حبان، ومنها أن يعلم أنه مملوك لله ولَيْسَ للملوك فِي نَفْسهُ شَيْء، ومنها أن يعلم أن هَذَا الواقع وقع برضى السيد فيرضى بما رَضِيَ به سيده ومولاه وَهُوَ الله جَلَّ وَعَلا رضينا به ربًا وبالإسلام دينا وبمُحَمَّدٍ رسولاً. قَالَ بَعْضهمْ: اصْبِرْ لِكُلِّ مُصِيبَةٍ وَتَجَلَّدِ ... وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْمَرْءَ غَيْرَ مُخَلَّدِ فَإِذَا ذَكَرْتَ مُصِيبَةً تَسْلُو بِهَا ... فَاذْكُرْ مُصَابَكَ بِالنَّبِيّ مُحَمَّدِ آخر: ... لا تَيْأَسَنَّ إِذَا مَا الأَمْرُ ضِقْتَ به ... ذَرْعاً ونَمْ مُسْتَريحاً خَالِي الْبَالِ مَا بَيْنَ رَقْدَةِ عَيْن وانتبَاهَتِهَا ... يُقَلَّبُ الدَّهْرُ مِنْ حَالٍ إِلى حَالِ ومن فَوَائِد المصائب والصبر عَلَيْهَا ما أجراه الله على الإِنْسَان مِمَّا يكرهه ما يعتاضه من الارتياض بنوائب عصره ويستفيده من استحكام الرأي والعقل بالتجارب ببَلاء دهره فيقوى عقله ويحصف رأيه بأذن الله ويكمل بأدنى شدته ورخائه ويتعظ بحالتي عفوه وبلائه. شِعْرًا: ... إِنِّي أَقُولُ لِنَفْسِي وَهِيَ ضَيَّقَةٌ ... وَقَدْ أَنَاخَ عَلَيْهَا الضُّرُّ بِالْعَجَبِ صَبْرًا عَلَى شِدَّةِ آلامِ إِنَّ لَهَا ... عُقْبَى وَمَا الصَّبْرُ إِلا عِنْدَ ذِي الْحَسَبِ سَيَفْتَحُ اللهُ عَنْ قُرْبٍ بِنَافِعَةٍ ... فِيهَا لِمِثْلِكِ رَاحَاتٌ مِنَ التَّعَبِ وأقل ما يؤتاه المُؤْمِن فِي المصائب الصبر الَّذِي يخفف وقعها على النفس وأكثره رحمة الله التي بها تتحول النقمة إِلَى نعمة بما يستفيد منه الاختبار والتمحيص وكمال العبرة والتهذيب.

وقَدْ يبتلي الله المُؤْمِن ويمتحن صبره فتعطيه قوة إيمانه من الرجَاءَ ما تخالط حلاوته مرارة المصيبة حَتَّى تغلبها وقَدْ يأنس بالمصيبة لعظم رجائه وصبره وذا وإن كَانَ نادرًا فهو واقع حاصل. قَالَ بَعْضهمْ: تَعَوَّدْتُ مَسَّ الضُّرِّ حَتَّى أَلِفْتُهُ ... وَمَلَّ طَبِيبِي جَانِبِي وَالْعَوَائِدُ آخر: ... وَوَسَّعَ صَدْرِي للأَذَى كَثْرَةَ الأَذَى ... وَكَانَ قَدِيمًا قَدْ يَضِيقُ بِهِ صَدْرِي ومنها أن يختبر أمور زمانه وينتبه على إصلاح شأنه فلا يغتر برخاء ولا يطمَعَ فِي استواء ولا يؤمل بقاء الدُّنْيَا على حالة فَإِنَّ من عرف الدُّنْيَا وخبر أحوالها هان عَلَيْهِ بؤسها ونعيمها، ولولا ما قدره الله من الحوادث والنوائب لم يعرف صبر الكرام ولا جزع للئام. فإذا ظفر المصاب بأحد هَذِهِ الأسباب تخففت بإذن الله عَنْهُ أحزانه، وتسهلت عَلَيْهِ أشجانه فصار سريع النسيان للمصائب، قليل الجزع حسن الصبر والتجمل عَنْدَ المصائب. شِعْرًا فِي ذَمِّ الدُّنْيَا: سَلامٌ عَلَى دَارِ الْغُرُورِ فَإِنَّهَا ... مُنَغَّصَّةٌ لَذَّاتُهَا بِالْفَجَائِعِ فَإِنْ جَمَعَتْ بَيْنَ الْمُحِبِّينَ سَاعَةً ... فَعَمَّا قَلِيلٍ أَرْدَفَتْ بِالْمَوَانِعِ آخر: ... وَمَا الْمَوْتُ إِلا رِحْلَةٌ غَيْرَ أَنَّهَا ... مِن الْمَنْزِلِ الْفَانِي إِلَى الْمَنْزِلِ الْبَاقِي آخر: ... رَأَيْت بَني الدُّنْيَا كَوَفْدَيْنِ كُلَّمَا ... تَرَحَّلَ وَفْدٌ حَطَّ فِي إِثْرِهِ وَفْدُ وَكُلِّ يَحُث السَّيْرَ عَنْهَا وَنَحْوَهَا ... فَيَمْضِي بِذَا نَعْشٌ وَيَأْتِي بِذَا مَهْدُ آخر: ... وَكُلِّ أَبٍ وَابْنٍ وَإِنْ مُتِّعَا مَعَا ... مُقِيمَيْنِ مَفْقُودٌ لِوَقْتٍ وَفَاقِدُ آخر: ... فَلا تَجْزَ عَنْ لِلْبَيْنِ كُلُّ جَمَاعَةٍ ... وَرَبِّكَ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا التَّفَرُّقُ

وَخُذْ بِالتَّعَزِّي كُلَّ مَا أَنْتَ لابِسُ ... جَدِيدًا عَلَى الأَيَّامِ يَبْلَى وَيَخْلَقُ فَصَبْرُ الْفَتَى عَمَّا تَوَلَّى فَفَاتَهُ ... مِنْ الأَمْرِ أَوْلَى بِالسَّدَادِ وَأَوْفَقُ وَإِنَّكَ بِالإِشْفَاقِ لا تَدْفَعُ الرَّدَى ... وَلا الْخَيْرُ مَجْلُوبٌ فَمَا لَكَ تُشْفِقُ كَأَنْ لَمْ يَرُعْكَ الدَّهْرُ أَوْ أَنْتَ آمِنٌ ... لأَحْدَاثِهِ فِيمَا يُغَادِي وَيَطْرُقُ إخواني أين الأمم الماضية، أين القرون الخالية أين من نصبت على مفارقهم التيجان، أين الَّذِينَ قهروا الأبطال والشجعان، أين الَّذِينَ دانَتْ لَهُمْ المشارق والمغارب، أين الَّذِينَ تمتعوا باللذات من المطاعم والمشارب، أين الَّذِينَ اغتروا بالأجناد والسُّلْطَان. أين أصحاب السطوة والأعوان، أين أصحاب الأسرة والولايات، أين الَّذِينَ خفقت على رؤوسهم الألوية والرايات، أين الَّذِينَ قادوا العساكر، أين الَّذِينَ عمروا القصور الشامخات والفلل الفسيحات، أين الَّذِينَ غرسوا النخيل والأشجار المثمرات. أين الَّذِينَ ملؤوا ما بين الخافقين فخرًا وعزًا، أين الَّذِينَ فرشوا القصور خزَّا وقَزًّا، أفناهم الله مفنِي الأمم، وأبادهم مبيد الرمم، وأخرجهم من سعة المساكن، والقصور، وأسكنهم فِي ضيق اللحود وتحت الجنادل والصخور. قَدْ خلت من كثرتهم أماكنهم ولم ينفعهم ما جمعوا من الحطام، ولا أغنى عنهم ما كسبوا من حلال أَوْ حرام أسلمهم الأحبة والأَوْلِيَاء، وهجرهم الإِخْوَان والأصفياء ونسيهم الأقرباء والبعداء. شِعْرًا: ... مَنْ ذَا الَّذِي قَدْ نَالَ رَاحَةَ فِكْرِهِ ... فِي عُسْرِهِ مِنْ عُمْرِهِ أَوْ يُسْرِهِ يَلْقَى الْغَنِيُّ لِحِفْظِهِ مَا قَدْ حَوَى ... أَضْعَافَ مَا يَلْقَى الْفَقِيرُ لِفَقْرِهِ فَيَظَلُّ هَذَا سَاخِطًا فِي قِلِّهِ ... وَيَظَلُّ هَذَا تَاعِبًا فِي كُثْرِهِ عَمَّ الْبَلاءُ لِكُلِّ شَمْلٍ فُرْقَةٌ ... يُرْمَى بِهَا فِي يَوْمِهِ أَوْ شَهْرِهِ

وَالْجِنُّ مِثْلُ الإِنْسِ يَجْرِي فِيهِمُوا ... حُكْمُ الْقَضَاءِ بِحُلْوِهِ وَبِمُرِّهِ فَإِذَا الْمَرِيدُ أَتَى لِيَخْطِفَ خَطْفَةً ... جَاءَ الشِّهَابُ بِحَرْقِهِ وَبِزَجْرِهِ وَنَبِيُّ صِدْقٍ لا يَزَالُ مُكَذِّبًا ... يُرْمَى بِبَاطِلِ قَوْلِهِمْ وَبِسِحْرِهِ وَمُحَقِّقٌ فِي دِينِهِ لَمْ يَخْلُ مِنْ ... ضِدٍّ يُوَاجِهُهُ بِتُهْمَةِ كُفْرِهِ وَالْعَالِمْ الْمُفْتِي يَظَلُّ مُنَازَعًا ... بِالْمُشْكِلاتِ لَدَى مَجَالِسِ ذِكْرِهِ وَالْوَيْلُ إِنْ زَلَّ اللِّسَانُ فَلا يَرَى ... أَحَدًا يُسَاعِدُ فِي إِقَامَةِ عُذْرِهِ وَأَخُو الدِّيَانَةِ دَهْرُهُ مُتَنَغِّصٌ ... يَبْغِي التَّخَلُّصَ مِنْ مَخَاوِفِ قَبْرِهِ أَوْ مَا تَرَى الْمَلِكَ الْعَزِيزَ بِجُنْدِهِ ... رَهْنَ الْهُمُومِ عَلَى جَلالَةِ قَدْرِهِ فَيَسُّرُّهُ خَبَرٌ وَفِي أَعْقَابِهِ ... هَمٌّ تَضِيقُ بِهِ جَوَانِبُ قَصْرِهِ وَأَخُو التِّجَارَةِ حَائِرٌ مُتَفِكِّرٌ ... مِمَّا يُلاقِي مِنْ خَسَارَةِ سِعْرِهِ وَأَبُو الْعِيَالِ أَبُو الْهُمُومِ وَحَسْرَة الرَّ ... جُلِ الْعَقِيمِ كَمِينَةٌ فِي صَدْرِهِ وَتَرَى الْقَرِين مُضْمِّرًا لِقَرِينِهِ ... حَسَدًا وَحِقْدًا فِي غِنَاهُ وَفَقْرِهِ وَلَرُبَّ طَالِبُ رَاحَةٍ فِي نَوْمِهِ ... جَاءَتْهُ أَحْلامٌ فَهَامَ بِأَمْرِهِ وَالطِّفْلُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَخْرُجْ إِلَى ... غُصَصِ الْفِطَامِ تَرُوعُهُ فِي صِغْرِهِ وَلَقَدْ حَسَدْتَ الطَّيْرَ فِي أَوْكَارِهَا د ... فَوَجَدْتُ مِنْهَا مَا يُصَادُ بِوَكْرِهِ وَالْوَحْشُ يَأْتِيهِ الرَّدَى فِي بَرِّهِ ... وَالْحُوتُ يَأْتِي حَتْفُهُ فِي بَحْرِهِ وَلَرُبَّمَا تَأْتِي السِّبَاعُ لِمَيِّتٍ ... فَاسْتَخْرَجَتْهُ مِنْ قَرَارهِ قَبْرِهِ كَيْفَ الْتِذَاذُ أَخِي الْحَيَاةَ بِعَيْشِهِ ... مَا زَالَ وَهُوَ مُرَوَّعٌ فِي أَمْرِهِ تَاللهِ لَوْ عَاشَ الْفَتَى فِي أَهْلِهِ ... أَلْفًا مِن الأَعْوَامِ مَالِكَ أَمْرِهِ مُتَلَذِّذًا مَعَهُمْ بِكُلِّ لَذِيذَةٍ ... مُتَنَعِّمًا بِالْعَيْشِ مُدَّةَ عُمْرِهِ لا يَعْتَرِيهِ النَّقْصُ فِي أَحْوَالِهِ ... كَلا وَلا تَجْرِي الْهُمُومُ بِفِكْرِهِ مَا كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مِمَّا يَفِي ... بِنُزُولِ أَوِّلِ لَيْلَةٍ فِي قَبْرِهِ كَيْفَ التَّخَلُّصُ يَا أَخِي مِمَّا تَرَى ... صَبْرًا عَلَى حُلْو الْقَضَاءِ وَمُرِّهِ

علاج حر المصيبة

اللهم انظمنا في سلك حزبك المفلحين، واجعلنا من عبادك المخلصين وآمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. " فَصْلٌ " في هديه - صلى الله عليه وسلم - في علاج حر المصيبة وحزنها قال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} . وفي المسند عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما من أحد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرًا منها» . وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب وأنفعه له في عاجلته وآجلته. فإنها تتضمن أصلين عظيمين - إذا تحقق العبد بمعرفتها تسلى عن مصيبته - (أحدهما) : أن العبد وأهله وماله ملك لله عز وجل حقيقةً. وقد جعله عند العبد عاريةً فإذا أخذه منه فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير وأيضًا فإنه محفوف بعدمين: عدم قبله، وعدم بعده، وملك العبد له متعة معارة في زمن يسير. وأيضًا فإنه ليس هو الذي أوجده من عدمه حتى يكون ملكه حقيقة؛ ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده ولا يبقى عليه وجوده. فليس له في تأثير ولا ملك حقيقي. وأيضًا فإنه متصرف العبد المأمور المنهي، لا تصرف الملاك. ولهذا لا يباح من التصرفات فيه إلا ما وافق أمر مالكه الحقيقي.

وقال ابن سرين: (ما كان ضحكٌ قط، إلا كان من بعده بكاءٌ) . وقالت هند بنت النعمان: (لقد رأينا ونحن من أعز الناس وأشدهم ملكًا، ثم لم تغب الشمس حتى رأيتُنَا ونحن أقل الناس، وإنه حقٌ على الله أن لا يملأ دارًا خيرةً إلا ملأها عبرةً) . وسألها رجل أن تحدثه عن أمرها فقالت: (أصبحنا ذات صباح وما في العرب أحد إلا يرجونا، ثم أمسينا وما في العرب أحد إلا يرحمنا) . وبكت أختها حرقة بنت النعمان يومًا - وهي في عزها - فقيل لها: ما يبكيك؟ لعل أحد آذاك؟ قالت: (لا؛ ولكن رأيت غضارة في أهلي، وقلما امتلأت دار سرورًا إلا امتلأت حزنًا) . قال إسحاق بن طلحة: (دخلت عليها يومًا فقلت لها: كيف رأيت عبرات الملوك؟ فقالت: ما نحن فيه اليوم خير مما كنا فيه بالأمس؛ إنا نجد في الكنب أنه ليس من أهل بيت يعيشون في خيرة، إلا سيعقبون بعدها عبرةً، وإن الدهر لم يظهر لقوم بيوم يحبونه إلا بطن لهم بيوم يكرهونه) . ثم قالت: فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالأَمْرُ أَمْرُنَا ... إِذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصَّفُ فَأُفٍّ لِدُنْيَا لا يَدُومُ نَعِيمُهَا ... تَقَلَّبُ تَارَاتٍ بِنَا وَتَصَرَّفُ ومن علاجها: أن يعلم أن الجزع لا يردها، بل يضافعها، وهو في الحقيقة من تزايد المرض. ومن علاجها: أن يعلم أن فوت ثواب الصبر والتسليم - وهو من الصلاة والرحمة والهداية التي ضمنها الله على الصبر والاسترجاع - أعظم من المصيبة في الحقيقة. ومن علاجها: أن يعلم أن الجزع يشمت عدوه، ويسيء صديقه،

ويغضب ربه، ويسر شيطانه، ويحبط أجره، ويضعف نَفْسهُ. وَإِذَا صبر واحتسب أقصى شيطانه، ورده خاسئًا، وأرضى ربه، وسر صديقه، وساء عدوه، وحمل عَنْ إخوانه، وعزَّاهم هُوَ قبل أن يعزوه. فهَذَا هُوَ الثبات والكمال الأعظم؛ لا لطم الخدود، وشق الجيوب والدُّعَاء بالويل والثبور، والسخط على المقدور. ومن علاجها: أن يعلم ما يعقبه الصبر والاحتساب - من اللذة والمسرة - أضعاف ما كَانَ يحصل لَهُ ببقاء ما أصيب به، لو بقي عَلَيْهِ. ويكفيه من ذَلِكَ بيت الحمد الَّذِي يبنى لَهُ فِي الْجَنَّة، على حمده لربه واسترجاعه. فلينظر أي المصيبتين أعظم: مصيبة العاجلة؟ أَوْ مصيبة فوات بيت الحمد فِي جنة الخلد؟ وَفِي الترمذي مرفوعا: «يود ناس يوم القيامة أن جلودهم كَانَتْ تقرض بالمقاريض فِي الدُّنْيَا، لما يرون من ثواب أَهْل البَلاء» . وقَالَ بَعْض السَّلَف: (لولا مصائب الدُّنْيَا، لوردنا القيامة مفالَيْسَ) . شِعْرًا: ... وَعُوِّضْتَ أَجْرًا مِنْ فَقِيدٍ فَلا يَكُنْ ... فَقِيدُكَ لا يَأْتِي وَأَجْرُكَ يَذْهَبُ ومن علاجها: أن يروح قَلْبهُ بروح رجَاءَ الخلف من الله، فإنه من كُلّ شَيْء عوض، إلا الله فما منه عوض. كما قِيْل: شِعْرًا: ... لَعَمْرِي مَا الرَّزِيَّةُ فُقْدَ قَصْرٍ ... فَسِيحٍ مُنَيةٌ لِلسَّاكِتِينَا وَلَكِنَّ الرَّزِيَّةِ فَقْدُ دِينٍ ... يَكُونُ بِفَقْدِهِ مِن كَافِرِينَا آخر: ... مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِذَا ضَيَّعْتَهُ عِوَضٌ ... وَمَا مِنَ الله إِنْ ضَيَّعْتَهُ عِوَضُ ومن علاجها: أن يعلم أن حظه من المصيبة ما تحدثه لَهُ، فمن رضي فله الرِّضَا، ومن سخط فله السخط. فحظك مَنْهَا ما أحدثته لَكَ، فاختر أما خَيْر الحظوظ، أَوْ شرها. فَإِنَّ أحدثت لَهُ سخطًا وكفرًا كتب فِي ديوان

الهالكين، وإن أحدثت لَهُ جزعًا وتفريطًا فِي ترك واجب، أَوْ فِي فعل محرم كتب فِي ديوان الهالكين، وإن حدثت لَهُ شكاية وعدم صبر كتب فِي ديوان المغبونين. وإن أحدثت لَهُ اعتراضًا على الله وقدحًا فِي حكمته فقَدْ قرع باب الزندقة أَوْ ولجه، وان أحدثت لَهُ صبرًا وثباتًا لله: كتب فِي (ديوان الصابرين) . وان أحدثت لَهُ الرِّضَا: كتب فِي (ديوان الراضين) . وان أحدثت لَهُ الحمد وَالشُّكْر: كتب فدى (ديوان الشاكرين) ، وكَانَ تحت لواء الحمد مَعَ الحمَّادين، وإن أحدثت لَهُ محبةً واشتياقًا إِلَى لقاء ربه: كتب فِي (ديوان المحبين المخلصين) . وَفِي مسند الإِمَام أحمد والترمذي - مِنْ حَدِيثِ محمود بن لبيد يرفعه -: «إن الله إِذَا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرِّضَا، ومن سخط فله السخط» . زَادَ أحمد: «ومن جزع فله الجزع» . ومن علاجها: أن يعلم أنه وإن بلغ فِي الجزع غايته فآخر أمره إِلَى صبر الاضطرار. وَهُوَ غيره محمود ولا مثاب. قَالَ بَعْض الحكماء: (العاقل يفعل فِي أول من المصيبة، ما يفعله الجاهل بعد أيام، ومن لم يصبر صبر الكرام، سلا سُلُوَّ البهائم) وَفِي الصحيح مرفوعًا: «الصبر عَنْدَ الصدمة الأولى» . وقَالَ الأشعث بن قيس: (إِنَّكَ إن صبرت إيمانًا واحتسابًا؛ وإلا سلوت سُلُوَّ البهائم) . ومن علاجها: أن يعلم أن أنفع الأدوية لَهُ موافقة ربه وإلهه، فيما أحبه ورضيه لَهُ، وان خاصية المحبة موافقة المحبوب، فمن ادعى محبة محبوب، ثُمَّ سخط ما يحبه وأحب ما يسخطه فقَدْ شهد على نَفْسهُ بكذبه، وتمقت إِلَى محبوبه.

وقَالَ أبو الدرداء: (إن الله إِذَا قضى قضاء، أحب أن يرضى به) . وكَانَ عمران ابن الحصين يَقُولُ فِي علته: (أحبه إِلَيَّ أحبه إليه) . وكَذَلِكَ قَالَ أَبُو العالية. وَهَذَا دواء وعلاج لا يعمل إلا مَعَ المحبين، ولا يمكن كُلّ أحد أن يتعالج به.. ومن علاجها: أن يوازن بين أعظم اللذتين والتمتعين وأدومها: لذة تمتعه بما أصيب به، ولذة تمتعه بثواب الله لَهُ فَإِنْ ظهر لَهُ الرجحان، فآثر الراجح فليحمد الله على توفيقه، وإن آثر المرجوح من كُلّ وجه فليعلم أن مصيبته فِي عقله وقَلْبهُ ودينه، وأعظم من مصيبته التي أصيب بها فِي دنياه. شِعْرًا: ... وَإِذَا تَصِبْكَ مُصِيبَة فَاصْبِرْ لَهَا ... عَظُمَتُ مُصِيبَةُ مُبْتَلَى لا يَصْبِرُ ومن علاجها: أن يعلم أن الَّذِي ابتلاه بها أحكم الحاكمين، وأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وأنه سُبْحَانَهُ لم يرسل إليه البَلاء ليهلكه ولا ليعذبه به، ولا ليجتاحه، وإنما افتقده به ليمتحن صبره ورضاه عَنْهُ وإيمانه، وليسمَعَ تضرعه وابتهاله، وليراه طريحًا ببابه، لائذًا بجنابه، مكسور الْقَلْب بين يديه رافعًا قصص الشكوى إليه. قَالَ الشَّيْخ عبد القادر: (يَا بني إن المصيبة ما جاءت لتهلكك، وإنما جاءت لتمتحن صبرك وإيمانك: يَا بني القدر سبع، والسبع لا يأكل الميتة) . والمقصود: أن المصيبة كير الْعَبْد الَّذِي يسبك به حاصله، فَإِمَّا أن يخَرَجَ ذهبًا أحمر، وإما أن يخَرَجَ خبثًا كله. كما قِيْل: سَبَكْبَاهُ وَنَحْسِبُهُ لُجَيْنًا ... فَأَبْدَى الْكِيرُ عَنْ خَبَثِ الْحَدِيدِ فَإِنَّ لم ينفعه هَذَا الكير فِي الدُّنْيَا فبين يديه الكير الأعظم. فإذا علم الْعَبْد أن إدخاله كير الدُّنْيَا ومسبكها خَيْر لَهُ من ذَلِكَ الكير والمسبك، وأنه لابد من أحد الكيرين فليعلم قدر نعمة الله عَلَيْهِ فِي الكير العاجل.

فلولا أنه سُبْحَانَهُ يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء، لطغوا وبغوا وعتوا، وَاللهُ سُبْحَانَهُ إِذَا أراد بعبد خيرًا سقاه دواء - من الابتلاء والامتحان - عَلَى قَدْرِ حاله، يستفرغ به من الأدواء المهلكة؛ حَتَّى إِذَا هذبه وصفاه أهلَّه لأشرف مرا تب الدُّنْيَا - وهي عبوديته - وأرفع ثواب الآخِرَة، وَهُوَ رؤيته وقربه. ومن علاجها: أن يعلم أن مرارة الدُّنْيَا هِيَ بعينها حلاوة الآخِرَة، يقابلها الله سُبْحَانَهُ كَذَلِكَ؛ وحلاوة الدُّنْيَا هِيَ بعينها مرارة الآخِرَة ولأن ينتقل من مرارة منقطعة، إِلَى حلاوة دائِمَّة خَيْر لَهُ من عكس ذَلِكَ. فَإِنَّ خفى عَلَيْكَ هَذَا فَانْظُرْ إِلَى قول الصادق المصدوق: «حفت الْجَنَّة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات» . وَفِي هَذَا المقام تفاوتت عقول الخلائق، وظهرت حقائق الرِّجَال فأكثرهم آثر الحلاوة المنقطعة، على الحلاوة الدائِمَّة التي لا تزول، ولم يحتمل مرارة ساعة بحلاوة الأبد، ولا ذل ساعة لعز الأبد، ولا محنة ساعة لعافية الأبد. فَإِنَّ الحاضر عنده شهادةٌ، والمنتظر غيبٌ، والإِيمَان ضعيفٌ، وسلطان الشهوة حاكم. فتولد مَعَ ذَلِكَ إيثار العاجلة، ورفض الآخِرَة. وَهَذَا حال النظر الواقع على ظواهر الأمور وأوائلها ومبادئها، وأما النظر الثاقب الَّذِي يخرق حجب العاجلة، ويجاوزه إِلَى العواقب والغايات، فله شأنٌ آخر. فادع نفسك إِلَى ما أعد الله لأوليائه وأَهْل طاعته من النَّعِيم المقيم، والسعادة الأبدية، والفوز الأكبر، وما أعد لأَهْل البطالة والإضاعة من الخزي والعقاب، والحسرات الدائِمَّة، ثُمَّ اختر أي القسمين أليق بك. و {كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} ، وكل أحد يصبو إِلَى ما يناسبه وما هُوَ الأولى به. ولا تستطل هَذَا العلاج فشدة الحاجة إليه - من الطبيب العليل - دعت إِلَى بسطه. وبِاللهِ التَّوْفِيق.

شِعْرًا: ... نُعَلِّلُ بِالدَّوَاءِ إِذَا مَرَضْنَا ... وَهَلْ يَشْفِِِِي مِنَ الْمَوْتِ الدَّوَاءُ وَنَخْتَارُ الطَّبِيبَ وَهَلْ طَبِيبٌ ... يُؤخِّرُ مَا يُقَدِّمُهُ الِْقَضَاءُ آخر: ... اصْبِرْ عَلَى حُلْوِ الِْقَضَاءِ وَمُرِّهِ ... وَاعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ بَالِغْ أَمْرِهَ فَالصَّدْرُ مَنْ يَلْقَى الْخُطُوبَ بِصَدْرِهِ ... وَبِصَبْرِهِ وَبِحَمْدِهِ وَبِشُكْرِهِ الْحُرُّ سَيْفٌ وَالذُّنُوبُ لِصَفْوِهِ ... صَدَأ وَصَيْقَلُهُ نَوَائِبُ دَهْرِهِ لَيْسَ الْحَوَادِثُ غَيْرَ أَعْمَالِ امْرِئٍ ... يُجْزَى بِهَا مِنْ خَيْرِهِ أَوْ شَرِّهِ فَإِذَا أُصِبْتَ بِمَا أُصِبْتَ فَلا تَقُلْ ... أُوذِيتُ مِنْ زَيْدِ الزَّمَانِ وَعَمْرِهِ وَاثْبُتْ فَكَمْ أَمْرٍ أَمَضَّكَ عُسْرُهُ ... لَيْلاً فَبَشَّرَكَ الصَّبَاحُ بِيُسْرِهِ وَلَكُمْ عَلَى نَاسٍ أَتَى فَرَجُ الْفَتَى ... مِن سِرِّ غَيْبٍ لا يَمُرُّ بِفِكْرِهِ فَاضْرَعْ إِلَى اللهِ الْكَرِيمِ وَلا تَسِلْ ... بَشَرًا فَلَيْسَ سِوَاهُ كَاشِفَ سِرِّهِ وَأَعْجَبْ لِنَظْمِي وَالْهُمُومُ شَوَاغِلٌ ... يُلْهِينَ عَنْ نَظْمِ الْكَلامِ وَنَثْرِهِ لا تَخْشَ مِنْ غَمٍّ كَغَيْمٍ عَارِضٍ ... فَلَسَوْفَ يُسْفِرُ عَنْ إِضَاءَةِ بَدْرِهِ إِنْ تُمْسِ عَنْ عَبَّاسِ حَالِكَ رَاوِيًا ... فَكَأَنَّنِي بِكَ رَاوِيًا عَنْ بِشْرِهِ وَلَقَدْ تَمُرُّ الْحَادِثَاتُ عَلَى الْفَتَى ... وَتَزُولُ حَتَّى مَا تَمُرُّ بِفِكْرِهِ هَوِّنْ عَلَيْكَ فَرُبَّ أَمْرٍ هَائِلٍ ... دُفِعَتْ قُوَاهُ بِدَافِعٍ لَمْ تَدْرِهِ وَلَرُبَّ لَيْلٍ بِالْهُمُومِ كَدُمَّلٍ ... صَابَرْتَهُ حَتَّى ظَفِرْتَ بِفَجْرِهِ ثُمَّ الصَّلاةُ على النَّبِيّ وَآلِهِ ... مَعَ صَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ لأَمْرِهِ اللَّهُمَّ اجعلنا من المتقين الأَبْرَار وأسكنا معهم فِي دار الْقَرَار، اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا بحسن الإقبال عَلَيْكَ والإصغاء إليك وَوَفِّقْنَا لِلتَّعَاوُن فِي طَاعَتكَ،، اللَّهُمَّ يَا من خلق الإِنْسَان فِي أحسن تقويم وبقدرته التي لا يعجزها شَيْء يحيي العظام وهي رميم نسألك أن تهدينا إِلَى صراطك المستقيم صراط الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء

فصل في الخوف تعريفه وأنواعه ونفعه

والصالحين وأن تغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " فَصْلٌ فِي الخَوْفِ " اعْلَمْ وَفَّقَنَا وَإِيَّاكَ لما يحبه ويرضاه أن الخوف عبارة عَنْ تألم الْقَلْب واحتراقه بسبب توقع مكروه فِي المستقبل وقِيْل الخوف قوة العلم بمجاري الأحكام وقِيْل هرب الْقَلْب من حلول المكروه عَنْدَ استشعاره. فالخوف لعام الْمُؤْمِنِينَ والخشية للعلماء العارفين والهيبة للمحبين والإجلال للمقربين، وعَلَى قَدْرِ العلم بِاللهِ ومعرفة الْعَبْد بنفسه يكون الخوف والخشية كما قَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «إني لأعلمكم بِاللهِ وأشدكم لَهُ خشية» . وَفِي رواية: «خوفًا» . وَإِذَا أكملت المعرفة أثرت الخوف ففاض أثره على الْقَلْب، ثُمَّ ظهر على الْجَوَارِح، والصفات النحول والاصفرار والبُكَاء والغشي، وقَدْ يفضي إِلَى الموت. وأما ظهور أثره على الْجَوَارِح فبكفها عَنْ المعاصي، وإلزامها الطاعات تلافيًا، واستدراكًا لما فرط، واستعدادًا للمستقبل. ومن ثمرات الخوف أنه يقمَعَ الشهوات، ويكدر اللذات، فتصير المعاصي المحبوبة عنده مكروهة، كما يصير العسل واللبن مكروهًا إِذَا علم أن فيه سُمًّا، فتحترق الشهوات بالخوف، وتتأدب الْجَوَارِح، ويذل الْقَلْب، ويستكين ويفارقه الكبر والحسد والحقَدْ، ويصير مستوعبًا الهم لخوفه والنظر فِي خطر عاقبته. فلا يتفرغ لغيره، ولا يكون لَهُ شغل ‘لا الْمُرَاقَبَة، والمحاسبة والمجاهدة، والبخل فِي الأنفاس، واللحظات، أن يصرفها فيما لا فائدة فيه، ومؤاخذة النفس فِي الخطرات، والخطوات، والكلمَاتَ، وقوة الخوف

من ثمار الخوف مقدمات الخوف

بحسب قوة المعرفة بجلال الله تعالى، وصفاته وبعيوب النفس، وما بين يديها من الأخطار والأهوال. ومقدمَاتَ الخوف أربع. الأولى: ذكر الذُّنُوب الكثيرة العظيمة التي سلفت فيما مضى وكثرة ذكر الخصوم الَّذِينَ مضوا وأَنْتَ مرتهن لم يتبين لَكَ الخلاص حَتَّى الآن. وَالثَّانِيَة: ذكر شدة العقوبة. والثالثة: ذكر قدرة الله عَلَيْكَ متى شَاءَ وكيف شَاءَ. والرابعة: ذكر ضعفك عَنْ احتمال العقوبة. شِعْرًا: ... حَقِيق بِالتَّوَاضُعِ مَنْ يَمُوتُ ... وَيَكْفِي الْمَرْءُ مِنْ دُنْيَاهُ قُوتُ فَمَا لِلْمَرْءِ يُصْبِحَ ذَا هُمُومٍ ... وَحِرْصٍ لَيْسَ يُدْرِكُهُ النُّعُوتُ فَيَا هَذَا سَتَرْحَلُ عَنْ قَرِيبٍ ... إِلَى قَوْمٍ كَلامُهُمُ السُّكُوتُ آخر: ... النَّفْسُ تَبْكِي عَلَى الدُّنْيَا وَقَدْ عَلِمَتْ ... أَنَّ السَّلامَةَ مِنْهَا تَرْكُ مَا فِيهَا لا دَارَ لِلْمَرْءِ بَعْدَ الْمَوْتِ يَسْكُنُهَا ... إِلا الَّتِي كَانَ قَبْلَ الْمَوْتِ بَانِيهَا فَإِنْ بَنَاهَا بِخَيْرٍ طَابَ مَسْكَنُهُ ... وَإِنْ بَنَاهَا بِشَرٍّ خَابَ بَانِيهَا آخر: ... وَمَا مَنْ يَخَافُ الْمَوْتَ وَالنَّارَ آمِنُ ... وَلَكِنْ حَزِينُ مُوجَعُ الْقَلْبِ خَائِفُ إِذَا عَنْ ذِكْرُ الْمَوْتِ أَوْجَعَ قَلْبَهُ ... وَهَيَّجَ أَحْزَانًا ذُنُوبٌ سَوَالِفُ ثُمَّ اعْلَمْ أن الخوف يحث على العلم، والْعَمَل، قَالَ أبو حفص: الخوف سوط الله، يقوم به الشاردين عَنْ بابه. وقَالَ: الخوف سراج فِي الْقَلْب، به يبصر ما فيه من الْخَيْر والشَّر، وكل أحد إِذَا خفته هربت منه إِلا الله عز وجل فإنك إِذَا خفته هربت إليه فالخائف هارب من ربه إِلَى ربه. وقَالَ أبو سُلَيْمَانٌ: ما فارق الخوف قلبًا إلا خرب. وقَالَ إبراهيم بن سفيان: إِذَا سكن الخوف الْقُلُوب أحرق مواضع الشهوات مِنْهَا وطرد الدُّنْيَا عَنْهَا. قَالَ فِي مختصر مناهج القاصدين: والخوف لَهُ إفراط وله اعتدال، وله قصور والمحمود من ذَلِكَ الاعتدال.

القدر الواجب من الخوف والقدر النافع والمذموم

وهو بمنزلة السوط للبهيمة، فَإِنَّ الأصلح للبهيمة أن لا تخلو عَنْ سوط ولَيْسَ المبالغة فِي الضرب محمودة، ولا المتقاصر عَنْ الخوف أيضا محمودًا، وَهُوَ كالَّذِي يخطر بالبال عَنْدَ سماع آية، أَوْ سبب هائل فيورث البُكَاء، فإذا غاب ذَلِكَ السبب عَنْ الحس رجع الْقَلْب إِلَى الغَفْلَة، فهو خوف قاصر قليل الجدوى ضعيف النفع، وَهُوَ كالقضيب الضعيف، الَّذِي يضرب به دابة قوية فلا يؤلمها ألمًا مبرحًا، فلا يسوقها إِلَى المقصد ولا يصلح لرياضتها. وَهَذَا هُوَ الغالب على النَّاس كلهم إلا العارفين والْعُلَمَاء أعنِي الْعُلَمَاء بِاللهِ وبآياته وقَدْ عز وجودهم، وأما المرتسمون برسوم العلم فَإِنَّهُمْ أبعد النَّاس عَنْ الخوف، وهل الْعُلَمَاء حَقِيقَة يأخذون من الدُّنْيَا إلا بقدر البلاغ. وأما القسم الأول وَهُوَ الخوف المفرط فهو كالَّذِي يقوى ويجاوز حد الاعتدال، حَتَّى يخَرَجَ إِلَى اليأس والقنوط، فهو أيضًا مذموم لأنه يمنع من الْعَمَل، وقَدْ يخَرَجَ إِلَى المرض والوله والموت، ولَيْسَ ذَلِكَ محمودًا. وكل ما يراد لأمر فالمحمود منه ما يفضِي إِلَى المراد المقصود منه، وما يقصر عَنْهُ أَوْ يجاوزه فهو مذموم وفائدة الخوف الحذر والورع والتقوى والمجاهدة والفكر والذكر والتعبد وسائر الأسباب التي توصل إِلَى الله تَعَالَى وكل ذَلِكَ يستدعى الحياة مَعَ صحة البدن وسلامة العقل فإذا قدح فِي ذَلِكَ شَيْء كَانَ مذمومًا وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين. " فَصْلٌ " وقَالَ ابن رجب رَحِمَهُ اللهُ: والقدر الواجب من الخوف ما حمل على أداء الفرائض واجتناب المحارم فَإِنَّ زَادَ على ذَلِكَ بحيث صار باعثًا للنفوس على التشمير فِي نوافل الطاعات، والانكفاف عَنْ دقائق المكروهات، والتبسط فِي فضول المباحات، كَانَ ذَلِكَ فضلاً محمودًا.

شِعْرًا: ... خَفِ الله وَارْجُوهُ لِكُلِّ عَظِيمَةٍ ... وَلا تُطِعِ النَّفْسَ اللَّجُوجَ فَتَنْدَمَا وَكُنْ بَيْنَ هَاتَيْنِ مِن الْخَوْفِ وَالرَّجَاءَ ... وَأَبْشِرْ بِعَفْوِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مُسْلِمَا فإن تزايد على ذَلِكَ بأن أورث مرضًا أَوْ موتًا أَوْ همًا لازمًا بحيث يقطع عَنْ السعي فِي اكتساب الفضائل المطلوبة المحبوبة لله عَزَّ وَجَلَّ لم يكن ذَلِكَ محمودًا. ولهَذَا كَانَ السَّلَف يخافون على عطاء السلمي من شدة خوفه الَّذِي أنساه القرآن وصار صَاحِب فراش، وَهَذَا لأن خوف العقاب لَيْسَ مقصودًا لذاته، إنما هُوَ سوط يساق به المتوانِي عَنْ الطاعة إليها ومن هنا كَانَتْ النار من جملة نِعَمِ الله على عباده الَّذِينَ خافوه واتقوه. ولهَذَا المعنى عدها الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى من جملة آلائه على الثقلين فِي سورة الرحمان، وقَالَ سفيان بن عيينة: (خلق الله النار رحمةً يخوف بها عباده لينتهوا) . أَخْرَجَهُ أبو نعيم. والمقصود الأصلي هُوَ طاعة الله عَزَّ وَجَلَّ وفعل مراضيه ومحبوباته وترك مناهيه ومكروهاته، ولا ننكر أن خشية الله وهيبته وعظمته فِي الصدور وإجلاله مقصود أيضًا، ولكن القدر النافع من ذَلِكَ ما كَانَ عونًا على التقرب إِلَى الله، بفعل ما يحبه وترك ما يكرهه. ومتى صار الخوف مانعًا من ذَلِكَ وقاطعًا عَنْهُ فقد انعكس المقصود منه، ولكن إِذَا حصل ذَلِكَ عَنْ غلبةٍ كَانَ صاحبه معذورًا، وقَدْ كَانَ فِي السَّلَف من حصل لَهُ من خوف النار أهوال شتى لغلبة حال شهادة قُلُوبهمْ للنار، فمِنْهُمْ من كَانَ يلازمه القلق والبُكَاء وَرُبَّمَا اضطرب أَوْ غُشِيَ عَلَيْهِ إِذَا سمَعَ ذكر النار، مثل قوله تَعَالَى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} .

آيات وأحاديث في الخوف

شِعْرًا: ... لَوْ يَعْلَمُ الرَّاقِدُ مَا فَاتَهْ ... وَأَيَّ مَجْدٍ هَدَّ أَبْيَاتَهُ لَقَلَّلَ النَّوْمَ عَلَى فُرْشِهِ ... وَسَدَّ بِالْخِدْمَةِ أَوْقَاتَهُ وَأَرْسَلَ الدَّمْعَةَ مَمْزُوجَةً ... عَلَى مَبِيتٍ طَالَ مَابَاتَهُ ضَيَّعَ فِيهِ الْحَظَّ مِنْ قُرْبِهِ ... وَلَمْ يُبَالِ بِالَّذِي فَاتَهُ آخر: ... فَبَادِرْ إِلَى الْخَيْرَاتِ قَبْلَ فَوَاتِهَا ... وَخَالِفْ مُرَادَ النَّفْسِ قَبْلَ مَمَاتِهَا سَتَبْكِي نُفُوسٌ فِي الْقِيَامَةٍ حَسْرَةً ... عَلَى فَوْتِ أَوْقَاتٍ زَمَانَ حَيَاتِهَا فَلا تَغْتَرِرْ بِالْعِزِّ وَالْمَالِ وَالْمُنَى ... فَكَمْ قَدْ بُلِينَا بِانْقِلابِ صِفَاتِهَا آخر: ... تَزَوَّدْ مِن الدُّنْيَا بِسَاعَتَكَ الَّتِي ... ظَفَرْتَ بِهَا مَا لَمْ تَعُقْكِ الْعَوَائِقُ فَلا يَوْمُكَ الْمَاضِي عَلَيْكَ بِعَائِدٍ ... وَلا يَوْمُكَ الآتِي بِهِ أَنْتَ وَاثِقٌ " فَصْلٌ ": وَمِمَّا ورد فِي الخوف من الآيات وَالأَحَادِيث ما يلي قَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} ، وقَالَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} ، وقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} . وقَالَ تَعَالَى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} . وقَالَ: {فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى} الآيات، وقَالَ: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} . وقَالَ: {أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} ، وقَالَ: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} .

وقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} . وَقَالَ: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً * يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً} الآيات، وقَالَ: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} . وقَالَ: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} وقَالَ: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَهُمْ يَتَّقُونَ} . وقَالَ: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} وقَالَ: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} . وقَالَ جَلَّ وَعَلا: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} ، ولو لم يكن إلا هَذِهِ الآية لكَانَتْ كافية للتخويف، إذ شرط للمبالغة فِي مغفرته أربعة أمور، يعجز الْعَبْد عَنْ الواحد مهنا إن لم يعنه الله فأَوَّلاً: التوبة. والثاني: الإِيمَان. والثالث: الْعَمَل الصالح. والرابع: سلوك سبيل المهتدين شِعْرًا: ... يَا نَاظِرًا يَرْنُو بِعَيْنَيْ رَاقِدِ ... وَمُشَاهِدٌ لِلأَمْرِ غَيْرَ مُشَاهِدِ مَنَّيْتُ نَفْسَكَ ضِلَّةً وَأَبَحْتَهَا ... طُرْقَ الرَّجَاءَ وَهُنَّ غَيْرُ قَوَاصِدِ تَصِلُ الذُّنُوبَ إِلَى الذُّنُوبِ وَتَرْتَجِي ... سُكْنَى الْجِنَانِ بِهَا وَفَوْزَ الْعَابِدِ وَنَسِيتَ أَنَّ اللهَ أخَرَجَ آدَمًا ... مِنْهَا إِلَى الدُّنْيَا بِذَنْبٍ وَاحِدِ وقَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ}

وقَالَ: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} ، وقَالَ: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ} الآية، ومن المخوفات قوله تَعَالَى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} ثُمَّ ذكر أربعة شروط بها يقع الخلاص من الْخُسْرَانُ. وهذه الآيات ونحوها هِيَ التي أقضت مضاجع السَّلَف، فلم يهنئوا بنوم ولم يستلذوا طعامًا وانحلت أجسامهم، وأضرت بعيونهم من كثرة البُكَاء على حد قوله تَعَالَى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} ، وقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} . شِعْرًا: ... إِذَا مَا اللَّيْلُ أَظْلَمَ كَابَدُوهُ ... فَيُسْفِرُ عَنْهُمُوا وَهُمُوا رُكُوعُ طَارَ الْخَوْفُ نَوْمَهُمُوا فَقَامُوا ... وَأَهْلُ الأَمْنِ فِي الدُّنْيَا هُجُوعُ لَهُمْ تَحْتَ الظَّلامِ وَهُمْ سُجُودٌ ... أَنِينٌ مِنْهُ تَنْفَرِجُ الضُّلُوعُ وَخُرْسٌ فِي النَّهَارِ لِطُولِ صَمْتٍ ... عَلَيْهِمْ مِنْ سَكِينَتِهِمْ خُشُوعُ آخر: ... أَهْلُ الْخُصُوص مِن الصُّوَامِ صَوْمُهُمُوا ... صَوْنُ اللِّسَانِ عَنْ الْبُهْتَانِ وَالْكَذِبِ وَالْعَارِفُونَ وَأَهْلِ الإُنْسِ صَوْمُهُمُوا ... صَوْنُ الْقُلُوبِ عَنْ الأَغْيَارِ وَالْحُجُبِ آخر: ... لَوْ يَعْلَمُ الرَّاقِدُونَ إِذْ رَقَدُوا ... مَا فَاتَهُمْ وَيْحَهُمْ وَمَا فَقَدُوا مَا طَعَمَتْ فِي الظَّلامِ أَعْيُنهمْ ... غَمْضًا وَلا فِي النَّهَارِ مَا قَعَدُوا وَلا ثَنَى عَزْمَهُمْ إِذْ عَزَمُوا ... أَهْلٌ وَلا صَاحِبٌ وَلا وَلَدُ وَلَوْ دَرَوْا وَيْلَهُمْ نَدَامَتَهُمْ ... عَلَى زَمَانٍ ضَيَاعَهُ قَصَدُوا إِلا انْصَدَعَتْ حَسْرَةً قُلُوبُهُمْ ... وَخَانَهُمْ عَنْ ذَاكُمُ الْجُلَدُ آخر: ... يَا لَهْفَ نَفْسِي عَلَى مَالٍ أَجُودُ بِهِ ... عَلَى الْمُقِلِّينَ مِنْ أَهْلِ الدِّيَانَاتِ إِنَّ اعْتِذَارِي إِلَى مَنْ جَاءَ يَسْأَلُنِي ... مَا لَيْسَ يُمْكِنُنِي إِحْدَى الْمُصِيبَاتِ آخر: ... اجْعَلْ شِعَارَكَ حَيْثُمَا كُنْتَ التُقَى ... قَدْ فَازَ مَنْ جَعَلَ التُقَى إِشْعَارَهُ

وَاسْلُكْ طَرِيقَ الْحَقِّ مُصْطَحِبًا بِهِ ... إِخْلاصَ قَلْبَكَ حَارِسًا أَسْرَارَهُ وَإِذَا أَرَدْتُ الْقُرْبَ مِنْ خَيْرِ الْوَرَى ... يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَاتَّبِعْ آثَارُهُ والآيات وَالأَحَادِيث فِي باب الخوف كثيرةٌ جدًا مَنْهَا ما ورد عَنْ أبي مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ الصادق المصدوق: «إن أحدكم يجمَعَ خلقه فِي بطن أمه أربعين يَوْمًا نطفةً ثُمَّ يكون علقةً مثل ذَلِكَ ثُمَّ يكون مضغةً مثل ذَلِكَ ثُمَّ يرسل إليه الملك فيؤمر بأربع كلمَاتَ بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أَوْ سعيد» . «فوالَّذِي لا إله غيره أن أحدكم ليعمل بعمل أَهْل الْجَنَّة حَتَّى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عَلَيْهِ الكتاب فيعمل بعمل أَهْل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أَهْل النار حَتَّى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أَهْل الْجَنَّة فيدخلها» . متفق عَلَيْهِ. وعنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يؤتى يومئذ جهنم لها سبعون ألف زمام مَعَ كُلّ زمام سبعون ألف ملك يجرونها» . رَوَاهُ مُسْلِم. وعن النعمان بن بشير رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إن أَهْوَن أَهْل النار عذابًا يوم القيامة لرجل يوضع فِي أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه ما يرى أن أحدًا أشد منه عذابًا وإنه لأهونهم عذابًا» . متفق عَلَيْهِ. شِعْرًا: ... أَمَا سَمِعْتَ بِأَكْبَادٍ لَهُمْ صَعَدَتْ ... خَوْفًا مِن النَّارِ فَانْحَطَّتْ إِلَى النَّارِ أَمَا سَمِعْتَ بِضِيقٍ فِي مَكَانِهِمُوا ... وَلا فِرَارَ لَهُمْ مِنْ صَالِي النَّارِ أَمَا سَمِعْتَ بِحَيَّاتٍ تَدِبُّ بِهَا ... إِلَيْهِمُوا خُلِقَتْ مِنْ مَارِجِ النَّارِ فَيَا إِلَهِي بِأَحْكَامٍ وَمَا سَبَقَتْ ... بِهِ قَدِيمًا مِنْ الْجَنَّاتِ وَالنَّارِ أَدْعُوكَ أَنْ تَحْمِي الْعَبْدَ الضَّعِيفَ فَمَا ... لِلْعَبْدِ مِنْ جَسَدٍ يَقْوَى عَلَى النَّارِ وَالشَّمْسُ مَا لِي عَلَيْهَا قَطُّ مِنْ جَلَدٍ ... فَكَيْفَ يَصْبُرُ ذُو ضَعْفٍ عَلَى النَّارِ

موعظة بليغة مشهد من مشاهد القيامة

" موعظة " عباد الله سيجيء يوم يتغير فيه هَذَا العَالِم ينفطر فيه السماء وينتثر فيه الكوكب وتطوى السماء كطي الصحيفة يزيلها الله ويطويها جَلَّ وَعَلا وتبدل الأَرْض غير الأَرْض وينفح فِي الصور فيقوم النَّاس من قبورهم أحياء كما كَانُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حفاةً عراةً غرلاَ. وحينئذ يحشر الكافر أعمى لا يرى أصم لا يسمَعَ أخرس لا يتكلم يمشي على وجه ليعلم من أول أنه أَهْل للإهانة ويكون أسود الوجه أزرق العينين فِي منتهى العطش فِي يوم مقداره خمسين ألف سَنة لَيْسَ بينه وبين الشمس إلا مقدار ميل إذ ذاك يقف ذاهل العقل شاخص البصر لا يرتد إليه طرفه وفؤاده هواء ويعطى كتابه بشماله أَوْ من وراء ظهره فيتمنى أنه لم يعطه. ثُمَّ يؤمر به إِلَى النار ويسلك فِي سلسلة ذرعها سبعون ذراعًا وبعد دخولها لا يخَرَجَ أبدًا ولا يزيده إلا عذابًا إِذَا استغاث من العطش يغاث بماء كالمهل يشوي الوجوه ويذيب الأمعاء والجلود تحيط بِهُمْ جهنم من كُلّ ناحية وكُلَّما نضج جلده بدل غيره. وله مقامَعَ من حديد، كُلّ هَذَا الْعَذَاب يعانيه ولا يموت ويأتيه الموت من كُلّ مكَانَ وما هُوَ بميت ومن ورائه عذاب غليظ كما قَالَ تَعَالَى: {لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى} وسواء صبر أَوْ لم يصبر هُوَ خالد فِي هَذَا الْعَذَاب خلودًا لا نهاية لَهُ هَذَا أقصى عذاب يتصور لأنه جزاء أقصى جريمة هِيَ الكفر بِاللهِ هَذَا عذاب مجرد تصوره يطيش العقول ويذهل النُّفُوس ويفتت الأكباد فاستعذ بِاللهِ منه أيها المُؤْمِن وأسال الله التثبيت على الإِسْلام وحسن الاعتقاد. شِعْرًا: ... إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فَلا تَقُلْ ... خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ عَليَّ رَقِيبُ وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ يَغْفَلُ سَاعَةً ... وَلا أَنَّ مَا يَخْفَى عَلَيْهِ يَغِيبُ

هيأة الناس في المحشر وما يبلغ عرقهم ومسافة قعر جهنم

لَهَوْنَا لَعَمْرُ اللهِ حَتَّى تَتَابَعَتْ ... ذُنُوبٌ عَلَى آثَارِهِنَّ ذُنُوبُ فَيَا لَيْتَ أَنَّ اللهَ يَغْفِرُ مَا مَضَى ... وَيَأْذَنَ فِي تَوْبَاتِنَا فَنَتُوبُ أَقُولُ إِذَا ضَاقَتْ عَليَّ مَذَاهِبِي ... وَحَلَّ بِقَلْبِي لِلْهُمُومِ نَدُوبُ لِطُولِ جَنَايَاتِي وَعُظمِ خَطِيئَتِي ... هَلَكْتُ وَمَا لِي فِي الْمَتَابِ نَصِيبُ وَيُذْكِرُنِي عَفْوُ الْكَرِيمِ عَنْ الْوَرَى ... فَأَحْيَا وَأَرْجُو عَفْوَهُ وَأُنِيبُ آخر: ... الْحَمْدُ للهِ ثُمَّ الْحَمْدُ للهِ ... كَمْ ذَاعَنِ الْمَوْتِ مِنْ سَاهٍ وَمِن لاهٍ يَا ذَا الَّذِي هُوَ فِي لَهْوٍ وَفِي لِعبٍ ... طُوبَى لِعَبْدٍ حَقِيبِ الْقَلْبِ أَوَّاهِ مَاذَا تُعَايُنُ هَذي الْعَيْنُ مِنْ عَجَبٍ ... عِنْدَ الْخُرُوجِ مِن الدُّنْيَا إِلَى الله فَاخْضَعْ فِي قَوْلِي وَأَرْغَبُ سَائِلاً ... عَسَى كَاشِفُ الْبَلْوَى عَليَّ يَتُوبُ اللَّهُمَّ انظمنا فِي سلك حزبك المفلحين، وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك المخلصين وآمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين، اللَّهُمَّ أهدنا لصالح الأَعْمَال والأَخْلاق لا يهدي لأحسنها إلا أَنْتَ واصرف عنا سَيِّءَ الأَعْمَال والأَخْلاق لا يصرف عنا سَيِّئَهَا إلا أَنْتَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وعلى وصحبه أجمعين. " فَصْلٌ " عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يعرق النَّاس يوم القيامة حَتَّى يذهب عرقهم فِي الأَرْض سبعين ذراعًا ويلجمهم حَتَّى يبلغ آذانهم» . متفق عَلَيْهِ. وعنه قَالَ: كنا مَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ سمَعَ وجبة فقَالَ: «هل تدرون ما هَذَا» ؟ قلنا: الله ورسوله أعْلَمْ. قَالَ: «هَذَا حجر رمِيَ به في النار مُنْذُ سبعين خريفًا فهو يهوى فِي النار الآن انتهى إِلَى قعرها فسمعتم وجبتها» . رَوَاهُ مُسْلِم.

ما ورد في فصل الخوف وذكر مقامات الخوف وأقسام الخائفين

وعن عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «يحشر النَّاس يوم القيامة حفاةً عراةً غرلا» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ الرِّجَال والنساء جميعًا ينظر بَعْضهمْ إِلَى بَعْض، قَالَ: «يَا عَائِشَة الأَمْر أشد من أن يهمهم ذَلِكَ» . وقَدْ مدح الله الخائفين منه وأثنى عَلَيْهمْ فِي كتابه فقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ} إِلَى قوله: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} . شِعْرًا: ... مَا قِيمَةُ اللَّيْلِ لَمْ تَذْكُرْ بِظُلْمَتِهِ ... بِوَحْشَةِ الْقَبْرِ يَا مَنْ كَانَ يَعْتَبِرُ اسْتَغْفِرِ اللهَ يَا مَنْ قَدْ ظَفِرْتَ بِهَا ... فِي هَجْعَةِ النَّاسِ إِذَا يَغْشَاهُمُ السُّحُرُ إِذْ يَنْزِلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَى ... دُنْيَا السَّمَاءِ لِكَيْ يَدْعُونَهُ الْبَشَرُ وَفِي المسند والترمذي عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ قول الله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} . أهو الَّذِي يزني ويشرب الخمر ويسرق، قَالَ: «لا يا ابنة الصديق ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه» . قَالَ الحسن: عملوا وَاللهِ بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عَلَيْهمْ إن المُؤْمِن جمَعَ إحسانَا وخشية والمنافق جمَعَ إساءة وأمنا. وَمِمَّا ورد فِي فضائل الخوف ما فِي الصحيحين عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «سبعة يظلهم الله فِي ظله يوم لا ظِلّ إلا ظله الإِمَام العادل وشاب نشأ فِي عبادة الله عَزَّ وَجَلَّ ورجل قَلْبهُ معلق بالمساجد ورجلان تحابا فِي الله اجتمعا على ذَلِكَ وتفرقا عَلَيْهِ ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقَالَ: إني أخاف الله ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حَتَّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله خَالِيًا ففاضت عَيْنَاهُ» . ومِمَّا ورد فِي فضيلة الخوف ما فِي الْحَدِيث الأخر عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِذَا اقشعر جلد الْعَبْد من مخافة الله عَزَّ وَجَلَّ تحات ذنوبه كما يتحات

عن الشَّجَرَة اليابسة ورقها» . وقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يلج النار أحد بكى من خشية الله حَتَّى يعود اللبن فِي الضرع ولا يجتمَعَ غبار فِي سبيل الله ودخان جهنم فِي مِنْخَرَى مُسْلِم» . رَوَاهُ الترمذي. وروى ابن حبان فِي صحيحة والبيهقي فِي الشعب مِنْ حَدِيثِ أبي هريرة أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فيما يرويه عَنْ ربه قَالَ الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: «وعزتي وجلالي لا أجمَعَ على عبدي خوفين، ولا أجمَعَ لَهُ أمنين إن أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أخفته يوم القيامة وأنى خافني فِي الدُّنْيَا أمنته يوم القيامة» . ومقامَاتَ الخوف تختلف فمِنْهُمْ من يغلب على قَلْبِهِ خوف الموت قبل التوبة والْخُرُوج من المظَالِم، وَمِنْهُمْ من يغلب عَلَيْهِ خوف الاستدراج بالنعم أَوْ خوف الميل عَنْ الاستقامة على ما يرضي الله، وقسم يغلب عَلَيْهِ خوف خاتمة السُّوء والعياذ بِاللهِ من ذَلِكَ، وأعلى من هَذَا خوف السابقة لأن الخاتمة فرع السابقة، وقَدْ قَالَ: هؤلاء فِي الْجَنَّة ولا أبالي وهؤلاء فِي النار ولا أبالي. ومن أقسام الخائفين من يخاف سكرات الموت، وشدته لاسيما إِذَا كَانَ قَدْ عاين من يعاني سكرات الموت، وَمِنْهُمْ من يخاف عذاب القبر، وسؤال منكر ونكير، وَمِنْهُمْ من يخاف هيبة الوقوف بين يدي الله عَزَّ وَجَلَّ، والخوف من مناقشة الحساب، والعبور على الصراط والخوف من النار وأنكالها وأهوالها أَوْ حرمان الْجَنَّة أَوْ الحجاب عَنْ الله تَعَالَى وَهُوَ خوف العارفين. وما قبل ذَلِكَ هُوَ خوف الزاهدين والعابدين، وخوف عموم الخلق يحصل بأصل الإِيمَان بالْجَنَّة والنار وكونهما دارَى جزاء على الطاعة والمعصية وضعف هَذَا الخوف بسبب الغَفْلَة والركون إِلَى الدنيا، والانهماك فيها، وضعف الإيمان، وتزول تلك الغَفْلَة بالتذكر والوعظ وَالإِرْشَاد وملازمة الفكر

فِي أهوال يوم القيامة، وشدائدها، والْعَذَاب فِي الآخِرَة وبالنظر إِلَى الخائفين ومجالستهم ومشاهدة أحوالهم فَإِنَّ فاتت المشاهدة فالنظر فِي سيرة الصالحين الَّذِينَ غلب عَلَيْهمْ الخوف، قَالَ الله تَعَالَى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} . وقال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وقال: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} وأخبر عما يقولونه بعد دخولهم الْجَنَّة، {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} . شِعْرًا: ... يَا نَفْسُ كُفِي فَطُولُ الْعُمْرِ فِي قِصَرٍ ... وَمَا أَرَى فِيكِ لِلتَّوْبِيخِ مِنْ أَثَرِ يَا نَفْسُ قَضَيْتُ عُمْرِي فِي الذُّنُوبِ وَقَدْ ... دَنَا الْمَمَاتُ وَلَمْ أَقْضِ مِنْ الْوَطَرِ يَا نَفْسُ غَرَّكَ مِنْ دُنْيَاكِ زُخْرُفُهَا ... وَلَمْ تَكُونِي بِهَوْلِ الْمَوْتِ تَعْتَبِرِي يَا نَفْسُ بالَغْتِ بِالْعِصْيَانِ غَاوِيَةً ... وَلَمْ تُبَالِي بِتَحْذِيرٍ وَمُزْدَجَرِ آخر ... يَا مَنْ يُجِيبُ دُعَا الْمُضْطَرِّ فِي الظُّلَمِ ... يَا كَاشِفَ الضُّرِّ وَالْبَلْوَى مَعَ السِّقَمِ قَدْ نَامَ وَفْدُكَ حَوْلَ الْبَيْتِ وَانْتَبِهُوا ... وَأَنْتَ عَيْنُكَ يَا قَيُّومُ لَمْ تَنَمِ هَبْ لِي بِجُودِكَ فَضْلَ الْعَفْوِ عَنْ جُرَمِي ... يَا مَنْ إِلَيْهِ أَشَارَ الْخَلْقُ فِي الْحَرَمِ إِنْ كَانَ عَفْوُكَ لا يُدْرِكْهُ ذُو سَرَفٍ ... فَمَنْ يَجُودُ عَلَى الْعَاصِينَ بِالْكَرَمِ اللَّهُمَّ قو محبتك فِي قلوبنا وثبتنا على قولك الثابت فِي الحياة الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَة وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين سِلْمًا لأوليائك حربًا لأعدائك، اللَّهُمَّ حبب إلينا كتابك وارزقنا الْعَمَل بما أودعته فيه واجعله لقلوبنا ضياءً ولأسقامنا دواءً ولأبصارنا جلاءً ولذنوبنا ممحصًا وعن النار مخلصًا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

فصل في الحث على التيقض وترك الغفلة والرجاء للمحسن لا الجزم له بالجنة

" فَصْلٌ " وعلى العاقل الناصح لنفسه أن يحذر من مُجَالَسَة الظلمة الأطغياء والجهلة ممن غلب عَلَيْهمْ الأمن من مكر الله حَتَّى كأنهم حوسبوا وفرغ منهم، فلم يخشوا بطش الله، وسطوته ولا نار الْعَذَاب ولا بعد الحجاب، قَالَ الله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . وقَالَ تَعَالَى {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} فهَذَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيد الأولين والآخرين كَانَ أشد النَّاس خوفًا ففي الصحيح: «أَنَا أعلمكم بِاللهِ وأشدكم لَهُ خشية» . وَفِي صحيح الْبُخَارِيّ عَنْ أم العلاء امرأة من الأنصار أنهم اقتسموا المهاجرين أول ما قدموا عَلَيْهمْ بالقرعة، قَالَتْ فطار لَنَا - أي وقع - فِي سهمنا عثمان بن مظعون من أفضل المهاجرين وأكابرهم ومتعبديهم وممن شهد بدرًا. فاشتكى فمرضناه حَتَّى إِذَا توفي وجعلناه فِي ثيابه دخل عَلَيْنَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: رحمة الله عَلَيْكَ أبا السائب، فشهادتي عَلَيْكَ لَقَدْ أكرمك الله تَعَالَى، فقَالَ لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وما يدريك أن الله أكرمه» . فَقُلْتُ: لا أدري بأبي أَنْتَ وأمي يَا رَسُولَ اللهِ. فقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أما عثمان فقَدْ جاءه اليقين، وَاللهِ إني لأرجو لَهُ الْخَيْر» . أي فالإنكار عَلَيْهَا من حيث جزمها بتلك الشهادة من غير مستند قطعي، فكَانَ اللائق بها أن تأتي بها فِي صيغة الرجَاءَ لا الجزم كما فعل - صلى الله عليه وسلم -. قُلْتُ: وكثيرًا ما أسمَعَ وأرى فِي الكتب قول بَعْض النَّاس (المرحوم) أَوْ (المغفور لَهُ) ولا أدري ما هُوَ مستندهم بإيرادها بصيغة الجزم والأولى أن يقَالَ المرجو لَهُ الرحمة والغفران. أهـ.

ثُمَّ قال: - صلى الله عليه وسلم - «ما أدري، وأنَا رسول الله ما يفعل بي» . قَالَتْ: فوالله لا أزكي أَحَدًا بعده. أي على جهة الجزم وأما على جهة الرجَاءَ وحُسْن الظَّنِ بِاللهِ فجائز، قَالَتْ: وأحزنني فنمت فرَأَيْت لعثمان عينا تجري فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقَالَ: «ذَلِكَ عمله» . ولما توفي عثمان هَذَا قَبَّلَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - خَدَّهُ وبكى حَتَّى سالت دموعه الكريمة على خد عثمان، وبكى القوم فقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «اذهب عَنْهَا أي الدُّنْيَا أبا السائب لَقَدْ خرجت عَنْهَا ولم تلبس بشَيْء» . وسماه - صلى الله عليه وسلم - السَّلَف الصالح وَهُوَ أول من قُبِرَ بالبقيع رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. فتأمل زجره - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الجزم بالشهادة على عثمان هَذَا مَعَ كونه شهد بدرًا وما يدريك لعل الله أطلع على أَهْل بدر فقَالَ: (اعملوا ما شَئتم فقَدْ غفرت لكم) وكونه قَبَّلَهُ وبكى ووصفه لَهُ بأعظم الأوصاف وَهُوَ أنه لم يتلبس من الدُّنْيَا بشَيْء وبأنه السَّلَف الصالح، تعلم أنه ينبغي للعبد وإن عمل من الطاعات وما عمل أن يكون على حيز الخوف والخشية من الله تَعَالَى. شِعْرًا: ... يَا رَبِّ هَيِءْ لَنَا أَمْرَنَا رَشَدَا ... وَاجْعَلْ مَعُونَتَكَ الْعُظْمَى لَنَا سَنَدَا وَلا تَكِلْنَا إِلَى تَدْبِيرِ أَنْفُسَنَا ... فَالْعَبْدُ يَعْجَزُ عَنْ إصْلاحِ مَا فَسَدَا أَنْتَ الْعَلِيمُ وَقَدْ وَجَّهْتُ يَا أَمَلِى ... إِلَى رَجَائِكَ وَجْهًا سَائِلاً أَبَدَا وَلِلرَّجَاءَ ثَوَابٌ أَنْتَ تَعْلَمُه ... فَاجْعَلْ ثَوَابِي دَوَامَ السَّتْرِ لِي أَبَدَ وروى شداد بن أوس قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الكَيِّسُ من دان نَفْسهُ وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نَفْسهُ هواها، وتمنى على الله الأماني» . وقَالَ علي بن أبي طالب: وقَدْ سلم من صلاة الفجر وقَدْ علته كآبة وَهُوَ يقلب يده، لَقَدْ رَأَيْت أصحاب مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم -، فلم أرى شَيْئًا يشبهم اليوم،

طلب معاوية من ضرار بن حمزة أن يصف له علي بن أبي طالب

لَقَدْ كَانُوا يصبحون شعثًا صفرًا غبرًا، بين أعينهم أمثال ركب المعزى، قَدْ باتوا لله سجدًا، وقيامًا يتلون كتاب الله ويراوحون بين جباههم وأقدامهم. فإذا أصبحوا ذكروا الله، فما دوا كما يميد الشجر فِي يوم الريح وهمت أعينهم بالدموع حَتَّى تبل ثيابهم، وَاللهِ كأني بالقوم غافلين. ثُمَّ قام فما رُؤْيَ بعد ذَلِكَ ضاحكَا حَتَّى مَاتَ رحمة الله عَلَيْهِ. شِعْرًا: ... لله دَرَّ رِجَالٍ وَاصَلُوا السَّهَرَا ... وَاسْتَعْذَبُوا الْوَجْدَ وَالتَّبْرِيحَ وَالْفِكَرَا فَهُمْ نُجُومُ الْهُدَى وَاللَّيْلُ يَعْرِفُهُمْ ... إِذَا نَظَرْتَهُمُوا هُمْ سَادَةُ بُرَرَا كُلٌّ غَدَا وَقْتُهُ بِالذِّكْرِ مُشْتَغِلاً ... عَمَّا سِوَاهُ وَلِلَّذَاتِ قَدْ هَجَرَا يُمْسِي وَيُصْبَحُ فِي وجْدٍ وَفِي قَلَقٍ ... مِمَّا جَنَاهُ مِن الْعِصْيَانِ مُنْذَعِرَا يَقُولُ يَا سَيِّدِي قَدْ جِئْتُ مُعْتَرِفًا ... بِالذَّنْبِ فَاغْفِرْ لِي يَا خَيْرَ مَنْ غَفَرَا حَمَلْتُ ذَنْبًا عَظِيمًا لا أَطِيقُ لَهُ ... وَلَمْ أَطِعْ سَيِّدِي فِي كُلِّ أَمْرَا عَصَيْتُهُ وَهُوَ يُرْخِي سِتْرَهُ كَرَمًا ... يَا طَالمَا قَدْ عَفَا عَنِّي وَقَدْ سَتَرَا وَطَالمَا كَانَ لِي فِي كُلَّ نَائِبَةٍ ... إِذَا اسْتَغَثْتُ بِهِ مِنْ كُرْبَةٍ نَصَرَا وَإِنَّنِي تَائِبٌ مِمَّا جَنَيْتُ وَقَدْ ... وَافَيْتُ بَابَكَ يَا مَوْلايَ مُعْتَذِرَا لَعَلَّ تَقْبَلُ عُذْرِي ثُمَّ تَجْبُرُنِي ... يَوْمَ الْحِسَابِ إِذَا قُدِّمْتَ مُنْكَسِرَا وَقَدْ أَتَيْتُ بِذُلٍّ رَاجِيًا كَرَمًا ... إِلَيْكَ يَا سَيِّدِي قَدْ جِئْتُ مُفْتَقِرَا ثُمَّ الصَّلاة عَلَى الْمُخْتَارِ سَيِّدِنَا ... عِدَادَ مَا غَابَ مِنْ نَجْمٍ وَمَا ظَهَرَا وقَالَ معاوية لضرار بن حمزة الصدائي: صف عليًا. قَالَ: ألا تعفيني. قَالَ: بل صفه. قَالَ ألا تعفيني. قَالَ: لا أعفيك. قَالَ: أما إنه لابد. فإنه كَانَ بعيد المدى، واسع العلوم والمعارف، لا تدرك غايته فيهما شديد الْقُوَى فِي ذات الله، ونصرة دينه، يَقُولُ فضلاً، ويحكم عدلاً، ينفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدُّنْيَا، وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته.

كَانَ والله غزير الدمعة، طويل الفكر، يقلب كفه، تأسفًا وحزنًا، إذ هَذَا فعل المتأسف الحزين، ويخاطب نَفْسهُ، بالمزعجات، والمقلقات، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما حضر. كَانَ والله كأحدنا إِذَا سألناه، ويأتينا إِذَا دعوناه، وَنَحْنُ وَاللهِ مَعَ تقربه لَنَا وقربه منا لا نكلمه هيبة لَهُ، فَإِنَّ تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم أَهْل الدين ويحب المساكين، ولا يطمَعَ القوي فِي باطله ولا ييأس الضعيف من عدله. واشهد الله لَقَدْ رأيته فِي بَعْض مواقفه، وقَدْ أرخى الليل ستوره، وغارت نجومه، وقَدْ تمثل فِي محرابه، قابضًا على لحيته، يتململ تململ اللديغ، ويبكى بُكَاء الحزين، وكأني سمعته يَقُولُ: يَا ربنا يَا ربنا. يضرع إليه. ثُمَّ يَقُولُ: يَا دنيا يَا دنيا إِلَيَّ تعرضت أم تشوقتي هيهات هَيهات غري غيري، وقَدْ بَتَتْتُكِ ثلاثًا لا رجعة لي فيك فعمرك قصير، وعيشك حقير، وخطرك كبير، آه من قلة الزَّاد، وبعد السفر، ووحشة الطَرِيق، فذرفت عين معاوية على لحيته، فما ملكها وَهُوَ ينشفها بكمه، وقَدْ اختنق القوم بالبكاء. قَالَ معاوية: رحم الله أبا الحسن كَانَ وَاللهِ كذلك، فَكَيْفَ حزنك عَلَيْهِ يَا ضرار؟ قَالَ: حزن من واحدها فِي حجرها فلا ترقا عبرتها ولا يسكن حزنها. وقَالَ أبو ذر وددت لو أني شجرة تُعْضَدُ وَكَذَا قَالَ طلحة ابن عبيد الله أحد العشرة. وقَالَ عمران بن حصين: وددت أن أكون رمادًا تنسفه الرياح. وكَانَ علي بن الحسين إِذَا توضأ أصفر لونه، فَيَقُولُ لَهُ أهله: ما هَذَا الَّذِي يعتادك عَنْدَ الوضوء، فَيَقُولُ: أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم. وسئل ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ الخائفين، فقَالَ: قُلُوبهمْ، بالخوف قرحة، وأعينهم باكية، يقولون كيف نفرح والموت من ورائنا، والقبر أمامنا والقيامة

موعدنا، وعلى جهنم طريقنا وبين يدي الله موقفنا، وَهَذَا منه بيانٌ عَنْ الخائفين بحسب حاله رَحِمَهُ اللهُ. شِعْرًا: وَمَا مَن يَخَافُ الْبَعْثَ وَالنَّارَ آمِنٌ ... وَلَكِنْ حَزِينٌ مُوجَعُ الْقَلْبِ خَائِفُ إِذَا مَرَّ ذِكْرُ الْمَوْتِ أَوْجَعَ قَلْبَهُ ... وَهَيَّجَ أَحْزَانًا ذُنُوبٌ سَوَالِفُ ومر الحسن البصري رَحِمَهُ اللهُ بشاب وَهُوَ مستغرق فِي ضحكه جالس مَعَ قوم فقَالَ لَهُ الحسن: يَا فتى هل مررت بالصراط؟ قَالَ: لا. فقَالَ: فهل تدري إِلَى الْجَنَّة تصير أم إِلَى النار؟ قَالَ: لا. قَالَ: فما هَذَا الضحك. قَالَ: فما رُؤِيَ ذَلِكَ الفتى بعدها ضاحكًا. وَرُوِيَ عَنْ ميسرة ابن أبي ميسرة أنه كَانَ إِذَا أوى إِلَى فراشه يَقُولُ: يَا ليتني لم تلدني أمي. فقَالَتْ لَهُ أمه حين سمعته: يَا ميسرة إن الله قَدْ أحسن إليك، هداك للإسلام. قَالَ: أجل ولكن الله قَدْ بين لَنَا أَنَا واردون عَلَى النَّارِ، ولم يبين لَنَا أَنَّا صادرون عَنْهَا. أي لا جزم عنده أنه من المتقين الناجين فلذا اشتد خوفه مَنْهَا. وكَانَ عطاء السلمي من الخائفين، وقِيْل لَهُ فِي مرضه: ألا تشتهى شَيْئًا. فقَالَ: إن خوف جهنم لم يدع فِي قلبي مَوْضِعًا للشهوة. وقِيْل لبَعْضهمْ: لماذا إِذَا وعظ بَعْض النَّاس خَوَّفَ وأبكى، وبَعْضهمْ يتكلم ويبكي ويخوف ولا يبكون، فقَالَ: لَيْسَتْ النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة. وحكى أن قومًا وقفوا بعابدٍ وَهُوَ يبكي فَقَالُوا: ما الَّذِي يبكيك يرَحِمَكَ اللهُ قَالَ: قرحة يجدها الخائفون فِي قُلُوبهمْ قَالُوا: وما هي؟ قَالَ: روعة النداء بالعرض على الله عز وجل.

وقَالَ معاذ بن جبل رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إن المُؤْمِن لا يسكن روعه، حَتَّى يترك جسر جهنم وراءه. هَذِهِ نماذج من مخاوف السَّلَف، وَنَحْنُ أجدر بالخوف مِنْهُمْ، لكن لَيْسَ بكثرة الذُّنُوب بل بصفاء الْقُلُوب وكمال المعرفة. وإلا فلَيْسَ أمننا وعدم خشوعنا لقلة ذنوبنا، وكثرة طاعاتنا، بل قادتنا شهواتنا وغلبت عَلَيْنَا شقوتنا وإنهما كنا فِي الدُّنْيَا وزينتها وصدتنا عَنْ ملاحظة أحوالنا غفلتنا وقسوتنا فلا بقرب الرحيل ننتبه، ولا بكثرة الذُّنُوب تتحرك، ولا بمشاهدة أحوال الخائفين تخوفنا ولا بخطر الخاتمة انزعجنا، فنسأل الله أن يتداركنا بلطفه وإحسانه وأن يجود عَلَيْنَا بفضله ورحمته إنه على كُلّ شَيْء قدير. شِعْرًا: ... فَوَحَقِّ مَنْ سَمَّكَ السَّمَاءَ بِقُدْرَةٍ ... وَالأَرْضَ صَيَّرَ لِلْعِبَادِ مِهَادَا إِن الْمُطرَّ على الذُّنُوبِ لَهَالِكٌ ... صَدَّقْتَ قَوْلِي أَوْ أَرَدْتَ عِنَادَا شِعْرًا: ... أَجَلُّ ذُنُوبِي عِنْدَ عَفْوِكَ سَيِّدِي ... حَقِيرٌ وَإِنْ كَانَتْ ذُنُوبِي عَظَائِمَا وَمَا زِلْتَ غَفَّارًا وَمَا زِلْتَ رَاحِمَا ... وَمَا زِلْتَ سَتَّارًا عَلَى الْجَرَائِمَا لَئِنْ كُنْتُ قَدْ تَابَعْتُ جَهْلِي فِي الْهَوَى ... وَقَضَيْتُ أَوْطَارَ الْبَطَالَةِ هَائِمَا فَهَا أَنَا قَدْ أَقْرَرْتُ يَا رَبُّ بِالَّذِي ... جَنَيْتُ وَقَدْ أَصْبَحْتُ حَيْرَانَ نَادِمَا آخر: ... أَتَذْهَلُ بَعْدَ إِنْذَارِ الْمَنَايَا ... وَقَبْلَ النَّزْعِ أَنْبَضَتِ الْحَنَايَا؟ رُوَيْدَكَ لا يَغُرُّكَ كَيْدُ دُنْيَا ... هِيَ الْمِرْنَانُ مُصْمِيَةُ الرَّمَايَا أَتَرْجُو الْخُلْدَ فِي دَارِ التَّفَانِي ... وَأَمْنَ السِّرْبِ فِي خُطَطِ الْبَلايَا؟ وَتُغْلِقُ دُونَ رَيْبِ الدَّهْرِ بَابَا ... كَأَنَّكَ آمِنٌ قَرْعَ الرَّزَايَا وَأَنَّ الْمَوْتَ لازَمَةٌ قِرَاهُ ... لُزُومَ الْعَهْدِ أَعْنَاقَ الْبَرَايَا لَنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْهُ غَاز ... لَهُ الْمِرْبَاعُ مِنَّا وَالصَّفَايَا اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا لصالح الأَعْمَال وآتنا فِي الدُّنْيَا حسُنَّة وَفِي الآخِرَة حسنة وقنا عذاب النار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ نجنا بِرَحْمَتِكَ من النار وعافنا من دار الخزي والبوار وأدخلنا بِفَضْلِكَ الْجَنَّة دار الْقَرَار وعاملنا بكرمك وجودك يَا كريم يَا غفار

فائدة جليلة من كلام شيخ الإسلام وابن القيم

واغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. " فائدةٌ جليلةٌ من كلام ابن القيم وشيخ الإِسْلام رحمهما الله " قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} . فالآية الأولى فِي الجهاد الَّذِي هُوَ كمال القوة الغضبية، وَالثَّانِيَة فِي النكاح الَّذِي هُوَ كمال القوة الشهوانية فالْعَبْد يكره مواجهة عدوه بقوته الغضبية خشية على نَفْسهُ منه، وَهَذَا المكروه خَيْر لَهُ فِي معاشه ومعاده، ويجب الموادعة والمتاركة وَهَذَا المحبوب شر لَهُ فِي معاشه ومعاده. وَكَذَا يكره المرأة لوصف من أوصافها وله فِي إمساكها خَيْر كثير لا يعرفه ويحب المرأة لوصف من أوصافها وله فِي إمساكها شر كثير لا يعرفه فالإِنْسَان كما وصفه خالقه ظلوم جهول. قُلْتُ: ولَقَدْ أجاد القائل: شِعْرًا: ... إِذَا كَانَ غَيْرُ اللهِ لِلْمَرْءِ عُدَّةً ... أَتَتْهُ الرَّزَايَا مِنْ وُجُوهِ الْمَكَاسِبِ وَقَدْ جَرَّتْ الْحُنَفَاءُ حَتْفَ حُذَيْفَةٍ ... وَكَانَ يَرَاهَا عُدَّةً لِلشَّدَائِدِ آخر: ... إِذَا لَمْ يَكُنْ عَوْنٌ مِن اللهِ لِلْفَتَى ... فَأَكْثَرُ مَا يَجْنِي عَلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فلا ينبغي أن يجعل المعيار على ما يضره وينفعه ميله وحبه ونفرته وبغضه، بل المعيار على ذَلِكَ ما اختاره الله لَهُ بأمره ونهيه، فانفع الأَشْيَاءِ لَهُ على الإطلاق طاعة ربه بظاهره وباطنه. وأضر الأَشْيَاءِ عَلَيْهِ على الإطلاق معصيته بظاهره وباطنه فإذا قام بطاعته

وعبوديته مخلصًا لَهُ، فكل ما يجري عَلَيْهِ مِمَّا يكرهه يكون خيرا لَهُ وَإِذَا تخلى عَنْ طاعته وعبوديته فكل ما هُوَ فيه محبوب هُوَ شر لَهُ. فمن صحت لَهُ معرفة ربه والفقه فِي أسمائه وصفاته علم يقينًا أن المكروهات التي تصيبه والمحن التي تنزل به فيها ضروب من المصالح والمنافع التي لا يحصيها علمه ولا فكرته بل مصلحة الْعَبْد فيما يكره أعظم مَنْهَا فيما يحب. فعامة مصالح النُّفُوس فِي مكروهاتها، كما أن عامة مضارها وأسباب هلكتها فِي محبوباتها، انظر إِلَى غارس جنة من الجنات خبير بالفلاحة غرس جنة وتعهدها بالسقي والإصلاح حَتَّى أثمرت أشجارها فاقبل عَلَيْهَا يفصل أوصالها ويقطع أغصانها لعلمه أنها لو خليت على حالها لم تطب ثمرتها فيطعمها من شجرة طيبة الثمرة. حتى إِذَا التحمت بها واتحدت وأعطت ثمرتها، أقبل يقلمها ويقطع أغصانها الضعيفة التي تذهب قوتها ويذيقها ألم القطع والحديد لمصلحتها وكمالها، لتصلح ثمرتها أن تَكُون بحضرة الملوك، ثُمَّ لا يدعها ودواعي طبعها من الشراب كُلّ وَقْت، بل يعطشها وقتًا ويسقيها وقتًا، ولا يترك عَلَيْهَا دَائِمًا وإن كَانَ ذَلِكَ أنضر لورقها وأسرع لنباتها. ثُمَّ يعد إِلَى تلك الزينة التي تحول بين ثمرتها وبين كمال نضجها واستوائها، كما فِي شجرة العنب ونحوه، فهو يقطع أعضائها، بالحديد، ويلقي عَنْهَا كثيرًا من زينتها وَذَلِكَ عين مصلحتها فلو أنها ذات تمييز وإدراك كالْحَيَوَان لتوهمت أن ذَلِكَ إفسادٌ لها وأضرارٌ بها، وإنما هُوَ عين مصلحتها. وكَذَلِكَ الأب الشفيق على ولده العَالِم بمصلحته، إِذَا رأى مصلحته فِي أن يمسك عَنْهُ العطاء لم يعطه ولم يوسع عليه، لعلمه أن ذَلِكَ أكبر الأسباب إِلَى فساده وهلاكه.

وكَذَلِكَ يَمْنَعُهُ كَثِيرًا مِنْ شَهَوَاتِهِ حُمْيَةً لَهُ وَمَصْلَحَةً لا بُخْلاً عَلَيْهِ، فَأَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَأَعْلَمُ الْعَالَمِينَ الَّذِي هُوَ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَمِن آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، إِذَا أَنْزَلَ بِهِمْ مَا يَكْرَهُونَ كَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَنْ لا يُنْزِلَهُ بِهِمْ، نَظَرًا مِنْهُ لَهُمْ وَإِحْسَانًا إِلَيْهِمْ وَلُطْفًا بِهِمْ. وَلَوْ مُكِّنُوا مِنْ الاخْتِيَارِ لأَنْفُسِهِمْ لَعَجِزُوا عَنْ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِم عِلْمًا وَإِرَادَةً وَعَمَلاً، لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ تَوَلَّى تَدْبِيرَ أُمُورِهِمْ بِمُوجِبِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ أَحَبُّوا أَمْ كَرِهُوا، فَعَرَفَ ذَلِكَ الْمُوقِنُونَ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ فَلَمْ يَتَّهِمُوهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِهِ وَخَفِيَ ذَلِكَ عَلَى الْجُهَّالِ بِهِ وَبِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَنَازَعُوهُ تَدْبِيرَهُ وَقَدْ حُوا فِي حِكْمَتِهِ، وَلَمْ يَنْقَادُوا لِحُكْمِهِ، وَعَارَضُوا حُكْمَهُ بِعُقُولِهِمْ الْفَاسِدَةِ وَآرَائِهِمْ الْبَاطِلَةِ وَسِيَاسَاتِهِمْ الْجَائِرَةِ فَلا لِرَبِّهِمْ عَرَفُوا وَلا لِمَصَالِحِهِمْ حَصَّلُوا. وَاللهُ الْمُوَفِّقُ. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُ الدِّينِ مِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُنْزِلَ بِهِمْ مِن الضُّرِّ وَالشِّدَّةِ مَا يُلْجِئُهُمْ إِلَى تَوْحِيدِهِ فَيَدْعُونَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَيَرْجُونَهُ وَلا يَرْجُونَ أَحَدًا سِوَاهُ فَتَتَعَلَّقُ قُلُوبُهُمْ بِهِ لا بِغَيْرِهِ فَيَحْصُلُ لَهُمْ مِن التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالإِنَابَةِ وَحَلاوَةِ الإِيمَانِ وَذَوْقِ طَعْمِهِ. وَالْبَرَاءَةِ مِن الشِّرْكِ مَا هُوَ أَعْظَمُ نِعْمَةً عَلَيْهِمْ مِنْ زَوَالِ الْمَرَضِ وَالْخَوْفِ أَوْ الْجُدْبِ وَالضُّرِّ وَمَا يَحْصُلُ لأَهْلِ التَّوْحِيدِ الْمُخْلِصِينَ للهِ فَأَعْظَمُ مِن أَنْ يُعَبِّرَ عَنْهُ مَقَالٌ وَلِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ ذَلِكَ نَصِيبٌ بِقَدَرِ إِيمَانِهِ وَلِهَذَا قِيْلَ: يَا ابْنَ آدَمَ لَقَدْ بُورِكَ لَكَ فِي حَاجَةٍ أَكْثَرْتَ فِيهَا مِنْ قَرْعِ بَابِ سَيِّدِكَ. وَطَوْرًا تَكُونُ الْمَصَائِبُ انْتِقَامًا مِن اللهِ تَعَالَى لِمُخَالَفَةِ الْعَبْدِ أَمْرَ رَبِّهِ كَمَعْصِيَةِ آدَمَ مِنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَاهُ اللهُ عَنْ الأَكْلِ مَنْهَا فَأَكْلُهُ مِنْ الشَّجَرَةِ مَعْصِيَةٌ جَزَاءَ عِصْيَانِهِ كَمَا أَنَّهَا تَكُونُ لِمَحْوِ الذُّنُوبِ وَتَطْهِيرِ الْقُلُوبِ مِنْ رِجْسِ الْمَعَاصِي.

ما ينبغي عند المصائب والإبتلى

وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِن مِن نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ وَلا هَمٍّ وَلا حَزَنٍ وَلا أَذَى وَلا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلا كَفَّرَ اللهُ تَعَالَى بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» . أ. هـ. وَالْحِكْمَةُ وَاللهُ أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا مُرَبِيَة لِلنُّفُوس وَتُمُرِّنُهَا عَلَى احْتِمَالِ الشَّدَائِدِ وَالصَّبْرِ الْجَمِيلِ عَلَى الإِنَاءَاتِ وَالرَّزَانَة وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَكَارِهِ فَتَبْلُغُ بِصَاحِبِهَا إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الْكَمَالِ وَبُلُوغِ الْغَايَاتِ لِذَلِكَ تَجِدُ الرِّجَالَ الأَمَجَادَ الَّذِينَ هُمْ أُشَدُّ مُعَانَاةً لِلشَّدَائِدِ فِي حَيَاتِهِمْ وَصَبَرُوا عَلَى الْمَصَائِبِ وَالآلامِ الَّتِي تَنَالُهُمْ عِنْدَ قِيَامِهِمْ بِالدَّعْوَةِ الإِسْلامِيَّةِ ذِكْرُهُمْ بَاق عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ وَأَجْرُهُمْ عِنْدَ اللهِ تَام. اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتِكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَارْزُقْنَا الْقِيَامَ بِطَاعَتِكَ وَجَنِّبْنَا مَا يُسْخِطُكَ وَأَصْلِحْ نِيَّاتِنَا وَذُرِّيَاتِنَا وَأَعِذْنَا مِنْ شَرِّ نُفُوسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا وَأَعِذْنَا مِنْ عَدُوِّكَ وَاجْعَلْ هَوَانَا تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُكَ - صلى الله عليه وسلم - وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) : وَاللهُ سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ مَا قُدِّرَ لَهُ مِنْ الْمَنْزِلَةِ، قَالَ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} . وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ مُطَمِّنَةٌ لِقُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، الَّذِينَ تُصِيبُهُمْ الْمَصَائِبُ فِي الدُّنْيَا مِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنْ كَعْبِ بنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مِثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِن الزَّرْعِ تَفِيئُهَا الرِّيحُ مَرَّةً وَتَعْدِلُهَا أُخْرَى حَتَّى تَهِيجَ وَمَثَلُ الْكَافِرِ كَمَثَلِ الأرْزَةِ الْمُجَذِّبَةَ عَلَى أَصْلِهَا لا يَفِيئُهَا شَيْءٌ يَكُونُ انْجَعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً» .

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيّ. وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيهِ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاءِ وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ فِمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَعَنْ جَابِرِ مَرْفُوعًا: «يَوَدُّ نَاسٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ تُقْرَضُ بِالْمَقَارِيضِ فِي الدُّنْيَا لِمَا يَرَوْنَ مِنْ ثَوَابِ أَهْلِ البَلاءِ» . وَعَنْ سَعْدِ بن أبِي وَقَّاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً قَالَ: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ مِنْ النَّاسِ يُبْتَلِيَ الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صَلابَةٌ، زِيدَ فِي بَلائِهِ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةً خُفِّفَ عَنْهُ وَمَا يَزَالُ البَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَمْشِي عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ ولَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَة» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة: (يُبْتَلى الْمُؤْمِنُ أَوْ الْمُؤْمِنَةُ فِِي جَسَدِهِ وَفِي مَالِهِ وَفِي وَلَدِهِ حَتَّى يَلْقَى اللهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ) . صَحَّحَهُمَا التِّرْمِذِيّ وَرَوَى الثَّانِي مَالِكٌ وَأحمد. وَوَرَدَ مَرْفُوعًا: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَصَابَهُ سَقَمٌ ثُمَّ أَعْفَاهُ اللهُ مِنْهُ كَانَ كَفَّارَةً لِمَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِ وَمَوْعِظَة لَهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ وَإِنَّ الْمُنَافِقَ إِذَا مَرِضَ ثُمَّ أُعْفِي كَانَ كَالْبَعِيرِ عَقْلَهُ أَهْلُهُ ثُمَّ أَرْسَلُوهُ فَلَمْ يَدْرِ لِمَ عَقَلُوهُ وَلِمَ أَرْسَلُوهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. ثُمَّ اعْلَمْ أن إبلَيْسَ لَعَنَهُ اللهُ قَدْ يَعْرِضُ لِلْمَرِيضِ وَالْمُحْتَضَرِ فيؤذيه فِي دِينِهِ ودُنْيَاهُ وَقَدْ روي عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه كَانَ يدعو: «اللَّهُمَّ إني أعوذ مِن بك الغَرقِ والحَرَقِ والهَدْمِ وأعُوذُ بكَ أن يَتَخَبَّطَنِي الشيطانُ عِنْدَ الموتِ» . أَخْرَجَهُ الطبراني.

وَفِي حديث آخر أن إبليس لا يكون في حالِ أشدَّ منه على ابن آدم عند الموتِ يقول لأَعْوَانِهِ: دُونكُمُوه فإنه إن فَاتكم اليوم لم تَلْحَقُوه. وقَدْ يَسْتَوْلى عَلَى الإِنْسَان حِينَئِذٍ فَيُضِلَّهُ فِي اعْتِقَادِهِ وَرُبَّمَا حَالَ بينه وبينَ التوبة وَرُبَّمَا مَنَعَهُ مِن الْخُرُوجِ من مَظْلَمَةٍ أَوْ أَيَّسَهُ مِن رَحْمَةِ الله. وَيَقُولُ لَهُ: قَدْ أَقْبَلَتْ إِلَيْكَ سَكَرَاتُ الموت التي لا تطيقها الجبال وَنَزْعُ الموت شديد وَرُبَّمَا خَوَّفَهُ وأقلَقَهُ وَأَوْقَعَهُ فِي الوَسَاوِسَ والاعتراضِ على القدرِ والعياذُ بِاللهِ. فينبغي لِلْمُؤْمِنِ أن يعلم أن هَذَا الساعة ساعةَ خُروجِ الروحُ حِينَ يحمى الوطِيس فَيَتَجَلَّد وَيَتَصَبَّر وَيَسْتَعِينُ بِاللهِ الحي القيوم على هَذَا الْعَدُوّ المرصد ليرجع هَذَا الْعَدُوّ خائبًا. عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إِنَّ المُؤْمِنَ لِيُنْضِي شَيْطَانَهُ كَمَا يُنْضِي أَحَدُكم بعيره فِي السفر» . ويعلم أن الجزع لا يفيد شَيْئًا وعن عمر بن عَبْد الْعَزِيز رَحِمَهُ اللهُ أنه قَالَ: ما أحب أن تُهَوَّنَ عَليَّ سَكَرَاتُ الْمَوْتِ إنه آخر ما يكفر به عَنْ المسلم. وعن إبراهيم قَالَ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ لِلْمَرِيض أن يَحْمَدَ اللهَ عِنْدَ الموت، وعن ابن عباس أَنه قَالَ آخِرُ شِدَّةٍ يَلْقَاهَا الْمُؤْمِنُ الموت. واعْلَمْ أنَّ المرضَ يُذْهِبُ الخَطَايا وكُلَّمَا اشْتَدَّ المرضُ كَانَ أَذْهَبَ لها عن عَبْد اللهِ بن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: دَخَلْتُ على النبي - صلى الله عليه وسلم - فَمَسَسْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّكَ تُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، فقَالَ: «أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ َرُجلانِ مِنْكُمْ» . قُلْتُ: ذَلِكَ بِأَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ. قَالَ: «أَجَلْ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذَى مِنْ مَرَضٍ فَمَا سِوَاهُ إِلا حَطَّ اللهُ بِهِ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَها» . رَوَاهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم.

وعن عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ما مِن مُصِيبَةٍ تُصِيبُ المسلم إلا كفر الله عَزَّ وَجَلَّ بِهَا عَنْهُ حَتَّى الشوكة يشاكها» . رَوَاهُ الْبُخَارِيّ ومسلم. وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَزَالُ البَلاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ فِي جَسَدِهِ وفي ماله وفي ولده» . وعن صهيب قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «عَجِبْتُ مِن قَضَاءِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمُؤْمِنِ إِن أمره كله خَيْر ولَيْسَ ذَلِكَ إلا لِلْمُؤْمِنِ إن أصابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ كَانَ خَيْرًا وإن أصابته ضَرَّاءُ فَصَبَرَ كَانَ خَيْرًا لَهُ» . أَخْرَجَهُ مُسْلِم. وعن أبي سعيد الخدري قَالَ: دَخَلْتُ على النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يُوعَكُ فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَيْهِ فوجَدتُ حَرَّهُ بَيْنَ يَدَيَّ (فَوق اللحاف) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا أشدَّهَا عَلَيْكَ، قَالَ: «إِنَا كَذَلِكَ يُضَعَّفُ لَنَا البَلاء وَيُضَعَّفُ لَنَا الأجْر» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءُ؟ قَالَ: «الأَنْبِيَاء» . قُلْتُ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «الصَّالِحُونَ إِنْ كَانَ لَيُبْتَلِي بِالْفَقْرِ حَتَّى مَا يَجِدُ إِلا الْعَبَاءَةَ يُحَوِّيهَا وَإِنْ كَانَ أحَدهم لَيَفْرَحُ بِالبَلاءُ كَما يَفْرَحُ أَحَدُكم بالرَّخَاء.» . رَوَاهُ ابن ماجه. وعن عَبْد اللهِ بن أحمد قَالَ: حَدَّثَنِي أبي قَالَ: حدثنا وكيع عَنْ أبي حيان عَنْ أبيه قَالَ: دَخَلُوا على سُوَيْدِ بن شُعْبَةَ اليَربُوعِي وقَدْ صَارَ على فراشِهِ كَأنَ فَرْخٌ وامرأتُه تُنَادِيهِ مَا نُطْعِمُكَ ما نَسْقِيكَ، فأجابها بِصوتٍ خِفَى دَبَرَتِ الْحَرَاقِفُ وَطَالَتِ الضَّجْعَةُ وَمَا أَحِبُّ أَن اللهَ عَزَّ وَجَلَّ نَقَصَنِي مِنْهُ قُلامَةَ ظُفرُ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا مَا رَأَيْتُ الْوَجَعَ عَلَى أَحَدٍ أَشَدَّ مِنْهُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكَانَ جماعة من السَّلَف يجعلون مكَانَ الأنين والتأوه من شدة المرض ذِكْرَ الله سُبْحَانَهُ والاستغفار والتعبد وَذَلِكَ لان الأنين ونحوه شكوى فَمَتَى أمكن التصبر عَنْهُ فينبغي أن يصبر.

شِعْرًا: ... وَمَا هِيَ إلا سَاعَةٌ ثُمَّ تَنْقَضِي ... وَيَذْهَبُ هَذَا كُلُّهُ وَيَزُولُ فإن غلب عَلَيْهِ المرض عذر، وقَالَ الإِمَام أحمد لابْنِهِ: أقرا عليَّ حديث طاووس أنه كره الأنين فِي المرض فقرأ عَلَيْهِ فَمَا أَنَّ حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللهُ. وَلَمَّا احْتُضِرَ صَفْوانُ بنُ سُلَيْمِ وحضره أخوه فجعل يَتَقَلَّبُ قَالُوا: كَانَ لَهُ حاجة. قال: نَعَم. فَقَالَتْ ابْنَتُهُ: مَا لَهُ مِنْ حَاجَةٍ إِلا أنه يُرِيدُ أَنْ تَقُومُوا عَنْهُ فَيَقُومُ فَيُصَلِّي، وَمَا ذَاكَ فِيهِ. فقامَ القَومُ عَنْهُ وقامَ إِلَى مَسْجِدِه يُصَلِّي فصاحت ابنته بِهِمْ فدخلوا عَلَيْهِ فحملوه فمَاتَ. ودخلوا على أحد السَّلَف وَهُوَ يعاني سكرات الموت فجعل يكبر ويُهَلل ويذكر الله عَزَّ وَجَلَّ وجعل النَّاس يدخلون عَلَيْهِ أرسالاً يسلمون عَلَيْهِ فيرد عَلَيْهمْ ويخرجون. فَلَمَّا كثروا عَلَيْهِ أقبل على ولده فقَالَ: يَا بُنَيَّ أَعْفِنِي رُدَّ السَّلام على هؤلاء لا يشغلوني عَنْ ربي عَزَّ وَجَلَّ. وقَالَ أبو مُحَمَّد الحريري: حَضَرْتُ عِنْدَ الْجُنَيْدِ قَبْلِ وَفَاتِهِ بِسَاعَتَيْنَ فَلَمْ يَزَلْ تَالِيًا وَسَاجِدًا فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا الْقَاسِم قَدْ بلَغَ بِكَ مَا أَرَى مِنْ الْجُهْدِ، فَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّد أَحْوَجُ مَا كُنْتُ إِلَيْهِ هَذِهِ السَّاعَة فَلَمْ يَزَلْ تَالِيًا وَسَاجِدًا حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا وَخَرَجَ مَنْهَا عَارِيًا كَمَا دَخَلَهَا عَارِيًا. وَهَكَذَا كُلُّ بَنِي آدم يدخل الإِنْسَان مُجَرَّدًا مِن اللباس وَيَخْرُجُ مِنْهَا عَارِيًا إِلا مِنْ كَفَنِهِ كَمَا قِيْلُ: شِعْرًا: ... نَصِيبُكَ مِمَّا تَجْمَعُ الدَّهْرَ كُلَّهُ ... رِدَاءآنِ تُلْوَى فِيهِمَا وَحَنُوطُ

آخر: ... فَمَا تَزَوَّدَ مِمَّا كَانَ يَجْمَعُه ... سِوَى حَنُوط غَدَاةَ الْبَيْنِ فِي خِرَقِ وَغَيْرَ نَفْحَةِ أَعْوَادٍ تُشَبُّ لَهُ ... وَقَلَّ مِنْ زَادٍ لِمُنْطَلِقِ أَوْجَدَهُ اللهُ جَلَّ وَعَلا لِيَتَعَلَّمَ وَيَعْمل بِطاعة الله وَيَتَمَتَّعَ بِخَيْرَاتِ الدُّنْيَا مُسْتَعِينًا فِيهَا عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ حَتَّى إِذَا انْقَضَى أَجَلُهُ أَخْرَجَهُ اللهُ لِدَارِ الْجَزَاءِ وَالْمُحَاسَبَةِ عَلَى عَمَلِهِ. فإنْ أَحْسَنَ التَّصَرُّفَ وَأَطَاعَ رَبَّهُ أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ لِيَسْعَد فِيهَا لِلأَبَد، وإِنْ أساء التَّصَرُف وَعَصَى رَبَّهُ أَدْخَلَهُ نَارَ جَهَنَّمَ يَتَعَذَّبُ فِيهَا لِلأَبَد. وكل ما فِي الدُّنْيَا من أَمْتِعَةٍ وَلَذَائِدَ قليلة وضئيلة ومحدودة بِالنِّسْبَةِ لِلَذَائِد الْجَنَّة بل موضع السوط فِي الْجَنَّة خَيْر من الدُّنْيَا وما فيها. قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . والمكث فِي الدُّنْيَا قليل فهو سنوات تمر كالبرق الخاطف لا يشعر الإِنْسَان إلا وقَدْ انْتَهَتْ كأنها سَاعة مِن نهار حَيَاتهُ كُلّهَا. قَالَ الله جَلَّ وَعَلا: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} ومِن النَّاس مَن رَآها دَارَ قَرَار، وقَالَ: لا دَارَ لِيَ سِوَاهَا واعْتَنَى بِهَا وَبِزَخَارِفَِِها وَغَرَّهُ إِبْلَيْسَ لَعَنَهُ اللهُ وَزِيَّنَهَا لَهُ فَانْغَمَسَ فِيهَا، وَعَمِلَ لَهَا لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ وَتَعِبَ فِيهَا مُسْتَمْتِعًا بِخَيْرَاتِهَا الْفَانِيَةِ وَمُلاقٍ بَلاءَهَا وَأَنْكَادَهَا وَأَكْدَارَهَا، وَبَعْدَ قَلِيل هَجَم عَلَيْهِ هَادِمُ اللَّذاتِ وَأَيْقَظَهُ من غَفْلَتِه بَعْدَ فَوَاتِ الأَوَانِ فَنَدَمَ حَيْثُ لا يَنْفَعُ النَّدَمِ وَعَرَفَ بَعْدَ الْفَوْت أَنَّ الدُّنْيَا دَارَ مَنْ لا دَارَ لَهُ وَلَهَا يَجْمَعُ من لا عَقْلَ لَهُ. (فَصْلٌ) : وَقِسْمٌ مِن النَّاس وَفَّقَهُم اللهُ وَهُوَ أَعْلَمْ بالمهتدين فأسْعَدهم بالإسلام وَوَفَّقَهُمْ لِلْعَمَلِ بِمَا يُرْضِيهِ.

قَالَ جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَة وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} وَهؤلاء تَمَشَّوْا مَعَ الْكِتَابِ وَالسُنَّةِ أَصْلَحُوا دُنْيَاهُم وَجَدُّوا وَاجْتَهِدُوا وَعَمِلُوا لِلآخِرَةِ. فَالدُّنْيَا نِعْمَ الْمطيةُ لِلْمُؤْمِنِ يَسْتَعْمِلُهَا لِلْخَيْر وَيَنْجُو عَلَيْهَا مِن الشَّر فَاتَّخَذَهَا مَطِيَّةً فَعَمَرَهَا كَمَا أَمَرَهُ خَالِقُهُ وَأَخَذَ مِنْهَا مَا يَلْزَمُهُ بِاعْتِدَالِ وَتَوَازُنٍ وَلَمْ يُعْلق قَلْبهُ بِهَا. فَأطَاعَ رَبَّهُ وَاسْتَعَدَّ لآخِرَتَهُ فَلَمَّا أَتَاهُ الْمَوْتُ وَجَدَهُ عَلَى أَتَمِّ الاِسْتِعْدَادِ ومن النَّاس من رأى الدُّنْيَا تافهة وأيامها قليلة وعلم ما فِي الآخِرَة من نَعِيم مُقيم وَعَيْشٍ سَلِيم وعلم أنَّ الدُّنْيَا والآخِرَة ملك {اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} {الَّذِي لَهُ} {الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . فأحب ربه واشتغل بعبادته وبالتقرب إليه بالعلم وفعل الْخَيْر وترك الدُّنْيَا وزينتها وزهد فيها. وَهَذَا القسم نادر كندرة الماس والجوهر الثمين فسعدوا بطاعة الله والتقرب إليه وصرف الوَقْت فيما يرضيه. ومن النَّاس من جهل الدُّنْيَا والآخِرَة فعاش فيها عيش البهائم يعمل ليله ونهاره. ويأكل كما تأكل الأنعام فلم يستفد من الدُّنْيَا ولم يستعد للآخرة هؤلاء هم الأكثرية الساحقة. وأسوء النَّاس من شغل عمره فِي خدمة مخلوق وضيع وقته فِي القِيْل والقَالَ والجلوس عَنْدَ الملاهي والمنكرات. وروي أن شر النَّاس منزلة عَنْدَ الله يوم القيامة عبد أذهب آخرته بدنيا غيره. شِعْرًا: ... وَأَسْوء النَّاس تدبيرًا لِعَافِيَةٍ ... مَن أَنفقَ العُمر فيما لَيْسَ يَنْفَعُهُ أما الاعِتدال والتوسط بين الاستمتاع بالدُّنْيَا بلا إسراف ولا إِضَاعَةِ وَقْتٍ

حكم وموعظة وآداب

ولا يَتَعَلَّقُ قَلْبُهُ بِهَا وَيَكُونُ مُسْتَعِدًا للآخِرَةِ فهَذَا سِمَةُ الْعُقَلاءِ وَالسُّعَدَاء الَّذِينَ يُحْسِنُونَ تَصْرِيفَ أَوْقَاتِهِمْ وَأَعْمَارِهِمْ. وَلِيَعْلَم الْمُؤْمِنُ أن الله جَلَّ وَعَلا وَتَقَدَّسَ يَحْمِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ مِن الدُّنْيَا وَهُوَ يُحِبُّهُ كَمَا يَحْمِي الْمَرِيضَ أَهْلَهُ مِن الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ يَخَافُونَ عَلَيْهِ. وَعَلَى الإِنْسَان الْعَاقل أَنْ يَفْهَمْ الدُّنْيَا على حَقِيقَتِهَا فَيَنْظُرَ أَوَّلاً كَيْفَ وُلِدَ يَجِدُ أَنَّهُ وُلِدَ عَارِيًا مِنْ كُلّ شَيْءٍ حَتَّى مِن الثِّيَابِ ثُمَّ رَزَقَهُ اللهُ الْكِسْوَةَ مِن الْمَلابِسِ وَالْمَتَاعِ وَالسَّكَنِ وَالْمَالِ عَلَى أَنَّهَا عَارِيَّةٌ مُرَجَعَةُ. فَإِذَا فَقَدْ مِنْهَا شَيْئًا فَلا يَحْزَنْ لأَنَّ مَنْ أَعَارَهُ شَيْئًا اسْتَرَدَّهُ وَسَوْفَ يُؤْخَذُ مِنْهُ كُلَّ مَا أُعْطِي وَيَخْرُجُ مِن الدُّنْيَا تَارِكًا كُلَّ شَيْءٍ. شِعْرًا: ... وَمَا الْمَالُ وَالأَهْلُونَ إلا وَدَائِعٌ ... وَلا بُدَّ يَوْمًا أَنْ تُرَدَّ الْوَدَائِعُ آخر: ... تَجَرَّدْ مِن الدُّنْيَا فَإِنَّكَ إِنَّمَا ... خَرَجْتَ إِلَى الدُّنْيَا وَأَنْتَ مُجَرَّدً آخر: ... فَمَا تَزَوَّدَ مِمَّا كَانَ تَجْمَعُهُ ... سِوَى حَنُوطٍ غَدَاةَ الْبَيْنِ فِي خِرَقِ وَغَيْرَ نَفْحَةِ أَعْوَادٍ تُشَبُّ لَهُ ... وَقَلَّ ذَلِكَ مِنْ زَادٍ لِمُنْطَلَق (حِكَمْ وَمَوَاعِظُ وَآدَاب) قَالَ بَعْضُهُمْ يُوصِي ابْنه: يَا بُنَيَّ لا تدخل فِي الدُّنْيَا دُخُولاً يَضُر بِآخِرَتِكَ وَلا تَتْرُكْهَا تَرْكًا تَكُونُ بِهِ كلاً عَلَى النَّاسِ. وقَالَ: أُتْرُكْ الدُّنْيَا قَبْلَ أَنْ تَتْرُكَكَ، وَاسْتَرْض رَبَّكَ قَبْل لِقَائِهِ، وَأعْمُرْ بَيْتَكَ الَّذِي سَوْفَ تَسْكُنُه قَبْلَ انْتِقَالِكَ إِلَيْهِ. قَالَ أَحَدُ الصَّالِحِينَ لِمَنْ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ: كَيْفَ يَتْرُكُ الدُّنْيَا مَنْ تَأَمُرونَهُ بِتَرْكِ الدِّينَارِ وَالدِّرهِم وَهُم إِنْ الْقَوهَا أَخَذْتُمُوهَا أَنْتُمْ. وَقَالَ آخر الْوَقْت آلة الرِّزْقِ إن اسْتُعْمِلَ، وآفةُ الرِّزْقِ إِذَا أُهْمِلْ.

لا تَسْتَغْرِبْ وُقُوعَ الأَكْدَارِ، مَا دُمْتَ فِي هَذِهِ الدَّارَ، فَإِنَّهَا مَا أَبْرَزَتْ إِلا مَا هُوَ مُسْتَحَقُّ وَصْفِهَا وَوَاجِبُ نَعْتِهَا فَاحْذَرْهَا. شِعْرًا: ... طُبِعَتْ على كَدَرٍ وَأَنْتَ تَرُومُهَا ... صَفْوًا مِن الأَقْذَارِ وَالأَكْدَارِ مَرَّ بَعْضُهُمْ عَلَى مَزْبَلَةٍ بِجَانِبِ مَقْبَرَةَ، فقَالَ: هَذِهِ كِنْزُ الرِّجَال، وَهَذِهِ كِنْزُ الأَمْوَالِ. خَلَق اللهُ جَلَّ وَعَلا الدُّنْيَا لِتَكُون فِي خِدْمَتِكَ، فَتَحَوَّلْتَ إِلَى خِدْمَتِهَا وَأَرَادَكَ مَلِكًا لَهَا وَأَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكًا لَهَا. شِعْرًا: ... أَنْتَ الأَمِيرُ عَلَى الدُّنْيَا بِزُهْدِكَ فِي ... حُطَامِهَا وَطَرِيقُ الْحَقِّ مَسْلُوكُ وَأَنْتَ عَبْدٌ لَهَا مَادُمْتَ تَعْشِقُهَا ... إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يَهْوَاهُ مَمْلُوكُ الدُّنْيَا مَحْبُوبَةٌ لِلإنْسِان ولكن يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ لا نَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا كَرهَهُ اللهُ وَلا نَمْنَعْ مِنْهَا شَيْئًا أَحَبَّهُ اللهُ وبذا لا يَضُرنا حُبُّنَا لَهَا. الدُّنْيَا بَحْرٌ وَالآخِرَة سَاحِل والمركبُ التَّقْوَى والنَّاسُ سُفر. الذنب يضر فاعله وقَدْ يضر غيره إن عَيَّرهُ ابتُلِي، وإن اغْتَابَهُ أثُِم، وإن رَضِي به شاركه، قِيْل: إن المسيح عَلَيْهِ السَّلام قَالَ: يَا رَبِّ مَن أَشرفُ النَّاسِ، فَأَوْحَى الله إليه أشرفُ النَّاس مَن إِذَا خلا علم أني ثانيه فأَجَلَّ قَدْرِي عَنْ أن يظهرني على معاصيه. هجران المعاصي أفضل الهجرة والمحافظة على الفرائض أفضل الجهاد ولا يأتي أحد بشَيْء أحَبَّ إِلَى الله مِنْ ذِكْرِهْ. قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} لا تَسْتَبْطِئ إجَابَةَ الدُّعَاء وقَدْ سَدَدَتَ طُرَقَهَا بالمعاصي. التَّمَادِي بِالْمَعَاصِي يُوجِبُ الإِصْرَارَ عَلَيْهَا وَالإِصْرَارُ عَلَيْهَا يُوجِبُ الْغَفْلَةَ عَنْ الله ومَن غَفَل عَنْ الله تَجَرَّأَ عَلَيْهِ فَهَلَكَ. أَخْسَرُ النَّاسِ صَفْقَةً مَنْ بَاعَ الْجَنَّةَ بِمَا فِيهَا بِشَهْوَة سَاعة، سُئِلَ بَعْضُهُمْ: هَلْ مِنْ عَلامٍَة لِمَنْ قَبِلَهُ الله؟ فقَالَ: الله أعْلَمْ ولكن هنا قرائن ودلائل

آفة الكبر

ومرجحات مِنْهَا إِنَّكَ إِذَا رَأَيْتَ الله جَلَّ وَعَلا قَدْ عَصَمَكَ من المعاصي وَكَرَّهَهَا إليكَ وَوَفَّقَكَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِن الطاعات التي أمركَ بِهَا تَرَجّح عِنْدَكَ الْقُبُول لا تَتَهَاون بالذنب الصغير وانظر إِلَى مَن عَصَيْتَ رَبًّا عَظِيمًا السماوات والأَرْض جميعًا قبضتُه يوم القيامة. شِعْرًا: ... أَفَقْ مِنْ غَفْلَةِ الآمَالِ تَسْلَمْ ... وَقُمْ للهِ أَوَّابًا مُطِيعَا وَخَالِفْ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ ... وَنَفْسِكَ وَالْهَوَى نُمَّ الرَّقِيعَا فَنِعْمَ الْعَبْدُ أَنْتَ بِغَيْرِ شَكٍّ ... إِذَا أَصْبَحْتَ لِلدَّاعِي سَمِيعَا بَصِيرًا بِالْعَوَاقِبِ فِي أُمُورٍ ... بِهَا أَحْسَنْتَ مَا عِشْتَ الصَّنِيعَا تَمَسَّكْ بِالشَّرِيعَةِ وَاحْتَرِمْهَا ... تَنَلْ مِنْ فَضْلِهَا الشَّرَفَ الرَّفِيعَا وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّم. (فَصْلٌ) اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ آفَةُ الْكِبْرِ عَظِيمَةٌ وَفِيهِ يَهْلِكُ الْخَوَّاصُ وَقَلَّمَا يَنْفَكُ عَنْهُ الْعُبَّاد وَالزُّهَادُ وَالْعُلَمَاءُ وَكَيْفَ لا تعظم آفُتُهُ وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ لا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ وَإِنَّمَا صَارَ حِجَابًا دُونَ الْجَنَّة لأَنَّهُ يحول بين الْعَبْد وبين أَخْلاق الْمُؤْمِنِينَ لأن صاحبه لا يقدر أنْ يُحِبَّ لِلْمُؤْمِنِينَ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ فلا يَقْدِرُ على التَّوَاضُعِ وَلا عَلَى تَرْكِ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالْغَضَبِ وَلا عَلَى كَظْمِ الْغَيْظِ وَقُبُولِ النُّصْحِ وَلا يَسْلِمْ مِنْ الازْدِرَاءِ وَالاحْتِقَارِ لِلنَّاسِ وَاغْتِيَابِهِمْ فَمَا مِنْ خُلُقٍ شَيْءٍ ذَمِيمٍ إِلا وَهُوَ مُتَّصِف به ومُضْطَرٌ إِلَيْهِ وَقَدْ شَرَحَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الْكِبْر فقَالَ: «الْكِبْر بَطَر الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ» . وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُجْبَ يَدْعُوا إِلَى الْكِبْرِ تَتَوَلَّدُ الآفَاتُ الْكَثِيرَةُ وَهَذَا مَعَ الْخَلْقِ فَأَمَّا مَعَ الْخَالِقِ فَإِنَّ الْعُجْبَ بِالطَّاعَاتِ نَتِيجَةِ اسْتِعْظَامُهَا فَكَأَنَّهُ يَمُنُّ عَلَى اللهِ تَعَالَى بِفِعْلِهَا وَيَنْسَى فَضْلَ اللهِ وَنِعْمَتَه عَلَيْهِ بِتَوْفِيقِهِ لَهَا وَيَعْمَى عَنْ آفَاتِهَا الْمُفْسِدةِ لِهَا.

نَظَرَ أَحَدُ الْعُلَمَاءِ إِلَى وَالٍ ظَالِم استقبلهَ النَّاسُ بِالتَّبْجِيلِ وَالتَّعْظِيمِ فَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: انْظُرُوا إِلَى مَنْ جَمَعَ اللهُ لَهُ بَيْنَ سُرُور الدُّنْيَا وَخِزْي الآخِرَة. وَقَالَ آخر: إنما هَلَكَ مَن كَانَ قَبْلَنَا بِحَبْسِهِمْ الْحَقِّ حَتَّى يشتَرَى مِنْهُمْ وَبِبَسْطِهِمْ الظُّلْم حَتَّى يفتدى مِنْهُمْ. كَانَ عُمر بن عَبْد الْعَزِيز يجعل كُلّ يوم من ماله دِرْهَمًا فِي طعام الْمُسْلِمِين الفقراء ويأكل معهم. وَقَالَ عُمَر بن الْخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ألا وإنِّي نَزَّلْتُ نَفْسِي مِنْ مَالِ اللهِ بِمَنْزِلَةِ كَافِلِ الْيَتِيم إِنْ اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفْتُ وَإِنْ افْتَقَرْتُ أَكَلْتُ بِالْمَعْرُوف. ودخل بَعْضهمْ على سلمان الفارسي رضي الله عنه وَهُوَ والٍ على المدائن فوجَدَهُ يَعْمَل الخُوصَ بِيَدِه يُسَوِّي مِنْهُ قُفَفًا لِيَبِيعَهَا وَيَتَقَوَّتُ بِهَا. فَقَالَ لَهُ: تَعْمَلُ هَذَا وَأَنْتَ أَمِيرٌ عَلَى الْمَدَائِن وَيَجْرِي عَلَيْكَ الرِّزْقَ. فَقَالَ سلمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إِنِّي اشْتَرِي بدرهم خوصًا (سَعَفُ النخل) فأعمله قُفَفًا فأبيعه بثلاث. أُنْفِقُ دِرْهَمًا عَلَيَّ وَعَلَى عِيَالِي وَأَتَصَدَّق بِدِرهمٍ وَأُعِيدُ دِرْهَمًا فِيهِ وَاللهِ إنِّي أحِبُّ أَنْ آكل مِنْ عَمَلِ يَدِي. ورآه بَعْض النَّاس فِي الطَرِيق وظنه من جملة الْحَمَامِيل الْفُقَراء فقَالَ: احْمِلْ لي هَذَا فَحَمَلَ لَهُ أَمْتِعَتَهُ وَمَشِيَ مَعَهُ فِي السُّوق، وَكُلَّما صَادَفَ إِنْسَانًا سَلَّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الأَمِير وَالْمَقَاضِي عَلَى رَأْسِهِ فَاسْتَغْرَبَ الرَّجُلَ ذَلِكَ وَخَجَلَ مِنْهُ وَقَالَ لِسَلْمَانَ: مَن الأَمِير؟ قَالَ: أَنَا. فَأَخَذَ يَعْتَذِرُ وَيَطْلُبه السَّمَاحَ وَيَقُولُ: أَعْطِني مَتَاعِي جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا. قَالَ: لا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ أَنَا خَادِمٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَبَى إِلا أَنْ يُوصِلَ الأَمْتِعَةِ إِلَى بَيْتِ صَاحِبِهَا.

قِيْلَ لِعُمَرَ بن عَبْدِ الْعَزِيز جَزَاكَ اللهُ عَن الْمُسْلِمِين خَيْرًا فقَالَ: بَلْ جَزَى الْمُسْلِمِين عَنِّي خَيْرًا. وَأَتَى إِلَيْهِ مَظْلُومٌ مِنْ الْيَمَنِ فَكَتَبَ لِعَامِلِهِ بِالْيَمَنِ أَنْ يَأْخُذَ لَهُ حَقَّهُ وَيُنْصِفَه مِمَّنْ ظَلَمَهُ، ثُمَّ قَالَ لِلْمَظْلُومِ: كَمْ نَفَقَتُكَ مِن الْيَمَنِ إِلَى هُنَا وَهَلْ بَلي مِنْ أَثْوَابِكَ شَيْء ثُمَّ دفعها إليه. وَأَتَى إِلَيْهِ فَقِير وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اشْتَدَّتْ بِي الْحَاجَةُ وَبَلَغَتْ بِي الْفَاقَةُ واَللهُ سَائِلُكَ عَنْ مَقَامِي هَذَا بَيْنَ يَدَيْكَ، فَبَكَى عُمَر حَتَّى بَلَّ الْقَضِيبَ الَّذِي يَتَّكِئُ عَلَيْهِ فَقَالَ: كَمْ عِيَالكَ؟ قَالَ: خَمْسَة أَنَا وَامْرَأَتِي وَثَلاثَةُ أَوْلاد. فقَالَ عُمَرُ: فَرَضْنَا لَكُمْ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ فِي الشَّهْرِ وَنَأْمُرُ لَكَ بِخَمْسِمَائَةِ دِرْهَمْ مَائتين مِنْ مَالِي وَثَلاثمائة مِنْ مَالِ اللهِ حَتَّى تَتَبَلَّغَ بِهَا حَتَّى يَخَرَجَ عَطَاؤك. وَقُدِّمُ لَهُ هَدِيَّةٍ وَقَالُوا لَهُ: أقْبَلْهُاَ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةِ، فقَالَ: كَانَتْ لِلنَّبِي - صلى الله عليه وسلم - هَدِيَّة وَهِيَ الآنَ لَنَا رِشْوَة وَرَفَضَهَا. وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. (فَصْلٌ) : بَعْدَ الصُّلْحِ بَيْنَ أَبِي عُبَيْدَةَ وَالرُّوم قَدَّمَ قَائِدٌ رُومَانِي طَعَامًا فَاخِرًا لأَبِي عُبَيْدَةَ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَتُطْمِعُونَ الْجُنْدَ مِثْلَ هَذَا. قَالَ: لا. فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لا حَاجَةَ لَنَا فِيمَا يَقْتَصِرُ عَلَيْنَا بِئْسَ أَبُو عبيدة وَقَدْ صَحِبَهُ جُنْدٌ مِن بِلادِهِمْ لِيُهْرِقُوا دِمَاءَهُمْ أَوْ لم يُهْرِقُوا فَاسْتَأْثَرَ بِنَفْسِهِ عَلَيْهِمْ بشَيْء لا نأكل إلا مِمَّا يأكلون. رَكَبَ الْوَزِيرُ عَلِيُّ بنُ عِيسَى الظَّالِم فِي مَوْكِبٍ عَظِيم فَقَالَ النَّاس: مَنْ هَذَا مَنْ هَذَا؟ فَقَالَتْ امرأةٌ: لِمَ تَقُولُونَ مَنْ هَذَا. هَذَا عَبْدٌ غَرَّهُ الشَّيْطَانُ فَسَقَطَ مِنْ عَيْنِ اللهِ تَعَالَى فَابْتَلاهُ اللهُ بِمَا تَرَوْنَ فَرَجَعَ الْوَزِيرُ إِلَى مَكَّة تَائِبًا مُجَاوِرًا. كَتَبَ وَالٍ لِعُمَر بن عَبْد الْعَزِيز إِنَّ قَوْمًا اخْتَلَسُوا مَالَ الدَّوْلَةِ فَأْذَنْ لِي فِي

موعظة وفوائد

عِقَابِهِمْ فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَيْهِ لا تَظُنَّ أَنَّ رِضَائِي عَلَيْكَ وَمَشُورَتِي تُنْجِيكَ مِنْ عَذَابِ اللهِ، لِذَا مِنْ أَقَرَّ مِنْهُمْ فَجَازِهِ بِمَا يَسْتَحِق وَمَنْ أَنْكَر فَاسْتَحْلِفه وخلِّ سَبِيلَهُ فَلَعُمْرِي لأَنْ يلقَوُا اللهَ بِخِيَانَتِمِ أَحَبُّ إِليَّ مِنْ أَنْ أُلْقَى اللهَ بِدِمَائِهِمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا أَهلك مَنْ كَانَ قَبْلَنَا بِحَبْسِهِمْ الْحَقِّ حَتَّى يشتَرَى مِنْهُمْ وَبِبَسْطهم الظُّلْمِ حَتَّى يُفْتَدَى مِنْهُمْ. (موعظة) عِبَادَ اللهِ سُرُورَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَعْبُرُون الْقَنَاطِرَ وَيَأْمَنُونَ الْعَوَاثِرَ فَذَلِكَ يَوْمُ عِيدِهِمْ وَمَا دَامُوا فِي دَارِ الْغُرُورِ فَلا غِبْطَةَ وَلا سُرُورَ. وَأَيَّ سُرُورٍ لِمَنْ الْمَوْتُ مَعْقُودٌ بِنَاصِيَتِهِ وَالذُّنُوبُ رَاسِخَةٌ فِي آنِيَتِهِ وَالنَّفْسُ تَقُودُهُ إِلَى هَوَاهَا وَالدُّنْيَا تَتَزَيَّنُ فِي عَيْنِهِ بِمُشْتَهَاهَا. وَالشَّيْطَانُ مُسْتَبْطِنٌ فَقَارَ ظَهْرِهِ لا يَفْتَرُ عَنْ الْوَسْوَسَةِ فِي صَدْرِهِ وَنَفْسِهِ وَمَالِهِ بعَرْضِهِ لِلْحَوَادِثِ وَلا يَدْرِي فِي كُلِّ نَفَسٍ مَا عَلَيْهِ حَادِث. قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنِّي بُلِيتُ بِأَرْبَعٍ مَا سُلِّطُوا ... إِلا لأَجْلِ شَقَاوَتِي وَعَنَائِي إِبْلَيْسَ وَالدُّنْيَا وَنَفْسِي وَالْهَوَى ... كَيْفَ الْخَلاصُ وَكُلَهُمْ أَعْدَائِي وَمِنْ وَرَائِهِ الْمُغِير وَمَسْأَلة مُنْكَرٍ وَنَكِير وَيَتَوَسَّدُّ التُّرَابَ إِلَى يَوْمِ النُّشُور {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} يَوْمٌ لا يُبْلَغُ وَصْفُ أَهْوَالِهِ وَلا شَرْحُ أَحْوَالِهِ مَا لا يَسَعُ الْمُؤمنَ بِهِ أَنْ يَسْتَقِرَّ لَهُ قَرَارٌ وَلا يَخْلُدُ إلى هَذِهِ الدَّار وَلا يَكُونُ لَهُ هَمٌ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا إِلا التَّقَرُّبُ بِأَنْوَاعِ الْقُرَبِ وَاجْتِنَابِ الْفَوَاحِش وَالرَّيْبَ وَإِقَامَةِ الدِّين الَّذِي فِي إِقَامَتِهِ النَّجَاةُ وَفِي تَضْيِيعِهِ الْعَطَب العَظِيم. شِعْرًا: ... يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَوْ عَلِمْتَ بِهَوْلِهِ ... لَفَرَرْتَ مِنْ أَهْلٍ وَمِنْ أَوْطَانِ

يَوْمَ تَشَقَّقَتِ السَّمَاءُ لِهَوْلِهِ ... وَتَشِيبُ مِنْهُ مَفَارِقُ الْوِلْدَانِ يَوْمٌ عَبُوسٌ قَمْطَرِيرٌ شَرُّهُ ... فِي الْخَلْقِ مُنْتَشِرٌ عَظِيمُ الشَّأْنِ يَوْمُ يَجِيءُ الْمُتَّقُونَ لِرَبِّهِمْ ... وَفْدًا عَلَى نُجُبٍ مِنْ الْعِقَبَاتِ وَيَجِيءُ فِيهِ الْمُجْرِمُونَ إِلَى لَظَى ... يَتَلَمَّظُونَ تَلَمَّظَ الْعَطْشَانِ وَالْجَنَّةُ الْعُلْيَا وَنَارُ جَهَنَّم ... دَارَانِ لِلْخَصْمَيْنَ دَائِمَتَانِ (فَوَائِد) تَعَرَّفْ إِلَى الله بِمَا تَعَرَّف به إِلَيْكَ بِمَا هُوَ أَهْلُه وَتَعَرَّفْ ما فَرَضَ عَلَيْكَ مَعْرِفَتَهُ مِنْ أَحْكَامِ شَرْعِهِ. ثَانِيًا: طَاعَتِهِ فِي فِعْلِ الواجبات وترك المحرمَاتَ. ثَالِثًا: أَنْ تَشْتَاقَ إِلَى مَا شَوَّقَ إِلَيْهِ وَتَخَافَ مَا خَوَّفَ مِنْهُ لأَن العَالِم بأسماء اللهِ وصِفَاتِه وَأَحْكَامِهِ من أعْلم العَالِمين. وَالْعَامِلُ بِطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَهُ وَنَهَاهُ مِن أَعْمَلِ الْعَامِلِين. إِن لم تقدر على الْجَدِّ فِي الْعَمَل فَقِفْ على باب الطَّلب وَتَعَرَّضْ لِنَفْحَةٍ مِنْ نَفَحَاتِ الربِّ فَفِي لَحْظَةٍ أَفْلَحَ السَّحَرة. إِذَا رُزِقْتَ يَقَظَةً فَصُنْهَا فِي بَيْتِ عُزْلَةٍ فَإِنَّ أَيْدِي الْمُعَاشَرَةِ نَهَّابَةٌ وَاحْذَرْ مُعَاشَرَةِ الْبطَّالِينَ فَإِنَّ الطَّبْعَ لِصٌّ وَلا تُصَادِقَنَّ فَاسِقًا وَلا تَثِق إِلَيْهِ فَإِنَّ مَنْ خَانَ أَوَّلَ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ لا يَفِي لَكَ أَبَدًا. تَزَيَّنَتْ الْجَنَّةُ لِلْخُطَّابِ فجدوا واجْتَهِدُوا فِي تحصيل المهور. تَعَرَّفَ رَبُّ الْعِزَّةِ لِلْمُحِبِّينَ فَعَمَلُوا لِلِقَاءِ وَأَنْتَ مَشْغُولٌ بِالْجِيَف. ما يُسَاوِي ربع دينار خجل الفضيحة فَكَيْفَ بِأَلِمَ الْقَطْعِ. لَيْسَ لِلْعَابِدِين مُسْتَرَاحِ إِلا تَحْتَ شَجَرَةَ طُوبَى.

وَلا لِلْمُحِبِّينَ قَرَارٌ إِلا يَوْمَ الْمَزِيد فَمَثِّلْ لِقَلْبِكَ الاسْتِرَاحَة تَحْتَ شَجَرة طُوبَى يَهُنْ عَلَيْكَ النصب والتعب. وَاسْتَحْضِر يَومَ الْمَزِيد يَهُنْ عَلَيْكَ مَا تَتَحَمَّلُ مِنْ أَجْلِهِ. مَتَى رَأَيْتَ الْعَقْلَ يُؤَثِّرُ الْفَانِي عَلَى الْبَاقِي فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ مُسِخَ. وَمَتَى رَأَيْتَ الْقَلْب قَدْ ترحل عَنْهُ حب الله والاستعداد لِلقائه وحل فيه حب المخلوق والرِّضَا بالحياة الدُّنْيَا وَالطُّمَأْنِينَةِ بِهَا فاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ خُسِفَ بِهِ. وَمَتَى أَقْحَطَتِ الْعَيْنُ مِن الْبُكَاء مِنْ خَشْيَةِ اللهِ تَعَالَى فَاعْلَمْ أَنَّ قُحْطَهَا مِن قَسْوَةِ الْقَلْب. وَمَتَى رَأَيْتُ نَفْسَكَ تَهْرَبُ مِن الأُنْسِ بِاللهِ إِلَى الأُنْسِ بِالْمَخْلُوق وَمِنْ الْخُلْوَة مَعَ اللهِ إِلَى الْخُلْوَة مَعَ الْمَخْلُوقِ فَاعْلَمْ أَنَّها لا تصلح لله. مَن رَكِبَ ظهر التفريط والتواني والكسل نَزَلَ بدارِ الْعُسْرَةِ والندامة. مَنْ أَدْلَجَ فِي غياهب الليل على نجائب الصبر صَبَّحَ منزل السرور. وَمَنْ نَامَ عَلَى فِرَاشِ الْكَسَلِ أَصْبَحَ مُلْقًا بِوَادِي الأَسَف. (فائدة نفيسة) : يَنْبَغِي لِطَالِبِ الْعِلْمِ أن يتأملها ويأخذ لمستقبله فِكرة، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاء: لَمْ أَزَلْ بُرْهَةً مِنْ عُمْرِي انْظُرُ اخْتِلافَ الأُمَّةِ وَالتمَسُ المنهاجَ الْوَاضحَ وَالسَّبِيل الْقَاصِدَ وَأطلبُ مِن الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَاسْتَدِلُ عَلَى طَرِيقِ الآخِرَة بِإِرْشَادِ الْعُلَمَاء. وَعَقَلْتُ كَثِيرًا مِن كَلام اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِتَأَوِيلِ الْفُقَهَاءِ وَتَدَبَّرْتُ أَحْوَالَ الأُمَّةِ وَنَظَرْتُ فِي مَذَاهِبِهَا وَأَقَاوِيلِهَا فَعَقَلْتُ مِنْ ذَلِكَ مَا قُدِّرَ لِي. وَرَأَيْت اخْتِلافَهُم بَحْرًا عَمِيقًا غَرِقَ فِيهِ نَاسٌ كَثِير وَسَلِمَ مِنْهُ عِصَابَةُ قَلِيلَة، وَرَأَيْتُ كُلَّ صَنْفٍ مِنْهُمْ يَزْعُمُ أَنَّ النَّجَاةَ لِمَنْ تَبِعَهُم وَأَن الْمَهَالِكَ لِمَنْ خَالَفَهَمْ. ثُمَّ رَأَيْتُ النَّاسَ أَصْنَافًا فَمِنْهُمْ الْعَالِمُ بِأَمْرِ الآخِرَة لِقَاؤُهُ عَسِير وَوُجُودُهُ عَزِيز. وَهُوَ يُعِدُّ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا لِثَوَاب الآخِرَة وَالْقُرْبِ مِنْ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.

وَمِنْهُمْ الْجَاهِلُ فَالْبُعْد مِنْهُ غَنِيمَة. وَمِنْهُمْ الْمُتَشبَهُ بالْعُلَمَاءِ مَشْغُوفٌ بِدُنْيَاهُ مُؤَثِّرٌ لَهَا. وَمِنْهُمْ حَامِلُ عِلْمٍ مَنْسُوبٌ إِلَى الدِّين مُلْتَمِسٌ بِعِلْمِهِ التَّعْظِيمَ وَالْعُلُوَّ، يَنَالُ بِالدِّينِ مِنْ عَرَض الدُّنْيَا. وَمِنْهُمْ حَامِلُ عِلْمٍ لا يَعْلَمُ تَأْوِيلَ مَا حَمَلَ. وَمِنْهُمْ الْمُتَشَبِّهُ بِالنُّسَّاكَ مُتَحَرٍّ لِلْخَيْرِ لا غِنَاءَ عِنْدَهُ وَلا نَفَاذَ لِعِلْمِهِ وَلا مُعْتَمَدَ عَلَى رَأْيِهِ. وَمِنْهُمْ الْمَنْسُوبُ إِلَى الْعَقْلِ وَالدَّهَاءِ مَفْقُودُ الْوَرَعِ وَالتُّقَى. وَمِنْهُمْ شَيَاطِينُ الإِنْسَ عَنْ الآخِرَة يَصُدُّونَ وَعَلى الدُّنْيَا يَتَكَالَبُون وَإلى جَمْعِهَا يُهْرَعُونَ وَفِي الاسْتِكْثَارِ مِنْهَا يَرْغَبُونَ. فَهُمْ فِي الدُّنْيَا أَحْيَاء وَفِي الْعُرْفِ مَوْتَى. فَتَفَقَّدْتُ فِي الأَصْنَافِ نَفْسِي وَضِقْتُ بِذَلِكَ ذَرْعَا فَقَصَدْتُ إِلَى هُدَى الْمُهْتَدِين بِطَلَبِ السَّدَادِ وَالْهُدَى وَاسْتَرْشَدْتُ الْعِلْمَ وَأَعْمَلْتُ الْفِكْرَ وَأَطَلْتُ النَّظَر. فَتَبَيَّنَ لِي مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وسُنَّةِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَإِجْمَاعِ الأُمَّةِ أَنَّ إتِّبَاعَ الْهَوَى يُعْمِي عَنْ الرُّشْدِ وَيُطِيلُ عَنْ الْحَقِّ وَيُطِيلُ الْمُكْثَ فِي الْعَمَى. فَبَدَأْتُ أَوَّلاً بِإسْقَاطِ الْهَوَى عَلَى قَلْبِي وَوَقَفْتُ عِنْدَ اخْتِلافِ الأُمَّةِ مُرْتَادًا لِطَلَبِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ. حَذَرًا مِنْ الأَهْوَاءِ الْمُرْدِيَةِ وَالْفِرْقَةِ الْهَالِكَةِ مُتَحَرِّزًا مِنْ الاقْتِحَام قَبْلَ الْبَيَانِ وَالتَمِسُ سَبِيلَ النَّجَاةِ لِنَفْسِي. ثُمَّ وَجَدْتُ بِاجْتِمَاعِ الأُمَّةِ فِي كِتَابِ اللهِ الْمُنَزَّل أَنَّ سَبِيلِ النَّجَاةِ فِي التَّمَسُّكِ بِتَقْوَى اللهِ وَأَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَالْوَرَعُ فِي حَلالِهِ وَحَرَامِهِ وَجَمِيع حُدُودِهِ. وَالإِخْلاص لله تَعَالَى بِطَاعَتِهِ.

وَالتَّأَسِّي بِرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - فَطَلَبْتُ مَعْرِفَةَ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فِي الآثَارِ فَرَأَيْتُ اجْتِمَاعًا وَاخْتِلافًا وَوَجَدْتُ جَمِيعَهُمْ مُجْتَمِعِينَ عَلَى أَنَّ عِلْمَ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِاللهِ وَأَمره الْفُقَهَاءِ عِنْدَ اللهِ الْعَامِلِينَ بِرِضْوَانِهِ، الْوَرِعِينَ عَنْ مَحَارِمِهِ الْمُتَأَسِّينَ بِرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالْمُؤْثِرِينَ الآخِرَة عَلَى الدُّنْيَا أُوَلئِكَ الْمُتَمَسِّكُونَ بِأَمْرِ اللهِ وَسُنَنِ الْمُرْسَلِينَ. فَالْتَمَسْتُ مِنْ بَيْنِ الأُمَّةِ هَذَا الصَّنْفَ الْمُجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ وَالْمُوصُوفِينَ بِآثَارِهِمْ وَاقْتَبَسْتُ مِنْ عِلْمِهِمْ فَرَأَيْتُهُمْ أَقَلَّ مِنْ الْقَلِيلِ، وَرَأَيْتُ عِلْمُهُمْ مُنْدَرِسًا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - «بَدَا الإِسْلامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَا» . فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ وُهْم الْمُتَفَرِّدُونَ بِدِينِهِمْ. فَعَظُمَتْ مُصِيبَتِي لِفَقْد الأَوْلِيَاءِ الأَتْقِيَاءِ الأَبْرَار وَخَشِيتُ بَغْتَةَ الْمَوْتِ أَنْ يَفْجَأَنِي عَلَى اضْطِرَابٍ مِنْ عُمْرِي لاخْتِلافِ الأُمَّةِ، فَانْكَمَشْتُ فِي طَالِبِ عِلْمٍ لَمْ أَجِدْ لِي مِنْ مَعْرِفَتِهِ أَبَدًا وَلَمْ أُقَصِّرْ فِي الاحْتِيَاطِ. فَقُيِّضَ لِي الرَّءُوفُ بِعِبَادِهِ قَوْمًا وَجَدْتُ فِيهِمْ دَلائِلَ التَّقْوَى وَأَعْلامَ الْوَرَعَ وَإِيثَارَ الآخِرَة عَلَى الدُّنْيَا. وَوَجَدْتُ إِرْشَادِهُمْ وَوَصَايَاهُمْ مُوَافِقَةً لأَفَاعِيل أَئِمَّةِ الْهُدَى. وَوَجَدْتُهُمْ مُجْتَمِعِينَ عَلَى نُصْحِ الأُمَّةِ لا يُرَجُّونَ أَبدًا فِي مَعْصِيَتِهِ وَلا يُقَنِّطُونَ أَبَدًا مِنْ رَحْمَتِهِ. يَرْضُونَ أَبَدًا بِالصَّبْرِ عَلَى الْبَأْسَاءِ وَالضَّرْاءِ وَالرِّضَا وَالشُّكْرِ عَلَى النعماء يُحَبِبُونَ اللهَ إِلَى الْعَبْدِ بِذِكْرِهِمْ أيادِيه وَإِحْسَانِهِ وَيَحُثُّونَ الْعِبَادَ عَلَى الإِنَابَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى عُلَمَاءُ بِعَظَمَتِهِ تَعَالَى عُلَمَاءُ بِعَظِيمِ قدرَتِهِ وَعُلَمَاءُ بِكِتَابِهِ وَسُنَّتِهِ فُقَهَاءُ فِي دِينِهِ عُلَمَاءُ بِمَا يُحِبُّ وَيَكْرَهُ وَرِعِينَ عَنْ الْبِدع وَالأَهْوَاءِ تَارِكِينَ لِلتَّعَمُّقِ وَالإِغلاءِ مُبْغِضِينَ لِلْجِدَالِ وَالْمِرَاءِ مُتَوَرِّعِينَ عَنْ الاغْتِيَابِ وَالظُّلْمِ مُخَالِفِينَ لأَهْوَائِهِمْ مُحَاسِبِينَ لأَنْفُسِهِمْ مَالِكِينَ لِجَوَارِحِهِمْ وَرِعِينَ فِي مَطَاعِمِهِمْ

فصل في الإخلاص

وَمَلابِسِهم وَجَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ مُجَانِبِينَ لِلشُّبُهَاتِ تَارِكِينَ لِلشَّهَوَاتِ مُجْتَزِئِينَ بِالْبُلْغَةِ مِنْ الأَقْوَاتِ مُتَقَلِّلِينَ مِنْ الْمُبَاحِ مُشْفِقِينَ مِنْ الْحِسَابِ وَجِلِينَ مِنْ الْمَعَادِ عُلَمَاءُ بِأَمْرِ الآخِرَة وَأَقَاوِيلَ الْقِيَامَةِ رَاجِينَ مِنْ الْكَرِيمِ الْمَنَّانِ جَزِيلَ الثَّوَابِ وَخَائِفِينَ مِنْ أَلِيمِ الْعِقَابِ وَذَلِكَ أَوْرَثَهُمْ الْخَوْفَ الدَّائِمِ وَالْهَمَّ الْمُقِِيمِ فَشُغِلُوا عَنْ سُرُورِ الدُّنْيَا وَنَعِيمَهَا فَتَبَيَّنَ لِي فَضْلُهُمْ وَاتَّضَحَ لِي نُصْحُهُمْ وَأَيْقَنْتُ أَنَّهُمْ الْعَامِلُونَ بِطَرِيقِ الآخِرَة وَالمتأسُونَ بِالْمُرْسَلِينَ وَالْمَصَابِيحِ لِمَنْ اسْتَضَاءَ بِهِمْ وَالْهَادُونِ لِمَنْ اسْتَرْشَدَ. أ. هـ. قُلْتُ: فَبِمِثْلِ هَؤُلاءِ إِنْ وجدُوا فَلْيَقْتَدِ الْمُقْتَدُونَ. وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. (فَصْلٌ) : قَالَ ابْنُ الْقَيِّم رَحِمَهُ اللهُ: لا يَكُونُ الْعَبْد مُتَحَقِّقًا {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} إِلا بِأَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ أَحَدُهُمَا: الإِخْلاص لِلْمَعْبُودِ. وَالثَّانِي: الْمُتَابَعَةِ لِلرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم -. وَالنَّاس مُنْقَسِمُونَ بِحَسَبِ هَذَيْنِ الأَصْلَيْنِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهُمْ أَهْل الإِخْلاصِ لِلْمَعْبُودِ وَالْمُتَابَعَةِ لِلرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُمْ إِيَّاكَ نَعْبُدُ حَقِيقَةً. فَأَعْمَالُهُمْ كُلّهَا لله، وَأَقْوَالهُم للهِ، وَحُبُّهم للهِ، وَبُغْضُهُمْ للهِ. فَمُعَامَلَتُهُمْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لِوَجْهِ اللهِ وَحْدَهُ لا يريدون بذَلِكَ من النَّاس جَزَاءً وَلا شُكُورَا. وَلا ابْتِغَاءَ الْجَاهِ عِنْدَهُمْ وَلا طَلَبَ الْمَحْمَدَةِ وَالْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِهِمْ وَلا هَرَبًا مِنْ ذَمِّهِمْ، بَلْ قَدْ عَدُوا أنفسهم من أصحابِ القبُور لا يملكون لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا ولا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورَا. فَالْعَمَل لأجل النَّاسِ وابتغاء الجاه والمنزلة عندهم ورجائهم للضر والنفع مِنْهُمْ لا يكون من عارف بِهُمْ البتة، بل من جاهل بشأنهم وجاهل بربه فمن عرف النَّاس أنزلهم منازلهم، ومن عرف الله أخلص لَهُ أعماله وأقواله وعطاءه

منعه وحبه ويغصه، ولا يعامل أحد الخلق دون الله إلا لجهله بِاللهِ وجهله بالخلق، وإلا فإذا عرف الله وعرف النَّاس آثر معاملة الله على معاملتهم. القسم الثاني: من لا إخلاص لَهُ ولا متابعة فلَيْسَ عمله موافقا للشرع، ولَيْسَ هُوَ خالص للمعبود كأعمال المتزينين للناس المرائين لَهُمْ بما لم يشرعه الله ورسوله، وهؤلاء شرار الخلق وأمقتهم إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ، ولهم أوفر نصيب من قوله تَعَالَى: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، يفرحون بما أتوا من البدعة، والضلالة، والشرك، ويحبون أن يحمدوا بإتباع السُنَّة والإِخْلاص. وَهَذَا القسم يكثر فيمن انحرف من المنتسبين إِلَى العلم والفقر والعبادة عَنْ الصراط المستقيم، فَإِنَّهُمْ يرتكبون البدع والضلالات والرياء والسمعة ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوه من الإتباع والإِخْلاص والعلم فهم أَهْل الْغَضَب والضلال. القسم الثالث من هُوَ مخلص فِي أعماله لكنها على غير متابعة الأَمْر كجهال العباد والمنتسبين إِلَى طَرِيق الفقر والزهد، وكل من عَبْد اللهِ بغير أمره واعتقَدْ عبادته هَذِهِ قربة إِلَى الله فهَذَا حاله، كمن يظن أن سماع المكاء والتصدية قربة وأن الْخُلْوَة التي يترك فيها الْجُمُعَة والجماعة قربة، وأن مواصلة صوم النَّهَارَ بالليل قربة وأن صيام يوم يفطر النَّاس كلهم قربة وأمثال ذَلِكَ. القسم الرابع من أعماله على متابعة الأَمْر لكنها لغير الله كطاعة المرائين وكالرجل يقاتل رياء وحمية وشجاعة ويحج ليقَالَ، ويقرأ القرآن ليقَالَ، فهؤلاء أَعْمَالُهُمْ ظاهرها أعمال صَالِحَة مأمور بها لكنها غير صَالِحَة فلا تقبل، قَالَ الله جَلَّ وَعَلا: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فكل أحد لم يؤمر إلا بعبادة الله بما أمر.. انتهى كلامه رَحِمَهُ اللهُ.

اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك فِي قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك ويسرنا لليسرى وجنبنا العسرى وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ صلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) : قَالَ بَعْضُهُمْ: أعز الأَشْيَاءِ فِي الدُّنْيَا الإِخْلاص. قِيْل: لما صار أعز. قَالَ: لأنه لَيْسَ للنفس فيه نصيب. وقَالَ آخر: أعز شَيْء فِي الدُّنْيَا الإِخْلاص وَكَمْ اجتهد فِي إسقاط الرياء عَنْ قلبي فكأنه ينبت فيه على لون آخر. فالإِخْلاص فِي غاية الصعوبة فلِذَلِكَ نجد كثيرًا من النَّاس يشرح أعماله للناس يذكر صدقاته وصيامه وصيام التطوع وَكَمْ حج من سُنَّة وَكَمْ عمرة اعتمر وَهُوَ ما سئل وأنه يحيي الليل بالصَّلاة والتلاوة. ويذكر الَّذِينَ يساعدهم بجاهه وماله يريد بذَلِكَ المنزلة فِي قُلُوب العباد وأنه من المحسنين وَهَذَا غلط وضرر عَلَيْكَ فما دمت تعمل لله فما الداعي إِلَى ذكره لمن لا يملكون لا نفسهم ضرًا ولا نفعًا ولا يملكون موتًا ولا حياةً ولا نشورَا، فالرياء تعب ونصب ولغوب وخسران وذل فِي الدُّنْيَا وخزي وفضيحة وعذاب وندامة فِي الآخِرَة. فالعاقل يعمل الْعَمَل خالصًا لله لا لأجل الخلق ولا لأجل النفس وإلا دخل عَلَيْهِ مطالبه العوض أَوْ تشوق إِلَى حظ من حظوظ الدُّنْيَا. والمهم أن يحرص على إخفاء أعماله لأن الجزاء عَنْدَ من يعلم السِّرّ وأخفى لا إله إلا هُوَ، إلا إن ترجحت مصلحة الإظهار على الإخفاء كَانَ يقتدي به فِي الصدقة أَوْ الزَّكَاة لإِزَالَة التهمة عَنْهُ بعدم إخراجها. قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ} . عن أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «من فارق الدُّنْيَا على

الإِخْلاص لله وحده لا شريك لَهُ وأقام الصَّلاة وآتى الزَّكَاة فارقها والله عَنْهُ راض» . رَوَاهُ ابن ماجه والحاكم وقَالَ: صحيح على شرط الْبُخَارِيّ ومسلم. وعن معاذ بن جبل رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه قَالَ حين بعث إِلَى اليمن: يَا رَسُولَ اللهِ أوصني قَالَ: «أخلص دينك يكفيك الْعَمَل القليل» . رَوَاهُ الحاكم وقَالَ: صحيح الإسناد. وعن ثوبان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «طُوبَى للمخلصين أولئك مصابيح الهدى تنجلي عنهم كُلّ فتنة ظلماء» . شِعْرًا: ... لِكُلِّ شَيْءٍ زِينَةٌ فِي الْوَرَى ... وَزِينَةُ الْمَرْءُ تُقَىً مَعَ أَدَبْ قَدْ يَشْرفُ الْمَرْءُ بِإِخْلاصِهِ ... صِدْقًا وَإِنْ كَانَ وَضِيعَ النَّسَبْ آخر: ... وَذَكِّرْ بِالتُّقَى نَفَرًا غَفُولاً ... فَلَوْلا السَّقْيُ مَا نَمَتِ الزُّرُوعُ لَعَمْرُكَ إِنَّ الْمَجْدَ وَالْفَخْرَ وَالْعُلا ... وَنِيلَ الأَمَانِي وَاكْتِسَاب الْفَضَائِلِ لِمَنْ يُخْلِصُ الأَعْمَالِ للهِ وَحْدَهُ ... وَيُكْثِرُ مِنْ ذِكْرٍ لَهُ فِي الْمَنَازِلِ وَفِي الْمَسَاجِدِ وَالأَسْوَاقِ يَذْكُرُهُ ... وَيُشْغِلُهُمْ فِي ذِكْرِهِ فِي الْمَحَافِلِ وعن زيد بن ثابت رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «نضر الله امرئً سمَعَ منا حديثًا فبلغه غيره فرب حامل فقه إِلَى من هُوَ افقه منه ورب حامل فقه لَيْسَ بفقيه، ثلاث لا يغل عَلَيْهمْ قلب مُسْلِم إخلاص الْعَمَل لله ومناصحة ولاة الأَمْر ولزوم الجماعة فَإِنَّ دعوتهم تحيط من ورائهم، ومن كَانَتْ الدُّنْيَا نيته فرق الله عَلَيْهِ أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأتيه من الدُّنْيَا إلا ما كتب لَهُ، ومن كَانَتْ الآخِرَة نيته جمَعَ الله أمره وجعل غناه فِي قَلْبهُ وأتته الدُّنْيَا وهي راغمة» . رَوَاهُ ابن حبان وَرَوَاهُ أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. وعن الضحاك بن قيس قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تبارك وتَعَالَى يَقُولُ: أَنَا خَيْر شريك فمن أشرك معي شريكًا فهو لشريكي، يَا أيها النَّاس

أخلصوا أعمالكم فَإِنَّ الله تبارك وتعالى لا يقبل من الْعَمَل إلا ما خلص لَهُ» . أَخْرَجَهُ الْبَزَّار بإسناد لا باس به. وورد عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - أنه قَالَ: «إن الله عَزَّ وَجَلَّ لا يقبل من الْعَمَل إلا ما كَانَ خالصًا وابتغى به وجهه» . رَوَاهُ أبو داود والنسائي. وعن أبي الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الدُّنْيَا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما ابتغى به وجهه» . أَخْرَجَهُ الطبراني بإسناد لا بأس به. سئل الفضيل بن عياض ما أخلص الْعَمَل وما أصوبه، قَالَ: إن الْعَمَل إِذَا كَانَ خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل وَإِذَا كَانَ صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل حَتَّى يكون خالصًا صوابًا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السُنَّة. شِعْرًا: ... هَمُّ الأَلِبَّاءِ إِخْلاصٌ لِخَالِقِهِمْ ... فِيمَا أَمَرْهُمْ بِهِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَهَمُّ غَيْرِهِمْ فِي الصُّحْفِ يَقْرَؤُهَا ... أَوْ حَوْلَ مِذْيَاعِهِ يَا خِيبَة الأَمَلِ أَعْظِمْ بِهَا مِنْ نَدَامَاتٍ إِذَا اكْشفَتْ ... يَوْمَ الْجَزَاءِ لأَهْلِ اللَّهْوِ وَالزِّلَلِ آخر: ... لِعَمْرِيَ إِنَّ الْمَجْدَ وَالْفَخْرَ وَالْعُلا ... وَنِيلَ الأَمَانِي وَارْتِفَاعِ الْمَنَازِلِ لِمَنْ يُخْلِصُ الأَعْمَالَ للهِ وَحْدَهُ ... وَيُكْثِرُ مِنْ ذِكْرٍ لَهُ فِي الْمَحَافِلِ آخر: ... مَوَاهِبُ ذِي الْجَلالِ عَلَيْكَ تتَرَى ... بِإِحْسَانٍ وَأَنْتَ بِهَا كَنُودُ يَزِيدُكَ مِنْهُ فَضْلاً كُلَّ يَوْمٍ ... وَأَنْتَ بِضِدِّهِ أَبَدًا تَزِيدُ تَغُرُّكَ أُمُّ دَفْرٍ بِالأَمَانِي ... عَنْ الْعُقْبَى لِتَغْفُلَ يَا بَعِيدُ أَلا فَانْهَضْ إِلَى الْوَهَّابِ وَاشْكُرْ ... لَهُ نِعَما غِزَارًا لا تَبِيدُ اللَّهُمَّ ألحقنا بعبادك الصالحين الأَبْرَار، وآتنا فِي الدُّنْيَا حسُنَّة وَفِي الآخِرَة حسُنَّة وقنا عذاب النار، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

التحذير من كيد الشيطان

(فَصْلٌ) : قَالَ ابن الجوز: تباعد عَنْ أَهْل السُّوء وباعد أولادك عنهم لا يعادونك بأفعالهم وأقوالهم وطباعهم ولا يزال يقسو قلبك حَتَّى يستأنس بِهُمْ فهناك الهلاك، والسُّوء يتفاوت فمن أهله أَهْل الفواحش وَمِنْهُمْ أَهْل اللهو وَمِنْهُمْ أَهْل الغيبة والنميمة وَمِنْهُمْ أَهْل الملاهي وآلات الطرب. فَإِنَّهُمْ يسبون أَهْل العقول عقولهم حَتَّى ينحلوا عَنْ دينهم ومروءتهم فيعسر عَلَيْهمْ الخلاص لما يجدونه من لذة النعمَاتَ والأصوات، حَتَّى يكون عادة وطبع فربما يجلس الرجل إليهم وَهُوَ كاره لسماع لغواهم مستوحش من نَفْسهُ ثُمَّ لا يزال على ذَلِكَ حَتَّى يراه حسنا. من كيد الشيطان أن يورد ابن آدم المورد التي يخيل إليه أن فيها منفعته ثُمَّ يصدره المصادر التي فيها عطبه ويتخلى عَنْهُ ويسلمه للهلاك ويقف يتشمت به ويضحك منه، فيأمره بالسرقة والقتل واللواط والزنا ويدل عَلَيْهِ ويفضحه، قَالَ الله تَعَالَى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ} . وقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} . ثُمَّ اعْلَمْ أن إبلَيْسَ لعنه الله طلاع رصاد وما هُوَ بشَيْء من فخوخه بأوثق لصيده من النساء خُصُوصًا المسناة العجائز الماهرات بالحيل والمكر والخديعة، قَالَ بَعْضُهُمْ: عَجُوزُ النَّحْسِ إِبلَيْسٌ يَرَاهَا ... تُعَلِّمُهُ الْخَدِيعَةَ فِي السُّكُوتِ تَقُودُ مِن السِّيَاسَةِ أَلْفَ بَغْلٍ ... إِذَا انْفَرَدَتْ بِخَيْطِ الْعَنْكَبُوتِ وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على نبينا مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.

(فَصْلٌ) : ذكر ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ الأسباب التي يعتصم بها من الشيطان الأول الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، قَالَ تَعَالَى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} والمراد بالسمع هنا سمع الإجابة لا السمع العام. الثاني قراءة المعوذتين فَإِنَّ لهما تأثيرًا عجيبًا فِي الاستعاذة بِاللهِ من شر الشيطان ودفعه، ولهَذَا قَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «ما تعوذ المتعوذون بمثلهما» . وكَانَ - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ بهما كُلّ ليلة عَنْدَ النوم، وأمر عقبة بن عامر أن يتعوذ بهما دبر كُلّ صلاة وذكر - صلى الله عليه وسلم - أن من قرأهما مَعَ صورة الإِخْلاص ثلاثًا حين يمسي وثلاثًا حين يصبح كفتاه من كُلّ شر. الثالث قراءة آية الكرسي. الرابع قراءة سورة البقرة ففي الصحيح عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قَالَ: «إن البيت الَّذِي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان» . الخامس خاتمة سورة البقرة فقَدْ ثَبَتَ فِي الصحيح عَنْهُ - صلى الله عليه وسلم - أنه قَالَ: «من قرأ الآيتين من آخر البقرة فِي ليلةٍ كفتاه» . السادس أول سورة حم المُؤْمِن إِلَى قوله: {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} ففي الترمذي عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «من قرأ حم المُؤْمِن إِلَى قوله {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} ، وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حَتَّى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حَتَّى يصبح» . السابع لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ له الملك وله الحمد وَهُوَ على كُلّ شَيْء قدير فِي يوم مائة مرة. ففي الصحيحين أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «من قَالَ لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ، لَهُ الملك وله الحمد وَهُوَ على كُلّ شَيْء قدير فِي يوم مائة مرة،

فوائد ونصائح ومواعظ وآداب ووصايا

كَانَتْ عدل عشر رقاب وكتب لَهُ مائة حسُنَّة ومحيت عَنْهُ مائة سَيِّئَة وكَانَ حرزًا لَهُ من الشيطان يومه ذَلِكَ حَتَّى يمسي ولم يأت أحدٌ بأفضل منه إلا رجل عمل أكثر من ذَلِكَ» . الثامن وَهُوَ أنفع الحروز من الشيطان كثرة ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ وَهَذَا بعينه هُوَ الَّذِي دلت عَلَيْهِ سورة النَّاس، فانه وصف الشيطان فيها الشيطان بأنه الخناس الَّذِي إِذَا ذكر الْعَبْد ربه انخنس فإذا غفل عَنْ ذكر الله التقم الْقَلْب وألقى إليه الوساوس، فما أحرز الْعَبْد نَفْسهُ من الشيطان بمثل ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ. الحرز التاسع الوضوء والصَّلاة وَهَذَا من أعظم ما يحترز الْعَبْد به ولاسيما عَنْدَ الْغَضَب والشهوة فَإِنَّهَا نار تصلى فِي قلب ابن آدم، كما روى الترمذي عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قَالَ: «ألا وإن الْغَضَب جمرة فِي قلب ابن آدم فما أطفأ الْعَبْد جمرة الْغَضَب والشهوة بمثل الوضوء والصَّلاة» . فَإِنَّ الصَّلاة إِذَا وقعت بخشوعها والإقبال علي الله فيها أذهبت أثر ذَلِكَ جملة وَهَذَا أمر تجربته تغني عَنْ إقامة الدَلِيل عَلَيْهِ. الحرز العاشر إمساك فضول الكلام فَإِنَّهَا تفتح أبوابًا من الشَّر كُلّهَا مداخل للشيطان فإمساك فضول الكلام يسد عَنْكَ تلك الأبواب. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم. (فَوَائِد ونصائح ومواعظ وحكم وآداب ووصايا) من أَخْلاق المُؤْمِن حسن الْحَدِيث، وحسن الاستماع إِذَا حدث، وحسن البشر إِذَا لقي، ووفاء الوعد إِذَا عد ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. سوء الخلق سبب النكد فِي الحياة والشرور والآثام، فعلى العاقل اللبيب أن يعرف الأَخْلاق السيئة ليتنبها، وهي كثيرة ولا يخلوا احد مَنْهَا فتفقَدْ نفسك وأزل ما فيها.

فمن ذَلِكَ المكر، والخديعة، والخيانة، والغش، والكذب، والغيبة، والنميمة، والسعاية، والظلم، والرياء، والعقوق، والقطيعة، والكبر، والعجب، والزهو، والأنفة من المسكنة. والنفاق، والخيانة، والغدر، والحسد، والغل، والحقَدْ، والشماتة، والبغضاء، وسوء الظن، والتجسس على الْمُسْلِمِين. وإضمار السُّوء، والتربص بالدوائر، ومساعدة الهوى، ومخالفة الحق، والرضى بالهوى، والحب والبغض بالهوى، والجفاء. والقَسْوَة، وقلة الرحمة، والحرص، والشره، والطمَعَ، والطيرة، والطغيان بالْمَال، والفرح بإقبال الدُّنْيَا، واستقلال الرزق، واحتقار النعم، والاحتقار بمصائب الدين، واستعظام الدُّنْيَا، والحزن على ما فات مَنْهَا. والاستهانة بعلم الله عَزَّ وَجَلَّ عَنْدَ فعلك للذنب والاستهانة بسماعه ما يصدر منك من المعاصي قولاً وفعلاً، وقلة الحياة من إطلاع الله عَلَيْكَ ومن إطلاع من عَنْ اليمين وعن الشمال قعيد، وأَنْتَ لو اطلع عَلَيْكَ مخلوق ضعيف وأَنْتَ تعمل معصية الله لانزعجت. فتنبه لِذَلِكَ وراقب الله جَلَّ وَعَلا وتقدس وكن منه على حذر. شِعْرًا: ... وَهُوَ الْحَلِيمُ فَلا يُعَاجِلُ عَبْدَهُ ... بِعَقُوبَةٍ لِيَتُوبَ مِنْ عِصْيَانِ لَكِنَّهُ يُلْقِي عَلَيْهِ سِتْرَهُ ... فَهُوَ السَّتِيرُ وَصَاحِبُ الْغُفْرَانِ وَهُوَ الْعَفُّوُ فَعَفْوُهُ وَسِعَ الْوَرَى ... لَوْلاهُ غَارَ الأَرْضُ بِالسُّكانِ وَهُوَ الصَّبُورُ عَلَى أَذَى أَعْدَائِهِ ... شَتَمُوهُ بَلْ نَسَبُوهُ لِلْبُهْتَانِ قَالُوا لَهُ وَلَدٌ وَلَيْسَ يُعِيدُنَا ... شَتْمًا وَتَكْذِيبًا مِن الإِنْسَانِ هَذَا وَذَاكَ بِسَمْعِهِ وَبِعِلْمِهِ ... لَوْ شَاءَ عَاجَلهُمْ بِكُلِّ هَوَانِ لَكِنْ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ وَهُمْ ... يُؤْذُونَهُ بِالشِّرْكِ وَالْكُفْرَانِ

ج (فَصْلٌ) : قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: إخواني إِذَا تقرب النَّاس إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ بأنواع البر الظاهرة مثل الجهاد والحج والصوم والزَّكَاة والصدقة وتلاوة القران وغير ذَلِكَ، فنافسوهم فيها واجعلوا أعظم الرغبة فِي طاعة الْقُلُوب التي لا يطلع عَلَيْهَا الإنس ولا الملائكة ولا الجن، ولا يعلمها إلا علام الغيوب، فَإِنَّ القليل من أعمال البر كثير لسلامته من الرياء وَجَمِيع المكدرات. ألا فتقربوا إِلَى الله بطاعة الْقُلُوب فَإِنَّ فيها المعرفة بعظمة الله وكبريائه وجلاله وقدرته وعَظِيم قدرته سُبْحَانَهُ وتقربوا إليه بمحابه، وبغض مكارهه، والرِّضَا والْغَضَب لَهُ وفيه، وتقربوا إليه بشدة الحب لَهُ، والحب فيه والغض من أجله، وتقربوا إِلَى الله بالمعرفة بأياديه الحسُنَّة ونعمه الظاهرة والباطنة، وأفعاله الجميلة، ومننه المتواترة على تواتر الإساءة منا، وَهُوَ جَلَّ وَعَلا وتقدس يعود بأنواع النعم عَلَيْنَا. ألا فتقربوا إليه بالخوف من زَوَال النعم وشدة الحياء من التقصير فِي الشكر، وتقربوا بالوجل من مكر الله تَعَالَى والإشفاق على إيمانكم، وتقربوا إِلَى الله بشدة الخوف منه، وحَقِيقَة الرجَاءَ فيه، والسرور بذكره، ومناجاته، والشوق إليه، والرغبة فِي جواره، وتقربوا إِلَى الله بصدق اليقين والتوكل عَلَيْهِ والثِّقَة به وَالطُّمَأْنِينَة إليه والأُنْس به والانقطاع إليه. وتقربوا إليه بالوفاء ولين الجانب والجناح والتواضع والخشوع والخضوع، وتقربوا إليه بالحلم والاحتمال وكظم الغيظ وتجرع المرارة، وتقربوا إليه بسلامة الصدر وإرادة الْخَيْر للأمة وكراهة الشَّر لَهُمْ، وتقربوا إِلَى الله بالرأفة والرحمة والشفقة والحوطة على الْمُسْلِمِين، وتقربوا إليه بالجود والكرم والتفضل والإحسان وصدق الوفاء. وتقربوا إليه بالقناعة والعفاف والكفاف والرضى وبالبُلْغَةِ واليأس من نائل

النَّاس، وتقربوا إليه بالتدبير لكتابه وتفهمه والْعَمَل به والإِخْلاص، وتقربوا إليه بمجاهدة إبلَيْسَ لعنة الله ومخالفة الهوى والنفس الأمارة بالسُّوء والتفقَدْ لأحوالكم والتقوى فِي كُلّ أموركم وتقربوا إِلَى الله بأداء الأمانات، وتقربوا إليه بالإحسان إِلَى المسيء والإيثار على أنفسكم وإن كَانَ بكم خصاصة، وارغبوا فِي مكارم الأَخْلاق. شِعْرًا: ... وَيَا سَائِلِي عَنْ حِرْفَتِي قُلْتُ حِرْفَتِي ... صِيَانَةُ أَوْقَاتِي بِطَاعَةِ خَالِقِي فقَالَ لَقَدْ أَحْسَنْتَ تَصْرِيفَ مُدَّةٍ ... لِعُمْرِكَ فَالْزِمْهَا تَفُزْ بِالسَّعَادَةِ وتقربوا إِلَى الله بالتواضع والابتعاد عَنْ الترفع على عباد الله الْمُؤْمِنِينَ، وتقربوا إِلَى الله بالفرح بمصائب الدُّنْيَا، والرِّضَا بقضاء الله وقدره وتقربوا إِلَى الله بالاستعداد للموت والبعث والنشور والحساب. شِعْرًا: ... دَعِ التَّعْلِيلَ وَالتَّسْوِيفَ وَاقْبِلْ ... عَلَى مَوْلاكَ تَغْنَمْ نَيْلَ حَظِّ أَدِمْ بِالْحَزْمِ إِقْبَلاً عَلَيْهِِ ... عَسَى تَحْظَى بِتَوْفِيقٍ وَحِفْظِ وَنَقِّ الْقَلْبَ مِنْ شُِبُهَاةِ زَيْغٍ ... تَرَاهُ مَعْنَوِيًّا ثُمَّ لَفْظِي وَرِدْ حَوْضَ الشَّرِيعَةِ مَعْ صَفَاءٍ ... وَجَانِبْ كُلَّ ذِي حَسَدٍ وَغَيْظِ وَرَقِّ النَّفْسَ بِالْعُرْفَانِ تَزْكُو ... وَتَظْفَر بِالْمُنَى مِنْ كُلِّ وَعْظِ وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم. (فَصْلٌ) من أنفع الحياء أن تستحي من الله أن تسأله ما تحب وتأتى ما يكره. قَالَ بَعْضُهُمْ: ربما أصلي لله ركعتين فانصرف وأنَا من الخجل بمنزلة من ينصرف عَنْ السرقة حياء من الله عَزَّ وَجَلَّ لأني لم أوفها حقها. قَالَ ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (الدُّنْيَا كُلّهَا غموم فما كَانَ مَنْهَا من سرور فهو ربح) . وقَالَ الجنيد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لست اسْتَبْشِعُ ما يرد علي لأني قَدْ أصلت أصلاً وَهُوَ أَنَّ الدُّنْيَا دار هم وغم وبَلاء وفتنة وإن العَالِم كله شر.

ومن حكمه أن يتلقاني بكل ما أكره فَإِنَّ تلقاني بما أحب فهو فضل وإلا فالأصل هُوَ الأول. وقَالَ بَعْضهمْ: يَا أيها النَّاس أنتم تحبون الروح والروح لله وتحبون الْمَال والْمَال للورثة وتطلبون اثنين ولا تجدونهما الرَّاحَة والفرح وهما فِي الْجَنَّة. فالواجب على الْعَبْد أن لا يوطن نَفْسهُ على الرَّاحَة فِي الدُّنْيَا ولا يركن فيها إِلَى ما يقتضي فرحًا وأنسًا وأن يعمل على قول النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فيما روى عَنْهُ أَبُو هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ «الدُّنْيَا سجن المُؤْمِن» . فتوطين الْعَبْد نَفْسهُ على المحن يهون عَلَيْهِ ما يلقاه ويجد السلوان عَنْدَ ما يهواه. شِعْرًا: ... يُمَثِّلُ ذُو اللُّبِ فِي لُبِّهِ ... شَدَائِدَهُ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلا فَإِنْ نَزَلَتْ بَغْتَةً لَمْ تَرُعْهُ ... لِمَا كَانَ فِي نَفْسِهُ مَثَلا رَأى الأَمْر يُفْضِي إِلَى آخِرِ ... فَصَيِّرَ آخِرَهُ أَوَّلا وَذُو الْجَهْلِ يَأْمَنْ أَيَّامَهُ ... وَيَنْسَى مَصَارِعَ مَنْ قَدْ خَلا فَإِنْ دَهَمَتْهُ صُرُوفُ الزَّمَانِ ... بِبُغْضِ مَصَائِبِهِ أَعْوَلا وَلَوْ قَدَّمَ الْحَزْمَ فِي نَفْسِهُ ... لَعَلَّمَهُ الصَّبْرُ عِنْدَ الْبَلا فعلى الإِنْسَان العاقل أن يتلقى ما يرد عَلَيْهِ من المصائب والهموم والغموم والانكاد بالصبر والرِّضَا والاستسلام عَنْدَ جريان الِقَضَاءِ. فعن قريب إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى ينجلي الأَمْر ويستوجب من الله جَلَّ وَعَلا جزيل الأجر والثواب والله ولي التَّوْفِيق. وقَالَ أحد الزهاد: جوع قليل، وَعُرْيٌ قليل وذل قليل، وصبر قليل وقَدْ انقضت عَنْكَ أيام الدُّنْيَا. وقَالَ آخر: الصبر جماع كُلّ فضيلة وملاك كُلّ فائدة جزيلة ومكرمة نبيلة. قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ

بِمَا صَبَرُواْ} ، وقَالَ جل وعلا وتقدس: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} وقَالَ جَلَّ وَعَلا وتقدس: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} . من أنزل حوائجه بِاللهِ تَعَالَى والتجأ إليه وتوكل فِي أمره كله عَلَيْهِ كفاه كُلّ مؤنة، وقرب عَلَيْهِ كُلّ بعيد، ويسر عَلَيْهِ كُلّ عسير، ومن سكن إِلَى علم نَفْسهُ وعقله، واعتمد على قوته وحوله وكله الله إِلَى نَفْسهُ وخذل وحرم التَّوْفِيق فلم تنجح مطالبه ولم تتيسر مآربه. شِعْرًا: ... أَقَرَّ عَلَى حُكْمِ الرَّدَى الْمُتَخَمِّطُ ... وَقَرَّ كَأَنْ لَمْ يُصْرَعِ الْمُتَخَبِّطُ عَلَيْكَ سَبِيلُ الْخَيْرِ وَانْظُرْ إِلَى الَّذِي ... تَأَبَّطَ شَرًّا هَلْ نَجَا الْمُتَأَبِّطُ وَإِيَّاكَ وَالتَّفْرِيطَ فِي الْبِرِّ وَالتُّقَى ... فَكَمْ قَرَعَ السِّنَّ الذُّهُولُ الْمُفَرِّطُ وَحَاوِلْ مِن الدُّنْيَا الدَّنِيةِ مَخْلِصًا ... وَأَنَّى وَأَنْتَ النَّاشِبُ الْمُتَوَرِّطُ لَعَمْرُ أَبِيكَ الْخَيْر مَا عَزَّ قَاسِطٌ ... وَلَوْ مَلَكَ الدُّنْيَا وَلا ذَلَّ مُقْسِطُ تَبَرَّأَ غَالٍ مِنْ مَسَاعِيهِ مُسْرِفٌ ... وَأَحْمَدَ عُقْبَى أَمْرِهِ الْمُتَوَسِّطُ سَيَنْخَفِضُ الطَّمَّاحُ إِثْمًا وَعِزَّةً ... وَيَنْقَبِضُ التَّلْعَابَةُ الْمُتَبَسِّطُ آخر: ... سَهَوْنَا عَنْ مُسَاوَرَةِ الْمَنَايَا ... فَيَا للهِ مِنْ سَهْوِ الْعِبَادِ وَغَرَّتْنَا مُسَاعَدَةُ الأَمَانِي ... فَلَمْ نَحْزَنْ عَلَى الْعُمْرِ الْمُبَادِ وَكَمْ نَادَتْ فَأَسْمَعَتِ اللَّيَالِي ... وَلَكِنْ لا مُصِيخَ إِلَى مُنَادِ مُجَاهَرَةٌ بِنُكْرٍ دُونَ عُرْفٍ ... وَتَنْدِيدٌ يُعَادُ بِكُلِّ نَادِ يَطُولُ تَعَجُّبِي مِنَّا حَلَلْنَا ... وَلَمْ نَخَفِ السُّيُولَ بِبَطْنِ وَادِ وَلَمْ أَرَ مِثْلَنَا سَفَرًا تَبَارَوْا ... إِلَى الْغَايَاتِ سَيْرًا دُونَ زَادِ اللهم وَفَّقَنَا توفيقًا يَقِينَا عَنْ معاصيك وأرشدنا إِلَى السعي فيما يرضيك وأجرنا يَا مولانَا من خزيك وعذابك وهب لَنَا ما وهبته لأوليائك وأحبابك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

لشهادة أن لا إله إلا الله تأثير عظيم عند الموت

(فَصْلٌ) : فائدة - قَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: لشهادة أن لا إله إلا الله عَنْدَ الموت تأثير عَظِيم فِي تكفير السيئات وإحباطها لأنها شهادة من عبد موقن بها عارف بمضمونها قَدْ ماتت منه الشهوات ولانت نَفْسهُ المتمردة وانقادت بعد إبائها، وأقبلت بعد أعراضها، وذلت بعد عزها وخَرَجَ مَنْهَا حرصها على الدُّنْيَا وفضولها واستخذت بين يدي ربها وفاطرها ومولاها الحق أذل ما كَانَتْ لَهُ وأرجى ما كَانَتْ لعفوه ومغفرته ورحمته، وتجرد مَنْهَا التَّوْحِيد بانقطاع أسباب الشرك وتحقق بطلانه. فزالت مَنْهَا تلك المنازعات التي كَانَتْ مشغولة بها، واجتمَعَ همها على من أيقنت بالقدوم عَلَيْهِ والمصير إليه، فوجه الْعَبْد وجهه بكليته إليه، واقبل بقَلْبهُ وروحه وهمه عَلَيْهِ، فاستسلم لله وحده ظاهرًا وباطنًا واستوى سره وعلانيته. فقَالَ: لا إله إلا الله مخلصًا من قَلْبهُ وقَدْ تخلص من التعلق بغيره والالتفات إِلَى ما سواه، قَدْ خرجت الدُّنْيَا كُلّهَا من قَلْبهُ وشارف القدوم على ربه، وخمدت نيران شهوته، وامتلأ قَلْبهُ من الآخِرَة، فصَارَت نصب عينيه، وصَارَت الدُّنْيَا وراء ظهره. فَكَانَتْ تلك الشهادة الْخَالِصَة خاتمة عمله فطهرته من ذنوبه وأدخلته على ربه لأنه لقِيَ ربه بشهادة صادقة خالصة وافق ظاهرها باطنها وسرها وعلانيتها فلو حصلت لَهُ الشهادة على هَذَا الوجه فِي أيام الصحة لا ستوحش من الدُّنْيَا وأهلها وفر إِلَى الله من النَّاس وأنس به دون من سواه لكنه شهد بها بقلب مشحون بالشهوات وحب الحياة وأنس بها ونفس مملوءة بطلب الحظوظ والالتفات إِلَى غير الله فلو تجردت كتجردها عِنْدَ الموت لكَانَ لها نبأ آخر وعيش آخر سِوَى عيشها البهيمي. وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ. شِعْرًا: ... إِذَا مَا شِئْتَ أَنْ تَحْيَا ... حَيَاةً حُلْوَةَ الْمَحْيَا فَلِلْفُرُوضِ لا تَهْمَلْ ... وَذِكْرُ اللهِ لا تَنْسَى

قصيدة زهدية تحث على الاستعداد للموت

شِعْرًا: ... أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْمَرْأَ يَحْبِسُ مَالَهُ ... وَوَارِثَهُ فِيهِ غَدًا يَتَمَتَّعُ كَأَنَّ الْحُمَاةَ الْمُشْفِقِينَ عَلَيْكَ قَدْ ... غَدَوْا بِكَ أَوْ رَاحُوا رَوَاحًا فَأَسْرَعُوا وَمَا هُوَ إِلا النَّعْشُ لَوْ قَدْ أَتَوَ بِهِ ... تُقَلَّ فَتُلَقَى فَوْقَهُ ثُمَّ تُرْفَعُ وَمَا هُوَ إِلا حَادِثٌ بَعْدَ حَادِثٍ ... عَلَيْكَ فَمِنْ أَيِّ الْحَوَادِثِ تَجْزَعُ وَمَا هُوَ إِلا الْمَوْتُ يَأَتِي لِوَقْتِهِ ... فَمَالكَ فِي تَأْخِيرِهِ عَنْكَ مَدْفَعُ أَلا وَإِذَا وُدِّعْتَ تَوْدِيعَ هَالِكٍ ... فَآخِرُ يَوْمٍ مِنْكَ يَوْمَ تُوَدَّعُ أَلا وَكَمَا شَيَّعْتَ يَوْمًا جَنَائِزًا ... فأَنْتَ كَمَا شَيَّعْتَهُمْ سَتُشَيَّعُ رَأَيْتُكَ فِي الدُّنْيَا عَلَى ثِقَةٍ بِهَا ... وَإِنَّكَ فِي الدُّنْيَا لأَنْتَ الْمُرَوَّعُ وَصَفْتَ التُّقَى وَصْفًا كَأَنَّكَ ذُو تُقَى ... وَرِيحُ الْخَطَايَا مِنْ ثِيَابِكَ تَسْطَعُ وَلَمْ تُعْنَ بِالأَمْرِ الَّذِي هُوَ وَاقِعُ ... وَكُلُّ امْرِئٍ يَعْنَى بِمَا يَتَوَقَّعُ وَإِنَّكَ لِلْمَنْقُوصِ فِي كُلِّ حَالَةٍ ... وَكُلُّ بَنِي الدُّنْيَا عَلَى النَّقْصِ يُطْبَعُ وَمَا زِلْتُ أَرْمي كُلَّ يَوْمٍ بِعِبْرَةٍ ... تَكَادُ لَهَا صُمُّ الْجِبَالِ تَصْدَعُ فَمَا بَالُ عَيْنِي لا تَجُودُ بِمَائِهَا ... وَمَا بَالُ قَلْبِي لا يَرِقُّ وَيَخْشَعُ تَبَارَكَ مَنْ لا يَمْلِكُ الْمُلْكَ غَيْرُهُ ... مَتَى تَنْقَضِي حَاجَاتُ مَنْ لَيْسَ يَقْنَعُ وَأَيُّ امْرئٍ فِي غَايَةٍ لَيْسَ نَفْسُهُ ... إِلَى غَايَةٍ أُخْرَى سِوَاهَا تَطَلَّعُ وَبَعْضُ بَنِي الدُّنْيَا لِبَعْضٍ ذَرِيعَةٌ ... وَكُلٌّ بِكُلَّ قَلَّمَا يَتَمَتَّعُ يُجِبُّ السَّعِيدُ الْعَدْلَ عِنْدَ احْتِجَاجِهِ ... وَيَبْغِي الشَّقِيُّ الْبَغْيَ وَالْبَغْيُ يَصْرَعُ اللَّهُمَّ ثبتنا على نهج الاستقامة وأعذنا من موجبات الحَسْرَة والندامة يوم القيامة وخفف عنا ثقل الأوزار، وارزقها عيشة الأَبْرَار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

موعظة بليغة تحث على الاستعداد للآخرة

(موعظة) عباد الله كلنا نعلم أن حياتنا مهما امتدت وصفت للزَوَال، وكَذَلِكَ كُلّ واحد منا يعلم أنه أتى للدنيا للاختيار بما كلفنا به من العبادات والمعاملات، سيصبح الواحد منا عما قريب فِي حفرة وحيدًا لَيْسَ معه أولاد ولا أموال، وحينئذ تَكُون أيها الأخ كأنك ما رَأَيْت الدُّنْيَا ولا هِيَ رأتك لحظة من اللحظات. ويا ليتك إِذَا زالت الحياة تزول دون أن يترتب عَلَيْهَا آثار لو كَانَ ذَلِكَ لأحب بعضنا الموت، لأنه يكون بشيرًا بانتهاء الأمراض والمصائب والآلام لكنك تعلم أنه يعقب ذَلِكَ الموت أهوال، وأمور مزعجات، تلاقي جزاء ما كَانَ منك قبل الموت فِي الاختيار. فإن كنت قَدْ أحسنت، رَأَيْت قبرك روضة نعيم، وإن كنت مسيئًا رأيته نيرانًا محرقات. عن البراء بن عازب قَالَ: كنا فِي جنازة رجل من الأنصار ومعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانتهينا إِلَى القبر ولم يلحد، ووضعت الجنازة وجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقَالَ: «إن المُؤْمِن إِذَا احتضر أتاه ملك الموت فِي أحسن صورة، وأطيب ريحًا، فجلس عنده لِقَبْضِ رُوحِهِ، وأتاه ملكَانَ بحنوط من الْجَنَّة وكانَا منه على بعيد فاستخَرَجَ ملك الموت روحه من جسده رشحًا. فإذا صَارَت إِلَى ملك الموت ابتدرها الملكَانَ فأخذاها منه فحنطاها بحنوط من الْجَنَّة وكفناها بكفن من الْجَنَّة ثُمَّ عرجا بها إِلَى الْجَنَّة، فتفتح لَهُ أبواب السماء، وتستبشر الملائكة بها ويقولون: لمن هَذِهِ الروح الطيبة التي فتحت لها أبواب السماء. ويسمى بأحسن الأسماء التي كَانَ يسمى بها فِي الدُّنْيَا، فيقَالَ هَذِهِ روح

فلان فإذا صَعَدَا بها إِلَى السماء شيعها مقربوا كُلِّ سماء حَتَّى توضع بين يدي الله عَنْدَ العرش، فيخَرَجَ عملها من عليين فَيَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ للمقربين: اشهدوا أني قَدْ غفرت لصَاحِب هَذَا الْعَمَل. ويختم كتابه فيرد فِي عليين. فَيَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ: ردوا روح عبدي إِلَى الأَرْض، فإني وعدتهم أني أردهم فيها. ثُمَّ قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} فإذا وضع المُؤْمِن فِي لحده تَقُول لَهُ الأَرْض: إن كنت لحبيبًا إِليَّ وأَنْتَ على ظهري، فَكَيْفَ إذ صرت الْيَوْم فِي بطني سأريك ما أصنع بك، فيفسح لَهُ فِي قبره مد بصره. وقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا وضع الكافر فِي قبره أتاه منكر ونكير فيجلِسَانه فيقولان لَهُ: من ربك؟ فَيَقُولُ: لا أدري. فيقولان لَهُ: لا دريت، فيضربانه ضربة فيصير رمادًا، ثُمَّ يعاد فيجلس فيقولان لَهُ: ما قولك فِي هَذَا الرجل. فَيَقُولُ: أي رجل؟ فيقولان: مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - فَيَقُولُ: قَالَ النَّاس إنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيضربانه ضربة فيصير رمادًا» . ويا ليت الأَمْر ينتهي ويقف عَنْدَ هَذَا الحد، فتبقى فِي قبرك على الدوام، فإنه أخف مِمَّا بعده، فتَكُون آلامك فيه أخف إن كنت من أَهْل الشقاء والآثام، ولكن تعلم أن ما أخبر به الله سيقع، وَهُوَ القيام من القبور، قَالَ الله تَعَالَى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . وحينئذ تسوقك نتيجة اختبارك إما إِلَى الْجَنَّة وإما إِلَى السعير، من كَانَ مكذبًا بهَذَا والعياذ بِاللهِ فلا كلام لَنَا معه، لأن مآله إِلَى جهنم وبئس المهاد لأنه من الكافرين، وإن كَانَ مؤمنًا بذَلِكَ كما أخبر الله ورسوله فهو الَّذِي تفيد فيه المواعظ وضرب الأمثال ويقَالَ: لماذا نراك متصفًا بما يخالف قولك.

شِعْرًا: ... فَأَكْثَرُ مَنْ تَلْقَى يَسُرُّكَ قَوْلُهُ ... وَلَكِنْ مَنْ يَسُرُّكَ فِعْلُهُ اللَّهُمَّ يَا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغَفْلَة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة وَوَفِّقْنَا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا، وامنن عَلَيْنَا يَا مولانَا بتوبة تمحو بها عنا كُلّ ذنب وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. وَخِتَامَ لا تَصْحُو وَقَدْ قَرُبَ الْمَدى ... وَحَتَّام لا يَنْجَابُ عَنْ قَلْبِكَ السُّكْرُ بَلَى سَوْفَ تَصْحُو حِينَ يَنْكَشِفُ الْغَطَا ... وَتَذْكُرُ قَوْلِي حِينَ لا يَنْفَعُ الذِّكْرُ آخر: ... وَمُنْتَظِرٍ لِلْمَوْتِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ ... يَشِيدُ وَيَبْنِي دَائِمًا وَيُحَصِّنُ لَهُ حِينَ تَبْلُوهُ حَقِيقَةُ مُوقِنَ ... وَأَفْعَالُهُ أَفْعَالُ مَنْ لَيْسَ يُوقِنُ " فَصْلٌ يَحْتَوِيْ عَلَى الإِنْكَارِ عَلَى المُنْحَرِفِيْنْ " نراك فِي ليلك ونهارك فِي ما يغضب مولاك فلسانك فِي ميدان الفحش، ومنكر القول جواد عَظِيم وعينك فِي أودية النظرات الخائبة دَائِمًا تجول وتهيم، وفرجك لا يتهيب أن يتجاوز أرضه الطيبة إِلَى الأَرْض الوبيئة الخبيثة وأما بطنك فلا يعف عَنْ أخبث المأكولات، وأما أذنك فمصغية وسامعة إِلَى ما لا يحل من الكلام. وأما رجلك فساعية إِلَى المعاصي والآثام، وأما يدك فباطشة بالضعيف دون توقع، فيا مسكين أن المعاصي عدو مبين، يعلم ذَلِكَ كُلّ مُؤْمِن عاقل فضلاً عَنْ المُؤْمِن يلقي نَفْسهُ فيها، فاتعظ وتنبه أيها الأخ وبرهن على إِنَّكَ تميز بين النافع والضار. شِعْرًا: ... إِنَّ فِي الْمَوْتِ وَالْمَعَادِ لَشُغْلاً ... وَادِّكَارًا لِذِي النُّهَى وَبَلاغَا

قصيدة وعظية زهدية

فَاغْتَنِمْ خِصْلَتَيْنِ قَبْلَ الْمَنَايَا ... صِحَّةَ الْجِسْمِ يَا أَخِي وَالْفَرَاغَا آخر: ... فَبَادِرْ مَتَابًا قَبْلَ يُغْلَقُ بَابَهُ ... وَتُطْوَى عَلَى الأَعْمَالِ صُحْفُ التَّزَوُّدِ وَمَثْلُ وُرُودَ الْقَبْرِ مَهْمَا رَأَيْتَهُ ... لِنَفْسِكَ نِفَاعًا فَقَدِّمْهُ تَسْعَدِ آخر: ... يَا طَالِبًا رَاحَةً مِنْ دَهْرِهِ عَبَثًا ... أَقْصِرْ فَمَا الوَقْتِ إِلا بِالْهُمُومِ مُلِي كَمْ مَنْظَرٍ رَائِقٍ أَفْنَتْ جَمَالَته ... يَدُ الْمَنُونِ وَأَعْيَتْهُ عَنْ الْحِيَلِ وَكَمْ هُمَامٍ وَكَمْ قَرْمٍ وَكَمْ مَلِكٍ ... تَحْتَ التُّرَابِ وَكَمْ شَهْمٍ وَكَمْ بَطَلِ وَكَمْ إِمَامٍ إِلَيْهِ تَنْتَهِي دُوَلٌ ... قَدْ صَارَ بِالْمَوْتِ مَعْزُولاً عَنْ الدُّوَل وَكَمْ عَزِيزٍ أَذَلَّتْهُ الْمَنُونُ وَمَا ... أَنْ صَدَّهَا عَنْهُ مِنْ مَالٍ وَلا خَوَلِ يَا عَارِفًا دَهْرَهُ يَكْفِيكَ مَعْرِفَةً ... وَإِنْ جَهلْتَ تَصَارِيفَ الزَّمَانِ سَلِ هَلْ فِي زَمَانِكَ أَوْ قَبْلَهُ سَمِعَتْ ... أُذْنَاكَ أَنَّ ابنَ أُنْثَى غَيْرُ مُنْتَقِلِ وَهَلْ رَأَيْتَ أُنَاسًا قَدْ عَلوا وَغَلَوا ... فِي الْفَضْلِ زَادُوا بِمَا نَالُوا عَنْ الأَجَلِ أَوْ هَلْ نَسِيتَ (لِدُوا لِلْمَوْتِ) أَوْ عَمِيَتْ ... عَيْنَاكَ عَنْ وَاضِعٍ نَعْشًا وَمُحْتَمِلِ وَهَلْ رَعَى الْمَوْتُ ذَا عِزِّ لِعِزَّتِهِ ... أَوْ هَلْ خَلا أَحَد دَهْرًا بِلا خَلَلِ المَوْتُ بَابٌ وَكُلُّ النَّاسِ دَاخِلُهُ ... لَكِنْ ذَا الْفَضْلِ مَحْمُولٌ عَلَ عَجَلِ ولَيْسَ فَقْدُ إِمَامٍ عَالِمٍ عَلَمٍ ... كَفَقْدِ مَنْ لَيْسَ ذَا عِلْمٍ وَلا عَمَلِ ولَيْسَ مَوْت الَّذِي مَاتَتْ لَهُ أُمَمٌ ... كَمَوْتُ شَخْصٍ مِنْ الأَوْغَادِ وَالسَّفَلِ اللَّهُمَّ ثَبِّتْ وقوي إيماننا بك وملائكتك وكتبك ورسلك والْيَوْم الآخِر والقدر خيره وشره، اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وشكرك وَوَفِّقْنَا لامتثال أمرك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ وأَنْتَ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. " فَصْلٌ فِي الرَّجَاء " الرجَاءَ قِيْل فِي تعريفه هُوَ ارتياح لانتظار ما هُوَ محبوب عَنْدَ الإِنْسَان

ولكن ذَلِكَ المتوقع لابد لَهُ من سبب حاصل، فَإِنْ لم يكن السبب معلوم الوجود ولا معلوم الانتقاء سمي تمنيًا لأنه انتظار من غير سبب ولا يطلق اسم الرجَاءَ والخوف إلا على ما يتردد فيه. فأما ما لا يتردد فيه ويقطع به فلا إِذًا، لا يقَالَ أرجو طلوع الشمس ولكن يقَالَ أرجو نزول المطر، وأخاف انقطاعه وضد الرجَاءَ اليأس وَهُوَ تذكر فوت رحمة الله، وقطع الْقَلْب عَنْ ذَلِكَ، واليأس معصية، قَالَ تَعَالَى إخبارًا عما قاله يعقوب {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} . شِعْرًا: ... لا تَرْجُ غَيْرَ اللهِ سُبْحَانَهُ ... وَاقْطَعْ عُرَى الآمَالِ مِنْ خَلْقِهِ لا تَطْلُب الْفَضْلَ مِنْ غَيْرِهِ ... وَاضْنُنْ بِمَاءِ الْوَجْهِ وَاسْتَبْقِهِ فَالرِّزْقُ مَقْسُومٌ وَمَا لامْرِئٍ ... يَكُونُ طُولَ الدَّهْرِ فِي رِقِّهِ آخر: ... التَمِسِ الأَرْزَاقِ عَنْ الَّذِي ... مَا دُونَهُ إِنْ سُئِلَ مِنْ حَاجِبِ وَمَنْ إِذَا قَالَ جَرَى قَوْلُهُ ... بِغَيْرِ تَوْقِيعٍ مِنْ الْكَاتِبِ ومقدمَاتَ الرجَاءَ أربع، الأولى: ذكر سوابق فضل الله إِلَى الْعَبْد. وَالثَّانِيَة: ذكر ما وعد الله من جزيل ثوابه وعَظِيم كرمه وجوده دون استحقاق أَوْ سؤال. الثالثة: ذكر كثرة نعم الله عَلَيْكَ فِي أمر دينك وبدنك ودنياك فِي الحال من أنواع الإمداد والألطاف من غير استحقاق أَوْ سؤال. والرابعة: ذكر سعة رحمة الله تَعَالَى وسبقها غضبه وأنه الرحمن الرحيم الغنى الكريم الرؤوف بعباده الْمُؤْمِنِينَ، وقوة الرجَاءَ على حسب قوة المعرفة بِاللهِ وأسمائه وصفاته وغلبة رحمته غضبه. قَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ فالرجَاءَ ضروري للمريد السالك والعارف لو فارقه لحظة لتلف أَوْ كاد فإنه دائر بين ذنب يرجو غفرانه وعيب يرجو إصلاحه وعمل صالح يرجو قبوله واستقامة يرجو حصولها ودوامها.

الدنيا مزرعة الآخرة فمن زرع خيرا وجده وتوضيح أن الرجاء الصحيح ما كان مقرونا بالأسباب

وقرب من الله ومنزلة عنده يرجو وصوله إليها والرجَاءَ من الأسباب التي ينال بها الْعَبْد ما يرجوه من ربه بل هُوَ من أقوى الأسباب. أهـ. وقَالَ فِي مختصر منهاج القاصدين: وقَدْ علم أرباب الْقُلُوب أنَّ الدُّنْيَا مزرعة الآخِرَة والْقَلْب كالأَرْض والإيمان كالبذر فيها والطاعات جارية مجرى تنقية الأَرْض وتطهيرها، ومجرى حفر الأنهار وسياقة الماء إليها. وأن الْقَلْب المستغرق بالدُّنْيَا كالأَرْض السبخة التي لا ينمو فيها البذر ويوم القيامة هُوَ يوم الحصاد، ولا يحصد أحد إلا ما زرع ولا ينمو زرع إلا من بذر الإِيمَان، وقل أن ينفع إيمان مَعَ خبث الْقَلْب وسوء أخلاقه، كما لا ينمو البذر فِي الأَرْض السبخة. فينبغي أن يقاس رجَاءَ الْعَبْد المغفرة برجَاءَ صَاحِب الزرع، فكل من طلب أرضًا طيبةً وألقى فيها بذرًا جيدًا غير مسوسٍ وعفنٍ، ثُمَّ ساق إليها الماء فِي أوقات الحاجة ونقى الأَرْض من الشوك والحشيش وما يفسد الزرع. ثُمَّ جلس ينتظر من فضل الله تَعَالَى دفع الصواعق والآفات المفسدة إِلَى أن يتم الزرع ويبلغ غايته، فهَذَا يسمى انتظاره رجَاءَ، فَأَمَّا إن بذر فِي أرض سبخة صلبة مرتفعة لا يصل إليها الماء ولم يتعاهدها أصلاً ثُمَّ انتظر الحصاد فهَذَا يسمى انتظاره حمقًا وغرورًا لا رجَاءً. وإِنْ بث البذر فِي أرض طيبة، ولكن لا ماء لها وأخذ ينتظر مياه الأمطار سمي انتظاره تمنيًا لا رجَاءً، فَإِنَّ اسم الرجَاءَ إِنما يصدق على انتظار محبوب، تمهدت أسبابه الداخلة تحت اختيار الْعَبْد، ولم يبق إلا ما لَيْسَ إِلَى اختياره، وَهُوَ فضل الله سُبْحَانَهُ بصرف الموانع المفسدات. فالْعَبْد إِذَا بث بذر الإِيمَان وسقاه ماء الطاعات، وطهر الْقُلُوب من شوك الأَخْلاق الرديئة وانتظر من فضل الله تَعَالَى ثباته على ذَلِكَ إِلَى الموت، وحسن

موعظة بليغة في الحث على الصلاة

الخاتمة المفضية إِلَى المغفرة كَانَ انتظاره لِذَلِكَ رجَاءً محمودًا باعثًا على المواظبة على الطاعات والقيام بمقتضى الإِيمَان إِلَى الموت. شِعْرًا: ... تَرَى الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَصْبُو ... وَمَا يَخْلُو مِنَ الشَّهَوَاتِ قَلْبُ فُصُولُ الْعَيْشِ أَكْثَرُهَا هُمُومٌ ... وَأَكْثَرَ مَا يَضُرُّكَ مَا تُحِبُّ فَلا يَغْرُوكَ زُخْرُفُ مَا تَرَاهُ ... وَعَيْشٌ لَيِّنُ الأعْطَافِ رَطْبُ وإن قطع بذر الإِيمَان عَنْ تعهده بماء الطاعات أَوْ ترك الْقَلْب مشحونًا برذائل الأَخْلاق وانهمك فِي طلب لذات الدُّنْيَا، ثُمَّ انتظر المغفرة كَانَ ذَلِكَ حمقًا وغرورًا، قَالَ الله تَعَالَى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} وذم القائل {وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً} . شِعْرًا: ... أَفِي السَّبَخَاتِ يَا مَغْبُونُ تَبْنِي ... وَمَا أَبْقَى السِّبَاخُ عَلَى الأَسَاسِ ذُنُوبُكَ جَمَّةٌ تَتْرَى عِظَامًا ... وَدَمْعُكَ جَامِدٌ وَالْقَلْبُ قَاسِي وَأَيَّامًا عَصَيْتَ اللهَ فِيهَا ... وَقَدْ حَفِظْتُ عَلَيْكَ وَأَنْتَ نَاسِي فَكَيْفَ تُطِيقُ يَوْمَ الدِّين حِمْلاً ... لأَوْزَارِ الْكَبَائِرِ كَالرَّوَاسِي هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي لا وِدَّ فِيهِ ... وَلا نَسَبٌ وَلا أَحَدٌ مُوَاسِي اللَّهُمَّ يَا عَالِم الخفيات، ويا رفيع الدرجات، يَا غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا أَنْتَ إليك المصير، نسألَكَ أن تذيقنا برد عفوك، وحلاوة رحمتك، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلى الله علي مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين. (موعظة) : عباد الله يَقُولُ جَلَّ وَعَلا وتقدس: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} عباد الله إن الصَّلاة عماد الدين وأعظم أركَانَ الإِسْلام بعد الشهادتين، وهي قرة عين المُؤْمِن وطمأنينة قَلْبهُ تبدو

أحاديث وردت في الرجاء وآيات ألق لها سمعك

واضحة فِي وقوفه بين يدي ربه، وخشوعه وانكساره، عِنْدَمَا يتجه إليه فِي عبادته، ويقف خاضعًا ذليلاً بين يدي العزيز الحكيم. عباد الله من حافظ على الصَّلاة فهو السَّعِيد الرابح، ومن أضاعها فهو الشقي الخاسر، وإن اللبيب العاقل من إِذَا حضر للصلاة اقبل بقَلْبهُ وقالبه، وطرح الدُّنْيَا وشؤنها ومتعلقاتها جانبًا وتدبر ما يتلوه إن كَانَ وحده أَوْ إمامًا. وأنصت وأحضر قَلْبهُ إن كَانَ مأمومًا وتفهم ما يسمَعَ وابتهل وتضرع إِلَى مولاه. (موعظة) : عباد الله إن الخشوع فِي الصَّلاة هُوَ روحها، والمحور الَّذِي تدور عَلَيْهِ سائر أفعالها، والخشوع فيها مَعَ الإِخْلاص لله آية الإِيمَان وسبب الفلاح وأمان من وساوس الشيطان. ألا وإن الصَّلاة بلا خشوع كجسد بلا روح قَالَ ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا (لَيْسَ لَكَ من صلاتك إلا ما عقُلْتُ مَنْهَا) . وَفِي المسند مرفوعًا: «إن الْعَبْد ليصلي الصَّلاة ولم يكتب لَهُ إلا نصفها أَوْ ثلثها أَوْ ربعها حَتَّى بلغ عشرها» . وقَدْ علق الله فلاح المصلين بالخشوع فِي صلاتهم فدل على أن من لم يخشع فلَيْسَ من أَهْل الفلاح ولو اعتد لَهُ بها ثوابًا لكَانَ من المفلحين هكَذَا قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء. قَالُوا: وأما الاعتداد بها فِي أحكام الدُّنْيَا وسقوط الِقَضَاءِ فَإِنَّ غلب الخشوع وتعقلها اعتد بها إجماعًا، وكَانَتْ السُّنَن والأذكار وعقبها جوابر ومكملات لنقصها، وإن غلب عَلَيْهِ عدم الخشوع فيها وعدم تعلقها. فقَدْ اختلف الْعُلَمَاء فِي وجوب إعادتها واحتجوا بأنها صلاة لا يثاب عَلَيْهَا، ولم يضمن لَهُ فيها الفلاح فلم تبرأ ذمته مَنْهَا، ويسقط الِقَضَاءِ عَنْهُ كصلاة المرائي قَالُوا: ولأن الخشوع والعقل روح الصَّلاة، ومقصوها ولبها،

فَكَيْفَ يعتد بصلاة فقدت روحها، ولبها وبقت صورتها وظاهرها. قَالُوا: ولو ترك الْعَبْد واجبًا من واجباتها عمدًا لأبطلها تركه وغايته أن يكون بَعْضًا من ابعاضها منزلة فوات عضو من أعضاء الْعَبْد المعتق فِي الكفارة، فَكَيْفَ إِذَا عدمت روحها ومقصودها، وصَارَت بمنزلة الْعَبْد الميت فإذا لم يعتد بالْعَبْد المقطوع اليد يعتقه تقربًا إِلَى الله تَعَالَى فِي كفارة واجبةٍ فَكَيْفَ يعتد بالْعَبْد الميت. وقَالَ بَعْض السَّلَف: الصَّلاة كجارية تهدى إِلَى ملك من الملوك فما الظن بمن يهدى إليه جارية شلاء أَوْ عوراء أَوْ عمياء أَوْ مقطوعة اليد أَوْ الرجل أَوْ مريضة أَوْ دميمة أَوْ قبيحة حَتَّى يهدي إليه جارية ميتة بلا روح وجارية قبيحة فَكَيْفَ بالصَّلاة التي يهديها الْعَبْد ويتقرب بها إِلَى ربه تَعَالَى والله طيب لا يقبل إلا طيب ولَيْسَ من الْعَمَل الطيب صلاة لا روح فيها كما أنه لَيْسَ من العتق الطيب عتق بلا روح. قَالُوا: وتعطيل الْقَلْب عَنْ عبودية الحضور والخشوع تعطيل لملك الأعضاء عَنْ عبوديته وعزل لَهُ عَنْهَا فماذا تغني طاعة الرعية وعبوديتها وقَدْ عزل ملكها وتعطل. قَالُوا: والأعضاء تابعة للقلب تصلح بصلاحه وتفسد بفساده فإذا لم يكن قائمًا بعبوديته فالأعضاء أولى أن لا يعتد بعبوديتها وَإِذَا فسدت عبوديته بالغَفْلَة والوسواس فأنى تصح عبودية رعيته وجنده ومادتهم منه وعن أمره يصدرون وبه يأتمرون. قَالُوا: ولأن عبودية من غلبت عَلَيْهِ الغَفْلَة والسهو فِي الغالب لا تَكُون مصاحبة للإخلاص فَإِنَّ الإِخْلاص قصد المعبود وحده بالتعبد والغَافِل لا قصد لَهُ فلا عبودية لَهُ.

قصيدة بليغة وعظية زهدية تنعى على من ضيع وقته

قَالُوا: وقَدْ قَالَ الله تَعَالَى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} ، ولَيْسَ السهو عَنْهَا تركها وإلا لم يكونوا مصلين وإنما السهو عَنْ واجبها إما عَنْ الحضور أَوْ الخشوع. والصواب أنه يعم النوعين فإنه سُبْحَانَهُ أثَبِّتْ لَهُمْ صلاة ووصفها بالسهو عَنْهَا، فهو السهو عَنْ وقتها الواجب أَوْ عَنْ إخلاصها وحضورها الواجب، ولِذَلِكَ وصفهم بالرياء، ولو كَانَ السهو سهو ترك لما كَانَ هناك رياء أ. هـ. وبالتالي فَإِنَّ الْعَبْد إِذَا مرن نَفْسهُ وقَلْبهُ على التفهم والتدبر والخشوع والخضوع فِي الصَّلاة انغرست فِي قَلْبهُ خشية الله ومحبته والرغبة فيما لديه وحضرته هيبة خالقه فِي جميع أحواله وَفِي جميع أعماله. فإذا سولت لَهُ نَفْسهُ أمرًا أَوْ زين لَهُ الشيطان سوءًا تبرأ منهما قائلاً إِني أخاف الله رب العالمين فكن فِي صلاتك خاشعًا خاضعًا مخبتًا. فإذا قُلْتُ الله أكبر فاستحضر عظمة الله وأنه لا شَيْء أكبر منه ولا شَيْء أعظم منه وأنه مستحق لأن يعظم ويجل ويقدر وأنه لَيْسَ أحد يساويه أَوْ يدانيه فِي عظمته. وإذا قُلْتُ الحمد لله رب العالمين فاستحضر أنه المستحق للثناء وأنه المربي لجميع الخلق التربية العامة والمربي لخواص خلقه التربية الخاصة، وهي تربية الْقُلُوب على العقائد النافعة، والأعمال الصَّالِحَة، والأَخْلاق الفاضلة. وَإِذَا قُلْتُ الرحمن الرحيم استحضرت لرحمته العامة والخاصة راجيًا منه أن يجعلك ممن كتبها لَهُمْ فإذا قُلْتُ مالك يوم الدين مجدته واستحضرت لوقوفك بين يديه وَهُوَ أحكم الحاكمين. فإذا قُلْتُ إياك نعبد وَإِيَّاكَ نستعين استحضرت أنَّكَ تخصه وحده بالعبادة

وتحفزهم إلى الجد والاجتهاد فيما يوصل إلى مرضاة الله

والاستعانة، المعنى نعبدك ولا نعبد غيرك ونستعين بك ولا نستعين بغيرك. فإذا قُلْتُ أهدنا الصراط المستقيم استحضرت أنَّكَ تتضرع إليه وتسأله أن يدلك ويرشدك ويوفقك إِلَى سلوك الصراط المستقيم وأن يثبتك عَلَيْهِ فهَذَا الدُّعَاء من أجمَعَ الأدعية وأنفعها للعبد ولهَذَا وجب على الْعَبْد أن يدعو به فِي كُلّ ركعة من صلاته لضرورته إِلَى ذَلِكَ وَهَذَا الصراط هُوَ صراط المنعم عَلَيْهمْ من النبيين. والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، وافعل فِي باقي صلاتك كما فعلت فِي أولها من التدبر والتفهم محضرًا قلبك لمعاني ما تقوله وما تسمعه حَتَّى تكتب لَكَ كاملة. عباد الله إن من حافظ على الصلوات فِي أوقاتها وواظب على الْجُمُعَة والجماعات وأداها تأدية تامة بخشوع وخضوع، استنار قَلْبهُ وقويت الصلة بينه وبين ربه، وتهذبت نَفْسهُ وحسنت مَعَ الله والنَّاس معاملته، وحيل بينه وبين المحرمَاتَ وكَانَ على البؤساء عطوفًا وبالضعفاء رحيمًا، وأفلح فِي دينه وكَانَ من المحبوبين عَنْدَ الله وعَنْدَ خلقه. عباد الله النفس آمرة بالسُّوء، والشيطان يأمر بالفحشاء والْمُنْكَر والسيف القاطع والدواء النافع الَّذِي جعله الله وقاية للإنسان من شر النفس والشيطان، إنما هُوَ الصَّلاة، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} . عباد الله احذروا أن تستهينوا بالصَّلاة وأن لا تهتموا لها، فَإِنَّ هَذِهِ صفة الَّذِينَ خلت صلاتهم من التذلل والخشوع كما ترونهم يسرعون فِي أدائها وهم عَنْهَا غافلون لا يعرفون لها معنى ولا يعقلون لها سرًا ولم تشعر قُلُوبهمْ بحلاوتها ولا بلذة المناجات قَدْ ملكتهم الوساوس، وامتلأت قُلُوبهمْ بشواغل

الدُّنْيَا ولذاتها، واستحوذ عَلَيْهمْ الشيطان فأنساهم ذكر الله. قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} ومن النَّاس من عميت بصائرهم، وتحجرت ضمائرهم، فأضاعوا الصَّلاة واتبعوا الشهوات، وأهملوا أوامر بديع السماوات وغفلوا عَنْ واجب شكره ولم يخافوا سطوة جبروته وبطشه، ولا سوء الحساب، ولا نار الْعَذَاب {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} ، {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} . فيا أيها المسلمون اتقوا الله ربكم وحافظوا على صلاتكم وقوموا لله خاضعين خاشعين لتفوزوا برضوانه وتكونوا من المفلحين. شِعْرًا: ... للهِ دَرُّ السَّادَةِ الْعُبَّادِ ... فِي كُلِّ كَهْفٍ قَدْ ثَوَوْا أَوْ وَادِي أَلْوَانُهُمْ تُنْبِيكَ عَنْ أَحْوَالِهِمْ ... وَدُمُوعُهُمْ عَنْ حُرْقَةِ الأَكْبَادِ كَتَمُوا الضَّنَى حِفَظًا لَهُمْ وَتَحَمَّلُوا ... سُقْمَ الْهَوَى وَمَشَقَّةَ الأَجْسَادِ هَجَرُوا الْمَرَاقِدَ فِي الظَّلامِ لِرَبِّهِمْ ... وَاسْتَبْدَلُوا سَهَرًا بِطِيبِ رُقَادِ لا يَفْتُرونَ إِذَا الدُّجَى وَافَاهُمُوا ... مِنْ كَثْرَةِ الأَذْكَارِ وَالأَوْرَادِ وَرَأَوْا عَلامَاتِ الرَّحِيلِ فَبَادِرُوا ... تَحْصِيلِ مَا الْتَمَسُوا مِن الأَزْوَادِ فَإِذَا اسْتَمَالَ قُلُوبَهُمْ دَاعِي الْهَوَى ... ذَكَرُوا الْبِلَى فِي ظُلْمَةِ الإِلْحَادِ نَظَرُوا إِلَى الدُّنْيَا تَغُرُّ بِأَهْلِهَا ... بِوِصَالِهَا وَتَكِرُّ بِالإِبْعَادِ فَتَجَنَّبُوهَا عِفَّةً وَتَزَهُّدًا ... وَتَزَوُّدُوا مِنْ صَالِحِ الأَزْوَادِ وَمَضُوا عَلَى مِنْهَاجِ صَحْبِ نَبِيِّهِمْ ... فَنَجَوْا غَدًا مِنْ هَوْلِ يَوْمِ مَعَادِ وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم. (فَصْلٌ) : روى شداد بن أوس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - «الكيس من دان نَفْسهُ وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نَفْسهُ هواها وتمنى على الله الأماني» .

وَمِمَّا ورد فِي الحث على الرجَاءَ قوله تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ، وقَالَ تَعَالَى: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ} ، وقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} الآية. وقَالَ: {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ} ، وقَالَ: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} وقَالَ: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} . شِعْرًا: ... إِذَا شَدَّ زَنْدِي حُسْنُ ظَنِّي بِمَنْ عَلَى ... عَلَى خَلْقِهِ فَهُوَ الَّذِي كُنْتُ أَطْلُبُ آخر: ... وَإِنِّي لآتِي الذَّنْبَ أَعْرِفُ قدْرَهُ ... وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْفُو وَيَغْفِرُ لَئِنْ عَظَّمَ النَّاسُ الذُّنُوبَ فَإِنَّهَا ... وَإِنْ عَظُمَتْ فِي رَحْمَةِ اللهِ تَصْغُرُ وقَالَ: {إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} ، وقَالَ: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} إِلَى قوله: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} ، وقَالَ: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} . وقَالَ: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} ، وقَالَ: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ووجه الدلالة مِنْهَا حيث أوصى الله بالإحسان إِلَى القاذف. ومن جانب الرجَاءَ ما كَانَ من أمر السحرة المبارزين لمُوَسى عَلَيْهِ السَّلام فما كَانَ إلا أن رأوا آية مُوَسى فعرفوا الحق ووقعوا سجدًا {قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء بررة فهَذَا حال من عرف الله ووحده بعد كُلّ ذَلِكَ السحر والكفر والضلال والفساد فَكَيْفَ حال من أفنى عمره فِي توحيد الله.

وَكَذَا قصة أصحاب الكهف إذ آمنوا بِاللهِ كيف لطف بِهُمْ، وأكرمهم وألبسهم المهابة حَتَّى إن بركتهم شملت كلبهم فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحالة وصار لَهُ ذكر وشان وخبر يتلى وهذه فائدة صحبة الأخيار فما ظنك بالمُؤْمِن الَّذِي عَبَّد الله ووحده ولهج بذكره آناء الليل وآناء النَّهَارَ، وعادى فيه ووالى فيه سنين عديدة وبوده لو عمر زيادة تابع فيها خدمة سيده ومولاه جَلَّ وَعَلا. ومن جانب الرجَاءَ قوله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} . شِعْرًا: ... تَفِيضُ عُيُونِي بِالدُّمُوعِ السَّوَاكِبِ ... وَمَالِي لا أَبْكِي عَلَى خَيْرِ ذَاهِبِ عَلَى عُمْرِي إِذْ وَلَّى وَحَانَ انْقِضَاؤُهُ ... بِآمَالِ مَغْرُورٍ وَأَعْمَالِ نَاكِبِ عَلَى غُرَرِ الأَيَّامِ لَمَّا تَصَرَّمَتْ ... وَأَصْبَحْتُ مِنْهَا رَهْنَ شُؤْمِ الْمَكَاسِبِ عَلَى زَهَرَاتِ الْعَيْشِ لَمَّا تَسَاقَطَتْ ... بِرِيحِ الأَمَانِي وَالظُّنُونِ الْكَوَاذِبِ عَلَى أَشْرَفِ الأَوْقَاتِ لَمَّا غُبِنْتُهَا ... بِأَسْوَاقِ غَبْنٍ بَيْنَ لاهٍ وَلاعِبِ عَلَى أَنْفَسِ السَّاعَاتِ لَمَّا أَضَعْتُهَا ... وَقَضَّيْتُهَا فِي غَفْلَةٍ وَمَعَاطِبِ عَلَى صَرْفِيَ الأَيَّامَ فِي غَيْرِ طَائِلٍ ... وَلا نَافِعٍ مِنْ فِعْلِ فَضْلٍ وَوَاجِبِ عَلَى مَا تَوَلَّى مِنْ زَمَانٍ قَضَيْتُهُ ... وَرَجَّيْتُهُ فِي غَيْرِ حَقٍّ وَصَائِبِ عَلَى فُرَصٍ كَانَتْ لَوْ أَنِّي انْتَهَزْتُهَا ... لَقَدْ نِلْتُ فِيهَا مِنْ شَرِيفِ الْمَطَالِبِ وَأَحْيَانَ آنَاءٍ مِنْ الدَّهْرِ قَدْ مَضَتْ ... ضَيَاعًا وَكَانَتْ مُوسِمًا لِلرَّغَائِبِ عَلَى صُحُفٍ مَشْحُونَةٍ بِمَآثِمٍ ... وَجُرْمٍ وَأَوْزَارٍ وَكَمْ مِنْ مَثَالِبِ عَلَى كَمْ ذُنُوبٍ كَمْ عُيُوبٍ وَزَلَّةٍ ... وَسَيِّئَةٍ مَخْشِيَّةٍ فِي الْعَوَاقِبِ عَلَى شَهَوَاتٍ كَانَتْ النَّفْسُ أَقْدَمَتْ ... عَلَيْهَا بِطَبْعٍ مُسْتَحَثٍّ وَغَالِبِ عَلَى أَنَّنِي آثَرْتُ دُنْيَا دَنِيَّةً ... مُنَغَّصَةً مَشْحُونَةً بِالْمَعَائِبِ

عَلَى عَمَلِ لِلْعِلْمِ غَيْرِ مُوَافِقٍ ... وَمَا فَضْلُ عِلْمٍ دُونَ فِعْلٍ مُنَاسِبِ عَلَى فِعْلِ طَاعَاتٍ بِسَهْوٍ وَغَفْلَةٍ ... وَمِنْ غَيْرِ إِحْضَارٍ وَقَلْبٍ مُرَاقِبِ أُصَلِّي الصَّلاةَ الْخَمْسَ وَالْقَلْبُ جَائِلٌ ... بِأَوْدِيَةِ الأَفْكَارِ مِنْ كُلِّ جَانِبِ عَلَى أَنَّنِي أَتْلُو الْقُرْآنَ كِتَابَهُ ... تَعَالَى بِقَلْبِ ذَاهِلٍ غَيْرَ رَاهِبِ عَلَى طُولِ آمَالٍ كَثِير غَرُورُهَا ... وَنِسْيَانِ مَوْتٍ وَهُوَ أَقْرَبُ غَائِبِ عَلَى أَنَّنِي قَدْ أَذْكُرُ اللهَ خَالِقِي ... بِغَيْرِ حُضُورٍ لازِمٍ وَمُصَاحِبِ عَلَى أَنَّنِي لا أَذْكُرُ الْقَبْرَ وَالْبَلَى ... كَثِيرًا وَسَفْرًا ذَاهِبًا غَيْرَ آيِبِ عَلَى أَنَّنِي عَنْ يَوْمِ بَعْثِي وَمَحْشَرِي ... وَعَرْضِي وَمِيزَانِي وَتِلْكَ الْمَصَاعِبِ مَوَاقِفُ مِنْ أَهْوَالِهَا وَخُطُوبِهَا ... يَشِيبُ مِنْ الْولْدَانِ شَعْرُ الذَّوَائِبِ تَغَافَلْتُ حَتَّى صِرْتُ مِنْ فُرْطِ غَفْلَتِي ... كَأَنِّي لا أَدْرِي بِتِلْكَ الْمَرَاهِبِ عَلَى النَّارِ أَنِّي مَا هَجَرْتُ سَبِيلَهَا ... وَلا خِفْتُ مِنْ حَيَّاتِهَا وَالْعَقَارِبِ عَلَى السَّعْيِ لِلْجَنَّاتِ دَارِ النَّعِيمِ وَالْـ ... ـكَرَامَةِ الزُّلْفَى وَنَيْلِ الْمَآرِبِ مِنْ الْعِزِّ وَالْمُلْكِ الْمُخَلَّدِ وَالْبَقَا ... وَمَا تَشْتَهِيهِ النَّفْسُ مِنْ كُلِّ طَالِبِ وَأَكْبَرُ مِنْ هَذَا رِضَا الرَّبِّ عَنْهُمْ ... وَرُؤْيَتُهُمْ إِيَّاهُ مِنْ غَيْرِ حَاجِبِ فَآهًا عَلَى عَيْشِ الأَحِبَّةِ نَاعِمًا ... هَنِيئًا مُصَفَّى مِنْ جَمِيعِ الشَّوَائِبِ وَآهًا عَلَيْنَا فِي غُرُورٍ وَغَفْلَةٍ ... هَنِيئًا مُصَفَّى مِنْ جَمِيعِ الشَّوَائِبِ وَآهًا عَلَى مَا فَاتَ مِنْ هَدْي سَادَةٍ ... عَنْ الْمَلاءِ الأَعْلَى وَقُرْبِ الْحَبَائِبِ عَلَى مَا لَهُمْ مِنْ هِمَّةٍ وَعَزِيمَةٍ ... وَمِنْ سِيرَةٍ مَحْمُودَةٍ وَمَذَاهِبِ عَلَى مَا لَهُمْ مِنْ عِفَّةٍ وَفُتُوَّةٍ ... وَجَدٍّ وَتَشْمِيرٍ لِنَيْلِ الْمَرَاتِبِ عَلَى مَا لَهُمْ مِنْ صَوْمٍ كُلِّ هَجِيرَةٍ ... وَزُهْدٍ وَتَجْرِيدٍ وَقَطْعِ الْجَوَاذِبِ عَلَى الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ اللَّذَيْنِ تَحَقَّقَا ... وَمِنْ خَلْوةٍ بِاللهِ تَحْتَ الْغَيَاهِبِ عَلَى مَا صَفَا مِنْ قُرْبِهِمْ وَشُهُودِهِمْ ... وَصِدْقٍ وَإِخْلاصٍ وَكَمْ مِنْ مَنَاقِبِ وَاسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ جَلالُهُ ... وَمَا طَابَ مِنْ أَذْوَاقِهِمْ وَالْمَشَارِبِ

موعظة ويليها وصية الإمام علي لابنه الحسن

.. فَآهًا عَلَى عَيْشِ الأَحِبَّةِ نَاعِمًا ... وَقُدْرَتُهُ فِي شَرْقِهَا وَالْمَغَارِبِ وَآهًا عَلَيْنَا فِي غُرُورٍ وَغَفْلَةٍ ... عَنْ الْمَلاءِ الأَعْلَى وَقُرْبِ الْحَبَائِبِ وَآهًا عَلَى مَا فَاتَ مِنْ هَدْي سَادَةٍ ... وَمِنْ سِيرَةٍ مَحْمُودَةٍ وَمَذَاهِبِ عَلَى مَا لَهُمْ مِنْ هِمَّةٍ وَعَزِيمَةٍ ... وَجَدٍّ وَتَشْمِيرٍ لِنَيْلِ الْمَرَاتِبِ عَلَى مَا لَهُمْ مِنْ عِفَّةٍ وَفُتُوَّةٍ ... وَزُهْدٍ وَتَجْرِيدٍ وَقَطْعِ الْجَوَاذِبِ عَلَى مَا لَهُمْ مِنْ صَوْمٍ كُلِّ هَجِيرَةٍ ... وَمِنْ خَلْوةٍ بِاللهِ تَحْتَ الْغَيَاهِبِ عَلَى الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ اللَّذَيْنِ تَحَقَّقَا ... وَصِدْقٍ وَإِخْلاصٍ وَكَمْ مِنْ مَنَاقِبِ عَلَى مَا صَفَا مِنْ قُرْبِهِمْ وَشُهُودِهِمْ ... وَمَا طَابَ مِنْ أَذْوَاقِهِمْ وَالْمَشَارِبِ وَاسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ جَلالُهُ ... وَقُدْرَتُهُ فِي شَرْقِهَا وَالْمَغَارِبِ إِلَيْهِ مآبِي وَهُوَ حَسْبِي وَمَلْجَئِي ... وَلِي أَمَلٌ فِي عَطْفِهِ غَيْرُ خَائِبِ وَأَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ فِيمَا بَقِي لِمَا ... يُحِبُّ وَيَرْضَى فَهُوَ أَسْنَى الْمَطَالِبِ وَأَنْ يَتَغَشَّانَا بِعَفْوٍ وَرَحْمَةٍ ... وَفَضْلٍ وَإِحْسَانٍ وَسَتْرِ الْمَعَائِبِ وَأَنْ يَتَوَلانَا بِلُطْفٍ وَرَأْفَةٍ ... وَحِفْظٍ يَقِينَا شَرَّ كُلِّ الْمَعَاطِبِ وَأَنْ يَتَوَفَّانَا عَلَى خَيْرِ مِلَّةٍ ... عَلَى مِلَّةِ الإِسْلامِ خَيْرِ الْمَوَاهِبِ مُقِيمِينَ لِلْقُرْآنِ وَالسُنَّةِ الَّتِي ... أَتَانَا بِهَا عَالِي الذُّرَى وَالْمَرَاتِبِ مُحَمَّدٌ الْهَادِي الْبَشِيرُ نَبِيُّنَا ... وَسَيِّدُنَا بَحْرُ الْهُدَى وَالْمَنَاقِبِ عَلَيْهِ صَلاةُ اللهِ ثُمَّ سَلامُهُ ... وَآلٍ وَأَصْحَابٍ لَهُ كَالْكَوَاكِبِ (موعظة) : عباد الله لا شَيْء أفسد للقلب من التعلق بالدُّنْيَا والركون إليها فَإِنَّ متاعها قليل ولا تطمعوا بالإقامة فيها فَإِنَّ البقاء فيها مستحيل كيف لا والمنادي ينادي كُلّ يوم يَا عباد الله الرحيل، هُوَ الموت ما منه فوت ولا تعجيل ولا يقبل الفداء فاستعدوا لَهُ فإنه سيأتيكم عَنْ قريب.عباد الله لا شَيْء أفسد للقلب من التعلق بالدُّنْيَا والركون إليها وإيثارها على الآخِرَة فَإِنَّ هَذَا الفساد يقعد المسلم عَنْ التطلع إِلَى الآخِرَة والْعَمَل لها وإتعاب الجسد فِي سبيل الله والدعوة إليه وهيهات لقلب فاسد مريض أن يقوى على مهام الدعوة إِلَى الله،

إِنَّ الدُّنْيَا فيها قابلية الإغراء للتعلق بها وحبها. ولهَذَا وصفها النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «إِنَّ الدُّنْيَا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدُّنْيَا واتقوا النساء» . وقَدْ حذرنا ربنا من الوقوع فِي شباكها والتعلق بها فقَالَ عز من قائل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} . ووجه الاغترار بالدُّنْيَا أن فيها مباهج ومناظر وملذات للأنفس والأعين والأسماع تهواها نَفْسهُ بطبيعتها وتؤثرها على ما سواها، قَالَ تَعَالَى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا والآخِرَة * وَالآخِرَة خَيْرٌ وَأَبْقَى} ، وقَالَ عز من قائل: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَة} . فإذا تركت النفس وشانها زَادَ تعلقها بالدُّنْيَا وزَادَ التصاقها بها حَتَّى تصبح هِيَ كُلّ غايتها ومنتهى أملها ومبلغ علمها، قَالَ الله جَلَّ وَعَلا: {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ} . وإذا ما وصلت النفس إِلَى هَذَا الحد فقدت حاسة القبول والاعتبار وعَنْدَ ذَلِكَ لا يجدي معها وعظ ولا تذكير مهما بالغت فيه. فما هُوَ العلاج لمن وصل إِلَى هَذِهِ الدرجة العلاج بإذن الله هُوَ تخليص الْقَلْب من أسرارها وتعلقه بها وَذَلِكَ بان يجعل زَوَال الدُّنْيَا نصب عينيه ويتيقن لقاء الآخِرَة وبقاءها وما فيها من النَّعِيم الْمُقِيم. ويتدبر الآيات مثل قوله تَعَالَى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَة وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} . وقوله تَعَالَى {قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَة خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى} ، وقوله: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَة إِلاَّ قَلِيلٌ} ، وقوله تَعَالَى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَة مِن نَّصِيبٍ} . وقوله {إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ} الآية. ويتدبر الأحاديث مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - لابن عمر: «كن فِي الدُّنْيَا غريب أَوْ عابر سبيل» . الْحَدِيث. وقوله: «ما لي وللدنيا» . ونحو ذَلِكَ من الآيات وَالأَحَادِيث التي مرت سابقًا حول أمثلة الدُّنْيَا.

ويقارن بين الأمرين فَإِنَّ كَانَ ذا عقل راجح آثر الآخِرَة على الدُّنْيَا وأيضًا لابد من قطع التسويف وطول الأمل حَتَّى يحس أنه فِي غربة وأنه مسافر عَنْ هَذِهِ الدار وأنه سيرحل عَنْهَا فِي أَيَّةِ ساعةٍ رغم أنفه شاء أم أبى. شِعْرًا: ... وَكُلُّ حَيٍّ وَإِنْ طَالَتْ سَلامَتُهُ ... يَوْمًا عَلَى آلةٍ حَدْبَاء مَحْمُول آخر: ... وَكُلُّ حَيٍّ وَإِنْ طَالَتْ سَلامَتُهُ ... يَوْمًا لَهُ مِنْ دَوَاعِي الْمَوْتِ تَثْوِيبُ وَإِن وسوس لَهُ الشيطان وألقى فِي روعه إِنَّكَ شاب قوي موفور الصحة مشدود أسرك وَفِي إمكانك الرجوع إِلَى الطاعة والإقبال إِلَى الآخِرَة فليطرد وساوسه باستحضار الَّذِينَ رحلوا شبابًا وكهولاً وهم الآن تحت الثرى. شِعْرًا: ... يُعَمَّرِ وَاحِدٌ فَيَغُرُّ أَلْفًا ... وَيُنْسَى مَنْ يَمُوتُ مِن الشَّبَابِ آخر: ... لا تَغْتَزِرْ بِشَبَابٍ نَاعِمٍ خَضِلٍ ... فَكَمْ تَقَدَّمَ قَبْلَ الشَّيْبِ شُبَّانُ ويخَرَجَ إِلَى المقابر ويتفكر فيمن جمعوا الأموال وقتلوا أوقاتهم فِي طلبها واتعبوا أبدانهم وأنهم سيحاسبون عَلَيْهَا، ويفكر فيمن تعود عَلَيْهمْ بعده ربما أنهم لا يذكرونه بخَيْر ويتمنون موته فلماذا يحرق نَفْسهُ فِي جمعها لَهُمْ. شِعْرًا: ... وقَدْ يُورِثُ الْمَال الْبَعِيدَ مُظَلَّلٌ ... مِن النَّاس يَأْبَى وَضَعْه فِي الْقَرَائِب آخر: ... فَمَا تَزَوَّدَ مِمَّا كَانَ يَجْمَعُه ... سِوَى حَنُوطٍ غَدَاةَ الْبَيْنِ فِي خِرَقِ وَغَيْرَ نَفْخَةِ أَعْوَادٍ تُشَبُّ لَهُ ... وَقَلَّ ذَلِكَ مِنْ زَادٍ لِمُنْطَلِقِ آخر: ... شَقِيتُ بِمَا جَمَعْتُ فَلَيْتَ شِعْرِي ... وَرَائِي مَنْ يَكُونَ بِهِ سَعِيدَا؟! أُعَايِنُ حَسْرَةً أَهْلِي وَمَالِي ... إِذَا مَا النَّفْسُ جَاوَزَتِ الْوَرِيدَا أُعِدُّ الزَّادَ مِنْ تَقْوَى فَإِنِّي ... رَأَيْتُ مَنِيَّتِي السَّفَرَ الْبَعِيدَا تَبَدَّل صَاحِبي فِي اللَّحْدِ مِنِّي ... وَهَالَ عَلَى مَنَاكِبَى الصَّعِيدَا فَلَوْ أَبْصَرْتَنِي مِنْ بَعْدِ عَشْرٍ ... رَأَيْتَ مَحَاسِنِي قَدْ صِرْنَ دُودَا وَحِيدًا مُفْرِدًا يَا رَبِّ [لُطْفًا] ... بِعَبْدِكَ حِينَ مَا يُتْرَكْ وَحِيدَا

فإذا قصر أمله فِي الحياة انَبْعَث إِلَى التجهز للآخرة بعمل الطاعات إذ لا يدري متى ينادى عَلَيْهِ بالرحيل فإذا تخلص من التعلق بالدُّنْيَا وأفرغ ما فِي قَلْبهُ من سمومها وأقبل على الآخِرَة أحس بغربة شديدة فِي الدُّنْيَا ولكن مَعَ خفة فِي روحه وإقبال شديد على مراضي الله وعلى رأسها الدعوة إليه وهداية الحيارى من عباد الله. لا يعوقه عَنْ ذَلِكَ عائقٌ من تعبٍ ولا نصبٍ ولا سفرٍ ولا سهرٍ ولا بذلٍ ولا تضحيةٍ لأن ذَلِكَ كله من الزَّاد المؤكد نفعه وفائدته فِي سفره الطويل الْبَعِيد إِلَى الآخِرَة بل إنه سيعقب تعبه راحةٌ وألمه لذة وَفِي بذله ربحًا وَفِي تضحيته عوضًا مضمونَا. وَفِي وصية الإِمَام علي بن أبي طالب لابنه الحسن أحي قلبك بالموعظة وأمته بالزهادة وقوه باليقين ونوره بالحكمة وَذَلِلّهُ بذكر الموت وقرره بالفناء وبصره بفجائع الدُّنْيَا وحذره صولة الدهر وفحش تقلب الليالي والأَيَّامُ وأعرض عَلَيْهِ أخبار الماضين وذكره بما أصاب من كَانَ قبلك من الأولين وسر فِي ديارهم وآثارهم وانظر فيما فعلوا وعما انتقلوا وأين حلوا ونزلوا فإنك تجدهم قَدْ انتقلوا عَنْ الأحبة وحلوا فِي دار غربة وكأنك عَنْ قليل قَدْ صرت كأحدهم فأصلح مثواك ولا تبع أخرتك بدنياك إِلَى أن قَالَ: يَا بني أكثر من ذكر الموت وذكر ما تهجم عَلَيْهِ وتفضي بعد الموت إليه حَتَّى يأتيك وقَدْ أخذت وشددت لَهُ أزرك ولا يأتيك بغتة فيبهرك وَإِيَّاكَ أن تغتر بما تَرَى من إخلاد أَهْل الدُّنْيَا إليها وتكالبهم عَلَيْهَا فقَدْ نبأك الله عَنْهَا ونعت لَكَ نفسها وتكشف لَكَ عَنْ مساويها فَإِنَّ أهلها كلاب عاوية وسباع ضارية يهر بعضها بَعْضًا أي ينبح بعضها على بَعْض ويأكل عزيزها ذليلها ويقهر كبيرها صغيرها نَعَمٌ معلقة وأخرى مهملة قَدْ أضلت عقولها وركبت مجهولها سروح عاهة لَيْسَ راع يقيمها ولا مقيم يَسِيسُهَا سلكت بِهُمْ الدُّنْيَا طَرِيق العمى وأخذت

بأبصارهم عَنْ منار الهدى فتاهوا فِي خيراتها وغرقوا فِي نعمتها واتخذوها رَبًّا فلعبت بِهُمْ ولعبوا بها ونسوا ما وراءها، واعْلَمْ أن من كَانَ مطيته الليل والنَّهَارَ فإنه يسار به وإن كَانَ واقفًا ويقطع المسافة وإن كَانَ مقيمًا. شِعْرًا: ... يَا جَامِعَ الْمَالِ إِنَّ الْعُمْرَ مُنْصَرِمٌ ... فَابْخَلْ بِمَالِكَ مَهْمَا شِئْتَ أَوْ فَجُدِ وَيَا عَزِيزًا يَخِيطُ الْعُجْبُ نَاظِرُهُ ... أُذْكُرْ هَوَانَكَ تَحْتَ التُّرْبِ وَاتَّئِدِ قَالُوا تَرَقَى فُلانُ الْيَوْمَ مَنْزِلَةً ... فَقُلْتُ يُنْزِلُهُ عَنْهَا لِقَاءُ غَدِ كَمْ وَاثِقٍ بِاللَّيَالِي مَدَّ رَاحَتَهُ ... إِلَى الْمَرَامِ فَنَادَاهُ الْحِمَامُ قَدِ وَبَاسِطٍ يَدَهُ حُكْمًا وَمَقْدِرَةً ... وَوَارِدُ الْمَوْتِ أَدْنَى مِنْ فَمٍ لِيَدِ كَمْ غَيَّرَ الدَّهْرُ مِنْ دَارِ وَسَاكِنِهَا ... لا عَنْ عَمِيدِ ثَنَى بَطْشًا وَلا عَمَدِ زَالَ الَّذِي كَانَ لِلْعَلْيَا بِهِ سَنَدٌ ... وَزَالَتْ الدَّارُ بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ تَبَارَكَ اللهُ كَمْ تَلْقَى مَصَائِدَهَا ... هَذِي النُّجُوم عَلَى الدَّانِينَ وَالْبُعَدِ تَجْرِي النُّجُومُ بِتَقْرِيبِ الْحِمَامِ لَنَا ... وَهُنَّ مِنْ قُرْبِهِ مِنْهَا عَلَى أَمَدِ لا بُدَّ أَنْ يَغْمِسَ الْمِقْدَارُ مُدْيَتَهُ ... فِي لَبَّةِ الْجَدْيِ مِنْهَا أَوْ حَشَى الأَسَدِ عَجِبْتُ مِنْ آمِلٍ طُولَ الْبَقَاءِ وَقَدْ ... أَخْنَى عَلَيْهِ الَّذِي أَخْنَى عَلَى لُبَدِ يَجُرّ خَيْطُ الدُّجَى وَالْفَجْرِ أَنْفُسَنَا ... لِلتُّرْبِ مَا لا يَجُرُّ الْحَبْلُ مِنْ مَسَدِ هَذِي عَجَائِبُ تَثْنِي النَّفْسَ حَائِرَةً ... وَتُقِعِدُ الْعَقْلَ مِنْ عِيِّ عَلَى ضَمَدِ مَا لِي أُسَرٌ بِيَوْمٍ نِلْتُ لَذَتَهُ ... وَقَدْ ذَوَى مَعَهُ جُزْءٌ مِن الْجَسَدِ لا تَرْكَنَّ فَرِيدًا فِي التُّرَابِ غَدًا ... وَلَوْ تَكَثَّرَ مَا بَيْنَ الْوَرَى عَدَدِي مَا نَافِعِي سَعَةٌ فِي الْعَيْشِ أَوْ حَرَجٌ ... إِنْ لَمْ تَسَعْنِي رُحْمَى الْوَاحِدِ الصَّمَدِ اللَّهُمَّ قنعنا من الدُّنْيَا باليسير وسهل عَلَيْنَا كُلّ أمر عسير وَوَفِّقْنَا لما تحبه وترضاه إِنَّكَ على كُلّ شَيْء قدير وأسكنا دار كرامتك يَا من هُوَ ملجؤنا وملاذنا وإليه المصير واجعل لَنَا من كُلّ هم فرجَا ومن كُلّ ضيق مخرجَا،

مما ورد في الحث على الرجاء

اللَّهُمَّ أحيي قلوبًا أماتها البعد عَنْ بابك، ولا تعذبنا بأليم عقابك يَا أكرم من سمح بالنوال وجاد بالأفضال، اللَّهُمَّ أيقظنا من غفلتنا بلطفك وإحسانك، وتجاوز عَنْ جرائمنا بعفوك وغفرانك، واغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. " فَصْلٌ " ومِمَّا ورد فِي فضيلة الرجَاءَ من الأحاديث ما فِي الصحيحين عَنْ أبي سعيد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن رجلاً قتل تسعةً وتسعين نفسًا، ثُمَّ ندم وسأل عابدًا من عباد بني إسرائيل هل لَهُ من توبة فقَالَ لا فقتله وأكمل به مائةً، ثُمَّ سأل عالمًا من علمائهم هل لَهُ من توبة فقَالَ ومن يحول بينك وبين التوبة. ثُمَّ أمره بالذهاب إِلَى قرية يعبد الله فيها فقصدها فأتاه الموت فِي أثناء الطَرِيق فاختصمت فيه ملائكة الرحمة، وملائكة الْعَذَاب، فأمر الله عَزَّ وَجَلَّ أن يقيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيهما كَانَ أقرب فهو مَنْهَا فوجدوه أقرب إِلَى الأَرْض التي هاجر إليها بشبر فقبضته ملائكة الرحمة، وذكر أنه نأى بصدره عَنْدَ الموت، وأن الله تبارك وتَعَالَى أمر البلدة الخيرة أن تقترب وأمر تلك البلد أن تتباعد. هَذَا معنى الْحَدِيث. وعن عبادة بن الصامت رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ، وأن مُحَمَّد عبده ورسوله، وأن عيسى عَبْد اللهِ ورسوله وكلمته ألقاها إِلَى مريم وروح منه، وأن الْجَنَّة حق والنار حق، أدخله الله الْجَنَّة على ما كَانَ من الْعَمَل» . متفق عَلَيْهِ. وَفِي رواية لمسلم: «من شهد أن لا إله إلا الله، وأن مُحَمَّدًا رسول الله حرم الله عَلَيْهِ النار» .

وعن أبي ذر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يَقُولُ الله عز وجل من جَاءَ بالحسُنَّة فله عشر أمثالها، أو أزيد ومن جَاءَ بالسيئة فجزاء سَيِّئَة مثلها أَوْ أغفر، ومن تقرب مني شبرًا تقربت منه ذراعًا ومن تقرب منى ذراعًا تقربت منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولةً، ومن لقيني بقراب الأَرْض خطيئةً لا يشرك بي شَيْئًا لقيته بمثلها مغفرة» . رَوَاهُ مُسْلِم. وعن جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جاء أعربي إِلَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ما الموجبتان؟ قَالَ: «من مَاتَ لا يشرك بِاللهِ شَيْئًا دخل الْجَنَّة، ومن مَاتَ يشرك به شَيْئًا دخل النار» . رَوَاهُ مُسْلِم. وَفِي حديث معاذ: «ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله صدقًا من قَلْبهُ إلا حرمه الله عَلَى النَّارِ» . وَفِي حديث أبي هريرة وأبي سعيد أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجب عَنْ الْجَنَّة» . رَوَاهُ مُسْلِم. وَفِي حديث عتبان قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «فَإِنَّ الله قَدْ حرم عَلَى النَّارِ من قَالَ لا إله إلا الله يبتغي بذَلِكَ وجه الله» . متفق عَلَيْهِ. وعن عُمَر بن الْخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبي فإذا امرأة من السبي تسعى إذ وجدت صبيًّا في السبي أخذته فالزقته ببطنها فأرضعته، فقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أترون هَذِهِ المرأة طارحة ولدها فِي النار» ؟ قلنا: لا وَاللهِ. فقَالَ: «لله أرحم بعباده من هَذِهِ بولدها» . متفق عَلَيْهِ. وعن أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «قَالَ الله يَا ابن آدم إِنَّكَ ما دعوتني ورجوتني، غفرت لَكَ على ما كَانَ منك ولا أبالي، يَا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثُمَّ استغفرتني غفرت لَكَ، يَا ابن آدم

إِنَّكَ لو أتيتني بقراب الأَرْض خطايا، ثُمَّ لقيتني لا تشرك بي شَيْئًا، لا تيتك بقرابها مغفرة» . رَوَاهُ الترمذي. وعنه عَنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إن الكافر إِذَا عمل حسَنَةً أطعم بها طعمة من الدُّنْيَا، وأما المُؤْمِن فَإِنَّ الله تَعَالَى يدخر لَهُ حسناته فِي الآخِرَة ويعقبه رزقًا فِي الدُّنْيَا على طاعته» . وَفِي رواية: «إن الله لا يظلم مؤمنًا حسَنَةً يعطى بها فِي الدُّنْيَا ويجزى بها فِي الآخِرَة وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله تَعَالَى فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا أفضى إِلَى الآخِرَة لم يكن لَهُ حسَنَةً يجزى بها» . رَوَاهُ مُسْلِم. وَفِي حديث ابن مسعود قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «ما أنتم فِي أَهْل الشرك إلا كالشعرة البيضاء فِي جلد الثور الأسود أَوْ كالشعرة السوداء فِي جلد الثور الأحمر» . متفق عَلَيْهِ. وَفِي حديث ابن عباس قَالَ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «ما من رجل مُسْلِم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بِاللهِ شَيْئًا إلا شفعهم الله فيه» . رَوَاهُ مُسْلِم. وَفِي حديث أبي هريرة فقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اذهب فمن لقيت وراء هَذَا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنًا بها قَلْبهُ فبشره بالْجَنَّة» . رَوَاهُ مُسْلِم. وعن أبي مُوَسى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النَّهَارَ ويبسط يده بالنَّهَارَ ليتوب مسيء الليل حَتَّى تطلع الشمس من مغربها» . رَوَاهُ مُسْلِم. شِعْرًا: تَتَبَّعْ مَرَاضِي اللهَ وَادْعُ وَالْحِفَا ... لَعَلَّكَ يَوْمًا أَنْ تُجَابَ فَتَسْعَدا وَحَافِظْ عَلَى فِعْلِ الْفُرُوضِ بِوَقْتِهَا ... وَلاتتوانى عَندما تسمع الندا

قصيدة وعظية زهدية

عن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «يُدْنَى المُؤْمِن يوم القيامة من ربه حَتَّى يضع عَلَيْهِ كنفه فيقرره بذنوبه فَيَقُولُ: أتعرف ذنب كَذَا أتعرف ذنب كَذَا فَيَقُولُ: ربي أعرف، قَالَ: فإني سترتها عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وأنَا اغفرها لَكَ الْيَوْم فيعطى صحيفة حسناته» . متفق عَلَيْهِ. وينبغي لمن قربت مفارقته الدُّنْيَا أن يكون على باله ما تقدم من آيات الرجَاءَ وأحاديث الرجَاءَ. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم. شِعْرًا: ... نَادَتْ بِوَشْكَ رَحِيلِكَ الأَيَّامُ ... أَفْلَسَتْ تَسْمَعُ أَمْ بِكَ اسْتِصْمَامُ وَمَضَى أَمَامَك مَنْ رَأَيْتُ وَأَنْتَ لِلْـ ... بَاقِينَ حَتَّى يَلْحَقُوكَ إِمَامُ مَا لِي أَرَاكَ كَأَنَّ عَيْنَكَ لا تَرَى ... عِبَرًا تَمُرُّ كَأَنَّهُنَّ سِهَامُ تَأْتِي الْخُطُوبُ وَأَنْتَ مُنْتَبِهُ لَهَا ... فَإِذَا مَضَتْ فَكَأَنَّهَا أَحْلامُ قَدْ وَدَّعَتْكَ مِن الصِّبَا نَزَوَاتُهُ ... فَاجْهَدْ فَمَالَكَ بَعْدَهُنَّ مَقَامُ وَأَرْضَ الْمَشِيبَ مِن الشَّبَابِ خَلِيفَةً ... فَكِلاهُمَا لَكَ خِلْفَةٌ وَنِظَامُ وَكِلاهُمَا حُجَجٌ عَلَيْكَ قَوِيَّةٌ ... وَكِلاهُمَا نِعَمٌ عَلَيْكَ جِسَامُ وَلَقَدْ غَنِيتَ مِنَ الشَّبَابِ بِغِبْطَةٍ ... وَلَقَدْ كَسَاكَ وِقَارُهُ الإِسْلامُ أَهْلاً وَسَهْلاً بِالْمَشِيبِ مُؤَدِّبًا ... وَعَلَى الشَّبَابِ تَحِيَّةٌ وَسَلامُ مَا زُخْرُفُ الدُّنْيَا وَزُبْرُجُ أَهْلِهَا ... إِلا غُرُورٌ كُلُّهُ وَحُطَامُ وَلَرُبَّ ذِي فُرُشٍ مُمَهَّدَةٍ لَهُ ... أَمْسَى عَلَيْهِ مِن التُّرَاب رُكَامُ وَلَكَمْ رَأَيْتُ مَحَلَّةً أَقْوَتْ وَكَمْ ... جَدَثٌ رَأَيْتُ تَلُوحُ فِيهِ عِظَامُ وَالْمَوْتُ يَعْمَلُ وَالْعُيُونُ قَرِيرَةٌ ... تَلْهُو وَتَعْبَثُ بِالْمُنَى وَتَنَامُ فَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي هُوَ دَائِمٌ ... أَبَدًا وَلَيْسَ لِمَا سِوَاهُ دَوَامُ وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي لِجَلالِهِ ... وَلِحِلْمِهِ تَتَصَاغَرُ الأَحْلامُ وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي هُوَ لَمْ يَزَلْ ... لا تَسْتَقْلُ بِعِلْمِهِ الأَوْهَامُ سُبْحَانَهُ مَلِكٌ تَعَالَى جَدُّهُ ... وَلِوَجْهِهِ الإِجْلالُ وَالإِكْرَامُ

للإنسان نظران نظر من جانب الرجاء ونظر من جانب الخوف

اللَّهُمَّ اجعلنا من المتقين الأبرار وأسكنا معهم فِي دار الْقَرَار، اللَّهُمَّ وَفَّقَنَا بحسن الإقبال عَلَيْكَ والإصغار إليك وَوَفِّقْنَا لِلتَّعَاوُن فِي طَاعَتكَ والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب فِي معاملتك والتسليم لأَمْرِكَ والرِّضَا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لَنَا ولوالدينا ولجميع الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. " فَصْلٌ ": إِذَا فهمت ما تقدم فاعْلَمْ أن الْعَبْد المُؤْمِن لا بد أن يجمَعَ بين الرجَاءَ والخوف، وَهَذَا الطَرِيق هُوَ طَرِيق الاعتدال، لأنه إن غلب عَلَيْكَ الرجَاءَ حَتَّى فقدت الخوف البتة وقعت فِي طَرِيق الأمن من مكر الله، ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. وإن غلب عَلَيْكَ الخوف حَتَّى فقدت رجَاءَ الله وقعت فِي طَرِيق اليأس، ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، ولا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون، وإن جمعت بين الخوف والرجَاءَ فهو طَرِيق أَوْلِيَاء الله وأصفيائه. قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: وجملة الأَمْر أنَّكَ إِذَا تذكرت سعة رحمة الله تَعَالَى التي سبقت غضبه ووسعت كُلّ شَيْء ثُمَّ أن كنت من هَذِهِ الأمة المرحومة الكريمة على الله تَعَالَى ثُمَّ غاية فضله العَظِيم وكمال جوده الكريم وجعل عنوان كتابه بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثُمَّ كثرة أياديه إليك ونعمته عَلَيْكَ ظاهرة وباطنة من غير شفيع أَوْ قدم سابقة لَكَ. شِعْرًا: ... يَا رَبِّ إِنَّ ذُنُوبِي قَدْ أَحَطْتَ بِهَا ... عِلْمًا وَبِي وَبِإِعْلانِي وَإِسْرَارِي أَنَا الْمُوَحِّدُ لَكِنِّي الْمُقِرُّ بِهَا ... فَهَبْ ذُنُوبِي لِتَوْحِيدِي وَإِقْرَارِي آخر: ... أَيَا رَبِّ قَدْ أَحْسَنْتَ عَودًا وَبَدْأَةً ... إِليَّ فَلَمْ يَنْهَضْ بِإِحْسَانِكَ الشُّكْرُ فَمَنْ كَانَ ذَا عُذْرٍ لَدَيْكَ وَحُجَّةٍ ... فَعُذْرِي إِقْرَارِي بِأَنْ لَيْسَ لِي عُذْرُ وتذكرت من جانب آخر كمال جلاله وعظمته وعظم سلطانه وهيبته

ثُمَّ شده غضبه الَّذِي لا تَقُوم لَهُ السماوات والأَرْض، ثُمَّ غاية غفلتك وكثرة ذنوبك وجفوتك مَعَ دقة أمره، وخطر معاملته فِي إحاطة علمه وبصره بالعيوب والغيوب، ثُمَّ حسن وعده وثوابه الَّذِي لا يبلغ كنهه الأوهام وشدة وعيده وأليم عقابه الَّذِي لا يحتمل ذكره الْقُلُوب. تَارَّة تنظر إِلَى عذابه وتَارَّة تنظر إِلَى رأفته ورحمته، وتَارَّة تنظر إِلَى نفسك فِي جفواتها وجناياتها فإذا فعلت ذَلِكَ أدى بك جميع ذَلِكَ إِلَى الخوف والرجَاءَ وَكُنْت قَدْ سلكت سبيل الشارع الْقَصْد وعدلت من الجانبين المهلكين، الأمن واليأس ولا تتيه فيهما مَعَ التائهين، ولا تهلك مَعَ الهالكين وشربت الشراب الممزوج العدل فلا تهلك ببرودة الرجَاءَ الصرف، ولا بحرارة الخوف الصرف. وكأني بك قَدْ وصلت إِلَى المقصود غانمًا وشفيت من العلتين سالمًا ووجدت النفس قَدْ انبعثت للطاعة ودانت فِي الخدمة ليلاً ونهارًا من غير فترةٍ ولا غَفْلَةٍ، واجتنبت المعاصي والمخازي وهجرنها وصرت حينئذ من الأصفياء الخواص العابدين، الَّذِينَ وصفهم الله تَعَالَى بقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} . وَاللهُ سُبْحَانَهُ المسئول أن يمدك وإيانَا بحسن توفيقه وتسديده إنه أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وأجود الأجودين ولا حول ولا قوة إلا بِاللهِ العلي العَظِيم. اللَّهُمَّ إنََّا نسألك التوبة ودوامها، ونعوذ بك من المعصية وأسبابها، اللهم أفض عَلَيْنَا من بحر كرمك وعونك حَتَّى نخَرَجَ من الدُّنْيَا على السلامة من وبالها وارأف بنا رأفة الْحَبِيب بحبيبه عَنْدَ الشدائد ونزولها، وارحمنا من هموم الدُّنْيَا وغمومها بالروح والريحان إِلَى الْجَنَّة ونعيمها، ومتعنا بالنظر إِلَى وجهك الكريم فِي جنات النَّعِيم مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء

القلب في سيره إلى الله بمنزلة الطائرة أبيات زهدية تضرع إلى رب العزة والجلال

والصالحين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " فَصْلٌ ": قَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: الْقَلْب فِي سيره إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ بمنزلة الطائر، فالمحبة رأسه والخوف والرجَاءَ جناحاه فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران ومتى قطع الرأس مَاتَ الطائر متى فقَدْ الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر. وقِيْل أكمل الأَحْوَال الاعتدال.أهـ. قَالَ الله تَعَالَى مخبرًا عَنْ أوليائه وأصفيائه: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} وقَالَ تَعَالَى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . وقِيْل: إن كَانَ الغالب على الْقَلْب الأمن من مكر الله فالخوف أفضل وَكَذَا إن كَانَ الغالب على الْعَبْد المعصية، وإن كَانَ الغالب عَلَيْهِ اليأس والقنوط فالرجَاءَ أفضل. والَّذِي تطمئن إليه النفس سلوك الاعتدال إلا عَنْدَ فراق الدُّنْيَا فيغلب جانب الرجَاءَ. لما ورد عَنْ جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنه سمَعَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قبل موته بثلاثة أيام يَقُولُ: «لا يموتن أحدكم إلا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ» . رَوَاهُ مُسْلِم. وقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام: «قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ أَنَا عَنْدَ ظن عبدي بي وأنَا معه حيث ذكرني» . الْحَدِيث رَوَاهُ الْبُخَارِيّ ومسلم مِنْ حَدِيثِ أبي هريرة وقَدْ رئي بَعْضهمْ بعد موته فسئل عَنْ حاله فأنشد: شِعْرًا: ... نُقِلْتُ إِلَى رِمْسِ الْقُبُورِ وَضِيقَهَا ... وَخَوْفِي ذُنُوبِي أَنَّهَا بِي تَعْثُرُ

فَصَادَفْتُ رَحْمَانًا رَؤُوفًا وَأَنْعُمًا ... حَبَانِي بِهَا سَقْيًا لِمَا كُنْتُ أَحْذَرُ وَمنْ كَانَ حُسْنُ الظَّنِ في حَالِ مَوْتِهِ ... جَمِيلاً بِعَفْوِ اللهِ فَالْعَفْوُ أَجْدَرُ آخر: ... رَجَوْتُكَ يَا رَحْمَنُ إِنَّكَ خَيْرُ مَنْ ... رَجَاهُ لِغُفْرَانِ الْجَرَائِمِ مُرْتَجِي فَرَحْمَتُكَ الْعُظْمَى الَّتِي لَيْسَ بَابُهَا ... وَحَشَاكَ فِي وَجْهِ الْمُسِيء بِمُرْتَجِ آخر: ... يَا مَنْ إِلَيْهِ جَمِيعُ الْخَلْقِ يَبْتَهِلُوا ... وَكُلُّ حَيّ عَلَى رُحْماهُ يَتَّكِلُ يَا مَنْ نَأَى فَرَأى مَا فِي الْقُلُوبُ وَمَا ... تَحْتَ الثَّرَى وَحِجَابُ اللَّيْلِ مُنْسَدِلُ يَا مَنْ دَنَا فَنَأَى عَنْ أَنْ يُحِيطَ بِهِ الْـ ... أَفْكَارُ طُرًّا أَوْ الأَوْهَامُ وَالْعِلَلُ أَنْتَ الْمَلاذُ إِذَا مَا أَزْمَتٌ شَمِلَتْ ... وَأَنْتَ مَلْجَأُ مَنْ ضَاقَتْ بِهِ الْحِيَلُ أَنْتَ الْمُنَادَى بِهِ فِي كُلِّ حَادِيَةٍ ... أَنْتَ الإِلهُ وَأَنْتَ الذُّخْرُ وَالأَمَلُ أَنْتَ الْغِيَاثُ لِمَنْ سُدَّتْ مَذَاهِبُهُ ... أَنْتَ الدَّلِيلُ لِمَنْ ضَلَّتْ بِهِ السُّبُلُ إِنَّا قَصَدْنَاكَ وَالآمَالُ وَاقِعَةٌ ... عَلَيْكَ وَالْكُلُّ مَلْهُوفٌ وَمُبْتَهِلُ فَإِنْ غَفَرْتَ فَعَنْ طُولٍ وَعَنْ كَرَمٍ ... وَإِنْ سَطَوْتَ فَأَنْتَ الْحَاكِمُ الْعَدِلُ وأخَرَجَ الإِمَام أحمد وابن حبان فِي صحيحه والبيهقي عَنْ حيان أبي النضر قَالَ: خرجت عائدًا ليزيد بن الأسود، فلقيت واثلة بن الأسقع وَهُوَ يريد عيادته، فدخلنا عَلَيْهِ فَلَمَّا رأى واثلة بسط يده وجعل يشير إليه، فأقبل واثلة حَتَّى جلس فأخذ يزيد بكفي واثلة فجعلهما على وجهه، فقَالَ لَهُ واثلة: كيف ظنك بِاللهِ؟ قَالَ: ظني بِاللهِ حسن. قَالَ: فأبشر فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ أَنَا عَنْدَ ظن عبدي بي، إن ظن خيرًا فله، وإن ظن شرًا فله» . وروى الطبراني عَنْ ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: والَّذِي لا إله غيره لا يحسن عبد بِاللهِ الظن إلا أعطاه ظنه، وَذَلِكَ بأن الْخَيْر فِي يده. وروى البيهقي عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مرفوعًا: «أمر الله عَزَّ وَجَلَّ بعبد إِلَى النار فَلَمَّا وقف على شفتها التفت فقَالَ: أما وَاللهِ يا رب إن كَانَ ظني

يجب على العبد عند الاحتضار أن يحسن الظن بالله عز وجل

بك لحسن فقَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: ردوه أَنَا عَنْدَ حسن ظن عبدي بي» . ولما حضرت الإِمَام أحمد الوفاة قَالَ لولده عَبْد اللهِ: أذكر لي أحاديث الرجَاءَ، وأنشد بَعْضهمْ يوبخ نَفْسهُ: شِعْرًا: ... أَرَانِي إِذَا حَدَّثْتُ نَفْسِي بِتَوْبَةٍ ... تَعَرَّضَ لِي مِنْ دُونِ ذَلِكَ عَائِقُ تَقَضَّتْ حَيَاتِي فِي اشْتِغَالٍ وَغَفْلَةٍ ... وَأَعْمَالِ سُوءٍ كُلُّهَا لا تُوَافِقُ طُرِدْتُ وَغَيْرِي بِالصَّلاحِ مُقَرَّبٌ ... وَدُونَ بُلُوغِي مَسْلَكٌ مُتَضَايقُ وَكَيْفَ وَزَلاتُ الْمُسِيءِ كَثِيرَةٌ ... أَيَقْرُبُ عَبْدٌ عَنْ مَوَالِيهِ آبِقُ إِلَى اللهِ أَشْكُو قَلْبَ سُوءٍ قَدْ احْتَوَى ... عَلَيْهِ الْهَوَى وَاسْتَأْصَلَتْهُ الْعَلائِقُ وَلِي حُزْنٌ يَزْدَادُ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ ... وَدَمْعُ جُفُونِي لِلْبُكَاءِ يُسَابِقُ فَإِنْ يَغْفِرْ الْمَوْلَى الَّذِي قَدْ أَتَيْتُه ... فَذَاكَ الرَّجَا وَالظَّنُّ حِينًا يُوَافِقُ (عَلامَةُ مَا يُولِي مِن الْفَضْل إِنْ أَنَا ... هَجَرْتُ الدُّنَا أَوْ قُلْتُ إِنَّكَ طَالِقُ) (وَأَقْبَلْتُ فِي تَصْلِيحِ أَخْرَايَ مُدْلِجًا ... أُحَاسِبُ نَفْسِي كُلِّ مَا ذَرَّ وَشَارِقُ) " فَصْلٌ " قَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: ولا ريب أن حُسْن الظَّنِ بِاللهِ إنما يكون مَعَ الإحسان فَإِنَّ المحسن حَسَنُ الظَّنِ بربه أنه يجازيه على إحسانه ولا يخلف وعده ويقبل توبته وأما المسيء المصر على الكبائر والظلم والمخالفات فَإِنَّ المعاصي والظلم والحرام تمنعه من حُسْن الظَّنِ بربه وَهَذَا موجود فِي الشاهد فَإِنَّ الْعَبْد الآبق المسيء الخارج عَنْ طاعة سيده لا يحُسْن الظَّنِ به، ولا يجامَعَ وحشة الإساءة إحسان الظن أبدًا، فَإِنَّ المسيء مستوحش بقدر إساءته، وأحسن النَّاس ظنًا بربه أطوعهم لَهُ، كما قَالَ الحسن البصري: إن المُؤْمِن أحُسْن الظَّنِ بربه فأحسن الْعَمَل، وإن الفاجر أساء الظن بربه فأساء الْعَمَل.

قصيدة في توبيخ النفس

وكيف يكون محُسْن الظَّنِ بربه من هُوَ شارد عَنْهُ، حال مرتحل فِي مساخطه وما يغضبه، متعرض للعنته، قَدْ هان حقه وأمره عَلَيْهِ فأضاعه، وهان نهيه عَلَيْهِ فارتكبه وأصر عَلَيْهِ وكيف يحُسِّن الظَّنِ بربه من بارزه بالمحاربة، وعادى أولياءه ووالى أعداءه، وجحد صفات لَهُ وأساء الظن بما وصف نَفْسهُ ووصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - وظن بجهله أن ظاهر ذَلِكَ ضلال وكفر. وكيف يحُسْن الظَّنِ بمن يظن أنه لا يتكلم ولا يأمر ولا ينهى ولا يرضى ولا يغضب وقَدْ قَالَ الله تَعَالَى فِي حق من شك فِي تعلق سمعه ببَعْض الجزئيات، وَهُوَ السِّرّ فِي القول (41: 23) {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ} . فهؤلاء لما ظنوا أن الله سُبْحَانَهُ لا يعلم كثيرًا مِمَّا يعملون كَانَ هَذَا إساءة لظنهم بربهم، فأرداهم ذَلِكَ الظن. وَهَذَا شأن كُلّ من جحد صفات كماله ونعوت جلاله، ووصفه بما لا يليق به، إِذَا ظن هَذَا أنه يدخله الْجَنَّة كَانَ هَذَا غرورًا وخداعًا من نَفْسهُ، وتسويلاً من الشيطان، لا إحسان ظن بربه. فتأمل هَذَا الموضع، وتأمل شدة الحاجة إليه، وكيف يجتمَعَ فِي قلب الْعَبْد تيقنه بأنه مُلاقٍ الله، وأن الله يسمَعَ كلامه ويرى مكانه، ويعلم سره وعلانيته، ولا يخفى عيه خافية من أمره، وأنه موقوف بين يديه ومسئول عَنْ كُلّ عمل وَهُوَ مقيم على مساخطه مضيع لأوامره معطل لحقوقه، وَهُوَ مَعَ هَذَا يحُسْن الظَّنِ به. وهل هَذَا إلا من خدع النُّفُوس وغرور الأماني، وقَدْ قَالَ أبو سهل ابن حنيف: (دخلت أَنَا وعروة بن الزبير على عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فقَالَتْ: لو رأيتما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فِي مرض لَهُ، وكَانَتْ عنده ستة دنانير أَوْ سبعة دنانير، فأمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن أفرقها، فشغلني وجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى عافاه

الله ثُمَّ سألني عَنْهَا فقَالَ: «ما فعلت أكنت فرقت الستة دنانير» . فَقُلْتُ: لا وَاللهِ، لَقَدْ كان شغلني وجعك، قَالَتْ: فدعا بها فوضعها فِي كفه، فقَالَ: «ما ظن نَبِيّ اللهِ لو لقي الله وهذه عنده» . فيا لله ما ظن أصحاب الكبائر والظلمة بِاللهِ إِذَا لقوه ومظَالِم العباد عندهم، فَإِنْ كَانَ ينفعهم قولهم: حسَّنَّا ظنونَنَا بك إِنَّكَ لم تعذب ظالمًا ولا فَاسِقًا، فليصنع الْعَبْد ما شَاءَ، وليرتكب كُلّ ما نهاه الله عَنْهُ، وليحسن ظنه بِاللهِ، فالنار لا تمسه، فسبحان الله، ما يبلغ الغرور بالْعَبْد، وقَالَ إبراهيم لقومه (37: 86) {أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . أي ما ظنكم به إن يفعل بكم إِذَا لقيتموه وقَدْ عبدتم غيره. ومن تأمل هَذَا الموضع حق التأمل علم أن حُسْن الظَّنِ بِاللهِ هُوَ حسن الْعَمَل نَفْسهُ، فَإِنَّ الْعَبْد يحمله على حسن الْعَمَل حُسْن الظَّنِ بربه أن يجازيه على أعماله ويثيبه عَلَيْهَا ويتقبلها منه، فالَّذِي حمله على حسن الْعَمَل حُسْن الظَّنِ، فكُلَّما حسن ظنه بربه حسن عمله. وإِلا فَحُسْن الظَّنِ مَعَ اتباع الهوى عجز، كما فِي الترمذي والمسند مِنْ حَدِيثِ شداد ابن أوس عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الكيس من دان نَفْسهُ وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نَفْسهُ هواها، وتمنى على الله الأماني» . وبالجملة فَحُسْن الظَّنِ إنما يكون مَعَ انعقاد أسباب النجاة وأما مَعَ انعقاد أسباب الهلاك فلا يتأتى إحسان الظن. فَإِنَّ قِيْل: بل يتأتى ذَلِكَ، ويكون مستند حُسْن الظَّنِ على سعة مغفرة الله ورحمته، وعفوه وجوده، وأَنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ، وَأَنَّهُ لا تنفعه العقوبة ولا يضره العفو.

كلام ابن القيم في حسن الظن بالله كلام نفيس نماذج من أخلاق السف رحمهم الله

قِيْلَ: الأَمْر هكَذَا، وَالله فوق ذَلِكَ وأجل وأكرم وأجود وأرحم، ولكن إنما يضع ذَلِكَ فِي محله اللائق به، فإنه سُبْحَانَهُ موصوف بالحكمة والعزة والانتقام وشدة البطش، وعقوبة من يستحق العقوبة، فلو كَانَ مُعَوَّلُ حُسْن الظَّنِ على مجرد صفاته وأسمائه لاشترك فِي ذَلِكَ البر والفاجر، والمُؤْمِن والكافر، ووليه وعدوه. فما ينفع المجرم أسماؤه وصفاته وقَدْ باء بسخطه وغضبه وتعرض للعنته، ووقع فِي محارمه وانتهك حرماته، بل حُسْن الظَّنِ ينفع من تاب وندم وأقلع، وبدل السيئة بالحسُنَّة، واستقبل بقية عمره بالْخَيْر والطاعة، ثُمَّ أحُسْن الظَّنِ بعدها فهَذَا هُوَ حُسْن الظَّنِ، والأول غرور وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ. يفرق بين حُسْن الظَّنِ بالله وبين الغرور به قَالَ الله تَعَالَى (2: 218) {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ} فجعل هؤلاء أَهْل الرجَاءَ، لا الباطلين والفاسقين، وقَالَ تَعَالَى (16: 119) {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} فأخبر سُبْحَانَهُ أنه بعد هَذِهِ الأَشْيَاءِ غفور رحيم لمن فعلها، فالعَالِم يضع الرجَاءَ مواضعه، والجاهل المغتر يضعه فِي غير مواضعه. اللَّهُمَّ أَحْيِنَا فِي الدُّنْيَا مؤمنين طائعين وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ تائبين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ فِي نَمَاذِج مِنْ أََخْلاَقِ السَّلَفِ رَحِمهُم اللهُ) من ذَلِكَ توصية بَعْضهمْ بَعْضًا وقُبُولهمْ لها وشكرهم للواعظ لَهُمْ، ومن وصية الإِمَام علي بن أبي طالب لابنه الحسن قَالَ فيها:

من أخلاق السلف التواضع وانخلاع قلوبهم من خوف الله وتوصية بعضهم بعضا ومن ذلك توصية الإمام على لابنه الحسن وبعدها وصية

أي بني.. إني لما رأيتني قَدْ بلغت سنًا، ورأيتني أزداد وهنًا بادرت بوصيتي إليك، وأوردت خصالاً مِنْهَا قبل أن يُعَجل بي أجلي دون أن أفضي إليك بما فِي نفسي، وأن أنقص فِي رأيي كما نقصت فِي جسمي، أَوْ يسبقني إليك بَعْض غلبات الهوى وفتن الدُّنْيَا، فتَكُون كالصعب النفور. وإنما قلب الحدث كالأَرْض الخالية ما ألقي فيها من شَيْء قبلته، فبادرتك بالأَدَب قبل أن يقسو قلبك، ويشتغل لبك، لتستقبل بجد رأيك من الأَمْر ما قَدْ كفاك أَهْل التجارب بغيته وتجربته، فتَكُون قَدْ كفيت مؤونة الطلب، وعوفيت من علاج التجربة، فأتاك من ذَلِكَ ما قَدْ كنا نأتيه، واستبان لَكَ ما ربما أظلم عَلَيْنَا منه. أي بني.. إني وإن لم أكن عمرت عمر من كَانَ قبلي، فقَدْ نظرت فِي أَعْمَالُهُمْ، وفكرت فِي أخبارهم، وسرت فِي آثارهم حَتَّى عدت كأحدهم، بل كأني بما انتهِيَ إِلَيَّ من أمورهم قَدْ عمرت مَعَ أولهم إِلَى آخرهم، فعرفت صفو ذَلِكَ من كدره ونفعه من ضرره. فاستخلصت لَكَ من كُلّ أمر نخيله وتوخيت لَكَ جميله، وصرفت عَنْكَ مجهوله، ورَأَيْت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق، وأجمعت عَلَيْهِ من أدبك أن يكون ذَلِكَ وأَنْتَ مقبل العمر ومقتبل الدهر، ذو نية سليمة ونفس صافية. وأن إبتدئك بتعليم كتاب الله وتأويله، وشرائع الإِسْلام وأحكامه، وحلاله وحرامه، لا أجاوز ذَلِكَ بك إِلَى غيره، ثُمَّ أشفقت أن يَلْتَبِسَ عَلَيْكَ ما اختلف النَّاس فيه من أهوائهم وآرائهم مثل الَّذِي التَبَسَ عَلَيْهمْ، فكَانَ أحكام ذَلِكَ على ما كرهت من تنبيهك به الهلكة، ورجوت أن يوفقك الله لما فيه لرشدك، وأن يهديك لقصدك، فعهدت إليك بوصيتي هَذِهِ.

من أخلاق السلف التواضع وانخلاع قلوبهم من خوف الله وتوصية بعضهم بعضا ومن ذلك توصية الإمام على لابنه الحسن وبعدها وصية

واعْلَمْ يَا بني، إن أحب ما أَنْتَ آخذ به إِلَيَّ من وصيتي تقوى الله، والاقتصار على ما فرضه الله عَلَيْكَ، والأخذ بما مضى عَلَيْهِ الأولون من آبائك والصالحون من أهل بيتك، فَإِنَّهُمْ لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم كما أَنْتَ ناظر. وفكروا كما أَنْتَ مفكر، ثُمَّ ردهم آخر ذَلِكَ إِلَى الأخذ بما عرفوا، والإمساك عما لم يكلفوا، فَإِنَّ أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا، فليكن طلبك ذَلِكَ بتفهم وتعلم، ولا بتورط الشبهات وعلوا الخصومَاتَ. وابدأ قبل نظرك فِي ذَلِكَ بالاستعانة بإلهك، والرغبة إليه فِي توفيقك، وترك كُلّ شائبة أَوْلجتك فِي شبهة أَوْ أسلمتك إِلَى ضلالة، فإذا أيقنت أن قَدْ صفا قلبك فَخَشَعَ، وتم رأيك فاجتمَعَ، وكَانَ همك فِي ذَلِكَ همًا واحدًا، فَانْظُرْ فيما فَسَّرْتُ لَكَ. وإن لم يجتمَعَ لَكَ ما تحب من نفسك، وفراغ نظرك وفكرك، فاعْلَمْ أنَّكَ إنما تخبط العشواء وتتورط الظلماء، ولَيْسَ طالب الدين من خبط أَوْ خلط، والإمساك على ذَلِكَ أمثل. فتفهم يَا بني وصيتي، واعْلَمْ أنَّ مالك الموت هُوَ مالك الحياة، وأنَّ الخالق هُوَ المميت، وأن المفني هُوَ المعيد، وأن الله هُوَ المعافي، وأن الدُّنْيَا لم تكن لتستقر إلا على ماجعلها الله عَلَيْهِ من النعماء والابتلاء، والجزاء فِي المعاد أَوْ ما شَاءَ مِمَّا لا نعلم. فإن أشكل عَلَيْكَ شَيْء من ذَلِكَ فاحمله على جهالتك به، فإنك أول ما خلقت جاهلاً ثُمَّ علمت، وما أكثر ما تجهل من الأَمْر، ويتحير فيه رأيك، ويضل فيه بصرك، ثُمَّ تبصره بعد ذَلِكَ، فاعتصم بالَّذِي خلقك ورزقك وسواك، وليكن لَهُ تَعَبُّدُكَ، وإِليه رغبتُك، ومنه شفقتك.

واعْلَمْ يَا بني أن أحدًا لم ينبئ عَنْ الله كما أنبأ عَنْهُ الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - فارض به رائدًا، وإلى النجاة قائدًا، فإني لم آلُكَ نصيحة، وإنك لن تبلغ فِي النظر لنفسك - وإن اجتهدت - مبلغ نظري لَكَ. واعْلَمْ يَا بني أنه لو كَانَ لربك شريك لأتتك رسله، ولرَأَيْت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته، ولكنه إلهٌ واحدٌ كما وصف نَفْسهُ، لا يضاده فِي ملكه أَحَدًا، ولا يزول أبدًا، ولم يزل أول قبل الأَشْيَاءِ بلا أولية، وآخر بعد الأَشْيَاءِ بلا نهاية، عَظُمَ عَنْ أن تَثْبُتَ ربوبيته بإحاطة قلب أَوْ بصر، فإذا عرفت ذَلِكَ فافعل كما ينبغي لمثلك أن يفعله فِي صغر خطره، وقلة مقدرته، وكثرة عجزه، وعَظِيم حاجته إِلَى ربه، فِي طلب طاعته، والرهبة من عقوبته، والشفقة من سخطه، فإنه لم يأمرك إلا بحسن، ولم ينهك إلا عَنْ قبيح. يا بني.. إني قَدْ أنبأتك عَنْ الدُّنْيَا وحالها وزوالها وانتقالها، وأنبأتك عَنْ الآخِرَة وما أعد لأهلها فيها، وضربت لَكَ فيهما الأمثال لتعتبر بها وتحذو عَلَيْهَا. اللَّهُمَّ إِنَّا نعوذ بك من الشك بعد اليقين، ومن الشيطان الرجيم، ومن شدائد يوم الدين، ونسألك رضاك والْجَنَّة، ونعوذ بك من سخطك والنار، اللَّهُمَّ ارحمنا إِذَا عرق الجبين واشتد الكرب والأنين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلمين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. " فَصْلٌ ": إنما مثل من خَبَرَ الدُّنْيَا كمثل قوم سَفرٍ نَبَا بِهُمْ منزل جديب فأَمَّوا منْزِلاً خصيبًا وجنابًا مريعًا فاحتملوا وعثاء الطَرِيق وفراق الصديق، وخشونة السفر، وجشوبة المطعم، ليأتوا سعة دراهم، ومنزل قرارهم، فلَيْسَ

يجدون لشيء من ذَلِكَ ألَمًا، ولا يرون فِي نفقه مغرمًا، ولا شَيْء أحب إليهم مِمَّا قربهم من منزلهم، وأدناهم عَنْ محلهم. ومثل من اغتر بها كمثل قوم كَانُوا بمنزل خصيب، فَنَبَا بِهُمْ إِلَى منزل جديب، فلَيْسَ شَيْء أكره إليهم ولا أفظع عندهم من مفارقة ما كَانُوا فيه إِلَى ما يهجمون عَلَيْهِ ويصيرون إليه. يا بني.. اجعل نفسك ميزانًا فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره لَهُ ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم، وأحسن كما تحب أن يحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارض من النَّاس بما ترضاه لَهُمْ من نفسك، ولا تقل ما لا تعلم وإن قل ما تعلم، ولا تقل ما لا تحب أن يقَالَ لَكَ. وَاعْلَمْ أن الإعجاب ضد الصواب وآفة الألباب، فاسع فِي كدحك ولا تكن خازنًا لغيرك، وَإِذَا هديت لقصدك، فكن أخشع ما تَكُون لربك. واعْلَمْ أن أمامك طريقًا ذا مسافة بعيدة ومشقة شديدة، وأنه لا غنى لَكَ فيه عَنْ حسن الارتياد، قَدْرَ بلاغك من الزَّاد مَعَ خفة الظهر، فلا تحملن على ظهرك فوق طاقتك فيكون ثقل ذَلِكَ وبالاً عَلَيْكَ. وَإِذَا وجدت من أَهْل الفاقة من يحمل لَكَ زادك إِلَى يوم القيامة، فيوافيك به غدًا حيث تحتاج إليه فاغتنمه وحمله إياه، وأكثر من تزويده وأَنْتَ قادر عَلَيْهِ، فلعلك تطلبه فلا تجده، واغتنم من استقرضك فِي حال غناك، ليجعل قضاءه لَكَ فِي يوم عسرتك. واعْلَمْ أن أمامك عقبة كؤودًا، المخف فيها أحسن حالاً من المثقل، والمبطي عَلَيْهَا أقبح حالاً من المسرع، وأن مهبطك بها لا محالة على جنة أَوْ على نار، فارتد لنفسك قبل نزولك، ووطئ المنزل قبل حلولك، فلَيْسَ بعد الموت مستعتب، ولا إِلَى الدُّنْيَا منصرف.

واعْلَمْ أن الَّذِي بيده خزائن السماوات والأَرْض، قَدْ أذن لَكَ فى الدُّعَاء، وتكفل لَكَ بالإجابة، وأمرك أن تسأله ليعطيك تسترحمه ليرحمك، ولم يجعل بينك وبينه من يحجبه عَنْكَ، ولم يلجئك إِلَى من يشفع لَكَ إليه، ولم يمنعك إن أسأت من التوبة، ولم يعاجلك بالنقمة، ولم يعيرك بالإنابة ولم يفضحك حيث الفضيحة بك أولى، ولم يشدد عَلَيْكَ فِي قبول الإنابة، ولم يناقشك بالجريمة، ولم يؤيسك من الرحمة. بل جعل نزوعك عَنْ الذنب حسُنَّة، وحسب سيئتك واحدة، وحسب حسنتك عشرًا، وفتح لَكَ باب المتاب، فإذا ناديته سَمِعَ نداءك، وَإِذَا ناجيته علم نجواك، فأفضيت إليه بحاجتك، وأبثثته ذات نفسك، وشكوت إليه همومك، واستكشفته كروبك، واستعنته على أمورك، وسأتله من خزائن رحمته ما لا يقدر على إعطائه غيره من زيادة الأعمار، وصحة الأبدان، وسعة الأرزاق. ثُمَّ جعل فِي يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لَكَ من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدُّعَاء أبواب نعمته، واستمطرت شآبيب رحمته فلا يقنطك إبطاء إجابته، فَإِنَّ العطية عَلَى قَدْرِ النية، وَرُبَّمَا أخرت عَنْكَ إجابة ليكون ذَلِكَ أعظم لأجر السائل، وأجزل لعطاء الآمل. وَرُبَّمَا سألت الشيء فلا تؤتاه وأوتيت خيرًا منه عاجلاً أَوْ آجلاً، أَوْ صرف عَنْكَ لما هُوَ خَيْر لَكَ، فلرب أمر قَدْ طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته، فلتكن مسألتك فيما يبقى لَكَ جماله، وينفى عَنْكَ وباله. فالْمَال لا يبقى لَكَ ولا تبقى لَهُ. واعْلَمْ أَنَّكَ إنما خلقت للآخرة لا الدُّنْيَا، وللفناء لا للبقاء، وللموت لا للحياة، وأنك فِي منزل قلعة ودار بلغة، وطَرِيق إِلَى الآخِرَة.

وأنك طريد الموت الَّذِي لا ينجو منه هاربه، ولا بد أنه مدركه، فكن منه على حذر إن يدركك وأَنْتَ على حال سَيِّئَة قَدْ كنت تحدث نفسك مَنْهَا بالتوبة، فيحول بينك وبين ذَلِكَ، فإذا أَنْتَ قَدْ أهلكت نفسك. يا بني.. أكثر من ذكر الموت، وذكر ما تهجم عَلَيْهِ، وتفضي بعد الموت إليه، حَتَّى يأتيك وقَدْ أخذت منه حذرك، وشددت لَهُ أزرك، ولا يأتيك بغتة فيبهرك، وَإِيَّاكَ أن تغتر بما تَرَى من إخلاد أَهْل الدُّنْيَا إليها، وتكالبهم عَلَيْهَا. فقَدْ نبأك الله عَنْهَا ونَعَتَتْ لَكَ نفسها، وتكشفت لَكَ عَنْ مساويها، فَإِنَّ أهلها كلاب عاوية وسباع ضارية، يهر بعضها بَعْضًا، ويأكل عزيزها ذليلها، ويقهر كبيرها صغيرها. نعم معقلة، وأخرى مهملة، قَدْ أضلت عقولها، وركبت مجهولها، سروح عاهة بواد وعث. لَيْسَ لها راع يقيمها، ولا مقيم يسميها، سلكت بِهُمْ الدُّنْيَا طَرِيق العمى، وأخذت بأبصارهم عَنْ منار الهدى، فتاهوا فِي حيرتها، وغرقوا فِي نعمتها، واتخذوها ربًّا فلعبت بِهُمْ ولعبوا بها، ونسوا ما وراءها. رويدًا يسفر الظلام، كَأنْ قَدْ وردت الأظغان، يوشك من أسرع أن يلحق، واعْلَمْ أن من كانت مطية الليل والنهار فإنه يسار به وإن كان واقفًا ويقطع المسافة وإن كان مقيمًا وادعًا. واعلم يقينا إِنَّكَ لن تبلغ أملك، ولن تعدو أجلك، وإنك فِي سبيل من كَانَ قبلك فخفض فِي الطلب، وأجمل فِي المكتسب فانه رب طلب قَدْ جر إلى حرب، فلَيْسَ كُلّ طالب بمرزوق، ولا كُلّ مجمل بمحروم، وأكرم نفسك عَنْ دنية، وان ساقتك إِلَى الراغائب، فانك لن تعتاض بما تبذل

من نفسك عوضًا، ولا تكن عبد غيرك وقَدْ جعلك الله حرًا، وما خَيْر، لا ينال إلا بشر، ويسر لا ينال الا بعسر. وَإِيَّاكَ أن توجف بك مطايا الطمَعَ، فتوردك مناهل الهلكة، وإن استطعت أن يكون بينك وبين الله ذو نعمة فافعل، فإنك مدرك قسمك، وآخذ سهمك، وإن اليسير من الله سُبْحَانَهُ أعظم وأكرم من الكثير من خلقه وإن كَانَ كُلّ منه. كَأَنَّكَ لَمْ تَسْمَعْ بِأَخْبَارِ مَنْ مَضَى ... وَلَمْ تَرَ فِي الْبَاقِينَ مَا يَصْنَعُ الدَّهْرُ فَإِنْ كُنْتَ لا تَدْرِي فَتِلْكَ دِيَارُهُمْ ... عَلَيْهَا مَجَالُ الرِّيحِ بَعْدَكَ وَالْقَطْرُ وَهَلْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ حَيًّا بِمَنْزِلٍ ... عَلَى الأَرْضِ إِلا بِالْفَنَاءِ لَهُ قَبْرُ وَأَهْلُ الثَّرَى نَحْوَ الْمَقَابِرِ شُرّعٌ ... وَلَيْسَ لَهُمْ إِلا إِلَى رَبِّهِمْ نَشْرُ عَلَى ذَاكَ مَرُّوا أَجْمَعُونَ وَهَكَذَا ... يَمُرُّونَ حَتَّى يَسْتَرِدُّهُمْ الْحَشْرُ فَلا تَحْسَبَنَّ الْوَفْرَ مَالاً جَمَعْتَهُ ... وَلَكِنَّ مَا قَدَّمْتَ مِنْ صَالِحٍ وَفْرُ قَضَى جَامِعُوا الأَمْوَالِ لَمْ يَتَزَوَّدُوا ... سِوَى الْفَقْرُ يَا بُؤْسًا لِمَنْ زَادُهُ الْفَقْرُ بَلَى سَوْفَ تَصْحُو حِينَ يَنْكَشِفُ الْغَطَا ... وَتَذْكُرُ قَوْلِي حِينَ لا يَنْفَعُ الذِّكْرُ وَمَا بَيْنُ مِيلادُ الْفَتَى وَوَفَاتِهِ ... إِذَا نَصَحَ الأَقْوَامُ أَنْفُسَهُمْ عُمْرُ لأَنَّ الَّذِي يَأْتِي كَمِثْلِ الَّذِي مَضَى ... وَمَا هُوَ إِلا وَقْتُكَ الضَّيِّقُ النَّزْرُ فَصَبْرًا عَلَى الأَوْقَاتِ حَتَّى تَحُوزَهَا ... فَعَمَّا قَلِيلٍ بَعْدَهَا يَنْفَعُ الصَّبْرُ اللَّهُمَّ إليك بدعائنا توجهنا وبفنائك أنخنا وَإِيَّاكَ أملنا ولما عندك من الكرم والجود والإحسان طلبنا ومن عذابك أشفقنا ولغفرانك تعرضنا فاغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

أبي حازم للأعرج

(وَصِيَّةُ أَبِيْ حَازِمٍ الأَعْرَجِ لِلزُّهْرِي) عافانَا الله وَإِيَّاكَ أبا بكر من الفتن، ورحمك من النار، فقَدْ أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمك مَنْهَا، أصبحت شيخًا كبيرًا قَدْ أثقلتك نعم الله عَلَيْكَ، بما أصح من بدنك، وأطال من عمرك، وعلمت حجج الله تَعَالَى مِمَّا حَمَلَكَ من كتابه، وفقهك فيه من دينه، وفهمك من سُنَّة نبيك - صلى الله عليه وسلم -، فرمى بك فِي كُلّ نعمة أنعمها عَلَيْكَ وكل حجة يحتج بها عَلَيْكَ، وقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} . انظر.. أي رجل تَكُون إِذَا وقفت بين يدي الله عَزَّ وَجَلَّ فسألك عَنْ نعمه عَلَيْكَ كيف رعيتها، وعن حججه عَلَيْكَ كيف قضيتها، ولا تحسبن الله راضيًا منك بالتغرير، ولا منك التقصير، هيهات لَيْسَ كَذَلِكَ. أخذ على الْعُلَمَاء فِي كتابه إذ قال {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ} .. الآية. إنك تَقُول إِنَّكَ جدل، ماهر عَالِم، قَدْ جدلت النَّاس فجدلتهم، وخاصمتم فخصمتهم، إذلالاً منك بهمك، وإقتدارًا منك برأيك، فأين تذهب من قول الله عَزَّ وَجَلَّ: {هَا أَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .. الآية اعْلَمْ أن أدنى ما ارتكبت، وأعظم ما احتقيت، أن آنست الظَالِم وسهلت لَهُ طَرِيق الغي بدنوك حين أدنيت، وأجابتك حين دعيت، فما أخلقك أن تبوء بإثمك غدا مَعَ الْجُمُعَة، وأن تسأل عما أردت بإغضائك عَنْ ظلم مظلمة. إنك أخذت ما لَيْسَ لمن أعطاك، ودنوت ممن لا يرد على أحد حقًا، ولا ترك باطلاً حين أدناك، وأجبت من أراد التدلَيْسَ بدعائه إياك حين دعاك. جعلوك قطبًا تدور باطلهم عَلَيْكَ، وجسرًا يعبرون بك إِلَى بلائهم،

وسلمًا إِلَى ضلالتهم، وداعيًا إِلَى غيهم، وسالكًا سبيلهم، يدخلون بك الشك على الْعُلَمَاء، ويقتادون بك قُلُوب الجهال إليهم، فلم تبلغ أخص وزرائهم، ولا أقوى أعوانهم لَهُمْ إلا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم، واختلاف الخاصة والعامة إليهم، فما أيسر ما عمروا لَكَ فِي جنب ما خرجوا عَلَيْكَ، وما أقل ما أعطوك فِي كثير ما أخذوا منك، فَانْظُرْ لنفسك فإنه لا ينظر لها غيرك، وحاسبها حساب رجل مسؤول. وانظر كيف شكرك لمن غذاك بنعمه صغيرًا وكبيرًا، وانظر كيف إعظامك أمر من جعلك بدينه فِي النَّاس بخيلاً، وكيف صيانتك لكسوة من جعلك لكسوته ستيرَا، وكيف قربك وبعدك ممن أمرك أن تَكُون منه قريبَا. ما لَكَ لا تنتبه من نفسك، وتستقِيْل من عثرتك، فَتَقُول: وَاللهِ ما قمت لله مقامًا واحدًا أحيي لَهُ فيه دينًا، ولا أميت لَهُ فيه باطلاً، إنما شكرك لمن استحَمَلَكَ كتابه، واستودعك علمه. ما يؤمنك أن تَكُون من الَّذِينَ قَالَ الله تَعَالَى فيهم: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى} ... الآية. إنك لست فِي دار مقام، قَدْ أذنت بالرحيل، ما بقاء المرء بعد أقرانه، طُوبَى لمن كَانَ مَعَ الدُّنْيَا على وجل، ويا بؤس من يموت وتبقى ذنوبه من بعده. إنك لم تؤمر بالنظر لوارثك على نفسك، ولَيْسَ أحد أهلاً أن تردفه على ظهرك. ذهبت اللذة وبقيت التعبة، ما أشقى من سعد بكسبه غيره، إحذر فقَدْ أتيت، وتخلصت فقَدْ أدهيت إِنَّكَ تعامل من لا يجهل، والَّذِي يحفظ عَلَيْكَ لا يغفل. تجهز فقَدْ دنا منك سفر، وداو دينك فقَدْ دخله سقم شديد، ولا

تحسبن أني أردت توبيخك أَوْ تعييرك وتعنيفك، ولكني أردت أن تبنش ما فات من رأيك، وترد ما عزب عَنْكَ من حلمك، وذكرت قوله تَعَالَى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} . أغفلت ذكر من مضى من أسلافك وأقرانك، وبقيت بعدهم كقرن أعضب، فَانْظُرْ هل ابتلوا بمثل ما ابتليت به، أَوْ دخلوا فِي مثل ما دخلت فيه، هل تراه إِدَّخَرَ لَكَ خيرًا منعوه أَوْ علمك عِلْمًا جهلوه، بل جهلت ما ابتليت به من حالك فِي صدور العامة، وكلفهم بك أن صاروا يقتدون برأيك ويعملون بأمرك، إن حللت أحلوا، وإن حرمت حرموا، ولَيْسَ ذَلِكَ عندك، ولكن إكبابهم عَلَيْكَ، ورغبتهم فيما فِي يديك، ذهاب عملهم، وغلبة الجهل عَلَيْكَ وعَلَيْهمْ، وطلب حب الرياسة وطلب الدُّنْيَا منك وَمِنْهُمْ. أما تَرَى ما أَنْتَ فيه من الجهل والعزة، وما النَّاس فيه من البَلاء والفتنة، وابتليتهم بالشغل عَنْ مكاسبهم وفتنتهم، بما رأوا من اثر العلم عَلَيْكَ، وتاقت أنفسهم إِلَى أن يدركوا بالعلم ما أدركت، ويبلغوا منه مثل الَّذِي بلغت، فوقعوا بك فِي بحر لا يدرك قعره، وَفِي بَلاء لا يقدر قدره، فالله لَنَا ولك ولهم المستعان. واعْلَمْ أن الجاه جاهان: جاه يجريه الله تَعَالَى على يدي أوليائه لآوليائه، الخامل ذكرهم، الخافية شخوصهم، ولَقَدْ جَاءَ نعتهم على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((إن الله يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء الَّذِينَ إِذَا غابوا لم يفتقدوا، وَإِذَا شهدوا لم يعرفوا، قُلُوبهمْ مصابيح الهدى، يخرجون من كُلّ فتنة سوداء مظلمة» . فهؤلاء أَوْلِيَاء الله الَّذِينَ قَالَ تَعَالَى فيهم: {أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .

وجاه يجريه الله تَعَالَى على يدي أعدائه لأوليائه، وَمِقَةٌ يقذفها الله فِي قُلُوبهمْ لَهُمْ، فيعظمهم النَّاس بتعَظِيم أولئك لَهُمْ ويرغب النَّاس فيما فِي أيديهم لرغبة أولئك فيه إليهم {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} . وما أخوفني أن تَكُون ممن ينظر لمن عاش مستورًا عَلَيْهِ فِي دينه، مقتورًا عَلَيْهِ فِي رزقه، معزولة عَنْهُ البلايا، مصروفة عَنْهُ الفتن فِي عنفوان شبابه وطهور جلده، وكمال شهوته. فعني بذَلِكَ دهره، حَتَّى إِذَا كبر سنه، ورق عظمه، وضعفت قوته، وانقطعت شهوته ولذته، فتحت عَلَيْهِ الدُّنْيَا شر فتوح فلزمته تبعتها وعلقته فتنتها، وأعشت عينيه زهرتها، وصفت لغيره منفعتها. فسبحان الله ما أبين هَذَا الغبن، وأخسر هَذَا الأَمْر، فهلا إِذَا عرضت لَكَ فتنتها ذكرت أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي كتابه إِلَى سعد.. حين خاف عَلَيْهِ مثل الَّذِي وقعت فيه عِنْدَمَا فتح الله على سعد. أما بعد فأعرض عَنْ زهرة ما أَنْتَ فيه حَتَّى تلقى الماضين الَّذِينَ دفنوا فِي أسمالهم، لاصقة بطونهم بظهورهم، لَيْسَ بينهم وبين الله حجاب، لم تفتنهم الدُّنْيَا ولم يفتنوا بها، رغبوا فطلبوا فما لبثوا أن لحقوا. فإذا كَانَتْ الدُّنْيَا يبلغ من مثلك هَذَا فِي كبر سنك، ورسوخ علمك، وحضور أجلك، فمن يلوم الحدث فِي سنه، والجاهل فِي علمه، والمأفون فِي رأيه المدخول فِي عقله (إنَا لله وإنَا إليه راجعون) على من المعول، وعَنْدَ من المستعتب. نحتسب عَنْدَ الله مصيبتنا.. وما نرى منك، ونحمد الله الَّذِي عافانَا مِمَّا ابتلاك به. والسَّلام عَلَيْكَ ورحمة الله وبركاته..

شِعْرًا: ... يَمْشُونَ نَحْوَ بُيُوتِ اللهِ إِذَا سَمِعُوا ... اللهُ أَكْبَرُ فِي شَوْقٍ وَفِي جَذَلِ أَرْوَاحُهُمْ خَشَعَتْ للهِ فِي أَدَبِ ... قُلُوبُهُمْ مِنْ جَلالِ اللهِ فِي وَجَلِ نَجْوَاهُمُ رَبَّنَا جِئْنَاكَ طَائِعَةً ... نُفُوسَنَا وَعِصْيَانَا خَادِعَ الأَمَلِ إِذَا سَجَى اللَّيْلُ قَامُوهُ وَأَعْيُنُهُمْ ... مِنْ خَشْيَةِ اللهِ مِثْلَ الْجَائِدِ الْهَطَلِ هُمُ الرِّجَال فَلا يُلْهِيهِمْ لَعِبٌ ... عَن الصَّلاةِ وَلا أَكْذُوبَةُ الْكَسَلِ آخر: ... لا فِي النَّهَارَ وَلا فِي اللَّيْلِ لِي فَرَحٌ ... فَمَا أُبَالِى أَطَالَ اللَّيْلُ أَمْ قَصُرَا لأَنَّنِي طُولَ لَيْلِى هَائِمٌ دَنِفٌ ... وَبِالنَّهَارَ أُقَاسِي الْهَمَّ وَالْفِكَرَا آخر: ... لَعَمْرِي لَقَدْ نُودِيتَ لَوْ كُنْتَ تَسْمَعُ ... أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْمَوْتَ مَا لَيْسَ يَدْفَعُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ النَّاسَ فِي غَفَلاتِهِمْ ... وَأَنَّ الْمَنَايَا بَيْنَهُمْ تَتَقَعْقَعُ أَلَمْ تَرَ لَذَّاتِ الْجَدِيدِ إِلَى الْبَلَى ... أَلَمْ تَرَ أَسْبَابَ الأُمُورِ تَقَطَّعُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْمَوْتَ يَهْتَزُّ سَيْفُهُ ... وَأَنَّ رِمَاحَ الْمَوْتِ نَحْوَكَ شُرَّعُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الوَقْتَ فِي كُلِّ سَاعَةٍ ... لَهُ عَارِضٌ فِيهِ الْمَنِيَّةُ تَلْمَعُ أَيَا بَانِي الدُّنْيَا لِغَيْرِكَ تَبْتَنِي ... وَيَا جَامِعَ الدُّنْيَا لِغَيْرِكَ تَجْمَعُ وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على نبينا مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم. وقَالَ رجل لمُحَمَّد بن سيرين: أوصني. فقَالَ: لا تحسد أَحَدًا فإنه إن كَانَ من أَهْل النار فَكَيْفَ تحسده على دنيا فانية مصيره بعدها إلى النار، وإن كَانَ من أَهْل الْجَنَّة فاتبعه فِي إعمالها واغبطه عَلَيْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ أولى من حسدك لَهُ على الدُّنْيَا. وقَالَ رجل للحسن البصري: أوصني. فقَالَ: لا تذنب فتلقى نفسك فِي النار من إِنَّكَ لو رَأَيْت أَحَدًا يلقى برغوثًا فِي النار لا نكرت عَلَيْهِ، وأَنْتَ تلقى نفسك فِي النار كُلّ يوم مرات، ولا تنكر عَلَيْهَا. ومن ذَلِكَ حسن أدبهم مَعَ الصغير والكبير ومَعَ الْبَعِيد فضلاً عَنْ القريب. والأصل فِي الأَدَب شهود النقص فِي النفس والكمال فِي الغير عكس من

كَانَ قليل أدب متكبر، وكَانَ ميمون بن مهران إِذَا دُعِي إِلَى وليمة جلس مَعَ الصبيان والمساكين من الرِّجَال وترك الأغنياء، وكَانَ بكر بن عَبْد اللهِ المزني يَقُولُ: إِذَا رَأَيْت من هُوَ أكبر منك فعظّمْه وقل إنه سبقني إِلَى الإِسْلام والْعَمَل الصالح وَإِذَا رَأَيْت من هُوَ أصغر منك فعظمه وقل فِي نفسك إني سبقته إِلَى الذُّنُوب، وَإِذَا أكرمك النَّاس فقل هَذَا من فضل الله علي لا أستحقه وَإِذَا أهانوك فقل هَذَا بذنب أحدثته. ومن أخلاقهم انخلاع قُلُوبهمْ من خوف الله من ذَلِكَ ما ذكر أنه لما حضرت الوفاة سلمان الفارسي بكى، وقَالَ إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَدْ عهد إلينا وقَالَ: «ليكن بلغة أحدكم من الدُّنْيَا كزَادَ الراكب " وها أَنَا قَدْ جمعت هَذِهِ الأمتعة وأشار إليها وهي أجانة وحفنة ومطهرة فَلَمَّا مَاتَ قوموها بخمسة عشر درهمًا. شِعْرًا: ... مَا ضَرَّ مَنْ كَانَتْ الْفِرْدَوْسُ مَسْكَنَهُ ... مَاذَا تَحَمَّلَ مِنْ بُؤْسٍ وَإِقْتَارِ تَرَاهُ يَمْشِي كَئِيبًا خَائِفًا وَجِلاً ... إلى الْمَسَاجِدِ يَسْعَى بَيْنَ أَطْمَارِ ومِمَّا ينسب إِلَى الشَّافِعِي: يَا لَهْفَ قَلْبِي عَلَى شَيْئَيْنِ لَوْ جُمِعَا ... عِنْدِي لَكُنْتَ إِذَا مِنْ أَسْعَدِ الْبَشَرِ كَفَافِ عَيْشٍ يَقِينِي شَرَّ مَسْأَلَةٍ ... وَخِدْمَةِ الْعِلْمِ حَتَّى يَنْتَهِي عُمُرِي آخر: ... قَطَعَ اللَّيَالِي مَعَ الأَيَّامِ فِي خَلِق ... وَالنَّوْمُ تَحْتَ رِوَاقِ الْهَمِّ وَالْقَلَقِ أَحْرَى وَأَعْذَرُ لِي مِنْ أَنْ يُقَالَ غَدًا ... إِنِّي التَمَسْتُ الْغِنَى مِنْ كَفِّ مُخْتَلِقِ قَالُوا قَنِعْتَ بِذَا قُلْتُ الْقُنُوعُ غِنَى ... لَيْسَ الْغِنَى كَثْرَةُ الأَمْوَالِ وَالْوَرَقِ آخر: ... لا تَضْرَعَنَّ لِمَخْلِوقٍ عَلَى طَمَعٍ ... فَإِنَّ ذَلِكَ نَقْصٌ مِنْكَ فِي الدِّينِ وَاسْتَرْزِقْ اللهَ مِمَّا فِي خَزَائِنِهِ ... فَإِنَّمَا الأَمْرُ بَيْنَ الْكَافِ وَالنُّونِ آخر: ... كَمْ فَاقَةٍ مَسْتُورَةٍ بِمُرُوءَةٍ ... وَضَرورَةٍ قَدْ غُطِّيَتْ بِتَجَمُّلِ وَمنِ ابْتِسَامٍ تَحْتَهُ قَلْبٌ شَجِي ... قَدْ خَامَرَتْهُ لَوْعَةٌ مَا تَنْجَلِي

آخر: ... إِنَّ الْكَرِيمَ إِذَا نَالَتْهُ مَخْمَصَةٌ ... أَبْدَى إِلَى النَّاسِ رَيًّا وَهُوَ ظَمْآنُ يَطْوِي الضُّلُوعَ عَلَى مِثْلِ اللَّظَى حُرَقًا ... وَالْوَجْهُ طلق بِهِ وَالْبشَّر رَيّانُ آخر: ... نَهَارٌ مُشْرِقٌ وَظَلامُ لَيْلٍ ... أَلَحَّا بِالْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ هُمَا هَدَمَا دَعَائِمَ عُمْرِ نُوحٍ ... وَلُقْمَانٍ وَشَدَّادٍ وَعَادِ فَيَا بَكْرَ بن حَمَّادٍ تَعَجَّبْ ... لِقَوْمٍ سَافَرُوا مِنْ غَيْرِ زَادِ تَبِيتُ عَلَى فِرَاِشَك مُطْمَئِنًا ... كَأَنَّكَ قَدْ أَمِنْتَ مِنَ الْمَعَادِ فَيَا سُبْحَانَ مَنْ أَرْسَى الرَّوَاسِي ... وَأَوْفَدَهَا عَلَى السَّبّعُ الشِّدَادِ آخر: ... مَنْ رَاقَبَ الْمَوْتَ لَمْ تَكْثُرْ أَمَانِيهِ ... وَلَمْ يَكُنْ طَالِبًا مَا لَيْسَ يَعْنِيهِ آخر: ... رُبَّ بَاتَ يُمَنِّي نَفْسَهُ ... حَالَ مِنْ دُونِ مُنَاهُ أَجْلُهْ آخر: ... إِذَا أَمْسَيْتَ فَابْتَدِرِ الصَّبَاحَا ... وَلا تُمْهِلْهُ تَنْتَظِرِ الصِّيَاحَا وَتُبْ مِمَّا جَنَيْتَ فَكَمْ أُنَاسٍ ... قَضَوْا نَحْبًا وَقَدْ نَامُوا صِحَاحَا آخر: ... وَلا تُرْجِ فِعْلَ الصَّالِحَاتِ إِلَى غَدٍ ... لَعَلَّ غَدًا يَأْتِي وَأَنْتَ فَقِيدُ احتضر بَعْض العباد فقَالَ: ما تأسفي على دار الهموم والأحزان والانكاد والخطايا والذُّنُوب، وإنما تأسفي على ليلة نمتها ويوم أفطرته وساعة غفلت فيها عَنْ ذكر الله، وقَالَ إبراهيم بن أدهم: فرغ قلبك من ذكر الدُّنْيَا يفرغ عَلَيْكَ الرضاء إفراغًا. خطب الحجاج فقَالَ: إن الله أمرنا نطلب الآخِرَة وكفانَا مؤنة الدُّنْيَا فليته كفانَا مؤونة الآخِرَة وأمرنا بطلب الدُّنْيَا. فقَالَ الحسن البصري: ضالة المُؤْمِن عَنْدَ فاسق فليأخذها. وقَالَ أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إن الله جعل الدُّنْيَا دار بلوى والآخِرَة دار عقبى، فجعل بلوى الدُّنْيَا لثواب الآخِرَة سببًا، وثواب الآخِرَة من بلوى الدُّنْيَا عوضًا فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي. وقَالَ بَعْضهمْ: إن امرأ ذهبت ساعة من عمره فِي غير ما خلق لَهُ لحري أن يطول عَلَيْهَا حزنه.

من وصايا السلف لمن سألهم ذلك

وقَالَ آخر: ما ابتلى أحد بشَيْء أشد من الغَفْلَة والقَسْوَة إنما كره المُؤْمِن الموت لانقطاع الأَعْمَال الصَّالِحَة وخوف الذُّنُوب، ومن شغله طلب الدُّنْيَا عَنْ الآخِرَة ذل إما فِي الدُّنْيَا وإما فِي الآخِرَة وإما بهما جميعًا. من نظر فِي سيرة السَّلَف عرف تقصيره وتخلفه عَنْ درجات الكمال، تعرف نفسك فِي ثلاثة مواضع: إِذَا عملت فَانْظُرْ نظر الله إليك وَإِذَا تكلمت فاذكر سمَعَ الله إليك وَإِذَا سكت فاذكر علم الله فيك، تهاون بالدُّنْيَا حَتَّى لا يعظم بعينك أهلها ومن يملكها. قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: كَانَ الرجل فِي أَهْل العلم يزداد بعلمه بغضا للدنيا وتركًا لها، والْيَوْم يزداد الرجل بعلمه حبًا للدنيا وطلبًا لها وكَانَ الرجل ينفق ماله على علمه والْيَوْم يكسب الرجل بعلمه مالً وكَانَ يرى على طالب العلم زيادة فِي باطنه وظاهره والْيَوْم يرى على كثير من أَهْل العلم فساد فِي الظاهر والباطن. شِعْرًا: ... يَا عَامِرَ الدُّنْيَا عَلَى شَيْبَتِهْ ... فِيكَ أَعَاجِيبُ لِمَنُ يَعْجَبُ مَا عُذْرُ مَنْ يَعْمُر بُنْيَانَهُ ... وَعُمْرُهُ مُسْتَهْدَمٌ يَخْرَبُ آخر: ... عَجِبْتُ لِتَغْرِيسِي نَوَى النَّخْلِ بَعْدَمَا ... طَلَعْتَ عَلَى السِّتِّينَ أَوْ كِدْتُ أَفْعَلُ وَأَدْرَكْتُ مِلأَ الأَرْضِ نَاسًا فَأَصْبَحُوا ... كَأَهْلِ دِيَارٍ أَدْلَجُوا فَتَحَمَّلُوا وَمَا النَّاسُ إِلا رُفْقَةٌ قَدْ تَحَمَّلَتْ ... وَأُخْرَى تُقَضَّى حَاجَهَا ثُمَّ تَرْحَلُ ولما حضرت إبراهيم النخعى الوفاة بكى فقِيْل لَهُ فِي ذَلِكَ فقَالَ: إني أنتظر رسولاً يأتيني من ربي لا أدري هل يبشرني بالْجَنَّة أَوْ بالنار. ولما حضرت عمر بن عَبْد الْعَزِيز الوفاة، قَالَ: اللهم إني أذنبت فَإِنَّ غفرت لي فقَدْ مننت وإن عذبتني فقَدْ عدلت، وما ظلمت لكن أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ثُمَّ قضى نحبه. وكَانَ يتمثل بهذه الأبيات:

تَرَاهُ مَكِينًا وَهُوَ لِلَّهْوِ مَاقِتٌ ... بِهِ عَنْ حَدِيثِ الْقَوْمِ مَا هُوَ شَاغِلُهْ وَأَزْعَجَهُ عِلْمٌ عَنْ الْجَهْلِ كُلِّهِ ... وَمَا عَالِمٌ شَيْئًا كَمَنْ هُوَ جَاهِلُهْ عَبُوسٌ عَنْ الْجُهَّالِ حِينَ يَرَاهُمُوا ... فَلَيْسَ لَهُ مِنْهُمْ خَدِينٌ يُهَازِ لَهْ تَذَكَّرَ مَا يَلْقَى مِنْ الْعَيْشِ آجِلاً ... فَاشْغَلهُ عَنْ عَاجِلِ الْعَيْشِ آجِلُهْ ولما حضرت عامر بن قيس الوفاة بكى وقَالَ: إني لم أبك جزعًا من الموت ولا حرصًا على الدُّنْيَا، ولكن على عدم قضاء وطري من طاعة ربي وقيام الليل فِي أيام الشتاء. وكَانُوا يبكون إِذَا فاتتهم تكبيرة الإحرام مَعَ الجماعة، وكَانَ المحدث الثِّقَة بشر بن الحسن يقَالَ لَهُ الصفي لأنه كَانَ يلزم الصف الأول فِي مسجد البصرة خمسين سُنَّة. مثله إبراهيم بن ميمون المروزي أحد الدعاة المحدثين الثقاة من أصحاب عطاء بن أبي رباح وكَانَتْ مهنته الصياغة وطرق الذهب والفضة قَالُوا: كَانَ فقيهًا فاضلاً من الأمارين بالمعروف. وقَالَ ابن معين: كَانَ إِذَا رفع المطرقة فسمَعَ النداء لم يردها. وقِيْل لكثير بن عبيد الحمصى عَنْ سبب عدم سهوه فِي الصَّلاة وقَدْ أم أَهْل حمص ستين سُنَّة كاملة فقَالَ: ما دخلت من باب المسجد قط وَفِي نفسي غير الله. وقَالَ سُلَيْمَانٌ بن حمزة المقدسى وَهُوَ من ذرية ابن قدامة صَاحِب كتاب المغنى " لم أصل الفريضة قط منفردًا إلا مرتين، وكأني لم أصلها قط مَعَ أنه قارب التسعين» . وذكر عَنْ الأعمش أنه قَالَ: لم تفتني صلاة الجماعة ما يقرب من أربعين سُنَّة إلا مرة واحدة حين ماتت والدته اشتغل بتجهيزها.

وذكر عن بَعْضهمْ أنه لم تفته تكبيرة الإحرام أربعين سُنَّة وكَانَ بَعْضهمْ يصيبه مرض إِذَا فاتته صلاة الجماعة. نَحْنُ بالعكس ربما يصيبنا مرض أَوْ جنون إِذَا فاتنا شَيْء من حطام الدُّنْيَا والسبب الوحيد إِنَّ الدُّنْيَا ما تهمهم وأما الآخِرَة فهي نصب أعينهم فِي كُلّ ساعة يستعدون لها والدُّنْيَا جعلوها مطية الآخِرَة. نسال الله الحي القيوم العلى العَظِيم القوى العزيز أن يوقظ قلوبنا من هَذِهِ الرقدة اللَّهُمَّ صلى على مُحَمَّد. شِعْرًا: ... أَفَلَسْتَ تَدْرِي أَنَّ يَوْمَكَ قَدْ دَنَا ... أَوَ لَسْتَ تَدْرِي أَنَّ عُمْرَكَ يَنْفَدُ فَعلامَ تَضْحَكُ وَالْمَنِيَّةُ قَدْ دَنَتْ ... وَعَلامَ تَرْقُدُ وَالثَّرى لَكَ مَرْقَدُ آخر: ... الْوَقْت سَاوَمَنِي عُمْرِي فَقُلْتُ لَهُ ... لا بِعْتُ عُمْرِي بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ثُمَّ اشْتَرَاهُ تَفْرِيقًا بِلا ثَمَنِ ... ثَبِّتْ يَدَا صَفقَةٍ قَدْ خَابَ شَارِيهَا آخر: ... وَمَا فُرْشُهُمْ إِلا أَيَامِنَ أُزْرِهِمْ ... وَمَا وُسْدُهُمْ إِلا مِلاءٌ وأَذْرُعُ وَمَا لَيْلُهُم فِيهِنَّ إِلا تَخَوُّفٌ ... وَمَا نَوْمُهُمْ إِلا عِشَاشٌ مُرَوَّعُ وألوانهم صفر كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ ... عَلَيْهَا جِسَامًا مَا بِهِ الْوَرْسُ مُشبْعُ نَوَاحِلُ قَدْ أَرْزَى بِهَا الْجُهْدُ وَالسَّرَى ... إِلَى اللهِ فِي الظُّلْمَاءِ وَالنَّاسُ هُجَّعُ وَيَبْكُونَ أَحْيَانًا كَأَنَّ عَجِيجَهُمْ ... إِذَا نَوَّمَ النَّاسُ الْحَنِينُ الْمُرَجَّعُ وَمَجْلِسِ ذِكْرِ فِيهِمْ قَدْ شَهِدْتُهُ ... وَأَعْيُنُهُمْ مِنْ رَهْبَةِ اللهِ تَدْمَعُ آخر: ... وَمَا النَّاسُ إِلا رَاحِلُونَ وَبَيْنَهُمْ ... رِجَالٌ ثَوَتْ آثَارُهُمْ كَالْمَعَالِمِ بِعِزَّةِ بَأَسٍ وَاطِّلاعِ بَصِيرَةٍ ... وَهَزَّةِ نَفْسٍ وَاتِّسَاعِ مَرَاحِمِ حُظُوظُ كَمَالٍ أَظْهَرَتْ مِنْ عَجَائِبٍ ... بِمِرْآة شَخْصٍ مَا اخْتَفَى فِي الْعَوَالِمِ وَمَا يَسْتَطِيعُ الْمَرْءُ يَخْتَصُّ نَفْسَهُ ... أَلا إِنَّمَا التَّخْصِيصُ قِسْمَةُ رَاحِمِ وَقَدْ يَفْسِدُ الْحُرَّ الْكَرِيمَ جَلِيسُهُ ... وَتَضْعُفُ بِالإِيهَامِ قُوَّةُ حَازِمِ وَلَيْسَ بِحَيٍّ سَالِكٍ فِي خَسَائِسٍ ... وَلَيْسَ بِمَيْتٍ هَالِكٌ فِي مَكَارِمِ

.. إِذَا لَجَّ لُؤْمٌ مِنْ سَفِيهٍ لِرَاشِدٍ ... تَوَهَّمَ رَشْدًا فِي سَفَاهَهِ لائِمِ عَجِبْتُ مِنْ الإِنْسَانِ يَعْجَبُ وَهُوَ فِي ... نَقَائِصَ أَحْوَالٍ قَسِيمَ السَّوَائِمِ يَرَى جَوْهَرَ النَّفْسِ الطَّلِيقَ فَيَزْدَهِي ... وَيَذْهَلُ عَنْ أَعْرَاضِ جِسْمٍ لَوَازِمِ دُيُونُ اضْطِرَارٍ تَقْتَضِي كُلَّ سَاعَةٍ ... فَتُقْتَرَضُ الأَعْمَارُ بَيْنَ الْمَغَارِمِ وَكُلُّ فَمَغْرُورٌ بِحُب حَيَاتِهُ ... وَيُغْرِيهِ بِالأَدْنَى خَفَاءُ الْخَوَاتِمِ وَجَمَّاعُ مَالٍ لا انْتِفَاعَ لَهُ بِهِ ... كَمَا مَصَّ مَشْرُوطَا زُجَاجِ الْمَحَاجِمِ وَمَنْ عَرَفَ الدُّنْيَا تَيَقَّنَ أَنَّهَا ... مَطِيَّةُ يَقْظَانٍ وَطَيْفَةُ حَالِمِ فَلِلَّهِ سَاعٍ فِي مِنْاَهجِ طَاعَةٍ ... لإيلافِ عَدْلٍ أَوْ لإِتْلاِفِ ظَالِمِ ولما حضرت عَبْد اللهِ بن المبارك الوفاة قَالَ لغلامه: اجعل رأسي على الأَرْض. فَبَكَى غلامه قَالَ: ما يبكيك؟ قَالَ: ذكرت ما كنت فيه من النَّعِيم وأَنْتَ هُوَ ذا تموت على هَذِهِ الحال فقَالَ: إني سألت ربي أن أموت على هَذِهِ الحال. ثُمَّ قَالَ: لقني يَا أخي لا إله إلا الله إِذَا الحال تغير، ولا تعد علي إلا إن تكلمت بعد بكلام. ودخل الحسن البصري على رجل وَهُوَ فِي سياق الموت يجود بنفسه فقَالَ: إن أمرًا هَذَا آخره لحقيق أن يزهد فِي أوله. ولما حضرت أبا ذر الوفاة قَالَ: يَا موت اخنق وعجل فإني أحب لقاء الله. ودخل أبو الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ على رجل محتضر يجود بنفسه فوجده يَقُولُ: الحمد لله. فقَالَ لَهُ: أصبت يَا أخي أن الله إِذَا قضى أمرًا أحب من عبده أن يحمده عَلَيْهِ. ودخل سفيان الثوري على ولد يجود بنفسه وأبواه يبكيان عنده فقَالَ لهما: لا تبكيا فَإِنَّي قادم على من هُوَ أرحم منكما. ولما حضرت أبا هريرة الوفاة بكى، قَالُوا: ما يبكيك؟ قَالَ: بعد السفر وقلة الزَّاد وضعف اليقين وخوف الوقوع من الصراط فِي النار. وروي أن معاذ بن جبل رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لما حضرته الوفاة قَالَ: أعوذ بِاللهِ من ليلة صباحها إِلَى النار.

شِعْرًا: ... لَعَمْرِي مَا الرَّزِيَّةُ فَقْد قَصَرٍ ... فَسِيحٍ مُنْيَةِ لِلسَّاكِتِينَا وَلَكِنَّ الرَّزِيَّةَ فَقْدُ دِينٍ ... يَكُونُ بِفَقْدِهِ مِنْ كَافِرِينَا ثُمَّ قَالَ: مرحبًا بالموت زائر مغيب وحبيب جَاءَ على فاقة، اللَّهُمَّ إني كنت أخافك وأنَا الْيَوْم أرجوك، اللهم إِنَّكَ تعلم أني لم أكن أحب الدُّنْيَا وطول البقاء فيها لكري الأنهار ولا لغرس الأشجار ولكن لطول ظمأ الهواجر وقيام ليل الشتاء ومكابدة السَّاعَات ومزاحمة الْعُلَمَاء بالركب عَنْدَ حلق الذكر. ولما حضرت أبا الدرداء الوفاة وجعل يجود بنفسه وَيَقُولُ: ألا رجل يعمل لمثل مصرعي هَذَا ألا رجل يعمل لمثل يومي هَذَا ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هَذِهِ. ثُمَّ قبض رَحِمَهُ اللهُ فيا أيها الغَافِل المهمل وكلنا كَذَلِكَ انتبه واغتنم أوقات الصحة والسلامة واملأ أوقاتك بالباقيات الصالحات قبل أن يفاجئك هاذم اللذات ويحال بينك وبين الأَعْمَال الصالحات وتندم ولات ساعة مندم. شِعْرًا: ... تَغَنَّمْ سُكُونَ الْحَادِثَاتِ فَإِنَّهَا ... وَإِنْ سَكَنَتْ عَمَّا قَلِيلٌ تَحَرَّكُ وَبَادِرْ بَأَيَّامِ السَّلامَةِ إِنَّهَا ... رِهَانٌ وَهَلْ لِلرَّهْنِ عِنْدَكَ مَتْرَكُ آخر: ... نَهَارُكُ بَطَّالٌ وَلَيْلُكَ نَائِمٌ ... وَعَيْشُكَ يَا مِسْكِينُ عَيْشُ الْبَهَائِم آخر: ... وَعَظَتْكَ أَجْدَاثٌ وَهُنَّ صُمُوتُ ... وَسُكَّانِهَا تَحْتَ التُّرَابِ خُفُوتُ أَيَا جَامِعَ الدُّنْيَا لِغَيْرِ بَلاغِهِ ... لِمَنْ تَجْمَعِ الدُّنْيَا وَأَنْتَ تَمُوتُ وروى المزني قَالَ: دخلت على الشَّافِعِي فِي مرضه الَّذِي مَاتَ فيه فَقُلْتُ لَهُ: كيف أصبحت؟ فقَالَ: أصبحت من الدُّنْيَا راحلاً وللإِخْوَان مفارقًا ولسوء عملي ملاقيًا ولكأس المنية شاربًا وعلى الله واردًا فلا أدري أروحي تصير إِلَى الْجَنَّة فأهنؤها أَوْ إِلَى النار فأعزيها ثُمَّ أنشأ يَقُولُ: وَلَمَّا قَسَى قَلْبِي وَضَاقَتْ مَذَاهِبِي ... جَعَلْتُ الرَّجَا مِنِّي لِعَفْوِكَ سُلَّمَا

تَعَاظَمَنِي ذَنْبِي فَلَمَّا قَرَنْتُهُ ... بِعَفْوِكَ رَبِّي كَانَ عَفْوِكَ أَعْظََمَا وَمَا زِلْتَ ذَا عَفْوٍ عَنْ الذَّنْبِ لَمْ يَزَل ... تَجُودُ وَتَعْفُو مِنَّةً وَتَكَرُّمَا آخر: ... أَجَاعَتْهُمْ الدُّنْيَا فَخَافُوا وَلَمْ يَزَلْ ... كَذَلِكَ ذُو التَّقْوَى عَنْ الْعَيْشِ مُلْجَمَا أَخُو طَيءٍ دَاوُدُ مِنْهُمْ وَمِسْعَرٌ ... وَمِنْهُمْ وَهَيْبٌ وَالْعَرِيبُ بنُ أَدْهَمَا وَفِي ابنِ سَعِيدٍ قُدْوَةَ الْبِرَّ وَالنُّهَى ... وَفِي الْوَارِثِ الْفَارُوقِ صِدْقًا مُقَدِّمَا وَحَسْبُكَ مِنْهُمْ بِالْفُضَيْلِ مَعَ ابْنِهِ ... وَيُوسُفَ إِنْ لَمْ يَأْلُ أَنْ يَتَسَلَّمَا أُولِئكَ أَصْحَابِي وَأَهْلُ مَوَدَّتِي ... فَصَلَّى عَلَيْهِمْ ذُو الْجَلالِ وَسَلَّمَا فَمَا ضَرَّ ذَا التَّقْوَى نِصَالُ أَسِنَّةٍ ... وَمَا زَالَ ذُو التَّقْوَى أَعَزُّ وَأَكْرَمَا وَمَا زَالَتِ التَّقْوَى تُرِيكَ عَلَى الْفَتَى ... إِذَا مَحَّض التَّقْوَى مِنْ الْعِزِّ مِيسَمَا آخر: ... عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ وَاقْنَعْ بِرِزْقِهِ ... فَخَيْرُ عِبَادِ اللهِ مَنْ هُوَ قَانِعُ وَلا تُلْهِكَ الدُّنْيَا وَلا طَمَعٌ بِهَا ... فَقَدْ تُهْلِكَ الْمَغْرُورَ فِيهَا الْمَطَامِعُ فَصَبْرًا عَلَى مَا نَابَ مِنْ تَبُعَاتِهَا ... فَمَا يَسْتَوِي عَبْدٌ صَبُورٌ وَجَازِعُ أَعَاذِلُ مَا يُغْنِي الثَّرَاء عَنْ الْفَتَى ... إِذَا حَشْرَجَتْ فِي النَّفْسِ مِنْهُ الأَضَالِعُ آخر: ... امنع جفوننك طول الليل رقدتها ... وامنع حشاك لذيذ الري والشبعا واستشعر البر والتقوى ودم بهما ... حتى تنال بهن الفوز والرفعا آخر: ... فَخُضْ غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَاسْمُ إِلَى الْعُلا ... لِتَحْظَى بِعِزِّ فِي حَيَاتِكَ دَائِمِ فَلا خَيْرَ فِي مَنْ لا يَخَافُ إِلَهَهُ ... وَلا هِمَّةٍ تَصْبُو لِنَيْلِ الْمَآثِمِ آخر: ... وَرَبِّكَ لَوْ أَبْصَرْتَ يَوْمًا تَتَابَعَتْ ... عَزَائهُمْ حَتَّى لَقَدْ بَلَغُوا الْجُهْدَا لأَبْصَرْتَ قَوْمًا جَانَبُوا النَّوْمَ وَارْتَدَوْا ... بَارْدِيَةِ التَّسْهَادِ وَاسْتَقْرَبُوا الْبُعْدَا وَصَامُوا نَهَارًا دَائِمًا ثُمَّ أَفْطَرُوا ... عَلَى بُلَغ الأَقْوَاتِ وَاسْتَعْمَلُوا الْكَدَّا أُولَئِكَ قَوْمٌ حَسَّنَ اللهُ فِعْلَهُمْ ... وَأَوْرَثَهُمْ مِنْ حُسْنِ فِعْلِهِمْ الْخُلْدَا آخر: ... صَفَوْا فَلا غُرْوَ أَنْ تَصْفُوا مَشَارِبَهُمْ ... وَفِي الْمَصَافَتِ لِلأَحْبَابِ أَسْرَارُ يَرْوِي عَلِيلُ الصِّبَا صَحِيحَ هَوَى ... مِنَ الشَّذَا فَهُوَ نَقَّالٌ وَمِعْطَارُ

.. هُمُ الرِّجَالُ فَإِنْ تَسْلُكْ طَرِيقَهُمُوا ... نِلْتَ الْمُنَى لَيْسَ بَعْدَ الْعَيْنِ آثَارُ سَلْهُمْ وَسَلْ عَنْهُمُوا مَنْ كَانَ يَعْرِفُهُمْ ... فَعِنْدَهُمْ لِمُقِيمِي الدِّينِ أَقْدَارُ أَنْعَمْ إِذَا كُنْتَ تَهْوَاهُم بِقُرْبِهِمُوا ... وَاصْحَبْهُمُوا إِنْ نَأَتِ يَوْمًا بِكَ الدَّارُ وَاحْلُلْ بِسَاحَتِهِمْ تَسْعَدْ بِجَيْرَتِهِمْ ... يَحْمُوا النَّزِيلَ وَلا يُؤْذَى لَهُمْ جَارُ آخر: ... اعتزلْ ذكر الغواني وَالْغَزَلْ ... وَقُلِ الْفَصْلَ وَجَانِبْ مِنْ هَزَلْ وَدَعِ الذِّكْرَى لأَيَّامِ الصِّبَا ... فَلأَيَامِ الصِّبَا نِجْمٌ أَفَلْ إِنّ أَهْنَا عَيْشَةٍ قَضَّيْتَهَا ... ذَهَبَتْ لَذَّاتُهَا وَالإثْمُ حَلّ وَاتْرُكِ الْغَادَةَ لا تَحْفَلْ بِهَا ... تُمْس فِي عَزّ رَفِيع وَتُجَلّ وَافْتَكِرْ فِي مُنْتَهَى حُسْنِ الَّذِي ... أَنْتَ تَهْوَاهُ تَجِدْ أَمْرًا جَللْ وَافْتَكِرْ فِي مُنْتَهَى حُسْنِ الَّذِي ... أَنْتَ تَهْوَاهُ تَجِدْ أَمْرًا جَللْ وَاهْجُرْ الْخَمْرَةَ إِنْ كُنْتَ فَتَىً ... كَيْفَ يَسْعَى فِي جُنُونٍ مِنْ عَقَلْ وَاتَّقِ اللهَ فَتَقْوَى اللهِ مَا ... بَاشرَتْ قَلْبَ امْرِئٍ إِلا وَصَلْ لَيْسَ مَنْ يَقْطَعُ طُرْقًا بَطَلاً ... إِنَّمَا مَنْ يَتَّقِي اللهَ بَطَلْ صَدِّقِ الشَّرْعَ وَلا تَرَكَنْ إِلَى ... رَجُلٍ يَرْصُدُ فِي اللَّيْلِ زُحَلْ حَارَتِ الأَفْكَارُ فِي قُدْره مَنْ ... قَدْ هَدَانَا سُبْلَنَا عَزَّ وَجَلَّ أَيْنَ نَمْرُودُ وَكَنْعَانُ وَمَنْ ... مَلَكَ الأَرْضَ وَوَلَّى وَعَزَلْ أَيْنَ عَادٌ أَيْنَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ ... رَفَعَ الأَهْرَامَ مَنْ يَسْمَعْ يَخَلْ أَيْنَ مَنْ سَادُوا وَشَادُوا وَبَنُوا ... هَلَكَ الْكُلُّ فَلَمْ تُغْنِ الْقُللْ أَيْنَ أَرْبَابُ الْحِجَى أَهْلُ النُّهَى ... أَيْنَ أَهْل الْعِلْمِ وَالْقَوْمُ الأَوَلْ سَيُعِيدُ الله كلاً مِنْهُمُ ... وَسَيَجْزِي فَاعِلاً مَا قَدْ فَعَلْ يَا بُنَيّ اسْمَعْ وَصَايَا جَمَعتْ ... حِكَمًا خُصّتْ بِهَا خَيْرُ الْمِلَلْ اطْلبِ الْعِلْمَ وَلا تَكسَلْ فَمَا ... أَبْعدَ الْخَيْرَ عَلَى أَهْلِ الْكَسَلْ وَاحْتَفِلْ لِلْفِقْه فِي الدِّينِ وَلا ... تَشْتَغِلْ عَنْهُ بِمَالٍ وَخَولْ

.. وَاهْجُرْ النَّوْمَ وَحَصِّلْهُ فَمَنْ ... يَعْرِفِ الْمَطْلُوبَ يَحْقِرْ مَا بَذَلْ لا تَقُل قَدْ ذَهَبَتْ أَرْبَابُه ... كُلُّ مَنْ سَارَ عَلَى الدَّرْبِ وَصَلْ فِي ازْدِيَادِ الْعِلْمِ إِرْغَامُ الْعِدَى ... وَجَمَالُ الْعِلْمِ إِصْلاحُ الْعَمَلْ جَمِّلِ الْمَنْطِقَ بِالنَّحوِ فَمَن ... حُرِمَ الإِعْرَابَ بِالنُّطْقِ اخْتَبَلْ أُنْظمِ الشِّعْرَ وَلازِمْ مَذْهَبِي ... فِي اطِّرَاح الرِّفد لا تَبْغِ النِّحَلْ فَهُوَ عُنْوَانٌ عَلَى الْفَضْلِ وَمَا ... أَحْسَنَ الشِّعْرَ إِذَا لَمْ يُبْتَذَلْ مَاتَ أَهْل الْجُودَ لَمْ يَبْقَ سِوَى ... مُقْرِفٌ أَوْ عَلَى الأَصْلِ اتَّكَلْ أَنَا لا أَخْتَارُ تَقْبِيلَ يَدٍ ... قَطَعُهَا أَجْمَلُ مِنْ تِلْك الْقُبَلْ إِنْ جَزَتْنِي عَنْ مَدِيحِي صِرْتُ فِي ... رِقِّهَا أَوْ لا فَيَكْفِينِي الْخَجَلْ مُلْكُ كسرى عَنْهُ تُغْنِي كِسْرَةٌ ... وَعَنْ الْبَحْرِ اكْتِفَاءٌ بِالْوَشَلْ أَعْذَبُ الأَلْفَاظِ قَوْلِي لَكَ خُذْ ... وَأَمْرِّ اللَّفْظِ نُطْقِي بِلَعَلّ لَيْسَ مَا يَحْوِي الْفَتَى مِنْ عَزْمِه ... لا وَلا مَا فَاتَ يَوْمًا بِالْكَسَلْ اطْرحِ الدُّنْيَا فَمِنْ عَادَاتِهَا ... تَخْفِضُ الْعَالِي وَتُعْلِي مِن سَفَلْ عَيْشَةُ الرَّاغِبُ فِي تَحْصِيلِهَا ... عَيْشَةُ الزَّاهِدُ فِيهَا أَوْ قَلّ كَمْ جَهُولٍ وَهُوَ مُثْرٍ مُكْثِرٌ ... وَعَلِيمٍ مَاتَ مِنْهَا بِالْعِلَلْ كَمْ شُجَاعٍ لَمْ يَنَلْ مِنْهَا الْمُنَى ... وَجَبَانٍ نَالَ غَايَاتِ الأَمَلْ فَاتْرُكِ الْحِيلَة فِيهَا وَاتَّئِدْ ... إِنَّمَا الْحِيلَةُ فِي تَرْكِ الْحِيَلْ أَيُّ كَفٍّ لَمْ تَنَلْ مِمَّا تُفِدْ ... فَرَمَاهَا اللهُ مِنْهُ بِالشَّلَلْ لا تَقُلْ أَصْلِي وَفَصْلِي أَبَدًا ... إِنَّمَا أَصْلُ الْفَتَى مَا قَدْ حَصَلْ قَدْ يَسُودُ الْمَرْءُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ ... وَبِحُسْنِ السَّبكِ قَدْ يُنْفَى الزَّعَلْ وَكَذَا الْوَرْدُ مِنَ الشَّوْكِ وَمَا ... يَطْلَعُ النَّرجسُ إِلا مِنْ بَصَلْ مَعَ أَنِّي أَحْمَدُ اللهَ عَلَى ... نَسَبِي إِذْ بأَبِي بَكْرٍ اتَّصَلْ قِيمَةُ الإِنْسَانِ مَا يُحْسِنُهُ ... أَكْثَرَ الإِنْسَانُ مِنْهُ أَوْ قَلّ

.. أُكْتُم الأَمْرَيْنِ فَقْرًا وَغِنَىً ... وَاكْسَبِ الْفِلْسَ وَحَاسِبْ مِنْ مَطَلْ وَادَّرِعْ جَدًّا وَكَدًّا وَاجْتَنِبْ ... صُحْبَةَ الْحَمْقَى وَأَرْبَابَ الدُّوَلْ بَيْنَ تَبْذِيرٍ وَبُخْلٍ رَتْبَةٌ ... وَكِلا هَذَيْنِ إِنْ زَادَ قَتَلْ لا تخُضْ فِي حَقِّ سَادَاتٍ مَضَوْا ... إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلٍ لِلزِّلَلْ وَتَغَافِلْ عَنْ أُمُورٍ إِنَّهُ ... لَمْ يَفُزْ بِالْحَمْدِ إِلا مَنْ غَفَلْ لَيْسَ يَخْلُوا الْمَرْءُ مِنْ ضِدٍّ وَلَوْ ... حَاوَلَ الْعُزْلةَ فِي رَأْسِ جَبَلْ مِلْ عَنْ النَّمَّامِ وَازْجُرْه فَمَا ... بَلَغَ الْمَكْرُوهَ إِلا مَنْ نَقَلْ دَارِ جَارَ السُّوءِ بِالصَّبْرِ فَإِنْ ... لَمْ تَجِدْ صَبْرًا فَمَا أَحْلَى النُّقَلْ جَانِبْ السُّلْطَانَ وَاحْذَرْ بَطْشَهُ ... لا تُعَانِدْ مَنْ إِذَا قَالَ فَعَلْ لا تَلِي الْحُكْمَ وَإِنْ هُمْ سَأَلُوا ... رَغْبَةً فِيكَ وَخَاَلِفْ مَنْ عَذَلْ إِنَّ نِصْفَ النَّاسِ أَعْدَاءٌ لِمَنْ ... وَلِيَ الأَحْكَامَ هَذَا إِنْ عَدَلْ فَهُوَ كَالْمَحْبُوسِ عَنْ لَذَّاتِهِ ... وَكِلا كَفَّيْهِ فِي الْحَشْرِ تُغَلّ إِن لِلنَّقْصِ وَالاسْتِثْقَالِ فِي ... لَفْظَةِ الْقَاضِي لَوَعظًا وَمَثْل لا تَوَازِي لَذَّةُ الْحُكْمِ بِمَا ... ذَاقَهُ الشَّخْصُ إِذَا الشَّخْصُ انْعَزَلْ فَالْوِلايَاتُ وَإِنْ طَابَتْ لِمَنْ ... ذَاقَهَا فَالسُّمُّ فِي ذَاكَ الْعَسَلْ نَصَبُ الْمنْصِبِ أَوْهِى جَلَدِي ... وَعَنَائِي مِنْ مَدَارَاِة السَّفَلْ قصِّر الآمَالَ فِي الدُّنْيَا تَفُزْ ... فَدَلِيلُ الْعَقْلِ تَقْصِيرُ الأَمَلْ إِنَّ مَنْ يَطْلُبُهُ الْمَوْتُ عَلَى ... غِرَّةٍ مِنْهُ جَدِيرٌ بِالْوَجَلْ غِبْ وَزُرْ غِبًّا تَزِدْ حُبًّا فَمَنْ ... أَكْثَرَ التِّرْدَادَ أَقْصَاهُ الْمَلَلْ خُذْ بِنَصْلِ السَّيْفِ وَاتْرُكْ غِمَدَهُ ... وَاعْتَبِرْ فَضْلَ الْفَتَى دُونَ الْحُلَلْ لا يَضُرُّ الْفَضْلَ إِقْلالٌ كَمَا ... لا يَضُرُّ الشَّمْسُ إِطْبَاقُ الطِّفَلْ حُبَّكَ الأَوْطَان عَجْزٌ ظَاهِرٌ ... فَاغْتَرِبْ تَلْقَ عَنْ الأَهْلِ بَدَلْ فَبِمُكثِ الْمَاءِ يَبْقَى آسِنًا ... وَسُرَى الْبَدْرِ بِهِ الْبدرُ اكْتَمَلْ

.. أَيُّهَا الْعَائِبُ قَوْلِي عَبَثًا ... إِنَّ طِيبَ الْوَرْدِ مُؤْذٍ لِلْعَجَلْ عَدِّ عَنْ اسْهُمِ قَوْلِي وَاسْتَتِرْ ... لا يُصِيبَنَّكَ سَهْمٌ مَنْ ثُعَلْ لا يَغُرَّنَكَ لِينٌ من فَتَىً ... إِنَّ لِلْحَيَّاتِ لِينًا يُعْتَزَلْ أَنَا مِثْلُ الْمَاءِ سَهْلٌ سَائِغٌ ... وَمَتَى سُخِّنَ آذَى وَقَتَلْ أنَا كَالْخَيْزور صَعْب كَسْرَهُ ... وَهُوَ لَدْن كَيْفَ مَا شِئْتَ انْفَتَل غَيْرَ أَنِّي فِي زَمَانٍ مَنْ يَكُنْ ... فِيهِ ذَا مَالٍ هُوَ الْمَوْلَى الأَجَل وَاجِبٌ عِنْدَ الْوَرَى إِكْرَامُهُ ... وَقَلِيلُ الْمَالِ فِيهُمْ يُسْتَقَل كُلُّ أََهْلِ الْعَصْرِ غمر وَأَنَا ... مِنْهُمْ فَاتْرُكْ تَفَاصِيل الْجمل وَصَلاةٌ وَسَلامٌ أَبَدًا ... لِلنَّبِيِّ الْمُصْطَفَى خَيْرِ الدّول وَعَلَى الآلِ الْكِرَامِ السُّعَدَا ... وَعَلَى الأَصْحَابِ وَالْقَوْمِ الأُوَل مَا ثَوَى الرَّكْبُ بِعشَاقٍ إِلَى ... أَيْمَن الْحَيّ وَمَا غَنَّى رَمْل " موعظة " إخواني: إن الليل كما علمتم فيه فضل عَظِيم وثواب جزيل لمن وفقه الله جَلَّ وَعَلا، وَهُوَ من أثقل شَيْء على النفس ولا سيما بعد أن يرقَدْ الإِنْسَان، وإنما يكون خفيفًا بالاعتياد، وتوطين النفس وتمرينها عَلَيْهِ والمداومة والصبر على المشقة والمجاهدة فِي الابتداء، ثُمَّ بعد ذَلِكَ ينشرح وينفتح باب الأُنْس بِاللهِ وتلذ لَهُ المناجاة والْخُلْوَة، وعَنْدَ ذَلِكَ لا يشبع الإِنْسَان من قيام الليل، فضلاً عَنْ أن يستثقله أَوْ يكسل عَنْهُ كما وقع لكثير من السَّلَف. قَالَ بَعْضُهُمْ: أَهْل الليل فِي ليلهم ألذ من أَهْل اللهو فِي لهوهم ويا بعدها بين الحالتين، فسبحان من وفق أقوامًا فتقربوا إليه بالنوافل، وأبعد بحكمته وعدله آخرين فهم عَنْ ما ينفعهم فِي حاضرهم ومآلهم غافلون. شِعْرًا: ... ولا خَيْر فِي مَنْ لا يُوَطِّنُ نَفْسهُ ... عَلَى طَاعَةِ الْمَوْلَى بِمَا فِي كِتَابِهِ اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك فِي قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وَوَفِّقْنَا للقيام بأمرك وأعذنا من عدونا وعَدُوّكَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبة أجمعين.

" فَصْلٌ " اعْلَمْ يَا أخي أنه ينبغي للإنسان أن يكثر من سؤال الله ويتحرى أوقات الإجابة لعل الله جَلَّ وَعَلا أن يستجيب لَهُ، قَالَ الله تبارك تَعَالَى وَهُوَ أصدق القائلين: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} ، وقَالَ تبارك وتَعَالَى وَهُوَ أوفى الواعدين: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وقَالَ تَعَالَى {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} ، وقَالَ تَعَالَى {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} ، وقَالَ تَعَالَى {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} وأن يفتح الدُّعَاء بالثناء على الله والصَّلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. شِعْرًا: ... وأقوم خلق الله لله بالَّذِي ... يحب ويرضاه النَّبِيّ المبجل فتى جمعت فيه المكارم شملها ... فما فاته مَنْهَا أخَيْر وأول عنايته بالدين تشهد أنه ... نبي من الرحمن قَدْ جَاءَ مرسل له مني عظمى على كُلّ مُسْلِم ... وطاعته فرض من الله منزل دعانَا إِلَى الإِسْلام بعدا اندراسه ... وقام بأمر الله والأَمْر مهمل وأصلح بين الْمُسْلِمِين بيمنه ... واطفأ نيرانًا على الدين تشعل يعاقب تأديبًا ويعفو تطولاً ... ويجزى على الحسنى ويعطى فيجزل ولا يتبع المعروف منا ولا أذى ... ولا البخل من عاداته حين يسأل رعاه الَّذِي استرعاه أمر عباده ... وكافاه عنا المنعم المتفضل اللَّهُمَّ اجعل الإِيمَان هادمًا للسيئات، كما جعلت الكفر عادمًا للحسنات وَوَفِّقْنَا للأعمال الصالحات، وَاجْعَلْنَا ممن توكل عَلَيْكَ فكفيته، واستهداك فهديته ودعا لَكَ فأجبته، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلى الله على مُحَمَّد وعلى صحبه وسلم أجمعين.

" فَصْلٌ " وقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «ولن ينفع حذر من قدر، ولكن الدُّعَاء ينفع مِمَّا نزل وَمِمَّا لم ينزل، فعليكم بالدُّعَاء عباد الله» . رَوَاهُ أحمد والطبراني عَنْ معاذ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. قَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله حيى كريم يستحى إِذَا رفع الرجل يديه إن يردهما صفرًا خائبتين» . رَوَاهُ أحمد وَأَبُو دَاود والترمذي وابن ماجه والحاكم عَنْ سلمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «ادعوا الله وأنتم موقنين بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب من قلب غَافِل لاه ". رَوَاهُ الترمذي والحاكم عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «ما من رجل يدعو بدعاء إلا استجيب لَهُ، فَإمَّا أن يعجل لَهُ فِي الدُّنْيَا وإما أن يؤخر لَهُ فِي الآخِرَة وإما يكفر عَنْهُ من ذنوبه بقدر ما دعاء، ما لم يدع بإثُمَّ أَوْ قطيعة رحم، أَوْ يستعجل يَقُولُ: دعوت ربى فما استجاب لي» . رَوَاهُ الترمذي عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «من سره إن يستجيب الله لَهُ عَنْدَ الشدائد والكرب فليكثر الدُّعَاء فِي الرخاء» . رَوَاهُ الترمذي والحاكم عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. ولَقَدْ علم النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أمته كيف تدعو فقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «إذ صلى أحدكم فليبداء بتحميد الله تَعَالَى والثناء عَلَيْهِ ثُمَّ ليصل على النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ ليدع بما شَاءَ» . رَوَاهُ أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم والبيهقى عَنْ فضالة بن عبيد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا دعا أحدكم فليؤمن على دعاء نَفْسهُ» . رَوَاهُ ابن عدي عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - " لا يجتمَعَ ملأ فيدعوا بَعْضهمْ ويؤمن بَعْضهمْ الا أجابهم الله» . رَوَاهُ الطبراني والحاكم والبيهقى عَنْ حبيب بن سَلَمَة الفهري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «سلوا الله ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم» . رَوَاهُ أبو داود والبيهقى عَنْ ابن عباس رضي الله عَنْهُ. وقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تدعو على أنفسكم إلا بخَيْر فَإِنَّ الملائكة يؤمنون على ما تقولون ". رَوَاهُ أحمد ومسلم وَأَبُو دَاود عَنْ أم سَلَمَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا. وقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا على تدعوا على خدمكم ولا تدعوا على أموالكم لا توافق من الله ساعة نيل فيها عطاء مستجاب لكم» . رَوَاهُ أبو داود عَنْ جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «تفتح أبواب السماء ويستجاب الدُّعَاء فِي أربعة مواطن: عَنْدَ التقاء الصفوف فِي سبيل الله، وعَنْدَ نزول الغيث، وعَنْدَ إقامة الصَّلاة، وعَنْدَ رؤية الكعبة» . رَوَاهُ الطبراني عَنْ أبي إمامة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «من كَانَتْ لَهُ إِلَى الله حَاجَة فليدع بها دبر كُلّ صلاة مفروضة» . رَوَاهُ ابن عساكر عَنْ أبي مُوَسى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإِمَام العادل، والصائم حَتَّى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، وتفتح لها أبواب السماء، وَيَقُولُ الرب تبارك وتَعَالَى: وعزتي لا نصرنك ولو بعد حين» . رَوَاهُ أحمد والترمذي وابن ماجة عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - " دعاء المرء المسلم مستجاب لأخيه بظهر الغيب، عَنْدَ رأسه ملك موكل به، كُلَّما دعا لأخيه بخَيْر قَالَ الملك: آمين ولك مثل

ذَلِكَ. رَوَاهُ أحمد ومسلم وابن ماجه عَنْ أبي الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «سلوا الله حوائجكم حَتَّى الملح» . رَوَاهُ البيهقى عَنْ بكر بن عَبْد اللهِ المزني رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مرسلاً. وقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «ينزل ربنا تبارك وتَعَالَى كُلّ ليلة إِلَى السماء الدُّنْيَا حين يبقى الثلث الليل الآخِر فَيَقُولُ: من يدعوني فاستجيب لَهُ، ومن يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فاغفر لَهُ» . رَوَاهُ أحمد والْبُخَارِيّ ومسلم وَأَبُو دَاود والترمذي وابن ماجة عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «أقرب ما يكون الرب من الْعَبْد فِي جوف الليل الآخِر فَإِنَّ استطعت أن تكون مِمَّا يذكر الله فِي تلك الساعة فكن» . رَوَاهُ الترمذي والنسائي والحاكم عَنْ عمرو بن عنبسة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «يدعو الله بالمُؤْمِن يوم القيامة حَتَّى يوقفه بين يديه، فَيَقُولُ: عبدي، إني أمرتك أن تدعوني ووعدتك أن أستجيب لَكَ، فهل كنت تدعوني؟ فَيَقُولُ: نعم يَا رب. فَيَقُولُ: أما إِنَّكَ لم تدعنى بدعوة إلا استجيب لَكَ، ألَيْسَ دعوتني يوم كَذَا وَكَذَا لغم نزل بك أن أفرج عَنْكَ ففرجت عَنْكَ؟ فَيَقُولُ: نعم يَا رب. فَيَقُولُ: إني عجلتها لَكَ فِي الدُّنْيَا، ودعوتني يوم كَذَا وَكَذَا لغم نزل بك أن أفرج عَنْكَ فلم تر فرجًا؟ قَالَ: نعم يَا رب. فَيَقُولُ: إني ادخرت لَكَ بها فِي الْجَنَّة كَذَا وَكَذَا. ودعوتني فِي حَاجَة اقضيها لَكَ فِي يوم كَذَا وَكَذَا فقضيتها؟ فَيَقُولُ: نعم يَا رب. فَيَقُولُ: إني عجلتها لَكَ فِي الدُّنْيَا. ودعوتني يوم كَذَا وَكَذَا فِي حَاجَة أقضيها لَكَ فلم تر قضاء. فَيَقُولُ: نعم يَا رب. فَيَقُولُ: ادخرتها لَكَ فِي الْجَنَّة كَذَا وَكَذَا» . وقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فلا يدع الله دعوة دعا عبده المُؤْمِن إلا بين لَهُ، إما أن يكون عجل لَهُ فِي الدُّنْيَا وإما أن يكون ادخر لَهُ فِي الآخِرَة» . قَالَ

فَيَقُولُ المُؤْمِن فِي ذَلِكَ المقام: يَا ليته لم يكن عجل لَهُ شَيْئًا من دعائه» . رَوَاهُ الحاكم عَنْ جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: " أيها النَّاس إن الله طيب لا يقبل إلا طيب. وإن الله أمر الْمُؤْمِنِينَ بما أمر به المرسلين فقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} ، وقَالَ الله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ، ثُمَّ ذكر: الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إِلَى السماء: يَا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذى بالحرام فأنى يستجاب لِذَلِكَ» . رَوَاهُ أحمد ومسلم والترمذي عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. عَنْهُ فمن أراد أن تجاب دعوته فليطب مطعمه. " فَصْلٌ " فيا أيها الغَافِل المهمل المفرط وكلنا كَذَلِكَ انتبه وتصور صرعة الموت لنفسك وتصور نزعه لروحك وتصور كربه وسكراته وغصصه وغمه وقلقه. وتصور بُدُوَّ الملك لجذب روحك من قدميك ثُمَّ الاستمرار ليجذب الروح مِنْ جَمِيعِ بدنك فَنُشِطَتْ من أسفلك متصاعدة إِلَى أعلاك حَتَّى إِذَا بلغ منك الكرب والوجع والألم منتهاه وعمت الآلام جميع بدنك وقلبك وجل محزون منتظر إما البشرى من الله بالرِّضَا وإما الْغَضَب. فبينما أَنْتَ فِي كربك وغمومك وشدة حزنك لارتقابك أحدى البشريين إذ سمعت صوته إما بما يسرك وإما بما يغمك فيلزم حينئذ غاية الهم والحزن أَوْ الفرح والأُنْس والسرور قلبك حين أقضت من الدُّنْيَا مدتك وانقطع مَنْهَا آثرك وحملت إِلَى دار من سلف من الأمم قبلك. وتصور نفسك حين استطار قلبك فرحًا وَسُرُورًا وملئ رعبًا وحزنًا وعبرة وبزيارة القبور وهول مطلعه وروعة الملكين منكر ونكير وسؤالها لَكَ فِي

القبر عَنْ ثلاثة أسئلة ما فيها تخيير، الأول من ربك والثاني ما دينك والثالث من نبيك. فتصور أصواتهما عَنْدَ ندائهما لَكَ لتجلس لسؤالهما لَكَ فيه فتصور جلستك فِي ضيق قبرك وقَدْ سقط كفنك عَنْ حقويك والقطن من عينيك. ثُمَّ تصور شخوصك ببصرك اليهما وتأملك لصورتهما فَإِنَّ رأيتهما بأحسن صورة أيقن قلبك بالفوز والنجاة والسرور وإن رأيتهما بأقبح صورة أيقنت بالعطب والهلاك. شِعْرًا: ... وللمرء يوم ينقضي فيه عمره ... وموت وقبر ضيق فيه يولج ويلقى نكيرًا فِي السؤال ومنكرًا ... يسومان بالتنكيل من يتلجلج آخر: ... تفكر فِي مشيبك والمآب ... ودفنك بعد عزك فِي التراب إذا وافيت قبرًا أَنْتَ فيه ... تقيم به إِلَى يوم الحساب وفى أوصال جسمك حين تبقى ... مقطعة ممزقة الاهاب فلولا القبر صار عَلَيْكَ سترًا ... لأنتنت الأباطح والروابي خلقت من التُّرَاب فصرت حيًا ... وعلمت الفصيح من الخطاب فطلق هَذِهِ الدُّنْيَا ثلاثًا ... وبادر قبل موتك بالمتاب نصحتك فاستمَعَ قولي ونصحي ... فمثلك قَدْ يُدَلُّ على الصواب خلقنا للممَاتَ ولو تركنا ... لضاق بن الفسيح من الرحاب ينادى فِي صبيحة كُلّ يوم ... لدوا للموت وابنو للخراب ثُمَّ تصور كيف يكون شعورك إن ثبتك الله عَزَّ وَجَلَّ ونظرت إلى ما أعد الله لَكَ وقولهما لَكَ هَذَا منزلك ومصيرك فتصور فرحك وسرورك بما تعانيه من النَّعِيم وبهجة الملك وإيقانك بالسلامة مِمَّا يسوؤك. وان كَانَتْ الأُخْرَى فتصور ضد ذَلِكَ من انتهارك ومعينتك جهنم

وقولهما لَكَ هَذَا منزلك ومصيرك فيا لها من حَسْرَة ويا لها من ندامة ويا لها من عثرة لا تقَالَ. ثُمَّ بعد ذَلِكَ الْفَنَاء والبَلاء حَتَّى تنقطع الأوصال وتتفتت العظام ويبلى جسدك ويستمر حزنك فيا حَسْرَة روحك وغمومها وهمومها، حَتَّى إِذَا تكاملت عدة الأموات وقَدْ بقى الجبار الأعلى منفردًا بعظمته وجلاله وكبريائه ثُمَّ لم يفجأك إلا نداء المنادي للخلائق للعرض على الله جَلَّ وَعَلا. قَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} يأمر الله ملكًا ينادي على صخرة بيت المقدس أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقه والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل الِقَضَاءِ. فتصور وقوع الصوت فِي سمعك ودعائك إِلَى العرض على مالك الملك فيطير فؤادك ويشيب رأسك للنداء لأنها صيحة واحدة للعرض على الرب جَلَّ وَعَلا، قَالَ تَعَالَى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ} . فبينما أَنْتَ فِي فزع من الصوت إذ سمعت بانشقاق الأَرْض فخرجت مغبرًا من غبار قبرك قائمًا على قدميك شاخصًا ببصرك نَحْوَ النداء، قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً} ، وقَالَ: {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} . فتصور تعريك ومذلتك وانفرادك بخوفك وأحزانك وهمومك وغمومك فِي زحمة الخلائق خاشعة أبصارهم وأصواتهم ترهقهم الذلة، قَالَ تَعَالَى {وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} ، وقَالَ تَعَالَى: {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ * مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} . اللَّهُمَّ ثبتنا على قولك الثابت فِي الحياة الدُّنْيَا وفى الآخِرَة واتنا فِي الدُّنْيَا حسُنَّة

وفى الآخِرَة حسُنَّة وقنا عذاب النار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع الْمُسْلِمِين. اللَّهُمَّ خفف عنا الأوزار وارزقنا عيشة الأَبْرَار واصرف عنا شر الأَشْرَار واعتق رقابنا ورقاب إبائنا من النار يَا عزيز يَا غفار ويا كريم يَا ستار ويا حليم ويا جبار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " فصل ": ثُمَّ تصور إقبال الوحوش من البراري منكسة رؤوسها لهول يوم القيامة فبعد توحشها وانفرادها من الخلائق ذلت ليوم النشور، قَالَ تَعَالَى {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} . وتصور تكوير الشمس وتناثر النجوم وانشقاق السماء من فوق الخلائق مَعَ كثافة سمكها فيا هول صوت ذَلِكَ الانشقاق. والملائكة على حافات ما يتفطر من السماء، قَالَ تَعَالَى {وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} وقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} . وقَالَ تَعَالَى: {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ} . قِيل تذوب كما تذوب الفضة فِي السبك وتتلون كما تلون الأصباغ التي يدهن بها فتَارَّة حمراء وتَارَّة صفراء وزرقاء وخضراء وَذَلِكَ من شدة الأَمْر وهول يوم القيامة، وقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ} قِيْل كالفضة المذابة أَوْ الرصاص المذاب، وقَالَ تَعَالَى: {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} . فتصور وقوفك مفردًا عريانًا حافيًا وقَدْ أدنيت الشمس من رؤوس الخلائق ولا ظِلّ إلا ظِلّ عرش رب العالمين، فبينما أَنْتَ على تلك الحال المزعجة اشتد الكرب والوهج من حر الشمس ثُمَّ ازدحمت الأمم وتدافعت وتضايقت واختلفت الأقدام وانقطعت الأعناق من شدة العطش والخوف العَظِيم.

وانضاف إِلَى حر الشمس كثرة الأنفاس وازدحام الأجسام والعطش تضاعف ولا نوم ولا راحة وفاض عرقهم على الأَرْض حَتَّى استنقع ثُمَّ ارتفع على الأبدان عَلَى قَدْرِ مراتبهم ومنازلهم عَنْدَ ربهم بالسعادة والشقاوة. ثُمَّ تصور مجئ جهنم تقاد ولها سبعون ألف زمام مَعَ كُلّ زمام سبعون ألف ملك يجرونها، وقَالَ تَعَالَى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} . فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل الا جثا لركبته يَقُولُ: يَا رب نفسي نفسي. فتصور ذَلِكَ الموقف المهيل المفزع الَّذِي قَدْ ملا الْقُلُوب رعبًا وخوفًا وقلقًا وذعرًا يَا لَهُ من موقف ومنظر مزعج. وأَنْتَ لا محالة أحدهم فتوهم نفسك لكربك وقَدْ علاك العرق والفزع والرعب الشديد والنَّاس معك منتظرون لفصل الِقَضَاءِ إِلَى دار السعادة أَوْ إِلَى دار الشقاء، قَالَ تَعَالَى: {وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} . فتصور أصوات الخلائق وهم ينادون بأجمعهم منفرد كُلّ واحد بنفسه ينادي نفسي نفسي، قَالَ الله تَعَالَى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} ، وقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} الآية. فتصور نفسك وحالتك عِنْدَمَا يتبرأ منك الولد والوالد والأخ والصَاحِب لما فِي ذَلِكَ الْيَوْم من المزعجات والقلاقل والأهوال التي ملأت الْقُلُوب من الخوف والفزع والرعب والذعر. ولولا عظم هول ذَلِكَ الْيَوْم ما كَانَ من الكرم والمروة والحفاظ أن تفر من أمك وأبيك وأخيك وبنيك ولكن عظم الخطر وشدة الكرب والهول اضطرك إِلَى ذَلِكَ فلا تلام على فرارك مِنْهُمْ ولا لوم عَلَيْهمْ إِذَا فروا منك، قَالَ الله تَعَالَى:

{لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} ، وقَالَ {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} . فبينما أَنْتَ فِي تلك الحالة مملوء رعبًا قَدْ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ مِنْ شِدَّةِ الأَهْوَال وَالْمُزْعِجَات وَالْخَوف الْعَظِيم إِذَا ارتفع عنق من النار يلتقط من أمر بأخذه فينطوي عَلَيْهمْ ويلقيهم فِي النار فتبتلعهم ثُمَّ تصور الميزان وعظمته وقَدْ نصب لوزن الأَعْمَال وتصور الكتب المتطايرة فِي الإِيمَان والشمائل وقلبك واجف مملوءًا خوفًا متوقع أين يقع كتابك فِي يمينك أَوْ فِي شمالك أَوْ من وراء ظهرك. اللَّهُمَّ انهج بنا مناهج المفلحين وألبسنا خلع الإِيمَان واليقين، وخصنا منك بالتَّوْفِيق المبين، وَوَفِّقْنَا لقول الحق وإتباعه وخلصنا مِنَ الْبَاطِلِ وابتداعه، وكن مؤيدًا ولا تجعل لفاجر عَلَيْنَا يدًا واجعل لَنَا عيشًا رغدًا ولا تشمت بنا عدوًا ولا حاسدًا، وارزقنا عِلْمًا نافعًا وعملاً متقبلاً، وفهمًا ذكيًا وطبعًا صفيًا وشفاءً من كُلّ داء، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " فصل ": فالأتقياء يعطون كتبهم بإيمانهم والأشقياء بالشمال أَوْ من وراء الظهر، قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} ، وقَالَ: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَى سَعِيراً} . قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ} الآيات، وقَالَ {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ} الآيات.

فيا لها من مواقف، ويا لها من أهوال ويا لها من خطوب مجرد تصورها يبكي المُؤْمِن بها حَقًّا. عَنْ الحسن أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ رأسه فِي حجر عَائِشَة فنعس فتذكرت الآخِرَة فبكت فسالت دموعها على خد النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فاستيقظ بدموعها فرفع رأسه فقَالَ: «ما يبكيك» ؟ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ ذكرت الآخِرَة هل تذكرون أهليكم يوم القيامة. قَالَ: «والَّذِي نفسي بيده فِي ثلاثة مواطن فَإِنَّ أَحَد لا يذكر إلا نَفْسهُ: إِذَا وضعت الموازين ووزنت الأَعْمَال حَتَّى ينظر ابن آدم أيخف ميزانه أم يثقل وعَنْدَ الصحف حَتَّى ينظر أبيمينه أم بشماله وعَنْدَ الصراط» . وعن أَنَس بن مالك قَالَ: يؤتى بابن آدم يوم القيامة حَتَّى يوقف بين كفتي الميزان ويوكل به ملك فَإِنَّ ثقل ميزانه نادى الملك بصوت يسمَعَ الخلائق سعد فلان بن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدًا. وإن خف ميزانه نادى بصوت فيسمَعَ الخلائق شقي فلان بن فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدًا. وتصور بينما أَنْتَ واقف مَعَ الخلائق الَّذِينَ لا يعلم عددهم إلا الله جَلَّ وَعَلا وتقدس إذ نودي باسمك على رؤوس الخلائق من الأولين والآخرين أين فلان بن فلان هَلُمَّ إِلَى العرض على الله عَزَّ وَجَلَّ. فقمت أَنْتَ لا يقوم غيرك لما لزم قلبك من العلم من أَنْتَ المطلوب فقمت ترتعد فرائضك وتضطرب رجلاك وَجَمِيع جوارحك وقلبك من شدة الخوف والذهول فِي أشد الخفقان مرتفعًا إِلَى الحنجرة. قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} .

فتصور خوفك وَذُلُّكَ وضعفك وانهيار أعصابك وقواك متغيرًا لونك مرعوبًا مذعورًا مرتكضًا مزعجًا قَدْ حَلَّ بِكَ الْغَمِّ وَالْهَمَّ والاضطراب والقلق والذهول لما أصابك ورَأَيْت من الشدائد والكروب والمحزنات ما الله به عليم. قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} ، فيا من يوم، قَالَ جَلَّ وَعَلا وتقدس: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} والآية بعدها. وتصور وقوفك بين يدي بديع السموات والأَرْض الَّذِي الأَرْض جميعًا قبضته يوم القيامة والسموات مطويان بيمينه القوي العزيز وقلبك خائف مملؤء من الرعب محزون وجل وطرفك خائف خفي خاشع ذليل. وجوارحك مرتعدة بيدك صحيفة فيها الدقيق والجليل لا تغادر صغيرة ولا كبيرة فقرأتها بلسان كليل وقلب منكسر وداخلك من الخجل والجبن والحياء من الله الَّذِي لم يزل أليك محسنًا وعَلَيْكَ سَاتِرًا. فبأي لسان تجيبه حين يسألك عَنْ قبيح فعلك وعَظِيم جرمك وبأي قدم تقف غدًا بين يديه وبأي طرف تنظر إليه وبأي قلب تحتمل كلامه العَظِيم الجليل ومساءلته وتوبيخه. وتصور نفسك بصغر جسمك بين يدي من السموات السبع والأَرْض كخردلة فِي كفة الكبير المتعال شديد المحال الَّذِي ما من دابة إلا هُوَ آخذ بناصيتها وقُلُوب العباد بين أصابعه لا إله الا هُوَ القوي العزيز. وتصور نفسك بهذه الهيئة والأهوال محدقة بك من جوانبك ومن خلفك فكم من كبيرة قَدْ نسيتها أثبتها عَلَيْكَ الملك وَكَمْ من بلية أحدثتها فذكرتها وَكَمْ من سريرة قَدْ كنت كتمتها قَدْ ظهرت وبدت.

وَكَمْ من عمل قَدْ كنت تظن أنه قَدْ خلص لَكَ وسلم فإذا هُوَ بالرياء قَدْ حبط بعد ما كَانَ أملك فيه عظيمًا فيا حَسْرَة قلبك وتأسفك على ما فرطت فِي طاعة ربك، قَالَ تَعَالَى: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} ، وقَالَ تَعَالَى {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} . حتى إِذَا كرر عَلَيْكَ السؤال بذكر البلايا ونشرت مخبآتك التي طالما أخفيتها وسترتها عَنْ مخلوق مثلك لا يملك لنفسه ولا لغيره ضرًا ولا نفعًا وقَدْ ظهرت قلة هيبتك وقلة حيائك منه وظهرت مبارزتك لَهُ بفعل ما نهاك عنه. فما ظنك بسؤال من قَدْ امتلأ سمعك من عظمته وجلاله وكبريائه وسائر صفات كماله وكيف بك أن ذكرك مخالفتك لَهُ وركوبك معاصيه وقلة اهتمامك بنهيه ونظره إليك وقلة اكتراثك فِي الدُّنْيَا بطاعته. وماذا تَقُول إن قَالَ: يَا عبدي أما استحيت مني أما راقبتني استخففت بنظري إليك ألم أحسن إليك ألم أنعم عَلَيْكَ ما غرك مني. شبابك فيما ابليته وعمرك فيما أفنيته ومالك من أين اكتسبته وفيم أنفقته وعلمك ماذا عملت فيه. وورد عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قَالَ: «ليقفن أحدكم بين يدي الله تبارك وتَعَالَى لَيْسَ بينه وبينه حجاب يحجبه ولا بينه وبينه ترجمان يترجم عَنْهُ فَيَقُولُ ألم أنعم، ألم آتك مالاً فَيَقُولُ: بلى. فَيَقُولُ: ألم أرسل أليك رسولاً فَيَقُولُ: بلى. ثُمَّ ينظر عَنْ يمينه فلا يرى إلا النار ثُمَّ ينظر عَنْ شماله فلا يرى إلا النار فليتق أحدكم النار ولو بشق تمرة فَإِنَّ لم يجد فبكلمة طيبة " رَوَاهُ الْبُخَارِيّ. فأعظم به موقفًا وأعظم به من سائل لا تخفى عَلَيْهِ خافية وأعظم بما يداخلك من الخجل والغم والحزن والأسف الشديد على ما فرطت فِي طاعته

وعلى ركوبك معصيته وعلى أوقات ضاعت عَنْدَ الملاهي والمنكرات، قَالَ الله تَعَالَى عَنْ حال المجرمين المفرطين: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} ، وقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ} الآية. وكيف تَثْبُتُ رجلاك عَنْدَ الوقوف بين يديه وكيف يقدر على الكلام لسانك عِنْدَمَا يسألك الحي القيوم إلا أن يثبتك جَلَّ وَعَلا ويقدرك على ذَلِكَ فإذا تبالغ فيك الجهد من الغم والحزن والحياء والخجل بدا لك منه أحد أمرين إما الْغَضَب أَوْ الرِّضَا عَنْكَ. فإما أن يَقُولُ: يَا عبدي أَنَا سترتها عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وأنَا اغفرها لَكَ الْيَوْم فقَدْ غفرت لَكَ كبير جرمك وكثير سيئاتك وتقبلت منك يسير إحسانك فَيَسْتَطِيرُ قلبك بالبهجة والفرح والسرور فيشرق ويستنير لِذَلِكَ وجهك. فتصور نفسك حين ما يقَالَ لَكَ وتهدأ نفسك ويطمئن قلبك وينور وجهك بعد كآبته وتكسفه من الحياء من السؤال. وتصور رضاه عَنْكَ حينما تسمعه منه فثار فِي قلبك فامتلأ سرورًا وكدت أن تموت من الفرح فأي سرور أعظم من السرور والفرح برضا الله عَزَّ وَجَلَّ. اللَّهُمَّ اغفر لَنَا ما قطع قلوبنا عَنْ ذكرك واعف عَنْ تقصيرنا فِي طَاعَتكَ وشكرك وأدم لَنَا لزوم الطَرِيق إليك وهب لَنَا نورًا نهتدي به إليك، واسلك بنا سبيل أَهْل مرضاتك واقطع عنا كُلّ ما يبعدنا عَنْ سبيلك ويسر لَنَا ما يسرته لأَهْل محبتك وأيقظنا من غفلاتنا وألهمنا رشدنا وحقق بكرمك قصدنا واسترنا فِي دنيانَا وأخرتنا واحشرنا فِي زمرة المتقين وألحقنا بعبادك الصالحين، اللَّهُمَّ علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ولا تجعل علمنا وبالاً عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ قوى معرفتنا بك وبأسمائك وصفاتك ونور بصائرنا ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا

وقواتنا يَا رب العالمين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين. " فَصْلٌ " وتصور نفسك وقَدْ بدا لَكَ منه الرِّضَا والرحمة والمغفرة فتكاد روحك أن تطير من بدنك فرحًا فَكَيْفَ لو سمعت من الله عَزَّ وَجَلَّ الرِّضَا عَنْكَ والمغفرة لَكَ فأمن خوفك وسكن حذرك وتحقق أملك ورجاؤك بخلود الأبد وأيقنت بفوزك ونعيمك أبدًا لا يفنى ولا يبيد وطار قلبك فرحًا وأبيض وجهك وأشرق وأنار. ثُمَّ خرجت إِلَى الخلائق مستنير الوجه قَدْ حل بك أكمل الجمال والحسن كتابك بيمينك وقَدْ شخصت أبصار الخلائق إليك غبطة لَكَ وتأسفًا على أن ينالوا من الله عَزَّ وَجَلَّ مثل ما نلت. وتصور نفسك إن لم يعف عَنْكَ ربك وأيقنت بالهلاك وذهب بك إِلَى جهنم مسود الوجه تتخطى الخلائق بسواد وجهك وكتابك فِي شمالك أَوْ من وراء ظهرك تنادي بالويل ولثبور والملك آخذ بعضدك ينادي هَذَا فلان بن فلان قَدْ شقي شقاء لا يسعد بعدها أبدًا. وتصور الصراط وَهُوَ الجسر المنصوب على متن جهنم قدامك وتصور ما يحل بك من الوجل والخوف الشديد حين رفعت طرفك فنظرت إليه بدقته ودحوضه وجهنم تضطرب وتتغيض وتخفق بأمواجها من تحته. فيا لَهُ من منظر ما أفظعه وأهوله وسماعك شهيقها وتغيضها وقصف أمواجها وجلبة ثورانها من أسفلها وقَدْ اضطررت على المشي عَلَيْهِ وقَدْ مرت عَلَيْكَ صفته.

ثُمَّ قِيْل لَكَ وأَنْتَ تنظر إِلَى الجسر بفظاظته وفظاعته وقِيْل للخلق معك اركبوا الجسر الَّذِي هُوَ الصراط فتصور حالتك وخفقان قلبك ورجفان جسمك مِمَّا عانيت من المزعجات والكروب والشدائد والأهوال وعظائم الأمور وقلة المأكل والمشرب والرَّاحَة. ولما قِيْل: اركب طار عقلك رعبًا وخوفًا ثُمَّ إِذَا رفعت رجلك وأَنْتَ تنتفض لتركب الجسر فوقع قدمك على حدته ودقته فازداد فزعك وازداد رجفان قلبك ورفعت رجلك الأُخْرَى وأَنْتَ مضطرب تمروج من شدة الخوف العَظِيم وقَدْ أثقلتك الأوزار وأَنْتَ حاملها على ظهرك وأَنْتَ تنظر إِلَى النَّاس من يتهافتون من بين يديك ومن ورائك. فتصور مرورك عَلَيْهِ بضعفك وثقلك وأوزارك وقلة حيلتك وأَنْتَ مندهش مِمَّا تحتك وأمامك ممن يئنون ويزلون وقَدْ تنكست هاماتهم وارتفعت أرجلهم وآخرون يتخطفون بالكلاليب وتسمَعَ العويل والبُكَاء والأصوات المزعجات المناديات بالويل والثبور. فيا له من منظر فظيع ومر تقي ما أصعبه ومجاز ما أضيقه ومكَانَ ما أهوله وموقف ما أشقه وكأني بك مملوءًا من الذعر والرعب والقلق ملتفتًا يمينًا وشمالاً إِلَى من حولك من الخلق وهم يتهافتون قدامك فِي جهنم وأَنْتَ تخشى أن تتبعهم إِلَى قعر جهنم. فتصور هَذَا بعقلك ما دمت فِي قيد الحياة قبل أن يحال بينك وبينه فلا يفيدك التفكير لعلك أن تتلافى تفريطك وتحاسب نفسك قبل أن يفوت الأوان فتبوأ بالفشل والخيبة والحرمان. وتصور حالتك إن يؤت بالْخُسْرَانُ وزلت رجلك على الصراط ووقعت فيما كنت تحاذر وتخاف وطار عقلك ثُمَّ زلت رجلك الأُخْرَى فنكستَ على هامتك وعلت رجلاك فلم تشعر إلا والكلوب قَدْ دخل فِي جلدك ولحمك.

فجذبت به وبادرت إليك النار ثائرة غضبانة لغضب مولاها وقد غلب على قلبك الندم والتأسف على ضيعتها فيما يسخط الله. وتصور سماعك لنداء النار بقوله عَزَّ وَجَلَّ: {هَلِ امْتَلَأْتِ} وسمعت أجابتها {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} وهي تلتهب فِي بدنك لها قصيف فِي جسدك ثُمَّ لم تلبث أن تفطر جسمك وتساقط لحمك وبقيت عظامك. محترق تطلب مِنْهُمْ ماء أَوْ نحوه فأجابوك بالرد والخيبة فتقطع قلبك حَسْرَة وأسفًا. قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُواْ إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} فيا خيبة من هَذَا حاله وَهَذَا مآله. لَقَدْ تقطع قلبك حزنًا إذ خيبوا أملك فيهم وبما رَأَيْت من غضبهم عَلَيْكَ لغضب رَبِّكَ عَزَّ وَجَلَّ ففزعت إِلَى الله بالنداء بطلب الْخُرُوج مَنْهَا فبعده مدة الله أعْلَمْ بها جَاءَ الجواب {قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} . فَلَمَّا سمعت النداء بالتخسئة لَكَ ولأمثالك بقى نفسك من شدة الضيق والألم والحَسْرَة مترددًا فِي جوفك لا مخَرَجَ لَهُ فضاقت نفسك ضَيِّقًا شَدِيدًا لا يعمل مداه ألا الله. وبقيت قَلِقًا تَزْفر ولا تطيق ثُمَّ أتاك زيادة حَسْرَة وندامة حيث أطبق أبواب النار عَلَيْكَ وعلى أعدائه فيها فانقطع الأمل كليًا. فيا إياسك ويا أياس سكَانَ جهنم حين يسمعوا وقع أبوابها تطبق عَلَيْهمْ، قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ} . فعلموا عَنْدَ ذَلِكَ أن لا فرج أبدًا ولا مخَرَجَ ولا محيص لَهُمْ من عذاب الله خلود فلا موت وعذاب لا زَوَال لَهُ عَنْ ابدأنهم ودوام حرق قُلُوبهمْ.

أحزان لا تنقضي وهموم وغموم لا تنفد وسقم لا يبرأ وقيود لا تحل وأغلال لا تفك، قَالَ تَعَالَى: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} . وقَالَ تَعَالَى: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} . ثُمَّ اطلعت النار على ما فِي جوفك فأكلت ما فيه وأَنْتَ تنادى وتستغيث فلا ترحم حَتَّى إِذَا طال فيها مكثك واشتد بك العطش. فذكرت الشراب فِي الدُّنْيَا فزعت إِلَى الجحيم فتناولت الإناء من يد الخازن الموكل بعذابك فَلَمَّا تناولته تمزعت كفك من تحته واحترقت من حرارته ثُمَّ قربته إِلَى فمك والألم بالغ منك كُلّ مبلغ فشوى وجهك وتساقط لحمه. ثُمَّ تجرعته فسلخ حلقك ثُمَّ وصل إِلَى جوفك فقطع أمعاءك، قَالَ الله جَلَّ وَعَلا: {وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ} ، وقَالَ جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} . ثُمَّ ذكرت شراب الدُّنْيَا وبرده ولذاته فبادرت إِلَى الحميم لتبرد به كبدك كما تعودت فِي الدُّنْيَا فسقيت فقطع أمعاءك والحميم شراب كالنحاس المذاب يقطع الأحشاء والأمعاء ثُمَّ بادرت إِلَى النار رجَاءَ أن تَكُون أَهْوَن منه ثُمَّ اشتد عَلَيْكَ حريق النار فرجعت إِلَى الحميم قَالَ تَعَالَى: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} ، وقَالَ فِي الآية الأُخْرَى: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} . فقدر نفسك مَعَ الضائعين والخاسرين لعلك أن تلحق بالأَبْرَار

والمقربين وتصور حالتك لما اشتد بك الكرب والعطش وبلغ منك كُلّ مبلغ وذكرت الجنان وما فيها من النَّعِيم الْمُقِيم والعيش السَّلِيم. وهاجت الأحزان وهاجت غصة فِي فؤادك إِلَى حلقك أسفًا على ما فات من رضي الله عَزَّ وَجَلَّ حزنًا على نعيم الْجَنَّة. ثُمَّ ذكرت شرابها وبرد مائها وذكرت أن فيها بَعْض القرابة من أب أَوْ أم أَوْ ابن أَوْ أخ أَوْ غيرهم من القرابة أَوْ الأصدقاء فِي الدُّنْيَا فناديتهم بقلب محزون لا يرحم بكاؤهم ولا يجاب دعاؤهم ولا يغاثون عَنْدَ تضرعهم ولا تقبل توبتهم ولا تقَالَ عثرتهم غضب الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهمْ فلا يرضى عنهم أبدًا فمثل نفسك بهَذَا الوصف إن لم يعف عَنْكَ ربك لعلك أن تستيقظ فتستدرك. فلو رَأَيْت المعذبين قَدْ أكلت النار لحومهم ومحت محاسن وجوههم واندرس تخطيطهم فبقيت العظام محترقة مسودة وقَدْ قلقوا من شدة تكرار الْعَذَاب الأَلِيمِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ} وهم ينادون بالويل والثبور ويصرخون بالبُكَاء والعويل، قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} ، وقَالَ: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً * لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} . فلو رأيتهم لذاب قلبك فزعًا ورعبًا من سوء خلقهم ولخرجت روحك من نتن رائحتهم فَكَيْفَ لو نظرت نفسك وأَنْتَ لعلك فيهم وقَدْ زال من قلبك الأمل والرجَاءَ ولزمك القنوط والإياس فمثل نفسك لعلك أن تتأثر فتستعد للقاء الله. ونظرت إِلَى النار وهي تشتعل فِي أجزاء بدنك فتدخل أذنيك وعينيك ولا تقدر على إبعادها عَنْكَ لملازمتها لَكَ، قَالَ الله تَعَالَى {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} فهناك يغلب على قلبك التأسف والحسرات

والندامة، قَالَ جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} الآية. فتصور تلك الأهوال والعظائم بعقل فارغ وعزيمة صادقة وراجع نفسك ما دمتُ فِي قيد الحياة وتب إِلَى الله توبة نصوحًا عَنْ ما يكره مولاك وتضرع إليه وابك من خشيته لعله يرحمك ويقِيْل عثرتك فَإِنَّ الخطر عَظِيم والبدن ضعيف والموت منك قريب، انتهى بتصريف من كلام المحاسبي رَحِمَهُ اللهُ. شِعْرًا: ... مِثْلَ وُقُوفِكَ يَوْمَ الْحَشْرِ عُرْيَانًا ... مُسْتَعْطِفًا قَلَقَ الأَحْشَاء حَيْرَانا النَّارُ تَزْفُرُ مِنْ غَيْظٍ وَمِنْ حَنَقٍ ... عَلَى الْعُصَاةِ وَتَلْقَ الرَّبَ غَضْبَانَا اقْرَأْ كِتَابَكَ يَا عَبْدِي عَلَى مَهْلٍ ... وَانْظُرْ إِلَيْهِ تَرَى هَلْ كَانَ مَا كَانَ لَمَّا قَرَأْتَ كَتِابًا لا يُغَادِرُ لِي ... حَرْفًا وَمَا كَانَ فِي سِرٍّ وَإِعْلانَا قَالَ الْجَلِيلُ خُذُوهُ يَا مَلائِكَتِي ... مُرُوا بِعَبْدِي إِلَى النِّيرَانِ عَطْشَانَا يَا رَبّ لا تُحْزِنَا يَوْمَ الْحِسَابِ وَلا ... تَجْعَلْ لِنَارِكَ فِينَا الْيَوْم سُلْطَانَا اللَّهُمَّ يَا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغَفْلَة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة وَوَفِّقْنَا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا واكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا، وامنن عَلَيْنَا يَا مولانَا بتوبة تمحو بها عنا كُلّ ذنب واغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. " موعظة ": لله در أقوام تركوا الدُّنْيَا فأصابوا، وسمعوا منادي الله فأجابوا، وحضروا مشاهد التقى فما غابوا، واعتذروا مَعَ التحقيق ثُمَّ تابوا وأنابوا، وقصدوا باب مولاهم فما ردوا ولا خابوا. قَالَ عمرو بن ذر: لما رأى العابدون الليل قَدْ هجم عَلَيْهمْ، ونظروا إِلَى أَهْل الغَفْلَة قَدْ سكنوا إِلَى فرشهم ورجعوا إِلَى ملاذهم.

قاموا إِلَى الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى فرحين مستبشرين بما قَدْ وهب الله لَهُمْ من السهر وطول التهجد. فاستقبلوا الليل بأبدانهم، وباشروا ظلمته بصفاح وجوههم، فانقضى عنهم الليل، وما انقضت لذتهم من التلاوة، ولا مَلَّتْ أبدانهم من طول العبادة، فأصبح الفريقان وقَدْ ولى الليل بربح وغبن. فاعملوا فِي هَذَا الليل وسواده، فَإِنَّ المغبون من غبن الدُّنْيَا والآخِرَة، وكم من قائم لله تَعَالَى فِي هَذَا الليل قَدْ اغتبط بقيامه فِي ظلمة حفرته. اللَّهُمَّ إِنَّكَ تعلم سرنا وعلانيتنا وتسمَعَ كلامنا وتَرَى مكاننا لا يخفى عَلَيْكَ شَيْء من أمرنا نَحْنُ البؤساء الفقراء إليك المستغيثون المستجيرون بك نسألك أن تقيض لدينك من ينصره ويزيل ما حدث من البدع والمنكرات ويقيم على الجهاد ويقمَعَ أَهْل الزيغ والكفر والعناد ونسألك أن تغفر لَنَا ولوالدينا وَجَمِيع الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله. " فصل ": ويقابل دار الأشقياء التي تقدمت قريبًا دار أخرى دار قرار ونعيم وسرور وحبور وأمن وصحة وحياة أبدية فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين مِمَّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. دار جعلها الكريم جَلَّ وَعَلا دار ضيافة يكرم فيها عباده الأخيار الَّذِينَ وفقهم لخدمته والْعَمَل بطاعته. ولا تظن هَذِهِ الضيافة محدودة، ولا أن الكرامة فيها تنتهي بل كُلّ ما تحبه وتتمناه أمامك إن كنت من أَهْل العفو والتجاوز فتوهم إن تفضل الله عَلَيْكَ بالعفو والتجاوز (أي تصور ممرك على الصراط) . ونورك يسعى بين يديك وعن يمينك، وكتابك بيمينك مبيض الوجه.

قَالَ الله جَلَّ وَعَلا: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) ، وقَدْ أيقنت برضاه عَنْكَ وأَنْتَ على الصراط مَعَ زمرة العابدين ووفود المتقين. والملائكة تنادى: سلم سلم، والوجل مَعَ ذَلِكَ لا يفارق قلبك ولا قُلُوب الْمُؤْمِنِينَ، تنادي وينادون: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، فتدبر حين رأوا المنافقين طفئ نورهم، وهاج الوجل فِي قُلُوبهمْ، فدعوا بتمام النور والمغفرة. فتوهم أي تصور وتخيل وتمثل نفسك، وأَنْتَ تمر خفيفًا مَعَ الوجل وتصور ممرك عَلَى قَدْرِ خفة أوزارك وثقلها وقَدْ انتهيت إِلَى آخره. فغلب على قلبك النجاة، وقَدْ عاينت نعيم الجنان وأَنْتَ على الصراط، فحن قلبك على جوار الله عَزَّ وَجَلَّ، واشتاق إِلَى رضا الله، حَتَّى إِذَا صرت إِلَى آخر خطوات بأحد رجليك إِلَى العرصة (أى عرصة القيامة) التي بين آخر الجسر وبين باب الْجَنَّة، فوضعتها على العرصة التي بعد الصراط، وبقيت القدم الأُخْرَى على الصراط، والخوف والرجَاءَ قَدْ اعتليا فِي قلبك وغلبا عَلَيْكَ. ثُمَّ ثنيت بالأخرى، فجزت الصراط كله واستقرت قدماك على تلك العرصة، وزلت عَنْ الجسر ببدنك، وخلفته وراء ظهرك، وجهنم تضطرب من تحت من يمر عَلَيْهَا، وتثب على من زل عَنْهُ مغتاظة تزفر عَلَيْهِ وتشهق إليه. ثُمَّ التفت إِلَى الجسر فنظرت إليه باضطرابه، ونظرت إِلَى الخلائق من فوقه، وإلى جهنم من تحته تثب وتزفر على الَّذِينَ زلزلوا عَنْ الصراط، لها فِي رؤوسهم وأنحائهم قصيف، فطار قلبك فرحًا إذ نجوت بضعفك من النار وخافت النار وجسرها من وراء ظهرك، متوجها إِلَى جوار ربك. ثُمَّ خطوت أمنا إِلَى باب الْجَنَّة امتلأ قلبك سرورًا وفرحًا، فلا تزال فِي ممرك بالفرح والسرور حَتَّى توافي أبوابها، فإذا وافيت بابها استقبلك بحُسْنِهِ،

فنظرت إِلَى حسنه ونوره وحسن صورة الْجَنَّة وجدرانها، وقلبك مستطير فرح مسرور متعلق بدخول الْجَنَّة حين وافيت بابها أَنْتَ وأَوْلِيَاء الرحمن. فتوهم أي تخيل وتصور نفسك فِي ذَلِكَ الموكب، وهم أَهْل كرامة الله ورضوانه، مبيضة وجوههم، مشرقة برضا الله، مسرورون فرحون مستبشرون، وقَدْ وافيت باب الْجَنَّة بغبار قبرك، وحر المقام ووهج ما مر بك. فنظرت إِلَى العين التي أعدها الله لأوليائه وإلى حسن مائها، فانغمست فيها مسرورًا، لما وجدت من برد مائها وطيبة، فوجدت لَهُ بردًا وطيبًا فذهب عَنْكَ بحزن المقام، وطهرك من كُلّ دنس وغبار، وأَنْتَ مسرور لما وجدت من طيب مائها لما باشرته، وقَدْ أفلتَّ من وهج الصراط وحره، لأنه قَدْ يوافي بابها من أحرقت النار بَعْض جسده بلفحها وقَدْ بلغت منه. فما ظنك وقَدْ انفلت من حر المقام ووهج أنفاس الخلائق، ومن شدة توهج حر الصراط فوافيت باب الْجَنَّة بذَلِكَ، فَلَمَّا نظرت إِلَى العين قذفت بنفسك فيها، فتوهم (أي تصور وتخيل) فرحة فؤادك لما باشر برد مائها بدنك بعد حر الصراط، ووهج القيامة، وأَنْتَ فرح لمعرفتك إِنَّكَ إنما تغتسل لتتطهر لدخول الْجَنَّة والخلود فيها. فأَنْتَ تغتسل مَنْهَا دائبًا، ولونك متغير حسنًا، وجسدك يزداد نضرة وبهجة ونعيمًا، ثُمَّ تخَرَجَ مَنْهَا فِي أحسن الصور وأتم النور. اللهم ثَبِّتْ محبتك فِي قلوبنا وقوها، اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا محبة أوليائك وبغض أعدائك وهجرانهم والابتعاد عنهم واغفر لَنَا، اللَّهُمَّ إِنَّكَ تعلم سرنا وعلانيتنا وتسمَعَ كلامنا وتَرَى مكاننا لا يخفى عَلَيْكَ شَيْء من أمرنا نَحْنُ البؤساء إليك المستغيثون المستجيرون بك نسألك أن تقيض لدينك من ينصره ويزيل ما حدث من البدع والمنكرات وتقيم علم الجهاد وتقمَعَ أَهْل

الزيغ والكفر والعناد ونسألك أن تغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فصل) : فتوهم (أي تصور وتخيل) فرح قلبك حين خرجت مَنْهَا فنظرت إِلَى كمال جمالك، ونضارة وجهك وحسنه، وأَنْتَ عَالِم موقن بأنك تتنظف للدخول إِلَى جوار ربك، ثُمَّ تقصد إِلَى العين الأُخْرَى، فتتناول من بَعْض آنيتها، فتوهم نظرك إِلَى حسن الإناء وإلى حسن الشراب، وأَنْتَ مسرور بمعرفتك إِنَّكَ إنما تشرب هَذَا الشراب لتطهر جوفك من كُلّ غل وجسدك ناعم أبدًا. حَتَّى إِذَا وضعت الإناء على فيك ثُمَّ شربته، وجدت طعم شراب لم تذق مثله ولم تعود شربه، فيسلس من فيك إِلَى جوفك، فطار قلبك سرورا لما وجدت من لذته، ثُمَّ نقى جوفك من كُلّ آفة، فوجدت لذة طهارة صدرك من كُلّ طبع كَانَ فيه ينازعه إِلَى الغموم والهموم والحرص والشدة والْغَضَب والغل فيا برد طهارة صدرك، ويا روح ذَلِكَ على فؤادك. حَتَّى إِذَا استكملت طهارة الْقَلْب والبدن، واستكمل أحباء الله ذَلِكَ معك، والله مطلع يراك ويراهم، أمر مولاك الجواد المتحنن خزان الْجَنَّة من الملائكة الَّذِينَ لم يزالوا مطيعين خائفين منه مشفقين وجلين من عقابه إعظاما لَهُ وإجلالاً، وهيبة لَهُ، وحذرًا من نقمة، وأمرهم أن يفتحوا باب جنته لأوليائه، فانحدروا من دارها، وبادروا من ساحتها، وأتوا باب الْجَنَّة فمدوا أيديهم ليفتحوا أبوابها. وأيقنت بذَلِكَ، فطار قلبك سرورًا، وامتلأت فرحًا، وسمعت حسن صرير أبوابها، فعلاك السرور، وغلب على فؤادك، فيا سرور قُلُوب المفتوح لَهُمْ باب جنة رب العالمين.

فَلَمَّا فتح لَهُمْ بابها، هاج نسيم طيب الجنان، وطيب جرى مائها، فنفح وجهك، وَجَمِيع بدنك، وثارت أراييج الْجَنَّة العبقة الطيبة، وهاج ريح مسكنها الاذفر، وزعفرانها المونع، وكافورها الأصفر، وعنبرها الأشهب، وارياح طيب ثمارها وأشجارها، وما فيها من نسيمها. فتدخلت تلك الارييح فِي مشامك حَتَّى وصلت إِلَى دماغك، وصار طيبها فِي قلبك، وفاض مِنْ جَمِيعِ جوارحك، ونظرت بعينيك إِلَى حسن قصورها، وتأسيس بنيانها من طرائق الجندل الأخضر من الزمرد والياقوت الأحمر، والدر الأَبْيَض، قَدْ سطع منه نوره وبهاؤه وصفاؤه. فقَدْ أكمله الله فِي الصفاء والنور، ومازجة نور ما فِي الجنان، ونظرت إِلَى حجب الله، وفرح فؤادك لمعرفتك إِنَّكَ إِذَا دخلتها فَإِنَّ لَكَ فيها الزيادات، والنظر إِلَى وجه ربك، فاجتمَعَ طيب أراييح الْجَنَّة وحسن بهجة منظرها وطيب نسيمها، وبرد جوها. فتصور نفسك أن تفضل الله عَلَيْكَ بهذه الهيئة، فلو مت فرحًا لكَانَ ذَلِكَ يحق لَكَ، حَتَّى إِذَا فتحوا بابها، أقبلوا عيك ضاحكين فِي وجهك ووجوه أولياء الله معك، ونادوَكَمْ {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} فتوهم حسن نغماتهم، وطيب كلامهم، وحسن تسليمهم، فِي كمال صورهم، وشدة نورهم. ثُمَّ اتبعوا السَّلام بقولهم: {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} ، فاثنوا عَلَيْهمْ بالطيب والتهذيب من كُلّ دنس، ودرن وغل وغش، وكل آفة فِي دين أَوْ دنيا، ثُمَّ أذنوا لَهُمْ على الله بالدخول فِي جواره، ثُمَّ أخبروهم أنهم باقون فيها أبدًا، فَقَالُوا: {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} ، فَلَمَّا سمعت الأذن وأَوْلِيَاء الله معك ن بادرتم الْبَاب بالدخول، فكضت الأبواب من الزحام. فتصور نفسك أن الله عفا عَنْكَ فِي تلك الزحمة مبادرًا مَعَ مبادرين،

مسرورا مَعَ مسرورين، بأبدان قَدْ طهرت، ووجوه قَدْ أشرقت وأنارت فهي كالبدر، قَدْ سطع من أعراضهم كشعاع الشمس. فَلَمَّا جاوزت بابها، وضعت قدميك على تربتها، وهي مسك اذفره، ونبت الزعفران المونع، والمسك مصبوب على أرض من فضة، والزعفران نابت حولها، فَذَلِكَ أول خطوة خطوتها فِي أرض البقاء بالأمن من الْعَذَاب والموت، فأَنْتَ تتخطى فِي تراب المسك، ورياض الزعفران، وعيناك ترمقان حسن بهجة الدر، من حسن أشجارها، وزينة تصويرها. فبينما أَنْتَ تتخطى فِي عرصات الجنان، فِي رياض الزعفران، وكثبان المسك، إذ نودي فِي أزواجك وولدانك وخدامك وغلمانك وقهارمتك، أن فلانَا قَدْ أقبل، فأجابوا، واستبشروا لقدومك، كما يبشر أَهْل الغائب فِي الدُّنْيَا بقدومه. ثناء على الله وتضرع إليه جل جلاله إِلَهِي وَخلاقي وَحِرْزِي وَمَوْئِلِي ... إِلَيْكَ لِدَى الإِعْسَارِ وَالْيُسْرِ أَفْرَعُ إِلَهْيِ لَئِنْ ابْعَدْتَنِي أَوْ طَرَدْتَنِي ... فَمَنْ ذَا الَّذِي أَرْجُوا وَمَنْ أَتَشَفَّعُ إِلَهِي لَئِنْ جَلَتَ وَجَمَعْتَ خَطِيئَتِي ... فَعَفْوُكَ عَنْ ذَنْبِي أَجَلُّ وَأَوْسَعُ إِلَهِي لَئِنْ أَعْطيتَ نَفْسِي سُؤَالَهَا ... فَهَا أَنَا فِي رَوْضَ النَّدَامَةِ ارْتَعُ إِلَهِي فَلا تَقْطَعْ رَجَائِي وَلا تَزْغ ... فُؤَادِي فإني خَائٍفٌ مُتَضَرِّعُ إِلَهِي فَأَنِسْنِي بِتَلْقِينِ حُجْتَي ... إِذَا كَانَ لي فِي الْقَبْرِ مَثْوَى وَمَضْجَعُ إِلَهْيِ أَذِقْنِى بَرْدَ عَفْوِكَ يَوْمَََ لا ... بَنُونَ وَلا مَالَ هُنَالِكَ خضعُ وَلا تَحْرِمْنِي مِنْ شَفَاعَةِ أَحْمَدٍ ... وَصَحْبة أَخْيَارِ هُنَالِكَ خُضَّعُ وَصَلِّ عَلَيْهِ مَا دَعَاكَ مُوَحَّدٍ ... وَنَاجَاكَ أَقْوَامٌ بِبِاكٍ خُشْعُ

" فَصْلٌ " فبينما أَنْتَ تنظر إِلَى قصورك، إذ سمعت جلبتهم وتبشيشهم فاستطرت لِذَلِكَ فرحًا، فينما أَنْتَ فرح ومسرور بغبطتهم لقدومك لما سمعت إجلابهم فرحًا بك، إذ ابتدرت القهارمة إليك، وقامت الولدان صفوفًا لقدومك، فينما أتت القهارمة مقبلة إليك، ذا استخف أزواجك للعجلة، فبعثت كُلّ واحدة منهن بَعْض خدامها لينظر إليك مقبلاً، ويسرع بالرجوع إليها يخبرها بقدومك، لتطمئن إليه فرحًا، وتسكن إِلَى ذَلِكَ سرورًا، فنظر إليك الخدم قبل أن تلقاك قهارمتك. ثُمَّ بادر رسول كُلّ واحدة منهن إليها فَلَمَّا أخبرها بقدومك، قَالَتْ: كُلّ واحدة لرسولها: أَنْتَ رأيته. من شدة فرحها بذَلِكَ، ثُمَّ أرسلت كُلّ واحدة منهن رسولاً آخر، فَلَمَّا جاءت البشارات بقدومك إليهن، لم يتمالكن فرحًا، فأردن الْخُرُوج إليك مبادرات إِلَى لقائِك لولا أن الله كتب القصر لهن فِي الخيام، إِلَى قدومك، كما قَالَ مليكك: {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} . فوضعن أيديهن على عضائد أبوابهن، وأذرعهن برؤوسهن، ينظرون متى تبدو لهن صفحة وجهك، فيسكن طول حنينهن، وشدة شوقهن إليك، وينظرون إِلَى قرير أعينهن، ومعدن راحتهن، وأنسهن إِلَى ولي ربهن وحبيب مولاهن. فتوهم ما عاينت، حين فتحت أبواب قصورك، ورفعت ستوره، من حسن بهجة مقاصيره، وزينة أشجاره، وحسن رياضه، وتلألؤ صحنه، ونور ساحاته. فبينما أَنْتَ تنظر إِلَى ذَلِكَ، إذ بادرت البشرى من خدامك ينادون أزواجك هَذَا فلان بن فلان قَدْ دخل من باب قصره، فَلَمَّا سمعن نداء البُشْرَاء بقدومك ودخولك، توثبن من الفرش على الأسرة فِي الحجال.

وعينك ناظرة إليهن فِي جوف الخيام والقباب، فنظرت إِلَى وثوبهن مستعجلات، وقَدْ استخفهن الفرح، والشوق إِلَى رؤيتك. فتخيل تلك الأبدان الرخيمة الرعبوبة الخريدة الناعمة، يتوثبن بالتهادي والتبختر. فتصور كُلّ واحدة منهن حين وثَبَتْ فِي حسن حللها وحليتها بصحابة وجهها، وتثنِّي بدنها بنعمته. فتوهم انحدارها مسرعة بكمال بدنها، نازلة عَنْ سريرها إِلَى صحن قبتها وقرار خيمتها، فوثبن حَتَّى أتين أبواب خيامهن وقبابهن. ثُمَّ أخذن بأيديهن عضائد أبواب خيامهن للقصر، الَّذِي ضرب عليهن إِلَى قدومك، فقمن آخذات بَعْضائد أبوابهن. ثُمَّ خرجن برؤوسهن ووجوههن، ينحدرن من أبواب قبابهن، متطلعات، ينظرن إليك، مقبلات قَدْ ملئن منك فرحًا وَسُرُورًا. وتخيل نفسك بسرور قلبك وفرحه، وقَدْ رمقتهن على حسن وجوههن، وغنج أعينهن. فَلَمَّا قابلت وجوههن حار طرفك، وهاج قلبك بالسرور، فبقيت كالمبهوت الذاهل من عظيم ما هاج فِي قلبك من سرور ما رأت عيناك وسكنت إليه نفسك. فينما أَنْتَ ترفل إليهن إذ دنوت من أبواب الخيام، فأسرعن مبادرات قَدْ استخفهن العشق، مسرعات يتثنين من نعيم الأبدان، ويتهادين من كمال الأجسام. ثُمَّ نادتك كُلّ واحدة منهن: يَا حبيبي ما أبطأك عَلَيْنَا؟ فأجبتها بأن قُلْتُ:

يا حبيبة ما زال الله عَزَّ وَجَلَّ يوقفني على ذنب كَذَا وَكَذَا حَتَّى خشيت أن لا أصل إليكن، فمشين نحوك فِي السندس والحرير، يثرن المسك، وشوقًا وعشقًا لَكَ. فأول من تقدمت منهن مدت إليك بنانها ومعصمها وخاتمها وضمتك إِلَى نحرها فانثنيت عَلَيْهَا بكفك وساعدك حَتَّى وضعته على قلائدها من حلقها ثُمَّ ضممتها إليك وضمتك إليها. فتوهم نعيم بدنها لما ضمتك إليها كاد أن يداخل بدنك بدنها من لينه ونعيمه. فتوهم ما باشر صدرك من حسن نهودها، ولذة معانقتها، ثُمَّ شممت طيب عوارضها، فذهب قلبك من كُلّ شَيْء سواها حَتَّى غرق فِي السرور، وامتلأ فرحًا، لما وصل إِلَى روحك من طيب مسيسها، ولذة روائح عوارضها. فَلَمَّا استمكنت خفة السرور من قلبك، وعمت لذة الفرح جميع بدنك، وموعد الله عَزَّ وَجَلَّ فِي سرورك، فناديت بالحمد لله الَّذِي صدقك الوعد، وأنجز لَكَ الموعد، ثُمَّ ذكرت طلبك إِلَى ربك إياهن بالدؤوب والتشمير. فأين أَنْتَ فِي عاقبة ذَلِكَ الْعَمَل الَّذِي استقبلته وأَنْتَ تلتثمهن وتشم عوارضهن {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ} . اللَّهُمَّ إِنَّا نسألك حياة طيبة، ونفسًا تقية، وعيشة نقية، وميتة سوية ومرادًا غير مخزي ولا فاضح. اللَّهُمَّ اجعلنا من أَهْل الصلاح والنجاح والفلاح، ومن المؤيدين بنصرك وتأييدك ورضاك يَا رب العالمين. اللَّهُمَّ مالك الملك تؤتى الملك من تشاء، وتنْزِع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الْخَيْر إِنَّكَ على كُلّ شَيْء قدير. يَا ودود يَا ذا العرش المجيد يَا مبدئ يَا معيد يَا فعال لما تريد نسألك بنور وجهك الَّذِي ملأ أَرْكَانَ عرشك وبقدرتك التي

قدرتَ بها على جميع خلقكَ وبِرَحْمَتِكَ التي وسعت كُلّ شَيْء لا إله إلا أَنْتَ أن تغفر ذنوبنا وسيئاتنا، وأن تبدلها لَنَا بحسنات إِنَّكَ جواد كريم رؤوف رحيم. اللَّهُمَّ افتح لدعائنا باب القبول والإجابة واغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. " فَصْلٌ ": فتوهم صعودها على السرير بعَظِيم بدنها ونعيمه، حَتَّى استوت عَلَيْهِ جالسةً، ثُمَّ ارتقيت على السرير، فاستويت عَلَيْهِ معها، فقابلتك وأَنْتَ مقابلها، فيا حسن منظرك إليها جالسةً فِي حالها وحليها بصباحة وجهها ونعيم جسمها! الأساور فِي معاصمها، والخواتم فِي أَكفها، والخلاخيل فِي أسواقها، والقلائد فِي عنقها، والأكاليل من الدر والياقوت على قصتها وجبينها، والتاج من فوق ذَلِكَ على رأسها، والذوائب من تحت التاج قَدْ حل من مناكبها، وبلغ أردافها، تَرَى وجهك فِي نحرها، وهي تنظر إِلَى وجهها فِي نحرك. وقَدْ تدلت الأشجار بثمارها من جوانب حجلتك، واطردت الأنهار حول قصرك، واستعلى الجداول على خيمتك بالخمر والعسل واللبن والسلسبيل. وقَدْ كمل حسنك وحسنها، وأَنْتَ لابس الحرير والسندس، وأساور الذهب واللؤلؤ على كُلّ مفصل من مفاصلك، وتاج الدر والياقوت منتصف فوق رأسك، وأكاليل الدر مفصصة بالنور على جبينك. وقَدْ أضاءت الْجَنَّة وَجَمِيع قصورك من إشراق بدنك ونور وجهك، وأَنْتَ تعاين من صفاء قصورك جميع أزواجك وَجَمِيع أبنية مقاصيرك. وقَدْ تدلت عليك ثمار أشجارك واطردت أنهارك من الخمر واللبن من تحتك، والماء والعسل من فوقك، وأَنْتَ جالس مَعَ زوجتك على أريكتك، وقَدْ فتحت مصاريع أبوابك، وأرخيت عَلَيْكَ حجال خيميتك، وحفف الخدام والودان بقبتك، وسمعت زجلهم بالتقديس لربك عَزَّ وَجَلَّ.

وأَنْتَ وزوجك بأكمل الهيئة وأتم النَّعِيم، وقَدْ حار فيها طرفك تنظر إليها متعجبًا من جمالها وكمالها، طرب قلبك بملاحتها، وأنس قلبك بها من حسنها، فهي منادمة لَكَ على أريكتك، تنازعك وتعاطيك الخمر والسلسبيل والتسنيم فِي كأسات الدر وأكاويب قوارير الفضة. فتوهم الكأس من الياقوت والدر فِي بنانها، وقَدْ قربت إليك ضاحكة بحسن ثغرها، فسطع نور بنانها فِي الشراب، مَعَ نور وجهها ونحرها، ونور الجنان، ونور وجهك وأَنْتَ مقابلها، واجتمَعَ فِي الكأس الَّذِي فِي بنانها نور الكأس، ونور الشراب ونور وجهها ونور نحرها، ونور ثغرها. انتهى بتصرف. وقَالَ ابن القيم: فَاسْمَعْ صَفَاتِ عَرَائِسَ الْجَنَّاتِ ثُمَّ ... اخْتَرْ لِنَفْسِكَ يَا أَخَا الْعِرْفَانِ حُورٌ حِسَانٌ قَدْ كَمَلْنَ خَلائِقًا ... وَمَحَاسِنًا مِنْ أَجْمَلِ النِّسْوَانِ حَتَّى يُحَارُ الطَّرْفُ فِي الْحُسْنِ الَّذِي ... قَدْ ألْبَسَتْ فَالطَّرْفُ كَالْحَيْرَانِ وَيَقُولُ لَمَّا أَنْ يُشَاهِدَ حُسْنَهَا ... سُبْحَانَ مُعْطِي الْحُسْن وَالإِحْسَانِ وَالطَّرْفُ يَشْرَبُ مِنْ كُؤوس جَمَالِهَا ... فَتَرَاهُ مِثْلَ الشَّارِبِ النّشْوَانِ كَمُلَتْ خَلائِقُهَا وَأَكْمَلَ حُسْنُهَا ... كَالْبَدْرِ لَيلَ السَّتِ بَعْدَ ثَمَانِ وَالشَّمْسُ تَجْرِي فِي مَحَاسِنِ وَجْهِهَا ... والليلُ تَحتَ ذَوائِبِ الأَغْصَانِ فَتَرَاهُ يَعْجَبُ وَهُوَ مَوْضِعُ ذَاكَ مِن ... لَيلِ وَشَمْسٍ كَيْفَ يَجْتَمِعَانِ فَيَقُولُ سُبْحَانَ الَّذِي ذَا صُنْعَه ... سُبْحَانَ مُتْقِنِ صَنْعَةَ الإِنْسانِ وَكلاهُمَا مِرْآةُ صَاحِبِه إِذَا ... مَا شَاءَ يُبْصِر وَجْهَهُ يَرَيَانِ فَتَرَى مَحَاسِنَ وَجْهِهِ فِي وَجْهِهَا ... وَيَرَى مَحَاسِنِهَا بِهِ بَعَيْنَانِ حُمْر الْخُدُودِ ثُغُورُهُنَّ لآلِئٌ ... سُودُ الْعُيُونِ فَوَاتِرُ الأَجْفَانِ وَالْبَدْرُ يَبْدُو حِينَ يَبْسُمُ ثَغْرُهَا ... فَيُضِئُ سَقْفُ الْقَصْر بِالْجُدْرَانِ وَلَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ بَرْقًا سَاطِعًا ... يَبْدُو فَيَسْألُ عَنْهُ مَن بِجِنَانِ

فَيُقَالَ هَذَا ضَوْءُ ثَغْرٍ ضَاحِكٍ ... فِي الْجَنَّةِ الْعُلَيا كَمَا تَريَانِ للهِ لاثِمْ ذَلِكَ الثَّغْرِ الَّذِي ... فِي لَثْمِةِ إِدْرَاك كُلّ أَمَانِ رَيَّانَة الأَعْطَافِ مِنْ مَاءِ الشَّبَا ... ب فَغِصْنَهَا بِالْمَاءِ ذُو جَرَيَانِ لَمَّا جَرَى مَاءُ الشَّبَابِ بِغِصْنِهَا ... حَمَلَ الثِّمَارَ كَثِيرَةَ الأَلْوَانِ فَالْوَرْدُ وَالتُّفْاحُ وَالرُّمَّانُ فِي ... غِصْنِ تَعَالَى غَارِسِ الْبُسْتَانِ والَقَدْ مَنْهَا كَالْقَضِيبِ اللدِنْ فِي ... حُسْنِ الْقَوامِ كَأَوْسَط الْقُضْبَانِ إِلَى أن قَالَ رَحِمَهُ اللهُ: وَإِذَا بَدَتْ فِي حُلَّةٍ من لُبْسِهَا ... وَتَمَايَلَتْ كَتَمَايُلِ النَّشْوَانِ تَهْتَزُ كَالْغِصْنِ الرَّطِيبِ وَحِمْلُه ... وَرْدٌ وَتُفْاحٌ عَلَى رُمَّانِ وَتَبَخْتَرَتْ فِي مَشْيَهَا وَيَحِقُّ ذَا ... كَ لِمِثْلِهَا فِي جَنْةِ الْحَيَوَان وَوَصَائِفٌ مِن خَلْفِها وَأَمَامِها ... وَعَلَى شَمَائِلِهَا وَعَنْ إِيمَانِ كَالبَدْرِ لَيلَة تِمِّهِ قَدْ حُفَّ فِي ... غَسّقِ الدُّجَى بِكَوَاكِبِ الْمِيزَانِ فَلِسَانُهُ وَفُؤَادُهُ وَالطَّرف فِي ... دَهْشٌ وَإِعْجَابٍ وَفِي سُبْحَانِ فالْقَلْبُ قَبْلَ زَفَافِهَا فِي عُرْسِهِ ... وَالْعُرْسُ إِثْر العُرْسِ مُتَّصِلانِ حَتَّى إِذَا مَا وَاجَهَتْهُ تَقَابَلا ... أرأيْتَ إِذ يَتَقَابَل الْقَمَرَانِ فَسَلِ الْمُتَيَّمَ أَيْنَ خَلَّفَ صَبْرَهُ ... فِي أَيِّ وَادٍ أَمْ بَأَي مَكَانَ وَسَلِ الْمُتَيَّم كَيْفَ حَالَتُهُ وَقَدْ ... مُلِئَتْ لَهُ الأُذُنَانِ وَالعَيْنَانِ مِن مَنْطِقٍ رَقَّتْ حَوَاشِيهِ وَوَجْـ ... ــه كَمْ بِهِ لِلشمْس مِن جَرَيَانِ وَسَلِ الْمُتَيَّمَ كَيَفَ عِيشَتُهُ إِذَا ... وَهُمَا عَلى فُرَشَيْهِمَا خَلَوَان يَتَسَاقَطَانِ لَئِآلئا مَنْثُورة ... مِن بَيْنِ مَنْظُومٍ كَنَظْمِ جُمانِ وَسَلِ الْمُتَيَّمَ كَيَفَ مَجْلِسُه مَعَ الْـ ... مَحْبُوبِ فِي رَوْحٍ وَفِي رَيْحَانِ وَتَدُورُ كَاسَات الرَّحِيقِ عَلَيْهِمَا ... بِأَكُفٍ أقمارٍ من الْولْدَانِ يَتَنَازَعَانِ الكَأْسَ هَذَا مَرَّة ... وَالْخُودُ أُخرَى ثُمَّ يَتَكِئَانِ

فَيَضُمُّهَا وَتَضُمُّهُ أَرَأيْتَ مَعْـ ... ــشُوقَيْنِ بَعدَ البُعْدِ يَلْتقِيانِ غَابَ الرَّقِيبُ وَغَابَ كُلُّ مُنَكَّدٍ ... وَهُمَا بثَوْبِ الوَصْلِ مُشْتَمِلانِ أَتَرَاهُمَا ضَجِرَيْنِ مِنَ ذَا الْعَيْشِ لا ... وَحَياةِ رَبِّكَ مَا هُمَا ضَجِرَانِ وَيَزِيدُ كُلّ مِنْهُمْ حُبًّا لِصَا ... حِبِهِ جَدِيدًا سَائِرَ الأَزْمَانِ وَوِصَالُهُ يَكْسُوهُ حُبًا بَعْدَهُ ... مُتَسَلْسَلاً لا يَنْتَهِي بِزَمَانٍ فَالْوَصُلُ مَحْفُوفٌ بِحُبٍ سَابِقٌ ... وَبِلاحِقِ وَكِلاهُمَا صِنْوَانِ فَرْقٌ لَطِيفٌ بَيْنَ ذَاكَ وَبَيْنَ ذَا ... يَدْرِيْهِ ذُو شُغْلٍ بِهَذَا الشَّانِ وَمَزِيدُهُم فِي كُلّ وَقْتٍ حَاصِلٌ ... سُبْحَانَ ذِي الْمَلَكُوتِ وَالسُّلْطَانِ يَا غَافِلاً عَمَّا خُلِقْتَ لَهُ انْتَبِهْ ... جَدَّ الرَّحِيل وَلَسْتَ بِالْيَقْظَانِ سَارَ الرِّفَاقُ وَخَلَّفُوكَ مَعَ الأولى ... قَنَعُوا بِذَا الْحَظِّ الْخَسِيسِ الْفَانِ وَرَأَيْت أَكْثَرَ مَنْ تَرَى مُتَخَلِّفًا ... فَتَبَعْهُم فَرَضِيتَ بِالْحِرْمَانِ لَكنْ أَتَيْتَ بِخُطَّتِي عَجْزٍ وَجَهْـ ... ــلٍ بَعْدَ ذَا وَصَحِبْتَ كُلَّ أَمَانِ مَنَّتْكَ نَفْسُكَ بِالْحُوقِ مَعَ الْقُعُودِ ... عَنْ الْمَسِيرِ وَرَاحَةِ الأَبْدَانِ وَلَسَوْفَ تَعْلَمُ حِينَ يَنْكَشِفُ الْغَطَا ... مَاذَا صَنَعْتَ وَكُنْتَ ذَا إمكَانِ وقَالَ ابن القيم رحمه الله: فَيَا سَاهِيًا فِي غَمْرَةِ الْجَهْلِ وَالْهَوَى ... صَرِيعَ الأَمَانِي عَنْ قَرِيبٍ سَتَنْدَمُ أَفِقْ قَدْ دَنَى الوَقْتُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ ... سِوَى جَنَّةٍ أَوْ حَرَّ نَارٍ تَضَرَّمُ وَبِالسُنَّةِ الْغَرَاءِ كُنْ مَتَمَسِّكًا ... هِيَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى الَّتِي لَيْسَ تُفْصَمُ تَمَسَّكَ بِهَا مَسْكَ الْبَخِيلِ بِمَالِهِ ... وَعَضَّ عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ تَسْلَمُ وَدَعْ عَنْكَ مَا قَدْ أَحْدَثَ النَّاسُ بَعْدَهَا ... فَمُرَتِّعُ هَاتِيكَ الْحَوَادِثِ أَوْخَمُ وَهَيء جَوَابًا عِنْدَمَا تَسْمَعُ النِّدَا ... مِنِ اللهِ يَوْمَ الْعَرْضِ مَاذَا أَجَبْتُمُ بِهِ رُسُلِي لَمَّا أَتَوْكَمْ فَمَنْ يَكُن ... أَجَابَ سوَاهُمْ سَوْفَ يُجْزَى وَيَنْدَمُ وَخُذْ مِنْ تُقَى الرَّحْمَنِ أَعْظَمَ جُنَّةٍ ... لِيَوْمِ بِه تَبْدُو عِيَانًا جَهَنَّمُ

أبيات حول حالة السلف وقصيدة وعظية

وَيَنْصِبُ ذَاكَ الْجِسْرِ مِنْ فَوْقِ مَتْنِهَا ... فَهَاوٍ وَمَخْدُوشٌ وَنَاجٍ مُسْلِمُ وَيَأْتِى اللهُ الْعَالَمِينَ لِوَعْدِهِ ... فَيَفْصِلُ مَا بَيْنَ الْعِبَادِ وَيَحْكُمُ وَيَأْخُذُ لِلْمَظْلُومِ رَبُّكَ حَقّهُ ... فَيَا بُؤْسَ عَبْدٍ لِلْخَلائِقِ يَظْلِمُ وَيَنْشُر دَيوَانُ الْحِسَابِ وَتُوْضَعُ الْـ ... ـمَوَازِينُ بِالْقِسْطِ الَّذِي لَيْسَ يَظْلِمُ فَلا مُجْرِمٌ يَخْشَى ظَلامَةَ ذَرَّةٍ ... وَلا مُحْسِنٌ مِن أَجْرِهِ ذَاكَ يُهْضَمُ وَيَشْهَدُ أَعْضَاءُ الْمُسِيئ بِمَا جَنَى ... كَذَاكَ عَلَى فِيهِ الْمُهيْمِنِ يَخْتِمُ فَيَا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ حَالُكَ عِنْدَمَا ... تَطَايَرُ كُتُبُ الْعَالَمِينَ وَتُقْسِمُ أَتَأْخُذُ بِالْيُمْنَى كِتَابَكَ أَمْ تَكُنْ ... بِالأُخْرَى وَرَاءَ الظَّهْرِ مِنْكَ تَسَلَّمُ وَتَقْرَأُ فِيهَا كُلَّ شَيْءٍ عَمِلْتَهُ ... فَيُشْرِقُ مِنْكَ الْوَجْهُ أَوْ هُوَ يُظْلِمُ تَقُولُ كِتَابِي فَأْقَرُؤهُ فَإِنَّهُ ... يُبَشِّرُ بِالْفَوْزِ الْعَظِيمِ وَيُعْلِمُ وَإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى فَإِنَّكَ قَائِلٌ ... أَلا لَيْتَنِي لَمْ أُوْتَهُ فَهُو مُغْرَمُ فَبَادِرْ إِذَا مَادَامَ فِي الْعُمْرِ فُسْحَةً ... وَعَدْلُكَ مَقْبُولٌ وَصَرْفُكَ قَيِّمُ وَجُدَّ وَسَارِعْ وَاغْتَنِمْ زَمَنَ الصِّبَا ... فَفِي زَمَنِ الإِمْكَانِ تَسْعَى وَتَغْنَمُ وَسِرْ مُسْرِعًا فَالْمَوْت خَلْفُكَ مُسْرِعًا ... وَهَيْهَاتَ مَا مِنْهُ مَفَرٌّ وَمَهْزَمُ اللَّهُمَّ ألهمنا القيام بحقك، وبارك لَنَا فِي الحلال من رزقك، ولا تفضحنا بين خلقك، يَا خَيْر من دعاه داع وأفضل من رجاه راج، يَا قاضى الحاجات ومجيب الدعوات هب لَنَا ما سألناه وحقق رجاءنا فيما تمنيناه وأمّلناه يَا من يملك حوائج السائلين ويعلم ما فِي ضمائر الصامتين، أذقنا برد عفوك، وحلاوة مغفرتك، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وصلى الله على مُحَمَّد وَعَلَى آلِه وصحبه أجمعين. (خاتمة، وصية، نصيحة) اعْلَمْ وَفَّقَنَا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع الْمُسْلِمِين لما يحبه الله ويرضاه أن مِمَّا يجب الاعتناء به حفظًا وعملاً كلام الله جَلَّ وَعَلا، وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

وأنه ينبغي لمن وفقه الله تَعَالَى أن يحث أولاده على حفظ القران وما تيسر من أحاديث النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - المتفق على صحتها عَنْهُ كالْبُخَارِيّ ومسلم. ومن الفقه مختصر المقنع ليتيسر لَهُ استخَرَجَ المسائل ويجعل لأولاده ما يحثهم على ذَلِكَ. فمثلاً يجعل لمن حفظ القران على صدره حفظًا صحيحًا عشرة آلاف أَوْ أزيد أَوْ أقل حسب حاله فِي الغنى. ومن الأحاديث عقود اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عَلَيْهِ الإمامان الْبُخَارِيّ ومسلم، يجعل لمن يحفظ ذَلِكَ ستة آلاف. فإن عجزوا على حفظها، فالعمدة فِي الْحَدِيث يجعل لمن حفظها ثلاثة آلاف أَوْ الأربعين النووية ويجعل لمن يحفظها ألفًا. ويجعل لمن يحفظ مختصر المقنع فِي الفقه ألفين من الريالات، فالغيب سبب لحفظ المسائل وسبب لسُرْعَةِ استخراج ما أُرِيدَ من ذَلِكَ، وما أشكل معناه أَوْ يدخلهم فِي مدارس تحفيظ القرآن فمدارس تعليم القرآن والسُنَّة هِيَ مدارس التعليم العالي الممتاز الباقي فِي الدُّنْيَا والآخِرَة، أَوْ يدخلهم فِي حلقات تحفيظ القرآن الكريم الموجودة فِي المساجد. وَلَمْ أَرَى لِلْخَلائِقِ مِنْ مُرَبٍ ... كَعِلْمِ الشَّرْعِ يُؤْخَذُ عَنْ ثِقَاتٍ بِبَيْتِ اللهِ مَدْرَسَةِ الأََوَالِي ... لِمَنْ يَهْوَى الْعُلُومَ الرَّاقِيَاتِ فمن وفقه الله لِذَلِكَ وَعَمِلَ أولاده بذَلِكَ كَانَ سبَبًا لِحُصُولِ الأَجْرِ مِنَ الله وَسَبَبًا لِبِرِّهِمْ بِهِ وَدُعَائِهِمْ لَهُ إذ ذكروا ذَلِكَ منه ولعله أن يكون سببَا مبَارَكًا يعمل به أولاده مَعَ أولادهم، فيزيد الأجر لَهُ ولهم نسأل الله أن يوفق الجميع لحسن النِّيْة إنه القادر على ذَلِكَ. وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم. تَمَّ هَذَا الجزء الثاني بعون الله وتوفيقه ونسأل الله الحي القيوم العليّ

العَظِيم ذا الجلال والإكرام الواحد الأحد الفرد الصمد الَّذِي لم يلد ولم يولد ولم يكن لَهُ كفوًا أحد أن يعز الإِسْلام والمسلمين وأن يخذل الكفرة والمشركين وأعوانهم وأن يصلح من فِي صلاحه صلاح للإسلام والمسلمين، ويهلك من فِي هلاكه عز وصلاح للإسلام والمسلمين، وأن يلم شعث الْمُسْلِمِين ويجمَعَ شملهم ويوحد كلمتهم وأن يحفظ بلادهم ويصلح أولادهم ويشف مرضاهم ويعافي مبتلاهم ويرحم موتاهم ويأخذ بأيدينا إِلَى كُلّ خَيْر ويعصمنا وإياهم من كُلّ شر، ويحفظنا وإياهم من كُلّ ضر، وأن يغفر لَنَا ولوالدينا وَجَمِيع الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِهِ إِنَّهُ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " موعظة " فَيَا أَيُّهَا الْمُهْمِلُون الغافلون تيقظوا فإليكم يوجه الخطاب، ويا أيها النائمون انتبهوا قبل أن تناخ للرحيل الركاب قبل هجوم اللذات ومفرق الجماعات ومذل الرقاب، ومشيِّت الأحباب، فيا له من زائر لا يعوقه عائق، ولا يضرب دونه حجاب، ويا لَهُ من نازل لا يستأذن على الملوك ولا يلج من الأبواب، ولا يرحم صغيرًا ولا يوقر كبيرًا، ولا يخاف عظيمًا ولا يهاب، ألا وإن بعده ما هُوَ أعظم منه من السؤال والجواب، وراءه هول البعث والحشر وأحواله الصعاب من طول المقام والازدحام فِي الأجسام والميزان والصراط والحساب والْجَنَّة أَوْ النار. اللَّهُمَّ يَا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة، أيقظنا من نوم الغَفْلَة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة وَوَفِّقْنَا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا وذنوبنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منَّا، واغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ

أحوال بعض السلف عند الموت مصحوبة بأبيات رائقة

والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. " موعظة " عباد الله تزودوا للرحيل فقَدْ دنت الآجال واجتهدوا واستعدوا للرحيل فقَدْ قرب الارتحال ومهدوا لأنفسكم صالح الأَعْمَال فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذنت بالفراق، وإن الآخِرَة قَدْ أشرفت للتلاق فتزودا من دار الانتقَالَ إِلَى دار الْقَرَار. واستشعروا التَّقْوَى فِي الأقوال والأفعال واحذروا التفاخر والتَّكَاثُر فِي الدُّنْيَا بجمَعَ الحطام واكتساب الآثام وَإِيَّاكُمْ والاغترار بالآمال فوراءكم المقابر ذات الوحشة والهموم والغموم والكربات وتضايق الأنفاس والأهوال المفظعات. فسوف ترون ما لم يكن لكم فِي حساب إِذَا نوديتم من الأجداث حفاة عراة غُرلاً مهطعين إِلَى الداعي وتَعَلَّقَ الْمَظْلُومُونَ بِالظَّالِمِينَ وَوَقَفْتُمْ بين يدي رب العالمين وحل بكم كرب المقام، واشتد بالخلق فِي ذَلِكَ الموقف الزحام وأُخِذَ المجرمون بالنواصي والأقدام وبرزت جهنم تقاد بسبعين ألف زمام مَعَ كُلّ زمام سبعون ألف ملك يجرونها والخزنة حولها غلاظ شداد. وَيُنَادِي عَنْدَ ذَلِكَ العزيز الحميد الجبار فَيَقُولُ: هل امتلأت؟ وَتَقُول هل من مزيد. هنالك ينخلع قلبك وتتذكر ما فرطت فيه من الأوقات وتتندم ولات ساعة مندم، وتتمنى أن لو زيد فِي الحسنات وخفف من السيئات ولكن أنَّى لَكَ هَذَا وهيهات {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} شِعْرًا: ... لِمَنْ وَرْقَاءُ بِالْوَادِي الْمَرِيعِ ... تَشُبُّ بِهِ تَبَارِيحَ الضُّلُوعِ عَلَى فَيْنَانَةٍ خَضْراءَ يَصْفُو ... عَلَى أَعْطَافِهَا وَشْيُ الرَّبِيعِ

جج تُرَدِدُ صَوْتُ بَاكِيَةٍ عَلَيْهَا ... رَمَاهَا الْمَوْتُ بِالأَهْلِ الْجَمِيعِ فَشَتَّتَ شَمْلَهَا وأَدَالَ مِنْهُ ... غَرَامًا عَاثَ فِي قَلْبٍ صَرِيعِ عَجِبْتُ لَهَا تُكَلَّمُ وَهِي خَرْسَا ... وَتَبْكِي وَهِيَ جَامِدَةُ الدُّمُوعِ فَهِمْتُ حَدِيثِهَا وَفَهِمْتُ أَنِّي ... مِنَ الْخُسْرَان فِي أَمْرٍ شَنِيعٍ أَتَبْكِي تِلْكَ أَنْ فَقَدَتْ أَنِيسًا ... وَتَشْربُ مِنْهُ بِالْكَأْسِ الْفَظِيعِ وَهَا أَنَا لَسْتُ أَبْكِي فَقْد نَفْسِي ... وَتَضْيِيعِ الْحَيَاةِ مَعَ الْمَضِيعِ وَلَوْ أَنِّي عَقَلْتُ الْيَوْمَ أَمْرِي ... لأَرْسَلْتُ الْمَدَامِعِ بِالنَّجِيعِ أَلا يَا صَاحِ وَالشَّكْوَى ضُرُوبٌ ... وَذِكْرُ الْمَوْتِ يَذْهَبُ بِالْهُجُوعِ لَعَلَّكَ أَنْ تُعِيرَ أَخَاكَ دَمْعًا ... فَمَا فِي مُقْلَتَيْهِ مِنْ الدُّمُوعِ اللَّهُمَّ أنظمنا فِي سلك الفائزين برضوانك، وَاجْعَلْنَا مِنْ المتقين الَّذِينَ أعددت لَهُمْ فسيح جنانك، وأدخلنا بِرَحْمَتِكَ فِي دار أمانك، وعافنا يَا مولانَا فِي الدُّنْيَا والآخِرَة مِنْ جَمِيعِ البلايا، وأجزل لَنَا من مواهب فضلك وهباتك ومتعنا بالنظر إِلَى وجهك الكريم مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " فَصْلٌ " اعْلَمْ وَفَّقَنَا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع الْمُسْلِمِين وأيقظ قلوبنا وقلوبكم من الغَفْلَة وارزقنا وَإِيَّاكُمْ الاستعداد للنقلة من الدار الفانية إِلَى الدار الباقية، أنَّ مِنْ أَضَرِّ ما على الإِنْسَان طول الأمل. ومعنى ذَلِكَ استشعار طول البقاء فِي الدُّنْيَا حَتَّى يغلب على الْقَلْب وينسى أَنَّهُ مُهَدَّدٌ بالموت فِي كُلّ لحظة، ولا بد منه وكل ما هُوَ آت قريب فتأهب لساعة وَدَاعَكَ من الدُّنْيَا وخروجك مَنْهَا.

وكن يَا أخي على حذر من مفاجأة الأجل فإنك عرض للآفات، وهدف منصوب لسهام الْمَنَايَا، وإنما رأس مالك الَّذِي يمكنكك إن وفقك الله أن تشتَرَي به سعادة الأبد هَذَا العمر. قَالَ الله جل وعلا: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} الآية، فإياك أن تنفق أوقات عمرك وأيامه وساعاته وأنفاسه فيما لا خَيْر فيه ولا منفعة فيطول حزنك وندامتك وتحسرك بعد موتك. واجعل ما يلي من الآيات نصب عينيك دَائِمًا لتحثك على الإستعداد ليوم المعاد. قَالَ الله جَلَّ وَعَلا: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} وقوله تَعَالَى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} وقوله تَعَالَى: {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} . وقوله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} . وقوله تَعَالَى: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} الآية. وقَالَ تَعَالَى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} وقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} . وقال جَلَّ وَعَلا: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} . ونحو هَذِهِ الآيات التي مرت عَلَيْكَ فَإِنَّ كنت مؤمنًا حَقِيقَة فاشعر قلبك

تلك المخاوف والأخطار، وأكثر فيها التفكر والاعتبار لتسلب عَنْ قلبك الرَّاحَة والقرار فِي هَذِهِ الدار فتشتغل بالجد والاجتهاد والتشمير للعرض على الجبار. وتفكر أَوَّلاً فيما يقرع سمَعَ سكَانَ القبور من شدة نفخ الصور، فَإِنَّهَا صيحة واحدة تنفرج بها القبور عَنْ رؤوس الموتى، فيثورون دفعة واحدة. قَالَ الله جل جلاله: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ} ، وقَالَ جَلَّ وَعَلا: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ} . فتصور نفسك إنتبه يَا أخي لهَذَا الْيَوْم العَظِيم الَّذِي لَيْسَ عظمة مِمَّا يوصف، ولا هوله مِمَّا يكيف، ولا يجري على مقدار مِمَّا يعلم فِي الدُّنْيَا ويعرف، بل لا يعلم مقدار عظمه ولا هوله إلا الله تبارك وتَعَالَى، وما ظنك بيوم عَبَّرَ الله تبارك وتَعَالَى عَنْهُ بَعْض ما يكون فيه بشَيْء عَظِيم. قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} ، وماذا عَسَى أن يَقُولُ القائل فيه وماذا عَسَى أن يصف الواصف به الأَمْر أعظم والخطب أكبر والهول أشنع كما قَالَ القائل: وما عَسَى أنْ أَقُولَ أَوْ أَقُومُ بِهِ ... الأَمْر أَعْظَمُ مِمَّا قِيْل أَوْ وُصِفَا وقَالَ آخر: يَضْحَكُ الْمَرءُ وَالبُكَاءُ أَمَامَهُ ... وَيَرُومُ الْبَقَاءَ وَالموتُ رَامَهْ ويَمْشِي الْحَدِيثُ فِي كُلِّ لَغْوٍ ... وَيُخْلِي حَدِيثُ يَومِ الْقِيَامَهْ وَلأَمْرٌ بَكَاهُ كُلُّ لَبِيبٍ ... وَنَفَى فِي الظَّلامِ عَنْهُ مَنَامَهْ صَاحَ حَدِّثْ حَدِيثَهُ وَاخْتَصْرهُ 10 ... فَمُحَالٌ بِأنْ تُطِيقَ تَمَامَهُ عَجِزَ الْوَاصِفُونَ عَنْهُ فَقَالُوا ... لَمْ نَجِئْ مِن بحَارِهِ بِكضَامَهْ

ج فَلْتُحَدِّثْهُ جُمْلَةً وَشَتَاتًا ... وَدَعِ الآنَ شَرْحَهُ وَنِظَامَهْ فتصور نفسك وقَدْ خرجت من قبرك متغيرًا وجهك مغبرًا بدنك من تراب قبرك مبهوتًا من شدة الصعقة، قَالَ تَعَالَى: {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ * مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} . وقَالَ جَلَّ وَعَلا وتقدس: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ} الآية. وقَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} . وقَالَ جَلَّ وَعَلا: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} . وقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} فتفكر فِي الخلائق ورعبهم وذلهم واستكانتهم عَنْدَ الانبعاث خوفًا من هَذِهِ الصعقة وانتظارًا لما يقضى عَلَيْهمْ من سعادة أَوْ شقاوة. قَالَ تَعَالَى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} . شِعْرًا: ... مَنْ كَانَ يُوحِشْهُ تَبْدِيل مَنْزِلِهِ ... وَأَنْ يُبَدَّل مِنْهَا مَنْزِلاً حَسَنَا مَاذَا يَقُولُ إِذَا ضَمَّتْ جَوَانِبَهَا ... عَلَيْهِ وَاجْتَمَعَتْ مِنْ هَا هُنَا وَهُنَا مَاذَا يَقُولُ إِذَا أَمْسَى بِحُفْرَتِهِ ... فَرْدًا وَقَدْ فَارَقَ الأَهْلِينَ وَالسَّكَنَا يَا غَفْلَةً وَرِمَاحُ الْمَوْتِ شَارِعَةٌ ... وَالشَّيْبُ أَلْقَى بِرَأْسِي نَحْوَهُ الرَّسَنَا وَلَمْ أَعُدْ مَكَانًا لِلنِّزَالِ وَلا ... أَعَدَدْتُ زَادًا وَلَكِنْ غِرَّةً وَمُنَا إِنْ لَمْ يَجُدْ مَنْ تَوَالَى جُودُهُ أَبَدَا ... وَيَعْفُ مَنْ عَفْوُهُ مِن طَالِبِيهِ دَنَا

فَيَا إِلَهِي وَمُزْنُ الجُوُدِ وَاكِفةٌ ... سَحًّا فَتُمْطِرُنَا الإِفْضَالَ وَالْمِنَنَا آنِسْ هُنَالِكَ يَا رَحْمَنُ وَحْشَتُنَا ... وَأَلْطَفْ بِنَا وَتَرَفَّقْ عِنْدَ ذَاكَ بِنَا نَحْنُ الْعُصَاةُ وَأَنْتَ اللهُ مَلْجَؤُنَا ... وَأَنْتَ مَقْصَدُنَا الأَسْنَى وَمَطْلَبُنَا فَكُنْ لَنَا عِنْدَ بَأسَاهَا وَشِدَّتِهَا ... أَوْلَى فَمَنْ ذَا الَّذِي فِيهَا يَكُونُ لَنَا اللَّهُمَّ انهج بنا مناهج المفلحين وألبسنا خلع الإِيمَان واليقين، وخصنا منك بالتَّوْفِيق المبين، وَوَفِّقْنَا لقول الحق وإتباعه وخلصنا مِنَ الْبَاطِلِ وابتداعه، وكن لَنَا مؤيدًا ولا تجعل لفاجر عَلَيْنَا يدًا واجعل لَنَا عيشًا رغدًا ولا تشمت بنا عدوًا ولا حاسدًا، وارزقنا عِلْمًا نافعًا وعملاً متقبلاً، وفهمًا ذكيًا وطبعًا صفيًا وشفاءً من كُلّ داء، اغفر لَنَا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. " فَصْلٌ " وقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: اعْلَمْ وَفَّقَنَا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع الْمُسْلِمِين لما يحبه ويرضاه أن كثرة ذكر الموت تردع عَنْ المعاصي وتلين الْقَلْب القاسي، وتذهب الفرح بالدُّنْيَا وزينتها وزخارفها ولذاتها. وتحثك على الجد والاجتهاد فِي الطاعات وإصلاح أحوالك وشئونك والتنسخ من حقوق الله وحقوق خلقه، وتنفيذ الوصايا وأداء الأمانات والديون. قَالَ بَعْضهمْ: فضح الدُّنْيَا وَاللهِ هَذَا الموت فلم يترك فيها لذي عقلٍ فرحًا. وقَالَ آخر: ما رأيت عاقلاً قط إلا وجدته حذرًا من الموت حزينًا من أجله. وقَالَ آخر: من ذكر الموت هانَتْ عَلَيْهِ مصائب الدُّنْيَا. وقَالَ آخر: من لم يخفه فِي هَذِهِ الدار ربما تمناه فِي الآخِرَة فلا يؤتاه.

وقَالَ آخر يوصى أخًا لَهُ: يَا أخي احذر الموت فِي هَذِهِ الدار من قبل أن تصير إِلَى دارٍ تتمنى بها الموت فلا يوَجَدَ. وقَالَ آخر: وأما ذكر الموت والتفكر فيه، فإنه وإن كَانَ أمرًا مقدارًا مفروغًا منه، فإنه يكسبك بتوفيق الله التجافي عَنْ دار الغرور، والاستعداد والإنابة إِلَى دار الخلود، والتفكير والنظر فيما تقدم عَلَيْهِ وفيما يصير أمرك إليه. ويهون عَلَيْكَ مصائب الدُّنْيَا ويصغر عندك نوائبها، فَإِن كَانَ سبب موتك سهلاً وأمره قريبًا فهو ذاك، وإن كَانَتْ الأُخْرَى كنت مأجورًا مَعَ النِّيْة الصَّالِحَة فيما تقاسيه، مثابًا على ما تتحمله من المشاق. واعْلَمْ أن ذكر الموت وغيره من الأذكار إنما يكون بالْقَلْب وإقبالك على ما تذكره. قَالَ الله جلا جلاله وتقدست أسماؤه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} فأي فائدة لَكَ رَحِمَكَ اللهُ فِي تحريك لسانك إِذَا لم يخطر بقلبك. وإنما مثل الذكر الَّذِي يعقب التنبيه، ويكون معه النفع والإيقاظ من الغَفْلَة والنوم أن تحضر المذكور قلبك وتجمَعَ لَهُ ذهنك وتجعله نصب عينيك ومثالاً حاضرًا بين يديك، وأن تنظر إِلَى كُلّ ما تحبه من الدُّنْيَا من ولدٍ أَوْ أَهْلِ أَوْ مالٍ أَوْ غير ذَلِكَ، فتعلم عِلْمًا لا يشوبه شك إِنَّكَ مفارقه فِي الحياة أَوْ فِي الْمَمَات، وهذه سُنَّة الله الجارية فِي خلقه وحكمه المطرد. وتشعر هَذَا قلبك وتفرغ لَهُ نفسك فتمنعها بذَلِكَ عَنْ الميل إِلَى ذَلِكَ المحبوب والتعلق به والهلكة بسببه. شِعْرًا: ... فَعُقْبَى كُلِّ شَيْءٍ نَحْنُ فِيهِ ... مِن الْجَمْعِ الْكَثِيفِ إِلَى شَتَاتِ وَمَا حُزْنَاهُ مِنْ حِلٍّ وَحُرْمٍ ... يُوَزَّعُ فِي الْبَنِينِ وَفِى الْبَنَاتِ وَفِيمَنْ لَمْ نُؤَهِّلْهُُمْ بِفَلسٍ ... وَقِيمَةِ حَبَّةٍ قَبْلَ الْمَمَاتِ

ج وَتَنْسَانَا الأَحِبَّةُ بَعْدَ عَشْرٍ ... وَقَدْ صِرْنَا عِظَامًا بَالِيَاتِ كَأَنَّا لَمْ نُعَاشِرْهُمْ بِوُدٍّ ... وَلَمْ يَكُ فِيهِمْ خِلٌّ مُؤاتِ واعْلَمْ رَحِمَكَ اللهُ أن مِمَّا يعينك على الفكرة فِي الموت ويفرغك لَهُ ويكثر اشتغال فكرك به تذكر من مضى من إخوانك وخلانك وأصحابك وأقرانك وزملائك وأساتذتك ومشايخك الَّذِينَ مضوا قبلك وتقدموا أمامك. كَانُوا يحرصون حرصك ويسعون سعيك، ويأملون أملك، ويعملون فِي هَذِهِ الدُّنْيَا عملك وقصت المنون أعناقهم وقصمت ظهورهم وأصلابهم، وفجعت فيهم أهليهم وأحباءهم وأقرباءهم وجيرانهم فأصبحوا آية للمتوسمين وعبرة للمعتبرين. ويتذكر أيضًا ما كَانُوا عَلَيْهِ من الاعتناء بالملابس ونظافتها ونضرة بشرتهم وما كَانُوا يسحبونه من أردية الشباب وأنهم كَانُوا فِي نعيم يتقلبون، وعلى الأسرة يتكئون، وبما شاؤا من محابهم يتنعمون. وفى أمانيهم يقومون ويقعدون، لا يفكرون بالزَوَال، ولا يهمون بانتقَالَ، ولا يخطر الموت لَهُمْ على بال، قَدْ خدعتهم الدُّنْيَا بزخارفها، وخلبتهم وخدعتهم برونقها، وحدثتهم بأحاديثها الكاذبة، ووعدتهم بمواعيدها المخلفة الغرارة. فلم تزل تقرب لَهُمْ بعيدها، وترفع لَهُمْ مشيدها، وتلبسهم غضَّها وجديدها، حَتَّى إِذَا تمكنت مِنْهُمْ علائقها، وتحكمت فيهم رواشقها، وتكشف لَهُمْ حقائقها، ورمقتهم من المنية روامقها. فوثَبِّتْ عَلَيْهمْ وثبة الحنق وأغصتهم غصة الشرق، وقتلتهم قلة المختنق، فكم عَلَيْهمْ من عيون باكيةٍ، ودموعٍ جاريةٍ، وخدودٍ داميةٍ، وقُلُوبٍ من الفرح والسرور لفقدهم خالية، وأنشدوا فِي هذا المعنى:

وَرَيَّانَ مِنْ مَاء الشَّبَابِ إِذَا مَشَى ... يَمِيدُ عَلَى حُكْمِ الصِّبَا وَيَمِيدُ تَعَلَّقَ مِنْ دُنْيَاهُ إِذْ عَرَضَتْ لَهُ ... خَلُوبًا لأَلْبَابِ الرِّجَالِ تَصِيدُ فَأَصْبَحَ مِنْهَا فِي حَصِيدٍ وَقَائِم ... وَلِلْمَرْءِ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدُ خَلا بِالأَمَانِي وَاسْتَطَابَ حَدِيثَهَا ... فَيَنْقُصُ مِنْ أَطْمَاعِهِ وَيَزِيدُ وَأَدْنَتْ لَهُ الأَشْيَاءِ وَهِيَ بَعِيدَةُ ... وَتَفْعَلُ تُدْنِي الشَّيءَ وَهُوَ بَعِيدُ أُتِيحَتْ لَهُ مِنْ جَانِبِ الْمَوْتِ رَمْيَةٌ ... فَرَاحَ بِهَا الْمَغْرُورُ وَهُوَ حَصِيدُ وَصَارَ هَشِيمًا بَعْدَمَا كَانَ يَانِعًا ... وَعَادَ حَدِيثًا يَنْقَضِي وَيَبِيدُ كَأَنْ لَمْ يَنَلْ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ لَذَّة ... وَلا طَلَعَتْ فِيهِ عَلَيْهِ سُعُودُ تَبَارَكَ مَنْ يُجْرِي عَلَى الْخَلْقِ حُكْمَهُ ... فَلَيْسَ لِشَيْءٍ مِنْهُ عَنْهُ مَحِيدُ " فَصْلٌ ": ويروى أن إبراهيم الخليل عَلَيْهِ السَّلام لما مَاتَ قَالَ الله جل جلاله: كيف وجدت الموت؟ قَالَ: كسفودٍ جعل فِي النار ثُمَّ أدخل فِي صوف رطب ثُمَّ جذب. فقَالَ الله تَعَالَى: أما أَنَا لَقَدْ هوناه عَلَيْكَ يَا إبراهيم. ويروى عَنْ مُوَسى عَلَيْهِ السَّلام أنه لما صَارَت روحه إِلَى الله تَعَالَى قَالَ لَهُ: يَا مُوَسى كيف وجدت الموت؟ فقَالَ: وجدت نفسي كالعصفور حين يلقى فِي المقلى لا يموت فيستريح ولا ينجو فيطير. ويروى عنه أنه قال: وجدت نفسي كشاة حية بيد القصاب تسلخ. ويروى أن عمر قَالَ لكعب الأحبار: حدثنا عَنْ الموت. فقَالَ: نعم يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كغصن كثير الشوك أدخل فِي جوف رجل فأخذت كُلّ شوكة بعرق ثُمَّ جذبه رجل شديد الجذب فأخذ ما أخذ وأبقى ما أبقى. وقَالَ القرطبي: لتشديد الموت على الأَنْبِيَاء فائدتان أحدهما تكميل فضائلهم ورفع درجاتهم ولَيْسَ ذَلِكَ نقصًا ولا عذابًا بل هُوَ كما جَاءَ أن أشد النَّاس بَلاءً الأَنْبِيَاء ثُمَّ الأمثل فالأمثل. وَالثَّانِيَة تعرف الخلق مقدار ألم الموت وأنه باطن وقَدْ يطلع الإِنْسَان على بَعْض الموتى فلا يرى عَلَيْهِ حركةً ولا قلقًا ويرى سهولة

خروج روحه فيظن سهولة أمر الموت ولا يعرف ما الميت فيه. فَلَمَّا ذكر الأَنْبِيَاء الصادقون فِي خبرهم شدة ألمه مَعَ كرامتهم على الله تَعَالَى قطع الخلق بشدة الموت الَّذِي تقاسيه مطلقًا لأخبار الصادقين عَنْهُ ما خلا الشهيد فِي سبيل الله. انتهى. أخَرَجَ الطبراني عَنْ قتادة أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الشهيد لا يجد ألم القتل إلا كما يجد أحدكم ألم مس القرصة» . أخَرَجَ ابن أبي الدُّنْيَا فِي المرض والكفارات وابن منيع فِي مسنده مِنْ حَدِيثِ أبي هريرة مرفوعًا: «يا أبا هريرة ألا أخبرك بأمر حق تكلم به فِي أول مضجعه من مرضه نجاه الله من النار» . قُلْتُ: بلى. قَالَ: «لا إله إلا الله يحيى ويميت وَهُوَ حي لا يموت وسبحان الله رب العباد والْبِلاد والحمد لله كثيرًا طيبًا مباركًا فيه على كُلّ حال والله أكبر كبيرًا وكبرياؤه وجلاله وقدرته بكل مكَانَ. اللَّهُمَّ إن كنت أمرضتني لتقبض روحي فِي مرضي هَذَا فاجعل روحي فِي أرواح من سبقت لَهُمْ منك الحسنى وأعذني من النار كما أعذت أولئك الَّذِينَ سبقت لَهُمْ منك الحسنى. فإن مت فِي مرضك ذَلِكَ فإلى رضوان الله والجنة، وإن كنت قَدْ اقترفت ذنوبًا تاب الله عليك» . وأخَرَجَ الطبراني عَنْ أبي هريرة وأبي سعيد الخدري مرفوعًا: «من قَالَ عَنْدَ موته: لا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بِاللهِ العلى العَظِيم لا تطعمه النار» . وأخَرَجَ الحاكم عَنْ سعيد بن أبي وقاص أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «هل أدلكم على اسم الله الأعظم دُعَا يونس {لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} فأَيُّمَا مُسْلِم دَعَا بِهَا فِي مرض موته أربعين مرة فمَاتَ فِي مرضه ذَلِكَ أعطى أجر شهيد وان برئ بَرئ مغفورًا لَهُ» .

شِعْرًا: ... بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِي الْوَرَى سَتُعَذَّبُ ... فَنَاجٍ بِخَدْشٍ وَالْكَثِيرُ يُكَبْكَبُ أَمَا يَسْتَحِي مَنْ كَانَ يَلْهُو وَيَلْعَبُ ... (ذُنُوبُكَ يَا مَغْرُورُ تُحْصَى وَتُحْسَبُ) (وَتُجْمَعُ فِي لَوْحٍ حَفِيظٍ وَتُكْتَبُ) وَأَنْتَ بِمَا لا يُرْتَضَى كُلَّ لَيْلَةٍ ... أَمَا تَتَّقِي مَوْلاكَ فِي كُلِّ فِعْلَةِ تَبِيتُ بِِلَذَّاتِ وَتَلْعَابِ طِفْلَةٍ ... (وَقَلْبُكَ فِي سَهْوٍ وَلَهْوٍ وَغَفْلَةٍ) (وَأَنْتَ عَلَى الدُّنْيَا حَرِيصٌ مُعَذَّبُ) فَلَوْ تَسْتَطِعْ أَخْذَ التَّقِي وَرَحْلِهِ ... أَخَذْتَ وَلَوْ فِي بَيْتِهِ وَمَحَلِّهِ وَأَنْتَ عَلَى كَنْزِ الْقَلِيلِ وَجِلِّهِ ... (تُبَاهِي بِجَمْعِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ حِلَّهِ) (وَتَسْعَى حَثِيثًا فِي الْمَعَاصِي وَتُذْبِبُ) وَتُعْرِضُ عَنْ فِعْلِ المَرَاضِي وَتَرْتَضِي ... فِعَالاً تُنَافِي فِعْلَةَ الدينِ الرَّضِي أَمَا تَرْعَوِي يَا مَنْ عَلَى لَهْوَهِ رَضِي ... (أَمَا الْعُمْرُ يَفْنَى وَالشَّبِيبَةَ تَنْقَضِي) (أَمَا الْعُمْرُ آتٍ وَالْمَنِيَّةَ تُطلبُ) فَلا تَغْتَرِرُ وَاحْذَرْ فَدُنْيَاكَ يَا الْغَدِي ... إِذَا أَضْحَكتكَ الْيَوْم أَبْكَتْكَ فِي الْغَدِي أَتَلْهُو بِدَارٍ لا تَدُومُ لِمَرْغَدِي ... (أَمَا تَذْكُر الْقَبْرَ الْوَحِيشَ وَلَحْدَهَ) (بِهِ الْجِسْمُ مِنْ بَعْدِ الْعِمَارَةِ يَخْرَبُ) وَتَقْتَتِلُ الدِّيدَانُ لا شَكَّ حَوْلَهُ ... وَمَا أَحَدٌ يَنْعِي وَلا يَعِ عَوْلَهُ أَمَا آنَ أَنْ تَخْشَى الْعَزِيزَ وَطَوْلَهُ ... (أَمَا تَذْكُر الْيَوْمَ الطَّوِيلَ وَهَوْلَهُ) (وَمِيزَانَ قِسْطٍ لِلْوَفَاءِ سَيُنْصَبُ) فَتُوزَنُ أَعْمَالٌ فَتُخْزَى رِجَالُهُ ... وَكُلٌّ يُجَازِي مَا جَنَتُهُ فِعَالُهُ وَوَيْلٌ لِمَنْ ضَاقَتْ عَلَيْهِ مَجَالُهُ ... (أَمَا جَاءَ أَنَّ اللهَ جَلَّ جَلالُهُ)

(إِذَا هَتَكَ الْعَبْدُ الْمَحَارِمَ يَغْضَبُ) فَيَهْتِكُ سِتْرَ الظَّالِمِينَ بِغِرَّةٍ ... وَكُلُّهُمُوا عَضَّ الأَكُفَّ بِحَسْرَةٍ وَلاتَ مَنَاصٍ حِينَ جَادُوا بِعَبْرَةٍ ... (أَمَا الْوَاحِدُ الدَّيَّانُ جَلَّ بِقُدْرَةٍ) (يُنَاقَشُ عَنْ كُلِّ الذُّنُوبِ وَيَحْسِبُ) فَيُنْصِفُ لِلْمَظْلُومِ مِمَّنْ لَهُ افْتَرَى ... وَيَقْصِمُهُ فَيَبْقَى مُقَحْطَرَا أَمَا زَاجِرٌ يَزْجُرْكَ يَا مَنْ تَبَخْتَرَى ... (أَمَا تَذْكُرُ الْمِيزَانَ وَيْحَكَ مَا تَرَى) (إِذَا كُنْتَ فِي قَعْرِ الْجَحِيمِ مُكَبْكَبُ) أَمَا تَمْشِين بَيْنَ الْوَرَى مُتَوَاضِعًا ... أَمَا تَتَّقِي رَبًا آلاتُكَ خَاضِعًا أَحَاطَكَ ظَهْرًا ثُمَّ بَطْنًا وَرَاضِعًا ... (كَأَنَّكَ مَا تَلْقَى عَلَى الأَرْضِ مَوْضِعًا) (وَمِنْ بَعْدِ تَلْهُو بِالشَّبَابِ وَتَلْعَبُ) رَأَيْتُ وَلَمْ تَشْعُرْ نَذِيرًا وَنَاهِيًا ... وَكُنْتَ بِدُنْيَاكَ الدَّنِيَّةِ سَاهِيَا سَهِرْتَ وَآثَرْتَ الْغِنَى وَمَلاهِيًا ... (تَرُوحُ وَتَغْدُو فِي مُرَاحِكَ لاهِيًا) (وَسَوْفَ بِأَشْرَاكِ الْمَنِيَّةِ تَنْشبُ) أَتَحْسَبُ أَنَّ اللهَ أَنْشَى الْوَرَى سُدَى ... سَيَأْتِيكَ مَا مِنْهُ تَكُونُ مُكَسَّدَا وَتُنْزَعُ رَوْحٌ تَبْقَى مُجَسَّدَا ... (وَتَبْقَى صَرِيعًا فِي التُّرَابِ مُوَسَّدَا) (وَجِسْمُكَ مِنْ حَرٍّ بِهِ يَتَلَهَّبُ) وَمَالَكَ عَنْ دَفْعِ الأَذِيَّةِ صَوْلَةٌ ... وَمَالَكَ مُذْ جَاءَ الْمُقَدَّرُ حِيلَةٌ تَنُوحُ وَتَبْكِى بِالدُّمُوعِ أَهْيَلَة ... (وَحَوْلَكَ أَطْفَالٌ صِفَارٌ وَعَوْلَةٌ) (بِهِمْ بَعْدَ مَغْذَاكَ الْبَنُونُ تَشَعَّبُ) أَيَادِي سَبَا خَلْفًا وَيَمْنَى وَيَسْرَةً ... وَكُنْتَ رَهِينًا لِلْمَنَايَا وَقَسْرَةً وَجَاءَكَ مَا أَوْدَى البَهَا وَمَسَرَّةً ... (وَقَدْ ذَرَفَتْ عَيْنَاكَ بِالدَّمْعِ حَسْرَةً) (وَخَلَّفْتَ لِلْوُارَّثِ مَا كُنْتَ تَكْسِبُ) وَتَسْعَى لَهُ مِنْ تَالِدٍ وَمُحَصَّلٍ ... وَتَسْهَرُ لَوْ فِي سَدِّ يَأْجُوجَ تُوصِلُ

.. وَبِتَّ وَلَمْ تَسْمَعْ وِصَاةً لِمُوصِلٍ ... (تُعَالُجَ نَزْعَ الرُّوحِ مِنْ كُلِّ مَفْصِلٍ) (فَلا رَاحِمٌ يُنْجِي وَلا ثَمَّ مَهْرَبُ) وَضَاقَتْ عَلَيْكَ الرُّوحُ بَعْدَ مُرُوجِهَا ... وَأَنْزَلْتَ عِنْدَ الْبَابِ بَعْدَ بُرُوجِهَا وَقُرَّبتِ الأَكْفَانُ بَعْدَ عُرُوجِهَا ... (وَغُمِّضَتِ الْعَيْنَانَ بَعْدَ خُرُوجِهَا) (وَبُسِّطَتِ الرِّجْلان وَالرَّأْسُ يُعْصَبُ) وَقَامَ سِرَاعُ النَّاسِ لِلنَّعْشِ يحْضِرُوا ... وَحَفَّارُ قَبْرٍ فِي الْمَقَابِرِ يَحْفُرُ وَجَدَّ الَّذِي فِي حَوْلِ نَادِيكَ حُضَّرٌ ... (وَقَامُوا سِرَاعًا فِي جِهَازِكَ أَحْضَرُوا) (حُنُوطًا وَأَكْفَانًا وَلِلْمَاءِ قَرَّبُوا) وَصَبُّوا عَلَيْكَ الْمَاءَ وَأَنَّ سُمُوعَهُ ... وَحَنَّ قَرِيبٌ بِالْبُكَا وَرُبُوعُهُ وَكُلُّ شَقِيقٍ جَاءَ جَدَّ زُمُوعُهُ ... (وَغَاسِكُكَ الْمَحْزُونُ تَبْكِي دُمُوعُهُ) (بِدَمْعٍ غَزِيرٍ وَاكِفٍ يَتَصَبَّبُ) كَصَيِّبِ مُزْنٍ وَدْقُهُ مُتَفَرِّقٌ ... حَزِينٌ وَمِنْ مَا دَمْعِهِ مُتَفَرَّقٌ وَكُلُّ رَحِيمٍ قَلْبُهُ مُتَحَرِّقٌ ... (وَكُلُّ حَبِيبٍ لُبُّهُ مُتَحَرِّقٌ) (يُحَرِّكُ كَفَّيْهِ عَلَيْكَ وَيَنْدُبُ) وَجَاؤُوا بِأَثْوَابٍ وَطِيبٍ بِطَيِّهَا ... (وَقَدْ نَشَرُوا الأَكْفَانَ مِنْ بَعْدِ طَيِّهَا) (وَقَدْ بَخَّرُوا مَنْشُورَهُنَّ وَطَيَّبُوا) وَخَاطُوا الَّذِي يَحْتَاجُ وَأَخْرَجُوا ... طَرَأيِدَ لِلتَّحْزِيمِ مِنْهَا وَأَدْلَجُوا جَمِيعًا بِتَجْهَازٍ وَجِسْمِكَ أَدْرَجُوا ... (وَأَلْقُوكَ فِيهَا بِيْنَهُنَّ وَأَدْرَجُوا) (عَلَيْكَ مَثَانِي طَيَّهُنَّ وَعَصَّبُوا) وَشَالُوكَ مِنْ بَيْنِ الأَخِلا مُجَرَّدًا ... وَمَالَكَ خَلْفًا قَدْ تَرَكْتَ وَخُرَّدَا وَصَلَّوْا وُقُوفًا ثُمَّ زَقَّوْكَ وُرَّدًا ... (وَفِي حُفْرَةٍ أَلْقَوْكَ حَيْرَانَ مُفْرَدَا) (تَضُمُّكَ بَيْدَاءٌ مِن الأَرْضِ سَبْسَبُ) بَعِيدٌ عَلَى قُرْبِ الْمَدَى يَعْلَمُونَهُ ... وَسَائِلُكَ الْمُجْهَادُ لا يَسْمَعُونَهُ

.. وَقَبْرُكَ قَامُوا بَعْدَ ذَا يَسِمُونَهُ ... (وَرَاحُوا لِمَّا خَلَّفْتَ يَقْتَسَمُوْنَهُ) (كَأَنَّكَ لَمْ تَشْقَى عَلَيْهِ وَتَتْعَبُ) وَتَسْهَرُ حَتَّى كَادَ ظَهْرُكَ يَنْهَصِرُ ... (وَجِسْمُكَ مَهْزُولٌ بِسَعْيِكَ مُنْعَصِرْ) َوَخَّلْفَتُه طُرًا وَمَالَكَ مُنْتَصِرْ ... (فَيَا أَيُّهَا الْمَغْرُورُ حَسْبُكَ فَاقْتَصِرْ) (وَخَفْ مِنْ جَحِيمٍ حَرُّهَا يَتَلَهَّبُ) وَلا تَمْشِ مِنْ بَيْنَ الْبَرِيَّةِ مُسْبِلا ... وَكُنْ صَالِحًا بَرًّا تَقِيًّا مُحْسَبْلا وَتُبْ عَنْ ذُنُوبٍ لا تَكُنْ مُتَكَرْبِلا ... (وَجَانِبْ لِمَا يُرْدِيكَ فِي حُفْرَةِ الْبَلا) (فَكُلٌّ يُجَازَى بِالَّذِي كَانَ يَكْسِبُ) مَآكِلُ مَا نَحْتَاجُ مِنْهَا لِقُوَّتِنَا ... شَبِيهُ حَرَامٍ وَالسَّمِيعُ لِصَوْتِنَا يُجَازِي بِعَدْلِ لا مَفَرَّ لِفَوْتِنَا ... (إِذَا كَانَ هَذَا حَالُنَا بَعْدَ مَوْتِنَا) (فَكَيْفَ يَطِيبُ الْيَوْمَ أَكْلٌ وَمَشْرَبُ) وَقُدَّامُنَا قَبْرٌ بِهِ الْمَرْءُ أَلْكَنُ ... وَلَوْ أَنَّهُ سَحْبَانُ مَأثمَّ أَلْسَنُ وَكَيْفَ رَبَتْ مِنَّا لُحُومٌ وَأَعْكُنُ ... (وَكَيْفَ يَطِيبُ الْعَيْشُ وَالْقَبْرَ مَسْكَنُ) (بِهِ ظُلُمَاتٌ غَيْهَبٌ ثُمَّ غَيْهَبُ) وَخَوْفٌ بِهِ حُزْنُ طَوِيلٌ وَرَعْشَةٌ ... وَلَيْتَكُ تَسْلَمْ لا يُصِيبُكَ نَهْشَةٌ وَمُنْكَرُ إِذْ يَسْأَلْ يَهُلَكْ وَدَهْشَةٌ ... (وَهَوْلٌ وَدِيدَانٌ وَرَوْعٌ وَوَحْشَةٌ) (وَكُلُّ جَدِيدٍ سَوْفَ يَبْلَى وَيَذْهَبُ) وَمِنْ بَعْدِ ذَا يَوْمٌ وَإِنَّ حِسَابَهُ ... أَلِيمٌ مَهُولٌ مُفْزِعٌ وَعِقَابُهُ عَظِيمٌ لِعَاصٍ مَا أَشَدَّ عَذَابَهُ ... (فَيَا نَفْسُ خَافِي اللهَ وَارْجِي ثَوَابَهُ) (فَهَادِمُ لَذَّاتِ الْفَتَى سَوْفَ يَقْرُبُ) فَيَأْخُذُ أَطْفَالاً وَيَأْخُذُ رِمَّةً ... وَيَأْخُذُ شُبَّابًا وَيَهْدِمُ نِعْمَةَ فَخَلِي بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ وَعَسْمَةً ... (وَقُولِي إِلَهِي أَوْلِنِي مِنْكَ رَحْمَةً) (وَعَفْوًا فَإِنَّ اللهُ لِلذَّنْبِ يُذْهِبُ)

.. وَخُذْ بِيَدِي نَحْوَ الطَّرِيقِ الْمُحَمَّدِي ... وَكُنْ بِي رَحِيمًا وَاسْتَقِمْ بِي عَلَى الْهُدَى وَلا تُخْزِنِي فِي الْحَشْرِ وَأَطْلِقْ مُقَيَّدِي ... (وَلا تُحْرِقَنْ جِسْمِي بِنَارِكَ سَيِّدِي) (فَجِسْمِي ضَعِيفٌ وَالرَّجَا مِنْكَ أَقْرَبُ) وَجُودُكَ مَنَّانِي وَلَوْ كُنْتَ أَحْقَرَا ... وَعَفْوَكَ رَجَا مَنْ هَفَا وَتَقَحْطَرَا وَإِنِّي وَأَنْ كُنْتَ الْبَعِيدِ وَمِنْ وَرَى ... (فَمَا لِي إلا أَنْتَ يَا خَالِقَ الْوَرَى) (عَلَيْكَ اتِّكَالِي أَنْتَ لِلْخَلْقِ مَهْرَبُ) وَأَنْتَ مَلاذٌ لِلْوَرَى فِي رُجُوعِهَا ... مُجِيبٌ لِمَنْ يَدْعُو بِهَامِي دُمُوعِهَا فَتَرْجُوكَ تَسْمَعْ مِنْ صَمِيمِ سَمِيعِهَا ... (وَنَدْعُو بِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ جَمِيعِهَا) (وَخَاتِمَةِ الْعُمْرِ الَّتِي هِيَ أَطْلُبُ) وَأَسْأَلُ طُولُ الدَّهْرِ مَا نَآءَ طَارِقُ ... (وَصَلِّ إِلَهِي كُلَّ مَا نَاضَ بَارِقُ) (وَمَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَمَا لاحَ كَوْكَبُ) وَمَا حَنَّ رَعْدٌ فِي دِيَاجِي لَيَالِهِ ... وَمَا انْهَلَّ سَارٍ مُغْدِقٍ مِنْ خِلالِهِ وَمَا أَمَّ بَيْتَ اللهِ مِنْ كُلِّ وَالِهِ ... (عَلَى أَحْمَدِ الطُّهْرِ النَّذِيرِ وَآلِهِ) (فَهُوَ خَيْرُ أَهْلِ الأَرْضِ طُرًّا وَأَطْيَبُ) وَأَكْمُلَ مَنْ حَلَّ الصَّفَا وَالْمُحَصَّبَا ... وَأَحَلاُهُموا خَلْقًا وَخُلْقًا وَمَنْصِبَا وَأَصْحَابِهِ مَا اخْضَرَّ عُودٌ وَأَخْصَبَا ... (كَذَاكَ سَلامُ اللهِ مَا هَبَّتِ الصَّبَا) (وَهَبَّتْ شَمَالٌ مَعَ جَنُوبٍ وَهَيْدَبُ) آخر: ... إِلَى كَمْ تَمَاى فِي غُرُورٍ وَغَفْلَةٍ ... وَكَمْ هَكَذَا نَوْمٌ إِلَى غَيْرَ يَقْظَةِ لَقَدْ شَاعَ عُمْرٌ سَاعَةٌ مِنْهُ تُشْتَرَى ... بِمِلْءِ السَّمَا وَالأَرْضِ أَيَّةَ ضَيْعَةِ أَيُنْفَقُ هَذَا فِي هَوَى هَذِهِ الَّتِي ... أَبَى اللهُ أَنْ تُسْوَى جَنَاحَ بَعُوضَةِ أَتَرْضَى مِن الْعَيْشِ الرَّغِيدِ وَعَيْشَةٍ ... مَعَ الْمَلا الأَعْلَى بِعَيْشِ الْبَهِيمَةِ فَيَا دُرَّةً بَيْنَ الْمَزَابِلِ أُلْقِيَتْ ... وَجَوْهَرَةً بِيعَتْ بِأَبْخَسِ قِيمَةِ أَفَقٍ بِبَاقٍ تَشْتَرِيهِ سَفَاهَةً ... وَسُخْطًا بِرِضْوَانٍ وَنَارًا بِجَنَّةِ

.. أَأَنْتَ صَدِيقُ أَمْ عَدُوٌّ لِنَفْسِهِ ... فَإِنَّكَ تَرْمِيهَا بِكُلِّ مُصِيبَةِ وَلَوْ فَعَلَ الأَعْدَا بِنَفْسِكَ بَعْضَ مَا ... فَعَلْتَ لِمَسَّتْهُمْ لَهَا بَعْضُ رَحْمَةِ لَقَدْ بِعْتَهَا هَوْنًا عَلَيْكَ رَخِيصَةً ... وَكَانَتْ بِهَذَا مِنْكَ غَيْرَ حَقِيقَةِ أَلا فَاسْتَفِقْ لا تَفْضَحَنْهَا بِمَشْهَدٍ ... مِنْ الْخَلْقِ إِنْ كُنْتَ ابنَ أُمٍّ كَرِيمَةِ فَبَيْنَ يَدَيْهَا مَشْهَدٌ وَفَضِيحَةٌ ... يُعَدُّ عَلَيْهَا كُلُّ مِثْقَالِ ذَرَّةِ فُتِنْتَ بِهَا دُنْيَا كَثِيرٍ غُرُورُهَا ... تُعَامِلْ فِي لَذَّتهِاَ بِالْخَدِيعَةِ إِذَا أَقْبَلَتْ بَذَّتْ وَإِنْ هِيَ أَحْسَنَتْ ... أَسَاءَتْ وَإِنْ ضَاقَتْ فَثِقْ بِالْكُدورَةِ وَإِنْ نِلْتَ مِنْهَا مَالَ قَارُونَ لَمْ تَنَلْ ... سِوَى لُقْمَةٍ فِي فِيكَ مِنْهَا وَخِرْقَةِ وَهَيْهَاتَ تُحْظَى بِالأَمَانِي وَلَمْ تَكُنْ ... وَكَانَتْ بِهَذَا مِنْكَ غَيْرَ حَقِيقَةِ فَدَعْهَا وَأَهْلِيهَا لِتَغْبِطَهُمْ وَخُذْ ... لِنَفْسِكَ عَنْهَا فَهُوَ كُلُّ غَنِيمَةِ وَلا تَغْتَبِطْ مِنْهَا بِفَرَحَةِ سَاعَةٍ ... تَعُودُ بِأَحْزَان عَلَيْكَ طَوِيلَةِ فَعَيْشُكَ فِيهَا أَلْفُ عَامِ وَتَنْقَضِي ... كَعَيْشِكَ فِيهَا بَعْضُ يَوْمِ وَلَيْلَةِ قَالَ بَعْضهمْ يوبخ نَفْسهُ توعيظها: يَا نفس بادري بالأوقات قبل انصرامها، واجتهدي فِي حراسة ليالي الحياة وأيامها، فكأنك بالقبور قَدْ تشققت، وبالأمور وقَدْ تحققت، وبوجوه المتقين وقَدْ أشرقت، وبرؤوس العصاة وقَدْ أطرقت، قَالَ تَعَالَى وتقدس: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} ، يَا نفس أما الورعون فقَدْ جدوا، وأما الخائفون فقَدْ استعدوا، وأما الصالحون فقَدْ فرحوا وراحوا وأما الواعظون فقَدْ نصحوا. اللَّهُمَّ قوي إيمانَنَا بِكَ وَنَوِّر قلوبنا بنور الإِيمَان وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين، اللَّهُمَّ يَا مقلب الْقُلُوب ثَبِّتْ قلوبنا على دينك وألهمنا ذكرك وشكرك وأمنا من سطوتك ومكرك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

الحث على الإكثار من سؤال الله والأدلة على ذلك

" فَصْلٌ " عن أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: دعا رجل فقَالَ: اللَّهُمَّ إني أسألك بأن لَكَ الحمد لا إله إلا أَنْتَ الحنان المنان بديع السموات والأَرْض ذو الجلال والإكرام يَا حي يَا قيوم. فقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «أتدرون بما دعا» ؟ قَالُوا: الله ورسوله أعْلَمْ. قَالَ: «والَّذِي نفسي بيده لَقَدْ دعا باسمه الله الأعظم الَّذِي إِذَا دعي به أجاب وَإِذَا سئل به أعطى» . أَخْرَجَهُ أصحاب السُّنَن. عَنْ سعيد بن أبي وقاص قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «دعوة ذي النون إذ دعي وَهُوَ فدى بطن الحوت لا إله إلا أَنْتَ سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مُسْلِم فِي شَيْء قط إلا استجاب لَهُ» . رَوَاهُ الترمذي والنسائي والحاكم وقَالَ: صحيح الإسناد. وعن معاوية بن أبي سفيان قَالَ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «من دعا بهؤلاء الكلمَاتَ الخمس لم يسأل الله شَيْئًا إلا أعطاه (لا إله إلا الله، والله اكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ له الملك وله الحمد وَهُوَ على كُلّ شَيْء قدير لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بِاللهِ» . رَوَاهُ الطبراني بإسناد حسن. وعن معاذ بن جبل قَالَ: سمَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً وَهُوَ يَقُولُ: (يَا ذا الجلال والإكرام) فقال: «قَدْ استجيب لَكَ فسل» . رَوَاهُ الترمذي. اللَّهُمَّ اجعلنا مكثرين لذكرك مؤدين لحقك حافظين لأَمْرِكَ راجين لوعدك راضين فِي جميع حالاتنا عَنْكَ، راغبين فِي كُلّ أمورنا إليك مؤملين لفضلك شاكرين لنعمك. يا من يحب العفو والإحسان، ويأمر بهما أعف عنا، وأحسن إلينا، فإنك بالَّذِي أَنْتَ لَهُ أَهْل من عفوك أحق منا بالَّذِي نَحْنُ لَهُ أَهْل من عقوبتك.

اللَّهُمَّ ثَبِّتْ رجاءك فِي قلوبنا، واقطعه عمن سواك، حَتَّى لا نرجو غيرك ولا نستعين إلا إياك يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، ويا أكرم الأكرمين. اللَّهُمَّ هب لَنَا اليقين والعافية، وإخلاص التوكل عَلَيْكَ، والاستغناء عَنْ خلقك، واجعل خَيْر أعمالنا ما قارب آجالنا. اللَّهُمَّ أغننا بما وفقتنا لَهُ من العلم، وزينا بالحلم وأكرمنا بالتقوى وجملنا بالعافية. اللهم افتح مسامِعَ قلوبنا لذكرك وارزقنا طَاعَتكَ وطاعة رسولك وَوَفِّقْنَا للعمل بِكِتَابِكَ وسُنَّة رسولك. اللَّهُمَّ إنَّا نسألك الهدى، والتقى والعافية والغنى، ونعوذ بك من درك الشقاء، ومن جهد البَلاء ومن سوء الِقَضَاءِ ومن شماتة الأعداء. اللَّهُمَّ لَكَ الحمد كله، ولك الملك كله، بيدك الْخَيْر كله، واليك يرجع الأَمْر كله علانيته وسره، أَهْل الحمد والثناء أَنْتَ، لا إله إلا أَنْتَ سبحانك إِنَّكَ على كُلّ شَيْء قدير. اللَّهُمَّ اغفر لَنَا جميع ما سلف منا من الذُّنُوب، واعصمنا فيما بقى من أعمارنا، وَوَفِّقْنَا لعمل صالح ترضى به عنا. اللَّهُمَّ يَا سامَعَ كُلّ صوت، ويا بارئ النُّفُوس بعد الموت، يا من لا تشتبه عَلَيْهِ الأصوات، يَا عَظِيم الشأن، يَا واضح البرهان، يَا من هُوَ كُلّ يوم فِي شأن، اغفر لَنَا ذنوبنا إِنَّكَ أَنْتَ الغفور الرحيم. اللَّهُمَّ يَا عَظِيم العفو، يَا واسع المغفرة، يَا قريب الرحمة، يَا ذا الجلال والإكرام، هب لَنَا العافية فِي الدُّنْيَا والآخِرَة. اللَّهُمَّ يَا حي ويَا قيوم فرغنا لما خلقتنا لَهُ، ولا تشغلنا بما تكلفت لَنَا به،

وَاجْعَلْنَا ممن يؤمن بلقائك، ويرضى بقضائك، ويقنع بعطائك، ويخشاك حق خشيتك. اللَّهُمَّ اجعل رزقنا رغدَا، ولا تشمت بنا أَحَدَا. اللَّهُمَّ رغبنا فيما يبقى، وزهدنا فيما يفنى، وهب لَنَا اليقين الَّذِي لا تسكن النُّفُوس إلا إليه، ولا يعول فِي الدين إلا عَلَيْهِ. اللَّهُمَّ إنَّا نسألك بعزك الَّذِي لا يرام وملكك الَّذِي لا يضام وبنورك الَّذِي ملأ أركَانَ عرشك أن تكفينا شر ما أهمنا وما لا نهتم به وأن تعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. اللَّهُمَّ يَا عليم يَا حليم يَا قوي يَا عزيز يَا ذا المن والعطاء والعز والكبرياء يَا من تعنوا لَهُ الوجوه وتخشع لَهُ الأصوات، وَفَّقَنَا لصالح الأَعْمَال وأكفنا بحلالك عَنْ حرامك وبِفَضْلِكَ عمن سواك إِنَّكَ على كُلّ شَيْء قدير. اللَّهُمَّ إنَّا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتجمَعَ بها شملنا، وتلم بها شعثنا وترفع بها شاهدنا، وتحفظ بها غائبنا، وتزكى بها أعمالنا، وتلهمنا به رشدنا، وتعصمنا من كُلّ سوء يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. اللَّهُمَّ ارزقنا من فضلك، وأكفنا شر خلقك، وأحفظ عَلَيْنَا ديننا وصحة أبداننا. اللَّهُمَّ يَا هادي المضلين ويا راحم المذنبين، ومقِيْل عثرات العاثرين، نسألك أن تلحقنا بعبادك الصالحين الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يَا رب العالمين. اللَّهُمَّ يَا عَالِم الخفيات، ويا رفيع الدرجات، ويا غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا أَنْتَ إليك المصير، نسألك أن تذيقنا برد عفوك وحلاوة رحمتك، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وأرأف الرائفين وأكرم الأكرمين.

اللَّهُمَّ اعتقنا من رق الذُّنُوب، وخلصنا من أشر النُّفُوس، واذهب عنا وحشة الإساءة، وطهرنا من دنس الذُّنُوب، وباعد بيننا وبين الخطايا وأجرنا من الشيطان الرجيم. اللَّهُمَّ طيبنا للقائك، وأهلنا لولائك وأدخلنا مَعَ المرحومين من أوليائك، وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وألحقنا بِالصَّالِحِينَ. اللَّهُمَّ أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وتلاوة كتابك، وَاجْعَلْنَا من حزبك المفلحين، وأيدنا بجندك المنصورين، وارزقنا مرافقة الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. اللَّهُمَّ يَا فالق الحب والنوى، يَا منشئ الأجساد بعد البلى يَا مؤي المنقطعين إليه، يَا كافي المتوكلين عَلَيْهِ، انقطع الرجَاءَ إلا منك، وخابت الظنون إلا فيك، وضعف الاعتماد إلا عَلَيْكَ نسألك أن تمطر محل قلوبنا من سحائب برك وإحسانك وأن توفقنا لموجبات رحمتك وعزائم مغفرتك إِنَّكَ جواد كريم رؤوف غفور رحيم. اللَّهُمَّ إنَّا نسألك قلبًا سَلِيمًا، ولسانًا صادقًا، وعملاً متقبلاً، ونسألك بركة الحياة وخَيْر الحياة، ونعوذ بك من شر الحياة وشر الوفاة. اللَّهُمَّ إنَّا نسألك باسمك الأعظم الأعز الأجل الأكرم الَّذِي إِذَا دعيت به أجبت وَإِذَا سئلت به أعطيت، ونسألك بوجهك الكريم أكرم الوجوه، يَا من عنت لَهُ الوجوه، وخضعت لَهُ الرقاب، وخشعت لَهُ الأصوات، يَا ذا الجلال والإكرام، يَا حي يَا قيوم، يَا مالك الملك، يَا من هُوَ على كُلّ شَيْء قدير، وبكل شَيْء عليم، لا إله إلا أَنْتَ، بِرَحْمَتِكَ نستغيث، ومن عذابك نستجير. اللَّهُمَّ اجعلنا نخشاك حَتَّى كأننا نراك، وأسعدنا بتقواك، ولا تشقنا بمعصيتك.

اللَّهُمَّ إِنَّكَ تسمَعَ كلامنا، وتَرَى مكاننا، وتعلم سرنا، وعلانيتنا لا يخفى عَلَيْكَ شَيْءٌ من أمرنا نَحْنُ البؤساء الفقراء إليك، المستغيثون المستجيرون الوجلون المشفقون المعترفون بذنوبنا، نسألك مسألة المسكين، ونبتها إليك ابتهال المذنب الذليل، وندعوك دعاء الخائف الضرير. اللَّهُمَّ يا من خضعت لَهُ رقابنا، وفاضت لَهُ عباراتنا، وذلت لَهُ أجسامنا، ورغمت لَهُ أنوفنا ... لا تجعلنا بدعائك أشقياء، وكن بنا رؤوفًا يَا خَيْر المسؤلين. اللَّهُمَّ إنَّا نسألك نفسًا مطمئنةً، تؤمن بلقائك وترضى بقضائك، وتقنع بعطائك، يَا أرأف الرائفين وأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. اللَّهُمَّ إنَّا نسألك التَّوْفِيق لما تحبه من الأَعْمَال، ونسألك صدق التوكل عَلَيْكَ، وحُسْن الظَّنِ بك يَا رب العالمين. اللَّهُمَّ اجعلنا من عبادك المخبتين، الغر المحجلين الوفد المتقبلين. اللَّهُمَّ إنَّا نسألك حياةً طيبةً، ونفسًا تقيةً، وعيشةً نقية، وميتةً سوية، ومردًا غير مخزي ولا فاضح. اللَّهُمَّ اجعلنا من أَهْل الصلاح والنجاح والفلاح، ومن المؤيدين بنصرك وتأييدك ورضاك يَا رب العالمين. {اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} يَا ودود يَا ذا العرش المجيد يَا مبدئ يَا معيد يَا فعال لما تريد نسألك بنور وجهك الَّذِي ملأ أركَانَ عرشك وبقدرتك التِي قدرت بها على جميع خلقك وبِرَحْمَتِكَ التِي وسعت كُلّ شَيْء لا إله إلا أَنْتَ أن تغفر ذنوبنا وسيئاتنا وأن تبدلها لَنَا بحسنات إِنَّكَ جواد كريم رؤوف رحيم. اللَّهُمَّ افتح لدعائنا باب القبول والإجابة وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع

المسلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " فَوَائِد عَظِيْمَة النَّفْعِ " واعجبًا منك يضيع منك الشيء القليل وتتكدر، وتتأسف، وقَدْ ضاع أشرف الأَشْيَاءِ عندك وَهُوَ عمرك الَّذِي لا عوض لَهُ، وأَنْتَ عند قَتَّالاتِ الأوقات، الكورة والتلفاز والمذياع ونحوها من قطاع الطَرِيق عَنْ الأَعْمَال الصَّالِحَة، ولكن ستندم {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} وقَالَ آخر: من تفكر فِي قصر العمر المعمول فيه، وفكر فِي امتداد زمان الجزاء الَّذِي بعد البعث اختطف اللحظة من عمره وانتهبها، وعباها فِي الباقيات الصالحات وزاحم كُلّ فضيلة فَإِنَّهَا إِذَا فاتت فلا تدرك أبدًا، ولله أقوام ما رضوا من الفضائل إلا بتحصيلها كاملة، فهم يبالغون فِي كُلّ علم، ويثابرون على كُلّ فضيلة، فإذا ضعفت أبدانهم عَنْ بَعْض ذَلِكَ قامت النيات نائبة عَنْهَا. شِعْرًا: ... الْجَدُّ بِالْجَدِّ وَالْحِرْمَانَ فِي الْكَسَلِ ... فَانْصِبٍ تُصِبْ عَنْ قَرِيبٍ غَايَة الأَمَلِ ويقول الآخر: فَكَابِدْ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ النَّفْسَ عَذْوَهَا ... وَكُنْ فِي اقْتِبَاسِ الْعِلْمِ طَلاع أَنْجُدِ وَلا يَذْهَبَنَّ الْعُمْر مِنْكَ سَبَهْلَلا ... وَلا تَغْبَن بِالنِّعْمَتَيْنِ بَلْ أجْهِدِ فَمَنْ هَجَرَ اللذَّاتِ نَالَ الْمُنَى وَمَنْ ... أَكَبَّ عَلَى اللذَّاتِ عَضَّ عَلَى الْيَدِ آخر: ... فَشَمِّرْ وَلُذْ بِاللهِ وَأحْفَظْ كِتَابَهُ ... فَفِيهِ الْهُدَى حَقًّا وَلِلْخَيْرِ جَامِعُ هُوَ الذُّخْرُ لِلْمَلْهُوفِ وَالْكِنْزُ وَالرَّجَا ... وَمِنْهُ بِلا شَكٍّ تُنَالَ الْمَنَافِعُ وَبِهِ يَهْتَدِي مَنْ تَاهَ مُهِمَّهِ الْهَوى ... بِهِ يَتَسَلَّى مَنْ دَهَتْهُ الْفَجَائِعُ آخر: ... يَا عَاشِقَ الْعَيْشِ فِي الدُّنْيَا وَزُخْرُفُهَا ... هَلْ أَخْلَدَ النَّاسَ مَا حَازُوا وَمَا عَمِرُوا عَلَيْكَ بِاللَّيْلِ فِي الأَذْكَارِ تُعَمِّرهُ ... وَدَعْ مَلَذَّتِهِ الأُخْرَى لِمَنْ كَفَرُوا لَغَمْسَةٌ فِي جِنَانِ الْخُلْدِ خَاطِفَةً ... تُنْسِيكَ مَا مَرَّ مِنْ بُؤْسٍ لَهُ خَطَرُ

" فَائِدَةٌ عَظِيْمَة النَّفْعِ " قَالَ أحد الْعُلَمَاء رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: عَلَيْكَ يَا أخي بمحاربة الشيطان، وقهره، وَذَلِكَ لخصلتين أحدهما أنه عدو مضل مبين، لا مطمَعَ فيه بمصالحة واتقاء شره أبدَا، لأنه لا يرضيه ويقنعه إلا هلاكك أصلاً فلا وجه إِذًا للآمن من هَذَا الْعَدُو والغَفْلَة عَنْهُ، قَالَ الله جَلَّ وَعَلا: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ، وقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} ، والخصلة الثَّانِيَة أنه مجبول على عداوتك، ومنتصب لمحاربتك، فِي الليل والنَّهَارَ يرميك بسهامه، وأَنْتَ غَافِل عَنْهُ، ثُمَّ هُوَ لَهُ مَعَ جميع الْمُؤْمِنِينَ عداوةٌ عامةٌ، ومَعَ المجتهد فِي العبادة والعلم عداوةٌ خاصةٌ، ومعه عَلَيْكَ أعوان نفسك الأمارة، بالسُّوء، والهوى، والدُّنْيَا، وَهُوَ فارغٌ وأَنْتَ مشغول، وَهُوَ يراك وأَنْتَ لا تراه، وأَنْتَ تنساه وَهُوَ لا ينساك، فإذًا لا بد من محاربته، وقهره، وإلا فلا تأمن الفساد والهلاك والدمار، ومحاربته بالاستعاذة بِاللهِ والإكثار من ذكره. شِعْرًا: اهْجُرْ فِرَاشَكَ جَوْفَ الليْلِ وَارْمِ بِهِ ... فَفِي الْقُبُورِ إِذَا وَافَيْتَهَا فُرُشُ مَا شِئْتَ إِن شَيئْتهَا فُرْشًا مُرَّقَشة ... أَوْ رَمْضَة فَوْقَهَا الْمَسْمُومَةُ الرُّقُش هَذَا عَلَيْهِ قَرِير الْعَيْنِ نَائِمُهَا ... وذا عَلَيْهِ سَخِينَ الْعَيْنِ يُنْتَهَشُ شَتَّانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ حَالِهِمَا ... هَلْ يَسْتَوِي الرَّيُّ فِي الأَحْشَاءِ وَالْعَطَشُ فَبَادِرِ الصُّبْحَ أَنْ تَغْشَى طَلائِعَهُ ... وَيَلْتَقِي الأَحْيَانِ الرُّومُ وَالْحَبُشُ كَمْ فَازَ دُونَكَ بِاللَّذَّاتِ مِنْ رَجُلٍ ... وَافَى بِهِ دُلُجَ الأَسْحَارِ وَالْغَبَشُ قَامُوا وَنِمْنَا وَكُلٌّ فِي تَقََلُّبِه ... لِنَفْسِهِ جَاهِدًا يَسْعَى وَيَجْتَوِشُ زَكُّوا نُفُوسَهُمْ بِكُلِّ صَالِحَةٍ ... وَطَيَّبُوهَا فَلا عَيْبٌ وَلا وَقشُ وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ في فَوَائِد منوعة) قَالَ ابن القيم: واعلم أن الصبر على الشهوة أسهلُ من الصبر على ما تُوجِبُه الشهوة. فان الشهوة إما إن تَكُون توجب ألمًا وعقوبةً. وإما أن تقطع لذةً أكمل مِنْهَا. وإما أن تضيع وقتًا أضاعته حَسْرَة وندامة. وإما أن تثلم عرضًا توفيره وانفع للعبد من ثلمه. وإما أن تذهب مالاً بقاؤه خَيْرٌ من ذهابه. وإما أن تسلب نعمةً بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة. وإما أن تطرق لوضيع إليك طريقًا لم يكن يجدها قبل ذَلِكَ. وإما أن تجلب همًا وغمًا وحزنًا لا يقارب لذة الشهوة. وإما أن تنسي عِلْمًا ذكره ألذ من نيل الشهوة. وإما أن تشمت عدوًا وتحزن وليًا. وإما أن تحدث عيبًا يبقى صفةً لا تزول، فَإِنَّ الأَعْمَال تورث الصفات والأَخْلاق.. أهـ. وقَالَ إبراهيم بن بشار: ما رَأَيْت فِي جميع من لقيته من العباد والْعُلَمَاء والصالحين والزهاد أَحَدًا يبغض الدُّنْيَا ولا ينظر إليها مثل إبراهيم بن أدهم، وَرُبَّمَا مررنا على قوم قَدْ أقاموا حائطًا أَوْ دارًا أَوْ حانوتًا فيحول وجهه ولا يملأ عينيه من النظر إليه فعاتبته على ذَلِكَ، فقَالَ: يَا بشار اقرأ ما قَالَ الله تَعَالَى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} ولم يقل أيكم أحسن عمارة للدنيا وأكثر حبًا وذخرًا وجمالاً، ثُمَّ بكى وقَالَ صدق الله عز اسمه فيما يَقُولُ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ولم يقل إلا ليعمروا الدُّنْيَا ويجمعوا الأموال ويبنوا الدور ويشيدوا القصور ويتلذذوا ويتفكهوا، وجعل يومه كله يردد ذَلِكَ وَيَقُولُ {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} .

شِعْرًا: ... صَرَفْتُ إِلَى رَبِّ الأَنَامِ مَطَالِبِي ... وَوَجْهَتُ وَجْهِي نَحْوَهُ وَمَآرَبِّي إِلَى الْمَلِكِ الأَعْلَى الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهْ ... مَلِيكٌ يُرَجَّى سَيْبُهُ فِي الْمَتَاعِبِ إِلَى الصَّمَدِ الْبَرِّ الَّذِي فَاضَ جُودُهُ ... وَعَمَّ الْوَرَى طُرًا بِجَزْلِ الْمَوَاهِبِ مُقِيْلي إِذَا زَلَّتْ بِيَ النَّعْلُ عَاثِرًا ... وَاسْمَحْ غِفَارٍ وَأَكْرمَ وَاهِبِ فَمَا زَالَ يُولِينِي الْجَمِيلَ تَلَطُّفًا ... وَيَدْفَعُ عَنِّي فِي صُدُورِ النَّوَائِبِ وَيَرْزُقُنِي طِفْلاً وَكَهْلاً وَقَبْلَهَا ... جَنِينًا وَيَحْمِينِي وَبِيَّ الْمَكَاسِبِ إِذَا أَغْلَقَ الأَمْلاكَ دُونِي قُصُورَهُمْ ... وَنَهْنَهَ عَنْ غِشْيَانِهِمْ زَجْرُ حَاجِبِ فَزِعْتُ إِلَى بَابِ الْمُهَيْمِنِ طَارِقًا ... مُدِلاً أُنَادِي بِاسْمِهِ غَيْرَ هَائِبِ فَلَمْ أَلْفِ حُجَّابًا وَلَمْ أَخْشَ مِنْعَةً ... وَلَوْ كَانَ سُؤْلِي فَوْقَ هَامِ الْكَوَاكِبِ كَرِيمٌ يُلَبِّي عَبْدَهُ كُلَّمَا دَعَا ... نَهَارًا وَلَيْلاً فِي الدُّجَى وَالْغَيَاهِبِ سَأَسْأَلُهُ مَا شِئْتُ إِنَّ يَمِينَهُ ... تَسِحُّ دِفَاقًا بِاللُّهَى وَالرَّغَائِبِ فَحَسْبِي رَبَّي فِي الْهَزَاهِزِ مَلْجَأً ... وَحِرْزًا إِذَا خِيفَتْ سِهَام النَّوَائِبِ وَنَسْأَلَ اللهَ الْحَيَّ الْقَيْوُمَ الْعَلِيَّ الْعَظِيمَ ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ الْوَاحِدَ الْفَرْدَ الْصَّمَدَ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ أَنْ يَعِزَّ الإِسْلامَ وَالْمُسْلِمِينَ وَأَنْ يَخْذُلَ الْكَفَرَةَ وَالْمُشْرِكِينَ وَأَعْوَانَهُمْ وَأَنْ يُصْلِحَ مَنْ فِي صَلاحِهِ صَلاحٌ لِلإِسْلامِ وَالْمُسْلِمِينَ ويُهْلِكَ مَنْ فِي هَلاكِهِ عِزٌّ وَصَلاح لِلإِسْلامِ وَالْمُسْلِمِينَ وَأَنْ يَلِمَّ شَعَثَ الْمُسْلِمِينَ وَيَجْمَعَ شَمْلَهُمْ وَيُوَحِّدَ كَلِمَتُهُمْ وَأَنْ يَحْفَظَ بِلادَهُمْ وَيُصْلِحَ أَوْلادَهُمْ وَيَشْفِ مَرْضَاهُمْ وَيُعَافِي مُبْتَلاهُمْ وَيَرْحَمَ مَوْتَاهُمْ وَيَأْخُذَ بِأَيْدِينَا إِلَى كُلّ خَيْرٍ وَيَعْصِمَنَا وَإِيَّاهُمْ مِنْ كُلِّ شَرٍّ وَيَحْفَظَنَا وَإِيَّاهُمْ مِنْ كُلِّ ضُرٍّ وَأَنْ يَغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدِيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَقَفَ قَوْمٌ عَلَى عَالِم فَقَالُوا: إِنَا سَائِلُوكَ أَفَمُجِيبُنَا أَنْتَ؟ قَالَ: سَلُوا وَلا تُكْثِرُوا، فَإِنَّ النَّهَارَ لَنْ يَرْجِعَ وَالْعُمُرَ لَنْ يَعُودَ، وَالطَّالِبَ حَثِيثٌ فِي طَلَبِهِ. قَالُوا: فَأَوْصِنَا. قَالَ: تَزَوَّدُوا عَلَى قَدْرِ سَفَرِكُمْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّاد مَا أَبْلَغَ الْبُغْيَةَ. ثُمَّ قَالَ: الأَيَّامُ صَحَائِفُ الأَعْمَارِ فَخَلّدُوهَا أَحْسَنَ الأَعْمَال، فَإِنَّ الْفُرَصَ تَمُرُّ مَرَّ السَحَابِ، والتَّوَانِي مِنْ أَخْلاقَ الْكُسَالَى وَالْخَوَالِفِ، وَمَنِ اسْتَوْطَنَ مَرْكَبَ الْعَجْزِ عَثَرَ بِهِ. وَتَزَوَّجَ التَّوَانِي بِالْكَسَلِ فَوُلِدَ بَيْنَهُمَا الْخُسْرَانُ. أ. هـ. قَالَ بَعْضُهُمْ: شِعْرًا: ... تَزَوَّجَتِ الْبَطَالَةُ بِالتَّوَانِي ... فَأَوْلَدَهَا غُلامًا مَعَ غُلامَهْ فَأَمَّا الابْنُ سَمَّوْهُ بِفَقْرٍ ... وَأَمَّا الْبِنْتُ سَمَّوْهَا نَدَامَهَ آخر: ... خِصَالٌ إِذَا لَمْ يَحْوِهَا الْمَرْء لَمْ يَنَلْ ... مَنَالاً مِنَ الأُخْرَى يَكُونُ لَهُ ذُخْرَا يَكُونُ لَهُ تَقْوَى وَزُهْدٌ وَعِفَّة ... وَإِكْثَارُ أَعْمَال يَنَالُ بِهَا أَجْرَا آخر: ... لَيْسَ يَبْقَى عَلَى الْجَدِيدَيْنِ إِلا ... عَمَلٌ صَالِحٌ وَذِكْرٌ جَمِيلُ آخر: ... وَمَا فِي النَّاسِ أَحْسَنُ مِنْ مُطِيعٍ ... لِخَالِقِهِ إِذَا عُدَّ الرِّجَالُ آخر: ... سَأُنْفِقُ رَيْعَانَ الشَّيْبَةِ دَائِبًا ... عَلَى طَلَبِ الْعَلْيَاءِ مَعْ طَلَبِ الأَجْرِ أَلَيْسَ مِنْ الْخُسْرَانِ أَنَّ لَيَالِيًا ... تَمُرُّ بِلا نَفْعِ وَتُحْسَبُ مِنْ عُمْرِي قَالَ بَعْضُهم: أَيُّهَا الناسُ إِنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِدَارِ قَرَارِكمْ، ولا مَحَلِّ إِقَامَتِكُمْ، دَارٌ كَتَبَ اللهُ عَلى أَهْلِهَا الفَنَاءَ وَأَوْجَبَ مِنْهَا عَلَى أَهْلِهَا الرَّحِيْلَ فَكَمْ مِنْ عَامِرٍ مُؤَنِّقٍ وَمُحسِّنْ، عَمَّا قَلِيْلٍ ستَخْرَبُ عِمَارَتُه، وَكَمْ مِنْ مُقِيْمٍ مُغْتَبِطٍ سَيَرحَلُ إِلى المقبَرة فَأَحْسِنُوا رَحِمكُم اللهُ مِنْهَا الرِّحْلَةَ وَاحْمِلُوا خَيْرَ مَا يَحْضُرُكُمْ لِلنُّقْلَةِ وَتَزَوَّدُوْا فَإِنَّ خَيْرَ الزَادِ التَّقوى.

(1) الليْل والنَّهَارَ يَعْمَلانِ فِيكَ فَاعْمِلْ فِيهِمِا أِعْمَالاً صَالِحَة تَرْبَحُ وَتُحْمَدُ الْعَاقِبَة الْحَمِيدَة إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. شِعْرًا: ... إِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عُمْرُكَ فَاحْتَرِزْ ... عَلَيْهِ مِنَ الإِنْفَاقِ فِي غَيْرِ وَاجِبِ آخر: ... إِذَا شَامَ الْفَتَى بَرْقَ الْمَعَالِي ... فَأَهْوَنُ فَائِتٍ طِيبُ الرُّقَادِ (2) الْمَلائِكَة يَكْتُبَان مَا تَلْفِظُ بِهِ فَاحْرِصْ عَلَى أَنْ لا تَنْطِق إِلا بِمَا يَسُرُّكَ يَوْم الْقِيامَةِ. أَشْرَفُ الأَشْيَاءِ قَلْبُكَ، وَوَقْتُكَ، فَإَذَا أَهْمَلْتَ قَلْبَكَ وَضَيْعَتَ وَقْتَكَ فَمَاذَا يَبْقَى مَعَكَ كُلُّ الْفَوَائِدِ ذَهَبَتْ. شِعْرًا: ... أَمَّا بُيُوتُكَ فِي الدُّنْيَا فَوَاسِعَةٌ ... فَلَيْتَ قَبْرَكَ بَعْدَ الْمَوْتِ يَتَّسِعُ آخر: ... وَبَادِرِ اللَّيْلُ يِدْرِسِ الْعُلُوم ... فَإِنَّمَا اللَّيْلُ نَهَارُ الأَرِيبُ (3) اعْلَمْ أَنَّ قِصَرَ الأَمَلِ عَلَيْهِ مَدَارٌ عَظِيم وَحِصْن الأَمَلِ ذِكْرُ الْمَوْتَ وَحِصْنُ حِصْنِهِ ذِكْرُ فَجْأَة الْمَوْت وأَخْذ الإِنْسَان عَلَى غِرّة وَغَفْلَة وَهُوَ فِي غُرُورٍ وَفُتُورٍ عَنْ الْعَمَل لِلآخِرَةِ. نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُوقِظَ قُلُوبَنَا إَِنَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٍ، اللَّهُمَّ صَلِّي عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وسلم. شِعْرًا: ... يَحْيِي اللَّيَالِي إِذَا الْمَغْرُورُ أَغْفَلَهَا ... كَأَنَّ شُهْبَ الدَّيَاجِي أَعْيُنٌ نُجُلُ آخر: ... وَمَنْ يُنْفِقِ السَّاعَاتِ فِي غَيْرِ طَاعَةٍ ... لِخَالِقِهِ فَهُوَ الَّذِي خَسِرَ الْعُمْرَا آخر: ... أَمَا وَاللهِ لَوْ عَلِمَ الأَنَامُ ... لِمَا خُلِقُوا لَمَا غَفَلُوا وَنَامُوا

لَقَدْ خُلِقُوا لِمَا لَوْ أَبْصَرَتْهُ ... عُيُونُ قُلُوبِهِمْ تَاهُوا وَهَامُوا وَتَوْبِيخٌ وَأَهْوَالٌ عِظَامُ ... وَتَوْبِيخٌ وَأَهْوَالٌ عِظَامُ مُلاحَظَة: لا يُسْمَح لأَيِ إِنْسَانٍ أَنْ يَخْتَصَرُهُ أَوْ يَتَعَرَض لَهُ بِمَا يُسَمُونَهُ تَحْقِيقًا لأَنَّ الاخْتِصَارَ سَبَبٌ لِتَعْطِيلِ الأَصْلِ. وَالتَّحْقِيقَ أَرَى أَنَّهُ اتِّهَامٌ لِلْمُؤَلِفِ، وَلا يُطْبَعُ إِلا وَقْفًا للهِ تَعَالَى عَلَى مَنْ يَنْتَفَعَ بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِين. شِعْرًا: ... الدِّينُ فِيهِ الْعِزُّ وَالْكَمَالُ ... وَالْكُفْرُ فِيهِ الذُّلُّ وَالْهَوَانُ ((فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ النَّفْع لِمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ)) مَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً أَفْضَلَ مِنْ أَنْ عَرَّفَهُ لا إله إلا الله، وَفَهَّمَهُ مَعْنَاهَا، وَوَفَّقَهُ لِلْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا، وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهَا. شِعْرًا: ... إِذَا تَمَّ دِينُ الْمَرْءِ تَمَّتْ أُمُورُهُ ... وَتَمَّتْ أَمَانِيهِ وَتَمَّ بِنَاؤُهُ آخر: ... الذِّكْرُ أَصْدَقُ قَوْلٍ فَافْهَمِ الْخَبَرَا ... لأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ قَدْ أَنْشَأَ الْبَشَرَا فَاعْمَلْ بِهِ تُرِدْ فِهْمًا وَمَعْرِفَةً ... يَا ذَا النُّهَى كَيْ تَنَالَ الْعِزَّ وَالْفَخْرَا وَتَحْمِدِ اللهِ فِي يَوْمِ الْمَعَادِ إِذَا ... جَاءَ الْحِسَابُ وَعَمَّ الْخَوْفُ وَانْتَشَرَا للهِ دَرُّ رِجَالٍ عَامِلِينَ بِهِ ... فِيمَا يَدِقُ وَمَا قَدْ جَلَّ وَاشْتَهَرَا آخر: ... جَمِيعُ الْكُتُبِ يُدْرِكُ مَنْ قَرَاهَا ... مِلالٌ أَوْ فُتُورُ أَوْ سَآمَةْ سِوَى الْقُرْآنِ فَافْهَمْ وَاسْتَمِعْ لِي ... وَقَوْلِ الْمُصْطَفَى يَا ذَا الشَّهَامَةْ آخر: ... أُقَلِّبُ كُتُبًا طَالَمَا قَدْ جَمَعْتُهَا ... وَأَفْنَيْتَ فِيهَا الْعَيْنَ وَالْعَيْنَ وَالْيَدَا وَأَصْبَحْتُ ذَا ظَنِّ بِهَا وَتَمَسُّكٍ ... لِعِلْمِي بِمَا قَدْ صُغْتُ فِيهَا مُنَضَّدَا وَأَحْذَرْ جُهْدِي أَنْ تَنَالَ بِنَائِلٍ ... مُهِينٌ وَأَنْ يَغْتَالِهَا غَائِلُ الرَّدَى وَأَعْلَمْ حَقًّا أَنَّنِي لَسْتُ بَاقِيًا ... فَيَا لَيْتَ شِعْرِي مَنْ يُقَلِّبُهَا غَدَا آخر: ... لَصِيقُ فُؤَادِي مِنْذُ عِشْرِينَ حَجَّةٍ ... وَصَيْقَلُ ذِهْنِي وَالْمَفِرّ عَنْ هَمِّي

عَزِيزٌ عَلَى مِثْلِي إِعَارَةُ مِثْلِهِ ... لِمَا فِيهِ مِنْ عِلْمٍ لَطِيفٍ وَمِنْ نَظْمٍ جُمُوعٌ لأَصْنَافِ الْعُلُومِ بِأَسْرِهَا ... فَأَخْلِقْ بِهِ أَنْ لا يُفَارِقَهُ كُمِّي (فَصْلٌ) في نماذج من وصايا السلف وثباتهم عند الموت رحمة الله على تلك الأرواح الأولى: وصية أبي بكر رضي الله عنه: عن أبي المليح أن أبا بكر رضي الله عنه لما حضرته الوفاة أرسل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: أني أوصيك بوصية، إن أنت قبلتها عني: إن لله عز وجل حقًا بالليل لا يقبله بالنهار، وإن لله عز وجل حقًا بالنهار لا يقبله بالليل، وإنه عز وجل لا يقبل النافلة حتى تؤدَّى الفريضة، ألم تر إنما ثقلت موازينه في الآخرة بإتباعهم الحق في الدنيا، وثقل ذلك عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا حقًا أن يثقل، ألم تر إنما خفت موازين من خفت موازينه في الآخرة بإتباعهم الباطل في الدنيا، وخف ذلك عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا باطلاً، أن يخف، ألم (تر) أن الله عز وجل أنزل آية الرجاء عند آية الشدة، وآية الشدة عند آية الرجاء، لكي يكون العبد راغبًا راهبًا، لا يلقي بيده إلى التهلكة، لا يتمنى على الله عز وجل غير الحق، فإن أنت حفظت وصيتي فلا يكونن غائب أحب إليك من الموت، ولا بد لك منه، وإن أنت ضيعت وصيتي هذه فلا يكونن غائب أبغض إليك من الموت. والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وسلم. وصية عمر رضي الله عنه: عن الشعبي قال: لما طعن عمر رضي الله عنه جاء ابن عباس فقال: يا أمير المؤمنين! أسلمت حين كفر الناس، وجاهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين خذله الناس، وقتلت شهيدًا ولم يختلف عليك اثنان، وتوفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

نماذج من وصايا السلف

وهو عنك راض، فقال له: أعد علي مقالتك، فأعاد عليه فقال: المغرور من غررتموه، والله لو أن لي ما طلعت عليه الشمس أو غربت لافتديت به من هول المطلع. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم. وصية عثمان رضي الله عنه: وعن العلاء بن الفضل عن أبيه قال: لما قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه فتشوا خزائنه فوجدوا فيها صندوقًا مقفلاً، ففتحوه فوجدوا فيه حقة فيها ورقة مكتوب فيها: هذه وصية عثمان بن عفان: بسم الله الرحمن الرحيم، عثمان بن عفان يشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الله يبعث من في القبور ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد، عليها يحيا، وعليها يموت، وعليها يبعث إن شاء الله عز وجل. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وصية علي بن أبي طالب رضي الله عنه: وعن الشعبي لما ضرب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، تلك الضربة قال: ما فعل ضاربي؟ قالوا: قد أخذناه، قال: أطعموه من طعامي، واسقوه من شرابي، فإن أنا عشت رأيت فيه رَأْيِي، وإن أنا مت فاضربوه ضربة واحدة لا تزيدوه عليها. ثم أوصى الحسن رضي الله عنه أن يغسله ولا يغالي في الكفن، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تغلو في الكفن فإنه يسلب سلبًا سريعًا» . وامشوا بي بين المشيتين، لا تسرعوا بي، ولا تبطئوا، فإن كان خيرًا عجلتموني إليه، وإن كان شرًا ألقيتموني عن أكتافكم. شِعْرًا: ... نُرَاعُ لِذِكْرِ الْمَوْتِ سَاعَةَ ذِكْرِهِ ... وَتَعْتَرِضُ الدُّنْيَا فَنَلْهُوا وَنَلْعَبُ

وَنَحْنُ بَنُو الدُّنْيَا خُلِقْنَا لِغَيْرِهَا ... وَمَا كَانَ فِيهَا فَهُوَ شَيْءٌ مُحَبَّبُ آخر: ... أَبَا الْمُغِيرَةِ وَالدُّنْيَا مُغِيرَةٌ ... وَإِنَّ مَنْ غُرَّ بِالدُّنْيَا لَمَغْرُورُ وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وصية معاذ بن جبل رضي الله عنه: ولما أصيب أبو عبيدة (بن الجراح) في طاعون عمواص استحلف معاذ بن جبل واشتد الوجع، فقال الناس لمعاذ: ادع الله يرفع عنا هذا الزجر، قال: إنه ليس برجز ولكنه: دعوة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - وموت الصالحين قبلكم وشهادة يختص (بها) الله من يشاء منكم أيها الناس أربع خلال من استطاع أن لا يدركه شيء منهن فلا يدركه، قالوا: وما هي؟ قال: يأتي زمان يظهر فيه الباطل، ويصبح الرجل على دين ويمسي على آخر، ويقول الرجل: والله ما أدري على ما أنا. لا يعيش على بصيرة، ولا يموت على بصيرة ويعطَى الرجل المال من مال الله على أن يتكلم الذي يسخط الله، اللهم آت آل معاذ نصيبهم الأوفى من هذه الرحمة فطعن ابناه فقال: كيف تجدانكما؟ قال: يا أبانا {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} قال: ستجدني إن شاء الله من الصابرين. . ثم طعنت امرأتاه فهلكتا، وطعن هو في إبهامه فجعل يمسها بفيه يقول: اللهم إنها صغيرة فبارك فيها فإنك تبارك في الصغير حتى هلك رحمة الله عليه. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وصية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: وعن الشعبي قال: لما حضر عبد الله بن مسعود الموت دعا ابنه فقال: يا عبد الله بن مسعود! إني أوصيك بخمس خصال فاحفظهن عني: أظهر اليأس للناس، فإن ذلك غنىً فاضل، ودع مطلب الحاجات إلى الناس، فإن (ذلك) فقر حاضر، ودع ما تعذر منه من الأمور، ولا تعمل به،

وإن استطعت أن لا يأتي عليك يوم إلا وأنت خير منك بالأمس فافعل، فإذا صليت صلاة فصل مودع كأنك لا تصلى بعدها. قال بعضهم: شِعْرًا: ... أَلا لَيْتَ أَنِّي يَوْمَ تَدْنُو مَنِيَّتِي ... أُلازِمْ ذِكْرَ اللهِ فِي كُلِّ لَحْظَةِ وَآخِرُ رَمْقِ مِنْ حَيَاتِي خِتَامُهُ ... بِكَلِمَةِ إِخْلاصٍ لِبَارِي الْبَرِيَّةِ وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وصية أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: ولما حضرت أبا موسى الوفاة دعا فتيانه فقال: اذهبوا فاحفروا لي وأعمقوا فإنه كان يستحب العمق، قال: فجاء الحفرة فقالوا: قد حفرنا. فقال: اجلسوا بي فوالذي نفسي بيده إنها لإحدى المنزلتين، إما ليوسعن قبري حتى تكون كل زاوية أربعين زراعا، وليفتحن لي بابًا من أبواب الجنة فلأنظرن إلى منزلي وإلى أزواجي، وما أعد الله عز وجل لي فيها من النعيم، ثم لأنا أهدى إلى منزلي في الجنة مني اليوم إلى أهلي، وليصيبني من روحها وريحانها حتى أبعث. وإن كانت الأخرى فليضيقن علي قبري حتى تختلف فيه أضلاعي حتى يكون أضيق من كذا وكذا، وليفتحن لي باب من أبواب جهنم، فلأنظرن إلى مقعدي وإلى ما أعد الله عز وجل لي فيها من السلاسل والأغلال والقرناء، ثم لأنا إلى مقعدي من (جهنم) لأهدى مني اليوم إلى منزلي ثم ليصيبني من سمومها وحميمها حتى أبعث. والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وصية أبي عقيل رضي الله عنه: ولما كان يوم اليمامة واصطف الناس للقتال كان أول من خرج أبو عقيل رمي بسهم بين منكبه وفؤاده فأخرج السهم فوهن له شقه الأيسر وجر إلى الرحل فلما حمى القتال سمع معن ابن عدي يصيح يا آل الأنصار اللهَ الله

والكرة على عدوكم قال عبد الله بن عمر: فنهض أبو عقيل فقلت: ما تريد، قال: قد فوه المنادى باسمي، فقلت: ما يعنى الجرحى. فقال: أنا من الأنصار، وأنا أجيبه ولو حبوًا. فتحزم وأخذ السيف ثم جعل ينادي: يا آل الأنصار كرة كيوم حنين، قال ابن عمر: فاختلفت السيوف بينهم فقطعت يده المجروحة من المنكب فقلت: أبا عقيل، فقال: لبيك، بلسان ملتاث، لمن الدبرة؟ فقلت: أبشر قد قتل عدو الله. فأخبرت عمر فقال: رحمه الله ما زال يسأل الشهادة ويطلبها. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وصية عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: ولما تجهز الناس وتهيئوا للخروج إلى مؤتة مضوا حتى نزلوا أرض الشام، فبلغهم أن هرقل قد نزل من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، وانضمت إليه المستعربة (من لخم، وجزام وبلقين، وبهرا، وبلى) في مائة ألف، فأقاموا ليلتين ينظرون في أمرهم، وقالوا: نكتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنخبره (بعدد عدونا) . قال: (فشجع عبد الله بن رواحة الناس، ثم قال: والله يا قوم، إن الذي تكرهون للذي خرجتم له تطلبون الشهادة وما نقاتل العدو بعدة، ولا كثرة ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله تعالى به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور وإما شهادة. قال: فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحة فمضوا. ولما قدم أبو عون مصر واستولى على البلد أرسل إلى حيوة بن شريح فجاء فقال: إنا معشر الملوك لا نعصى فمن عصانا قتلناه قد وليتك القضاة، قال: أوامر أهلي، قال: اذهب فجاء إلى أهله فغسل رأسه ولحيته ونال شيئا من الطيب ولبس أنظف ما قدر عليه من الثياب ثم جاء فدخل عليه فقال: من جعل السحرة

أولى بما قالوا منا فاقض ما أنت قاض، فلست أتولى لك شيئًا، قال: فأذن له فرجع. عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: لما حضرت أبي الوفاة جلست عنده بيدي الخرقة لأشد بها لحييه فجعل يعرق، ثم يفتح عينيه، ويقول بيده هكذا: لا بعد ففعل هذا مرة وثانية، فلما كان في الثالثة، قلت له: يا أبة أي شيء هذا قد لهجت به في هذا الوقت تعرق حتى تقول قد قبضت، ثم تعود فنقول لا لا بعد فقال لي: يا بني ما تدري؟ قلت: لا، قال: إبليس لعنه الله قائم حذائي عاض على أنامله يقول لي: أحمد فُتَّنِي، فأقول له: لا بعد حتى أموت. . . . أ. هـ. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. آخر: وصية داود بن أبي هند رضي الله عنه: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أوصى به داود بن أبي هند (أوصى بتقوى الله عز وجل ولزوم طاعته، وطاعة رسوله، والرضي بقضائه، والتسليم لأمره، وأوصاهم بما أوصى به يعقوب بنيه) {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (البقرة:132) . وداود يشهد بما شهد الله عز وجل عليه وملائكته: أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وبالجنة والنار وبالقدر كله، على ذلك يحيا، وعلى ذلك يموت. اللهم اختم بالأعمال الصالحات أعمارنا وحقق بفضلك آمالنا وسهل لبلوغ رضاك سبلنا وحسن في جميع الأحوال أعمالنا يا منقذ الغرقى ويا منجي الهلكى ويا دائم الإحسان أذقنا برد عفوك وأنلنا من كرمك وجودك ما تقر به عيوننا من رؤيتك في جنات النعيم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وصية الأوزعي رضي الله عنه: وسئل الأوزعي كيف يكتب الرجل وصيته؟ قال: يكتب بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما شهد به فلان بن فلان أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمد عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة (آتية) لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، على ذلك يحيا، وعليه يبعث إن شاء الله. وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين. وصية فاطمة رضي الله عنها بنت محمد - صلى الله عليه وسلم -: عن عبد بن محمد بن عقيل بن طالب الهاشمي المدني قال: لما حضرت فاطمة رضي الله عنها الوفاة دعت بماء فاغتسلت ثم دعت بحنوط فتحنطت، ثم دعته بثياب أكفانها فلبست ثم قالت: إذا أنا مت فلا تحركوني. فقلت: هل بلغك أن أحدًا فعل ذلك قبلها؟ قال: نعم كثير بن عباس. وكتب في طرف أكفانه كثير بن عباس يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وعن أسماء بنت عميس أن فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوصت أن يغسلها زوجها علي بن أبى طالب رضي الله عنه فغسلها هو وأسماء بنت عميس. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وصية سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: عن الزهري أن سعد بن أبي وقاص لما حضرته الوفاة دعا بخلق جبة له من صوف فقال: كفنوني فيها فإني لقيت المشركين فيها يوم بدر وإنما كنت أخبئها لهذا اليوم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.

وصية حميد بن عبد الرحمن الحيرى رحمه الله: عن حماد بن سلمة قال: قرأت في وصية حميد بن عبد الرحمن الحميرى أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمد عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأوصى أهله من بعده أن يتقوا الله ويصلحوا ذات بينهم وأن لا يموتوا إلا وهم مسلمون. وصية عبادة بن الصامت رضي الله عنه: عن الصنابحي قال: دخلت على عبادة بن الصامت وهو في الموت فبكيت فقال: مهلاً لم تبكي فوالله لئن استشهدت لأشهدن لك ولئن شفعت لأشفعن لك ولئن استطعت لأنفعنك. ثم قال: والله ما حديث سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكم فيه خير إلا قد حدثتكموه إلا حديثًا واحدًا سوف أحدثكموه اليوم وقد أحيط بنفسي. سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من شهد أن لا الله إلا الله وأن محمد رسول الله حرم على النار» . انفرد بإخراجه مسلم. أ. هـ. وصية: أوصى بعضهم أخًا له في الله فقال: ألهمك الله يا أخي ذكره وأوزعك شكره ورضاك بقدره ولا أخلاك من توفيقه ومعرفته. ولا وكلك إلى نفسك ولا إلى أحد من خلقه وكتبك عنده ممن أراد الله عز وجل تقريبه وجد في الطلب بالصدق والأدب. وأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمتابعة والتصديق. وأراد الدار الآخرة بالأعمال الصالحة واحتمال الأذى وترك الأذى، وجعلك من المكثرين لذكر الله وحمده وشكره الوجلين من خشيته تعالى.

المخلصين لله عز وجل الموحدين لله عز وجل المصدقين لله تعالى المؤثرين على أنفسهم المقدمين حقه على حقوقهم. الذين خلت بواطنهم من الحقد والحسد والعجب والكبر وسوء الظن. الذين لا يستأثرون ولا يزاحمون وعلى غير طاعة ربهم لا يحزنون. الذين هم على جميع أمة محمد يشفقون وبهم يرفقون الذين ينصحون المسلمين ولا يفترون، ويعرفون بالله وشرعه ولا يعنفون ولا يسخرون بالناس ولا يستهزئون. وعن عيب من فيه العيب يغمضون ويسترون ولعورات المؤمنين لا يتتبعون، الذين هم لله في جميع حركاتهم وسكناتهم مراقبون. الذين يكون غضبهم لله لا لأنفسهم ولا يتمنون السوء ولا يعتدون ويكون رضاهم لله، الذين لا يأمرون إلا بما تأمر به الشريعة المطهرة ولا ينكرون إلا ما أنكرته الشريعة على حسب طاقتهم. الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم ويبغضون الظلم من الظالم ويمقتون الظالم ولا يعظمونه، ويسألون الله تعالى أن يمنع الظلمة من الظلم حتى لا يظلموا ويتوب الله عليهم حتى يتوبوا. الذين بما أنزل لله تعالى على رسوله يحكمون الزاهدين في الدنيا المقبلين بكلتهم على الله عز وجل. وجعلك الله يا أخي من الموحدين المخلصين الذين لا شرك عندهم المنزهين الذين لا تهمة عندهم المصدقين الذين لا شك عندهم. الطالبين الذين لا فتور عندهم في الأعمال الصالحات المتبعين الذين لا ابتداع عندهم القانعين الذين لا طمع عندهم ولا ميل إلى السوء عندهم للمسلمين.

الذين لا منازعة عندهم الراضين الذين لا سخط عندهم المحافظين على طاعة الله الذين لا يرضيهم إلا مولاهم ولا يرتضون نفوسهم إلا إذا استقامت على ما يحبه الله ويرضاه. الذين يقتفون أثر الشارع وبه يقتدون وعلى جميع الصحابة يترحمون ولقرابة نبيهم يوادون وبفضل السلف يعترفون. الذين لا تعجبهم زينة الدنيا الذين يحثون عباد الله على طاعته ويحببون الله عز وجل إلى خلقه ويذكرونهم نعمه. الذين أيديهم مقبوضة عن أموال الناس وجوارحهم مكفوفة عن أذاهم وعن أعراضهم، الناس منهم في راحة وهم من شرور أنفسهم في تعب ونصب ورياضة. الذين لا يقابلون عمل السوء إلا عفوًا وصفحًا ولا قول السوء إلا اعرضًا عملاً بقول الله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، وقوله: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} وقوله: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} ، وقوله: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} . شِعْرًا: ... قَالُوا سَكَتَّ وَقَدْ خُوصِمْتَ قُلْتُ لَهُمْ ... إِنَّ الْجَوَابَ لِبَابِ الشَّرِّ مِفْتَاحُ فَالصَّمْتُ عَنْ جَاهِلٍ أَوْ أَحْمَقٍ شَرَفٌ ... أَيْضًا وَفِيهِ لِصَوْنِ الْعِرْضِ إِصْلاحُ أَمَا تَرَى الأُسْدَ تُخْشَى وَهِيَ صَامِتَةٌ ... وَالْكَلْبُ يَخْشَى لَعَمْرِي وَهُوَ نَبَّاحُ آخر: ... وَإِنِّي أَلْقَى الْمَرْءَ أَعْلَمُ أَنَّهُ ... عَدُوَّ وَفِي أَحْشَائِهِ الضِّغْنُ كَامِنُ فَأَمْنَحُهُ بِشْرًا فَيَرْجِعُ قَلْبُهُ ... سَلِيمًا وَقَدْ مَاتَتْ لَدَيْهِ الضَّغَائِنُ آخر: ... رَجِعْتُ عَلَى السَّفِينَةِ بِفَضْلِ حِلْمِي ... فَكَانَ الْحِلْمُ عَنْهُ لَهُ لِجَامَا وَظَنَّ بِي السَّفَاهَ فَلَمْ يَجِدْنِي ... أَسَافِهُهُ وَقُلْتُ لَهُ سَلامَا فَقَامَ يَجُرُّ رِجْلَيْهِ ذَلِيلاَ ... وَقَدْ كَسَبَ الْمَذَلَّةَ وَالْمَلامَا والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال بعضهم موصيا أولاده بوصية نافعة

(بسم الله الرحمن الرحيم) وقال بعضهم موصيًا أولاده بوصية نافعة لمن عمل بها. وبعد، فإني لما علاني المشيب بغمته، وقادني الكبر في رمته، وادكرت الشباب بعد أمته؛ أسفت لما أضعت، وندمت بعد الفطام على ما رضعت؛ وتأكدت وجوب نصحي لمن لزمني رعيه، وتعلق بسعيي سعيه، وأملت أن تتعدى إلى ثمرات استقامته، وأنا رهين فوات، وفى برزخ أموات؛ ويأمن العثور في الطريق التي اقتضت عثاري، إن سلك - وعسى ألا يكون ذلك - على آثاري فقلت أخاطب الثلاثة الولد، وثمرات الخلد؛ بعد الضراعة إلى الله في توفيقهم، وإيضاح طريقهم، وجمع تفريقهم؛ وأن يمن علي فيهم بحسن الخلف، والتلاقي من قبل التلف، وأن يرزق خلفهم التمسك بهدي السلف؛ فهو ولي ذلك، والهادي إلى خير المسالك. اعملوا هداكم من بأنواره يهتدي الضلال، وبرضاه ترفع الأغلال، وبالتماس قربه يحصل الكمال، إذا ذهب المال، وأخلفت الآمال، وتبرأت من يمينها الشمال؛ إني مودعكم وإن سالمني الردى، ومفارقكم وإن طال المدى، وما عدا مما بدا؛ فكيف وأدوات السفر تجمع، ومنادي الرحيل يسمع؛ ولا أقل للحبيب المودع من وصية محتضر، وعجالة مقتصر؛ ونصيحة تكون نشيدة واع ومبصر؛ تتكفل لكم بحسن العواقب من بعدي، وتوضح لكم في الشفقة والحنو قصدي، حسبما تضمن وعد الله من قبل وعدي؛ فهي أربكم الذي لا يتغير وقفه، ولا ينالكم المكروه ما رف عليكم سقفه؛ وكأني بشبابكم قد شاخ، وبراحلكم قد أناخ؛ وبنشاطكم قد كسل، واستبدل الصاب من العسل، ونصول الشيب تروع بأسل، لا بل [السام] من كل حدب قد نسل، والمعاد اللحد ولا تسل؛ فبالأمس كنتم فراخ حجر، واليوم آباء عسكر مجر، وغدًا شيوخ مضيعة وهجر؛ والقبور فاغرة، والنفوس عن المألوفات

صاغرة؛ والدنيا بأهلها ساخرة، والأولى تعقبها آخرة؛ والحازم من لم يتعظ به أمر، وقال: بيدي لا بيد عَمِرو؛ فاقتنوها من وصية، ومرام في النصح قصية؛ وخصوا بها أولادكم إذا عقلوا، ليحدوا زادها إذا انتقلوا؛ وحسبي وحسبكم الله الذي لم يخلق الخلق هملاً، ولكن ليبلوهم أيهم أحسن عملاً؛ ولا رضي الدنيا منزلاً، ولا لطف بمن أصبح عن فئة الخير منعزلاً؛ ولتلقنوا تلقينًا، وتعلموا علمًا يقينًا؛ إنكم لن تجدوا بعد أن أنفرد بذنبي، ويفترش التراب جنبي، ويسح انسكابي، وتهرول عن المصلى ركابي، أحرص مني على سعادة إليكم تجلب، أو غاية كمال بسببكم ترتاد وتطلب؛ حتى لا يكون في الدين والدنيا أوْرف منكم ظلاً، ولا أشرف محلاً، ولا أغبط نهلا وعلا؛ وأقل ما يوجب ذلك عليكم أن تصيخوا إلى قولي الآذان، وتتلمحوا صبح نصحي فقد بان، وسأعيد عليكم وصية لقمان: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ، {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} . وأعيد وصية خليل الله وإسرائيله، حسبما تضمنه محكم تنزيله: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} ، والدين الذي ارتضاه واصطفاه، وأكمله ووفاه، وقرره مصطفاه، من قبل أن يتوفاه، فالله واحد أحد، فرد صمد، ليس له والد ولا ولد. سبق وجوده الأكوان؛ {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} خالق الخلق وما يعلمون، والذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون؛

الحي العليم المدبر القدير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير؛ أرسل الرسل رحمة لتدعو العباد إلى النجاة من الشقاء وتوجه الحجة في مصيرهم إلى دار البقاء، مؤيدة بالمعجزات التي لا تتصف أنوارها بالاختفاء، ولا يجوز على تواترها دعوى الانتفاء؛ ثم ختم ديوانهم بنبي ملتنا المرعية للهمل، الشاهدة على الملل، فتلخصت الطاعة، وتبينت له الإمرة المطاعة، ولم يبق بعده إلا ارتقاب الساعة؛ ثم إن الله قبضه إذ كان بشرًا، وترك دينه يضم من الأمة نشرا؛ فمن اتبعه لحق به، ومن حاد عنه تورط في منتسبه، وكانت نجاته على قدر سببه. روي عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي، فعضوا عليهما بالنواجذ» . فاعملوا يا بني بوصية من ناصح جاهد، ومشفق شفقة والد؛ واستشعروا حبه الذي توفرت دواعيه، وعوا مراشد هديه فيا فوز واعيه؛ وصلوا السبب بسببه، وآمنوا بكل ما جاء به مجملاً أو مفصلاً على حسبه، وأوجبوا التجلة لصحبه؛ الذين اختارهم الله لصحبته، واجعلوا محبتكم إياهم من توابع محبته؛ واشملوهم بالتوقير، وفضلوا منهم أولي الفضل الشهير؛ وتبرؤوا من العصبية التي لم يدعكم إليها داع، ولا تع التشاجر بينهم أذن واع، فهو عنوان السداد وعلامة سلامة الاعتقاد؛ ثم اسحبوا فضل تعظيمهم على فقهاء الملة، وأئمتها الجلة؛ فهم صقلة نصولهم، وفروع ناشئة عن أصولهم، وورثتهم وورثة رسولهم؛ واعلموا أني قطعت في البحث زماني، وجعلت النظر شاني، منذ يراني الله وأنشاني، مع نبل يعترف به الشاني، وإدراك يسلمه العقل الإنساني؛ فلم أجد خابط ورق، ولا مصيب عرق؛ ولا نازع خطام، ولا متكلف فطام، ولا مقتحم بحر طام؛ إلا وغايته التي يقصدها قد فضلتها الشريعة وسبقتها، وفرعت ثنيتها وارتقتها؛ فعليكم بالتزام جادتها السابلة، ومصاحبة رفقتها

الكافلة، والاهتداء بأقمارها غير الآفلة؛ والله يقول وهو أصدق القائلين: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، وقد علت شرائعه، وراع الشكوك رائعه. فلا تستنزلكم الدنيا عن الدين، وابذلوا دونه النفوس فعل المهتدين، فلن ينفع متاع بعد الخلود في النار أبد الآبدين، ولا يضر مفقود مع الفوز بالسعادة والله أصدق الواعدين، ومتاع الحياة الدنيا أخس ما ورث الأولاد عن الوالدين، اللهم قد بلغت، فأنت خير الشاهدين. فاحذروا المعاطب التي توجب في الشقاء الخلود، وتستدعي شوه الوجوه ونضج الجلود؛ واستعيذوا برضا الله من سخطه، واربئوا بنفوسكم عن غمطه؛ وارفعوا آمالكم عن القنوع بغرور قد خدع أسلافكم، ولا تحمدوا على جيفة العرض الزائل ائتلافكم؛ واقنعوا منه بما تيسر، ولا تأسوا على ما فات وتعذر، فإنما هي دجنة ينسخها الصباح، وصفقة يتعقبها الخسار والرباح؛ ودونكم عقيدة الإيمان فشدوا بالنواجذ عليها، وكفكفوا الشبه أن تدنوا إليها؛ واعلموا أن الإخلال بشيء من ذلك خرق لا يرفؤه عمل، وكل ما سوى الراعي همل، وما بعد الرأس في صلاح الجسم أمل؛ وتمسكوا بكتاب الله حفظًا وتلاوة، واجعلوا حمله على حمل التكليف علاوة؛ وتفكروا في آياته ومعانيه، وامتثلوا أوامره وانتهوا عن مناهيه، ولا تتأولوه ولا تغلوا فيه؛ وأشربوا قلوبكم حب من أنزل على قلبه، وأكثروا من بواعث حبه؛ وصونوا شعائر الله صون المحترم، واحفظوا القواعد التي ينبني عليها الإسلام حتى لا ينخرم. اللهَ الله في الصلاة ذريعة التجلة، وخاصة الملة، وحاقنة الدم، وغنى المستأجر المستخدم؛ وأم العبادة، وحافظة اسم المراقبة لعالم الغيب والشهادة؛ والناهية عن الفحشاء والمنكر مهما عرض الشيطان عرضهما، ووطأ للنفس الأمارة سماءهما وأرضهما، والوسيلة إلى بل الجوانح ببرود الذكر، وإيصال تحفة

الله إلى مريض الفكر؛ وضابطة حسن العشرة من الجار، وداعية المسالمة من الفجار؛ والواسمة بسمة السلامة، والشاهدة للعقد برفع الملامة؛ فاصبروا النفس على وظائفها بين إبداء وإعادة، فالخير عادة؛ ولا تفضلوا عليها الأشغال البدنية [وتؤثروا على العلية الدنية] ؛ فإن أوقاتها المعينة بالانفلات تنبس والفلك بها من أجلكم لا يحبس؛ وإذا قرنت بالشواغل فلها الجاه الأصيل، والحكم الذي لا يغيره الغدو ولا الأصيل؛ والوظائف بعد أدائها لا تفوت، وأين حق من يموت، من حق الحي الذي لا يموت؟ وأحكموا أوضاعها إذا أقمتموها؛ وأتبعوها بالنوافل ما أطقتموها؛ فالإتقان تفاضلت الأعمال، وبالمراعاة استحق الكمال، ولا شكر مع الإهمال، ولا ربح مع إضاعة رأس المال، وثابروا عليها في الجماعات، وبيوت الطاعات؛ فهو أرفع للملام، وأظهر لشرائع الإسلام؛ وأبر بإقامة الفرض، وأدعى إلى مساعدة البعض البَعض. والطهارة التي هي في تحصيلها سبب موصل، وشرط لمشروطها محصل؛ فاستوفوها، والأعضاء نظفوها، ومياهها بغير أوصافها الحميدة فلا تصفوها؛ والحجول والغرر فأطيلوها، والنيات في كل ذلك فلا تهملوها؛ فالبناء بأساسه، والسيف برئاسه، واعلموا أن هذه الوظيفة من صلاة وطهور، وذكر مجهور وغير مجهور؛ تستغرق الأوقات، وتنازع شتى الخواطر المفترقات؛ فلا يضبطها إلا من ضبط نفسه بعقال، وكان في درجة الرجولة ذا انتقال، واستعاض صدأه بصقال؛ وإن ترخى تقهقر الباع، وسرقته الطباع، وكان لما سواها أضيع فشمل الضياع. والزكاة أختها الحبيبة، ولدتها القريبة؛ مفتاح السماحة بالعرض الزائل وشكران المسئول على الضد من درجة السائل؛ وحق الله في مال من أغناه، لمن أجهده في المعاش وعناه؛ من غير استحقاق ملء يده وإخلاء يد أخيه، ولا علة القدر الذي يخفيه، وما لم ينله حظ الله فلا خير فيه، فاسمحوا بتفرقتها للحاضر

لإخراجها واختيار عرضها ونتاجها؛ واستحيوا من الله أن تبخلوا عليه ببعض ما بذل، وخالفوا الشيطان كلما عذل؛ واذكروا خروجكم إلى الوجود لا تملكون، ولا تدرون أين تسلكون؛ فوهب وأقدر، وأورد بفضله وأصدر؛ ليرتب بكرمه الوسائل، ويقيم الحجج والدلائل، فابتغوا إليه الوسيلة بماله، واغتنموا رضاه ببعض نواله. صيام رمضان عبادة السر المقربة إلى الله زلفى، الممحوضة لمن يعلم السر وأخفى؛ مؤكدة بصيام الجوارح عن الآثام، والقيام ببر القيام؛ والاجتهاد، وإيثار السهاد على المهاد؛ وإن وسع الاعتكاف فهو من سننه المرعية، ولواحقه الشرعية؛ فبذلك تحسن الوجوه، وتحصل النفوس من الرقة على ما ترجوه؛ وتهذب الطباع، ويمتد في ميدان الوسائل إلى الله الباع. والحج مع الاستطاعة الركن الواجب، والفرض على العين لا يحجبه الحاجب؛ وقد بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدره فيما فرض عن ربه وسنه، وقال: «ليس له جزاء عند الله إلا الجنة» . ويلحق بذلك الجهاد في سبيل الله إن كانت لكم قوة عليه، وغنى لديه؛ فكونوا ممن يسمع نفيره ويطيعه، وإن عجزتم فأعينوا من يستطيعه. هذه عمد الإسلام وفروضه، ونقود مهره وعروضه؛ فحافظوا عليها تعيشوا مبرورين، وعلى من يناوئكم ظاهرين، وتلقوا الله لا مبدلين ولا مغيرين، ولا تضيعوا حقوق الله فتهلكوا مع الخاسرين. واعلموا أن بالعلم تستكمل وظائف هذه الألقاب، تجلى محاسنها من بعد الانتقاب؛ فعليكم بالعلم النافع، دليلا بين يدي الشافع؛ فالعلم مفتاح هذا الباب، والموصل إلى اللباب؛ والله عز وجل يقول: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} والعلم وسيلة النفوس الشريفة، على المطالب المنيفة، وشرطه الخشية لله والخيفة، وخاصة الملأ

الأعلى، وصفة الله في كتبه التي تتلى؛ والسبيل في الآخرة إلى السعادة، وفى الدنيا إلى التجلة عادة؛ والذخر الذي قليله يشفع وينفع، وكثيره يعلي ويرفع؛ لا يغصبه الغاصب، ولا يسلبه العدو المناصب؛ ولا يبتزه الدهر إذا مال، ولا يستأثر به البحر إذا هال؛ من لم ينله فهو ذليل وإن كثرت آماله، وقليل إن جم ماله؛ وإن كان وقته قد فات اكتسابكم، وتخطى حسابكم، فالتمسوه لبنيكم، واستدركوا منه ما خرج عن أيديكم؛ واحملوهم على جمعه ودرسه، واجعلوا طباعهم ثرىً لغرسه؛ واستسهلوا ما ينالهم من تعب من جراه، وسهر يهجر له الجفن كراه؛ تعقدوا لهم ولاية عز لا تعزل، وتحلوهم مثابة رفعة لا يحط فارعها ولا يستنزل؛ واختاروا من العلوم التي ينفقها الوقت، ما لا يناله في غيره المقت؛ وخير العلوم علوم الشريعة، وما نجم بمنابتها المريعة؛ من علوم لسان لا تستغرق الأعمار فصولها، ولا يضايق ثمرات المعاد محصولها؛ فإنما هي آلات لغير، وأسباب إلى خير منها وخير؛ فمن كان قابلاً منها لازدياد، وألفى فهمه ذا انقياد؛ فليخص تجويد القرآن بتقديمه، ثم حفظ الحديث ومعرفة صحيحه من سقيمه؛ ثم الشروع في أصول الفقه، فهو العلم العظيم المنة، المهدي كنوز الكتاب والسنة؛ ثم المسائل المنقولة عن العلماء الجلة، والتدرب في طرق النظر وتصحيح الأدلة، وهذه هي الغاية القصوى في الملة؛ ومن قصر إدراكه عن هذا المرمى، وتقاعد عن التي هي أسمى؛ فليرو الحديث بعد تجويد الكتاب وإحكامه. وأمروا بالمعروف أمرًا رفيقًا، وانهوا عن المنكر نهيًا حريًا بالاعتدال حقيقًا، واغبطوا من كان من سنة الغفلات مفيقًا، واجتنبوا ما تنهون عنه حتى لا تسلكوا من طريقًا؛ وأطيعوا أمر من ولاه الله من أموركم أمرًا، ولا تقربوا من الفتنة جمرًا، ولا تداخلوا في الخلاف زيدًا ولا عمرًا. وعليكم بالصدق فهو شعار المؤمنين، وأهم ما أضرى عليه الآباء ألسنة

البنين؛ وأكرم منسوب إلى مذهبه، ومن أكثر من شيء عرف به. وإياكم والكذب فهو العورة التي لا توارى، والسوءة التي لا يرتاب في عارها ولا يتمارى؛ وأقل عقوبات الكذاب، بين يدي ما أعد الله له من العذاب، ألا يقبل صدقه إذا صدق، ولا يعول عليه إن كان بالحق قد نطق. وعليكم بالأمانة فالخيانة لوم، وفى وجه الديانة كلوم؛ ومن الشريعة التي لا يعذر بجهلها؛ أداء الأمانات إلى أهلها؛ وحافظوا على الحشمة والصيانة، لا تجزوا من أقرضكم دين الخيانة؛ ولا توجدوا للغدر قبولا، ولا تقروا عليه طبعًا مجبولاً؛ وأوفوا بالعهد عن العهد كان مسئولاً؛ ولا تستأثروا بكنز ولا خزن، ولا تذهبوا لغير مناصحة المسلمين في سهل ولا حزن، ولا تبخسوا الناس أشيائهم في كيل أو وزن؛ والله الله أن تعينوا في سفك الدماء ولو بالإشارة أو بالكلام، أو ما يرجع إلى وظيفة الأقلام، واعلموا أن الإنسان في فسحة ممتدة، وسبيل الله غير منسدة؛ ما لم ينبذ إلى الله بأمانه، ويغمس في الدم الحرام بيده أو لسانه، قال الله تعالى في كتابه الذي هدى به سننًا قويمًا، وجلى من الجهل والضلال ليلاً بهيما: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} . واجتناب الزنا وما تعلق به من أخلاق دليل على من كرمت طباعه، وامتد في سبيل السعادة باعه؛ ومن غلبت عليه غرائز جهله، فلينظر هل يحب أن يزنى بأهله؟! والله قد أعد للزاني عذابًا وبيلاً، وقال: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} . والخمر أم الخبائث ومفتاح الجرائم والجرائر؛ واللهو لم يجعله الله في الحياة شرطًا، والمحرم قد أغنى عنه بالحلال الذي سوغ وأعطى؛ وقد تركها في الجاهلية أقوام لم يرضوا لقولهم بالفساد، ولا لنفوسهم بالمضرة في مرضاة الأجساد، والله قد جعلها رجسًا محرمًا على العباد، وقرنها بالأنصاب والأزلام في مباينة السداد.

ولا تقربوا الربا فإنه من مناهي الدين، والله تعالى يقول: {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} ، {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} في الكتاب المبين، ولا تأكلوا مال أحد بغير حق يبيحه، وانزعوا الطمع عن ذلك حتى تذهب ريحه؛ والتمسوا الحلال يسعى فيه أحدكم على قدمه، ولا يكل اختياره إلا للثقة من خدمة، ولا تلجؤوا على المتشابه إلا عند عدمه؛ فهو في السلوك إلى الله أصل مشروط، والمحافظة عليه مغبوط. وإياكم والظلم. فالظالم ممقوت بكل لسان، مجاهر لله بصريح العصيان، والظلم ظلمات يوم القيامة كما ورد في الصحاح والحسان؛ والنميمة فساد وشتات، لا يبقى عليه متات، وفى الحديث: «لا يدخل الجنة قتات» . واطرحوا الحسد والبخل فمارئي البخيل وهو مودود؛ وإياكم وما يعتذر منه، فمواقف الخزي لا تستقال عثراتها، ومظنات الفضائح لا تؤمن غمراتها؛ وتفقدوا أنفسكم مع الساعات، وافشوا السلام في الطرق والجماعات، ورقوا على ذوي الزمانات والعاهات، وتاجروا مع الله بالصدقة يربحكم في البضاعات؛ وعولوا عليه وحده في الشدايد، واذكروا المساكين إذا نصبتم الموائد؛ وتقربوا إليه باليسير من ماله، واعلموا أن الخلق عيال الله وأحب الخلق إليه المحتاط لعياله؛ وارعوا حقوق الجار، واذكروا ما ورد في من الآثار، وتعاهدوا أولي الأرحام، والوشائج البادية الالتحام؛ واحذروا شهادة الزور فإنها تقطع الظهر، وتفسد السر والجهر؛ والرشا فإنها تحط الأقدار، وتستدعي المذلة والصغار؛ ولا تسامحوا في لعبة قمر، ولا تشاركوا أولي البطالة في أمر؛ وحقوق الله من الازدراء والاستخفاف، ولا تلهجوا بالآمال العجاف، لا تكلفوا بالكهانة والإرجاف؛ واجعلوا العمر بين معاش ومعاد، وخصوصية وابتعاد، واعلموا أن الله بمرصاد؛ وأن الخلق بين زرع وحصاد، وأفلوا بغير الحالة الباقية الهموم، واحذروا القواطع عن السعادة كما

تحذر السموم، واعلموا أن الخير أو الشر في الدنيا محال أن يدوم؛ وقابلوا بالصبر أذية المؤذين، ولا تقارضوا مقلات الظالمين، فالله لمن بغي عليه خير الناصرين؛ ولا تستعظموا حوادث الأيام كلما نزلت، ولا تضجوا للأمراض إذا أعضلت؛ فكل منقرض حقير، وكل منقض وإن طال فقصير؛ وانتظروا الفرج، وانشقوا من جناب الله الأرج؛ وأوسعوا بالرجاء الجوانح، واجنحوا إلى الخوف من الله تعالى فطوبى لعبد إليه جانح، تضرعوا إلى الله بالدعاء، والجؤوا إليه في البأساء والضراء؛ وقابلوا نعم الله بالشكر الذي يقيد منها الشارد، ويعذب الموارد؛ وأسهموا منها للمساكين، وأفضلوا عليهم، وعينوا الحظوظ منها لديهم؛ فمن الآثار: «يا عائشة أحسني جوار نعم الله، فإنها قلما زالت عن قوم فعادت إليهم» . ولا تطغكم النعم فتقصروا في شكرها، وتلفكم الجهالة بسكرها؛ وتتوهموا أن سعيكم جلبها، وجدكم حلبها؛ فالله خير الرازقين، والعاقبة للمتقين، ولا فعل إلا الله إذا نظر بعين اليقين. والله الله لا تنسوا الفضل بينكم، ولا تذهبوا بذهابه زينكم؛ وليلتزم كل منكم لأخيه، ما يشتد به تواخيه؛ بما أمكنه من إخلاص وبر، ومراعاة في علانية وسر، وللإنسان مزية لا تجهل، وحق لا يهمل؛ وأظهروا التعاضد والتناصر، وصلوا التعاهد والتزاور؛ ترغموا بذلك الأعداء، وتستكثروا الأوداء؛ ولا تنافسوا في الحظوظ السخيفة، ولا تهارشوا تهارش السباع على الجيفة؛ واعلموا أن المعروف يكدر بالامتنان، وطاعة النساء وشر ما أفسد بين الإخوان؛ فإذا أسديتم معروفًا فلا تذكروه، وإذا برز قبيح فاستروه، وإذا أعظم النساء أمرًا فاحتقره (إلا أن يكون تعظيمًا للدين فساعدوهن وانصروه) والله الله لا تنسوا مقارضة سجلي، وبروا أهل مودتي من أجلي، ومن رزق منكم مالاً بهذا الوطن القلق المهاد، الذي لا يصلح لغير الجهاد؛ فلا يستهلكه أجمع في العقار، فيصبح عرضة للمذلة والاحتقار، وساعيًا لنفسه إن تغلب العدو على بلده في الافتضاح والافتقار؛ ومعوقًا عن الانتقال، أمام النوب الثقال؛ وإذا كان رزق

العبد على المولى فالإجمال في الطلب أولى؛ وازهدوا جهدكم في مصاحبة أهل الدنيا، فخيرها لا يقوم بشرها، ونفعها لا يفي بضرها؛ وأعقاب من تقدم شاهدة، والتواريخ لهذه الدعوى عاضدة؛ ومن بلي منكم بها فليستظهر بسعة الاحتمال، والتقلل من المال، ويحذر معاداة الرجال، ومزلات الإذلال، وفساد الخيال، ومداخلة العيال؛ وإفشاء الأسرار، وسكر الاغترار؛ وليصن الديانة، ويؤثر الصمت ويلزم الأمانة، ويسر من رضا الله على أضح الطرق، ومهما اشتبه عليه أمران قصد أقربهما إلى الحق؛ وليقف في التماس أسباب الجلال، وسموا القدر ورفعة الحال دون الكمال، فما بعد الكمال غير النقصان، والزعازع تسالم اللدن اللطيف من الأغصان. وإياكم وطلب الولايات رغبة واستجلابًا، واستظهارًا على الحظوظ وغلابًا؛ فذلك ضرر بالمروءات والأقدار، داع إلى الفضح والعار؛ ومن امتحن منكم بها اختيارًا، أو جبر عليها إكراهًا وإيثارًا؛ فليتق وظائفها بسعة صدره، وليبذل من الخير فيها ما يشهد أن قدرها دون قدره؛ فالولايات فتنة ومحنة، واسر وإحنة؛ وهي بين إخطاء سعادة، وإخلال بعادة؛ وتوقع عزل، وإدالة رخاء بأزل، وبيع جد من الدنيا بهزل؛ ومزلة قدم، واستتباع ندم؛ ومال العمر كله قوت ومعاد، واقتراب من الله وابتعاد؛ جعلكم الله ممن نفعة بالتبصير والتنبيه، وممن لا ينقطع بسببه عمل أبيه. هذه أسعدكم الله وصيتي التي أصدرتها، وتجارتي التي لربحكم أدرتها؛ فتلقوها بالقبول لنصحها، والاهتداء بضوء صبحها؛ وبقدر ما أمضيتم من فروعها، واستغشيتم من دروعها؛ اقتنيتم من المناقب الفاخرة، وحصلتم على سعادة الدنيا والآخرة؛ وبقدر ما أضعتم من لآليها النفسية القيم، استكثرتم من بواعث الندم؛ ومهما سئمتم إطالتها، واستغزرتم مقالتها؛ فاعلموا أن تقوى الله فذلكة الحساب، وضابط هذا الباب؛ كان الله خليفتي عليكم في كل حال،

فالدنيا مناخ ارتحال، وتأميل الإقامة فرض محال؛ فالموعد للالتقاء، دار البقاء؛ جعلها الله من وراء خطة النجاة، ونفق بضائعها المزجاة، بلطائفه المرتجاة؛ والسلام عليكم من حبيبكم المودع، والله يلأمه حيث شاء من شمل متصدع ورحمة الله وبركاته. انتهى. اللهم طيبنا للقائك، وأهلنا لولائك وأدخلنا مع المرحومين من أوليائك، وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين. شِعْرًا: ... رَجِعْتُ عَلَى السَّفِيهِ بِفَضْلِ حِلْمِي ... فَكَانَ الْحِلْمُ عَنْهُ لَهُ لِجَامَا وَظَنَّ بِي السَّفَاهَ فَلَمْ يَجِدْنِي ... أُسَافِهُهُ وَقُلْتُ لَهُ سَلامَا فَقَامِن يَجُرُّ رِجْلَيْهِ ذَلِيلاَ ... وَقَدْ كَسَبَ الْمَذَلَّةِ وَالْمَلامَا وَفَضْلُ الْحِلْمِ أَبْلَغُ فِي سَفِيهٍ ... وَأَحْرَى أَنْ يَنَالَ بِهِ انْتِقَامَا كان عمر بن الخطاب رحمه الله يتمثل بما يلي من الأبيات: لا شَيْءَ مِمَّا تَرَى تَبْقَى بَشَاشَتُهُ ... يَبْقَى الإِلَهُ وَيُودِي الْمَالُ وَالْوَلَدُ لَمْ تُغْنِي عَنْ هُرْمُز يَوْمًا خَزَائِنُهُ ... وَالْخُلُدُ قَدْ حَاوَلَتْ عَادٌ فَمَا خَلَدُوا وَلا سُلَيْمَانُ إِذْ تَجْرِ الرِّيَاحُ لَهُ ... وَالإِنْسُ وَالْجِنُّ فِيمَا بَيْنَهُمَا تَرِدُ أَيْنَ الْمُلُوكُ الَّتِي كَانَتْ لِعِزَّتِهَا ... مِنْ كُلِّ أَوْبٍ إِلَيْهَا وَافِدٌ يَفِدُ حَوْضٌ هُنَالِكَ مَوْرُودٌ بِلا كَذِبٍ ... لا بُدَّ مِنْ وِرْدِهِ يَوْمًا كَمَا وَرَدُوا مَنْ كَانَ حِينَ تَصِيبُ الشَّمْس جَبْهَتَهُ ... أَوْ الْغُبَارَ يَخَافَ الشَّيْنَ وَالشَّعَثَا وَيَأْلَفُ الظِّلَّ كَيْ تَبْقَى بَشَاشَتُهُ ... فَسَوْفَ يَسْكُنُ يَوْمًا رَاغِمًا جَدَثَا فِي قَعْرِ مَظْلَمَةٍ غَبْرَاءَ مُوحِشَةٍ ... يَطِيلُ فِيهَا وَلا يَخْتَارُهَا اللَّبَثَا تَجَهَّزِي بِجِهَازٍ تَبْلُغِينَ بِهِ ... يَا نَفْسُ قَبْلَ الرَّى لَمْ تُخْلِقِي عَبثَا آخر: ... رَكَنُوا إِلَى الدُّنْيَا الدَّنِيَّةْ ... وَتَبَوَّءُوا الرُّتَبَ الْعَلِيَّةْ حَتَّى إِذَا اغْتَرُّوا بِهَا ... صَرَعَتْهُمُوا أَيْدِي الْمَنِيَّةْ وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

فائدة عظيمة النفع لمن عمل بها

(فَصْلٌ) فائدة عظيمة النفع في دفع فضول الغم والهم الغم يكون للماضي والهم يكون للمستقبل، فمن اغتنم لما مضى من ذنوبه نفعه غمه على تفريطه، لأنه يثاب عليه. ومن اهتم بعمل خير نفعاه همته، قال الله جلا وعلا: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللهِ} فأما إذا اغتنم لمفقود من الدنيا، فالمفقود لا يرجع والغم يؤذي، فكأنه أضاف إلى الأذى أذى. وينبغي للحازم أن يحترز مما يجلب الغم، وجالبه فقد محبوب فمن كثرت محبوباته كثر غمه ومن قللها قل غمه. ثم إن الإنسان كلما طال إلفه لما يحبه واستمتاعه به تمكن من قلبه، فإذا فقده أحس من مر التألم في لحظة لفقده بما يزيد على لذات دهره المتقدم. وهذا لأن المحبوب ملائم فإن اضطر إلى جوالب الغم فأثمرت الغم فعلاجه الإيمان بالقضاء والقدر وأنه لا بد مما قضي بقضاء الله قدره وأنه الفعال لما يريد لا يكون شيء إلا عن تدبيره ولا محيد لأحد عن القدر المقدور ولا يتجاوز ما خط في اللوح المسطور ثم يعلم أن الدنيا موضوعة على الكدر فالبناء إلى النقض والجمع إلى التفرق ومن رام بقاء ما لا يبقى كمن رام وجود ما لا يوجد فلا ينبغي أن يطلب من الدنيا ما لم توضع عليه، قال الشاعر: طُبِعَتْ عَلَى كَدَرٍ وَأَنْتَ تُرِيدُهَا ... صَفْوًا مِنَ الأَقْذَاءِ وَالأَكْدَارِ وَمُكَلِّفُ الأَيَّامِ ضِدَّ طِبَاعِهَا ... مُتَطَلِّبٌ فِي الْمَاءِ جَذْوَةَ نَارِ ثم يتصور ما نزل به مضاعفا فيهون عليه حينئذ ما هو فيه ومن عادة الحمال الحازم أن يضع فوق حمله شيئًا ثقيلاً ثم يمشي به خطوات ثم ينزله فيخف الحمل عليه.

وإذا نزلت به مصيبة تصور أعظم منها فمثلاً إذا ذهبت إحدى عينيه تصور أن يعمى، وإذا أخذ بعض ماله تصور أخذه كله وهكذا يقدر أعظم مما حدث به فيهون عليه الأمر. شِعْرًا: ... يُمَثِّلُ ذُو اللُّبِ فِي نَفْسِهِ ... مَصَائِبَهُ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلا فَإِنْ نَزَلَتْ بَغْتَةً لَمْ تَرُعْهُ ... لِمَا كَانَ فِي نَفْسِهِ مَثَّلا وَذُو الْجَهْلِ يَأْمَنُ أَيَّامَهُ ... وَيَنْسَى مَصَارِعَ مَنْ قَدْ خَلا فَإِذَا دَهَتْهُ صُرُوفُ الزَّمَانِ ... بِبَعْضِ مَصَائِبِهِ أَعْوَلا وَلَوْ قَدَّمَ الْحَزْمِ فِي أَمْرِهِ ... لَعَلَّمَهُ الصَّبْرُ حُسْنَ الْبَلا وقال رحمه الله الحازم من أعد للخوف عدته قبل وقوعه ونفى فضول الخوف مما لا بد منه لا ينفعه خوفه منه. وقد اشتد الخوف من الله بكثير من الصالحين حتى سألوا الله تقليل ذلك والسبب في سؤالهم أن الخوف كالسوط للدابة فإذا ألح على الناقة (أي يضربها) قلقت. قال سفيان الثوري لشاب يجالسه: أتحب أن تخشى الله حق خشيته؟ قال: نعم. قال: أنت أحمق لو خشيته حق خشيته ما أديت الفرائض. قال: ولا ينبغي للعاقل أن يشتد خوفه من نزول المرض فإنه نازل لا بد وخوف ما لا بد منه زيادة أذى. شِعْرًا: ... يَا مَنْ سَيْنَأَى عَنْ بَنِيهْ ... كَمَا نَأَى عَنْهُ أَبُوهُ مَثِّلْ لِنَفْسَكَ قَوْلَهُمْ ... جَاءَ الْيَقِينُ فَوَجِّهُوهْ وَتَحَلَّلُوا مِنْ ظُلْمِهِ ... قَبْلَ الْمَمَاتِ وَحَلِّلُوهْ آخر: ... أَسْلَمُوهُ مَقْبُورًا مُشَيِّعُوه ... وَانْصَرَفُوا عَنْهُ وَخَلَّفُوهُ سَاعَةِ سَوَّوْا تُرَابَهُ عَلَيْهِ ... وَلَّوْاوَ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ

فأما الخوف من الموت والفكر فيه فإنه لا سبيل إلى دفعه عن النفس وإنما يخفف الأمر العلم بأنه لا بد منه فلا يفيد الحزر إلا زيادة على المحذور. وكلما تصورت شدته كانت كل تصويرة موتًا ليصرف الإنسان فكره عن تصور الموت ليكون ميتًا مرة لا مرات ويكون صرف الفكر ربحًا. وليعلم أن الله جل وعلا قادر على تهوينه إذا شاء وليوقن أن ما بعده أخوف منه، لأن الموت قنطرة إلى منزلة إقامة، وإنما ينبغي للإنسان أن يكثر ذكر الموت ليحثه على الإكثار من الأعمال الصالحة لا لنفس تصويره وتمثيله. فإن خطر على القلب الحزن على فراق الدنيا فالعلاج أن يعلم أن الدنيا ليست بداره لذة وفرح وسرور، وإنما لذتها راحة من مؤلم ومثل هذا لا ينافس فيه، فأما الحزن على فراق الدنيا لفوت العمل الصالح فقد كان السلف يحزنون لذلك. قال معاذ بن جبل عند موته: اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لا لكري الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر. واحتضر أحد العباد فقال: مسا تأسفي على دار الهمود والأحزان والخطايا والذنوب وإنما تأسفي على ليلة لمتها وساعة غفلت فيها عن ذكر الله. شِعْرًا: ... سعَلَيْكَ بِذِكْرِ اللهِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ ... فَمَا خَابَ عَبْدٌ لِلْمُهَيْمِنِ يَذْكُرُ آخر: ... وَإِذَا افْتَقَرْتَ إِلَى الذَّخَائِرِ لَمْ تَجِدْ ... ذُخْرًا يَكُونُ كَصَالِحِ الأَعْمَالِ آخر: ... مَا مَاتَ مَنْ يَتْلُو الْقُرْآنَ زَمَانَهُ ... بِتَفَهُّمٍ وَتَدِبُرٍ لِمَعَانِي آخر: ... الدِّينُ فِيهِ الْعِزُّ وَالْجَمَالُ ... وَالْكُفْرُ فِيهِ الذُّلُّ وَالْهَوَانُ آخر: ... وَلَيْسَ بَعَامِرٍ بُنْيَانُ قَوْمٍ ... إِذَا لَمْ يُخْلِصُوا للهِ دِينَا آخر: ... وَإِذَا رُزِقْتَ مِنَ الْحَلالِ تِجَارَةٌ ... فَابْذِلْ لَهَا فِي مَرَاضِي اللهِ مُجْتَهِدَا

هكذا كانت طريقة كثير من السلف كانوا يحرصون على أن لا تمر ساعة من الزمان أن يتزودوا فيها بعلم نافع أو عمل صالح من صدقة أو ذكر أو مجاهدة نفس أو إسداء نفع لمسلم، حتى لا تذهب الأعمار سبهللا دون فائدة. فَكُنْ فِي حَالَةٍ تَزْدَادُ فِيهَا ... لَدَى الْخَلاقِ مَرْتَبَةً وَقَدْرَا وكانوا يقولون: من علامات المقت إضاعة الوقت. ويقولون: الوقت سيف إن قطعته وإلا قطعك. وكانوا يحاولون دائمًا الترقي من حال إلى حال أحسن منها بحيث يكون اليوم أحسن من أمس، ويقولون من كان يومه كأمسه فهو مغبون، ومن كان يومه أحسن من أمسه فهو غير مغبون، ومن كان يومه أحسن من أمسه فهو رابح، ومن كان يومه أسوأ من أمسه فهو خسران. وقال حكيم: من أمضى يومًا من عمره في غير حق قضاه أو فرض أداه أو مجد أثلة أو حمد حصله أو خير أسسه أو علم اقتبسه فقد عق يومه وظلم نفسه. وَأَسْوَأَ أَيَّامِ الْفَتَى يَوْمٌ لا يُرَى ... لَهُ فِيهِ أَعْمَالٌ تَسُرُّ لَدَى الْحَشْر وقال آخر: أشرف الأشياء قلبك ووقتك، فإذا أهملت قلبك وضيعت وقتك فماذا يبقى معك كل الفوائد ذهبت. قال الحسن: عجبت لأقوام أمروا إن ونودي فيهم بالرحيل جلس أولهم مع آخرهم وهم يلعبون. وقال أبو حازم: إن بضاعة الآخرة كاسدة فاستكثروا منها في وقت كسادها فإنه لو جاء وقت نفاقها لم تصلوا فيها إلى قليل ولا كثير.

قصيدة ينبغي تأملها

وقال آخر: لو سقط من أحدهم درهم لظل يومه يقول: إنا لله ذهب درهمي، وعمره يذهب ولا يقول: ذهب عمري، وكان لله أقوام يبادرون الأوقات ويحفظون الساعات ويلازمونها بالطاعات. ويقول آخر: لله در أقوام يحافظون على أوقاتهم أكثر من محافظتكم على دراهمكم. ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي. وقال آخر: كل يوم يمر بي لا أزداد فيه علمًا يقربني من الله عز وجل فلا بورك لي في طلوع شمسه. وهكذا كان السلف ينصحون إخوانهم ويحفظون أوقاتهم فعليك بالاقتداء بهم. شِعْرًا: ... فَقُلْ لِمُرَجِي مَعَالِي الأُمُور ... بِغَيْرِ اجْتِهَاد رَجَوْتَ الْمُحَالا آخر: ... يَا نَائِمًا وَالْمَنُونُ يَقْضَى ... وَغَالِبًا وَالْحِمَامُ أَوْفَى جَاءَكَ أَمْرٌ وَأَيُّ أَمْرٍ ... طَمَّ عَلَى غَيْرِهِ وَعَفَّى هَلْ بَعْدَ هَذَا الْمَشِيبِ شَيءٌ ... غَيْرَ تُرَابٍ عَلَيْكَ يُحْثَى فَلَيْسَ هَذَا الأَمْرَ سَهْلاً ... وَلا بِشَيءٍ عَلَيْكَ يَخْفَى مَنْ بِعْدِ مَا الْمَرْءُ فِي بَرَاحٍ ... يَهْتَزُّ تِيهًا بِهِ وَظَرْفَا سَاكِنُ نَفْسٍ قَرِيرُ عَيْنٍ ... يَرْشُفُ ثَغْرَ النَّعِيمِ رَشْفَا إِذْ عَصَفَتْ فِي دَارِهِ رِيحٍ ... تَقْصِفُ كُلَّ الظُّهُورَ قَصْفَا فَبَاتَ فِي أَهْلِهِ حَصِيدًا ... قَدْ جَعَفَتْهُ الْمَنُونُ جَعْفَا فَعَادَ ذَاكَ النَّعِيمُ بُؤْسَا ... وَصَارَ ذَاكَ السُّكُونُ رَجْفَا وَسِيقَ سَوْقًا إِلَى ضَرِيحٍ ... يُرْصَفُ بِالرَّغْمِ فِيهِ رَصْفَا

ماذا ينبغي لمن نزل به الموت

وَبَاتَ لِلدَّوْدِ فِيهِ طَعْمًا ... وَلِلْهَوَامِّ الْعِطَاشِ رَشْفَا وَلَيْتَهُ لَمْ يَكُنُ رَهِينًا ... بِكُلِّ مَا قَدْ هَفَا وَأَهْفَا اللهم إنا نسألك التوبة ودوامها، ونعوذ بك من المعصية وأسبابها، اللهم أفض علينا من بحر كرمك وعونك حتى نخرج من الدنيا على السلامة من وبالها وارأف بنا رأفة الحبيب بحبيبه عند الشدائد ونزولها، وارحمنا من هموم الدنيا وغمومها بالروح والريحان إلى الجنة ونعيمها، ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم في جنات النعيم مع الذي أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) : اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين وثبتنا وإياك وإياهم على قوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة إن علَى من نزل به الموت أن يعلم أنها ساعة تحتاج إلى معاناة صعبة جدًا لأن صورتها ألم محض وفراق لجميع المحبوبات. ثم ينضم إلى ذلك هول سكرات الموت وشدائده والخوف من المآل، ويأتي الشيطان يحاول أن يسخط العبد على ربه، ويقول له: انظر في أي شيء ألقاك، وما الذي قضى عليك وكيف يؤلمك. وها أنت تفارق ولدك، وزوجتك، وأهلك، وتلقى بين أطباق الثرى، وربما أسخطه على ربه، فكره قضاء الله تعالى ولقاءه، وربما حسن إليه الجور في الوصية، وربما حابا بعض الورثة وخصه بشيء دونهم، أو يعوقه إصلاح شأنه، والخروج من مظلمة تكون فبله، أو يؤيسه من رحمة الله، أو يحول بينه وبين التوبة.

أخرج أبو داود من حديث أبي اليسر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول: «أعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت» . وفى تلك الساعة يقول الشيطان لأعوانه: إن فاتكم الآن لم تقدروا عليه أبدًا. وقال رحمه الله: وأما العلاج لتلك الشدائد فينبغي أن نذكر قبله مقدمة، وهو أن من حفظ الله في صحته حفظه الله في مرضه ومن راقب الله في خطراته حرسه الله عند حركات جوارحه. ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ? - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة» . أخرجه الترمذي وأحمد والبيهقي. ثم إنك قد سمعت قصة يونس عليه السلام لما وفقه الله لأعمال صالحة متقدمة أنقذه الله بسببها، قال الله جل وعلا وتقدس: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} . ولما لم يكن لفرعون عمل خير لم يجد وقت الشدة متعلقًا، فقيل له: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} وكان عبد الصمد الزاهد يقول عند الموت: سيدي لهذه الساعة خبأتك. فأما من ضيع وأهمل في حال الصحة فإنه يضيع في مرضه فالجزاء من جنس العمل. قال الله جلا وعلا: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} . وقال جلا وعلا: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} ، وقال عز من قائل: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا

وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} . (فائدة) : قال أحد العلماء: إني رأيت جمهور الناس إذا طرقهم المرض اشتغلوا بالشكوى والتداوي عن الالتفات إلى المصالح من وصية أو فعل خير فكم له من ذنوب لا يتوب منها أو عنه ودائع أو عليه دين أو زكاة أو مظلمة لا يخطر بباله تداركها، والسبب والله أعلم ضعف الإيمان فينبغي للمتيقظ أن يتأهب في حال صحته قبل هجوم المرض أو الموت فربما ضاق الوقت عن عمل واستدراك فارط أو وصية وربما مات فجاءة والله أعلم. شِعْرًا: ... أَبْغِي فَتَى لَمْ تَذَرُ الشَّمْسَ طَالِعَةً ... يَوْمًا مِنَ الْوَقْْتِ إِلا صَلَّى أَوْ ذَكَرَا آخر: ... للهِ قَومٌ أَخْلَصُوا فِي حُبِّهِ ... فَكَسَا وُجُوهَهُمْ الْوَسِيمَةَ نُورَا ذَكَرُوا النَّعِيمَ فَطَلَّقُوا دُنْيَاهُمُوا ... زُهْدًا فَعَوَّضَهُمْ بِذَاكَ أُجُورَا قَامُوا يُنَاجَوْنَ الإِلَهَ بِأَدْمُعٍ ... تَجْرِي فَتَحْكِي لُؤْلُؤًا مَنْثُورَا سَتَروا وُجُوهَهُمُوا بِأَسْتَارِ الدُّجَى ... لَيْلاً فَأَضْحَتْ فِي النَّهَارِ بُدُورَا عَمِلُوا بِمَا عَلِمُوا وَجَادُوا بِالَّذِي ... وَجَدُوا فَأَصْبَحَ حَظَّهُم مَوْفُورَا وَإِذَا بَدَا لَيْلٌ سَمِعْتَ حَنِينَهُمْ ... وَشَهِدَتْ وَجْدًا مَنْهُمُوا وَزَفِيرَا تَعِبُوا قَلِيلاً فِي رِضَا مَحْبُوبِهِمْ ... فَأَرَاحَهُمْ يَوْمَ اللِّقَاءِ كَثِيرَا صَبَرُوا عَلَى بَلْوَاهُمُوا فَجَزَاهُمُوا ... يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَنَّةً وَحَرِيرَا يَا أَيُّهَا الْغِرُّ الْحَزِينُ إِلَى مَتَى ... تُفْنِي زَمَانَكَ بَاطِلاً وَغُرُورَا بَادِرْ زَمَانَكَ وَاغْتَنِمْ سَاعَاتِهِ ... وَاحْذَرْ تَوَانَاكَى تَحُوزَ أُجُورَا وَاضْرِعْ إِلَى الْمَوْلَى الْكَرِيمِ وَنَادِهِ ... يَا وَاحِدًا فِي مُلْكِهِ وَقَدِيرَا مَا لِي سِوَاكَ وَأَنْتَ غَايَةُ مَقْصَدِي ... وَإِذَا رَضِيتَ فَنِعْمَةٌ وَسُرُورَا اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار وأسكنا معهم في دار القرار، اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر

ما ينبغي لمن أراد لحاق القوم المجتهدين

على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم واليتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن من أراد لحاق القوم المجتهدين المشمرين عن ساق للآخرة ممن تقدم ذكرهم، أن عليه أن ينبذ الكسل والعجز والتواني والتهالك في طلب الدنيا ويجد ويجتهد سالكًا طريق المجتهدين العارفين قيمة الوقت والعمر. شِعْرًا: ... كَأَنَّكَ لَمْ تُسْبَقُ مِنَ الدَّهْرِ لَيْلَةً ... إِذَا أَنْتَ أَدْرَكْتَ الَّذِي أَنْتَ تَطْلُبُ آخر: ... أَسْرِعْ أَخَا الْعِلْمِ فِي ثَلاثْ ... الأَكْلُ وَالْمَشْي وَالْكِتَابَةْ آخر: ... وَسَاهِرَ اللَّيْلَ فِي الْحَاجَاتِ نَائِمُهُ ... وَوَاهِبُ الْمَالِ عِنْدَ الْمَجْدِ كَاسِبُهُ وذكر أحد العلماء علاج الكسل وهو سهل لمن وفقه الله فقال: هو تحريك الهمة بخوف فوات القصد، وبالوقوع في اللوم، أو التأسف، فإن أسف المفرط إذا عاين أجر المجتهد أعظم من كل عقاب، وليفكر العاقل في سوء مغبة الكسل والعجز، والاشتغال بالدنيا عن الآخرة فرب راحة أوجبت حسرات وندمًا، فمن رأى زميله اجتهد وثابر على دروسه ونجح زادت حسرته وأسفه، ومن رأى جاره قد سافر ورجع بالأرباح والفوائد زادت حسرة أسفه وندامته على لذة كسله وعجزه. قال: وقد أجمع الحكماء على أن الحكمة لا تدرك بالراحة فمن تلمح ثمرة الكسل أجتنبه ومن مد فطنته إلى ثمرات الجد والاجتهاد نسى مشاق الطريق، ثم إن اللبيب الذكي يعلم أنه لم يخلق عبثًا وإنما هو في الدنيا كالأجير أو كالتاجر، ثم إن زمان العمل بالإضافة إلى مدة البقاء في القبر كلحظة، ثم إن إضافة ذلك إلى البقاء السرمدي إما في الجنة وإما في النار ليس يشيء.

ومن أنفع العلاج النظر في سير المجتهدين الذين يعرفون قيمة العلم النافع والعمل الصالح والوقت والعجب من مؤثر البطالة في موسم الأرباح. والمهم أنه بالجد والاجتهاد تدرك غاية المراد، وبالغزمات الصحاح يشرق صباح الفلاح، وما حصلت الأماني بالتواني ولا ظفر بالأمل من استوطن الكسل. شِعْرًا: ... مَا هَذِي الْحَيَاةُ رَخِيصَةٌ ... فَصُنْهَا عَن التَّضِييعِ فِي غَيْرِ وَاجِبِ وَأَكْثِرْ بِهَا ذِكْرَ الإِلَهِ وَحَمْدَهُ ... وَشُكْرًا لَهُ تُحْظَى بِأَسْنَى الْمَرَاتِبِ آخر: ... وَلَيْسَ كَمَا قَدْ شِئْتُهُ وَاشْتَهِيْتُهُ ... وَلَكِنْ كَمَا شَاءَ الإِلَهُ يَكُونُ إِذَا لَمْ أَجِدْ شَيْئًا نَفِيسًا أُرِيدُهُ ... رَجَوْتُ إِلَهَ الْخَلْقِ أَنْ سَيَكُونُ وقد قيل الكسل مزلقة الربح، وآفة الصنائع، وأرضة البضائع، وإذا رقدت النفس في فراش الكسل استغرقها نوم الغفلة عن صالح العمل. الْجَدُّ بِالْجَدِّ وَالْحِرْمَانَ فِي الْكَسَلِ ... فَانْصِبٍ تُصِبْ عَنْ قَرِيبٍ غَايَة الأَمَلِ ثم اعلم أن الموجب للكسل حب الراحة وإيثار البطالة وصعوبة المشاق. وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر أن يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل» . متفق عليه. وفي أفراد مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا كان كذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان» . وقال ابن مسعود: (إني لأبغض الرجل أراه فارغًا ليس في سيء من عمل الدنيا ولا عمل الآخرة» . أخرجه أبو نعيم في الحلية، وقال: (يكون في آخر الزمان أقوام أفضل أعمالهم التلاوم بينهم يسمون الأنتان) . وقال ابن عباس: تزوج التواني

قصيدة تحتوي على نصائح ووصايا ومواعظ

بالكسل فولد بينهما الفقر. وقال آخر: مضى القوم على خيل بلق عتاق وبقينا على حمر حمر دبرة فقيل له: إن كنا على الطريق المستقيم فما أسرعنا بالوصول. تضرع إلى رب العزة جل جلاله وتقدست أسماؤه. شِعْرًا: ... لا عُدْتُ أَرْكَبُ مَا قَدْ كُنْتُ أَرْكَبُهُ ... جُهْدِي فَخُذْ بِيَدِي يَا خَيْرَ مَنْ رَحِمَا هَذَا مَقَامٌ ظَلُومِ خَائِفٍ وَجِلٍ ... لَمْ يَظْلِم النَّاسُ لَكِنْ نَفسَهُ ظَلَمَا فَاصْفَحْ بِفَضْلِكِ عَمَّنْ جَاءَ مُعْتَذِرًا ... بِزَلَّةٍ سَبَقَتْ مِنْهُ وَقَدْ نَدَمَا مَا لِي سِوَاكَ وَلا عِلْمٌ وَلا عَمَلٌ ... فَامْنُنْ بِعَفْوِكَ يَا مَنْ عَفْوُهُ عَظُمَا اللهم إنك تعلم سرنا وعلانيتنا وتسمع كلامنا وترى مكاننا لا يخفى عليك شيء من أمرنا نحن البؤساء الفقراء إليك المستغيثون المستجيرون بك نسألك أن تقيض لدينك من ينصره ويزيل ما حدث من البدع والمنكرات ويقيم على الجهاد وقمع أهل الزيغ والكفر والعناد ونسألك أن تغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين. قَصِيْدَة تَحْتَّوِي على نَصَائِحَ وَوَصَايَا ومَوَاعِظَ وَآدَابٍ وَأَخْلاقٍ فَحَضِّرْ قَلْبَكَ وَأَلْقِ سَمْعَكَ الْحَمْدُ للهِ الْقَوِيِّ الْمَاجِدِ ... ذِي الطَّوْلِ وَالإِنْعَامِ وَالْمَحَامِدِ حَمْدًا يَفُوقُ حَمْدَ كُلِّ الْخَلْقِ ... وَمَا أُُطِيقَ شُكْر بَعْضِ الْحَقِّ ثُمَّ الصَّلاةُ بَعْدُ وَالسَّلامُ ... عَلَى نَبِيٍّ دِينِهِ الإِسْلامُ سَأَلتَنِي الإِفْصَاحَ عَنْ هَذِي الْحِكَمْ ... وَنُزْهَةَ الأَلْبَابِ خُذْهَا كَالْعَلَمْ خُذْ يَا بُنَيِّ هَذَه النَّصَائِحَا ... وَاسْتَعْمَلْنَهَا غَادِيًا وَرَائِحَا لِتَقْنَى مَنْفَعَةً وَحِكْمَة ... وَاتَثْنِينِّي عَنْ مِنَنٍ وَنِعْمَة فَحِفْظُهَا يَهْدِي إِلَى دَارِ الْبَقَا ... وَحُبُّهَا يَهْزِمُ أَجْنَادَ الشَّقَا

إِذَا ابْتَدَأْتَ الأَمْرَ سَمِّ اللهَ ... وَاحْمِدْهُ وَاشْكُرْهُ إِذَا تَنَاهَا وَكُلَّمَا رَأَيْتَ مَصْنُوعَاتِهِ ... وَالْمُبْدَعَاتِ مِنْ عُلا آيَاتِهِ فَاذْكُرْهُ سِرًّا سَرْمَدَا وَجَهْرَا ... لِتَشْهَدَنْ يَوْمَ الْجَزَاءِ أَجْرَا هَذَا وَإِنْ تَعَارَضَ الأَمْرَانِ ... فَأَبْدَأ بِحَقِّ الْمَلِكِ الدَّيَّانِ وَاعْمَلْ بِهِ تَنَلْهُمَا جَمِيعَا ... وَلا تَقُلْ سَوْفَ تَكُنْ مُضِيعَا وَإِنْ أَتَاكَ مُسْتَشِيرٌ فَاذْكُرَنْ ... قَوْلَ النَّبِي الْمُسْتَشَارُ مُئْتَمَنْ شَاوِرْ لَبِيبًا فِي الأُمُورِ تَنْجَحْ ... مَنْ يَخَفِ الرَّحْمَنَ فِيهَا يَرْبَحُ وَأَخْلِصِ النِّيَّاتِ فِي الْحَالاتِ ... فَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَاسْتَخِرِ اللهَ تَعَالَى وَاجْتَهِدْ ... ثُمَّ ارْضَ بِالْمَقْضِيَّ فِيهِ وَاعْتَمِدْ مَنْ اسْتَخَارَ رَكِبَ الصَّوَابَا ... أَوْ اسْتَشَارَ أمَنَ الْعِقَابَا مَنْ اسْتَخَارَ لَمْ يَفُتْهُ حَزَمْ ... أَوْ اسْتَشَارَ لَمْ يَرُمْهُ خَصْمُ مَا زَالَتِ الأَيَّامُ تَأْتِي بِالْعِبَرْ ... أَفِقْ وَسَلِّمْ لِلْقَضَاءِ وَالْقَدَرْ كَمْ آيَةٍ مَرَّتْ بِنَا وَآيَةْ ... فِي بَعْضِهَا لِمَنْ وَعَى كِفَايَةْ وَنَحْنُ فِي ذَا كُلِّهِ لا نَعْتَبِرْ ... وَلا نَخَافُ غَيْبَهَا فَنَزْدَجِرْ أَلَيْسَ هَذَا كُلِّهِ تَأْدِيبًا؟ ... فَمَا لَنَا لا نَتَّقِي الذُّنُوبَا لَكِنْ قَسَى قَلْبٌ وَجَفَّتْ أَدْمُعُ ... إِنَّا إِلَى اللهِ إِلَيْهِ الْمَرْجِعُ فَنَسْأَلُ الرَّحْمَنَ سِتْرَ مَا بَقِي ... وَعَفْوَهُ وَاللَّطْفَ فِيمَا نَتَّقِي فَكَمْ وَكَمْ قَدْ أَظْهَرَ الْجَمِيلا ... وَسَتَرَ الْقَبِيحَ جِيلاً جِيلاَ حَتَّى مَتَّى لا تَرْعَوِي بِالْوَعْظِ ... وَأَنْتَ تَنْبُو كَالْغَلِيظِ الْفَظِّ سِرْ سَيْرَ مِنْ غَايَتُهُ السَّلامَةْ ... وَعُدْ عَلَى نَفْسِكَ بِالْمَلامَةْ بَادِرْ بِخَيْرٍ إِنْ نَوَيْتَ وَاجْتَهِدْ ... وَإِنْ نَوَيْتَ الشَّرَّ فَازْجُرْ وَاقْتَصِدْ وَخُذْ فِي عِتَابِ نَفْسِكَ الأَمَّارَةِ ... فَإِنَّهَا غَدَّارَةٌ غَرَّارَةْ

.. خَالِفْ هَوَاكَ تَنْجَحْ مِنْهُ حَقًّا ... وَالنَّفْسَ وَالشَّيْطَانَ كَيْ لا تَشْقَى نَفْسِي عَمَّا سَرَّنِي تُدَفِعُ ... وَهِيَ عَلَى مَا ضَرَّنِي تُسَارِع قَدْ أَسَرَتْهَا شَهْوَةٌ وَغَفْلَةْ ... تُنْكِرُ شَيْئًا ثُمَّ تَأْتِي مِثْلَهْ فَمَنْ حَبَى حِسَانَهَا فَقَدْ ظَفِرْ ... وَمَنْ حَبَاهَا غَفْلَةً فَقَدْ خَسِرْ قَدِّمِ لِيَوْمِ الْعَرْضِ زَادَ الْمُجْتَهِدِ ... ثُمَّ الْجَوَابُ لِلسُّؤَالِ فَاسْتَعِدْ تَطْوِي اللَّيَالِي الْعُمْرَ طَيًّا طَيَّا ... وَأَنْتَ لا تَزْدَادُ إِلا غَيًّا فَلا تَبِتْ إِلا عَلَى وَصِيِّةْ ... فَإِنَّهَا عَاقِبَةٌ مَرْضِيَّةْ هَيْهَاتَ لا بُدَّ مِن النُّزُوحِ ... حَقًّا وَلَوْ عُمَّرِتَ عُمْرَ نُوحِ فَنْسَأَلُ لَنَا السَّلامَةْ ... فِي هَذِهِ الدُّنْيَا وَفِي الْقِيَامَةْ أَعْدِدْ لِجَيْشِ السَّيِّئَاتِ تَوْبَةْ ... فَإِنَّهَا تَهْزِمُ كُلَّ حَوْبَةْ وَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلنَّهُ ... وَلا تَحِدْ طَرْفَةَ عَيْنٍ عَنَّهْ أَفْضَلُ زَادِ الْمَرْءِ تَقْوَى اللهِ ... سُبْحَانَهُ جَلَّ عَنِ التَّنَاهِي عَلَيْكَ بِالتَّقْوَى وَكُلِّ وَاجِبٍ ... وَتَرْكُ مَا يُخْشَى وَشُكْرِ الْوَاهِبِ وَكُنْ لأَسْبَابِ التُّقَى أَلِيفَا ... وَاعْصِ هَوَاكَ وَاحْذَرِ التَّعْنِيفَا فَالْخَوْفُ أَوْلَى مَا امْتَطَى أَخُو الْحَذَرْ ... فَاعْتَمِدِ الصَّمْتَ وَدَعْ عَنِ الْهَذَرْ لَوْ أَنَّ مَا اسْتَمْلاهُ كَاتِبَاكَا ... بِأُجْرَةٍ مِنْكَ خَتَمْتَ فَاكَا صَمْتٌ يُؤَدِيكَ إِلَى السَّلامَةْ ... أَفْضَلُ مِنْ نُطْقٍ جَنَى النَّدَامَةْ الْعِلْمُ وَالْحِلْمُ قَرِينَا خَيْرٍ ... فَالْزِمْهُمَا وُقِيتَ كُلَّ ضَيْرِ فَالْعِلْمُ عِزٌّ لا يَكَادُ يُبْلَى ... وَالْحِلْمُ كِنْزٌ لا يَكَادُ يُفْنَى الْعِلْمُ لا يُحْصَى فَخُذْ مَحَاسِنَهْ ... وَنَبِّهِ الْقَلْبَ الصَّدِي مِن السَّنَةْ أَجْمَلُ شَيْءٍ لِلْفَتَى مِنْ نَسَبِهْ ... إِكْثَارُهُ مِنْ عِلْمِهِ وَأَدَبِهْ إِنْ كُنْتَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ مَا نَكَا ... أَوْ غَيْرِ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ زَنَكَا

.. لا خَيْرَ فِي عِلْمٍ بِغَيْرِ فِهْمِ ... وَلا عِبَادَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمِ لا تَطْلُبَنَّ الْعِلْمِ إِلا لِلْعَمَلْ ... فَاعْمَلْ بِمَا عَلَّمْتَه قَبْلَ الأَجَلْ فَإِنَّ فِيهِ غَايَةَ السَّلامَةْ ... هَذَا إِذَا كَانَ بِلا سَآمَةْ نُصْحُ الْوَرَى مِنْ أَفْضِلِ الأَعْمَالِ ... وَالْبِرُّ وَالرِّفْقُ بِلا اعْتِلالِ إِيّاكَ إِيَّاكَ الرِّيَاءَ يَا صَاحِ ... فَتَرْكُهُ أَقْرَبُ لِلْفَلاحِ فَالْعُمْرُ مَا كَانَ قَرِينَ الطَّاعَةْ ... هَذَا وَلَوْ قُدَّرَ بَعْضُ سَاعَةْ حُثَّ كُنُوزَ الدَّمْعِ فِي الْحَنَادس ... بَيْنَ يَدِي رَبِّكَ غَيْرَ آيِسِ عَلَى سَوَادِ خَالِ خَدِّ الصُّبْحِ ... تَتْلُو الْمَثَانِي رَغْبًا فِي الرِّبْحِ وَقُلْ بِمَا جَاءَ بِهِ خَيْرُ الْبَشَرْ ... هَبْ لِي الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرْ وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ كُلِّ هَمٍ فَرَجَا ... فَضْلاً وَمِنْ غَمٍّ وَضِيقٍ مَخْرَجَا الْعَدْلُ أَقْوَى عَسْكَرُ الْمُلُوكِ ... وَالأَمْنُ أَهْنَى عِيشَةَ الْمُلُوكِ سُسُ يَا أَخِي نَفْسَكَ قَبْلَ الْجُنْدِ ... وَاقْهَرْ هَوَاكَ تَنْجَحْ قَبْلَ الْقَصْدَ وَاجْعَلْ قِوَامِ الْعَدْلِ حِصْنَ دَلْتِكْ ... وَالشُّكْرَ أَيْضًا حَارِسًا لِنِعْمَتِكْ فَالْحَقُّ أَنْ تَعْدِلَ بِالسَّوِيَّةْ ... مَا بَيْنَ نَوْعَيْنِ مِنَ الْبَرِيَّةْ فَكُلُّكُمْ وَكُلُّنَا مَسْئُولُ ... عَمَّا رَعَيْنَاهُ وَمَا نَقُولُ مَنْ لَمْ يَجِدْ طَوْلاً إِلَى السِّيَاسَةِ ... أَخَرَّهُ الْعَجْزُ عَنِ الرِّيَاسَةْ أَحْسِنْ إِلَى الْعِلْمِ يَحْمَدُوكَا ... وَعُمَّهُمْ بِالْعَدْلِ يَنْصَحُوكَا فَعَدْلُ سُلْطَانِ الْوَرَى يَقِيهِ ... أَعْظَمَ مَا يَخْشَى وَيَتَّقِيهِ لا تَسْتَعِنْ بِأَصْغَرِ الْعُمَّالِ ... عَلَى تَرَقِّي أَكْبَرَ الأَعْمَالِ فَمَنْ عَدَا وَزِيرُهُ فَمَا عَدَلْ ... وَمَنْ طَغَى مُشِيرُهُ فَقَدْ جَهِلْ شَرُّ الأَنَامِ نَاصِرُ الظُّلُومِ ... وَشَرٌّ مِنْهُ خَاذِلُ الْمَظْلُومِ الظُّلْمُ حَقًّا سَالِبٌ لِلنَّعَمِ ... وَالْبَغْيُ أَيْضًا جَالِبٌ لِلنِّقَمِ

.. ظُلْمُ الضَّعِيفِ يَا بَنِي لؤمْ ... وَصُحْبَةُ الْجَاهِلِ أَيْضًا شُؤْمُ وَقِيلَ إِنَّ صُحْبَةَ الأَشْرَارِ ... تُورِثُ سُوءَ الظَّنِّ بِالأَخْيَارِ يَجْنِي الرَّدَى مَنْ يَغْرِسَ الْعُدْوَانَا ... وَصَارَ كُلُّ رِبْحِهِ خُسْرَانَا أَقْرَبُ شَيْءٍ صَرْعَةُ الظَّلُومِ ... وَأَنْقَذُ النَّبْلِ دُعَا الْمَظْلُومِ نِعْمَ شَفِيعُ الْمُذْنِبِ اعْتِذَارُهُ ... وَبِئْسَ مَا عَوَّضَهُ إِصْرَارُهُ خُذْ الأُمُورَ كُلِّهَا بِالْجَدِّ ... فَالأَمْرُ جَدٌّ لا هَوَاكَ الْمُرْدِي خَيْرُ دَلِيلِ الْمَرْءِ الأَمَانَةْ ... بَيْنَ الْوَرَى وَتَرْكُهُ الْخِيَانَةْ مَنْ امْتَطَى أَمْرًا بِلا تَدْبِير ... صَيَّرَهُ الْجَهْلُ إِلَى تَذْمِيرِ مَنْ صَانَ أُخْرَاهُ بِدُنْيَاهُ سَلِمْ ... وَمَنْ وَقَى دُنْيَاهُ بِالدِّينِ نَدِمْ مَنْ أَخَّرَ الطَّعَامَ وَالْمَنَامَا ... لَذَّ وَطَابَ سَالِمَا مَا دَامَا مَنْ أَكْثَرَ الْمِزَاحَ قَلَّتْ هِيبَتُهْ ... وَمَنْ جَنَى الْوَقَارَ عَزَّتْ قِيمَتُهْ مَنْ سَالَمَ النَّاسَ جَنَى السَّلامَةْ ... وَمَنْ تَعَدَّى أَحْرَزَ النَّدَامَةْ مَنْ نَامَ عَنْ نُصْرَةِ أَوْلِيَائِهْ ... نَبَّهَهُ الْعُدْوَانُ مِنْ أَعْدَائِهْ مَنْ اهْتَدَى بِالْحَقِّ حَيْثُمَا ذَهَبْ ... مَالَ إِلَيْهِ الْخَلْقُ طُرًّا وَغَلَبْ مَنْ رَفَضَ الدُّنْيَا أَتَتْهُ الآخِرَةْ ... فِي حُلَّةٍ مِنَ الأَمَانِ فَاخِرَةْ وَقِيلَ مَنْ قَلَّتْ لَهُ فَضَائِلُهْ ... فَقَدْ ضَعُفَتْ بَيْنَ الْوَرَى وَسَائِلُهْ وَمَنْ تَرَاهُ أَحْكَمَ التَّجَارُبَا ... فَازَ بِهَا وَحَمِدَ الْعَوَاقِبَا مَنْ عَاشَرَ النَّاسَ بِنَوْعِ الْمَكْرِ ... كَافَاهُ كُلُّ مِنْهُمْ بِالْغَدْرِ مَنْ لا تَطِيقُ حَرْبَهُ فَسَالِمِ ... تَعِشْ قَرِيرَ الْعَيْنِ غَيْرَ نَادِمِ مَنْ لَمْ يُبَالِ كَانَتْ الدُّنْيَا لِمَنْ ... فَهُوَ عَظِيمُ الْقَدْرِ سِرًّا وَعَلَنْ مَنْ بَانَ عَنْهُ فَرْعُهُ وَأَصْلُهُ ... أَوْشَكَ أَنْ يَنْعَاهُ حَقًّا أَهْلُهُ مَنْ غَلَبَ الشَّهْوَةَ فَهُوَ عَاقِلٌ ... وَمَنْ دَعَتْهُ فَأَجَابَ جَاهِلُ

.. مَنْ ظَلَّ يَوْمًا كَاتِمًا لِسِرَّهِ ... أَصْبَحَ مِنْهُ حَامِدًا لأَمْرِهِ خَيْرُ زَمَانِكَ الَّذِي سَلِمْتَا ... مِنْ شَرِّهِ لُطْفًا وَمَا اقْتَرَفْتَا خَيْرُ النَّدَى وَأَفْضَلُ الْمَعْرُوفِ ... فِيمَا يُرَى إِغَاثُهُ الْمَلْهُوفِ لا تَثْبُتُ النَّعْمَاءُ بِالْجُحُودِ ... وَالشُّكْرِ حَقًّا ثَمَنُ الْمَزِيدِ مَنْ غَلَبَتْهُ شَهْوَةً الطَّعَامِ ... سُلَّ عَلَيْهِ صَارِمُ الأَسْقَامِ تَعْصِي الإِلَهَ وَتُطِيعُ الشَّهْوَةَ ... هَذَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ بِالْقَسْوَةْ مِنْ هَمُّهُ أَمْعَاؤُهُ وَفَرْجُهْ ... وَتَاهَ فِي شَهْوَتِهِ لا تَرْجُهْ أَجْمَلُ شَيْءٍ بِالْغِنَى الْقَنَاعَةْ ... فَعُدَّهَا مِنْ أَشْرَفِ الْبِضَاعَةْ وَهِيَ تَسُوقُ قَاصِدِيهَا لِلْوَرَعْ ... فَاعْمَلْ بِمَا عَلِمْتَهُ وَلا تَدَعْ وَالْيَأْسُ مِمَّا فِي يَدِي الأَنَامِ ... مَنْزِلَةُ الأَخْيَارِ وَالْكِرَامِ وَاعْلَمْ بِأَنَّ عَمَلَ الأَبْطَالِ ... كَسْبُ الْحَلالِ لِذَوِي الْعِيَالِ فَإِنَّكَ الْمَسُولُ عَنْهُمْ فَاجْتَهِدْ ... وَلَيْسَ يُغْنِي عَنْكَ مِنْهُمْ أَحَدْ مَنْ عَادَةِ الْكِرَامِ بَذْلُ الْجُودِ ... وَسُنَّةُ اللِّئَامِ فِي الْجُحُودِ لا تَدْنُ مِمَّنْ يَدْنُ بِالْخَلابَةْ ... وَلا تَبِنْ كِبْرًا وَسُدَّ بَابَهْ لا رَأْيَ لِلْمُعْجَبِ تِيهًا فَاعْلَمِ ... وَلا لِذِي كِبْرٍ صَدِيقٌ فَافْهَمِ الْمَطْلُ بُخْلٌ أَقْبَحُ الْمُطْلَيْنِ ... وَالْيَأْسُ مِنْهُ أَحَدُ النُّجْحَيْنِ وَالْبُخْلُ دَاءٍ وَدَاؤُهُ السَّخَا ... فَافْهَمْ فَفِيهِ الْعِزُّ حَقًّا وَالْعُلا وَالْحِرْصُ دَاعِي الْخَلْقَ لِلْحُرْمَانِ ... ثُمَّ يَؤُولُ بِجَنَى الْخُسْرَانِ مَا رُثِّ الأَنْبَاءُ خَيْرًا مِنْ أَدَبْ ... فَإِنَّهُ يَهْدِي إِلَى أَسْنَى الرُّتَبْ لاسِيَّمَا إِنْ كَانَ بَانَ فِي الصِّغر ... كَمَا رَوَيْنَاهُ كَنَقْشٍ فِي الْحَجَرِ مَنْ امْتَطَى جَوَادَ رَيْعَانِ الْعَجَلْ ... أَدْرَكَهُ كَمِينُ آفَاتِ الزَّلَلْ مَنْ كَانَ ذَا عَجْزٍ عَنْ الإِحْسَانِ ... أَثْقَلُ مَا كَانَ عَلَى الإِنْسَانِ

.. مَنْ رَكِبَ الْجَهْلَ كَتَبْ مَطِيَّتُهْ ... وَضَلَّ أَيْضًا ثُمَّ دَامَتْ حَسْرَتُهْ وَصَارَ أَيْضًا عِبْرَةً لِلْعَاقِلِ ... لأَنَّهُ مِنْ أَقْبَحِ الرَّذَائِلِ إِنْ كُنْتَ مِمَّنْ يَرْتَجِي الْجِنَانَا ... لا تُطْلَقَنَّ الطَّرْفَ وَاللَّسَانَا أَوْ رُمْتَ تَجْنِي زَهْرَ خَيْرَيْ أَمْرَكَا ... لا تَأْتِ مَا تَكْرَهُهُ مِنْ غَيْرِكَا أَوْ كُنْتَ مِمَّنْ يَرْتَجِي السَّلامَةْ ... فِي هَذِهِ الدُّنْيَا وَفِي الْقِيَامَةْ فَلا تَقُلْ هُجْرًا وَإِنْ غَضِبْتَا ... وَالْكِبْرَ وَالشُّحَّ فَبُثَّ بَتَّا إِنْ فَوَّقَتْ مَصَائِبُ نِبَالِهَا ... فَاشْكُرْ مُثَابًا مَنْ كَفَى أَمْثَالَهَا وَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَصُونَ عِرْضَا ... فَلا تَقُلْ سُوءًا يَعُودُ قَرْضَا إِنْ كُنْتَ تَخْتَارُ الْجِنَانَ دَارًا ... لا تَنْظَرُنَّ لِلْوَرَى اسْتِصْغَارَا وَكُنْ أَخَا لِلْكَهْلِ مِنْهُمْ وَأَبَا ... لِذَوِيهِ فِي السِّنِّ شَاءَ أَوْ أَبَى وَابْنًا لِشَيْخٍ قَدْ تَغَشَّاه الْكِبَرَا ... وَفَاقَ بِالنُّفُوسِ عَنْ قَوْسِ الْعِدَا آوِي الْيَتِمَ وَارْحَمِ الضَّعِيفَا ... وَارْفُقْ بِمَمْلُوكِنَ أَنْ تَحِيفَا وَالنِّاءِ هُنَّ كَالْغَوَانِي ... فَاجْنَحْ إِلَى الْخَيْرَاتِ غَيْرَ وَانِي وَاعْمَلْ بِمَا فِي سُورَةِ الإِسْرَاءِ ... مِنَ الْوَصَايَا الْغُرِّ بِحَمْدِ رَاءِ وَصِلْ ذَوَاتِ الرَّحِمِ السَّائِلَةْ ... عَنْ قَطْعِهَا يَوْمَ الْقُلُوبِ ذَاهِلَةْ وَالْجَارَ أَكْرِمْهُ فَقَدْ وَصَّانَا ... بِهِ النَّبِيُّ الْمُصْطَفَى مَوْلانَا وَاحْذَرْ بُنَيَّ غَيْبَةَ الأَنَامِ ... لَفْضًا وَتَعْرِيضًا مَدَى الأَيَّامِ وَالْهَمْزَ وَاللَّمْزَ مَعَ النَّمِيمَةْ ... فَإِنَّهَا ذَخَائِرُ ذَمِيمَةْ شَرُّ الأُمُورِ الْعُجْبُ فَاجْتَنِبْهُ ... وَالْبُخْلَ مَا حَيِيتُ صَدَّ عَنْهُ فَالْكِبْرُ دَاءٌ قَاتِلُ الرِّجَالِ ... دَوَاؤُهُ تَوَاضُعِ الأَبْطَالِ لا دَاءَ أَدْوَى مَرَضًا مِنَ الْحُمُقْ ... وَلا دَوَاءَ مِثْلَ تَحْسِينِ الْخَلُقْ وَالْحِقْدُ دَاءٌ لِلْقُلُوبِ وَالْحَسَدْ ... رَأْسُ الْعُيُوبِ فَاجْتَنِبْهُ وَاقْتَصِدْ

.. وَالْبَغْيُ صَاحٍ يَصْرَعُ الرِّجَالا ... وَيُقْصِرُ الأَعْمَارَ وَالآجَالا وَالْمَنُّ أَيْضًا يَهْدِمُ الصَّنِيعَةْ ... مَطِيُّةُ الطُّغَامِ وَالرَّعَاعِ رَبَّ غَرَامِ جَلَبْتهُ لَحْظَةْ ... وَرُبَّ حَرْبٍ أَجَّجَتّهُ لَفْظَهْ وَرُبَّ مَأْمُولٍ تَرَى مُنْهُ الضَّرَرْ ... وَرُبَّ مَحْذُورٍ يَسُرُّ مِنْ حَذَرْ وَقِيلَ أَيْضًا إِنَّ خُلْفَ الْوَعْدِ ... فِي أَكْثَرِ الأَمْثَالِ خُلْبقُ الْوَغْدِ لا حَذَرَ مِنْ قَدَرٍ بِدَافِعِ ... وَلا أَسَىً مِنْ فَائِتٍ بِنَافِعِ وَقِيلَ مَا أَضْمَرْتَ بِالْجِنَانِ ... يَظْهَرُ فِي الْوَجْهِ وَفِي اللِّسَانِ لا تُطِلِ الشَّكْوَى فَفِيهِ التَّلَفُ ... وَالشُّكْرُ للهِ الْغَنِيِّ شَرَفُ لا يُفْسِدُ دِينَ الْوَرَى إِلا الطَّمَعْ ... حَقًّا وَلا يُصْلِحُهُ إِلا الْوَرَعْ لا تَحْمِلَنْكَ كَثْرَةُ الإِنْعَامِ ... عَلَى ارْتِكَابِ سَيِّءِ الآثَامِ وَلا تَقُلْ سُوءًا تَزِلُ الْقَدَمَا ... وَتُورِثُ الطَّعْنَ وَتُبْدِي النَّدَمَا لا تَقَرَّبَنَ مِنْ وَدَائِعِ الْبَرِيَّهْ ... وَلا الْوَكَالاتِ وَلا الْوَصِيَّهْ فَإِنَّهُنَّ سَبَبُ الْبَلايَا ... وَمَعْدِنُ الآفَاتِ وَالرَّزَايَا لا تَشْتَغِلْ إِذَا حُبِيتَ النِّعَمَا ... بِسُكْرِهَا عَنْ شُكْرِهَا فَتَنْدَمَا لا تَتَّبِعْ مَسَاوِئَ الإِخْوَانِ ... رَعْيَ الذُّبَابِ فَاسِدَ الأَبْدَانِ لا خَيْرَ فِيمَنْ يَحْقِرُ الضَّعِيفَا ... كِبْرًا وَلا مَنْ يَحْسُدُ الشَّرِيفَا لا تَسْتَقِلَّ الْخَيْرَ فَالْحِرْمَانُ ... أَقَلُّ مِنْهُ أَيُّهَا الإِنْسَانُ لا تَجْزِعَنْ فَقَدْ حَىَ الْمَقْدُورُ ... بِكُلِّ مَا جَاءَتْ بِهِ الدُّهُورُ لا تَتَخَطَّى فُرَصَ الزَّمَانِ ... إِنَّ التَّوَانِي سَبَبُ الْحِرْمَانِ أَنْفَاسُكُمْ خُطَاكُمُ إِلَى الأَجَلْ ... وَخَادِعُ الأَعْمَالِ تَقْدِيمُ الأَمَلْ أَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ أَعْلَى الرُّتَبِ ... وَنَهْيُكَ الْمُنْكَرَ مِنْ أَقْوَى السَّبَبِ الْوَلَدُ الْبَرُّ يَزِيدُ فِي الشَّرَفِ ... وَالْوَلَدُ السُّوءُ يَشِينُ بِالسَّلَفِ

.. الرِّفْقُ يُدْنِى الْمَرْءَ لِلصَّلاحِ ... وَهُوَ لِقَاحُ سُرْعَةِ النَّجَاحِ إِسَاءَةُ الْمُحْسِنِ مَنْعُ الْبِرِّ ... وَتُحْفَغُة الْمُسِيءُ كَفُّل الشَّرِّ تَنَاسَى مِنْ إِخْوَانِكَ الْمَسَاوِيَا ... يَدُمْ لَكَ الْوِدَادُ مِنْهُمْ صَافِيَا وَأَوْلِهِمْ مِنْ فِعْلِكَ الْجَمِيلا ... وَدَعْ مُثَابًا قِيلَهُمْ وَالْقِيلا وَكُلُّ مَنْ أَبْدَى إِلَيْكَ الْفَاقَهْ ... صُنْ عَنْ مُحَيَّاهُ الَّذِي أَرَاقَهْ بَسْذُ الْوُجُوهِ أَحَدُ الْبَذْلَيْنِ ... وَأَعْظَمُ الْهَمَّيْنِ هَمُّ الدَّيْنِ وَإِنْ خَفَضتَ الصَّوْتَ مَا اسْتَطَعْتَا ... ثُمَّ غُضَتْتَ الطَّرْفَ أَنْتَ أَنْتَا للهِ فِي كُلِّ بَلاءٍ نِعْمَهْ ... لا يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَذُمَّهْ تَمْحِيصُ ذَنْبٍ وَثَوَابٌ إِنْ صَبَرْ ... وَيَقَظَةٌ مِنْ غَفْلَةٍ لِمَنْ نَظَرْ وَتَوْبَةٌ يُحْدِثُهَا وَصَدَقَةْ ... وَوَعْظُهُ هَدِيَّةٌ مُوَفَّقَةْ وَفِي قَضَاءِ اللهِ ثُمَّ فِي الْقَدَرِ ... مِنْ بَعْدِ هَذَا عِبْرَةٌ لِلْمُعْتَبِرِ أَعْمَارُكُمْ صَحَائِفُ الآجَالِ ... فَجَلِّدُوهَا أَنْفَسَ الأَعْمَالِ عَلَيْكَ بِالصِّدْقِ وَلَوْ أَضَرَّكَا ... وَلا تُعيِّرْ هَالِكًا فَتَهْلِكَا صَبْرُ الْفَتَى عَلَى أَلِيمِ كَسْبِهِ ... أَسْهَلُ مِنْ حَاجَتِهِ لِصَحْبِهِ فَالصَّبْرُ سَيْفٌ لا يَكَادُ يَنْبُو ... وَالْقَنْعُ نَجْمٌ لا تَرَاهُ يَخْبُو جَرْحُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ أَهْلِ الْهِمَمِ ... أَهْوَنُ مِنْ جُرْحِ اللِّسَانِ فَافْهَمْ خَيْرُ قَرِينِ الْمَرْءِ حُسْنُ الْخُلُقِ ... يُدْنِي الْفَتَى مِنْ كُلِّ أَمْرٍ صَائِبِ الْحُرُّ عَبْدٌ مَا تَرَاهُ طَامِعَا ... وَالْعَبْدُ حُرُّ مَا تَرَاهُ قَانِعَا أَغْنَى الْغِنَى لِلْمَرْءِ حُسْنُ الْعَقْلِ ... وَالْفَقْرُ كُلُّ ذُلُّ وَالْجَهْلِ إِيَّاكَ أَنْ تَخْدَعَكَ الأَمَانِي ... فَإِنَّهَا قَاتِلَةُ الإِنْسَانِ وَاحْذَرْ لُزُومَ سَوْفَ مَا اسْتَطَعْتَا ... فَإِنَّهُ سَيْفٌ عَسَى وَحَتَّى سَارِعْ إِلَى الْخَيْرِ تُلاقِ رَشَدَا ... وَكُنْ مِن الشَّرِّ أَشَدَّ بُعْدَا

وصية مقتول في سبيل الله

.. وَإِنْ صَحِبْتَ الْمَلِكَ الْمُعَظَّمَا ... فَاحْذَرْ رُجُوعَ الشَّهْدِ مِنْهُ عَلْقَمَا وَانْصَحْهُ وَالْوَرَى مَعًا بِالرِّفْقِ ... وَالْبَسْ لَهُمْ دُرْعَى تُقىً وَصِدْقِ آخِ الَّذِي يَسُدُّ مِنْكَ الْخَلَّةْ ... وَيَسْتُرُ الزَّلَّةِ بَعْدَ الزَّلَةْ وَمَنْ أَقَالَ عَثْرَةً وَمَنْ رَفَقْ ... وَكَظَمَ الْغَيْظَ إِذَا اشْتَدَّ الْخُنُقْ فَهُوَ الَّذِي قَدْ تَمَّ عَقْلاً وَكَمُلْ ... وَمَنْ إِذَا قَالَ مَقَالاً قَدْ فَعَلْ فَاشْدُدْ يَدَيْكَ يَا بُنَيَّ ... تُحْظَ بِعِزٍّ دَائِمٍ سَنِي إِيَّاكَ أَنْ تُهْمِلَ طَرَفَ الطَّرْفِ ... فَإِنَّهُ يَسْمُو لِكُلِّ حَتْفِ إِذَا تُسِيء إِلَى أَخِيكَ فَاعْتَذِرْ ... وَإِنْ أَسَاءَ يَا بُنَيَّ فَاغْتَفِرْ فَالْعُذْرُ يَقْضِي بِكَمَالِ الْعَقْلِ ... وَالْعَفْوُ بُرْهَانٌ لِكُلِّ فَضْلِ وَجَانِب الْخَلْقَ بِغَيْرِ مَقْتِ ... وَالْبَسْ لَهُمْ يَا صَاحِ دِرْعَ الصَّمْتِ إِذَا التَّوْبَ مَكَارِهٌ فَنَمْ لَهَا ... وَقُلْ عَسَاهَا تَنْجَلِي وَعَلَّهَا عَسَى الَّذِي أَصْبَحْتُ فِيهِ مِنْ حَرَجْ ... يُعْقِبُهُ اللهُ تَعَالى بِالْفَرَجْ هَذَا الَّذِي جَادَتْ بِهِ الْقَرِيحَةُ ... فَاحْذُ عَلَيْهِ وَاقْبَلَ النَّصِيحَةْ وَإِنْ رَأَتْ عَيْنَاكَ عَيْبًا صُنْهُ ... فَتَفَضُلاً مِنْكَ وَصُدَّ عَنْهُ فَتَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى عَفْوًا ... يُتْبِعُهُ فِي كُلِّ عُسْرٍ يُسْرَا وَصَلِّ يَا رَبِّ عَلَى خَيْرِ الْوَرَى ... مَا صَدَّحَتْ قَمْرِيَّةٌ عَلَى الذُّرَا وَالآلُ وَالأَزْوَاجِ وَالأَصْحَابِ ... وَالتَّابِعِينَ مِنْ أُولِي الأَلْبَابِ (انتهى) آخر: ... عَلَيْكَ مِن الأُمُورِ بِمَا يُؤَدَى ... إِلَى سُنَنِ السَّلامَةِ وَالْخَلاصِ وَمَا تَرْجُو النَّجَاةَ بِهِ وَشِيكًا ... وَفَوْزًا يَوْمَ يُؤخَذُ بِالنَّوَاصِي فَلَيْسَ تَنَالُ عَفْوَ اللهِ إِلا ... بِتَطْهِيرِ النُّفُوسِ مِنَ الْمَعَاصِي وَبِرِّ الْمُؤْمِنِينَ بِكُلِّ رِفْقٍ ... وَنُصْحٍ لِلأَدَانِي وَالأَقَاصِي

.. وَإِنْ تَشْدُدْ يَدًا بِالْخَيْرِ تُفْلَحْ ... وَإِنْ تَعْدِلْ فَمَا لَكَ مِنْ مَنَاصِ اللهم ثبت وقوي إيماننا بك وبملائكتك وبكتبك وبرسلك وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، اللهم عاملنا بعفوك وغفرانك وامنن علينا بفضلك وإحسانك ونجنا من النار وعافنا من دار الخزي والبوار وأدخلنا بفضلك وكرمك وجودك الجنة دار القرار واجعلنا مع عبادك الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في دار رضوانك وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) : أخرج أبو الشيخ بن حبان في كتاب الوصيا والحاكم في مستدركه والبيهقي في الدلائل وأبو نعيم كلاهما عم عطاء الخرساني. قال: حدثتني ابنة ثابت بن قيس بن شماس إن ثابتًا قتل يوم اليمامة وعليه درع له نفيسة فمر رجل من المسلمين فأخذها، فبينما رجل من المسلمين نائم إذ أتاه ثابت في منامه فقال: أوصيك بوصية فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه. إني لما قتلت أمس مر بي رجل من المسلمين فأخذ درعي ومنزله في أقصى الناس وعند خبائه فرسن يستن في طوله، وقد كفأ على الدرع برمة وفوق البرمة رحل فأت خالد بن الوليد فمره أن يبعث إلى درعي فيأخذها وإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني أبا بكر الصديق رضي الله عنه فقل له: إن علي من الدين كذا وفلان من رقيقي عتيق وفلان، فأتى الرجل خالدًا فأخبره فبعث إلى الدرع فأتي بها وحدث أبا بكر برؤياه فأجاز وصيته، قال: ولا نعلم أحدًا أجيزت وصيته بعد موته غير ثابت بن قيس. انتهى. شِعْرًا: ... تَبَارَكَ ذُو الْعُلا وَالْكِبْرِيَاءِ ... تَفَرَّدَ بِالْجَلالِ وَبِالْبَقَاءِ وَسَوَّى الْمَوْتَ بَيْنَ الْخَلْقِ طُرًّا ... وَكُلُّهُمْ رَهَائِنُ لِلْفَناَءِ وَدُنْيَانَا - وَإِنْ مِلْنَا إِلَيْهَا ... وَطَالَ بِهَا الْمَتَاعُ - إِلَى انْقِضَاءِ أَلا إِنَّ الرُّكُونَ عَلَى غُرُورٍ ... إِلَى دَارِ الْفَنَاءِ مِنَ الْفَنَاءِ وَقَاطِنُهَا سَرِيعُ الظَّعْنِ عَنْهَا ... وَإِنْ كَانَ الْحَرِيصَ عَلَى الثَّوَاءِ اللهم ألهمنا ذكرك ووفقنا للقيام لامتثال أمرك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وصية الإمام الغزالي لبعض إخوانه

(وصية عظيمة نافعة لمن عمل بها) وصية الإمام الغزالي لبعض إخوانه، فقال: وإني أوصي هذا الأخ أن يصرف إلى الآخرة همته وأن يحاسب نفسه قبل أن يحاسب ويراقب سريرته وعلانيته وقصده، وهمته، وأفعاله، وأقواله، وإصداره، وإيراده، أهي مقصورة على ما يقربه إلى الله تعالى ويوصله إلى سعادة الأبد، أو منصرفة إلى ما يعمر دنياه ويصلحها له إصلاحًا منغصًا، مشوبًا بالكدورات، مشحونًا بالغموم والهموم، ثم يختمها بالشقاوة والعياذ بالله؟ فليفتح عين بصيرته ولتنظر نفس ما قدمت لغد، وليعلم أنه لا ناظر لنفسه ولا مشفق سواه. وليتدبر ما كان بصدده؛ فإن كان مشغولاً بعمارة ضيعة فلينظر: كم من قرية أهلكها الله تعالى وهى ظالمة، فهي خاوية على عروشها بعد إعمالها؟ وإن كان مقبلاً على استخراج ماء، وعمارة نهر؛ فلينظر: كم من بئر معطلة وقصر مشيد بعد عمارتها؟ وإن كان مهتمًا بتأسيس بناء؛ فليتأمل: كم من قصور مشيدة البنيان محكمة القواعد والأركان، أظلمت بعد سكانها؟ وإن كان مهتمًا بعمارة الحدائق والبساتين فليعتبر: {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} (44 سورة الدخان، الآيات: 25-27) ، وليقرأ: {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} (26 سورة الشعراء، الآيات: 205 - 207) . وإن كان مشغوفًا - والعياذ بالله - بخدمة سلطان، فليتذكر ما ورد في الخبر أنه ينادي مناد يوم القيامة: أين الظلمة وأعوانهم؟ فلا يبقى أحد مد لهم دواة أو برى لهم قلمًا فما فوق ذلك إلا حضر، فيجمعون في تابوت من نار، فيلقون في جهنم. وعلى الجملة، فالناس كلهم إلا من عصم الله نسوا الله فنسيهم، وأعرضوا عن التزود للآخرة، وأقبلوا على طلب أمرين: الجاه والمال، فإن كان هو في طلب جاه ورياسة،

فليتذكر ما ورد به الخبر: أن الأمراء والرؤساء يحشرون يوم القيامة في صورة الذر تحت أقدام الناس يطؤهم بأقدامهم، وليقرأ ما قال تعالى في كل متكبر جبار. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «يكتب الرجل جبارًا وما يملك إلا أهل بيته» . أي: إذا طلب الرياسة بينهم، وتكبر عليهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «ما ذئبان ضاريان أرسلا في زريبة غنم بأكثر فسادًا من حب الشرف في دين الرجل المسلم» . وإن كان في طلب المال وجمعه فليتأمل قول عيسى عليه السلام: يا معشر الحواريين، الغنى مسرة في الدنيا، مضرة في الآخرة، بحق أقول لكم: لا يدخل الجنة الأغنياء ملكوت السماء. وقد قال نبينا - صلى الله عليه وسلم -: «يحشر الأغنياء يوم القيامة أربع فرق: رجل جمع مالاً من حرام، وأنفقه في حرام، فيقال: أذهبوا به إلى النار، ورجل جمع مالاً من حرام، وأنفقه في حلال فيقال: أذهبوا به إلى النار، ورجل جمع مالاً من حلال، وأنفقه في حرام، فيقال: أذهبوا به إلى النار، ورجل جمع مالاً من حلال، وأنفقه في حلال، فيقال: قفوا هذا، واسألوه؛ لعله ضيع بسبب غناه فيما فرضنا عليه، أو قصر في الصلاة أو في وضوئها، أو ركوعها، أو سجودها، أو خشوعها، أو ضيع شيئًا من فروض الزكاة والحج. فيقول: لعلك باهيت، واختلت في شيء من ثيابك؟ فيقول: يا رب! ما باهيت ولا اختلت في ثيابي. فيقول: لعلك فرطت فيما أمرناك به من صلة الرحم، وحق الجيران والمساكين، وقصرت في التقديم والتأخير، والتفصيل والتعديل؟ ويحيط هؤلاء به فيقولون: ربنا أغنيته بين أظهرنا، وأحوجتنا إليه، فقصر في حقنا» . شِعْرًا: ... فَإِنْ يَكَنِ الرَّحْمَنُ أَعْطَاكَ ثَرْوَةً ... فَأَصْبَحْتَ ذَا يُسْرٍ وَقَدْ كُنْتَ ذَا عُسْرِ فَتَابِعْ لَهُ حَمْدًا وَشُكْرًا مَعَ الثَّنَا ... يَزِدْكَ وَتَأْمَنْ يَا أُخَيَّ مِنَ الْفَقْرِ وَأَخْرِجْ لِحَقِّ اللهِ مِنْهَا مُبَادِرًا ... لِمَنْ كَانَ ذَا فَقْرٍ قَرِيبٍ وَذِي عُسْرِ آخر: ... ذِهَابُ الْمَالِ فِي حَمْدٍ وَأَجْرٍ ... ذَهَابٌ لا يُقَالُ لَهُ ذَهَابُ

فإن ظهر تقصر ذهب به إلى النار، وإلا قيل له: قف! هات الآن شكر كل لقمة، وكل شربة، وكل أكلة، وكل لذة؛ فلا يزال يسأل. فهذا حال الأغنياء الصالحين المصلحين القائمين بحقوق الله تعالى، أن يطول وقوفهم في العرصات، فكيف حال المفرطين المنهمكين في الحرام والشبهات، المتكاثرين به، المتنعمين بشهواتهم، الذين قيل فيهم: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} (102 سورة التكاثر، الآية: 1) . فهذه المطالب الفاسدة هي التي استولت على قلوب الخلق، فسخرتها للشيطان، وجعلتها ضحكة له، فعليه وعلى كل مستمر في عداوة نفسه أن يتعلم علاج هذا المرض الذي حل بالقلوب. فعلاج مرض القلوب أهم من علاج مرض الأبدان، ولا ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم. وله دواءان: أحدهما: ملازمة ذكر الموت وطول التأمل فيه، مع الاعتبار بخاتمة الملوك وأرباب الدنيا، كيف أنهم جمعوا كثيرا، وبنوا قصورًا، وفرحوا بالدنيا بطرًا أو غرورًا فصارت قصورهم قبورًا، وأصبح جمعهم هباء منثورًا: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً} (23 سورة الأحزاب، الآية: 38) ، {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} (32 سورة السجدة، الآية: 26) . فقصورهم وأملاكهم ومساكنهم صوامت ناطقة، تسهد بلسان حالها على غرور عمالها، فانظر الآن في جمعيهم: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} (19 سورة مريم، الآية: 98) . شِعْرًا: ... إِنَّ الَّذِينَ بَنُو فَطَالَ بُنَاؤُهُمْ ... وَاسْتَمْتَعُوا بِالْمَالِ وَالأَوْلادِ جَرَتِ الرِّيَاحُ عَلَى مَحَل دِيَارِهِمْ ... فَكَأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مِيعَادِ

قال بعضهم: حَتَّى مَتَى وَإِلَى مَتَى نَتَوَانَا ... وَأَظُنُّ هَذَا كُلَّهُ نِسْيَانَا وَالْمَوْتُ يَطْلُبُنَا حَثِيثًا مُسْرِعًا ... إِنْ لَمْ يَزُرْنَا بُكْرَةً مَسَّانَا إِنَّا لَنُوعَظُ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً ... وَكَأَنَّمَا يُعْنِي بِذَاكَ سِوَانَا غَلَبَ الْيَقِينُ عَلَى التَّشَكُكِ فِي الرَّدَى ... حَتَّى كَانَا قَدْ نَرَاهُ عِيَانَا يَا مَنْ يَصِيرُ غَدًا إِلَى دَارِ الْبَلَى ... وَيُفَارَقُ الإِخْوَانَ وَالْخِلانَا إِنَّ الأَمَاكِنَ فِي الْمَعَادِ عَزِيزَةٌ ... فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ إِنْ عَقَلْتَ مَكَانَا الدواء الثاني: تدبر كتاب الله، ففيه شفاء ورحمة للمؤمنين. وقد أوصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بملازمة هذين الواعظين بقوله: «فقد تركت فيكم واعظين: صامتًا وناطقًا؛ الصامت الموت، والناطق القرآن» . وقد أصبح أكثر الناس أمواتًا عن كتاب الله تعالى، وأن كانوا أحياء في معايشهم، وبكمًا عن كتاب الله، وإن كانوا يتلونه بألسنتهم؛ وصمًا عن سماعه، وإن كانوا يسمعونه بآذانهم؛ وعميًا عن عجائبه، وإن كانوا ينظرون إليه في صحائفهم؛ وأميين في أسراره، ومعانيه، وإن كانوا يشرحونه في تفاسيرهم. فاحذر أن تكون منهم، وتدبر أمرك، من لم يتدبر كيف بقوم ويحشر؟ وانظر في أمرك وأمر من لم ينظر في نفسه، كيف خاب عند الموت وخسر؟ واتعظ بآية واحدة من كتاب الله تعالى، ففيها مقنع وبلاغ لكل ذي بصيرة؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} (63 سورة المنافقين، الآية: 9) إلى آخرها. وإياك ثم إياك، أن تشتغل بجمع المال فإن فرحك به ينسيك عن ذكر الآخرة وينزع حلاوة الإيمان من قلبك. شِعْرًا: ... أَتَطمَعُ أَنْ تُخَلَدَ لا أَبَالَكْ ... أَمِنْتَ مِنَ الْمَنِيَّةِ أَنْ تَنَالَكْ

من أحوال السلف عند الاحتضار لما نزل الموت بالحسن رحمه الله

فَكُنْ مُتَوَقِّعًا لِهُجُومِ مَوْتٍ ... يُشَتَّتُ بَعْدَ جَمْعِهُمْ عِيَالَكْ كَأَنِّي بِالتُّرَابِ عَلَيْكَ يُحْثَى ... وَبِالْبَاكِينَ يَقْتَسَمُونَ مَالَكْ آخر: ... أَلا لَيْتَ الشَّبَابَ يَعُودُ يَوْمًا ... فَاخْبِرْهُ بِمَا فَعَلَ الْمَشِيبُ قال عيسى عليه وعلى نبينا صلوات الله وسلامه: لا تنظروا إلى أموال أهل الدنيا فإن بريق أموالهم يذهب بحلاوة إيمانكم وهذا ثمرته بمجرد النظر فكيف عاقبة الجمع والطغيان والبطر انتهت الوصية. شِعْرًا: ... اذْكُرِي الْمَوْتَ لَدَى النَّوْمِ وَلا ... تَغْفُلِي عَنْ ذِكْرِهِ عِنْدَ الْهُبُوبْ وَاذْكُرِي الْوِحْشَةَ فِي الْقَبْرِ فَلا ... مُؤنِسٌ فِيهَا سِوَى تَقْوَى الْقُلُوبْ قَدِّمِي الْخَيْرَ احْتِسَابًا فَكَفَى ... بَعْضُ مَا قَدَّمْتِ مِنْ تِلْكَ الذُّنُوبْ رَاعَنِي فَقْدُ شَبَابِي وَأَنَا ... لا أَرَاعُ الْيَوْمَ مِنْ فُقْدِ الْمَشِيبْ جَنَّ جَنْبَايَ إِلَى بُرْدِ الثَّرَى ... حَيْثُ أُنْسَى مِنْ عَدُوٍّ وَصَدِيقْ آخر: ... وَكَمْ ذِي مَعَاصِي نَالَ مِنْهُنَّ لَذَّةً ... وَمَاتَ وَخَلاهَا وَذَاقَ الدَّوَاهِيَا تَصَرَّمُ لَذَّاتُ الْمَعَاصِي وَتَنْقَضِي ... وَتَبْقَى تِبَاعَات الْمَعَاصِي كَمَا هِيَا فَوَاسَأتَا وَالله رَاءٍ وَسَامِعٌ ... لِعَبْدٍ بِعَيْنِ اللهِ يَغِشى الْمَعَاصِيَا والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. (فَصْلٌ) : ولما نزل الموت بالحسن بن علي رضي الله عنهما قال: أخرجوا فراشي إلى صحن الدار. فأخرج فقال: اللهم إني احتسب نفسي عندك فإني لم أصب بمثلها؛ ومن أخلاقهم قلة الضحك وعدم الفرح بشيء من الدنيا بل كانوا ينقبضون بكل شيء حصل لهم من ملابسهم ومراكبها ومناكحها ومناصبها عكس ما عليه أبناء الدنيا العاشقون لها كل ذلك خوفًا أن يكونوا ممن عجل لهم الطيبات في الحياة الدنيا وكيف يفرح بشيء سوى فضل الله ورحمته من هو في السجن محبوس عن لقاء الله عز وجل.

شِعْرًا: ... لَعَمْرِي مَا الرَّزِيَّةُ فَقْدُ قَصْرٍ ... فَسِيحٍ مُنْيَةٍ لِلسَّاكِنِينَا وَلَكِنَّ الرَّزِيَّةَ فَقْدُ دِيِنٍ ... يَكُونُ بِفَقْدِهِ مِنْ كَافِرِينَا وفي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ووالذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا ولما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل» . وقد كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: عجبت من ضاحك ومن ورائه النار ومن مسرور ومن ورائه الموت. وروى شعبة عن سعد بن إبراهيم قال: أتى عبد الرحمن بن عوف بعشائه وهو صائم فقرأ: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً} فلم يزل يبكي حتى رفع طعامه وما تعشى وإنه لصائم خرجه الجوزجاني. وقال الحسن: ما ظنك بأقوام قاموا لله على أقدامهم مقدار خمسين ألف سنة لم يأكلوا فيها أكلة ولم يشربوا فيها شربة حتى إذا انقطعت أعناقهم عطشًا واحترقت أجوافهم جوعًا صرف بهم إلى النار فسقوا من عين آنية قد آن جرها واشتد نضجها. شِعْرًا: ... وَمَا عِظْم الْمُصَابِ فِرَاقُ أَهْلِ ... وَلا وَلَدٍ وَلا جَارٍ شَفِيقِ وَلا مَوْتِ الْغَرِيبِ بَعِيدُ دَارٍ ... عَنِ الأَوْطَانِ فِي الْبَلَدِ السَّحِيقِ وَلَكِنَّ الْمُصِيبَةَ فَقْدُ دِينٍ ... يَنَالُ بِفَقْدِهِ سُكْنَى الْحَرِيقِ وروي أن الحسن أمسى صائمًا فأتي بعشاه فعرضت له هذه الآية {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً} فقلصت يده وقال: ارفعوه فأصبح صائمًا. فلما أمسى أتي بإفطاره عرضت له الآية. فقال: ارفعوه. فقلنا: يا أبا سعيد تهلك وتضعف فأصبح اليوم الثالث صائمًا فذهب ابنه إلى يحيى البكاء وثابت

البناني ويزيد الضبي. فقال: أدركوا أبي فإنه هالك فلم يزالوا له حتى سقوه شربة ماء من سويق. وكان كثير من السلف مثل هؤلاء ينغص عليهم ذكر طعام أهل النار وشرابهم طعام الدنيا فيمتنعوا من تناوله أحيانًا لذلك. وقال ابن أبي ذئب: حدثني من شَهِدَ عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة وقرأ عنده رجل: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً} فبكى عمر حتى غلبه البكاء وعلا نشيجه فقام من مجلسه ودخل بيته وتفرق الناس. وقال سرار أبو عبد الله: عاتبت عطاء السلمي في كثرة بكائه فقال لي: يا سرار كيف تعاتبني في شيء ليس هو إلي إني إذا ذكرت أهل النار وما ينزل بهم من عذاب الله عز وجل وعقابه تمثلت لي نفسي بهم فكيف لنفس تغل يداها على عنقها وتسحب إلى النار أن لا تبكي ولا تصيح وكيف لنفس تعذب أن لا تبكي. وقال العلاء بن زياد كان إخوان مطرف عنده فخاضوا في ذكر الجنة والنار فقال مطرف: لا أدري ما تقولون حال ذكر النار بيني وبين الجنة. وقال عبد الله بن أبي الهذيل: لقد شغلت النار من يعقل عن ذكر الجنة وعوتب يزيد الرقاشي على كثرة بكائه وقيل له: لو كانت النار خلقت لك ما زادت على هذا، فقال: وهل خلقته إلا لي ولأصحابي ولإخواننا من الجن والإنس. أما تقرأ: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ} ، أما تقرأ: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ} ، فقرأ حتى بلغ: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} وجعل يجول في الدار ويبكي حتى غشي عليه. شِعْرًا: ... يَا رَبِّ جُدْ لِي إِذَا مَا ضَمَّنِي جَدَثِي ... بِرَحْمَةٍ مِنْكَ تُنْجِيني مِنَ النَّارِ

ومن أخلاق السلف مقت أنفسهم

أَحْسِنْ جِوَارِي إِذَا أَمْسَيْتُ جَارَكَ فِي ... لَحْدٍ فَإِنَّكَ قَدْ أَوْصَيْتَ بِالْجَارِ اللهم ثبت وقو محبتك في قلوبنا واشرح صدورنا ونورها بنور الإيمان واجعلنا هداة مهتدين وألهمنا ذكرك وشكرك واجعلنا ممن يفوز بالنظر إلى وجهك في جنات النعيم يا حليم ويا كريم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) : ومن أخلاقهم مقت أنفسهم ومحاسنها على الدقيق والجليل، قال مطرف بدعائه في عرفة: اللهم لا تردهم لأجلي. وقال بكر بن عبد الله المزني: لما نظرت إلى أهل عرفات ظننت أنهم قد غفر لهم لولا أني كنت فيهم. وقال أيوب السحيتاني: إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل. وقالت امرأة لمالك بن دينار: يا مرائي، فقال: يا هذه وجدتي اسمي الذي أضله أهل البصرة. وقال: لو قيل ليخرج شر من في المسجد ما سبقني على الباب أحد. وكان سفيان الثوري ما ينام إلا أول الليل ثم ينتفض فزعًا مرعوبًا ينادي النَّار النار شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات ثم يتوضأ ويقول على أثر وضوئه: اللهم إنك عالم بحاجتي غير معلم وما أطلب إلا فكاك رقبتي من النار. ولما احتضر سفيان الثوري دخل عليه أبو الأشهب وحماد بن سلمة فقال له: يا أبا عبد الله أليس قد أمنت ممن كنت تخافه وتقدم على من ترجوه وهو أرحم الراحمين، فقال: يا أبا سلمة أيطمع لمثلي أن ينجو من النار، فقال: أي والله إني لأرجو ذلك. وكان سفيان الثوري بهذه الأبيات كثيرًا ما يتمثل:

أَظَرِيفُ إِنَّ الْعَيْشَ كَدَّرَ صَفْوَهُ ... ذِكْرُ الْمَنِيَّةِ وَالْقُبُورِ الْهُوَّلِ دُنْيًا تَدَاوَلَهَا الْعِبَادُ ذَمِيمَةً ... شِيبَتْ بِأَكْرَهَ مِنْ نَقِيعِ الْحَنْظَلِ وَبَنَاتُ دَهْرِ لا تَزَالُ مُلِمَّةً ... وَلَهَا فَجَائِعُ مِثْلُ وَقْعِ الْجَنْدَلِ وجاع مرة جوعًا شديدًا فمر بدار فيها عرس فدعته نفسه على أن يدخل فلم يطوعها ومضى إلى بيته وقدمت له بنته قرصًا فأكله وشرب ماء فتجشى ثم قال: سَيَكْفِيكَ مِمَّا أُغْلِقَ الْبَابُ دُونَهُ ... وَظَنَّ بِهِ الأَقْوَامُ مِلْحٌ بِجُرْدُقِ وَتَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فُرَاتٍ وَتَغْتَذِي ... تُعَارِضُ أَصْحَابَ الثَّرِيدِ الْمَلَبَّقِ تَجَتَّنِي إِذَا مَا هُمْ تَجشَوْا كَأَنَّمَا ... ظَلَلْتَ بِأَنْوَاعِ الْخَبِيصِ الْمُفَتَّقِ آخر: ... إِذَا مَا أَصَبْنَا كُلَّ يَوْمٍ مُذَيْقَةً ... وَخَمْسَ تُمَيْرَاتٍ صِغَارِ كَوَانِزِ فَنَحْنُ مُلُوكُ الأَرْضِ خَصْبًا وَنَعْمَةً ... وَنَحْنُ أُسُودُ الْغَابِ عِنْدَ الْهَزَائِزِ وَكَمْ مُتَمَنَّ عَيْشَنَا لا يَنَالَهُ ... وَلَوْ نَالَهُ أَضْحَى بِهِ حَقَّ فَائِزِ آخر: ... خُمْصُ الْبُطُونِ مِنَ الطَّوَى وَأَعِفَّةٌ ... عَنْ شُبْهِةٍ لا يَعْرِفُونَ حَرَامَا وقال يونس بن عبيد: إني لأجد مائة خصلة من خصال الخير ما أعلم أن في نفسي منها واحدة. وقال محمد بن واسع: لو كان للذنوب ريح ما قدر أحد أن يجلس إلي. وذكر داود الطائي عند بعض الأمراء فاثنوا عليه فقال: لو يعلم الناس ما نحن عليه ما ذل لنا لسان بذكر خير أبدًا. وقال أبو حفص: من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات ولم يخالفها في جميع الأحوال ولم يجرها إلى مكروهها في سائر أوقاته كان مغرورًا ومن نظر إليها باستحسان شيء منها فقد أهلكها. ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ

قصيدة في الثناء على السلف وتواضعهم وورعهم

الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} الآية، قالت: يا بني هؤلاء في الجنة أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهد لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة والرزق وأما المقتصد فمن تبع أثره من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى لحق به وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم فجعلت نفسها معهم رضي الله عنها. شِعْرًا: ... قَوْمٌ مَضَوْا كَانَتْ الدُّنْيَا بِهِمْ نُزَهًا ... وَالدَّهْرُ كَالْعِيدِ وَالأَوْقَاتُ أَوْقَاتُ عَدْلٌ وَأَمْنٌ وَإِحْسَانٌ وَبَذْلُ نَدَى ... وَخَفْضُ عَيْشٍ نُقضِّيهِ وَأَوْقَاتُ مَاتُوا وَعِشْنَا فَهُمْ عَاشُوا بِمَوْتِهِمْ ... وَنَحْنُ فِي صُوَرِ الأَحْيَاءِ أَمْوَاتُ للهِ دَرُّ زَمَانٍ نَحْنُ فِيهِ فَقَدْ ... أَوْدَى بِنَا وَعَرَتْنَا فِيهِ نَكْبَاتُ جُورٌ وَخَوْفٌ وَذُلٌّ مَا لَهُ أَمَدٌ ... وَعَيْشَةٌ كُلُّهَا هَمٌّ وَآفَاتُ وَقَدْ بُلِينَا بِقَوْمٍ لا أَخْلاقَ لَهُمْ ... إِلَى مُدَارَاتِهِمْ تَدْعُو الضَّرُورَاتُ مَا فِيهِمْ مِنْ كَرِيمٍ يُرْتَجَى لِنَدىً ... كَلا وَلا لَهُمْ ذِكْرٌ إِذَا مَاتُوا لا الدِّينُ يُوجَدُ فِيهِمْ لا وَلا لَهُمُوا ... مِنَ الْمُرُوءَةِ مَا تَسْمُو بِهِ الذَّاتُ واَلصَّبْرُ قَدْ عَزَّ وَالآمَالُ تُطْمِعُنَا ... وَالْعُمْرُ يَمْضِي فَتَارَاتٌ وَتَارَاتُ وَالْمَوْتُ أَهْوَنُ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ فَقَدْ ... زَالَتْ مِنْ النَّاسِ وَاللهِ الْمُرُوآتُ اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار وأسكنا معهم في دار القرار، اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعاتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا لجميع المسلمين. اللهم اشف قلوبنا من أمراض المعاصي والآثام واملأها من خشيتك وأقبل بها إلى طاعتك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

من أخلاق السلف كثرة الحزن والهم كلما تذكروا الموت خوف سوء الخاتمة

(فَصْلٌ) ومن أخلاقهم رضي الله عنهم كثرة الحزن والهم كلما تذكروا الموت وسكراته وخوف سوء الخاتمة الذي من أسبابه استيلاء حب الدنيا على القلب وضعف الإيمان والانهماك في المعاصي. لأنه متى ضعف الإيمان ضعف حب الله تعالى وقوي حب الدنيا حتى لا يبقى في القلب موضع لحب الله إلا من حيث حديث النفس ولا أثر له في كفها عن السيئات. وذلك يورث الإكثار من المعاصي والاستمرار فيها حتى يظلم القلب وتراكم عليه ظلمات الذنوب فلا تزال تطفئ ما فيه من نور الإيمان على ضعفه حتى تصير طبعًا ورينا. فإذا جاءت سكرات الموت ازداد ضعف حبه لله لشعوره بفراق الدنيا إذ هي المحبوب الغالب على القلب فيتألم باستشعار فراقها ويرى ذلك من الله فيختلج ضميره بإنكار ما قدر عليه من الموت وكراهيته من حيث أنه من الله فيخشى أن يفرط من لسانه أو يثور من قلبه شيء يسخط الله عليه. والذي يفضي إلى مثل هذه الخاتمة غلبة حب الدنيا والركون إليها والفرح بأسبابها مع ضعف الإيمان الموجب لضعف حب الله تعالى أما من كان حب الله تعالى أغلب على قلبه من حب المال والدنيا فهو أبعد عن هذا الخطر العظيم فحب الدنيا رأس كل خطيئة وهو الداء العضال. ولهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين متأثرين بأخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تزن عندهم الدنيا شيئًا ولا يعبؤن بها وإذا حصل لهم شيء منها خرج فورًا ومن أخلاقهم القناعة وحسن الالتجاء إلى الله والثقة له والتوكل عليه في الدقيق والجليل قال بعضهم:

أبيات تضرع إلى الله وحث على القناع

يَا مَنْ لَهُ الْفَضْلُ مَحْضًا فِي بَرِيَّتِهِ ... وَهُوَ الْمُؤَمَّلُ فِي الضَّرَاءِ وَالْبَاسِ عَوَّدَتْنِي عَادَةٌ أَنْتَ الْكَفِيلُ بِهَا ... فَلا تَكِلْنِي إِلَى خَلْقٍ مِنْ النَّاسِ وَلا تُذِلَّ لَهُمْ مِنْ بَعْدِ عِزَّتِهِ ... وَجْهِي الْمَصُونُ وَلا تَخْفِضْ لَهُمْ رَاسِي وَابْعَثْ عَلَى يَدِ مَنْ تَرْضَاهُ مِنْ بَشَرٍٍ ... رِزْقِي وَصُنْهُوَ عَمَّنْ قَلْبُهُ قَاسِي فَإِنَّ حَبْلَ رَجَائِي فِيكَ مُتَّصِل ... بِحُسْنِ صُنْعِكَ مَقْطُوعًا عَنْ النَّاسِ آخر: ... إِنَّ الْقَنَاعَةَ كَنْزٌ لَيْسَ بِالْفَانِي ... فَاغْنَمْ أَُخَيَّ هُدِيتَ عَيْشَهَا الْفَانِ وَعِشْ قَنُوعًا بِلا حِرْصٍ وَلا طَمَعٍ ... تَعِشْ حَمِيدًا رَفِيعَ الْقَدْرِ وَالشَّانِ لَيْسَ الْغَنِيُّ كَثِيرَ الْمَالِ يَخْزُنَهُ ... لِحَادِثِ الدَّهْرِ أَوْ لِلْوَارِثِ الشَّانِي يُجَمِّعُ الْمَالَ مِنْ حِلٍّ وَمِنْ شُبَهٍ ... وَلَيْسَ يُنْفِقُ فِي بِرٍّ وَإِحْسَانٍ يَشْقَى بِأَمْوَالِهِ قَبْلَ الْمَمَاتِ كَمَا ... يَشْقَى بِهَا بَعْدَه فِي عُمْرِهِ الثَّانِي إِنَّ الْغَنِيَّ غَنِيُّ النَّفْسِ قَانِعُهَا ... مُوَفَّرُ الْحَظِّ مِنْ زُهْدٍ وَإِيمَانِ بَرٌّ كَرِيمٌ سَخِيُّ النَّفْسِ يُنْفِقُ مَا ... حَوَتْ بَدَاهُ مِنَ الدُّنْيَا بِإِيقَانِ مُنَوَّرُ الْقَلْبِ يَخْشَى اللهَ يَعْبُدُهُ ... وَيَتَّقِيهِ بِإِسْرَارِ وَإِعْلانِ مُوَفَّقٌ رَاسِخٌ فِي الْعِلْمِ مُتَّبِعٌ ... إِثَرَ الرَّسُولِ بِإِخْلاصِ وَإِحْسَانِ آخر: ... إِنْ كُنْتَ تَرْجُو اللهَ فَاقْتَنِعْ بِهِ ... فَعِنْدَهُ الْفَضْلُ الْكَثِيرُ الْغَزِيرْ مَنْ ذَا الَّذِي تَلْزَمُهُ فَاقَةٌ ... وَذُخْرُهُ اللهُ الْغَنِيُّ الْكَبِيرْ (فَصْلٌ) : قال ابن القيم رحمه الله: من فوائد محاسبة النفس أنه يعرف بذلك حق الله تعالى، ومن لم يعرف حق الله تعالى عليه فإن عبادته لا تكاد تجدي عليه، وهي قليلة المنفعة جدًا. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج حدثنا جرير بن حازم عن وهب قال: بلغني أن نبي الله موسى عليه السلام مر برجل يدعو ويتضرع فقال:

يا رب ارحمه، فإني قد رحمته، فأوحى الله تعالى إليه: «لو دعاني حتى تنقطع قواه ما استجبت له حتى ينظر في حقي عليه» . فمن أنفع ما للقلب النظر في حق الله على العباد، فإن ذلك يورثه مقت نفسه، والإزراء عليها، ويخلصه من العجب ورؤية العمل ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدي ربه، واليأس من نفسه. وإن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته، فإن من حقه أن يطاع ولا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر. فمن نظر في هذا الحق الذي لربه عليه، علم علْم اليقين أنه غير مؤد له كما ينبغي وأنه لا يسعه إلا العفو ومغفرة، وأن إن أحيل على عمله هلك. فهذا محل أهل المعرفة بالله تعالى وبنفوسهم، وهذا الذي أيأسهم من أنفسهم وعلق رجائهم كله بعفو الله ورحمته. وإذا تأملت حال أكثر الناس وجدتهم بضد ذلك، ينظرون في حقهم على الله ولا ينظرون في حق الله عليهم. ومن هنا انقطعوا عن الله وحجبت قلوبهم عن معرفته والشوق إلى لقائه، والتنعم بذكره، وهذا غاية جهل الإنسان بربه وبنفسه. شِعْرًا: شِعْرًا: ... مَا أَنْعَمَ الْعِيشَةُ لَوْ أَنَّ الْفَتَى ... يُلْهَمُ تَسْبِيحًا لِخَلاقِ الْوَرَى وَقَدْ تَحَلَّى بِالسَّخَاءِ وَالتُّقَى ... لِيَقْتَدِي مِنْ قَصْدُهُ سُبْلَ الْهُدَى فمحاسبة النفس هو نظر العبد في حق الله أولاً، ثم نظره هل قام به كما ينبغي ثانيًا. وأفضل الفكر الفكرُ في ذلك، فإنه يسير القلب إلى الله ويطرحه بين يديه ذليلاً خاضعًا منكسرًا كسرًا فيه جبره، ومفتقرًا فقرًا فيه غناه، وذليلاً ذلاً فيه عزه،

من فوائد محاسبة النفس

ولو عمل الأعمال ما عساه أن يعمل فإنه إذا فاته هذا فالذي فاته من البر أفضل من الذي أتى، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) : وقال رحمة الله تعالى: فائدة قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده، وهذا كما أنه في الذوات والأعيان، فكذلك هو في الاعتقادات والإرادات. فإذا كان القلب ممتلئًا بالباطل باعتقاده ومحبته لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضوع كما أن اللسان إذا اشتغل بالتكلم بما لا ينفع لم يتمكن صاحبه من النطق بما ينفعه إلا إذا فرغ لسانه من النطق بالباطل. وكذلك الجوارح إذا اشتغلت بغير الطاعة لم يمكن شغلها بالطاعة إلا إذا فرغها من ضدها. فكذلك المشغول بمحبة غير الله وإرادته والشوق إليه والأنس به لا يمكن شغله بمحبة الله وإرادته وحبه والشوق إلى لقائه إلا بتفريغه بغيره. ولا حركة اللسان بذكره والجوارح بخدمته إلا إذا فرغها من ذكر غيره وخدمته. فإذا امتلأ القلب بالشغل بالمخلوق والعلوم التي لا تنفع لم يبق فيها موضوع للشغل بالله ومعرفة أسمائه وصفاته، وأحكامه. وسر ذلك في إصغاء القلب كإصغاء الأذن، فإذا أصغى إلى غير حديث الله لم يبق فيه إصغاء وفهم لحديثه، كما إذا مال إلى غير محبة الله لم يبق فيه ميل إلى محبته. فإذا نطق القلب بغير ذكره لم يبق فيه محل للنطق بذكره كاللسان. ولهذا في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرًا» . رواه مسلم وغيره. فبين أن الجوف يمتلئ بالشعر، فكذلك يمتلئ بالشبه والشكوك والخيالات، والتقديرات التي لا وجود لها، والعلوم التي لا تنفع، والمفاكهات والمضحكات والحكايات ونحوها.

إشغال الجوارح بطاعة الله

وإذا امتلأ القلب بذلك جاءته حقائق القرآن والعلم الذي به كماله وسعادته فلم تجد فيه فراغًا لها ولا قبولاً وجاوزته إلى محل سواه. كما إذا بذلت النصيحة لقلب ملآن من ضدها لا منفذ لها فيه فإنه لا يقبلها وتلج فيه لكن تمر مجتازة لا مستوطنة. وقال بعضهم: الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما، ولقي حكيم حكيمًا فقال له: لا رأك الله عندما نهاك ولا فقدك حيث أمرك. وقال بشر بن الحارث: بي داء ما لم أعالج نفسي لا أتفرغ لغيري فإذا عالجت نفسي تفرغت لغيري. وقال: أنا أكره الموت ولا يكره إلا مريب وسأله بعضهم موعظة فقال: ما تقول فيمن القبر مسكنه والصراط جوازه والقيامة موقفه والله مسائله فلا يعلم إلى جنة يصير فينهى أو إلى نار فيعزى فوا طول حزناه وأعظم مصيبتاه زاد البكاء فلا عزاء واشتد الخوف فلا أمن. شِعْرًا: ... تَعَافُ الْقَذَا فِي الْمَاءِ لا تَسْتَطِيعُهُ ... وَتَكْرَعُ فِي حَوْضِ الذُّنُوبِ فَتَشْرَبُ وَتُؤْثِرُ فِي أَكْلِ الطَّعَامِ أَلَذَّهُ ... وَلا تَذْكُرُ الْمُخْتَارَ مِنْ أَيْنَ تَكْسَبُ وَتَرْقُدُ يَا مِسْكِينَ فَوْقَ نَمَارِقٍ ... وَفِي حَشْوِهَا نَارٌ عَلَيْكَ تَلَهَّبُ فَحَتَّى مَتَى لا تَسْتَفِيقُ جَهَالَةٍ ... وَأَنْتَ ابنُ سَبْعِينٍ بِدِينِكَ تَلْعَبُ ولقد كان بعض الصحابة يؤدي ما عليه من العبادة ولم يكن يكثر من الاستغفار في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم لما لحق الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى أكثر الصحابي من الاستغفار، فسأله الصحابة في ذلك فقال: لقد كنت آمنًا من العذاب في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلما توفي لم يبق إلا الأمان الثاني وهو الاستغفار. يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} . وقال عامر بن عبد الله بن قيس: لو أن الدنيا كانت لي بحذافيرها ثم أمرني

قال بعضهم صلاح الأمة وفسادها بصلاح العلماء وفسادهم وبعده قصيدة

الله تعالى بإخراجها كلها لأخرجتها بطيب نفس، وكلن يقول: كم من شيء كنت أحسنه أود الآن إني لا أحسنه وما يغني ما أحسن من الخير إذا لم أعمل به. وكان يقول: (من جهل العبد أن يخاف على الناس من ذنوبهم ويأمن هو على ذنوب نفسه) . ويقول بعضهم: طوبى لمن كان صمته تفكرًا وكلامه ذكرًا ومشيه تدبرًا وكان سفيان الثوري يقول: إذا فسد العلماء فمن بقي في الدنيا يصلحهم ثم ينشد: يَا مَعْشَرُ الْعُلَمَاءِ يَا مِلْحَ الْبَلَدْ ... مَا يُصْلِحُ الْمِلْحَ إِذَا الْمِلْحَ فَسَدْ آخر: ... وَرَاعِ الشَّاةَ يَحْمِي الذِّئْبَ عَنْهَا ... فَكَيْفَ إِذْ الذِّئَابُ لَهَا رُعَاةُ بِالْمِلْحِ يَصْلَحُ مَا يَخْشَى تَغَيُّرُهُ ... فَكَيْفَ بِالْمِلْحِ إِنْ حَلَّتْ بِهِ الْغِيَرُ والله أعلم. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) : وقال بعض العلماء: إخواني اعلموا أن صلاح الأمة وفسادها بصلاح العلماء وفسادهم وأن من العلماء رحمة على الناس يسعد من اقتدى بهم وأن من العلماء فتنة على الأمة يهلك من تأسى بهم. فالعالم إذا كان عاملاً برضوان الله مؤثرًا للآخرة على الدنيا فأولئك خلفاء الرسل عليهم السلام والنصحاء للعباد والدعاة إلى الله فيسعد من أجابهم ويفوز من اقتدى بهم ولهم مثل أجر المتأسين بهم. وتلا بعض أهل العلم قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} . فقال: هذا حبيب الله هذا ولي الله هذا صفوة الله هذا خيرة الله هذا أحب أهل الأرض إلى الله أجاب الله في دعوته ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته وعمل صالحًا في إجابته وقال: إنني من المسلمين إنه خليفة الله.

يا قوم فبمثل هذا العالم اقتدوا به وتأسوا تسعدوا ألا أن صنفًا من العلماء رضوا بالدنيا عوضًا عن الآخرة فآثروها على جوار الله تعالى ورغبوا في الاستكثار منها وأحبوا العلو فيها. فتأسى بهم عالم من الناس وافتتن بهم خلق كثير أولئك أسوء فتنة على الأمة، تركوا النصح للناس كيلا يفتضحوا عندهم، لقد خسروا وبئسما اتجروا واحتملوا أوزارهم مع أوزار المتأسين بهم فهلكوا وأهلكوا أولئك خلفاء الشيطان ودعاة إبليس أقل الله في البرية أمثالهم. وقال بعض العلماء: من ازداد بالله علمًا فازداد للدنيا حبًا ازداد من الله بعدًا وقال: إذا كان العالم مفتونًا بالدنيا راغبًا فيها حريصًا عليها فإن في مجالسته لفتنة تزيد الجاهل جهلاً وبفتن العالم يزيد الفاجر فجورًا ويفسد قلب المؤمن. شِعْرًا: ... أُوصِيكُمُ يَا مَعْشَرَ الإِخْوَانِ ... عَلَيْكِمْ بِطَاعَةِ الدَّيَّانِ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُهْمِلُوا أَوْقَاتَكُمْ ... فَتَنْدَمُوا يَوْمًا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَإِنَّمَا غَنِيمَةُ الإِنْسَانِ ... شَبَابُهُ وَالْخُسْرُ فِي التَّوَانِي مَا أَحْسَنَ الطَّاعَةَ لِلشُّبَّانِ ... فَأَسْعَوْا لِتَقْوَى اللهِ يَا إِخْوَانِي وَأَعْمِرُوا أَوْقَاتَكُمْ بِالطَّاعَةَ ... وَالذِّكْر كُلَّ لَحْظَةٍ وَسَاعَةْ وَمَنْ تَفُتْهُ سَاعَةْ فِي عُمْرِهِ ... تَكُنْ عَلَيْهِ حَسْرَةٌ فِي قَبْرِهِ وَمَنْ يَكُنْ فَرَّطَ فِي شَبَابِهِ ... حَتَّى مَضَى عَجِبْتُ مِنْ تَبَابِهِ وَيَا سَعَادَةَ امْرِئٍ قَضَاهُ ... فِي عَمَلٍ يَرْضَى بِهِ مَوْلاهُ أَحَبَّ رَبِّي طَاعَةِ الشَّبَابِ ... يَا فَوْزَهُمْ بِجَنَّةِ الرِّضْوَانِ فَتُبْ إِلَى مَوْلاكَ يَا إِنْسَانُ ... مِنْ قَبْلِ أَنْ يَفُوتَكَ الأَوَانُ وَمَنْ يَقُلْ إِنِّي صَغِيرٌ أَصْبِرُ ... ثُمَّ أُطِيعُ اللهَ حِينَ أَكْبُرَ فَإِنْ ذَاكَ غَرَّهُ إِبْلِيسُ ... وَقَلْبُهُ مُغَلَّقٌ مَطْمُوسُ لا خَيْرَ فِيمَنْ لَمْ يَتُبْ صَغِيرَا ... وَلَمْ يَكُنْ بِعَيْبِهِ بَصِيرَا

مُجَانِبًا لِلإِثْمِ وَالْعِصْيَانِ ... مُخَالِفًا لِلنَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ مُلازِمًا تِلاوَةَ الْقُرْآنِ ... مُسْتَعْصِمًا بِالذِّكْرِ مِنْ نِسْيَانِ مُرَاقِبًا للهِ فِي الشُّؤُونِ ... مُحَاذِرًا مِنْ سَائِرِ الْفُتُونِ مُجَانِبًا رَذَائِلَ الأَخْلاقِ ... مُجَافِيًا كُلا عَدَا الْخَلاقِ مُحَارِبًا لِنُزْعَةِ الضَّلالِ ... وَصَوْلَةِ الأَهْوَاءِ وَسُوءِ الْحَالِ فَإِنْ أَرَدْتَ الْفَوْزَ بِالنَّجَاةِ ... فَاسْلُكْ سَبِيلَ الْحَقِّ وَالْهُدَاةِ يَا مَنْ يَرُومُ الْفَوْزَ فِي الْجَنَّاتَ ... بِالْمُشْتَهَى وَسَائِرِ اللَّذَّاتِ انْهَضْ إِلَى السَّجَدَاتِ فِي الأَسْحَارِ ... وَاحْرِصْ عَلَى الأَوْرَادِ وَالأَذْكَارِ وَاحْذَرْ رِيَاءَ النَّاسِ فِي الطَّاعَاتِ ... فِي سَائِرِ الأَحْوَالِ وَالأَوْقَاتِ وَاخْتَرْ مِنَ الأَصْحَابِ كُلَّ مُرْشِدِ ... إِنَّ الْقَرِينَ بِالْقَرِينَ يَقْتَدِي وَصُحْبَةُ الأَشْرَارِ دَاءٌ وَعَمَى ... تَزِيدُ فِي الْقَلْبِ السَّقِيمَ السَّقَمَا فَإِنْ تَبِعْت سُنَّةَ النَّبِي ... فَاحْذَرْ قَرِينَ السُّوءِ وَالدَّنِي وَاخْتَرْ مِنَ الزَّوْجَاتِ ذَاتِ الدِّينِ ... وَكُنْ شُجَاعًا فِي حِمَى الْعَرِينِ وَزَوِّدْ الأَوْلادَ بِالآدَابِ ... تَحْفَظْ قُلُوبَهُم مِن الأَوْصَابِ وَهَذِّبِ النُّفُوسَ بِالْقُرْآنِ ... وَلا تَدَعْهَا نُهْبَةَ الشَّيْطَانِ وَاحْرِصْ عَلَى مَا سُنَّةُ الرَّسُولُ ... فَهُوَ الْهُدَى وَالْحَقُّ إِذَا أَقُولُ دَعْ عَنْكَ مَا يَقُولُهُ الضُّلالُ ... فَفِيهِ كُلَّ الْخُسْرِ وَالْوَبَالُ وَأَصْدَقُ الْحَدِيثِ قَوْلُ رَبِّنَا ... وَخَيْرُ هَدْيِ اللهِ عَنْ نَبِيِّنَا يَا أَيُّهَا الْغَفْلانُ عَنْ مَوْلاهُ ... انْظُرْ بِأَيِّ سَيِّءٍ تَلْقَاهُ أَمَا عَلِمْتَ الْمَوْتَ يَأْتِي مُسْرِعًا ... وَلَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى وَلَيْسَ لِلإِنْسَانِ مِنْ بَعْدِ الأَجَلْ ... إِلا الَّذِي قَدَّمَهُ مِنَ الْعَمَلْ فَبَادِرِ التَّوْبَةَ فِي إِمْكَانِهَا ... مِنْ قَبْل أَنْ تُصَدَّ عَنْ إِتْيَانِهَا

.. يَا أَيُّهَا الْمَغْرُورُ مَا هَذَا الْعَمَلْ ... إِلَى مَتَى هَذَا التَّرَاخِي وَالْكَسَلْ لَوْ يَعْلَمُ الإِنْسَانُ قَدْرَ مَوْتِهِ ... مَا ذَاقَ طُولَ الدَّهْرِ طَعْمَ قُوتِهِ مَا لِي أَرَاكَ لَمْ تُفِدْ فِيكَ الْعِبَرْ ... وَيْحَكَ هَذَا الْقَلْبُ أَقْسَى مِنْ حَجَرْ وَأَفْلَسُ النَّاسِ طَوِيلُ الأَمَلِ ... مُضَيِّعُ الْعُمْرِ كَثِيرِ الْخَطَلِ نَهَارُهُ مُمْضِيهِ فِي الْبَطَالَةْ ... وَلَيْلَهُ فِي النَّوْمِ بِئْسَ الْحَالَةْ ادْعُ لَنَا يَا سَامِعًا وَصِيَّتِي ... بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ مَعَ الْعَطِيَّةِ وَلا تُؤَاخِذْنَا عَلَى النِّسْيَانِ ... وَلا عَلَى الأَخْطَاءِ وَلا الْعِصْيَانِ يَا رَبِّ وَاحْفَظْنَا مِنَ الْفَتَّانِ ... وَلا تُذِقْنَا حُرْقَةَ النِّيرَانِ يَا رَبِّ وَانْصُرْنَا عَلَى الأَعْدَاءِ ... وَاحْمِ الْحِمَى مِنْ هِيشَةِ الْغَوْغَائِي وَدِينَكَ احْفَظْهُ مَعَ الأَمَانِ ... لِلأَهْلِ فِي الأَقْطَارِ وَالأَوْطَانِ وَالْحَمْدُ للهِ عَلَى الْخِتَامِ ... وَالشُّكْرُ للهِ عَلَى الإِنْعَامِ مَا أَعْظَمُ الإِنْعَامَ مِنْ مَوْلانَا ... وَأَجْزَلَ الإِفْضَالُ إِذْ هَدَانَا لِنِعْمَةِ الإِيمَانِ وَالإِسْلامِ ... وَالاقْتِدَاءِ بِسَيِّدِ الأَنَامِ ثُمَّ صَلاةُ اللهِ وَالسَّلامُ ... مَا نَاحَ طَيْرُ الأيْكِ وَالْحَمَامِ عَلَى النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى الْبَشِيرِ ... الْهَاشِمِي الْمُجْتَبِي النَّذِيرِ وَآلِهِ مَا انْبَلَجَ الصَّبَاحُ ... وَصَحْبَهِ مَا هَبَّتِ الرِّيَاحُ اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا يا مولانا ذكرك وشكرك وآمنا من عذابك يوم تبعث عبادك، اللهم يا عالم الخفيات ويا سامع الأصوات ويا باعث الأموات ويا مجيب الدعوات ويا قاضي الحاجات يا خالق الأرض والسماوات أنت الله الأحد لصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد الوهاب الذي لا يبخل والحليم الذي لا يعجل لا راد لأمرك ولا معقب لحكمك نسألك أن تغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

آثار تربية الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه

(فَصْلٌ) وحسبك من آثار تربية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه على قوة الثقة بالله وحسن الظن به والتوكل عليه والزهد في الدنيا ما يتجلى بأكمل معانيه في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من الصحابة. أما أبو بكر فجاء بماله كله يكاد أن يخفيه من نفسه حتى دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: «ما خلفت وراءك لأهلك يا أبا بكر» . فقال: عدة الله وعدة رسوله فبكى عمر رضي الله عنه وقال: بأبي أنت وأمي يا أبا بكر والله ما استبقنا إلى باب خير إلا كنت سابقًا، وجاء عمر بنصف ماله حتى دفعه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: «ما خلفت وراءك لأهلك يا عمر» . قال: خلفت نصف مالي لهم. رواه ابن أبي حاتم من حديث عامر الشعبي وعن عبد الرحمن بن خباب قال: شهدت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يحث على جيش العسرة. فقال عثمان بن عفان: يا رسول الله علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله ثم حض على الجيش فقال عثمان: علي ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: «ما على عثمان ما عمل بعد هذا» . أخرجه الترمذي. وعن عبد الله بن الصامت قال: كنت مع أبي ذر رضي الله عنه فخرج عطاؤه ومعه جارية له قال: فجعلت تقضي حوائجه ففضل معها سبعة فأمرها أن تشتري بها فلوسًا قال: قلت لو أخرجته للحاجة تنوبك أو للضيف ينزل بك قال: إن خليلي عهد لي أن أيما ذهب أو فضة أوكي عليه فهو جمر على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله عز وجل. رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «إني لألج هذه الغرفة ما ألجها إلا خشية أن يكون فيها مال فأتوفى ولم أنفقه» . رواه الطبراني في الكبير. وروي أن عمر رضي الله عنه أرسل إلى زينب بنت جحش بعطائها فقالت: ما هذا؟ قالوا: أرسل إليك عمر بن الخطاب قالت: غفر الله له ثم سلت سترًا لها فقطعته وجعلت العطاء صررًا وقسمته في أهل بيتها ورحمها وأيتامها ثم رفعت يديها وقالت: اللهم لا يدركني عطاء عمر بعد عامي هذا فكانت أول نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحوقًا به. وأخرج أبو نعيم في الحلية عن سعيد بن عبد العزيز قال: كان للزبير بن العوام رضي الله عنه ألف مملوك يؤدون إليه الخراج فكان يقسمه كل ليلة ثم يقوم إلى منزله وليس معه شيء. وأخرج الحاكم عن أم بكر بنت المسور أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه باع أرضًا له بأربعين ألف دينار فقسمها في بني زهرة وفقراء المسلمين والمهاجرين وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فبعث إلى عائشة رضي الله عنها بمال من ذلك فقالت: من بعث هذا المال قلت: عبد الرحمن بن عوف. قال: وقص القصة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحنو عليكن من بعدي إلا الصابرون سقى الله عوف من سلسبيل الجنة» . قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وعن نافع أن معاوية رضي الله عنه بعث إلى ابن عمر مائة ألف فما حال الحول وعنده منها شيء. وعن أيوب بن وائل الراسبي قال: قدمت المدينة فأخبرني رجل جار لابن عمر أنه أتى ابن عمر أربعة آلاف من قبل معاوية وأربعة آلاف من قبل إنسان آخر وألفان من قبل آخر وقطيفة.

ونماذج من كرمهم وجودهم

فجاء إلى السوق يريد علفًا لراحلته بدرهم نسيئة فقد عرفت الذي جاءه فأتيت سريته فقلت: إني أريد أن أسألك عن شيء أحب أن تصدقيني قلت: أليس قد أتي عبد الرحمن أربعة آلاف من قبل معاوية وأربعة آلاف من قبل إنسان آخر وألفان من آخر وقطيفة. قالت: بلى قلت: رأيته يطلب علفًا بدرهم نسيئة قالت: ما بات حتى فرقها فأخذ القطيفة فألقاها على ظهره ثم ذهب فوجهها ثم جاء فقلت: يا معشر التجار ما تصنعون بالدنيا وابن عمر أتته البارحة عشرة آلاف درهم وضح فأصبح اليوم يطلب لراحلته علفًا نسيئة بدرهم. وكانت زوجاتهم رضي الله عنهم زوجات صالحات تعينهم على تنفيذ المشاريع الخيرية فهذا أبو الدحداح لما نزل قوله تعالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} . قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله وإن الله ليريد منا القرض؟ قال: «نعم يا أبا الدحداح» . فقال: أرني يدك يا رسول الله فناوله - صلى الله عليه وسلم - يده الكريمة فقال: اشهد يا رسول الله أني قد أقرضت ربي حائطي. أي البستان وكان له بستان فيه ستمائة نخلة وفي البستان زوجته أم الدحداح وأولاده يسكنونه. ثم جاء إلى البستان فنادى زوجته يا أم الدحداح قالت: لبيك. قال: أخرجي أنت وأولادك فقد أقرضت ربي عز وجل حائطي فشجعته ونشطته وقالت: ربح بيعك ثم نقلت متاعها وأولادها رضي الله عنهما. فتأمل قوة اليقين فيما عند الله كيف تعمل وتأمل موقف زوجته من عمله هذا. ولو كانت من نساء الزمان لقالت: أنت مجنون وأقلقت راحته وألبت عليه أولاده وأمه وأباه وقالت: خذوا على يديه. نسأل الله العافية. وهذا عثمان بن عفان ترد عليه عير له من الشام في وقت نزل فيه البرح

بالمسلمين من الجدب والقحط فإذا هي ألف بعير مسوقة تحمل برًا وزيتًا وزبيبًا. فجاءه التجار وقالوا: بعنا من هذا الذي وصل إليك فإنك تعلم ضرورة الناس فيقول حبًّا وكرامة: كم تربحوني على شرائي فيجيبون قائلين الدرهم درهمين فيقول: أعطيت أكثر من هذا فيقولون: يا أبا عمر، وما بقى في المدينة تجار غيرنا وما سبقنا إليك أحد فمن الذي أعطاك. فيجيب إن الله أعطاني بكل درهم عشرة أعندكم زيادة فيقولون: لا، فيشهد الله على أن هذه وما حملت صدقة لله على المساكين والفقراء من المسلمين، فيا ليت أغنياء هذا الزمن تنسخوا من الزكاة فقط ولكن هيهات أن يتغلبوا على النفس والشيطان والدنيا والهوى. اللهم اختم بالأعمال الصالحات أعمارنا وحقق بفضلك آمالنا وسهل لبلوغ رضاك سبلنا وحسن في جميع الأحوال أعمالنا يا منقذ الغرقى ويا منجي الهلكى ويا دائم الإحسان أذقنا برد عفوك وأنلنا من كرمك وجودك ما تقر به عيوننا من رؤيتك في جنات النعيم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) وهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما أصاب أرضًا بخيبر أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأمره فيها فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضًا بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عني منه فما تأمرني قال: «إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها» . قال: فتصدق بها عمر غير أنه لا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب. قال: فتصدق بها عمر في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل

من أخلاق السلف إخراج الطيب لله

ولضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقًا غير متمول فيه. متفق عليه. وهذا أبو بكر رضي الله عنه كان له يوم أسلم أربعون ألف درهم مدخرة من ربح تجارته وقد ربح الكثير من التجارة بعد الإسلام فلما هاجر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن قد بقي له من كل مدخره سوى خمسة آلاف درهم. لقد أنفق ماله المدخر في افتداء الضعفاء من الموالي المسلمين الذين كانوا يذوقون العذاب ألوانًا من ساداتهم الكفار كما أنفقه في بر الفقراء والمعوزين، فليعتبر بذلك معشر الحراس للأموال. وقد حدث أن جاء عامل عمر بالبحرين أبو هريرة بمال كثير وروايته: قدمت من البحرين بخمسمائة ألف درهم فأتيت عمر بن الخطاب مساء فقلت: يا أمير المؤمنين اقبض هذا المال. قال: وكم هو؟ قلت: خمسمائة ألف درهم. قال: وتدري كم خمسمائة ألف درهم؟ قلت: نعم مائة ألف خمس مرات. قال: أنت ناعس أذهب الليلة فبت حتى تصبح. فلما أصبحت أتيته فقلت: اقبض مني هذا المال؟ قال: وكم هو؟ قلت: خمسمائة ألف درهم. قال: أمن طيب هو؟ قلت: لا أعلم إلا ذاك. فقال عمر رضي الله عنه: أيها الناس إنه قد جاءنا مال كثير فإن شئتم أن نكيل لكم كلنا وإن شئتم أن نعد لكم عددنا وإن شئتم أن نزن لكم وزنا. فقال رجل من القوم: يا أمير المؤمنين دون الدواين يعطون عليها فاشتهى عمر ذلك ووزعها على المسلمين كلها. وذكر بعض المفسرين أن سليمان عليه السلام غزا أهل دمشق ونصيبين فأصاب منهم ألف فرس فصلى الظهر وقعد على كرسيه وهي تعرض عليه فعرض عليه منها تسعمائة فرس فتنبه لصلاة العصر فإذا الشمس قد غربت

الصحابة ينفقون ما حصل بأيديهم من المال حال وصوله لثقتهم بالله الرزاق ذو القوة المتين

وفات وقت الصلاة ولم يخبروه بذلك هيبة له فاغتنم لذلك وقال: ردوها علي فاقبل عليها فضرب سوقها وأعناقها بالسيف تقربًا إلى الله وطلبًا لمرضاته حيث اشتغل بها عن طاعة الله. وكان ذلك مباحًا له وبقي منها مائة فرس فلما عقرها لله تعالى أبدله الله تعالى خيرًا منها وأسرع وهي الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب تجري بأمره كيف شاء وإليه يشير قوله تعالى: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} . شِعْرًا: ... لا أَجْعَلُ الْمَالَ لِي رَبًا يُصرِفُنِي ... لا بَلْ أَكُونُ لَهُ مَوْلاً أُصَرّفُهُ مَا لِي مِنَ الْمَالِ إِلا مَا تَقَدَّمَنِي ... فَذَاكَ لِي وَلِغَيْرِي مَا أُخَلِّفُهُ آخر: ... وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَالِ لَوْلا امْتِهَانُهُ ... وَبَيْنَ الْحَصَى الْمَجْمُوع أَوْ كُثُبِ الرَّمْلِ آخر: ... تَمَتَّعْ بِمَالِكَ قَبْلَ الْمَمَاتِ ... وَإِلا فَمَا النَّفْعُ إِنْ أَنْتَ مُتَّا شَقِيتَ بِهِ ثُمَّ خَلَّفْتَهُ ... لِغَيْرِكَ بَعْدَكَ فَسُحْقًا وَمَقْتَا آخر: ... فَإِنَّ مَسِيرِي فِي الْبِلادِ وَمَنْزِلِي ... هُوَ الْمَنْزِلُ الأَقْصَى إِذَا لَمْ أُقْرَّبِ وَلَسْتُ وَإِنْ أُذْنِيتُ يَوْمًا بِبَائِعٍ ... خَلاقِي وَلا دِينِي ابْتِغَاءِ الرَّغَائِبِ وروي أن عمر أرسل مع غلامه بأربعمائة دينار إلى أبي عبيدة بن الجراح وأمر الغلام بالتأني ليرى ما يصنع فيها فذهب بها الغلام إليه وأعطاها له وتأنى يسيرًا ففرقها أبو عبيدة كلها فرجع الغلام لعمر فخبره فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل فأرسلها معه إليه وأمره بالتأني كذلك ففعل ففرقها فاطلعت زوجته وقالت: نحن والله مساكين فأعطنا فلم يبق في الخرقة إلا ديناران فأعطاهما إياها. فرجع الغلام لعمر وأخبره فسر بذلك. وقال: إخوة بعضهم من بعض.

أبيات في الحث على الكرم والزهد

وروي أن زوجة طلحة بن عبيد الله رأت منه ثقلاً فقالت له: مالك لعله رابك منا شيء فنعتبك قال: لا ولنعم الحليلة للمسلم أنت ولكن اجتمع عندي مالي ولا أدري كيف أصنع قالت: وما يغمك منه أدع قومك فاقسمه بينهم فقال: يا غلام عليَّ بقومي. فكان جملة ما قسم أربعمائة ألف (400000) . وباع أرضًا من عثمان بسبعمائة فحملها عليه فلما جاء بها قال: إن رجلاً يبيت عنده هذه في بيته لا يدري ما يطرقه من أمر الله فبات ورسله تختلف في السكك سكك المدينة حتى أسحروا ما عنده منها فرقوها على الفقراء والمساكين. الصحابة رضي الله عنهم جمعوا كرمًا وشجاعة وخصالاً حميدة اقرأ آخر سورة الفتح وما ينطبق عليهم رضي الله عنهم ما يلي: شِعْرًا: ... فَهُمْ جَمَعُوا الْعَلْيَاءَ عِلْمًا وَعِفَّةً ... وَزُهْدًا وَجُودًا لا يَضِيقُ فُوَاقَا كَمَا جَمَعَ التُّفَّاحُ حُسْنًا وَنَظْرَةً ... وَرَائِحَةً مَحْبُوبَةً وَمَذَاقَا آخر: ... لَهُمْ سَحَائِبُ جُودٍ فِي أَنَامِلِهِمْ ... أَمْطَارُهَا الْفِضَّةُ الْبَيْضَاءُ وَالذَّهَبُ فِي الْعُسْرِ قَالُوا إِذَا أَيْسَرْنَ ثَانِيةِ ... قَصَّرْنَ عَنْ بَعْضِ مَا نُعْطِي وَمَا نَهَبُ حَتَّى إِذَا عَادَ أَيَّامُ الْيَسَارَ لَهُمْ ... رَأَيْتَ أَمْوَالَهُمْ فِي النَّاسِ تُنْتَهَبُ آخر: ... هُمُ الْقَوْمُ إِنْ قَالُوا أَصَابُوا وَإِنْ دُعُوا ... أَجَابُوا وَإِنْ أَعْطَوْا أَطَابُوا وَأَجْزَلُ وَمَا يُدْرِكُونَ التَّابِعُونَ فِعَالَهُمْ ... وَإِنْ أَحْسَنُوا فِي النَّائِبَاتِ وَأَجْمَلُوا آخر: ... وَلَيْسَ فِي الأُمَّةِ كَالصَّحَابَةْ ... بِالْفَضْلِ وَالْمَعْرُوفِ وَالإِصَابة آخر: ... وَمِنْ عَجَبٍ أَنَّ السُّيُوفَ لَدَيْهِمُ ... تَحِيضُ دِمَاءً وَالسُّيُوفُ ذُكُورُ وَأَعْجَبُ مِنْهَا أَنَّهَا فِي أَكُفِّهِمْ ... تَأَجَّجُ نَارًا وَالأَكُفُّ بُحُورُ وبعث عبد الله بن الزبير إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بمال في غرارتين ثمانون ألف ومائة ألف درهم وهي صائمة فجعلت تقسم بين الناس فأمست وما

عندها من ذلك درهم فقالت لجارتها: هلمي فطوري فجاءت بخبز وزيت فقالت لها الجارية: فما استطعت فيما قسمت في هذا اليوم أن تشتري لنا لحمًا بدرهم قالت: لا تعنفيني لو كنت ذكرتني لفعلت. هكذا يؤثر الإيمان العميق بما أخبر الله به وبرسوله. كان سهل بن عبد الله بن يونس التستري ينفق ماله في طاعة الله فجاءت أمه وإخواته إلى عبد الله بن المبارك رضي الله عنه يشكونه فقالوا: هذا لا يمسك شيئًا ونخشى عليه الفقر فأراد عبد الله أن يعينهم عليه. فقال له سهل: يا عبد الله أرأيت أن رجلاً من أهل المدينة اشترى ضيعة برستاق (أرض السواد) وهو يريد أن يتنقل إليها أكان يترك بالمدينة شيئًا وهو يسكن الرستاق. فقال عبد الله بن المبارك: خصمكم يعني أنه أراد أن يتحول على الرستاق لا يترك بالمدينة شيئًا فالذي يريد أن يتحول على الآخرة كيف يترك في الدنيا شيئًا. شِعْرًا: ... بِهَا لِيْلُ فِي الإِسْلامِ سَادُوا وَلَمْ يَكُنْ ... كَأَوَّلِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَوَّلُ هُمُ الْقَوْمِ إِنْ قَالُوا أَصَابُوا وَإِنْ دُعُوا ... أَجَابُوا وَإِنْ أَعْطُوا أَطَابُوا وَأجْزَلُوا ومن الشعر الذي لا ينطبق إلا على الصحابة رضي الله عنهم ما يلي: مَنْ تَلْقَ مِنْهُمْ تَقُلْ لاقِيتُ سَيِّدَهُمْ ... مِثْلَ النُّجُومِ الَّتِي يَسْرِي بِهَا السَّارِي لا يَنْطِقُونَ عَنِ الْفَحْشَاءِ إِنْ نَطَقُوا ... وَلا يُمَارُونَ إِنْ مَارَوْا بِإِكْثَارِ إِنْ يُسْأَلُوا الْخَيْرَ يُعْطُوهُ وَإِنْ خُبِرُوا ... فِي الْجُهْدِ أَدْرَكَ مِنْهُمْ طِيبَ أَخْبَارِ وَإِنْ تَوَدَّدْتَهُمْ لانُوا وَإِنْ شُهِمُوا ... كَشَفْتَ إِذْ مَارَ حَرْبٍ غَيْرَ إِغْمَارِ هَيْنُونَ لَيْنُونَ أَيْسَارٌ ذُوو حَسَبٍ ... سُوَّاسُ مَكْرُمَةً أَبْنَاءُ أَيْسَارِ آخر: ... بِهَا لِيلُ لَوْ عَايَنْتَ فَيْضَ أَكُفِّهَم ... لأَيْقَنْتَ أَنَّ الرِّزْقَ فِي الأَرْضِ وَاسِعُ فائدة سبب البخل ستة أشياء غلبة الشهوات (1) وطول الأمل (2) ورحمة الولد (3) وخوف الفقر (4) وقلة الثقة بمجيء الرزق (5) وعشق المال لذاته (6) فالبخل يتعب نفسه ويحرمها وينفع غيره كما قيل:

شِعْرًا: ... يُفْنِي الْبَخِيلُ بِجَمْعِ الْمَالِ مُدَّتَهُ ... وَلِلْحَوَادِثِ وَالْوُرَّاثِ مَا يَدَعُ كَدُودَةِ الْقِزِّ مَا تَبْنِيهِ يَهْدِمُهَا ... وَغَيْرُهَا بِالَّذِي تَبْنِيهِ يَنْتَفِعُ آخر: ... إِذَا كُنْتَ جماعًا لِمَالِكَ مُمْسِكًا ... فَأَنْتَ عَلَيْهِ خَازِنٌ وَأَمِينُ تُؤَدِّيهِ مَذْمُومًا إِلَى غَيْرِ حَامِدٍ ... فَيَأْكُلُهُ عَفْوًا وَأَنْتَ دَفِينُ آخر: ... وَذِي حِرْصٍ تَرَاهُ يَلِمُّ وَفْرًا ... لِوَارِثِهِ وَيَدْفَعُ عَنْ حِمَاهُ كَكَلْبِ الصَّيْدِ يُمْسِكُ وَهُوَ طَاوٍ ... فَرِيسَتَهُ لِيَأْكُلَهَا سِوَاهُ آخر: ... يَا لَهْفَ قَلْبِي عَلَى مَالٍ أُفَرِّقُهُ ... عَلَى الْمُقِلِّينَ مِنْ أَهْلِ الْمُرُوآتِ إِنَّ اعْتِذَارِي إِلَى مَنْ جَاءَ يَطْلُبُنِي ... مَا لَيْسَ عِنْدِي لِمَنْ إِحْدَى الْمُصِيبَاتِ آخر: ... قُلْ لِي بِرَبِّكَ مَاذَا يَنْفَعُ الْمَالُ ... إِنْ لَمْ يُزَيِّنْهُ إِحْسَانٌ وَإِفْضَالُ الْمَالُ كَالْمَاءِ إِنْ تُحْبَسْ سَوَاقِيَهُ ... يَأْسَنْ وَإِنْ يَجْر يَعْذُبْ مِنْهُ سِلْسَالُ تَحْيَا عَلَى الْمَاءِ أَغْرَاسُ الرِّيَاضِ كَمَا ... تَحْيَا عَلَى الْمَالِ أَرْوَاحٌ وَآمَالُ إِنَّ الثَّرَاءَ إِذَا حِيلَتْ مَوَارِدُهُ ... دُونَ الْفَقِير فَخَيْرٌ مِنْهُ إِقْلالُ اللهُ أَعْطَاكَ فَابْذُلْ مِنْ عَطِيَّتِهِ ... فَالْمَالُ عَارِيَةٌ وَالْعُمْرُ رَحَّالُ آخر: ... لَقَدْ دَرَجَ الأَسْلافُ مِنْ قَبْلِ هَؤُلاءِ ... وَهِمَّتُهمِ نِيلُ الْمَكَارِمِ وَالْفَضْلِ وَقَدْ رَفَضُوا الدُّنْيَا الْغُرُورَ وَمَا سَعَوْا ... لَهَا وَالَّذِي يَأْتِي يُبَادَرُ بِالْبَذْلِ فَقِيرُهُمْ حُرٌّ وَذُو الْمَالِ مُنْفِقٌ ... رَجَاءَ ثَوَابِ اللهِ فِي صَالِحِ السُّبْلِ لِبَاسُهُمْ التَّقْوَى وَسِيمَاهُمْ الْحَيَا ... وَقَصْدُهُمْ الرَّحْمَنُ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَقَالُهُمْ صِدْقٌ وَأَفْعَالُهُمْ هُدَىً ... وَأَسْرَارُهُمْ مَنْزُوعَةُ الْغِشِّ وَالْغِلِّ خُضُوعٌ لِمَوْلاهُمْ مُثُولٌ لِوَجْهِهِ ... قُنُوتٌ لَهُ سُبْحَانَهُ جَلَّ عَنْ مِثْلِ آخر: ... أَيَا نَفْسُ لِلْمَعْنَى الأَجَلِّ تَطَلَّبِي ... وَكُفِي عَنِ الدَّارِ الَّتِي قَدْ تَقَضَّتِ فَكَمْ أَبْعَدَتْ إِلْفًا وَكَمْ كَدَّرَتْ صَفًا ... وَكَمْ جَدَّدَتْ مِنْ تَرْحَةٍ بَعْدَ فَرْحَتِ فَلَوْ جُعِلَتْ صَفْوًا شُغِلْتُ بِحُبِّهَا ... وَلَمْ يَكُ فَرْقٌ بَيْنَ دُنْيَا وَجَنَّةِ

من أخلاق السلف توصية بعضهم بعضا بما يحبه الله

.. لَعُمْرُكَ مَا الدُّنْيَا بِدَارِ أَخِي حِجَا ... فَيَلْهُو بِهَا عَنْ دَارِ فَوْزٍ وَجَنَّةِ عَنِ الْمَوْطِنَ الأَسْنَى عَنِ الْقُرْبِ وَاللِّقَا ... عَنِ الْعَيْشِ كُلِّ الْعَيْشِ عِنْدَ الأَحِبَّةِ فَوَاللهِ لَوْلا ظُلْمَةُ لَمْ يَطِبْ ... لَكَ الْعَيْشُ حَتَّى تَلْتَحِقْ بِالأَحِبَّةِ اللهم انهج بنا مناهج المفلحين وألبسنا خلع الإيمان واليقين، وخصنا منك بالتوفيق المبين، ووفقنا لقول الحق وإتباعه وخلصنا من الباطل وابتداعه، وكن لنا مؤيدًا ولا تجعل لفاجر علينا يدا واجعل لنا عيشًا رغدًا ولا تشمت بنا عدوًا ولا حاسدًا، وارزقنا علمًا نافعًا وعملاً متقبلاً، وفهمًا ذكيًا صفيًا وشفًا من كل داء، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) : ومن أخلاقهم توصية بعضهم بعضًا بما يحبه الله ويرضاه من الأعمال الصالحة: ودع ابن عون رجلاً فقال له: عليك بتقوى الله فإن المتقي ليست عليه وحشة. وقال زيد بن أسلم: كان يقال من اتقى الله أحبه الناس وإن كرهوا. وقال الثوري لابن أبي ذئب: إن اتقيت الله كفاك الناس وإن اتقيت الناس لن يغنوا عنك من الله شيئًا. وكانت أعمالهم بعيدة عن الرياء عملاً بقوله تعالى في الصدقات {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ} ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) ، كان الربيع بن خيثٍم لا يطلع على عمله إلا أهل بيته ودخل عليه رجل وهو يقرأ في المصحف فغطاه بكمه. شِعْرًا: ... إِذَا وَاتَاكَ مِنْ مَوْلاكَ خَمْسٌ ... فَلا تَأْسَفْ عَلَى شَيْءٍ يَفُوتُ حِجىً وَسَلامَةٌ وَلِبَاسُ تَقْوَى ... وَدِينٌ غَيْرَ مَدْخُولٍ وَقُوتُ آخر: ... جَمَالُ أَخِي النُّهَى كَرَمٌ وَتَقْوَى ... وَلَيْسَ جَمَالهُ عَرْضًا وَطُولا وكان ميمون بن مهران يقول لأصحابه قولوا ما أكره في وجهي فإن

الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره وكان يقول يا أهل القرآن لا تتخذوا القرآن بضاعة تلتمسون به الربح في الدنيا اطلبوا الدنيا بالدنيا والآخرة بالآخرة. وبالتالي فإن الانهماك في الدنيا قد شمل أصناف الخلق لقلة معرفتهم بالله تعالى إذ لا يحب الله إلا من عرفه فكلما ازدادت معرفة العبد بربه ازداد حبه له، وكلما فكر في نعم الله عليه قوى حبه لربه، لأن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها. ولهذا قال الله تعالى {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أي إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية عندكم أولى من طاعة الله ورسوله ومن المجاهدة لأعلاء كلمة الله فانتظروا ماذا يحل بكم من عقابه ونكاله. ولهذا قال حتى يأتي الله بأمره وهذا وعيدٌ شديدٌ وتهديدٌ شنيعٌ للمنهمكين في طلب الدنيا المؤثرين لها ولأهلهم وقرابتهم وعشيرتهم على الله ورسوله والجهاد في سبيله أفلا يعتبر اللبيب وينظر كم خرمت أيدي المنون من قرون بعد قرون وكم غيرت الأرض ببلائها وكم غيبت في ترابها ممن عاشرت من صنوف المخلوقين. وما أكثر من أخذت الدنيا بقلبه وقالبه وصار عبدًا لها في ليله ونهاره ضاعت أوقاته النفيسة في الركض خلفها يجمعها لمن يخلفه عليها وصار هو بالحقيقة حارسًا خادمًا محاميًا بجازته وكسوته وسكناه فقط ولا شكر ولا ثناء ولا مروءة وتأمله وصفًا مطابقًا لأغنياء أهل هذا الزمن تكون بذلك مصدقًا متعجبًا وان كنت موفقًا قلت الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاهم، اللهم عافهم

مواعظ بليغة في المقارنة بين حالنا وحال السلف

ولا تبتلينا واستعملت ما عندك فيما يقرب إلى الله والدار الآخرة وسألت الله أن يثبتك على الإيمان وأن يزيغ قلبك بعد إذ هداك وأن يهب لك من لدنه رحمة وأن يهيئ لك من أمرك رشدًا. شِعْرًا: ... وَلا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا لِمَنْ يَكُنْ لَهُ ... مِن اللهِ فِي دَارِ الْمُقَامِ نَصِيبُ فَإِنْ تُعْجِبُ الدُّنْيَا رِجَالاً فَإِنَّهَا ... مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَالزَّوَال قَرِيبُ آخر: ... يُحْصِي الْفَتَى مَا كَانَ مِنْ نَفَقَاتِهِ ... وَيُضِيعُ مِنْ أَنْفَاسِهِ مَا أَنْفَقَا وَكَأَنَّمَا دُنْيَا ابْنِ آدَمَ عِرْسُهُ ... أَخَذَتْ جَمِيعَ تُرَاثِهِ إِذْ طَلَّقَا اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا يا مولانا ذكرك وشكرك وآمنا من عذابك يوم تبعث عبادك، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. «موعظة» : عباد الله نحن في زمن لا نسيء إذا عددنا أهله من ضعفاء المتدينين الذي غلبت عليهم المداهنة، والتملق، والكذب، راجع حال السلف المؤمن حقًا وانظر حالنا اليوم، تعجب من الفرق المبين. كان هذا المال بأيديهم بكثرةٍ، ومع ذلك لا يدور عليه الحول، لأنهم نصب أعينهم قوله تعالى: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} ، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} . مطمئنين على قوله تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} كانوا إذا وصل إليهم المال يصيبهم قلق حتى يتصدقوا به على حد. شِعْرًا: ... لأَشْكُرَنَّكَ مَعْرُوفًا هَمَمْتَ بِهِ ... إِنَّ اهْتِمَامَكَ بِالْمَعْرُوفِ مَعْرُوف وَلا أَذُمُّكَ إِنْ لَمْ يُمْضِهِ قَدَرٌ ... فَالرَّزْقُ بِالْقَدَرِ الْمَحْتُوم مَصْرُوفُ

آخر: ... لا تَيْأَسَنَّ إِذَا مَا ضِقْتَ مِنْ فَرَجٍ ... يَأْتِي بِهِ اللهُ فِي الرَّوْحَاتِ وَالدُّلَجِ وَإِنْ تَضَايَقَ بَابٌ عَنْكَ مُرْتَتِجٌ ... فَانْظُرْ لِنَفْسِكَ بَابًا غَيْرَ مُرْتَتِجِ فَمَا تَجَرَّعَ كَأْسَ الصَّبْرِ مُعْتَصِمٌ ... بِاللهِ إِلا أَتَاهُ اللهُ بِالْفَرَجِ آخر: ... قَالَتْ طُرَيْفَةُ لا تَبْقَى دَرَاهِمُنَا ... وَمَا بِنَا صَلَفٌ فِيهَا وَلا خَرَقُ لَكِنْ إِذَا اجْتَمَعَتْ يَوْمًا دَرَاهِمُنَا ... ظَلَّتْ إِلَى طُرُقِ الْمَعْرُوفِ تَسْتَبِقُ لا يَأْلَفُ الدِّرْهَمْ الْمَضْرُوبُ صُرَّتَنَا ... لَكِنْ يَمُرُّ عَلَيْهَا وَهُوَ مُنْطَلِقُ آخر: ... أَلَمْ تَرَى أَنَّ الْمَالَ يُهْلِكُ أَهْلَهُ ... إِذْ جَمَّ آتِيهِ وَسُدَّتْ طَرِيقُهُ وَمَنْ جَاوَزَ الْمَاءَ الْغَزِيرَ مَسِيلُهُ ... وَسُدَّتْ مَجَارِي الْمَاءِ فَهُوَ غَرِيقُهُ وجاء الإسلام ودار الندوة بيد حكيم بن حزام فباعها من معاوية بمائة ألف درهم فقال له عبد الله بن الزبير بعت مكرمة قريش، ذهبت المكارم إلا من التقوى يا ابن أخي إني اشتريت بها دارًا بالجنة أشهدك أني جعلت ثمنها في سبيل الله، تأمل سيرة الرجال الذين عرفوا الدنيا حقيقة لعلك تقتدي بهم فتربح الدنيا والآخرة. وكانوا إذا عرض لهم أحد وأبدى لهم احتياجه يرون غفلتهم عنه من النقائض والعيوب الفاحشات على حد قول الشاعر: وَتَرْكِي مُوَاسَاة الأَخِلاءِ بِالَّذِي ... تَنَالُ يَدِي ظُلْمٌ لَهُمْ وَعُقُوقُ وَإِنِّي لأَسْتَحِيي مِن اللهِ أَنْ أُرَى ... بِحَالِ اتِّسَاعٍ وَالصَّدِيقُ مُضَيَّقُ آخر: ... خَلِيلٌ أَتَانِي نَفْعُهُ وَقْتَ حَاجَتِي ... إِلَيْهِ وَمَا كُلُّ الأَخِلاءِ يَنْفَعُ آخر: ... يَرَى الْمَرْءُ أَحْيَانًا إِذَا قَلَّ مَالُهُ ... مِنَ الْخَيْرِ أَبْوَابًا فَلا يَسْتَطِيعُهَا وَمَا إِنْ بِهِ بُخْلٌ وَلَكِنَّ مَالَهُ ... يُقَصِّرُ عَنْهَا وَالْبَخِيلُ يُضِيعُهَا أين هذا وأين حالنا اليوم وقد بخلنا بحق المال الزكاة وهي حق الفقراء والمساكين..... الخ.

وكانوا إذا فاتتهم تكبيرة الإحرام مع الأمام ربما غشي عليهم من ألم هذا المصاب العظيم وكانوا يعزون من فاتته تكبيرة الإحرام ومن باب أولى وأحرى من فاتته الجماعة أو الجمعة. أين هذا من حالب مجتمعنا اليوم الذي ترى الكثير منهم يجافي عليه الباب ويشرب الشاي والدخان أبا الخبائث والناس يصلون. وكثير من الذين يصلون مع الجماعة تجدهم يحرصون على الإتيان إذا ظنوا أنها أقيمت الصلاة ويقصدون النقارين الذين لا يتركون في الصلاة ولا يطمئنون فيها ولا يتمكن المأموم من قراءة الفاتحة التي لا صلاة لمن لم يقرأ بِهَا ولا يتمكن من الإتيان بالتشهد كاملاً. فإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أنهم لا يفهمون الصلاة ولا المقصود منها ولو فهموها تماما لصارت قرة أعينهم ولا استراحوا بها واستعانوا بها على الدين والدنيا. وكانوا أي السلف ممن يحن إلى بيت الله يتمتعون به في كل عام، ولذلك تعد لأحدهم أربعين حجة، وأزيد، أين هذا ممن يسافرون على بلاد الكفرة بلاد الحرية محكمة القوانين أعداء الإسلام وأهله، ويوالونهم بل ويدرسون عليهم والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد تبرأ من المقيم بين أظهر المشركين إذا كان يقدر على الخروج من بين أظهرهم ولكن نسال اله العافية {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} . ومع ذلك يبعثرون الفلوس العظيمة، التي سيناقشون عنها داخلة وخارجة ضد ما عليه آباؤهم من هجران من جاء من بلاد الكفر غير مهاجرٍ قال - صلى الله عليه وسلم -: «أنا بريء من مسلم بين أظهر المشركين» . وقال: «من جامع المشركين وسكن معهم فإنه مثلهم» . بلغ يا أخي من يدرسون على الكفار والعياذ بالله.

وكان السلف يشتاقون إلى الصيام، وبعضهم يصومون ستة أيام من شوال، وثلاثة من كل شهر، ويوم الاثنين والخميس، وبعضهم يصوم كصيام داود عليه السلام، يوم يصوم ويوم يفطر. أما نحن فيا ليته يسلم لنا رمضان من المفسدات والمنقصات وهيهات، وكانت المساكن لا تهمهم يسكنون فيما تيسر. عن مالك بن دينار أنه رجلاً يبني دارًا وهو يعطي العمال الأجرة فمد يده فأعطاه درهمًا فطرح الدرهم في الطين فتعجب الرجل وقال: كيف تطرح الدرهم في الطين. فقال: أعجب مني أنت طرحت كل دراهمك في الطين يعني ضيعتها في البناء، ومر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالعلا بن زياد فرأى سعة داره فقال له ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج. وكان نوح عليه السلام في بيت من شعر ألف سنة فقيل له: يا رسول الله لو اتخذت بيتًا من طين تأوي إليه قال: أنا ميت فلم يزل فيه حتى فارق الدنيا. وقيل: إنه قال: بيت العنكبوت كثير من يموت. شِعْرًا: ... أَرَى الزُّهَّادَ فِي رَوْحٍ وَرَاحَةْ ... قُلُوبُهُمُ عَنْ الدُّنْيَا مُزَاحَةْ إِذَا أَبْصَرْتُهُمْ أَبْصَرْتَ قَوْمًا ... مُلُوكُ الأَرْضِ سِيمَتُهُمْ سَمَاحَةْ وقال أبو هريرة: بئس بيت الرجل المسلم بيت العروس يذكر الدنيا وينسى الآخرة، وكان لشقيق البلخي خص يكون هو ودابته فيه فإذا غزا هدمه وغزا رجع بناه. بلغ يا أخي أهل الفلل والعمائر وقل عن قريب ستسكنون في مسكن ثلاث أذرع فقط ويسد عليكم فيه. شِعْرًا: ... تَبْنِي الْمَنَازِلَ أَعْمَارٌ مُهَدَّمَةٌ ... مِنَ الزَّمَانِ بِأَنْفَاسٍ وَسَاعَاتِي

آخر: ... أَمَّا بُيُوتُكَ فِي الدُّنْيَا فَوَاسِعَةٌ ... فَلَيْتَ قَبْرَكَ بَعْدَ الْمَوْتِ يَتَّسِعُ السلف كانوا إذا سمعوا الموعظة، أو مروا بحدادٍ يوقد نارًا، صعقوا وربما مكثوا بلا وعي، أيامًا، أو أشهرًا متتالياتٍ، وقد سمعت بأناس قتلتهم المواعظ أما نحن فتتلى علينا الآيات من كتاب الله ولا كأنها مرت قلوبنا من الانهماك بالدنيا والغفلة أصبحت لا تؤثر فيها العظات. كانوا يتعاونون على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويلتفتون كتلة واحدة ويأخذون على يد السفيه أما نحن فنثبط ونقول لمن يريد المساعدة ما أنت بملزم اتركهم. السلف كانوا ينصحون أهل المعاصي، ويهجرونهم، إذا أصروا على المعاصي واو كانوا ممن لهم منزلة ومكانة في قلوب كثير من أهل الدنيا وكانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم وهممهم عالية وأنفسهم رفيعة لا يخشون إلا لله لا يتملقون ولا يداهنون ولا يخضعون غلا لله، قال بعضهم شِعْرًا: ... يَا مَنْ خَلا بِمَعَاصِي اللهِ فِي الظُّلَمِ ... فِي اللَّوْحِ يُكْتَبُ فِعْلَ السُّوءِ بِالْقَلَمِ بِهَا خَلَوْتَ وَعَيْنُ اللهِ نَاظِرَةُ ... وَأَنْتَ بِالإِثْمِ مِنْهُ غَيْرًُ مُكَتَتِمِ فَهَلْ أَمِنْتَ مِنَ الْمَوَلَى عُقُوبَتَهُ ... يَا مَنْ عَصَى اللهَ بَعْدَ الشَّيْبِ وَالْهَرَمِ آخر: ... قَالُوا نَرَى نَقَرًا عِنْدَ الْمُلُوكِ سَمَوْا ... وَمَا لَهُمْ هِمَّةٌ تَسْمُوا وَلا وَرَعُ وَأَنْتَ ذُو هِمَّةٍ فِي الْفَضْلِ عَالِيَةٍ ... فَلَمْ ظَمِئْتَ وَهُمَ فِي الْجَاهِ قَدْ كَرَعُوا فَقُلْتُ بَاعُوا نُفُوسًا وَاشْتَروا ثَمَنًا ... وَصُنْتُ نَفْسِي فَلَمْ أَخْضَعْ كَمَا خَضَعُوا قَدْ يُكْرَمُ الْقِرْدُ إِعْجَابًا بِخِسَّتِهِ ... وَقَدْ يُهَانُ لِفَرْطِ النَّخْوَةِ السَّبُعُ هذا الذي كان من سلفنا الكرام نحو أهل المعاصي والمنكرات. أما نحن فنتركهم ونقول ذنوبهم على جنوبهم، وربما جالسناهم،

ما يغلب على القلب واللسان عند مفارقة الدنيا

وواكلناهم، وعظمناهم، كما يسمع الكثير يقولون للمهاجر بالمعاصي كشارب الدخان، وحالق اللحية، ومستعمل آلات اللهو، يا معلم يا أستاذ يا سيد والواجب هجرة ليرتدع فإنا لله وإنا إليه راجعون. شِعْرًا: ... عُرَى الأَعْمَارِ يَعْلُوهَا انْفِصَامُ ... وَأَمْرُ اللهِ مَا مِنْهُ اعْتِصَامُ سَوَاءٌ فِي الثَّرَى مَلِكٌ وَعَبْدٌ ... ثِوَى النَّعْمَانُ حَيْثُ ثَوَى عِصَامُ أَعِدَّ لِمَوْقِفِ الْعَرْضِ احْتِجَاجًا ... لَعَلَّكَ لَيْسَ يَقْطَعُكَ الْخِصَامُ وَلا يَعْظُمْ سِوَى التَّفْرِيطِ خَطْبٌ ... عَلَيْكَ فَإِنَّهُ الْخَطْبُ الْعِظَامُ ابِنْ لِي هَلْ تُبَارِزْ أَمْ تُوَلِّي ... إِذَا شَرَكْتَ بِكَ الْحَرْبُ الْعُقَامُ وَلَمْ تَعْرَفْ وَقَدْ فَجِئَ انْتِقَالٌ ... أَغَفْرٌ لِلذُّنُوبِ أَمْ انْتِقَامُ تَوَقَّ مِن السِّفَار عَلَى اغْتِرَارِ ... فَلَيْسَ لِسَاكِنِي الدُّنْيَا مَقَامُ وَإِنَّ الْمَوْتَ لِلأَتْقَى شِفَاءٌ ... كَمَا أَنَّ الْحَيَاةَ لَهُ سَقَامُ حَذارِ حَذَارِ إِنَّكَ فِي بِحَارٍ ... مِنَ الدُّنْيَا طَمَتْ فَلَهَا التِّطَامُ وَتَعْلَمُ أَنَّهَا تُرْدِي يَقِينًا ... وَمِنَّا فِي غَوَارِبِهَا اقْتِحَامُ وَإِنَّ مِنَ الْعَجَائِبِ أَنْ أَمَرَّتْ ... مَوَارِدُهَا وَإِنْ كَثُرَ الزِّحَامُ آخر: ... هُوَ الزَّمَانُ فَلا عَيْشٌ يَطِيبُ بِهِ ... وَلا سُرُورٌ وَلا صَفْوٌ بِلا كَدَرِ يَجْنِي الْفَتَى فَإِذَا لِيمَتْ جَنَايَتُهُ ... أَحَال مِنْ ذَنْبِهِ ظُلْمًا عَلَى الْقَدَرِ وَكُلُّ يَوْمٍ مِنَ الأَيَّامِ يُعْجِبُنَا ... فَإِنَّمَا هُوَ نُقْصَانٌ مِنَ الْعُمُرِ والله أعلم. وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم. (فَصْلٌ) : ومن الناس من يغلب على قلبه عند الموت حب شهوة من شهوات الدنيا فيكون استغراق قلبه صارفًا وجهه إلى الدنيا. فإن اتفق قبض الروح حالة غلبة الدنيا فالأمر خطير لأن المرء يموت على ما عاش عليه كما انه يبعث على ما عاش عليه ولا يمكن اكتساب صفة أخرى للقلب تضاد الصفة التي غلبت عليه لأن ذلك بالأعمال الصالحات وقد انقطع

بالموت ولا أمل بالرجوع إلى الدنيا ليتدارك ذلك وعند ذلك تعظم الحسرة. ويشد الندم وكم غرت الدنيا من مخلد إليها وصرعت من مكب عليها فلم تنعشه من عثرته ولم تنقذه من صرعته ولم تشفه من ألمه ولم تبرئه من سقمه. شِعْرًا: ... بَلَى أَوْرَدَتْهُ بَعْدَ عِزٍّ وَمَنْعَةٍ ... مَوَارِدَ سُوءٍ مَا لَهُنَّ مَصَادِرُ فَلَمَّا رَأَى أَنْ لا نَجَاةَ وَأَنَّهُ ... هُوَ الْمَوْتُ لا يُنْجِيهِ مِنْهُ التَّحَاذُرُ تَنَدَّمَ إِذْ لَمْ تُغْنِ عَنْهُ نَدَامَةٌ ... عَلَيْهِ وَأَبْكَتْهُ الذُّنُوبُ الْكَبَائِرُ آخر: في التحذير عن الدنيا: أَمُّ دَفْرٍ فِي غُرُورٍ تَتْجَلي ... كَعَرُوسٍ زَيَّنَتْهَا مُسْرِفَاتْ تَخْدَعِ الْغِرَّ وَعَنْهَا يَرْعَوِي ... عَارِفٌ يَسْمُو بِإِشْرَاقِ الصِّفَاتْ ابْتَعدْ مَا عِشْتَ عَنْ زِينَاتِهَا ... وَالْزَمِ التَّقْوَى إِلَى يَوْمِ الْوَفَاةْ آخر: ... يسَرَّ الْفَتَى بِالْعَيْشِ وَهُوَ مُبِيدُهُ ... وَيَغْتَرُّ بِالدُّنْيَا وَمَا هِيَ دَارُهُ وَفِي عِبرِ الأَيَّامِ لِلْمَرْءِ وَاعِظٌ ... إِذَا صَحَّ فِيهَا فِكْرهُ وَاعْتِبَارُهُ فَلا تَحْسَبنْ يَا غَافِلُ الدَّهْرِ صَامِتًا ... فَأَفْصَحُ شَيْءٍ لَيْلُه وَنَهَارُهُ أَصِخْ لِمُنَاجَاةِ الزَّمَانِ فَإِنَّهُ ... سَيُغْنِيكَ عَنْ جَهْرِ الْمَقَالِ سِرَارُهُ أَدَارَ عَلَى الْمَاضِينَ كَأْسًا فَكُلُّهُمْ ... أُبِيحَتْ مَغَانِيهِ وَأَقْوَتْ دِيَارُهُ وَلَمْ يَحْمِهم مِنْ أَنْ يُسَقَّوْا بِكَأْسِهِمْ ... تَنَاوُشُ أَطْرَافِ الْقَنَا وَاشْتِجَارُهُ آخر: ... أَحَاطَتْ بِهِ أَحْزَانُهُ وَهُمُومُهُ ... وَأَبَلَسَ لَمَّا أَعْجَزَتْهُ الْمَقَادِرُ فَلَيْسَ لَهُ مِنْ كُرْبَةِ الْمَوْتِ فَارِجٌ ... وَلَيْسَ لَهُ مِمَّا يُحَاذِرُ نَاصِرُ وَقَدْ جَشَأَتْ خَوْفَ الْمَنِيَّةِ نَفْسُهُ ... تُرَدِّدُهَا مِنْهُ اللَّهَا وَالْحَنَاجِرُ ولهذا سببان أحدهما كثرة المعاصي والآخر ضعف الإيمان وذلك أن مقارفة المعاصي من غلبة الشهوات ورسوخها في اللب بكثرة الإلف والعادة، وكل ما ألفه الإنسان في عمره يعود ذكره إلى قلبه غالبا عند الموت.

فعليك بالإكثار من ذكر الله، وتلاوة كتابه، والاستغفار من الذنوب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم القوي العزيز. شِعْرًا: ... لَوْ يَعْلَمُ الْعَبْدُ مَا فِي الذِّكْرِ مِنْ شَرَفٍ ... أمِضَى الحَيَاةَ بَتَسْبِيْحٍ وَتَهْليْل آخر: ... وَمَنْ عَرَفَ الأَيَّامَ مَعْرِفِتْي بِهَا ... وَبِالنَّاسِ أَمْضَى وَقْتَهُ فِي الْعِبَادَةِ وَأَعْرَضَ عَنْ قِيلَ وَقَالٍ وَجَلْسَةٍ ... مَعَ الْمُشْغِلِي أَوْقَاتِهِمْ فِي الْمَضرَّةِ وَأَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ الإِلَهِ وَحَمْدِهِ ... وَشُكْرٍ لَهُ وَقْتَ الْهَنَا وَالْمَسَاءَةِ فإن كان ميله إلى الطاعات أكثر كان أكثر ما يحضره غالبا ذكر الله وطاعته وإن كان إلى المعاصي أكثر غلب ذكرها على قلبه عند الموت فربما تفيض روحه عند غلبة معصية من المعاصي فيتقيد بها قلبه ويذهل عن الله وحسن الظن به لاشتغاله بما تقيد به نسال الله العافية. فالذي غلبت طاعته على معاصيه بعيد عن هذا الخطر بإذن الله، والذي غلبت عليه المعاصي وكان قلبه بها افرح من الطاعات يخشى عليه وخطره عظيم جدا. ومن أراد السلامة من ذلك فلا سبيل له إلا المجاهدة والصبر طول العمر في فطام نفسه عن الشهوات محافظة على القلب منها ويكون طول عمره مواظبًا على الأعمال الصالحة مكثرًا لذكر الله قائمًا وقاعدًا ومضجعًا وماشيًا وان كان يحفظ القرآن وشيئًا منه فليداوم عليه بتدبرٍ وتفهمٍ ليستفيد حفظًا وفهمًا وأجرًا. وتخلية الفكر عن الشر عدة وذخيرة لحالة سكرات الموت وشدائده فإن المرء يموت على ما عاش عليه ويحشر على ما مات عليه. ويعرف ذلك أي أن ما ألفه طول عمره يعود ذكره عند الموت بمثالٍ، وهو أن الإنسان لا شك انه يري في منامه من الأحوال التي ألفها طول عمره

فالذي قضي عمره في طلب العلم يرى من الأحوال المتعلقة بالعلم والعلماء ورؤيته بعضهم وبعض كتب العلم والذي قضى عمره في النجارة يرى من الأحوال المتعلقة بها. والذي قضى عمره في الخياطة يرى من الأحوال المتعلقة بالخياطة والخياط والذي قضى حياته في الفلاحة يرى الأحوال المتعلقة بالفلاحة والفلاحين. والذي قضى عمره في الفساد والفجور يرى في منامه الأحوال المتعلقة بالفجور ويرى الفسقة مثله وأعمالهم من لواط أو زنا أو سرقة أو مسكر أو دخان أو نحو ذلك من المحرمات وقس على ذلك باقي الأعمال. ووجه ذلك انه إنما يظهر في حالة النوم ما حصل له مناسبة مع القلب بطول الإلف أو بسبب آخر من الأسباب والله اعلم والموت شبيه بالنوم ولكنه فوقه ولكن سكرات الموت وما يتقدمه من الغشية قريب من النوم فربما اقتضى ذلك تذكر مألوفة وعوده إلى القلب وأحد الأسباب المرجحة لذلك أي ذكره في القلب طول الألف لذلك. إذا فهمت ذلك فاحذر كل الحذر أن تكون ممن قتلوا أوقاتهم في مقابلة التلفزيون والسينما والمذياع والبكمات والصور ونحو المنكرات المحرمات واحذر تعاطيها بيعا أو شراء فتخسر وقتك ومالك، ونسأل الله السلامة منها ومن جميع المحرمات. ولذا نقل عن بقال أنه كان يلقن عند الموت كلمتي الشهادة فيقول خمسة ستة أربعة فكان مشغولا بالحساب الذي طال إلفه له فغلب على لسانه ولم يوفق للشهادتين ويخشى على صاحب المعاصي والمنكرات ومتخذي آلات اللهو من شطرنج وأعواد وأوراق لعب وبكماتٍ واصطواناتٍ وكرةٍ

مواعظ بليغة تحتوي على المقارنة بين أحوالنا وأحوال السلف وبعدها قصيدة في الحث على التمسك بطريقة السلف والثناء عليهم بما هم أهله

ومذياعٍ وتلفزيون وسينما وصورٍ ونحو ذلك أن يكون مشغولاً بها في آخر لحظة من حياته فيكون ختام صحيفة ما نطق به لسانه مما يأتي فيها من أغاني وتمثيلياتٍ وصور وفديو ونحوه من المنكرات والمحرمات نعوذ بالله من سوء الخاتمة. اللهم وفقنا للاستعداد لما أمامنا، اللهم وقي أيماننا بك وبملائكتك وبكتبك وبرسلك واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، اللهم نور قلوبنا واشرح صدورنا ووفقنا لما تحبه وترضاه وألهمنا ذكرك وشكرك وأعذنا من عدوك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. شِعْرًا: ... قَدْ آنَ بَعْدَ ظَلامِ الْجَهْلِ إِبْصَارِي ... الشَّيْبُ صُبْحٌ يُنَاجِينِي بِإِسْفَارِ لَيْلُ الشَّبَابِ قَصِيرٌ فَاسْرِ مُبْتَدِرًا ... إِنَّ الصَّبَاح قُصَارَى الْمُدْلِجَ السَّارِي كَمْ اغْتِرَارِي بِالدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا ... أَبْنِي بِنَاهَا عَلَى جُرْفٍ لَهَا هَارِي وَوَعْدِ زُورٍ وَعَهْدٍ لا وَفَاءَ لَهُ ... تَعَلَّمَ الْغَدْرَ مِنْهَا كُلُّ غَدَّارِ دَارٌ مَآثِمُهَا تَبْقَى وَلَذَّتُهَا ... تَفْنَى أَلا قُبِّحَتْ هَاتِيكَ مِنْ دَارِ فَلَيْتَ إِذْ صَفِرَت مِمَّا كَسَبْتَ يَدِي ... لَمْ تَعْتَلِقْ مِنْ خَطَايَاهَا بِأَوْزَارِ لَيْسَ السَّعِيدُ الَّذِي دُنْيَاهُ تُسْعِدُهُ ... إِنَّ السَّعِيدَ الَّذِي يَنْجُو مِنَ النَّارِ والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وسلم. «موعظة» : عباد الله كلن سلفنا يزور بعضهم بعضًا للمذاكرة للعلم وتذكر الملمات والمهمات يتساءلون عن ما خفي عليهم معناه من كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وعن أورادهم ومقدارها في الصلاة والصيام والأذكار والصدقات وعن الكتب النافعة ليقتنوها والكتب الضارة ليجتنبوها. هذا مدار مجالسهم لا يخطؤنه ولا يدور لهم غيره على بال أين هذا من

مجالسنا وهي موارد غضب ومقت وغيبة ونميمة وبهت ومداهنةٍ ومصانعةٍ وقذفٍ وتساؤلٍ كم مرتب فلان، وفي إي مرتبة زيد، وكم فلة وعمارة لعمر، وكم دكان لبكرٍ وبكم باع فلان بيته، وما الذي أذيع في الملاهي، وانكباب على المجلات والجرائد حملات الكذب قتلات الأوقات في اللهو وما لا فائدة فيه وأين قضيت العطلة في لبنان أو في أوربا أو في مصر. كانت أسفار السلف للقاء أحبار الأمة أوعية العلم مهما كانوا بعيدين يتلقون عنهم علم الكتاب والسنة ويتفقهون عليهم في الدين أليس من المؤسف أن يكون أولئك الناس سلفنا وبيننا وبينهم هذا الانفصال. كان حب بعضهم لبعضٍ وتواددهم وتراحمهم فوق ما يتصور كان يمر المار في بيوتهم فلا يسمع إلا دوي أصواتهم بذكر الله وتلاوة كتابه. والآن ما تسمع من بيوتنا إلا ما يحرض على الفسق والفجور والعصيان والنشوز والمخاصمات والطلاق والتفرق والقطيعة والعقوق من أغانٍ وألحانٍ من مذياعٍ وتلفزيون وفديو ونحوه من آلات اللهو التي عمت وطمت وابتلى بها الخلق وحطمت الأديان والأخلاق وقضت على الغيرة الدينية. تنبيه: أنتبه يا من زين له سوء عمله فأتى بكفار خدامين أو سائقين أو مربين أو خياطين أو طباخين وأمنهم على أهله وأولاده ومحارمه أما تعلم أنهم أعداء لله ورسوله والمؤمنين حذر يا أخي عن بثهم بين المسلمين وقل له عملك هذا والعياذ بالله ذنب عظيم نشر للفساد بين المسلمين وجناية عظيمة على من هم أمانة عندك ومصادمة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله» ، هذا ما نقدر عليه من النصح وانكار المنكر، نسأل الله العصمة وستظهر ثمرة مخالطة الأجانب واستخدامهم بعد ثمان أو عشر سنوات، الله اعلم فيما أظن وسيندم المستخدمون ونحوهم ندامة عظيمة عندما يتخلق أولادهم وأهليهم

بأخلاق الكفرة والفسقة ويشبون عليها يألفونهم ولغتهم. ولكن لا ينفع الندم حينما يفوت الآوان ويتذكرون نصح الناصح وإهمالهم له. اللهم أنظمنا في سلك الفائزين برضوانك، واجعلنا من المتقين الذين أعددت لهم فسيح جنابك، وأدخلنا برحمتك في دار أمانك، وعافنا يا مولانا في الدنيا والآخرة من جميع البلايا، وأجزل لنا من مواهب فضلك وهباتك ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا ارحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. قال ابن القيم رحمه الله: وَالِي أَوْلي الْعِرْفَانِ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيـ ... ـثِ خُلاصَةُ الإِنْسَانِ وَالأَكْوَانِ قَوْمٌ أَقَامَهُمُوا الإِلَهِ لِحِفْظِ هَـ ... ـذَا الدِّينِ مِنْ ذِي بِدْعَةٍ شَيْطَانِ وَأَقَامَهُمْ حَرَسًا مِنَ التَّبْدِيلِ وَالتَّـ ... ـحْرِيفِ وَالتَتْمِيمِ وَالنُّقْصَانِ يَزَكٌ عَلَى الإِسْلامِ بَلْ حِصْنٌ لَهُ ... يَأْوِي إِلَيْهِ عَسَاكِرُ الْفُرْقَانِ فَهُمْ الْمحكُّ فَمَنْ يَرَى مُنْتَقِصًا ... لَهُمُوا فَزِنْدِيقٌ خَبِيثُ جَنَانِ قَوْمٌ هُمُوا بِاللهِ ثُمَّ رَسُولِهِ ... أَوْلَى وَأَقْرَبُ مِنْكَ لِلإِيمَانِ شَتَّانَ بَيْنَ التَّارِكِينَ نُصُوصَهُ ... حَقًّا لأَجْلِ زُبَالَةِ الأَذْهَانِ وَالتَّارِكِينَ لأَجْلِهَا آرَاءَ مِنْ ... آرَاؤُهُمْ ضَرْبٌ مِنْ الْهَذَيَانِ لَمَّا فَسَا الشَّيْطَانُ فِي آذَانِهِمْ ... ثَقُلَتْ رُؤْسُهُمُوا عَنْ الْقُرْآنِ فَلِذَاكَ نَامُوا عَنْهُ حَتَّى أَصْبَحُوا ... يَتَلاعَبُونَ تَلاعُبَ الصِّبْيَانِ وَالرَّكْبُ قَدْ وَصَلُوا الْعُلا وَتَيَمَّمُوا ... مِنْ أَرْضِ طَيْبَةِ مَطْلَعِ الإِيمَانِ وَأَتَوْا إِلَى رَوْضَاتِهَا وَتَيَمَّمُوا ... مِنْ أَرْضِ مَكَّةَ مَطْلَعِ الْقُرْآنِ قَوْمٌ إِذَا مَا نَاجِذُ النَّصِّ بَدَا ... طَارُوا لَهُ بِالْجَمْعِ وَالْوِجْدَانِ

وَإِذَا هُمُوا سَمِعُوا بِمُبْتَدِعٍ هَذَى ... صَاحُوا بِهِ طُرًّا بِكُلِّ مَكَانِ وَرِثُوا رَسُولَ اللهِ لَكِنْ غَيْرُهُمْ ... قَدْ رَاحَ بِالنُّقْصَانِ وَالْحِرْمَانِ وَإِذَا اسْتَهَانَ سِوَاهُمُ بِالنَّصِّ لَمْ ... يَرْفَعْ بِهِ رَأْسًا مِنْ الْخُسْرَانِ عَضُّوا عَلَيْهِ بِالنَّوَاجِذِ رَغْبَةً ... فِيهِ وَلَيْسَ لَدَيْهِمُ بِمُهَانِ لَيْسُوا كَمَنْ نَبَذَ الْكِتَابَ حَقِيقَةً ... وَتِلاوةً قَصْدًا لِتَرْكِ فُلانِ عَزَلُوهُ فِي الْمَعْنَى وَوَلَّوْا غَيْرَهُ ... كَأَبِي الرَّبِيعِ خَلِيفَةِ السُّلْطَانِ ذَكَرُوهُ فَوْقَ مَنَابِرٍ وَبِسِكَّةٍ ... رَقَمُوا اسْمَهُ فِي ظَاهِرِ الأَثْمَانِ وَالأَمْرُ وَالنَّهْيُّ الْمَطَاعُ لِغَيْرِهِ ... وَلِمُهْتَدٍ ضُرَبْتَ بِذَا مَثَلانِ يَا لِلْعُقُولِ أَيَسْتَوِي مَنْ قَالَ بِالْـ ... ـقُرْآنِ وَالآثَارُ وَالْبُرْهَانِ وَمُخَالِفٌ هَذَا وَفِطْرَةَ رَبِّهِ ... اللهُ أَكْبَرُ كَيْفَ يَسْتَوِيَانِ بَلْ فِطْرَةُ اللهِ الَّتِي فُطِرُوا عَلَى ... مَضْمُونِهَا وَالْعَقْلُ مَقْبُولانِ وَالْوَحْيُ جَاءَ مُصَدِّقًا لَهُمَا فَلا ... تَلْقَى الْعَدَاوَةَ مَا هُمَا سِلْمَانِ فَإِذَا تَعَارَضَ نَصُّ لَفْظٍ وَارِدٍ ... وَالْعَقْلُ حَتَّى لَيْسَ يَلْتَقِيَانِ فَالْعَقْلُ إِمَّا فَاسِدٌ وَيَظُنَّهُ الرَّ ... أْيُ صَحِيحًا وَهُوَ ذُو بُطْلانِ أَوْ أَنَّ ذَاكَ النَّصُّ لَيْسَ بِثَابِتٍ ... مَا قَالَهُ الْمَعْصُومُ بِالْبُرْهَانِ وَنُصُوصُهُ لَيْسَتْ يُعَارِضُ بَعْضُهَا ... بَعْضًا فَسَلْ عَنْهَا عَلِيمَ زَمَانِ وَإِذَا ظَنَنْتَ تَعَارُضًا فِيهَا فَذَا ... مِنْ آفَةِ الأَفْهَامِ وَالأَذْهَانِ أَوْ أَنْ يَكُونَ الْبَعْضُ لَيْسَ بِثَابِتٍ ... مَا قَالَهُ الْمَبْعُوثُ بِالْقُرْآنِ اللهم ألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا حبك وحب من ينفعنا حبه عندك، اللهم وما رزقتنا مما نحب فاجعله قوة لنا فيما تحب، اللهم وما زويت عنا مما نحب فاجعله فراغًا لنا فيما تحب واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين. اللهم اقبل توبتنا واغسل حوبتنا واجب دعوتنا وثبت حجتنا واهد قلوبنا

مواعظ بليغة في الحث على طاعة الله ووصية نافعة من عمر لأمير جيشه سعد بن أبي وقاص

وسدد ألسنتنا واسلل سخيمة قلوبنا واجعلنا هداة مهتدين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (موعظة) : عباد الله طاعة الله صلاح في الأرض لهذا أمر الله عز وجل بالطاعات وهذه الطاعات ترضيه سبحانه وتعالى لأنه شكور غفور وهذه الطاعات هي السبب الذي به يكون يسر العباد فيكونون في حياتهم هذه في سعادات وهي التي إذا بعثوا أدخلهم بها الله الجنات، فالناس إذا لزموا طاعة الله نالوا الخير والسعادة بعد الممات وخير ما تزوده المرء تقوى الله. عن أبي ذر الغفاري ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن» رواه الترمذي. هذا حديث عظيم خاطب فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحابي الجليل أبا ذر أحد السابقين في الإسلام وتلبية دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لما اسلم والنبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة ورأى من حرصه على المقام معه وعلم أنه لا يقدر على ذلك قال له هذه المقالة. واشتملت هذه المقالة على أمور ثلاثة جمع فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين حق الله وحقوق العباد فحق الله على عباده أن يتقوه حق تقاته والتقوى كلمة جامعة للفضائل والكمالات مانعة من النقائض والرذالات وبعبارة أخرى هي امتثال الأمر واجتناب النهى والوقوف عند الحد الشرعي الذي حده الله ورسوله. وهذه الوصية هي وصية الله للأولين والآخرين ووصية كل رسول لقومه أن يقولوا اعبدوا الله واتقوه ويجب أن تعلم وأن التقوى في الدارين باب واسع للمتقي الملازم للأدب ينفذ منه أن نزلت بالناس شدائد أو نزل شدة لا مفر

منها وإن شئت فاقرأ قوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} . إن ربنا الذي بيده أزمة الأمور: بيده الأمر كله في الدنيا والآخرة هو الذي يقول ذلك لا زيد ولا عمرو ولا خالدٌ ولا بكرٌ والتقوى جمال للمرء لا يماثله جمال في نظر الأفاضل المتقين ولقد أحسن من قال: فَعَلَيْكَ تَقْوَى للهِ فَالْزِمْهَا تَفُزْ ... إِنَّ التَّقِيَّ هُوَ الْْبَهِيُّ الأَهِيبُ وَاعْمَلْ بِطَاعَتِهِ تَنَلْ مِنْهُ الرِّضَا ... إِنَّ الْمُطِيعَ لَهُ لَدَيْهِ مُقَرَّبُ آخر: ... إِنَّ التَّقِيَّ إِذَا زَلَّتْ بِهِ قَدَمٌ ... يَهْوِي عَلَى فُرُشِ الدِّيبَاجِ وَالسُّرِرُ آخر: ... يُرِيدُ الْمَرْءُ أَنْ يُعْطَى مُنَاهُ ... وَيَأْبَى اللهُ إِلا مَا أَرَادَا يَقُولُ الْمَرْءُ فَائِدَتِي وَمَالِي ... وَتَقْوَى اللهِ أَعْظَمُ مَا اسْتَفَادَا آخر: ... أَطْيَبُ الطَّيِّبَاتِ فِعْلُ الْفَرَائِضْ ... وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ لِقَتْلِ الأَعَادِي وَرَسُولٌ يُهْدِي إِلَيْكَ نَصِيحَةً ... تَنْتَفِعْ فِيهَا أُخَيَّ فِي الْمَعَادَ آخر: ... أَطِعِ الإِلَهَ وَلا تُطِعْ لِهَوَاكَا ... إِنَّ الإِلَهَ إِذَا أَطِعْتَ هَدَاكَا وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ لا تَسُودُ وَلَنْ تَرَى ... سُبل الرَّشَادِ إِذَا عَصَيْتَ الله آخر: ... وَلا عَيْشَ إِلا مَعْ رِجَالٍ قُلُوبُهُم ... تَحُنُّ إِلَى التَّقْوَى وَتَرْتَاحُ لِلذِّكْرِ وقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر اتق الله حيثما كنت أي بأي زمان وجدت وأي مكان أقمت فإن التقوى لا تتقيد بزمان ولا مكان وإنما هي عبادة وإخلاص للرحمن وكف عن محارمه ومكافحة لهوى النفس والشيطان. وموضعها القلب من كل إنسان على حد قوله - صلى الله عليه وسلم -: «التقوى هاهنا ويشير إلى صدره» وتظهر آثارها على الجوارح بعمل الطاعات والانكفاف عن المحرمات. وقال - صلى الله عليه وسلم - «أن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر

إلى قلوبكم» ، فعلى الإنسان أن يبذل جده واجتهاده في تحسين موضع نظر الله منه ليكون نقيًا طاهرًا خاليًا من الغش والحسد والحقد والظنون السيئة بالمسلمين خاليا من جميع الأمراض النفسية والخلقية فلعل الله ينظر له نظرة قبولٍ ورحمةٍ وعطفٍ وإحسانٍ وامتنانٍ. يا أبا ذر أمرتك بالتقوى المشتملة على امتثال أمر الله والابتعاد عن محارمه. وكتب عمر رضي الله عنه إلى أمير جيشه سعد ابن أبي وقاص يحضه فيه على تقوى الله ويحذره المعاصي فقال وبعد فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال فان تقوى الله أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة في الحرب وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم فان ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله. ولولا ذاك لم تكن لنا بهم قوة لأن عددنا ليس كعادتهم ولا عدتنا كعدتهم فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة وإلا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا فاعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منهم ولا تعلموا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله. ولا تقولوا أن عدونا شر منا فلن يسلط علينا فرب قوم سلط عليهم شر منهم كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بالمعاصي كفار المجوس فجاسوا خلال الديار وكان وعد الله مفعولاً. . .واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم أسأل الله تعالى ذلك لي ولكم. . .أهـ. فتأمل ما كتبه أمير المؤمنين إلى قائد جيشه يأمر بالتقوى ويحذره من المعاصي بأشد المواقف وأحرجها عند مقابلة المسلمين لجيش العدو من

الكفرة المعاندين لعلمه أن تقوى الله أفضل العدة والذخيرة وأقوى عاملٍ لنصرة المسلمين على أعدائهم والغلبة عليهم والظفر بهم. فتمسك المسلمون بوصية عمر وكانوا كما وصف رجل من الروم المسلمين لرجل من الروم أمير فقال جئتك من عند رجالٍ دقاقٍ يركبون خيولاً عتاقًا أما الليل فرهبان وأما النهار ففرسان لو حدثت جليسك حديثًا ما فهمه عنك لما علا من أصولهم بالقرآن والذكر فالتفت إلى أصحابة وقال أتاكم منهم مالا طاقة لكم به. شِعْرًا: هُمُ الرِّجَالُ وَغَبْنٌ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ ... لَمْ يَتَّصِفْ بِمَعَالِي وَصْفِهِمْ رَجلُ وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها» لما كان العبد لابد أن يحصل منه تقصير في التقوى ولوازمها أمره - صلى الله عليه وسلم - بما يدفع ذلك ويمحوه فكأنه عليه الصلاة والسلام قال: وحيث أن المرء لا يأمن على نفسه من الزلل والخطأ، فإذا ما وقعت منك زلة أو خطيئة فاتبعها بالحسنة فهي ماحية لها مخلصة لك من شرها وأثمها نظير قوله تعالى: {ِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} ومن أساء إليك فقابله بالإحسان على حد قوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} . شِعْرًا: أَصْدَقُ صَدِيقَكَ إِنْ صَدَقْتَ صَدَاقَةً ... وَادْفَعْ عَدُوَّكَ بِالَّتِي فَإِذَا الَّذِي وهذا من أكرم أخلاق المرء وأجل صفاته فإذا أساء إليك مسيء من الخلق خصوصًا من له حق عليك كالأقارب والأصحاب ونحوهم فقابل إساءته بالإحسان وسواء كانت إساءة قولية أو فعلية فإن قطعك فصله وإن ظلمك فاعف عنه وإن تكلم فيك غائبًا أو حاضرًا فلا تقابله بالإساءة بل اعف عنه وعامله بالقول اللين وإن هجرك وترك خطابك فطيب له الكلام وابذل له السلام كما قيل:

شِعْرًا: ... وَأَنْ أَسَاهُ مُسِيٌ فَلْيَكُنْ لَكَ فِي ... عُرُوضُ زَلَّتِهِ عَفْوٌ غُفْرَانُ آخر: ... فَإِنْ جَارَيْتَ ذَا جُرْمِِ بِجُرْمٍ ... فَمَا فَضْلُ الْمَصُونِ عَلَى الْمُذَالِ آخر: ... إِذَا سَفَهَ السَّفِيهُ عَلَيْكَ فَاجْعَلْ ... سُكُوتَكَ عِنْدَ مِنْ شَرَفَ الْخِصَالِ فإذا قابلت الإساءة بالإحسان حصل فائدة عظيمة {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} ، كأنه قريب شقيق وهذا فيما إذا كان المتعدي من غير قصدٍ وأهلاً للعفو والمسامحة والمقابلة بالتي هي أحسن والحذر من الكبر والعجب. شِعْرًا: ... كَمْ جَاهِلٍ مُتَوَاضِعٍ ... سَتَرَ التَّوَاضُعُ جَهْلَهْ وَمُمَيِّزٍ فِي عِلْمِهِ ... هَدَمَ التَّكَبُّرُ فَضْلَهْ فَدَعْ التَّكَبُّرَ مَا حَيِـ ... ـيتَ وَلا تُصَاحِبْ أَهْلَهُ فَالْكِبْرُ عَيْبٌ لِلْفَتَى ... أَبَدًا يُقَبِّحُ فِعْلَهْ وأما أن كان من المتغطر سين المتكبرين الذين يزيدهم العفو عتوًا وطغيانًا وتماديًا في ظلمهم وشرهم وبغيهم فاستعمال الشدة والحزم والقسوة أولى ليرتدعوا لأن اللئيم إذا كرمته تمرد وإذا أهنته ربما تأدب واعتدال. وقديما قيل: إِنَّ الصَّنِيعَةَ لِلأَنْذَالِ تُفْسِدُهُمْ ... كَمَا تُضِرُّ رِيَاحُ الْوَرْدَ بِالْجَعَل آخر: ... إِنَّ الْعَبِيدَ إِذَا أَذْلَلْتَهُمْ صَلَحُوا ... عَلَى الْهَوَانِ وَإِنْ أَكْرَمْتَهُمْ فَسَدُوا آخر: ... إِذَا أَنْتَ أَكْرَمْتَ الْكَرِيمَ مَلَكْتَهُ ... وَإِنْ أَنْتَ أَكْرَمْتَ اللَّئِيمَ تَمَرَّدَا فَوَضعُ النَّدَا فِي مَوْضِعِ السَّيْفِ بِالْعُلا ... مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ فِي مَوْضِعِ النِّدَا إِنَّ الْحَدِيدَ تُلِينُ النَّارُ قَسْوَتَهُ ... وَلَوْ صَبَبْتَ عَلَيْهِ الْبَحْرَ مَا لانَا قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ} ، مدهم جل وعلا لانتصارهم لأنفسهم ممن بغى عليهم وأردف جل وعلا ذلك بما يدل على أن الانتصار مقيد بالمثل لأن النقصان حيف والزيادة ظلم والتساوي هو العدل الذي قامت به السموات والأرض فقال: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} .

ونعود إلى الكلام على آخر جملة في الحديث وهي قوله - صلى الله عليه وسلم -: «وخالق الناس بخلق حسن» أي من غير تكلف، والخلق صورة الإنسان الباطنة. والخلق الحسن في الأفراد والجماعات والشعوب والأمم هو أس الفضائل وينبوع المكارم وعين الكمال. وفي حديث مسلم عنه عليه السلام قال: «البر حسن الخلق» المعنى أن خير خصال البر وأعظمها حسن الخلق نظير قوله عليه السلام «الحج عرفه» وناهيك أن الله سبحانه امتدح محمدًا - صلى الله عليه وسلم - به لبيان فضله وعلو منزلته وشرفه فقال عز من قائل: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} . والنبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر مهمته التي لأجلها بعث وبها جاء من عند الله تعالى فيقول إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، وقال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً} إلى آخر ما جاء في هذه الآيات وما شاكلها من الآيات ولنا الأسوة الحسنة في قوله وفعله وقد ذكرنا نماذج من حلمه - صلى الله عليه وسلم -. وقد ورد في الحدث على حسن الخلق أحاديث كثيرة ومن حسن الخلق لين الجانب والتواضع وعدم الغضب وكف الأذى عنهم والعفو عن مساويهم وأذيتهم ومعاملتهم بالإحسان القولي والإحسان الفعلي وبشاشة الوجه ولطف الكلام والقول الجميل المؤنس للجليس المدخل عليه السرور المزيل عنه الوحشة. ومن الخلق الحسن أن تعامل كل أحد بما يليق به ويناسب حاله ومما يثمره حسن الخلق تيسير الأمور وحب الخلق له ومعونتهم والابتعاد عن أذاه وقلة مشاكله في الحياة مع الناس والمجالسين له واطمئنان نفسه وطيب عيشه ورضاؤه به. ومن محاسن الأخلاق الصدق والوفاء والشهامة والنجدة وعزة النفس

والتواضع وعلو الهمة والتثبيت والعفو والبشر والرحمة والشجاعة والوقار والورع والصيانة والصبر والحياء والسخاء والنزاهة والقناعة وحفظ السر والعفة والإيثار. اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحها ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا، وامنن علينا يا مولانا بتوبة تمحو بها عنا كل ذنب واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله علي محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. شِعْرًا: ... أَسْعَدُنَا مَنْ وَفَقَ الله ... لِكُلِّ فِعْلٍ مِنْهُ يَرْضَاهُ وَمَنْ رَضِي مِنْ رِزْقِهِ بِالَّذِي ... قَدَّرَهُ اللهُ وَأَعْطَاهُ وَاطَّرَحَ الْحِرْصَ وَأَطْمَاعَهُ ... فِي نَيْلِ مَا لَمْ يُعْطِهِ مَوْلاهُ طُوبَى لِمَنْ فَكَّرَ فِي بَعْثِهِ ... مِنْ قَبْلِ أَنْ يَدْعُو بِهِ اللهُ وَاسْتَدْرَكَ الْفَارِطَ فِيمَا مَضَى ... وَمَا نَسِي فَاللهُ أَحْصَاهُ فَالْمَوْتُ حَتْمٌ فِي جَمِيعِ الْوَرَى ... طُوبَى لِمَنْ تُحْمِدُ عُقْبَاهُ وَكُلُّ مَنْ عَاشَ إِلَى غَايَةٍ ... فِي الْعُمْرِ فَالْمَوْتُ قُصَارَاهُ يَعْلَمُهُ حَقًّا يَقِينًا بِلا ... شَكٍّ وَلَكِنْ يَتَنَاسَاهُ كَأَنَّمَا خُصَّ بِهِ غَيْرَنَا ... أَوْ هُوَ خَطْبٌ نَتَوَقَّاهُ وَإِنْ جَرَى ذِكْرٌ لَهُ بَيْنَنَا ... قُلْنَا جَمِيعًا قَدْ عَلِمْنَاهُ وَلَيْسَ فِينَا وَاحِدٌ عَامِلٌ ... لِغَيْرِ مَا يُصْلِحُ دُنْيَاهُ كَمْ آمِنٍ فِي سِرْبِهِ غَافِلٍ ... فِي أَعْظَمِ الْعِزِّ وَأَوْفَاهُ أَمْوَالُهُ لا تُنْحَصِي كَثِيرَةً ... وَالْخَلْقُ تَرْجُوهُ وَتَخْشَاهُ وَمِنْ عَظِيمِ الذِّكْرِ فِي نِعْمَةٍ ... يُرْجَى وَيُخْشَى وَلَهُ جَاهُ

الذي يرجع إلى فعل المأمور وترك المحظور والصبر على المقدور قاله ابن القيم

قَدْ بَاتَ فِي خَفْضٍ وَفِي غِبْطَةٍ ... فِي أَطْيَبِ الْعَيْشِ وَأَهْنَاهُ أَصْبَحَ قَدْ فَارَقَ ذَا كُلَّهُ ... قَهْرًا وَصَارَ الْقَبْرُ مَثْوَاهُ فَزَالَتِ النِّعْمَةُ فِي لَحْظَةٍ ... وَاسْتُرْجِعَتْ مِنْهُ عَطَايَاهُ سِيقَ إِلَى دَارِ الْبَلَى مُكْرِهًا ... لَمْ يُغْنِ عَنْهُ الْمَالُ وَالْجَاهُ وَكُلُّ مَنْ كَانَ وَدُودًا لَهُ ... تَحْتَ تُرَابِ الأَرْضِ وَارَاهُ حَتَّى إِذَا مَا غَابَ عَنْ عَيْنِيهِ ... عَادَ إِلَى الدُّنْيَا وَخَلاهُ مُقَاطَعًا مُطََّرَحًا مُهْمَلاً ... مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ يَتَجَافَاهُ كَأَنَّهُ لَمْ يَرَهُ سَاعَةً ... وَلَمْ يَكُنْ فِي الدَّهْرِ لاقَاهُ لِي أَجَلٌ قَدَّرَهُ خَالِقِي ... نِعَمٌ وَرِزْقٌ أَتَوَفَّاهُ اللهم أنظمنا في سلك الفائزين برضوانك، واجعلنا من المتقين الذين أعددت لهم فسيح جنانك، وأدخلنا برحمتك في دار أمانك، وعافنا يا مولانا في الدنيا والآخرة من جميع البلايا، وأجزل لنا من مواهب فضلك وهباتك ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) قال ابن القيم رحمه الله: الدين كله يرجع إلى هذه القواعد الثلاث: فعل المأمور، وترك المحظور، والصبر على المقدور. وهذه الثلاث هي التي أوصى بها لقمان لابنه في قوله: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ. فأمره بالمعروف: يتناول فعله بنفسه وأمر غيره به، وكذلك نهيه عن المنكر.

أما من حيث إطلاق اللفظ، فتدخل نفسه وغيره فيه، وأما من حيث اللزوم الشرعي، فإن الآمر لا يستقيم له أمره ونهيه، حتى يكون أول مأمور ومنهي. وذكر سبحانه هذه الأصول الثلاثة في قوله: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} فجمع لهم مقامات الإسلام والإيمان في هذه الأوصاف، فوصفهم بالوفاء بعهده الذي عاهدهم عليه، وذلك يعم ونهيه الذي عهده إليهم، بينهم وبينه، وبينهم وبين خلقه. ثم أخبر عن استمرارهم بالوفاء به بأنهم لا يقع منهم نقضه. شِعْرًا: ... إِذَا أَنْتَ تُصْلِحْ لِنَفْسِكَ لَمْ تَجِدْ ... لَهَا أَحَدًا مِنْ سَائِرِ النَّاسِ يُصْلِحُ آخر: ... نِعَمُ الإِلَهِ عَلَى الْعَبْدِ كَثِيرَةٌ ... وَأَجَلُهُنَّ فَنِعْمَةُ الإِيمَانِ آخر: ... مَا أَنْعَمُ اللهَ عَلَى الْعَبْدِ مِنْ نِعْمَةٍ ... أَوْفَى عَلَى الْعَبْدِ مِنْ طَاعَتِهْ وَكُلَّ مَنْ عُوفِي فِي دِينِهِ ... فَإِنَّهُ فِي عَيْشَهٍ رَاضِيَهْ ثم وصفاهم بأنهم يعلمون ما أمر الله به أن يوصل، ويدخل في هذا ظاهر الدين وباطنه، وحق الله، وحق خلقه، فيصلون ما بينهم وبين ربهم بعبوديته وحده لا شريك له، والقيام بطاعته. والإنابة إليه والتوكل عليه، وحبه وخوفه ورجائه، والتوبة والاستكانة له، والخضوع والذلة له، والاعتراف له بنعمته، وشكره عليها، والإقرار بالخطيئة والاستغفار منها.

فهذه هي الصلة بين الرب والعبد، وقد أمر الله بهذه الأسباب التي بينه وبين عبده أن توصل، وأمر أن يوصل ما بيننا وبين رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالإيمان به وتصديقه وتحكيمه في كل شيء والرضا لحكمه، والتسليم له. وتقديم محبته على محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين صلوات الله وسلامه عليه، فدخل في ذلك القيام بحقه وحق رسوله. وأمر أن نصل ما بيننا وبين الوالدين والأقربين بالبر والصلة، فإنه أمر ببر الوالدين وصلة الأرحام وذلك مما أمر به أن يوصل وأمر أن نصل ما بيننا وبين الزوجات بالقيام بحقوقهن ومعاشرتهن بالمعروف. وأمر أن نصل ما بيننا وبين الأقارب بأن نطعمهم مما نأكل، ونكسوهم مما نكتسي، ولا نكلفهم فوق طاقتهم، وأن نصل ما بيننا وبين الجار القريب والبعيد بمراعاة حقه، وحفظه في نفسه وماله وأهله بما نحفظ به نفوسنا وأهلينا وأموالنا وأن نصل ما بيننا وبين الرفيق في السفر والحضر. وأن نصل ما بيننا وبين الحفظة الكرام الكاتبين بأن نكرمهم ونستحي منهم كما يستحي الرجل من جليسه ومن هو معه ممن يجله ويكرمه فهذا كله مما أمر الله به أن يوصل. ثم وصفهم بالحامل لهم على هذه الصلة، هو خشيته وخوف سوء الحساب يوم المآب ولا يمكن احد قط أن يصل ما أمر الله بوصله إلا بخشيته، ومتى ترحلت الخشية من القلب انقطعت هذه الوصل. ثم جمع لهم سبحانه ذلك كله في أصل واحد وهو آخيه ذلك وقاعدته ومداره الذي يدور عليه وهو الصبر فقال: {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ} فلم يكتف منهم بمجرد الصبر حتى يكون خالصا لوجه. ثم ذكر لهم ما يعينهم على الصبر وهو الصلاة فقال: {وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ} .

ويلي ذلك قصيدة

وهذان هما العونان على مصالح الدنيا والآخرة وهما الصبر والصلاة فقال تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} ، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} . ثم ذكر سبحانه إحسانهم إلى غيرهم بالإنفاق سرًا وعلانية فأحسنوا إلى أنفسهم بالصبر والصلاة، وإلى غيرهم بالأنفاق عليهم. ثم ذكر حالهم إذا جهل عليهم وأوذو أنهم لا يقابلون ذلك بمثله بل يدرأ ون بالحسنة السيئة، فيحسنون إلى من يسيء إليهم فقال: {وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} . وقد فسر هذا الدرء بأنهم يدفعون بالذنب الحسنة بعده كما قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «اتبع السيئة الحسنة بعدها تمحها» . والتحقق: أن الآية تعم النوعين والمقصود: أن هذه الآيات، تناولت مقامات الإسلام والإيمان كلها، واشتملت على فعل المأمور، وترك المحظور، والصبر على المقدور. وقد ذكر تعالى هذه الأصول الثلاثة في قوله: {بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ} ، وقوله: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ} ، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . فكل موضع قرن فيه التقوى بالصبر، اشتمل على الأمور الثلاثة، فإن حقيقة التقوى: فعل المأمور، وترك المحظور. شِعْرًا: اكْدَحْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ الْمَوْتِ فِي مَهَلٍ ... وَلا تَكُنْ جَاهِلاً فِي الْحَقِّ مُرْتَابَا إِنَّ الْمَنِيَّةَ مَورُودٌ مَنَاهِلُهَا ... لا بُدَّ مِنْهَا وَلَوْ عُمِّرتَ أَحْقَابَا

فصل في ذم طول الأمل والحث على تقصيره

وَفِي اللَّيَالِي وَفِي الأَيَّامِ تَجْرِبَةٌ ... يَزْدَادُ فِيهَا أُوُلو الأَلْبَابِ أَلْبَابَا بَعْدَ الشَّبَابِ يَصِير الصُّلْبُ مُنْحَنِيًا ... وَالشَّعْرُ بَعْدَ سَوَادٍ كَانَ قَدْ شَابَا يُفْنِي النُّفُوسَ وَلا يُبْقِي عَلَى أَحَدٍ ... لَيْلٌ سَرِيعٌ وَشَمْسٌ كَرُّهَا دَابَا لِمُسْتَقَرٍّ وَمِيقَاتٍ مُقَدَّرَةٍ ... حَتَّى يَعُودَ شُهُودُ النَّاسِ غُيَّابَا وَمَنْ تُعَاقِرهُ الأَيَّامُ تَبْدِ لُهُ ... بِالْجَارِ جَارًا وَبِالأَصْحَابِ أَصْحَابَا خَلَّوا بُرُوجًا وَأَوْطَانًا مُشَدِّةً ... وَمُؤْنِسِينَ وَأَصْهَارًا وَأَنْسَابَا فَيَا لَهُ سَفَرًا بُعْدًا وَمُغْتَرَبًا ... كُسِيتَ مِنْهُ لِطُولِ النَّأْيِ أَثْوَابَا بِمُوحِشِ ضَيِّقٍ نَاءٍ مَحَلَّتُهُ ... وَلَيْسَ مِنْ حَلَّهُ مِنْ غَيْبَةٍ آبَا كَمْ مِنْ مَهِيبٍ عَظِيم الْمُلْكِ مُتَّخِذٍ ... دُونَ السُّرَادِقِ حُرَّاسًا وَحُجَّابَا أَضْحَى ذَلِيلاً صَغِيرَ الشَّأْنِ مُنْفَرِدًا ... وَمَا يُرَى عِنْدَهُ فِي الْقَبْرِ بَوَّابَا وَقَبْلَكَ النَّاسُ قَدْ عَاشُوا وَقَدْ هَلَكُوا ... فَأَضْرَبَ الْحيُّ عَنْ ذِي النَّأْيِ إِضْرَابَا يَا أَيُّهَا الرَّاحِلُ النَّاسِي لِمَصْرَعِهِ ... أَصْبَحْتَ مِمَّا سَتَلْقَى النَّفْسُ هَرَّابَا اكدحْ لِنَفْسِكَ مِنْ دَارِ تُزَايِلُهَا ... وَلا تَكُنْ لِلَّذِي يُؤْذِيكَ طَلابَا والله أعلم. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. (فَصْل في ذَمِّ طُوْلِ الأَمَلِ وَالحَثِّ عَلَى تَقْصِيْرِهِ) اعلموا معشر الإخوان وفقنا الله وإياكم وأيقظ قلوبنا من الغفلة ورزقنا وإياكم الاستعداد للنقلة من الدار الفانية إلى الدار الباقية أن من أضر الأشياء على الإنسان طول الأمل ومعنى ذلك استشعار طول البقاء في الدنيا حتى يغلب على القلب فيأخذ في العمل بمقتضاه. شِعْرًا: ... تَأَهَّبْ لِلَّذِي لا بُدَّ مِنْهُ ... فَإِنَّ الْمَوْتَ مِيعَادُ الْعِبَادِ يَسُرَّكَ أَنْ تَكُونَ رَفِيقَ قَوْمٍ ... لَهُمْ زَادٌ وَأَنْتَ بِغَيْرِ زَادِ آخر: ... فَمَا تَزَوَّدَ مِمَّا كَانَ يَجْمَعُه ... سِوَى حَنُوطٍ غَدَاةَ الْبَيْنِ فِي خِرَقِ

وَغَيْرَ نَفْخَةِ أَعْوَادٍ تُشَبُّ لَهُ ... وَقَلَّ ذَلِكَ مِنْ زَادٍ لِمُنْطَلِقِ وينسى أنه مهدد بالموت في كل لحظة ولابد من ذلك، كل ما هو آت قريب، فتأهب لساعة وداعك من الدنيا وخروجك منها. شِعْرًا: ... (أُؤَمِّلُ أَنْ أَحْيَا وَفِي كُلِّ سَاعَةٍ ... تَمُرُّ بِيَ الْمَوْتَى تَهُزُّ نُعُوشُهَا) (وَهَلْ أَنَا إِلا مِثْلَهُمْ غَيْرَ أَنَّ لِي ... بَقَايَا لَيَالٍ فِي الزَّمَانِ أَعِيشُهَا) آخر: ... يَا أَيُّهَا الْبَانِي النَّاسِي مَنِيَّتَهُ ... لا تَأْمَمَنَّ فَإِنَّ الْمَوْتَ مَكْتُوبُ عَلَى الْخَلائِقِ إِنْ سُرُّورا وَإِنْ حَزَنُوا ... فَالْمَوْتُ حَتْفٌ لِذِي الآمَالِ مَنْصُوبُ لا تَبْنِيَنَّ دِيَارًا لَسْتَ تَسْكُنُهَا ... وَرَاجِعِ النُّسْكَ كَيْمَا يُغْفَر الْحُوبُ قال بعض السلف: من طال أمله ساء عمله وذلك أن طول الأمل يحمل الإنسان على الحرص على الدنيا والتشمير لها لعمارتها وطلبها حتى يقطع وقته ليله ونهاره في التفكير في جمعها وإصلاحها والسعي لها مرة بقلبه ومرة بالعمل فيصير قلبه وجسمه مستغرقين في طلبها. وحينئذ ينسى نفسه والسعي لها بما يعود إلى صلاحها وكان ينبغي له المبادرة والاجتهاد والتشمير في طلبه الآخرة التي هي دار الإقامة والبقاء وأما الدنيا فهي دار الزوال والانتقال وعن قريب يرتحل منها إلى الآخرة ويخلف الدنيا وراءه. فهل من العقل أن يعتني الإنسان بالمنزل الذي سينتقل منه قريبا ويهمل المنزل سيرتحل إليه قريبًا ويمكث فيه طويلاً. شِعْرًا: ... الْمَرْءُ بَعْدَ الْمَوْتِ أُحْدُوثَةٌ ... يَفْنَى وَيَبْقَى مِنْهُ آثَارُهُ فَأَحْسَنُ الْحَالاتِ حَالُ امْرِئٍ ... تَطِيبُ بَعْدَ الْمَوْتِ أَخْبَارُهُ آخر: ... وَمَا الْعُمْرُ وَالأَيَّامُ وَسَائِطًا ... جُعِلْنَ لِمَا يُرْضِي الإِلَهَ وَسَائِلا آخر: ... وَتَأَكُلنَا أَيَّامُنَا فَكَأَنَّمَا ... تَمُرُّ بِنَا السَّاعَاتُ وَهِيَ أُسُودُ آخر: ... أَتَبْنِي بِنَاءَ الْخَالِدِينَ وَإِنَّمَا ... مَقَامُكَ فِيهَا لَوْ عَرَفْتَ قَلِيلُ

لطول الأمل سببان الجهل وحب الدنيا

لَقَدْ كَانَ فِي ظِلِّ الأَرَاكِ كِفَايَةٌ ... لِمَنْ كَانَ يَوْمًا يَقْتَفِيهِ رَحِيلُ اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا، وامنن علينا يا مولانا بتوبة تمحو بها عنا كل ذنب واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى لآله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) :وقد ذكر العلماء أن طول الأمل له سببان أحدهما الجهل والآخر حب الدنيا، أما حب الدنيا فهو إنه إذا أنس بها وبشهواتها وعلائقها ثقل على قلبه ومفارقتها فامتنع قلبه من الفكر في الموت الذي هو سبب مفارقتها وكل من كره شيئا دفعه عن نفسه والإنسان مشغول بالأماني الباطلة التي توافق مراده. شِعْرًا: ... وَالْمَرْءُ يُبْلِيهِ فِي الدُّنْيَا وَيُخْلِقُهُ ... حِرْصٌ طَوِيلٌ وَعُمْرٌ فِيهِ تَقْصِيرُ يُطَوِّقُ النَّحْرَ بِالآمَالِ كَاذِبَةً ... وَلَهْذَمُ الْمَوْتِ دُونَ الطَّوْق مَطْرُورُ جَذْلانَ يَبْسِمُ فِي أَشْرَاكِ مِيتَتِهِ ... إِنْ أَفْلَتَ النَّابُ أَرْدَتْهُ الأَظَافِيرُ وإنما يوافق مراده البقاء في الدنيا فلا يزال يتوهمه ويقدره في نفسه ويقدر توابعه وما يحتاج إله من مالٍ وأهلٍ ودارٍ وأصدقاء ودواب ومركوب وسائر أسباب الدنيا فيصير قلبه عاكفًا على هذا الفكر فيلهوا عن ذكر هاذم اللذات الموت. شِعْرًا: ... إِذَا طَالَ عُمْرُ الْمَرْءِ فِي غَيْرِ طَاعَةٍ ... لِخَالِقِهِ فَهُوَ الَّذِي مَا لَهُ عَقْلُ آخر: ... وَمَنْ عَرَفَ الأَيَّامَ مَعْرِفَتِي بِهَا ... وَبِالْوَقْتِ أَمْضَى وَقْتَهُ فِي الْعِبَادَةِ وَأَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ الإِلَهِ حَقِيقَةً ... وَشُكْرٍ لَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةْ آخر: ... إِنَّ الْعِبَادَةَ لِلإِلَهِ حَقِيقَةً ... تَكْسُوا الرِّجَالَ مَهَابَةً وَجَمَالا

وَهِيَ السَّبِيلُ لِمَنْ أَرَادَ نَجَاتَهُ ... يَوْمَ الْحِسَابِ إِذْ رَأَى الأَهْوَلا آخر: ... كَيْفَ أَرْجُو مِن الْمَنَايَا خَلاصًا ... وَأَرَى كُلَّ مَنْ صَحبتُ دَفِينَا فَأَرَى النَّاسَ يُنْقِلُونَ سِرَاعًا ... كُلَّ يَوْمٍ إِلَيْهِمْ مَرَّدَ فِينَا قَدْ أَصَابَتْهُمْ سِهَامُ الْمَنَايَا ... وَسَتَرْمِي السِّهَامُ لا بُدَّ فِينَا آخر: ... سِتُّ بُلِيتُ بِهَا وَالْمُسْتَعَاذُ بِهِ ... مِنْ شَرِّهَا مِنْ إِلَيْهِ الْخَلْقُ تَبْتَهِلُ نَفْسِي وَإِبْلِيسُ وَالدُّنْيَا الَّتِي فَتَنَتْ ... مِنْ قَبْلَنَا وَالْهَوْى وَالْحِرْصُ وَالأَمَلُ إِنْ لَمْ تَكُنْ لَكَ يَا مَوْلايَ وَاقِيَةٌ ... مِنْ شَرِّهَا فَلَقَدْ أَعْيَتْ بِنَا الْحِيَلُ فإن خطر في بعض الأحوال ذكر الموت والضرورة إلى الاستعداد والتهيؤ له سوف ووعد نفسه وقال ما مضى إلا قليل إلى أن تكبر ثم تتوب وتقبل على الطاعة فلا يزال يمني ويسوف من الشباب إلى الكهولة إلى الشيخوخة أو إلى رجوعٍ من السفر أو إلى فراغه من تدبير شؤنه أو شئون أولاده أو بناته أو زواجهم أو انتهاء شغله في عماراته أو فلله أو دكاكينه أو بستانه أو تكميل دراسته أو نحو ذلك من الأماني الباطلة التي يتلذذ بذكرها ولا تجدي شيئا لكنه يرتاح لها. فلا يزال يمني نفسه بما يوافق هواها ولا يزال يغالط نفسه في الحقائق ويتوهم البقاء في الدنيا إلى أن يتقرر ذلك عنده ويظن أن الحياة قد صفت له وينسى قوله تعالى: {حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} . شِعْرًا: ... أُفٍّ مِنَ الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا ... كَأَنَّهَا لِلْحُزْنِ مَخْلُوقَهْ هُمُومُهَا مَا تَنْقَضِي سَاعَةً ... عَنْ مَلِكٍ فِيهَا وَلا سُوقَهْ آخر: إِنَّمَا الدُّنْيَا بَلاءٌ ... لَيْسَ فِي الدُّنْيَا ثُبُوتْ إِنَّمَا الدُّنْيَا كَبَيْتْ ... نَسَجَتْهُ الْعَنْكَبُوتْ

أصل الأماني كلها حب الدنيا

كُلَّ مَنْ فِيهَا لَعَمْرِي ... عَنْ قَرِيبٍ سَيَمُوتْ إِنَّمَا يَكْفِيكَ مِنْهَا ... أَيُّهَا الرَّاغِبُ قُوتْ آخر: ... لا تُعْطِ عَيْنَكَ إِلا غَفْوَةَ الْحَذَرِ ... وَاسْهَرْ لِنَيْلِ عُلُومِ الدِّينِ تَغْتَنِمِ وَلا تَكُنْ في طِلابِ الْعِلْمِ مُعْتَمِدًا ... إِلا عَلَى مُوجِدِ الأَشْيَاءَ مِنَ الْعَدَمِ آخر: ... تَصْفُو الْحَيَاةَ لِجَاهِلٍ أَوْ غَافِلٍ ... عَمَّا مَضَى مِنْهَا وَمَا يُتَوَقَّعُ وَلِمَنْ يُغَالِطُ فِي الْحَقَائِقِ نَفْسَهُ ... وَيَسُومُهَا طَلَبُ الْمُحَالِ فَتَطْمَعُ آخر: ... ضَيَّعْتَ وَقْتَكَ فَانْقَضَى فِي غَفْلَةٍ ... وَطَوَيْتَ فِي طَلَبِ الْخَوَادِعِ أَدْهُرَا أَفْهِمْتَ عَنِ الزَّمَانِ جَوَابَهُ ... فَلَقَدْ أَبَانَ لَكَ الْعِظَاتِ وَكَرَّرَا عَايَنْتَ مَا مَلأَ الصُّدُورَ مَخَافَةً ... وَكَفَاكَ مَا عَايَنْتَهُ مَنْ أَخْبَرَا وأصل هذه الأماني كلها حب الدنيا والأنس بها والغفلة عن الآخرة الثاني الجهل حيث يستعبد الموت مع الصحة والشباب ولا يدري المسكين أن الشيوخ في البلدان أقل بكثير من الشباب وليس ذلك إلا كثرة الموت في الشبان والصبيان أكثر ولو سألت أحد الشيوخ الطاعنين في السن عن من مات من الشبان الذين يعرفهم لعد لك مئات. شِعْرًا: ... لَيْسَ بِالسِّنِّ تَسْتَحَقُّ الْمَنَايَا ... كَمْ نَجَا بَازَلٌ وَعُوجِلَ بَكْرُ وَعَوَانٌ حَازَتْ حُلِّيَّ كِعَاب ... فَاجَأَتْهَا مِن الْحَوَادِثِ بِكْرُ آخر: ... لا تَغْتَرَّ بِشَبَابٍ نَاعِمٍ خَطِلٍ ... فَكَمْ تَقَدَّمَ قَبْلَ الشِّيب شُبَّانُ آخر: ... وَلَقَدْ سَلَوْتَ عَن الشَّبَابِ كَمَا سَلا ... غَيْرِي وَلَكِنْ لِلْحَبِيبِ تَذَكُّرُ آخر: ... يُعَمَّرُ وَاحِدٌ فَيَغُرُّ أَلْفًا ... وَيُنْسَى مَنْ يَمُوتُ مِنَ الشَّبَابِ وأيضًا لا يدري أن الموت وإن لم يكن يأتي فجأة غالبا لكن المرض لا يستعبد إتيانه فجأة لأن الوهم لا يعرف إلا ما يألفه فالإنسان ألف موت غيره ولم يرى موت نفسه أصلاً فلذلك يستعبد إلا أن العاقل يعرف أن الأجل محدود قد فرغ منه والإنسان يسير إليه في كل لحظة كما قيل:

شِعْرًا: ... نَسِيرُ إِلَى الآجَالِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ ... وَأَيَّامُنَا تُطْوَى وَهُنَّ مَرَاحِلُ تَبْنِي الْمَنَازِلَ أَعْمَارٌ مُهَدَّمَة ... مِنَ الزَّمَانِ بِأَنْفَاسٍ وَسَاعَاتِ وَمَا نَفْسُ إِلا يُبَاعِدُ مَوْلِدًا ... وَيُدْنِي الْمَنَايَا لِلنُّفُوسِ فَتَقْرُبُ (فَصْلٌ) : إذا عرفت ذلك فعلاج الجهل الفكر الصافي من القلب الحاضر وسماع الحكمة البالغة من الكتاب والسنة والقلوب الطاهرة وأما حب الدنيا فالعلاج في إخراجه من القلب شديد في غاية الصعوبة والمشقة وهذا هو الداء العضال الذي اعجز الأولين والآخرين. ولهذا من مداخل الشيطان إلى قلب ابن آدم حب التزين من الأثاث والثياب والمسكن والمركوب فإن الشيطان إذا رأى ذلك الذي هو بالحقيقة حب الدنيا غاليًا على قلب الإنسان باض فيه وفرخ فلا يزال الخبيث يزين له ويدعوه إلى عمارة المسكن وتزويقه وتوسيعه وتنظيمه ويدعوه إلى التزين بالثياب والمركوب ويستسخره ويستعمره طول عمره فإذا أوقعه وورطه في ذلك فقد استغنى أن يعود إليه. ثانيًا: أن بعض ذلك يجره إلى بعض الآخر بالقوة فلا يزال يؤيده من شيء إلى آخر بالتدريج إلى أن يذهب عمره فرطا ويساق إلى أجله فيموت وهو في سبيل الشيطان وإتباع الهوى والنفس الأمارة بالسوء ويخشى من سوء العاقبة بالكفر نعوذ بالله من ذلك. شِعْرًا: ... الْقَلْبُ مُحْتَرِقٌ وَالدَّمْعُ مُسْتَبِقٌ ... وَالْكَرْبُ مُجْتَمِعٌ وَالصَّبْرُ مُفْتَرِقُ كَيْفَ الْفِرَارُ عَلَى مَنْ لا فِرَارَ لَهُ ... مِمَّا جَنَاهُ الْهَوَى وَالشَّوْقُ وَالْقَلَقُ يَا رَبِّ إِنْ كَانَ شَيْءٌ لِي بِهِ فَرَحٌ ... فَامْنُنْ عَليَّ بِهِ مَا دَامَ بِي رَمَقُ آخر: ... يَا خَاطِبَ الدُّنْيَا عَلَى نَفْسِهَا ... إِنَّ لَهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ خَلِيلُ مَا اقْتَلَ الدُّنْيَا لِخُطَّابِهَا ... تَقْتلُهمْ قِدْمًا قَتِيلاً قَتِيلُ

وكذلك السبب الثاني طول الأمل وهو حب الدنيا له علاج وهو الإيمان بالله واليوم الآخر.... الخ

تَسْتَنْكِحُ الْبَعْلَ وَقَدْ وَطِئَتْ ... فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهُ بَدِيلُ إِنِّي لَمُغْتَرُّ وَإِنَّ الْبَلا يَعْمَلُ ... فِي جِسْمِي قَلِيلاً قَلِيلُ تَزَوَّدُوا لِلْمَوْتِ زَادًا فَقَدْ ... نَادَى مُنَادِيهِ الرَّحِيلَ الرَّحِيلُ آخر: ... إِنِّي بُلِيتُ بِأَرْبَعٍ مَا سُلِّطُوا ... إِلا لأَجْلِ شَقَاوَتِي وَعَنَائِي إِبلَيْسَ وَالدُّنْيَا وَنَفْسِي وَالْهَوَى ... كَيْفَ الْخَلاصُ وَكُلُّهُمْ أَعْدَائِي إِبْلِيس يَسْلُكُ فِي طَرِيقِ مَهَالِكِي ... وَالنَّفْسُ تَأْمُرُنِي بِكُلِّ بَلائِي وَأَرَى الْهَوَى تَدْعُو إِلَيْهِ خَوَاطِرِي ... فِي ظُلْمَةَ الشُّبُهَاتِ وَالآرَائِي وَزَخَارِفُ الدُّنْيَا تَقُولُ أَمَا تَرَى ... حُسْنِي وَفَخْرَ مَلابِسِي وَبَهَائِي آخر: ... أَلا أَيُّهَا الَّلاهِي وَقَدْ شَابَ رَأْسُهُ ... أَلمَّا يَزِعْكَ الشَّيْبُ وَالشَّيْبُ وَازِعُ أَتَصْبُ وَقَدْ نَاهَزْتَ خَمْسِينَ حِجَّةً ... كَأَنَّكَ غِرٌ أَوْ كَأَنَّكَ يَافِعُ حَذَارِ مِنَ الأَيَّامِ لا تَأْمَنَنَّهَا ... فَتَخْدَعُكَ الأَيَّامُ وَهِيَ خَوَادِعُ أَتَأْمَنُ خَيْلاً لا تَزَالُ مُغِيرَةً ... لَهَا كُلَّ يَوْمٍ فِي أُنَاسٍ وَقَائِعُ وَتَأْمَلُ طُولُ الْعُمْرِ عِنْدَ نَفَاذِهِ ... وَبِالرَّأْسِ وَسْمٌ لِلْمَنِيَّةِ لامِعُ يُرْجي الْفَتَى وَالْمَوْتُ دُونَ رَجَائِهِ ... وَيَسْرِي لَهُ سَارِي الرَّدَى وَهُوَ هَاجِعُ تَرَحَّلْ مِنْ الدُّنْيَا بِزَادٍ مِن التُّقَى ... فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِمَا أَنْتَ صَانِعُ ولا علاج لحب الدنيا إلا الإيمان بالله واليوم الآخر وبما فيه من عظيم العقاب وجزيل الثواب ومهما حصل له اليقين بذلك ارتحل عن قلبه حب الدنيا فرأى حقارتها ونفاسة الآخرة ورأى أن الدنيا ليست بأهل أن يلتفت إليها أو ترمق بعين المحبة خلافًا للسواد الأعظم المنهمكين فيها. شِعْرًا: ... إِذَا مُوجِدُ الأَشْيَاءِ يَسَّرَ لِلْفَتَى ... ثَمَانَ خِصَالٍ قَلَّمَا تَتَيَسَّرُ كَفَافٌ يَصُونُ الْحُرَّ عَنْ بَذْلِ وَجْهِهِ ... فَيُضْحِي وَيُمْسِي وَهُوَ حُرٌّ مُوَقَّرُ وَمَكْتَبَةٌ تَحْوِي تَعْلِيمَ دِينَنَا ... وَمَسْجِدُ طِينٍ بِالْقَدِيمِ يُذَكِّرُ وَمَفْرُوشُهُ الْحَصْبَا كَمَا كَانَ أَوَّلاً ... أَوِ الرَّمْلِ وَلا فُرْشٌ بِهَا نَتَفَكَّرُ

.. وَرَابِعُهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ... يُنَادِي لِخَمْسٍ فِي الْمَسَاجِدِ يَجْهَرُ وَخَامِسُهَا عَزَّتْ وَقَلَّ وُجُودُهَا ... صَدِيقٌ عَلَى الأَيَّامِ لا يَتَغَيَّرُ وَبَيْتٌ خَلِيٌ مِنْ شُرُورٍ تَنَوَّعَتْ ... لَهَا عِنْدَ أَصْحَابِ الرَّذِيلَةِ مَظْهَرُ وَجِيرَانُهُ أَصْحَابُ دِينِ وَغَيْرَةٍ ... إِذَا اسْتُنْصِرُوا لِلدِّينِ هَبُّوا وَشَمَّرُوا مَجَالِسُهُمْ فِيمَا يَحُثُّ عَلَى التُّقَى ... وَرُؤْيَتُهُمْ بِالتَّابِعِينَ تُذَكِّرُ وَثَامِنُهَا قَوَّامَةُ اللَّيْلِ دَأْبُهَا ... تُصَلِّي وَتَتْلُو لِلْكِتَابِ وَتَذْكُرُ تُسَلِّي عَنِ الدُّنْيَا وَمَنْ وُلِّعُوا بِهَا ... وَتَخْدِمُهُ طُولَ النَّهَارِ وَتَشْكُرُ فَهَذَا الَّذِي قَدْ نَالَ ملْكًا بِلا أَذَى ... وَلَمْ يَعْدُهُ عِزٌّ وَمَجْدٌ وَمَفْخَرُ فعن الحارث بن مالك الأنصاري انه مر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له كيف أصبحت يا حارث قال أصبحت مؤمنًا حقًا، قال: «انظر ما تقول فأن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك فقال عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري وكأني انظر إلى عرش ربي بارزًا وكأني انظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها كأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها، فقال «يا حارث عرفت فالزم» . ثلاثا. نسأل الله أن يرينا الدنيا كما أراها الصالحين، قال الشاعر: إِذَا امْتَحَنَ الدُّنْيَا لَبِيبٌ تَكَشَّفَتْ ... لَهُ عَنْ عَدُوٍّ فِي ثِيَابِ صَدِيقِ آخر: ... يَا خَاطِبَ الدُّنْيَا إِلَى نَفْسِهِ ... تَنَحَّ عَنْ خِطْبَتِهَا تَسْلَمِ إِنَّ الَّتِي تَخْطِبُ غَدَّارَةٌ ... قَرِيبَةُ الْعِرْسِ مِنَ الْمَآتِمِ آخر: ... مَا أَحْسَنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالَهَا ... إِذَا أَطَاعَ اللهَ مَنْ نَالَهَا مَنْ لَمْ يُطِيعِ اللهِ فِي صَرْفِهَا ... عَرَّضَ لِلإِدْبَارِ إِقْبَالِهَا آخر: ... يُسِيءُ امْرُئٌ مِنَّا فَيُبْغَضُ دَائِمًا ... وَدُنْيَاكَ مَا زَالَتْ تُسِيءُ وَتُومَقُ أَسَرَّ هَوَاهَا الشَّيْخُ وَالْكَهْلُ وَالْفَتَى ... بِجَهْلٍ فَمِنْ كُلِّ النَّوَاظِرِ تُرْمُقُ وَمَا هِيَ أَهْلٌ أَنْ يُؤَهَّلَ مِثْلُهَا ... لِوُدٍّ وَلَكِنَّ ابْنَ آدَمَ أَحْمَقُ

قال بعضهم العجب ممن يغتر بالدنيا وإنما هي عقوبة ذنب. قال الأصمعي سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول كنت أدور في ضيعت لي فسمعت من يقول: وَإِنَّ امْرأَ دُنْيَاهُ أَكْبَرُ هَمِّهِ ... لِمُسْتَمْسِكَ مِنْهَا بِحَبْلِ غُرُورِ فجعلته نقش خاتمي. وقال علي بن أبى طالب: الدنيا والآخرة كالمشرق والمغرب، إذا قربت من أحدهما بعدت عن الآخر. قيل لزاهد أي خلق الله أصغر قال الدنيا، لأنها لا تعدل عند الله جناح بعوضة، فقال السائل ومن عظم هذا الجناح كان أصغر منه. وقال بعضهم كان السلف يحرصون على حفظ أوقاتهم، أشد من حرص أهل الدنيا على دنياهم. قال بعضهم: الْوَقْتَ أَنْفَسُ مَا عُنِيتَ بِحِفْظِهِ ... وَأَرَاهُ أَسْهَلُ مَا عَلَيْكَ يَضِيعُ وقال علي بن الحسين السجاد الدنيا سبات والآخرة يقظة. قال آخر: ما آثر الدنيا على الآخرة حكيم ولا عصي الله كريم. شِعْرًا: ... فَيَا رَبَّ ذَنْبِي قَدْ تَعَاظَمَ جُرْمِهِ ... وَأَنْتَ بِمَا أَشْكُوهُ يَا رَبِّ عَالِمُ وَأَنْتَ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ مُهَيْمِنٌ ... حَلِيمٌ كَرِيمٌ وَاسِعُ الْعَفْوِ رَاحِمُ وقال آخر: اتخذوا الدنيا مرضعًا والآخرة أما ألم تروا إلى الصبي إذا ترعرع وعقل رمى بنفسه على أمه. وقال آخر: أيامك ثلاثة: يومك الذي ولدت فيه، ويوم نزولك قبرك، ويوم خروجك إلى ربك، فيا له من يوم قصير خبئ له يومان طويلان.

الناس متفاوتون في طول الأمل تفاوتا كثيرا وتقصير الأمل دليل على كمال العقل

شِعْرًا: ... حَيَاتُكَ رَأْسُ الْمَالِ وَالدِّينُ رِبْحُهُ ... وَأَخْلاقُ أَشْرَافٍ بِهِنَّ تَصَدَّرُ وَمَوْسِمُكَ الأَيَّام فَلْتَكُ حَازِمًا ... وَإِلا فَذُو التَّفْرِيطِ لا شَكَّ يَخْسَرُ وَمَنْ ضَيَّعَ التَّوْحِيدَ ضَاعَتْ حَيَاتُهُ ... وَعَاشَ بِجَهْل غَارِقٍ لَيْسَ يُعْذَرُ اللهم أرحم عربتنا في القبور وآمنا يوم البعث والنشور واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) أعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لطاعته...... أن الناس متفاوتون في طول الأمل تفاوتًا كثيرًا فمنهم من يأمل البقاء إلى زمان الهرم ومنهم من لا ينقطع أمله بحالٍ ومنهم من هو قصير الأمل وكلما قص الأمل جاد العمل لأنه يقدر قرب الموت فيستعد استعداد ميت فروي عن علي رضي الله عنه أنه قال إنما يهلك اثنتان الهوى وطول الأمل فأما الهوى فيصد عن الحق. وإما طول الأمل فينسي الآخرة وروي عنه أيضًا أنه قال من ارتقب الموت سارع إلى الخيرت وصدق رحمه الله فلو أن غائبين عنك تعتقد أن أحدهما لمجيئه احتمال قوي في ليلتك أو في يومك والآخر يتأخر بعده بشهر أو شهرين للذي تخشى أن يفاجئك قدومه سريعًا ولاسيما إن كان قد أوصاك بوصية نفذتها قبل أن يصل فيلحقك ملامة أو عقوبة وتهيئ له مع ذلك ما تقدر عليه من تحف وما ترى أنه يناسب ويهواه. شِعْرًا: ... تَأَهَّبْ لِلَّذِي وَلا بُدَّ مِنْهُ ... فَإِنَّ الْمَوْتَ مِيعَادُ الْعِبَادِ يَسُرُّكَ أَنْ تَكُون رَفِيقَ قَوْمٍ ... لَهُمْ زَادُ وَأَنْتَ بِغَيْرِ زَادِ (فَصْلٌ) : اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين أن تقصير الأمل دليل على كمال العقل فسبيل العاقل تقصير آماله في الدنيا والتقرب إلى الله جل وعلا بصالح الأعمال.

قَصِّرْ الآمَالَ فِي الدُّنْيَا تَفُزْ ... فَدَلِيل الْعَقْلِ تَقْصِيرُ الأَمَلْ ومعنى تقصير الأمل استشعار قرب الموت ولهذا قال بعضهم قصر الأمل سبب للزهد لأن من قصر أمله زهد، ويتولد من طول الأمل الكسل عن الطاعة والتسويف بالتوبة والرغبة في الدنيا والنسيان للآخرة والتساهل بتأخير قضاء الديون والقسوة في القلب. شِعْرًا: ... تُخَبِّرُنِي الآمَالَ أَنِّي مُعَمَّرٌ ... وَأَنَّ الَّذِي أَخْشَاهُ عَنِّي مُؤَخَّرُ فَكَيْفَ وَمَرُ الأَرْبَعِينَ قَضِيَّةَ ... عَليَّ بِحُكْمٍ قَاطِعٍ لا يُغَيَّرُ إِذَا الْمَرْءُ جَازَ الأَرْبَعِينَ فَإِنَّهُ ... أَسِيرٌ لأَسْبَابِ الْمَنَايَا وَمَعْبِرُ وقيل من قصر أمله قل همه وتنور قلبه، لأنه إذا استحضر الموت اجتهد في الطاعة ورضي بالقليل وقال ابن الجوزي: الأمل مذمومٌ إلا للعلماء فلولا ما جعل الله فيهم من الأمل لما ألفوا ولا صنفوا. وفي الأمل سر لطيف جعله الله لولاه لما تهنأ أحد بعيش ولا طابت نفسه أن يشرع بعمل من أعمال الدنيا. قال - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأمل رحمة من الله لأمتي ولولا الأمل ما أرضعت أم ولدها ولا غرس غارسٌ شجرًا» . رواه الخطيب. عن أنس رضي الله عنه والمذموم من الأمل الاسترسال فيه وعدم الاستعداد لأمر الآخرة فمن سلم من ذلك لم يكلف بإزالته. وورد في ذم الاسترسال في الأمل حديث أنس رفعه «أربعة من الشقاء جمود العين وقسوة القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا» رواه البزار. وروى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «أخوف ما أخاف عليكم اثنان طول الأمل وإتباع الهوى فإن طول الأمل ينسي الآخرة وإتباع الهوى يصد عن الحق» .

وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «صلاح هذه الأمة بالزهد واليقين، وهلاك آخرها بالبخل وطول الأمل» ، وقيل أن طول الأمل حجاب على القلب يمنعه من رؤية قرب الموت ومشاهدته ووقر في الأذن يمنع من سماع وجبته ودوي وقعته وبقدر ما يرفع لك من الحجاب ترى وبقدر ما تخفف عن أذنيك من الوقر تستمع. فانظر رحمك الله نظر من رفع الحجاب وفتح له الباب واستمع سماع من أزيل وقره وخوطب سره وبادر قبل أن يبادر بك وينزل عليك وينفذ حكم الله فيك فتطوى صحيفة عملك ويختم على ما في يديك. ويقال لك أجن ما غرست ولأحصد ما زرعت واقرأ كتابك الذي كتبت كفي بنفسك اليوم عليك حسيبا وبربك تبارك وتعالى رقيبا، وعلم أن الأمل يكسل عن العمل ويورث التراخي والتواني، ويعقبه التشاغل والتقاعس، ويخلد إلى الأرض ويميل إلى الهوى. وذا أمر قد شوهد بالعيان فلا يحتاج إلى بيان، ولا يطالب صاحبه ببرهان، كما أن قصر الأمل يبعث على الجد والاجتهاد في العمل، ويحمل على المبادرة، ويحث على المسابقة قال: سأضرب لك في ذلك مثلاً، مثل ملك من الملوك كتب إلى رجل يقول له: افعل كذا وكذا، وانظر كذا وكذا، وأصلح كذا وكذا، وانتظر رسولي فلانًا فإني سأبعثه إليك ليأتيني بك. وإياك ثم إياك أن يأتيك إلا وقد فرغت من أشغالك وتخلصت من أعمالك، ونظرت في زادك، وأخذت ما تحتاج إليه في سفرك. وإلا أحللت بك عقابي وأنزلت عليك سخطي، وأمرته يأتني بك مغلولة يداك مقيدة بجلاك، مشمتًا بك أعداك، مسحوبًا على وجهك إلى دار خزي وهوان وما أعددته لمن عصاني.

وإن وجدك قد فرغت من أعمالك وقضيت جميع أشغالك أتى بك مكرمًا مرفعًا مرفهًا إلى دار رضواني وكرامتي وما أعددته لمن امتثل أمري وعمل بطاعتي. واحذر أن يخدعك فلان أو فلانة عن امتثال أمري والاشتغال بعملي وكتب إلى رجل آخر بمثل ذلك الكتاب. فأما الرجل الأول فقال هذا كتاب الملك يأمرني فيه بكذا وكذا، وذكر لي رسوله يأتيني ليحملني إليه وأنا لا أمضي إليه حتى يأتيني رسوله، ولعل رسوله لا يأتيني إلا إلى خمسين سنة فأنا على مهلة. وسأنظر فيما أمرني به، ولم يقع الكتاب منه بذلك الموقع، ولم ينزله من نفسه بتلك المنزلة، وقال: والله لقد أتى كتابه إلى خلق كثير بمثل ما أتاني، ولم يأتهم رسوله إلا بعد السنين الكثيرة، والمدد الطويلة، وأنا واحد منهم. ولعل رسوله يتأخر عني كما تأخر عنهم، وجعل الغالب على ظنه أن الرسول لا يأتيه إلا إلى خمسين سنة كما ظن، أو أكثر أو إلى المدة التي جعل لنفسه بزعمه. ثم أقبل على إشغال نفسه مما لا يحتاج إليه ومما كان غنيًا عنه وترك أوامر الملك والشغل الذي كلفه النظر. فيها والاشتغال به. فكلما دخلت عليه سنة قال: أنا مشغول في هذه السنة وسأنظر في السنة المقبلة والمسافة أمامي طويلة والمهل بعيد. وهكذا كلما دخلت عليه سنة قال: أنا مشغول، وسأنظر في الأخرى أو سأنظر في أمري فبينما هو على ذلك من تسويفه، واغتراره، إذ جاءه رسول الملك فكسر بابه وهتك حجابه وحصل معه في قعر بيته. وقال له: أجب الملك. فقال: والله لقد جاءني كتابه يأمرني فيه بأعمال

أعملها وأشغال أنظر له فيها، وما قضيت منها شغلاً، ولا عملت فيها حتى الآن شيئًا. فقال الرسول له: ويلك وما الذي أبطأك عنها وما الذي حبسك عن الاشتغال بها والنظر فيها. فقال: لم أكن أظن أنك تأتيني في هذا الوقت. فقال له: ويلك ومن أين كان لك هذا الظن ومن أخبرك به ومن أعلمك بأني لا آتيك إلا في الوقت الذي تظن. قال: ظننت وطمعت وسولت لي نفسي وخدعني الشيطان وغرني. فقال له: ألم يحذرك الملك في كتابه منهما وأمرك ألا تسمع لهما، قال: بلى والله لقد فعل ولقد جاءني هذا في كتابه ولكنني خدعت فانخدعت وفتنت فافتتنت وارتبت في وقت مجيئك فتربصت. فقال له: ويلك غرك الغرور وخدعك المخادع أجب الملك لا أم لك، قال: أنشدك إلا تركتني حتى أنظر فيما أمرني به، أو في بعضه أو فيما تيسر منه حتى لا أقدم عليه في جملة المفرطين وعصابة المقصرين. وهذا مال قد كنت جمعته لنفسي، وأعددته لمؤونة زماني، فاتركني حتى آخذ منه زادًا أتزوده ودابة أركبها، فإن الطريق شاقة، والمفازة صعبة، والعقبة كؤود، والمنزل ليس فيه ماء. قال: أتركك حتى أكون عاصيًا مثلك ثم دفعه دفعةً ألقاه على وجهه ثم جمع يديه إلى عنقه وانطلق به يجره من خلفه خزيان ندمان جوعان عطشان، وهو ينشد بلسان الحال: لا كَحُزْنِي إِذَا لَقِيتُ حَزِينَا ... جَلَّ خَطْبِي فَدَيْتُكم أَنْ يَهُونَا ضَاقَ صَدْرِي عَنْ بَعْضِهِ وَاحْتِمَالِي ... فَاسْلُكُوا بِي حَيْثُ أَلْقَى الْمَنُونَا

مَا تُرِيدُ الْعُدَاةُ مِنِّي وَإِنِّي ... لَبِحَالٍ يَرِقُّ لِي الْمَغْبِضُونَا زَفَرَاتٌ هَتَكْنَ حُجْبَ فُؤَادِي ... وَهُمُومٌ قَطَعْنَ مِنِّي الْوَتِينَا خُنْتُ عَهْدَ الْمَلِيكِ قَوْلاً وَفِعْلا ... وَاتَّخَذْتُ الْخِلافَ شَرْعًا وَدِينَا غَرَسَت فِي الْحَيَاةِ كَفِي شَرًا ... فَاجْتَنَيْتُ الْعِقَابِ مِنْهُ فُنُونَا لَيْتَنِي لَمْ أَكُنْ وَأَيْنَ لِمِثْلِي ... ظَالِمٌ نَفْسَهُ بِأَنْ لا يَكُونَا يَا خَلِيلِي وَلا خَلِيلَ لِي الْيَوْ ... مَ سِوَى حَسْرَةٍ تُدِيمُ الأَنِينَا رَبَحَ الرَّابِحُونَ وَانْقَضَتِ السُّو ... قُ وَخَلَى بِغَبْنِهِ الْمَغْبُونَا فَابْكِينِي إِنْ يَكُنْ بُكَاكَ مُفِيدًا ... أَوْ فَدَعْنِي وَعُصْبَةً يَبْكُونَا اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا، وامنن علينا يا مولانا في بتوبة تمحو بها عنا كل ذنب، اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار وأسكنا معهم في دار القرار، اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) وأما الآخر الذي كتب إليه الملك بمثل ما كتب إلى هذا فإنه أخذ كتاب الملك وقبلهن وقرأه وتصفحه وتدبره، وقال: أرى الملك قد كتب إلي بان أعمل له كذا وكذا، وأقضي له كذا وكذا، وأنظر له في كذا وكذا.

ومن أين سبقت لي هذه السابقة عند الملك، ومن الذي عنى بي عنده، ومن الذي أنزلني منه هذه المنزلة، حتى جعلتني من بعض خدامه، والقائمين بأمره. والله إن هذه لسعادة والله إنها لعناية الحمد لله رب العالمين، ثم نظر في الكتاب وقال: أسمع الملك وقد قال لي في كتابه، وانتظر رسولي فإني سأبعثه إليك ليأتيني بك وأره لم يحد لي الوقت الذي يبعث فيه الرسول إلي ولا سماه لي. ولعلي لا أفرغ من قراءة كتابه إلا ورسوله قد أتاني ونزل علي، والله لا قدمت شغلاً على شغل الملك ولا نظرت في شيء إلا بعد فراغي مما أمرني به الملك، وإعدادي زادًا أتزود به، ومركوبًا أركبه إذا جاءني رسوله وحملني إليه. فتعرض له رجل وقال له: لم هذه المسارعة كلها وفيم هذه المبادرة كلها؟ فقال له: ويحك أما ترى كتاب الملك بما جاءني، أما تسمع ما فيه أما تصدقه، أما تؤمن به، قال لي: سمعت وآمنت وصدقت، ولكن لم يقل لك فيه إن رسوله يأتيك اليوم ولا غدًا ولا وقتًا معلومًا. ولكنه سيأتيك وقد جاء كتابه إلى فلان الذي قد جاءك أنت به، وقد بقي منتظرًا لرسوله أكثر من سبعين سنة، وإلى الآن ما أتاه. وبعد زمان طويل ما جاءه، وفلان أتاه بعد ثمانين سنة، وفلان أتاه بعد مائة سنة، وأنت واحد من المرسل إليهم، فلم هذه العجلة، وفيم هذا الإسراع. فقال: ويحك أما ترى أنت فلانًا قد جاءه كتاب الملك بهذا الذي جاءني وجاءه الرسول في إثر مجيء الكتاب، وفلان قد جاءه بعد سنة.

فقال: بلى ولكن لا تنظر إلى هؤلاء خاصة وانظر إلى الذين قلت لك ممن تأخر عنه المجيء فقال له: دعني يا هذا فقد شغلتني والله وإني لأخاف أن يأتيني الرسول وأنا أكلمك. ثم أقبل على ما أمره به الملك فامتثله، ونظر فيما حد له، واشتغل بما يجب عليه أن يشتغل به، وأخذ الزاد لسفره، وأخذ الأهبة بطريقه وجعل ينتظر الرسول أن يأتيه وأقبل يلتفت يمينًا وشمالاً ينظر من أين يأتيه ومن أين يقبل عليه. فبينما هو كذلك وإذا برسول الملك قد أتاه فقال: أجب الملك. قال: نعم. قال: الساعة، قال: الساعة، قال: وفرغت مما أمرك به، وعملت ما حد لك أن تعمله، قال: نعم، قال: فانطلق. قال: بسم الله فخلع عليه خلعة الأولياء وكساه كسوة الأصفياء وأعطاه مركبًا يليق به ويجمل بمثله وانطلق به حبور وسرور. فبان لك بهذا المثل وبغيره فضلية قصر الأمل، وفضيلة المبادرة إلى العمل، والاستعداد للموت قبل نزوله، والانتظار قبل حلوله. وقد كثر الحض على هذا وكثرت الأقاويل فيه، ولم يزل المذكرون يذكرون والمنبهون ينهبون لو يجدون سمعًا ووعيًا وقلبًا حافظًا ومحلاً قابلاً فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. انتهى. شِعْرًا: ... مَنْ شَامَ بَرْقَ الشَّيْبَ أَيْقَنَ إِنَّمَا ... وَبْلُ الْمَنِيَّةِ عَقْبَهُ يَتَدَفَّقُ فَأَعِدَّ زَادًا لِلرَّحِيلِ مُبَادِرًا ... أَجَلاً يُفَاجِؤُ ضَحْوَةً أَوْ يَطْرُقُ اللهم إن كنا مقصرين في حفظ حقك، والوفاء بعهدك، فأنت تعلم صدقنا في رجاء رفدك، وخالص ودك، اللهم أنت أعلم بنا منا، فبكمال جودك تجاوز عنا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك

يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. شِعْرًا: ... دَوَامُ حَالٍ مِنْ قَضَايَا الْمُحَالْ ... وَاللُّطْفُ مَوْجُودٌ عَلَى كُلِّ حَالْ وَالنَّصْرُ بِالصَّبْرِ مُحَلَّى الظُّبَى ... وَالْجَدُّ بِالْحَدِ مَرِيشَ النِّبَالْ وَعَادَةُ الأَيَّامِ مَعْهُودَةٌ ... حَرْبٌ وَسَلْمٌ وَاللَّيَالِي سِجَالْ وَمَا عَلَى الدَّهْرِ انْتِقَادٌ عَلَى ... حَالٍ فَإِنَّ الْحَالَ ذَاتُ انْتِقَالْ مَنْ لِلَّيَالِي بِائْتِلافٍ وَكَمْ ... مِنْ اعْتِبَارٍ بِاخْتَلافِ اللِّيَالْ أَخْذٌ عَطَاءٌ مِحْنَةٌ مِنْحَةٌ ... تَفُرُّقٌ جَمْعٌ جَلالٌ جَمَالْ حَالُ انْتِظَام وَانْتِثَارٍ مَعًا ... كَأَنَّمَا هَذِي اللَّيَالِي لآلْ وَهَلْ سَنَا الصُّبْحِ وَجُنْحُ الدُّجَى ... لِخَلْقَةِ الأَضْدَادِ إِلا مِثَالْ وَالظُّلْمُ الْحُلْكُ عَلَى نُورِهَا ... تَدُلُّ وَالْعُسْرُ بِيُسْرٍ يُدَالْ وَالسَّيْفُ قَدْ يَصْدَأُ فِي غِمْدِهِ ... ثُمَّ يُجَلِّي صَفْحَتَيْهِ الصِّقَالْ وَالشَّمْسُ بَعْدَ الْغِيمِ تُجْلَى كَمَا ... لِلْغَيْثِ مِنْ بَعْدِ الْقُنُوطِ انْهِمَالْ وَالْفَرَجُ الْمَوْهُوبُ تَجْرِي بِهِ ... لَطَائِفٌ لَمْ تَجْرِ يَوْمًا بِبَالْ فَصَابِرِ الدَّهْرَ بِحَالَيْهِ مِن ... حُلْوٍ وَمُرٍّ وَاعْتِدَا وَاعْتِدَالْ فَمَا لَهُ صَبْرٌ عَلَى حَالَةٍ ... وَإِنَّمَا الصَّبْرُ حُلِيُّ الرِّجَالْ وَلا يَضِيقُ صَدْرُكَ مِنْ أَزْمَةٍ ... ضَاقَتْ فَصُنْعُ اللهِ رَحْبُ الْمَجَالْ وَانْظُرْ بِلُطْفِ الْعَقْلِ كَمْ كُرْبَةٍ ... فَرَّجَهَا لُطْفٌ كَحَلِّ الْعِقَالْ وَكُلُّ إِلَيْهِ كُلَّ حاجٍ فَمَا ... لِذِي حجىً إِلا عَلَيْهِ اتِّكَالْ وَكُل بَدْءٍ فَلَهُ غَايَة ... وَغَايَة الْخَطْبِ الشَّدِيدِ انْحِلالْ وَكُل عَوْدٍ فَلَهُ آيَة ... وَآيَةُ الْعَقْلِ اعْتِبَارُ الْمَآلْ وَفِي مَآلِ الصَّبْرِ عُقْبَى الرِّضَا ... مِنْ فَرَج يُدْنِي وَأَجْر يُنَالْ عَجِبْتُ لِلْعَبْدِ الضَّعِيف الْقُوَى ... يَغُرُّ بِالرَّبِّ الشَّدِيدِ الْمَحَالْ

.. يَهْوِي مَعَ الآمَالِ مُسْتَرْسِلاً ... طُلُوعُ الْهَوَى حَيْثُ أَمَالَته مَالْ تَخْدَعُهُ النَّفْسَ بِتَخْيِيلِهَا ... وَهَلْ خَيَالُ النَّفْسِ إِلا خَبَالْ يَخَالُ أَنْ الأمْرَ جَارٍ عَلَى ... تَدبِيْرُهُ.. هَيْهَاتَ مِمَّا يَخَالْ وَالْخَلْقَ وَالأمْر لِمَنْ لَمْ يَزَل ... فِي مُلْكِهِ الْمَلْك وَمَا إِنْ يَزَالْ وَالْفِعْلُ وَالتَّرْكُ لُيل عَلَى ... مُرَادِهِ وَالْكُلُّ طَوْعُ انْفِعَالْ يُعْطِي فَلا مَنْعٌ وَيَقْضِي فَلا ... دَفْع وَيُمْضِي حُكْمُهُ لا يُبَالْ يُدَبِّرُ الأمْرَ فَعَنْ أَمْرِهِ ... تَقْدِيرُ مَا فِي الْكَوْنِ سُفْلٍ وَعَالْ يُضِلُّ يَهْدِي حُكْمُهُ أَنْفَذَتَ ... فَضْلاً وَعَدْلاً فِي هُدىً أَوْ ضَلالْ وَحُكْمُهُ الْبَارِئ فِي حُكْمِهِ ... مَا لِمَجَال الْعَقْل فِيهَا مَجَالْ وَالرَّبَ لا يُسْأَلُ عَنْ فِعْلِهِ ... قَدْ قُضِيَ الأَمْرُ فَفِيمَ السُّؤَالْ؟! فَيَا أَخَا الْفِكْرِ اشْتِغَالاً بِمَا ... فِي غَيْرِهِ لِلْفِكْرُ حَقَّ اشْتِغَالْ سَلِّمْ فَفِي التَّسْلِيمِ مِنْ كُلِّ مَا ... يَنْفَذُ تَسْلِيم وَتَنْعِيمُ بَالْ وَارْضِ بِمَا فَاتَكَ أَوْ نِلْتَهُ ... فَعَكْسِهِ مَا لَكَ فِيهِ مَجَالْ وَفَوِّض الأَمْرَ إِلَى الْحَقِّ لا ... تَرْكَنْ مِنَ الدُّنْيَا لِحَال مُحَالْ فَذُو الْحِجَى فِيمَا اتَّقَى وَارْتَجَى ... بِالْعَدْلِ حَالَ وَمِنَ الْعَذْلِ خَالْ يَرْضَى بِقِسْمِ الرَّبِّ كُلَّ الرِّضَا ... فِي كُلِّ حَالٍ مَا عَنِ الْعَهْدِ حَالْ يُرَى خَلالَ الشُّكْرِ وَالصَّبْرُ فِي ... مَا سَرَّ أَوْ سَاءَ أَبَرَّ الْخِلالْ فَهُوَ عَلَى الْحَالَيْنِ قَدْ نَالَ مِنْ ... مُنَاهُ فِي الدَّارَيْنِ أَقْصَى مَنَالْ مَا أَقْصَرَ الدُّنْيَا عَلَى مُرِّهَا ... كَالظِّلِّ مَا أَقْصَرَ مَدَّ الظِّلالْ! فَافْطَن لَهَا حَزمًا فَفِي ظِلِّهَا ... مَا قَالَ يَوْمًا حَازِم حَيْثُ قَالْ مَا يَقَظَاتِ الْعَيْشِ إِلا كَرَىً ... وَلا مَرَائيَ الْعَيْنُ إِلا خَيَالْ يَا لَيْتَ شِعْرِي وَالْمُنَى عِبْرَة ... وَالشِّعْرُ قَوْلٌ قَدْ يُنَافِي الْفِعَالْ

الحياة الدنيا مغبر إلى الآخرة، أمثلة الدنيا، تحقير الدنيا

.. وَالشَّيْبُ هَلْ يُوقِظُنِي صُبْحُهُ ... فَالنَّوْمُ فِي لَيْلٍ مِنَ اللَّهْوِ طَالْ وَكِسْرَتِي مِنْ عُسْرَتِي هَلْ تَقِي ... وَعَثْرَتِي مِنْ عِبْرَتِي هَلْ تُقَالْ هَذَا زَمَانِي فِي تَوَلٍّ وَفِي ... عَزْمِي تَوَانٍ وَالْهَوَى فِي تَوَالْ حَالُ مَنْ احْتَلَّ بِدَارِ الْبَلا ... وَلَمْ يحدِّثْ نَفْسَهُ بِارْتِحَالْ يَا رَبِّ مَا الْمُخْلِصُ مِنْ زَلَّتِي ... لا عَمَلٌ لا حُجَّةٌ لا احْتِيَالْ يَا رَبِّ مَا يَلْقَاكَ مِثْلِي بِهِ ... عَنْ طَاعَةِ لَمْ أَلْقَهَا بِامْتِثَالْ يَا رَبِّ لا أَحْمِلُ حَرَّ الصَّبَا ... فَكَيْفَ بِالنَّارِ لِضَعْفِي احْتِمَالْ أَمْ كَيْفَ عُذْرِي وَقَدْ أَعْذَرْتَ لِي ... بِأَخْذِ حُذْرِي مِنْ دَوَاعِي النِّكَالْ رَحْمَتَكَ اللَّهُمَّ فَهِيَ الَّتِي ... لَهَا عَلَى الْعَاصِينَ مِثْلِي انْثِيَالْ وَلا تُعَامِلْنَا بِأَعْمَالِنَا ... لَكِنْ رَجَا آمَالِنَا صِلْ وَوَالْ اللهم نور قلوبنا واشرح صدورنا واستر عيوبنا وأَمِّنْ خوفنا واختم بالصالحات أعمالنا واجعلنا من عبادك الصالحين وحزبك المفلحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) : ثم اعلم أن قصر الأمل ديدن العلماء العاملون المتقون الورعون المبعدون عن التكالب على الدنيا الزاهدون في حطامها الفاني وكذلك أرباب القلوب الواعية وإن لم يكونوا علماء يقصرون أملهم ويحتقرون الدنيا ويعلمون أنها زائلة عكس ما عليه أكثر أهل هذا الزمان عبيد الدنيا للبطون والفروج. شِعْرًا: ... لا تَحْسِدَنَّ غَنِيًّا فِي تَنَعُّمِهِ ... قَدْ يَكْثُرُ الْمَالُ مَقْرُونًا بِهِ الْكَدَرُ تَصْفُو الْعُيُونُ إِذَا قَلَّتْ مَوَارِدُهَا ... وَالْْمَاءُ عِنْدَ ازْدِيَادِ النِّيلِ يَعْتَكِرُ آخر: ... تَحَرَّزْ مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّ فِنَاءَهَا ... مَحَلُّ فَنَاءٍ لا مَحَلُّ بَقَاءِ فَصَفْوفتهَا مَمْزُوجَةٌ بِكَدْوَرَةٍ ... وَرَاحَتُهَا مَقْرُونَةٌ بِعَنَاءِ آخر: ... دَعِ الْفُؤَادَ عَنِ الدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا ... فَصَفْوُهَا كَدَر وَالْوَصْلُ هُجْرَانُ

آخر: ... عَيْشَةُ الرَّاغِبِ فِي تَحْصِيلِهَا ... عَيْشَةُ الْقَانِعِ فِيهَا أَوْ أَقَلْ كَمْ جَهُولٍ بَاتَ فِيهَا مُكْثِرًا ... وَعَلِيمٌ بَاتَ مِنْهَا فِي عِلَلْ آخر: ... يُحَبُّ الْفَتَى طُولَ الْبَقَاءِ كَأَنَّهُ ... عَلَى ثِقَةٍ إِنَّ الْبَقَاءَ بَقَاءُ إِذَا مَا طَوَى يَوْمًا طَوِيَ الْيَوْمُ بَعْضَهُ ... وَيَطْوِيهِ إِنْ جَنَّ الْمَسَاءُ مَسَاُء زِيَادَتُهُ فِي الْجِسْمِ نَقْصُ حَيَاتِهِ ... وَأَنِّي عَلَى نَقْصِ الْحَيَاةِ نَمَاءُ قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع» . رواه مسلم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبي فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ". وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك رواه البخاري. ولبعضهم على هذا الحديث: أَيَا صَاحِ كُنْ فِي شَأْنِ دُنْيَاكَ هَذِهِ ... غَرِيبًا كَئِبًا عَابِرًا لِسَبِيلِ وَعُدَّ مِنْ أَهْلِ الْقَبْرِ نَفْسَكَ إِنَّمَا ... بَقَاؤُكَ فِيهَا مِنْ أَقَلِّ قَلِيلِ قالوا في شرح هذا الحديث معناه لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطنًا ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها ولا تشتغل فيها إلا بما يشتغل به الغريب فقط الذي يريد الذهاب إلى أهله وأحوال الإنسان ثلاث حال لم يكن فيها شيئًا وهي قبل أن يوجد. وحال أخرى وهي من ساعة موته إلى ما لا نهاية في البقاء السرمدي فإن لنفسك وجود بعد خروج الروح من البدن إما في الجنة وإما في النار وهو الخلود الدائم وبين هاتين الحالتين حالة متوسطة وهي أيام حياته في الدنيا فانظر إلى مقدار ذلك بالنسبة إلى الحالتين يتبين لك أنه أقل من طرفة عين في مقدار عمر الدنيا. ومن رأى الدنيا بهذه الصفة وبهذا التفكير السليم لم يلتفت إليها ولم

نبذة من زهد النبي -صلى الله عليه وسلم

يبالي كيف انقضت أيامه بها في ضرر وضيق أو سعة ورخاء ورفاهية ولهذا لم يضع النبي - صلى الله عليه وسلم - لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة. وقال عيسى عليه السلام: الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها هذا مثل واضح فإن الدنيا معبرا إلى الآخرة والمهد هو الركن الأول على أول القنطرة واللحد هو الركن الثاني على آخر القنطرة. شِعْرًا: ... وَمَا هَذِهِ الأَيَّامُ إِلا مَرَاحِلٌ ... وَمَا النَّاسُ إِلا رَاحِلٌ فَمُقَوِّضُ كَانَ الْفَتَى يَبْنِي أَوَانَ شَبَابِهِ ... وَيَهْدِمُ فِي حَالِ الْمَشِيبِ وَيَنْقُضُ آخر: ... يَا غَافِلَ الْقَلْبِ عَنْ ذِكْرِ الْمَنِيَّاتِ ... عَمَّا قَلِيل سَتُلْقَى بَيْنَ أَمْوَاتِ فَاذْكُرْ مَحَلَّكَ مِنْ قَبْلِ الْحُلُولِ بِهِ ... وَتُبْ إِلَى اللهِ مِنْ لَهْوٍ وَلَذَّاتِ إِنَّ الْحِمَامَ لَهُ وَقْتٌ إِلَى أَجَلٍ ... فَاذْكُرْ مَصَائِبَ أَيَّامٍ وَسَاعَاتِ لا تَطْمَئِنَّ إِلَى الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ... قَدْ آنَ لِلْمَوْتِ يَا ذَا اللُّبِّ أَنْ يَأْتِي وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) ومن الناس من قطع نصف القنطرة ومنهم من قطع ثلثها ومن الناس من قطع الثلثين ومنهم من قطع ثلاثة أرباع المسافة ومنهم من لم يبق له إلا ثمن المسافة ومنهم من لم يبق له إلا خطوة واحدة وهو غافل عنها وكيف ما كان فلابد من العبور فمن وقف يبني على القنطرة ويزينها وهو يستحث على العبور عليها فهو في غاية الجهل والحمق والسفه. وروي عن الحسن قال بلغني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انه قال إنما مثلي ومثلكم ومثل الدنيا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء حتى إذا لم يدروا ما سلكوا

منها، أو ما بقي أنفذوا الزاد وخسروا الظهر وبقوا بين ظهراني المفازة، لا زاد ولا حمولة فأيقنوا بالهلكة. فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رجل في حلة، يقطر رأسه فقالوا: أن هذا قريب عهد بريفٍ، وما جاء هذا إلا من قريب، فلما انتهى إليهم قال: يا هؤلاء علام أنتم قالوا: على ما ترى قال: أرأيتكم إن هديتكم على ماء رواء ورياض خضر، ما تعملوا قالوا: لا نعصيك شيئًا. قال: عهودكم ومواثيقكم بالله، فأعطوه عهودهم ومواثيقهم بالله لا يعصونه شيئًا، قال: فأوردهم ماًء ورياضًا خضراء فمكث فيهم ما شاء الله، ثم قال: يا هؤلاء الرحيل قالوا إلى أين قال: إلى ماء ليس كمائكم، وإلى رياض ليست كرياضكم فقال: أكثر القوم والله ما وجدنا هذا حتى ظننا أن لن نجده وما نصنع بعيش خير من هذا. وقالت طائفة: ألم تعطوا هذا الرجل عهودكم ومواثيقكم بالله لا تعصوه وقد صدقكم في أول حديثه فوالله ليصدقنكم في آخره. قال: فراح فيمن اتبعه وتخلف بقيتهم فنزل بهم عدو فأصبحوا من بين أسير وقتيل. وعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين ألا ووصيته مكتوبة عنه» . متفق عليه. وعن أنس رضي الله عنه قال: خط النبي - صلى الله عليه وسلم - خطًا مربعًا وخط خطًا في الوسط خارجًا منه وخط خططًا صغارًا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه فقال: «هذا الإنسان وهذا أجله محيط به - أو قد أحاط به. وهذا الذي هو خارج أمله وهذه الخطط الصغار الأعراض فأن أخطأه هذا نهشه هذا وان أخطأه هذا نهشه هذا» . رواه البخاري. شِعْرًا: ... الْقَلْبُ نَهَشَهُ مُحْتَرَقٌ وَالدَّمْعُ مُسْتَبِقٌ ... وَالْكَرْبُ مُجْتَمِعٌ وَالصَّبْرُ مُفْتَرِقُ كَيْفَ الْفِرَارُ عَلَى مَنْ لا فِرَارَ لَهُ ... مِمَّا جَنَاهُ الْهَوَى وَالشَّوْقُ وَالْقَلَقُ

يَا رَبُّ إِنْ كَانَ لِي بِهِ فَرَحٌ ... فَامْنُنْ عَليَّ بِهِ مَا دَامَ بِي رمْقُ آخر: ... وَالْمَرْءُ يُبْلِيه فِي الدُّنْيَا وَيَخْلِقُهُ ... حِرْصٌ طَوِيلٌ وَعُمْرُ فِيهِ تَقْصِيرُ يَطُوقُ النَّحْرَ بِالآمَالِ كَاذِبَةً ... وَلِهَذْمِ الْمَوْتِ دُونَ الطَّوْقِ مَطُرُورُ جَذْلانَ يَبْسِمُ فِي أَشْرَاكِ مَيْتَتِهِ ... إِنْ أَفْلَتَ النَّابُ أَرْدَتْهُ الأَظَافِيرُ وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء» . رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما لي وللدنيا أنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة في يوم صائف ثم راح وتركها» . وفي صحيح مسلم من حديث المستورد بن شداد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع» . وأشار بالسبابة. وفي الترمذي من حديثه قال: كنت مع الركب الذين وقفوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السخلة الميتة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أترون هذه هانت على أهلها حتى ألقوها» . قالوا: ومن هوانها ألقوها يا رسول الله. قال: «فالدنيا أهون على الله من هذه على أهلها» . وفي الترمذي أيضًا من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالمًا ومتعلمًا» . هِيَ الدُّنْيَا إِذَا عُشِقَتْ أَذَلَّتْ وَتُكْرِمُ مَنْ يَكُونُ لَهَا مُهِينَا ( « كَظِلَّكَ إِنْ تَرُمْهُ تَجِدْهُ صَعْبًا وَتَتْرِكُهُ فَيَتْبَعُ مُسْتَكِينًا آخر: ... هِيَ الدُّنْيَا تَقُولُ بِمِلْءِ فِيهَا حِذَارَ حِذَار مِنْ بَطْشِي وَفَتْكِي

فَلا يَغْرُرْكُمْ حُسْنُ ابْتِسَامِي فَقَوْلِي مُضْحِكٌ وَالْفِعْلُ مُبْكِي آخر: ... دَلَّتْ عَلَى عَيْبِهَا وَصَدَّقَهَا ... لِعْبٌ وَلَهْوٌ وَفَخْرٌ فِي مَطَاوِيهَا آخر: ... فَبَيْنَا نَسُوسُ النَّاسَ وَالأَمْرُ أَمْرَنَا ... إِذَا نَحْنُ فِيهَا سَوْقَةٌ لَيْسَ نُنْصَفُ فَأُفِّ لِدُنْيًا لا يَدُومُ نَعِيمُهَا ... تَقَلَّبُ تَارَاتٍ بِنَا وَتَصَرَّفُ آخر: ... وَمَا الْمَرْءُ فِي دُنْيَاهُ إِلا كَهَاجِعِ ... تَرَاءَتْ لَهُ الأَحْلامُ وَهِيَ خَوَادِعُ يُنَعِّمُهُ طَيْفٌ مِنَ اللَّهْوِ بَاطِلٌ ... وَيُوقِظُهُ يَوْمٌ بِهِ الْمَوْتُ فَاجِعُ وليس العجب من انهماك الكفرة في حب الدنيا والمال فإن الدنيا جنتهم وإنما العجب أن يكون المسلمون يصل حب المال والدنيا في قلوبهم إلى حد أن تذهل عقولهم وأن تكون الدنيا هي شغلهم الشاغل ليلاً ونهارًا وهم يعرفون قدر الدنيا من كتاب ربهم وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - أليس كتاب الله هو الذي فيه {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} . ويقول: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} . وتقدمت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - المبينة لحقارة الدنيا وليس المعنى أن نترك الدنيا ونبقى جياعًا عارين محتاجين بل معناه أن لا نجعلها مقصدًا كما جعلها الكفار بل نجعل الدنيا وما فيها وسيلة إلى تلك الحياة الأبدية فنكون من الفريق الذي يحب المال لأجل الآخرة. وقد كان على هذا المبدء الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وكذلك التابعون لهم اتخذوا الدنيا مطية للآخرة فسادوا بها أهل الدنيا ولما تخلفنا عنهم في هذا المبدء وجعلنا المال هو المقصد سكنا على الدنيا وأحببنا الحياة ولذائذها والداهية العظيمة هي أنا ضربنا بالذل.

علي بن الحسين يحاسب نفسه

ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض» . رواه البخاري ومسلم. وقال - صلى الله عليه وسلم -: «فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتكم» . متفق عليه. كَمْ رَأَيْنَا مِنْ أُنَاسٍ هَلَكُوا ... فَبَكَى أَحْبَابُهُمْ ثُمَّ بُكُوا تَرَكُوا الدُّنْيَا لِمَنْ بَعْدَهُمُوا ... وُدُّهُمْ لَوْ قَدَّمُوا مَا تَرَكُوا آخر: ... إِنِّي وَإِنْ كَانَ جَمْعُ الْمَالِ يُعْجِبُنِي ... فَلَيْسَ يَعْدِلُ عِنْدِي صِحَّةَ الْجَسَدِ فِي الْمَالِ زَيْنٌ وَفِي الأَوْلادِ مَكْرُمَةٌ ... وَالسُّقْمُ يُنْسَيْكَ ذِكْرَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ والله أعلم. صلى الله على محمد وعلى آله وسلم. موعظة: عن الزهري: سمعت علي بن الحسين يحاسب نفسه ويناجى ربه يا نفس حتام إلى الدنيا سكونك، وإلى عمارتها ركونك، أما اعتبرت بمن مضى من أسلافك، ومن وارته الأرض من آلافك، ومن فجعت به من إخوانك. ونقل إلى الثرى من أقرابك، فهم في بطون الأرض بعد ظهورها محاسنهم فيها بوال دواثر. خَلَتْ دُورُهمْ مِنْهُمْ وَأَقْوَتْ عَرَاصُهُمْ ... وَسَاقَهُمْ نَحْوَ الْمَنَايَا الْمَقَادِرُ وَخَلَّو عَنِ الدُّنْيَا وَمَا جَمَعُوا لَهَا ... وَضَمَّتْهُمْ تَحْتَ التُّرَابِ الْحَفَائِرُ كم خربت أيدي المنون من قرون بعد قرون وكم غبرت الأرض وغيبت في ترابها ممن عاشرت من صنوف وشيعتهم إلى المهالك ثم رجعت عنهم إلى أهل الإفلاس. وَأَنْتَ عَلَى الدُّنْيَا مُكِبٌّ مُنَافِسٌ ... لِخُطَّابِهَا فِيهَا حَرِيصٌ مُكَاثِرُ عَلَى خَطَرٍ تَمْشِي وَتُصْبِحُ لاهِيًا ... أَتَدْرِي بِمَاذَا لَوْ عَقَلْتَ تُخَاطِرُ وَإِنَّ امْرَأً يَسْعَى لِدُنْيَاهُ دَائِبًا ... وَيَذْهَلُ عَنْ أُخْرَاهُ لا شَكَّ خَاسِرُ فحتام على الدنيا إقبالك وبشهواتها اشتغالك وفد وخطك الشيب

وأتاك وأنت عما يراد بك ساه وبلذة يومك وغدك لاه وقد رأيت انقلاب أهل الشهوات وعاينت ما حل بهم من المصيبات. أَبَعْدَ اقْتِرَابِ الأَرْبَعِينَ تَرَبُّصٌ ... وَشِيب قَذَالٍ مُنْذِر لِلأَكَابِر كَأَنَّكَ مَعْنَي بِمَا هُوَ ضَائِرٌ ... لِنَفْسِكَ عَمْدًا أَوْ عَنِ الرُّشْدِ حَائِر انظر إلى الأمم الماضية والملوك الفانية كيف اختطفتهم عقبان الأيام ووفاهم الحمام فانمحت من الدنيا آثارهم ويقنت فيها أخبارهم وأضحوا رممًا في التراب إلى يوم الحشر والمآب والحساب. فَأَمْسَوْا رَمِيمًا فِي التُّرَابِ وَعُطِّلَتْ ... مَجَالِسَهُمْ مِنْهُمْ وَأَخْلَى الْمَقَاصِرُ وَحَلُّوا بِدَارٍ لا تزاور بَيْنَهُمْ ... وَأَنَّى لِسُكَّانِ الْقُبُورِ التَّزَاوُرُ فَمَا أَنْ تَرَى إِلا قُبُورًا ثَوَوْا بِهَا ... مُسَطَّحَةً تَسْفِي عَلَيْهَا الأَعَاصِرُ كم من ذي منعة وسلطان وجنود وأعوان تمكن من دنياه ونال فيها ما تمناه، وبنى فيها القصور والدساكر، وجمع فيها الأموال والذخائر، وملح السراري والحرائر. فَمَا صَرَفَتْ عَنْهُ الْمَنِيَّةَ إِذَا أَتَتْ ... مُبَادَرَة تَهْوَى إِلَيْهَا الذَّخَائِرُ وَلا دَفَعَتْ عَنْهُ الْحُصُونُ الَّتِي بَنَى ... وَحَفَّ بِهَا أَنْهَارُهُ وَالدَّسَاكِرُ وَلا قَارَعَتْ عَنْهُ الْمَنِيَّةَ حِيلَةٌ ... وَلا طَمِعَتْ فِي الذَّبِّ عَنْهُ الْعَسَاكِرُ أتاه من الله ما لا يرد ونزل به من قضائه ما لا يصد فتعالى الله الملك الجبار المتكبر العزيز القهار قاصم الجبارين ومبيد المتكبرين الذي ذل لعزه كل سلطان وأباد بقوته كل ديان. مَلِيكُ عَزِيزُ لا يُرَدُّ قَضَاؤُهُ ... حَكِيمٌ عَلِيمٌ نَافِذُ الأَمْرِ قَاهِرُ عَنَى كُلُّ ذِي عِزٍّ لِعِزَّةِ وَجْهِهِ ... فَكَمْ مِنْ عَزِيزٍ لِلْمُهَيْمِنِ صَاغِرُ

لَقَدْ خَضَعَتْ وَاسْتَسْلَمَتْ وَتَضَأَلَتْ ... لِعِزَّةِ ذِي الْعَرْشِ الملوكُ الْجَبَابِرُ فالبدار البدار والحذار الحذار من الدنيا ومكائدها، وما نصبت لك من مصائدها، وتحلت لك من زينتها، وأبرزت لك من شهواتها وأخفت عنك من قواتلها وهلكاتها. وَفِي دُون مَا عَايَنْتَ مِنْ فَجَعَاتُهَا ... إِلَى دَفْعِهَا دَاعٍ وَبِالزُّهْدِ آمِرُ فَجُدَّ وَلا تَغْفُلْ وَكُنْ مُتَيَقِّظًا ... فَعَمَّا قَلِيلٍ يَتْركُ الدَّارَ عَامِرُ فَشَمِّرْ وَلا تَفْتُرْ فَعُمْركَ زَائِلٌ ... وَأَنْتَ إِلَى دَارِ الإِقَامَةِ صَائِرُ وَلا تَطْلُبَ الدُّنْيَا فَإِنَّ نَعِيمَهَا ... وَإِنْ نِلْتَ مِنْهُ غِبُّهُ لَكَ ضَائِرُ فهل يحرص على الدنيا لبيب، أو يسر بها أريب، وهو على ثقة من فنائها، وغير طامع في بقائها أم كيف تنام عين من يخشى البيات وكيف تسكن نفس من توقع في جميع أموره الممات. أَلا لا وَلَكِنَّا نَغُرُّ نُفُوسَنَا ... وَتَشْغَلُنَا الَّلَذاتُ عَمَّا نُحَاذِرُ وَكَيْفَ يَلَذُّ الْعَيْشَ مَنْ هُوَ مُوقِنٌ ... بِمَوْقِف عَرْضٍ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ كَأَنَّا نَرَى أَنْ لا نُشُورَ وَأَنَّنَا ... سُدى مَا لَنَا بَعْدَ الْمَمَاتِ مَصَادِرُ وما عسى أن ينال صاحب الدنيا لذتها ويتمتع به من بهجتها مع صنوف عجائبها وقوارع فجائعها وكثرة عذابه في مصائبها وفي طلبها وما يكابد من أسقامها وأوصابها وآلامها. أَمَا قَدْ نَرَى فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ... يَرُوحُ عَلَيْنَا صَرْفُهَا وَيُبَاكِرُ تُعَاوِرُنَا آفَاتُهَا وَهُمُومُهَا ... وَكَمْ قَدْ نَرَى يَبْقَى لَهَا الْمُتَعَاوِرُ فَلا هُوَ مَغْبُوطٌ بِدُنْيَاهُ آمِنٌ ... وَلا هُوَ مَنْ تَطْلا بِهَا النَّفْسَ قَاصِرُ كم غرت الدنيا من مخلد إليها، وصرعت من مكب عليها، فلم

تنعشه من عثرته، ولم تنقذه من صرعته، ولم تشفه من ألمه، ولم تبره من سقمه، ولم تخلصه من وصمة. بَلَى أَوْرَدَتْهُ بَعْدَ عِزٍّ وَمِنْعَةٍ ... مَوَارِدَ سُوءٍ مَا لَهُنَّ مَصَادِرُ فَلَمَّا رَأَى أَنْ لا نَجَاةَ وَأَنَّهُ ... هُوَ الْمَوْتُ لا يُنْجِيهِ مِنْهُ التَّحَاذُرُ تَنَدَّمَ إِذْ لَمْ تُغْنِ عَنْهُ نَدَامَةٌ ... عَلَيْهِ وَأَبْكَتْهُ الذُّنُوبُ الْكَبَائِرُ إذا بكى على ما سلف من خطاياه، وتحسر على ما خلف من دنياه، واستغفر حتى لا ينفعه الاستغفار، ولا ينجيه الاعتذار، عند هول المنية ونزول البلية. أَحَاطَتْ بِهِ أَحْزَانُهُ وَهُمُومُهُ ... وَأبْلَسَ لَمَّا أَعْجَزَتْهُ الْمَقَادِرُ فَلَيْسَ لَهُ مِنْ كُرْبَةِ الْمَوْتِ فَارِجٌ ... وَلَيْسَ لَهُ مِمَّا يُحَاذِرُ نَاصِرُ وَقَدْ جَشَأَتْ خَوْفَ الْمَنِيَّةِ نَفْسُهُ ... تُرَدِّدُهَا مِنْهُ اللُّهَا وَالْحَنَاجِرُ هنالك خلف عواده وأسلمه أهله وأولاده وارتفعت البرية بالعويل وقد أيسوا من العليل فغمضوا بأيديهم عينيه ومد عند خروج روحه رجليه وتخلى عنه الصديق والصاحب الشفيق. فَكَمْ مُوجِعٌ يَبْكِي عَلَيْهِ مُفَجَّعٌ ... وَمُسْتَنْجِدٌ صَبْرًا وَمَا هُوَ صَابِرُ وَمُسْتَرْجِعٌ دَاعٍ لَهُ الله مُخْلِصًا ... يُعَدّدُ مِنْهُ كُلَّ مَا هُوَ ذَاكِرُ وَكَمْ شَامِتٌ مُسْتَبْشِرٌ بِوَفَاتِهِ ... وَعَمَّا قَلِيل لِلَّذِي صَارَ صَائِرُ فشقت جيوبها نساؤه، ولطمت خدودها إماؤه، وأعول لفقده جيرانه، وتوجع لرزيته إخوانه، ثم أقبلوا على جهازه وشمروا لإبرازه كأن لم يكن بينهم العزيز المفدى ولا الحبيب المبدَّى. وَحَلَّ أَحَبُّ الْقَوْمِ كَانَ بِقُرْبِهِ ... يَحُثُّ عَلَى تَجْهِيزِهِ وَيُبَادِرُ وَشَمَّرَ مَنْ قَدْ أَحْضَرُوهُ لِغَسْلِهِ ... وَوَجِّه لِمَا فَاضَ لِلْقَبْرِ حَافِرُ

وَكُفَّنَ فِي ثَوْبَيْنِ وَاجْتَمَعُوا لَهُ ... مُشَيِّعُهُ إِخْوَانُهُ وَالْعَشَائِرُ فلو رأيت الأصغر من أولاده، وقد غلب الحزن على فؤاده، ويخشى من الجزع عليه وقد خضبت الدموع عينيه وهو يندب أباه ويقول: يا ويلاه واحرباه. لَعَايَنْتَ مِنْ قُبْحِ الْمَنِيَّةِ مَنْظَرًا ... يُهَالُ لِمَرْآهُ وَيَرْتَاعُ نَاظِرُ أَكَابِرُ أَوْلادٍ يَهِيج اكْتِئَابِهم ... إِذَا مَا تَنَاسَاهُ الْبَنُونُ الأَصَاغِرُ وَرَبَّةُ نِسْوَان عَلَيْهِ جَوَازِع ... مَدَامِعُهُمْ فَوْقَ الْخُدُودِ غَوَازِرُ ثم أخرج من سعة قصره، إلى مضيق قبره، فلما استقر في اللحد، وهيء عليه اللبن احتوشته أعماله وأحاطت به خطاياه وأوزاره، وضاق ذرعًا بما رآه، ثم حثوا بأيديهم عليه التراب، وأكثروا عليه البكاء والانتحاب، ثم وقفوا ساعة عليه وأيسوا من النظر إليه، وتركوه رهنًا بما كسب وطلب. فَوَلَّوا عَلَيْهِ مُعولِينَ وَكُلُّهُم ... لِمِثْل الَّذِي لاقَى أَخُوهُ مُحَاذِرُ كَشَاءٍ رَعَاءٍ آمِنِينَ بَدَا لَهَا ... بِمُدْيتِهِ بَادِي الذِّرَاعَيْنِ حَاسِرُ فَرِيعَتْ وَلَمْ تَرْعَى قَلِيلاً وَأَجْفَلَتْ ... فَلَمَّا نَأَى عَنْهَا الَّذِي هُوَ جَازِرُ عادت إلى مرعاها، ونسيت ما في أختها دهاها، أفا بأفعال الأنعام اقتدينا أم على عادتها جرينا، عد إلى ذكر المنقول إلى دار البلى، واعتبره بموضعه تحت الثرى، المدفوع إلى هول ما ترى. ثَوَى مُفْرَدًا فِي لَحْدِهِ وَتَوَزَّعَتْ ... مَوَارِيثَهُ أَوْلادُهُ وَالأَصَاهِرُ وَأَحْنَو عَلَى أَمْوَالِهِ يَقْسِمُونَهَا ... فَلا حَامِدٌ مِنْهُمْ عَلَيْهَا وَشَاكِرُ فَيَا عَامِرَ الدُّنْيَا وَيَا سَاعِيًا لَهَا ... وَيَا آمِنًا مِن أَنْ تَدُورَ الدَّوَائِرُ كيف أمنت هذه الحالة، وأنت صائر إليها لا محالة، أم كيف ضيعت حياتك، وهى مطيتك إلى مماتك، أم كيف تشبع من طعامك، وأنت

منتظر حمامك، أم كيف تهنأ بالشهوات، وهى مطية الآفات. وَلَمْ تَتَزَوَّدْ لِلرَّحِيلِ وَقَدْ دَنَا ... وَأَنْتَ عَلَى حَالٍ وَشِيكٌ مُسَافِرُ فَيَا لَهْفَ قَلْبِي كَمْ أَسوِّفُ تَوْبَتِي ... وَعُمْرِيَ فَانٍ وَالرَّدَى لِيَ نَاظِرُ وَكُلَّ الَّذِي أَسْلَفْتُ فِي الصُّحُفِ مُثْبَتٌ ... يُجَازى عَلَيْهِ عَادِلُ الْحكمِ قَادِرُ فكم ترتع بآخرتك دنياك، وتركب غيك وهواك، أراك ضعيف اليقين، يا مؤثر الدنيا على الدين، أبهذا أمرك الرحمن أم على هذا نزل القرآن أما تذكر ما أمامك من شدة الحساب وشر المآب، أما تذكر حال من جمع وثمر، ورفع البناء وزخرف وعمر، أما صار جمعهم بورًا ومساكنهم قبورًا. تُخَرِّبُ مَا يَبْقَى وَتَعْمُرُ فَانِيَا ... فَلا ذَاكَ مَوْفُورٌ وَلا ذَاكَ عَامِرُ وَهَلْ لَكَ إِنْ وَافَاكَ حَتْفُكَ بَغْتَةً ... وَلَمْ تَكْتَسِبْ خَيْرًا لَدَى اللهِ عَاذِرُ أَتَرْضَى بِأَنْ تَفْنَى الْحَيَاةُ وَتَنْقَضِي ... وَدِينُكَ مَنْقُوصٌ وَمَالُكَ وَافِرُ أ. هـ. ينبغي لن عمر ستين أن يحاسب نفسه ويتخلى للعبادة قبل هجوم هادم اللذات. وَفَّيْتَ سَتِّينَ وَاسْتَكْمِلْتَ عِدَّتَهَا ... فَمَا بَقَاؤُكَ إِذْ وَفَّيْتَ سِتِّينَا فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ يَا مِسْكِينُ فِي مَهَلٍ ... فَكُلُّ يَوْمٍ تَرَى نَاسَا يَمُوتُونَا آخر: ... سِيرُ الْخَطَايَا عِنْدَ بَابِكَ وَاقِفُ بِهِ وَجَلٌ مِمَّا بِهِ أَنْتَ عَارِفُ يَخَافُ ذُنُوبًا لَمْ يَغِبْ عَنْكَ غَيْبُهَا وَيَرْجُوكَ فِيهَا فَهُوَ رَاجٍ وَخَائِفُ فَمَنْ ذَا الَّذِي يُرْجَى سِوَاكَ وَيُتَّقَى وَمَا لَكَ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ مُخَالِفُ

فَيَا سَيِّدِي لا تُخْزِنِي فِي صَحِيفَتِي إِذَا نُشِرَتْ يَوْمَ الْحِسَابِ الصَّحَائِفُ وَكُنْ مُؤْنِسِي فِي ظُلْمَةِ الْقَبْرِ عِنْدَمَا يُصَدِّدُ ذُو الْقُرْبَى وَيَجْفُوا الْمُؤَآلِفُ لَئِنْ ضَاقَ عَنِّي عَفْوُكَ الْوَاسِعُ الَّذِي أُرَجِيّ لإِسْرَافِي فَإِنِّي لَتَالِفُ آخر: ... غَفَلتُ وَلَيْسَ الْمَوْتُ فِي غَفْلَةٍ عَنِّي وَمَا أَحَدٌ يَجْنِي عَليَّ كَمَا أَجْنِي أُشَيِّدُ بُنْيَانِي وَأَعْلَمُ أَنَّنِي أَزُولُ لِمَنْ شَيَّدتُهُ وَلِمَنْ أَبْنِي كَفَانِي بِالْمَوْتِ الْمُنَغَّصِ وَاعِظًا بِمَا أَبْصَرَتْ عَيْنِي وَمَا سَمِعَتْ أُذُنِي وَكَمْ لِلْمَنَايَا مِنْ فُنُونٍ كَثِيرَة تُمِيتُ وَقَدْ وَطَّنْتُ نَفْسِي عَلَى فَنِّ وَلَوْ طَرَقَتْ مَا اسْتَأْذَنَتْ مَنْ يُحِبني كَمَا أَفْقَدَتْنِي مَنْ أُحِبُّ بِلا إِذْنِ قَدْ كُنْتُ أَفْدِي نَاظِريهِ مِنَ الْقَذَى فَغَطَّيْتُ مَا قَدْ كُنْتُ أُفْدِيهِ بِالْعَيْنِ سَتَسْجُني يَا رَبِّ فِي الْقَبْرِ بُرْهَةً فَلا تَجْعَلَ النِّيرَانَ مِنْ بَعْدِهِ سِجْنِي وَلِي عِنْدَ رَبِّي سَيِّئَاتٌ كَثِيرَةٌ وَلَكِنَّنِي عِبدٌ بِهِ حَسَنُ الظَّنِّ

لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد بالدنيا

عصمنا الله وإياكم من الزلل، ووفقنا لصالح العمل وهدانا بفضله سبيل الرشاد، وطريق السداد إنه جل شأنه نعم المولى ونعم النصير، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) وقال ابن القيم رحمه الله: لا يتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين: نظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها، واضمحلالها ونقصها وخستها، وألم المزاحمة عليها والحرص عليها وما في ذلك من الغصص والنغص والأنكاد. وآخر ذلك الزوال والانقطاع مع ما يعقب ذلك من الحسرة والأسف، فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها، وهم في حال الظفر بها وغم بعد فواتها، فهذا أحد النظرين. (النظر الثاني) النظر في الآخرة واقبالها ومجيئها، ولا بد ودوامها وبقائها، وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات، والتفاوت الذي بينه وبين ما هاهنا، فهي كما قال الله سبحانه {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} فهي خيرات كاملة دائمة، وهذه خيالات ناقصة، منقطعة مضمحلة. فإذا تم له هذان النظران آثر ما يقتضي العقل إيثاره وزهد، فيما يقتضي الزهد فيه كل احدٍ مطبوع على أن لا يترك النفع العاجل واللذة الحاضرة، إلى النفع الآجل واللذة الغائبة المنتظرة، إلا إذا تبين له فضل الآجل على العاجل، وقويت رغبته في الأعلى الأفضل، فإذا آثر الفاني الناقص، كان ذلك إما لعدم تبين الفضل له وإما لعدهم رغبته في الأفضل.

وكل واحد من الأمرين يدل على ضعف الأيمان وضعف العقل والبصيرة، فأن الراغب في الدنيا الحريص عليها المؤثر لها، إما أن يصدق أن ما هناك أشرف وأفضل وأبقى، وأما أن لا يصدق فإن لم يصدق بذلك ولم يؤثره كان فاسد العقل سيء الاختيار لنفسه. وهذا تقسيم حاضر ضروري لا ينفك العبد من أحد القسمين منه فإيثار الدنيا على الآخرة إما من فساد في الإيمان، وإما من فساد في العقل، وما أكثر ما يكون منهما ولهذا نبذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وراء ظهره هو وأصحابه، وصرفوا عنها قلوبهم واطرحوها ولم يألفوها وهجروها ولم يميلوا إليها، وعدوها سجنًا لا جنة فزهدوا فيها حقيقة الزهد ولو أرادوها لنالوا منها كل محبوب ولو صلوا منها إلى كل مرغوب. فقد عرضت عليه مفاتيح كنوزها فردها، وفاضت على أصحابه فأثروا بها ولم يبيعوا بها حظهم من الآخرة بها، وعلموا أنها معبر وممر لا دار مقام ومستقر وأنها دار عبور لا دار سرور، وأنها سحابة صيف تنقشع عن قليل وخيال طيف ما استتم الزيادة حتى آذن بالرحيل. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «ما لي وللدنيا إنما أنا كراكب مال في ظل شجرة ثم راح وتركها» وقال «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يدخل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع» . وقال خالقها سبحانه {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} . شِعْرًا: ... إِذَا مَا أَصَبْنَا كُلَّ يَوْمٍ مُذَيْقَةً ... وَسَبْعُ تُمَيْرَاتٍ صِغَارٍ هَوَامِزِ فَنَحْنُ مُلُوكُ الأَرْضِ خِصْبًا وَنِعْمَةً ... وَنَحْنُ أُسُودُ الْغَابِ وَقْتَ الْهَزَاهِزِ

آخر: ... لا خَيْرَ فِي طَمَعٍ يُدْنِي لِمَنْقَصَةٍ ... وَحَفْنَةٌ مِنْ كَفَافِ الْعَيْشِ تَكْفِينِي آخر: ... لَعَمْرِي مَنْ أَوْلَيْتَهُ مِنْكَ نِعْمَةً ... وَمَدَّ لَهَا كَفًّا فَأَنْتَ أَمِيرُهُ وَمَنْ كُنْتُ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ فَإِنَّهُ ... أَمِيرُكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنْتَ أَسِيرُهُ وَمَنْ كُنْتَ عَنْهُ ذَا غِنَى وَهُوَ مَالِكٌ ... أَزِمَّةً أَمْوَالٍ فَأَنْتَ نَظِيرُهُ آخر: ... لَعَمْرِكَ مَا الدُّنْيَا بِدَارِ إِقَامَةٍ ... وَلا الْحَيُّ فِي دَارِ السَّلامَةِ آمِنُ تُحَارِبُنَا أَيَّامُنَا وَلَنَا رِضَىً ... بِذَلِكَ لَوْ أَنَّ الْمَنَايَا تُهَادِنُ أَرَى الْحِيرَةَ الْبَيْضَاءَ عَادَتْ قُصُورُهَا ... خَلاءً وَلَمْ تَثْبُتْ لِكِسْرى الْمَدَائِنُ رَكِبْنَا مِنَ الآمَالِ فِي الدَّهْرِ لُجَّةً ... فَمَا صَبَرَتْ لِلْمَوْجِ تِلْكَ السَّفَائِنُ فأخبر عن خسة الدنيا وزهد فيها وأخبر عن دار السلام ودعا إليها وقال تعالى {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} . وقال تعالى {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} . وقال {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} وقال تعالى {وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ} قد توعد سبحانه أعظم الوعيد لمن رضي بالحياة الدنيا واطمأن

بها وغفل عن آياته ولم يرج لقاءه فقال {إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} وعير سبحانه من رضي بالدنيا من المؤمنين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} . شِعْرًا: ... وَفَّيْتَ سَتِّينَ وَاسْتَكْمِلْتَ عِدَّتَهَا ... فَمَا بَقَاؤُكَ إِذْ وَفَّيْتَ سِتِّينَا فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ يَا مِسْكِينُ فِي مَهَلٍ ... فَكُلُّ يَوْمٍ تَرَى نَاسَا يَمُوتُونَا وعلى قدر رغبة العبد في الدنيا ورضاه بها يكون تثاقله عن طاعة الله وطلب الآخرة ويكفي في الزهد في الدنيا قوله تعالى {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} وقوله {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} . وقوله {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} وقوله تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا * إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} . وقوله {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} وقوله {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} وقوله {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً} . والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وسلم.

خُلِقْنَا لأَحْدَاثِ اللَّيَالِي فَرَائِسًا تَزَفُّ إِلَى الأَجْدَاثِ مِنَّا عَرَائِسَا تُجََِّز مِنَّا لِلْقُبُورِ عَسَاكِرًا وَتُرْدِفُ أَعْوَادُ الْمَنَايَا فَوَارِسَا إِذَ أَمَلٌ أَرْخَى لَنَا مِنْ عَنَانِهِ غَدَا أَجَلٌ عَمَّا نُحَاوِلُ حَابِسَا أَرَى الْغُصْنَ لَمَّا اجْتُتِّ وَهُوَ بِمَائِهِ رَطِيبًا وَمَا إِنْ أَصْبَحَ الْغِصْنُ يَا بِسَا نَشِيدُ قُصُورَا لِلْخُلُودِ سَفَاهَةً ... وَنَصِبرُ مَا شِئْنَا فُتُورًا دَوَارِسَا وَقَدْ نَعَتِ الدُّنْيَا إِلَيْنَا نُفُوسَنا ... بِمَنْ مَاتَ مِنَّا لَوْ أَصَابَتْ أَكَايِسَا لَقَدْ ضَرَبتْ كِسْرَى الْمُلُوكِ وَتُبَّعا ... وَقَيْصَرَ أَميَالاً فَلَمْ نَرَ قَائِسَا نَرَى مَا نَرَى مِنْهَا جَهَارا وَقَدْ غَدَا ... هَوَاهَا عَلَى نُورِ الْبَصِيرَةِ طَامِسَا وَقَدْ فَضَح الدُّنْيَا لَنَا الْمَوْتُ وَاعِظًا ... وَهَيْهَاتَ مَا نَزْدَادُ إِلا تَقَاعُسَا آخر: ... كَمْ سَالِمٍ أَسْلَمْتَهُ لِلرَّدَى فَقَضَى ... حَتْفًا وَلَمْ يَقْضِ مِنْ لَذَّاتِهَا وَاطَرَا وَمُتْرَفٍ قَلَبَتْ ظَهْرَ الْمِجَنَّ لَهُ ... فَعَادَ بَعْدَ عُلُّوِّ الْقَدْرِ مُحْتَقَرَا فَأَبْعِدَنْهَا وَلا تَحْفَلْ بِزُخْرُفِهَا ... وَغُضَّ طَرْفَكَ عَنْهُ قَلَّ أَوْ كَثُرَا فَكُلُّ شَيْءٍ تَرَاهُ الْعَيْنُ مِنْ حَسَنٍ ... كَرُ الأَهِلَّةِ لا يُبْقَى لَهُ أَثَرا وَاصْحَبْ وَصَلّ وَوَاصِلْ كُلِّ أونَةٍ ... عَلَى النَّبِيِّ سَلامًا طَيِّبًا عَطَرَا وَصَحْبِهِ وَمَنْ اسْتَهْدَى بِهَدْيِهِمُوا ... فَهُمْ أَئِمَّةُ مَنْ صَلَّى وَمَنْ ذَكَرَا اللهم يا حي يا قيوم يا بديع السموات والأرض نسألك أن توفقنا لما فيه صلاح ديننا ودنيانا وأحسن عاقبتنا وأكرم مثوانا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد. وعلى آله وصحبه أجمعين.

موعظة في بيان أن الناس في هذه الدنيا انقسموا قسمين لكل قسم غاية

موعظة: عباد الله إن الناس في هذه الحياة انقسموا قسمين قسم جعلوا غايتهم الكل والشرب والتمتع بملاذ الدنيا من مساكن وملابس وقضاء وطر وليس وراء هذه الغاية عندهم غاية أخرى فهم يقضون أوقاتهم يصرمون أعمارهم ليتمتعوا ما وسعهم التمتع فما بعد نظرهم الكليل الحسير وقلوبهم الميتة إلا العدم والفناء. وهؤلاء هم جند الشيطان شر خلق الله وأشقاهم قال تعالى {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} وقال {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} فهم صاروا كالأنعام لا يختلفون عنها إلا في الصورة والشكل وإلا في دخولهم النار ولذلك قال الله جل وعلا {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} . تلك هي غاية هذا الصنف أما مركزهم بين الناس فهو مركز الإفساد والإضلال ومآلهم جميعًا دخول النار، قال تعالى {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} وقال {قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} . الصنف الثاني الذين عرفوا الحقيقة والغاية التي خلقوا لها عرفوا أن الله خلقهم لعبادته كما قال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} أيقنوا بقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ} فغايتهم كما تقدم عبادة الله. ومنها الجهاد في سبيل الله والدعوة إليه وعمارة الأرض بفعل الخير وهداية الحيارى إلى الحق وقيادتهم في دروب الحياة الدنيا ووراءها الغاية العظمى والعليا وهي ابتغاء مرضاة الله وحده جل جلاله. قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا

جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . هذه مهمة المسلم وغايته فيها عبادة الله وحده وجهاده في سبيله يجاهد نفسه حتى يحملها على طاعة الله ويبعدها عن المعصية جهده ويجاهد بقلمه ولسانه وماله ويده في سبيل الله حتى تعلو كلمة الله ويستنير البشر بنور الإسلام. وقد اختار الله المسلمين لهذه المهمة دلالة الناس وقيادتهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور فلا مجال عن هذه المهمة الشريفة هذه طريقة الرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام قال الله تعالى: {َقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} . وقال صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية» . فكل واحد من المسلمين عليه على قدر حاله ولا يعذر وقال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} . فالذي يقول إنه مسلم عليه أن يبلغ ويدعو ويؤدي هذه الشهادة لهذا الدين شهادة تؤيد حق هذا الدين في البقاء ويؤيد الخير الذي يحمله هذا الدين للبشر.

وهو لا يؤيد هذه الشهادة تمامًا حتى يجعل من نفسه ومن خلقه ومن سلوكه ومن حياته صورة لهذا الدين صورة يراها الناس فيرون فيها مثلاً رفيعًا يشهد لهذا الدين الإسلامي بالأحقية في الوجود بالخيرية وبالأفضلية على سائر ما في الأرض. فالشهادة في النفس أولاً بمجاهدتها حتى تكون ترجمة له ترجمه حية في شعورها وسلوكها حتى صورة الأيمان في هذه النفس فيقولوا ما أطيب هذا الأيمان وما أحسنه وما أزكاه. وهو يصوغ أصحابه على هذا الشكل من الخلق والكمال فتكون هذه شهادة لهذا الدين في النفس يتأثر بها الآخرون والشهادة له بدعوة الناس إليه وبيان فضله ومحاسنه ومزيته بعد تمثل هذا الفضل. وهذه المزية في نفس الداعية فما يكفي أن يؤدي المؤمن الشهادة للأيمان في ذات نفسه إذا هو لم يدع إليها الناس وما يكون قد أدى الدعوة والتبليغ والبيان قال تعالى {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وقال: {ُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} الآية. ثم الشهادة لهذا الدين بمحاولة إقراره في الأرض منهجًا للجماعة المؤمنة ومنهجًا للبشرية جميعَا والمحاولة بكل ما يملك الفرد من وسيلة وبكل ما تملك الجماعة من وسيلة. فإقرار هذا المنهج في حياة البشر هو كبرى الأمانات بعد الأيمان الذاتي ولا يعفى من هذه الأمانة الأخيرة فرد ولا جماعة ومن ثم فالجهاد ماض إلى يوم القيامة. أ. هـ.

قصيدة وعظية زهدية مرئية للسلف رضي الله عنهم

شِعْرًا: ... لَقَدْ عَفَتْ مِنْ دِيَارِ الْعِلْمِ آثَارُ فَأَصْبَحَ الْعِلْمُ لا أَهْلٌ وَلا دَارُ يَا زَائِرِينَ دِيَارَ الْعِلْمِ لا تَفِدُوا فَمَا بِذَاكَ الْحِمَى وَالدَّارِ دَيَّارُ تَرَحَّلَ الْقَوْمُ عَنْهَا وَاسْتَمَرَّ بِهِمْ مُشَمِّرٌ مِنْ حُدَاةِ الْبَيْنِ سَيَّارُ قَدْ أَوْرَدَ الْقَوْمَ حَادِيهم حِيَاضَ رَدَى فَمَا لَهُمْ بَعْدَ ذَاكَ الْوِرْدِ إصْدَارُ لَهْفِي عَلَى سُرُجِ الدُّنْيَا الَّتِي طَفِئَتْ وَلا يَزَالُ لَهَا فِي النَّاسِ أَنْوَارُ لَهْفِي عَلَيْهِمْ رِجَالاً طَالَمَا صَبَرُوا وَهَكَذَا طَالِبُ الْعَلْيَاءِ صَبَّارُ لَهْفِي عَلَيْهِمْ رِجَالاً طَالَمَا عَدَلُوا بَيْنَ الأَنَامِ وَمَا حَابَوْا وَلا جَارُوا مَالُوا يَمِينًا عَنْ الدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا لأَنَّهَا فِي عُيُونِ الْقَوْمِ أَقْذَارُ وَصَاحَبُوهَا بِأَجْسَادٍ قُلُوبُهُمْ طَيْرٌ لَهَا فِي ظِلالِ الْعَرْشِ أَوْكَارُ هُم الَّذِينِ رَعَوا لِلْعِلْمِ حُرْمَتَهُ لِلْعِلْمِ بَيْنَهُمْ شَأْنٌ وَمِقْدَارُ صَانُوهُ طَاقَتَهُمْ عَنْ مَا يُدَنِّسُهُ كَمَا يَصُونُ نَفِيسَ الْمَالِ تُجَّارُ

كلام ابن القيم في التحذير من إبليس وجنوده

وَأَحْسَنُوا فِيهِ تَصْرِيفًا لأَنَّهُم لَهُمْ مِن اللهِ تَوْفِيقٌ وَإِقْدَارُ رَأَوْهُ كَالنَّجْمِ بُعْدًا لَيْسَ يُدْرِكُهُ بَاعٌ قَصِيرٌ وَفَهْم فِيهِ إِقْصَارُ فَدَوَّنُوهَا فُرُوعًا مِنْهُ دَانِيَةً لَكُلٍّ جَانٍ تَدَلَّتْ مِنْهُ أَثْمَارُ يَا صَاحِ فَالْزَمْ طَرِيقَ الْقَوْمِ مُتَّبِعًا فَرِيقَهُمْ لَيْسَ بَعْدَ الْيَوْمِ إِنْظَارُ وَوَاجِبٌ قَصْرُكَ الْمَمْدُودَ مِنْ أَمَلٍ مَسَافَةُ فِي دُنْيَاكَ أَشْبَارُ اللهم ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وارزقنا القيام بطاعتك وجبنا ما يسخطك وأصلح نياتنا وذرياتنا وأعذنا من شر نفوسنا وسيئات أعمالنا وأعذنا من عدوك واجعل هوانا تبعًا لما جاء به رسولك - صلى الله عليه وسلم - واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) وقال ابن القيم رحمه الله في التحذير من إبليس وجنوده وبيان شيء من حيله ومكره وكيده لبني آدم ووصاياه لجنوده كيف يوقعون بني آدم في المعاصي من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون وتوجيه جنوده إلى المداخل إلى قلوب بني آدم ليدمرهم ويهلكهم ويزجهم معه في السعير، وقال رحمه الله:

ولما علم سبحانه أن آدم، وبنيه قد بلوا بهذا العدو، وأنه قد سلط عليهم أمدهم بعساكر، وجند يلقونه بها، وأمد عدوهم أيضًا بجند وعساكر يلقاهم بها وأقام سوق الجهاد في هذه الدار في مدة العمر التي هي بالإضافة إلى الآخرة كنفس واحد من أنفاسها. واشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون، وأخبر أن ذلك وعد مؤكد في أشرف كتبه وهي التوراة، والإنجيل، والقرآن، وأخبر أنه أوفى بعهده منه سبحانه. ثم أمرهم أن يستبشروا بهذه الصفقة التي من أراد أن يعرف قدرها فلينظر إلى المشتري من هو، وإلى الثمن المبذول في هذه السلعة، وإلى من جرى على يديه هذا العقد، فأي فوز أعظم من هذا، وأي تجارة أربح منه. ثم أكد سبحانه هذا بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . ولم يسلط هذا العدو على عبده المؤمن الذي هو أحب أنواع المخلوقات إليه، إلا لأن الجهاد أحب شيء إليه وأهله أرفع الخلق عنده درجات وأقربهم إليه وسيلة.

فعقد سبحانه وتعالى لواء هذا الحرب لخلاصة مخلوقاته، وهو القلب الذي هو محل معرفته، ومحبته، وعبوديته، والإخلاص له والتوكل عليه، والإنابة إليه، فولاه أمر هذا الحرب. وأيده بجنده من الملائكة لا يفارقونه، قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ} يثبتونه ويحفظونه، ويأمرونه بالخير، ويخصونه عليه، ويعدونه بكرامة الله، ويصبرونه، ويقولون: إنما هو صبر ساعة وقد استرحت راحة الأبد. ثم أمده بجند آخر من وحيه، وكلامه، فأرسل إليه رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزل إليه كتابه، فازداد قوة إلى قوته، ومدادًا إلى مدده وعدة إلى عدته. وأيده مع ذلك بالعقل وزيرًا له ومدبرًا، وبالمعرفة مشيرة عليه وناصحة له، وبالإيمان مثبتًا له، ومؤيدًا، وناصرًا، وباليقين كاشفًا له عن حقيقة الأمر كأنه يعاين ما وعد الله تعالى به أولياءه وحزبه على جهاد أعدائه. فالعقل يدبر أمر جيشه، والمعرفة تصنع له أمور الحرب وأسبابها ومواضعها اللاحقة بها، والإيمان يثبته ويقويه ويصبره، واليقين يقدم به ويحمل به الحملات الصادقة. ثم أمد سبحانه القائم بهذه الحرب بالقوى الظاهرة والباطنة، فجعل العين طليعته والأذن صاحب خبره، واللسان ترجمان، واليدين والرجلين أعوانه.

وأقام ملائكته وحملة عرشه يستغفرون له، ويسألون له أن يقيه السيئات، ويدخله الجنات، وتولى سبحانه الدفع عنه والدفاع عنه بنفسه. وقال: هؤلاء حزبي وحزب الله المفلحون، وقال تعالى: {ُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وهؤلاء جندي وجند الله هم الغالبون. وعلم سبحانه عباده كيف هذا الحرب والجهاد فجمعها لهم في أربع كلمات، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . ولا يتم أمر هذا الجهاد إلا بهذه الأمور الأربعة، فلا يتم له الصبر إلا بمصابرة العدو، وهي مقاومته، ومنازلته، فإذا صابر عدوه احتاج إلى أمر آخر وهو المرابطة وهي لزوم ثغر القلب وحراسته لئلا يدخل معه العدو ولزوم ثغر العين، والأذن واللسان، والبطن، واليد، والرجل. فهذه الثغور منها يدخل العدو، فيجوس خلال الديار، ويفسد ما قدر عليه، فالمرابطة لزوم هذه الثغور، ولا يخلى مكانها فيصادف العدو الثغر خاليًا فيدخل منه. فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى اله عليه وسلم، خير الخلق بعد النبيين والمرسلين، وأعظمهم حماية، وحراسة من الشيطان، وقد أخلوا المكان الذي أمروا بلزومه يوم أحد، فدخل منه العدو فكان ما كان. وجماع هذه الثلاثة الذي تقوم به هو تقوى الله تعالى فلا ينفع الصبر ولا المصابرة، ولا المرابطة، إلا بالتقوى ولا تقوم التقوى إلا

على ساق الصبر، فانظر الآن فيك إلى التقاء الجيشين واصطدام العسكريين، وكيف تدال مرة. ويدال عليك مرة أخرى. أقبل ملك الكفرة بجنوده وعساكره، فوجد القلب في حصنه جالسًا على كرسي مملكته، أمره نافذٌ في أعوانه، وجنده قد حفوا به يقاتلون عنه، ويدافعون عن حوزته، فلم يمكنه الهجوم عليه إلا بمخامرة بعض أمرائه وجنده عليه. فسال عن أخص الجند به، وأقربهم منه منزلة، فقيل له هي النفس، فقال لأعوانه ادخلوا عليها من مرادها وانظروا مواقع محبتها، وما هو محبوبها، فعدوها به، ومنوها إياه، وانقشوا صورة المحبوب فيها في يقظتها ومنامها. فإذا اطمأنت إليه وسكنت عنده فاطرحوا عليها كلاليب الشهوة وخطاطيفها، ثم جروها بها إليكم. فإذا خامرت على القلب وصارت معكم عليه ملكتم ثغور العين، والأذن واللسان، والفم واليد، والرجل، فرابطوا على هذه الثغور وكل المرابطة فمتى دخلتم منها إلى القلب فهو قتيلٌ أو أسيرٌ أو جريحٌ مثخن الجراحات. ولا تخلوا هذه الثغور، ولا تمكنوا سرية تدخل فيه إلى القلب فتخرجكم منها، وان غلبتم فاجتهدوا في أضعاف السرية ووهنا، حتى لا تصل إلى القلب وإن وصلت ضعيفة لا تغني عنه شيئًا. فإذا استوليتم على هذه الثغور، فامنعوا ثغر العين أن يكون نظره

اعتبارًا بل اجعلوا نظره تفرجًا، واستحسانًا، وتلهيًا، فان استرق نظره عبرة، فأفسدوها عليه بنظرة الغفلة، والاستحسان والشهوة، فإنه أقرب غليه، وأعلق بنفسه، وأخف عليه. ودونكم ثغر العين فإن منه تنالون بغيتكم، فإني ما أفسدت بني آدم بشيء مثل النظر، فإني أبذر به القلب بذر الشهوة، ثم اسقيه بماء الأمنية، ثم لا أزال أعده وأمنيه حتى أقوي عزيمته وأقوده بزمام الشهوة، إلى الانخلاع من العصمة. فلا تهملوا أمر هذا الثغر وأفسدوه بحسب استطاعتكم وهونوا عليه أمره وقولوا له مقدار نظرة تدعوك إلى تسبيح الخالق والتأمل لبديع صنعه وحسن هذه الصورة التي إنما خلقت ليستدل بها الناظر عليه وما خلق الله لك العينين سدى وما خلق هذه الصورة ليحجبها عن النظر. ثم امنعوا ثغر الأذن أن يدخل منه ما يفسد عليكم الأمر فاجتهدوا أن لا تدخلوا منه إلا الباطل فإنه خفيف على النفس تستحليه وتستحسنه وتخيروا له أعذب الألفاظ وأسحرها للألباب وامزجوه بما تهوى النفس مزجًا وألقوا الكلمة فان رأيتم منه إصغاء إليها فزجوه بأخواتها وكلما صادفتم منه استحسان شيء فالهجوا له بذكره. وإياكم أن يدخل هذا الثغر شيء من كلام رسوله صلى الله عليه وسلم أو كلام النصحاء فإن غلبتم على ذلك ودخل من ذلك شيء فحولوا بينه وبين فهمه وتدبره والتفكر فيه والعظة به إما بإدخال ضده عليه وأما بتهويل ذلك وتعظيمه وان هذا الأمر قد حيل بين النفوس وبينه فلا سبيل لها أليه وهو حمل يثقل عليها لا تستقل به ونحو ذلك.

وأما بأرخصه على النفوس وأن الاشتغال ينبغي أن يكون بما هو أعلى عند الناس وأعز عليهم واغرب عندهم والقابلون له أكثر وأما الحق فهو مهجور وقائله معرض نفسه للعداوة. والرائج بين الناس أولى بالإيثار ونحو ذلك فيدخلون الباطل عليه في كل قالب يقلبه ويخف عليه وتخرجون له في قالب يكرهه ويثقل عليه. وإذا شئت أن تعرف ذلك انظر إلى إخوانهم من شياطين الأنس كيف يخرجون الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر في قالب كثرة الفضول وتتبع عثرات الناس والتعرض من البلا لما لا يطيق وإلقاء الفتن بين الناس ونحو ذلك. والمقصود أن الشيطان لزم ثغر الأذن أن يدخل فيها ما يضر العبد ولا ينفعه ويمنع أن يدخل إليها ما ينفعه وأن دخل بغير اختيار أفسده عليه. ثم يقول: قوموا على ثغر اللسان، فإنه الثغر الأعظم، وهو قبالة الملك، فأجروا عليه من الكلام ما يضره ولا ينفعه وامنعوه أن يجري عليه شيء مما ينفعه، من ذكر الله تعالى، واستغفاره، وتلاوة كتابه ونصيحة عباده، والتكلم بالعلم النافع، ويكون في هذا الثغر أمران عظيمان، لا تبالون بأيهما ظفرتم. أحدهما: التكلم بالباطل، فإن المتكلم بالباطل أخ من إخوانكم ومن اكبر جندكم وأعوانكم. والثاني: السكوت عن الحلق، فإن الساكت عن الحق أخ لكم أخرس، كما أن الأول أخ ناطق، وربما كان الأخ الثاني أنفع أخويكم لكم،

أما سمعتم قول الناصح «المتكلم بالباطل شيطان ناطق، والساكت عن الحق شيطان أخرس» . فالرباط على هذا الثغر أن يتكلم بحق أو يمسك عن باطل وزينوا له التكلم بالباطل بكل طريق، وخوفوه من التكلم بالحق بكل طريق. واعلموا يا بني أن ثغر اللسان هو الذي أهلك منه بني آدم وأكبهم منه على مناخرهم في النار فكم لي من قتيل وأسير وجريح أخذته من هذا الثغر. وأوصيكم بوصية فاحفظوها، لينطق أحدكم على لسان أخيه من الإنس بالكلمة، ويكون الآخر على لسان السامع، فينطق باستحسانها وتعظيمها والتعجب منها، ويطلب من أخيه إعادتها، وكونوا أعوانًا على الإنس بكل طريقٍ، وادخلوا عليهم من كل بابٍ، واقعدوا لهم كل مرصد. أما سمعتم قسمي الذي أقسمت به لربهم حيث قلت {16: 17 - فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} أو ما تروني قد قعدت لابن آدم بطرقة كلها، فلا يفوتني من طريق إلا قعدت له بطريق غيره، حتى أصيب منه حاجتي أو بعضها. وقد حذرهم ذلك رسولهم وقال لهم: «إن الشيطان قد قعد لابن آدم بطرقه كلها، وقعد له بطريق الإسلام. فقال أتسلم وتذر دينك ودين آبائك، فخالفه وأسلم. فقعد له بطريق الهجرة، فقال: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك، فخالفه وهاجر، فقعد له بطريق الجهاد، فقال: أتجاهد فتقتل فيقسم المال وتنكح الزوجة.

فهكذا فاقعدوا لهم بكل طرق الخير، فإذا أراد أحدهم أن يتصدق فاقعدوا له على طريق الصدقة، وقولوا له في نفسه: أتخرج المال فتبقى مثل هذا السائل، وتصير بمنزلته أنت وهو سواء. أو ما سمعتم ما ألقيت على لسان رجل سأله آخر أن يتصدق عليه، فقال: هي أموالنا إن أعطيناكموها صرنا مثلكم. واقعدوا له بطريق الحج، فقولوا: طريقة مخوفة مشقة، يتعرض سالكها لتلف النفس والمال، وهكذا فاقعدوا على سائر طرق الخير بالتنفير عنها وذكر صعوبتها وآفاتها. ثم أقعدوا لهم على طرق المعاصي فحسنوها في أعين بني آدم، وزينوها في قلوبهم، واجعلوا أكثر أعوانكم على ذلك النساء، فمن أبوابهن فادخلوا عليهم فنعم العون هن لكم. ثم الزموا ثغر اليدين والرجلين، فامنعوها أن تبطش بما يضركم وتمشي فيه. اللهم ألحقنا بعبادك الصالحين الأبرار، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ’ وقنا عذاب النار، واغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) وقال رحمه الله يحكيه في التحذير عن إبليس وجنوده: واعملوا أن أعوانكم على لزوم الثغور مصالحة النفس الأمارة

فأعينوها واستعينوا بها، وأمدها واستمدوا منها، وكونوا معها على حرب النفس المطمئنة فاجتهدوا في كسرها وابطال قواها ولا سبيل إلى ذلك ألا بقطع موادها عنها. فإذا انقطعت موادها وقويت مواد النفس الأمارة، وانطاعت لكم أعوانها فاستنزلوا القلب من حصنه، واعزلوه عن مملكته، وولوا مكانه النفس المارة، فأنها لا تأمر إلا بما ترونه وتحبونه، ولا تجيئكم بما تكرهونه البتة، مع أنها لا تخالفكم في شيء تشيرون به عليها، بل إذا أشرتم عليها بشيء بادرت إلى فعله. فان أحسنتم من القلب منازعة إلى مملكته، وأردتم الأمن من ذلك فاعقدوا بينه وبين النفس عقد النكاح، فزينوها وجملوها وأوروها إياه في أحسن صورة عروس توجد، وقولوا له: ذق طعم هذا الوصال وتمتع بهذه العروس، كما ذقت طعم الحرب وباشرت مرارة الطعن والضرب. ثم وازن بين لذة هذه المسألة ومرارة تلك المحاربة، فدع الحرب تضع أوزارها، فليست بيوم وتنقضي، وإنما هو حرب متصل بالموت، وقواك تضعف عن حرب دائم. واستعينوا يا بني بجندين عظيمين لن تغلبوا معهما: أحدهما: جند الغفلة، فأغفلوا قلوب بني آدم عن الله تعالى والدار الآخرة بكل طريق، فليس لكم شيء أبلغ في تحصيل غرضكم من ذلك، فإن القلب إذا غفل عن الله تعالى تمكنتم منه ومن إغوائه.

والثاني: جند الشهوات، فزينوها في قلوبهم، وحسنوها في أعينهم وصلوا عليهم بهذين العسكريين، فليس لكم من بني آدم ابلغ منهما، واستعينوا على الغفلة بالشهوات، وعلى الشهوات بالغفلة وأقرنوا بين الغافلين. ثم استعينوا بهما على الذاكر، ولا يغلب واحد خمسة، فإن مع كل واحد من الغافلين شيطانين صاروا أربعة، وشيطان الذكر معهم، وإذا رأيتم جماعة مجتمعين على ما يضركم_ من ذكر الله أو مذاكرة أمره ونهيه ودينه، ولم تقدروا على تفريقهم- فاستعينوا عليهم ببني جنسهم من الأنس البطالين، فقربوهم منهم، وشوشوا عليهم بهم. وبالجملة فأعدوا للأمور أقرانها، وادخلوا على كل واحد من بني آدم من باب إرادته وشهوته، فساعدوه عليها، وكونوا أعوانا له على تحصيلها، وإذا كان الله قد أمرهم أن يصيروا لكم ويصابروكم ويرابطوا عليكم الثغور فاصبروا وأنتم صابروا ورابطوا عليهم بالثغور، وانتهزوا فرصكم فيهم عند الشهوة والغضب، فلا تصطادون بني آدم في أعظم من هذين الموطنين. واعلموا أن منهم من يكون سلطان الشهوة عليه أغلب وسلطان غضبه ضعيف مقهور، فخذوا عليه طريق الشهوة، ودعوا طريق الغضب، ومنهم من يكون سلطان الغضب عليه أغلب، فلا تخلوا طريق الشهوة قلبه، ولا تعطلوا ثغرها، فإن من لم يملك نفسه عند الغضب فإنه بالحري أن لا يملك نفسه عند الشهوة، فزوجوا بين غضبه وشهوته وامزجوا أحدهما بالآخر، وادعوه إلى الشهوة من باب الغضب، والى الغضب من طريق الشهوة.

واعلموا أنه ليس لكم في بني آدم سلاح أبلغ من هذين السلاحين وإنما أخرجت أبويهم من الجنة بالشهوة وإنما ألقيت العداوة بين أولادهم بالغضب فبه قطعت أرحامهم وسفكت دمائهم وبه قتل أحد ابني آدم أخاه واعلموا أن الغضب جمرة في قلب ابن آدم والشهوة نار تثور من قلبه وإنما تطفأ النار بالماء والصلاة والذكر والتكبير. فإياكم أن تمكنوا ابن آدم عند غضبه وشهوته من قربان الوضوء والصلاة فان ذلك عنهم نار الغضب والشهوة وقد أمرهم نبيهم بذلك فقال إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم أما رأيتم من احمرار عينيه وانتفاخ أودجه فمن أحس بذلك فليتوضأ وقال لهم إنما تطفأ النار بالماء وقد أوصاهم أن يستعينوا عليكم بالصبر والصلاة. فحولوا بينهم وبين ذلك وأنسوهم إياه واستعينوا عليهم بالشهوة والغضب وأبلغ أسلحتكم فيهم وأنكاها الغفلة وأتباع الهوى وأعظم أسلحتهم فيكم وأمنع حصونهم ذكر الله ومخالفة الهوى فإذا رأيتم الرجل لهواه فاهربوا من ظله ولا تدنوا منه. والمقصود أن الذنوب والمعاصي سلاح ومدد يمد بها العبد أعداءه ويعينهم بها على نفسه فيقاتلونه بسلاحه ويكون معهم على نفسه وهذا غاية الجهل. مَا يَبْلُغُ الأَعْدَاءُ مِنْ جَاهِلٍ مَا يَبْلُغُ الْجَاهِلُ مِنْ نَفْسِهِ انتهى كلامه رحمه الله بتصرف يسير.

وله رحمه الله من النونية في ذم الدنيا ويليها موعظة

وقال رحمه الله يصف الدنيا: لَكِنَّ ذَا الإِيمَانِ يَعْلَمُ أَنَّ هَا ذَا كَالضَّلالِ وَكُلُّ هَذَا فَانِ كَخَيَالِ طَيْفٍ مَا اسْتَتَمَّ زِيَارَةً إِلا وَصُبْحُ رَحِيلِهِ بِأَذَانِ وَسَحَابَةٍ طَلَعَتْ بِيَوْمٍ صَائِفٍ فَالظِّلُّ مَنْسُوخٌ بِقُرْبِ زَمَانِ وَكَزَهْرَةٍ وَافَى الرَّبِيعُ بِحُسْنِهَا أَوْ لامِعًا فَكِلاهُمَا إِخْوَانِ أَوْ كَالسَّرَابِ يَلُوحُ لِلظَّمْآنِ فِي وَسَطَ الْهَجِيرِ بِمُسْتَوَى الْقِيعَانِ أَوْ كَالأَمَانِي طَابَ مِنْهَا ذِكْرُهَا بِالْقَوْلِ وَاسْتِحْضَارُهَا بِجَنَانِ وَهِيَ الْغُرُورُ رُؤُوسُ أَمْوَالِ الْمَفَا لِيسِ الأُولَى اتَّجَرُوا بِلا أَثْمَانِ أَوْ كَالطَّعَامِ يَلَذُّ عِنْدَ مَسَاغِهِ لَكِنَّ عُقْبَاهُ كَمَا تَجِدَانِ هَذَا هُوَ الْمَثَلُ الَّذِي ضَرَبَ الرَّسُو لُ لَهَا وَذَا فِي غَايَةِ التِّبْيَانِ وَإِذَا أَرَدْتَ تَرَى حَقِيقَتَهَا فَخُذْ مِنْهُ مِثَالاً وَاحِدًا ذَا شَانِ أَدْخِلْ بِجَهْدِكَ أَصْبُعًا فِي الْيَمِّ وَانْـ

.. ـظُرْ مَا تَعَلَّقَهُ إِذَا بعَيَانِ هَذَا هُوَ الدُّنْيَا كَذَا قَالَ الرَّسُو لُ مُمَثِّلاً وَالْحَقُّ ذُو تِبْيَانِ وَكَذَاكَ مَثَّلَهَا بِظِلِّ الدَّوْحِ فِي وَقْتِ الْحَرُورِ لِقَائِلِ الرُّكْبَانِ هَذَا وَلَوْ عَدَلَتْ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ عِنْدَ الإِلَهِ الْحَقِّ فِي الْمِيزَانِ لَمْ يَسْقِ مِنْهَا كَافِرًا مِنْ شَرْبَةٍ مَاءً وَكَانَ الْحَقُّ بِالْحِرْمَانِ تَاللهِ مَا عَقَلَ امْرُؤٌ قَدْ بَاعَ مَا يَبْقَى بِمَا هُوَ مُضْمَحِلِّ فَانِ هَذَا وَيُفْتِي ثُمَّ يَقْضِي حَاكِمًا بِالْحِجْرِ مِنْ سَفَهٍ لِذَا الإِنْسَانِ إِذْ بَاعَ شَيْئًا قَدْرُهُ فَوْقَ الَّذِي يُعْتَاضُهُ مِنْ هَذِهِ الأَثْمَانِ فَمَنِ السَّفِيهُ حَقِيقَةً إِنْ كُنْتَ ذَا عَقْلٍ وَأَيْنَ الْعَقْلَ لِسَّكْرَانِ وَاللهِ لَوْ أَنَّ الْقُلُوبَ شَهِدْنَ مِنْ مِـ نَا كَانَ شَأْنٌ غَيْرَ هَذَا الشَّانِ نَفْسٌ مِنْ الأَنْفَاسِ هَذَا الْعَيْش إِنْ قِسْنَاهُ بِالْعَيْشَ الطَّوِيل الثَّانِي يَا خِسَّةَ الشُّرَكَاءِ مَعْ عَدَمِ الْوَفَا

.. ءِ وَطُولَ جَفْوَتِهَا مِنْ الْهِجْرَانِ هَلْ فِيكَ مُعْتَبَرٌ فَيَسْأَلُوا عَاشِقٌ بِمَصَارِعِ الْعُشَّاقِ كُلَّ زَمَانِ لَكِنْ عَلَى تِلْكَ الْعُيُونِ غِشَاوَةٌ وَعَلَى الْقُلُوبِ أَكِنَّةُ النِّسْيَانِ وَأَخُو الْبَصَائِرِ حَاضِرٌ مُتَيَقِّظُ مُتَفَرِّدٌ عَنْ زُمْرَةِ الْعُمْيَانِ يَسْمُوا إِلَى ذَلِكَ الرَّفِيقِ الأَرْفَعِ اَلأَ عْلَى وَخَلَّى اللِّعْبَ لِلصِّبْيَانِ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ فَصِبْيَانٌ وَإِنْ بَلَغُوا سِوَى الأَفْرَادِ وَالْوِحْدَانِ وَإِذَا رَأَى مَا يَشْتَهِيهُ يَقُولُ مَوْ عِدُكِ الْجِنَانُ وَجَدَّ فِي الأَثْمَانِ وَإِذَا أَبَتْ إِلا الْجِمَاحَ أَعَاضَهَا بِالْعِلْمِ بَعْدَ حَقَائِقِ الإِيمَانِ وَيَرَى مِن الْخُسْرَانِ بَيْعَ الدَّائِمِ الْـ بَاقِي بِهِ يَا ذِلَّةَ الْخُسْرَانِ وَيَرَى مَصَارِعَ أَهْلِهَا مِنْ حَوْلِهِ وَقُلُوبُهُمْ كَمَرَاجِلِ النِّيرَانِ حَسَرَاتُهَا هُنَّ الْوُقُودُ فَإِنْ خَبَتْ زَادَتْ سَعِيرًا بِالْوُقُودِ الثَّانِي جَاؤُا فُرَادَى مِثْلَ مَا خُلِّقُوا بِلا

موعظة

.. مَالٍ وَلا أَهْلٍ وَلا إِخْوَانِ مَا مَعَهُمُوا شَيْءٌ سِوَى الأَعْمَالِ فَهِـ ـيَ مَتَاجِرٌ لِلنَّارِ أَوْ لِجِنَانِ تَسْعَى بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ شَوْقًا إِلَى الدَّ ارِينِ سَوْقَ الْخَيْلِ بِالرُّكْبَانِ صَبَرُوا قَلِيلاً فَاسْتَرَاحُوا دَائِمًا يَا عِزَّةَ التَّوْفِيقِ للإِنْسَانِ حَمَدُوا التُّقَى عِنْدَ الْمَمَاتِ كَذَا السُّرَى عِنْدَ الصَّبَاحِ فَحَبَّذَا الْحَمْدَانِ وَخَدَتْ بِهِمْ عَزَمَاتُهُمْ نَحْوَ الْعُلَى وَسَرَوْا فَمَا نَزَلُوا إِلَى نُعْمَانِ بَاعُوا الَّذِي يَفْنَى مِنْ الْخَزَفِ الْخَسِيـ سِ بِدَائِمٍ مِنْ خَالِصِ الْعِقْيَانِ رُفِعَتْ لَهُمْ فِي السَّيْرِ أَعْلامُ السَّعَا دَةِ وَالْهُدَى يَا زَلَّةَ الْحَيْرَانِ تَتَسَابَقَ الأَقْوَامُ وَابْتَدَرُوا لَهَا كَتَسَابُقِ الْفُرْسَانِ يَوْمَ رِهَانِ وَأَخُو الْهَوِينَا فِي الدِّيَارِ مُخَلَّفٌ مَعْ شَكْلِهِ يَا خَيْبَةِ الْكَسْلانِ (موعظة) وعن الحسن البصري رضي الله عنه انه قال: الدنيا دار عمل، فمن صحبها بالبغض لها، والزهاده فيها، والهضم لها، سعد بها، ونفعته صحبتها.

ومن صحبها بالرغبة فيها، والمحبة لها، شقي بها، وأجحفت بحظه من الله تعالى، ثم أسلمته إلى ما لا صبر له عليه من عذاب الله وسخطه. فأمرها صغير، ومتاعها قليل، والفناء عليها مكتوب، والله ولي ميراثها، وأهلها يتحولون إلى منازل لا تبلى، ولا يغيرها طول الزمن، ولا العمر فيها يفنى فيموتون، ولا إن طال الثواء فيها يخرجون – ولا حول ولا قوة إلا بالله – ذلك الموطن، وأكثروا ذكر ذلك القلب. نظرا ابن مطيع إلى داره فأعجبه حسنها ثم بكى، ثم قال: والله لولا الموت لكنت بك مسرورًا، ولولا ما نصير إليه من ضيق القبور لقرت بالدنيا أعيننا، ثم بكى حتى ارتفع صوته. قال أبو زيد الرقي: قال أبو محمد الفضيل بن عياض رضي الله عنه يا أبا زيد اشتريت دارًا؟ قلت: نعم. قال: وأشهدت شهودًا؟ قلت: نعم. قال: فإنه والله يأتيك من لا ينظر في كتابك، ولا يسأل عن بيتك، فيخرجها منها عريانًا مجردًا. فانظر أن لا تكون اشتريت هذه الدار من غير مالك، ووزنت فيها مالاً من غير حلة، فإذا أنت قد خسرت الدنيا والآخرة. شِعْرًا: ... خُلِقْنَا لِلْحَيَاةِ وَلِلْمَمَاتِ وَفِي هَذَيْنِ كُلُّ الْحَادِثَاتِ وَمَنْ يُولَدْ يَعِشْ وَيَمُتْ كَأَنْ لَمْ يَمُرَّ خَيَالُهُ بِالْكَائِنَاتِ وَمَهْدُ الْمَرْءِ فِي أَيْدِي الرَّوَاقِي كَنَعْشِ الْمَرْءِ بَيْنَ النَّائِحَاتِ وَمَا سَلِمَ الْوَلِيدُ مِنْ اشْتِكَاءٍ فَهَلْ يَخل الْمُعَمَّرُ مِنْ أَذَاتِ

هِيَ الدُّنْيَا قِتَالٌ نَحْنُ فِيهَا مَقَاصِدُ لِلْحِسَانِ وَلِلْقَنَاتِ آخر: ... لَعَمْرُكَ مَا حَيُّ وَإِنْ طَالَ سَيْرُهُ يُعَدُّ طَلِيقًا وَالْمَنُونُ لَهُ أَسْرُ وَلا تَحْسَبَنَّ الْمَرْءَ فِيهَا بِخَالِدٍ وَلَكِنَّهُ يَسْعَى وَغَايَتُهُ الْقَبْرُ آخر: ... قِفْ بِالْقُبُور وَنَادِ الْمُسْتَقِرَّ بِهَا مِنْ أَعْظُمٍ بَلَيْتَ فِيهَا وَأَجْسَادِ قَوْمٌ تَقَطَّعَتِ الأَسْبَابُ بَيْنَهُوا بَعْدَ الْوِصَالِ فَصَارُوا تَحْتَ أَلْحَادِ وَاللهُ لَوْ بُعْثَرُوا يَوْمًا وَلَوْ نُشِرُوا قَالُوا بِأَنَّ التُّقَى مِنْ أَعْظِمِ الزَّادِ آخر: ... نُراعُ لِذِكْرِ الْمَوْتِ سَاعَةَ ذِكْرِهِ وَتَعْتَرِضُ الدُّنْيَا فَنَلهُوا وَنَلْعَبُ يَقِينٌ كَأَنَّ الشَّكَّ غَالِبُ أَمْرِهِ عَلَيْهِ وَعِرْفَانُ إِلَى الْجَهْلِ يُنْسَبُ آخر: ... وَدُنْيَاكَ الَّتِي غَرَّتْكَ مِنْهَا ... زَخَارِفُهَا تَصِيرُ إِلَى انْجِذَاذِ تَزَحْزَحْ عَنْ مَهَالِكِهَا بِجُهْدٍ ... فَمَا أَصْغَى إِلَيْهَا ذُو نَفَاذِ

فوائد ومواعظ ونصائح

لَقَدْ مُزِجَتْ حَلاوَتُهَا بِسُمٍّ ... فَمَا كَالْحِذْرِ مِنْهَا مِنْ مَلاذِ عَجِبْتُ لِمُعْجِبٍ بِنَعِيمِ دُنْيَا ... وَمَغْبُونِ بِأَيَّامٍ لِذَاذِ وَمُؤْثِرٍ الْمَقَامَ بِأَرْضٍ قَفْرٍ ... عَلَى بَلَدٍ خَصِيبِ ذِي رَذَاذِ اللهم نور قلوبنا بنور الإيمان وثبتها على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة واجعلنا هداة مهتدين وتوفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين وصلى آله على محمد. وعلى آله وصحبه أجمعين. فوائد ومواعظ ونصائح قال أحد العلماء: اعلم أنه لا يسلم إنسان من النقص إلا من عصمه الله كالرسل قال الله جل وعلا عن الإنسان {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} وقال - صلى الله عليه وسلم -: «كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون» . فمن خفيت عليه عيوبه فقط سقط. وصار من السخف والرذالة والخسة وضعف التمييز والعقل وقله الفهم بحيث لا يختلف عن متخلف من الرذائل. وعليه أن يتدارك نفسه بالبحث عن عيوبه والسؤال عنها بدقه وأكثر من يفهم عيوب الإنسان أعداؤه لأنهم دائمًا ينقبون عنها 0 وكذلك الأصدقاء الناصحين الصادقين المنصفين يفهمونها غالبًا. فالعاقل يشتغل بالبحث عنها والسعي في إزالتها ولا يتعرض لعيوب الناس التي لا تضره لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا من باب النصيحة. كما لو رأى إنسانا معجبًا بنفسه فيبدى له النصح وجها لوحه لا خلف ظهره.

واحذر أن تقارن بينك وبين من هو أكثر منك عيوبًا فتستسهل الرذائل وتهاون بعيوبك. لكن قارن بين نفسك ومن هو أفضل منك لتسلم من عجبك بنفسك وتفيق من داء الكبر والعجب الذي يولد عليك الاستحقار والاستخفاف بالناس مع العلم بأن فيهم من هو خير منك. فإذا استخففت بهم بغير حق استخفوا بك بحق لأن الله جل وعلا وتقدس يقول {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} . فتسبب على نفسك أن تكون أهلاً للاستخفاف بك مع ما تجنيه من الذنوب وطمس ما فيك من فضليه. فإن كنت معجبًا بعقلك ففكر وتأمل في كل فكرة سوء تحل بخاطرك وفي أضاليل الأماني الطائفة بك فإنك تعلم نقص عقلك حينئذ 0 وإن أعجبت بآرائك فتأمل وفكر في غلطاتك وسقطاتك واحفظها وتذكرها ولاتنسها0 وفى رأي كنت تراه صوابًا فتبين لك خطؤك وصواب غيرك والغالب أن خطاك أكثر من الصواب. وهكذا ترى الناس غير الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وإن أعجبت بعملك فتفكر في معاصيك هل بيتك خال من الملاهي والمنكرات مثل الصور والتلفاز والمذياع وأغانيه والمجلات والجرائد التي فيها صور ذوات الأرواح 0 وهل هو خال من الأولاد الذي لا يشهدون الجماعة وهل أنت سالم من الغيبة وإخلاف الوعد والكذب والحسد والكبر والرياء. والعقوق وقطيعه الرحم والظلم والربا والدخان وحلق اللحية0

والغش وقول الزور وسوء الظن بالمسلمين والتجسس والاحتقار لهم ونحو ذالك. فأنت إذا تفقدت نفسك وبيتك وأولادك وجدت عندك من الشرور والآثام ما بعضه يغلب على ما أعجبت به من عملك لا تدرى هل هو مقبول أو مردود. وإن أعجبت بعلمك أو عملك فأعلم أنه موهوبة من العزيز العليم وهبك إياها فلا تقابلها بما يسخطه عليك 0قال تعالى: {وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً} . قال الله جل وعلا {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} وقال سبحانه وتعالى {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} . وأسأل الله أن يزيد منه، وأن يجعله حجة لك لا عليك، قال تبارك وتعالى {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} . وتفكر فيما تحمله من العلم هل أنت عامل به أم لا واجعل مكان عجبك بنفسك واستنقاصًا لها واستقصارًا فهو أولى بك. وتفكر فيمن كان أعلم منك تجدهم كثيرًا، ثم اعلم أن العلم الذي تفتخر فيه ربما يكون وبالاً عليك. فيكون الجاهل أحسن حالاً ومالاً وأعذر منك فبذلك التفكير يزول العجب والكبر عنك وتهون نفسك عندك حينئذٍ. وإن أعجبت بشجاعتك وقوتك فتفكر فيمن هو أشجع وأقوى منك ثم أنظر في تلك النجدة التي منحك الله تعالى فيم صرفتها. فإن كنت صرفتها في معصية الله فأنت آثم لأنك بذلت نفسك فيما ليس ثمنا لها0

وإن كنت صرفتها في طاعة فقد أفسدتها بإعجابك بعملك. ثم تفكر في زوالها عنك وقت الكبر عندما تنحل قوتك ويضعف جسمك وتدفع الأرض عند قيامك وقعودك ومردك إليها 0 تَسَاقَطُ أَسْنَانٌ وَيَضْعُفُ نَاضِرٌ ... وَتَقْصُرُ خُطْوَاتٌ وَيَثْقُل مَسْمَعُ قال الله جل وعلا وتقدس {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} 0 وقال وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره0 بل غرضه تتبع مرضاه الله تعالى أينما كانت فمدار تعبده عليها فلا يزال متنقلاً في منازل العبودية كلما رفعت له منزلة عمل على سيره إليها واشتغل بها 0 حتى تلوح له منزله أخرى فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره 0 فإن رأيت العلماء رأيته معهم 0 وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم 0 وإن رأيت العباد رأيته معهم 0 وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم 0 وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم 0 وإن رأيت أرباب الجمعية وعكوف القلب على الله رأيته معهم 0 فهذا هو العبد المطلق الذي لم تملكه الرسوم ولم تقيده القيود 0 ولم يكن عمله على مراد نفسه وما فيه لذتها وراحتها من العبادات. بل هو على مراد ربه ولو كانت لذة نفسه وراحتها في سواه.

فوائد ومواعظ

فهذا هو المتحقق ب {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} حقا القائم بهما صدقا. ملبسة ما تهيا، ومأكله ما تيسر، واشتغاله بما أمر الله به في كل وقت بوقته ومجلسه حيث انتهى به المكان ووجده خاليا. لا تملكه إشارة ولا يتعبده قيد ولا يستولي عليه رسم حر مجرد دائر مع الأمر حيثما دار. يدين بدين الآمر أنى توجهت ركائبه ويدور معه حيث استقلت مضاربه. يأنس به كل محق ويستوحش منه كل مبطل كالغيث حيث وقع نفع وكالنخلة لا يسقط ورقها وكلها منفعة حتى شوكها وهو موضع الغلظة منه على المخالفين لأمر الله والغضب إذا انتهكت محارمه فهو لله وبالله ومع الله. فواها له ما أغربه بين الناس وما أشد وحشته منهم وما أعظم أنسه بالله وفرخه به وطمأنينته وسكونه إليه والله المستعان وعليه التكلان. والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. (فوائد ومواعظ) من علامات موت القلب عدم الحزن على ما فاتك من الطاعات وترك الندم على ما فعلته من الذنوب والزلات. وقد جاء في الخبر من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن. فإذا لم يكن بهذا الوصف فهو ميت القلب. وإنما كان ذلك من قبل أن أعمال العبد الحسنة علامة على وجود رضي الله عنه.

وإن أعماله السيئة علامة على وجدود سخط الله عليه. فإذا وفق الله عبده للأعمال الصالحة سره ذلك لأنه علامة على رضاه عنه وغلب حينئذ رجاؤه. وإذا خذله ولم يعصمه فعمل بالمعاصي ساءه ذلك وأحزنه لأنه علامة على سخط عليه وغلب عليه حينئذ خوفه. والرجاء يبعث على الجد والاجتهاد في الطاعات غالبا. والخوف يبعث على المبالغة في اجتناب المعاصي والسيئات. وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ أتاه آت فلما حاذانا ورأى جماعتنا أناخ راحلته ثم مشي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول أوضعت راحلتي من مسيرة تسع فسيرتها إليك ستًا. وأسهرت ليلي وأظمأت نهاري وانضيت راحلتي لأسألك عن اثنتين أسهرتاني. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أنت» . قال: زيد الخيل قال: «بل أنت زيد الخير» . سل فرب معضلة قد سألت عنها. قال: جئت أسألك عن علامة الله فيمن يريد وعلامته فيمن لا يريد. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بخ بخ كيف أصبحت يا زيد. قال: أصبحت أحب الخير وأهله وأحب أن يعمل به. وإذا فأتني حنيت وإذا عملت عملاً أيقنت بثوابه. قال: «هي بعينها يا زيد» . ولو أرادك الله للأخرى هيأك لها ثم لا يبالي في أي واد هلكت.

قال زيد: حسبي حسبي ثم ارتحل فلم يلبث. من علامات التوفيق دخول أعمال البر عليك من غير قصدٍ لها. وصرف المعاصي عنك مع السعي إليها. وفتح اللجاء والافتقار إلى الله تعالى في كل الأحوال. وإتباع السيئة بالحسنة. وعظم الذنب في قلبك وإن كان من صغائر الذنوب. والإكثار من ذكر الله وحمده وشكره وتنزيهه والثناء عليه. والاستغفار وشهود التقصير في الإخلاص والغفلة في الأذكار والنقصان في الصدق والفتور في المجاهدة وقلة المراعات في الفقر. فتكون جميع أحواله عنده ناقصة على الدوام ويزداد فقرا والتجاء إلى الله في قصده وسيره. ومن علا مات الخذلان تعسر الطاعات عليك مع السعي فيها ودخول المعاصي عليك مع هربك منها. وغلق باب الالتجاء إلى الله وترك التضرع له وترك الدعاء وإتباع الحسنة السيئات واحتقارك لذنوبك وعدم الاهتمام بها وإهمال التوبة والاستغفار ونسيانك لربك. وقتل الوقت عند الملاهي والمنكرات ونسيان القرآن والاستبدال بقراءته قراءة الكتب الضارة والجرائد والمجلات والجلوس عند التلفاز والسينما والمذياع ويخشى على أهل هذه المنكرات من سوء الخاتمة وأن يكون آخر كلامهم من الدنيا التحدث بها نسأل الله العافية. فينبغي لمن من الله عليه وعافاه من هذه البلايا والمنكرات والشرور أن

يحمد الله دائمًا ويشكره ويكثر من ذكره ويسأله الثبات حتى الممات، وإذا رأيت من ابتلي بشيء من هذه المحدثات التي عمت وطمت وأفسدت الأخلاق فابذل له النصح جهدك فيما بينك وبينه واحذر من نصحه علنا بين الناس قال بعضهم: تَعَمَّدَنِي بِنُصْحٍ فِي انْفِرَادِ ... وَجَنِّبْنِي النَّصِيحَةَ فِي الْجَمَاعَةْ فَإِنَّ النُّصْحَ بَيْنَ النَّاسِ ضَرْبٌ ... مِنَ التَّوْبِيخِ لا أَرْضَى اسْتِمَاعَهْ فَإِنْ خَالَفْتَنِي وَعَصَيْتَ أَمْرِي ... فَلا تَغْضَبْ إِذَا لَمْ تُعْطَ طَاعَةْ آخر: فَيَا وَيْحَ أَهْلِ الظُّلْمِ وَاللَّهْوِ وَالْغِنَا ... إِذَا أَقْبَلَتْ يَوْمَ الْحِسَابِ جَهَنَّمُ وَرَاعَهُمُ مِنْهَا تَغَيُّظُ مُحْنَقٍ ... لِخَوْفْ عَذَابٍ فِي لَظَاهَا يُحَطِّمُ إِذَا مَا رَآهَا الْمُجْرِمُونَ وَأَيْقَنُوا ... بِأَنَّ لَهُمْ فِيهَا شَرَابٌ وَمَطْعَمُ ضَرِيعٌ وَزَقُّومٌ وَيَتْلُوه مَشْرَبٌ ... حَمِيمٌ لأَمْعَاءِ الشَّقِّيينَ يَهْذِمُ وَمِنْ قَطْرَانٍ كِسْوَة قَدْ تَسَرْبَلُوا ... وَسِيقُوا لِمَا فِيهِ الْعَذَابُ الْمُخَيِّمُ آخر: قُلْ لِلْمُؤَمِّلِ إِنَّ الْمَوْتَ فِي أَثَرِكْ ... وَلَيْسَ يَخْفَى عَلَيْكَ الْمَوْتُ فِي نَظَرِكْ فِيمَنْ مَضَى لَكَ إِنْ فَكَّرْتَ مُعْتَبَرٌ ... وَمَنْ يَمُتْ كُلَّ يَوْمٍ فَهُوَ مِنْ نَذُرُكْ دَارٌ تُسَافِرُ عَنْهَا فِي غَدٍ سَفَرًا ... وَلا تَؤُبُ إِذَا سَافَرْتَ مِنْ سَفَرِكْ تُضْحِي غَدًا سَمَرًا لِلذَّكِرِينَ كَمَا ... كَانَ الَّذِينَ مَضَوْا بِالأَمْسِ مِنْ سَمَرِكْ اللهم أمنن علينا بإصلاح عيوبنا واجعل التقوى زادنا وفي دينك اجتهادنا وعليك توكلنا واعتمادنا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

فصل في ذكر الله

(فَصْلٌ) ثم أعلم أيها الأخ أنه ما من ساعة تمر على العبد لا يذكر الله فيها إلا تأسف وتحسر على فواتها بغير ذكر الله ولذلك ينبغي للعاقل أن يجعل معه شيئًا يذكره لذكر الله كلما غفل عته. ويقال إن العبد تعرض عليه ساعات عمره في اليوم والليلة فيراها خزائن مصفوفة أرع وعشرين خزانة فيرى في كل خزائنه أمضاها في طاعة الله ما يسره. فإذا مرت به الساعات التي غفل فيها عن ذكر الله رآها فارغة ساءه ذلك وتندم حين لا يفيده الندم. وأما الساعات التي كان يذكر الله فيها فلا تسأل عن سروره فيها وفرحه بها حتى يكاد أن يقتله الفرح والسرور. قال بعضهم أوقات الإنسان أربعة لا خامس لها النعمة، والبلية، والطاعة، والمعصية. ولله عليك في كل وقت منها سهم من العبودية. فمن كان وقته الطاعة لله فسبيله شهود المنة من الله عليه أن هداه ووفقه للقيام بها. ومن كان وقته المعصية فعليه بالتوبة والندم والاستغفار. ومن كان وقته النعمة فسبيله الشكر والحمد لله والثناء عليه. ومن كلن وقته البلية فسبيله الرضا بالقضاء والصبر والرضا رضى النفس عن الله، والصبر ثبات القلب بين يدي الرب. أ. هـ. العمر إذا مضى لا عوض وما حصل لك منه لا قيمة له. فعمر الإنسان هو ميدانه للأعمال الصالحة المقربة من الله تعالى والموجبة له جزيل الثواب في الآخرة. ولكن ما يعرف قدر العمر إلا الذي نوادر العلماء. قال الله جلا وعلا وتقدس {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وقال تبارك وتعالى {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} وقال {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} الآيات.

وهذه هي السعادة التي يكدح العبد ويسعى من اجلها وليس له منها إلا ما سعى كما قال جلا وعلا وتقدس {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} . فكل جزء يفوته من العمر خاليًا من عمل صالح. يفوته من السعادة بقدره ولا عوض لها منه. فالوقت لا يستدرك وليس شيء أعز منه وكل جزء يحصل له من العمر غير خال من العمل الصالح يتوصل به إلى ملك كبير لا يفني ولا قيمة لما يوصل إلى ذلك لأنه في غاية الشرف والنفاسة. وللأجل هذا عظمت مراعاة السلف الصالح رضي الله عنهم لأنفاسهم ولحظاتهم وبادروا إلى اغتنام ساعاتهم وأوقاتهم ولم يضيعوا أعمارهم في البطالة والتقصير ولم يقنعوا لأنفسهم إلا بالجد والتشمير فلله درهم ما أبصرهم بتصرف أوقاتهم. تَبْغِي الْوُصُولَ بِسَيْرٍ فِيهِ تَقْصِيرُ ... لا شَكَّ أَنَّكَ فِيمَا رُمْتَ مَغْرُورُ قَدْ سَارَ قَبْلَكَ أَبْطَالٌ فَمَا وَصِلُوا ... هَذَا وَفِي سَيْرِهِمْ جَدٌّ وَتَشْمِيرُ قال بعضهم: أدركت أقوامًا كانوا على ساعاتهم أشفق منكم على دنانيركم ودراهمكم فكما لا يخرج أحدكم دينارًا ولا درهمًا إلا فيما يعود نفعه عليه فكذالك السلف لا يحبون أن تخرج ساعة بل دقيقة من أعمارهم إلا فيما يعود نفعه عليهم ضد ما عليه أهل هذا الزمان من قتل الوقت عند المنكرات. بَقِيَّةُ الْعُمْرِ عِنْدِي مَا لَهُ ثَمَنٌ ... وَإِنْ غَدَا غَيْرَ مَحْسُوبٍ مِنَ الزَّمَنِ يَسْتَدْرِكُ الْمَرْءُ فِيهَا كُلَّ فَائِتَةٍ ... مِنَ الزَّمَانِ وَيَمْحُو السُّوءَ بِالْحَسَنِ آخر: لا يَحْقِر الرَّجُلُ الرَّفِيعُ دَقِيقَةً ... فِي السَّهْوِ فِيهَا لِلْوَضِيعِ مَعَاذِرُ فَكَبَائِرُ الرَّجُلِ الصَّغِيرُ صَغِيرَةٌ ... وَصَغَائِرُ الرَّجُلِ الْكَبِيرِ كَبَائِرُ رأى أحد الزهاد إنسان يأكل فطوره وهو يحتاج إلى مضغ فقال هذا

يستغرق وقتًا طويلاً فلما اخرج فطوره وإذا هو ما سيستغرق إلا وقتًا يسيرًا. فقال له: ما حملك على هذا فقال: إني حسبت ما بين المضغ والسف سبعين تسبيحة. لله دره على هذه الملاحظة ولقد بلغنا أن أحد علماء السلف كان يأكل باليمنى والكراس باليسرى. وإذا دخل الخلا أمر القارئ أن يرفع صوته كل هذا محافظة على الوقت. بلغ يا أخي قتالة الأوقات عند الملاهي والمنكرات من تلفاز ومذياع وكورات وجرائد ومجلات وقيل وقال ونحو ذلك. ويا أخي أن كنت ممن عصمهم الله من هذه الشرور والبلايا والمنكرات فكثر من حمد الله وشكره وذكره وأسأله الثبات حتى الممات. وانصح إخوانك المسلمين واجتذبهم عم ضياع الأوقات فلعلك أن تكون سببًا لهدايتهم. وَلا يَذْهَبَنَّ الْعُمُرُ مِنْكَ سَبَهْللا ... وَلا تُغْبَنَنْ بِالنَّعْمَتَيْنِ بَلْ اجْهِدِ فَمَنْ هَجَرَ اللَّذَاتَ نَالَ الْمُنَى وَمَنْ ... أَكَبَّ عَلَى اللَّذَاتِ عَضَّ عَلَى الْيَدِ فََفِي قَمْعِ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ اعْتِزَازُهَا ... وَفِي نَيْلِهَا مَا تَشْتَهِي ذِلُ سَرْمَدِ ثم أعلم أيها الأخ إن الوقت ليس من ذهب كما يقول الناس فإنه أغلى من الذهب والفضة مهما بلغا كثرة إنه الحياة من ساعة الميلاد إلى ساعة الوفاة فتنبه لذلك وحافظ عليه واقتد بالسلف الصالح الذين عرفوا قيمة الوقت. قال ابن مسعود رضي الله عنه: ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه من عمري ولم يزد فيه عملي. وقال آخر كل يوم يمر بي لا أزداد فيه علما يقربني من الله عز وجل فلا بورك لي في طلوع شمسه.

شِعْرًا: لا تُعْطِ عَيْنَكَ إِلا غَفْوَةَ الْحَذَر ... وَاسْهَرْ لِنَيْلِ عُلُومِ الدِّينِ تَغْتَنِمِ وَلا تَكُنْ فِي طِلابِ الْعِلْمِ مُعْتَمِدًا ... إِلا مُوجِدِ الأَشْيَاءِ مِنَ الْعَدَمِ وقال آخر: من أمضى يومًا في عمره في غير حق قضاه أو فرض أداه أو مجد أثله أو حمدٍ حصله أو خير أسسه أو علم اقتبسه فقد عق يومه وظلم نفسه. ولا تسأل عن ندمه يوم ينظر المرء ما قدمت يداه. وإذا كان هذا حرص السلف على الوقت والمحافظة عليه وتقديره عندهم فإن مما يحزن المسلم ويجرحه ويدمي القلب ويمزق الكبد أسى وأسفًا ما نشاهده عند كثيرين من المؤمنين من إضاعة للوقت تعدت حد التبذير والإسراف والتبديد. وبالحقيقة أن السفينة هو مضيع الوقت لأن المال له عوض أما الوقت فلا عوض له. فالعاقل من حفظ وقته وتجنب ما يضيعه عليه كالجلوس عند الملاهي والمنكرات ومطالعة في الكتب الهدمات إن من أخسر الناس أعمارًا من شغلتهم شهواتهم عن أمور دينهم ومصالح أمورهم قال الله عز وجل وتقدس {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} . وقال عز من قائل {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} . شِعْرًا: ... مَا أَسْرَعَ الأَيَّامِ فِي طَيِّنَا ... تَمْضِي عَلَيْنَا ثُمَّ تَمْضِي بِنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ أَمَلٌ قَدْ نَأَى ... مَرَامُهُ عَنْ أَجَلِ قَدْ دَنَا أَنْذَرْنَا اللهَ وَمَا نَرْعَوِي ... فَلَيْتَ إِنْذَارَهُ أَثَّرْ بِنَا تَعَاشِيًا وَالْمَوْتُ فِي جَدِّهِ ... مَا أَوْضَحَ الأَمْرَ وَمَا أَبْيَنَا وَالنَّاسُ كَالأَجْمَالِ قَدْ قُرِبَتْ ... تَنْتَظِرُ الْحَيَّ لأَنْ يَظْعَنَا تَدْنُو إِلَى الْعُشْبِ وَمِنْ خَلْفِهَا ... مُقَامِرٌ يَطْرُدُهَا بِالْقَنَا

فوائد ومواعظ وحكم ونصائح وآداب

أَيْنَ الأُولَى شَادُوا مَبَانِيهِمْ ... تَهَدَّمُوا قَبْلَ انْهِدَامِ الْبِنَا لا مُعْدِمٌ يَحْمِيهِ إِعْدَامُهُ ... وَلا يَقِي نَفْسَ الْغَنِيَّ الْغِنَى كَيْفَ دِفَاعُ الْمَرْءِ أَحْدَاثَهَا ... فَرْدًا وَأَقْرَانُ اللَّيَالِي ثُنَى حَطَّ رِجَالٌ وَرَكِبْنَا الذُّرَى ... وَعُقْبَةُ السَّيْرِ لِمَنْ بَعْدَنَا وَالْحَازِمُ الرَّأْيَ الَّذِي يَغْتَدِي ... مُسْتَقْلِعًا يُنْذِرُ مُسْتَوْطِنَا لا يَأْمَنُ الْمَوْتَ عَلَى غِرَّةٍ ... وَعَزَّ لَيْثُ الْغَابِ أَنْ يُؤْمِنَا كَمْ غَارِسٍ أَمَّلَ فِي غَرْسِهِ ... فَأَعْجَلَ الْمِقْدَارُ أَنْ يَجْتَنَى اللهم اسلك بنا سبل الأبرار، واجعلنا من عبادك المصطفين الأخيار، ومنن علينا بالعفو والعتق من النار، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. فَوائِدُ وَموَاعِظُ وَحِكِمٌ ونَصَائحُ وآدابٌ بَيْنَ السَّابقِ واللاَّحِقِ ثلاثة يثبتن الود في قلب أخيك المسلم أن تبدأه بالسلام وتوسع له في المجلس وتدعوه بأحب الأسماء إليه. صحبة الأشرار توجب سوء الظن بالأخيار. البر شيء هين وجه طلق ولسان لين. الصديق الكامل مفقود لذا قد يجد الإنسان في مجموع الأصدقاء الكمال المنشود قال - صلى الله عليه وسلم - إن الله يحب السهل الطلق» . لا يغلبن عليك سوء الظن فإنه لا يترك بينك وبين حبيب صلحا. سوء الظن برهان على سوء أفعال صاحبه. إِذَا سَاءَ فِعْلُ الْمَرْءِ سَاءَتْ ظُنُونُهُ ... وَصَدَّقَ مَا يَعْتَادُهُ مِنْ تَوَهُّمِ

وَعَادَى مُحِبِّيهِ بِقَوْلِ عُدَاتِهِ ... وَأَصْبَحَ فِي لَيْلٍ مِنَ الشَّكِّ مُظْلِمِ قال أحدهم: صحبت المروزي في سفر فقال لي: لا بد في السفر من أمير أتحب أن تكون الأمير أو أنا فقلت بل أنت فأخذ مخلاة عباها وحملها على عاتقه. فقلت: أنا أحملها قال لا أنا الأمير وعليك الطاعة وسرنا حتى المساء ولما أردنا النوم غطاني بكسائه وسهر يدفع عني المطر وكانت ليلة ماطرة. فلما أصبحت قلت في نفسي ليتني للم أقل له أنت الأمير لأني كلما طلبت منه أن أحمل رفض وقال أنا الأمير وهكذا أما هو فقال لي إذا صحبت أحدًا في سفر فكن هكذا. من أمثلة الإخلاص لله عز وجل في الأعمال أن جيشًا مسلمًا حاصر مدينة ذات سور منيع يستدعي شهورًا طويلة. وفي أحدى الليالي جاء إلى القائد أحد الجنود يقول له لقد نقبت في السور نقبًا يمكننا أن ندخل منه لداخل المدينة ونفتح باب السور فأرسل معي من يدخل النقب فإذا فتحنا الباب أدخل الجيش. فأرسل معه رجالاً دخلوا مع النقب وفتحوا الباب فدخله القائد واستولوا على المدينة ليلاً. وفي اليوم الثاني نادى المنادي صاحب النقب ليعطى جائزته على عمله وطلبه القائد فلم يأته أحد. وفي الثاني والثالث نادى المنادى يطلب حضور صاحب النقب فلم يأته أحد. وفي اليوم الرابع أتى الجندي صاحب النقب إلى القائد فقال له أنا أدلك على صاحب النقب.

فقال أين هو قال بثلاثة شروط. الشرط الأول أن لا تكافئه على عمله. والشرط الثاني أن لا تدل أحدًا عليه. والثالث أن لا تطلبه ثانية. فقال وافقنا على ذلك فقال الجندي: أنا صاحب النقب نقبته ابتغاء رضوان الله. ثم ذهب فتعجب القائد وكان إذا صلى ربما دعا الله أن يجعله مع صاحب النقب. شِعْرًا: يَا رَبِّ مَا لِي غَيْرَ لُطْفِكَ مَلْجًا ... وَلَعَلَّنِي عَنْ بَابِهِ لا أُطْرَدُ يَا رَبِّ هَبْ لِي تَوْبَةً أَقْضِي بِهَا ... دِينًا عَليَّ بِهِ جَلالُكَ يَشْهَدُ أَنْتَ الْخَبِيرُ بِحَالِ عَبْدِكَ إِنَّهُ ... بِسَلاسِلِ الْوِزْرِ الثَّقِيلِ مُقَيَّدُ أَسَفًا عَلَى عُمْرِي الَّذِي ضَيَّعْتُهُ ... تَحْتَ الذُّنُوبِ وَأَنْتَ فَوْقِي تَرْصُدُ يَا رَبِّ قَدْ ثَقَلُتْ عَليَّ كَبَائِرٌ ... بَإِزَاءِ عِينِي لَمْ تَزَلْ تَتَرَدَّدُ يَا رَبِّ إِنْ أَبْعَدتُ عَنْكَ فَإِنَّ لِي ... طَمعًا بِرَحْمَتِكَ الَّتِي لا تُبْعِدُ أَنْتَ الْمُجِيبُ لِكُلِّ دَاعٍ يَلْتَجِي ... أَنْتَ الْمُجِيرُ لِكُلِّ مَنْ يَسْتَنْجِدُ مِنْ أَيِّ بَحْرٍ غَيْرَ بَحْرِكَ نَسْتَقِي ... وَلأَيِّ بَابٍ غَيْرَ بَابِكَ نَقْصُدُ جمع أحد العلماء بعض علامات حسن الخلق فقال: أن يكون كثير الحياء، قليل الأذى، كثير الصلاح، وقورًا صدوق اللسان، قليل الكلام إلا في ذكر الله وما ولاه. كثير العمل للآخرة أو ما هو وسيلة إليها، قليل الفضول، برًا، وصولاً صبورًا، رضيًا شكورًا، حليمًا، رفيقًا، لينًا، عفيفًا شفيقًا.

لا لعان ولا سباب، ولا نمام، ولا مغتاب، ولا جاسوس، ولا عجول، ولا حقود، ولا حسود، ولا بخيل ولا غضوب. هشاشًا بشاشًا، لطيفًا، ورؤوفًا، وعطوفًا على المؤمنين يحب في الله ويبغض في الله. حكي عن بعض الزهاد في صفة المؤمن والمنافق وفيه تنبيه على حسن الخلق وسوء الخلق. فقال المؤمن مشغول بالذكر والعمل، والمنافق مشغول بالحرص والأمل. والمؤمن آيس من كل احدٍ إلا من الله، والمنافق خائف من كل أحدٍ إلا من الله. والمؤمن يقدم ماله دون دينه والمنافق يقدم دينه دون ماله، والمؤمن يحسن عمله ويبكي والمنافق يسيء ويضحك. والمؤمن يحب الوحدة إذا لم ترجح مصلحة الخلطة عليها والمنافق يحب الخلطة والملاء. والمؤمن يزرع ويخشى الفساد والمنافق يقلع ويرجو الحصاد، والمؤمن يامر بالمعروف وينهى عن المنكر فيصلح والمنافق يأمر وينهى للرئاسة فيفسد. وأحسن ما يمتحن به حسن الخلق الصبر على الأذى احتمال الجفاء. ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في غاية الاحتمال لكل أذى والصبر لله وقد شرح الله له صدره. وأساء بمن قبله من الأنبياء بقوله جل وعلا {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} وقال جل وعلا {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} شِعْرًا: ... فِعَالِي قَبِيحٌ وَظَنِّي حَسَنٌ ... وَرَبِّي غَفُورٌ كَثِيرُ الْمِنَنْ تُبَارِزْ مَوْلاكَ يَا مَنْ عَصَى ... وَتَخْشَى مِنَ الْجَارِ لِمَا فَطِنْ رَكِبْتُ الْمَعَاصِي وَشَيْبِي مَعِي ... فَوَاللهِ يَا نَفْسُ مَاذَا حَسَنْ

فصل في الاستغفار

فَقُومِي الدِّيَاجِي لَهُ وَارْغَبِي ... وَقُولِي لَهُ يَا عَظِيمَ الْمِنَنْ وَقُولِي لَهُ يَا عَظِيمَ الرَّجَا ... إِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْفُ عَنِّي فَمَنْ اللهم اسلك بنا مسلك الصادقين الأبرار، وألحقنا بعبادك المصطفين الأخيار، وأتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. (فَصْلٌ) ? جاء ثلاثة إلى الحسين بن علي واشتكى الأول قلة المطر والغيث فقال له: أكثر من الاستغفار. واشتكى الثاني العقم فقال له: أكثر الاستغفار. واشتكى الثالث جدب الأرض وقلة النبات فقال له: أكثر الاستغفار. فقال له أحد جلسائه يا ابن رسول الله كل الثلاثة مختلف الشكاية وأنت وحدت الجواب بينهم. فقال رضي الله عنه: أما قرأتم قول الله جل وعلا {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} . خطب عبد الملك يومًا خطبة بليغة ثم قطعها وبكى ثم قال: يا رب إن ذنوبي عظيمة وإن قليل عفوك أعظم منها. اللهم فاصفح بقليل عفوك عظيم ذنوبي، فبلغ ذلك الحسن البصري فبكى. وقال: لو كان كلام يكتب بالذهب لكتب هذا الكلام. قيل لخالد بن يزيد وكان رجل زاهد وصلاح فيما يظهر ما أقرب الأشياء قال: الأجل، قيل فما أبعد الأشياء؟ قال: الأمل. قيل: فما أوحش الأشياء؟ قال: الميت. قال أحد العلماء: ازهد الناس في الدنيا وإن كان عليها حريصًا من لم يرض منها إلا بالكسب الحلال الطيب مع حفظ الأمانات.

وأرغب الناس فيها وإن كان عنها معرضًا من لم يبال من أين ما كسبه منها حلالاً كان أو حرامًا. وإن أجود الناس بالدنيا من جاد بحقوق الله عز وجل وحقوق خلقه وإن رآه الناس بخيلاً فيما سوى ذلك. وإن ابخل الناس من بخل بحقوق الله عز وجل وما عليه من حقوق الخلق وإن رآه الناس كريمًا جوادًا فيما سوى ذلك. وقال بعضهم إن امرئ أذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له لحري أن تطول عليها حسرته إلى يوم القيامة. وقال آخر إذا سألت رجلاً كريمًا حاجًة فأمهله يفكر فإنه في الغالب لا يفكر إلا بخير. وإذا سألت لئيمًا حاجة فلا تمهله لأنه إلى الردى أقرب وطبعه إلى المنع أحرى. من كثرت نعم الله عنده كثرت حوائج الناس إليه. فإن قام بشكر الله وأدى ما يجب لله فيها عليه عرضها للبقاء وإن لم يقم بذلك عرضها للزوال وعرض نفسه للذم. قال بعضهم موصيًا ابنه يا بني إذا مر بك يوم وليلة قد سلم فيهما دينك وجسمك ومالك فأكثر من الشكر لله تعالى. فكم من مسلوب دينه ومنزوع ملكه ومهتوك ستره ومقصوم ظهره في ذلك اليوم وأنت في عافية. قيل لبعضهم أي الكنوز أعظم قدرًا قال العلم الذي خف محمله فثقلت مفارقته وكثرت مفارقته وخفي مكانه وأمن عليه من السرقة. فهو في الملاء جمال وفي الوحدة أنيس ويرأس به الخسيس ولا يقدر حاسدك نقله عنك. قيل فالمال قال ليس كذلك محمله ثقيل والهم به طويل إن كنت في ملاء شغلك الفكر فيه وإن كنت في خلوة أتعبتك حراسته.

بعض علامات حسن الخلق

قيل لبعضهم من أضعف الناس قال من ضعف عن كتمان سره، قيل فمن أقواهم، قال من قوي على غضبه، قيل فمن أصبرهم قال من ستر فاقته، قيل فمن أغناهم قال من قنع بما يسره الله له. وقال آخر من توفيق الله للقاضي أن يكون فيه خمس خصال الحلم والنزاهة عن الطمع، وجودة العقل، والاقتداء بالعلماء المتبعين للكتاب والسنة، ومشاورة أهل الرأي من ذوى العقول الراجحة. والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. (فَصْلٌ) قال بعض العلماء: اعلم أن بني آدم طائفتان طائفة نظروا إلى شاهد خيال الدنيا وتمسكوا بتأميل العمر الطويل ولم يتفكروا في النفس الأخير. وطائفة عقلاء جعلوا النفس الأخير نصب أعينهم لينظروا ماذا يكون مصيرهم وكيف يخرجون من الدنيا ويفارقونها سالم إيمانهم. وما الذي ينزل معهم من الدنيا في قبورهم وما الذي يتركونه لأعدائهم ويبقى عليهم وباله ونكاله. وهذه الفكرة واجبة على كافة الخلق وهي على الملوك وأهل الدنيا أوجب لأنهم كثيرًا ما أزعجوا قلوب الخلق وأدخلوا في قلوبهم الرعب. فان لله ملكا يعرف بملك الموت لا مهرب لأحد من مطالبته. وكل موكلي ملوك الدنيا يأخذون جعلهم ذهبًا وفضًة وطعامًا. وملك الموت لا يأخذ سوى الروح. وسائر موكلي السلاطين تنفع عندهم الشفاعة وهذا إذا جاء لقبض الروح لا تنفع عنده الشفاعة. وكثير من الموكلين يمهلون من يوكلون به اليوم والساعة.

جاء ثلاثة نفر إلى الحسين بن علي

وهذا الموكل لا يهمل ولا نفسًا واحدًا قال الله جل جلاله وتقدست أسماؤه {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} . ويروي أنه كان ملك كثير المال قد جمع مالاً عظيمًا وأحتشد من كل نوع خلقه الله تعالى من الدنيا ليرفه نفسه ويتفرغ لأكل ما جمعه، فجمع نعمًا طائلة وبني قصرًا عاليًا مرتفعًا ساميًا يصلح للملوك والأمراء والأكابر والعظماء وركب عليه بابين محكمين. وأقام عليه الغلمان والحراسة والأجناد والبوابين كما أراد وأمر بعض الأنام أن يصطنع له من أطيب الطعام وجمع أهله وحشمه وأصحابه وخدمه ليأكلوا عنده وينالوا رفده. وجلس على سرير مملكته واتكأ على وسادته وقال: يا نفس قد جمعت أنعم الدنيا بأسرها فالآن افرغي لذلك وكلي هذه النعم مهنأةً بالعمر الطويل، والحظ الجزيل. فلم يفرغ مما حدث به نفسه حتى أتى رجل من ظاهر القصر عليه ثياب خلقة ومخلاته في عنقه معلقة على هيئة سائل يسأل الطعام فجاء وطرق حلقة الباب طرقة عظيمة هائلة بحيث تزلزل القصر وتزعزع السرير. وخاف الغلمان ووثبوا إلى الباب وصاحوا بالطارق وقالوا يا ضيف ما هذا الحرص وسوء الأدب اصبر إلى أن نأكل ونعطيك مما يفضل. فقال لهم قولوا لصاحبكم ليخرج إلي فلي إليه شغل مهم وأمر ملم فقالوا له: تنح أيها الضيف من أنت حتى نأمر صاحبنا بالخروج إليك. فقال: أنتم عرفوه ما ذكرت لكم فلما عرفوه قال: هلا نهرتموه وجردتم عليه وزجرتموه. ثم طرق حلقة الباب أعظم من طرقته الأولى فنهضوا من أماكنهم بالعصى والسلاح وقصدوه ليحاربوه فصاح بهم صيحة.

وقال: الزموا أماكنكم فأنا ملك الموت فطاشت حلومهم وارتعدت فرائضهم وبطلت عن الحركة جوارحهم. فقال الملك: قولوا له ليأخذ بدلاً مني وعوضًا عني فقال: ما آخذ إلا روحك ولا أتيت إلا لأجلك لأفرق بينك وبين النعم التي جمعتها والأموال التي حوتها وخزنتها. فتنفس الصعداء وقال لعن الله هذا المال الذي غرني وأبعدني ومنعني من عبادة ربي وكنت أظن أنه ينفعني فاليوم صار حسرتي وبلائي وخرجت صفر اليدين منه وبقي لأعدائي. فأنطق الله تعالى المال حتى قال لأي سبب تلعني العن نفسك فإن الله تعالى خلقني وإياك من تراب وجعلني في يدك لتتزود بي إلى آخرتك وتتصدق بي على الفقراء وتزكي بي على الضعفاء. ولتعمر بي الربط والمساجد والجسور والقناطر لأكون عونا لك في اليوم الآخر فجمعتني وخزنتني وفي هواك أنفقتني ولم تشكر الله في حقي بل كفرتني فالآن تركتني لأعدائك وأنت بحسرتك وبلائك. فأي ذنب لي فتسبني وتلعنني ثم إن ملك الموت قبض روحه قبل أكل الطعام فسقط عن سريره صريع الحمام. وقال يزيد الرقاشي: كان في بني إسرائيل جبار من الجبابرة وكان في بعض الأيام جالسًا على سرير مملكته فرأى رجلاً قد دخل من باب الدار ذا صورة منكرة وهيئة فاشتد خوفه من هجومه وهيئته وقدومه فوثب في وجهه وقال: من أنت أيها الرجل ومن أذن لك في الدخول إلى داري. فقال أذن لي صاحب الدار وأنا الذي لا يحجبني حاجب ولا أحتاج في دخولي على الملوك إلى إذن ولا أرهب سياسة السلطان ولا يفزعني جبارٌ ولا لأحدٍ من قبضتي فرار فلما سمع هذا الكلام خر على وجهه ووقعت الرعدة في جسده.

وقال: أنت ملك الموت قال: نعم قال أقسم عليك بالله إلا أمهلتني يومًا واحدًا لأتوب من ذنبي وأطلب العذر من ربي وأورد الأموال التي أودعتها خزائني إلى أربابها ولا تحمل مشقة عذابها. فقال: كيف أمهلك وأيام عمرك محسوبة وأوقاتها مكتوبة فقال أمهلني ساعة، فقال إن الساعات في الحساب وقد عبرت وأنت غافل وأنقصت وأنت ذاهل وقد استوفيت أنفاسك ولم يبق لك نفس واحدٌ. فقال من يكون عندي إذا نقلتني إلى لحدي فقال لا يكون عندك سوى عملك فقال ما لي عمل؟ فقال لا جرم يكون مقيلك في النار ومصيرك إلى غضب الجبار. وقبض روحه فخر عن سريره وعلا الضجيج من أهل مملكته وارتفع ولو علموا ما يصير إليه من سخط ربه لكان بكائهم عليه أكثر وعويلهم أوفر. مَا لِنَفْسِي عَنْ مَعَادِي غَفَلَتْ ... أَتَرَاهَا نَسِيتَ مَا فَعَلَتْ أَيُّهَا الْمَغْرُورُ فِي لَهْوِ الْهَوَى ... كُلُّ نَفْسٍ سَتَرَى مَا عَمِلَتْ أُفٍّ لِلدُّنْيَا فَكَمْ تَخْدَعْنَا ... كَمْ عَزِيزٍ فِي هَوَاهَا خَذَلَتْ رُبَّ رِيحٍ بِأُنَاسٍ عَصَفَتْ ... ثُمَّ مَا إِنْ لَبَثَتْ أَنْ سَكَنَتْ أَيْنَ مَنْ أَصْبَحَ فِي غَفْلَتِهِ ... فِي سُرُورٍ وَمُرَادَاتِ خَلَّتْ أَصْبَحَتْ آمَالُه قَدْ خَسِرَتْ ... وَدِيَارُ لَهْوِهِ قَدْ خَرِبَتْ فَغَدَتْ أَمْوَالُهُ قَدْ فُرِّقَتْ ... وَكَانَ دَارَهُ مَا سَكَنَتْ جُزْ عَلَى الدَّارِ بِقَلْبٍ حَاضِرٍ ... ثُمَّ قُلْ يَا دَارُ مَاذَا فَعَلَتْ أَوْجهٌ كَانَتْ بُدُورًا طُلِّعَا ... وَشُمُوسًا طَالَمَا قَدْ أَشْرَقَتْ قَالَتْ الدَّارُ تَفَانُوا فَمَضُوا ... وَكَذا كُلُّ مُقِيمٍ إِنْ ثَبَتْ عَايَنُوا أَفْعَالَهُمْ فِي تُرْبِهِمْ ... فَاسْأَلِ الأَجْدَاثَ عَمَّا اسْتُودِعَتْ اللهم أحي قلوبنا أماتها البعد عن بابك، ولا تعذبنا بأليم عقابك يا أكرم من سمح بالنوال وجاد بالأفضال، اللهم أيقظنا من غفلتنا بلطفك

ليس في العالم من يستحسن الهم

وإحسانك، وتجاوز عن جرائمنا بعفوك وغفرانك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) قال بعض العلماء ليس في العالم منذ كان إلى يتناهى أحد يستحسن الهم ولا يريد طرحه عن نفسه. فلما استقر في نفسي هذا العلم الرفيع وانكشف لي هذا السر العجيب وأنار الله تعالى لفكري هذا الكنز العظيم. بحثث عن سبيل موصلة على الحقيقة إلى طرد الهم الذي هو المطلوب النفيس الذي اتفق جميع أنواع الإنسان الجاهل منهم والعالم والصالح والطالح على السعي له فلم أجد إلا التوجه إلى الله عز وجل بالعمل للآخرة. وإلا فإنما طلب المال طلابه ليطردوا به هم الفقر عن أنفسهم. وإنما طلب الصيت من طلبه ليطرد به عن نفسه هم الاستعلاء عليها. وإنما طلب العلم من طلبه ليطرد به عن نفسه هم الجهل. وإنما هش إلى سماع الأخبار ومحادثة الناس من يطلب ذلك ليطرد بها عن نفسه هم التوحد ومغيب أحوال العالم عنه. وإنما أكل من أكل وشرب من شرب ونكح من نكح ولبس من لبس ولعب من لعب واكتنز من اكتنز وركب من ركب ومشى من مشى وتودع من تودع. ليطردوا عن أنفسهم أضداد هذه الأفعال وسائر الهموم. وفي كل ما ذكرنا لمن تدبره هموم حادثة لابد لها من عوارض تعرض في خلالها وتعذر ما يتعذر منها.

وقال رحمه الله وجدت العمل للآخرة سالمًا من كل عيب خالصًا من كل كدرٍ موصلاً إلى طرد الهم على الحقيقة. ووجدت العامل للآخرة إن امتحن بمكروه في تلك السبيل لم يهتم بل يسر. إذ رجاؤه في عاقبة ما ينال به عون على ما يطلب وزائد في الغرض الذي إياه يقصد. ووجدته إن عاقه عما هو بسبيله عائق لم يهتم إذ ليس مؤآخذًا بذلك فهو غير مؤثر يطلب ورأيته إن قصد بالأذى سر. وإن نكبته نكبة سر وإن تعب فيما سلك فيه سر فهو في سرور متصلٍ أبدًا وغيره بخلاف ذلك أبدًا. وقال رحمه الله تعالى: ولو تدبر العالم في مرور ساعاته ماذا كفاه العلم من الذل بتسليط الجهال. ومن الهم بمغيب الحقائق عنه ومن الغبطة بما قد بان له وجهه من الأمور الخفية عن غيره. لزاد حمدًا وشكرًا وذكرًا لله عز وجل وغبطة بما لديه من العلم ورغبة في المزيد منه. أجل العلوم ما قربك إلى خالقك جل وعلا وما أعانك على الوصول إلى رضاه. العلوم الغامضة كالدواء القوي يصلح الأجساد القوية ويهلك الأجساد الضعيفة. وكذلك العلوم الغامضة تزيد العقل القوي جودة وتصفيه من كل آفة وتهلك ذا العقل الضعيف.

العاقل في الدنيا متعب ومن جهة أخرى مستريح. ووجه ذلك أنه متعبٌ ومتكدرٌ فيما يرى من انتشار الباطل وغلبة دولته وبما يخال بينه من إظهار الحق. وأما وجه راحته فمن كل ما يهتم به سائر الناس من فضول الدنيا. إذا حققت أمر لم تجدها إلا الآن الذي هو فصل بين زمانين فقط. وأما ما مضى وما لم يأت فمعدومان كما لم يكن. فمن أضل ممن يبيت باقيًا خالدًا بمدة هي لأقل من كر الطرف. من شغل نفسه بأدنى العلوم وترك أعلاها وهو قادر عليه كان كغارس الأثل والسدر في الأرض التي يجود ويزكوا فيها النخيل والتين والموز والعنب. نشر العلم عند من ليس من أهله مفسد لهم كإطعامك العسل والسكر والتمر من به مرض السكر ومن به احتراق وحمى. وكتشميمك المسك والعنبر لمن به صداع الصفراء، أو به شقيقة وهو وجع نصف الرأس. من أراد الآخرة وحكمة الدنيا وعدل السيرة والاحتواء على محاسن الأعمال والأخلاق والآداب كلها واستحقاق الفضائل بأسرها فليقتدي بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وليستعمل أخلاقه وسيره. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. (فَصْلٌ) وقال رحمه الله منفعة العلم في استعمال الفضائل عظيمة وهو أن يعلم حسن الفضائل فيأتيها ويعلم قبح الرذائل فيجتنبها ويستمع الثناء الحسن فيرغب في مثله والثناء الردى فينفر منه. شِعْرًا: ... لا تَيْأَسَنَّ أَخَا الإِخْلاصِ فِي الْعَمَلِ ... عَلَى خُمُولِكَ أَنْ تَرْقَى عَلَى الْفَلَكَ بَيْنَا تَرَى الذَّهَبَ الإِبْرِيزِ مُطَّرَّحًا ... فِي الأَرْضِ إِذْ صَارَ إِكْلِيلاً عَلَى الْمَلِكِ

آخر: ... لا تَحْسَبَنْ حَسَبَ الآبَاءِ مكرمَةً ... لِمَنْ يُقْصِّرُ عَنْ أَعْلا الْمَقَامَاتِ حُسْنُ الرِّجَالِ بِتَقْوَاهم وَطَاعَتِهِمْ ... للهِ لا بِجَمَالِ الْوَجْهِ وَالذَّاتِ آخر: ... لا تَحْقِرِ الْمَرْءَ إِنْ رَأَيْتَ بِهِ ... دَمَامَةً أَوْ رَثَاثَةَ الْحُلَلِ فَالنَّحْلُ لا شَيْءَ مِنْ ضُؤولَتِهِ ... يَشْتَارُ مِنْهُ الْفَتَى جَنَى الْعَسَلِ آخر: ... دَعِ التَّكَاسُلَ فِي الْخَيْرَاتِ تَطْلُبُهَا ... فَلَيْسَ يَسْعَدُ فِي الْخَيْرَاتِ كَسْلانِ آخر: ... الْعِلْمُ زَيْنٌ وَتَقْوَى اللهَ حَلْيتُهُ ... فَمَنْ خَلا مِنْهُمَا فَاعْدُدْهُ فِي البَقَرِ آخر: ... وَمَا أَدْرَاكَ الْمَطْلُوبَ فِي كُلِّ وَجْهَةٍ ... مِنَ النَّاسِ إِلا مَنْ أَجَدَّ وَشَمَّرَا فعلى هذه المقدمات وجب أن يكون للعلم حصة في كل فضيلة وللجهل حصة في كل رذيلة. وقال وقد رأيت من غمار العامة من يجري من الاعتدال وحميد الأخلاق إلى مالا يتقدمه فيه حكيم عالم رائض لنفسه ولكنه قليلٌ جدًا. ورأيت ممن طالع العلوم وعرف عهود الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ووصايا الحكماء وهو لا يتقدمه في خبث السيرة. وفساد العلانية والسيرة شرار الخلق وهذا كثير جدًا فعلمت أنهما مواهب وحرمان من الله تعالى. وقال من جالس الناس لم يعدم إثمًا وهما يؤلم نفسه وغيظًا ينضج كبده وذلا ينكس همته. فما الظن بعد بمن خالطهم وداخلهم واندمج معهم. وإنما يندم ويحزن ويتحسر على ذلك في معاده. فالعز والسرور والأنس والراحة والسلامة في الانفراد عنهم. ولكن اجعلهم كالنار تدفأ بها ولا تخالطها. وقال آخر من مضار مجالسة الناس ومخالطتهم الانهماك في الغيبة. ثانيًا: ضياع الوقت في الآثام.

ثالثاً: فوات الأعمال النافعة في الآخرة أو الأعمال الدنيوية التي يعود نفعها في الآخرة ولا سبيل إلى السلامة من ذلك إلا بالانفراد عن مجالستهم جملة. من جنب الناس يسلم من غوائلهم ... وعاش وهو قرير العين جذلان وقال: لا تحقرن شيئًا من عمل غدٍ بأن تخففه وتعجله اليوم وإن قل فان من قليل الأعمال يجتمع كثيرها. لا تحقرن من الأمور صغارها ... فالقصر منه تدفق الخلجان وربما أن الأعمال إذا لم تخفف يعجز أمرها فيبطل الكل. ولا تحقر شيئًا مما تثقل به ميزانك يوم البعث أن تعجله الآن وإن قل. فإنه يحط عنك كثيرًا لو اجتمع لقذف بك في النار. اجتهد في أن تستعين في أمورك بمن يريد منها لنفسه مثل ما تريد منها لنفسك. أبلغ في ذمك من مدحك بما ليس فيك لأنه نبه على نقصك. وأبلغ في مدحك من ذمك بما ليس فيك لأنه نبه على فضلك ولقد انتصر لك من نفسك بذلك وباستهدافه إلى الإنكار واللائمة. ولو علم الناقص نقصه لكان كاملاً إذا عدله. من عيب حب الذكر أنه ربما يحبط الأعمال إذا أحب أن يذكر بها لأنه يعمل لغير الله عز وجل. وهو يطمس الفضائل لأن صاحبه لا يكاد يفعل الخير حبًا للخير لكن ليذكر به. من أفضل نعم الله على العبد أن يجيب إليه العدل يوفقه للعمل به ويجيب إليه الحق وإيثاره والعمل به. ومن قلة توفيق العبد وخذلانه أن يطبع على الجور واستسهاله وعلى الظلم واستخفافه. ومن كان كذلك فلييئس من أن يصلح نفسه أو يقوم طباعه أبد إلا أن يشأ الله.

صلاح القلب بتقوى الله

إذا حضرت مجلس علم فلا يكون حضورك إلا حضور مستزيدٍ علمًا وأجرًا لا طالبًا لعثرةٍ أو زلةٍ تشيعها أو غربيةٍ تشيعها. فإن تتبع العثرات والزلات أفعال الأراذل والسفل الذين لا يفلحون في العلم فإذا حضرتها على طلب الاسترشاد فقد حصلت خيرًا. إن لم تحضرها على نية صالحة فجلوسك في منزلك أحسن وأروح لبدنك واكرم لخلقك وأسلم لدينك. فإذا حضرتها فالتزم أحد ثلاثة أوجه أحدها إما أن تسكت فتحصل على أجر النية بالمشاهدة وعلى الثناء عليك بقلة فضول الكلام وعلى كرم المجالسة ومودة من تجالس. وإذا سألت فاسأل سؤال المتعلم عما لا تدري فإن السؤال عما تدري سخف وقلة عقل ولا تخلو من العجب. وفيه شغل عما هو أولى وفيه قطع لزمانك بما لا فائدة لا لك ولا لغيرك وربما ترتب عليه مفسدةٌ أو مفاسد. وإذا أردت أن ترجع فراجع مراجعة العالم. وصفة ذلك أن تعارض جوابه بما ينقضه نقضًا بينًا فإن لم يكن عندك إلا تكرار قولك أو لمعارضة بما لا يراه خصمك معارضة فأمسك. لأنك لا تحصل بتكرار ذلك على أجرٍ زائدٍ ولا على تعليم بل ربما حصلت على ما يسؤك من الغيظ والعداوة. واحذر سؤال التعنت ومراجعة المكابر الذي يطلب الغلبة بغير علم فهما خلقًا سوء دليلان على قلة الدين وضعف العقل وقوة السخف وكثرة الفضول. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. (فَصْلٌ) صلاح القلب بتقوى الله وطاعته والتوكل عليه وتوحيده وإخلاص العمل لوجهه الكريم.

وفساد القلب بعدم التقوى والتوكل والطاعة والتوحيد والإخلاص. ومما يورث فساد القلب وانتكاسه وفساد الأخلاق مجالسة أموات القلوب وأهل الآراء الفاسدة وأهل البدع كالأشاعرة والمعتزلة والرافضة والفسقة كأهل الملاهي والمنكرات. عليك بمجالسة أهل الدين والصلاح فإنهم هم الناس لأن أعقل خلق الله من امتثل أمره واجتنب نهيه. وأجهل خلق الله من عصى الله. العلماء العاملون المخلصون هم السالكون طريقة الرسل عليهم الصلاة والسلام. الذين لا يطلبون من الناس أجرًا على أعمالهم بل يريدون وجهه عز وجل قال الله جل وعلا لنبيه - صلى الله عليه وسلم - {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} وقال جل وعلا {إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا} . قلوب صافية طاهرة معرضة عن الخلق مقبلة على الخالق ذاكرة له ناسية للدنيا ذاكرة للآخرة. الجلوس مع الذين يطيعون الله نعمة من الله على عبده والجلوس مع المنافقين والمكذبين نقمة على العبد نعوذ بالله من مجالسة أهل الضلال والبدع والأخلاق المنحرفة وأهل الملاهي والمنكرات. فالواجب هجرانهم والابتعاد عنهم والتحذير عنهم. واهجر أيضًا أقران السوء واقطع المودة والصلة بينك وبينهم وواصلها بينك وبين الصالحين. قال بعضهم لا تغتر بموضع صالح فلا مكان أصلح من الجنة فلقي فيها آدم ما لقي ولا تغتر بكثرة العباد فإن إبليس لعنه الله بعد طول تعبده لقي ما لقي.

ولا تغتر بكثرة العلم فإن بلعام كان يحسن الاسم الأعظم فانظر ماذا لقي. ولا تغتر برؤية الصالحين فلا شخص أكبر من المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ولم ينتفع بلقائه أعداؤه وبعض أقاربه. وقال: إذا سمعت بحال الكفار وخلودهم في النار فلا تأمن على نفسك فإن الأمر على الخطر ولا تدري ماذا يكون من العاقبة وماذا سبق لك في حكم الغيب. ولا تغتر بصفاء الأوقات فإن تحتها غوامض الآفات. آخر: ... أَلا بلغن عَنِّي لِحَيٍّ رِسَالَةً ... تَعِيهَا رِجَالٌ أَوْ نِسَاء صَوَالِحُ لِعَالِمِهِمْ أَوْ طَالِبِ الْعِلْمِ رَائِمٍ ... لإِظْهَارِ دِينِ اللهِ فِيهِ يُنَاصِحُ أَقُولُ لَهُ قُمْ وَادْعُ لِلدِّينِ دَعْوَةً ... تُجِبْهَا عَوَامٌ أَوْ خَوَاصٌ جَحَاجِحُ وَلا تَخْشَ تَكْذِيبًا وَإِنْكَارَ جَاحِدٍ ... وَهُزْءِ جَهُولٍ ضَلَّ وَالْحَقُّ صَابِحُ وَغِيبَةً هَمَّازٍ وَضَغْنِ مُشَاحِن ... يُسَاعِدُهُ مَن لِلْعَوَائِدِ رَاكِحُ وَلَيْسَ لِمَا تَبْنِي يَدُ اللهِ هَادِمٌ ... وَلَيْسَ لأَمْرِ اللهِ إِنْ جَاءَ ضَارِحُ وَبَيِّنْ لَهُمْ أَنَّ الْعَوَائِدَ بَهْرَجَتْ ... وَسُنَّتُنَا لاحَتْ عَلَيْهَا لَوَائِحُ وَلَهْوُ الشَّبَابِ الْيَوْمَ قَدْ بَارَ سُوقُهُ ... وَقَامَتْ عَلَى سُوقِ الصَّلاحٍ الْمَدَائِحُ وَأَهْلُ الدُّنَا الْيَوْمَ انْزَوَى ظَلَّ جَاهِهِ ... وَسُنَّتُنَا قَدْ ظَلَلَتْهَا الدَّوَائِحُ وَمُنْكِرُ هَذَا الدِّينِ قَدْ خَفَّ وَزْنُهُ ... وَمَظْهَرُهُ مِيزَانُهُ الْيَوْمَ رَاجِحُ وَنَاصُرُهُ قَدْ صَارَ فِي النَّاسِ عَالِيًا ... وَمُنْكِرُهُ لِلْخَاصِ وَالْعَامِ دَانِحُ وَإِنَّ إِلَهَ الْعَرْشِ قَدْ مَنَّ مِنَّةً ... عَلَيْنَا وَمَنْ يَشْكُرْ فَذَلِكَ رَابِحُ

وَمَنْ كَفَرَ الأَنْعَامَ وَاتَّبَعَ الْهَوَى ... فَفِي بِدْئِهِ بَلْهَ الْقِيَامَةِ طَائِحُ وَذَاكَ بِأَنْ قَدْ بين الدِّين فِي امْرِئ ... لَنَا نَسُبًا نَعْلُو بِهِ وَنُطَامِحُ فَإِنْ نَحْنُ آوَيْنَاهُ نَنْصُرُ قَوْلَهُ ... نَفُزْ وَنَحْزُ نَعْمَاهُ وَالْكُلُّ فََالِحُ وَأَنْ قَدْ أَضَعْنَاهُ أَفَادَ بِغَيْرِنَا ... مَصَائِبُ قَوْمٍ عِنْدَ قَوْمٍ مَصَالِحُ وَلَوْ نَفَعَتْ قرُبَى فَقَطْ فِيهِ مَا رَدَى ... أَبُو طَالِبٍ عَمُّ النَّبِي وَتَارِحُ وَمَا ضَرَّ شَمْسًا أَنْ نَفَى الْعَيْنَ ضَوءَهَا ... وَمَا ضَرَّ حَوْضًا أَنْ أَبتهُ الْقَوَامِحُ أَطَايِبُ أَرْضٍ تُخْرِجُ النَّبْتَ رَئِعًا ... بِإِذْنِ الإِلِهِ إِنْ أَفَاضَتْ دَوَائِحُ وَلَوْ هَمَعْتْ دِيمًا لَمَا أَنْبَتَتْ وَلَوْ ... بَسَابِسَ نَبْتٍ في الأرْاضِي المَوَالِحُ فَلا يَمْنَعُ الإِرْشَادَ عُدْمُ قُبُولِهِمْ ... فَمَدْخَلُهُمْ مَوْلاهُمْ أَنْتَ فَاتِحُ فَإِنَّكَ إِنْ بَلَّغْتَهمُ ضَاعَ عُذْرُهُمْ ... فَسَاقِيهِمُ الْمَولَى فَإِنَّكَ جَادِحُ مُطِيعُ لِمَا قَدْ قَالَهُ سَيِّدُ الْوَرَى ... بِهِ بَلِّغُوا عَنِّي أَتَتْهُ صَحَائِحُ وَأَمْرُ بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيٌّ لِمُنْكَرٍ ... عَلَى شَرْطِه لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ قَارِحُ وَفَهمهُمُوا مَا يَلْزِمُ الْمَرْءَ عَقْدُهُ ... مِن الدِّينِ مِمَّا سَهَّلَتْهُ الْقَرَائِحُ وَغُسْلاً وَضُوءًا أَوْ صَلاةً زَكَاتُهُمْ ... وَصَوْمًا وَبَيْعًا ثُمَّ كَيْفَ يُنَاكِحُ وَوَاجِبُهَا مَسْنُونُهَا مُسْتَحَبّهَا ... وَمَنْهِيُّهَا فَالْكُلُّ فِي الْكُتْبِ وَاضِحُ وَكَيْفَ تُرَاعَى نِيَّةٌ فِي جَمِيعِهَا ... لِيَرْعَاهُ ذُو فَهْمٍ يُطِيعُكَ لائِحُ وَكَيْفَ التَّخَلِّي عَنْ صِفَاتٍ ذَمِيمَةٍ ... وَكَيْفَ التَّحَلِّي بِالْحَمِيدَةِ نَاصِحُ بِنَفْسِكَ فَابْدَأْ حَائِدًا عَنْ هَوَى الْهَوَى ... لَدَى سَوْمِهَا تَرْعَى وَإِنَّكَ كَابِحُ أَضَرَّ عَدُوٍّ مَنْ بِدَارِكَ سَاكِنٌ ... مُطِيعٌ لِشَيْطَانِ وَلِلدِّينِ قَابِحُ سَلامَةُ عَيْبِ النَّفْسِ عَزَّتُ لِمَالِهَا ... يَكُونُ خِلالُ الْمُنْكَرَاتِ الْمَسَارِحُ فَلا تَسْتَطِيعُ التَّرْكَ عَنْ شَهَوَاتِهَا ... وَلَمْ تَحْتَمِلْ ذُلاً كَذَاكَ السَّبَادِحُ

.. لِجَاؤُكَ بِالْمَوْلَى وَتَقْلِيلَ مَطْعَمٍ ... دَوَاءٌ لأَدْوَاءِ النُّفُوسِ مَطَحْطِحُ وَبِالأَصْغَرَيْنِ احْفَظْ وَبِالأَجْوَفَيْنِ والْ ... جَوَاسِيسَ صُنْ دَوْمًا تُطِعْكَ الْجَوَارِحُ تِبَاعٌ لِقُرْآنِ النَّبِيِّ وَصَحْبِهِ ... وَتَابِعِهِمْ تِرْيَاقُ مَنْ هُوَ صَالِحُ عَلَيْهِ صَلاةُ اللهِ ثُمَّ عَلَيْهِمْ ... كَذَاكَ سَلامٌ بِالرَّيَاحِينِ فَائِحُ اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة لأيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنًا لمصالحنًا واعصمنًا من قبائحنًا وذنوبنًا ولا تؤاخذنًا بما انطوت عليه ضمائرونًا واكنته سرائرونًا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) كتب أبو حامد الغزالي إلى أبي الفتح بن سلامة فقال: قرع سمعي بأنك تلتمس مني كلامًا وجيزًا في معرض النصح والوعظ وإني لست أرى نفسي أهلاً له. فإن الوعظ زكاة نصابه الاتعاض فمن لا نصاب له كيف يخرج الزكاة وفاقد النور كيف يستنير به غيره ومتى يستقيم الظل والعود أعوج. وقد أوصى الله جل وعلا عيسى بن مريم عليهما السلام يا ابن مريم عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي مني. وقال نبينا - صلى الله عليه وسلم - تركت فيكم ناطقًا وصامتًا فالناطق هو القرآن والصامت هو الموت وفيهما كفاية لكل متعظ فمن لم يتعظ بهما كيف يعظ غيره.

كتب أبو حامد الغزالي إلى أبي الفتح بن سلامة

ولقد وعظت بهما وقبلت وصدقت قولاً وعلمًا وأبت وتمت تحقيقًا وفعلاً. فقلت لنفسي أما أنت مصدقة بأن القرآن هو الواعظ وأنه كلام الله المنزل الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} فقالت بلى فقلت لها قد قال الله تعالى {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} . فقد وعد الله جل وعلا بالنار على إرادة الدنيا وكل ما لا يصحب بعد الموت فهو من الدنيا فهل تنزهت عن حب الدنيا وإرادتها. ولو أن طبيبًا نصرانيًا وعدك بالموت أو بالمرض على تناول ألذ الشهوات لتحاميتها وأنفت منها وجنبتها أفكان النصراني عندك أصدق من الله جل وعلا. فإن كان كذلك فما أكفرك أم كان المرض أشد عليك من النار فإن كان كذلك فما أجهلك فصدقت ثم ما انتهت بل أصرت على الميل إلى العاجلة واستمرت. ثم أقبلت عليها فوعظتها بالواعظ فقلت لها قد قال الله جل وعلا {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} . وقلت لها هبي أنك ملت إلى العاجلة أفلست مصدقة بأن الموت لا محالة يأتيك قاطعًا عليك ما أنت متمسكة به وسالبًا منك كل ما أنت راغبة فيه. وأن كل ما هو آت قريب وقد قال جل جلاله {فَرَأَيْتَ إِن

مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} وقال مخبرًا عن نفسه عندما وعظها ولم تجتهد في التزود للآخرة كاجتهادها في تدبير العاجلة ولم تجتهد في رضا الله كاجتهادها في طلب رضاها وطلب رضا الحق. ولم تستحي من الله تعالى كما تستحي من واحد من الخلق ولم تشمر للاستعداد للآخرة كتشميرها في الصيف لأجل الشتاء وفي الشتاء لأجل الصيف فإنها لا تطمئن في أوائل الشتاء ما لم تتفرغ عن جميع ما تحتاج إليه فيه مع أن الموت ربما يخيطفها والشتاء لا يدركها. فقلت لها ألست تستعدين للصيف بقدر طوله وتصنعين له آلة الصيف بقدر صبرك على الحر قالت نعم. ثم استمرت على سجيتها ولما رأيتها متمادية في الطغيان غير منتفعة بموعظة الموت والقرآن رأيت أهم الأمور التفتيش عن سبب تماديها مع اعترافها وتصديقها فإن ذلك من العجائب العظيمة. فطال تفتيشي عنه حتى وقفت على سببه وها أنا ذا موص نفسي وإياك بالحذر منه فهو الداء العظيم وهو سبب الداعي إلى الغرور والإهمال. وهو اعتقاد تراخي الموت واستبعاد هجومه على القرب فإنه لو أخبر صادق في بياض نهاره أنه يموت في ليلته أو يموت بعد أسبوعٍ أو شهرٍ لاستقام واستوى على الصراط المستقيم. فانكشف لي تحقيقًا أن من أصبح وهو يؤمل أنه يمسي أو أمسى وهو يؤمل أن يصبح لم يخل من الفتور والتسويف. فأوصيك ونفسي بما أوصى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: «صل صلاة

مودعٍ» . ولقد أوتي جوامع الكلم وفصل الخطاب ولا ينتفع بوعظ إلا به. ومن غلب على ظنه في كل صلاة أنها آخر صلاة حضر معه خوفه من الله تعالى وخشيته منه. بخلاف من لم يخطر بخاطره قصر عمره وقرب أجله وغفل قلبه عن صلاته وسئمت نفسه فلا يزال في غفلة دائمة وفتورٍ مستمر وتسويفٍ متتابعٍ إلى أن يدركه الموت ويهلكه حسرة الفوت. فعلى الإنسان العاقل أن يحذر مواقع الغرور ويحترز من خداع النفس فإن خداعها لا يقف عليه إلا الأكياس وقليل ما هم. والوصايا وإن كانت كثيرة والمذكورات وإن كانت كبيرة فوصية الله أكملها وأنفعها واجمعها وقد قال الله جل وعلا وتقدس {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللهَ} فما أسعد من قبل وصية الله وعمل بها وادخرها ليجدها يوم مردها ومنقلبها. ? اللهم ألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لما وفقت له الصالحين من خلقك واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) روى عن الحسن أنه قيل له إن فلانًا مات بغتًة قال: ما يعجبكم من ذلك لو لم يمت بغتة مرض ثم مات. وقال غيره عليك باجتناب طول الأمل فإنه إذا طال هاج أربعة أشياء. الأول ترك الطاعة والكسل فيها يقول سوف أفعل والأيام بين يدي.

والثاني ترك التوبة وتسويفها يقول سوف أتوب وفي الأيام سعة وأنا شاب والتوبة بين يدي وأنا قادرٌ عليها متى أردتها وربما اغتاله الموت وهو مصرٌ واختطفه الأجل قبل التوبة وإصلاح العمل. والثالث الحرص على جمع المال والاشتغال بالدنيا عن الآخرة يقول أخاف الفقر في الكبر وربما ضعفت عن الاكتساب ولا بد لي من شيءٍ فاضل أدخره لمرضٍ أو هرمٍ أو فقرٍ هذا ونحوه يحرك إلى الرغبة في الدنيا والحرص عليها. والرابع القسوة في القلب والنسيان للآخرة لأنك إذا أملت العيش الطويل لا تذكر الموت والقبر في الغالب. وعن علي رضي الله عنه قال: أخوف ما أخاف عليكم اثنان طول الأمل وإتباع الهوى لأن طول الأمل ينسي الآخرة وإتباع الهوى يصدك عن الحق. فإذا يصير فكرك في حديث الدنيا وأسباب العيش في صحبة الخلق فيقسو القلب. ويغلب عليه الحرص. كما قيل: وَالْمَرْءُ يُدْرِكُ أَنَّ الْمَرْءَ مُخْتَلَسٌ ... مِنَ الْحَيَاة وَلَكِنْ يَغْلِبُ الطَّمَعُ وبسبب طول الأمل تقل الطاعة وتتأخر التوبة وتكثر المعصية ويشتد الحرص وتعظم الغفلة فتذهب الآخرة إن لم يرحم الله. فأي حال أسوء من هذه وأي آفة أعظم من هذه وإنما رقة القلب وصفوته بذكر الموت ومفاجأته والقبر وظلمته والثواب والعقاب وأحوال الآخرة. وقال رحمه الله: اعلم أن تقصير الأمل مع حب الدنيا متعذر وانتظار الموت مع الاكباب عليها غير متيسر.

فالإناء إذا كان مملوءًا بشيءٍ لا يكونٌ لشيء آخر محلٌ فيه ولأن الدنيا والآخرة كضرتين إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى. وكالمشرق والمغرب بقدر ما تقرب من أحداهما تبعد عن الآخر قال الله جل وعلا وتقدس {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً} . شِعْرًا: ... رَجِوْتَ خُلُودًا بَعْدَ مَاتَ آدَمٌ ... وَنُوحٌ وَمَنْ بَعْدِ النَّبِيِّينَ مِنْ قَرَنِ وَسَوَّفَتْ بِالأَعْمَالِ حَتَّى تَصَرَّمَتْ ... سُنُوكَ فَلا مَالٌ وَلا وَلَدٌ يُغْنِي فَشَمِّرْ لِدَارِ الْخُلْدِ فَازَ مُشَمِّرٌ ... إِلَيْهَا وَنَالَ الأَمْنَ فِي مَنْزِلِ الأَمْنِ لَقَدْ شَغَلَتْنَا أُمُّ دفْرٍ بِزُخْرُفٍ ... شُغِلْنَا بِهِ عَنْ طَاعَةِ اللهِ ذِي الْمِنِّ عَجِبْتُ لِدُنْيًا لا تَسُرُّ وَإِنَّمَا ... تَشُوبُ عَلَى تِلْكَ الْمَسَرَّةِ بِالْحُزْنِ قال ابن الجوزي: عجبت من عاقل يرى استيلاء الموت على أقرابة وجيرانه كيف يطيب عيشه خصوصًا إذا علت سنة. وأعجبًا لمن يرى الأفاعي تدب إليه وهو لا ينزعج أما يرى الشيخ دبيب الموت في أعضائه ثم في كل يوم يزيد الناقص. ففي نظر العاقل على نفسه ما يشغله عن النظر إلى خراب الدنيا وفراق الإخوان وإن كان ذلك مزعجًا. ولكن شغل من احترق بيته بنقل متاعه يلهيه عن ذكر بيوت الجيران. قلت: ومثله من في بيته لص يلهيه عن اللصوص التي في بيوت الجيران. وإنه لِمَمَّا يسلي عن الدنيا ويهون فراقها استبدال المعارف بمن تكره فقد رأينا أغنياء كانوا يؤثرون وفقراء كانوا يصبرون ومحاسبين لأنفسهم يتورعون. فاستبدل السفهاء عن العقلاء والبخلاء عن الكراماء فيا سهولة الرحيل لعل النفس تلقى من فقدت فتلحق بمن أحبت. شِعْرًا: ... وَلا تَغُرنكَ أَثْوَابٌ لَهُمْ حَسُنَتْ ... فَلَيْسَ مِنْ تَحْتِهَا فِي حُسْنِهَا حَمَدَا فَالْقِرْدُ قِرْدٌ وَلَوْ حَلَّيْتَهُ ذَهَبًا ... وَالْكَلْبُ كَلْبٌ وَلَوْ سَمَّيْتَهُ أَسَدَا

فصل في ذكر الموت والاستعداد له

شِعْرًا: ... فَإِنْ تَكُنْ عَبِثَتْ أَيْدِي النُّذُولِ بِنَا ... وَنَالَنَا مِنْ تَمَادِي بِأْسِهِمْ ضَرَرُ فَكَمْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ خَضْرَاءِ مُورقَةٌ ... وَلَيْسَ يُرْجَمُ إِلا مَالَهُ ثَمَرُ آخر: ... عَرِفْتُ أُمُورَ الْوَقْتِ أَمَّا شُرُورُهُ ... فَنَقْدٌ وَأَمَّا خَيْرُهُ فَوُعُودُ إِذَا كَانَتْ الدُّنْيَا كَذَاكَ فَخَلِّهَا ... وَلَوْ أَنَّ كُلَّ الطَّالِعَاتِ سُعُودُ آخر: ... تَغَيَّرَ إِخْوَانُ هَذَا الزَّمَانِ ... وَكُلُّ صَدِيق عَرَاهُ خَلَلْ قَضَيْتُ التَّعَجُّبَ مِنْ بَابِهِمْ ... فَصِرْتُ مُنْتَظِرً لِبَابِ الْبَدَلْ آخر: ... مََضى الْجُودُ وَالإِحْسَانُ وَاجْتُثَّ أَصْلُهُ وَأُخْمِدْنَ نِيرَانُ الْوَغَى وَالْمَكَارِمِ وَصِرْتُ إِلَى ضَرْبٍ مِنَ النَّاسِ آخَرٍ يَرَوْنَ الْعُلا وَالْمَجْدَ جَمْعَ الدَّرَاهِمِ كَأَنَّهُمُوا كَانُوا جَمِيعًا تَعَاقَدُوا عَلَى الْبُخْلِ وَالإِمْسَاكِ فِي صُلْبِ آدَمِ اللهم أيقظ قلوبنا ونورها بنور الإيمان وثبت محبتك في قلوبنا وقوها وارزقنا المعرفة بك عن بصيرة وألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لطاعتك وامتثال أمرك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) في ذِكْرِ المَوْتِ وَالاسْتِعْدَادِ لَهُ اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين أن مما يتأكد الاستعداد له واستشعار قربه الموت فإنه أقرب غائب ينتظر وما يدري الإنسان لعله لم يبق من أجله إلا اليسير وهو مقبل على دنياه ومعرض عن آخرته. ولو لمن يكن بين يديه كرب ولا هول ولا عذاب سوى سكرات الموت لكان جديرًا بأن يتنكد ويتنغص عليه عيشه ويتكدر عليه سروره ويفارقه سهوه وغفلته.

معنى الاستعداد للموت والحث على تذكره والاستعداد له

إِنَّ فِي الْمَوْتِ وَالْمَعَادِ لَشُغْلا ... وَادِّكَارًا لِذِي النُّهَى وَبَلاغَا فَاغْتَنِمْ خَصْلَتَيْنِ قَبْلَ الْمَنَايَا ... صِحَّةَ الْجِسْمِ يَا أَخِي وَالْفَرَاغَا وحقيق بأن يطول فيه فكره ويعظم له استعداده وهو محتمل أن يقع على الإنسان بغتة كما قيل سهم بيد سواك لا تدري متى يغشاك. قال لقمان لابنه يا بني أمر لا تدرى متى يلقاك استعد له قبل أن يفجاك. تُؤَمِّل فِي الدُّنْيَا طَوِيلاً وَلا تَدْرِي ... إِذَا جَنَّ لَيْلٌ هَلْ تَعِيشُ إِلَى الْفَجْرِ فَكَمْ مِنْ صَحِيحٍ مَاتَ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ ... وَكَمْ مِنْ مَرِيضٍ عَاشَ دَهْرًا إِلَى دَهْرِ وقال الآخر: قَصَّر الآمَالَ فِي الدُّنْيَا تَفُزْ ... فَدَلِيلُ الْعَقْلِ تَقْصِيرُ الأَمَلِ إِنَّ مَنْ يَطْلُبُهُ الْمَوْتُ عَلَى ... غِرَّةٍ مِنْهُ جَدِيرٌ بِالْوَجَلْ والعجب أن الإنسان لو كان في أعظم اللذات وأطيب المجالس التي تلذ له ويأنس بها مع الأولاد وأصدقائه وأقربائه وأخبر أن جنديًا أتى ليحضره ويدعوه إلى أمر الأمور لتنكد وتكدرت عليه لذته وفسد عليه عيشه. وهو في كل لحظة بصدد أن يدخل عليه ملك الموت بسكرات النزع وهو عنه في سهو وغفلة وما لذلك سبب إلا الجهل والغرور واشتغال القلب بالدنيا. وقيل في الاستعداد للموت هو أن يتوب الإنسان توبة طاهرة عن الذنوب والخطايا بأن لو قيل له إنك تموت الساعة ما وجد عنده ذنبا يحتاج إلى توبةٍ منه فيسأل النظرة من أجله. فإن كان يجد ذنبًا يحتاج إلى توبةٍ منه فيسأل النظرة من أجله. كسرقةٍ وغصب مالٍ أو أرض أو غيبة أو معاملة لا تجوز أو يأكل من حرام أو مشتبه. أو مصرًا على زكاة أو على بعضها أو كاتمًا لأمانة أو لا يشهد الجمعة

والجماعة أو عنده من آلات اللهو شيء في بيته أو دكانه كتلفزيون أو سينما أو مذياع أو فيديو. أو يبيع ويشتري بها أو له أسهم فيما يستمد منه أهل المعاصي تنويرًا أو لتصليح آلات اللهو أو نحو ذلك أو مصرًا على التشبه بالكفرة كحلق لحية أو جعل خنافس أو مصرًّا على شرب خمر أو دخان أو يصور أو يبيع ويشتري بها أو مجالس للفسقة أو الكفرة أو ساكنًا معهم أو في بلادهم أو عنده كفار كخدامين وسواقين ومربين وخياطين. فإنه لم يستعد للقاء الله عز وجل لأنه لا يستشار ولا يؤخذ رأيه في إخراج روحه والموت يأتيه فجأةً فإن جاءه الموت وذلك الذنب عنده لم يأمن من أن يغضب الله عليه. وكيف يكون مستعدًا للقاء الله من هو مقيم على ما يغضب الله من المعاصي ولا يأمن أن يأتيه الموت أغفل ما كان والموت آتيه لا محالة صدق الله: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} . شِعْرًا: ... يَا مَنْ تَمَتَّعَ فِي الدُّنْيَا وَلَذَّتَهَا ... وَلا تَنَامُ عَنِ اللَّذَاتِ عَيْنَاهُ شَغَلْتَ نَفْسَكَ فِيمَا لَيْسَ تَدْرِكُهُ ... تَقُولُ للهِ مَاذَا حِينَ تَلْقَاهُ آخر: ... النَّاسُ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ لا بَقَاءَ لَهُمْ ... لَوْ أَنَّهُمْ عَمِلُوا مِقْدَارَ مَا عَلِمُوا وقال جل وعلا: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وقال جل وعلا: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} إلا أنه ليس للموت وقت معلوم عند الناس فيخاف في ذلك الوقت ويؤمن منه في سائر الأوقات. شِعْرًا: ... تَغَنَّمْ مِنَ الدُّنْيَا بِسَاعَتِكَ الَّتِي ... ظَفِرْتَ بِهَا مَا لَمْ تَعُقْكَ الْعَوَائِقُ فَلا يَوْمُكَ الْمَاضِي عَلَيْكَ بِرَاجِعٍ ... وَلا يَوْمُكَ الآتِي بِهِ أَنْتَ وَاثِقُ

شِعْرًا: مَنْ كَانَ لا يَطَأ التُّرَابَ بِنَعْلِهِ ... وَطِيءَ التُّرَابُ بِصَفْحَةِ الْخَدِّ مَنْ كَانَ بَيْنَكَ فِي التُّرَابِ وَبَيْنَهُ ... شِبْرَانِ فَهُوَ بِغَايَةِ الْبُعْدِ لَوْ كُشِفَتْ لِلنَّاسِ أَغْطِيَةُ الثَّرَى ... لَمْ يُعْرَفِ الْمَوْلَى مِنَ الْعَبْدِ فليس يأتي في الشتاء دون الصيف فيخاف من الشتاء ويؤمن في الصيف ولا بالعكس ولا في النهار فيؤمن بالليل ولا بالعكس. وليس وقت من العمر معلوم عند الناس فيأخذ أبناء الخمسين فيأمنه من دون ذلك وليس له علة دون علة كالحمى والسل فيأمنه من لم يصبه ذلك. فحق على العالم بأمر الله عز وجل وأنه الذي انفرد بعلم ذلك الوقت أن لا يأمنه في وقت من الأوقات وأن يكون مستعدًا له أتم الاستعداد. فمن ذكر الموت بفراغ قلب من كل شيء مع ذكره عظيم ما يأتي البشر من العذاب أو بالرحمة مع الاعتبار بالذين مضوا قبله ممن فوقه ودونه وأشكاله وأمثاله من أقارب وأصدقاء وزملاء وأقران وجيران ومشايخ وملوك وأساتذة وإخوان. ومن فوائد ذكر الموت أنه يورث الاستشعار بالانزعاج عن هذه الدار الفانية المملوءة بالأكدار والأنكاد والهموم والغموم. ويحثك ذكر الموت عن حالتي ضيق وسعة ونعمة ومحنة. فإن كان في حال ضيقه ومحنة فذكر الموت سهل عليه بعض ما هو فيه إذ لا مصيبة إلا الموت أعظم منها وهو ذائقة ولا بد. قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وإن كان في حال سعة ونعمة. شِعْرًا: ... عَجَبًا لِمَنْ يُبْقِي ذَخَائِرَ مَالِهِ ... وَيَظَلُّ يَحْفَظُهُنَّ وَهُوَ مُضَيّعُ وَلِغَافِلٍ وَيَرَى بِكُلِ ثَنِيَّةٍ ... مُلْقَى لَهُ بَطْنُ الصَّفَائِحِ مُضَيّعُ أَتَرَاهُ يَحْسَبُ أَنَّهُمْ مَا أَسَأَرُوا ... وَمِنْ كَأْسِهِ أَضْعَافْ مَا يَتَجَرَّعُ

فذكر الموت يمنعه من الاغترار بالدنيا والركون إليها لتحقق عدم دوامها وتحقق ذهابها عنه وانصرامها. قال الله جل وعلا وتقدس: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} . شِعْرًا: ... أيَا صَاحِ كنْ في شأنْ دُنْيَاكَ هَذِهِ ... غَرِيبًا كَئِيبًا عَابِرًا لِسَبِْيلِ وعُدَّ مِن أهْلِ القَبْرِ نَفْسَكَ إِنَّمَا ... بَقَاؤُكَ فِيهَا مِنْ أَقَلِّ قَلِيْلِ وكتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض أهل بيته: أما بعد فإنك إن استشعرت ذكر الموت في ليلك ونهارك بغَّض إليك كل فان. وقال بعض العلماء: الأيام سهام والناس أغراض والدهر يرميك كل يوم بسهامه ويخترمك بلياليه وأيامه حتى يستغرق ويستكمل جميع أجزائك فكيف تبقى سلامتك مع وقوع الأيام بك وسرعة الليالي في بدنك لو كشف لك عما أحدثت الأيام فيك من النقص لاستوحشت من كل يوم يأتي عليك واستثقلت ممر الساعات بك ولكن تدبير الله فوق كل تدبير. قال بعضهم يرثي أخًا له: يَا صَاحِبِيْ إِنَّ دَمْعِيْ اليَوْمَ مُنْهَمِلٌ ... عَلى الخُدُوْدِ حَكَاهُ العَارِضُ الهَطِلُ وَفِي الْفُؤادِ وَفِي الأَحْشَاءِ نَارُ أَسىً ... إِذَا أَلَمَّ بِهَا التِّذْكَار تَشْتَعِلُ عَلى الأَحِبَّةِ والإِخْوَانِ إِذْ رَحَلُوْا ... إِلَى المقَابِرِ والألْحَادِ وانْتَقَلُوْا كُنَّا وَكَانُوْا وَكَانَ الشَّمْلُ مُجْتَمِعًا ... وَالدَّارُ آهِلَةٌ َوَالحَبْلُ مُتَّصِلُ حَدَا بِهِمْ هَادِمُ اللَّذَّاتِ في عَجَلٍ ... فَلَمْ يُقِْيمُوا وَعَنْ أَحْبَابِهِمْ شُغِلُوا وَلَمْ يَعُوْجُوا عَل أَهْلٍ وَلاَ وَلَدٍ ... كَأَنَّهمْ لَمْ يَكُوْنُوا بَيْنَهَمْ نَزَلُوْا إِنِّي لأَعْجَبُ لِلدُّنْيَا وَطَالِبهَا ... وَلِلْحَرِيْصِ عَلَيْهَا عَقْلُهُ هَبَلُ وَغَافِلِ لَيْسَ بالْمَغْفُولِ عَنْهُ وَإِنْ ... طَالَ المَدَى غَرَّهُ الإمْهَالُ وَالأَمَلُ نَاسٍ لِرِحْلَتِهِ ناَسٍ لِنُقْلَتِهِ ... إِلَى القُبُور التيْ تَعْيَا بِهَا الحِيَلُ

فِيْهَا السؤال وَكَمْ هَوْلٍ وَكَمْ فِتَنٍ ... لِلْمُجْرِمِينَ اَلأُلَى عَنْ رَبِّهِمْ غَفَلُوا وَفِي القُبُوْرِ نَعِيْمٌ لِلتَّقيّ كَمَا ... فِيْهَا العَذَابُ لِمَنْ في دِينِهِ دَخَلُ قُلْ لِلْحَزِيْنِ الذِيْ يَبْكِي أَحِبَّتَهُ ... ابْكِ لِنَفْسِكَ إِنَّ الأَمْرَ مُقْتَبِلُ فَسَوْفَ تَشْرَبُ بالكَأْسِ الذِي شَرِبُوا ... بِهَا إِنْ يَكُنْ نَهلٌ مِنْهَا وَإِنْ عَلَلُ فَاغْنَمْ بَقِيَّةَ عُمْرٍ مَرَّ أَكْثَرُهُ ... فِي غَيْرِ شَيءٍ فَمَهْلاً أَيُّهَا الرَّجُلُ اللهم إنا نسألك نفسًا مطمئنة، تؤمن بلقائك وترضى بقضائك، وتقنع بعطائك، يا أرأف الرائفين، وأرحم الراحمين. اللهم إنا نسألك التوفيق لما تحبه من الأعمال، ونسألك صدق التوكل عليك، وحسن الظن بك يا رب العالمين. اللهم اجعلنا من عبادك المخبتين، الغر المحجلين الوفد المتقبلين. اللهم إنا نسألك حياة طيبة، ونفسًا تقية، وعيشة نقية، وميتة سوية، ومردًا غير مخزي ولا فاضح. اللهم اجعلنا من أهل الصلاح والنجاح والفلاح، ومن المؤيدين بنصرك وتأييدك ورضاك يا رب العالمين. اللهم افتح لدعائنا باب القبول والإجابة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين. فصل: ثم اعلم ألهمنا الله وإياك الرضا بقضائه وقدره ورزقنا وإياك وجميع المسلمين الاستعداد لما أمامنا أنه ما من مخلوقٍ مهما امتد أجله وطال عمره إلا والموت نازل به وخاضع لسلطانه. ولو جعل الله الخلود لأحد من الخلق لكان الأولى بذلك الأنبياء والرسل المطهرين المقربين. وكان أولاهم بذلك صفوة أصفيائه وخيرته من خلقه سيد ولد آدم على الإطلاق محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.

قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} . فالموت حتم لا محيص ولا مفر منه يصل إلينا في أي مكان كنا قال الله: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} . ولو نجا أحد من الموت لبسطة في جسمه أو قوة في بدنه أو وفرةٍ في ماله أو سعةٍ في سلطانه وملكه لنجا من الموت كثير من الناس. وإلا فأين عاد وثمود وفرعون ذو الأوتاد أين الأكاسرة وأين القياصرة والصناديد الأبطال ذهبوا في خبر كان. شِعْرًا: ... سَلِ المَدائِن عَمَّنْ كَانَ يَمْلِكُهَا ... هَلْ أَنَسِتْ مِنْهُمْ مِن بَعْدِهمْ خَبَرا فَلَوْ أَجَابَتْكَ قَالَتْ وهيَ عَالمةٌ ... بِسِيْرَة الذاهِبِ الماضِي ومَنْ غَبَرَا أَرَتْهُمْ العِبَرَ الدُنِْيَا فما اعْتَبَرُوا ... فصَيَّرتْهُمْ لِقَوْمٍ بَعْدَهُمْ عِبَرَا آخر: ... نَبْكِي عَلى الدُّنْيَا وَمَا مِنْ مَعْشَرٍ ... جَمَعَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يَتَفَرَّقُوْا أَيْنَ الأَكَاسِرَةُ الجَبَابِرَةُ الأُلَى ... كَنَزُوا الكُنُوزَ فمَا بَقَيْنَ وَلا بَقُوْا مَنْ كُلِّ مَنْ ضَاقَ الفَضَاءُ بِجَيْشِهِ ... حَتَّى ثَوَى فَحَوَاهُ لَحْدٌ ضَيِّقُ فَالمَوْتُ آتِ وَالنُّفُوسُ نَفَائِسٌ ... وَالمُسْتَغَرُّ بِمَا لَدَيْهِ الأَحْمَقُ فالموت لا يخشى أحدًا من الخلق ولا يبقي على أحدٍ منهم ويهجم على الكبير والصغير والقوي والضعيف والمعالج والمعالَج والغني والفقير والرئيس والمرؤوس وكل عنده على السوى كما قيل: هُوَ الموتُ مُثْرٍ عِنْدَهُ مِثْلُ مُعْدِمٍ ... وَقَاصِدُ نَهْجٍ مِثْلُ آخَرَ نَاكِبِ وَدِرْعُ الفَتَى في حُكْمِهِ دِرْعُ غَادَةٍ ... وَأَبْيَاتُ كَسْرَى مِن بُيُوتِ العَنَاكِبِ آخر: ... إِذَا نَزَلَ المَقْدُوْرُ لم تُلْفِ لِلْقَطَا ... نُهُوضًا ولا لِلْمُخْدِرَاتِ إِبَاءُ

لا بأس بالتداولي إذا وقع بالإنسان مرض

فمتى لزم ذلك وداوم عليه بتدبرٍ وتفكرٍ بقلبٍ حاضرٍ في كل وقت عظمت معرفته بالموت وفجأته وأنه نازل به كما نزل بمن مضى قلبه لا محالة فإذا عظمت معرفته قصر أمله فإذا قصر أمله حذر قلبه من الموت ارتقب فإذا كان مرتقبًا له سارع إلى الاستعداد والاستباق إلى الخيرات قبل الفوات. لا شَيْءَ يَبْقَى سِوَى خَيْرٍ تُقَدِّمَهُ ... مَا دَامَ مَلْكٌ لإِنْسَان ولا خَلَدَا فأَمْهِدْ لِنَفْسَكَ وَالأَقْلامُ جَاريةٌ ... وَالتَّوبُ مُقْتَبِلٌ فَاللهِ قَدْ وَعَدَا ولا بأس بالتداوي إذا وقع به المرض أو وجع بما هو مباح فإن الله تعالى لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء وفي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه «أن الله تعالى لم ينزل داء إلا أنزل له شفاءٍ إلا الهرم فعليكم بألبان البقر فإنها ترم من كل شجر» . وفي الحديث الآخر عن أبي سعيد «إن الله تعالى لم ينزل داء إلا أنزل له دواء علمه من علمه وجهله من جهله إلا السام وهو الموت» . فإذا أراد الله الشفاء يسر ذلك للعبد ووفقه لاستعمال الدواء على وجهه وفي وقته فيبرأ بإذن الله. قال القرطبي على قوله لم يضع له شفاء هذه الكلمة صادقة لأنها خبر عن الصادق المصدوق عن الخالق القدير ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير فالداء والدواء خلقه والشفاء والهلاك فعله وربط الأسباب بالمسببات حكمته وحكمه فكل بقدرٍ لا معدل عنه. شِعْرًا: تَوقِي الدَّاءِ خَيْرٌ مِنْ تَصَدٍّ ... لأَيْسَره وَإنْ قرُبُ الطَّبِيبُ وقال ابن حجرٍ على قوله جهله من جهله ومما يدخل فيها ما يقع لبعضهم أنه يداوي من داءٍ بدواءٍ فيبرأ ثم يعتريه ذلك الداء فلا ينجح وسببه الجهل بصفةٍ من صفات الدواء فرب مريضين تشابها ويكون أحدهما مركبًا لا ينجح

أبيات في التزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة

فيه ما ينجح غير المركب فيقع الخطأ وقد يكون متحدًا لكن يريد الله أن ينجح وهنا تخضع رقاب الأطباء ولهذه قال بعضهم: إِن الَّطبِيْبَ لَذُو عَقْلٍ وَمَعْرِفَةٍ ... مَا دَامَ في أَجَلِ الإِنْسَانِ تَأْخِيرُ حَتىَّ إِذَا مَا انْقَضَتْ أَيَّامُ مُدَّتِِهِ ... حَارَ الطَّبِيبُ وَخَانَتْهُ العَقَاقِيرُ ومما ورد في الحث على الاستعداد للموت ما يلي: يا رَاِقدَ الليل مَسْرُوْرًا بأَوْلِه ... إِنَّ الحَوَادِثَ قَدْ يَطْرُقنَ أَسْحَارَا كَمْ قَدْ أَبَادَتْ صُرُوْفُ الدَّهْرِ مِن مَلِكٍ ... قَدْ كَانَ في الدهرِ نَفَّاعًا وَضَرَّارَا يَا مَن يُعَانِقُ دُنْيَا لا بَقَاءَ لَهَا ... يُمْسِي وَيُصْبِحُ في دُنْيَاهُ سَفَّارَا هَلا تَرَكْتَ مِن الدُنْيَا مُعَانَقَةَ ... حَتَّى تُعَانِقَ في الفِرْدَوْسِ أَبْكَارَا إِنْ كُنْتَ تَبْغِي جِنَانَ الخُلْدِ تَسْكُنُهَا ... فَيَنْبَغِي لَكَ أَنْ لا تَأْمَنِ الدَّارَا قال أبو الحسين الأهوازي في كتاب الفرائد والقلائد الدنيا لا تصفو لشارب. ولا تبقي لصاحب. فخذ زادًا من يومك لغدك فلا يبقي يوم عليك ولا غد. ويقال إنه كان على قبر يعقوب بن ليث مكتوبًا هذه الأبيات عملها قبل موته وأمر أن تكتب على قبره وهي هذه: سَلامٌ على أَهِل القُبورِ الدَّوَارِس ... كَأَنَّهُمُ لَمْ يَجْلِسُوا فِي الْمَجَالِسِ وَلَمْ يَشْرَبُوا مِن بَارد الْمَاءِ شربةً ... وَلَمْ يَأْكُلُوا مَا بَيْنَ رَطْبٍ وَيَابِسِ فَقَدْ جَاءَنِي الْمَوْتُ الْمَهُولُ بِسَكْرَةٍ ... فَلَم تُغْنِ عَنِّيِ أَلْفُ آلافِ فارِسِ فَيَا زَائِرَ الْقَبْرِ اتَّعِظْ وَاعْتَبِرْ بِنَا ... وَلا تَكُ فِي الدُّنْيَا هُدِيْتَ بآنِسِ خراسَانُ نَحْوِيها وأطرافَ فارِسٍ ... وما كُنْتُ عن مُلْكِ العِرَاقِ بآيِسِ سَلامٌ على الدُنْيَا وطِيْبِ نَعِيمِها ... كَأَنْ لم يَكُنْ يَعُقوبُ فِيها بِجَالِسِ وأقبل رجل من المقبرة فقيل له من أين جئت فقال من القافلة النازلة قيل له ماذا قلت لهم وماذا قالوا لك.

الإكثار من ذكر الموت مستحب لفوائده الكثيرة

قال: قلت لهم: متى ترحلون؟ قالوا: حين ينتهي القادمون. وقال آخر: أجالس قومًا إن حضرت وعظوني ولم يؤذوني وإن غبت لم يغتابوني يريد الموتى. وَكَيْفَ أَشِيد فِي يَوْمِي بِنَائِي ... وَأَعْلمُ أَنَّ فِي غَدٍ عَنْهُ ارْتِحَال فَلا تَنْصِبْ خِيَامَكَ فِي مَحَلٍ ... فَإِنَّ الْقَاطِنِين عَلَى ارْتِحَال آخر: ... زَيَّنْتْ بَيْتَكَ جَاهِدًا وعَمَرْتَهُ ... ولَعَلَّ غَيْرَكَ صَاحَبٌ لِلْبَيْتِ وَالْمَرْءُ مُرْتَهَنٌ بِسَوفَ ولَيتَنِي ... وَهَلاكُهُ في سَوْفِهِ وَاللَّيْتِ أَلا أَيُهَا المَغْرورُ في نَومِ غَفْلَةٍ ... تَيَقَّظْ فإنَّ الدَّهَر للناسِ ناصِحُ فكَمْ نائِم في أوَّلِ الليلِ غَافِلٍ ... أَتَاهُ الرَّدَى في نَوْمِهِ وهو صَابِحُ فَشْقَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ جَيْبَ صَبَاحِهِ ... وقَامَتْ عَلَيْهِ لِلطُّيُورِ نَوَائِحُ اللهم يا مصلح الصالحين أصلح فساد قلوبنا واستر في الدنيا والآخرة عيوبنا واغفر بعفوك ورحمتك ذنوبنا وهب لنا موبقات الجرائر واستر علينا فاضحات السرائر ولا تخلنا في موقف القيامة من برد عفوك وغفرانك ولا تتركنا من جميل صفحك وإحسانك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) ثم اعلم أن الإكثار من ذكر الموت مستحب مرغب فيه وله منافع وفوائد جليلة منها تقصير الأمل 2- الزهد في الدنيا 3- القناعة منها باليسير 4- الرغبة في الآخرة 5- التزود للآخرة بالأعمال الصالحة 6- الإعتناء بالوصية والمبادرة فيها 7- الابتعاد عن المعاصي. وورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أكثروا ذكر هاذم اللذات الموت» . وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا ذهب ثلث الليل قام فقال: «أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه» .

أبيات حول الموضوع

ولما سئل - صلى الله عليه وسلم - عن الأكياس من الناس من هم؟ قال: «أكثرهم للموت ذكرًا وأحسنهم له استعداد أولئك الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا ونعيم الآخرة» . وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أكثروا ذكر هاذم اللذات» . يعني الموت فإنه ما كان في كثير إلا جزأه رواه الطبراني بإسناد حسن. وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بمجلس قوم وهم يضحكون فقال: «أكثروا من ذكر هاذم اللذات» . أحسبه قال: «فإنه ما ذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه ولا في سعةٍ إلا ضيقه» . رواه البزار بإسناد حسن والبيهقي باختصار. وفي حديث أبي ذر قلت: يا رسول الله فما كانت صحف إبراهيم عليه السلام قال: «كانت عبرًا كلها: عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح عجبت لم أيقن بالقدر ثم هو ينصب عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم اطمأن إليها وعجبت لمن أيقن بالحساب غدًا ثم لا يعمل» . رواه ابن حبان في صحيحه. شِعْرًا: ... وجِيرَان صِدْقٍ لا تَزاوُرَ بَيْنَهُمْ ... على قُرْبِ بَعْضٍ التَّجاوُرِ مِنْ بَعْضِ كَأنَّ خَوَاتِيمًا مِن الطِّينِ فوقهِمْ ... فَلَيْسَ لَهَا حَتَّى القِيَامةِ مِنْ فَضِّ آخر: ... قِفْ بِالْقُبُورِ وَقُلْ عَلَى سَاحَاتِهَا ... مَنْ مِنْكُمْ الْمَغْمُورُ فِي ظُلُمَاتِهَا وَمَنْ الْمُكَرَّمُ مِنْكُمْ فِي قَعْرِهَا ... قَدْ ذَاقَ بَرْدَ الأَمْنِ مِنْ رَوْعَاتِهَا أَمَّا السُّكُونُ لِذِي الْعُيُونِ فَوَاحِدٌ ... لا يَسْتَبِيْن الْفَضْل فِي دَرَجَاتِهَا لَوْ جَاوَبُوكَ لأَخْبَرُوْكَ بِأَلْسُنٍ ... تَصِفُ الْحَقَائِقُ بَعْدَ مِنْ حَالاتِهَا أمَّا الْمُطِيعُ فَنَازِلٌ فِي رَوْضَةٍ ... يَفْضي إِلَى مَا شَاءَ مِنْ دَوْحَاتِهَا وَالْمُجْرِمُ الطَّاغِي بِهَا مُتَقَلَّبٌ ... فِي حُفْرَةٍ يَأْوِي إِلَى حَيَاتِهَا وَعَقَارِبٌ تَسْعَى إِلَيْهِ فَرُوحُهُ ... فِي شِدَّةِ التَّعْذِيبِ مِنْ لَدَغَاتِهَا آخر: ... وَمَا زَالَتِ الدُّنْيَا طَرِيقًا لِهَالِكٍ ... تَبَايَنُ فِي أَحْوَالِهَا وَتُخَالِفُ فَفِي جَانِبٍ مِنْهَا تَقُومُ مَآتِمٌ ... وَفِي جَانِبٍ مِنْهَا تَقُومُ مَعَازِفُ

الناس أقسام في تذكر الموت والتأثر بذكره

ج فَمَنْ كَانَ فِيهَا قَانِطًا فَهُوَ طَاغِنٌ ... وَمَنْ كَانَ فِيهَا آمِنًا فَهُوَ خَائِفُ ووجد مكتوب على جدار محلة قديمة بغربي بغداد: هَذِي مَنَازِلُ أَقْوَامٍ عَهِدتهمُ ... فَي خَفْضِ عَيْشٍ وَعِزّ مَالِهِ خَطَرُ صَاحَتْ بِهِمْ نَائِبَاتِ الدَّهْرِ فَانْقَلَبُوا ... إِلَى الْقُبُورِ فَلا عَيْنٌ وَلا أََثَرُ آخر: تَرَى الَّذِي اتَّخَذَ الدُّنْيَا لَهُ وَطَنًا ... لَمْ يَدْرِي أَنَّ الْمَنَايَا عَنْهُ تُزْعِجُهُ مَنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ مَدْرَجُهُ ... وَالْقَبْرَ مَنْزِلُهُ وَالْبَعْثُ مَخْرَجُهُ وَأَنَّهُ بَيْنَ جَنَّاتٍ سَتُبْهِجُهُ ... يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ نَارِ سَتُنْضِجُهُ فَكُل شَيْءٍ سِوَى التَّقْوَى بِهِ سَمَجٌ ... وَمَا أَقَامَ عَلَيْهِ فَهُوَ أَسْمَجُهُ وعن أبي هريرة قال خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة فجلس إلى قبر منها فقال: «ما يأتي على هذا القبر يوم إلا وهو ينادي بصوت ذلقٍ طلقٍ يا ابن آدم نسيتني ألم تعلم أني بيت الوحدة وبيت الغربة وبيت الوحشة وبيت الدود وبيت الضيق إلا من وسعني الله عليه» . ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار» . رواه الطبراني في الأوسط. ثم إن الناس في هذا المقام على أقسام منهم المنهمك في الدنيا المحب لشهواتها فهذا يغفل قلبه لا محالة عن ذكر الموت وإن ذكر به كرهه ونفر واشمأز منه وتناساه وربما كره الذي ذكر الموت وتباعد عنه، وقسم منهمك أيضًا وغارق في بحور الدنيا ولا يذكر الموت وإن ذكره فذكره له تأسفًا على دنياه ومفارقتها. وأقرب علاج لهذا القسم أن يطيلوا التفكر ليلهم ونهارهم في أجل هذه الحياة وهم إذا فكروا في ذلك عرفوا قطعًا أنهم تاركوها ولا بد وليس ذلك بعد مائة سنة بل هم في كل لحظة مهددين بفراق الدنيا مرغمين لا مختارين ويتركون كل شيءٍ وحينئذ يستوي من يملك الملايين والعمارات والقناطير

المقنطرة من الذهب والفضة والأراضي والملايين البلايين مما ذكر. ومن لا يملك منها إلا ثوبه فقط يستويان في أن كلا منهما كأنه لم ير هذا الوجود ولكنهما يختلفان اختلافًا عظيمًا في برزخهما وفي آخرتهما، ومن الدواء النافع لمن أصيب بمرض حب الدنيا أن ينظر بعينه إلى من في المستشفيات من المرضى الذين تنوعت أمراضهم وبود أحدهم لو ملك الدنيا وبذله لمن يشفيه من مرضه أو يخففه عنه. شِعْرًا: ... مَنْ عَاشَ لَمْ يَخْل مِنْ هَمٍّ وَمِنْ حَزَنٍ ... بَيْنَ الْمَصَائِبِ مِنْ دُنْيَاهُ وَالْمِحَنِ وَإِنَّمَا نَحْنُ فِي الدُّنْيَا عَلَى سَفَرٍ ... فَرَاحِلٌ خَلَّفَ الْبَاقِي عَلَى الظَّعَنِ وَكُلُّنَا بِالرَّدَى وَالْمَوْت مُرْتَهَنٌ ... فَمَا نَرَى فِيهِمِا فَكًا لَمُرْتَهَنِ آخر: ... وَقُلْ غنَاءٌ عَنْكَ مَالاً جَمَعْتَهُ ... إِذَا كَانَ مِيرَاثًا وَوَارَاكَ لاحِدُ وكذلك ينظر إلى الموتى الذين يموتون كل يوم في المستشفيات وغيرها من مثله في السن وأقل وأكبر وينظر إلى الذين يموتون حوله من أبنائه وإخوانه وأحبابه وجيرانه ومن تقع عليهم عينه قائلاً لنفسه أي فرق بينك وبين هؤلاء فإذا أذعنت واعترفت أنه لا فرق بادرها بقوله إذا ستكونين مثلهم. فمع تكرار هذا تتبدل حاله بإذن الله وتهون عليه الدنيا ويسهل عليه إخراج الأعمال الخيرية مهما كثرت إن هذا المنظر تنصدع له القلوب انصداعًا لا تهون بها الدنيا فقط ولذلك كان بعض السلف إذا شيع جنازة رجع لا يعي وربما مكث أيامًا مريضًا من هذا الهول الذي نزل به وأذهله حتى عن نفسه قال الشاعر: وَلَمْ أَرَى كَالأَمْوَاتِ أَفْجَعَ مَنْظَرًا ... وَلا وَاعِظِي جُلاسَهُمْ كَالْمَقَابِرِ وكيف لا يكون وهو يرى أحد إخوانه جثة هامدة في منتهي

الخضوع لمن يودعون في تلك الحفرة المظلمة لا ينازعهم عند إدخالهم له في أي تصرف يتصرفونه فيه وقد كان قبل ذلك تضيق عنه الدنيا على سعتها. شِعْرًا: ... كُنْ كَيْفَ شِئْتَ فَقَصْرُكَ الْمَوْت ... لا مَزْ حَلٌ عَنْهُ وَلا فَوْتُ يَبْنَا غِنَى بَيْتٍ وَبَهْجَتُهُ ... زَالَ الْغِنَى وَتَقَوَّضَ الْبَيْتُ آخر: ... وَقَبْلُكَ دَاوَى الْمَرِيضَ الطَّبِيبُ ... فَعَاشَ الْمَرِيضُ وَمَاتَ الطَّبِيبُ فَكُنْ مُسْتَعِدًا لِدَار الْفَنَا ... فَإِنَّ الَّذِي هُوَ آتٍ قَرِيبُ شِعْرًا: ... لَيْتَ شِعْرِي سَاكِن الْقَبْرِ الْمَشِيدْ ... هَلْ وَجَدْتَ الْيَوْمَ فِيهِ مِنْ مَزِيدْ وَهَلِ الْبَاطِنُ فِيهِ مِثْل مَا ... هُوَ فِي الظَّاهِرِ تَزْوِيقًا وَشِيدْ وَهَلِ الْمَضْجَع فِيْهِ لِيِّنٌ ... أَوْ سَعِيرٌ مَا لَهَا فِيهِ خُمُودْ وَهَلِ الأَرْكَانُ فِيهِ بِالتُّقَى ... نَيِّرَاتٌ أَوْ بِأَعْمَالِكَ السُّودْ لَيْتَ شِعْرِي سَاكِن الْقَبْرِ الْمَشِيدْ ... أَشْقِيٌّ أَنْتَ فِيهِ أَمْ سَعِيدْ أَقَرِيب أَنْتَ مِنْ رَحْمَةِ مَنْ ... وَسِعَ الْعَالَمَ إِحْسَانًا وَجُودْ أَمْ بَعِيدٌ أَنْتَ مِنْهَا فَلَقَدْ ... طُرِقَتْ دَارُكَ بِالْوَيْلِ الْبَعِيدْ وَلَقَدْ حَلَّ بِأَرْجَائِكَ مَا ... ضَاقَ عَنْهُ كُلَّ مَا فِي ذَا الوُجُودْ أَيُّهَا الْغَافِلُ مِثْلِي وَإِلَى ... كَمْ تَعَامَى وَتَلوِّي وَتَحِيدْ أَُدْنُ فَاقْرَأْ فَوْقَ رَأْسِي أَحْرُفًا ... خَرَجَتْ وَيْحَكَ مِنْ قَلْبٍ عَمِيدْ صَرَعَتْهُ فِكْرَةٌ صَادِقَةٌ ... وَهُمُومٌ كُلَّمَا تَمْضِي تَعُودْ وَنَدَامَاتٌ لأَيَّامٍ مَضَتْ ... هُوَ مِنْهَا فِي قِيَامٍ وَقُعُودْ وَغَدًا تَرْجِعُ مِثْلِي فَاتَّعِظْ ... بِي وَإِلا فَامْضِ وَاعْمَلْ مَا تُرِيدْ قَدْ نَصَحْنَاكَ فَإِنْ لَمْ تَرَهُ ... سَيَرَاهُ بَصَرٌ مِنْكَ حَدِيدْ

معنى من أحب الله أحب الله لقائه....الخ

آخر: ... كَأَنِّي بِنَفْسِي وَهِيَ فِي السَّكَرَاتِي ... تُعَالَج أَنْ تَرْقَى إِلَى اللَّهَوَاتِي وَقَدْ زُمَّ رَحْلِي وَاسْتَقَلَّتْ رَكَائِبِي ... وَقَدْ آذَنَتْنِي بِالرَّحِيلِ حَدَاتِي إِلَى مَنْزِلٍ فِيهِ عَذَابٌ وَرَحْمَةٌ ... وَكَمْ فِيهِ مِنْ زَجْرٍ لَنَا وَعِظَاتِي وَمِنْ أَعْيُنٍ سَالَتْ عَلَى وَجَنَاتِهَا ... وَمِنْ أَوْجُه فِي التُّرَابِ مُنْعَفِرَاتِي وَمِنْ وَارِدٍ فِيهِ عَلَى مَا يَسُرُّهُ ... وَمِنْ وَارِدٍ فِيهِ عَلَى الْحَسَرَاتِي وقال آخر: لَعَمْرُكَ مَا يُغْنِي الثَّرَاءُ عَنِ الْْفَتَى ... إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْر آخر: ... الْحَمْدُ للهِ ثُمَّ الْحَمْدُ للهِ ... مَاذَا عَلَى الْمَوْتِ مِنْ سَاهٍ وَمِنْ لاهِ مَاذَا يَرَى الْمَرْءُ ذُو الْعَيْنَيْنِ مِنْ عَجَبٍ ... عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى اللهِ آخر: ... إِذَا مَا صَارَ فَرْشِي مِنْ تُرَابٍ ... وَبِتُّ مُجَاوِرَ الرَّبّ الرَّحِيمِ فَهَنُّونِي أَصيْحَابِي وَقُولُوا ... لَكَ الْبُشْرَى قَدِمْتَ عَلَى الْكَرِيمِ وقسم تائب يكثر ذكر الموت لينبعث من قلبه الخوف فيفي بتمام التوبة وربما يكره الموت خشية أن يختطفه قبل تمام توبته وقبل إصلاح الزاد ولا يدخل هذا تحت قول النبي - صلى الله عليه وسلم - من كره لقاء الله كره الله لقاءه لأن هذا لا يكره لقاء الله بل يكره فوت لقاءه. فعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» . فقلت: يا نبي الله أكراهية للموت فكلنا يكره الموت. قال: «ليس كذلك ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه» . وفي رواية شريح بن هانئ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من

أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» . قال: فأتيت عائشة فقلت: يا أم المؤمنين سمعت أبا هريرة يذكر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثًا إن كان كذلك فقد هلكنا. فقالت: إن الهالك من هلك بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما ذاك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه وليس منا أحدًا إلا وهو يكره الموت» . فقالت: قد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس بالذي نذهب إليه ولكن إذا شخص البصر وحشرج الصدر واقشعر الجلد وتشنجت الأصابع فعند ذلك من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه رواه مسلم. أخرج ابن المبارك وأحمد والطبراني في الكبير عن معاذ بن جبل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إن شئتم أنبأتكم ما أول ما يقول الله تعالى للمؤمنين يوم القيامة وما أول ما يقولون له. قلنا: نعم يا رسول الله، قال: «فإن الله يقول للمؤمنين هل أحببتم لقائي فيقولون نعم يا ربنا فيقول: لم؟ فيقولون: رجونا عفوك ومغفرتك فيقول قد وجبت لكم مغفرتي» . وأخرج ابن المبارك عن عقبة بن مسلم قال ما من خصلة في العبد أحب إلى الله من أن يحب لقاءه. وأخرج أبو نعيم في الحلية عن مجاهد قال: ما من مرض يمرضه العبد إلا ورسول ملك الموت عنده، حتى إذا كان آخر مرض يمرضه العبد، أتاه ملك الموت عليه السلام. فقال أتاك رسول بعد رسول ونذير بعد نذير فلم تعبأبه، وقد أتاك رسول يقطع أثرك من الدنيا. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. شِعْرًا: ... أَيْنَ الَّذِينَ عَلَى عَهْدِ الثَّرَى وَطِئُوا ... وَحُكِّمُوا فِي لَذِيذِ الْعَيْشِ فَاحْتَكَمُوا

ذكر أمور تتعلق بحالة الاحتضار

وَمَلُكِّوا الأَرْضَ مِنْ سَهْلٍ وَمِنْ جَبَلٍ ... وَخَوَّلُوا نِعَمًا مَا مِثْلِهَا نِعَمُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ عَلَى ظَنِّ الْقُلُوب بِهِمُ ... إِلا رُسُوم قَبُورٍ حَشْوُهَا رِمَم والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. فصل: وعن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أراد الله بعبد خيرًا استعمله» . قيل كيف يستعمله قال: «يوفقه بعمل صالح قبل الموت» . وأخرج أحمد والحاكم عن عمرو بن الحمق قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أحب عبدًا عسله» . قالوا: وما عسله؟ قال: «يوفق له عملاً صالحًا بين يدي أجله حتى يرضى عنه جيرانه» . (وَإِذَا أَحَبَّ اللهُ يَوْمًا عَبْدَهُ ... أَلْقَى عَلَيْهِ مَحَبَّةً فِي النَّاسِ) وأخرج ابن أبي الدنيا عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مرفوعا: «إذا أراد الله بعبد خيرًا بعث إليه قبل موته بعام ملكًا يسدده ويوفقه حتى يموت على خير أحايينه فيقول الناس مات فلان على خير أحايينه. فإذا حضر ورأى ما أعد الله له جعل يتهوع نفسه من الحرص على أن تخرج فهناك أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه» . وإذا أراد الله بعبده شرا قيض له قبل موته بعامٍ شيطانًا يضله ويغويه حتى يموت على شر أحايينه فيقول الناس قد مات فلان على شر أحايينه. فإذا حضر ورأى ما أعد الله جعل يتبلع نفسه كراهية أن تخرج فهناك كره لقاء الله وكره الله لقاءه. وأخرج الطبراني في الكبير وأبو نعيم عن ابن مسعود قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن نفس المؤمن تخرج رشحًا وإن نفس الكافر تسيل كما تسيل نفس الحمار» . وإن المؤمن ليعمل الخطيئة فيشدد بها عليه عند الموت ليكفر بها عنه. وإن الكافر ليعمل الحسنة فيسهل عليه عند الموت ليجزى بها» .

وأخرج ابن أبي الدنيا عن زيد بن أسلم قال: إذا بقى على المؤمن من ذنوبه شيء لم يبلغه بعمله شدد عليه من الموت ليبلغ بسكرات الموت وشدائده درجته من الجنة. وإن الكافر إذا كان قد عمل معروفًا في الدنيا هون عليه الموت ليستكمل ثواب معروفه في الدنيا ثم ليصير إلى النار. وأخرج ابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن المؤمن ليؤجر في كل شيء حتى في الكظ عند الموت» . الكظ الهم الشديد الذي يملؤ الجوف وأخرج الترمذي الحكيم في نوادر الأصول والحاكم عن سلمان الفارسي قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أرقبوا الميت عند موته ثلاثًا» . إن رشحت جبينه وذرفت عيناه وانتشرت منخراه فهي رحمة من الله قد نزلت به. وإن غط غطيط البكر المخنوق وخمد لونه وأزبد شدقاه فهو عذاب من الله قد حل به. وأخرج سعيد بن منصور في سننه والمروزى في الجنائز عن ابن مسعود قال إن المؤمن يبقى عليه خطايا يجازي بها عند الموت فيعرق لذلك جبينه. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن علقمة بن قيس أنه حضر ابن عمٍ له وقد حضرته الوفاة فمسح جبينه فإذا هو يرشح. فقال الله أكبر حدثني ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «موت المؤمن يرشح الجبين وما من مؤمن إلا له ذنوب يكافأ بها في الدنيا ويبقى عليه بقية يشدد بها عليه عند الموت» . وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن علقمة أنه حضر ابن أخ له لما حضر (أي حضره الموت) فجعل يعرق جبينه فضحك فقيل له ما يضحكك.

قال سمعت ابن مسعود يقول: إن نفس المؤمن تخرج رشحًا وإن نفس الكافر أو الفاجر تخرج من شدقة كما تخرج نفس الحمار. وإن المؤمن ليكون قد عمل السيئة فيشدد عليه عند الموت ليكفر بها وإن الكافر أو الفاجر ليكون قد عمل الحسنة فيهون عليه عند الموت. وأخرج ابن أبي شيبة والمروزي عن سفيان قال: كانوا يستحبون العرق للميت قال بعض العلماء إنما يعرق جبينه حياءً من ربه لما اقترف من مخالفته لأن ما سبق منه قد مات. وإنما بقيت قوى الحياة وحركاتها فيما علا والحياء في العينين. والكافر في عمى عن هذا كله. والموحد المعذب في شغل عن هذا بالعذاب الذي قد حل به. وأخرج ابن أبي الدنيا إسحاق قال قيل لموسى كيف وجدت طعم الموت قال كسفودٍ أدخل في جزة صوف فامتلخ (أي جذب) قال يا موسى قد هون عليك. وأخرج أحمد في الزهد والمروزي في الجنائز عن أبي مليكة أن إبراهيم لما لقي الله قيل له كيف وجدت الموت قال: وجدت نفسي كأنها تنزع بالسلاسل قيل له قد يسرنا عليك الموت. وروي أن موسى لما صار روحه إلى الله تعالى قال له ربه يا موسى كيف وجدت ألم الموت قال وجدت نفسي كالعصفور الحي حين يقلى على المقلي لا يموت فيستريح ولا ينجو فيطير. وأخرج الديملي عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أفضل الزهد في الدنيا ذكر الموت وأفضل العبادة التفكر فمن أثقله ذكر الموت وجد قبره روضة من رياض الجنة» . وقال علي رضي الله عنه الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ونظم هذا المعنى بعضهم فقال: وَإِنَّمَا النَّاسُ نِيَامٌ مَنْ يَمُتْ ... مِنْهُمْ أَزَالَ الْمَوْتَ عَنْهُ وَسَنَهُ

آخر: ... يَا نَفْسُ إِنِّي قَائِلُ فَاسْمَعِي ... مَقَالَةً مِنْ مُرْشِدٍ نَاصِحِ مَا صَحِبَ الإِنْسَانَ فِي قَبْرِهِ ... غَيْرُ التُّقَى وَالْعَمَلُ الصَّالِحِ آخر: ... ثَنَاءُ الْفَتَى يَبْقَى وَيَفْنَى ثَرَاؤُهُ ... فَلا تَكْتَسِبْ بِالْمَالِ شَيْئًا سِوَى الذِّكْرِ فَقَدْ مَاتَ أَهْلُ الدِّينِ وَالزُّهْدِ وَالتُّقَى ... وَذِكْرُهُمْ غَضُّ جَدِيدُ إِلَى الْحَشْرِ آخر: ... إِنَّ التُّقَى أَحْلَى الْمَلابِسِ كُلِّهَا ... يَكْسُوا الرِّجَالَ مَهَابَةً وَجَلالا وَيَحِلُّ صَاحِبَهُ بِأَحْسَنِ مَنْزِلٍ ... يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالأَنَامُ ذُهَالا آخر: ... وَمَا اغْبِطُ الإِنْسَانِ إِلا أَخَا التُّقَى ... وَمَنْ كَانَ أَتْقَى كَانَ بِالْمَجْدِ أَجْدَرَا (فَصْلٌ) وأخرج ابن أبي الدنيا عن إبراهيم النخعي قال: كانوا يستحبون أن يلقنوا العبد محاسن عمله عند الموت حتى يحسن ظنه بربه. وأخرج ابن أبي الدنيا عن رجاء بن حيوة قال: ما أكثر عبد ذكر الموت إلا ترك الفرح والحسد. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد عن أبي الدرداء قال من أكثر ذكر الموت قل حسده وقل فرحه. وعن الربيع بن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كفى بالموت مزهدًا في الدنيا ومرغبًا في الآخرة. وعن عمر بن عبد العزيز قال: من قرب الموت من قلبه استكثر ما في يديه. وعن الحسن قال: ما ألزم عبد قلبه ذكر الموت إلا صغرت الدنيا عنده وهان عليه جميع ما فيها وعن قتادة قال: كان يقال طوبى لمن ذكر ساعة الموت وقال حكيم كفى بذكر الموت للقلوب حياة للعمل. وقال سميط: من جعل الموت نصب عينيه لم يبال بضيق الدنيا ولا بسعتها. وعن كعب قال من عرف الموت هانت عليه مصائب الدنيا.

وأخرج ابن المبارك عن ابن عباس قال: إذا رأيتم بالرجل الموت فبشروه ليلقى ربه وهو حسن الظن بالله وإذا كان حيًا فخوفوه. وعن أبي ذر قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «زر القبور تذكر بها الآخرة واغسل الموتى فإن في معالجة جسدٍ خاوٍ موعظة بليغة» . وصل على الجنائز لعل ذلك يحزنك فإن الحزين في ظل الله يتعرض لكل خير شِعْرًا: ... إِذَا اللهُ لَمْ يُفَرِّجْ لَكَ الشَّكُ لَمْ تَزَلْ ... جَنِيبًا كَمَا اسْتَتْلَى الْجَنِيبَة قَائِدُ آخر: ... وَمُجرر خَطِيَّة يَوْم الْوَغَى ... مُنْسَابَة مِنْ خَلْفِهِ كَالأَرْقَمِ تَتَضَاءَلُ الأَبْطَالُ سَاعَة ذِكْرِهِ ... وَتَبِيتُ مِنْهُ فِي إِبَاءَةِ ضَيْغَمِ شَرِس الْمُقَادَاةِ لا يَزَالُ رَبِيئةً ... وَمَتَى يُحِسُّ بِنَارِ حَرْبٍ يَقدمِ تَقَعُ الْفَرِيسَةُ مِنْهُ فِي فَوْهَاءِ إِنْ ... يَطْرَحُ بِهَا صُمُّ الْحِجَارَةِ يَحْطُمِ ضَمَانَ الدَّمِ لا يَقُومُ بِرَيِّهِ ... إِلا الْمُرُوق فِي الْجُسُومِ مِنَ الدَّمِ جَاءَتْهُ مِنْ قَبْلِ الْمَنُونِ إِشَارَةٌ ... فَهَوَى صَرِيعًا لِلْيَدِيْنِ وَلِلْفَمِ وَرَمَى بِمُحْكَمِ دِرْعَهُ وَبِرُمْحِهِ ... وَامْتَدَّ مُلْقَىً كَالْبَعِيرِ الأَعْظَمِ لا يُسْتَحَب لِصَارِخٍ إنْ يَدْعُهُ ... أَبَدًا وَلا يُرْجَى لِخَطْبٍ مُعَظَّمِ ذَهَبت بَسَالَتُهُ وَمَرَّ غَرَامُهُ ... لَمَّا رَأَى خَيْلَ الْمَنِيَّةِ تَرْتَمِي يَا وَيْحَهُ مِنْ فَارِسٍ مَا بَالَهُ ... ذَهَبَتْ فُرُوسَتُهُ وَلَمَّا يكلمِ هَذِي يَدَاهُ وَهَذِهِ أَعْضَاؤُهُ ... مَا مِنْهُ مِنْ عُضْو غَدًا بِمِثْلمِ هَيْهَاتَ مَا خَيْلُ الرَّدَى مُحْتَاجَةٌ ... لِلْمُشِرفِي وَلا السِّنَان اللهذمِ هِيَ وَيْحَكُمْ أَمْرُ الإِلَهِ وَحُكْمُهُ ... وَاللهُ يَقْضِي بِالْقَضَاءِ الْمُحْكَمِ يَا حَسْرَة لَوْ كَانَ يَقْدِرُ قَدْرُهَا ... وَمُصِيبَةٌ عَظُمَتْ وَلَمَّا تَعْظُمِ خَبَرُ عِلْمِنَا كُلّنَا بِمَكَانِهِ ... وَكَأَنَّنَا فِي حَالِنَا لَمْ نَعْلَمِ

اللهم يا حي يا قيوم يا بديع السموات والأرض نسألك أن توفقنا لما فيه صلاح ديننا ودنيانا وأحسن عاقبتنا وأكرم مثوانا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. فصل: أخرج ابن أبي الدنيا عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أكثروا ذكر الموت فإنه يمحص الذنوب ويزهد في الدنيا فإن ذكرتموه عند الغنى هدمه وإن ذكرتموه عند الفقر أرضاكم بعيشكم» . وأخرج أيضًا عن عطاءٍ الخرساني قال: مر رسول الله بمجلس قد استعلاه الضحك فقال: «شوبوا مجلسكم بمكدر اللذات» . قالوا: وما مكدر اللذات. قال: «الموت» . وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في شعب الإيمان عن زيد السلمي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا آنس من أصحابه غفلة نادي فيهم بصوتٍ رفيع أتتكم المنية راتبه لازمة إما شقاوة وإما سعادة. قال بعضهم: من أكثر ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء تعجيل التوبة وقناعة القلب ونشاط العبادة. ومن نسى الموت عوقب بثلاث أشياء تسويف التوبة وترك الرضا بالكفاف والتكاسل في العبادة. أخرج أبو نعيم عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ما لي لا أحب الموت قال لك مال قال نعم. قال قدمه فإن قلب المؤمن مع ماله إن قدمه أحب أن يلحق به. وأخرج سعيد بن منصور عن أبي الدرداء قال موعظة بليغة وغفلة سريعة كفى بالموت واعظًا وكفى بالدهر مفرقًا اليوم في الدور وغدا في القبور. وروى أن سعد بن أبي وقاص تمنى الموت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمع فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تتمن الموت. فإن كنت من أهل الجنة فالبقاء خير لك وإن كنت من أهل النار فما يعجلك إليها.

وعن أم الفضل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليهم وعمه العباس يشتكي فتمنى الموت فقال له يا عم لا تتمنى الموت. فإن كنت محسنًا فإن تؤخر وتزداد إحسانًا إلى إحسانك خير لك، وإن كنت مسيئًا، فإن تؤخر وتستعتب من إسائتك خير لك، فلا تتمنين الموت. وأخرج أحمد عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يتمنين أحدكم الموت من قبل أن يأتيه ولا يدع به إلا أن يكون قد وثق بعمله. وعن عبادة بن الصامت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «ألا أنبأكم بخياركم» قالوا بلى يا رسول الله قال «أطولكم أعمارًا في الإسلام إذا سددوا» . وأخرج أحمد وابن زنجوية في ترغيبه عن أبي هريرة قال كان رجلان من حي قضاعة أسلما مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستشهد أحدهما وأخر الآخر سنة. قال طلحة بن عبيد الله فرأيت الجنة ورأيت المؤخر منهما أدخل قبل الشهيد فعجبت من ذلك. فأصبحت فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال «أليس قد صام بعده رمضان وصلى ستة آلاف ركعة وكذا وكذا ركعة صلاة سنةٍ» . وأخرج أحمد والبراز عن طلحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «ليس أحد أفضل عند الله تعالى من مؤمن يعمر في الإسلام لتسبيحه وتكبيره وتهليله» . وأخرج أبو نعيم عن سعيد بن جبير قال إن بقاء المسلم كل يوم غنيمة لأداء الفرائض والصلوات وما يرزقه الله من ذكره. وأخرج بن أبي الدنيا عن إبراهيم بن أبي عبدة قال بلغني أن المؤمن إذا مات تمنى الرجعة إلى الدنيا ليس ذلك إلا ليكبر تكبيرة أو يهلل تهليلة أو يسبح تسبيحية. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لقيت إبراهيم عليه السلام ليلة أسري بي فقال يا محمد أقرئ أمتك منى السلام. وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها

سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» . رواه الترمذي وقال حديث حسن. وعن سلمان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن في الجنة قيعان فأكثروا من غراسها» . قالوا: يا رسول الله وما غراسها؟ قال: «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» . واعلم رحمك الله أن مما يعينك على الفكرة في الموت ويفرغك له ويكثر اشتغال فكرك به تذكر من مضى من إخوانك وخلانك وأصحابك وأقرنك وزملائك وأساتذتك ومشايختك الذين مضوا قبلك وتقدموا أمامك. شِعْرًا: ... وَمُنْتَظِرٌ لِلْمَوْتِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ ... يُشَيِّدُ وَيَبْنِي دَائِمًا وَيُحَصِّنُ لَهُ حِينَ تَبْلَوُه حَقِيقَة مُوِقِنٌ ... وَأَعْمَالُهُ أَعْمَال مَنْ لَيْسَ يُوقِنُ عِيَان كَإِنْكَارِ وَكَالْجَهْلِ عِلْمُهُ ... لَمَذْهَبِهِ فِي كُلِّ مَا يُتَيَقَّن كَانُوا يَحْرِصُونَ حِرْصَكَ وَيَسْعَونَ سَعْيَكَ وَيَأْمَلُونَ أَمَلَكَ ويعملون في هذه الدنيا عملك وقصت المنون أعناقهم وقصمت ظهورهم وأصلابهم، وفجعت فيهم أهليهم وأحباءهم وأقرباءهم وجيرانهم فأصبحوا آية للمتوسمين وعبرة للمعتبرين. ويتذكر أيضًا ما كانوا عليه من الاعتناء بالملابس ونضافتها ونضرة بشرتهم، وما كانوا يسحبونه من أردية الشباب وأنهم كانوا في نعيم يتقلبون، وعلى الأسرة يتكئون، وبما شاءوا من محابهم يتنعمون. وفي أمانيهم يقومون ويقعدون، لا يفكرون بالزوال، ولا يهمون بانتقال، ولا يخطر الموت لهم على بال، قد خدعتهم الدنيا بزخرفها، وخلبتنم وخدعتنم برونقها، وحدثتهم بأحاديثها الكاذبة، ووعدتهم بمواعيدها المخلفة الغرارة. فلم تزل تقرب لهم بعيدها، وترفع لهم مشيدها، وتلبسهم غضها وجديدها، حتى إذا تمكنت منهم علائقها، وتحكمت فيهم رواشقها، وتكشفت لهم حقائقها، ورمقتهم من المنية روامقها.

فوثبت عليهم وثبت الحنق وأغصتهم غصة الشرق، وقتلتهم قتلة المختنق، فكم عليهم من عيون باكيةٍ، ودموعٍ جاريةٍ، وخدودٍ داميةٍ، وقلوب من الفرح والسرور لفقدهم خالية. وانشدوا في هذا المعنى: وَرَيَّانَ مِنْ مَاءِ الشَّبَابِ إِذَا مَشَى يَمِيدُ عَلَى حُكْمِ الصِّبَا وَيَمِيدُ تَعَلَّقَ مِنْ دُنْيَاهُ إِذْ عَرَضَتْ لَهُ خَلُوبًا لأَلْبَابِ الرِّجَالَ تصيدُ فَأَصْبَحَ مِنْهَا فِي حَصِيدٍ وَقَائِمٍ وَلِلْمَرْءِ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدُ خَلا بِالأَمَانِي وَاسْتَطَابَ حَدِيثَهَا فَيَنْقُصُ مِنْ أَطْمَاعِهِ وَيَزِيدُ وَأَدْنَتْ لَهُ الأَشْيَاءَ وَهِيَ بَعِيدَةُ وَتَفْعَلُ تُدْنِي الشَّيْءِ وَهُوَ بَعِيدُ أُتِيحَتْ لَهُ مِنْ جَانِبِ الْمَوْتِ رَمْيَةٌ فَرَاحَ بِهَا الْمَغْرُورُ وَهُوَ حَصِيدُ وَصَارَ هَشِيمًا بَعْدَمَا كَانَ يَانِعًا وَعَادَ حَدِيثًا يَنْقَضِي وَيَبِيدُ كَأَنْ لَمْ يَنَلْ يَوْمًا مِن الدَّهْرِ لَذَّةً وَلا طَلَعَتْ فِيهِ عَلَيْهِ سُعُودُ تَبَارَكَ مَنْ يُجْرِي عَلَى الْخَلْقِ حُكْمَهُ فَلَيْسَ لِشَيْءٍ مِنْهُ عَنْهُ مَحِيدُ

اللهم وفقنا لصالح الأعمال، ونجنا من جميع الأهوال، وأمنا من الفزع الأكبر يوم الرجف والزلزال، واغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين. تنبيه قال القرطبي: لتشديد الموت على الأنبياء فائدتان إحداهما تكميل فضائلهم ورفع درجاتهم وليس ذلك نقصًا ولا عذابًا بل هو كما جاء أن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل. والثانية أن تعرف الخلق مقدار ألم الموت وأنه باطن وقد يطلع الإنسان على بعض الموتى فلا يرى عليه حركة ولا قلقًا ويرى سهولة خروج روحه فيظن سهولة أمر الموت ولا يعرف ما الميت فيه. فلما ذكر الأنبياء الصادقون في خبرهم شدة قال: ألمه مع كرامتهم على الله تعالى قطع الخلق بشدة الموت الذي يقاسيه الميت مطلقًا لإخبار الصادقين عنه ما خلا الشهيد في سبيل الله. انتهى. أخرج الطبراني عن قتادة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الشهيد لا يجد ألم القتل إلا كما يجد أحدكم ألم مس القرصة» . أخرج ابن أبي الدنيا في المرض والكفارات وابن منيع في مسنده من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «يا أبا هريرة ألا أخبرك بأمر حق من تكلم به في أول مضجعه من مرضه نجاه الله من النار» . قلت: بلى. قال: «لا إله إلا الله يحيي ويميت وهو حي لا يموت وسبحان الله رب العباد والبلاد والحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه على كل حال والله أكبر كبيرًا كبرياؤه وجلاله وقدرته بكل مكان. اللهم إن كنت أمرضتني لتقبض روحي في مرضي هذا فاجعل روحي في أرواح من سبقت لهم منك الحسنى وأعذني من النار كما أعذت أولئك الذين سبقت لهم منك الحسنى» . فإن مت في مرضك ذلك فإلى رضوان الله والجنة، وإن كنت قد اقترفت ذنوبًا تاب الله عليك. سَبِيلُ الْخَلْقِ كُلُّهُمَ الْفَنَاءُ ... فَمَا أَحَدٌ يَدٌومُ لَهُ الْبَقَاءُ

يُقَرِّبُنَا الصَّبَاحُ إِلَى الْمَنَايَا ... وَيُدْنِينَا إِلَيْهِنَّ الْمَسَاءُ فَلا تَرْكَبْ هَوَاكَ وَكُنْ مُعِدًّا ... فَلَيْسَ مَقْدَار لِكَ مَا تَشَاءُ أَتَأْمَلُ أَنْ تَعِيشَ وَأَيُّ غُصْنٍ ... عَلَى الأَيْامِ طَالَ لَهُ النَّمَاءُ تَرَاهُ أَخْضَرَ الْعِيدَانِ غَضًّا ... فَيُصْبِحُ وَهُوَ مُسْوَدٌ غثاءُ وَجَدْنَا هَذِهِ الدُّنْيَا غَرُورًا ... مَتَى مَا تَعِط يَرْتَجِعُ الْعَطَاءُ فَلا تَرْكَنُ إِلَيْهَا مُطْمَئِنًا ... فَلَيْسَ بِدَائِمٍ مِنْهَا الصَّفَاءُ وَاللهُ أعلم. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. (فَصْلٌ) قال ابن الجوزي رحمه الله: إخواني إن الذنوب تغطي على القلوب فإذا أظلمت مرآة القلب لم يبن فيها وجه الهدى ومن علم ضرر الذنب استشعر الندم. يل من أعماله إذا تؤملت سقط، كم أثبت له عمل قلما عدم الإخلاص سقط، يا حاضر الذهن في الدنيا فإذا جاء الدين خلط، يجعل همه في الحساب فإذا صلى اختلط. يا ساكنا عن الصواب فإذا تكلم لغط، يا قريب الأجل وهو يجري من الزلل على نمط. يا من لا يعظه وهن العظم ولا كلام الشمط، يا من لا يرعوي ولا ينتهي بل على منهاج الخطيئة فقط، ويحك بادر هذا الزمان فالصحة غنيمة والعافية لقط. فكأنك بالموت قد سل سيفه عليك واخترط، أين العزيز في الدنيا أين الغني المغتبط، خيم بين القبور، وضرب فسطاطه في الوسط، وبات في اللحد كالأسير المرتبط. واستبلت ذخائره ففرغ الصندوق والسفط، وتمزق الجلد المستحسن وتمعط الشعر فكأنه ما رجله وكأنه ما امتشط ورضي وراثه بما أصابوه وجعلوا نصبه السخط.

وفرقوا ما كان يجمعه بكف البخل والقنط ووقع في قفر لا ماء فيه ولا حنط وكم حدث أن سعد بن معاذٍ في القبر انضغط وكم حذر من المعاصي وأخبر أن آدم زل فهبط. اللهم وفقنا لصالح الأعمال وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. آخر: موعظة لله در أقوام تركوا الدنيا فأصابوا، وسمعوا منادي الله فأجابوا، وحضروا مشاهد التقي فما غابوا، واعتذروا مع التحقيق ثم تابوا وأنابوا، وقصدوا باب مولاهم فما ردوا ولا خابوا. قال عمرو بن ذر لما رأى العابدون الليل قد هجم عليهم، ونظروا إلى أهل الغفلة قد سكنوا إلى فرشهم ورجعوا إلى ملاذهم. قاموا إلى الله سبحانه وتعالى فرحين مستبشرين بما قد وهب الله لهم من السهر وطول التهجد. فاستقبلوا الليل بأبدانهم، وباشروا ظلمته بصفاح وجوههم، فانقضى عنهم الليل، وما انقضت لذتهم من التلاوة، ولا ملت أبدانهم من طول العبادة، فأصبح الفريقان وقد ولى الليل بربح وغبن. فاعملوا في هذا الليل وسواده، فإن المغبون من غبن الدنيا والآخرة، كم من قائم لله تعالى في هذا الليل قد اغتبط بقيامه في ظلمته حفرته. قال بعض العارفين ما أحب أن حسابي يوم القيامة يجعل إلى أبوي لأني أعلم وأتيقن أن الله جل وعلا أرحم بي منهم. شِعْرًا: ... أَفِقْ وَابْكِ حَانَتْ كَبْرَةٌ وَمَشِيبُ ... أَمَا لِلتُّقَى وَالْحَقّ فِيكَ نَصِيبُ أَيَا مَنْ لَهُ فِي بَاطِنِ الأَرْضِ مَنْزِلٌ ... أَتَأْنَسُ بِالدُّنْيَا وَأَنْتَ غَرِيبُ وَمَا الدَّهْرُ إِلا مَرَّ يَوْم وَلَيْلَةٍ ... وَمَا الْمَوْت إِلا نَازِل وَقَرِيبُ اللهم ثبت قلوبنا على دينك وألهمنا ذكرك وشكرك واختم لنا بخاتمة

السعادة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) أخرج الطبراني عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري مرفوعًا: «من قال عند موته لا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لا تطعمه النار» . وأخرج الحاكم عن سعد بن أبي وقاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «هل أدلكم على اسم الله الأعظم دعاء يونس (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) » . فَأيما مسلم دعا بها في مرض موته أربعين مرة فمات في مرضه ذلك أعطي أجر شهيد وإن برئ مغفورًا له. وأخرج أحمد وأبو داود والحاكم عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» . واخرج سعيد بن منصور في سنته والمروزى ومسلم وابن أبي شيبة عن أم الحسن قالت: كنت عند أم سلمة فجاءها إنسان فقال فلان بالموت. فقالت انطلق فإذا رأيته احتضر فقل: سلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. وأخرج الترمذي والبيهقي من طريق ابن إسحاق عن ابن عمر رضي الله عنهما قال دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبر سعد بن معاذ فاحتبس (أي تأخر في الخروج) فلما خرج قيل يا رسول الله ما حبسك قال ضم سعد في القبر ضمة فدعوت الله أن يكشف عنه. وأخرج الحكيم الترمذي والبيهقي من طريق بن إسحاق حدثني أمية ابن عبد الله أنه سئل بعض أهل سعد ما بلغكم من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في

هذا فقالوا ذكر لنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن ذلك فقال كان يقصر في بعض الطهور من البول. وأخرج هناد بن السري في الزهد عن أبي مليكه قال ما أجير من ضغطة القبر أحد ولا سعد ابن معاذ الذي منديل من مناديله خير من الدنيا وما فيها. وأخرج أيضا الحسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال حين دفن سعد بن معاذ: «إنه ضم في القبر ضمة حتى صار مثل الشعرة فدعوت الله أن يرفعه عنه بأنه كان لا يستبرئ من البول» الاستبراء (استفراغ بقية البول) . وأخرج ابن سعد المقبري قال: لما دفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعد بن معاذ قال: «لو نجا أحد من ضغطة القبر لنجا سعد ولقد ضم ضمة اختلف فيه أضلاعه من أثر البول» . قلت: ينبغي للإنسان أن يلاحظ نفسه من جهة الاستبراء من البول لما سمعت من خطره. قال أبو القاسم السعدي في كتاب الروح لا ينجو من ضغطة القبر صالح ولا طالح غير أن الفرق بين المسلم والكافر دوام الضغطة للكافر. وحصول هذه الحالة للمؤمن في أول نزوله إلى قبره ثم يعود إلى الأنفساح له فيه. قال والمراد بضغطة القبر التقاء جانبيه على جسد الميت وقال الحكيم الترمذي سبب هذه الضغطة أنه ما من أحدٍ إلا وقد ألم بخطيئة وإن كان صالحًا فجعلت هذه الضغطة جزاءً له ثم تدركه الرحمة ولذلك ضغط سعد بن معاذٍ في التقصير من البول. وقال السبكي في بحر الكلام المؤمن المطيع لا يكون له عذاب القبر ويكون ضغطة القبر. وأخرج ابن أبي الدنيا عن محمد التيمي قال كان يقال إن ضمة القبر

فوائد ومواعظ حول ذلك ويليهما موعظة

إنما أصلها أنها أمهم ومنها خلقوا فغابوا عنها الغيبة الطويلة. فلما رد إليها أولادها ضمتهم ضم الوالدة غاب عنها ولدها ثن قدم عليها فمن كان لله مطيعًا ضمته برأفةٍ ورفق ومن كان عاصيًا ضمته بعنفٍ سخطًا عليه لربها. وأخرج البيهقي وابن مندة والديلمي وابن النجار عن سعيد بن المسيب أن عائشة رضي الله عنها قالت يا رسول الله إنك منذ يوم حدثتني بصوت منكر ونكير وضغطة القبر ليس ينفعني شيء. قال «يا عائشة إن أصوات منكر ونكير في سماع المؤمنين كالإثمد في العين، وإن ضغطة القبر على المؤمن كالأم الشفيقة يشكو إليها ابنها الصداع فتغمز رأسه غمزًا رفيقًا. ولكن يا عائشة ويل للشاكين في الله كيف يضغطون في قبورهم كضغطة الصخرة على البيضة» . والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. فوائد ومواعظ قال بعضهم: من فعل سيئة فإن عقوبتها تدفع عنه بعشرة أسباب. أحدها: أن يتوب فيتاب عليه. ثانيًا: أن يستغفر فيغفر له. ثالثًا: أن يعمل حسنات فتمحوها فإن الحسنات يذهبن السيئات. رابعًا: أن يبتلى في الدنيا بمصائب فتكفر عنه. خامسًا: الضغطة والفتنة فتكفر عنه. سادسًا: دعاء إخوانه المسلمين واستغفارهم له. سابعًا: أو يهدون له من ثواب أعمالهم ما ينفعه. ثامنًا: أو يبتلى في عر صات القيامة بأهوال تكفر عنه.

مسائل حول المحتضرين وما يقولون وما يقال لهم

تاسعًا: أو تدركه شفاعة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. عاشرًا: أو رحمة ربه التي وسعت كل شيء. موعظة: يخشى على أهل الملاهي والمنكرات والمجالسين لأصحابها من سوء الخاتمة. أخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب وأبو نعيم عن مجاهد قال ما من ميت يموت إلا عرض عليه أهل مجلسه إن كان من أهل الذكر فمن أهل الذكر وإن كان من أهل اللهو فمن لأهل اللهو. وأخرج ابن أبي شيبة من طريق مجاهد عن يزيد بن عجرة وهو صحابي رضي الله عنه قال ما من ميتٍ يموت حتى يمثل له جلساؤه عند موته إن كانوا أهل لهو فأهل لهو وإن كانوا أهل ذكر فأهل ذكر. وأخرج البيهقي في الشعب عن الربيع بن برة وكان عابدًا بالبصرة قال أدركت الناس بالشام وقيل لرجل قل: لا إله إلا الله قال: اشرب واسقني. وقيل لرجل بالأهواز يا فلان قل لا إله إلا الله فجعل يقول ده يا زده. وقيل لرجل ها هنا بالبصرة يا فلان قل لا إله إلا الله فجعل يقول: يَا رُبَّ قَائِلَة يَوْمًا وَقَدْ تَعِبَتْ ... أَيْنَ الطَّرِيق إِلَى حَمَّامِ منجَابِ انتهى. أ. هـ. والقائل رجل طلبت منه امرأة أن يدلها على حمام منجاب فدلها إلى منزله وذهب يأتي بشيء ونسي إغلاق بابه فخرجت وقد تعلق قلبه بها فجعل يدور في الأسواق ويردد هذا البيت فمر ببيتها فقالت من داخل بيتها وهو يسمع. الرِّزْقُ إِذَا نَفَدَ لَهُ رُبٌّ يُخْلِفُهُ ... وَالْعِرْضُ إِذَا نَفَدَ مِنْ أَيْنَ يَنْجَابُ فَمَاتَ وهو يردد هذا البيت نسأل الله حسن الخاتمة وأن يكون ختام الصحيفة شهادة إن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وأن محمد عبده ورسوله.

شِعْرًا: ... كَمْ آيَةٍ للهِ شَاهِدَةٌ ... بِأَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ أخرج ابن أبي الدنيا عن أبي محمد علي قال ما من ميتٍ يموت إلا مثل له عند موته أعماله الحسنة وأعماله السيئة فيشخص إلى حسناته ويطرق عن سيئاته. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. فصل: أخرج ابن أبي شيبة والمروزى عن جابر بن يزيد قال: يستحب إذا حضر الميت (أي حضره الموت) أن يقرأ سورة الرعد فإن ذلك يخفف عن الميت وأنه أهون لقبضه وأيسر لشأنه. وكان يقال قبل أن يموت الميت بساعة في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللهم اغفر لفلان بن فلان، ويرد عليه مضجعه، ووسع عليه قبره، وأعطه الراحة بعد الموت، وألحقه بنبيه. وتول نفسه، وصعد روحه في أرواح الصالحين، واجمع بيننا وبينه في دار تبقى فيها الصحة ويذهب عنا فيها النصب واللغوب، ويصلي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويكرر ذلك حتى يقبض. وعن ابن أبي شيبة والمروزي عن الشعبي قال كانت الأنصار يقرؤن عند الميت سورة البقرة. وأخرج أبو نعيم عن قتادة في قوله تعالى {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} قال مخرجا من شبهات الدنيا ومن الكرب عند الموت ومن مواقف يوم القيامة. أخرج ابن أبي الدنيا عن وهب بن الورد قال بلغنا أنه ما من ميتٍ يموت حتى يتراءى له ملكاه اللذان كان يحفظان عليه عمله في الدنيا. فإن كان صحبهما بطاعة الله قالا جزأك الله عنا من جليس خيرًا فرب مجلس صدق قد أجلستناه وعملٍ صالحٍ قد، أحضرتناه وكلام حسنٍ قد أسمعتناه فجزأك الله عنا من جليس خيرًا.

وإن كان صحبهما بغير ذلك مما ليس لله فيه رضاه قلبا عليه الثناء فقالا لا جزأك الله عنا من جليس خيرًا. فرب مجلس سوءٍ قد أجلستناه، وعمل غير صالح قد أحضرتناه، وكلام قبيح قد أسمعتناه. فلا جزأك الله عنا من جليس خيرًا قال فذلك شخوص بصر الميت إليهما ولا يرجع إلى الدنيا أبدًا. وأخرج عن سفيان قال بلغني أن العبد المؤمن إذا أحتضر قال ملكاه اللذان كانا معه يحفظانه أيام حياته عند رنة أهله دعونا فلنثن على صاحبنا بما علمنا منه. فيقولان رحمك الله وجزأك الله من صاحب خيرًا إن كنت لسريعًا إلى طاعة الله بطيئًا عن معصية الله وإن كنت لمن نأمن غيبك فنعرج فلا تشغلنا عن الذكر مع الملائكة. وإذا أحتضر العبد السوء فرن أهله وضجوا قام الملكان فقالا دعونا فلنثن بما علمنا منه فيقولان جزأك الله من صاحب شرًا. إن كنت بطيئًا عن طاعة الله، سريعًا إلى معصيته، وما كنا نأمن غيبك، ثم يعرجان إلى السماء. وأخرج ابن جرير ولبن المنذر في تفسيرهما عم ابن جريج قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة إذا عاين المؤمن الملائكة. قالوا نرجعك إلى الدنيا فيقول إلى دار الهموم والأحزان قدمًا إلى الله (أي تقدموا بي تقدما إلى الله) . وأما الكافر فيقولون له نرجعك إلى الدنيا فيقول {رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} . وأخرج الإمام أحمد في الزهد عن الربيع بن خيثم في قوله تعالى {فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} .

قال هذا له عند الموت وتخبأ له في الآخرة الجنة. وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ. قال هذا عند الموت وتخبأ له في الآخرة النار. أخرج أحمد والبراز والحاكم وصححه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «كان ملك الموت يأتي الناس عيانًا فأتي موسى فلطمه ففقأ عينيه» . فأتى ربه فقال يا رب عبدك موسى فقأ عيني ولولا كرامته عليك لشققت عليه. قال اذهب إلى عبدي فقل له فليضع يده على جلد ثور فله بكل شعرة وارت يده سنه. فأتاه فقال ما بعد هذا قال الموت قال فالآن قال فشمه فقبض روحه ورد الله إليه عينيه، فكان يأتي الناس خفية. أخرج ابن أبي الدنيا في القبور عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما من ميتٍ يوضع على سريره فيخطى به ثلاث خطوات إلا تكلم بكلام يسمعه من شاء الله إلا الثقلين الإنس والجن. يقول يا أخوتاه ويا حملة نعشاه لا تغرنكم الدنيا كما غرتني، ولا يلعبن بكم الزمان كما لعب بي. خلفت ما تركت لورثتي، والديان يوم القيامة يخاصمني ويحاسبني، وأنتم تشيعوني وتدعوني (أي تتركوني) . أخرج الترمذي وأبو النعيم وأبو يعلى وابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «ما من إنسان إلا له بابان في السماء، باب يصعد عمله فيه، وباب ينزل منه رزقه، فإذا مات العبد المؤمن بكيا عليه» . وأخرج أبو النعيم عن عطاء الخرساني قال ما من عبد يسجد لله سجدة في بقعةٍ من بقاع الأرض إلا شهدت له يوم القيامة وبكت عليه يوم يموت. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي الدنيا عن محمد بن قيس قال بلغني أن

السموات والأرض يبكيان على المؤمن تقول السماء مازال يصعد إلى منه خير وتقول الأرض مازال يفعل علي خيرا. وأخرج ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال إن المؤمن إذا مات بكى عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء ثم تلا {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ} . شِعْرًا: أَلا إِنَّ السِّبَاقَ سِبَاقَ زُهْدٍ ... وَمَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سِبَاقِ وَيَفْنَى مَا خَوَاهُ الْمُلْكِ أَصْلاً ... وَفِعْلَ الْخَيْرِ عِنْدَ اللهِ بَاقِ سَتَأْلَفُكَ النَّدَامَةُ عَنْ قَرِيبٍ ... وَتَشْهَقُ حَسْرَة يَوْم الْمَسَاقِ أَتَدْرِي أَيُّ الْيَوْم فَكِّرْ ... وَأَيْقَنَ أَنَّهُ يَوْم الْفُرَاقِ فُرَاقٌ لَيْسَ يَشْبَهُهُ فُرَاقٌ ... قَدِ انْقَطَعَ الرَّجَاءُ عَنِ التَّلافِي شِعْرًا: إِلَى كَمْ ذَا التَّرَاخِي وَالتَّمَادِي ... وَحَادِي الْمَوْتِ بِالأَرْوَاحِ حَادي فَلَوْ كُنَّا جَمَادًا لاتَّعَظْنَا ... وَلَكِنَّا أَشَدُّ مِنَ الْجَمَادِ تُنَادِينَا الْمَنِيَّةُ كُلَّ وَقْتٍ ... وَمَا نُصْغِي إِلَى قَوْلِ الْمُنَادِي وَأَنْفَاس النُّفُوسِ إِلَى انْتِقَاصٍ ... وَلَكِنِ الذُّنُوب إِلَى ازْدِيَادِ إِذَا مَا الزَّرْعُ قَارَنَهُ اصْفِرَارُ ... فَلَيْسَ دَوَاؤُهُ غَيْرَ الْحَصَادِ كَأَنَّكَ بِالْمَشِيبِ وَقَدْ تَبَدَّى ... وَالأُخْرَى مُنَادِيهِ يُنَادِي وَقَالُوا قَدْ مَضَى فَاقْروا عَلَيْهِ ... سَلامُكُمُوا إِلَى يَوْمِ التَّنَادِي آخر: أَبَدًا تَفَهُّمُنَا الْخُطُوبُ كُرُورَهَا ... وَنَعُودُ فِي عَمَهٍ كَمَنْ لا يَفْهَمُ

تَلْقَى مَسَامِعْنَا الْعِظَاتِ كَأَنَّمَا ... فِي الظِّلِ يَرْقَم وَعْظِهِ مَنْ يَرْقَمُ وَصَحَائِفُ الأَيَّامِ نَحْنُ سُطُورُهَا ... يَقْرَأُ الأَخِيرُ وَيُدْرَجُ الْمُتَقَدِّمُ لَحْدٌ عَلَى لَحْدٍ يُهَال ضَرِيحُهُ ... وَبِأَعْظُمٍ رَمَمٌ عَلَيْهَا أَعْظُمُ مَنْ ذَا تَوَفَّاهُ الْمَنُونُ وَقَبْلَنَا ... عَادٌ أَطَاحَهُمْ الْحَمَامُ وَجَرَّهُمُ وَالتَُّبَعَانِ تَلاحَقَا وَمُحَرِّقٌ ... وَالْمُنْذِرَانِ وَمَالِكٌ وَمُتَمِّمُ آخر: ... مَا حَالَ مَنْ سَكَنَ الثَّرَى مَا حَالَهُ ... أَمْسَى وَقَدْ قَطَعَتْ هُنَاكَ حِبَالَهُ أَمْسَى وَلا رُوحُ الْحَيَاةِ يُصِيبُهُ ... يَوْمًا وَلا لُطْف الْحَبِيبِ يَنَالُهُ أَمْسَى وَحِيدًا مُوحِشًا مُتَفَرِّدًا ... مُتَشَتِّتًا بَعْدَ الْجَمِيعِ عِيَالُهُ أَمْسَى وَقَدْ دَرَسَتْ مَحَاسِنُ وَجْهُهُ ... وَتَفَرَّقَتْ فِي قَبْرِهِ أَوْصَالُهُ وَاسْتَبْدَلَتْ مِنْهُ الْمَجَالِسُ غَيْرَهُ ... وَتَقَسَّمَتْ مِنْ بَعْدَهُ أَمْوَالُهُ اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنًا لمصالحنًا واعصمنًا من قبائحنًا وذنوبنًا ولا تؤاخذنًا بما انطوت عليه ضمائرنًا واكنته سرائرنًا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه. (فَصْلٌ) أخرج أبو نعيم وابن منده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ادفنوا موتاكم وسط قوم صالحين فإن الميت يتأذى بجار السوء كما يتأذى الحي بجار السوء» . وعن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذ مات لأحدكم الميت فأحسنوا

كفنه وعجلوا بانجاز وصيته وأعمقوا له في قبره وجنبوه الجار السوء» . قيل: يا رسول الله وهل ينفع الجار الصالح في الآخرة؟ قال: «هل ينفع في الدنيا» . قال نعم. قال: «كذلك ينفع في الآخرة» . أخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة فجلس إلى قبرٍٍٍٍٍٍٍٍ. فقال: ما يأتي على هذا القبر من يومٍ إلا وهو ينادي بصوت طلق ذلق. يا ابن آدم كيف نسيتني ألم تعلم أني بيت الوحدة، وبيت الغربة، وبيت الوحشة، وبيت الدود، وبيت الضيق إلا من وسعني الله عليه. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «القبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار» . وأخرج ابن أبي الدنيا والحكيم والترمذي وأبو يعلي والحاكم في الكني والطبراني في الكبير وأبو نعيم عن أبي الحجاج الثمالي. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يقول القبر للميت حين يوضع فيه ألم تعلم ويحك أني بيت الفتنة، وبيت الظلمة، وبيت الوحدة، وبيت الدود، يا ابن آدم ما غرك بي إذ كنت تمر علي فدادًا. فإن كان مصلحًا أجاب عنه مجيب القبر فيقول: أرأيت إن كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيقول القبر إذا أتحول عليه خضرًا ويعود جسده نورًا وتصعد روحه إلى الله تعالى» . أخرج البزار عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إذا بلغت الجنازة القبر فجلس الناس فلا تجلس ولكن قم على شفير القبر فإذا دلي في قبره فقل: بسم الله وعلى ملة رسول الله اللهم هذا عبدك نزل بك وأنت خير منزول به خلف الدنيا خلف ظهره فاجعل ما قدم عليه خيرًا مما خلف فإنك قلت {وَمَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ} .

وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن خيثمة قال: كانوا يستحبون إذا دفنوا الميت أن يقولوا بسم الله وعلى ملة رسول الله اللهم أجره من عذاب القبر ومن عذاب النار ومن شر الشيطان الرجيم. وأخرج ابن ماجه والبيهقي في سننه عن ابن المسيب قال: حضرت بن عمر رضي الله عنهما في جنازة إبنة له فلما وضعها في اللحد قال: بسم الله وفي سبيل الله فلما أخذ في تسوية اللحد قال اللهم أجرها من الشيطان ومن عذاب القبر فلما سوي الكثيب عليها قام جانب القبر ثم قال: اللهم جاف الأرض عن جنبيها وصعد روحها ولقها منك رضوانا ثم قال سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد أنه كان يقول بسم الله وفي سبيل الله اللهم افسح في قبره ونور له فيه وألحقه بنبيه. وأخرج الطبراني عن عبد الرحمن بن العلاء بن الجلاح قال: قال أبي يا بني إذا وضعتني في لحدي فقل بسم الله وعلى ملة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثم سن على التراب سنًا ثم أقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة وخاتمتها فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك. وأخرج الطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إذا مات أحدكم فلا تحسبوه وأسرعوا به إلى قبره. وليقرأ عند رأسه فاتحة الكتاب لفظ البيهقي فاتحة البقرة وعند رجليه بخاتمة سورة البقرة في قبره. وأخرج سعيد بن منصور عن ابن مسعود قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقف على القبر بعد ما يسوى عليه فيقول:

اللهم نزل بك صاحبنا وخلف الدنيا خلف ظهره اللهم ثبت عند المسألة منطقة ولا تبتله في قبره بما لا طاقة له به. أخرج ابن ماجه عن البراء كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة فجلس على شفير قبره فبكى وأبكى حتى بل الثرى ثم قال «يا أخوتي لمثل هذا فأعدوا. اللهم نجنا برجمتك من النار وعافنًا من دار الخزي والبوار وادخلنا بفضلك الجنة دار القرار وعاملنا بكرمك وجودك يا كريم يا غفار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) أخرج الديلمي والخطيب وأبو نعيم وابن عبد البر في التمهيد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من قال في كل يوم مائة مرة لا إله إلا الله الملك الحق المبين كان له أمانًا من الفقر وأنسًا في وحشة القبر وفتحت له أبواب الجنة» . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال من قرأ سورة الملك كل ليلة عصم من فتنة القبر ومن واظب على قول الله تعالى {إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} سهل الله عليه سؤال منكر ونكير. وأخرج أبو الفضل في عيون الأخبار بسنده عن عمر مرفوعًا «من نور في مساجد الله نور الله له في قبره، ومن أراح فيه رائحًة طيبًة أدخل الله عليه في قبره من روح الجنة. وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن ميمونة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «يا ميمونة تعوذي بالله من عذاب القبر، وإن من أشد عذاب القبر الغيبة والبول» . شِعْرًا: ... أَمِنْ بَعْدِ مَثْوَى الْمَرْءِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ ... إِلَى ضَيْقِ مَثْوَاهُ مِنَ الأَرْضِ يُسْلَمُ وَلَمْ يَبْقَ بَيْنَ الضِّيقِ وَالضِّيق فُرْجَةُ ... إِلَى ذَاكَ إِنَّ اللهَ بِالْعَبْدِ أَرْحَمُ

شِعْرًا: قَدْ رَجَّلُونِي وَمَا بِالشَّعْرِ مِنْ شَعَثٍ ... وَأَلْبَسُونِي ثِيَابًا غَيْرَ أَخْلاقِ وَرَفَّعُونِي وَقَالُوا أَيُّمَا رَجُلٍ ... وَأَدْرَجُونِي كَأَنِّي طَيُّ مِخْرَاقِ وَأَرْسَلُوا فِتْيَةً مِنْ خَيْرِهِمْ حَسَبًا ... لِيُسْنِدُوا فِي ضَرِيحِ الْقَبْرِ أَطْبَاقِي وَقَسَّمُوا الْمَالَ وَارْفَضَّتْ عَوَائِدَهُمْ ... وَقَالَ قَائِلُهُمْ مَاتَ ابْنُ حَذَّاقِ هَوِّنْ عَلَيْكَ وَلا تُولَعْ بِإِشْفَاقِ ... فَإِنَّمَا مَالُنَا لِلْوَارِثِ الْبَاقِي آخر: ... وَكَيْفَ أَشِيدُ فِي يَوْمِي بِنَاءً ... وَأَعْلَمُ أَنَّ فِي غَدٍ عَنْهُ ارْتِحَالِي فَلا تَنْصِبْ خِيَامَكَ فِي مَحَلٍّ ... فَإِنَّ الْقَاطِنِينَ عَلَى احْتِمَالِ آخر: ... أَخِي مَا بَالُ قَلْبُكَ لَيْسَ يَنْقَى ... كَأَنَّكَ لا تَظُنُّ الْمَوْتَ حَقَّا أَلا يَا ابْنَ الَّذِينَ فَنَوْا وَبَادُوا ... أَمَا وَاللهِ مَا ذَهَبُوا لِتَبْقَى وَمَا لِلنَّفْس عِنْدَكَ مِنْ مُقَامٍ ... إِذَا مَا اسْتَكْمَلَتْ أَجَلاً وَرِزْقَا وَمَا أَحَدٌ بِزَادِكَ مِنْكَ أَحْظَى ... وَلا أَحَدٌ بِذَنْبِكَ مِنْكَ أَشْقَى وَلا لَكَ غَيْرَ تَقْوَى اللهِ زَادٌ ... إِذَا جَعَلَتْ إِلَى اللَّهَوَاتِ تَرْقَى آخر: ... أَتَغْفُلُ يَا ابْنَ أَحْمَدَ وَالْمَنَايَا ... شَوَارِع يَخْتَر مِنْكَ عَنْ قَرِيبِ أَغَرَّكَ أَنْ تَخَطَتْكَ الرَّزَايَا ... فَكَمْ لِلْمَوْتِ مِنْ سَهْمٍ مُصِيبِ كُؤوسُ الْمَوْتِ دَائِرَاتٌ عَلَيْنَا ... وَمَا لِلْمَرْءِ بُدٌّ مِن نَّصِيبِ إِلَى كَمْ تَجْعَل التَّسْوِيفَ دَأْبًا ... أَمَا يَكْفِيكَ أَنْوَارُ الْمَشِيبِ أَمَا يَكْفِيكَ أَنَّكَ كُلَّ حِينٍ ... تَمُرُّ بِقَبْرِ خِلٍّ أَوْ حَبِيبِ كَأَنَّكَ قَدْ لَحِقْتَ بِهِمْ قَرِيبًا ... وَلا يُغْنِيكَ أَفْرَاحُ النَّحِيبِ آخر: إِذَا كَمَلتْ لِلْمَرْءِ سِتُّونَ حَجَّةً ... فَلَمْ يُحْضَ مِنْ سِتِّينَ إِلا بِسُدْسِهَا

أَلَمْ تَرَ أَنَّ النِّصْفَ بِالنَّوْمِ حَاصِلٌ ... وَتَذْهَبُ أَوْقَاتُ الْمَقِيلِ بِخُمْسِهَا وَتَأْخُذُ أَوْقَاتُ الْهُمُومِ بِحِصَّةٍ ... وَأَوْقَاتِ أَمْرَاضِ تُمِيتُ بِمَيِّتِهَا فَحَاصِلُ مَا يَبْقَى لَهُ سُدْسُ عُمْرِهِ ... إِذَا صَدَقَتْهُ النَّفْسُ عَنْ عِلْمِ حَدْسِهَا آخر: اسْعَدْ بِمَالِكَ فِي الْحَيَاةِ فَإِنَّمَا ... يَبْقَى وَرَاءَكَ مُصْلِحٌ أَوْ مُفْسِدُ فَإِذَا تَرَكْتَ لِمُفْسِدٍ لَمْ يُبْقِهِ ... وَأَخُو الصَّلاحِ قَلِيلُهُ يَتَزَيَّدُ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ فَكُنْ لِنَفْسِكَ وَارِثًا ... إِنَّ الْمُوَرِّثَ نَفْسَهُ لِمُسَدَّدُ آخر: ... كُلُّ مَالٍ لِلْبِرِّ مِنْ أَيْدِي بَاذِلِيه ... فَهُوَ لِلْوَارِثِ وَالْوِزْرُ عَلَى مُكْسِبِيهِ وأخرج البيهقي عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن عذاب القبر من ثلاثة من الغيبة، والنميمة، والبول، فإياكم وذلك» . وأخرج عن قتادة قال عذاب القبر ثلاثة أثلاث ثلث من الغيبة وثلث من النميمة وثلث من البول. أخرج الطبراني وأبو يعلى والبيهقي وفي الشعب والاصبهاني في الترغيب عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة عند الموت، ولا في قبورهم، ولا في نشورهم» . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «أخبرني جبريل أن لا إله إلا الله أنس للمسلم عند موته، وفي قبره، وحين يخرج من قبره» . وقال ابن رجب في كتاب أهل القبور قد يكرم الله بعض أهل البرزخ

بأعمالٍ صالحة في البرزخ وإن لم يحصل له بذلك ثواب لانقطاع عمله بالموت. لكنه يبقى عمله عليه، ليتنعم بذكر الله وطاعته كما تنعم بذلك الملائكة، وأهل الجنة بالجنة وإن لم يكن على ذلك ثواب. لأن نفس الذكر والطاعة أعظم نعيم عند أهلها من جميع نعيم أهل الدنيا ولذتها فما تنعم المتنعمون بمثل طاعة الله وذكره. وقال ابن رجب وحدثني المحدث أبو الحجاج يوسف بن محمد السريري وكان رجلاً صالحًا وأراني موضعًا من قبور سامرا فقال هذا الموضع لا نزال نسمع منه سورة «تَبَارَكَ الْمُلْكُ» . وروى الحافظ أبو بكر الخطيب بسنده عن عيسى بن محمد الظوماري قال: رأيت أبا بكر بن مجاهد المقري في النوم كأنه يقرأ وكأني أقول له أنت ميت وتقرأ. فكأنه يقول لي كنت أدعو الله في دبر كل صلاة وعند ختم القرآن أن يجعلني ممن يقرأ في قبره فأنا أقرأ في قبري. وأخرج النسائي والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نمت فرأيتني في الجنة» . ولفظ النسائي دخلت الجنة فسمعت صوت قارئ يقرأ فقلت من هذا قال حارثة بن النعمان فقال رسول الله: «كذاك البر، كذاك البر، كذاك البر، وكان أبر الناس بأمه» . واخرج البيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إني أراني في الجنة فبينما أنا فيها سمعت صوت رجل بالقرآن فقلت من هذا قالوا حارثة بن النعمان» . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كذاك البر، كذاك البر، كذاك البر» . شِعْرًا: يَحُولُ عَنْ قَرِيبٍ مِنْ قُصُور ... مُزَخْرَفَةٍ إِلَى بَيْتِ التُّرَابِ

فصل في مداوة مرض القلب

فَيُسْلَمَ فِيهِ مَهْجُورًا فَرِيدًا ... أَحَاطَ بِهِ شَحُوبُ الاغْتِرَابِ وَهَوْلُ الْحَشْرِ أَفْظَعُ كُلِّ أَمْرٍ ... إِذَا دُعِيَ ابْنُ آدمَ لِلْحِسَابِ وَأَلْفَى كُلَّ صَالِحَةٍ أَتَاهَا ... وَسَيِّئَةٍ جَنَاهَا فِي الْكِتَابِ لَقَدْ آنَ التَّزَوُّدُ إِنْ عَقَلْنَا ... وَأَخْذُ الْحَظِّ مِنْ بَاقِي الشَّبَابِ اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار وأسكنا معهم في دار القرار، اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعاتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله أجمعين. (فَصْلٌ) اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن مداواة مرض القلب واجبة وهي تأتي من وجوهٍ كثيرةٍ جدا نشير إلى بعضها. أحدها وهي من أنفعها العزلة المصحوبة بالاشتغال بالعلوم النافعة. فبالعزلة يتقيد الظاهر عن مخالطة من لا تصلح مخالطته ومن لا يأمن دخول الآفات عليه بصحبته. فيتخلص من المعاصي التي يتعرض لها بالمخالطة مثل الغيبة والمداهنة والتملق والرياء والتصنع. ويحصل له بذلك السلامة من مسارقة الطباع الرديئة والأخلاق الدنيئة. ويحصل بذلك أيضا صيانة دينه ونفسه عن التعرض للخصومات وأنواع الشرور والفتن. فإن النفس تولعًا وتسرعًا إلى الخوض في مثل هذا. فينبغي للإنسان أن يكف لسانه عن السؤال عن أخبار الناس وما هم

مشغولون فيه وما هم منهمكون فيه ومنكبون عليه من القيل والقال مما لا فائدة فيه وضرره يزيد وربما أنه ضرر خالص. وقال آخر وإذا هممت بالباطل وما لا فائدة فيه فاجعل مكانه تسبيحًا وتهليلاً. وينبغي أن يصون سمعه عن الإصغاء إلى أراجيف البلدان وما شملت عليه من الأحوال التي تضر ولا تنفع. وليحرص على أن لا يأتيه من شأنه التطلع والبحث عن شؤونه وأحواله كأصحاب المقابلات والمولعين بأكل لحوم الغوافل. وليجتنب صحبة من لا يتورع في منطقه ولا يضبط لسانه عن الاسترسال في دقائق الغيبة والتعرض بالطعن على الناس والقدح فيهم. فإن ذلك مما يكدر صفاء القلب ويؤدي إلى ارتكاب مساخط الرب. فليهجره وليفر منه من الأسد ولا يجتمع معه في مكان البتة. وفي الخبر «مثل الجليس السوء كمثل الكير إن لم يحرقك بشرره علق بك من ريحه» . وفي الأخبار السالفة أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام «يا ابن عمران كن يقظانًا وارتد لنفسك ‘خوانًا وكل أخٍ أو صاحب لا يؤازرك على مبرتي فهو لك عدو» . وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام فقال له «يا داود مالي أرك منتبذًا وحدانيًا» فقال إلهي قليت الخلق من أجلك. فقال «يا داود كن يقظانًا وارتد لنفسك أخدانًا وكل خدنٍ لا يوافقك على مبرتي فلا تصحبه فإنه لك عدو ويقسي قلبك ويباعدك مني» . قال الشاعر: فَخِفْ أَبْنَاءَ جِنْسِكَ وَاخْشَ مِنْهُمْ ... كَمَا تَخْشَى الضَّرَاغِمَ وَالسَّبنْتَا

محاسبة النفس وما يترتب على ذلك من

وَخَلاطُهُمْ وَزَايِلْهُمْ حِذَارًا ... وَكُنْ كَالسَّامِرِيِّ إِذَا لُمِسَْتَا وروي عن عيسى عليه السلام «لا تجالسوا الموتى فتموت قلوبكم» قيل من الموتى قال «المحبون للدنيا الراغبون فيها وبالابتعاد عن الناس إلا لضرورة أو حاجة ماسة ينكف بصر الإنسان عن النظر إلى زينة الدنيا وزهرتها وزخرفها» . وينصرف خاطره عن الاستحسان على ما ذمه الله منها فتمتنع بذلك النفس عن التطلع إلى الدنيا والاستشراف لها ومنافسة أهلها فيها. قال جل وعلا وتقدس {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا} الآية. والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. (فَصْلٌ) قال بعض العلماء: من علامات إتباع الهوى المسارعة إلى نوافل الخيرات والتكاسل عن القيام بالواجبات وهذه حال كثير من الناس. فترى الواحد منهم يهتم للنوافل ويكثر منها والفروض ما يهتم لها تجده يصوم مثلاً البيض والاثنين والخميس ولا تجده لسانه عن القذف والغيبة والكذب. ولا يفتش على نفسه بدقةٍ فتجد عنده عقوق والدين أو قطيعة رحم أو أكل من مشتبه أو يعامل في الربا أو في شركات تتعامل مع البنوك في الربا أو يبيع ويشتري في المحرمات كآلات الملاهي وتصليحها. ومن ناحية الزكاة تجده يخرجها إلى من يتقاضى منه خدمًه أو يدفعها إلى من تجب عليه نفقته أو لمن يهدي إليها أو يتسامح معه في المعاملة أو نحو ذلك. ومن قبل الصلاة التي هي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين وهي التي إذا صلحت وأديت تماما صلح سائر الأعمال فلا تجده يعتني بها. ويحرص على تحضير قلبه لها وطرد الأفكار التي تخل بأدائها ولا يعني بمعرف معني ما يتلو.

المهم أنه مع ذلك لا تجده مستدركا لما فرط فيه ولا لما أهمله وما ذاك إلا أنهم لم يشتغلوا بالتفتيش والتفقد لأنفسهم التي خدعتهم ولم يحلفوا بمجاهدة أهوائهم التي استرقتهم وملكتهم. ولو اشتغلوا في تصليح ذلك لكان لهم فيه أعظم شغلٍ ولم يجدوا فسحًة واسعًة لشيء من النوافل. قال بعض العلماء من كانت النوافل والفضائل أهم إليه من أداء الفرائض فهو مخدوع. وقال آخر: هلاك الناس في اثنين اشتغال بنافلة وتضييع فريضة. وعمل بالجوارح بلا مواطاة القلب وإنما حرموا الوصول بتضييع الأصول. وقال آخر: «انقطع الخلق عن الله بخصلتين إحداهما أنهم طلبوا النوافل وضيعوا الفرائض» . والثانية «أنهم عملوا أعمالاً بالظاهرة ولم يأخذوا أنفسهم بالصدق فيها والنصح لها ولا يقبل العمل إلا بالصدق وإصابة الحق» . وقال آخر: أفضل شيء للعبد معرفته بنفسه ووقوفه على حده وإحكامه لحالته التي أقيم فيها وابتداؤه بالعمل بما افترض الله عليه واجتنابه لما نهى الله عنه بعلم يرشده في جميع ذلك. وقال آخر: أنعم الله عليك فيما أمرك به من الطاعات المؤقتة بالأوقات بنعمتين عظيمتين. إحداهما تقيدها لك بأعيان الأوقات لتوقعها فيها فتفوز بثوابها ولولا التوقيت لسوفت بها ولم تعمل بها حتى تفوت فيفوتك ثوابها. والنعمة الثانية توسيع أوقاتها عليك ليبقى لك نصيب من الاختيار حتى تأتى الطاعات في حال سكون وتمهل من غير حرج ولا ضيق. اللهم ثبت وقو محبتك في قلوبنا واشرح صدورنا ونورها بنور الإيمان واجعلنا هداة معتدين وألهمنا ذكرك وشكرك واجعلنا ممن يفوز بالنظر إلى

وجهك في جنات النعيم يا حليم ويا كريم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) واعلم أن الله جل وعلا وتقدس غني عن خلقه لا تنفعه طاعتهم ولا تضره معصيتهم وأن التكاليف كلها إنما أوجبها عليهم لما يرجع إليهم من مصالحهم لا غير. فمن وفقه الله ونور بصيرته وشرح صدره وكتب في قلبه الإيمان وبغض إليه العصيان لم يقتصر على الفرائض واجتناب النواهي. بل يضيف إلى ذلك المبادرة إلى أعمال الطاعات والمسارعة إلى نوافل العبادات وفعل الخيرات. وقال: واعلم رحمك الله أنا تلمحنا الواجبات فرأينا الحق جل وعلا جعل في كل ما أوجبه تطوعًا من جنسه في أي الأنواع كان. ليكون ذلك التطوع من الجنس جابرًا لما عسى أن يقع من خلل في قيام العبد بالواجبات. وكذلك جاء في الحديث «أنه ينظر في مفروض صلاة العبد فإن نقص منها شيء كمل من النوافل» . فافهم رحمك الله هذا واجتهد ولا تكن مقتصرًا على ما فرض الله عليك بل لتكن عزيمة وناهضة قوية توجب اجتهادك وإكبابك على معاملة الله فيما يجب وفيما يسن. ففي الحديث ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه (الحديث) . ولو كان العباد لا يجدون في موازينهم إلا فعل الواجبات وثواب ترك المحرمات لفاتهم من الخير والمنة ما لا يحصره حاصر ولا يحرزه حارز. فسبحان من فتح لعباده باب المعاملة وهيء لهم أسباب المواصلة

فالموفقون أهل الفهم والمعرفة جعلوا الأوقات كلها وقتًا واحدًا والعمر كله نهجًا إلى الله تعالى قاصدًا. وعلموا أن الوقت كله لله فلم يجعلوا منه شيئًا لغيره. جعلوا أوقاتهم في طاعة الله فعلاً ونية. وقال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} . علموا أن الأنفاس أمانات عندهم وودائع لديهم. وعلموا أنهم مطالبون برعايتها فوجهوا همهم لحفظها وأدائها. قال بعضهم إحالتك الأعمال إلى وجود الفراغ حمق وجهل ووجه ذلك: أولاً أنه إيثار للدنيا على الآخرة، وليس هذا من شأن عقلاء المؤمنين وهو خلاف ما طلب منك قال الله جلا ولعلا وتقدس {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} . والثاني أن تسويف العمل إلى آوان الفراغ غلط لأنه قد لا يجد مهلة بأن يختطفه الموت قبل ذلك. أو يزداد شغله لأن أشغال الدنيا يتداعى بعضها إلى بعضه كما قيل: فَمَا قَضَى أَحَدٌ مِنْهَا لُبَانَتَهُ ... وَلا انْتَهَى أربٌ إِلا إِلَى أَرَب والثالث أنه ربما يفرغ منها إلى الذي لا يرضيه من تبدل عزمه وضعف نيته. المهم أن الواجب عليه المبادرة إلى الأعمال الصالحة على أي حالٍ كان. شِعْرًا: مَنْ كَانَ يُوحِشَهُ تَبْدِيلُ مَنْزِلِهِ ... وَأَنْ تَبَدَّلَ مِنْهَا مَنْزِلاً حَسَنَا مَاذَا يَقُولُ إِذَا ضَمَّتْ جَوَانِبِهَا ... عَلَيْهِ وَاجْتَمَعَتْ مِنْ هَا هُنَا وَهُنَا مَاذَا يَقُولُ إِذَا أَمْسَى بِحُفْرَته ... فَرْدًا وَقَدْ فَارَقَ الأَهْلِينَ وَالسَّكَنَا هُنَاكَ يَعْلَمُ قَدْرَ الْوَحْشَتَيْنِ وَمَا ... يَلْقَاهُ مَنْ بَاتَ بِاللَّذَاتِ مُرْتَهَنَا

يَا غَفْلَةً وَرِمَاحُ الْمَوْتِ شَارِعَةٌ ... وَالشَّيْبُ أَلْقَى بِرَأْسِي نَحْوَهُ الرَّسَنَا وَلَمْ أَعِدُّ مَكَانًا لِلنُّزُولِ وَلا ... أَعْدَدْتُ زَادًا وَلَكِنْ غِرَّةً وَمُنَا إِنْ لَمْ يَجُدْ مَنْ تَوَالَى جُودُهُ أَبَدَا ... وَيَعْفُ مَنْ عَفْوُهُ مِنْ طَالِبِيهِ دَنَا فَيَا إِلَهِي وَمُزْنُ الْجُودِ وَاكِفَةٌ ... سَحًّا فَتُمْطِرُنَا الإِفْضَالَ وَالْمِنَنَا آنِسْ هُنَالِكَ يَا رَحْمَنُ وِحْشَتَنَا ... وَأَلْطُفْ بِنَا وَتَرَفَّقْ عِنْدَ ذَاكَ بِنَا نَحْنُ الْعُصَاةَ وَأَنْتَ اللهَ مَلْجَؤُنَا ... وَأَنْتَ مَقْصَدُنَا الأَسْنَى وَمَطْلَبُنَا فَكُنْ لَنَا عِنْدَ بَأْسِهَا وَشِدَّتِهَا ... أَوْلَى فَمْنَ ذَا الَّذِي فِيهَا يَكُونُ لَنَا فائدة: قال بعض العلماء أصل كل معصية وشهوة الرضا عن النفس لأنه أصل جميع الصفات المذمومة وعدم الرضا عن النفس أصل الصفات المحمودة وذلك لأن الرضا عن النفس يوجب تغطية عيوبها ومساويها وقبائحها فيصير قبيحها حسنا كما قيل: وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ ... كَمَا أَنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي الْمَسَاوِيَا آخر: ... وَنَفْسُكَ أَكْرِمْ عَنْ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ ... فَمَا لَكَ نَفْسُ بَعْدَ مَا تَسْعِيرُهَا وَلا تَقْربِ الأَمْرَ الْحَرَامِ فَإِنَّهُ ... حَلاوَتُهُ تَفْنَى وَيَبْقَى مَرِيرُهَا آخر: ... تَوَّقْ نَفْسَكَ لا تَأْمَنْ غَوَائِلهَا ... فَالنَّفْس أَخْبَثْ مِنْ سَبْعِينَ شَيْطَانًا وعدم الرضا عن النفس على العكس من هذا لأن العبد إذ ذاك يتهم نفسه ويتطلب عيوبها ولا يغتر بما يظهر من الطاعة والانقياد شِعْرًا: ... أَلا أَيًّهَا السَّؤُومُ تَنَبَّهِي ... وَأَلْقِي إِلَيَّ السَّمِعَ إِلْقَاءَ جَازِمَهْ ضَلال لأَذْهَان وَظَنّ مُكَذبٌ ... رَجَاؤُكَ أَنْ تَبْقَى عَلَى الدَّهْرَ سَالِمَهْ وَقَدْ غَصَّ بِالْكَأْسِ الْكَرِيهة أَحْمَدٌ ... وَمَاتَ فَمَاتَ الْحَقُ إِلا مَعَالِمَهْ آخر: ... إِذَا مَا أَجَبْتَ النَّفْسَ فِي كُلِّ دَعْوَةٍ ... دَعَتّكَ إِلَى الأَمْرِ الْقَبِيحِِ الْمُحَرَّمِ

اللهم اجعلنا من حزبك المفلحين وعبادك الصالحين الذين أهلتهم لخدمتك وجعلتهم ممن قبلت أعماله يا رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن من رضي عن نفسه استحسن حالها وسكن إليها ومن استحسن حال نفسه وسكن إليها استولت عليه الغفلة. وبالغفلة ينصرف قلبه عن التفقد والمراعاة لخواطره فتثور حينئذٍ دواعي الشهوة على العبد. وليس عنده من المراقبة والملاحظة والتذكير ما يدفعها به ويقهرها. فتصير الشهوة غالبة له بسبب ذلك ومن غلبته شهوته وقع في المعاصي. وأصل ذلك كله رضاه عن نفسه ومن لم يرض عن نفسه لم يستحسن حالها ولم يسكن إليها. ومن كان بهذا الوصف كان متيقظًا منتبهًا للطوارئ وبالتيقظ والنبيه يتمكن من تفقد خواطره ومراعاتها. وعند ذلك تخمد نيران الشهوة فلا يكون لها غلبة ولا قوة فيضعف العبد حينئذ بصفة العفة. فإذا صار عفيفًا كان مجتنبًا لكل ما نهاه الله عنه محافظًا على جميع ما أمره به هذا هو معنى الطاعة لله عز وجل وأصل هذا كله عدم الرضا عن نفسه. فإذا يجب على الإنسان أن يعرف نفسه ويلزم من ذلك عدم الرضا عنها وبقدر تحقق العبد في معرفة نفسه يصلح له حاله ويعلوا مقامه.

وكان العلماء المخلصون يذمون نفوسهم ويتهمونها ولا يرضون عنها. قال بعضهم من لم يهتم نفسه على دوام الأوقات ولم يخالفها ولم يجرها إلى مكروها فهو مغرور ومن نظر إليها باستحسان شيء منها فقد أهلكها. وكيف يرضى عنها عاقل وهي الأمارة بالسوء وقال بعض العلماء لا تسكن إلى نفسك وإن دامت طاعتها لك في طاعة الله. وقال آخر: ما رضيت عن نفسي طرفة عين. وقال آخر: إن من الناس ناس لو مات نصف أحدهم ما أنزجر النصف الآخر ولا أحسبني إلا منهم. وقال آخر: فائدة الصحبة إنما هي للزيادة في الحال وعدم النقصان فيها فإياك وصحبة من لا ينهضك حاله ولا يدلك على الله مقاله. فصحبة من يرضى عن نفسه وإن كان عالمًا شر محض ولا فائدة فيها لأن علمه في الغالب غير نافع له. وجهله الذي أوجب رضاه عن نفسه صار غاية الضرر لأنه فاته العلم الذي يريه عيبه حتى لا يرضى عن نفسه الأمارة بالسوء. وقال ابن القيم رحمه الله لما ذكر النفس الامارة بالسوء قال منها أن يعرف أنها جاهلة ظالمة وأن الجهل والظلم يصدر عنهما كل قولٍ وعملٍ قبيح. ومن وصفه الجهل والظلم لا مطمع في استقامته واعتداله البتة فيوجب له ذلك بذل الجهد في العلم النافع الذي يخرجها به عن وصف الجهل والعمل الصالح الذي يخرجها به عن وصف الظلم ومع هذا فجهلها أكثر من علمها وظلمها أعظم من عدلها. فحقيق بمن هذا شأنه أن يرغب إلى خالقها وفاطرها أن يقيه شرها وأن يؤتيها تقواها ويزكيها فهو خير من زكاها وأن لا يكله إليها طرفة عين فإنه إن

وكله إليها هلك فما هلك من هلك إلا حيث وكل إلى نفسه. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لحصين بن المنذر «قل اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي» وفي خطبة الحاجة «ونعوذ بالله من شرور أنفسنا» وقد قال تعالى {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقال {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} . فمن عرف حقيقة نفسه وما طبعت عليه علم أنها منبع كل شر ومأوى كل سوء وأن كل خير فيها ففضل من الله من به عليها لم يكن منها كما قال تعالى {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً} . وقال تعالى {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} فهذا الحب وهذه الكراهة لم يكونا في النفس ولا بها. ولكن هو الذي من بهما بسببهما من الراشدين {فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} عليم بمن يصلح لهذا الفضل ويزكوا عليه وبه ويثمر عنده حكيم فلا يضعه عند غير أهله انتهى بتصرف يسير. فعلى العاقل اللبيب محاسبة نفسه دائمًا والمحاسبة هي مطالعة القلب وأعمال اللسان وأعمال الجوارح. فأجعل ذنوبك نصب عينيك فإن غفلت عنها اجتمعت بسرعةٍ وكثرت. وتأمل وفكر فلو أنك وضعت في كل معصيةٍ تحدثها حجرًا في دارك لامتلأ بيتك في مدة يسيرةٍ. فمثلاً عندك غيبة أو عندك كذب أو عندك رياء أو عندك عقوق أو قطيعة رحم أو ظلم لمسلم أو لنفسك أو لأهلك أو لأولادك أو الجيران أو تعامل معاملة لا تجوز.

أو عندك كفار خدام أو سواقين أو عندك ملاهي كالتلفاز والفيديو أو عنك صور أو تشرب الدخان أو حلق لحية أو إسبال أو تشبه بكفار أو سفر لبلادهم. أو لك أولاد يدرسون عندهم برضا منك أو أكلك وشربك ولبسك من شركاتٍ تتعامل بالربا أو أن عملك لا تؤديه كاملاً مكملاً وتأخذ ما عليه كاملاً. أو لا تتنسخ من الزكاة أو نحو ذلك مما لا يحصره العد. فتيقظ وحاسب نفسك وفتش عليها بدقةٍ وأسأل الله الحي القيوم أن يتجاوز عنك. فَإِنْ تَنْجَ مِنْهَا تَنْجُ مِنْ ذِي عَظِيمَةٍ ... وَإِلا فَإِنِّي لا إِخَالُكَ نَاجِيا قال تبارك وتعالى {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ} قيل إن هذه الآية أعظم آية في المؤاخذة. ولما نزلت بكى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقال ابن عباس يرحم أبا عبد الرحمن وإن الله تبارك وتعالى يقول {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} . وقال ابن القيم رحمه الله: فمن له بصيرة بنفسه وبصيرة بحقوق الله وهو صادق في طلبه لم يبق له نظره في سيئاته حسنًة البتة فلا يلقى الله إلا بالإفلاس المحض والفقر الصرف. لأنه إذا فتش عن عيوب نفسه وعيوب عمله علم أنها لا تصلح لله وأن تلك البضاعة لا تشترى بها النجاة من عذاب الله فضلاً عن الفوز بعظيم ثوابه. فإن خلص له عمل وحال مع الله وصفًا له معه وقت شاهد منة الله عليه ومجرد فضله وأنه ليس من نفسه ولا هي أهل لذاك.

فهو دائمًا مشاهد لمنة الله عليه ولعيوب نفسه وعمله لأنه متى تطلبها رآها وهذا من أجل أنواع المعارف وأنفعها للعبد. ولذلك كان سيد الاستغفار: «اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» . فتضمن هذا الاستغفار الاعتراف من العبد بربوبية الله وإلهيته وتوحيده والاعتراف بأنه خالقه العالم به إذ أنشأه نشأةً تستلزم عجزه عن أداء حقه وتقصيره فيه والاعتراف بأنه عبده الذي ناصيته بيده وفي قبضته لا مهرب له منه ولا ولي له سواه. ثم التزم الدخول تحت عهده وهو أمره ونهيه الذي عهده إليه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإن ذلك بحسب استطاعتي لا بحسب أداء حقك فإنه غير مقدور للبشر إنما جهد المقل وقدر الطاقة. ومع هذا فأنا مصدق بوعدك ثم انزع إلى الاستعاذة والاعتصام بك من شر ما فرطت فيه من أمرك ونهيك فإنك إن لم تعذني من شره وإلا أحاطت بي الهلكة فإن إضاعة حقك سبب الهلاك وأنا أقر لك والتزم وأبخع بذنبي. فمنك المنة والإحسان والفضل ومني الذنب والإساءة فأسألك أن تغفر لي بمحو ذنبي وأن تعفيني من شره إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فلهذا كان هذا الدعاء سيد الاستغفار. وهو متضمن لمحض العبودية فأي حسنة تبقى للبصير الصادق مع مشاهدته عيوب نفسه وعمله ومنة الله عليه فهذا هو الذي يعطيه نظره إلى نفسه ونقصه. أ. هـ. قال بعض الزهاد: لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك لشريكه والشريكان يتحاسبان بعد العمل. شِعْرًا: ... النَّاسُ كُلُّهمُ لِلْعِيدِ قَدْ فَرِحُوا ... وَقَدْ فَرِحْتُ أَنَا بِالْوَاحِدِ الصَّمَدِ

النَّاسُ كُلُّهُمْ لِلْعِيدِ قَدْ صَبَغُوا ... وَقَدْ صَبَغْتُ ثِيَابَ الذُّلِّ وَالْكَمَدِ النَّاسُ كُلُّهُمُ لِلْعِيدِ قَدْ غَسَلُوا ... وَقَدْ غَسَلْتُ أَنَا الدَّمْعِ لِلْكَبَدِ وقال الحسن: المؤمن قوام على نفسه يحاسبها لله تعالى وإنما خف الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا وإنما شق الحساب على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة. وفي الحديث أبي طلحة أنه لما شغله الطين في صلاته فتدبر شغله فجعل حائطه صدقة لله تعالى ندمًا ورجاءً لعوض مما فاته وتأديبًا لنفسه. المهم أن يعلم العبد أن أعدى عدو له نفسه التي بين جنبيه وقد خلقت أمارة بالسوء أمارة بالشر فرارة من الخير. والإنسان مأمور بتزكيتها وتقويمها وقودها بسلاسل العبر إلى عبادة ربها وخالقها ومنعها عن لذتها وشهواتها المهلكة. فإن أهملها شردت وجمحت ولم يظفر بها ذلك وإن لازمها بالتوبيخ والتقريع والمعاتبة والعذل والملامة ولم عن تذكيرها وعتابها اعتدلت بإذن الله تعالى. وَالنَّفْسُ كَالطِّفْلِ إِنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ عَلَى ... حُبِّ الرِّضَاعِ وَإِنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ وَرَاعِهَا وَهِيَ فِي الأَعْمَالِ سَائِمَةً ... وَإِنْ هِيَ اسْتَحْلَتِ الْمَرْعَى فَلا تُسِمِ كَمْ حَسَّنَتْ لَذَّةً لِلْمَرْءِ قَاتِلَةً ... مِنْ حَيْثُ لَمْ يَدْرِي أَنَّ السُّمِ فِي الدَّسَمِ فالعاقل اللبيب من يوبخ نفسه ويعاتبها ويوضح لها عيوبها كلها ويقرر عندها جهلها وحماقتها فإنها إذا أراد الله تعذر وترعوي وترجع. فيقول لها: ما أعظم جهلك تدعين الحكمة والفطنة وأنت من أجهل الناس وأحمقهم. وأكبر برهان على ذلك إهمالك واستهانتك أما تعرفين ما بين يديك من الأهوال والعظائم والمزعجات والمخاوف. أما تقرئين وتسمعين قول القائلين وأوفى الواعدين وأقدر القادرين: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً * يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً} .

.. يَوْم الْقِيَامَةِ لَوْ عَلِمْتَ بِهَوْلِهِ ... لَفَرَرْتَ مِنْ أَهْلٍ وَمِنْ أَوْطَانٍ يَوْمَ تَشَقَّقَتِ السَّمَاءُ لِهَوْلِهِ ... وَتَشِيبُ مِنْهُ مَفَارِق الْوِلْدَانِ وقوله تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} . الآية. وقوله عز من قائل: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً} . الآية وقوله جل وعلا: {مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} . وقوله تبارك وتعالى: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} . وقوله جل وعلا: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} . ونحو هذه الآيات المخوفة ثم يقول لنفسه: فمالك تفرحين وتضحكين وتشتغلين باللهو وأنت مطلوبة لهذا الأمر العظيم والخطب الجسيم وبين يديك إحدى منزلتين الجنة أو النار فكيف يهنؤك نوم أو يلذ لك مأكول أو مشروب وأنت لا تدرين في أي الفرقين تكونين {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} وَكَيْفَ تَنَامُ الْعَيْنُ وَهِيَ قَرِيرَةٌ ... وَلَمْ تَدْرِ فِي أَيِّ الْمَكَانَيْنِ تَنْزِلُ وقل لها: أما تعلمن أن كل ما هو آت قريب وأن العيد ما ليس آت. أما تعلمين أن الموت يأتي بغتة من غير تقديم رسول ومن غير مواعدة وأنه لا يأتي في الشتاء دون صيف ولا في صيف دون شتاء ولا في نهار دون ليل ولا في ليل دون نهار ولا يأتي في الصبا دون الكبر ولا في الكبر دون الصبا. بل كل نفس يمكن أن يأتيها الموت بغتة فإن لم يأت الموت بغتة جاءه المرض لا محالة ثم المرض يفضي إلى الموت. فمالك يا نفس لا تستعدين والموت أقرب إليك من حبل الوريد. فهكذا معاملة الزهاد والعباد في توبيخ أنفسهم وعتابها فإن مطلبهم من المناجاة الاسترضاء ومقصودهم من المعاتبة التنبيه والاسترعاء.

فمن أهمل معاتبة نفسه وتوبيخها وأهمل مناجاتها لم يكن لنفسه مراعيًا فنسأل الله العظيم الحي القيوم معرفة حقيقة بأحوال أنفسنا وغرورها. وختامًا فالعاقل من بذل وسعه في التفكير التام وعلم أن دار الدنيا رحلة فجمع للسفر رحلة. فمبدأ السفر من ظهور الآباء إلى بطون الأمهات ثم إلى الدنيا ثم إلى القبر ثم الحشر ثم إلى دار الإقامة الأبدية. هَوِّنْ عَلَيْكَ فَمَا الدُّنْيَا بِدَائِمَةٍ ... وَإِنَّمَا أَنْتَ مِثْلَ النَّاسِ مَغْرُورُ وَلَوْ تَصَوَّرَ أَهْلُ الدَّهْرِ صُورَتَهُ ... لَمْ يُمْسِ مِنْهُمْ لَبِيب وَهُوَ مَسْرُورُ فدار الإقامة للمؤمن هي دار السلام من جميع الآفات وهي دار الخلود والعدو سبانا منها إلى دار الدنيا. فالواجب علينا الاجتهاد في فكاك أسرنا ثم في حث السير إلى الوصول إلى دارنا الأولى وفي مثل هذا قيل: فَحَيَّ عَلَى عَدْنٍ فَإِنَّهَا ... مَنَازِلُكَ الأُولَى وَفِيهَا الْمُخَيَّمُ وَلَكِنَّنَا سَبْيُ الْعَدُوِّ فَهَلْ تَرَى ... نُرَدُّ إِلَى أَوْطَانِنَا وَنُسَلَّمُ آخر: ... تَرَكْتُ هَوَى لَيْلَى وَسُعْدَى بِمَعْزِل ... وَعُدْتُ إِلَى تَصْحِيحِ أَوْلَ مَنْزِلِ وَنَادَتْ بِي الأَشْوَاقُ مَهْلاً فَهَذِهِ ... مَنَازِلُ مَنْ تَهْوَى رُوَيْدَكِ فَانْزِلِ ثم اعلم أن مقدار السير في الدنيا ويقطع بالأنفاس كما قيل: وَمَا نَفْسُ إِلا يُبَاعد مَوْلِدًا ... وَيُدْنِي الْمَنَايَا لِلنُّفُوسِ فَتَقْرَبُ ويسير الإنسان في هذه الدنيا سير السفينة لا يحس بسيرها وهو جالس فيها كما قيل: وَإِنَّا لِفِي الدُّنْيَا كَرَكْبِ سَفِينَةٍ ... تَظُنُّ وَقُوفًا وَالزَّمَانُ بِهَا يَجْرِي ويقول آخر: نَسِيرُ إِلَى الآجَالِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ ... وَأَيَّامُنَا تُطْوَى وَهُنَّ مَرَاحِلُ آخر: ... وَكُلُّ امْرِئٍ يَوْمًا سَيَرْكَبُ كَارِهًا ... عَلَى النَّعْشِ أَعْنَاقَ الْعِدَا وَالأَقَارِبَ

مصيبات الدنيا وشرورها

والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. فَصْلٌ: اعلم أيها الأخ أن جميع مصيبات الدنيا وشرورها وأحزانها كأحلام نوم أو كظل زائل. إن أضحكت قليلاً أبكت كثيرًا وإن سرت يومًا أو أيامًا ساءت أشهرًا أو أعوامًا وإن متعت قليلاً منعت طويلاً. وما حصل للعبد فيها من سرور إلا أعقبه أحزان وشرور كما قيل: (من سره زمن ساءته أزمان) . وقال بعض العلماء لبعض الملوك: إن أحق الناس بذم الدنيا وقلاها من بسط به فيها وأعطي حاجته منها. لأنه يتوقع أفة تعدو على ماله فتجتاحه، أو على جمعه فتفرقه، أو تأتي سلطانه فتهدمه من قواعده. أو تدب إلى جسمه فتسقمه، أو تفجعه بشيء هو ضنين به من أحبابه. فالدنيا أحق بالذم هي الآخذة لما أعطت، والراجعة لما وهبت. بينما هي تضحك صاحبها إذا هي تضحك منه غيره. وبينما هي تبكي له إذ بكت عليه. وبينما هي تبسط كفه بالإعطاء إذ بسطتها بالاسترداد. تعقد التاج على رأس صاحبها اليوم وتعفره بالتراب غدًا. سواء عليها ذهاب ما ذهب وبقاء ما بقي تجد في الباقي من الذاهب خلفًا وترضى بكل بدلاً. شِعْرًا: ... بِأَمْرِ دُنْيَاكَ لا تَغْفَلْ وَكُنْ حَذِرًا ... فَقَدْ أَبَانَتْ لأَرْبَابِ النُّهَى عِبرا فَأَيُّ عَيْشٍ بِهَا مَا شَابَهَ غَيْرٌ ... وَأَيُّ صَفْوٍ تَنَاهَى لَمْ يَصِرْ كَدَرا كَمْ سَالَمٍ أَسْلَمْتَهُ لِلرَّدَى فَقَضَى ... حَتْفًا وَلَمْ يَقْضِ مِنْ لَذَّتِهَا وَطَرا

حث على اغتنام أوقات العمر

وَمُتْرَف قَلَبْت ظَهْرا الْمَجَنِّ لَهُ ... فَعَادَ بَعْدَ عُلُو الْقَدْرِ مًحْتَقَرا فَأَبَعْدَنْهَا وَلا تَحْفَلْ بِزُخْرُفْهَا ... وَغُضْ طَرْفَكَ عَنْهُ قَلَّ أَوْ كَثُرا فَكُلُّ شَيْءٍ تَرَاهُ الْعَيْنُ مِنْ حَسَنٍ ... كَرُ الأَهِلَّةِ لا يُبْقِي لَهُ أَثَرَا وَاصْحَبْ وَصِلّ وَوَاصِلْ كُلَّ أَونَةٍ ... عَلَى النَّبِيِّ سَلامًا طَيِّبًا عَطِرا وَصَحْبِهِ وَمَنِ اسْتَهْدِي بِهَدْيِهُمُوا ... فَهُمْ أَئِمْة مِنْ صَلَى وَمَنْ ذَكَرا ثم علم أيها الأخ أن من بورك له في عمره أدرك في يسير الزمن من منن الله ما لا يدخل تحت دوائر العبارة. فبركة العمر أن يرزق الله العبد من الفطنة واليقظة ما يحمله على الجد والاجتهاد على اغتنام أوقات عمره وانتهاز فرصة إمكانه. فيبادر إلى الأعمال القلبية والأعمال البدنية ويستفرغ في ذلك مجهوده بالكلية وكل ذلك في عمره قصير وزمن يسير. والخذلان كل الخذلان أن تتفرغ من الشواغل ثم لا تتوجه إلى الله جل وعلا. ومن الخذلان أيضًا أن تصدق العوائق والشواغل عن التوجه إلى الله تعالى. والواجب عليك أن تبادر إلى التوجه إلى الله بالأعمال الصالحة وأن ترمي بالعوائق والشواغل خلف ظهرك. شِعْرًا: مَضَى أَمْسُكَ الْمَاضِي عَلَيْكَ مُعَدِّلا ... وَأَصْبَحْتَ فِي يَوْمٍ عَلَيْكَ جَدِيدُ فَإِنْ كُنْتَ بِالأَمْسِ اقْتَرَفْتَ جِنَايَةً ... فَثَنِّي بِإِحْسَانٍ وَأَنْتَ حَمِيدُ وَلا تَرْجُ فَعْلَ الصَّالِحَاتِ إِلَى غَدٍ ... لَعَلَّ غَدًا يَأْتِي وَأَنْتَ فَقِيدُ وقد قيل سيروا إلى الله عرجًا ومكاسير ولا تنتظروا الصحة فإن انتظار الصحة بطالة والعاقل من بادر إلى الأعمال الصالحة قال الشاعر حاثًا على اغتنام الوقت:

وَخُذْ مِنْ قَرِيبٍ وَاسْتَجِبْ وَاجْتَنِبْ غَدًا ... وَشَمِّرْ عَنْ السَّاقِ اجْتِهَادًا بِنَهْضَةِ وَكُنْ صَارِمًا كَالْوَقْتِ فَالْمَقْتُ فِي عَسَى ... وَإِيَّاكَ مَهْلاً فَهِيَ أَخْطَرُ عِلَّةِ وَسِرْ زَمَنًا وَانْهَضْ كَسِيرًا فَحَظُّكَ الْ ... بَطَالَةُ مَا أَخَّرْتَ عَزْمًا لِصِحَّةِ وَجُذَّ بِسَيْفِ الْعَزْمِ سَوْفَ فَإِنْ تَجُدْ ... تَجِدْ نَفْسًا فَالنَّفْسُ إِنْ جُدْتَ جَدَّتِ ثم أعلم أيها الأخ الحريص على حفظ وقته عن الضياع أنه إن قلت أشغالك وقلت عوائقك ثم قعدت عن الجد والاجتهاد فيما يقربك إلى الله من أنواع الطاعات أن هذا هو الخذلان أعاذنا الله منه. ففراغ القلب من الأشغال نعمة عظيمة لمن وفقه الله اغتنامها فصرفها في الباقيات الصالحات والويل لمن كفر هذه النعمة بان فتح على نفسه باب الهوى وانجر في قياد الشهوات. قال - صلى الله عليه وسلم -: «بادروا بالأعمال سبعًا هل تنتظرون إلا فقرا منسيَا أو غني مضغيَا أو مرضًا مفسدا أو هرمًا مفندَا أو موتًا مجهزَا أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمر» . وقال بعضهم: الفكرة سراج القلب فإذا ذهبت فلا إضاءة له فالقلب الخالي من الفكرة خالي من النور مظلم بوجود الجهل والغرور. ففكر الزاهدين في فناء الدنيا واضمحلالها وقلة وفائها لطلابها فيزدادون بالفكر زهدًا فيها. وفكر العابدين في جميل الثواب فيزدادون نشاطًا عليه ورغبة فيه. وفكر العارفين في الآلاء والنعماء فيزدادون نشاطًا في جميع أنواع العبادة ويذدادون محبة لله وشكرًا له وحمدًا على نعمه التي لا تعد ولا تحصى قال جل وعلا وتقدس: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا} شِعْرًا: ... مَا لِي أَرَاكَ عَلَى الذُّنُوبِ مُوَاظِبَا ... أَأَخَذْتَ مِنْ سُوءِ الْحِسَابِ أَمَانَا لا تَغْفَلَنَّ كَأَنَّ يَوْمَكَ قَدْ أَتَى ... وَلَعَلَّ عُمْرُكَ قَدْ دَنَا أَوْ حَانَا وَمَضَى الْحَبِيبُ لِحَفْرِ قَبْرِكَ مُسْرِعًا ... وَأَتَى الصَّدِيقُ فَأَنْذَرَ الْجِيرَانَا

ليس ذكر الموت النافع أن يقول الإنسان الموت فقط

وَأَتوا بِغَسَّال وَجَاءُوا نَحْوَهُ ... وَبَدَا بِغَسْلِكَ مَيِّتًا عُرْيَانَا فَغُسلْتَ ثُمَّ كُسِتْتَ ثَوْبًا لِلْبَلَى ... وَدَعُوا لِحَمْلِ سَرِيرَكِ الإِخْوَانَا وَأَتَاكَ أَهْلَكَ لِلْوَدَاعِ فَوَدّعُوا ... وَجَتْ عَلَيْهِمَ دُمُوعَهُمْ غُدْرَانَا فَخَفِ الإِلَهَ فَإِنَّهُ مَنْ خَافَهُ ... سَكَنَ الْجِنَانُ مُجَاوِرًا رِضْوَانَا جَنَّاتِ عَدْنٍ لا يَبِيدُ نَعِيمُهَا ... أَبَدًا يُخَالَطُ رُوحَهُ رَيْحَانَا وَلِمَنْ عَصَى نَارًا يُقَالُ لَهَا لَظَى ... تَشْوِي الْوُجُوهَ وَتُحْرِقُ الأَبْدَانَا نَبْكِي وَحَقّ لَنَا الْبُكَى يَا قَوْمَنَا ... كَيْ لا يُؤَاخِذُنَا بِمَا قَدْ كَانَا (فَصْلٌ) ثم اعلم أنه ليس ذكر الموت النافع هو أن يقول الموت فقط فإن هذا قليل الفائدة بل لا بد مع ذلك من تفكر بقلب فارغ عن الشهوات واستحضار لحاله عند الموت وأهواله وشدائده وسكراته ويتفكر في شدة النزع والألم الذي يعانيه عند خروج الروح من البدن أعاننا الله على ذلك وجميع المسلمين. حتى قالوا: إنه أشد من الضرب بالسيف ونشر بالمناشير وقرض بالمقاريض لأنه يهجم على الإنسان ويستغرق جميع أجزائه من كل عرق من العروق وعصب من الأعصاب وجزء من الأجزاء ومفصل من المفاصل ومن أصل كل شعرة وبشرة من المفرق إلى القدم ليستل الروح منها. فلا تسأل عن كربه وألمه ولذلك لا يقدر على الصياح مع شدة الألم لزيادة الكرب حيث قهر كل قوة وضعف كل جارحة فلم يبق له قوة الاستغاثة أما العقل فقد غشيه وشوشه. وأما اللسان فقد حجزه وأبكمه والأطراف فقد ضعفها ووهنها وخدرها فإن بقيت فيه قوة سمعت له عند نزع الروح وجذبها خوارًا وغرغرة من حلقه وصدره وقد تغير لونه واربد وجهه حتى كأنه ظهر من التراب الذي هو أصله. وقد جذب منه كل عرق على حدته فالألم منتشر في داخله وخارجه حتى

ترتفع الحدقتان إلى أعالي أجفانه. وتتقلص الشفتان ويتقلص اللسان وتخضر أنامله فلا تسأل عن بدن يجذب منه كل عرق من عروقه. ثم يموت كل عضو من أعضائه تدريجًا فتبرد أولاً قدماه ثم ساقاه ثم فخذاه ولكل عضو سكرة بعد سكرة وكربة بعد كربة حتى يبلغ بها إلى الحلقوم فعند ذلك ينقطع عن الدنيا وأهلها وتعظم حسرة المفرط ويندم حيث لا ينفعه الندم. هَوُ الْمَوْتُ لا مَنْجَى مِنَ الْمَوْتِ وَالَّذِي ... نُحَاذِرُ بَعْدَ الْمَوْتِ أَدْهَى وَأَفْظَعُ آخر: ... دَعْ عَنْكَ مَا قَدْ كَانَ فِي زَمَنِ الصِّبَا ... وَاذْكُرْ ذُنُوبَكَ وَابْكِهَا يَا مُذْنِبٌ وَاذْكُرْ مُنَاقَشَةِ الْحِسَابِ فَإِنَّهُ ... لا بُدَّ يُحْصِي مَا جَنَيْتَ وَيُكْتَبُ لَمْ يَنْسَهُ الْمَلَكَانِ حِيْنَ نَسِيتَهُ ... بَلْ أَثْبَتْاهَ وَأَنْتَ لاهٍ تَلْعَبُ وَالرُّوحُ فِيكَ وَدِيعَةٌ أَوْدَعْتَهَا ... سَتُرْدِهَا بِالْغُرْمِ مِنْكَ وَتُسْلَبُ وَغَرُورُ دُنْيَاكَ الَّتِي تَسْعَى لَهَا ... دَارٌ حَقِيقَتُهَا مَتَاعٌ يَذْهَبُ وَالليْلُ فَاعْلَمْ وَالنَّهَارُ كِلاهُمَا ... أَنْفَاسُنَا فِيهَا تُعَدُّ وَتُحْسَبُ وَجَمِيعُ مَا خَلَّفْتُهُ وَجَمَعْتُهُ ... حَقَّا يَقِينًا بَعْدَ مَوْتِكَ يُنْهَبُ تَبًا لِدَارٍ لا يَدُومُ نَعِيمُهَا ... وَمُشَيِّدُهَا عَمَّا قَلِيلٍ يَخْرُبُ وَعَوَاقِبُ الأَيَّام فِي غُصَاتِهَا ... مَضَضٌ يذلُّ لَهَا الأَعَزُّ الأَنْجَبُ فَعَلَيْكَ تَقْوَى اللهِ فَالْزَمْهَا تَفُزْ ... إِنَّ التَّقِيَّ هُوَ الْبَهِيُّ الأَهْيَبُ وَاعْمَلْ بِطَاعَتِهِ تَنَلْ مِنْهُ الرِّضَا ... إِنَّ الْمُطِيعَ لَهُ لَدَيْهُ مُقَرَّبُ وَاقْنَعْ فِفِي بَعْضِ الْقَنَاعَةِ رَاحَةٌ ... وَالْيَأْسُ مِمَّا فَاتَ فَهُوَ الْمَطْلَبُ وَاخْتَرْ قَرِينَكَ وَاصْطَفيه تَفَاخُرًا ... إِنَّ الْقَرِينَ إِلَى الْمُقَارِنُ يُنْسَبُ َدَعْ الْكَذُوبَ فَلا يَكُنْ لَكَ صَاحِبًا ... إِنَّ الْكَذُوبَ لَبِئْسَ خَلا يَصْحَبُ وَاحْفَظْ لِسَانَكَ وَاحْتَرِزْ مِنْ لَفْظِهِ ... فَالْمَرْءُ يَسْلَمُ بِاللِّسَانُ وَيُعْطَبُ وَزِنِ الْكَلامَ إِذَا نَطَقْتَ وَلا تَكُنْ ... ثِرْثَارَةً فِي كُلِّ نَادٍ تَخْطُبُ

مما يعين على الاستعداد للموت، وما حول ذلك

وَارْعَ الأَمَانَةَ وَالْخِيَانَةَ فَاجْتَنِبْ ... وَاعْدِلْ وَلا تَظْلِمْ يَطِيبُ الْمَكْسَبُ وَاحْذَرْ مُصَاحَبَةِ اللَّئِيم فَإِنَّهُ ... يُعْدِي كَمَا يُعْدِي الصَّحِيحَ الأَجْرَبُ وَاحْذَرْ مِنْ الْمَظْلُومِ سَهْمًا صَائِبًا ... وَاعْلَمْ بِأَنَّ دُعَاءَهُ لا يُحْجَبُ فَاحْفَظْ هُدِيتَ نَصِيحَةً أَوْلاكَهَا ... بَرٌّ نَصُوحٌ لِلأَنَامِ مُجَرَّبٌ صَحِبَ الزَّمَان وَأَهْلهُ مُسْتَبْصِرًا ... وَرَأَى الأُمُورَ وَمَا تَؤُوبُ وَتَعْقَبُ اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة واجعلنا ممن كتبت لهم الحسنى وزيادة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) ومما يعين على الاستعداد للموت ذكر مرارته كما فهمته مما سبق ومما يأتي وقد سماه - صلى الله عليه وسلم - هاذم اللذات وتفكر في الموتى الذين حبسوا على أعمالهم ليجازوا بها فليس فيهم من يقدر على محو خطيئة ولا على زيادة حسنة. ولو قلت لهم: تمنوا وأنطقهم الله لقالوا: نرد إلى الدنيا لنعمل بطاعة الله لا يريدون ذهبًا ولا فضةً ولا بستانًا ولا فلةً ولا عمارة. ولتعجب منا ومن حالنا وتفريطنا وانهماكنا في الدنيا. ومما يعين على الاستعداد للموت أيضًا ذكر الموت من فتنة القبر وعذابه أو نعيمه والبعث والحشر والحساب والصراط والميزان والحوض والشفاعة والجنة والنار وما أعد الله لأهلهما أجمالاً وتفصيلاً. مر رجل على رجل جالسًا في المقابر فقال ما أجلسك هنا فقال: يَشْتَاقُ كُلُّ غَرِيبٍ عَنْدَ غُرْبَتِهِ ... وَيَذْكُرُ الأَهْلَ وَالْجِيرَانَ وَالسَّكَنَا وَلَيْسَ لِي وَطَنٌ أَمْسَيْتُ أَذْكُرُهُ ... إِلا الْمَقَابِرَ إِذْ كَانَتْ لَهُمْ وَطَنًا شِعْرًا: ... مَا زِلْتُ أَفْجَعُ بِالأَحِبَّةِ كُلُّهُمْ ... وَفَنَاءُ نَفْسِي فِي الْحَقِيقَةِ أَفْجَعُ فَوَدِّعْ خَلِيلَ النَّفْسِ قَبْلَ فُرَاقِهِ ... فَمَا النَّاسُ إِلا ظَاعِن وَمُوَدَّعُ

آخر: ... أَبْقَيْتُ مَالَكَ مِيرَاثًا لِوَارِثِهِ ... فَلَيْتَ شِعْرِي مَا أُبْقِي لَكَ الْمَال الْقَومُ بَعْدَكَ فِي حَالٍ تَسُرُّهُمْ ... فَكَيْفَ بَعْدَهُمْ حَالَتْ بِكَ الْحَالُ مَالُوا لِبُكَاءٍ فَمَا يَبْكِيكَ مِنْ أَحَدٍ ... وَاسْتَحْكَمْ الْقِيلَ فِي الْمِيرَاثِ وَالْقَال آخر: ... اشَتْاقُ أَهْلِي وَأَوْطَانِي وَقَدْ مَلَكْتُ ... دُونِي وَأَفْنَى الرَّدَى أَهْلِي وَأَحْبَابِي فَاسْتَرِيحُ إِلَى رُؤْيَا الْقُبورِ فَفِي ... أَمْثَالِهَا حَلَّ إِخْوَانِي وَأَتْرَابِي وَلَسْتُ أَحْيَا حَيَاةً أَسْتَلَذُّ بِهَا ... مِنْ بَعْدِهِمْ وَلِحَاقُ الْقَوْمِ أَوْلَى بِي آخر: ... خَلَتْ دُورُهُمْ مَنْهُمْ وَأَقْوت عراصهم ... وَسَاقَهُمْ نَحْوَ الْمَنَايَا الْمَقَادِر وَخَلُوا عَنِ الدُّنْيَا وَمَا جَمَعُوا لَهَا ... وَضَمَّهُمْ تَحْتَ التُّرَاب الْحَفَائِر آخر: ... وَفِي ذَكْرِ هَوْلِ الْمَوْت وَالْقَبْرِ وَالْبَلَى ... عَنِ اللَّهْوِ وَاللَّذَاتِ لِلْمَرِءِ زَاجِرُ أَبَعْدَ اقْتِرَابُ الأَرْبَعِينَ تَرَبُّصُ ... وَشَيْبُ قَذَالٍ مُنْذِرٌ لِلأَكَابِرُ كَأَنَّكَ مَعْنِيٌّ بِمَا هُوَ ضَائِرُ ... لِنَفْسِكَ عَمْدًا أَوْ عَنِ الرُّشْدِ حَائِرُ آخر: ... إِنَّ اللَّيَالِي مِنْ أَخْلاقِهَا الْكَدَرُ ... وَإِنْ بَدَا لَكَ مِنْهَا مَنْظَرُ نَظَر فَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مَمَّا تَغُر بِهِ ... إِنْ كَانَ يَنْفَعُ مِنْ غَرَّاتِهَا الْحَذَرُ قَدْ أَسْمَعْتُكَ اللَّيَالِي مِنْ حَوَادِثِهَا ... مَا فِيهِ رُشْدُكَ لَكِنْ لَسْتَ تَعْتَبِرُ يَا مَنْ يَغُرُّ بِدُنْيَاهُ وَزُخْرُفِهَا ... تالله يُوشِكُ أَنْ يُودِي بِكَ الْغَرَرُ وَيَا مُدلا بِحُسْنِ رَاق مَنْظَرُهُ ... لِلْقَبْرِ وَيْحَكَ هَذَا الدَّالُ وَالْفَخَرُ تَهْوَى الْحَيَاةَ وَلا تَرْضَى تُفَارِقُهَا ... كَمَنْ يُحَاوِلُ وردًا مَا لَهُ صَدَرُ كُلُّ امْرِئٍ صَائِرٌ حَتْمًا إِلَى جَدَثٍ ... وَإِنْ أَطَالَ مَدَى آمَاله الْعُمُرُ آخر: قُلْ لِلَّذِي فَقَدَ الأَحِبَّةَ وَانْثَنَى ... يَسْقِي دِيَارَهُمْ دُمُوعًا تَسْجُمُ مَاذَا وُقُوفُكَ فِي الدِّيَارِ مُسَائِلاً ... عَنْ أَهْلِهَا وَمَتَى يُجِيبُ الأَبْكَمُ

سَلْ عَنْهُمْ صَرْفَ الزَّمَان فَإِنَّهُ ... بِهِمْ مِنَ الدَّارِ الْمُحِيلَة أَعْلَمُ أَفْنَاهُمْ رَيْبَ الزَّمَان وَهَذِهِ ... آثَارَهُمْ عِظَةٌ لَمَنْ يَتَوَسَّمُ وَإِذَا رَأَيْتَ مُحَسَّدَيْنَ فَقَلَّمَا ... تَرْجِيهُمْ الأَحْدَاثُ حَتَّى يَرْحَمُوا وَتَرَى تَقَلُّبُ هَذِهِ الدًّنْيَا بِنَا ... وَكَأَنَّنَا فِيهَا سُكَارَى نَوَّمُ آخر: ... وَلَمَّا مَرَرْنَا بِالدِّيَارِ الَّتِي خَلَتْ ... فَهُنَّ لِفُقْدَانِ الأَنِيسِ نَوَاحِلُ فَإِشْرَاقُهَا بَعْد الَّذِينَ تَحَمَّلُوا ... ظَلامَ وَضَحْوَاتُ النَّهَارِ أَصَائِلُ أَثَارَ الْجَوَى عِرْفَانَهَا وَتَبَادَرَتْ ... عَلَى أَهْلِهَا مِنَّا الدُّمُوع الْهَوَامِلُ أخرج الطيالسي وابن أبي شيبة في المصنف وأحمد بن حنبل وهناد بن السري في الزهد وعبد بن حميد وأبو داود وابن جرير وابن أبي حاتم وصححه والحاكم وصححه والبيهقي في كتاب عذاب القبر عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلسنا حوله وكأن على رؤوسنا الطير وفي يده عود ينكت به في الأرض فرفع رأسه فقال: «استعيذوا بالله من عذاب القبر» . مرتين أو ثلاثًا. ثم قال: «إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر. ويجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها فإذا أخذها لم يدعها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على الأرض.

فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء التي تليها حتى ينتهوا إلى السماء السابعة فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى. قال: فتعاد روحه فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله؟ فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فيقولان له: وما عملك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت. فينادي مناد أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابًا إلى الجنة فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد البصر. قال: ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول: من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح. فيقول: رب أقم الساعة حتى لأرجع إلى أهلي ومالي. قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة أخرجي إلى سخط من الله وغضب. قال: فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح. ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان

ابن فلان بأقبح أسمائه التي مكان يسمي بها في الدنيا حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} . فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى فتطرح روحه طرحًا ثم قرأ: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول هاه هاه لا أدري. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي فأفرشوه من النار وافتحوا له بابًا إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ويأتيه رجل قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوءك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول: من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث. فيقول: رب لا تقم الساعة» . شِعْرًا: ... لا تَحْسَبَنَّ الْمَوْتَ مَوْتَ الْبِلَى ... لَكِنَّمَا الْمَوْتُ هُوَ الْكُفْرُ بِاللهْ كِلاهُمَا مَوْتٌ وَلَكِنَّ ذَا ... أَعْظَمُ مِنْ ذَاكَ لِجَحْدِهِ اللهْ آخر: ... وَإِنِّي وَأَهْلِي وَالَّذِي قَدَّمَتْ يَدِي ... كَدَاعٍ إِلَيْهِ صَحْبَهُ ثُمَّ قَائِلِ لأَصْحَابِهِ إِذْ هُمْ ثَلاثَةُ إِخْوَةٍ ... أَعِينُوا عَلَى أَمْرٍ بِيَ الْيَوْمَ نَازِلِ فِرَاقٌ طَوِيلٌ غَيْرَ ذِي مَثْنَوِيَّةٍ ... فَمَاذَا لَدَيْكُمْ بِالَّذِي هُوَ غَائِلِ فَقَالَ امْرِئٌ مِنْهُمْ أَنَا الصَّاحِبُ الَّذِي ... أَطَعْتُكَ فِيمَا شِئْتَ قَبْلَ التَّزَايُلِ فَأَمَّا إِذَا جَدَّ الْفِرَاقُ فَإِنَّنِي ... لِمَا بَيْنَنَا مِنْ خُلَّةٍ غَيْرُ وَاصِلِ أَمُدُّكَ أَحْيَانًا فَلا تَسْتَطِيعُنِي ... كَذَلِكَ أَحْيَانَا صُرُوفُ التَّدَاوُلِ فَخُذْ مَا أَرَدْتَ الآنَ مِنِّي فَإِنَّنِي ... سَيُسْلِكُ بِي مِنْ مَهِيلٍ مِنْ مَهَايِلِ وَإِنْ تُبْقِنِي لا تَبْقَ فَافْهَمْ مَقَالَتِي ... وَعَجِّلْ صَلاحًا قَبْلَ حَتْفِ مُعَاجِلِ

وَقَالَ امْرِؤٌ قَدْ كُنْتُ جِدًّا أُحِبُّهُ ... فَأُوثِرُهُ مِنْ بَيْنِهِمْ بِالتَّفَاضُلِ غِنَائِيَ أَنِّي جَاهِدٌ لَكَ نَاصِحٌ ... إِذَا جَدَّ جِدُّ الْكَرْبِ غَيْرَ مُقَاتِلِ وَلَكِنَّنِي بَاكٍ عَلَيْكَ وَمَعُولٌ ... وَمُثْنٍ بِخَيْرٍ عِنْدَ مَنْ هُوَ سَائِلِ وَمُتَّبَعُ الْمَاشِينَ أَمْشِي مُشَيِّعًا ... أَعِينُ بِرِفْقٍ عُقْبَةً كُلَّ حَامِلِ إِلَى بَيْتِ مَثْوَاكَ الَّذِي أَنْتَ مُدْخَلٌ ... وَحِينَئِذٍ أَرْجِعْ بِمَا هُوَ شَاغِلِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ خُلَّةٌ ... وَلا حُسْنُ وُدٍّ مَرَّةً فِي التَّبَادُلِ وَذَلِكَ أَهْلُ الْمَرْءِ ذَاكَ غِنَاؤُهُمْ ... وَلَيْسُوا وَإِنْ كَانُوا حِرَاصًا بِطَائِلِ وَقَالَ امْرِؤٌ مِنْهُمْ أَنَا الأَخُّ لا تَرَى ... أَخًا لَكَ مِثْلِي عِنْدَ جَهْدِ الزَّلازِلِ لَدَى الْقَبْرِ تَلْقَانِي هُنَالِكَ قَاعِدًا ... أُجَادِلُ عَنْكَ فِي رِجَاعِ التَّجَادُلِ وَأَقْعُدُ يَوْمَ الْوَزْنِ فِي الْكَفَّةِ الَّتِي ... تَكُونُ عَلَيْهَا جَاهِدًا فِي التَّثَاقُلِ فَلا تَنْسَنِي وَاعْلَمْ مَكَانِي فَإِنَّنِي ... عَلَيْكَ شَفِيقٌ نَاصِحٌ غَيْرَ خَاذِلِ وَذَلِكَ مَا قَدَّمْتَ مِنْ صَالِحٍ غَدًا ... تُلاقِيهِ إِنْ أَحْسَنْتَ يَوْمَ التَّفَاضُلِ اللهم اجعلنا بتذكيرك منتفعين ولكتابك ورسولك متبعين وعلى طاعتك مجتمعين وتوفنا ربنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى وآله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) في صحيح أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا قبر أحدكم أو الإنسان أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما المنكر، وللآخر النكير، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، فهو قائل ما كان يقول.

فإن كان مؤمنًا قال: هو عبد الله ورسوله أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله فيقولان له: كنا نعلم أنك تقول ذلك، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعًا، وينور له فيه. ويقال له: نم فيقول: أرجع إلى أهلي ومالي فأخبرهم. فيقولان له: نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك. وإن كان منافقًا قال: لا أدري كنت أسمع الناس يقولون شيئًا فكنت أقوله. فيقولان له: كنا نعلم أنك تقول ذلك. ثم يقال للأرض التئمي عليه، فتلتئم عليه حتى تختلف أضلاعه، فلا يزال معذبًا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك» . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا احتضر المؤمن أتته الملائكة بحريرة بيضاء، فيقولون: أخرجي أيتها الروح الطيبة راضية مرضيًا عنك إلى روح وريحان ورب غير غضبان. فتخرج كأطيب من ريح المسك، حتى إنه ليناوله بعضهم بعضًا حتى يأتون به السماء، فيقولون: ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض. فيأتون به أرواح المؤمنين، فهم أشد فرحًا به من أحدكم بغائبه يقدم عليه، فيسألونه ماذا فعل فلان قال: فيقولون دعوة يستريح فإنه كان في غم الدنيا فإذا قال: أما أتاكم قالوا ذهب به إلى أمه الهاوية. وإن الكافر إذا احتضر أتته ملائكة العذاب بمسح فيقولون: أخرجي ساخطة مسخوطًا عليك إلى عذاب الله عز وجل فتخرج كأنتن ريح جيفة حتى يأتون بها باب الأرض فيقولون: فما أنتن هذه الريح حتى يأتون بها أرواح الكفار. وأخرجه أبو حاتم في صحيحه وقال: إن المؤمن إذا حضره الموت حظرته

ملائكة الرحمة، فإذا قبض جعلت روحه في حريرة بيضاء، فينطلق بها إلى باب السماء، فيقولون: ما وجدنا ريحًا أطيب من هذه. فيقال: ما فعل فلان ما فعلت فلانة، فيقال: دعوه يستريح فإنه كان في غم الدنيا. وأما الكافر إذا قبضت نفسه، ذهب بها إلى الأرض، فتقول خزنة الأرض: ما وجدنا ريحًا أنتن من هذه. فيبلغ به إلى الأرض السفلى. وروى النسائي في سننه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «هذا الذي تحرك له العرش، وفتحت له أبواب السماء وشهد له سبعون ألفًا من الملائكة لقد ضم ضمة ثم فرج عنه» . قال النسائي: يعني سعد بن معاذ. وقال هناد بن السري: حدثنا محمد بن فضيل عن أبيه عن ابن أبي مليكة، قال: ما أجير أحد من ضغطة القبر، ولا سعد ابن معاذ الذي منديل من مناديله خير من الدنيا وما فيها. قال: وحدثنا عبده بن عبيد الله بن عمر عن نافع قال: لقد بلغني أنه شهد جنازة سعد بن معاذ سبعون ألف ملك، لم ينزلوا إلى الأرض قط، ولقد بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لقد ضم صاحبكم في القبر ضمة» . وقيل فيه رضي الله عنه شِعْرًا: وَمَا اهْتَزَّ عَرْشُ اللهِ مِنْ أَجْلِ هَالِك ... سَمِعْنَا بِهِ إِلا لِسَعْد أَبِي عَمْرِو وورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دفن ابنته جلس عند القبر فتربد وجهه. ثم سري عنه فقال له أصحابه: رأينا وجهك آنفًا ثم سري فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ذكرت ابنتي وضعفها وعذاب القبر فدعوت الله ففرج عنها ويم الله لقد ضمت ضمة سمعها من بين الخافقين» . وروي عن إبراهيم الغني عن رجل قال: كنت عند عائشة رضي الله

عنها فمرت جنازة صبي فبكت فقلت لها: ما يبكيك يا أم المؤمنين؟ فقالت: هذا الصبي بكيت له شفقة عليه من ضمة القبر. شِعْرًا: ... وَتَقْبِضُ كَفَّ الطِّفْل عِنْدَ وِلادَةٍ ... دَلِيلٌ عَلَى الْحِرْصِ الْمُرَكَّب فِي الْحَيِّ وَبَسْطُ يَدَا الإِنْسَانُ عِنْدَ مَمَاتِهِ ... دَلِيلٌ عَلَى أَنِّي خَرَجْتُ بِلا شَيْءِ يَا بَاكِيَ الأَمْوَات إِنَّكَ مَيِّتٌ ... فَاجْعَلْ بُكَاءَكَ إِنْ بَكِيتَ عَلَيْكَا لا تَبْكِ غَيْرَكَ وَابْكِ نَفْسَكَ إِنَّهَا ... أَوْلَى النُّفُوسِ بِذَاكَ مِنْ عَيْنَيْكَا آخر: ... تَمُرُّ لَدَاتِي وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ ... وَأَعْلَمُ أَنِّي بَعْدُهُمْ غَيْرَ خَالِدِ وَأَحْمِلُ مَوْتَاهُمْ وَأَشْهَدُ دَفْنَهُمْ ... كَأَنِّي بَعِيدٌ مِنْهُمْ غَيْرَ شَاهِدِ فَهَا أَنَا فِي عِلْمِي بِهِمْ وَجَهَالَتِي ... كَمُسْتَيْقِظُ يَرْنُو بِقلة رَاقِدِ! آخر: ... طَوَى الْمَوْتُ مَا بَيْنِي وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ ... وَلَيْسَ لَمَا تَطْوِي الْمَنِيَّةِ نَاشِرُ لَئِنْ أَوْحَشْتَ مِمَّنْ أُحِبُّ مَنَازِلُ ... لَقَدْ أنست ممن أحب الْمَقَابِرُ وَكُنْتُ أَحْذَرُ الْمَوْتَ وَحْدَهُ ... فَلَمْ يَبْقَ لِي شَيْءٌ عَلَيْهُ أُحَاذِرُ آخر: ... أَيَا آمَن الأَقْدَارُ صَرْفَهَا ... وَاعْلَمْ بِأَنَّ الطَّالِبِينَ حَثاث خُذْ مِنْ تُرَاثِكَ مَا اسْتَطَعْتَ فَإِنَّمَا ... شُرَكَاؤُكَ الأَيْام وَالْوَارِثُ مَالِي إِلَى الدُّنْيَا الْغَرُورَة حَاجَة ... فَلْيخز سَاحِرُ كَيْدِهَا النَّفَاثُ طَلَّقْتُهَا أَلْفًا لأَحْسِمَ دَاءَهَا ... وَطَلاق مِنْ عَزَمَ الطَّلاقَ ثَلاثُ سَكَنَاتُهَا مَحْذُورَة وَعُهُودَهَا ... مَنْقُوضَة وَحِبَالُهَا أَنْكَاثُ إِنِّي لأَعْجَبُ مِنْ رِجَالٍ امْسَكُوا ... بِحَبَائِل الدُّنْيَا وَهُنَّ رِثَاثُ كَنَزُوا الْكُنُوزَ وَأَغْفَلُوا شَهَوَاتَهُمْ ... فَالأَرْضُ تَشْبَعُ وَالْبُطُونُ غِرَاثُ أَتَرَاهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ التُّقَى ... أَزْوَادُنَا وَدِيَارُنَا الأَجْدَاثُ؟ اللهم سلمنا شرور أنفسنا التي هي أقرب أعدائنا وأعذنا من عدوك

موعظة على الحث في اغتنام الطاعات

واعصمنا من الهوى ومن فتنة الدنيا ومكن محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وفرح قلوبنا بالنظر إلى وجهك الكريم في جنات النعيم واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (موعظة) عباد الله اغتنموا الطاعات فأيام المواسم معدودة وانتهزوا فرض الأوقات فساعات الإسعاد محدودة وجدوا في طلب الخيرات فمناهل الرضوان مورودة وقوموا على قدم السداد واتقوا الله الذي إليه تحشرون. وكونوا من الذين يدعون ربهم خوفًا وطمعًا ومما رزقهم ينفقون قال تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ * َمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . فيا سعادة أولى الطاعات الذين اجتباهم مولاهم لدار السلام واصطفاهم لحظيرة قدسه وأوردهم مناهل الإنعام وأولاهم حلاوة الأنس ووالاهم بمواهب الإكرام وسقاهم من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. ويا مسرة من شاهد معالم الرشد فسلك مسالكه وكان من المستبشرين الذين يوم القيامة وجوهم مسفرة ضاحكة لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون. فتدبروا عباد الله الأمر وانظروا بعين الناقد البصير وتذكروا العرض يوم الفزع الأكبر بين يدي رب العالمين العليم الخبير واعلموا أن الظالمين ما لهم

ما ينبغي لمن أيس من حياته

من ولي ولا نصير (يوم يقال) : {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} . أَلا يَا نَفْسُ هَلْ لَكَ فِي صِيَامٍ ... عَنِ الدُّنْيَا لَعَلَّكَ تَهْتَدِينَا يَكُونُ الْفِطْرِ وَقْتُ الْمَوْتِ مِنْهَا ... لَعَلَّكِ عِنْدَهُ تَسْتَبْشِرِينَا أَجِبِينِي هُدِيتَ وَأَسْعِفِينِي ... لَعَلَّكِ فِي الْجَنَانِ تُخَلَّدِينَا شِعْرًا: لا تَبْكِ لِلدُّنْيَا وَلا أَهْلِهَا ... وَابْكِ لِيَوْمٍ تَسْكُنِ الْحَافِرَةْ وَابْكِ إِذَا صِيحَ بِأَهْلِ الثَّرَى ... فَاجْتَمِعُوا فِي سَاعَةِ السَّاهِرَةْ وَيْلَكِ يَا دُنْيَا لَقَدْ قَصَّرَتْ ... آمَالُ مَنْ يَسْكُنُكِ الآخِرَةْ آخر: ... وَاذْكُرْ مُنَاقَشَةِ الْحِسَابِ فَإِنَّهُ ... لا بُدَّ يُحْصَى مَا جَنَيْتَ وَيُكْتَبُ لَمْ يَنْسَهُ الْمَلَكَانِ حِينَ نَسِيتَهُ ... بَلْ أَثْبَتَاهُ وَأَنْتَ لاهٍ تَلْعَبُ اللهم ثبت محبتك في قلوبنا ثبوت الجبال الراسيات واشرح صدرنا ويسر أمورنا وألهمنا ذكرك وشكرك واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) إذا فهمت ذلك فاعلم أنه ينبغي لمن آيس من حياته بل يستحب له بتأكد أن يكثر من قراءة القرآن والأذكار ويكره له الجزع وسوء الخلق والشتم والمخاصمة والمنازعة في غير الأمور الدينية في الدفاع عنها ويستحب أن يكون شاكرًا لله تعالى بقلبه ولسانه ويستحضر في ذهنه أن هذا آخر أو فاته من الدنيا فيجتهد على ختمها بخير ويكثر من قول لا إله إلا الله.

ما ينبغي إذا حضره الموت وبدأت تسحب الروح من الجسد

ويبادر إلى أداء الحقوق إلى أهلها من رد المظالم والعواري والودائع والغصوب ويستحل أهله وزوجته ووالديه وأولاده وغلمانه وجيرانه وأصدقائه وزملاءه وكل من كانت بينه وبينه معاملة أو مصاحبة في سفر أو غيره أو له تعلق بشيء. وأخرج البيهقي وابن عساكر عن عبادة بن محمد بن عبادة ابن الصامت قال: لما حضرت عبادة رضي الله عنه الوفاة قال: أخرجوا إلي موالي وخدمي وجيراني ومن كان يدخل علي فجمعوا له فقال: إن يومي هذا لا أراه إلا آخر يوم يأتي علي من الدنيا وأول ليلة من الآخرة. وإني لا أدري لعله قد فرط مني إليكم بيدي أو بلساني شيء وهو والذي نفسي بيده القصاص يوم القيامة وأحرج إلى أحد منكم في نفسه شيء من ذلك إلا اقتص مني من قبل أن تخرج نفسي فقالوا: بل كنت والدًا وكنت مؤدبًا. قال: وما قال لخادم سواء قط فقال: أعفوتم ما كان من ذلك. قالوا: نعم. قال: اللهم أشهد ... الخ. وورد أن عبد الله بن عمرو لما حضرته الوفاة قال: انظروا فلانًا فإني كنت قلت له في ابنتي قولاً كشبه العدة فما أحب أن ألقى الله بثلث النفاق فأشهدكم أني قد زوجته. وينبغي أن يوصي بأمور أولاده إن لم يكن جد يصلح للولاية ويوصي بما لا يتمكن من فعله في الحال من قضاء الديون ونحو ذلك وأن يكون حسن الظن بالله تعالى راجيًا عفوه ومغفرته ورحمته وإحسانه. ويستحضر في ذهنه أنه حقير في مخلوقات الله تعالى وأن الله تعالى غني عن عذابه وعن طاعته وأنه عبده ولا يطلب العفو والإحسان والصفح والامتنان إلا منه جل وعلا وتقدس ويحث أولاده على الدعاء له والصدقة عنه. شِعْرًا: ... وَإِذَا رَأَيْتَ بِنِيكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُمْ ... قَطَعُوا إِلَيْكَ مَسَافَة الآجَال وَصَلَ الْبَنُونَ إِلَى مَحَلِّ أَبِيهِمْ ... وَتَجَهَّزَ الآبَاءُ لِلترْحَال

آخر: لِي خَمْسٌ وَثَمَانُونَ سَنَةْ ... فَإِذَا قُدْوَتُهَا كَانَتْ سَنَةْ إِنَّ عُمْرَ الْمَرْءِ مَا قَدْ عَمَّرَهْ ... فِي التُّقَى وَالزُّهْدِ طُولَ الأَزْمِنَةْ ويستحب أن يكون مُتَعَاهِدًا نفسه بقراءة آيات من القرآن العزيز في الرجاء وكذلك أحاديث الرجاء يقرؤها أو يجعل من يقرؤها عليه وأن يكون خيره متزايدًا ويحافظ على الصلوات الخمس في أوقاتها. ويجتنب النجاسات ويحرص على التطهر ويصبر على مشقة ذلك وكذا باقي وظائف الدين يحرص على أدائها كاملة مكملة وليحذر من التساهل في ذلك فإنه أقبح القبائح أن يكون آخر عهده من الدنيا التي هي مزرعة الآخرة التفريط فيما وجب عليه أو ندب إليه. وليجتهد في ختم عمره بأكمل الأحوال ويستحب أن يوصي أهله وأصحابه بالصبر عليه في مرضه واحتمال عما يصدر منه ويوصيهم أيضًا بالصبر على مصيبتهم به ويوصيهم بالرفق بمن يخفه من طفل وغلام وجارية ويوصيهم بالإحسان إلى أصدقائه ويعلمهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن من أبر البر أن يصل الرجل أهله ود أبيه» . وقد صح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكرم صواحبات خديجة رضي الله عنها بعد وفاتها. ويوصيهم بتعاهده بالدعاء وفعل ما يقرب إلى الله وينوي الثواب له وذلك كالحج والصدقة والأضحية وطبع المصاحف والكتب الدينية المقوية للشريعة المحمدية والإعانة على بناء المساجد. وكالعين الجارية ونحو ذلك ويوصيهم بأن لا ينسوه بل تعاهدوه بالدعاء له ولوالديه. شِعْرًا: ... يَا مَنْ سَيَنْأَى عَنْ بَنِيهْ ... كَمَا نَأَى عَنْهُ أَبُوهْ مَثِّلْ لِنَفْسِكَ قَوْلهُمْ ... جَاءَ الْيَقِينُ فَوَجِهُوهْ وَتَحَلَّلُوا مِنْ ظُلْمِهِ ... قَبْلَ الْمَمَاتِ وَحَلِّلُوهْ

آخر: ... إِنِّي لأَشْكُو خَطْوبًا لا أُعِيِّنُهَا ... لِيَبْرَأُ النَّاسُ مِنْ عُذْرِي وَمِنْ عَذْلِي كَالشَّمْعِ يَبْكِي فَمَا يَدْرِيِ أَعِبْرَتُهُ ... مِنْ صُحْبَةِ النَّارِ أَمْ مِنْ فُرْقَةِ الْعَسَلِ ويستحب أن يقول لهم في وقت بعد وقت: متى رأيتم مني تقصيرًا في شيء انهوني عنه برفق ولطف لأن النفس تضعف في ذلك الوقت وأدوا إِلَيَّ النصيحة في ذلك فإني معرض للغفلة والسهو والكسل والإهمال فإذا قصرت فنشطوني وعاونوني على التأهب لهذا السفر البعيد والتغرب المخيف. شِعْرًا: ... وَلَمْ تَتَزَوَّدْ لِلَّرِحِيلِ وَقَدْ دَنَا ... وَأَنْتَ عَلَى حَالٍ وَشِيكٍ مُسَافِرُ فَيَا لَهْفَ نَفْسِي كَمْ أُسَوِّفُ تَوْبَتِي ... وَعُمْرِي فَانٍ وَالرَّدَى لِي نَاظِرُ وَكُلُّ الَّذِي أَسْلَفْتُ فِي الصُّحُفِ مُثْبَتٌ ... يُجَازِي عَلَيْهِ عَادِلُ الْحُكْمِ قَادِرُ آخر: ... لَهْفِي عَلَى عُمْرِي الَّذِي ضَيَّعْتُهُ ... فِي كُلِّ مَا أَرْضَى وَيُسْخِطُ مَالِكِي وَيْلِي إِذَا عَنَتِ الْوُجُوهُ لِرَبِّهَا ... وَدُعِيتُ مَغْلُولاً بِوَجْهٍ حَالِكَ وَرَقِيبُ أَعْمَالِي يُنَادِي قَائِلاً ... يَا عَبْدَ سُوءٍ أَنْتَ أَوَلَ هَالِكَ لَمْ يَبْقَ مِنْ بَعْدِ الْغِوَايَةَ مَنْزِلٌ ... إِلا الْجَحِيم وَسُوء صُحْبَةِ مَالِكِ آخر: ... تُخَرِّبُ مَعْمُورًا وَتُعَمِّرُ فَانِيًا ... فَلا ذَاكَ مَوْفُورٌ وَلا ذَاكَ عَامِرُ وَهَلْ لَكَ إِنْ وَافَاكَ حَتْفُكَ بَغْتَةً ... وَلَمْ تَكْتَسِبْ خَيْرًا لِدَى اللهِ عَاذِرُ أَتَرْضَى بِأَنْ تَفْنَى الْحَيَاةَ وَتَنْقَضِي ... وَدِينُكَ مَنْقُوصٌ وَمَالُكَ وَافِرُ آخر: ... كَمْ ضَاحِك وَالْمَنَايَا فَوْقَ هَامَتِهِ ... لَوْ كَانَ يَعْلَمُ غَيْبًا مَاتَ مِنْ كَمَدِ مَنْ كَانَ لَمْ يُؤْت عِلْمًا فِي بَقَاءِ غَدٍ ... مَاذَا تفكره فِي رِزْقٍ بَعَدَ غَدِ آخر: ... كَفَى حَزَنًا أَنْ لا حَيَاةَ هَنِيَّةٍ ... وَلا عَمَلٌ يَرْضَى بِهِ اللهُ صَالِحٌ فَامْهَدْ لِنَفْسِكَ وَالأَقْلامُ جَارِيَةٌ ... وَالتوب مُقْتَبَلٌ فَاللهُ قَدْ وَعَدَا

لا تَفْخَرَنَّ بِدُنْيَا أَنْتَ تَارِكُهَا ... عَمَا قَلِيل تَزُورُ الْقَبْرَ واللَّحْدَا وإذا حضره النزعة فليكثر من قول لا إله إلا الله لتكون آخر كلامه فياله من ختام ويا له من طابع، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله» . ويستحضر أحاديث الرجال مثل حديث أبي ذر قال أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه ثوب أبيض وهو نائم ثم أتيته وقد استيقظ فقال: «ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة» . قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق» . الحديث متفق عليه. وحديث ابن عباس أن ناسًا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا وزنوا وأكثروا فأتوا محمد - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إن الذي تدعوا إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزل: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} . الآيتين _ ونزل {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} . الآية ونحو هذه الآية والأحاديث التي سبقت. شِعْرًا: إِذَا أَتَى اللهُ يَوْمَ الْحَشْرِ فِي ظُلَلٍ ... وَجِيءَ بِالأُمَمِ الْمَاضِينَ وَالرُّسُلِ وَحَاسَبَ الْخَلْق مَنْ أَحْصَى بِقُدْرَتِهِ ... أَنْفَاسُهُمْ وَتَوَفَّاهُمْ إِلَى أَجَلِ وَلَمْ أَجِدْ فِي كِتَابِي غَيْرَ سَيِّئَةٍ ... تَسُوءُنِي وَعَسَى الإِسْلام يَسْلَمُ لِي رَجَوْتُ رَحْمَةَ رَبِّي وَهِيَ وَاسِعَة ... وَرَحْمَةُ اللهِ أَرْجَى لِي مِنَ الْعَمَلِ اللهم اجعل في قلوبنا نورًا نهتدي به إليك وتولنا بحسن رعايتك حتى نتوكل عليك وارزقنا حلاوة التذلل بين يديك فالعزيز من لاذ بعزك والسعيد من التجأ إلى حماك وجودك والذليل من لم تؤيده بعنايتك والشقي من رضي

في الجنائز عبر لمن اعتبر

بالإعراض عن طاعتك اللهم نزه قلوبنا عن التعلق بمن دونك واجعلنا من قوم تحبهم ويحبونك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. فصل: اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن في الجنائز عبر للبصير، وفيها تنبيه، وتذكير لأهل الغفلة، وأكثرهم لا تزيده مشاهدتها إلا قسوة، لأنهم يظنون أنهم أبدًا إلى جنائزهم ينظرون ولا يحسبون أنهم لا محالة على الجنائز يحملون أو يحسبون ولكنهم على القرب لا يقدرون ولا يتفكرون أن المحمولين على الجنائز هكذا كانوا مثلهم يحسبون فبطل حسبانهم وانقرض على القرب زمانهم. والبصير لا ينظر إلى الجنائز وإلا ويقدر نفسه محمولاً عليها فإنه محمول عليها على القرب. الغز بعضهم في النعش الذي يحمل عليه الميت إلى المقبرة: أَتَعْرِفُ شَيْئًا فِي السَّمَاءِ يَطِيرُ ... إِذَا طَارَ هَاجَ النَّاسُ حَيْثُ يَسِيرُ فَتَلَقَّاهُ مَرْكُوبَا وَتَلَقَّاهُ رَاكِبًا ... وَكُلُّ أَمِيرٍ يَعْتَرِيهِ أَسِيرُ يَحُثُّ عَلَى التَّقْوَى وَيَكْرَهُ قُرْبُهُ ... وَتَنْفِرُ مِنْهُ النَّفْسُ وَهَوَ نَذِيرُ وَلَمْ يَسْتَزْرِ عَنْ رَغْبَةٍ فِي زِيَارَةٍ ... وَلَكِنْ عَلَى رَغْمِ الْمَزُورِ يَزُورُ شِعْرًا: ... (كُلُّ ابْنِ أُنْثَى وَإِنْ طَالَتْ سَلامَتُهُ ... يَوْمًا عَلَى آلَةٍ حَدْبَاءِ مَحْمُولُ) آخر: ... فَلِلْمَوْتِ تَغْدُو وَالْوَلِدَاتُ سِخَالهَا ... كَمَا لِخَرَابِ الدَّهْرِ تَبْنِي الْمَسَاكِنُ آخر: ... (أَلا وَكَمَا شَيَّعْتَ يَوْمًا جَنَازَةً ... فَأَنْتَ كَمَا شَيَّعْتَهُمْ سَتُشَيَّعُ وكان بعضهم إذا رأى جنازة قال: اغدوا فإنا رائحون موعظة بليغة وغفلة سريعة يذهب الأول. والآخر لا عقل له. وقال آخر: ما شهدت جنازة فحدثتني نفسي بشيء سوى ما هو مفعول به وما هو صائر إليه.

الناس حول تشيع الجنائز

وقال الأعمش: كنا نشهد الجنائز فلا ندري من نعزي لحزن الجميع. وقال ثابت البناني: كنا نشهد الجنائز فلا نرى إلا مقنعًا باكيًا. هذا حال السلف والآن انظر إلى مشيعي الجنائز بعضهم يبحث بالعقار وبعضهم يتكلم ويضحك وبعضهم يعدد مخالفاته وينذر أن ترى المتفكر في جنازته إذا وصله الدور وحمل لقب المظلم بيت الوحدة بيت الدود والصديد والهوام. يَا بَاكِيًا مِنْ خِيفَةِ الْمَوْتِ ... أَصَبْتَ فَارْفَعْ مِنْ مَدَى الصَّوْتِ وَنَادِ يَا لَهْفِي عَلَى فُسْحَةٍ ... فِي الْعُمْرِ فَاتَتْ أَيّمَا فَوْتِ ضَيَّعْتَهَا ظَالِمٌ نَفْسِي وَلَمْ ... أُصْغِ إِلَى مَوْتٍ وَلا مَيِّتِ يَا لَيْتَهَا عَادَتْ وَهَيْهَاتَ أَنْ ... يَعُودُ مَا قَدْ فَاتَ يَا لَيْتِ فَخَلِّ عَنْ هَذِي الأَمَانِي وَدَعْ ... خَوْضُكَ فِي هَاتٍ وَفِي هِيتِ وَبَادِرْ الأَمْرَ فَمَا غَائِبٍ ... أَسْرَعُ إِتْيَانًا مِنَ الْمَوْتِ كَمْ شَائِدٍ بَيْتًا لَيْغَنَى بِهِ ... مَاتَ وَلَمْ يَفْرُغْ مِنَ الْبَيْتِ اللهم اسلك بنا سبيل الأبرار، واجعلنا من عبادك المصطفين الأخيار، وامنن علينا بالعفو والعتق من النار، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) قال عمر بن عبد العزيز لبعض جلسائه: يا فلان لقد أرقت الليلة أتفكر في القبر وساكنه إنك لو رأيت الميت بعد ثلاثة في قبره لاستوحشت من قربه بعد طول الأنس منك به لو رأيت بيتًا تجول فيه الهوام ويجري فيه الصديد وتخترقه الديدان مع تغير الريح وبلى الأكفان بعد حسن الهيئة وطيب الريح ونقاء الثياب ثم شهق شهقة خر مغشيًا عليه.

وكان يزيد الرقاشي يقول: أيها المقبور في حفرته والمتخلي في القبر بوحدته المستأنس في بطن الأرض بأعماله ليت شعري بأي أعمالك استبشرت، وبأي إخوانك اغتبطت، ثم بكي حتى يبل عمامته. ثم يقول: استبشر والله بأعماله الصالحة، واغتبط بإخوانه المتعاونين على طاعة الله تعالى وكان الحسن بن صالح إذا أشرف على المقابر يقول: ما أحسن ظواهرك إنما الدواهي في بواطنك. وكان عطاء السلمي إذا جن عليه الليل خرج إلى المقبرة ثم يقول: غدًا عطاء في القبور فلا يزال عطاء ذلك دأبه حتى يصبح ويروى أن فاطمة بنت الحسين نظرت إلى جنازة زوجها الحسن بن الحسين فغطت وجهها وقالت: وَكَانُوا رَجَاءً ثَمَّ أَمْسُوا رَزِيَّةً ... لَقَدْ عَظُمَتْ تِلْكَ الرَّزَايَا وَجَلَّتٍ وَقَالَ مَيمون بن مهران: خرجت مع عمر بن عبد العزيز إلى المقبرة فلما نظر إلى القبور بكى ثم أقبل عليَّ فقال: يا ميمون هذه قبور أبائي بني أمية كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذتهم وعيشم أما تراهم صرعى قد حلت بهم المثلاث واستحكم فيهم البلى وأصابتهم الهوام مقيلاً في أبدانهم ثم بكى وقال: والله ما أعلم أحدًا أنعم ممن صار إلى هذه القبور وقد أمن من عذاب الله، ووجد مكتوب على قبر: وَقِفْتُ عَلَى الأَحِبَّةِ حِينَ صَفَّتْ ... قُبُورُهُمْ كَأَفْرَاسِ الرِّهَانِ فَلَمَّا أَنْ بَكِيتُ وَفَاضَ دَمْعِي ... رَأَتْ عَيْنَايَ بَيْنَهُمْ مَكَانِي آخر: ... وَنَاءٍ عَنِ الدُّنْيَا وَعَنْ أَعْيُنِ الْوَرَى ... وَحِيد لأَصْحَابِ الْقُبُورِ مُجَاوِرُ آخر: ... أَبَا غَانِمٍ أَمَا ذراك فَوَاسِعٌ ... وَقَبْرُكَ مَعْمُورُ الْجَوَانِبُ مُحْكَمُ

قصيدة زهدية وعظية بليغة تبعث الجد والاجتهاد على التشمير إلى الآخرة والتزهيد في الدنيا ويليها موعظة

وَمَا يَنْفَعُ الْمَقْبُورُ عُمْرَانُ قَبْرِهِ ... إِذَا كَانَ فِيهِ جِسْمُهُ يَتَهَدَّمُ شِعْرًا: قصيدة زهدية وعظية سقط بعضها وعوضناها عنه ما بين الأقواس: لا تَأْسَفَنَّ عَلَى الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ... فَالْمَوْتُ لا شَكَّ يَفْنِينَا وَيَفْنِيهَا وَمَنْ يَكُنْ هَمَّهُ الدُّنْيَا لِيَجْمَعُهَا ... فَسَوْفَ يَوْمًا عَلَى رَغْمٍ يُخَلِّيهَا لا تَشْبَعُ النَّفْس مِنْ دُنْيَا تُجَمِّعُهَا ... وَبُلْغَهٌ مِنْ قَوَامِ الْعَيْشِ تَكْفِيهَا اعْمَلْ لِدَارِ الْبَقَا رِضْوَانٌ خَازِنُهَا ... الْجَارُ أَحْمَدُ وَالرَّحْمَنُ بَانِيهَا أَرْضٌ لَهَا ذَهَبٌ وَالْمِسْكُ طِينَتُهَا ... وَالزَّعْفَرَان حَشِيشٌ نَابِتٌ فِيهَا أَنْهَارُهَا لَبَنٍ مَحْضٍ وَمِنْ عَسَلٍ ... وَالْخَمْرُ يَجْرِي رَحِيقًا فِي مَجَارِيهَا وَالطَّيْرُ تُجْرِي عَلَى الأَغْصَانِ عَاكِفَةً ... تُسَبِّحُ اللهَ جَهْرًا فِي مَغَانِيهَا مَنْ يَشْتَرِي قُبَّةً فِي الْعَدْنِ عَالِيَةً ... فِي ظِلِّ طُوبَى رَفِيعَاتٌ مَبَانِيهَا دَلالُهَا الْمُصْطَفَى وَاللهُ بَائِعُهَا ... وَجِبْرَئِيلُ يُنَادِي فِي نَوَاحِيهَا مَنْ يَشْتَرِي الدَّارَ فَي الْفِرْدَوْسَ يَعْمُرُهَا ... بِرَكْعَةٍ فِي ظَلامِ اللَّيْلِ يُخْفِيهَا أَوْ سَدَّ جَوْعَةِ مِسْكِينٍ بِشَبْعَتِهِ ... فِي يَوْمِ مَسْبَغَه عَمّ الغَلا فِيهَا النَّفْسُ تَطْمَعُ فِي الدُّنْيَا وَقَدْ عَلِمَتْ ... أَنَّ السَّلامَةَ مِنْهَا تَرْكُ مَا فِيهَا وَاللهِ لَوْ قَنَعَتْ نَفْسِي بِما رُزِقَتْ ... مِنَ الْمَعِيشَةِ إِلا كَانَ يَكْفِيهَا واللهِ وَاللهِ أَيْمَانٌ مُكَرَّرَةٌ ... ثَلاثَةٌ عَنْ يَمِينٍ بَعْدَ ثَانِيهَا لَوْ أَنَّ فِي صَخْرَةٍ صَمَّا مُلَمْلَمَةٍ ... فِي الْبَحْرِ رَاسِيَةً مَلْسٌ نَوَاحِيهَا رِزْقًا لِعَبْدٍ بَرَاهَا اللهُ لانْفَلَقَتْ ... حَتَّى تُؤَدَّى إِلَيْهِ كَلّ مَا فِيهَا أَوْ كَانَ فَوْقُ طِبَاقِ السَّبْعِ مَسْلَكُهَا ... لَسَهَّلَ اللهُ فِي الْمَرْقَى مَرَاقِيهَا حَتَّى يَنَالُ الَّذِي في اللَّوْحِ خَطّ لَهُ ... فَإِنَّ أَتَتْهُ وَإِلا سَوْفَ يَأْتِيهَا أَمْوَالُنَا لِذَوِي الْمِيرَاثِ نَجْمَعُهَا ... وَدَارَنَا لِخَرَابِ الْبُومِ نَبْنِيهَا لا دَارَ لِلْمَرْءِ بَعْدَ الْمَوْتِ يَسْكُنُهَا ... إِلا الَّتِي كَانَ قَبْلَ الْمَوْت يَبْنِيهَا

فَمَنْ بَنَاهَا بِخَيْرٍ طَابَ مَسْكَنُهُ ... وَمَنْ بَنَاهَا بِشَرٍّ خَابَ بَانِيهَا وَالنَّاسُ كَالْحَبِّ وَالدُّنْيَا رَحَى نَصَبَتْ ... لِلْعَالَمِينَ وَكَفّ الْمَوْتِ يُلْهِيهَا فَلا الإِقَامَةَ تُنْجِي النَّفْسَ مِنْ تَلَفٍ ... وَلا الْفِرَارُ مِنْ الأَحْدَاثِ يُنْجِيهَا وَلِلنُّفُوسِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى وَجَلٍ ... مِنَ الْمَنِيَّةِ آمَالٌ تُقَوِّيهَا فَالْمَرْءُ يَبْسُطُهَا وَالدَّهْرُ يَقْبِضُهَا ... وَالْبِشْرُ يَنْشُرُهَا وَالْمَوْتُ يَطْوِيهَا وَكُلُّ نَفْسٍ لَهَا زَوْرٌ يُصَبِّحُهَا ... مِنْ الْمَنِيَّةِ يَوْمًا أَوْ يُمَسِّيهَا تِلْكَ الْمَنَازِلُ فِي الآفَاقِ خَاوِيَةٌ ... أَضْحَتْ خَرَابًا وَذَاقَ الْمَوْتُ بَانِيهَا كَمْ مِنْ عَزِيزٍ سَيَلْقَى بَعْدَ عِزَّتِهِ ... ذُلاً وَضَاحِكَةٌ يَوْمًا سَيَبْكِيهَا وَلِلْمَنَايَا تُرَبِّي كُلُّ مُرْضِعَةٍ ... وَلِلْحِسَابِ بَرَى الأَرْوَاحَ بَارِيهَا لا تَبْرَحُ النَّفْسُ تَنْعِي وَهِيَ سَالِمَةٌ ... حَتَّى يَقُومُ بِنَادِ الْقَوْمِ نَاعِيهَا وَلَنْ تَزَالُ طِوَالَ الدَّهْرِ ظَاعِنَةٌ ... حَتَّى تُقِيمُ بِوَادٍ غَيْرَ وَادِيهَا أَيْنَ الْمُلُوكِ الَّتِي عَنْ حَظِّهَا غَفَلَتْ ... حَتَّى سَقَاهَا بِكَأْسِ الْمَوْتِ سَاقِيهَا أَفْنَى الْقُرُون وَأَفْنَى كُلّ ذِي عُمْرٍ ... كَذَلِكَ الْمَوْتُ يُفْنِي كَلَّ مَا فِيهَا فَالْمَوْتُ أَحْدَقُ بِالدُّنْيَا وَزُخْرُفُهَا ... وَالنَّاسُ فِي غَفْلَةٍ عَنْ كُلِّ مَا فِيهَا لَوْ أَنَّهَا عَقِلَتْ مَاذَا يُرَادُ بِهَا ... مَا طَابَ عَيْشٌ لَهَا يَوْمًا وَيُلْهِيهَا نَلْهُوا وَنَأْمَلُ آمَالاً نَسُرُّ بِهَا ... شَرِيعَةُ الْمَوْتِ تَطْوِينَا وَتَطْوِيهَا فَاغْرِسْ أُصُولَ التُّقَى مَا دُمْتَ مُقْتَدِرًا ... وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ بَعْدَ الْمَوْت لاقِيهَا (تَجْنِي الثِّمَارَ غَدًا فِي دَارٍ مُكَرَّمَةٍ ... لا مَنْ فِيهَا وَلا التَّكْدِيرُ يَأْتِيهَا) (فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ دَائِمًا أَبَدًا ... بِلا انْقِطَاعٍ وَلا مَنْ يُدَانِيهَا) (الأُذُنُ وَالْعَيْنُ لَمْ تَسْمَعْ وَلَمْ تَرَهُ ... وَلَمْ يَدْرِ فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ مَا فِيهَا) (فَيَا لَهَا مِنْ كَرَامَاتٍ إِذَا حَصَلَتْ ... وَيَا لَهَا مِنْ نُفُوسٍ سَوْفَ تَحْوِيهَا) (وَهَذْهِ الدَّارُ لا تَغْرُرْكَ زَهْرَتُهَا ... فَعَنْ قَرِيبٍ تَرَى مُعْجِبُكَ ذَاوِيهَا)

.. (فَارْبَأْ بِنَفْسِكَ لا يَخْدَعَكَ لامِعُهَا ... مِنْ الزَّخَارِفِ وَاحْذَرْ مِنْ دَوَاهِيهَا) (خَدَّاعَةٌ لَمْ تَدُمْ يَوْمًا عَلَى أَحَدٍ ... وَلا اسْتَقَرَّتْ عَلَى حَالٍ لَيَالِيهَا) (فَانْظُرْ وَفَكَّرْ فَكَمْ غَرَّتْ ذَوِي طيشٍ ... وَكَمْ أَصَابَتْ بِسَهْمِ الْمَوتِ أَهْلِيهَا) اعْتَزَّ قَارُونُ فِي دُنْيَاهُ مِنْ سَفَهٍ ... وَكَانَ مِنْ خَمْرِهَا يَا قَوْمَ ذَاتِيهَا يَبِيتُ لَيْلَتَهُ سَهْرَانٌ مٌنْشَغِلاً ... فِي أَمْرِ أَمْوَالِهِ فِي الْهَمِّ يَفْدِيهَا وَفِي النَّهَارِ لَقَدْ كَانَتْ مُصِيبَتُهُ ... تَحُزُّ فِي قَلْبِهِ حَزًّا فَيُخْفِيهَا فَمَا اسْتَقَامَتْ لَهُ الدُّنْيَا وَلا قَبِلَتْ ... مِنْهُ الْوِدَادَ وَلَمْ تَرْحَمْ مُحِبِّيهَا (ثُمَّ الصَّلاةُ عَلَى الْمَعْصُومِ سَيِّدِنَا ... أَزَكَى الْبَرَيَّةَ دَانِيهَا وَقَاصِيهَا) (موعظة) قال الله جل وعلا: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} الاعتبار: النظر في الأمور ليعرف بها شيء من غير جنسها، والأبصار: العقول والمعنى تدبروا. إخواني: الدنيا دار عبرة ما وقعت فيها حبرة إلا وردفتها عبرة أين من عاشرناه كثيرًا وألفنا، أين من ملنا إليه بالوداد وانعطفنا، أين من ذكرناه بالمحاسن ووصفنا ما نعرفهم لو عنهم كشفنا، ما ينطقون لو سألناهم وألحفنا. وسنصير كما صاروا فليتنا أنصفنا، كم أغمضنا من أحبابنا على كرههم جفنا، كم ذكرتنا مصارع من فنِيَ من يفنى، كم عزيز أحببنا دفنَّاه وانصرفنا، كم مؤنس أضجعناه في اللحد وما وقفنا، كم كريم علينا إذا مررنا عليه انحرفنا. ما لنا نتحقق الحق فإذا أيقنا صدفنا، أما ضر أهله التسويف، وها نحن قد سوفنا، أما التراب فلماذا منه أنفنا، ألام ترغنا السلامة وكأن قد تلفنا. أين حبيبنا الذي كان وانتقل، أما غمسه التلف في بحره وارتحل أما

وتوجيه الميت عند النزع إلى القبلة

خلا في لحده بالعمل أين من جر ذيل الخيلاء غافلاً ورفل أما سافر عنا وإلى الآن ما قفل. أين من تنعم في قصره وفي قبره قد نزل، فكأنه بالدار ما كان وفي اللحد لم يزل، أين الجبابرة الأكاسرة الأول الذين كنزوا العتاة الأول، ملك الأموال سواهم والدنيا دول. شِعْرًا: تَنَامُ وَقَدْ أَعَدَّ لَكَ السّهَادُ ... وَتُوقِنُ بِالرَّحِيلِ وَلَيْسَ زَادُ وَتُصْبِحُ مِثْلِ مِا تُمْسِي مُضَيِّعًا ... كَأَنَّكَ لَسْتَ تَدْرِي مَا الْمُرَادُ أَتَطْمَعُ أَنْ تَفُوزَ غَدًا هَنِيًا ... وَلَمْ يَكُ مِنْكَ فِي الدُّنْيَا اجْتِهَادُ إِذَا فَرَّطْتَ فِي تَقْدِيمِ زَرْعٍ ... فَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ عَدَمٍ حَصَادُ اللهم اجعل في قلوبنا نورًا نهتدي به إليك وتولنا بحسن رعايتك حتى نتوكل عليك وارزقنا حلاوة التذلل بين يديك فالعزيز من لاذ بعزك والسعيد من التجأ إلى حماك وجودك والذليل من لم تؤيده بعنايتك والشقي من رضي بالأعراض عن طاعتك اللهم نزه قلوبنا عن التعلق بمن دونك واجعلنا من قوم تحبهم ويحبونك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) ويسن توجيه الميت ومن في النزع إلى القبلة على جنبه الأيمن لأن حذيفة قال: (وجهوني إلى القبلة) . واستحبه مالك وأهل المدينة والأوزعي وأهل الشام وقال - صلى الله عليه وسلم - عن البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتًا. روه أبو داود.

من التكفين ونحوه

وقول باسم الله وعلى وفاة رسول الله لما روى البيهقي عن بكر بن عبد الله المزني ولفظه وعلى ملة رسول الله ولا بأس بتقبيل الميت والنظر إليه لحديث عائشة وابن عباس أن أبا بكر قبَّل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته. رواه البخاري والنسائي. وقالت عائشة قبَّل النبي - صلى الله عليه وسلم - عثمان بن مظعون وهو ميت حتى رأيت الدموع تسيل على وجهه. رواه أحمد والترمذي وصححه. وغسل الميت فرض كفاية لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الذي وقصته راحلته: «اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبه» . متفق عليه وشرط في الماء الذي يغسل فيه الميت الطهورية والإباحة كباقي الاغسال. وشرط في المغسل للميت الإسلام والعقل والتمييز لأن هذه شروط لكل عبادة شرعية إلا التمييز في الحج والأكمل أن يكون الغاسل للميت ثقة يعرف أحكام الغسل ليحتاط فيه ولقول ابن عمر: لا يغسل موتاكم إلا المأمونون. والأولى بغسل الميت وصية العدل لأن أبا بكر الصديق أوصى أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس فقدمت بذلك وأوصى أنس أن يغسله محمد بن سيرين ففعل. وإذا شرع في غسله ستر عورته وجوبًا لحديث: «لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت» . رواه أبو داود. ويحرم مس عورة من بلغ سبع سنين ويستحب أن لا يمس سائره إلا بحائل، أدسوس يدين أو نحوها لما روى أن عليًا غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - وبيده خرقة يمسح بها تحت القميص. ذكره المروزي عن أحمد.

حكم ما إذا خرج بعد التكفين خارج من الميت أو إذا قتل وعليه ما يوجب الغسل أو سقط من دابته

وللرجل أن يغسل زوجته وأمته لقوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: «لو مت قبلي لغسلتك وكفنتك» . رواه ابن ماجة. وغسل عليٌّ فاطمة رضي الله عنهما ولم ينكره منكر فكان إجماعًا. وللمرأة تغسيل زوجها وابن دون سبع سنين قاله ابن المنذر إجماعًا لحديث أبي بكر السابق وقالت عائشة رضي الله عنها: لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا ما غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا نساؤه. رواه أحمد وأبو داود. ولما مات إبراهيم بن النبي - صلى الله عليه وسلم - غسله النساء. وحكم غسل الميت كغسل الجنابة لقوله - صلى الله عليه وسلم - للنساء اللاتي غسلن ابنته: «ابدأن بميامينها ومواضع الوضوء منها» . ولا يدخل في فم الميت الماء ولا في أنفه بل يأخذ خرقة مبلولة فيمسح بها أسنانه ومنخريه ليقوم مقام المضمضة والاستنشاق قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} . وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» . ويكره الاقتصار على غسله واحدة لقوله - صلى الله عليه وسلم - حين توفيت ابنته: «اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر من ذلك إن رأيتن بماء وسدر» . فإن خرج من الميت المغسل شيء زيد في الغسلات وجوبًا إلى السبع فإن خرج بعد السبع حشي المحل بقطن فإن لم يستمسك فبطن حر ثم يغسل المحل ويوضأ وجوبًا. وإن خرج بعد التكفين لم يعد الغسل ولا الوضوء لما فيه من الحرج والمشقة ولا يغسل شهيد المعركة ولا يكفن ولا يصلى عليه لحديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بدفن شهداء أحد في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصلوا عليهم رواه البخاري.

لا يغسل الكافر ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يتبع جنازته ويدفن إن لم يدفنه الكفار لئلا تؤذي رائحته المسلمين

شِعْرًا: أَلا ذَكَّرَانِي قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْمَوْتُ ... وَيُبْنَى لِجُثْمَانِي بِدَارِ الْبِلَى بَيْتُ وَعَلَّمَنِي رَبِّي طَرِيقَ سَلامَتِي ... وَبَصَّرَنِي لَكِنَّنِي قَدْ تَعَامَيْتُ وَقَالُوا مَشِيبُ الرَّأْسِ يَحْدُوا إِلَى الْبَلَى ... فَقُلْتُ أَرَانِي قَدْ قَرُبْتُ فَأُدْنِيتُ وكذا لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى على المقتول ظلمًا لحديث سعيد بن زيد مرفوعًا من قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد رواه أبو داود والترمذي وصحح. وقيل يغسل ويصلى عليه لأن ابن الزبير غسل وصلى عليه وهذا القول يترجح عندي لأنه أحوط والله سبحانه أعلم. فأن قتل وعليه ما يوجب الغسل من نحو جنابة فهو كغيره يجب أن يغسل لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم أحدٍ ما بال حنظلة بن الراهب إني رأيت الملائكة تغسله قالوا: إنه سمع الهائعة وهو جنب ولم يغتسل. رواه الطيالسي. وإن سقط من دابته أو وجد ميتًا ولا أثر به أو تردى من محل رفيع أو حمل فأكل أو شرب أو طال بقاؤه عرفًا غسل وصلى عليه وكذا – لو تكلم أو بال أو عطس لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - غسل سعد بن معاذ وصلى عليه وكان شهيدًا وصلى المسلمون على عمر وعلي وهما شهيدان والسقط لأربعة أشهر كالمولود حيًا يغسل ويصلى عليه لحديث المغيرة مرفوعًا، والسقط يصلى عليه رواه أبو داود والترمذي وصححه. ولا يغسل مسلم كافرًا ولو ذميًا ولا يكفنه ولا يصلي عليه ولا يتبع جنازته لأن في ذلك تعظيمًا له وقد قال تعالى {لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} بل يدفن إن لم يدفنه الكفار كما فعل بأهل القليب يوم بدر. وعن علي رضي الله

الكفن وما يتعلق به وصفه وضع الميت فيه والطيب والمسنون والواجب في الكفن للكبير والصغير والأنثى

عنه قال: قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن عمك الشيخ الضال قد مات. قال: «اذهب فواره» . رواه أبو داود. شِعْرًا: كَيْفَ احْتِيَالِي إِذَا جَاءَ الْحِسَابُ غَدًا ... وَقَدْ حُشِرْتُ بِأَثْقَالِي وَأَوْزَارِي وَقَدْ نَظَرْتُ إِلَى صُحْفِي مُسَوَّدَةٍ ... مِنْ شُؤْمِ ذَنْبٍ قَدِيمٍ الْعَهْدِ أَوْ طَارِي وَقَدْ تَجَلَّى لِبَسْطِ الْعَدْلِ خَالِقُنَا ... يَوْمَ الْمَعَادِ وَيَوْمَ الذُّلِّ وَالْعَارِ يَفُوزُ كُلُّ مُطِيعٍ لِلْعَزِيزِ غَدًا ... بِدَارِ عَدْنٍ وَأَشْجَارٍ وَأَنْهَارِ لَهُمْ نَعِيمٌ خُلُودٌ لا نَفَادَ لَهُ ... يُخَلَّدُونَ بِدَارِ الْوَاحِدِ الْبَارِي وَمَنْ عَصَى فِي قَرَارِ النَّارِ مَسْكَنُهُ ... لا يَسْتَرِيحُ مِنَ التَّعْذِيبِ فِي النَّارِ فَابْكُوا كَثِيرًا فَقَدْ حَقَّ الْبُكَاءُ لَكُمْ ... خَوْفَ الْعَذَابِ بِدَمْع وَاكِفٍ جَارِي آخر: يَا عَجَبًا لِلنَّاسِ كَيْفَ اغْتَدَوْا ... فِي غَفْلَةٍ عَمَّا وَرَاءَ الْمَمَاتْ لَوْ حَاسَبُوا أَنْفُسَهُمْ لَمْ يَكُنْ ... لَهُمْ عَلَى إِحْدَى الْمَعَاصِي ثِبَاتْ مَنْ شَكَّ فِي اللهِ فَذَاكَ الَّذِي ... أُصِيبَ فِي تَمْيِيزِهِ بِالشَّتَاتْ يُحْيِيهِمُ بَعْدَ الْبَلَى مِثْلَ مَا ... أَخْرَجَهُمْ مِنْ عَدَمٍ لِلْحَيَاةْ اللهم ألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا الاستقامة طوع أمرك وتفضل علينا بعافيتك وجزيل عفوك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) وتكفين الميت فرض كفاية لقوله - صلى الله عليه وسلم - في المحرم الذي مات اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه والواجب ثوب يستر جميع الميت لقول أم عطية فلما فرغنا

ألقى إلينا حقوه فقال: «أشعرنها» . ولم يزد على ذلك رواه البخاري. ولا يستر رأس المحرم ولا وجه المحرمة لقوله - صلى الله عليه وسلم - في المحرم الذي مات: «ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا» . متفق عليه. والسنة تكفين الرجل في ثلاث لفائف بيض من قطن لحديث عائشة كفن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أثواب بيض سحولية يمانية ليس بها قميص ولا عمامة أدرج فيها إدراجًا متفق عليه. والمسنون في حق الأنثى خمسة أثواب إزار وخمارٌ وقميصٌ ولفافتين لحديث ليلى بنت قائف الثقفية قالت كنت فيمن غسل أم كلثوم ابنة النبي - صلى الله عليه وسلم - عند وفاتها فكان أول ما أعطانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحقا ثم الدرع ثم الخمار ثم الملحفة ثم أدرجت بعد ذلك في الثوب الآخر. رواه أبو داود. والصبي في ثوبٍ واحد لأنه دون رجل ويباح في ثلاثةٍ، ما لم يرثه غير مكلف، ولصغير قميص ولفافتان، ولخنثى كالأنثى في خمسة أثواب، وأما صفة تهيئة اللفائف ووضع الميت عليها فإنا تبسط بعضها فوق بعض وتجعل اللفافة الظاهرة وهي السفلى من الثلاث أحسنها وذلك بعد تبخيرها بعودٍ ونحوه بعد رشها بما ورد لتعلق رائحة البخور بها ما لم يكن محرما. فَمَا تَزَوَّدَ مِمَّا كَانَ يَجْمَعُهُ ... سِوَى حَنُوطٍ غَدَاة الْبِين فِي خِرَقِ وَغَيْرُ نَفْحَةُ أَعْوَادٍ تَشُبُّ لَهُ ... وَقَلَّ ذَلَكَ مِنْ زَادٍ لِمُنْطَلِقِ وَيَجْعل الحنوط وهو أخلاط من طيب فيما بين اللفائف وذلك بأن يذر بين اللفائف ثم يوضع الميت على اللفائف مستلقيًا ويجعل منه في قطن بين إليتيه ومثانته. ويجعل الباقي من القطن المحنط على منافذ وجهه ومواضع سجوده جبهته ويديه وركبته وتحت إبطه وسرته لأن ابن عمر كان يتتبع مغابن الميت ومرافقته بالمسك وإن طيب كله فحسن لأن أنسًا وطُلِيَ بالمسك وطَلَى ابن عمر ميتًا بالمسك.

موعظة بليغة في الحث على الاستعداد للموت

ثم يرد طرف اللفافة العليا من الجانب الأيسر على شقه الأيمن ثم يرد طرفها الأيمن على الأيسر ثم الثانية كذلك ثم الثالثة كذلك ويجعل أكثر الفاضل عند رأسه ثم يعقدها وتحل في القبر، لقول ابن مسعود إذا أدخلتم الميت القبر فحلوا العقد. رواه الأثرم. شِعْرًا: إِنَّ الَّذِي كَانَ بَعْضُ الأَرْضِ يَمْلِكُهُ ... أَمْسَى مِنْ الأَرْضِ قَدْ يَحْوِيهِ مِتْرَانِ وَغَابَ عَنْ مُلْكِهِ الْمِسْكِينُ وَاقْتَسَمُوا ... أَمْوَالَهُ فَاعْتَبِرُوا وَاقْتَدِ بِيَقْظَانِ آخر: وَعُري عَنْ ثِيَابٍ كَانَ فِيهَا ... وَأُلْبِسَ بَعْدَ أَثْوَابَ انْتِقَالِ وَبَعْدَ رُكُوبِهِ الأَفْرَاسَ تِيهًا ... يُهَادَى بَيْنَ أَعْنَاقِ الرِّجَالِ إِلَى قَبْرٍ يُغَادَرُ فِيهِ فَرْدًا ... نَأَى مِنْهُ الأَقَارِبُ وَالْمَوَالِي تَخَلَّى عَنْ مُوَرِّثِهِ وَوَلَّى ... وَلَمْ تَحْجُبه مَأْثَرَةُ الْمَعَالِي موعظة: عباد الله ما هذا التكاسل عن الطاعات وزرع الأعمار قد دنا للحصاد وما هذا التباعد ومدد الأيام قد قاربت للنفاد، وما هذا التغافل والتكاسل عن إعداد الزاد ليوم الميعاد. خَلَتِ الْقُلُوبِ مِنَ الْمَعَادِ وَذِكْرِهِ ... وَتَشَاغَلُوا بِالْحِرْصِ وَالأَطْمَاعِ صَارَتْ مَجَالِسُ مَنْ تَرَى وَحَدِيثَهُمْ ... فِي الصُّحُفِ وَالتِّلْفَازِ وَالْمِذْيَاعِ آخر: ... تَزَوَّدْ لِلَّذِي لا بُدَّ مِنْهُ ... فَإِنَّ الْمَوْتَ مِيقَاتُ الْعِبَادِ يَسُرُّكَ أَنْ تَكُونَ رَفِيقَ قَوْمٍ ... لَهُمْ زَادٌ وَأَنْتَ بِغَيْرِ زَادِ عباد الله أين الحسرات على فوت أمس أين العبرات على مقاسات الرمس أين الاستعداد ليوم تدنو فيه منكم الشمس، {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} .

من نظم عبد القوي فيما يتعلق بالجنائز

يا من مشيبه أتى وشبابه أضمحل وخبي، متى تتضرع إلى مولاك وتقف بالباب، أما اعتبرت بالراحلين من الأقارب والجيران والزملاء والأحباب؛ أما قرع سمعك {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} الآية. كيف حالك إذا بلغت الروح التراق وقطعت الحسرات والندم علائق الأكباد ووضعت في بيت الظلمة والدود والوحدة ولا ولي لك من الله ولا ناصر وضوعف العذاب وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون. كيف أنت إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور وكل إنسان ألزم طائره في عنقه يوم النشور وحرر الحساب بين يدي سريع الحساب عالم السر والخفيات والجاليات ونصب الميزان {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ} . وقال تعالى {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} شِعْرًا: وَلا بَأْسَ شَرْعًا أَنْ يَطَّبِكَ مُسْلِمٌ وَشَكْوَى الَّذِي تَلْقَى وَبِالْحَمْدِ فَابْتَدِ وَتَرْكُ الدَّوَا أَوْلَى وَفِعْلُكَ جَائِزٌ بِمَا لَمْ تَيَقَّنْ فِيهِ حُرْمَةَ مُفْرَدِ وَرَجِّحْ عَلَى الْخَوْفِ الرَّجَا عِنْدَ يَأْسِهِ وَلاقِ بِحُسْنِ الظَّنِّ رَبَّكَ تَسْعَدِ وَيُشْرَعُ لِلْمَرْضَى الْعِيَادَةُ فَأْتِهِمْ تَخُضْ رَحْمَةً تَغْمُرْ مَجَالِسَ عُوَّدِ

فَسَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ مَلائِكَةِ الرِّضَا تُصَلِّي عَلَى مَنْ عَادَ مُمْسًى إِلَى الْغَدِ وَإِنْ عَادَهُ فِي أَوَّلَ الْيَوْمِ وَاصَلَتْ عَلَيْهِ إِلَى اللَّيْلِ الصَّلاةَ فَاسْنِدِ فَمِنْهُمْ مُغِبًّا عُدْ وَخَفِّفْ وَمِنْهُمْ الَّذِي لَذِي يُؤَثِّرُ التَّطْوِيلَ مِنْ مُتَوَدِّدِ فَفَكِّرْ وَرَاعِ فِي الْعِيَادَةِ حَالَ مَنْ تَعُودُ وَلا تُكْثِرْ سُؤَالاً تُنَكِّدِ وَذَكِّرُ لِمَنْ تَأْتِي وَقَوِّ فُؤَادِهُ وَمُرْهُ بِأَنْ يُوصِي إِذَا خِفْتَ وَارْشُدِ وَنَدِّ بِمَاءٍ أَوْ شَرَابٍ لِسَانَهُ وَلَقِّنْهُ عِنْدَ الْمَوْتِ قَوْلَ الْمُوَحَّدِ وَلا تُضْجِرَنْ بَلْ إِنْ تَكَلَّمَ بَعْدَهُ فَعَاوِدْ بِلَفْظٍ وَاسْأَلْ اللُّطْفَ وَاجْهَدِ وَيَس إِنْ تُتْلَى يُخَفَّفُ مَوْتُهُ وَيُرْفَعُ عَنْهُ الإِصْرَ عِنْدَ التَّلَحَّدِ وَوَجِّهْهُ عِنْدَ الْمَوْتِ تِلْقَاءَ قِبْلَةٍ فَإِنْ مَاتَ غَمِّضْهُ وَلَحْيَيْهِ فَاشْدُدِ وَمَلْبُوسَهُ فَاخْلَعْ وَلَيِّنْ مَفَاصِلاً وَضَعْ فَوْقَ بَطْنِ الْمَيِّتِ مَانِعَ مُصْعِدِ وَوَفِّ دُيُونَ الْمَيِّتِ شَرْعًا وَفَرِّقَنْ وَصِيَّةَ عَدْلٍ ثُمَّ تَجْهِيزَهُ أُقْصُدِ

ج إِذَا بِانْخِسَافِ الصُّدْغِ أَيْقَنْتَ مَوْتَهُ وَمَيْلَ أَنْفِهِ مَعْ فَصْلِ رِجْلَيْهِ وَالْيَدِ وَلا بَأْسَ فِي إِعْلامِ خِلٍّ وَصَاحِبٍ وَأَنْسَابِهِ وَاكْرَهْ نِدَاءً وَشَدِّدِ وَسَارِعْ إِلَى التَّجْهِيزِ فَرْضَ كِفَايَةٍ فَقَدِّمْ وَصِيًّا بَعْدَهُ الأَبِ فَاعْدُدِ فَجَدٌّ فَأَدْنَى ثُمَّ أَدْنَى مُنَاسِبٍ فَمَوْلَى فَأَدْنَى أَقْرِبَيْهِ كَمَا ابْتَدِي وَمُسْتَتِرًا لِلْغُسْلِ ضَعْهُ مُوَجِّهًا وَمُنْحَدِرًا تِلْقَاءَ رِجْلَيْهِ فَاعْمِدِ وَصُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءَ فَوْقَ قَمِيصِهِ بِالأُخْرَى بِلا مَسِّ وَحَيْزٍ بِأَبْعَدِ وَيَخْتَارُ مَجْدُ الدِّينَ لَفَّةَ غَاسِلٍ عَلَى يَدِهِ ثَوْبًا لِغُسْلِ مُعَوُّدِ وَيُشْرَعُ سَتْرُ الْمَيِّتِ عَنْ أَعْيُنِ الْوَرَى وَغَسْلُكَ تَحْتَ السَّقْفِ أَوْ سِتْرًا اشْهَدِ وَقَرِّبْهُ مِنْ حَالِ الْجُلُوسِ بِرَفْعِهِ وَلِلْبَطْنِ فَأَعْصُرْ وَأرْفِقَنْ لا تُشَدِّدِ وَكَثَّرْ لِصَبِّ الْمَاءِ لِيَذْهَبَ بِالأَذَى وَفِي وَاسِعِ الْكُمَّيْنِ غَسِّلْ بِأَبْعَدِ وَلُفَّ لِتَنْضِيفِ النَّجَاسَةِ خِرْقَةٍ بِكَفٍّ وَنَجِّيهِ وَعَنْ عَوْرَةٍ حُدِ

وَتَعْمِيمُهُ بِالْمَا اشْتَرِطْ وَبِخَرَقَةٍ بِيُمْنَ وَسَمِّ وَانْوِ شَرْطًا بِأَجْوَدِ وَلا تُدْخِلَنَّ الْمَاءَ فَاهُ وَأَنْفَهُ وَنَظِّفْهُمَا وَاتْمِمْ وُضُوءَ التَّعَبُّدِ وَمِنْ رُغْوَةِ السِّدْرِ اغْسِلَنْهُ جَمِيعَهُ وَبِالأَيْمَنِ ابْدَأْ ثُمَّ لِلأَيْسَرِ أُقْصدِ ثَلاثًا فَإِنَّ لَمْ يُنْقِ أَوْ بَانَ جَمِيعِهُ فَغَسِّلْ إِلَى الأَنْقَى وَبِالْوِتْرِ جَدِّدِ إِلَى مُنْتَهَى سَبْعٍ وَفِي كُلِّ غَسْلَةٍ فَقَلِّبْهُ وَأرْفِقْ وَامْسَحْ الْبَطْنَ بِالْيَدِ وَفِي الآخِرِ الْكَافُورَ ضَعْهُ فَإِنْ بَدَا إِذَا بَعْدَ سَبْعٍ مَخْرَجَ الْمَيِّتِ فَأسْدُدِ بِقُطْنٍ فَإِنْ يَخْرُجِ فَطِينٍ وَقِيلَ لا تُغَسِّلْ وَوَضِّ بَعْدَ غُسْلِ الأَذَى قَدِ وَيُكْرَهُ تَسْرِيحُ الشُّعُورِ بَأَوْطَدٍ وَشَارِبَهُ وَالظِّفْرُ وَالإِبْطَ فَأجْدُدِ وَغَسِّلْ وَكَفِّنْ بَعْضَ مَيِّتٍ مُغَيَّبٍ وَصَلِّ عَلَيْهِ مِثْلَ رِجْلٍ بِأَوْكَدِ وَيُخْتَارُ لِلْغُسْلِ الأَمِينُ وَعَالِمٌ بِأَحْكَامِ تَغْسِيلٍ وَلَوْ بِتَقَلُّدِ وَلا تُفْشِ سِرًّا يُؤَثِّرُ الْمَيْتُ كَتْمَهُ سِوَى ذِي فُجُورٍ وَابْتَدَاعٍ مُعَوَّدِ

الصلاة على الميت وشروطها وأركانها ... الخ

وَتَجْهِيزُ مَيِّتٍ خُذْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَقَدِّمْ عَلَى كُلِّ الْحُقُوقِ وَأَكِّدِ وَوَاجِبُهُ ثَوْبٌ يَلُفُّ جَمِيعَهُ وَقِيلَ ثَلاثٌ بَلْ مَعَ الدِّينِ أَفْرِدِ وَيُشْرَعَ فِي بَيْضٍ ثَلاثٍ بَسَطَّتَهَا طِبَاقًا بِطَيْبٍ وَالدِّثَارَ فَجَوِّدِ وَحَنِّطْهُ فِيمَا بَيْنَهَا وَاجْعَلَنْ عَلَى مُلَفَّفِ قُطْنٍ بَيْنَ أَلْيَيْهِ وَاشْدُدِ وَكَفِّنْهُ وَابْدَأْ بِالْيَسَارِ وَفَوْقَهَا الْـ يَمِينُ كَذَا الأَطْرَافُ مِنْهَا فَعَقِّدِ وَمَا عِنْدَ رَأْسِ الْمَيِّتِ وَفِّرو حُلَّهَا بِلَحْدٍ وَدَعَ أَكْفَانَهُ لا تُقَدِّدِ وَيَكْفِي لِفَافٌ مَعَ قَمِيصٍ وَمِئْزَرٍ وَالأُنْثَى خِمَارٌ مَعَ لِفَافَةٍ ازْدَدِ اللهم ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا للقيام بأمرك وأعذنا من عدونا وعدوك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) والصلاة على الميت فرض كفاية لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الغال صلوا على صاحبكم وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «صلوا على

الدعاء في الصلاة على الميت وكونها جماعة أفضل

أطفالكم فإنهم أفراطكم» . وقوله: «إن صاحبكم النجاشي قد مات فقوموا فصلوا عليه» . وقوله صلوا على من قال لا إله إلا الله. وتسقط الصلاة عليه بمكلف، لأنها صلاة ليس من شروطها الجماعة، فلم يشترط لها العدد، وشروط الصلاة على الميت ثمانية النية والتكليف واستقبال القبلة وستر العورة واجتناب النجاسة وإسلام المصلي والمصلي عليه وطهارتهما ولو بالتراب وحضور الميت إن كان في البلد. وأركان الصلاة على الميت سبعة، القيام في فرضها والتكبيرات الأربع لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر على النجاشي أربعًا. متفق عليه، وقراءة الفاتحة، لعموم حديث لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، وصلى ابن عباس على جنازة فقرأ بأم القرآن وقال: لتعلموا أنها سنة، أو قال: من تمام السنة. رواه البخاري. والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، والدعاء للميت لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء» . رواه أبو داود والترتيب، والسلام لعموم حديث تحليلها التسليم، وصفة الصلاة على الميت أن ينوي. ثم يكبر أربعًا يرفع يديه مع كل تكبيرةٍ يحرم بالتكبيرة الأولى ويتعوذ ويسمي ويقرأ الفاتحة ولا يستفتح لأن مبناها على التخفيف، ويكبر التكبيرة الثانية، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يصلي عليه في التشهد، ويكبر في الثالثة ويدعو للميت بأحسن ما يحضر.

تكون الصفوف في ثلاثة وأزيد ومدة الصلاة عليه بعد دفنه

وسن بما ورد، ومنه: اللهم اغفر لحينًا وميتنًا وصغيرنًا وكبيرنًا وذكرنًا وأُنْاثنًا إنك تعلم منقلبنًا ومثوانًا وأنت على كل شيء قدير اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام والسنة ومن توفيته منا فتوفه عليهما. اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارًا خيرًا من داره وزوجًا خيرًا من زوجه وأدخله الجنة وأعذه من عذاب النار وعذاب القبر وأفسح له في قبره ونور له فيه. وإن كان الميت المصلى عليه صغيرًا أو مجنونًا واستمر قال: اللهم اجعله ذخرًا لوالديه وفرطًا وشفيعًا مجابًا اللهم ثقل به موازينهما وأعظم بع أجورهما وألحقه بصالح سلف المؤمنين واجعله في كفاية إبراهيم وقه برحمتك عذاب الجحيم وإن لم يعلم إسلام والديه دعا لمواليه. ويؤنث الضمير على أنثى فيقول: اللهم اغفر لها إلى آخر الدعاة ويشير بما يصلح لهما على خنثى، وما جهل هل هو ذكر أم أنثى فيقول في دعائه اللهم اغفر لهذا الميت ونحوه كهذه الجنازة لأنه يصلح لهما. ويكبر التكبيرة الرابعة ويقف بعدها قليلاً ولا يدعو ويسلم تسليمة واحدًة عن يمينه ويجوز أن يسلمها تلقاء وجهه ويجوز أن يسلم ثانية. وتسن الصلاة على الميت جماعة كفعله عليه الصلاة والسلام وأصحابه واستمر عليه الناس وسن أن لا تنقص الصفوف عن ثلاثة صفوف ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى عليه ثلاثة صفوف من الناس فقد أوجب» . رواه الترمذي وحسنه والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم.

الصلاة على الغائب الأولى بالصلاة على الميت وصفة الصفوف

ويجوز أن يصلى على الميت من دفنه إلى شهر وشيء قليل كيوم ويومين يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ستة وجوه كلها حسان قاله أحمد. وقال: ومن يشك في الصلاة على القبر وقال أكثر ما سمعت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - على أم سعد بن عبادة بعد شهر. ويصلى على الغائب بالنية لصلاته عليه الصلاة والسلام على النجاشي والأولى بالصلاة على الميت وصية العدل فسيد برقيقه فالسلطان فنائبه الأمير فالحاكم فالأولى بغسل رجل فزوج بعد ذوي الأرحام. ومع تساو يقرع بينهم ومن قدمه ولي لا وصي بمنزلته والسنة أن يقف الإمام والمنفرد عند رأس الرجل الميت المصلى عليه وعند وسط الأنثى لما ورد عن أنس أنه صلى على رجل فقام عند رأسه ثم صلى على امرأة فقام وسطها فقال العلاء بن زياد هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم قال: نعم وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - على امرأة فقام وسطها متفق عليه. ويسن أن يلي الإمام من كل نوع أفضلهم فأسن فأسبق ثم يقرع فإن كان رجلاً وصبيًا وامرأة وخنثي قدم إلى الإمام الرجل ثم الصبي ثم الخنثي ثم المرأة لما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه صلى على تسع جنائز رجال ونساء فجعل الرجال مما يلي الإمام والنساء مما يلي القبلة. ويقضي المسبوق ما فاته من التكبيرات إذا سلم إمام على صفتها فإن خشي رفع الجنازة تابع التكبير رفعت أو لم ترفع وإذا سلم ولم

إذا وجد بعض ميت بعد ما صلى عليه وأنه لا يصلى على من في البلد في النية لأنه يمكن حضوره للصلاة عليه ولا يصلى على كل غائب ولا يصلي الإمام على الغال من الغنيمة ولا على قاتل نفسه

يقض شيئًا صحت ويجوز دخوله بعد التكبيرة الرابعة ويقضي الثلاث التكبيرات استحبابًا لينال الأجر. وإن وجد بعض ميت كرجل أو يدٍ فحكمه ككله فيغسل ويصلى عليه بعد ما يكفن وجوبًا لأن أبا أيوب صلى على رجل إنسان قاله احمد وصلى عمر على عظام بالشام وصلى أبو عبيدة على رؤوس رواهما عبد الله بن أحمد بإسناده. قال الشافعي ألقى طائر يدًا من وقعة الجمل عرفت بالخاتم وكانت يد عتاب بن أسيد وصلى عليها أهل مكة فإن كانت الميت قد صلى عليه غسل ذلك البعض وكفن وجوبًا وصلى عليه استحبابًا لأن الفرض سقط بالصلاة على أكثر الميت. وكذا إن وجد الباقي من الميت فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن بجنبه ولا يصلى على ما بان وانفصل من حي كيد وسارق وقاطعٍ طريقٍ ما دام الإنسان حيًا. ولا يصلى على من في أحد جانبي البلد وان كان البلد كبيرًا ولو لمشقة مطرٍ أو مرضٍ لأنه يمكن حضور الميت للصلاة عليه في البلد ويعتبر انفصاله عن البلد بما يعد الذهاب إليه نوع سفر. قال الشيخ تقي الدين وأقرب الحدود ما تجب فيه الجمعة ولا يصلي على كل غائب قال الشيخ تقي الدين لأنه لم ينقل ومن صلى على ميتٍ كره له إعادة الصلاة كالعيد إلا من صلى عليه بالنية إذا حضر. وكذا إذا وجد بعض ميتٍ صلى على جملته فتسن الصلاة على ذلك البعض.

شِعْرًا: يَا غَافِلِينَ أَفِيقُوا قَبْلَ مَوْتِكِمْ وَقَبْلَ يُؤْخَذُ بِالأَقْدَامِ بالأقدام وَاللَّمَمِ وَالنَّاسُ أَجْمَعُ طَرًّا شَاخِصُونَ غَدًا لا يَنْطِقُونَ بِلا بُكْمٍ وَلا صَمَمِ وَالْخَلْقُ قَدْ شُغِلُوا وَالْحَشْرُ جَامِعُهُمْ وَاللهُ طَالِبُهُمِ بِالْحِلِّ وَالْحَرَمِ وَقَدْ تَبَدَّى لأَهْلِ الْجَمْعِ كُلِّهِمْ وَعْدَ الإِلَهِ مِنَ التَّعْذِيبِ وَالنِّقَمِ وَكُلُّ نَفْسٍ لَدَى الْجَبَّار شَاخِصَة لا يَنْطِقُونَ بِلا رُوحٍ مِنَ الزَّحَمِ اللهم إنا نسألك أن ترفع ذكرنا وأن تضع وزرنا وتصلح أمرنا وتطهر قلوبنا وتنور قبورنا وتغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) ولا يصلي الإمام على الغالٍ ولا على قاتل نفسه أما ألغال وهو من كتم شيئًا مما غنمه المسلمون من الكفار ليختص به فلأنه عليه الصلاة والسلام امتنع عن الصلاة على رجل من جهينة غل يوم خيبر وقال: «صلوا على صاحبكم» . رواه الخمسة إلا الترمذي احتج به أحمد وأما قاتل نفسه فلحديث جابر بن سمرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاؤه برجل قد قتل نفسه بمشاقص فلم يصلى عليه. رواه مسلم وغيره.

صفة حمل الميت وحكم إتباع جنازته للراجل والراكب

وللمصلي على الجنازة قيراط من الأجر وهو أمر معلوم عند الله تعالى وله بتمام دفنها قيراط آخر لما ورد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من شهد جنازة حتى يصلى عليها فله قيراط ومن شهد حتى تدفن فله قيراطان» . قيل: وما القيراطان؟ قال: «مثل الجبلين العظيمين» . متفق عليه. ولمسلم حتى توضع في اللحد وللبخاري من حديث أبي هريرة من تبع جنازة مسلم إيمانًا واحتسابًا وكان معها حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع بقراطين كل قيراط مثل قيراط أحدٍ وحمل الميت لمحل دفنه فرض كفاية. ويسن التربيع في حمل الجنازة لما ورد عن ابن مسعود قال: من اتبع جنازة فليحمل بجوانب السرير كلها فإنه من السنة ثم إن شاء فليتطوع وإن شاء فليدع. رواه ماجه وصفته أن يضع قائمة السرير اليسرى المقدمة على كتفه اليمنى. ثم ينتقل إلى المؤخرة ثم اليمنى المقدمة على كتفه اليسري ثم ينتقل إلى المؤخرة ولا يكره الحمل بين العموديين وهو ما بين القائمتين المقدمتين أو المؤخرتين أو يجعل كل عمودٍ على عاتقٍ. لما روي أنه عليه الصلاة والسلام حمل جنازة سعد بن معاذ بين العموديين ويسن الإسراع بالجنازة لما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أسرعوا بالجنازة فإن كانت صالحة قربتموها إلى خير وإن كانت غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم» . رواه الجماعة. شِعْرًا: ... إِنِّي أَبُثُّكَ مِنْ حَدِيثِي ... وَالْحَدِيثُ لَهُ شُجُونْ غَيَّرْتُ مَوْضِعَ مَرْقَدِي ... لَيْلاً فَنَافَرَنِي السُّكُونْ قُلْ لِي فَأَوَّلُ لَيْلَةٍ ... فِي الْقَبْرِ كَيْفَ تَرَى تَكُونْ

حكم إتباع النساء للجنائز وحكم القيام للجنازة

شِعْرًا: ... نُرَاعِ إِذَا الْجَنَائِزُ قَابَلَتْنَا ... وَنَسْكُنُ حِينَ تَخْفَى ذَاهِبَات كَرَوْعَةِ ثُلَّة لِظُهُورِ ذِئْبٍ ... فَلَمَّا غَابَ عَادَتْ رَاتِعَاتِ ولا يكره الحمل على دابة لغرض صحيح كبعد المقبرة ومثل البعير السيارة ونحوها ويستحب كون الماشي قدام الجنازة قال ابن المنذر: ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة. رواه أحمد. عن ابن عمر ولأنهم شفعاء والشفيع يتقدم المشفوع له. وسن كون راكب خلف الجنازة لحديث المغيرة بن شعبة مرفوعًا الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها. رواه الترمذي. وقال: حسن صحيح لأنه إذا سار أمامها الراكب أذى المشاة والقرب من الجنازة أفضل كالإمام في الصلاة. ويكره جلوس تابعها حتى توضع بالأرض لحديث أبي هريرة قال فيه حتى توضع بالأرض ورفع الصوت مع الجنازة مكروه لحديث لا تتبع الجنازة بصوتٍ ولا نارٍ رواه أبو داود وقول القائل مع الجنازة استغفروا بدعة وروى سعيد أن ابن عمر وسعيد بن جبير قالا لقائل ذلك لا غفر الله لك. وكره أن تتبع الجنازة امرأة لحديث أم عطية: نهينا عن إتباع الجنائز ولم يعزم علينا وحرم أن يتبعها مع منكر يعجز عن إزالته ويلزم القادر على إزالته أن يزيله ولا يترك إتباعها. ويستحب القيام للجنازة لما ورد عن ابن عمر عن عامر بن ربيعة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها حتى تخلفكم أو توضع» . رواه الجماعة ولأحمد. وكان ابن عمر إذا رأى جنازة قام حتى تجاوزه وله أيضًا عنه أنه ربما

قصيدة زهدية وعظية بليغة جدا جرسها يهز القلوب

تقدم الجنازة فقعد حتى إذا رآها قد أشرفت قام حتى توضع واختار هذا القول الشيخ تقي الدين وعن جابر قال مرت بنا جنازة فقام لها النبي - صلى الله عليه وسلم - وقمنا معه فقلنا: يا رسول الله إنها جنازة يهودي قال: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها» . وعن سهل بن حنيف وقيس بن سعد أنهما كانا قاعدين بالقادسية فمروا عليهما بجنازة فقاما فقيل لهما إنها من أهل الأرض أي من أهل الذمة فقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرت به جنازة فقام فقيل له إنها جنازة يهودي فقال: «أليست نفسًا» . متفق عليهما. اللهم وفقنا توفيقًا يقينًا عن معاصيك ووفقنا للعمل بما يرضيك وارزقنا محبتك ومحبة من يحبك وبغض من يعاديك واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. شِعْرًا: سِهَامُ الْمَنَايَا فِي الْوَرَى لَيْسَ تُمْنَعُ فَكُلٌّ لَهُ يَوْم وَإِنْ عَاشَ مَصْرَعٍ وَكُلٌّ وَإِنْ طَالَ الْمَدَى سَوْفَ يَنْتَهِي إِلَى قَعْرِ لَحْدٍ فِي ثَرَى مِنْهُ يُوَدّع فَقُلْ لِلَّذِي قَدْ عَاشَ بَعْدَ قَرِينُهُ إِلَى مِثْلِهَا عَمَّا قَلِيلٍ سَتَدْفَعُ فَكُلُّ ابْن أُنْثَى سَوْفَ يُفْضِي إِلَى الرَّدَى وَيَرْفَعُهُ بَعْدُ الأَرَائِكِ شرجعُ

ج وَيُدْرِكُهُ يَوْمًا وَإِنْ عَاشَ بُرْهَةً قَضَاءً تُسَاوَى فِيهِ عَوْد وَمُرْضِعُ فَلا يَفْرَحَنَّ يَوْمًا بِطُولِِ حَيَاتِهِ لَبِيبٍ فَمَا فِي عَيْشِهِ الْمَرْءُ مَطْمَعُ فَمَا الْعَيْشُ إِلا مِثْلُ لَمْحَةِ بَارِقٍ وَمَا الْمَوتُ إِلا مِثْل مَا الْعَيْنُ تُهْجَعُ وَمَا النَّاسُ إِلا كَالنَّبَاتِ فَيَابِسٌ هَشِيمٌ وَغَضَّ إِثْر مَا بَادَ يَطْلَعُ فَتَبَّا لِدَارٍ مَا تَزَالُ تُعُلُّنَا أَفَاوِيقَ كَأْسٍ مَرَّةً لَيْسَ تَقْنَعُ سِحَابُ أَمَانِيهَا جِهَامٌ وَبَرْقُهَا إِذَا شِيمَ بَرْقٌ خَلْبٌ لَيْسَ يَهْمَعُ تَغُرُّ بَنِيهَا بِالْمُنَى فَتَقُودُهُمْ إِلَى قَعْرٍ مَهْوَاةٍ بِهَا بِالْمُنَى فَيُمْتَعُ فَكَمْ أَهْلَكْتُ فِي حُبِّهَا مِنْ مُتَيِّمٌ وَلَمْ يَحْظَ مِنْهَا بِالْمُنَى فَيُمْتِعُ تُمَنِّيه بِالآمَالِ فِي نَيْلِ وَصْلِهَا وَعَنْ غَيَّهِ فِي حُبِّهَا لَيْسَ يَنْزِعُ أَضَاعَ بِهَا عُمْرًا لَهُ لَيْسَ رَاجِعًا وَلَمْ يَنَلْ الأَمْرُ الَّذِي يُتَوَقَّعُ فَصَارَ لَهَا عَبْدًا لِجَمْعِ حُطَامِهَا وَلَمْ يَهِنْ فِيهَا بِالَّذِي كَانَ يَجْمَعُ

وَلَوْ كَان ذَا عَقْلٍ لأَغْنَتْهُ بُلْغَةٌ مِنَ الْعَيْشِ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَكُ يَجْشَعُ إِلَى أَنْ تُوَافِيهُ الْمَنِيَّة وَهُوَ بَالْ قَنَاعَةِ فِيهَا آمِنًا لا يُرَوَّعُ مَصَائِبُهَا عَمَّتْ فَلَيْسَ بِمُفْلِتٍ شُجَاعُ وَلا ذَوُ ذِلَّةٌ لَيْسَ يَدْفَعُ وَلا سَابِحٍ فِي قَعْرِ بَحْرٍ وَطَائِرٌ يَدُومُ فِي بَُوحِ الْفَضَاءِ وَيَنْزِعُ وَلا ذُو امْتِنَاعٍ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ لَهَا فِي ذَرَى جَوِّ السَّمَاءِ تَرْفَعُ أَصارته مِنْ بَعْدِ الْحَيَاةِ بِوَهْدَةٍ لَهُ مِنْ ثَرَاهَا آخِرُ الدَّهْرِ مَضْجَعٍ تَسَاوَى بِهَا مِنْ حِلٍّ تَحْتَ صَعِيدِهَا عَلَى قُرْبِ عَهْدٍ بِالْمَمِاتِ وَتُبَّعُ فَسِيَّانِ ذُو فَقْرٍ بِهَا وَذُووا الْغِنَى وَذُو لَكِنْ عِنْدَ الْمَقَالِ وَمِصْقَعُ وَمَنْ لَمْ يَخْفَ عِنْدَ النَّوَائِبِ حَتْفَهُ وَذَو جُبْنٍ خَوْفًا مِنَ الْمَوْتِ يَسْرَعُ وَذُو جَشَعٍ يَسْطُو بِنَابٍ وَخَلَبٍ وَكُلّ بُغَاثٍ ذَلَّةً لَيْسَ يَمْنَعُ وَمَنْ مَلَكَ الآفَاقِ بَأْسًا وَشِدَّةً وَمَنْ كَانَ مِنْهَا بالضَّرُورَةِ يَقْنَعُ

وَلَوْ كَشَفَتْ الأَجْدَاثِ مُعْتَبِرًا لَهُمْ لِيَنْظُرَ آثَار الْبَلَى كَيْفَ يَصْنَعُ لَشَاهَدَ أَحْدَاقًا تَسِيلُ وَأَوْجُهًا مُعَفَّرَة فِي التُّرْبِ شُوْهًا تَفْزِّعُ غَدَتْ تَحْتَ أَطْبَاقِِ الثَّرَى مُكْفَهِرَّةً عَبُوسًا وَقَدْ كَانَتْ مِنْ الْبِشْرِ تَلْمَعُ فَلَمْ يَعْرَف الْمَوْلَى مِنَ الْعَبْدِ فِيهِمْ وَلا خَامِلاً مَنْ نَابِهِ يَتَرَفَّعُ وَأَنَّى لَهُ عِلْمٌ بِذَلِكَ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ مِنْهُمْ مَا لَهُ الْعَيْن تَدْمَعُ رَأَى مَا يَسُوءُ الطَّرْف مِنْهُمْ وَطَالَمَا رَأَى مَا يَسُرُّ النَّاظِرِينَ وَيَمْتِعُ رَأَى أَعْظُمًا لا تَسْتَطِيعَ تَمَاسُكَا تَهَافَتْ مِنْ أَوْصَالِهَا وَتَقَطَّعُ مُجَرَّدَةً مِنْ لَحْمِهَا فَهِيَ عِبْرَةٌ لِذِي فِكْرَةٍ فِيمَا لَهُ يَتَوَقَعُ تَخُونُهَا مَرَّ اللَّيَالِي فَأَصْبَحَتْ أَنَابِيبَ مِنْ أَجْوَافِهَا الرِّيحُ تُسْمَعُ إِلَى حَالَةٍ مُسَوَّدَةٌ وَجَمَاجِمٍ مُطَأْطَأَةٍ مِنْ ذِلَّةٍ لَيْسَ تَرْفَعُ أُزِيلَتْ عَنِ الأَعْنَاقِ فَهِيَ نَوَاكِسٌ عَلَى التُّرَابِ مِنْ بَعْدِ الْوَسَائِدِ تُوضَعُ جج

.. عَلاهَا ظَلامٌ لِلْبَلَى وَلَطَالَمَا غَدًا نُورُهَا فِي حِنْدسِ الظُّلْمِ يَلْمَعُ كَأَنَّ لَمْ يَكُنْ يَوْمًا عَلا مِفْرقًا لَهَا نَفَائِسُ تِيجَانٍ وَدُرٍّ مُرَصَّعُ تَبَاعَدَ عَنْهُمْ وَحْشَةً كُلُّ وَامِقٍ وَعَافَهُمْ الأَهْلُونَ وَالنَّاسُ أَجْمَعُ وَقَاطَعَهُمْ مَنْ كَانَ حَالَ حَيَاتِهِ بِوَصْلِهِمْ وِجْدًا بِهِمْ لَيْسَ يَطْمَعُ يَبْكِيهِمْ الأَعْدَاءُ مِنْ سُوءِ حَالِهِمْ وَيَرْحَمُهُمْ مَنْ كَانَ ضِدًّا وَيَجْزَعُ فَقُلْ لِلَّذِي قَدْ غَرَّهُ طُولُ عُمْرِهِ وَمَا قَدْ حَوَاهُ مِنْ زَخَارِفٍ تَخْدَعُ أَفِقْ وَانْظُرُ الدُّنْيَا بِعَيْنٍ بَصِيرَةٍ تَجِدُ كَلَّ مَا فِيهَا وَدَائِعُ تَرْجِعُ فَأَيْنَ الْمُلُوكَ الصَّيْد قَدْمًا وَمَنْ حَوَى مِنَ الأَرْضِ مَا كَانَتِ بِهِ الشَّمْسُ تَطْلَعُ حَوَاه ضَرِيحٌ مِنْ فَضَاءِ بَسِيطِهَا يَقْصُرُ عَنْ جُثْمَانِهِ حِينَ يَذْرَعُ فَكَمْ مَلِكْ أَضْحَى بِهَا ذَا مَذَلَّةٍ وَقَدْ كَانَ حَيًّا لِلْمَهَابَةِ يُتْبَعُ يَقُودُ عَلَى الْخَيْلِ الْعِتَاقِ فَوَارِسًا يَسُدُّ بِهَا رَحْبَ الْفَيَافِي وَيُتْرَعُ

فَأَصْبَحَ مِنْ بَعْدِ التَّنَعْمِ فِي ثَرَى تُوَارِي عِظَامًا مِنْهُ بَهْمَاءُ بَلْقَعُ بَعِيدًا عَلَى قُرْبِ الْمَزَارِ إِيَابُهُ فَلَيْسَ لَهُ حَتَّى الْقِيَامَةِ مَرْجِعُ غَرِيبًا عَنِ الأَحْبَابِ وَالأَهْلِ ثَاوِيًا بِأَقْصَى فَلاةٍ خِرْقَةٍ لَيْسَ يُرْقَعُ تَلِحُّ عَلَيْهِ السَّافِيَاتِ بِمَنْزِلٍ جَدِيبٍ وَقَدْ كَانَتْ بِهِ الأَرْضُ تُمْرِعُ رَهِينًا بِهِ لا يَمْلِكُ الدَّهْرَ رَجْعَةً وَلا يَسْتَطِيعَنَّ الْكَلامَ فَيَسْمَعُ تَوَسَّدْ فِيهِ التُّرْبَ مِنْ بَعْدِ مَا اغْتَدَى زَمَانًا عَلَى فُرْشٍ مِنْ الْخِزِّ يَرْفَعُ كَذَلِكَ حُكْمُ اللهِ فِي الْخَلْقِ لَنْ تَرَى مِنَ النَّاسِ حَيًّا شَمْلَهُ لَيْسَ يُصْدَعُ اللهم انهج بنا مناهج المفلحين وألبسنا خلع الإيمان واليقين وخصنا منك بالتوفيق المبين ووفقنا لقول الحق وإتباعه وخلصنا من الباطل وابتداعه وكن لنا مؤيدًا ولا تجعل لفاجر علينا يدًا واجعل لنا عيشًا رغدًا ولا تشمت بنا عدوًا ولا حاسدًا وارزقنا علمًا نافعًا وعملاً متقبلاً وفهمًا ذكيًا وطبعًا صفيًا وشفًا من كل داء واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الثناء على الميت بخير أو شر دليل على حال الإنسان

(فَصْلٌ) ثم اعلم الأخ وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لحسن الخاتمة أنه إذا حل بالإنسان الأجل المحتوم ووافته المنية وفاضت روحه وخرجت من الجسد الذي تعمره في الدنيا. فإن رأيت الناس عامة ومن يلوذون به خاصة كأقربائه وجيرانه وأنسابه وإخوانه وزملائه ومعامليه ما بين شاكٍ وباكٍ ومثنٍ عليه بخيرٍ وداعٍ له وسائلٍ له النجاة من المخاوف وسائلٍ الله له أن يدخله الجنة. وقد أجمعوا يطلبون له المسامحة والمغفرة من الله لما كان يتجلى لهم من خلق ودينٍ ومعاملةٍ وإحسانٍ ومعروفٍ وسيرةٍ حسنةٍ وكان المثنون عليه من أهل الصلاح والعدالة والورع والتقى والصدق والفضل. فاعلم أن ثناءهم دليل قوي وبرهان جلي على حسن حال الميت الراحل عن الدنيا إلى الآخرة وإن رأيتهم بالعكس خلاف ما ذكرنا فبدل الثناء والمدح قدح ومكان الترحم والدعاء له الطعن والسب والشتم والاستياء فتجد جيرانه من أهل الصلاح فرحين لانقطاع شره وكذلك من أساء إليهم بمعاملةٍ أو نميمةٍ أو كذبٍ أو أكل حقوقهم أو لما يعلمون عنه من الفسق والفجور والاعتداء والاستطالة على عباد الله بغير حق. فهذا أيضًا برهان ساطع ودليل واضح على سوء حاله خبث أعماله وفي الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: مروا بجنازةٍ فأثنوا عليها خيرًا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:

«وجبت» . ثم مر بأخرى فأثنوا عليها شرًا. فقال: «وجبت» . فقال عمر رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: «هذه أثنيتم عليه خيرًا فوجبت له الجنة وهذه أثنيتم عليه شرًا فوجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض» . وفي الحديث الآخر عند الحاكم: «أن لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المؤمن من الخير والشر، قلت: ولا يبعد أن الشياطين تنطق على ألسنة الذين يكتبون للفسقة والمجرمين حسن سير وسلوك. وفي الحديث الذي في المسند: «يوشك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار» . قالوا: بماذا يا رسول الله؟ قال: «بالثناء الحسن والثناء السيئ» . وقال النووي على حديث أنس أنه مر على النبي - صلى الله عليه وسلم - بجنازة فأثنوا عليه خيرًا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - وجبت ثم مر بأخرى فأثنوا عليه شرًا فقال وجبت الحديث قال الصحيح أنه على عمومه وأن من مات فألهم الله الناس الثناء عليه بخير كان دليلاً على أنه من أهل الجنة. ومما يؤيد ما قاله النووي رحمه الله حديث أنس عند أحمد وابن حبان والحاكم مرفوعًا: «ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة من جيرانه الأدنين أنهم لا يعلموا منه إلا خيرًا إلا قال الله تعالى قد قبلت قولكم وغفرت له ما لا تعلمون» . وفي حديث البخاري عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة» . فقلنا: وثلاثة؟ قال: وثلاثة؟ فقلنا: واثنان. قال: «واثنان» . ثم لم نسأله عن الواحد.

وقال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله: ولا يشهد لأحدٍ بالجنة إلا من شهد له الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو اتفقت الأمة على الثناء عليه. وقيل يشهد به لمن استفاض عند الأمة أنه رجل صالح كعمر بن عبد العزيز والحسن البصري وغيرهم. وكان أبو ثورٍ يشهد لأخمد بن حنبل بالجنة وبالتالي فإذا شهد عامة المؤمنين ممن تقبل شهادتهم ويوثق بدينهم وأمانتهم وكلامهم من أهل الصدق والفضل والورع لرجل بالخير فهو برهان ودليل على حسن حاله والله أعلم ولا عبرة بثناء الفسقة والفجرة لأنهم قد يثنون على من كان مثلهم ولا من كان بينه وبين الميت عداوة. لأن شهادة العدو لا تقبل على عدوه. قال ابن القيم رحمه الله: لما رأى المتيقظون سطوة الدنيا بأهلها، وخداع الأمل لأربابه، وتملك الشيطان، وقيادة النفوس، رأوا الدولة للنفس الأمارة، لجئوا إلى حصن التضرع والإلجاء، كما يأوي العبد المذعور إلى حرم سيده. شهوات الدنيا كلعب الخيال، ونظر الجاهل مقصور على الظاهر، فأما العقل فيرى ما وراء الستر. لاح لهم المشتهى، فلما مدوا أيدي التناول بان لأبصار البصائر خبط الفخ، فطاروا بأجنحة الحذر، وصوبوا إلى الرحيل الثاني (يا ليت قومي يعلمون) . تلمح القوم الوجود ففهموا المقصود، فأجمعوا الرحيل قبل الرحيل، وشمروا للسير في سواء السبيل، فالناس مشتغلون بالفضلات، وهم في قطع الفلوات، وعصافير الهوى في وثاق الشبكة ينتظرون الذبح. «وقع ثعلبان في شبكة. فقال أحدهما للآخر: أين الملتقى بعد هذا؟ فقال: بعد يومين في الدباغة» . تالله ما كانت الأيام إلا منامًا فاستيقظوا.

وقد حصلوا على الظفر. ما مضى من الدنيا أحلام، وما بقي منها أماني، والوقت ضائع بينهما. كيف يسلم من له زوجة لا ترحمه، وولد لا يعذره، وجار لا يأمنه، وصاحب لا ينصحه، وشريك لا ينصفه، وعدو لا ينام عم معاداته، ونفس أمارة بالسوء، ودنيا متزينة، وهوى مرد، وشهوة غالبة له، وغضب قاهر، وشيطان مزين، وضعف مستول عليه. فإن تولاه الله وجذبه إليه، انقهرت له هذه كلها، وإن تخلى عنه ووكله إلى نفسه، اجتمعت عليه فكانت الهلكة. شِعْرًا: أَلا أَخْبِرْ بِمُنْتَزِجِ النَّوَاحِي ... أَطَيرُ إِلَيْهِ مَنْشُورَ الْجِنَاحِ فَأَسْأَلُهُ وَأَلْطفه عَسَاهُ ... سَيَأْسُو مَا بِدِينِي مِنْ جِرَاحِ وَيَجْلُو مَا دَجَا مِنْ لَيْلِ جَهْلِي ... بِنُورِ هُدًى كَمُنْبَلِجَ الصَّبَاحِ فَأَبْصَقَ فِي مُحَيَّا أُمّ دَفْرٍ ... وَأهْجُرُهَا وَأَدْفَعُهَا بِرَاحِي وَأَصْحُو مِنْ حُمَيَّاهَا وَأَسْلُوا ... عَفَافًا عَنْ جَاذِرهَا الْمِلاحِ وَاصْرِفْ هِمَّتِي بِالْكُّلِ عَنَهَا ... إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ وَالنَّجَاحِ أَفِي السِّتِين اهْجِعْ فِي مَقِيلِي ... وَحَادِي الْمَوْتِ يُوقِظُ لِلرَّوَاحِ وَقَدْ نَشَرَ الزَّمَانُ لِوَاءَ شَيْبِي ... لَيَطْوِينِي وَيَسْلُبُنِي وِشَاحِي وَقَدْ سَلّ الْحَمَامُ عَلَيَّ نَصْلاً ... سَيَقْتُلُنِي وَإِنْ شَاكَتْ سِلاحِي وَيَحْمِلُنِي إِلَى الأَجْدَاثِ صَحْبِي ... إِلَى ضِيقٍ هُنَاكَ أَو انْفِسَاحٍ فَأُجْزَى الْخَيْرَ إِنْ قََدَّمْت خَيْرًا ... وَشَرًّا إِنْ جُزِيتَ عَلَى اجْتِرَاحِي وَهَا أَنَا ذَا عَلَى عِلْمِي بِهَذَا ... بِطِيءُ الشَّأْوِ فِي سُنَنِ الصَّلاحِ فَلَوْ أَنِّي نَظَرْتُ بِعَيْنِ عَقْلِي ... إِذَنْ لَقَطَعْتُ دَهْرَي بِالنِّيَاحِ وَلَمْ أَسْحَبْ ذُيُولِي فِي التَّصَابِي ... وَلَمْ أُطْرَبُ بِغَانِيَةٍ رَدَاحٍ

القبر والموضع فيه وما يتعلق بذلك

وَكُنْتُ الْيَومَ أَوَّابًا مُنِيبًا ... لَعَلِّي أَنْ تَفُوزُ غَدًا قُدَاحِي إِذَا مَا كُنْتُ مَكْبُول الْخَطَايَا ... وَعَانِيهَا فَمَنْ لِي بِالْبَرَاحِ فَهَلْ مِنْ تَوْبَةٍ مِنْهَا نَصُوحٍ ... تُطَيِّرُنِي وَتَأْخُذْ لِي سَرَاحِي فَيَا لَهْفِي إِذَا جَمَعَ الْبَرَايَا ... عَلَى حَرْبِي لَدَيْهُمْ وَافْتِضَاحِي وَلَوْلا أَنِّي أَرْجُو إِلَهِي ... وَرَحْمَتُهُ يَئِسْتُ مِنَ الْفَلاحِ اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة واجعلنا ممن كتبت لهم الحسنى وزيادة واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) وسن أن يعمق القبر بأن ينزل للأرض لقوله - صلى الله عليه وسلم - في قتلى أحد: «احفروا وأوسعوا وأعمقوا» . رواه أبو داود والترمذي وصححه. وقوله للحافر: «أوسع من قبل الرأس وأوسع من قبل الرجلين» . رواه احمد وأبو داود. قال أحمد: يعمق إلى الصدر لأن الحسن وابن سيرين كانا يستحبان ذلك ويكفي ما يمنع السباع والرائحة لأنه يحصل به المقصود وسن أن يسجى قبر لأنثى وخنثي وكره لرجلٍ إلا لعذر. وسن أن يدخله قبره من عند رجليه إن سهل عليهم لأنه - صلى الله عليه وسلم - سل من قبل رأسه وعبد الله بن زيد أدخل الحارث من قبل رجلي القبر وقال: هذا من السنة. رواه أحمد. ويسن قول مدخله القبر بسم الله وعلى ملة رسول الله. ويجب أن يستقبل به القبلة إذا وضع في القبر لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة

قبلتكم أحيًاء وأمواتًا ولأنه طريق المسلمين بنقل الخلف عن السلف. ويحرم دفن غيره معه إلا لضرورة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدفن كل ميت في قبرٍ واحدٍ. وأما عند الضرورة فيجوز لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كثر القتلى يوم أحد كان يجمع بين الرجلين في القبر الواحد ثم يسأل أيهم أكثر للقرآن فيقدمه في اللحد حديث صحيح. وسن حثو التراب عليه ثلاثًا ثم يهال عليه التراب لحديث أبي هريرة قال فيه: فحثي عليه من قبل رأسه ثلاثًا. رواه ابن ماجه ويستحب الدعاء للميت بعد الدفن لما ورد عن عثمان رضي الله عنه قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: «استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل» . رواه أبو داود. وسن رفع القبر عن الأرض قدر شبر مسنمًا لقول جابر أن النبي إذا فرغ رفع قبره عن الأرض قدر شبر. رواه الشافعي ويكره رفعه أكثر لقوله لعلي: «لا تدع تمثالاً ألا طمسته ولا قبرًا مشرفًا ألا سويته» . رواه مسلم. وسن رش القبر بماء لما ورد عن جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رش على قبر ابنه إبراهيم ماء ووضع الحصباء. رواه الشافعي. قال بعض العلماء: ويستحب الدفن فيما كثر فيه أهل الخير والصلاح فيدفنه معهم وينزله بإزائهم ويسكنه بجوارهم وأن يجنبه قبور من يخاف التأذي بهم كما جاء في أثر أن امرأة دفنت في قبر فاتت أهلها ليلاً أي في النوم فجعلت تعتبهم وتقول ما وجدتم أن تدفنوا إلا إلى فرن الخبز. فلما أصبحوا لم يجدوا بقرب القبر فرن خبز لكن وجدوا رجلاً سافًا لابن عامر دفن بقربها ورأى بعضهم ولده بعد موته فقال: ما فعل الله بك؟ قال: ما ضرني إلا أني دفنت بإزاء فلانٍ وكان فاسقًا فروعني ما يعذب به. أ. هـ.

قصيدة تضرع إلى الله

قصيدة تحتوي على الثناء والشكر والحمد والتضرع على الله عز وجل. يَا مُلَبِّسِي بِالنُّطْقِ ثَوْبَ كَرَامَةٍ ... وَمَكْمَلِي جُودًا بِهِ وَمُقَوِّمِي خُذْنِي إِذَا أَجَلِي تَنَاهَى وَانْقَضَى ... عُمْرِي عَلَى خَطٍ إِلَيْكَ مُقَوِّمِي وَاكْشِفْ بِلُطْفِكَ يَا إِلَهِي غُمَّتِي ... وَاجْل الصَّدَأَ عَنْ نَفْسِ عَبْدِكَ وَارْحَمْ فَعَسَايَ مِنْ بَعْدِ الْمَهَانَةِ اكْتَسَى ... حُلَلِ الْمَهَابَةَ فِي الْمَحَلِّ الأَكْرَمِ وَأَبُوءُ بِالْفِرْدَوْسِ بَعْدَ إِقَامَتِي ... فِي مَنْزِلٍ بَادِ السَّمَاحَةَ مُظْلِمٌ فَقَدْ اجْتَوَيْتَ ثَواي فِيهِ وَمَنْ تَكُنْ ... دَارُ الْغُرُورِ لَهُ مَحَلاً يَسْأَمُ دَارٌ يُغَادِرُ بُؤْسَهَا وَشَقَاءَهَا ... مِنْ حِلِّهَا وَكَأَنَّهُ لَمْ يَنْعَمْ وَيَعُودُ صَافِي عَيْشَهُ وَحَيَاتُهُ ... كَدْرًا فَلا تَجْنَحْ إِلَيْهَا تَسْلَمُ فَبِكَ الْمُعَاذُ إِلَهَنَا مِنْ شَرِّهَا ... وَبِكَ الْمَلاذُ مِنَ الْغِوَايَةِ فَاعْصِمِ وَعَلَيْكَ مُتَّكِلِي وَعَفْوُكَ لَمْ يَزَلْ ... قَصْدِي فَوَاخُسْرَاهُ عَنْ لَمْ تَرْحَمِ يَا نَفْسُ جِدِّي وَادْأَبِي وَتَمَسَّكِي ... بِعُرَى الْهُدَى وَعُرَى الْمَوَانِعِ فَافْصُم لا تُهْمِلِي يَا نَفْسُ ذَاتِكِ إِنَّ فِي ... نِسْيَانِهَا نِسْيَانُ رَبِّكِ فَاعْلَمِي وَعَلَيْكِ بِالتَّفْكِيرِ فِي آلائِهِ ... لِتَبُوئِي جَنَّاتِهِ وَتَنَعَّمِي وَتَيّمَّمِي نَهْج الْهِدَايَةِ إِنَّهُ ... مُنْجٍّ وَعَنْ طُرُقِ الضَّلالَةِ أحْجُمِي لا تَرْتَضِي الدُّنْيَا الدَّنِيَّة مَوْطِنًا ... تُعْلَى عَلَى رُتَبِ السَّوَارِي الأَنْجُمِ وَتَعَايَنِي مَا لا رَأَتْ عَيْنٌ وَلا ... أُذُن إِلَيْهِ وَعَتْ فَجُدِّي تَغْنَمِي وَتُشَاهِدِي مَا لَيْسَ يُدْرِكُ كُنْهُهُ ... بِالْفِكْرِ أَوْ بِتَوَهُّم الْمًتَوَهِمِ قُدْسٌ يَجُلُّ بِأَنْ يَحُلَّ جَنَابَهُ ... يَا نَفْسُ إِلا كُلُّ شَهْمٍ أَيْهَمِ وَتَجَاوُرِي الأَبْرَار فِي مُسْتَوْطِن ... لا دَاثِرٍ أَبَدًا وَلا مُتَهَدِّمِ يَا أَيُّهَا الْمَغْرُورُ شَبّتْ وَلَمْ تَعُدْ ... عَمَّا لَهِجْتَ بِهِ وَلَمْ تَتَنَدَّمِ وَاعْكُفْ عَلَى تَمْجِيدِ مُوجِدُكَ الَّذِي ... عَمَرَ الْوُجُودِ الْجُودِ مِنْهُ وَعَظّمِ

حكم إسراج القبر والتجصيص والبناء وما إلى ذلك

فَبِذِكْرِهِ تُشْفَى النُّفُوسُ مِنْ الْجَوَى ... فَعَلَيْهِ إِنْ آثَرْتَ بُرْؤُكَ صَمِّمِ أَكْرِمْ بِنَفْسِ فَتَىً رَأَى سُبُلَ الْهُدَى ... تَهْوِي فَمَالَ إِلَى الصِّرَاطِ الأَقْوَمِ ذَاكَ الَّذِي يَحْظَى بِيَوْمِ مَعَادُهُ ... ملكا سَجِيسَ الدَّهْرِ لَمْ يَتَصَرَّم يَا جَابِرَ الْعَظْمِ الْكَسِيرِ وَغَافِر الْـ ... جُرْمَ الْكَبِيرِ لِكُلِّ عَبْدٍ مُجْرِمِ مَا لِي إِلَيْكَ وَسِيلَةٌ وَذَرِيعَةٌ ... أَنْجُو بِهَا إِلا اعْتِقَادَ الْمُسْلِمِ فَاقْبَلْ بِمَنِّكَ تَوْبَتِي مِنْ حَوْبَتِي ... فَعَسَى سَعَادَةُ أَوْبَتِي لَمْ أُجْرَمِ حَمْدًا لَكَ اللَّهُمَّ يُنْمَى مَا جَلا ... وَضْحُ الصَّبَاحُ سَوَادَ لَيْلٍ أَسْحَمِ وَعَلَى نَبِيِّكَ ذِي الثَّنَاءِ وَآلِهِ ... السَّادَةِ الأُمَنَاءِ صَلَّ وَسَلِّمِ وَعَلَى صَحَابَتِهِ الَّذِينَ بِنَصْرِهِ ... قَامُوا وَنَارَ الْكُفْرِ لَمْ تَتَضَرَّمِ اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا وتلم بها شعثنا، وترفع بها شاهدنا، وتحفظ بها غائبنا، وتزكي بها أعمالنا، وتلهمنا بها رشدنا، وتعصمنا بها من كل سوء يا أرحم الراحمين. اللهم ارزقنا من فضلك، وأكفنا شر خلقك، وأحفظ علينا ديننا وصحة أبداننا. اللهم يا هادي المضلين ويا راحم المذنبين، ومقيل عثرات العاثرين، نسألك أن تلحقنا بعبادك الصالحين الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يا رب العالمين. وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) ويحرم إسراج القبر واتخاذ مسجد عليه وتجصيصه وتزويقه والبناء عليه والاستشفاء بترابه وتخليقه وتبخيره وتقبيله والجلوس عليه والوطء عليه والكتابة

عليه والتخلي عليه والطواف به والتمسح به والتخلي بين القبور والصلاة عنده لأجل الدعاء والاتكاء إليه. ويكره المشي بالنعل إلا لخوف شوك ونحوه وإليك أدلة ما سبق منها حديث ابن عباس قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج. رواه الخمسة إلا ابن ماجة وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» . متفق عليه. وعن جابر قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه. رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود والترمذي ولفظه نهى أن تجصص القبور أو يزاد عليه أو يجصص أو يكتب عليه. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر» . رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي وعن عمرو بن حزم قال: رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متكئًا على قبر فقال: «لا تؤذ صاحب القبر أو لا تؤذه» . رواه أحمد. وعن بشير بن الخصاصية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها» . رواه مسلم وعن عقبة بن عامر قال قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لأن أطأ على جمرةٍ أو سيفٍ أحب إليَّ من أن أطأ على قبر مسلم» . رواه الخلال وابن ماجة. ويحرم دفن في ملك الغير وينبش ما لم يأذن له المالك للأرض. ويحرم نبش ميت باق لميت آخر لما في النبش من هتك حرمة الميت ومتى علم أن الميت بلي وصار رميمًا جاز نبشه ودفن غيره فيه. وإن شك في أنه بلي وصار رميمًا رجع إلى قول أهل الخبرة والمعرفة بذلك فإن حفر فوجد في الأرض عظامًا دفنها موضعها وأبقاها في مكانها وأعاد

زيارة القبور وما يقوله الزائر النساء لها

التراب عليها كما كان أولاً ولم يجز دفن ميت آخر عليه وحفر في مكان آخر. شِعْرًا: محمدُ مَا أَعْدَدْتَ لِلْقَبْرِ وَالْبَلَى ... وَلِلْمَلَكَيْنِ الْوَاقِفَينَ عَلَى الْقَبْرِ وَأَنْتَ مُصِرٌّ لا تُرَاجِعُ تَوْبَةً ... وَلا تَرْعَوِي عَمَّا يُذَمُّ مِنَ الأَمْرِ سَيَأْتِيكَ يَوْمٌ لا تُحَاوِلُ دَفْعَهُ ... فَقَدِّمْ لَهُ زَادًا إِلَى الْبَعْثِ وَالنَّشْرِ آخر: ... أَبْقَيْتَ مَالَكَ مِيرَاثًا لِوَارِثِهِ ... فَلَيْتَ شِعْرِي مَا أَبْقَى لَكَ الْمَالُ الْقَوْمُ بَعْدَكَ فِي حَالٍ تَسُرُّهُمْ ... فَكَيْفَ بَعْدَهُمْ دَارَتْ بِكَ الْحَالُ مَلَّوُا الْبُكَاءَ فَمَا يَبْكِيكَ مِنْ أَحَدٍ ... وَاسْتَحْكَمَ الْقِيلَ فِي الْمِيرَاثِ وَالْقَالُ مَالَتْ بِهِمْ عَنْكَ دُنْيَا أَقْبَلَتْ لَهُمْ ... وَأَدْبَرَتْ عَنْكَ وَالأَيَّامُ أَحْوَالُ وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) تسن زيارة قبر مسلم لرجل وأن يقف الزائر أمامه قريبًا منه لما ورد عن بريدة بن الخصيب الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها» . رواه مسلم زاد الترمذي: «فإنها تذكر الآخرة» . زاد ابن ماجه من حديث ابن مسعود وتزهد في الدنيا. ويقول الزائر للقبور والمار بها: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم. لما ورد عن سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية. رواه مسلم.

شِعْرًا: مَحَلَّةُ سَفَرٍ كَانَ آخِرُ زَادَهُمْ ... إِلَيْهِ مَتَاعٌ مِنْ حَنُوطٍ وَمِنْ خِرَقْ إِلَى مَنْزِلٍ سُوَى الْبَلَى بَيْنَ أَهْلِهِ ... فَلَمْ تَسْتَبِينَ فِيهِ الْمُلُوكَ وَلا السُّوَقْ آخر: ... أَتَيْتَ إِلَى خَالِقِي خَاضِعًا ... وَخَدِّي فِي الثَّرَى يُوضَعُ وَإِنْ كُنْتَ وَافِيتَهُ مُجْرِمًا ... فَإِنِّي فِي عَفْوِهِ أَطْمَعُ وَكَيْفَ أَخَافُ ذُنُوبًا مَضَتْ ... وَعَفْوُه عَمَّ الْوَرَى أَجْمَعُ وعن بن عباس رضي الله عنهما قال: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبور المدينة فاقبل عليهم بوجهه فقال: السلام عليكم يا أهل القبور يغفر الله لنا ولكم أنت سلفنا ونحن بالأثر. رواه الترمذي. شِعْرًا: قِفْ بِِالْقُبُورِ بِأَكْبَادِ مُصَدَّعَة ... وَدَمْعَة مِنْ سُوَيْدا الْقَلْبِ تَنْبَعِثُ وَسَلْ بِهَا عَنْ رِجَالٍ طَالَ مَا رَشَفُوا ... ثَغْرَ النَّعِيمِ وَمَا فِي ظِلِّهِ مَكَثُوا مَاذَا لَقُوا فِي خَبَايَاهَا مَا قَدِمُوا ... عَلَيْهِ فِيهَا وَمَا مِنْ أَجْلِهِ ارْتَبَثُوا وَعَنْ مَحَاسِنِهِمْ إِنْ كَانَ غَيْرِهَا ... طُولُ الْمُقَامُ بِبَطْنِ الأَرْضِ وَاللَّبْثُ وَمَا لَهُمْ حَشَرَاتِ الأَرْضِ تَنْهِشُهُمْ ... نَهْشًا تَزُولُ بِهِ الأَعْضَاء وَالْجُثَثُ وَإِنْ يُجِبْكَ بِمَا لاقَا مُجِيبُهُمْ ... وَلَنْ يُجِيبَ وَأَنَّي يَنْطِقُ الْجَدَثُ فَانْظُرْ مَكَانَكَ فِي أَفْنَاءِ سَاحَتِهِمْ ... فَإِنَّهُ الْجَدُّ لا هَزِل وَلا عَبَثْ وتحرم زيارة القبور للنساء لما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن زوارات القبور. رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه واحتج شيخ الإسلام رحمه الله على تحريمه بلعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زورات القبور وصحح الحديث. وسئل الشيخ عبد الله أبا بطين إذا كان طريق على حد المقبرة هل يكره

للنساء المرور معه فأجاب إذا كان للناس طريق على المقبرة ومرت معه امرأة وسلمت فلا بأس لأنها لا تسمى زائرة. والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وسلم. شِعْرًا: وَلَمَّا حَلَلْنَا مِنْ بِجَايَةَ جَانِبًا ... تُصَانُ بِهِ تِلْكَ الْجُسُوم وَتُكْرَمُ وَجَدْتُ لَهَا طِيبًا وَرُوحًا وَرَاحَةً ... كَأَنِّي لأَنْفَاسِ الصِّبَا أَتَنَسَّمُ فَقُلْتُ لَصْحِبِي مَا الَّذِي أَمْرَجْتُ لَهُ ... مَقَابِرُ مِنْهَا لا طِىءٌ وَمُسَنَّمُ فَأَوْهَمْتُهُمْ أَنّي جَهِلْتُ وَأَنَّنِي ... لأَدْرِي بِذَاكَ الأَمْر مِنْهُم وَأَفْهَمُ فَقَالُوا طَلَبْنَا عِلْمَ ذَاكَ فَلَمْ نَجِدْ ... سِوَى رِمَمٍ مِمَّنْ تُحِبُّ وَتُعْظِمُ تَضَوَّعَ بَطْنُ الأَرْضِ مِنْهَا كَأَنَّمَا ... تَفَتَّقَ مِنْ دَارَيْنِ مِسْكٌ مُخَتَّمُ فَفَاضَتْ دُمُوعِي عِنْدَك ذَاكَ وَرُبَّمَا ... تَشْهر بِالدَّمْعِ السّرَارِ الْمُكْتَمُِ خَلِيلِي مَا بَالِي وَبَالَ مَصَائِبُ ... يراع لذاكرَاهَا فؤادِي وَيَكْلَمُ وَمِمَّا شَجَانِي وَهُوَ أَعْظَمُ أَنَّنِي ... قَذَفْتُ بِهَا مُسْوَدَّةَ الْجَوْفِ تَلْطِمُ وَلَمْ أَدْرِ مَا كَانَتْ تَحِيَّةَ خِصْمِهِ ... لَهُ هَلْ بِبُشْرَى أَمْ بِشَعْنَاءِ تَقْصِمُ وَأَعْظَمُ مِنْهُ مَوْقِعًا وَأَشَدُّهُ ... وَمَا خَصَّنِي أَدْهَى عَلَيَّ وَأَعْظَمُ بِأَنِّي فِي تِلْكَ الْمَسَالِكِ سَالِكٌ ... أُسَاقُ إِلَيْهَا إِنْ أَبَيْت وَأُرْغَمُ وَمَا أَنَا أَدْرِي مَا أُلاقِي وَمَا الَّذِي ... عَلَيْهِ إِذَا مَا كَانَ ذَلِكَ أَقْدَمُ فَهَلْ مِنْ دَمٍ ابْكِيهِ صرفنا فَإِنَّمَا ... يَبْكِي عَلَى هَذَا مِنْ الْمُقْلَةِ الدَّمُ اللهم أعطنا من الخير فوق ما نرجو واصرف عنا من السوء فوق ما نحذر. اللهم علق قلوبنا برجائك واقطع رجاءنا عمن سواك. اللهم إنك تعلم عيوبنا فاسترها وتعلم حاجتنا فاقضها كفى بك وليا وكفى بك نصيرًا يا رب العالمين اللهم وفقنا لسلوك سبيل عبادك الأخيار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

التعزية وما يتعلق بها وما يقال فيها وما يجاب به المعزي

(فَصْلٌ) تسن تعزية المسلم المصاب بالميت لما ورد عن الأسود عن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من عزى مصابًا فله مثل أجره» . رواه ابن ماجة والترمذي وحديث عمرو بن حزم مرفوعًا: «ما من مؤمن يعزى أخًا بمصيبة إلا كساه الله عز وجل من حلل الجنة» . رواه ابن ماجه واعلم أن التعزية هي التصبير وذكر ما يسلي صاحب المصيبة ويخفف حزنه ويهون مصيبته. وهي مستحبه لأنها مشتملة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي داخلة قوله تعالى {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} . وهذا من أحسن ما يستدل به في التعزية ثم التعزية التي هي الأمر بالصبر والرضا بما قدر الله مستحبة قبل دفن الميت وبعده وهو أفضل لأن أهل الميت مشغولون قبل دفنه بتجهيزه ولأن وحشتهم بعد دفنه لفراقه أكثر هذا إذا لم يظهر منهم جزع فإن تبين له منهم جزع قدم التعزية ليسكنهم. قال العلماء ويكره الجلوس للتعزية وذلك بان يجتمع أهل الميت في بيت ليقصدهم من أراد التعزية لما في ذلك من استدامة الحزن وقد حدث في زمننا هذا أناس يقبلون المصاب بالميت مع تعزيتهم له ولا أدري ما مسندهم ولا اعلم أن أحدًا من الصحابة أو التابعين فعل ذلك ولا الذين بعدهم على منتصف هذا القرن الرابع عشر. اللهم اعصمنا عن البدع وأحسن ما يعزى به ما روي في الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنه، قال أرسلت إحدى بنات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرسول الله تدعوه وتخبره أن ابنًا لها في الموت فقال عليه الصلاة والسلام للرسول: «ارجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فمرها فلتصبر ولتحتسب» . وذكر الحديث.

من صور التعزية التي وردت عن بعض السلف

ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - أن لله ما أخذ أن العالم كله ملك لله ولم يأخذ ما هو لكم بل هو آخذ ما هو له عندكم في معنى العارية وقوله وله ما أعطى أي ما وهبه لكم ليس خارجًا عن ملكه بل سبحانه يفعل فيه ما يشاء وكل شيءٍ بأجلٍ مسمى. فلا تجزعوا فإن من قبضه فقد انقضى أجله المسمى فمحال تأخيره أو تقديمه قال تعالى {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} فإذا علمتم ذلك فاصبروا واحتسبوا ما نزل بكم والله أعلم. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) ويقال للمصاب بمسلم أعظم الله أجرك وأحسن عزاؤك أو يقول غير ذلك قال الموفق لا أعلم في التعزية شيئًا محدودًا إلا أنه يروى إن النبي - صلى الله عليه وسلم - عزى رجلاً فقال: «رحمك الله وأجرك» . رواه أحمد. ويقول المعزى: استجاب الله دعاك ورحمنا وإياك ويحرم تعزية الكافر سواء كان الميت مسلمًا أو كافر لأن فيها تعظيمًا للكافر. وعزى بعضهم أخًا له في ابنه فقال: أحسن عزاهم فيه وأعظم لهم الأجور والهمهم التسليم للمقدور نقول جميعًا كما قال الصابرون {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} فالله الله أوصيك أخي إن تتدرع بِالرِّضا وتسلم للقضاء فالمصاب من حرم الثواب. واذكر آية في كتاب الله تشرح للمؤمن صدره وتجلب له صبرة وتهون خطبة وتذكره ربه قال تعالى {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} إلى قوله {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} . وقال {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} وفي الصحيح عن

صهيب مرفوعًا: " عجبًا لأمر المؤمن إن أمره خير إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له ". وقال آخر يعزى بعض إخوانه: المأمول فيكم الصبر والاحتساب والتعزي بعزاء الله فقد قال بعض العلماء إنك لن تجد أهل العلم والإيمان إلا وهم أقل الناس انزعاجًا عند المصائب وأحسنهم طمأنينة واقلهم قلقًا عند النوازل وما ذاك إلا لما أتوا مما حرمه الجاهلون. قال الله تعالى {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} . فهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب وأنفعه له في العاجلة والآجلة فإنها تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتها تسلى عن مصيبة لأن العبد وأهله وماله ملك لله يتصرف فيه حيث جعله عند عبده عارية. والمعير مالك قاهر قادر والعبد محفوف بعدمين عدم قبله وعدم بعده وملك العبد متعة معارة الثاني أن مصير العبد ومرجعه ومرده إلى مولاه الحق الذي له الحكم والأمر ولا بد أن يخلف ما خوله في هذه الدار وراء ظهره ويأتي فردًا بلا أهلٍ ولا مالٍ ولا عشيرةٍ ولكن بالحسنات والسيئات. ومن هذا حاله لا يفرح بموجود ولا يأسف على مفقودٍ وإذا علم المؤمن علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه هانت عليه المصيبة وأطمأن بأذن الله وقد قيل: مَا قَدْ قضي يَا نَفْسُ فَاصْطَبِرِي لَهُ ... وَلَكَ الأَمَان مِنَ الَّذِي لَمْ يُقْدَرِ وَتَعَلَّمِي أَنَّ الْمُقَدَّرَ كَائِنٌ ... يَجْرِي عَلَيْكَ عَذِرْتَ أَمْ لَمْ تُعْذَرِ ومن صفات المؤمن أنه عند الزلازل وقور وفي الرخاء شكور ومما يخفف المصائب برد التأسي فانظروا يمينًا وشمالاً وأمام وَوَراء فإنكم لا تجدون إلا من

قد وقع به ما هو أعظم من مصيبتكم أو مثلها أو قريب منها ولم يبق إلا التفاوت في عوض الفائت أعوذ بالله من الخسران. ولو أمعن البصير في هذا العالم جميعه لم يرى إلا مبتلي إما لفوت محبوبٍ أو حصول مكروهٍ وإن سرور الدنيا أحلام ليلٍ أو كظلٍ زائلٍ إن أضحكت قليلاً أبكت كثيرًا وإن سرت يومًا أساءت دهرًا جمعها على انصداع ووصلها على انقطاع. إقبالها خديعة وإدبارها فجيعة لا تدوم أحوالها ولا يسلم نزالها حالها انتقال وسكونها زوال غرارة خدوع معطية منوع نزوع ويكفي في هوانها على الله أن لا يعصى إلا فيها ولا ينال ما عنده إلا بتركها. مع أن المصائب من حيث هي رحمة للمؤمن وزيادة في درجاته كما قال بعض السلف لو مصائب الدنيا لوردنا الآخرة مفاليس والرب سبحانه لم يرسل البلاء إلى العبد ليهلكه ولا ليعذبه ولكن امتحانًا لصبره ورضاه عنه واختبارًا لإيمانه وليراه طريحًا ببابه لائذًا بجنابة منكسر القلب بين يديه فهذا من حيث المصائب الدنيوية وأما ما جرى عليكم فأنتم به بالتهنئة أجدر من التعزية. ولعمر الله إن من سلم له دينه فالمحن في حقه منح والبلايا عطايا والمكرهات له محبوبات وأما المصيبة العظمى والخطب الأكبر والكسر الذي لا يجبر والعثار التي لا تقال فهي المصيبة في الدين كما قيل: (وَكُلُّ كَسْرٍ فِإِنَّ اللهَ يَجْبِرَهُ ... وَمَا لِكَسْرِ قَنَاةِ الدِّين جُبْرَانُ) آخر: الدِّينُ رَأْسُ الْمَالِ فَاسْتَمْسِكْ بِهِ ... فَضِيَاعُهُ هُوَ أَعْظَمُ الْخُسْرَانِ آخر: لَعَمْرِيَ مَا الرَّزِيَّة فَقْدُ قَصُرٍ ... فَسِيحٍ مُنْيَةٍ لِلسَّاكِينِنَا وَلَكِنَّ الرَّزِيَّةَ فَقْدُ دِين ... يَكُونُ بِفَقْدِهِ مِنْ كَافِرِينَا

آخر: لَعَمَرْيَ مَا عُمْرٌ يُعَدُّ بِضَائِعِ ... إِذَا كَانَ بِالتَّهْلِيلِ وَالذِّكْرِ يُعْمَرُ آخر: إِذَا الْمَرْء لَمْ يُدْرِكْ رِضَى خَالِقُ الْوَرَى ... فَمَا حَظُّهُ فِي أَنَّ يَطُولَ بِهِ الْعُمْرُ آخر: لِمَنْ تَطْلُبُ الدُّنْيَا إِذَا لَمْ تَرِدْ بِهَا ... رِضَى الْمَلِكِ الْقُدُوس رَبِّ الْبَرِيّةِ آخر: (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ضَيَّعْتُهُ عِوَضٌ ... وَمَا مِنْ الله عَن ضَيْعَتِهِ عِوَضُ) وقد مضت سنة احكم الحاكمين لمن أراد به خيرا أن يقدم الابتلاء بين يديه ومن أسباب السلو عن المصائب وأقوى الأدوية بإذن الله تعالى لفاقد الحبيب العلم بأن الدنيا فانية وزائلة وأنها مخلوقة للذهاب والأفول وأن ما فيها يتغير ويتحول ويضمحل ويفنى لأنها إلى الآخرة طريق وهي مزرعة للآخرة. روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال كان لسليمان بن داود عليهما السلام ابن يجد به وجدًا شديدًا فمات الغلام فحزن عليه حزنًا شديدًا وروي ذلك في قضائه ومجلسه فبعث الله إليه ملكين في هيئة البشر فقال: ما أنتما؟ فقالا خصمان قال: اجلسا بمجلس الخصوم فقال أحدهما: إني زرعت زرعًا فأتى هذا فأفسده. قال سليمان عليه السلام: ما يقول هذا؟ قال: أصلحك الله إنه زرع في الطريق وإني مررت به فنظرت يمينًا فإذا الزرع ونظرت شمالاً فإذا الزرع ونظرت قارعة الطريق فإذا الزرع فركبت قارعة الطريق فكان في ذلك فساد زرعه. فقال سليمان عليه السلام: ما حملك على أن تزرع بالطريق أما علمت أن الطريق سبيل الناس ولابد للناس أن يسلكوا سبيلهم فقال له أحد الملكين أو ما علمت يا سليمان أن الموت سبيل الناس ولابد للناس من أن يسلكوا سبيلهم. قال: فكأنما كشف عن سليمان الغطاء وهذا من لطيف التعزية لمن حلت به رزية.

أَرَى الدَّهْرَ أَغْنَى خُطْبَة عَنْ خُطَّابُهُ ... بِوَعْظٍ شَفَى الْبَابَنَا بِلُبَابِهِ لَهُ قَلْبٌ تَهْدِي الْقُلُوب صَوَادِيًا ... إِلَيْهَا وَتَعْمَى عَن وَشِيكِ انْقِلابِهِ هُوَ اللَّيْثُ إِلا أَنَّهُ وَهُوَ خَادِرٌ ... سَطَا فَأَغَابَ اللَّيْثَ عَنْ أَنْسِ غَابِهِ وَهَيْهَاتَ لَمْ تَسْلَمْ حَلاوَةَ شَهْدِهِ ... لِصَابٍ إِلَيْهِ مِنْ مَرَارَةِ صَابِهِ مُبِيدٌ مَبَادِيهِ تَغُرُّ وَإِنَّمَا ... عَوَاقِبَهُ مَخْتُومَةٌ بِعِقَابِهِ أَلَمْ تَرَ مَنْ سَاسَ الْمَمَالِكِ قَادِرًا ... وَسَارَتْ مُلُوكُ الأَرْضِ تَحْتَ رِكَابِهِ وَدَانَتْ لَهُ الدُّنْيَا وَكَادَتْ تُحِلُّهُ ... عَلَى شُهْبِهَا لَوْلا خُمُودُ شِهَابِهِ لَقَدْ أَسْلَمْتُهُ حَصْنَهُ وَحُصُونُهُ ... غَدَاة غَدا عَنْ كَسْبِهِ بِاكْتِسَابِهِ فَلا فِضَّةٌ أَنْجَتْهُ عِنْدَ انْفِضَاضِهِ ... وَلا ذَهَبٌ أَغْنَاهُ عِنْدَ ذَهَابِهِ سَلا شَخْصِه وَرَّاثُهُ بِتُرَاثِهِ ... وَأَفْرَدَهُ أَتْرَابَهُ بِتُرَابِهِ والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وسلم. (فَصْلٌ) قيل لرجل: إنك تموت؟ قال: وإلى أين يذهب بي؟ قالوا: إلى الله. قال: ما أكره أن يذهب بي إلى من لم أرى الخير إلا منه ولو قال أنا افرح وأسر وأستبشر بذهاب إلى الله. وعزى رجل آخر بابنٍ له فقال: كان لك من زينة الحياة الدنيا وهو اليوم من الباقيات الصالحات. ولما احتضر المنصور قال: اللهم إن كنت تعلم أني قد ارتكبت الأمور العظام جرأة مني عليك فإنك تعلم أني قد أطعتك في أحب الأشياء إليك شهادة أن لا إله إلا الله مَنًّا منك لا منًّا عليك. ومات عبد الله بن مطرف فخرج مطرف في ثياب حسنة فأنكر عليه

فقال: أفأستكين لها وقد وعدني عليها ربي ثلاثًا إحداها أحب إلي من الدنيا وما فيها {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} . قيل إنه دخل ملك الموت على داود عليه وعلى نبينا السلام، قال: من أنت؟ قال: الذي لا يهاب الملوك ولا تمنع منه القصور ولا يقبل الرشى. قال: فإذا أنت ملك الموت ولم استعد بعد قال: يا داود أين جارك فلان أين قريبك فلان، قال: مات. قال: أما كان لك في هؤلاء عبرة لتستعد للموت. عن عائشة رضي الله عنها لما مات عثمان بن مظعون كشف النبي - صلى الله عليه وسلم - الثوب عن وجهه فقبل ما بين عينيه وبكى طويلاً: فلما رفع على السرير قال: «طوباك يا عثمان لم تلبسك الدنيا ولم تلبسها» . ودخل على المأمون في مرضه وهو يجود بنفسه فإذا هو قد فرش له جل الدابة وبسط عليه الرماد وهو يتمرغ عليه ويقول: يا من لا يزول ملكه ارحم من زال ملكه. وقال عمرو بن العاص لابنه حضره الموت من يأخذ هذا المال بما فيه قال: من جدع الله أنفه فقال: احملوه إلى بيت مال المسلمين. ثم قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن التوبة مبسوطة ما لم يغرغر ابن آدم بنفسه» . ثم استقبل القبلة فقال: اللهم إنك أمرتنا فعصينا ونهيتنا فارتكبنا هذا مقام العائذ بك فأهل العفو أنت. وإن تعاقب فبما قدمت يداي «سبحانك لا إله إلا أنت إني كنت من الظالمين» فمات وهو مغلول مقيد فبلغ الحسن بن علي فقال: استسلم الشيخ حين أيقن بالموت ولعلها تنفعه.

قالت عائشة رضي الله عنها: لا أغبط أحدًا بهوان الموت بعد الذي رأيت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وسمع أو الدرداء رجلاً يقول في جنازة: من هذا؟ قال: أنت وإن كرهت فأنا. وسمع الحسن امرأة تبكي خلف جنازة وتقول: يا أبتاه مثل يومك لم أره. فقال لها: بل أبوك مثل يومه لم يره. وقيل: إنه لما احتضر إبراهيم عليه السلام قال: هل رأيت خليلاً يقبض روح خليله فأوحى الله إليه: هل رأيت خليلاً يكره لقاء خليله. قال: اقبض روحي الساعة. ونعيت إلى ابن عباس بنت له في طريق مكة، فنزل عن دابته فصلى ركعتين ثم رفع يديه وقال: عورة سترها الله، ومؤنة كفاها الله، وأجر ساقه الله. ثم ركب ومضى. وقال رجل لأويس القرني أوصيني. قال: توسد الموت إذا نمت واجعله نصب عينيك إذا قمت. وقال الثوري: ينبغي لمن كان له عقل إذا عقل إذا أتي عليه عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يهيئ كفنه. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عمرو بن عبيد يعزيه أما بعد فإنا أناس من أهل الآخرة أسكنا في الدنيا أموات أباء أموات أبناء أموات فالعجب لميت يكتب إلى ميت يعزيه عن ميتٍ. وقيل للحسن فلان في النزع. قال: وما معنى النزع؟ قالوا: القرب. قال: هو في ذلك منذ خلق. وتوفيت أم قاضي بلخ فقال له حاتم الأصم: إن كانت وفاتها عظة لك فعظم الله أجرك على موت أمك وإن لم تتعظ بها فعظم الله أجرك على موت قلبك.

وقال له: أيها القاضي منذ كم تحكم بين عباد الله؟ قال منذ ثلاثين سنة قال: هل رد الله عليك حكمًا؟ قال: لا قال فإن الله لم يرد عليك أحكامك في ثلاثين وترد حكمًا واحدًا حكم عليك. وعزى آخر بأخيه فقال له: انظر مصيبتك في نفسك تنسك فقد غيرك واذكر قول الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} وخذ بقول الشاعر: تَعز فَكُلُّ سَالِكٍ لِسَبِيلِهِ ... وَكُلُّ امْرِئٍ مِنْ خَشْيَةِ الْمَوْتِ جَازِعٌ وَنَحْنُ سَوَاءٌ فِي الْمُصَابُ وَإِنْ نَأَتْ ... بِنَا الدَّار فَالأَرْحَامُ مِنَّا جَوَامِعُ وَلا شَكَّ مِنَّا بِالتَّعَزِي وَإِنَّمَا ... نُعَزِّيكَ إِذَا جَاءَتْ بِذَاك الشَّرَائِعُ آخر: ... تَفَكَّرْ فَإِنْ كَانَ الْبُكَا رَد هَالِكًا ... عَلَى أَحَدٍ فَاجْهَدْ بُكَاء عَلَى عَمْرو وَلا تَبْكِ مَيِّتًا بَعْدَ مَيِّتٍ أَجِنَّه ... عَلي وَعَبّاس وَآل أَبِي بَكْرٍ آخر: ... وَيَبْكِي عَلَى الْمَوْتَى وَيَتْرُكُ نَفْسَهُ ... وَيَزْعُمُ أَنْ قَدْ قَلَّ عَنْهُمْ عَزَاؤُهُ وَلَوْ كَانَ ذَا عَقْلاً وَرَأْيٍ وَفِطْنَة ... لَكَان عَلَيْهِ لا عَلَيْهُمْ بُكَاؤُهُ شِعْرًا: ... إِلَهِي عَفْوًا مِنْ ذُنُوبٍ تَثَاقَلَتْ ... عَلَى ظَهْرِ عَبْدٍ لا يُطِيقُ لَهَا حِمْلاً عَصَاكَ فَيَا مَوْلاهُ مِنْ دُونِ رَقَبَةٍ ... وَيَخْشَى إِذَا تُبْلَى السَّرَائِرُ أَنْ يُبْلَى فَإِمَّا إِلى نَارٍ وَإِمَّا لِجَنَّةٍ ... وَكُلُّ امْرِئٍ يُجْزَى بِفِعْلَتِهِ قُبُلا وَيَرْكَنُ لِلراحَات قَبْلَ بُلُوغِهَا ... وَكَمْ ضَاحِكٍ كَانَ الْبُكَاءُ بِهِ أَوْلاً فَمَا نَحْنُ فِي الدُّنْيَا لِنَعْصِرَ وَجْهَنَا ... وَلا لِنَرَى غَيْرَ اعْتِبَارٍ بِهَا شُغْلاً فَيَا رَبّ وَفِّقْ للرَّشَادِ مَطَالِبِي ... وَيَسِّرْ لِمَا تَهْوَاهُ لِي مِنْ هُدَى فِعْلاً والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

(فَصْلٌ) وكتب ابن السماك إلى هارون الرشيد يعزيه بولده فقال أما بعد فإن استطعت أن يكون شكرك لله عز وجل حيث قبضه كشكرك له حيث وهبه لك فافعل فإنه حيث قبضه أحرز لك هبته. ولو بقي لم تسلم من فتنة أرأيت جزعك على ذهابه وتلهفك على فراقه أرضيت الدار لنفسك فترضاها لأبيك أما هو فقد خلص من الكدر وبقيت متعلقًا بالخطر والسلام. وان شاء قال إذا كان صغيرًا عظم الله أجرك وجبر مصيبتك وأذهب عنك الحزن وجعله لك فرطًا وذخرًا ووسيلة لاكتساب الأجر في الأخرى وأنت خبير بأن الموت مصير كل العباد قال الله جل وعلا وتقدس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} . ومثلك ولله الحمد لا يحتاج إلى التسلية والنصيحة لأنه ليس بخاف عليك أن الصبر قد حث الله عليه ووعد بكثرة الأجر وأنه أولى ما تمسك به مؤمن واعتصم به محتسب فالتسليم لأمر الله بما قدره وقضاه في سابق علمه يستوجب الثواب الجزيل وحسبنا الله ونعم الوكيل. شِعْرًا: كُلُّ الْمَصَائِبِ قَدْ تَمُرّ عَلَى الْفَتَى ... وَتَهُونُ غَيْر مُصِيبَةِ فِي الدِّينِ آخر: رَأَيْتُ بَنِي الدُّنْيَا كَوَفْدَيْنِ كُلَّمَا ... تَرَحَّلُ وَفْد حَطَّ فِي إِثْرِهِ وَفْدٌ وَكُلٌّ يَحُثُّ السَّيْرَ عَنْهَا وَنَحْوَهَا ... فَيَمْضِي بِذَا نَعْش وَيَأْتِي بِذَا مَهْدُ آخر: وَتَأْكُلُنَا أَيَّامُنَا فَكَأَنَّمَا ... تَمُرُّ بِنَا السَّاعَاتُ وَهِيَ أُسُودُ آخر: وَمَا هَذِهِ الأَيَّامُ إِلا مَرَاحِلُ ... يَحُثُّ بِهَا حَاد مِنَ الْمَوْتُ قَاصِدٌ

وَأَعْجَبُ شَيْءٍ لَوْ تَأَمَّلْتَ أَنَّهَا ... مَنَازِلُ تُطْوَى وَابْن آدَم قَاعِدُ أو تقول: بلغني وفاة الأخ العزيز تغمده الله في رحمته التي وسعت كل شيء ووفقنا وإياكم للصبر والاحتساب. وعلى كل حال فالأخ أولى من يتلقى أمر الله بالقبول والتسليم ويلقى الخطوب الصادعة بقلب سليم وهو أدرى بأن هذه الدار ليست بدار قرار وأن المفقود نزل في جوار الكريم وشتان بين ذاك الجوار وهذا الجوار. وليس إلا الصبر واحتساب الأجر من المولى الأجل هذا وكل منا يعلم أن الموت منهل لا بد من وروده ومحضر لا بد من شهوده ورسول لا بد منه وأمر لا محيص ولا مفر عنه وما مات أحد قبل أجله الذي قدر له ولا تقدم عنه ولا تأخر قال تعالى {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب» . وعن معاوية بن أياس عن أبيه رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فقد رجلاً من أصحابه فسأل عنه فقالوا يا رسول الله ابنه الذي رأيته هلك. فلقيه النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن ابنه فأخبره أنه هلك فعزاه عليه ثم قال: «يا فلان أيما أحب إليك أن تتمتع به عمرك أو لا تأتي غدًا بابًا من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك» . فقال: يا نبي الله يسبقني إلى الجنة يفتحها لي هو أحب إلي. قال: «فذلك لك» . فقيل: يا نبي الله هذا له خاصة أم للمسلمين عامة قال: بل للمسلمين عامة. وبلغ الشافعي أن عبد الرحمن بن مهدي مات له ابن فجزع عليه جزعًا شديدًا فبعث إليه الشافعي يقول يا أخي عز نفسك بما تعز به غيرها واستقبح من فعلك ما تستقبحه من فعل غيرك. واعلم أن أمضى المصائب فقد سرور وحرمان أجر فكيف إذا اجتمعا

مع اكتساب وزر فتناول حظك يا أخي إذا قرب منك أن تطلبه وقد نأى عنك ألهمك الله عند المصائب صبرًا وأحرز لنا ولك بالصبر أجرًا وكتب إليه يقول: إِنِّي مُعَزِّيَكَ لا أَنِّي عَلَى ثِقَةٍ ... مِنَ الْحَيَاةِ وَلَكن سُنَّةُ الدِّينِ لَيْسَ الْمُعَزِي بِبَاقٍ بَعْدَ مَيْتِهِ ... وَلا الْمُعَزِي وَإِنْ عَاشَا إِلَى حِينٍ وَعَزَّى رَجُلٌ عُمر بن عبد العزيز فقال: تَعَزَّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ ... لَمَّا قَدْ تَرَى يُفْدى الصَّغِير وَيُولَدُ هَلْ ابْنَكَ مِنْ سُلالَةِ آدَم ... لَكُلّ عَلَى حَوْضِ الْمَنِيَّةِ مُورِدُ فقال: ما عزاني أحد بمثل تعزيتك. وكتب رجل إلى بعض إخوانه يعزيه بابنه: أما بعد فإن الولد على والده ما عاش حزن وفتنة فإذا قدمه فصلاة ورحمة فلا تحزن على ما فاتك من حزنه وفتنته ولا تضيع ما عوضك الله تعالى من صلاته ورحمته. وقال محمد بن المهدي لإبراهيم بن سلمة وعزاه بابنه: أسرك وهو بلية وفتنة وأحزنك وهو صلاة ورحمة واعلم يا أخ إن كل المصائب التي تمر على الإنسان تهون إلا مصيبة الدين لا ينجبر كسرها كما قيل: وَكُلُّ كَسْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَجْبُرُهُ ... وَمَا لِكَسْرِ قَنَاةِ الدِّينِ جُبْرَانٍ وفقنا الله وإياك لما يحبه ويرضاه وألهمنا وإياك الرضا بقضائه وقدره ويحرم الندب وهو تعداد محاسن الميت بلفظ النداء مع زيادة ألف وها في آخره واسيداه واجبلاه وانقطاع ظهراه والنياحة هي رفع الصوت بذلك برنة وهي محرمة أيضًا قالت أم عطية: أخذ علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - في البيعة أن لا ننوح. متفق عليه.

شِعْرًا: إِذَا مَاتَ ابْنَهَا صَرَخَتْ عَلَيْهَ ... وَمَاذَا تَسْتَفِيدُ مِنَ الصُّرَاخِ سَتَتْبَعُهُ كَعَطْفِ الْفَاءِ لَيْسَتْ ... بِمُهْل أَوْ كَثْم عَلَى التَّرَاخِي وفي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن النائحة والمستمعة ويحرم شق الثوب ونحوه ويحرم لطم الخد والصراخ ونتف الشعر ونشره لما ورد عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية» . وعن أبي بردة قال: وجع أبو موسى وجعًا فغشي عليه ورأسه في حجر امرأة من أهله، فصاحت امرأة من أهله فلم يستطيع أن يرد عليها شيئًا فلما أفاق قال: أنا بريء ممن برئ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برئ من الصالقة والحالقة والشاقة. وعن المغيرة بن شعبة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إنه: «من ينح عليه يعذب بما نيح عليه» . وفي صحيح البخاري عن النعمان بن بشير قال: أغمى على عبد الله بن رواحة فجعلت أخته عمرة تبكي واجبلاه واكذا واكذا تعدد عليه. فقال حين أفاق: ما قلت شيئًا إلا قيل أنت كذلك فلما مات لم تبك عليه. وعن أبي موسى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الميت يعذب ببكاء الحي إذا قالت النائحة: وا عضداه وا ناصراه وا اكسياه جبذ الميت وقيل له: أنت عضدها أنت ناصرها أنت كاسيها» . رواه أحمد. وسن أن يصلح لأهل الميت طعامًا يبعث به إليهم ويكره لهم فعله للناس لما ورد عن عبد الله بن جعفر قال: لما جاء نعي أبي حين قتل قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اصنعوا لآل جعفر طعامًا فقد أتاهم ما يشغلهم» . رواه الخمسة إلا النسائي قال الزبير: فعمدت سلمى مولاة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى شعير وأدمته بزيت جعل عليه وبعثت به إليهم. ويروى عن عبد الله بن أبي بكر أنه قال: فما زالت السنة فينا حتى تركها

النياحة على الميت والبكاء والندب

من تركها وسواء كان الميت حاضرًا أو غائبًا وأتاهم نعيه وينوى فعل ذلك لأهل الميت لا لمن يجتمع عندهم فيكره لأنه إعانة على مكروه وهو اجتماع الناس عند أهل الميت نقل المروزي عن أحمد هو من أفعال الجاهلية. يَسُرُّ الْفَتَى بِالْعَيْشِ وَهُوَ مُبِيدُهُ ... وَيَغْتَرُّ بِالدُّنْيَا وَمَا هِيَ دَارَهُ وَفِي عِبَرِ الأَيَّامِ لِلْمَرْءِ وَاعِظٌ ... إِذَا صَحَّ فِيهَا فِكْرهُ وَاعْتِبَارُهُ فَلا تَحْسَبَنَّ يَا غَافِلَ الدَّهْرِ صَامِتًا ... فَأَفْصِحُ شَيْءٍ لَيْلَهُ وَنَهَارُهُ اصْخِ لِمُنَاجَاةِ الزَّماَنِ فَإِنَّهُ ... سَيُغْنِيكَ عَنْ جَهْرِ الْمَقَالِ سِرَارُهُ أَدَارَ عَلَى الْمَاضِينَ كَأْسًا فَكُلُّهُمُ ... أبيحتْ مَغَانِيهُ وَأَقْوَتُ دِيَارِهِ وَلْمْ يَحْمِهِمْ مِنْ أَنْ يَسْقُوا بِكَأسِهِمْ ... تَنَاوُشْ أَطْرَافِ الْقَنَا وَاشْتِجَارِهِ اللهم نور قلوبنا بنور الإيمان ووفقنا لمحبتك ومحبة من يحبك وألهمنا ذكرك وشكرك واجعلنا من عبادك الصالحين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) ويجوز البكاء على الميت لما ورد عن أنس رضي الله عنه قال: شهدت بنتًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - تدفن ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس عند القبر فرأيت عينيه تدمعان. رواه البخاري. وعن ابن عمر قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له فأتاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود. فلما دخل عليه وجده في غشية فقال: «قد قضي» . فقالوا: لا يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما رأى القوم بكاءه بكوا فقال: «ألا تستمعون إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا أو يرحم» . وأشار إلى لسانه. متفق عليه.

وأخبار النهي محمولة على بكاء معه ندب أو نياحة. وعن أسامة بن زيد قال: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه وتخبره أن صبيًا لها في الموت. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ارجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فمرها فلتصبر وتحتسب» . فعاد الرسول فقال: إنها أقسمت لتأتينها. قال: فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وقام سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل قال: فانطلقت معهم فرفع إليه الصبي ونفسه تقعقع كأنها في شنة ففاضت عيناه فقال سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: «هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء» . متفق عليه. شِعْرًا: إِنْ كُنْتَ تَرْجُو مِنَ الرَّحْمَنِ رَحْمَتُهُ ... فَارْحَمْ ضِعَافَ الْوَرَى يَا صَاحِ مُحْتَرِمًا وَأَقْصِدْ بْذَلِكَ وَجْه اللهِ خَالِقُنَا ... سُبْحَانَهُ مِنْ إِلَهٍ قَدْ بَرَى النَّسَمَا وَاطْلُبْ بِذَلِكَ مِنْ مَوْلاكَ رَحْمته ... فَإِنَّمَا يَرْحَمُ الرَّحْمَنُ مِنْ رَحِمَا آخر: اصْبِرْ لِمُرّ حَوَادِثٍ تَجْرِي ... فَلْتَحْمِدَنَّ مَغَبَّةَ الصَّبْرِ واجْهَدْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ مَيْتَتِهَا ... وَاذْخَرْ لِيَوْمِ تَفَاضُلَ الذُّخْرِ فَكَأَنَّ أَهْلَكَ قَدْ دَعَوْكَ فَلَمْ ... تَسْمَعْ وَأَنْتَ مُحَشْرِجَ الصَّدْرَ وَكَأَنَّهُمُ قَدْ قَلَّبُوكَ عَلَى ... ظَهْرِ السَّرِيرِ وَأَنْتَ لا تَدْرِي وَكَأَنَّهُمْ قَدْ زَوَدُوَكَ بِمَا ... يَتَزَوَّدُ الْهَلْكَى مِنَ الْعِطْرِ يَا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ أَنْتَ إِذَا ... غُسِلْتَ بِالْكَافُورِ وَالسِّدْرِ أَوْ لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ أَنْتَ عَلَى ... نَبْشِ الضَّرِيحِ وَظُلْمَةِ الْقَبْرِ يَا لَيْتَ شِعْرِي مَا أَقُولُ إِذَا ... وَضِعَ الْكِتَاب صَبِيحَةِ الْحَشْرِ مَا حُجَّتِي فِيمَا أَتَيْتُ عَلَى ... عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ وَمَا عُذْرِي

وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وما جرى بعدها وحالة الصحابة

ج يَا سَوْأَتَا مِمَّا اكْتَسَبْتُ وَيَا ... أَسَفِي عَلَى مَا فَاتَ مِنْ عُمْرِي أَلا أَكُونُ عَقِلْتُ شَأْنِي فَاسْتَقْبَلْتُ ... مَا اسْتَدْبَرْتُ مِنْ أَمْرِي اللهم ثبت قلوبنا على دينك وألهمنا ذكرك وشكرك واختم لنا بخاتمة السعادة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) ولما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه الكرب فقالت: فاطمة رضي الله عنها: واكرب أبتاه. فقال: «ليس على أبيك كرب بعد اليوم» . فلما مات صلى الله عليه وسلم قالت: يا أبتاه أجاب رب دعاه يا أبتاه جنة الفردوس مأواه يا أبتاه إلى جبريل ننعاه. فلما دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: فاطمة رضي الله عنها: يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب. ولما بلغت أبا بكر وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان نائمًا عند ابنه خارجة بالسنخ جاء حتى دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكشف عن وجهه ووضع فمه بين عينيه ووضع يديه على صدغيه وقال: وانبياه واخليلاه واصفياه وخنقه البكاء ثم خرج للناس وعمر يكلمهم فقال: اجلس يا عمر. قال أبو بكر أما بعد: من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. قال الله تعالى {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} . قال: فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فتلاها منه الناس كلهم فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها. ويقول حافظ إبراهيم في عمر حول هذه

الآية وبيعة أبي بكر وإسراع عمر رضي الله عنه في مبايعة أبي بكر يوم السقيفة وَلَمِّهِ شَعَثَ المسلمين عند الاختلاف. وَمَوْقِفٍ لَكَ بَعْد الْمُصْطَفَى افْتَرَقَتْ فِيهِ الصَّحَابَةُ لَمَّا غَابَ هَادِيهَا بَايَعْتُ فِيهِ أَبَا بَكْرٍ فَبَايَعُهُ عَلَى الْخِلافَةِ قَاصِيهَا وَدَانِيهَا (وَأَطْفَئْتُ فِتْنَة لَوْلا إِلَهُ غَشّتْ) بَيْن الْقَبَائِل وَانْسَابَتْ أَفَاعِيهَا بَاتَ النَّبِيُ مُسَجَّى فِي حَظِيَرِتِهِ وَأَنْتَ مُسْتَعر الأَحْشَاءِ دَامِيهَا تَهِيمُ بَيْنَ عَجِيجِ النَّاسِ فِي دَهَشٍ مِنْ نَبَأة قَدْ سَرَى فِي الأَرْضِ سَارِيَهَا تَصِيحُ مِنْ قَال نَفْس الْمُصْطَفَى قُبِضَتْ عَلَوْتَ هَامَتَهُ بِالسَّيْفِ أَبْرِيهَا أََنْسَاكَ حُبُّكَ طَهَ أَنَّهُ بَشَرٌ يَجْرِي عَلَيْهِ شُؤُونَ الْكَوْنِ مُجْرِيهَا وَأَنَّهُ وَارِدٌ لا بُدَّ مَوْرِدَهُ مِنَ الْمَنِيَّةِ لا يَعْفِيهِ سَاقِيهَا نَسِيتَ فِي حَقِّ طَهَ آيَةً نَزَلَتْ وَقَدْ يُذَّكَرُ بِالآيَاتِ نَاسِيهَا

ذَهَلْتُ يَوْمًا فَكَانَتْ فِتْنَةً عَمَمٌ وَثَابَ رُشْدُكَ فَانْجَابَتْ دَيَاجِيهَا فَلِسَقِيفَةِ يَوْمًا أَنْتَ صَاحِبُهُ فِيهِ الْخِلافَة قَدْ شِيدَتْ أَوَاسِيهَا مَدَّتْ لَهَا الأَوْسُ كَفًا كَي تَنَاوَلَهَا فَمَدَّتِ الْخَزْرَجُ الأَيْدِي تُبَارِيهَا وَظَنَّ كُلُّ فَرِيقٍ أَنَّ صَاحِبَهُمْ أَوْلَى بِهَا وَأَتَى الشَّحْنَاء آتِيهَا حَتَى انْبَرَتْ لَهُمْ فَارْتَدَّ طَامِعُهُمْ عَنَهَا وَآخَى أَبُو بَكْرٍ أَوَاخِيهَا وَقَوْلُهُ لِعَلِيٍّ قَالَهَا عُمَرُ أَكْرِمْ بِسَامِعِهَا أَعْظِمْ بِمُلْقِيهَا حَرَّقْتَ دَارَكَ لا أُبْقِي عَلَيْكَ بِهَا إِنْ لَمْ تُبَايِعْ وَبِنْت الْمُصْطَفَى فِيهَا مَا كَانَ غَيْرُ أَبِي حَفْصٍ يَفُوهُ بِهَا أَمَامَ فَارِسِ عَدْنَانٍ وَحَامِيهَا كِلاهُمَا فِي سَبِيلِ الْحَقِّ عَزْمَتُهُ لا تَنْثَنِي أَوْ يَكُونُ الْحَقُّ ثَانِيهَا اللهم أعطنا من الخير فوق ما نرجو واصرف عنا من السوء فوق ما نحذر. اللهم علق قلوبنا برجائك واقطع رجاءنا عمن سواك. اللهم إنك تعلم عيوبنا فاسترها وتعلم حاجتنا فاقضها كفى بك وليًا وكفى بك نصيرًا يا رب العالمين. اللهم وفقنا لسلوك سبيل عبادك الأخيار واغفر لنا

موعظة لعلاج قسوة القلوب وبعدها ذكر ما حصل

ججولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. موعظة عباد الله إن القلوب إذا قست واستولى عليها حب الدنيا دواؤها النافع بإذن الله ذكر الله جل وعلا وتلاوة كتابه العزيز وزيارة المقابر لترى فيها بعينك ما صار أليه الأكابر والأصاغر ترى فيها الملوك والوزراء والوجهاء والجبابرة والظلمة والمتكبرين والفسقة صرعى في ضيق تلك الحفائر وقد كانت الدنيا على سعتها تضيق عما لهم من آمال وأماني. وترى هناك أحباء الله وأولياءه وعباده الصالحين الكل حكم عليه العزيز الحكيم القهار بالموت فلبوا طائعين أو مكرهين وأصبح الكل منفردًا لا أنس له إلا ما قدمه من الأعمال فالمطيع لله الذي امتثل ما أمر الله به وانتهى عما نهى الله عنه في روضة من رياض الجنة وعنده عمله الصالح. وأما الآخر فلو أنطقه الله لقال لك كلامًا تقطع له القلوب حسرات يقول: إن الحكم العدل جازاني بما استحق وإني بعذاب لا تحتمله الجبال الراسيات وإني مستحق لذلك لأني اغتررت بالدنيا وزخارفها فلم اعبأ بأوامر ربي ولا نواهيه واقتحمت الموبقات لذا صرت إلى ما لو رأيته لصعقت وذهلت وغشي عليك، وملئت رعبًا واشتعل شعرك شيبًا ولم تنتفع بعد قوله بأكل وشرب ورأيت أحداقًا على الخدود سائلة، ورأيت أعظمًا غير متماسكة وأوصالاً متقطعة ورأيت جماجمًا قد علاها الدود

والخشاش كأنها الأنابيب، ورأيت ما كان مجتمعًا متفرقًا رميمًا ورأيت الصديد والقيح يجري فيا له من منظر ما أفزعه ويا له من سفر ما أطوله. والعجب ممن يزور القبور ويسمع ذلك ويصدق به ويأكل ويشرب وينام مطمئنًا ما كأنه سيساكنهم عن قريب، ماتت القلوب فأصبحت لا تنتفع بالوعظ والتذكير ولا بزاجر الموت وهو أبلغ زاجر للأحياء، فزر يا أخي القبور معتبرًا وانتبه من هذه الغفلة، الموت مهما مد في عمرك لابد أن يأتيك فكن منه على حذر فإنه لا يؤمن أن يفجأك وأنت سارح في أودية الدنيا. وما أكثر موت الفجأة في زمننا بواسطة السيارات والقز والكهرباء والطائرات ونحو ذلك. شِعْرًا: ... تَحُومُ عَلَيْنَا لِلْمَنَايَا حَوَائِمُ كَأَنَّا حُبُوبُ وَالْحَمَامُ حَمَائِمَ وَلَمْ أَرَ كَالدًّنْيَا حِبَالَة صَائِدٍ تَرَى النَّمْلَ فِي إِشْرَاكِهَا وَالضَّرَاغِمُ وَلَوْ عَلِمَتْ مِنْهُ الْبَهَائِمُ عِلْمَنَا إِذَا هَزَلَتْ خَوْف الْمَنُونِ الْبَهَائِمُ حَيَاةٌ وَمَوْتٌ ذَا لِذَاكَ مُبَايِنٌ وَبَيْنَهُمَا لِلنَّائِبَاتِ تَلازُمُ فَيَا صَاحِبِي رَافِقْ رَفِيقًا يَمَانِيًّا فَإِنَّكَ لِلْبَرْقِ الشَّامِي شَائِمُ وَنَادِمْ نَدَامَاكَ التُّقَا وَصِحَابَهُ فَإِنَّكَ يَوْمًا لِلْمَنَايِا مُنَادِمُ

آخر: هُوَ الْمَوْتُ فَاحْذَرْ أَنْ يَجِيئَكَ بِغْتَةً وَأَنْتَ عَلَى سُوءٍ مِنَ الْفِعْلِ عَاكِفُ وَإِيَّاكَ أَنْ تَتْرَكَ مِنَ الدَّهْرِ سَاعَةً وَلا لَحْظَةً إِلا وَقَلْبُكَ وَاجِفُ وَبَادِرْ بِأَعْمَالٍ يَسُرُّكَ أَنْ تَرَىَ إِذَا نُشِرَتْ يَوْمَ الْحِسَابْ الصَّحَائِفُ آخر: فَمَا مِنْ صَبَاحٍ جَاءَ إِلا مُؤَدِّبًا لأَهْلِ الْعُقُولِ النَّافِذَاتِ الْبَصَائِرُ أُبِيدَتْ قُرُونُ قَبْلُ قَدْ كُنْتَ بَعْدَهَا وَأَنْتَ عَلَى لَهْوِ الْقُرُونِ الأَصَاغِرُ كَأَنَّكَ لَمْ تَدْفِنْ حَمِيمًا وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِي حِيَاظِ الْمَوْتِ يَوْمًا بِحَاضِرِ نَسِيتَ لَظَى عِنْدَ ارْتِكَابِكَ لِلْهَوَى وَأَنْتَ تُوَقَّى حَرَّ شَمْسِ الْهَوَاجِرِ آخر: كَأَنَّكَ قَدْ رَحِلْتَ عَنِ الْمَبَانِي ... وَوَارَتْكَ الْجَنَادِلُ وَالصَّعِيدُ وَنَادَاك الْحَبِيبُ فَلَمْ تُجِبْهُ ... وَقُرْبُكَ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا بَعِيدُ وَأَصْبَحَ مَالُكُ الْمَجْمُوعُ نَهْبًا ... وَعَطَّلَ بعداك القصر المشيد وَصَارَ بَنُوكَ أَيْتَامًا صِغَارًا ... وَعَانَقَ عِرْسَكَ الْبَعَلُ الْجَدِيدُ وَأَكْبَرَ مِنْهُ أَنَّكَ لَسْتَ تَدْرِي ... شَقِيٌ أَنْتَ وَيْحَكِ أَمْ سَعِيدُ

لما قبض أبو بكر رضي الله عنه وما قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه

اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار واسكنا معهم في دار القرار. اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وآله أجمعين. (فَصْلٌ) وروي أنه لما قبض أبو بكر رضي الله عنه وسجي عليه ارتجت المدينة بالبكاء فجاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه مستعجلاً مسترجعًا حتى وقف على البيت الذي فيه أبو بكر. فقال: رحمك الله يا أبا بكر فلقد كنت ألف رسول صلى الله عليه وسلم وأنيسه ومستراحه وثقته وموضع سره، وكنت أول القوم إسلامًا وأخلصهم إيمانًا وأشدهم لله يقينًا وأخوفهم لله وأعظمهم غناء في دين الله عز وجل وأحوطهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأحسنهم صحبة وأكثرهم مناقب وأفضلهم سوابقًا وأرفعهم درجة وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم خُلُقًا وفضلاً وهديًا وسمتًا وأكرمهم عليه فجزاك الله عن رسوله وعن الإسلام والمسلمين خيرًا. صَدَّقْتَ رسول الله حين كذبه الناس وواسيته حين بخلوا وقمت معه حين قعدوا وكنت عنده بمنزله السمع والبصر وسماك الله في كتابه صديقًا فقال {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} . وصحبته في الشدة أكرم صحبة ثاني اثنين وصاحبه في الغار والمنزل عليه السكينة ورفيقه في الهجرة.

وخلفته في دين الله وأمته أحسن الخلافة حين ارتدوا فقمت بالأمر ما لم يقم به خليفة نبي نهضت حين وهن أصحابه وبرزت حين استكانوا وقويت حين ضعفوا. ولزمت منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت خليفة رسول الله حقًا لن تنازع ولن تضارع برغم المنافقين وكبت الحاسدين قمت بالأمر حين فشلوا واتبعوك فهدوا كنت أخفضهم صوتًا وأقلهم كلامًا وأصدقهم منطقًا وأبلغهم قولاً وأشجعهم نفسًا وأشرفهم عملاً. كنت للمؤمنين رحيمًا حين صاروا عليك عيالاً، حملت أثقال ما عنه ضعفوا، ورعيت ما أهملوا، وعلمت ما جهلوا، وصبرت إذا جزعوا ورجعوا برأيك رشدهم فظفروا ونالوا برأيك ما لم يحتسبوا. كنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمن الناس عليه في صحبتك وذات يدك وكنت كما قال ضعيفًا في بدنك قويًا في أمر الله عز وجل متواضعًا في نفسك عظيمًا عند الله عز وجل جليلاً في أعين الناس كبيرًا في أنفسهم، لم يكن لأحد فيك مغمز ولا لقائل فيك مهمز، الضعيف الذليل عندك قوي عزيز حتى تأخذ بحقه، القريب والبعيد عندك سواء. وأقرب الناس عندك أطوعهم لله وأتقاهم، شأنك الحق وبالصدق والرفق اعتدل بك الدين وقوي بك الإيمان فسبقت والله سبقًا بعيد واتعبت من بعدك إتعابًا شديدًا رضينا عن الله قضاءه وقدره وسلمنا له أمره. والله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم

بمثلك أبدًا، كنت للدين عزًا وحرزًا وكهفًا فألحقك الله بنبيك صلى الله عليه وسلم ولا حرمنا أجرك ولا أضلنا بعدك. فسكت الناس حتى قضى كلامه ثم بكوا حتى علت أصواتهم. وقالوا: صدقت يا ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما مرض أبو بكر رضي الله عنه ترك التطبب تسلمًا لأمر الله تعالى فعاده الصحابة رضي الله عنهم فقالوا: ألا ندعوا لك طبيبًا ينظر إليك فقال: نظر إلي. قالوا: وما قال؟ قال: إني فعال لما أريد. واستخلف في مرضه عمر بن الخطاب بمشاورة جماعه من الصحابة. شِعْرًا: لِلْمَوْتِ فَاعْمَلْ بِجِدٍّ أَيُّهَا الرَّجُلُ وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ مِنْ دُنْيَاكَ مُرْتَحِلِ إِلِى مَتَى أَنْتَ فِي لَهْوٍ وَفِي لَعِبٍ تُمْسِي وَتُصْبِحُ فِي اللذَاتِ مُشْتَغِلُ كَأَنَّنِي بِكَ يَا ذَا الشَّيْبِ فِي كُرَبٍ بَيْنَ الأَحِبَّةِ قَدْ أَوْدَى بِكَ الأَجَلُ لَمَّا رَأَوْكَ صَرِيعًا بَيْنَهُمْ جَزَعُوا وَوَدَّعُوكَ وَقَالُوا قَدْ مَضَى الرَّجُلُ فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ يَا مِسْكِينُ فِي مَهَلٍ مَا دَامَ يَنْفَعُكَ التِّذْكَارُ وَالْعَمَلُ إِنَّ التَّقِيَّ جِنَانُ الْخُلْدِ مَسْكَنُهُ يَنَالُ حُورًا عَلَيْهَا التَّاجُ وَالْحُلَلُ

ج وَالْمُجْرِمِينَ بِنَارٍ لا خُمُودَ لَهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنَ الأَوْقَاتِ تَشْتَعِلُ روي أن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود رحمه الله باع دارًا بمأتيين ألف درهم فقيل له لو اتخذت من هذا المال ذخرًا فقال أنا أجعل هذا المال ذخرًا لي عند الله واجعل الله سبحانه ذخرا لولدي ثم تصدق بالمال كله. شِعْرًا: تَغَطَّ بِأَثْوَابِ السَّخَا فِإِنَّنِي ... أَرَى كُلَّ عَيْبٍ وَالسَّخَاءَ غِطَاؤء وَقَارِنْ إِذَا قَارَنْتَ حُرًّا فِإِنَّمَا ... يُزَيِّنُ وَيَزْرِي بِالْفَتَى قناؤه وَيُظْهِرُ عَيْبَ الْمَرُءِ فِي النَّاسِ بُخْلَهُ ... وَيَسْتُرُهُ عَنْهُمْ جَمِيعًا سَخَاؤه آخر: وَقَائِلَةٌ مَا بَالَ مالك نَاقِصًا ... وَأَمْوَال كُلّ الْعَالَمِينَ تَزِيد فَقُلْتُ لَهَا إِنِّي أَجُودُ بِمَا حَوَتْ ... يَدِي وَبَعْضُ النَّاسِ لَيْسَ يَجُودُ آخر: الْمَالُ يَغْشَى رِجَالاً لا سَمَاحَ لَهُمْ ... كَالسَّيْلِ يَغْشَى أُصُولَ الدَّمْدَمِ الْبَالِي أَصُونُ عِرْضِي بِمَالِي لا أُدَنِّسُهُ ... لا بَارَكَ الله بَعْدَ الْعِرْضِ فِي الْمالِ أَحْتَالُ لِلْمَالِ إِنْ أَوْدَى فَأَكْسَبُهُ ... وَلَسْتُ لِلْعِرْضِ إِنْ أَوْدَى بِمُحْتَالٍ جاءت امرأة إلى الليث بن سعد بإناء صغير تطلب منه عسلاً وقالت: إن زوجي مريض فأمر لها بقربة ملآنة عسلاً فقيل له إنها طلبت قدحًا صغيرًا فقال إنما طلبت على قدرها ونحن أعطيناها على قدرنا. وجاء رجل إلى سعيد بن العاص يسأله شيئًا فأمر له بخمسمائة وأطلقه فقال الرجل مستفهمًا من سعيد هذه دنانير أو درهم فقال سعيد ما أردت إلا الدراهم ولكن حيثما ترددت أنت في ذلك فغيرها دنانير فجلس الرجل يبكي فقال سعيد: ما يبكيك. فقال: أبكي على رجل مثلك ينزل تحت التراب.

استخلاف أبي بكر لعمر رضي الله عنها

اللهم ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك ويسرنا لليسرى وجنبنا العسرى واغفر لنا لوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) وقال أبو بكر رضي الله عنه نعم الولي عمر أما أنه لا يقوى عليهم غيره، وما هو بخير له أن يلي أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم إن عمر رآى لينًا فاشتد ولو كان واليًا للان لأهل اللين ثم دعا بعثمان بن عفان رضي الله عنه. فقال له: اكتب هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين أما بعد فإني قد استخلفت عليكم ثم أغمي عليه فكتب عثمان عمر بن الخطاب لما سمع منه قبل ذلك ثم أفاق أبو بكر فقال: اقرأ علي ما كتبت فقرأ عليه ذكر عمر فقال: جزاك الله عن الإسلام وأهله خيرًا. ثم رفع أبو بكر يديه فقال: اللهم إني وليت خيرهم ولم أرد بذلك إلا صلاحهم وخفت عليهم الفتنة وفعلت فيهم ما أنت أعلم وقد حضرني في أمري ما قد حضر فاجتهدت لهم والرأي ووليت عليهم خيرهم، هو أقواهم عليهم وأحرصهم على رشدهم ولم أرد محاباة عمر وأنا خارج من الدنيا وداخل في الآخرة فاخلفني فيهم فهم عبادك ونواصيهم بيدك. أصلح لهم واليهم عمر، واجعله من خلفائك الراشدين يتبع هدي نبيه نبي الرحمة وهدى الصالحين بعده وأصلح له أمر رعيته، وكتب بهذا العهد إلى أمراء الأجناد إني قد وليت عليكم خيركم ولم آل نفسي ولا المسلمين خيرًا

ثم دعا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إني مستخلفك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عمر إن لله حقًا في الليل لا يقبله في النهار وحقًا في النهار لا يقبله في الليل وإنها لا تقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة بأتباعهم الحق وثقله عليهم وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق غدًا أن يكون ثقيلاً. وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة بإتباعهم الباطل في الدنيا وخفته عليهم وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفًا، يا عمر إنما نزلت آية الرخاء مع آية الشدة وآية الشدة مع آية الرخاء ليكون المؤمن راغبًا راهبًا فلا ترغب فتتمنى على الله فيها ما ليس لك ولا ترهب رهبة تلقى فيها ما بيدك. يا عمر إنما ذكر الله أهل النار بأسوء أعمالهم ورد عليهم ما كان من حسن فإذا ذكرتهم قلت إني لأرجو أن لا أكون من هؤلاء. وإنما ذكر الله أهل الجنة بأحسن أعمالهم لأنه تجاوز لهم ما كان من سيء فإذا ذكرتهم قلت أي عمل من أعمالهم أعمل فإن حفظت وصيتي فلا يكن غائب أحب إليك من الموت، وهو نازل بك وإن ضيعت وصيتي فلا يكن غائب أكره إليك من الموت ولست تعجزه. وكان رضي الله عنه يقول: اعلموا عباد الله إن الله قد ارتهن بحقه أنفسكم وأخذ على ذلك مواثيقكم واشترى منكم القليل الفاني بالكثير الباقي وهذا كتاب الله فيكم لا تفنى عجائبه ولا يطفئ نوره فصدقوا قوله واستنصحوا كتابه واستضيئوا منه ليوم الظلمة. وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما مرض أبو بكر مرضه

الذي مات فيه قال: انظروا ما زاد في مالي منذ دخلت الإمارة فابعثوا به إلى الخليفة من بعدي فنظرنا فإذا عبد نوبي يحمل صبيانه وإذا ناضج كان يسقي بستانًا فبعثناهما إلى عمر فبكى عمر. وقال: رحمة الله على أبي بكر الصديق رضي الله عنه وخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن أكيس الكيس التقوى فذكر الحديث وفيه فلما أصبح غدا إلى السوق فقال له عمر رضي الله عنه: أين تريد؟ قال: السوق قد جاءك ما يشغلك عن السوق. قال: سبحان الله يشغلني عن عيالي. قال: نفرض بالمعروف. قال: ويح عمر إني أخاف أن لا يسعني أن آكل من هذا المال شيئًا. قال: فانفق في سنتين أخرى ثمانية آلاف درهم. فلما حضره الموت قال: قد كنت قلت لعمر إني أخاف أن لا يسعني أن آكل من هذا المال شيئًا فغلبني فإذا أنا مت فخذوا من مالي ثمانية آلاف درهم وردوها في بيت المال قال فلما أتى عمر قال: رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده تعبًا شديدًا. وأخرج بن سعد عن أبي بكر بن حفص بن عمر قال: جاءت عائشة رضي الله عنها إلى أبي بكر رضي الله عنه وهو يعالج ما يعالج الميت ونفسه في صدره فتمثلت بهذا البيت: لَعَمْرُكَ مَا يُغْنِي الثَّرَاءَ عَنِ الْفَتَى إِذَا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وَضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ آخر: وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَقْبَلَتْ لَمْ تُثْنِهَا ... خَيْلٌ مُطَهَّمَةٌ وَلا أَمْوَالُ فنظر إليها ثم قال: ليس كذلك يا أم المؤمنين ولكن: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} إني كنت

موعظة بليغة تزهد في الدنيا

نحلتك حائطًا في نفسي منه شيئًا فرديه إلى الميراث. قالت: نعم. فرددته. فقال: إنا منذ ولينا أمر المسلمين لم نأكل لهم دينارًا ولا درهمًا ولكننا قد أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا وليس عندي من فيء المسلمين قليل ولا كثير إلا هذا العبد الحبشي وهذا البعير الناضج وجرد هذه القطيفة فإذا مت فابعثي بهن على عمر وابرئي منهن. ففعلت. فلما جاء الرسول عمر بكى حتى جعلت دموعه تسيل في الأرض ويقول: رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده يا غلام ارفعهن. فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: سبحان الله تسلب عيال أبي بكر حبشيًا وبعيرًا ناضحًا وجرد قطيفة ثمن خمسة دراهم. قال: فما تأمر؟ قال: تردهن على عياله. فقال: لا والذي بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق:- أو كما حلف - لا يكون هذا في ولايتي أبدًا ولا خرج أبو بكر منهن عند الموت وأردهن أنا على عياله، الموت أقرب من ذلك آخر: تِلْكَ الرِّجَالُ وَغَبَنٌ أَنْ يُقَالُ لِمَنْ ... لَمْ يَتَّصِفْ بِمَعَالِي وَصْفُهُمْ رَجُلٌ والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه سلم. موعظة ابن آدم كأنك بالموت وقد فجأك وألحقت بمن قد سبقك من الأمم ونقلك من الفلل والعمائر إلى بيت الوحدة والوحشة والظلم ومن ذلك

إلى عسكر الموتى مخيمة بين الخيم مفرقًا من مالك ما اجتمع ومن شملك ما انتظم وليس لك قدرة فتدفعه بكثرة الأموال ولا بقوة الخدم وندمت على التفريط ولات ساعة ندم. فيا عجبًا لعين تنام وطالبها مجد في طلبها لم ينم، متى تحذر مما توعد وتهدد، ومتى تضرم نار الخوف في قلبك وتتوقد، إلى متى حسناتك تضمحل وسيئاتك تتجدد، وإلى متى لا يهو لك زجرًا الواعظ وإن شدد وإلى متى وأنت بين الفتور والتواني تردد متى تحذر يومًا تنطق فيه الجلود وتشهد ومتى تقبل على ما يبقى وتترك ما يفنى وينفد. متى تهب بك في بحر الوجد ريح الخوف والرجا متى تكون في الليل قائمًا إذا سجى أين الذين عاملوا مولاهم بالإخلاص وانفردوا وقاموا في الدجى فركعوا وسجدوا وقدموا إلى بابه في الأسحار ووفدوا وصاموا هواجر النهار فصبروا واجتهدوا، لقد ساروا وتخلفت وفاتك ما وجدوا وبقيت في أعقابهم وإن لم تسرع وتجتهد بعدوا. فتنبه وتيقظ يا مسكين قبل أن يفاجئك هادم اللذات فلا تقدر على استدراك لما فات، قال الله جلا وعلا {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} . وَمُسْنَدُونَ تَعَاقَرُوا كَأْسَ الرَّدَى ... وَدَعَا بِشُرْبِهِمْ الْحَمَامُ فَأَسْرَعُوا بَرَكَ الزَّمَانُ عَلَيْهِمُوا بِجُرَّانِه ... وَهَفَتْ بِهِمْ رِيحُ الْخُطُوبِ الزَّعْزَعُ خُرْسٌ إِذَا نَادَيْتَ إِلا أَنَّهُمْ ... وَعَظُموا بِمَا يَزعُ اللَّبِيبِ فَأْسَمَعُوا وَالدَّهْر يَفْتِكُ بِالنُّفُوسِ حَمَامُهُ ... فَلِمَنْ تُعَدُّ كَرِيمةٌ أَوْ تُجْمَعُ عَجَبًا لَمَنْ يُبْقِي ذَخَائِرَ مَالَهُ ... وَيَظَلُّ يَحْفَظُهُنَّ وَهُوَ مُضَيِّعُ وَلِغَافِلٍ وَيَرَى بِكُلِّ ثَنِيّةِ ... مُلْقًى لَهُ بَطْنُ الصَّحَائِفِ مَضْجَعُ أَتَرَاهُ يَحْسُبُ أَنَّهُمْ مَا أَسْأَرُوا ... مِنْ كَأْسِهِ أَضْعَافَ مَا يَتَجَرَّعُ اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة في الرشد ونسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك ونسألك قلبًا سليمًا ولسانًا صادقًا ونسألك من خير ما تعلم ونعوذ بك من شر ما تعلم،

شرح الصد له أسباب بإذن الله ذكرها ابن القيم

ونستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. (فَصْلٌ) وقال ابن القيم: أعظم أسباب شرح الصدر التوحيد، وعلى حسب كماله وقوته وزيادته يكون انشراح صدر صاحبه، وقال الله تعالى (39: 22) {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} . وقال {فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} . فالهدى والتوحيد من أعظم أسباب شرح الصدر والشرك والضلال من أعظم أسباب ضيق الصدر. ومنها النور الذي يقذفه الله في قلب العبد، وهو نور الإيمان، فإنه يشرح الصدر ويوسعه، ويفرح القلب، فإذا فقد هذا النور من القلب ضاق وحرج وصار في أضيق سجن وأصبعه. وقد روى الترمذي في جامعه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح» . قالوا: وما علامة ذلك يا رسول الله؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله» .

فنصيب العبد من انشراح صدره بحسب نصيبه من هذا النور، وكذلك النور الحسي والظلمة الحسية، هذه تشرح الصدر وهذه تضيقه. ومنها العلم فإنه يشرح الصدر ويوسعه، حتى يكون أوسع من الدنيا، والجهل يورثه الضيق والحصر والحبس، فكلما اتسع علم العبد انشرح صدره واتسع. وليس هذا لكل علم بل للعلم الموروث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو العلم النافع، فأهله أشرح الناس صدرًا، وأوسعهم قلوبًا، وأحسنهم وأطيبهم عيشًا. قلت ولله در القائل: اجْعَلْ جَلِيسَكَ دَفْتَرًا فِي نَشْرِهِ لِلْمَيِّتِ مِنْ حُكْمِ الْعُلُومِ نُشُورُ فَكِتَابُ عِلْمِ لِلأَدِيبِ مُؤَآنِسٌ وَمُؤَدَّبٌ وَمُبَشِّرُ وَنَذِيرُ وَمُفِيدَ آدَابَ وَمُؤْنِس وَحْشَة وَإِذَا انْفَرَدْتَ فَصَاحِبٌ وَسَمِيرٌ وَمِنْهَا الإِنَابَة إلى الله تعالى، ومحبته بكل القلب والإقبال عليه، والتنعم بعبادته فلا شيء أشرح لصدر العبد من ذلك حتى ليقول أحيانًا إن كنت في الجنة في مثل هذه الحال فإني إذا في عيش طيب. وللمحبة تأثير عجيب في انشراح الصدر، وطيب النفس، ونعيم لا يعرفه إلا من له حس به. وكلما كانت المحبة أقوى وأشد، كان الصدر أفسح وأشرح، ولا

يضيق إلا عند رؤية البطالين الفارغين من هذا الشأن فرؤيتهم قذى عينه، ومخالتطهم حمى روحه. ومن أعظم أسباب ضيق الصدر، الإعراض عن الله تعالى وتعلق القلب بغيره، والغفلة عن ذكره، ومحبة سواه، فإن من أحب شيئًا غير الله عذب به، وسجن قلبه في محبة ذلك الغير. فما في الأرض أشقى منه، ولا أكسف بالاً، ولا أنكد عيشًا ولا أتعب قلبًا. فهما محبتان محبة هي جنة الدنيا، وسرور النفس، ونعيم الروح وغذاؤها، ودواؤها، بل هي حياتها، وقرة عينها، وهي محبة الله وحده، بكل القلب، وانجذاب قوى الميل، والإرادة، والمحبة كلها إليه. ومحبة هي عذاب الروح وغم النفس وسجن القلب وضيق الصدر وهي سبب الألم والنكد والعناء، وهي محبة ما سوى الله سبحانه. ومن أسباب شرح الصدر دوام ذكره على كل حال، وفي كل موطن فللذكر تأثير عجيب في انشراح الصدر، ونعيم القلب، وللغفلة تأثير عجيب في ضيقه، وحبسه وعذابه. ومنها الإحسان على الخلق ونفعهم، بما يمكنه من المال والجاه، والنفع بالبدن وأنواع الإحسان، فإن الكريم المحسن أشرح الناس صدرًا، وأطيبهم نفسًا، وأنعمهم قلبًا، والبخيل الذي ليس فيه إحسان أضيق الناس صدرًا وأنكدهم عيشًا وأعظمهم همًا وغمًا. وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح مثلاً للبخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جنتان من حديد، كلما هم المتصدق بصدقة اتسعت عليه وانبسطت، حتى يجر ثيابه ويعفي أثره

وكلما هم البخيل بالصدقة لزقت كل حلقة مكانها ولم تتسع عليه. فهذا مثل انشراح صدر المؤمن المتصدق، وانفساح قلبه، ومثل ضيق صدر البخيل، وانحصار قلبه. ومنها الشجاعة، فإن الشجاع منشرح الصدر، واسع البطان، متسع القلب، والجبان، أضيق الناس صدرًا واحصرهم قلبًا، لا فرحة ولا سرور، ولا لذة، ولا نعيم، إلا جنس الحيوان البهيم. ومنها اخراج دغل القلب من الصفات المذمومة، التي توجب ضيقه، وعذابه، وتحول بينه وبين البرء. ومنها ترك فضول النظر، والكلام، والاستماع والمخالطة والأكل والنوم، فإن هذه الفضول تستحيل آلامًا وغمومًا وهمومًا في القلب تحصره، وتحبسه، وتضيقه، ويتعذب بها، بل غالب عذاب الدنيا والآخرة منها. فلا إله إلا الله، ما أضيق صدر من ضرب في كل آفة من هذه الآفات بسهم، وما أنكد عيشه، وما أسوء حاله، وما أشد حصر قلبه، ولا إله إلا الله ما أنعم عيش من ضرب في كل خصلة من تلك المحمودة بسهم، وكانت همته دائرة عليها حائمة حولها. فلهذا نصيب وافر من قوله تعالى (83: 13) : {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} ولذلك نصيب وافر من قوله تعالى {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} وبينهما مراتب متفاوتة، ولا يحصيها إلا الله تبارك وتعالى. والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق في كل صفة يحصل بها انشراح الصدر، واتساع القلب وقرة العين، وحياة الروح فهو أكمل الخلق في هذا الشرح وقرة العين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

فائدة عظيمة النفع ومواعظ تليها

فائدة عظيمة النفع وقال رحمه الله: ليس في الوجود شر إلا الذنوب وموجباتها وكونها ذنوبًا تأتي من نفس العبد فإن سبب الذنب الظلم والجهل وهما من نفس العبد كما أن سبب الخير الحمد والعلم والحكمة والغنى. وهي أمور ذاتية للرب وذات الرب سبحانه، مستلزمة للحكمة والخير والجود. وذات العبد مستلزمة للجهل والظلم وما فيه من العلم والعدل فإنما حصل له بفضل الله عليه وهو أمر خارج عن نفسه. فمن أراد الله به خيرًا أعطاه هذا الفضل فصدر منه الإحسان والبر والطاعة. ومن أراد به شرًا أمسكه عنه وخلاه، ودواعي نفسه وطبعه وموجبها فصدر منه موجب الجهل والظلم من كل شر وقبيح. وليس منعه لذلك ظلمًا منه سبحانه فإنه فضله وليس من منع فضله ظالمًا لاسيما إذا منعه عن محل لا يستحقه ولا يليق به. وأيضًا فإن هذا الفضل هو توفيقه وإرادته من نفسه أن يلطف بعبده ويوفقه ويعينه ولا يخلي بينه وبين نفسه وهذا محض فعله وفضله. وهو سبحانه أعلم بالمحل الذي يصلح لهذا الفضل ويليق به ويثمر به ويزكو. وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى بقوله {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} الأنعام (35) . فأخبر سبحانه أنه أعلم بمن يعرف قدر النعمة ويشكره عليها فإن أصل الشكر هو الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع والذل

والمحبة. فمن لم يعرف النعمة. بل كان جاهلاً بها لم يشكرها. ومن عرفها لم يعرف المنعم بها لم يشكرها أيضًا ومن عرف النعمة والمنعم لكن جحدها كما يجحد المنكر لنعمة المنعم عليه بها فقد كفرها. ومن عرف النعمة والمنعم وأقر بها ولم يجحدها ولكن لم يخضع له ويحبه ويرضي به وعنه لم يشكرها أيضًا. ومن عرفها وعرف المنعم بها وخضع للمنعم بها وأحبه ورضي به وعنه واستعملها في محابه وطاعته هو الشكر لها. فلا بد في شكر من علم القلب وعمل يتبع العلم وهو الميل على المنعم ومحبته والخضوع له. كما في صحيح البخاري عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سيد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك عليَّ وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها إذا أصبح موقنًا بها فمات من يومه دخل الجنة ومن قالها إذا أمسى موقنًا بها فمات من ليلته دخل الجنة» . فقوله: «أبوء لك بنعمتك علي» . يتضمن الإقرار والإنابة إلى الله بعبوديته. فالعبد يبوء إلى الله بنعمته عليه ويبوء بذنبه ويرجع إليه بالاعتراف بهذا وبهذا رجوع مطمئن إلى ربه منيب إليه ليس رجوع من أقبل عليه ثم أعرض عنه. فهو معبوده وهو مستعانه لا صلاح له إلا بعبادته ولا يمكن أن يعبده إلا بإعانته. ومن العلوم أن أجل نعمه على عبده نعمة الإيمان به ومعرفته ومحبته وطاعته والرضا به والإنابة إليه والتوكل عليه والتزام عبوديته.

ومن المعلوم أيضًا أن الأرواح منها الخبيث الذي لا أخبث منه ومنها الطيب. وبين ذلك وكذلك القلوب منها القلب الشريف الزكي والقلب الخسيس الخبيث. وهو أعلم بالقلوب الزاكية والأرواح الطيبة التي تصلح لاستقرار هذه النعم وإبداعها عندها ويزكو بذرها فيها فيكون تخصيصه لها بهذه النعمة كتخصيص الأرض الطيبة القابلة للبذر بالبذر. فليس من الحكمة أن يبذر البذر في الصخور والرمال والسباخ وفاعل ذلك غير حكيم فما الظن ببذر الإيمان والقرآن والحكمة ونور المعرفة والبصيرة في المحال التي هي أخبث المحال. فالله أعلم حيث يجعل رسالته أصلاً وميراثًا. فهو أعلم بمن يصلح لتحمل رسالته فيؤديها إلى عباده بالأمانة والنصيحة وتعظيم المرسل والقيام بحقه والصبر على أوامره والشكر لنعمه والتقرب إليه. ومن لا يصلح لذلك. وكذلك هو سبحانه أعلم بمن يصلح من الأمم لوارثة رسله والقيام بخلافتهم وحمل ما بلغوه عن ربهم. فالرب سبحانه إذا علم من محل أهلية لفضله ومحبته وتوحيده حبب إليه ذلك ووضعه فيه وكتبه في قلبه ووفقه له وأعانه عليه ويسر له طرقه وأغلق دونه الأبواب التي تحول بينه وبين ذلك. ثم تولاه بلطفه وتدبيره وتيسيره وتربيته أحسن من تربية الوالد الشفيق الرحيم المحسن لولده الذي هو أحب شيء إليه. فلا يزال يعامله بلطفه ويختصه بفضله ويؤثره برحمته ويمده بمعونته ويؤيده بتوفيقه ويريه مواقع إحسانه إليه وبره به فيزداد العبد به معرفة وله محبة وإليه إنابة وعليه توكلاً. ولا يتولى معه غيره ولا يعبد معه سواه.

وهذا هو الذي عرف قدر النعمة وعرف المنعم وأقر بنعمته وصرفها في مرضاته. اقتضت حكمة الرب وجوده وكرمه وإحسانه أن بذر في هذا القلب نور الإيمان والمعرفة وسقاه بالعلم النافع والعمل الصالح وأطلع عليه من نوره شمس الهداية وصرف عنه الآفات المانعة من حصول الثمرة. فأنبتت أرضه الزاكية من كل زوج كريم فمن لم ينبت قلبه شيئًا من الخير البتة فهذا من أشقى الأشقياء. فصلوات الله وسلامه على من الهدى والبيان والشفاء والعصمة في كلامه وفي أمثاله. والمقصود أن الله سبحانه أعلم بمواقع فضله ورحمته وتوفيقه ومن يصلح لها ومن لا يصلح وأن حكمته تأبى أن يضع ذلك عند غير أهله كما تأبى أن يمنعه من يصلح له. وهو سبحانه الذي جعل المحل صالحًا وجعله أهلاً وقابلاً فمنه الإعداد والإمداد ومنه السبب والمسبب. وقال رحمه الله كمال العبد وصلاحه يتخلف عنه من إحدى جهتين إما أن تكون طبيعته يابسة غير لينة ولا منقادة ولا قابلة لما به كمالها وفلاحها. وإما أن تكون لينة منقادة سلسلة القيادة لكنها غير ثابتة على ذلك بل سريعة الانتقال عنه كثيرة التقلب. فمتى رزق العبد انقيادًا للحق وثباتًا عليه فليبشر فقد بشر بكل خير وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. وقال: صدق التأهب للقاء الله من أنفع ما للعبد وأبلغه في حصول استقامته فإن من استعد للقاء الله انقطع قلبه عن الدنيا وما فيها ومطالبها

وخمدت من نفسه نيران الشهوات وأخبت قلبه إلى الله وعكفت همته على الله وعلى محبته وإيثار مرضاته. واستحدثت همة أخرى وعلومًا أخر وولد أخرى نسبة قلبه فيها إلى الدار الآخرة كنسبة جسمه إلى هذه الدار بعد أن كان في بطن أمه فيولد قلبه ولادة حقيقة وكما أن بطن أمه حجابًا لجسمه عن هذه الدار فهكذا نفسه وهواه حجاب لقلبه عن الدار الآخرة. فخروج قلبه عن نفسه بارزًا إلى الدار الآخرة كخروج جسمه عن بطن أمه بارزًا إلى هذه الدار، وهذا معنى ما يذكر عن المسيح أن قال: يا بني إسرائيل إنكم لن تلجوا من ملكوت السماء حتى تولدوا مرتين. ولما كان أكثر الناس لم يولدوا هذه الولادة الثانية ولا تصوروها فضلاً عن أن يصدقوا بها فيقول القائل كيف يولد الرجل الكبير أو كيف يولد القلب لم يكن لهم إليها همة ولا عزيمة إذا كيف يعزم على الشيء من لا يعرفه ولا يصدقه ولكن إذا كشف حجاب الغفلة عن القلب صدق بذلك وعلم أنه لم يولد قلبه بعد. والمقصود أن صدق التأهب لقاء الله هو مفتاح جميع الأعمال الصالحة والأحوال الإيمانية مقامات السالكين إلى الله ومنازل السائرين إليه من اليقظة والتوبة والإنابة والمحبة والرجاء والخشية والتفويض والتسليم وسائر أعماله القلوب والجوارح. فمفتاح ذلك كله صدق التأهب والاستعداد للقاء الله المفتاح بيد الفتاح العليم لا إله غيره ولا رب سواه شِعْرًا: وَأَهْوَى مِنَ الشُّبَّانِ كُلَّ مُجَنَّبٍ ... عَنِ اللَّهْوِ مِقْدَمًا عَلَى كُلِّ طَاعَةِ لَهُ عِفَّةٌ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ مُحَرَّمٌ ... وَذَوُ رَغْبَةٍ فِيمَا يَقُودُ لِجَنَّةِ

تَمَسَّكَ بِهِ أَنْ تَلْقَهُ يَا أَخَا لِتَلْقَى ... تَمْسُّكَ ذِي بُخْلٍ بِتِبْرٍ وفضَّةِ وصل الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين (فَصْلٌ) وقال رحمه الله: طوبى لمن أنصف فأقر له بالجهل في علمه، والآفات في عمله، والعيوب في نفسه، والتفريط في حقه، والظلم في معاملته. فإن أخذه بذنوبه رأى عدله، وإن لم يؤخذه رأى فضله. وإن عمل حسنة رآها من منته عليه، فإن قبلها فمنه وصدقة ثانية، وإن ردها فلكون مثلها لا يصلح أن يواجه به. وإن عمل سيئة رآها من تخليه عنه، وخذلان له، وإمساك عصمته، وذلك من عدله فيه. فيرى في ذلك فقره إلى ربه وظلمه في نفسه، فإن غفر له فبمحض إحسانه وجوده وكرمه. ونكتة المسألة وسرها أنه لا يرى ربه إلا محسنًا ولا يرى نفسه إلا مسيئًا ومفرطًا أو مقصّرًا. فيرى كل ما يسره من فضل ربه عليه وإحسانه إليه، وكل ما يسوءه من ذنوبه. وقال من لم يعرف نفسه كيف يعرف خالقه؟ فاعلم أن الله خلق في صدرك بيتًا وهو القلب. ووضع في صدره عرشًا لمعرفته يستوي عليه المثل الأعلى، فهو مستو على سرير القلب، وعلى سرير بساط من الرضا. ووضع عن يمينه وشماله مرافق شرائعه وأوامره، وفتح إليه بابًا من جنة رحمته، والأنس به، والشوق إلى لقائه. وأمطره من وابل كلامه ما أنبت فيه من أصناف الرياحين والأشجار

المثمرة، من أنواع الطاعات والتهليل وللتسبيح والتحميد والتقديس. وجعل في وسط البستان شجرة معرفته، فهي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها من المحبة والإنابة، والخشية والفرح به، والابتهاج بقربه، وأجرى إلى تلك الشجرة، ما يسقيها من تدبر كلامه وفهمه، والعمل بوصاياه. وعلق في ذلك البيت قنديلاً أسرجه بضياء معرفته، وإيمان به وتوحيده، فهو يستمد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار. ثم أحاط عليه حائطًا يمنعه من دخول الآفات والمفسدين ومن يؤذي البستان، فلا يلحقه أذاهم، وأقام عليه حرسًا من الملائكة يحفظونه في يقظته ومنامه. ثم أعلم صاحب البيت والبستان بالساكن فيه فهو دائمًا همه إصلاح السكن ولَمَّ شعثه ليرضاه الساكن منزلاً. وإذا أحس بأدنى شعث في السكن بادر إلى إصلاحه ولمه، خشية انتقال الساكن منه، فنعم الساكن، ونعم المسكن فسبحان الله رب العالمين. كم بين هذا البيت وبيت قد استولى عليه الخراب، وصار مأوى للحشرات والهوام، ومحلاً لإلقاء الأنتان، والقاذورات فيه. فمن أراد التخلي وقضاء الحاجة وجد خربة لا ساكن ولا حافظ لها. وهي معدة لقضاء الحاجة، مظلمة الأرجاء، منتة الرائحة، وقد عمها الخراب، وملأتها القاذورات. فلا يأنس بها ولا ينزل فيها إلا من يناسبه سكناها من الحشرات والديدان والهوام.

الشيطان جالس على سريرها وعلى السرير بساط الجهل وتخفق فيه الأهواء، وعن يمينه وشماله مرافق الشهوات. وقد فتح إليه باب من حقل الخذلان والوحشة، والركون إلى الدنيا، والطمأنينة بها، والزهد في الآخرة. وأمطر من وابل الجهل والهوى والشرك والبدع، ما أنبت فيه أصناف الشوك والحنظل، والأشجار المثمرة بأنواع المعاصي والمخالفات، من الزوائد والانتدابات، والنوادر والهزليات والمضحكات، والأشعار الغزليات، والخمريات التي تهيج على ارتكاب المحرمات، وتزهد في الطاعات. وجعل في وسط الحقل شجرة الجهل به والإعراض عنه، فهي تؤتي أكلها كل حين من الفسوق والمعاصي واللهو واللعب والمجون، والذهاب مع كل ريح، وإتباع كل شهوة. ومن ثمرها الهموم والغموم، والأحزان والآلام، ولكنها متوارية باشتغال النفس بلهوها ولعبها. فإذا أفاقت من سكرها أحضرت كل هم وغم وحزن وقلق، ومعيشة ضنك. وأجري إلى هذه الشجرة ما يسقيها من إتباع الهوى، وطول الأمل والغرور. ثم ترك ذلك البيت وظلماته وخراب حيطانه بحيث لا يمنع منه مفسد ولا حيوان، ولا مؤذ ولا قذر. فسبحان خالق هذا البيت وذلك البيت، فمن عرف بيته وقدر الساكن فيه، وقدر ما فيه من الكنوز والذخائر والآلات انتفع بحياته ونفسه

ومن جهل ذلك، جهل نفسه وأضاع سعادته. والله الموفق. وقال: أقام الله سبحانه هذا الخلق بين الأمر والنهي والعطاء والمنع فاقترفوا فرقة قابلت أمره بالترك، ونهيه بالارتكاب، وعطاءه بالغفلة عن الشكر، ومنعه بالسخط، وهؤلاء أعداؤه، وفيهم من العداوة بحسب ما فيهم من ذلك. وقسم قالوا: إنما نحن عبيدك فإن أمرتنا سارعنا إلى الإجابة، وإن نهيتنا أمسكنا نفوسنا وكففناها عما نهيتنا عنه، وإن أعطيتنا حمدناك وشكرناك، وإن منعتنا تضرعنا إليك وذكرناك. فليس بين هؤلاء وبين الجنة إلا ستر الحياة الدنيا، فإذا مزقه عليهم الموت، صاروا على النعيم المقيم، وقرة الأعين كما أن أولئك ليس بينهم وبين النار إلا ستر الحياة الدنيا. فإذا مزقه الموت صاروا إلى الحسرة والألم. فإذا تصادمت جيوش الدنيا والآخرة في قلبك وأردت أن تعلم من أي الفريقين أنت فانظر مع من تميل منهما، ومن تقابل؛ إذ لا يمكنك الوقوف بين الجيشين، فأنت مع أحدهما لا محالة. فقسم استغشوا الهوى فخالفوه، واستنصحوا العقل فشاوروه وفرغوا قلوبهم للفكر فيما خلقوا وجوارحهم للعمل بما أمروا به، وأوقاتهم لعمارتها بما يعمر منازلهم في الآخرة. واستظهروا على سرعة الأجل بالمبادرة إلى الأعمال وسكنوا الدينا وقلوبهم مسافرة عنها. واستوطنوا الآخرة قبل انتقالهم إليها، واهتموا بالله وطاعته على قدر حاجتهم إليه، وتزودوا للآخرة على قدر مقامهم فيها.

فجعل لهم سبحانه من نعيم الجنة وروحها، أن آنسهم بنفسه، وأقبل بقلوبهم إليه، وجمعها على محبته، وشوقهم على لقائه، ونعمهم بقربه. وفرغ قلوبهم مما ملأ به قلوب غيرهم من محبة الدنيا والهم والحزن على فوتها، والغم من خوف ذهابها. فاستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدانهم، والملأ الأعلى بأرواحهم. فائدة: قال رحمه الله: إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمل الله سبحانه حوائجه كلها وحمل عنه كل ما أهمه وفرغ قلبه لمحبته ولسانه لذكره وجوارحه لطاعته. وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمله الله همومها وغمومها وأنكادها ووكله على نفسه. فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق ولسانه عن ذكره بذكرهم وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم. فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره كالكير ينفخ بطنه ويعصر أضلاعه في نفع غيره. فكل من أعرض عن عبوديته الله وطاعته ومحبته بُلِيَ بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته. قال تعالى {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} . قال سفيان بن عيينة: لا تأتون بمثل مشهور للعرب إلا جئتكم به من القرآن.

فقال له قائل فأين في القرآن أعط أخاك تمرة فإن أبى فجمرة. فقال في قوله تعالى {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} الآية. شِعْرًا: وَفِي السِّقَمِ وَالآفَاتِ أَعْظَمُ حِكْمَةٍ مُيَقَّظَةٍ ذَا اللُّبِّ عِنْدَ التَّفَقُّدِ يُنَادِي لِسَانُ الْحَالِ جِدُّوا لِتَرْحَلُوا عَنِ الْمَنْزِلِ الْغَثِّ الْكَثِيرِ التَّنَكُّدِ أَتَاكَ نَذِيرُ الشَّيْبِ بِالسِّقَمِ مُخْبِرًا بِأَنَّكَ تَتْلُو الْقَوْم فِي الْيَوْمِ أَو غَدِ فَخُذْ أُهْبَةً فِي الزَّادِ فَالْمَوْتُ كَائِنٌ فَمَا مِنْهُ مِنْ مَنْجَا وَلا عَنْهُ عُنْدَدِ فَمَا دَارُكُمْ هَذِهِ بِدَارِ إِقَامَةِ وَلَكِنَّهَا دَارُ ابْتِلا وَتَزَوُّدِ أَمَا جَاءَكُمِ مِنْ رَبِّكُمْ وَتَزَوَّدُوا فَمَا عُذْرُ مَنْ وَافَاه غَيْرَ مُزَوَّدِ وَمَا هَذِهِ الأَيَّامُ إِلا مَرَاحِلٌ تُقَرِّبُ مِنْ دَارِ اللِّقَا كُلّ مُبْعَدِ وَمَنْ سَارَ نَحْوَ الدَّارِ سِتِّينَ حِجَّةً فَقَدْ حَانَ مِنْهُ الْمُلْتَقَى وَكَأَنَ قَدْ وَمَا النَّاسُ إِلا مِثْلَ سَفْرٍ تَتَابَعُوا مُقِيمٌ لِتَهْوِيمٍ عَلَى إثْرِ مُغْتَدِي

وَمَنْ يَكُ عِزْرَائِيلُ كَافِلَ رُوحِهِ فَإِنْ فَاتَهُ فِي الْيَوْمِ لَمْ يَنْجُ مِنْ غَدِ وَمَنْ رُوحُهُ فِي الْجِسْمِ مِنْهُ وَدِيعَةٌ فَهَيْهاتَ أَمْنٌ يُرْتَجَى مِن مُرَدِّدِ فَمَا حَقُّ ذِي لُبٍّ يَبِيتُ بِلَيْلَةٍ بِلا كَتْبِ إِيصَاءِ وَإِشْهَادِ شُهَّدِ وَوَاجِبُ الإِيصَا عَلَى الْمَرْءِ إِنْ يَكُنْ عَلَيْهِ حُقُوقٌ وَاجِبَاتُ التَّرَدُّدِ وَلا بَأْسَ أَنْ يَخْبَا الْفَتَى كَفَنًا لَهُ لِحِلٍّ وَآثَارِ الرِّضَى وَالتَّعَبُّدِ فَبَادِرْ هُجُومَ الْمَوْتِ فِي كَسْبِ مَا بِهِ تَفُوزُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاجْهَدِ فَكَمْ غَبْنُ مَغْبُونٍ بِنَعْمَةِ صِحَّةِ وَنِعْمَةِ إِمْكانِ اكْتِسَابُ التَّعَبُّدِ فَنَفْسُكَ فَاجْعَلْهَا وَصِيَّكَ مُكْثِرًا لِسَفْرَةِ يَوْمِ الْحَشْرِ طِيبَ التَّزَوُّدِ وَمِثْلُ وُرُودِ الْقَبْرِ مَهْمَا رَأَيْتُهُ لِنَفْسِكَ نَفَّاعًا فَقَدِّمْهُ تَسْعَدِ فَمَا نَفَعَ الإِنْسَانُ مِثْلُ اكْتِسَابِهِ بِيَوْمٍ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ كُلِّ مُحْتَدِ كَفَى زَاجِرًا لِلْمَرْءِ مَوْتٌ مُحَتَّمٌ وَقَبْرٌ وَأَهْوَالٌ تُشَاهَدُ فِي غَدِ

فصل في الحياء، تعريفه وباعته والحث عليه والأدلة على ذلك

وَنَارٌ تَلَظَّى أَوْعَدَ اللهُ مَنْ عَصَى فَمِنْ خَارِجٍ بَعْدَ الشَّقَا وَمُخَلَّدِ وَيُسْأَلُ فِي الْقَبْرِ الْفَتَى عَنْ نَبِيِّهِ وَعَنْ رَبِّهِ وَالدِّينِ فِعْلَ مُهَدِّدِ فَمَنْ ثَبَّتَ اللهُ اسْتَجَابَ مُوَحِّدًا وَمَنْ لَمْ يُثَبَّتْ فَهُوَ غَيْرَ مُوَحِّدِ وَتِلْكَ لَعَمْرِي آخِرُ الْفِتَنِ الَّتِي مَتَى تَنْجُو مِنْهَا فُزْتَ فَوْزَ مُخَلَّدِ فَنَسْأَلُهُ التَّثْبِيتَ دُنْيَا وَآخِرًا وَخَاتِمَةَ تَقْضِي بِفَوْزٍ مُؤَبَّدِ اللهم ألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لطاعتك وامتثال أمرك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) في الحياء الحياء هو انقباض النفس عن القبائح وهو صفة من صفات النفس الممدوحة لن اشمئزاز النفس عن القبائح يستلزم تركها والانصراف عنها وهو من أفضل صفات النفس وأجلها قدرًا. وسئل بعضهم عن الحياء فقال: شيء يتولد بين رؤية النعماء ورؤية التقصير. وقال الفضيل: علامة الشقاوة خمسة، قلة الحياء، وقسوة

القلب، وجمود العين، والرغبة في الدنيا، وطول الأمل. أ. هـ. فالحياء خلق الكرام وسمة أهل المروءة والشرف، وعنوان الفضل والنبل، ولقد صدق أهل اللغة حيث قالوا الاستحياء من الحياة، واستحياء الرجل من قوة الحياة فيه لشدة علمه بمواقع العيب والذم. والحياء باعثه إحساس رقيق، وشعور دقيق في العين مظهره وعلى الوجه أثره، ومن حرمه حرم الخير كله، ومن تحلى به ظفر بالعزة والكرامة، ونال الخير أجمع وهو زينة النفوس يصدها عن فعل ما يشينها ويحملها على التحلي بجميل الخصال فهو أبدًا لا يأتي إلا بخير، وكفى خيرًا أن يكون على الخير دليلاً وكفى بضده البذاء أن يكون على الشر دليلاً وإليه سبيلاً ومن الحكم قولهم: من كساه الحياء ثوبه لم يرى الناس عيبه: وَرُبَّ قَبِيحَةٍ مَا حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ رُكُوبِهَا إِلا الْحَيَاءُ ويقول الآخر: وَعَقْلُ الْمَرْءِ أَحْسَنُ حِلْيَتَيْهِ وَزِينُ الْمَرْءِ فِي الدُّنْيَا الْحَيَاءُ آخر: وَإِنِّي لأَسْتَحِي مِنَ اللهِ أَنْ أُرَى ... حَلِيفَ غَوَانٍ أَوْ أَلِيفَ أَغَانِي إِذَا مَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْءِ عَقْلٌ ... وَلا أَدَبُ فَذَاكَ هُوَ الْحِمَارُ تَرَاهُ فِي ذَوِي الأَلْبَابِ ضَجْرًا ... وَمُلْتَجِئًا إِلَى جَنْبِ الْجِدَارِ أما انقباض النفس عن الفضائل فلا يسمى حياء بل هو خور وجبن فإذا كان الإنسان عند أحد العظماء من الناس الذين يتركون الصلاة ويأتون المنكرات، أو عند من يتركون صلاة الجماعة وانقبضت نفسه عن

فعل الخير وانبسط معهم لفعل الشر مجازاة ومطايبة لهم كان فعله جنبًا وخورًا ومداهنة ونفاقًا لا حياء ومثل ذلك ما يفعله بعض الناس من مجاملة بعضهم بعضًا في سماع المنكرات ورؤيتها وسماع الغيبة ونحوها فهذا جبن مذموم كل الذم وصاحبه شريك في الإثم عن لم ينكر أو يفارقهم. والحياء أمارة صادقة على طبيعة الإنسان فهو يكشف عن قيمة إيمانه ومقدار أدبه فعندما ترى الإنسان يشمئز ويتحرج من فعل ما لا ينبغي أو ترى حمرة الخجل في وجهه صابغة إذا بدر منه ما لا يليق فاعلم أنه حي الضمير نقي المعدن زكي العنصر وإذا رأيت الرجل لا يكترث ولا يبالي فيما يبدر منه فهو امرؤ لا خير فيه وليس وازع يمنعه من ارتكاب الجرائم، واقترف الآثام الدنايا. وينقسم الحياء على قسمين حياء من الله عز وجل لما روى ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «استحيوا من الله حق الحياء» . قالوا: إنَّا نستحي يا نبي الله والحمد لله. قال: «ليس كذلك ولكن من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما حوى وليحفظ البطن وما وعى وليذكر الموت والبلى ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء» . رواه أحمد والترمذي وقال: هذا حديث غريب. والقسم الثاني: الحياء من الناس وهو بقسيمه رأس الفضائل وأساس مكارم الأخلاق لأنه يترتب عليه ما يترتب على العدل والعفة ولذا ورد عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الحياء لا يأتي إلا بخير» . متفق عليه. وفي رواية لمسلم: «الحياء خير

كله» . أو قال: «الحياء كله خير» . وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء فقال صلى الله عليه وسلم: «دعه فإن الحياء من الإيمان» . متفق عليه. وفي حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان» . متفق عليه. وكان صلى الله عليه وسلم أرق الناس طبعًا وأنبلهم سيرة وأعمقهم شعورًا بالواجب ونفورًا عن المحارم. فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها فإذا رأى شيئًا يكرهه عرفناه في وجهه. متفق عليه. وعن زيد بن طلحة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لكل دين خلقًا وخلق الإسلام الحياء» . رواه مالك مرسلاً ورواه ابن ماجة والبيهقي في شعب الإيمان عن أنس وابن عباس. وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الحياء والإيمان قرناء جميعًا فإذا رفع أحدهما رفع الآخر» . وفي رواية ابن عباس: «فإذا سلب أحدهما تبعه الآخر» . رواه البيهقي في شعب الإيمان. وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنا مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحي فاصنع ما شئت رواه البخاري.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة والبذاء من الجفاء والجفاء في النار» . رواه أحمد والترمذي. وقال صلى الله عليه وسلم: «الحياء والعي من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق» . رواه أحمد والترمذي وقال صلى الله عليه وسلم: «الحياء نظام الإيمان» . هذا بعض ما قاله صلى الله عليه وسلم في الحياء وهو كما ترى يتضمن وعد من اتصف بالحياء بالجنة ووعيد من اتصف بضده من البذاء والجفاء بالنار. ولا شك في أن ذلك من أجل الحكم وأفضل المواعظ فما من أحد يستمسك بالحياء ولا يحيد عنه إلا عاش في دنياه عيشة سعيدة حميدة راضية مرضية وظفر في آخرته بالسعادة الدائمة إذا وفقه الله لذلك. وقد علمت أن الحياء ينقسم إلى قسمين حياء من الناس فأما الحياء من الله فإنه يترتب عليه كل الفضائل، التي يسعد بها الناس في دنياهم وآخرتهم فإن الذي يستحي من الله لا يفعل المعاصي بل يحفظ جوارحه كلها عنها ولا يترك واجبًا ما دام يؤمن بأن الله مطلع عليه لا تخفى عليه خافية من أمره. وأنه لا بد أن يجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته كما قال تعالى {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} وأنه سبحانه هو الذي خلق الإنسان وسواه كما قال تعالى {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} وأنه الذي أمده بنعمه كما قال تعالى {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}

وقال {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ} وقال {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا} . وأنه الذي فضله على كثير من خلقه كما قال تعالى {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} وأنه مدين لله في وجوده وبقائه وفنائه وبعثه وأنه محتاج إلى الله في جميع حركاته وسكناته بل مضطر إليه ضرورة مستمرة. وأنه إذا فكر في نفسه وأدرك ما انطوت عليه من دقيق الصنع وبديع التركيب كما أشار إليه قوله: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} وعلم أنه لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا فلا بد أن يستحي من عصيان ذلك الخالق العظيم الحكيم ولا بد أن يفعل ما أمره الله به وينتهي عما نهاه عنه وذلك هو الخير كله كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق. وهذا واضح لأن الذي يطيع الله فيما أمر يقوم بالواجبات، ويمتنع عن المحرمات فلا يظلم ولا يتكبر ولا ينافق ولا يكذب ولا يرابي ولا يرائي ولا يخون ويتجنب جميع سفساف الأمور، ويعمل بمعالي الأخلاق من العدل والتواضع والحلم والصدق والصبر والعفة ونحو ذلك. ومن يفعل ذلك فهو ذو فضل عظيم وخير كثير على نفسه وعلى غيره يعيش في هذه الدنيا عيشة راضية ويحيا حياة هنية طيبة في الدنيا والآخرة، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} . وقال صالح بن عبدوس:

إِذَا قَلَّ مَاءُ الْوَجْهِ قَلَّ حَيَاؤُهُ وَلا خَيْرَ فِي وَجْهٍ إِذَا قَلّ مَاؤُهُ حَيَاؤُكَ فَاحْفَظْ عَلَيْكَ فَإِنَّمَا يَدُلّ عَلَى فِعْلَ الْكَرِيمِ حَيَاؤُهُ اللهم يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه اجمع بيننا وبين الصدق والنية الصالحة والإخلاص والخشوع والمراقبة واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) وأما الحياء من الناس فهو قسمان: الأول أن يستحي المرء من الناس وهو جازم بأنه لا يأتي هذا المنكر ولا يفعل هذه الرذيلة خوفًا من الله تعالى وحياء منه أيضًا ولو لم يطلع عليه أحد من خلق الله وهذا هو الحازم الذي عرف كيف يستفيد من صفة الحياء، ويأخذ أجرها كاملاً لأن الحياء إنما يمدح من جميع جهاته إذا ترتب عليه الكف عن القبائح التي لا يرضاها الدين الإسلامي في جميع الأحوال. وروي أن حذيفة بن اليماني أتى الجمعة فوجد الناس قد انصرفوا فتنكب الطريق عن الناس وقال لا خير فيمن لا يستحي من الناس. إِذَا لَمْ تَصُنْ عِرْضًا وَلَمْ تَخْشَ خَالِقًا وَتَسْتَحِي مَخْلُوقًا فَمَا شِئْتَ فَاصْنَعْ ويقال خمسة أشياء تقبح في خمسة أصناف قلة الحياء في ذوي الأحساب والحدة في السلطان، والبخل في ذوي الأموال، والفتوة في

الشيوخ، والحرص في العلماء والقراء. الثاني: أن يترك القبيح حياء من الناس بحيث لو لم يطلع عليه أحد لفعله، وهذا يحتاج إلى علاج لأنه ما دام عنده شيء من الحياء وهو حياؤه من الناس فقط فما دام لا يفعل القبائح بينهم فإنه يسهل تذكيره بعظمة ربه وجلاله وأنه أحق أن يستحيا منه لأنه القادر المطلع الذي بيده ملكوت كل شيء ويبين له لنه لا يليق بالمؤمن أن يستحي من الناس ولا يستحي من الله وليس من العقل ولا من المروءة أن يضيع ثواب ترك القبيح بانصرافه عن ملاحظة خالقه ومراقبة ربه. أما الذي يجاهر بالمعاصي ولا يستحي من الله ولا من الناس، فهو من شر ما منيت به الفضيلة لأن المعاصي داء الانتقال لا تلبث أن تسري إلى النفوس الضعيفة فيعم شر معصية المجاهر ويتفاقم خطبها ويصعب علاجها فضلاً عما في المجاهرة من انتهاك حرمة الفضيلة والقضاء عليها فشره على نفسه وعلى الناس عظيم وخطره على الفضائل كبير. شِعْرًا: ... إِذَا مَا ذَكَرْتَ النَّاسَ فَاتْرُكْ عُيُوبَهَمْ ... فَلا عَيْبَ إِلا دُونَ مَا مِنْكَ تُذْكَرُ مَتَى تَلْتَمِسْ لِلنَّاسِ عَيْبًا تَجِدْ بِهِمْ ... عُيُوبًا وَلَكن رُبَّمَا فِيكَ أَكْثَرُ شِعْرًا: ... إِذَا حَرَّمَ الْمَرْءُ الْحَيَاءَ فَإِنَّهُ ... بِكُلِّ قَبِيحٍ مِنْهُ كَانَ جَدِير لَهُ قِحْة فِي كُلِّ أَمْرٍ وَسِرُّهُ ... مُبَاح وَخِدنَاهُ خنًا وغرُورُ يَرَى الشَّتْمَ مَدْحًا وَالدَّنَاءَةَ رِفْعَةً ... وَلِلسَّمْعِ مِنْهُ فِي الْعَطَاءِ نُفُورُ فَرَجِ الْفَتَى مَا دَامَ حَيًّا فَإِنَّهُ ... إِلَى خَيْرِ حَالاتِ الْمَبِيتِ يَصِيرُ آخر: ... إِذَا لَمْ تَخْشَ عَاقِبَةَ اللَّيَالِي ... وَلَمْ تَسْتَحِيي فَاصْنَعْ مَا تَشَاءُ فَلا وَاللهِ مَا فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ ... وَلا الدُّنْيَا إِذَا ذَهَبَ الْحَيَاءُ ُ يَعِيشُ الْمَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بَخَيْرٍ ... وَيَبْقَى الْعَوْد مَا بَقي الْحَيَاءُ

آخر: ... إِذَا الْمَرْءُ وَافَى الأَرْبَعِين وَلَمْ يَكُنْ لَهُ دُونَ مَا يَهْوَى حَيَاء وَلا سِتْرُ فَدَعْهُ وَلا تنفس عَلَيْهِ الَّذِي أَتَى وَإِنْ جَرَّ أَسْبَابَ الْحَيَاةِ لَهُ الدَّهْرِ ومن الناس من يتلذذون بذكر فسوقهم ومعاصيهم ويتبجحون بتعداد جرائمهم وجناياتهم فيذيعون لجلسائهم ما ستره الله عليهم فيعرضون أنفسهم لعقوبة الدنيا وللحرمان من عفو الله ورحمته، وفي هؤلاء وأمثالهم يقول صلى الله عليه وسلم كل أمتي معافي إلا المجاهرون فيجب أن لا يتركوا أولئك الذين يجاهرون بارتكاب الموبقات يعيشون بينهم بل يجب على كل واحد أن يبذل مجهودًا في ردهم عن غيهم بكل ما يستطيع من النصيحة والإرشاد وغيرها. وخير علاج للقضاء على هؤلاء مقاطعتهم وعدم مخالتطهم وعدم إجابة دعوتهم والابتعاد عنهم واحتقارهم في مجالسهم والانصراف عن حديثهم عن ابتلى بهم حتى يرجعوا عن غيهم ويكفوا عن المجاهرة بجرائمهم. ومن الأسف أن المجاهرة بالمعاصي قد فشت في زماننا بدون حياء من الله ولا من الناس فلا شاب ينزجر ولا شيخ يرعوي ولا رجل تدركه الغيرة ولا امرأة يغلب عليها الحياء فتتحفظ وتتستر، وهذا مؤذن بعقوبة، والله أعلم لأن الأمم تحيا حياة طيبة بالتمسك بالفضائل، وتعيش عيشة سعيدة باجتناب الرذائل فإذا انتهكت المحارم، وغلبت الشهوات، وضاع الحياء فماذا يرتجى بعد ذلك من عيش وراءه سخط الله وعقابه ومقته وعذابه فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. شِعْرًا: ... فَشَرُّ الْعَالَمِينَ ذَوُو نِفَاقٍ ... وَإِشْرَاكٌ بِرَبِّ الْعَالَمِينَا وَخَيْرُ النَّاسِ ذَوُ دِينٍ مَتِينٍ ... وَتَعْظِيمٍ لِرَبِّ الْعَالَمِينَا

موعظة بليغة في صفة الذي يستحي من الله ومن الناس

موعظة عباد الله إن الحياء كما علمتم من الإيمان وإنه لا يأتي إلا بخير وأنه خلق الإسلام وذلك أنه يجر إلى الكمالات وإلى الفضائل فمن لم يكن من أهل الحياء حقيقة فليقتدي بهم وليتشبه بهم لأنهم خاصة الفضلاء. فذو الحياء الخلقي يمنعه حياؤه من العدوان على المخلوقات ذو الحياء لا تبدر بادرة بينها وبين الفضائل تنافي ذو الحياء لا يقدم على الزنا بل ولا على مغازلة النساء التي هي مفتاح الفسوق ولا يقدم على معاملة في الربا لعلمه أن متعاطي الربى العالم بتحريمه محارب لله ورسوله. ذو الحياء لا يغش أخاه المؤمن لعلمه بتحريم الغش وأن من غشنا فليس منا، ذو الحياء لا يعثو في لحوم الغوافل، ذو الحياء لا ينقل كلام مؤمن على أخيه لقصد الإفساد بينهم، ذو الحياء لا يعق والديه ولا يقطع ما أمر الله به أن يوصل ولا يشهد بالزور ولا يؤذ جيرانه. صاحب الحياء يبتعد عن أكل الحرام وعن المجاهرة بالمعاصي فلا يحلق لحيته لأنه يعلم أنه بذلك عاص لله ولرسوله ولا يخنفس ولا يجعل تواليت لعلمه أن ذلك تشبه بالإفرنج ولا يستعمل الملاهي بأنواعها من تلفزيون أو سينما أو مذياع أو كرة أو بكم أو عود أو فيديو أو نحو ذلك من البدع المحرمات التي حدثت في زماننا كالمذكورات. صاحب الحياء لا يشرب الدخان أو إن بلي به فلا يشربه في

الأسواق ومجامع الناس لعلمه أنه إذا جاهر به في ذلك ازداد إثمه وعظم جرمه، ذو الحياء لا يخلو بأمره لا محرم معها لا في بيت ولا في سيارة ولا في أي محل لعلمه أن خلوة بالأجنبية محرم للأحاديث الواردة في ذلك. صاحب الحياء لا يبيع ويشتري في صور ذوات الأرواح مجسدة أو غير مجسدة ولا يبيع آلات اللهو كالتلفزيون والسينما والمذياع لعلمه أن ذلك محرم وأنه بتعاطيه ذلك يكون معينًا على نشر المعاصي في أرض الله بل ولا يصلحها لأن ذلك مساعدة على المعاصي. والأجرة حرام التي تأتي مقابل تصليح آلات اللهو والفسوق وقس على ذلك باقي المحرمات فصاحب الحياء الخلقي يستحي من الله، ومن استحيا من الله لم يغضبه. صاحب الدين والحياء لا يعمر قصور للأعراس ولا يشارك في عمارتها لعلمه أن ذلك يصادم تخفيف الصداق الذي هو سبب لتكثير أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، نسأل الله أن يعصمنا وإخواننا المسلمين عن عمارتها والمشاركة فيها اللهم صلى على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله أن يهلك عبدًا نزع منه الحياء؛ فإذا نزع منه الحياء لم تلفه إلا مقيتًا ممقتًا، فإذا لم تلفه إلا مقيتًا ممقتًا نزعت منه الأمانة، فإذا نزعت منه الأمانة لم تلفه إلا خائنًا مخونًا، فإذا لم تلفه إلا خائنًا مخونًا نزعت منه الرحمة، فإذا نزعت منه الرحمة لم تلفه إلا رجيمًا ملعنًا نزعت منه رِبْقَةِ الإسلام. رواه ابن ماجه. قال العلماء على هذا الحديث: وهذا ترتيب دقيق في وصفه لأمراض النفوس وتتبعه لأطوارها وكيف تسلم كل مرحلة خبيثة على أخرى أشد نُكرًا فإن الرجل إذا مزق جلباب الحياء عن وجهه ولم يتهيب على علمه حسابًا ولم يخش في سلوكه لومة لائم مد يد الأذى للناس

قصيدة مملوءة حكما ووعظا وحثا على مكارم الأخلاق

وطغى على كل من يقع في سلطانه. ومثل هذا الشخص الشرس لن تجد له قلبًا يعطف عليه بل يغرس الضغائن في القلوب وينميها وأي شخص جريء على الله وعلى الناس ولا يرده عن الآثام حياء فإذا صار الشخص بهذه المثابة لم يؤتمن على شيء قط إذ كيف يؤتمن على أموال لا يخجل من أكلها أو على أعراض لا يستحي من فضحها أو على موعد لا يهمه أن يخلفه أو على واجب لا يبالي أن يفرط فيه أو على بضاعة لا يتنزه عن الغش فيها. فإذا فقد الشخص حياءه وفقد أمانته أصبح وحشيًا كاسرًا ينطلق معربدًا وراء شهواته ويدوس في سبيلها أزكى العواطف فهو يغتال أموال الفقراء غير شاعر نحوهم برقة وينظر إلى المنكوبين والمستضعفين فلا يهتز فؤاده بشفقة فهو لا يعرف إلا ما يغويه ويغريه بالمزيد. ويوم يبلغ امرؤ هذا الحضيض فقد أفلت من قيود الدين وانخلع من ربقة الإسلام، وللحياء مواضع يستحب فيها، فالحياء في الكلام يتطلب من المسلم أن يطهر فمه من الفحش وأن ينزه لسانه عن العيب وأن يخجل من ذكر العورات فإن من سوء الأدب أن تفلت الألفاظ البذيئة من المرء غير عابئ بمواقعها وآثارها ومن الحياء أن يقتصد المسلم في الكلام في تحدثه في المجالس. انتهى. شِعْرًا: هذه قصيدة مملوءة حكمًا رائعة لا يستغني عنها اللبيب: أَحْسِنْ جَنَى الْحَمْد تَغْنَمُ لَذَّةَ الْعُمْرِ وَذَاكَ فِي بَاهِرِ الأَخْلاقِ وَالسِّيَرِ

ج همُ الْفَتَى الْمَاجِدُ الْغَطْرِيفِ مَكْرمةٌ يَضُوع نَادِي الْمَلا مِنْ نَشْرِهَا الْعِطْر وَحِلْيَة الْمَرْءِ فَي كَسْبِ الْمَحَامِد لا فَي نَظْمِ عَقْدٍ مِنَ الْعِقْيَانِ وَالدُّرَرِِ تَكْسُو الْمَحَامِدُ وَجْه الْمَرْءِ بَهْجَتهَا كَمَا اكْتَسَى الزَّهْرُ زَهْرَ الرَّوْضِ بِالْمَطَرِ يَخْلُدُ الذِّكْر حَمْدًا طَابَ مَنْشؤه وَلَيْسَ يَمْحُو الْمَزَايا سَالِفَ الْعَصْرِ تَميز النَّاس بِالْفَضْلِ الْمُبِينِ كَمَا تَمَيَّزُوا بَيْنَهُمْ فِي خَلْقِهِ الصُّورِ بِقَدْرِ مَعْرِفَةِ الإِنْسَان قِيمَتُهُ وَبِالْفَضْلِ كَانَ الْفَرْقُ فِي الْبَشَرِ مَا الْفَضْلُ فِي بَزّةِ تَزْهُو بِرَوْنَقِهَا وَأَيُّ فَضْلٍ لا برِيزٍ عَلَى مَدَرِ وَإِنَّمَا الْفَضْلُ فِي عِلْمٍ وَفِي أَدَبٍ وَفِي مَكَارِمٍ تَجْلُو صِدْق مُفْتَخَرِ فَلا تَسَاو بِأَخْلاقٍ مُهَذَّبَة أَخْلاق سُوءٍ أَتَتْ مِنْ سَارِحِ الْبَقَرِ وَخُذْ بِمَنْهَجِ مَنْ يَعْصِي هَوَاهُ وَقَدْ أَطَاعَ أَهْلَ الْحِجَا فِي كُلِّ مُؤْتَمَرِ إِنَّ الْهَوَى يُفْسِدُ الْعَقْلَ السَّلِيمِ وَمَنْ يَعْصِي الْهَوَى عَاشَ فِي أَمْنٍ مِنَ الضَّرَرِ

وَجَاهِدِ النَّفْسَ فِي غَيٍ يُلَمُّ بِهَا كَيْلا تُمَاثِل نَذْلاً غَيْر مُعْتَبَرٍ وَفِي مُعَاشَرَةِ الأَنْذَالِ مَنْقَصَةٌ بِهَا يَعُمُّ الصَّدَا مِرْآة ذِي فِكْرٍ وَلَيْسَ يَبْلُغُ كُنْهَ الْمَجْد غَيْرَ فَتَى يَرَى اكْتِسَابَ الْمَعَالِي خَيْرَ مُتَّجَرِ إِنَّ الْكَرِيمَ يَرَى حَمْلَ الْمَشَقَّة فِي نَيْلِ الْعُلَى مِنْ لَذِيذِ الْعَيْشِ فَاصْطَبِرِ فَالصَّبْرُ عَوْنُ الْفَتَى فِيمَا تَجَشَّمَهُ إِنَّ السِّيَادَةَ نَهْجٌ وَاضِحُ الْوَعِرِ وَأَفْضَلُ الصَّبْرِ صَبْرَ عَنْ مُهْيَأَةٍ مِنَ الْمَعَاصِي لِخَوْفِ اللهِ فَازْدَجِرِ وَاصْبِرْ عَلَى نَصْبِ الطَّاعَاتِ تُحْظَ بِمَا أَمَّلْتَهُ مِنْ عَظِيمِ الصَّفْحِ مُغْتَفَرٍ نَيْفٌ وَسَبْعُونَ مِنْ آيِ الْكِتَاب أَتَتْ فِي الصَّبْرِ فَاعْمَلْ بِهَا طُوبَى لِمُصْطَبَرِ وَعِشْ مَحَلاً بِأَخْلاقٍ مَحَاسِنُهَا تُجْلِي عَلَى أَوْجُهِ الأَيَّامَ كَالْغُرَرِ دِينٌ بِهِ عِصْمَةٌ مِنْ كُلِّ فَاحِشَة وَكُلّ مَا اسْتَطَعْتَ مِنْ بِرٍّ فَلا تَذَرِ إِنَّ الْعَفَافَ حِمَى لِلنَّسْلِ صُنْهُ بِهِ إِذَا أَضعت الْحِمَى يَرْعَاهُ كُلَّ جَرِي

قَدْ قِيلَ عُفُّوا تَعُفنَّ النِّسَاء وَفِي مِثْقَالِ خَيْرٍ فَشَرّ أَوْضَحُ النّذرِ وَمِنْ جَمَالِ الْفَتَى صِدْقُ الْعَفَافِ فَكُنْ بِهِ مُحَلًّى خَلِيقًا مُنْتَهى الْعُمْرِ وَالْزَمْ فَوَائِد تَقْوَى اللهِ تَعْلُ بِهَا إِنِّي سَأُورِدُهَا عَنْ مُحْكَمِ الزّبر فَبِالتُّقَى مَخْرَجُ مِنْ كُلِّ حَادِثَةٍ وَالْحِفْظِ مِنْ صَوْلَةِ الأَعْدَا مَعَ الظَّفَر وَالرِّزْق فِي دِعَةِ بِالْحِلّ مُقْتَرِن وَحُسْنُ عَاقِبَة فِي خَيْر مُدَّخَر وَجَاءَ نُورٌ بِهِ تَمْشِي وَمَغْفِرَةٌ مِنَ الذُّنُوبِ وَمَنْجَاةٌ مِنَ الْحَذَر بِهِ الْبُشَارَة فِي الدُّنْيَا وَضُرَتُهَا بِهِ النَّجَاة مِنَ الأَهْوَالِ وَالشَّرَرِ وَرَحْمَةُ اللهِ تَغْشَى الْمُتَقِي وَلَهُ قُبُولُهُ وَلَهُ الإِكْرَامُ فَاعْتَبِر وَبِالتُّقَى تَغْنَمْ الإِصْلاحُ فِي عَمَلٍ وَتَسْتَفِيدُ بِهِ عِلْمًا بِلا سَهَرْ وَنَفْعُ ذَلِكَ لا يُحْصَى لَهُ عَدَدٌ وَنَصُّ ذَلِكَ فِي آيِ الْكِتَابِ قُري وَخَيْرُ مَا يَقْتَنِي الإِنْسَانُ إِنْ كَرُمَتْ أَخْلاقُهُ وَاسْتَفَادَتْ رِقَةُ السّحرِ

وَمِنْ مَكَارِمِهَا عَشْرٌ عَلَيْكَ بِهَا فَإِنَّهَا حِكَمٌ تُرْوَى عَنِ الأَثَرِ صِدْقُ الْحَدِيثِ فَلا تَعْدِلْ بِهِ خُلُقًا تَبْلُغُ مِنَ الْمَجْدِ أَبْهَى بَاذِخُ السُّرَرِ وَكُنْ خَلِيقًا بِصِدْقِ الْبَأْسِ يَوْم وَغَى فَشَرُّ عَيْبِ الْفَتَى بِالْجبْنِ وَالْخُورِ أَجِبْ مُنَادِي الْعُلَى فِي خَوْضِ غَمْرَتِهَا فَالْعِزّ تَحْتَ ظِلالِ الْبِيضِ وَالسّمرِ بِالصَّبْرِ يَكْتَسِبُ الْمِقْدَامُ نُصْرَتُهُ وَيَلْبِسُ الضِّدَّ مِنْهُ ثَوب مُنْذَعِرِ وَلا يُدْنِّي لَهُ الإِقْدَامُ مِنْ أَجَلٍ يَكْفِي حِرَاسَتُهُ مُسْتَأْخِرُ الْقَدَرِ وَاحْرِصْ عَلَى عَمَلِ الْمَعْرُوفِ مُجْتَهِدًا فَإِنَّ ذَلِكَ أَرْجَى كُلّ مُنْتَظِر وَلَيْسَ مِنْ حَالَةْ تَبْقَى كَهَيْئَتِهَا فَاغْنَمْ زَمَان الصَّفَاء خَوْفًا مِنَ الْكَدَرِ وَلا يَضِيعُ وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ بِهِ مَعْرُوف مُسْتَبْصِرٍ أُنْثَى أَوْ الذَّكَرِ إِنْ لَمْ تُصَادِفْ لَهُ أَهْلاً فَأَنْتَ إِذًا كُنْ أَهْلُهُ وَاصْطَنِعْهُ غَيْر مُقْتَصَر أَغِثْ بِإِمْكَانِكَ الْمَلْهُوفِ حَيْثُ أَتَى بِالْكَسْرِ فَاللهُ يَرْعَى حَالَ مُنْكَسِر

وَكَافِئْنَ ذَوِي الْمَعْرُوفِ مَا صَنَعُوا إِنَّ الصَّنَائِعَ بِالأَحْرَارِ كَالْمَطَر وَلا تَكُنْ سَبخًا لَمْ يِجِدْ مَاطِرَهُ وَكُنْ كَرَوْضٍ أَتَى بِالزَّهْرِ وَالثَّمَرِ وَاذْكُرْ صَنِيعةَ حُرٍّ حَازَ عَنْكَ غِنَى وَقَدْ تَقَاضَيْتَهُ فِي زِيّ مُفْتَقَرِ وَاحْفَظْ ذِمَام صَدِيقٍ كُنْتَ تَأْلَفُهُ وَذِمَّةَ الْجَارِ صُنْهَا عَنْ يَدِ الْغَيْرِ وَصْلْ أَخا رَحِمٍ تَكْسَبْ مَوَدَّتُهُ وَفَي الْخُطُوبِ تَرَاهُ خَيْر مُنْتَصِر وَوَصْلُهُ قَدْ يَجُرُّ الْوَصْلَ فِي عَقِبٍ وَقَدْ يَزْادُ بِهِ فِي مُدَّةِ الْعُمُرِ وَجُدْ عَلَى سَائِلٍ وَافَى بِذِلَّتِهِ وَلَوْ بِشَيْءٍ قَلِيلِ النَّفْع مُحْتَقَر وَاحْفَظْ أَمَانَة مَنْ أَبْدَى سَرِيرَتُهُ مَالاً وَحَالاً لِحُسْنِ الظَّنِ وَالنَّظَرِ وَاقرِ الضُّيُوفَ وَكُنْ عَبْدًا لِخِدْمَتِهِمْ وَهُشُّ بِشَّ وَلا تَسْأَلْ عَنِ السَّفَرِ وَبَادِرْنَ إِلَيْهِمْ بِالَّذِي اقْتَرَحُوا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ بِلا مَنٍّ وَلا كَدَرِ وَخُضْ بِهِمْ فِي فُنُونٍ يَأْنَسُونَ بِهَا مِنْ كُلِّ مَا طَابَ لِلأَسْمَاعِ فِي السَّمَر

لِكُلِّ قَوْمٍ مَقَامٍ فِي الْخِطَابِ فَلا تَجْعَلْ مُحَادَثَةَ الأَعْرَابِ كَالْحَضَرِ وَاعْرِفْ حُقُوقَ ذَوِي الْهَيْئَاتِ إِذَ وَرَدُوا وَلِلصَّعَالِيكَ فَاحْذَرْ حَالَةَ الضَّجَرِ وَالْزَمْ لِدَى الأَكْلِ آدَابًا سَأُورِدُهَا تَعِشْ حَمِيدَ الْمَسَاعِي عِنْدَ كُلَّ سَرِي كُنْ أَنْتَ أَوَّلُ بَادٍ بِامْتِدَادِ يَدٍ إِلَى الطَّعَامِ وَسَمِّ اللهَ وَابْتَدِرَا وَاشْرَعْ بِأَصْفَى حَدِيثٍ فِي مُنَاسَبَةٍ بِالزَّادِ أُنْسًا وَتَرْغِيبًا بِلا هَذَرِ لا تُؤْثِرَنَّ بِشَيْءٍ لَذَّ مَطْعَمُهُ نَفْسًا وَلا وَلَدًا فَالضَّيْفُ فِيهِ حَرِي وَكُنْ إِذَا قَامَ كُلُّ الْقَوْمِ آخِرُهُمْ وَغُضَّ عَنْ مَدِ أَيْدِي الْقَومَ بِالبَّصَرِ وَمَنْ أَقَامَكَ أَهْلاً لِلضِّيَافَةَ قُمْ بِشُكْرِهِ وَاسْتَزِدْ إِنْعَامَ مُقْتَدِرِ وَرَأْسُ مَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ الْحَيَاءِ فَكُنْ مِنَ الْحَيَاءِ بِأَوْفَى بَاهِرِ الْحِبَرِ لا دِينَ إِلا لِمَنْ كَانَ الْحَيَاءُ لَهُ إِلْفًا قَرِينًا فَيَسْمُو كُلّ مُسْتَتِرِ فَاسْتَحِي مِنْ خَالِقٍ يَرْعَاكَ فِي مَلأٍ وَفِي خَلاءٍ وَكُنْ مِنْهُ عَلَى حَذَرِ

وَالْعَاقِلُ الشَّهْمُ مَنْ يَأَبَى الرَّذَائِلُ بَلْ يَخْتَارُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَطْيَبَ الْخَبَرِ بِالْعَقْلِ تُدْرِكُ غَايَاتِ الْكَمَالِ كَمَا بِهِ تُمَيِّزُ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ لَوْلاهُ لَمْ نَعْرِفُ اللهَ الْكَرِيمَ وَلا نَمْتَازُ يَوْمًا عَنِ الأَنْعَامِ فِي الْفِطْرِ فَاسْتَعْمِلِ الْعَقْلَ فِي كُلِّ الأُمُورِ وَلا تَكُنْ كَحَاطِبِ لَيْلٍ أَعْمَشَ الْبَصَرِ دَلِيلُ عَقْلِ الْفَتَى بَادِي مُرُوَءَتِهِ فَمَنْ تَجَنَّبَهَا فَالْعَقْلُ مِنْهُ بَرِي عَارِي الْمُرُوءَةِ نَكْسٌ لا خَلاقَ لَهُ وَذُو الْمُرُوءَةِ مَحْبُوبٌ لَدَى الْبَشَرِ أَخُو الْمُرُوءَةِ يَأْبَى أَنْ يَرُدَّ ذَوِي ال آمَالِ مِنْ فِضْلِهِ فِي حَالِ مُنْكَسِرِ والْجُودُ أَشْرَفُ مَا تَسْمُو الرِّجَالُ بِهِ وَقَدْ يَنَالُ بِهِ مُسْتَجْمَعُ الْفَخْرِ وَبِالسَّخَاءِ لِحِفْظِ النِّعْمَةِ اعْتَمَدُوا يَا حَبَّذَا عَمَلٍ بِالْحِفْظِ صَارَ حَرِي لا يَصْلُحُ الدِّينُ إِلا بِالسَّخَاءِ أَتَى إِنَّ السَّخَاءَ مِنَ الإِيمَانِ فَاعْتَبِرِ وَالْجُودُ مِنْ شَجَرِ الْجَنَّاتِ فَاحْظَ بِهِ وَخُذْ بَغِصْنٍ أَتَى مِنْ ذَلِكَ الشَّجَرُ

يُحِبُّ مَوْلاكَ حُسْنُ الْخُلُقِ مُقْتَرِنًا بِالْجُودِ لَمْ يَبْقِيَا لِلذَّنْبِ مِنْ أَثَرِ إِنَّ السَّخِيَّ حَبِيبٌ لِلإِلَهِ لَهُ قُرْبٌ مِنَ اللهِ هَذَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ وَلا تَرُحْ بِلَئِيمٍ سَرْحَ عَارِضَةٍ تَرِدْ بِهِ فِي ظَمَا مِنْ حَافَةِ النَّهْرِ وَلا تَغُرَّنْكَ مِنْهُ طُولَ مِكْنَتِهِ حَلْفَاءَ عَارٍ بِلا ظِلٍّ وَلا ثَمَرِ بَذْلُ النَّفِيسِ عَلَى نَفْسِ الْخَسِيسِ عَنًا فِعْلُ الْجَمِيلِ لَدَيْهُ مُوجِبُ الضَّرَرِ وَمَنْ يَؤُمُّ لَئِيمًا عِنْدَ حَاجَتِهِ يَعُضُّ كَفَّيْهِ كَالْكُسْعِي وَسْطَ قرِي وَاسْلُكْ سَبِيلَ كِرَامٍ أَصْفِيَاءٍ مَضَوْا بِكُلِّ حَمْدٍ عَلَى الآفَاقِ مُنْتَشِرِ وَاحْذَر طَبَائِعَ أَهْلِ اللَّوْمِ إِنَّ لَهُمْ ذَمًا يُدُومُ عَلَى الآصَالِ وَالْبُكْرِ وَاغْنَمْ مَكَارِمَ تُبْقِيهَا مُخَلَّدَةٌ فِي أَلْسُنِ النَّاسِ مِنْ بَدْوٍ وَمِنْ حَضَرِ فَخَيْرُ فِعْلِ الْفَتَى فِعْلٌ يُبَلِّغُهُ مِنَ الْمَحَامِدِِ مَا يُبْقَى عَلَى الأَثَرِ فَالْمَرْءُ يَفْنَى وَيَبْقَى الذِّكْرُ مِنْ حَسَنٍ وَمِنْ قَبِيحٍ فَخُذْ مَا شِئْتَهُ وَذَرِ

بعض الحكام والأسرار المودعة في بعض نعم الله على عباده

وَهَذِهِ حِكَمٌ بِالنُّصْحِ كَافِلَةٌ بِالنَّقْلِ جَاءَتْ وَعَنْ مَصْقُولَةِ الْفِكَرِ اللهم أنظمنا في سلك عبادك المخلصين ووفقنا للقيام بأركان دينك القويم ونجنا من لفحات الجحيم وأسكنا في جنات النعيم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) قال في مختصر منهاج القاصدين: واعلم أنا قد ذكرنا جملة من نعم الله على خلقه ونعمة البدن واحدة من النعم الواقعة في الرتبة الثانية فلو أردنا أن نستقصي الأسباب التي بها تمت هذه النعمة لم نقدر عليها ولكن الأكل أحد أسباب الصحة، فلنذكر شيئًا من الأسباب التي يتم بها الأكل على سبيل التدريج لا على سبيل الاستقصاء. فنقول: من جملة نعم الله عليك أن خلق لك آلة الإحساس وآلة الحركة في طلب الغذاء فانظر إلى ترتيب حكمة الله تعالى في الحواس الخمس التي هي آلة للإدراك. فأولها حاسة اللمس وهو أول حس يخلق للحيوان وأنقص دراجات الحس أن يحس بما يلاصقه فإن الإحساس بما يبعد منه أتم لا محالة فافتقرت إلى حس تدرك به ما بعد عنك فخلق لك الشم تدرك به الرائحة من بعد ولكن لا تدري من أي ناحية جاءت الرائحة فتحتاج أن تطوف أي تدور كثيرًا، حتى تعثر على الذي شممت رائحته وربما لم تعثر عليه. فخلق لك البصر لتدرك به ما بعد عنك وتدرك جهته فتقصدها

العقل والإرادة والقدرة والشهوة والحركة

بعينها إلا أنه لو لم يخلق لك إلا هذا لكنت ناقصًا إذ لا تدرك بذلك ما وراء الجدار والحجاب فربما قصدك عدو بينك وبينه حجاب وقرب منك قبل أن ينكشف الحجاب فتعجز عن الهرب فخلق لك السمع حتى تدرك به الأصوات من الحجرات عند جريات الحركات ولا يكفي ذلك لو لم يكن لك حسن ذوق إذ به تعلم ما يوافقك وما يضرك بخلاف الشجرة فإنه يصب في أصلها كل مائع ولا ذوق لها فتجذبه وربما يكون ذلك سبب جفافها وتلافها. ثم أكرمك تعالى بصفة أخرى هي أشرف من الكل وهو العقل فبه تدرك الأطعمة ومنفعتها وما يضر في المال وبه تدرك طبخ الأطعمة وتأليفها وإعداد أسبابها فتنتفع به في الأكل الذي هو سبب صحتك وهي أدنى فوائد العقل والحكمة الكبرى فيه معرفة الله تعالى. وما ذكرنا من الحواس الخمس الظاهرة فهي بعض الإدراكات ولا تظن أننا استوفينا شيئًا من ذلك فإن البصر واحد من الحواس والعين آلة له وقد ركبت العين من عشر طبقات مختلفة بعضها رطوبات وبعضها أغشية مختلفة. ولكل واحدة من الطبقات العشر صفة وصورة وشكل وهيئة وتدبير وتركيب لو اختلفت طبقة واحدة منها أو صفة واحدة لاختل البصر، وعجز عنه الأطباء كلهم فهذا في حس واحد وقس حاسة السمع وسائر الحواس ولا يمكن أن يستوفى ذلك في مجلدات فكيف في جميع البدن. ثم انظر بعد ذلك في خلق الإرادة والقدرة وآلات الحركة من أصناف النعم وذلك أنه لو خلق لك البصر حتى تدرك به

الفوائد والحكم التي في اليدين والأصابع واللسان والحلق …. الخ

الطعام ولم يخلق لك في الطبع شوقًا إليه وشهوة له تستحثك على الحركة لكان البصر معطلاً فكم من مريض يرى الطعام وهو أنفع الأشياء له ولا يقدر على تناوله لعدم الشهوة له فخلق الله لك شهوة الطعام وسلطها عليك كالمتقاضي الذي يضطر إلى تناول الغذاء. ثم هذه الشهوة لو لم تكن عند أخذ مقدار الحاجة من الطعام لأسرفت وأهلكت نفسك فخلق لك الكراهة عند الشبع لتترك الأكل بها، وكذلك القوة في الشهوة للوقاع لحكمة بقاء النسل. ثم خلق لك الأعضاء التي هي آلات الحركة في تناول الغذاء وغيره، منها اليدان وهما مشتملتان على مفاصل كثيرة لتتحرك في الجهات وتمتد وتنثني ولا تكون كخشبة منصوبة. ثم جعل رأس اليد عريضًا وهو الكف وقسمة خمسة أقسام وهي الأصابع وتمد الأصابع وجعلها مختلفة في الطول والقصر ووضعها في صفين بحيث يكون الإبهام في جانب ويدور على الأصابع البواقي ولو كانت مجتمعة متراكمة لم يحصل تمام الغرض. ثم خلق لها أظفارًا وأسند إليها رؤوس الأصابع لتقوى بها ولتلتقط بها الأشياء الدقيقة التي لا تحويها إلا الأصابع ثم هب أنك أخذت الطعام باليد فلا يكفيك حتى يصل إلى باطنك فجعل لك الفم واللحيين خلقهما من عظمين وركب فيهما الأسنان وقسمها بحسب ما يحتاج إليه الطعام فبعضهما قواطع كالرباعيات وبعضها يصلح للكسر كأنياب وبعضها طواحن كالأضراس. وجعل اللحي الأسفل متحركًا حركة دورية واللحي الأعلى ثابتًا لا يتحرك فانظر على عجيب صنع الله تعالى الذي أتقن كل شيء وأن كل رحى صنعها الخلق يثبت منها الحجر الأسفل ويدور الأعلى إلا هذه الرحى التي هي صنع الله سبحانه وتعالى فإنه يدور منها الأسفل على الأعلى إذ لو دار الأعلى خوطر بالأعضاء الشريفة التي يحتوي عليها. ثم انظر كيف أنعم عليك بخلق اللسان فإنه يطوف في جوانب الفم ويرد الطعام من الوسط إلى الأسنان بحسب الحاجة كالمجرفة التي ترد الطعام إلى الرحى هذا مع ما فيه من عجائب

المعدة والكبد وما فيها من المنافع

قوة النطق ثم هب أنك قطعت الطعام وعجنته فما تقدر على الابتلاع إلا بأن يتزلق على الحلق بنوع رطوبة فانظر كيف خلق الله تعالى تحت اللسان عينًا يفيض منها اللعاب وينصب بقدر الحاجة حتى ينعجن به الطعام. ثم هذا الطعام المطحون المعجون من يوصله إلى المعدة وهو في الفم فإنه لا يمكن إيصاله باليد فهيأ لك المريء والحنجرة وجعل رأسها طبقات ينفتح لأخذ الطعام ثم ينطبق وينضغط حتى يقلب الطعام فيهوي في دهليز المريء على المعدة فإذا ورد الطعام على المعدة وهو خبز وفاكهة مقطعة فلا يصلح أن يصير لحمًا وعظمًا ودمًا على هذه الهيئة حتى يطبخ طبخًا تمامًا فجعل الله المعدة على هيئة قدر يقع فيه الطعام فتحتوي عليه وتغلق عليه الأبواب وينضج بالحرارة التي تتعدى إليها من الأعضاء الأربعة. وهي الكبد من جانبها الأيمن والطحال من جانبها الأيسر والثرب من أمامها ولحم الصلب من خلفها فينضح الطعام بإذن الله ويصير مائعًا متشبهًا يصلح للنفوذ في تجاويف العروق ثم ينصب الطعام من العروق

الأطعمة تنقسم إلى أغذية وفواكه وغيرها

إلى الكبد فيستقر فيها ريثما يصلح له نضج آخر ثم يتفرق في الأعضاء ويبقى منه ثفل ثم يندفع. فانظر إلى نعم الله عليك لتقوى على الشكر فإنك لا تعرف من نعمة الله تعالى إلا نعمة الأكل وهي أبسطها ثم لا تعرفه منها إلا أنك تجوع فتأكل والبهيمة أيضًا تعرف أنها تجوع وتأكل وتتعب فتنام وتشتهي فتجامع وإذا لم تعرف أنت من نفسك إلا ما يعرف الحمار فكيف تقوم بشكر الله تعالى. قال: واعلم أن الأطعمة كثيرة مختلفة ولله تعالى في خلقها عجائب لا تحصى وهي تنقسم إلى أغذية وأدوية وفواكه وغيرها فنتكلم على بعض الأغذية فنقول إذا كان عندك شيء من الحنطة فلو أكلتها لفنيت وبقيت جائعًا فما أحوجك إلى عمل ينمو به حب الحنطة ويتضاعف حتى يفيء بتمام حاجتك وهو زرعها وهو أن تجعل في أرض فيها ماء يمتزج ماؤها فيصير طينًا. ثم لا يكفي الماء والتراب إذ لو تركت في أرض ندية صلبة لم تنبت لفقد الهواء فيحتاج إلى تركها في أرض متخلخلة يتغلغل الهواء فيها، ثم الهواء لا يتحرك إليها بنفسه فيحتاج إلى ريح يحرك الهواء ويصرفه بقهر على الأرض حتى ينفذ فيها ثم كل ذلك وحده لا يغني فيحتاج على حرارة الربيع والصيف فإنه لو كان في البرد المفرط لم ينبت. ثم انظر إلى الماء الذي تحتاج إليه هذه الزارعة كيف خلقه الله تعالى فجر العيون وأجرى منها الأنهار ولما كان بعض الأرض مرتفعًا لا يناله

الماء أرسل إليه الغيوم وسلط عليها الرياح لتسوقها بإذنه إلى أقطار العالم وهي سحب ثقال ثم يرسله على الأرض مدرارًا في وقت الحاجة. وانظر كيف خلق الله الجبال حافظة للماء تتفجر منها العيون تدريجًا، فلو خرجت دفعة واحدة لغرقت البلاد وهلك الزرع وغيره، وانظر كيف سخر الشمس وخلقها مع بعدها عن الأرض مسخنة لها في وقت دون وقت ليحصل البرد عند الحاجة إليه والحر عند الحاجة إليه، وخلق القمر وجعل من خاصيته الترطيب، فهو ينضج الفواكه بتقدير الحكيم الخبير، وكل كوكب خلق في السماء فهو لنوع فائدة. ولما كانت كل الأطعمة لا توجد في كل مكان، سخر الله تعالى التجار وسلط عليهم الحرص على جمع المال مع أنه لا يغنيهم في غالب الأمر شيء بل يجمعون الأموال فإما أن تغرق بها السفن أو تنتهبها قطاع الطريق أو يموتون في بعض البلاد فتأخذها السلاطين وأحسن أحوالهم أن يأخذها ورثتهم وهم أشد أعدائهم لو عرفوا. فانظر كيف سلط الله عليهم الأمل والغفلة حتى يقاسوا الشدائد في طلب الربح في ركوب البحار وركوب الأخطار فيحملون الأطعمة وأنواع الحوائج من أقصى الشرق والغرب إليك فأكثر من حمد الله وشكره. سَيْرُ الْمَنَايَا إِلَى أَعْمَارِنَا خَبَبٌ ... فَمَا تَبيْنُ ولا يَعْتَاقهَا نَصَبُ كَيْفَ النَّجَاءُ وَأَيْدِيهَا مُصَمَّمَتٌ ... بِذَبْحِنَا بِمُدًّى لَيْسَتْ لَهَا نُصُبُ وَهَلْ يُؤْمَلُ نَيْلَ الشَّمْلِ مُلْتَئِمًا ... سَفَرٌ لَهُمْ كُلَّ يَوْمٍ رِحْلَةٌ عَجَبُ وَمَا إِقَامَتُنَا فِي مَنْزِلٍ هَتَفَتْ ... فِيهِ بِنَا مُذْ سَكَنا رِبْعةُ نُوَبُ وَآذَنَتْنَا وَقَدْ تَمَّتْ عِمَارَتُهُ ... بِأَنَّهُ عَنْ قَرِيبٍ دَاثِرٌ خَرِبُ أَزَرْتَ بِنَا هَذِهِ الدُّنْيَا فَمَا أَمَلٌ ... إلا لِرَيْبِ الْمَنَايَا عِنْدَهُ أَرَبُ هَذَا وَلَيْسَتْ سِهَامُ الْمَوْتِ طَائِشَةٌ ... وَهَلْ تَطِيشُ سِهَامٌ كُلُّهُ نُصُبُ وَنَحْنُ أَغْرَاضُ أَنْوَاعَ الْبَلاءِ بِهَا ... قَبْلَ الْمَمَاتِ فَمَرْمِيٌّ وَمُرْتَقِبُ أَيْنَ الَّذِينَ تَنَاهَوْا فِي ابْتِنَائِهِمْ ... صَاحَتْ بِهِمْ نَائِبَاتُ الدَّهْرِ فَانْقَلَبُوا

أسباب تقصير الخلق عن شكر نعم الله

اللهم نور قلوبنا بنور الإيمان وثبتها على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة واجعلنا هداة مهتدين وتوفنا مسلمين. وألحقنا بعبادك الصالحين يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) واعلم أن الخلق لم يقصروا عن شكر نعمة الله إلا للجهل والغفلة فإنهم منعوا بذلك عن معرفة النعم ولا يتصور شكر النعمة بدون معرفتها ثم إن عرفوا نعمة ظنوا أن الشكر عليها أن يقول أحدهم بلسانه الحمد لله والشكر لله ولم يعرفوا أن معنى الشكر أن تستعمل النعمة في إتمام الحكم التي أريدت بها وهي طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. شِعْرًا: ... تَعَلَّمْتُ فِعْلَ الْخَيْرِ مِنْ قَوْلِ رَبِّنَا ... وَقَوْلِ رَسُولِ اللهِ أَعْنِي مُحَمَّدًا آخر: ... (وَلَوْ أَنَّ لِي فِي كُلِّ عُضْوٍ وَشَعْرَةٍ ... لِسَانًا يُؤَدِّي الشُّكْر للهِ قَصَّرَا) آخر: ... دَعِينِي أَجُدُ السَّعْيَ فِي شُكْرِ مَنْ لَهُ ... عَلَيَّ بِأَصْنَافِ النَّعِيم تَفَضُّلا أما الغفلة عن النعم فلها أسباب: أحدها أن الناس لجهلهم لا يعدون ما يعم الخلق في جميع أحوالهم نعمة فلذلك لا يشكرون على جملة ما ذكر من نعم الله التي تفضل بها على خلقه لأنها عامة للخلق مبذولة لهم في جميع أحوالهم فلا يرى منهم اختصاصًا به فلا يعده نعمة. ولذلك لا تجدهم يشكرون الله على روح الهوا ولو أخذ بمخنقهم لحظة حتى انقطع الهواء عنهم ماتوا ولو حبسوا في بئر أو حمام ماتوا غمًا

التفكير في نعم الله وأنها كما ذكر الله جل وعلا وتقدس كثيرة ولا تحصى

فإن ابتلى أحدهم بشيء من ذلك ثم نجا قدر ذلك نعمة يشكر الله عليها. وهذا غاية الجهل إذ صار شكرهم موقوفًا على أن تسلب عنهم النعمة ثم ترد إليهم في بعض الأحوال فالنعم في جميع الأحوال أولى بالشكر فلا ترى البصير يشكر نعمة البصر وصحته إلا أن يعمى فإذا أعيد بصره أحس بالنعمة وشكرها وعدها نعمة وهو مثل عبد السوء يضرب دائمًا فإذا ترك ضربه ساعة شكر وتقلد ذلك منه وإن ترك ضربه أصلاً غلبه البطر وترك الشكر فصار الناس لا يشكرون إلا المال الذي يتطرق الاختصاص إليه من حيث الكثرة والقلة وينسون جميع نعم الله عليهم. شِعْرًا: إِذَا شِئْتَ أَنْ تَبْقَى من الله نِعْمَة ... عَلَيْكَ فَأَكْثِرْ حَمْدَهُ مَعَ شُكْرِهِ وَلا تَعْصِيَنَّ اللهَ فِيمَا رَزَقْتُهُ ... فَيَنْزِعْ عَنْكَ اللهُ وَاسِعَ رِزْقَهُ آخر: مَا أَحْسَنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالُهَا ... إِذَا أَطَاعَ اللهَ مَنْ نَالَهَا مَنْ لَمْ يُؤَالِي شُكْرَ إِلَهَهُ ... عَرَّضَ لِلإِدْبَارِ إِقْبَالَهَا فَاحْذَرْ زَوَالَ الْفَضْلِ يَا مَانِعًا ... زَكَاةَ أَمْوَالٍ لَهُ نَالَهَا كما روي أن بعضهم شكا فقره إلى بعض أرباب البصيرة وأظهر شدة اغتمامه بذلك فقال له: أيسرك أنك أعمى ولك عشرة آلاف درهم قال لا قال أيسرك أنك أخرس ولك عشرة آلاف قال لا قال أيسرك أنك أقطع اليدين والرجلين ولك عشرون ألفًا قال لا قال أيسرك أنك ومجنون ولك عشرة آلاف درهم قال: لا قال أما تستحي أن تشكو مولاك وله عندك عروض بخمسين ألفًا. ودخل ابن السماك على الرشيد في عظة فبكى ودعا بماء في قدح فقال: يا أمير المؤمنين لو منعت هذه الشربة إلا بالدنيا وما فيها أكنت

من نعم الله على عبده ستر مساوية عن الناس

تفديها قال: نعم. قال: فاشرب ريًا بارك الله فيك فلما شرب قال له يا أمير المؤمنين. أرأيت لو منعت أخراج هذه الشربة منك إلا بالدنيا وما فيها أكنت تفتدي ذلك قال نعم قال فما تصنع بشيء شربة ماء خير منه. وهذا يبين أن نعمة الله تعالى على العبد في شربة عند العطش أعظم من ملك الأرض ثم تسهيل خروج الحدث من أعظم النعم، وهذه إشارة وجيزة إلى النعم الخاصة. ثم اعلم أنه ما من عبد إلا إذا أمعن النظر رأى عليه من نعم الله نعمًا كثيرة لا يشاركه فيها عموم الناس بل قد يشاركه في ذلك يسير منهم من ذلك العقل فما من عبد إلا وهو راض عن الله سبحانه في عقله يعتقد أنه أعقل الناس وقلما يسأل الله العقل وإذا كان ذلك اعتقاده فيجب عليه أن يشكر الله تعالى على ذلك. ومن ذلك الخلق فإنه ما من عبد إلا ويرى من غيره عيوبًا يكرهها وأخلاقا يذمها ويرى نفسه بريئًا منها فينبغي أن يشكر الله على ذلك حيث أحسن خلقه وابتلى غيره. شِعْرًا: أَيَا ابْنُ آدَمَ وَالآلاء سَابِغَةٌ ... وَمُزْنَهُ الْجُودِ لا تَنْفَكُّ عَنْ دِيَمِ هَلْ أَنْتَ ذَاكِرٌ مَا أُولِيتَ مِنْ حَسَنٍ ... وَشَاكِرٌ كُلَّ خُوِّلْتَ مِنْ نِعَمِ بَرَاكَ بَارِئُ هَذَا الْخَلْق مِنْ عَدَمٍ ... بَحْتٍ وَلَوْلاهُ لَمْ تَخْرُجْ مِنَ الْعَدَمِ أَنْشَأَكَ مِنْ حَمَأ وَلا حِرَاكَ بِهِ ... فَجِئْتَ مُنْتَصِبًا تُمْسِي عَلَى قَدَمِ مُكَمَّلُ الأَدَوَاتِ آيَةً عَجَبًا ... مُوَفَّرَ الْعَقْلِ مِنْ حَظٍّ وَمِنْ فَهْمِ تَرَى وَتَسْمَعْ كُلا قَدْ حُبِيتَ بِهِ ... فَضْلاً وَتَنْطِقُ بِالتَّبْيِينِ وَالْكَلم هَدَاكَ بِالْعِلْمِ سُبُلَ الصَّالِحِينَ لَهُ ... وَكُنْتُ مِنْ غَمَرَاتِ الْجَهْلِ فِي ظلمِ مَاذَا عَلَيْكَ مِنْ نِعْمَةٍ غَمَرَتْ ... كُلَّ الْجِهَاتِ وَلَمْ تَبْرَحْ وَلَمْ تَرِمِ غَرَّاءُ كَالشَّمْسِ قَدْ أَلْقَتْ أَشِعَّتهَا ... حَتَى لَيُبْصِرهَا عَلَيْكَ كُلُّ عَمِيْ

فَاشْكُرْ وَلَسْتَ مُطِيقًا شُكْرهَا أَبَدًا ... وَلَوْ جَهِدْتَ فَسدِّدْ وَيْكَ وَالْتَزِمِ رِزْقٌ وَأَمْن وَإِيمَانٌ وَعَافِيَةٌ ... مَتَى تَقُومُ بِشُكْرِ هَذِهِ النِّعَمِ آخر: ... إِلَهِي لَكَ الْحَمْدُ الَّذِي أَنْتَ أَهْلُهُ عَلَى نِعَمٍ مِنْهَا الْهِدَايَةُ لِلْحَمْدِ صَحِيحًا خَلَقْتَ الْجِسْمَ مِنِّي مُسَلَّمًا وَلُطْفُكَ بِي مَا زَالَ مُذْ كُنْتُ فِي الْمَهْدِ وَكُنْتُ يَتِيمًا قَدْ أَحَاطَ بِي الرَّدَى فَأَوَيْتَ وَاسْتَنْقَذْتَ مِنْ كُلِّ مَا يُرْدِي وَهَبْتَ لِي الْعَقْلَ الَّذِي بِضِيَائِهِ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ يَهْتَدِي طَالِبُ الرُّشْدِ وَوَفَّقْتَ لِلإِسْلامِ قَلْبِي وَمَنْطِقِي فَيَا نِعْمَةً قَدْ جَلَّ مَوْقِعُهَا عِنْدِي وَلَوْ رُمْتُ جُهْدِي أَنْ أُجَازِي فَضِيلَةً فَضَلْتَ بِهَا لَمْ يَجُزْ أَطْرَافُهَا جَهْدِي أَلَسْتَ الَّذِي أَرْجُو حَنَانَكَ عِنْدَمَا يُخَلِّفُونَ الأَهْلُونَ وَحْدِي فِي لَحْدِي فَجُدْ لِي بِلُطْفِكَ مِنْكَ يَهْدِي سَرِيرَتِي وَقَلْبِي وَيُدْنِينِي إِلَيْكَ بِلا بُعْدِ ومن ذلك أنه ما من أحد إلا وهو يعرف من بواطن أمور نفسه وخفايا أركانها ما هو منفرد به ولو كشف الغطاء عنه حتى اطلع عليه أحد

قصيدة تتضمن الثناء على رب العزة جل وعلا

من الخلق لا افتضح فكيف لو اطلع عليه الناس كافة فَلِمَ لا يشكر الله على ستر مساويه أظهر الجميل وستر القبيح. وأيضًا ما من عبد إلا وقد رزقه الله في صورته وأخلاقه أو صفاته أو جاهه أو أهله أو ولده أو مسكنه أو بلده أو سائر محابه أمورًا لو سلب ذلك منه وأعطى ما خصص به من ذلك غيره لكان لا يرضى وذلك مثل أن الله جعله مؤمنًا لا كافرًا وحيًا لا ميتًا وإنسانًا لا بهيمة وذكرًا لا أنثى وصحيحًا لا مريضًا وعاقلاً لا مجنونًا وسليمًا لا معيبًا فإن هذه خصائص فعليه أن يشكر الله جل وعلا في كل ساعة ولا يغفل. شِعْرًا: إَذَا أَنَا لَمْ أَشْكُرْ لِرَبِي دَائِمًا ... وَلَمْ أُصْفِ مِنْ قَلْبِي لَهُ الْوُدَّ أَجْمَعَا فَلا سَلَمَتْ نَفْسِي مِنَ السُّوءِ سَاعَة ... وَلا نَظَرَتْ عَيْنِي مِنَ الشَّمْسِ مَطْلَعَا شِعْرًا: تَبَارَكَ مَنْ لا يَعْلَمُ الْغَيْبَ غَيْرُهُ وَمَنْ لَمْ يَزَلْ يُثْنِي عَلَيْهِ وَيُذْكَرُ عَلا فِي السَّمَواتِ الْعُلَى فَوْقَ عَرْشِهِ إِلَى خَلْقِهِ فِي الْبِرِّ وَالْبَحْرِ يَنْظُرُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ قَادِرٌ وَمُدَبِّرٌ وَمَنْ دُونُهُ عَبْدٌ ذَلِيلٌ مُدَبَّرُ يَدَاهُ لَنَا مَبْسُوطَتِانِ كِلاهُمَا يَسِحَّانِ وَالأَيْدِي مِنَ الْخَلْقِ تَقْتُرُ وَإِنْ فِيهِ فَكَّرْنَا اسْتَحَالَتْ عُقُولُنَا وَأُبْنَا حَيَارَى وَاضْمَحَلَّ التَّفْكُّرُ

الحث على تدبر القوى التي وهبها الله للإنسان، الفكر والوهم والعقل والحفظ والحياء والمنطق وما أعطى علمه وما منع منه علمه

وَإِنْ نُقِرُ الْمَخْلُوقَ عَنْ عِلْمِ ذَاتِهِ وَعَنْ كَيْفَ كَانَ الأَمْرُ تَاه الْمُنَقِّرُ وَلَوْ وَصَفَ النَّاسُ الْبَعُوضَةَ وَحْدَهَا بِعِلْمِهُمُوا لَمْ يُحْكِمُوهَا وَقَصَّرُوا فَكَيْفَ بِمَنْ لا يَقْدِرُ الْخَلْقُ قَدْرُهُ وَمَنْ هُوَ لا يَفْنَى وَلا يَتَغَيَّرُ اللهم اسلك بنا سبيل عبادك الأبرار ووفقنا للتوبة والاستغفار واحطط عنا ثقل الأوزار وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار يا عزيز يا غفار واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) وقال في كتاب التوحيد المسمى الأدلة على الحكمة والتدبير: تأمل هذه القوى التي في النفس وموقعها في الإنسان أعني الفكر والوهم والعقل والحفظ وغير ذلك أفرأيت لو نقص الإنسان من هذه الحفظ وحده كيف تكون حاله وكم من خلل يدخل عليه في أموره ومعاشه وتجارته إذا لم يحفظ ماله وما عليه وما أخذه وما أعطى وما رأى وما سمع وما قال وما قيل له ولم يذكر من أحسن إليه ممن أساء به وما نفعه مما ضره ثم كان لا يهتدي لطريق لو سلكه ما لا يحصى ولا يحفظ علمًا ولو درسه عمره ولا يعتقد دينًا ولا ينتفع بتجربة ولا يستطيع أن يعتبر شيئًا على ما مضى بل كان حقيقًا خليقًا أن ينسلخ من الإنسانية فانظر إلى الإنسان في هذه الخلال وكيف موقع الواحدة منها دون الجميع. وأعظم من النعمة على الإنسان في الحفظ النعمة في النسيان فلولاه لما سلا أحد عن مصيبة ولا تَقَضَّتْ له حسرة ولا مات له حقد ولا

مما يستعان به على معرفة قدر نعم الله على العبد

استمتع بشيء من متاع الدنيا مع تذكر الآفات ولا رجا غفلة من سلطان ولا فترة من حاسد أفلا ترى كيف جعل في الإنسان الحفظ والنسيان وهما مختلفان متضادان وجعل في كل واحد منها قسمًا من المصلحة. ثم انظر إلى ما خص به الإنسان دون جميع الحيوان من هذا الخلق الجليل قدره العظيم غناؤه أعنى الحياء فلولا هذا الحياء الذي خص الله به الإنسان لم يقر ضيفًا ولم يوف بالعدة ولم تقض الحوائج ولم ينجز الجميل ولم ينكب القبيح في شيء من الأشياء حتى إن كثيرًا من الأمور المفروضة أيضًا إنما تفعل للحياء فإن من الناس من لولا الحياء لم يرع حق والديه ولم يصل ذا رحم ولم يؤد أمانة ولم يعف عن فاحشة أفلا ترى كيف وفي الإنسان جميع الخلال التي فيها صلاحه وتمام أمره. وتأمل ما أنعم الله جل وعلا وتقدست أسماؤه على الإنسان به من هذا المنطلق الذي يعبر به عمَّا في ضميره وما يخطر بباله وفي قلبه وينتجه فكره به يفهم عن غيره ما في نفسه ولولا ذلك كان بمنزلة البهائم المهملة التي لا تخبر عن نفسها بشيء ولا تفهم عن مخبر شيئًا. وكذلك الكتابة التي بها تعيد أخبار الماضين للباقين وأخبار الباقين للآتين وبها تخلد الكتب في العلوم والآداب وبها يحفظ الإنسان ذكر ما يجري بينه وبين غيره من المعاملات ولولاها لانقطع بعض الأزمنة عن بعض وأخبار الغائبين عن أوطانهم ودرست العلوم وضاعت الآداب وعظم ما يدخل على الناس من الخلل في أمورهم ومعاملاتهم وما يحتاجون إلى النظر فيه من أمر دينهم وما روي لهم مما لا يسعهم جهله. وانظر لو لم يكن للإنسان لسان مهيأ للكلام وذهن يهتدي به للأمور

لم يكن ليتكلم أبدًا ولو لم يكن له كف مهيأة وأصابع للكتابة لم يكن ليكتب أبدًا واعتبر ذلك من البهائم التي لا كلام لها ولا كتابة فأصل ذلك فطرة الباري جل وعلا وما تفضل به على خلقه فمن شكر أثيب ومن كفر إن الله غني عن العالمين. وفكر فيما أعطي الإنسان علمه وما منع منه فإنه أعطى علم ما فيه صلاح دينه ودنياه فأما صلاح دينه فهو معرفة الخالق تبارك وتعالى بالدلائل والشواهد القائمة وزكاة وصيام وحج ومن العدل بين الناس كافة وبر الوالدين وصلة الأرحام وأداء الأمانة ومواساة أهل الخلة وأشباه ذلك. وكذلك أعطي ما فيه صلاح دنياه كالزراعة والغراسة واستخراج ما في الأرضيين واقتناء الأغنام والأنعام واستنباط الماء ومعرفة العقاقير التي يستشفي بها بإذن الله من ضروب الأسقام والمعادن التي يستخرج منها أنواع الجواهر وركوب السفن والغوص في البحر وضروب الحيل في صيد الوحش والطير والحيتان والتصرف في الصناعات ووجوه المتاجر والمكاسب وغير ذلك مما يطول شرحه ويكثر تعداده مما فيه صلاح أمره في هذه الدار. فأعطي علم ما يصلح به دينه ودنياه ومنع ما سوى ذلك مما ليس في شأنه ولا طاقته أن يعلم كعلم الغيب وعلم ما في السماء وما تحت البحار وأقطار العالم وما في قلوب الناس وما في الأرحام وأشباه هذا مما حجب على الناس علمه فانظر كيف أعطى علم جميع ما يحتاج إليه لدينه ودنياه وحجب عنه ما سوى ذلك ليعرف قدره ونقصه وكلا الأمرين فيه صلاحه. ثم تأمل ما ستر عنه علمه من مدة حياته فأنه لو عرف مقدار عمره وكان قصير العمر لم يتهنأ بالعيش مع رقب الموت وتوقعه لوقت قد عرفه

وأيقن به وإن كان طويل العمر وعرف ذلك وثق بالبقاء وانهمك في اللذات والمعاصي وعمد أن يبلغ من شهوته ثم يتوب في آخر عمره وهذا مذهب لا يرضاه الله من عباده ولا يقبله. قلت: ومما يستعان به على معرفة قدر نعم الله على العبد التفكر فيها وبالتفكر في حال نفسه قبل وجودها فينظر إذا كان غنيًا إلى حال فقره المتقدم حسًا أو معنًى وينظر إذا كان صحيحًا إلى حاله حينما كان مريضًا وينظر إذا كان مطيعًا لله وقت عصيانه لله حيث من الله عليه بضد تلك الحالة. وينظر إذا كان ذاكرًا لله على الدوام أيام كان غافلاً لاهيًا وينظر إذا كان قارئًا أيام أن كان لا يقرأ ولينظر إذا كان عالمًا إلى وقت جهله وينظر إذا كان له أولاد صالحين أيام إن لم يكن له أولاد وينظر إذا كان في مسكن واسع مناسب أيام أن كان يستأجر أو في بيت ضيق لا يرتضيه. وهكذا كل نعمة ينظر إلى وجود ضدها الذي كان موجودًا قبل ذلك فلا شك أن من عمل بهذا يعرف قدرها فيشكرها فتدوم عليه بإذن الله تعالى لأن الله جل وعلا يقول وهو أصدق قائل {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} فمن شكر نعمة الله زاده الله منها وقيل الشكر قيد الموجود وصيد المفقود. شِعْرًا: ... تَعْصِي الإلَهَ وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّهُ ... هَذَا مُحَالٌ فِي الْقِيَاسِ بَدِيعُ لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لأَطَعْتَهُ ... إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَبْتَدِيكَ بِنَعْمَةٍ ... مِنْهُ وَأَنْتَ لِشُكْرِ ذَاكَ مُضَيِّعُ وفي أثر إلهي: يقول الله عز وجل أهل ذكري أهل مجالسي وأهل شكري أهل زيادتي وأهل طاعتي أهل كرامتي وأهل معصيتي لا أقنطهم

من رحمتي إن تأبوا فأنا حبيبهم وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ابتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعائب وقيل من كتم نعمة فقد كفرها ومن أظهرها ونشرها فقد شكرها وهذا مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله إذا أنعم على عبد نعمة أحب أن يرى أثر نعمته على عبده» . قلت: وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله يحب الناسك النظيف» . فالله سبحانه وتعالى يحب أن يرى على عبده الجمال الظاهر كما يحب أن يرى عليه الجمال الباطن بالتقوى ونظافة الظاهر مع نظافة الباطن نور على نور قال بعضهم لمن انتقده في تحسين ثيابه: حَسِّنْ ثِيَابَكَ مَا اسْتَطَعْتَ فَإِنَّهَا زِينُ الرِّجَالٍ بِهَا تَعُزُّ وَتُكْرَمُ فَرَثَاثُ ثَوْبِكَ لا يَزِيدَكَ رِفْعَةً عِنْدَ الإِلَهِ وَأَنْتَ عَبْدٌ مُجْرِمُ وَجَدِيدُ ثَوْبِكَ لا يَضُرُّكَ بَعْدَ أَنْ تَخْشَى الإِلَهَ وَتَتَّقِي مَا يَحْرُمُ آخر: تَجَمَّلْ بِالثِّيَابِ تَعِشْ حَمِيدًا فَإِنَّ الْعَيْنَ قَبْلَ الاخْتِبَارِ فَلَوْ لَبِسَ الْحِمَارُ ثِيَابَ خَزٍّ لَقَالَ النَّاسُ يَا لَكَ مِنْ حِمَارِ وتأمل حكمة عدم تشابه الناس بخلاف سائر الحيوان فإنك ترى السرب من الظباء والقطا يتشابه حتى لا يفرق بين واحد منها وبين الآخر وترى الناس مختلفة صورهم وخلقهم حتى لا يكاد اثنان منهم يجتمعان في صورة واحدة والعلة في ذلك أن الناس محتاجون إلى أن يتعارفوا

بأعيانهم وحُلاهم لما يجري بينهم من المعاملات وليس يجري بين البهائم مثل ذلك فيحتاج إلى معرفة كل واحد منها بعينه. ألا ترى أن التشابه في الطير والوحش لا يضرها شيئًا وليس كذلك الإنسان فإنه ربما تشابه التوأمان تشابهًا شديدًا فتعظم المؤنة على الناس في معاملتها حتى يؤخذ أحدهما بذنب الآخر فتبارك الله أحسن الخالقين. وتأمل لو كان الإنسان لا يصيبه ألم ولا وجع بم كان يرتدع عن الفواحش ويتواضع لله ويتعطف على الناس أما ترى الإنسان إذا عرض له وجع خضع واستكان ورغب إلى ربه في العافية وبسط يده في الصدقة. انتهى. اللهم طهر قلوبنا من الحسد والحقد والبغض لعبادك المؤمنين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. موعظة: عباد الله لقد أنعم الله علينا بنعم كثيرة، وجاد علينا بخيرات وفيرة غفلنا عنها، وعن ضدها، وجهلنا حكمتها، أعطانا جل وعلا العقل، وميزنا به عن الحيوانات، وأرسل إلينا الرسل، يرشدوننا للحق وخالص الإيمان، منحنا القوة والعافية، وصحة البدن، وسلامة الأعضاء. وجعل لنا السمع، والبصر، واللسان، والشفتين، وعلمنا البيان والإفصاح، عن ما نقصد بالكلام، خلقنا في أحسن تقويم، وجعل لنا الأرض فراشًا، والسماء بناء، وأنبت لنا في الأرض النخيل، والأعناب والزرع وسائر ما نحتاج إليه من الثمار، ونستخرج منها المعادن، والخامات. وأجرى لنا فيها الأنهار، وأنبع لنا الماء الزلال، وخلق الشمس والقمر، والنجوم، مسخرات بأمره تمدنا بالأنوار، والمنافع، للأبدان

والثمار، والنباتات، وفيها من الإتقان، والجمال، والاتزان فِي سيرها مدى الليالي والأيام، مَا تشهد لله بالوحدانية، والحكمة، والقدرة الباهرة، والعلم، وسائر صفات الكمال. ولله نعم أخرى لا تعد، ولا تحصى، كما قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} إذًا يجب علينا شكره تعالى عَلَى نعمه، وهو الغني الحميد، غني عن العالمين، والخلق هم الفقراء إليه، كما قال جل وعلا {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} ، وليس لله فِي شكرنا منفعة تعود إليه، وليس فِي كفر نعمه ضرر عليه، إنما تعود منفعة الشكر إِلَى الشاكر كما قال تعالى: {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} . إنما الذي ينتظر الشكر مخلوق مثلنا وأنت إذا شكرت الله إنما تبرهن عَلَى فهمك لنعمة الله، وتقديرك له إن شكرت فقد وجهت النعمة وجهة الخير، والنفع، واستعملتها فيما يسعدك فِي الدنيا والآخرة، وإن كفرت فقد برهنت على سوء فهمك، وعدم تقديرك لربك، وعَلَى تعمقك فِي اللؤم والرداءة. وإذا تأملت الكثير من الناس وجدته مهملاً للشكر الذي هو صرف النعم فيما خلقت له، واستعمالها فيما شرعت لأجله، لتظهر فائدتها وتتم حكمتها، ويجني العباد منافعها، فالشاكر بلسانه وقلبه، وعمله من الفائزين، ولكنه قليل، كما قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} الأكثر كما تقدم صروفها فيما يعود عليهم، وعَلَى أولادهم، وأهلهم، وأمتهم بالضرر. أنعم عليهم بالمال فقسم خزنوه ومنعوا حقوقه فلم يخرجوا زكاته،

الحكمة على عدم تشابه الناس بخلاف الحيوان ويليه موعظة تتضمن ذكر بغض نعم الله وبعدها قصيدة في مدح اللطيف الخبير وذكر بعض ألطافه

ولم يساهموا فِي مشاريع دينية، كبناء مساجد، وقضاء دين عن مدين ومساعدة فقير، وإجراء مياه للمسلمين، والمساعدة على نشر الإسلام وطباعة مصاحف طباعة جيدة وتوزيعها عَلَى التالين لكتاب الله، وطباعة الكتب الدينية المقوية للشريعة المحمدية، وبناء بيوت لمن لا مساكن لهم، ونحو ذلك. وقسم أنفقوا المال فِي الملاذ والملاهي، والمنكرات، وسائر المحرمات، أذهبوها فِي الحياة الدنيا، واستمتعوا بها، ولم يراقبوا الله فيها، أنعم عليهم فِي الصحة والفراغ المفروض أن تغتنم فِي طاعة الله. ولكن يا للأسف صرفت فِي السهر، وفي الفساد، وفي المجون والكسل والتكسع، والخمول أو التطاول بالقوة عَلَى الضعفاء، والمساكين، وإعانة الظلمة والفاسقين، ونحو ذلك، من المفاسد والشرور. وقس عَلَى ذلك باقي النعم من السمع والبصر واللسان والرجل فلم يبق نعمة إلا وقلبوها، ولا هبة من الله إلا وجحدوها فنزلوا بعد الرفعة وذلوا بعد العزة فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقال بعضهم فِي مدح اللطيف الخبير جل وعلا وذكر بعض ألطافه: أَحَاطَ بِتَفْصِيلِ الدَّقَائِقِ عِلْمُهُ فَأَتْقَنَهَا صُنْعًا وَأَحْكَمَهَا فِعْلا فَمِنْ لُطْفِهِ حِفْظَ الْجَنِينِ وَصَوْنُهُ بِمُسْتَوْدَعٍ قَدْ مَرَّ فِيهِ وَقَدْ حَلا تَكَنَّفَهُ بِاللُّطْفِ فِي ظُلُمَاتِهِ وَلا مَالَ يُغْنِيهِ هُنَاكَ وَلا أَهْلا

وَيَأْتِيهِ رِزْقٌ سَابِغٌ مِنْهُ سَائِغٌ يَرُوحُ لَهُ طَوْلاً وَيَغْدُو لَهُ فَضْلا وَمَا هُوَ يَسْتَدْعِي غِذَاءً بِقِيمَةٍ وَلا هُوَ مِمَّنْ يُحْسِنُ الشُّرْبَ وَالأَكْلا جَرَى فِي مَجَارِي عِرْقِهِ بِتَلَطُّفٍ بِلا طَلَبٍ جَرْيًا عَلَى قَدْرِهِ سَهْلا وَأَجْرَى لَهُ فِي الثَّدْيِ لُطْفَ غِذَائِهِ شَرَابًا هَنِيئًا مَا أَلَذَّ وَمَا أَحْلا وَأَلْهَمَهُ مَصًّا بِحِكْمَةِ فَاطِرِ لَهُ الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ الْجَزِيلُ بِمَا أَوْلا وَأَخَّرَ خَلْقَ السِّنَّ عَنْهُ لِوَقْتِهَا فَأَبْرَزَهَا عَوْنًا وَجَاءَ بِهَا طَوْلا وَقَسَّمَهَا لِلْقَطْعِ وَالْكَسْرِ قِسْمَةً وَلِلطَّحْنِ أَعْطَى كُلَّ قِسْمِ لَهَا شَكْلا وَصَرَّفَ فِي لَوْكِ الطَّعَامِ لِسَانَهُ يُصَرِّفُهُ عُلْوًا إِذَا شَاءَ أَوْ سُفلا وَلَوْ رَامَ حَصْرًا فِي تَيَسُّرِ لُقْمَةٍ وَأَلْطَافِهِ فِيمَا تَكَنَّفَهَا كَلا فَكَمْ خَادِمٍ فِيهَا وَكَمْ صَانِع لَهَا كَذَلِكَ مَشْرُوبٌ وَمَلْبَسُهُ كلا وَكَمْ لُطْفٍ مِنْ حَيْثُ تَحْذَرُ أَكرَمَتْ وَمَا كُنْتَ تَدْرِي الْفَرْعَ مِنْهَا وَلا الأَصْلا

وَمِنْ لُطْفِهِ تَكْلِيفُهُ لِعَبَادِهِ يَسِيرًا وَأَعْطَاهُمْ مِن النِّعِمِ الْجَزْلا وَمِنْ لُطْفِهِ تَوْفِيقُهُمْ لإِنَابَةٍ تُوَصَّلُ لِلْخَيْرَاتٍ مِنْ حَبْلِهِمْ حَبْلا وَمِنْ لُطْفِهِ بَعْثُ النَّبِي مُحَمَّدًا لِيَشْفِعَ فِي قَوْمِ وَلَيْسُوا لَهَا أَهْلا وَمِنْ لُطْفِهِ حِفْظُ الْعَقَائِدِ مِنْهُمُوا وَلَوْ خَالَفَ الْعَاصِي الْمُسِيءُ وَإِنْ زَلا وَمِنْ لُطْفِهِ إِخْرَاجُهُ عَسَلاً كَمَا تُشَاهِدُ مِمَّا كَانَ أَوْدَعَهُ النَّحْلا وَإِخْرَاجُهُ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ مُجَاوِرٍ دَمًا لَبَنًا صِرْفًا بِلا شَائِبٍ رِسْلا وَإِخْرَاجُهُ مِنْ دُودَةٍ مَلْبَسًا لَهُ رُوَاقًا عَجِيبًا أَحْكَمَتْهُ لَنَا غَزْلا وَأَعْجَبُ مِنْ ذَا خَلْقُهُ الْقَلْبَ عَارِفًا بِهِ شَاهِدًا أَنْ لا شَبِيهِ وَلا مِثْلا وَأَلْطَافُ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ فَخُذْ بِمَا بَدَا لَكَ وَأَشْهَدْهَا وَإِيَّاكَ وَالْجَهْلا وَصَلِّ عَلَى الْمُخْتَارِ أَفْضَلَ مُرْسَلٍ على خَالِصِ الْعِرْفَانِ بِاللهِ قَدْ دَلا

المروءة تعريفها وأنها أنواع متعددة ودرجات متفاوتة

اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة واجعلنا ممن كتبت لهم الحسنى وزيادة واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله عَلَى محمد وآله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) في المروءة المروءة بمعنى الإنسانية لأنها مأخوذة من المرء وهي تعاطي مَا يستحسن وتجنب مَا يسترذل قال بعضهم: حد المروءة رعي مساعي البر، ورفع دواعي الضر والطهارة من جميع الأدناس، والتخلص من عوارض الالتباس، حتى لا يتعلق بحاملها لوم، ولا يلحق به ذم. وقيل: هي آداب نفسية تحمل مراعاتها الإنسان عَلَى الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات. وقيل: هي قوة للنفس مبدأ لصدور الأفعال الجميلة عنها المستتبعة للمدح شرعًا وعقلاً وفرعًا وكلها قريبة المعنى. وقيل: هي الصدق والشرق والاستقامة والشجاعة والحمية. وقال بعضهم: المروءة كلمة لفظها كمعناها حلو جميل إن قرعت السمع فعظمة وجلال وإن نفذت عَلَى القلب فنبل وسمو وشعور بالكرامة والكمال ولست أعدل عن الحق إن قلت إن المروءة هي جماع الفضائل ورأس المكارم وعنوان الشرف بها يسمو المرء ويرتفع ذكره وبفقدها يفقد كل كرامة وفضل. فهي ميزان الرجال وأصل الجمال وحد المروءة تجمل النفس بما يزينها وتحصينها مما يشينها بحيث تكون للمحامد أهلاً وعن المذام# بمنأى ولا يكون إلا لمن راض نفسه عَلَى التخلف بالخلق الحسن من الصفات والتجمل بجميل العادات حتى يصبح التطبع جبلة والتعود غريزة وليس يستطيع ذلك إلا من جاهد نفسه ونازع هواه رغبة فِي حسن الأحدوثة والذكرى الجميلة. كما قيل: لَقَدْ أَسْمَعُ الْقَوْلَ الذِّي كَادَ كُلَّمَا ... تُذَكِّرُنِيْهِ النَّفْسُ قَلْبِيْ يُصَدَّعُ فَأُبْدِي لِمَنْ أَبْدَاهُ مِنِّي بَشَاشَةٍ ... كَأَنِّي مَسْرُورٌ بِمَا مِنْه أَسْمَعُ

بعض الطرق التي تدرك بها مكارم الأخلاق

ج وَمَا ذَاكَ مِنْ عُجْبٍ بِهِ غَيْرَ أَنَّنِي ... أَرَى أَنْ تَرَكَ الشَّرِ لِلْشَّرِ أَقْطَع آخر: ... وَإِنَّمَا الْمَرْءُ حَدِيْثٌ بَعْدَهُ فَكُنْ حَدَيْثًا حَسَنًا لِمَنْ وَعَى مِنْ كُلِّ مَا نَالَ الْفَتَى قَدْ نِلْتُهُ وَالْمَرْءُ يَبْقَى بَعْدَهُ حُسْنُ الثَّنَا وَقَدْ ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كلمت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوته» . وقال ابن القيم رحمه الله: وحقيقة المروءة تجنب الدنايا والرذائل من الأقوال والأخلاق والأعمال. فمروءة اللسان حلاوته وطيبه ولينه، واجتباه الثمار مِنْه بسهولة ويسر، ومروءة الخلق سعته وبسطه للحبيب والبغيض. ومروءة المال الإصابة ببذله مواقعه المحمودة عقلاً وعرفًا وشرعًا. ومروءة الجاه بذله للمحتاج إليه، ومروءة الإحسان تعجيله وتيسيره وتوفيره وعدم رؤيته حال وقوعه ونسيانه بعد وقوعه، فهذه مروءة البذل. وأما مروءة الترك، فترك الخصام والمعاتبة والممارات، والإغضاء عن عيب مَا يأخذه من حقك وترك الاستقصاء فِي طلبه والتغافل عن عثرات الناس، وإشعارهم أنك لا تعلم لأحد مِنْهُمْ عثرة، والتوقير للكبير، وحفظ حرمة النظير، ورعاية أدب الصغير قال: وهي عَلَى ثلاث درجات الدرجة الأولى مروءة الإنسان مع نفسه، وهي أن يحملها قسرًا عَلَى مَا يجمل ويزين وترك مَا يدنس ويشين، ليصير لها ملكة فِي جهره وعلانيته. شِعْرًا: ... وَهَلْ يَنْفَعُ الْفِتْيَانَ حُسْنُ وُجُوْهِهِمْ ... إِذَا كَانَتِ الأعْرَاضُ غَيْرُ حِسَانِ فَلا تَجْعَلِ الْحُسْنَ الدَّلِيْلَ على الْفَتَى ... فَمَا كُلُّ مَصْقُوْلِ الْحَدِيْدِ يَمَانِي

الحث على مكارم الأخلاق والنهي عن سفسافها

آخر: ... كَالثُّوْرِ عَقْلاً وَمِثْلُ التَّيْسِ مَعْرِفَةً ... فَلا يُفْرِّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْفَنَدِ الْجَهْلُ شَخْصُ يُنَادِي فَوْقَ هَامَتِهِ ... لا تَسْألَ الرَّبْعَ مَا فِي الرَّبْعِ مِنْ أحَدِ آخر: ... خَلِيْلَيَّ كَمْ ثَوْبٍ وَكَمْ مِنْ عَبَاءَةٍ ... عَلَى جَسَدٍ مَا فِيهِ عِلْمٌ وَلا عَقْلُ وَكَمْ لِحْيَةٍ طَالَتْ عَلَى خَدِّ جَاهِلٍ ... فَأَزَرَى بِهَا مِنْ بَعْدَمَا طَالَتَ الْجَهْلُ وَكَمْ رَاكِبِ بَغْلاً لَهُ عَقْلُ بَغْلَهِ ... تَأَمَلْ تَرَى بَغْلاً عَلَى ظَهْرِهِ بَغْلُ آخر: ... كُلُّ الأنَامِ بَنُوْأَبٍ لَكِنَّمَا ... بِالْفََضْلِ تَعْرِفُ قِيْمَةُ الإنْسَانِ فلا يكشف عروته فِي الخلوة، ولا يتجشأ بصوت مزعج مَا وجد إِلَى خلافه سبيلا، ولا يخرج الريح بصوت ولا يجشع وينهم عند أكله وحده وبالجملة فلا يفعل خاليًا مات يستحي من فعله فِي الملإ إلا مَا يحظره الشرع والعقل إن وافق الشرع ولا يكون إلا فِي الخلوة كالجماع والتخلي ونحو ذلك. الدرجة الثانية المروءة مع الخلق بأن يستعمل معهم شروط الأدب والحياء والخلق الجميل ولا يظهر لهم مَا يكرهه هو من غيره لنفسه وليتخذ الناس المتمشين مع الشريعة المطهرة فِي أقوالهم وأفعالهم مرآة لنفسه فكل مَا كرهه ونفر عنْه من قول أو فعل أو خلق فليجتنبه وما أحبه من ذلك واستحسنه فليفعله. وصاحب هذه البصيرة ينتفع بكل من خالطه وصاحبه من كامل وناقص وسيء الخلق وحسنه، وعديم المروءة وغزيرها، وكثير من الناس يتعلم المروءة ومكارم الأخلاق من الموصوفين بأضدادها كما روي عن بعض الأكابر أنه كان له مملوك سيء الخلق فظ غليظ لا يناسبه فسئل عن ذلك فقال: أدرس عليه مكارم الأخلاق. وكان لآخر زوجة حمقاء بذيئة اللسان تشتمه بل وتلعنه باستمرار وتدعو عليه من دون داع فقيل له: كيف تصبر عليها وهذه سيرتها معك غفر الله لك. فقال: أدرس عليها مكارم الأخلاق وبالأخص الحلم والصبر وأريد أن تبرز زلاتي فأتجنبها وكان كثيرًا مَا يتمثل بهاذين البيتين:

عُدَاتِيَ لَهُمْ فَضْلٌ عَلَيَّ وَمِنَةٌ ... فَلا أَذْهَبَ الرَّحْمَنُ عَنِّيَ الأعَادِيَا هَمُّوْا بَحَثُوْا عَنْ زُلَتِيْ فَأَجْتَنَبْتُهَا ... وَهَمْ نَافِسُوْنِي فَاكتَسَبْتُ الْمَعَالِيَا وهذا يكون بمعرفة مكارم الأخلاق فِي ضد أخلاقه ويكون بتمرين النفس عَلَى مصاحبته ومعاشرته والصبر عليه ولكن مَا يفعل ذلك إلا القليل الذين قَدْ وطنوا أنفسهم. كما قيل: النَّاسُ مِثْلُ بُيُوتِ الشَّعْرِ كَمْ رَجُلٍ ... مِنْهُمْ بِأَلْفٍ وَكَمْ بَيْتٍ بِدِيوَانِ آخر: وَكَمْ للهِ مِنْ عَبْدٍ سَمِيْنٍ ... كَثِيْرَ اللَحْمُ مَهْزُوْلِ الْمَعَالِي كَشِبْهِ الطَّبْلِ يُسْمَعُ مِنْ بَعِيْدٍ ... وَبَاطِنُهُ مِنْ الْخَيْرَاتِ خَالِي الدرجة الثانية المروءة مع الحق بالاستحياء من نظره إليك وإطلاعه عليك فِي كل لحظة ونفس وإصلاح عيوب نفسك جهد الإمكان إنه قَدْ اشتراها منك وأنت ساع فِي تسليم المبيع وتقاضي الثمن وليس من المروءة تسليمه عَلَى مَا فيه من عيوب وتقاضي الثمن كاملاً أو رؤية منته فِي هذا الإصلاح وأنه المتولي له لا أنت. والاشتغال بإصلاح عيوبك نفسك عن التفاتك إِلَى عيب غيرك وشهود الحقيقة عن رؤية فعلك وصلاحه. أ. هـ. عَلَيْكَ نَفْسَكَ فَتِّشْ عَنْ مَعَايِبِهَا ... وَخَلِّي مِنْ عَثَرَاتِ النَّاسِ لِلنَّاسِ ومما تقدم يتبين لنا أن مراعاة النفس عَلَى أكمل الأحوال وأفضلها هي المروءة وإذا كانت فليس ينقاد لها مع ثقل كلفها إلا من وفقه الله وسهل عليه المشاق ويود كل أحد لو حصلت له المروءة ولكن كما قيل: وَكُلَّ يَرَى طُرُقَ الشَّجَاعَةِ وَالنَّدَى ... وَلَكِنْ طَبْعُ النَّفْسِ لِلنَّفْسِ قَائِدُ

آخر: ... فَلا تَحْسَبُوْا أَنَّ الْمَعَالِي رَخِيْصِةً ... وَلا أَنَّ إِدْرَاكَ الْعُلَى هَيِّنٌ سَهْلُ فَمَا كُلُّ مَنْ يِسْعَى إِلَى الْمَجْدِ نَالَهُ ... وَلا كُلُّ مِنْ يَهْوَى الْعَلا نَفْسُهُ تَعْلُو قال العلماء: والداعي إِلَى استسهال المشاق شيئان علو الهمة وشرف الله فأما علو الهمة فيدعو إِلَى التقدم وَقَدْ ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله يحب معالي الأمور ويكره دنيها وسفسافها» . قال المناوي: معالي الأمور وأشرافها هي الأخلاق الشرعية والخصال الدينية. أ. هـ. وأما سفساف الأمور فهو حقيرها ورديؤها، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا تصغرن هممكم فإني لَمْ أر اقعد عن المكرمات من صغر الهمم. حَاوِلْ جَسِيْمَاتِ الأمُوْرِ وَلا تَقُلْ ... إنَّ الْمَحَامِدَ وَالْعُلَى أَرْزَاقُ آخر: ... يَسْتَقْرَبُ الدَّارَ شَوْقًا وَهْيَ نَازِحَةٌ ... مَنْ عَالَجَ الشَّوْقُ لَمْ يَسْتَبْعِدَ الدَّارَا آخر: ... فَإِنَّ عَلِيَّاتِ الأمُوْرِ مَشُوْبَةٌ ... بِمُسْتَوْدَعَاتٍ فِي بُطُوْنِ الأسَاوُدِ آخر: ... بَصُرْتَ بِالْحَالِةِ الْعُلْيَا فَلَمْ تَرْهَا ... نُتَنَالُ إلا عَلَى جَسْرٍ مِنَ التَّعَبِ آخر: ... وَلَمْ أَرَى فِي عُيُوْبٍ النَّاسَ شَيْئًا ... كَنَقْصِ الْقَادِرِيْنَ على التَّمَامِ ويقول: تُرِيْدِيْنَ لُقْيَانَ الْمَعَالِي رَخِيْصَةً ... وَلا بُدَّ دُوْنَ الشَّهْدِ مِنْ إبَرِ النَّحْلِ وقال بعض العلماء: إذا طلب رجلان أمرًا ظفر به أعظمهما مروءة لكثرة وجاهته ووسائطه عند ذوي الأمر، وأما شرف النفس فيدعو إِلَى الشهامة وهي الحرص عَلَى مَا يوجب الذكر الجميل، والاحتمال وهو إتعاب النفس فِي الحسنات كما قيل: وَإِنْ هُوَ لَمْ يَحْمِلْ عَلَى النَّفْسِ ضَيْمَهَا ... فَلَيْسَ إِلَى حُسْنِ الثَّنَاءِ سَبِيْلُ فباتعا بها يكون التأديب واستقرار التقويم والتهذيب لأنها ربما تركت الأفضل وهي به عارفة، ونفرت عن التأنيب وهي له مستحسنة،

شروط المروءة ويتفرع عنها أنواع كثيرة

لأنها عليه غير مطبوعة غير ملائمة، وَقَدْ قيل: مَا أكثر من يعرف الحق ولا بطبعه، وإذا شرفت النفس كانت للآداب طالبة، وفي الفضائل راغبة فإذا خالط شرف النفس الآداب صادف طبعًا ملائمًا فنما واستقر بإذن الله تعالى. وَإِذَا كَانَتِ النُّفُوْسُ كِبَارًا ... تَعِبَتْ فِي مُرَادِهَا الأجْسَامُ اللهم احمنا عن الميل والركون إِلَى أعدائك وارزقنا بغضهم وسأعوانهم والمؤيدين لهم اللهم شتت شملهم ودمرهم أجمعين وانصر من نصر الإسلام والمسلمين وأحب فيك وأبغض فيك يا رب العالمين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله عَلَى محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) قال العلماء: وللمروءة شروط فِي نفس المرء وشروط فِي حق غيره فأما شروطها فِي حق نفسه بعد التزام مَا أوجبه الشرع من أحكامه فيكون بثلاثة أمور وهي العفة والنزاهة والصيانة. فأما العفة فنوعان أحدهما العفة عن المحارم، والثاني العفة عن المآثم. شِعْرًا: فَيَا نَفْسُ صَبْرًا إِنَّمَا عِفَّةُ الْفَتَى ... إِذَا عَفَّ عَنْ لَذَّاتِهِ وَهُوَ قَادِرُ فأما العفة عن المحارم فنوعان، أحدهما: ضبط الفرج عن الحرام كالزنا واللواط. والثاني: كف اللسان عن الأعراض كالقذف والسعاية والنميمة والغيبة والكذب والاستهزاء ونحو ذلك. مما قَدْ كثر فِي زماننا بسبب التلفزيون والفيديو والتلفون المذياع فلهذا ينبغي الابتعاد عن الناس إلا لأخذ العلم أو إصلاح قال بعضهم: لِقَاءُ النَّاسِ لَيْسَ يُفِيْدُ شَيْئًا ... سِوَى الْهَذَيَانِ مِنْ قِيْلَ وَقَالَ فَأَقْلِلْ مِنْ لِقَاءِ النَّاسِ إِلا ... لأخْذِ الْعِلْمِ أَوْ إِصْلاحِ حَالِ

آخر: ... النَّاسِ دَاءٌ دَفِيْنٌ لا دَوِاءَ لَهُ ... الْعَقْلَ قَدْ حَارَ مِنْهُمْ فَهُوَ مُنْذَهِلُ إِنْ كُنْتَ مُنْبَسِطًا سُمِّيتَ مَسْخَرَةً ... أَوْ كُنْتَ مُنْقَبِطًا قَالُوْا بِهِ ثِقَلُ وَإِنْ تُوَاصُلِهُمْ قَالُوا بِهِ طَمَعٌ ... وَإِنْ تُقَاطِعَهُمْ قَالُوْا بِهِ مَلَلُ وَإِنْ تَهَوَّرَ يَلَقُوْهُ بِمَنْقَصَةٍ ... وَإِنْ تَزْهَدْ قَالُوْا زُهْدُهُ حِيَلُ آخر: ... لِقَاءُ أَكْثَرُ مَنْ تَلْقَاهُ أَوْزَارُ ... فَلا تُبَالِ أَصَدُّوا عَنْكَ أَوْزَارُوْا لَهُمْ لَدَيْكَ إِذَا جَاؤُكَ أَوْ طَارُ ... فَإِنْ قَضَوْهَا تَنَحُّوْا عَنْكَ أَوْ طَارُوا فأما ضبط الفرج عن الحارم فلأن عدمه مع وعيد الشرع وزاجر العقل معرة فاضحة وإثم واضح، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من وقي شر ذبذبة ولقلقة وقبقبة فقد وقي» . وفي رواية: «فقد وجبت له الجنة» . والمراد بالذبذب الفرج وبلقلقه لسانه، وبقبقبة بطنه. والداعي إِلَى الوقوع فِي الحرام شيئان إرسال الطرف والثاني إتباع الشهوة وَقَدْ تقدم الكلام عَلَى النظر المحرم فِي (ص 209) : شِعْرًا: ... لَيْسَ الظَّرِيْف بِكَامِلٍ فِي ظُرْفِهِ ... حَتَى يَكُونَ عَنْ الْحَرَامِ عَفِيفَا فَإِذَا تَوَرَّعَ عَنْ مَحَارِمَ رَبِّهِ ... فَهُنَاكَ يُدْعَى فِي الأنَامِ ظَرِيْفَا ومن ذلك ترغيب النفس فِي الحلال عوضًا عن الحرام وإقناعها بالمباح بدلاً من المحرم فإن الله مَا حرم شيئًا إلا وأغنى عنه بمباح ليكون ذلك الإغناء عونًا عَلَى الطاعة، وحاجزًا عن المخالفة، قال عمر رضي الله عنه: مَا أمر بشيء إلا وأعان عليه، ولا نهى عن شيء إلا وأغنى عنه. مَا أَقْبَحَ الْعِرْضُ مَدْنُوسًا بِفَاحَشَةٍ ... يَخُطُّهَا اللَّوْحُ أَوْ يَجْرِي بِهَا الْقَلَمُ وَالْحُسْنُ لا حُسْنَ فِي وَجْهٍ تَأَمَّلُهُ ... إِنْ لَمْ تَكُنْ مِثْلَهُ الأخْلاقُ وَالشِّيَمُ وَلِلْشَّبِيْبَةِ بُنْيَانُ تُكَمِّلُهُ ... لَكَ الثَّلاثُوْنَ عَامًا ثُمَّ يَنْهَدِمُ

ومن ذلك إشعار النفس تقوى الله فِي أوامره، واتقاؤه فِي زواجره وإلزامها مَا ألزم من طاعته، وتحذيرها مَا حذر من معصيته وإعلامها أنه لا يحفى عليه فِي الأرض ولا فِي السماء ولا بينهما كما قال تعالى: {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} . وأنه يجازي المحسنين بإحسانه كما قال تعالى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} وأنه يجزي المسيء بما عمل كما قال تعالى: {وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وبذلك نزلت الكتب وبلغت الرسل. وَقَدْ ورد أن آخر مَا نزل قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} قال فِي مِنْهاج اليقين شرح أدب الدنيا والدين: فإذا أشعر صاحب الشهوة مَا وصفت من الأمور انقادت أي النفس إِلَى الكف وأذعنت بالاتقاء فسلم دينه من دنس الريبة وظهرت مروءته. وأما كف اللسان عن الوقوع فِي الأعراض، فالوقوع فيها ملاذ السفهاء، وانتقام أهل الغوغاء والسفلة. قلت: وإلى هذا أشار أبو الطيب فِي قوله: مع أنه لَمْ يعمل بقوله فقد اغتاب وقذف الأبرياء. وَأَكْبِرَ نَفْسِي عَنْ جَزَاءٍ بِغِيبَةٍ ... وَكُلُّ اغْتِيَابٍ جُهْدُ مَنْ لا لَهُ جُهْدُ وهو مستسهل الكلف إذا لَمْ يقهر نفسه عنه برادع كاف وزاجر ساد تلبط بمعارة وتخبط بمضاره فهلك وأهلك ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» . فجمع النبي صلى الله عليه وسلم فِي الحرمة بين سفك الدم، وهتك العرض، لما فيه من إيغار الصدور بالحقد وإبداء الشرور وإظهار البذاء. قال بعض الحكماء: إنما هلك الناس بفضول الكلام وفضول المال.

وأما العفة عن المأثم فنوعان: أحدهما الكف عن المجاهرة بالظلم والثاني: زجر النفس عن الأسرار بالخيانة فأما المجاهرة بالظلم فعتو مهلك، وطغيان متلف للمجاهر. قال الله تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تمكروا ولا تعينوا ماكرًا فإن الله تعالى يقول: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} ولا تبغوا ولا تعينوا باغيًا فإن الله يقول: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم} » . والباعث عَلَى المجاهرة بالظلم الجرأة والقسوة، والصاد عن ذلك رؤية آثار غضب الله تعالى فِي الظالمين، وأن يتصور عواقب ظلمهم وأما الاستسرار بالخيانة فدناءة ولآمة. وأما النزاهة فنوعان أحدهما: النزاهة عن المطامع الدنية. والثاني: زجر النفس عن الإسرار بالخيانة فأما المجاهرة بالظلم فعتو وطغيان. شِعْرًا: عَلَيْكَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ كِلَيْهِمَا وَبِرِّ ذَوِي الْقُرْبَى وَبِرِّ الأبَاعِدِ وَلا تَصْحَبَنْ إِلا تَقِيًّا مُهَذَّبًا عَفِيفًا زَكِيًّا مُنْجِزًا لِلْمَوَاعِدِ وَقَارِنْ إِذَا قَارَنْتَ حُرًّا مُؤْدَّبًا فَتَى مِنْ بَنِي الأحْرَارِ زَيْنِ الْمَشَاهِدِ وَكُفَّ الأذَى وَاحْفَظْ لِسَانَكَ وَاتَقِي فَدِيَّتُكَ فِي وُدِ الْخَلِيْلِ الْمُسَاعِدِ وَغُضَّ عَنْ الْمَكْرُوْهُ طَرْفَكَ وَاجْتَنِبْ أَذَى الْجَارِ وَاسْتَمْسِكْ بِحَبْلِ الْمَحَامِدِ

فصل في بر الوالدين وما يجازيه به إن وفق

ج وَكُنْ وَاثِقًا بِاللهِ فِي كُلِّ حَادِثٍ يَصُنْكَ مَدَى الأيَامِ مِنْ شَرِّ حَاسِدِ وَبِاللهِ فَاسْتَعْصِمْ وَلا تَرْجُ غَيْرَهُ وَلا تَكُ لِلنَّعْمَاءِ عَنْهُ بِجَاحِدِ وَنَافِسْ بِبَذْلِ الْمَالِ فِي طَلَبِ الْعُلَى بِهِمَّةِ مَحْمُودِ الْخَلائِقِ مَاجِدِ وَلا تَبْنِ فِي الدَّنْيَا بِنَاءَ مُؤَمِّلٍ خُلُودًا فَمَا حَيٌّ عَلَيَهَا بخَالِدِ وَكُلُّ صَدِيقٍ لَيْسِ للهِ وُدُّهُ فَنَادِ هَلْ بِهِ مِنْ مُزَايِدِ اللهم استر مَا بدا منا من العيوب وأمنا يوم الشدائد والكروب، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله عَلَى محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) فِي بر الوالدين وتحريم عقوقهما البر: الصلة والحسنة والخير، وفي المطالع فِي قوله صلى الله عليه وسلم: «وإن الصدق يهدي إِلَى البر» . البر اسم جامع للخير، وعق الولد أباه إذا آذاه وعصاه وخرج عليه: بر الوالدين فريضة لازمة وعقوقهما حرام، ولا ينكر فضل الوالدين إلا المتوغل فِي النذالة والآمة. ولن يستطيع الأبناء والبنات مجازاة الآباء والأمهات عَلَى مَا قاموا به نحوهم من الطفولة إِلَى الرجولة من عطف ورعاية وتربية وعناية إلا أن يجد الولد الوالد مملوكًا فيشتريه فيعتقه كما فِي حديث أبي هريرة قال

ذكر بعض فضل الوالدين على الولد وما يعاني بسببه من ألم

رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه» . رواه مسلم. فشكر المنعم واجب، ولله سبحانه عَلَى العباد نعم، لا تحصى كما قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا} من ذلك نعمة الخلق والإيجاد، وجعل سبحانه وتعالى للوالدين نعمة الايلاد والتربية الصالحة، والعناية التامة بالأولاد، وأكبر الخلق وأعظمهم نعمة عَلَى الإنسان بعد رسل الله والده اللذان جعلهما الله سببًا لوجوده واعتنيا به منذ كان حملاً إِلَى أن كبر. فأمه حملته شهورًا تسعًا قي الغالب تعاني به فِي تلك الأشهر مَا تعاني من آلام من مرض ووحم وثقل فإذا آن وقت الوضع وأجاءها المخاض، شاهدت الموت، وقاست من الآلام مَا الله به عليم فتارة تموت، وتارة تنجو ويا ليت الألم والتعب ينتهي بالوضع كان الأمر سهلاً ولكن يكثر النصب ويشتد بعده قال الله تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} ثم ترضعه حولين كاملين غالبًا فتقوم به مثقلة وتقعد به مثقلة، تضيق أحشاؤها وقت حمله بالطعام والشراب. وتضعف عند الوضع أعضاؤها. ثم بعد ذلك صياح بالليل يحرم الوالدين النوم، وكذلك بالنهار يقلق به راحتهما، ويتعب قلبيهما، ويذرف دموعهما، ومرض يعتري الولد من وقت لآخر، تنخلع له قلوبهما انخلاعًا وتنهد به أبدانهما هدًّا. وتعهد من الأم لجسمه بالغسل، ولثيابه بالتنظيف، ولإفرازاته بالإزالة، لا يومًا ولا يومين، ولا شهرًا ولا شهرين ولا سنةً ولا سنتين هي به ليلها ونهارها فِي متاعب ومشاق، تصغر بجانبها متاعب المؤبدين فِي الأعمال الشاقة.

الحضانة ومن الأحق بها الأب أم الأم وبعد ذلك

يضاف إِلَى ذلك امتصاصه دمها الذي هو اللبن مدة الرضاع، ولو لك يكن مِنْه لهدم بدنها وإضعافه وإذهاب قوتها إلا هذا الامتصاص لكفى. فإذا شب وبرزت أسنانه، وقويت معدته عَلَى قبول الطعام وهضمه وانفتحت شهواته له، انفتح لوالديه باب الفكر والكد لجلب طعامه وشرابه وسائر شؤونه، وبرما احتملا ألم الغربة والسفر إِلَى بلد بعيد لطلب المعيشة للأولاد. وكثيرًا مَا يضحي الوالدان براحتهما فِي سبيل راحة الأبناء والبنات، والطفل يعرف أمه ويحبها قبل كل أحد فإذا غابت صاح حتى تأتيه وإذا أعرضت عنه دعاها وناحها بما يقدر عليه من كلام أو غيره وإذا أصابه شيء يؤلمه استغاث وناداها، يظن أن الخير كله عندها وأن الشر لا يخلص إليه مَا دامت تضمه عَلَى صدرها وترعاه بعينها وتذب دونه بيديها. ولذلك هي مقدمة فِي الحضانة إذا فراقها زوجها ولم تتزوج حتى يميز ويختار من شاء مِنْهمَا كما فِي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن امرأة قالت: يا رسول الله أن ابني هذا كان بطني له وعاء، وحجري له جواء، وثديي له سقاء، وزعم أبوه أنه ينتزعه مني فقال: «أنت أحق به مَا لَمْ تنكحي» . رواه أحمد وأبو داود. ثم الولد لا يحب بعد أمه إلا أباه الذي إذا دخل هش وبش به أن خرج تعلق به وإذا حضر قعد عَلَى حجره، مستندًا عَلَى صدره، وإذا غاب سأل عنه وانتظره، يرى أنه إذا رضي أعطاه مَا يريد وإذا غضب ضربه وأدبه، يخوف من يؤذيه بأبيه، وأي حب واحترام بعد هذا،

قصيدة في الحث على بر الوالدين ثم قصيدة أخرى كذلك

ولكن يا للأسف سرعان مَا ينسى الجميل وينكر المعروف ويلتفت إِلَى زوجته وأولاده. ولذلك لا يحتاج الآباء إِلَى توصية بالأبناء إنما يحتاج الأولاد إِلَى استجاشة وجدانهم بقوة ليذكروا واجب والديهم نحوهم. شِعْرًا: قَضَى اللهُ أَنْ لا تَعْبُدُوا غَيْرَهُ حَتْمًا فَيَا وَيْحَ شَخْصٍ غَيْرَ خَالِقِهِ أَمَّا وَأَوْصَاكُمُوا بِالْوَالِدَيْنِ فَبَالِغُوا بِبِرِّهِمَا فَالأجْرَ فِي ذَاكَ وَالرَّحْمَا فَكَمْ بَذَلا مِنْ رَأْفَةٍ وَلَطَافَةٍ وَكَمْ مَنَحَا وَقَتْ احْتِيَاجِكَ مِنْ نُعْمَا وَأُمُّكَ كَمْ بَاتَتْ بِثِقْلِكَ تَشْتَكِي تُوَاصِلُ مِمَّا شَقَّهَا الْبُؤْسَ وَالْغَمَّا وَفِي الْوَضْعِ كَمْ قَاسَتْ وَعِنْدَ وِلادِهَا مُشَقًّا يُذِيْبُ الْجِلْدَ وَاللَّحْمَ وَالْعِظْمَا وَكَمْ سَهِرَتْ وِجْدًا عَلَيْكَ جُفُونِهَا وَأَكْبَادُهَا لَهْفًا بِجَمْرِ الأسَا تَحْمَى وَكَمْ غَسَّلَتْ عَنْكَ الأذَى بِيَمِيْنِهَا حُنُوًّا وَإشْفَاقًا وَأَكْثَرَتِ الضَّمَّا فَضَيَّعْتَهَا لَمََّا أَسَنَّتْ جَهَالَةً وَضِقْتَ بِهَا زَرْعًا وَذَوَّقْتُهَا سُمَّا وَبِتَّ قَرِيْرَ الْعَيْنِ رَيَّانَ نَاعِمًا مُكِبًّا عَلَى اللَّذَاتِ لا تَسْمَعُ اللَّوْمَا

وَأُمُّكَ فِي جُوْعٍ شَدِيْدٍ وَغُرْبَةٍ تَلِيْنُ لَهَا مِمَا بِهَا الصَّخْرَةُ الصَّمَا أَهَذَا جَزَاهَا بَعْدَ طُوْلِ عِنَائِهَا لأَنْتَ لَذُوْ جَهْلِ وَأَنْتَ إِذًا أَعْمَى آخر: ... فَلا تُطِعْ زَوْجَةً فِي قَطْعِ وَالِدَةٍ عَلَيْكَ يَا ابْنَ أَخِيْ قَدْ أَفْنَتِ الْعُمُرَا فَكَيْفَ تُنْكِرُ أُمًّا ثُقْلُكَ احْتَمَلَتْ وَقَدْ تَمَرَّغْتَ فِي أَحْشَائِهَا شُهُرَا وَعَالَجَتْ بِكَ أَوْجَاعَ النِّفَاسِ وَكَمْ سُرَّتْ لَمَّا وَلَدَتْ مَوْلُدِهَا ذَكَرَا وَأَرْضَعَتْكَ إِلَى حَوْلَيْنِ مُكْمِلَةً فِي حَجْرِهَا تَسْتَقِيْ مِنْ ثَدْيِهَا الدُّرَرَا وَمِنْكَ يُنْجِسُهَا مَا أَنْتَ رَاضِعُهُ مِنْهَا وَلا تَشْتَكِي نَتْنًا وَلا قَذَرَا وَقُلْ هُوَ اللهُ بِالآلافِ تَقْرَؤُهَا خَوْفًا عَلَيْكَ وَتُرْخِي دُوْنَكَ السُّتُرَا وَعَامَلَتْكَ بِإِحْسَانٍ وَتَرْبِيَةٍ حَتَى اسْتَوَيْتَ وَحَتَى صِرْتَ كَيْفَ تَرَى فَلا تُفَضِّلْ عَلَيْهَا زَوْجَةً أَبَدًا وَلا تَدَعْ قَلْبُهَا بِالْقَهْرِ مُنْكَسِرَا وَالْوَالِدُ الأصْلُ لا تُنْكِرْ لِتَرْبِيَةٍ وَاحْفَظْهُ لاسِيَّمَا إِنْ أَدْرَكَ الْكِبَرَا

الأدلة على بر الوالدين من الكتاب والسنة

فَمَا تُؤَدِّيْ لَهُ حَقًّا عَلَيْكَ وَلَوْ على عُيُوْنِكَ حَجُ الْبَيْتِ وَاعْتَمَرَا اللهم وفقنا لحبك وحب من يحبك وحب العمل الذي يقربنا إِلَى حبك وألهمنا ذكرك وشكرك وأعمر أوقاتنا بطاعتك وحل بيننا وبين معاصيك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله عَلَى محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) وَقَدْ أمر الله جل شانه بالإحسان عَلَى الوالدين فِي آيات من القرآن الكريم قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} وقال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} . وَقَدْ فضل سبحانه وتعالى مَا يجب من الإحسان إِلَى الوالدين بقوله: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ} الآيتين المعنى إذا وصل الوالدان أو أحدهما إِلَى الكبر حال الضعف والعجز وصارا عندك فِي آخر العمر كما كنت عندهما فِي أوله وجب عليك أن تحنو عليهما وتشفق عليهما وتلطف لهما وتعاملهما معاملة الشاكر لمن أنعم عليه على أن الفضل للمتقدم. ويتجلى ذلك بأن تتبع معها أمورًا خمسة أولاً تتأفف من شيء تراه وتشمه من أحدهما أو مِنْهمَا مما يتأذى به الناس، ولكن اصبر على ذلك منهما واحتسب الأجر عليه من الله جل وعلا كما صبرا عليك فِي

النظر إلى الوالدين والأدلة على برهما والتحذير من العقوق

صغرك واحذر الضجر والملل القليل والكثير وعليك بالرفق واللين معهما والله لا يضيع أجر من أحسن عملا. ثانيًا: أن لا تنغض ولا تكدر عليهما بكلام تزجرهما به وفي هذا منع من إظهار المخالفة لهما بالقول عَلَى سبيل الرد عليهما والتكذيب لهما. ثالثًا: أن تقول لهما قولاً كريمًا أي حسنًا طيبًا مقرونًا بالاحترام والتعظيم مما يقتضيه حسن الأدب وترشد إليه المروءة كأن تقول: يا أبتاه أو يا والدي ويا أماه أو يا والدتي ولا تدعهما بأسمائهمَا ولا ترفع صوتك أمامهما ولا تحدق فيهما بنظرك بل يكون نظرك إليهما نظر لطف وعطف وتواضع. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَمْ يتل القرآن من لَمْ يعمل به، ولم يبر والديه من أحد النظر إليهما فِي حال العقوق أولئك برآء مني وأنا مِنْهُمْ بريء» . رواه الدارقطني. وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة فِي قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} قال: إن أغضباك فلا تنظر إليهما شزرًا، فإنه أول مَا يعرف به غضب المرء شدة نظره إِلَى من غضب عليه. وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن أنه قيل له: إِلَى مَا ينتهي العقوق؟ قال: أن يحرمهما ويهجرهما ويحد النظر إليهما. واعلم أن النظر إليهما بعين الحنو والعطف والشفقة والتفقد لما يكرهان فهذا لا بأس به كما أن غض الطرف عنهما كراهة عقوق قال الشاعر فِي ابنه:

يَوَدُّ الرَّدَى لِي مِنْ سَفَاهَةِ رَأْيِهِ وَلَوْ مُتُّ بَانَتْ لِلْعَدُوِّ مَقَاتِلُهْ إِذَا مَا رَآنِيْ مُقْبِلاً غَضَّ طَرْفَهُ كَأْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ دُوْنِيْ يُقَابِلُهُ رابعًا: أن تدعو الله أن يرحمهما برحمته الواسعة كفاء رحمتها لك وجميل شفقتهما عليك. خامسًا: أن تتواضع لهما وتذلل وتطيعهما فيما أمراك به مَا لَمْ يكن معصية لله وتشتاق وترتاح إِلَى بذل مَا يطلبان منك من حطام الدنيا الفانية رحمة منك بهما وشفقة عليهما إذ هما قَدْ احتاجا إِلَى من كان أحوج الناس إليهما أيام كان فِي غاية العجز عن أي مصلحة من مصالحه بحيث لو غفل عنه والده قليلاً من الزمن لهلك. وعَلَى الجملة فقد أكد جل وعلا التوصية بهما من وجوه كثيرة، وكفاها أن شفع الإحسان إليهما بتوحيده، ونظمهما فِي سلك القضاء بهما معًا، وَقَدْ ورد فِي بر الوالدين أحاديث كثيرة، من ذلك أن رجلاً جاء إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه فِي الجهاد معه فقال: «أحيٌّ والداك» ؟ قال: نعم. قال: «ففيهما فجاهد» . ومن ذلك مَا رواه مسلم وغيره لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه ومن ذلك مَا روي عن ابن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إِلَى الله ورسوله قال: «الصلاة عَلَى وقتها» . قلت: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين» . قلت: ثم أي؟ قال: «الجهاد فِي سبيل الله» .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة» . رواه مسلم. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: أقبل رجل إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبايعك عَلَى الهجرة والجهاد ابتغي الأجر من الله تعالى فقال: «فهل من والديك أحد حي» ؟ قال: نعم بل كلاهما. قال: «فتبتغي الأجر من الله تعالى» ؟ قال: نعم. قال: «فارجع إِلَى والديك فأحسن صحبتهما» . متفق عليه. وأخرج ابن ماجة عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله مَا حق الوالدين عَلَى ولدهما؟ قال: «هما جنتك ونارك» . وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يمد له فِي عمره ويزاد فِي رزقه فليبر والديه وليصل رحمه» . رواه أحمد والبيهقي بسند رجاله رجال الصحيح، وأصله فِي الصحيحين باختصار. وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: جاء رجل إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: جئت أبايعك عَلَى الهجرة وتركت أبوي يبكيان فقال: «ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما» . رواه أبو داود. قال الناظم: وَيَحْسُنُ تَحْسِيْنٌ لِخُلْقٍ وَصُحْبَةٍ وَلاسِيَّمَا لِلْوَالِدِ الْمُتَأَكْدِ

وَلَوْ كَانَ ذَا كُفْرٍ وَأَوْجَبَ طَوْعَهُ سِوَى فِي حَرَامٍ أَوْ لأمْرٍ مُؤَكَّدِ كَتِطْلاب عِلْمٍ لا يَضُرُّهُمَا بِهِ وَتَطْلِيقِ زَوْجَاتٍ بِرَأْيٍ مُجَرَّدِ وَأَحْسِنْ إِلَى أَصْحَابِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَهَذَا بَقَايَا بِرِّهِ الْمُتَعَوَّدِ وقال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده» . وعن وهب ابن منبه قال: إن الله تعالى أوحى إِلَى موسى صلوات الله وسلامه عليه يا موسى وقر والديك، فإن من وقر والديه مددت فِي عمره، ووهبت له ولدًا يوقره ومن عق والديه قصرت فِي عمره ووهبت له ولدًا يعقه. وذكر فِي الآداب الكبرى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنما رد الله عقوبة سليمان عن الهدد لبره كان بأمه. وقال عكرمة: إنما صرف سليمان عن ذبح الهدهد إنه كان بارًا بوالديه ينقل إليهما الطعام فيرزقهما. انتهى. وقصة الهدهد على مَا قيل عنها هي أنه لما توعده سليمان بقوله: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} وذلك أنه لما فقده لأجل الماء، فدعا سليمان عريف الطير وهو النسر فلم يجد عنده علمه.

من آثار البر، بر الأم مقدم على بر الأب

ثم قال لسيد الطير وهو العقاب عليَّ به فارتفعت فنظرت فإذا هو مقبل فقصدته فناشدها الله، وقال: بحق الذي قواك وأقدرك عليّ إلا رحمتيني، فتركته وقالت: ثكلتك أمك، إن نبي الله حلف ليعذبنك قال: وما استثنى؟ قالت: بلى. قال: {لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} . فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعًا فلما دنا مِنْه أخذ رأسه فمده إليه، فقال: يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله، فارتعد سليمان عليه السلام وعفا عنه. انتهى. والله أعلم وصلى الله على محمد وعَلَى آله وسلم. (فَصْلٌ) وبر الأم مقدم على بر الأب لما سيأتي من الأحاديث، وذلك أنها تنفرد عن الأب بأشياء مِنْهَا مشقة الحمل وصعوبة الوضع، وصعوبة الرضاع وكثرة الشفقة والخدمة والحنو. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: «أمك» . قال: ثم من؟ قال: «أمك» . قال: ثم من؟ قال: «أمك» . قال: ثم من؟ قال: «أبوك» . وعن أنس رضي الله عنه قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني اشتهي الجهاد ولا أقدر عليه. قال: «هل بقي من والديك أحد» ؟ قال: أمي. قال: «قابل الله فِي برها، فإذا فعلت ذلك فأنت حاج ومعتمر ومجاهد» . رواه أبو يعلى والطبراني فِي الصغير والأوسط وإسناد هما جيد.

الجنة تحت رجلي الأم، من آثار البر

وعن طلحة بن معاوية السلمي رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أريد الجهاد فِي سبيل الله قال: «أمك حية» ؟ قلت: نعم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألزم رجلها فثم الجنة» . رواه الطبراني. وعن معاوية بن جاهمة أن جاهمة جاء إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أردت أن أغزو، وَقَدْ جئت أستشيرك، فقال: «هل لك من أم» ؟ قال: نعم. قال: «فألزمها فإن الجنة عند رجلها» . رواه ابن ماجة والنسائي واللفظ له والحاكم وقال: صحيح الإسناد. ورواه الطبراني بإسناد جيد ولفظه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أستشيره فِي الجهاد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألك والدان» ؟ قلت: نعم. قال «ألزمهما فإن الجنة تحت أرجلهما» . وعن أبي الدرداء أن رجلاً أتاه فقال: إن لي امرأة وإن أمي تأمرني بطلاقها، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الوالد أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأضع هذا الباب أو احفظه» . رواه ابن ماجة والترمذي واللفظ له. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان تحتي امرأة أحبها وكان عمر يكرهها، فقال لي: طلقها فأبيت فأتى عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طلقها» . رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، وابن حبان فِي صحيحه وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. شِعْرًا: ... زُرْ وَالَدَيْكَ وَقِفْ لي قَبْرَيْهِمَا ... فَكَأَنَّنِيْ بِكَ قَدْ نُقِلْتَ إِلَيْهِمَا مَا كَانَ ذَنْبَهُمَا إِلَيْكَ فَطَالَمَّا ... مَنَحَاكَ مَحْضَ الْوِدِّ مِنْ نَفْسَيْهِمَا كَانَا إِذَا مَا أَبْصَرَا بِكَ عِلَّةً ... جَزَعًا لِمَا تَشْكُوْهُ شَقَّ عَلَيْهِمَا كَانَا إِذَا سَمِعَا أَنِيْنَكَ أَسْبَلاَ ... دَمْعَيْهِمَا أَسَفًا على خَدَّيْهِمَا

ج وَتَمَنَّيَا لَوْ صَادَفَا لَكَ رَاحَةً ... بِجَمِيْعِ مَا يَحْوِيِهِ مُلْكُ يَدَيْهِمَا أَنَسِيْتَ حَقَّهُمَا عَشِيَّةَ أُسْكِنَا ... دَارَ الْبَلا وِسَكَنْتَ فِي دَارَيْهِمَا فَلَتَلْحَقَّهُمَا غَدًا أَوْ بَعْدَهُ ... حَتْمًا كَمَا لَحِقَا هُمَا أَبَوَيْهِمَا وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رضا الله فِي رضا الوالد وسخط الله فِي سخط الوالد» . رواه الترمذي ورجح وقفه وابن حبان فِي صحيحه والحاكم وقالا: صحيح على شرط الشيخين. عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: قدمت عليَّ أمي وهي مشركة فِي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: قدمت عليَّ أمي وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: «نعم صلي أمك» . رواه البخاري ومسلم. قال بعضهم: لَئِنْ كَانَ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ مُقَدَمًا فَمَا يَسْتَوِيْ فِي بِرِّهِ الأبُ وَالأمُ وَهَلْ يَسْتَوِي الْوَضْعَانِ وَضْعُ مَشَقَةٍ وَوَضْعُ التِّذَاذٍ ذَاكَ بُرْءٌ وَذَا سُقْمُ إِذَا التَّفَتَتْ نَحْوَ السَّمَاءِ بِطَرْفِهَا فَكُنْ حَذِرًا مِنْ أَنْ يُصِبْ قَلْبَكَ السَّهْمُ وَفِي آيَةِ التَّأْفِيفِ لِلْحُرِّ مُقْنِعٌ وَلَكِنَّهُ مَا كُلُّ عَبْدٍ لَهُ فَهْمُ وروى وهب بن منبه فِي حديث طويل أن فتى كان برًا بوالديه وكان يحتطب على ظهره فإذا باعه تصدق بثلثه وأعطى أمه ثلثه، وأبقى لنفسه

ثلثه، فقالت له أمه: إني ورثت من أبيك بقرة فتركتها فِي البقر على اسم الله، فإذا أتيت البقر فادعها باسم إله إبراهيم. فذهب فصاح بها، فأقبلت فانطقها الله، فقالت: اركبني يا فتى. فقال الفتى: إن أمي لَمْ تأمرني بهذا فقالت: أيها البر بأمه لو ركبتني لَمْ تقدر عليّ فانطلق فلو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله معك لانقلع لبرك بأمك. فلما جاء بها قالت أمه: بعها بثلاثة دنانير على رضىً مني فبعث الله ملكًا فقال: بكم هذه؟ قال بثلاثة دنانير على رضىً من أمي، قال: لك ستة ولا تستأمرها، فأبى وعاد إِلَى أمه فأخبرها فقال: بعها بستة على رضىً مني، فجاء الملك فقال: خذ اثني عشر ولا تستأمرها فأبى وعاد إِلَى أمه فأخبرها فقالت: يا بني ذاك ملك فقل له: بكم تأمرني أن أبيعها؟ فجاء إليه فقال: يا فتى يشتري بقرتك هذه موسى بن عمران لقتيل يقتل فِي بني إسرائيل. وفي رواية فقال له الملك: اذهب إِلَى أمك وقل لها امسكي هذه البقرة فإن موسى بن عمران عليه السلام يشتريها منك لقتيل يقتل فِي بني إسرائيل فلا تبعها إلا بملء مسكها دنانير فأمسكها وقدر الله على بني إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها فما زالوا يستوصفونها حتى وصفت لهم تلك البقرة مكافأة على بره بوالدته فضلاً من الله ورحمة. وعن أسير بن جابر رضي الله عنهما قال: كان عمر رضي الله عنه إذ أتى أمراء اليمن سألهم أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى عليه

فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم. قال: من مراد ثم من قرن؟ قال: نعم. قال: فكان بك برص فبرأت مِنْه إلا موضع درهم؟ قال: نعم. قال: لك والدة؟ قال: نعم. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرئ مِنْه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل» . فاستغفر لي، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة. قال ألا أكتب لك إِلَى عاملها؟ قال: أكون فِي غبراء الناس أحب إلي. فانظر المنزلة التي بلغها هذا البار بأمه حتى كان من شأنه أن يخبر عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم وأن يقول لعمر: إن استطعت أن يستغفر لك فافعل إذا أتى» . ثم حرص عمر رضي الله عنه على السؤال عن أويس ليطلب مِنْه الاستغفار له. رأى ابن عمر رضي الله عنهما رجلاً قَدْ حمل أمه على رقبته وهو يطوف بها حول الكعبة فقال: يا ابن عمر أتراني جازيتها؟ قال: ولا بطلقة واحدة من طلقاتها ولكن أحسنت والله يثيبك على القليل كثيرًا. وأخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إِلَى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم قال رجل مِنْهم:

اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً فنأى بي طلب الشجر يومًا فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا مَا نحن فيه من هذه الصخرة. فانفرجت شيئًا لا يستطيعون الخروج معه قال الآخر: اللهم كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إليّ فأردتها على نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل أن تفض الخاتم إلا بحقه فتحرجت من الوقوع عليها. فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليّ، وتركت الذهب الذي أعطيتها. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا مَا نحن فيه فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج مِنْها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وقال الثالث: اللهم استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت مِنْه الأموال فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أد إلّي أجري فقلت: كل مَا ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي فقلت: إني لا استهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك مِنْه شيئًا. اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا مَا نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون» . والشاهد من الحديث لما نحن فيه قصة الأول الذي هو البار بوالديه.

قال بعضهم: لأمِّكَ حَقٌّ لَوْ عَلِمْتَ كَبِيْرُ كَثِيْرُكَ يَا هَذَا لَدَيْهِ يَسِيْرُ فَكَمْ لَيْلَةٍ بَاتَتْ بِثُقْلِكَ تَشْتَكِي لَهَا مِنْ جَوَاهَا أَنَّهُ وَزَفِيرُ وَفِي الْوَضْعِ لَوْ تَدْرِي عَلَيْكَ مَشَقَّةٌ فَكَمْ غُصَصٍ مِنْهَا الْفُؤَادُ يَطِيرُ وَكَمْ غَسَّلَتْ عَنْكَ الأذَى بِيَمِينِهَا وَمِنْ ثَدْيِهَا شُرْبٌ لَدَيْكَ نَمِيرُ وَكَمْ مَرَّةٍ جَاعَتْ وَأَعْطَتْكَ قُوْتِهَا حُنُوًّا وَإِشْفَاقًا وَأَنْتَ صَغِيرُ فَضَيَّعْتَهَا لَمَّا أَسَنَّتْ جَهَالَةً وَطَالَ عَلَيْكَ الأَمْرُ وَهُوَ قَصِيرُ فَآهًا لِذِيْ عَقْلٍ وَيَتَّبِعُ الْهَوَى وَوَاهًا لأَعْمَى الْقَلْبِ وَهُوَ بَصِيرُ فَدُوْنَكَ فَارْغَبْ فِي عَمِيْمِ دَعَائِهَا فَأَنْتَ لِمَا تَدْعُوْ إِلَيْهِ فِقِيرُ اللهم علمنا مَا ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ولا تجعل علمنا وبالاً علينا اللهم قوي معرفتنا بك وبأسمائك وصفاتك ونور بصائرنا وتمعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا يا رب العالمين واغفر لنا لوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

بر الوالدين حتى بعد موتهما، من آثار البر

(فَصْلٌ) وليس بر الوالدين مقصورًا على الحياة فقط فقد ورد عن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما. قال: «نعم الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما» . رواه أبو داود وابن حبان فِي صحيحه، وزاد فِي آخره، قال الرجل: ما أكثر هذا يا رسول الله وأطيبه. قال: «فاعمل به» . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً من الأعراب لقيه بطريق مكة فسلم عليه عبد الله بن عمر وحمله على حمار كان يركبه وأعطاه عمامة كانت على رأسه، قال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك الله إنهم الأعراب وهو يرضون باليسير فقال عبد الله بن عمر: إن أبا هذا كان وُدًّا لعمر بن الخطاب وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه» . رواه مسلم. وعن أبي بردة قال: قدمت المدينة فأتاني عبد الله بن عمر فقال: أتدري لَمْ أتيتك؟ قال: قلت لا. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أحب أن يصل أباه فِي قبره فليصل إخوان أبيه بعده» . وإنه كان بين عمر وبين أبيك إخاء وود فأحببت أن أصل ذاك. رواه ابن حبان فِي صحيحه. وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دخلت

من حقوق الوالدين ويليه موعظة بليغة في البر

الجنة فسمعت فيها قراءة فقلت: من هذا؟ قالوا: حارثة بن النعمان كذلكم البر كذلكم البر» . وكان أبر الناس بأمه. رواه فِي شرح السنة والبيهقي فِي الشعب شعب الإيمان. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح مطيعًا لله فِي والديه أصبح له بابان مفتوحان من الجنة وإن كان واحدًا فواحدًا ومن أمسى عاصيًا لله فِي والديه أصبح له بابان مفتوحان من النار وإن كان واحدًا فواحدٌ» . قال رجل: وإن ظلماه؟ قال: «وإن ظلماه وإن ظلماه وإن ظلماه» . وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَا من ولد بار ينظر إِلَى والديه نظر رحمة إلا كتب له بكل نظرة حجة مبرورة» . قالوا: وإن نظر كل يوم مائة مرة؟ قال: «نعم الله أكبر وأطيب» . رواهما البيهقي فِي شعب الإيمان (فوائد) . ولما ماتت أم إياس الذكي القاضي المشهور بكى عليها فقيل له فِي ذلك فقال: كان لي بابان مفتوحان إِلَى الجنة فغلق أحدهما وكان رجل من المتعبدين يقبل كل يوم قدم أمه فأبطأ يومًا على أصحابه فسألوه فقال: كنت أتمرغ فِي رياض الجنة، فقد بلغنا أن الجنة تحت أقدام الأمهات. وقيل لعلي بن الحسين: إنك من أبر الناس ولا تأكل مع أمك فِي صحفة فقال: أخاف أن تسبق يدي يدها إِلَى مَا تسبق إليه عيناها فأكون قَدْ عققتها. ويا للأسف نحن فِي جيل أكثر أهله لا يرى للوالدين حقًّا بل يستهين بهما وينتقصهما وربما شتمها أو مَا هو أعظم من ذلك من فلذلك

قصيدة في بعض ما أسديا إلى الوالدين من المعروف

إذا رأيت الوالدين فِي هذا الوقت المظلم ورأيت خدمتها لولدهما رحمتها وربما ذرفت عيناك وتألم قلبك. وتجد هذا المخدوم ربما أنه لا يصلي أصلاً أو لا يشهد الجماعة أو من أهل الفساد والأسكار وشرب الدخان أو ممن يشتبه باليهود والنصارى والمجوس بحلق لحيته أو يجعل خنافس أو تواليت أو ممن يعكف عند المحرمات والملاهي وسائر المنكرات طوال ليله عبد فم وفرج. شِعْرًا: هَذَا الزَّمَانُ الذِّيْ كُنَّا نُحَاذِرُهُ فِي قَوْلِ كَعْبٍ وَفِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُوْدِ دَهْرٌ بِهِ الْحَقُّ مَرْدُوْدٌ بِأَجْمَعِِهِ وِالظُّلْمُ وَالْبَغْيُ فِيهِ غَيْرُ مَرْدُوْدِ إِنْ دَامَ هَذَا وَلَمْ يَحْدُثْ لَهُ غَيْرٌ لَمْ يُبْكِ مَيْتٌ وَلِمْ يَفْرَحْ بِمَوْلُوْدِ آخر: ... إِلَى اللهِ أَشْكُوْ وِحْدَتِي فِي مَصَائِبِي وَهَذَا زَمَانُ الصَّبْرِ لَوْ كُنْتَ حَازِمَا عَلَيْكَ بِالاسْتِرْجَاعِ إِنَّكَ فَاقِدٌ حَيَاةَ الْعُلَى وَابْغِ السُّلُوَّ مُنَادِمَا قال أحمد رضي الله عنه: بر الوالدين كفارة الكبائر وكذا ذكر ابن عبد البر عن مكحول، ويشهد لهذا مَا رواه الترمذي واللفظ له وابن حبان فِي صحيحه والحاكم وصححه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إني أذنبت ذنبًا عظيمًا فهل لي

من توبة؟ فقال: «هل لك من أم» . وفي رواية ابن حبان والحاكم «هل لك والدان» ؟ قال: لا. قال: «فهل لك من خالة» . قال: نعم، قال: «فبرها» . ومن الفوائد أن أبا هريرة رأى رجلاً يمشي خلف رجل فقال: من هذا؟ قال: أبي قال: لا تدعه باسمه، ولا تجلس قبله، ولا تمشي أمامه. وذكر فِي الحديث فِي تفسير قوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} عنه صلى الله عليه وسلم قال: «المصاحبة بالمعروف أن يطعمهما إذا جاعا ويكسوهما إذا عريا» . ومن حقوقهما خدمتهما إذا احتاجا أو أحدهما على خدمة وإجابة دعوتهما، وامتثال أمرهما مَا لَمْ يكن معصية لله فلا طاعة لمخلوق فِي معصية الخالق. ومن حقوقهما التكلم معهما باللين واللطف، ومن ذلك أن لا يدعوهما باسمهما، وأن يمشي خلفهما، وأن يدعو الله لهما بالمغفرة والرحمة. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم. (موعظة) عباد الله أحسنوا إِلَى الوالدين مَا أمكن لكم الإحسان، وإن حسبتم أنكم كافأتموهم فِي ذلك الإحسان، وكنوا معهما فِي غاية الأدب والاحترام، واحذروا سوء الأدب عندهما وإلا هويتم فِي هوة شقاء مَا لها من قرار وكونوا معهما فِي إجلال واحترام، وتقدير تام وإن حصل منهما لك ظلم. لأنهما اللذان لولا الله ثم لولاهما لَمْ تخرج على هذا الوجود ولأنهما اللذان سخرهما الله لك فصبرًا على مَا رأيا من الأهوال، وسخرهما لتربيتك والعناية بك فِي هذه الحياة. تذكر زمن حمل أمك

بك وأنت فِي بطنها علة من أكبر العلل، وتذكر وقت أن كانت تلدك وهي مما بها من الأحياء ولا من الأموات وتذكر مَا خرج عقب ولادتك من النزيف الدم الذي هو نفسها. وتذكر أنك تمص دمها مدة الرضاع، وسرورها بك تقصر عن شرحه العبارات. وتذكر تنظيفها لبدنك وملابسك من الأقذار، وتذكر فزعها عندما يعتريك خوف أو مرض أو نحو ذلك، وتذكر دفاعها عنك إذا اعتدى عليك معتدي. وتذكر حرصها الشديد على أن تعيش لها ولو حرمت لذة الطعام والشراب وتذكر سهرها عليك عندما يؤلمك شيء من جسدك، وتذكر كد والدك عليك فِي تحصيل مَا به تحيا بإذن الله، لا يهدؤ عن ذلك والدك مدى الليالي والأيام، وكلما خشِيَ أن تجوع تقحم الشدائد وهام على وجهه في الدنيا لا يرده إلا يرده إلا أن يراك فِي يسارٍ. وتذكر عنايته بك فِي تعليمك وتوجيهك إِلَى مَا فيه صلاح دينك ودنياك وتذكر حياطته ونصحه لك ومقاسات الشدائد لراحتك، وتذكر فرحه واستبشاره بمحبتك ونجاحك، وتذكر دفاعه عنك بيده ولسانه، وتذكر دعاءه لك فِي مظنة أوقات الإجابة أن يصلحك الله ويوفقك. وتذكر قلقهما والأدلاج فِي البحث عنك إذا تأخرت عن وقت المجيء، وتأمل وتذكر بشاشتها فيمن يعز عليك لسرورهما بما يسرك، من أجل ذلك أكد الله وشدد عليك بالوصية بهما. وأخبر نبينا صلى الله عليه وسلم أنهما جنتك ونارك، وقدم برهما

على الجهاد، ودعا أن يرغم أنف من أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخل الجنة، وأخبر بأكبر الكبائر فذكر عقوقهما بعد الإشراك بالله. شِعْرًا: فَكَمْ وَلَدٍ لِلْوَالِدَيْنِ مُضَيَّعٌ يُجَازِيْهِمَا بُخْلاً بِمَا نَحْلاهُ طَوَى عَنْهُمَا الْقُوتَ الزَّهِيدَ نَفَاسَةً وَجَرَّاهُ سَارَا الْحُزْنَ وَارْتَحَلاهُ وَلامَهُمَا عَنْ فَرْطِ حُبِّهِمَا لَهُ وَفِي بُغْضِهِ إِيَاهُمَا عَذْلاهُ أَسَاءَ فَلَمْ يَعْدِلْهُمَا بِشِرَاكِهِ وَكَانَا بِأَنْوَارِ الدُّجَى عَدَلاهُ يُعِيْرُهُمَا طَرَفًا مِنْ الْغَيْظِ شَافِنًا كَأَنَّهُمَا فِي مَا مَضَى تَبِلاهُ يَنَامُ إِذَا مَا ادْنَفَا وَإِذَا سَرَى لَهُ الشَّكُوْبَاتَ الْغُمْضَ مَا اكْتَحَلاهُ إِن ادَّعَيَا فِي وُدِّهِ الْجُهْدَ صُدِّقَا وَمَا اتُّهِمَا فِيْهِ فَيَنْتَحِلاهُ يَغُشُّهُمَا فِي الأَمْرِ هَانَ وَطَالَمَا أَفَاءَا عَلَيْهِ النُّصْحَ وَانْتَحَلاهُ يَسُرُّهُمَا أَنْ يَهْجُرَ الْقَبْرَ دَهْرَهُ وَأَنَّهُمَا مِنْ قَبْلِهِ نَزَلاهُ

فصل في تحريم العقوق، نماذج من العقوق

وَلَوْ بِمُشَارِ الْعَيْنِ يُوْحِيْ إِلَيْهِمَا لَوْ شَكْ اعْتِزَالِ الْعَيْشِ لاعْتَزَلاهُ يَوَدَّانِ إِكْرَامًا لَوْ انْتَعَلَ السُّهَا وَإِنْ حَذِيَا السَّلاءَ وَانْتَعَلاهُ يَذُمُّ لِفَرْطِ الْغَيِّ مَا فَعَلا بِهِ وَأَحْسِنْ وَأَجْمِلْ بِالذِّي فَعَلاهُ يَعُدَّانِهِ كَالصَّارِمِ الْعَضْبِ فِي الْعِدَا بِظَنِّهِمَا وَالذَّابِلَ اعْتَقَلاهُ وَيُؤْثِرُ فِي السِّرِّ الْكَنِينِ سَوَاءَهُ فَيَنْقُلُهُ عَنْهُ وَمَا نَقَلاهُ اللهم اعصمنا عن المعاصي والزلات ووفقنا للعمل بالباقيات الصالحات واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء مِنْهُمْ والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) في تحريم العقوق اعلم وفقنا الله وإياك لما يحبه ويرضاه، وجنبنا وإياك متا يسخطه ولا يرضاه، أن العقوق من كبائر الذنوب وحده بعضهم بأنه صدور مَا يتأذى به الوالد من قول أو فعل. وقال بعضهم: ضابط العقوق هو أن يحصل للوالدين أو لأحدهما إيذاء ليس بالهين عرفًا فسبهما وعصيانهما والتلكؤ فِي قضاء شؤونهما،

ومد اليد بالسوء إليهما، ولعنهما وغيبتهما، والكذب عليهما. كل ذلك عقوق ونكران للجميل، وكذلك نهرهما وقهرهما وتوبيخهما والتأفف منهما والدعاء عليهما، كقوله: أراحنا الله مِنْه، أو أخذه الله أو عجل الله بزوالكم والتكبر عليهما. فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شر الناس، ثلاثة متكبر على والديه يحقرهما، ورجل سعى بين الناس بالكذب حتى يتباغضوا، ورجل سعى بين رجل وامرأته بالكذب حتى يغيره عليها بغير حق حتى فرق بينهما ثم يخلفه عليها من بعد» . رواه أبو نعيم. وأخرج البخاري فِي الأدب المفرد قال: حدثنا زياد بن مخراق قال: حدثني طيسلة بن مياس قال: كنت مع النجدات فأصبت ذنوبًا لا أراها إلا من الكبائر فذكر ذلك لابن عمر قال: مَا هي؟ قلت: كذا وكذا. قال: ليس هذه الكبائر هن تسع: الإشراك بالله، وقتل نسمة، والفرار من الزحف، وقذف المحصنة، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم وإلحاد فِي المسجد، والذي يستسخر، وبكاء الوالدين من العقوق، قال لي ابن عمر: أتفر من النار وتحب أن تدخل الجنة؟ قلت: أي والله. قال: أحي والداك؟ قلت: عندي أمي، قال: فوالله لو ألنت لها الكلام، وأطعمتها الطعام، لتدخلن الجنة مَا اجتنبت الكبائر. وأخرج فيه أيضًا قال: حدثنا موسى حدثنا حماد بن سلمة عن زياد بن مخراق عن طيسلة: أنه سمع ابن عمر يقول: بكاء الوالدين من العقوق والكبائر.

وبعض الناس لا يكتفي بالتقصير فِي الواجب فِي حق أبويه بل يسمع والديه مَا يسوؤهما، وتضيق به صدورهما، وينكد عليهما معيشتهما، فتجد الوالد يكره معه الحياة، ويتمنى لأجله أنه لَمْ يكن له ولد وربما تمنى أنه كان عقيمَا. فكلام الابن العاق تئن له الفضيلة، ويبكي له المروءة، وتأباه الديانة، ولا يرضى به العاقل فضلاً عن المتدين، لأن فعله منكر عظيم، وَقَدْ لا يسب العاق أباه مباشرة، ولكن يسب أبا هذا وأم هذا، فيسبون أمه وأباه، ويصبون على والديه من اللعنات أضعاف مَا صدر مِنْه، والبادي هو الظالم وما أكثر السب والشتم واللعن فِي وقتنا هذا، وما أسهله عندهم. وما أكثر الاحتقار للآباء والأمهات فِي البيوت والأسواق وفي كل محل، ونسأل الله العافية. ومما جاء فِي العقوق وجرمه وقبحه وإثمه مَا رواه البخاري وغيره عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال» . وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر» ؟ ثلاثًا قلنا: بلى يا رسول الله. قال: «الإشراك بالله وعقوق الوالدين» . وكان متكئًا فجلس فقال: «ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور» . فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت.

قصيدة في مدح رب العزة والثناء عليه

وللبخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس، واليمين الغموس» . وللبخاري ومسلم والترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر فقال: الشرك بالله وعقوق الوالدين» . متفق عليه. شِعْرًا: إلى اللهِ أُهْدِي مِدْحَتِيْ وَثَنَائِيَا وَقَوْلاً رَصِينَا لا يَنَيْ الدَّهْرَ بَاقِيَا إلى اِلمَلِكِ الأَعَلَى الذي لَيْسَ فَوْقَهُ إِلهٌ ولا رَبٌ يَكُوْنُ مُدَانِيا ألا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِيَّاكَ والرَّدَى فَإِنَّكَ لاَ تَخْفَى مِنْ اللهِ خَافِيا وَإِيَّاكَ لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ غَيْرَهُ فَإِنَّ سَبِيلَ الرُّشْدِ أَصْبَحَ بَادِيَا إلى أن قال: وَأَنْتَ الذِي مِنْ فََضْلِ مَنٍّ وَرَحْمَةٍ بَعَثْتَ إِلَى مُوسَى رَسُولاً مُنَادِيَا فَقَلْتَ لَهُ فَاذْهَبْ وَهَارُونَ فَادْعُوا إلى اللهِ فَرْعَوْنُ الَّذِي كَانَ طَاغِيَا وَقُولاَ لَهُ أَأَنْتَ سَوَّيْتَ هَذِهِ بِلاِ وَتَدٍ حَتَّى اطَمَأنَّتْ كَمَا هِيَا

وَقُولاَ لَهُ أَأَنْتَ رَفَعْتَ هَذه بِلاَ عَمَدٍ أرْفُقْ إِذَا تَكُ بَانِيَا وَقُولاَ لَهُ أَأَنْتَ سَوَّيْتَ وَسْطَهَا مُنِيرًا إِذَا مَا جَنَّهُ اللَّيْلَ هَادِيَا وَقُولاَ لَهُ مَنْ يُرْسِلُ الشَّمْسَ غَدْوَةً فَيُصْبِحُ مَا مَسَّتْ مِنْ الأَرْضَ ضَاحِيَا وَقُولاَ لَهُ مَنْ يَنْبِتُ الحَبَّ فِي الثَّرَى فَيُصْبِحَ مِنْه البَقْلُ يَهْتَزُّ رَابِيَا وَيُخْرِجُ مِنْه حَبَّهُ فِي رُؤُسِه فَفِي ذَاكْ آيَاتُ لِمنْ كَانَ وَاعِيا وَأَنْتَ بِفَضَلِ مِنْكَ نَجَّيْتَ يُونُسَا وَقَدْ بَاتَ فِي بَطْنِ لِحُوتِ لَيَالِيَا اللهم إنا نسألك الثبات فِي الأمر والعزيمة على الرشد ونسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك ونسألك أن تغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم الذي كتبه إِلَى أهل اليمن وبعث به مع عمرو بن حزم «وأن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة الإشراك بالله وقتل النفس المؤمنة بغير حق والفرار فِي سبيل الله يوم الزحف وعقوق الوالدين، ورمي المحصنة وتعلم السحر، وأكل الربا،

أحاديث في التحذير عن العقوق

وأكل مال اليتيم» . الحديث رواه ابن حبان فِي صحيحه. وأخرج النسائي والبزار واللفظ له بإسناد جيدين والحاكم وقال: صحيح الإسناد عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق لوالديه ومدمن الخمر، والمنان عطاؤه وثلاثة لا يدخلون الجنة العاق لوالديه والديوث والرجلة من النساء» . وأخرج أحمد واللفظ له والنسائي والبزار والحاكم وقال: صحيح الإسناد عن عبد الله ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة حرم الله تبارك وتعالى عليهم الجنة مدمن الخمر والعاق، والديوث الذي يقر الخبث فِي أهله» . وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يقبل الله عز وجل مِنْهُمْ صرفًا ولا عدلا، عاق ومنان ومكذب بقدر» . رواه ابن أبي عاصم فِي كتب السنة بإسناد حسن. وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا ينفع معهن عمل الشرك بالله وعقوق الوالدين والفرار من الزحف» . رواه الطبراني فِي الكبير. وعن عمرو بن مرة الجهني قال: جاء رجل إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إذا صليت الصلوات الخمس وصمت رمضان، وأديت الزكاة، وحججت البيت، فماذا لي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من فعل ذلك كان مع

النبيين والصديقين والشهداء والصالحين إلا أن يعق والديه» . رواه أحمد والطبراني بإسنادين أحدهما صحيح ورواه ابن خزيمة وابن حبان فِي صحيحهما. وعن علي عليه رضوان الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من ذبح لغير الله ثم تولى غير مولاه، ولعن الله العاق لوالديه، ولعن الله من نقص منار الأرض» . رواه الحاكم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله سبعة من فوق سبع سمواته وردد اللعنة على واحد مِنْهُمْ ثلاثًا ولعن كل واحد مِنْهُمْ لعنة تكفيه، قال: ملعون من عمل عمَل قوم لوط، ملعون من عمل عمَل قوم لوط، ملعون من عمَل قوم لوط، ملعون من ذبح لغير الله ملعون من عق والديه، ملعون من أتى شيئًا من البهائم، ملعون من جمع بين امرأة وابنتها، ملعون من غير حدود الأرض ملعون من ادعى إِلَى غير مواليه» . رواه الطبراني فِي الأوسط ورجاله رجال الصحيح إلا محرز ويقال محرر بالإهمال ابن هارون أخي محرر، وقال: صحيح الإسناد. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقبل صلاة الساخط عليه أبواه غير ظالمين له» . رواه أبو الحسن ابن معروف فِي كتاب فضائل بني هاشم. وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه

وسلم: «كل الذنوب يؤخر الله مِنْهَا مَا شاء إِلَى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين، فإن الله يعجله لصاحبه فِي الحياة قبل الممات» . رواه البخاري فِي الأدب المفرد والطبراني فِي الكبير والحاكم فِي المستدرك والأصبهاني فِي الترغيب. وذكر أن شابًا كان مكبًا على اللهو واللعب، لا يفيق عنه، وكان له والد صاحب دين كثيرًا مَا يعظ هذا الابن ويقول له: يا بني احذر هفوات الشباب وعثراته فإن لله سطوات ونقمات مَا هي من الظالمين ببعيد، وكان إذا ألح عليه زاد فِي العقوق، وجار على أبيه، ولما كان يوم من الأيام ألح على ابنه بالنصح على عادته، فمد الولد يده على أبيه، فحلف الأب بالله مجتهدًا ليأتين بيت الله الحرام، فيتعلق بأستار الكعبة، ويدعو على ولده فخرج حتى انتهى إِلَى البيت الحرام فتعلق بأستار الكعبة وانشأ يقول: يَا مَنْ إِلَيْهِ أَتَى الحُجَّاجُ قَدْ قَطَعُوا عَرْضَ المَهَامِهِ مِنْ قُرْبٍ وَمِنْ بُعُدِ إنِّي أَتَيْتُكَ يَا مَنْ لا يُخَيِّبُ مَنْ يَدْعُوهُ مُبْتَهِلاً بالوَاحِدِ الصَّمدِ هَذَا مُنَازِلُ لاَ يَرْتَدُّ مِنْ عَقَقِي فَخُذْ بِحَقِي يَا رَحْمَنُ مِنْ وَلَدِي وَشُلَّ مِنْه بِحَوْلٍ مِنْكَ جَانِبُهُ يَا مَنْ تَقَدَّسَ لَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَلِدِ وقيل: إنه استتم كلامه حتى يبس شق ولده الأيمن. نعوذ بالله

من العقوق، ومن قساوة القلوب، ومن جميع المعاصي والذنوب وكان يقال: كدر العيش فِي ثلاث الولد العاق والجار السوء والمرأة السيئة الخلق لأنك لا تنفك فِي عناء وشغب وتعب فإن سكن العاق برهة من الزمن مَا سكن الجار السوء وأهله وأولاده وإن سكنا لَمْ تسكن العلة الداخلية المرأة السوء سيئة الخلق فأنت فِي هذه الحال غرض لثلاثة سهام موجهة إليك فِي أربع وعشرين ساعة نسال الله العافية مِنْها. وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر كلمات «لا تشرك بالله شيئًا وإن قتلت وحرقت، ولا تعقن والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك ولا تتركن صلاة متكوبة متعمدًا فإن من ترك صلاة متكوبة متعمدًا فقد برئت مِنْه ذمة الله، ولا تشربن الخمر فإنه رأس كل فاحشة، وإياك والمعصية فإن المعصية يحل سخط الله، وإياك والفرار من الزحف وإن هلك الناس وإذا أصاب الناس موت، وأنت فيهم فاثبت. وأنفق على عيالك من طولك، ولا ترفع عنهم عصاك أدبًا وأخفهم فِي الله» . رواه أحمد والطبراني فِي الكبير وإسناد أحمد صحيح إلا أن فيه انقطاعًا لأنه من رواية عبد الرحمن ابن جبير عن معاذ وهو لَمْ يسمع مِنْه. وعن عمرو بن ميمون قال: رأى موسى عليه السلام رجلاً عند العرش فغبطه بمكانه فسأل عنه، فقالوا: نخبرك بعمله، لا يحسد الناس على مَا آتاهم الله من فضله، ولا يمشي بالنميمة، ولا يعق والديه، قال: أي رب ومن يعق والديه؟ قال: يتسبب لهما حتى يسبا. رواه أحمد فِي الزهد. شِعْرًا: صَافِي الكَرْيَمِ فَخَيْرُ مَنْ صَافَيْتَهُ ... مَنْ كان ذا دَاينٍ وكان عَفِيفَا

احتقار الوالدين عند كثير من أهل هذا الزمان ولاسيما الشباب

وَاحْذَرْ مُؤاخَاةَ اللَّئْيمِ فإنَّهُ ... يُبْدي الَقبِيحَ وَيُنِكّرُ المَعْرُوفَا آخر: ... تَمسَّكْ بَوَصْلِ الْمُمْسِكِ الدِّينِ واجْتَنِبْ ... وصَالَ سِوَاهُ مِنْ قَرِيبٍ وشاسِعِ فَذُو الدِّينِ أَدْنَى النَاسِ مِنْكَ قَرابةً ... فَصِلْهُ فَمَا وَصْلُ البَعِيدِ بِضَائعِ آخر: ... أَخُو الفِسْقِ لا يَغْرُرْكَ مِنْه تَوَدُدٌ ... فَكُلُ حِبَالُ الفاسِقِينَ مَهِينُ وَصَاحِبْ إِذَا مَا كُنْتَ يَوْمًا مُصَاحبًا ... أَخَا الدِينِ مِن بالغِيْبِ مِنْكَ أَمِينُ آخر: ... وَلَيْسَ خَلِيلِي بالملُولِ ولا الَّذِي ... إِذَا غِبْتُ عَنْهُ باعَنِي بِخَلِيلِ ولكنْ خَلِيلِي مَنْ يِدُومُ وِصَالُهُ ... وَيَحْفَظُ سِرِّي عندْ كُلِّ خَلِيلِ آخر: ... يَمْضِي أَخُوكَ فلا تَلْقَى لَهُ عِوَضٌ ... والمالُ بَعْدَ ذَهَابِ المالِ يُكْتَسَبُ اللهم نجنا برحمتك من النار وعافنا من دار الخزي والبوار وأدخلنا بفضلك الجنة دار القرار وعاملنا بكرمك وجودك يا كريم يا غفار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء مِنْهُمْ والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) وفيما ذكرنا من الأدلة على تحريم العقوق كفاية ولو لَمْ يكن للعاق من العقوق إلا مَا يرى من سوء حاله لكفى فإنك تراه غالبًا فِي أبأس الحالات وآلامها وأشدها وتراهم بعيدين عن عطف القلوب عند من علموا حالهم

لا يحنو عليهم صديق ولا شفيق ولا قريب، ولا يأخذ بيدهم كريم فِي كربة، ولا يرغبون فِي مصاهرته خشية أن يجذبوا أولادهم فيكونوا مثلهم عاقين. بخلاف البارين فإنك تراهم ونراهم محببين إِلَى القلوب يتمنى كل من يعرفهم ويفهم برهم وصلتهم أن يتقدم إليهم بما يحبون وتجدهم إذا وقعوا فِي شدة يترحم الناس عليهم، ويدعون لهم بالخروج مِنْهَا على أيسر الأحوال وأقربها، هذا حالهم فِي الدنيا التي ليست هي دار الجزاء فكيف فِي الآخرة دار الجزاء؟ ومن أقبح مظاهر العقوق أن يتبرأ الولد من والديه حين يرتفع مستواه الاجتماعي عنهما كأن يكونا فلاحين أو نجارين أو صناعيين وهو يعيش فِي ترف ويتسنم بعض الوظائف الكبار فيخجل من وجودهما فِي بيته عند زملائه برثاثتها وزيهما القديم. وربما سئل بعضهم عن أبيه من هذا الذي يباشر فقال: هذا خادم عندنا مستأجر لشئون البيت لأنه يتوهم أن هذه الهيئة واللباس تتنافى مع وظيفته أو مقامه الاجتماعي الكبير وهذا بلا شك برهان على سخافة عقله وقلة دينه والنفس العظيمة الشريفة تفتخر وتعتز بمنيتها وأصلها أبيها وأمها مهما كانت حياتهما ونشأتهما وبيئتهما وهيئتهما. ولا يبعد أن يوجد من النساء اللاتي يقال لهن متعلمات إذا سئلت عن أمها من هذه أن تقول هذه فراشة عندنا أو طباخة أو خدامة نعوذ بالله من الانتكاس وعمى البصيرة ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. وذكر بعضهم أن رجلاً كان من المياسير بالبصرة يتمنى أن يرزق ولدًا،

وبعد ذلك قصيدة حول ذلك

وينذر عليه حتى ولد له فسر به غاية السرور وأحسن تربيته حتى ارتفع عن مبلغ الأطفال إِلَى حد الرجال، ولم يهمه شيء من أمر الدنيا سوى هذا الولد ولم يؤخر ممكنا من الإحسان عنه، فلم يشعر الأب ذات يوم إلا بخنجر خالط جوفه من وراء ظهره. فاستغاث بابنه مرتين فلم يجبه، فالتفت فإذا هو صاحب الضربة فقال الشيخ وهو يضرب من الألم: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أستغفر الله، صدق الله أراد بالتهليل أن يلقى الله بالإيمان. وأراد بالاستغفار أن الله تعالى حذره فلم يحذر من ابنه وبقوله: صدق الله قوله تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} فجمع فِي هذه الكلمات كل مَا يحتاج إليه فِي هذه الحال. قال بعضهم ممن تضرر بأقربائه ومعارفه: جَزَى اللهُ عَنَّا خَيْرَ مِن لَيْسَ بَيْنَنَا ... ولا بَيْنَهُ وَدٌ بِهِ نَتَعرَّفُ فما سَامَنَا ضَيْمًا ولا شَفَّنًا أذَى ... مِن الناس إلاَّ مَن نَوَدُّ وَنأْلَفُ آخر: ... أَرَى أَنَّ الشَّدَائِدَ فِيهَا خَيْرٌ ... أَرَى أَنَّ الشَّدَائِدَ فِيهَا خَيْرٌ وَمَا مَدْحِي لَهَا حُبًّا وَلَكِنْ ... عَرَفْتُ بِهَا عَدْوِّي مِن صَدِيقِي أَرَانِي وقَوْمِي فَرَّقَتْنَا مَذَاهِبُ ... وإنْ جَمَعَتْنَا فِي الأَصُوُّل المَنَاسبُ فأقصَاهُمُ أَقصَاهُم عَنْ مَسَاءَتِي ... وَأَقْرَبُهُمْ مِمَّا كَرِهْتَ الأَقَارِبُ نَسِيبُكَ مَن نَاسَبْتَ بالود قَلْبَهُ ... وجَارُكَ مَن صَافَيْتَهُ لاَ المُصَاقِبُ وأعَظَمُ أَعْدَاء الرِّجَالِ ثِقَاتُهَا ... وأَهْونُ مَن عَادَيْتَهُ مِنْ تُحَاربُ وقال آخر: وما زِلْتُ مُذْ نَمَّ العِذَارُ بِوَجْنَتي ... أُفَتِّشُ عن هَذَا الوَرَى وأُكَشِّفُ فَمَا سَاءَنِي إِلاَّ الَّذِينَ عَرَفْتُهُمْ ... جَزَا الله خَيرَا كُلَّ مَن لَيْسَ نَعْرِفُ وقال بعض الآباء الذين ذاقوا عقوق الأولاد لابن له:

.. غَذَوْتُكَ مَوْلُودًا وَعِلْيُكَ يَافِعًا ... تُعَلُّ بِمَا أُدْنِي إِلَيْكَ وَتُنْهَلُ إِذَا لَيْلَةٌ نَابَتْكَ بالسُّقْم لَمْ أَبِتْ ... لِذِكْرِكَ إِلاَّ سَاهِرًا أَتَمَلْمَلُ كَأَنِّي أنَا المَطْرُوقُ دُونْكَ بِالَّذِي ... طُرِقْتَ بِهِ دُونِي وَعَيْنِي تُهْمِلُ تَخافُ الرَّدَى نَفْسِي عَلَيْكَ وَإِنَّهَا ... لَتَعْلَمُ أَنَّ المَوْتَ حَتْمٌ مُؤًَجَّلُ فَلَمَّا بَلَغْتَ السِّنَّ وَالغَايَةَ الَّتِي ... إليَها مَدَى مَا كُنتُ فِيكَ أُؤُمِّلُ جَعَلْتَ جَزَائِي مِنْكَ جَبْهًا وَغِلْظَةً ... كَأَنَكَ أَنْتَ المُنْعِمُ المُتَفَضِّلُ وَسَمْيَّتَنِي بِاسْمِ المُفَنَّدِ رَأَيُه ... وَفِي رَأْيِكَ التَّفْنِيدُ لَوْ كُنْتُ تَعْقِلُ تَراهُ مُعدًّا لِلْخَلافِ كَأَنَّه ... بردٍّ على أَهْلِ الصَّوَابِ مُوَكَّلُ فَلَيْتَكَ إذْ لَمْ تَرْعَ حقَّ أُبُوَّتِي ... فَعَلْتَ كَمَا الجَارُ المُجَاوِرُ يَفْعَلُ فَأَوَلَيْتَنِي حَقَّ الجِوَارِ وَلَمْ تَكُنْ ... عَليَّ بِمَالِي دُونَ مَالَكَ تَبْخَلُ وقال آخر ممن ذاق وتجرع ألم العقوق: يَوَدُ الرَّدَى لِي مِنْ سَفَاهَةِ رَأيهِ ... وَلو مُتُّ بَانتْ لِلعْدُوِّ مَقَاتِلُه إذَا مَا رَآنِي مُقْبِلاً غَضَّ طَرْفَهُ ... كَانَّ شُعَاعَ الشَّمْسِ دُوْنِي يُقَابِلُه (مواعظ وفوائد) رب مسرور مغبون يأكل ويشرب ويضحك وَقَدْ حق له فِي كتاب الله عز وجل أنه من وقود النار. من الغرور ذكر الحسنات ونسيان السيئات. وقال بلال بن سعد: يا أولي الألباب ليتفكر متفكر فيما يبقى له وينفعه. أما مَا وكلكم الله عز وجل به فتضعونه. وأما مَا تكفل لكم به فتطلبونه مَا هكذا نعت الله عباده المؤمنين. أذووا عقول فِي طلب الدنيا ويله عما خلقتم له فكما ترجون الله بما تؤذون من طاعته فكذلك أشفقوا من عذاب الله بما تنتهكون من معاصيه.

فصل في صلة الرحم والحث عليها وبأي شيء تكون

وقال: عباد الله اعلموا أنكم تعملون فِي أيام قصار لأيام طوال، وفي دار زوال لدار مقام، وفي دار نصب وحزن لدار نعيم وخلد. ومن لَمْ يعمل على اليقين فلا يتعن. عباد الله هل جاءكم مخبر يخبركم أن شيئًا من أعمالكم تقبل منكم أو شيئًا من أعمالكم غفر لكم. قال أبو عمرو الأوزعي: ليس ساعة من ساعات الدنيا إلا وهي معروضة على العبد يوم القيامة يومًا فيومَا وساعةً فساعة. ولا تمر به ساعة لَمْ يذكر الله فيها إلا وتقطعت نفسه عليها حسرات فكيف إذا مرت به ساعة مع ساعة ويوم إِلَى يوم لَمْ يذكر الله فيها فيا لها من حسرة ويا لها من ندامة ويا له من أسف وحزن طويل. ابن آدم اعمل عمل رجل لا ينجيه إلا الله ثم عمله، وتوكل رجل لا يصيبه إلا مَا كتبه الله له. شِعْرًا: ومن يُنْفِقِ السَّاعَاتِ فِي غَيرِ طَاعَةٍ ... لِخَالِقِهِ فَهْوَ السَّفيه الْمُضِيِّعُ اللهم يا منور قلوب العارفين، يا قاضي حوائج السائلين يا قابل توبة التائبين ويا مفرجًا عن المكروبين والمغمومين، تب علينا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) فِي صلة الرحم الرحم القرابة، سميت بذلك لأنها داعية التراحم بين الأقرباء وصلة الرحم موجبة لرضا الرب عن العبد وموجبة لثواب الله للعبد فِي الآخرة، وَقَدْ ورد أنها سبب لبسط الرزق وتوسيعه وسبب لطول العمر، وهذه الأشياء من الأمور المحبوبة على العبد.

وذلك حق فإن الله تعالى هو الخالق للأسباب والمسببات، وَقَدْ جعل لكل مطلوب سببًا وطريقًا ينال به، وهذا جار على الأصل الكبير، وأنه من حكمته ورحمته جعل الجزاء من جنس العمل فكما أن الإنسان وصل رحمه بالبر والإحسان، وأدخل على قلوبهم السرور، وصل الله عمره وبسط فِي رزقه ووسعه وفتح له من أبواب الرزق مَا لَمْ يكن له على بال وبارك له. فكم من إنسان وهبه الله قوة فِي جسمه ورزانة فِي عقله ومضاء فِي عزيمته وبركة فِي علمه وعمله كانت حياته حافلة بالأعمال الطيبة، فهذا حياته حياة طويلة وإن كانت فِي الحساب قصيرة، لأن المقياس الحقيقي للحياة المباركة هي جلائل الأعمال، وكثرة الآثار ليس الشهور والأعوام كما قال بعضهم: فَتًى عَاشَ أَعْمَالاً جِسَامًا وَإِنَمَا ... تُقَدَّرُ أَعْمَارُ الرِّجَالِ بِأَعْمَالِ وقال آخر: الْعِلْمُ أَنْفَسُ شَيْءٍ أَنْتَ ذَاخِرُهُ ... مَنْ يَدْرُسُ الْعِلْمَ لَمْ تَدْرُسْ مَفَاخِرُهُ أَقْبِلْ على الْعِلْمُ وَاسْتَقْبِلْ مَبَاحِثَهُ ... فَأَوَّلُ الْعِلْمِ إِقْبَالُ وَآخِرُهُ وانظر إِلَى من مضى من العلماء والمصلحين الذين عاشوا زمنًا قليلا كأنهم لبثوا قرونًا كثيرة لكثرة مَا عملوا وعظم مَا خلفوا بينما ترى آخرين يعيشون زمنًا طويلاً ويذهبون ولا يبقى لهم أثر ولا ذكر كما قيل: كَأَنَّهُمْ قَطُّ مَا كَانُوا وَمَا خُلِقُوا وَمَاتَ ذِكْرُهُمُوا بَيْنَ الْوَرَى وَنُسُوا ومن أسباب البركة فِي العمر والله أعلم التفرغ من الشواغل والشواغب فمن كثرت شواغله، وشواغبه قليل البركة فِي العمر أو معدومها لأنه منع من تصريفه فِي طاعة الله بمتابعة شعواته وملذاته وتحصيل مناه

المراد بصلة الرحم ما هو وبأي شيء تحصل والأدلة تليها حث عليها

من دنياه ومن تفرغ من الشواغل ولم يقبل على طاعة الله فهو أيضًا مخذول ومصروف عن طريقة الاستقامة والهدى ولا بركة فِي عمره. وإذا تأملت أكثر الناس وجدت الذي حبسهم عن طاعة الله والإقبال عليه وتصريف أعمارهم فِي التوجه إليه بأنواع الطاعات هو كثرة أشغالهم فاشتغلت جوارحهم بخدمة الدنيا ليلاً ونهارًا شهورًا وأعوامًا حتى انقرض العمر كله فِي اللهو والبطالة والتقصير. ومن الناس من قلت شواغلهم فِي الظاهر لوجود من قام بها عنهم لكن كثرة علائقهم وتفكراتهم فِي الباطن لكثرة مَا تعلق بهم من الشواغب فهم مستغرقون دائمًا فِي التفكير والتدبير والاختيار والتقديرات والاهتمام بأمور من تعلق بهم من الأنام. لاسيما من كان له جاه ورياسة وخطة أو سياسة فهذا بعيد عن تصريف العمر واستغراقه فِي أنواع طاعة الله والإقبال عليه بقلبه وقالبه والحاصل أن الخير يكون غالبًا بإذن الله فِي التخفيف من الشواغل والعوائق التي تجذبه وتحفظه عن الطاعة إذا هم بها ويكون لا بركة فِي عمره أو قليل البركة فيه. وإنما رتبت البركة فِي العمر على صلة الرحم لأن المرء إذا وصل رحمه أرضى ربه فأجله أقرباؤه واحترموه، فامتلأت نفسه سرورًا وشعر بمكانة عالية من أجل مَا وفقه الله له من صنيعه الذي صنع، والسرور منشط، كما أن الحزن مثبط، والشعور بالتعظيم عن أعمال مجيدة داع للإكثار مِنْهَا، وبذل الجهد فِي سبيلها. وإن لَمْ يفعل لَمْ يحصل له ذلك كما قيل: وَكَيْفَ يَسُودُ الْمَرْءُ مَنْ هُو مِثْلُهُ بِلا مِنْةٍ مِنْه عَلَيْهِ وَلا يَدِ

آخر: ... أَخُو ثِقَةٍ يُسَرُّ بِحُسْنِ حَالِي ... وَإِنْ لَمْ تُدْنِهِ مِنِّي قَرَابَةْ أَحَبُّ إِلَى مِنْ أَلْفَى قَرِيبٍ ... تَبِيْتُ صُدُورُهُمْ لِي مُسْتَرَايَهْ وقال بعض من تضرر بالأقارب: يَقُولُونَ عِزُّ فِي الأقَارِبِ إِنْ دَنَتْ ... وَمَا الْعِزُّ إِلا فِي فُرَاقِ الأقَارِبِ تَرَاهُمْ جَمِيْعًا بَيْنَ حَاسِدِ نِعْمَةٍ ... وَبَيْنَ أَخِي بُغْضٍ وَآخَرَ عَائِبِ وكما أن الصحة وطيب الهواء وطيب الغذاء واستعمال الأمور المقوية للأبدان والقلوب من أسباب طول العمر، فكذلك صلة الرحم جعلها الله سببًا ربانيًا من أسباب طول العمر. قال البلباني: والمراد بصلة الرحم موالاتهم ومحبتهم أكثر من غيرهم لأجل قرابتهم وتأكيد المبادرة إِلَى صلحهم عند عداوتهم والاجتهاد فِي إيصال كفايتهم بطيب نفس عند فقرهم والإسراع إِلَى مساعدتهم ومعاونته عند حاجتهم. ومراعاة جبر قلوبهم مع التعطف والتلطف بهم وتقديمهم فِي إجابة دعوتهم والتواضع معهم فِي غناه وفقرهم وقوته وضعفهم ومداومة مودتهم ونصحهم فِي كل شؤنهم والبداءة بهم فِي الدعوة والضيافة قبل غيرهم وإيثارهم فِي الإحسان والصدقة والهدية على من سواهم لأن الصدقة عليهم صدقة وصلة. وفي معناها الهدية ونحوها ويتأكد فعل ذلك مع الرحم الكاشح المبغض عساه أن يعود ويرجع عن بغض إِلَى مودة قريبة ومحبته انتهى. وفي النهاية: قَدْ تكرر فِي الحديث صلة الرحم وهي كناية عن الإحسان إِلَى الأقربين من ذوي النسب والأصهار، والتعطف عليهم، والرفق بهم والرعاية لأحوالهم وكذلك إن بعدوا وأساءوا، وقطع الرحم ضد ذلك كله. وفي الفتح قال القرطبي: الرحم التي توصل عامة وخاصة فالعامة رحم الدين، وتجب مواصلتها بالتودد والتناصح والعدل والإنصاف

والقيام بالحقوق الواجبة والمستحبة، وأما الرحم الخاصة فتزيد النفقة على القريب، وتفقد أحوالهم، والتغافل عن زلاتهم وتتفاوت مراتب استحقاقهم فِي ذلك كما فِي الحديث الأقرب فالأقرب. آخر: ... مَاذَا عَلَيَّ وَإِنْ كُنْتُمْ ذَوِي رَحمِي ... أَنْ لا أحُبُّكُمُوا إنْ لَمْ تُحِبُونِي لا أَسْأَلُ النَّاسَ عَمَّا فِي ظَمَائِرِهُمْ ... مَا فِي ضَمِيرِي لَهُمْ مِنْ ذَاكَ يَكْفِينِي آخر: ... مِنْ النَّاسِ مَنْ يَغْشَى الأبَاعِدَ نَفَعُّهُ ... وَيَشْقَى بِهِ حَتَى الْمَمَاتِ أَقَارِبُهُ فِإِنْ كَانَ خَيْرًا فَالْبَعِيدُ يَنَالُهُ ... وِإِنْ كَانَ شَرًا فَابْنُ عَمِّكَ صَاحَبُهُ آخر: ... وَإِذَا تَكُونُ كَرِيهَةٌ أُدْعَى لَهَا ... وَإِذَا يُحَاخسِ الْحَيْسُ يُدْعَى جُنْدُبُ هَذَا لَعَمْرُ كُمُوا الصِّغَارُ بِعَيْنِهِ ... لا أُمَّ لِي إِنْ كَانَ ذَاكَ وَلا أَبُ وقال ابن أبي جمرة: تكون صلة الرحم بالمال وبالعون على الحاجة، وبدفع الضرر وبطلاقة الوجه، وبالدعاء، والمعنى الجامع إيصال ما أمكن من الخير ودفع ما أمكن من الشر بحسب الطاقة. وهذا إنما يستمر إذا كان أهل الرحم أهل استقامة فإن كانوا كفارًا أو فجارًا فمقاطعتهم فِي الله هي صلتهم، بشرط بذل الجهد فِي وعظهم ثم إعلامهم إذا أصروا بأن ذلك بسبب تخلفهم عن الحق، ولا يسقط مع ذلك صلتهم بالدعاء لهم بظهر الغيب أن يعودوا على الطريق المثلى. شِعْرًا: ... وَلَقَدْ بَلَوْتُ النَّاسَ ثَمَّ خَبَرْتُهُمْ ... وَعَلِمْتُ مَا مِنْهُمْ مِنْ الأسْبَابِ فَإِذَا الْقَرَابَةُ لا تُقَرِّبُ قَاطِعًا ... وَإِذَا الدِّيَانَةُ أَقْرَبُ الأسْبَابِ ومن اللطائف أن ابن المقري كتب لوالده حين امتنع عن النفقة عليه: لا تَقْطَعَنَّ عَادَةَ بِرٍ وَلا تَجْعَلْ عِتَابَ الْمَرْءِ فِي رِزْقِهِ

التحذير من قطيعة الرحم

فَِإنْ أَمْرَ الإِفْكِ مِنْ مِسْطَحٍ يَحُطُّ قَدْرَ النَّجْمِ مِنْ أُفْقِهِ وَقَدْ جَرَى مِنْهُ الذِّي قَدْ جَرَى وَعُوتِبَ الصَّدِيقُ فِي حَقِّهِ فأجابه والده مبينًا له السبب لذلك المنع: قَدْ يُمْنَعُ الْمُضْطَرُّ مِنْ مَيْتَةٍ إِذَا عَصَى فِي السِّيْرِ فِي طُرْقِهِ لأَنَهُ يَقْوَى على تَوْبَةٍ تُوْجِِبُ إِيْصَالاً إِلَى رِزْقِهِ لَوْ لَمْ يَتُبْ مِنْ ذَنْبِهِ مِسْطَحٌ مَا عُوتِبَ الصَّدِيقُ فِي حَقَّهِ ومما يدخل فِي صلتهم تعهدهم بالتربية والتوجيه حين يكونون صغارًا محتاجين على توجيههم إِلَى الدين الحنيف والأخلاق الفاضلة ومما يدخل المبادرة فِي علاجهم عندما يمرضون وزيارتهم إذا غابوا عنه، وعيادتهم عندما يمرضون، وإشعارهم أنه معهم دائمًا. اللهم هب لنا مَا وهبته لأوليائك وتوفنا وأنت راض عنا وَقَدْ قبلت اليسير منا واجعلنا يا مولانا من عبادك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) وَقَدْ ورد فِي الحث على صلة الرحم والتحذير عن قطيعتها آيات وأحاديث كثيرة، نذكر طرفًا مِنْهَا، قال الله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} أي قرابتك من أبيك وأمك والمراد بحقهم برهم وصلتهم.

صلة الرحم زيادة في العمر بإذن الله ومثراة المال

وقال تعالى: {وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} أي اتقوا الأرحام أن تقطعوها {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} المراد الرحم والقرابة. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت» . وأخرج أبو يعلى بإسناد جيد عن رجل من خثعم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو فِي نفر من أصحابه فقلت: أنت الذي تزعم أنك رسول الله؟ قال: «نعم» . قلت: يا رسول الله أي الأعمال أحب إِلَى الله؟ قال: «الإيمان بالله» . قلت: يا رسول الله ثم مه. قال: «ثم صلة الرحم» . قال: قلت يا رسول الله أي الأعمال أبغض إِلَى الله؟ قال: «الإشراك بالله» . قال: يا رسول الله ثم مه؟ قال: «ثم قطيعة الرحم» . قال: قلت ثم مه قال: «الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف» . وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي أيوب رضي الله عنه أن أعرابًا عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فِي سفر فأخذ بخطام ناقته أو بزمامها ثم قال: يا رسول الله أو يا محمد أخبرني بما يقربني من الجنة ويباعدني من النار، قال: فكف النبي صلى الله عليه وسلم ثم نظر فِي أصحابه ثم قال: «لقد وفق أو لقد هدي» . قال: كيف قلت؟ قال: فأعادها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تعبد الله لا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم» . وفي رواية: «وتصل ذا رحمك» . فلما أدبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن تمسك بما أمرته دخل الجنة» . وأخرجا أيضًا عن عائشة

عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله» . وأخرج أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى خلق خلقًا حتى إذا فرغ مِنْهُمْ قامت الرحم» . زاد رواية البيهقي «فأخذت بحقوَى الرحمن فقال: مه؟ فقالت: هذا مقام العائد بك من القطيعة قال: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى قال فذاك لك» . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرؤوا إن شئتم {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} . وعن أبي هريرة أن رجلاً قال: يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي فقال: «لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل ولا يزال معك من الله ظهيرًا عليهم مل دمت على ذلك» . رواه مسلم. وعن أنس قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. فلما نزلت هذه الآية {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} قام أبو طلحة إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الله تبارك وتعالى يقول: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بخ ذلك مال رابح، وَقَدْ سمعت مَا قلت، وإني أرى أن تجعلها فِي الأقربين» . فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة فِي أقاربه وبني عمه متفق عليه.

وعن أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث رضي الله عنه أنها أعتقت وليده ولم تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت: أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي قال: «أو فعلت» ؟ قلت: نعم. قال: «أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك» . متفق عليه. وفي حديث أبي سفيان فِي قصة هرقل أنه قال لأبي سفيان مَا يأمركم به يعني النبي صلى الله عليه وسلم قلت يقول: «اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والصلة» . متفق عليه. وأخرج الإمام أحمد بإسناد جيد قوي وابن حبان فِي صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الرحم شجنة من الرحمن تقول يا رب إني قطعت إني أسيء إليَّ يا رب إني ظلمت يا رب يا رب فيجيبها ألا ترضين أن أصل من وصلك واقطع من قطعك» . وَذِي رَحِمٍ قَلَّمْتُ أَضْفَارَ ضِغْنِهِ بِحِلْمِي عَنْهُ وَهْوَ لَيْسَ لَهُ حُلْمُ يُحَاوِلُ رَغْمِي لا يُحَاوِلُ غَيْرَهُ وَكَالْمَوْتِ عِنْدِي أنْ يَحِلَّ بِهِ الرَّغْمُ فَإِنْ أَعْفُ عَنْهُ أَغْضِ عِيْنًا على قَذَى وَلَيْسَ لَهُ بِالصَّفْحَ عَنْ ذَنْبِهِ عِلْمُ وَإِنْ انْتَصِرْ مِنْه أَكُنْ مِثْلَ رَائِشٍ سِهَامَ عَدُوٍّ يُسْتَهَاضُ بِهَا الْعَظْمُ صَبَرْتُ على مَا كَانَ بَيْنِي وِبَيْنَهُ وَمَا تَسْتَوِي حَرْبُ الأَقَارِبُ وَالسِّلْمُ

وَبَادَرْتُ مِنْه النَّأَيَ وَالْمَرْءُ قَادِرٌ عَلَى سَهْمِهْ مَا دَامَ فِي كَفِّهِ السَّهْمُ وَيَشْتِمُ عِرْضِي فِي الْمَغَيَّبِ جَاهِدًا وَلَيْسَ لَهُ عِنْدِي هَوَانٌ وَلا شَتْمُ إِذَا سُمْتُهُ وَصْلَ الْقَرَابَةِ سَامَنِي قَطِيعَتَهَا تِلْكَ السَّفَاهَةُ وَالإِثْمُ وَإِنْ أَدْعُهُ لِلنِّصْفِ يَأْبَى وَيَعْصِنِي وَيَدْعُو لِحُكْمِ جَائِر غَيْرُهْ الْحُكْمُ فَلَوْلا اتِّقَاءُ الله وَالرَّحِمِ اللَّتِي رِعَايَتُهَا حَقٌّ وَتَعْطِيلُهَا ظُلْمُ إِذَا لِعُلاهُ بَارِقِي وَخَطْمَتُهُ بِوَسْمِ شِنَارٍ لا يُشَابِهُهُ وَسْمُ وَيَسْعَى إِذَا أَبْنِي لِهَّدْمِ مَصَالِحِي وَلَيْسَ الذِّي يَبْنِي كَمَنْ شَأْنُهُ الْهَدْمُ يَوَدُّ لَوْ أَنِّي مُعْدِمٌ ذُوْ خَصَاصَةٍ وَأَكْرَهُ جُهْدِي إِنْ يُخَالِطَهُ الْعُدْمُ وَيَعْتَدُ غَنْمًا فِي الْحَوَادِثِ نَكْبَتِي وَمَا إِنْ لَهُ فِيْهَا سَنَاءٌ وَلا غُنْمُ وَمَا زِلْتُ فِي لَيْنِي لَهُ وَتَعَطُفِيْ عَلَيْهِ كَمَا تَحْنُو على الْوَلَدُ الأُمُّ وَخَفْضٍ لَهُ مِنِّي الْجَنَاحَ تَأَلُفًا لِتُدْنِيَهُ مِنّي الْقَرَابَةُ وَالرَّحْمُ

.. وَقُولِي إِذَا أَخْشَى عَلَيْهِ مُلِمَّةً أَلا اسْلَمْ فِدَاكَ الْخَالُ ذُوْ الْعَقْدِ وَالْعَمُ وَصَبْرِي على أَشْيَارَ مِنْه تُرِيْبُنِي وَكَظْمِ على غَيْظِي وَقَدْ يَنْفَعُ الْكَظْمُ لأَسْتَلَّ مِنْ الظَّعْنَ حَتَّى اسْتَلَلْتُهُ وَقَدْ كَانَ ذَا ضِغْنٍ يَضِيْقُ بِهِ الْجَرْمُ رَأَيْتُ إِنْثَلامًا بَيْنَنَا فَرَقَعْتُهُ بِرِفْقِي وَإِحْيَائِي وَقَدْ يُرْقَعُ الثَّلْمُ وَأَبْرَأْتُ غِلَّ الصَّدْرِ مِنْهُ تَوَسُّعًا بِحِلْمِي كَمَا يُشْفَى بِالأَدْوِيَةِ الْكَلْمُ فَدَوَايْتُهُ حَتَى ارْفَأَنَّ نِفَارُهُ فَعُدْنَا كَأَنَّا لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا جُرْمُ وَأطْفَأَ نَارَ الْحَرْبِ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَأَصْبَحَ بَعْدَ الْحَرْبِ وَهُوَ لَنَا سِلْمُ والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وسلم. (فَصْلٌ) : وأخرج الأمام أحمد أيضًا بإسناد رواته ثقات والبزار عن سعيد بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن من أربى الربا الاستطالة فِي عرض المسلم بغير حق، وإن هذه الرحم شجنة من الرحمن عز وجل فمن قطعها حرم الله عليه الجنة» . وأخرج البزار بإسناد حسن عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الرحم شجنة متمسكة بالعرش تكلم بلسان ذلق اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني فيقول الله تبارك وتعالى أنا الرحمن الرحيم وإني شققت الرحم من اسمي فمن وصلها وصلته ومن بكتها بكته) .

شِعْرًا: ... إِنِي لَيَمْنَعُنِي مِنْ قَطْعِ ذِي رَحِمٍ ... مَا جَاءَ فِي الذِّكْرِ مَعْ مَا جَاءَ فِي السُّنَنِ إِنْ لانَ لِنْتُ وَإِنْ دَبَّتُ عَقَارِبُهُ ... إِلَيَّ جَازَيْتُهُ بِالصَّفْحِ لا الظَّغْنِ إِذَا هَجَرُوا عِزًا وَصَلْنَا تَذَلُلاً وَإِنْ بَعُدُوا يَأْسًا قَرَبْنَا تَعَلُلا وَإِنْ أَغْلَقُوا بِالْهَجْرِ أَبْوَابَ وَصْلِهِمْ وَقَالُوا أُبْعُدُوا عَنَّا طَلَبْنَا التَّوَصَلا وَإنْ مَنَعُونا أنْ نجُوزَ بأَرْضِهِم وَلم يَسْمَعُوا الشكوى وَرَدُّوا التَّوَسُّلاَ أَشَرْنا بِتَسْلِيمٍ وَإنْ بَعُدَ المَدَى إلَيْهِمْ وَهَذا مُنْتَهَى الوَصْل أكْمَلاَ وأخرج الطبراني وابن خزيمة فِي صحيحه والحاكم وقال: على شرط مسلم عن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح» . يعني أفضل الصدقة على ذي الرحم المضمر العداوة وهو فِي معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «وتصل من قطعك» . قال الناظم: وَكُنْ وَاصِلَ الأَرْحَامِ حَتَّى لِكَاشِحِ تُوَفَّرُ فِي عُمٍْر وَرِزْقٍ وَتَسْعَدُ وَلاَ تَقْطِعِ الأَرْحَامَ أنَّ َقِطِيعَةً لِذِي رَحِمٍ كُبْرَى مِنْ اللهِ تُبْعِدُ فَلاَ تَغْشَى قَوْمًا رَحْمَةُ اللهِ فَيهِمُ ثَوَى قَاطِعِ قَدْ جَاءَ ذَا بِتَوَعُّدِ

وأخرج الإمام أحمد بسند رجاله ثقات عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بيده فقلت: يا رسول الله أخبرني بفواصل الأعمال فقال: «يا عقبة صل من قطعك وأعط من حرمك وأعرض عمن ظلمك» . وفي لفظ: «واعف عمن ظلمك» . وأخرج الطبراني عن علي رضوان الله عليه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلك على أكرم أخلاق الدنيا والآخرة؟ أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك وأن تعفو عمن ظلمك» . ورواه البزار عن عبادة بن الصامت مرفوعًا بلفظ: «ألا أدلكم على مَا يرفع الله به الدرجات» ؟ قالوا: نعم يا رسول الله. قال: «تحلم على من جهل عليك، وتعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك» . وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب أن يبسط له رزقه وينسأ له فِي أثره، فليصل رحمه» . وللبخاري عن أبي هريرة: «من سره أن يبسط له فِي رزقه، وينسأ له فِي أثره، فليصل رحمه» . ورواه الترمذي بلفظ: «تعلموا من أنسابكم مَا تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة فِي الأهل، مثراة فِي المال منساة فِي الأثر» . ومعنى (مثراة فِي المال) أي زيادة فيه ومعنى (منسأة فِي الأثر) النسأ أي زيادة فِي عمره أي يؤخر له فِي أثره وهو الذكر الحسن فيه يكتسب صاحبه حسنات وهو فِي القبر بالدعاء الصالح له أو الإقتداء به فِي صالح عمله. ذِكْرُ الفَتَى عُمْرهُ الثانِي وحَاجَتُهُ ... ما قَاتَهُ وفُضُولُ العَيْشِ أَشْغَالُ آخر: ... دَقَّاتُ قَلْبِ المَرْءِ قَائِلَةٌ لَهُ ... إنَّ الحَيَاةَ دَقَائِقٌ وَثَوَانِي فَارْفَعْ لِنَفْسِكَ بَعدْ مَوْتِكَ ذِكْرَهَا ... فَالذِّكْرُ لِلإِنْسَانِ عُمْرٌ ثَانِي

من فوائد صلة الرحم وبيان من يحسن مساعدته

وأخرج عبد الله بن الإمام أحمد فِي زوائده والبزار بإسناد جيد والحاكم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سره أن يمد له فِي عمره، ويوسع له فِي رزقه، ويدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه» . وأخرج البزار بإسناد لا بأس به والحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مكتوب فِي التوراة من أحب أن يزاد فِي عمره، ويزاد فِي رزقه فليصل رحمه» . وأخرج الطبراني بإسناد حسن والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليعمر بالقوم الديار ويثمر لهم الأموال، وما نظر إليهم منذ خلقهم بغضًا لهم» . قيل: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: «بصلتهم لأرحامهم» . اللهم ثبت قلوبنا على دينك وألهمنا ذكرك وشكرك واختم لنا بخاتمة السعادة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. فَصْلٌ: ثم اعلم أن لصلة الرحم فوائد جمة وثمرات محققة ونتائج حسنة فِي حياة المسلم ويعد وفاته وَقَدْ رتب النبي - صلى الله عليه وسلم - على صلة الرحم أمرين محققين هما بسط الرزق وسعته والإنساء فِي الأثر ومساعدة ذوي القربى وصلتهم واجب ديني ندب الله إليه وجاءت الأحاديث مبينة أنه من آكد واجبات المرء فِي حياته يدعوك له الشفقة والحنان والعطف والرحمة على ذوي قرباك. وليس من البر مساعدة الخامل الكسلان وتشجيعه على البطالة والكسل وإنما البر والصلة فِي مساعدة من فقد أسباب العمل ولم تتهيأ له طرق المكاسب وعليك أن تعاملهم معاملة الرفق واللين فتحترم كبيرهم وتجله وتحسن إِلَى صغيرهم وتتجاوز عن هفواتهم وتغض الطرف عن زلاتهم وتقابل المسيء مِنْهُمْ بالإحسان لا بالاستكبار والاستنقاص لأنهم أقاربك وأولى الناس بمودتك وعطفك ورحمتك ومما يولد المحبة والحنان الهدايا قال بعضهم: هَدَايَا الناسِ بَعْضُهُمُ لِبَعْضٍ ... تُوُلِّدُ فِي قُلُوبِهِمُ الوِصَالاَ

.. وتَزْرَعُ فِي الضَّمِيرِ هَوَي وَوُدًا ... وَتَكْسُوكَ المَهَابَةَ والجَلاَلاَ آخر: ... فَلاتَكُ مِنَّانًا بِخَيْرٍ فَعَلْتَهُ ... فَقَدْ يُفْسِدُ المَعْرُوفَ بِاْلمَّنِ صَاحِبُهْ وهم لأقرب الناس بعد أصولك وفروعك وحواشيك يتمنون سعادتك هناءك ويرجون لك الخيرات فجدير بك أن تسارع إِلَى مواساتهم وعيادتهم إذا مرضوا والسلام على من قدم مِنْهُمْ وتوديعه إذا سافر ومشاركتهم فِي أفراحهم وإظهار السرور لهم ومشاطرتهم فِي أتراحهم وتخفيف آلام الحزن عنهم والإسراع فِي قضاء حوائجهم ونحو ذلك من الأعمال الطيبة والمظاهر الشريفة تضيف قوتك على قوتهم فيسرعون على إجابتك ودفع الأذى عنك فِي ملماتك. أ. هـ. وأخرج ابن ماجة وابن حبان فِي صحيحه والحاكم وقال: صحيح الإسناد عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ولا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد فِي العمر إلا البر» . وروى الإمام أحمد عن عائشة مرفوعًا: «صلة الرحم، وحسن الجوار، أو حسن الخلق، يعمران الديار، ويزيدان فِي الأعمار» . وأخرج الطبراني وابن حبان فِي صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بخصال من الخير أوصاني أن لا انظر إِلَى من هو فوقي، وأن انظر إِلَى من هو دوني، وأوصاني بحب المساكين والدنو مِنْهم، وأوصاني أن أصل رحمي وإن أدبرت، وأوصاني أن لا أخاف فِي الله لومة لائم، وأوصاني أن أقول الحق وإن كَانَ مرًا، وأوصاني أن أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها كنز من كنوز الجنة. شِعْرًا: الذِّكْرُ أَصْدَقُ مِنْ سَيْف ومِنْ كُتُبِ ... فاعْمَلْ بِهِ تُحْرِزْ الأعَلَى من الرُّتَبِ فيه جَمِيعُ الذِي يَحْتَاجُه البَشَرُ ... وَسُنّةُ المُصْطَفَى من بَعْدِه تُصِبِ

آخر: ... العِلْم فيما أَتَى بِالذِكرِ مَطْلَبُهُ ... وَمَا عن المُصْطَفَى قَدْ جَاءَ فِي الكُتُبِ وأخرج البخاري وأبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها» . وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة فِي الدنيا مع مَا يدخر له فِي الآخرة من البغي وقطيعة الرحم» . رواه ابن ماجة والترمذي وقال: حديث حسن صحيح والحاكم وقال: صحيح الإسناد. وعن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن خمر، وقاطع رحم، ومصدق بالسحر» . رواه ابن حبان وغيره. وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسرع الخير ثوابًا البر وصلة الحم، وأسرع الشر عقوبة البغي وقطيعة الرحم» . رواه ابن ماجة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أعمال بني آدم تعرض كل خميس ليلة الجمعة فلا يقبل عمل قاطع رحم» . رواه أحمد ورواته ثقات. وروي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن مجتمعون فقال: «يا معشر المسلمين اتقوا الله وصلوا أرحماكم فإنه ليس ثواب أسرع من صلة الرحم وإياكم والبغي فإنه ليس من عقوبة أسرع من عقوبة بغي وإياكم وعقوق

قصيدة زهدية في الحث على الاستعداد للموت

الوالدين، فإن ريح الجنة يوجد من مسيرة ألف عام، والله لا يجدها عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان ولا جار أزاره خيلاء، إنما الكبرياء لله رب العالمين» . شِعْرًا: خَفِّضْ هُمُومَكَ فَالحَيَاةُ غَرُورُ وَرَحَى المَنُونِ على الأنَامِ تَدُورُ وَالْمَرْءِ فِي دَارِ الفَنَاءِ مُكَلَّفٌ ((لاَ مُهْمَلٌ فِيْهَا وَلاَ مَعْذُورُ)) وَالنَّاسُ فِي الدُّنْيَا كَظِلٍّ زَائِلِ كُلُّ إِلَى حُكْمِ الْفَنَاءِ يَصِيرُ فَالنَّكْسُ وَالمَلِكُ المُتَوَّجُ وَاحِدٌ لا آمِرٌ يَبْقَى وَلاَ مَأْمُورُ عَجَبًا لِمَنْ تَرَكَ التَّذَكُّرَ وَانْثَنَى في الأمْرِ وَهُوَ بِعَيْشِهِ مَغْرُورُ وَإِذَا الْقَضَاءُ جَرَى بَأَمْرٍ نَافِذِ غَلِطَ الطَّبِيبُ وَأَخْطَأَ التَّدْبِيرُ إِنْ لُمْتُ صَرْفَ الدَّهْرِ فيه أجَابَنِي أبَتِ النُّهَى أنْ يُعْتَبَ الْمَقْدُورُ أَوْ قُلْتَ لَهْ أيَنْ المُؤْيَّدُ قَالَ لِي أَيْنَ الْمُظفَّرُ قَبْلَ وَالمَنْصُورُ

موعظة بليغة في الحث على النصيحة وماذا يعمله الناصح والأمثلة

أَمْ أَيْنَ كِسْرَى أَزْدَ شِيرُ وَقَيْصَرٌ وَالهُرْمُزَانُ وَقَبْلَهُمْ سَابُورُ أَيْنَ ابْنُ دَاوُدَ سُلَيْمَانُ الذِي كَانَتْ بِجَحْفَلِهِ الْجِبَالُ تَمُورُ وَالرِّيحُ تَجْرِي حَيْثُ شَاءَ بأَمْرهِ مُْنَقادَةً وَبِهِ البِسَاطُ يَسِيرُ فَتَكَتْ بِهِمْ أَيْدِي الْمَنُونِ وَلَمْ تَزَلْ خَيْلُ الْمَنُونِ على الأَنَامِ تُغِيرُ لَوْ كَانَ يَخْلُدُ بالفَضَائِل مَاجِدٌ مَا ضَمَّتِ الرُّسُلَ الكِرَامَ قُبُورُ إِنَي لأَعْلَمُ وَاللَّبِيبُ خَبِيرُ أَنَّ الحَيَاة وَإنْ حَرِصْتَ غَرُورُ وَرَأَيْتُ كُلاًماً يُعَلِّلُ نَفْسَهُ بِتَعِلَّةِ وَإلى الفَنَاءِ يَصِيرُ والله أعلم. وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه وسلم. موعظة عباد الله إن النصيحة غالية ذات أهمية عظيمة عند ذوي الألباب والفهوم لأنها إرشاد إلى الصواب وتوجيه نحو العمل الصالح والأخلاق الفاضلة والسيرة الحسنة وهداية إِلَى مَا يعود نفعه وفائدته على المنصوح. بالسعادة والعز والنصيحة تبصير بالمضار حتى لا يقع فيها من لا يعرفها.

ولذلك ينبغي أن الناصح ذا رأي ثاقب وعقل راجح قَدْ جرب الأمور وعركته الأيام والليالي وذاق حلوها ومرها وانتفع بما رآه فيها من عسر ويسر وفرح وسرور وخلص قلبه من هم قاطع وغم شاغل ليسلم رأيه وتخلص نصيحته من الشوائب المكدرة. فيا عباد الله إن الدين هو النصيحة يسدها المؤمن لإخوانه بل يبغي عليها جزاء ولا شكورَا إلا من ربه وخالقه يبذلها خالصة لوجه الله قاصدًا بها نفع عباد الله والأخذ بأيديهم إِلَى طرق السداد سار على ذلك الأنبياء والمؤمنون والاتقاء. قال تعالى إخبارًا عن نوح عليه السلام: {وَأَنصَحُ لَكُمْ} وعن هود: {وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} وعن صالح: {وَنَصَحْتُ لَكُمْ} وعن شعيب: {وَنَصَحْتُ لَكُمْ} وعن مؤمن آل فرعون ينصح قومه: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} الآيات فالنصيحة علامة الحب والإخلاص والوقار. فإذا علمت أن شرًا سينزل بمؤمن غافل عنه فواجب عليك أن تنبهه وتحذره ليأخذ حذره من الكائدين وأسرع بأخباره كما حذر رجل موسى عليه السلام قال تعالى: {وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} . وإن رأيت إنسانًا تردى فِي المعاصي وانغمس فِي الموبقات وأتبع شيطانه وهواه وركب رأسه وخالف مولاه فخذ بيده على طريق الرشاد

وادعه بالتي هي أحسن إِلَى المتاب وطاعة رب العباد وذكره بالموت وسكراته والقبر والحساب ومناقشاته والصراط وعثراته والنار وعذابها وما أعد الله لأهلها من ألوان العذاب وذكره بالضريع والزقوم وويل وغساق وغسلين. وذكره بالجنة ونعيمها وما أعد الله لأهلها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فلعل الله أن يهديه بسببك. وان استنصحك أخوك المسلم فِي زواج من كنت تعرف فوضح له وبين مَا تعرف من العيوب فإن كتمت العيوب وأظهرت المحاسن فأنت من الخائنين وان استنصحك فِي مساهمة أو شراء عقار أو بيت أو شراء سلعة فأحب له مَا تحب لنفسك وشر عليه بما تحب أن يشار عليك به لو كنت فِي مكانه. فان غررت به فأنت من المنافقين. وإن طلب منك مشورة فِي دين أو دنيًا فرجح له مَا ترى فيه الصلاح ولا تنتظر حتى يطلب منك النصح فإذا رأيت فِي خطأ فوجهه وابذل النصيحة لكل مسلم. ابذله للأب كما فعل الخليل ابذله لأبنائك وكن كما كَانَ لقمان الحكيم لابنه وقل له مثل مَا قاله له: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} انصحهم عن قرناء السوء وعن مجالس اللهو والفسوق والعصيان كمجالس التلفزيون والسينما والكورة ومجالس الغيبة والكذب والسخرية

في الإحسان إلى اليتيم والأرملة والمسكين

والاستماع إِلَى الغناء من المذياع والبكمات والمطربين والمطربات وانصحهم عن تعاطيها وشراء وأجرة وإعارة وحذرهم من مخالطة متعاطيها ومقاربته ومجاورته ومشاركته ومصاهرته. شِعْرًا: احْفَظْ نَصِيحَةَ مَنْ بَدَا لَكَ نُصْحُهُ وِلرَأْي أَهْلِ الخَيْرِ جَهْدَكَ فاقْبَلِ والله أعلم. وصلى الله على محمد وعَلَى آله وسلم (فَصْلٌ) فِي الإحسان إِلَى اليتيم والأرملة والمسكين اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين أن فِي كفالة اليتيم والإحسان إليه والسعي على الأرملة والمسكين فضل عظيم يجده من وفقه الله للقيام به {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً} {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ} {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} . واليتيم هو من مات أبوه ولم يبلغ، والجمع أيتام وهم الذين فقدوا أباهم الذي كَانَ يرعاهم بنفسه وماله ويحبهم من أعماق قلبه ويؤثر مصلحتهم على مصلحته. وإن مما يذرف الدمع من العين ساخنًا ساعة الموت صبية صغارًا وذرية ضعفاء يخلفهم الميت وراءه يخشى عليهم من مصائب الدنيا وصروفها ويتمنى وصيًّا مرشدًا يقوم مقامه يرعاهم كرعايته ويسوسهم كسياسة يعزيهم بره ولطفه عن أبيهم الراحل ويجدون عنده من العناية والقيام بمصالحهم مَا يكون بإذن الله سببًا لإخراجهم رجالاً فِي الحياة

يملئون العيون ويشرحون الصدور. فالذي يكفل اليتيم ويتعهده ويلاحظه ويؤدبه ويهذب نفسه وتطمئن قلوب أقاربه إذا رأوه وكأن والده حي لا يفقد من والده إلا جسمه، فلا غرو أن كَانَ مكانه عند الله عظيمَا، وكان حريًّا أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبًا فِي الجنة يتمتع بما فيها من النعيم المقيم، كما قام بما وفقه الله له من رعاية اليتيم. ففي هذا ترغيب فِي كفالة الأيتام والعناية بأمورهم فلهم حق على المسلمين سواء كَانَوا أقارب أو غيرهم، يكون ذلك بكفالتهم وبرهم وجبر قلوبهم وتأديبهم أحسن تربية فِي مصالح دينهم ودنياهم. ولذلك أوصى جل وعلا بالإحسان إليهم ليصيروا كمن لَمْ يفقد والديه، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مسح رأس يتيم لَمْ يمسحه إلا لله كَانَ بكل شعرة تمر عليها يده حسنات» . وأما الأرملة فهي التي مات زوجها، فهي فِي حاجة إِلَى الملاحظة لأنها ضعيفة وحاجات النساء كثيرة دقيقة وجليلة يرفعها المسكن والمأكل والملبس وهناك أشياء كثيرة من ذلك الدهن والطيب والمشط والمكحلة وأواني لشؤونها فِي حال طبخها وفي حال الحلي وأمور أخرى يطول ذكرها وتعدادها. والمهم أن الذي يكدح وينصب ليكفي تلك الأرملة حاجاتها أو بعضها بعد أن فقدت زوجها الذي كَانَ يرعاها ويؤنسها وينفق عليها

ويسكنها معه، فهو بذلك الإحسان يخفف عنها من ألم المصيبة، ويسلبها عن الفجيعة، ويكف يدها عن السؤال والنظر لما فِي أيدي الناس، ويصون وجهها، فهذا كالمجاهد فِي سبيل الله، له أجر عظيم عند الله عز وجل. وكذلك الساعي على المساكين، وهم الذين أسكنتهم الحاجة فلا يجدون مَا يكفيهم فِي قوتهم وكسوتهم وسكناهم، إما لفقد المال، وإما لعجز عن الكسب لمرض أو لصغر أو لزمانة أو لعمى، أو الذي تقطعت به الأسباب، وأظلمت على عينه الدنيا وانغلقت فِي وجهه الأبواب، يستحف السعي عليه ممن وفقه الله لذلك، والأخذ بيد. ويعان على العمل بالقرض والإيجار أو مَا يستعين به على نفقة نفسه وأهله بأي عمل يحسنه من تعليم أو صنعة أو زراعة أو تجارة أو وظيفة يكف بها وجهه، وَقَدْ يكون المسكين من الأقارب أو ذا رحم يجب وصلها فيعظم حقه، ويكون السعي عليه برًا وصلة يكتب أجره عند الله أضعافًا مضاعفة، وهذه فرصة ثمينة لمن وفقه الله للقيام بها! والخلاصة: أن الذي يجمع المال بعرق جبينه لا لينفقه فِي السرف والبذخ واللذة والسمعة، ولكن ليسد به جوعة المسكين واليتيم ويغنيه عن السؤال فيحفظ على وجهه ماء الحيا وعَلَى نفسه خلق العفاف يكون حريًّا بمرتبة المجاهدين ومنزلة المقربين، فاخدم بمالك ووقتك وقوتك وسعيك وجاهك ذوي الحاجات وأرباب العاهات تنل بإذن الله المنزلة العالية الخالدة. تنبه: بشرط أن يكونوا من المؤمنين بالله. ذَكَرَ الوَعِيدَ فَطرفُهُ لا يَهْجَعُ ... وجَفَا الرُقاَدَ فَبَان عَنْهُ المُضْجَعُ مُتَفَرّدًا بِقَلِيلهِ يَشْكُو الَذِي ... مِلْءَ الجَوَانِحِ وَالحَشَا يَسْتَوْجِعُ لَمَّا ئَيْقَّنَ صِدقَ مَا جَاءَتْ بِهِ الَ ... آياتُ صَارَ إِلَى الإِنَابِة يُسْرِعُ

موعظة في الشفقة على خلق الله والحث على رحمتهم وبالأخص اليتيم والأرملة

ج فَجَفَا الأَحِبَّةُ فِي مَحَبَةِ رَبِّهِ ... وَسَما إِليهِ بِهِمَّةٍ مَا يُقْلِعُ وَتَمَتَّعَتْ بِودَادِهِ أَعْضَاؤُهُ ... إِذَ خَصَّهَا مِنْهُ بِوِدِ يَنفَعُ كَمْ فِي الظَّلامِ لَهُ إِذَا نَامَ الوَرَى ... مِنْ زَفْرُةٍ فِي إِثْرِهَا يَتَوَجَّعُ وَيقُولُ فِي دَعَوَاتِهِ يَا سَيّدِي ... العُيْنُ يُسْعِدُهَا دَمُوعٌ رُجَّعُ إِنّي فَزِعْتُ إليكَ فارْحَمْ عَبْرَتِي ... وَإِليكَ مِن ذُلِّ الْخَطِيئَةِ أَفْزَعُ مَنْ ذَا سِوَاكَ يُجِيْرُنِي مِن زَلّتِي ... يَا مَنْ لِعزَّتِهِ أَذِلُّّّّّّّّّّّّ وَأَخْضَعُ فَامْنُنْ عَلِيَّ بتَوْبَةً أَحْيَا بِهَا ... إِنّي بِمَا اجْتَرَأَتْ يَدَاي ََمُرَدَّعُ موعظة: عباد الله - الدنيا ملأى بالمصائب والآلام، والأحزان والأسقام غناها فقر وعزها ذل. والآجال فيها معدودة والأعمار محدودة، قال تعالى: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} . نعيمها إِلَى فناء وعيشها إلى انقضاء متاعها قليل، وحسابها طويل - الخلود فيها لا يكون لإنسان والبقاء الدائم لا يكون إلا للديان الذي يقول: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} . فالسعيد من استعد ليوم الرحيل، وجهز نفسه بالعمل الصالح لسفر طويل، وتفكر فيمن سبقوه إِلَى دار القرار، وعلم أنه لا حق بهم مهما حاول الفرار، والأمر بعد ذلك إما نعيم مقيم أو شقاوة وعذاب أليم. فيا من بنيت الآمال وقصرت فِي الصالح من الأعمال، تنبه للموت، فإن نسيانه ضلال مبين، كم من صديق لك مات فِي ريعان شبابه، وكم شيعت إِلَى الدار الآخرة من أحبابه، تذكر يا مغرور ساعة الاحتضار وخروج الروح. والأولاد حولك يبكون والنساء تنوح، يناديك ولدك، أبتي إني بعدك مسكين، وتصرخ الزوجة يا زوجي إِلَى أين الرحيل وهل من رجعة أو غيابك طويل. فتغرغر عيناك بالدموع ويلجم منك اللسان، وتحاول النطق فيعتذر

عليك الكلام، وتطلب النجاة ولكن {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} . إذا علمت هذا يا أخا الإسلام، فكيف يكون حال أبنائك من بعدك. ذل بعد عز، وحرمان بعد حنان ينظرون إِلَى الأبناء مع آبائهم فيحزنون، ويذكرون عطف أبيهم فيبكون، ليلهم نهار، ونهارهم ليل. أعيادهم أتراح وأحزان، وأفراحهم هموم وأشجان، يتلفتون على أحباب أبيهم وأصدقائه، علهم يجدون عندهم الحنان ويشتهون ضمة أو قبلة كما يفعل الآباء بالغلمان والوالدان. فإن كنتم يا مسلم فِي حياتك بارًا بمن فقدوا آبائهم، عطوفًا على اليتامى تمسح دموعهم بخيرك، وتعاملهم كولدك تدخل السرور على قلوبهم الحزينة بما تقدمه لهم من الهدايا والإحسان، وما تظهره لهم من حب وعطف ورعاية وحنان، إن فعلت هذا فِي حياتك فأبشر. فإن أولادك بعدك فِي أمان، تحنوا عليهم القلوب، ويرعاهم علام الغيوب. قال تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} . أيها المسلمون: إن رعاية اليتيم من واجبات الدين، وإن إهمال شأنه وإذلاله وقهره مَا ينبغي للإنسان وأكل ماله يغضب الديان، ويوجب الحرمان. قال الله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} . إن من رعاية اليتيم تنمية ماله، وإصلاح حاله بالتربية والتعليم والتهذيب والتقويم قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} .

وإن احتاج اليتيم أو الأرملة إِلَى مساعدة تعود على مصلحته فينبغي لوليه أن يستعين بأهل الفضل والكرم ممن لهم قدم ثابت فِي ذلك وعرق أصيل لألانهم أحرى من غيرهم فِي النفع. واحذر اللئام والبخلاء. شِعْرًا: ... وَإِنِّي لأَرْثِي لِلْكَرِيمِ إِذَا غَدَا ... عَلَى حَاجَةٍ عِنْدَ اللَّئِيمِ يُطَالِبُهْ وَأَرْثِي لَهُ مِنْ وَقْفَةٍ عِنْدَ بَابِهِ ... كَمَرِّ سَنِّي وَالْعِلْجُ رَاكِبُهْ شِعْرًا: ... سَلِ الفَضْلَ أَهْلَ الفضلِ قِدْمًا ولا تَسَلْ عَلَى مَنْ نَشَأَ فِي الفقرِ ُثمَّ تَمَوَّلاَ فَلَو مَلَكَ الدُّنْيَا جَمِيعًا بأسْرِها تُذَكِّرُهُ الأَيَامُ مَا كَانَ أَوَّلا آخر: ... بَعْضُ الرِّجَال كَقَبْرِ المَيْتِ تَمَنَحُهُ ... أعَزَّ شَيَءٍ وَلا يُعْطِيكَ تَعْوِيضَا آخر: ... تَجَنَّبْ بُيُوتَا شُبِّعَتْ بَعد جُوعِهَا فإنَّ بَقَاءَ الجُوعِ فيها مُخَمَّرُ وَآوِي بُيُوتًا جُوِّعَتْ بَعْدَ شِبْعِهَا فإنَّ كَرِيمَ الأَصْلِ لاَ يَتَغَيَّرُ آخر: ... إيَّاكَ إيَّاكَ أَنَ تَرجُو امْرًأ حَسُنَتْ ... أَحْوَالُهُ بَعْدَ ضُرِّ كَانَ قَاسَاهُ فَنَفْسُهُ تِبْكَ مَا زَادَتْ ومَا نَقَصَتْ ... وذلِكِ الفقرُ فَقْرٌ َما تَنَاسَاهُ قال فِي الفتح: قال شيخنا فِي شرح الترمذي: لعل الحكمة فِي كون كافل اليتيم يشبه فِي دخوله الجنة أو شبهت منزلته فِي دخول الجنة بالقرب من منزلة النبي لكون النبي شأنه أن يبعث إِلَى قوم لا يعقلون أمر دينهم، فيكون كافلاً لهم ومعلمًا ومرشدًا. وكذلك كافل اليتيم يقوم بكفالة من لا يعقل أمر دينه بل ولا دنياه

وأحاديث وردة بذلك

ويرشده ويعلمه ويحسن أدبه. انتهى. قلت: وكثيرًا مَا يفعل بعض الناس ذلك الإحسان زمنًا ويتركه ولا يتمم إحسانه وبعضهم يرحب بذلك أول الأمر ولا يثبت على ذلك وقليل من يتمم كلامه ويثبت على جميله وإحسانه والتوفيق بيد الله وقديمًا قيل: وَمَا كُلُّ هَاوٍ لِلْجِمْيلِ بِفَاعِلٍ ... وَمَا كُلُّ فَعَّالٍ لَهُ بِمُتَمِّمِ آخر: فأكْثَرُ مَنْ تَلْقَى يَسُرُكَ قوله ... وَلَكِنْ قليلٌ مَنْ يُسُركَ فِعْلُهُ آخر: وَفي النَّاسٍ مَنْ أَعْطَى الجَمِيلَ بَدِيهَةً ... وَظَنَّ بِفِعْلِ الخَيْرِ لَمَّا تَفَكَّرَا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: النبي صلى الله عليه وسلم: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد فِي سبيل الله» . رواه البخاري ومالك وغيرهما وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه» . متفق عليه. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عال ثلاثة من الأيتام كَانَ قام ليلة وصام نهاره وغدا وراح شاهرًا سيفه فِي سبيل الله، وكنت أنا وهو فِي الجنة أخوين كما أن هاتين أختان» . وألصق أصبعيه السبابة والوسطى رواه ابن ماجة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا شكا إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه فقال: «امسح رأس اليتيم وأطعم المسكين» . رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

موعظة أيضا في الشفة والرأفة بعباد الله

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كافل اليتيم له أو لغيره، أنا وهو كهاتين فِي الجنة» . وأشار مالك بالسبابة والوسطى. رواه مسلم ورواه مالك عن صفوان بن مسلم مرسلاً. ورواه البزار متصلاً ولفظه قال: «من كفل يتيمًا له ذا قرابة أو لا قرابة له فأنا وهو فِي الجنة كهاتين» . وضم إصبعه «ومن سعى على ثلاث بنات فهو فِي الجنة وكان له كأجر المجاهد فِي سبيل الله صائمًا قائمًا» . والله أعلم. وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه وسلم. موعظة عباد الله لقد تفضل الله علينا ورزقنا من الطيبات، وجعلنا آمنين مطمئنين، وأغنانا عن الحاجة، وصان وجوهنا عن المسألة التي وقع فيها الكثير من الناس، فالواجب علينا إذا إزاء هذه النعم العظام أن نكثر شكره وحمده والثناء عليه. وبذلك يحفظ عليكم نعمته ويزيدكم مِنْهَا ويبارك لكم فيها قال تعالى وهو أصدق قائل وأوفى واعد. {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} وليس الشكر قول اللسان فقط، وإنما الشكر مع ذلك امتثال أوامر الله بالطاعة والإحسان فِي عبادة الله وإلى عباد الله البؤساء من يتيم ومسكين وأرملة ممن أصابتهم الشدة والفقراء من أرباب العيال المتعففين الذين لا يسألون ولا يفطن لهم فيتصدق عليهم. وفي الدرجة الأولى من ليس لهم موارد أصلاً لا أولاد يدرسون ولا أولاد موظفين يدرون عليهم ولا عقار ولا غيره، وأن من القسوة أن يمنع الإنسان رفده ومعونته عن إخوانه المحتاجين. شِعْرًا: أحْسِنْ إذا كَانَ إِمْكَانٌ وَمَقْدِرَةٌ ... فَلَنْ يَدُومَ عَلَى الإِحْسَانِ إمْكَانُ

من آثار الرحمة والأدلة على ذلك وبأي شيء تكون

أمن الرحمة والشفقة أن يكون الإنسان فِي رغد من العيش ورفاهية تامة وسعة من الرزق وإخوانه من المسلمين فِي ضنك وبؤس لا يعلم به إلا الله أو من أعلمه الله بحاله، أمن المروءة أن يتمتع الإنسان بأصناف المآكل والمشارب والملابس وأخوه المسلم المدقع فقرًا يتألم من الجوع ويتألم من البرد. فالذي يرى من هذه صفتهم ولا يتألم ويتوجع لهم ويعمل مَا فِي وسعه لهم قاسي القلب خال من الشفقة والرحمة والرأفة نسأل الله أن يمن علينا بإتباع طريقة النبي صلى الله عليه وسلم والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين قال الله عنهم: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ونسأله أن يغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمته إنه أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا وكافل اليتيم فِي الجنة هكذا» . وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما. رواه البخاري وأبو داود والترمذي. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قبض يتيمًا من بين المسلمين إِلَى طعامه وشرابه أدخله الله الجنة إلا أن يعمل ذنبًا لا يغفر» . رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير بيت فِي المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه وشر بيت فِي المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه» . رواه ابن ماجة.

الرحمة وبيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - رحمة أرسله الله

وروي عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة» . وأومأ بيده يزيد بن زريع الوسطى والسبابة «امرأة آمت زوجها ذات منصب وجمال حبست نفسها على يتاماها #حتى بانوا أو ماتوا» . رواه أبو داود. وعن أنس رضي الله عنه رفعه إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم: «أن رجلاً قال ليعقوب عليه السلام: مَا الذي أذهب بصرك وحنى ظهرك؟ قال: أما الذي أذهب بصري فالبكاء على يوسف، وأما الذي حنى ظهري فالحزن على أخيه بنيامين فآتاه جبريل عليه السلام فقال: أتشكو الله عز وجل؟ قال: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ} قال جبريل عليه السلام: الله أعلم بما قلت منك. قال: ثم انطلق جبريل عليه السلام ودخل يعقوب عليه السلام بيته فقال: أي رب أما ترحم الشيخ الكبير أذهبت بصري وحنيت ظهري، فاردد عليّ ريحانتي فأشمهما شمة واحدة ثم اصنع بي بعد مَا شئت، فأتاه جبريل فقال: يا يعقوب إن الله عز وجل يقرئك السلام ويقول: أبشر فإنهما لو كَانَ ميتين لنشرتهما لك لأقر بهما عينك. ويقول لك: يا يعقوب أتدري لَمْ أذهبت بصرك وحنيت ظهرك؟ ولم فعل إخوة يوسف بيوسف مَا فعلوه؟ قال: لا. قال: إنه أتاك يتيم، مسكين وهو صائم جائع وذبحت أنت وأهلك شاة فأكلتموها ولم تطعموه. ويقول: إني لَمْ أحب شيئًا من خلقي حبي اليتامى والمساكين فاصنع طعامًا وادع المساكين» . قال أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فكان يعقوب كلما أمسى نادى مناديه من كَانَ صائمًا فليحضر طعام ...

يعقوب وإذا أصبح نادى مناديه من كَانَ مفطرًا فليفطر على طعام يعقوب» . رواه الحاكم والبيهقي والأصبهاني واللفظ له. شِعْرًا: ... أَلَمْ تَرَ أنَّ النَّفْسَ يُرْدِيكَ شَرُّهَا ... وَأَنَّكَ مَأْخوُذُ بِمَا كُنَتَ سَاعِيَا فَمَنْ ذا يُرِيُد اليومَ لِلنَّفْسِ حِكْمَةً ... وعِلْمًا يَزِيدُ العقلَ لِلصَّدرِ شَافِيا هَلُمَ إِليَّ الآنَ إنْ كُنْتَ طَالِبًا ... سَبِيْلَ الهُدَى أوْ كُنْتَ لِلْحقِ باغِيا فعندي مِن الأنباءِ عِلمٌ مجرَّبٌ ... فَمِنه بإلهامٍ ومِنهُ سَمَاعِيا أخَبِرُ أخْبارًا تَقَادَمَ عَهْدُها ... وكَيفَ بَدأ الإسلام إذْ كانَ بادِيًا وكَيفَ نَمىَ حتَّى اسْتَتَمَّ كَمالُه ... وكَيفَ ذَوَى إذْ كالثَّوبِ بَالِيَا ومِن بعدِ ذا عندي مِنَ الِعلمِ جَوْهرٌ ... يُفيِدُك عِلْمًا إنْ وَعَيْتَ كَلامِيَا فأحْوَجُ مَا كُنَّا إلى وَصِفْ دِيِننَا ... وَوَصْف دَلالاتِ العُقُولِ زَمَانِيَا فَقَدْ نَدَبَ الإسلامُ أحْمدَ نَدْبَهً ... كَمَا نَدَبَ الأمواتَ ذُو الشَّجْوِ شِاجيَا فأولُ مَا أبْدأُ فِبالحَمْدِ لِلَّذِي ... بَرَانى للإسلامِ إذْ كَانَ بَارِيَا وصَيَّرِني إذْ شَاءَ مِن نَسْلِ آدمَ ... ولَمْ أكُ شَيطانًا مِن الجِنَّ عَاتِيَا ولو شاءَ مِن إبليسَ صَيَّر مَخْرَجِي ... فَكُنتُ مُضِلاً جَاحِدَ الحقَّ طَاغِيَا ولَكِنَّهُ قَدْ كَانَ بَاللُّطِف سَابِقًا ... وإذا لَمْ أكُنْ حَيًا على الأرضِ مَاشِيَا وصَيَّرني مِنْ بَعْدُ فِي دِينِ أحمدَ ... وعَلَّمَنِي مَا غَابَ عنْهُ سُؤَالِيَا وَفَهَّمَنِي نُورًا وَعِلْمًا وَحِكْمَةً ... فَشُكْرِي لَهُ فِي الشَّاكِرِينَ مُوَازِيَا فَمِنْ أَجْلِ ذَا أَرْجُوهُ إِذْ كَانَ نَاظِرًا ... لِضَعْفِي وَجَهْلِي فِي الْمَلاِئِم حَالِيَا وَمِنْ أَجْلِ إِذَا أَرْجُوهُ إِذَا كَانَ غَافِرًا ... وَمِنْ أَجْلِ ذَا قَدْ صَحَّ مِنِّي رَجَائِيَا وَلَوْ كُنْتُ ذَا عَقْلٍ لَمَا قَدْ رَجَوْتُهُ ... لَقَدْ كُنْتُ ذَا خَوْفٍ وَشُكْرِي مُحَاذِيَا وَلَوْ كُنْتُ أَرْجُوهُ لِحُسْنِ صَنِيعِهِ ... شَكَرْتُ فَصَحَّ الآنَ مِنِّي حَيَائِيَا فَشُكْرِي لَهُ إذْ صَبِرْتُ بِالْحَقِّ عَالِمًا ... وَلِلشَّرِّ وَصَّافًا وَلِلْخَيْرِ وَاصِيَا

.. وَمِنْ بَعْدِ ذَا وَصفِي لِنَفْسِي وَطَبْعِهَا ... وَوَصْفِي غَيْرِي إِذْ عَرَفْتُ ابْتِدَائِيَا فَهَذَا مِنَ الأَنْبَاء وَصْفُ غَرَائِبٍ ... فَمَنْ كَانَ وَصْف لَكَانَ يجَالِيَا وَذَاكَ لأَنَّ النَّاسَ قَدْ آثَرُوا الْهَوَى ... عَلَى الْحَقِّ سِرًّا ثُمَّ جَهْرًا عَلانِيَا فَهَذَا زَمَانُ الشَّرِّ فَاحْذَرْ سَبِيلَهُ ... فَإِنَّ سَبِيلَ الشَّرِّ يُرْدِي الْمَهَاوِيَا سَيَأْتِيكَ مِنْ أَنْبَائِهِ وَصْفُ خَابِرٍ ... كَلامٌ بِتَحْبِيرٍ وَوَصْفُ قَوَافِيَا يَقُولُونَ لِي اهْجُرْ هَوَاكَ وَإِنَّمَا ... أَكدُّ وَأَسْعَى أَنْ أُقِيمَ هَوَائِيَا وَنَفْسَكَ جَاهِدْهَا وَإِنِّي لَمَائِلٌ ... إِلَيْهَا فَمَا أَنْ دَارَ أَلا تَنَائِيَا وَكَيْفَ أَطِيقُ الْهَوَى أَنْ أَهْجُرَ الْهَوَى ... وَقَدْ مَلَّكَتْهُ النَّفْسُ مِنِّي زِمَامِيَا تَقُودُنِي الأَيَّامُ فِي كُلِّ مُحْنَةٍ ... لَدَى طَبْعٍ يَبْدُو يَهِيجُ ذَاتِيَا فَأَصْبَحْتُ مَأْسُورًا لَدَى النَّفْسِي وَالْهَوَى ... يَشُدَّانِ مِنِّي مَا اسْتَطَاعَا وَثَاقِيَا اللهم اعصمنا عن المعاصي والزلات ووفقنا للعمل بالباقيات الصالحات واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء مِنْهُمْ والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (فائدة جليلة) إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده يحمل الله سبحانه حوائجه كلها وحمل عنه كل مَا أهمه، وفرغ قلبه لمحبته ولسانه لذكره وجوارحه لطاعته وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمله الله همومها وغمومها وأنكادها ووكله إِلَى نفسه فشغل محبته بمحبة الخلق ولسانه عن ذكره بذكرهم وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم. فهو يكدح كدح الوحش فِي خدمة غيره كالكير ينفخ بطنه ويعصر أضلاعه فِي نفع غيره فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بلي بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته قال تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} . أ. هـ. دَارك فَمَا عُمْرُكَ بِالْوَانِي ... وَلا تَثِقْ بِالْعُمْرِ الْفَانِي

.. يَأْتِي لَكَ الْيَوْمُ بِمَا تَشْتَهِي ... فِيهِ وَلا يَأْتِي لَكَ الثَّانِي وَيَأْمَلُ الْبَانِي بَقَاءَ الَّذِي ... يَبْنِي وَقَدْ يُخْتَلِسُ الْبَانِي تَصْبَحُ فِي شَأْنِ بِمَا تَقْتَنِي الآ ... مَالُ وَالأَيَّامُ فِي شَانِ فَانْظُرْ بِعَيْنِ الْحَقِّ مُسْتَبْصِرًا ... إِنْ كُنْتَ ذَا عَقْلٍ وَعُرْفَانِ هَلْ نَالَ مَنْ جَمَّعَ أَمْوَالَهُ ... يَوْمًا سِوَى قَبْرٍ وَأَكْفَانِ أَلَيْسَ كِسْرَى بَعْدَ مَا نَالَهُ ... زُحْزِحَ عَنْ قَصْرٍ وَإِيوَانِ وَعَادَ فِي حُفْرَتِهِ خَالِيًا ... بِتُرْبَةٍ يُبْلَى وَدِيدَانِ كَمْ تَلْعَبُ الدُّنْيَا بِأَبْنَائِهَا ... تَلاعُبَ الْخَمْر بِنَشْوَانِ والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وسلم. (موعظة) عباد الله إن الشفقة والرأفة على خلق الله وخصوصًا اليتيم والمسكين والأرملة أثر من آثار الرحمة التي يجعلها الله فِي قلوب بعض عباده، فقل لي أيها الأخ مَا الذي عندك مِنْهَا فإن كنت رحيمًا بعباد الله فلك البشرى والهناء بهذا الخلق الكريم الذي هو سبب لسعادتك فِي يوم الحسرة والندامة، ذلك أن الرحيم يعامله المولى جل وعلا برحمته قال تعالى: {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} فالراحمون يرحمهم الله. وقال صلى الله عليه وسلم: «من لا يرحم الناس لا يرحمه الله» . وقال صلى الله عليه وسلم: «من لا يرحم لا يرحم» . وإن كنت قاسيًا عوملت بالقسوة {جَزَاء وِفَاقاً} {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} والله سبحانه وتعالى لا يغفل عن أعمال عباده، وتظهر دلائل رحمتك فِي معاملتك لليتيم والمسكين والأرملة، وفي معاملتك مع أهلك، فإنهم يعيشون طول حياتهم عندك أن كنت رحيمًا أو قاسيًا. وتظهر رحمتك أيضًا فِي معاملتك إخوانك فإنهم يجدونك إن كنت رحيمًا لين الجانب سهلاً بشوشًا لحوائجهم وتظهر فِي معاملتك لبهائمك

فِي عدم تكليفها فوق الطاقة وفي ملاحظتها دائمًا فِي طعامها وشرابها ومكانها فِي الشتاء والصيف. وتظهر رحمتك فِي معاملتك مع الخلق كلهم فِي حسن الخلق والصدق والحنو عليهم وزيارتهم وعيادتهم وقضاء مَا سهل عليك من حوائجهم، أما من قسا على الخلق وعاملهم معاملة ليس فيها شيء من الحنان والشفقة فهذا هو الجبار القاسي الذي لا يعامله مولاه إلا بما يناسب معاملته من الجبروت. وكم فِي الدنيا من جبابرة نزعت الرحمة من صدورهم لا يعرفون معاملة الخلق بالرحمة بل بالقسوة والشدة والغلظة، لا فرق عندهم بين الآدمي والكلب العقور وغيره. ومثل أولئك لو سمعوا كلمة لا تعجبهم ربما أعدموا القائل وأيتموا أولاده وأيموا نساءه، ولو رأوا من فِي أشد المصائب مَا بالوا ولا اهتموا وكأنه شيء عادي، وترى أحدهم يخرج مع الجنائز لتعزية رفيقه فِي مصائبه وهو يضحك ويتفكه. ولو رأى إنسانًا مصدومًا أو ساقطًا فِي محل يريد إنقاذه تركه ولا همة له إلا فيما يتعلق بنفسه فقط ومثل أولئك تنشب بينهم وبين البهائم كل يوم حروب لأنها عملت عملاً في نظرهم أنه إجرام وربما قتلوا البهائم أو قريبًا من الهلاك. فأين هؤلاء من الرحمة، بينهم وبينها بون، كما بين الحركة والسكون، ومن هؤلاء من ليس له إلا امرأة واحدة وهو جبار عليها كل مَا بين حين وحين يجلدها جلد الزاني، وبعضهم تجد أخته أو ابنته أو ربيبته كل يوم تشتكي من سوء معاملته لها. وربما حصل مِنْه على أبيه أو أمه أو كلاهما أذية.

وفي الأرض كثير من هذه البليات، فعود نفسك الرحمة أيها المؤمن، فإنك فِي حاجة شديدة إِلَى رحمة الله، وعالج نفسك فِي تهذيبها وتمرينها على الرحمة وإذهاب القسوة، واحرص على مقارنة الرحماء لتكسب مِنْهُمْ هذه الصفة وتسلم من ضدها قال صلى الله عليه وسلم: «لا تنزع الرحمة إلا من شقي» . الرَّاحِمُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمُهمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ كَذَا عَنْ سَيِّدِ الرُّسُلِ فَارْحَمْ بِقَلْبِكَ خَلْق اللهِ وَارْعَهُمُ بِهِ تَنَالُ الرِّضَا وَالْعَفْوُ عَنْ زَلَلِ اللهم وفقنا لسلوك سبيل أهل الطاعة وارزقنا الثبات عليه والاستقامة وعافنا من موجبات الحسرة والندامة وأمنا من فزع يوم القيامة واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه من الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة أن الرحمة بالناس بل وبالحيوان عاطفة نبيلة وخلق شريف من أفضل الأعمال وأزكاها وأرفعها وأعلاها وناهيك بها أنها خلق الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين. ولقد مدح الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه فِي وصف رسوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} وضدها القسوة التي عاقب الله بها اليهود لما نقضوا العهود إذ يقول جل وعلا: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} .

فالرحمة فضيلة والقسوة رذيلة، فكان مجيء النبي صلى الله عليه وسلم برسالته من عند الله رحمة لناس يتخبطون فِي بحر الأوهام والجهالات ومساوئ الأخلاق وسيء العادات وقبيح الأعمال يعبدون الأصنام والأشجار والأحجار والأوثان والشمس والقمر، آلهتهم شتى وأربابهم متفرقة. وَقَدْ فشي وعم الفساد وأظلم الجو وشمل الظلم العباد فالقوي يأكل الضعيف ولا مراقب له ولا مخيف، يئدون البنات ويقتلون الأولاد، جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم فأنقذهم الله به وأخرجهم به من الظلمات إِلَى النور من عبادة الأصنام وتعظيمها إِلَى معرفة الله وتوحيده، والتفكير فِي الإله وتمجيده وتقديسه. وانتشلتم من أوهامهم وجهالاتهم وضلالاتهم ومساوئهم إِلَى الاهتداء بنور القرآن وتعاليمه عليه الصلاة والسلام فبعد أن كَانَوا قابعين فِي عقر دارهم قانعين فِي جزيرتهم إذا بهم يحملون إِلَى العالم أجمع رسالة النور والأمان والحق والسلام فيفتحون البلاد ويسوسون العباد بفضل مَا وهبهم الله من مَا تمكن فِي نفوسهم وقوي فِي أفئدتهم من حب الرحمة وابتغاء للرأفة بخلق الله ورغبته فِي العدل. فكان مولده صلى الله عليه وسلم نعمة وبعثته رحمة لا تدانيها رحمة والرحمة صفة من صفات الله الذاتية الفعلية فهو رحمن الدنيا والآخرة وحدث جل وعلا عن رحمته فِي كتابه فقال {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} الآية. والنبي صلى الله عليه وسلم يرغبنا فِي الرحمة واللين والرفق والمسامحة بقوله وفعله فهو يقول: «من لا يرحم لا يرحم» . وهو القائل: «لا

تنزع الرحمة إلا من شقي» . أي ولا تسكن إلا فِي قلب تقي فالرحمة فضيلة والقسوة والغلظة رذيلة وعمل منكر والرحمة لا تختص بالإنسان بل تعم الحيوان وكل ذي روح وإحساس. فمن آثارها مَا يجده الوالد لولده وآثرها تقبيله ومعانقته وشمه وضمه وحنوه عليه كما صنع الله عليه وسلم بالحسين والحسن رضي الله عنهما ومن أثرها تأديبه وتربيته وإجابة رغائبه مَا دامت فِي سبيل المصلحة وإبعاده من الشر. وتكون الرحمة بالآباء والأمهات وأثرها اللطف بهما والعطف عليهما والقول الكريم لهما وصنع الجميل فيهما والذب عنهما والحنو عليهما والشفقة عليهما وإظهار البشر لهما قال الله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} . ومن آثارها جريان الدمع مع العين وذرفها عند المصيبة كما كَانَ صلى الله عليه وسلم حال وفاة ولده جعلت عيناه تذرفان الدمع فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟ فقال: «يا ابن عوف إنها رحمة وإنما يرحم الله من عباده الرحماء» . ولذا أجاب الأعرابي الذي قال: أتقبلون صبيانكم فما نقبلهم قال له: «أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك» ومن آثار الرحمة بالقريب والصديق أن تخصه بمزيد من البر والإحسان فتنفس كربه وتخفف ألمه وتفرج همه وتسعى لإزالة الشحناء ورفع البغضاء ويواسي فقره ويرشده عند الحيرة وينبهه عند الغفلة وينصحه إذا استنصحه ويعين العاجز ويعود

المريض وينفس له فِي أجله ويشيع جنازته ونحو ذلك من الأعمال الصالحة النافعة والطريقة المجدية. وتكون الرحمة بالأقرباء وأثرها وصلتهم وزيارتهم ومودتهم والسعي فِي مصالحهم ودفع مَا يضرهم وتكون الرحمة بين الزوجين وأثرها المعاشرة بالمعروف والإخلاص والوفاة المتبادل وأن لا ترهقه بالطلبات ولا يكلفها بالمرهقات بل يعاون على شؤون المنزل وتربية الأولاد بنفسه أو ماله أن كَانَ ذا سعة. وتكون الرحمة بأهل دينك ترشدهم إِلَى الخير وتعلمهم مَا تقدر عليه مما ينفعهم وتأخذ بهم عن اللمم إِلَى سبيل الأمم وتعمل لعزهم ودفع المذلة عنهم وتكون رحيمًا بالمؤمنين جميعًا فتحب لهم مَا تحب لنفسك وتكره لهم مَا تكره لها. ومن أثرها بالحيوان مَا جاء فِي حديث مسلم عن أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذ ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» . وذلك بأن يرفق بها ولا يصرعها ويزعجها بغتة ولا يجرها من موضع إِلَى موضع بسرعة ترهقها وترهبها بل بلطف ولا يسرع بقطع الرأس ويسرع بقطع الحلقوم والمري والودجين ويتركها إِلَى أن تبرد لتخفيف ألمها بقدر الاستطاعة. ومن الرحمة مَا يحدثنا به صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل

الجار وحقوقه والحث على احترامه وعلى أي شيء يطلق الجار

يمشي فاشتد عليه العطش فنزل بئرًا فشرب مِنْهَا ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقى فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له» . قالوا: يا رسول الله وإن لنا فِي البهائم أجر؟ قال: «فِي كل كبد رطبة أجر» . والله أعلم. وصلى الله على محمد. (فَصْلٌ) اعلم وفقنا الله وإياك لما يحبه ويرضاه أن للجار على جاره حق عظيم فِي الأديان كلها والشرائع والأوضاع كافة، والعرب كَانَوا يعظمون حق الجار ويحترمون الجوار فِي الجاهلية قبل الإسلام، ويعتزون بثناء الجار عليهم ويفخرون بذلك، والضعيف إذا جاور القوي صار قويًّا بإذن الله، له مَا لهم وعليه مَا عليهم، وحين جاء الإسلام أعزه الله وأكد حق الجوار وحث عليه وجعله بعد القرابة وكاد يورثه. والجار يطلق ويراد به الداخل فِي الجوار ويطلق على المجاور فِي الدار، وعَلَى الساكن مع الإنسان فِي البلد، وعَلَى أربعين دارًا من كل جانب وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الجيران ثلاثة جار له حق واحد وهو المشرك له حق الجوار، وجار له حقان وهو المسلم له حق الجوار والإسلام، وجار له ثلاثة حقوق وهو المسلم القريب، له حق الجوار وحق الإسلام وحق الرحم» . إذا عرفت ذلك فتعلم أن من توفيق الإنسان وسعادته أن يكون فِي بيته يشعر بالعطف واللطف عليه والتقدير له والمحبة له، ومن قلة توفيقه

أن يكون بين جيران يضمرون الشر له والعداوة، ويدبرون له المكائد ويذمرون عليه خصومه. فالشخص الذي بجانبه جيران سوء يعملون للإضرار به فِي نفسه أو ماله أو عرضه، ويحوكون له العظائم والدواهي، منغص عيشه، لا يهنأ له بال، غير مرتاح، تجده قلقًا مِنْهُمْ إن دخل أو خرج، ولا ينعم بمال، تراه مقطب الوجه، محزون النفس مكلوم الفؤاد. وتجد أهله معهم فِي لجاج، كل ذلك من جار السوء، إما من قبل التسلط على أهله أو على أولاده، وإما بوضع أذية فِي طريقه أو فِي بيته، وأبتعد على ملكه أو بتجسس عليه بدون مبرر وإما بنظر وتطلع عليهم من نافذة أو باب أو سطح أو رمي حصا ونحوه عليهم أو نحو ذلك من أنواع الأذايا. وربما اضطر إِلَى بيع منزله من أجل جار السوء، كما ذكر بعض من ابتلى بجار سوء اضطره إِلَى بيع ملكه قال فِي ذلك: يَلُومُونَنِي إِنْ بِعْتُ بِالرُّخْصِ مَنْزِلِي ... وَلَمْ يَعْلَمُوا جَارًا هُنَاكَ يُنَغَّصُ فَقُلْتُ لَهُمْ كُفُّوا الْمَلامَ فَإِنَّمَا ... بِجِيرَانِهَا تَغْلُوا الدِّيَارُ وَتَرْخُصُ آخر: أَرَى دَارَ جَارِي عَنْ تَغَيَّب حُقْبَةً ... عَليَّ حَرَامًا بَعْدَهُ إِنْ دَخَلْتُهَا قَلِيلٌ سَؤَالِي جَارَتِي عَنْ شُؤونِهَا ... إِذَا غَابَ رَبُّ الْبَيْتِ عَنْهَا هَجَرْتُهَا أَلَيْسَ قَبِيحًا أَنْ يُخَبَّرَ أَنَّنِي ... إِذَا غَابَ عَنْهَا شَاحِطَ الدَّارِ زرْتُهَا آخر: اطْلُبْ لِنَفْسِكَ جِيرَانًا تُسَرُّ بِهِمْ ... لا تَصْلُحُ الدَّارُ حَتَّى يَصْلُحَ الْجَارُ آخر: شِرَى جَارَتِي سِتْرًا فُضُول لأَنَّنِي ... جَعَلْتُ جُفُونِي مَا حَيِيتُ لَهَا سِتْرَا

وَمَا جَارَتِي إِلا كَأُمِّي وَإِنَّنِي ... لأَحْفَظُهَا سِرًّا وَاحْفَظُهَا جَهْرَا بَعَثْتُ إِلَيْهَا انْعَمِي وَتَنَعَّمِي ... فَلَسْتُ مُحِلاً مِنْكِ وَجْهًا وَلا شَعْرَا ويقول الآخر: دَارِ جَارَ السُّوءِ بِالصَّبْرِ وَإِنْ لَمْ تَجِدْ صَبْرًا فَمَا أَحْلَى النُّقَلْ آخر: ... إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَخْلُصْ عِبَادَةَ رَبِّهِ ... فَلا خَيْرَ فِيهِ وَابْتَعِدْ عَنْ جِوَارِهِ وبعض الجيران يكون فيه خير وشر فهذا ربما تقابل منافعه مضاره وتتحمل مِنْه ذلك النقص لما فيه من الكمال وأما الآخر فهو شر مضرة بلا منفعة ونقصان بلا فائدة فكيف يعذر وهو بهذه الحالة. عَذَرْنَا النَّخْلَ فِي إِبْدَاءِ شَوْكٍ ... يَرِدْ بِهِ الأَنَامِلَ عَنْ جَنَاهُ فَمَا لِلْعَوْسَجِ الْمَذْمومِ يُبْدِي ... لَنَا شَوْكًا بِلا ثَمَرٍ نَرَاهُ آخر: ... مَرِضْتُ وَلِي جِيرَة كُلُّهُمْ ... عَنِ الرُّشْدِ فِي صُحْبَتِي حَائِدُ فَأَصْبَحْتُ فِي النَّقْصِ مِثْلَ الَّذِي ... وَلا صِلَةَ لِي وَلا عَائِدُ آخر: ... وَلَمَّا رَأَيْتُ النَّاسَ لا عَهْدَ عِنْدَهُمْ ... صَدَفتُ وَرَبِّ الْخَلْقِ صُحْبَة النَّاسِ وَصِرْتُ جَلِيسُ الْكُتُبِ مَا عِشْتُ فِيهِمُ ... وَأَعْمَلْتُ حُسْنَ الصَّبْرِ عَنْهُمْ مَعَ الْيَأْسِ آخر: ... وَزَهَّدَنِي فِي النَّاسِ مَعْرَفَتِي بِهِمْ ... وَطُولُ اخْتِبَارِي صَاحِبًا بَعْدَ صَاحِبِ فَلَمْ أَرَى فِي الأَيَّامِ خَلا تَسُرُّنِي ... بِوَادِيهِ إِلا سَاءَنِي فِي الْعَوَاقِبِ وَلا قُلْتُ أَرْجُوهُ لِدَفْعِ مُلِمَّةٍ ... أَتَتْنِي إِلا كَانَ إِحْدَى الْمَصَائِبِ آخر: ... أَنْتَ فِي مَعْشَرٍ إِذَا غِبْتَ عَنْهُمْ ... جَعَلُوا كُلَّ مَا يَزِينُكَ شِينَا وَإِذَا أَمَا رَأَوْكَ قَالُوا جَمِعيًا ... أَنْتَ مِنْ أَكْرَمِ النَّاسِ عَلَيْنَا

ما ينبغي للجار أن يعامل فيه جاره

وعن أبي شريح قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن» . قيل من يا رسول الله؟ قال: «الذي لا يأمن جاره بوائقه» . رواه البخاري ومسلم فبين صلى الله عليه وسلم أن من هذا خلقه، وتلك دخيلته مع جاره غير مؤمن، وأكد ذلك بالحلف والتكرار ثلاث مرات. وهل المؤمن إلا من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم وهل الإيمان إلا من الأمن؟ فإذا كَانَ الجار لجاره حربًا وعليه ضدا فكيف يكون من المؤمنين الذين أخلصوا دينهم لله لقد كَانَ الواجب عليه أن يتفقد أمور جاره، ويساعده بكل مَا استطاع، ويعمل على جلب الخير له ودفع مَا يضره، حتى يكون فِي عيشة راضية وحياة طيبة، كما يعمل بعض الجيران المحسنين الذين يألفون ويؤلفون. فقد يأنس الإنسان بجاره القريب أكثر مما يأنس بالنسيب فيحسن التعاون بينهما، وتكون الرحمة والإحسان بينهما، فإذا لَمْ يحسن أحدهما لصاحبه فلا خير فيهما لسائر الناس. أَعِينُ أَخِي أَوْ صَاحِبِي فِي بَلائِهِ ... أَقُومُ إِذَا عَضَّ الزَّمَانُ وَأَقْعُدُ وَمَنْ يُفْرِدُ الإِخْوَانَ فِيمَا يَنْوبُهُمْ ... تَنْبِهُ اللَّيَالِي مَرَّةً وَهُوَ مُفْرَدُ فينبغي للجار أن يتعاهد جاره بإهداء مَا تيسر والصدقة والدعوة واللطافة به وإعانته والتوسيع عليه فِي معاملته وإقراضه، وعيادته وتعزيته عند المصيبة وتهنئته بما يفرحه، ويستر مَا انكشف له من عورة، ويغض بصره عن محارمه ويمنع أولاده وأهله من أذية أولاد جاره وأهلهم. وإن بدا لهم حاجة قام بها، ولا يرفع على المذياع أو التلفزيون إن كَانَ يضرهم ويسهرهم وهو ممن ابتلى بهذا المنكر المحرم، ويعمل

معاملة بعض الجيران الكرام لجارهم عند ثنائه عليهم

كل مَا فيه لهم ويقدر عليه ويدفع عنهم مَا يضرهم مَا استطاع فبهذه الأشياء تقع بإذن الله الألفة والمحبة. وبها تحصل المودة، ويصبح المرء بين جيرانه محبوبًا موقرًا يتفقدونه إذا غاب ويسألون عنه ويعدونه إذا حضر مرغوبًا مرموقًا بالعناية مِنْهُمْ آمنًا مِنْهُمْ مطمئنًا إليهم يتبادلون المنافع. روي أن إبراهيم بن حذيفة باع داره فلما أراد المشتري أن يشهد عليه قال: لست أشهد عليَّ ولا أسلمها حتى يشتروا مني جوار سعيد بن العاص وتزايدوا فِي الثمن قالوا: وهل رأيت أحدًا يشتري جوار أو يبيعه قال: ألا تشتري جوار من إن أسأت إليه أحسن وإن جهلت عليه حلم وإن أعسرت وهب لا حاجة لي فِي بيعكم ردوا عليَّ داري. فبلغ ذلك سعيد بن العاص فبعث غليه بمائة ألف درهم وروى المدائني أنه باع جار لفيروز داره بأربعة آلاف درهم فجيء بها فقال البائع: هذا ثمن داري فأين ثمن جاري قال: ولجارك ثمن قال: لا أنقصه والله عن أربعة آلاف درهم. فبلغ ذلك الفيروز فأرسل إليه بثمانية آلاف درهم وقال: هذا ثمن دارك وجارك وألزم دارك لا تبعها. أين هؤلاء من أكثر جيران زمننا لا تكاد تهدأ أذيتهم وشتائمهم وسبهم وهجرانهم ومشاجرتهم وتقاطعهم وكيد بعضهم لبعض رجالاً ونساءً وأولادًا كَأنَهم فِي معزل عن الآيات والأحاديث الواردة فِي الجوار وحقوقه ولبعضهم ممن بلي بجاره السوء: أَلا مَنْ يَشْتَرِي جَارًا نَؤُومًا ... بِجَارٍ لا يَنَامُ وَلا يُنِيمُ وَيَلْبِسُ بِالنَّهَارِ ثِيَابَ نُسْكٍ ... وَشَطْرُ اللَّيْلِ شَيْطَانٌ رَجِيمُ وقيل ابن المقفع كَانَ بجوار داره دار صغيرة وكان يرغب فِي شرائها

ليضيفها إِلَى داره وكان جاره يمتنع من بيعها ثم ركبه دين فاضطر إِلَى بيعها وعرضها على جاره بن المقفع فقال: مَا لي بها حاجة. فقيل له: ألست طلبت مِنْه شرائها. فقال: لو اشتريتها الآن مَا قمت بحرمة الجوار لأنه الآن يريد بيعها من الفقر ثم دفع إِلَى جاره ثمن الدار وقال: ابق بدارك وأوف دينك لله دره. قال علي بن أبي طالب للعباس: مَا بقي من كرم إخوانك قال: الأفضال على الإخوان وترك أذى الجيران قال الشاعر: شِعْرًا: ... سَقْيًا وَرَعْيًا لِجِيرَانٍ نَزَلْتُ بِهِمْ ... كَأَنَّ دَارَ اغْتِرَابِي عِنْدَهُمْ وَطَنِي إِذَا تَأَمَّلْتُ مِنْ أَخْلاقِهِمْ خُلُقًا ... عَلِمْتُ أَنَّهُمُوا مِنْ حِلْيَةِ الزَّمَنِ آخر: ... إِذَا خِفْتَ الْمَوَّدَةَ وَاسْتَقَامَتْ ... فَلا تَجْزَعَ وَإِنَّ بَعْدَ اللِّقَاءُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْبِعَادُ أَغَابَ وَجْهِي ... فَلَمْ تَغِبْ الْمَوَدَّةُ وَالصَّفَاءُ وَلَمْ يَزَلْ الثَّنَاءُ عَلَيْكَ مِنِّي ... مَعَ السَّاعَاتِ يَتْبَعُهُ الدُّعَاءُ آخر: ... أَحْبَابُنَا مَا غِبْتُمْ مُذْ بِنْتُمُوا ... فَأَبُثُّكُمْ شَوْقِي وَأَسْأَلُ عَنْكُمْ بِنْتُمْ على حُكْمِ الْمَجَازِ وَلَيْسَ فِي ... حُكْمِ الْحَقِيقَةِ أَنَّكُمْ قَدْ بِنْتُمُوا أَنْتَمْ إِذَا اطَّرَدَ الْقِيَاسُ أَنَا وَإِنْ ... عُكِسَ الْقِيَاسُ فَإِنَّنِي أَنَا أَنْتُمُوا آخر: ... تَطَاوَلَ لَيْلِي بِالرِّيَاضِ وَلَمْ يَكُنْ ... عَلَى بحَارَاتِ الْقَصِيمِ يَطُولُ فَهَلْ لِي إِلَى أَرْضِ الْقَصِيمِ بِرَجْعَةٍ ... أُقِيمُ بِهَا قَبْلَ الْمَمَاتِ قَلِيلُ وَلاسِيَّمَا فِي حَارَةٍ قَدْ سَكَنْتُهَا ... ثَلاثِينَ عَامًا أَوْ تَزِيدُ قَلِيلُ آخر: ... إِذَا أَنَا لا أَشْتَاقُ أَوَّلَ مَنْزِلٍ ... غُذِيتُ بِخَفْضٍ فِي ذُرَاهُ وَلِينِ مِنَ الْعَقْلِ أَنْ اشْتَاقُ أَوَّل مَنْزِلٍ ... غُذِيتُ بِخَفْضٍ فِي ذُرَاهُ وَلِينِ آخر: ... يَقِيمُ الرِّجَّالُ الْمُوسِرُونَ بِأَرْضِهِمْ ... وَتَرْمِي النَّوَى بِالْمُفْتَرِين الرَّامِيَا وَمَا تَرَكُوا أَوْطَانَهُمْ عَنْ مَلالَةٍ ... وَلَكنْ حِذَارًا مِنْ شَمَاتِ الأَعادِيَا يَا مَنْ تَحَوَّلَ عَنَّا وَهُوَ يَأْلَفُنَا ... بَعُدْتَ عَنَّا أَبَعْدَ الآنَ تَلْقَاَنَا

.. فَاعْلَمْ بِأَنَّكَ مُذْ فَارَقْتَ جِيرَنَنَا ... بُدِلْتَ جَارًا وَمَا بُدِّلْتَ جِيرَانَا فكتب إليه جاره: بَعُدْتُ عَنْكُمْ بِدَارِي دُونَ خَالِصَتِي ... وَمَحْضُ وُدِّي وَعَهْدِي كَالَّذِي كَانَا وَمَا تَبَدَّلَتُ مُذْ فَارَقْتُ قُرْبُكُمْ ... إِلا هُمُومًا أُعَانِيهَا وَأَحْزَانَا وَهَلْ يُسَرُّ بِسُكْنَى دَارِهِ أَحَدٌ ... وَلَيْسَ أَحْبَابُهُ لِلدَّارِ جِيرَانَا آخر: ... أَقُولُ لِجَارِي إِذْ أَتَانِي أَحَدٌ ... وَلَيْسَ أَحْبَابُهُ لِلدَّارَ جَيرَانَا إِذَا لَمْ يَصَلْ خَيْرِي وَأَنْتَ مُخَاصِمًا ... يَدُلُّ بِحَقّ أَوْ يَدل بِبَاطِلِ إِذَا لَمْ يَصَلْ خَيْرِي وَأَنْتَ مُجَاوِرِي ... إِلَيْكَ فَمَا شَرِّي إِلَيْكَ بِوَاصِلِ آخر: ... إِنِّي لأَحْسِدُ جَارَكُمْ لِجِوَارِكُمْ ... طُوبَى لِمَنْ أَمْسَى لِدَارِكَ جَارَا يَا لَيْتَ جَارَكَ بَاعَنِي مِنْ دَارِهِ ... شِبْرًا فَأُعْطِيهِ بِشِبْرٍ دَارَا آخر: ... يَا حَبَّذَا وَطَنُ كُتَّابِهِ زَمَنًا ... فِيهِ السُّرُورُ على يُسْرٍ وَإِعْسَارِ وَحَبَّذَا نَاعِم مِنْ تُرْبِه عَبِقٌ ... هَبَّتْ عَلَيْهِ رِيَاحُ غِبَّ أَمْطَارِ أَحِبُّهُ وَبِلادُ اللهِ وَاسِعَةٌ ... حُبَّ الْبَخِيلِ غِنَاهُ بَعْدَ إِقْتَارِ وَلَسْتُ أَوَّلَ مُشْتَاقٍ إِلَى وَطَنٍ ... مَعَ الأَقَارِبَ وَالأَصْحَابِ وَالْجَارِ آخر: ... سَقَى اللهُ نَجْدًا وَالْقَصِيمَ أَخُصُّهُ ... سَحَابَ غَوَادٍ خَالِيَاتٍ مِنَ الرَّعْدِ آخر: ... يَا حَبَّذَا أَزَمُنٌ فِي مَنْزِل سَلَفْتَ ... مَا أَقْصَرَ وَقْتَهَا عُمْرًا وَأَحْلاهَا أَوْقَاتُ أُنْس قَضَيْنَاهَا فَمَا ذُكِرَتْ ... إِلا وَقَطَّعَ قَلْبَ الْمَرْءِ ذِكْرَاهَا آخر: ... وَمِنْ مَذْهَبِي حُبُّ الدِّيَا الَّتِي بِهَا ... وُلِدتُ وَحُبُّ الْمُتَّقِينَ بِأَرْضِهَا آخر: ... إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْعَ الْعُهُودَ الَّتِي مَضَتْ ... فَلَسْتَ بِرَاع عَهْدَ أَهْلِ الْمَنَازِلِ وَلاسِيَّمَا دَارًا وُلِدَتَ بِرَبْعِهَا ... وَكُنْتُ بِهَا جَدْلا فِي خَيْرِ آهِلِ يُرِيدُ الْقَصِيمِ آخر: ... إِذَا زُرْتَ أَرْضِي بَعْدَ طُولِ تَغَرُّبٍ ... فَقَدْتُ صَدِيقِي وَالْبِلادُ كَمَا هِيَا فَأَكْرِمْ أَخَاكَ الْمُخْلِصَ الْوِدَّ إِنَّمَا ... كَفَى بِالْمَمَاتِ فُرْقَةً وَتَنَائِيَا

والتحذير من أذية الجار

آخر: ... بِذَيَّالِكَ الْمَنْزِلْ أَهِيمُ وَلَمْ أَقُلْ ... بِذَيَّالِكَ الْمَنْزِلْ وَذَيَّاكَ مِنْ زُهْدِ وَلَكِنْ إِذَا مَا حَبَّ شَيْء تَوَلَّعَتْ ... بِهِ أَحْرُفُ التَّصْغِيرِ مِنْ شِدَّةِ الْوَجْدِ سَقَى اللهُ نَجْدًا وَالْقَصِيمَ أَخُصُّهُ ... سِحَابُ غَوَادٍ خَالِيَاتٍ مِنَ الرَعْدِ آخر: ... بِلادٌ بِهَا كُنَّا وَنَحْنُ نُحِبُّهَا ... إِذَا النَّاسُ نَاسٌ وَالْبِلادُ بِلادُ آخر من يهوى التنقل تبع المصالح الدنيوية: نَقْلِ رِكَابَكَ فِي الْفَلا ... وَدَعِ الْغَوَانِي فِي الْقُصُورْ لَوْلا التَّغَرُّبُ مَا ارْتَقَى ... درَرُ الْبُحُورِ إِلَى النُّحُورْ فَمُحَا لِفُوا أَوْطَانِهِمْ ... أَمْثَالُ سُكَّانِ الْقُبُورْ آخر: ... كُلُّ الْمَنَازِلِ وَالْبِلادِ عَزِيزَةً ... عِنْدِي وَلا كَمَوَاطِنِي وَبِلادِي آخر: ... مَا مِنْ غَرِيبٍ وَلَنْ أَبْدَى ... تَجَلَّدَهُ إِلا تَذَكَّر عِنْدَ الْغُرْبَةِ الْوَطَنَا آخر: ... إِنَّ الْوَدَاع مِنَ الأَحْبَابُ نَافلة ... لِلظَّاعِنِينَ إِذَا مَا يَمَّمُوا بَلَدَا وَلَسْتُ أَدْرِي إِذَا شَطَّ الْمَزَارُ بِهِمْ ... هَلْ تَجْمَعُ الدَّارُ أَمْ لا نَلْتَقِي أَبَدَا دَارُ سَكَنَا بِهَا مُذْ كَانَ نَشَأَتُنَا ... فِيهَا الْقَرِيبُ وَأَصْحَابُ لَنَا سَنَدَا آخر: ... كَمْ مَنْزِلٍ فِي الأَرْضِ يَأْلَفُه الفْتَى ... وَحَنِينُهُ أَبَدًا لأَوَّلِ مَنْزِلِ آخر: ... وَلا تَيْأَسَا أَنْ يَجْمَع اللهَ بَيْنَنَا ... كَأَحْسَنِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ تَصَافِيَا فَقَدْ يَجْمَعُ اللهَ الشَّتْيتينِ بَعْدَمَا ... يَظُنَّانِ كُلُّ الظَّنِّ أَنْ لا تَلاقِيَا قال ابن عبد البر: ثلاث إذا كن فِي الرجل لَمْ يشك فِي عقله وفضله إذا حمده جاره وقرابته ورفيقه وإليك طرف فِي الحث على الإحسان إِلَى الجار والبعد عن أذيته. وَقَدْ جاء فِي الحديث النبوية التحذير من إيذاء الجار، والترغيب فِي الإحسان إليه، فعن ابن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَا زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت انه سيورثه» . متفق عليه.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة» . متفق عليه. وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك» . رواه مسلم. وفي رواية له عن أبي ذر قال إن خليلي - صلى الله عليه وسلم - أوصاني: «إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم مِنْهَا بمعروف» . وعن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: «مَا تقولون فِي الزنا» ؟ قالوا: حرام، حرمه الله ورسوله، فهو حرام إِلَى يوم القيامة. قال فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره» . قال «مَا تقولون فِي السرقة» ؟ قالوا: حرمها الله ورسوله فهي حرام. قال: «لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات، أيسر عليه من أن يسرق من جاره» . رواه أحمد واللفظ له، ورواته ثقات والطبراني فِي الكبير والأوسط. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمن من أمنه الناس، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر السوء، والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة عبد لا يأمن جاره بوائقه» . رواه أحمد وأبو يعلى والبزار وإسناد أحمد جيد. لِلْجَارِ حَقُّ إِذَا أَدَّيْتَ وَاجِبَهُ ... جَازَاكَ رَبُّكَ بِالإِحْسَانِ إِحْسَانَا فَأَوَّلْ بِالْخَيْرِ خَيْرًا وَاثْنِينَّ بِهِ ... وَإِنْ أَتَى سَبَّهُ جَازَيْتَ غُفْرَانَا آخر: ... وَاغْضُضْ جُفُونَكَ عَنْ عَوْرَاتِ مَنْزِلِهِ ... وَأَوْلِهِ مِنْكَ لُطْفًا حَيْثُمَا كَانَا جَارِي أَرَى حِفْظَهُ حَقًّا وَنُصْرَتَهُ ... فَلَسْتُ أُسْلِمُ جَارِي عَزَّ أَوْهَانَا إِنْ كَانَتْ الدَّارُ فِيمَا بَيْنَنَا نَزَحَتْ ... فَأَنْتُمُوا فِي سُوَيْدَا الْقَلْبِ سُكَّانُ وَاللهِ مَا غَيَّرَتْنِي سَلْوةً عَرَضَتْ ... وَلا انْطَوَى لِي على الْهجْرَان جُثْمَانُ وَكَيْفَ أَنْسَاكُمْ وَالْقَلْبُ عِنْدَكُمْ ... وَفِي الْحَشَا مِنْكُمْ وَجْدَ وَأَشْجَانُ لا تَهْجُروا وَافِيًا يَرْعَى ذِمَامَكُمْ ... فَيَبْلُغُ الْغَرضَ الْحُسَّادُ لا كَانَوا

موعظة في التحذير من استغراق الأوقات في طلب الدنيا

قال بعضهم على لسان من فارقه من يألفه ويحبه: كََيْفَ السَّبِيلُ وَقَدْ شَطَّتْ بِنَا الدَّارُ ... أَمْ كَيْفَ أَصْبرُ وَالأَحْبَابُ قَدْ سَارُوا وَمَنْزِلُ الأُنْسُ أَضْحَى بَعْدَ سَاكِنِهِ ... مُسْتَوْحِشًا حِينَ غَابَتْ عَنْهُ أَقْمَارُ مَا كَانَ أَحْسَنَنَا وَالدَّارُ تَجْمَعُنَا ... وَالْعَيْشُ مُتَّصِلٌّ وَالْوَصْلُ مِدْرَارُ يَا سَاكِنِينَ بِقَلْبِي أَيْنَمَا رَحَلُوا ... وَرَاحِلِينَ بِقَلْبِي أَيْنَمَا سَارُوا غِبْتُمْ فَأَظْلَمَتِ الدُّنْيَا لِغَيْبَتِكُمْ ... وَضَاقَ مِنْ بَعْدِكُمْ رَحْبٌ وَأَقْطَارُ لَيْتَ الْغَرَابُ الَّذِي نَادَى بِفْرِقَتِكُمْ ... عَارٍ مِن الرِّيشِ لا تَحْوِيهِ أَوْكَارُ بَعْدَ النَّعِيمِ بَعُدْنَا عَنْ مَنَازِلِنَا ... وَبَعْدَ أَحْبَابِنَا شَطَّتْ بِنَا الدَّارُ وقال آخر: دَعُونِي على الأَحْبَابَ أَبْكِي وَأَنْدُبُ ... فَفِي الْقَلْبِ مِنْ نَارِ الْفُرَاقِ تَلَهُّبُ وَلا تَعْتِبُونِي إِنْ جَرَتْ أَدْمُعِي دَمًا ... فَلَيْسَ لِقَلْبٍ فَارَقَ الإِلْفَ مَعْتَبُ دَعُونِي على الأَحْبَابَ أَبْكِي وَأَنْدُبُ ... فَفِي الْقَلْبِ مِنْ نَارِ الْفُرَاقِ تَلَهُّبُ وَلا تَعْتِبُونِي إِنْ جَرَتْ أَدْمُعِي دَمًا ... فَلَيْسَ لِقَلْبٍ فَارَقَ الإِلْفَ مَعْتَبُ لَقَدْ جَرَحَ التَّفْرِيقُ قَلْبِي بِنَبْلِهِ ... فَمِنْ دَمِّهِ دَمْعِي على الْخَدِّ يَسْكُبُ أَأَحْبَابُنَا مَا بِاخْتِيَارِي فُرَاقُكُمْ ... وَلَكِنْ قَضَاءَ اللهِ مَا مِنْه مَهْرَبُ وَمَا كَانَ ظَنِّي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَنَا ... وَسُرْعَةَ هَذَا الْبَيْنِ مَا كُنْتُ أَحْسِبُ أَجُولِ بِطَرْفِي بَعْدَكُمْ فِي دِيَارِكُمْ ... فَارْجَعْ وَالنِّيرَانِ فِي الْقَلْبِ تَلْهَبُ آخر: ... بَكَيْتُ عَلَى الأَحِبَّةِ حِينَ سَارُوا ... وَأَزْعَجَنِي الرَّحِيلُ فَلا قَرَارُ أُنَادِيهِمْ بِصَوْتِي أَيْنَ حَلُّوا ... وَفِي قَلْبِي مِنَ الأَشْوَاقِ نَارُ يَقُولُ لِي الْعَذُولُ وَقَدْ رَآنِي ... وَفِي حَالِي لِمَنْ عَشَقَ اعْتِبَارُ أَتَجْهَرُ مَنْ تُحِبُّ وَأَنْتَ جَارُ ... وَتَطْلُبُهُ وَقَدْ شَطَّ الْمَزَارُ وَتَبْكِي عِنْدَ فُرْقَتِهِ اشْتِيَاقا ... وَتَسْأَلُ فِي الْمَنَازِلِ أَيْنَ سَارُوا

.. لِنَفْسِكَ لَمْ وَلا تَلم الْمَطَايَا ... وَمُتْ كَمَدًا فَلَيْسَ لَكَ اعْتِذَارُ موعظة: عباد الله لقد تباعدت القلوب فِي هذا الزمان تباعدًا ينبغي أن يبكي له أشد البكاء، وأصبحنا بهذا التباعد لا أخاء بيننا، والسبب الوحيد فِي ذلك أن عشقنا الدنيا قضى نهائيًا على كل محبوب، وأصبح الهدف الوحيد هو الحصول عليها من أي طريق كَانَ، فالقلب واللسان والجوارح مشغولة ليلاً ونهارًا فِي طلب الدنيا، فهي المنتهى والمشتهى على حد قول الشاعر فيها وهي تلقب أم دفر والدفر النتن: أَبَى الْقَلْبُ إِلا أُمَّ دَفْرٍ كَمَا أَبَى ... سِوَى أُمَّ عَمْروٍ مُوجَعُ الْقَلْبِ هَائِمُ هِيَ الْمُنْتَهَى وَالْمَشْتَهَى وَمَعَ السُّهَى ... أَمَانِي مِنْهَا دُونُهُنَّ الْعَظَائِمُ وَلَمْ تَلْقَنَا إِلا وَفِينَا تَحَاسُدٌ ... عَلَيْهَا وَإِلا فِي الصُّدُورِ سَخَائِمُ آخر: ... نَعَمْ إِنَّهَا الدُّنْيَا إِلَى الْغَدْرِ دَعْوَةً ... أَجَابَ إِلَيْهَا عَالِمٌ وَجَهُولُ فَفَارَقَ عَمْرُو بن الزُّبَيْرِ شَقِيقَهُ ... وَخَلَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَقِيلُ آخر: ... عَجِبْتُ مِنَ الدُّنْيَا وَذَمِّي نَعِيمَهَا ... وَحُبِّي لَهَا فِي مُضْمَرِ الْقَلْبِ بَاطِنُ وَقَوْلِي أَعِذْنِي رَبِّ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ ... وَأُكْلَفُ مِنْهَا بِالَّذِي هُوَ فَاتِنُ آخر: ... أَرَى أَشْقِيَاءَ النَّاسِ لا يَسْأَمُونَهَا ... عَلَى أَنَّهُمْ فِيهَا عُرَاةٌ وَجُوَّعُ أَرَاهَا وَإِنْ كَانَت تُحَبّ كَأَنَّهَا ... سَحَابَةُ صَيْفٍ عَنْ قَرِيب تَقَشَّعُ آخر: ... لِسَانُكَ لِلدُّنْيَا عَدُوٌ مُشَاحِنٌ ... وَقَلْبُكَ فِيهَا لِلسَانِ مُبَايِنُ وَمَا ضَرَّهَا مَا كَانَ مِنْكَ وَقَدْ صَفَا ... لَهَا مِنْكَ وَدٌ فِي فَؤُادِكَ كَامِنُ فللدنيا يعق الولد أباه ويقاطع أخاه، وهو يعرف تمامًا أنه شقيقه وللدنيا المشاغبات بين الجيران والمتعاملين فللدنيا مكانة اليوم أنست الخلق خالقهم ورازقهم فإن حضروا للصلاة فالأبدان حاضرة والقلوب مع الدنيا، فعلت الدنيا بالناس اليوم أفاعيل كنت تخطر على البال، ومن أجل الدنيا ترى الخلق فِي قلاقل وأهوال. زر المحاكم وانظر ترى العجب العجاب، كل ذلك وأعظم مِنْه

الحيلة لتسكين أذية الجار إذا كان المؤذي محترم ولم يكن عاصيا

سببه حب الدنيا والانهماك فيها فأين نحن من سلفنا الصالح الذين قال الله تعالى فِي وصفهم: {أَشِدَّاء على الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} فانظر شهادة الله لهم أنهم رحماء بينهم وهل تقتضي الرحمة إلا عطفًا مِنْهُمْ على إخوانهم وإحسانًا، وانظر إِلَى قوله تعالى: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} هكذا يكون المؤمنين، لذلك كَانَت هيبتهم فِي نفوس أعدائهم ترتعد مِنْهَا فرائض الشجعان وكانوا سادة الدنيا يشهد بذلك العدو قبل الصديق، فإن كنت فِي شك مما ذكرنا لك فانظر إلى مَا ذكره المحققون من المؤرخين. اللهم اجمع قلوب المؤمنين على محبتك وطاعتك، وأزل عنهم مَا حدث من المنكرات، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله عز وجل يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه» . قلت: يا رسول الله وما بوائقه؟ قال: «غشمه وظلمه ولا يكسب مالا ًمن حرام فينفق مِنْه فيبارك فيه، ولا يتصدق به فيقبل مِنْه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كَانَ زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ

ثلاثة من سعادة المرء وأربع من السعادة

ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبث لا يمحو الخبيث» . رواه أحمد. وعن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: جاء رجل إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو جاره قال: «أطرح متاعك على الطريق» . فطرحه فجعل الناس يمرون عليه ويلعنونه، فجاء إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله لقيت من الناس، قال: «وما لقيت مِنْهُمْ» ؟ قال: يلعنوني. قال: «قَدْ لعنك الله قبل الناس» . فقال: إني لا أعود، فجاء الذي شكاه إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ارفع متاعك فقد كفيت» . رواه الطبراني، والبزار بإسناد حسن بنحوه إلا أنه قال: «ضع متاعك على الطريق» . فوضعه فكان كل من مر به قال: مَا شأنك قال: جاري يؤذيني، قال: فيدعون عليه، فجاء جاره فقال: رد متاعك فإني لا أؤذيك أبدَا. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إِلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو جاره فقال: «اذهب فاصبر» . فأتاه مرتين أو ثلاثًا، فقال: «اذهب فاطرح متاعك فِي الطريق» . ففعل فجعل الناس يمرونه ويسألونه فيخبرهم خبر جاره، فجعلوا يلعنونه، فعل الله به وفعل، وبعضهم يدعو عليه، فجاء إليه جاره، فقال: ارجع فإنك لن ترى مني شيئًا تكرهه. رواه أبو داود واللفظ له وابن حبان فِي صحيحه والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم وعن مطرف بن عبد الله قال: كَانَ يبلغني عنك حديث وكنت أشتهي لقائك قال: لله أبوك قَدْ لقيتني فهات. قلت: حديث بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثك، قال: «إن الله عز وجل يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة» . قال فلا أخالني أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: فقلت فمن هؤلاء الثلاثة الذين يحبهم الله عز وجل قال: رجل غزَا فِي سبيل الله صابرًا محتسبًا فقاتل حتى قتل وأنتم تجدونه عندكم فِي كتاب الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} . قلت: ومن؟ قال: (ورجل كَانَ له جار سوء يؤذيه فيصبر على أذاه حتى يكفيه الله إياه بحياة أو موت) . فذكر الحديث رواه أحمد والطبراني واللفظ له وإسناده واحد إسنادي أحمد رجالهما محتج بهم فِي الصحيح ورواه الحاكم وغيره بنحوه وقال: صحيح على شرط مسلم. وعن نافع بن الحارث رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سعادة المرء الجار الصالح والمركب الهني والمسكن الواسع» . رواه أحمد ورواته رواة الصحيح. وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهني. وأربع من الشقاء: الجار السوء، والمرأة السوء، والمركب السوء، والمسكن الضيق» . رواه ابن حبان فِي صحيحه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله أن فلانة تكثر من وصلاتها وصدقتها وصيامها غير إنها تؤذي جيرانها بلسانها. قال: «هي فِي النار» . قال: يا رسول الله فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصلاتها وإنها تتصدق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها، قال: «هي فِي الجنة» . رواه أحمد والبزار وابن حبان فِي صحيحه، والحاكم وقال: صحيح الإسناد. ورواه أبو بكر بن أبي شيبة بإسناد صحيح أيضًا ولفظه وهو لفظ

اللسان قد يقضي على الصلاة والصيام، ويليه موعظة في الفرق بيننا وبينهم السلف الصالح في طلب المال وصيانة الوقت

بعضهم قالوا: يا رسول الله فلانة تصوم النهار، وتقوم الليل وتؤذي جيرانها، قال: «هي فِي النار» . قالوا: يا رسول الله فلانة تصلي المكتوبات وتصدق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها، قال: «هي فِي الجنة» . وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة من الفواقر، إمام إن أحسنت لَمْ يشكر وإن أسأت لَمْ يغفر، وجار سوء إن رأى خيرًا دفنه، وإن رأى شرًّا أذاعه، وامرأة إن حضرت آذتك وإن غبت عنها خانتك» . رواه الطبراني بإسناد لا بأس به. وفي حديث أنس: «اثنان لا ينظر الله إليهما يوم القيامة قاطع رحم وجار سوء» . وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (موعظة) عباد الله لقد كَانَ سلفنا فِي محبة بعضهم بعضًا آية من الآبيات وكان التراحم بينهم بالغًا مبلغًا يعده أهل الإنصاف غاية الغايات لذلك كَانَوا فِي محبة الخير لبعضهم على أرقى مَا يتصور فِي الدرجات. وهل يتصور أن يكون فِي أشد الجوع ويؤثر أخاه بماله من طعام عاملين بقوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} وقوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ على حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} وبقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه مَا يحب لنفسه» . وإن الخجل ونحن إذا فتشنا ثم فتشنا لا نجد قلبين مع بعضهما معية الإخاء التام يكون الجار فِي نهاية الفقر ولا يلتفت إليه جاره المثري وينزل

بالأخ الشقيق أو العم الشقيق أو نحوهما مَا ينزل من الكوارث ولا أثر لنزولها عند أخيه ولا كَأنَه يرى تلك المصائب الفادحة ولعلك منتظر الجواب مَا هو السبب فِي ذلك فألق سمعك وأحضر قلبك. فأقول: لكل الناس اليوم شغل واحد هو المال شغلهم عما عداه وأنساهم كل مَا سواه ملأ القلوب حب هذا المال حتى لَمْ يبق فِي القلوب متسع لسواه فمن أجله تستباح الأعراض ومن أجله تراق الدماء ومن أجله يكون الصفا والمعاداة هو القطب الذي تدور حوله أفعال العباد فِي هذا الزمان. فالقلوب فِي سرور مَا دام المال سالمًا وإن انهار بناء الشرف والدين والنفوس فِي هدوء وطمأنينة مَا ابتعد عن المال فإذا قرب حوله هاجوا هيجان الجمال وهم فِي تواصل مَا لَمْ يتعرض للمال فإذا تعرض له انقطعت الصلات حتى بين الأقربين من آباء وأمهات وأولاد وإخوان. وهذا من ثمرات البخل قال بعضهم: البخيل يستعجل الفقر الذي هرب مِنْه ويفوته الغنى الذي يطلبه فيعيش فِي الدنيا عيش الفقراء ويحاسب حساب الأغنياء فالبخيل هو الوحيد الذي يستبشر ورثته بمرضه وموته وتجده ليله ونهاره مستغرق فِي جمع المال لا يفتر خوفًا من الفقر وهذا هو الفقر كما قيل: وَمَنْ يُنْفِقِ السَّاعَاتِ فِي جَمْعِ مَالِهِ ... مَخَافَةَ فَقْرٍ فَالَّذِي فَعَلَ الْفَقْرُ آخر: ... يُفْنِي الْبَخِيلُ بِجَمْعِ الْمَالِ مُدَّتَهُ ... وَلِلْحَوَادِثِ وَالْوُرَّاثِ مَا يَدَعُ كَدُودَةِ الْقِزِّ مَا تَبْنِييهِ يَهْدِمُهَا ... وَغَيْرِهَا بِالَّذِي تَبْنِيهِ يَنْتَفِعُ آخر: وَذِي حِرْصٍ تَرَاهُ يُلِمُّ وَفْرًا ... لِوَارِثِهِ وَيَدْفَعُ عَنْ حِمَاهُ كَكَلْبِ الصَّيْدِ يَمْسِكَ وَهُوَ طَاوٍ ... فَرِيسَتَهُ لِيَأْكُلَهَا سِوَاهُ

أما علم هؤلاء أن المال الذي كَانَ بأيدينا كَانَ قبلنا بيد إخواننا فِي الإنسانية الذين سبقونا إِلَى الدنيا ثم انتقل على من بعدهم من جيل إِلَى جيل إِلَى أن وصل سعد به صرفه مراضي الله وشقي به من صرفه فِي مَا يغضب الله. ولعلك يا أخي تتكدر إذا علمت أنه سينتقل عنك فِي أسرع وقت فلا تفزع ولا تتكدر ووطن نفسك وأعلم أنك والله ميت وموروث عنك مَا جمعت ومنعت رغم أنفك يتمتع به ذلك الوارث العاق أو البار وأنت تسأل عنه هللة وقرشًا قرشًا. وتكون النتيجة إن كنت جموعًا منوعًا شقاءً تستغيث فلا تغاث وتتمنى لو كَانَت الدنيا بيدك وافتديت نفسك بها تكون النتيجة ذلك إن كنت من المغرورين الغافلين الذين ظنوا أن السعادة كلها تيسير جمع المال وتكديسه عندك آلافًا وملايين وعمائر وفلل وأراضي وبيوت كدأب أهل هذا العصر الغافل المظلم بالمعاصي والبدع والمنكرات. الذي اعتاض أهله عن كتاب الله وسنة رسوله العكوف على الجرائد حمالة الكذب والمجلات الخليعات والكتب الهدامات والجلوس حول الملاهي والمنكرات فسوف تندم وتتحسر حينما ينكشف عنك الغطا ويتبين لك ذلك الخطأ وتتمنى أنك أمضيت أوقاتك فِي طاعة مولاك وهيهات أن يحصل لك مناك ذهب الأوان وبقي الندم والحرمان. قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ * وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ * وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ} . لقد أنسى حب هذا المال مَا لهم من شرف ومروءة ودين

قصيدة في غربة الدين وإهمال كثير من المسلمين لتعاليم دينهم

وجعلهم حول حطام الدنيا كما وصفهم الشافعي رحمه الله: وَمَا هِيَ إِلا جِيفَةٌ مُسْتَحِيلَةٌ ... عَلَيْهَا كِلابٌ هَمُّهُنَّ اجْتِذَابُهَا فَإِنْ تَجْتَنِبْهَا كُنْتُ سِلْمًا لأَهْلِهَا ... وَإِنْ تَجْتَذِبْهَا نَازَعَتْكَ كِلابُهَا أما علموا أن المال من خدم الدين فإذا تجاوز ذلك كَانَ نكبة على أصحابه وكذاك الأولاد إن كَانَوا غير صالحين فهم ضرر على أبيهم وعَلَى أنفسهم وكذلك الزوجة ولذلك ورد عن داود عليه السلام أنه كَانَ يقول: (اللهم إني أعوذ بك من جار السوء ومن مال يكون عليَّ عذابًا ومن ولد يكون وبالاً ومن زوجة تشيبني قبل المشيب ومن خليل ماكر عينه ترعاني وقلبه يشناني إن رأى خيرًا أخفاه وان رأى شرًا أفشاه) . وقيل إنه سئل عيسى عليه السلام عن المال فقال: لا خير فيه. قيل: ولم يا نبي الله؟ قال: لأنه يجمع من غير حل. قيل: فإن جمع من حل؟ قال: لا يؤدى حقه. قيل: فإن أدى حقه؟ قال: لا يسلم صاحبه من الكبر والخيلاء. قيل: فإن سلم؟ قال: يشغله عن ذكر الله. قيل: فإن لَمْ يشغله. قال: يطيل عليه حسابه يوم القيامة. فتأمل هذه العقبات الخمس وقليل من يتجاوزها سالمًا وورد عن عطاء بن السائب عن أبي البختري قال: كَانَ بين عمار بن ياسر وبين رجل كلام فِي المسجد فقال عمار: أسأل الله تعالى إن كنت كاذبًا أن لا يميتك حتى يكثر مالك وولدك ويوطئ عقبك. وورد عن حذيفة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خياركم فِي المائتين كل خفيف الحاذ» . قالوا: يا رسول الله وما الخفيف الحاذ؟ قال: «الذي لا أهل له ولا ولد» . شِعْرًا: ... يَقُولُ الَّذِي يَرْجُو مِنَ اللهِ عَفْوَُه وَيَرْجُوهُ نَصْرًا عَاجِلاً غَيْرَ آجِلِ لِمَنْ يَتَّقِي الْمَوْلَى وَيَرْجُو لِقَاءَهُ وَعَمَّا يَقُولُ النَّاسُ لَيْسَ بِسَائِلِ

أَقُولُ بِحَمْدِ اللهِ قَوْلاً مُنَقَّحًا وَلَوْ أَنَّ فَهْمِي قَاصِر فِي الْمَسَائِلِ عَلَيْهِ مِنْ النَّصِّ الصَّرِيحِ شَوَاهِدٌ إِذَا قُلْتُهُ يَهْوِي لَهُ كُلَّ عَاقِلِ أَسِرُّ بِمَا بِي وَالْعُيُونُ عَوَابِرٌ بِدَمْعٍ على الْخَدَّيْنِ ثَجًّا بِوَابِلِ وَفِي مُدَّعِي الإِسْلامِ قَلْبِي كََأَنَّهُ عَلَى الْمُهْلِ مِنْهُمْ لَيْسَ عَنْهُمْ بِذَاهِلِ فَمَا بَيْنَ دَهْرِي وَمَا بَيْنَ مُشْرِكٍ وَلَمْ يَعْرِفِ الإِسْلامَ غَيْرُ الْقَلائِلِ وَلَوْ بَذَلُوا الأَمْوَالَ نَفْلاً لِرَبِّنَا إِذَا الْفَرْضُ ضَاعَ لا غِنَى بِالنَّوَافِلِ تَرَكْنَا الْكِتَابَ وَالْحَدِيثَ وَرَاءَنَا لأَجْلِ مَجَلاتٍ أَتَتْ بِالتَّهَازُلِ لَقَدْ حَصَّلَ الْمَقْصُودَ مِنَّا عَدُوَّنَا وَمَقْصُودُنَا مِنْهُمْ فَلَيْسَ بِحَاصِلِ مَشَيْنَا جَمِيعًا فِي فَسَادِ صَلاحِنَا وَرُمْنَا مَرَامًا خَاسِرًا غَيْرَ طَائِلِ وَتَسْتَعْجِبُ الأَعْدَاءُ مِنَّا لأَنَّنَا كَمِثْلِ الْقَطَا تَصْطَادُنَا بِالْحَبَائِلِ أَحَاطَتْ بِنَا الأَعْدَاءُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ كَأَنَّا طَعَامٌ قَدَّمُوهُ لآكِلِ ج

وَصَارُوا بِحَارًا يُغْرِقُ الْفُلْكَ مَوْجُهَا وَنَحْنُ لَهُمْ صِرْنَا كَمِثْلِ الْجَدَاوِلِ وَنَخْتَرِعُ الأَعْدَاءِ لِلْحَرْبِ قُوَّةً وَقَدْ هَدَّدَتْ مَنْ لَمْ يُطِعُ بِالْقَنَابِلِ وَلَيْسَ لَنَا مِنَّا زَعِيمٌ مُصَادِمٌ أَتَتْ تَتَمَطَّى مَا لَهَا مِنْ مُقَابِلِ وَنَحْنَ هَبَطْنَا لِلتُّرَابِ تَوَاضُعًا نُرِيدُ نَجَاحًا مِنْ خَفِيفِ الْقَسَاطِلِ (فَتَبًّا لِعَبْدٍ الدَّنَانِيرِ كُلُّهُمْ وَتَبًّا لِخَبٍّ جَاهِلٍ مُتَعَاقِلِ) وَتَبًّا لِقَوْمٍ عَزَّ فِيهِمْ سَفِيهُهُمْ وَصَارَ ذَلِيلاً عِنْدَهُمْ كُلُ فَاضِلِ وَمِنْ أَعْظَمِ الْخُسْرَانِ عِزُّ عَدُوِّهِمْ وَذُلِّهُمْ مِنْ بَعْدَ عِزِّ الأَوَائِلِ فَيَا لَيْتَ لِلإِسْلامِ فِي الْحَالِ شَوْكَةً ذُووا نَجْدَةٍ يَخْشَاهُمُ كُلَّ جَاهِلِ رِجَالٌ يَرَوْنَ الْمَوْتَ مَجْدًا وَجَنَّةً عَنِ الذُّلِّ مِنْ فِعْلِ الصُّقُورِ الْحِلاحِلِ تَذُودُ عَنِ الدِّينِ الْقَوِيمِ بِسَيْفِهَا وَمِنْ أَرْضِهَا تَنْفِي جَمِيعَ الأَرَاذِلِ اللهم اختم بالسعادة آجالنا وحقق بالزيادة أعمالنا واقرن بالعافية غدونا

إكرام الضيف والترغيب فيه وتوجيهات النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه لذلك

وآصالنا واجعل إِلَى رحمتك مصيرنا ومآلنا واصبب سجال عفوك على ذنوبنا ومن بإصلاح عيوبنا واجعل التقوى زادنا وفي دينك اجتهادنا وعليك توكلنا واعتمادنا إلهنا ثبتنا على نهج الاستقامة وأعذنا من موجبات الندامة يوم القيامة واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) ومما حث الشارع عليه وهو من سنن المرسلين إكرام الضيف قال الله تعالى عن الخليل عليه السلام: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} . ويذكر أنه كَانَ لا يأكل طعامه إلا مع ضيف وإن لَمْ يأته أحد خرج يلتمس ضيفَا وقال صلى الله عليه وسلم: «من كَانَ يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» . ورغب فيها صلى الله عليه وسلم وقال: «من أقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان وقرى الضيف دخل الجنة» . وقال صلى الله عليه وسلم لعبد بن عمرو رضي الله عنهما: «فإن لجسدك عليك حقَّا وإن لعينك عليك حقَّا وإن لزورك عليك حقَّا» . والحديث رواه البخاري ومسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود فأرسل إِلَى بعض نسائه فقالت: لا والذي بعثك بالحق مَا عندي إلا ماء ثم أرسل إِلَى الأخرى فقالت: مثل ذلك حتى قلن كلهن مثل ذلك: لا والذي بعثك بالحق مَا عندي إلا ماء.

فقال: «من يضيف هذا الليلة رحمه الله» . فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله فانطلق به إِلَى رحله فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا إلا قوت صبياني قال: فعلليهم بشيء فإذا أرادوا العشاء فنوميهم فإذا دخل ضيفا فأطفئي السراج ورأيه أنا نأكل. وفي رواية فإذا أهوى ليأكل فقومي إِلَى السراج حتى تطفئيه قال: فقعدوا وأكل الضيف وباتا طاويين فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «قَدْ عجب الله من صنيعكما بضيفكما» . زاد فِي رواية فنزلت هذه الآية {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} . وعن أبي شريح خويلد بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كَانَ يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة والضيافة ثلاثة أيام فما كَانَ بعد ذلك فهو صدقة ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه» . رواه مالك والبخاري ومسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيما ضيف نزل بقوم فأصبح الضيف محرومًا فله أن يأخذ بقدر قراه ولا حرج عليه» . رواه أحمد ورواته ثقات والحاكم. وعن شهاب بن عباد أنه سمع بعض وفد عبد القيس وهم يقولون: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتد فرحهم فلما انتهينا إِلَى القوم أوسعوا لنا فرحب بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا لنا. ثم نظر إلينا فقال: «من سيدكم وزعيمكم» . فأشرنا جميع إِلَى المنذر بن عائد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أهذا الأشج فكان أول يوم وضع عليه الاسم لضربة كَانَت فِي وجهه بحافر حمار» . قلنا: نعم يا رسول الله فتخلف بعد القوم فعقل رواحلهم وضم متاعهم.

وأبيات في الحث عليه والأدب مع الضيف

ثم أخرج عيبته فألقى عنه ثياب السفر ولبس من صالح ثيابه ثم أقبل إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم وَقَدْ بسط النبي صلى الله عليه وسلم رجله واتكأ فلما دنا مِنْه الأشج أوسع القوم له وقالوا: ها هنا يا أشج فقال النبي صلى الله عليه وسلم واستوى قاعدًا وقبض رجله: «ها هنا يا أشج» . فقعد عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحب به وألطفه وسأله عن بلادهم وسمى لهم قرية الصفا والمشقر وغير ذلك من قرى هجر. فقال: بأبي وأمي يا رسول الله لأنت أعلم بأسماء قرانا منا فقال: «إني وطئت بلادكم وفسح لي فيها» ثم أقبل على الأنصار فقال: «يا معشر الأنصار أكروما إخوانكم أشباهكم فِي الإسلام شيء بكم أشعارًا وأبشارًا أسلموا طائعين غير مكرهين ولا موتورين إذ أبى قوم أن يسلموا حتى قتلوا» . قال: فلما أصبحوا قال: «كيف رأيتم كرامة إخوانكم وضيافتهم إياكم» . قالوا: خير إخوان ألانوا فرشنا وأطابوا مطعمنا وباتوا وأصبحوا يعلمونا كتاب ربنا تبارك وتعالى وسنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فأعجب النبي - صلى الله عليه وسلم - وفرح. رواه أحمد بإسناد صحيح. وإكرام الضيف يكون بحسن استقباله ويقابله بوجه ويهش به ويبش ويرحب به ويؤهل ويظهر له من السرور مَا تطيب به نفسه ويطمئن به قلبه من حسن حديث مما يناسب حاله ومقامه وابتسام ومداعبة فِي حشمه واحترام وقديمًا قيل: إِذَا الْمَرْءُ وَافَى مَنْزلاً لَكَ قَاصِدًا ... قَرَاكَ وَأَرْمَتْهُ لَدَيْكَ الْمَسَالِكُ فَكُنْ بَاسِمًا فِي وَجْهِهِ مُتَهَلِّلاً ... وَقُلْ مَرْحَبًا أَهْلاً وَيَوْمٌ مُبَارَكُ وَقَدِّمْ لَهُ مَا تَسْتَطِيعُ مِنَ الْقِرَا ... عَجُولاً وَلا تَبْخَلْ بِمَا هُوَ هَالِكُ فَقَدْ قِيلَ بَيْتٌ سَالِفٌ مُتَقَدِّمٌ ... تَدَاوَلَهُ زَيْدٌ وَعَمْرُو وَمَالِكُ (بَشَاشَةُ وَجْهِ الْمَرْءِ خَيْرَ مِنْ الْقِرَا ... فَكَيْفَ بِمَنْ يَأْتِي بِهِ وَهُوَ ضَاحِكُ)

آداب تتعلق بالضيف والمضيف

ج آخر: ... أَمِتْ ذِكْرَ مَعْرُوفٍ تُرِيدُ حَيَاتُهُ ... فَإِحْيَاؤُهُ حَقًّا أَمَانَةُ ذِكْرِهِ وَصَغِّرْهُ يَعْظُمْ فِي النُّفُوسِ مَحَلُّهُ ... فَتَصْغِيرُهُ فِي النَّاسِ تَعْظِيمٌ قَدْرِهِ آخر: ... وَمَا لِي وَجْهٌ فِي اللِّئَامِ وَلا يَدٌ ... وَلَكِنَّ وَجْهِي لِلْكَرِيمِ عَرِيضُ أَحِنُّ إِذَا لاقَيْتُهُمْ وَكَأَنَّنِي ... إِذَا أَنَا لاقَيْتَ اللَّئِيمَ مَرِيضُ آخر: ... وَمَا اكْتَسَبَ الْمَحَامِدَ طَالِبُوهَا ... بِمِثْلِ الْبِشْرِ وَالْوَجْهِ الطَّلِيقِ آخر: ... وَمَا اكْتَسَبَ الْمَعَالِي طَالِبُوهَا ... بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضَ الْجَلِيلُ آخر: ... أَخُو الْبِشْرِ مَحْمُودٌ على حُسْنِ بِشْرِهِ ... وَلَنْ يَعْدِمِ الْبَغْضَاءَ مَنْ كَانَ عَابِسَا آخر: ... يَقُولُونَ لِي هَلْ لِلْمَكَارِمِ وَالْعُلَى ... قَوَامٌ فَفِيهِ لَوْ عَلِمَتَ دَوَامُهَا فَقُلْتُ لَهُمْ قَوْلاً صَحِيحًا مُحَقَّقًا ... نَعَمْ طَاعَةُ الرَّحْمَنِ فَهِي قَوَامُهَا آخر: ... لا يُدْرِكُ الْمَجْدُ مَنْ لَمْ يُخْلِصِ الْعَمَلا ... لِخَالِقِ ذِي الْفَضْل الَّذِي شَمَلا وَلا يَنَالُ الْعُلا إِلا الَّذِي شَرُفَتْ ... أَخْلاقُهُ وَلأَمْرِ اللهِ مُمْتَثِلا آخر: ... جِيء بِالسَّمَاحِ إِذَا مَا جِئْتَ فِي غَرَض ... فَفِي الْعُبُوسِ لَدَى الْحَاجَاتِ تَصْعِيبُ سَمَاحَةُ الْمَرْءِ تُنْبِي عَنْ فَضِيلَتِهِ ... فَلا يَكُنْ لَكَ مَهْمَا اسْتَطَعْتَ تَقْطِيبُ آخر: ... أُضَاحِكُ ضَيْفِي قَبْلَ إِنْزَالِ رَحْلِهِ ... وَيُخْصِبُ عِنْدِي وَالْمَحَلُّ جَدِيبُ وَمَا الْخَصْبِ لِلأَضْيَافِ أَنْ يَكْثُرَ الْقُرَى ... وَلَكِنَّمَا وَجْهُ الْكَرِيمِ خَصِيبُ ولا يريه من فقره وسوء حاله وقلة ذات اليد فإنه ربما ضاق بذلك ذرعًا ويتنكد عليه المقام ويتكدر لتلك الشكوى ثم إن كَانَ عاقلاً صاحب دين رَقَّ

له ورحمة وقدم مَا عنده له وانعكست المسألة فأصبح ضيفًا عليه صاحب المنزل بعد أن كَانَ ضيفًا له. وإن كَانَ جاهلاً غير دين شتمك وذمك وخرج من عندك ساخطًا يقول: مَا لا ينبغي وينسب إليك أشياء ربما أنك بريء مِنْهَا ولا تحتقر مَا عندك بل قدم له مَا تيسر من الطعام والشراب كما هي طريقة السلف الصالح رضي الله عنهم فإنهم كَانَوا يقدمون للضيف ولو كَانَ شيئا يسيرًا ويقولون: هو أحسن من العدم. وَقَدْ دخل ضيف على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فقدم له نصف رغيف ونصف خيارة وقال له: كل فإن الحلال فِي هذا الزمان لا يحتمل السرف. وأخرج سلمان رضي الله عنه إِلَى ضيف خبزًا وملحًا وقال: لولا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهانا عن التكلف لتكلفت لك. وقال إبراهيم النخعي رضي الله عنه: إن الإنسان لا يبخل بما تيسر ظانًا أنه لا يليق بضيفه وأنها لا تتم الضيافة به وأنه لا يذكر معه بخير فخير له أن يقال: جاد بما لديه. من أن يقال فيه: أغلق بابه وغيب وجهه عن ضيف نزل به. وفي الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه دخل عليه نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقدم إليهم خبزًا وخلاً فقال: كلوا فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «نعم الإدام الخل» . إنه هلاك بالرجل أن يدخل إليه النفر من إخوانه فيحتقر مَا فِي بيته أن يقدمه إليهم وهلاك بالقوم أن يحتقروا مَا قدم إليهم وفي رواية: كفى بالمرء شرًا أن يحتقر مَا قدم إليهم. وفي رواية: كفى بالمرء شرًا أن يحتقر مَا قدم إليه. ولا ينبغي أن يستأثر بخير مَا عنده من البر واللحم والسمن والعسل والفاكهة ونحو ذلك ويقدم لضيفه الرديء والجاف والناشف أو مَا يكرهه هو وأهله من رديء الطعام والشراب ولا يجب عليه إنزال الضيف فِي بيته لما فيه

اصطناع المعروف وفعل البر والآداب لذلك

من الحرج والمشقة إلا أن لا يجد الضيف مسجدًا ولا رباطًا ولا محلا فيه ولا يخاف مِنْه ضررًا على نفسه أو ماله أو أهله فليلزم إنزاله فِي بيته للضرورة فإن خاف فلا يلزمه. ويجوز للضيف الشرب من كوز صاحب البيت والاتكاء على وسادة موضوعة وقضاء حاجته فِي الصهروج أو الكنيف من غير استئذان بالفظ لأنه مأذون فيه عرفَا كقرع الباب عليه هذا إذ كَانَ قريبًا من محل الضيف وإلا فلا بد من تنبيه. شِعْرًا: وَمَنْ يَجْعَلِ الْمَعْرُوفَ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ ... يُلاقِي كَمَا لاقَى مُجِيرُ أُمُّ عَامِرِ سَقَاهَا وَرَوَّاهَا فَلَمَّا تَضَلَّعَتْ ... فَرَتْهُ بِأَنْيَابٍ لَهَا وَأَظَافِرِ فَقُلْ لِذَوِي الْمَعْرُوفِ هَذَا جَزَاءُ مَنْ ... يُوَصِّلُ مَعْرُوفًا إِلَى غَيْرِ شَاكِرِ والله أعلم وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه وسلم. (فَصْلٌ) وينبغي أن يخرج مع الضيف إذا خرج ويدخل معه إذ دخل ويحفظ له دابته ومتاعه ويقضي له حاجته ويحمل معه مَا يشريه لنفسه ويسعى فِي تسهيل الطريق له مَا أمكن من مساعدته على رخصة أمتعته وجواز سفر ونحوه. وينبغي للضيف أن يكون خفيف النفس لطيفًا يفهم بالإشارة، يباشر أعماله بنفسه ولا يكلف مضيفه ويشغله عن شئونه ولا يكلفه فوق طاقته ولا يتأفف ويتكره من طعام قدم إليه ولا يترفع عن مكان أعد له وأنزل فيه ولا يعيب شيئًا مما يراه ويغض بصره ويكف سمعه ولا يتجسس أخبار أهل البيت ولا يتحكم بالحاشية ولأطفال والخدم. ولا يطيل الإقامة حتى يحرج صاحب المنزل كما يفعله الثقلاء ولا يقول

إلا خيرًا ولا يفعل إلا فعل الكرام الذين يشكرون الصنيع ويكافئون على الإحسان وعَلَى المضيف أن يحتسب الأجر من الله على فعله المعروف ويغتنم مثل هذه الأعمال ولا يأل جهدًا فِي اصطناع المعروف مهما أمكنه ذلك فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «صناع المعروف تقي مصارع السوء» . وقال علي رضي الله عنه: لا يزهدك فِي المعروف كفر من كفره فقد يشكر الشاكر بأضعاف جحود الكافر وقال الشاعر: مَنْ يَفْعَلَ الْخَيْرَ لا يَعْدَمُ جَوَازِيَهُ ... لا يَذْهَبُ الْعُرْفُ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسُ آخر: ... إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكَ إِحْسَانٌ تَجُودُ بِهِ ... فَجُدْ بِجَاهِكَ إِنَّ الْجَاهَ إِحْسَانُ آخر: ... وَمَا نِعْمَةٌ مَشْكُورَةٌ قَدْ صَنَعْتُهَا ... إِلَى غَيْرِ ذِي شُكْرٍ بِمَانَعَتِي أُخْرَى سَآتِي جَمِيلاً مَا حَيَيْتُ فَإِنَّنِي ... إِذَا لَمْ أُفِدْ شُكْرًا أَفَدْتُ بِهِ أَجْرَا قالوا: وينبغي لمن قدر إسدائه للمعروف أن يعجله حذرًا من فواته ويبادر به خيفة عجزه ويتحرى الأخيار الكرام كما يتحرى لزراعته الرياض الطيبة وليحذر من بذر المعروف باللئام الأنذال فإنهم كالأرض السبخة تمرر الماء العذب وتفسد البذر ولا تأمن مِنْهُمْ أن ينالك جزاء إحسانك إليهم سوء وقديمًا قيل: وَلا تَصْطَنِعْ إِلا الْكِرَامَ فَإِنَّهُمْ ... يُجَازُونَ بِالنَّعْمَاءِ مَنْ كَانَ منْعِمَا وَمَنْ يَتَّخِذْ عِنْدَ اللِّئَامِ صَنِيعَةً ... يَظَلُّ على آثَارِهَا مُتَنَدِّمَا آخر: ... إِذَا شِئْتَ أَنْ تُعْطِي الأُمُورَ حُقُوقِهَا ... وَتُوقِعَ حكْمَ الْعَدْلِ أَحَْسَن مَوْقِعِهِ فَلا تَصْنَعِ الْمَعْرُوفَ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ ... فَظُلْمُكَ وَضْعُ الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ آخر: ... لَيْسَ الْكَرِيمُ الَّذِي يُعْطِي عَطِيَّتَهُ ... عَنِ الثَّنَاءِ وَإِنْ أَغْلَى بِهِ الثَّمَنَا إِنَّ الْكَرِيمُ الَّذِي يُعْطَى عَطِيَّتَهُ ... يَقْصُدْ رِضَى رَبِّهِ لا يَبْتَغِي ثَمَنَا وَلا يُرِيدُ بِبَذْلِ الْعُرْفِ مُحْمَدَةً ... وَلا يَمُنُّ إِذَا مَا قَلَّدَ الْمِنَنَا

آخر: ... كَمْ طَامِعَ بِالثَّنَا مَنْ غَيْر بَذْلِ يَدٍ ... وَمُشْتَهٍ حَمْدَهُ لَكِنْ بِمَجَّانِ وَالنَّاسُ أَكْيَسُ مِنْ أَنْ يَحْمَدُوا رَجُلاً ... حَتَّى يَرَوْا عِنْدَهُ آثَارَ إِحْسَانِ آخر: ... إِذَا كُنْتُمُو لِلنَّاسِ فِي الأَرْضِ قَادَةً ... فَسُوسُوا كَرَامَ النَّاسِ بِالْحلم وَالْعَدْلِ وَسُوسُوا لِئَامُ النَّاسِ بِالذُّلِّ وَحْدَهُ ... صَرِيحًا فَإِنَّ الذُّلَّ أَصْلَحُ لِلنَّذْلِ آخر: ... أَمَرُّ وَأَمْضَى مِنْ سُمُومِ الأَرَاقَمَ ... وَأَوْجَعُ مِنْ ضَرْبِ السُّيُوفِ الصَّوَارِمِ وُقُوفُ فَتَىً حُرِّ تَقِيٍّ مُهَذَّبٍ ... عَلَى بَابِ نَذْلٍ لارْتِيَادِ الْمَطَاعِمِ أَلا إِنَّ قَصْدَ الْحُرِّ لِلنَّذْل هُجْنَةٌ ... عَلَيْهِ وَلَوْ أَعْطَاهُ مُلْكَ الأَعَاجِمِ آخر: ... مَتَى تَحْمَدْ صَدِيقَ السُّوءِ فَاعْلَمْ ... بِأَنَّكَ بَعْدَ ُمَحْمَدَةٍ تَذُمُّهْ كَطِفْلٍ رَاقَةُ تَرْقِيشُ صِلّ ... فَلَمَّا مَسَّهُ أَرَادَهُ سُمَّهْ آخر: ... مَتَى تُسْدِ مَعْرُوفًا إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ ... رُزئْتَ وَلَمْ تَظْفُرْ بِحَمْدِ وَلا أَجْرِ آخر: ... مَدَحْتُكُمْ طَعَمًا فِيمَا أَؤمِّلُهُ ... فَلَمْ أَنَلْ غَيْرَ حَظَّ الإِثْمِ وَالتَّعَبِ إِنْ لَمْ تَكُنْ صِلَةٌ مِنْكُمْ لِذِي أَدَبٍ ... فَأُجْرَةُ الْخَطِّ أَوْ كَفَّارَةُ الْكَذِبِ آخر: ... وَاخْشَ الأَذَى عِنْدَ إِكْرَامِ اللَّئِيمِ كَمَا ... تَخْشَى الأَذَى إِنْ أَهَنْتَ الْحُرَّ ذَا النُّبلِ وقال آخر: وَمَنْ يَجْعَلِ الضِّرِغَامِ لِلصَّيْدِ بَازَهُ ... تَصَيَّدُه الضِّرْغَامُ فِيمَا تَصَيَّدَا وَمَا قَتَلَ الأَحْرَارَ كَالْعَفْوُ عَنْهُمْ ... وَمَنْ لَكَ بِالْحُرِّ الَّذِي يَحْفَظُ الْيَدَا إِذَا أَنْتَ أَكْرَمْتَ الْكَرِيمَ مَلَّكْتَهُ ... وَإِذَا أَنْتَ أَكْرَمْتَ اللَّئِيمَ تَمَرَّدَا فَوَضْعُ النِّدَا فِي مَوْضِعِ السَّيْفِ باِلْعُلا ... مُضِر كَوَضْعِ السَّيْفِ فِي مَوْضِعِ النَّدَا آخر: ... إِذَا افْتَقَرَ الْكَرِيمَ فَمِلْ إِلَيْهِ ... فَشَمُّ الْوَرْدِ بَعْدَ الْقَطْفِ عَادَهْ وَإِنْ أَثْرَى اللَّئِيمُ فَصُدَّ عَنْهُ ... فَبَيْتُ الْمَاءِ تُفْسِدُهُ الزِّيَادَهْ آخر: ... إِذَا مَا أَتَيْنَاهُ فِي حَاجَةٍ ... رَفَعْنَا الرِّقَاعَ لَهُ بالْقَصَبْ لَهُ حَاجِبٌ دُونَهُ حَاجِبُ ... وَحَاجِبُ حَاجِبِهِ يَحْتَجِبْ

.. النَّاس بِالنَّاسِ مَا دَامَ الْحَيَاةُ بِهِمْ ... وَالسَّعْدُ لا شَكَّ تَارَاتٌ وَتَارَاتٌ وَأَفْضَلُ النَّاسِ مَا بَيْنَ الْوَرَى رَجُلٌ ... تُقْضَى على يَدِهِ لِلنَّاسِ حَاجَاتُ لا تَمْنَعَنَّ يَدَ الْمَعْرُوفِ عَنْ أَحَدٍ ... مَا دُمْتَ مُقْتَدِرًا فَالسَّعْدُ تَارَاتُ وَاشْكُرْ فَضَائِلَ صُنْعِ اللهِ إِذْ جُعِلَتْ ... إِلَيْكَ لا لَكَ عِنْدَ النَّاسِ حَاجَاتُ قَدْ مَاتَ قَوْمٌ وَمَا مَاتَتْ مَكَارِمُهُمْ ... وَعَاشَ قَوْمٌ وَهُمْ فِي النَّاسِ أَمْوَاتُ ولا يهمله ثقة مِنْه بظن القدرة عليه فكم من واثق بالقدرة فاتت فأعقبت ندمًا وكم من معول على مكنة فأورثت خجلاً كما قيل: مَا زِلْتَ أَسْمَعُ كَمْ مِنْ وَاثِقٍ خَجَلٍ ... حَتَّى ابْتُلِيتُ فَكُنْتُ الْوَاثِقَ الْخَجِلا ولو فطن لنوائب دهره وتحفظ من عواقب أمره لكانت مغانمه مدخورة ومغارمه محبورة فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من فتح عليه باب من الخير فلينتهزه فإنه لا يدري متى يغلق عنه» . وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لكل شيء ثمرة وثمرة المعروف السراح» . أي التعجيل وقال بعضهم: من أخر الفرصة عن وقتها فليكن على ثقة من فوتها. شِعْرًا: ... جُودُ الكريم إذا مَا كَانَ عَن عِدَةٍ ... وَقَدْ تَأَخَّرَ لَمْ يَسْلَمْ مِنَ الْكَدَرِ إِنَّ السَّحَائِبَ لا تُجْدِي بِوَارِقُهَا ... نَفْعًا إِذَا هِيَ لَمْ تُمْطِحر على الأَثَرِ يَا دَوْحَةَ الْجُودِ لا عَتْبٌ على رَجُلٍ ... يَهُزُّهَا وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى الثَّمَرِ شِعْرًا: ... إِنَّ الْعَطِيَّةَ رُبَّمَا أَزى بِهَا ... عِنْدَ الَّذِي تُقْضَى لَهُ تَطْوِيلهَا فَإِذَا ضَمِنْتَ لِصَاحِبٍ لَكَ حَاجَةً ... فَاعْلَمْ بِأَنَّ تَمَامَهَا تَعْجِيلُهَا آخر: ... إِذَا هَبَّتْ رِيَاحُكَ فَاغْتَنِمْهَا ... فَإِنَّ لِكُلِّ خَافِقَةٍ سُكُونُ وَلا تَغْفَلْ عَنِ الإِحْسَانِ فِيهَا ... فَمَا تَدْرِي السُّكُونُ مَتَى يَكُونُ آخر: ... أَحْسِنْ إِذَا كَانَ إِمْكَانٌ وَمَقْدِرَةٌ ... فَلَنْ يَدُومَ على الإِحْسَانِ إِمْكَانُ فعَلَى الإنسان العاقل أن يساعد أخاه المسلم على فعل معروف أو دفع ملمة بماله وجاهه ولا يقتدي بمن لا خير فيه لا فِي جاه ولا مال يهمه إلا نفسه

فقط قال الشاعر: إِذَا كُنْتَ لا تُرْجَى لِدَفْعِ مُلِمَّةِ ... وَلَمْ يَكُ لِلْمَعْرُوفِ عِنْدَكَ مَوْضِعُ وَلا أَنْتَ ذُو جَاهٍ يُعَاشِ بِرَئْيِهِ ... وَلا أَنْتَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ تَشْفَعُ فَعَيْشُكَ فِي الدُّنْيَا وَمَوْتُكَ وَاحِدُ ... وَعُودُ خِلالٍ مِنْ حَيَاتِكَ أَنْفَعُ وليحرص فاعل المعروف على ضيف أو غيره على مجانبة الامتنان وترك الإعجاب بفعله لما فِي من إسقاط الشكر وإحباط الأجر فإنه قَدْ روي عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إياكم والامتنان بالمعروف فإنه يبطل الشكر ويمحق الأجر» . ثم تلا - صلى الله عليه وسلم - آية البقرة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى} فالمان بالمعروف والإحسان غير محمود وفي ذلك يقول الشاعر: إِذَا الْجُودُ لَمْ يُرْزَقْ خَلاصًا مِن الأَذَى ... فَلا الْحَمْدُ مَكْسُوبًا وَلا الْمَال بَاقِيَا وقال العباس: لا يتم المعروف إلا بثلاث خصال تعجيله وتصغيره وستره فإذا عجلته هنأته وإذا صغرته عظمته وإذا سترته تممته على أن ستر المعروف من أقوى أسباب ظهوره وأبلغ دواعي نشره لما جلبت عليه النفوس من إظهار مَا خفي وإعلان مَا كتم قال الشاعر: خَلٌّ إِذَا جِئْتَهُ يَوْمًا لِتَسْأَلُهُ ... أَعْطَاكَ مَا مَلَكَتْ كَفَّاهُ وَاعْتَذَرَا يُخْفِي صَنَائِعُهُ وَاللهُ يَعْلَمُهَا ... إِنَّ الْجَمِيلَ إِذَا أَخْفَيْتُهُ ظَهَرَا آخر: ... لا تَسْأَلِ النَّاسَ وَالأَيَّامُ عَنْ خَبَرٍ ... هَمَا يَبُثَّانِكَ الأَخْبَارُ تَطْفِيلا وَلا تُعَاتِبْ على نَقْصِ الطِّبَاعِ أَخَا ... فَإِنَّ بَدْرَ السَّمَا لَمْ يَعْطِ تَكْمِيلا شِعْرًا: ... إِذَا الْمَرْءُ أَبْدَى الْخَيْرَ مُكْتَتِمًا لَهُ ... فَلا بُدَّ أَنَّ الْخَيْرَ يَوْمًا سَيَظْهَرُ وَيكْسَى رِدَاءً بِالَّذِي هُوَ عَامِلٌ ... كَمَا يَلْبِسُ الثَّوْبَ التَّقِيُّ الْمُشَهَّرُ آخر: ... وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئٍ مِنْ خَلِيقَةٍ ... وَإِنْ خَالََهَا تَخْفَى على النَّاسِ تُعْلَمِ

موعظة بليغة جدا تصلح خطبة للجمعة وتتعلق بالصلاة

اللهم هب لنا ما وهبته لأوليائك وتوفنا وأنت راض عنا وَقَدْ قبلت اليسير منا واجعلنا يا مولانا من عبادك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (موعظة) عباد الله إن الصلاة من أعظم الأمانات عندكم، مطلوب، منكم أن تؤدوها وتقيموها قال تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ} وقال: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} فالله سبحانه أمرنا بالمحافظة على الصلاة فِي أوقاتها والقيام فيها خاشعين خاضعين لجلالته وعظمته، وجعلها طريق الفوز والسعادة فِي العاجل والآجل قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} . ذلك أن الصلاة الكاملة تنير القلب وتهذب النفس وتعلم العبد آداب العبودية لله وواجبات الربوبية، بما تغرسه فِي قلب العبد المؤمن من إجلال الله وتعظيمه وتقديره، والتجلي بمكارم الأخلاق كالصديق والأمانة والقناعة والوفاء والحلم والحياء والتواضع والعدل والصبر والإحسان. وتوجهه إِلَى مولاه، فتكثر له مراقبته وخدمته حتى تعلو بذلك همته، وتقوى عزيمته وتزكو نفسه، فيبتعد عن الكذب والخيانة، والأيمان الكاذبة، والشر والغدر والغضب والكبر والرياء، ويترفع عن البغي والعدوان، ودناءة الفسوق والعصيان والفساد قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} . فبالمحافظة على الصلاة تقوى النفس على احتمال الشدائد، وتثبت عند نزول البلايا والمحن، ويسهل عليه البذل حالة الغنى واليسار، قال الله

تعالى: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} شِعْرًا: ... إِذَا أُلْهِمَ الإِنْسَانُ ذِكْرًا لِرَبِّهِ ... وَكَانَ بِمَا يَأْمُرْ بِهِ اللهُ آتِيَا فَهَذَا الْفَتَى لا مَنْ يَكُونُ مُضَيِّعًا ... لأَمْرِ الَّذِي فَوْقَ السَّمَاوَاتِ عَالِيَا ثم انظروا عباد الله ماذا كَانَ من آثار ترك الصلاة، كَانَ من آثاره كثرة الشر ووسائل الشر، وانتشار الفواحش والمنكرات، من سفور وآلات لهو وحلق لحية علنًا وشرب دخان علنًا وصور مجسدة وغير مجسدة، وغش وتدليس وربا وعقوق والدين وقطيعة رحم وشهادة زور وقذف ولعن وغية ونميمة وأغاني من مذياع وفديو وتلفزيون ونحو ذلك من البدع المحرمة وتشبه بأعداء الإسلام بجعل خنافس وإسبال ثوب وجعل شنبات مع حلق لحية وتشبه بالنساء ومغازلة لهن وتسمية لأعداء الإسلام بسيد ومعلم وأستاذ ونحو ذلك مما يقشعر مِنْه جلد المسلم وتفتت له كبده فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وهو حسبنا ونعم الوكيل وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن الأمانة من الأخلاق الفاضلة وأصل من أصول الديانات، وهي ضرورية للمجتمع الإنساني، لا فرق بين حاكم وموظف وصانع وتاجر وزارع ولا بين غني وكبير وصغير، فهي شرف الغني وفخر الفقير وواجب الموظف ورأس مال التاجر وسبب شهرة الصانع، وسر نجاح العامل والزارع، ومفتاح كل تقدم بإذن الله، ومصدر كل سعادة ونجاح بإذن الله. وليست الأمانة مقصورة على الودائع التي تؤمن عند الناس من غال

من أنواع الأمانة الحج والحواس والسمع والبصر واليد والرجل والعقل

وثمين كالنقدين وما ناب عنهما من أوراق، وكالجواهر والحلي والأموال بل الأمانة أوسع من هذا كله، فهي عمل لكل ما لله فيه طاعة، وامتثال واجتناب كل ما لله فيه مخالف وعصيان، سواء كَانَ ذلك فِي عبادة الله أو فِي معاملة عباده. فالصلاة أمانة عندك مطلوب منك أن تؤديها فِي وقتها إن لَمْ يكن عذر شرعي كاملة غير منقوصة مستوفية لفرائضها وشروطها وأدائها بقلب مملوءة من الخشوع والخضوع، وجسم مملوء من الطمأنينة والاتزان. والزكاة أمانة عندك مطلوب أن تصوم وأن تصون صيامك عن مَا يفسده، وأن تتحرى الحلال للسحور والفطور، وأن لا يفكر عقلك إلا فِي خير ولا ينطق لسانك إلا حسنًا، ولا تسمع أذنيك إلا طيبًا ولا تنظر عينك إلا مباحًا ولا تمد يدك إلا إِلَى إصلاح ولا يسعى قدمك إلا طاعة ومعروف. والحج أمانة لله فِي عنقك إن كنت ممن توفرت لديه الشروط وهي الإسلام والحرية والبلوغ والعقل والاستطاعة وتزيد المرأة شرطًا سادسًا وهو وجود محرم لها، وتؤدي مَا عليك من حقوق لله ولعباده. وتنتظر ذلك المال الذي ستحج به أهو حلال أم حرام، وهل جمعته مع عرق جبينك أو إرثًا أو من دماء الناس وسرقة مَا لهم بغش ونحوه، وهل تريد حج رياء وسمعة أو ابتغاء وجه الله، والمهم أن تفتش على نفسك قبل العمل لئلا تخسر الدنيا والآخرة. وبقدر مَا يكون الإنسان مقصرًا فِي عبادة من هذه العبادات يكون غير موف لأمانته تمامًا، فينبغي للإنسان أن يستحضر فِي كل ساعة وفي كل نظرة

موعظة بليغة صالحة خطبة وكل المواعظ تصلح خطب

ولفتة وفي كل إشارة وفي كل حركة وسكون أنه مطالب بالأمانة فلسانك أمانة عندك إن حفظته من الكذب والغيبة والنميمة والسخرية بعباد الله والقذف والفحش ونحو ذلك مما نهى عنه الشرع واستعملته فِي تلاوة كلام الله والباقيات الصالحات، فقد حفظت هذه الأمانة. والأذن أمانة، إن جنبتها استماع المحرمات من الغيبة والملاهي والغناء وكلام من لا يرضون باستماعك ويكرهون ذلك واستعملتها في استماع ما يعود نفعه إليك فِي الدنيا والآخرة فقد حفظت هذه الأمانة. ورجلك أمانة عندك إن استعملتها بالمشي إِلَى مَا أمر الله به، وحجزتها عن السير إِلَى مَا نهى الله عنه فقد حفظتها. وكذلك الفرج إن جنبته الزنا واللواط والاستمناء باليد وكل مَا نهى الله عنه، واستعملته فيما أباحه لك الشرع فقد حفظته قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} . وكذلك العقل إن استعملته فيما يعود عليك بالسعادة دنيا وأخرى ولم تستعمله في المكر والدهاء وخداع المسلمين والكيد لهم ونحو ذلك فقد حفظته. ومن معاني الأمانة وضع كل شيء في مكانه اللائق به والجدير له فلا يسند منصب إلا لمن ترفعه كفايته له، أما من يعجز عن القيام به فلا يجوز له فلا إسناده إليه، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني، قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: «يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها» . والله أعلم وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (موعظة) عباد الله تمر الحياة بأحدنا وهو منهمك فِي ملذاته وشهواته

ومطاعمه، لا يفكر فِي مآله ولا فِي يوم حسابه وكأنه خالد فِي الدنيا لا يموت أبدا، أو كَانَ عنده يقين أنه لا يحاسب على مَا جناه. ومن العجيب أنه لا يمر يوم بل ولا ساعة إلا وفي ذلك نذير لابن آدم بالرحيل عن هذه الدار، يشاهد الموت يتخطف الناس من حوله فلا يزدجر، وتقوم الحوادث الجسام من حروب تفني آلافًا من البشر وتهدد الأحياء بالالتحاق بمن مات، وبالمجاعات والخراب، فلا يتعظ ولا يعتبر. ويرى الحرائق مَا بين آونة وآونة تتلف النفوس والأموال والمساكين، وكيف تكون حالة الناس ومطافيهم، فلا يذكر جهنم وأهوالها وأنكالها وما فيها من أنواع العذاب الذي لا تصمد له الجبال الصم الصلاب، قست القلوب، وتحجرت الضمائر {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} {ِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} . أيها الغافلون، دنياكم دار غرور وهموم وأحزان، وهي بلا شك فانية، وأخراكم دار قرار باقية، وأجهل الناس من باع آخرته بدنياه والتقوى مفتاح السعادتين الدنيوية والأخروية، ضمان ضمنه الله لعباده، ووعد لا يتخلف، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} . أما المعاصي والغفلة والنسيان والطغيان، فليس من ورائها إلا ضنك المعيشة فِي الدنيا بالهموم المبرحة والأحزان المجرحة مع العذاب الأليم فِي الآخرة، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} الآيات. أيها العاقلون كلكم تعلمون أن الغفلة تنسي العبد ربه وآخرته، ومن نسي ربه أنساه الله نفسه، قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} ، فلا تتعرضوا بذلك لسخطه وكونوا دائمًا ذاكرين للآخرة، فإن

قصيدة مضمنة نصيحة في الحث على تقوى الله وطاعته ومكارم الأخلاق والتحذير من أضرارها ويليها الولاية وشروط

ذلك يبعث على الخوف من الله، ومن خاف ربه استقام بإذن الله، قال الله تعالى {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} والله أعلم وصلى الله على محمد وآله. شِعْرًا: ... وَصِيَّتِي لَكَ يَا ذَا الْفَضْلِ وَالأَدَبِ إِنْ شِئْتَ أَنْ تَسْكُنَ الْعَالِي مِنَ الرُّتَبِ وَتُدْرِكَ السَّبْقَ والْغَايَاتِ تَبْلُغُهَا مُهَنَّأًَ بِمَنَالِ الْقَصْدِ وَالأَدَبِ تَقْوَى الإِلَه الَّذِي تُرْجَى مَرَاحِمُهُ الْوَاحِدُ الأَحَدُ الْكَشَّافُ لِلْكُرَبِ أَلْزَمْ فَرَائِضَهُ وَاتْرُكْ مَحَارِمَهُ وَاقْطَعْ لَيَالِيكَ وَالأَيَّامِ فِي الْقَرْبِ وَأَشْعِرِ الْقَلْبَ خَوْفًا لا يُفَارِقُهُ مِنْ رَبِّهِ مَعَهُ مِثْلٌ مِنْ الرَغَبِ وَزَيِّنِ الْقَلْبَ بِالإِخْلاصِ مُجْتَهِدًا وَاعْلَمْ بِأَنَّ الرَّيَا يُلْقِيكَ فِي الْعِطَبِ وَنَقِّ جَيْبَك مِنْ كُلِّ الْعُيُوبِ وَلا تَدْخُلْ مَدَاخِلَ أَهْلِ الْفِسْقِ وَالرِّيبِ وَاحْفَظْ لِسَانَكَ مِنْ طَعْنٍ على أَحَدٍ مِن الْعِبَادِ وَمِنْ نَقْلٍ وَمِنْ كَذِبِ وَكُنْ وَقُورًا خَشُوعًا غَيْرَ مُنْهَمِكٍ فِي اللَّهْوِ وَالضِّحْكِ وَالأَفْرَاحِ وَاللَّعَبِ وَنَزِّهِ الصَّدْرَ مِنْ غِشٍّ وَمِنْ حَسَدٍ

.. وَجَانِبْ الْكِبْرَ يَا مِسْكِينُ وَالْعُجُبِ وَارْضَ التَّوَاضُعَ خُلَقًا إِنَّهُ خُلُقُ الـ أَخْيَارِ فَاقْتَدْ بِهِمْ تَنْجُو مِنْ الْوَصَبِ وَخَالِفِ النَّفْسَ وَاسْتَشْعِرْ عَدَاوَتَهَا وَارْفُضْ هَوَاهَا وَمَا تَخْتَارُهُ تُصِبِ وَإِنْ دَعَتْكَ إِلَى حَظٍّ بِشَهْوَتِهَا فَاشْرَحْ لَهَا غِبَّ مَا فِيهِ مِنَ التَّعَبِ وَازْهَدْ بِقَلْبِكَ فِي الدَّارِ الَّتِي فَتَنَتْ طَوَائِفًا فَرَأَوْهَا غَايَةَ الطَّلَبِ تَنَافَسُوهَا وَأَعْطَوْهَا قَوَالِبَهُمْ مَعَ الْقُلُوبِ فَيَا للهِ مِنْ عَجَبِ وَهِيَ الَّتِي صَغُرَتْ قَدْرًا وَمَا وَزَنَتْ عِنْدَ الإِلَهِ جَنَاحًا فَالْحَرِيصُ غَبِي وَخُذْ بَلاغَكَ مِنْ دُنْيَاكَ وَاسْعَ بِهِ سَعْيَ الْمَجْدِ إِلَى مَوْلاكَ وَاحْتَسِبِ وَاعْلَمْ بِأَنَّ الَّذِي يَبْتَاعَ عَاجِلَهُ بِآجِلٍ مِنْ نَعِيمٍ دَائِمٍ يَخِبِ وَإِنْ وَجَدْتَ فَوَاسِ الْمَعْوِزِينَ تَفِضْ عَلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الأَرْزَاقُ فَاحْتَسِبِ وَإِنْ بُلِيتَ بِفَقْرٍ فَارْضَ مُكْتَفِيًا باللهِ مِنْ رَبِّكَ الْفَضْلَ وَارْتَقَبِ وَاتْلُ الْقُرْآنَ بِقَلْبٍ حَاضِرٍ وَجَلٍ

من معاني الأمانة الحرص على أداء الواجب

.. عَلَى الدَّوَامِ وَلا تَذْهَلْ وَلا تَغِبِ وَاذْكُرْ إِلَهَكَ ذِكْرًا لا تُفَارِقُهُ وَادْعُ الإِلَهَ وَقُلْ يَا فَارِجِ الْكُرَبِ يَا رَبِّ إِنَّكَ مَقْصُودِي وَمُعْتَمَدِي وَمُرْتَجَايَ بِدُنْيَايَ وَمُنْقَلَبِي فَاغْفِرْ وَسَامِحْ عُبَيْدًا مَا لَهُ عَمَلٌ بِالصَّالِحَاتِ وَقَدْ أَوْعَى مِنَ الْحُوبِ اللهم قو إيماننا بك وبملائكتك وبكتبك وبرسلك وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره وثبتنا على قولك الثابت فِي الحياة الدنيا وفي الآخرة واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) فالولاية شروطها الحفظ والعلم والقوة والأمانة، فالواجب أن يختار للعمل أحن الناس قيامًا به، فإن عدل عنه إِلَى غيره لهوىً أو رشوة أو قرابة فهذه خيانة ممن ولاه أو تسبب فِي الولاية، قال صلى الله عليه وسلم: «من استعمل رجلاً على عصابة وفيهم من هو أرضى لله مِنْه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين» . رواه الحاكم. وعن أبي يعلي معقل بن يسار رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَا من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة» . وفي رواية لمسلم: «مَا من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة» . وعن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى الله عز وجل يوم القيامة مغلولة يده إِلَى عنقه ففكه بره أو أوبقة إثمه أولها ملامة وأوسطها ندامة وآخرها خزي يوم القيامة» . وعن أبي هريرة مرفوعًا «ويل للأمناء ويل للعرفاء ليتمنين أقوام يوم

من معاني الأمانة ويليها أبيات زهدية

القيامة أن ذوائبهم كَانَت معلقة بالثريا يتذبذبون بين السماء والأرض ولم يكونوا عملوا على شيء» . وفي أفراد مسلم من حديث أبي ذر قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: «يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها» . وفي لفظ آخر: «يا أبا ذر إني أحب لك مَا أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم» . وفي الحديث الآخر: «أيما رجل استعمل رجلاً على عشرة أنفس علم أن فِي العشرة أفضل ممن استعمل فقد غش الله ورسوله وغش جماعة المسلمين» . قلت: وفي زماننا المظلم بالمنكرات والمعاصي كثير من الأعمال يتولاها أناس لا يصلون كفرة فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وهو حسبنا ونعم الوكيل. وعن يزيد بن أبي سفيان قال: قال لي أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين بعثني إِلَى الشام: يا يزيد إن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالإمارة وذلك مَا أخاف عليك بعد مَا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ولي من أمر المسلمين شيئًا فأمر عليهم أحدًا محاباة فعليه لعنة الله لا يقبل الله مِنْه صرفًا ولا عدلاً حتى يدخله جهنم» . رواه الحاكم. والأمة التي لا أمانة لها هي التي تنتشر فيها الرشوة وتعمل على إهمال الأكفاء وإبعادهم وتقديم الذين ليسول أهلاً للمناصب، وهذا من علامات الساعة الذي وقع. فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً سأله متى تقوم الساعة فقال: «إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة» . فقال: وكيف إضاعتها؟ قال: «إذا وسد الأمر لغير أهله فانتظر الساعة» . رواه البخاري. ومن معاني الأمانة أن يحرص الإنسان على أداء واجبه كاملاً فِي العمل الذي يناط به وأن يستنفد جهده فِي تكميله وتحسينه وأن يفي بجميع مَا اتفقا عليه عملاً ووقتًا، والخيانة تتفاوت، فما أصاب الدين وجمهور

المسلمين وتعرضت البلاد لأذاه أشد إثمًا ونكرًا وشناعة، وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء يعرف به فقال: هذه غدرة فلان» . رواه البخاري. وفي رواية: «لكل غادر لواء عنه إسته يرفع له بقدر غدرته ألا ولا غادر أعظم من أمير عامة» . ومن الأمانة أن لا يستغل الإنسان منصبه الذي عين فيه لجر منفعة له أو إِلَى قريبه فأخذ زيادة على مَا رتب له من بيت المال بطرق ملتوية. إما بتناول رشوة وإما بتناول رشوة باسم هدية أو تحفة يتناولها هذا الخائن بتأويلات باطلة أو بمحاباة أو مجاملة صديق أو رفيق أو جارٍ بما فيه ضرر على عموم المسلمين أو بأية ذريعة ووسيلة من وسائل الاستغلال النفوذي، فكل ذلك غش وخيانة، وما أخذ فهو سحت لأنه ثمرة خيانة وغدر وخداع ومكر، قال تعالى: {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} . وعن عدي بن عميرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من استعملناه منكم على عمل فكتما مخيطًا فما فوقه كَانَ غلولاً يأتي به يوم القيامة» . فقام إليه رجل أسود من الأنصار كَأنَي انظر إليه فقال: يا رسول الله أقبل عني عملك قال: «ومالك» . قال: سمعتك تقول كذا وكذا قال: «وأنا أقول الآن من استعملناه على عمل فليجيء بقليله وكثيره فما أوتي مِنْه أخذ وما نهي عنه» . انتهى رواه مسلم. شِعْرًا: ... يَغْدُ إِلَى كَسْبِ قِيرَاط أَخُو عَمَل ... لَوْ يُوزَنُ الإِثْمُ فِيهِ كَانَ قِنْطَارَا وعن أبي حميد الساعدي قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له ابن اللتيبة على الصدقة فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي فخطب النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: «أما بعد فإني استعمل رجالاً منكم على أمور ولاني الله فيأتي

أحدكم فيقول: هذا لكم وهذا هدية أهديت لي فهلا جلس فِي بيت أبيه أو بيت أمه فينظر أيهدي له أم لا والذي نفسي بيده لا يأخذ مِنْه شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كَانَ بعيرًا له رغا أو بقرًا له خوارٌ أو شاة تيعر» . ثم رفع يديه حتى رأينا عَفْرَتَيْ إبطيه ثم قال: «اللهم هل بلغت» . متفق عليه، قال الخطابي: وفي قوله: «هلا جلس فِي بيت أبيه أو أمه فينظر أيهدي إليه أم لا» . دليل على أن كل أمر يتذرع به إِلَى محظور فهو محظور. وكل داخل فِي العقود ينظر هل يكون حكمه عند الانفراد كحكمه عند الاقتران أم لا. أما الذي يلتزم حدود الله فِي وظيفته ولا يخون الواجب الذي طوقه فهو من المجاهدين قال صلى الله عليه وسلم: «العامل إذا استعمل فأخذه الحق وأعطى الحق لَمْ يزل كالمجاهد فِي سبيل الله حتى يرجع إِلَى بيته» . شِعْرًا: ... فَلِلَّهُ دَرُّ الْعَارِفِ النَّدْبِ إِنَّهُ تَسِحُّ لِفَرْطِ الْوَجْدِ أَجْفَانُهُ دَمَا يَقِيمُ إِذَا مَا اللَّيْلُ مَدَّ ظَلامَهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ مَأْتَمَا فَصِيحًا بِمَا قَدْ كَانَ مِنْ ذِكْرِ رَبِّهِ وَفِيمَا سِوَاهُ فِي الْوَرَى كَانَ أَعْجَمَا وَيَذْكُرُ أَيَّامًا مَضَتْ مِنْ شَبَابِهِ وَمَا كَانَ فِيهَا بِالْجَهَالَةِ أَجْرَمَا فَصَارَ قَرِينَ الْهَمِّ طُولَ نَهَارِهِ وَيَخْدِمُ مَوْلاهُ إِذَا اللَّيْلُ أَظْلَمَا يَقُولُ إِلَهِي أَنْتَ سُؤلِي وَبُغْيَتِي كَفَى بِكَ لِلرَّاجِينَ سُؤْلاً وَمَغْنَمَا

من معاني الأمانة حفظ الأسرار والودائع.... الخ

عَسَى مَنْ لَهُ الإِحْسَانُ يَغْفِرُ زِلَّتِي وَيَسْتُرُ أَوْزَارِي وَمَا قَدْ تَقَدَّمَا اللهم أذقنا عفوك وأسلك بنا طريق مرضاتك. وعاملنا بلطفك وإحسانك واقطع عنا مَا يبعد عن طاعتك الله وثبت محبتك فِي قلوبنا وقوها ويسر لنا مَا يسرته لأوليائك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) ومن معاني الأمانة حفظ الأسرار التي لا يرضى أهلها أن تذاع فكم من أضرار على الأبدان والأموال والأعراض حصلت بإفشاء الأسرار إلا إذا كَانَت الأسرار فيها على المسلمين فليس لها حرمة ولا يجوز كتمها وعَلَى كل مسلم شهد مجلسًا يمكر فيه المجرمون بغيرهم ليلحقوا به الأذى أن يسارع إِلَى الحيلولة دون الفساد جهد طاقته فإن ذلك خطر عظيم وفساد كبير، وَقَدْ قال صلى الله عليه وسلم: «المجلس بالأمانة إلا مجلس سفك دم حرام أو فرج حرام أو اقتطاع مال بغير حق، ومما يتعين كتمه وستره مَا يجري بين الرجل وامرأته مما يفضي به أحدهما إِلَى الآخر فإن التحدث به خيانة لهذه الأمانة» . إِذَا الْمَرْءُ أَفْشَى سِرَّهُ بِلِسَانِهِ ... وَلامَ عَلَيْهِ غَيْرَه فَهُوَ أَحْمَقُ إِذَا ضَاقَ صَدْرُ الْمَرْءِ عَنْ سِرِّ نَفْسِهِ ... فَصَدْرُ الَّذِي يُسْتَوْدَعُ السِّرِّ أَضْيَقُ فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن من أشر الناس منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إِلَى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها» . والثرثارون من أحلى وألذ مَا يتسامرون به فِي مجالسهم منكر من أقبح المنكرات، ألا وهو مَا يقع بينهم وبين أزواجهم فِي الخلوات الخاصة من كلام وأفعال، وما يكون من الرجال قليل من مَا يكون من النساء فإن الكلام فِي هذا الموضوع عادتهن

الوحيدة وهذه معصية من أفحش المعاصي ووقاحة محرمة. وعن أسماء بنت يزيد أنها كَانَت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والرجال والنساء قعود عنده، فقال: «لعل رجلاً يقول مَا فعل بأهله ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها» . فأزم القوم - أي سكتوا وجلين - فقلت: أي والله يا رسول الله إنهم ليفعلون وإنهن ليفعلن قال: «فلا تفعلوا فإنما مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانة فغشيها والناس ينظرون» . رواه أحمد. شِعْرًا: إِنَّ الْكَرِيمَ الَّذِي تَبْقَى مَوَدتُه ... وَيَحْفَظُ السِّرَ إِنْ صَافَا وَإِنْ صَرَمَا لَيْسَ الْكَرِيمُ الَّذِي إِنْ زَلَّ صَاحِبُه ... بَثَّ الذي كَانَ مِن أَسْرَارِهِ عَلْمَا روى عن بعض الورعين أنه أراد طلاق امرأته فقيل له: مَا الذي يريبك مِنْهَا. فقال: العاقل لا يهتك سترَا. فلما طلقها قيل له: الآن طلقتها. فقال: مَا لي ولا مرأة غيري (المعنى عليَّ وعليها ستر الله) . وهكذا الرجال الذي يعرفون قدر الأمانة والغالب أن إخبار الناس بالأسرار يترتب عليه أضرار فلذلك قيل حول هذا الكلام: احْفَظْ لِسَانَكَ لا تَبُحْ بثلاثةٍ ... سِنٍّ ومالٍ إِنْ سُئِلْتَ ومَذْهَب فَعَلَي الثلاثَةِ تُبْتَلَى بِثَلاثةٍ ... بِمَُكَفِّرٍ وبِحَاسِدٍ ومُكَذِّبِ ومن الأمانة الوضوء فإن أداه كاملاً بدون مجاوزة للحد فقد حفظ هذه الأمانة وإن أداها وإن فرط فيها وأهمل بعض الأعضاء أو بعض الجسم فِي الغسل أو تعدى إِلَى الوسواس وفاتت لمولاه فقد خان أمانته. وكذلك الكيل والوزن أمانة إن أداه على الوجه المطلوب بلا بخس ولا غش فقد حفظها وأداها، وإن بخس أو غش أو دلس فقد خان أمانته. وكذلك أولادك أمانة عندك إن أحسنت فيهم وربيتهم تربية صالحة

من معاني الأمانة العلم ويليها التحذير من كتم العلم

ووجهتهم توجيهًا حسنًا فقد أديت أمانتك وإن أهملهم ولَمْ يبال بهم فقد خان أمانته. وكذلك الودائع التي تدفع إِلَى الإنسان ليحفظها حينًا ثم يردها إِلَى أصحابها حين يطلبونها أو إِلَى الحاكم إن فقدوا ومن يخلفهم وتعذر عليه إيصالها إليهم وأيس من مجيء صاحبها، فهذه من الأمانات التي يسأل عنها، وَقَدْ استخلف - صلى الله عليه وسلم - عند هجرته ابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليسلم المشركين الودائع التي استحفظها مع أن هؤلاء المشركين كانوا بعض الأمة التي استفزته من الأرض واضطرته إِلَى ترك وطنه فِي سبيل عقيدته، قال ميمون بن مهران: ثلاثة مؤدبين إِلَى البر والفاجر الأمانة والعهد وصلة الرحم. وكذلك التلميذ أمانة يجب على الأستاذ أن يوجهه إِلَى العلوم النافعة والعقائد السليمة ويحذره من البدع وما يضره فِي دينه ويحذره من أهل البدع ويبين مَا يعرفه من الكتب المظل دراستها والعلماء المنحرفين عن الصراط المستقيم ليجتنبهم وكتبهم، ويذكر له العلماء المحققين المستقيمين وكتبهم ليقتنيها فيتأثر بها بإذن الله وتحل العقيدة السليمة فِي قلبه ويسعد فِي حياته وبعد مماته بإذن الله تعالى. ويحذره من كتب الأشاعرة والشيعة والمعتزلة ومن علمائهم ومن أضر مَا على المسلمين اليوم الأشاعرة وكتبهم والرافضة وكتبهم عصمنا الله وجميع المسلمين مِنْهُمْ ومن كتبهم وبدعهم التي عمت وطمت وصرفت كثيرًا من الناس عن طريقة السلف الخالصة من شوائب البدع. ويكون هذا المعلم المخلص هو السبب الوحيد لاستقامة هذا التلميذ وهدايته فيا لها من تجارة ويا له من ربح، ويا لها من نصيحة فنجد التلميذ إن كَانَ وافيًا شكورًا يدعوا لمواجهة دائمًا وإن لَمْ يكن كذلك فأجر المعلم والموجه

قصيدة في أن الناس ما منهم سلامة

المخلص لا يضيع عند الله، قال تعالى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} والناس يختلفون فيهم روض وسبح. قال بعضهم: لَعَمْرُكَ مَا المَعْرُوفُ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ ... وفي أَهْلِهِ إِلاَّ كَبَعْضِ الوَدَائِعِ فََمُسْتَودٌع ضَاعَ الذِي كَانَ عِنْدَهُ ... وَمُسْتَوْدَعٌ مَا عِنْدَهُ غَيْرُ ضَائِعِ وَمَا النَّاسُ فِي كُفْرِ الأَيَادِي وَشُكْرِهَا ... إلى أَهْلِهَا إِلاَّ كَبَعْض المَزارِعِ فَمَزْرَعَةُ أَجْدَتْ فَأَضْعَفْ زَرْعُهَا ... وَمَزْرَعَةٌ أَكْدَتْ على كُلِّ زَارِعِ وكذلك العمل أمانة فِي عنق العالم يسأل عنه يوم القيامة إذا لَمْ سنشره بين الناس وينور به قلوبهم يكون خائنًا لأمانته وغاشًّا لإخوانه قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} . قال بعض المفسرين على هذه الآية: والتنديد بكتمان مَا أنزل الله من الكتاب المقصود به أولاً أهل الكتاب ولكن مدلول النص العام ينطبق على أهل كل ملة يكتمون الحق الذي يعلمونه ويشترون به ثمنًا قليلاً إما هو النفع الخاص الذي يحرصون عليه بكتمانهم للحق والمصالح الخاصة التي يتحرونها بهذا الكتمان ويخشون عليها من البيان وإما هو الدنيا كلها وهي ثمن قليل حين تقاس على مَا يخسرونه من رضى الله ومن ثواب الآخرة. انتهى. وقال آخر: وهذه الآية توجب إظهار علوم الدين منصوصة كَانَت أو مستنبطة وتدل على امتناع جواز أخذ الأجرة على ذلك إذ غير جائز استحقاق الأجر على مَا يجب فعله بلغ يا أخي الذين يأكلون بالكتب الدينية ويحتكرونها باسم تحقيق أو نشر نسأل الله العافية.

وَقَدْ روى الأعرج عن أبي هريرة أنه قال: إنكم تقولون أكثر أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والله الموعد، وأيم لولا آية فِي كتاب الله مَا حدثت بشيء أبدًا، ثم تلا {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الآية. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» . رواه أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن حبان فِي صحيحه والبيهقي ورواه الحاكم بنحوه وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كتم علمًا مما ينفع الله به الناس فِي أمر الدين ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار» . رواه ابن ماجة ومن الأمانة فِي العلم إنك إذا أبديت رأيًا ثم أراك الدليل القاطع أو الراجح أن الحق فِي غير مَا أبديت أن تصدع بما استبان لك أنه الحق. ولا يمنعك من الجهر به أن تنسب إِلَى سوء النظر فيما رأيته أولاً، والأمانة حملت كثيرًا من العلماء على أن يظهروا رجوعهم عن كثير من آراء علمية أو اجتهادية دينية تبين لهم أنهم غير مصيبين فيها. ولا يكترثون بما قال فيهم من الاعتراضات التي فِي غير محلها لعلمهم أن الناس مَا مِنْهُمْ سلامة أبدَا مهما استقاموا ولهذا الرسل لَمْ يسلموا مِنْهُمْ قولاً وفعلاً، بل الله جل وعلا الذي أوجدهم ورباهم ورزقهم وفضلهم على كثير ممن خلق جعلوا له ولدا وقالوا: لا يعيدنا، فلا مطمع فِي السلامة مِنْهُمْ، وهم كما قال الشاعر معربًا عن صفاتهم: وَإِنْ تُبْدِي يَوْمًا بالنَّصِيحَةِ لامْرئٍ بِتُهْمَتِهِ إِيَّاكَ كَانَ مُجَازِيَا

ج وَإِنْ تَتَحَلَّى بِالسَّمَاحَةِ وَالسَّخَاء يُقَالُ سَفِيهٌ أَخْرَقٌ لَيْسَ وَاِعِيَا وَإِنْ أَمْسَكْت كفَّاكَ حَالَ ضَرُورَةٍ يُقَالُ شَحِيحٌ مُمْسِكٌ لا مُسَاوِيَا وَإِنْ ظَهَرَتْ مِنْ فِيكَ يَنْبُوعُ حِكْمَةٍ يَقُولُونَ مِهْذَارًا بَذِيًّا مُبَاهِيَا وَعَنْ كُلِّ مَا لاَ يَعْنِ أَنْ كُنْتَ تَارِكًا يَقُولُونَ عَنْ عِيٍ مِن العَجْزِ صاَغِيَا وَإِنْ كُنْتَ مِقْدَامًا لِكُلِّ مُلِمَّةٍ يُقَالُ عَجُولٌ طَائِشُ العًقْلَ وَاهِيَا وَإِنْ تَتَغَاضَى عَنْ جَهَالَةِ نَاقِصٍ يَعُدُّوكَ خَوَارًا جَبَانًا وَلاهِيا وَإِنْ تَتَقَاصَى بِاعْتِزالِكَ عَنْهُمُو يَخَالُوكَ مِنْ كِبْرٍ وَتِيهٍ مُجَافِيَا وَإِنْ تَتَدَانَى مِنْهُمْ الِتَأَلُّفٍ يَظُنُّوكَ خَدَّاعًا كَذُوبًا مُرَائِيَا تَرى الظُّلْمَ مِنْهُمْ كَامِنًا فِي نُفُوسِهم كذَا غَدْرُهُم فِي طَبْعِهِمْ مُتَوَارْيَا فَفِي قُوَّةِ الإِنْسَانِ يَظْهَرُ ظُلْمُهُ وَفِي عَجْزِهِ يَبْقَى كَمَا كَانَ خَافِيَا وَهَيْهَاتَ تَنْجُو مِنْ غَوَائِلِ فِعْلِهم وَأَقْوَالِهِمْ مَهْمَا تَكُنْ مُتَحَاشِيَا

من معاني الأمانة في العلم ويليها قصيدة في ذكر بعض نعيم الله والحث على شكرها

فَمَنْ رَامَ إِرْضَاءَ الأَنامِ بِقَوْلِهِ وَفِعْلٍ غَدَا لِلْمُسْتَحِيلِ مُعَانِيَا وَمَنْ ذَا الذِي أَرْضَى الخَلاَئِقِ كُلَّهُم رَسُولاً نَبِيَّا أَمْ وَلِيًّا وَقَاضِيَا وَأَعْظَمُ مِنْ ذَا خَالِقُ الخَلْقُ هَلْ تَرَى جَمِيعَ الوَرَى فِي قِسْمَةٍ مِنْه رَاضِيَا إِذَا كَانَ رَبُّ الخَلْقِ لمْ يُرْضِ خَلْقَهُ فَكيْفَ بِمَخْلُوقٍ رِضَاهُمْ مُرَاجِيا فَلازِمْ رِضَى رَبِّ العِبَادِ إِذاً وَلاَ تُبَالِ بِمَخْلُوقِ إذَا كُنْتَ زَاكِيَا وَسَدِّدْ وَقَارِبْ مَا اسْتَطَعْتَ فَإِنَّمَا يُكَلَّفُ عَبْدٌ فِعْلَ مَا كَانَ قَاوِيَا اللهم إنا نعوذ بك من شر أنفسنا وشر الدنيا ونعوذ بك من الشيطان الرجيم ونسألك أن تغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) ومن الأمانة فِي العلم أنك إذا سئلت عن مسألة خافيًا عليك حكمها أن تقول: لا أدري غير مستنكف ولا مبال بما يكون لها من أثر عند السائلين والمستمعين ولأن يقال سئل فقال: لا أدري خير من أن يقال سئل فأجاب خطأ أو روى مَا لَمْ يكن واقعًا.

وسأل رجل بن عمر عن مسألة فقال: لا علم لي بها. ثم قال السائل بعد أن ولى: نِعْمَ مَا قال بن عمر قال: لما لا يعلم لا أعلم. وقال سفيان بن عيينة: كنت فِي حلقة رجل من ولد عبد الله بن عمر فسئل عن شيء فقال: لا أدري. فقال له يحي بن سعد: العجب منك كل العجب تقول: لا أدري وأنت ابن إمام هُدَى؟ فقال: أولا أخبرك منى عند الله وعند من عقل عن الله من قال بغير علم أو حدث عن غير ثقة. وقال الهيثم بن جميل: شهدت مالك بن أنس عن ثمان وأربعين مسألة، فقال فِي اثنين وثلاثين مِنْه: لا أردي. وعن أبي سليمان بن بلال: قال شهدت بن محمد بن أبي بكر الصديق والناس يسألونه، فقال: يا هؤلاء بعض مسائلكم فإنا لا نعلم كل شيء. وكان عبد الله بن يزيد بن هرمز يقول: ينبغي للعالم أن يورث جلساءه من بعده لا أدري حتى يكون أصلاً مِنْه فِي أيديهم إذا سئل أحدهم عما لا يعلم قال: لا أدري. عَلَيْكَ بِلاَ أَدْريْ إِذََا كُنْتَ جَاهِلاً ... لِتَسْلَمَ مِن شَرِّ الخَطَا فِي الإِجَابَةِ آخر: ... وَمَنْ كَانَ يَهْوَى أَنْ يُرَى مُتَصَدِّرًا ... وَيَكْرَهُ لا أَدْرِي أَصِيْبَتْ مَقَالِتُهْ آخر: ... يَمُدُوْنَ فِي الإِفْتَاءِ بَاعًا قَصِيرَةً ... وَأَكْثَرُهُمْ عِنْدَ الْجَوَابِ يُكَذْلِكُ آخر: ... حِذَارَكَ أَنْ تَقُولَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ... كَفَى بِالشَّكِ عِنْدَ النَّاسِ جَهْلاً آخر: ... وَبِالصِّدْقِ فَاسْتَقْبِلْ حَدِيْثَكَ إِنَّهُ ... أَصَحُّ وَأَدْنَى لِلسَّدَادِ وَأَمْثَلُ

آخر: ... تَعَلَّمْ فَلَيْسَ الْمَرْءُ يُوْلَدُ عَالِمًا ... وَلَيْسَ أَخُوْ عِلْمٍ هُوَ جَاهِلُ وَإِنْ كَبِيرَ الْقَوْمِ لا عِلْمَ عِنْدَهُ ... صَغِيرٌ إِذَا التَّقَتْ عَلَيْهِ الْمَحَافِلُ ومن الأمانة فِي العلم أن لا يفتي بما يراه باطلاً. إلا إن سأله عن مَا يراه فلان بأن قال: مَا رأي الشافعي أو أحمد فيها، أو مَا هو اختيار شيخ الإسلام فيها، إن كنت عالمًا بالحكم تقول له: يرى كذا وكذا ولا بأس. وبالتالي فما من إنسان منا إلا وعلمه أمانة لله فِي عنقه، فالشعب أمانة فِي يد الولاة للأمور، والدين أمانة فِي يد العلماء وطلبة العلم والعدل أمانة فِي يد القضاة والحق أمانة فِي يد المجاهدين، والصدق أمانة فِي يد الشهود، والمرضى أمانة فِي يد الأطباء، والمصالح أمانة فِي يد المستخدمين، والتلميذ أمانة فِي يد الأستاذ، والولد أمانة فِي يد أبيه، والوطن أمانة فِي يد الجميع، وهكذا باقي الأمانات. وَقَدْ ورددت آيات وأحاديث فِي عظم شأن الأمانة والأمر بحفظها وأدائها والتحذير من الخيانة فيها، قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} وقال: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} . وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: القتل فِي سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة. قال: يؤتى بالعبد يوم القيامة وإن قتل فِي سبيل الله فيقال: أد أمانتك فيقول: أي رب كيف وَقَدْ ذهبت الدنيا، فيقال: انطلقوا به إِلَى الهاوية، وتمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه فيراها فيعرفها فيهوي فِي أثرها حتى يدركها فيحملها على منكبه حتى إذا ظن أنه خارج زلت عن منكبيه فهو يهوي فِي أثرها أبد الآبدين. ثم قال: الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والكيل أمانة وأشياء عددها وأشد

ذلك الودائع، قال: راوي الحديث فأتيت البراء بن عازب فقلت: ألا ترى إِلَى مَا قال ابن مسعود قال: كذا وكذا قال: البراء صدق أما سمعت الله يقول: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} . وفي حديث حذيفة فِي وصفه لتسرب الأمانة من القلوب التي تخلخل فيها اليقين، قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر حدثنا: «أن الأمانة نزلت فِي جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة» . وحدثنا عن رفعها قال: «ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت، ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرًا، وليس فيه شيء فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحدهم يؤدي الأمانة فيقال: إن فِي بني فلان رجلاً أمينًا ويقال للرجل: مَا أعقله وما أظرفه وما أجلده وما فِي قلبه مثقال حبة خردل من إيمان» . الحديث رواه البخاري. وللأمير الصنعاني فِي الحث على تدبر كتاب الله والتفكر فِي آياته والثناء على الله قصيدة بليغة. الْوَارِدَاتُ عَلَيْنَا كُلَّهَا مِنَنٌ مِنْ رَبِّنَا فَلَهُ الإِحْسَانُ وَالْحَسَنُ إِنَا لَنَا كُلَّ شَيْءٍ مِنْ مَوَاهِبِهِ مَا لا تُحِيْطُ بِهِ عَيْنٌ وَلا أُذُنُ

فَشُكْرُ بَعْضِ أَيَادِيهِ الَّتِي شَمَلَتْ عَنْ شُكْرِهَا يَعْجَزُ الْعَلامَةُ اللَّسِنُ يَا عَالِمَ الْغَيْبِ لا يَخْفَاهُ خَافِيَةٌ وَعِلْمُهُ يَتَسَاوَى السِّرُّ وَالْعَلَنُ أَهْلُ الْبَسِيْطَةِ طُرًّا تَحْتَ قَبْضَتِهِ وَكُلُّهُمْ بِالذِّي يِأْتِيهِ مُرْتَهَنُ بِحِكْمَةٍ وَبِعِلْمٍ كَانَ مُبْتَدِئًا هَذَا الْوُجُودَ الذِّي حَارَتْ لَهُ الْفِطَنُ دَحَى الْبَسِيطَةَ فَرْشًا لِلأنَامِ وَقَدْ عَلَتْ عَلَيْهَا الْجِبَالُ الشُّمُّ وَالْقُنَنُ كَيْلا تَمِيْدَ بِأَهْلِهَا وَأَوْدَعَهَا لَهُمْ مَنَافِعَ إِنْ سَارُوا وَإِنْ قَطَنُوا بَنَى السَّمَاءَ بَأَيْدٍ فَوْقَهَا وَحَوَتْ عَجَائِبًا أَعْرَضُوا عَنْهَا وَمَا فَطَنُوا فَفِي التَّأَمُّلِ فِي آيَاتِهَا عِبَرٌ لَوْ كَانَ يُطْلَقُ عَنْ أَفْكَارِنَا الرَّسَنُ وَقَدْ حَكَى اللهُ إِعْرَاضَ الْعِبَادِ فَهَلْ غَطَّى على الْعَيْنِ مِنْ أَفْكَارِنَا الْوَسَنُ إِنَّ التَّفَكُّرَ فِي آيَاتِ خَالِقِنَا عِبَادَةُ الْفِكْرِ فِيْهَا الْخَلْقُ قَدْ غُبِنُوا تَزْدَادُ بِالْفِكْرِ إِيْمَانًا وَمَعْرِفَةً فَلا يَفُوتُكَ شَيْءٌ مَا لَهُ ثَمَنُ

.. مَنَّ الإِلَهُ عَلَيْنَا بِالْكِتَابِ فَقُلْ يَا مِنَّةً قَصُرَتْ مِنْ دُونِهَا الْمِنَنُ فَصَرِّفِ الْفِكْرَ فِي الذِّكْرِ الْحَكِيمِ تَجِدْ فِيْهِ الْعُلُومَ الَّتِي لَمْ يَحْوِهَا الْفَطِنُ آيَاتُهُ أَعْجَزَتْ كُلاٌّ بَلاغَتُهَا وَأَبْلَغُ الْخَلْقِ قَدْ أَوْدَى بِهِ اللَّكَنُ أَدِلَّةٌ وَأَقَاصِيصٌ وَأَمْثِلَةٌ لَفْظٌ بَلِيغٌ وَمَعْنَى فَائِقٌ حَسَنُ غُصْ بَحْرَهُ تَلْقَ فِيْهِ الدُّرَّ مُبْتَذَلاً وَفُلْكُ فِكْرِكَ فِي أَمْوَاجِهِ السُّفُنُ كَمْ قِصَّةٍ وَصَفَتْ أَخْبَارَ مَنْ دَرَجُوا مِنْ صَالِحٍ وَشَقِيٍّ رَبُّهُ الْوَثَنُ قِفْ بِالْمَثَانِي تَرَى آيَاتِهَا عَجَبًا أَوْ بِالْمَئِينِ فَفِيهَا كُلِّهَا الْمِنَنُ أَوْ الطَّوَالِ فَفِيْهَا الْعِلْمُ أَجْمَعُهُ خَزَاِئٌن هِيَ لِلأَحْكَامِ تَخْتَزِنُ وَفِي الْمُفَصَّلِ آيَاتٌ مُفَصَّلَةٌ قَوَارِعٌ لِقُلُوبٍ مَا بِهَا دَرَنُ إِنَّ الذُّنُوبَ لأَوْسَاخُ الْقُلُوبِ فَلاَ يَكُنْ فُؤَادُكَ بَيْتًا حَشْوُهُ الدِّمَنُ وَدَاوِ قَلْبَكَ مِنْ قَبْلِ الْمَمَاتِ فَمَا يُجْدِي الدَّوَاءُ بِمَيْتٍ بَعْدَ مَا دَفَنُوا

فصل في الحث على توثيق عرى المودة بين لمسلمين والحث على الصلح

بِمَرْهَمِ التَّوْبَةِ الصِّدْقِ النَّصُوْحِ فَذَا هُوَ الدَّوَاءُ لِذَاكَ الدَّاءِ لَوْ فَطِنُوا وَنَارُ ذَنْبِكَ تُطْفِيهَا الدُّمُوعِ إِذَا أَثَارَهَا الْخَوْفُ مِنْ مَوْلاكَ وَالْحَزَنُ بَادِرْ بِهَذَا الدَّوَا مِنْ قَبْلِ مِيْتَتِهِ فَمَا لِسَهْمٍ الْقَضَا مِنْ دُوْنِهِ جُنَنُ وَرُبَّ شَخْصٍ تَوَفَى قَبْلَهُ وَثَوَى فِي صَدْرِهِ فَهُوَ قَبْرٌ وَالْحَشَا كَفَنُ تَرَاهُ فِي النَّاسِ يَمْشِي حَامِلاً جَدَثًا فَهَلْ بِأَعْجَبَ مِنْ هَذَا أَتَى الزَّمَنُ فَأَسْأَلُ اللهَ تَوْفِيْقًا يَكُونُ بِهِ حُسْنُ الْخِتَامِ فَفِيْهِ الْفَوْزُ مُرْتَهَنُ فَفِي الصَّلاةِ على خَيْرِ الْوَرَى وَعَلَى ال آلِ الْكِرَامِ مَعَ التَّسْلِيْمِ يَقْتَرِنُ اللهم ثبت محبتك فِي قلوبنا وقوها ونور قلوبنا بنور الإيمان واجعلنا هداة مهتدين وآتنا فِي الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن توثيق عرى المودة بين المسلمين وتصفية القلوب من الغل والحقد والحسد، والحرص على مَا يجلب المودة والتآلف: والتناصر والتعاضد، وتجنب مَا يوغر الصدور

ويورث العداوة واجب تقتضيه الأخوة الإيمانية، والإيمان لا يكون تامًا إلا بذلك. والله سبحانه وتعالى نهى عن التفرق فقال: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ} فأمرهم بالجماعة ونهاهم عن التفرق، وَقَدْ وردت أحاديث متعددة بالنهي عن التفرق والأمر بالاجتماع والائتلاف. ولما كَانَ الصالح بين المسلمين أفرادًا أو جماعات يثمر إحلال الألفة مكان الفرقة واستئصال داء النزاع قبل أن يستفحل وحقن الدماء التي تراق بين الطوائف المتنازعة. وتوفير الأموال التي تنفق للمحامين بالحق وبالباطل وتوفير الرسوم والنفقات الأخرى وتجنب إنكار الحقائق التي تجر إليها الخصومات وترك شهادة الزور وتجنب المشاجرات والاعتداءات على الحقوق والنفوس وتفرغ النفوس للمصالح بدل جدالها وانهماكها فِي الكيد للخصوم إِلَى غير ذلك مما يثمره الصلح أمر الله به وحث عليه. قال الله تعالى: {فَاتَّقُواْ اللهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} وقال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} وقال: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} . وقال تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} وقال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} .

وحث صلى الله عليه وسلم على الصلح وأصلح بين كثير من أصحابه وعن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني عمرو بن عوف كَانَ بينهم شر فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلح بينهم فِي أناس معه. الحديث متفق عليه. ولقد بلغت العناية بالصلح بين المسلمين إِلَى انه رخص فيه بالكذب رغم قباحته وشناعته وشدة تحريمه، وعن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَمْ يكذب من نمى بين اثنين ليصلح بينهم» . وفي رواية: «ليس بالكاذب من أصلح بين الناس فقال خيرًا أو نمى خيرًا» . رواه أبو داود، وفي رواية لمسلم قالت: ولم أسمعه يرخص فِي شيء مما يقوله الناس إلا فِي ثلاث يعني الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها، أي قال خيرًا على وجه الإصلاح وليس المراد نفي ذات الكذب بل نفي أثمه فالكذب كذب وإن قيل للإصلاح أو غيره وإنما نفي عن المصلح كونه كذابًا باعتبار قصده. وهذه أمور قد يضطر الإنسان فيها إِلَى الزيادة فِي القول ومجاوزة الصدق طلبًا للسلامة ودفعًا للضرر ورخص فِي اليسير فِي مثل هذا لما يؤمل فيه من الصلاح، والكذب بين اثنين فِي الإصلاح أن ينمي من أحدهما إِلَى صاحبه خيرًا ويبلغه جميلاً وإن لَمْ يكن سمعه بقصد الإصلاح، والكذب فِي الحرب أن يظهر فِي نفسه قوة ويتحدث بما يقوي به أصحابه ويكيد به عدوه ويوهنه ويشتت فكره. والكذب للزوجة أن يعدها ويمنيها ويظهر لها أكثر مما فِي نفسه ليستديم صحبتها ويصلح به خلقها.

بينهم وبعدها موعظة بليغة تتعلق بالصداقة

وبلغت العناية بالصلح بين الناس إِلَى أن المصلح بين الناس يعطى من الزكاة أو من بيت المال لأداء مَا تحمله من الديون فِي سبيل الإصلاح وإن كَانَ قادرًا على أدائها من ماله. وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الإصلاح بين الناس تجارة وأنه مما يرضاه الله ورسوله، فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي أيوب: «ألا أدلك على تجارة» ؟ قال: بلى. قال: «صِلْ بين الناس إذا تفاسدوا وقرب بينهم إذا تباعدوا» . رواه البزار والطبراني، وعنده «ألا أدلك على عمل يرضاه الله ورسوله» ؟ قال: بلى. قال: «صل بين الناس إذا تفاسدوا وقرب بينهم إذا تباعدوا» . وروي عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أصلح بين الناس أصلح الله أمره وأعطاه بكل كلمة تكلم بها عتق رقبة ورجع مغفورًا له مَا تقدم من ذنبه» رواه الأصبهاني وهو حديث غريب جدًا. اللهم يا من فتح بابه للطالبين وأظهر غناه للراغبين ألهمنا مَا ألهمت عبادك الصالحين وأيقظنا من رقدة الغافلين إنك أكرم منعم وأعز معين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) عباد الله لمن كَانَ الإنسان مكلفًا بالسعي والعمل لطلب الرزق من وجوهه المشروعة كَانَ حقًّا عليه أن يصون نفسه عن مسألة الناس. وأن لا يمد يده لسؤالهم ولا يتقدم إليهم لطلب حطام الدنيا إلا عند

الضرورة أو الحاجة الشديدة لأنه إذا قعد عن العمل ولزم البطالة والكسل ونظر لما فِي أيدي الناس من أوساخهم ساءت حاله، وضاعت آماله، وضعف توكله، وضاق عيشه، وانحطت نفسه، واعتاد السؤال الذي لا ينفك عن ثلاثة أمور محرمة: الأول: إظهار الشكوى من الله تعالى، إذ السؤال إظهار للفقر وذكر لقصور نعمة الله عنه، وهو عين الشكوى، وكما أن العبد المملوك لو جعل يسأل وأنه مَا يجد شيئًا لكان سؤاله تشنيعًا على سيده ولا يرضى بذلك ولله المثل الأعَلَى. ولاسيما إذا أتى إِلَى بيت الله يسأله من فضله، ثم قام من حين مَا يسلم الإمام وجعل يشرح حاله وفقره وأوقف الناس عن تهليلهم، وتسبيحهم، وتكبيرهم، والمساجد لَمْ تبن إلا لذكر الله، والصلاة فيها وقراءة القرآن. وهذا المنكر قل من ينتبه له. الأمر الثاني: أن فِي سؤال الناس إذلال لنفس السائل، وليس للإنسان أن يذل نفسه ويخضعها إلا لله، الذي فِي إذلالها عزه، فأما سائر الخلق فإنهم عباد أمثاله فلا يذل لهم نفسه. ثالثًا: أن فيه ظلم لنفسه إلا عند الضرورة أو الحاجة الشديدة وفيه أيضًا إيذاء للمسئول خصوصًا إذ كَانَ مع إلحاح، والإيذاء حرام، فأي عاقل يرضى لنفسه بهذه الحالة التعسة، بل كيف يرضى أن يكون عضوًا أشلاً فِي الهيئة الاجتماعية لا يقام له وزن ولا تقام له قيمة. وَقَدْ أثنى الله على الذين لا يسألون الناس إلحافًا وقال صلى الله عليه وسلم: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة

والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنىً يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس. ففي زماننا الذي اختلط فيه الحابل بالنابل وصار عندهم الحلال مَا وصل إِلَى اليد وذهب عنهم الورع والابتعاد عن الشبهات، على الإنسان أن يبذل جهده ويثبت ولا يبذل زكاته إِلَى كل من مد يده، بل يسأله بدقة، ويتحقق من الأوراق التي تعرض عليه، التي صارت تصور وتباع وتشتري وربما حصل المتسول على أضعاف مَا فيها ولو أن هؤلاء المتسولين الشحاذين استعملوا فِي طريق منتج من تجارة أو غيرها مَا يصل إلى أيديهم من الصدقات لما بقي فِي الأمة مِنْهُمْ متسول، ولكن هؤلاء قوم ألفوا هذا العيش وركنوا إليه لا يدفعهم إليه فقر ولا يردهم عنه غنى، وكم ممن اكتشف فصار عنده ثروة، وهذا سببه عدم التبيت وإجراء العادات بدون سؤال هل اغتنى أم لا. وَقَدْ بين صلى الله عليه وسلم من يحل له السؤال وذلك فيما ورد عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال: «أقم حتى تأتينا الصدقة فآمر لك بها» . ثم قال: «يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، أو رجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش - أو قال -: سداد من عيش. ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه يقولون: لقد أصابت فلانًا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش - أو قال -: سداد من عيش فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتَا» . رواه مسلم.

قصيدة زهدية

وَقَدْ ذكرنا الأحاديث التي تتضمن التغليظ الشديد فِي السؤال من غير ضرورة وذلك فِي موضوع (من تحل له الصدقة) . شِعْرًا: غَفَلْتُ وَحَادِي الْمَوْتِ فِي أَثَرِي يَحْدُوْ فَإِنْ لَمْ أَرُحْ يَوْمِي فَلا بُدْ أَنْ أَغْدُ أُنَعِّمُ جِسْمِي بِاللَِبَاسِ وَلِيْنِهِ وَلَيْسَ لِجِسْمِي مِنْ لِبَاسِ الْبِلَى بُدُّ كَأَنِّي بِهِ قَدْ مَرَّ فِي بَرْزَخِ الْبِلَى وَمِنْ فَوْقِهِ رَدْمٌ وَمِنْ تَحْتِهِ لَحْدُ وَقَدْ ذَهَبَتْ مِنِّي الْمَحَاسِنُ وَانْمَحَتْ وَلَمْ يَبْقَ فَوْقَ الْعَظْمِ لَحْمٌ وَلا جِلْدُ أَرَى الْعُمْرَ قَدْ وَلَى وَلَمْ أُدْرِكْ الْمُنَى وَلَيْسَ مَعِي زَادٌ وَفِي سَفَرِي بَعْدُ وَقَدْ كُنْتُ َجَاهَرْتُ الْمُهَيْمِنَ عَاصِيًا وَأَحْدَثْتُ أَحْدَاثًا وَلَيْسَ لَهَا رَدُّ وَأَرْخَيْتُ خَوْفَ النَّاسِ سِتْرًا مِنْ الْحَيَا وَمَا خِفْتُ مِنْ سِرِّي غَدًا عِنْدَهُ يَبْدُو بَلَى خِفْتُهُ لَكِنْ وَثِقْتُ بِحِلْمِهِ وَأَنْ لَيْسَ يَعْفُو غَيْرُهُ فَلَهُ الْحَمْدُ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٍ سِوَى الْمَوْتِ وَالْبِلَى عَنْ اللَّهْوِ لَكِنْ زَالَ عَنْ رَأْيِنِا الرُّشْدُ

درجة الصلح بين المسلمين عالية وبيان المفاسد التي تكون عند عدم الصلح والأضرار التي تنشأ عن ذلك

عَسَى غَافِرُ الزَّلاَّتِ يَغْفِرُ زَلَّتِِي فَقَدْ يَغْفِرُ الْمَوْلَى إِذَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ أَنَا عَبْدُ سُوْءٍ خُنْتُ مَوْلايَ عَهْدَهُ كَذَلِكَ عَبْدُ السُّوءِ لَيْسِ لَهُ عَهْدُ فَكَيْفَ إِذَا أَحْرَقَتَ بِالنَّارِ جُثَّتِي وَنَارُكَ لاَ يَقْوَى لَهَا الْحَجَرُ الصَّلْدُ أَنَا الْفَرْدُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَالْفَرْدُ فِي الْبِلَى وَأَبْعَثُ فَرْدًا فَارْحَمْ الْفَرْدَ يَا فَرْدُ اللهم افتح لدعائنا باب القبول والإجابة وارزقنا الإقبال على طاعتك والإنابة وبارك فِي أعمالنا وأجزل لنا الأجر والمثابة وآتنا فِي الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه وسلم. (فَصْلٌ) وأخبر صلى الله عليه وسلم بأن درجة المصلح بين الناس أفضل من درجة الصائمين والمصلين والمتصدقين فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة» ؟ قالوا: بلى. قال: «إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة» . رواه أبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي: حديث صحيح قال: ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين» .

ولا غرو إذا ارتفعت درجة المصلح الباذل جهده المضحي براحته وأمواله فِي رأب الصدع وجمع الشتات وإصلاح فساد القلوب، وإزالة مَا فِي النفوس من ضغينة وحقد والعمل على إحكام الروابط للألفة والإخاء وإطفاء نار العداوة والفتن. كما هي وظيفة المرسلين لا يقوم بها إلا أولئك الذين أطاعوا ربهم وشرفت نفوسهم وصفت أرواحهم يقومون به لأنهم يحبون الخير والهدوء ويكرهون الشر حتى عند غيرهم من الناس ويمقتون الخلاف حتى عند غيرهم من الطوائف ويجدون فِي إحباط كيد الخائنين. ولو أننا تبعتنا الحوادث وراجعنا الوقائع لوجدنا أن مَا بالمحاكم من قضايا وما بالمراكز والنيابات من خصومات وما بالمستشفيات من مرضى، وما بالسجون من بؤساء يرجع أكثره إِلَى إهمال الصلح بين الناس حتى عم الشر القريب والبعيد وأهلك النفوس والأموال وقضى على الأواصر وقطع مَا أمر الله به أن يوصل من وشائج الرحم والقرابة وذهب بريح الجماعات وبعث على الفساد فِي الأرض. ومن تأمل مَا عليه الناس اليوم وجد أن كثيرًا مِنْهُمْ قَدْ فسدت قلوبهم وخبثت نياتهم لأنهم يحبون الشر يتركون ويميلون إليه ويعملون على نشره بين الناس، ومن أجل ذلك يتركون المتخاصمين فِي غضبهم وشتائمهم وكيد بعضهم لبعض حتى يستفحل الأمر. ويشتد الشر ويستحكم الخصام بينهم فينقلبوا من الكلام إِلَى القذف والطعن ومن ذلك إِلَى اللطم ومن اللطم إِلَى العصي ومن العصي على السلاح ثم بعد ذلك إِلَى المراكز ثم إِلَى السجون والناس فِي أثناء ذلك كله

يتفرجون ويتغامزون ويتتبعون الحوادث ويلتقطون الأخبار، بل قَدْ يلهبون نار الفتنة والعداوة ولا يزالون كذلك حتى يقهر القوي ولو كَانَ ذلك بالباطل والزور والبهتان بدون خوف من الله ولا حياء من الناس. وتكون النتيجة بعد ذلك ضياع مَا يملكون من مال أو عقار وَقَدْ كَانَ يكفي لإزالة مَا فِي النفوس من الأضغان والأحقاد والكراهة، كلمة واحدة من عاقل لبيب ناصح مخلص تقضي على الخصومات فِي مهدها فيتغلب جانب الخير ويرتفع الشر وتسلم الجماعة من التصدع والانشقاق والتفرق. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت خصوم بالباب عالية أصواتهما، إذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه فِي شيء وهو يقول: والله لا أفعل فخرج عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أين المتألي على الله لا يفعل المعروف» ؟ فقال: أنا يا رسول الله فله أي ذلك أحب. متفق عليه. فعندما رأى النبي صلى الله عليه وسلم يستنكر عمله عدل عن رأيه واستجاب لفعل الخير وَقَدْ قامت فِي نفسه دوافعه إرضاء لله ولرسوله. والشاهد من ذلك خروجه صلى الله عليه وسلم للإصلاح بينهم فالدين الإسلامي الحنيف أوجب على العقلاء من الناس أن يتوسطوا بين المتخاصمين ويقوموا بإصلاح ذات بينهم ويلزموا المعتدي أن يقف عند حده درأ للمفاسد المترتبة على الخلاف والنزاع ومنعًا للفوضى والخصام، وأقوم الوسائل التي تصفو بها القلوب من أحقادها أن يجعل كل امرئٍ نفسه ميزانًا بينه وبين إخوانه المسلمين فما يحبه لنفسه يحبه لهم وما يكرهه لنفسه يكرهه لهم. شِعْرًا: كَمْ مِنْ أَخِ لَكَ لَمْ يَلِدْهُ أَبُوكَا ... وَأَخٌ أَبُوهُ أَبُوكَ قَدْ يَجْفُوكَا كَمْ إِخْوَةٍ لَكَ لَمْ يَلِدْكَ أَبُوهُمَا ... وَكَأَنَّمَا آبَاؤُهُمْ وَلَدُوكَا

العدل وما يعتبر للعدالة وذكر بعض فوائد العدل

وبذلك تستقم الأمور بإذن الله، قال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه مَا يحب لنفسه» . وهذه الطريقة هي التي كَانَ عليها السلف الصالح من المسلمين وكانوا بسبب ذلك مفلحين. شِعْرًا: إِنَّ الْمَكَارِمَ كُلَّهَا لَوْ حُصِّلَتْ ... رَجَّعْتُ جُمْلَتِهَا إِلَى شَيْئَيْنِ تَعَظِيْمُ أَمْرِ اللهِ جَلَّ جَلالَهُ ... وَالسَّعِي فِي إِصْلاَحِ ذَاتِ الْبَيْنِ آخر: (فَأَحْسِنْ إِذَا أُوْتِيْتَ جَاهًا فَإِنَّهُ ... سَحَابَةُ صَيْفٍ عَنْ قَلِيْلٍ تَقْشَّعُ) (وَكُنْ شَافِعًا مَا كُنْتَ فِي الدَّهْرِ قَادِرًا ... وَخَيْرُ زَمَانِ الْمَرْءِ مَا فِيْهِ يَشْفَعُ) والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وسلم. (فَصْلٌ) العدل: ضد الجور وهو الاعتدال والاستقامة والميل إِلَى الحق. وشرعًا: هو الاستقامة على طريق الحق بالاجتناب عما هو محظور دينًا وفي اصطلاح الفقهاء العدالة استواء أحواله فِي دينه واعتدال أقواله وأفعاله. ويعتبر لها شيئان الصلاح فِي الدين واجتناب المحرم، والعدالة تارة يقال لها هي الفضائل كلها من حيث لا يخرج شيء من الفضائل عنها، وتارة يقال لها هي أجمل الفضائل من حيث أن صاحبها يقدر أن يستعملها فِي نفسه وفي غيره. وقيل فِي قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} أي العدل والإنصاف، كما فِي قوله تعالى: {وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} وقوله: {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} قال قتادة ومجاهد ومقاتل: العدل. وسمي العدل ميزانًا لأن الميزان آلة الإنصاف والتسوية، وعبر عن العدالة بالميزان إذ كَانَ من أثرها، ومن أظهر أفعالها للحاسة.

العدل أنواع كثيرة نذكر بعضها ونموذج من عدل عمر بن الخطاب رضي الله عنه

ومن مزية العدل أن الجور الذي هو ضد العدل لا يتسبب إلا به فلو أن لصوصًا أو نحوهم تشارطوا فيما بينهم شرطًا فلم يراعوا العدالة فيه لَمْ ينتظم أمرهم. ومن فضلها أن كل نفس تتلذذ بسماعها وتتألم من ضدها ولذلك حتى الجائر يستحسن عدل غيره إذ رآه أو سمعه. والعدل يدعو إِلَى الألفة والمحبة ويبعث على الطاعة وتعمر به البلاد وتنمي به الأموال ويكثر معه النسل ويأمن به السلطان لحصول الأمن العادل وانبساط الآمال. عَلَيْكَ بِالْعَدْلِ إِنْ وُلِّيتَ مَمْلَكَةً ... وَاحْذَرْ مِنْ الْجورِ فِيْهَا غَايَةَ الْحَذَرِ فَالْمَالُكْ يَبْقَى على عَدْلٍ الْكَفُورِ وَلاَ ... يَبْقَى مَعْ الْجَوْرِ فِي بَدْوِ وَلاَ حَضَرِ وَقَدْ قال المرزبان رئيس المجوس لعمر رضي الله عنه لما رآه مبتذلاً لا حارس له: عدلت فأمنت فنمت. وفي ذلك يقول الشاعر: وَرَاعَ صَاحِبَ كِسْرَى أَنْ رَأَى عُمَرًا بَيْنَ الرَّعِيَّةِ عُطْلاً وَهُوَ رَاعِيْهَا وَعَهْدُهُ بِمُلُوْكِ الْفُرْسِ أَنَّ لَهَا سُوْرًا مِنْ الْجُنْدِ وَالأَحْرَاسِ يَحْمِيهَا رَآهُ مُسْتَرِقًا فِي نَوْمِهِ فَرَأَى فِيْهِ الْجَلالَةَ فِي أَسْمَى مَعَانِيهَا فَوْقَ الثَّرَى تَحْتَ ظِلِّ الدَّوْحِ مُشْتَمِلاً بِبُرْدَةٍ كَادَ طُولُ الْعَهْدِ يُبْلِيهَا

فَهَانَ فِي عَيْنِهِ مَا كَانَ يُكْبِرُهُ مِنْ الأَكَاسِرِ وَالدَّنْيَا بِأَيْدِيهَا وَقَالَ قَوْلَةَ حَقٍّ أَصْبَحَتْ مَثَلاً وَأَصْبَحَ الْجِيلُ بَعْدَ الْجِيلِ يَحْكِيهَا أَمِنْتَ لَمَّا أَقَمْتَ الْعَدْلَ بَيْنَهُمُوا فَنِمْتَ نَوْمَ قَرِيرِ الْعَيْنِ هَانِيهَا وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاث منجيات وثلاث مهلكات فأما المنجيات فالعدل فِي حالة الغضب والرضا وخشية الله تعالى فِي السر والعلانية والقصد فِي الغنى والفقر. وأما المهلكات فشح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه،» . والذي يجب أن يستعمل الإنسان العدل معه أولاً بينه وبين رب العزة جل ولعلا بمعرفة أحكامه وتطبيقها بالعمل بها. فأعظم الحقوق على الإطلاق حق الله تعالى على عباده وذلك بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} وقال عز من قائل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وفي حديث معاذ المتفق عليه «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا» . فمن قام بهذا الحق فعبد الله وحده. وأدى هذا الحق وقام بحقوقه مخلصًا لله، فقد قام بأعظم العدل، ومن صرفه لغير الله فقد جار وظلم، وعدل عن العدل واستحق العقوبة. الظُّلْمُ نَارٌ فَلا تَحْقِرْ صَغِيْرَتِهِ لَعَلَّ جَذْوَةَ نَارٍ أَحْرَقَتْ بَلَدَا

الحث على العدل وما ورد فيه والتحذير من الظلم والجور يجب على

الثاني: أن يعدل مع نفسه وذلك بحملها على مَا فيه صلاحها وكفها عن القبائح ثم بالوقوف فِي أحوالها جور على أعدل الأمرين من تجاوز أو تقصير، فإن التجاوز فِي الأحوال جور على النفس والتقصير فيها ظلم لها لمنعها عن كمالها ومن ظلم نفسه فهو لغيره أظلم ومن جار على نفسه فهو على غيره أجور، لأن من لَمْ يراع حقوق نفسه فعدم مراعاته حقوق غيره أولى وأحرى. الثالث: عدل الإنسان فيمن دونه كالسلطان فِي رعيته والرئيس مع صحابته، وذلك بأمور: الأول إتباع الميسور لهم وترك المعسور وحذفه عنهم وترك التسليط والقهر بالقوة وابتغاء الحق فِي الميسور ويقيم العدل فيهم قريبهم وبعيدهم غنيهم وفقيرهم وأن يكونوا عنده فِي هذا سواء. ولا يقصر شيئًا من واجبه مع رعيته ولا يهمل شيئًا يرقي أدانهم وعقولهم وأخلاقهم ويحفظ عليهم أموالهم ودمائهم وأعراضهم ويكون لهم مثلاً أعلى فِي معاملة بعضهم بعضًا بالعدل والإنصاف، فالحاكم كالقلب من الجسد إذا صَلح صلح الجسد، فإذا صلح الراعي صلحت الرعية وإذا فسد فسدت، فلهذا مسؤولية ولاة الأمور عظيمة فِي نظر الشريعة الإسلامية. وَقَدْ حذر مِنْهَا النبي صلى الله عليه وسلم تحذيرًا شديدًا روي عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: «يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها» . رواه مسلم، وحقها فِي نظر الدين أن يقوم بكل شيء فيه مصلحة للمحكومين.

قال عمر رضي الله عنه: والله لو عثرت بغلة فِي العراق لوجدتني مسئولاً عنها، فقيل: لماذا يا أمير المؤمنين، فقال: لأنني مكلف بإصلاح الطريق. هذا مثال الحاكم العدل، ولهذا جعل الله له فضلاً عظيمًا وميزة كما سيأتي فِي الأحاديث. وروي أن يهوديًا شكا عليًا إِلَى عمر فِي خلافته رضي الله عنهما، فقال عمر لعلي بن أبي طالب: قف بجوار خصمك يا أبا الحسن، فوقف وَقَدْ علا وجهه الغضب فبعد أن قضى الخليفة بينهما بالعدل قال: أغضبت يا علي أن قلت لك قف بجوار خصمك؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين، لكن من كونك كنيتني بأبي الحسن فخشيت من تعظيمك إياي أمام اليهودي أن يقول ضاع العدل بين المسلمين. وجاء رجل إِلَى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأخذ رزقه وكان جنديًا من جنود المسلمين ولكنه كَانَ فِي الجاهلية قَدْ قتل أخًا لعمر بن الخطاب فلما رآه عمر اربد وجهه، وقال له: يا هذا إني لا أحبك حتى تحب الأرض الدم، فقال الرجل لعمر: أو مانعي ذلك عندك حقًّا من حقوق الله فقال عمر: اللهم لا. فقال الرجل مَا يضيرني بغضك إياي إنما يأسى على الحب النساء. فقد عرف الرجل من ورع عمر ودينه أن شدة غضبه وغيضه وحنقه عليه وكراهية له لا تخرج به عن العدل إِلَى الظلم فهو لما علم من عدله وثقته بدينه أمن من بطشه. ومما يجب عليه أن يستنيب لكل عمل الأكفأ الأمين وليحذر أن يولي عليهم رجلاً وفي رعيته خير مِنْه. فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه

وسلم: «من استعمل رجلاً من عصابة وفيهم من هو أرضى لله مِنْه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين» . رواه الحاكم. وعن يزيد بن أبي سفيان قال: قال لي أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين بعثني إِلَى الشام: يا يزيد أن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالإمارة وذلك أكثر مَا أخاف عليك بعد مَا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ولي من أمر المسلمين شيئًا فأمَّر عليهم أحدًا محاباة فعليه لعنة الله لا يقبل الله مِنْه صرفًا ولا عدلاً حتى يدخله جهنم» . رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد. وعَلَى الإمام أن يوصي من استنابه بإقامة العدل ويحذرهم من الجور وظلم العباد فِي الدماء والأموال والأعراض، ويذكرهم حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده» . ويتفقدهم فِي ذلك الأمر الذي هو أساس الصلاح الديني والدنيوي فلا يصلح الدين إلا بالعدل ولا تصلح الدنيا وتستقيم الأمور إلا على العدل. وقال الشيخ تقي الدين أمور الناس تستقم فِي الدنيا مع العدل الذي فيه اشتراك فِي أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم فِي الحقوق وإن لَمْ تشترك فِي إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كَانَت كافرة ولا يقيم الظالمة وإن كَانَت مسلمة ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام، وذلك أن العدل نظام كل شيء فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لَمْ يكن لصاحبها فِي الآخرة من خلاق. أ. هـ. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه

الحاكم تحري العدل والاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فيه

وسلم: «يوم من إمام عادل أفضل نمن عبادة ستين سنة وحد يقام فِي الأرض بحقه أزكى فيها من مطر أربعين صباحًا» . رواه الطبراني فِي الكبير والأوسط وإسناد الكبير حسن. وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة عدل ساعة أفضل من عبادة ستين سنة قيام ليلها وصيام نهارها، ويا أبا هريرة جور ساعة فِي حكم أشد وأعظم عند الله عز وجل من معاصي ستين سنة» . وفي رواية: «عدل يوم واحد أفضل من عبادة ستين سنة» . رواه الأصبهاني. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحب الناس إِلَى الله يوم القيامة وأدناهم مِنْه مجلسًا إمام عادل، وأبغض الناس إِلَى الله تعالى وأبعدهم مجلسًا إمام جائر» . رواه الترمذي والطبراني فِي الأوسط مختصرًا، وعد صلى الله عليه وسلم من السبعة الذين يظلهم الله فِي ظله يوم لا ظل إلا ظله «إمام عادل» . اللهم ارزقنا علمًا نافعًا وعملاً متقبلاً ورزقًا واسعًا نستعين به على طاعتك، وقلبًا خاشعًا، ولسانًا ذاكرًا، وإيمانًا خالصًا، وهب لنا لإنابة المخلصين، وخشوع المخبتين، وأعمال الصالحين، ويقين الصادقين، وسعادة المتقين، ودرجات الفائزين، يا أفضل من رجي وقصد، وأكرم من سئل، واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) ويجب على القضاء والحاكم بين الناس أن يتحروا العدل ويحكموا به بين الناس.

وهم أهم ركن تقوم عليه سعادة المجتمع وينبني عليه أمن الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، فإذا جار القاضي ولم يقسط اختل الظلم وسادت الفوضى، ولهذا إذا عم العدل استغنت الأمة عن المحاكم وقضاتها ومحاميها والوكلاء والسماسرة، وانقطع دابر شهداء الزور أعدمهم الله عن الوجود أو أصلحهم، فأكثر الحكام وظيفتهم إقامة العدل، فإذا وجد العدل فلا حاجة إليهم، وبذلك يتوفر على الأمة عدد كبير يشتغل فِي مصالح أخرى، ويتوفر مقدار كثير من المال. ولهذا السلف تمر المدة الكثيرة على القاضي لا يأتيه خصوم، وإليك حكاية حال تاريخية تنطبق تمامًا على المتصفين بالصفات الحميدة والأخلاق الكريمة. عيَّن أبو بكر رضي الله عنه عمر بن الخطاب قاضيًا على المدينة، فمكث عمر سنة لَمْ يختصم إليه اثنان فطلب من أبو بكر إعفاءه من القضاء فقال أبو بكر: أمن مشقة القضاء تطلب الإعفاء يا عمر؟ فقال له عمر: لا يا خليفة رسول الله ولكن لا حجة لي عند قوم مؤمنين عرف كل مِنْهُمْ مَا له من حق فلم يطلب أكثر مِنْه وما عليه من واجب فلم يقصر فِي أدائه، أحب كل مِنْهُمْ لأخيه ما يحب لنفسه وإذا غاب أحدهم تفقدوه وإذا مرض عادوه إذا افتقر أعانوه، وإذا احتاج ساعدوه، وإذا أصيب واسوه، دينهم النصيحة، وخلقهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففيهم يختصمون إذًا. وبالتالي فقد عنيت الشريعة بالعدل فِي القضاء عنايتها بكل مَا هو دعامة لسعادة الحياة فأتت بالعظات البالغات تبشر من أقامه بعلو المنزلة وحسن العاقبة، وتحذر من انحراف عنه بالعذاب الأليم.

آيات في الحث على العدل وأحاديث فيه أيضا

فمن الآيات المنبهة لما فِي العدل من فضل وكرامة قوله تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} فأمر بالعدل ونبه على أن الحاكم المقسط ينال خيرًا عظيمًا، هو محبة الله للعبد، وما بعد محبة الله إلا الحياة الطيبة فِي الدنيا والعيشة الراضية فِي الآخرة. وقال تعالى: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} ومن الأحاديث الدالة على مَا يورثه العدل من شرف المنزلة عند الله تعالى مَا ورد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون فِي حكمهم وأهليهم وما ولوا» رواه مسلم والنسائي. ففيه دليل على العناية بهم لكونهم عن يمينه جل وعلا ودليل على شدة قربهم مِنْه جل وعلا وفوزهم برضوانه وفي ذكر الرحمن تربية لقوة الرجاء والثقة بأن الحاكم العادل يجد من النعيم مَا تشتهيه نفسه وتلذ عينه قال تعالى: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} فالمقربون يحصل لهم من النعيم ما لا يحصل لغيرهم. وَقَدْ وردت آيات وأحاديث تحذر من الجور فِي القضاء من ذلك قوله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} . وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا من أمير عشرة إلا يؤتى به مغلولاً يوم القيامة حتى يفكه العدل أو يوبقه الجور» . رواه البزار والطبراني فِي الأوسط ورجال البزار رجال الصحيح.

التحذير من القضاء لمن لا يحسنه ولم تجتمع فيه شروطه

وعن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «القضاة ثلاثة واحد فِي الجنة واثنان فِي النار فأما الذي فِي الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار فِي الحكم فهو فِي النار ورجل قضى للناس على جهل فهو فِي النار» . رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة. فالقاضي الممدوح فِي نظر الدين هو الذي يعرف الحق ويقضي به فإما معرفة الحق فإنها تحتاج إلى مجهود عظيم وبحث فِي كل الظروف والأحوال المحيطة بالخصوم وأما الحكم بالحق فإنه يحتاج إِلَى مجاهدة عظيمة حتى يبعد القاضي عن الميل ويتنزه عن التحيز إِلَى أقربائه وأصدقائه وأصهاره وجيرانه أو من بينهم وبينه رابطة، أو تجمعهم معه جامعة أو يكون له فِي الميل غرض يناله من مال أو منصب أو شهوة. فالقاضي لا ينجو إلا إذا كَانَ كالميزان المنضبط فلا يميل مثقال ذرة إِلَى أحد الخصمين إلا بالحق ومن لَمْ يفعل ذلك فإنه يتحقق فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين» . على مَا فسره بعض العلماء من أن معناه أنه عرض نفسه للهلاك والعذاب الأليم وهذا أن لَمْ يقض بالحق. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليأتين على القاضي العدل يوم القيامة ساعة يتمنى أنه لَمْ يقض بين اثنين فِي تمرة قط» . رواه أحمد وابن حبان فِي صحيحه ولفظه قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يدعى القاضي العدل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب مَا يتمنى أنه لَمْ يقض بين اثنين فِي عمره قط» . والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.

العدل بين الأولاد والمرأة مسئولة عند والخادم ... الخ

(فَصْلٌ) وكذلك العدل بين الأولاد والأقارب بالقيام بحقوقهم على اختلاف مراتبهم والقيام بصلتهم الواجبة والمستحبة به تتم الصلة وتقوى روابط المحبة والتعاطف، وبذلك يكسبون الشرف عند الله وعند خلقه وبه تنظر هذه البيوت التي قامت على ذلك بعين التقدير والتعظيم والإجلال. وبذلك تحصل بإذن الله التكاتف والتساعد على مصالح الدنيا والدين وذلك راجع إِلَى العدل وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته والمرأة راعية فِي بيت زوجها مسئولة عن رعيتها والخادم راع فِي مال سيده ومسئول عن رعيته وكلكم راع ومسئول عن رعيته» . رواه البخاري ومسلم. وأما المرأة فإنها مسئولة عن تدبير منزلها بما يوافق حال زوجها فلا ترهقه بالإنفاق ولا تطلب بطلب لا يقدر عليه ولا تخونه فِي عرضه ولا تفعل مَا يؤذيه وكذلك يجب عليها أن تعدل بين أبنائها فيما بين يديها من طعام وشراب فلا تفضل واحدًا على الآخر من غير حق بل تعطي كل واحد مَا يناسبه فلا تحرم من تبغض وتجزل العطاء لمن تحب فإن خانت زوجها فِي عرضها أو ماله أو آذته بعصيانها أو فضلت بعض أولادها على بعض كَانَت ظالمة تستحق العقاب. وكذا الخادم والعامل مسئول عن العمل الذي وكل إليه وائتمن عليه فإذا أهمل العامل عملاً أو أداه ناقصًا فقد ظلم سيده واستحق العقاب وكذلك الخادم إذا خان سيده فِي ماله كَانَ كلفه بشرائه فزاد فِي ثمنه وأخذه لنفسه أو أهمل مساومة التاجر فغبه فِي السلعة أو رأى أحدًا يعتدي على مال سيده فلم يرده أو كلفه بالإنفاق على عمل فأسرف فيه بدون حق فانه يكون ظالمًا وآثمًا.

سيرة الخلفاء على من يريد العدل أن ينظر فيها

ومن هؤلاء الصناع الذين يتعاقبون على عمل ثم لا يجيدون صنعه ويغشون الناس فإنهم ظالمون آثمون وكذلك النجارون والحدادون وسائر أهل الصنائع لأنهم مكلفون بالعدل فِي صنائعهم بان يجيدوها ولا يتركوا خللاً إلا أصلحوه. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله سائل كل راع استرعاه حفظ أم ضيع» . رواه ابن حبان فِي صحيحه وجاء فِي ترك العدل بين الزوجات أحاديث تدل على خطورة ذلك مِنْهَا مَا ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كَانَت عنده امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط» . رواه الترمذي. ورواه أبو داود ولفظه: «من كَانَت له امرأتان فمال إِلَى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل» . ورواه النسائي ولفظه: «من كَانَت له امرأتان يميل إحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة أحد شقيه مائل» . ورواه ابن ماجة وابن حبان فِي صحيحه بنحو رواية النسائي هذه إلا أنهما قالا: «جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط» . اللهم قو إيماننا بك وبكتبك وبملائكتك وبرسلك وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره. اللهم ثبتنا على قولك الثابت فِي الحياة الدنيا وفي الآخرة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) وإذا تتبعت سيرة الخلفاء الراشدين ومن اقتدى بهم وجدتهم يعدلون

من سيرة عمر رضي الله عنه كلامه حين بويع للخلافة

ويأمرون بالعدل بل مِنْهُمْ من يطلب بنفسه من الأمة أن تحاسبه على كل عمل وتصرف وتقومه فِي كل خطأ قَدْ يصدر مِنْه ما داموا مخلصين يبتغون وجه الله فِي حكمهم وسلطانهم. فهذا أبو بكر رضي الله عنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالعدل يقول عندما استلم الحكم: فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، أطيعوني مَا أطعت الله ورسوله فيكم. ويقول أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: من رأى منكم فِيَّ اعوجاجًا فليقومه. وقال رجل لعمر: اتق الله يا عمر فأجابه أحد الحاضرين بقوله: أتقولون هذا لأمير المؤمنين ولكن عمر نهره بتلك الكلمة وقال: لا خير فيكم إن لَمْ تقولوها ولا خير فينا إن لَمْ نسمعها. وفي مرة كَانَت جملة من غنائم المسلمين أبراد يمانية فقام عمر رضي الله عنه يقسم هذه الغنائم بالعدل وَقَدْ أصابه مِنْهَا برد كما أصاب ابنه عبد الله مثل ذلك كأي رجل من المسلمين ولما كَانَ عمر بحاجة إِلَى ثوب طويل لأنه طويل الجسم تبرع له ابنه عبد الله ببرده ليصنع منهما ثوبًا يكفيه ثم وقف وعليه هذا الثوب الطويل يخطب فِي الناس فقال بعد أن حمد الله وأثنى على رسوله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس اسمعوا وأطيعوا. فوقف له سلمان الفارسي الصحابي المشهور الجليل فقال لعمر: لا سمع لك علينا ولا طاعة. فقال عمر رضي الله عنه: ولم؟ قال سلمان: من أين لك هذا الثوب، وَقَدْ نالك برد واحد وأنت رجل طويل فقال: لا تعجل ونادى ابنه عبد الله فقال: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: ناشدتك الله البرد الذي اتزرت له اهو رداؤك؟ فقال: اللهم نعم. قال سلمان: الآن مر نسمع ونطيع.

من ورع عمر وزهده وعدله وملاحظته للرعية تفقده للفقراء والعجزة والأيتام وعسه بالليل، من إيثاره على نفسه وعدله رضي الله عنه

وخرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه من المسجد ومعه الجارود فإذا امرأة برزة على ظهر الطريق فسلم عليها فردت عليه أو سلمت عليه فرد عليها فقالت: هيه يا عمر عهدتك وأنت تسمى عميرًا فِي سوق عكاض تصارع الصبيان فلم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين فاتق الله فِي الرعية واعلم أنه من خاف الموت خشي الفوت، فبكى عمر رضي الله عنه. فقال الجارود: هيه قَدْ اجترأت على أمير المؤمنين وأبكيتيه. فقال عمر: دعها أما تعرف هذه هي خولة بنت حكيم التي سمع الله قولها من فوق سبع سمواته فعمر والله أحرى أن يسمع كلامها. وقام مرة خطيبًا فقال: إن رأيتم فِيَّ اعوجاجًا فقوموني. فقام رجل من الحاضرين وقال: والله لو وجدنا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا فقال عمر: الحمد لله الذي جعل فِي الرعية من يقوم اعوجاج عمر. وكان رضي الله عنه إذا التبست عليه بعض الأمور يشاور الصحابة وقال رضي الله عنه: مَا تشاور قوم قط إلا هدوا لرشدهم. وقال لقمان لابنه يا بني شاور من جرب فإنه يعطيك من رأيه مَا أقام عليه بالغلاء وأنت تأخذه بالمجان. وقال الحسن: الناس ثلاثة فرجل ورجل نصف رجل ورجل لا رجل، فأما الرجل فذو الرأي والمشورة وأما نصف الرجل فالذي له رأي ولا يشاور، وأما الرجل الذي ليس برجل فالذي لا رأي له ولا يشاور. وقال ابن عيين كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أمرًا شاور فيه الرجال وكيف يحتاج إِلَى مشاورة المخلوقين من الخالق مدبر أمره ولكنه تعليم مِنْه ليشاور الرجل الناس. وقال لقمان لابنه يا بني إذا أردت أن تقطع أمرًا فلا تقطعه حتى تستشير مرشدًا. شِعْرًا: رُكُوبُكَ الأَمْرَ مَا لَمْ تَبْدُ مَصْلَحَةٌ ... جَهْلٌ وَرَأْيُكَ فِي الإِقْحَامَ تَغْرِيرُ

.. فَاعْمَلِ صَوَبًا وَخُذْ بِالْحَزْمِ مَأْثَرَةً ... فَلَنْ يُذَمَّ لأَهْلِ الْحَزْمِ تَدْبِيرُ وقال عمر رضي الله عنه: لا أمين إلا من يخشى الله فشاور فِي أمرك الذين يخشون الله. شِعْرًا: ... إِذَا بَلَغَ الرَّأُي الْمَشُورَةَ فَاسْتَعِنْ بِرِأْيِ نَصِيح أَوْ نَصِيحَةٍ حَازِمِ وَلا تَجْعَلِ الشُّورَى عَلَيْكَ غَضَاضَةً فَإِنْ الْخَوَافِي قَوةٌ لِلْقُوَادِمِ آخر: ... شَاوِرْ سِوَاكَ إِذَا نَالِتْكَ نَائِبَةٌ ... يَوْمًا وَإِنْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِ الْمَشُورَاتِ فَالْعَيْنُ تُبْصِرُ فِيْهَا مَا دَنَا وَنَأَى ... وَلا تَرَى نَفْسَهَا إِلا بِمِرْآتِ آخر: ... إِذَا عَنَّ أَمْرٌ فَاسْتَشِرْ فِيهِ صَاحِبًا وَإِنْ كُنْتَ ذَا رَأْيٍ تُشِيرُ على الصُّحَبِ فَإِنِي رَأَيْتُ الْعَيْنَ تَجْهَلُ نَفْسَهَا وَتدْرِك مَا قَدْ حَلَّ فِي مَوْضِعِ الشُّهْبِ وقال سليمان بن داود: يا بني لا تقطع أمرًا حتى تأمر مرشدًا فإذا فعلت فلا تحزن. وفي كتاب الإمام علي رضي الله عنه للأشتر النخعي لما ولاه على مصر: ولا تدخل فِي مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر ولا جبانًا يضعفك عن الأمور ولا حريصًا يزين لك الشر بالجور فإن البخل والحرص والجبن غرائز وشتى يجمعن سوء الظن بالله. وعنه من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها فِي عقولها. شِعْرًا: ... إِذَا كُنْتَ ذَا رَأْيٍ فَكُنْ ذَا عَزِيمٍَة فَإِنَ فَسَادَ الرَّأْيِ أَنْ تَتَرَدَدًّا وَإِنْ كُنْتَ ذَا عَزْمٍ فَأَنْفَذْهُ عَاجِلاً فَإِنْ فَسَادَ الْعَزْمِ أَنْ تَتَقَيَّدَا

ولما بويع بالخلافة فِي اليوم الذي مات فيه أبو بكر بوصية من أبي بكر إليه هابه الناس هيبة شديدة حتى إنهم تركوا الجلوس فِي الأفنية فلما بلغه ذلك جمع الناس ثم قام على المنبر حيث كَانَ يقوم أبو بكر يضع قدميه فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال: بلغني أن الناس هابوا شدتي وخافوا غلظتي وقالوا: قَدْ كَانَ عمر يشتد علينا ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي بين أظهرنا ثم اشتد علينا وأبو بكر والينا فكيف الآن وَقَدْ صارت الأمور إليه. ولعمري من قال ذلك فقد صدق كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت عنده وخادمه حتى قبضه الله تعالى وهو راض والحمد لله وأنا أسعد الناس بذلك ثم ولي أمر الناس أبو بكر رضي الله عنه فكنت خادمه وعونه أخلط شدتي بلينه فأكون سيفًا مسلولاً حتى يغمدني أو يدعني فما زلت معه كذلك حتى قبضه الله تعالى وهو عليَّ راض والحمد لله وأنا أسعد الناس بذلك. ثم إني وليت هذا الأمر فاعلموا أن تلك الشدة قَدْ تضاعفت ولكنها تكون على أهل الظلم والتعدي على المسلمين. وأما أهل السلامة والدين والقصد فأنا ألين لبعضهم من بعض ولست أدع أحدًا يظلم أحدًا ويتعدى عليه حتى يضع خده على الأرض وأضع قدمي على الآخر حتى يذعن للحق. وإلى هذا أشار الشاعر فِي قوله: فِي طِيِّ شِدَّتِهِ أَسْرَارُ رَحْمَتِهِ لِلْعَالَمِينَ وَلِكْن لَيْسَ يُفْشِيهَا

وَبَيْنَ جَنْبَيِهِ فِي أَوْفَى صَرَامَتِهِ فُؤَادُ وَالِدٍَة تَرْعَى ذَرَارِيهَا أَغْنَتْ عِنْ الصَّارِمِ الْمَصْقُوِلِ دُرَّتُهُ فَكَمْ أَخَافَتْ غَوَي النَّفْسِ عَاتِيهَا وقال: ولكم عليَّ أيها الناس أن لا اخبأ عنكم شيئًا من خراجكم وإذا وقع عندي أن لا يخرج إلا بحقه ولكم عليَّ أن لا ألقيكم فِي المهالك وإذا غبتم فِي البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم. وأخرج بن سعد عن الحسن قال: كتب عمر إِلَى حذيفة رضي الله عنهما أن أعط الناس أعطيتهم وأرزاقهم فكتب إليه قَدْ فعلنا ويبقى شيء كثير. فكتب إليه عمر: إنه فيئهم الذي أفاء الله عليهم ليس هو لعمر ولا لآل عمر أقسمه بينهم. وأخرج ابن سعد وابن عساكر عن الحسن قال: كتب عمر بن الخطاب إِلَى أبي موسى رضي الله عنهما: أما بعد فاعلم يومًا من السنة لا يبقى فِي بيت المال درهم حتى يكتسح حتى يعلم الله إني قَدْ أديت إِلَى كل ذي حق حقه. وعند ابن عساكر عن سلمة بن سعيد قال: أتى عمر بن الخطاب بمال فقام عبد الرحمن بن عوف فقال: يا أمير المؤمنين لو حبست من هذا المال فِي بيت المال لنائبه تكون أو أمر يحدث. فقال كلمة مَا عرض بها إلا شيطان لقاني الله حجتها ووقاني فتنتها

أعصي العام مخافة قابل أعد لهم تقوى الله قال الله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} ولتكون فتنة من بعدي. وقال سعيد بن المسيب: توفي والله عمر رضي الله عنه وزاد فِي الشدة فِي موضعها واللين فِي مواضعه وكان أبا العيال حتى إنه يمشي على المغيبات اللاتي غاب عنهن أزواجهن ويقول: ألكن حاجة حتى اشتري لكن فإني أكره أن تخدعن فِي البيع والشراء فيرسلن معه جواريهن. فيدخل ومعه جواري النساء وغلمانهم ما لا يحصي فيشتري لهن حوائجهن فمن كَانَت ليس عندها شيء اشترى لها من عنده وكان يحمل حراب الدقيق على ظهره للأرامل والأيتام فقال بعضهم له: دعني احمل عنك. فقال عمر: ومن يحمل عني ذنوبي يوم القيامة. ويروى أنه مر بنوق قَدْ بدت عليها آثار النعمة تهف ذراها فسأل عن صاحبها فقالوا: عبد الله بن عمر فساقها إِلَى بيت مال المسلمين ظنًّا مِنْه أن ثروة ابنه لا تفي لها وأنه لولا جاهه بين الناس مَا قدر على إطعامها. وفي ذلك يقول الشاعر: وَمَا وَفَى ابْنُكَ عَبْدُ اللهِ أَيْنُقُهُ لَمَّا اطَّلَعْتَ عَلَيْهَا فِي مَرَاعِيهَا رَأَيْتَهَا فِي حِمَاهُ وَهِي سَارِحَةٌ مِثْلَ الْقُصُورَ قَدْ اهْتَزَّتْ أَعَالِيهَا فَقُلَت مَا كَانَ عَبْدُ اللهِ يُشْبِعَهَا لَوْ لَمْ يَكُنْ وَلَدِي أَوْ كَانَ يَرْوِيهَا

من رأفته ولطفه وحرصه على العدل وتواضعه وتفقده لأحوال الرعية وخدمتهم

قَدْ اسْتَعَانَ بَجَاهِي فِي تِجَارَتِهِ وَبَاتَ بِاسْمِ أَبِي حِفْصٍ يُنَمِّيْهَا رُدُّوا النِّيَاقَ لِبَيْتِ الْمَالِ إِنَّ لَهُ حَقَّ الزِّيَادَةِ فِيهَا قَبْلَ َشارِيهَا وَهَذَهِ خُطَّةٌ للهِ وَاضِعُهَا رَدَتَ حُقُوقًا فَأْغْنَتَ مُسْتَميحِيهَا وروي أن طلحة رضي الله عنه خرج فِي ليلة مظلمة فرأى عمر رضي الله عنه قَدْ دخل بيتًا ثم خرج فلما أصبح طلحة ذهب إِلَى ذلك البيت فإذا فيه عجوز عمياء مقعدة لا تقدر على المشي فقال لها طلحة: مَا بال هذا الرجل يأتيك. فقالت: إنه يتعاهدني من مدة كذا وكذا بما يصلحني ويخرج عني الأذى يعني القذر والنجاسة فرضي الله عنه أرضاه. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها وخير أيامنا يوم لقائك، اللهم ثبتنا على قولك الثابت وأيدنا بنصرك وارزقنا من فضلك ونجنا من عذابك يوم تبعث عبادك واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) ولما رجع رضي الله عنه من الشام إِلَى المدينة انفرد عن الناس ليتعرف ويتفقد أحوال رعيته فمر بعجوز فِي خباء لها فقصدها فقالت: يا هذا مَا فعل عمر؟ قال: قَدْ أقبل من الشام سالمًا. فقالت: لا جزاه الله خيرًا. قال: ولم قالت لأنه والله مَا نالني من عطائه منذ تولى أمر المسلمين دينار

ولا درهم قال: وما يدري بحالك وأنت فِي هذا الموضع فقالت: سبحان الله والله مَا ظننت أن أحدًا يلي على الناس ولا يدري مَا بين مشرقها ومغربها فبكى عمر رضي الله عنه وقال: واعمراه كل أحد أفقه منك يا عمر حتى العجائز. ثم قال لها: يا أمة الله بكم تبيعيني ظلامتك من عمر فإني أرحمه من النار فقالت: لا تستهزئ بنا يرحمك الله فقال: لست بهزاء فلم يزل بها حتى اشترى ظلامتها بخمسة وعشرين دينارًا. فبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن طالب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما فقالا: السلام عليك يا أمير المؤمنين فوضعت العجوز يدها على رأسها وقالت: واسوأتاه شتمت أمير المؤمنين فِي وجهه. فقال لها عمر: يرحمك الله ثم طلب رقعة جلد يكتب بها فلم يجد فقطع قطعة من مرقعته وكتب فيها بسم الله الرحمن الرحيم هذا مَا اشترى به عمر من فلانة ظلامتها منذ ولي إِلَى يوم كذا وكذا بخمسة وعشرين دينارًا فما تدعي عند وقوفه فِي الحشر بين يدي الله تعالى فعمر مِنْه بريء شهد على ذلك علي وابن مسعود دفع الكتاب إليَّ وقال: إذا أنا مت فاجعله فِي كفني ألقى به ربي عز وجل. هكذا يكون العلماء العاملون قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} . عَلَى قَدْرِ عِلْمِ الْمَرْءِ يَعْظُمُ خَوْفُهُ فَلا عَالِمٌ إِلا مِنَ اللهِ خَائِفُ

فَآمِنْ مَكْرِ اللهِ بِاللهِ جَاهِلٌ وَخَائِفُ مَكْرِ اللهِ بِاللهِ عَارِفُ وأخرج ابن عساكر وسعيد بن منصور والبيهقي عن الشعبي قال: كَانَ بين عمر وبين أبي كعب رضي الله عنهما خصومة فقال عمر: اجعل بيني وبينك رجلاً فجعلا بينهما زيد بن ثابت رضي الله عنه فأتياه فقال له عمر: أتيناك لتحكم بيننا وفي بيته يؤتى الحكم. فلما دخل عليه وسع له زيد عن صدر فراشه فقال: ها هنا أمير المؤمنين فقال له عمر: هذا أول جور جرت فِي حكمك، ولكن أجلس مع خصمي فجلسا بين يديه فادعى أبيّ وأنكر عمر فقال زيد لأبي: اعف أمير المؤمنين من اليمين وما كنت لأسألها لأحد غيره فحلف عمر ثم أقسم لا يدرك زيد القضاء حتى يكون عمر ورجل من عرض المسلمين عنده سواء. وأخرج عبد الرزاق عن زيد بن أسلم قال: كَانَ للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما دار إِلَى جنب مسجد المدينة فقال له عمر رضي الله عنه: بعينها فأراد عمر أن يزيدها فِي المسجد فأبى العباس أن يبيعها إياه فقال عمر: فهبها لي فأبي فقال: فوسعها أنت فِي المسجد فأبى. فقال عمر: لا بد لك من إحداهن فأبى عليه فقال: خذ بيني وبينك رجلاً فأخذ أبيا رضي الله عنه فاختصما إليه فقال أبي لعمر: مَا أرى أن تخرجه من داره حتى ترضيه فقال له عمر: أرأيت قضاءك هذا فِي كتاب الله وجدته أم سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال عمر: وما ذاك؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام لما بنى بيت المقدس جعل كلما بنى حائطًا أصبح منهدمًا فأوحى الله إليه أن لا تبني فِي حق رجل حتى ترضيه فتركه عمر فوسعها العباس رضي الله عنهما بعد ذلك فِي المسجد. بلغ يا أخي هذه القصة للساكنين فِي بيوت المسلمين بغير رضاهم وقل لَمْ تصلون وتصومون وتنكحون فِي بيت مغصوب يدعو عليكم مالكه ليلاً ونهارًا سرًّا وجهارًا. أما علمتم أن الله حرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرمًا. وأخرج عبد الرزاق أيضًا عن سعيد بن المسيب قال: أراد عمر رضي الله عنه أن يأخذ دار العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فيزيدها فِي المسجد فأبى العباس أن يعطيها إياه فقال عمر: لآخذنها فقال: فاجعل بيني وبينك أبي بن كعب رضي الله عنه قال: نعم. فأتيا أبيًّا فذكرا له فقال: أبيّ أوحى الله إِلَى سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام أن يبني بيت المقدس وكانت أرضًا لرجل فاشترى مِنْه الأرض فلما أعطاه الثمن قال: الذي أعطيتني خير أم أخذت مني قال: بل الذي أخذت منك قال: فإني لا أجيز ثم اشتراها مِنْه بشيء أكثر من ذلك فصنع الرجل مثل ذلك مرتين أو ثلاثًا. فاشترط سليمان عليه الصلاة والسلام أني أبتاعها منك على حكمك فلا تسألني أيهما خير قال: فاشتراها مِنْه بحكمه فاحتكم اثني عشر ألف قنطار ذهبًا فتعاظم ذلك سليمان عليه الصلاة والسلام أن يعطيه فأوحى الله إليه أن كنت تعطيه من شيء هو لك فأنت أعلم وإن كنت تعطيه من رزقنا فأعطيه حتى يرضى ففعل وأنا أرى أن عباسًا رضي الله عنه أحق بداره حتى يرضى، بلغ يا

أخي أيضًا هذه القصة الساكنين فِي بيوت المسلمين بغير حكم شرعي وقل لهم أما تتقون الله وتخشون عقوبته. قال العباس: فإذا قضيت لي فإني أجعلها صدقة للمسلمين رضي الله عنهم وأرضاهم وجعل جنة الفردوس مثوانا ومثواهم. وروي أن عمر رضي الله عنه أمر بقلع ميزاب كَانَ فِي دار العباس بن عبد المطلب إِلَى الطرق بين الصفا والمروة فقال له العباس: قلعت مَا كَانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضعه بيده فقال: إذا لا يرده إِلَى مكانه غيرك ولا يكون سلم غير عاتق عمر فأقامه وأعاده على عاتق عمر ورده إِلَى موضعه. وساوم عمر رضي الله عنه رجلاً من رعيته فِي شراء فرس ثم ركبه عمر ليجربه فعطب فرده إِلَى صاحبه فأبى صاحب الفرس أن يأخذه فقال له: وهو خليفة المسلمين اجعل بيني وبينك حكمًا فرضي الرجل بقضاء شريح العراقي فتحاكما إليه. فقال شريح: بعد أن سمع حجة كل مِنْهما: يا أمير المؤمنين خذ مَا اشتريت أو رده كما أخذته فأكبر عمر هذه العدالة والنزاهة من شريح وقال: وهل القضاء إلا هكذا ثم أقام شريحًا على القضاء فِي الكوفة تقديرًا لنزاهة وعدله رضي الله عنهما وأرضاهما الله يسر لنا أمثالها وأبعد عنا أضدادهما. الله يا حي يا قيوم يا من لا تأخذه سنة ولا نوم مكن محبتك فِي قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وأعنا على القيام بطاعتك والانتهاء عن معصيتك اللهم افتح لدعائنا باب القبول والإجابة فإنا ندعوك دعاء من كثرت ذنوبه وتصرمت آماله وبقيت آثامه وانسلبت دمعته وانقطعت مدته دعاء من لا يرجو لذنبه غافرًا غيرك ولا لما يؤمله من الخيرات معطيًا سواك ولا

لكسره جابرًا إلا أنت يا ارحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) وكان عمر رضي الله عنه فِي خلافة أبي بكر يتعهده امرأة عمياء بالمدينة ليقوم بأمرها فكان إذا جاءها ألفاها قَدْ قضيت حاجتها فترصد عمر يومًا فإذا أبو بكر هو الذي يكفيها مؤنتها لا تشغله عن ذلك الخلافة وتبعاتها، عندئذ صاح عمر حين رآه أنت هو لعمري. ولله در القائل يصف الصحابة رضي الله عنهم: قَوْمٌ طَعَامُهُمُو دِرَاسَةُ عِلْمِهِمْ يَتَسَابَقُونَ إِلَى الْعُلا وَالسُّؤْدِدِ ومن كلامه إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما نطلب العز بغير مَا أعزنا الله به أذلنا الله. وعن أبي عثمان النهدي أنه قال: رأيت عمر يطوف بالبيت وعليه جبة صوف فيها اثنا عشر رقعة بعضها من جلد، ورآه رجل وهو يطلي بعيرًا من إبل الصدقة بالقطران فقال له: يا أمير المؤمنين لو أمرت عبدًا من عبيد الصدقة فكفاله فضرب عمر صدر الرجل وقال: عبد أعبد مني. وروي أنه أتي بمال كثير فأتته ابنته حفصة فقالت: يا أمير المؤمنين حق أقربائك فقد أوصى الله بالأقربين فقال: لا يا حفصة إنما حق الأقربين فِي مالي

فأما مال المسلمين فلا يا حفصة نصحت وغشيت أباك فقامت تجر ذيلها. وروي أنه جيء بمال كثير من العراق، فقيل له: أدخله بيت المال فقال: لا ورب الكعبة لا يرى تحت سقفه حتى أقسمه بين المسلمين، فجعل بالمسجد، وغطى بالأنطاع، وحرسه رجال من المهاجرين والأنصار. فلما أصبح نظر إِلَى الذهب والفضة والياقوت والزبرجد والدر يتلألأ، فبكى، فقال له العباس: يا أمير المؤمنين مَا هذا بيوم بكاء ولكنه فِي قوم قط إلا وقع بأسهم بينهم. قم أقبل إِلَى القبلة وقال: اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجًا فإني أسمعك تقول: {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} . وعن سنان الدولي أنه دخل على عمر وعنده نفر من المهاجرين الأولين فأرسل عمر رضي الله عنه لسفط أتي به من قلعة بالعراق، وكان فيه خاتم فأخذه بعض بنيه فأدخله فِي فيه فانتزعه مِنْه ثم بكى، فقال له من عنده: لَمْ تبكي يا أمير المؤمنين وَقَدْ فتح الله عليك، وأظهرك على عدوك، وأقر عينك، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تفتح الدنيا على أحد حتى تلقى بينهم العداوة، والبغضاء، إِلَى يوم القيامة وأنا أشفق من ذلك» . رواه أحمد والبزار. وروي أنه كَانَ يقسم شيئًا من بيت المال، فدخلت ابنة له صغيرة فأخذت درهمًا فنهض فِي طلبها حتى سقطت ملحفته عن منكبيه، ودخلت

الصبية إِلَى بيت أهلها وهي تبكي، وجعلت الدرهم فِي فمها، فأدخل عمر إصبعه فِي فمها فأخرج الدرهم وطرحه على خراج المسلمين، وقال: أيها الناس إنه ليس لعمر ولا لآل عمر إلا مَا للمسلمين قريبهم وبعيدهم. وعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: خرجت مع عمر ذات ليلة حتى أشرفنا عَلَى حرة واقم، فإذا نار توارى بضرام، فقال: يا ابن أسلم إني أحسب هؤلاء ركبًا يضربهم الليل والبرد، انطلق بنا إليهم، قال: فخرجنا نهرول حتى انتهينا إِلَى النار فإذا امرأة توَقَدْ تحت قدر، ومعها صبيان يتضاغون، فقال: السلام عليكم أصحاب الضوء أأدنو فقالت المرأة: أدن بخير أو دع. فقال: مَا بالكم؟ قالت: يضربنا الليل والبرد. قال: فما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت: الجوع. قال: فما هذا القدر؟ قالت: ماء أسكتهم به والله بيننا وبين عمر. فقال: وما يدري عمر قالت: يتولى أمرنا ثم يغفل عنا، فأقبل علي وقال: انطلق بنا فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الدقيق، فأخرج عدلاً من دقيق فيه عكنة من شحم، فقال: أحمله عليَّ، قلت: أنا أحمله عنك، فقال: أنت تحمل عني وزري يوم القيامة لا أم لك، احمله عليَّ فحملته عليه فخرجنا نهرول حتى ألقينا ذلك العدل عندها. ثم أخرج الدقيق فجعل يقول ذري عليَّ وأنا أسوطه، وجعل ينفخ تحت القدر وكانت لحيته عظيمة، فجعلت أنظر إِلَى الدخان يخرج من تحت خلل لحيته حتى أنضج. ثم أخذ من الشحم فأدمها به ثم قال: ائت بشيء فجاءته بصحفة، فأفرغ القدر فيها، ثم جعل يقول لها أطعميهم، وأنا أسطح لك، يعني

أبرده، فأكلوا حتى شبعوا. ثم ترك عندها فضل ذلك، فقالت: له جزاك الله خيرًا أنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين، فقال: قولي خيرًا إنك إذا جئت أمير المؤمنين وجدتني هناك. ثم تنحى قريبًا فربض مربض السبع، فقلت له: إن لك شأنًا غير هذا، فلم يكلمني حتى رأيت الصبية يصطرخون ويضحكون، ثم ناموا فقام وهو يحمد الله تعالى. ثم أقبل عليَّ وقال: يا ابن أسلم إني رأيت الجوع أبكاهم، فأحببت أن لا أنصرف حتى أرى مِنْهُمْ مَا رأيت. أ. هـ. وفي ذلك يقول حافظ إبراهيم: وَمَنْ رَآهُ أَمَامَ الْقِدَرِ مُنْصَهِرًا وَالنَّارُ تَأْخُذُ مِنْهُ وَهْوَ يُذْكِيهَا وَقَدْ تَخَلَّلَ فِي أَثَنَاءِ لِحْيَتِهِ مِنْهَا الدُّخَانَ وَفُوْهُ غَابَ فِي فِيهَا رَأَى هَنَاكَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى حَالَ تَرُوْعُ لَعَمْرُ الله رَائِيْهَا يَسْتَقْبِلُ النَّارَ خَوْفَ النَّارِ فِي غَدِهِ وَالْعَيْنُ مِنْ خَشَْيَةٍ سَالَتْ مَآقِيهَا وعن الحسن البصري قال: بينما يعس بالمدينة ليلاً لقيته امرأة تحمل قربة، فسألها فذكرت له أن لها عيالاً وليس لها خادم، وأنها تخرج

ليلاً فتسقي لهم الماء، وتكره أن تخرج نهارًا، فحمل عمر عنها القربة حتى بلغ منزلها. ثم قال لها: أغدي إِلَى عمر غدوة يخدمك خادمًا، قالت: لا أصل إليه، قال: إنك ستجدينه إن شاء الله فغدت عليه، فإذا هي به فعرفت أنه الذي حمل عنها القربة، فاستحيت وذهبت فأرسل لها عمر بخادم ونفقة. وكان إذا قدم الرسول من الثغور بكتب إِلَى أهليهم هو الذي يدور بها ويوصلها إِلَى بيوتهم بنفسه، ويقول: إذا كَانَ عندكن من يقرأ وإلا فاقربن من الأبواب حتى أقرأ لكن إذا خرج الرسول دار عليهن بالقرطاس والدواة بنفسه فيقربن من الأبواب فيكتب لهن إِلَى رجالهن. ثم يأخذ الكتب فيأمر به مع الرسول، وعن أبي فراس قال: خطبنا عمر فقال فِي خطبته: إني لَمْ ابعث عمالي ليضربوا أبشاركم - أي جلودكم - ولا ليأخذوا أموالكم. فمن فعل به ذلك فليرفعه إِلَى أقصه مِنْه، فقال عمرو بن العاص: لو أن رجلاً أدب بعض رعيته، أتقصه مِنْه، قال: أي والذي نفسي بيده لأقصه مِنْه، وَقَدْ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أقص من نفسه - أي مكن من القصاص مِنْه - أخرجه أبو داود. وفي حديث أخرجه البخاري عن عمر أنه قال: اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار، وإني إنما بعثتهم ليعدلوا، وليعلموا الناس دينهم، وسنة نبيهم، ويقسموا فيهم فيأهم، ويرفعوا إلي مَا أشكل من أمرهم.

وفي حديث أخرجه البخاري ومسلم أن عمر لما طعن قيل له: لو استخلفت، فقال: أتحمل أمركم حيًّا وميتًا، عن استخلف فقد استخلف من هو خير مني أبو بكر وإن أترك فقد ترك من هو خير مني رسول الله صلى الله عليه وسلم وددت أن حظي مِنْهَا الكفاف، لا علي ولا لي، فقالوا: جزاك الله خيرًا، فقال: راغب وراهب. اللهم رضنا بقضائك وأعنا على الدنيا بالعفة والزهد والقناعة وعَلَى الدين بالسمع والطاعة وطهر ألسنتنا من الكذب وقلوبنا من النفاق وأعمالنا من الرياء واحفظ أبصارنا من الخيانة فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعَلَى آله وصحبه وسلم. (فَصْلٌ) وعن ابن عمر قال: تضرعت إِلَى الله أن يريني أبي فِي النوم، حتى رأيته وهو يمسح العرق عن جبينه، فسألته عن حاله، فقال: لولا رحمة الله لهلك أبوك إنه سألني عن عقال بعير الصدقة، وعن حياض الإبل، فكيف الناس فسمع بذلك عمر بن عبد العزيز فصاح وضرب بيده على رأسه، وقال: فعل هذا بالتقي الطاهر، فكيف بالمترف عمر بن عبد العزيز. ولما أصاب الناس هول المجاعة والقحط فِي عهد عمر رضي الله عنه كَانَ لا ينام الليل إلا قليلاً، ولا يجد الراحة إلا قليلاً كَانَ كل همه أن يدفع خطر المجاعة عن شعبه، وما زال به الهم حتى تغير لونه وهزل

وقال من رآه: لو استمرت المجاعة شهورًا أخرى لمات عمر من الهم والأسى. وجاءته يومًا قافلة من مصر تحمل اللحم والسمن والطعام والكساء فوزعها على الناس بنفسه وأبى أن يأكل شيئًا وقال لرئيس القافلة: ستأكل معي فِي البيت ومنى الرجل نفسه ممتازًا حيث ظن أن أمير المؤمنين يكون طعامه خيرًا من طعام الناس. وجاء عمر والرجل على البيت جائعين بعد التعب ونادى عمر بالطعام فإذا هو خبز مكسر يابس مع صحن من الزيت واندهش الرجل وتعجب من أن يكون هذا الطعام طعام أمير المؤمنين. وقال: لماذا منعتني من أن آكل مع الناس لحمًا وسمنًا وقدمت هذا الطعام قال عمر: مَا أطعمك إلا مَا أطعم نفسي. قال: وما يمنعك أن تأكل كما يأكل الناس وَقَدْ وزعت بيدك اللحم والطعام عليهم قال عمر: لقد آليت على نفسي أن لا أذوق السمن واللحم حتى يشبع مِنْهَا المسلمون جميعًا، أسمعت مثل هذا الإيثار لغير الأنبياء والخلفاء الراشدين. ومن ورعه وتقشفه مَا روي من أن امرأته اشتهت الحلوى فادخرت لذلك من نفقة بيتها حتى جمعت مَا يكفي لصنعها فلما بلغ عمر ذلك رد مَا ادخرته إِلَى بيت المال ونقص من النفقة بقدر مَا ادخرت وإلى هذا أشار الشاعر:

إنْ جَاعَ فِي شَدَّةِ قَوْمٌ شَرَكْتَهُمُ في الْجُوعِ أَوْ تَنْجَلِي عَنْهُم غَوَاشِيهَا جُوعُ الخَلِيفَةِ وَالدُّنْيَا بِقَبْضَتِهِ في الزُّهْدِ مَنْزِلَةٌ سُبْحَانَ مُولِيهَا فَمَنْ يُبَارِي أَبَا حَفْصٍ وَسِيْرَتَهُ أَوْ مَنْ يُحَاوِلُ لِلْفَارُوقِ تَشْبِيهَا يَوْمَ اشْتَهَتْ زَوْجُهُ الحَلْوَى فَقَالَ لَهَا مِنْ أَيْنَ لِي ثَمَنُ الحَلْوَى فَأَِشْرِيهَا لاَ تَمْتَطِي شَهَوَاتِ النَّفْسِ جَامِحَةً فَكِسْرَةُ الْخُبْزِ عَنْ حَلْوَاكِ تُجْزِيهَا قَالَتْ لَكَ اللهُ إَنِّي لَسْتَ أَرْزَؤهُ مَالاً لِحَاجَةِ نَفْسٍ كُنْتُ أَبْغِيهَا لَكِنْ أُجَنِّبُ شَيْئًا مِنْ وَضِيفَتِنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ عَلَى حَالٍ أُسَوِّيهَا حَتَّى إذَا مَا مَلَكْنَا مَا يُكَافِئُهَا شَرَيْتُهَا ثُمَّ إنِّي لاَ أُثنِّيْها قَالَ اذْهَبِي وَاعْلَمِي إِنْ كُنْتِ جَاهِلَةً أنَّ القَنَاعَةَ تُغْنِي نَفْسَ كاسِيهَا وَأَقْبَلَتَ بَعْدَ خَمْسٍ وَهْيَ حَامِلَةٌ دُرَيْهِمَاتٍ لِتَقْضِي مِنْ تَشَتِّهيَها فَقَالَ نَبَّهْتِ مِنِّي غَافِلاً فَدَعِي هَذِي الدَّرَاهِمَ إذْ لاَ حَقَّ لِي فِيهَا

مَا َزادَ عَنْ قُوتِنَا فالمُسْلِمُونَ بِهِ أَوْلَى فَقُومِي لِبَيْتِ المَالِ رُدِّيهَا وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أنفد عمالاً قال لهم: اشتروا دوابكم وأسلحتكم من أرزاقكم ولا تمدوا أيديكم إِلَى بيت مال المسلمين ولا تغلقوا أبوابكم دون أرباب الحوائج. قال عبد الرحمن بن عوف: دعاني عمر بن الخطاب ذات ليلة وقال: قَدْ نزل بباب المدينة قافلة وأخاف إذا ناموا أن يسرق شيء من متاعهم فمضيت معه فلما وصلنا قال لي: نم أنت ثم جعل يحرس القافلة طول ليلته. وقال عمر رضي الله عنه: يجب عليَّ أن أسافر لأقضي حوائج الناس فِي أقطار الأرض لأن بها ضعفاء لا يقدرون عَلَى قصدي فِي حوائجهم لبعد المكان فينبغي أن أطوف البلاد لأشاهد أحوال العمال واسبر سيرتهم وأقضي حوائج المسلمين، فلا يكون فِي سِنِي عُمَرَ أبرك من هذه السنة. وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إِلَى عامله أبي موسى الأشعري (أما بعد فان أسعد الولاة من سعدت به رعيته وإن أشقى الولاة من شقيت به رعيته فإياك والتبسط فان عمالك يقتدون بك وإنما مثلك كمثل دابة رأت مرعى مخضرًا فأكلت كثيرًا حتى سمنت لأنها بذلك السمن تذبح وتؤكل وفي التوراة كل ظلم علمه السلطان من عماله فسكت عنه كَانَ ذلك الظلم منسوبًا إليه وأخذ به وعوقب عليه. وينبغي للوالي أن يعلم أنه ليس أحد غبنًا ممن باع دينه وآخرته بدينا غيره وأكثر الناس فِي خدمته شهوتهم فإنهم يستنبطون الحيل ليصلوا إِلَى مرادهم من الشهوات وكذلك العمال لأجل نصيبهم من الدنيا يغرون الوالي ويحسنون الظلم عنده فيلقونه فِي النار ليصلوا إِلَى إغراضهم وأي عدو أشد عداوة ممن يسعى فِي هلاكك وهلاك نفسه لأجل درهم يكتسبه ويحصله. وفي الجملة ينبغي لمن أراد حفظ العدل عَلَى الرعية أن يرتب غلمانه وعماله

للعدل ويحفظ أحوال العمال وينظر فيها كما ينظر فِي أحوال أهله وأولاده ومنزله ولا يتم له ذلك إلا بحفظ العدل أولا من باطنه وذلك أن لا يسلط شهوته وغضبه عَلَى عقله ودينه ولا يجعل عقله ودينه أسرى شهوته وغضبه بل يجعل شهوته وغضبه أسرى عقله ودينه. وكان يقول: إني أنزلت مال الله مني بمنزلة مال اليتيم، فإن استغنيت عنه عففت عنه وإن افتقرت أكلت بالمعروف. وسئل يومًا عما يحل له من مال الله فقال: أنا أخبركم بما أستحل مِنْه يحل لي حلتان حلة فِي الشتاء وحلة فِي الصيف وما أحج عليه واعتمر من الظهر وقوتي وقوت أهلي كقوت رجل من قريش ليس بأغناهم ولا بأفقرهم ثم أنا رجل من المسلمين يصيبني مَا أصابهم. رضي الله وأرضاه وجعل جنة الفردوس مثواه. وروي أن معاوية - وهو عَلَى الشام بعث مرة إِلَى عمر بن الخطاب بمال وأدهم - أي قيد - وكتب إِلَى أبيه أبا سفيان أن يدفع ذلك إِلَى عمر فخرج رسول معاوية بالمال والأدهم حتى قدم عَلَى أبي سفيان بالمال والأدهم، فذهب أبو سفيان بالأدهم والكتاب إِلَى عمر واحتبس المال لنفسه فلما قرأ عمر الكتاب قال: فأين المال يا أبا سفيان؟ قال: كَانَ علينا دين ومعونة ولنا فِي بيت المال حق فإذا أخرجت لنا شيئًا قاضيتنا به. فقال: اطرحوه فِي الأدهم أي فِي القيد حتى يأتي المال. فأرسل أبو سفيان من أتاه بالمال فأمر عمر بإطلاقه من القيد فلما قدم رسول معاوية عَلَى معاوية قال له: أرأيت أمير المؤمنين أعجب بالأدهم قال: نعم وطرح فيه أباك قال: ولم؟ قال: إنه جاء بالأدهم وحبس المال. قال معاوية: أي والله والخطاب لو كَانَ لطرحه فيه يريد أن الخطاب أبا عمر مكان أبي

سفيان فِي القصة حتى يأتي المال فرضي الله عن عمر وأرضاه مَا أنصفه وأعدله وأروعه. وفي ذلك يقول الشاعر: وَمَا أَقَلْتَ أَبَا سُفْيَانِ حِينَ طَوَى عَنْكَ الْهَدِيَّةَ مُعْتَزًّا بِمُهْدِيهَا لَمْ يُغْنِ عَنْهُ وَقَدْ حَاسَبْتَهُ حَسَبٌ وَلاَ مُعَاوِيَةٌ بِالشَّامِ يَجْيِبهَا قَيَّدْتِ مِنْهُ جَلِيلاً شَابَ مَفْرِقُهُ فِي عِزَّةٍ لَيْسَ مِنْ عِزٍّ يُدَانِيهَا قَدْ نَوَّهُوا فِي اسْمِهِ فِي جَاهِلِيَّتِهِ وَزَادَهُ سَيَّدُ الكَوْنَيْنِ تَنْوِيهَا في فَتْحِ مَكَّةَ كَانَتْ دَارُهُ عُمَرٍ قَدْ أَمَّنَ اللهُ بَعْدَ البَيْتَ غَاشِيهَا وَكُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَشْفَعْ لَدَى عُمَرٍ في هَفْوَةٍ لأَبِي سُفْيَانَ يَأْتِيهَا تَاللهِ لَوْ فَعَلَ الخَطَّابُ فِعْلَتَهُ لَمَا تَرَخَّصَ فِيهَا أَوْ يُجَارِيهَا فَلاَ الحَسَابَةُ فِي حَقٍّ يُجَامِلُهَا وَلاَ القَرَابَةُ فِي بُطْلٍ يُحَابِيهَا ويروى أن جبلة بن الأيهم أحد أبناء الغساسنة ملوك الشام قَدْ اعتنق

الإسلام وبينما هو ذات يوم يطوف إذ وطئ أعرابي ثوبه فلطمه جبلة لطمة هشمت أنفه فشكاه الأعرابي إِلَى عمر فأمر أن يقتص من جبلة فأبى جبلة أن يمكنه من القصاص وهرب والتجأ إِلَى القسطنطينية وتنصر. وفي ذلك يقول الشاعر: كَمْ خِفْتَ فِي اللهِ مَضْعُوفًا دَعَاكَ بِهِ وَكَمْ أَخَفْتَ قَوِيًّا يَنْثَنِي تِيهَا وَفِي حَدِيثِ فَتَى غَسَّانَ مَوْعِظَةٌ لِكُلِّ ذِي نَعْرَةٍ يَأْبَى تَنَاسِيهَا فَمَا الْقَوِيُّ قَوِيًّا رَغْمَ عِزَّتِهِ عِنْدَ الْخُصُومَةِ وَالْفَارُوقُ قَاضِيهَا وَمَا الضَّعِيفُ ضَعِيفًا بَعْدَ حُجَّتِهِ وَإنْ تَخَاصَمَ وَالِيهَا وَرَاعِيهَا ويروى أن عمر رضي الله عنه كتب إِلَى عمرو بن العاص إنه قَدْ فشت لك فاشية من متاع ورقيق وآنية وحيوان لَمْ تكن حين وليت مصر فكتب إليه عمرو إن أرضنا أرض مزدرع ومتجر فنحن نصيب فضلاً عما نحتاج إليه لنفقتنا فكتب إليه إني خبرت من عمال السوء مَا كفى وكتابك إِلَى كتاب من أقلقه الأخذ بالحق وَقَدْ سؤت بك ظنًا وَقَدْ وجهت إليك محمد بن مسلمة ليقاسمك مالك فأطلعه وأخرج إليه مَا يطالبك وأعفه من الغلظة عليك، فلم يسع عمرو بن العاص عَلَى دهائه وعلو مكانه وبعده عن أمير المؤمنين إلا الخضوع لما أمر به ومقاسمه محمد بن سلمة ماله وإلى هذه القصة يشير الشاعر:

ذكر طرف من تقشفه وورعه

شَاطَرْتَ دَاهِيَةَ السُّوَّاسِ ثَرْوَتَهُ وَلَمْ تَخَفْهُ بِمِصْرَ وَهْوَ وَالِيهَا وَأَنْتَ تَعْرِفُ عَمْرًا فِي حَوَاضِرِهَا وَلَسْتَ تَجْهَلُ عَمْرًا فِي بَوَادِيهَا فَلَمْ يَرُغ حِيلَةً فِيمَا أَمَرْتَ بِهِ وَقَامَ عَمْروٌ إِلَى الأَجْمَالِ يُزْحِيهَا وَلَمْ تُقِلْ عَامِلاً مِنْهَا وَإِنْ كَثُرَتْ أَمْوَالهُ وَفَشا فِي الأرْض فاَشِيهَا اللهم نور قلوبنا واشرح صدورنا واستر عيوبنا وأمن خوفنا واختم بالصالحات أعمالنا واجعلنا من عبادك الصالحين وحزبك المفلحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وصلى الله عَلَى محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) ومن ورعه رضي الله عنه مَا يتجلى فيما يلي مما روي عنه: كَانَ رضي الله عنه ممن يأخذون بالشورى فِي أمرهم عملاً بقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} وكان يقول: لا خير فِي أمر أبرم من غير شورى. وهو أول من قرر قاعدة الشورى فِي انتخاب الخليفة فقد سئل عندما طعن عمن يوصي بعده فقال للمقداد بن الأسود: إذا وضعتموني فِي حفرتي فأدخل عليًّا وعثمان والزبير وسعدًا وعبد الرحمن بن عوف وطلحة إن قدم

وأحضر عبد الله بن عمر ولا شيء له من الأمر وقم عَلَى رؤوسهم فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلاً وأبى واحدًا فاضرب رأسه بالسيف وإن اتفق أربعة ورضوا رجلاً مِنْهُمْ وأبى اثنان فاضرب رأسيهما فإن رضي ثلاثةٌ رجلاً مِنْهُمْ فحكِّموا عبد الله بن عمر فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلاً مِنْهم. فإن لَمْ يرضوا بحكم عبد الله فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس ولم يذكر فِي الشورى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل لأنه ابن عمه فخشي أن يراعى فيولى لكونه ابن عمه فلذلك تركه وهو أحد العشرة المبشرين فِي الجنة بل قيل إنه استثناه من بينهم وإلى هذه القصة يشير الشاعر فِي قوله: يَا رَافِعًا رَايَةَ الشُّورَى وَحَارِسَهَا جَزَاكَ رَبُكَ خَيْرًا عَنْ مُحِبِّيهَا لَمْ يُلْهِكَ النَّزْعُ عَنْ تَأْيِيدِ دَوْلَتِها وَلِلمَنِيَّةِ آلامٌ تُعَانِيهَا لَمْ أَنْسَ أَمْرَكَ لِلْمِقْدَادِ يَحْمِلُُهُ إِلَى الْجَمَاعَةِ إنْذَارًا وَتَنْبِيهَا إنْ ظَلَّ بَعْدَ ثَلاَثٍ رَأْيُهَا شَعَبًا فَجَرِّدِ السَّيْفَ وَاضْرِبْ فِي هَوَادِيهَا فَأَعْجَبْ لِقُوَّةِ نَفْسٍ لَيْسَ يَصْرِفُهَا طَعْمِ المَنِيَّةِ مُرًّا عَنْ مَرَامِيهَا دَرَى عَمِيدُ بَنِي الشُّورَى بِمَوْضِعِهَا فَعَاشَ مَا عَاشَ يَبْنِيهَا وَيُعَلِيهَا

وَمَاَ اسْتَبَدَّ بِرَأْي فِي حُكُومَتِهِ إنَّ الْحُكُومَةَ تغْرِي مُسْتَبِدِّيهَا رَأْيُ الجَمَاَعَةِ لاَ تَشْقَى البِلاَدُ بِهِ رَغْمَ الْخِلاَفِ وَرَأْيُ الفَرْدِ يُشْقِيهَا ومن لطفه ورأفته برعيته وحرصه عَلَى العدل فيهم مَا يتجلى فِي وصيته لأبي موسى الأشعري وَقَدْ كتب له كتابًا قال فيه: فإذا جاء كتابي هذا فأذن لأهل الشرف وأهل القرآن والتقوى والدين فإذا أخذوا مجالسهم فأذن للعامة ولا تؤخر عمل اليوم لغد فتزدحم عليك الأعمال فتضيع. وإياك وإتباع الهوى فإن للناس أهواء متبعة ودنيا مؤثرة وضغائن محمولة وحاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة كان مرجعه إِلَى الرضا والغبطة. ومن ألهته حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إِلَى الندامة والحسرة، آس بين الناس فِي وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف فِي حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك. ولا يمنعك قضاء قضية اليوم فراجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إِلَى الحق فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي فِي الباطل والفهم الفهم فيما تلجلج فِي صدرك مما ليس فِي كتاب الله ولا سنة النبي صلى الله عليه وسلم ثم اعرف الأشباه والأمثال فقس الأمور عند ذلك بنظائرها. واعمد إِلَى أقربها إِلَى الله وأشبهها بالحق واجعل لمن ادعى حقًّا غائبًا

من عدله وإنصافه وعدم مبالاته بالقوي وذكر مقتله رضي الله عنه

أمدًا ينتهي إليه فإن أحضر بينته أخذت له بحقه وإلا استحلت عليه القضية فإن ذلك أنفى للشك وأجلى وأبلغ فِي العذر، والمسلمون عدول بعضهم عَلَى بعض إلا مجلودًا فِي حد أو مجربًا عليه شهادة زور أو متهمًا فِي ولاءٍ أو نسبٍ فإن الله قَدْ تولى منكم السرائر. وادرأ بالبينات والأيمان وإياك والغلق والضجر والتأذي بالخصوم والتنكر عند الخصومات. فإن الحق فِي مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن به الذخر فمن صحت نيته وأقبل عَلَى نفسه كفاه الله مَا بينه وبين الناس. ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله فما ظنك بثواب عند الله عز وجل وخزائن رحمته والسلام. وصلى الله عَلَى محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. مقتل عمر رضي الله عنه لم يصب المسلمون فِي العصر الأول بمصيبة بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووفاة الصديق أعظم من قتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. جنى عليه غلام مجوسي اسمه أبو لؤلؤة كَانَ للمغيرة بن شعبة وها نحن نستوقف لك مَا رواه البخاري فِي صحيحه عن عمرو بن ميمون فِي هذا المصاب الجلل. قال عمرو: إني لواقف مَا بيني وبينه (عمر) إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب. وكان إذا مر بين الصفين قال: استووا حتى إذا لَمْ ير فيهن خللاً تقدم فكبر.

وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك فِي الركعة الأولى حتى يجتمع الناس. فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول: قتلني أو أكلني الكلب حين طعنه أبو لؤلؤة فسار العلج بسكين ذا طرفين لا يمر عَلَى أحد يمينًا وشمالاً إلا طعنه طعن ثلاثة عشر رجلاً فمات مِنْهُمْ سبعة. فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسًا فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه. وتناول (عمر) يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه فمن يلي عمر فقد رأى الذي أرى وأما نواحي المسجد فإنهم لا يدرون غير أنهم فقدوا صوت عمر وهم يقولون: سبحان الله سبحان الله فصلى بهم عبد الرحمن بن عوف صلاة خفيفة. فلما انصرفوا قال: يا ابن عباس انظر من قتلني؟ فجال ساعة ثم جاء فقال: غلام المغيرة. قال: الصنع. قال: نعم. فقال: قاتله الله لقد أمرت به معروفًا الحمد الله الذي لَمْ يجعل ميتتي بيد رجل يدعي الإسلام فاحتمل إِلَى بيته. فانطلقنا معه وكأن الناس لَمْ تصبهم مصيبة قبل يومئذ فقائل يقول: لا بأس عليه. وقائل يقول: أخاف عليه فأتي بنبيذ فشربه فخرج من جوفه ثم أتى بلبن فخرج من جوفه فعلموا أنه ميت فدخلنا عليه وجاء الناس يثنون عليه. وجاء رجل شاب فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقدم فِي الإسلام مَا قَدْ علمت ثم وليت فعدلت ثم شهادة. قال: وددت أن ذلك كفاف لا عليّ ولا لي فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض قال: ردوا الغلام قال: يا ابن أخي ارفع ثوبك فإنه أبقى لثوبك وأتقى لربك.

يا عبد الله بن عمر أنظر مَا علي من الدين فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفًا أو نحوه قال: إِنْ وَفَى بذلك مال آل عمر فأده من أموالهم وإلا فسل فِي بني عدى ابن كعب فإن لَمْ تف أموالهم فسل فِي قريش ولا تعدهم إِلَى غيرهم فادعني هذا المال. انطلق إِلَى عائشة أم المؤمنين فقال: يقرأ عليك عمر السلام ولا تقل أمير المؤمنين فإني لست اليوم للمؤمنين أميرًا وقل يستأذن عمر ابن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه. فسلم واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي فقال: يقرأ عمر بن الخطاب عليك السلام ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه. فقالت: كنت أريده لنفسي ولا أوثرنه به اليوم عَلَى نفسي فلما أقبل قيل هذا عبد الله بن عمر قَدْ جاء فقال: ارفعوني فأسنده رجل إليه فقال: مَا لديك. قال الذي يحب يا أمير المؤمنين: أذنت. قال: الحمد لله مَا كَانَ شيء أهم إلي من ذلك فإذا قضيت فاحملوني ثم سلم فقل يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذنت فأدخلوني وإن ردتني ردوني إِلَى مقابر المسلمين. وجاءت أم المؤمنين حفصة (بنت عمر) والنساء تسير معها فلما رأيناها قمنا فولجت عليه داخلاً لهم فسمعنا بكاءها من الداخل. فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين استخلف. فقال كما فِي رواية مسلم: أتحمل أمركم حيًّا وميتًا لوددت أني أحظى مِنْهَا الكفاف لا عليَّ ولا لي. وإن استخلفت فقد استخلفت من هو خير منى يعني أبا بكر. وإن أترككم فقد ترككم من هو خير مني يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

قصيدة في الثناء على رب العزة والجلال

قال عبد الله بن عمر: فعرفت أنه حين ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير مستخلف ثم قال عمر: مَا أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم عنهم راض. فسمى عليًّا وعثمان والزبير وسعدًا وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شيء كهيئته التعزية له. شِعْرًا: ... في كُلِ عَصْرٍ لِلْجُنَاةِ جَرِيرَةٌ ... لَيْسَتْ عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ تَزُولُ جَاوُرا عَلَى الْفَارُوق أَعْدَلُ مَنْ قَضَى ... بَعْدَ النَّبِي وزَكَّى رَأْيَهُ التَّنْزِيلُ وَعَلَى عَلي وَهْوَ أطْهَرُنا فَمَا ... وَيَدًا وَسَيْفُ نَبِيِّنَا الْمَسْلُولُ كَمْ دَوْلَةٍ شَهِدَ الصَّبَاحُ جَلاَلهَا ... وأَتَى عَلَيْهَا اللَّيْلُ وَهِيَ فَلُولُ وَقُصُورُ قَوْمٍ زَاهِرَاتٍ فِي الدُّجَى ... طَلَعَتْ عَليهَا الشَّمْسُ وَهِيَ طُلُولُ شِعْرًا: ... ولكِنَّنَا وَالْحَمْدُ للهِ لَمْ نَزَلْ ... عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِ الرَّسُولِ نُعَوِّلُ نُقرُّ بأنَّ اللهَ فَوْقَ عِبَادِهِ ... عَلَى عَرْشِهِ لَكِنَّمَا الكَيْفُ يُجْهَلُ وكُلُ مَكَانٍ فَهْوَ فِيهِ بِعِلْمِهِ ... شَهِيدٌ عَلَى كُلُّ الْوَرَى لَيْسَ يَغْفُلُ وَمَا أثبتَ البَارِي تَعَالى لِنَفْسِهِ ... مِن الوَصْفِ أوْ أَبْدَاهُ مَن هُوَ مُرْسَلُ فَنُثْبِتُهُ للهِ جَلَّ جَلاَلُهُ ... كَمَا جَاءَ لا نَنْفِي ولا نَتَأوَّلُ هُوَ الْوَاحِدُ الْحَيُّ القَدِيرُ لَهُ البَقَا ... مَلِيكٌ يُوَلِّي مَن يَشَاءُ ويَعْزِلُ سَميعٌ بَصِيرٌ قَادِرٌ مُتَكَلّمٌ ... عَلِيمٌ مُرِيدٌ آخِرٌ هو أَوّلُ تَنَزَّهَ عَنْ نِدٍّ وَوَلْدٍ وَوَالِدٍ ... وَصَاحِبَةٍ فَاللهُ أَعْلَى وَأَكْمَلُ وَلَيْسَ كَمِثل اللهِ شَيْءٌ وَمَا لَهُ ... شَبِيهٌ ولا ندٌّ بِرَبِّكَ يَعْدِلُ وإنِّ كِتَابَ اللهِ مِن كَلِمَاتِهِ ... ومِن وَصْفِهِ الأَعْلَى حَكِيمٌ مُنَزَّلُ هو الذِكْرُ مَتْلوٌ بأَلْسِنَةِ الوَرَى ... وفي الصَّدْرِ مَحْفُوظٌ وفي الصُّحْفِ مُسْجَلُ فألفَاظُهُ لَيْسَتْ بمَحْلوقَةٍ ولا ... مَعَانِيهِ فاتْرُكْ قَوْلَ مَن هُوَ مُبْطِلُ

.. وَقَدْ أَسْمَعُ الرَّحْمَنُ مُوسىَ كَلاَمَهُ ... عَلَى طُورِ سِينَا والإِلهُ يُفَضِّلُ ولِلِطُور مَوْلانَا تَجَلىَ بُنُوْرِهِ ... فَصَارَ لِخَوفِ اللهِ دَكًا يُزَلْزَلُ وإنَّ عَلَيْنَا حَافِظِينَ مَلاَئِكًا ... كِرَامًا بسُكَّانِ البَسِيطةِ وكِّلُوا فََيُحْصُونَ أَقْوالَ ابن آدَمَ كُلَّهَا ... وأَفْعَالَُ طُرًا فلا شَيءَ يُهْمَلُ ولا حَيَّ غَيْرُ اللهِ يَبْقَى وكُلُ مَنْ ... سِواهُ لَهُ حَوضُ المنيةِ مَنْهَلُ وإنَّ نُفُوسَ العَالمَيْنَ بقَبْضِهَا ... رَسولٌ مِن اللهِ العظيمِ مُوَكَّلُ ولا نَفْسَ تَفْنَى قَيْلَ إكْمَالِ رِزْقِهَا ... ولَكِنْ إذَا تَمَّ الكِتَابُ المُؤَجَّلُ وسِيَّانِ مِنْهُمْ مَن وَدي حَتْفَ أَنْفِه ... وَمَنْ بِالظُّبَا وَالسَّمْهَريَِّةِ يُقْتَلُ وَإِنَّ سُؤَالَ الفَاتِنَيْنَ مُحَقَّقٌ ... لِكُلِّ صَرِيعٍ فِي الثَّرَى حِينَ يُجْعَلُ يَقُولانِ مَاذَا كُنْتَ تَعْبُدُ مَا الذِّي ... تَدِيْنُ وَمَنْ هَذَا الذِّي هُوَ مُرْسَلُ فَيَا رَبَّ ثَبِّتْنَا عَلَى الْحّقِّ وَرُوحُ مَنْ ... وَدَى فِي نَعِيْمٍ أَوْ عَذَابٍ سَتَجْعَلُ فَأَرْوَاحُ أَصْحَابٍ السّعادةِ نُعِّمَتْ ... بِرَوْحٍ ورَيْحَانٍ وَمَا هُوَ أَفْضَلُ وَتَسْرَحُ فِي الْجَنَّاتِ تَجْنِي ثِمَارِهَا ... وَتَشْرَبُ مِنْ تِلْكَ المِيَاهِ وَتَأْكُلُ وَلَكِنَ شَهِيْدَ الحَرْبِ حَي مُنَعِّمٌ ... فَتَنْعِيْمُهُ لِلرُّوْحِ وَالجِسْمِ يَحْصُلُ وأرْواحُ أصْحَابِ الشَّقَاءِ مُهَانَةٌ ... مُعَذَّبَةٌ لِلْحَشْرِ واللهُ يَعْدِلُ وَإِنَّ مَعَادَ الرُّوحُ وَالجِسْمِ وَاقِعٌ ... فَيَنْهَضُ مَن قَدْ مَاتَ حَيًا يُهَرُّولُ وصِيحَ بِكُلِّ العَالمِيْنَ فَأُحْضِرُوا ... وقِيْلَ قِفُوهُمْ لِلْحِسَابِ لِيُسْأَلُوا فَذَلِكَ يَوْمٌ لا تُحَدُّ كُرُوْبَهُ ... بِوَصْفٍ فَإِنََ الأَمْرَ أَدْهَى وَأَهْوَلُ يُحَاسَبُ فِيْهِ المَرْءُ عَنْ كُلِّ سَعْيِهِ ... وَكُل يُجَازَى بِالذِّي كَانَ يَعْمَلُ وَتُوْزَنُ أَعْمَالُ العِبَادِ جَمِيعُهَا ... وَقَدْ فَازَ مِنْ مِيزَانُ تَقْوَاهُ يَثْقُلُ وَفِي الحَسَنَاتِ الأَجْرُ يُلْقَى مُضَاعَفًا ... وَبِالمِثْلِ تُجْزَى السَّيِئَاتُ وَتُعْدَلُ وَلا يُدْرِكُ الغُفْرَانَ مَنْ مَاتَ مُشْرِكًا ... وَأَعْمَالُهُ مَرْدُوْدَةٌ لَيْسَ تُقْبَلُ

.. وَيَغْفِرُ غَيْرَ الشِّرْكِ رَبِي لِمَنْ يَشَا ... وَحُسْنُ الرَّجَا وَالظَّنِ بِاللهِ أَجْمَلُ وَإِنَّ جَنَانَ الْخُلْدِ تَبْقَى وَمَنْ بِهَا ... مُقِيْمًا عَلَى طَوْلِ المَدَى لَيْسَ يَرْحَلُ أُعِدَّتْ لِمَنْ يَخْشَى الإِلَهَ وَيَتَّقِي ... وَمَاتَ عَلَى التَّوْحِيدِ فَهُوَ مُهَلِّلُ وَيَنْظُر مَنْ فِيهَا إِلَى وَجْهِ رَبِّهِ ... بِذَا نَطَقَ الوحِيُ المبينُ المنزُّلُ وإن عَذَابَ النَّار حقٌّ وإنَّهَا ... أُعِدَّتْ ِلأَهْلِ الكُفْرِ مَثْوَى وَمَنْزِلُ يُقِيمُوْنَ فِيْهَا خَالدِيْنَ عَلَى المَدَى ... إِذَا نَضِجَتْ تِلْكَ الجُلُودُ تُبَدَّلُ وَلَمْ يَبْقَ بِإِجْمَاعِ فِيهَا مُوَحِدٌ ... ولَوْ كَانَ ذَا ظُلْمٍ يَصُولُ وَيَقْتُلُ وإنَّ لِخَيْرِ الأَنْبِيَاءِ شَفَاعَةً ... لَدَى اللهِ فِي فَصْل القَضَاء فَيَفْصِلُ وَيَشْفَعُ لِلْعَاصِينَ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ ... فَيُخْرِجَهُمْ مِنْ نَارِهمْ وَهِي تُشْعِلُ فَيُلْقَوْنَ فِي نَهْرِ الْحَيَاةِ فَيُنْبُتُوا ... كَمَا فِي حَمِيل السَّيْلِ يَنْبُتُ سُنْبُلُ وَإِنْ لَهُ حَوْضًا هَنِيْئًا شَرَابُهُ ... مِنْ الشَّهْدِ أَحْلَى فَهُوَ أَبْيَضُ سَلْسُلَ يُقَدِّرُ شَهْرًا فِي المَسَافَةِ عَرْضُهُ ... كَأْيِلََةَ مِنْ صَنْعَا وَفِي الطَّوْلِ أَطْوَلُ وَكِيْزَانُهُ مِثْلُ النُّجُوْمِ كَثِيْرَةٌ ... وَوُرَّادُهُ حَقًّا أَغَرُّ مُحَجَّلُ مِنْ الأُمَّةِ المُسْتَمْسِكِينَ بِدِينِهِ ... وَعَنْهُ يُنَحِّى مُحْدِثُ وَمُبَدِّلُ فَيا ربِّ هَبْ لِي شَرْبةً مِن زُلاَلِهِ ... بِفَضْلِكَ يَا مَنْ لَمْ يَزَلْ يَتَفَضَّلُ اللهم يا عظيم العفو، يا واسع المغفرة، يا قريب الرحمة، يا ذا الجلال والإكرام، هب لنا العافية في الدنيا والآخرة. اللهم يا حي ويا قيوم فرغنا لما خلقتنا له، ولا تشغلنا بما تكفلت لنا به، واجعلنا ممن يؤمن بلقائك، ويرضي بقضائك، ويقنع بعطائك، ويخشاك حق خشيتك. اللهم اجعل رزقنا رغدَا، ولا تشمتت بنا أحدَا. اللهم رغبنا فيما يبقى، وزهدنا فيما يفنى، وهب لنا اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يعول فِي الدين إلا عليه.

أحاديث حول أوراد المساء والصباح

اللهم إنا نسألك بعزك الذي لا يرام وملكك الذي لا يضام وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفينا شر مَا أهمنا وما لا نهتم به وأن تعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. اللهم يا عليم يا حليم يا قوي يا عزيز يا ذا المن والعطل والعز والكبرياء يا من تعنوا له الوجوه وتخشع له الأصوات. وفقنا لصالح الأعمال وأكفنا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك إنك عَلَى كل شيء قدير. وصلى الله عَلَى محمد وآله وصحبه وسلم. (فَصْلٌ) قال النبي: «من قال حين يصبح ويمسي: اللهم إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت وأن محمد عبدك ورسولك. أعتق الله ربعه من النار. فمن قالها مرتين أعتق الله نصفه. فمن قالها ثلاثًا أعتق الله ثلاثة أرباعه. فمن قالها أربعًا أعتقه الله من النار» . رواه أبو داود عن أنس رضي الله عنه. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من قال حين يصبح ثلاث: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، وإن مات من ذلك اليوم مات شهيدًا. ومن قالها حين يمسي كَانَ بتلك المنزلة» . رواه أحمد والترمذي عن معقل بن يسار رضي الله عنه. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من قال حين يصبح أو حين يمسي: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا عَلَى عهدك ووعدك مَا استطعت أعوذ بك من شر مَا صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. فمات من يومه أو ليلته دخل الجنة» . رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وابن حبان والحاكم عن بريدة رضي الله عنه.

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من قال حين يصبح: اللهم مَا أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر عَلَى ذلك. فقد أدى شكر يومه. ومن قال ذلك حين يمسي فقد أدى شكر ليلته» . رواه أبو داود وابن حبان وابن السني والبيهقي عن عبد الله بن غنام رضي الله عنه. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من قال حين يصبح: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} أدرك مَا فاته فِي يومه ذلك، ومن قالها حين يمسي أدرك مَا فاته فِي ليلته» . رواه أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من قال حين يصبح وحين يمسي ثلاث مرات: رضيت بالله ربا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا. كَانَ حقًّا عَلَى الله أن يرضيه يوم القيامة» . رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم ورواه الترمذي عن ثوبان رضي الله عنه. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا عَلَى الأرض أحد يقول: لا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله. إلا كفرت عنه خطاياه ولو كَانَت مثل زبد البحر» . رواه أحمد والترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله. رضيت بالله ربًّا وبمحمد رسولاً وبالإسلام دينًا. غفر الله له مَا تقدم من ذنبه» . رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة

التامة والصلاة القائمة آت محمدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته. حلت له شفاعتي يوم القيامة» . رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن جابر رضي الله عنه. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لأم سامة «قولي عند أذان المغرب: اللهم هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك وحضور صلواتك أسألك أن تغفر لي» . رواه الترمذي والطبراني والحاكم عن أم سلمة رضي الله عنها. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا صليت الصبح فقل قبل أن تكلم أحدًا من الناس: «اللهم أجرني من النار. سبع مرات. فإنك إن مت من يومك. هذا كتب الله لك جوارًا من النار. وإذا صليت المغرب فقل قبل أن تكلم أحدًا من الناس: اللهم جرني من النار سبع مرات. فإنك إن مت من ليلتك كتب الله لك جوارًا من النار» . رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن الحارث التيمي رضي الله عنه. كان أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي عَلَى دينك» . فقيل له قال: «ليس من آدمي إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ» . رواه الترمذي عن أم سلمة رضي الله عنها. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لو دعي بهذا الدعاء عَلَى شيء بين المشرق والمغرب فِي ساعة من يوم الجمعة لا تستجيب لصاحبه: لا إله إلا أنت يا حنان يا منان يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام» . رواه الخطيب عن جابر رضي الله عنه. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا سعد، لو دعوت على من بين السماوات والأرض لا ستجيب لك، فأبشر يا سعد» . يعني «سبحانك لا إله إلا أنت يا ذا الجلال والإكرام» . رواه الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما.

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجًا ومن كل هم ورزقه من حيث لا يحتسب» . رواه أبو داود وابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن غفر الله لك وإن كنت مغفورًا لك؟ قل: لا إله إلا الله سبحان الله رب السماوات السبع ورب العرش العظيم. الحمد لله رب العالمين» . رواه الترمذي عن علي رضي الله عنه. وجاء رجل إِلَى أبي الدرداء رضي الله عنه فقال: يا أبا الدرداء، قَدْ احترق بيتك. فقال: مَا احترق. لَمْ يكن الله عز وجل ليفعل ذلك بكلمات سمعتهن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ قلتهن اليوم. ثم قال: انهضوا بنا. فانتهوا إِلَى داره وَقَدْ احترق مَا حولها ولم يصبها شيء. وهذه هي الكلمات: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من قال حين يصبح وحين يمسي: مَا شاء الله كَانَ وما لَمْ يشأ لَمْ يكن. لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. أعلم أن الله عَلَى كل شيء قدير. وأن الله قَدْ أحاط بكل شيء علمًا. اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها. إن ربي عَلَى صراط مستقيم. لَمْ يصبه فِي نفسه ولا أهله ولا ماله شيء يكرهه» . رواه ابن السني عن أبي الدرداء رضي الله عنه. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أما لدنياك فإذا صليت الصبح فقل بعد صلاة الصبح: سبحان الله العظيم وبحمده ولا حول ولا قوة إلا بالله. ثلاث مرات يوقيك الله من بلايا أربع: من الجنون والجذام والعمى والفالج. وأما لآخرتك فقل: اللهم أهدني من عندك، وأفض عليَّ من فضلك، وانشر عليَّ من رحمتك وأنزل من بركاتك. والذي نفسي بيده من وافى بهن يوم

قصيدة معارضة بدئ الأمالي

القيامة لَمْ يدعهن ليفتحن له أربعة أبواب من الجنة يدخل من أيها شاء» . رواه السني عن ابن عباس رضي الله عنهما. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا من رجل يدعو بهذا الدعاء فِي أول ليله وأول نهاره إلا عصمه الله من إبليس وجنوده: بسم الله ذي الشان، عظيم البرهان شديد السلطان. مَا شاء الله كَانَ. أعوذ بالله من الشيطان» . رواه الحاكم وابن عساكر عن الزبير بن العوام رضي الله عنه. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من قال حين يصبح وحين يمسي: حسبي الله لا إله إلا هو عليك توكلت وهو رب العرش العظيم. سبع مرات كفاه الله تعالى مَا أهمه من أمر الدنيا والآخرة» . رواه ابن السني عن أبي الدرداء رضي الله عنه. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من قال حين يمسي: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء فِي الأرض ولا فِي السماء وهو السميع العليم. ثلاث مرات لَمْ يصبه فجأة بلاء حتى يصبح، ومن قالها حين يصبح ثلاث مرات لَمْ يصبه فجأة بلاء حتى يمسي» . رواه أبو داود وابن حبان والحاكم عن عثمان رضي الله عنه. معارضة بدء الأمالي وقال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله: بِحَمْدِ اللهِ نَبْدَأُ فِي المَقَال ... وَنَثْنِي بالمَدِيحَ لِذيِ الجَلال إلهِ العَالِمَيْنَ وكُلِّ حيٍّ ... تَفَرَّد بالعُبُودَةِ والَكَمَالِ ومَوْصُوفٍ بأوْصَافٍ تَعَالَتْ ... عن التَّشبيه أو ضَرْبِ المِثالِ ومِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ عَلَى نَبِيٍّ ... هُوَ المَعْصُوم أحْمَدُ ذُو الجَمَالِ زَكِيُّ النَّفْسِ مَنْبِعُ كُلِّ خَيْرٍ ... كَرِيمُ المُحتَدَى سَامِي المعَالي فإنِّي قَدْ رَأَيْتُ نِظَامَ شَخْصٍ ... تَهوَّر فِي المَقَالَةِ لا يُبالِي

نِظَامًا فِي العَقِيدَةِ لا سَدِيدًا ... ولا مَنْظُومُهُ مِثْلُ اللَّئَالِي كَمَا قَدْ قَالَه فيما قَدْ نَمَاه ... وَخَالَ نِظَامَه عَالٍ وحَاِلي وَقَدْ أَخْطَا بِمَا أَبْدَاهُ مِمَّا ... لَهُ قَدْ قَالَ فِي بَعضِ الأَمَالَي فَبَعْضٌ قَدْ أَصَابَ القَولَ فِيهِ ... وبَعْضٌ جَاَءَ بالزُّورِ المُحَالِ فهذا بعضُ مَا قَدْ قَالَ فِيهَا ... مِن الزُّورِ المُلَفَّقِ والضَّلالِ صِفَاتُ الذَّات والأَفْعَالِ طُرًّا ... قَدِيمَاتٌ مَصُونَاتُ الزَّوالِ فهذا بعضُ حَقُّ وبَعْضٌ ... فمِنْ قَوْلِ المُعَطِّلة الخَوالِي صِفَاتُ الذَّاتِ لاَزِمَةٌ وحقُّ ... قَدِيمَاتٌ عَدِيمَاتٌ المِثَال فَخُذْ مِنْهُنَّ أَمْثِلَةً وقُلْ لِي ... جُزِيتَ الخَيرَ مِنْ كُلِّ الخِصَالِ عَليمٌ قَادِرٌ حيٌّ مُرِيدٌ ... بَصِيرٌ سَامعٌ لِذَوِى السُؤالِ وأفْعَالُ الإلهِ فإنَّ فِيهَا ... لأِهْلِ الْحَقِّ مِن أهْلِ الكَمَالِ كَلامًا فَاصِلاً لا رَيْبَ فِيهِ ... وَحَقًّا عَنْ أَمَاثِلَ ذِي مَعالِ قَديمٌ نَوْعُها إِنْ رُمتَ حَقًّا ... وآحَادُ الْحَوَادِثِ بالْفِعَالِ فَيَضْحَكُ ربُّنَا مِنْ غَيْرِ كَيْفٍ ... وَيَفْرَحُ ذُو الجَلالِ وَذُو الجَمَالِ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِمَّا جَنَاهُ ... وَيَسْخَطُ إِنْ جَنَى سُوءَ الفِعَالِ وَمُنْتَقِمٌ بِمَا قَدْ شَاءَ مِمَّنْ ... تَعَدَى وَاعْتَدَى مِنْ كُلِّ غَالِ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ كَيْفٍ ... يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ذَوِي النَّوَالِ وَيَغْضَبُ رَبُّنَا وَكَذَاكَ يَرْضَى ... وَأَفْعَالُ الإِلَهِ مِنَ الْكَمَالِ وَيَخْلُقُ رَبُّنَا وَيَجِي وَيَأَتِي ... بِلا كَيْفٍ وَيَرْزُقُ ذُو التَّعَالِي وَيَنْزِلُ رَبُّنَا مِنْ غَيْرِ كَيْفٍ ... وَيَهْبِطُ ذُو الْمَعَارِجِ وَالْجَلالِ وَيَقْهَرُ رَبُّنَا ويُرَى تَعَالَى ... وَذِي الأَوْصَافِ أَمْثِلةُ الْفِعَالِ وَلَسْنَا كَالذِّينَ تَأَوَّلُوهَا ... بِأَنْوَاعٍ مِنْ القَوْلِ الْمُحَالِ

.. وَلَكِنَّا سَنُجْرِيهَا كَمَا قَدْ ... أَتَى فِي النَّصِّ وَالسُّوَرِ العَوَالِي وَأَهْلُ البَغْيِ مِنْ بَطْرٍ وَغَيٍّ ... يُسَمُّونَ الصِّفَاتِ لِذِي الْكَمَالِ حُلُولَ حَوَادِثٍ بَغْيًا وَقَصْدًا ... لِتَنْفِيرِ الوَرَى عَنِ ذِي الفِعَالِ وَمِمَّا قَالَ فِيمَا كَانَ أَمْلَى ... وَذَاتًا عَنْ جِهَاتِ السِّتِ خَالِي تَعَالَى اللهُ عَمَّا قَالَ هَذَا ... فَذَا قَوْلٌ ِلأَرْبَابِ الضَّلالِ فَإِنَّ اللهَ مِنْ غَيْرِ امْتِرَاءٍ ... عَلَى السَّبِعِ الْعُلَى وَالْعَرْشِ عَالِ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى مِنْ غَيْرِ كَيْفٍ ... فَإِنَّ اللهَ جَلَّ عَنِ الْمِثَالِ وَعَنْهَا بَايِنٌ وَلَهُ تَعَالَى ... عُلُوُّ الذَّاتِ مِنْ فَوْقِ الْعَوَالِي وَقَهْرٌ لِلْخَلائِقِ وَالْبَرَايَا ... وَقَدْرٌ وَالكَمَالُ لِذِي الْجَمَالِ وَمَعْنَى بَاطِلٍ لا شَكَّ فِيهِ ... وَمِنْهِ اغْتَرَّ أَربَابُ الضَّلالِ وَلابْنِ القَيِّمِ الثِّقَةِ الْمُزَكَّى ... بِإِتْقَانٍ وَحِفْظٍ وَاحْتِفَالِ كَلامٌ فِي الْبَدَائِعِ مُسْتَبِينٌ ... بِتَفْصِلِ لِلَيْلِ الشَّكِّ جَالِ وَيَعْسُرُ نَظْمُ مَا قَدْ قَالَ فِيهَا ... مِنْ التَّفْصِيلِ فِي هَذَا الْمَجَالِ فَقَوَّى قَوْلَ أَهْلِ الْحَقِّ فِيهِ ... وَأَوْهَى قَوْلَ أَهْلِ الاعْتِزَالِ فَرَاجِعْهُ تَجِدُ قَوْلاً سَدِيدًا ... مُفِيدًا شَافِيًا سَهْلِ الْمَنَالِ وَأَنَّ اللهَ جَلَّ لَهُ صِفَاتٌ ... وَأَسْمَاءٌ تَعَالَتْ عَنْ مِثَالِ وَتَكْفِي سُوْرَةُ الإِخْلاص وَصْفًا ... لِرَبِّي ذِي الْمَعَارِجِ وَالجَلالِ وَمَا قَدْ جَاءَ فِي الآيَاتِ يَوْمًا ... عَنْ الْمَعْصُومِ صَحَّ بِلا اخْتِلالِ وَفِيْمَا قَالَهُ الرَّحْمَنُ رَبِّي ... وَمَا أَبْدَى الرَّسُولُ مِنْ الْمَقَالِ شِفَاءٌ لِلسِّقَامِ وَفِيْهِ بُرْءٌ ... وَمُقْنِعُ كُلِّ أَرْبَابِ الكَمَالِ وَرُؤْيا الْمُؤْمِنِيْنَ لَهُ تَعَالَى ... أَتَتْ بِالنَّصِّ عَنّ صَحْبٍ وَآلٍ عَنْ الْمَعْصُومِ عِشْرِينًا وَبِضْعًا ... أَحَادِيثًا صِحَاحًا كَاللَّئَالِي

.. وَفِي القُرآنِ ذَلِكَ مُسْتَبِينٌ ... فَيَا بُعْدًا لأَهْلِ الاعْتِزَالِ لَقَدْ جَاءُوا مِنْ الكُفْرَانِ أَمْرًا ... يَهُدُّ الرَّاسِيَاتِ مِنَ الجِبَالِ وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَفِي نَعِيمٍ ... نَعِيمٍ لا يَصِيرُ إِلَى زَوَالِ وَإِنَّ أَلَذَّ مَا يَلْقَوْنَ فِيهَا ... مِنْ الذَّاتِ رُؤْيَةُ ذِي الْجَمَالِ وَتُؤْمِنُ بِالإِلَهِ الحَقِّ رَبًّا ... عَظِيمًا قَدْ تَفَرَّدَ بِالْكَمَالِ إِلَهًا وَاحِدًا صَمَدًا سَمِيعًا ... بَصِيرًا ذِي الْمَعَارِجِ وَالْجَلالِ قَدِيرًا مَاجِدًا فَرْدًا كَرِيمًا ... عَلِيمًا وَاسِعًا حَكَمَ الْفِعَالِ لَهُ الأَسْمَاءُ وَالأَوْصَافُ جَلَّتْ ... عَنْ التَّشْبِيهِ أَوْ ضَرْبِ الْمِثَالِ وَنُؤْمِنُ أَنَّمَا قَدْ شَاءَ رَبِّي ... فَحَقٌّ كَائِنٌ فِي كُلِّ حَالِ وَإِنَّ مَا شَاءَهُ أَحَدٌ وَمَا لَمْ ... يَشَأْهُ اللهُ كَانَ مِنْ الْمُحَالِ وَأَقَسَامُ الإِرَادَةِ إِنْ تُرِدْهَا ... فَأَرْبَعَةٌ مُوَضَّحَةٌ لِتَالِ فَمَا قَدْ شَاءَهُ شَرْعًا وَدِينًا ... مِنْ العَبْدِ الْمُوَفَّقِ لِلْكَمَالِ بِمَا وَقَعَ الْمُقَدِّرُ مِنْ قَضَاءٍ ... بِذَلِكَ فِي الوُجُودِ بِلا اخْتِلالِ مِنَ الطَّاعَاتِ فَهُوَ لَهَا مُحِبُّ ... إِلَهِي رَاضِيًا بالامْتِثَالِ فَهَذَا قَدْ أَرَادَ اللهُ دِينًا ... وَشَرْعًا كَوْنَه فِي كُلِّ حَالِ وَرَبُّ العَرْشِ كَوَّنَهَا فَكَانَتْ ... وَلَوْلا ذَاكَ مَا كَانَتْ بِحَالِ وَثَانِيهَا الَّذِي قَدْ شَاءَ دِينًا ... مِنْ الكُفَّار أَصْحَابِ الوَبَالِ مِنَ الطَّاعَاتِ لَوْ وَقَعَتْ وَصَارَتْ ... عَلَى وَفْقِ الْمَحَبَّةِ بِالفِعَالِ وَلَكِنْ لَمْ تَقَعْ مِنْهُمْ فَبَاءُوا ... لَعَمْرِي بِالْخَسَارِ وَبِالنَكَالِ وَثَالُثهَا الذِّي قَدْ شَاءَ كَوْنًا ... بِتَقْدِيرِ الحَوَادِثِ لَلْوَبَالِ كَفِعْلٍ لِلْمَعَاصِي أَوْ مُبَاحٍ ... فَلَمْ يَأْمُرْ بِهَا رَبُّ العَوَالِي وَلَمْ يَرْضَ بِهَا مِنْهُمْ وَكَانَتْ ... عَلَى غَيْرِ الْمَحَبَّةِ لِلْفِعَالَ

.. فإنَّ الله لا يَرْضَى بِكُفْرٍ ... ولا يَرْضَى الفَوَاحِشَ ذُو الجَلالِ فَلَولاَ أَنَهُ قَدْ شَاءَ هَذا ... وقَدَّرَ خلْقَهُ فِي كُلَّ حَالِ لَمَا كَانَتْ ولَمْ تُوجَدْ عَيانًا ... فَمَا قَدْ شَاءَ كَانَ بلا اخْتِلالِ ورَابعُهَا الَّذِي مَا شَاءَ رَبِّي ... لَهُ كَوْنًا ولا دِينَا بِحَالِ فَذا مَا لَمْ يَكُن مِن نَوعِ هَذا ... ولا هَذَا وهَذَا فِي المِثَالِ كأَنْواعِ المَعَاصِي أوْ مُباحٍ ... فهذا الحَقُّ عنْ أهْلِ الكَمَالِ فَخُذْ بِالْحَقِّ وَاسْمُ إِلَى الْمَعَالِي ... ودَع قَوْلَ المُخبِّطِ ذَا الخَيَالِ ولِلْعَبْدَ مَشِيئَةِ وَهِيَ حَقُّ ... أَتَتْ بالنَّصِّ فِي أيِّ لِتَالِ وَبَعْدَ مَشِيئَةُ الرَّحْمَنِ فَاعْلَمْ ... هُدِيتَ الرُّشْدَ فِي كُلِّ الْخِلالِ وَأَعْمَالُ الْعِِبَادِ لَهُمْ عَلَيْهَا ... لَعمْرِي قُدْرَةٌ بالافْتعَالِ ومَا الأَفْعَالِ إلاَّ باخْتِيَارٍ ... ورَبِّي ذُو الْمَعَارِجِ وَالْجَلالِ لِذَلِكَ خَالِقٌ ولَهمْ كَمَا قَدْ ... أَتَى فِي النَّصِّ فاسْمَعْ لِلْمَقَالَ ونُؤْمِنُ بالكِتَابِ كَمَا أَتَانَا ... وبِالرُّسْلِ الكِرَامِ ذَوِي الكَمَالِ ونُؤْمِنُ بالقَضَا خَيْرًا وشَرًا ... وبالقَدَرِ المُقَدَرِ لا نُبَالي وأَمْلاَكِ الإلهِ وإنَّ مِنْهم ... لَعَمْرِي مُصْطَفَيْنَ لِذِي الجَلالِ وإنَّ الجنَّةَ العلُياَ مَئَابٌ ... لأَهْلِ الخَيرِ مِنْ غَيرِ انْتِقَالِ وإنَّ النَّارَ حَقَ قَدْ أُعِدَّتْ ... لأَهْلِ الكُفْرِ أصْحَابِ الوَبَالِ وإنَّ شَفَاعَةَ المَعْصُومِ حَقُّ ... لأَصْحَابِ الكَبَائِرِ عَنْ نَكَالِ وَنُؤْمنُ بالحِسَابِ وَذَاكَ حَقُ ... وَكُلُّ سَوْفَ يُجْزَى بانْتِحَالِ وَكُلُّ سَوْفَ يُؤتَى يَوْمَ حَشْرٍ ... كِتَابًا بِالْيَمِينِ أوِ الشِّمَالِ ونُؤْمِنُ أنَّ أعْمالَ البَرايَا ... سَتُوزَنُ غَيْرَ أصْحَابِ الضَّلالِ فَلَيْستْ تُوزنُ الأَعْمَالُ مِنْهُم ... كَأَهْلِ الخَيْرِ مِنْ أهْلِ الكَمَالِ

.. ولَكِنْ كَيْ لِتُحْصَى ثُمَّ يُلْقَى ... إلى قَعْرِ النُّهى بِذَوِي النّكَالِ ونُؤْمِنُ أَنَّنَا لا شَكَّ نَجْرِي ... عَلَى مَتْنِ الصِّرَاطِ بكُلُّ حَالِ فَنَاجٍ سَالٌم مِنْ كُلِّ شَرٍّ ... وهَاوٍ هَالِكٌ لِلنَّارِ صَالِ وأنَّ البَعْثَ بَعْدَ الموتِ حَقُّ ... لِيَومِ الحَشْرِ مَوْعِدُ ذِي الجَلالِ وَمِعْرَاجُ الرَّسُول إِلَيْهِ حَقُّ ... بِذَاتِ المُصْطَفَى نَحْوَ العَوَالِ وَفِي الْمِعْرَاجِ رَدٌّ مُسْتَبِينٌ ... عَلَى الْجَهْمِيَّةِ المُغَلِ الغَوَالِي وَمَنْ يَنْحُو طَرِيْقَتَُهْم بِبَغْيِ ... وَعُدْوَانٍ وَقَوْلٍ ذِي وَبَالِ بِتَأْوِيلٍ وَتَحْرِيفٍ وَهَذَا ... هُوْ التَعْطِيلُ عِنْدَ ذَوِي الكَمَالِ وَأَنَّ الْحَوْضَ لِلْمَعْصُومِ حَقُّ ... لأَهْلِ الْخَيْرِ لا أَهْلِ الضَّلالِ وَنُؤْمِنُ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ ... سَيَأْتِي الْفَاتِنَانِ بِكُلَّ حَالِ إِلَى الْمَقْبُورِ ثِمَّةَ يَسْألانِهِ ... فَنَاجٍ بِالثَّبَاتِ بِلا اخْتِلالِ سِوَى مَنْ كَانَ يَوْمًا ذَا مَعَاصٍ ... سَيَلْقَى غِبَّهَا بَعْدَ السُّؤَالِ إِذَا مَا لَمْ تُكَفَّرْ تِلْكَ عَنْهُ ... بِأَشْيَاء مُمَحَّصَةٍ بِحَالِ وَآخَرُ بالشَّقَاوَةِ سَوِفَ يَلْقَى ... عَذَابَ القَبْرِ مِنْ سُوءٍ الفِعَالِ ونُؤمِنُ بالَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ ... خِيارُ النَّاسِ مِنْ صَحْبِ وآلِ كَذَاكَ التَّابُعونَ وتَابِعُوهُمْ ... عَلَى دِينِ الْهُدَى والانْتِحَالِ وإِنَّ الفَضْلَ لِلْخُلَفَاءِ حَقُّ ... وتَقْدِيمَ الْخِلافَةِ بالتَّوَالِي أَبُو بَكْرٍ فَفَارُوقُ البَرايَا ... فَذُو النُّورَينِ ثُمَّ عَليُّ عَالِ عَلى مَنْ بَعْدَه وهُمُوا فَهُمْ هُمْ ... نُجُومُ الأَرْضِ كَالدُّرَرِ الغَوالِي وكَالأَعْلامِ لِلْحَيْرَانِ بَلْ هُمْ ... هُدَاتٌ كَالرَّعَانِ مِنْ الجِبالِ وكُلِّ كَرَامَةِ ثَبَتَتْ بِحَقٍّ ... فَحَقُّ لِلْولِّي بلا اخْتلالِ نَوالٌ مِن كَرَيِمٍ حَيْثُ كَانُوا ... بِطَاعَةِ رَبِّهم أَهْلَ انْفِعَالِ

.. ولَيْسَ لَهُمْ نَوالٌ أوْ حِبَاءٌ ... لِمَنْ يَدعُوهُموا مِن كُلِّ عَالِ وإن الخَرْقَ لِلْعَادَاتِ فاعْلَمْ ... عَلَى نَوعَيْنِ واضِحَةِ المِثَالِ فَنَوعٌ مِن شَيَاطِينٍ غُوِاةٍ ... لِمَنْ وَالاهُمُو مِنْ ذِي الخَيَالِ ونَوعٌ وهُوَ مَا قَدْ كَانَ يَجْرِي ... لأَهْلِ الخَيرِ مِن أهْلِ الكَمَالِ مِن الرَّحمنِ تَكْرِمَةً وفَضْلاً ... لِشَخْصٍ ذِي تُقَى سَامِي المَعَالي وَلَكِنْ لَيْسَ يُوجِبْ أَنْ سَيُدْعَى ... وَيُرْجَى أَوْ يُخَافُ بِكُلِّ حَالِ فَمَا فِي العَقْلِ مَا يَقْضِي بِهَذَا ... وَلا فِي الشَّرْعِ يَا أَهْلَ الوَبَالِ وَفَارقُ ذَلِكَ الْمَعْصُوْمِ حَقًّا ... وَتَوْحِيدٌ بِإِخْلاصِ الفِعَالِ فَمَنْ يَسْلُكَ طَرِيْقَتَهُ بِصِدْقٍ ... فَمِنْ أَهْلِ الوِلا لا ذِي الضَّلالِ وَمَنْ يَسْلُكَ سِوَاهَا كَانَ حَتْمًا ... بِلا شَكٍّ يُخَالِجُ ذَا انْسِلالِ وَنُؤْمِنُ أَنَّ عِيْسَى سَوْفَ يِأَتِي ... لِقَتْلِ الأَعْوَرِ البَاغِي الْمُحَالِ وَيَقْتُلُ لِلْيَهُودِ وَكُلٌّ بَاغٍ ... وَيَحْكُمَ بِالشَّرِيعَةِ لا يُبَالِي وَرَبِّي خَالِقٌ مُحْيٍ مُمِيتٌ ... هُوَ الْحَقُّ الْمَقدرُ ذُو التَّعَالِي وَبِالأَسْبَابِ يَخْلُقُ لا كَقَوْلٍ ... لِقَوْمٍ عِنْدَهَا قَوْلُ الضَّلالِ وَفِي الْقُرْآنِ ذَلِكَ مُسْتَبِينٌ ... فَأَنْبَأَنَا بِهِ وَالْحَقُّ جَالِ لِرَيْبِ الشَّكِّ عَنْ كُلِّ اعْتِقَادٍ ... صَحَيْحٍ عَنْ أَمَاثِلَ ذِي مَقَالِ عَلَى هَذَا ابْنُ حَنْبَلَ وَهْوَ قَوْلٌ ... لأَهْلِ الْحَقِّ مِنْ أَهْلِ الكَمَالِ وَمَنْ يَنْسِبُ إِلَيْهِ غَيْرَ هَذَا ... فَقَدْ أَخْطَا خَطَاءً ذَا وَبَالِ وَمِمَّا قَالَ فِيْمَا زَاغَ فِيهِ ... وَأَعْنِي فِي القَصِيْدَةِ ذَا الأَمَالِي وَمَا أَفْعَالُ خَيْرٍ فِي حِسَابٍ ... مِنْ الإِيْمَانِ فَاحْفَظْ لِي مَقَالِي يَزِيدُ بِطَاعَةِ الإِنْسَانِ يَوْمًا ... وَيَنْقُصُ بِالْمَعَاصِي ذِي الوَبَالِ وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْحَقِّ مِمَنْ ... هُمْ الأَعْلامُ مِنْ أَهْلِ الكَمَالِ

.. وَدَعْنِي مِنْ خِرَافَاتٍ وَهَمْطٍ ... لأَرْبَابِ الْجَهَالَةِ وَالضَّلالِ وَإِنَّ السُّحْتَ رِزْقٌ لا حَلالٌ ... وَلَكِنْ مَنْ أَتَى كَفْرًا بَوَاحًا وَتَكْفِيرٌ بِذَنْبٍ لا نَرَاهُ ... لأَهْلِ القِبْلَةِ الْمُثْلَى بِحَالِ وَلَكِنْ مَنْ أَتَى كَفْرًا بَوَاحًا ... وَأَشْرَكَ فِي العِبَادَةِ لا نُبَالِي وَإِنَّ الْهِجْرَةَ الْمُثْلَى لِفَرْضٌ ... عَلَى ذِي قُدْرَةٍ بِالانْتِقَالِ وَلَمْ تُنْسَخْ بِحُكْمِ الفَتْحِ بَلْ ذَا ... بِذَاكَ الوَقْتِ والإِسْلامُ عَالِ فَإِنْ عَادَتْ وَصَارَتْ دَارَ كُفْرٍ ... فَهَاجِرْ لا تَطفِّف بِاعْتِزَالِ لأَنَ الْمُصْطَفَى قَدْ قَالَ مَا قَدْ ... رَوَى الإِثْبَاتُ مِنْ أَهْلِ الكَمَالِ بِذكْرٍ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ مُقِيمٍ ... بِدَارِ الْكُفْرِ بَيْنَ ذَوِي الضَّلالِ وَذَا مِنْ مُسْلِمٍ إِذْ جَاءَ ذَنْبٌ ... كَبِيرٌ بِالإِقَامَةِ لا يُبَالِي رَوَى ذَا التِّرْمِذِيُّ كَذَاكَ جَاءَتْ ... بِهِ الآيَاتُ وَاضِحَةُ لِتَالِ وَجُمْلَةُ كُلِّ مُعْتَقَدٍ صَحِيحٌ ... رَوَاهُ النَّاسِ عَنْ صَحْبٍ وَآلِ وَعَنْ سَلَفٍ رَوَى خَلَفٌ ثِقَاتٌ ... لَنَا بِالنَّقْلِ عَنْهُمْ بِاحْتِفَالِ فَإِنَّا بَاعْتِقَادٍ وَاحْتِفَالٍ ... لَهُ بِالأَخْذِ فِي كُلِّ الْخَلالِ فَإِنْ رُمْتَ النَّجَاةَ غَدًا وَتَرْجُو ... نَعِيمًا لا يَصِيرُ إِلَى زَوَالِ نَعِيمًا لا يَبِيدُ وَلَيْسَ يَفْنَى ... بِدَارِ الْخُلْدِ فِي غُرَفٍ عَوَالِ وَحُوْرًا فِي الْجِنَانِ مُنَعَّمَاتٍ ... مَلِيْحَاتِ التَّبَعُّلِ وَالدَّلالِ فَلا تُشْرِكْ بِرَبِّكَ قَطُّ شَيْئًا ... فَلا تُشْرِكْ بِرَبِّكَ قَطُّ شَيْئًا وَلا تَذْهِبْ إِلَى الأَمْوَاتِ جَهْلا ... لِنَفْعٍ أَوْ لِضَرٍّ أَوْ نَوَالِ وَلا تَجْعَلُ وَسَائِطَ تَرْتَجِيهِمْ ... فَإِنَّ اللهَ رَبِّكَ ذُو الكَمَالِ عَلِمٌ قَادِرٌ بَرُّ كَرِيمٌ ... بَصِيرٌ سَامِعٌ لِذَوِي السُّؤَالِ وَلَيْسَ بِعَاجِزٍ فَيُعَانُ حَاشَا ... وَلَيْسَ بِغَائِبٍ أَوْ ذِي اشْتِغَالِ

.. فَلا يَدْرِي بِأَحْوَالِ البَرَايَا ... فَتَدْعُو مَنْ يُخَبِرَّ بِالسُؤَالِ فَتَجْعَلُهُ الوَسَاطَةُ إِنَّ هَذَا ... لَعَمْرِي مِنْ مَزَلاتِ الضَّلالِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَيْسَ رَبِّي ... مُرِيدَ النَّفْعِ أَوْ بَذْلَ النَّوَالِ وَلا الإِحْسَانُ إِلا مِنْ شَفِيعٍ ... يُحَرِّكُهُ فَيَعْطِفُ ذُو الْجَلالِ لِحَاجَتِهِ وَرَغْبَتِهِ إِلَيْهِ ... وَهَذَا لا يَكُونُ لِذِي الكَمَالِ أَلَيْسَ اللهُ خَالِقَ كُلِّ شَيْءٍ ... وَمَالِكُهُ وَرَبُّكَ ذُو التَّعَالِي وَمَنْ ذَا شَأْنُهُ وَلَهُ البَرَايَا ... بِأَجْمَعِهَا الأَسَافِلُ وَالأَعَالِي أَكَانَ يَكُونُ عَوْنًا أَوْ شَفِيعًا ... يُخَبِّرُ بِالْغَوَامِضِ وَالفِعَالِ وَيُكْرهُهُ عَلَى مَا لَيْسَ يَرْضَى ... تَعَالَى ذُو الْمَعَارِجِ وَالْمَعَالِي أَكَانَ يَكُونُ مَنْ يَخْشَانُ رَبِّي ... وَيَرْجُوهُ لِتَبْلِيغِ الْمَقَالِ وَيَشْفَعُ عَنْدَهُ كرهًا عَلَيْهِ ... كَمَا عِنْدَ الْمِلُوكِ مِنْ الْمَوَالِي لِحَاجَتِهِمْ وَرَغْبَتَهُمْ إِلِيْهِمْ ... لِخَوْفٍ أَوْ رَجَاءٍ أَوْ نَوَالِ تَعَالَى اللهُ خَالِقَنَا تَعَالَى ... تَقَدَّسَ بَلْ تَعَاظَمَ ذُو الْجَلالِ أَلَيْسَ اللهُ يَسْمَعُ مَنْ يُنَاجِي ... كَمَنْ يَدَعُو بِصَوْتٍ بِالسُّؤَالِ وَأَصْوَاتُ الْجَمِيْعِ كَصَوْتِ فَرْدٍ ... وَأَصْوَاتُ الْجَمِيْعِ كَصَوْتِ فَرْدٍ فَلا يَشْغَلْهُ سَمْعٌ عَنْ سَمَاعٍ ... لِمَنْ يَدْعُو وَيَهْتِفُ بِابْتِهَالِ وَلا يَتَبَّرمُ الرَّحْمَنِ رَبِّي ... بِإِلْحَاحِ الْمُلِحِّينَ الْمَوَالِي وَلا يُغْلِطْه كِثْرَةُ سَائِلِيهُ ... جَمِيعًا بِالتَّضَرُّعِ وَالسُّؤَالِ بِكُلِّ تَفَنُّنِ الْحَاجَاتِ مِنْهُم ... وَأَصْنَافَ اللُّغَاتِ بِلا اخْتِلالِ فَيُعْطِي مَنْ يَشَاءِ مَا قَدْ يَشَاءُ ... وَيَمْنَعُ مَا يَشَاءُ مِنْ النَّوَالِ أَلَيْسَ اللهُ يُبْصِرُ كُلَّ شَيْءٍ ... بِلا شَكٍّ وَيُبْصِرُ ذُو الْجَلالِ

.. دَبِيبَ النَّمْلَةِ السَّوْدَا تَعَالَى ... وَأَعْطَى تِلْكَ فِي ظُلْمِ اللَّيَالِي عَلَى صَخْرٍ أَصَمَّ ذَوِي سَوَادٍ ... شَدِيدٍ حَالِكٍ مِثْلُ الكُحَالِ وَمُجْرِي القُوْتَ فِي الأَعْضَاءِ مِنْها ... وَأَعْضَاءِ البَعُوضِ بِكُلِّ حَالِ وَمَدَّ جَنَاحَهِ فِي جُنْحِ لَيْلٍ ... وَأَعْرَاقُ النِّيَاطِ بِلا اخْتِلالِ وَيَعْلَمُ مَا أَسَرَّ العَبْدُ حَقًّا ... وَأَخْفَى مِنْه فَاسْمَعْ لِلْمَقَالِ فَمَنْ ذَا شَأْنُهُ أَيَصَحُّ شَرْعًا ... وَعَقْلاً أَنْ يُشَارِكَهُ الْمَوَالِي مَعَاذَ اللهِ مَا هَذَا بِحَقٍّ ... وَلا فِي العَقْلِ عِنْدَ ذَوِي الكَمَالِ أَفِي مَعْقُولِ ذِي حُجْرٍ عُدُولٍ ... إِلَى مَيْتٍ رَمِيمٍ ذِي اغْتِفَالِ عَدِيمِ السَّمْعِ لَيْسَ يَرَاهُ يَوْمًا ... عَدِيمَ العِلْمِ لَيْسَ بِذِي نَوَالِ وَيَتْرُكُ عَالِمًا حَيًّا قَدِيرًا ... بَصِيرًا سَامِعًا فِي كُلِّ حَالِ كَرِيمًا مُحْسِنًا بَرًّا جَوَادًا ... رَحِيمًا ذُو الفَوَاضِلِ وَالنَّوَالِ لَعَمْرِي إِنَّ مَنْ يَأْتِي بِهَذَا ... لَذُو خَبَلٍ مِنْ الإِسْلام ِخَالِ وعَقلٌ يَرْتَضِي هَذَا لَعَمْرِي ... سَقِيمٌ زَائِغٌ وَاهِ المَقَالِ وأَهلُوَه أضلُّ النَّاس طُرًّا ... وأسفهُهُم وأولى بالنَّكَالِ فلا يَغُرُوكَ إقرارٌ بِمَا قَدْ ... أَقرَّ الْمُشْرِكُونَ ذَوُوا الضَّلالِ بأَنَّ الله خَاِلقُ كُلِّ شيء ... ومَالِكُه وذا بالاقْتِلالِ ورَزَّاقٌ مُدَبِّرُ كُلِّ أَمْرٍ ... وَحيٌ قَادِرٌ رَبُّ العَوَالِي فَهََا قَدْ أَقَرَّ بِهِ قُرَيْشٌ ... فَلَمْ يَنفَعْهُمُوا فاسْمَعْ مَقالِي وهُمْ يَدْعُونَ غَيرَ اللهِ جَهْرًا ... وَجَهْلاً بِالْمُهَيْمِنِ ذِي الْجَلالِ وَلِلأَشْجَارِ وَالأَحْجَارِ كَانَتْ ... عِبَادَتُهُمْ بِذَبْحٍ مَعْ سُؤَالِ وَلِلأَمْوَاتِ هَذَا كَانَ مِنْهُمْ ... بِخَوْفٍ مَعْ رَجَاءٍ وَانْذْلالِ وَنَذْرٍ وَاسْتِغَاثَةَ مُسْتَضَامٍ ... فَبَاءُوا بِالْوَبَالِ وَبِالنِّكَالِ

.. وَإِنَّ الْحَقَّ إِنْ تَسْلُكْهُ تَنْجُو ... مِنْ الإِشْرَاكِ ذِي الدَّاءِ الْعُضَالِ طَرِيْقُ الْمُصْطَفَى الْمَعْصُومِ حَقًّا ... بِتَوْحِيدِ الْمُهَيْمِنِ ذِي الكَمَالِ بِأَفْعَالٍ لَهُ وَحْدِهُ فِيْهَا ... وَبِالأَفْعَالِ مِنْكَ بِلا اخْتِلالِ بِأَنْوَاعِ الْعِبَادَةَ مِنْ رَجَاءٍ ... وَخَوْفٍ وَالتَّوَكُّلُ وَالسُّؤَالِ وَذَبْحٍ وَاسْتِغَاثَةِ مُسْتَغِيْثٍ ... وَنَذْرٍ وَاسْتِعَانَةِ ذِي الْجَلالِ وَلا تَخْضَعْ لِغَيْرِ اللهِ طُرًّا ... وَلا تَخْشَاهُ فِي كُلِّ الْفِعَالِ وَبِالرَّغْبَاءِ وَالرَّهْبَاءِ مِنْهُ ... بِتَعْظِيْمٍ وَحُبٍّ وَانْذِلالِ لِرَبِّكَ لا لِمَخْلُوقٍ وَمَيِّتٍ ... ضَعَيْفٍ عَاجِزٍ فِي كُلِّ حَالِ فَوَحِّدْهُ وَأَفْرِدْهُ بِهَذَا ... وَدَعْنَا مِن مَزَلاتِ الضَّلالِ وَأَوْضَاعٍ لأَفَّاك جَهُولٍ ... حِكَايَاتٍ مُلَفَّقَةٍ لِغَالِي وَكُلُّّ طَرِيقَةٍ خَرَجَتْ وَزَاغَتْ ... عَنْ الْمَشْرُوعِ بِالْقَوْلِ الْمُحَالِ فَإِنَّا مِنْ طَرَائِقِهِمْ بَرَاءٌ ... إِلَى اللهِ الْمُهَيْمِنِ ذِي الْجَلالِ فَتَبْرَأُ مِنْ ذَوِي الإِشْرَاكِ طُرًّا ... وَمِنْ جَهْمِيَّةٍ مُغْلٍ غَوَالِ وَمِنْ كُلِّ الرَّوَافِضِ حَيْثُ زَاغُوا ... فَهُمْ أَهْلُ الْمَنَاكِرِ وَالضَّلالِ وَمِنْ قَوْلَ النَّوَاصِبِ حَيْثُ ضَلَّتْ ... حُلُوْمُهُمُوا بِقَوْلٍ ذِي وَبَالِ وَمِنْ قَوْلَ الْخَوَارِجِ قَدْ بَرِئْنَا ... وَيَا بُعْدًا لأَهْلِ الاعْتِزَالِ بِمَا قَالُوْهُ وَانْتَحَلُوهْ مِمَا ... يُخَالِفُ دِيْنَ أَرْبَابِ الْكَمَالِ فَقَدْ جَاءُوا مِنْ الْكُفْرَانِ أَمْرًا ... عَظَيْمًا وَاجْتِرَاءً بِالْمُحَالِ وَنَبْرَأُ مِنْ أَشَاعِرَةٍ غُوَاةٍ ... قَفَوْا جَهْمًا بِرَأْيٍ وَانْتِحَالِ وَمِنْ جُبْرِيَّةٍ كَفَرَتْ وَضَلَتْ ... وَنَبْرَأُ جَهْرَةً مِنْ كُلِّ غَالِ كُنَا فِي قُدْرَةِ الرَّحْمَنِ رَبِّي ... وَتَقْدِيرِ الْمُهَيْمِنِ ذِي الْجَلالِ وَمِنْ قَوْلِ ابْنِ كُلاَّبِ بَرِئْنَا ... فَلَسْنَا مِنْهُمُوا أَبَدًا بِحَالِ

.. وَمِنْ قَوْلِ ابْنِ كَرَّامٍ وَمِمَنْ ... نُمِي بِالاقْتِرَانِ ذَوِي الضَّلالِ وَأَهْلُ الْوَحْدَةِ الْكُفَّارِ إِذْ هُمْ ... أَضَلُّ النَّاسِ فِي كُلِّ الْخَلالِ وَمِنْ أَهْلِ الْحُلُولِ ذَوِي الْمَخَازِي ... فَقَدْ جَاءُوا بِقَوْلٍ ذِي وَبَالِ وَمِمَّنْ قاَلَ شَرْعَ أَحْمَدَ ذِي الْمَعَالِي ... وَأَصْحَابٍ كِرَامٍ ثُمَّ آلِ وَنَبْرَأُ مِنْ طَرَائِقَ مُحْدَثَاتٍ ... مَلاهٍ مِنْ مَلاعِبِ ذِي الضَّلالِ بِأَلْحَانِ وَتَصْدِيَةٍ وَرَقْصٍ ... وَمِزْمَارٍ وَدُفٍّ ذِي اغْتِيَالِ وَأَذْكَارٍ مُلَفَقَّةٍ وَشِعْرٍ ... بِأَصْوَاتٍ تَرُوقُ لِذِي الْخَبَالِ فَحِينًا كَالْكِلابِ لَدَى انْتِحَالِ ... وَحِينًا كَالْحَمِيرِ أَوْ الْبِغَالِ وَتَلْقَى الشَّيْخَ فِيْهِمْ مِثْلَ قِرْدٍ ... يُلاعِبُهُمْ وَيَرْقُصُ فِي الْمَجَالِ بِأَيِّ شَرِيعَةٍ جَاءَتْ بِهَذَا ... فَلَمْ نَسْمَعْهُ فِي الْعُصُرِ الْخَوَالِي فَأَمَا عَنْ ذَوِي التَّقْوَى فَحَاشًا ... فَهُمْ أَهْلُ التُّقَى وَالابْتِهَالِ وَأَهْلُ الإِتْبَاعِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ ... لَعَمْرِي ذُو ابْتِدَاعٍ فِي انْتِحَالِ وَكَانَ سُلُوكُهُمْ حَقًّا عَلَى مَا ... عَلَيْهِ الشَّرْعُ دَلَّ مِنَ الْكَمَالِ بِأَذكَارٍ وَأَوْرَادٍ رَوَوْهَا ... عَنْ الإِثْبَاتِ عَنْ صَحْبٍ وَآلِ وَحَالٍ يَشْهَدُ الشَّرْعُ الْمزَكَّي ... لَهُ باِلاقْتِضَا فِي كُلِّ حَالِ وَمَعْ هَذَا إِذَا مَا جَاءَ حَالٌ ... بِأَمْرٍ وَارِدٍ لِذَوِي الْكَمَالِ مِنَ النُّكَتِ الَّتِي لِلْقَوْمِ تُرْوَى ... وَتُعْرَضُ فِي الْفَنَا فِي ذَا الْمَجَالِ أَبَوْا أَنْ يَقْبَلُوهَا ذَاكَ إِلا ... بِحُكْمِ الشَّاهِدَيْنِ بِلا اخْتِلالِ كِتَابُ اللهِ أَوْ نَصُّ صَحِيحٌ ... صَرِيحٌ وَاضِحٌ لِذَوِي الْمَعَالِي وَقَدْ قَالُوا وَلا يَغْرُرْكَ شَخْصٌ ... إِلَى الآفَاقِ طَارَ وَلا يُبَالِي وَيَمْشِي فَوْقَ ظَهْرِ الْمَاءِ رَهْوًا ... وَيَأْتِي بِالْخَوَارِقِ بِالْفِعَالِ وَلَمْ يَكُ سَالِكًا فِي نَهْجِ مَنْ قَدْ ... أَتَى بِالشَّرْعِ فِي كُلِّ الْخِصَالِ

.. فَذَلِكَ مِنْ شَيَاطيِنِ غُوَاةٍ ... لِمَنْ وَالاهُمُوا مِنْ كُلِّ غَالِ فَدَعْ عَنْكَ ابْتِدَاعًا وَاخْتِرَاعًا ... وَسُرْ فِي إِثْرِ أَصْحَابِ الْكَمَالِ وَلَمْ نَسْتَوْعِبْ الْمَفْرُوضَ لَكِنْ ... ذَكَرْنَا جُمْلَةً فِي ذَا الْمَجَالِ فَأَحْبِبْ فِي الإِلَهِ وَعَادِ فِيهِ ... وَأَبْغِضْ جَاهِدًا فِيهِ وَوَالِ وَأَهْلَ الْعِلْمِ جَالِسْهُمْ وَسَائِلْ ... وَلا تَرْكَنْ إِلَى أَهْلِ الضَّلالِ وَلا يَذْهَبْ زَمَانُكَ فِي اغْتِفَالِ ... بِلا بَحْثٍ وَفِي قِيلٍ وَقَالِ وَمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَنْهَ عَنِ الْمَنَاهِي ... فَذَا مِنْ شَأْنِ أَرْبَابِ الْكَمَالِ دَعَانِي وَاقْتَضَى نَظْمِي لِهَذَا ... قَرِيضٌ قَدْ رَأَيْتُ لِذِي الأَمَالِي وَحَقُّ إِجَابَةٍ لِسُؤَالِ خِلٍّ ... وَقَدْ سَاعَفْتُهُ بِالامْتِثَالِ فَعَارَضْتُ الَّذِي لا نَرْتَضِيهِ ... وَأَبْقَيْتُ الَّذِي لِلشَّكِّ جَالِ وَزِدْنَا فِيهِ أَبْحَاثًا حِسَانًا ... عَلَيْهِ النَّاسِ فِي الْعَصْرِ الْخَوَالِي فَيَا ذَا الْعَرْشِ ثَبِّتْنِي وَكُنْ لِي ... نَصِيرًا حَافِظًا وَلِمَنْ دَعَالِي وَحَقِّقْ فِيكَ آمَالِي وَجُدْ لِي ... بِعِلْمٍ نَافِعٍ يَا ذَا الْجَلالِ وَصِلْ حَبْلِي بِحَبْلِكَ وَاعْفُ عَنِّي ... جَمِيعَ السُّوءِ مِنْ كُلِّ الْفِعَالِ وَصَلِّ اللهُ مَا قَدْ صَابَ وَدْقٌ ... وَلاحَ الْبَرْقُ فِي ظُلَمِ اللَّيَالِي عَلَى الْمَعْصُومِ أَحْمَدَ ذِي الْمَعَالِي ... وَأتباعِ وَأَصْحَابٍ وَآلِ تم هذا الجزء الثالث بعون الله وتوفيقه ونسأل الله الحي القيوم العلي العظيم ذا الجلال والإكرام الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لَمْ يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد أن يعز الإسلام والمسلمين وان يخذل الكفرة والمشركين وأعوانهم وأن يصلح من فِي صلاحه صلاح للإسلام والمسلمين ويهلك من فِي هلاكه عز وصلاح للإسلام والمسلمين وأن يلم شعث المسلمين ويجمع شملهم ويوحد كلمتهم وأن يحفظ بلادهم ويصلح أولادهم ويشف مرضاهم ويعافي مبتلاهم ويرحم موتاهم ويأخذ بأيدينا عَلَى كل خير ويعصمنا وإياهم من كل شر

خاتمة، وصية، نصيحة

ويحفظنا وإياهم من كل ضر وأن يغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمته إنه أرحم الراحمين وصلى الله عَلَى محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. والله المسئول أن يجعل عملنا هذا خالصًا لوجهه الكريم وأن ينفع به نفعًا عامًا إنه سميع قريب مجيب عَلَى كل شيء قدير. (خاتمة، وصية، نصيحة) اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه الله ويرضاه أن مما يجب الاعتناء به حفظًا وعملاً كلام الله جل وعلا وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وأنه ينبغي لمن وفقه الله تعالى أن يحث أولاده عَلَى حفظ القرآن وما تيسر من أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - المتفق عَلَى صحتها عنه كالبخاري ومسلم. ومن الفقه مختصر المقنع ليتيسر له استخراج المسائل ويجعل لأولاده مَا يحثهم عَلَى ذلك. فمثلاً يجعل لمن يحفظ القرآن عَلَى صدره حفظًا صحيحًا عشرة آلاف أو أزيد أو أقل حسب حاله فِي الغنى. ومن الأحاديث عقود اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الإمامان البخاري ومسلم، ويجعل لمن يحفظ ذلك ستة آلاف (6000) ريال. فإن عجزوا عن حفظها فالعمدة فِي الحديث يجعل لمن حفظها ثلاثة آلاف (3000) ريال أو الأربعين النووية ويجعل لمن يحفظها ألفًا (1000) ريال. ويجعل لمن يحفظ مختصر المقنع فِي الفقه ألفين (2000) من الريالات فالغيب سبب لحفظ المسائل وسبب لسرعة استخراج مَا أريد من ذلك وما أشكل معناه أو يدخلهم فِي مدارس تحفيظ القرآن فِي بيوت الله أو البيوت المعدة لذلك فمدارس تعليم القرآن والسنة هي مدارس التعليم العالي الممتاز الباقي النافع فِي الدنيا والآخرة أو يدخلهم فِي حلقات تحفيظ القرآن الكريم الموجودة فِي المساجد. فمن وفقه الله لذلك وعمل أولاده بذلك كَانَ سببًا لحصول الأجر من الله وسببًا لبرهم به ودعائهم له إذا ذكروا ذلك مِنْه ولعله أن يكون سببًا مباركًا يعمل به أولاده مع أولادهم

فصل يحتوي على الدعاء

فيزيد الأجر له ولهم نسأل الله أن يوفق الجميع لحسن النية إنه القادر عَلَى ذلك وصلى الله عَلَى محمد وآله وصحبه وسلم. وَلَمْ أَرَى لِلْخَلائِقِ مِنْ مُرَبٍّ ... كَعْلْمِ الشَّرْعِ يُؤخَذُ عَنْ ثِقَاتِ بِبَيْتِ اللهَ مَدْرَسَةِ الأَوَالَي ... لِمَنْ يَهْوَى العُلُومُ الرَّاقِيَاتَ (فصل يحتوي عَلَى الدعاء) اللهم يا عظيم العفو، يا واسع المغفرة، يا قريب الرحمة يا ذا الجلال والإكرام، هب لنا العافية فِي الدنيا والآخرة. اللهم يا حي ويا قيوم فرغنا لما خلقتنا له، ولا تشغلنا بما تكفلت لنا به، واجعلنا ممن يؤمن بلقائك، ويرضى بقضائك، ويقنع بعطائك، ويخشاك حق الخشية. اللهم اجعل رزقنا رغدَا، ولا تشمت بنا أحدَا. اللهم رغبنا فيما يبقى، وزهدنا فيما يفنى، وهب لنا اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يعول فِي الدين إلا عليه. اللهم إنا نسألك بعزك الذي لا يرام وملكك الذي لا يضام وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفينا شر مَا أهمنا وما لا نهتم به وأن تعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. اللهم يا عليم يا حليم يا قوي يا عزيز يا ذا المن والعطا والعز والكبرياء يا من تعنوا له الوجوه وتخشع له الأصوات. وفقنا لصالح الأعمال وأكفنا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك إنك عَلَى كل شيء قدير. اللهم إنا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتلم بها شعثنا، وترفع بها شاهدنا، وتحفظ بها غائبنا، وتزكى بها أعمالنا، وتلهمنا بها رشدنا، وتعصمنا بها من كل سوء يا أرحم الراحمين.

اللهم ارزقنا من فضلك، وأكفنا شر خلقك، وأحفظ علينا ديننا وصحة أبداننا. اللهم يا هادي المضلين ويا راحم المذنبين، ومقيل عثرات العاثرين، نسألك أن تلحقنا بعبادك الصالحين الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يا رب العالمين. اللهم يا عالم الخفيات، ويا رفيع الدرجات، يا غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا أنت إليك المصير. نسألك أن تذيقنا برد عفوك، وحلاوة رحمتك، يا أرحم الراحمين وأرأف الرائفين وأكرم الأكرمين. اللهم اعتقنا من رق الذنوب، وخلصنا من أشر النفوس، وأذهب عنا وحشة الإساءة، وطهرنا من دنس الذنوب، وباعد بيننا وبين الخطايا وأجرنا من الشيطان الرجيم. اللهم طيبنا للقائك، وأهلنا لولائك وأدخلنا مع المرحومين من أوليائك، وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين. اللهم أعنا عَلَى ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وتلاوة كتابك، واجعلنا من حزبك المفلحين، وأيدنا بجندك المنصورين، وارزقنا مرافقة الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. اللهم أعنا عَلَى ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وتلاوة كتابك، واجعلنا من حزبك المفلحين، وأيدنا بجندك المنصورين، وارزقنا مرافقة الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. اللهم يا فالق الحب والنوى، يا منشئ الأجساد بعد البلى يا مؤي المنقطعين إليه، يا كافي المتوكلين عليه، انقطع الرجاء إلا منك، وخابت الظنون إلا فيك، وضعف الاعتماد إلا عليك نسألك أن تمطر محل قلوبنا من سحائب برك وإحسانك وأن توفقنا لموجبات رحمتك وعزائم مغفرتك إنك جواد كريم رؤوف غفور رحيم. اللهم إنا نسألك قلبًا سليمًا، ولسانًا صادقًا، وعملاً متقبلاً،

ونسألك بركة الحياة وخير الحياة، ونعوذ بك من شر الحياة، وشر الوفاة. اللهم إنا نسألك باسمك الأعظم الأغر الأجل الأكرم الذي إذا دعيت به أجبت وإذا سئلت به أعطيت. ونسألك بوجهك الكريم أكرم الوجوه، يا من عنت له الوجوه، وخضعت له الرقاب، وخشعت له الأصوات، يا ذا الجلال والإكرام. يا حي يا قيوم، يا مالك الملك، يا من هو عَلَى كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، لا إله إلا أنت، برحمتك نستغيث، ومن عذابك نستجير. اللهم اجعلنا نخشاك حتى كَأنَنا نراك، وأسعدنا بتقواك ولا تشقنا بمعصيتك. اللهم إنك تسمع كلامنا، وترى مكاننا، وتعلم سرنا وعلانيتنا لا يخفى عليك شيء من أمرنا نحن البؤساء الفقراء إليك، المستغيثون المستجيرون الوجلون المشفقون المعترفون بذنوبنا. نسألك مسألة المسكين، ونبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وندعوك دعاء الخائف الضرير. اللهم يا من خضعت له رقابنا، وفاضت له عباراتنا، وزلت له أجسامنا ورغمت له أنوفنا لا تجعلنا بدعائك أشقياء وكن بنا رؤوفًا يا خير المسؤلين. اللهم إنا نسألك نفسًا مطمئنة تؤمن بلقائك وترضى بقضائك وتقنع بعطائك، يا أرأف الرأفين، أرحم الراحمين. اللهم إنا نسألك التوفيق لما تحبه من الأعمال ونسألك صدق التوكل عليك، وحسن الظن بك يا رب العالمين.

اللهم اجعلنا من عبادك المخبتين الغر المحجلين الوفد المتقبلين. اللهم إنا نسألك حياة طيبة، ونفسًا تقية، وعيشة نقية وميتة سوية، ومردًا غير مخزي ولا فاضح. اللهم اجعلنا من أهل الصلاح والنجاح والفلاح ومن المؤيدين بنصرك وتأييدك ورضاك يا رب العالمين. (اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) . يا ودود يا ذا العرش المجيد يا مبدئ يا معيد يا فعال لما تريد نسألك بنور وجهك الذي ملأ أركان عرشك وبقدرتك التي قدرت لها عَلَى جميع خلقك وبرحمتك التي وسعت كل شيء لا إله إلا أنت أن تغفر ذنوبنا وسيئاتنا وأن تبدلها لنا بحسنات إنك جواد كريم رؤوف رحيم. اللهم افتح لدعائنا باب القبول والإجابة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله عَلَى محمد وآله وصحبه أجمعين. عبد العزيز بن محمد بن سلمان شِعْرًا: مُنَايَ مِن الدُّنْيَا عُلُومٌ أبثُهَا ... وأنْشُرُهَا في كُلِ بَادٍ وحَاضِرِ دُعَاءً إِلَى القُرْآنِ والسُنَّةِ الَّتِي ... تَنَاسَى رِجَالٌ ذِكْرَهَا في المَحاضِرِ وَقَدْ أبْدِلُوهَا الجَرَائِد تَارةً ... وتِلْفَازِهِمْ رأَسُ الشُرور المنَاكِرِ ومِذْيَاعهِمْ أيْضًِا فلا تَنْس شَرَّهُ ... فكَمْ ضَاعَ مِن وَقْتٍ بِهَا بالخَسَائِرِ

فوائد عظيمة النفع

آخر: أُقِلِّبُ كُتْبًا طَالَما قَدْ جَمَعْتُهَا ... وَأَفْنَيْتُ فيها العَيْنَ والعَيْنَ وَالْيَدَا وَأَصْبَحْتُ ذَا ظَنٍ بِهَا وَتَمَسُّكٍ ... لِعِلْمِي بِمَا قَدْ صُغْتُ فِيهَا مُنَضَّدَا وَأحْذَرُ جُهْدِي أَنْ تُنَالَ بِنَائِلٍ ... مَهِينٌ وَأَنْ يَغْتَالَهَا غَائِلُ الرَّدَى وَاعْلَمْ حَقًّا أَنَّنِي لَسْتُ بَاقِيًا ... فَيَا لَيْتَ شِعْرِي مَنْ يُقَلِّبُهَا غَدَا فوائد عظيمة النفع واعجبًا منك يضيع منك الشيء القليل وتتكدر وتتأسف وَقَدْ ضاع أشرف الأشياء عندك وهو عمرك الذي لا عوض له وأنت عند قتالات الأوقات، الكورة والتلفاز والمذياع ونحوها من قطاع الطريق عن الأعمال الصالحة، ولكن ستندم {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} . اللهم علمنا مَا ينفعنا وأنفعنا بما علمتنا ولا تجعل علمنا وبالاً علينا اللهم قوي معرفتنا بك وبأسمائك وصفاتك ونور بصائرنا ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا يا رب العالمين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله عَلَى محمد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

الجزء الرابع

وَقْفٌ للهِ تَعَالَى تَأْلِيفُ الفَقِير إلى عَفْوِ رَبِّهِ عَبدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ السّلمانِ المدرس في معهد إمام الدعوة بالرياض سابقاً الجزء الرابع

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمْ وَبِهِ نَستَعِيْنْ شعراً: ... إذَا شئت أَنْ تَلْقَى عَدُوَّكَ رَاغِماً ... فَتُحْرِقَهُ حُزُنْاً وَتَقْتُلَهُ غَمًّا فَعَلَيْكَ بالإِخْلاَصِ وَالزُّهْدِ والتُّقَى ... فَمَنْ فَازَ فِيْهَا مَاتَ حُسَّادُهُ هَمًّا فائدة: وقَفَ قَوْمٌ علَى عَالمٍ فَقَالُوا: إنَّا سَائِلُوكَ أَفَمُجِيْبُنَا أَنْتَ؟ قَالَ: سَلُوْا وَلاَ تُكْثِرُوْا، فَإِنَّ النَّهارَ لَنْ يَعُوْدَ، والطَّالِبَ حَثِيْث في طَلبِه. قَالُوْا: فأَوْصِنَا. قال: تَزَوَّدُوْا عَلَى قَدْر سَفَرِكُمْ فإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ مَا أَبْلَغَ البُغْيَةَ. ثُمّ قَالَ: الأيامُ صحائفُ الأَعْمَارِ فَخَلِّدُوْهَا أَحْسَنَ الأَعْمال، فإِنَّ الفُرَصَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، وَالتَّوَاني مِنْ أَخْلاَقِ الكُسَالَى والخَوالِفِ، وَمَن اسْتَوْطَنَ مَرْكَبَ العَجْز عَثرَ بِه، وتَزَوَّجَ التَّواني بالكَسَل فَوُلِدَ بيَنْهُما الخُسَرْان أ.هـ. قال بَعْضُهُم: شعراً: ... تَزَوَجَتِ البَطَالَةُ بالتَّواني ... فأَوْلَدَهَا غُلاَماً مَعْ غُلامَهْ فأَمَّا الإِبْنُ سَمَّوْهُ بِفَقْرِ ... وَأَمَّا البنْتُ سَمَّوْهَا نَدَمَهْ آخر: ... يَا سَاكِنَ الدُنْيَا تَأَهَّبْ ... وَانْتظِرْ يَوْمَ الفِرَاقْ وَأَعِدَّ زَاداً لِلرَّحِيْلْ ... فَسَوْفَ يُحْدَى بِالرّفُاقْ وابْكِ الذُنوُبَ بأَدْمُعٍ ... تَنْهَلُّ مِنْ سُحْبِ المَآقْ يا مَنْ أَضَاعَ زَمَانَهُ ... أَرَضِيْتَ مَا يَفْنَى بِبَاقْ

ِبسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمْ مُلاحظة: لا يسمح لأي إنسان أنْ يَخْتَصرَهُ أوْ يَتَعَرَّضَ له بما يُسَمُونَه تَحقِيقاً لأَنْ الإِختصار سَبَبٌ لتعطيل الأصْل والتحقيق أرَى أنَّهُ إتهام للمؤلف، ولا يُطبع إلا وقفاً لله تعالى على من ينتفع به من المسلمين. (فائدةٌ عَظِيمَةُ النَّفَعْ لِمَنْ وَفَّقَهُ الله) مَا أنْعَمَ اللهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً أَفْضَلَ مِنْ أنْ عَرَّفَه لاَ إلهَ إِلا الله، وفهَّمَهُ معناها، ووفقه للعمَلِ بِمُقْتَضَاهَا، والدَّعْوَةِ إليْهَا. إِصِرِفْ هُمُومَكَ لِلقُرآنِ تَفْهَمَهُ ... واعْملَ بِهِ كيْ تَنَالَ الأجْرَ والشَّرَفَا آخر: ... الذكرُ أصْدَقُ قَوْلٍ فافْهَم الخَبَرَا ... لأنهُ قَوْلُ مَنْ قَدْ أنْشأ البَشَرَا فاعْمَلْ بِهِ إنْ تُرِدْ فهْماً ومَعْرِفَةً ... يَا ذَا النُّهَى كيْ تَنَال العِزَّ والفَخَرَا وتحْمد الله في يوْمِ المَعَادَ إذَا ... جَاءَ الحِسَابُ وعَمَّ الخَوفُ وانْتَشَرَا لله دَرُّ رَجالٍ عَامِليْنَ بِهِ ... فِيمَا يَدِقُ وَمَا قَدْ جَلَّ واشْتَهَرَا ... آخر: ... جَمِيْعُ الكُتْبِ يُدْرِك مَنْ قَراهَا ... مِلالٌ أو فتُورٌ أوْ سَآمَه سِوى القُرْآن فافْهَمْ وَاسْتمِعْ لي ... وقَوْلِ المُصْطَفَى يا ذَا الشَّهَامَه

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ آخر: ... هِيَ الكُنُوزُ التِّي تنْمُو ذَخَائِرهَا ... ولا يُخَافِ عَلَيها حَادث الغِيرَ الناسُ إثْنَانِ ذُوْ عِلْمٍ ومُسْتَمِعٌ ... وَاعٍ وغيرُهُما كَاللَّغْوِ والهَذَرِ (1) اللَّيلُ والنهارُ يَعْمَلان فِيْكَ فاعْمَلْ فيهما أَعمَالاً صَالحِةً تَرْبَح وتحمَد العَاقِبةَ الحَمِيْدة إن شاء الله تعالى. وَلَيْلُكَ شَطْرُ عُمْرِكَ فَاغْتَنِمْهُ ... ولا تَذْهَبْ بِشطْر العُمْرِ نَوْمَاً آخر: ... أَلاَ لَيْتَ أَنّي يَوْمَ تَدْنُو مَنِيَّتيْ ... ألازِمُ ذِكْرَ الله في كُلّ لحَظَةِ (2) الملائكةُ يَكْتُبَانِ مَا تَلفَّظَ به فاحْرَصْ عَلَى أنْ لا تَنْطِقَ إِلاَّ بِمَا يَسُرُّكَ يَوم القِيَامَةْ أَشرَف الأشيَاء قَلبُكَ وَوَقْتُكَ، فَإِذَا أَهْمَلْتَ قَلْبَكَ وَضَيَّعْتَ وَقْتَكَ، فَمَاذَا يبقى مَعَكَ، كُلُّ الفَوَائِدِ ذَهَبَتْ. شِعْراً: ... أمَّا بُيُوْتُكَ فِي الدُنْيَا فَوَاسِعَةٌ ... فَلَيْتَ قَبْرَكَ بَعْدَ الَمْوتِ يَتَّسِعُ (3) إعْلَم أنَّ قِصَرِ الأمَل عليه مَدَارٌ عظيم، وحِصَنُ الأمَل ذِكْرُ الموتِ، وحِصَنُ حِصْنه ذكر فجأة الموتِ وأخْذُ الإنسان على غِرَّةٍ وغَفِلةٍ، وهو في غِررٍ وفُتُورٍ عن العمل لْلآخِرَةِ. نَسْأَلُ الله أنْ يُوقِضَ قُلُوبَنَا إِنَهُ علي كل شيء قدير. اللهُم صلي علي محمد وآله وسلم. آخر: ... إذا كان رأسُ المال ِعُمْرُكَ فَاحْتِرزْ ... عَليه من الإِنْفَاقِ في غيرِ وَاجِبِ

نماذج من الفراسة وفي وسطها موعظة بليغة وقصيدة

ِبسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (فَصْلٌ) " فيِ نماذج مِنْ الفِرَاسَةِ " وكانَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَهُ فِرَاسَةٌ مِنْ ذَلَكَ أَنَّهُ أُتيَ يَوماً بِفَتىً أمردٍ قد وُجِدَ قَتِيلاً مُلقىً علي الأرضِ فسأل عُمَرُ عن أَمْرِهِ واجتهدِ فَلَمْ يَقِفْ لَهُ عَلَى خَبَرٍ فشقَّ ذلكَ عَليه. فَقَالَ: اللهُمَّ أَظْفِرنيِ بقَاتله حَتَّى إذا كان علي رأس الحَوْل وُجِدَ صَبِيٌّ مولودٌ مُلقىً بِمَوْضَع القتيل فأتي به عُمَرُ فَقَالَ: ظَفرتُ بِدَم القَتيْل إِنْ شَاءَ الله تَعَالَى فدفع الصبي إلي امرأة ترضعه وتقوم بشأنه، وقَالَ: خُذِي مِنا نفقتهُ وانْظُريْ من يَأُخُذُهُ مِنكِ فإذا وجدتِ امرأةً تُقَبِلُهُ وتضمهُ إلي صدرِهَا فأعلِمينيْ بِمَكَانهِا. فلما شبَّ الصَّبيُّ جَاءتْ جَاريةٌ فَقَالتْ للمرأةِ: إنَّ سَيَّدَتي بَعَثتنيْ إليكَ لتَبعثي بالصَّبيّ لتراهُ وترُدُّهُ إليْكِ. قَالَتْ: نَعَمْ إذهبي بِه إليهَا وَأنا مَعَكِ فَذَهَبتْ بالصبيَّ والمرأةُ مَعَهُ حتَّى دَخَلَتْ علي سيَّدتِهَا فلمَّا رَأتْهُ أخَذَتْهُ فَقَبَّلتْهُ وَضَمَّتْهُ إليْهَا. فإذَا هِيَ ابنةُ شَيخٍ منْ الأَنْصَارِ مِنْ أصحابِ النبيّ ? فأتت عُمَرَ فخبَّرَتهُ فاشتملَ عَلى سيفِهِ ثُمَّ أقبَلَ إلى منزل المرأة فوجد أباها متكئاً علي البابِ فقالَ: يا فُلانُ ما فَعَلتْ ابنتُكَ فُلَانَةُ؟ قَالَ: جَزَاهَا الله خَيراً يا أَمِيرَ المُؤمنينَ هِيَ مِنْ أَعْرَفِ النَّاس بحقَّ اللهِ وحَقَّ أبِيهَا مَعَ حُسْنِ صَلَاتِهَا وَصيَامِهَا وَالقِيَام بِدينِها.

فقالَ عُمرُ: قَدْ أحْببْتُ أن أَدْخُلَ إليْهَا فَأَزِيدَهَا رَغبةً في الخَير وأحُثَّهَا عَليهِ فَدَخَل أَبُوها وَدَخَلَ عُمَرُ معهُ فَأَمَر مَنْ عِنْدَهَا فخَرجَ وَبَقِيَ هُوَ وَالمرأةُ في البيْتِ فَكَشَفَ عُمَرُ عَن السَّيْفِ وَقَالَ لَتَصْدُقِيْني وإلاَّ ضربْتُ عُنُقَكِ وَكَانَ لا يَكْذِبُ. فَقَالَتْ: على رِسْلِكَ فَوَاللهِ لأَصْدُقَنَّ، إنَّ عَجُوْزاً كَانَتْ تَدْخُلُ عَلَيَّ فاتَّخذَتْهُا أماً وَكَانَتْ تَقُومُ مِنْ أَمْرِيْ كَمَا تَقُومُ بِهِ الوَالِدَةُ وَكُنْتُ لَهَا بِمَنْزِلَةِ البِنْتِ فَمَضَي لِذَلِكَ حِيْنٌ ثمَّ إِنَّها قَالَتْ: يَا بُنَيَّةُ إنّهُ قَد عرضَ ليْ سَفَرٌ وَلِيْ ابْنَةٌ فِي مَوِضِعٍ أتخوفُ عَلَيْهَا فِيهِ أَنْ تضِيْعَ وَقَدْ أحْبَبْتُ أَنْ أَضُمَّهَا إلَيْكِ حَتَّي أرْجِعِ مِنْ سَفِرَيْ. فَعَمَدَتْ إلي ابْنٍ لَهَا شَابٍ أمردٍ فَهَيَّئتْهُ كَهَيْئَةِ الجَارِيَةِ وَأَتَتْنِيْ بِهِ وَلَا أَشُكَّ أَنَّهُ جَارِيةٌ فَكَانَ يَرَي مِني مَا تَرَي الجَارِيَةُ مِن الجَارِيَةِ حَتَّى اغْتَفَلَني يَوْماً وَأَنَا نَائِمَةٌ فَمَا شَعَرْتُ حَتَّى عَلاَنِيْ وَخَالَطَنِيْ َفمَدَدْتُ يَدٍيْ إلى شَفْرَةٍ كَانَتْ إلي جَنْبِيْ فَقَتَلْتُهُ. ثُمَّ أَمَرْتُ بِهِ فَأُلْقِيَ حَيْثُ رَأيْت فاشْتَمَلْتُ مِنْه عَلَى هَذَا الصَّبِيّ فَلَمَّا وَضَعْتُهُ ألْقَيْتُهُ في مَوْضِعِ َأبِيهِ فَهَذَا واللهِ خَبَرُهُمَا عَلَى مَا أعْلَمْتُكَ. فَقَالتْ: صَدَقْتِ ثُمَّ أَوْصَاهَا وَدَعَا لَهَا وَخَرجَ وقَالَ لأَبِيْها: نِعْمَ الابْنَةُ ابْنَتُكَ ثُمَّ انْصَرَفَ. وَقَالَ نَافِعُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: بَيْنَمَا عُمَرُ جَالِسٌ إذْ رَأَى رَجُلاً فَقَالَ: لَسْتُ ذا دِرَايةٍ إنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الرَّجُلُ قّدْ كَانَ يَنْظُرُ في الكِهَانَةِ ادْعُوْهُ لِي. فَدَعَوْهُ فَقَالَ: هَلْ كُنْتَ تَنْظُرُ وَتَقُوْلُ في الكِهَانةِ شَيْئاً؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ مَالِكُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيْدٍ إنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ قَالَ لِرَجُلٍ: ما اسْمُكَ؟ قَالَ: جَمْرَةُ. قَالَ: ابْنُ مَنْ؟ قَالَ: ابنُ شِهَابٍ. قَالَ مِمَّنْ؟ قَالَ: مِنْ الحُرْقَةِ. قَال: أيْنَ

مَسْكَنُكَ. قَالَ: بِحَرَّةِ النَّارِ. قَالَ: أيُّهَا. قاَلَ: بِذَاتِ لَظَى. فَقَالَ عُمَرُ: أدْرِكْ أهْلَكَ فَقَدْ احْتَرَقُوا. فَكَانَ كَمَا قَالَ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ اتَّخَذْتَ مِنْ مَقَامِ ابْرَاهِيْمَ مُصَلَّى فَنَزَلَتْ الآية (وَاتَّخِذُوْا مِنْ مَقَام إبْرَاهٍيْمَ مُصَلَّى) وَقَالَ: يَا رَسُولُ اللهِ لَوْ أَمَرْتَ نِسَائَكَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ فَنَزَلَتْ آيَةُ الحِجَابِ َواجْتَمَعَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ? نِسَاؤُهُ في الغَيْرَةِ فَقَالَ لَهُنَّ: عُمَرُ عَسَى رَبُهُ إنْ طَلقَكُنَّ أنْ يُبْدِلَهُ أزْوَاجَاً خَيْرَاً مِنْكُنَّ فَنَزَلَتْ كَذَلِكَ. وَشَاوَرَهُ رَسُولُ الله ? في الأُسْرَى يَوْمَ بَدْرٍ فَأَشَارَ بِقَتْلِهِمْ، ونَزَلَ القُرآنُ بِمُوَافقتِهِ. وَرَوَى زَيدُ بْنُ أسْلمَ عن أَبِيْهِ، قَالَ: قَدِمَتْ عَلَى عُمَرَ بن الخطَّابِ رَضْيَ اللهُ عَنِهُ حُلَلٌ مِنْ اليَمَنِ فَقَسَمَها بَيْنَ النّاسِ فَرَأى فيها حُلَّةً رَدِيئةً فَقَالَ: كَيْفَ أَصْنَعُ بِهَذِهِ إنَّ أحَدَاً لَمْ يَقْبَلْهَا فَطَوَاهَا وَجَعَلَهَا تَحْتَ مَجْلِسِهِ وَأخْرَجَ طَرَفَهَا وَوَضَعَ الحُلَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَقسِمُ بَيْنَ النَّاسِ. فَدَخَلَ الزُّبَيْرُ وَهُو عَلَى تِلْكَ الحال فجعلَ يَنظُُرُ إلى تِلكَ الحُلةُ، فَقَالَ: ما هذه الحُلةُ؟ فقالَ: عُمَرُ دَعهَا عَنْكَ؟ قَالَ: مَا شَأنُهَا؟ قالَ: دَعْهَا. قَالَ: فَأعْطِنيْهَا. قَالَ: إنَّكَ لا تَرْضَاهَا. قَالَ: بَلَى قَدْ رَضِيتُهَا. فلَمَّا تَوَثَّقَ منه واشترَطَ عليه أن لا يَرُدهَا رَمَى بهَا إليه فَلَمَّا نَظَرَ إليها إذا هِي رِدِيْئةٌُ. قَالَ: لا أُرِيدُهَا. قالَ عُمَرُ: هَيْهَاتَ قَدْ فَرَغْتُ مِنها. فَأَجَازَهَا عليهِ وَلَمْ يَقْبَلْهَا. اللهُمَّ وَفَّقْنّا للهدَايَةِ وأبعِدْنَا عَنْ أَسْبَابِ الجَهَالَةِ وَالغَوايَةِ، اللهُمَّ ثَبّتْنَا عَلَى الإسْلامِ وِالسُّنَّةِ وَلا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إذْ هَديتنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إنَّكَ الوَهَّابُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنا وجميعِ المُسلمينِ برحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَاحِمين. وَصَلى اللهُ علَى مُحَمَّدٍ وَعَلى آلهِ وصحبِهِ أجْمَعِيْنَ.

(فَصْلٌ) وَمِنْ ذَلٍكَ أنَّهُ خَاصَمَ غُلامٌ منْ الأنْصَارِ أُمَّهُ إلى عُمَرَ بْنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه فجَحَدتْهُ فسألهُ البَيَّنَةَ فَلَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ وَجَاءتْ المَرأةُ بِنفَرٍ فَشَهِدُوا أنَّها لمْ تتَزوَّجْ وَأنَّ الغُلام كَاذبٌ عَليهَا وقَد قَذَفَها فَأمَرَ عُمَرُ بِضَربِهِ. فَلَقِيَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِىْ طَالِبٍ فَسَأَلَهُ عَنْ أَمِرِهِم فَأخْبَرَهُ فَدَعَاهُم ثُمَّ قَعَدَ في مسْجِدِ النبيّ صلي اللهُ عليه وسلم وسَألَ المَرأة فَجَحَدَتْ فَقَالَ للغُلامِ: اجحدْهَا كَمَا جَحَدَتْكَ. فَقَالَ: يَا ابْنَ عمَّ رَسُولِ الله صلي الله عليه وسلم إنها أمي. قال: اجْحَدْهَا وأنا أبُوكَ وَالحَسَنُ وَالحُسيْنُ أخَوَاكَ. قَالَ: قَدْ جَحَدْتُهَا وَأنكَرْتُهَا. فَقَالَ عَلِىُّ لأولياءِ المرأةِ أَمْريْ في هَذِهَ المَرأةِ جَائِزٌ. قَالُوا: نَعَمْ وَفِينَا أَيْضاً. فقَالَ: أُشِهِدُ مَنْ حَضَرَ أنّيْ قَدْ زَوَّجْتُ هذا الغُلامَ مِنْ هَذِهِ المَرْأةِ الغَرِيبةِ مِنْهُ يا قَنْبَرُ ائْتِنِيْ بِدَراهِمَ فأتاهُ فَعَدَّ أرْبَعْمَائةٍ وَثَمَانِيْنَ دِرْهَماً فَقَذَفَهَا مَهْراً لَهَا. وَقَالَ للغُلامِ خُذْ بَيَدِ امْرأَتِكَ ولا تَأْتِنَا إلاَّ وَعَلَيْك أثرُ العُرسِ فَلَمَّا وَلى قَالتْ المَرأةُ: يَا أبَا الحَسَنِ الله الله هُو النَّارُ هُوَ والله ابْنيْ. قَالَ: وكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالتْ: إنَّ أَبَاهُ كَانَ هَجِيناً – الهَجِيْنُ عَرَبيّ وُلدَ من أمةٍ أوْ مِنْ أبُوهُ خَيْرٌ مِنْ أُمَّهِ – وإنَّ إِخوِتي زَوَّجُونِي مِنهُ فَحَمَلْتُ بِهَذا الغُلام وخرجَ الرَّجُل غَازِيَاً فَقُتِلَ وَبَعَثْتُ بِهَذا إلي حَيّ بَنِي فُلانٍ فَنَشَأَ فِيهمْ وَأنِفْتُ أنْ يَكُونَ ابْنِيْ فَقَالَ عَلِيُّ: أنا أبُو الحَسَنِ وَأَلْحَقَهُ بِهَا وَثَبَّتَ نَسَبَهُ. وَمِنْ ذَلك أنَّ عُمرَ بن الخطَّابِ سَألَ رَجُلاً كيْفَ أَنْتَ؟ فَقَالَ: مِمَّنْ يُحِبُّ

الفِتنةَ ويَكْرَهُ الحَقَّ وَيَشْهَدُ عَلَى مَا لَمْ يَرَهُ. فأَمَرَ بِهِ إلى السَّجْنِ فأمَرَ عَلِيٌّ بِرَدَّهِ. فَقَالَ: صَدقَ. فَقَالَ: كَيْفَ صَدَّقتَهُ. قَالَ: يُحِبُّ المالَ والوَلدَ وَقَدْ قَالَ الله تعالى (إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) ، ويكرهُ الموتَ وَهُوَ الحَقُّ وَيَشْهَدُ أنّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ ولم يرهُ فَأَمَرَ عُمَرُ بِإطْلَاقِهِ وَقَالَ {اللهُ أعْلَمُ حيثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} . وَشَكَا شَابٌ إلى عَلي نَفَراً فَقَالَ: إنَّ هَؤلاء خَرَجُوا مَعَ أبي في سَفَرٍ فَعادُوا وَلم يَعُد أبِي فَسَألتُهُم عنهُ فَقَالُوا: ماتَ. فَسَألتُهُم عنْ مالِهِ فَقَالُوا: مَا تَرَكَ شَيْئاً وَكَانَ معهُ مالٌ كثيرٌ وَترافعْنا إلي شُرَيْحٍ فاَسْتَحْلَفَهُم وَخَلَّى سبيلهُم. فَدَعَا عَلِىُّ بالشُّرطِ فَوَكَّلَ بِكُلَّ رَجُلٍ مِنهُم رَجُلينِ وَأَوْصَاهُمْ أنْ لا يُمْكِِنُوا بَعْضَهُمْ أنْ يَدْنُو مِنْ بَعْضٍ وَلا يُمَكِّنُوا أحَدَاً يُكلمُهُمْ وَدَعَا كَاتِبَهُ وَدَعَا أَحَدَهُمْ فَقَالَ: أخْبِرْنِي عَنْ أَبِ هَذَا الفَتَى أيَّ يوم خَرجَ مَعَكُمْ وَفي أي منزلٍ نَزَلتُمْ وَكيْفَ كَانَ سَيْرُكُمْ وَبِأَيَّ عِلَّةٍ مَاتَ وَكَيْفَ أُصِيبَ بِمَالِهِ وَسألَهُ عَمَّنْ غَسَّلَهُ وَدَفَنَهُ وَمَنْ تَوَلَّى الصَّلاَةَ عَلَيْهِ وَأَيْنَ دُفِنَ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالكَاتِبُ يَكْتُبُ. فَكَبَّرَ عَلِيٌّ وَكَبَّرَ الحَاضِرُونَ وَالمُتَّهَمُونَ لاَ عِِلْمَ لَهُمْ إِلا أنهُمْ ظَنُّوا أنَّ صَاحِبَهُم قَدْ أَقَرَّ عَلَيْهِم. ثُمَّ دَعَا آخَرَ بَعْدَ أنْ غَيَّبَ الأوَّلَ عَنْ مَجْلِسِهِ فَسَألَهُ كَمَا سَأَلَ صَاحِبَهُ ثُمَّ الآخَرَ كَذَلِكَ حَتَّى عَرَفَ ما عِنْدَ الجَميعِ فَوَجَدَ كُلَّ واحدٍ يُخبِرُ بِضِدَّ مَا أخبرَ به صَاحِبَهُ ثم أمرَ برَدَّ الأول فقالَ يَا عَدُوَّ اللهِ قَدْ عَرَفْتُ غَدْرَتُكَ وكَذِبَكَ بِمَا سَمِعتُ مِنْ أصْحَابِكَ ومَا يُنْجِيْكَ من العُقُوبَةِ إلا الصَّدقُ ثم أمَرَ بِهِ إلى السجنِ وَكَبَّرَ وَكَبَّرَ مَعَهُ الحاَضِرُونَ. فَلَمَّا أبْصَرَ القَوْمُ الحَالَ لم يشُكُّوا أنَّ صَاحِبَهُمْ أَقَرَّ عَليهِم فَدَعَا آخَرَ مِنْهم فَهَدَّدَهُ فَقَالَ: يَا أمِيَر المؤمنينَ واللهِ لقد كُنتُ كَارِهاً لما صَنَعُوا ثُم دعَا الجَمِيعَ

فَأقرُّوا بالقِصَّةِ وَاستدْعى الذِي في السَّجْنِ وَقَالَ لَهُ: قَدْ أقرَّ أصحَابكَ وَلاَ يُنْجِيكَ سِوَى الصَّّدق فأقرَّ بكُل مَا أقرَّ بِهِ القَوْمُ فَأغْرَمَهُمْ المَالُ وَأقَادَ مِنْهُمْ بالقَتِيْلِ. اللهُمَّ أرْحَمْ غُرْبَتَنَا في القُبُورِ وَآمِنَّا يَوْمَ البَعْثِ والنُّشُورِ واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع المُسْلمِينَ بِرَحْمتَكَ يَا أرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ وَصَلى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصْحبِهِ أَجْمَعِين. (فصلٌ) وَمِنْ ذَلِكَ أنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ دَفَعَا إلى امرأةٍ مِائَةَ دِيْنَارٍ وَدِيْعَة وَقَالا: لا تَدْفَعِيْهَا إلى وَاحِدٍ مِنا إلا وَمَعَهُ صَاحِبهُ، فَلَبَثَا حَوْلاً فَجَاءَ أَحَدُهُمَا فقالَ: إنَّ صَاحِبيْ قَدْ مَاتَ فَادْفَعِيْ إليَّ الدَّنَانِيرَ فَأَبَتْ، وَقَالَتْ: إِنَّكُمَا قُلتُمَا لا تَدفِعِيْهَا إلى واحِدٍ مِنّا دُوْنَ صَاحِبِه فَلَسْتُ بِدَافِعَتِهَا إلَيْكَ، فَثَقَّلَ عَلَيْهَا بِأهْلِهَا وَجِيْرَانِهَا حَتَّى دَفَعْتَهَا إلَيهِ. ثُمَّ لَبِثَتْ حَوْلاً آخَرَ فَجَاءَ الآخَرُ فَقَالَ: ادْفَعِيْ إلَيَّ الدَّنَانِيْرَ. فَقَالَتْ: إنّ صَاحِبَكَ جَاءَنيْ فَزَعَمَ أنكَ قَدْ مُتَّ فَدَفعْتُها إليهِ. فَاخْتَصَمَا إلَى عُمَرَ رَضيَ اللهُ عَنْهُ فَأَرادَ أنْ يَقْضيَ عَليْهَا فقالَتْ: ادْفَعْنَا إلَى عَلِيّ بْنِ أبِيْ طَالبٍ رَضْيَ اللهُ عَنْهُ فَعَرفَ عَلِيّ أَنَّهُمَا قَدْ مَكَرا بِهَا. فَقَالَ: أَليْسَ قُلتُمَا لا تَدْفَعِيْهَا إلَى وَاحِدٍ مِنَّا دُوْنَ صَاحِبِه. قَالَ: بَلَىَ. قَالَ: مَالُكَ عِنْدَها فَاذْهَبْ فَجِئْ بِصَاحِبَكَ حَتَّى تَدْفَعهُ إليْكُما. وَاخْتَصَمَ إلَى إيَاسِ بْنِ مُعاويةَ رجُلانِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا إنَّهُ بَاعِنِيْ جَارِيَة رَعْنَا فَقَالَ إيَاسٌ: وَما عَسَى أنْ تَكُونَ هَذِهِ الرُّعُوْنَةُ؟ قَالَ: شِبْهُ الجُنونُ. فَقَالَ إيَاسٌ: لِلجَارِيَةِ أتَذْكُرِينَ مَتَى وُلِدْتِيْ؟ قَالتَ: نَعَمْ. قَالَ: فأيُّ رِجْليْكِ أطوَلُ؟ قَالَتْ: هَذِهِ. فقالَ إيَاسٌ: رُدَّهَا فَانَّهَا مَجْنُونَةٌ.

وتَقََدَّمَ إلى إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَقالَ إيَاسٌ: أَمَّا احدَاهُنَّ فَحامِلٌ وَالأخَرى مُرْضِعٌ والأخَرى ثيّبٌ والأخْرى بِكرٌ فَنَظَرُوا فَوَجَدَوا الأمْرَ كَما قَالَ. قَالُوا: كَيْفَ عَرَفْتَ؟ فَقَالَ: أمَّا الحامِلُ فَتْرَفُع ثَوْبَها عَنْ بَطْنِهَا وَهِيَ تُكَلمّنُيْ فَعلِمْتَ أنَّها حَامِلٌ، وأمَّا المُرضِعُ فَكانَتْ تَضْرِبُ ثدْيَها فَعلِمْتُ أنَها مُرضِعٌ، وأمَّا الثَّيَّبُ فكانتْ تُكلِمُنِيْ وَعينُها في عَيْنِيْ فَعلِمتُ أنَّها ثيَّبٌ. وَأمَّا البِكْرُ فَكَانَتْ تُكلمنِيْ وَعَينُهَا في الأَرضِ فَعَلِمْتَ أنَّهَا بِكْرٌ، وقَالَ المدَائِنِيّ عَنْ رَوْح اسْتَوْدَعَ رَجُلٌ رَجُلاً مِنْ أبْنَاءِ النَّاسِ مالاً ثُمَّ رَجَعَ فَطلَبَهُ فَجَحَدَ فَأتَا إيَاساً فَأخْبَرَهُ فَقَالَ لهُ إيَاسُ: انْصَرِفْ فَاكْتُمْ أمْرَكَ وَلا تُعْلِمْهُ أنَّكَ أتَيْتَنِيْ ثم عُدْ إليَّ بَعْدَ يَوْميْنِ. فَدَعَا إيَاسٌ الْمُودَعَ فَقَالَ: قَدْ حَضَرَ مَالٌ كَثيرٌ وَأرِيْدُ أنْ أُسَلمَه إلَيكَ أفحَصِيْنٌ منزِلُكَ؟ قالَ: نَعَمْ. قَالَ: فأَعِدَّ لهُ مَوضِعَاً وَحَمَّالينَ وَعادَ الرَّجُلُ صَاحِبُ الوَديعَةِ إلي إيَاسٍ. فَقَالَ انطلقْ إلي صَاحِبَكَ فاطْلُبْ المَالَ فَإنْ أعْطَاكَ فَذَاكَ وَإنْ جَحَدَكَ فَقُلْ لَهُ إنَّيْ أخبِرُ القاضِي فَأتى الرَّجُلُ صَاحِبُه فَقالَ: مَالِي وَإلا أَتَيْتُ القَاضِيْ وَشَكْوتُ إِليهِ وَأخبَرتُه بِأمْري، فَدَفَعَ إِلَيهِ مَالَهُ فَرَجَعَ الرَّجُلُ إلي إِيَاسٍ فَقَالَ: قَدْ أعْطَانِيْ المالَ. وَجَاءَ الأَمِيْنُ إلَي إيَاسٍ لِوَعْدِهِ فَزَجَرَهَ وَانْتَهَرَهُ وَخَجَّلَهُ وَقَالَ: لاَ تَقْرَبْنيْ يَا خَائِنُ. وَتَقَلَدَ القَضَاء َبِوَاسَطَ رَجُلٌ ثِقَةٌ فَأَوْدَعَ رَجُلٌ بَعْضَ شُهودِهِ كِيساً مَختُومَاً ذَكَر أنَّ فِيْهِ ألفَ دِينَارٍ. فَلَمَّا طَالَتْ غَيْبَةُ الرَّجُلِ فَتَقَ الشَّاهِدُ الكِيسَ مِنْ أَسفَلِهِ وَأَخَذَ الدَّنانِيْرَ وَجَعَلَ مَكانَها دَرَاهِمَ وأعَادَ الخِيَاطَةَ كَمَا كَانَتْ.

وَجَاءَ صَاحِبُ الكِيْسِ فَطَلَبَ وَدِيْعَتَهُ فَدَفَعَ إلَيْهِ الكِيْسَ بِخَتْمِهِ لَمْ يَتَغَيّر فلمَّا فَتحهُ وَشَاهَدَ الحَالَ رَجَعَ إليهِ وقَالَ: إنّيْ أوْدَعْتُكَ دَنَانْيِرَ وَالتِيْ دَفَعْتَ إليَّ دَرَاهِم. فَقَالَ: هُوَ كِيسُكَ بِخَاتَمِكَ فاسْتَعْدَي عَليهِ القَاضِيْ فَأَمرَ بِإحضَارِ المُودَعِ فلمَّا صَارَ بَيْنَ يَدَيهِ قَالَ القَاضِيْ: مُنْذُ كَمْ أوْدَعَكَ هَذَا الكٍيسُ فقالَ: مُنْذُ خمَسَة عَشَر سَنَةً. فَأَخَذَ القَاضِيْ تِلْكَ الدَّراهِمَ وَقَرَأَ سِكَّتَها فَاذا فِيْهَا مَا قد ضُرب مِنْ سَنَتَينِ وَثَلاثٍ فَأمَرهُ بِدَفْعِ الدَّنَانِيْر إلَيهِ وَأسْقَطَهُ وَنَادَى عَلَيْهِ، وَاسْتَوْدَعَ رَجُلٌ لِغَيرهِ مَالاً فَجَحَدهُ فَرفعَهُ إِلى إيَاسِ فَسَألهُ فَأنكَرَ. فَقَالَ لِلمُدَّعِيْ أَيْنَ دَفَعْتَ إِلَيهٍ فَقَالَ في مَكَانِ كَذا في البَرَّيَّةِ. فَقَالَ: وَمَا كانَ هُنَاكَ؟ قَالَ: شَجَرةٌ. قَالَ: اذْهَبْ إلَيْهَا فَلعَلَّكَ دَفَنْتَ المَالَ عِنْدَها وَنَسِيْتَ فَتَذكُرَ إذَا رَأيْتَ الشَّجَرَةَ فَمَضَى وَقَالَ لِلْخَصٍمِ: اجْلِسْ حَتَّى يَرْجِعَ صَاحِبُكَ وَإيَاسٌ يَقْضِيْ وَينظُرُ إليهٍ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةً. ثُمَّ قَالَ: يا هَذَا أتَرَى صَاحِبَكَ بَلَغَ مَكَانَ الشَّجَرَةِ قَالَ: لاَ. قَالَ: يا عَدُوَّ اللهِ إنَّكَ خائِنٌ. قَالَ أقِلنِي قَالَ أقَالَكَ اللهُ فَأمَرَ مَنْ يَحْتَفِظُ بِهِ حَتَّى جَاءَ الرَّجُلُ فَقَالَ لهُ إيَاسٌ اذْهَبْ مَعَهُ فَخُذْ حَقَّكَ. وَتَقَدَّمَ رَجُلٌ شَيْخٌ أَيْ كَبِيرُ السَّنَّ ومَعَهُ غُلام حَدَثٌ أيْ صَغِيرٌ إلي القَاضِيْ أبِي حَازِمٍٍٍ فَادّعَى الشَّيْخُ على الغُلامِ بألٍفْ دِينارٍ دَيناً فَقَالَ مَا تَقُولَ قَال نَعَمْ فقَالَ القَاضِيْ للشَيخِ مَا تُرِيْدُ قالَ احِبْسُه قَال لا. فَقَالَ الشَّيْخُ إنْ رَأَى القاضِيْ أنْ يَحبِسَهُ فَهُوَ أرْجَى لِحُصُولِ مَالِي فَتَفَرَّس أبُو حَازِمٍ فِيْهَما سَاعَةً ثم قالَ تَلَازَما حَتّى أنْظُرَ في أمْرِكُمَا في مَجلِسٍ آخرَ فقَالَ لهُ مُكرِمُ بْنُ أحْمَدٍ لمَاذَا أخَرَّتَ حَبْسَهُ فَقَالَ وَيْحَكَ إنَّي أعرِف في

أكثَرِ الأَحْوَالِ في وُجُوْهِ الخُصُوْمِ وَجْهَ المُحِقَّ مِن المُبطلِ وَقد صَارَتْ لِيْ بذلِكَ دِرَاية لا تكادُ تُخْطِئ. وَقَدْ وَقَعَ لِيْ أنَّ سَمَاحَهُ هَذا بالإقرَارِ عَيْنُ كَذِبِه وَلعلهُ يَنكَشِفُ لِي من أمْرهِمَا مَا أكُوْنُ مَعَهُ عَلى بَصِيرةٍ أمَا رَأَيْتَ قِلَّةَ تَعَاصِيهِمَا في المُناكَرَةِ وقلَّةِ اختلافِهِمَا وَسُكْون طِبَاعِهِمَا مَعَ عِظَمِ المالِ ومَا جَرَتْ عَادَاتُ الأحْدَاثِ بِفرطِ التَّورُّع حَتَّى يُقِرَّ بمِثلِهِ طَوْعاً عَجِلاً مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ عَلى هَذَا المالِ. قَالَ ونحن عَلى ذَلِكَ نَتَحَدَّثُ إذْ أتَي الآذِنُ يَسْتَأذِنُ عَلى القَاضِي لِبَعضِ التُجَّارِ فَأذِنَ لَهُ فَلَمَّا دَخَل قَالَ أصْلَحَ القَاضِيْ إني بُلِيتُ بوَلدٍ حَدَثٍ صغِيرٍ يُتْلِفُ كُلَّ مَا يَظفَرُ بِهِ مِنْ مَاليْ في القِنَانِ عِنْدَ فُلانٍ فَإذَا مَنَعْتُهُ احْتَالَ بِحيَلٍ تَضْطَرُّنيْ إلي الْتِزَام العُزْمِ عنهُ. وَقَدْ نَصَبَ اليَومَ صاحِبُ القِنَانِ يُطَالِبُ بِأَلْفَ دِينارٍ حالاً وبَلَغَنيْ أنَّهُ تَقَدَّمَ إلي القَاضِيْ لِيُقِرَّ لَهُ فَيَسْجُنَهُ وَأقَعُ مَعَ أمَّهُ فِيمَا يُنكد عَيشَنَا إلي أن أقْضِيَ عنهُ فَلَمَّا سَمِعتُ بِذلِكَ بَادَرْتُ إلى القَاضِيْ لأشْرَحَ لَهُ أمْرَهُ. فَتَبَسَّمَ القَاضِي وقَالَ كَيْفَ رَأَيْتَ فَقُلتُ هَذَا مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلى القَاضِيْ فَقَالَ عَلَيَّ بالغُلامِ والشَّيخِ وَوَعَظَ الغُلامَ فَأَقَرَّ فَأَخَذَ الرَّجُلُ ابْنَهُ وانْصرَفَا. قال عَمْرو بن نُجِيْد كان شَاهُ الكَرْمَاني حَادٌ الفِراسَةِ لا يُخْطِي ويَقُولُ مَن غَضَّ بَصَرَهُ عَن المَحَارِم وَأَمْسَكَ نَفَسَهُ عَن الشهوات وَعَمَرَ بَاطِنَهُ بالمُرَاقَبَةِ وظَاهِرَهُ باتباع السُنة وتعَوَّدَ أَكْلَ الحَلالِ لم تُخُطِئ فِرَاسَتُه. واللهُ أعْلَمُ وَصَلى اللهُ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. . . مَوعظة: عِبَادَ اللهِ تيَقَّظُوا فَالعِبَرُ مِنْكُم بِمَرْأَى وَمَسْمَعٍ، وطَاَلمَا نادَاكُم لِسانُ الزَّوَاجر عَن الانْهمَاكِ في الدُّنيا وَحُطَامِهَا والتَّهَالُكِ عَلَيْهَا فَاسْمْعَ.

عِبَادَ اللهِ احذَرُوا أنْ تَكُونُوا مِثْلَ مَنْ قَدْ مَحَّضُوْا لِلْدُّنْيَا كُلَّ مَا لهُم مِنْ أَعمَالٍ وَأَصْبَحُوا لا يَقْصِدُونَ بِتَصَرُّفَاتِهِم إلاَّ الدُنيَا وأمّا الآخِرة فلا تخطُرُ لهُم عَلى بَالٍ. أخَذَتْ الدُّنيَا أسمَاعَهُم وأبصَارَهُم وعُقُولهَمُ بِمَا فِيهَا مِن الزَّخارِفِ الوَهْمِيَّةِ التيْ هِيَ مَرَاقِدَ الفَنَاءِ وَمَرَابِضُ الزَّوَال وَقَواتِلُ الأوْقَاتِ. وَهَلَ هِيَ إلا الأَلْعَابُ والمَلاهِي المُشَاُر إلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالى {اعْلَمُوا إنما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الامْوَالِ وَالأولاَدِ} الآية وقوله {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الأخرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} وقوله {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} الآية، عِبَادَ اللهِ، كُلُّ مَا تَرَوْنَ مِن البَلاَيَا وَالمِحَنِ مِنْ أجْلِ الدُّنيا وَمَا لَهَا مِن مَتَاعٍ حَقيرٍ. عَجَبٌ أنْ يَكُونَ كُلُّ هَذَا الاهْتِمَامِ مِنْ أجْلِ دارِ الغُرُوْرِ وأيَّامِهَا المَعْدُودْةِ، وَكُلُّ مَا فِيهَا مِنْ لذائذَ مَعلُومٌ أنَّهَا مُنَغَّصَات ثُمَّ مْنُتَهِيَاتٍ ذَلِكَ فَوْقَ أنَّ الأرزاقَ فِيهَا قَدْ ضمِنَهَا اللَّطِيفُ الخَبيُر خَالِقُ كُلُّ شَيءٍ الذِي مَا من دابةٍ في الأرض إلا عليه رِزقُهَا. وَهَل يَشُكُّ مُؤمِنٌ عاقِلٌُ في مَا ضَمِنَهُ مَوْلاَهُ الغَنِيُّ الحَميدُ لقدْ كانَ الأجدَرُ والأولَي بِهَذا الإهتمام حَياتَنَا الثَانِيَة لإنهَا دارُ القَرَارِ ولأنَّهَا إذا فاتتكَ فِيهَا دَارُ الكَرَامَةِ هَوَيْتَ في الهَاوِيَةِ وأنتَ لا تَدْرِي هَلْ أنتَ مِنْ فرِيقِ الجَنَّةِ أمْ مِنْ فَرِيقِ السَّعِيرِ. فَتَيَقَّظَ يَا من ضَاعَ عُمرُهُ في الغَفََلات! انْتَبِهْ يَا مَنْ يَقْتُلُ أوقاتهُ عند الملاهِي والمنكراتِ. يَا أسَفىَ على أوقاتٍ لا تُباعُ بملءَ الأرضِ ذهَباً تُضَيَّعُ عِنْدَ التَّلفْزْيُونِ والفِديُو والسِيْنَمَاَت والبكمات ولَعِبِ الأوَرَاقِ المحُرّمَات.

شِعْراً: ... أَحْذِرْك أحَذِرْك لا أحْذرك واحِدَةً ... عن المَذاَييعِ والتَّلفَازِ والصُّحُفِ كَمْ عِنْدَهَا ضاعَ مِن وقْتٍ بلا ثَمَنٍ ... لو كان في طاعَةِ أَحْرَزْتَ لِلشَّرَفِ آهٍ على أوقاتٍ تُقتلُ عِنْدَ المَذيَاعِ وَاسْتِمَاعِ أَغَانِيهِ وَمَلاهِيهِ الْمُهْلِكَاتِ. آهٍ عَلَى سَاعَاتٍ تمضي عِنْدَ الكُرةِ والمُطْرِبينَ والمُطْرِبَاتِ. آهٍ على أوقاتٍ وتفكيراتٍ تذهبُ في قِراءة الكُتُبِ الخليعةِ والجَرائدِ والمَجلاتِ. آهٍ على أوقاتٍ تنقضي في الإقامةِ بين أعدِاء اللهِ ورسولِه. آهٍ على أوقاتٍ تقتل في الغِيبةِ والبُهتِ والتملقِ والنفاقِ والمدَاهَنَاتِ. آهٍ على أوقاتٍ تقتل في الجلوس في الأسواق لا لمصلحة دنيا ولا دينٍ بل لأمورٍ عند أهل الضياع معلومات. آهٍ على أوقاتٍ تُقضى في بلادِ الحُرَّيةِ والفِسقِ والفُجُوْرِ والأمور المهلكات. آهٍ على أوقاتٍ تقتل بالحكايات المضحكاتِ والتَّمْثِيليَاتْ. آهٍ على أوقاتٍ تَنقضي بِلَغو الكلامَ والمُغَازَلات لأهل المعاصي والمنكرات. آهٍ على أوقاتٍ تَنقَضي في الاستماع لِلأغَاني الخَلِيعَاتِ. آهٍ على أوقاتٍ تَمضِيْ في السُّكْرِ وَشُربِ أبي الخَبَائِثِ الدُّخَانْ. آهٍ على أوقاتٍ تُقتلُ في ذِكرِ الحَوَادثِ والأمُورِ المَاضِيَاتِ التي لا تَعُودُ عَليهم بنفعٍ بل ربما عادتْ بالضررِ والنّكباتِ. آهٍ على أوقاتٍ تذهب سُدَى في النَّومِ والغَفَلاتِ. ومن يَقْطَعِ الأوقاتَ في غيرِ طاعةٍ ... سَيندَمُ وقَتاً لا يُفيدُ التَّنَدُّمُ آهٍ عَلى أمْوال تْنَفقُ فْيمَا يُغْضِبُ فَاطَر الأرض والسَّمَوَات وعلى أمْوَال تُبذَلُ للخَدَّامِينَ والخدّمات الكَافِرينَ والكافِرات.

آهٍ على ألسنةٍ لا تفترُ عَن الكَلامِ فِيمَا يَضُرُّ وَلمْ تَسْتبدِلْهُ بِتَمْجِيْد وَتَسْبِيْحِ وَتَكْبِير وَتَهْلِيلِ بَديع ِالأرضِ والسَّمواتِ. آهٍ على أفكارٍ وأذهانٍ مَصْرُوفةٍ ومُشْتَغِلةٍ طوْل لَيلِهَا وَنَهارِهَا فَيْمَا في الدُّنيا مِنْ مَتَاعٍ وعَقَاراتٍ وَلَمْ تُفكَّرْ وَتَلْتَفِتْ وتَسْتعِدّ إلى مَا في أمامهَا مِنْ أهْوْالٍ وشدائِدَ وعَقَباتٍ ومَا في الآخِرةِ لِمنْ أَطَاعَ اللهَ مِن أنهارٍ وثمارٍ وحُورٍ حِسانٍ طَاهِراتٍ. تاللهِ لقد فَسَدَتْ أمزِجَةُ أكْثَر النَّاسِ حَتَّى أثَّر فَسَادُهَا عَلي الأفهَامِ لذَلكَ رَجَّحُوا فانياً مُكدراً مُنَغَّصًا عَلى باقٍ ضَمِنَ صَفوهُ مُوْلي الأنعَامِ وَهَاهُم أولاءِ كَمَا تَرَى لا هَمَّ لَهُمْ وَلا عَمَل إلا للدُّنيَا ومَا لها مِنْ حُطامٍ قَالَ تَعَالى {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالأخرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَي} . عِبَادَ اللهِ أما سَمِعتُمْ قَوْلَ نَبِيَّكُمْ ?: " أبشُروا وَأمَّلُوا ما يسُرُّكم فَوَاللهِ مَا الفَقرَ أخْشَى عَليْكُم، وَلَكِنْ أخْشَى أن تُبْسَطَ الدُنيا عَلَيْكُم كَمَا بُسِطَتْ عَلى من كانَ قَبْلََكُمْ فَتَنَافَسُوْهَا كَما تَنافَسُوهَا فَتُهَلِككم كَما أهلكتْهُم ". رَوَاهُ البُخَارِىّ ومُسلِمٌ. وَخِتَاماً: فَيْنَبَغِيْ لِلعَاقِل أنْ يَعْرفَ شَرَفَ زَمَانِهِ وَقَدْرَ وَقْتِهِ فَلا يُضِيْعُ مِنْهُ لحظةً في غير قُربةٍ وَيُقَدَّمَ الأفضَلَ فالأفْضَلَ مِنْ القَوْلِ والعَمَل. فوائد: كُلُ مَا يقومُ به غَيْرُكَ ويحصَلُ بذَلِكَ غَرضُكَ فإن تَشَاغِلك به غَبْنٌ فاحِش لأنَّ إحتياجُكَ إلى التشاغل بما لا يقوم به غيرُكَ مِن العلم والعمل والذِكر والفِكر آكدُ والْزَمَ وأنْفَع. أعلم أن ما احْتَجْتَ إلى مفارقته وتركه للناس فَلَيْسَ لَكَ والشُغْلُ بما لَيَس لَكَ عَبَث. وما المرءُ إلَّا رَاكبٌ ظَهْرَ عُمرِه ... عَلى سَفَرٍ يُفْنِيهِ في اليوم والشهرِ يَبيْتُ ويضحي كلَّ يَومٍ وليْلَةٍ ... بَعِيْداً عن الدُّنيَا قَريباً إلى القبرِ آخر: ... آنَ الرّحِيْلُ فَكَنْ على حذَرٍ ... ما قَدْ تَرىَ يُغنِي عن الحَذَرِ لا تَغتِرَرْ باليَومِ أوْ بِغَدٍ ... قُلوُبُ المَغْرُورِيْنَ عَلىَ خَطَرِ

آخر: ... دَخَلَ الدُنيَا أُنَاسٌ قبْلَنَا ... رَحَلُوْا عَنْهَا وَخلوْهَا لَنَا ونَزَلْنَاهَا كما قدْ نَزلَوا ... ونُخَلّيِهَا لِقَوْمٍ بَعْدَنَا آخر: ... إذَا كَانَ رأس المالِ عُمْرُكَ فَاحْتَرِزْ ... عَليهِ مِن الإنفاقِ في غَيْرِ واجبِ آخر: ... عِلمِي بِعَاقبة الأيامِ تَكْفِينِي ... وما قَضَى الله لَيْ لابُدَّ يَأتِينِيْ ولا خلافَ بأنَّ الناسَ مُذُ خُلقُوْا ... فيما يَرمُونَ مَعْكُوسَ القَوَانِيْنِ إذْ يُنْفِقُوْا العُمْرَ في الدُنيَا مُجازفةً ... والمالُ يُنفقُ فيهَا بالموازينِ آخر: ... ستَبكي رجالٌ في القيامةِ حسرةً ... عَلى فوتِ أوقَات زَمَان حَيَاتِهَا اللهُم نوّرْ قُلُوبَنَا بنُور الإيمانِ وأعنَّا على أنفَسِنَا والشَّيطان وأيّسْهُ مِنا كما أيَّستَهُ مِن رَحمتِكَ يا رَحْمَان وآتِنَا في الدُّنيَا حَسنةً وفي الأخرةِ حسنةً وَقِنَا عَذابَ النَّار، واغفِر لَنَا وَلَجَمِيِع الُمسلمينَ بِرحمتكَ يَا أرحَمَ الرَّاحِمينَ وصلي الله علي محمدٍ وعَلى آلِهِ وصَحبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) أَتَتْ عُمَرَ امرَأَةٌ فَشَكَتْ عِنَدهُ زَوْجَهَا وَقَالتْ هُوَ مِنْ خَيْرَ أَهْلِ الدُّنيَا يَقُومُ اللَيلَ حَتَّى الصَّباحِ وَيَصَوم النَّهار حتي يُمسي ثُمّ أدرَكهَا الحَيَاء فقال عُمَرُ: جَزَاكِ اللهُ خَيْراً فَقَدْ أَحْسَنْتِ الثَّنَاءَ. فَلَمَّا وَلَّتْ قَالَ لَهُ كَعْبُ بْنُ سُوْرٍ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ لَقَدْ أَبْلغَتْ إليكَ في الشَّكوَى، فَقَالَ وَمَا اشْتَكَتْ قَالَ زوْجَهَا، قَال عَلَيَّ بِهَا فَقَالَ لِكعْب: اقْضِ بَيْنَهُمَا، قَالَ أَقْضِ وَأَنتَ حَاضِرٌ، قَالَ إنَّكَ قَدْ فَطِنْتَ لِمَا لَمْ أفْطَنْ لَهْ. قال كعب إن الله يقول {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} صُمْ ثلاثَةَ أيّامٍ وَافْطِرْ عِنْدَهَا يَوْماً وَقُمْ ثَلاثَ لَيَالٍ وَبِتْ عِنْدَها لَيْلَةً. فَقَالَ عُمَرُ هَذَا أَعْجَبُ إلَيَّ مِِن الأوَّل فَبَعَثَهُ قَاضياً لأهلِ البَصْرةِ فكَانَ يَقَعُ لَهُ مِنْ الفِرَاسَةِ أُمُوْرٌ عَجِيْبَةٌ. قَالَ رَحِمَهُ اللهُ وَمِنْ دَقِيْقِ الفِرَاسَةِ أنَّ المَنصُورَ جَاءَهُ رَجُلٌ فَأَخْبَرَهُ أنّهُ

خَرَجَ فِي تِجَارَةٍ فَكَسِبَ مَالاً فَدفَعهُ إلى امْرَأَتِهِ ثُمَّ طَلبَهُ فَذَكرَتْ أنَّهُ سُرِقَ مِنْ البَيْتِ وَلَمْ يَرَ نَقْبَاً وَلا أَمَارَةً فَقَالَ لهُ المَنْصُوْرُ: مُنْذُ كَمْ تَزَوَّجْتَهَا؟ قَالَ: مُنْذُ سَنَةٍ، قَالَ: بِكْراً أو ثَيَّباً؟ قَالَ: ثَيَّباً؟ قَالَ: فَلَهَا وَلَدٌ مِنْ غَيْرِكَ؟ قَالَ: لا. فَدَعَا لَهُ المَنْصُوْرُ بِقَارُوْرَةٍ طِيْبٍ يَتَّخذُهُ لَهُ حَادُّ الرَّائِحَةِ غَرِيْبُ النَّوعِ فَدَفَعَهُ إِليْهِ وَقَالَ تَطَيَّبْ مِنْ هَذَا الطَّيْبِ فَإنَّهُ يُذْهِبُ غَمَّكَ فَلمَّا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ عِنْدِهِ قالً المنصُورُ لأربَعَةٍ مِنْ ثِقَاتِهِ لِيقْعُدْ مِنْكُمْ كُلُّ واحِدٍ عَلى بَابٍ مِن أبْوَابِ المَدِينَةِ فَمَنْ شَمَّ مِنْكُمْ رَائِحَةَ هَذا الطَّيْبِ مِنْ أحدٍ فَليَأتِ بِهِ، وَخَرَجَ الرَّجُلُ بالطيبِ ودَفَعَهُ إلى امرأتهِ فَلَمَّا شَمَّتْهُ بَعَثَتْ مِنْهُ إلى رَجُلٍ كَانَتْ تُحِبُهُ وقدْ كَانَتْ دَفَعَتْ إليهِ المَالَ. فَتَطَيَّبَ مِنْهُ وَمَرَّ مُجْتَازاً بِبَعْض أَبْوَابِ المَدِيْنَةِ فَشَمَّ المُوَكَّلُ بِالبَابِ رَائِحةً طيَّبَةً فَأتى به المَنصُورَ فَسَألهُ مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذا الطَّيْبِ؟ فَلَجْلَجَ في كَلامِهِ فَبعَثَ بِه إلى وَالِيْ الشُّرطَةِ فقال: إنْ أَحْضَرَ لك كَذا وكَذا مِنْ المالٍ فَخَلَّ عَنْهُ وَإلا اضْرِبْهُ ألْفَ سَوْطٍ. فَلَمَّا جُردَ لِلضربِ أَحضَرَ المال على هَيئَتِهِ فدعَا المَنصُورُ صَاحِبَ المَالِ فقالَ " إنْ رَدَدْتُ إليْكَ مالَك تُحَكِمَنِيْ في امْرَأَتِكَ قَالَ: نَعَمْ؟ قالَ: هَذا مَالُكَ وَقَدْ طَلَّقْتُ المَرأَةَ مِنْكَ. قَالَ وَمِن عَجِيْبِ الفِرَاسَةِ مَا ذُكِرَ عَنْ أَحْمَدِ بْنِ طُوْلُوْنَ أنَّهُ بَيْنَما هُوَ جَالِسٌ في مَجْلِسٍ لَهُ يَتَنَزَّهُ فَيْهِ إذْ رَأى سائلاً في ثَوْبٍ خَلِقِ فَوضعَ لهُ دَجَاجَةً عَلى رَغِيْفٍ وَحَلْوَى وأَمَرَ بَعَضْ الغِلْمَانِ فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ فَلَمَّا وَقَعَ في يَدِهِ وَأخذهُ لمْ يَفْرَحْ بِهِ وَلَمْ يَهُشَّ لَهُ وَلَمْ يَعْبَأْ بِهِ. فَقَالَ لِلغُلامِ: ائْتِنِيْ بالسَّائِلِ. فلمَّا وقَفَ قُدَّامَهُ اسْتَنْطَقَهُ فَأَحْسَنَ الجَوَابَ

وَلَمْ يَخفْ وَلَمْ يَضْطَرِبَ مِنْ هَيْبَتِهِ فَقَالَ له: هَاتِ الكُتُبَ التِيْ مَعَكَ واصْدُقْنِىْ مِنْ بَعثَكَ فَقَدْ صَحَّ عِنَديْ أنَّكَ صَاحِبَ خَبَرِ وَأحْضَرَ السَّيَاطَ فاعْتَرَفَ. فَقَالَ بَعْضُ جُلَسَائِهِ: هَذا وَاللهِ السَّحْرُ! قَالَ: مَا هُو بِسِحْرٍ ولَكِنْ فِرَاسَةٌ صَادِقَةٌ رأَيْتُ سُوْءَ حَالِهِ، فَوجَّهْتُ إليهِ بِطعَامٍ يرْغَبُ أكْلَهُ الشَّبْعَانُ فمَا هَشَّ لَهُ وَلا فَرِحَ وَلا مَدَّ يَدَهُ إِلَيْهِ فَأَحْضَرْتُه فَتَلَقَّاني بِقُوَّةِ جَأْشٍ فَلَمَّا رَأيتُ رَثَاثَة حَالِهِ وَقُوَّةَ جَأْشِهِ عَلِمْتُ أنّه صَاحِبُ خَبَرٍ فَكَانَ كَمَا قَالَ. وَرَأَى يَوْماً حَمَّالاً يَحْمِل صَنّاً – أيْ صُندُوقاً مِنْ خَشَبٍ – وَالحَمَّالُ تَضطرِبُ رجْلاهُ تَحْتَهُ فَقَالَ لَوْ كَانَ هَذا الاضطِرَابُ مِن الثَّقلِ لغَاصَتْ عُنُقُ الحَمَّالِ وَهَذِهِ عُنُقُهُ أُرَاهَا بَارِزَةً وَما أرَى الأَمْرَ إلاَّ مِنْ خَوْفٍ. فَأَمَرَ بحَطَّ الصَّنَّ فَإذَا فِيْهِ أُنْثَى مَقْتُولَةٌ وَقَدْ قُطّعَتْ فقالَ لِلحَمَّالِ اصْدُقْنِيْ عَنْ حاَلِهَا فَقَالَ هُنَاكَ في الدَّارِ الفُلانِيَّةِ أَرْبَعَةُ نَفَر أَعْطَونِيْ هَذهِ الدَّنانِيرَ وَأَمَرُونِي بحَمْلِ هَذِهِ المَقْتُولَةِ فَضَرَبَهُ لأنَّهُ لَمْ يُخْبِرْهُ رَأْساً وَأمَرَ بِقَتْلِ الأرْبَعَةِ. وَكَانَ يَتَنَكَّرُ - أَيْ يُغَيَّرُ لِبْسَتهُ وَهَيْئَتَهُ - وَيَدُوْرُ وَيَسْمَعُ قِرَاءَةَ أَئِمَّةَ المسَاجِدِ فَدَعَا ثِقَةً وَقَالَ خُذْ هَذِه الدَّنَانِيْرَ وَأَعْطِهَا إمَامَ المَسْجِدِ الفُلاَنِيَّ فَإنَّهُ فَقِيرٌ مَشْغُولُ القَلْبِ فَفَعلَ وَجَلَسَ مَعَ إمَامَ المَسْجِدِ وَبَاسَطهُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ زَوْجَتَهُ قَدْ أَخَذَهَا الطَّلْقُ وَلَيْسَ مَعَهُ مَا يَحْتَاجُ إليهِ فَأخبرهُ فَقَالَ: صَدَقَ عَرَفْتُ شُغْلَ قَلِبهِ بِكَثْرةِ غَلَطِهِ في القراءة. وكَانَ يَرْكَبُ وحدهُ وَيَطُوفُ ليلاً ونهاراً يُفَتَّشُ ويتفقدُ الرَّعيةَ إلي أنْ مَرَّ يوماً في سُوْقٍ مَسْدُودٍ في بَعْضِ أطرافِ البَلَدِ فَدَخَله فَوَجَدَ مُنْكراً ووَجَدَهُ لا يَنْفُذُ فَرَآى عَلى أحَدِ أَبْوَابِهِ شَوْك سَمَكٍ كَثيرٍ وعِظَام الصُّلبِ. فَقَالَ لِشَخْصِ: كَمْ يُقَوَّمُ تَقْدِيُر ثمَنَ هَذَا السَّمَكِ الذِيْ هَذِهِ عِظَامُهُ؟ قَالَ:

دِينارٌ قَالَ أَهْلُ هَذَا الزُقَاقِ – أَىْ السُّوقِ لا تَحْتَمِلُ أَحْوَالُهُمْ مُشْتَرَى مِثْلِ هَذا لأَنَّهُ زُقاقٌ بَيّنُ الاختِلالِ إلى جَانِبِ الصَّحْراءِ لا يَنْزِلُهُ مَنْ مَعَه شَئٌ يَخَافُ عَليهِ أَوْ لَهُ مَالٌ يُنْفِقُ مِنْهُ هذِه النَّفَقَة وَمَا هِي إلاّ بَليَّةٌ يَنْبَغِيْ أنْ يُكْشَفَ عَنْهَا فَاسْتَبعَدَ الرَّجُلُ هَذا وقَالَ هَذا فِكْرٌ بَعِيدٌ. فَقَالَ: اطْلَبُوُا لِي امْرأةً مِنْ الدَّربِ أُكَلَّمُهَا فَدَقَّ بَاباً غَيْرَ الذي عليهِ الشوكُ وَطَلَبَ مَاء فَخَرجَت عَجُوزٌ ضعيفةٌ فما زالَ يَطْلُبُ شَرْبَةً بَعْدَ شَرْبَةٍ وَهِيَ تَسْقِيهِ وَهُوَ في خِلالِ ذَلِكَ يَسْأَلُ عَن الدَّرْبِ وَأهْلِهِ وَهِي تُخِبرُهُ غَيْرَ عَارِفَةٍ بِعَوَاقِبِ ذَلكَ. إلى أنْ قَالَ لَها: وَهَذهِ الداُر مَنْ يَسْكُنُهَا؟ وَأشَارَ إلَى التي عِنْدَ بابِها عِظامُ السَّمَكِ فقالَتْ فِيها خَمْسَةُ شَبَابٌ أعفَارٌ كأَنَّهُم تُجَّارٌ وَقَدْ نَزَلُوا مُنْذُ شَهرٍ لاَ نَراهُمْ نَهَاراً إلا فِي مُدّةً طَويلةٍ وَنَري الواحِدَ مِنْهُم يَخرُجُ لِلحَاجَةِ ويعُودُ سَريعاً. وَهُمْ في طُوْلِ النَّهَارِ يَجْتَمِعُونَ فَيأكُلونَ وَيشْرَبُونَ وَيَلْعَبُونَ بِالشَّطْرَنْجِ وَالنَّرْدِ وَلَهُم صَبِيٌّ يَخْدِمَهُم فإذَا كَانَ اللَّيلُ انْصَرفُوا إلى دَارٍِ لَهُم بالكَرْخِ وَيَدَعُوْنَ الصَّبِيَّ في الدَّارِ يَحْفَظُهَا فَإذَا كَانَ سَحَراً جَاؤا وَنَحْن نِيَامٌ لا نَشْعُرُ بِهِم. فَقَالَ لِلرَّجُلِ هَذِهِ صِفَةُ لُصُوصٍ أَمْ لاَ قَالَ: بَلَى. فَأَنْفَذَ في الحَالِ فَاسْتَدْعَى عَشَرةً مِنْ الشُّرطِ وَأدْخَلَهُم إلي سَطْحِ الجِيْرَانِ وَدَقَّ هو البَابَ فَجَاءَ الصَّبِيَ فَفَتَحَ فَدَخَلَ الشُّرطُ مَعَهُ فَمَا فَاتَهُ مِن القَومِ أحَدٌ فَكانُوا هُمْ أصْحَابُ الخِيَانَةِ بِعَينهِمْ. وَمِنْ ذَلِكَ أنَّ بَعْضَ الوُلاَةِ سَمعَ في بَعْضِ لَيالِىْ الشَّتَاءِ صَوْتاً بِدَارٍ

يَطْلُبُ مَاءً بَارِداً فَأمَرَ بِكَبْسِ الدَّارِ فَأخْرَجُوا رَجُلاً وَامْرَأةً فَقِيْلَ لهُ مِنْ أيْنَ عَلِمْتَ قَالَ الماءُ لا يُبَرَّدُ في الشّتَاءِ إنَّمَا ذَلِكَ عَلامَةٌ بينَ هَذيْنِ. وَأَحْضَرَ بَعْضُ الوُلاةِ شَخْصَيْن مُتَّهَمَيْنِ بِسَرِقَةٍ فَأَمَرَ أَنْ يُؤْتَى بكُوزٍ مِنْ مَاءٍ فَأَخَذَهُ وَأَلقَاهُ في الأرضِ عَمْدَاً فانْكَسَر فَارْتاعَ أحَدُهُمَا وَثَبَتَ الآخِرُ فَلَمْ يَتَغَيَّرْ فَقَالَ للذِيْ انْزَعَجَ اذهَبْ وَقَالَ للآخَرِ أَحْضِرْ العُمْلَةَ. فَقاَلَ لَهُ مِنْ أَيْنَ عَرَفتَ ذَلِكَ فَقَالَ اللصُّ قَويُ القَلبِ لا يَنْزَعِجُ وَالبَريءُ يُرَي أنّهُ لوْ نَزَلَتْ فِيْ البَيْتِ فَأْرَهُ لأزْعَجَتْه وَمَنَعَتُه مِنَ السَّرِقَةِ. شِعْراً: ... يَا نَفْسُ قَدْ طَابَ في امْهَالِكِ العَمَلُ فاسْتدْرِكِي قَبْلَ أنْ يَدْنُو لَكِ الأَجَلُ إلى مَتَى أنْتِ في لَهْوٍ وفي لَعِبٍ يَغُرُّكِ الخَادِعَانِ الحِرْصُ وَالأمَلُ وَأنتِ في سُكر لَهْوٍ لَيْسَ يَدْفَعُهُ عَنْ قَلْبِكِ النَّاصِحَانِ العُتْبُ وَالْعَذَلُ فَزَوَّدِيْ لِطَرِيْقٍ أَنْتِ سَالِكه فِيْهَا فَعَمَّا قليْلٌ يَأْتِكَ المَثَلُ وَلا يَغُرُّكِ أيَامُ الشَّبَابِ فَفِي أَعْقَابِهَا المُوبِقَانِ الشَّيْبُ وَالأَجَلُ يَا نَفْسُ تُوْبِيْ مِنْ العِصْيَانِ واجْتَهِدي وَلا يَغُرَّنَّكِ الأبْعَادُ وَالمللُ ثُمَّ احْذَرِيْ مَوْقِفَاً صَعباً لِشِدَّتِهِ يَغْشَى الوَرَى المُتْلِِفَانِ الحُزْنُ وَالوَجَلُ

شِعْراً: ... وَيَخْتَمُ الفَمُ وَالأَعْضَاءُ نَاطِقَةٌ وَيَظْهَرُ المُفْصِحَانِ الخَطُّ وَالخَطَلُ وَيَحْكُمُ اللهُ بَيْنَ الخَلْقِ مَعْدِلَةً فتُذْكَرُ الحَالتَانِ البِرُّ وَالزَّلَلُ اللهُمَّ قَوَّ، إيْمَانَنَا بِكَ وبِمَلائِكَتِكَ وَبِكُتُبِكَ وَبِرُسُلِكَ وَباليَوْمِ الآخِرِ وَبالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِهِ رَبَّنَا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الأخرة حسنةً وقنا عذابَ النّارِ، رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوَبَنا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا وهَبْ لنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ وصَلَّى اللهُ على مُحمدٍ وَآلِهِ وَصَحبِه وَسَلَّمَ. مَوْعِظَةٌ عِبَادَ اللهِ كُلُّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَّا مَنْ لا يُخْطِيْ وَلا يَنْحَرِفُ عَنْ طَرِيقِ الحَقَّ بَلْ إنَّ فِيْنَا مِن الغَرائِزِ وَالطّبَاعِ مَا يَمِيْلُ بِنَا إلى الرُّشْدِ وَالغَيّ وَالخَيرِ وَالشَّرَّ وَلَيْسَ كُلُّ إنْسانٍ يَعْرِفُ خَطَأَهُ أو يَهْتَدْيْ إليْهِ. وَبِذَلِكَ كانَ مِنْ حَقَّ المُسْلِمِ عَلى أَخِيْهِ أَنْ يُبَصَّرَهُ بِعُيُوْبِهِ وَيَنْصَحَ لهُ في أَمْرِهِ وَهَذا مِن التَّواصٍيْ بِالحَقَّ. وَكَما يَجِبُ عَلي مَنْ رَأى الظُّلمَ مِنْ حاكِم ومسئول أنْ يُنْكِرَ عَليْهِ ظُلْمَهُ وَبغْيَهَ وَجَبَ عَلى مَنْ رَأى مُؤْمِناً يَظلِمُ غيرَهُ أوْ يَظْلِمُ نَفْسَهُ أنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبْينَ مَنْ يَظْلِمْ إبْقَاءً عَلى حَقَّ الأُخُوَّةِ ودفعاً لِلأَذَي عَنْ المظْلُومِ وَعَن المُجْتمعِ. قال بَعْضُ العُِلَمَاءِ النَّصِيْحَةُ عَلى مَرَاتِبَ أولاً أنْ لا يُبَادِرَ الانسَانُ إلَى تَصْدِيْقِ مَا يُقَالُ لَهُ عَنْ قَرِيْبِ أوْ صَدِيقٍ أَوْ جَارٍ أوْ زَمِيْلٍ أو أحدٍ مِنْ النَّاس بَلْ يَتَثَبَّتُ في ذَلِك حتَّى يَسْتَيْقٍنَ لأنّ أكَثَرَ الناس في وَقْتِنَا اعتادُوا إِشَاعَةَ السُّوءَ وَأَكْثَرُ النَّاس إلى الإسَاءَةِ يُسْرِعُونَ، وَيَنْدُرُ مِنْهُم مَنْ يُحْسِنُ الظَّنَّ، فَلا تُصَدَّقْ فَوْراً بكل مَا سَمِعْتَهُ.

حَتّى تَسْمَعَهُ مِمَّنْ حَضَرَهُ وَشَاهَدَهُ وَتَتَأكّدَ مِنْ ثُبُوتِهِ وَبَراءَتَهِ وَخُلُوّهِ مِنْ الهوَى والأَغْرَاضِ. وَإذَا رَأَيْتَ أَمْرَاً أَو بَلَغَكَ عَنْ صَدِيقَكَ كَلامٌ يَحْتَمِلُ وَجْهَينْ فاحْمِلْهُ مَحْمَلاً حَسَناً، قَالَتْ بِنْتُ عَبْدِ اللهِ بن مُطِيْعٍ لِزوْجِهَا طَلْحَةَ بْن عَبْدِ الرَّحْمَن بْنِ عَوْفٍ وَكانَ أجْوَدَ الناسِ في زَمَانِهِ مَا رَأَيْتُ قَوْماً ألأمَ مِنْ إخَوانِكَ قَالَ لَهَا وَلَمَ ذَلِكَ قَالتْ أَرَاهُمْ إِذَ أيْسَرْتَ لَزِمُوْكَ وَإذا أعْسَرْتَ تَرَكُوْكَ فَقالَ لَها هَذَا واللهِ مِنْ كَرَم أخْلاقِهم يَأتُوننا في حَالِ قُدْرَتِنَا عَلى إكْرَامِهِمْ وَيَترُكُوْنَنَا في حَالِ عَجْزَنَا عَنْ القِيَام بِحَقّهِمْ. فَانْظُرْ كَيْفَ حَمَلَ فِعْلَهُم عَلى هَذَا المَحْمَلِ الحَسَنِ، وثَانِياً أنْ يَكُونَ عَلى بَالِكَ مُسْتَحْضَرَاً أنَّ الناسَ ليسُوا مَعْصُومِينَ بَلْ لهُم هَفَواتٌ وَأَخْطَاءٌ وَتَصوَّرْ ذَلِكَ في نفْسِكَ لِتَعْذُرَهُم وَلقَدْ أحْسَنَ القَائِلُ: مَن الذِى مَا سَاءَ قَطَّ ... وَمَنْ لَهُ الحُسْنَى فَقَطْ آخر: ... أرَدْتَ لِكَيْمَا لاَ تَرى لِىَ عَثْرَةً ... ومَنْ ذَا الذِي يُعْطَى الكَمالَ فَيَكْمُلُ آخر: ... وَمَنْ الذِيْ تُرْضى سَجَايَاهُ كُلَّهَا ... كَفَى المَرْءَ نُبْلاً أَنْ تُعَدَّ مَعَائِبُهُ آخر: ... إِنْ كُنْتَ تَطْلُبُ في الزمانِ مُهَذَّباً ... فَنِيَ الزمانُ وأنْتَ في الطَّلَبَاتِ خُذْ صَفْوَ أَخْلاقِ الصَّدِيقِ وأعْطِهِ ... صَفْواً ودَعْ أخْلاَقَهُ الكَدٍرَاتِ ثَالِثاً: أَنْ تَنْظُرَ إلى الأَمْرِ مِنْ وِجْهَةِ نَظَركَ وَمِنْ وِجْهَةِ نَظَر صَاحِبه أَيْضَاً، فَقَدْ يَكُونُ مُجْتَهِداً فِيْمَا أعْتَقَدهُ مِنْ رَأيْ مُتَحَرَّياً لِلْخَيْر فِيْمَا سَلَكَهُ مِنْ سَبِيْلٍ، فَلا تُسَارِعْ إلي الانْكَارِ عَلَيْهِ وَتَخْطِئَتِهِ مَا دَامَ مِنْ المحُتمَل أنْ يَكُونَ لَهُ وَجْهٌ مِن الحقَّ فَإنْ تَأَكَّدْتَ مِنْ الخَطأ والانْحِرَافِ فَتَقَدَّمْ بالنَّصِيْحَة سِرّاً بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، لا عِنْدَ ملأٍ مِنْ الناسِ كَمَا يَفْعَلهُ بَعضُ النَّاسِ، فَإنه أحرى لِقَبُولِ النَّصِيْحَةِ، رَابِعَاً: لاَ يَتَرَتَّبُ عَلى النَّصِيْحَةِ مَا هُوَ شَرٌ مِنْهَا.

شِعْراً: ... تَعَمَّدِني بِنُصْحٍ في انْفِرَادِ ... وجَنِبّنِي النَّصِيْحَةَ فى الجَمَاعَةْ فإِنْ النُّصْحَ بين الناسِ ضَرْبَ ... من التَّوْبْيخ لا أَرْضَى اسْتمَاعَهْ فإِنْ خَالَفْتنِي لِتُرِيْدَ نَقْصِيْ ... فلا تَغْضَبْ إِذا لم تُعطَ طَاعَةْ وَعِنْدَمَا يُهْمِلُ الصَّدِيْقُ صَدِيْقَهُ وَيُهْمِلُ الأَخُ حَقَّ أَخِيْهِ عَلَيْهِ في النُّصْحِ وَالارْشَادِ تَسُوء عَلائِقُ بَعْضِهمْ مَعَ بَعْضٍ وَتَنْقَلِب الصَّدَاقَةُ عَدَاوَةً وَيُصْبحُ أَمْرُ المجَتمَعِ فَوْضَى يَمُوْجُ بِالشَّرَّ وَالاثْمِ. وَلَقَدْ أخْبَرَنَا اللهُ في القُرْآنِ الكَريْمِ أنَّ بَنيْ اسْرَائِيلَ اسْتَحَقُّوا اللَّعْنَةَ وَالحِرْمَاَن وَالتَّشْرِيدِ لأَنَّهُمَ كَانُوا لا يَتَناصَحُونَ، قَالَ تَعَالى {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَي لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَي ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} وَلَيْسَ أَدَلَّ علي رُقِيّ الأمَّةِ وَاستِقَامَةِ ضَمَائِرهَا مِنْ تَمَسُّكِهَا بِخُلُقِ التَّنَاصُحِ فِيْمَا بَيْنِهَا وَالتَّوَاصِيْ بِالحَق، قاَل تَعَالى {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ إلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} . رُويَ عَنْ الشَّافِعِيّ رَحمَهُ اللهُ أنّهُ قَالَ لَوْ لَمْ يَنْزِلْ غَيرَ هَذِهِ السُّورَةِ لَكَفَتِ النَّاسِ. وَكانَ الرَّجُلانِ مِنْ أَصْحَابِ النّبيِ ? إِذَا الْتَقَيا لَمْ يَتَفَرَّقَا حَتّى يَقْرَأَ أَحَدُهُمَا عَلى الآخِر سُوْرَةَ العَصْرِ ثمَّ يُسَلَّمُ أَحَدُهُمَا عَلى الآخَرِ. قُلْتُ: وَذَلِكَ أَنَّ الأَوَامِرَ وَالنَّوَاهِي كُلُّهَا تَدُوْرُ عَلى التَّوَاصِيْ بِالحَقَّ وَالتّواصِيْ بالصَّبْرِ، فَالتَّواصِيْ بالحَقَّ مِثلُ الايْصَاءِ بِتَوْحِيْدِ اللهِ والإيمَانِ بِهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليَوْمِ الآخِرِ وَالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرّهِ. وَالإيصَاءِ بالصَّلاةِ والزَّكَاةِ وَالصَّيام وَالحَجَّ وبرَّ الوَالِدَيْنَ وَصِلَةِ الأرْحَامِ والإحسَانِ إلى اليَتِيْمِ وَالمِسْكِينِ وَالجَارِ وَابْنِ السَّبِيْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَالتَّواصِي بالابتِعَادِ عَنْ مَا نَهى اللهُ عَنْهُ وَرَسُولُهُ مِن المَعَاصِيْ كُلِّهَا الصَّغَائِر وَالكبَائِر. وَالتَّواصِي الصَّبْر عَلى الطَّاعَاتِ حَتّى المْمَاتِ، وَالتّواصِيْ بِالصَّبْرِ عَلى المَصَائِبِ، وَالتّوَاصِيْ بِالصَّبر عَن المَعاصِيْ. وَلكِنْ يَا لَلأَسَفِ صَارَ التَّوَاصِيْ عِنْدَ هَذَا الجِيلِ فِيْمَا يَتَعَلَّقُ بِالدُنْيَا وَحُطَامِهَا فَتَجِدُ الوَاحِدَ يَحُثُّ صَدِيْقَهُ على التَّعَلُّقِ بِهَا وَعِمَارَتِهَا وَكُلَّ مَا يَشْغَلُهُ ويُلهِيْهِ عَن الآخِرَةِ مِنْ مَشاركِة وسلفةٍ ونحو ذلك. وإذا انتقص بشيء مِما يتعلَّق بها أَقَامَ النّاسَ وَأقْعَدَهُمْ حَتَّى المُنْتَسِبيِنَ إلَى طَلَبِ العِلْمِ. فَتَجِدُ الوَاحِدَ مِنْهُمْ إِذَا خُصِمَ عَلَيْهِ بَعْضُ الدَّرَجَاتِ أو بَعْضُ الفُلُوس انْفَعَلَ وَتَغَيّرَ مِزَاجُهُ وَصَارَ يَتَكَلَّمُ بِكَلام غَيْر مُتَّزِنٍ. عَكْس أُمُوْرِ الآخِرةَ فإنَّهُ لا يَهْتَمُّ لها، فَتَفُوتُه تكْبِيرَةُ الإحرَامِ مع الإِمَامِ بل تَفُوتُهُ الصلاةُ مَعَ الجَمَاعَةِ وَلا يُبالىْ بِنَقْصِ خَمْسٍ وَعِشْرِيْنَ دَرَجَةٍ. وَتَجِدُ الوَاحِد مِنْهُمْ يُوْصِيْ زَمِيْلَهُ بالدَّرَاسَةِ لِأجْلِ الحُصُوْلِ عَلى شَهَادةٍ في زَعْمِهِ أنّهَا تَأمِينٌ لِلحَيَاةِ مِنْ الفَقْر. وَهَذا يَدُلُّ عَلى ضَعْفِ التَّوكُّلِ عَلى اللهِ. وَأمَّا الصَّلاةُ وَسَائِرُ الطَّاعَاتِ وَتَرْكُ المَعاصِيْ التيْ بِهَا بإِذْنِ اللهِ تأمِينُ الحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ والسَّلامَةُ مِنْ جَهَنّمَ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ فَلا تَجِدُهُ يُوْصِيهِ بِهَا، وَلا يَهْتَمُّ مِنْهَا. حَتَّى الآبَاءُ دَخل عَلَيْهِمْ النَّقْصُ فَتَجِدُ الأبَ وَالأمَّ يَحْرِصُوْنَ عَلى إيْقَاظ أوْلادِهِمْ للاخْتِبَار يَتَرَدّوُنَ عَليهِم وَلو شَقَّ ذَلِكَ عَليهِم. أمَّا لِصَلاةِ الفَجْرِ وَسَائِرِ الصَّلوات وَسَاِئِر الطَّاعَاتِ وَالإبتِعَادِ عَن الملاَهِيْ وَالمُنْكَراتِ فلا.

نَسألُ اللهِ العَظِيمَ أنْ يُوْقَظَ قُلُوبَنا وَيَمْلأَهَا بِالغَيرةِ وَالنَّصِيحَةِ وَأَنْ يُصْلحَ قُلْوبَنَا وَأَوْلاَدَنا وَأَحْوَالَنَا وَجَمْيِعَ المُسلمِينَ. وَإِذَا خَلاَ المُجْتَمعُ مِن التَّواصِيْ بالحَقَّ وَالصَّبْرِ والتَّناصُحِ أَوْ ضَعُفَ مَظْهرُ العَمَل بِهِ فَقَدْ انتهَت الأمّةُ أسْوءِ حَالاتِا مِن الفَوْضَي وفَسَادِ الأخْلاقِ وَالتَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ وَالعُدْوَانِ وفشُوَّ الشُّرُورِ مِن المُنافِقْينَ والنَّمامِينَ والكَذَّابِينَ وأعوانهم. وانْظُرَ كَيْفَ تَكُوْنُ الحَالُ فِيْمَا إذَا عُدِمَ الأَمْرُ بِالمَعروفِ وَالنَّهْي عَن المُنْكَرِ وَتَرْكِ التَّواصِيْ بالحَقَّ وَالتَّوَاصِيْ بِالصَّبْرِ وَأُهْمِلتْ النَّصِيْحَةُ. وَكْيفَ يَجْترئُ الفُسَّاقُ عَلى المعَاصِيْ وَيَصِلُوْنَ فِيْهَا إلَى مَا تَضِجُّ لَهُ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَا فِيْهِمَا مِنْ أَنوَاعِ الشُّرُورِ. آخر: ... لا شَئَ أبْلَغَ من ذُلّ يُجَرّعُهُ ... أَهلُ الخَسِيسةِ أَهْلَ الدِينِ والحَسَبِ القائِميْنَ بما جَاء الرَّسُوْلُ به ... والمُبْغِضِينْ لأَهْلِ الزَّيغِ والرَّيبِ وَإنْ شِئْتَ فَزُرْ أيَّ جَهَةٍ مِن جِهَاتِ العَالَمِ تَري مَا يَتَقَطَّعُ لَهُ قَلبُكَ حَسَراتٍ انْظُرْ آكَدَ أرْكَانِ الإِسلاَمِ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ الصَّلاّةَ كَيْفَ تَرَكَهَا الكثيرُ مِن النَّاسِ. وَانْظُرْ إلَى الزَّكَاةِ التِيْ لَوْ أُخرِجَتْ لَمْ يَبْقَ فَقِيْرٌ وانْظُرْ صِيَامَ رَمَضَانَ كَيْفَ لَمْ يُبَالِ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاس. وَانْظُرْ كَيْفَ تَهَاوَنَ النَّاسُ بِالرَّبَا وَالغِشَّ وَسَائِر المُحَرَّمَاتِ كُلّ هَذَا نَتِيجَةُ اهْمَالِ التَواصِيْ بِالحَقَّ واَلتَواصِيْ بِالصَّبِرْ وَإهْمَالِ النّصِيحَةِ وَالأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنّهي عَن المُنْكَرِ. وَمَا قِيْمَةُ الأَوْطَانِ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَا ... رِجَالٌ بِدِيْنِ اللهِ قَامُوْا لِيَنْفَعُوْا آخر: ... وَقَعَنا في الخَطَايا والبَلاَيَا ... وفي زَمَن انْتِقَاضِ واشْتِبَاهِ تَفَانَى الخَيرُ والصُّلَحَاءُ ذَلُّوْا ... وَعَزَّ بِذُلَّهِمْ أَهْلُ السَّفَاهِ

وبَاءَ الآمِرُوُنَ بِكُلَّ عُرْفٍ ... فَمَا عَنْ مُنكَرٍ في الناس نَاهِ فَصَارَ الحُرُ لِلْمَمْلوَكِ عبداً ... فَمَا لِلْحُرَّ مِنْ قَدْرٍ وجَاهِ فَهَذَا شُغْلُهُ طَمَعٌ وجَمْعٌ ... وَهَذا غَافِلٌ سَكْرانُ لَاهِ لأَنّ التَّسَاهُلَ بِهَذِهِ الأُمُورِ يَفْتَحُ لِلنُّفُوسِ الخَبِيْثَةِ أبْوَابَ المعاصِىْ فَتَنَفُذُ إلى مَا تَشْتَهِي مِنْ خَبَائِثَ وَتَرى مَوْقِعَ ذلِكَ سَهْلاً عَلى النَّاسِ فَتَنْدَفِعُ إلي كلَّ مَا يَحْلُو لَها مَهْمَا كَانَ عَرِيقاً في بَابِ الرَّذِيْلةِ آمِنَةً مِنْ تَغَيُّرِ وَجْهٍ أوْ انْقِبَاضِ قَلْبٍِ لمَا تَفْعَلُ. وإِذاً تَنْتَعِشُ الرَذِيلَةُ وَتَشْتَدُّ وَتَزْدَادُ وَيَقْوَي أَهْلُهَا وَهُم الفَسَقَةُ لأنَّ أَهْلَ الجَهْرِ بِالفَاحِشَةِ يَكُونُونَ قُدْوَةً سَيَّئَةً لِغَيْرِهِمْ. وَالنُّفُوسُ مِنْ طَبِيْعَتِهَا التَّقْلِيْدُ وَالمُحَاكَاةِ لِمَا تَرى وتسْمَعُ خُصُوصاً إِذا كَانَ مَا تَراهُ أو تَسْمَعُهُ لَذَّةً وَاطْلاَقَاً. وَإذَا كَثُرَ جَيْشُ الرَّذِيْلَةِ في قُوَّةِ قَلَّ جَيْشُ الفَضِيْلَةِ في ضَعْفٍ، وَلا تَسْتَبْعِدَ أنْ يَتَغَلَّبَ جَيْشُ الرَّذِيْلةِ فَيُبِيْدَ جَيْشُ الفَضِيْلَةِ أوْ يَجْعَلَه في حُكْمِ المبُادِ وإنْ كَانَ لا يَزالُ بَاقٍ مِنْهُ أَفْرَادٌ. وإذَا كانَ غَضِبَ اللهُ جَلَّ وَعَلا عَلى عِبَادِهِ فَعَاقَبَهُمْ في الدُّنيَا قَبْلَ الآخِرَةِ ولا يَنْجُوْ مِنْ بَطْشِ الله وَعَذابِهِ إلا مَنْ كَانَ في جانِبِ دِيْنهِ يَتَألَّّمُ لَهُ وَيَغضبُ عَلى مَخالِفيْهِ آمِراً لَهُمْ وَنَاهِياَ مَهْمَا نَالَهُ في سَبِيْلِ ذَلِكَ مِنْ إِيْذَاءٍ. عَلَّمَنَا ذَلِكَ رَبُّنَا بِقَولِهِ {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} ، {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .

قَالَ تَعَالى {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} وقال في الآية الأخري {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} إذاً عَاقِبَةُ التَّساهُلِ في الأَمْرِ بالمعَرُوف وَالنَّهْي عَن المُنكرِ شَقَاءُ الدُّنْيَا بما يَنْزِلُ مِنْ آلامٍ لِمَعاصِيهِمْ التِيْ يَقْتَرِفُوْنَها آمِنِيْنَ مِنْ زَجْرٍ عَليهَا وَمَلامٍ وَشَقاءِ الآخِرَةِ بِمَا أعَدّ رَبُّنَا لِلّعُصَاةِ مِنْ عَذَابٍ. قَالَ بَعْضُهُم: مَضَي الزَّمَانُ وَعَيْشِيْ عَيْشُ تنكِيدْ وَالعُمْرُ وَلّى وَلَمْ أَظْفَرْ بِمَقْصُوْدِ وَالِ اليَقْينَ وَعَادِ الشَّكَ أجْمَعَهُ عَظِمْ إلَهَكَ لا تَرْكَنْ لِمَنْقودِ فَالخَطْبُ عَمَّ وَصَارَ النَّاسُ كُلُّهُم مُعَظّمِيْنَ لِبِدْعِيٍّ وَمَرْدُوْدِ هَذَا الزَّمَانُ الذِي كُنَّا نُحَاذِرُهُ في قَوْلِ كَعْبٍ وفي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودِ فَصَاحِبُ الدَّيْنِ مَمْقُوتٌ وَمُنْكَتِمٌ وَصَاحِبُ الفِسْقِ فِيْهِم غَيْرُ مَظْهُودِ كُلٌّ يُقلد في الأهْوَاءِ صَاحِبَهُ حَتَّى الْبِلادَ لَهَا شَأْنٌ بِتَقْلِيدِ وَالأَمْرُ بِالعُرْفِ ثمَّ النَّهْيُ عَنْ نُكُرٍ صَارَا لَدَيْنَا بِلا شَكٍ كَمَفْقُوْدِ إِذَا نَصَحْتَ لِشَخْصٍ قَالَ أنْتَ كَذَا فِيْكَ العُيُوْبَ لَدَيْنَا غَيْرُ مَحْمُوْدٍ

أَضْحَى تَفَاخُرُهُمْ في حُسْنِ بِزَّتِهِمْ وَمَنْزِلٍ حَسَنٍ عَالٍ بِتَشْيِيْدِ وَجَمْعِ حُلْيٍ وَخُدَّامٍ وأَمْتِعَةٍ أيَّامُهمْ فَنِيْتَ في جَمْعِ مَنْقُوْدِ تَلْقَى الأَمِيْرَ مَعَ المَأمُوْرِ في وَهَنٍ عَنْ رَفْعِ مَظلَمَةٍ أَوْ نَفْعِ مَنْكُوْدٍ لِنَيْلِ دُنْيَاهُمُ كَالأُسْدِ ضَارِيَةٍ وَكُلُّهُم في الهَوَى مُبْدٍ لِمَجْهُودِ إذَا رَأَوْا صَالَحاً يَدْعُو لِنَيْلِ هُدَي تَأنَّبُوُهُ بِإيْذَاءٍ وَتَبَعَيْدِ حُكْمُ القَوَانِيْنِ قَالُوا فِيْهِ مَصْلَحَةٌ وَفي الرَّبَا سَاعَدَتْ شِيْبٌ لِمَوْلُوْدِ أَهْلَ الحِجَى وَالنُّهىَ مَالُوا لِمُحْدَثَةٍ قَالُوا الشَّرِيْعَةَ لا تَكْفِيْ لِمَقْصُودِ أَبْدَوْا لنَا بِدَعَاً مَا كُنّا نَعْرِفُهَا وَجَانَبُوا نَهْجٍ تَوْفِيْقٍ وَتَسْدِيدٍ تَلْقَى الهَوى وَالرَّبَا وَالجَوْرَ مُرْتَكَباً وَالعِلْم وَالنُّصْحَ فِيْهِمْ غَيْرَ مَوْجُوْدِ وَالهَرْجَ وَالمَرجَ تَلَقَاهَا مَرُوَّجَةً وَالدَّيْنَ وَالسَّمْتَ في جِلْبَابِ مَرْدُوْدِ وَقُلَّدَ الأَمْرَ لِكْعِيُّ أخُو بِدَعٍ لِجَلِبِ أمْرٍ وَفِكْرٍ غَيْرِ مَحْمُوْدِ

.. مُحَالِفُ الشَّرَّ لَمْ يَظْفَرْ بِحَاجَتِهِ لَوْ نَالَ خَيْرَاً قُصَارَاهُ لِتَبْدِيْدِ البُهْتْ وَالذَّمُّ وَالايْذاءُ قَدْ وُجَدَتْ لِكُلَّ مُنْتَسِبٍ يَوماً لِتَوْحِيْدِ فَالدَّيْنُ في غُرْبةٍ وَالنَّاسُ أَكْثَرُهُمْ بِخُبْثِ طَبعٍ يُوَالي كُلَّ مَطْرُوْدِ صَارَ الذِيْ كَانَ تَأتَمُّ الهُدَاةُ بِهِ وَتَقْتَفِيْهِ بأَمْرٍ غَيْرِ مَعْهُوْدِ مَنْ كَانَ يَهْجُرُ ذَا بِدْعٍ وَمَظْلَمَةٍ أَمْسَى يُبَاشِرُهَا مِنْ غَيْرِ تَرْدِيدِ فَالكُلُّ يَسْرِيْ لِمَا يَهْوَاهُ خَاطِرُهُ لَمْ يَلْتَفِتْ لِمَرَاضِيْ خَيْرِ مَعْبُودِ حَقُّ القَرِيْبِ وَحَقُّ الجَارِ أَهْمَلَهُ مَنْ كَانَ نَعْرِفَهُ بِالدَّيْنِ وَالجُوْدِ تُجَّارُهُمْ لَمْ تُزَكَّ وَيْلُ أُمَّهِمُ مِنْ شَرَّ عَاقِبَةٍ في يَوْمِ مَوْعُوْدِ لاَ يَرْبُ سُحْتٌ كَمَا قَالَ الإِلَهُ لَكُمْ كَسْبُ الحَرامِ طَرِيْقٌ غَيْرُ مَحْمُودِ أَيْنَ الفِرَارُ وكَمْ مِنْ بِدْعَةٍ حَدَثَتْ وَسُنَّةٍ دَرَسَتْ مِنْ غَيْرِ تَعْدِيْدِ كَمْ مِنْ طَرِائِقِ سُوْءٍ بَانَ مُنْكَرُهَا وَمَنْهَلُ الحَق أضْحَى غَيْرَ مَوْرُوْدِ

.. فَمَا الطَّرِيْقَةُ إِلاَّ نَهْجُ أحْمَدَ مَعْ أَصْحَابِهِ السَّادَةِ الغُرَّ الصَّنَادِيْدِ فَأَخْلِصْ لِرَبَّكَ وَاتبْعْ نَهْجَ سَيَّدِنا قَوْلاً وَفِعْلاً تَنَلْ فَوْزاً بِتَسْدِيْدِ ثَعَالِبُ السُّوْءِ نَادَتْ في أرَانِبِهَا هَذَا زَمَانُكِ عِيْشِيْ عَيْشَ مَحْمُوْدِ مَا في الأَنَامِ حمُاَةٌ غَيْرَ مَنْ رَحَلُوا وَمَنْ بَقِيَ عِنْدَنَا في زِيَّ مَلْحُوْدِ وَاغُرْبَةَ الدَّيْنِ وَالإيْمَانِ في زَمنٍ أَهْلُ الهُدى بَيْنَ مَقْهُوْرٍ وَمَظْهُوْدِ إنْ دَامَ هَذَا وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ غَيْرٌ لمْ يُبْكَ مَيْتٌ وَلَمْ يُفْرَحْ بِمَوْلُوْدِ وَفَارِقِ الكُلَّ لا تَلْوِ عَلى أَحَدٍ أَرضاً بِأَرْضٍ وَخِلاَناً بِمَوْجُوْدِ مَنْ كَانَ نَأْمَلُهُ في كَشْفِ مُعْضِلةٍ أَبْدَى بِعُذرٍ وَلا أَجْدَي بِمَقْصُوْدِ فَأَيُّ أَرْضٍ بِهَا الاسْلامُ في شَرَفٍ وَسُنَّةُ المُصْطَفَى تَزْهُوْ بِتَجْدِيْدِ أَيْنَ الفِرَارُ وَأَيُّ الدَّارِ نَلْقَى بِهَا وُلاتَهَا كُلَّ مَيْمُوْنٍ وَمَحْمُوْدِ عُمْرِيْ غَدَا بَيْنَ وَاشٍ ثُمَّ مُبْتَدِعٍ يَا رَبِّ يَسَّرْ بِأنصَارٍ لِتَوْحِيْدِ

.. يَا صَاحِ مَنْ رَامَ فَوْزاً يَمْشِيَنَ عَلى طَرِيْقَةِ المُصْطَفَى يُحْظَى بِتَسْعِيْدِ وَآلِهِ ثُمَّ أَصْحَابٍ لَهُ تَبَعٌ فَازُوا بِسَبِقٍ وَفَاقُوْنَا بِتَسْدِيدِ وَقَادَةِ الخَيْرِ كَالنُّعْمَانِ أولِهمْ وَأَحْمَدَ وَابْنِ ادْرِيسٍ أَخَا الجُوْدِ وَمَالِكٍ كُلِّهِمْ كَانُوا أَئِمَّتَنَا أَئِمَّةُ النّاسِ قَدْ جَاؤُوا بِمَقْصُوْدِ نَوَاقِضُ الدَّيْنِ عَشْرٌ تِلْكَ فَافْهَمَهَا لِكَيْ تَنَالَ نَعيْماً غَيْرَ مَحْدُوْدِ وَحُبَّ في اللهِ لا تَرْكَنْ لِمُبتَدِعٍ وَاهْجُرْ رِجَالَ الخنَا حُبّاً لِمَعْبُودِ وَلاَزِمِ السُّنةَ الغَرَّاءَ تَنْجُ بِهَا عِنْدَ الِلّقَاءِ بِفَوْزٍ غَيْرِ مَحْدُوْدِ وَلاَ تُوَافِقْ لأَهْوَاءٍ تُلَفَّقُهَا أَقْوَامُ سُوْءٍ بِلاَ شَك وَتَرْدِيْدِ خَيْرُ الأُمُورِ أَخِيْ مَا كَانَ مَرْجِعُهُ إلى الرَّسُولِ بِلاَ شَك وَتَرْدِيْدِ فَامْسِكْ عَلَيْهِ وَجَانِبْ كُل مُنْحَرِفٍ لِكَيْ تَفُوزَ بِدَارِ الخُلْدِ وَالجُوْدِ اللهُم افْتَحْ لِدُعَائِنَا بَابَ القَبُولِ وَالإجَابَةِ وَارْزُقْنَا صِدْقَ التَّوْبَةِ وَحُسْنَ الانَابةِ وَيَسَّرْنَا لِلْيُسْرَى وَجَنَّبْنَا العُسْرَى وَآتِنَا في الدُّنيا حَسَنةً وفي

الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، زهده في الدنيا وورعه وعدله وإنصافه

الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذابَ النَّارِ وَاغْفِرْ لنا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيْعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ وَصَلَّّى اللهُ عَلى نَبِيَّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا عَلِيّ بْنُ أَبي طاَلِبٍ فَإلَيْكَ نَمَاذِجُ مِنْ عَدْلِهِ وَزُهْدِهِ وَوَرَعِهِ، قَالَ رضي اللهُ عَنْهُ في خُطْبِتِهِ عَقِبَ البَيْعَةِ لَهُ: أيُّها النَّاسُ إنَّمَا أنَا رَجُلٌ مِنْكُم لِيْ مَا لَكُمْ وَعَلَيَّ مَا عَلَيْكُم، وإِنّي حَامِلُكُم عَلى مَنْهج نَبِيَّكُمْ وَمُنَفَّذٌ فِيْكُم مَا أُمِرْتُ بِهِ، ألاَ إنَّ كُلَّ قَطِيْعَةٍ أَقْطَعَهَا عُثْمَانُ. وَكُلُّ مَالٍ أَعْطَاهُ مِنْ مَالِ اللهِ فَهُوَ مَرْدُودٌ في بَيْتِ المَالِ، فإنَّ الحَقَّ لا يُبْطِلُهِ شَئٌ وَلَوْ وَجَدْتُه قَدْ تُزُوَجَ بهِ النَّسَاء وَمُلِكَ الإمَاء وَفُرَّقَ في البُلدَانِ لرَدَدْتُه فإنَّ العَدْلَ سَعَةٌ. وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ الحَقُّ فَالجَوْرُ عَلَيْهِ أَضْيَقُ، أَيُّهَا النَّاسُ أَلا لاَ يَقُولَنَّ رِجَالٌ مِنْكُم غَداً قَدْ غَمَرَتْهُم الدُّنْيَا فامْتَلَكُوا العَقَارَ وَفَجَّرُوا الأَنْهارَ وَرَكِبُوا الخَيْلَ وَاتَّخَذُوا الوَصَائِفَ المُرَقَّعَةَ إذَا مَا مَنَعْتُهم مَا كَانُوا يَخُوضُون فِيْهِ وَأَصَرْتُهم إلى حُقُوْقهِمْ التِيْ يَعْلَمُونَ ((حَرَمَنَا ابْنُ أَبِي طَالِبٍ حُقُوقَنَا)) . أَلاَ وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ المُهَاجِرينَ وَالأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَليه وسلم يَرى أَنَّ الفَضْلَ لَهُ عَلى سِوَاهُ بِصُحْبَتِهِ فإنَّ الفَضْلَ غَداً عِنْدَ اللهِ وَثَوَابُه وَأَجْرُهُ عَلى اللهِ، ألاَ وَأَيُّمَا رَجُلٍ اسْتَجَابَ لِلّهِ وَلِرَسُوْلِهِ فَصَدَّقَ مِلَّتَنَا وَدَخَلَ دِيْنَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا فَقَد اسْتَوْجَبَ حُقُوقَ الاسْلامِ وَحُدُوْدَهُ.

فَأَنْتُمْ عِبَادُ اللهِ، وَالمَالُ مَالُ اللهِ، يُقْسَمُ بَيْنَكُمْ بالسَّوِيَّةِ وَلا فَضْل فِيهِ لأَحَدٍ عَلى أَحَدٍ وَلِلْمُتَّقِيْنَ عِنْدَ اللهِ أَحْسَنُ الجَزَاءِ. وَأَخْرَج أَبُو نُعَيْمٍ في الحلْية عَنْ عَلِيّ بْنِ رَبِيْعَة الوَالِى عَنْ عَلِيّ بْنِ أَبي طَالِبٍ قَالَ جَاءَ ابْنُ النَّبَّاجِ فقالَ يَا أمِيرَ المُؤْمنينَ امْتَلأَ بَيْتُ مَالِ المُسْلِمينَ مِنْ صَفْرَاءَ وَبَيْضَاءَ فَقالَ اللهُ أكْبَرُ فَقَامَ مُتَوَكِئاً على ابْنِ النَّباجِ حَتَّى قَامَ عَلى بَيْتِ مَالِ المُسلِمِيْنَ فَقَالَ: ... ... هَذا جَنَايَ وَخِيَارُهُ فِيْهِ وَكُلُّ جَانٍ يَدُهُ إلى فِيْهِ يَا ابْنَ النَّباجِ عَلَيَّ بأَشْيَاعِ الكُوْفَةِ قَال: فَنُوديَ في النَّاسِ فَأَعْطَى جَمِيْعَ مَا فِيْ بَيْتِ المُسْلِمِين وَهُوَ يَقُوْلُ: يَا صَفْرَاءُ وَيَا بَيْضَاءُ غُرِيْ غَيْرِي هَا وَهَا حَتَّى مَا بَقيَ مِنْهُ دِيْنَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ ثُمَّ أَمَرَ بِنَضْحِِهِ وَصَلي فِيْهِ رَكْعَتَينِ وَعَنْ مَجْمَع التَّيْمِي قَالَ كَانَ عَلِيّ رَضْيَ اللهُ عَنْهُ يَكْنِسُ بَيْتَ الَمالِ وَيُصَلَّي فِيْهِ وَيَتَّخِذُهُ مَسْجِداً رَجَاءَ أنْ يَشْهَدَ لهُ يَوْمَ القِيَامَةِ. وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ العَلا عَنْ أَبِيْهِ عَنْ جَدَّهِ قَالَ سَمِعْتُ عَلِيّ بْنَ أَبِيْ طَالبِ رَضيَ اللهُ عَنْهُ يَقْوُلُ مَا أصَبْتُ مِنْ فَيْئِكُم غَيْرَ هَذِهِ القَارُوْرَةِ أهْدَاهَا إلَيَّ الدَّهْقَانُ، ثُمَّ نَزَلَ إلى بَيْتِ المال فَفرَّقَ كُلَّ مَا فِيْهِ، وَلَمَّا قَرَّرَ رَسُولُ اللهِ ? الهِجْرَةَ مِنْ بَيْتِهِ الذِيْ أحَاطَ بِهِ المُشْرِكُوْنَ لِيَقتُلُوهُ إثْرَ مَكْرِهمْ بهِ في دَارِ النَّدْوَة وَضَعَ مَكَانَهُ في فِرَاشِهِ ابْن عَمَّهِ أبَا الحَسَنِ عَلِيّاً رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَآثَرَ عَلِيٌّ أَنْ يَكُوْنَ الفِدَا لِرَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْ

يُعَرَّضَ نَفْسَهُ لِلسُّيوْفِ سُيُوْفِ المُشْرِكِيْنَ تُقَطَّعُ لَحْمَهُ وَتُزْهِقُ رُوْحَهُ وَبِذَلِكَ فَدَى بِنَفْسِهِ رَسُولَ اللهِ صَلى اللهُ عَليهِ وَسَلم وَفِيْهِ يَقُولُ النّاظِمُ لِلعَقِيْدَةِ: ... ... وَلاَ تَنْسَ صِهْرَ المُصْطَفَى وَابْنَ عَمَّهِ فَقَدْ كَانَ حَبْراً لِلْعُلُومِ وَسَيَّدَا وَفَادَى رَسُولَ اللهِ طَوْعاً بِنَفْسِهِ عَشِيَّةَ لمَّا بالفِرَاشِ تَوَسَّدَا وَمَنْ كَانَ مَوْلاَهُ النَّبِيّ فَقَدْ غَدَى عَلِيُّ لَهُ بِالحَقَّ مَوْلَىً وَمُنْجِدَا اللَّهُمَّ نَوَّرْ قُلُوْبَنَا بِطَاعَتِكَ وَأَلْهِمْنَا ذكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَارْزُقْنَا الانَابَةَ إليْكَ وَحُسْنَ التَّوَكُّلِ عَلَيْكَ وَآتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيْعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمينَ وصَلى اللهُ عَلى مُحَمَدٍ وَعَلى آلِهِ وَصَحْبِهِ أجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وَرُوِيَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَلِيَّ بَنِ أَبْي طَالِبٍ رَضيَ اللهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَوْمَاً فَقالُوا لهُ لَوْ أعْطَيْتَ هَذِهِ الأمْوَالَ، وَصَلْتَ بِهَا هَؤُلاءِ الأشْرَافَ، وَمَنْ تَخَافُ فِرَاقَهُ، حَتَّى إذَا اسْتَتَبَّ لَكَ مَا تُرْيدُه عُدْتَ إلى مَا عَوَّدَكَ اللهُ مِن العَدْلِ في الرَّعِيَّةِ وَالقِسْمَة بِالسَّوِيَّةِ. فَقَالَ أَتَأْمُرُوْنِيْ أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالجَوْرِ فِيْمَنْ وَلّيْتُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ

الاسْلاَمِ وَاللهِ لاَ أَفْعَلُ ذَلكَ لَوْ كَانَ هَذَا المالُ لِيْ لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُم فِيْهِ كَيْفَ وَإِنَّمَا هِيَ أَمْوَالُهُم. وَرُوِيَ أنَّ أخَاهُ عَقِيْلاً سَأَلَهُ شَيْئاً مِنْ بَيْتِ المَالِ فَقَالَ إذَا كَانَ يَوْمُ الجُمُعَةِ فَأتِنِيْ، فَأَتَاهُ يَومَ الجُمُعَةِ إلى المَسْجِدِ، وَقَدْ اجْتَمَع فِيْهِ النَّاسُ فَقَالَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَا تَقُوْلُ فِيْمَنْ خَانَ هَؤُلاءِ، فَقَالَ أَقُوْلُ إِنَّهُ رَجُلُ سُوْءٍ، فَقَالَ إنَّكَ سَأَلْتَنِيْ أَنْ أَخُونَهم أوْ كَمَا قَالَ. وَرْوِيَ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفْلَةَ قَالَ دَخَلْتُ عَلى أَمِيْرِ المُؤمِنينَ عَلِيٍّ بْنِ أَبِيْ طَالِبٍ بَعْدَ مَا صَارَ إلََيْهِ الأَمْرُ فَإذَا هُوَ جَالِسٌ عَلى مُصَلى لَيْسَ في دَارِهِ سِوَاهُ فَقُلْتُ يَا أمِيرَ المُؤمِنينَ أَنْتَ مَلِكُ الاسْلامِ، وَلا أرَى في بَيْتكَ أَثاثاً وَلا مَتَاعاً، سِوَى مُصَلّى أنْتَ جَالِسٌ عَليه فَقالَ يا ابْنَ غَفْلَةَ إنَّ اللَّبِيْبَ لا يَتَأثَّثُ في دَارِ النُّقْلَةِ، وَأمَامَنَا دارٌ هِيَ دَارُ المُقَامِ، وقَدَ نَقْلْنَا إلَيْهَا خَيْرَ مَتَاعٍ وَنَحْنُ إلَيْهَا مُنْتَقِلُونَ. وَعَنْ بَعْضِهِمْ قَالَ رَأَيْتُ عَلِيّاً يَطُوْفُ وَبِيَدِهِ الدُّرَّةُ وَعَلَيْهِ إزَارٌ فِيْهِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ رُقْعَةً بَعْضُهَا مِنْ جِلْدٍ. وَمِنْ كَلامِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ألا وَإن إمَامَكُمْ قَدْ اكْتَفى مِن الدُّنْيَا بِطِمْريْهِ وَمِنْ طَعَامِهِ بِقُرْصَيْهِ، ألا وَإنَّكُمْ لا تَقْوَوْنَ عَلى ذَلِكَ وَلَكِنْ أَعِيْنُونِيْ بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ، فَوَ اللهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبراً، وَلا أحْرَزْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْرَاً. إلَى أنْ قَالَ: وَلَوْ شِئْتُ لاهْتَدَيتُ الطَّرِيْقَ إلَى مُصَفَّى هَذَا العَسَلِ، وَلُبَابِ هَذَا القَمْحِ، وَنَسَائِجِ هَذَا القَزَّ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِيْ هَوَايَ،

من كلام الإمام علي رضي الله عنه في كتاب العهد للأشتر وتوصيته له في تفقده أمور الرعية وتحذيره من سفك الدماء والظلم

وَيَقُوْدُنِي جَشَعِي إلَى تَخَيُّرِ الأَطْعِمَةِ. وَلَعَلَّ بِالحِجَاز وَاليَمَامَةِ مَنْ لاَ يُدْرِكُ القُرْصَ، وَلاَ عَهْدَ لَهُ بِالشَّبَع، أوَ أَبِيْتُ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُوْنٌ غَرْثَى مِن الجُوْعِ، وَأَكْبُدٌ حَرَّاءُ، فأكُونُ كَمَا قَالَ القائِلُ: ... وَحَسْبُكَ عَاراً أَنْ تَبِيْتَ بِبِطْنَةٍ وَحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلى القِدَّ وَمِنْ كَلامِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في كِتَابِ العَهدِ لِلأَشْتَرِحِيْن وَلاهُ مِصُرَ وَلْيَكُنْ أَحَبُّ الذَّخَائِرِ إلَيْكَ ذَخِيْرَةَ العَمَل الصَّالِحِ فَامْلِكْ هَوَاكَ وَشُحَّ بِنَفْسِكَ عَنْ مَا لا يَحِلُّ لَكَ، فإنَّ الشُّحَّ بالنَّفْسِ بالانْصَافِ مِنْهَا فِيْمَا أَحَبَّتْ وَكَرٍهَتْ. أ. هـ وَقال غيره: الهوى والنفسُ يُنَتِجَانِ مِن الأخلاقِ قَبائِحَها ويُظْهِرانِ مِن الأفعالِ فضائحها. إذا ما رَأَيْتَ المَرْءَ يَقْتَاده الهوَى ... فَقَدْ ثَكِلَتُه عِندَ ذَاكَ ثَواكِلُهْ وما يَرْدَعُ النَفْسُ الحَرُوْنَ عن الهَوَى ... مِن الناسِ إلاّ حازِمُ الرأْيِ كَامِلُهْ وقد أَشْمَتَ الأعْدَاءَ جَهْلاً بِنفَسهِ ... وقَدْ وَجَدَتْ فِيه مَقَالاً عَوَاذِلُهْ إذا اشْتَبَهَ الأَمْرَانِ فالخَيرُ في الذي تَراهُ إذا كَلَّفْتَه النَّفْسَ يَثْقُلُ فَجَانِبْ هَوَاهَا واطَّرِحْ ما تُرِيْدُهُ مِن اللَّهْوِ واللذاتِ إنْ كُنْتَ تَعْقِلُ ... ... ... ... وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ المَحَبَّةَ لِلرَّعِيَّةِ وَالرَّحْمَةِ بِهِمْ وَالرَّفْقَ بِهِمْ وَلاَ تَكُوْنَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعَاً ضَارِيَاً يَغْتَنِمُ أكْلَهُمْ، فَإنَّمَا هُمْ صِنْفَانِ إمَّا أخٌ لَكَ فَي

الدَّيْنِ أَوْ نَظِيْرٌ لَكَ في الخُلُقِ، يَفْرُطُ مِنْهُم الزَّلَلُ وَتَعْرِضُ لَهُم العِلَلُ وَيَأْتِي عَلَى أَيْدِيْهِم العَمْدُ وَالخَطَأْ. فأعْطِهُمْ مِنْ عَفْوِكَ، وَصَفْحِكَ، مِثْلَ الذِي تُحِبُّ أَنْ يُعْطِيْك اللهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ فَإنَّكَ فَوْقَهُمْ، وَوَالِيَ الأَمْر عَلَيْكَ فَوْقَكَ وَاللهُ فَوْقَ مَنْ وَلَّاكَ، وَقَدْ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ، وَابْتَلاَك َبِهِمْ. وَفِيْهِ لاَ تَنْدَمَنَّ عَلَى عَفْوٍ وَلاَ تَتَبَجَّحَنَّ بِعُقُوْبَةٍ وَلاَ تَسْرِعَنَّ إلى بَادِرَةٍ وَجَدْتَ عَنْهَا مَندُوْحَةً. وَلاَ تَقُولَنَّ إِني امْرُؤٌ آمُرُ فَأُطَاعَ، فَإنَّ ذَلِكَ إدْغَالٌ في القَلْبِ وَمَنْهَكَةٌ لِلدَّيْنِ، وَتَقَرُّبٌ مِن الغَيْرِ. فَإذَا أَحْدثَ لَكَ مَا فِيهِ مِنْ سُلْطَانِكَ أُبَّهَةٌ أو مَخْيَلَةٌ فَانْظُرْ إلى عِظَم مُلْكِ اللهِ فَوْقَكَ، وَقُدْرَتِهِ مِنْكَ عَلَى مَا لا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِكَ، فَإنَّ ذَلِكَ يُطَامِنُ إلَيْكَ مِنْ طِمَاحِكَ. وَفِيْهِ إِيَّاكَ وَمُسَامَاتِ اللهِ في عَظَمَتِهِ، وَالتَّشَبُّه بِهِ في جَبَرُوتِهِ، فإنَّ اللهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّارٍ وَيُهِيْنُ كُلَّ مُخْتَالٍ، أَنْصِف اللهَ، وَانْصِف النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمَنْ خَاصَّةَ أَهْلِكَ، وَمَنْ لكَ فِيْهِ هَوَىً مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإنَّكَ إنْ لَمْ تَفعَلْ ذَلِكَ تَظْلِمْ وَمَنْ ظَلَم عِبَادَ اللهِ كَانَ اللهُ خَصْمَهُ،دُوْنَ عِبَادِهِ، وَمَنْ خَاصَمَهُ اللهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ. وَلْيَكُنَ أَبْعَدُ رَعِيَّتِكَ عَنْكَ وَأَشْنَؤُهُمْ عِنْدَكَ، أَطْلَبَهُمْ لِمَعَائِبِ النَّاسِ فَإنَّ في النَّاس عُيُوبَاً الوَالِي أحَقُّ بِسَتْرِهَا، فَلاَ تَكْشِفَنَّ عَنْ مَا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا فَإنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيْرُ مَا ظَهَر لَكَ، وَاللهُ يَحْكُمُ عَلَى مَا غَابَ عَنْكَ.

وفيهِ وَلاَ تَعْجَلَنَّ بِتَصْدِيْقِ سَاعٍ فَإنَّ السَّاعِيْ غَاشٌّ وَإنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِيْنَ وَلاَ تُدْخِلَنَّ فِي مَشُوْرَتِكَ بَخِيْلاً يَعْدِلُ بِكَ عَن الفَضْلِ ويَعِدُكَ الفَقْرَ وَلاَ جَبَانَاً يُضْعِفُكَ عَن الأمُورِ وَلاَ حَرِيْصَاً يُزَيَّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالجَوْرِ وَلاَ يَكُوْنُ المُحْسِنُ وَالمُسِيءُ عِنْدَكَ سَوَاءً بِمَنْزِلَةٍ وَاحدَةٍ فَإنَّ في ذَلِكَ تَزْهِيْدَاً لأَهْلِ الإِحْسَانِ في الإِحْسَانِ وَتَدْرِيْباً لأهْلِ الإسَاءَةِ وَألْزِمْ كُلاً مِنْهُمْ مَا ألْزَمَ نَفْسَهُ. ثُمَّ اللهَ اللهَ في الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنْ النَّاسِ الذِيْنَ لا حِيْلَةَ لَهُمْ وَالمَسَاكِينْ وَالمُحْتَاجِينَ وَالبُؤَسَاءِ وَالزَّمْنَى فَاحْفَظَ اللهَ فِيْهِمَا كَمَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيْهِمْ وَاجْعَلْ لهُمْ قِسْمَاً مِنْ بَيْتِ مَالِكَ وَسهْمَاً مَنْ غَلَّاتِ صَوَافِي بَلَدِكَ. وَتَفَقَّدْ أُمَورَ مَنْ لا يَصِلُ إِليْكَ مِنْهَمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ العُيُوْنُ وَتَحْتَقُرُه الرِّجَالُ فَإنَّ هَؤُلاَءِ مِنْ الرَّعِيَّةِ أَحّقُّ بالانْصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَتَعَهَّدْ أَهْلَ اليَتِيمِ وَأُولِي الرِّقَّةِ في السِّنِّ مِمَّنْ لا حِيلَةَ لَهُ ولا يَنْصِبُ نَفْسَهُ لِلْمَسْأَلَةِ وَذَلِكَ عَلَى الْوُلاةِ ثَقِيلٌ والْحَقُّ كُلُّهُ ثَقِيلٌ. وَفِيهِ وَلا يَطُولَنَّ احْتِجَابُكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلاةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِن الضّيقِ وَقِلَّةُ عِلْمٍ بالأُمُورِ وَالاحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دُوْنَهُ فَيَصْغُرُ عِنْدَهُمْ الكَبِيْرُ وَيَعْظُمُ عِنْدَهُمْ الصَّغِيْرُ وَيَقْبُحُ الحَسَنُ وَيَحْسُنُ القَبِيْحُ وَيُشَابُ الحَقُّ بِالبَاطِلِ. وَفِي كِتَابِهِ رَحِمَهُ اللهُ وَإيَّاكَ وَالدِّمَاءَ وَسَفْكِهَا بِغَيْرِ حِلِّها، فَإنَّهُ لَيْسَ شَئٌ أَدْعَى لِنَقْمَةٍ وَلا أعْظَمَ تَبِعَةٍ وَلاَ أَحْرَى لِزَوَالِ نِعْمَةٍ وَانْقِطَاعِ مُدَّةٍ مِنْ سَفْكِ الدِمَاء بِغَيْرِ حَقِّهَا، فَلاَ تُفَوِّتَنَّ سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَمٍ حَرَامٍ، فَإنَّ

مخاصمته رضي الله عنه للنصراني وإنصافه وتشجيعه علي الإسلام وزهده وذكر بعض الحكم المروية عنه - ضرب مثل

ذَلِكَ مِمَّا يُضْعِفُهُ وَيُوْهِنُهُ، بَلْ يُزِيْلُهُ وَيَنْقُلُهُ وَأخِّرْ السَّطْوَةَ حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُكَ فَتَمْلِكَ الخِيَارَ، وَلَنْ تُحْكِمَ ذَلِكَ حَتَّى تَكْثُرَ هُمُوْمُكَ بِذِكْرِ المَعَادِ إلى ربِّكَ وَالسَّلاَمُ. وَعَنْ الشَّعْبِيّ قَالَ: وَجَدَ عَليُّ بْنُ أَبي طَالِبٍ دِرْعَهُ عِنْدَ رَجُلٍ نَصْرَانِيّ فَأقْبَلَ بِهِ إلى شُرَيْحٍ يُخَاصِمُهُ قَالَ فَجَاءَ عَلِيُّ حَتَّى جَلَسَ إلى جَنْبِ شُرَيْحٍ قَالَ يَا شُرَيْحُ لَوْ كَانَ خَصْمِيْ مُسْلِمَاً مَا جَلَسْتُ إلا مَعَهُ وَلَكِنَّهُ نَصْرَانِيٌّ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كُنْتُمْ وَإيَّاهُمْ في طَرِيْقٍ فَاضْطرُّوْهُمْ إلى مَضَايِقِهِِ وصَغِّرُوْا بِهِمْ كمَا صَغَّرَ اللهُ بِهِم مِنْ غَيْرِ أنْ تَطْغَوْا ثمَّ قَالَ: هَذَا الدِّرْعُ دِرْعِىْ وَلَمْ أَبعْ وَلَمْ أهَبْ. فَقَالَ شُرَيْحٌ لِِلنَّصْرَانِيّ مَا تَقُولُ فِيمَا يَقُولُ أَمِيرُ المُؤمِنينَ فَقَالَ النَّصْرَانِيّ مَا الدِّرْعُ إلاّ دِرْعِيْ، وَمَا أميْرُ المُؤمِنينَ عِنْدِيْ بِكاذِبٍ فَالْتَفَتَ شُرَيْحٌ إلى أميْرِ المُؤمنينَ عَلَىّ بْنِ أِبيْ طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ هَلْ مِنْ بَيِّنَةٍ فَضَحِكَ عَلِيٌّ رَضَيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَالَ أصَابَ شُرَيْحٌ مَالِي فَقَضَى شُرَيْحٌ بِهَا لِلنَّصْرَانِيّ. قَالَ فَأَخَذَهُ النَّصْرَانِيّ وَمَشىَ خُطاً ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ أمَّا أَنَا فَأَشْهَدُ أنَّ هَذِهِ أَحْكَامُ الأنْبِيَاءِ، أمِيْرُ المُؤمِنِيْنَ يُدْنْيِنْي إلى قَاضِيْهِ يَقْضِيْ عَلَيْهِ. أَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَ اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُه، الدِّرْعُ وَاللهِ دِرْعُكَ يَا أَمِيْرَ المُؤمنْينَ اتَّبَعْتُ الجَيْشَ وأنْتَ مُنْطَلِقٌ إلى صِفِينَ فَخَرَجَتْ مِنْ بَعْيِركَ الأَوْرَقِ فَقَالَ أمَّا إذَا أسلَمْتَ فهِيَ لَكَ وَحَمَلَهُ عَلَى فَرَسٍ.

شِعْراً: لَعَمْرُكَ مَا تُغْنِي المَغَانِي وَلاَ الغِِنى ... إذَا سَكَنَ المُثْرِي الثَّرَى وَثَوى بِهِ فَجُدْ في مَرَاضِيْ اللهِ بالمالِ رَاضياً ... بِمَا تَقْتَنِي مِنْ أجْرِهِ وَثَوَابِهِ وَعَاصِ هَوَى النَّفْسِ الذِي مَا أَطَاعَهُ ... أخُوْ ظَلّةٍ إلا هَوَى مِنْ عُقَابِهِ وَحَافٍظْ عَلَى تَقْوى الآلَهِ وَخوْفِهِ ... لِتَنْجُو مِمَّا يُتّقَي مِنْ عِقَابِهِ وَلاَ تَلْهُ عَنْ تِذْكَارِ ذَنْبِكَ وَابلُهُ ... بِدَمْعٍ يُضَاهِيْ المُزْنَ حَالَ مُصَابِهِ وَمَثِّل لِعَيْنَيْكَ الحِمَامَ وَوَقْعَهُ ... وَرَوْعَةََ مُلْقَاهُ وَمَطْعَمَ صَابِهِ وَإنَّ قُصَارَى مَنْزِلِ الحَىِّ حُفْرَةٌ ... سَيَنْزِلُهَا مُسْتَنْزَلاَ عَنْ قِبَابِه فَواهًا لِعَبْدٍ سَاءَهُ سُوْءُ فِعْلِهِ ... وَأَبْدَى التَّلاَفِيْ قَبَلَ إغلاَقِ بَابِهِ قَالَ عَلِيّ رَضيَ اللهُ عَنْهُ لِعَمَّارٍ عَلاَمَ تَتَأَوَّهُ؟ إن ْكَانَ عَلَى الدُّنْيَا فَقَدْ خَسِرَتْ صَفْقَتُكَ، وإنْ كانَ علَى الآخِرَةِ فَقَدْ رَبِحَتْ تِجَارَتُكَ، يَا عَمَّارُ إنَّيْ وَجَدْتُ لَذّاتِ الدُّنْيَا في أَحْقَرِ الأشْيَاءِ: الطَّعَامِ وَأَفْضَلُهُ العَسَلُ وَهُوَ مِنْ حَشَرَةِ، المَشْرُوْبَاتِ، وَأَفْضَلْهَا سَائِرَةٌ في الهَوَاءِ.

المَلْبُوْسَاتُ، وَأَفْضلُهَا الحَرِيْرُ وَهُوَ مِنْ دُوْدِ القَزِّ، المَشْمُوْمَاتُ وَأَفْضَلُهَا المِسْكُ وَهُوَ مِنْ فَأرَةٍ، المَسْمُوْعَاتُ وَهِيَ أعْرَاضٌ سَائِرَةٌ في الهَوَاءِ. النِّكَاحُ وَهُوَ مَبَالٌ في مَبَالٍ وَحَسْبُكَ أَنَّ المَرْأةَ تَتَزَيَّا بأَقْبَحِ شَئٍ فِيْهَا هَذِهِ العِظَةُ تَكْشِفُ لَنَا عَنْ هَوَانِ الدُّنْيَا عَلَى اللهِ حَيْثُ جَعَلَ لَذَّاتِهَا في أحْقَرِ الأَشياء والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. فَصْلٌ: ومِنَ الحِكَم المروية عنه ما يلي: وقال رضي الله عنه: ((البخل عار والجبن منقصة والفقر يخرس الفطن عن حجته والمقل غريب في بلدته والعجز آفة والصبر شجاعة والزهد ثروة والورع جنة)) . وقال: ((نعم القرين الرضى والعلم وراثة كريمة والآداب حلل مجددة والفكر مرآة صافية)) . وقال: ((صدر العاقل صندوق سره والبشاشة حبل المودة والاحتمال قبر العيوب)) . وقال: ((إذا أقبلت الدنيا علي أحد أعارته محاسن غيره وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفوسه)) . وقال: ((إذا قدرت علي عدوك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه)) . وقال: ((إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا قصاها بقلة الشكر)) . وقال: ((من جري في عنان أمله عثر بأجله)) . وقال: ((من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه)) ويروي هذا عن رسول الله ? ((من كفارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب)) . وقال: ((يا ابن آدم إذا رأيت ربك سبحانه يتابع نعمه عليك وأنت تعصيه فاحذره)) . وقال: ((الحذر الحذر فوالله لقد ستر حتي كأنه غفر)) .

وقال: ((فاعل الخير خير منه وفاعل الشر شر منه)) . وقال: ((كن سمحاً ولا تكن مبذراً وكن مقدراً ولا تكن مقتراً)) وقال: ((من أسرع إلى الناس بما يكرهون قالوا فيه بما لا يعلمون)) . وقال: طوبى لمن ذكر المعاد وعمل للحساب وقنع بالكفاف ورضي عنه الله)) . وقال: احذروا صولة الكريم إذا جاع وصولة اللئيم إذا شبع)) . وقال: ((أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة)) . وقال: ((القناعة مال لا ينفذ)) . وقال: ((اللسان سبع إن خلي عنه عقر)) . وقال: ((فوت الحاجة أهون من طلبها إلي غير أهلها)) . وقال: ((لا تستح من إعطاء القليل فإن الحرمان أقل منه)) . وقال: ((إذا تم العقل نقص الكلام)) . وقال: ((من نصب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تأدبيه بسيرته قبل تأديبه بلسانه ومعلم نفسه ومأدبها أحق بالاجلال من معلم الناس ومؤدبيهم)) . وقال: ((قيمة كل امرئ ما يحسنه)) . وقال: (أوصيكم بخمس لو ضربتم إليها آباط الابل لكانت لذلك أهلاً لا يرجون أحد منكم إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه ولا يستحين أحد إذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم ولا يستحين أحد إذا لم يعلم الشيء أن يتعلمه. وعليكم بالصبر فان الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد ولا خير في جسد بغير رأس ولا في إيمان لا صبر معه)) . وقال: ((من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس ومن أصلح أمر آخرته أصلح الله له أمر دنياه ومن كان له من نفسه واعظ كان عليه من الله حافظ)) .

وقال: ((اعقلوا الخير عقل رعاية لا عقل رواية فإن رواة العلم كثير ولكن رعاته قليل)) . وقال: ((لا يترك الناس شيئًا من امر دينهم لاستصلاح دنياهم إلا فتح الله عليهم ما هو اضر منه)) . وقال: ((إضاعة الفرصة غصة)) . وقال: ((عجبت للبخيل يستعجل الفقر الذي منه هرب ويفوته الغنى الذي إياه طلب فيعيش في الدنيا عيش الفقراء ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء. وعجبت للمتكبر الذي كان بالامس نطفة ويكون غداً جيفة. وعجبت لمن شك في الله وهو يرى خلق الله. وعجبت لمن نسي الموت وهو يرى الموتى. وعجبت لمن أنكر النشأة الأخرى وهو يرى النشأة الأولى. وعجبت لعامر دار الفناء وتارك دار البقاء)) . فيا عَجَباً مِمَّنْ يُضِيْعُ حَيَاتَهُ ... عَلى حِفْظِ مالٍ وهو لِلْغَيْرِ يَدْخَرُ ومَنْ تُتَوَفى نَفسُه كُلَّ ليلةٍ ... وتَرْجِعُ فيه كَيْفَ لِلْبعْثِ يُنْكِرُ بَلَى قَادِرٌ أنْشَأهٌ أَوَّلَ مَرَّةٍ ... عَلَى رَدِّ رُوحٍ منه فى الجِسْمِ أَقْدَرُ وقال: ((لا يكون الصديق صديقاً حتى يحفظ أخاه في ثلاث في نكبته وغيبته ووفاته)) . وقال: ((تنزل المعونة على قدر المؤنة)) . وقال: ((المرء مخبوء تحت لسانه)) . وقال: ((لا يعدم الصبور الظفر وان طال به الزمان)) . وقال: (الراضي بفعل قوم كالداخل معهم وعلى كل داخل في باطل اثمان إثم العمل به وإثم الرضى به)) . وقال: ((من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها)) . وقال: ((من كتم سره كانت الخيرة بيده) وقال: ((الاعجاب يمنع الازدياد)) .

وقال: ((الناس أعداء ما جهلوا)) . وقال: ((زاجر المسيء بثواب المحسن)) . وقال: ((الطمع رق مؤبد)) . وقال: ((لم يذهب من مالك ما وعظك)) . وقال: ((لا يزهدنك في المعروف من لا يشكر لك فقد يشكرك عليه من لا يستمع به وقد تدرك من شكر الشاكر اكثر مما أضاع الكافر والله يحب المحسنين)) . وقال: ((بئس الزاد إلي المعاد العدوان على العباد)) . وقال: ((من كساه الحياء ثوبه لم ير الناس عيبه)) . وقال: ((الكرم أعطف من الرحم)) . وقال: ((من ظن بك خيراً فصدق ظنه)) . وقال: ((الحدة ضرب من الجنون فان صاحبها يندم فان لم يندم فجنونه مستحكم)) . انتهى اللهُم إِنَّك تَعْلَمُ سِرَّنَا وَعَلاَنِيَتَنَا وتَسْمَعُ كَلاَمَنَا وتَرَى مَكَانَنَا لاَ يخَفْى عَليكَ شئُ مِنْ أَمْرنَا نَحْنُ البُؤَسَاءُ الفُقَراءُ إِليكَ المستغيثون المستجيرونَ بِكَ نَسْأَلُكَ أَنْ تُقَيِّظ لِدِينِكَ مَنْ يَنْصُرُهُ ويُزيلُ مَا حَدَثَ مِنْ البِدَع والمُنْكَراتِ ويُقِيْمُ عَلَمَ الجِهَادِ ويَقْمَعُ أَهلَ الزَّيْغِ والكُفْرِ والعِنَادِ ونَسْأَلُكَ أَنْ تَغْفِرَ لنَا ولِوَالِدِيْنَا وجميعِ الْمُسلمين برحمتِكَ يا أَرْحَم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) مواعظ ونصائح وعن رجل مِن بني شيبان أن عليَّ بنَ أبِي طَالِبٍ عليه السلام خطب فقال ((الحمد لله أحمده وأستعٍينه، وأؤمِنُ بِهِ وأتوكلُ عَليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودِين الحق لِيُزِيْحَ به

عِلَّتَكُمْ، ولِيُوقِظَ به غَفْلَتَكُم، واعلموا أنكم مَيِتّوُن ومَبْعُوثُون مِن بعد الموت ومَوْقُفُون على أعمالكم ومجَزّيُونَ بها. فلا تَغُرنّكُم الحَياةُ الدنيا فإنها داٌر بالبلاء مَحفُوفةٌ، وبالفناء معروفة، وبِالغَدر مَوْصُوفَةٌ، كُلُ ما فيها زَوال وهي بينَ أهلِها دُوَلٌ وسِجَال، لا تَدُومُ أهوالُها. ولن يَسْلَمَ مِن شرِها نُزَّالهُا، بينا أهلِها منها في رَخَاءٍ وسُرور، إِذا هم مِنها في بلاء وغُرُور، أَحْوَالٌ مُخْتَلِفة، وتاراتٌ مُتَصَرّفَةٌ. العيشُ فيها مَذْمُوم، والرخاءُ فيها لا يَدُوم، وإنما أهلهُا فيها أغراضٌ مُسْتَهْدفَة تَرْمِيهم بسهامِها، وتقصِمُهم بِحِمامِها، حتفُه فيها مَقْدُور وحظُّه فيها مَوْفُور. واعلموا عِبَادَ اللهِ وما أنتم فيه مِن زهرةِ الدُنيا على سبيل مَن قد مَضَى مِمَّنْ كان أطولَ منكم أعماراً، وأَشَدَّ مِنكم بَطْشاً، وأَعمَرَ دِياراً، وأبعدَ آثاراً. فأصْبَحَتْ أموالُهم هامِدَةً مِن بعدِ نُقْلَتِهِم، وأَجْسَادُهُم بالِية وَدِيارُهُم خَالِية، وآثارُهُم عافِية. فاستبدلُوا بالقُصور الْمُشَيَّدَةِ والنمارِقِ الْمُمَّهَدَةِ الصُّخُورَ والأحجارَ في القُبور التي قَدْ بُنيَ على الخراب فِناؤُهَا، وشُيِّدَ بالتراب بِنَاؤُهَا. فَمَحَلُّهَا مُقْتَرب، وساكنها مُغْتَرب، بينَ أَهْلَ عِمَارَةٍ مُوْحِشِين، وأَهْلِ مَحَلَّةٍ مُتَشَاغِلِين، لا يَسْتأْنِسُونَ بالعُمْران، ولا يَتَواصَلُون تَواصُلَ الجِيران والإِخوان، على مَا بينهُم مِن قُرْبِ الجِوار، ودُّنُوّ الدار. وكَيْفَ يكونُ بَيْنَهُم تَواصُلٌ وقد طَحَنَهُم بِكَلْكَلِهِ البِلَى وأَظَلَّتْهُمُ الجَنَادِلُ والثرَّى، فَأَصْبَحُوا بعد الحياة أَمْوَاتاً، وبَعْدَ غَضَارَةِ العَيشِ رُفَاتاً.

فُجِعَ بِهِم الأَحْبَاب، وسَكَنُوا التُراب، وظَعَنُوا فليسَ لهم إِياب، هَيْهَاتَ هَيْهاتَ، {كَلاّ إِنّها كَلمةٌ هو قائلها ومنِ وَرَائِهمْ بَرزَخٌ إلى يومِ يُبْعَثُون} . وكأن قد صِرْتُم إلى مَا صَارُوا إِليه مِن البِلى، والوَحْدَةِ في دَارِ المَثْوَى، وارْتُهِنْتم في ذلك المَضْجَع، وضَمَّكُم ذلك الْمُسْتَودَع. فكيف بكم لو قَدْ تَنَاهَت الأُمُور، وبُعثِرتِ القُبور، وحُصّلَ ما في الصُدور، وَوَقَفْتُم لِلَّتحْصِيل، بين يَدَي الملِكِ الجَليلِ. فَطَارَتِ القُلُُُوبِ، لإِشْفَاقِها مِن سَالفِ الذُنُوبِ، وهُتَكَتْ عَنكُم الحُجُب والأَسْتَار، وظَهَرتْ مِنكم العُيوبُ والأَسْرَار. هُنَالِكَ {تُجْزى كلُّ نَفْسٍ بِما كسَبتْ} إِن الله عز وجل يقول {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} وقال {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَي الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) . جعلنا الله وإِياكم عاملين بكتابه، مُتّبعين لأوليائه، حتى يُحِلَّنا وإِياكم دَارَ المُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ، إِنه حميد مجيد. عن الحسن، عن عليَّ عليه السلام، قال: طُوبى لِكُلِّ عبدٍ نُوَمَةٍ عَرَفَ الناسَ ولم يعرفه الناسُ، عَرَفَه اللهُ بِرِضوان. أولئكَ مَصَابيحُ الهدى يَكْشِفُ اللهُ عنهم كُلَّ فِتنةٍ مُظْلِمة، سيدخلهم الله في رحمته منه، ليسوا بالمَذَايِيْعِ البُذُرِ ولا الجُفَاةِ الْمُرائِين. وعن عاصم بن ضَمْرة عن عليَّ عليه السلام: " ألا إن الفقيه الذي لا يُقنِّط مِن رحمةِ الله ولا يُؤَمِنُهُم مِن عذابِ الله، ولا يُرَخِّصُ لهم في مَعَاصِي الله.

ولا يَدَعُ القُرآن رَغْبَةً عنه إِلى غَيرِهِ ولا خَيْرَ في عِبَادَةٍ لا علْمَ فيها ولا خير في علم لا فَهْمَ فيه، ولا خَيْرَ في قِراءةٍ لا تَدَّبُّر فيها)) . عن الشعبي، أَنَّ علياً عليه السلام قال (يا أيها الناس، خُذُوْا عني هؤلاء الكلمات، فلو رَكِبْتُم الْمَطِيَّ حتى تُنْضُوْهَا ما أَصبتمُ مِثْلَها) . لا يَرْجُوَنَّ عَبْدٌ إِلا ربَّه، ولا يَخَافَنَّ إِلا ذَنْبَه، ولا يَستحِيي - إِذا لم يعَلْمَ - أن يَتَعَلمَّ، ولا يَسْتَحِيي - إِذا سُئل عما لا يعلم - أَنْ يقُولَ: لا أَعْلَم. واعْلَمُوا أن الصَّبر مِن الإيمان بمنزلة الرأسِ مِن الجسد، ولا خَيْرَ في جَسَدٍ لا رأسَ له. وعن أبي عبد الرحمن السُّلمَى، عن علي بن أبي طالب، قال: أوحى الله عز وجل إلى نبي من الأنبياء أنه ليس من أهل بيت ولا أهل دار ولا أهل قرية يكونون لي على ما أحب فيتحولون عن ذلك إلى ما أكره، إِلا تحولت لهم مما يحبونه إلى ما يكرهون. وليس من أهل بيت ولا أهل دار ولا أهل قرية يكونون لي على ما أكره فيتحولون من ذلك إلى ما أحب إلا تحولت لهم مما يكرهون إلى ما يحبون. وعن عبد الله بن عباس أنه قال: ما انتفعتُ بكلام أحد بعد رسول الله ? كانتفاعي بكتابٍ كَتَبَ عليّ بن أبى طَالبٍ، فإنه كتب إليَّّ: ((أما بعد فان المرءَ يسوءُهُ فَوْتُ ما لم يكن لِيُدْرِكَه، ويسَرَّه دَرْك ما لم يكن لِيَفُوتَه، فَلْيكُنْ سُرُوْرُكُ بما نِلتَ مِن أمرِ آخرَتكَ وليكُنْ أسَفُك على ما فَاتَكَ منها وما نِلْتَ مِن دُنْيَاكَ فَلا تُكِثرنَّ به فَرَحَاً، وما فَاتكَ مِنها فلا تأسَ عليه حَزَناً وليكن هَمُّكَ فيما بَعدَ الموت)) . وعن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، أن علياً رضي الله عنه شيَّع جَنَازَةً، فلما وُضِعَتْ في لَحْدِهَا عَجَّ أهلُها وبَكوْها فقال: ((ما تبكون؟

أما واللهِ لو عَايَنُوا ما عَاينَ مَيِتُّهُم لأَذهَلَتْهُم مُعَاينَتَهُم عن مَيِّتِهم، وإِن له فيهم لَعَوْدَة، ثم عودة، حتي لا يُبقي منهم أحداً)) . ثم قام فقال: أوصيكم عِبَادَ اللهِ بتقوى الله الذي ضرب لكم الأمثال، ووقَّتَ لكم الآجال، وجعل لكم أسماعاً تعي ما عَناها، وأبصاراً لتجلو عن غشاها، وأفئدة تَفْهَمُ ما دهاها. إِن الله لم يخلقكم عبثاً، ولم يضرب عنكم الذكر صفحاً بل اكرمكم بالنعم السوابغ، وأرصد لكم الجزاء، فاتقوا الله عِبَادَ اللهِ وجُدُّوا في الطلب، وبادِروا بالعمل قَبْلَ هادم اللذات. فان الدنيا لا يَدُوم نعِيمُها، ولا تُؤْمَنُ فَجَائِعهُا، غَرُورٌ حائِل، وسِنادٌ مائِلِ، اتَّعظوا عِبَادَ اللهِ بالعِبر، وازدَجِرُ بِالنُذُر، وانتفعُوا بالمواعظ. فَكَأَنْ قَدْ عَلِقَتْكُم مَخَالبُ المنية، وضُمِّنْتُم بَيْتَ التُراب، ودهمتكُم مُفْظِعاتُ الأُمور بنفخةِ الصُوْر، وَبَعْثَرةِ القُبور، وسِياقِ المحشرِ، ومَوْقفِ الحساب، بِاحاطةِ قُدْرَةِ الجبار. كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سَائِقٌ يَسُوقُها لِمَحْشَرِها، وشاهِدٌ يَشْهَد عَليها: (وأشْرَقتِ الأَرْضُ بِنُورِ ربّها وَوُضِعَ الكتابُ وجئ بالنّبيِّينَ والشهداء وقُضِىَ بينهم بالحقّ وهم لا يُظْلَمون) ارْتَجَّتْ لِذلك اليوم البِلاد، ونادَى المُنَادِي وحُشِرتِ الوحُوُشُ، وبَدَتِ الأَسْرار، وارتجَّتْ الأَفئِدةُ، وبُرّزتِ الجحيم قد تأجَّجَ جَحِيْمُهَا وغلا حمِيْمُهَا. عِبَادَ اللهِ، اتقوا الله تُقْيَةَ مَنْ وَجِلَ وَحذرَ وأَبْصَرَ وازْدَجَرَ فاحْتَثَّ طَلَباً وَنَجا هَرَبَاً، وقَدَّمَ لِلْمَعَاد واسْتَظْهَرَ بالزاد. وكفَى بالله مُنْتَقِماً ونَصِيراً، وكفَى بالكتاب خَصْماً وحَجِيْجاً، وكفَى بالجنة ثواباً، وكفَىَ بالنار وبالاً وعِقاباً، وأسْتَغْفِرُ اللهَ لي ولكم. شِعْراً: ... خُلِقَتَ جِسْماً ثَرِياً ثم زُرْتَ ثَرى ... وصِرْتَ خطّاً فَطَالَتْ مُدَّةً فَمُحِيْ

قِفْ بالمنازِلِ من عَادٍ وغَيْرهِمُوا ... فَمَا تَرَي ثَمَّ مِن شَخْصٍ ولا شَبَحِ كُلٌ مُجَازَى بِما أسْدَاهُ مِن حَسَنٍ ... وسَيِّئٍ فاهْجُرِ السَّؤْآت وَانْتَزِحِ وعن كُمَيْل بن زياد قال: أخذ عليَّ بن أبي طالب بِيَدِي فأخرجني إِلى ناحية الجبّان، فلما أصْحَرنا جلس، ثم تنفس ثم قال: ((يا كُمَيْل بنَ زِياد، القلوبُ أَوْعِيةٌ فخَيْرُها أَوعَاهَا لِلْعِلْم، احْفَظْ ما أَقُولُ لَكَ. الناس ثلاثةٌ: عَالِمٌ رباني، ومُتَعِلِّمٌ على سبيل نَجَاة، وهمَجٌ رَعَاعُ اَتْبَاعَ كلِّ نَاعِقٍ، يَميلونَ مَعَ كُلِّ رِيح، ولم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجؤوا إلى ركنٍ وثيق. العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلم يزكو على العمل والمال تنقصه بالنفقة، العلم حاكم والمال محكوم عليه وصنيعة المال تزول بزواله. ومحبة العالم دين يدان بها العلم يُكْسِبُه الطاعة في حَيَاته وجَمِيْل الأحدوثة بعد مماته، مات خُزّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة. إن ها هنا وأومأ بيده إِلى صدره عِلماً لو أصبت له حَمَلَةً بلى أصبته لَقناً غير مأمون عليه، يستعمل آلة الدين للدنيا، يستظهر بنعم الله على عباده، وبحججه على كتابه. أو معانداً لِأَهل الحق لا بصيرة له في إحيائه، ينقدح الشك في قلبه، عارض من شبهة. لا ذا ولا ذاك. أو منهوماً باللذات سلسِ القياد للشهوات، أو مُغْرىً بجمع الأموال والادّخار، ليسا من دعاة الدين في شئ، أقرب شبهاً بهم الأنعام السائمة. كذلك يموت العلم بموت حامليه، اللهُم بلى، لن تخلو الأرض من قائم لله بحجة لكي لا تبطُل حُجَج الله وبيّناته أولئك هم الأقلون عدداً الأعظمون عند الله قدراً.

بهم يحفظ الله حججه حتى يُؤَدوْها إلى نظرائهم ويزرعونها في قلوب أشباههم، هَجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فاستلانوا ما استوعر المتْرَفُون، وأنسِوا بما استوحش منه الجاهلون. صحبوا الدنيا بأبدانٍ أروحها معلَّقة في المحلّ الأعلى آه آه شوقاً إلى رُؤيتهم، وأستغفر الله لي ولك إِذا شَئْتَ فَقُمْ)) وَعَنْ أَبِي أَراكة، قال: صليت مع عليّ بن أبِي طالب عليه السلام صلاة الفجر، فلما سلّم انفتل عن يمينه، ثم مكث كأن عليه كآبة، حتى إِذَا كانت الشمس على حائط المسجد قِيدَ رمح، قال وقلب يده: ((لقد رأيت أصحاب رسول الله ? فما أرى اليوم شيئاً يشبههم لقد كانوا يصبحون شُعْثاً صُفْراً غُبْراً بين أعينهم أمثال رُكَبِ المِعْزى، قد باتوا لله سُجّداً وقياماً، يتلون كتاب الله يراوحون بين جباههم وأقدامهم. فإذا أصبحوا فذكروا الله مادَوْا كما تَميد الشجرة في يوم الريح، وهَملت أعينهم حتى تبلّ ثيابهم، والله لكأن القوم باتوا غافلين)) . ثم نهض فما رئي مفتّرًا يضحك حتى ضربه ابن مُلْجَمٍ، والسلام. ولا غُرْوَ بالأَشْرَافِ إِنْ ظَفِرتْ بِهِمْ ... كِلاَب الأَعادِىْ مِن فَصِيْحٍ وأَعْجَمِ فَحَرْبَةُ وَحْشِيٍ سَقَتْ حَمْزةَ الرَّدَى ... ومَوْتُ عَلي مِن حُسَام ابْنِ مُلْجِمِ شِعْراً: ... وكيف قَرْتْ لأهل العلم أعينُهم ... أو اسْتَلَذُوا لَذٍيِذَ النومِ أو هَجَهُوا والموتُ يُنْذِرِهُم جَهْراً عَلانِيَةً ... لَوْ كَان لِلْقَومِ أسْمَاعٌ لَقَدْ سَمِعُوا والنارُ ضَاحِيةُ لا بُدَّ مَوْرِدُهُمْ ... ولَيِس يَدْرُونَ مَن يَنْجُو ومَنْ يَقَعُ قَدْ أمْسَتِ الطيرُ والأنعامُ آمِنةً ... والنونُ في البَحْرِ لَنْ يَغْتَالُهَا فَزَعُ والْأَدَمِيُّ بِهَذا الكَسْبِ مُرْتَهنٌ ... لَهُ رَقيبٌ على الأشْرارِ يَطَّلِعُ حَتَّى يُوافِيهِ يَوْمَ الجَمْعِ مُنْفَرداً ... وخَصْمُهَ الجِلْدُ والأبْصَارُ والسَّمَعُ إذَا النَّبِيونَ والأشهادُ قَائِمةٌ ... والجنُ والإِنسُ والأَمْلاكُ قد خَشَعُوا

وطارَتِ الصُحْفُ في الأيديْ مُنشَّرةً ... فِيهَا السَّرَائِرُ وَالأخبارُ تُطَّلعُ فِكيفَ سَهْوُكَ والأَنباءُ وَاقِعةٌ ... عَمَّا قَلِيْلِ ولا تَدْرِيْ بِمَا يَقَعُ أَفِي الجِنانِ وفَوْزٍ لا انْقِطَاعَ لَهُ ... أَمِ الجَحِيْم فلا تُبْقِيْ ولا تَدَعُ تَهْوِيْ بِسَاكِنَهِا طَوْراً وتَرْفَعُهُمْ ... إذا رَجَوْا مَخْرَجاً مِن غَمَّهَا قُمِعُوا طَالَ البُكَاءُ فَلَمْ يُرْحَمْ تَضَرَعَهَمْ ... هَيْهَاتَ لا رِقَةُ تَغِيْ ولا جَزَعَ لِيَنْفَع العِلمُ قَبْلَ الموتِ عَالِمُهُ ... قَدْ سَالَ قَومٌ بِهَا الرُجْعَي فما رُجِعُوا اللهُم ارزقنا أنْفُسًا تَقْنَعُ بِعَطَائِكْ، وتَرْضَى بقَضَائِكْ، وتَصْبِرُ عَلى بَلائِكْ، وتُوْقِنُ بِلقَائكَ وتَشْكُرُ لِنعْمَائِكْ وتحَِبُ أَوْلِيائَكْ وتُبْغِضُ أعْداءَكْ واغفِرْ لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين. فَصْل: ضَرَبَ ابنُ رَجَب رحمه الله مثلاً جامعاً لأحوالِ الخلقِ كُلِّهم بالنسبةِ إلى دَعوِة الرسول ? وانقسامهم في إجابةِ دعْوَتِه إلى سَابِقٍ، ومُقْتَصِدٍ، وظَالمٍ لِنَفْسِه، وبه يَظْهَر فَضْلُ العُلماءِ الربانيين على غيرهم مِن الناس أَجمعين. فنقولُ: مَثَلُ ذلك كمثل رَسُولٍ قَدِمَ مِن بَلدِ الملِكِ الأَعظمِ فأدّى رِسالة الملِكِ إلى سَائِر البُلْدانِ، وظَهَرَ لهمِ صِدْقُه في رِسَالتِهِ. فكانَ مَضَمُونُ الرِسالِة التي أدَّاهَا مِن الملِكِ إلى رَعِيتهِ أنَّ هَذا الملك لا إحْسَانَ أَتَمَّ مِن إحسانِهِ، ولا عَدْلَ أكملَ مِن عَدْلِهِ، ولا بَطْشَ أشدَّ مِن بَطْشِهِ. وأنه لا بُدَّ أنْ يَستدعِي الرعيةَ كُلَّهم إليه ليُقِيمُوا عنده. فمَن قَدِمَ بإحسانٍ جَزَاهُ بإحسانه أَتَمَّ الجزاءِ، ومَن قَدِمَ عليه بإساءَةٍ جَزَاهُ بإساءَتِهِ أشدَ الجَزَاءِ. وأنه يُحبُ كَذَا وكَذا، ويَكْرَهُ كَذا وكذا لم يَدَعْ شَيئاً مِمَّا تعْمَلُهُ الرَّعِيةُ إلاَّ أَخْبَرَهَمُ بِما يُحِبُهُ المَلِك منه وما يَكْرَهُ، وأَمَرَهُم بالتَّجَهُز والسير إلى دَارِ الملِكِ، التي فيها الإقامةُ.

وأَخْبَرَهَمُ بِخَرابِ جمْيِعِ البِلادِ سِوىَ ذلك البلدِ. وأنَّ مَن لم يَتَجَهزْ لِلسَّيْرِ بَعَثَ إليه الملِكُ مَن يُزْعِجُهُ عن وطنِهِ وَينقلُه مِنْهُ على أَسْوَأِ حَال. وجعَلَ يَصِفُ صِفاتِ هذا الملك الْحُسنى مِن الجَمَالِ والكَمَالِ والجَلالِ والإِفْضَالِ. فانقسمَ الناسُ في إِجَابَةِ هذا الرسُولِ الدَّاعِي إلى الملِكِ أَقساماً عَدِيْدَةً فمِنهُم مَن صَدَّقَهُ ولم يَكُنْ لَهُ هَمٌّ إِلَّا السُؤال عَمَّا يُحِبُ هذا الملِكُ مِن الرعِيَة استصحابَه إلى دارِه عندَ السير إليه. فاشتغلَ بتَخْلِيصِهِ لِنَفْسِهِ وبِدُعَاءِ مَن يُمكِنُهُ دُعَاؤُهُ مِن الخَلِقْ إلى ذلك، وعَمَّا يَكْرَهُهُ هَذَا الملِكُ فاجْتَنَبَهُ. وأَمَر الناسَ باجتنابِهِ وجَعَل هَمَّهُ الأَعظَمُ السُؤال عن صِفَاتِ الملِكِ وعَظَمَتِهِ وإفْضَالِهِ، فَزَادَ بِذَلِكَ مَحبةً لِهذا الملِكِ وإجلالِهِ والشوقِ إلى لِقائِهِ. فارتحل إِلى الملِكِ مُسْتَصْحِباً لأَنْفَس ما قَدِرَ عليه مِمَّا يُحبِه الملِكُ ويَرْتَضَيِهْ، واسْتَصْحَبَ مَعَهُ رَكْباً عَظِيْماً على مِثْلِ حَالِهِ سَارَ بهم إلى دَارِ الملِكِ. وقَدْ عرفَ مِن جِهَةِ ذلكَ الدليلُ الذي هو الرسولُ الصادِقُ أقربَ الطرقِ التي يتوصَّلُ بالسير فِيها إلى الملِكِ، وما يَنْفَعُ مِن التزوُدِ لِلمَسِيرِ فيها. وعَمِلَ بمقتضَى ذلك في السَيْرِ هو ومَن اتبعَهُ. فهذه صفةُ العُلماءِ الربانيين الذين اهتدوا وهدوا الخلقَ مَعَهُم إلى طريقِ اللهِ. وهؤلاءِ يَقْدَمُونَ على الملِكِ قُدوم الغائبِ على أهلِهِ المنتظرِين لِقُدومِهِ المشتاقينَ إليه أشدَّ الشوق. شِعْراً: ... إِذَا خَدَمَ السُّلْطَانَ قَوْمٌ لِيَشْرفُوْا ... بِهِ وَيَنَالُوْا كُلَّ مَا يَتَشَوَّفُوْا خَدَمْتُ إِلهِي وَاعْتَصَمْتُ بِحَبْلِهِ ... لِيَعْصِمِنَيْ مِنْ كُلِّ مَا أَتَخَوَّفُ

وَيُكْرِمَنِيْ بالعِلْم والحِلْمِ وَالتُّقَى ... وَيُؤْتِينَي ما لَيْسَ يَفْنَى وَيَتْلَفُ فَخِدْمَتُ مَنْ يُعْطِي السَّلَاطِيْنَ مُلْكَهُمْ ... وَيَنْزَعَهُ عَنْهُمْ أَجَلُّ وأشْرَفُ ... وقِسْمُ آخَرُونَ اشتغَلُوا بالتأهّبِ بمسيرِهِم بأنفُسِهِم إلى الملِكِ ولم يَتَفَرَّغُوا لِاسْتِصْحَابِ غَيْرهِمْ مَعَهُم. وهذهِ صِفَةُ العُبّادِ الذين تَعَلَّموُا ما يَنفعُهُم في خاصةِ أَنفسِهِم واشتغلُوا بالعَمَلِ بمُقْتضَاه. وقِسْمٌ آخَرُونَ تَشَبهَّوُا بأَحَدِ القِسْمَين وأَظْهَروُا لِلنَّاسِ أَنَّهُم مِنْهُم وأَنَّ قَصدَهُم التَّزوُدَ للِرَّحِيل، وإنما كان قَصدُهم استيطان دارِهِم التي هُمُ بها مُسْتَوطِنُون. وحَالُ هؤلاءِ عند الملِكِ إذا قدمُوا عليه شَرّ حالٍ، ويقالُ لهم اطْلبُوا جِزَاءَ أَعْمَالِكم مِمَّنْ عَمِلْتُم لهَم، فليسَ لكَم عندنا مِن خَلاقٍ. وهُم أولُ مَن تُسعَّرُ بهُم مِن أهل التوحيد. وقِسْمٌ آخَرُونَ فَهِمُوا ما أَرَادَهُ الرسولُ مِن رسالةِ الملِكِ لَكِنَّهُم غَلَبَ عَليهم الكَسَلُ والتقاعدُ عن التزود للسفر واستصحاب ما يُحِبُ الملِكِ واجتنابِ ما يَكْرَه. وهؤلاء العُلماء الذين لا يَعْمَلُونَ بِعِلْمِهِم، وهُمْ على شَفَا هَلكَةٍ، وربما انتفعَ غيرُهُم بمعرفِتهم وَوَصْفِهم لِطَريقِ السَّيرِ، فسارَ المتعلِمُونَ فنجَوَا وانقطعَ مَن تَعلَّموا مِنهم فهلكوا. وقِسْمٌ آخَرُونَ صَدَّقُوا الرسولَ فِيما دَعَا إليه مِن دعوة الملِكِ لَكِنَّهُم لم يَتَعَلَّمُوا منه طَرِيْقَ السير، ولا مَعْرِفة تفاصيل ما يُحبُه الملِكِ وما يَكَرَهُهُ، فساروا بأنفسِهم وَرَمَوْا أنفسَهم في طَريْقٍ شَاقَّةٍ، ومَخَاوُفَ، وقِفَارٍ وعْرَةٍ فَهَلَكَ أَكْثُرهُم، وانقطعُوا في الطريقِ، ولم يَصِلُوا إلى دَارِ الملِكِ. وهؤلاءِ الذين يَعْمَلُون بِغَير عِلْمٍ. وقِسْمٌ لم يَهْتَمُّوا بهذِه الرِسالةِ، ولا رَفَعُوا بها رَأْساً، واشتَغَلُوا بمصَالح إقامَتِهم في أوطانِهِم التي أَخبر الرسولُ بخَرابها.

وهَؤلاءِ منهم مَن كَذَّبَ الرسولَ بالكَلية، ومنهم من صدَّقَه بالقول ولكنَهُ لم يَشْتَغِلْ بمعرفةِ مَا دَلَّ عليه ولا بالعمل بِهِ. وهَؤلاءِ عُمُومُ الخلق المعرِضُونَ عن العِلم والعَمَلِ. ومنهم الكُفارُ والمنافقونَ ومنهم العُصَاةُ الظالمون لأَنفسِهِم فلا يَشعُرون إِلا وقد طرقَهُم داعِي الملِكِ فأجْلاهم عن أوطانِهمِ واسْتَدعَاهُم إلى الملِكِ فقَدِمُوا عَليهِ قُدُوْمَ الآبقِ على سيدِهِ الغضبانِ عليه. فإذا تَأَملَّتَ أقسامَ الناسِ المذكوُرة لَم تَجدْ أَشَرفَ ولا أَقْربَ عندَ الملِكِ مِن العُلماء الرَّبانيين. فَهُم أفضَلُ الخلقِ بعد المَرُسَلِين صلواتُ الله وسلامُه عليهِم أجمعين أ. هـ. خُزَّانُ وَحْي اللهِ لَمْ يُرَى غَيْرُهُم ... أَهْلاً لِحِفْظَ كَلامِهِ المُخْتارِ لَكِنْ عَلَيْهم أَنْ يَقُومُوْا بالذِي ... فيهِ مِن المَشْرُوْع لِلْأَبْرَار صِدْقٌ وإِخْلَاصٌ وحُسْنُ عِبَادَةٍ ... وقِيَامُ لَيْلٍ مَعْ صِيَامِ نَهَارِ وتَوَرُّعٍ وتَزَهُّدٍ وتَعَفُفٍ ... وتَشَبُّهٍ بِخَلائِقِ الأَخْيَارِ ودِيَانَةٍ وصِيَانَة وأَمَانَةٍ ... وتَجَنُّبٍ لِخَلائِقِ الأَشْرارِ وأَدَاءِ فَرْضٍ واجْتِنَاب مَحَارِمٍ ... وإِدَامَةٍ لِلْحَمْدِ والأَذْكارِ يَا حَامِل القُرآنِ إنْ تَكُ هَكَذا ... فَلَكَ الهَنَاءُ بِفوْزِ عُقْبَى الدَّارِ وَمَتَى أَضَعْتَ حُدُوْدَهُ لم تَنْتَفَِعْ ... بحُرُوْفِهِ وسَكَنْتَ دَارَ بَوَارِ اللهُمَّ عَلِمّنَا ما يَنْفَعُنَا وانفَعْنَا بما علَّمْتَنَا وَبَارِكْ لنا في عُلُومِنَا وأَعمالِنا وأَعمارِنا وأَصْلحْ نِياتِنَا وذُرّيَاتِنا واغفِرْ لنا ولِوَالِدينا ولجِميع المسلمين برحمْتَِك يا أرحمَ الراحمينَ وصلى اللهُ على محمدٍ وعلى آلِهِ وصحْبِهِ أجمعين.

(فَصْلٌ) وقال ابن القيم رحمه الله في الكلام على مَرَاحِل العالِمَين وكيفيةِ قَطْعِهمِ إياَّها فْلَنْرجِعْ إليه فنقول أمَّا الأَشْقَياءُ فقطعُوا تِلكَ المراحلَ سَائِرين إلى دارِ الشقاء مُتزودين غضَبَ الربِ سُبْحَانِهِ. ومُعَاداةَ كُتُبِهِ ورُسُلِهِ، وما بُعِثُوا به ومُعَادَاةَ أوليائِهِ والصَّدَّ عن سبيلِهِ ومحاربةَ مَن يدعو إِلى دينه ومقاتلةَ الذين يأمرون بالقسط من الناس وإقامة دعوة غير دعوة الله التي بَعَثَ بها رُسَلَه لِتَكُونَ الدعوةُ لَهُ وَحْده. فقطعَ هؤلاءِ الأَشقياءُ مَرَاحِلَ أعمارِهِم في ضِدّ ما يُحِبه اللهُ ويُرَضاه: وأَمَّا السائِرونَ إليه فظالِمُهُم قَطَعَ مَراحِلَ عُمُرِهِ في غفلاتِهِ وايثار شهواته ولَذَّاتِهِ على مَراضِ الرب سبحانه وأوامِرِه مع ايمانه بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر. لكن نفسه مغلوبة معه مأسورة مع حظه وهواه يعلم سوء حاله ويعترف بتفريطه ويعزم على الرجوع إلى الله فهذا حال المسلم. وأما من زين له سوء عمله فرآه حسناً وهو غير معترف ولا مقر ولا عازم على الرجوع إلى الله والإِنابة إليه أصلاً. فهذا لا يكاد إسلامه أن يكون صحيحاً أبداً ولا يكون هذا إلا منسلخ القلب من الإيمان ونعوذ بالله من الخذلان. وأَما الأَبرار المقتصدون فقَطَعوا مَرَاحِلَ سَفَرهم بالاهتمام بإقامةِ أمْرِ اللهِ وعقدِ القلبِ على تَرْكِ مُخَالَفَتِهِ ومَعَاصِيه فَهمهُم مصرْوُفْةٌ إلى القيامِ بالأَعمالِ الصالحةِ واجتنابِ الأَعمالِ القبيحةِ. فأَولُ مَا يَسْتَيقِظُ أَحَدُهُم مِن مَنامِهِ يَسْبِقُ إِلى لُبِهِ القِيامُ إلى الوُضُوءِ والصلاة كما أَمَرَهُ اللهُ فإِذا أَدّى فَرْضَ وقْتِهِ اشْتَغَلَ بالتلاوةِ والاَذكارِ إلى حِينِ تطلعُ الشمسُ فيركَعُ الضُحِى.

ثم يَذْهَبُ إلى ما أقامَهُ اللهُ فيه مِن الأسبابِ فإِذا حَضرَ فرْضُ الظُهرِ بادَرَ إلى التَّطََهُّر والسعي إلى الصف الأولِ مِن المسجدِ فَأدّى فَريْضَتَهُ كما أُمِرَ مُكَمِّلاً لها بِشَرَائِطِهَا وأركانِهِا وسُنَنِها وحَقَائِقِهَا الباطِنةِ مِن الخشوعِ والمُرَاقبةِ والحُضُورِ بين يَدَي الرب. فَيَنْصرِفُ مِن الصلاةِ وقد أَثَّرَتْ في قلْبه وبَدَنِهِ وسائر أحْوَالِهِ آثاراً تَبْدُو على صَفَحَاتِهِ وِلِسِانِهِ وجَوارِحِهِ ويجَدُ ثَمَرتَهَا في قلبهِ من الإنابة إلى دارِ الخُلود والتجافي عن دار الغرور وقِلَّةِ التكَالبِ والحِرص على الدنيا وعَاجِلها. قَد نهَتهُ صَلاتُه عَن الفحشاءِ والمنكر وَحَبَّبَتْ إليه لِقاءَ اللهِ ونَفَّرتْهُ عن كُلِّ قَاطِعٍ يَقْطَعُه عن اللهِ فَهُو مَغْمُومٌ مَهْمُومٌ كَأَنَّهُ في سِجْنٍ حتى تحْضُرَ الصلاةُ. فإِذا حَضَرَتْ قَام إلى نعَيْمِهِ وسُرُورِه وقُرةِ عينه وحَيَاةِ قلبهِ فهو لا تطيبُ له الحياة إلا بالصلاةِ هذا وهُم في ذلك كُلِّهِ مُرَاعُونَ لِحْفِظِ السُنن لا يُخِلُّونَ منها بِشئٍ ما أَمكَنَهُم. فَيَقْصُدُوْنَ مِن الوُضوءِ أكمله ومِن الوقتِ أَوَّلَه ومِن الصفوف أوَّلَهَا عن يمينِ الإمامِ أو خلفَ ظهره. ويأتونَ بعد الفريضة بالاذكارِ المشروعةِ كالاستغفارَ ثلاثاً وقولِ اللهُم أنت السلامُ ومنكَ السلامُ تَباركتَ يا ذا الجلالِ والإِكرامِ. وقول لا إلهَ إلا الله وحدَهُ لا شريكَ لَهُ لَهُ المُلكُ ولَهُ الحمدُ وهو على كل شئ قدير اللهُم لا مانعَ لما أَعْطَيْتَ ولا معطي لما مَنَعتَ ولا ينفعُ ذا الجدِ منكَ الجدُ لا إلهَ إلا اللهُ ولا نعبدُ إلا اياهُ له النعمةُ وله الفضلُ وله الثناءُ الحَسَنُ لا إِله إلا اللهُ مخلصينَ له الدينَ ولو كره الكافرون. ثم يُسبِحُونَ ويحَمدُون ويُكَبِرونَ تِسعاً وتِسعينَ ويَخْتِمُونَ المائةَ بلا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، لَهُ الملكُ وله الحمدُ وهو علي كل شئٍ قدير.

ومَن أَرَادَ المزيدَ قَرأَ آيةَ الكُرسيِ والمُعَوِذَتين عَقِبَ كل صلاةٍ فإن فيها أحَادِيْث رواها النسائي وغيرهُ. ثم يَركَعُونَ السنة على أحْسَنِ الوُجُوهِ هذا دَأبُهُم في كُلّ فَرِيْضَةٍ. فإذا كان قِبلَ غُروبِ الشمس تَوَفَّرُوْا على أذَكارِ المسَاءِ الوَارِدةِ في السُنَةِ نَظِيْرُ أَذكارِ الصَّباحِ الوَارِدَةِ في أَوَّلِ النهارِ لا يُخِلُّونَ بِها أَبَدَاً. فإِذا جَاءَ اللَيلُ كَانُوا فِيه على مَنازِلهِم مِن مَواهِبِ الربِ سُبْحَانَهُ التي قَسَّمَها بينَ عِبادِهِ. فإِذا أَخَذُوا مَضَاجِعَهُم أَتَوا بِأَذْكارِ النَّوْمِ الوَارِدَةِ في السُنةِ وهي كَثيرةٌ تبلغُ نَحْواً من أَربَعِينِ. فيأتونَ مِنها ما عَلمُوْهُ وما يَقْدِرُوْنَ عليه مِن قِراءَةِ سُوْرَةِ الاخلاص والمُعَوذَتَينِ ثلاثاً ثم يَمْسَحُوْنَ بها رُؤُوسَهُمْ وَوُجُوهَهُم وأجْسَادَهُم ثلاثاً ويَقْرَؤُونَ آيةَ الكُرْسِي وخَوَاتِيم سُورةِ البَقَرةِ ويُسَبّحُونَ ثلاثاً وثلاثين ويَحْمِدُونَ ثلاثاً وثلاثين ويُكَبرُونَ أَرْبعاً وثلاثين. ثم يَقولُ أَحَدُهم اللَّهُمَّ إِني أسْلَمْتُ نَفِسيْ إليكَ وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إليكَ وفَوَّضْتُ أمْرِى إِليكَ وأَلجأتُ ظَهْرِيْ إِليكَ رَغْبِةً ورَهْبَةً إليك لا مَلْجَأَ وَلا مَنْجَا مِنكَ إِلا إِليكَ. آمنْتُ بِكتَابِك الذِي أَنْزَلتَ ونَبّيكَ الذي أَرْسَلْتَ. وإِنْ شَاءِ قَال باسمك ربِي وَضَعْتُ جنْبِي وبِكَ أرفْعَهُ فإِنْ أَمْسَكْتَ نفسِي فاغْفِرْ لَها وإِنْ أَرْسَلْتَهَا فاحْفَظْها بما تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصالِحين. وإِن شَاءَ قَال: اللهُمَّ رَبَّ السموات السبع وَرَبَّ العَرشِ العظيمِ رَبي وَرَبَّ كُل شَئِ فالِقَ الحب والنَّوى مُنَزّلَ التوراةِ والانجيل والقرآن أعوُذ بِكَ مِن شركُلَ دابةِ أَنْتَ آخذٌ بِناصِيتِهَا. أنْتَ الأوَّلُ فليس قَبْلَكَ شئٌ وأنتَ الآخرُ فليْسَ بَعْدَكَ شَئٌ وأَنْتَ

الظاهِرُ فَليْسَ فَوقَكَ شَئٌ وأنْتَ الباطنُ فَلَيْسَ دُوْنَكَ شَئٌ إقض عني الدينَ وأَغْنِني مِن الفقرِ. وبالجُملَة فَلا يَزَالُ يَذْكُر الله على فراشِهِ حتى يَغْلِبَهُ النومُ فهذا نَوْمُهُ عِبَادَةٌ وزَيادَةٌ لَه مِن قُربِهِ مِن اللهِ. فإِذا اسْتَيْقَظَ عاد إِلى عَادتِهِ الأُوْلَى وَمَعَ هذا فَهُوَ قائمٌ بِحقُوقُ العِبادِ مِن عِيادَةِ المَرْضَى وتَشْيِيْعٍ الجنائِز وإِجَابةِ الدَّعْوَةِ والمُعَاوَنَة لهم بالجاه والبدن والنفس والمال وزِيارَتِهِم وتفَقُدِهِم. وقائمٌ بِحِقُوقِ أَهْلِهِ وعِيالِه. فَهُوَ مُنَتَقلٌ في مَنَازِلِ العُبُودِيةِ كَيفَ نقلَهُ فِيها الأَمْرُ فإِذا وَقَعَ مِنه تَفِرْيطٌ في حَقٍ مِن حُقُوقِ اللهِ بادَرَ إِلى الاعتذارِ والتوبةِ والاستغفارِ ومَحْوِهِ ومُدَاوَاتِهِ بِعَمَلٍ صَالحٍ يُزيلُ أَثَرَهُ فهذا وَظِيفَتُهُ دَائِما.أهـ. وقال إنَ شُرورَ الدُنْيَا والآخِرَة إِنما هُو الجهلُ بما جاء به الرسول ? والخروجُ عنه. وهذا بُرهانُ قاطع على أنْ لا نجاةَ لِلْعَبدِ ولا سَعادةَ إلا بالاجتهاد في مَعْرِفَةِ ما جَاءَ به الرسول ? علْماً والقيامِ به عَمَلاً. وكمالُ هذه السَّعَادَةِ بأَمْرَين أَحَدُهما دعوة الخلق إليه، والثاني صَبْرُهُ واجتهادُهُ عَلى تِلكَ الدعوة. فانحصَرَ الكمالُ لِلإِنسان على هذه المراتب الأربع. أَحَدُهَا العلمُ بما جاء به النَّبي ?. والثانيةُ العملُ به. والثالثةُ نَشْرُهُ في الناس والدعوة إليه. والرابعةُ صَبْرُهُ وجهادُهُ في أدَائِهِ ونتنفِيْذهُ ومَن طَلَعَتْ هِمَّتُهُ إلى مَعْرفَةِ ما كان عليه الصحابةُ رضي اللهُ عنهم وأرَادَ اتِبَاعهمُ فهذِهِ طريقتُهُم حَقَا.

اللهُم إنا نسألكَ فِعْلَ الخَيْرَاتِ، وتَرْك المنكرات وحُبَّ المسَاكِيْنِ وإذا أرَدْتَ فِتْنَةً في قوم فَتَوَفَّنَا غَيْرَ مَفْتُنْونِيْنَ. وقال رحمه الله الهجرةُ هِجْرتان: هِجرةٌ بالجسم مِن بلد إلى بلد وهذه أحكامُها معلومةٌ وليس المرادُ الكلامُ فيها. والهجرةُ الثانيةُ الهجرةُ بالقلب إلى اللهِ ورسوِله وهذِه هِيَ المقصودُ هُنا وهذِهِ الهِجرةُ هِي الهِجرةُ الحِقيقيةُ وهي الأَصل. وهجرةُ الجسدِ تابعةٌ لها لله وهي هِجرة تتضمنُ (مِن) و (إلىَ) فيها جسرٌ بِقَلْبِهِ مِن مَحبَةِ غير اللهِ إلى مَحَبَّتِهِ، ومِن عُبوديه غيرهِ إلى عُبوديتِهِ ومِن خَوْفِ غَيرهِ ورَجَائِهِ، والتوكَّلِ عليه إلى خوفِ اللهِ ورَجائِهِ والتوكلِ عليه ومن دعاءِ غيرهِ وسؤالِهِ، والخضوعِ له والذل له والاستكانة له إلى دعاء الله وسؤال الله والخضوع له والذل له والاستكانة له. وهذَا بعَيِنِهِ مَعْنَى الفِرار إليه قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} والتوحيدُ المطلوبُ مِن العبد هُو الفِرَارُ مِن الله إليه. وتَحْتَ (مِن) و (إلى) في هذا سِرٌّ عظيمٍ من أسرار التوحيد فإنّ الفرارَ إليه سُبْحَانَهُ يَتَضَمَّنُ إِفْرادَهُ بالطلبِ والعبوديةِ فَهُو مُتَضَمِّنٌ لِتَوحِيدِ الإِلهيَّةِ التي اتّفَقَتْ عليها دَعوةُ الرسلِ صلواتُ اللهِ وسلامهُ عليهم أجمعين. وأمَا الفِرارُ مِنه إليه فَهُو مُتَضَمّنٌ لِتَوحِيدِ الرُبُوبيةِ وإثباتِ القَدَرِ وأنَّ كُلَّ ما في الكونِ مِن المكروهِ والمَحْذُورِ الذي يَفِرُّ مِنْه العبدُ فإنما أَوْجَبَتْهُ مشِيْئةُ اللهِ وحْدَهُ. فإن ما شاءَ كانَ وَوَجَبَ وجُودُهُ بمشيئتِهِ وما لم يَشأْ لم يَكُن وامتنعَ وجُودُهُ لِعَدمِ مَشِيئتِهِ. فإذا فَرَّ العبدُ إلى اللهِ فإنمَا يَفِرُّ مِن شئٍ إلي شَئٍ وُجِدَ بمشيئة اللهِ وقَدِرِه فهو في الحقيقةِ فارٌ مِن اللهِ إليه.

ومِنْ تصوَّرَ هذا حَقَّ تَصَوُرِه فَهِمَ مَعْنى قولِهِ ?: ((وأعُوذُ بِكَ مِنكَ)) وقوله: ((لا مَلْجأَ ولا مَنْجَى مِنكَ إلاَّ إليكَ)) . فإنه ليسَ في الوُجُودِ شئٌ يَفرُّ مِنه ويُسْتَعَاذُ مِنه ويُلَتجأَ مِنه إِلاَّ هُوَ مِن اللهِ خَلْقاً وإِبْدَاعاً. شِعْراً: ... تَوَكَّلْ على الرحمنِ في كُلَّ حَاجةٍ ... أرَدْتَ فإنَّ الله يَقْضِيْ وَيقَدِرُ مَتَى ما يُردْ ذُو العَرشِ أَمْراً بِعَبْدَهَ ... يُصِبْهُ، وما لِلْعَبِدِ ما يَتخَيَّرُ وقد يَهلَكُ الإِنسانُ مِن وَجْهِ أمْنِهِ ... وينجو بإذنِ الله مِن حَيْثُ يَحْذَرُ فالفارُ والمُسْتَعِيْذُ فَارٌ مِمَّا أَوجَدَ قَدَرُ اللهِ ومشيئتهُ وخلقُه إلى ما تقضِيهِ رحمتُه وبرُّه ولُطفهُ واحسانُه، ففي الحقيقةِ هو هاربٌ مِن اللهِ إليه مُسْتَعْيذٌ باللهِ مِنه. وتَصَوُّرُ هَذَيْنِ الأَمْرَيْنِ يُوجبُ لِلْعَبدِ انقطاعَ تَعَلقِ قَلْبِهِ عن غيرهِ بالَكُليةِ، خَوفاً ورَجَاءً، ومحَبةً. فإنه إذا عَلِمَ أن الذي يفِرُ مِنه ويَسْتِعْيذُ منه إنما هو بِمَشِيئْتهِ اللهِ وقُدْرَتِهِ وخَلْقِهِ لم يَبْقَ في قلبه خَوفٌ مِن غير خالِقِه ومُوْجِدِهِ. فَتَضَمَّنَ ذلكَ إفراد اللهِ وَحْدهُ بالخوفِ والحُب والرجاءِ. ولو كان فِرَارُهُ مِمَّا لم يَكُنْ بِمَشِيْئَتِهِ ولا قُدْرَتِهِ لكن ذلك موجباً لخوفه منه مثل ما يفر من مخلوق إلى مخلوق آخر أَقدر منه. فإنه في حالِ فِرارِهِ من الأولِ خائِفٌ منه حَذِراً أن لا يكونَ الثاني يُفِيْدُهُ مِنه بخلاف مَا إذا كان الذي يفر إليه هُوَ الذي قَضَى وقَدَّرَ وشَاءَ ما يَفِرُ مِنه فإنهُ لا يَبْقَى في القلب التفاتُ إلى غيره. فَتَفَطَنْ إلى هذا السِرّ العَجيْبِ في قَولِهِ ((أعُوذُ بِك مِنكَ)) و ((لا مَلْجَأَ ولا مَنْجَى منك إلا إليكَ)) فأَنَّ النَاس قد ذكروا في هذا أَقوالاً، وقُلَّ مَن تَعَرَّضَ منهم لهِذِهِ النُكْتةِ التي هِي لُبُّ الكلامِ ومقصودُه. وبالله التوفيق.

فتأمل كيفَ عادَ الأَمرُ كُلُّهُ إلى الفِرارِ مِن الله إليه وهو مَعنى الهِجرة إلى الله تعالى، ولهذا قال النبي ?، ((المهاجِرُ مَن هَجَرَ ما نهى اللهُ عنه)) . ولهذا يَقْرنُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى الإيمانَ والهجرةَ في غيرِ موضعٍ لِتلازُمِهمَا واقتضاءِ أحدهِمِا للآخرَ. والمقصودُ أن الهجرةَ إلى اللهِ تتضمنُ هِجْرانَ ما يَكْرَهُهُ واتيانَ ما يُحبه ويرضاه وأصلُهُما الحبُ والبُغضُ. فإِنّ المهاجرَ مِن شئٍ إلى شيءٍ لا بُدَّ أن يكونَ ما يُهاجِرُ إليه أحَبَّ مما هاجَرَ مِنه فَيؤثِرُ أَحَبَّ الأمَرينِ إليه على الآخر. وإذا كان نفَسُ العبدِ وهَوَاهُ، وشيطانُه إنما يدعونَهُ إلى خِلاف ما يُحبهِ ويَرضَاهُ، وقد بُلي بِهَؤلآءِ الثلاث. فلا يَزالُونَ يَدْعُونَه إلى غير مَرْضَاةِ رَبِهِ، وداعِي الإِيمانِ يدعُوه إلى مَرضاةِ ربِه، فعليه في كُلِ وقْتٍ أن يُهاجِرَ إلى اللهِ ولا يَنْفَكَ في هِجْرَتِه إلي الممات. وهذِهِ الهِجِرةُ تَقْوىَ وتَضْعُفُ بحسَبَ دَاعِي المحبةِ في قلب العبدِ فإِن كان الداعِي أَقْوى كَانِتْ هذِهِ الهِجرة أَقْوَى وأَتَمُ واكملُ وإِذَا ضَعُفَ الدَاعِي ضعُفَتِ الهِجرةُ حتى لا يَكَادُ يَشْعُرَ بها عِلماً، ولا يَتَحَرَّكُ لها إرَادَةً. والذي يَقْضِي مِنه العَجَبُ أَنَّ المرءَ يُوسِعُ الكلامَ وُيفَرِّعُ المسائلَ في الهِجرة مِن دارِ الكفر إلى دَارِ الإِسلام، وفي الهِجرة التي انْقَطَعت بالفَتْحِ، وهَذِهِ هِجْرَةٌُ عَارضَةُ. رُبَّمَا لا تَتَعَلقُ به في العُمْر أَصْلاً. وأما هَذِهِ الهِجْرَةُ التي هِي واجبَةٌُ على مَدَى الأَنْفَاسِ لا يَحْصُلُ فِيها عِلْماً ولا إرَادَةً ومَا ذاكَ إِلاَّ لِلأَعْرَاضِ عَمَّا خُلِقَ لَهُ، والاشتغالُ بِما لا يُنْجِيْهِ وحْدَهُ عَمَّا لا يُنْجِيْه غَيْرُهُ قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} .

وهَذا حَالُ مَن عَشيْتَ بَصِيْرتُهُ وضَعُفَتْ مَعْرفتُه بمراتِبِ العُلُومِ والأَعْمَالِ والله المستعان. وبالله التوفيق لا إلهَ غَيْرُهُ ولا رَبَّ سِوَاهُ. وأما الهِجْرَةُ إلى الرسُولِ ? فَعِلْمٌ لم يَبْقَ منه سِوَى اسْمُهُ ومَنْهَجٌ لم تَتْرُكْ بُنَيَّاتُ الطريقِ سِوى رَسْمَهُ، ومَحَجَّةٌ سفَتْ عليها السوافِي فَطَمَسَتْ رُسُومَهَا وغَارَتْ عليها الأَعَادِي فَغَوَّرَتْ مَنَاهِلَهَا وعُيونَها. فسالِكُهَا غَرِيْبٌ بَينَ العِبَادِ فَرِيدٌ بَينَ كُلِّ حي وناد. بعيد على قرب المكان وحيد على كثرة الجيران. مستوحش مما به يستأنسون، مستأنس مما به يستوحِشُوْن مقيم إذا ظعنوا، ظاعن إذا قطنوا، منفرد في طريق طلبه لا يقر قراره، حتى يظفر بإربه. فهو الكائن معهم بجسده البائن منهم بمقصده، نامت في طلب الهدى أعينهم، وما ليل مطيته بنائم، وقعدوا عن الهجرة النبوية، وهو في طلبها مشمر قائم. يعيبونه بمخالفة أرائهم ويزرون عليه إزارءً على جهالاتهم واهوائهم، قد رجموا فيه الظنون وأحدقوا فيه العيون، وتربصوا به ريب المنون {فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ} {قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} وقال رحمه الله الطلبُ لِقاحُ الإِيمان، فإذا اجتمعَ الإِيمانُ والطلبُ أَثْمَرَ العملَ الصالحَ. وحسنُ الظنّ بالله لِقاحُ الافتقار والاضطرارِ إليهِ فإذا اجتمعا أَثمَرا إِجابةَ الدُعَاءِ. والخشيةُ لقاحُ المحبةِ فإذا اجتمعا أَثْمَرا امتثالَ الأَوامِرِ، واجتنابَ النواهِي. والصبرُ لِقاحُ اليقين، فإذا اجتمعا أَوْرَثَا الإِمامةَ في الدِيْنَ قال تعالى

{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} وصحةُ الاقتداء بالرسول لِقاحُ الإِخلاصِ فإذا اجتمعا أَثمرَا قبولَ العملِ والاعتدادَ بِهِ. والعملُ لِقَاحُ العِلَم فإذا اجتمعا كان الفلاحُ والسعادةُ، وإن انفردَ أَحَدَهُمَا عن الآخرِ لم يُفِد شيئاً. والحلمُ لِقاحُ العِلم، وإنْ انفردَ أَحَدُهُمَا عن صاحبِهِ فِاتَ النفعُ والانتفاعُ. والعزيمةُ لِقاحُ البصِيرةِ، فإذا اجتمعا نَالَ صَاحِبُهُمَا خَيْرَ الدنيا والآخِرة، وحصَل الانتفاعُ بِعلم العَالِمِ، وبَلَغَتْ بِهِ هِمتهُ مِن العلياء كُلَّ مكان وإِنْ انفردَ أَحَدُهُمَا عن صاحبِهِ فِات النفعُ والانتفاعُ. فَتَخَلُّفُ الكَمَالاتِ إِمَّا مِن عَدَمِ البَصِيرةِ، وإِمَّا مِن عَدَمِ العَزِيمةِ، وحُسْنُ القَصْدِ لِقَاحُ لِصِحَّةِ الذُهْنِ، فإذا فُقِدَا فُقِدَا الخيرُ كَلُه، وإذا اجْتَمَعَا أثمرَا أنواعَ الخيرات. وصِحةُ الرَّأْي لِقَاحُ الشجاعَةِ، فإِذا اجْتَمَعَا، كان النَّصْرُ والظَّفَرُ، وإِنْ فُقدَا فالخُذْلانُ والخيبة. وإن وُجدَ الرأيُ بلا شَجَاعَةٍ فالجُبنُ والعَجْزُ، وإن حَصَلتْ الشجاعةُ بلا رَأيٍ، فالتَّهَوُرُ والعَطَبُ. والصَّبْرُ لِقَاحُ البصيرةِ، فإذا اجتمعا فالخَيرُ في اجْتِمَاعِهِمَا. قال الحسنُ: إذا شئتَ أَنْ تَرى بَصْيراً لَهُ رَأَيتَه، وإذا شئتَ أن ترى صَابراً لا بَصْيرَةَ لَه رَأَيتَه، فإذا رأَيتَ صابِراً بَصِيْراً فذاكَ. والنصيحةُ لِقَاحُ العَقْل، فكُلما قَوِيَتِ النصيحةُ قَويَ العَقلُ واستنَارَ. والتذكُرُ والتفكرُ كُلٌ منهما لِقَاحُ الآخَرَ، إذا اجتمعا أَنتجا الزُهْدَ في الدنيا. والرغبةَ في الآخِرةِ. والتقوى لِقَاحُ التوكلِ، فإذا اجتمعا اسْتَقَامَ القلبُ.

ولِقَاحُ أَخْذِ أَهْبَةِ الاستعدادِ لِلِقّاءِ قِصَرُ الأَمِل، فإذا اجتمعا فالخير كله في اجتماعهما، والشر في فرقتهما. ولِقَاحُ الهِمَّةِ العاليةِ، النيةُ الصحيحةُ فإذا اجتمعا بَلَغَ العبدُ غَايةَ المراد. وقال لا يزال العبدُ مُنْقَطِعاً عن الله حتى تَتَّصِلَ إرَادَتُه ومحبتهُ بوجهه الأَعْلَى، والمرادُ بهذا الاتصالِ، أَن تُفْضِي المحبةُ إِليهِ، وتَتَعَّلقُ بِهِ وَحْدَهُ، فَلا يَحْجُبَها شَئٌ دُونَهُ. وأَنَّ تَتَّصِلَ المعرفةُ بأسمائِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ، فلا يَطْمِسْ نُورَها ظلمةُ التعطيل، كما لا يَطْمِسُ نُورَ المحبةِ ظُلْمَةُ الشركِ. وأَنَّ يَتَصِل ذِكْرُهُ بِهِ سُبْحَانَهُ فَيَزُولُ بينَ الذاكر والمذكور حجَاب الغَفْلَة والتفاتُهَ في حَال الذِكْرِ إلى غيرِ مَذكُوره. فحَيْنَئِذٍ يَتَّصِلُ الذكرُ بِهِ، ويَتصلَّ العَملُ بِأوامِرِهِ ونواهِيهِ، فيفعلُ الطاعةَ لأنه أَمَرَ بِها وأَحَبَّهَا، ويَتْركُ المَنَاهِيَ لِكَونِهِ نَهى عَنها، وأبْغَضَها. فهذا مَعنى اتَّصالِ العملِ بأمره ونَهْيِهِ. وحَقِيْقَةُ زَوَالِ العِلَلِ البَاعِثَةِ على الفِعْل والتركِ مِن الأَعْراضِ والحُظُوظِ العاجِلةِ. ويَتَّصِلُ التوكلُ والحبُ بِهِ بِحيْثُ يَصيْرُ وَاثِقاً بِه سُبْحَانَهُ، مُطْمَئِناً إليهِ، رَاضِياً بِحُسْن تَدْبيرِه لَه غَيْرَ مُتَّهِمٍ لَهُ في حالٍ مِن الأَحوالِ. ويتصلُ فَقرُهُ وفاقَتُه به سُبْحَانَه دُونَ مَن سِواهُ. ويتصلُ خَوفُه ورَجَاؤُهُ، وفَرحُه وسرُورُهُ، وابتهاجُه بِهِ وَحْدَهُ، فلا يخافُ غَيْرَهُ، ولا يَرجُوْهُ، ولا يَفْرَحُ بِهِ كلَّ الفَرَحِ ولا يُسَرُ بِهِ غايةَ السُرُوْرِ. وإِنْ نَالَهُ بالمخلوق بعضُ الفَرَح والسُرَورِ، فَليسَ الفرحُ التامُ والسرورُ الكاملُ، والابتهاجُ والنعيمُ وقُرُةُ العين، وسُكونُ القلب إِلا بِهِ سُبْحَانَه. قَال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} . الآيه

وما سِواهُ إِنْ أَعَانَ عَلَى هَذا المطلوبِ فَرح بِهِ وسُرَّ بِهِ. وإِنْ حُجبَ عنه فَهُو بالحُزْنِ بِهِ والوَحْشَةِ مِنهُ واضْطِرابِ القلَبِ بحُصُولِهِ لَهُ أَحقُ مِنه بأَنْ يَفْرَحَ بِهِ، فلا فَرْحَةَ ولا سُرُوْرَ إِلا بِهِ، أو بما أَوْصَلَ إِليهِ وأعانَ على مَرْضَاتِهِ. وقد أخبر سُبْحَانَه أنه لا يُحبُ الفَرِحِين بالدنيا وزِينَتها. شِعْراً: ... كَفِلْتُ لِطَالِبِ الدنيا بِهَمَّ ... طَوْيلٍ لا يَؤُولُ إلى انْقِطَاعِ وذُلٍّ في الحَياةِ بِغَيرِ عِزٍّ ... وَفَقْرٍ لا يَدُلُّ عَلَى اتَّسِاعِ وشُغْلٍ لَيْسَ يَعْقُبُهُ فَراغٌ ... وسَعْي دَائمٍ مَعَ كُلِ سَاعِى وحِرْصٍ لا يَزَالُ عَلَيهِ عَبْداً ... وعَبْدُ الحِرْصِ لَيْسَ بِذِى ارْتِفَاعِ 2 وأما الفرحُ بِفَضْلِهِ ورَحَمتِهِ، وهُو الإِسلامُ والإِيمانُ والقرآنُ كما فَسَّرَهُ الصحابةُ والتابعونَ. والمقصودُ أَنَّ مَن اتَّصَلَتْ لَه هذِهِ الأمورُ باللهِ سبحانه فقد وَصَل، وإِلاَّ فَهُو مَقْطُوعٌ عَنْ رَبِّه مُتَّصَلٌ بحَظِهِ وَنفْسِهِ، فَلُبِّسَ عليه مَعْرفَتِهِ وإرَادَته وسُلُوْكِهِ. (مَوْعِظَةٌ) الإِخلاصُ مِسْكٌ مَصُونُ في القلبِ يُنِبّه رِيْحُهُ عَلى حَامِله، العَمَلُ صُوْرَةٌ والإِخلاصُ رُوح، إذا لم تُخْلِصْ العَملَ للهِ وحْدَهُ فلا تَتْعَب، لو قَطَعْتَ المنازِلَ لم تكن حَاجاً إلا بشُهُود الوقُوف بالموقف، ولا تَغْتَرَّ بِصُورة الطاعات. كان أيوبُ السِختياني إذا تَحَدَّثَ فَرَقَّ قلبهُ وجَاءَ الدَّمْعُ قال ما أَشَدَّ الزُكام. وكان إبْراهِيمُ بْنُ أدهم إذا مَرِضَ يَجْعَلُ عند رَأسِهِ ما يأكل الأَصِحَاء كَيْلاَ يَتَشَّبهُ بالشاكِين. وكان ابن أبي ليلي يصلي فإذا أحَسَّ بداخل نام على فراشه.

قصيدة بليغة زهدية وعظية مطلعها حث على شكر الله تعالى وتعداد بعض نعمه علي عباده وقدرته وحكمته وآخرها تشويق إلي الجنة وما أعد الله لها

وكان النخعي يَقْرَأَ في المُصْحَفِ فإذا دَخل عليه أحَدُ غطاه. وكان الواحدُ من السلف تأتيهِ العَبْرةُ والخشوعُ فيقوم خشيةَ أنْ يُفْطَنَ له. وكان بعضُهم يُصَليِ ويبكي وإذا جاءه زائر غسَّل وَجْهَهُ عن الدموع لئلا يتنبه له. كل هذا من الإخلاص بَلِّغْ يا أَخِى مَعْشَرَ المُرَائِينَ الذين إذا سَاهَمُوا في مَشْرُوْعٍ دِيْني نشروا أسْمَاءَهُم في الجرائد والمجلات والاذاعات والذين يُعَدِّدُوْنَ كَمْ حَجُّوْا من سَنَة وهم ما سُئِلُوْا ويَقُولون نَحنُ نعتمر كل سنة وأهلنا وأولادنا ويَجْلِس بالحرم. ويُهْمِل عَائِلَتهُ ولا يُحَافِظ عليهم ولا يدري أَيْنَ يَذْهَبُون في الليل والنهار ورُبَّمَا حَصَل له بسببهم إثمٌ عظيم لأَن سَيئَةَ الحرم عَظيمة لَيْسَتْ كَغَيرها. وربما كان مع ذلك المأكل والملبس والمركب حرام نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة. وهذه المسائل قَلَّ مَن يَنَتَّبهُ لها مِن طلبة العلم فَضْلاً عن غيرهم. فالرياءُ مِن أصْعَبِ الأَشياءِ وأخْفَاهَا وضرَرُهُ عَظِيم وقد يُحْبِطَ الأعمال. فَيَنْبَغِي للإنسان أن يَجْعَلَهُ دَائماً نَصْبَ عَيْنَيْهِ في الصلاة والزكاة والصيام والحج وسائر الأعمال. اللَّهُمَّ قَوِّنَا بالْيَقِينِ وَامْنَحْنَا التَّوْفِيْقَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِِدِيْنَا وَلجَمِيْعِ الْمُسْلِميْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمْينَ وَصَلَى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. شِعْراً: ... تَبَارَكَ مَنْ شُكْرُ الوَرَى عَنْهُ يَقْصُرُ ... لِكَوْنِ أَيَادِيْ جُوْدِهِ لَيْسَ تُحْصَرُ وَشَاكِرُهَا يَحْتَاجُ شُكْرَاً لِشُكْرِهَا ... كَذَلِكَ شُكْرُ الشُّكْرِ يَحْتَاجُ يُشْكَرُ فَفِيْ كُلِّ شُكْرِ نِعْمَةٌ بَعْدَ نِعْمَةٍ ... بغَيْر تَنَاءٍ دُوْنَهَا الشُّكْرُ يَصْغُرُ

فَمَنْ رَامَ يَقْضِيَ حَقَّ وَاجِبِ شُكْرهَا ... تَحَمَّلَ ضِمْنَ الشُّكْرِ مَا هُو أَكْبَرُ تُسَبِّحُهُ الحِيْتَانُ في الْمَا وفي الْفلاَ ... وُحُوْشٌ وَطَيْرٌ في الهَوَاىِ مُسَخَّرُ وَفي الفُلْكِ وَالأَمْلَاكِ كُلٌ مُسَبَّحٌ ... نَهَارَاً وَلَيْلاً دَائِمَاً لَيْسَ يَفْتُرُ تُسَبَّحُ كُلُّ الكَائِنَاتِ بِحَمْدِهِ ... سَمَاءٌ وَأَرْضٌ وَالجِبَالُ وَأَبْحُرُ جَمْيعَاً وَمَنْ فِيْهنَّ وَالكُلُّ خَاشِعٌ ... لِهَيْبَتِهِ العُظْمَى وَلاَ يَتَكَبَّرُ لَهُ كُلُّ ذرَّاتِ الوُجُوْدِ شَوَاهِدٌ ... عَلَي أنهُ البَارِيْ الإِلَهُ المُصَوِّرُ دَحَا الأَرْضَ وَالسَّبْعَ السَّمَاوَاتِ شَادَهَا ... وَأَتْقَنَهَا لِلْعالمِيْنَ لِيَنْظُرُوا وَأَبْدَعَ حُسْنَ الصُّنْعِ في مَلَكُوْتِهَا ... وَفي مَلَكُوْتِ الأَرْضِ كَيْ يَتَفَكَّرُوا وَأَوْتَدَهَا بِالرَّاسِيَاتِ فَلَمْ تَمِدْ ... وَشقَّقَ أَنْهَارَاً بِهَا تَتَفَجَّرُ وَأَخْرَجْ مَرْعَاهَا وَبَثَّ دَوَابَهَا ... وَلِلْكُلَّ يَأَتِي مِنْهُ رِزْقٌ مُقَدَّرُ مِنْ الحَبِّ ثُمَّ الأَبّ والقَضْبِ وَالكَلاَ ... وَنَخْلٍ وَأَعْنَابٍ فَوَاكِهُ تُثْمِرُ فَأَضْحَتْ بِحُسْنِ الزَّهْرِ تَزْهُوْ رِيَاضُهَا ... وَفِي حُلَلٍ نسْجُ الرَّبِيْع تَبَختَرُ وَزَانَ سَمَاءً بِالمَصَابِيْحِ أَصْبَحَتْ ... وأَمْسَتْ بِبَاهِيْ الحُسْن تَزْهُوْ وَتَزْهَرُ تَرَاهَا إِذَا جَنَّ الدُّجَى قَدْ تَقَلَّدَتْ ... قَلَائِدَ دُرِّيٍّ لِدُرٍّ تُحَقِّرُ فَيَا نَاظِراً زَهْرَ البَسَاتِيْنَ دُوْنَهَا ... أَظُنُّكَ أَعْمَى لَيْسَ لِلْحُسْنِ تُبْصِرُ وَيَا مَنْ لَهَا إِنَّ المَحَاسِنَ كلَّهَا ... بدَارٍ بِهَا ما لا عَلَى القَلْبِ يَخْطُرُ وَلاَ سمِعَتْ أُذْنٌ وَلَا الْعَيْنُ أَبْصَرَتْ ... وَمَا تشْتَهِيْهِ النَّفْسُ في الحَالِ يَحْضُرُ تَزيْدُ بَهَاءً كُلَّ حِيْنٍ وَعَيْشُهَا ... يَزيْدُ صَفَاءً قطُّ لاَ يَتَكَدَّرُ مِنْ الدُّرَّ وَاليَاقُوْتِ تُبْنَى قُصُوْرُهَا ... وَمِنْ ذَهَبٍ مَعْ فِضَّةٍ لاَ تَغَيَّرُ وَمَا يُشْتَهَى مِنْ لَحْمِ طَيْرٍ طَعَامُهَا ... وَفَاكِهةٍ مِمَّا لَهُ يُتَخَيَّرُ وَمَشْرُوْبُهَا كَافُوْرُهَا وَرَحِيْقُهَا ... وَتَسْنِيْمُهَا والسَّلْسَبِيْلُ وَكَوْثَرُ

.. وَمِنْ عَسَلٍ وَالخَمْر نَهْرَانِ جَوْفُهَا ... وَنَهْرَانِ أَلبَانٌ وَمَاءٌ يُفَجَّرُ وَغَاليْ حَرِيْرٍ فُرْشُهَا وَلِبَاسُهَا ... وَحَصْبَاؤُهَا والتُّرْبُ مِسْكٌ وَجَوْهَرُ وَمِنْ زَعْفَرَانٍ نَبْتُهَا وَحَشِيْشُهَا ... وَمِنْ جَوْهَرٍ أَشْجَارُهَا تِلْكَ تُثْمِرُ فَوَاكِهُ تَكْفِيْ حَبَّةٌ لِقَبِيْلَةٍ ... أُدِيْمَتْ أُبِيْحَتْ لا تُبَاعُ وَتُحْجَرُ وَأَكْوَابُهَا مَنُ فِضَّةٍ لاَ كَبِيْرَةٍ ... عَلى شَارِبٍ مِنْهَا وَلا هِيَ تَصْغُرُ وَمِنْ ذَهَبٍِ زَاهِيْ الجَمَالِ صِحَافُهَا ... يَلِذُّ بِهَا عَيْشٌ بِهِ العَيْنُ تَقْرُرُ وَأَزْوَاجُهُا حُوْرٌ حِسَانٌ كَوَاعِبٌ ... رَعَابِيْبُ أَبْكَارٌ بِهَا النُّوْرُ يَزْهُرُ هَرَاكِيْلُ خُوْدَاتٌ وَغِيْدٌ وخُرَّدٌ ... مَدَى الدَّهْرِ لاَ تَبْلَىَ وَلا تَتَغَيَّرُ نَشَتْ عُرُباً أَتْرَاب سِنّ قََوَاصِرٍ ... لِطَرْفٍ كَحِيْلٍ لِلْمَلاحَةِ يَفْتُرُ عَوَالي الحُلَى وَالحَلْيُ عَيْنٌ فَوَاخِرٌ ... زَكَتْ طَهُرَتْ مِنْ كُلِّ مَا يُتَقَذَّرُ ثَوَتْ في خِيَامِ الدُّرِّ في رَوْضَةِ البَهَا ... عَلى سُرُرِ اليَاقُوْتِ تَغْدُر وَتَحْضُرُ مِلاحٌ زَهَتْ في رَوْنَق الحُسْن وَالبَهَا ... وَكُلُّ جَمَالٍ دُوْنَهُ المَدْحُ يَقْصُرُ وَمَا الْمَدَحُ فِيْمَنْ نَشَرُهَا وَابْتِسَامُهَا ... يُضِيءُ الدَّيَاجِيْ وَالوُجُوْدَ يُعَطِرُ وَمَنْ يَعْذُبُ البَحْرُ الأُجاجُ برْيقِهَا ... وَمَنْ حُسْنَها لِلْعَالْمِينَ يُحَيَّرُ وَمَنْ لَوْ بَدَتْ مِنْ مَشْرقٍ ضَاءَ مَغْرِبٌ ... وَحَارَ الوَرى مِنْ حُسْنِهَا حِيْنَ تَظْهَرُ وَمَنْ مُخُّهَا مِنْ تَحْتِ سَبْعِينَ حُلَّةً ... يُرَى كَيْفَ مُوْفي المَدْحِ عَنْهَا يُعَبِّرُ فَخَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا جَميعاً خِمَارُهَا ... فأَحْسِنْ بِمَنْ تَحْتَ الخِمَارِ مُخَمَّرُ وَأَحْقِرْ بِرَبَّاتِ المحَاسِن وَالتَّىِ ... بِتَشْبِيْهِ أَوْصَافِ الجِنَانِ تُصَدَّرُ فَمَا الفِضَّةُ البَيْضَاءُ شِيْبَتْ بِعَسْجِدٍ ... وَمَا البَيْضُ مَكْنُونُ النَّعَامِ المُسَتَّرُ بَهَاءً وَحُسْناً مَا الْيَوَاقِيْتُ في الصَّفَا ... وفي رَوْنَقٍ مَا اللُّؤْلُؤ الرَّطْبُ يُنْثَرُ وَمَا شَبَّهَ الرَّحْمَنُ مِنْ بَعْضِ وَصْفِها ... بِبَيْضٍ وَيَاقُوتٍ فَذَلِكَ يُذْكَرُ

.. عَلى جِهَةِ التَّقْريْبِ لِلذُهْنِ إِذْ لَنَا ... عُقُوْلٌ عَلَيْهَا فَهْمُ مَا يَتَعَسَّرُ تَبَارَكَ مُنْشِيْ الخَلْقِ عَنْ سِرِّ حِكْمَةٍ ... هُوَ اللهُ مَوْلانَا الحَكَيْمُ المُدَبّرُ إِذَا مَا تَجَلَّى اللهُ لِلْخَلْقِ جَهْرَةً ... تَعَالَى لِكلِّ المُؤْمِنِينَ لِيَنْظُرُوا وَقَدْ زُيِّنَتْ جَنَّاتُ عَدْنٍ وَزُخْرِفَتْ ... نَسُوا كلَّ مَا فِيْهَا لِمَا مِنْهُ أَبْصَرُوا جَمَالاً وَوَصْفاً جَلَّ لَيْسَ كَمِثْلِهِ ... وَفَضْلاً وَإِنْعَامَاً يَجِلُّ وَيكْبُرُ نَعِيْمٌ وَلَذَّاتٌ وَعِزٌّ وَرِفْعَةٌ ... وَقُرْبٌ وَرِضْوَانٌ وَمُلْكٌ وَمَتْجَرُ بِمَقْعَدِ صِدْقٍ فِي جِوَارِ مَلِيْكِهِمْ ... هَنْيئاً لِمَسْعُوْدٍ بِذَلِكَ يَظْفُر أَيَا سَاعَةً فِيهَا السَّعَادَاتُ يُجْتَلَى ... عَلى وَجْهِهَا دُرُّ العِنَايَاتِ يُنْثَرُ وَيَا سَاعةً فِيْهَا المفَاخِرُ تُرْتَقَى ... عُلاهَا وَخَلْعَاتُ الكِرَامِ تُنَشَّرُ أَلاَ بَائِعُ الفَانِيْ الحَقِيْر بِبَاقي ... خَطيْرٍ وَمُلكٍِ لَيْسَ يَبْلَي وَيَدمُرُ أَلاَ مُفْتَدٍ مِنْ نَارَ حَرٍّ عَظِيْمَةٍ ... أُلوْفُ سِنْين تِلْكَ تُحْمَى وَتُسْعَرُ لهَا شَرَرٌ كَالقَصْر فِيْهَا سَلاسِلٌ ... عِظامٌ وَأَغلالٌ فَغُلُّوْا وَجُرْجِرُوا عُصَاةٌ وَفُجَّارٌ وَسَبْعٌ طِبَاقُهَا ... وَسَبْعِينَ عَاماً عُمْقُهَا قَدْ تَهَوَّرُوا وَحَيَّاتُها كَالبُخْتِ فِيْهَا عَقَارِبٌ ... بِغَالٌ وضَرْبٌ وَالزَّبَانِيُ يَنْهَرُ غَلِيْظٌ شَدِيْدٌ في يَدَيْهِ مَقَامِعٌ ... إِذَا ضَرَب الصُّمَّ الجِبَالَ تَكَسَّرُ وَمَطْعُومُهُمْ زَقُّوْمُهَا وَشَرَابُهُمْ ... حَمِيْمٌ بِهَا أَمْعَاؤُهُمْ مِنْهُ تَنْدُرُ وَيُسْقَونَ أَيضاً مِنْ صَدِيْدٍ وَجِيْفَة ... تَفَجَّرُ مِنْ فَرْجِ الذِيْ كَانَ يَفْجُرُ وَقَدْ شَابَ مِنْ يَوْمٍ عَبُوسٍ شَبَابُهُم ... لِهَوْلٍ عَظِيْم لِلْخَلائِقِ يُسْكِرُ فَيَا عَجَباً نَدْرِيْ بِنَارٍ وَجَنَّةٍ ... وَلَيْسَ لِذَيْ نَشْتَاقُ أَوْ تِلْكَ نَحْذَرُ إِذَا لَمْ يَكُنْ خَوْفٌ وشَوْقٌ وَلا حَيَا ... فَمَاذَا بَقِيْ فِيْنَا مِنَ الخَيْر ُيذْكَرُ وَلَيْسَ لِحرَّ صَابِرْينَ وَلا بَلاَ ... فَكَيْفَ عَلى النِّيْرَانِ يَا قَوْمُ نَصُبِرُ

في ذكر بعض سيرة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه زهده - ورعه - عدله

.. وَفَوْتُ جِنَانِ الخُلْدِ أَعْظَمُ حَسْرَةً ... عَلى تِلْكَ فَلْيَسَتَحْسِرِ المُتَحَسِّرُ فَأُفًّ لَنَا أُفٍّ كِلابُ مَزَابِلٍ ... إلى نَتْنِهَا نَغْدَوْا وَلا نَتَدَبَّرُ نَبِيْعُ خَطيراً بالحقيرِ عِمَايَة ... وَلَيْسَ لَنَا عَقْلٌ وَلُبٌّ مُنَوَّرُ فَطُوْبَي لِمنْ يُؤْتَى القَنَاعَةَ وَالتُّقَى ... وَأَوْقَاتُهُ في طَاعةِ اللهِ يَعْمُرُ فَيَا أَيُّهَا الأَخْوَانُ مِنْ كُلِّ سَامعٍ ... لَهُ فَهْمُ قَلبٍ حَاضرٍ يَتَذَكَّرُ أَلاَ إنَّ تَقْوَى اللهِ خَيْرُ بِضَاعَةٍ ... لِصَاحِبها رِبْحٌ بِهَا لَيْسَ يَخْسَرُ وَطَاعَتُهُ لِلْمُتَّقِى خَيْرُ حِرْفَةٍ ... بِهَا يَكْسِبُ الخَيْرَاتِ وَالسَّعْيُ يُشْكَرُ إِذَا أَصْبح البَطَّالُ في الحَشْرِ نَادِماً ... يَعُضُّ عَلى كَفٍّ أَسىً يَتَحسَّرُ فَطُوْبَى لِمَنْ يُمْسِيْ وَيُصْبحُ عَامِلاً ... عَلى كُلُّ شَئٍ طَاعَة اللهِ يُؤْثِرُ بِهَا يَعْمُرُ الأَوْقَاتَ أَيَّامَ عُمْرِهِ ... يُصَلّيْ وَيَتْلُو لِلكِتَابِ وَيَذْكُرُ وَيَأْنَسُ بِالمَوْلَى وَيَسْتَوْحِشُ الوَرَى ... وَيَشْكُرُ في السَّرَّا وَفي الضَّرَّا يَصْبِرُ وَيَسْلُوْ عَنَّ اللَّذَّاتٍ بِالدُّوْنِ قَانِعُ ... عَفِيْفٌ لَهُ قَلبٌ نَقِيُّ مُنَوَّرُ حَزِيْنٌ نَحِيْلٌ جِسْمُهُ ضَامِرُ الحَشَا ... يَصُوْمُ عَنَّ الدُّنْيَا عَلى المَوْتِ يُفْطِرُ إِذَا ذُكِرَتْ جَنَّاتُ عَدْنٍ وَأَهْلُهَا ... يَذُوْبُ اشْتِيَاقاً نَحْوَاهَا وَيُشَمِّرُ وَيَعْلُو جَوَادَ العَزْمِ أَدْهَمَ سَابِقاً ... وَأَبْيَضَ مَجْنُوباً عَن النُّوْرِ يُسْفِرُ فَأَدْهَمُ يَسْقِيْ مَاءَ عَيْنٍ وَأَبْيَضٌ ... لِصَبْرٍ عَلى صَوْمِ الهَجِيْرِ يُضَمَّرُ وَيَرْكُضُ في مَيْدَانِ سَبْقٍ إلى العُلا ... وَيَسْرِىْ إلى نَيْلِ المَعَاليْ وَيَسْهَرُ فَمَجْدُ العُلاَ مَا نَالهُ غَيْرُ مَاجِدٍ ... يُخَاطِرُ بِالرُّوْحِ الخَطِيْرِ فَيَظْفُرُ سَأَلْتُ الذِيْ عَمَّ الوُجُوْدَ بِجُوْدِهِ ... وَمَنْ مِنْهُ فَيْضُ الفَضْل لِلْخَلْقِ يَغْمُرُ يَمُنُّ عَلَيْنَا فِي قَبُولِ دُعَائِنَا ... وَيُلْحِقُنَا بِالصَّالِحِيْنَ وَيَغْفِرُ وَأَزَكْى صَلاةِ اللهِ ثُمَّ سَلامِهِ ... عَلى المُصْطَفَى مَا لاَحَ فِيْ الأُفْقِ نَيِّرُ

عمر مع زوجته وابنته وابنه وأمره بأموال جماعة من بني أمية تجعل في بيت المال وبعد ذلك يئس الناس من المظالم واطمأنوا إلي العدل

(فَصْلٌ) في ذِكْرِ بَعْضِ سِيْرَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيْزِ وَزُهْدِهِ وَوَرَعِهِ وَعَدْلِهِ انْصَافُهُ مِنْ نَفْسِهِ وَأَقَارِبِه رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى فَعِنْدَمَا تَوَلَّى أَخَذَ جَوْاهَرَ زَوْجَتِهِ وَحُلِيّهَا فِيْمَا أَخَذَ فَأَوْدَعَهُ بَيْتَ المَالِ حَتَّى إِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِ المُسْلِمُونَ أَنْفَقَهُ عَلَيْهِمْ. وَعِنْدَمَا أَحَسَّ أَنَهَا لَمْ ترض أَوَّلَ الأَمْرِ كُلَّ الرِّضَا بِمَا فَعَلَ خَيَّرَهَا بَيْنَ أَنْ تُقِيْمَ عِنْدَهُ وَبَيْنَ أَنْ تَلْحَقَ بِأَهْلِهَا فَرضِيَتْ أَنْ تُقِيْمُ عِنْدَهُ وَأنْ تَدْفَعَ بِحُلِيَّهَا وَجَوَاهِرِهَا إلى بَيْتِ المَالِ ثُمَّ لا تَرُدُّهُ إِلَيْهَا أبَداً. وَمَا زَالَ عُمَرُ في زَوْجَتِهِ حَتَّى أَثَّرَ عَلَيْهَا وَاقْتَدَتْ بِهِ في الوَرَعِ وَالزُّهْدِ رَضيَ اللهُ عَنْهُمَا. وَكَمَا فَعَل عُمَرُ مَعَ زَوْجَتِهِ فَاطِمَةَ فَعَلَ بِأَوْلاَدِهِ مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ. أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ ابْنَتُهُ بلؤلوةٍ وَقَالَتْ لَهُ: إِنْ رَأَيْتَ أَنْْ تَبْعَثَ لِيْ بأخْتِهَا حَتْى أَجْعَلَها في أُذِنَيَّ فأرَسْلَ لَهَا بِجَمْرَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ لَها إن اسْتَطعْتِ أنْ تَجْعَلِي هَاتَينِ الجَمْرَتَيْنِ في أذُنَيكِ بَعثتُ إلَيْكِ بِأخْتِهَا. وَبَلَغَ عُمَرَ أَنَّ ابْنَهُ اشْتَرَى فَصَّ خَاتَمٍ بِأَلْفِ درْهَمٍ فَكَتَبَ عَزِيْمَةٌ مِنِّيْ عَليْكَ إلا بِعْتَ هَذا الخَاتَمَ الذِي اشْتَرَيْتَهُ بِألْفِ درْهَمٍ وَتَصَدَّقْتَ بثَمَنِهِ اشْتَرَيْتَ آخَرَ بِدْرَهمٍ نَقَشَتْ عَلَيْهِ: رَحِمَ اللهُ امْرَأً عَرَفَ قَدْرَ نَفْسِهِ. وَالسَّلامُ. وَجَمَعَ يَوْماً رُؤَسَاءِ النَّاسِ فَخَطَبَهُم فَقَالَ: إِنَّ فَدَكَ كَانَتْ بيَدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَضَعُهَا حَيْثُ أَرَاهُ اللهُ ثُمَّ وَليهَا أبو بَكرٍ وَعُمَرُ كَذلِكَ قالَ الأَصْمَعِيُّ وَمَا أدْرَي مَا قَال في عُثْمَانَ ثمْ قَال أَنَّ مَرْوَانَ أقْطَعَهَا فَحَصَل لِيْ مِنْهَا نَصِيْبٌ وَوَهَبَنِيْ الوَلِيْدِ وَسُلْيمَانُ نَصِيْبَهُما وَلمْ يَكُنْ من مالي شىء أرده أغلى منها وقد رددتها فى بيت المال على ما كانت عليه فى زَمانِ رَسُولِ الله صَلى اللهُ عليه وسَلم. قال فَيئِسَ النَّاسُ عِنْدَ ذَلِكَ مِنَ المَظَالِمَ ثُمَّ أَمَرَ بأمْوَالِ جَمَاعَةً مِنْ بَنِيْ أُمَيَّة فَرَدُّوْهَا إلى بَيْتِ المالِ وَسَمَّاهَا أمْوَالُ المظالِم فاسْتَشَْفعَ إِلْيهِ النَّاسُ وتَوَسَّلُوا إِلَيْهِ بعَمتِهِ فَاطِمَةِ بِنْتِ مَرْوانَ فَلمْ يَنْجَعْ فِيْهِ شَئٌ.

ورعه المفرط ووعظه البليغ وزهده

وَقَالَ لَهُم لَتَدَعُني وَإِلاَّ ذَهَبْتُ إلى مَكَّةَ فَنَزَلْتُ عَنْ هَذَا الأَمْرِ لِأَحَقِّ النَّاسِ بِهِ. وَقَدْ اَجْتَهَدَ رَحِمَهُ اللهُ في مُدَّةِ وِلايَتِهِ مَعَ قِصَرِهَا حَتَّى رَدَّ المظَالِمَ وَصَرَفَ إلى كُلِّ ذِيْ حَقًّ حَقّهُ. وَكَانَ مُنَادِيْهِ في كُلِّ يَوْمٍ يُنَادِيْ أَيْنَ الغَارِمُوْنَ أَيْنَ النَّاكِحُوْنَ أَيْنَ المسَاكِيْنُ أَيْنَ اليَتَامَى حَتَّى أَغَني كلاًّ مِنْ هَؤُلاءِ فَرَحْمَةُ اللهِ عَلى تِلْكَ الرُّوْحِ المَطْبُوعِ عَلى العَدْل والصدق والوَرَعِ والزُّهْدِ. وقَالَتْ زَوْجَتُهُ فَاطِمَةُ دَخَلْتُ عَلَيْهِ يَوْماً وَهُوَ جَالِسٌ في مُصَلاَّهُ وَاضِعاً خَدَّهُ على يَدِهِ وَدُمُوُعُه تَسِيْلُ على خَدَّيْهِ فقُلتُ مَالَكَ فَقَالَ وَيْحَكِ يَا فَاطِمَة قد وُلِّيْتُ مِنْ أَمْرِ هذِهِ الأُمَّةِ مَا وُلِّيْتُ فَتَفَكَّرْتُ في الفَقِيْرِ الجَائِعِ وَالمظْلُوْمِ المَقْهُوْرِ وَالغَرِيْبِ وَالأَسِيْرِ وَالشَّيْخِ الكَبِيْرِ وذِي العِيَالِ الكَثِيْرِ وَالمرَيْض الضَّائِع والعَارِيْ المَجْهُودِ واليَتِيْمِ المكْسُوْرِ وَالأَرْمَلةِ الوَحِيْدَةِ والْمَالُ قَليْلٌ وَأَشْبَاهُهُم في أقطارِ الأرْضِ وَأَطْرَافِ البِلاَدِ. فعَلِمْتُ أَنَّ رَبَّيْ عَزَّ وَجَلَّ سَيَسْأَلُنِي عَنْهُم يَوْمَ القِيَامَةِ وَأَنَّ خَصْمِيْ دُوْنَهُم محمد صلى الله عليه وسلم فخَشِيْتُ أنْ لا يَثْبُتَ لِيْ حُجِّةٌ عِنْدَ خُصُوْمَتِهِ فَرَحِمْتُ نَفْسِيْ فَبكيْتُ، قَالُوا: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ سِوَى ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَكَانَ إِذا غَسَلُوهُ جَلَسَ فِي المَنْزِلِ حَتَّى يَيْبَسَ. قَالُوا: وَدَخَلَ مَرَّةً عَلَى امْرَأَتِهِ فسَألَها أَنْ تُقْرِضَهُ دِرْهَماً أو فُلُوساً يَشْتَرِيْ لهُ بِهَا عِنَباً فلَمْ يَجِدْ عِنْدَهَا شَيْئاً فَقَالَتْ لهُ أنتَ أمِيْرُ المؤمنينَ وَلَيْسَ في خِزَانَتِكَ ما تَشْتَرِيْ بِهِ عِنَباً. فَقَالَ: هَذَا أَيسَرُ مِنْ مُعَالَجَةِ الأَغْلَالِ وَالانْكَالِ غَداً في جَهَّنَم. قَالَ وَكَانَ سِرَاجُه عَلى ثلاثِ قَصَبَاتٍ في رَأْسِهِنَّ طِينٌ وَبَعَثَ يَوْمَاً غُلامَهُ لِيشْوِيْ لهُ لَحْماً فَجَاءَ بِهَا سَرِيْعاً مَشْويَّةً فَقَالَ أَيْنَ شَوَيْتَهَا قَالَ في المَطْبخِ.

فَقَالَ: في مَطْبَخِ المُسْلِمْينَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: كُلْهَا فَإنِّْي لَمْ أرْزَقْهَا هِيَ رِزْقُكَ وَسَخَّنُوا لهُ المَاءَ في المطْبَخِ العَامِّ فَرَدَّ بدَلَ ذلكَ بدِرْهَمٍ حَطَباً. وَكَانَ لَهُ سِرَاجٌ يَكْتُبُ عَلَيْهِ حَوَائِجَهُ وَسِراجٌ لِبَيْتِ المَالِ يَكْتُبُ عَلَيْهِ مَصَالِحُ المُسْلِمِيْنَ لا يَكْتُبُ عَلى ضَوْئِهِ لِنَفْسِهِ حَرْفاً وَبَلَغَ عُمَرُ أنَّ رَجلاً مِنْ أَصْحَابِهِ تُوُفِّى فَجَاءَ إلَى أَهْلِهِ يُعَزِّيْهِمْ فَصَرَخُوا في وَجْهِهِ بِالبُكَاءِ عَلَيْهِ فَقَالَ مَهْ إنَّ صَاحِبَكُمْ لَمْ يَكُنْ يَرْزُقكُم إنَ الذِي يَرْزُقُكُمْ حَيٌّ لا يَمُوْتُ وَإنَّ صَاحِبَكُمْ هَذَا لَمْ يَسُدَّ شيئًا مِنْ حُفَرِكِمْ، وَإِنَّمَا سَدَّ حُفْرَةَ نَفْسِهِ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْكُم حُفْرَةً لا بُدَّ وَاللهِ أَنْ يَسُدَّهَا. إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لمَّا خَلَقَ الدُّنْيَا حَكَمَ عَلَيْهَا بِالخَرَابِ وَعَلى أَهْلِهَا بِالفَنَاءِ وَمَا امْتَلأَتْ دَارٌ حُبْرَةً إِلّا امْتَلأَتْ عِبْرَةً وَلاَ اْجَتَمُعوا إلا تَفَرّقُوا حَتَّى يَكُوْنَ اللهُ هُوَ الذِي يَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ بَاكِياً فَلْيَبْكِ عَلى نَفْسِهِ فإنَّ الذِي صَارَ إلَيْهِ صَاحِبُكُمْ كُلَّ النَّاسِ يَصِيْرُونَ إلَيْهِ غَداً. شِعْراً: ... أَبْقَيْتَ مَالَكَ مِيْرَاثاً لِوَارِثِهِ فَلَيْتَ شِعْرِيَ مَا أَبْقَى لَكَ المَالُ القَوْمُ بَعْدَكَ في حَالٍ تَسُرُّهُمُ فَكيْفَ بَعْدهُمُو صَارَتْ بِكَ الحَالُ مَلُّوا البُكَاءَ فَمَا يَبْكِيْكَ مِنْ أَحَدٍ وَاسْتَحْكَمَ القِيْلُ في المِيْرَاثِ وَالقَالُ مَالَتْ بِهِمْ عَنْكَ دُنْيَا أَقْبَلَتْ لَهُمُوا وَأدْبَرَتْ عَنْكَ وَالأَيَّامُ أَحوَالُ وَكَان رَحِمَةُ اللهُ قَدْ رَزَقَهُ اللهُ العِلْمَ وَالحِكْمَةَ وَالأَدَبَ وَالعَدْلَ فَمَا

تَزَحْزَحَ قَيْدَ شِبْرٍ عَن طَرِيْقةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِيْنَ وَقَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا ذُكِرَ عَنْهُ أنّهُ شَيَّعَ جَنَازَةً فَلمَّا انْصَرَفَ النّاسُ تَأخّرَ عُمَرُ وَتَأَخَّرَ مَعَهُ أُنَاسٌ وَجَلَسُوا نَاحِيَةً. فَقاَلَ لَهُ بَعْضُ أَصَحَابِهِ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِيْنَ لِمَ تَأَخَّرْتَ وَتَرَكت الجَنَازَةَ وَأَنْتَ وَلِيُّهَا فَقَالَ نَعَمْ نَادَانِيْ القَبْرُ مِنْ خَلْفِيْ يَا عُمَرَ بْنَ عبد العَزِيْزِ ألا تَسْأَلُنِيْ مَا صَنَعْتُ بالأحِبَّةِ قُلتُ بَلى. قَالَ أَحْرَقْتُ الأَكْفَانَ وَمَزَّقْتُ الأبْدَانَ وَمَصَصْتُ الدَّمَ وَأَكَلْتُ اللَّحْمَ قَالَ أَلَّا تَسْأَلُنِيْ مَا صَنَعْتُ بِالأَوْصَالِ قُلتُ بَلى قَالَ نَزَعْتُ الكَفَّينِ مِنْ الذِّرَاعَيْنِ وَالذّرَاعَيْنِ مِنَ العَضُدَيْنِ وَالوَرْكَيْنِ مِن الفَخِذَيْنِ وَالفَخِذَيْنِ مِن الرُّكْبتينِ والرُّكْبتينِ مِن السَّاقَينِ والسَّاقَينِ مِن القَدَمَيْنِ. ثُمَّ بَكَى عُمَرُ وَقَالَ أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا بَقَاؤُهَا قَلِيْلٌ وَعَزِيْزُهَا ذَلِيْلٌ وَغَنِيُّهَا فَقِيرٌ وَشَابُّها يَهْرَمُ وَحيُّهَا يَمُوتُ فَلا يَغُرَّنكُم إقبَالُهَا مَعَ سُرْعَةِ ادْبَارِهَا فَالمغْرُورُ مَنْ اغْتَرَّ بِمَا لا يَدُومُ والمفْتُونُ مَنْ أجْهَدَ نَفْسَهُ في طَلَبِ مَا لَيْسَ بِمَقْسُوْمٍ. ثُمَّ قَالَ أَيْنَ سُكّانُهَا الذِيْنَ تَبَوَّؤُا مَدَائِنَها وَشَقُّوا أَنْهَارَهَا وَغَرَسُوا أَشْجَارَهَا لَقَدْ أَقَامُوا أَيّاماً يَسِيْرَةً فَتَنَتْهُم العَافِيَةُ وَغَرَّهُم النَّشَاطُ وَأَلْهَتْهُم الزَّخَارِفُ فرَكِبُوا المَعَاصِيْ حتَّى أنَاخَت بهِم مَطَايَاهَا عَلى حَافَاتِ الحُفَرِ. وَالقَبْرُ إمَّا رَوْضَة مِنْ رِيَاضِ الجَنةِ أوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ فَوَاخَيْبَةَ آمَالِهم ويَا حَسْرَةَ قلُوبِهِم لَقدْ كَانُوا مَغْبَوُطِيْنَ بِمَا صَنَعُوا

ومَحْسُودِيْنَ عَلى مَا جَمَعُوا وَلَقَدْ عَلِمْتُم مَا صَنَعَ التُّرَابُ بأبْدَانِهِم وَالديْدَانُ بِلُحُوْمِهِمْ. وَأَطَالَ الكَلامُ في هَذَا الموْضُوعِ وَهُوَ يَبْكِيْ إلى أَنْ قَالَ يَا ساكِنَ القَبْرِ بَعْدَ أَيامٍ قَلائِلَ مَا غرَّكَ من الدنيا هَلْ ظَنَنَتْ أنّكَ تَبْقَى لهَا أَمَا رَأيْتَ مِنْ آبَائِكَ مَنْ قَدْ نَزَلَ بِهِ الأمْرُ وَجَاءَ الأَجَلُ فأصْبَحَ لا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ مَا نَزَلَ بِهِ وَهُوَ يَرْشَحُ عَرَقَاً وَيَتَلظَّى عَطَشاً وَيَتَقَلَّب في غمَرَاتِ المَوْتِ وَسَكَرَاتِهِ. ثُمَّ قَرَأَ {حَتَّى إِذَا بَلَغَت الحُلْقُوْمُ وَأَنْتُمُ حِيْنَئِذٍ تَنْظُرُوْنَ وَنَحْنُ أقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُم وَلكِنْ لا تُبْصِرُوْنَ فَلَوْلا أنْ كُنْتُم غَيرَ مَدِينِينَ تَرْجعُونَها إنْ كُنْتُم صَادِقِينَ} وَبَكَى طَويْلاً ثُمَّ قَالَ لَيْتَ شِعْرِيْ مَا الذِيْ يَلقَانِيْ بِهِ مَلَكُ الموْتِ عِنْدَ خُرُوْجِيْ مِن الدُّنْيَا وَما يَأَتِيْني بِهِ مِنْ رِسَالَةِ رَبِّيْ رَثى بَعَضُهم عُمَرَ بن عَبد العزيز فقال: كَمْ مِنْ شَريعَة حَقٍ قَدْ بَعَثْتَ لَهَا ... كَادَتْ تَموُتُ وَأخْرىَ منْكَ تُنْتَظُر يا لَهْفَ نَفْسي ولَهْفْ الواجدِيْن مَعَي ... على الحَبيب الذى يُسْقَى بِهِ المَطَرُ ثلاثة ما رَأتْ عَينى لهَا شَبَهاً ... تَظمُ أَعْظُمُهُمْ في المسجدِ الحُفَرُ وَأنْتَ رَابعُهم إذ كُنْتَ مُجتِهداً ... لِلحق والأَمْرِ بالمَعْرُوفٍ تبْتَدِرُ لو كُنْتَ أَمْلِكُ والأَقْدَارُ غَالبةُ ... تَأْتِي رَوَاحاً وتِبْيَاناً وَتبْتَكرُ صَرَفْتُ عن عُمَر المَرضِي مَصْرَعَهُ ... بِدَير سِمْعَانِ لَكِنْ يَغْلِبُ القَدَرُ وفي مُصَابِ رَسول الله تسْلِيَةَ ... فِيْمَنْ يمُوت وفي أنْبَائه عِبَرُ هو الرسولُ الذِي مَنّ الإِلَهُ به ... على البريّةِ وازْدَادَتْ به السّيَرُ وخير مَن وَلدَتْ عَدْنَانُ قاطِبةً ... وخَير مَن شَرُفَتْ مِن أجْلِهِ مُضرُ صلى عليه إلهُ العَرش ما طَلَعَتْ ... شَمْسَ وما خَلَفَتْهَا الأنْجمُ الزّهرُ اللهُمَّ انظِمْنَا في سِلْكِ أهِل السّعادَةْ، واجْعَلْنَا مِنْ عبادِك المُحْسنِينَ الذَينَ لهُم الحُسْنَى وزِيَادَةٌ، واغْفِر لنَا ولوالِديْنا ولجميع المُسْلِمينَ الأحياءِ مِنْهُم

زهد عمر في مراكب الخلافة لما قربت له

والميتينَ بِرَحْمَتِك يا أرْحَمَ الراحَمين، وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ مُحَمَّدٍ المُرْوَزِيّ قَالَ أُخْبِرتُ أَنَّ عُمَرَ بنَ عبد العزيز رضيَ اللهُ عَنْهُ لما دُفِنَ سُليمانُ بن عبدِ الملك وَخَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ سُمِعَ للأَرْضِ هَدَّةٌ أو رَجَّةٌ فَقَالَ مَا هَذِهِ فَقِيْلَ هَذِهِ مَرَاكِبُ الخِلافَةِ قُرِّبتْ إِلَيْكَ لِتَرْكَبَهَا فَقَالَ: مَا لِيْ وَلَهَا أَبْعِدُوْهَا عَنِّيْ وَقَرِّبُوا لِيْ دَابَّتِيْ فَقُرِّبَتْ إِلَيْهِ فَرَكِبَهَا فجَاءَ صَاحِبُ الشُرْطَةِ يَسِيْرُ بَيْنَ يَدَيْهِ بالحَرْبةِ جَرْياً عَلى عَادَةِ الخُلَفَاءِ قَبْلَهُ. فَقَالَ تَنَحَّ عَنِّيْ مَا لِيْ وَلَكَ إنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِن المُسلمينَ ثُم سَارَ مُخْتَلَطاً بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى دَخَلَ المَسْجِدَ وَصَعَدَ المِنْبَرَ وَاجْتَمَعَ النّاسُ إِلَيْهِ فَحَمِدَ اللهَ وَأثْنَى عَلَيْهِ وَذَكَرَ النَّبيَّ صَلى الله عليه وسلم ثمّ قالَ أيُّها النَّاسُ إِنَّمَا بُلِيْتُ بِهَذَا الأمْرِ مِنْ غَيْرِ رَأْىٍ مِنِّيْ وَلا طِلْبَةٍ وَلا مَشُوْرَةٍ وَإنِّيْ قَدْ خَلَعْتُ مَا فِي أَعْنَاقِكُمْ مِنْ بَيْعَةٍ فَاخْتَارُوا لِأنْفُسِكُمْ غَيْرِيْ فَصَاحَ المُسلِمُونَ صَيْحَةً وَاحِدَةً قَد اخْتَرْنَاكَ يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنينَ وَرَضَيْنَاكَ فَلِي أمْرَنَا بِاليُمْنِ وَالبَرَكَةِ. فَلَمَّا سَكَتُوا حَمِدَ اللهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّى على النَّبِيّ ? ثُمَّ قَالَ أُوْصِيْكُم بِتَقْوَى اللهِ فَإنّ تَقْوَى اللهِ خَلَفٌ مِنْ كُلِّ شىءٍ وليسَ من تقوى الله خلفٌ وَأَصْلِحُوا سَرَائِرَكُم يُصْلِح عَلانِيَتَكًُم وَأَكْثِرُوْا ذِكْرَ هَاذِمِ اللذّاتِ المَوْتَ وَأَحْسِنُوا لَهُ الاسْتِعْدَادَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِكُمْ. وَإنَّ مَنْ لا يَذْكُرُ منْ آبَائِهِ الذِيْنَ لَيْسَ بَيْنَهُم وبينَ آدَمَ أباً حَيًّا لمعُرقٌ في المَوْتِ وَإنّ هَذِه الأُمّةِ لمْ تَخْتَلِفْ في رَبِّهَا وَلاَ فِي نَبيِّهَا وَلا في كِتَابِهَا إِنَّمَا اخْتَلفُوا

في الدِّيْنَارِ والدِّرهَمْ وإنِّيْ وَاللهِ لا أَعْطِيْ أحَداً بَاطِلاً وَلا أَمْنَعُ أَحَداً حَقًّا. أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ أَطَاعَ اللهَ تَعَالَى وَجَبَتْ طَاعَتُه وَمَنْ عَصَى اللهَ فلا طَاعَة لَهُ أَطِيْعُونِيْ مَا أَطَعْتُ اللهَ فَإذَا عَصَيْتُه فَلا طَاعَةَ لِيْ عَلَيْكُم ثُمَّ نَزَلَ وَدَخَلَ دَارَ الخِلاَفَةِ وَأَمَرَ بِالسُّتُورِ فَهُتِكَتْ وبالبُسُطِ فَرُفِعتْ وَأَمَرَ بِبَيْعِ ذَلِكَ وَادْخَالِ أَثْمَانِهَا بَيْتَ مَالِ المُسْلِمِيْنَ. ثُمَّ ذَهَبَ يَتَبَوَّءُ مَقِيْلاً فَأَتَاهُ ابْنُهُ عَبْد المَلِكَ فقَالَ مَا تُرِيْدُ أَنْ تَصنع يَا أَبَتيْ قاَلَ أَيْ بُنَيَّ أَقِيْلُ فَقَالَ تَقِيْلُ وَلا تَرُدُّ المظالِمَ فَقَالَ: أَيْ بُنَيّ قَدْ سَهِرْتُ البَارِحَةَ فِي أَمْرِ عَمِّكَ سُلَيْمَان فَإِذَا صَلَّيْتُ الظُّهْرَ رَدَدْتُ الْمَظَالِمَ. فقال: ياَ أمير المُؤمنينَ مِنْ أَيْنَ لَكَ أَنْ تَعِيْشَ إلى الظّهْر فقالَ: ادْنُ ِمنّيْ فدَنَا مِنْهُ فقَبّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ. وَقَالَ: الحَمْدُ للهِ الذي أَخْرَجَ مِنْ ظَهْرِي مِنْ يُعِنْنُي عَلى دِيْنيْ فَخَرَجَ وَلَمْ يَقِلْ وَأَمرَ مُنَادياً يُنَادِي أَلا مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ فليرَفعْهَا إلَيَّ فَتَقَدّمَ إِلَيْه ذِمِّيّ مِنْ أهْل حِمْصَ فَقَالَ يَا أَمِيْرَ المُؤمِنينَ أَسْأَلُكَ كِتَابَ الله قَالَ وَمَا ذَاكَ قَالَ إِنَّ العَبَّاسَ بْنَ الوَلِيْدِ اغْتَصَبَنيْ أَرْضِيْ وَالعَبَّاسُ حَاضِرٌ فَقَالَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عَنْهُ مَا تَقُولُ يَا عَبَّاسُ قَالَ إِنَّ أَمِيْرَ المؤمِنينَ الوَلِيْدُ أَقْطَعَنِيْ إيَّاهَا وَهَذا كِتَابُهُ. فَقَالَ عُمَرُ رَضي اللهُ عَنْهُ مَا تَقُوْلُ يَا ذِمِّيْ قَالَ أمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ أَسْأَلُكَ كِتَابَ اللهِ تَعَالَى فقَََالَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عَنْهُ كِتَابَ اللهِ أَحُقُّ أَنْ يُتَّبَعَ مِنْ كِتَابِ الوَلِيْد فَاردُدْ عَلَيْهِ أرضَهُ يَا عَبَّاس فَرَدَّهَا عَليْهِ ثمَّ جَعَلَ لاَ يُدَّعَى عَلى شئٍ مِمَّا فى أَيْدِيْ أَهْل بَيْتِهِ مِن المَظَالِمَ إِلاَّ رَدَّهُ مَظْلَمَةً مَظْلَمَةً وَلَما بَلَغَ الخَوَارِجَ سِيْرَةُ عُمَرَ وَمَا رَدَّ مِن المَظَالِمَ اجْتَمَعُوا وَقَالُوا مَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُقَاتِل هَذَا الرَّجُلَ وَقَالَ فِيْهِ كُثَيِّرُ عَزَّةَ:

عمر وفقه الله ولدا صالحا يعينه علي العدل والزهد في الدنيا

وَلَيْتَ وَلَمْ تَسْبُبْ عَلِيّاً وَلَمْ تُخِفْ بَرِيَّاً وَلَمْ تَقْبَلْ مَقَالَةَ مُجْرِمِ وَصَدَّقْتَ بِالقَوْلِ الفِعَالَ مَعَ الذِيْ أَتَيْتَ فَأمْسَىَ رَاضِيَاً كُلَّ مُسْلِمِ فَمَا بَيْنَ شَرْقِ الأَرْضِ وَالغَرْبِ كُلِّهَا مُنَادٍ يُنَادِيْ مِنْ فَصِيْحٍ وَأَعْجَمِِ يَقُوْلُ أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ ظَلَمْتَنِيْ بِأَخْذِكَ دِيْنَارِيْ وَلَا أَخْذِ دِرْهَمِ فَأَرْبِحْ بِهَا مِنْ صَفْقَةٍ لِمُبَايِعٍ وَأَكْرِمْ بِهَا مِنْ بَيْعَةٍ ثُمَّ أَكْرِمِ وَلَمَّا بَلَغَ الجَبَّارَ العَنِيْدَ عُمَرَ بْنِ الوَلِيْدِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيْزِ رَحِمَهُ اللهُ رَدَّ الضَّيْعَةَ عَلَى الذِمِيّ كَتَبَ إلى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيْزِ يَعْتَرِضُ عَلَى عَدْلِهِ وَيَزْعُمُ أنه جورٌ، فقال في كتابه إنك قد ازدريت على من كان قبلك مِنْ الخُلَفَاءِ، وَعِبْتَ عليهم وسرت بغير سرتهم بغضاً لهم وشيناً لمن بعدهم مِنْ أَوْلاَدِهمْ. قَطَعْتَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أنْ يُوْصَلَ إذْ عَمَدْتَ إلَى أَمْوَالِ قُرَيْشٍ وَمَوَارِيْثِهم فَأَدْخَلْتَهَا بَيْتَ المَالِ جَوْرَاً وَعُدْوَانَاً، وَلَنْ تُتْرَكَ عَلَى هَذِهِ الحَالِ، والسَّلاَمُ. فَلَمَّا قَرَأَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيْزِ كِتَابَهُ كَتَبَ إلَيْهِ (ِبسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمْ) مِنْ عَبْدِ اللهِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيْزِ إلى عُمَرَ بْنِ الوَلِيْدِ السَّلاَمُ عَلَى المُرْسَلِيْنَ وَالحَمْدُ لِلهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِيْ كِتَابُكَ، أَمَّا أَوَّلَ شَأْنِكَ يَا ابْنَ الوَلِيْدِ فَأُمُّكَ بَنَانَةُ السُّكُوْنِ كانَتْ تَطُوْفُ في سُوْقِ حِمْصَ وَتَدْخُلُ في حَوَانِيْتِهَا ثُمَّ اللهُ أَعْلَمُ بِهَا.

رد عمر بن عبد العزيز علي الجبار عمر بن الوليد

ثُمَّ اشْتَرَاهَا ذُبْيَانُ مِنْ مَالِ المُسْلِمِيْنَ فَأَهْدَاهَا لأبِيْكَ فَحَمَلَتْ بِكَ فَبِئْسَ المَوْلُوْدُ، ثُمَّ نَشَأْتَ وَكنْتَ جَبَّارَاً عَنِيْدَاً تَزْعُمُ أَنِّي مِنْ الظَّالِمِيْنَ إذْ حَرَمْتُكَ وَأَهْلَ بَيْتِكَ مَالَ اللهِ تَعَالَى الذِي هُوَ فِي حَقِّ القَرَابَاتِ وَالمَسَاكِيْنِ وَالأَرَامِلْ. وَإِنَّ أَظْلَمَ مِنِّيْ وَأَتْرَكَ لِعَهْدِ اللهِ مَنْ اسْتَعْمَلَكَ صَبِيَّاً سَفِيْهَاً عَلَى جُنْدِ المُسلِمِينَ تَحْكُمْ فِيْهِمْ بِرَأْيِكَ َولَمْ يَكُنْ لَهُ فى ذَلِكَ نِيِّةٌ إِلا حُبُّ الوَالِدِ لِوَلَدِهِ فَوَيْلٌ لِأبِيْكَ مَا أكْثَر خُصَمَاؤُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَكَيْفَ يَنْجُو أبُوكَ مِنْ خُصَمَائِهِ. وَإِنّ أَظْلَمَ مِنِّىْ وَأَتْرَكَ لِعَهْدِ اللهِ مَنَ اسْتَعْمَلَ الحَجَّاجَ يَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَيَأْخُذ المالَ الحََرَامَ. وَإِنَّ أَظْلَمَ مِنّيْ وَأَتْرَكَ لِعَهْدِ اللهِ مَنَ اسْتَعْمَلَ قُرَّةَ أَعْرَابِيَّاً جَافِيَاً عَلَى مِصْرَ وَأذِنَ لَهُ في المَعَازِفِ وَاللهْوِ وَشُرْبِ الخَمْرِ. وَإنَّ أظْلَمَ مِنّيْ وَأَتْرَكَ لِعَهْدِ اللهِ مَنَ جَعَلَ لِعَالَيَةِ البَريْقِيَّةَ في خُمسِ العَرَبِ نَصِيْبَاً فَرُوَيْدَاً يَا ابْنَ بَنَانةَ لَوْ الْتَقَتَا حِلَقُ البِطَانِ وَرُدَّ الفَئُ إلى أهْلِهِ لَتَفَرَّغْتُ لَكَ وَلأهْلِ بَيْتِكَ فَوَضَعْتُهُم عَلى المحجّة البَيْضَاءِ فَطَالَمَا تَرَكْتُمْ المَحَجَّةِ البَيْضَاءِ فَطَالَمَا تَرَكْتُمْ الحَقَّ وَأَخَذْتُم البَاطِلَ وَمِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ مَا أرْجُو أَنْ أكُونَ رَأَيْتُهُ مِنْ بَيَعِ رَقَبَتِكَ وقَسْمِ ثَمَنِكَ عَلى الأَرامِل والمساكين واليَتَامَى فإنَّ لِكُلٍّ فِيْكَ حَقَّاً وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى وَلَا يَنَال سَلَامُ اللهِ القَوْمَ الظَّالِمِيْنَ وَكَتَبَ إلَيْهِ أَحَدُ عُمَّالِهِ فَقَالَ أَمَّا بَعْدُ أَصْلَحَ اللهُ الأمِيْرَ فَإنَّ قَبْلِي أنَاساً مِن العُمَّالِ قَد اقْتَطَعُوا مالاً عَظِيْمَاً لَسْتُ أَقْدِرُ علَى اسْتِخْرَاجِِهِ مِنْ أيْدِيْهِم إلّا أنْ أمَسَّهُم بِشَئٍْ مِن العَذَابِ فَإنْ رَأَى أَمِيْرُ المُؤمنينَ أَنْ يَأذَنَ لِيْ في ذَلِكَ أَفْعَلُ.

كتاب عمر إلى أحد عماله يوبخه علي مقال له أخطأ فيه

فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ أَمَّا بَعْدُ فَالعَجَبُ كُلَّ العَجَبِ مِنْ اسْتِئْذَانِكَ إيَّايَ في عَذَابِ بَشَرٍ كَأَنِّيْ لَكَ وِقَايَةٌ مِنْ عَذَابِ اللهِ وَكَأَنَّ رِضَائِيْ عَنْكَ يُنْجِيْكَ مِنْ سَخَطِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَاْنْظُرْ مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ عُدولٌ فخذه بِمَا قَامَتْ بِهِ البَّيِّنَةُ. وَمَنْ أقَرَّ بَكَ بِشَئٍ فَخُذْهُ بِمَا أقَرّ بِهِ وَمَنْ أَنْكَرَ فَاسْتَحْلِفْهُ باللهِ العَظِيْمِ وَخَلِّ سَبِيْلَهُ وَأيْمُ اللهُ لأنْ يَلْقُوْا اللهَ بِخيَانَاتِهمْ أحَبُّ مِنَ أنْ ألقَى اللهَ بِدِمَائِهِمْ والسَّلَامُ. وَكَانَ لِلْوَلِيْد بْنِ عَبْدِ الملِكِ ابْنٌ يُقَالُ لَهُ رَوْحٌ وَكَانَ نَشَأَ بِالبَادِيَةِ فَكَأنهُ أَعْرَابِيٌّ فَأتَى نَاسٌ مِن المُسلِمِيْنَ إِلى عُمَرَ يُخاصِمُوْنَ روْحَاً في حَوَانِيْتَ بِحِمْصٍ وَكَانَتْ لَهُمْ أقْطَعَهَا إيَّاهُمْ أَبُوهُ بِسِجِلِّ الوَلِيْدِ. قَالَ مَا يُغْنِيْ عَنْكَ سِجِلُّ الوَلِيْدِ، الحَوَانِيْتُ حَوَانِيْتُهُمْ قَدْ قَامَتْ لَهُمْ البَيِّنِةُ عَلَيْهَا خَلِّ لَهُمْ حَوَانِيْتَهُم فَقَامَ روْحٌ وَخَصْمُهُ الحَمْصِيُّ مُنْصَرِفِيْنَ فَتَوَعَّدَ رَوْحٌ الحِمْصِيُّ فَرَجعَ الحِمْصِيُّ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: هُوَ واللهِ يَتَوَعَّدُنِيْ يَا أمِيْرَ المُؤمِنِيْنَ. فَقَالَ عُمَرُ لِكَعْبِ بْنِ حَامِدٍ وَهُوَ مِنْ حَرَسِ عُمَرَ إذْهَبْ إلَى روْحٍ يَا كَعْبُ فَإنْ سَلَّمَ الحَوَانِيْتَ إِلى الحِمْصِيّ فَذَاكَ وَإلا أَتِنِيْ بِرَأسِهِ فَسَمِعَ بَعْضُ المُوَالِيْنَ لِرَوْحٍ كَلاَمَ عُمَرَ فَأسْرَعَ في إِخْبَارِهِ بِمَا قَالَ عُمَرُ فَخَلَعَ قَلَْبُه وَخَرَجَ إِلَيْهِ كَعْبٌ وَقَدْ سَلَّ بَعْضَ السَّيْفِ فَقَالَ لَهُ قُمْ فَخلِّ لَهُ حَوَانِيْتَهُ قَالَ نَعَمْ وَخَلَّى لَهُ الحَوَانِيتَ وَتَابَعَ النَّاسُ في رَفْعِ المَظَالِمِ فَمَا رُفِعَتْ إلَيْهِ مَظْلَمَةٌ إلاَّ رَدَّهَا. شِعْراً: ... أَلاَ فَاسْلُكْ إِلَى المَولَى سَبِيلاَ ... ولا تَطْلُبْ سِوَى التَقْوَى دَلِيْلاَ وَسِرْ فِيهَا بِجِدٍ وانْتِهَاض ... تَجِدْ فِيْهَا المُنَى عَرْضَاً وَطُوْلا وَلَا تَرْكَنْ إِلى الدُّنْيا وَعَوِّلْ ... عَلَى مَوْلَاكَ واجْعَلْه وَكِيْلَا وإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ تُعَزَّ عِزاً ... يَدُوْمُ فَكُنْ لَهُ عَبْداً ذَلِيْلَا

موعظة بليغة في التحذير من الكبر والحث علي ضده

وَوَاصِلَ مَنْ أَنَابَ إِليهِ واقْطعْ ... وصَالَ المُسْرِفِينَ تَكُنْ نَبَيْلَا ولا تُفْنِى شَبابكَ واغْتَنِمْهُ ... وَمثِّلْ بَيْنَ عَيْنيْكَ الرَّحِيْلَا ولا تَصِل الدُّنَا واهْجُرْ بَنِيْهَا ... عَلَى طَبَقاتِهم هَجْرَاً جَمِيْلَا وَعَاملْ فِيهِمُ الْوَلَى بِصِدْقٍ ... يَضَعْ لَكَ فِي قُلُوبِهِهُ القُبوُلَا والله أَعلم وصلى الله على مُحَمّدَ. مَوْعِظَةٌ عِبَادَ اللهِ قَدْ كَثُرَ في زَمَنِنَا اليَوْمَ أُنَاسٌ يَرَى أَحَدُهُمْ قَدْرَ نَفْسِهِ فَوْقَ مَا تَتَصَّوَرُهُ الأَفْهَام وَيَجْزِمُ كُلَّ الجَزْمِ أَنَّهُ رَفِيْعُ المَقَامِ، رِفْعَةً كُلُّ رَفِيْعٍ مَعَهَا تَحْتَ الأَقْدَامِ، لَا تَذْكُرُ أَمَامَهُ فَاضِلاً إِلّا ضَحِكَ وَهَزَّ رَأسَهُ مُتَهَكِّمَاً سِاخِرَاً بِمَا لَهُ مِنْ مَقَامٍ وقَدِيْمَاً قِيْلَ: وَمَنْ جَهِلَتْ نَفْسُهُ قَدْرَهُ رَأَى غَيْرُهُ مِنْهُ مَا لا يَرَى وَتَجِدُ هَذَا المُتَكَبِّرُ المُعْجَبُ بِنَفْسِهِ شَرِسَاً أَحْمَقاً ذَا إبَاءٍ وَاسْتِعْصَاءٍ حَتَّى عَلَى خَالِقَهَ القَدِيْر الكَبِيْر المُتعالى وَتَرَاهُ نَارِيَّ المِزَاجِ يَلْتِهبُ التِهَابَاً وَيَنْفَجِرُ لِأدْنى كَلِمَةٍ لا تُرْضِيْهِ وَلَوْ لَمْ يَقْصِدَ قَائِلُهَا إلا الحُسْنَى. وَمِنْ عَلَامَاتِهِ أَنَّكَ تَجِدُهُ حَرِيْصَاً عَلَى أَنْ يَكُوْنَ أَمَامَ النَّاسِ وَأَنْ يُصْغُوا إلَى كَلَامِهِ وَيُؤَلمهُ كَلَامُ غَيْرِهِ وَلَوْ كانَ حَقًّا وَتَجِدُ ثِيَابَهُ مُسْبَلَةٌ وفِي مَشْيِهِ يَتَبَخْتَر مُصَعّرِاً خَدَّهُ وَإنْ كَانَ عَلَيْهِ عِقَالٌ تَجِدُهُ مُمِيْلاً لَهُ وَتَجِدُ بَعْضَهُمْ قَدْ وَفَّرَ شَارِبَهُ وَفَتَلَهُ وَسَوَّى شَنَبَاتِهِ كالقُرُوْنِ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الكَمَالَ الذِيْ سَادَ الرِّجَالُ بِهِ هُوَ الوَقارُ وَقَرْنُ العِلْمِ بِالعَمَلِ فَقُلْ لِمَنْ يَزْدَهِيْ عُجْبَاً بِمَنْطِقِهِ وَقَلْبُهُ في قُيُوْدِ الحِرْصِ والأَمَلِ

مَهْلَا فَمَا الله سَاهٍ عَنْ تَلَاعُبِكُمْ ... لَكِنَّ مَوْعِدُكُمْ في مُنْتهى الأَجَلِ وَقُلْ لِمَنْ فَخْرُه في فَتْلِ شَارِبِهِ ... أَضَعْتَ عُمْرَكَ بَيْنَ الكْبِرِ وَالكَسَلِ حَتَّامَ تُبْرِمُ يَا وَافِيْ القَفَا شَنَبَاً ... مَا فِي طَوَايَاهُ إلَّا خَيْبَةُ الأَمَلِ أَصْبَحْتَ بُعْبُعَ مَنْ وفي البَيْتِ تُزْعِجُهُمْ ... هَلاَّ أَخَفْتَ العِدَا يَا مَعْرَضَ الخَجَلِ آخر: ... قل لِلّئيمِ الذى أحَفْىَ لِلِحَيتِه ... وَتَاهَ في شَنَباتٍ حَشْوُهَا قَذَرُ أُرْفُقْ فَلَيْسَ كَمَالاً مَا تَتِيْهُ بِهِ ... لَكِنَّهُ نَتَنُ يَشُوْبُهُ مَذَرُ وَمِنْ عَلَامِاتِهِ أَنَّكَ تَجِدُ صَاحِبَ الكِبْرِ لَا يَرْغَبُ قُرْبَ الفُقَرَاءِ مِنْهُ وَلَا يَأْلَفُ إِلَّا الأَغْنِيَاءَ فَالمُتَكَبِّرُ لا يُحِبُّ لِلْمُؤْمِنِيْنَ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ لأنَّهُ لا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بِسَبَبِ كِبْرِهِ وَعُجْبِهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى التَّوَاضُعِ وَهُوَ رَأسُ أخْلَاقِ الأصْفِيَاءِ. وَلَا يَقْدِرُ المُتَكَبِّرُ عَلَى تَرْكِ الحِقْدِ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدُوْمَ عَلَى الصِّدْقِ وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى تَرْكِ الغَضَبِ وَلَا عَلَى كَظْمِ الغَيْظِ وَلا يَسْلَمُ مِنَ احْتِقَارِهِ لِلنَّاسِ وَلَا يَسْلَمُ مِن الغِيْبَةِ وَالبُهْتِ لأنَّهُ فِيْهِ مِن العَظَمَةِ وَالعِزَّةِ وَالكِبْرِيَاءِ مَا يَحُوْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ. فَمَا مِنْ خُلُقٍ ذَمِيْمٍ وَقَبيْحٍ إلّا وَصَاحِبُ الكِبْرِ مُضْطَرُّ إِلَيْهِ لِيَحْفَظَ بِهِ عِزَّهُ وَعَظَمَتَهُ وَلِذَلِكَ وَرَدَ في الحَدِيْثِ أنّهُ: " لَا يَدْخُلُ الجَنّةَ مَنْ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ "". وفي وَصِيَّةِ لُقْمَانَ لابْنِهِ يَقُولُ {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ في الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ الله لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُوْرٍ} . وَمِنْ تَعَالِيْمِ رَبِّنَا لِهَذِهِ الأُمَّةِ وَنَبِيِّهَا عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلَامُ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى {وَلَا تَمْشِ في الأرْضِ مَرَحاً إنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضِ وَلَنْ تَبْلُغَ الجِبَالَ طُوْلا}

وَبِالحَقِيْقَةِ إنَّ المتَكَبِّرَ مِسْكِيْنٌ ثم مِسْكِيْنٌ إلَى حَدٍّ يَسْتَحِقُّ مَعَهُ الرِّثَاءُ فإنَّكَ بَيْنَمَا تَرَاهُ بِهَذِهِ الكِبْرِيَاءُ وَالعَظَمَةِ تَرَاهُ غَارِقَاً في بَحْرِ المَعَاصِيْ وَذُلِّهَا يُلْقِيْ نَفْسَهُ في جَهَنَّمَ. أَيَظُنُّ هَذَا المِسْكِيْنُ أَنَّهُ عَزِيْزٌ واللهُ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ أَوْ يَظُنُّ أَنَّهُ رَفِيْعٌ وَهُوُ في قاذُوْرَاتِ المَعَاصِيْ إنَّ العِزَّةَ والرِّفْعَةَ لاَ يَحْصُلاَنِ بِالدَّعْوَى وَلَيْسَ حُصُوْلُهُمَا بِيَدِ مَخْلُوقٍ وَلَكِنَّهُمَا بِيَدِ اللهِ وَحْدَهُ يَمْنَحُهُمَا إلَى مَنْ يُسَارِعُونَ إلى طَاعَةِ مَوْلاَهُم جلَّ وَعَلَا وَتَقَدَّسَ. فَيَا عِبَادَ اللهِ انْصَحُوا مَنْ وَقَعَ في وَرْطَةِ الكِبْرِ وَقُولُوا لَهُ تَدَبَّرْ كَلاَمَ رَبِّ العَالَمِيْنَ مِثْلَ قَولِهِ تَعَالَى إنّهُ لا يُحِبُّ المُسْتَكْبِرِيْنَ وَقَوْلَهُ تَعَالَى {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الذِيْنَ يَتَكَبَّرُوْنَ في الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وإنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإنْ يَرَوْا سَبِيْلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوْهُ سَبِيْلَا وَإنْ يَرَوْا سَبِيْلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيْلَا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِيْنَ} . وعَنْ عَمْروِ بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيْهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: " يُحْشَرُ المُتَكَبِّرُوْنَ أمْثَالَ الذَّرِّ في صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمْ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ يُسَاقُوْنَ إلَى سِجْنِ في جَهَنَّمْ يُقَالُ لَهُ بُوْلُسْ تَعْلُوْهُمْ نَارُ الأنْيَارِ يُسْقَون َمِنْ عُصَارَةِ أهْلِ النَّارِِ طِيْنَةِ الخَبالِ "". رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالترْمِذِيْ وَاللّفْظُ لَهُ وَقَالَ: حَدِيْثٌ حَسَنٌ. شِعْراً: ... مَتَى يَصِلِ العِطَاشُ إِلىَ ارْتِوَاءٍ ... إِذَا اسْتَقَت البِحَارُ مِنَ الرّكَايَا وَمَنْ يَثنِ الأَصَاغِرَ عَنِ مُرَادٍ ... وَقَدْ جَلَسَ الأَكَابِرُ في الزَّوَايَا وَإِنَّ تَرَفَّعَ الوُضَعَاءِ يَوْماً ... عَلَى الرُفَعَاءِ مِن إحدَى الرَّزَايَا إِذَا اسْتَوَتْ الأَسَافِلُ والأَعَالِيْ ... فَقدْ طَابَتْ مُنَادَمَةُ المُنَايَا

قصيدة بليغة في الحث علي طاعة الله والتزام العمل بالكتاب والسنة

آخر: ... اعْلَمْ هُدِيْتَ وَخَيْرُ العِلْمِ أَنْفَعُهُ أَنًَّ اتبَاعَ الهَوى ضَرْبٌ مِنْ الخَبَلِ وَالحَمْدُ لِلهِ رَبِّ العَالمَِيْنَ عَلى ُ إنْعَامِهِ وَتعالى اللهُ خَيْرُ وَلِيّ فَكَمْ وَكَمْ ظَلَّ بالأَهْوَاءِ وَطَاعَتِها مِنْ عَاقِلٍ جَامِعٍ لِلْعِلْمِ وَالعَمَلِ هُوَ الهَوَانُ كَمَا قَالُوا وَقد سُرقَت النُّوْنُ مِنْهُ فَجَانِبْهُ وَخُذْ وَمِلِ وَأَقْبِلْ عَلى طَاعَةِ الرَّحْمَنِ وَالْزَمَهَا في كَلِّ حِيْنٍ وَلا تَخْلُدْ إِلَى الكَسَلِ وَلا تُخَالِفْ لَهُ أَمْراً تَبَارَكَ مِنْ رَبٍّ عَظِيْمٍ وَسِرْ في أَقْوَمِ السُّبُلِ وَخُذْ بِمَا فِي كِتَابِ اللهِ مُجْتَهِداً مُشْمِّراً وَاحْتَرِزْ مِنْ سَوْفَ وَالأَمَلِ وَلا تُعَرِّجْ عَلى دَارِ الغُرُوْرِ وَدا والخُلُفِ وَالزُّوْرِ وَالنِّسْيَانِ لِلأَجَلِ وَاحْذَرْ مُصَاحَبَةَ المَرْءِ المُضِيْعِ فَقَدْ صَارُوا إِلَى الشَّرِّ وَالعِصْيَانِ وَالزَّلَلِ وَأَصْبَحُوا في زَمَانٍ كُلُّهُ فِتَنٌ وَبَاطِلٌ وَفَسَادُ بَيِّنٌ وَجَلِيْ

هُوَ الزَّمَانُ الذِي قَد كَانَ يَحْذَرُهُ أَئِمَّة الحَقِّ مِنْ حَبْرٍ ومِنْ بَدَلِيْ هُوَ الزَّمَانُ الذِي لَا خَيْرَ فِيهِ وَلَا عُرْفٌ نَرَاهُ عَلَى التَّفْصِيْلِ وَالجُمَلِ هُوَ الزَّمَانُ الذِي عَمَّ الحَرَامُ بِهِ وَالظُّلْمُ مِنْ غَيْرِ مَا شَكٍّ وَلا جَدَلِ أَيْنَ القُرَآنُ كِتَابُ اللهِ حُجَّتُهُ وَأَيْنَ سُنَّةُ طَهَ خَاتَمِ الرُّسُل وَأَيْنَ هُدْيُ رِجَالِ اللهِ مِنْ سَلَفٍ كَانَ الهُدَى شَأْنُهم في القَوْل وَالعَمَلِ أَكُلُّ أَهْلِ الهُدَى وَالحَقِّ قَدْ ذَهَبُوا بالمَوْت أَمْ سُتُروا يَا صَاحِبْي فَقُلِ وَالأَرْضُ لا تَخْلُو مِنْ قوْمٍ يَقُوْم بِهِمْ أَمْرُ الإِلهِ كَمَا قد جَاءَ فَاحْتَفِلِ فَارْجُ الإلَهَ وَلا تَيْأَسْ وَانْ بَعُدَتْ مَطَالِبٌ إنَّ رَبَّ العَاَلِميْنَ مَلِيْ وَفي الإلَهِ مَلِيْكِ العَالمَيِنَ غِنًى عَنْ كُلِّ شَيءٍ فَلازِمْ بَابَهُ وَسَلِيْ هُوَ القَرِيْبُ المُجِيْبُ المُسْتَغَاثُ بِهِ قَلْ حَسْبِيَ اللهُ مَعْبُودِيْ وَمُتَّكَلِيْ وَأَسْأَلُهُ مَغْفِرَةً وَاسْأَلهُ خَاتِمَةً حُسْنَى وَعَافِيَةً وَالجَبْرَ لِلْخَلَلِ

عمر بن عبد العزيز يأمر بعدم تقييد المسجونين لأنه يمنعهم من الصلاة

وَأَنْ يُوَفِّقَنَا لِلصَّالِحَاتِ وَمَا يُرْضِيْهِ عَنّا وَيَحْفَظْنَا مِنْ الخَطَلِ وَأَنْ يُصَلّي عَلى المُخْتَارِ سَيِّدِنَا مُحَمِّدٍ مَا بَكَتْ سُحْبٌ بِمُنْهَمِلِ وَالآلَ وَالصَّحْب مَا غَنَّتْ مُطَوَّقَةٌ عَلى الغُصُوْنِ فأشْجَتْ وَاجِداً وَخَلِيْ اللهُمَّ ثَبِّتْ إِيْمَانَنَا ثُبُوتْ الِجبَال الرَّاسِيَاتِ وَوَفِّقْنَا لِلْعَمَل في البَاقِيَاتِ الصَالِحَاتِ وجَنِّبْنَا جَمِيْعَ الطُّرقِ المُردِيَاتِ وَزَحْزِحنَا عَنْ النّارِ وَأَدْخَلِنَا فَسِيْحَ الجَنَّاتِ يَا رَفِيْعَ الدَّرَجاتِ بِرَحْمَتِكَ التِيْ وَسعَتْ الأَحْيَاءَ وَالأَمْوَاتِ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيْنَ. (فَصْلٌ) وَكَتَبَ عُمَرُ بن عبد العزيز رَحِمهُ اللهَ إلَى عُمَّالِهِ أَنْ لا يُقَيَّدَ مَسْجُوْنٌ فَإنَّهُ يَمْنَعُهُ مِنْ الصَّلاةِ وَكَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ إِذَا دَعَتْكُمْ قُدْرَتُكُمْ عَلى النَّاسِ إِلَى ظُلْمِهِمْ فَاذْكُرُوا قُدْرَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَنَفَاذَ مَا تَأْتُونَ إِلَيْهِم وَبَقَاءَ مَا يَأْتيْ إِلَيْكُمْ مِنْ العَذَابِ بِسَبَبِهِمْ وَكَانَتْ حُجْزَةُ إزَارِهِ قَبْلَ الخِلَافَةِ غائِبَةً في عُكَنِهِ مِنْ الحَالِ فَلَمّا تَوَلَّيَ الخلِافَةِ ذَهَبَتْ تِلْكَ الحَالُ فلو شِئْتَ أنْ تَعُدَّ أَضْلَاعَهُ مِنْ غَيْرِ مَسٍّ لَعَدَدْتَهَا. وَكانَتْ لَهُ غَلَّةٌ خَمْسِيْنَ أَلْفَ دِيْنَارٍ فَلمَّا وُلِيَ الخِلافة صَارَ يُنفِقُهَا كُلَّ حِينٍ حَتَّى مَا بقي لَهُ غَيْرُ قَمِيْص واحِدٍ لَا يَخْلَعُهُ حَتَّى يَتَّسِخَ فَإذَا اتَّسَخَ غَسَلَهُ وَمَكَثَ بِالبَيْتِ حَتَّى يَجِفَّ ثُمَّ يَلْبَسُهُ.

وتخييره جواريه عندما ولي الخلافة بالبقاء معه أو التسريح وذكر نموذج من تقشفه وأبيات كثيرة ما يتمثل بها وكلامه حول علماء السلف وعلماء عصره رضي الله عنه وأبيات في الحث علي العلم

وَلَمَّا وَلِيَ خَيَّرَ جَوَارِيْهِ وَقَالَ قَدْ نَزَلَ بِيْ أَمْرٌ قَد شَغَلَنِيْ عَنْكُنَّ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَحَتَّى يَفْرُغَ النَّاسُ مِنَ الحِسَابِ فَمَنْ أحَبَّتْ مِنْكُنّ عِتْقَها أَعْتَقْتُهَا وَمَنْ أَحَبَّتْ أَنْ أُمْسِكَهَا عَلى أَنْ لا يَكُوْنَ مِنِّيْ إلَيْهَا شَئٌ فَبَكَيْنَ وَارْتَفَعَ بُكَاؤُهُنَّ إِيَاساً مِنْهُ. وَكَانَ يَخْطُبُ النَّاسَ بِقَمِيْصٍ مَرْقُوْعِ الجَيْبِ مِنْ قُدَّامْ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ. فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ إنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَاكَ فَلَوْ لَبِسْتَ فَنَكَّسَ رَأسَهُ سَاعَةً ثمّ قالَ أفْضَلُ القَصْدِ عَن الجِدَةٍ وَأفْضَلُ العَفْوِ عَنْ المَقْدِرَةِ. وَذَكَرَتْ زَوْجَتُه فَاطِمَةُ بِنْتُ عبد المَلِكِ أَنَّ عُمَرَ مَا اغْتَسَلَ عَنْ حُلُمٍ وَلا جَنَابَةٍ مُنْذُ وَلَى الخِلَافَةَ نَهَارُهُ في أَشْغَالِ النَّاسِ وَرَدِّ المَظالِم إلى أَهْلِهَا وَلَيْلُه في عِبَادَةِ رَبِّهِ. وَقَالَ مَسْلَمَةُ بْنُ عبد المَلِكِ دَخَلْتُ عَلى أَمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ عُمَرَ بْنِِ عَبْدِ العَزِيْزِ رَضيَ اللهُ عَنْهُ أَعُودُهُ في مَرَضِهِ الذِي مَاتَ فِيْهِ فَإذَا عَلَيْهِ قَمِيْصٌ وَسِخٌ فَقُلْتُ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ عَبْدِ المَلِكِ اغْسِلِيْ قَمِيْصَ أَمِيْرِ المُؤمِنِينَ فَقَالَتْ نَفْعَلُ إنْ شَاءَ اللهُ قَالَ مَسْلمَةُ ثُمَّ عُدْتُه فَإذَا القَمِيْصُ عَلى حَالِهِ فَقُلْتُ يَا فَاطِمَةَ أَلَمْ آمُرُكِ أَنْ تَغْسِلِيْ قَمِيْصَ أَمِير المؤمِنينَ فَإنَّ النَّاسَ يَعُوْدُوْنَهُ فَقَالَتْ وَاللهِ مَا لَهُ قَمِيْصٌ غَيْرُهُ وَكانَ رَحِمَهُ اللهُ كَثِيْراً مَا يَتَمَثَّلُ بِهَذِهِ الأَبْيَاتِ: نَهَارُكَ يَا مَغْرُوْرُ سَهْوٌ وَغَفْلَةٌ وَلَيْلُكَ نَوْمٌ وَالرَّدَى لَكَ لَازِمُ ... ... ...

يَسُرُّكَ مَا يَفْنَى وَتَفْرَحُ بِالْمُنَى كَمَا غُرَّ بِاللَّذَاتِ فِي النَّوْمِ حَالِمُ وَشُغْلُكَ فِيْمَا سَوْفَ تَكْرَهُ غِبَّهُ كذَلِكَ في الدُّنْيَا تَعِيْشُ البَهَائِمُ وَفِعْلُكَ فِعْلُ الجَاهِلِيْنَ بِرَبِّهِمْ وَعُمْرُكَ في النُّقْصَانِ بَلْ أَنْتَ ظَالِمُ فَلا أَنْتَ في اليَقْظَانَ يَقْظَان حَازِمُ وَلا أَنْتَ في النُّوَّامِ نَاجٍ وَسَالِمُ فَلاَ تَحْمَدِ الدُّنْيَا وَلَكِنْ فَذُمَّهَا وَلا تَكْثِرِ العِصْيَانَ إنَّكَ ظَالِمُ وَكَانَ يَقْوُلُ أدْرَكْنَا العُلَمَاءَ، وَالأُمَراءُ وَالسَّلاطِيْنُ يَأْتُونَهُمْ فَيَقِفُوْنَ عَلى أَبْوَابِ العُلَمَاءِ كَالعَبِيْدِ حَتَّى إذَا كَانَ اليَوْمُ رَأَيْنَا العُلَمَاءَ وَالفُقَهَاءَ وَالعُبَّادَ هُمَ الذِيْنَ يَأْتُونَ الأُمَراءَ والأغنِيَاءَ فلمَّا رَأَوْا ذَلِكَ مِنْهُمْ ازْدَرَوْهُمْ وَاحْتَقَرُوْهُمْ. وَقَالُوا لَوْلاَ أَنَّ الذِيْ بِأَيْدِيْنَا خَيْرٌ مِمَّا بِأَيْدِيْهِم مَا فَعَلُوا ذَلِكَ مَعَنَا. وَنُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ إنَّ بَنِيْ إسْرَائِيْلَ لما كَانُوا عَلى الصَّوَابِ كَانَتْ الأمَرَاءُ تَحْتَاجُ إلى العُلَمَاءِ وَكَانَتْ العُلَمَاءُ تَفِرُّ بِدِيْنِهَا مِن الأُمَراءِ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ رُذَالَةِ النَّاسِ تَعَلَّمُوا ذَلِكَ العِلْمَ وَأَتَوْا بِهِ الأُمَراءَ فَاسْتَغْنَتْ بِهِ عَن العُلَمَاءِ وَاجْتَمَعَ القَوْمُ عَلى المَعْصِيَةِ فَسَقَطُوا وَانْتَكَسُوا، وَلَوْ كَانَ عُلَمَاؤُنَا يَصوْنُوْنَ عِلْمَهُمْ لَمْ تَزل الأُمَراءُ تَهابُهُمْ قُلْتُ: وَلِلهِ دَرُّ القَائِلِ:

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ العِلْمِ صَانُوْهُ صَانَهُمْ وَلَوْ عَظَّمُوْهُ في النُّفُوسِ لَعُظِّمَا وَلَكِنْ أَهَانُوْهُ فَهَانُوا وَدَنَّسُوا مُحَيَّاهُ بِالاْطمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا فَإنْ قُلْتَ زَنْدُ العِلْمِ كَابٍ فَإنَّمَا كَبَى حَيْثُ لَمْ تُحْمَى حِمَاهُ وَأَظْلَمَا آخر: ... فَهُبُّوا أُهَيْلَ العِلْمِ مِنْ رَقْدَةِ الهَوَى وَمِيلُوا إلَى نَهْجِ الرَّشَادِ وَخَالِفُوْا هَوَىَ النَّفْسِ إنَّ النَّفْسَ مِنْ أَكْبَرِ العِدَا وَلِلْعَبْدِ فِيْهَا إنْ أطَاعَ المَتَالِفُ وَحُثُّوا مَطَايَا العَزْمِ في طَلب العُلَا فَقَدْ مَاتَ أهْلُوهُ الكِرَامُ السَّوَالِفُ وَنَحْنُ إذَا مَاتُوْا نَمُوْتُ بِمَوْتِهِمْ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنّا عَلى النَّهْجِ عَارِفُ فَأَحْيُوا مَوَاتَ العِلْمِ مِنْكُمْ بِعَطْفَةٍ إلىَ العِلْمِ كَيْ تَحْيَا بِتِلْكَ الوَضَائِفُ فَلَا خَيْرَ يُرْجَى في الحَيَاةِ عَلى الهَوَى إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيْنَا إلَى العِلْمِ صَارِفُ بِضَاعَتُنَا المُزْجَاةُ فِيْهِ قَلِيْلَةٌ وَقَدْ كانَ فِيْنَا جِسْمُهُ وَهْوَ نَاحِفُ وَعَمَّا قَلِيْلٍ سَوْفَ يُطْوَى سِجِّلَهُ وَتَذْهَبُ أرْبَابٌ لَهُ وَطَوَائِفُ

جواب عمر لمسلمة عندما قال له أفقرت أفواه ولدك

وَدَخَلَ عَلَى عُمَرَ مَسْلَمَةُ في مَرَضِهِ فَقاَلَ يَا أَمِيْرَ المُؤمنينَ إِنَّكَ أَفْقَرْتَ أَفْوَاهَ وَلَدِكَ مِنْ هَذَا المَالِ وَتَرَكْتَهُمْ عَيْلَةً لا شَئَ لَهُمْ فَلَوْ أَوْصَيْتَ بِهِمْ إلَى وَالٍ نَظَرَ إلَى أَهْلِ بَيْتِكَ فَقَالَ عُمَرُ أَسْنِدُوْنِيْ. ثُمَّ قَالَ أَمَّا قَوْلُكَ إِنّيْ أَفْقَرْتُ أَفْوَاهَ وَلَدِيْ مِنْ هَذَا المَالِ فَوَاللهِ مَا مَنَعْتُهُمْ حَقًّا هُوَ لَهُمْ وَلَمْ أُعْطِهِمْ مَا لَيْسَ لهُمْ، وَأَمَّا قَوْلُكَ لَوْ أَوْصَيْتَ بِهِمْ فإنَّ وَصِيِّيْ وَوَلِيِّ فِيْهِمْ {اللهُ الذي نَزَّلَ الكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّي الصّالِحِيْنَ} بَنِيّ أحَدُ رَجُلَيْنِ إمَّا رَجُلٌ يَتَّقِيْ اللهَ فَيَجْعَلُ لَهُ مَخْرَجًا وَإمّا رَجُلٌ مُكِبُّ عَلَى المَعَاصِيْ فَإنِّي لَمْ أَكُنْ أَقَوِّيْهِ عَلى المَعَاصِي. ثُمَّ بَعَثَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ بِضْعَة عَشَرَ ذَكَرَاً فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ ثُمَّ قَالَ بِنَفْسِيْ الفَتِيَةُ الذِيْنَ تَرَكْتُهُمْ عَيْلَةً لا شَئَ لَهُمْ فإنِّيْ بِحَمْدِ اللهِ قَدْ تَرَكْتُهُمْ بِخَيْر أيْ بَنِيّ إنّ أَبَاكُمْ قَدْ مَيَّزَ بَيْنَ أمْرَيْنِ بَيْنَ أنْ تَسْتَغْنُوْا وَيَدْخَلُ النَّارَ أَبُوكُمْ، أَو تَفْتَقِرُوا وَيَدْخُلُ أَبُوكُمْ الجَنّةَ، فَكَانَ أَنْ تَفْتَقِرُوا وَيَدْخُلُ الجَنّةَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ أنْ تَسْتَغْنُوا وَيَدْخُلُ النَّارَ قُوْمُوا عَصَمَكُمْ اللهُ. وَذكَرَ ابْنُ أَبِيْ الدُّنْيَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العزيْز لَمَّا كَانَ في اليَوْمِ الذِي مَاتَ فِيْهِ قَالَ أَجْلِسُونِيْ فأجْلَسُوهُ فَقالَ أنَا الذِيْ أَمَرْتَنِيْ فَقَصَّرْتُ وَنَهَيْتَنِيْ فَعَصَيْتُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ وَلَكِنْ لاَ إلهَ إِلا اللهُ ثُمّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَأحَدّ النَّظَرَ فَقَالُوا إنَّكَ لتَنْظُرُ نَظَراً شَدِيْداً يَا أَمِيْرَ المُؤمِنينَ فَقَالَ إنِّيْ لأَرَيَ حَضَرَةً مَا هُمْ بِإنْسٍ وَلَا جِنٍْ ثُمَّ قُبِضَ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ: آخر: ... إذا شِئْتَ أَنْ تَرْثي فَقيْداً مِن الوَرَى ... وَتَدْعُوا لَهُ بَعْد النبي المُكَرَّمِ فَلا تَبكِينْ إِلاَّ عَلىَ فَقْدِ عَالِمٍ ... يُبَادِرُ بالتَّفْهِيْمِ لِلْمُتَعَلِّمَ وَفَقْدِ إِمَامٍ عَالِمٍ قَامَ مُلْكُهُ ... بأنْوَار حُكْمِ الشَرعِ لا بالتَّحَكُمِ وفَقْدِ شُجَاعٍ صَادِقٍ في جِهادِهِ ... وَقد كُسِرَتْ رَايتُهُ في التَّقَدُمِ وَفَقْدِ كَرِيْمٍ لا يَمَلُّ مِنْ العَطَا ... لِيُطْفِئَ بُؤسَ الفَقْرِ عن كُلّ مُعْدِمِ

كلام عمر لابنه عبد الملك وهو مريض وما قال بعد موت ابنه

وفَقْدِ تَقِيٍ زاهِدٍ مُتَوَرّعٍ ... مُطُيْعٍ لِرَبِّ العَالمَِيْنَ مُعَظمٍ فَهُم خَمْسَةٌ يُبْكَى عَلَيْهِم وَغَيُرهُمْ ... إِلى حَيْثُ أَلْقَتْ رَحْلَهَا أمُ قَشْعَمِ شِعْراً: ... وَلَمْ أرَ أَمْثَالِ الرِجَالِ تَفَاوُتاً ... لَدَىَ الدِّيْنِ حَتَّى عُدَّ أَلْفٌ بِوَاحِدِ آخر: ... تَفَرَّدَ بالْعَلْيَاءِ عَن أَهْل بَيْتِهِ ... وَذَاكَ بِتوَفْيقٍ مِن اللهِ وَافِدُ وَتخَتْلَفُ الأَثْمارُ في شجَرَاتهَا ... إِذَا شَرِبَتْ بِاْلماءِ وَالماءِ وَاحِد إشارة إلى قول الله جَلَ وعَلَا {يُسْقى بِماءَ واحَدِ ونفضِل بعضَها على بعضٍ في الأُكَلْ} . (فَصْلٌ) وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيّ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيْزِ لِابْنِهِ عَبْدِ الملكِ وَهُوَ مَرِيْضٌ كَيْفَ تَجِدُكَ قَالَ في المَوْتِ قَالَ: لأنْ تكُونَ في مِيْزَانِيْ أحَبُّ إليَّ أنْ أكوُنَ في مِيْزَانِكَ فَقَالَ لَهُ: واللهِ يَا أبتِ لأَنْ يَكونَ مَا تُحِبُّ أَحَبُّ إليَّ مِنْ أنْ يَكُونَ مَا أُحِبُّ. قِيْلَ فَلَمَّا مَاتَ ابْنُه عبد المَلِكِ قَالَ عُمَرُ يَا بُنَيَّ لَقَدْ كُنْتَ في الدُّنْيَا كَمَا قَالَ اللهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {المالُ وَالبَنُونَ زِيْنَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا} وَلَقَدْ كُنْتَ أفْضَلَ زِيْنَتِهَا وَإِنّيْ لأَرجو أنْ تَكُوْنَ اليَوْمَ مِنْ البَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ التِيْ هِيَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ أمَلاً وَاللهِ مَا سَرَّنِيْ أنْ دَعَوْتُكَ مِنْ جَانِبٍ فَأجَبْتَنِيْ. وَلما دَفَنَهُ قَامَ عَلى قَبْرِهِ فَقَالَ: مَا زِلْتُ مَسْرُوراً بِكَ مُنْذُ بُشِّرْتُ بِكَ وَمَا كُنْتُ قَطُّ أسَرَّ إليَّ مِنْكَ اليَوْمَ ثُمَّ قَالَ: اللهُمَّ اغِفْرْ لِعَبْدِ الملكِ بْنِ عُمَرَ وَلِمَنْ اسْتَغَفَرَ لَهُ. وَلَمَّا قَامَ النَّاسُ لَهُ قَالَ: يَا مَعْشَرَ النَّاسِ إنْ تَقُومُوا نَقُمْ وَإنْ تَقْعُدُوْا نَقْعُدْ فَإنَّمَا يَقُوْمُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِيْنَ إنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ وَسَنَّ سُنَنَاً مَنْ أَخَذ بِهَا لَحَق وَمَنْ تَرَكَهَا مُحِقَ.

وصية عمر لمن أراد أن يصحبه

وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَصْحَبْنَا فَلْيَصْحَبْنَا بِخَْمسٍ يُوْصِلُ إِلَيْنَا حَاجَةَ مَنْ لا تَصِلُ إلَيْنَا حَاجَتُهُ، وَيَدُلُّنَا مِن العَدْلِ إلى مَا لا نَهْتَدِيْ إلَيْهِ، وَيَكُونُ عَوْنَاً لَنَا على الحَقِّ، وَيُؤَدِّيْ الأَمَانَة إليْنَا وَإلَى النَّاسِ وَلا يَغْتَبْ عَنْدَنَا أَحَداً، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَهُوَ فِي حَرَجٍ مِنْ صُحْبَتِنَا وَالدُّخُولِ عَلَيْنا. وَسُئِلَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَبْدِ المَلِكِ زَوْجَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزيْز عَنْ عِبَادَةِ عُمَرَ فَقَالَتْ: وَاللهِ مَا كَانَ بأكْثَر النّاسِ صَلاَةًً وَلا أكثرَ صِيَامَاً وَلكِنْ وَاللهِ مَا رأيْتُ أخْوَفِ لِلهِ مِنْهُ لَقدْ كَانَ يَذْكُرُ اللهَ في فِرَاشِهِ فَيْنَتَفِضُ انْتِفَاضَ العُصْفُورِ مِنْ شِدَّةِ الخَوْفِ حَتَّى نَقوُل لُيصْبَِحَنَّ النّاسُ وَلا خَلِيْفَةَ لَهُمْ. قَالَ: وَمَرَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزيز ذاتَ يَومٍ بِفَاطِمَةَ زَوْجَتِهِ فَضَرَبَ عَلى كَتِفِهَا وَقَالَ: يَا فَاطِمَةُ لنَحْنُ ليَالِيْ دَابِقَ أَنْعَمُ مِنَا اليَوْمَ؟ فَقالَتْ: وَاللهِ مَا كُنْتَ عَلى ذَلِكَ أَقْدَرَ مِنْكَ اليَوْمَ. فأدْبَرَ عنَهْا وَلَهُ حَنِيْنٌ وَهُوَ يَقُولُ: يَا فَاطِمَةُ إنَّيْ أَخافُ النَّارَ يَا فَاطِمَةُ {إنِّيْ أخَافُ إنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيْمٍ} . قَالَ: وَكَانَ عُمَرُ يُصَلِّي العَتَمَةَ ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَى بَنَاتِهِ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهنَّ فَدَخَلَ عَلَيْهنَّ ذاتَ لَيْلَةٍ فَلمَّا أحْسَسْنَهُ وَضَعْنَ أيْدِيَهُنَّ عَلى أفْوَاهِهِنَّ ثمَّ تَبَادَرْنَ البَابَ فَقالَ لِلْحاضِنَةِ: مَا شَأْنُهُنَّ؟ قَالَتْ: إنّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُنَّ شَئٌ يَتَعَشَّيْنَهُ إلْا عَدَسٌ وَبَصَلٌ فَكَرِهْنَ أَنْ تَشُمَّ ذَلِكَ مِنْ أَفْوَاهِهِنَّ. فَبَكَى عُمَرُ ثُمَّ قَالَ لَهُنَّ يَا بَنَاتِيْ مَا يَنْفَعُكُنَّ أنْ تَعيَشنَ الألَوانَ وَيُؤْمَرُ بِأَبِيْكُنَّ إلَى النَّارِ قَالَ: فَبَكْينَ حَتَّى عَلَتْ أصْوَاتُهُنَّ ثُمَّ أنْصَرَفَ. وَجَاءَتْ عَمَّةٌ لَه إلَى فَاطِمَةَ امْرَأته فَقَالتْ: إنَّيْ أُرِيْدُ كَلَامَ أَمِيرِ المُؤمنينَ قَالتْ لَهَا اجِلْسِيْ حَتَّى يَفْرُغَ فَجَلَسَتْ فإذا بِغُلامٍ قَدْ أتَى فَأخَذَ

بنات عمر لا يجدن عشاء إلا بصلا

سِرَاجاً. فَقَالَت لهَا فَاطِمَةُ: إنْ كُنْتِ تُريدينَه فالآن فَإنه إذَا كَانَ في حَوَائِجِ العَامَّةِ كَتَبَ عَلى الشَّمْعِ وَإذا صَارَ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ دَعَا بِسِرَاجِهِ. فَقَامَتْ فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ فَإذَا بَيْنَ يَدَيْهِ أقْرَاصٌ وَشَئٌ مِنْ مِلْحٍ وَزَيْتٍ وَهُوَ يَتَعَشَّى فَقَالَتْ يَا أَمِيرِ المُؤمِنينَ أَتَيْتُ لِحَاجَةٍ لِيْ ثمَّ رَأَيْتُ أنْ أبْدَأ بِكَ قَبْلَ حَاجِتِيْ قَالَ: َومَا ذَاكَ يَا عَمَّةُ؟ قَالَتْ: لَوْ اتَّخَذْتَ لَكَ طَعَاماً أَلْيَنَ مِنْ هَذا؟ قَالَ: لَيْسَ عِنْدِيْ يَا عَمَّةُ وَلَوْ كَانَ عِنْدِيْ لَفَعَلْتُ. قَالَتْ: يَا أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ كَانَ عَمُّكَ عَبْدُ الَمَلِكِ يُجْرِيْ عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ كَانَ أخَوْكَ الوَلَيْدُ فَزَادَنِيْ ثُمَّ كَانَ أخْوكَ سُلْيَمَانُ فَزَادَنِيْ ثُمَّ وَلِيْتَ أنْتَ فَقَطَعْتَهُ عَنّيْ قَالَ: يَا عَمَّةُ إنَّ عَمِّيْ عَبد المَلِكِ وَأخِيْ الوَلِيْدِ وَأَخِيْ سُلْيَمَانُ كَانُوا يُعْطُوْنَك مِنْ مَالِ المُسْلِمِيْنَ. وَكَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ المَلِكِ قَدْ أَمَرَ لِعَنْبَسَةَ بْنِ سَعدٍ بنِ العَاصِ مِنَ البَيْتِ الأمَوِيّ بِعِشْرْينَ ألْفِ دِيْنَارٍ فَدَارَتْ المُعَامَلةُ في الدّواوِيْنِ حَتَّى انْتَهتْ إلى دِيْوَانِ الخَتْمِ فَلمْ يَبْقَ إلّا قَبْضُهَا فتوُفِيَ سُلَيْمَانُ قَبْلَ أنْ يَقبِضَهَا. وَكانَ عَنْبَسَةُ صَديقاً لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيْزِ فَغَدَا يَطْلُبُ مِنْ عُمَرَ مَا أمَر لَهُ بِهِ سُليْمَانُ فَوَجَدَ بنِيْ أُميّة حُضُوْراً بِبَابِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيْزِ يُرِيْدُوَنَ الإِذْنَ عَليْهِ لِيُكَلِّمُوهُ في أُمُوْرِهِمْ فلَمَّا رأو صَدِيْقَ عُمَر عَنْبَسَةَ قَالُوا: نَنْتَظِر مَاذا يَعْمَلُ مَعَهُ قَبْلَ أنْ نُكَلِّمَهُ. فَدَخَلَ عَنْبَسَةُ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: يَا أَميرَ المُؤْمِنِيْنَ إنَّ أَمِيرَ الْمُؤمِنينَ سُلَيْمَانُ كانَ قدْ أَمَرَ لِيْ بعِشْرِيْنَ أَلْفِ دِيْنَارٍ حَتَّى وَصَلَتْ إلَى دِيْوَانِ الخَتْمِ وَلَمْ يَبْقَ إلا أنْ أقْبِضَهَا فَتُوفيَ قَبْلَ أنْ أقْبِضَهَا وأميرُ المُؤْمِنينَ أوْلَى

بِاسْتِتْمَامِ الصَّنِيعَةِ عِنْدِي وَمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ أَعْظَمُ مِمَّا كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ سُلَيْمَانُ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: كَمْ ذَلِكَ؟ قَالَ: عُشْرُونَ أَلْفِ دِينَارِ. قَالَ عُمَرُ: عِشْرُونَ أَلْفِ دِينَارٍ تُغْنِي أَرْبَعَةَ آلافِ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَدْفَعُهَا إِلى رَجُلٍ وَاحِدٍ وَاللهِ مَا لِي إِلى ذَلِكَ مِنْ سَبِيلٍ. قَالَ عَنْبَسَةُ: فَرَمَيْتُ بِالْكِتَابِ الذِي فِيهِ الصَّكُّ. فَقَالَ عُمَرُ: لا عَلَيْكَ أَنْ يَكُونَ مَعَكَ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَأْتِي مَنْ هُوَ أَجْرَأُ عَلَى هَذَا الْمَالِ مِنِّي فَيَأْمرَ لَكَ بِهِ. فَأَخَذْتُهُ وَخَرَجْتُ إِلى بَنِي أُمَيَّةَ وَأَعْلَمْتُهم مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَوا: لَيْسَ بَعْدَ هَذَا شَيْءٌ ارْجِعْ إِلَيْهِ فَاسْأَلْهُ أَنْ يَأْذَنَ لَنَا فِي الْبُلْدَانِ. فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ قَوْمَكَ بِالْبَابِ يَسْأَلُونَكَ أَنْ تُجْرِي عَلَيْهِمْ مَا كَانَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِكَ. فَقَالَ عُمَرُ: وَاللهِ مَا هَذَا الْمَالُ لِي وَمَا لِي إِلى ذَلِكَ مِنْ سَبِيلٍ. قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَيَسْأَلُونَكَ أَنْ تَأْذَنَ لَهُمْ يَضْرِبُوا فِي الْبُلْدَانِ. قَالَ: مَا شَاءوا ذَلِكَ لَهُمْ وَقَدْ أَذِنْتُ لَهُمْ. قُلْتُ: وَأَنَا أَيْضًا؟ قَالَ: وَأَنْتَ أَيْضًا قَدْ أَذِنْتُ لَكَ وَلَكِنِّي أَرَى لَكَ أَنْ تُقِيمَ فَإِنَّكَ رَجُلٌ كَثِيرُ النَّقْدِ وَأَنَا أَبِيعُ تَرِكَةِ سُلَيْمَانَ فَلَعَلَّكَ تَشْتَرِي مِنْهَا مَا يَكُونُ لَكَ فِي رِبْحِهِ عِوَضٌ مِمَّا فَاتَكَ. قَالَ: فَأَقَمْتُ فَاشْتَرَيْتُ مِنْ تَرِكَةِ سُلَيْمَانَ بِمَائَةِ أَلْفٍ فَخَرَجْتُ بِهَا إِلى الْعِرَاقِ فَبِعْتُهَا بِمَائَتَيْ أَلْفِ دِينَارٍ وَحَبَسْت الصَّكَّ فَلَمَّا تُوُفِّيَ عُمَرُ وَوَلِيَ يَزِيدُ بنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَتَيْتُه بِكِتَابِ سُلَيْمَانَ فَأَنْفَذَ لِي مَا كَانَ فِيهِ. وَكَانَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَنْظُرُ لَيْلاً فِي أَحْوَالِ الرَّعِيَّةِ فِي ضَوْءِ السِّرَاجِ فَجَاءَ غُلامٌ لَهُ فَحَدَّثَهُ فِي شَأْنٍ خَاصٍّ بِعُمَرَ فَقَالَ عُمَرُ لِلْغُلامِ:

جواب عمر لعنبسة في طلبه منه تنفيذ ما أمر له به وذكر شيء من ورعه وزهده

أطْفِئْ سِرَاجَ بَيْتِ الْمَالِ ثُمَّ حَدِّثْنِي لأَنَّ الدُّهْنَ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَلا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُه إِلا فِي أَشْغَالِ الْمُسْلِمِينَ. وَعَنْ الْفِهْرِيٌّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقْسِمُ تُفَّاحَ الْفِيء فَتَنَاوَلَ ابْنُهُ تُفَّاحَةً فَانْتَزَعَهَا مِنْهُ عُمَرُ وَأَوْجَعَ فَمَّهُ فَسَعَى إِلى أُمِّهِ فَأَرْسَلَتْ إِلى السُّوقِ وَاشْتَرَتْ لَهُ تُفَّاحًا. فَلَمَّا رَجَعَ عُمَرُ وَجَدَ رِيحَ التُّفَاحِ فَقَالَ لِزَوْجَتِهِ فَاطِمَةُ: هَلْ فِي الْبَيْتِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْفِيءِ؟ قَالَتْ: لا وَقَصَّتْ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ: وَاللهِ لَقَدْ انْتَزَعَتْهُا مِنْ ابْنِي وَكَأَنَّمَا انْتَزَعْتُهَا مِنْ قَلْبِي وَلَكِنْ كَرِهْتُ أَنْ أُضِيعَ نَفْسِي بِتُفَّاحَةٍ مِنْ فِيءِ الْمُسْلِمِينَ. وَذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ عُمَر بن عَبْدِ الْعَزِيزِ قَحْطٌ عَظِيمٌ فَوَفَدَ عَلَيْهِ قَوْمٌ مِن الْعَرَبِ فَاخْتَارُوا مِنْهُمْ رَجُلاً لِخِطَابِهِ. فَقَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّا أَتَيْنَاكَ مِنْ ضَرُورَةٍ عَظِيمَةٍ وَقَدْ يَبِسَتْ جُلُودُنَا عَلَى أَجْسَادِنَا لِفِقْدِ الطَّعَامِ وَرَاحَتُنَا فِي بَيْتِ الْمَالِ. وَهَذَا الْمَالُ لا يَخْلُو مِنْ ثَلاثَةِ أَقْسَام. إِمَّا أَنْ يَكُونَ للهِ. أَوْ لِعِبَادِ اللهِ. أَوْ لَكَ فَإِنْ كَانَ للهِ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ لِعِبَادِ اللهِ فَآتِهِمْ إِيَّاهُ. وَإِنْ كَانَ لَكَ فَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْنَا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ. فَتَغَرْغَرَتْ عَيْنَا عُمَرَ بنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِالدُّمُوعِ وَقَالَ: هُوَ كَمَا ذَكَرْتَ وَأَمَرَ بِحَوَائِجِهِمْ فَقُضِيَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ. فَهَمَّ الأَعْرَابِيُّ بِالْخُرُوجِ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَيُّهَا الإِنْسَانُ الْحُر كَمَا أَوْصَلْتَ إِلَيَّ حَوَائِجَ عِبَادِ اللهِ وَأَسْمَعْتَنِي كَلامَهُمْ فَأَوْصِلْ كَلامِي وَارْفَع حَاجَتِي إِلى اللهِ تَعَالى. فَحَوَّلَ الأَعْرَابِيُّ وَجْهَهُ قِبَلَ السَّمَاءِ. وَقَالَ: إِلَهِي اصْنَعْ مَعَ عُمَرَ بنِ

عَبْدِ الْعَزِيزِ كَصَنِيعَهِ فِي عِبَادِكَ فَمَا اسْتَتَمّ الأَعْرَابِيُّ كَلامَهُ حَتَّى ارْتَفَعَ غَيمٌ فَأَمْطَرَ مَطَرًا غَزِيرًا. وَكَانَ لِعُمَرَ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ غُلامٌ وَكَانَ خَازِنًا لِبَيْتِ الْمَالِ وَكَانَ لِعُمَرَ بَنَاتٌ فَجِئْنَهُ يَوْمَ عَرَفَةً وَقُلْنَ لَهُ: غَدًا الْعِيدُ وَنِسَاءُ الرَّعِيَّةَ وَبَنَاتُهُمْ يَلُمْنَنَا وَيَقُلْنَ: أَنْتُنَّ بَنَاتُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَنَرَاكُنَّ عَرِيَانَاتٍ لا أَقَلَّ مِنْ ثِيَابِ تَلْبَسْنَهَا وَبَكَيْنَ عِنْدَهُ فَضَاقَ صَدْرُ عُمَرَ فَدَعَا غُلامَهُ الْخَازِنَ وَقَالَ لَهُ: أَعْطِنِي مُشَاهَرَتِي لِشَهْرٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ الْخَازِنُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ تَأَخْذُ ُالْمُشَاهَرَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ سَلَفًا أَتَظُنَّ أَنَّ لَكَ عُمْرَ شَهْرٍ فَتَأْخُذُ مُشَاهَرَةَ شَهْرٍ فَتَحَيَّرَ عُمَرُ. وَقَالَ: نِعَمْ مَا قُلْتَ أَيُّهَا الْغُلامُ بَارَكَ اللهُ فِيكَ. ثُمَّ الْتَفَتَ إِلى بَنَاتِهِ وَقَالَ: أَكْظِمْنَ شَهَوَاتِكُنَّ فَإِنَّ الْجَنَّةَ لا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ إِلا بِمَشَقَّةٍ. سُئِلَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَا كَانَ سَبَبَ تَوْبَتِكَ قَالَ: كُنْتُ أَضْرِبُ يَوْمًا غُلامًا فَقَالَ لِي: اذْكُرْ اللَّيْلَةَ الَّتِي تَكُونُ صَبِيحَتُهَا الْقِيَامَةَ فَعَمِلَ ذَلِكَ الْكَلامُ فِي قَلْبِي. رَأَى بَعْضُ الأَكَابِر هَارُونَ الرَّشِيدَ فِي عَرَفَات وَهُوَ حَافٍ حَاسِرٌ قَائِمٌ عَلَى الرَّمْضَاءِ الْحَارِةِ. وَقَدْ رَفَعَ يَدَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: إِلَهِي أَنْتَ أَنْت وَأَنَا أَنَا الذِي دَأْبِي كُلَّ يَوْم أَعُودُ إِلى عِصْيَانِكَ وَدَأْبُكَ أَنْ تَعُودَ إِلَيَّ بِرَحْمَتِكَ. فَقَالَ بَعْضُ الْكُبَرَاءِ: انْظُرُوا إِلى تَضَرُّعِ جَبَّارِ الأَرْضِ بَيْنَ يَدَيْ جَبَّارِ السَّمَاءِ. سَأَلَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَوْمًا أَبَا حَازِمٍ الْمَوْعِظَةَ فَقَالَ لَهُ أَبُو حَازِمٍ: إِذَا نِمْتَ فَضِعْ الْمَوْتَ تَحْتَ رَأْسِكَ. وَكُلُّ مَا أَحْبَبْتَ أَنْ يَأْتِيكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَيْهِ مُصِّرُ فَأَلْزَمْهُ وَكُلُّ مَا لا تُرِيدُ

أَنْ يَأْتِيكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَيْهِ فَاجْتَنِبْهُ فَرُبَّمَا كَانَ الْمَوْتُ مِنْكَ قَرِيبًا. فَيَنْبَغِي لِصَاحِبِ الْوِلايةِ أَنْ يَجْعَلَ هَذِهِ الْحِكَايَةَ نَصْبَ عَيْنَيْهِ وَأَنْ يَقْبَلَ الْمَوَاعِظَ الَّتِي وُعِظَ بِهَا غَيْرُهُ. فَكُلَّمَا رَأَى عَالِمًا عَامِلاً بِعَلْمِهِ لَيْسَ مِنْ عُلَمَاءِ الدُّنْيَا زَاهِدًا فِيهَا عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ سَأَلَهُ أَنْ يَعِظَهُ. وَيَنْبَغِي لِلْعُلَمَاءِ أَنْ يَعِظُوا الْمُلُوكَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمَوَاعِظِ وَلا يَغُروهُمْ وَلا يَدَّخِرُوا عَنْهُمْ كَلِمَةَ الْحَقِّ وَكُلُّ مِنْ غَرَّهُمْ فَهُوَ مُشَارِكٌ لَهُمْ. وعن الفضل بن الربيع حاجب هارون الرشيد قَالَ: أرسل إليَّ الرشيد ذاتَ ليلة فحضرتُ إليه فلما دخلتُ عليه وجَدْتُ بين يديه ضبارة سيوف وأنوع من آلات العذاب. فقَالَ: يا فضل. فَقُلْتُ: لَبَّيْكَ َيا أمير المؤمنين. فَقَالَ: عَلَيَّ بِهَذَا الْحِجَازِي يعني الشافعي رضي الله عنه وهو مُغْضَبٌ الساعةَ الساعةَ. فخرجتُ وبي مِن الغم والحزن ما لا يُوصَف لِمَحَبَّتِي للشافعي لفصاحته وبراعته وبلاغته وعقله فجئْتُ إلى بابه. فأمَرْتُ مَن دَقَّ عليه البابَ فَتَنَحْنَحَ فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُصَلِّي فَوَقَفْتُ حتى فَرِغَ مِنْ صَلاتِهِ وَفَتَحَ البابَ فَسَلَّمْتُ عليه. وقلْتُ لَهُ: أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فقَالَ: سَمْعًا وَطَاعَةً وَجَدَّدَ الْوُضُوءَ وَارْتَدَى وَرَكَعَ رَكَعْتَيْنِ وَخَرَجَ يَمْشِي فَمِنْ شَفَقَتِي عَلَيْهِ قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ قِفْ لِتَسْتَرِيحَ بَيْنَمَا أَسْتَأْذِنُ. فَدَخَلْتُ عَلى أمير المؤمنين فإذا هُوَ على حَالِهِ فِي غَضَبِهِ فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: أَيْنَ الْحِجَازِي؟ قُلْتُ: عِنْدَ السِّتْرِ. فَقَالَ: مُرْهُ بِالدُّخُولِ. فَجِئْتُ إِلَيْهِ وَأَمَرْتُهُ بِالدُّخُولِ.

فَدَخَلَ يَمْشِي مُطْمَئِنًا غَيْرَ فَزَعٍ وَلا خَائِفٍ وَلا قَلِقٍ وَلا مُنْزَعِج ثُمَّ بَدَأَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ وَوَجْهُهُ مُسْتَنِير. فَلَمَّا دَخَلَ وَبَصُرَ بِهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ قَامَ إِلَيْهِ قَائِمًا وَاسْتَقْبَلَهُ وَاعْتَنَقَهُ وَجَعَلَ يُقَبِّلُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَهَشَّ بِهِ وَبَشَّ. وَقَالَ: مَرْحَبًا بِأَبِي عَبْدِ اللهِ لِمَ لا تَزُورَنَا وَتَكُونَ عِنْدَنَا فَإِنِّي إِلَيْكَ مِشْتَاقُ وَأَجْلَسَهُ مَكَانَهُ وَقَعَدَ إِلى جَانِبِهِ وَتَحَدَّثَ مَعَهُ سَاعَةَ. ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِبَدْرَةٍ مِن الذَّهَبِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لا أَرَبَ لِي فِيهِ فَسَأَلَهُ أَنْ يَقْبَلَهُ فَقَبِلَهُ غَيْرَ مُكْثَرِتٍ بِهِ (يَعْنِي مَا هَمُّهُ) . ثُمَّ أَمَرَنِي أَنْ أَرُدَّهُ إِلى دَارِهِ وَأَنْ تُحْمَلَ الْبَدْرَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَّمَا خَرَجْنَا جَعَلَ يَعْطِي كُلَّ مَنْ رَآهُ وَكُلَّ مَنْ سَأَلَهُ يَمِينًا وَشِمَالاً حَتَّى وَصَلَ إِلى مَنْزِلِهِ وَمَا مَعَهُ مِنْهَا شَيْء. فَلَمَّا دَخَلَ مَنْزِلَهُ وَاطْمَأَنَّ بِهِ الْجُلُوسُ قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ قَدْ عَرَفْتَ مَحَبَّتِي لَكَ وَشَفَقَتِي عَلَيْكَ وَإِنِّي شَاهَدْتُ غَضَبَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينِ فِي ابْتِدَاءِ طَلَبَهِ إِيَّاكَ. ثُمَّ لَمَّا دَخَلْتَ عَلَيْهِ رَأَيْتُ مِنْهُ مِنَ التَّوَاضِعِ وَالتَّوَدُدِ وَالإِجْلالِ وَالإِكْرَامِ لَكَ مَا سَرَّنِي وَكُنْتُ رَأَيْتُكَ حَرَّكْتَ شَفَتَيْكَ عِنْدَ دُخُولِكَ عَلَيْهِ. فَبِالَّذِي سَكَّنَ غَضَبَهُ عَلَيْكَ وَسَخَّرَهُ إِلا مَا عَلَّمْتَنِي مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي دُخُولِكَ مَعِي عَلَيْهِ. فَقَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعُ عن ابن عمر أن رسول الله ? قرأه يَوْمَ الأحزابِ فَهَزَمَهُمُ اللهُ ونصرهم على عدوهم. وَهُوَ هَذَا {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ} ثم قَالَ: وأنا

أَشْهَدُ بِمَا شَهِدَ بِهِ اللهِ وَأَسْتَوْدِعُ اللهَ هَذِهِ الشَّهَادَةِ وَدِيعَةٌ لِي عِنْدِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِنُورِ قُدْسِكَ وَعَظِيمِ بَرَكَتِكَ وَعَظَمَةِ طَهَارَتِكَ وَبَرَكَةِ جَلالَتِكَ مِنْ كُلِّ آفَةٍ وَعَاهَةٍ. وَمِنْ طَوَارِقِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِلا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرِ يَا رَحْمَن. اللَّهُمَّ أَنْتَ غِيَاثِي فَبِكَ اسْتَغِيثُ وَأَنْتَ مَلاذِي فَبِكَ أَلُوذُ وَأَنْتَ عِيَاذِي فَبِكَ أَعُوذُ يَا مَنْ ذَلَّتْ لَهُ رِقَابُ الْجَبَابِرَةِ وَخَضَعَتْ لَهُ أَعْنَاقُ الْفَرَاعِنَةِ. أَعُوذُ بِكَ مِنْ خِزْيِكَ وَمِنْ كَشَفْ سِتْرِكَ وَمِنْ نِسْيَانِ ذِكْرِكَ وَالانْصِرَافِ عَنْ شُكْرِكَ. أَنَا فِي حِرْزِكَ وَتَحْتَ كَنَفِكَ لَيْلِي وَنَهَارِي وَنَوْمِي وَقَرَارِي وَظَعْنِي وَأَسْفَارِي وَحَرَكَاتِي وَسَكَنَاتِي وَحَيَاتِي وَمَمَاتِي وَجَمِيعِ سَاعَاتِي وَأَوْقَاتِي. ذِكْرُكَ شِعَارِي وَثَنَاؤكَ دِثَارِيَ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ وَلا إِلَهَ غَيْرُكَ وَلا مَعْبُودَ سِوَاكَ. سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ تَشْرِيفًا لِعَظَمَتِكَ وَتَكْرِيمًا لِسُبُحَاتِ وَجْهِكَ وَإِقْرَارًا بِصَمْدَانِيَّتِكَ. وَاعْتِرَافًا بِوَحْدَانِيَّتِكَ وَتَنْزِيهًا لَكَ عَمَّا يَقُولُ الْكَافِرُونَ وَالظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ تَعَالَيْتَ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا. اللَّهُمَّ أَجِرْنِي مِنْ خِزْيِكَ وَمِنْ شَرِّ عِبَادِكَ وَاضْرِبْ عَلَيَّ سَرَادِقَاتِ حِفْظِكَ وَأَدْخِلْنِي فِي حِفْظِكَ وَعَنَايتكَ وَجُدْ عَلَيَّ مِنْكَ بِخَيْرٍ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. إِلَهِي كَيْفَ أَخَافُ وَأَنْتَ أَمَلِي أَمْ كَيْفَ أَضَامُ وَعَلَيْكَ تَوَكُّلِي أَمْ كَيْفَ أَقْهَرُ وَأَنْتَ عِمَادِي أَمْ كَيْفَ أَغْلَبُ وَعَلَيْكَ فِي كُلِّ الأُمُورِ اعْتِمَادِي ضَرَبْتُ وَجْهَ كُلِّ

حَاسِدٍ وَحَسَدَ وَرَاصِدٍ رَصَدَ وَظَالِمٍ كَنَدَ بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} . وَفِي مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَد وَصَحِيحِ ابْنُ حِبَّانِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مَسْعُود مَرْفُوعًا: «مَا أَصَابَ عَبْدٌ هَمٌّ وَلا غَمٌّ وَلا حُزْنٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ بن عَبْدُكَ بن أَمَتُكَ نَاصِيَتِي بِيَدِكَ مَاضٍ فِي حُكْمُكَ عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ. أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدِكَ. أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجَلاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي. إِلا أَذْهَبَ اللهُ حُزْنَهُ وَهَمَّهُ وَابْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحَاً» . وَمِنْ أَدْعِيَةِ الْمُضْطَرِينَ يَا وَدُود يَا ذَا الْعَرْشِ الْمَجِيدِ يَا مُبْدِئُ يَا مُعِيدُ يَا فَعَّالٌ لِمَا تُرِيدُ أَسْأَلُكَ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي مَلاءِ أَرْكَانَ عَرْشِكَ وَبقُدْرَتِكَ الَّتِي قدرتَ بِهَا عَلَى جَمِيعَ خَلْقِكَ وَبِرَحْمَتِكَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ لا إِله إِلا أَنْتَ يَا مُغِيثُ أغِثْنِي اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنَّا يَسِيرَ الأَعْمَالِ، وَهَبْ لَنَا إِسَاءَتنا فِي الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ وَسَامِحْنَا عَنِ الْغَفْلَةِ وَالإِهْمَالِ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) دَعَا الْمَنْصُور أَبَا حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِي وَمِسْعرًا وَشَرِيكَا لِيُوَلِّيَهُم الْقَضَاء. فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَنَا أَتَحَامَقُ فَأُقَالَ وَأتَخَلَّص. وَأَمَّا مِسْعَرُ فَيَتَجَان (أَيْ يُظْهِرُ كَأَنَّهُ مَجْنُون) وَيَتَخَلَّصَ. وَأَمَّا سُفْيَان فَيَهْرَب. وَأَمَّا شَرِيكُ فَيَقَعُ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى الْمَنْصُور قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَنَا رَجُلٌ مَوْلى وَلَسْتُ مِن الْعَرَب.

وَلا تَكَادُ الْعَرَبُ تَرْضَى بَأَنْ يَكُونَ عَلَيْهِمْ مَوْلَى وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنِّي لا أَصْلَحُ لِهَذَا الأَمْرِ فَإِنْ كُنْتُ صَادِقًا فِي قَوْلِي فَلا أَصْلِحُ لِلْقَضَاءِ. وَإِنْ كُنْتُ كَاذِبًا فَلا يَجُوزُ لَكَ أَنْ تُوَلِّي كَاذِبًا دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ وَفُرُوضَهُمْ. وَأَمَّا سُفْيَانُ فَأَدْرَكَهُ الْمُشْخِصُ فِي طَرِيق فَذَهَبَ لِحَاجَتِهِ فَانْصَرَفَ الْمُشْخِصُ يَنْتَظِرُ فَرَاغَهُ. فَرَأَى سُفْيَانُ سَفِينَةٌ فَقَالَ لِلْملاح قَائِد السَّفِينة: إِنْ مَكَّنْتَنِي مِنْ سَفِينَتِكَ وَإِلا ذُبِحْتُ بِغَيْرِ سِكِّين. تَأَوَّلَ قَوْلَ النَّبِي ?: «مِنْ وُلِيَ الْقَضَاءَ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّين» . فَأَخْفَاهُ الْملاحُ تَحْتَ السَّارِيَة. وَأَمَّا مِسْعَرُ ابن كُدَام فدخل على الْمنصور فقَالَ له: هَاتِ يَدَكَ كَيْفَ أَنْتَ وَالدَّوَاب وَالأَولاد فَقَالَ: أَخْرِجُوه فإنه مجنون. وَأَمَّا شريك فقَالَ له المنصور: تَقَلَّدْ فقَالَ له: أنا رجلٌ خَفِيفُ الدِّمَاغ فقَالَ: تَقَلَّد وعليك بالنَّبِيذ الشديد حتى يرجع إليكَ عَقْلُكَ فَتَقَلَّدَ. فَهَجَرَهُ الثوري وَقَالَ له: أمْكَنَكَ الْهَرَبُ فَلَمْ تَهْرِبْ. وكتب الخليفة إلى عبد الله بن وهب في قَضَاءِ مِصْرَ فَتَجَنَّنَ نَفْسَهُ وَلَزِمَ بَيْتَهُ فاطَّلَعَ عليه راشد بن سَعْدٍ وَهُوَ يَتَوَضَأُ فِي صَحْنَ دَارِهِ. فقَالَ: أبا محمد ألا تَخْرُجُ إلى الناس فَتَقْضِي بَيْنَهُم بكتاب الله وَسُنَّةِ رسوله ? فقد جَنَنْتُ نَفْسَكَ وَلَزِمْتَ بَيْتَكَ. فَرَفَعُ إليه رَأْسَهُ وَقَالَ: إلى هَا هُنَا عَقْلُكَ إِنَّ الْعُلَماء يُحْشَرُونَ مَعَ الأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الْقُضَاةَ يُحْشَرُونَ مَعَ السَّلاطِين أهـ. بَلِّغْ يَا أَخِي الَّذِينَ يُرَشحُونَ أَنْفُسَهُم لِلْقَضَاء وَيُعْمِلُون الْوَسَائِط لِلْحُصُول عليه وهم غير أهلٍ له لم تَجْتَمِعْ فيهم الشروط ولا يُحْسِنُونَ الْقَضَاء.

وَدَعَا الْخَلِيفَةُ أَيامَ الْمِحْنَةِ مُحَمَّد بن مُقَاتِل الرَّازِي وَأَبَا الصَّلْتِ عَبْدِ السَّلامِ فَقَالَ لِمُحَمَّد ابن مُقَاتل: مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ: أقول التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، فإنَّ هذه الأربعة وأشار إلى أصابِعهِ الأربعة مَخْلُوقَة. فظنوا أنه يُرِيدُ الكتبَ المنزلة وهُو يُرِيدُ أَصَابِعَ يَدِهِ الأربعة فَنَجَا. فقَالَ للآخر وهو أبو الصَّلْتِ: ما تقول؟ فقَالَ: تَعَزَّ يا أمير المؤمنين. قَالَ: عن مَنْ وَيْلَكَ؟ قَالَ عن القُرآن فَإِنَّهُ ماتَ. قَالَ: فَكَيْفَ؟ قَالَ: إنْ كَانَ مَخْلُوقًا فَإِنَّهُ يَمُوت. وأُدخل عُبَادَةُ علي الواثق والناس يُضْرَبُون وَيُقْتَلُون في الامتحان بالقُرآن قَالَ عُبَادة: فَقُلْتُ في نَفْسِي وَالله لَئِنْ امْتَحَنَنِي قَتَلَنِي فَبَدَأْتُ بِهِ فَقُلْتُ: عَظم اللهُ أَجْرَكَ أَيُّهَا الْخَلِيفَة. قَالَ: فِيمَنْ؟ فَقُلْتُ: في الْقُرْآنِ. قَالَ: وَيْحَكَ وَالْقُرْآنُ يَمُوت؟ قُلْتُ كُلَّ مخلوق يَمُوت فإذا مات القرآن في شعبان فبأي شيء يصلي الناس في رمضان. فقَالَ الواثق: أَخْرِجُوه فإنه مجنون. فائدة نفيسة: قَالَ أحد العلماء رحمه الله تعالى: اعلم أنَّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ كَمَا قَالَ ? وقد صارت عدوّةً لله وعدوّةً لأَوْلِيَائِهِ وعدوّةً لأَعْدَائِهِ، أما عَدَاوَتُهَا لله تعالى فلأَنّها قَطَعَتِ الطَّريقَ بينه وبينَ أوليائِهِ. ولهذا فإنّه لم يَنْظُر إليها مُنْذُ خَلَقَهَا، وأَمَّا عداوتُهَا لأَوليائِهِ فلأَنّها تَزَيَّنَتْ لهم بِزِينَتِها وَغَمَرتْهُم بِزَهْرَتِهَا وَتَزَهَّتْ لهم بنَضَارَتِهَا حتى تجَرَّعُوا مَرَارَاتِ الصَّبرِ في مُقَاطَعَتِهَا وَتَحَمَّلُوا الْمَشَاقَ فِي الْبُعْدِ مِنْهَا. وَأَمَّا عَدواتُهَا لأَعْدَائِهِ فَلأَنها اسْتَدْرَجَتْهُم بِمَكْرِهَا وَمَكَايِدِهَا وَاقْتَنَصَتْهمِ بحَبَائِلِهَا وَأَقْصَدَتْهُمْ بِسِهَامِهَا حَتَّى وَثِقُوا بِهَا وَعوَّلُوا عليها. فَخَذَلَتْهُمْ أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْهَا وَغَدَرَتْ بِهِمْ أَسْكَنَ مَا كَانُوا إِلَيْهَا فَاجْتَنَوْا مِنْهَا حَسْرَةً تَنْقَطِعُ دُونَهَا الأَكْبَادُ. وَحَرَمَتْهُمْ السَّعَادَةَ الأَخْرَوِيَّةِ عَلَى طُولِ الأَمَاد فَانْتَبِه يَا مَنْ اغْتَرَّ بِهَا قَبْلَ أَنْ يُصِيبَكَ مِثْلَ مَا أَصَابَ الْمُغْتَرِّينَ بِهَا.

القصيدة الشيبانية

وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِذَا كَانَ أَبُونَا آدَم بَعْدَ مَا قِيلَ لَهُ: أُسْكُنْ أَنْتَ وَزَوّجُكَ الْجَنَّةَ صَدَرَ مِنْهُ ذَنْبٌ وَاحِدٌ فَأمِرَ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ فَكَيْفَ نَرْجُوا دُخُولَهَا مَعَ مَا نَحْنُ مُقِيمُونَ عَلَيْهِ مِنَ الذُّنُوبِ الْمُتَتَابِعَةِ وَالْخَطَايَا الْمُتَوَاتِرَةِ. كان أبو الفتح المنهى قد برع في الفقه وتقدم عند العوام وحَصَل له مال كثير ودَخَلَ بَغْدَاد وفِوُّضَ إليه التَّدْرِيس بالنِّظامية وأدْرَكَهُ الموتُ بهَمَدان. فلما دَنَتْ وَفَاتُهُ قَالَ لأصْحَابِهِ: أُخْرُجُوا. فَلَمَّا خَرَجُوا عَنْهُ جَعَلَ يَلْطُمُ وَجْهَهُ وَيَقُولُ: {يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} ويقول لِنَفْسِهِ مُوَبِّخًا لَهَا: يَا أَبَا الْفَتْحَ ضَيَّعْتَ الْعُمُرَ في طَلَب الدنيا وتحصِيل المال والجاه والتَّرَدُدِ إلى السَّلاطِين وَيُنْشِدُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ: عَجِبْتُ لأَهْلِ الْعِلْمِ كَيْفَ تَغَافُلُوا ... يَجُرُونَ ثَوْبَ الْحِرْصِ حَوْلَ الْمَمَالِكِ يَدُورُونَ حَوْلَ الظَّالِمِينَ كَأَنَّهُمْ ... يَطُوفُونَ حَوْلَ الْبَيْتِِ وَقْتَ الْمَنَاسِكِ أَرْسَلَ عُثْمَانُ بن عَفَّان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَعَ عَبْدٍ لَهُ كَيْسًا مِنَ الدَّرَاهم إِلى أبي ذر رضي الله عنه وَقَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ قَبلَ هَذَا أَبُو ذَر فَأَنْتَ حُرٌ أي عَتِيق فَأَتَى بالكيس إلى أبي ذَرٍ وَأَلَحَّ عَلَيْهِ فِي قُبُولِهِ فَلَمْ يَقْبَلْ فَقَالَ الْغُلامُ لأَبِي ذَرٍ: إِنَّهُ عَلَّقَ عِتْقِي عَلَى قُبُولِكَ هَذَا الْكِيسَ. فَقَالَ أَبُوَ ذَرٍّ: لَكِنَّ فِي قُبُولِهِ رِقِّي. هذه القصيدة الشيبانية عَدَّلْنَا فِيهَا بَعْضَ أَبْيَاتٍ وَكَانَ بَعْضُهَا فيه شيء لا يصلح. سَأَحْمَدُ رَبِّي طَاعةً وَتَعَبُّدَا ... وَأَنْظِمُ عِقْدًا فِي الْعَقِيدَةِ أَوْحَدَا وَأَشْهَدُ أَنَّ الله لا رَبَّ غَيْرَهُ ... تَعَزَّزَ قِدْمًا بِالْبَقَاءِ وَتَفَرَّدَا هُوَ الأَوَّلُ الْمُبْدِي بِغَيْرِ بِدَايَةٍ ... (وَلا بَعْدَهُ شَيْءٌ عَلا وَتَوَحَّدَا) سَمِيعٌ بَصِيرٌ عَالِمٌ مُتَكَلِّمٌ ... قَدِيرٌ يُعِيدُ الْعَالِمِينَ كَمَا بَدَا مُِريدٌ أَرَادَ الْكَائِنَاتِ لِوَقْتِهَا ... قَدِيرٌ فَأَنْشَا مَا أَرَادَ وَأَوْجَدَا إله عَلَى عَرْشِ السَّمَاءِ قَدِ اسْتَوَى ... وَبَايَنَ مَخْلُوقَاتِهِ وَتَوَحَّدَا إِذِ الْكَوْنُ مَخْلُوقٌ وَرَبِّي خَالِقٌ ... لَقَدْ كَانَ قَبْلَ الْكَوْنِ رَبًّا وَسَيِّدَا وَلَيْسَ كَمِثْلِ اللهِ شَيْءٌ وَلا لَهُ ... شَبِيهٌ تَعَالى رَبُّنَا وَتَوَحَّدَا

.. وَمَنْ قَالَ فِي الدُّنْيَا يَرَاهُ بِعَيْنِهِ ... فَذَلِكَ زِنْدِيقٌ طَغَى وَتَمَرَّدَا وَخَالَفَ كُتبَ الله وَالرُّسلَ كُلَّهُمْ ... وَزَاغَ عَنِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَأَبْعَدَا وَذَلِكَ مِمَّنْ قَالَ فِيهِ إِلَهَنَا ... يُرَى وَجْهُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَسْوَدَا وَلَكِنْ يَرَاهُ في الجِنَانِ عِبَادُهُ ... كَمَا صَحَّ في الأَخْبَارِ نَرْوِيهِ مُسْنَدَا وَنَعْتَقِدُ الْقُرْآنَ تَنْزِيلَ رَبِّنَا ... بِهِ جَاءَ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ (مُحَمَّدَا) وَأَنْزَلَهُ وَحْيًا إِلَيْهِ وَأَنَّهُ ... هُدَى الله يَا طُوبى بِهِ لمن اهْتَدَى كَلام كريم مُنْزَلٌ من إلهنا ... بِأَمْرٍ وَنَهْيٍ وَالدَّلِيلُ تَأَكَّدَا كلام إلِهِ الْعَالَمِينَ حَقِيقَة ... فَمَنْ شَكَّ في هَذَا فَقَدْ ضَلَّ وَاعْتَدَى وَمِنْهُ بَدَا قَوْلاً ولا شَكَّ أَنَّهُ ... يَعُودُ إِلى الرَّحْمَنِ حَقًّا كَمَا بَدَا فَمنْ شَكَّ فِي تَنْزِيلِهِ فَهُوَ كَافِرٌ ... وَمَنْ زَادَ فِيهِ قَدْ طَغَى وَتَمَرَّدَا وَمَنْ قَالَ مَخْلُوقٌ كَلامُ إلهنَا ... فَقَدْ خَالَفَ الإِجْمَاعِ جَهْلاً وَأَلْحَدَا وَنُؤْمِنُ بِالْكُتبِ الَّتِي هِيَ قَبْلَهُ ... وَبِالرُّسلَ حَقًّا لا نُفَرِّقُ كَالْعَدَا وَإِيمَانُنَا قَوْلٌ وَفِعْلٌ وَنِيَّةٌ ... وَيَزْدَادُ التَّقْوَى وَيَنْقُصُ بِالرَّدَى فَلا مَذْهَبَ التَّشْبِيهِ نَرْضَاهُ مَذْهَبًا ... وَلا مَقْصَدَ التَّعْطِلِ نَرْضَاهُ مَقْصَدَا وَلَكِنَّ بِالْقُرْآنِ نَهْدِي وَنَهْتَدِي ... وَقَدْ فَازَ بِالْقُرْآنِ عَبْدٌ قَدِ اهْتَدَى وَنُؤْمِنُ أَنَّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ كُلَّهُ ... مِنَ اللهِ تَقْدِيرًا عَلَى الْعَبْدِ عُدِّدَا فَمَا شَاءَ رَبُّ الْعَرْشِ كَانَ كَمَا يَشَا ... وَمَا لَمْ يَشَا لا كَانَ فِي الْخَلْقِ مُوجَدَا وَنُؤْمِنُ أَنَّ الْمَوْتَ حَقٌّ وَأَنَّنَا ... سَنُبْعَثُ حَقًّا بَعْدَ مَوْتَتِنَا غَدَا وَأَنَّ عَذَابَ الْقَبْرَ حَقٌّ وَأَنَّهُ ... عَلَى الْجِسْمِ وَالرُّوحِ الَّذِي فِيهِ أُلْحِدَا وَمُنْكَرُهُ ثُمَّ النَّكِيرُ بِصُحْبَةٍ ... هُمَا يَسْأَلانِ الْعَبْدَ فِي الْقَبْرِ مُقْعَدَا وَمِيزَانُ رَبِّي وَالصِّرَاطُ حَقِيقَةً ... وَجَنَّتُهُ وَالنَّارُ لَمْ يُخْلَقَا سُدَى

.. وَأَنَّ حِسَابَ الْخَلْقِ حَقٌّ أَعَدَّهُ ... كَمَا أَخْبَرَ الْقُرْآنُ عَنْهُ وَشَدَّدَا وَحَوْضُ رَسُولِ اللهِ حَقًّا أَعَدَّهُ ... لَهُ الله دُونَ الرُّسْلِ مَاءً مُبَرَّدَا وَيَشْرَبُ مِنْهُ الْمُؤْمِنُونَ وَكُلُّ مَنْ ... سُقِي مِنْهُ كَأْسًا لَمْ يَجِدْ بَعْدَهُ صَدَا أَبَارِيقُهُ عَدُّ النُّجُومِ وَعَرْضُهُ ... كَبُصْرَى وَصَنْعًا فِي الْمَسَافَةِ حُدِّدَا وَأَنَّ رَسُولَ الله أَفْضَلُ مَنْ مَشى ... عَلَى الأَرْضِ مِنْ أَوْلادِ آدَمَ أَوْ غَدَا وَأَرْسَلَهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ رَحْمَةً ... إِلى الثَّقَلَيْنِ الإِنْسِ وَالْجِنِّ مُرْشِدَا وَأَسْرَى بِهِ لَيْلاً إِلى الْعَرْشِ رِفْعَةً ... وَأَدْنَاهُ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ مُصْعِدَا وَخَصَّصَ مُوسَى رَبُّنَا بِكَلامِهِ ... عَلَى الطُّورِ نَادَاهُ وَأَسْمَعَهُ النِّدَا وَكُلُّ نَبِيٍّ خَصَّهُ بِفَضِيلَةٍ ... وَخَصَّصَ بِالْقُرْآنِ رَبِّي مُحَمَّدا وَأَعْطَاهُ فِي الْحَشْرِ الشَّفَاعَةِ مِثْلُ مَا ... رُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ الْحَدِيثُ وَأَسْنَدَا فَمَنْ شَكَّ فِيهَا لَمْ يَنَلْهَا وَمَنْ يَكُنْ ... شَفِيعًا لَهُ قَدْ فَازَ فَوْزًا وَأَسْعَدَا وَيَشْفَعُ بَعْدَ الْمُصْطَفَى كُلُّ مُرْسَلٍ ... لِمَنْ عَاشَ فِي الدُّنْيَا وَمَاتَ مُوَحَّدَا وَكُلُّ نَبِيٍّ شَافِعٌ وَمُشَفَّعٌ ... ... وَكُلُّ وَلِيٍّ فِي جَمَاعَتِهِ غَدَا وَيَغْفِرُ دُونَ الشِّرْكِ رَبِّي لِمَنْ يَشَا ... وَلا مُؤْمِنٌ إِلا لَهُ كَافِرٌ فَدَا وَلَمْ يَبْقَ فِي نَارِ الْجَحِيمِ مُوَحِّدٌ ... وَلَوْ قَتَلَ النَّفْسَ الْحَرَامَ تَعَمُّدَا وَنَشْهَدُ أَنَّ الله خَصَّ رَسُولَهُ ... بِأَصْحَابِهِ الأَبْرَارِ فَضْلاً وَأَيَّدَا فَهُمْ خَيْرُ خَلْقِ اللهِ بَعْدَ أَنْبِيَائِهِ ... بِهِمْ يَقْتَدِي فِي الدِّين كُلُّ مَن اقْتَدَى وَأَفْضَلُهُم بَعْدَ النَّبِيِّ (مُحَمَّدٍ) ... أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ذُو الْفَضْلِ وَالنَّدَى لَقَدْ صَدَّقَ الْمُخْتَارَ فِي كُلِّ قَوْلِهِ ... وَآمَنَ قَبْلَ النَّاسِ حَقًّا وَوَحَّدَا وَفَادَاُه يَوْمَ الْغَارِ طَوْعًا بِنَفْسِهِ ... وَوَاسَاهُ بِالأَمْوَالِ حَتَّى تَجَرَّدَا وَمَنْ بَعْدِهِ الْفَارُوقُ لا تَنْسَ فَضْلَهُ ... لَقَدْ كَانَ لِلإِسْلامِ حِصْنًا مُشَيَّدَا

.. لَقَدْ فَتَحَ الْفَارُوقُ بِالسَّيْفِ عَنْوَةً ... ... كَثِيرَ بِلادِ الْمُسْلِمِينَ وَمَهَّدَا وَأَظْهَرَ دِينَ اللهِ بَعْدَ خَفَائِهِ ... وَأَطْفَأَ نَارَ الْمُشْرِكِينَ وَأَخْمَدَا وَعُثْمَانُ ذُو النُّورَيْنِ قَدْ مَاتَ صَائِمًا ... وَقَدْ قَامَ بِالْقُرْآنِ دَهْرًا تَهَجُّدَا وَجَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرِ يَوْمًا بِمَالِهِ ... وَوَسَّعَ لِلْمُخْتَارِ وَالصَّحْبِ مَسْجِدَا وَبَايَعَ عَنْهُ الْمُصْطَفَى بِشِمَالِهِ ... مُبَايَعَةَ الرِّضْوَانِ حَقًّا وَأَشْهَدَا وَلا تَنْسَ صِِْهَر الْمُصْطَفَى وَابْنُ عَمِّهِ ... فَقَدْ كَانَ حَبْرًا لِلْعُلُومِ وَسَيَّدَا وَفَادَى رَسُولَ اللهِ طَوْعًا بِنَفْسِهِ ... عَشِيَّةَ لَمَّا بِالْفِرَاشِ تَوَسَّدَا وَمَنْ كَانَ مَوْلاهُ النَّبِيُّ فَقَدْ غَدَا ... عَلِيُّ لَهُ بِالْحَقِّ مَوْلَىً وَمُنْجِدَا وَطَلْحَتُهُمْ ثُمَّ الزُّبَيْرُ وَسَعْدُهُمْ ... كَذَا وَسَعِيدٌ بِالسَّعَادَةِ أُسْعِدَا وَكَانَ ابْنُ عَوْفٍ بَاذِلَ الْمَالِ مُنْفِقًا ... وَكَانَ ابْنُ جَرَّاحٍ أَمِينًا مَؤيَّدَا وَلا تَنْسَ بَاقِي صَحْبِهِ وَأَهْلَ بَيْتِهِ ... وَأَنْصَارَهُ وَالتَّابِعِينَ عَلَى الْهُدَى فَكُلَّهُمُ أَثْنَى الإلهُ عَلَيْهِمْ ... وَأَثْنَى رَسُولُ اللهِ أَيْضًا وَأَكَّدَا فَلا تَكُ عَبْدًا رَافِضِيًا فَتَعْتَدِي ... فَوَيْلٌ وَوَيْلٌ فِي الْوَرَى لِمَنْ اعْتَدَى وَنَسْكُتَ عَنْ حَرْبِ الصَّاَبةَ ِفَالَّذِي ... جَرَى بَيْنَهُمْ كَانَ اجْتِهَادًا مُجَرَّدًا وَقَدْ صَحَّ فِي الأَخْبَارِ أَنَّ قَتِيلَهُمْ ... وَقَاتِلَهُمْ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ خُلِّدَا فَهَذَا اعْتِقَادُ الشَّافِعِيِّ إِمَامِنَا ... وَمَالِك وَالنُّعْمَانِ أَيْضًا وَأَحْمَدَا فَمَنْ يَعْتَقِدْهُ كُلَّهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ ... وَمَنْ زَاغَ عَنْهُ قَدْ طَغَى وَتَمَرَّدَا وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ قصة تَوَجَّهَ عَافِيَةُ بنُ يَزِيدُ الأَودِي الْقَاضِي إِلى الْمَهْدِي يَوْمًا في وَقْتِ الظَّهِيرة لِمُقَابَلَتِهِ عَلَى عَجَل.

فَلَمَّا أَذِنَ لَهُ إِذَا بِهِ يحمل أوراقَه بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَسْأَل المهدي أن يُعْفِيهِ مِن القضاء ويَسْتأذنه في تسليم الأوراق التي في حَوْزَتِهِ إلى من يَأمُر الخليفةُ بتَسلِيمها له. وَظَنَّ الْخَلِيفَةُ أَنَّ الْقَاضِي عَافِية قَدْ أَقْدَمَ عَلَى طَلَبَ الاسْتِعْفَاءِ مِنْ الْقَضَاءِ لأَنَّ أَحَدِ رِجَالِ حَاشِيَتِهِ وَمَنْ هُمْ مَحْسُوبُونَ عَلَى الْخَلِيفَةِ قَدْ تَطَاوَلَ عَلَيْهِ أَوْ نَالَ مِنْهُ أَوْ أَسَاءَ مُعَامَلَته أَوْ أَبْدَى عدم احْتِرَامٍ لَهُ تَدَخل في شأنٍ مِن شؤون قَضَائِهِ فأضْعَفَ سُلْطَانَه في تَنْفِيذ أحْكَامِهِ وَلشَدَّ مَا كَانَتْ دَهْشَةُ الْخَلِيفَةِ حِينَمَا عَرَفَ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. فَأَحَبَّ الْخَلِيفَةُ أَنْ يَتَعَرَّفَ مِنْ ذَلِكَ السَّبَبَ الْحَقِيِقي الَّذِي دَفَعَ الْقَاضِي إِلى الاسْتِعْفَاءِ عَلَى عَجَلٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي يَلْجَأُ النَّاسُ فِيهِ إِلى الرَّاحَةِ وَهُوَ وَقْتِ الظَّهِيرَةِ. وَلَمَّا أَصَرَّ الْخَلِيفَةُ عَلَى طَلَبِ مَعْرِفَةِ السَّبَبِ لَمْ يَجِدَ الْقَاضِي بُدًا مِنْ أَنْ يَرْوي لَهُ مَا جَرَى لَهُ مِمَّا كَانَ سَبَبًا فِي طَلَبِ الإِعْفَاءِ حِرْصًا عَلَى دِينِهِ وَطَهَارَةً لِنَفْسِهِ. فَقَالَ الْقَاضِي عَافِيَةُ: مُنْذُ شَهْرَيْن وَأَنَا أتَابِعُ الْبَحْثَ فِي إِحْدَى الْقَضَايَا الْمُعْضِلَةِ مُحَاولاً أَنْ أَصِلَ فِيهَا إِلى وَجْهِ الْحَقِّ فَقَدْ تَقَدم إِليّ خَصْمَان مُوسِرَانِ وَجِيهَانِ فِي قَضِيَّةٍ مُعْضِلَةٍ مُشْكِلَةٍ. وُكُلٌّ مِنْهُمَا يَدَّعِي بَيِّنَةً وَشُهُودًا وَيُدْلي بِحُجَجٍ تَحْتَاجُ إِلى تَأَمُّلٍ وَتَثَبُّتٍ. ولما لم يَتَبَيَّنْ لِي وَجْهُ الْحَقِّ رَددْتُ الْخُصُومَ رَجَاءً أَنْ يَصْلَحُوا أَوْ يَتَبَيَّنَ لِي وَجْهُ فَصْلٍ بَيْنَهُمَا. وَأَثْنَاءَ ذَلِكَ وَقَفَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ مِنْ خَبَرِي عَلَى أَنِّي أحِبُّ الرُّطَبَ السُّكَرِي. فَعَمَدَ فِي وَقْتِنَا هَذَا وَهُوَ أَوَّلُ وَقْتِ الرُّطَبِ وَجَمَعَ رُطَبًا سُكَّرِيًا لا يَتَهَيَأ فِي

إعلان عمر الجوائز لمن يدله علي الخير وطلبه من عبد الله بن الشخير والحسن البصري يطلب منهما الوعظ له والجواب علي ذلك

هَذَا الوقتِ لأَحدٍ جَمْعُ مِثْلِهِ إِلا لأَمِير الْمُؤْمِنِينَ وَحَقًّا مَا رَأَيْتُ أَحْسَنَ منه. ثم عَمَدَ إلى بَوَّابِي فَرَشَاهُ جُمْلَةَ دَرَاهِم لِيُدْخِلَ الطَّبَقَ إليَّ عَلَى أَنَّهُ لا يُبَالِي بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ أَقْبَلَ الطَّبَقَ أَوْ أَرُدَّهُ. فَلَمَّا أَدْخَلَ الطَّبَقَ إِليَّ أَنْكَرْتُ أَمْرَهُ وَطَرَدْتُ بَوَّابِي وَأَمَرْتُ بِرَدِّ الطَّبَقِ فَرَدَّهُ لِسَاعَتِهِ. فَلَمَّا كَانَ اليومُ تَقَدَّمَ إِليَّ هَذَا الرجلُ مع خَصْمِهِ فَهَالَنِي أَنَّهُمَا لَمْ يَتَسَاوَيَا فِي قَلْبِي وَلا فِي عَيْنِي. وهذا يا أمير المؤمنين وأنا لَمْ أَقْبَلْ فكيف يكون حَالي لو قَبلْتُ ولا آمَنُ أن يَقَعَ على حِيلَةٍ في دِيني فأهْلِكُ وقد فَسد الناسَ فأقِلْني أَقَالَكَ الله وأعْفِني. ولم يَسَعِ الخليفةُُ وهو يَستَمعُ إلى ذلك الكلام المنبي عن شِدَّةِ الوَرَعِ والحرص الخالص على نزاهةِ الحكم وبُعْدَ القاضي عن المؤثرات أَيًّا كان نوعُهَا إلا أن يَسْتَجِيبَ لِطَلَبِ القَاضِي النَّقِي النَّبِيل فأعْفَاهُ من القَضَاء. فَتَأَمل هَذِه القِصَّةِ بدقة. وقارِنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَثِيرٍ من قُضَاةِ هذا الزمن يَتَبَيَّنُ لَكَ الفرق العظيمُ والبُونُ الشاسِع نسأل الله العافية. اللَّهُمَّ أَحْي قُلُوبَنَا وَنَوِّرْهَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَزَيِّنْهَا بِمَحَبَّتِكَ وَجَمِّل أَلْسِنَتَنَا بِذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحَسِّنْ أَعْمَالَنَا وَوَفِّقْنَا لِحِفْظِ أَوْقَاتِنَا وَأَحْيينَا حَيَاةً طَيِّبَةً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وَمِنْ إِعْلانِ عمر بن عبد العزيز الْجَوَائِزِ لَمِنْ يَدُلُّهُ عَلَى الْخَيْرِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلى أَهْلِ الْمُوسِمِ: أَمَّا بَعْدُ فَأَيُّمَا رَجُلٍ قَدِمَ عَلَيْنَا فِي رَدِّ مَظْلَمَةٍ أَوْ أَمْرٍ يُصْلِحُ اللهُ بِهِ خَاصًّا

قصة المرأة العراقية

أَوْ عَامًا مِنْ أَمْرِ الدِّينِ فَلَهُ مَا بَيْنَ مَائَةِ دِينَار إِلى ثَلاثِمائَةِ دِينَارٍ بِقَدْرٍ مَا يَرِي مِنْ الْحُسْبَةِ وَبُعْدِ السَّفَرِ لَعَلَّ اللهَ يُحْيِي بِهِ حَقًّا أَوْ يُمِيتُ بِهِ بَاطِلاً أَوْ يَفْتَحَ بِهِ مِنْ وَرَائِهِ خَيْرًا وَلَوْلا أَنِّي أُطِيلُ عَلَيْكُم وَأَطْنِبُ فَيَشْغَلُكُمْ ذَلِكَ عَنْ مَنَاسِكَكُمْ لَسَمَّيْتُ أُمُورًا مِنَ الْحَقِّ أَظْهَرَهَا اللهُ وَأُمُورًا مِنَ الْبَاطِلِ أَمَاتَهَا اللهُ وَكَانَ اللهُ هُو الْمُتَوَحِّدُ لَكَمْ فِي ذَلِكَ لا تَجِدُونَ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ لَوْ وَكَلَنِي إِلى نَفْسِي لَكُنْتُ كَغَيْرِي وَالسَّلامُ. وَكَتَبَ مَرَّةً إِلى الْحَسَنِ الْبَصْرِيّ وَمُطَرِّفَ بنِ الشَّخِّيرِ: مِنْ عُمَرَ بنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلى الْحَسَنِ الْبَصْرِيّ وَمُطَرِّفِ بنِ عَبْدِ اللهِ ابنِ الشَّخِّيرِ سَلامُ علَيْكُمَا فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكُمَا اللهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَأَسْأَلهُ أَنْ يُصَلِّي عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِه وَرَسُولِهِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُوصِيكُمَا بِتَقْوَى اللهِ فَإِنَّ مَنْ يَقُولُهَا كَثِيرٌ وَمَنْ يَعْمَلُ بِهَا قَلِيلٌ فَإِذَا أَتَاكُمَا كِتَابِي فَعِظَانِي وَلا تُزَكِّيَانِ وَالسَّلامُ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ: إِلى عُمَرَ سَلامٌ عَلَيْكَ فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللهَ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الدُّنْيَا دَارُ مخوفَةٍ أُهْبَطَ إِلَيْهَا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامِ عُقُوبَةً تُهينُ مِنْ أَكْرَمَهَا وَتُكْرِمُ مَنْ أَهَانَهَا وَتُفْقِرُ مَنْ جَمَعَ لَهَا لَها فِي كُلِّ يَوْمٍ قَتِيلٌ فَكُنْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَالْمُدَاوِي لِجرْحِهِ وَاصْبِرْ عَلَى شِدَّةِ الدَّوَاءِ لِمَا تَخَافُ مِنْ طُولِ الْبَلاءِ. وَكَتَبَ إِلَيْهُ مُطَرِّفُ: سَلامٌ عَلَيْكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتِهِ فَإِنِّي أَحْمَدُ إِلَيْكَ اللهَ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ أَمَّا بَعْدُ فَلْيَكُنْ اسْتِئْنَاسُكَ بِاللهِ وَانْقِطَاعُكَ إِلَيْهِ فَإِنَّ قَوْمًا أَنِسُوا بِاللهِ وَانْقَطَعُوا إِلَيْهِ فِي وَحْدَتِهِمْ أَشَدُّ اسْتِئْنَاسًا مِنْهُمْ بِالنَّاسِ فِي كُثْرَةَ ِعدَدِهِمْ، أَماَتوُا مِن الدُّنْيَا مَا خَافُوا أَنْ يُمِيتَ قُلُوبَهُمْ وَتَرَكُوا مِنْهَا مَا عَلِمُوا أَنْ سَيَتْرُكَهُمْ فَأَصْبَحُوا لِمَا سَالَمَ النَّاسُ مِنْهَا أَعْدَاءً جَعَلَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَصْبَحُوا بِهَا قَلِيلاًً وَالسَّلامُ. وَقَدِمَتْ امْرَأَةٌ مِن الْعِرَاقِ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. فَلَمَّا صَارَتْ إِلى بَابِهِ قَالَتْ: هَلْ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ حَاجِبٌ؟ فَقَالَوا: لا فَادْخُلِي إِنْ شِئْتِ.

عطاء يرسل إلي زوجة عمر يسألها عن عمر وشئونه في وقته وكيف يقضيه

فَدَخَلَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجَةِ عُمَرَ فَاطِمَةَ وَهِيَ جَالِسَةِ فِي بَيْتِهَا وَفِي يَدِهَا قُطْنٌ تَُعَالِجُهُ فَسَلَّمَتْ الْمَرْأَةُ فَرَدَّتْ عَلَيْهَا فَاطِمَةُ السَّلامِ وَقَالَتْ لَهَا: أدْخُلِي. فَلَمَّا جَلَسَتْ الْمَرْأَةُ رَفَعَتْ بَصَرَهَا فَلَمْ تَرَ فِي الْبَيْتِ شَيْئًا لَهُ باَلٍ وَذُو أَهمِيَّةٍ، فَقَالَتْ: إِنَّمَا جِئْتُ لأَعْمُرَ بَيْتِي مِنْ هَذَا الْبَيْتِ الْخَرَابِ قَالَتْ فَاطِمَةُ: إِنَّمَا خَرَّبَ هَذَا الْبَيْتَ عِمَارَةُ بُيُوتِ أَمْثَالِكِ فَأَقْبَلَ عُمَرُ حَتَّى دَخَلَ الدَّارَ فَسَلَّمَ وَدَخَلَ بَيْتَهُ فَمَالَ إِلى مُصَلّى كَانَ لَهُ فِي الْبَيْتِ يُصَلِّي فِيهِ. فَسَأَلَ فَاطِمَةُ عَن الْمَرْأَةِ فَقَالَتْ: هِيَ هَذِهِ فَأَخَذَ مِكْتَلاً لَهُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ عِنَبٍ فَجَعَلَ يَتَخَيَّرُ لَهَا أَحْسَنَهُ يُنَاوِلُهَا إِيَّاهُ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهَا فَقَالَ: مَا حَاجَتُكِ؟ فَقَالَتْ: امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ لِي خَمْسُ بَنَاتٍ كُسُلٍ كُسُدٍ فَجِئْتُكَ ابْتَغِي حُسْنَ نَظَرِكَ لَهُنَّ، فَجَعَلَ يَقُولُ: كُسُلٌ، كُسُدَ وَيَبْكِي فَأَخَذَ الدَّوَاةَ وَالْقِرْطَاسَ وَكَتَبَ إِلى وَالي الْعِرَاقِ فَقَالَ: سَمِّي أَكْبَرَهُنَّ فَسَمتها فَفَرَضَ لَهَا فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ: الْحَمْدُ للهِ. ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ اسْمِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ وَالْمَرْأَةُ تَحْمَدُ اللهَ فَفَرَضَ لَهَا فَلَمَّا فَرَضَ لِلأَرْبَعْ اسْتَفَزَّهَا الْفَرَحُ فَدَعَتْ لَهُ فَجَزَتْهُ فَرَفَعَ يَدَهُ وَقَالَ: قَدْ كُنَّا نَفْرِضُ لَهُنَّ حِينَ كُنْتِ تُولِينَ الْحَمْدَ أَهْلَهُ فَمُرِي هَؤُلاءِ الأَرْبَعَ يُفِضْنَ عَلَى هَذِهِ الْخَامِسَةِ. فَخَرَجَتْ بِالْكِتَابِ حَتَّى أَتَتْ بِهِ الْعِرَاقَ فَدَعَتْهُ إِلى وَالي الْعِرَاقِ فَلَمَّا دَفَعَتْ إِلَيْهِ الْكِتَابَ بَكَى وَاشْتَدَّ بُكَاؤُهُ وَقَالَ: رَحِمَ اللهُ صَاحِبَ هَذَا الْكِتَابِ فَقَالَتْ: أَماَت َ؟ قَالَ: نَعَمْ فَصَاحَتْ وَوَلْوَلَتْ فَقَالَ: لا بَأْسَ عَلَيْكِ مَا كُنْتُ لأَرُدَّ كِتَابَهُ فِي شَيْءٍ فَقَضَى حَاجَتَهَا وَفَرَضَ لِبَنَاتِهَا. وَأَرْسَلَ عَطَاءُ إِلى فَاطِمَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمَلِكِ أَخْبِرينِي عَنْ عُمَرَ قَالَتَ: أَفْعَلُ. إِنَّ عُمَرَ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ كَانَ قَدْ فَرَّغَ لِلْمُسْلِمِينَ نَفْسَهُ وَلأُمُورِهِمْ فَكاَنَ

إِذَا أَمْسَى وَلَمْ يَفْرُغْ فِيهِ مِنْ حَوَائِجِ يَوْمِهِ وَصَلَ يَوْمِهِ بِلَيْلَتِهِ إِلى أَنْ أَمْسَى مَسَاءً وَقَدْ فَرِغَ حَوَائِجَ يَوْمِهِ فَدَعَا بِسِرَاجِهِ الَّذِي كَانَ مِنْ مَالِهِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَقْعَى وَاضِعًا رَأْسَهُ عَلَى يَدَيْهِ تَسِيلُ دُمُوعُهُ عَلَى خَدَّيْهِ يَشْهَقُ الشَّهْقَةَ يَكَادُ يَنْصَدِعُ قَلْبُهُ لَهَا وَتَخْرُجُ لَهَا نَفْسُهُ حَتَّى إِذَا بِرَقَ الصُّبْحُ أَصْبَحَ صَائِمًا فَدَنَوْتُ مِنْهُ. فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلَيْسَ مِنْكَ مَا كَانَ قَالَ: أَجَلْ فَعَلَيْكِ بِشَأْنِكَ وَخَلِّينِي وَشَأْنِي قَالَتْ: فَقُلْتُ إِنِّي أَرْجُو أَنْ أَتَّعِظَ قَالَ: إِذَنْ أُخْبِرُكَ إِنِّي نَظَرْتُ فَوَجَدْتُنِي قَدْ وُلِّيْتُ أَمْرَ هَذِهِ الأُمَّةِ أَسْوَدَهَا وَأَحْمَرَهَا. ثُمَّ ذَكَرْتُ الْفَقِيرَ الْجَائِعَ وَالْغَرِيبَ الضَّائِعَ وَالأَسِيرَ الْمَقْهُورِ وَذَا الْمَالِ الْقَلِيلِ وَالْعِيَالِ الْكَثِيرِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ فِي أَقَاصِي الْبِلادِ وَأَطْرَافِ الأَرْضِ فَعَلِمْتُ أَنَّ اللهَ سَائِلِي عَنْهُمْ وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ ? حَجِيجِي فِيهِمْ فَخِفْتُ أَنْ لا يَقْبَلَ اللهُ مِنِّي مَعْذِرَتِي فِيهِمْ وَلا تَقُومُ لِي مَعَ رَسُولِ اللهِ ? حُجَّةٌ فَرَحِمْتُ وَاللهِ يَا فَاطِمَةُ نَفْسِي رَحْمَةً دَمَعَتْ لَهَا عَيْنِي وَوَجِعَ لَهَا قَلْبِي فَأَنَّا كُلَّمَا ازْدَدْتُ لَهَا ذِكْرًا ازْدَدْتُ مِنْهَا خَوْفًا فَاتَّعِظِي إِنْ شِئْتِ أَوْ ذَرِي. وَكَانَ النَّاسُ فِي زَمَنِهِ كَلامُهُمْ وَبَحْثُهُمْ فِي الاعْتِنَاءِ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ? وَقِيَامِ اللَّيْلِ وَسِيرَةِ الرَّسُولِ وَالصَّحَابَةِ وَالزُّهْدِ وَالْوَرَعِ وَالْبَحْثِ عَنِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالأَرَامِلِ وَالأَيْتَامِ وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنِ الْمُنْكَرِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وهَكَذَا النَّاسُ فِي كُلِّ عَصْرٍ تَبَعُ مُلُوكِهِمْ وَقَادِتِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ غَالِبًا. وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حُبُّ الْعَدَالَةِ وَالإِنْصَافِ رَكِيزَةٌ فِي نَفْسِهِ وَمِنْ لُطْفِ اللهِ بِهِ أَنْ وَهَبَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَكَانَ أُعْجُوبَةَ التَّارِيخ، كَانَ نَاشِئًا لَمْ يُجَاوِزْ عِشْرِينَ عَامًا، وَلَكِنَّهُ مِنْ تَوْفِيقِ اللهِ لَهُ أَنَّهُ مُنْذُ صِغَرِهِ قَوِيُّ الإِيمَانِ وَرَعًا زَاهِدًا، يَقْتَحِمُ عَلَى أَبِيهِ فِي مَجْلِسِهِ وَنَادِيهِ وَمَخْدَعِ نَوْمِهِ وَقَيْلُولَتِهِ يَحُثُّهُ وَيَعِظُهُ وَيَذكُرُهُ بِاللهِ وَيُوقظه وَينهيه إلا يؤخر مظلمةً الناس مخافة أن يَحْمَّ الأَجَلُ فَتَسُوءُ الْمَغَبَّةُ وَتَلْتَهِبُ عَلَى أَبِيهِ النَّارُ.

من لطف الله بعمر أن قيض له ابنا يعينه علي طاعة الله

وَكَانَ كُلَّمَا دَخَلَ عُمَرُ فِي الأُمُورِ عَلَى بَيِّنَةٍ اقْتَحَمَهَا عَبْدُ الْمَلِكِ قَوِيًّا مُسْتَعْجِلاً وَقَدْ أَثَّرَ عَلَى أَبِيهِ وَزَادَ فِي وَرَعِهِ وَتَنْجِيزِهِ لِلأُمُورِ وَدَخَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ يَوْمًا عَلَى أَبِيهِ وَكَانَ عِنْدَهُ عَمُّهُ مَسْلَمَةُ فَطَلَبَ إِلى أَبِيهِ أَنْ يُخْلِيهِ بِهِ فَقَالَ: أَسِرٌّ دُونَ عَمِّكَ؟ قَالَ: نَعَمْ فَقَامَ مَسْلَمَةُ وَجَلَسَ عَبْدُ الْمَلِكِ بَيْنَ يَدَيْ أَبِيهِ فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا أَنْتَ قَائِلٌ لِرَبِّكَ غَدًا إِذَا سَأَلَكَ فَقَالَ: رَأَيْتَ بِدْعَةً لَمْ تُمِتْهَا أَوْ سُنَّةً لَمْ تُحْيِهَا فَقَالَ عُمَرُ: يَا بُنَيَّ أَشَيْءٌ حَمَلَكَ أَمْ رَأْيٌ رأَيْتَهُ قَالَ: لا وَاللهِ وَلَكِنْ رَأْيٌ رَأَيْتُهُ مِنْ نَفْسِي عَرَفْتُ أَنَّكَ مَسْؤُلٌ فَمَا أَنْتَ قَائِلٌ. قَالَ أَبُوهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ يَا بُنَيّ وَيَجْزِيكَ مِنْ وَلَدٍ خَيْرًا فَوَاللهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِن الأَعْوَانِ عَلَى الْخَيْرِ يَا بُنَيَّ إِنَّ قَوْمَكَ شَدُّوا هَذَا الأَمْرَ عُقْدَةً وَعُرْوَةً وَمَتَى مَا أُرِيدَ مُكَابَرَتَهُمْ عَلَى انْتِزَاعِ مَا فِي أَيْدِيهمْ لَمْ آمَنْ أَنْ يَفْتِقُوا عَلَيَّ فَتْقًا تَكْثُر فِيهِ الدِّمَاءُ وَاللهِ لِزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ أَنْ يُهْرَاق فِي سَبَبِي مِحْجَمَةٌ مِنْ دَمْ أَوْ مَا تَرْضَى أَلا يَأْتِي عَلَى أَبِيكَ يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا إِلا وَهُوَ يُمِيتُ فِيهِ بِدْعَةً وَيُحْيِي فِيهِ سُنَّةً حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرَ الْحَاكِمِينَ. وَلَمْ يَزَلْ عَبْدُ الْمَلِكِ بِأَبِيهِ حَتَّى صَارَ لا يُبْرِمُ أَمْرًا فِي الْمَظَالِمِ دُونَ رَأْيِهِ قَالَ مَيْمُونُ بنُ مَهْرَانْ: بَعَثَ إِلَيَّ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَإِلى مَكْحُول وَإِلى أَبِي قِلابَةَ فَقَالَ: مَا تَرَوْنَ فِي هَذِهِ الأَمْوَالِ الَّتِي أُخِذَتْ مِنَ النَّاسِ ظُلْمًا فَقَالَ مَكْحُول يَوْمَئِذٍ قَوْلاً ضَعِيفًا كَرِهَهُ عُمَر قَالَ: أَرَى أَنْ تُسْتَأْنَف فَنَظَرَ عُمَرُ إِلَيَّ كَالْمُسْتَغِيثِ بِي فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ابعْثَ ْإلى ابْنِكَ عَبْدِ الْمَلِكِ فَأَحْضِرْهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِدُونِ مَنْ رَأَيْت. وَكَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ قَدْ تَفَقَّهَ وَدَرَسَ حَتَّى صَارَ فِي الصَّفِّ الأَوَّلِ مِنْ فُقَهَاءِ الشَّامِ ثُمَّ زَهِدَ قَالَ مَيْمُون: فَقَالَ عُمَرُ: يَا حَارِثُ ادْعُ لِي عَبْدُ الْمَلِكِ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ الْمَلِكِ مَا تَرَى فِي هَذِهِ الأَمْوَال الَّتِي أُخِذَتْ مِنَ النَّاسِ ظُلْمًا وَقَدْ حَضَرُوا يَطْلُبُونَهَا وَقَدْ عَرَفْنَا مَوَاضِعَهَا قَالَ: أَرَى أَنْ تَرُدَّهَا فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ كُنْتَ شَرِيكًا لِمَنْ أَخَذَهَا.

تَسْمَعُ حِكَايَاتٍ يُطِيبُ سَمَاعُهَا ... وَيَحْلُو كَطَعْمِ الشَّهْدِ فِي ثَغْرِ ذَائِقِ فَكَمْ مِنْ شَوَاجٍ لِلْقُلُوبِ رَقَائِقٍ ... وَكَمْ مِنْ مَعَانٍ لِلْعُوُم ِحقَاَئِقِ وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا أَنَّ عُمَرَ بنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا كَانَ فِي يَوْمِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ قَالَ: أَجْلِسُونِي. فَأَجْلَسُوهُ فَقَالَ: أَنَا الَّذِي أَمَرْتَنِي فَقَصَّرْت وَنَهَيْتَنِي فَعَصَيْتُ وَلَكِنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ ثَمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَأَحَدَّ النَّظَرَ فَقَالَوا: إِنَّكَ لَتَنْظُرُ نَظَرًا شَدِيدًا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: إِنِّي لأَرَى حَضْرَةً مَا هُمْ بِإِنْسٍ وَلا جِنٍّ ثُمَّ قُبِضَ. وَقَالَ مَسْلَمَةَ بن عَبْدِ الْمَلِكَ: لَمَّا احْتُضِرَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ كُنَّا عِنْدَهُ فِي قُبَّةٍ فَأَوْمَأَ إِلَيْنَا أَنِ أُخْرُجُوا فَخَرَجْنَا حَوْلَ الْقُبَّةِ وَبَقِيَ عِنْدَهُ وَصِيفٌ فَسَمِعْنَاهُ يَقْرَأَ هَذِهِ الآية: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} مَا أَنْتُمْ بِإِنْسٍ وَلا جِنٍّ ثُمَّ خَرَجَ الْوَصِيفُ فَأَوْمَأَ إِلَيْنَا أَنِ ادْخُلُوا فَإِذَا هُوَ قَدْ قُبِض. شَمِّر عَسَى أَنْ ينْفَعَ التَّشْمِيرُ ... وَانْظُرْ بِفِكْرَكَ مَا إِلَيْهِ تَصِيرُ طَوَّلْتَ آمَالاً تَكَنَّفَهَا الْهَوَى ... وَنَسِيتُ أَنَّ الْعُمْرَ مِنْكَ قَصِيرُ قَدْ أَفْصَحَتْ دُنْيَاكَ عَن غَدَرَاتِهَا ... وَأَتَى مَشِيبُكَ وَالْمَشِيبُ دَارٌ لَهَوْتَ بِزَهْوِهَا مُتَمَتِّعًا ... تَرْجُو الْمَقَامَ بِهَا وَأَنْتَ تَسِيرُ وَاعْلَمْ بَأَنَّكَ رَاحِلٌ عَنْهَا وَلَوْ ... عُمِّرْتَ فِيهَا مَا أَقَامَ ثَبِيرُ لَيْسَ الْغِنَى فِي الْعَيْشِ إِلا بُلْغَةً ... وَيَسِيرْ مَا يَكْفِيكَ مِنْهُ كَثِيرُ لا يَشْغَلَنَّكَ عَاجِلٌ عَن آجِلٍ ... أَبَدًا فَمُلْتَمِسُ الْحَقِيرِ حَقِيرُ وَلَقْدَ تَسَاوَى بَيْنَ أَطْبَاقِ الثَّرَى ... فِي الأَرْضِ مَأْمُورٌ بِهَا وَأَمِيرُ آخر: ... حَانَ الرَّحِيلُ فَوَدِّعِ الدَّارَ الَّتِي ... مَا كَانَ سَاكِنُهَا لَهَا بِمُخَلَّدِ وَاضْرَعْ إِلى الْمَلِكِ الْجَوَّادِ وَقُلْ لَهُ ... عَبْدٌ بِبَابِ الْجُودِ أَصْبَحَ يَجْتَدِي لَمْ يَرْضَ إِلا الله مَعْبُودًا وَلا ... دِينًا سِوَى دِينِ النَّبِي مُحَمَّدِ قَالَ بَعْضُهُمْ لما حَضَرَتْهُ الْوَفَاة: (إِلَهِي وَسَيِّدي وَمَوْلاي قَدْ آنَ الرَّحِيل إِلَيْكَ وَأَزِف الْقُدُومَ عَلَيْكَ وَلا عُذْرَ لِي بَيْنَ يَدَيْكَ غَيْرَ أَنَّكَ الْغَفُورُ وَأَنَا الْعَاصِي وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَأَنَا الْجَانِي وَأَنْتَ السَّيدُ وَأَنَا الْعَبْدُ ارْحَمْ.

موعظة في الحث علي الاستعداد للرحيل إلى القبور

خُضُوعِي وَزَلَّتِي بَيْنَ يَدَيْكَ فَإِنَّهُ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِكَ) . وَصَلَى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. مَوْعِظَة: عِبَادَ اللهِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةِ وَقَرُبَ التَّحَوُّلُ وَالْمَسِير، وَأَزِفَتِ الآزِفَةُ وَلَيْسَ هُنَاكَ حَمِيمٌ وَلا نَصِيرٌ وَكُتِبَتِ الصَّحِيفَةُ فَلا نِسْيَانَ لِقَلِيلٍ وَلا كَثِيرٍ {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} . تَاللهِ لَقَدْ غَرَّتِ الأَمَانِي أَكْثَرَ خَلْقِ اللهِ فَتَرَكُوا سَبِيلَ الْهُدَى وَأَعْرَضُوا عَنْ دَارِ التَّهانِي وَالْقَرَارِ فَوَقَعُوا فِي شِرْكِ الرَّدَى وَتَمَادُوا عَلَى التَّوَانِي وَظَنُّوا أَنْ يُتْرَكُوا سُدَى وَنَسُوا قَوْلَهُ تَعَالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} وَقَوْلُهُ تَعَالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} وَقَوْلُهُ تَعَالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ} . عِبَادَ اللهِ كَيْفَ حَالُكُمْ إِذَا قُمْتُمْ مِنْ الْقُبُورِ حَيَارَى حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاَ، وَقَدْ عَظُمَتِ الأَهْوَالُ {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى} وَلَزِمَتِ الصُّحُفُ الأَعْنَاق ثُمَّ رُدُّوا إلى اللهِ مَوْلاهُمْ الْحَقَّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ. كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا سَمِعْتُمْ قَوْلَ الْجَبَّارِ: {لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ} {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} . وَقَوْلُهُ تَعَالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} . فَعِنْدَ ذَلِكَ يُؤْخَذُ الْمُجْرِمُونَ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ، وَيُطْرَحُ فِي الْجَحِيمِ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الْمَعَاصِي جَرَاءَةٌ وَإِقْدَام. وَيَمْرَحُ بِالنَّعِيمِ مَنْ قَدَّمَ الْخَيْرَاتِ لِدَارِ السَّلامِ وَعَمِلَ بِالْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ وَيَحْظَى بِجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ فَاتَّقُوا الله عِبَادَ اللهِ

وَاسْلُكُوا طَرِيقَ الشَّرْعِ الْقَوِيمِ الَّذِي لا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَقُومُوا بِأَوَامِرِ الْمَنَّانِ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانَ. وَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا مِمَّنْ غَرَّتْهُمْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِزَخَارِفَهَا الزَّائِلَة وَزِينَتِهَا الْعَاطِلَة وَأُولَئِكَ هُمْ الَّذِينَ تَنْقُص الأَيَّامُ والليالي آجالهم وَهُمْ لاهُونَ وَتَجْرِي بِهِمْ الأَعْوَامُ إِلى مَرَاقِدِ قُبُورِهِمْ وَهُمْ نَائِمُونَ وَتَتَخَطَّفَهُمْ الْمَنَايَا لاعِبُونَ وَتُنَادِيهُمْ الْعِبَرُ وَالْمَوَاعِظُ وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ وَلا يُبْصِرُونَ وَيَرَوْنَ مَا وَقَعَ بِالأُمَمِ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا نَزَلَ بِآبَائِهِمْ وَلَكِنْ لا يَفْقَهُونَ وَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى أَعْلَمُ بِمَآلِهِمْ وَمَا إِلَيْهِ صَائِرُونَ، إِذَا هُمْ وَصَلُوا إِلى الْغَايَة الْمَفْهُومَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ} . شِعْرًا: ... يَا غَافِلاً عَمَّا خُلِقْتَ لَهُ انْتَبِهْ ... جَدَّ الرَّحِيلُ وَلَسْتَ بِالْيَقْظَانِ سَارَ الرِّفَاقُ وَخَلَّفُوكَ مَعَ الأوُلَى ... قَنِعُوا بِذَا الْحَظِّ الخَسِيسِ الْفَانِ وَرَأَيْتَ أَكْثَرَ مَنْ تَرَى مُتَخَلِّفًا ... فَتَبِعْتَهُمْ وَرَضِيتَ بِالْحِرْمَانِ لَكِنْ أَتَيْتَ بِخُطَّتِي عَجْزٍ وَجَهْـ ... ـلٍ بَعْدَ ذَا وَصَحِبْتَ كُلَّ أَمَانِ مَنَّتْكَ نَفْسُكَ بِاللِّحَاقِ مَعَ الْقُعُو ... دِ عَنِ الْمَسِيرِ وَرَاحَةِ الأَبْدَانِ وَلَسَوْفَ تَعْلَمُ حِينَ يَنْكَشِفُ الْغِطَا ... مَاذَا صَنَعْتَ وَكُنْتَ ذَا إمَكَانِ آخر: ... دُنْيًا مَغَبَّةُ مَنْ أَثرى بِهَا عَدَمٌ ... وَلَذَّةٌ تَنْقَضِي مِنْ بَعْدِهَا نَدَمُ وَفِي الْمَنُونِ لأَهْلِ الْكتْبِ مُعْتَبَرءٍ ... وَفِي تَزَوُّدِهِمْ مِنْهَا التُّقَى غُنُمُ وَالْمَرْءُ يَسْعَى لِفَضْلِ الرِّزْقِ مُجْتَهِدًا ... وَمَالِهِ غَيْرُ مَا قَدْ خُطَّ فِي الْقَلَمِ كَمْ خَاشِعٍ في عُيُونِ النَّاسَ مَنْظِرهُ ... وَالله يَعْلَمُ مِنْهَا غَيْرَ مَا عَلِمُوا اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْهَا عَلى قَوْلِكَ الثَّابِتْ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وفي الآخِرةِ، وَيَسِّرْنَا لِلْيُسْرَى وَجَنِّبْنَا الْعُسْرَى، وَاجْعَلْنََا هُدَاةً مُهْتَدِين وَاغْفِرْ

أبو مسلم الخولان يصدع بالحق أمام معاوية ولا يبالي بغضب معاوية

لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى وَآلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وَوَقَفَ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَوْمًا عَلَى مَنْبَرِهِ بَعْدَ أَنْ قَطَعَ الْعَطَايَا المالية عَنْ أَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا فَقَامَ إِلَيْهِ أَبُو مُسْلِمُ الْخَوْلانِي فَقَالَ: لا سَمْعَ وَلا طَاعَةَ يَا مُعَاوِيَةُ. قَالَ مُعَاوِيَة: وَلِمَ يَا أَبَا مُسْلِم فَقَالَ يا مُعَاوِيَةُ: كَيْفَ تَمْنَعُ الْعَطَا وَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَدِّكَ وَلا كَدِّ أَبِيكَ وَلا مِنْ كَدِّ أُمِّكَ. فَغَضِبَ مُعَاوِيَةُ وَنَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ وَقَالَ لِلْحَاضِرِينَ: مَكَانَكُمْ. وَغَابَ سَاعَةً عَنْ أَعْيُنِهِمْ ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ وَقَدْ اغْتَسَلَ فَقَالَ: إِنَّ أَبَا مُسْلِمْ كَلَّمَنِي بِكَلامٍ أَغْضَبَنِي وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ? يَقُولُ: «الْغَضَبُ مِنَ الشَّيْطَانِ وَالشَّيْطَانُ خُلِقَ مِنَ النَّارِ وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَغْتَسِلْ» . وَإِنِّي دَخَلْتُ فَاغْتَسَلْتُ وَصَدَقَ أَبُو مُسْلِم إِنَّهُ مِنْ كَدِّي وَلا مِنْ كَدِّ أَبِي فَهَلمُّوا إِلى عَطَائِكُم. وَبِالتَّالِي فَإِلَيْكَ صِفَةُ الإِمَامِ الْعَادِل: كَتَبَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمَّا وَلِيَ الْخِلافَةَ إِلى الْحَسَنِ الْبَصَرِي لِيُخْبِرَهُ عَنْ صِفَةِ الإِمَامِ الْعَادِل فَكَتَبَ إِلَيْهِ الْحَسَن اعْلَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ اللهَ جَعَلَ الإِمَامَ الْعَادِلَ قِوّامَ كُلِّ مَائِلِ وَقَصْدَ كُلِّ جَائِرٍ وَصَلاحَ كُلِّ فَاسِدٍ وَقُوَّةَ كُلِّ ضَعِيف وَنَصَفَةَ كُلِّ مَظْلُوم وَمَفْزَعَ كُلِّ مَلْهُوف وَالإِمَامُ الْعَادِل يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَالرَّاعِي الشَّفِيقِ عَلَى إِبْلِهِ الرَّفِيقِ بِهَا الَّذِي يَرْتَادُ لَهَا أَطْيَبَ الْمَرْعَى وَيَذُودُهَا عَنْ مَرَاتِعِ الْهَلَكَةِ وَيَحْمِيهَا عَنِ السِّبَاعِ وَيُكِنُّهَا عَنْ أَذَى الحَرَّ وَالْقَر. وَالإِمَامُ الْعَادِلُ كَالأَبِ الْحَانِي عَلَى وَلَدِهِ يَسْعَى لَهُمْ صِغَارًا وَيُعَلِّمُهُمْ كِبَارًا يَكْتَسِبُ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِ وَيَدّخِرُ لَهُمْ بَعْدَ مَمَاتِهِ. وَالإِمَامُ الْعَادِلُ كَالأُمِّ الشَّفِيقَةُ الْبَرَّةِ الرَّقِيقَةِ بِوَلَدِهَا َحَمَلَتْهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ

كُرْهًا وَرَبَّتْهُ طِفْلاً تَسْهَرُ بِسَهَرِهِ وَتَسْكُنُ بِسُكُونِهِ تُرْضِعُهُ تَارَةً وَتُفْطِمُهُ أُخْرَى وَتَفْرَحُ بِعَافِيَتِهِ وَتَغْتَمُّ بِشِكَايَتِهِ. وَالإِمَامُ الْعَادِلُ وَصِيُّ الْيَتَامَى وَخَازِنُ الْمَسَاكِين يُرَبِّي صَغِيرَهُمْ وَيَمُونُ كَبِيرَهُمْ وَالإِمَامُ الْعَادِلُ هَوُ الْقَائِمُ بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ عِبَادِهِ يَسْمَعُ كَلامَ اللهِ وَيُسْمِعَهُمْ وَيَنْظُر إِلى اللهِ وَيُرِيهم وَيَنْقَادُ إلى اللهِ وَيَقُودُهُمْ فَلا تَكُنْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا مَلَّكَكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ كَعَبْدٍ ائْتَمَنَهُ سَيِّدُهُ وَاسْتَحْفَظَهُ مَالُهُ وَعِيَالَه فَبَدَّدَ الْمَالَ وَشَرَّدَ الْعِيَالَ فَأَفْقَرَ أَهْلَهُ وَفَرَّقَ مَاله. وَأَعْلَمْ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ الْحُدُودَ لِيَزْجُرَ بِهَا عَن الْخَبَائِث وَالْفَوَاحِشِ فَكَيْفَ إِذَا أَتَاهَا مِنْ يَلِيهَا وَإِنَّ اللهَ أَنْزَلَ الْقِصَاصَ حَيَاةً لِعِبَادِهِ فَكَيْفَ إِذَا قَتَلَهُمْ مَنْ يَقْتَصُّ لَهُمْ وَاذْكُر الْمَوْتَ وَمَا بَعْدَهُ وَقِلَّةَ أَشْيَاعِكَ عِنْدَهُ وَأَنْصَارَكَ عَلَيْهِ فَتَزَوَّدْ لَهُ وَلِمَا بَعْدَهُ مِنَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ لَكَ مَنْزِلاً غَيْرَ مَنْزِلِكَ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ يَطُولُ فِيهِ ثَواؤُكَ وَيُفَارِقُكَ أَحِبَّاؤُكَ يُسْلِمُونَكَ فِي قَعْرِهِ وَحِيدًا فَرِيدًا فَتَزَوَّدْ لَهُ مَا يَصْحَبُكَ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ وَاذْكُرْ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا في الصُّدُورِ فَالأَسْرَارُ ظَاهِرَة وَالْكِتَابُ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا. فَالآنَ وَأَنْتَ في مَهْلٍ قَبْلَ حُلُولِ الأَجَل وَانْقِطَاعِ الأَمَلِ لا تَحْكُمُ فِي عِبَادِ اللهِ بِحُكْمِ الْجَاهِلِينَ وَلا تَسْلُكَ بِهِمْ سَبِيلَ الظَّالِمِينَ وَلا تُسَلِّطْ الْمُسْتَكْبِرِينَ عَلَى الْمُسْتَضِعِفينَ فَإِنَّهُمْ لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً فَتَبُوءَ بِأَوْزَارِكَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكَ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالَكَ. وَلا يَغُرَّنَّكَ الَّذِينَ يَتَنَعَّمُونَ فِي بُؤْسِكَ وَيَأْكُلُونَ الطَّيِّبَاتِ في دُنْيَاهُمْ بِإِذْهَابِ طَيِّبَاتِكَ في آخِرَتِكَ وَلا تَنْظُرْ إِلى قُدْرَتِكَ الْيَوْمَ وَلَكِنْ انْظُرْ إِلى قُدْرَتِكَ

كتاب سفيان الثوري إلي أخ له

غَداً وَأَنْتَ مَأْسُورٌ فِي حَبَائِلِ الْمَوْتِ وَمَوْقُوفٌ بَيْنَ يَدَي اللهِ في مَجْمَعٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ وَقَدْ عَنِتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ الَّذِي لا تَأْخُذُهُ سِنَةُ وَلا نَوْم. شِعْرًا: زِدْنَا عَلَيْهِ مَا بَيْنَ الأَقْوَاس. سَلِ الْمَنَايَا عَلَى عِلْمٍ وَتَجْرُبَةِ ... في أيَ شَيْءٍ بَغَى الإِنْسَانُ أَوْ حَسَدَا تَنَافَس النَّاسُ في الدُّنْيَا وَقَدْ عَلِمُوا ... أَنَّ سَوْفَ تَقْتُلَهُم لِذَّاتُهَا بُدَدَا تَبَادَرُوهَا وَقَدْ آذَتْهُم فَشَلاً ... وَكَاثَرُوهَا وَقَدْ أَفْنَتْهُمُ عَدَدَا قُلْ لِلْمُحَدِّثِ عَنْ لُقْمَانَ أَوْ لِبَدٍ ... لَمْ يَتْرُكِ الدَّهْرَ لُقْمَانًا وَلا لِبَدَا (وَلَمْ يُغَادِرْ عَمَارَاتٍ وَلا فُلَلاً ... وَلا قُصُورًا بِهَا الْمَغْرُورُ مُسْتَنِدَا) (وَلا بَسَاتِينَ فِي الأَشْجَارِ زَاهِيَةً ... وَسَاهِرُ المَاءِ في الأَنْهَارِ مُطَّرِدَا) (وَلا جَبَانًا يَخَافَ الْمَوْتَ ذَا قَلَقٍ ... وَلا شُجَاعًا يَهْزِمُ الْجَمْعُ مُنْفَرِدَا) (وَلا كَرِيمًا تُبِيدُ الْمَالَ رَاحَتُهُ ... وَلا بَخِيلاً إِذَا اسْتَمْنَحْتَهُ شَرَدَا) اللَّهُمَّ احْفَظْنَا مِن الْمُخَالَفَةِ وَالْعِصْيَانِ وَلا تُؤَاخِذْنَا بِجَرَائِمَنَا وَمَا وَقَعَ مِنَّا مِن الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانِ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينِ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) كتب سفيانَ الثوريّ إلى أخٍ له في الله يقول له: (أما بعدُ: عافانا الله وإيَّاك مِن النَّار برحمتِه، أوصِيكَ وإيَّايَ بَتَقْوَى الله. وَأحَذِّركَ أن تَجْهَلَ بعد إِذْ عَلِمْتَ، فتهلكَ بعدَ إِذْ أبصرتَ، وتَدَع الطريقَ بعد إذْ وَضَحَ لَكَ، وَتَغْتَرَّ بأهلِ الدنيا بِطَلَبِهم لَهَا، وحِرْصِهِمْ عليها وإكثارِهِم منها.

فَإِنَّ الْهَوْلَ شَدِيدٌ، والطَّرِيقَ بَعِيدٌ، وَالْمنَاقِشَ عَتِيدٌ، وَالخطرَ عَظِيمٌ، وَالوَقتَ قَرِيبٌ، وَكأنْ قَدْ كَانَ. فَتَفَرّغْ وَفَرِّغْ قَلْبِكَ، ثُمَّ الجدَّ الْجدَّ، والوَحَاءَ الوَحَاءَ، وَالهَرَبَ الهَرَبَ، وَارْتَحِلْ إِلى الآخِرَةِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُرْتَحَلَ بِكَ. وَاسْتَقْبِلْ رُسُلَ رَبِّكَ، وَاشْدُدْ مِئْزَرَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى قَضَاؤُكَ، وَيُحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَا تُرِيد، فَقَدْ وَعَظْتُكَ بِمَا وَعَظْتُ بِهِ نَفْسِي، وَالتَّوْفِيقُ مِن الله. وَمِفْتَاحُ التَّوفيقِ التَّضرُّعُ والاسْتِكَانَةُ وَالندامةُ عَلَى ما فَرَّطتَ، ولا تُضَيِّعْ حَظَّكَ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ وَاللَّيَالِي الَّتِي هِيَ مَتْجَرُ الزُّهَّاد، وَمَكْسَبُ الْعُبَّادِ. ثُمَّ إِيَّاَك وَمَا يُفْسِدُ عَلَيْكَ عَمَلَكَ وَهُوَ الرِّيَاءُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رِيَاءٌ فَإِعْجَابُكَ بِنَفْسِكَ. وَإِيَّاكَ أَنْ تُحِبُّ مَحَامِدَ النَّاسِ أَوْ تَحِبُّ أَنْ يُكْرِمُوكَ بِعَمَلِكَ. وَيَرَوْنَ لَكَ فَضِيلَةً وَشَرَفًا وَمَنْزِلَةً فِي صُدُروِهِمْ، أَوْ حَاجَةً تَطْلُبُهَا إِلَيْهِمْ فِي أَمْرٍ مِن الأُمُورِ. فَإِنَّكَ زَعِمْتَ أَنَّكَ تُرِيدُ بِعَمَلِكَ وَجْهَ اللهِ وَالدَّارِ الآَخِرَةَ وَلا تُرِيدُ بِهِ غيرهَ. وَعَلَيْكَ بِكَثْرَةِ ذِكْرِ الْمَوْتِ، فَكَفَى بِطُولِ الأَمَلِ قِلَّةُ الخَوْفِ، وجرأةٌ على الْمَعَاصِي، وَكَفى بالْحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّكَ لَمْ تعلم ولم تَعْمَلْ بِعِلْمِكَ. وَاطْلب الْعِلْمَ لِتَعْمَل بِهِ، وَلا تَطْلُبْه لِتُبَاهِي بِهِ العُلَمَاء، أو لِتُمَارِي به السُّفَهَاءَ، أَوْ تَأْكُلَ بِهِ الأَغْنِيَاءَ.

أَوْ تَسْتَخْدِمَ بِهِ الْفُقَرَاءَ، أَوْ تَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْكَ، فَإِنَّ لَكَ مِنْ عَلمِكَ مَا عَمِلْتَ بِهِ، وَعَلَيْكَ مَا ضَيَّعْتَ مِنْهُ. فَكُلُّ مَنْ طَلَبَ الْخَيْرَ صَارَ غَرِيبًا فِي زَمَانِهِ، فَلا تَسْتَوْحِشْ وَاسْتَقِمْ عَلى سَبِيلِ رَبِّكَ. وَاشْتَغِلْ بِذِكْرِ عُيُوبِ نَفْسِكَ عَنْ ذِكْرِ عُيُوبِ غَيْرِكَ، وَاحْزَنْ عَلَى مَا مَضَى مِنْ عُمْرِكَ فِي غَيْرِ طَلَبِ آخِرَتِكَ. وَأَكْثِرْ مِنَ الْبُكَاءِ عَلَى مَا أَوْقَرْتَ ظَهْرَكَ، لَعَلَّكَ تَخْلُصُ مِنْهَا وَلا تُمْسِكْ عَن الْخَيْرِ وَأَهْلِهِ، وَلا تَتَبَاعَدْ عَنْهُمْ. وَتَبَاعَدْ مِن الْجُهَّال وَبَاطلِهم مهما استطعت، فإنَّه لا يَنْجو من جاورَهم إلا مَنْ عصمَ الله. وَقَالَ رحمه الله: وإنْ أَرَدْتَ اللِّحَاقَ بالصالحِين فاعملْ عَملَهُم، واحْذُ سِيرَتَهُم، واكْتَفِ بِمَا رُزِقْتَ مِن الدُّنْيَا. ولا تَنْسَ مَنْ لا يَنْسَاكَ، وَلا تَغْفَلْ عَمَّنَ وُكِّلَ بِكَ، يُحصِي أَثَرَكَ، وَيَكْتُبُ عَمَلَكَ. وَرَاقِبِ اللهِ فِي سِرِّكَ وَعَلانِيَّتِكَ، فَهُوَ رَقِيب عَلَيْكَ، وَاسْتَحي مِمَّنْ هُوَ مَعَكَ، وَأَقْرَبُ إِلَيْكَ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. وَاعْتَرِفْ بِفَاقَةِ نَفْسِكَ وَارْحمهَا وأكْثِرْ مِن الْبُكَاءِ عَلَيْهَا، وَلا تَغْبطْ أَهْلَ الشَّهَواتِ بِشَوَاتِهِمْ وَلا أَهْلَ النَّعمِ بِنِعَمهم. فَإِنَّ وَرَاءَهُمْ يَومًا تُزَلْزَلُ فِيهِ الأَقْدَامُ، وَتُرعدُ فِيهِ الأَجْسَامُ، وَتَتَضَاعَفُ فِيهِ الآلامُ، وَتَتَزَايَدُ فِيهِ الأَسْقَامُ. وَيَطُولُ فِيهِ الْقِيَامُ، وَيَشْتَدُّ فِيهِ الْحِسَابُ، وَيُشْفَقُ فِيهِ العذاب،

وَتَطِيرُ فِيهِ الْقُلُوبُ حَتَّى تَبْلُغَ الْحَنَاجِرَ، فَيَا لَهَا مِنْ نَدَامَةٍ عَلى مَا أَصَابُوا مِن هَذِهِ الشَّهَوات. وَاجْعَلْ كَسْبَكَ فِيمَا يَكُونُ لَكَ ولا تَجْعَلْه فِيمَا يَكُونُ عَلَيْكَ، وَاجْتَنِبْ الْحَرَامَ وَلا تَجْلِسْ مَعَ مَنْ يَكْسِبُه. وَإِيَّاكَ وَالظُّلْمَ، أَوْ تَكُونَ عَوْنًا لِلظَّالِمِ أَوْ تَصْحَبَهُ أَوْ تُؤاكِلُه، أَوْ تَبَسَّمَ في وَجْهِهِ، أَوْ تَنَالَ مِنْهُ شَيْئًا فَتَكُونَ عَوْنًا لَهُ، واَلْعَوْنُ شَرِيكٌ، وَلا تُخَالِفْ أَهْلَ التَّقْوَى، وَلا تُطِعْ أَهْل الْخَطَايَا. وَلا تُجَالِسْ أَهْلَ الْمَعَاصِي، وَاجْتَنِبْ الْمَحَارِمَ. وَعَلَيْكَ بِالتَّوْبَةِ، وَجَدِّدْهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ، بَلْ فِي كُلِّ سَاعَةٍ، فَإِنَّ لِكُلِّ ذَنْبٍ تَوْبةٌ، وَتَرْكُ الذَّنْبِ أَيْسَرُ مِنْ طَلَبِ التَّوْبَةِ. وَلا تَتَهَاوَنْ بِالذَّنْبِ الصَّغِيرِ، وَلَكِنْ انْظُرْ مَن عَصَيْتَ، عَصَيْتَ رَبًّا عَظِيمًا، يُعَاقِبُ عَلَى الصَّغِيرُ، وَيَعْفُو عَنِ الْكَبِيرِ إِنْ شَاءَ. فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ عليه السلام حَذَّرَ نَفْسَهُ مَعَ قُربِهِ وَخُلَّتِهِ، وَعُلوِّ مَنْزِلَتِهِ، فَسَأَلَ رَبَّهُ فَقَالَ: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} . وَقَالَ يُوسف الصِّدِّيقُ عَلَيْهِ السَّلامَ مَعَ عِصْمَتِهِ وَنُبَوَّتِهِ: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} . وَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ: {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ} . وَقَالَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلامُ: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّنَا} . فَهَؤُلاءِ الأَنْبِيَاءُ الْمُقَرَّبُون الْمُجْتَبَوْن الْمَخْصُوصُونَ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَعُلوِّ الْمَنْزِلَةِ خَافوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَتَضَرَّعُوا إلى مَالِكِهِمْ.

(تحذير إلي الغافلين) أَلا يَا غَافِلاً يُحْصَى عَلَيْهِ ... مِنَ الْعَمَلِ الصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَهْ يُصَاحُ بِهِ وَيُنْذرُ كُلََّ يَوْمٍ ... وَقَدْ أَنْسَتْهُ غَفْلَتُهُ مَصِيرَهْ تَأَهَّبْ لِلرَّحِيلِ فَقَدْ تَدَانَى ... وَأَنْذرَكَ الرَّحِيلَ أَخٌ وَجِيرَهْ وَأَنْتَ رَخِيِّ بَالٍ فِي غُرُورِ ... كَأَنْ لَمْ تَقْتَرِفْ فِيهَا صَغِيرَهْ وَكَمْ ذَنْبٍ أَتَيْتَ عَلَى بَصِيرَةٍ ... وَعَيْنُكَ بِالَّذِي تَأْتِي قَرِيرَهْ تُحَاذِرُ أَنْ تَرَاكَ هُنَاكَ عَيْنٌ ... وَإِنَّ عَلَيْكَ لِلْعَيْنُ الْبَصِيرَهْ وَكَمْ حَاوَلْتَ مِنْ أَمْرٍ عَظِيمٍ ... مُنِعْتَ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَخَيْرَهْ وَكَمْ مِنْ مَدْخَلٍ لَوْ مُتَّ فِيهِ ... لَكُنْتَ بِهِ نَكَالاً فِي الْعَشِيرَهْ وُقِيتَ السُّوءَ وَالْمَكْرُوهَ فِيهِ ... وَرُحْتَ بِنِعْمَةٍ فِيهِ سَتِيرَهْ وَكَمْ مِنْ نِعْمَةٍ للهِ تُمْسِي ... وَتُصْبِحُ لَيْسَ تَعْرضفُهَا كَثِيرَهْ اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا وَكَرِه إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانِ وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وَقَالَ رحمه الله: واعلم يا أخي أَنَّ الله لا يقبلُ نافلةً حتى تُؤدِّي الفريضةُ، وأنَّ للهِ حَقًّا بالليل لا يَقبلُه بالنهار. وحقًّا بالنهارِ لا يَقبلُه باللَّيل، وأنه يُحَاسِبُ العبدَ يومَ القيامةِ بالفرائض، فإنْ جاءَ بها تامةٌ قُبلَتْ فرائضهُ ونوافلُه. وَإنْ لم يُؤدِّهَا وَأَضَاعَها أُلحقتِ النَّوافُل بالفرائض؛ فإنْ شاءَ غَفَرَ لَهُ وَإِنْ شاءَ عَذَّبَهُ. وعلَيْكَ بتقوى الله عَزَّ وَجَلَّ، ولِسَانٍ صَادِقٍ وَنِيَّةٍ خَالِصَةٍ، وأعمال صَالِحَةٍ، لَيْسَ فيها غِشٌّ وَلا خُدْعَةً. فَإِنَّ اللهَ يَراكَ وَإِنْ لم تكنْ تَرَاهُ، فلا تُخَادِع الله يَخْدَعُكَ، وأصلحْ

سَرِيرَتَكْ وَعَلانِيتَك، وأحْسِنْ فيما بَيْنَكَ وبينَ الله يُحْسِن ما بَيْنَكَ وَبَيْنَ النَّاس. واعملْ لآخِرَتِكَ يَكْفِيكَ أَمْرَ دُنْيَاكَ، وَبِعْ دُنْيَاكَ بآخِرَتِكَ تَرْبَحُهُما جَمِيعًا، وَلا تَبْعِ آخِرَتَكَ بِدُنْيَاكَ فَتَخْسَرْهُمَا جَمِيعًا. وَإِيَّاكَ وَمُجَالَسَةَ أَهْلِ الْجَفَاءِ، وَلا تَصْحَبْ إِلا مُؤْمِنًا، وَلا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلا تَقِيٌّ، وَلا تُصَاحِبْ الْفَاجِرَ ولا تُجَالِسْهُ. وَإِيَّاَك وَأَبْوَابَ الْمُلوكِ وَأَبْوَابَ مَنْ يَأْتِي أَبْوَابَهُمْ وَأَبْوَابَ مَنْ يَهْوَى هَوَاهُمْ، فَإِنَّ مَعَهُمْ مِثْلَ فِتَنِ الدَّجَّال. شِعْرًا: ... مَضَى السَّلف الأَبْرَار يَعْبِق ذكرهم ... فَسِيرُوا كَمَا سَارُوا عَلَى الْبِرِّ وَاصْنعوا وَكُنْ مَبْذُولاً بِمَالِكَ وَنَفْسِكَ لإِخْوَانِكَ، وَعَلَيْكَ بِالْكَسْبِ الطَّيبِ، وَمَا تَكْسِبُ بِيَدِيْكَ، وَإِيَّاكَ وَأَوْسَاخَ النَّاسِ أَنْ تَأْكلَه أَوْ تلبسَه. فَإِنَّ الَّذِي يَأْكُلُ أَوْسَاخَ النَّاسِ فَهُوَ يَتَكَلَّمُ مَعَهُمْ بِذلَّةٍ وَتَوَاضُعٍ وَهَوَى، وَيَتَوَاضَعُ لهم مخافةَ أنْ يَمْنَعُوه. ويا أخي! مَتَى تَنَاوْلَتَ مِن النَّاسِ شَيْئًا قَطَعْتَ لِسَانَكَ، وَأَكْرَمْتَ بَعْضَ النَّاسِ وَأَهْنتَ بَعضَهم مَعَ ما يَنْزِلُ بِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّ الَّذِي يُعْطِيكَ مِن مَالِهِ فَإِنَّمَا هُوَ وَسَخُه. وَتَفْسِيرُ وَسَخِهِ: تَطْهِيرُ عَمَلِهِ مِن الذُّنُوبِ، فَإِنْ أَنْتَ تَنَاوَلْتَ مِن النَّاسِ شَيْئًا فَلا تَأْمَنْ إِنْ دَعَوْكَ إِلى مُنْكَرِ أَجَبْتَهم. وَإِنَّ الَّذِي يَأْكُلُ أَوْسَاخَ النَّاسِ كَالرَّجلِ لَهُ شُرَكَاءِ فِي شَيْءٍ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَاسِمَهُمْ، يَا أَخِي جُوعٌ وَقَلِيل مِنْ الْعِبَادة خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَشْبَعَ مِنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ وَكَثِيرٌ مِن الْعِبَادَةِ. فَقَدْ بَلَغنَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ ? قَالَ: «لَوْ أَنَّ أحدَكم أَخَذَ حَبْلاً ثُمَّ احْتَطَبَ حَتَّى يُدْبِرَ ظَهْرَهُ، كَانَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَقُومَ عَلَى ظَهْرِ أَخِيِه فَيَسْأَلُه أَوْ يَرْجُوهُ» .

وَبَلَغَنَا أَنَّ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ حَمِدْنَاهُ، وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ اتَّهَمْنَاهُ. وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الُقُرَّا! ارْفَعُوا رُؤُوسَكم، لا تَزِيدُوا الْخُشُوعَ عَلَى مَا فِي الْقَلْبِ، اسْتَبِقُوا فِي الْخِيرَاتِ، وَلا تَكُونُوا عِيَالاً عَلَى النَّاسِ فَقَدْ وَضَحَ الطَّرِيقُ. وَقَالَ عَلِيٌّ بنُ أَبي طالب رضي الله عنه: إنَّ الذي يَعِيشُ مِنْ أَيْدِي النَّاس كالذي يَغْرِسُ شَجَرَةً في أرض غيره. فاتق الله يا أخِي، فإنّه ما نَالَ أحدٌ من النَّاسِ شَيْئًا إلا صَارَ حَقِيرًا ذَلِيلاً عندَ النَّاس، والمؤمنون شُهودُ الله في الأرضِ. وإيَّاكَ أن تَكْسِبَ خَبِيثًا فَتُنْفِقَهُ في طاعةِ الله، فإنَّ تَرْكَهُ والله فَرِيضةٌ واجبة، وَإِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ لا يَقْبَلُ إِلا الطَّيِّبَ. أَرَأَيْتَ رَجُلاً أَصَابَ ثَوْبَه بَوْلٌ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يطهِّرَهُ فَغَسَلَهُ بِبَولٍ آخَرَ، أَتُرَى كان ذلك يُطَهِّرُه؟ إِنَّ البولَ لا يُطَهَّرُ إِلا بِطَاهِرٍ طَيِّبٍ، فَكَذَلِكَ لا تُمْحَى سيئة بسيئةٍ، ولا تُمْحَى إلا بِحَسَنةٍ. وَعَلَيْكَ بِالصِّدْقِ فِي الْمَوَاطِن كُلِّهَا. وَإِيَّاكَ والكذبَ والخيانة، وَإِيَّاكَ وَالرِّيَاءَ في الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ فَإِنَّهُ الشركُ بعينِهِ. وَإِيَّاكَ وَالْعُجْبَ فَإِنَّ الْعَمَلَ لا يُرفعُ وَفِيهِ عُجْبٌ، وَلا تأخذْ إِلا مِمَّنْ هُوَ مُشْفِقٌ عَلَى دِينِه. فَإِنَّ مَثَلَ الِّذِي هُوَ غَيْرُ مُشْفِقٍ عَلَى دِينِهِ كَمَثَلٍ طَبِيبٍ بِهِ دَاءٌ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُعَالِجَ دَاءَ نَفْسِهِ، وَلا يَنْصَحُ لِنَفْسِهِ، وَلا يَتَجَنَّبْ مَا يَضُرُّ مَرَضَه وَيَحْمِيهَا مِنْهُ. فَكَيْفَ يصلح أن يُعَالِجَ دَاءَ النَّاسِ وَيَنْصَحُ لَهم؟! فهذا الذي لا يُشْفِقُ عَلَى دِينِهِ، كَيْفَ يُشْفِقُ عَلَى دِينِكَ؟!

وَيَا أَخِي! إِنَّمَا دِينُكَ لَحْمُكَ وَدَمُكْ، فَابْكِ عَلَى نَفْسِكَ وَأَرْحَمْهَا، فَإِن أَنْتَ لَمْ تَرْحَمْهَا لَمْ تُرْحَمْ. وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. (فَصْلٌ) وَقَالَ رحمه الله: وَلْيَكُنْ جَلِيسُكَ مَنْ يُزْهِدُكَ في الدُّنْيَا وَيُرَغِّبُكَ في الآخِرَةِ، وَإِيَّاَك وَمُجَالَسَةِ أَهْلِ الدنيا الذينَ يخوضُونَ في حديثِ الدنيا، فإنَّهم يُفْسِدُونَ عَلَيْكَ دِينَكَ وَقَلْبَكَ. وَأَكْثِرْ ذِكْرَ الْمَوْتِ. وَأَكْثِرْ الاسْتِغْفَارَ مِمَّا قَدْ سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِكَ، وَسَلِ اللهَ السَّلامةَ وَالْعِصْمَةَ لِمَا قَدْ بَقِيَ مِنْ عُمُرِكَ. ثُمَّ أَخِي عَلَيْكَ بِأَدَبٍ حَسَنٍ، وَخُلُقٍ حَسَنٍ. ولا تُخَالِفَنَّ الجماعة إذا كانوا على السُّنَّةِ، فإنَّ الخيرَ فيها. وانصحْ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ إِذَا سَأَلَكَ في أَمْرِ دِينِهِ. وَلا تَكْتْمُنَّ أَحَدًا مِن النَّصِيحَةِ شَيْئًا إِذَا شَاوَرَكَ فيما كان لله رِضًا، وَإِيَّاكَ أَنْ تَخُونَ مُؤْمِنًا؛ فَمَنْ خَانَ مُؤْمِنًا فَقَدْ خَانَ اللهَ وَرَسُولهَ. وَإِذَا أَحْبَبْتَ أَخَاكَ في الله فابْذِلْ لَهُ نَفْسَكَ وَمَالَكَ. وَإِيَّاكَ والْخُصُومَاتِ وَالْجِدَالِ وَالْمِرَاءَ، فَإِنَّكَ تصيرُ ظَلُومًا خَوَّانًا أَثِيمًا. وعليك بالصبر في المواطن كلِّها، فإنَّ الصبرَ يَجُرُّ إلى البِرِّ، والبِرِّ يَجُرُّ إلى الْجَنَّةِ. وَإِيَّاكَ وَالْحِدَّةَ وَالغضب؛ فإنهما يَجُرَّانِ إلى الْفُجُورِ، والْفُجُورُ يَجُرُّ إلى النَّارِ. ولا تُمَارِيَنَّ عَالِماً فَيَمْقُتَكَ، وإن الاخْتِلافِ إلى العُلَماءِ رَحْمَةٌ، وَالانقطاعَ عنهم سَخَطُ الرحمن. فإنهم خُزَّانُ الأنبياء وَأَصْحَابُ مَوَارِيثهم، وأُمَنَاءُ الله وَهُدَاةُ الدِّين

(يُرِيد العلماء المتبعون للكتاب والسنة والمطبقون لهما في الأقوال والأفعال) . لا مَن يُسَموْنَ عُلماء وَلَيْسَ بعُلَمَاء لا يُرَى عليهم آثَارَ العِلم فهؤلاء يجب الابتعاد عنهم والتحذير منهم نسأل الله السلامة والعِصْمَة. وعليكَ بالزهد يُبَصِّرْكَ عَوْرَاتِ الدُّنْيَا، وَعَلَيْكَ بالْوَرَعِ يُخَفِّفُ الله حِسَابَكَ. وَدَعْ كَثِيرًا مِمَّا يريبُكَ إلى ما لا يريبُكَ تَكُنْ سَالماً، وادْفَعْ الشَّكَ باليَقِين يَسْلَمْ لَكَ دِينُكَ. وَأمُرْ بِالمَعروفِ، وانهَ عن المُنْكَرِ تَكُنْ حَبِيبَ اللهِ، وَأَقِلَّ الفَرَحَ والضَّحِكَ تَزْدَدْ قَُوَّةً عندَ الله، واعْمَلْ لآخِرَتِكَ يَكْفِكَ الله أمْرَ دُنْيَاكَ. وإذا أردتَ أَمْرًا من أُمُورِ الدنيا فَعَلَيْكَ بالتَّوأَدَةِ؛ فإنْ رأيتَه مُوافِقًا لآخِرَتِكَ فَخذْهُ، وَإلا فَقِفْ عنه، وسلَ الله العافية وحُسْنَ الْعَاقِبَةِ. وَإِذَا هَمَمْتَ بأمرٍ من أمور الآخرة فَشَمِّرْ إليها مُسْرِعًا مِن قَبْلِ أن يَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا الشَّيْطَان. وَلا تَكُونَنَّ أَكُولاً، وَلا تأكلنَّ بغيرِ شَهْوةٍ، ولا بغَير نِيَّةٍ، ولا عَلَى شِبَعٍ؛ فَيَسْقُو قَلْبُكَ. وَإِيَّاكَ وَالطَّمعَ فِيمَا في أَيْدِي النَّاسِ، فَإِنَّ الطَّمَعَ هَلاكُ الدِّينِ. وَإِيَّاكَ وَالْحِرْصَ عَلَى الدنيا، فإن الحِرصَ يَفْضَحُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَكُنْ طَاهِرَ القلب نَقِيَّ الجسدِ من الذُنُوُبِ وَالخَطَايَا. نَقِيّ اليَدينِ من المظالم، سَلِيمَ القلبِ مِن الْغِشِّ والمكرِ والخِيَانَةِ، خَالي الْبَطْنِ مِن الحَرَامِ، فَإِنَّهُ لا يَدْخُلُ الجنَّةَ لحمٌ نَبتَ مِنْ سُحْتٍ. وَكُفَّ بَصَرَكَ عَنْ عَوْرَاتِ النَّاسِ، وَلا تمشِينَ إِلى غَيْرِ حَاجَةٍ، وَلا تَكَلَّمنَّ بِغَيْرِ حِكْمَةٍ. وَإِيَّاكَ ثُمَّ إِيَّاكَ أَنْ تَلِي نَفْسِكَ مِن الأَمَانةِ شَيْئًا، وَقَدْ سَمَّاكَ الله ظَلومًا

جهولاً، وأقِلِ العَثْرةَ، وَأَقِلَّ الاعتذارَ، واغفرْ ذنبَ مَنْ يُرْجَى خَيْرهُ وَيُؤْمَنُ شرُّه. وَلا تُبْغِضْ أَحَدًا يُطِيعُ الله ورسولَهُ، ولا تَقْطَعْ رَحِمَكَ، وَصِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَصِلْ رَحِمَكَ وَإِنْ قَطَعَتْكَ. وَتَجَاوَزْ عَمَّنْ ظَلَمَكَ تَكُنْ رَفِيقَ الأَنْبِيَاءِ وَالشُّهَدَاءِ، وَأَقِلَّ دُخُولَ السوقِ، فَإِنَّ أَهْلَهُ ذِئَابٍ عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ، وفي السُّوقِ مَرَدَةُ الشياطينِ منِ الجنِّ والإِنسِ. وَإِذَا دَخَلْتَها فَقُلْ: أشهدُ أنْ لا إلِهِ إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمدُ يُحْيي ويُميتُ، وهو حيُّ لا يموت، بيده الخير وهو على كلُّ شيءٍ قدير. اللهم صلّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ وأصحابه أجمعين. فقد بلغِنَا عن النبي ? أنه قَالَ: «يُكتبُ لِقَائِلَها بِعدَدَ مَنْ في السُّوقِ مِن أَعْجَمِي أو فَصِيحٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ» . وَإِيَّاكَ أَنْ تُفَارِقُ الدَّسَمَ؛ فَإِنَّهُ أَتَمُّ لِعَقْلِكَ، وَلا تَمْنَعَنَّ نفسَك مِن الحلاوَةِ إنْ قَدِرْتَ؛ فَإِنَّهُ يَزِيدُ في الْحِلْمِ، وَعَلَيْكَ بِاللَّحم إِنْ وَجَدْتَهُ، وَلا تَدُمْ عَلَيْهِ وَلا تَدَعهُ أربعين يَوْمًا فَيَسوء خُلُقُكَ، وَلا تَردَّ الطِّيبَ؛ فإنَّه يَزِيدُ الدِّمَاغَ قُوةًَ. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. (فَصْلٌ) وَقَالَ رحمه الله: وعليكَ باللِّبَاسَ الخشنِ تَجدْ حلاوةَ الإيمان، وعليكَ بالصَّوْم يَسُدُّ بابَ الفُجور، ويَفْتَحْ عليكَ بابَ العِبادة، وعليك بقلَّةِ الكلامِ يَلِنْ قَلْبُكَ. قُلْتُ: إلا بذكر الله وما ولاه. وعليكَ بطُولِ الصمتِ تملكْ الوَرَعَ، (أي إلا ما فيه نفع أخْرَوِي أو ما هو وسيلة إليه) وَلا تكنْ طَعَّانًاً ولا مُغْتَابًا تسلمْ من أَلْسُنِ النَّاسِ. وكنْ رحيمًا تكنْ محبَّبًا إلى النَّاس، وارضَ بما قسمَ الله لك تكنْ غَنيًّا،

وتوكْل على الله تكنْ قَوِيًّا، وكنْ مُتَواضِعًا تستكملْ أعمالَ البِّر. وكُنْ عفوًّا تظفَر بحاجتِك، وكنْ رحيمًا يُتَرَحَّم عليكَ، وعليك بالسَّخَاء فإنه يسْتُر العوراتِ. وعليكَ بكثرةِ المعروف يُؤْنسْكَ الله في قَبرِكَ واجتنبْ المحارِمَ كلَّها تَجِدْ حَلاوةَ الإيمان. وأحِبَّ أهلَ الجنّةٍ تكنْ معهم يومَ القيامة وابغضْ أهلَ المعاصي يُحِبُّكَ اللهُ والمؤمنون. واحْرصْ يا أخِي! أن يَكُونَ أَوَّلُ أمرِك وآخرُه على تقوى الله في السرِّ والعلانيةِ. واخشَ الله خشية مَن عَلِمَ أنه مَيِّتٌ وَمَبْعُوثٌ وَمَحْشُورٌ وَمَوْقوفٌ بينَ يَدَيْ الْجَبَّارِ. ثم المصيرُ إلى أحدِ الدارينِ؛ إِمَّا إلى جنَّةٍ ناعمةٍ خالدةٍ، أو إلى نارٍ حاميةٍ مؤبَّدَةٍ دائمةٍ. وجالس الفقراء، واصحبِ المساكينَ، وأرضَ بعيشتهم، وتأسَّ بفقيرهم، واصْبر علي مُضطَرِّهم. وكنْ راضيًا عن الله بما قسم، وداخلاً تحتَ ما حكَم، ساهِرًا في جُنحِ الظُّلَمِ. انتهى. قَالَ يحيى بن أكثم: كُنتَ أرى شيخًا يَدخُل على المأمون وكان يَخْلُو به خلوةً طويلةً ثم ينصرفُ فلا نسمع له خَبَرَا فلما تُوفي. قَالَ لنا المأمونُ: وَا أسَفَا على فقد صَديقٍ مَسْكُونٍ إليه مَوْثُوقٌ به وَتُقْتَبَسُ منه الْفَوَائدُ وَالْغُرَر قُلْنَا: ومَن ذاكَ يا أمير المؤمنين؟ قَالَ: أما كُنتَ تَرى شيخًا يأتِينَا وَنَخْلُوا به مِن دونَ النَّاسِ قُلْتُ: بلى. قَالَ: قد تأخر عن إبانِهِ وأظن أنه قَدْ ماتَ. قُلْتُ: وما في ذلكَ؟ قَالَ: كان صَديقي بخرسان وكُنْتُ أسْتَرِيحُ إليه

اسْتِرَاحَةَ المكْرُوب وأجد به ما يوجد بالولد السارَ المحبوب ولقد استمد منه رَأيًا أقوم به أوَدَ المملكة وأصل به إلى رضا الله في سِيَاسَة الرعية. وآخر ما قَالَ لي عِنْدَ وَداعِهِ: إذا اسْتَشَنَّ ما بينك وَبَيْنَ الله فابْلُلْهُ قُلْتُ: بماذا يَا صَاحِبَ الخَيْرِ؟ قَالَ: بالاقتداء به في الإحسان إلى عبادة فإنه يحب الإحسان مِن عباده إلى عباده كما تحب الإحسان إلى ولدك من حاشِيَتِكَ. والله ما أعطاك القُدْرَةَ عليهم إلا لتصير على إحسانك إليهم بالشكر على حَسَنَاتِهِمْ والتَّغَمُدَ لسيئاتهم وَأي شيء أوجه لَكَ عند ربك من أن يكون أمامك عدل وإنصاف وإحسان وإسْعَافٌ ورَأفة ورحمةَ مَن لِي بمثل هذا القائلِ وأنَّى لي بمن يذكرني ما انا إليه صائر. أَلا إنما الدُّنْيَا مَتَاعُ غُرورِ ... وَدَارُ بَلاءٍ مُؤذنٍ بثُبُور وَدَارُ مُلِمَّاتٍ وَدَارُ فَجَائِعِ ... وَدَارُ فَنًا في ظُلْمَةٍ وَبُحُورِ دَارُ خَيَالٍ مِنْ شُكُوكٍ وَحِيرَةٍ ... وَدَارُ صُعُودٍ في الهوى وحُدُورِ إِنَّ امْرأً لم يَنْجُ فيها بِنَفْسِهِ ... عَلَى مَا يَرى فِيهَا لَغَيْرُ صَبُورٍ وَلا بُدَّ مِنْ يَومَين يَومِ بَليَّةٍ ... إِرَادَةُ جَبَّارٍ وَيَوْمِ نُشُورِ كَأَنِّي بِيَوْم ما أخَذْتُ تَأَهُّبًا ... لِرَبِّي رَوَاحِي مَرةً وَبُكورِي كَفَى حَسْرَةً أَنَّ الْحَوَادِثَ لَمْ تَزَلْ ... تُصَيِّرُ أَهْلَ الْمُلْكِ أَهْلَ قُبُورِ أَلا رُبَّ أَبْنَاءِ اتِّسَاعٍ وَفَرْحَةٍ ... وَزَهْرَةِ عَيْشٍ مُونَقٍ وَحُبُورٍ وَأَبْنَاءِ لَذَّاتٍ وَظِلِّ مَصَانِعٍ ... وَظلِّ مَقَاصِير وَظِلِّ قُصُورِ نَظَرْتُ إليهم في بُيوتٍ مِن الثَّرَى ... مُسْتَّرَةٍ مِن رَضْرَضٍ بِسُتُورِ وَكَمْ صُوَرٍ تَحْتَ التُّرَابِ مُقِيمَةٍ ... عَلَى غَيْرِ أَبْشَارٍ وَغَيْرِ شُعُورِ ثَوَتْ في سَرَابِيلٍ عَلَيْهَا مِن الحَصى ... وَمِنْ لَخَفٍ مِنْ جَنْدَلٍ وَصُخُورِ إِذَا مَا مَرَرْنَا بالقُبورِ لحَاجَةٍ ... مَرَرْنَا بِدُورٍ هُنَّ أَجْمَلُ دُورِ أَلا رُبَّ جَبَّارٍ بِهَا مُتَكَبِّر ... وَيَا رُبَّ مُخْتَالٍ بِهَا وَفَخُورِ خَلِيلِي كَمْ مِنْ مَيِّتٍ قَدْ حَضَرْتُهُ ... وَلَكِنَّنِي لَمْ أَنْتَفِعْ بِحُضُورِي

فصل في مآل الإنسان ومصيره وبعده قصيدة بليغة في مصير الإنسان

وَكَمْ مِنْ خُطُوبٍ قَدْ طَوَتْنِي كَثِيرَةٍ ... وَكَمْ مِنْ أُمُورٍ قَدْ جَرَتْ وَأُمُورِ وَكَمْ مِنْ لَيَالٍ قَدْ أَرَتْنِي عَجَائِبًا ... لَهُنَّ وَأَيَّامٍ خَلَتْ وَشُهُورِ وَمَنْ لَمْ تَزدْهُ السِّنُّ مَا عَاشَ عِبْرَةً ... فَذَاكَ الَّذِي لا يَسْتَضِيء بِنُورِ مَتَى دَامَ في الدُّنْيَا سُرُورٌ لأَهْلِهَا ... فَأَصْبَحَ فِيهَا وَاثِقًا بِسُرُورِ؟ اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا بَدِيعَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ نَسْأَلُكَ أَنْ تُوَفِّقَنَا لِمَا فِيهِ صَلاحُ دِينِنَا وَدُنْيَانَا وَأَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا وَأَكْرِمْ مَثْوَانَا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) في مَآلِ الإِنْسَانِ وَمَصِيرِهِ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءَ: بَيْنَمَا الإِنْسَانُ فِي صِحَّتَهِ مُتَمَتِّعًا فَرِحًا بِقُوَّتِهِ وَشَبَابِهِ يَخْطُرُ لَهُ الضَّعْفُ عَلَى قَلْبِ وَلا الْمَوْتُ عَلَى بَال إِذْ هَجَمَ عَلَيْهِ الْمَرَضُ وَجَاءَ الضَّعْفُ بَعْدَ الْقُوَّةِ وَحَلَّ الْهَمُّ مِنْ نَفْسِهِ مَحَلَّ الْفَرَحِ وَالْكَدَرُ مَكَانَ الصّفَاءِ وَلَمْ يَعُدْ يُؤَنِّسُه جَلِيسٌ وَلا يُرِيحَهُ حَدِيثٌ وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ الْعَلِّي الْعَظِيم قَدْ سَئِمَ وَمَلَّ مِمَّا كَانَ يَرْغَبُهُ فِي أَيَّامِ صِحَّتِهِ وَصَارَ لا يَشْتَهِي الْغِذَاء وَيَكْرَهُ تَنَاوَلَ الدَّوَاءِ عَلَى بَقَاءِ فِي لبَهِ وَصِحَّتُهُ فِي عَقْلِهِ يُفَكِّرُ فِي عُمُر أَفْنَاهِ وَشَبَابٍ أَضَاعَهُ فِي الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ وَعِنْدَ الْمَلاهيِ والْمُنْكَرَاتِ. وَيَتَذَكَّرُ أَمْوالاً جَمَعَها وَدُورًا بَنَاهَا وَقُصُورًا شَيَّدَهَا وَضِيَاعًا جَدَّ وَكَدَّ فِي حِيَازَتِهَا وَيَتَأَلَّمُ لِدُنْيَا فَارَقَها وَيَتْرُكُ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا يَخَافُ عَلَيْهِمْ الضَّيَاعَ مِنْ بَعْدِهِ مَعَ اشْتِغَالِ نَفْسِهِ بِمَرَضِهِ وَآلامِهِ وَتَعَلُّقِ قَلْبِهِ بِمَا يُعَجِّلُ شِفَاءَهُ وَلَكِنْ مَا الْحِيلَةُ إِذَا اسْتَفْحَلَ الدَّاءُ وَلَمْ يُفِدِ الدَّوَاءُ وَحَارَ الطَّبِيبُ وَيَئِسَ الْحَبِيبُ {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} . عِنْدَ هَذَا يَسْتَشْعِرُ النَّدَمَ عَلَى مَا مَضَى وَيَحُسُّ بِعَوَاقِبِ التَّفْرِيطِ وَالإِهْمَالِ وَقَدْ تَغَيَّرَ لَوْنَهُ وَغَارَتْ عَيْنَاهُ وَمَالَ عُنُقُهُ وَأَنْفُهُ وَذَهَبَ حُسْنُهُ وَجَمَالُهُ وَخَرِسَ لِسَانُهُ وَصَارَ بَيْنَ أَهْلِهِ وَأَصْدِقَائِهِ يَنْظُر وَلا يَفْعَلَ وَيَسْمَعُ وَلا يَنْطِق يُقَلِّبُ بَصَرَهُ فِيمَنْ حَوْلَهُ مِنْ أَوْلادِهِ وَأَهْلِهِ وَإِخْوَتِهِ

وَأَقَارِبِهِ وَأَحْبَابِهِ وَجِيرَانِهِ يَنْظُرُونَ مَا يُقَاسِيهِ مِنْ كَرْبٍ وَشِدَّةٍ وَلَكِنَّهُمْ عَنْ إنْقَاذِهِ أَوْ تَخْفِيفِ كَرْبِهِ عَاجِزُون. شِعْرًا: ... أَحَاطَتْ بِهِ أَحْزَانُهُ وَهُمُومُهُ ... وَأَبْلَسَ لَمَّا أَعْجَزَتْهُ الْمَقَادِرُ فَلَيْسَ لَهُ مِنْ كُرْبَةِ الْمَوْتِ فَارِجٌ ... وَلَيْسَ لَهُ مِمَّا يُحَاذِرُ نَاصِرُ وَقَدْ جَشَأْتَ خَوْفَ الْمَنِيَّةِ نَفْسُهُ ... تُرَدِّدُهَا مِنْهُ اللَّهَا وَالْحَنَاجِرُ فَكَمْ مُوجِعٌ يَبْكِي عَلَيْهِ مُفْجَعٌ ... وَمُسْتَنْجِدٌ صَبْرًا وَمَا هُوَ صَابِرُ وَمُسْتَرْجِعٍ دَاعٍ لَهُ اللهَ مُخْلِصًا ... يعِدِّدُ مِنْهُ كُلَّ مَا هُوَ ذَاكِرُ وَكَمْ شَامِتٍ مُسْتَبْشِرٍ بِوَفَاتِهِ ... وَعَمَّا قَلِيلٍ لِلَّذِي صَارَ صَائِرُ وَحَلَّ أَحَبُّ الْقَوْمِ كَانَ بِقُرْبِهِ ... يَحُثُّ عَلَى تَجْهِيزِهِ وَيُبَادِرُ وَشَمَّرَ مَنْ قَدْ أَحْضَرُوهُ لِغَسْلِهِ ... وَوُجِّهَ لَمَّا فَاضَ لِلْقَبْرِ حَافِرُ وَكُفِّنَ فِي ثَوْبَيْنِ وَاجْتَمَعُوا لَهُ ... مُشَيّعَهُ إِخْوَانُهُ وَالْعَشَائِرُ فَلَوْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ أَوْلادَهُ الَّذِي ... عَلَى فَقْدِهِ مِنْهُمْ قُلُوبٌ تَفَطَّرُ لَعَايَنْتَ مِنْ قبحِ الْمَنِيَّةِ مَنْظرًا ... يُهَالُ لِمَرْآهُ وَيَرْتَاعُ نَاظِرُ أَكَابِرُ أَوْلادٍ يَهِيجُ اكْتِئَآبُهُم ... إِذَا مَا تَنَاسَوْهُ الْبَنُونَ الأَصَاغِرُ وَرَبَّةُ نِسْوَانٍ عَلَيْهِ جَوَازِعٌ ... مَدَامِعُهُمْ فَوْقَ الْخُدُودِ غَوَازِرُ ثَوَى مُفْرَدًا فِي لَحْدِهِ وَتَوَزَّعَتْ ... مَوَارِيثَهُ أَوْلاده وَالأَصَاهِرُ وَأَحْنُوا إلى أَمْوَالِهِ يَقْسِمُونَهَا ... فَلا حَامِدٌ مِنْهُمْ عَلَيْهَا وَشَاكِرُ فَيَا عَامِرَ الدُّنْيَا وَيَا سَاعِيًا لَهَا ... وَيَا آمِنًا مِمَّا تَدُورُ الدَّوَائِرُ سَتَلْقَى الَّذِي لاقَى عَلَى الرَّغْمِ آنِفًا ... فَخُذْ أَهُبَةً وَاحْرِصْ فَمَا لَكَ عَاذِرُ وَبَعْدَ أَنْ كَانُوا يُحِبُّونَ حَيَاتَهُ وَبَقَاءَهُ صَارُوا يَتَمَنَّوْنَ مَوْتَهُ وَرَاحَتَهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ عَمَّا قَلِيلٍ مَأْخُوذٌ مِنْ بَيْنِهِمْ حَيْثُ لا يَقْدِرُونَ عَلَى مَنْعِهِ وَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدِّ

.. رُوحِِهِ إلى بَدَنِه قَالَ تَعَالَى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} . ثُمَّ لاَ يَزَالُ يُعَالجُ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَشَدَائِدَه وَيَشْتَدُّ بِهِ النَّزْع وَجَعَلَ يُتَابعُ نَفَسَه وَاخْتَلَّ نَبْضُه وَتَعَطَّلَ سَمْعُه وَبَصَرُه كَمَا تَعَطَّلَ قَبْلَ ذَلِكَ لِسَانُه حَتَّى إذَا جَاءَ الأَجلْ وَنَفَذَ الْقَضَاءُ وَفَاضَتْ رُوحُهُ إلَى السَّمَاء صَارَ جُثَّةً هَامدَةً وَجيفَةًً بَيْنَ أَهْلِهِ وَعَشِيرَتِه قَدْ اسْتَوْحَشُوا مِنْ جَانِبِهْ وَتَبَاعَدُوا وَمَاتَ اسْمُهُ الَّذِي كَانُوا يَعْرَفُونَهُ كَمَا مَاتَ شَخْصُهُ الّذِيِ كَانُوا يَأنَسُونَ بِهِ وأصْبَحُوا يَقُولُونَ الْمَيْتُ بَعْدَ أَنْ كَانَوا يُنَادُونَهُ بِاسْمِهِ حَيًا. فَإنا لله وَإَنَّا إلَيْهِ رَاجِعُون ثُمَّ أَخَذَ الْغَاسِلُ فَجَرَّدَهُ مِنْ ثِيَابِه وَصَارَ يُقَلَّبُهُ عُرْيَانًا وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى سَوْأتِه وَعَوْرَتِهِ وَقَدْ كَانَ يَسْتَحِي وَيَخْجَلُ مِنْهُ حَالَ حَيَاتِه. ثُمَّ أُدْرِجَ في أَكْفَانِهِ كَمَا يُدْرَجُ اْلمتَاعُ في لِفَافِتِه وَبَعْدَ الصَّلاَةِ عَلَيْهِ يَحْمِلُونَهُ إلى حُفْرَةٍ عَمِيْقَةٍ ضَيّقَةٍ مُوْحِشَةٍ وَيَتْرُكوُنَهُ وَحِيدًا لاَ أنِيسَ وَلا رَفِيقَ إلا عَمَلُه انْتَهَى وَوُجِدَ مَكْتُوبًا عَلى قَبْرِه: شِعْرًا: ... فَأمْسَوْا رَمِيمًا في التُّرابِ وَعُطلّتْ ... مَجَالِسُهُمْ مِنْهُمْ وأخليْ الْمَقاصِرُ وَحَلُّوا بِدَارٍ لاَ تَزَاوُرَ بَيْنَهُمْ ... وَأَنَّى لسُكَّانِ الْقُبَورِ التَّزَاوُرُ فَمَا أَنْ تَرَى إِلا قُبُورًا ثَوَوْا بِهَا ... مُسَطَّحَةً تَسْفِي عَلَيْهَا الأَعَاصِرُ فَمَا صَرَفَتْ كَفَّ الْمَنِيَّةِ إِذْ أَتَتْ ... مُبَادَرَةٌ تَهْوِي إِلَيْهَا الذَّخَائِرُ وَلا دَفَعَتْ عَنْهُ الْحُصُونَ الَّتِي بَنَى ... وَحَفَّتْ بِهَا أَنْهَارُهُ وَالدَّسَاكِرُ وَلا قَارَعَتْ عَنْهُ الْمَنِيَّةَ حِيلَةٌ ... وَلا طَمِعَتْ فِي الذَّبِّ عَنْهَا الْعَسَاكِرُ أَتَاهُ مِنَ الْجَبَّارِ مَالا يَرُدُّهُ ... وَأَمْرٌ قَضَاهُ اللهُ لا بُدَّ صَائِرُ مَلِيكٌ عَزِيزٌ لا يُرَدُّ قَضَاؤُهُ ... حَكِيمٌ عَلِيمٌ نَافِدُ الأَمْرِ قَاهِرُ

عَنَى كُلُّ ذِي لِعِزَّةِ وَجْهِهِ ... فَكَمْ مِنْ عَزِيزٍ لِلْمُهَيْمِنِ صَاغِرُ لَقَدْ خَضَعْتَ وَاسْتَسْلَمَتْ وَتَضَاءَلَتْ ... لِعِزَّةِ ذِي الْعَرْشِ الْمُلُوكُ الْجَبَابِرُ وَقَفَ بَعْضُ السَّلَفِ عَلَى إِنْسَانٍ شَدِيدِ الْحُزْنِ فَقَالَ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَنْتَ مَحْزُون؟ قَالَ: لأَنِّي أُصِبْتُ فِي نَفْسِي وَذَلِكَ أَنِّي قَتَلْتُهَا بِالذُّنُوبِ فَأَنَا حَزِينٌ عَلَيْهَا ثُمَّ أَسْبَلَ دَمْعَهُ فَقَالَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ الآن؟ قَالَ: ذَكَرْتُ يَوْمًا مَضَى مِنْ أَجَلِي لَمْ يَحْسُنْ فِيهِ عَمَلِي فَبُكَائِي لِقِلَّةِ الزَّادِ وَبُعْدِ الْمَفَازَة وَعَقَبَةٌ لا بُدَّ لِي مِنْ صُعُودِهَا ثُمَّ لا أَدْرِي أَيْنَ يُهْبَطُ بِي إِلى الْجَنَّةِ أَمْ إلى النَّارِ ثُمَّ أَنْشَدَ: يَا رَاكِبًا يَطْوِي مَسَافَة عُمْرِهِ ... باللهِ هَلْ تَدْرِي مَكَانَ نُزُولِكَا شَمِّرْ وَقُمْ مِنْ قَبْلِ حَظِّكَ فِي الثَّرَى ... في حُفْرَةِ تَبْلَى بِطُولِ حُلُولِكَا - وَوُجِدَ مَكْتُوبًا عَلَى قَبْر- ذَهَبَ الأَحِبَّةُ بَعْدَ طُولِ تَزَاوُرِ ... وَنَأَى الْمَزَارُ وَأَسْلَمُوكَ وَأَقْشَعُوا تَرَكُوكَ أَوْحَشَ مَا تَكُونَ بِقَفْرَةٍ ... لَمْ يُؤْنِسُوكَ وَكُرْبَةٍ مَا نَفَسُوا وَقَضَى الْقَضَاءُ وَصِرْتَ صَاحِبَ حُفْرَةٍ ... عَنْكَ الأَحِبَّةُ أَعْرَضُوا وَتَصَدَّعُوا آخر: ... إِنَّ الْمَسَأةَ لِلْمَسَرَّةِ مَوْعِدٌ ... أُخْتَانَ رَهْنٌ لِلْعَشِيَّةِ أَوْ غَدِ فَإِذَا سَمِعْتَ بِهَالِكِ فَتَيَقنَنْ ... أَنَّ السَّبِيلَ سَبِيلُه فَتَزَوَّدِ آخر: ... قِفْ بِالْقُبُورِ وَقُلْ عَلَى سَاحَتِهَا ... مَنْ مِنْكُمْ الْمَغْمُورُ فِي ظُلُمَاتِهَا وَمَنِ الْمُكَرَّمُ مِنْكُمْ فِي قَعْرِهَا ... قَدْ ذَاقَ بَرْدَ الأَمْنِ مِنْ رَوَعَاتِهَا لَوْ جَاوَبُوكَ لأَخَبْرَوُكَ بِأَلْسُن ... تَصِفُ الْحَقَائِقَ بَعْدُ مِنْ حَالاتِهَا أَمَّا الْمُطِيعُ فَنَازِلٌ في رَوْضَةٍ ... يُفْضِي إلى مَا شَاءَ مِنْ دَوْحَاتِهَا وَالْمُجْرِمُ الطَّاغِي بِهَا مُتَقَلِّبٌ ... فِي حُفْرَةٍ يَأْوِي إلى حَيَاتِهَا وَعَقَارِبٌ تَسْعَى إِلَيْهِ فَرُوحُهُ ... فِي شِدَّةِ التَّعْذِيبِ مِنْ لَدَغَاتِهَا آخر: ... إِنَّ الْحَبِيبَ مِنَ الأَحْبَاب مُخْتَلَسُ ... لا يَمْنَعُ المَوْتَ بَوَّابٌ وَلا حَرَسُ

فَكَيْفَ تَفْرَحُ بِالدُّنْيَا وَلَذَّتِهَا ... يَا مَنْ يُعَدُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَالنَّفَسُ أَصْبَحْتَ يَا غَافِلاً فِي النَّقْصِ مُنْغَمِسًا ... وَأَنْتَ دَهْرُكَ في اللَّذَّاتِ مُنْغَمِسُ لا يَرْحَمُ الْمَوْتَ ذَا جَهْل لِغِرّتِهِ ... وَلا الَّذِي كَانَ مِنْهُ الْعِلْمُ يُقْتَبَسُ آخر: ... بَيْنَا الشَّفِيقُ عَلَى إلِفٍ يُسَرُّ بِهِ ... إِذْ صَارَ أَغْمَضَهُ يَوْمًا وَسَجَّاهُ يَبْكِي عَلَيْهِ قَلِيلاً ثُمَّ يُخْرِجُهُ ... فَيُمْكِنُ الأَرْض مِنْهُ ثُمّ يَنْسَاهُ وَكُلُّ ذِي أَجَلٍ يَوْمًا سَيَبْلُغُهُ ... وَكُلُّ ذِي عَمَل يَوْمًا سَيَلْقَاهُ آخر: ... كَمْ أَخْرَسَ الْمَوْتُ فِي قَبْر وَقَفْتَ بِهِ ... عَن الْجَوَابِ لِسَانًا مَا بِهِ خَرَسُ قَدْ كَانَ قَصْرُكَ مَعْمُورًا لَهُ شَرَفُ ... فَقَبْرُكَ الْيَوْمَ فِي الأَجْدَاثِ مُنْدَرِسُ هَذِهِ الأَبْيَاتُ كُتِبَتْ عَلَى قُبُورٍ للاعْتِبَار فَالْبَصِيرِ هُوَ الَّذِي يَنْظُرُ إلى قَبْر غَيْرِهِ فَيَرَى مَكَانَهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَيَسْتَعِدّ لِلحُوقِ بِهِمْ وَيَعْلَمُ أنَّهُمْ لا يَبْرَحُونَ مِنْ مَكَانِهِمْ حَتَّى يَلْحَقَ بِهِمْ وَلْيَتَحَقَّقْ أَنَّهُ لَوْ عُرِضَ عَلَيْهِمْ يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ عُمُرِهِ الَّذِي هُوَ مَضَيّعٌ لَهُ لَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنَ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا لأَنَّهُمْ عَرَفُوا قَدْرَ الأَعْمَارِ وَالأَعْمَال وَانْكَشَفَتْ لَهُمْ حَقَائِقَ الأُمُورِ وَإِنَّمَا حَسْرتَهُمْ عَلَى يَوْمٍ مِن الْعُمُر لِيَتَدَارَكَ الْمُقَصِّرُ بِهِ تَقْصِيرُهُ فَيَتَخَلَّصَ مِنَ الْعِقَابِ وَلْيَسْتَزِيدَ الْمُوفَّقُ بِهِ رُتْبَةً فَيَضَاعَفُ لَهُ الثَّوَاب. لا يَحْقِر الرَّجُلُ اللَّبِيبُ دَقِيقَةٍ ... فِي السَّهْوِ فِيهَا لِلْوَضِيعِ مَعَاذِرُ فَكَبَائِرُ الرَّجُلِ الصَّغِيرِ صَغِيرَةٌ ... وَصَغَائِرُ الرَّجُلِ الْكَبِيرِ كَبَائِرُ آخر: ... يَا رَبِّ مَا لِي غَيْرَ لُطْفِكَ مَلْجَأَ ... وَلَعَلَّنِي عَن بَابِهِ لا أُطْرَدُ يَا رَبُّ هَبْ لِي تَوْبَةً أَقْضِي بِهَا ... دِينًا عَليَّ بِهِ جَلالُكَ يَشْهَدُ أَنْتَ الْخَبِيرُ بِحَالِ عَبْدِكَ إِنَّهُ ... بِسَلاسِلِ الْوِزْرِ الثَّقِيلِ مُقَيَّدُ أَسَفًا عَلَى عُمْرِي الَّذِي ضَيَّعْتُهُ ... تَحَتْ الذُّنُوبِ وَأَنْتَ فَوْقِي تَرْصُدُ

وحالته عند الاحتضار وبعد خروج روحه

يَا رَبِّ قَدْ ثَقُلَتْ عَليَّ كَبَائِرُ ... بِإِزَاءِ عَيْنِي لَمْ تَزَلْ تَتَرَدَّدُ يَا رَبِّ إِنْ أَبْعَدتُ عَنْكَ فَإِنَّ لِي ... طَمَعًا بِرَحْمَتِكَ الَّتِي لا تُبْعِدُ أَنْتَ الْمُجِيبُ لِكُلِّ دَاعٍ يَلْتَجِي ... أَنْتَ الْمُجِيرُ لِكُلِّ مَنْ يَسْتَنْجِدُ مِنْ أَيِّ بَحْرٍ غَيْرَ بَحْرِكَ نَسَتَقِي ... وَلأَيِّ بَابٍ غَيْرَ بَابِكَ نَقْصُدُ ... ... واللهُ أَعْلَمُ. وَصَلى اللهُ عَلى مُحَمَّدٍ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمْ. وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ إِلا نَدِم: إِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَدِمَ أَنْ لا يَكُونَ ازْدَادَ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا نَدِمَ أَنْ لا يَكُونَ نَزَعَ» . فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا عَرَفُوا قَدْرَ الْعُمُرِ بَعْدَ انْقِطَاعِهِ فَحَسْرَتُهُمْ عَلَى سَاعَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ وَأَنْتَ أَيُّهَا الْحَيُّ قَادِرٌ عَلَى تِلْكَ السَّاعَةِ وَرُبَّمَا أَقْدَرَكَ اللهُ عَلَى أَمْثَالِهَا. ثُمَّ أَنْتَ مُضَيِّع لِلْوَقْتِ وَقَاتِلُ لَهُ فِيمَا لا فَائِدَةَ فِيهِ أَوْ فِيمَا مَضَرَّةٌ عَلَيْكَ فَوَطِّنْ نَفْسَكَ عَلَى النَّدَمِ وَالتَّحَسُّرِ وَالتَّلَهُّفِ عَلَى تَضْيِيعِ الْوَقْتِ عِنْدَ خُرُوجِ الأَمْرِ مِنْ اخْتَارِكَ وَعَدَمِ تَمْكِنِكَ مِن الْعَمَلِ الصَّالِح. وَاذْكُرُ قَوْلَ اللهِ جَلَّ وَعَلا: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} الآيَات وَقَوْلُهُ عَزَّ مِنْ قَائِلِ: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} وَقَوْلُهُ تَعَالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} وَقَوْلُهُ تَعَالى: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ} الآيَةُ وَقَوْلُهُ: {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} . وَنَحْوَ هَذِهِ الآيَاتِ الَّتِي هِيَ بِالْحَقِيقَةِ لِمَنْ تَدَبَّرَهَا أَبْلَغُ مِنَ السِّيَاطِ،

قصيدة زهدية في الحث علي الاستعداد للموت

فِي الْحَثِّ عَلَى التَّزَوّدِ لِلْمَعَادِ وَصِيَانَةِ الْوَقْتِ وَصَرْفِهِ فِيمَا يُقَرّبُ إلى اللهِ جَلَّ وَعَلا. وَقَالَ الشيخ سعدُ بنُ عتيق رحمه الله تعالى ناظمًا المفاتيح التي ذكرها ابنُ القيم رحمه اللهُ تعالى في كتابِهِ حادِي الأرواح. حَمِدتُ الَّذِي يولِي الْجَمِيلَ وَيَنْعِمُ لَهُ الْفَضْلُ يُؤْتِي مَنْ يَشَاءُ وَيُكْرِمُ وَأَزْكَى صَلاةِ اللهِ ثُمَّ سَلامُهُ عَلَى خَيْرِ مَخْلُوقٍ عَلَيْهِ يُسَلَّمُ مُحَمَّدٍ الْهَادِي وَأَصْحَابِهِ الأُولَى بِحُسْنِ اجْتِهَادٍ عُلِّمُوا وَتَعَلَّمُوا وَبَعْدُ فَقَدْ عَنَّ الْوَفَاءُ لِسَائِلٍ بِوَعْدِي إِيَّاهُ بِأَنِّي أَنْظِمُ مَفَاتِيحَ كَانَتْ لِلشُّرُورِ وَضِدِّهَا فَقَدْ فَازَ مَن بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ يَعْلَمُ وَأَضْحَى بِمَا يَدْرِي مِن الْحَقِّ عَامِلاً فَكُنْ عَامِلاً بِالْعِلْمِ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ وَقَدْ جَعَلَ الْمَوْلى لَهُنَّ مَفَاتِحًا تَنَالَ بِهَا وَاللهُ بِالْحَقِّ أَعْلَمُ فَمِفْتَاحُ شَرْعِيّ الصَّلاةِ طُهُورُنَا وَيَفْتَحُ حَجًا مُحَرِّمٌ حِينَ يُحْرِمُ وَبِالصِّدْقِ فَتْحُ الْبِرِّ وَالْعِلْمُ فَتْجهُ بِحُسْنِ سُؤَالٍ عَنْ فَتَىً يَتَعَلَّمُ

وَمُسْتَحْسِنِ الإِصْغَاءِ وَالنَّصْرُ فَتْحُهُ مَعَ الظَّفَرِ الْمَحْمُودِ بِالصَّبْرِ فَاعْلَمُوا وَتَوْحِيدُنَا للهِ مِفْتَاحُ جَنَّةِ النَّـ عِيمِ فَبِالتَّوْحِيدِ دِينُوا تَنَعَّمُوا وَبِالشُّكْرِ لِلنَّعْمَاءِ فَتْحُ زِيَادَةٍ وَيَحْصُلُ حُبٌّ وَالْوِلايَةُ تُغْنَمُ بِمفْتَاحِهِ الذِّكْرُ الشَّرِيفُ وَذُو التُّقَى يَنَالُ بِتَقْوَاهُ الْفَلاحَ وَيُكْرَمُ وَمِفْتَاحُ تَوْفِيقِ الْفَتَى صِدْقُ رَغْبَةٍ وَرَهْبَتِهِ ثُمَّ الدُّعَاءُ الْمُكَرَّمُ لَدَى الله مِفْتَاحُ الإِجَابَةِ وَاعْلَمَنْ بِأَنَّ جَمِيلَ الزُّهْدِ لِلْعَبْدِ مَغْنَمُ وَيُفْتَحُ لِلْعَبْدِ التَّجَلِّي بِرَغْبَةٍ بِدَارِ الْبَقَاءِ فَازْهَدْ لَعَلَّكَ تَغْنَمُ وَمِفْتَاحُ إِيمَانِ الْعِبَادِ تَفَكُّرٌ بِمَا كَانَ رَبُّ الْعَالَمِينَ دَعَاهُمُ إِلى نَظَرٍ فِيهِ وَأَنْ يَتَفَكَّرُوا بِهِ وَدُخُولُ الْعَبْدِ ذَاكَ الْمُفَخَّمُ عَلَى رَبِّهِ مِفْتَاحُ ذَاكَ سَلامَةٌ وَإِسْلامُ قَلْبٍ لِلإلَهِ فَأَسْلِمُوا وَمَعَ ذَاكَ إِخْلاصٌ بِحُبِّ وَبُغْضِهِ وَفِعْلٍ وَتَرْكٍ كُلُّ ذَلِكَ يَلْزَمُ

وَيُحْيِي قُلُوبَ الْعَارِفِينَ تَضَرُّعٌ بِأَوْقَاتِ أَسْحَارٍ فَكُنْ أَنْتَ مِنْهُمُ كَذَا الْوَحْيُ إِذْ يُتْلَى بِحُسْنِ تَدَبُّرِ وَتَرْكُ الذُّنُوبِ فَهِيَ لِلْقَلْبِ تُؤْلِمُ وَإِحْسَانُ عَبْدٍ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ وَنَفْعُ الْعِبَادِ وَالْقِيَامُ عَلَيْهِمُ لإِصْلاحِهِمْ مِفْتَاحُ تَحْصِيلِ رَحْمَةِ الْـ إلهِ فَلازِمْ ذَا لَعَلَّكَ تُرْحَمُ وَمِفْتَاحُ رِزْقِ الْعَبْدِ سَعْيٌ مَعَ التُّقَى وَكَثْرَةُ الاسْتِغْفَارِ إِذْ هُوَ مُجْرِمُ وَمِفْتَاحُ عِزِّ الْعَبْدِ طَاعَةُ رَبِّهِ وَطَاعَةُ خَيْرِ الْمُرْسَلِينَ فَعَظِّمُوا وَمِفْتَاحُ الاسْتِعْدَادِ مِنْكَ لِمَا لَهُ تَصِيرُ مِن الدَّارِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ هَوُ الْقَصْرُ لِلآمَالِ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فَمِفْتَاحُهُ رَغْبٌ مِن الْعَبْدِ يُعْلَمُ بِمَوْلاهُ وَالدَّارِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ وَمِفْتَاحُ كُلِّ الشَّرِّ إِنْ كُنْتَ تَفْهَمُ إِطَالَتُكَ الآمَالَ فَاحْذَرْ غُرُورَهَا وَحُبُّكَ لِلدُّنْيَا الَّتِي تَتَصَرَّمُ وَمِفْتَاحُ نَارِ الْخُلْدِ شِرْكٌ بِرَبِّنَا وَكِبْرُ الْفَتَى فَالْكِبْرُ حُوبٌ مُعَظَّمُ

وَإِعْرَاضُه عَمَّا عَنِ اللهِ قَدْ أَتَى بِهِ الْمُصْطَفَى الْهَادِي النَّبِيُّ الْمُكَرَّمُ وَغَفْلَتُهُ عَنْ ذِكْرِهِ وَقِيَامِهِ بِحَقِّ لِذِي الْعَرْشِ الْمَلِيكِ يُحَتَّمُ وَمِفْتَاحُ إِثْمٍ يُوبِقُ الْعَبْدَ مُسْكِرٌ مِن الْخَمْرِ فَاحْذَرْهَا لَعَلَّكَ تَسْلَمُ وَمِفْتَاحُ ذِي الْمَقْتِ الزِّنَا سَيْءُ الْغِنَا وَذَلِكَ قُرْآنُ اللَّعِينِ وَمَأْثَمُ وَإِطْلاقُ طَرْفِ الشَّخْصِ مِفْتَاحُ عِشْقِهِ لِمُسْتَحْسِنِ الأَشْبَاحِ فَهُوَ مُحَرَّمُ وَبِالْكَسَلِ الْمَذْمُومِ مَعَ رَاحَةِ الْفَتَى يَخِيبُ وَكُلُّ الْخَيْرِ لا شَكَّ يُحْرَمُ وَمِفْتَاحُ كُفْرَانِ الْفَتَى وَبَرِيدُهُ مَعَاصِيهِ وَالْعَاصِي قَرِيبًا سَيَنْدَمُ وَبَابُ نِفَاقِ الْعَبْدِ يَفْتَحُهُ إِذَا يَكُونُ كَذُوبًا وَالْكَذُوبُ مُذَمَّمُ وَشُحُّ الْفَتَى وَالْحِرْصُ مِفْتَاحُ بُخْلِهِ وَمِفْتَاحُ أَخْذِ الْمَالِ مِنْ حَيْثُ يُعْلَمُ بَأَنْ لَيْسَ حِلاً مَعْ قَطِيعَةِ رَحْمِهِ وَكُلُّ ابْتِدَاعٍ فِي الْخَلِيقَةِ يُعْلَمُ فَمِفْتَاحُهُ الإِعْرَاضُ عَمَّا أَتَى بِهِ نَبِيُّ الْهُدَى مِنْ سُنَّةٍ نَتَعَلَّمُ

وَاخْتِمْ قَوْلِي فِي الْقَرِيضِ بَأَنَّنِي أُصلِّي عَلَى خَيْرِ الْوَرَى وَأُسَلِّمُ وَآلِ مَعَ الصَّحْبِ الْكِرَامِ الَّذِينَ هُمْ لِمُقْتَبِسٍ عِلْمَ الشَّرِيعَةِ أَنْجُمُ وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةٌ عِبَادَ اللهِ اتَّقُوا الله تعالى واحْمَدُوهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَارْغَبُوا إِلَيْهِ فِي حِرَاسَةِ النِّعَمِ عَن الزَّوَالِ فَإِنَّ نِعَمَ اللهِ قَدْ عَمَّتِ الْبَوَادِي وَالأَمْصَارَ وَإِنَّ نََِعَم اللهِِ لا تُعَدُّ وَلا تُحْصَى وَلا تُحَدُّ بِمِقْدَارِ. قَالَ تَعَالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} فَكَمْ أَسْدَى مَعْرُوفًا وَكَمْ أَغَاثَ مَلْهُوفًا فَاشْكُروا آلاءَ اللهِ وَاذْكُرُوهُ كَثِيرًا قَالَ تَعَالى: {أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} . وَهُبُّوا مِنْ هَذِهِ الرَّقْدَةِ وَالْمَقَامِ وَاحْذَرُوا الأَهْوَاءَ فَإِنَّهَا تُورِثُ الْمَهَالِكَ وَالْمَذَامَّ، وَالْزِمُوا طَاعَةَ الْمَلِكِ الْعَلام، وَاغْتَنِمُوا بَقِيَّةَ الْعُمُرِ وَالأَيَّامِ، وَبَادِرُوا بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْمَعَاصِيَ وَالإِجْرَامِ، قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ تَشَقَّقُ فِيهِ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَتَظْهَرُ فِيهِ الْخَفَايَا وَالدَّوَاهِي وَالأَهْوَالُ الطَّوَام، وَتُنَكِّسُ فِيهِ الظَّلَمَةُ رُؤُوسَهَا وَيَعْلُوهَا الذُّلُ مِن الرُّؤُوسِ إلى الأَقْدَامِ وَيَتَجَلَّى لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ حَاكِمُ الْحُكَّام. قَالَ تَعَالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ

قصيدة تتضمن بيان مفتاح الخير والشر ويليها موعظة بليغة

مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} وَنُودِي أَيْنَ الظَّلَمَةُ وَأَعْوَانُ الظَّلَمَةِ وَمَنْ كَانَ لَهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي وُثُوبٌ وَإِقْدَامُ فَيَا لَهُ مِنْ يَوْمٍ مَا أَطْوَلَهُ وَمِنْ بَلاءٍ مَا أَهْوَلَهُ وَمِنْ حِسَابٍ مَا أَثْقَلَهُ وَمِنْ عَذَابٍ مَا أَعْضَلَهُ وَمِنْ جَزَاءٍ مَا أَجْزَلَهُ وَمِنْ حَاكِم مَا أَعْدَلَهُ. هُنَالِكَ شَابَ الْوَلِيدُ وَحَقَّ الْوَعِيدُ وَعَظُمَ الْهَوْلُ الشَّدِيدُ قَالَ تَعَالى: {وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} وَخَضَعَتِ الرِّقَابُ وَذَلَّ كُلُّ فَاجِرٍ كَذَّابِ وَرَجَعَ الأَشْقِيَاءُ بِالْخُسْرَانِ وَالتَّبَابِ فَالسَّعِيدُ مَن اسْتَعْمَلَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ الْمَلِكِ الْمَعْبُودِ وَخَافَ أَنْ لا يَنْجُو مِن النَّارِ بَعْد الْوُرُودِ. فَانْتَبِهْ أَيُّهَا الْعَبْدُ لأَيَّامِ شَبَابِكَ قَبْلَ فِرَاقِ أَحْبَابِكَ وَأحْفَظْ أَيَّامَ عُمْرِكَ قَبْلَ حُلُولِ قَبْرِكَ وَاغْتَنِمْ حَيَاتَكَ قَبْلَ أَوَانِ وَفَاتِكَ فَإِنَّ الْعُمُرَ بِالسِّنِينَ يُنْهَب وَالأَجَلُ بِمُرُورِ اللَّيَالِي والأَيَّامِ يَذْهَب. شِعْرًا: ... لِمَنْ وَرْقَاءُ بِالْوَادِي الْمَرِيعِ ... تَشُبُّ بِهِ تَبَارِيحُ الضُّلُوعِ عَلَى فَيْنَانَةٍ خَضْرَاءَ يَصْفُو ... عَلَى أَعْطَافِهَا وَشْيُ الرَّبِيعِ تُرَدِّدُ صَوْتَ بَاكِيَةٍ عَلَيْهَا ... رَمَاهَا الْمَوْتُ بِالأَهْلِ الْجَمِيعِ فَشَتَّتَ شَمْلَهَا وََدَالَ مِنْهُ ... غَرَامًا عَاثَ فِي قَلْبٍ صَرِيعِ عَجِبْتُ لَهَا تَكَلَّمُ وَهِيَ خرْسَا ... وَتَبْكِي وَهِيَ جَامِدَةُ الدُّمُوعِ فَهِمْتُ حَدِيثَهَا وَفَهِمْتُ أَنِّي ... مِن الْخُسْرَان في أَمْرٍ شَنِيعِ أَتَبْكِي تِلْكَ أَنْ فَقَدَتْ أَنِيسًا ... وَتَشْرَبُ مِنْهُ بِالْكَأْسِ الْفَظِيعِ وَهَا أَنَا لَسْتُ أَبْكِي فَقْدَ نَفْسِي ... وَتَضْيِيعِي الْحَيَاةَ مَعَ الْمُضِيعِ وَلَوْ أَنِّي عَقَلْتُ الْيَوْمَ أَمْرِي ... لأَرْسَلْتُ الْمَدَامِعَ بِالنَّجِيعِ

موعظة في الحث علي التعاون والصلة والبر والأخوة في الله

ألا يَا صَاحِ وَالشَّكْوَى ضُرُوبٌ ... وَذِكْرُ الْمَوْتِ يَذْهَبُ بِالْهُجُوعِ لَعَلَّكَ أَنْ تُعِيرَ أَخَاكَ دَمْعًا ... فَمَا فِي مُقْلَتَيْهِ مِن الدُّمُوعِ آخر: ... مَا زُخْرُفُ الدُّنْيَا وَزُبْرُجُ أَهْلِهَا ... إِلا غُرُورٌ كُلُّهُ وَحُطَامُ وَلَرُبَّ أَقْوَامٍ مَضَوْا لِسَبِيلِهِمْ ... وَلَتَمْضِيَنَّ كَمَا مَضَى الأَقْوَام وَلَرُبَّ ذِي فُرُشٍ مُمَهَّدَةٍ لَهُ ... أَمْسَى عَلَيْهِ مِن التُّرَابِ رَُكامُ وَالْمَوْتُ يَعْمَلُ وَالْعُيُونُ قَرِيرَةٌ ... تَلْهُو وَتَلْعَبُ بِالْمُنَى وَتَنَامُ كُلُّ يَدُورُ عَلَى الْبَقَاءِ مُؤَمِّلاً ... وَعَلَى الْفَنَاءِ تُدِيرُهُ الأَيَّامُ وَالدَّائِمُ الْمُلَكُوتِ ربُّ لَمْ يَزَلْ ... مَلِكًا تَقَطَّعُ دُونَهُ الأَوْهَام فَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي هُوَ دَائِمٌ ... أَبَدًا وَلَيْسَ لِمَا سِوَاهُ دَوَامُ اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ في قُلُوبِنَا ثُبُوتَ الجبالِ الرَّاسِياتِ وَنَوِّرْهَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِميِنَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. مَوْعِظَةٌ عِبَادَ اللهِ قَدْ حَثَّنَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَكُونَ إِخْوانًا مُتَرَاحِمِينَ مُتَعَاوِنِينَ مُتَحَابِّينَ مُتَعَاطِفِينَ يُحِبُّ كُلُّ مِنَّا لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَيَسْعَى فِي ذَلِكَ أَخْرَجَ الْبُخَارِي وَمُسْلِمُ فِي صَحِيحَهمَا عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنِ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدّ بَعْضُه بَعْضَا)) وَشبكَ بَيْنَ أَصَابِعِه.

وَكُلُّ صَدِيقٍ لَيْسَ فِي اللهِ ودُّهُ ... فَإِنِّي بِهِ فِي وِدِّهِ غَيْرُ وَاثِقِ آخر: ... إِذَا حَقَقْتَ فِي وِدِّ صَدِيقًا ... فَزَرْهُ وَلا تَخَفْ مِنْهُ مِلالا وَكُنْ كَالشَّمْسِ تَطْلَعُ كُلَّ يَوْمٍ ... وَلا تَكُ فِي مَوَدَّتِهِ هِلالا وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي صَحِيحِهِ عَن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ ? قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِم لا يَظْلِمُه وَلا يُسْلِمُه وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَر مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . في الْحَدِيثِ الأَوَّلِ مَا يُفِيدُ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ شَأْنِهِمْ التَّنَاصُرُ وَالتَّنَاصُحُ وَالتَّكَاتُفُ وَالتَّعَاون عَلَى مَصَالِحِهِمْ الْعَامَةِ وَالْخَاصَةِ وَأَنْ يَكُونُوا مُتَرَاحِمِينَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُسَاعِدُ أَخَاهُ وَيُعَاوِنُهُ عَلَى مَا يُصْلِحُ حَالَهُ وَيُصْلِحُ حَالَ الْجَمِيعِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الآخَرِ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنيِنَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثِلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عَضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى واَلسَّهَرِ» . وَكَمَا وَصَفَهُمْ اللهُ جَلَّ وَعَلا: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} . وَفِي الْحَدِيثِ الآخَرِ: «الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ يَكُفُّ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ» . وَمِنْ مُقْتَضَى الأُخُوَّةِ فِي الدِّينِ أَوِ النَّسَبِ أَنَّهُ لا يَظْلِمُ أَخَاهُ وَلا يُسْلِمُهُ وَيَسْعَى لِتَفْرِيجِ مَا نَزَلَ بِهِ مِنْ كَرْبٍ وَمَا حَلَّ بِهِ مِنْ ضَيْمٍ وَمَا انْتَابَهُ مِنْ هَمٍّ وَغَمٍّ وَعُسْرٍ وَضِيقٍ وَلا يَسْعَى لِهَتْكِ عِرْضِهِ وَنَشْرِ سِرِّهِ وَالتَّشْهِيرِ بِهِ. وَمَحَلُّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ لَيْسَ مَعْرُوفًا

والتحذير من الظلم وأكل حقوق عباد الله

بِالْفُجُورِ وَالْفِسْقِ وَالْمُجَاهَرَةِ بِالْمَعَاصِي وَهَذَا فِي سَتْرِ مَعْصِيَةٍ وَقَعَتْ وَانْقَضَتْ. أَمَّا إِذَا عَلِمَ مَعْصِيَتَهُ وَهُوَ مُتَلَبِّسٌ بِهَا فَتَجِبْ الْمُبَاَدَرِة بِالإِنْكَارِ عَلَيْهِ وَمَنْعِهِ مِنْهَا وَالْحَيْلُولَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا بِحَسَبِ الاسْتِطَاعَةِ فَإِنْ عَجَزَ لَزِمَهُ رَفْعُهَا إلى وَلِي الأَمْرِ إِنْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى ذَلِكَ مَفَاسِدُ أَعْظَمُ مِنْهَا لأَنَّ السَّتْرَ عَلَيْهِ يُطْمِعُهُ فِي الْفَسَادِ وَيُجَرِئُهُ عَلَى انْتِهَاكِ الْحُرُمَاتِ وَاسْتِرْسَالِهِ فِي طُرُقِ الْغَيِّ وَالْفَسَادِ وَالضَّلالاتِ. وَهَذَا مِنْ بَابِ النَّصِيحَةِ وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ ثُمَّ بَيَّنَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ وَصْفَ الْمُسْلِمِ لأَخِيهِ الْمُسْلِمِ بِأَنَّهُ لا يَظْلِمُهُ فِي نَفْسِهِ وَلا فِي عَرْضِهِ وَلا فِي مَالِهِ وَالظُّلْمُ مُحَرَّمٌ بِسَائِرِ أَنْوَاعِهِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِي عَنْ أَوْسِ بنِ شُرَحْبَيِلٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ مَشَى مَعَ ظَالِم وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ ظَالِمٌ فَقَدْ خَرَجَ مِنَ الإسلام فَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لأَعْوَانِ الظُّلَمَةِ وَمُسَهِّلِي مُصَالِحِهمْ وَمُوَطِّدِي طُرقهمْ الدَّالِينَ لَهُمْ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ. فَمَا الظَّنُّ بِحَالِ الظَّلَمِةِ إِذَا جَاءَ الْحَكَمُ الْعَدْلُ لِلْفَصْلِ بَيْنَ عِبَادِهِ وَشُوفِهَ الظَّالِمُ بِمَا جَنَى وَأَيْقَنَ بِالْعَذَابِ وَتَمَنَّى أَنَّهُ تَخَلَّصَ مِنْ مَظَالِمِهِ فِي الدُّنْيَا. وَلِهَذَا أَمَرَنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَصْرَةِ الْمَظْلُومِ وَالأَخْذِ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ وَكَفِّهِ عَنْ ظُلْمِهِ وَمَنْعِهِ مِنْ جَوْرِهِ وَفِي الْحَدِيثِ الآخَرِ يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِماً أَوْ مَظْلُومًا» . قَالَوا: يَا رَسُولَ اللهِ هَذِا نَنَصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: «تَأْخُذُوا عَلَى يَدِهِ» . وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ مَنْعِهِ مِن الظُّلْمِ بِالْفِعْلِ كَالاسْتِعَانَةِ عَلَيْهِ بِرَفْعِهِ لِوُلاةِ

الأُمُورِ وَرَفْعِهِ لِلْحُكَّامِ حَيْثُ لَمْ يُؤْثِّرْ فِيهِ النُّصْحُ بِاللِّسَانِ وَضُرُوبِ الْكَلامِ. وَمِنَ النُّصْرَةِ لِلْمَظْلُومِ إِعَانَتُهُ وَالسَّعْيُ لِرَفْعِ ظَلامَتِهِ وَالضَّرْب عَلَى يَدِ الظَّالِمِ وَكَفِّهِ عَنْ ظُلْمِهِ فَهَذَا نُصْرَةٌ لَهُ عَلَى شَيْطَانِهِ الَّذِي يُغْوِيهِ وَيُورِدْهُ الْمَهَالِكَ وَيُوقِعُهُ فِي الْمَآزِقِ وَالْوَرْطَاتِ الَّتِي يَصْعُبُ التَّخَلُّصُ مِنْهَا وَنُصْرَةٌ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ الشِّرِّيرَةِ الَّتِي تَأْمُرُهُ بِالْفَحْشَاءِ. شِعْرًا: ... وَإِيَّاكَ وَالأَمْرُ الَّذِي إِنْ تَوَسَّعَتْ ... مَوَارِدُهُ ضَاقَتْ عَلَيْكَ الْمَصَادِرُ فَمَا حَسَنٌ أَنْ يُعْذِرَ الْمَرْءُ ... وَلَيْسَ لَهُ مِنْ سَائِرِ الْخَلْقِ عَاذِرُ وَالْعَاقِلُ اللَّبِيبُ مَنْ يَتَحَلَّل مِنْ أَهْلِ الْمَظَالِمِ فِي دُنْيَاهُ قَبْلَ الآخِرَةِ وَلا يَدَعُ حَقًّا لأَحَدٍ عَلَيْهِ بَلْ يُسَارِعُ لأَدَاءِ مَا فِي ذِمَّتِهِ وَيَطْلُبُ الْمُسَامَحَةَ مِمَّنْ حَصَلَ بِيْنَهُ وَبَيْنَهُ مُنَافَسَةٌ أَوْ مُنَازَعَةٌ أَوْ مُعَامَلَةٌ مِنْ جَارٍ أَوْ زَوْجَةٍ أَوْ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ. قَبْلَ أَنْ يَقِفَ ذَلِكَ الْمَوْقِفَ الرَّهِيبِ فِي يَوْمَ يَجْعَلُ الْوَلْدَانَ شِيبَا السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} . وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ لَتُؤَدُنَّ الْحُقُوقُ إِلى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ وَقَدْ عَقَدْنَا فَصْلاً كَامِلاً لِبَيَانِ الظُّلْمِ وَأَنْوَاعِهِ وَأَدِلَّةِ تَحْرِيمِهِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُ في الجزء الثالث من الكتاب (ص 105) . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ يُنَادِي مُنَادٍ مِنْ وَرَاءِ الْجَسْرِ يَعْنِي الصِّرَاطَ يَا مَعْشَرَ الْجَبَابِرَةِ الطُّغَاةِ وَيَا مَعْشَرَ الْمُتْرَفِينَ الأَشْقِيَاءَ إِنَّ اللهَ يَحْلِفُ بِعِزَّتِهِ وَجَلالِهِ أَنْ لا يُجَاوِر هَذَا الْجَسْرَ ظَالِمٌ. شِعْرًا: ... ثَلاثَةٌ فِيهِمْ لِلْمُلْكِ التَّلَفْ ... الظُّلْمُ وَالإِهْمَالِ فِيهِ وَالسَّرَفْ

وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ لَمَّا رَجَعَتْ مُهَاجِرَةُ الْحَبَشَةِ عَامَ الْفَتْحِ إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلا تَخْبِرُونِي بِأَعْجَبَ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ» . فَقَالَ فِتْيَةٌ كَانُوا مِنْهُمْ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ إِذْ مَرَّتْ بِنَا عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِهِمْ تَحْمِلُ عَلَى رَأْسِهَا قُلَّةٌ مِنْ مَاءٍ فَمَرَّتْ بِفَتَىً مِنْهُمْ فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كتفيها ثم دَفَعَهَا فَخَرَّتْ الْمَرْأَةُ على رُكْبَتَيْهَا وَانْكَسَرَتْ قُلَّتُهَا. فَلَمَّا قَامَتْ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَتْ: سَوْفَ تَعْلَمُ يَا غَادِرُ إِذَا وَضَعَ اللهُ الْكُرْسِيَّ وَجَمَعَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ وَتَكَلَّمَتْ الأَيَدِي وَالأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، سَوْفَ تَعْلَمُ مَنْ أَمْرِي وَأَمْرُكَ عِنْدَهُ غَدًا. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَتْ كَيْفَ يُقَدِّسُ اللهُ قَوْمًا لا يُؤْخَذُ مِنْ شَدِيدِهِمْ لِضَعِيفِهِمْ» . وَرُوِيَ عَن النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «خَمْسَةٌ غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمِ إِنْ شَاءَ أَمْضَى غَضَبَهُ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَإِلا أَمَرَ بِهِمْ فِي الآخرِةَ ِإلى النَّارِ. أَمِيرُ قَوْمٍ يَأْخُذُ حَقَّهُ مِنْ رَعِيَّتِهِ وَلا يُنْصِفُهُمْ مِنْ نَفْسِهِ وَلا يَدْفَعُ الظُّلْمَ عَنْهُمْ. وَزَعِيمُ قَوْمٍ يُطِيعُونَهُ وَلا يُسَاوِي بَيْنَ الْقَوِّي وَالضَّعِيفِ وَيَتَكَلَّمُ بِالْهَوَى وَرَجُلٌ لا يَأْمُرُ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ بِطَاعَةِ اللهِ وَلا يُعَلِّمُهُمْ أَمْرِ دِينِهِمْ. وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ الْعَمَلَ وَلَمْ يُوَفِّهِ. وَرَجُلٌ ظَلَمَ امْرَأَتَهُ صَدَاقَهَا وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بن سَلامٍ قَالَ: إِنَّ اللهَ

تَعَالى لَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ وَاسْتَمَرُّوا عَلَى أَقْدَامِهِمْ رَفَعُوا رُؤُوسهَمُ ْإلى السَّمَاءِ وَقَالَوا: يَا رَبُّ مَعَ مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: مَعَ الْمَظْلُومِ حَتَّى يُؤَدَى إِلَيْهِ حَقَّهُ. وَقِيلَ لَمَّا حُبِسَ خَالِدُ بن بَرْمَكٍ وَوَلَدُهُ قَالَ: يَا أَبَتِي بَعْدَ الْعِزِّ صِرْنَا فِي الْقَيْدِ وَالْحَبْسِ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ دَعْوَةُ مَظْلُومٍ سَرَتْ بِلَيْلٍ غَفَلْنَا عَنْهَا وَلَمْ يَغْفُل اللهُ عَنْهَا وَكَانَ يَزِيدُ بنُ حَكِيمٍ يَقُولُ: مَا هِبْتُ أَحَدًا قَطُّ هَيْبَتِي رَجُلاً ظَلَمْتُهُ وَأَنَا أَعْلَمُ لا نَاصِرَ لَهُ إِلا اللهُ يَقُولُ: حَسْبِيَ اللهُ، وَاللهُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ. وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: يَجِيءُ الظَّالِمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتّى إِذَا كَانَ عَلَى جَسْرِ جَهَنَّمَ لَقِيَهُ الْمَظْلُومُ وَعَرَّفَهُ مَا ظَلَمَهُ بِهِ فَمَا يَبْرَحُ الَّذِينِ ظُلِمُوا بِالَّذِينَ ظَلَمُوا حَتَّى يَنْزِعُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْحَسَنَاتِ فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا لَهُمْ حَسَنَاتٍ حَمَلُوا عَلَيْهِمْ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ مِثْلَ مَا ظَلَمُوهُمْ حَتَّى يُرَدُّوا إلى الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِن النَّارِ. وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ أَنِيسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يُحْشَرُ الْعِبَادُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً بُهْمًا فِيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ أَنَا الْمَلِكُ الدَّيَّان لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةِ أَوْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارِ وَعِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ إلى أَنْ أُقِصَّهُ حَتَّى اللَّطْمَةَ فَمَا فَوْقَهَا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدَا» . قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ وَإِنَّمَا نَأْتِي حُفَاةً عُرَاةً فَقَالَ: «بِالْحَسَنَاتِ وَالسِّيَّئاتِ جَزَاءً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدا» . وَجَاءَ عَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ ضَرَبَ سَوْطاً ظُلْمًا اقْتُصَّ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَعَن ابنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا سُلِّطَ عَلَيْهِ» . وَقَالَ سَعِيدُ بنُ الْمُسَيِّبَ رَحِمَهُ اللهُ لا

فصل في التواضع والحث عليه والتحذير من الكبر والتحذير من المعاصي وأصحابها ومجالس اللهو والغناء والكبر فيه مضار عظيمة والتواضع فيه فوائد عديدة

تَمْلَؤُا أَعْيُنَكُمْ مِنْ أَعْوَانِ الظَّلَمَةِ إِلا بالإِنْكَارِ مِنْ قُلُوبِكُمْ لِئَلا تَحْبُطَ أَعْمَالُكُمْ. وَقَالَ مَكْحُولُ الدِّمَشْقِي: يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ الظَّلَمَةُ وَأَعْوَانُ الظَّلَمَةِ فَمَا يَبْقَى أَحَدٌ مَدَّ لَهُمْ حِبْرًا أَوْ حَبَّرَ لَهُمْ دَوَاةً أَوْ بَرَى لَهُمْ قَلَمًا فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ إِلا حَضَرَ مَعَهُمْ فَيُجْمَعُونَ فِي تَابُوتٍ مِنْ نَارٍ فَيُلْقَوْنَ فِي النَّارِ. وَجَاءَ رَجُلٌ خَيَّاطٌ إلى سُفْيَانِ الثَّوْرِي فَقَالَ: إِنِّي رَجُلٌ أخِيطُ ثِيَابَ السُّلْطَانِ هَلْ أَنَا مِنْ أَعْوَانِ الظَّلَمَةِ؟ فَقَالَ سُفْيَانُ: أَنْتَ مِنَ الظَّلَمَةِ أَنْفُسِهِمْ وَلَكِنْ أَعْوَانِ الظَّلَمَةِ مَنْ يَبِيعُ مِنْكَ الإِبْرَةَ وَالْخُيُوط. وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. (فَصْلٌ) في التَّواضع التَّوَاضُعِ يُقَابِلُ الْكِبْرَ وَهُوَ انْكِسَارُ الْقَلْبِ للهِ وَخَفْضُ جَنَاحِ الذُّلِّ وَالرَّحْمَةِ لِلْخَلْقِ وَقِيلَ: هُوَ رِضَا الإِنْسَانِ بِمَنْزِلَةٍ دُونَ مَا يَسْتَحِقُّهُ فَضْلُهُ وَمَنْزِلَتُهُ وَفَضِيلَتُهُ لا تَكَادُ تَظْهَرُ فِي أَكْثَرِ النَّاسِ وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ فِي أَجِلاءِ النَّاسِ وَعُلَمَائِهِم الْعَامِلِينَ بِعِلْمِهِمْ وَهَذَا كَانَ فِي عُلَمَاءِ السَّلَفِ كَثِيرٌ أَمَّا الْيَوْمَ فَهُوَ نَادِرٌ وَهُوَ مِنْ بَابِ التَّفَضُّلِ لأَنَّ الْمُتَوَاضِعَ يَتْرُكُ بَعْضَ حَقِّهِ وَالتَّوَاضُعُ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الْكِبْرِ وَالضَّعَةِ وَالْكِبْرُ تَقَدَّمَ تَعْرِيفُهُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ. وَالضَّعَةُ وَضْعُ الإِنْسَان نَفْسَهُ فِي مَنْزِلَةٍ تُزْرِي بِهِ مِنْ الدَّنَاءَةِ وَالْخِسَّةِ وَابْتِذَالِ النَّفْسِ فِي سَبِيلِ شَهَوَاتِهَا الْفَاسِدَةِ فَتَجِدُ الْوَضِيعَ يَقِفُ فِي

الْمَوَاقِفِ الَّتِي تُزْرِي بِهِ مِنْ أَجْلِ الْحُصُولِ عَلَى وَظِيفَةٍ أَوْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَلا يُبَالِي أَنْ يَذِلَّ لِمَنْ دُونَهُ أَوْ يَتَمَلَّقَ لِمَنْ يُهِينُهُ أَوْ يَقِفَ عَلَى بَابِ مَنْ يَسْتَثْقِلُهُ وَيُظْهِرُ الاشْمِئْزَازَ مِنْهُ وَهُوَ لا يُبَالِي بِالإِلْحَاحِ عَلَيْهِ وَالْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ ذَلِيلاً خَاضِعًا وَلا شَكَّ أَنَّ هَذَا صِفَةٌ ذَمِيمَةٌ. وَمَنْشَأُ التَّوَاضُعِ مِنْ مَعْرِفَةِ الإِنْسَانِ قَدْرَ عَظَمَةِ رَبِّهِ وَمَعْرِفَتِهِ قَدْرَ نَفْسِهِ لأَنَّ مَنْ يُدْرِكُ أَنَّهُ شَخْصٌ ضَعِيفٌ فَانٍ وَأَنَّ كُلَّ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ الْمُوجِبَةِ لِلرَّفْعَةِ وَالْكِبْرَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ لا ثَبَاتَ لَهَا بَلْ هِيَ أَعْرَاضٌ زَائِلَةٌ وَيُدْرِكُ أَنَّ رَبَّهُ هُوَ الْخَالِقُ الْعَظِيمُ الْمُتَفَرِّدُ بِالْبَقَاءِ وَالْكِبْرِيَاءِ، فَهَذَا لا يَتَمَرَّدُ عَلَى خَالِقِهِ بِاقْتِرَافِ الْجَرَائِمِ وَالآثَامِ وَعِنْدَ ذَلِكَ يُعَامِلُ النَّّاسَ مُعَامَلَةٌ حَسَنَةٌ بِلُطْفٍ وَرَحْمَةٍ وَرِفْقٍ وَلِين جَانِبٍ وَلا يَتَكَبَّرُ عَلَى أَحَدٍ وَلا يَزْهُو عَلَى مَخْلُوقٍ وَلا يُبَالي بِمَظَاهِرِ الْعَظَمَةِ الْكَاذِبَةِ وَلا يَتَرَفَّعُ عَنْ مُجَالَسَةِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَشْي مَعَهُمْ وَإِجَابَةِ دَعَوَتِهِمْ وَمُخَاطَبَتِهِمْ بِالْكَلامِ اللَّينِ وَلا يَأْنَفُ مِنْ اسْتِمَاعِ نَصِيحَةِ مَنْ هُوَ دُونَهُ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ بنُ عَيَّاضٍ: التَّوَاضُعُ أَنْ تَخْضَعَ لِلْحَقِّ وَتَنْقَادَ لَهُ وَلَوْ سَمِعْتَهُ مِنْ صَبِي قَبِلْتَهُ مِنْهُ وَلَوْ سَمِعْتَهُ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ قَبِلْتَهُ وَلِلتَّوَاضُعِ فَوَائِدُ وَمَنَافِعُ تَعُودُ عَلَى الأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ بِالْخَيْرِ الْكَثِيرِ فَإِنَّ الْمُتَوَاضِعَ قَرِيبٌ إلى النَّاسِ مُحَبَّبٌ إلى نُفُوسِهِمْ ضِدُّ الْمُتَكَبِّرِ فَإِنَّهُ بَغِيضٌ إِلَيْهِمْ ثَقِيلٌ عِنْدَهُمْ وَكُلَّمَا َدَنا الْمُتَوَاضِعُ مِنَ النَّاسِ ارْتَفَعَتْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَهُمْ وَعَظُمَ فِي عُيُونِهِمْ وَثَقُلَ مِيزَانُهُ عِنْدَهُمْ وَاسْتَفَادَ مِنْهُمْ وَأَفَادَهُمْ. وَكُلَّمَا كَانَ الْمُتَوَاضِعُ عَظِيمًا ذَا مَكَانَةٍ رَفِيعَةٍ كَانَ التَّوَاضُعُ مِنْهُ أَكْبَرُ أَثَرًا وَأَكْثَرُ فَائِدَةٌ لأَنَّ الأَشْيَاءَ تَعْظُمُ بِنِسْبَةِ مَنْ تَسْتَنَدُ إِلَيْهِ كَمَا قِيلَ:

عَلَى قَدْرِ أَهْلِ الْعَزْمِ تَأْتِي الْعَزَائِمُ وَتَأْتِي عَلَى قَدْرِ الْكِرَامِ الْمَكَارِمُ وَتَعْظُمُ فِي عَيْنِ الصَّغِيرِ صغارها وَتَصْغَرُ فِي عَيْنِ الْعَظِيمِ الْعَظَائِمُ ... ›? وَإِذَا كَانَ الْمُتَوَاضِعُ عَالِمًا بِالتَّوَاضُعِ يَزْدَادُ عَلْمًا لأَنَّهُ لا يَسْتَنْكِفُ عَنْ أَخْذِ الْفَائِدَةِ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُ وَلِهَذَا قِيلَ: تَعَلَّمُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوّدُوا وَلا يَأْبَى الْعَالِمُ الْمُتَوَاضِعُ أَنْ يَنْقُلَ الْحَقَّ عَنْ أَيِّ مَخْلُوقٍ. وَقَدْ تَتَلْمَذَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عَلَى بنِ عَبْدِ الْقَوِّي نَاظِمِ عِقْدَ الْفَرَائِدِ وَنَظَمَ ابْنُ عَبْدِ الْقَوِّي بَعْضَ اخْتِيَارَاتِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ فَعِنْدَمَا ذَكَرَ مَسَافَةَ الْقَصْرِ قَالَ: ... وَعِنْدَ إِمَامِ الْعَصْرِ لا حُجَّةً لَهُمْ ... عَلَى ذَا وَلَكِنْ بِاسْمِهِ فَلْيُحَدِّدَ ... ›? ???? ????وَعِنْدَمَا ذَكَرَ قِتَالَ أَهْلِ الْبَغْيِ قَالَ: ... وَيَكْرَهُ شَيْخُ الْعَصْرِ أَنْ يَقْصُد الْفَتَى ... بُغَاةَ ذَوِي الأَرْحَامِ لا ذُو المُجَرَّدِ ... ›? ???? ????عِنْدَمَا ذَكَرَ مِنْ لَهَا عَادَةُ مِن النِّسَاءِ وَتَغَيَّرَتْ قَالَ: ... وَعِنْدَ إِمَامِ الْوَقْتِ تَجْلِسُ مُطْلَقا ... لِظَاهِرِ مَا يُرْوَى بِغَيْرِ تَقَيُّدِ ... ›? ???? ????فَلِلّهِ دَرُّهُ مِن مُتَوَاضِعٍ. عكس ما عليه كثير من حاملي الشهادات الحالية دكتوراه وماجستير وبكالوريوس ودبلوم ونحوها نسأل الله الكريم أن يعافيهم ولا يبلانا فيما بُلوا به من الكبر والعُجْبِ والْجَهْل. قِيلَ لِبزْرِ جَمْهَر: مَا النِّعْمَةُ الَّتِي لا يُحْسَدُ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا؟ قَالَ: التَّوَاضُعُ. قِيلَ لَهُ: فَمَا الْبَلاءُ الَّذِي لا يُرْحَمُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ؟ قَالَ الْعُجْبُ. وقال: التَّوَاضُعُ مَعَ السَّخَافَةِ وَالْبُخْلُ أَحْمَدُ مِن الْكِبْرِ مَع السَّخَاءِ وَالآدَابِ فَأَعْظِمْ بِحَسَنَةٍ عَفَتْ عَنْ سَيِّئَتَيْنِ وَأَقْبَحَ بِعَيْبٍ أَفْسَدَ مِنْ صَاحِبِهِ حَسَنَتَيْن وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ:

.. وَأَحْسَنُ مَقْرُونَيْنِ فِي عَيْنِ نَاظِرٍ ... جَلالَةُ قَدْرٍ فِي خُمُولِ تَوَاضُعِ ... ???? ????آخر: ... لَيْسَ الْخُمُولُ بِعَارٍ ... عَلَى امْرِئٍ ذِي جَلالِ ... ›? ???? ???? ... فَلَيْلَةُ الْقَدْرِ تَخْفَى ... وَتِلْكَ خَيْرُ اللَّيَالِ ... ???? ????آخر: ... إِنَّ التَّوَاضُعَ مِنْ خِصَالِ الْمُتَّقِي ... وَبِهِ التَّقِيُّ إلى الْمَعَالي يَرْتَقِي ... ›? ???? ???? ... وَمِنَ الْعَجَائِبِ عُجْبُ مَنْ هُوَ جَاهِلٌ ... فِي حَالِهِ أَهُوَ السَّعِيدُ أَمْ الشَّقِي ... ???? ???? ... أَمْ كَيْفَ يُخْتَمُ عُمْرُه أَوْ رُوحُهُ ... يَوْمَ النَّوَى مُتَسفل أَوْ مُرْتَقِي ... ???? ???? ... وَالْكِبْرِيَاءِ لِرَبِّنَا صِفَةٌ لَهُ ... مَخْصُوصَةٌ فَتَجَنَّبَهَا وَاتَّقِي ... ›? ???? ???? وقال بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ بَرِئ مِنْ ثَلاث نَالَ ثَلاثًا مِنْ بَرِئَ مِنَ السَّرَفْ نَالَ الْعِز وَمَنْ بَرِئَ مِنَ الْبُخْلِ نَالَ الشَّرَف وَمَنْ بَرئَ مِنَ الْكِبْرِ نَالَ كَرَامَةَ التَّوَاضُع. وقال مُصْعَبُ بن الزُّبَيْر: التَّوَاضُعُ مَصَائِدُ الشَّرَفِ. وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمَ مَنْ دَامَ تَوَاضُعُهُ كَثُرَ صَدِيقُه. أَمَّا الْمُتَكَبِّرُ فَهُوَ كَالْمَغْرُورِ فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا تَفُوتَهُ الْحَقَائِقُ الْعِلْمِيَّةِ لأَنَّهُ تَأْبَى عَلَيْهِ نَفْسَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْحَقِّ حَيْثُ وَجَدَه وَلِهَذَا قِيلَ ضَاعَ الْعِلْمُ بَيْنَ الْحَيَاءِ وَالْكِبْرُ ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمُتَوَاضِعُ تِلْمِيذًا يَجِدُ لُطْفًا وَعَطْفًا مِنَ الأسْتَاذ فَلا يَبْخَلُ عَلَيْهِ بِمَجْهُودِهِ وَلا يَشُحُّ عَلَيْهِ بِفَائِدَةٍ لأَنَّ التَّوَاضُعَ يَسْتَلْزِمُ الأَدَب. وَأَمَّا أَحْسَنُ الأَدَبِ وَالتَّوَاضُعِ وَاللُّطْفِ مَعَ الْمُعَلِّم الَّذِي يَبْذِلُ جُهْدَهُ فَي سَبِيل تَثْقِيفِهِ وَتَهْذِيبه وَتَرْبِيَتِهِ تَرْبِيَةً صَالِحَةً وَأَنَّهُ بِتَوَاضُعَهِ وَحُسْن سِيرَتِهِ مَعَ مُعَلِّمِهِ يُبَرْهِنُ عَلَى أَنَّهُ مِمَّنْ يَعْرِفُ قَدْرَ الْعِلْمِ وَالْعُلَمَاء وَأَنَّهُ يُدْرِكُ قِيمَةَ الْمَعْرُوفِ وَأَنَّهُ مِمَّنْ يُجَازِي عَلَى الإِحْسَانِ بِالإِحْسَانِ. أَمَّا الْمُتَكَبِّرُ الَّذِي يَتَكَبَّرُ وَيَتَعَاظَمُ فِي نَفْسِهِ وَيَحْمِلُهُ الْكِبْرُ عَلَى سُوءِ الأَدَب وَاحْتِقَارِ الْمُعَلِّم فَهُوَ بِالْحَقِيقَةِ غَبِيٌّ جَاهِلٌ جلفٌ فَدِم لا يَعْرِفُ لِلْعِلْمِ قِيمَتَه وَلا يُرِيدُ أَنْ يَخْرَجَ مِنْ جَهْلِهِ وَهَذَا شَيْءٌ مُشَاهَدٌ مَعْرُوف فَإِنَّكَ تَرَى الْمُتَكَبِّرِينَ عَلَى الْمُعَلِّمِينَ يَعْمَهُونَ فِي حُمْقِهِمْ وَجَهْلِهِمْ وَلا يَخْرُجُونَ عَن السَّخَفِ فَضْلاً عَمَّا

ارْتَكَبُوهُ مِنْ نُكْرَانِ الْجَمِيلِ وَجَحْدِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي يُسْدَى إِلَيْهِمْ وَقَدِيمًا قِيلَ: ... فَاصْبِرْ لِدَائِكَ إِنْ جَفَوْتَ طَبِيبَهُ ... وَاصْبِرْ لِجَهْلِكَ إِنْ جَفَوْتَ مُعَلِّمًا ... ???? ????آخر: ... وَمَنْ لَمْ يَذُقْ مَرَّ التَّعَلُمِ سَاعَةً ... تَجَرَّع ذُلَّ الْجَهْلِ طُولَ حَيَاتِهِ ... ›? ???? ???? ... فَصَبْرًا عَلَى مُرِّ الْجَفَا مِنْ مُعَلِّمٍ ... فَإِنَّ رُسُوبَ الْعِلْمِ فِي نَفَرَاتِهِ ... ???? ???? ... وَمَنْ فَاتَهُ التَّعْلِيمُ وَقْتَ شَبَابِهِ ... فَكَبِّرْ عَلَيْهِ أَرْبَعًا لِوَفَاتِهِ ... ???? ???? ... وَذَاتُ الْفَتَى وَاللهِ بِالْعِلْمِ وَالتُّقَى ... إِذَا لَمْ يَكُونَا لا اعْتِبَارَ لِذَاتِهِ ... ???? ????آخر: ... أَيْنَ الْمَرَاتِبُ فِي الدُّنْيَا وَرِفْعَتُهَا ... مِن الَّذِي حَازَ عِلْمًا لَيْسَ عِنْدَهُمُ ... ›? ???? ???? ... لا شَكَّ أَنَّ لَنَا قَدْرًا رَأَوْهُ وَمَا ... لِمِثْلِهِمْ عِنْدَنَا قَدْرُ وَلا لَهُمُوا ... ???? ???? ... هُمُ الْوُحُوش وَنَحْنُ الإِنْسَ حِكْمَتُنَا ... تَقُودُهُمْ حَيْثُمَا شِئْنَا وَهُمْ نَعَمُ ... ›? ???? ???? آخر: ... احْرِصْ عَلَى كُلِّ عِلْمٍ تَبْلُغَ الأَمَلا ... وَلا تُوَاصِلْ لِعِلْمٍ وَاحِدٍ كَسَلا ... ›? ???? ???? ... فَالنَّحْلُ لَمَّا رَعَتْ مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ ... أَبْدَتْ لَنَا الْجَوْهَرَيْنِ الشَّمْعَ وَالْعَسَلا ... ???? ???? ... الشَّمْعُ بِاللَّيْلِ نُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ ... وَالشَّهْدُ يُبْرِي بِإِذْنِ الْبَارِئِ الْعِلَلا ... ›? ???? ???? تَنْبِيه: وَنَعْنِي بِالْعَالِمِ الْمُعَلَّم الَّذِي يَتَأَدَّبُ مَعَهُ وَيَتَوَاضَعُ لَهُ وَيُقَدَّرُ وَيُحْرَصُ عَلَى أَخْذِ الْعِلْمِ مِنْهُ وَمُجَالَسَتِهِ الْعَامِلُ بِعَمَلِهِ الْمُتَأَدِّب بِآدَابِ الشَّرِيعَةِ الْمُتَمَسِّكُ بِهَا الَّذِي يَصْدَعُ بِالْحَقِّ وَلا تَأْخُذُه ِفيِ اللهِ لَوْمَةِ لائِم الْبَعِيدُ عَنِ الْمُجَامَلَة إِذَا رَأَى مَا يُغْضِبُ الله الْبَعِيد عَن الظَّلمَةِ وَأَعْوَانِهِمْ الْمُتَمَلِّقِين. أَمَّا مَنْ يُسَمُّونَ مَشَايخَ وَأَسَاتِذَةَ وَيُرَى عَلَيْهِمْ آثَارَ مُخَالَفَةِ النَّبِي ? مِنْ حَلْقِ لِحْيَةٍ أَوْ تَشَبُّهٍ بِالْكَفَرَةِ أَوْ تَرْكِ حُضُورِ جُمْعَةٍ أَوْ جَمَاعَةٍ أَوْ اسْتِعْمَالِ آلاتِ لَهْو أَوْ شَرْبِ دُخَانِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَهَؤُلاءِ يَتَعَيَّن الابْتِعَادُ عَنْ مُجَالَسَتِهِمْ وَمُجَاوَرَتِهِمْ وَمُعَامَلَتِهِمْ وَمُشَارَكَتهمْ إِلا لِضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَةٍ شَدِيدَةٍ تَدْعُو إلى ذَلِكَ لأَنَّ

الطِّبَاع كَسَّابَةٌ وَيُخْشَى عَلَى مَنْ قَارَفَهُمْ أَوْ قَارَبَهُمْ أَنْ يَتَّصِلَ مَا بِهِمْ مِنْ مَرَضٍ مَعْنَوِي إلى ذَلِكَ الشَّخْصِ الْبَرِي. شِعْرًا: ... خَلَتِ الْقُلُوبُ مِن الْمَعَادِ وَذِكْرِهُ ... وَتَشَاغَلُوا بِالْحِرْصِ وَالأَطْمَاعِ ... ???? ???? ... صَارَتْ مَجَالِسُ مَنْ تَرَى وَحَدِيثُهم ... في الصُّحْفِ وَالتِّلْفَازِ وَالْمِذْيَاعِ ... ›? ???? ???? آخر: ... (أَلا أَيُّهَا الْمَغْرُورُ فِي جَرِّ ثَوْبِهِ ... وَجَزٍّ لِبَعْضِ الرَّاسِ فِعْلَ الأَرَاذِلِ) ... ???? ???? ... (فَمَا الْعِزِّ فِي حَلْقِ اللِّحَا أَوْ خَنَافِسٍ ... وَلا شُرْبِ دَخَّانٍ كَفَعْلِ الأَسَافِلِ) ... ???? ???? ... (وَلَكِنَّهُ بِالْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَالتُّقَى ... وَصِدْقٍ وَحِلْمٍ وَاقْتِنَاءٍ الْفَضَائِلِ) ... ›? ???? ???? قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إِنَّ الرَّجُلَ لِيَكُونُ غَائِبًا عَنِ الْمُنْكَر فِي بُيُوتِ الْوُلاةِ وَيَكُونُ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْر مَنْ حَضَرَ وَذَلِكَ لأَنَّهُ يَبْلُغه فَيَرْضَى بِهِ وَيَسْكُتُ عَلَيْهِ. قُلْتُ: وَفِي وَقْتِنَا مَا أَكْثَرَ السَّاكِتِينَ وَالْمدلِّسِينَ وَالْمُدَاهِنِينَ الَّذِينَ هَمُّهُمْ وَهَدَفهمُ الْوَحِيدُ مَا يَحْشُونَ بِهِ بُطُونَهُمْ مِنْ مَطْعُومٍ َوَمْشُروب أَوْ مَا يُجَمِّلُونَ بِهِ ظَوَاهِرَهُمْ مِنْ مَلْبُوسٍ وَمَرْكُوبٍ أَوْ يَتَذَوَّقُونَ بِهِ مِنْ زَوْجَةٍ إلى زَوْجَة دَائِمًا يُطَلِّقُ وَيَتَزَوَّج لا يَسْتَقِرُّ عَلَى الدَّوَامِ. قَالَ ?: ((لا تُطَلَّقُ النِّسَاءُ إِلا مِنْ رِيبَةٍ إِنَّ اللهَ تَعَالى لا يُحِبُّ الذَّوَّاقِينَ وَالذَّوَاقُ الْكَثِيرُ النِّكَاح وَالطَّلاقِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِي وَالذَّوَاقَةُ الَّتِي كُلُّ مَنْ أَخَذَهَا تَتَسَبَّبُ لِفِرَاقِهِ لأَجْلِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ الْمُتَوَاضِعُ تَاجِرًا ذَا مَالٍ فَإِنَّهُ بِمُخَالَطَتِهِ النَّاسَ وَعَدمِ التَّرَفُّعِ وَالْكِبْرِ عَلَيْهِمْ يَنَالُ بِهِ الإِنْسَانُ الألفة والائْتِنَاسَ وَالْمَحَبَّةَ وَالإِقْبَال عَلَيْهِ في الْمُعَامَلَةِ وَيَعْرِفُ الْفُقَرَاءَ وَالْمُحْتَاجِينَ وَيَرَى مَا يُصِيبُهُمْ مِن الشَّقَاءِ وَيَمُسُّهُمْ مِن الْجُوعِ وَالْعُريّ وَمَا يُؤْذِيهمِ مِنْ أَلَمِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ فَتَأَلَّمُ نَفْسُهُ لِمَا يُصِيبُهُمْ فَيَرْحَمُهُمْ وَيَعْطِفَ عَلَيْهِم فَيَسْهُلُ عَلَيْهِ فِعْلُ الْخَيْرِ وَالْمُشَارَكَةُ فِيهِ وَيَسْهُلُ عَلَيْهِ أَدَاءُ مَا

فَرَضَهُ اللهُ عَلَيْهِ مِنْ نَفَقَاتٍ وَزَكَاةٍ وَيَهُونُ عَلَيْهِ إنْقَاذُ الْمَكْرُوبِ وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ. وَفِي عَمَلِهِ ذَلِكَ مَعَ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ فَائِدَةٌ لَهُ وَلِلنَّاسِ لأَنَّهُ بِعَمَلِهِ هَذَا يُرْضِي اللهَ أَوَّلاً وَرِضَى الرَّبِّ خَيْرُ ذَخِيرَةٍ يَذْخَرُهَا الْمَرْءُ تَنْفَعُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لأَنَّ مَنْ يَرْضَى عَنْهُ مَوْلاهُ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ فَقَدْ فَازَ بِالدُّنْيَا وَالآخِرَةِ أَمَّا بِالدُّنْيَا فَلِمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ رَاحَةِ الْخَاطِرِ الَّتِي يَتَأَلَّمُ لَهَا الْمُتَكَبِّرُونَ وَتَغْلِي مِنْ أَجْلِهَا دِمَاؤُهُمْ وَيَطْغَى غَضَبُهُمْ فَيَحْمِلُهُمْ عَلَى التَّعَدِّي عَلَى عباد الله قَوْلاً وَفِعْلاً وَلِمَا يَكْسِبُهُ مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ وَمَحَبَّتِهِمْ لَهُ وَاحْتِرَامِهِمْ لَهُ وَإِخْلاصِهِمْ فِي خِدْمَتِهِ وَالْمُبَادَرَةِ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِ وَتَضَافِرُهم عَلَى الدِّفَاعِ عَنْهُ وَالانْتِصَارِ لَهُ. وَعَلَى عَكْسِهِ الْمُتَكَبِّرُ لاحْتِقَارِهِ لَهُمْ وَاحْتِقَارِهِمْ وَإِنْ كَانَ التَّوَاضُعُ مِنْ صَاحِبٍ جَاهٍ فَإِنَّ التَّوَاضُعَ يَجْعَلُ لِجَاهِهِ قِيمَةً لأَنَّ الْجَاهَ إِنْ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي فَائِدَةِ الأُمَّةِ وَالأَفْرَادِ لا يَكُونُ لَهُ مَعْنَى وَمَنْ تَرَفَّعَ عَنِ النَّاسِ وَلَمْ يَتَوَاضَعْ لَهُمْ فَإِنَّهُ لا يَدْنُو مِنْهُ أَحَدٌ وَلا يَنْتَفِعُ بِجَاهِهِ مُحْتَاجٌ فَيَظَلُّ جَاهَهُ قَاصِرٌ عَلَيْهِ وَيُصْبِحُ اسْمًا بِدُونِ مُسَمَّى. وَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ مَتَى حَصَلَ لَهُ مَا يَسُدُّ شَهْوَتَهُ وَحْدَهُ مِنْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ أَوْ سُلْطَان فَقَدْ ظَفَرَ بِلَذَّاتِ الدُّنْيَا وَنَعِيمِهَا فَلا يُبَالِي بَعْدَ ذَلِكَ بِغَيْرِهِ شَقِيَ أَمْ سَعِدَ فَهُوَ ضَائِعٌ أَحْمَق لأَنَّ الإِنْسَانَ لا يَسْتَقِلُّ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ بَلْ لا بُدَّ مِنَ التَّعَاوُنِ مَعَ غَيْرِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً} قَالَ الشَّاعِرْ: ... النَّاسُ لِلنَّاسِ مِنْ بَدْوٍ وَحَاضِرَةٍ بَعْضٌ لِبَعْضٍ وَإِنْ لَمْ يَشْعُرُوا خَدَمُ ... ›?

موعظة بليغة في الحث علي الاستعداد للآخرة

.. وَكُلُّ عُضْوٍ لأَمْرٍ مَا يُمَارِسُه لا مَشْيَ لِلْكَفِّ بَلْ تَمْشِيَ بِهِ الْقَدَمُ آخر: ... إِذَا مَا تَأَمَّلْنَا الأُمُورَ تَبَيَّنَتْ لَنَا وَأَمِيرُ الْقَوْمِ لِلْقَوْمِ خَادِمُ ... ›? مَوْعِظَةٌ عِبَادَ اللهِ مَنْ كَانَ الْمَوْتُ يَطْلُبُهُ كَيْفَ يَقِرُّ لَهُ قَرَار وَمَنْ كَانَ الدَّهْرُ يُجَارِيهِ فَكَيْفَ يُطِيقُ الانْتِصَار، وَمَنْ كَانَ رَاحِلاً عَنِ الدُّنْيَا إلى الآخِرَةِ كَيْفَ يَلَذُّ لَهُ قَرَارُ، عَجَبًا لِمَنْ يَمْلأ عَيْنهُ بِالنَّوْمِ وَهُوَ لا يَدْرِي أَيُسَاقُ إلى الْجَنَّةِ أَوْ إلى النَّارِ. وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ: ... (وَكَيْفَ تَنَامُ الْعَيْنُ وَهِيَ قَرِيرَةٌ وَلَمْ تَدْرِ فِي أَيْ الْمَكَانِينِ تَنْزِلُ) ... ›? إِنْ هِيَ إِلا غَفْلَةٌ وَأُمْنِيَّةٌ عَاجِلَةٌ وَسَجِيَّةٌ عَادِلَةٌ جَرَى بِهَا الْقَلَمُ وَمَضَى عَلَيْهَا سَالِفُ الأُمَمِ، فَيَا فَرَائِسَ الأَحْدَاث وَيَا غَرَائِسَ الأَجْدَاث، لَقَدْ صَعَقَ الْمَوْتُ فِي دِيَارِكُمْ فَنَعَب، وَصَدَقَكُمْ صَرْفُ الزَّمَانِ وَمَا كَذَب، فَكَأَنَّهُ قَدْ أَعَادَ عَلَيْكُمْ الْكَرَّةَ وَسَلَبَ، وَنَغَّصَ عَلَيْكُمُ الْمَسّرةَ، وَانْتَهَزَ فِيكُم الغِرَّة، فَمَا أَقَالَكُمْ عَثْرَة. عَنْ كَعْبٍ أَوْ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ: يَقُومُونَ مِقْدَارَ ثَلاثَمَائَةِ عَامْ. قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: مَا ظَنُّكَ بِأَقْوَامٍ قَامُوا للهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَقْدَامِهِمْ مِقْدَارُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةَ لَمْ يَأْكُلُوا فِيهَا أَكْلَةَ وَلَمْ يَشْرَبُوا فِيهَا شَرْبَةْ حَتَّى إِذَا انْقَطَعَتْ أَعْنَاقُهمْ مِنَ الْعَطَشْ

وَاحْتَرَقَتْ أَجْوَافُهُمْ مِنَ الْجُوعِ انْصُرِفَ بِهِمْ إلى النَّارِ فَسُقُوا مِنْ عَيْنٍ قَدْ آنَ حَرُّهَا وَاشْتَدَّ نَفْحُهَا. فَلَمَّا بَلَغَ الْمَجْهُودُ مِنْهُمْ مَا لا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ كَلَّمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي طَلَبِ مَنْ يُكْرُمُ عَلَى مَوْلاهُ أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ فِي الرَّاحَةِ مِنْ مَقَامِهِمْ وَمَوْقِفَهِمْ لِيَنْصَرِفُوا إلى الْجَنَّةِ أَوْ إلى النَّارِ مِنْ وُقُوفِهم فَفَزِعُوا إلى آدَمَ وَنُوحٍ وَمِنْ بَعْدِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى كُلُّهُمْ يَقُولُ: إِنَّ رَبِّي غَضِبَ الْيَوْمِ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ مِثْلَهُ قَبْلَهْ وَلا يَغْضَبُ بَعْدَهْ مِثْلَهْ فَكُلُّهمْ يَذْكُرُ شِدَّةَ غَضَبِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ وَيُنَادِي بِالشُّغُل بِنَفْسِه فَيَقُولَ نَفْسي نَفْسِي فَيَشْتَغِلُ بِنَفْسِهِ عَنَ الشَّفَاعَةِ لَهُمْ إلى رَبِّهِمْ لاهْتِمَامِهِ بِنَفْسِهِ وَخَلاصِهَا. وَكَذَلِكَ يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} فَبَادِرُوا رَحِمَكُمُ اللهْ وَأَنْتُمْ فِي مَكَانِ الإِمْكَانْ، قَبْلَ ضِيقِ الأَوْطَانِ، وَتَقَلُّصِ اللِّسَانَ وَاصْفِرَارِ الْبَنَان، وَالتَّقَلُّبِ مِنْ جِهَةٍ إلى جِهَة مِنْ شِدَّةِ الآلام. وَرَفْعُ يَدٍ وَوَضْعُ الأُخْرَى مِنْ شَدَّةِ السَّكَرَات، لِجَذْبِ الرُّوحِ مِنْ الْعُرُوقِ وَالْعَصَبِ وَالْعِظَامِ، قَبْلَ شُخُوصِ الْبَصَر، وَبُرُودَةِ الْبَدَنِ، وَنَقْلِهِ لِبَيْتِ الدَّوْدِ وَالظُّلْمَةِ وَالْوَحْشَةِ وَالإِنْفِرَادِ وَسُؤَالِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ، وَمَا يَعْقُبُه مِنْ كُلِّ أَمْرٍ خَطِيرٍ فِي يَوْمٍ يَشِيبُ مِنْ أَهْوالِهِ الْوِلْدَان. فَمَا ظَنّكُمْ عِبَادَ اللهِ بِيَوْمٍ بَضَائِعُهُ الأَعْمَالُ، وَشُهُودُهُ الْجُلُودُ وَالأَلْسِنَةً وَالأَوْصَال، وَسِجْنُهُ النَّارُ، وَحَاكِمُهُ الْجَبَّارُ، إِنَّ ذَلِكَ لَيَوْمٌ عَظِيمٌ لا يَعْمَلُ لِحِسَابِهِ إِلا مَنْ وَفَّقَهُ الْحَيُّ الْقَيُّوم لَيْسَ فِيهِ لِلْمُجْرِمِ رَاحَةٌ وَلا نَوْمٌ، فَانْتَبِهُوا رَحِمَكُمْ اللهُ وَتَيَقَّظُوا وَتَزَوَّدُوا فَكَأَنَّكُم بِهِ وَقَدْ أَتَى قَالَ تَعَالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ} {أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ}

قصيدة زهدية في الحث علي الاستعداد للموت

شِعْرًا: ... خَبَتْ مَصَابِيحُ كُنَّا نَسْتَضيءُ بِهَا وَطَوَّحَتْ لِلْمَغِيبِ الأَنْجُمُ الزَّهَرُ وَاسْتَحْكَمَتْ غُرْبَةُ الإسلام وَانْكَسَفَتْ شَمْسُ الْعُلُومِ الَّتِي يَهْدِي بِهَا الْبَشَرُ تُخُرِّمَ الصَّالِحُونَ الْمُقْتَدَى بِهِمْ وَقَامَ مِنْهُمْ مَقَامَ الْمُبْتَدَا الْخَبَرُ فَلَسْتَ تَسْمَعُ إِلا كَانَ ثُمَّ مَضَى وَيَلْحَقُ الْفَارِطُ الْبَاقِي بِمَنْ غَبَرُوا وَالنَّاسُ فِي سَكْرَةٍ مِنْ خَمْرِ جَهْلِهِمُ وَالصَّحْوُ فِي عَسْكَرِ الأَمْوَاتِ لَوْ شَعِرُوا نَلْهُو بِزُخْرُفِ هَذَا الْعَيْشِ مِنْ سَفَهٍ لَهْوَ الْمُنَبِّتِ عَودًا مَا لَهُ ثَمَرُ وَتَسْتَحِثُّ مَنَايَانَا رَوَاحِلَنَا لِمَوقِفٍ مَا لَنَا عَنْ دُونِهِ صَدَرُ إِلا إلى مَوْقِفٍ تَبْدُوا سَرَائِرُنَا فِيهِ وَيَظْهَرُ لِلْعَاصِينَ مَا سَتَرُوا فَيَا لَهُ مَصْدَرَا مَا كَانَ أَعْظَمَهُ النَّاسُ مِنْ هَوْلِهِ سَكْرَى وَمَا سَكِرُوا فَكُنْ أَخِي عَابِرًا لا عَامِرًا فَلَقَدْ رَأَيْتَ مَصْرَعَ مَنْ شَادُوا وَمَنْ عَمَرُوا اسْتُنْزِلُوا بَعْدَ عِزٍّ عَنْ مَعَاقِلِهِمْ

.. كَأَنَّهُم مَا نَهَوْا فِيهَا وَلا أَمَرُوا تُغَلُّ أَيْدِيهِمُوُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنْ بَرُّوا تُفَكُّ وَفِي الأَغْلالِ إِنْ فَجَرُوا وَنُحْ عَلَى الْعِلْمِ نَوْحَ الثَّاكِلاتِ وَقُلْ وَالْهَفْ نَفْسِي عَلَى أَهْلٍ لَهُ قُبِرُوا الثَّابِتِينَ عَلَى الإِيمَانِ جُهْدَهُم وَالصَّادِقِينَ فَمَا مَانُوا وَلا خَتَرُوا الصَّادِعِينَ بِأَمْرِ اللهِ لَوْ سَخَطُوا أَهْلُ الْبَسِيطَةِ مَا بَالُوا وَلَوْ كَثُرُوا السَّالِكِينَ عَلَى نَهْجِ الرَّسُولِ عَلَى مَا قَرَّرَتْ مُحْكَمُ الآيَاتِ وَالسُّوَرُ الْعَادِلِينَ عَنِ الدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا وَالأَمْرَيْنَ بِخَيْرٍ بَعْدَ مَا ائْتَمَرُوا لَمْ يَجْعَلُوا سُلَّمًا لِلْمَالِ عِلْمَهُمُوا بَلْ نَزَّهُوهُ فَلَمْ يَعْلُقْ بِهِ وَضَرُ فَحَيَّ أَهْلاً بِهِمْ أَهْلاً بِذِكْرِهِمُوا الطِّيبِينَ ثَنَاءً أَيْنَمَا ذُكِرُوا أَشْخَاصُهُمْ تَحْتَ أَطْبَاقِ الثَّرَى وَهُمُوا كَأَنَّهُمْ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ قَدْ نُشِرُوا هَذِيْ الْمَكَارِمُ لا تَزْوِيقُ أَبْنِيَةٍ وَلا الشُّفُوفُ الَّتِي يُكْسَى بِهَا الْجُدُرُ

.. وَالْعِلْمُ إِنْ كَانَ أَقْوالاً بِلا عَمَلٍ فَلَيْتَ صَاحِبَةُ بِالْجَهْلِ مُنْغَمِرُ يَا حَامِلَ الْعِلْمِ وَالْقُرْآنِ إِنَّ لَنَا يَوْمًا تُضَمُّ بِهِ الْمَاضُونَ وَالأَخَرُ فَيَسْأَلُ اللهُ كُلاً عَنْ وَظِيفَتِهِ فَلَيْتَ شِعْرِي بِمَاذَا مِنْهُ تَعْتَذِرُ وَمَا الْجَوَابُ إِذَا قَالَ الْعَلِيم إِذَا قَالَ الرَّسُولُ أَوْ الصِّدِّيقُ أَوْ عُمَرُ وَالْكُلُّ يَأْتِيهِ مَغْلُولَ الْيَدَيْنِ فَمِنْ نَاجَ وَمِنْ هَالَكٍ قَدْ لَوَّحَتْ سَقَرُ فَجَدِّدُوا نِيَّةُ للهِ خَالِصَةً قُومُوا فُرَادَى وَمَثْنَى وَاصْبِرُوا وَمُرُوا وَنَاصِحُوا وَانْصَحُوا مَنْ وَلِيَ أَمْرَكُمُ فَالصَّفْوُ لا بُدَّ يَأْتِي بَعْدَهُ كَدَرُ وَاللهُ يَلْطُفُ فِي الدُّنْيَا بِنَا وَبِكُمْ وَيَوْمَ يَشْخَصُ مِنْ أَهْوَالِهِ الْبَصَرُ وَصَلِّ رَبِّ عَلَى الْمُخْتَارِ سَيِّدِنَا شَفِيعِنَا يَوْمَ نَارِ الْكَرْبِ تَسْتَعِرُ مُحَمَّد خَيْرِ مَبْعُوثٍ وَشِيعَتِهِ وَصَحْبِهِ مَا بَدَا مِنْ أُفْقِهِ قَمَرُ ... ›?

موعظة بليغة حول تربية الأولاد

اللَّهُمَّ كَمَا صِنْتَ وَجُوُهَنَا عَنِ السُّجُودِ لِغَيْرِكَ فَصُنْ وُجُوهَنَا عَنِ الْمَسْأَلَةِ لِغَيْرِكَ، اللَّهُمَّ مَنْ كَانَ عَلَى هَوَى وَهُوَ يَظُنُ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ فَرُدَّهُ إلى الْحَقِّ حَتَّى لا يَظَلُّ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ أَحَدٌ اللَّهُمَّ لا تَشْغَلْ قُلُوبَنَا بِمَا تَكَفَلْتَ لَنَا بِهِ وَلا تَجْعَلْنَا فِي رِزْقِكَ خَوَلاً لِغَيْرِكَ وَلا تَمْنَعْنَا خَيْرَ مَا عِنْدَكَ بِشَرِ مَا عِنْدَنَا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. مَوْعِظَةٌ عباد الله إِنَّ عَلَيْكُمْ مَسْئوليَّةً كُبْرَى وَفِي أَعْنَاقِكُمْ أَمَانَةً عُظْمَى سَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ يَبْعَثُ اللهَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، فَإِنَّ اللهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ حَفِظَ أَمْ ضَيَّعَ. عِبَادَ اللهِ إِنَّ فِي أَعْنَاقِكُمْ أَوْلادَكُم وَهُمْ أَفْلاذُ أَكْبَادِكُم فَاتَّقُوا اللهَ فِيهِمْ وَوَجّهُوهُمْ إلى الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالأَخْلاقِ الْفَاضِلَةِ، فَإِنَّ هَؤُلاء الأَوْلادِ سَيَكُونُونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ رِجَالاً، فَإِذَا تَرَبُّوا عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَتَعَوَّدُوا الأَخْلاقَ الصَّالِحَةَ الَّتِي تَرْفَعُ مَقَامَهُمْ وَتُعْلِي شَأْنَهُمْ وَحَصَّلُوا مِنَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ مَا يَنْفَعُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَيَنْفَعُونَ بِهِ عِبَادَ اللهِ، كَانُوا أَسَاسًا مَكِينًا لِنَهْضَةِ الأُمَّةِ وَهَذَا أَمْرٌ لا يَخْتَلِف فِيهِ اثْنَانِ. وَإِنْ اسْتَعَادُوا سَافِلَ الأَخْلاقِ وَهَجَرُوا الْعُلُومَ الشَّرْعِيَّةِ وَمَا يُعِينُ عَلَيْهَا، كَانُوا ضَرَرًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى الأُُمَّةِ. عباد الله التَّرْبِيَةُ أَمْرٌ عَظِيمُ الْخَطَرِ كَبِيرُ الْقِيمَةِ، وَالطِّفْلُ أَمَانَة عِنْدَ وَالِدَيْهِ، وَقَلْبُهُ الطَّاهِرُ جَوْهَرَةٌ نَفِيسَةٌ خَالِيَةٌ مِنْ كُلِّ نَقْشٍ وَصُورَةٍ فَإِنْ عُوِّدَ الْخَيْرَ وَعُلِّمَهُ نَشَأَ عَلَيْهِ وَسَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَشَارَكَهُ فِي ثَوَابِهِ أَبَوَاهُ، وَكُلُّ مُؤَدِّبٍ وَمُعَلِّمٍ لَهُ فِي الْخَيْرَ، وَإِنْ عُوِّدَ الشَّرَّ وَأَهْمِلَ وَتُرِكَ بِلا عِنَايَةٍ، شَقِيَ وَهَلَكَ وَكَانَ عَلَى وَلِيّه وَرَاعِيهِ مَا يَسْتَحِقُّ مِنَ الإِثْمِ.

ما قاله في الدروس الوعظية - ويليه فصل مواغظ

فَالتَّرْبِيَةُ هِيَ غَرْسُ الدِّينِ الإسلامي وَمَحَبَّتِهِ وَآدَابِهِ قَوْلاً وَعَمَلاً وَاعْتِقَادًا، وَغَرْسُ الأَخْلاقِ الْفَاضِلَةِ فِي نُفُوسِ النَّاشِئِينَ وَسَقْيُهَا بِمَاءِ الإِرْشَادِ وَالنَّصِيحَةِ، وَالتَّوْجِيهِ إلى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَإتِّبَاعِ سَبِيلِ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ مِن الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُمْ. قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْبُخَارِي عن أبي هريرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلا عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ)) . ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ. وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ (فَصْلٌ) قَالَ فِي الدُّرُوسِ الْوَعْظِيَّةِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: أَجْمَعَ الْعُقَلاءُ عَلَى أَنَّ الإِنْسَانَ بِحَاجَةٍ إِلى التَّرْبِيَةِ فَإِنَّمَا يُولَدُ صَغِيرًا مُجَرَّدًا عَنْ كُلِّ الْمُمَيِّزَاتِ قَابِلاً لِكُلِّ نَقْشٍ مُسْتَعِدًّا لِكُلِّ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ مِنْ تَعْلِيمٍ وَيُحَاطُ بِهِ مِنْ تَثْقِيفٍ. وَالْوَالِدَانِ هُمَا الرَّاعِيَّانِ لِولَدِهِمَا الْمَسْؤُلانِ عَنْهُ لَدَى اللهِ وَالنَّاسِ، فَإِنْ أَحْسَنَا تَأْدِيبَهُ وَعَوَّدَاهُ الْخَيْرَ وَإنْشَاءَهُ عَلَيْهِ سَعْدَ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ وَنَالَ أُمْنِيَّتِهِ وَمُبْتَغَاهُ، وَكَانَ لِوَالِدَيْهِ وَكُلِّ مِنْ اشْتِرَكَ فِي تَعْلِيمِهِ وَسَاهَمَ فِي تَهْذِيبِهِ أَجْرُهُ عِنْدَ اللهِ، وَإِنْ أَهْمَلََهُ وَالِدَاهُ إِهْمَالَ الْبَهَائِم وَلَمْ يَرْعَيَا حَقَّ اللهِ بِهِ كَانَ إثْمُهُمَا عِنْدَ اللهِ كَبِيرًا وَسُؤَالُهُمَا خَطِيرًا.

وَإِنَّ مِن الأُمُورِ الْمُحَقَّقَةِ وَالْحَقَائِقِ الْمُشَاهَدَةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا أَنَّ عَقْلِيَّةِ الْوَلَدِ تَتَأَثَّرُ بِتَأَثُّرِ الْبِيئَةِ وَالْمُجْتَمَعِ صِحَّةٌ وَفَساَدًا، لِسَذَاجَةِ نَفْسِهِ وَسَلامَةِ فِطْرَتِهِ إِذَنْ، فَوَاجِبُ الْوَالِدِ كَبِيرٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُوَطُه بِعِنَايَةٍ دَقِيقَةٍ وَرِقَابَةٍ شَدِيدَةٍ وَتَوْجِيهٍ صَحِيحٍ وَتَرْبِيَةٍ حَسَنَةٍ. وَذَلِكَ بِأَنْ يُؤَدِّبَهُ، وَيُهَذِّبَهُ، وَيُعَلِّمَهُ مَكَاِرَم الأَخْلاقِ، وَمَحَاسِنَ الْعَادَاتِ، وَيَحْفَظَهُ مِنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ، وَذَوِي الأَخْلاقِ الْمُنْحَطَّةِ، وَلْيَعْلَم الْوَالِدُ أَنَّ وَلَدَهُ أَمَانَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَلْيُؤَدِّ وَاجِبَ الأَمَانَةِ، وَلْيَقُمْ بِحَقِّ الرِّعَايَةِ. وَإِذَا أُهْمِلَ الْوَلَدُ فِي ابْتِدَاءِ نَشْأَتِهِ وَأَوَّلِ رَعْرَعَتِهِ وَتَمْيِيزِهِ خَرَجَ خَبِيثَ الطَّبْعِ سَيِّءِ الأَخْلاقِ، مُحْتَالاً كَذَّابًا سَرَّاقًا كَثِيرَ الْهَذَيَانِ وَفُضُولِ الْكَلام، يَتَدَخَّلُ فِيمَا لا يَعْنِيهِ، بَذِيءَ اللِّسَانِ مُغْتَابًا نَمَّامًا وَقِحًا بَعِيدًا َعن التَّقْوَى وَالطَّاعَةِ، قَرِيبًا مِن الْفُسُوقِ وَالْفُجُورِ. وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالُ لا يَكُونُ وَبَالاً عَلَى الْمُجْتَمَعِ وَعُضْوًا فَاسِدًا يَجِبُ أَنْ يَبْتَرَ وَيُقْطَعَ إِلا مَنْ حَفِظَ رَبُّكَ. وَيَجِبُ عَلَى وَلِيّ الطِّفْلِ وَالطِّفْلَةِ عِنْدَ إِرَادَةِ التَّعْلِيمِ أَنْ يُسَلِّمَ الْوَلَدَ لِمُرَبٍّ صَالِحٍ، وَمُعَلِّمٍ نَاصِحٍ، يَحْفَظُ عَلَيْهِ أَخْلاقَهُ، وَيُحَسِّنُ آدَابَهُ، وَيُرَوِّضُه وَيُمَرِّنُه عَلَى الشَّعَائِرَ الدِّينِيَّةِ، وَيُلَقِّنَهُ الْعَقَائِدَ الصَّحِيحَة السَّلِيمَةَ، الإسلاميَّةِ وَلا يَتَسَامَحْ مَعَهُ فِي إِهْمَالِ أَمْرِ الدِّينِ وَآدَابِهِ. وَلا يَجُوزُ تَسْلِيمُ الطِّفْلِ إلى مُعَلِّمٍ مُتَهَتِّكٍ يَسْتَهْتِرُ بِأَمْرِ الدِّينِ أَوْ زِنْدِيقٍ مَارِقٍ لا يُبَالي بِعَقَائِدِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ جَاهِلٍ سَخِيفٍ يَبْهُتُه بِالْخَرَافَاتِ واَلغْرَائِبِ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ لا يُمَيِّز الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِل واَلغْثَ مِن السَّمِينِ،

أَوْ مُلْحِدٍ خَارِجٍ عَن الأَوَامِرِ الإِلَهِيَّةِ وَالنَّوَامِيسِ السَّمَاوِيَّةِ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِالتَّعَالِيمِ الدِّينِيَّةِ، أَوْ يَقْذِفُ بِهِ فِي الْمَدَارِسِ التَّبْشِيرِيَّةِ الأَجْنَبِيَّةِ ذَاتِ الأَغْرَاضِ الْمَعْرُوفَةِ وَالْغَايَاتِ الدَّنِيئَةِ وَالتَّوْجِيهِ الْفَاسِدِ ضِدَّ الإسلام وَالْمُسْلِمِينَ. وَلِمِثْلِ هَذِهِ الأَغْرَاضِ الشَّرِيفَةِ وَالْغَايَاتِ النَّبِيلَةِ، يُرْشِدُنَا النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى رِعَايَةِ الْوَلَدِ، وَصِيَانَتِهِ، وَشِدَّةِ مُرَاقَبَتِهِ، وَحِمَايَتِهِ فَهُوَ يَقُولُ: ((مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلا عَلَى الْفِطْرَةِ الصَّحِيحَةِ الإسلاميَّةِ، وَالْعَقِيدَةِ الْمَرْضِيَّة فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ)) . الْمَعْنَى إِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَمَنْ تَغَيَّرَ عَن الْفِطْرَةِ الصَّحِيحَةِ وَمَالَ إلى الْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ وَالآرَاءِ الْفَاسِدَةِ، وَالْمَذَاهِبِ الزَّايفَةِ كَانَ سَبَبُ تَغَيُّرِهِ أَنَّ أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ بِتَعْلِيمِهِمَا إِيَّاهُ، وَتَرْغِيبِهِمَا فِيهِ، أَوْ. وَنَحْوَ هَذِهِ الآيَةِ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا وَالآيَةُ الأُخْرَى وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ. وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. (فَصْلٌ) وقال في توجِيهَات دينية ومناصحات فيما يجب علي الراعي والرعية. يا أيها المؤمنونَ المسئولون الكرام: إن المؤمن إذا أمعن الفكرة، وتلمس الحقيقةَ، وتجافَى عن التصنعِ والمغالطةِ. عَلِمَ أن ما أصابَ المسلمينَ مِن تَدَهْوُرٍ وَانْهِيَارٍ، وَنَقْصٍ من أخلاق الدين الحنيف، وتعاليمهِ القيمةِ وسببهُ الوحيدُ.

وعَامِلُه المفردُ تفريطُ زعماءِ الأمة الإسلامية في تربيةِ الشبابِ والتراخي في جهادِ النفوسِ على ما يَجِبُ مِن مُعَانَاةِ النَّشْءِ: ... وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الْفِتْيَانِ مِنَّا ... عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أَبُوهُ ... ›? ???? ???? ومَن هُم زعماءُ الأمةِ؟ نَعْنِي كُلُّ مَنْ يَلي أمرًا مِنْ أمور المسلمين بأمارةٍ أو إدارةٍ، أو يَشْغَلُ مَنْصِبَ تَعْلِيمٍ، أو تكون له كلمةٌ مَسْمُوعَةٌ. إن أبناءَ المدارسِ في عمومِ البلادِ الإسلامية. هُمُ رجالُ المستقبلِ بَلْ هُمْ المسلمونَ المرجونَ لحملِ الدينِ وَحِمَايَتِهِ. فإذا أنْهارَ كيانُ الدِّين في نُفُوسِهم، وتَلاشَى تَعْظِيمُ الشَّرِيعَةِ فِي قُلُوبهم، وجَهِلُوا مَا بَلَغَ هَذَا الدِّينُ العَظِيم بأهلِهِ دُنْيًا وَأُخْرَى في حالِ طُفُولَتِهم، وفَرَاغِ أذهانِهِم. فكيفَ يكونُ الحالُ إِذَا شَبَّ أَبْنَاؤُنَا، وَهُمْ لا يَرَوْنَ وَلا يَسْمَعُونَ إلا دُعَاةَ الاستعمارِ، وَسَمَاسِرَةَ الغربِ قَوْلاً وَعَمَلاً يَتَشَدَّقُونَ بِتَضْخِيم الْغَرْبِ، وَتَعْظِيم رِجَالِهِ، وَينخَرِطُونَ فِي هُوَّةِ تَقْلِيدِهِم. فَيَفْعَلُ هؤلاءِ، وَيَتَغَافَلُ أولئكَ عن مآثِرَ هِيَ الْمُثُلُ الْعُلْيَا فِي رُقِيّ الْبَشَرَ، قِدْمًا في حَيَاتِهِ الهَنِيئَةِ المُوصِلَة إلى حَيَاتِهِ الأَبَدِيَّةِ فِي جِوَارِ خَالِقِهِ الْكَرِيم. إِن تِلْكَ المآثِرَ الَّتِي جَلَّتْ عن الْخَفَاء، وَشَهَدَتْ بِهَا الأَعْدَاءُ، وَظَهَرَتْ ظُهُورَ الشَّمْسِ في الملأ لتُبَرْهِنُ على مجد أبنائها. أولئكَ السادةُ آباؤنا الكرام وسَلَفُنَا الصالِحُ، الذين خَالَطَتْ بَشَاشَةُ الإيمان قُلُوبَهم، وامتَزَجَتْ عَقَائِدُ الدِّينِ بِنُفُوسِهم، وَانْطَبَعَتْ آدابُه وَتَعَاليمُه في أخلاقِهم. فَمَثَّلُوه عَمَلاً، وَدَعَوْا إِلَيْهِ فِعْلاً قَبْلَ دُعَائِهِمْ إِلَيْهِ قَوْلاً، وَطَبَّقُوا قَوَانِينَهُ وَأَنْظِمَتَهُ حُكُومَاتٍ وَشُعُوبًا وَأَفْرَادًا.

أولئكَ الذين اسْتَرْخَصُوا مُهَجَهُم في سَبيلِ إعْزَازِهِ، وَضَحُّوا بأمْوَالِهِمْ وَأَوْلادِهِمِ وَأَوْطَانِهِمْ فِي حِمَى حَوْزَتِهِ، والذب عن كِيانِهِ: ... هُمُ الَّذِينَ رَعَوا لِلدِّينِ حُرْمَتَهُ ... لِلدِّينِ عِنْدَهُمْ جَاهٌ وَمِقْدَارُ ... ›? ???? ???? عَظُمَ أَمْرُ الدِّينِ في قُلُوبِهِمْ فَلَمْ يُشَارِكْهُ وَطَنٌ وَلا عَشِيرَةِ. بِهِ وَحْدهُ قَامُوا وبهم قامَ وَلَهُ قَاتَلوا، وَفِيهِ أَحَبُوا وَأَبْغَضُوا ولِشَعَائِرِهِ عَظَّمُوا، وَعِنْدَ حُدُودِهِ وَقَفُوا، وَبِأَوَامِرِه امْتَثَلُوا. فَامْتَطَوا به هَامَ العَالَمِ حِينَ حَمَلُوهُ، وَأَصْبَحُوا بِهِ مَضْرَبَ الأمثالِ في العِز إذ مَثَّلُوه. لم تَسْتَعْبِدْهُم الدُّنيا، ولم تُسَيْطِرْ عَلَى نُفُوسِهِمْ شَهوةٌ ذَاتِيَّةٌ، ولم تَمْلِكْهُم الأَعْرَاضُ الشَّخْصِيَّةِ. ولم يَحْمِلْهُم حُبُّ الانتصارِ عَلَى الظُّلْمِ المُدَمِّرِ، ولم يَثْنِهِمْ حُبُّ الوطَنِ عن الْهِجْرَةِ إليه: ... سِيرُوا كَمَا سَارُوا لِتَجْنُوا مَا جَنُوا ... لا يَحْصُدُ الْحُبَّ سِوَى الزَّراع ... ›? ???? ???? إنَّ مَحْضَ النُّصْحِ لَيُحَتِّمُ التَّصريح بأن ما حَلَّ بالأُمَّةِ الإسلامية إنما يَتَحمل تبعته كاهلان، ويَتَقَلَّدُ مَسؤوليته عُنُقَان: أُمَرَاءُ الأُمَّةِ، وعُلَمَاءُ الدِّينِ. أُولئكَ الَّذِين أَوْجَبَ الله لَهُم السمعَ والطاعةَ، وأُخَذَ عَليهم العهدَ والميثاقَ. فَإِذَا قَامَ العلماءُ بِنَشْرِ تَعَالِيمِ الدِّين، وَتَجْلِيَتِهِ بالأعمال في مَظْهَرِهِ الْحَقِيقِي، وَرَوْنَقِهِ البَاهِرِ. وَقَامَ الأُمَرَاءُ بِتَطْبِيق أَنْظِمَتِهِ الْكَرِيمةِ، وَتَنْفِيذِ أَوَامِرِهِ الْقَيِّمَةِ، والاستفادَةِ بإرْشادَاتِهِ السَّاطِعَةِ. وتَحَقَّقُوا بِوَصْفِ الله لِخُلَفَائِهِ في أَرْضِهِ: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي

الأرض أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} . وأَسْنَدُوا الأُمُورَ إلى أَكْفَائِهَا عَمَلاً بِقَوْلِهِ تَعَالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} وَتَصَوَّرُوا مَسْؤُلِيتَهُم الْمُحَقَّقَةِ بِأَخْبَارِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ ?: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)) . فاجْتَهِدُوا حَسَبَ الإِمْكَانِ في اخْتِيَارِ الْمُعَلِّمِينَ في مَعَاهِدِهِمْ وَمَدَارِسِهِمْ الدِّينِيَّةِ، وَتَعَهُدِهِمْ بالمراقبةِ الحَقَّةِ الْمُكَافَحِةِ لاتخاذِ التَّعْلِيمِ مَكْسبًا مَحْضًا لا أمانةً وَدِينًا. (إن هذا العِلمَ دِينٌ فَانْظُروا مَنْ تأخذونَ دِينكُم عنه) فَمَنْ خَالَفَ قَوْلُهُ عَمَلَهُ لا يَحِلُّ أَن يُوَلَّى أَمَانَةَ التَّعْلِيم، ولا يَصْلُحُ لِرعَايَةِ أَوْلادِ المسلمين. بل يَجِبُ عليه إصْلاحُ حَالِهِ أَولاً كما قِيل: - فابْدأْ بنفسك فانْهَهَا عَنْ غَيِّها - ومِن المحالِ أن يَنْطَبِعَ في قَلْبِ مُتَعَلِّمٍ ما لَيْسَ مِن صِفَةِ مُعَلِّمِهِ. إن القولَ المجردَ عن العملِ لا أثرَ لَهُ ضَرَرُهُ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ، لأَنَّ الْمُتَعَلِّمَ إِذَا رَأَى تَعَالِيمَ الإسلام عِنْدَ مُعَلِّمِهِ صُورَةً مُجَرَدَةً عَن العملِ اعتقدَ بِحُكْْمِ طُفُولَتِهِ وَبِجَهْلِهِ بَادِئ الأَمْرِ أن الْعِلْمَ مَقْصُودٌ لِنَفْسِهِ، لا لِلْعَمَلِ به فلم يَرْضَ نَفْسَهُ على الْعَمَلَ بِعِلْمِهِ. وَبِهَذَا تَعْظُم مُصِيبتُهُ في مُسْتَقبلِ أمره. فَيَجِبُ أَنْ يَتَجَافَى المسْئولُونَ في مَعَاهِدِهِمْ وَمَدَارِسِهم الدِّينِيَّةِ عن الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُون، وَيُظْهِرُونَ مَا لا يُبْطِنُونَ. أُوَلئِكَ الَّذِين مَقَّتَهُمْ الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} .

قصيدة بليغة فيما فعل الطغاة العتاة البغاة في المسلمين

وفي الحديث: ((أَخْوَفَ ما أخافَ على أُمَّتِي كُلَّ منافِقِ عَلِيمِ اللسان)) . وفي شَرْحِ ابن رَجَبَ على حديث: ((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ)) . .... الخ رُوِيَ عن عمر رضي الله عنه أنه قَالَ على المنبر: إن أخوفَ ما أخافُ عليكم المُنَافِقَ العليم. قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ الْمُنَافِقُ عَلِيمًا؟ قَالَ: يَتَكَلَّمُ بالحكمةِ ويَعْمَلُ بالجورِ أو قَالَ المنكر. ولا نَلْتَمِسْ من المسُئولينَ التَّفْتِيشَ عن البَاطِنَ، وَتَتبعَ السَّرَائِرَ، فإننا لم نُؤْمَر بِذَلِكَ، وَيَكْفِي المجاهرةُ بمخالفةِ الأعمالِ الظَّاهرَةِ للتعاليم المرسومةِ. فإن وَفَّقَنَا الله للقيام بالواجب، وأرجوا أن يكون آن لنا ذلك. وبذلكَ نكون قد تلافينا الخلل، وعالجنا الداء ووضعنا الهناء موضع النقب: ... فَيَا مَعْشَرَ الْحُكَّامِ مِن كُلِّ مُسْلِمٍ ... بِنَا فَانْهَضُوا نَحْوَ المَعَالي وَشَمِّرُوا ... ???? ???? ... لِنَعْمُرَ مَجْدًا قَدْ بَنَتْهُ سَرَاتُنا ... فَأعْلَوْا وَعَنْ كُلِّ النَّقَائِصَ سَوَّرُوا ... ???? ???? ... وَسِيرُوا بِنَا نَفْقُوا شَرِيعَةَ أَحْمَدٍ ... نَبِيّ أَتَى بِالْعَدْلِ وَالْبِرِّ يَأْمُرُ ... ???? ???? ... وَخَافُوا إلَهَ الْعَرْشِ في هَضْمِ أُمَّةٍ ... لَهَا نَبَأْ في الذِّكْرِ يُتْلَى وَيُذْكَرُ ... ???? ???? ... وَمَا الْهَضْمُ إلا أَنْ تُضَامَ شُعُوبُكُم ... وَمَا الْعُذْرُ عِنْدَ اللهِ أَنْ تَتَأَخَّرُوا ... ???? ???? ... فَسِيرُوا بِهَا نَحْوَ الإِمَامِ نَسُرُّكُمْ ... فَلَيْسَتْ جُنُودًا بِلْ هِيَ الأُسْدُ تَزْأَرُ ... ???? ???? ... إِذَا أُوتِيَ الرَّاعُونَ حُسْنَ قِيَادَةٍ ... وَصِدْقًا فَإِنَّ الْجُنْدَ جُنْدٌ مُظَفَّرُ ... ???? ???? ... فَمَا نَهَضَ الْكَابُونَ فَضْلاً وَإِنَّمَا ... رَأَوْنَا نِيَامًا ثُمَّ قَامُوا وَزَمَّرُوا ... ???? ???? ... وَقَدْ جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ وَعْدًا مُحَقَّقًا ... بِأَنَّكُمْ إِنْ تَنْصُروا اللهَ تُنْصَرُوا ... ???? ???? ... وَهَلْ نَصْرُهُ إِلا إتباعُ كِتَابِهِ ... وَتَحْكِيمُ مَا قَالَ الرَّسُولُ المُطَهَّرُ ... ???? ???? ... فَيَا قَادَةَ الدِّينِ الْحَنِيفِ تَنَاصَرُوا ... وَخَلُّوا أُمُورًا عَنْ عُلاكُمْ تُقْهْقِرُ ... ›? ???? ????

.. فَمَا الْعِزُّ إِلا في اجْتِمَاعِ سَرَاتِكُمْ ... وَأَنْ تَتَوَاصَوْا بِالضِّعَافِ وَتُؤْثَرُوا ... ???? ???? ... وَلا تَسْلَمُوا أَبْنَاءَ دِينٍ مُقَدَّسٍ ... لِكُلِّ غَبِيٍّ بِالْقَبَائِحِ يَجْهَرُ ... ???? ???? ... وَمَجْهُولِ حَالٍ قَدْ رَأَى الْعِلْمَ صَنْعَةً ... وَيَكْفِيهِ مِنْهُ أَنْ يُقَالَ مُحَرَّرُ ... ???? ???? ... فَمَنْ يَا أَبَاةَ الضَّيْمِ لِلدِّينِ بَعْدَكُمْ ... وَمَنْ لِلشَّبَابِ النَّاشِئِينَ يُبْصِّرُ ... ???? ???? ... تَجَافُوا عَنِ الْجَافِينِ فِي كُلِّ مَعْهَدٍِِ ... وَمَدْرَسَةٍ فِيهَا الْمَعَارِفُ تُنْشَرُ ... ???? ???? ... كَذَاكَ عَن الْغَالِينَ وَابْغُوا أَفَاضِلاً ... فَضَائِلَهُمْ فِي النَّاشِئِينَ تُؤْثَرُ ... ???? ???? ... فَمَرَآةُ أَخْلاقِ الْمُعَلِّمِ طِفْلُهُ ... وَمَا فِيهِ فِي تِلْمِيذِهِ لَكَ يَظْهَرُ ... ???? ???? ... فَأَوْلُوهُم منكم رِقَابَةَ مُخْلِصٍ ... تُمَحِّصُ مِنْ أَخْلاقِهِمْ وَتُطَهِّرُ ... ???? ???? ... فَمَهْمَا اسْتَقَمْتُمْ تَسْتَقِيمُ شُعُوبُكُمْ ... وَإِنْ تُبْصِرُوا أَنْتُمْ فَكُلٌ سَيُبْصَرُ ... ›? ???? ???? اللَّهُمَّ يَا عَالَم الخَفياتِ وَيَا سَامِعَ الأَصْوَاتِ وَيَا بَاعِثَ الأَمْواتِ وَيَا مُجِيبَ الدَّعَوَاتِ وَيَا قَاضِي الحَاجَاتِ يَا خَالَق الأرض وَالسَّمَاوَاتِ أَنْتَ اللهُ الأحدُ الصمدُ الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد، الوَهَّابُ الذي لا يَبْخَلُ وَالحِليمُ الذي لا يَعْجَلُ، لا رَادَّ لأمْركَ وَلا مُعَقِّبَ لِحُكَمِكَ، نَسْأَلَكَ أَنْ تَغفرَ ذُنوبَنَا وَتُنَورَ قلوبنَا وَتُثَبِّتَ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَتُسْكِنَنَا دَارَ كَرَامَتِكَ إِنك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ يَحْتَوِي عَلَى آدَابِ وَمَوَاعِظَ وَنَصَائِحَ وَأَخْلاقٍ فَاضِلَةَ) وَاعْلَمْ أَنَّ وقَايَةَ الأَنْفُس بِالْزَامِهَا أَوَامِرَ اللهِ امْتِثَالاً وَنَوَاهِيهِ اجْتِنَابًا وَالتَّوْبَةُ عَمَّا يُسْخِطُ اللهِ، وَيُوجِبُ الْعَذَابَ. وَوِقَايَةِ الأَهْلِ وَالأَوْلادَ بِتَأْدِيبِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ وَإِلْزَامِهِمْ عَلَى أَمْرِ اللهِ فَلا يَسْلَمُ الْعَبْدُ إِلا إِذَا قَامَ بِأَمْرِ اللهِ بِهِ فِي نَفْسِهِ وَفِيمَنْ تَحْتَ ولايَتِهِ وَتَصَرفِهِ.

وَرُوِيَ أَنَّ عُمَر قَالَ حِينَ نَزَلَتْ الآية الآتية بعد سطرين: يَا رَسُولَ اللهِ نَقِي أَنْفُسَنَا فَكَيْفَ لَنَا بِأَهْلِينَا فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((تَنْهَوْنَهُنَّ عَمَّا نَهَاكُم اللهُ عَنْهُ وَتَأْمُرُونَهُنَّ بِمَا أَمَرَكُمْ اللهُ بِهِ فَيَكُونَ ذَلِكَ وِقَايَةٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّارِ)) . وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَعْدَ سِيَاقِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} وَحَدِيثُ: ((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ)) . إِنَّ تَرْبِيَةَ الأَوْلاد وَتَعْلِيمَهُمْ لأَمْرٌ عَظِيمٌ لَهُ شَأْنُهُ الأَكْبَر وَخَطَرُهُ الْجَسِيمُ فِي حَيَاتَنَا الدِّينِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ، وَالْخُلُقِيَّةِ، فَهُمْ قُوَى الْمُجْتَمَعِ الْمُنْتَظَر وَدَعَائِمِه الَّتِي سَيَقُومُ عَلَيْهَا، وَعَلَيْهِمْ وَحْدَهُم يَتَوَقَّفُ رُقِيُّ الأٌمَّةِ الْحَقِيقِيّ وَنُمُوُّهَا وَتَقَدُّمُهَا. وَإِنَّ أَمَامَهُمْ لَخَطَرٌ عَظِيمٌ وَغَزْوٌ هَائِلٌ مُتَسَتِّرٌ بِبَعْضِ الثَّقَافَاتِ لِهَدْمِ عَقَائِدِهِمْ وَفَسَادِ أَخْلاقِهِمْ، وَانْتِزَاعِ رُوح الإبَاءِ وَالْغِيرَةِ وَالْعَفَافِ مِنْ نُفُوسِهِمْ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ. وَإِنَّ مُشْكِلَتَهُمْ الْيَوْمَ لَهِيَ أُمُّ الْمَشَاكِل فَلأَنْ نَخْسَرَ الأَمْوَالَ وَالأَنْفُسَ أَيْسَرُ وَأَهْوَنُ مِنْ أَنْ نَخْسَرَ رُوحَ نَشْئِنَا الْمَعْنَوِيَّةِ، وَعَقَائِدَهُمْ السَّلَفِيَّةِ، فَيَجِبُ أَنْ نَسْعَى فِي حِيَاطَتِهِمْ بِسِيَاجِ الدِّينِ وَأَنْ نَغْرِسَ فِي نُفُوسِهِمْ أَوَّلاً وَقَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ احْتِرَامَ الإسلام، وَحُبَّ تَعَالِيمِهِ، وَآدَابِهِ قَوْلاً وَعَمَلاً وَاعْتِقَادًا. يَجِبُ أَنْ يَعْتَنِي بِذَلِكَ الإبَاءُ وَالْمُصْلِحُونَ يَجِبُ أَنْ لا يُوكَلَ تَرْبِيتُهم وَتَعْلِيمُهُمْ وَتَهْذِيبُهُمْ وَالإِشْرَافُ عَلَيْهِمْ إِلا لِمَنْ عُرِفَ بِصِحَّةِ الْعَقِيدَةِ وَسَلامَةِ الْمَبْدَأَ وَنَزَاهَةِ الْعِرْضِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى شَعَائِر الدِّينِ وَأَرْكَانِهِ فَمَا أَنْتُمْ إِلا بِاللهِ ثُمَّ بِنَشْئِكُمْ وَمَا النَّشْئُ إِلا بِاللهِ ثُمَّ بِالدِّينِ وَالأَخْلاقِ. ... وَإِنَّمَا الأُمَمُ الأَخْلاقُ مَا بَقِيَتْ ... فَإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخْلاقُهُمْ ذَهَبُوا ... ›? ???? ????

آخر: ... إِذَا اسْتَحَالَتْ سجايا القوم فاسدة ... فَلَيْسَ يَنْفَعُهم عِلْمٌ ولا عَمَلٌ ... ›? ???? ????وَيَقُولُ الآخَرُ: ... صَلاحُ أَمْرِكَ لِلأَخْلاقِ مَرْجعُهُ ... فَقَوِّمِ النَّفْسَ بِالأَخْلاقِ تَسْتَقِمِ ... ›? ???? ???? وَمَا الأَخْلاقُ إِلا بِالتَّرْبِيَةِ الإسلامية الصَّحِيحَةِ فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ فِي ثَمَرَاتِ قُلُوبِكُمْ وَفَلَذَاتِ أَكْبَادِكُمْ لا تُهْمِلُوا تَربِيَتُهُمْ التَّرْبِيَةَ الإسلامية، وَلا تَتَسَاهَلُوا بِهَا فَاتَّقُوا اللهَ عباد الله فَقَدْ أُلْقِيَتْ إِلَيْكُمْ مَقَالَيِدُهُمْ، وَأَصْبَحْتُمْ رُعَاةَ أُمُورِهِمْ، وَلا تَكِلُوا إلى حَاضِنَةٍ وَلا مُرَبِّيَةٍ وَلا إلى مُعَلِّمٍ لَمْ تَتَأَكَّدُوا صِحَّةَ إِسْلامِهِ. فَإِنَّهُمْ وُلِدُوا أَصْفِيَاءَ النُّفُوسِ قَابِلِينَ لِكُلِّ مَا أُلْقِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، فَإِنْ وُفِّقَ أَحَدُهُمْ فِيمَنْ يُحْسِنُ تَرْبِيَتَهُ وَتَعْلِيمَهُ وَيغذبه بلِبَانِ الدِّينِ، وَيُحَبِّبُهُ لِسِيرَةِ سَيِِّدِ الْمُرْسَِلينَ، شَبَّ حَسَنَ الأَخْلاقِ طَيِّبَ النَّفْسِ، مُتَمَسِّكًا بِدِينِهِ، مُبْتَعِدًا عَن الرَّذَائِلِ، وَمُتَحَلِّيًا بِالْفَضَائِلَ، نَافِعًا لِلأُمَّةِ. وَإِلا فَسَيَشِبُّ خَبِيثَ النَّفْسِ فَاسِدَ الاعْتِقَادِ سَيِّءَ الأَخْلاقِ خَالٍ مِنْ الرُّوحِ الإسلامية وَالتَّعَالِيمِ النَّبَوِيَّةِ كلاً عَلَى نَفْسِهِ وَعَشِيرَتِهِ وَشَقَاءَ وَشَرًّا عَلَى مُجْتَمَعِهِ، وَبَلاءً. فَاتَّقُوا اللهَ عباد الله فِي أَوْلادِكُمْ بَاعِدُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قُرَنَاءِ السُّوءِ وَفَاسِدِي الأَخْلاقِ وَفَاقِدِي الْمُرُوءَةِ وَالشَّرَفِ، وَمُرُوهُمْ بِمَا أُمِرْتُمْ بِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} وَأَخْبَرَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَ: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} الآيَةِ وَقَالَ حِكَايَةً عَنْ لُقْمَانَ وَهُوَ يُوصِي ابْنَهُ: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} . وَانْهُوهُمْ عَمَّا يَضُرُّهُمْ كَمَا أَخْبَرَ اللهُ عَنْ لُقْمَانَ بَعْدَ مَا أَمَرَ ابْنَهُ بِأَشْيَاءَ نَهَاهُ

عَنْ أَشْيَاءَ فَقَالَ: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} . وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ آدَابًا نَحْوَ الصبي إذا بَلَغَ سِنَّ التَّمِييزِ فَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: وَمَهْمَا بدت من الصّبي مخايل التمييز فينبغي أن يُحْسَنَ مُرَاقَبَتَهُ ومطالعةُ أحواله فإذا ظهرت في وجهه أنوار الحياء وكان يَحْتَشِم ويَستحي مِن بعضِ الأفعالِ حتى يَراها قبِيحة. فهذه هدايَةٌ مِن الله تعالى إليه وبشارة تَدُلُّ على اعتدالِ الأَخلاقِ وصفاءِ القلبِ. وَمِنْ هَذِهِ حَالهُ فَهُوَ مُبَشَّر بكمال العقلِ عند البلوغِ. فَيَنَبْغِي أن لا يُهْمَلَ عن رِعَايَةِ الاعتناءِ في حقّه بِحُسْن الأَدبِ. وَجُمْلَةُ ما نُشِيرُ إليه ممَّا يُعَامَلُ به من الآدابِ وَاحدٌ وثلاثون أَدَبًا. الأَدَبُ الأَوَّلُ: هُوَ أَنَّ الْغَالِبَ على الأطفال الشّرَهُ في الطعامِ فَيَنْبَغِي أن يُؤَدَّبَ فيه فلا يأْكلُ الطَّعَامَ إلا بِيَمِينِهِ. ويقولُ بسم اللهِ عند أَكْلِهِ وَليَأْكُلْ مِمَّا يَلِيهِ. ولا يُبَادِرُ إلى الطَّعَامِ قَبْلَ غَيْرِهِ. قَالَ الشاعر: ... وَإِن مُدَّتِ الأَيْدِي إلى الزَّادِ لَمْ أَكُنْ ... بِأَعْجَلِهِمْ إِذْ أَجْشَعُ الْقَوْمِ أَعْجَلُ ... ›? ???? ???? ولا يُحَدِّق إلى الطعام وإلى مَنْ يَأْكُله فإنَّ هَذِهِ دَلِيلٌ على البُخل. الأَدَبُ الثَّانِي: يُؤْمَرُ أَنْ لا يُسْرَعَ فِي الأَكْلِ، وَيَمْضَغَ الطَّعَامَ مَضْغًا جَيِّدًا وَلا يُوَالي بَيْنَ الأَكَلاتِ وَيُلَطِّفُ اللُّقْمَةَ وَلا يُلطِّخُ أَثْوَابَهُ. الأَدَبُ الثَّالِثُ: يُعَوَّدَ أَكْلَ الْخُبْزِ مِنْ غَيْرِ الإِدَامِ فِي بَعْضِ الأَوْقَاتِ

حَتَّى يَصِيرُ بِحَيْثُ لا يَرى الإِدَامَ حَتْمًا وَاجِبًا لأَنَّهُ رُبَّمَا فَقَدَهُ. وَيُقَبَّحُ عِنْدَهُ كَثْرَةُ الأَكْلِ بِأَنْ يُشَبِّهُ مَنْ يُكْثِرُ الأَكْلَ بِالْبَهَائِمِ. وَيُذَمُّ الصَّبِيُّ الَّذِي يُكْثِرُ الأَكْلَ عِنْدَهُ وَيُمْدَحُ الصَّبِيُّ الْقَلِيلُ الأَكْلِ حَتَّى يَقْتَدِي بِذَلِكَ لِئلا يَصِيرَ شَرَهًا لا يَهُمَّه إلا بَطْنُه. الأَدَبُ الرَّابِعَ: يُحَبَّبُ إِلَيْهِ الإِيثَار بالطعامِ وَقِلَّةِ الْمُبَالاةِ، وَيُمْدَحُ عِنْدَهُ الطَّعَامِ الَّذِي فِيهِ خُشُونَةٌ أَيَّ طَعَامٍ كَانَ بِحَيْثُ لا يَكُونُ مُولَعًا بِالطَّعَامِ اللَّيِّنِ فَيَصْعُبُ عَلَيْهِ مُفَارَقَتُهُ. الأَدَبُ الْخَامِسُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ لِبَاسَهُ مِن الثِّيَابِ الْبِيضِ دُونَ الثِّيَابِ الْمُلوَّنَةِ بِالصِّبَاغَاتِ الْمُزَغْفَرَةِ والمعصفرة وَأَنْوَاعِ الدِّيبَاجِ وَالأَبريسمِ. وَيُقَرَّرُ عِنْدَهُ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ لِبَاسِ النِّسْوَانِ وَالرِّجَالِ الَّذِينِ لا خَيْرَ فِيهِمْ وَلا دِينَ لَهُمْ وَأَنَّ الرِّجَالَ يستنكفون عن ذلك. الأَدَبُ السَّادِسُ: أَنَّهُ مَهْمَا رَأَى عَلَى صبي ثَوْبًا مِنْ دِيبَاجٍ أَوْ حَرِيرٍ أَوْ أَبريسَم فينبغي أَن يُنْكَرَ عَلَيْهِ فَيُذَمَّ عَلَى لُبْسِهِ وَيُزَالَ عَنْهُ بِكُلِّ حَالٍ وَلا يُغْتَفَرُ لَهُ ذَلِكَ وَيُذَمُّ عنده إسْبَال الثِّياب لِيَعْتَادَ عَدَمَ الإسبال. الأَدَبُ السَّابِعُ: يَنْبَغِي أَنْ يُحْفَظَ الصَّبِيُّ عَنْ الصِّبيان الذين عِوّدُوا التَّنَعمَ وَالتَّرَفّه وَلبسَ الثِّيَابِ الفَاخِرَةِ وَعَنْ مُخَالَطَةِ مَنْ يَرْغَبُ فيما ذكرناه. فَإِنَّ الصَّبِي إِذَا أُهْمِلَ فِي أَولِ النَّشْأَةُ خَرَجَ فِي الأَغْلَبِ رَدِيّ الأَخْلاقِ كَذابًا حَسُودًا سَرُوقًا نَمَّامًا لَجُوجًا ذَا فُضُول وَمُجُون، وَإِنَّمَا يُحْفَظُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِحُسْنِ الأَدَبِ. الأَدَبُ الثَّامِنُ: ثم إِنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُشْغَل في المكتب يتعلّم القُرآن وَتَفْسِيرَهُ وأحاديثَ الرسول ? والفقه ويحرص على حفظ القُرْآن عن ظهر قلب وكذلك الأحاديث الصحيحة كالعمدة وكذلك مختصر المقنع أو دليل الطالب لأن الحفظ هو العلم فمن لم يحفظ لا يقدر على اسْتِخْرَاجِ المسائل غالبًا. والله أعلم.

ويَعْتَمِدُ في حفظ المواعظ الحسنة وأخبار الأبرار وحكاية أهل الصلاح في الزُّهدِ في الدُّنْيَا وَحُسْنِ الرِّيَاضَةِ لِلنَّفْسِ فَيَنْغَرِسُ في قلبِهِ حُبُّ الصَّالِحِينَ وَالإِقتداء بهم. قُلْتُ: ويحذر عن كُتبِ الأشاعرة والمعتزلة والرافضة وجميع أهل البدع. الأَدَبُ التَّاسِعُ: يَنْبَغِي أَنْ يُحْفَظَ عن الأَشعارِ التي فيها ذكر الهجاء والعشَّاق ويُحْفَظ عن مُخَالَطَةِ مَن هذه حَالُه في إتِّبَاعِ الهوى فَإِنَّ ذَاكَ مَهْمَا انْغَرَسَ فِي قُلُوبِ الصّبيان فإنه يَبْذَرُ الْفَسَادَ في النُّفوس. الأَدَبُ العاشر: أَنْ يُعَوَّدَ كتابةَ الْخَطِّ وَحِفْظَ الأَمثال الشعريّة والأشعار الزهدية فإن ذلك صفةُ كمالٍ وزينةٍ، وقد قَالَ أمير المؤمنين رضي الله عنه: عليكم بِحُسْنِ الخطِ فَإِنَّهُ مِنْ مفاتيح الرزق. الأَدَبُ الْحَادِي عَشَرَ: إِذَا ظَهَرَ مِنْ جِهَةِ الصَّبي فِعْلٌ جَمِيلٌ وَخُلُقٌ حَسَنٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْرَمَ عَلَيْهِ وَيُجَازَى بِمَا يَفْرَحُ بِهِ وَيُمْدَحُ بَيْنَ أَظْهر النَّاسِ. فإن خَالَفَ ذَلِكَ في بعض الأَحوالِ مَرَّة واحدةً فَيَنْبَغِي أَنْ يُتَغَافَلَ عنه ولا يُهْتَكُ سِتْرُهُ في مَلأ مِن الْخَلقِ وَلا يُكَاشَفُ في َوْجِهِه وَيُظْهَرَ لَهُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لا يَتَجَاسَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ لاسِيَّمَا إِذَا سَتَرَهُ الصَّبِيُّ وَأَخْفَاهُ. الأَدَبُ الثَّانِي عَشَرَ: أَنَّهُ إِنْ عَادَ إلى ذلك فَيَنْبَغِي أَنَّ يُعَاتَبَ سَرًّا وَيُعَظّمَ عليه الأمرُ وَيُقَالَ لَهُ إِيَّاكَ أَنْ يُطَّلَعَ عَلَيْكَ فِي مِثْلِ هَذَا فَتَفْتَضِحَ بَيْنَ النَّاسِ. وَلا يُكْثَرُ عَلَيْهِ الْعِتَابُ فِي كُلِّ حِينٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يُهَوِّنُ سَمَاعَ الملامَةِ فِي حَقِّهِ وَيَسْقُطُ وَقْعُ الكلام في قَلْبِهِ. الأَدَبُ الثَّالِثُ عَشَرَ: أَن يَكُونَ الأَبُّ حَافِظًا لِهَيْبَةِ الْكَلامِ مَعَهُ وَلا يُوَبِّخُهُ إِلا أَحْيَانًا، والأُمُّ تُخِّوُفه بِالأَبِ وَتَزْجُرُهُ عن الْقَبَائِحِ وَتُظْهِرُ لَهُ الْوَعِيدَ بِشِدَّةِ الأَب وَخَوْفِهِ مِنْهُ. ... الأُمُّ مَدْرَسَةٌ إِذَا أَعْدَدْتَهَا ... أَعْدَدْتَ شَعْبًا طَيّبَ الأَعْرَاقِ ... ???? ???? ... الأُمُّ رَوْضٌ إِنْ تَعْهَدَهُ الْحَيَا ... بِالدِّينِ أَوْرَق أَيَّمَا إِيرَاقِ ... ›? ???? ????

الأَدَبُ الرَّابِعَ عَشَرَ: يَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ مِن النَّوْمِ نَهَارًا فَإِنَّ ذَلِكَ يُورِثُ الْكَسَلَ فِي حَقِّهِ وَلا يُمْنَعُ مِنَ النَّوْمِ لَيْلاً لأَنَّ مَنَّعَهُ مِنَ النَّوْمِ فِي اللَّيْلِ يُورِثُ الْمَلالَةَ وَالتَّسخُنَ وَيُضْعِفُ عَنْ مُكَابَدَةِ النَّوْمِ وَشِدَّةِ النُّعَاسِ. الأَدَبُ الْخَامِسَ عَشَرَ: يَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ مِن اسْتِعْمَالِ الْفُرَشِ الْوَطِيةِ حَتَّى تَتَصَلَّبَ أَعْضَاؤُهُ وَيَسْتَخِفُ بَدَنُه فلا يَصْبِرُ عن التنعّمِ. بَلْ يُعَوَّدُ الْخُشُونَةِ فِي الْمَلْبَسِ وَالْمَفْرَشِ وَالْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ. فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: ((إِيَّاكُمْ وَفُضُولَ الْمَطْعَمِ فَإِنَّهُ يَسِمُ الْقَلْبَ بِالْقَسْوَةِ)) . الأَدَبُ السَّادِسَ عَشَرَ: يَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ مِن كُلَّ مَا يَفْعَلُه في خُفْيَةٍ فَإِنَّهُ لا يُخْفِيهِ إِلا وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّ قَبِيحٌ فَيَدْعُو ذَلِكَ إلى أَنَّهُ يَتَعَوَّدُ فِعْلَ كُلِّ قَبِيحٍ. الأَدَبُ السَّابِعُ عَشَرَ: يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّد فِي بَعْضِ النَّهَارِ الْمَشْيَ فِي الْحَرَكَةِ وَالرِّيَاضَةِ حَتَّى لا يَغْلِب عليه الكسلُ ويَتَعَود الميلَ إليه. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَعْتَادُ الرَّمْيَ وَيُحِبُّهُ فَلا بَأْسَ بِشُغْلِهِ، وَهَكَذَا الْحَالُ فِي رُكُوبِ الْخَيْلِ فَقَدْ قَالَ ?: ((ثَلاثَةٌ لا تُعَدُّ مِن اللَّهْوِ، لَهْو الإِنْسَانِ بِفَرَسِهِ وَلَهْوَهُ بِقُوسِهِ وَلَهْوَهُ بِأَهْلِهِ)) . الأَدَبُ الثَّامِنَ عَشَرَ: يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّد أَنْ لا يَكْشِفَ أَطْرَافَهُ وَلا يُسْرِعَ فِي الْمَشْيِ وَلا يُرْخِي يَدَيْهِ يُحَرِّكُهُمَا وَرَاءَهُ فِعْلَ الْمُتَبَخْتِرِ. فَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللهِ ? عَنْ هَذِه الْمَشْيَةِ، وَهَكَذَا حَالُ التَّمَطُّطِ عِنْدَ الْمَشي مَكْرُوه أَيْضًا وَقَدْ نَهَى عَنْهُ. الأَدَبُ التَّاسِعَ عَشَرَ: يَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ مِن الافْتَخَارِ عَلَى أَقْرَانِهِ وَأَمْثَالِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا يَمْلِكُه أَبَوَاهُ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ مَطَاعِمِهِ وَمَلابِسِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ وَيُعَوَّدُ التَّوَاضُعَ وَالإِكْرَامِ لِكُلِّ مَنْ عَاشَرَهُ مِن الصِّبْيَانِ وَيُلَطَفَ فِي الْكَلامِ مَعَهُمْ.

الأَدَبُ الْعُشْرُونَ: يُمْنَعُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى الصِّبْيَانِ مِنْ أَمْثَالِهِ شَيْئًا إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّرَفِ وَالرِّيَاسَةِ وَيُقَرَّرُ فِي نَفْسِهِ أَنَّ الأَخْذَ لَوْمٌ وَخِسَّةٌ وَنُزُولُ قَدْرٍ وَأَنَّ الإِعْطَاءِ كَرَمٌ وَشَرَفٌ. وَإِنْ كَانَ مِن أَوْلادِ الْفُقَرَاءِ فَيُقَررُ فِي نَفْسِهِ أَنَّ الأَخْذَ طَمَعَ وَفِي الطَّمَعِ مَهَانَةٌ وَمَذَلَّةٌ وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ دَأْبِ الْكَلامِ فَإِنَّهُ يَتَذَلَّلُ فِي انْتِظَارِ لُقْمَةٍ. الأَدَبُ الْحَادِي وَالْعُشْرُونَ: يَنْبَغِي أَنْ يُقَبحَ إلى الأَوْلادِ حُبَّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالطَّمَعَ فِيهِمَا وَيُحَذَّرَ مِنْهُمَا أَكْثَرَ مِمَّا يُحَذَّرُ مِن الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَالسُّمُومِ. فَإِنَّ آفَةَ حُبِّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالطَّمَعِ فِيهِمَا أَكْثَرُ مِنْ آفَةِ السُّمُومِ عَلَى الصِّبْيَانِ بِلْ عَلَى الأَكَابِرَ مِنْ الْعُقَلاءِ، فَإِنَّ ضَرَرَ السُّمِّ يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ وَضَرَرُ حُبِّهِمَا يَتَجَدَّدُ بَعْدَ الْمَوْتِ. الأَدَبُ الثَّانِي وَالْعُشْرُونَ: يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّدَ أَنْ لا يَبْصُقَ فِي الْمَجْلِسِ وَلا يَتَمَخَّط بِحَضْرَةِ غَيْرِهِ وَلا يَسْتَدْبِرِ غَيْرَهُ من الْمُسْلِمِينَ وَلا يُكْثِرَ التَّثَاؤب. الأَدَبُ الثَّالِثُ وَالْعُشْرُونَ: يَنْبَغِي أَنْ يُعَلَّمَ كيفيةَ الْجُلُوسِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ عَلَى الأرض أَوْ نَاصِبًا قَدَمَهُ الْيَمِينَ وَاضِعَ الأُخْرَى عَلَى الأرض أَوْ يَقْعُدْ مُحْتَبِيًا بِيَدَيْهِ، هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللهِ ? يَفْعَلُ فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِ. الأَدَبُ الرَّابِعُ وَالْعُشْرُونَ: يَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ مِنْ كَثْرَةِ الْكَلامِ إِلا مِنْ ذِكْرِ اللهِ وَيُبَيِّنَ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَمَارَةِ الْوَقَاحَةِ وَأَنَّهُ عَادَةَ أَبْنَاءِ اللِّئَامِ وَأَوْلادِ السَّفَلَةِ مِنَ النَّاسِ لِيَنْزَجِرَ عَنْ ذَلِكَ وَيَمْتَنِعَ مِنْهُ. وَاللهُ أَعْلَمُ. الأَدَبُ الْخَامِسَ وَالْعُشْرُونَ: يَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ عَنِ الأَيْمَانِ صِدْقًا كَانَتْ أَوْ كَذِبًا حَتَّى لا يَتَعَوَّدَ ذَلِكَ فِي حَالِ الصِّغَرِ. الأَدَبُ السَّادِسَ وَالْعُشْرُونَ: يُمْنَعَ مِنْ لَغْوِ الْكَلامِ وَفُحْشِهِ وَمِنْ اللَّعْنِ وَالسَّبِّ، وَمِنْ مُخَالَطَةِ مَنْ يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ مِثْلُ ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ

فصل في كلام نافع في بيان فوائد الجوع وآفات الشبع

يَسْرِي لا مَحَالَةَ مِنْ قُرَنَاءِ السُّوءِ، وَأَصْلُ تَأْدِيبِ الصِّبْيَانِ الْحِفْظُ مِنْ قُرنَاءِ السُّوءِ. قُلْتُ: ويحذر من التلفاز والفيديو والمذياع والمجلات الهَدَّامَةِ لِلأَخْلاقِ. الأَدَبُ السَّابِعَ وَالْعُشْرُونَ: يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَلَّمَ شَجَاعَةَ الْقَلْبِ وَالصَّبْرِ عَلَى الشَّدَائِدَ وَتمْدحَ هَذِهِ الأَوْصَافِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِسَمَاعِهِ لَهَا يَنْغَرِسُ فِي قَلْبِهِ حُسْنُهَا وَيَتَعَوَّدُهَا. الأَدَبُ الثَّامِنُ وَالْعُشْرُونَ: يَنْبَغِي أَنْ يُعَلَّمَ طاعة والديه ومُعلمه ومؤدّبه وكل من هو أَكبر منه سنًّا من قريب أَوْ بعيد أَوْ أجنبي من المسلمين وأن يكون ناظرًا إليهم بعين الجلالة والتعظيم، وأن يترك اللعب بين أيديهم فهذه الآداب كلها متعلقة بسن التمييز في حالة الصغر قبل البلوغ. انتهى باختصار. والله أعلم وصلي الله علي محمد وآله وصحبه وسلم. فصل في كَلامٍ نافعٍ في بيان فوائد الجوع وآفات الشبع فقَالَ رحمه الله الْفَائِدَةُ الأُولى: صَفَاءُ الْقَلْبِ وَاتِّقَادُ الْقَرِيحة وَنَفَاذُ الْبَصِيرَةِ، فَإِنَّ الشَّبَعَ يُورثُ الْبَلادةَ وَيعْمِي القلبَ وَيُكِثر الْبُخَارَ في الدِّمَاغِ يشبهِ السُّكْر حتَّى يَسْتَوْلِي على مَعَادِنِ الْفِكْرَةِ فَيَثْقُلُ القلبُ بِسببِ ذلك الجريانِ في الأَفْكَارِ. الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: رِقَّةُ القلب التي يَتَهَيَّأُ بِهَا لإِدْرَاكِ حَلاوَةِ المناجاةِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَكَمْ مِنْ ذِكْرٍ يَجْرِي عَلَى اللسانِ مَعَ حُضُورِ القلبِ. ولكن الْقَلْبُ لا يَلتذَ بِهِ ولا يَتَأَثَّرُ عنه حتَّى كَأَن بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حِجَابًا مِن قَسَاوَةِ الْقَلْبِ. وَقَدْ يَرِقٌ في بعضَ الأَحْوَالِ فَيَعْظُم تَأَثُّرُهُ بالذكرِ وتَلّذُذُهُ بالمناجاة، وَخُلُّو المعدةِ هو السَّبَبَ الأظهر في ذلك.

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: الانْكِسَارُ والذلُ وزوالُ البَطَرِ والفَرَح والأشَرِ الذي هو مَبْدأَ الطُغيانِ والغفْلةِ عن الله تعالى. ولا تَنْكَسِرُ النَّفْسُ ولا تَذَلّ كَمَا تَذِلُّ بالجُوع، فعِنْدَهُ يَسْتَكِينَ العبدُ لِرَبِّهِ وَيَخْشَعُ لَهُ وَيَقِفُ عَلى عَجُزِهِ وَذُلِّهِ. والبَطْرُ والفَرَحَ بَابَانِ مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ وَأَصْلُهُمَا الشِّبعُ، وَالذُّلُ والانْكِسَارُ بَابَانِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَأَصْلُهُمَا الْجُوع. وَمَنْ أَغْلَقَ بابًا مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ فَقَدْ فَتَحَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ بِالضَّرُورَةِ لأَنَّهُمَا مُتَقَابِلانِ كَالْمَغْرِبُ وَالْمَشْرِقُ، فَالْبُعْدُ مِنْ أَحَدِهِمَا قَرْبٌ مِنَ الآخر. الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ، لا يُنْسَى بلاءَ الله وعذابه ولا ينسى أهل البلاءِ، فإنَّ الشَّبْعَان يَنْسَى الجَائِعِينَ وَيَنْسَى الجُوعَ، وَالمؤمنُ الفَطِنُ لا يَشَاهِدُ بَلاءً إِلا وَيَذَكِّره بَلاءَ الآخِرَةِ، وَيَتَذَكَّرَ مِنْ عَطَشِهِ الْخَلائِقِ في عَرَصَاتِ القِيامة، ومِن جُوعِهِ جُوعَ أَهْلِ النَّارِِ حِينَ يَجُوعُونَ فَيُطْعَمُونَ مِنَ الزَّقُّومِ، وَالضَّرِيعِ وَيُسْقَوْنَ الْغَسَّاقَ وَالْمَهْلَ. الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ: كَسْرُ شَهَوَاتِ الْمَعَاصِيَ كُلِّهَا وَالاستيلاءُ على النَّفْسِ الأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، فَإِنّ مَنْشَأَ الْمَعَاصِي كُلِّهَا الشَّهَواتُ. وَنَيْلُ الشَّهَوَاتِ مَادَةُ الْقُوى، وَمَادَّةُ الشَّهَوَاتِ وَالْقُوى لا مَحَالَةُ الأَطْعِمَة، فَبِقِلَّتِهَا تضعفُ كُلَّ شَهْوَةٍ وَقُوُّةٍ. وَالسَّعَادَةُ كُلَّها أَنْ يَمْلِكَ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ، وَالشَّقَاوَةُ فِي أَنْ تَمْلِكَ الإِنْسَانَ نَفْسَهُ وَتَكُونُ هيَ الْمَسْتَوْلِيَةُ عَلَيْهِ. الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: رَفْعُ النَّوْمِ وَدَوَامُ السَّهَرِ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ شَبعَ شَرِبَ كَثِيرًا، وَمَنْ كَثَرَ شُرْبُهُ كَثَرُ نَوْمُه. وَفِي كُثْرَةِ النَّوْمِ ضَيَاعُ العمر وفوتُ التَّهجُّدِ وبلادَةُ الطبعِ وقساوةُ القلبِ، والعُمُرُ أَنْفَسُ الْجَوَاهِر وَهُوَ مَالِ الإنْسَانِ الَّذِي به يَتَّجِرُ.

الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: تَيْسِيرُ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْعِبَادَةِ فَإِن كَثْرَةَ الأَكْلِ تَمْنَعُ مِنْ كُثْرَةِ الْعِبَادَةِ. لأَنَّ الأَكْلَ يَحْتَاجُ إلى زَمَانٍ يَشْتَغِلُ فِيهِ بالأَكْلِ، وَرُبَّمَا احْتَاجَ إلى زَمَانٍ في شِرَاءِ الطَّعَامِ وَطَبْخِهِ ثُمَّ يَحْتَاجُ إلى غسلِ الْيَدِ وَالخلالِ ثم يَكْثُرُ ترَدّدهُ لِلْخُرُوجِ إلى بَيْتِ الْمَاءِ. وَهَذِهِ أَوْقَاتٌ يمكنُ صَرْفُهَا إلى الْعِبَادَةِ عِوضًا عَنِ الأَكْلِ الْمُبَاحِ وَلَيْسَ لها سَبَبٌ إِلا كثرة الأَكَلِ وَالتوسّعُ في الشَّبَعِ. الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: صحة البدنِ ودفع الأَمراضِ فإن سببها كثرةُ الأكلِ وحُصول فضلات الأَخلاطِ في المعدةِ والعروق. ثم إن المَرض يمنعُ من العباداتِ ويُشوش القلوب ويمنعُ من الذكرِ والفكرِ ويُنغص ويُحْوجُ إلى الفصدِ والحِجامة والدواءِ والطبيبِ، وكُلُّ ذلك يحتاجُ إلى أُمورٍ كثيرةٍ وتبعاتِ وفي الجُوع ما يمنعُ من ذلكَ كُله. الْفَائِدَةُ التاسعة: خِفَّةُ المؤنةِ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ تَعَوَّدَ قِلَّةِ الأَكْلِ كَفَاهُ مِن المالِ قَدرٌ يَسير. والذي تَعَوَّدَ الشَّبعَ صَارَ بَطْنُه غَرِيمًا مُلازمًا يَأْخذُ بِمِخْنَقِه كُلَّ يَوْمٍ فَيَقُولُ مَاذا تَأْكُلُ الْيومَ. فيحتاجُ إلى أَنْ يَدْخل في المداخِلِ الْخَبِيثَة مِن الْحَرَامِ فَيَعْصِي أَوْ مِنْ الْحَلالِ فَيذِلَ وَيَتْعَبُ. وربّما يَحْتَاجُ إلى أَنْ يمدَّ عَيْنَيْه إلى الْخَلْقِ بالطمعِ فِيمَا في أَيديهم وهو غايةُ الذُّلِّ والمؤمنُ خَفِيفُ المؤنة. الْفَائِدَةُ العاشرةُ: التمكنُ من الإيثارِ والتصدّقِ بِمَا فَضَلَ مِنِ الأَطعمةِ على اليَتَامى والمساكين، ويكونُ يومَ القِيامة في ظِلِّ صَدَقَتِهِ كما ورد في الخبر.

قصيدة في نماذج من معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم -

فَمَا يَأْكلهُ فَخِزَانَتُهُ الْكَنِيف وَمَا يَتَصَدَّقُ بِهِ فخزِانَتُهْ فَضْل اللهِ وَرَحْمَتُه. فهذه جُمْلَةُ ما نريد ذِكْرَهُ مِن فَوَائِدِ الجوعِ، وأَما آفات الشّبع فهو نقائض هذه الخصال التي أوردناها فلا حاجة لنا إلى تكريرها انتهى. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. وقال الشَّيْخُ عَلِيّ بنُ حُسَيْن بنِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ رَحِمَهُمْ اللهُ حِينَ جَلَوْ مِن الدَّرْعِيَّةِ بَعْدَ اسْتِيلاءِ الأَعْدَاءِ عَلَيْهَا سُقْنَاهَا لَعَلَّ الْمُسْلِمِينَ يَسْتَيْقِظُو مِنْ رَقْدَتِهِمْ وَيَرْجِعُوا إلى اللهِ وَيَأْمُروا بالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوا عَنْ الْمُنْكَرِ قَوْلاً وَفِعْلاً وَيَخْشَوْا الْعُقُوبَةَ الَّتِي جَاءَتْ لا تَخُصُّ الظَّالِمِينَ. اللهم توفنا مسلمين، وألحقنا بعبادك الصالحين، واغفرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْياءِ مِنهُم وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِينَ، وصَلَّى اللهُ عَلَى مُحمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. شِعْرًا: ... خَلِيلِي عُوْجَا عَنْ طَرِيقِ الْعَوَاذِلِ بِمَهْجُورِ لَيْلَى فَابْكِيَا فِي الْمَنَازِلِ لَعَلَّ انْحِدَارَ الدَّمْعِ يُعْقِبُ رَاحَةً مِنَ الْوَجْدِ أَوْ يَشْفِي غَلِيلَ الْبَلابِلِ أَرَى عَبْرَةً غَبْرَاءَ تَتْبَعُ أُخْتَهَا عَلَى إِثْرِ أُخْرَى تَسْتَهِلُّ بِوَابِلِ تُهَيِّجُ ذِكْرًا لِلأُمُورِ الَّتِي جَرَتْ تُشِيبُ النَّوَاصِي وَاللِّحَا لِلأَمَاثِلِ وَتُسْقِطُ مِنْ بَطْنِ الْحَوَامِل حَمْلَهَا وَتُذْهِلُ أَخْيَارَ النِّسَاءِ الْمَطَافِلِ ... ›?

.. فَبَيْنَا نَسُودُ النَّاسَ وَالأَمْرُ أَمْرُنَا وَتَنْفُذُ أَحْكَامٌ لَنَا فِي الْقَبَائِلِ وَتَخْفِقُ رَايَاتُ الْجِهَادِ شَهِيرَةً بِشَرْقٍ وَغَرْبٍ يَمْنَةً وَشَمَائِلِ تَبَدَّلَتَ النَّعْمَاءُ بُؤْسًا وَأَصْبَحَتْ طُغَاةٌ عُتَاةٌ مَلْجَئًا لِلأَرَاذِلِ وَبَثَّ عُتَاتُ الدِّينِ فِي الأرض بَغْيَهُم وَرِيعَتْ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ الْغَوَافِلِ وَأَقْبَلَ قَادَاتِ الضَّلالَةِ وَالرَّدَى وَسَادَاتُهَا فِي عَسْكَرٍ وَجَحَافِلِ وَشُتِّتَ شَمْلُ الدِّينِ وَأنْبَتَّ أَصْلُهُ فَأَضْحَى مُضَاعًا كَالْبُدُورِ الأَوَافِلِ وَفَرَّعَنِ الأَوْطَانِ مَنْ كَانَ قَاطِنًا تَرَاهُمْ فُرَادَى نَحْوَ قِطْرٍ وَسَاحِلِ وَفُرِّقَ شَمْلٌ كَانَ لِلْخَيْرِ شَامِلاً وَزَالَتْ وُلاةُ الْمُسْلِمِينَ الأَعَادِلِ وَسَادَ شِرَارُ الْخَلْقِ فِي الأرض بَعْدَهُمْ وَدَارَتْ رَحَىً لِلأَرْذَلِيْنَ الأَسَافِلِ فَأَصْبَحَتِ الأَمْوَالُ فِيهِمْ نَهَائِبًا وَأَضْحَتْ بِهَا الأَيْتَامُ خُمْصَ الْحَوَاصِلِ ... ›?

.. فَكَمْ دَمَّرُوا مِنْ مَسْكَنٍ كَانَ آنِسًا وَكَمْ خَرَّبُوا مِنْ مَرْبَعٍ وَمَعَاقِلِ وَكَمْ خَرَبُوا مِنْ مَسْجِدٍ وَمَدَارِسٍ يُقَامُ بِهَا ذِكْرُ الضُّحَى وَالأَصَائِلِ وَكَمْ قَطَعُوا مِنْ بَاسِقَاتٍ نَوَاعِمٍ وَكَمْ أَغْلَقُوا مِنْ مَعْقَلِ وَمَنَازِلِ وَكَمْ أَهْلَكُوا حَرْثًا ونَسْلاً بِبَغْيِهِمْ وَكَمْ أَيْتَمُوا طِفْلاً بِغَدْرٍ وَبَاطِلِ وَكَمْ هَتَكُوا سِتْرًا حَيّيًا مُمَنَعًا وَكَمْ كَشَفُوا حُجْبَ الْعَذَارَى الْعَقَائِلِ وَكَمْ حَرَقُوا مِنْ كُتُبِ عِلْمٍ وَحِكْمَةٍ وَفِقْهٍ وَتَوْحِيدٍ وَشَرْحِ مَسَائِلِ وَكَمْ هَدَمُوا سُورًا وَقَصْرًا مُشَيَّدًا وَحِصْنًا حَصِينًا أَوْهَنُوا بِالْمَعَاوِلِ وَكَمْ أَسَرُوا مِنْ حَاكِمٍ بَعْدَ عَالِمٍ وَكَمْ زَلْزَلُوا مِنْ مُحْصَنَاتِ غَوَافِلِ وَكَمْ قَتَلُوا مِنْ عُصْبَةِ الْحَقِّ فِتْيَةً تُقَاةً هُدَاةً فِي الدُّجَى كَالْمَشَاعِلِ يَذُودُونَ عَنْ وِرْدِ الدَّنَايَا نُفُوسَهُمْ وَسْعَوْنَ جُهْدًا لاقْتِنَاءِ الْفَضَائِلِ فَمَا بَعْدَهُمْ وَاللهِ فِي الْعَيْشِ رَغْبَةٌ

.. (لَدَى مُخْلِصٍ حُرٍّ كَرِيمِ الشَّمَائِلِ) مَضَوْا وَانْقَضَتْ أَيَّامُهُمْ حِينَ أَوْرَثُوا ثَنَاءً وَمَجْدًا كَالْهُدَاةِ الأَوَائِلِ فَوَا أَسَفًا مِنْ فُقْدِهِمْ وَفُرَاقِهِمْ وَوَاسَوْءَتَا مِنْ بَعْدِ أَهْلِ الْفَضَائِلِ فَجَازَاهُمُ الرَّبُّ الْكَرِيمُ بِرَحْمَةٍ تَعُمُّ عِظَامًا أَوْدِعَتْ فِي الْجَنَادِلِ وَأَبْقِي لَهُمْ نَصْرًا وَأَهْلاً مُؤَثَّلاً يُعِزُّ هُدَاةَ الدِّينِ بَيْنَ الْجَحَافِلِ لَقَدْ بَخِلَتْ عَيْنٌ تَظُنُّ بِمَائِهَا عَلَى فَقْدِهِمْ أَوْ دَمْعُ عَيْنٍ تُهَامِلِ فَقَدْ كُسِفَتْ شَمْسُ الْمَعَارِفِ بَعْدَهُمْ وَسَالَتْ جُفُونٌ بِالدُّمُوعِ الْهَوَاطِلِ فَكَمْ عَاتِقٍ غَرَّاءَ تَبْكِي بِشَجْوِهَا وَأَرْمَلَةٍ ثَكْلَى وَحُبْلَى وَحَائِلِ ينُحْنَ بِأَكْبَادٍ حِرَارٍ وَعَبْرَةٍ وَيُكْظِمْنَ غَيْظًا فِي الْجَوَانِبِ دَاخِلِ يُرَجِّعْنَ أَلْحَانَ التَّعَزّي بِحُرْقَةٍ وَيُظْهِرْنَ صَبْرًا عَنْ شُمَاةٍ وَعَاذِلِ فَلَوْ شَهِدَتْ عَيْنَاكَ يَوْمَ رَحِيلِهِمْ عَنْ الْمَسْكَنِ الأَعْلَى الرَّفِيعِ الْمَنَازِلِ

.. وَفُرِّقَتْ الأَحْبَابُ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ وَسَارَ بِهِمْ حِزْبُ الْعَدُوِّ الْمُزَايِلِ يَسُوقُونَهُمْ سَوْقًا عَنِيفًا بِشِدَّةٍ وَيُزْجُونَ أَشْيَاخًا بِتِلْكَ الْقَوَافِلِ لَذَابَتْ جُفُون الْعَيْنِ وَاحْتَرَقَ الْحَشَا وَسَالَتْ خُدُودٌ بِالدُّمُوعِ السَّوَائِلِ فَقَدْ عَاثَتْ الأَحْزَابُ فِي الأرض بَعْدَهُمْ بِكُلِّ مَكَانٍ نَاصِبِينَ الْحَبَائِلِ فَكَمْ غَارَةٍ غَبْرَاءَ يُكْرَهُ وِرْدُهَا عَلَى إِثْرِ أُخْرَى بَيْنَ تِلْكَ الْقَبَائِلِ وَكَمْ فِتْنَةٍ كُبْرَى تُتَابِعُ أُخْتَهَا عَلَى إِثرِ صُغْرَى مِنْ قَتِيلٍ وَقَاتِلِ تَرَى خَيْلَهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ مُغِيرَةً عَلَى دَاخِلٍ أَوْ خَارِجٍ أَوْ مُسَابِلِ عَسَى وَعَسَى أَنْ يَنْصُرَ اللهُ دِينَنَا وَيَجْبُرَ كَسْرًا مُثْقَلاً بِالْحَبَايِلِ وَيَعْمُرَ لِلسَّمْحَاءِ رُبُوعًا تَهَدَّمَتْ وَيُعْلِي مَنَارًا لِلْهُدَى غَيْرَ زَائِلِ وَيَكْسِرَ أَعْلامَ الضَّلالَةِ إِنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ مُسْتَجِيبٌ لِسَائِلِ وَيَطْمِسَ آثَارَ الْفَسَادِ بِدِيمَةٍ

.. مِنْ النَّصْرِ هَتَّانِ الْجَوَانِبِ وَابِلِ فَيَنْبُتُ زَرْعُ الْحَقِّ أَخْرَجَ شطأة مُسِحًا بِخَيْرٍ لِلثِّمَارِ الْحَوَاصِلِ إلَهِي فَحَقِّقْ ذَا الرَّجَاءَ فَإِنَّنَا عَبِيدُكَ تُبْنَا لَسْتَ عَنَّا بِغَافِلِ أغِثْنَا أَغِثْنَا وَأَرْفَعْ الضُّرَّ وَالْبَلا بِعَفْوِكَ عَنَّا يَا قَرِيبٌ لآمِلِ فَإِنْ لَمْ تُغْثِنَا يَا قَرِيبُ فَمَنْ لَنَا لِنَقْصُدَ فِي دَفْعِ الأُمُورِ الثَّقَائِلِ إِلَيْكَ أَنَبْنَا فَاغْفِرْ الذَّنْبَ وَالْخَطَا إِلَيْكَ رَجَعْنَا فَارْجِعِ الْخَيْرَ كَامِلِ فَقَدْ سَامَنَا الأَعْدَاءُ سَوْمًا مُبَرِّحًا بِقَتْلٍ وَأَسْرٍ مُوثَقًا بِالْحَبَائِلِ عَلَى غَيْرِ جُرْمٍ غَيْرِ تَوْحِيدِ رَبِّنَا وَهَدْمِ قِبَابِ الْمُشْرِكِينَ الأَبَاطِلِ وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْكَارِ مُنْكَرٍ وَفِعْلِ صَلاةٍ فِي الْجَمَاعَةِ حَافِلِ وَأَخْذِ زَكَاةِ الْمَالِ فَرْضًا مُؤَكَّدًا يُرَدُّ لِذِي فَقْرٍ وَغُرْمٍ وَعَامِلِ وَحَجٍ وَتَقْوِيم الْجِهَادِ لأَنَّهُ أَمَانٌ وَعِزٌ عَنْ مَذَلَّةِ خَاذِلِ

.. إِذَا مَا مَلَكْنَا قَرْيَةً أَوْ قَبِيلَةً أَقَمْنَا بِهَا شَرْعَ الْهُدَاةِ الْكَوَامِلِ فَنَهْدِمُ أَوْثَانًا وَنَبْنِي مَسَاجِدًا وَنَكْسِرُ مِزْمَارًا وَطَبْلاً لِجَاهِلِ وَنَقْطَعُ سُرَّاقًا وَنَرْجُمُ مُحْصَنًا وَنَجْلِدُ سَكْرَانًا بِنَصِّ الرَّسَائِلِ نَكُفُّ ظُلُومَ الْبَدْوِ وَالْحَضْرِ إِنْ غَدَا يُغِيرُ عَلَى حَقِّ الضِّعَافِ الأَرَامِلِ وَنَتْبَعُ آثَارَ الرَّسُولِ وَصَحْبِهِ مَعَ السَّلَفِ الْبِرِّ التُّقَاةِ الأَفَاضِلِ كَأَحْمَدَ وَالنُّعْمَانِ قُلْ لِي وَمَالِكٍ كَذَا الشَّافِعِي رُكْنِ الْحَدِيثِ وَنَاقِلِ فَمَاذَا عَلَيْنَا إِذْ سَلَكْنَا سَبِيلَهُمْ بِقَوْلٍ وَفِعْلٍ مُسْعِدٍ فَنَُوَاصِلِ أَلا أَيُّهَا الإِخْوَانُ صَبْرًا فَإِنَّنِي أَرَى الصَّبْرَ لِلْمَقْدُورِ خَيْرَ الْوَسَائِلِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ كَشْفِ ذَا الْكَرْبِ وَالْبَلا فَذُو الْعَرْشِ فَرَّاجُ الأُمُورِ الْجَلائِلِ عُيُونُ الْقَضَا لَيْسَتْ نِيَامًا وَسَهْمُهُ مُصِيبٌ فَمَا يُخْطِي عُيُونَ الْمُقَاتِلِ فَطُوبَى لِعَبْدٍ قَامَ للهِ مُخْلِصًا

.. تَرَنَّمَ فِي مِحْرَابِهِ مُتَمَايِلِ يَمُدُّ يَدَيْهِ سَائِلاً مُتَضَرِّعًا لِرَبٍّ قَرِيبٍ بِالإِجَابَةِ كَافِلِ فَجَاءَتْ سِهَامُ اللَّيْلِ تَهْوِي بِسُرْعَةٍ إلى ظَالِمٍ عَنْ ظُلْمِهِ مُتَغَافِلِ أَصَابَتْ نِيَاطَ الْقَلْبِ فِي وَسْطِ نَحْرِهِ فَآبَ بِخَسْرَانٍ وَحَرِّ بِلابِلِ فَقُمْ قَارِعًا لِلْبَابِ وَالنَّابِ نَادِمًا عَلَى مَا جَرَى وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ وَسَائِلِ وَأَمَّا بَنُو الدُّنْيَا فَلا تَرْج نَفْعَهُمْ فَلا مُرْتَقَى مِنْهُمْ يُرْجَى لِنَازِلِ فَإِنِّي تَتَبعْتُ الأَنَامَ فَلَمْ أَجِدْ سِوَى حَاسِدٍ أَوْ شَامِتٍ أَوْ مُعَاذِلِ فَلَمْ أَرَى أَنْكَى لِلْعَدُوِّ مِنَ الدُّعَا كَرَمِي بِنَبْلٍ أُوتِرَتْ بِالْمَنَاصِلِ فَلا تَدْعُ غَيْرَ اللهِ فِي كُلِّ حَالَةٍ وَخَلِّ جَمِيعَ الْخَلْقِ طُرًا وَعَازِلِ سَأَلْتُكَ يَا ذَا الْجُودِ وَالْمَنِّ وَالْعَطَا تَجُودُ وَتَعْفُو عَنْ عُبَيْدِكَ يَا وَلِي وَتُرْسِلَ طَاعُونًا وَرِجْزًا وَنِقْمَةً وَطَعْنًا لِطَعَّانِ وَقَتْلاً لِقَاتِلِ

فصل في ذكر نماذج من تواضع المصطفي- صلى الله عليه وسلم -

.. يَعْم لأَحْزَابِ الضَّلالِ وَصَحْبِهِمْ بِسَوْطِ عَذَابٍ عَاجِلٍ غَيْرَ آجِلِ فَإِنَّكَ قَهَّارٌ عَلَى كُلِّ قَاهِرِ وَأَمْرُكَ غَلابٌ لِكُلِّ مُحَاوِلِ وَأَزْكَى صَلاةً لا تَنَاهَى عَلَى الَّذِي لَهُ أنْشَقَّ إِيوَانٌ لِكِسْرَى بِبَابِلِ مُحَمَّدٍ وَالأَصْحَابُ مَا هَبَّتِ الصَّبَا وَآلِ رَسُولِ اللهِ زيْنِ الْمَحَافِلِ ... ›? اللَّهُمَّ أَبْرِمْ لَهِذِه الأُمَّةُ أَمْرَ رُشْدِ يُعَزُّ فِيهِ أَهْلَ طَاعَتِكَ وَيُذَلُّ فِيهِ أَهْلُ مَعْصِيَتِكَ وَيُؤْمَرُ فِيهِ بِالْمَعْرُوفِ وَيُنْهَى فِيهِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُزَالُ بِهِ مَا حَدَثَ مِنْ بِدَعٍ وَمُنْكَرَاتٍ وَمَعَاصِي وَيَحْيَا بِهِ بَدَلُهَا مَا أُمِيتَ مِنْ سُنَّةٍ وَغِيرَةٍ وَشِيمَةٍ كَرِيمَةٍ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ وَبِالإِجَابَةِ جَدِير. اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا بَدِيع السَّمَاواتِ والأرض نَسْأَلُكَ أَنْ تُوفِّقَنا لِمَا فِيهِ صَلاَحُ دِينِنَا وَدُنْيَانَا، وَأَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا وَأَكْرِمْ مَثْوَانَا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. (فَصْلٌ) كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَاضِعًا كَانَ يَرْكَبُ الْحِمَارَ وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ فَقَدْ أَرْدَفَ بَعْضَ نِسَائِهِ وَأَرْدَفَ مُعَاذ بن جَبَلٍ وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ بنَ زَيْدٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ كَانَ فِي سَفَرٍ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِإصْلاحِ شَاةٍ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ عَلَيَّ ذَبْحُهَا. وقال آخَرُ: عَلَيَّ سَلْخُهَا. وقال آخَرُ: عَلَيَّ طَبْخُهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَعَلِيَّ جَمْعُ الْحَطَبِ)) . فَقَالَوا: يَا رَسُولَ اللهِ نَكْفِيكَ الْعَمَلَ فَقَالَ: ((عَلِمْتُ أَنَّكُمْ تُكْفُونَنِي وَلَكِنْ أَكْرَهُ أَنْ أَتَمَيَّزَ عَلَيْكُمْ، وَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى يَكْرَهُ مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَرَاهُ مُتَمَيِّزًا بَيْنَ أَصْحَابِهِ)) . وَقَدْ جَاءَ وَفْدُ النَّجَاشِي فَقَامَ

صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يَخْدِمُهُم فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: نَكْفِيكَ، قَالَ: ((إِنَّهُمْ كَانُوا لأَصْحَابِنَا مُكْرِمِينَ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أُكَافِئَهُمْ)) . وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَتَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم صَاحِبَ بز فَاشْتَرَى مِنْهُ قَمِيصًا بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ فَخَرَجَ وَهُوَ عَلَيْهِ، فَإِذَا رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ اكْسِنِي قَمِيصًا كَسَاكَ اللهُ مِنْ ثِيَابِ الْجَنَّةِ فَنَزَعَ الْقَمِيصَ فَكَسَاهُ إِيَّاهُ ثُمَّ رَجَعَ إلى صَاحِبِ الْحَانُوتِ فَاشْتَرَى مِنْهُ قَمِيصًا بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ وَبَقِيَ مَعَهُ دِرْهَمَانِ، فَإِذَا هُوَ بِجَارِيَةٍ تَمْشِي فِي الطَّرِيقِ تَبْكِي فَقَالَ: ((مَا يُبْكِيكِ)) ؟ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ دَفَعَ إِليَّ أَهْلِي دِرْهَمَيْنِ اشْتَرِي بِهِمَا دَقِيقًا فَهَلَكَا فَدَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم إِلَيْهَا الدِّرْهَمَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ. ثُمَّ وَلَّتْ وَهِيَ تَبْكِي فَدَعَاهَا فَقَالَ: ((مَا يُبْكِيكِ وَقَدْ أَخَذْتِ الدِّرْهَمَيْنِ)) . فَقَالَتْ: أَخَافُ أَنْْ يَضْرِبُونِي فَمَشَى مَعَهَا إلى أَهْلِهَا فَسَلَّمَ فَعَرَفُوا صَوْتَهُ ثُمَّ عَادَ فَسَلَّمَ ثُمَّ عَادَ فَثَلَّثَ فَرَدُّوا. فَقَالَ: ((أَمَا سَمِعْتُمْ أَوَّلَ السَّلامِ)) . فَقَالَوا: نَعَمْ وَلَكِنْ أَحْبَبْنَا أَنْ تَزِيدَنَا مِن السَّلامِ فَمَا أَشْخَصَكَ بِأَبِينَا وَأُمِّنَا قَالَ: ((أَشْفَقَت هَذِهِ الْجَارِيَةُ أَنْ تَضْرِبُوهَا)) . قَالَ صَاحِبُهَا هِيَ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللهِ لِمَمْشَاكَ مَعَهَا فَبَشَّرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بِالْخَيْرِ وَالْجَنَّةِ. وقال: ((لَقْدَ بَارَكَ اللهِ فِي الْعَشَرَةِ كَسَا اللهُ نَبِيَّهُ قَمِيصًا وَرَجُلاً مِن الأَنْصَارِ قَمِيصًا وَأَعْتَقَ مِنْهَا رَقَبةً وَأَحْمَدُ اللهَ هُوَ الَّذِي رَزَقَنَا هَذَا بِقُدْرَتِهِ)) . أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيّ كَمَا فِي مَجْمَعِ الزوائد (في 9 ص 13) . فَهَذَا الْحَدِيثُ يَشْهَدُ لِتَوَاضُعِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وَسَمَاحَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وعن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ إِنْ كَانَتِ الأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ رواه البخاري.

وعن الأَسْوَدِ بن يَزِيدٍ قَالَ سَأَلْتُ عَاِئَشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِه، يَعْنِي خِدْمَةِ أَهْلِهِ فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ خَرَجَ إلى الصلاة. رواه البخاري. وَدَخَلَ الْحَسَنُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يُصَلِّي فَرَكِبَ الْحَسَنُ ظَهْرَهُ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأبْطَأَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فِي سُجُودِهِ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ لَقَدْ أَطَلْتَ سُجُودَكَ قَالَ: ((إِن ابْنِي ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ)) . وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يُبَاسِطُ أَصْحَابَهُ وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا كَانَ رَسُولُ اللهِ ? إِذَا خَلا فِي بَيْتِهِ أَلْيَنَ النَّاسِ بَسَّامًا ضَحَّاكًا. وَعَن الْبَرَاءِ بنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يَوْمَ الأَحْزَابِ يَنْقِلُ التُّرَابَ وَقَدْ وَارَى الْبَيَاضُ بَيَاضَ بَطْنِهِ. وَعَنْ أنسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يَعُودُ الْمَرِيضَ وَيَشْهَدُ الْجَنَائِزَ وَيَأْتِي دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ وَلَقْدَ رَأَيْتُهُ يَوْمًا عَلَى حِمَارٍ خِطَامُهُ لِيفٌ. وعن أنس رضي الله عنه ما كانَ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وَكَانُوا إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ. وَعن الحسنِ رَضِيَ الله عنه أَنَّهُ ذَكَرَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فَقَالَ: لا وَاللهِ مَا كَانَ يُغْلِقُ دُونَهُ الأَبْوَابُ وَلا يَقُومُ دُونَهُ الْحِجَابُ، وَلا يُغْدَى عَلَيْهِ بِالْجِفَانِ وَلا يُرَاحُ عَلَيْهِ بِهَا وَلَكِنَّهُ بَارِزًا مَنْ أَرَادَ أَنْ

يُلْقَى نَبِيَّ اللهِ لَقِيَهُ كَانَ يَجْلِسُ بِالأرض وَيُوضَعُ طَعَامُهُ بِالأرض وَيَلْبَسُ الْغَلِيظَ وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ وَيُرْدِفُ بَعْدَهُ وَيَلْعَقُ وَاللهِ يَدَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم. وَعَنْ قُبَيْس بنِ أَبِي حَازِمٍ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فَلَمَّا قَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ اسْتَقْبَلَتْهُ رِعْدَةٌ فَقَالَ لَهُ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: ((هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لَسْتُ مَلِكًا إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَتْ تَأَكُلُ الْقَدِيدَ)) . وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ حَسْمًا لِمَوَادِّ الْكِبْرِ وَقَطْعًا لِذَرَائِعِ الإِعْجَابِ وَكَسْرًا لأَشَرِ النَّفْسِ وَبَطِرِهَا وَتَذْلِيلاً لِسَطْوَةِ الاسْتِعْلاءِ وَهَذَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَتَوَلَّى الْخِلافَةَ يَحْلِبُ لِلضُّعَفَاءِ مِمَّنْ حَوْلَهُ أَغْنَامَهُمْ فَلَمَّا وَلِيَ الْخِلافَةَ سَمِعَ جَارِيَةً تَقُولُ: الْيَوْمَ لا تُحْلَبُ لَنَا مَنَائِحُ دَارِنَا فَسَمِعَهَا فَقَالَ: بَلَى لَعَمْرِي لأَحْلُبَنَّهَا لَكُمْ فَكَانَ يَحْلِبُهَا وَرُبَّمَا سَأَلَ صَاحِبَتِهَا يَا جَارِيَةُ أَتُحِبِّينَ أَنْ أُرْغِي لَكِ أَمْ أُصَرِّحْ فَرُبَّمَا قَالَتْ أَرغِ وَرُبَّمَا قَالَتْ صَرِّحْ فَأَيُّ ذَلِكَ قَالَتْ فَعَلْ. وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ نَادَى الصَّلاةُ جَامِعَة فَلَمَّا اجْتَمَعَ النَّاسُ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم. ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ لَقَدْ رَأَيْتَنِي أَرْعَى عَلى خَالاتٍ لِي مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ فَيَقْبِضْنَ لِي الْقَبْضَةَ مِنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ فَأَظَلُّ الْيَوْمَ وَأَيُّ يَوْمٍ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: وَاللهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا زِدْتَ عَلَى أَنْ قَصَّرْتَ بِنَفْسِكَ. فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنِّي خَلَوْتُ فَحَدَّثَتْنِي نَفْسِي فَقَالَتْ أَنْتَ يَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَمَنْ أَفْضَلُ مِنْكَ فَأَرَدْتُ أَنْ أُعَرِّفَهَا نَفْسَهَا.

ج شِعْرًا: ... تَوَاضَعْ لِرَبِّ الْعَرْشِ عَلَّكَ تُرْفَعُ فَمَا خَابَ عَبْدٌ لِلْمُهَيْمِنِ يَخْضَعُ وَدَاوِ بِذِكْرِ اللهِ قَلْبَكَ إِنَّهُ لأَشْفَى دَوَاءً لِلْقُلُوبِ وَأَنْفَعُ آخر: ... تَوَاضَعْ تَكُنْ كَالنَّجْم لاحَ لِنَاظِرِ ... عَلَى صَفَحَاتِ الْمَاءِ وَهُوَ رَفِيعُ ... ???? ???? ... وَلا تَكُ كَالدُّخَانِ يَرْفَعُ نَفْسِهُ ... إلى طَبَقَاتِ الْجَوِّ وَهُوَ وَضِيعُ ... ›? ???? ???? وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قَالَ: ((لَوْ دُعِيتُ إلى كُرَاعٍ لأَجَبْتُ وَلَوْ أُهْدِيَ إِليَّ ذِرَاعٌ لَقَبِلْتُ)) . وَعَنْ بن أَبِي أَوْفى قَالَ كَانَ رَسُولُ اللهِ ? لا يَأْنَفُ وَلا يَسْتَكْبِرُ أَنْ يَمْشِي مَعَ الأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينْ فَيَقْضِي لَهُ حَاجَتَهُ وَعَنْ أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ امْرَأَةً كَانَ في عَقْلِهَا شَيْءٌ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لي إِلَيْكَ حَاجَةً قَالَ: ((يَا أُمُّ فُلانٍ خُذِي فِي أَيِّ طَرِيقٍ شِئْتِ قُومِي حَتَّى أَقُومَ مَعَكِ)) . فَخَلا مَعَهَا رَسُولُ اللهِ ? يُنَاجِيَا حَتَّى قَضَى حَاجَتَهَا. وَقَالَت عائشة رضي الله عنها كنتُ أَرَى امرأَةً تدخلُ على النبي ? وكان يُقْبِلُ عليها بِحَفَاوَةٍ فَشَقَّ ذلكَ عَليَّ فَعَلِمَ ذلك مِني فقَالَ: ((يا عائشةُ هَذِهِ كانَتْ تَغْشَانا أيامَ خَدِيجَة وإن حُسْنَ العَهدِ مِن الإيمان)) . قُلْتُ: ولله در القائل: ... وَإِنَّ أَوْلَى الْمَوَالي أَنْ تُوَالِيَهُ ... عِنْدَ السُّرُورِ الَّذِي وَاسَاكَ فِي الْحُزُنِ ... ???? ???? ... إِن الْكِرَامَ إذا ما أَيْسَرُوا ذَكَرُوا ... مَن كَانَ يَألفهُم في المَنْزِلِ الخَشِنِ ... ›? ???? ???? وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَبِي ذَرٍّ قَالا: كَانَ رَسُولُ اللهِ ? يَجْلِسُ

قصيدة ثم أخري في ذكر شيء من معجزاته

بَيْنَ ظَهْرَانِي أَصْحَابِهِ فَيَجِيءُ الْغَرِيبُ فَلا يَدْرِي أَيْهمُ هُوَ حَتَّى يَسْأَلَ فَطَلَبْنَا إلى رَسُولِ اللهِ ? أَنْ يَجْعَلَ مَجْلِسًا يَعْرِفُهُ الْغَرِيبُ إِذَا أَتَاهُ فَبَنَيْنَا لَهُ دُكَّانًا مِنْ طِينٍ فَكَانَ يَجْلِسُ عَلَيْهِ وَنَجْلِسُ بِجَانِبِيهِ وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ كُلْ جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ مُتَّكِئًا فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكَ قَالَ: ((لا بَلْ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ)) . وَعَنْهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ? جَاءَنِي مَلَكٌ فَقَالَ إِنَّ رَبَّكَ يُقْرِئُكَ السَّلامَ وَيَقُولُ إِنْ شِئْتَ نَبِيًّا عَبْدًا وَإِنْ شِئْتَ نَبِيًّّا مَلِكًا فَنَظَرْتُ إلى جِبْرِيلُ فَأَشَارَ لِي ضَعْ نَفْسَكَ فَقُلْتُ: ((نَبِيًّا عَبْدًا)) . وَعَنْ عَبْدُ اللهِ بن أَبِي أَوْفَى قَالَ كَانَ رَسُولُ اللهِ ? يُكْثِرُ الذِّكْرَ وَيُقِلُّ اللَّغْوَ وَيُطِيلُ الصَّلاةَ وَيُقَصِّرُ الْخُطْبَةَ وَلا يَأْنَفُ وَلا يَسْتَنْكِفَ أَنْ يَمْشِي مَعَ الأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ يَقْضِي لَهُمَا حَاجَتَهُمَا. وَعَنْ أَبي سَعِيدٍ الْخُدَرِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ كُنْتُ فِي عِصَابَةٍ مِن الْمُهَاجِرِينَ جَالِسًا وَإِنَّ بَعْضَهُمْ يَسْتَتِرُ بِبَعْضٍ مِن الْعُرْي وَقَارِئٌ لَنَا يَقْرَأُ عَلَيْنَا فَكُنَّا نَسْتَمِعُ إِلى كِتَابِ اللهِ فَقَالَ النَّبِي ?: ((الْحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ أُمِرْتُ أَنْ أُصَبِّرَ مَعَهُمْ نَفْسِي)) . ثُمَّ جَلَسَ رَسُولُ اللهِ ? وَسْطَنَا لِيَعْدَلَ بَيْنَنَا بِنَفْسِهِ فَقَالَ: ((أَبْشِرُوا مَعَاشِرَ صَعَالِيكِ الْمُهَاجِرِينَ بِالنُّورِ التَّامِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْمٍ وَذَلِكَ خَمْسُمائةِ عَامِ)) . ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ ? شِعْرًا: ... إِلَيْكَ رَسُولَ اللهِ مِنَّا تَحِيَّةً ... وَصَلَّى عَلَيْكَ الْعَابِدُ الْمُتَهَجِّدَ ... ???? ???? ... فَأَنْتَ رَسُولُ اللهِ هَادٍ وَمُهْتَدٍ ... نَبِيُّ هُدَىً لِلأَنْبِيَاءِ مُؤَيَّدُ ... ???? ???? ... وَقَدْ قَالَ حَسَّانٌ وَفِي الشِّعْرِ شَاهِدٌ ... تُجَدِّدُهُ الأَيَّامُ يُرْوَى وَيُنْشَدُ ... ???? ???? ... (أَغَرُّ عَلَيْهِ لِلنُّبُوَّةِ خَاتِمٌ ... مِن اللهِ مَشْهُودٌ يَلُوحُ وَيُشْهِدُ) ... ›? ???? ???? ... (وَضَمَّ الإِلهُ اسْمَ النَّبِيّ إلى اسْمِهِ ... إِذَا قَالَ فِي الْخَمْسِ الْمُؤَذَّنُ أَشْهَدُ) ... ???? ???? ... فَقُلْتُ شَبِيهًا بِالَّذِي قَالَ إِنَّنِي ... بِهِ مُؤْمِنًا حَقًّا لِرَبِّي مُوَحَّدُ ... ???? ???? ... فَلا يُقْبَلُ التَّوْحِيدُ إِلا بِذِكْرِهِ ... لِيَقْرِنَهُ عِنْدَ النِّدَاءَ الْمُوَحَّدُ ... ???? ????

.. وَمَا جَاءَ يَدْعُونَا بِغَيْرِ دَلالَةٍ ... وَلَكِنْ بِآيَاتٍ تَدُلُّ وَتَشْهَدُ ... ???? ???? ... وَمَنْ ذَاكَ جَذْعٌ حَنَّ شَوْقًا إِلى الرِّضَا ... وَمَا زَالَ سَاعَاتٍ يَمِيلُ وَيُسْنَدُ ... ???? ???? ... وَقَدْ سَمِعُوا صَوْتًا مِن الْجِذْعِ بَيِّنًا ... فَيَا عَجَبًا مِمَّنْ يَشُكُّ وَيُلْحِدُ ... ???? ???? ... وَمِنْ ذَاكَ شَاةٌ خِلْوَةُ الضَّرْعِ مَسَّهَا ... فَدَرَّتْ بِغَزْرٍ حَافِلٍ يَتَزَيَّدُ ... ???? ???? ... فَقَامَ إِلَيْهَا الْحَالِبَانِ فَأَتْرَعَا ... أَوَانِيهِمَا وَالضَّرْعُ مَلآنَ أَبْرَدُ ... ???? ???? ... وَسَارَ إلى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ لَيْلَةً ... مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَارِدًا لَيْسَ يُطْرَدُ ... ???? ???? ... يُخْبِّرُ بِالْعِيرِ الَّتِي فِي طَرِيقِهِ ... ليُوقِنَ أَهْلُ الشِّرْكِ ذَاكَ فَيَسْعَدُوا ... ???? ???? ... وَمِنْ ذَاكَ أَخْبَارٌ عَنْ الْغَيْبِ قَالَها ... يُعَايَنُ مِنْهَا الصِّدْقُ فِيهَا وَيُوجِدُ ... ???? ???? ... فَسُؤدَدُهُ بِاللهِ إِذْ كَانَ وَحْيُهُ ... إِلَيْهِ وَهَلْ فَوْقَ النُّبُوَّةِ سُؤْدَدُ ... ???? ???? ... فَأَظْهَرَ بِالإسلام دَعْوَةَ صَادِقٍ ... فَضَلَّ بِهِ قَوْمٌ وَقَوْمٌ بِهِ هُدُوا ... ???? ???? ... تُسَلِّمُ أَحْجَارٌ عَلَيْهِ فَصِيحَة ... إِذَا مَا خَلا فِي حَاجَةٍ يَتَفَرَّدُ ... ???? ???? ... وَيُسْمَعُ مِنْ أَصْوَاتِهَا فِي طَرِيقِهِ ... تُمَجّدُه إِنَّ النَّبِيَّ مُمُجَّدُ ... ???? ???? ... وَأَنْشَأَ رَبِّي مُزْنَةً فَوْقَ رَأْسِهِ ... رَآهَا بُحَيْرُ الرَّاهِبُ الْمُتَعَبِّدُ ... ???? ???? ... تُظَلِّلُهُ مِنْ كُلِّ حَرٍّ يُصِيبُهُ ... تَقِيمُ عَلَيْهِ مَا أَقَامَ فَيَرْكُدُ ... ???? ???? ... وَإِنْ سَارَ سَارَتْ لا تُفَارِقُ رَأْسَهُ ... فَقَالَ لَهُمْ هَذَا النَّبِيُّ مُحَمَّدُ ... ???? ???? ... حَلِيمٌ رَحِيمٌ لَيِّنٌ مُتَوَاضِعٌ ... سَخِيٌ حَيِيُّ عَابِدٌ مُتَزَهِّدُ ... ›? ???? ????وَقَالَ آخَر: ... نَبِيٌّ تَسَامَى فِي الْمَشَارِقِ نُورُهُ ... فَلاحَتْ بَوَادِيهِ لأَهْلِ الْمَغَارِبِ ... ???? ???? ... أَتَتْنَا بِهِ الأَنْبَاءُ قَبْلَ مَجِيئهِ ... وَشَاعَتْ بِهِ الأَخْبَارُ فِي كُلِّ جَانِبِ ... ???? ???? ... وَرَامَ اسْتِرَاقَ السَّمْعِ جِنٌّ فَزَيَّلَتْ ... مَقَاعِدَهُم مِنْهَا رُجُومُ الْكَوَاكِبِ ... ???? ???? ... هَدَانَا إلى مَا لَمْ نَكُنْ نَهْتَدِي لَهُ ... ... لِطُول الْعَمَى مِنْ وَاضِحَاتِ الْمَذَاهِبِ ... ???? ????

.. وَجَاءَ بِآيَاتٍ تَبَيَّنَ أَنَّهَا ... دَلائِلُ جَبَّارٍ مُثِيبٍ مُعَاقِبِ ... ???? ???? ... فَمِنْهَا نُبُوعُ الْمَاءِ بَيْنَ بَنَانِهِ ... وَقَدْ عَدِمَ الْوُرَّادُ قُرْبَ الْمَشَارِبِ ... ???? ???? ... فَرَوَّى بِهِ جَمًّا غَفِيرًا وَأَسْهَلَتْ ... بِأَعْنَاقِهِ طَوْعًا أَكُفُّ الْمَذَانِبِ ... ???? ???? ... وَبِئْرٍ طَغَتْ بِالْمَاءِ مِنْ مَسَّ سَهْمِهِ ... وَمِنْ قَبْلُ لَمْ تَسْمَحْ بِمَذْقِهِ شَارِبِ ... ???? ???? ... وَضَرْعٍ مَرَاهُ فَاسْتَدَرَّ وَلَمْ يَكُنْ ... بِهِ دِرَّةٌ تَصْغَى إلى كَفِّ حَالِبِ ... ???? ???? ... وَنُطْقِ فَصِيحٍ مِنْ ذِرَاعِ مُبَينَةً ... لِكَيْدِ عَدُوِّ لِلْعَدَاوَةِ نَاصِبِ ... ???? ???? ... وَمِنْ تَلْكُم الآيَاتِ وَحَتَّى أَتَى بِهِ ... قَرِيبُ الْمَآتِي مُسْتَجِمُّ الْعَجَائِبِ ... ???? ???? ... تَقَاصَرتِ الأَفْكَارُ عَنْهُ فَلَمْ يَطَعْ ... بَلِيغًا وَلَمْ يَخْطُرَ عَلَى قَلْبِ خَاطِبِ ... ???? ???? ... حَوَى كُلَّ عِلْمٍ وَاحْتَوَى كُلَّ حِكْمَةٍ ... وَفَاتَ مَرَامَ الْمُسْتَمِر الْمُوَارِبِ ... ???? ???? ... أَتَانَا بِهِ لا عَنْ رَوِيَّةِ مُرْتَئِيَ ... وَلا صُحْفِ مُسْتَمْلٍ وَلا وَصْفِ كَاتِبِ ... ???? ???? ... يُوَاتِيهِ طَوْرًا فِي إِجَابَةِ سَائِلِ ... وَإِفْتَاءٍ مُسْتَفْتٍ وَوَعْظِ مُخَاطِبِ ... ???? ???? ... وَإيتَانِ بُرْهَانِ وَفَرْضِ شَرَائِعِ ... وَقَصِّ أَحَادِيِثٍ وَنَصِّ مَآرِبِ ... ???? ???? ... وَتَصْرِيفِ أَمْثَالٍ وَتَثْبِيتَ حُجَّة ... وَتَعْرِيفِ ذِي جَحْد وَتَوْقِيفِ كَاذِبِ ... ???? ???? ... وَفِي مَجْمَعِ النَّادِي وَفِي حَوْمَةِ الْوَغَى ... وَعِنْدَ حُدُوثِ المُعْضَلاتِ الْغَرَائِبِ ... ???? ???? ... فَيَأْتِي عَلَى مَا شِئْتَ مِنْ طُرُقَاتِهِ ... قَوِيمَ الْمَعَانِي مُسْتَدِرَّ الضَّرَائِبِ ... ???? ???? ... يُصَدِّق مِنْهُ الْبَعْضُ بَعْضًا كَأَنَّمَا ... يُلاحِظُ مَعْنَاهُ بِعَيْنِ الْمُرَاقِبِ ... ???? ???? ... وَعَجْزُ الْوَرَى عَنْ أَنْ يَجِيئُوا بِمثْلِ مَا ... وَصَفْنَاهُ مَعْلُومٌ بِطُولِ التَّجَارُبِ ... ???? ???? ... وَكَانَ رَسُولَ اللهِ أَكْرَمَ مُنْجِبٍ ... جَرَى في ظُهُورِ الطَّيبينَ المنَاجِبِ ... ???? ???? ... عَلَيْهِ سَلامُ اللهِ في كُلِّ شَارِقٍ ... أَلاحَ لَنَا ضُوءًا وَفِي كُلِّ غَارِبِ ... ›? ???? ???? اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ إِنَّا نَسْأَلُكَ بِأَسْمَائِكَ الْحُسْنَى وَصِفَاتِكَ الْعُلَى أَنْ

تُعْتِقَ رِقَابَنَا وَرِقَابَ آبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا مِنَ النَّارِ وَالدِّينِ وَالْمَظَالِمِ يَا عَزِيزَ يَا غَفَّارُ يَا كَرِيمُ يَا سَتَّارُ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. مَوْعِظَة عباد الله اقْتَضَتْ حِكْمةُ الله العليمِ الخبير بأنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَهُ ابتداء لا بُدَّ له مِن نِهَايَةٍ، وكُلَّ شَيْءٍ لهُ أول حَتْمًا لا مَنَاصَ لَهُ آخِر، والعِبرةُ بالخاتمةِ نسأل الله حُسْنَهَا. وَأَنَّ الأَيامَ وَالليالي تَمرُ والعُمُرُ يَنْقَضِي والحياةُ تَزُولُ، ولا يَبْقَى إلا ما قَدَّمْتَهُ مِن صالح الأعمالِ يَنْفَعُكَ {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} . فالأَمرُ أَيُّها المسلمُ خَطِير فَإِن مَوْقِفًا مِنْ مَوَاقِفِ الْقِيَامَةِ تَشِيبُ مِنْ هَوْلِهِ الوِلدان يومَ تمورُ فيه السماءُ مُورًا وتسيرُ الجبالُ سيرًا. يَوم تذهلُ فيهِ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ حَمْلٍ حَمْلَهَا {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ *وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} . يُنَادِ بِالحشرِ: يَا أَيُّتهَا الْعِظامُ الْبَالِيةُ وَالأَوْصَالُ الْمُتَقَطَّعَةُ وَاللُّحُومُ الْمُتَمَزِّقَةُ والشعورُ المتفرقةُ، إن الله يأمرُكن أن تجتمَعْنَ لِفَصِل القضاء، فَتَخْرُجُ الخلائقُ مِن قبورها. إن يومًا هذا بعضُ أحوالِهِ جَدِير أن يُسْتَعَدَّ له بصالحِ الأعمال. فيا عِبَادَ اللهِ كُونُوا من الدنيا على حَذَرٍ وأَكْثِرُوا ذِكْرِ هَاذِم اللذات وَتَذَكَّرُوا مَا ذَهَبَ مِنْ أَعماركم كَمْ وَفَاتَ فَكَأني بِكم وَقَدْ نَقَلَكُم الأَجلُ إلى انقضاءِ المدةِ.

فيا رَهَائِنَ الموتِ وأعراضَ المنغمسينَ في الآثامِ أَعلَى الله تَجْتَرِؤُن، وعلى الدنيا وحطامِها الفاني تَتَنَافَسُون، وفي دار النُقْلَةِ تَتَحَاسِدُون. أمرتُم بِخَرَابِهَا فَعَمَرتُموها وَنُهِيتُم عن تَزْيِينِهَا فَزَخْرَفْتُمُوهَا وَنُذْبِتُم لطلب الآخرةِ فَأَهْمَلتُمُوهَا وَدَعَتْكُم الخداعةُ الغَرَّارَةُ بِدَاوَعِيهَا فَأَجَبْتُمُوهَا فَشَغَلتْكُمْ بلذاتها وقمَعَتْكُمْ بِشَهَوَاتِهَا ورَضِيتمُ مِن الكثير باليسيرِ وبِعْتُم الجزيلَ بالحقيرِ وَتَكَاسَلْتُم عن الجِدِ وَالتَّشْمِير وأقمتمُ على التَّسْوِيفِ والتَّعْذِيرِ. عباد الله أَيْنَ الْخَوْفُ وَالْوَجَلُ وَالاستغفَارُ، وَأَيْنَ الْخُشُوعُ وَالْخُضُوعُ وَالبكاءُ وجريان الدموعِ على الذنوبِ التي تَذَكّرُها يَرُوع، أينَ التفكرُ والاعتبار. ألا فاحْذروا المعاصي فإنها جَالِبَةُ النَّقَمِ وَمُغَيرَةِ النَّعِم والأحوال وَقَالَ الله جل وعلا: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} . عِبَادَ اللهِ لا تَغُرَّنَكُمْ الدنيا كمال غَرَّتْ مَن قَبْلَكم فَإِنَّ حَظَّهَا مَشْؤُم وإن نَعِيمَهَا وَإِنْ طَالَ لا يَدُوم: ... وَلَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا عَرُوسًا وَجَدَّتَها ... بِمَا قَتَلَتْ أَوْلادَها لا تُزَوَّجُ ... ›? ???? ????ويقول الأخر: ... وَلَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا مِن الإِنْسِ لَمْ تَكُنْ ... سِوَى مُوْمِسٍ أَفْنَتْ بِمَا سَاءَ عُمْرَهَا ... ›? ???? ???? عِبَادَ اللهِ لا يخدعنكم الأملُ فإن الأجلَ مَحتُوم ولا يَصدنكم الشيطانُ عما خلقُتم لَهُ مِنْ عِبادة الحي القيومِ ولا تغرنكُ الأَماني فإنها حلم المستيقض وسَلْوَةُ المحزون، قَالَ الله جل وعلا: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ} وقال تعالى {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} .

شِعْرًا: ... لِكُلِّ شَيْءٍ إِذَا مَا تَمَّ نُقْصَانُ ... فَلا يُغِرُّ بِطِيب العيش إنسان ... ???? ???? ... هي الأمورُ كما شَاهَدْتَهَا دُوَل ... مَن سَرَّهُ زَمَنٌ سَآته أَزْمَان ... ???? ???? ... وَعَالم الكَوْنِ لا تَبقَى محاسِنُه ... ولا يَدُومُ على حالٍ لَهَا شانَ ... ???? ???? ... يُمزّقُ الدهُر حَتْمًا كُلَّ سَابِغَةٍ ... إِذَا نَبِتْ مشرفيات وَخِرْصَان ... ???? ???? ... وَيُنْتَضَى كُلَّ سَيْفٍ لِلْفَنَاءِ ولو ... كان ابنَ ذِي يَزَنٍ وَالْغُمْدُ غُمدان ... ???? ???? ... أينَ الملوكُ ذُووا التِّيجَانِ مِنَ يَمنِ ... وأينَ منهم أكاليل وَتِيجانُ ... ???? ???? ... وأينَ ما شادَهُ شَدَّادُ مِن إِرْمٍ ... وأينَ مَا سَاسَه في الفُرس ساسان ... ???? ???? ... وأينَ ما حَازَهُ قَارُونُ مِن ذَهَبٍ ... وأينَ عَادٌ وَشَدادٌ وَقَحْطانُ ... ???? ???? ... أَتَى على الْكُلّ أَمْرٌ لا مَرَدَّ لَهُ ... حَتَّى قَضَوا فَكَانَّ الكلَّ ما كَانوا ... ???? ???? ... وَصَارَ مَا كَانَ مِن مُلْكٍ وَمِن مَلِكٍ ... كَمَا حَكَى عَنْ خَيَالِ الطيف وَسَنَانُ ... ???? ???? ... دَارَ الزَّمَانُ عَلَى دَارَا وَقَاتِلِهِ ... وَأَمَّ كِسْرى فَمَا آوَاهُ إِيوَانُ ... ???? ???? ... كَأَنَّمَا الصَّعْب لم يَسْهُلْ لَهُ سَبَبُ ... يَوْمًا وَلَمْ يَمْلِكِ الدُّنْيَا سُلَيْمَانُ ... ???? ???? ... فَجَائِعُ الدَّهْرِ أَنْواعٌ مُنَوَّعَةٌ ... وَلِلزَّمَانِ مَسَرِّاتٌ وَأَحْزَانُ ... ???? ???? ... وَلِلْمَصَائِبِ سُلْوَانُ يُهَّوِنُهَا ... وَمَا لِمَا حَلَّ بِالإسلام سُلْوَانُ ... ???? ???? ... دَهىَ الْجَزِيرَةَ أَمْرٌ لا عَزَاء لَهُ ... هَوىَ لَهُ أَحَدٌ وَإِنْهَدَّ ثَهْلانُ ... ???? ???? ... أَصَابَهَا الْعَيْنُ فِي الإسلام فَإرْتَزأَتْ ... حَتَّى خَلَتْ مِنْهُ أَقْطَارٌ وَبلدان ... ???? ???? ... فاسألْ بَلنَسْيَةً مَا َشأنُ مُرْسيةٍ ... وَأَيْنَ قُرْطبةٌ أَمْ أَيْنَ جَيَّانُ ... ???? ???? ... وَأَيْنَ حِمْصٌ وَمَا تَحْوِيهِ مِنْ نُزَهٍ ... وَنَهْرُهَا الْعِذْبُ فَيَّاضٌ لَهُ شَانُ ... ???? ???? ... كَذَا طُلَيْطلةٌ دَارُ العُلُومِ فَكَمْ ... من عالمٍ قَدْ سَمَا فيهَا لَهُ شَانُ ... ???? ???? ... وَأَيْنَ غُرْناطةٌ دَارُ الجهادِ وَكَمْ ... أُسْدٌ بِهَا وَهُمُ في الحَرْبِ عُقْبَانُ ... ???? ????

.. وَأَيْنَ حَمْرَاؤُهَا الْعَلْيَا وَزُخْرُفُهَا ... كَأَنَّهَا مِنْ جِنَانِ الْخُلْدِ عَدْنَانُ ... ???? ???? ... قَوَاعِدٌ كُنَّ أَركَانَ البلادِ فَمَا ... عَسَى البقاءُ إِذَا لم تَبْقَى أركانُ ... ???? ???? ... وَالماءُ يَجْرِي بِسَاحَاتِ الْقُصُورِ بها ... قَدْ حَفَّ جَدوَلَهَا زَهْرٌ وَرَيْحَانُ ... ???? ???? ... وَنَهْرُهَا الْعَذْبُ يَحْكِي فِي تَسَلْسُلِهِِ ... سُيُوفَ هِنْدٍ لَهَا فِي الْجَوّ لَمْعَانُ ... ???? ???? ... وَأَيْنَ جَامِعُهَا الْمَشْهُورُ كَمْ تُلَيَتْ ... في كُلِّ وَقْتٍ بِهِ آيٌ وَفُرْقَانُ ... ???? ???? ... وَعَالِم كَانَ فِيهِ لِلْجَهُولِ هُدَى ... مُدَرِّسٌ وَلَهُ فِي الْعِلْمِ تِبْيَانُ ... ???? ???? ... وَعَابِدٌ خَاضِعٌ للهِ مُبْتَهِلٌ ... وَالدَّمْعُ مِنْهُ عَلَى الْخَدَّيْنِ طُوفَان ... ???? ???? ... وَأَيْنَ مَالِقَةٌ مَرْسَى المراكب كَمْ ... أُرْسَتْ بِسَاحَتِهَا فُلْكٌ وَغُرْبانُ ... ???? ???? ... وَكَمْ بِدَاخِلِهَا مِنْ شَاعِرٍ فَطِنٍ ... وَذِي فُنُونٍ لَهُ حِذْقٌ وَتِبْيَانُ ... ???? ???? ... وَكَمْ بِخَارِجِهَا مِنْ مَنْزَهٍ فرجٍ ... وَجَنَّةٍ حَوْلَهَا نَهْرٌ وَبُسْتَانُ ... ???? ???? ... وَأَيْنَ جَارَتُهَا الزَّهْرَا وَقُبَتَّهَا ... وَأَيْنَ يَا قَوْمُ أَبْطَالُ وَفُرْسَانُ ... ???? ???? ... وَأَيْنَ بَسْطَةُ دَارِ الزَّعْفَرَانِ فَهَلْ ... رَأى شَبِيهًا لَهَا في الحُسْنِ إِنْسَانُ ... ???? ???? ... وَكَمْ شُجَاع زَعِيمٍ في الوغَى بَطلٍ ... تَبْكِيهِ مِنْ أَرْضِهِ أَهْلٌ وَوِلْدَانُ ... ???? ???? ... وَوَادِيًا مَن غَدَتْ بِالْكُفْرِ عَامِرَةً ... وَرَدَّ تَوْحِيدَهَا شِرْكٌ وَطُغْيَانُ ... ???? ???? ... كَذَا الْمَرَيَّةُ دَارُ الصَّالِحِينَ فَكَمْ ... قُطْبٌ بِهَا عِلْمٌ بَحْرٌ لَهُ شَانُ ... ???? ???? ... تَبْكِي الْحَنِيفيةُ الْبَيْضَاءُ مِنْ أَسَفٍ ... كَمَا بَكَى لِفِرَاقِ الإِلْفِ هَيْمَانُ ... ???? ???? ... حَتَّى الْمَحَارِيب تَبْكِي وَهِيَ جَامِدَة ... حَتَّى الْمَنَابِرَ تَبْكِي وَهِيَ عِيدَانُ ... ???? ???? ... عَلَى دِيَارٍ مِنْ الإسلام خَالِيَةٍ ... قَدْ أَقْفَرَتْ وَلَها بِالْكُفْرِ عُمْرَانُ ... ???? ???? ... حَيْثُ الْمَسَاجِدَ قَدْ أَمْسَتْ كَنَائِسَ مَا ... فِيهِنَّ إِلا نَوَاقِيسٌ وَصُلْبَانُ ... ???? ???? ... يَا غَافِلاً وَلَهُ فِي الدَّهْرِ مَوْعِظَةٌ ... إِنْ كُنْتَ فِي سِنةٍ فَالدَّهْرُ يَقْظَانُ ... ???? ???? ... وَمَاشيًا مَرِحًا يُلْهِيهُ مَوْطَنُهُ ... أَبَعْدَ حِمْصٍ تَغُرُ المرءَ أَوْطَانُ ... ???? ????

.. تِلْكَ الْمصِيبَةُ أَنْسَتْ مَا تَقَدَّمَهَا ... وَمَا لَهَا مَعْ طَوِيلِ الدَّهْرِ نِسْيَانُ ... ???? ???? ... يَا رَاكِبِينَ عِتَاقَ الْخَيْلِ ضَامِرَةً ... كَأَنَّهَا فِي مَجَالِ السَّبْقِ عقبانُ ... ???? ???? ... وَحَامِلِينَ سُيُوفَ الْهِنْدِ مُرْهَفَةً ... كَأَنَّهَا فِي ظَلامِ اللَّيْلِ نِيرَانُ ... ???? ???? ... وَرَاتِعِينَ وَرَاءَ النَّهْرِ فِي دَعَةٍ ... لَهُمْ بِأَوْطَانِهِمْ عَزٌ وَسُلْطَانُ ... ???? ???? ... أَعِنْدَكُمْ نَبَأَ مِنْ أَمْرِ أَنْدَلُسِ ... فَقَدْ سَرَى بِحَدِيثِ الْقَوْمِ رُكْبَانُ ... ???? ???? ... كَمْ يَسْتَغِيثُ صَنَادِيدُ الرِّجَال وَهُمْ ... أَسْرَى وَقَتْلَى فَلا يَهْتَزُ إِنْسَانُ ... ???? ???? ... إِلا نُفُوسٌ أَبْيَاتٌ لَهَا هِممٌ ... أَمَا عَلَى الْخَيْرِ أَنْصَارٌ وَأَعْوَانُ ... ???? ???? ... يَا مَنْ لِنُصْرَةِ قَوْمٍ قُسِموا ... سَطَا عَلَيْهِمْ بِهَا كُفْرٌ وَطُغْيَانُ ... ???? ???? ... بِالأَمْسِ كَانُوا مُلُوكًا فِي مَنَازِلهِم ... وَالْيَوْمَ هُمْ في قُيُودِ الْكُفْرِ عُبْدَانُ ... ???? ???? ... فَلَوْ تَرَاهُمْ حَيَارَى لا دَلِيلَ لَهُمْ ... عَلَيْهِمْ مِنْ ثِيَابِ الذُّلِ أَلْوَانُ ... ???? ???? ... وَلَوْ رَأَيْتَ بُكَاهُم عِنْدَ بِيعِهِمْ ... لَهَالَكَ الأَمْرُ وَاسْتَهْوَتْكَ أَحْزَانُ ... ???? ???? ... يَا رُبَّ طِفْل وَأُمٍّ حِيلَ بَيْنَهُمَا ... كَمَا تُفَرّقَ أَرْوَاحٌ وَأَبْدَانُ ... ???? ???? ... وَطَفلَةٍ مِثْلَ حُسْنُ الشَّمْسِ إِذ طَلَعَتْ ... كَأَنَّمَا هِيَ يَاقُوتٌ وَمُرْجَانُ ... ???? ???? ... لِمثْلِ هَذَا يَذُوبْ الْقَلْبُ مِنْ كَمَدٍ ... إِنْ كَانَ فِي الْقَلْبِ إسلامٌ وَإِيمانُ ... ???? ???? ... هَلْ لِلْجَهَادِ بِهَا مِنْ طَالِبِ فَلَقَدْ ... تَزَخْرَفَتْ جَنَّةُ الْمَأْوَى لَهَا شَانُ ... ???? ???? ... وَأَشْرَفَ الْحُورُ وَالوِلْدَانُ مِن غُرَفٍ ... فَازَتْ وَرَبِّ بِهَذَا الْخَيْرِ شُجَعَانُ ... ???? ???? ... ثُمَّ الصَّلاةُ عَلَى الْمُخْتَارِ مِنْ مُضَرٍ ... مَا هَبَّ رِيحُ الصَّبَا وَاهْتَزَّ أَغْصَانُ ... ›? ???? ????هذه منظومة وعظية نقلناها من مقامات الحريري: ... خَلِ ادَّكَارَ الأَرْبِعِ ... وَالمَعْهَدِ المُرْتَبِعِ ... ???? ???? ... وَالظَّاعِنِ المُوَدَّعِ ... وَعَدِّ عَنْهُ وَدَعِ ... ???? ???? ... وَانْدُبْ زَمَانًا سَلَفَا ... سَوَّدَتَ فِيهِ الصُّحُفَا ... ???? ????

.. وَلَمْ تَزَلْ مُعْتَكِفَاً ... عَلَى الْقَبِيحِ الشَّنِعِ ... ???? ???? ... كَمْ لَيْلَةٍ أَوْدَعْتَهَا ... مَآثِمًا أبَدْعَتْهَا ... ???? ???? ... لِشَهْوَةٍ أَطَعْتَهَا ... في مَرْقَدٍ وَمَضْجَعِ ... ???? ???? ... وَكَمْ خُطَى حَثَثْتَهَا ... في خَزْنَةٍ أَحْدَثْتَهَا ... ???? ???? ... وَتَوْبَةٍ نَكَثْتَهَا ... لِمَلْعَبِ وَمَرْتَعِ ... ???? ???? ... وَكَمْ تَجَرَّأْتَ عَلَى ... رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْعُلَى ... ???? ???? ... وَلَمْ تُرَاقِبْهُ وَلا ... صَدَقْتَ فِيمَا تَدَّعِي ... ???? ???? ... وَكَمْ غَمَصْتِ بِرَّهُ ... وَكَمْ أَمِنْتَ مَكْرَهُ ... ???? ???? ... وَكَمْ نَبَذْتَ أَمْرَهُ ... نَبْذَ الحَذَاء الْمُرَقَّعِ ... ???? ???? ... وَكَمْ رَكَضْتَ في اللَّعِب ... وَفُهْتَ عَمْدًا بِالْكَذِبِ ... ???? ???? ... وَلَمْ تُرَاعِ مَا يَجِبْ ... مِنْ عَهْدِهِ الْمُتَبَّعِ ... ???? ???? ... فَالْبِسْ شِعَارَ النَّدَمِ ... وَاسْكُبْ شَآبِيبَ الدَّمِّ ... ???? ???? ... قَبْلَ زَوَالِ الْقَدَمِ ... وَقَبْلَ سُوءِ الْمَصْرَعِ ... ???? ???? ... وَاخضَعْ خُضُوعَ الْمُعْتَرفْ ... وَلُذْ مَلاذَ الْمُقْتَرفْ ... ???? ???? ... وَاعْصِ هَوَاكَ وَانْحَرَفْ ... عَنْهُ انْحِرَافَ الْمُقْلِعِ ... ???? ???? ... إِلامَ تَسْهُو وتَنَيِ ... وَمُعْظَمُ الْعُمُرِ فَنِي ... ???? ???? ... فِيمَا يَضُرُّ الْمُقْتَنِي ... وَلَسْتَ بِالْمُرْتَدِعِ ... ???? ???? ... أَمَا تَرَى الشَّيْبَ وَخَطْ ... وَخَطَّ فِي الرَّأْسِ خُطَطْ ... ???? ???? ... وَمَنْ يَلِحْ وَخْطَ الشَّمَطْ ... بِفَوْدِهِ فَقَدْ نُعِي ... ???? ???? ... وَيْحَكِ يَا نَفْسُ احْرِصِي ... عَلَى ارْتِيَادِ الْمَخْلَصِ ... ???? ???? ... وَطَاوِعِي وَاخْلِصِي ... وَاسْتَمِعِي النُّصْحَ وَعِي ... ???? ????

.. وَاعْتَبِرِي بِمَنْ مَضَى ... مِن الْقُرُونِ وَانْقَضَى ... ???? ???? ... وَأَخْشَى مُفَاجَأَةَ الْقَضَا ... ... وَحَاذِرِي أَنْ تُخْدَعِي ... ???? ???? ... وَانْتِهَجِي سُبْلَ الْهُدَى ... وَادَّكِرِي وَشْك الرَّدَى ... ???? ???? ... آهًا لَهُ بَيْتُ الْبَلَى ... وَالْمَنْزِلِ الْفَقْرِ الْخَلا ... ???? ???? ... وَمَوْرِدِ السَّفْرِ الأُولَى ... وَاللاحِقِ الْمُتَبَّعِ ... ???? ???? ... بَيْتٌ يُرَى مَن أَُودِعَهْ ... قَدْ ضَمَّهُ وَاسْتَوْدَعَهْ ... ???? ???? ... بَعْدَ الْفَضَاءِ وَالسَّعَةْ ... قَيْدَ ثَلاثِ أَذْرُعِ ... ???? ???? ... لا فَرْقَ أَنْ يَحِلَّهُ ... دَاهِيَةٌ أَوْ أَبْلَهُ ... ???? ???? ... أَوْ مُعْسِرٌ أَوْ مَنْ لَهُ ... مُلْكٌ كَمُلْكِ تُبَّعِ ... ???? ???? ... وَبَعْدَهُ الْعَرْضُ الَّذِي ... يَحْوِي الْحِيّي وَالْبذِي ... ???? ???? ... وَالْمُبْتَدِي وَالْمُحْتَذِي ... وَمَنْ رَعَى وَمََنْ رُعِي ... ???? ???? ... فَيَا مَفَازَ الْمُتَّقِي ... وَرِبْحَ عَبْدٍ قَدْ وُقِي ... ???? ???? ... سُوءَ الْحِسَابِ الْمُوبِقِ ... وَهَوْلَ يَوْمَ الْمَفْزَعِ ... ???? ???? ... وَيَا خَسَارَ مَنْ بَغَى ... وَمَنْ تَعَدَّى وَطَغَى ... ???? ???? ... وَشَبَّ نِيرَانَ الْوَغَى ... لِمَطْعَمِ أَوْ مَطْمَعِ ... ???? ???? ... يَا مَنْ عَلَيْهِ الْمُتَّكَلْ ... قَدْ زَادَ مَا بِي مِنْ وَجَلْ ... ???? ???? ... لِمَا اجْتَرَمْتُ مِنْ زَلَلْ ... فِي عُمْرِي الْمُضَيِّعِ ... ???? ???? ... فَاغْفِرْ لِعَبْدٍ مُجْتَرِمْ ... وَارْحَمْ بُكَاهُ الْمُنْسَجَمْ ... ???? ???? ... فَأَنْتَ أَوْلَى مَن رَحِمْ ... وَخَيْرَ مَدْعُوٍّ دُعِي ... ›? ???? ???? اللَّهُمَّ ثَبت مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَوَفِّقْنَا لِشُكْرِكَ وَذِكْرِكَ وَارْزُقْنَا التَّأهُبَ وَالاسْتِعْدَادِ لِلِقَائِكِ وَاجْعَلْ خِتَامَ صَحَائِفِنَا كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ واغْفِرْ لَنِا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

في المعاشرة والحلم وآثاره والأسباب الباعثة علي ضبط النفس

(فَصْلٌ) في الْمُعَاشَرَةِ وَالْحِلْمِ وَآثَارِهِ وَالأَسْبَابِ الْبَاعِثَةِ عَلَى ضَبْطِ النَّفْسِ الْحِلْمُ لُغَةً الأَنَاةُ وَالْعَقْلُ لِكَوْنِهِ سَبَبُ الْحِلْمِ وَاصْطِلاحًا ضَبْطُ النَّفْسِ وَالطَّبْعِ عِنْدَ هَيَجَانِ الْغَضَب أَوْ احْتِمَالِ الأَذَى مِنْ الأَدْنَى وَهُوَ يَرْجِعُ إلى الأَوَّلِ لأَنَّ مَنْ احْتَمَلَ الأَذَى مِمَّنْ دُونَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فقَدْ ضَبَطَ نَفْسهُ عِنْدَ الْغَضَب. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَّاضٌ: الْحِلْمُ حَالَةُ تُوَقُّر وَثَبَاتٍ. أَيْ صِفَةٌ تُورِثُ طَلَبَ وَقَارٍ وَثُبُوتٍ فِي الأَمْرِ وَاسْتِقْرَارٍ عِنْدَ الأَسْبَابِ الْمُحَرِّكَةِ لِلْغَضَبِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الْعَجَلَةِ فِي الْعُقُوبَةِ. وَلا يُسَمَّى الْمَرْءُ حَلِيمًا إِِلا إِذَا كَانَ ذَلِكَ طَبْعًا لا تَكَلُّفًا وَقَدْ وَصَفَ اللهُ بِهِ سَيِّدُنَا إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَالَ {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ} . وَكَمَا قَالَ فِي وَلَدِهِ {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} . قَالَ الشَّاعِرُ: ... أَلا إِنَّ حِلْمَ الْمَرْءِ أَكْرَمُ نِسْبَةٍ تَسَامَى بِهَا عِنْدَ الْفِخَارِ حَلِيمُ فَيَا رَبَّ هَبْ لِي مِنْكِ حِلْمًا فَإِنَّنِي أَرَى الْحِلْمَ لَمْ يَنْدَمْ عَلَيْهِ كَرِيمُ ... ›? وَقَالَ الآخَرُ: ... أُحِبُّ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ جُهْدِي وَأَكْرَهُ أَنْ أَعِيبَ وَأَنْ أُعَابَا آخر: ... فَإِنْ كُنْتَ تَرْجُو في الْعُقُوبَةِ رَاحَةً ... فَلا تَزْهَدَنْ عِنْدَ الْمُعَافَاتِ فِي الأَجْرِ ... ???? ????آخر: ... فَهَبْنِي مُسِيئًا كَالَّذِي قُلْتَ ظَالِمًا ... فَعَفْوٌ جَمِيلٌ كَيْ يَكُونَ لَكَ الْفَضْلُ ... ???? ???? ... فَإِنْ لَمْ أَكُنْ لِلْعَفْوِ أَهْلاً لِسُوءِ مَا ... أَتَيْتَ بِهِ جَهْلاً فَأَنْتَ لَهُ أَهْلُ ... ???? ????آخر: ... مَا كُلُّ مَن حَسُنَتْ فِي النَّاس سُمْعَتُهُ ... وَحَازَ قَلْبًا ذَكِيًّا أدْركَ الأمَلا ... ???? ????

.. مَا السَّمْعَ وَالْقَلْبُ مُدْنٍ مِنْكَ مَنْفَعَةً ... إِنْ لَمْ يَكُنْ مثلُ ذَا زُهْدًا وَذَاكَ تُقَى ... ???? ????آخر: ... أَحُبُّ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ جُهْدِي ... وَأَكْرَهُ أَنْ أَعِيبَ وَأَنْ أُعَابَا ... ???? ???? ... وَأَصْفَحُ عَنْ سِبَابِ النَّاسِ حِلْمًا وَشَرُّ النَّاسِ مَنْ يَهْوَى السَّبَابَا وَمَنْ هَابَ الرِّجَالَ تَهَيَّبُوهُ وَمَنْ حَقَرَ الرِّجَالَ فَلَنْ يُهَابَا ... ›? فَأَمَّا ضَبْطُ النَّفْسِ عِنْدَ الْغَضَبِ مَعَ التَّكَلُّفِ فَهُوَ تَحَلُّمٌ لا حِلْمٌ فَإِذَا تَكَلَّفَ الإِنْسَانُ الْحِلْمَ بِأَنْ مَرَّنَ نَفْسهُ عَلَى كَظْمِ الْغَيْظِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ أَصْبَحَ الْحِلْمُ لَهُ عَادَةً. وَأَصْلُ الْكَظْمِ شَدُّ رَأْسِ الْقِرْبَةِ عِنْدَ امْتِلائِهَا وَكَظْمِ الْبَابِ سَدُّهُ شُبِّهِ بِهِ مَنْ أَمْسَكَ نَفْسَهُ وَضَبَطَهَا عِنْدَ امْتِلائِهَا بالْغَضَبِ فَلَمْ يَنْتَقِمْ مِمَّنْ أَهَاجَهُ وَمِنْهُ فُلانٌ كَظِيمٌ بِمَعْنَى مُمْتَلِئٌ حُزْنًا قَالَ تَعَالَى عَنْ يُونُسَ: {إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} أَيْ غَيْظًا عَلَى قَوْمِهِ إِذْ لَمْ يُؤْمِنُوا لمَّا دَعَاهُمْ إلى الإِيمَانِ. وَالْغَيْظُ مُرَادِفُ لِلْغَضَبِ وَلا يَتِمُّ حِلْمُ الإِنْسَانِ إِلا بِإمْسَاكِ الْجَوَارِحِ كُلِّهَا: الْيَدِ عَنْ الْبَطْشِ وَاللِّسَانِ عَنْ الْفُحْشِ وَالْعَيْنِ عَنْ فُضُولاتِ النَّظَرِ وَأَقْرَبُ لَفْظٍ يُسْتَعْمَلُ ضِدَّ الْحِلْمِ التَّذَمُّرُ. وَأَمَّا الْعَفْوُ وَالصَّفْحُ فَهُمَا صُورَتَا الْحِلْمِ فَالْعَفْوُ تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةَ بِالذَّنْبِ، وَالصَّفْحُ تَرْكُ التَّثْرِيبِ وَهُوَ مَحْمُودٌ إِذَا كَانَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجِبُ. بِأَنْ لا يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ إِخْلالٌ بِالدِّينِ، قَالَ تَعَالَى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} تَنْبِيهًا عَلَى مَا يَجْمُلُ مِنْهُ. وَأَمَّا الصَّفْحُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ فَلا يَصْفَحُ حَيْثُ اقْتَضَى الْمَقَامُ الْعُقُوبَةَ، كَعُقُوبَةِ الْمُعْتَدِينَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ لا يَنْفَعُ فِيهِمْ إِلا الْعُقُوبَةُ. وَقَدْ حَثَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} فَأَمَرَ جَلَّ وَعَلا بِالْحِلْمِ وَالْعَفْوِ وَقَالَ تَعَالَى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} وَقَالَ: {فَاعْفُ عَنْهُمْ

وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وَقَالَ: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} . وَقَالَ الشَّاعِرُ: ... وَاصْدُقْ صَدِيقكَ إِنْ صَدَقْتَ صَداَقَةً وَادْفَعْ عَدُوَّكَ بِالَّتِي فَإِذَا الَّذِي ... ›? وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْحِلْمُ عَلَى مَنْ يَعْتَدِي عَلَى الدِّينِ أَوْ الْعِرْضِ أَوْ الْمَالِ فَهَذَا غَايَةِ الْجُبْنِ وَمُنْتَهَى الذَّمِّ نَعَمْ يَنْبَغِي لِمَنْ يُدَافِعُ عَنْ الْفَضِيلَةِ أَنْ يَضْبِطَ نَفْسهُ عِنْدَ الدِّفَاعِ فَلا يُسْرِفْ فِي الانْتِقَامِ. وَيُعْجِبُنِي جَوَابُ مَا ذُكِرَ فِي الْقِصَّةِ الْمَشْهُورَةِ مِنْ أَنَّ مُعَلِّمًا كَانَ يُلْقِي دَرْسًا أَوْ هُوَ يَعِظُ فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ إِنْسَانُ لَمْ يَسْتَعْمِلْ الرِّفْقَ وَتَسَرَّعَ فِي الانْتِقَادِ وَخَطَّأ الْمُعَلِّمَ جَهْرًا وَالنَّاسُ يَسْمَعُونَ وَمَضَى الشَّيْخُ فِي شَرْحِهِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَبَيَّنَ لِلنَّاقِدْ أَنَّهُ أَخْطَأَ وَأَنَّ الصَّوَابَ مَا قَالَهُ الشَّيْخُ فَذَهَبَ إِلَيْهِ فِي بَيْتِهِ مُعْتَذِرًا مِمَّا فَرَطَ مِنْهُ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ نَظْمًا جَوَابًا لَهُ: ... جَفَاءٌ جَرَى جَهْرًا لَدَى النَّاسِ وَانْبَسَطْ وَعُذْرٌ أَتَى سِرًّا فَأَكَّدَ مَا فَرَطْ وَمَنْ ظَنَّ أَنْ يَمْحُو جَليَّ جَفَائِهِ خَفِيُّ اعْتِذَارٍ فَهُوَ فِي أَعْظَمِ الْغَلَطْ ... ›? فَالنَّقْدُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ لِيَكُونَ مِنْ وَرَائِهِ نَجَاحُ الْقَصْدِ وَالسَّلامَةِ مِنْ الإِثْمِ وَالزَّلَلِ وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَى الْمُنْتَقِدُ أَنْ يُلَطِّفَ الْكَلامَ وَيَأْتِي بِصِيغَةِ سُؤَالٍ وَاسْتِفْهَامٍ وَيَسْأَلَ مَنْ حَوْلَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ هَذَا إِذَا كَانَ مُتَيَقِّنًا لِلْخَطَأِ وَإِلا فَبَعْدَ التَّثَبُّتْ يُبَيِّنُ لَهُ ذَلِكَ

النقد - الشجاعة - الجبن - التهور

بِالْكَلِمِ الطَّيِّب وَالْمَعْرُوفِ مِنَ الْقَوْلِ وَلْيَحْذَرْ مِنْ خُشُونَةِ الْكَلامِ فَإِنَّهَا مُنَفِّرَةٌ وَدَاعِيَةٌ إلى التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ. وَعَلَى الْحَلِيمِ أَنْ لا يَتَجَاوَزَ الْحَدَّ الْمَشْرُوعَ لِرَدِّ الْمُعْتَدِينِ وَرَدْعِهِمْ وَإِلا كَانَ مُتَهَوِّرًا ظَالِمًا فَالشَّجَاعَةُ تَسْتَلْزِمُ الْحِلْمَ لأَنَّ الشَّجَاعَةَ لَيْسَتْ مُجَرَّدُ الْقُوَّةِ الَّتِي يَسْتَطِيعُ بِهَا الْمَرْءُ مُوَاجَهَةَ الأَخْطَارِ بِل لا بُدَّ مَعَهَا مِنْ ضَبْطِ النَّفْسِ عِنْدَ الْغَضَبِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِن إتِّبَاعِ سُنَنِ الدِّينِ. وَالشَّجَاعَةِ هِيَ الْحَدُّ الْوَسَطَ بَيْنَ رَذِيلَتِي الْجُبْنِ وَالتَّهَوُّرِ فَفِي الْجُبْنِ تَفْرِيطِ وَتَضْيِيعٌ وَتَقْصِيرٌ وَفِي التَّهَوُّرِ إِفْرَاطٌ وَتَعَدِّ لِلْحُدُودِ وَفِي الشَّجَاعَةِ السَّلامَةِ بِأَنْ يُقْدِمَ حَيْثُ يَرَى الإِقْدَامَ عَزْمًا وَيُحْجِمَ حَيْثُ يَرَى الإِحْجَامَ حَزْمًا. وَيَتَرَتَّبُ عَلَى الْحِلْمِ آثَارٌ جَلِيلَةٌ وَمَنَافِعٌ عَظِيمَةٌ يَعْرِفُ الإِنْسَانُ قَدْرَهَا إِذَا حَصَلَ الْغَضَبُ وَآثَارَ الْعَوَاطِفَ وَآثَارَ النُّفُوسِ وَشَبَّ نَارَ الْفِتْنَةِ فَاضْطَرَبَتْ الأُمُورُ وَتَغَيَّرَتْ وَاسْتَحْكَمَتْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ وَاسْتَوْلَى عَلَى النَّفْسِ حُبُّ النِّزَاعِ وَالصِّدَامُ وَحُبِّبَ إلى النُّفُوسِ الْفَتْكُ والدَّمَارُ وَنُسِيَتْ عَوَاقِبُ الأُمُورِ مِمَّا يَجُرُّهُ الطَّيْشُ وَالتَّهَوُّرُ مِنْ بَلاءٍ وَدَمَارٍ وَشَقَاءٍ وَنَتَائِجَ وَخِيمَةٍ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَبَيَّنُ وَيَظْهَرُ فَضْلُ الْحِلْمِ. فَإِنَّ الْحِلْمَ إِذَا أَرَادَ اللهُ يَدْفَعُ بِهِ هَذِهِ الشُّرُورِ لأَنَّ الْحَلِيمَ يَسْتَطِيعُ إِذَا

وَفَّقَهُ اللهُ أَنْ يَنْظُرَ إلى كُلِّ أَمْرٍ مِنْ الأُمُورِ نَظَرًا صَادِقًا وَيُقَدِّرُهُ تَقْدِيرًا صَحِيحًا وَيَزِنُهُ بِمِيزَانٍٍ عَادِلٍ فَلا يَسْتَخِفُّهُ الْغَضَبُ وَالطَّيْشُ فَيَدْفَعُهُ إلى الْمُخَاطَرَةِ وَيَسُوقُهُ إلى مَا لا قِبَلَ لَهُ بِهِ. فَالْحِلْمُ خَيْرُ وِقَايَةٍ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ وَتَحْفَظُ مِنْ الْوُقُوعِ فِي مَوَاطِنْ الْهَلاكِ وقَدْ مَثَّلَ الْعُلَمَاءُ لذَلِكَ أََمْثِلَةً مِنْهَا إِذَا كَانَ الْحَاكِمُ حَلِيمًا لا يَسْتَنْفِزُّهُ الْغَضَبُ إلى إِبْرَامِ الأُُمورِ قَبْلَ التَّثَبِّتِ مِنْهَا فَإِنَّهُ يَكُونُ نِعْمَةٌ وَبَرَكَةٌ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى رَعِيَّتِهِ لأَنَّ التَّثَبِّتَ فِي الأُمُورِ قَبْلَ إِبْرَامِهَا يَسْتَلْْزِمُ الْعَدْلَ وَإِعْطَاءَ كُُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ وَجَزَاءَ كُلِّ فَرْدٍ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ وَبِذَلِكَ تَسْتَعِدُ وَتَدُومُ الدَّوْلَةُ بِإِذْنِ اللهِ وَتَرْتَفِعْ مَكَانَتَهُ عِنْدَ اللهِ وعِنْدَ عِبَادِهِ. الْمِثَالُ الثَّانِي: الزُّعَمَاءُ وَالرُّؤَسَاءُ إِذَا كَانُوا حُلَمَاءَ فَإِنَّهُمْ يَرْفَعُونَ عَنْ أَتْبَاعِهِمْ إِذَا أَرَادَ اللهُ كَثِيرًا مِنْ الأَذَى وَيَدْفَعُونَ عَنْهُمْ شَرَّ التَّنَازُعِ وَالْخُصُومَاتَ مَعَ بَعْضِهِمْ وَمَعَ غَيْرِهِمْ فَإِنَّ الْحَلِيمَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَالِجَ الأُمُورَ بِالْهُدُوءِ وَالرِّفْقِ وَالتَّلَطُّفِ وَيُفَكِّرَ فِي الْوَسَائِلِ وَالأَسْبَابِ الَّتِي تُزِيلْ الأَحْقَادَ وَالضَّغَائِنَ وَالْخِصَامَ وَيَكُفُّهُمْ عَنْ الشَّرِّ وَيَأْخُذَ مِنْهُمْ بِحِلْمِهِ وَلِينِهِ مَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَخْذُهُ بِقُوَّتِهِ وَجَاهِهِ فَتَنْحَسِمُ مَادّةُ الشَّرِّ وَيَحِلُّ الْوِئَامُ مَحَلَّ الْخِصَامِ. وَمِنْ الأَمْثِلَةِ الْقُضَاةُ إِذَا كَانُوا مُتَّصِفِينَ بِالْحِلْمِ فَإِنَّهُمْ بِإِذْنِ اللهِ يَهْتَدُونَ إلى الصَّوَابِ وَيَظْهَرُ لَهُمْ الْحَقُّ لأَنَّ سَعَةً صَدْرِ الْقَاضِي لاسْتِمَاعِ جَمِيعِ مَا َيذْكُرُهُ الْخُصُومُ وَحِلْمُهُ عَلَيْهمْ حَتَّى يُدْلُوا إِلَيْهِ بِكُلِّ حُجَجِهِمْ وَيُبَيِّنُوا لَهُ كُلَّ مَا

يَسْتَطِيعُونَهُ مِنْ طُرُقِ الإِثْبَاتِ مِنْ خَيْرِ الْوَسَائِلِ الَّتِي تَفِيدُ فِي اسْتِنْبَاطِ الْحَقِّ وَمَعْرِفَةِ الْمُبْطِلِ مِنْ الْمُحِقِّ بِخِلافِ الأَحْمَقِ الْغَضُوبِ فَإِنَّ ضَرَرَهُ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ وَخَطَأَهُ أَكْثَرُ مِنْ صَوَابِهِ. وَمِنْ الأَمْثِلَةِ لِذَلِكَ أَنَّ الْمُرَبِّي إِذا كَانَ حَلِيمًا فَإِنَّهُ إِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْتَجَ أَحْسَنَ النَّتَائِجِ وَيُؤَدِّي لأُمَّتِهِ أَجَلَّ الْخِدَمِ وَأَفْضَلَهَا لأَنَّهُ يَسْتَطِيعُ بِحِلْمِهِ أَنْ يَتَبَيَّنَ مَوْضِعَ الضَّعْفِ مِنْ نَفْسِ الْقَائِمِ عَلَى تَرْبِيَتِهِ فَيُعَالِجَهُ بِمَا يُنَاسِبُ حَالُهُ حَتَّى يَشِبَّ صَالِحًا نَافِعًا إِذَا كَانَ قَائِمًا بِتَلْقِينِهِ الْعِلْمَ فَإِنَّ مُلَقِّنَ الْعِلْمِ إذا لَمْ يَكُنْ حَلِيمًا فَإِنَّهُ يُضِيعُ عَلَى مَنْ يُعَلِّمُهُ أَحْسَنَ الْفُرَصِ فِي حَيَاتهُ لأَنَّهُ يَمْنَعُهُ مِنْ مُنَاقَشَةِ الْحَقَائِقِ الْعِلْمِيَّةِ الَّتِي يَتَمَكَّنُ بِهَا مِنْ معَرْفِةَ ِالْخَطَأِ مِنْ الصَّوَابِ وَالْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ وَيَتَدَرَّبَ بِهَا عَلَى الْمُنَاظَرَةِ الْمُفِيدَةِ لِلْفِكْرِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُرَبِّي الأَحْمَقَ يُضِيفُ إلى ذَلِكَ أَثَرًا سَيِّئًا فِي نَفْسِ الْمُرَبِّي لأَنَّ الطِّبَاعَ كَسَّابةٌ فَيَتَأَثَّرُ مِنْهُ وَيَسْرِي إِلَيْهِ مِنْ أَسْتَاذِهِ مِنْ مَا بِهِ مِنْ أَمْرَاضٍ أَخْلاقِيَّةٍ غَالِبًا وَيَكُونُ شَرًّا مُتَعَدِّيًا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ. وَمِنْ الأَمْثِلَةِ لذَلِكَ الزَّوْجُ مَعَ زَوْجَتِهِ فَإِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا حَلِيمًا فَإِنَّهُمَا يَعِيشَانِ عَيْشَةً مَرْضِيَّةً إِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يُغْضِي عَنْ هَفَوَاتِ الآخَرِ وَيَرْفُوهَا فَلا يُثِيرَانِ نِزَاعًا لأَيْسَرِ الأُمُورِ وَأَحْقَرِ الأَسْبَابِ وَأَتْفَهِهَا وَإِنْ وَقَعَ نَادِرًا عَالَجَاهُ بِلُطْفٍ وَحِرصَا عَلَى كَتْمِهِ عَنْ الأَوْلادِ لِعِلْمِهِمَا بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى إِظْهَارِهِ مِنْ الضَّرَر الْعَظِيم خُصُوصًا ِإَذا كَانَ الأَبْنَاءُ فِي حَدٍّ قَابِلٍ لانْطِبَاعِ الأَخْلاقِ فِيهِمْ وَانْتِقَالِ الصِّفَاتِ إِلَيْهِمْ فَإِنَّ الْحِلْمَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَوْقِعُهُ عَظِيمٌ وَضَرَرَ الْحَمَاقَةِ شَدِيدٌ جِدًّا لِمَا يُصِيبُ الأَبْنَاءَ مِنْ ضَرَرِ عَدَمِ الْحِلْمِ فَالْحِلْمُ فِي الْحَقِيقَةِ سَعَادَةٌ عَاجِلَةٌ وَخَيْرٌ لِلأُسْرَةِ بِتَمَامِهَا. شِعْرًا: ... رَجَعْتُ عَلَى السَّفِيهِ بِفَضْلِ حِلْمِي ... فَكَانَ الْحِلُمُ عَنْهُ لَهُ لِجَامَا ... ???? ???? ... وَظَنَّ بِي السَّفَاهُ فَلَمْ يَجِدْنِي ... أَسَافِهُهُ وَقُلْتُ لَهُ سَلامَا ... ›? ???? ????

موعظة في الحث علي التزود للآخرة

.. فَقَامَ يَجُرُّ رِجْلَيْهِ ذَلِيلاً ... وَقَدْ كَسَبَ الْمَذَلَّةَ وَالْمَلامَا ... ???? ???? ... وَفَضْلُ الْحِلْمِ أَبْلَغُ فِي سَفِيهٍ ... وَأَحْرَى أَنْ تَنَالَ بِهِ انْتِقَامَا ... ›? ???? ???? وَمِنْ الأَمْثِلَةِ لِذَلِكَ التَّاجِرُ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ حَلِيمًا تَرُوجُ تِجَارَتُهُ وَيَقْبَلُ الْمُعَامِلُونَ عَلَيْهِ لأَنَّ حِلْمَهُ يُرَغِّبُ فِي مُعَامَلَتِهِ أَمَّا إِذَا كَانَ حَمَقِيًّا غَضُوبًا لأَهْوَنَ الأَشْيَاءِ وَأَيْسَرِ الأُمُورِ فَتَجِدُهُ مَعَ النَّاسِ فِي لِجَاجٍ وَخِصَامٍ لا يُمَكِّنُ غَضَبُهُ أََحَدًا مِنْ مُفَاهَمتِهِ فِيمَا يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَهُ أَوْ يَشْتَرِيهِ وَرُبَّمَا أَدَّى بِهِ غَضَبُهُ وَعَدَمُ حِلْمِهِ إلى إتْلافِ السِّلْعَةِ الَّتِي يُرِيدُ بَيْعَهَا أَوْ إلى الأَيْمَانِ أَنَّهُ لا يَبِيعُهَا مِنْ الْمُسَاوِمِ لَهُ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْحَمْقَى الْجَاهِلِينَ فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الأَسْبَابِ لِكَسَادِ تِجَارَةِ هَؤُلاءِ وَانْصِرَافِ النَّاسِ عَنْهُمْ وَنُفْرَتِهِمْ مِنْ مُعَامَلَتِهِمْ. وَقَدْ يُفَضِّلُونَ مُعَامَلَةَ الْحَلِيمِ حَتَّى وَلَوْ كَانَتْ سِلْعَتُهُ أَقَلَّ جُودَةً مِنْ سِلْعَةِ ذَلِكَ الأَحْمَق. وَمِثْلُ ذَلِكَ أََهْلُ الصَّنَائِعَ إِذَا كَانُوا حُمَقَاءَ فَإِنَّ النَّاسَ لا يُعَامِلُونَهُمْ خَوْفًا مِنْ أَلْسِنَتِهِمْ وَيَذْهَبُونَ عَنْهُمْ إلى مَنْ كَانَ حَلِيمًا لأَنَّهُ يَكُونُ مُحَبَّبًا إلى النُّفُوسِ يَسْتَرِيحُ مَعَهُ النَّاسُ. (مَوْعِظَةٌ) عباد الله تَنَبَّهُوا رَحِمَكُمْ اللهُ بِقَوَارِعِ الْعِبَرِ وَتَدَبَّرُوا مَوَاعِظَ كِتَابِ رَبِّكُمْ فَإِنَّهُنَّ صَوَادِقُ الْخَبَرِ وَتَفَكَّرُوا ِفي حَوَادِثِ الأَيَّامِ فَإِنَّ فِيهَا الْمُزْدَجَرُ وَتَأَمَّلُوا دَوْرَ الزَّمَانِ عَصْرًا فَعَصْرًا أَيَّامًا وَشَهْرٌ يَتْلُو شَهْرًا وَسَنَةٌ تَتْلُو سَنَةً وَأَوْقَاتٌ تُطْوَى فَتُخَرِّبُ عُمْرَانًا وَتَعْمُرُ قَفْرَا وَتُعِيرُ مَرَّةً وَتَسْلُبُ أُخْرَى. مَوَاعِظُ تُنَادِي الْعَاقِلُ بِلِسَانِ الْحَقِيقَةِ جَهْرًا فَاحْذَرُوا زَخَارِفَ الدُّنْيَا الْمظَلِّلة وَاعْلَمُوا أَنَّهُ مِنْ تَكَثَّرَ مِنْهَا وَلَمْ يَسْتَعْمِلْهُ فِي مَرَاضِي اللهِ وَيَجْعَلُهُ ذُخْرًا لِلدَّارِ الآخِرَةِ لَمْ يَزْدَدْ مِنْ اللهِ إِلا قِلَّةً. فَتَزَوَّدُوا مِنْهَا التَّقْوَى فَإِنَّهَا خَيْرُ زَادٍ وَخُذُوا أُهْبَةَ التَّحَوُّلِ وَانْتَبِهُوا مِنْ

الأسباب الباعثة علي الحلم عشرة

سِنَةِ الرُّقَادِ قَبْلَ أَنْ تُقَرَّبَ لَكُمْ مَرَاكِبُ التَّحَوُّلِ إلى الْقُبُورِ وَيُنَادِي بِكُمْ الرَّحِيلُ إلى الآخِرَةِ. ... خُذُوا أَهْبَةً فِي الزَّادَ فَالْمَوْتُ كَائِنٌ ... فَمَا مِنْهُ مَنْجَا وَلا عَنْهُ عُنْدَدِ ... ???? ???? ... فَمَا دَارُكُمْ هَذِي بِدَارِ إِقَامَةٍ ... وَلَكِنَّهَا دَارُ ابْتِلاً وَتَزَوُّدِ ... ???? ???? ... أَمَا جَاءكم عن رَبكم وَتَزَوَدُا ... فَمَا عُذْرُ مَن وَافَاهُ غَيْرُ مُزَوَّدِ ... ???? ???? ... فَمَا هَذِهِ الأَيَّامُ إِلا مَرَاحِلٌ ... تُقَرِّبُ مِنْ دَارِ اللِّقَا كُلّ مُبْعَدِ ... ???? ????آخر: ... نَهْوَى الْحَيَاةَ وَلَوْ صَحَّتْ عَزَائِمُنَا ... لِمَا صَرَفْنَا إلى الْخَدَّاعَةِ الْهِمَمَا ... ???? ???? ... لَوْ عِلمُنَا عَلِمَتْ شُمُّ الْجِبَالِ بِهِ ... أَزَالَ ذَلِكَ مِنْ آنَافِهَا الشَّمَمَا ... ???? ???? ... إِنَّ الشُّخُوصَ الَّتِي كَانَتْ رَجَاحَتُهَا ... تُوَازِنُ الْهَضْبَ صَارَتْ فِي الثَّرَى رَمَمَا ... ???? ???? ... عَمَّتْهُمُ حَادِثَاتٌ غَيْرُ مُبْقِيَةٍ ... شَيْئًا فَلَمْ تَبْقَ أَبْدَانًا وَلا قِمَمَا ... ›? ???? ???? اللَّهُمَّ عَافِنَا مِنْ مَكْرِكَ وَزَيِّنَّا بِذِكْرِكَ وَاسْتَعْمِلْنَا بِأَمْرِكَ وَلا تَهْتِكْ عَلَيْنَا جَمِيلَ سَتْرِكَ وَامْنُنْ عَلَيْنَا بِلُطْفِكَ وَبِرِّكَ وَأَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ اللَّهُمَّ سَلِّمْنَا مِنْ عَذَابِكَ وَآمِّنَّا مِنْ عِقَابِكَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلمين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) قَالَ الْعُلَمَاءُ وَأَسْبَابُ الْحِلْمِ الْبَاعِثَةِ عَلَى ضَبْطِ النَّفْسِ عَشَرَةٌ أَحَدُهَا الرَّحْمَةُ لِلْجُهَّالِ وَذَلِكَ مِنْ خَيْرٍ يُوَافِقُ رِقَّة وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحَكَمِ مِنْ أَوْكَدِ أَسْبَابِ الْحِلْمِ رَحْمَةُ الْجُهَّالِ فَيَأْمَنُ وَيَأْمَنُونَ مِنْ اسْتِحْدَاثِ الْبُغْضِ وَالْقَطِيعَةِ الْمُؤَدِّيين إلى تَرْكِ النَّصْرَةِ وَالْغِيبَةِ. شِعْرًا: ... وَمَا قَتَلَ السَّفَاهَةَ مِثْلُ حِلْمٍ ... يَعُودُ بِهِ عَلَى الْجَهْلِ الْحَلِيمُ ... ???? ???? ... فَلا تَسْفَهْ وَإِنْ مُلِّيتَ غَيْظًا ... عَلَى أَحَدٍ فَإِنَّ الْفُحْشَ لؤمُ ... ???? ???? ... وَلا تَقْطَعْ أَخًا لَكَ عِنْدَ ذَنْبٍ ... فَإِن الذَّنْبَ يَعْفُوهُ الْكَرِيمُ ... ???? ????آخر: ... إِذَا سَبَّنِي نَذْلٌ تَزَايَدْتُ رِفْعَةً ... وَمَا الْعَارُ إِلا أَنْ أَكُونَ أُجَاوِبَهْ ... ???? ???? ... وَلَوْ أَنَّ مَا نَفْسِي عَليَّ عَزِيزَةٌ ... لَقَرَّبْتُهَا مِنْ كُلِّ نَذْلِ تُخَاطِبُهْ ... ›? ???? ????

آخر: ... لا يُعْجِبَنَّكَ مَن يُصُونُ ثِيَابَهُ ... حَذَرَ الْغُبَارِ وَعِرْضُهُ مَبْذُولُ ... ???? ???? ... فَلَرُبَّمَا افْتَقَرَ الْفَتَى فَرَأَيْتَهُ ... وَسْخَ الثِّيَابِ وَعِرْضُهُ مَغْسُولُ ... ›? ???? ???? الثَّانِي: مِنْ أَسْبَابِ الْحِلْمِ الْقُدْرَةُ عَلَى الانْتِقَامِ وَالانْتِصَافِ وَذَلِكَ الْحِلْمُ مِنْ سِعَةِ الصَّدْرِ وَحُسْنِ الثِّقَةِ بِاللهِ وَبِقُدْرَتِهِ وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: أَحْسَنُ الْمَكَارِمِ عَفْوُ الْمُقْتَدِرِ وَجُودُ الْمُفْتَقِرْ. شِعْرًا: ... خَيْرُ الْخَلِيلَيْنِ مَنْ أَغْضَى لِصَاحِبِهِ ... وَلَوْ أَرَادَ انْتِصَارًا مِنْهُ لا انْتَصَرَا ... ›? ???? ???? وَالثَّالِثْ: مِنْ أَسْبَابِ الْحِلْمِ التَّرَفُّعُ عَنْ السِّبَابِ وَعذَلِكَ مِنْ شَرَفِ النَّفْسِ وَعُلُوِّ الْهِمَّةِ وَقَالَتْ الْحُكَمَاءُ شَرَفُ النَّفْسِ أَنْ تَحَمَّلَ الْمَكَارِهَ وَقَالَ الشَّاعِرُ: ... لا يَبْلُغُ الْمَجْدَ أَقْوَامٌ وَإِنْ كَرُمُوا ... حَتَّى يَذِلُّوا وَإِنْ عَزُّوا لأَقْوَامِ ... ???? ???? ... وَيُشْتَمُوا فَتَرَى الأَلْوَانَ مُسْفِرَةً ... لا صَفْحَ ذُلٍّ وَلَكِنْ صَفْحُ أَحْلامِ ... ???? ????آخر: ... إِذَا شِئْتَ يَوْمًا أَنْ تسوْدَ عَشِيرَةً ... فَبِالْحِلْمِ سُدْ لا بِالتَّسَرُّعِ وَالشَّتْمِ ... ???? ????آخر: ... وَإِنْ هُوَ لَمْ يَحْمِلْ عَلَى النَّفْسِ ضَيْمَهَا ... فلَيْسَ إلى حُسْنِ الثَّنَاءِ سَبِيلُ ... ›? ???? ???? وَالرَّابِعُ: مِنْ أَسْبَابِ الْحِلْمِ الاسْتِهَانَةُ بِالْمُسِيءِ قَالَ الشَّاعِرُ: ... قَوْمٌ إِذَا مَا جَنَا جَانِيهُمُوا أَمِنُوا ... لِلُؤْمِ أَحْسَابِهِمْ أَنْ يُقْتَلُوا قَوَدَا ... ›? ???? ????وَقَالَ آخر: ... فَدَع الْوَعِيدَ فَمَا وَعِيدكَ ضَائِرِي ... أَطَنِينُ أَجْنِحَةِ الذُّبَابِ يَظِيرُ ... ???? ????آخر: ... وَكَمْ مِنْ لَئِيمٍ وَدَّ أَنِّي شَتَمْتُهُ ... وَإِنْ كَانَ شَتْمِي فِيهِ صَارِبٌ وَعَلْقَمُ ... ???? ???? ... وَلِلْكَفُّ عَنْ شَتْمِ اللَّئِيمٍ تَكَرُمَا ... أَضَرُّ لَهُ مِنْ شَتْمِهِ حِينَ يَشتَمُ ... ???? ????آخر: ... إِذَا نَطَقَ السَّفِيهُ فَلا تُجِبْهُ ... فَخَيْرٌ مِنْ إِجَابَتِهِ السُّكُوتُ ... ›? ???? ????

ج ... سَكَتُّ عَنْ السَّفِيهِ فَظَنَّ أَنِّي ... عِييتُ عَنْ الْجَوَابِ وَمَا عَيِيتُ ... ›? ???? ???? وَالْخَامِسْ: مِنْ أَسْبَابِ الْحِلْمِ الاسْتِحْيَاءِ مِنْ جَزَاءِ الْجَوَابِ وَهَذَا يَكُونُ مِنْ النَّفْسِ وَكَمَالِ الْمُرُوءَةِ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: ... إِنِّي لأَعْرِضُ عَنْ أَشْيَاءَ أَسْمَعُهَا ... حَتَّى يَظُنُّ رِجَالٌ أَنَّ بِي حَمْقًا ... ???? ???? ... أَخْشَى جَوَابَ سَفِيهٍ لا حَيَاءَ لَهُ ... فسلٍ يَظُنُّ رِجَالٌ أَنَّهُ صَدَقَا ... ???? ????آخر: ... فَمَا الأَنْسُ بِالأَنْسِ الَّذِينَ عَهَدْتُهُمْ ... بِأُنْسٍ وَلَكِنْ فقَدْ أَنْسِهِمْ أُنْسُ ... ???? ???? ... إِذَا سَلِمَتْ نَفْسِي وَدِينِي مِنْهُمُوا ... فَحَسْبِي أَنْ الْعَرْضَ مِنِّي لَهُمْ تُرْسُ ... ›? ???? ???? السَّادِسُ: مِنْ أَسْبَابِ الْحُلْمِ التَّفَضُّلُ عَلَى السَّابِّ وَهَذَا يَكُونُ مِنْ الْكَرَمِ وَحُبِّ التَّآلفِ قَالَ الشَّاعِرُ: ... إِذَا كَانَ دُونِي مَنْ بُلِيتَ بِجَهْلِهِ ... أَبَيْتُ لِنَفْسِي أَنْ أُقَابِلَ بِالْجَهْلِ ... ???? ???? ... وَإِنْ كَانَ مِثْلِي فِي مَحَلٍّ مِنْ الْعُلا ... هَوَيْتُ إِذًا حِلْمًا وَصَفْحًا عَنْ الْجَهْلِ ... ???? ???? ... وَإِنْ كُنْتُ أَدْنَى مِنْهُ فِي الْفَضْلِ وَالْحِجَا ... رَأَيْتُ لَهُ حَقَّ الْعِلاوَةِ وَالْفَضْلِ ... ???? ????آخر: ... فَيَا هَارِبًا مِنْ سُخْطِنَا مُتَنَصِّلاً ... هَرَبْتَ إلى أَنْجَى مُقَرِ وَمَهْرَبِ ... ???? ???? ... فَعُذْرُكَ مَبْسُوطٌ لَدَيَّ مُقَدَّمٌ ... وَوُدُّكَ مَقْبُولٌ بِأََهْلٍ وَمَرْحَبِ ... ???? ???? ... وَلَوْ بَلَغْتَنِي عَنْكَ أذْنِي أقمْتُهَا ... لَدَيَّ مَقَامَ الْكَاشِحِ الْمُتَكَذِّبِ ... ???? ????آخر: ... أَتَطْلُبُ صَاحِبًا لا عَيْبَ فِيهِ ... وَأَيُّ النَّاسِ لَيْسَ لَهُ عُيُوبُ ... ???? ????آخر: ... وَلَسْتَ بِمُسْتَبْقٍ أَخًا لا تَلُمُّهُ ... عَلَى شَعَثٍ أَيُّ الرِّجَالِ الْمُهَذَّبُ ... ›? ???? ???? السَّابِعُ: مِنْ أَسْبَابِ الْحُلْمِ اسْتِكْفَافُ السَّابِّ وَقَطْعِ السِّبَابِ وَهَذَا يَكُونُ مِنْ الْحَزْمِ وَجَوْدَةِ الْعَقْلِ وَبِمَا يُنْسَبُ لِلإمَامِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: ... قَالُوا سَكَتَ وَقَدْ خُوصِمْتَ قُلْتُ لَهُمْ ... إِنَّ الْجَوَابَ لِبَاب الشَّرِّ مِفْتَاحُ ... ›? ???? ????

ج ... فَالصَّمْتُ عَنْ جَاهِلٍ أَوْ أَحْمَقٍ شَرَفٌ ... أَيْضًا وَفِيهِ لِصَوْنِ الْعِرْضِ إِصْلاحُ ... ???? ???? ... أَمَا تَرَى الأُسْدَ تُخْشَى وَهِيَ صَامِتَةٌ ... وَالْكَلْبُ يَخْشَ لعَمْرِي وَهُوَ نَبَّاحُ ... ???? ????آخر: ... إِذَا فَاهَ السَّفِيهُ بِسَبِّ عِرْضِي ... كَرِهْتُ بِأَنْ أَكُونَ لَهُ مُجِيبًا ... ???? ???? ... يَزِيدُ سَفَاهَةً وَأَزِيدُ حِلْمًا ... كَعُودٍ زَادَهُ الإِحْرَاقُ طِيبَا ... ???? ????آخر: ... لَنْ يُدْرِكَ الْمَجْدَ أَقْوَامٌ وَإِنْ كُرِمُوا ... حَتَّى يَذِلُوا وَإِنْ عَزُو الأَقْوَامِ ... ???? ???? ... ويشتُموا فَتَرَى الأَلْوَانَ كَاسِفَةً ... لا ذُلِّ عَجْزِ وَلَكِنْ ذُلَّ أَحْلامِ ... ???? ????آخر: ... مَا صَاحِبُ الْمَرْءُ مَن إن زَلَّ عَاقَبَهُ ... بَلْ صَاحِبُ الْمَرْءِ مَنْ يَعْفُو إِذَا قَدِرَا ... ???? ???? ... فَإِنْ أَرَدْتَ وِصَالاً لا يُكَدِّرُهُ ... هَجْرٌ فَكُنْ صَافِيًا لِلْخَلِّ إِنْ كَدَرَا ... ???? ????آخر: ... زيّنْ أَخَاكَ بِحُسْنِ وَصْفِكَ فَضْلَهُ ... وَبِبَثِّ مَا يَأْتِي مِن الْحَسَنَاتِ ... ???? ???? ... وَتَجَافَ عَنْ عَثَرَاتِهِ وَانْظُرْ إلى ... مَنْ ذَا الَّذِي يَنْجُو مِنَ الْعَثَرَاتِ ... ›? ???? ???? وَتَعَرَّضَ رَجُلٌ أَحْمَقٌ لأَحَدِ الْعُقَلاءِ الْحُكَمَاءِ وَأَسْمَعَهُ كَلامًا غَلِيظًا وَأَفْحَشَ فِي الْقَوْلِ فَتَحَلَّمَ عَنْهُ وَتَرَكَهُ يُنَوِّعُ سَبَّهُ وَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ فَقِيلَ لِمَاذَا لا تُجِبْهُ؟ فَقَالَ: أَرَأَيْت لَوْ عَضَّكَ حِمَارٌ أَوْ رَمَحَكَ أَكُنْتَ تَعُضُّهُ أَوْ تَرْمَحُهُ قَالَ لا، قَالَ أَرَأَيْتَ لَوْ نَبَحَ عَلَيْكَ كَلْبّ أَوْ عَضَّكَ أَكُنْتَ تَعُضُّهُ أَوْ تَنْبَحُ عَلَيْهِ قَالَ لا قَالَ فَإِنَّ السَّفِيهَ إِمَّا يَكُونُ كَالْكَلْبِ أَوْ كَالْحِمَارِ لأَنَّهُ مَا يَخْلُ مِنْ جَهْلٍ وَأَذَى وَشَرٍّ وَكَثِيرًا مَا يَجْتَمِعَانِ فِيهِ فَالأَبْعَادُ عَنْهُ غَنِيمَةٌ لِيُحْصُلَ عَلَى السَّلامَةِ مِنْ شَرِّهِ وَأَذَاهُ. شِعْرًا: ... كَالثَّوْرِ عَقْلاً وَمِثْلُ التِّيسِ مَعْرِفَةً ... فَلا يُفَرّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْفَنَدِ ... ???? ???? ... الْجَهْلُ شَخْصٌ يُنَادِي فَوْقَ هَامَتِهِ ... لا تَسْأَل الرّبْعَ مَا فِي الرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ ... ›? ???? ????

آخر: ... زَوَامِلُ لِلأَسْفَارِ لا عِلْمَ عِنْدَهُم ... بِمَكنُونِهَا إِلا كَعِلْم الأَبَاعِرِ ... ???? ???? ... لَعَمْرُكَ مَا يَدْرِي الْبَعِيرُ إِذَا غَدَا ... عَلَى ظَهْرِهِ مَا فِي بُطُونِ الْغَرَائِرِ ... ›? ???? ???? وَالثَّامِنْ: مِنْ أَسْبَابِ الْحُلْمِ الْخَوْفُ مِنْ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْجَوَابِ وَهَذَا يَكُونُ مِنْ ضَعْفِ النَّفْسِ وَرُبَّمَا أَوْجَبَهُ الرَّأْيُ السَّدِيدُ وَاقْتِضَاهُ الْحَزْمُ. وَالتَّاسِعُ: مِنْ أَسْبَابِ الْحُلْمِ الرِّعَايَةُ لِيَدٍ سَلَفَتْ وَحُرْمَةٍ لَزِمَتْ وَهَذَا يَكُونُ مِنْ الْوَفَاءِ وَحُسْنِ الْعَهْدِ وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ أَكْرَمُ الشِّيَمِ أَرْعَاهَا لِلذَّمَمِ وَالْعَاشِرُ مِنْ أَسْبَابِ الْحُلْمِ الْكَيْدُ وَالْمَكْرُ وَتَوَقُّعِ الْفُرَصِ الْخَفِيَّةِ وَهَذَا يَكُونُ مِنْ الدَّهَاءِ. ... يَقُولُ لَكَ الْعَقْلُ الَّذِي زَيَّنَ الْفَتَى ... إِذَا أَنْتَ لَمْ تَقْوَى عَدُوّكَ دَارِهِ ... ???? ???? ... وَلاقِهِ بِالتَّرْحِيبِ وَالْبِشْرِ وَالرِّضَا ... وَبَارِكْ لَهُ مَا دُمْتَ تَحْتَ اقْتِدَارِهِ ... ???? ???? ... وَقَبِّلْ يَدَ الْجَانِي الَّذِي لَسْتَ قَادِرًا ... عَلَى قَطْعِهَا وَارْقُبَ سُقُوطَ جِدَارِهِ ... ???? ????آخر: ... وَإِذَا عَجِزْتَ عَنْ الْعَدُوّ فَدَارِهِ ... وَامْزَحْ لَهُ إِنَّ الْمِزَاحَ وَفَاقُ ... ???? ???? ... فَالنَّارُ بِالْمَاءِ الَّذِي هُوَ ضِدُّهَا ... تُعْطِي النِّضَاجَ وَطَبْعُهَا الإِحْرَاقُ ... ›? ???? ???? وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحَكَمِ مَنْ ظَهَرَ غَضَبُهُ قَلَّ كَيْدُهُ وَقَالَ بَعْضُ الأُدَبَاءِ غَضَبُ الْجَاهِلِ فِي قَوْلِهِ وَغَضَبُ الْعَاقِلِ فِي فِعْلِهِ وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ إِذَا سَكَتَ عَن الْجَاهِلَ فَقَدْ أَوْسَعْتَهُ جَوَابًا وَأَوْجَعْتَهُ عِقَابًا وَقَالَ إِيَاسُ بنُ قَتَادَةَ: ... (تُعَاقِبُ أَيْدِينَا وَيَحْلَمُ رَأْيُنَا ... وَنَشْتُمُ بِالأَفْعَالِ لا بِالتَّكَلُّمِ) ... ›? ???? ????آخر: ... تَخَالُهُمْ لِلْحِلْمِ صُمًا عِن الْخَنَا ... وَخُرْسًا عَنْ الْفَحْشَاءِ عِنْدَ التَّفَاخُر ... ???? ???? ... وَمَرْضَى إِذَا الأَقْوَا حَيَاءً وَعِفَّةً ... وَعِنْدَ الْحِفَاظ كَاللُّيُوثِ الْكَوَاسِرِ ... ???? ????آخر: ... لَقَدْ أَسْمَعُ الْقَوْلَ الَّذِي كَادَ كُلَّمَا ... تُذَكِّرْنِيهِ النَّفْسِ قَلْبِي يُصَدَّعُ ... ›? ???? ????

الحلم له حدود ففي بعض الحالات لا يحسن الحلم

ج ... فَأُبْدِي لِمَنْ أَبْدَاهُ مِنِّي بَشَاشَةً ... كَأَنَّي َمْسُرورٌ بِمَا مِنْهُ أَسْمَعُ ... ???? ???? ... وَمَا ذَاكَ مِنْ عُجْبٍ بِهِ غَيْرَ أَنَّنِي ... أَرَى أَنْ تَرْكَ الشَّرَّ لِلشَّرِّ أَقْطَعُ ... ???? ????آخر: ... وَفِي الْحِلْمِ وَالإِسَلامِ لِلْمَرْءِ وَازِعٌ ... وَفِي تَرْكِ أَهْوَاءِ الْفُؤَادِ الْمُتَيَّمِ ... ???? ???? ... بَصَائِرُ يُرْشِدْنَ الْفَتَى مُسْتَبْيَنَةُ ... وَأَخْلاقُ صِدْقٍ عِلْمُهَا بِالتَّعْلُّمَ ... ???? ????آخر: ... إِذَا اعْتَذرَ الصَّدِيقُ إِلَيْكَ يَوْمًا ... مِنْ التَّقْصِيرِ عُذْرْ فَتَى مُقِرّ ... ???? ???? ... فَصِنْهُ عَنْ عِتَابِكَ وَاعْفُ عَنْهُ ... فَإِنَّ الْعَفْوَ شِيمَةُ كُلّ حُرّ ... ???? ????آخر: ... تُكْثِر مِنَ أَهْل الدِّينَ مَا اسْتَطَعْتَ إِنَّهُمْ ... عِمَادُ إِذَا اسْتَنْجَدْتَهُمْ وَظُهُورُ ... ???? ???? ... فَمَا بِكَثِير أَلْفُ خَلٍ مُوَفَّقٍ ... لِطَاعَةِ رَبِّ الْعَرْشِ تُحْظَى بِقُرْبِهِ ... ???? ????آخر: ... إِذَا تَخَلَّفْتَ عَنْ صَدِيقٍ ... وَلَمْ يُعَاتِبْكَ فِي التَّخَلُّفْ ... ???? ???? ... فَلا تَعْدُ بِعْدَهَا إِلَيْهِ ... فَإِنَّمَا وُدّهُ تَكَلفُ ... ???? ????آخر: ... إِذَا خَلِيلِيَ لَمْ يُكْثِرْ إِسَاءَتَهُ ... فَأَيْنَ مَوْضِعُ إِحْسَانِي وَغُفْرَانِي ... ???? ???? ... يَجْنِي عَلَيَّ وَأَحْنُو صَافِحًا أَبَدَا ... لا شَيْءَ أَحْسَنَ مِنْ حَانٍ عَلَى جَانِ ... ›? ???? ???? قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ ثَلاثَةٌ لا يُعْرَفُونَ إِلا فِي ثَلاَثِة مَوََاطِنَ لا يُعْرَفُ الْجَوَّادُ إِلا فِي الْعُسْرَةِ َوَلا يُعْرَفُ الشُّجَاعُ إِلا فِي الْحَرْبِ وَلا يُعْرَفُ الْحَلِيمُ إِلا فِي الْغَضَبِ قَالَ الشَّاعِرُ: ... (مَنْ يَدَّعِي الْحِلْمَ أَغْضِبْهُ لِتَعْرِفَهُ ... لا يُعْرَفُ الْحِلْمُ إِلا سَاعَةَ الْغَضَِب) ... ›? ???? ???? وَمَنْ فَقَدْ الْغَضَبَ في الأَشْيَاءِ الْمُغْضِبَةِ حَتَّى اسْتَوَتْ حَالَتَاهُ قَبْلَ الإِغْضَابِ وَبَعْدَهُ فَقَدْ عَدِمَ مِنْ فَضَائِلِ النَّفْسِ الشَّجَاعَةِ وَالأَنفَةَ وَالْحَمِيَّةَ وَالْغِيرَةَ وَالدِّفَاعَ وَالأَخْذَ بِالثَّأْرِ لأَنَّهَا خِصَالٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ الْغَضَبِ فَإِذَا عَدِمَهَا هَانَ بِهَا وَلَمْ يَكُنْ لِبَقَاءِ فَضَائِلِهِ فِي النُّفُوسِ قِيمَةٌ وَلا لِوُفُورِ حِلْمِهِ مَوْقِعٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِذَا كَانََ الْحَلْمُ يُؤَدِّي إلى فَسَادٍ بِأَنْ كَانَ الْمَحْلُومُ عَلَيْهِ

لَئِيمًا يَزْدَادُ شَرُّهُ مَعَ الْحِلْمِ فَالْجَهْلُ مَعَهُ أَحْسَنُ لأَنَّهُ يَرْدَعُهُ عَنْ الشَّرِّ وَالتَّمَادِي فِيهِ. شِعْرًا: ... لَئِنْ كَانَ حِلْمُ عَوْنُ عَدُّوه ... عَلَيْهِ فَإِنَّ الْجَهْلَ أَعْنَى وَأَرْوَحُ ... ???? ???? ... وَفِي الْحِلْمِ ضَعْفُ وَالْعُقُوبَةِ قُوَّةٌ ... إِذَا كُنْتَ تَخْشَى كَيْدَ مَنْ عَنْهُ تَصْفَحُ ... ???? ????آخر: ... أَبَا حَسَنٍ مَا أَقْبَحَ الْجَهْل بِالْفَتَى ... وَلِلْحِلْمُ أَحْيَانًا مِن الْجَهْلِ أَقْبَحُ ... ???? ????آخر: ... وَأَنْزِلْنِي طُولَ النَّوَى دَارَ غُرْبَةٍ ... إِذَا شِئْتَ لاقَيْتُ الَّذِي لا أُشَاكِلُهُ ... ???? ???? ... فَحَامَقْتُهُ حَتَّى يُقَالُ سَجِيَّةٌ ... وَلَوْ كَانَ ذَا عَقْلٍ لَكُنْتُ أُعَاقِلُهُ ... ›? ???? ????آخر: ... تَأَمَّلْتُ الْوَرَى جِيلاً فَجِيلاً ... فَكَانَ لَبِيبُهُمْ عِنْدِي قَلِيلا ... ???? ???? ... لَهُمْ صُورَ تَرُوقُ وَلا حُلُومًا ... وَأَجْسَامُ تَهُولُ وَلا عُقُولا ... ???? ????آخر: ... إِذَا خَطَبَ الصَّدَاقَةَ مِنْكَ كُفْوءٌ ... فَلا تَطْلُبْ سِوَى صِدْقٍ صَدَاقَا ... ???? ???? ... فَقَدْ صَدِأَتْ قُلُوبُ النَّاسِ غِشًّا ... وَقَدْ صُقُلْتُ وُجُوهُ أَكْثَرِهِمْ نِفَاقاً ... ???? ????آخر: ... وَمَا أَنَا بِالنَّكْسِ الدَّنِيء وَلا الَّذِي ... إِذَا صَدَّ عَنْهُ ذُو الْمُرُوءَةُ يَقْرُبُ ... ???? ???? ... وَلَكِنَّهُ إِنْ دَامَ دُمْتَ وَإِنْ يَكُنْ ... لَهُ مَذْهَبُ عَنِّي فَلِي عَنْهُ مَذْهَبُ ... ???? ???? ... لأَنَّ الْوِدَّ وِدٌّ تَطَوَّعَتْ ... بِهِ النَّفْسُ لا وِدٌّ أَتَى وَهُوَ مُتْعَبُ ... ???? ????آخر: ... وَلِلدَّهْرِ أَثْوَابٌ فَكُنْ فِي ثِيَابِه ... كَلِبْسَتِهِ يَوْمًا أَجَدَّ وَأَخْلَقَا ... ???? ???? ... فَكُنْ أَكْيَسَ الْكَيْسَى إِذَا كُنْتَ فِيهِمْ ... وَإِنْ كُنْتَ فِي الْحَمْقَى فَكُنْ أَنْتَ أَحْمَقَا ... ›? ???? ???? وَقَالَ بعض الحكماء العفو يفسد من اللئيم بقدر إصلاحه من الكريم وَقَالَ أبو الطيب: ... مِنْ الْحِلْمِ أَنْ تَسْتَعْمِلَ الْجَهْلَ دُونَهُ ... إِذَا اتَّسَعَتْ فِي الْحِلْمِ طُرْقُ الْمَظَالِمِ ... ›? ???? ????فالحكيم يضع كُلّ شَيْء في المحل اللائق به فلا يعامل الكريم معاملة

اللئيم ولا بالعكس فإن هَذَا فيه ضرر عَظِيم ويخل في منصب الشخص ويحط من قدره ويدل على ضعف عقله وأنه لا يحسن أن ينزل النَّاس منازلهم وَيَقُولُ أبو الطيب في ذَلِكَ: ... إِذَا أَنْتَ أَكْرَمْتَ الْكَرِيمَ مَلَكْتَهُ ... وَإِنْ أَنْتَ أَكْرَمْتَ اللَّئِيمَ تَمَرَّدَا ... ???? ???? ... فَوَضْعُ النِّدَا فِي مَوْضِعِ السَّيْفِ بِالْعُلا ... مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ فِي مَوْضِعِ النِّدَا ... ???? ????آخر: ... الصَّمْتُ زِينٌ وَالسُّكُوتُ سَلامَةٌ ... فَإِذَا انْطَقْتُ فَلا تَكُنْ مِهْذَارَا ... ???? ???? ... مَا إِنْ نَدِمْتُ عَلَى سُكُوتِي مَرَّةً ... وَلَقَدْ نَدِمْتُ عَلَى الْكَلامِ مِرَارَا ... ›? ???? ????وَيَقُولُ الأخر: ... وَالْعَفْوُ عِنْدَ لَئِيمِ الطَّبْعِ مَفْسَدَةٌ ... تُطْغِي وَلَكِنَّهُ عِنْدَ الْكَرِيمِ يَدَا ... ›? ???? ????وَقَالَ آخر: ... وَلِي فَرَسٌ لِلْحِلْمِ بِالْحِلْمِ مُلْجَمٌ ... وَلِي فَرَسٌ لِلْجَهْلِ بِالْجَهْلِ مُسْرَجُ ... ???? ???? ... فَمَنْ شَاءَ تَقْوِيمِي فَإِنِّي مُقَوَّمٌ ... وَمَنْ شَاءَ تَعْوِيجِي فَإِنِّي مُعَوَّجُ ... ???? ???? ... وَمَا كُنْتُ أَرْضَى الْجَهْلَ خِدْنًا وَصَاحِبًا ... وَلَكِنَّنِي أَرْضَى بِهِ حِينَ أُحْرَجُ ... ›? ???? ????وَيَقُولُ الأخر: ... إِذَا كُنْتَ بَيْنِ الْحِلْمِ وَالْجَهْلِ نَاشِئًا ... وَخُيِّرْتَ أَنَّى شِئْتَ فَالْحِلْمُ أَفْضَلُ ... ???? ???? ... وَلَكِنْ إِذَا أَنْصَفْتَ مَنْ لَيْسَ مُنْصِفًا ... وَلَمْ يَرْضَ مِنْكَ الْحِلْمَ فَالْجَهْلُ أَمْثَلُ ... ›? ???? ????ولما ظفر النَّبِيّ ? وَهُوَ بحمراء الأسد بأبي عزة الشاعر الَّذِي من عَلَيْهِ النَّبِيّ ? يوم بدر وتعهد للنبي ? أن لا يناصب المسلمين العدا ولا يحرض عَلَيْهِ الأعداء فلم يف بقوله ولم يصدق بوعده بل نقض العهد وخان الميثاق وما أبرم من الاتفاق فأمر عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام بقتله فَقَالَ: يا مُحَمَّد أقلني وامنن علي ودعني لبناتي وأعطيك عهداً إِلا أَعُود لمثل ما فعلت فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلام: ((وَاللهِ لا تسمح عارضيك بمَكَّة وَتَقُول خدعت محمداً مرتين لا

موعظة في مكارم الأخلاق والحث علي حسن الخلق

يلدغ المُؤْمِن من جُحر مرتين أضرب عُنقه يا زيد)) . فضرب عنقه. اللَّهُمَّ سلمنا من عذابك وآمنا من عقابك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلمين بِرَحْمَتِكَ. يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (موعظة) عباد الله إن مكارم الأَخْلاق التي هِيَ آداب الإسلام جمال لا يوازنه جمال وحظ الإِنْسَان منها يكون بقدر ما تخلق به تلك الأَخْلاق ولما كَانَ النَّبِيّ ? متخلقاً بجميعها كَانَ أجمل خلق الله أجمعين. وجَاءَ عَنْهُ ? أنه قال: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأَخْلاق)) . وجَاءَ في حديث مرسل أن رجلاً جَاءَ إلي النَّبِيّ ? فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ما الدين؟ فَقَالَ النَّبِيّ ?: ((حُسنُ الخلق)) . وهَذَا يدل على أن حسن الخلق ركن الإسلام العَظِيم الَّذِي هُوَ لا قيام للدين بدونه كالوقوف بعرفات بِالنِّسْبَةِ للحج فقَدْ جَاءَ عَنْهُ ? أنه قال: ((الحج عرفة)) . أي أنه ركن الحج العَظِيم الَّذِي لا يكون الحج إِلا به الوقوف بعرفات. ومِمَّا يدل على أن للأَخْلاق مكانة عظيمة أن الْمُؤْمِنِين يتفاضلون في الإِيمَان وأن أفضلهم فيه أحسنهم خلقاً جَاءَ عن النَّبِيّ ? في الْحَدِيث أنه قال لما قيل له رسول الله أي الْمُؤْمِنِين أفضل إيمانًا؟ قال: ((أحسنهم خلقاً)) . ومن ذَلِكَ أن الْمُؤْمِنِين يتفاوتون في الظفر بحب رسول الله ? والقرب منه يوم القيامة وأكثرهم ظفراً بحبه والقرب منه الَّذِينَ حسُنت أخلاقهم جَاءَ في الْحَدِيث عن النَّبِيّ ? أنه قال: ((إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً)) . ومن ذَلِكَ أن حسن الخلق أمر لازم وشرط لابد منه للنجاة من النار والفوز بالْجَنَّة وإن إهمال هَذَا الشرط لا يغني عَنْهُ الصَّلاة والصيام جَاءَ في

الْحَدِيث أن أحد المسلمين قال لِرَسُولِ اللهِ ?: إن فُلانة تصوم النَّهَارَ وتَقُوم الليل وهي سيئة الخلق تؤذي جيرانها. قال: ((لا خَيْر فيها هِيَ في النار)) . وكَانَ النَّبِيّ ? يدعو ربه بأن يُحسن خُلقه وَهُوَ أحسن النَّاس خلقاً وكَانَ يَقُولُ في دعائه: ((اللَّهُمَّ حسنت خلقي فحسن خُلقي)) . وَيَقُولُ: ((اللَّهُمَّ أهدني لأحسن الأَخْلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إِلا أَنْتَ)) . ومعلوم أنه لا يدعو إِلا بما يحبه الله ويقربه منه. ومن ذَلِكَ مدح الله تَعَالَى للنبي ? بحسن الخلق فقَدْ جَاءَ في القرآن {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وَاللهِ لا يمدح إِلا على الشَيْء العَظِيم، ومن ذَلِكَ كثرة الآيات القرآنية بموضوع الأَخْلاق أمراً بالجيد منها ومدحاً للمتصفين به ومَعَ المدح الثواب، ونهياً عن الردي منها وذم للمتصفين به ومَعَ الذم العقاب ولا شك أن كثرة الآيات في موضوع الأَخْلاق دَلِيل على أهميتها. وبالتالي فالإكثار من الأَخْلاق الفاضلة والإقلال منها يكون جمال الإِنْسَان بنسبة ذَلِكَ الإكثار أو الإقلال وكَذَلِكَ ترك مكارم الأَخْلاق شين لتاركها كبير وعلي قدر ما تركه شينه عِنْدَ الكبير منا والصغير فمهما أكثرت أو أقللت من تركها يكون شينك بنسبة ذَلِكَ التقدير. ولذَلِكَ أنظر إلى الكفار حيث أنهم تركوها كُلّهَا ولم يكن عندهم من مكارم الأَخْلاق شَيْء تجدهم في قبح الأَخْلاق عندنا فقط بل عِنْدَ الله به يمدح الله الْمُؤْمِنِين المتصفين بذَلِكَ ويدخلهم الْجَنَّة فَانْظُرْ أي نصيب نصيبك من تلك الخلال الحسان لتعرف قدرك وقيمتك عِنْدَ الله وعِنْدَ خلقه إن الألم ليملؤ الجوانح على الأَخْلاق الفاضلة وعلى عُشاقها الفضلاء النبَلاء ماتت وماتوا، أين هِيَ الإخلاص الَّذِينَ يرون الموت خيراً من حياة الرياء.

أين أَهْل الصدق الَّذِينَ يرون قطع ألسنتهم أخف عندهم من أن يكذبوا أو يتملقوا أو يداهنوا أو ينافقوا أو ينموا أو يغتابوا أو يتجسسوا على الْمُؤْمِنِين ليزجونهم بالسجون. أين الَّذِينَ إذا وعدوا صدقوا وإذا عاهدوا وَفَوْا أين أَهْل العفو عِنْدَ المقدرة أين أَهْل العدل والإنصاف. الذين حلمهم مثل الجبال الراسيات أين الَّذِينَ يلتمسون الكرب ليُفرجوها، أين الَّذِينَ يبتعدون عن الربا ومعامليه أين الَّذِينَ يعرفون الولاء والبراء ولا يألفون ولا يجالسون إِلا أَهْل الصلاح ويبتعدون كُلّ البعد عن أَهْل المعاصي من اللوطية والزناة الَّذِينَ يطاردون النساء في السواق والَّذِينَ يساكنون الكفار والعياذ بِاللهِ. أين الَّذِينَ يبحثون عن الفقراء الَّذِينَ لا مورد لَهُمْ فينعشونهم بما تيسر من زكاة أو صدقة تطوع دراهم أو طعام أو كسوة. أو يتسببون لَهُمْ في وظائف يكفون بها وجوههم عن النظر لما في أيدي النَّاس. أين الَّذِينَ يؤدون الزَّكَاة مكملة لمن يستحقها لا يحابون بها ويبحثون عن أَهْل العوائد فإذا وجدوهم غير مستحقين لم يبالوا بِهُمْ ولم يعطوهم لعلمهم أنها لا تبرأ ذممهم بذَلِكَ. أين الَّذِينَ يبحثون عن الأرامل والأيتام ليجبوا قُلُوبهمْ بما من الله عَلَيْهمْ به، أين الَّذِينَ يهجرون الفسقة والظلمة والمجرمين حتى ولو كَانُوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم. أين الرجل المهذب الَّذِي لا يلتبس في سره ولا في علانيته بحال يستحي من اطلاع العقلاء عَلَيْهِ ولا يعمل عملاً لا يرفعه عِنْدَ الله درجة ولا يَقُولُ قولاً غير مفيد لسامعه فائدة في دينه ولا يُضمرُ لعدوه سوءًا إذا سالمه ولا يتخلق إِلا بكل خُلق جميل.

تأسف علي رجال مضوا وفقدوا وذهبت صفاتهم وبقيت أضدادهم

أين الَّذِينَ لا يعرفون إِلا النصح لِلْمُسِلِمِينَ يبعدون عن الغش كُلّ البعد، بعث أبو حنيفة بمتاع إلى شريكه في التجارة حفص بن عبد الرحمن وأعلمه أن في ثوب منه عيبًا واستوفى الثمن كاملاً لثوب غير كامل وقيل ثمن المتاع الَّذِي بيع ثلاثون ألفًا أو خمسة وثلاثون ألفًا فأبى أبو حنيفة إِلا أن يبعث لشريكه في التجارة يكلفه أن يبحث عن المشتري ولكن لم يجده بعد البحث عَنْهُ. فأبى أبو حنيفة إِلا انفصالاً من شريكه وتتاركا بل أبى أبو حنيفة أن يضيف الثمن إلى حُر ماله وتصدق به كاملاً من شدة الورع. ويروى أنه كَانَ عِنْدَ يونس بن عبيد حُلل مختلفة الثمان ضَرْبٌ قيمة كُلّ حُلة منه أربعمائة وَضَرَّبُ كُلّ حلة قيمتها مائتان فمر إلى الصَّلاة وخلف ابن أخيه في الدكَانَ فَجَاءَ أعرابي وطلب حُلة بأربعمائة فعرض عَلَيْهِ من حلل المائتين فاستحسنها ورضيها واشتراها ومضي بها وهي على يديه. فاستقبله يونس فعرف حُلته فَقَالَ الأعرابي: بكم اشتريت؟ فَقَالَ: بأربعمائة. فَقَالَ: لا تساوي أكثر من مائتين فارجع حتى تردها. فَقَالَ: هذه تساوي في بلدنا خمسمائة وأنَا ارتضيتها. فَقَالَ يونس: انصرف فإن النصح في الدين خَيْر من الدُّنْيَا وما فيها. ثُمَّ رده إلى الدكَانَ ورد عَلَيْهِ مائتي درهم وخاصم ابن أخيه في ذَلِكَ وَقَالَ: أما استحيت أما اتقيت الله تربح مثل ثمنها وتترك النصح لِلْمُسِلِمِينَ فَقَالَ: وَاللهِ ما أخذها إِلا وَهُوَ راض بها. قال: فهل رضيت له بما ترضاه لنفسك. وروي عن مُحَمَّد بن المنكدر أن غلامه باع لأعرابي في غيبته من الخمسيات بعشرة فلم يزل يطلب ذَلِكَ الأعرابي طول النَّهَارَ ليرد عَلَيْهِ خمسة حتى وجده فَقَالَ له: إن الغلام قَدْ غلط فباعك ما يساوي خمسةً بعشر. فَقَالَ: يا هَذَا رضيت. فَقَالَ: وإن رضيت فإنَّا لا نرضى لك إِلا ما نرضاه

لأنفسنا. ورد عَلَيْهِ خمسة ومثل هَذَا كثير يوَجَدَ من الورعين الناصحين الَّذِينَ يحبون لإخوانهم الْمُؤْمِنِين ما يحبون لأنفسهم نسأل الله أن يكثر أمثالهم وأن يقلل الغشاشين السراقين المنافقين الكذابين، أين الَّذِينَ لا تأخذهم في الله لومة لائم. أين الَّذِينَ يحنون إلى بيوت الله حنين الألف فارقه الألف. أين الَّذِينَ لا يطيب لَهُمْ مجلس إِلا عِنْدَ كتاب الله والبخاري ومسلم وسائر السُّنَن أو ما أخذ منها أو ما هُوَ وسيلة إليها. أين الَّذِينَ إذا فاتهم قيام الليل جلسوا يبكون على ما فات. أين الَّذِينَ درسوا سيرة المصطفى وأصحابه فكأنهم بينهم يترددون. أين الَّذِينَ يتقدمون إلى بيوت الله قبل الوَقْت ويسبحون ويهللون مَاتَ هؤلاء وبلية من أكبر البلا أن نفقَدْ هَذَا الطراز فهل لك يا أخي أن تسلك سبيل هؤلاء لتَكُون قدوة ومثلاً للعاملين. وتفوز برضا رب العالمين فتحظى بالفوز بسكنى جنات النَّعِيم التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من الحور العين والفواكه وغير ذَلِكَ فإن رغبت في ذَلِكَ فاجتهد في تحسين عملك الَّذِي هُوَ المهر لذَلِكَ. قال بَعْضهمْ: ... فَإِنْ كُنْتُ لِلْمَهْر الَّذِي عَزَّ قَادِرًا ... فَنَافِسْ وَسَابِقْ نَحْوَهَا كُلَّ سَابِقِ ... ???? ???? ... وَإِنْ كُنْتَ مِثْلِي عَاجِزًا فَارْضِ بِالدُّنْيَا ... فَبِالْدُونِ يَرْضَى الدُّونُ عِنْدَ الْعَلائِقِ ... ???? ???? ... رَعَى اللهَ مَنْ أَضْحَى وَأَمْسَى مُشَمِّرًا ... لِنَيْلِ الْمَعَالِي قَاطِعًا كُلَّ عَائِقِ ... ???? ???? ... إِلَى أَنْ عَلا فَوْقَ الْمَقَامَاتَ فِي الْعُلا ... وَنَالَ الْمُنَى مِنْ قُرْبِ مَوْلَى الْخَلائِقِ ... ???? ????آخر: ... اعْلَمْ بِأَنَّ طَرِيقَ الْحَقِّ مُنْفَرِدٌ ... وَالسَّالِكُونَ طَرِيقَ الْحَقِّ أَفْرَادُ ... ›? ???? ????

الحث علي الزواج وذكر الأدلة علي ذلك وذكر الضرر الحاصل بعدم الزواج

.. لا يُطْلَبُونَ وَلا تُطْلَبَ مَسَاعِيَهُمْ ... فَهُمْ عَلَى مَهَلٍ يَمْشُونَ قُصَّادُ ... ???? ???? ... وَالنَّاسُ فِي غَفْلَةٍ عَمَّا لَهُ قَصَدُوا ... فَجُلُّهُمْ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ رُقَّادُ ... ›? ???? ???? اللَّهُمَّ اسلك بنا سبيل عبادك الأَبْرَار ونجنا من عذاب النار وأسكنا الْجَنَّة دار القرار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلمين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) اعْلَمْ وفقنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن الزواج هُوَ أهم مقومَاتَ الحياة والمتمم للوظائف الحيوية والحافظ للجامعة البشرية من الانقراض والزَوَال بإذن الله وأساس لتقدير المرء في الهيئة الاجتماعية. وقوامه وجود الألفة والتحابب والاحترام والتوقير بين الزوجين وبه يحصل التعاون والتعاضد والتآلف والتآزر بين الأسر المتناسبة بسبب ما تم بينها من المصاهرة المقربة للبعيد والمحببة للقريب والمدنية للأجنبي. وقَدْ ندب الله إلى الزواج فَقَالَ عز من قائل: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} وَقَالَ سُبْحَانَهُ وتعالى {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} وَقَالَ {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} وَقَالَ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} . ولهَذَا خاطب النَّبِيّ ? الشباب يدعوهم إلي الزواج والمبادرة إليه متى كَانَ قادراً على مؤن الزواج ونفقاته وكَانَ به توقان إلى النساء حتى لا تزل به القدم في مهوات المعاصي فتقوده نَفْسهُ ويغريه شيطانه فيقع فيما لا يحل من الموبقات والذُّنُوب المهلكات فإن للشباب فُتوةً ونزوةً تدفع الشباب إلى طاعة شهوته وتقهره على إرضائها بدون أن يبالي بسوء مغبة أو حسنها.

الفوائد التي تحصل بالزواج

وَكَمْ من شاب أغرته شهوته واستعبدته لذته فأتى نفسها من الذُّنُوب والمعاصي حظها وأروى من الموبقات غلتها. فكَانَ عاقبة ذَلِكَ ضياع الثروة والافتقار بعد اليسر والْمَال العريض والذلة بعد الجاه والعزة، والضعف بعد القوة والصحة الشاملة وانتابته بعد نضارة شبابه العلل والأسقام وصار حليف الهم والغم والسهاد ينام على مثل شوك القتاد قَدْ أقض مضجعه وذبلت نضرته وتنكرت له الحياة بعد إقبالها وكشرت له الأيام بعد ابتسامها أنيابها وَذَلِكَ بما قدمت يداه. وكَانَ أصحابه ينفرون عَنْهُ بعد ما كَانَ قرة أعينهم وموضع الغبطة والسرور ولَقَدْ بين الرَّسُول ? حكمة المبادرة إلى الزواج بعد القدرة والاستطاعة بأنها تُحصن الفرج عن الوقوع في المحرمَاتَ وملابسة ما يغضب فاطر الأرض والسماوات ويزري بالشرف والكرامَاتَ. وإن المبادرة تدعو إلى العفة وغض البصر عن المحرمَاتَ أضف إلى ذَلِكَ أن المبادرة في الزواج تملكن المرء بإذن الله إذا رزقه الله أولادًا من تربيتهم والقيام بشؤونهم وإعدادهم لمستقبل حياتهم وجعلهم رجالاً صالحين مصلحين ينفعون أنفسهم وأمتهم ويجعل مِنْهُمْ عمادًا لها وقوة يرهب بِهُمْ جنابها وتقوى شوكتها وتحفظ هيبتها وكرامتها ويدفع من يريد إذلالها واستعبادها. تأمل في حياة المتزوج عِنْدَمَا يفاجئه مرض أو تنتابه نائبة وعنده زوجة صَالِحَة كيف يكون محاطًا بعطفها وقيامها بخدمته نائمًا على فراش الرَّاحَة وتسليه وتؤنسه وتَقُوم بخدمته وتضمر الْخَيْر له. وارجع بنظرك إلى العزب في حالة مرضٍ في حالة يأس وقنوط وندم على ما فرط منه لعدم اقترابه بزوجة صَالِحَة وقرينة ناصحة تَكُون له خَيْر معينة وأفضل مساعدة علي نوائب الدهر وأنكاده فقدْ فقَدَ العزب العطف والرأفة به والرَّاحَة والقيام بتمريضه وحوائجه الكثيرة في أشد الأوقات وأحرجها وأضيق

الساعات وكَانَ في حالته المحزنة كالغريب النائي عن وطنه وأقربائه وأصدقائه يتمنى ويتلهف علي أحد يتصدق عَلَيْهِ بشربة ماء أو نحوها. وأما الإبطاء عن الزواج حتى يتقدم في العمر صاحبه على خطر فقَدْ لا يستطيع تربية أولاده لضعف قوته وعجزه عن تحصيل ما به حياتهم وتوفير أسباب السعادة لَهُمْ. وَرُبَّمَا اخترمته المنية فيتركهم كزُغب القطا مهيضي الجناح أيتام لا يقدرون على التخلص من الأكدار والأنكاد زد على ذَلِكَ أن الإبطاء في الزواج يزيد كثرة الفتيات العانسات ويفوت عليهن زمن نضرتهن وجني ثمارهن ولَيْسَ لهن قوة علي دفع الشهوة كالرِّجَال فربما تطغى عليهن ويسلكن طَرِيق الغواية والفساد. وهناك الطامة الكبرى والمصيبة العظمى من اختلاط الأنساب وانتهاك حرمة الأعراض وتمزيق ثوب الحياء والاستهتار بما يزيل الكرامة ويذل الشرف والعزة ويقضي على الإباء والمروءة والنخوة. وإن مِمَّا يؤسف له أشد الأسف من انصراف الشباب وإعراضهم عن الزواج إعراضًا تامًا ظنًا مِنْهُمْ أن حياة العزوبة ألذ وأهنأ وأَهْوَن حملاً وأخف كلفة من الزواج مَعَ أنهم مخطئون في عملهم شاذون في رأيهم ضالون عن طَرِيق الحق تائهون عن جادة الصواب. لأن التزوج سنة المرسلين والنَّبِيّ ? يَقُولُ: ((فمن رغب عن سنتي فلَيْسَ مني)) . وكَانَ ? يأمر بالباءة وينهى عن التبتل نهيًا شديدًا وروي: «لا صرورة في الإسلام» . والصرورة الَّذِي لم يتزوج. وَقَالَ أَحَمَد: لَيْسَ العزوبة من أمر الإسلام في شَيْء. وَقَالَ: من دعاك إلى غير التزوج فقَدْ دعاك إلى غير الإسلام. وَقَالَ ابن عباس لرجل تزوج: فإن خَيْر هذه الأمة أكثرها نساء ولو لم

الحث علي الزواج وتحذير من تركه لمن قدر

يكن في الحث على الزواج والنهي عن العُزبة إِلا قوله تَعَالَى {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} لكفى وشفى. شِعْرًا: ... وَإِنْ صَافَيْتَ أَوْ خَالَلْتَ خَلا ... فِي الرَّحْمَنِ فَاجْعَلْ مَنْ تُؤَاخِي ... ???? ???? ... وَلا تَعْدِلْ بِتَقْوَى اللهَ شَيْئًا ... وَدَعْ عَنْكَ الضَّلالَةَ وَالتَّرَاخِي ... ???? ???? ... فَكَيْفَ تَنَالُ فِي الدُّنْيَا سُرُورًا ... وَأَيَّامُ الْحَيَاةِ إِلَى انْسِلاخِ ... ???? ???? ... وَإِنَّ سُرُورَهَا فِيمَا عَهِدْنَا ... مَشُوبٌ بِالْبُكَاءِ وَبِالصُّرَاخِ ... ???? ???? ... فَقَدْ عَمِيَ ابْنُ آدَمَ لا يَرَاهَا ... عَمَى أَفْضَى إِلَى صَمَمِ الصّمَاخِ ... ›? ???? ???? اللَّهُمَّ وفقنا لصالح الأعمال وأكفنا بحلالك عن حرامك وبِفَضْلِكَ عمن سواك إنك على كُلّ شَيْء قدير وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وَقَالَ ?: ((من تزوج فقَدْ استكمل نصف دينه فليتق الله في النصف الباقي)) . رواه الطبراني في الأوسط وَقَالَ ?: ((من أحب فطرتي فليستن بسنتي ومن سنتي النكاح)) . رواه البيهقي في السُّنَن الكبري وَقَالَ ?: ((أيما رجل تزوج في حداثة سنه عج شيطانه يا ويله عُصم دينه)) . رواه أبو يعْلى في مسنده. وَقَالَ ?: ((ثلاثة حقٌ على الله عونهم المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الَّذِي يريد الأداء، والناكح الَّذِي يريد العفاف)) . رواه الترمذي والنسائي وَغَيْرِهمَا بإسناد صحيح. وَقَالَ ? لعكاف بن وداعة الهلالي: ((ألك زوجة يا عكاف)) ؟ قال: لا. قال: ((ولا جارية)) ؟ قال: ولا جارية. قال: ((وأَنْتَ مُوسرٌ بخير)) ؟ قال: وأنَا موسر بخَيْر. قال: ((أَنْتَ إذًا من إِخْوَان الشياطين لو كنت من النصارى كنت من رهبانهم إن سنتنا شراركم عُزابكم وأرذل موتاكم عُزابكم أبا الشيطان تمرسون؟! ما للشيطان سلاحٌ أبلغُ في الصالحين من النساء إِلا المتزوجون أولئك المطهرون المبرؤن من الخنا ويْحك يا عكّافُ إنهن صواحب أيوب وداود ويوسف وكُرفس)) .

قال له بشر بن عطية: من كُرفُسُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قال: ((رجل يعبد الله بساحل من سواحل البحر ثلاثمائة عام يصوم النَّهَارَ ويقوم الليل ثُمَّ إنه كفر بِاللهِ بسبب امرأة عشقها وترك ما كَانَ عَلَيْهِ من عبادة ثُمَّ استدركه الله ببعض ما كَانَ منه فتاب عَلَيْهِ ويحك يا عكاف تزوجْ وإِلا فأَنْتَ من المدبرين)) . قال: زوجني يَا رَسُولَ اللهِ. قال: ((زوجتك كريمة بنت كلثوم الحميري)) . رواه أَحَمَد وأبو يعلى في مسنده. وكَانَ ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: لو لم يبق من عمري إِلا عشرةُ أيام أحببت أن أتزوج حتى لا ألقي الله عزبًا وتزوج الإمام أَحَمَد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في الْيَوْم الثاني من وفاة امرأته وَقَالَ: أكره أن أبيت عزبًا وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام: ((ما استفاد المُؤْمِن بعد تقوى الله عَزَّ وَجَلَّ خيرًا له من زوجة صَالِحَة إن أمرها أطاعته وإن نظر إليها سرته وإن أقسم عَلَيْهَا برته وإن غاب عَنْهَا نصحته في نفسها وماله)) . رواه ابن ماجة. وَقَالَ عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إني لأُكْرِهُ نفسي على الجماع رجَاءَ أن يخَرَجَ الله نسمة تُسبحه وتذْكره وَقَالَ ?: ((دعوا الحسناء العاقر وتزوجوا السوداء الولود فإني أكاثر بكم الأمم يوم القيامة)) . رواه الطبراني والأَمْر للندب. وَقَالَ عمر: تكثروا من العيال فإنكم لا تدرون بمن ترزقون وَقَالَ ?: ((تزوجوا الودود الولود فإني مُكاثر بكم الأمم)) . رواه ابن ماجة والنسائي وَقَالَ ?: ((لا تُطلق النساء إِلا من ريبة إن الله تَعَالَى لا يحب الذواقين ولا الذوقات)) . والذواق الكثير النكاح والطلاق من دون عُذر شرعي والذواقة التي كُلّ من أخذها تتسبب لفراقه لأجل التزوج بغيره هَذَا وَاللهُ أَعْلَمُ معناهما. ومن الأسباب الرئيسية لتوقف كثير من الشباب عن الزواج ثقل المهور

قصة سعيد بن المسيب وتزوج ابنته بفقير والتحذير علي الزواج بالأجنبيات

والتبذير السخيف في الطرق التي غير شرعية وسبب ذَلِكَ موافقة سُحفاء العقول في تصرفاتهم. فالعاقل إذا جاءه من يرضى دينه وعقله ما يغتر بالزخارف وينخدع بالبهارج الكاذبة ويحذو حذاء المسرفين بل ينقاد لعقله الراجح ودينه الحق وتعاليمه السامية ويرضى بالميسور إذا كَانَ له السلطة التامة علي أهله، وإن كَانَ من المستضعفين فيحاول بالتي هِيَ أحسن فإن عجز فلَيْسَ له وَاللهِ إِلا الصبر والرِّضَا بما قدره الله وقضاه في هَذَا الزمن الَّذِي انحط أهله وسيطرت فيه النساء على الرِّجَال وصار الأكثر من الرِّجَال عِنْدَ أهليهم وأولاًدهم بمنزلة الخادم الحقير ومَعَ ذَلِكَ فهو حارس وخادمٌ محقورٌ ومحامي للأموال التي ستؤول إليهم ولا شكر مِنْهُمْ ولا ثناء. وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ وعَلَيْهِ التكلان. اللَّهُمَّ اجعلنا ممن يأخذ اْلكِتَاب باليمين، وَاجْعَلْنَا يوم الفزع الأكبر آمنين، وأوصلنا بِرَحْمَتِكَ وكرمك إلى جنات النَّعِيم، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلمين، بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وإليك قصة سعيد بن المسيب رحمه الله قال أبو وداعة: كنت أجالس سعيد بن المسيب ففقدني أياماً فَلَمَّا جئته قال: أين كنت؟ قُلْتُ: توفيت زوجتي فاشتغلت بها. فَقَالَ: هلا أخبرتنا فشهدناها فَلَمَّا أردت أن أقوم قال: هل أحدثت امرأة غيرها؟ فقُلْتُ: يرَحِمَكَ اللهُ ومن

يزوجني وما أملك إِلا درهمين أو ثلاثة. قال: إن فعلت تفعل؟ قُلْتُ: نعم ثُمَّ حمد الله وصلى على النَّبِيّ ? وزوجني ابنته على درهمين. وفي مساء ذَلِكَ الْيَوْم إذا بالْبَاب يُقرع فقُلْتُ: من هَذَا؟ فَقَالَ: سعيد ففكرت في كُلّ إنسان أعرفه اسمه سعيد إِلا سعيد بن المسيب فإنه لم ير مُنْذُ أربعين سنة إِلا ما بين بيته والمسجد فقمت وفتحت الْبَاب وإذا سعيد بن المسيب فظننت أنه بدا له فقُلْتُ: فما تأمرني؟ قال: رأيتك رجلاً عزبًا فكرهت أن تبيت اللَّيْلَة وحدك وهذه زوجتك فإذا هِيَ قائمة خلفه في طوله ثُمَّ دفعها ورد الْبَاب. فالله دره من عَالِم. اسمَعَ يا من سول له الشيطان وأملى له فأحدث بدعًا بيوتًا للأعراس صادم بها الأَمْر بتخفيف الصداق والحث على تكثير الأمة نسأل الله العافية وهذه البيوت تُؤجر بإجارات باهضة فيما يبلغنا يعجز الفقير عن تحصيل أجرتها فضلاً عن الصداق الَّذِي سيدفعه وقَدْ بلغنا أن أجرتها ثلاثة آلاف أو أربعة نسأل الله السلامة والعافية مِمَّا بُلي به من أحدثوها أو ساعدوا على إحداثها أو استأجروها فشجعوا من أحثوها كم عرقلن عن الزواج من فقراء متعففين نسأل الله الحي القيوم العلي العَظِيم أن يوفق ولات الأَمْر لإزالتها اللَّهُمَّ صلي على مُحَمَّد وآله وسلم. فحذر يا منْ منَّ الله عَلَيْهِ بعدم إحداثها أو المُشَارَكَة فيها أو الإعانة عَلَيْهَا بقول أو فعل وأكثر من قول الحمد لله الَّذِي عافانَا مِمَّا ابتلوا به وانصح عَنْهَا من يقبل منك من أقارب وأصحاب وَاحْذَر الحضور فيها فتَكُون ممن يشجع على البدعة المحرمة. وثقل المهور ينشأ عَنْهُ التزوج بالأجنبيات وهَذَا من أكبر الأضرار على الأمة ومن أعظم الأسباب لكساد بنات الوكن لأنه يكسد واحدة ويأتي بأخرى تحمله في كُلّ زيارة مهرًا جديدًا ويبعد أن تتفق الطباع بينهما وإن حصل أولاًد ثُمَّ فراق فأعظم به من ضرر.

وذكر بعض المضرات فيهن ليكن اللبيب علي حذر منهم

وأكثر من يتزوج بالأجنبيات الأغبياء قصار النظر الَّذِينَ لا يحسبون للمستقبل حسابًا ولا يفكرون ولا يفرضون ويقدرون أَهْل ظواهر فقط عقولهم ضعيفة ونظرهم قاصر. ... وَالنَّاسُ أَكْثَرُهُمْ فَأَهْلُ ظَوَاهِرِ تَبْدُو لَهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلِ مَعَانِي فَهُمْ الْقُشُورُ وَبِالْقُشُورِ قِوَامُهُمْ وَاللُّبُّ مِنْهُ خُلاصَةُ الإِنْسَانِ ... ›? ... ... ... ثُمَّ اعْلَمْ أن الغالب في الأجنبيات السفور الاستهانة بالأزواج وكثرة الْخُرُوج واستطالة اللسان على الزوج وضعف الدين أو عدمه والغلظة على الأولاد وتكليف الزوج بالمصاريف الباهضة حتى تجلسه على بساط الفقر هَذَا في الغالب ولهَذَا نسمَعَ أن بعض الَّذِينَ اغتروا وتزوجوا بهن يئنون ويتمنون الخلاص وهيهات الخلاص بعد ما امتلأ البيت من الأولاد والبنات ولذَلِكَ تجدهم يتضجرون ويتشكون بعدما تورطوا. وَكَمْ من إنسان اضطر إلى مصادقة زوجته لأجل الأولاد وبالعكس فكم من زوجة اضطرت إلى مجاملة زوجها والصبر على جوره أولاًدها قال بَعْضهمْ وأظنه ممن ابتلِيَ بزوجة يبغضها ولكنه مضطر إلى المجاملة والصداقة. ... وَإِنِّي لَمُشْتَاقٌ إِلَى مَوْتِ زَوْجَتِي وَلَكِنْ قَرِينُ السُّوءِ بَاقِ مُعَمَّرُ فَيَا لَيْتَهَا فِي الْقَبْرِ أَمْسَتْ ضَجِيعَةً يُعَذِّبُهَا فِيهِ نَكِيرٌ وَمُنْكَرُ ... ›? ... ... ... وَكَمْ من زعيم اضطر إلى مصادقة زعيم وَكَمْ من مرؤوس اضطر إلى مصادقة رئيس وصبر على النكد والضَّرَر وهَذَا من أثقل ما يكون على

النُّفُوس قال المتنبي: ... وَمِنْ نَكَدِ الدُّنْيَا عَلَى الْحُرِّ أَنْ يَرَى عَدُوًّا لَهُ مَا مِنْ صَدَاقَتِهِ بُدُّ ... ›? آخر: محذرًا عمن لا تصلح وحاثًا على التي تصلُحُ: ... وَإِيَّاكَ يَا هَذَا وَرَوْضَةَ دِمْنَةٍ سَتَرْجِعُ عَنْ قُرْبٍ إِلَى أَصْلِهَا الرَّدِي وَخَيْرُ النِّسَاءَ مَنْ سَرَّتْ الزَّوْجُ مَنْظَرًا وَمَنْ حَفِظَتْهُ فِي مَغِيبٍ وَمَشْهَدِ قَصِيرَةُ أَلْفَاظٍ قَصِيرَةُ بَبَيْتِهَا قَصِيرَةُ طَرْفِ الْعَيْنِ عَنْ كُلِّ أَبْعَدِ حَسِيبَةُ أَصْلٍ مِنْ كِرَامٍ تَفُزْ إِذَا بِوُلْدٍ كِرَام وَالْبَكَارَةَ فَاقْصُدِ وَوَاحِدَةٌ أَدْنَى إِلَى الْعَدْلِ فَاقْتَنِعْ وَإِنْ شِئْتَ فَابْلغْ أَرْبعًا لا تَزَيَّدِ ... ›? اللَّهُمَّ اجعلنا من أَهْل الصلاح والنجاح والفلاح ومن المؤيدين بنصرك وتأييدك ورضاك يا رب العالمين. (اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) . يا ودود يا ذا العرش المجيد يا مبدئ يا معيد يا فعال لما تريد نسألك بنور وجهك الَّذِي ملأ أركَانَ عرشك وبقدرتك التي قدرت بها على جَمِيع خلقك وبِرَحْمَتِكَ التي وسعت كُلّ شَيْء لا إله إِلا أَنْتَ أن تغفر ذنوبنا وسيئاتنا وأن تبدلها لنا بحسنات إنك جوادٌ كريم رؤوف رحيم.

يسن لمن يريد الزواج تخير ذات الدين وإباحة النظر لمن يريد خطبتها بلا خلوة والفحص عن ما هو سبب الرغبة

اللَّهُمَّ افتح لدعائنا باب القبول والإجابة وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع المسلمين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) ثُمَّ اعْلَمْ وفقني الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المسلمين أنه يسن لمن أراد النكاح أن يتخَيْر ذات الدين لحديث أَبِي هُرَيْرَةِ مرفوعاً: ((تُنكح المرأة لأربع لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك)) . متفق عَلَيْهِ. وأن تَكُون ذات عقل لا حمقي جاهلة لأن النكاح يراد للعشرة الحسنة ولا تصلح العشرة مَعَ الحمقاء ولا يطيب معها عيش وَرُبَّمَا تعدى ذَلِكَ إلى ولدها وقَدْ قيل: اجتنبوا الحمقاء فإن ولدها ضياع وصحبتها بَلاء ولا ينفع فيها العلاج. وقديماً قيل: ... لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ يُسْتَطَبُّ بِهِ ... إِلا الْحَمَاقَةَ أَعْيتْ مَنْ يُدَاوِيهَا ... ???? ????آخر: ... إِنَّ الرِّجَال إِذَا لَمْ يَحْمِهَا رَشَدٌ ... مِثْلُ النِّسَاءِ عَرَاهَا الْخُلْفُ وَالْخَلَفُ ... ???? ???? ... أَِلا تَرَى جَمْعَ مَا لا عَقْلَ يُسْنِدُهُ ... جَمْعَ المؤنثِ زَيْدَ التَّاءِ وَالأَلِفُ ... ›? ???? ???? وأن تَكُون الزوجة من بيت معروف بالقناعة لأنه مظنة دينها وقناعتها ويستحب أن تَكُون جميلة لأنه أسكن لنفسه وأغض لبصره وأكمل لمودته ولذلك جاز النظر إليها قبل النكاح. وعن المغيرة بن شعبة أنه خطب امرأة فَقَالَ له النَّبِيّ ?: ((انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)) . رواه الخمسة إِلا أبو داود وعن جابر قال: سمعت رسول الله ?: يَقُولُ: ((إذا خطب أحدكم المرأة فَقَدِرَ أن يرى منها بعض ما يدعو إلى نكاحها فليفعل)) . رواه أَحَمَد وَأَبُو دَاود. وعن موسى بن عَبْد اللهِ عن أبي حميد أو حميدة قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: ((إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عَلَيْهِ أن ينظر منها إذا كَانَ إنما ينظر إليها

لخطبة وإن كانَتْ لا تعلم)) . رواه أَحَمَد. وعن مُحَمَّد بن مسلمة قال: سمعت رسول الله ? يَقُولُ: ((إذا ألقى الله عَزَّ وَجَلَّ في قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها)) . رواه أَحَمَد وابن ماجة. ويشترط أن يكون نظره إليها بلا خلوة لحديث: ((لا يخلون رجل بامرأة إِلا ومعها ذو محرم)) . فإن لم يتيسر له النظر إليها بعث امرأة ثقة تتأملها له وتصفها لأنه ? بعث أم سليم إلى امرأة وَقَالَ: ((انظري عُرقوبها وشُمي عوارضها)) . رواه الحاكم وصححه والعُرقوب إذا لم يكن طويلاً فهو أحسن بأن يكون مساوي للساق، وكَانُوا يذمون التي عرقوبها طويل بَعْضهمْ وَهُوَ من المتثاقلين للصيام. ... أُنْبِئْتُ أَنَّ فَتَاةً كُنْتُ أَخْطبُُهَا عُرْقُوبُهَا مِثْلُ شَهْرِ الصَّوْمِ بِالطُّولِ ... ›? والعوارض الأسنان التي في عرض الفم وهي ما بين الثنايا والأضراس وَذَلِكَ لاختبار النكهة فإن لم تعجبه سكت ولا يَقُولُ إِلا خيراً لا يَقُولُ: لا أريدها. لأن في ذَلِكَ إيذاءً. ولحديث أَبِي هُرَيْرَةِ قال: قيل يَا رَسُولَ اللهِ أي النساء خيرٌ؟ قال: ((التي تسره إذا نظر إليها وتطيعه إذا أمرها ولا تخالفه في نفسها ولا في ماله بما يكره)) . رواه أَحَمَد والنسائي وعن يحيي بن جَعدةَ أن رسول الله ? قال: ((خَيْر فائدة أفادها المرء المسلم بعد إسلامه امرأة جميلة إذا نظر إليها تسره وتطيعه إذا أمرها وتحفظه في غيبته في ماله ونفسها)) . رواه سعيد. شِعْرًا: ... وَمِنْ سَعْدِ حَظِّ الْمَرْءِ وِجْدَانَ زَوْجَةٍ ... تَطِيبُ بِهَا هَذِي الْحَيَاةُ وَتَعْذبُ ... ???? ????آخر: ... لِكُلِّ أَبِي بِنْتٍ يُرْجِي بَقَاءَهَا ... ثَلاثَةُ أَصْهَارِ إِذَا ذُكِرَ الْمَهْرُ ... ???? ???? ... فَبَيْتٌ يُغَطِّيهَا وَزَوْج يَصُونُهَا ... وَقَبْرٌ يُوَارِيهَا وَخَيْرُهُمَا الْقَبْرُ ... ›? ???? ????

آخر: ... وَزَادَنِي رَغْبَةٌ فِي الْعَيْشِ مَعْرِفَتِي ... ذِلَّ الْيَتِمْةَ يَجْفُوهَا ذُوو الرَّحِمِ ... ???? ???? ... أُحَاذِرُ الْفَقْرَ يَوْمًا أَنْ يُلِمَّ بِهَا ... فَيَهْتِكُ السِّترَ عَنْ لَحْمٍ عَلَى وَضَمِ ... ???? ???? ... تَهْوَى حَيَاتِي وَأَهْوَى مَوْتُهَا شَفَقًا ... وَالْمَوْتُ أَكْرَمُ نَزَّالٍ عَلَى الْحُرمِ ... ???? ???? ... أَخْشَى فَظَاظَةَ عَمٍّ أَوْ جَفَاءَ أَخٍ ... وَكُنْتُ أَبْقِي عَلَيْهَا مِنْ أَذَى الْكَلِمِ ... ›? ???? ???? وإن نظر إليها وأحبها وتعلقت نَفْسهُ وهي ذات دين ولو لم تكن جميلة فقَدْ لا يحب الجميلة فالأحسن أن يتزوج بمن يحب فإنه أحري أن يؤدم بينهما شِعْرًا: ... يَا ابْنَتِي إِنْ أَرَدْتِ أَيَّةَ حُسْنٍ ... وَجَمَِالاً يَزِينُ جِسْمًا وَعَقْلاً ... ???? ???? ... فَانْبُذِي عَادَةَ التَّبرج نَبْذًا ... فَجَمَالُ النُّفُوسِ أَسْمَى وَأَعْلا ... ???? ???? ... يَصْنَعُ الصَّانِعُونَ وَرْدًا وَلَكِنْ ... وَرْدَةَ الرَّوْضِ لا تُضَارَعُ شَكلاً ... ›? ???? ???? آخر: ... لا تَطْلبُ الْحُسْنَ إِنَّ الْحُسْنَ آفَتُهُ ... أَنْ لا يَزَالَ طِوَالَ الدَّهْرِ مَطْلُوبَا ... ???? ???? ... وَلَنْ تُصَادِفَ يَوْمًا لُؤْلُؤًا حَسَنًا ... بَيْنَ اللآلِئ إِلا كَانَ مَثْقُوبَا ... ›? ???? ???? وشاور رجل رجلاً في النكاح فَقَالَ: إياك والجمال الفائق فإن الشاعر قال: ... وَلَنْ تُصَادِفَ مَرْعىً مُونِقًا أَبَدَا ... إِلا وَجَدْتَ بِهِ آثَارَ مَأْكُولِ ... ›? ???? ???? آخر: ... لا تَرْكَنَنَّ إِلَى ذِي مَنْظَرٍ حَسَنٍ ... فَرُبَّ رَائِقَةٍ قَدْ سَاءَ مَخْبَرُهَا ... ???? ???? ... مَا كُلُّ أَصْفَرَ دِينَارٌ لِصُفْرِتِهِ ... صُفْرُ الْعَقَارِبِ أَرْدَاهَا وَأَنْكَرُهَا ... ›? ???? ???? آخر: ... وَرُبَّ مَلِيحٍ لا يُحِبُّ وَضِدُّهُ يُقَّبَلُ مِنْهُ الْعَيْنُ وَالأَنْفُ وَالْفَمُ هُوَ الْجَدُّ خُذْهُ إِنْ أَرَدْتَ مُسَلَّمًا وَلا تَطْلُبِ التَّعْلِيلَ فَالأَمْرُ مُبْهَمُ ... ›? آخر: ... لِكُلِّ سَاقِطَةٍ فِي الْحَيِّ لاقِطَةٌ ... وَكُلُّ بَائِرَةٍ يَوْمًا لَهَا سُوقُ ... ›? ???? ???? آخر: ... تَقُولُ مَنْ لِلْعَمَى بِالْحُسْنِ قُلْتُ لَهَا ... كَفَى عَنْ اللهِ تَصْدِيقِهِ الْخَبَرُ ... ›? ???? ????ج

التحذير من التزوج بخضراء الدمن ويليه نظم من النونية

.. الْقَلْبُ يُدْرِكُ مَا لا عَيْنَ تُدْرِكُهُ ... وَالْحُسْنُ مَا اسْتَحْسَنَتْهُ النَّفْسُ لا الْبَصَرُ ... ›? وَيَقُولُ الأخر: ... وَعَيَّرَنِي الأَعْدَاءَ وَالْعَيْبُ فِيهِمُوا ... وَلَيْسَ بِعَيْبٍ أَنْ يُقَالُ ضَرِيرُ رَأَيْتُ الْعَمَى أَجْرًا وَذُخِرًا وَعِصْمَةً ... وَإِنِّي إِلَى تِلْكَ الثَّلاثِ فَقِيرُ إِذَا أَبْصَرَ الْمَرْءُ الْمُرُوءَةَ وَالتُّقَى ... فَإِنَّ عَمَى الْعَيْنِينَ لَيْسَ يَضِيرُ ... ????آخر: ... إِنَّ الْمَلِيحَةَ مَنْ تَزِينُ حُلِّيهَا ... لا مَنْ غَدَتْ بِحُلِيِّهَا تَتَزَيَّنُ ... ›? ... ???? آخر: ... وَمَا الْحُبُّ مِنْ حُسْنٍ وَلا مِنْ مَلاحَةٍ وَلَكِنَّهُ شَيْءٌ بِهِ الرُّوحُ تُكَلَّفُ آخر: ... كَلِفْتُ بِهَا شَمْطَاءَ شَابَ وَلِيدُهَا وَلِلنَّاسِ فِيمَا يَعْشَقُونَ مَذَاهِبُ ... ›? آخر: ... لِكُلِّ سَاقِطَةٍ فِي الْحَيِّ لاقِطَةٌ ... وَكُلُّ بَائِرَةٍ يَوْمًا لَهَا سُوقُ آخر: ... فَكَمْ فِي الْعُرْسِ أَبْهَى مِنْ عَرُوسٍ ... وَلَكِنْ لِلْعَرُوسِ الله سَاعِدُ ... ›? ويُسن أن تَكُون ولودًا لحديث أنس كَانَ رسول الله ? يَقُولُ: «تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» رواه سعيد. ويعرف كون البكر ولودًا بكونها من نساء يعرفن بكثرة الأولاد فإذا كانَتْ أمها وأختها وخالتها وعمتها والقريبات من النساء وَلُودَاتٍ فالغالب والعلم لله أنها تَكُون مثلهن ويبعد أن تَكُون بخلاف ذَلِكَ. وليحذر الإِنْسَان من خضراء الدَّمنْ ففي الْحَدِيث الَّذِي رواه الدارقطني في الأفراد والعسكري في الأمثال: «إياكم وخضراء الدَّمنْ» . قَالُوا: وما خضراء الدَّمنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قال: «المرأة الجميلة من المنبت السُّوء» . قال ابن الجوزي: ينبغي للعاقل أن ينظر في الأصول فيمن يخالطه ويعاشره ويشاركه ويصادقه ويزوجه أو يتزوج إليه ثُمَّ ينظر بعد ذَلِكَ في الصور. قال: أما الأصول فإن الشَيْء يرجع إلى أصله وبعيد ممن لا أصل له أن

يكون فيه معني حسن فإن المرأة الحسناء إذا كانَتْ من بيت رديء فَقَلَّ أن تَكُون أمينة وَكَذَا أيضًا المخالط والصديق والمباضع والمعاشر وَإِيَّاكَ أن تخالط إِلا من له أصل يخاف عَلَيْهِ الدنس فالغالب السلامة وإن وقع خلاف ذَلِكَ كَانَ نادرًا. أ. هـ. وَقَالَ ابن القيم: ... يَا مُطْلِقَ الطَّرْفِ الْمُعَذَّبِ بالأَولَى جُرِّدْنَ عَنْ حُسْنٍ وَعَنْ إِحْسَانِ لا تَسْبِيَنَّكَ صُورَةُ مَنْ تَحْتَهَا الدَّ اءُ الدَّفِينُ تَبُوءُ بِالْخُسْرَانِ قَبُحَتْ خَلائِقُهَا وَقُبِّحَ فِعْلُهَا شَيْطَانَةٌ فِي صُورَةِ الإنْسَانِ تَنْقَادُ لِلأَنْذَالِ وَالأَذَالِ هُمْ أَكْفَاؤُهَا مِنْ دُونِ ذِي الإِحْسَانِ مَا ثَمَّ مِنْ دِينٍ وَلا عَقْلٍ وَلا خُلُقٍ وَلا خَوْفٍ مِنْ الرَّحْمَنِ وَجَمَالُهَا زُورٌ وَمَصْنُوعٌ فَإِنْ تَرَكَتْهُ لَمْ تَطْمَحْ لَهَا قَطُّ يَدَانِ إِنْ قَصَّرَ السَّاعِي عَلَيْهَا سَاعَةً قَالَتْ وَهَلْ أَوْلَيْتَ مِنْ إِحْسَانِ أَوْ رَامَ تَقْوِيمًا لَهَا اسْتَعْصَتْ وَلَمْ تَقْبَلْ سِوَى التَّعْوِيجِ وَالنُّقْصَانِ ... ›?

موعظة في حكم تعدد الزوجات والحث علي العدل

.. أَفْكَارُهَا فِي الْمَكْرِ وَالْكَيْدِ الَّذِي قَدْ حَارَ فِيهِ فِكْرَةُ الإِنْسَانِ فَجَمَالُهَا قِشْرٌ رَقِيقٌ تَحْتَهُ مَا شِئْتَ مِنْ عَيْبٍ وَمِنْ نُقْصَانِ نَقْدٌ رَدِيءٌ فَوْقَهُ مِنْ فِضَّةٍ شَيْءٌ يَظُنُّ بِهِ مِنَ الأَثْمَانِ فَالنَّاقِدُونَ يَرَوْنَ مَاذَا تَحْتَهُ وَالنَّاسُ أَكْثَرُهُمْ مِنْ الْعُمْيَانِ أَمَّا جَمِيلاتُ الْوُجُوهِ فَخَائِنَا تٌ بُعُولَهُنَّ وَهُنَّ لِلأَخْدَانِ وَالْحَافِظَاتُ الْغَيْبِ مِنْهُنَّ الَّتِي قَدْ أَصْبَحَتْ فَرْدًا مِنْ النِّسْوَانِ ... ›? اللَّهُمَّ وفقنا توفيقًا يقينا عن معاصيك وأرشدنا إلى السعي فيما يرضيك وأجرنا يا مولانَا من خزيك وعذابك وهب لنا ما وهبته لأوليائك وأحبابك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلمين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (موعظة) عباد الله كَانَ تعدد الزوجات عادة شائعة في الْعَرَب فَإِنَّهُمْ لم يكونوا يتقيدون فيه بعدد ولا يراعون عدلاً بين الزوجات فكَانَ ذَلِكَ مِمَّا أصلحهُ الإسلام فلم يمنعه منعًا باتًا لما في ذَلِكَ من الحرج ولم يتركه فوضى كما كَانَ بل أباحه إلى أربع وشرط للحل شرطًا وثيقًا وَهُوَ العدل بين الزوجات في المعاملة. قال الله تَعَالَى: {فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً} فتراه قَدْ شرط إباحة تعدد الزوجات بالعدل كما

جعل مجرد خوف الجور والظلم سببًا كافيًا في تحريم التعدد فمن لم يأنس من نَفْسهُ أن يقوم بالقسط بين الزوجات لا يتاح له التعدد ويجب عَلَيْهِ الاقتصار على واحدة. نعم الأصل في التزوج التوحد فيه يتم السكون لكل من الزوجين إلى الأخر ويستقيم أمرهما ويهنأ عيشهما وتسعد أولادهما بإذن الله ولكن قَدْ تدعو الحاجة أو الضرورة إلى التعدد وتقتضيه المصلحة لمسائل كثيرة كما إذا لم ترغب أم أولاده في مضاجعته والاتصال به وكما لو كَانَ بها مرض لا يرجى بُرؤه أو مَاتَ أولادها ووقفت عن الحمل أو يكون به شبق ولا يكتفي بواحدة لما يتعرضها من حيض أو استحاضة أو نفاس أو نحو ذَلِكَ. فإذا تزوج أكثر من واحدة وجب عَلَيْهِ العدل بين زوجاته فيبيت عِنْدَ إحداهن كما يبيت عِنْدَ الأخرى وكَذَلِكَ يفعل في المطعم والمسكن والملبس وسائر أنواع النفقة إن كن في الغنى متساويات وإن لم تفعل ذَلِكَ وجرت مَعَ إحداهما فأَنْتَ في عداد الظالمين. ولا تظن الأَمْر في هَذَا بسيطًا هينًا لا بل اعلم أنه عَظِيم من أخل به جَاءَ يوم القيامة وشقهُ ساقط كما أخبر بذَلِكَ الرَّسُول الكريم وَهُوَ جزاء يناسب جُرمه لأنه أسقط ناحية المظلومة بإخلاله الذميم. ويا ليت الأَمْر يقف عِنْدَ هَذَا الحد بل وراءه النار دار المذنبين ولذَلِكَ معاذ بن جبل الَّذِي أثنى عَلَيْهِ رسول الله ? وَقَالَ: «أعلم أمتي بالحلال والحرام كانَتْ عنده امرأتان فإذا كَانَ عِنْدَ إحداهما لم يشرب من بيت الأخرى الماء» . معناه أنه من ورعه وخوفه من الميل إلى إحداهما إذا كانَتْ النوبة لواحدة وفر يومها وليلتها عَلَيْهَا فلو مر في يومها في بيت ضرتها وَهُوَ عطشان لم يشرب من عندها حتى يأتي بيت التي الْيَوْم يومها. هَذَا العدل أصبح عِنْدَ النَّاس الَّذِينَ اختاروا التعدد نادر الوجود يترك

الحث علي الحصول علي الزوجة الدينة حسنة السيرة راجحة العقل المحسنة التدبير طيبة الأصل

أحدهم زوجته التي لا يحبها مدة طويلة تقاسي من آلام الجور والغيرة وما تقاسي وَهُوَ مَعَ المحبوبة أو صاحبة الْمَال ليله ونهاره كأنه لاعن تلك المبغوضة فحُرمت عَلَيْهِ أبد الآبدين. وتجده إذا دعاه إنسان جعله في ليلة المبغوضة ويومها والمفروض أن يستعمل القرعة وإذا قدم أتى إلى المحبوبة ويختار لها المسكن الطيب وكَذَلِكَ الصوغ والثياب والطعام والأطياب والفواكه وبوده لو استراح وطلق المبغوضة ولكنه يخشى أن تترك الأولاد وتذهب أو تسحب ما لها عنده من أموال فلهَذَا يجاملها مَعَ العداوة والبغض وينطبق عَلَيْهِ قول المتنبي: ... وَمِنْ نَكَدِ الدُّنْيَا عَلَى الْحُرِّ أَنْ يَرَى ... عَدُوًّا لَهُ مِنْ صَدَاقَتِهِ بُدُّ ... ›? ... ???? ولكن ليعلم هَذَا الجائر أن الله جَلَّ وَعَلا له ولأمثاله بالمرصاد وليعلم أن حنين الزوجة إلى زوجها يزيد بعد زواجه عَلَيْهَا أضعافًا مضاعفات وقَدْ كانَتْ قبل زواجه لا تصبر عَنْهُ ساعة فَكَيْفَ تصبر بعد الزواج شهورًا أو سنوات فأطل التفكر في هَذَا لتعلم كيف تَكُون العاقبة لعلك تسلك طَرِيق العدل وتبعد عن الجور والجائرين. ففي الْحَدِيث إذا كانَتْ عِنْدَ الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما جَاءَ يوم القيامة وشقه ساقط رواه الترمذي وَأَبُو دَاود وَغَيْرِهمَا. شِعْرًا: ... وَمَنْ جَمَعَ الضَّرِاتِ يَطْلبُ لَذَّةً ... فَقَدْ بَاتَ بِالأَضْرَارِ غَيْرَ سَدِيدِ ... ›? ... ???? اللَّهُمَّ وفقنا للاستقامة والعدل فيما وليتنا عَلَيْهِ اللَّهُمَّ إنا نعوذ بك من دنيا تمنع خَيْر الآخرة ونعوذ بك من حياة تمنع خَيْر الْمَمَات ونعوذ بك من أمل يمنع خَيْر الْعَمَل ونسألك أن تغفر لنا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ المسلمين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ) وينبغي أن يتخَيْر الدينة حسنة السيرة راجحة العقل المحسنة للتدبير وليحذر كُلّ الحذر من الخرقاء والبخيلة فكلاهما ما يفسدانه أكثر مِمَّا يصلحانه إن حصل صلاح وفيما قيل قديمًا: ... وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِهِ قَهْرَمَانَةٌ ... فَذَلِكَ بَيْتٌ لا أَبَا لَكَ ضَائِعُ ... ????آخر: ... إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَنْزِلِ الْمَرْءِ حُرَّةٌ ... رَأى خَللاً فِيمَا تَوَلَّى الْوَلائِدُ ... ???? ... فَلا يَتَّخِذْ مِنْهُنَّ حُرٌّ قَعِيدَةً ... فَهُنَّ لَعَمْرُ اللهِ بِئْسَ الْقَعَائِدُ ... ????آخر: ... (وَدُونَكَ بَيْتًا قَدْ تَحَلَّى بِهِ النُّهَى ... كَمَا يَتَحَلَّى مِعْصَمٌ بِسِوَارِهِ) ... ???? ... (إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَنْزِلِ الْمَرْءِ حُرَّةٌ ... تُدَبِّرُهُ ضَاعَتْ مَصَالِحُ دَارِهِ) آخر: ... إِذَا شِئْتَ يَوْمًا تُعْطِي الرِّبَاحَ عَشِيرَهَا ... وَمِنْهُمْ مَنْ تَبْنِي بِخُسْرٍ تِجَارِهَا آخر: ... فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَخْتَرْ لِنَفْسِكَ حُرَّةً ... عَلَيْكَ بِبَيْتِ الْجُودُ خُذْ مِنْ خِيَارِهِ ... ???? ... وَإِيَّاكَ وَالْبَيتَ الدَّنِيَّ فَرُبَّمَا ... تُعَارُ بِطُولٍ فِي الزَّمَانِ بِعَارِهِ ... ???? ... وَفِيهِنَّ مَنْ تَأْتِي الْفَتَى وَهُوَ مُعْسِرٌ ... فَيُصْبِحُ كُلُّ الْخَيْرِ فِي وِسْطِ دَارِهِ ... ???? ... وَفِيهِنَّ مَنْ تَأْتِيهِ وَهُوَ مُيَّسِرٌ ... فَيُصْبِحُ لا يَمْلِكْ عَلِيقَ حِمَارِهِ ... ???? ... وَفِيهِنَّ مَنْ لا بَيَّضَ اللهَ وَجْهَهَا ... إِذَا غَابَ عَنْهَا الزَّوْجُ طَلَّتْ لِجَارِهِ ... ›? ... ???? وورد أن المرأة الصَّالِحَة كالغراب الأعصم وَهُوَ أبيض الجناحين فلا يكاد يوَجَدَ إِلا القليل ومن الصالحات ما في حديث أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيّ ? قال: «ألا أخبركم برجالكم في الْجَنَّة» ؟ قلنا: بلى يَا رَسُولَ اللهِ. قال النَّبِيّ في الْجَنَّة: «ألا أخبركم بنسائكم في الْجَنَّة» ؟ قلنا: بلى يَا رَسُولَ اللهِ. قال: «ودود

عظم أجر المرأة الصالحة التي يموت زوجها وهو عنها راضي

ولودٌ إذا غضبت أو أسيء إليها أو غضب زوجها قَالَتْ: هذه يدي في يدك لا أكتحل بغمض حتى ترضي» . المعني أنها ترضيه رواه الطبراني. وقَدْ ورد ما فيه بشارة عظيمة أجر المرأة الصَّالِحَة القانتة ونجاتها فمنها ما رواه الإمام أَحَمَد والطبراني عن عبد الرحمن ابن عوف رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «إذا صلت المرة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها ادخلي الْجَنَّة من أي أبواب الْجَنَّة شئت» . ونحو هَذَا في رواية ابن حبان عن أَبِي هُرَيْرَةِ وروى الحاكم وصححه: «أيما امرأة ماتت وزوجها عَنْهَا راض دخلت الْجَنَّة» . وَقَالَ ? محذرًا لهن عما فيه ضرر عَلَيْهن: «أيما امرأة خرجت من بيتها بغير إذن زوجها كانَتْ في سخط الله حتى ترجع إلى بيتها أو يرضى عَنْهَا زوجها» . رواه الخطيب عن أنس ابن مالك. وَقَالَ ?: «إني لأبغض المرة تخَرَجَ من بيتها تجر ذيلها تشكو زوجها» . رواه الطبراني وَقَالَ ?: «أيهما امرأة وضعت ثيابها في غير بيت زوجها فقَدْ هتكت ستر ما بينها وبين الله عَزَّ وَجَلَّ» . رواه أَحَمَد والحاكم. وَقَالَ ?: «أيما امرأة نزعت ثيابها في غير بيت زوجها خرق الله عَزَّ وَجَلَّ عَنْهَا ستره» . رواه أَحَمَد والطبراني والبيهقي والحاكم في مستدركه. وأن تَكُون طيبة الأصل حسيبة ليكون الولد بإذن الله نجيبًا فإنه أشبه أهلها فجذبوه بالخلق والخلق وفي الخبر انظر في أي شَيْء تضع ولدك فإن العرق دساس وَقَالَ عَلَيْهِ أفضل الصَّلاة والسَّلام: «تخيروا لطفكم فإن النساء يلدن أشباه إخوانهن وأخواتهن» . رواه ابن عدي وابن عساكر عن عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا. وأن تَكُون بكرًا لما في الصحيحين عن جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «فهلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك» . ولقوله: «فهلا بكرًا تعضها وتعضك» . رواه الطبراني وإسناده صحيح ولقوله عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام: «عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواهًا» .

وأنتق أرحامًا وأرضى باليسير» . رواه ابن ماجة وغيره وفي رواية: «عليكم بالأبكار فإنهن أطيب أفواهًا وأنتق أرحامًا وأرضى باليسير من الجماع» . ومن فَوَائِد نكاح البكر أنها تحب الزوج الأول وتألفه فإن الطباع مجبولة على حب الأنس بأول مألوف وفي هَذَا المعني قيل: ... نَقِّلْ فُؤَادَكَ مَا اسْتَطَعْتَ مِنَ الْهَوَى ... مَا الْحُبُّ إِلا لِلْحَبِيبِ الأَوَّلِ ... ???? ... كَمْ مَنْزِلٍ فِي الأَرْضِ يَأْلَفُهُ الْفَتَى ... وَحَنِينُهُ أَبَدًا لأَوَّلِ مَنْزِلِ ... ????آخر: ... قَالُوا نَكَحْتَ صَغِيرَةً فَأَجَبْتُهُمْ ... أَشَهَى الْمَطِيِّ إِلَيَّ مَا لَمْ يُرْكَبِ ... ???? ... كَمْ بَيْنَ حَبَّةٍ لُؤْلُؤٍ مَثْقُوبَةٍ ... ثَقْبًا وَحَبَّةِ لُؤْلُؤٍ لَمْ تُثْقَبُ ... ????آخر: ... إِنَّ الْمَطِيَّةَ لا يُلَذُ رُكُوبُهَا ... حَتَّى تُذَلَّلَ بِالرُّكُوب وَتُرْكَبَا ... ???? ... وَالدُّرُّ لَيْسَ بِنَافِع أَصْحَابَهُ ... مَا لَمْ يُؤْلَّفْ فِي النِّظَامِ وَيُثْقَبَا ... ????آخر: ... كَذَبَ الَّذِينَ تَحَدَّثُوا فِي قَوْلِهِمْ ... مَا الْحُبُّ إِلا لِلْحَبِيبِ الأَوَّلِ ... ???? ... الْحُبُّ لِلْمَحْبُوبِ سَاعَةً وَصْلِهِ ... مَا الْحُبُّ فِيهِ لآخِر وَلا أَوَّلِ ... ???? ... مَا أَنْ أَحُنُّ إِلَى خَرَابٍ مُقْفر ... دَرَسْتَ مَعَالِمُهُ كَأَنْ لَمْ يُوهَلِ ... ???? ... مَقْتِي لِمَنْزِلِي الَّذِي اسْتَحْدَثْتُهُ ... أَمَّا الَّذِي وَلَّى فلَيْسَ بِمَنْزِلِ ... ???? ... لا شَكَّ فِي أَنَّ النَّبِيّ مُحَمَّدًا ... فَاقَ الْبَرِيَّةَ وَهُوَ خَيْرُ مُرْسَلِ ... ????آخر: ... وَالآنَ جَاءَ مِصْدَاقُ هَذَا عِنْدَنَا ... تَرَكُوا الْقَدِيمَ لأَجْنَبِي يَسْكُنُوا ... ???? ... أَتَانِي هَوَاهَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الْهَوَا ... فَصَادَفَ قَلْبًا خَالِيًا فَتَمَكَّنَا ... ›? ... ???? ومن أمثلة الْعَرَب (لا تنسى الشيباء أبا عذرها ولا قاتل بكرها) . المعني أنها لا تنسي الَّذِي افتض بكارتها ولا الَّذِي يقتل أول أولادها ولهَذَا قال بَعْضهمْ: النساء ثلاث واحدة لك وواحدة عَلَيْكَ وواحدة لا لك ولا عَلَيْكَ.

فأما التي لك فالبكر التي لم تر غيرك إن رأت خيرًا حمدت الله وإن رأت غير ذَلِكَ قَالَتْ: هكَذَا الرِّجَال أجْمَعُ. وأما التي لا لك ولا عَلَيْكَ غالبًا فالثيب إن رأت خيرًا قَالَتْ: هكَذَا يجمل بي وإن رأت شراً حنت إلى الأول ولو أنه مُسيء فيها وهَذَا إذا كنت أَنْتَ زوجها الأول متقاربين في السن والكرم والغنا والعفاف وإن كنت دونه سمعت ما يسؤك ويؤلمك ورَأَيْت ما يحزنك ويقلقك من ذكر زوجها الأول وأفعاله لمزًا وهزبًا ولهَذَا قال بعضهم مُحذرًا عَنْهَا: ... وَلا تَنْكِحَنَّ الدَّهْرَ مَا عِشْتَ أَيِّمًا ... مُجَرَّبَةً قَدْ مُلَّ مِنْهَا وَمَلَّتِ ... ›? ... ???? وقيل لبَعْضهمْ قَدْ كرهت امرأتك شيبتك فَقَالَ: إنما مالت إلى الإبدال لقلة الْمَال وَاللهِ لو كنت في سن نوح وشيبة إبلَيْسَ وخلقة منكر ونكير ومعي مال لكنت أحب إليها من مُقتز في جمال يوسف وخلق داود وسن عيسى وجود حَاتِم وحِلم أحنف. آخر: ... أعِرْ طَرْفكَ الْمَرَآة وَانْظُرْ فَإِنْ نَبَا ... بِعَيْنِكَ مِنْهُ الشَّيْبُ فَالْبِيضُ أَعْذَرُ ... ???? ... إِذَا شنُأتْ عَيْنُ الْفَتَى شَيْبَ نَفْسِهِ ... فَعَيْنُ سِوَاهُ بِالشَّنَاءِةِ أَجْدَرُ ... ????آخر: ... يُرِدْنَ ثَرَاءَ الْمَالِ حَيْثُ عَلِمْنَهُ ... وَشَرْحُ الشَّبَابِ عِنْدَهُنَّ عَجِيبُ ... ????آخر: ... فَجَعَلْتُ أَطْلُبُ وَصْلَهَا بَتَمَلُّلقٍ ... خَبِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ ... ???? ... إِذَا شَابَ رَأْسُ الْمَرْءِ أَوْ قَلَّ مَالُهُ ... فلَيْسَ لَهُ مِنْ وُدِّهِنَّ نَصِيبُ ... ???? ... يُرِدْنَ ثَرَاءَ الْمَالِ حَيْثُ عَلِمنَهُ ... وَشِرْخُ الشَّبَابِ عِنْدَهُنَّ عَجِيبُ ... ????آخر: ... رَأَيْنَ الْغَوَالِي الشّبَ لاحَ بِعَارِضِي ... فَأَعْرضْنَ عَنِّي وَبِالْخُدُودِ النَّوَاظِرِ ... ???? ... وَكُنَّ إِذَا أَبْصَرَنَنِي أَوْ سَمِعْنَ بِي ... رَنِينَ فَرَفعْنَ الْكُوَى بِالْمَحَاجُرِ ... ????آخر: ... لَمْ أَعْشِقْ الْسُمْرَ إِلا مِنْ حِيَازَتِهِمْ ... لَوْنَ الشَّبَابِ وَحَبَّ الْقَلْبِ وَالْحَدَقِ ... ???? ... وَلا سَلَوْتُ بَيَاضَ الشَّيْب عَنْ غَلَطٍ ... إِنِّي مِنَ الشَّيْبِ وَالأَكْفَانِ فِي فَرَقِ ... ????آخر: ... تَهَزَأتْ أَنْ رَأَتْ شَيْبِي فَقُلْتُ لَهَا ... لا تَهْزَئِي مَنْ لا يَطُلْ عُمْرٌ بِهِ يَشبِ ... ›? ... ????

.. شَيْبُ التَّقي لَهُ عِزٌّ وَمَكْرَمَةٌ ... إِذَا اسْتَقَامَ بِلا شَكٍّ وَلا رِيَبَ ... ????آخر: ... بَدَا شَيْبُهُ مِثْلَ النَّهَارَ وَلَمْ يَكُنْ ... يُشَابِهُ فَجْرًا أَوْ نُجُومَ ظَلامِ ... ???? ... يُحَدِّثُهَا مَا لا تُرِيدُ اسْتِمَاعَهُ ... وَلَمْ يَبْقَ عِنْدَ الشَّيْخ غَيْرُ كَلامِ ... ???? ... تَوَدُّ لَوْ أَنَّ اللهَ أَعْطَاهُ حَتْفَهُ ... وَكَفَّلَهَا مِنْ بَعْدِهِ بِغُلامِ ... ???? ... تَقُولُ لَهُ فِي النَّفْسِ غَيْرَ مُبِينَةٍ ... خُذِ الْمَهْرَ مِنِّي وَانْصَرِفْ بِسَلامِ ... ????آخر: ... الشَّيْبُ أَعْظَمُ جُرْمٍ عِنْدَ غَانِيَةٍ ... مِنْ ابن مُلْجِمِ عِنْدَ الْفَاطِمِّيينَا ... ????آخر: ... وَمُدَّعٍ شَرْخَ شَبَابٍ وَقَدْ ... عَمَّمَهُ الشَّيْبُ عَلَى وَفْرَتِهِ ... ???? ... يَخْضِبُ بِالأَسْوَدِ لِحْيَتِهْ ... يَكْفِيهِ أَنْ يَكْذِبَ فِي لِحْيَتِهِ ... ????آخر: ... خَضَبْتُ الشَّيْبُ لَمَّا كَانَ عَيْبًا ... وَخَضْبُ الشَّيْبِ أَوْلَى أَنْ يُعَابَا ... ???? ... وَلَمْ أَخْضِبْ مَخَافَة هَجْر خِلٍّ ... وَلا عُتْبًا خَشِيتُ وَلا عِتَابَا ... ???? ... وَلَكِنَّ الْمَشِيبَ بَدَا ذَمِيمًا ... فَصَيَّرتُ الْخِضَابَ لَهُ عِقَابَا ... ????آخر: ... أَنْذَرَكَ الشَّيْبُ فَخُذْ نَصْحَهُ ... فَإِنَّمَا الشَّيْبُ نَذِيرٌ نَصِيح ... ???? ... وَعِلَّةُُ الشَّيْبْ إِذَا مَا اعْتَرتْ ... أَعْيَتْ لَوْ أَنَّ الْمَدَاوِي الْمَسِيح ... ????آخر: ... وَلاتَكُ فِي وَطْءِ الْكَوَاعِبِ مُسْرِفًا ... فَإِسْرَافُهُ لِلْعُمْرِ أَقْوَى الْهَوَادِمِ ... ???? ... وَإِيَّاكَ إِيَّاكَ الْعَجُوزُ وَوَطْأَهَا ... فَمَا هِيَ إِلا مِثْلُ سُمِّ الأرَاقِمِ ... ????آخر: ... إِذَا فَكَّرْتُ فِي شَيْبِي وَسِنِّي ... عَتِبْتُ عَلَيْهِ فِيمَا نَالَ مِنِّي ... ???? ... كَأَنَّ الشَّيْبَ غَارَ عَلَى الْعَوَالِي ... فَعَرَّضَهُنَّ لِلإِعْرَاضِ عَنِّي ... ????آخر: ... وَالشَّيْبُ تَغْتَفِرُ الْغَوَانِي ذَنْبَهُ ... مَا دَامَ ذَاكَ الشَّيْءُ فِيهِ تَحَرُّكُ ... ????آخر: ... مَا كَانَ أَقْصَرَ أَيَّامَ الشَّبَابِ وَمَا ... أَبْقَى حَلاوَةِ ذِكْرَاهُ الَّتِي يَدَعُ ... ???? ... مَا وَاجَهَ الشَّيْبُ مِنْ عَيْنٍ وَإِنْ رَمَقَتْ ... إِلا لَهَا نَبْوَةٌ عَنْهُ وَمُرْتَدَعُ ... ????

آخر: ... رَأَيْتُ سَوَادَ الرَّأْسِ وَاللَّهْوِ تَحْتَهُ ... كَلَيْلٍ وَحُلْمٍ بَاتَ رَائِيهِ يَنْعَمُ ... ???? ... فَلَمَّا اضْمَحَلَّ اللَّيْلَ زَالَ نَعِيمُهُ ... وَلَمْ يَبْقَ إِلا عَهْدُهُ الْمُتَوَهَّمُ ... ????آخر: ... حَلَّ الْمَشِيبُ بِعَارِضِي وَمَفَارِقِي ... بِئْسَ الْقَرين أَرَاهُ غَيْرَ مُفَارِقِي ... ???? ... رَحَلَ الشَّبَابُ فَقُلْتُ قِفْ لِي سَاعَةً ... حَتَّى أُوَدِّعَ قَالَ إِنَّكَ لاحِقِي ... ????آخر: ... رَحَلَ الشَّبَابُ فَمَا لَهُ مِنْ عَوْدَةٍ ... وَأَتَى الْمَشِيبُ فَأَيْنَ مِنْهُ الْمَهْرَبُ ... ????آخر: ... عَانِقْ مِنَ النِّسْوَانِ كُلَّ فُتَيَّةٍ ... أَنْفَاسُهَا كَرَوَائِحِ الرَّيْحَانِ ... ???? ... أَحْذِرْكَ عَنْ نَفَسِ الْعَجُوزِ وَبُضْعِهَا ... فَهُمَا لِجِسْمِ ضَجِيعِهَا سَقَمَانِ ... ????آخر: ... عَجُوزٌ تَمَنَّتْ أَنْ تَكُون فُتَيَّةً ... وَقَدْ يَبِسَ الْجَنْبَانِ وَاحْدَوْدَبَ الظَّهْرُ ... ???? ... تَرُوحُ إِلَى الْعَطَّارِ تَبْغِي شَبَابَهَا ... وَهَلْ يُصْلِحُ الْعَطَّارُ مَا أَفْسَدَ الدَّهْرُ ... ???? ... وَمَا غَرَّنِي إِلا خِضَابٌ بِكَفِّهَا ج ... وَكُحْلٌ بِعَيْنِهَا وَأَثْوَابُهَا الصُّفْرُ ... ???? ... وَجَاؤُا بِهَا قَبْلَ الْمَحَاقِ بِلَيْلَةٍ ... فَكَا مُحَاقًا كُلُّهُ ذَلِكَ الشَّهْرُ ... ›? ... ???? وَقَالَ بعض العلماء: يكره نكاح الحنانة والمنانة والأنانة والحداقة والبراقة والممراض. فالحنانة التي لها ولد تحن إليه أو زوج تحبه من قبلك وفي المثل: (حب الأول ما يتحول) والمنانة التي تمن على زوجها بما تفعله أو تبذله. والأنانة كثيرة الأنين الكسلانة المتكاسلة. والحداقة التي تسرق كُلّ شَيْء بحدقتها التي تحب أن تطّلع على كُلّ شَيْء وتكلف زوجها بأنواع المشقات. والبراقة التي تشتغل بتبريق وجهها ويديها ورجليها من تحمير وتبيض وتنميق وتحسين وقيل أنها التي تغضب عِنْدَ الطعام ولا تأكل إِلا وحدها التي تبحم بالشيء. والشراقة كثيرة الكلام قليلة الصمت. والممراض التي تتمارض غالب أوقاتها ولَيْسَ فيها مرض إنما تهرب من الْعَمَل أو الاستمتاع بها فهي دائمًا تعبس بوجهها مقطبة دائمًا كسلانه تحب النوم والرَّاحَة.

موعظة في التحذير من الدخان وذكر بعض مضراته

عصمنا الله وإياكم من الزلل ووفقنا لصالح الْعَمَل وهدانَا بفضله سبيل الرشاد وطَرِيق السداد إنه جل شأنه نعم المولى ونعم النصير وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين. موعظة: عباد الله يَقُولُ الله تَعَالَى وَهُوَ أصدق قائل {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وَيَقُولُ جَلَّ وَعَلا: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} وَيَقُولُ جَلَّ وَعَلا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} وَيَقُولُ ?: «تركتم على الحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يريغ عَنْهَا بعدي هالك وَيَقُولُ جَلَّ وَعَلا {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} وَيَقُولُ {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} . وبذَلِكَ قَدْ وضح الأَمْر وتبين الرشد من الغي والهدى من الضلال ولم يبق بعد ذَلِكَ حجة لطالب الرشد ولا عذر لمن وقع في الغواية ولكن فريقًا من النَّاس وضعوا عقولهم تحت أرجلهم ولم يبالوا بمخالفة الكِتَاب والسنة واتبعوا الشهوات أنفسهم فعميت بصائرهم واسقطوا أنفسهم من درجة الكمال الَّذِي أعدهم الله له. وَذَلِكَ بأنهم سعوا بما يضر نفوسهم ودينهم وأموالهم وَهُوَ شربهم لأبي الخبائث الدخان الَّذِي لا يتوقف عَالِم بتحريمه ولا يتوقف طبيب بمضرته ولو لم يكن من الأدلة الدالة علي تحريمه إِلا الآيات المتقدمة لكانَتْ كافية لأن إِخْوَان الشياطين وَهُوَ إسراف {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} . ومن أوضح الأدلة على تحريمه قوله تَعَالَى في حق نبيه ? {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} ولا يمتري عاقل فضلاً عن العَالِم أنه من قسم الخبائث وله من المفاسد والأضرار ما لا يخفى على ذي بصيرة وإليك تعداد بعض مضاره وهي قليل من كثير: 1- فمن مضاره الدينية أنه إسراف والله لا يحب المسرفين. 2- ومنها أنه تبذير والمبذرين إِخْوَان الشياطين.

3- ومنها أنه يعدي أولاده فيقلدونه بشربه. 4- أنه يثقل على الْعَبْد العبادات ويبغضها عنده. 5- ومنها أن يبغض إليه المكث في بيت الله المسجد. 6- ومنها أنه يكره الصيام لشاربه. 7- ومنها أنه يدعو إلي مخالطة الأنذال والسفل. 8- ومنها أنه يزهد في مُجَالَسَة الأخيار. 9- ومنها اقتطاع جزء من العمر كبير في هذه المعصية وَذَلِكَ وَقْت شربه وشرائه. 10- ومنها إيذاء الكرام الكاتبين في رائحته الكريهة. 11- ومنها إيذاء المعقبات كَذَلِكَ. 12- ومنها توسيخ موضع قراءة كلام الله وسنة رسوله لأن محل التلاوة اللسان والحلق والصدر والدخان يلوثه. 13- ومنها إيذاء المسلمين المجالسين والماشين معه. 14- ومن مضاره البدنية احتواؤه على مادة النيكوتين السامة وأنه سبب لارتفاع ضغط الدم. 15- ومن مضاره أن شاربه يتعرض لأمراض خطرة كثيرة في بدنه من ذَلِكَ تعسير هضم الطعام وإفساد مجاري البول. 16- ومنها إحداث التهاب في الرئتين. 17- ومنها إحداث السعال وكثرة المخاط. 18- ومنها تعطيل الشرايين الصدرية وأوله تضييقها. 19- ومنها ما يحدث من عسر التنفس. 20- ومنها التأثير على الْقَلْب بتشويش انتظام دقاته. 21- ومنها أن شاربه يعين علي قتل نَفْسهُ.

22- ومنها إضعاف البصر وأوله إثارة إفراز الدموع. 23- ومنها إضعاف شهية الطعام شَيْئًا فشَيْئًا. 24- ومنها إضعاف شهوة الجماع أو قطعها مفاجأة. 25- ومنها إضعاف السمَعَ. 26- ومنها إضعاف العقل إذ العقل يضعف تبع الجسم. 27- ومنها أنه يحدث الخفقان في الْقَلْب. 28- ومنها إضعاف الفكر والحفظ فتضعف الذاكرة. 29- ومنها أنه يورث الحمق وسرعة الْغَضَب. 30- ومنها إحداثه للجنون التوتوني كما ذكره العِلماء والجنون فنون ولو أن إنسانَا أتى بألف من الريالات وحرقها أمام النَّاس لقَالُوا مجنون ولم يشكوا وشارب الدخان يحرق آلافًا في جوفه لا في الفضاء نسأل الله العافية فَانْظُرْ وفكر واحكم أيهما أحق بإطلاق الجنون عليه الَّذِي يحرق ماله في الفضاء أم الَّذِي يحرق به بدنه ويعذب به نَفْسهُ نعوذ بِاللهِ من عمى البصيرة وإتباع الهوى والنفس الأمارة بالسُّوء. 31- ومنها أنه يخرب كريات الدم التي تدفع المكروبات عن الجسم. 32- ومنها انحطاط القوة العصبية. 33- ومنها أنه يؤدي إلى مرض السل الرئوي. 34- ومنها الموت بالسكتة القلبية. 35- ومنها تقلص الأوعية الدموية بالأطراف. 36- ومنها أثره المحسوس في مرض السرطان. 37- ومنها تسويده الفم والشفتين والحلق. 38- ومنها تسويد الأسنان وسرعة بلائها وتحطمها وتآكلها بالسوس وذهاب نظرتها وتكريهها لناظرها.

39- ومنها انهيار الفم والبلعوم وَرُبَّمَا حدث سرطان في الحلق بسببه أو شلل في الأعضاء. 40- ومنها أنه يكره شاربه عِنْدَ زوجته وأهله لما يحدثه من البخر لأنه يخيس الفم والأنف. 41- ومنها أن ضرره يتعدى إلى المجتمَعَ دينيًا واقتصاديًا. 42- ومنها أنه يُحدث الأرق وَهُوَ السهر وعدم النوم فيتضرر به. 43- ومنها إضعافه حاسة الشم وَرُبَّمَا تعطلت كليًا بسببه. 44- ومنها أن كثيرًا من الحرائق تحدث بسببه. 45- ومنها ما ذكره بعض العلماء من أنه يولد الباسور ويزداد معه إن كَانَ موجودًا من قبل شُربه. 46- ومنها أن بعض العلماء لا يقبل شهادته لأنه يعتبره فاسقًا بهذه المعصية والعياذ بِاللهِ. 47- ومنها أنها لا تصح إمامته عِنْدَ بعض العلماء. 48- ومنها ما ذكره الأطباء من أنه يحدث تيبس في الكبد وأنه من أهم المسببات للقرحة المعوية. 49- ومنها ما ذكره بعض العلماء من أنه يحدث الفالج. 50- ومنها أن شاربه يُجلد أربعين جلدة عِنْدَ بعض العلماء لأنه محرم كالخمر وفيه مضار أخرى ذكرها الأطباء تركناها خوف الإطالة. فالواجب علي العاقل الناصح لنفسه التوبة إلى الله عن شربه قبل أن يموت بسببه فيكون قَدْ أعان على قتل نَفْسهُ. اللَّهُمَّ يا من خلق الإِنْسَان وبناه واللسان وأجراه، يا من لا يخيب من دعاه، هب لكل منا ما رجاه، وبلغه من الدارين مناه، اللَّهُمَّ اغفر لنا

الحث علي اختيار الزوجة الشريفة الدينة والاقتصاد عليه

جَمِيع الزلات، واستر عَلَيْنَا كُلّ الخطيئات وسامحنا يوم السؤال والمناقشات، وانفعنا وَجَمِيع المسلمين بما أنزلته من الكلمَاتَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. (فَصْلٌ) ومِمَّا لا يستهان به ويحرص عَلَيْهِ أن تَكُون الزوجة ذات دين شريفة فإن الشريفة غالبًا تحافظ علي شرفها وسمعتها وتبعد عما يدنس الشرف وقَدْ قال عمر بن عَبْد الْعَزِيز لرجل: أشر عليَّ فيمن أستعمل. فَقَالَ: أمَّا أرباب الدين فلا يريدونك وأمَّا أرباب الدُّنْيَا فلا تريدهم ولكن عَلَيْكَ بالإشراف فَإِنَّهُمْ يصونون شرفهم عما لا يصلح. وروي عن أبي إسحاق قال: دعاني المعتصم يومًا فأدخلني معه الحمام ثُمَّ خَرَجَ فخلا بي وَقَالَ: يا أبا إسحاق في نفسي شَيْء أريد أن أسالك عَنْهُ إن أخي المأمون اصطنع فأنجبوا واصطنعت أَنَا مثلهم فلم ينجبوا قُلْتُ: وَمِنْهُمْ قال: اصطنع طاهر وابنه وإسحاق وآل سهل فقَدْ رَأَيْت كيف هم واصطنعتُ أَنَا الأفشين فقَدْ رَأَيْت إلي ما آل أمره وأساس فلم أجده شَيْئًا وكَذَلِكَ انباح ووصيف. قُلْتُ: يا أمير الْمُؤْمِنِين ها هنا جوابٌ على أمان من الْغَضَب. قال: لك ذَلِكَ. قُلْتُ: نظر أخوك إلى الأصول فاستعملها فأنجبت فروعها واستعملت فروعًا لا أصول لها فلم تُنجب. فَقَالَ: يا أبا إسحاق مُقاساةُ ما مر بي هذه المدة أَهْوَن عليَّ من هَذَا الجواب. أ. هـ. وقيل: إن جعفر بن سليمان بن علي عاب يومًا على أولاده وأنهم ليسوا كما يجب فَقَالَ له ولده أَحَمَد بن جعفر: إنك عمدت إلى فاسقي مَكَّة والْمَدِينَة فأوعيت فيهن بضُعك ثُمَّ تريد أن ينجبوا وإنما نَحْنُ لضاجبات الحجاز هلا فعلت في ولدك ما فعل أبوك فيك حين اختار لك عقيلة قومها. وينبغي أن يقتصر على زوجة واحدة خوفًا من عدم العدل قال الله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن

بعض العلماء يذكر صفات زوجته ويبالغ في المدح

تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} . وله أن يتزوج أربع نسوة ولا يزيد على ذَلِكَ إِلا بملك اليمين فله أن يتسرى بما شَاءَ من الإماء وإن أرادا اصطحاب واحدة من نسائه في سفره أقرع بينهن ومدح أحد العلماء زوجته وبالغ في مدحها فَقَالَ: ... مُكَمَّلَةُ الأَوْصَافِ خُلْقًا وَخِلْقَةً فَأَهْلاً بِهَا وَسَهْلاً بِهَا سَهَلا وَدُودٌ وَلُودٌ حُرَّةٌ قُرَيِشَّةٌ مُخَدَّرَةٌ مَعَ حُسْنِهَا تُكْرِمُ الْبَعْلا وَبَاذِلَةٌ نَظِيفَةٌ وَلَطِيفَةٌ مِنْ أَظْرَفِ إِنْسَانٍ وَأَحْسَنِهِمْ شَكْلا شَكُورٌ صَبُورٌ حُلْوةٌ وَفَصِيحَةٌ وَمُتْقِنَةٌ تُتْقِنُ الْفَوْلَ وَالْفِعْلا تَغَارُ مِنْ أَسْبَابِ النَّقَائِصِ كُلِّهَا وَتَحْفَظُ مَالَ الزَّوْجِ وَالنَّفْسَ وَالأَهْلا حِصَانٌ رَزَانٌ لَيْسَ فِيهَا تَكَبُّرٌ قَنُوعٌ فَلا شِرْبٌ يَدُومُ وَلا أَكْلا مُطَاوِعَةٌ لِلْبَعْلِ يَقْضِي أَدِيبَةٌ مُوَافِقَةٌ قَوْلاً وَفِعْلاً فَمَا أَعْلا صَغِيرَةُ سِنٍّ فِي الْكَلامِ كَبِيرَةٌ نُهَاهَا يُرَى مُمْتَازَ أَكْرِمْ بِهِ ِعَقْلا يَشِيرُ عَلَيْهَا بِالتَّفَرُّجِ مَرَّةً فَتَأْبَى وَقَعْرُ الْبَيْتِ فِي عَيْنِهَا أَحْلا

.. مُدَارِيَةٌ لِلأَهْلِ إِنْ عَتِبَتْ وَإِنْ أَحَبَّتْ فَلا حِقْدٌ لَدَيْهَا وَلا ذللاً رَقِيقَةُ قَلْبٍ مَعْ سَلامَةِ دِينِهَا فَلَسْتَ تَرَى شِبْهًا لَهَا فِي النِّسَا أَصْلا خَدُومٌ بِقَلْبٍ فِي جَمِيعِ أُمُورِهَا مُبَاشَرَةٌ لِلْكُلِّ مَا دَقَّ أَوْ جَلا مُلازِمَةٌ لِلشُّغْلِ فِي الْبَيْتِ دَائِمًا عَلَى صِغَرٍ مِنْ سِنِّهَا لا تَنِي فِعْلا مُطَرَّزَةٌ خَيَّاطَةٌ ذَهَبِيَّةٌ مُفَصَّلَةٌ خَطَّاطَةٌ تُحْكِمُ الْغَزْلا تَنْقَّلُ فِي الأشْغَالِ مِنْ ذَا لِذَا وَذَا وَتَفْعَلُ حَتَّى الْكَنْسَ وَالطَّبْخَ وَالْغَسْلا وَمَا ذَاكَ مِنْ عُدْمٍ فَلَمْ يَخُلُّ بَيْتُهَا مِنْ امْرَأَةٍ تَكْفِي إِذَا شَاءَتِ الْفِعْلا وَلَكِنَّهَا اعْتَادَتْ نَظَافَةَ شُغْلِهَا فَعَافَتْ فِعَالَ الْكُلِّ وَاحْتَمَلَتْ فِعْلا خَفِيفَةُ رُوحٍ مَعَ وَقَارٍ ذَكِيَّةٌ فَتَفْهَمُ مَا يُلْقَى لَدَيْهَا وَمَا يُتْلَى لَهَا هِمَّةٌ عُلْيَا تَطُولُ شُرُوحُهَا عَلَى صَعَبِ الأَشْغَالِ تَتْرُكُهُ سَهْلا مُرَبِّيَةٌ حَنَّانَةٌ ذَاتُ رَحْمَةٍ

.. وَكُلُّ يَتِيمٍ وَاحِدٍ عِنْدَهَا فَضْلا نَفُورُ إِذَا ارْتَابَتْ أُلُوفٌ لأَهْلِهَا فَمَهْلاً إِذَا قَيْسَ النِّسَاءُ بِهَا مَهْلا عَدِيمَةُ لَفْظٍ وَالْتِفَاتٍ إِذَا مَشَتْ صَمُوتٌ فَلا قَطْعًا تَرُدُّ وَلا وَصْلا وَلَمْ يَنْكَشِفْ مِنْهَا بَنَانٌ يَحَارُ مَنْ مَشَى مَعَهَا فِي حِفْظِهَا يَدَهَا قَبْلا يَعِزُّ عَلَى مَنْ يَطْرُقُ الْبَابَ لَفْظُهَا جَوَابًا فَلا عَقْدًا تَرَاهُ وَلا حَلا يُطِيلُ وُقُوفًا لا يُجَابُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهَا كَلامُ الأَجْنَبِيِّ وَإِنْ قَلا وَحَافِظَةٌ لِلْغَيْبِ صَالِحَة أَتَتْ لِحَقٌّ إِذَا كَانَتْ مَنَاقِبُهَا تُتْلا وَقَانِتَةٌ صَوَّامَةٌ وَمُدِلَّةٌ بِعَقْلٍ وَتَدْبِيرٍ تَرَاهُ الْعِدَا بُخْلا تَجَمَّعَ فِيهَا عِفَّةٌ وَنَزَاهَةٌ وَعِزَّةُ نَفْسٍ فَهِيَ تَكْلا وَلا تُقْْلا ... ›? قُلْتُ: ما أظن مثل هذه وجدت ولا في القرن الرابع أو الخامس فضلاً عما بعدهما وخصوصًا في زمننا الذي استطاعت فيه النساء على الرِّجَال بعد مخالطة الأجانب الخاضعين لهن واستعمر النساء الرِّجَال استعمارًا ما بعده استعمار وصار الزوج بِالنِّسْبَةِ لشئون الأولاد والبيت والذهاب والمجيء مسيرًا لا مخيرًا كالسيارة بيد السائق والملْعَقَةِ بيد الأكل والقلم بيد الكاتب هِيَ التي تدبره وتصرفه كالصبي الخادم.

موعظة بليغة تصور حالة النساء والرجال في زمننا وما وصل إليه طغيان الشهوة

وإن وجد أحد خلاف ما ذكرنا فهو من النادر والشاذ والسبب الوحيد في ذَلِكَ هُوَ تقليدنا للأجانب الَّذِينَ هم في أيدي نسائهم كالخاتم تصرفه كيف شاءت يتبعها أينما توجهت سار خلفها حاملاً لولدها قَدْ نبذ الحياء كما نبذته هِيَ بدون مبالات ولا خجل فلا حول ولا قوة إِلا بِاللهِ العلي العَظِيم. اللَّهُمَّ أهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لما وفقت له الصالحين من خلقك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع المسلمين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (موعظة) عباد الله لَقَدْ طغت شهوة الفرج الْيَوْم على كثر من النَّاس طغيانَا لَيْسَ فوقه طغيان وأصبح سلطانها على أفراده شيبًا وشبانَا لا يدانيه سلطان حتى إنه ليخيل إلى بَعْضهمْ أن فاحشة الزنا بسيطة والعياذ بِاللهِ وأن مغازلة النساء والخلوة بهن مباحة نسأل الله العافية. يدُلك على ذَلِكَ ما تشاهده من الرِّجَال والنساء فترى الرِّجَال في تأنق بديع في لباسهم قَدْ حلقوا لحاهم وألهبوا الأصباغ في وجناتهم وذكت روائحهم ورجلوا شعر رؤوسهم وتعرضوا للنساء في الطرق قَدْ خلعوا سربال الحياء. وترى النساء تستعد استعدادًا تامًا إذا أرادت الْخُرُوج من بيتها فتتزين بأنواع الزينة من لباس براق وشفاف ومن حُلي يلمَعَ لمعانَا يأخذ بالأبصار ومن تعطر بما تهزأ رائحته برائحة المسك ومن أدهان تدهن به وجهها وأطرافها وحاجبها وشفتيها ومن آلة تفرق بها رأسها وجفونها ليصير ناعمًا لامعًا كثيرًا وبذَلِكَ تنقلب فتنة للناظرين بعد أن كانَتْ قبل ذَلِكَ تشق على العيون رؤيتها وعلى الآذان سماع صوتها ويفر من شهابتها وقبحها وهيئتها التي كانَتْ تتقدم بها لزوجها في البيت كُلّ ذَلِكَ سببه مخالطة الأجنبيات أبعدهن الله.

فما ظنك إذا التقا هؤلاء إنها لمصائب تجرح قلب كل مؤمن غيور لدينه كمدًا من هذه المنكرات وأشباهها قال ? محذرًا عن فتنة النساء: «اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن إبلَيْسَ طلاع رصادٌ وما هُوَ بشَيْء من فُخُوخه بأوثق لصيده في الأتقياء من النساء» . وخص الأتقياء لما لَهُمْ من الشهرة على قهر الشيطان ورد كيده فما ظنك بغير الأتقياء فهو ما يثق بصيده الأتقياء بشَيْء من آلات الصيد وثوقه بالنساء وكونهن من فخوخه فلأنه جعلهن مصيدة لا تفلت يزينهن في قُلُوب الرِّجَال ويغريهم بهن فيورطهم في الزنا كصائد ينصب شبكة ليصطاد بها ويغري الصيد عَلَيْهَا ليقع في حبائلها قال بَعْضهمْ: شِعْرًا: ... عَجُوزُ النَّحْسِ إِبْلِيسٌ يَرَاهَا ... تُعَلِّمُهُ الْخَدِيعَةَ فِي السُّكُوتِ ... ???? ... تَقُودُ مِنَ السِّيَاسَةِ أَلْفَ بَغْلٍ ... إِذَا انْفَرَدَتْ بِخَيْطِ الْعَنْكَبُوتِ ... ????آخر: ... إِذَا رَأَيْتَ أُمُورًا ... مِنْهَا الْفُؤَادُ تَفَتَّتْ ... ???? ... فَتشْ عَلَيْهَا تَجِدْهَا ... مِنَ النِّسَاءِ تَأَتَتْ ... ????آخر: ... لا تَنْكَحَنَّ عَجُوزًا إِنْ أَتَوْكَ بِهَا ... وَاخْلَعْ ثِيَابِكَ مِنْهَا مُمْعِنًا هَرَبَا ... ???? ... فَإِنْ أَتَوْكَ وَقَالُوا إِنَّهَا نَصَفُ ... فَإِنَّ أَحْسَنَ نِصْفِيْهَا الَّذِي ذَهَبَا ... ????آخر: ... إِذَا كُنْتَ ذَا اثْنَتَيْنِ فَاغْدُ مُحَارِبًا ... عَدُوَّيْنِ وَاحْذَرْ مِنْ ثَلاثَ ضَرَائِرِ ... ???? ... وَإِنْ هُنَّ أَبْدَيْنَ الْمَوَدَّةَ وَالرِّضَى ... فَكَمْ مِنْ حَقُودٍ غُيِّبَتْ فِي الظَّمَائِرِ ... ???? ... وَإِنْ كُنْتَ غِرًّا بِالزَّمَانِ وَأَهْلِهِ ... فَيَكْفِيكَ إِحْدَى الآنِسَاتِ الْغَرَائِرِ ... ›? ... ???? قال ?: «يا أيها النَّاس انهو نساءكم عن لبس الزينة والتبختر في المسجد فإن بني إسرائيل لم يلعنوا حتى لبس نساؤهم الزينة وتبخترن في المساجد» . رواه ابن ماجة وفي الْحَدِيث الآخر: «ما من صباح إِلا وينادي ملكَانَ ويل للرِجَال من النساء وويل للنساء من الرِّجَال» . رواه ابن ماجة والحاكم.

وروى مسلم عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن النَّبِيّ ? قَالَ: «إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ فَإِذَا أََرَى أَحَدُكُمُ من امْرَأَةً ما يعجبه فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ» . وَعَنْ ابن مسعود عَنِ النَّبِيِّ ? قَالَ: «إِنَّ الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ فَإِذَا خَرَجَتِ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ» . رواه الترمذي قَالَ أَبُو حمزة الخرساني: النظر رسول البلايا وسهام الْمَنَايَا. وَقَالَ بعض الحكماء من غلب هواه عقله افتضح ومن غض طرفه استراح. وَقَالَ بَعْضهمْ: لا شَيْء أشد من ترك الشهوة لأن تحريك الساكن أيسر من تسكين المتحرك. وَقَالَ ابن الحاج: قال صَاحِب الأنوار: احذروا الاغترار بالنساء وإن كن نساكًا عبادًا فإنهن يركن إلية كُلّ بلية ولا يستوحشن من كُلّ فتنة. شِعْرًا: ... إِنَّ النِّسَاءِ كَأَشْجَارٍ نَبَتْنَ مَعًا ... مِنْهُنَّ مُرٌّ وَبَعْضَ الْمُرِّ مَأْكُولُ ... ???? ???? ... إِنَّ النِّسَاءَ مَتَى يُنْهَيَنَ عَنْ خُلُقٍ ... فَإِنَّهُ وَاجِبٌ لا بُدَّ مَفْعُولُ ... ›? ???? ???? وَقَالَ بعض العارفين: ما أيس الشيطان من إنسان قط إِلا أتاه من قبل النساء لأن حبس النفس ممكن لأَهْل الكمال إِلا عن النساء لأنهن من ذوات الرِّجَال وشقائقهم ولسن غَيْرًا حتى يمكن التباعد عَنْهُ والتحرر عَنْهُ. شِعْرًا: ... لا تَأْمَنَنَّ عَلَى النِّسَاءِ وَلَوْ أَخَا ... مَا فِي الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ أَمِينُ ... ???? ???? ... يَا رَاعِي الذَّوْدِ لا تَرْحَلْ لِمَكْرَمَةٍ ... إِنَّ الْقِلاصَ إِذَا مَا غَابَ رَاعِيهَا ... ???? ???? ... لَمْ يَثْنِهَا أَحَدٌ دُونِ الْفُحُولِ فَلا ... تُهْمِلْ قَلُوصَكَ إِمَّا كُنْتَ تَحْمِيهَا ... ???? ???? ... وَلا تَلُمْهَا عَلَى وِرْدٍ وَقَدْ ظَمِئَتْ ... لَوْ شِئْتَ أَرْوَيْتَهَا إِذْ كُنْتَ سَاقِيهَا ... ???? ???? ... أَحْظَرْ مَشَارِبَهَا وَاحْفُفْ جَوَانِبَهَا ... وَارْمُمْ مَذَاهِبَهَا تَسْلَمْ قَوَاصِيهَا ... ???? ???? ... خَلَيْتَهَا لِفُحُولٍ غَيْرِ فَاخِرَةٍ ... فِي كُلِّ بَرِّيَّةٍ قَفْرٍ فَيَافِيهَا ... ›? ???? ????

والحث على حفظ النساء في البيوت وبعده قصيدة في الفرق بين مطيع الله ومطيع الشيطان متبع الشهوة

قال الله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} وما عداهن فاتباع هوى النفس فيه آية تكذيب الرحمن وعلامة الاسترسال مَعَ الشيطان وتصديقه فيما يزينه من البهتان. ولذا نرى الحازم اللبيب الكامل منقادًا مسترسل الزمام لتلك الناقصات دينًا وعقلاً مقهورًا تحت حكمهن قال جرير: ... إِنَّ الْعُيُونَ الَّتِي فِي طَرْفِهَا حَوَرُ قَتَلْنَنَا ثُمَّ لا يُحْيِينَ قَتْلانَا يَصْرَعْنَ ذَا اللُّبِّ حَتَّى لا حَرَاكَ بِهِ وَهُنَّ أَضْعَفُ خَلْقِ اللهِ إِنْسَانَا ... ›? فالنساء فتنة عظيمة للرِجَال فالَّذِي يقوى على قهر نَفْسهُ عن هواها أمام هذه الشهوة خوفًا من الله تَعَالَى ويلزمها وعدم التسخط عِنْدَ فادحات المصائب رضًى بما قدره الله وأجراه دَلِيل على كمال إيمانه بخلاف المتبع لهواه عادم الصبر والاحتساب وهَذَا هُوَ الميزان عِنْدَ الاختبار. قال بَعْضهمْ: ... وَعَبْدُ الْهَوَى يَمْتَازُ مِنْ عَبْدِ رَبِّهِ لَدَى شَهْوَةٍ أَوْ عِنْدَ صَدْمِ بَلِيَّةِ بَكِيرِ الْبَلا يَبْدُو مِنَ التِّبْرِ حُسْنُهُ وَيَبْدُو نُحَاسُ النَّحْسِ فِي كُلِّ مِحْنَةِ خَلا مِنْ حُلَى قَوْمٍ كَرَامٍ تَدَرَّعُوا دُرُوعَ الرِّضَا وَالصَّبْرِ فِي كُلِّ شِدَّةِ وَلاقَوْا طِعَانَ النَّفْسِ فِي مَعْرَكِ الْهَوَى وَرَاحُوا وَقَدْ أَرْوَوْا مَوَاضِي الأَسِنَّةِ

التحذير من الملاهي ومضراتها العظيمة

.. وَسَاقُوا جِيَادَ الْجِدِّ عِنْدَ اشْتِيَاقِهِمْ وَأَرْخَوْ لَهَا نَحْوَ الْعُلا لِلأَعِنَّةِ سَمَوْا فَاعْتَلَوْا بِيضَ الْمَعَالِي عَوَالِيًا بِبِيضِ الْعَوَالِي فِي الْقُصُورِ الْعَلِيَّةِ مَقامَاتَ قَوْمٍ أَتْعَبُوا النَّفْسَ فِي السُّرَى وَفازُوا بِمَا نَالُوهُ فَوْقَ الأَسِرَّةِ بِذُلٍّ أُنِيلُوا الْعِزَّ وَالْجُهْدِ رَاحَةً وَفَقْرٍ غِنَىً وَالْحُزْنِ كُلَّ مَسَرَّةِ وَطَيَّبَ عَيْشٍ بِالطَّوى ثُمَّ بِالظَّمَا شَرَابَ كُؤُوسِ حَالِيَاتٍ هَنِيَّةِ بِجَنَّاتِ عَدْنٍ فِي رِيَاضٍ أَنِيقَةٍ لَهُمْ ذُلِّلَتْ مِنْهَا قُطُوفٌ تَدَلَّتِ جَنَوْا مِنْ جَنَاهَا زَاكِيًا لا يَذُوقُهُ مِنَ الْخَلْقِ إِلا كُلُّ نَفْسٍ زَكِيَّةِ تَسَلَّتْ عَن الدُّنْيَا وَمَاتَتْ عَنِ الْهَوَى وَغَسَّلَهَا فِي مَوْتِهَا مَاءُ دَمْعَةِ وَصَلَّتْ عَلَيْهَا صَالِحَاتُ فِعَالِهَا وَقَدْ كُفِّنَتْ فِي بِيضِ أَثْوَابِ تَوْبَةِ وَنَالَتْ مُنَاهَا وَالسَّعَادَاتِ كُلَّهَا فَيَا سُعْدَ نَفْسٍ أَدْرَكَتْ مَا تَمَنَّتِ ... ›? إذا فهمت ذَلِكَ فاحرص كُلّ الحرص علي صيانة أهلك في هَذَا الزمن وأما البيوت فمتمردات على الرِّجَال لا يهدأن ليلاً ولا نهارًا من المشاغبات والتدخل فيما لا يعني حتى أن

الرجل ليكره دخول بيته لأنها من المؤذيات لا ينتهي ذَلِكَ الشغب في يوم ولا أسبوع ولا شهر ولا سنة. كل يوم تجدد محاضرات المشاغبة فقاتلهن الله ما للُؤْمهن مَعَ الرِّجَال حد تقف عنده أولئك اللئيمَاتَ وصار الرجل لا يقدر على منعها من الْخُرُوج إلى الأسواق ولا من الجلوس عِنْدَ التلفزيون والنظر إليه الَّذِي حطم الأَخْلاق والعقائد والأديان وقتل الغيرة الدينية والمرؤة وسبب الانحلال والتميع في العائلات وخدر أعصاب الأبوين وانتزع السلطة منهما وسبب نشوز الزوجة عن زوجها والزوج عن زوجته ودل النَّاس على طرق المكر والحيل والسلب والنهب والعدوان على النَّاس مَعَ ما فيه من احتقار المسلمين وخصوصًا علماؤهم وأبطالهم وتعَظِيم الكفرة والمنافقين والنظر إلى الأجنبيات ونزع الحياء والعفة والتشبه بأعداء الله والسير في ركابهم وضياع الأوقات فيما يضر ولا ينفع إلى غير ذَلِكَ من المضار التي فيما أظن تزيد على المائتين نسأل الله العافية في الدُّنْيَا والآخرة إنه القادر على ذَلِكَ. شِعْرًا: ... هِيَ الضّلَعُ الْعَوْجَاءُ لَسْتَ تُقِيمهَا ... إِلا إِنَّ تَقْوِيمَ الضُّلُوعِ انْكِسَارُهَا ... ???? ???? ... أَتَجْمَعُ ضُعْفًا وَاقْتِدَارًا عَلَى الْفَتَى ... أَلَيْسَ عَجِيبًا ضُعْفُهَا وَاقْتِدَارُهَا ... ???? ????آخر: ... إِذَا كُنْتَ بِالتِّلْفَازِ وَالْفِيدْيُو مُولَعًا ... وَعِنْدَكَ مِذْيَاعٌ وَكُورَةُ لاعِبِ ... ???? ???? ... وَتَشْرَبُ دخَّانًا وَتَحْلَقُ لِحْيَةً ... وَتَعْشِقُ فَنَّانًا وَصَوْتًا لِمُطْربِ ... ???? ???? ... فَأَنْتَ سُكَرْتِيرٌ لِمَنْ كَانَ فَاسِقًا ... يُفَدِيك إِنْ أَقْبَلْتَ بِالأُمِّ وَالأَبِ ... ???? ????آخر: ... أَلا قِفْ بِدَارِ الْمُتْرُّفَيْنَ وَقُلْ لَهُمْ ... أَلا أَيْنَ أَرْبَابُ الْمَدَائِنِ وَالْقُرَى ... ???? ???? ... وَأَيْنَ الْمُلُوكُ النَّاعِمُونَ بِغَبْطَةٍ ... وَمَنْ عَانَقَ الْبِيضَ الرَّعَابِيبَ كَالدُّمَى ... ???? ???? ... فَلَوْ نَطَقَتْ دَارٌ لَقَالَتْ دِيَارُهُمْ ... لَكَ الْخَيْرُ صَارُوا لِلتُّرَابِ وَلِلْبَلَى ... ???? ???? ... وَأَفْنَاهُمْ كَرُّ النَّهَارَ وَلَيْلُهُ ... ... فَلَمْ يَبْقَ لِلأَيَّامِ كَهْلُ وَلا فَتَى ... ???? ????آخر: ... بِضَاعَةُ الْعُمُرِ الْمَاضِي يَفُوزُ بِهَا ... مَنْ يَقْطَعُ الدَّهْرَ فِي عَزْمٍ وَتَشْمِيرِ ... ???? ???? ... يَا نَفْسُ ضَيَّعْتِ رَأْسَ الْمَالِ فِي غَلَطٍ ... فَمَرَّ عُمْرُكِ فِي سَهْوٍ وَتَبْذِيرِ ... ???? ????

المعاشرة بين الزوجين وبيان عظم حق الزوج والأدلة علي ذلك

.. يَا ضَيْعَتَ الْعُمْرِ مَاضٍ مَا انْتَفَعْتُ بِهِ ... وَلا حَصَلْتُ عَلَى الْبَاقِي بِتَدْبِيرِ ... ???? ????آخر: ... وَلا تُرْجَ فِعْلَ الصَّالِحَاتٍ إِلَى غَدَ ... لَعَلَّ غَدًا يَأْتِي وَأَنْتَ فَقِيدُ ... ›? ???? ???? آخر: ... وَلَيْسَ جَلِيلاً فَقْدُ مَالٍ وَرُزْؤُهُ ... وَلَكِنَّ فَقْدَ الدِّينِ فَهُوَ جَلِيلُ ... ???? ????آخر: ... وَلَوْ أَنَّ عَيْنًا سَاعَدَتْ لَتَوَكَّفَتْ ... سَحَائِبُهَا بِالدَّمْعِِ دِيمًا وَهُطَّلا ... ???? ???? ... وَلَكِنَّهَا مِنْ قَسْوَة الْقَلْبِ أَقْحَطَتْ ... فَيَا ضَيْعَتَ اَلأَعْمَارِ تَمْشِي سَبَهْلَلا ... ???? ????آخر: ... فَيَا أَسَفَا يَا حَسْرَتَا يَا مُصِيبَتَا ... وَيَا ضَيْعَةِ الأَعْمَارِ عِنْدَ الْمَنَاكِرِ ... ???? ????آخر: ... وَكُلُّ كَسْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَجْبرُهُ ... وَمَا لِكَسْرِ قَنَاةِ الدِّينِ جُبْرَانُ ... ›? ???? ???? اللَّهُمَّ نور قلوبنا بنور الإِيمَان واحمنا من الفتن والطغيان وآتنا في الدُّنْيَا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلمين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّ الله عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) اعْلَمْ وفقنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المسلمين لما يحبه الله ويرضاه أنه يلزم كُلّ واحد من الزوجين معاشرة الآخر بالمعروف من الصحبة الجميلة، وكف الأذى، وأن لا يمطله بحقه، مَعَ قدرته، ولا بظهر الكراهة لبذله، بل ببشر وطلاقة، وطيب نفس، ولا يتبعه منةً، ولا أذى لأن هَذَا من المعروف المأمور به. لقوله تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وقوله: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} قال ابن عباس: إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي، لأن الله تَعَالَى يَقُولُ: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} . وحق الزوج على المرأة أعظم من حقها عَلَيْهِ، لقوله تَعَالَى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} . ولقوله ?: «لو كنت آمرًا أَحَدًا أن يسجد لأحد لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن لما جعل الله عَلَيْهمْ من الحق» . رواه أبو داود.

مما ينبغي للمرأة من الآداب نحو زوجها

وَقَالَ: «إِذَا بَاتَتِ الْمَرْأَةُ هَاجِرَةً ِفِرَاشِ زَوْجِهَا لَعَنَتْهَا الْمَلاَئِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ» . متفق عَلَيْهِ. وفي الصحيحين أن رسول الله ? قال: «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تأته لعنتها الملائكة حتى تصبح» . وفي لفظ: «فبات وَهُوَ عَلَيْهَا غَضْبَان، لعنتها الملائكة حتى تصبح» . ولفظ الصحيحين أيضًا: «إذا باتت المرأة هاجرة زوجها فتأبى عَلَيْهِ إِلا كَانَ الَّذِي في السماء ساخطًا عَلَيْهَا، حتى يرضى عَنْهَا زوجها» . وعن جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيّ ? قال: «ثلاثة لا يقبل الله لَهُمْ صلاة ولا ترفع لَهُمْ إلى السماء حسنة الْعَبْد الأبق حتى يرجع إلى مواليه فيضع يده في أيديهم والمرأة الساخط عَلَيْهَا زوجها حتى يرضى عَنْهَا، والسكران حتى يصحوا» . وَقَالَ ?: «لا تؤذي امرأة زوجها إِلا قَالَتْ زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله فإنما هُوَ عندك دخيل يوشك أن يفارقك» . رواه ابن ماجة والترمذي وَقَالَ: حديث حسن. وعن عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: سألت رسول الله ? أي النَّاس أعظم حقًا على المرأة؟ قال: «زوجها» . قُلْتُ: فأي النَّاس أعظم حقًا على الرجل؟ قال: «أمه» . رواه البزار والحاكم. وعن الحسن قال: حدثني من سمَعَ النَّبِيّ ? يَقُولُ: «أول ما تسأل عَنْهُ المرأة يوم القيامة، عن صلاتها وعن بعلها» . وعن ابن عباس أن امرأة من خثعم أتت رسول الله ? فقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ أخبرني ما حق الزوج على الزوجة، فإني امرأة أيم فإن استطعت وإِلا جلست أيما. قال: «إن حق الزوج على زوجته إن سألها نفسها وهي على ظهر قتب أن لا تمنعه نفسها.

ومن حقوق الزوج على زوجته أن لا تصوم تطوعًا إِلا بإذنه، فإن فعلت جاعت وعطشت ولا يقبل منها، ولا تخَرَجَ من بيتها إِلا بإذنه، فإن فعلت لعنتها ملائكة السماء وملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، حتى ترجع» . قَالَتْ: لا جرم ولا أتزوج أبدًا» . رواه الطبراني. ومِمَّا يدل على عظم حق الزوج، ما رواه البزار عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: وجاءت امرأة إلى رسول الله ? فقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ أَنَا وافدة النساء إليك، هَذَا الجهاد كتبه الله على الرِّجَال، فإن أصيبوا أجروا، وإن قتلوا كَانُوا أحياء عِنْدَ الله يرزقون. ونَحْنُ معشر النساء، نقوم عَلَيْهمْ فما لنا من ذَلِكَ، قال: فَقَالَ رسول الله ?: «بلغي من لقيت من النساء أن طاعة الزوج واعترافًا بحقه يعدل ذَلِكَ وقليل منكن من يفعله» . ومِمَّا يدل على عظم حق الزوج، حديث أبي سعيد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: أتى رجل بابنته إلى رسول الله ? فَقَالَ: ابنتي هذه أبت أن تتزوج فَقَالَ لها رسول الله ?: «أطيعي أباك» . فقَالَتْ: والَّذِي بعثك لا أتزوج حتى تخبرني ما حق الزوج على زوجته. قال: «حق الزوج على زوجته لو كانَتْ به قرحة فلحستها، أو تنثر منخراه صديدًا ودمًا ثُمَّ ابتلعته، ما أدت حقه» . قَالَتْ: والَّذِي بعثك بالحق لا أتزوج أبدًا. فَقَالَ النبي ?: «لا تنكحوهن إِلا بإذنهن» . رواه البزار وابن حبان في صحيحه. وقَالَتْ عمة حصين بن محصن وذكرت زوجها للنبي ? فَقَالَ: «انظري من أين أَنْتَ منه، فإنه جنتك ونارك» . أخرجه النسائي. وقَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: يا معشر النساء لو تعلمن بحق أزواجكن عليكن لجعلت المرأة منكن تمسح الغبار عن قدمي زوجها بخد وجهها. وَقَالَ ?: «نساؤكم من أَهْل الْجَنَّة الودود التي إذا أوذيت أو آذت أتت زوجها حتى تضع يدها في كفه فَتَقُول لا أذوق غمضًا حتى ترضى» .

وعن عَبْد اللهِ بن عمرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: قال رسول الله ?: «لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر زوجها وهي لا تستغني عَنْهُ» . وجَاءَ عَنْهُ ? أنه قال: «إذا خرجت المرأة من بيت زوجها لعنتها الملائكة حتى ترجع أو تتوب» . وعن زيد بن أرقم قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «المرأة لا تؤدي حق زوجها كله ولو سألها وهي على ظهر قتب لم تمنعه نفسها» . رواه الطبراني بإسناد جيد. وعن ابن عمرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: قال رسول ?: «اثنان لا تجاوز صلاتهما رؤوسهما عبد أبق من مواليه حتى يرجع وامرأة عصت زوجها حتى ترجع» . وعنه رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: سمعت رسول الله ? يَقُولُ: «إن المرأة إذا خرجت من بيتها وزوجها كاره لعَنْهَا كُلّ ملك في السماء وكل شَيْء مرت عَلَيْهِ، غير الجن والإنس، حتى ترجع» . رواه الطبراني في الأوسط. وعن طلق بن علي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رسول الله ? قال: «إذا دعا الرجل زوجته لحاجته فلتأته وإن كانَتْ على التنور» . رواه الترمذي وَقَالَ: حديث حسن والنسائي وابن حبان في صحيحه. وعن ابن أبي أوفى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: لما قدم معاذ بن جبل من الشام سجد للنبي ? فَقَالَ رسول الله ?: «ما هَذَا» ؟ قال: يَا رَسُولَ اللهِ قدمت الشام فوجدتهم يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم فأردت أن أفعل ذَلِكَ بك. قال: «فلا تفعل فإني لو أمرت أَحَدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها والَّذِي نفسي بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها» . رواه ابن ماجة وابن حبان في صحيحه.

وَقَالَ ?: «لو أمرت أَحَدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عَلَيْهَا ولا تجد حلاوة الإِيمَان حتى تؤدي حق زوجها ولو سألها نفسها وهي على ظهر قتب» . وَقَالَ ?: «لا يحل لامرأة تؤمن بِاللهِ أن تأذن في بيت زوجها وَهُوَ كاره ولا تخرج وَهُوَ كاره ولا تطيع فيه أَحَدًا ولا تعزل فراشه ولا تضربه فإن كَانَ هُوَ أظلم فلتأته حتى ترضيه فإن قبل منها فبها ونعمت وقبل الله عذرها وأفلح حُجتها ولا إثُمَّ عَلَيْهَا وإن هُوَ لم يرض فقَدْ أبلغت عِنْدَ الله عُذرها» . رواه الحاكم وَقَالَ: صحيح الإسناد. اللَّهُمَّ ارزقنا حبك وحب من يحبك وحب الْعَمَل الَّذِي يقربنا إلي حبك اللَّهُمَّ افتح لدعائنا باب القبول والإجابة وألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لامتثال أمرك وآتنا في الدُّنْيَا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المسلمين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) إذَا عُلِمَ ما سبق فالواجب على المرأة أن تطلب رضا زوجها وتجتنب سخطه ولا تمتنع منه متى أرادها وهي طاهرة وينبغي أن تقدر كأنها كمملوكة للزوج فلا تتصرف في نفسها ولا في ماله إِلا بإذنه. وتقدم حقه على حقها وحقوق أقاربه على حقوق أقاربها وتَكُون مستعدة لتمتعه بها بجَمِيع أسباب النظافة ولا تفتخر عَلَيْهِ ولا تتطاول عَلَيْهِ برفع صوتها كما تفعله ضعيفات الدين سخيفات العقول الملسنات الفاهرات اللاتي يحمل أزواجهن همًا عظيمًا إذا أراد دخول بيته خوفًا من شرورهن وألسنتهن وما أكثرهن في هَذَا الزمن.

ويجب عَلَيْهَا أيضًا دوام الحياء من زوجها وغض طرفها قدامه ولا تفعل قدامه ما يكرهها عنده ولا تسمعه ما ينغص عَلَيْهِ عيشه ويكدر خاطره وتطيعه إذا أمرها في غير معصية الله. وتسكت عند كلامه ولا تنازعه القول ولا تتدخل فيما لا يعنيها لئلا يحصل فراق وتبتعد عن كُلّ ما يسخطه وتَقُوم معه عِنْدَ خروجه. وتعرض نفسها عَلَيْهِ عِنْدَ النوم وتتجنب خيانته في غيبته وفي حضوره في فراشه وماله وبيته وتطيب رائحتها. وتتعاهد فمها بالسواك وبالمسك والطيب ودوام الزينة بحضرته وتتركها في غيبته وتحرص على كُلّ ما يسلكها عنده وتكرم أهله وأقاربه وترى القليل مِنْهُمْ كثيرًا وهَذَا إذا كَانَ مستقيمًا في أعماله وأخلاقه. ولَقَدْ أحسن القائل يخاطب زوجته: ... خُذِي الْعَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي وَلا تَنْطِقِي فِي سَوْرَتِي حِينَ أَغْضَبُ فَإِنِّي رَأَيْتُ الْحُبَّ فِي الصَّدْرِ وَالأَذَى إِذَا اجْتَمَعَا لَمْ يَلْبَثِ الْحُبُّ يَذْهَبُ ... ›? ... ... ... ومن حقوق الزوج على زوجته أن لا تألو جدهًا فيما يحببها إليه، قَالَتْ أسماء بنت خارجة الفزاري لابنتها عِنْدَ الزفاف: يا بنية إنك خرجت من العش الَّذِي درجت فيه فصرت إلى فراش لم تعرفيه وقرين لم تألفيه. فكوني له أرضًا يكن لك سماء وكوني له مهادًا يكن لك عمادًا وكوني له أمة يكن لك عبدًا لا تلحفي فيقلاك (المعني لا تلحي عَلَيْهِ فيبغضك) ولا

الوصية بالإحسان إلي الزوجة

تباعدي عَنْهُ فينساك إن دنا منك فاقْربي منه واحفظي أنفه وسمعه وعينه فلا يشم منك إِلا طيبًا ولا يسمَعَ إِلا حسنًا ولا ينظر إِلا جميلاً. وهكَذَا تَكُون المرأة المؤدبة الناجحة في امتلاك قلب زوجها لا كالتي إذ أتت لزوجها استقبلته بثياب المطبخ والملابس الوسخة شهباء الوجه غبراء الجلد شعثاء الشعر طويلة اللسان جاحدة الإحسان كأن زوجها عندها خادم حقير مضطر إليها لا تقيم له وزنًا ولا تبالي فيه ولا تهتم منه. ومن حقوق زوجها عَلَيْهَا أن تترك له وقتًا يتفرغ فيه لنفسه ولفكره فإن كَانَ عابدًا تركت له وقتًا تطمئن فيه نَفْسهُ إلى عبادة ربه بخشوع وخضوع وحضور وقلب وإن كَانَ عالمًا تركت له وقتًا يطالع فيه ويقَرَأَ الكتب أو يؤلف أو يفكر. فاللذة التي يجدها العَالِم في قراءته والعابد في خلوته لا تعدلها لذة في الحياة قال بعض العلماء: (لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نَحْنُ فيه لجالدون عَلَيْهِ بالسيوف) . وقَدْ لا تشعر المرأة بهذه اللذة فلا تفهم لها معنى وقَدْ تتألم منها على معنى الكره والبعد عَنْهَا وهي في ذَلِكَ مُتجنية على زوجها ونفسها وَرُبَّمَا جنت على نفسها. اللَّهُمَّ طهر قلوبنا من النفاق وعملنا من الرياء وألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة اللَّهُمَّ إننا نسألك إيمانًا يباشر قلوبنا ويقينًا صادقًا حتى نعلم أنه لا يصيبنا إِلا ما كتبت لنا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع المسلمين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وإذا كانَتْ المرأة مأمورة بطاعة زوجها وبطلب رضاه فالزوج أيضاً مأمور

بالإحسان إليها واللطف بها والصبر على ما يبدو منها من سوء خلق وغيره وإيصالها حقها من النفقة. والكسوة والعشرة الجميلة لقوله تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} . ولقوله ?: «ألا وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خيراً فإنما هن عوان عندكم لَيْسَ تملكون منهن شَيْئًا غير ذَلِكَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ فإن فعلن فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ (أي ضربًا غير مبرح) فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا. ألا إن لكم على نسائكم حقًّا ولنسائكم عليكم حقًّا فحقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن» . وَقَالَ ?: «خيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي ما أكرم النساء إِلا كريم ولا أهانهن إِلا لئيم» . وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا وخياركم خياركم لنسائهم» . وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عَنها قالت: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «إن من أكمل الْمُؤْمِنِين إيمانًا أحسنهم خلقًا وألطفهم بأهله» . وَقَالَ ?: «إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، فَإِنَّ أقمتها كَسَرْتَهُا فدارها تعش بها» . رواه ابن حبان في صحيحه. وفي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاَهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ» . وفي رواية

لمُسْلِمٌ: «إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ لَنْ تَسْتَقِيمَ لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ فَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وفيها عِوَجٌ وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا وَكَسْرُهَا طَلاَقُهَا» . وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ? «لاَ يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ» رواه مسلم. ففي هَذَا الْحَدِيث إرشاد منه ? للزوج في معاشرة زوجته وهَذَا الإرشاد من أكبر الأسباب والدواعي إلى حسن العشرة واستدامتها فقَدْ نهى ? عن سوء العشرة. ومفهوم الْحَدِيث الحث على حسن العشرة وأمره ? الزوج أن ينظر إلى المحاسن والمساوئ ويجعل ما كره في مقابلة ما رضِيَ منها فإنه إذا تأمل بإنصاف الأَخْلاق الجميلة والأَخْلاق التي يكرهها تبين له في الغالب أنها أقل من الأَخْلاق الفاضلة بكثير. فإذا كَانَ صَاحِب إنصاف وعدل ورأى رجحان المحاسن على المساوئ غضّ عن المساوئ طرفه لاضمحلالها في المحاسن. واسمَعَ ما يلي روي أن رجلاً جَاءَ إلى أمير الْمُؤْمِنِين عُمَر بن الْخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يشكو زوجته من جهة سوء خلقها معه فوقف بباب عمر ينتظر خروجه فسمَعَ امرأة عمر تستطيل عَلَيْهِ بلسانها وتخاصمه وعمر ساكت لا يرد عَلَيْهَا فقنع الرجل وانصرف راجعًا قائلاً في نَفْسهُ: إذا كَانَ هَذَا حال أمير الْمُؤْمِنِين مَعَ شدته وصلابته وحزمه فَكَيْفَ حالي أَنَا مَعَ ضعفي. فخَرَجَ عمر قبل أن يبعد الرجل فرأى الرجل مدبرًا موليًا عن بابه. فناداه عمر وَقَالَ له: ما حاجتك يا رجل؟ فَقَالَ: يا أمير الْمُؤْمِنِين جئت أشكو

حث الرجل علي أن يتحمل مع زوجته ويدمح زلتها ويقيس بين المساوي والمحاسن ويعمل بالعدل أو يتفضل

إليك سوء خُلق زوجتي واستطالتها علي فَلَمَّا سمعت زوجتك كَذَلِكَ رجعت وقُلْتُ: إذا كَانَ هَذَا حال أمير الْمُؤْمِنِين مَعَ زوجته فَكَيْفَ حالي. فَقَالَ عمر: يا أخي إني احتملُها لحقوق لها علي إنها طباخة لطعامي خبازة لخبزي غسالة لثيابي مُرضعة لولدي ولَيْسَ ذَلِكَ كله بواجب عَلَيْهَا ويسكن بها قلبي عن الحرام فأنَا أحتملها لذَلِكَ. فَقَالَ الرجل: يا أمير الْمُؤْمِنِين وكَذَلِكَ زوجتي. قال عمر: فاحتملها يا أخي فإنما هِيَ مدة يسيرة. فَانْظُرْ إلى هَذَا الإنصاف لأمير الْمُؤْمِنِين فإنه لاحظ الأَخْلاق الجميلة والمحاسن وغض عن المساوئ بالكلية وتناساها. ثُمَّ انظر كيف أثرت سيرته على هَذَا الرجل الَّذِي جَاءَ إليه ليشكو امرأته وَرَجَعَ قانعًا راضيًا. وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) ومن حقوق الزوجة على زوجها أن يغار عَلَيْهَا فلا يعرضها للشبهة ولا يتساهل معها في ما يؤذي الشرف والمرؤة ولا يعرضها لألسنة السُّوء والتساهل في هَذَا قبيح يعد من سَفْسَافِ الأَخْلاق لما يجره من الشقاء لها وللأسرة ولزوجها. وما زال النَّاس تتأثر سمعتهم وكرامتهم بسلوك الزوجات فمن أغضى عن زوجته وَهُوَ يرى ويسمَعَ أو أغضى عن بناته أو أخواته أو أي أنثى من قراباته فقَدْ أخَرَجَ نَفْسهُ من زمرة الرِّجَال الَّذِينَ لَهُمْ حرمة وشرف في النُّفُوس ومنزلة عِنْدَ الله على أنها إذا رأت منه تسامحًا ربما ازدادت توسعًا فيما همت به أو دخلت فيه.

فالمرأة شديدة التأثر بسلوك زوجها الديني فإن رأت منه حرصًا على التستر والعفة والنزاهة والعبادة اقتدت به وبادرت إلى ذَلِكَ استجابة لعاطفته وإرضاء لزوجها وإن رأت منه تشجيعًا على الإهمال والانفلات من أحكام الدين وأدب الأسرة لم تجد بُدًا آخر الأَمْر من أن تستجيب له وتفعل ما يرضيه. هَذَا في الغالب وقل أن تجد من تبتعد عَنْهُ إذا رأته غير مستقيم وَكَمْ من زوجات خرجن من بيوت آبائهن عفيفات قانتات يصمن أيام البيض ويقمن لصلاة الليل فما مكثن غير زمن يسير حتى انحرفن عن ذَلِكَ كله بتأثر الزوج وانحرافه وجهله وتوجيهاته الفاسدة وتعليمه لها بالقول والْفِعْل نسأل الله العافية. وأقل النَّاس إيمانًا وتوفيقًا وأبعدهم عن الأَخْلاق الفاضلة من أهدر المحاسن كُلّهَا ولو كانَتْ تربو بكثير على المساوئ. وجعل المساوئ نصب عينيه وَرُبَّمَا مددها وبسطها وطولها وألحق بها غيرها وكررها وأعادها وفسرها بظنونه السيئة وتأويلاته الفاسدة. وأضاف إليها من الكذب والبهت ما تستغيث منه الفضيلة كما هُوَ الواقع عِنْدَ كثير من أَهْل هَذَا العصر المظلم بالمعاصي والفتن والمنكرات والظلم. وبعض يلاحظ المحاسن والمساوئ ويوازن بينهما ويعامل الزوجة بما يرى أنه مقتضى كُلّ واحد منها وهَذَا منصف ولكن الكمال في الحالة الأولى وقَدْ حرمه ولَقَدْ أجاد القائل:

الواجب علي المرأة طاعة زوجها في غير معصية الله

.. إِذَا قِيسَ إِحْسَانَ امْرِئٍ بِإِسَاءَةٍ فَأَرْبَى عَلَيْهَا فَالإِسَاءَةُ تُغْفَرُ ... ›? ... ... ... وقَدْ ورد في فضل المرأة المطاوعة لزوجها أحاديث كثيرة نذكر بعضها إن شَاءَ الله من ذَلِكَ ما ورد عن أم سلمة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «أيما امرأة ماتت وزوجها عَنْهَا راض دخلت الْجَنَّة» . رواه ابن ماجة والترمذي وحسنه. وعن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «إذا صلت المرأة خمسها وحصنت فرجها وأطاعت بعلها دخلت من أي أبواب الْجَنَّة شاءت» . رواه ابن حبان في صحيحه. وروي عَنْهُ ? أنه قال: «يستغفر للمرأة المطيعة لزوجها الطير في الهواء والحيتان في الماء والملائكة في السماء والشمس والقمر ما دامت في رضا زوجها. «وأيما امرأة عصت زوجها فعَلَيْهَا لعنة الله والملائكة وَالنَّاس أجمعين وأيما امرأة كلحت في وجه زوجها فهي في سخط الله إلى أن تضاحكه وتسترضيه وأيما امرأة خرجت من دارها بغير إذن زوجها لعنتها الملائكة حتى ترجع» . تنبيه: المراد بطاعة المرأة لزوجها إنما هِيَ في حدود الشريعة قال ?: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» . فلو أمرها زوجها بمعصية كإتيانها في الدبر أو في المحيض فلا يجوز لها الموافقة ويحرم عَلَيْهَا ذَلِكَ. وَكَذَا لو أمرها بترك صيام رمضان أو حج البيت أو أمرها بترك الزَّكَاة فلا

ذكر بعض المشاكل التي تقع بين الزوجين والحث علي تجنبها

يجوز لها طاعته وَكَذَا لو أراد جماعها وهي حائض حرم عَلَيْهَا طاعته في ذَلِكَ وفي مثل هذه الأمور يفهمها الموفق. ... لِكُلِّ تَفَرُّقِ الدُّنْيَا اجْتِمَاعُ ... فَمَا بَعْدَ الْمَنُونِ مِن اجْتِمَاعِ ... ???? ???? ... فِرَاقُ فَاصِلٌ وَنَوىً شَطُونٌ ... وَشُغْلٌ لا يُلِبِّثُ لِلْوَدَاعِ ... ???? ???? ... وَكُلُّ أُخُوَّةٍ لا بُدَّ يَوْمًا ... وَإِنْ طَالَ الْوِصَالُ إِلَى انْقِطَاعِ ... ???? ???? ... وَإِنَّ مَتَاعَ ذِي الدُّنْيَا قَلِيلٌ ... فَمَا يُجْدِي الْقَلِيلُ مِنَ الْمَتَاعِ ... ›? ???? ???? اللَّهُمَّ نور قلوبنا بنور الإِيمَان وثبتها على قولك الثابت في الحياة الدُّنْيَا وفي الآخرة وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين وتوفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين يا أكرم الأكرمين ويا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) اعلم وفقنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المسلمين أنه يقع مشاكل كثيرة بين الزوجين للتنبيه عَلَيْهَا لِتُجْتَب من أسباب المشاكل العائلية سوء خلق أحد الزوجين وكونه يثور لأدني سبب ويغضب لأقل كلمة ولو كانَتْ خارجة سهوًا فكم ثارت في البيوت مشاكل من أسباب ضيق الصدر وسوء الخلق. وَكَمْ انهارت بيوت فتفرقوا من أجل ضيق الصدر والحمق من الزوج أو الزوجة والغالب أن الزوج أكثر تجنيًا من الزوجة فالمرأة تتحمل من الزوج غالبًا أكثر مِمَّا يتحمل زوجها منها لغروره هَذَا في الزمن الأول أما الآن فالنساء أكثرهن على العكس لأن المرأة في زمننا صار لها الكلام وسيطرت على الرِّجَال في الغالب بأسباب مخالطة الأجانب لأنهم يخضعون لهن ويقدمونهن في كُلّ شَيْء ولا يخرجون عن رأيهن أبدَا. ومن أسباب المشاكل العائلية سوء الظن من أحدهما وغضبه قبل التذكر والتثَبِّتْ فيقع النزاع وَرُبَّمَا حصل فراق ثُمَّ تبين الأَمْر خلاف الظن.

ومن أسباب المشاكل العائلية تدخل الزوج في الشئون البيتية أكثر مِمَّا تدعو الحاجة أو الضرورة إليه وَكَمْ من رجل فارغ من الْعَمَل يقف مَعَ زوجته في المطبخ ويعترض اعتراضات تافهة واقتراحات يريد بها التحدي والتعجيز وهَذَا تضيق زوجته بفضوله فما تلبث أن تنفجر وتثور ويقع الخصام واللجاج. ومن أسباب المشاكل سوء فهم كُلّ من الزوجين لطباع الآخر فقَدْ يكون الزوج حاد المزاج شديد الإحساس يتأثر لأقل الأَشْيَاءِ التي يراها مخالفة لذوقه فلا تراعي زوجته فيه هَذَا فمثلاً تتركه وَهُوَ يوجه إليها الكلام وتمزح والمقام يقتضي الجد وتضحك وَهُوَ غَضْبَان ويتكلم بالكلمة. فتقابله بعشرين كلمة فقل أن تطول المدة قبل الانفجار وقَدْ يجبرها على ما تكره لبسه أو يسكنها بما لا يصلح لمثلها فما تلبث الزوجة أن تحس بضيق الصدر والانقباض ثُمَّ ينقلب الانقباض إلى تبرم ثُمَّ يؤدي إلي الشقاق لأقل سبب وَرُبَّمَا أمرها والعياذ بِاللهِ بقص رأسها أو على أن تحضر عِنْدَ الملاهي. ومن الأسباب التدخل فيما لا يعني إما منها أو منه وأكثر المشاكل تقع من هَذَا السبب ولهَذَا في الْحَدِيث «من حسن إسلام المرء تركه ما يعنيه» . ومن الأسباب عدم رضا أحدهما بالآخر رضًى صحيح وقبول وانقياد عِنْدَ عقَدْ النكاح بل إكراه أو مجاملة فهَذَا لا يلبث إِلا زمنٌ يسير ثُمَّ يقع الخصام والفراق والدعاوي والمطالبات. ومن الأسباب تدخل أحد الأبوين بين الزوج والزوجة فتقع المشاكل

وبعد ذلك قصيدة

بينهما ويطول النزاع وقَدْ تقع الفرقة من ذَلِكَ السبب. ومن الأسباب خروج المرأة من بيتها من غير إذن زوجها وقَدْ كثر هَذَا في زمننا بسبب مخالطة الأجانب أبعدهم الله عنا. ومن الأسباب خلو الزوجة مَعَ أقارب الزوج الَّذِينَ ليسوا محارم لها ولهَذَا قال ?: «الحمُو الموت» . ومن الأسباب إذا كَانَ له زوجتان فأكثر ميله إلى إحدى الزوجات فتجد بعض من عنده أكثر من زوجة يحرص على أن يجعل مواعيد الدعوة لطعام أو غيره في ليلة التي يكرهها أو أقل محبة من الأخرى ويأتي في ليلة التي يحبها من حين يصلي العشاء إن كَانَ ممن يشهدون صلاة الجماعة، وبَعْضهمْ يأتي راجحة المحبة في ليلة المرجوحة بغير رضاها والعياذ بِاللهِ. وأما العادل فينظر إلى الساعة ويضع قرعة للدعوة فأيتهن خرجت في ليلتها عمل بذَلِكَ، هذه هِيَ معظم ما يحصل به المشاكل بين الزوجين فينبغي للإنسان أن يلاحظها ويجعلها علي باله دائمًا ليتجنبها وإذا كَانَ الرجل أكمل عقلاً منها فعَلَيْهِ أن يدمح الزالات البسيطة لتدوم العشرة وتسود المحبة وعَلَيْهَا هِيَ أيضًا أن تحرص كُلّ الحرص على طاعته في غير معصية الله. شِعْرًا: ... إِذَا رَفَعَ الإلهُ مَكَانَ شَخْصٍ ... وَتَهْوَى أَنْ تَكُونَ لَهُ مُسَاعِدْ ... ???? ???? ... أَنِلْهُ مَكَانَ رُتْبَتِهِ تَجِدْهُ ... يُنِيلُكَ إِنْ دَنَوْتَ وَإِنْ تَبَاعَدْ ... ???? ???? ... وَلا تَقُلِ الَّذِي تَدْرِيهِ فِيهِ ... تَكُنْ رَجُلاً عَنِ الْحُسْنَى تَقَاعَدْ ... ???? ???? ... فَكَمْ فِي الْعُرْسِ أَبْهَى مِنْ عَرُوسٍ ... وَلَكِنْ لِلْعَرُوسِ اللهِ سَاعَدْ ... ???? ????آخر: ... أَلا يَا غَوَانِي مَنْ أَرَادَتْ سَعَادَةً ... وَتُوقَى عَذَابًا بِالنِّسَا صَارَ مُحْدِقَا ... ›? ???? ????

.. فَأَكْثَرُ أَهْلُ النَّارِ هُمْ حَقِيقَةً رَوَيْنَا حَدِيثًا فِيهِ صِدْقًا مُصَدَّقَا تََُخِّلي التَّبَاهِي تُبْدلُ اللَّهْوَ بِالْبُكَا وَتَبْذُلُ كُلَّ الْجُهْدِ بِالزُّهْدِ وَالتُّقَى وَتَعْتَاضُ عَنْ لِينٍ خُشُونَةً وَعَنْ يَابِسٍ فِي الدِّينِ أَخْضَرَ مُورِقَا رَعَى اللهُ نِسْوَنًا تَبِيتُ قَوَاتِنًا وَيُصْبِحُ مِنْهَا الْقَلْبُ بِالْخَوْفِ مُحْرِقَا تَظِلُّ عَنْ الْمَرْعَى الْخَصِيبِ صَوَائِمًا وَيُمْسِي سَمِينُ الْبَطْنِ بِالظَّهْرِ مُلْصَقَا تَرَى بَيْنَ عَيْنٍ وَالسُّهَادِ تَوَاصًلاً وَبَيْنَ الْكَرَى وَالْعَيْنِ مِنْهَا تَفَرُّقَا وَبَيْنَ مِعَاءٍ وَالْغِذَاءِ تَقَاطُعًا وَبَيْنَ خُلُوفِ الْمِسْكِ وَالثَّغْرِ مُلْتَقَى تَرَى نَاحِلاتٍ قَارِئَاتٍ مَصَاحِفًا وَلُؤْلُؤُ بَحْرِ الدُّرِّ فِي الْوَرْدِ مُشْرِقَا فَدَتْهَا مِن الآفَاتِ كُلُّ نُفُوسِ مَنْ يُخَالِفُهَا فِي الْوَصْفِ غَرْبًا وَمَشْرِقَا خَلِيلِي إِنَّ الْمَوْتَ لا شَكَّ نَازِلٌ وَبَيْنَ الأَحِبَّا لا يَزَالُ مُفَرِّقَا ... ›? ... ... ...

ذكر بعض أحوال يوم القيامة

.. فَجُدَّا لِدَارٍ لا يَزُولُ نَعِيمُهَا بِهَا الْحُسْنُ وَاللَّذَاتُ وَالْمُلْكُ وَالْبَقَا وَلُقْيَا حِسَانٍ نَاعِمَاتٍ مُنَعَّمٌ بِهِنَّ سَعِيدٌ سَعْدَ ذَلِكَ مَنْ لَقَا كَوَاعِبَ أَتْرَابٍ زَهَتْ فِي خِيَامِهَا بِظِلٍّ نَعِيمٍ قَطُّ مَا مَسَّهَا شَقَا كَدُرٍّ وَيَاقُوتٍ وَبَيْض نَعَامَةٍ كَشَاهَا الْبَهَا وَالنُّورُ وَالْحُسْنُ رَوْنَقَا تُغَنِّي بِمَا لَمْ تَسْمَع الْخَلْقُ مِثْلَهُ وَقَدْ حَبَّرَتْ صَوْتًا رَخِيمًا مُشَوَّقَا غِنَاهُنَّ نَحْنُ الْخَالِدَاتُ فَقَطُّ مَا نَبِيدُ وَنَحْنُ النَّاعِمَاتُ فَلا شَقَا وَلا سَخَطٌ وَالرَّاضِيَاتُ بِنَا الْمُنَى فَطُوبَى لِمَنْ كُنَّا لَهُ مِنْ أُولِي التُّقَى ... ›? وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وسلم. فَصْلٌ (في ذِكْرِ بَعْضِ أَحْوالِ يَوْمِ القِيَامَةِ) (والرَّدِّ عَلَى مَنْ َأَنْكَرَ يَوْمَ القِيَامَةِ) عباد الله قَدْ سبق ذكر الموت وأحوال الميت في سكراته وفتنة القبر وسؤال مُنكر ونكير وعذاب القبر ونعيمه وخطر من كَانَ مسخوطًا عَلَيْهِ وأعظم من ذَلِكَ الأخطار التي بين يديه من نفخ الصور والبعث والنشور والعرض على الجبار والسؤال عن الدقيق والجليل ونصب الميزان لمعرفة المقادير.

ثُمَّ جواز الصراط مَعَ دقته وحدته ثُمَّ انتظار النداء عِنْدَ فصل الِقَضَاءِ إما بالإسعاد وإما بالأشقاء فهذه أحوال وأهوال لا بد من معرفتها ثُمَّ الإِيمَان بها على سبيل الجزم والتصديق ثُمَّ تطويل الفكر في ذَلِكَ الْيَوْم الَّذِي مقداره خمسون ألف سنة. كما جَاءَ في اْلكِتَاب والسنة يجمَعَ الله فيه الأولين والآخرين في صعيد واحد يُسمعهم الداعي وينفذهُم البصر لا يغيب منهم أحد وتدنو مِنْهُمْ الشمس ويُلجمهم العرق هَذَا الْيَوْم هُوَ الْيَوْم الَّذِي تَذْهَلُ في كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ. في ذَلِكَ الْيَوْم يبلغ الأَمْر من الحيرة والدهشة والاضطراب والذهول أن تذهل المرضعة عن ولدها الَّذِي فمُهُ في ثديها وَهُوَ أعز شَيْء لديها فَكَيْفَ بالذهول عما سواه وتسقط الحوامل من الفزع والرعب والروع ما في بطونها من الأجنة قبل التمام وَتَرَى النَّاسَ كأنهم سُكَارَى من شدة الروع والفزع والخوف الَّذِي صير من رآهم يشبههم بالسكارى لذهاب عقولهم من شدة الخوف كما يذهب عقل السكران من الشراب {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} تَكُون الأرض كالسَّفِينَة في البحر عِنْدَ اضطراب الأمواج تكفأ بأهلها. فيميد النَّاس على ظهرها ويتساقطون من شدة الأَمْر وبلوغه أقصى الغايات ولهَذَا أذهل العقول وأذهب التمييز والفكر والصحو إنه يوم القيامة {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا} .

مشهد من مشاهد يوم القيامة ويليه موعظة

إنها لهزة عنيفة للقُلُوب الغافلة حيث ترجف الأرض الثابتة ارتجافًا وتزلزل زلزالا وتنفض ما في جوفها وتخَرَجَ ما يثقلها من أجساد ونقود وغيرها مِمَّا حملته طويلاً وَهُوَ مشهد يهزُ كُلّ شَيْء ثابت والأرض تهتز والسماء تمور. إنه لمشهد مجرد تصوره، يخلع القُلُوب يري الإِنْسَان ما لا يعهد ويواجه ما لا يدرك ويشهد ما لا يملك الصبر أمامه ولا السكوت عَنْهُ {وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا} ما الَّذِي يزلزلها هكَذَا ويرجها رجًا. وكأنه من شدة ما نزل يتمايل علي ظهر الأرض ويتشبث ويحاول أن يمسك بشَيْء لعله يثَبِّتْ لأن كُلّ ما حوله يمور مورًا شديدًا قَدْ امتلأ من الرعب والفزع والدهشة والعجب. يرى الجبال وهي تسير وإذا الجبال سيرت، هذه الجبال وقَدْ نسفت وبست وراءها ذرات في الهواء {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً} {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً} هذه تصرح وتشير إلي حدث عَظِيم تتزلزل منه الجبال وتذهب هباء يتلاشى ثباتها ورسوخها واستقرارها وتماسكها والإِنْسَان ينظر ولا يكاد يلتقط أنفاسه {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} . هنا يشاهد ويواجه الحشر والحساب والوزن والجزاء ويقف جبريل عَلَيْهِ السَّلام والملائكة صفًا بين يدي الرحمن {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً بين يدي الرحمن {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ

النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ * يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} ، {وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} . وموقف هؤلاء المقربين خاشعين خاضعين لعظمة الله، {وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} ، {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} . موقفهم هكَذَا صامتين لا يتكلمون إِلا بإذن من الرحمن يلقي في النفس الرهبة والرعب والفزع من ذَلِكَ الْيَوْم العَظِيم الَّذِي ينكشف فيه كُلّ مستور ويعلم فيه كُلّ مجهول. وتقف فيه النفس أمام ما أحضرت من الرصيد والزَادَ في موقف الفصل والحساب {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ} {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} ، {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} ، {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} . في ذَلِكَ الْيَوْم يكون التغير العَظِيم الشامل للمعهودات السماوات والأرض الشمس مُكورة والنجوم منكدرة والسماء مُنشقة والوحوش النافرة محشورة والأنعام والطيور والعشار مُعطلة. {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} {إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَت} {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلاً} {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} . هذه الآيات وأمثالها تشير إلى ذلك الحادث الهائل في الكون كله ولا يعلم حقيقته إِلا الله إنه حادثٌ عَظِيم ترجُف الأرض منه وتخاف وتنهار فَكَيْفَ

بالخلق الضعاف المهازيل الَّذِينَ تهزهم الصواعق هزًا وتخلع قُلُوبهمْ خلعًا {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً * السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ} {يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً} وفي وسط هَذَا الرعب والخوف والقلق والفزع والذهول والانقلاب يتساءل الإِنْسَان المذعور أين المفر ويدو ذَلِكَ في سؤاله وكأنما ينظر في كُلّ اتجاه فإذا هُوَ مسدود دونه مأخوذ عَلَيْهِ ولا ملجأ ولا محيص ولا منفذ ولا وقاية من قهر الله وأخذه، والرجعة إليه والمصير والمستقر عنده {كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرض فَانفُذُوا} . ففي هَذَا الموقف الرهيب يتبين عجز الخلائق وضعفهم وكمال سلطان الله وقدرته ونفوذ مشيئته {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} إِنَّكُم في قَبْضَةً الله {مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} ، إنه ليوم عصيب وموقف رهيب {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرض إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} . فلا مجال لهرب أحد ولا نسيان لأحد فعين الله على كُلّ فرد وكل فرد يقوم وحيدًا لا يأنس بأحد فإذا هُوَ فريد وحيدٌ أمام الديان. {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} مشهد المرء يفر وينسلخ ويهرب من أقرب النَّاس إليه وألصقهم به أولئك الَّذِينَ تربطهم به وشائج وروابط لا تنفصم ولكن الصاخة والطامة تُمزَّق

هذه الروابط وتقطع الوشائج والصلات {فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ} . فالهول يفزع النفس ويقلقها ويفصلها من محيطها ويستبد بها استبدادًا فلكل نَفْسهُ وشأنه ولديه الكفاية من الهم الْخَاص به الَّذِي لا يدع له فضلة من وعي أو جهد {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} فها هِيَ ذي الساعة التي يغفل عَنْهَا الغافلون ويلهوا عَنْهَا اللاهْوَن وَيَسْتَعْجِلُ بِهَا المستعجلون {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ * وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ * وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الْآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} . وهؤلاء المجرمون حائرين يائسين لا أمل في النجاة ولا رجَاءَ ولا خلاص بل قَدْ أيقنوا في العطب {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً} {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} . هنا يعترفون بالخطيئة ويقرون بالحق الَّذِي جحدوه بالدُّنْيَا ويعلنون اليقين بما شكوا فيه ويطلبون العودة إلى الدُّنْيَا لإصلاح ما فات في الدُّنْيَا ومنظرهم إذ ذاك مُفزعٌ مخيفٌ وهم ناكسوا الرؤوس خجلاً وخزيًا. فالأَمْر أمر فظيع والحال مزعجة أقومًا حاسرين مكروبين وسؤال غيرُ

مجاب لفوات وَقْت الإمهال {وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ} . فيا عباد الله انتبهوا من رقدتكم واستدركوا بقية أعماركم واحذروا الانهماك في دار الغرور فالويل لكم إن أدرككم الموت وأنتم على هذه الحالة، زينتم الفُلل والقصور ونسيتم القبور، اذكروا القبر وظلمته ووحشته والموت وسكرته والميزان وخفته أو رجحته والكِتَاب وأخذته والصراط ودقته، والموت، وسكرة في سكرة وحيرة في حيرة وجذبة يا لها من جذبة وكربة يا لها من كربة فالمسكين يكابد غُصص المنون داهش العقل كالمحزون. فالله الله عباد الله أفيقوا من سكراتكم وانتبهوا من نوماتكم واستيقظوا من غفلاتكم قبل مفاجأة المنية وحلول الرزية ووقوع البلية حيث لا مال ولا ولد نافع ولا حميم شافع ولا فرح واقع ولا رجَاءَ طامَعَ ولا حسنة تُزادُ ولا سيئة تُحذف ولا حياة تعاد ويزودك أحبابك بالحزن عَلَيْكَ والبُكَاء فلا عثرة تُقال ولا رجعة تُنال. شِعْرًا: ... أَلا إِنَّ أَيَّامَ الْحَيَاةِ مَرَاحِلُ طَرِيق الْفَتَى مِنْهَا إِلَى الْمَوْتِ سَاحِلُ يُسَرُّ بِمَا يَمْضِي لِمَا هُوَ آمِلٌ وَيَأْتِي الرَّدَى مِنْ دُونِ مَا هُوَ أَمِلُ وَمَا يَوْمُهُ إِلا غَرِيمٌ مُحْكَّمٌ إِذَا مَا اقْتَضَاهُ نَفْسَهُ لا يُمَاطِلُ ... ›?

رد علي البعث والأدلة علي ذلك

.. عَجِبْتُ لِمَنْ يَبْغِي السَّلامَةَ جَاهِدًا وَمَرُّ اللَّيَالِي كُلُّهُنَّ غَوَائِلُ وَنَحْنُ بَنُو الأَيَّامِ نَظْلِمْ نُفُوسَنَا وَنَرْجِعُ وَهِيَ الْقَاتِلاتُ الثَّوَاكِلُ ... ›? ... ... ... اللَّهُمَّ أقم علم الجهاد ووفقنا لسلوك طَرِيق الحق والرشاد، وأقمَعَ الكفر والزيغ والشر والفساد، وانصر دينك وانصر من نصره من العباد، وثَبِّتْ محبتك في قلوبنا وقوها، يا كريم يا جواد، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلمين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وتفكر في حالتهم في المحشر تجد مشهد مكروب ذليل يثير الفزع والخوف {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} . هذه أبصارهم لا تطرف من الهول الَّذِي فوجئوا به يَقُولُونَ يَا ويلنا وَهُوَ تفجع وتوجع المفجوء الَّذِي تنكشف له الحَقِيقَة المروعة بغتة فيذهل ويشخص بصره فلا يطرف ويدعو بالويل والهلاك ويعترف ويندم ولكن بعد فوات الأوان. إنها مشاهد يوم القيامة وما يجري فيه من تغيرات كونية ومن اضطرابات نفسية ومن حيرة وتحسر في مواجهة الأحداث وتحسر في مواجهة الأحداث الغالبة حيث يتجلى

الهول في صميم الكون وفي اغترار النفس وهي تروغ من هنا ومن هناك. {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ * يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} . وكَذَلِكَ خروجهم من القبور ينبئ أنهم في كرب وشدة وأنهم أذلاء غير متمكنين من الاستعصاء على الداعي إذ هم يهرولون مقهورين مَعَ خشوع أبصارهم وذلتها لهول ما تحققوا من الْعَذَاب. قَدْ ملك القلق والخوف قُلُوبهمْ واستولى على أفئدتهم وسكن حركاتهم وقطع أصواتهم تعلو وجوههم القترة لما أصابهم من الكآبة والحزن والهم العَظِيم الَّذِي لا يرجي له فرج {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} {تَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ} {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} . إن هؤلاء الظالمين الطغاة كَانُوا في الدُّنْيَا متكبرين فناسب أن يكون الذل والصغار هُوَ مظهرهم البارز يوم القيامة الجزاء على الأعمال فعِنْدَ ما يشاهدون الحقائق ويرون الْعَذَاب تتهاوى كبرياؤهم وعظمتهم ويتساءلون في ذل وانكسار وخوف {هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ} . في هذه العبارة التي يفهم منها اليأس مَعَ التلهف والانهيار مَعَ التطلع إلى أي بارقة للخلاص ويعرضون على النار خاشعين لا من ورع ولا تقوى ولا من حياء وخجل ولكن من الذل والهوان منكسي أعينهم من الذل والعار ينظرون من طرف خفي.

إنه لمنظر وَمَرْأً فظيعًا صعبًا شنيعًا مجرد تصوره يزعج ويقلق حيث يظهر منه الندم العَظِيم والحزن الطويل والأسف الشديد على ما سلف مِنْهُمْ من الإهمال والتفريط والتضييع الَّذِي لا يمكن تلافيه. فيا أيها الغَافِل الساهي المهمل وكلنا كَذَلِكَ انتبه ومثل نفسك في هَذَا الْيَوْم العَظِيم الجامَعَ للأولين والآخرين فيا لعظم يوم يوجه السؤال فيه لمن قال الله جلا وعلا في حقهم: {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ} {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} . في ذَلِكَ الْيَوْم العصيب ينادون الخلائق واحدًا وَاحدًا يا فلان هَلُمَّ إلى العرض وعِنْدَ ذَلِكَ تنخلع القُلُوب وترتعد الفرائض وتضطرب الجوارح وتنبهت العقول وتتحير وييبس اللسان وتشخص الأبصار. فما ظنك بمن يؤخذ بناصيته ويقاد وفؤاده مضطرب ولبه طائر وفرائضه ترتعد وجوارحه تنتفض ولونه متغير ولِسَانه وشفتاه قَدْ نشف ما بهما من رطوبة وقَدْ عض على يديه ولم يأكل ولم يشرب ولم ينم ولم يسترح ولم يجلس ولم يركب. والعَالِم والجو عَلَيْهِ مظلم وضاقت عَلَيْهِ الأرض وصَارَت الدُّنْيَا أضيق من سم الخياط مملوء من الرعب والخجل من علام الغيوب والأولين والآخرين وأَهْل السماوات وأتى يتخطى رقاب النَّاس ويخترق الصفوف يقاد كما يقاد الفرس المجنوب وقَدْ رفع الخلائق إليه أبصارهم حتى انتهى به إلى عرش الرحمن فرموه من أيديهم.

وناداه الله سُبْحَانَهُ وتعالى فدنى بقلب محزون خائف وجل وطرف خاشع ذليل وفؤاده متحطم متكسر وأعطي كتابه الَّذِي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إِلا أحصاها. فكم من فاحشة نسيها فتذكرها وَكَمْ من ساعة قتلها عِنْدَ منكر وَكَمْ من ليلة أضاعها عِنْدَ ملهى وَكَمْ من فلوس أنفقها في المعاصي وَكَمْ من صلاة ضيعها عِنْدَ ملهى وَكَمْ من زكاة تهاون بها وَكَمْ من صيام في الكذب والغيبة خرقه وَكَمْ من أعراض انتهكها وجلود مزقها وَكَمْ من جيران تأذوا بمجاورته وَكَمْ من بريء قذفه بالزنا واللواط وَكَمْ من محصنة قذفها واتهمها وَكَمْ من مُحصنة حاولها للفساد وَكَمْ من مخالط له أوقعه في المعاصي وَكَمْ من أرحام قطعهم وَكَمْ من مسلم غشه وَكَمْ من ساعة قتلها فيما يُغضب الله حول المنكرات وَكَمْ من زكاة تناساها وَكَمْ من صلاة أضاعها وأسدها. وَكَمْ من حقوق لخلق الله نسيها أو تناسها ومن أسرار تسمعها لم يؤن له في ذَلِكَ وَكَمْ من محرم نظر إليه ومسلم جس عَلَيْهِ وأوقعه فأفزعه وأزعج أولاده وأحباءه وأثر به الفزع والهم إلى أن أباده وَكَمْ من رحلة إلى بلاد الكفر أقامها وأنفق فيها الأموال في المعاصي. وَكَمْ من أعداء لله جالسهم ومازحهم وشاركهم وولاهم وداهنهم وَكَمْ من أَوْلِيَاء لله عاداهم وانتهك أعراضهم وَكَمْ من كفار والاهم وصادقهم ومدحهم وَكَمْ من عمل بالرياء أفسده {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} . فليت شعري بأي قدم يقف بين يدي الله وبأي لسان يجيب وبأي قلب

يعقل ما يَقُولُ وبأي يد يتناول وبأي عين ينظر وبديع السماوات والأرض أمامه {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرض إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} . إذا فهمت ما سبق من أحوال يوم القيامة وأدلته فاعْلَمْ أن أكثر خلق الله لم يدخل الإِيمَان بالْيَوْم الأخر في قُلُوبهمْ ولم يتمكن من سويداء أفئدتهم. ويدل على ذَلِكَ استعداهم لبرد الشتاء وحر الصيف وتهاونهم بجهنم وزمهريرها وزقومها وحميمها وويلها وغساقها مَعَ ما يتبع ذَلِكَ من الشدائد والأهوال والكروب والقلاقل والمزعجات. ولو كَانُوا مصدقين ما كَانُوا بهذه الحال، اللسان يصدق والْعَمَل يكذب إذا سئلوا عن الْيَوْم الآخر نطقت ألسنتهم وغفلت عَنْهُ قُلُوبهمْ. ومن قدم له طعام وأخبر أنه مسموم فَقَالَ للذي أخبره صدقت فيه سم ثُمَّ مد يده يتناوله ليأكل كَانَ مصدقًا بلِسَانه ومكذبًا بفعله وتكذيب الْعَمَل أبلغ من تكذيب اللسان قال بَعْضهمْ: شِعْرًا: ... وَمُنْتَظِرٍ لِلْمَوْتِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ يَشِيدُ وَيَبْنِي دَائِمًا وَيُحَصِّنُ لَهُ حِينَ تَبْلُوهُ حَقِيقَةُ مُوقِنٌ وَأَعْمَالُهُ أَعْمَالُ مَنْ لَيْسَ يُوقِنُ عِيَانٌ كَإِنْكَارٍ وَكَالْجَهْلِ عِلْمُهُ بِمَذْهَبِهِ فِي كُلِّ مَا يَتُيَقَّنُ ... ›? آخر: ... بَادِرْ شَبَابَكَ أَنْ تَهْرَمَا ... وَصِحَّةَ جِسْمِكَ أَنْ تَسْقَمَا ... ???? ???? ... وَأَيَّامَ عَيْشِكَ قَبْلَ الْمَمَاتِ ... فَمَا قَصْرُ مَنْ عَاشَ أَنْ يَسْلَمَا ... ???? ???? ... وَوَقْتُ فَرَاغِكَ بَادِرْ بِهِ ... لَيَالِي شُغْلِكَ فِي بَعْضِ مَا ... ???? ????آخر: ... أَمِنْ بَعْدِ شَيْبٍ أَيُّهَا الرَّجُلُ الْكَهْلُ ... جَهِلتَ وَمِنْكَ الْيَوْمَ لا يَحْسُنُ الْجَهْلُ ... ›? ???? ????

.. تَحَكَّمَ شَيْبُ الرَّأْسِ فِيكَ وَإِنَّمَا ... تَمِيلُ إِلَى الدُّنْيَا وَيَخْدَعُكَ الْمَطْلُ ... ???? ???? ... دَعِ الْمَطْلَ وَالتَّسْوِيفَ إِنَّكَ مَيِّتٌ ... وَبَادِرْ بِجِدٍّ لا يُخَالِطُهُ هَزْلُ ... ???? ???? ... سَأَبْكِي زَمَانًا هَدَّنِي بِفُرَاقِهِ ... فَلَيْسَ لِقَلْبِي عَنْ تَذَكُّرِهِ شُغْلُ ... ???? ???? ... عَجِبْتُ لِقَلْبِي وَالْكَرَى إِذْ تَهَاجَرَا ... وَقَدْ كَانَ قَبْلَ الْيَوْمِ بَيْنَهُمَا وَصْلُ ... ???? ???? ... أَخَذْتُ لِنَفْسِي حَتْفَ نَفْسِي بِكَفِّهَا ... وَأَثْقَلْتُ ظَهْرِي مِنْ ذُنُوبٍ لَهَا ثِقْلُ ... ???? ???? ... وَبَارَزْتَ بِالْعِصْيَانِ رَبًّا مَهَيْمنًا ... لَهُ الْمَنُّ وَالإِحْسَانُ وَالْجُودُ وَالْفَضْلُ ... ???? ???? ... أَخَافُ وَأَرْجُو عَفْوَهُ وَعِقَابَهُ ... وَأَعْلَمُ حَقًّا أَنَّهُ حَكَمٌ عَدْلُ ... ›? ???? ???? (موعظة) عباد الله إن من عباد الله من إذا أنعم الله عَلَيْهِ بمال كثير كانَتْ الحال عنده فوضى فلا تضع زوجتك ولا بناته أيديهم في دقيق ولا جليل من أعمال البيت فيجيء لهن بخدامين وسواقين وطباخين الواحد مِنْهُمْ في طول النخلة في منتهى العافية ولا يبعد أن يكون من الشباب الَّذِينَ يعجبون النساء جمالاً وَرُبَّمَا خلو في النساء وصَاحِب البيت من زوج أو غيره لاه في أمور دنياه أو في عمله لا يفكر فيما تفكر فيه النساء ولا فيما يفكر فيه الخادم أو السائق وكأن نساءه في اعتقاده معصومَاتَ ولا يدري أنه ما خلا رجل بامرأة إِلا وثالثهما الشيطان وأن النساء حبائل الشيطان وأنهن من أضر ما على الرجل وأن لذة الرجل عندهن ولذاتهن عنده لا يخالف في ذَلِكَ أحد إِلا معتوه أو نحوه فإذا رأت المرأة شابًا ولا ثالث لهما فلا يبعد أن تدعوه لذَلِكَ فما موقف هَذَا المغفل أمام بديع السماوات والأرض الَّذِي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ولعل جواب هَذَا الجاهل أنه لا يدور في خلده أن امرأته تقدم على مثل هَذَا لأنها معصومة قولوا له أما سمعت بقصة امرأة العزيز اقرأها لعلك تأخذ حِذرك وتعلم أنه لا يسلم من فتنهن إِلا عباد الله المخلصين.

قولوا له تأمل الْقِصَّة لعلك تفهم أن الله جلا وعلا لم يذكرها في القرآن إِلا ليعتبر أولو الأبصار فيحترس الرِّجَال علي نسائهم من الخدم ونحوهم. إن امرأة العزيز كانَتْ ذات مركز عَظِيم في مصر وكَانَ يوسف عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام في بيتها كخادم لها ومَعَ ذَلِكَ لم تسأل عن شرفها وكرامتها ولا شرف زوجها بل داستهما بنعل الشهوة دوسًا ولم تتوقف في بذل كُلّ ما تستطيع من قوة وحيلة لإخضاع يوسف عَلَيْهِ السَّلام ولولا أن الله عصمه وصرف عَنْهُ السُّوء والفحشاء لوصلت إلى ما تريد قال تَعَالَى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} . والفتنة الثَّانِيَة أنك تجد آخر يأتي بخدامة ويتخَيْر القوية الجميلة وبيته الواسع مملوء من العزاب أولاد وإِخْوَان وَرُبَّمَا خلو بها وَهُوَ أيضًا ربما خلا بها وَرُبَّمَا تَكُون أجمل من زوجته أو أولاده فلا تهمه تلك الناحية التي يعرفها بعض النساء الفاسقات ويستبعد ذَلِكَ من نسائه وأنه من المحال عنده فتنبهوا يا عباد الله ولا تستخدموا الشباب ولا الشابات من النساء وإِلا فقَدْ عرضتم أنفسكم للفتن والمشاكل والعقوبات. واحذروا استخدام الكافرين والكافرات. فإن كَانَ لابد فاستخدموا الرِّجَال خارج البيوت واحذروا من اتصالهم بنسائكم وأما الخدامَاتَ فاحرصوا على كبيرة السن المتدنية غير الجميلة لتبتعدوا عن أسباب الشر والفساد وتطمئنوا على ما يأتيكم من أولاد أنهم من أصلابكم وإن أبيتم فالضَّرَر عائد عليكم دنيا وأخري. شِعْرًا: ... بَذَلْتُ لَهُمْ نُصْحِي بِمُنْعَرِجِ اللّوَا ... فَلَمْ يَسْتَبِينُوا الرُّشْدَءِ الأضُحَى الْغَدِ ... ???? ???? آخر: ... أَتَيْتُكَ رَاجِيًا يَا ذَا الْجَلالِ ... فَفَرِّجْ مَا تَرَى مِنْ سُوءِ حَالِي ... ???? ???? ... عَصَيْتُكَ سَيِّدِي وَيْلِي بِجَهْلِي ... وَعَيْبُ الذَّنْبِ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِي ... ???? ???? ... إِلَى مَنْ يَشْتَكِي الْمَمْلُوكُ إِلا ... إِلَى مَوْلاهُ يَا مَوْلَى الْمَوَالِي ... ???? ???? ... فَوَيْلِي لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي ... وَلا أَعْصِيكَ فِي ظُلَمِ اللَّيَالِي ... ›? ???? ????

.. وَهَا أَنَا ذَا عَبِيدُكَ عَبْدَ سُوء ... بِبَابِكَ وَاقِفٌ يَا ذَا الْجَلالِ ... ???? ???? ... فَإِنْ عَاقَبْتِ يَا رَبُّ فَإِنِّي ... مَحُقُ بِالْعَذَابِ وَبِالنِّكَالِ ... ???? ???? ... وَإِنْ تَعْفُو فَعَفْوُكَ أَرْتَجِيهِ ... وَيَحْسُنُ إِنْ عَفَوْتَ قَبِيحَ حَالِي ... ›? ???? ???? اللَّهُمَّ وفقنا لصالح الأعمال وأكفنا بحلالك عن حرامك وبِفَضْلِكَ عمن سواك إنك على كُلّ شَيْء قدير وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ وَسلم. (فَصْلٌ) وقسم من النَّاس والعياذ بِاللهِ أنكروا يوم القيامة بتاتًا مستبعدين ومستفهمين استفهام إنكار وتهكم {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} فأوضح جَلَّ وَعَلا وبين أن الَّذِي خلقهم وأنشأهم أول مرة قادر على إحيائهم بعد فنائهم. بل الإعادة أَهْوَن في نظر النَّاس وحدود قدرتهم من الإبداع فالَّذِي يعترف ويقر بأن الله تَعَالَى هُوَ الَّذِي بدأ الخلق يجب عَلَيْهِ ويتحتم أن يُيُسَلِّمَ بأن الله تَعَالَى قادر على الإعادة. وذكر جَلَّ وَعَلا البدأ دليلاً على الإعادة فَقَالَ: {وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً * أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} وذكر جلا وعلا في سورة الروم أن إعادة الخلق أَهْوَن من ابتدائه فَقَالَ جَلَّ وَعَلا {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .

ومن الأدلة العقلية الدالة على البعث دلالة قاطعة بمجرد نظر العاقل إليها يستدل بها استدلالاً لا يقبل الشك والشبهة بوقوع ما خبرت به الرسل من البعث خلق السماوات والأرض على عظمها فكل منصف يعلم بالبداهة الحسية أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق النَّاس في ابتدائهم وإعادتهم. وورد بعدة آيات الاستدلال بخلق السماوات والأرض على قدرة الله تَعَالَى على إحياء الموتى قال تَعَالَى {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} بهذه الآية أكد جَلَّ وَعَلا صحة البعث، المعنى أن ابتداء الخلق لم يعجز الله والإعادة أسهل من الابتداء والكل على الله هين {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، فلا مجال للشك في الإعادة عِنْدَ من يقر في الابتداء. وَقَالَ جلا وعلا مخبرًا عما قاله الكفار الَّذِينَ يستبعدون البعث ورادًا عَلَيْهمْ: {أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً * قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} وقَدْ أمر الله رسوله ? أن يجيبهم ويعرفهم قدرته على بعثه إياهم بعد مماتهم وإنشائه لَهُمْ كما كَانُوا قبل بلائهم خلقًا جديدًا على أي حال كَانُوا عظامًا أو رفاتًا أو حجارة أو حديدًا أو خلقًا مِمَّا يستبعد عندكم قبوله للحياة فإن الله على كُلّ شَيْء قدير، لا يعجزه إعادتكم مهما تحولتم وتمزقتم وتفرقتم {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ} . شِعْرًا: ... يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَوْ عَلِمْتَ بِهَوْلِهِ ... لَفَرَرْتَ مِنْ أَهْلٍ وَمِنْ أَوْطَانِ ... ???? ???? ... يَوْمَ تَشَقَّقَتِ السَّمَاءُ لِهَوْلِهِ ... وَتَشِيبُ مِنْهُ مَفَارِقُ الْوِلْدَانِ ... ›? ???? ????

وأخبر أنه عِنْدَمَا يقيم عَلَيْهمْ الحجة على البعث يقولون من يعيدنا أي من يعيدنا ونَحْنُ بهذه الحال: فقل تحقيقًا للحق وإزاحة للاستبعاد وإرشادًا إلى طَرِيق الاستدلال، الَّذِي يفعل ذَلِكَ هُوَ القدير العَظِيم الَّذِي لا يعجزه شَيْء في الأرض ولا في السماء. الَّذِي ذرأكم في الأرض أول مرة على غير مثال يحتذى ولا منهاج معين ينتحى وكنتم ترابًا لم يشُم رائحة الحياة ألَيْسَ الَّذِي يقدر علي ذَلِكَ يقدر على أن يجمَعَ ما تفرق ويفيض الحياة ويعيده كَمَا خَلَقْهْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بلى إنه سُبْحَانَهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. ثُمَّ بين سُبْحَانَهُ ما يفعلونه حين ما يسمعوا الجواب {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ} أي متى هَذَا البعث وفي أي وَقْت وحال يعيدنا خلقًا جديدًا كَمَا كنا أَوَّلَ مَرَّةٍ ومقصدهم من هَذَا السؤال استبعاد حصوله. وفي معنى هذه الآية قوله تَعَالَى حكاية عنهم {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} قال تَعَالَى {قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً} أي فاحذروا فإنه قريب منكم وسيأتي لا محالة وكل آت قريب وكل ما هُوَ محقق الحصول قريب. وإن طال الزمان في نظر العباد ولم يخبر به أَحَدًا لا ملكًا مقربًا ولا نبيًا مُرسلاً {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} أي يوم يدعوَكَمْ للبعث والنشور والحساب والجزاء فتستجيبون له من قبوركم بقدرته ودعائه إياكم وله الحمد في كُلّ حال وتظنون حين تقومون من قبوركم إن لبثتم إِلا قليلا في دار الدُّنْيَا وقوله {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ} .

ونحو هذه الآية قوله تَعَالَى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} وقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} وقوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} وقوله: {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً} . شِعْرًا: ... هُوَ الدَّهْرِ فَاصْبِرْ مَا عَلَى الدَّهْرِ مَعْتَبُ وَلَيْسَ لَنَا مِمَّا قَضَى اللهُ مَهْرَبُ وَلا بُدَّ مِنْ كَأْسِ الْحَمَامِ ضَرُورَةً وَمَنْ ذَا الَّذِي مِنْ كَأْسِهِ لَيْسَ يَشْرَبُ وَمَا يَعْمُرُ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةَ حَازِمٌ إِذَا كَانَ فِيهَا عَامِرُ الْعُمْرِ يَخْرَبُ وَإِنَّ عَلِيًّا ذَمَّهَا فِي كَلامِهِ وَطَلَّقَهَا وَالْجَاهِلُ الْغِرُّ يَخْطُبُ أَلا إِنَّ هَذَا الْكَوْنَ فِيهِ مَوَاعِظٌ لِمُتَّعِظٍ مِنْ ظُلْمَةِ الْقَبْرِ يَهْرَبُ فَكَمْ مِنْ عَظِيمِ الْبَأْسِ صَارَتْ عِظَامَهُ أَوَانٍ وَمِنْهَا الْمَاءُ يَا قَوْمُ يُشْرَبُ وَيُنْقَلُ مِنْ أَرْضٍ لأُخْرَى وَمَا دَرَى فَوَاهًا لَهُ بَعْدَ الْبِلَى يَتَغَرَّبُ ... ›? ... ... ... اللَّهُمَّ قومنا إذا اعوججنا وأعنا إذا استقمنا وكن لنا ولا تكن عَلَيْنَا وأحينا في الدُّنْيَا مؤمنين طائعين وتوفنا مسلمين مخلصين وَاجْعَلْنَا عِنْدَ السؤال

ثابتين وَاجْعَلْنَا ممن يأخذ كتابه باليمين وَاجْعَلْنَا يوم الفزع الأكبر من الآمنين ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) ومن توهمَاتَ المنكرين للبعث أن من يموت يضل رفاته في الأرض فتذهب صورته وصفاته فَكَيْفَ يرجع الله هذه الذوات والصفات وكيف يجمَعَ هذه الذرات المتفتتة من عظامهم وأثر هَذَا التوهم الفاسد يظهر في توهمهم أن علم الله غير محيط بكل صغير وكبير من أعداد الَّذِينَ يموتون من النَّاس وغير محيط بصفاتهم وأوصافهم وأعمالهم. وقَدْ ذكر الله جَلَّ وَعَلا مقالتهم الفاسدة التي تدل علي التوهم من توهماتهم قال تَعَالَى حكاية عنهم: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} وهؤلاء قاسوا قدرة الخالق الَّذِي بدأهم أول مرة على قدرة المخلوق العاجز. وشتان ما بين القدرتين {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ} . ثُمَّ زَادَ في النعي عَلَيْهمْ والإنكار لآرائهم بقوله: {بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ} أي تعدوا ذَلِكَ إلى الجحود بلقاء ربهم وذكر الله جَلَّ وَعَلا مقالتهم هذه في سورة سبأ وهم أتوا بها على وجه الاستهزاء والتهكم والتكذيب والاستبعاد والإنكار.

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي إنه يَقُولُ إذا أكلتكم الأرض وصرتم رفاتًا وعظامًا وقطعتكم السباع والطير ستحيون وتبعثون ثُمَّ تحاسبون عىي ما فرط منكم من صالح الْعَمَل وسيئه. وإن أمره دائر بين أمرين إما أن يكون مفتريًا علىآ الله وإما أن يكون مجنونًا فرد الله عَلَيْهمْ مقالتهم وأثَبِّتْ لَهُمْ ما هُوَ أشد وأنكى فَقَالَ: {بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} أي لَيْسَ الأَمْر كما زعموا ولا كما ذهبوا إليه. بل إن محمدًا ? صادق فيما أخبر به من البعث وهم في شقاء عذابٌ في حياتهم من داخل نفوسهم كفرٌ وشكوك وأوهام وفي الآخرة إذا بعثوا ذاقوا ألوان الْعَذَاب لأنهم مجرمون متمردون على الحق وهم في الضلال الْبَعِيد الدال على عدم استبعاد البعث وَهُوَ أنهم لو نظروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض فرأوا من قدرة الله فيهما ما يبهر العقول ومن عظمته ما يذهل العلماء الفحول ولكنهم كما قال تَعَالَى: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} وَقَالَ عما قاله نوح عَلَيْهِ السَّلام: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} . ... وَفِي الْكَوْنِ مِنْ سِرِّ الْوُجُودِ عَجَائِبٌ أَطَلَّ عَلَيْهَا الْعَارِفُونَ وَأَشْرَفُوا ... ›?

.. ... ... آخر: ... فَيَا عَجَبًا مِمَّنْ يُضِيعُ حَيَاتَهُ عَلَى حِفْظِ مَالٍ وَهُوَ لِلْغَيْرِ يَدْخَرُ وَمَنْ تُتَوَفَّى نَفْسُهُ كُلَّ لَيْلَةٍ وَتَرْجِعُ فِيهِ كَيْفَ لِلْبَعْثِ يُنْكِرُ بَلَى قَادِرٌ أَنْشَاهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ عَلَى رَدِّ رُوحٍ مِنْهُ فِي الْجِسْمِ أَقْدَرُ ... ›? آخر: ... تَأَمَّلْ سُطُورَ الْكَائِنَاتِ فَإِنَّهَا مِنَ الْمَلِكِ الأَعْلَى إِلَيْكَ رَسَائِلُ وَقَدْ كَانَ فِيهَا لَوْ تَأَمَّلْتَ خَطَّهَا أَلا كُلُّ شَيْء مَا خَلا اللهَ بَاطِلُ ... ›? ... ... ... وفي سورة ق ذكر الله تَعَالَى أنهم استبعدوا البعث وتعجبوا قال تَعَالَى حكاية عما قَالُوا: {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} . فعقول هؤلاء سخيفة حيث قاست قدرة من هُوَ على كُلّ شَيْء قدير وبكل شَيْء عليم الكامل من كُلّ وجه بقدرة الْعَبْد الفقير الضعيف العاجز مِنْ جَمِيعِ الوجوه الجاهل الَّذِي لا علم له. فَقَالَ جَلَّ وَعَلا مشيرًا إلى دَلِيل جواز البعث وقدرته عَلَيْهِ مؤكدًا علمه بجَمِيع الأَشْيَاءِ {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} حافظ لتفاصيل الأَشْيَاءِ كُلّهَا محفوظ عن التغيير والتبديل بكل ما يجري عَلَيْهمْ في حياتهم أو مماتهم.

بعد أن ذكر حال منكري البعث لفت أنظارهم إلى الدَلِيل الَّذِي يدحض كلامهم ألا وَهُوَ النظر في آياته الأفاقية كي يعتبروا ويستدلوا بها على ما جعلت أدلةً عَلَيْهِ. فإن من خلق السماء وزينها بالكواكب وأحكمها وبسط الأرض وجعل فيها رواسي وأنبت فيها صنوف النَّبَات صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ويتفاضل في الأكل. وجعل ذَلِكَ تبصرة لأولي الألْبَاب ونزل من السماء ماء فأنبت به خضر الجنان والزرع المختلف الأصناف والألوان والطعوم والنخل الباسق ذا الطلع المتراكم بعضه فوق بعض رزقًا للعباد وأحيا الأرض الموات. أفلا يستطيع من هذه قدرته وهَذَا شأنه أن يخَرَجَ النَّاس من القبور بعد بلائهم وبعد أن يصيروا عظامًا ورفاتًا وينشئهم خلقًا آخر في حياة أخرى وعَالِم غير هَذَا العَالِم بلي وَاللهِ إنه على كُلّ شَيْء قدير وبكل شَيْء أحاط عِلمَا. وما أحسن ما قاله السفاريني: ... وَاجْزِمْ بِأَمْرِ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَالْحَشْرُ حَزْمًا بَعْدَ نَفْخِ الصُّورِ كَذَا وُقُوفِ الْخَلْقِ لِلْحِسَابِ وَالصُّحْفِ وَالْمِيزَانِ لِلثَّوَابِ كَذَا الصِّرَاطِ ثُمَّ حَوْظِ الْمُصْطَفَى فَيَا هَنَا لِمَنْ بِهِ نَالَ الشِّفَا ... ›?

من الأدلة علي البعث

.. عَنْهُ يُذَادُ الْمُفْتَرِي كَمَا وَرَدْ وَمَنْ نَحَا سُبْلَ السَّلامَةْ لَمْ يُرِدْ وَكُنْ مُطِيعًا وَأَقْفُ أَهْلَ الطَّاعَةْ فِي الْحُوضِ وَالْكَوْثَرِ وَالشَّفَاعَةْ فَإِنَّهَا ثَابِتَةٌ لِلْمُصْطَفَى كَغَيْرِهِ مِنْ كُلِّ أَرْبَابِ الْوَفَا مِنْ عَالِمٍ كَالرُّسْلِ وَالأَبْرَارِ سِوَى الَّتِي خُصَّتْ بِذِي الأَنْوَارِ ... ›? اللَّهُمَّ إنَّا نعوذ بك من جهد البَلاء ودرك الشقاء وشماتة الأعداء وسوء المنظر في الأهل والْمَال والولد اللَّهُمَّ حبب إلينا الإِيمَان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان وَاجْعَلْنَا مِنْ الراشدين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المسلمين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) ومن الأدلة الدالة على البعث قوله تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرض خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . إن جفاف الزرع ويبس الشجر وانقطاع تغذيته من الأرض وحصاده وتحطمه يشبه حالة الموت في الأحياء. ثُمَّ إن سنة الله الكونية الدائمة الظاهرة المشاهدة في عملية انشقاق

الحبوب في بطن الأرض ونباتها بعد ما سبق من حالها التي تشبه حالة الموت وعودتها إلى الحياة. والنظرة كرة آخرةً وَذَلِكَ عِنْدَ وجودها في البيئة الملائمة من ماء ممتزج بالتُّرَاب الصالح لتعطي تقريبًا حسيًا مشاهدًا باستمرار في الظواهر الكونية لقصة بعث الحياة وتفرق أجزائها في تراب الأرض. وقَدْ نبه الله في القرآن إلى هَذَا الشاهد الكوني الَّذِي يقرب إلي تصور أصحاب هَذَا التوهم إمكَانَ الحياة الأخرى وإنها تشبه عودة الحياة إلى الزرع والنَّبَات بعد جفافها وما يشبه حالة الموات فيها قال الله تَعَالَى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . وَقَالَ في سورة الروم: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . وَقَالَ في سورة ق {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِزْقاً لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} جعل سُبْحَانَهُ وتعالى ما سبق دليلاً على البعث لأنه شبيه به. وفي التعبير عن إخراج النَّبَات من الأرض بالإحياء وعن إحياء الموتى بالخروج تفخيم لشأن الإنبات وتهوين لأمر البعث وتحقيق للماثلة بين إخراج النَّبَات وإحياء الموتى لتوضيح منهاج القياس وتقريبه لأفهام النَّاس وكَذَلِكَ قوله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ

كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} . ففي إحياء الأرض اليابسة بعد نزول المطر عَلَيْهَا دَلِيل قاطع واضح على إحياء الموتى فكما أحيا الأرض بعد موته يحي الأجساد ويعيد إليها أروحها يوم القيامة. فيقوم النَّاس من قبورهم لرب العالمين كما أخبرنا جَلَّ وَعَلا وَهُوَ أصدق قائل وَذَلِكَ أن الله ينزل ماء من السماء فتمطر الأرض أربعين يَوْمًا فتنبت منه الأجساد في قبورهم كما ينبت الحب في الأرض، قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: ... وإِذَا أَرَادَ اللهُ إِخْرَاجَ الوَرَى بَعْدَ الْمَمَاتِ إِلَى مَعَادٍ ثَانِي أَلْقَى عَلَى الأَرْضِ التِي هُمْ تَحَتَهَا واللهُ مَقْتَدِرٌ وذَوْ سُلْطَانِ مَطَرًا غَلِيظًا أَبْيَضًا مُتَتَابِعًا عَشْرًا وعَشْرًا بَعْدَهَا عَشْرَانِ فَتَظَََََََََََلُّ تَنْبُتُ مِنْهُ أَجْسَامُ الْوَرَى وَلُحُومُهُمْ كَمَنَابِتِ الرَّيْحَانِ حَتَّى إِذَا مَا الأُمُّ حَانَ وَلادُهَا وَتَمَخَّضَتْ فَنِفَاسُهَا مُتَدَانِ أَوْحَى لَهَا رَبُّ السَّمَا فَتَشَقَّقَتْ فَبَدَا الْجَنِينُ كَأَكْمَلِ الشُّبَّانِ ... ›? ... ... ...

.. وَتَخَلَّتِ الأُمُّ الْوَلُودُ وَأَخْرَجَتْ أَثْقَالَهَا أُنْثَى وَمِنْ ذُكْرَانِ وَاللهُ يُنْشِئُ خَلْقَهُ فِي نَشْأَةٍ أُخْرَى كَمَا قَدْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ هَذَا الَّذِي جَاءَ الكِتَابُ وَسُنَّةُ الْـ ـهَادِي بِهِ فَاحْرِصْ عَلَى الإِيمَانِ ... ›? ... ... ... يضاف إلى هذه الأدلة ما ذكر الله في كتابه أيضًا مثل قصة إحياء قتيل بني إسرائيل لسؤاله عن القاتل وهذه الْقِصَّة أخبرنا الله بها في أوائل سورة البقرة وملخصها فيما ذكر أنه كَانَ في بني إسرائيل شيخ موسر له ابن واحد قتله ابن عمه طمعًا في ميراثه. ثُمَّ جَاءَ يطالب بدمه قومًا آخرين فأنكر المتهمون قتله وترافعوا إلى موسى عَلَيْهِ السَّلام كُلّ مِنْهُمْ يدفع التهمة عن نَفْسهُ فَقَالَ لَهُمْ موسى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} وَذَلِكَ ليتبين لَهُمْ القاتل الحقيقي فَقَالُوا: أتهزأ بنا قال موسى: {أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} فسألوه عن ما تتميز به من الأوصاف وشددوا على أنفسهم فشدد الله عَلَيْهمْ ثُمَّ عثروا عَلَيْهَا وذبحوها فأحيا الله القتيل وأخبر بالقاتل. ومن ذَلِكَ قصة أصحاب الكهف وكيف ضرب الله على آذانهم ثلاثة قرون وتزيد تسع سنين وحفظ أجسامهم من البلى على طول الزمان وثيابهم من العفن والبلى وأعثر عَلَيْهمْ الفريق الآخر الَّذِينَ كَانُوا في شك من قدرة الله على إحياء الموتى وفي مرية من إنشاء أجسام خلقه كهيئتهم يوم قبضهم بعد

البلى ليعلموا أن وعد الله حق ويقنوا أن الساعة آتية لا ريب فيها ففي ذَلِكَ عبرة ودَلِيل على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة. ومن ذَلِكَ الَّذِينَ أخرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فَقَالَ لَهُمْ الله موتوا ثُمَّ أحياهم ثُمَّ بعد هذه الإماتة أحياهم ففيها أيضًا عبرة ودَلِيل قاطع على وقوع المعاد الجسماني وأنه لا مرية فيه ومن ذَلِكَ قصة الَّذِي مر على قرية وهي خاوية على عروشها فَقَالَ مستبعدًا لعودة عمارتها وإحياء أهلها {أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} قيل إن الله تَعَالَى أماته في أول النَّهَارَ وأحياه بعد المائة أخر النَّهَارَ. وقيل وَاللهُ أَعْلَمُ أول شيء أحياه الله فيه عينيه لينظر بهما إلى قدرة الله وصنعه كيف يحيي بدنه فَلَمَّا استقل سويًا {قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} قال جل وعلا وتقدس: {بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ} قيل كَانَ معه عنب وتين وعصير فوجده لم يتغير وانظر إلى حمارك كيف يحييه الله عز وجل {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ} أي دليلاً على المعاد حيث أحياه الله بعد إماتته وأحيا حماره ولم يتغير طعامه وشرابه. ومن ذَلِكَ إحياء الطيور الأربعة لما طلب أبينا إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام من الله أن يريه كيف يحيي الموتى ليطمئن قَلْبهُ فأمره أن يأخذ أربعة من الطير فيقطعهن أجزاء ثُمَّ يفرقها على عدة جبال حوله ثُمَّ يدعوها ففعل ودعاها بأسمائهن فاقبلن إليه سريعات تطير والطير أشد الْحَيَوَان نفورًا من الإِنْسَان غالبًا فهَذَا أكبر برهان على كمال عزة الله وحكمته وقدرته على البعث والمعاد والجزاء. فتبارك الله أحسن الخالقين.

ومِنَ الأدلة الدَّالَةِ عَلي البَعْثِ مَا فِي قِصَّةِ مُوْسَى وَهَرُوْنَ مَعَ فِرْعَونَ فَفِي قَلْبِ عَصِىَ مُوْسَى حَيَّةً تَسْعَي تَلْقَفُ مَا يَأْفَكُونَ أكْبَرُ بُرْهَانٍ عَلَى البَعْثِ وَذَلِكَ أنَّهَا صَارَتْ تِنَّيناً عَظِيْماً هَائِلاً ذَا قَوَائِمَ وَعُنُقٍ وَرَأْسٍ وَأَضْراسٍ فَجَعَلَتْ تَبْتَلِعُ تِلْكَ الحِبَالَ وَالْعُصِيَّ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهَا شَيْءٌ إِلَّا ابْتَلَعتْهُ والسَّحَرَةُ والناسُ يَنْظُرُوْنَ إلي ذَلِكَ عِيَاناً جَهْرَةً نَهَاراً ضَحْوَةً. ثُمَّ أَمَرَهُ اللهُ جَلَّ وَعَلا بِأَنْ يَأْخُذَهَا قَالَ لَه {خُذْهَا وَلَا تَخَفْ} فَلَمَّا أَمَرَهُ بِأَخْذِهَا لَفَّ طَرَفَ المِدْرَعَةَ عَلَى يَدِهِ فَقَالَ لَهُ مَلَكٌ أَرَأَيْتَ يَا مُوْسَى لَوْ أَذِنَ اللهُ بِمَا تُحَاذِرُ أَكانتِ المِدْرَعَةَ تُغْنِيْ عَنْكَ شَيْئاً قَالَ لَا وَلَكِنّيْ ضَعِيْفٌ وَمِن ضُعْفٍ خُلِقْتُ فَكَشَفَ عَن يَدِهِ ثمَّ وَضَعَهَا في فَمِ الحَيَّةِ حَتَّى سَمََِعَ حِسَّ الأَضْرَاسِ والأَنْيَابِ ثُمَّ قَبَضَ فإذَا هِيَ عَصَاهُ التِي عَهِدَهَا وإذَا يَدُهُ في مَوْضِعَهَا إذَا يَتَوَكَأُ عَلَيْهَا بَيْنَ الشُعْبَتَيْنِ فَفِيْهَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ علي بَعْثِ الأَجْسَادِ لِمَنْ بَصَّرَهُ اللهُ وَنَوَّرَ عَقْلُهُ ومِنَ الأَدِلَّةِ الدَّالَةِ عَلي البَعْثِ مَا أَيَّدَ اللهُ بِهِ عِيْسَي بنَ مَرْيَمَ عَلَي إِحْيَاءِ المًوْتَى قَالَ اللهُ تَعَالَى {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ} فَكَان يُصَوَّرُ مِن الطِّيْنَ شَكْلَ طَيْرٍ ثمّ يَنْفَخُ فِيه فَيَكُونُ طَيْراً عِيَاناً بإِذْنِ اللهِ. فَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ البَرَاهِيْنِ عَلَي بَعْثِ الأَجْسَادِ وكَذَلِكَ إِحْيَاءُ المَوْتَى بإِذنِ اللهِ قال تَعَالَى {وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ} فَهَذَا بُرْهَانٌ وَاضِحٌ عَلَي بَعْثِ الأجْسَادِ لاَ رَيْبَ فِيهِ لِذِي عَقْلٍ سَلِيْمٍ. اللَّهُمَّ يَا مَنْ لاَ تَضُرُهُ اْلمعصِيَةُ ولاَ تَنْفَعُهُ الطَّاعَةُ أَْيْقِظْنَا مِنْ نَوُم الغَفْلَةِ ونَبّهنْا لاغْتِنَام أَوْقَاتِ المُهْلَةِ وَوَفّقْنََا لِمصَالِحِنَا واعْصِمْنَا مِنْ قَبَائِحِنا وذُنُوبِنا ولا تُؤاخِذْنَا بمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ ضَمائِرُنا واكَنَّتْهُ سَرَائِرُنا مِنْ أنْواع القَبَائِح والمَعَائِبِ

ويلي ذلك قصيدة رد علي من قال بالطبيعة

التي تَعْلَمُها مِنّا وَاغْفِر لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمينَ الأَحْياءِ مِِنُْْهُمْ والميتيِنَ بِرَحْمَتِكَ يا أرحْمَ الرّاحِمينَ وَصَلى اللهُ عَلَى مُحَمّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. ((هَذِهِ أبْيَاتٌ مُخْتَاَرَةٌ مِن قَصِيْدَةِ لِبَعْضِ)) ((العُلَمَاًءِ رَداً عَلَى مَنْ قَالَ بالطَّبِيعَةِ)) ... وَاهاً لِدُنْيَا إِذَا مَا أَقْبَلَتْ قَتَلَتْ وشَوْطُ إِقْبَالِهَا فَوْتٌ وَإِدْبَارُ دَسَّتْ لَكَ السُّمَّ في حَلْوَى زَخَارِفِهَا وَزَيَّنَتْ لَكَ مَا عُقْبَاهُ أَضْرَارُ وعِشْتَ دَهْراً مِنَ الأَعْوَامِ مُنْتَظِراً في مَلْعَبٍ كُلُّهُ جُرْمٌ وإِصْرَارُ حَتَّى إذَا جَاءَ وَقْتُ المَقْتِ وَانْتَشَبَتْ يَا لاَهِياً لِلمَنَايَا فِيْكَ أَظْفَارُ خَابَتْ ظُنُوْنُكَ فِي دُنْيا مُخَادِعَةٍ أَلْوَتْ عِنَانَكَ عَمَّا كُنْتَ تَخْتَارُ يَا ذَا الوِجَاهَةِ والجَاهِ العَرِيْضِ لَقَدْ خَانَتْ عُهُوْدَكَ أَعْوَانٌ وأَنْصَارُ أَلْقَوْكَ فِي حُفْرَةٍ هَالَتْكَ وَحْشَتُهَا كَأَنَّها مِخْدَعٌ يُغْلَي بِهِ القَارُ وَغَادَرُوْك وَمَا فِي الحَيِّ مِن حَكَمٍ تَشْكُو إِلَْيهِ وَمَا فِي الدَّارِ دَيَّارُ يَا رَاقِداً وَمَضِيْقُ القَبْرِ مَضْجَعُهُ أمَلَّكَ القِطْرُ أَمْ ضَاقَتْ بِكَ الدَّارُ ... ›?

.. أَبعدَ مَا فِي مَغَانِي الحَيِّ من سَعَةٍ تُغْنِي الضَّجِيْعَ عنِ الأَمْيَاِل أَشْبَارُ خَلَوْتَ وَحْدَكَ لاَ خِلٌ وَلاَ خَدَمٌ فَهَلْ تُنَاجِيْكَ بالإِصْلاَحِ أَفْكَارُ أَمْ أَنْتَ مِمَّنْ يَرَوْنَ المَوْتَ رَاحَتَهُمْ يَا حَبَّذَ الموْتِ لَوْلاَ الحَشْرُ والنَّارُ والقَبْرُ إِنْ لَمْ تَكُنْ فِيْهِ مُنَغِّصَةٌ حَاكَتْ زَوَايَاهُ رَوْضاً فِيْهِ أَزْهَارُ لَكِنَّهُ وَظَلاَمُ الزَّيْغِ يُوْحِشُهُ ِسْجٌن َلُه مِنْ ذَوَاتِ النَّهْشِ عُمَّارُ فَهَلْ يُحَاكِي قُبُورَ القَوْمِ مَضْجَعُكُمْ أَمْ زَاَحَمْتكَ ظَلامَاتٌ وآصَارُ ا بِالأَمْسِ صَدْراً أَخَا كِبْرٍ وَغَطْرَسَةٍ وَمَا سِوَي الصَّدْرِ نَهَاؤٌ وَأَمَّارُ وَالَيْومَ بَيْنَ هَوَامِ الأرْضِ مُضْطَجِعٌ في مَضْجَعٍ مَا بِهِ جَارٌ وَسُمَّارُ وَاهاً لِدُنْيَا إِذَا مَا أَقْبَلَتْ قَتَلَتْ وشَوْطُ إقْبَالِهَا فَوْتٌ وإِدْبَارُ تَمُرُّ بالمَرْءِ مَرَّ الطَّيْفِ بَاسِمَةً وخَلْفُهَا مِن جُيُوْشِ الحُزْنِ جَرَّارُ

.. إِذَا سَقَتْ كَأْسَ إِيْنَاٍس أخَا سَفَهٍ تَجَرَّعَ السُّمَّ مِنْهُ وَهُوَ مُخْتَارُ وَمَا السُّمُوْمُ سِوَي لِذَاتِهَا وبِهَا وَمَا السُّمُوْمُ سِوَي لِذَاتِهَا وبِهَا تَزْهُوْا لأَهْلِ الهَوَي حَتَّى إِذَا ابْتَهَجُوْا جَاءَتْ بِمَا فْيهِ أرْزَاءٌ وَأَكْدَارُ يَا وَيْحَ مَنْ أَخَذَتْ يَوْماً بِمخْنَقِهِ إلي طَرِيْقٍ إِلَيْهَا يَنْتَهِي العَارُ ويَا نَدَامَةَ مَنْ لَمْ يَبْكِ إنْ ضَحِكَتْ فَضِحْكُها لِذَوِيْ اللَّذَاتِ إِنْذَارُ وَيَا خَسَارَةَ مَنْ أَنْسَتْهُ مَبْدَأَهُ ومُنْتَهَاهُ وَلَمْ يُوْقِظْهُ تَذْكَارُ كَالشَّابِ تُنْسِيْهِ عَصْرَ الشَّيْبِ غُرَّتُهُ حَتَّى إِذَا عَلَقَتْ بالأُزْرِ أَوْزَارُ فَرَّ الشَّبَابُ وَظَلَّ الَّشْيُب هَازِمَهُ إِنَّ الشَّبَابَ أَمَامَ الشَّيْبِ فَرَّارُ فَهَلْ لِذِي الجَاهِ أَنْ يَنْسَى مَنِيَّتَهُ والمَوْتُ فِي رَأْسِ رَبِّ الجَاهِ مِعْثَارُ وَكَمْ وَجِيْهٍ تَعَامَي عَنْ عَوَاقِبِهِ إِذْهَابَهُ خَشْيَةً عَمْروٌ وَعَمَّارُ وَظَلَّ فِي زُخْرُفِ التَّضْلِيْلِ مُتَّجِراً

.. وَالنَّاسُ مِنْهُ بِسُوْقِ الزَّيْغِ تَمْتَارُ حَتَّى إِذَا مَا الرَّدَى لِلْمَوْتِ أَضْجَعَهُ أًضْحَى كأُضْحِيَهٍ مِنْ حَوْلِهَا دَارُوا وَمَاتَ وَالخَوْفُ حَيٌ بَيْنَ أَضْلُعُهِ وَلِلمَخَازِيْ بِتِلْكَ الدَّارِ أَدْوَارُ أُفٍّ لِمُقْبِلَةٍ مَرَّتْ عَلَي عَجَلٍ كَأَنَهَا الفَجْرُ لَمْ يُمْهِلْهُ إِسْفَارُ كَأَنَّمَا أََنْتَ وَالدُّنْيَا وَمَا صَنَعَتْ أُلْعُوْبَةً بَاعَهَا الصِّبْيَانِ مِهْزَارُ أَلْهَتْهُمُوا بُرْهَةً حَتَّى إِذَا تَلِفَتْ وَفَاتَهُمْ فِي المَسَادَفُّ وَمِزْمَارُ لَمْ يَلْبَثُوا فِي المَلاَهِيْ غَيْرَ سَاعَتِهِمْ وَقَدْ دَهَتْهُمْ مُلِمَّاتٌ وَأَكْدَارُ وَهَكَذَا كُلُّ حَالٍ لاَ بَقَاءَ لَهَا وَكُلُنَا فِي الجَنَي لِلْمَوْتِ أَثْمَارُ وَكُلُّ مَنْ كَانَتْ الأَيَّامُ مَرْكَبَهُ فَكُلُّ أَوْقَاتِهِ ظَعْنٌ وَأَسْفَارُ تَبّاً لِدَارٍ أَرَتْنَا مِنْ مَلاَعِبِهَا عَجَائِباً مَا أَتَاهَا الدَّهْرَ سَحَّارُ فَيَا أَخَا العِلْمِ لاَ يُنْجِيْكَ عِلْمُكَ إِنْ فَاتَتْكَ خَشْيَةُ رَبٍّ اسْمُهُ البَارُ

طبقات المكلفين

.. وَيَا أَخَا المَالِ لاَ تَرْكَنْ لِكَثْرَتِهِ فَالْمَالُ كَالمَاءِ كَرَّارٌ وَفَرَّارُ وَالجًاهُ ضَيْفٌ وَعُقْبَي الضَّيْفِ رِحْلَتُهُ وإِنْ دَعَتْهُ لِطُولِ المُكْثِ أَوْطَارُ وَاضْرَعْ إِلي اللهِ يَا مَنْ بَاتَ فِي سَعَةٍ مِنْ نِعْمَةِ اللهِ إِنَّ الدَّهْرَ دَوَّارُ ونِعْمَةُ اللهِ تأْتِي طَيَّ رَحْمَتِهِ كَمَاطِرِ غَيْثُهُ الهَطَّالُ مِدْرَارُ لَكِنَّمَا الغَيُّ والطُّغْيَانُ يَنْقُصُهَا فَمَا تَهَنَّى بِهَا فِي الكَوْنِ كُفَّارُ وإِنْ تَقُلْ إِنَّ أَهْلَ البَغْيَ فِي نِعَمٍ فَرَكْبُهُمْ فِي طَرِيْقِ الغَمِّ سَيَّارُ والغَافِلُونَ لَهُمْ فِي القَبْرِ مُزْعِجَةٌ وَبَعْدَ فَصْلِ القَضَا عُقْبَاهُمُ النَّارُ ... ›? اللَّهُمَّ نَوَّرْ قُلُوبَنَا بِنُوْرِ الإِيمَانِ واشْرَحْ صُدُوْرَنَا واسْتُرْ عُيُوْبَنَا وأَمِّنْ خَْوفَنَا وَوَفِّقْنَا لاسْتِغْرَاقِ أَوْقَاتِنَا فِي البَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الصَّالِحِيْنَ الّذِيْنَ لاَ خَوْفٌ عَلَيهِمْ ولاَ هُمْ يَحْزَنُون وآتِنَا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النّارِ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّي اللهُ عَلَى مُحَمّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ. (فصل) قَال ابْنُ القّيم رَحِمَهُ اللهُ:

طَبقاتُ المُكَلَّفِيْنَ فِي الآخِرَةِ ثَمَانِي عَشَرَةَ طَبَقَةً أَعلاَهَا مَرْتَبَةُ الرُّسُلِ صَلَواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ ثَلاثُُ طَبَقاتٍ أَعْلاَهُمْ أُولُو العَزْمِ الخَمْسَةُ ثُمَّ مَنْ عَدَاهُمْ مِن الرُّسُلِ ثُمَّ الأَنْبِياءُ الّذِيْنَ لَمْ يُرْسَلُوا إلَى الأُمَمِ. الرَّابِعَةُ: الصّدّيقُوَن وَرَثَةُ الرُّسُلِ القَائِمُونَ بِمَا بُعِثُوْا بِهِ عِلْماً وعَمَلاً وَدَعْوَةً لِلْخَلْقِ إلى اللهِ عَلَي طَرِيْقِهِمْ. الخَامِسَةُ: أَئِمّةُ العَدْلِ وَوُلاَتُهُ. السادِسةُ: المُجَاهِدُوْنَ فِي سَبِيْلِ اللهِ. السابِعَةُ: أَهْلُ الإِيْثَارِ والإِحْسَانِ وَالصَّدَقَةِ. الثّامِنَةُ: مَنْ فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ بَاباً مِنْ أَبْوَابِ الْخَيْر القَاصِرِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ صَلاةٍ وَصِيامٍ وَحَجٍّ وَغَيْرِهَا. التّاسِعَةُ: طَبَقَةُ أَهْلِ النَّجَاةِ وَهُمْ مَنْ يُؤَدِّيْ فَرَائِضَ اللهِ وَيَجْتَنِبْ مَحَارِمِهُ. العِاشِرَةُ: طَبَقَةُ قَوْمٍ أَسْرَفُوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَغَشَوْا كَبَائِر مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ وَلَكِنْ رَزَقَهُمُ اللهُ التَّوْبَةَ النَّصُوْحَ قَبْلَ المَوْتِ فَمَاتُوا عَلَى تَوْبَةٍ صَحِيْحَةٍ. الحادِيَةَ عَشَرةَ: طَبَقَةُ أَقْوَامٍ خَلَطُوا عَمَلاًً صَالِحاً وآخَرَ سَيِّئاً وَلَقُوا اللهَ مُصِرِّيْنَ غَيْرَ تَائِبِيْنَ لَكِنْ حَسَنَاتُهُمْ أَغْلَبُ مِنْ سَيِّئاتِهِمْ فَإِذَا وُزِنَتْ بِهَا رَجَحَتْ كِفَّةُ الحَسَنَاتِ فَهَؤُلاَءِ أيْضاً نَاجِحُوْنَ فَائِزُوْنَ. الثَانِيَة عَشَرة: قَوْمٌ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيّئاتهُمْ وَهُمْ أَصْحَابُ الأعْرَافِ وَهُوَ مَوْضِعٌ بَيْنَ الجَنَّةِ والنّارِ ولَكِنْ مَآلُهُمْ إلى دُخُوْلِ الجَنَّةِ. الثّالثَ عَشَرة: طَبَقَةُ أَهْلِ البَلِيَّةِ والمِحْنَةِ وِهُمْ قَوْمٌ مُسْلِمُوْنَ خَفَّتْ مَوَازِيْنُهُمْ وَرَجَحَتْ سِيِّئَاتُهُمْ عَلَى حَسَنَاتِهِمْ وِهِؤُلاءِ الّذِيْنَ ثَبَتَتْ فِيْهِمْ الأحادِيثُ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ النَّارَ فَيَكُونُوْنَ فِيْهَا عَلَى مِقْدَارِ أَعْمَالِهِمْ ثُمَّ يُخْرَجُوْنَ

مِنْهَا بشَفَاَعَةِ الشَّافِعِيْنَ وبِرَحْمَةِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِيْن. الرَّابِعَةَ عَشَرة: قَوْمٌ لاَ طَاعَةَ لَهُمْ ولاَ مَعْصِيَةَ وَلاَ كُفْرَ وَلاَ إِيْمَانَ وَهُمْ أصْنَافٌ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ بِحَالٍ وَمِنْهُمْ المَجْنُونُ اّلذي لاَ يَعْقِلُ وَمِنْهُمْ الأَصَمُّ اّلذي لاَ يَسْمَعُ شَيْئاً أَبَداً وَمِنْهُمْ أطْفَالُ المُشْرِكِيْنَ اّلذِينَ مَاتُوْا قَبْلَ أنْ يُمَيَّزُوْا شَيْئاً فاخْتَلَفَتِ الأَئِمَّةُ فِيْهِمْ عَلَى ثَمَانِيَةَ مَذَاهِبٍ أَرْجَحُهَا أَنَّهُمْ يُمْتَحِنُوْنَ فِي عَرَصَاتِ القِيَامَةِ ويُرْسَلُ إِلَيْهِمْ هُنَاكَ رَسُولٌ فَمَنْ أَطَاعَ الرّسُولَ دَخَلَ الجَنَّةَ وَمَنْ عَصَاهُ دَخَلَ النَّارَ. وبِهَذَا تَتَّفِق الأحَادِيْثُ وَتُواِفُق الحِكْمَةُ والعَدْلُ. الطَّبْقَةُ الخَامِسَةَ عَشَرَةَ: طَبَقَةُ الزَّنَادِقّةِ وَهَؤُلاَءِ المُنَافِقُوْنَ اّلذِيْنَ أَظْهَرُوْا الإِسْلاَمَ وأبْطَنُوا الكُفْرَ وهُمْ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنْ النّارِ. الطَّبَقَةُ السَّادِسَةَ عَشَرَةَ: رُؤُسَاءُ الكُفْرِ وأَئِمَّتُهُ وَدُعاتُهُ وَيَتَغَلَّظُ الكُفْرُ بِغِلَظِ العَقِيْدَةِ وبِالعِنَادِ وبالدَّعْوَةِ إِلى البَاطِلِ. الطَّبَقَةُ السّابِعَةَ عَشَرَةَ: طَبَقَةُ الْمُقَلِّدِيْنَ وَجُهَّالُ الكَفَرَةِ وَقَدْ اتَّفَقَتِ الأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُم كُفَّارٌ. الثّامِنَةَ عَشَرَةَ: طَبَقَةُ الجِنِّ وهُمْ مُكَلَّفُوْنَ مُثَابُونً وًمُعَاقَبُوْنَ بحَسَبِ أعْمَالِهِمْ ولِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوْا ولِيُوْفِيَهُمْ أعْمَالِهِمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُوْنَ. وَقَالَ الإِنابَةُ الرُّجُوعُ إِلى اللهِ وانْصِرافُ دَوَاعِي القَلْبِ وِجِوِاذِبِهِ إِلَيْهِ وَهِيَ تَتَضَمَّنُ المَحَبَةَ والخَشْيَةَ وَالنَّاسُ فِي إِنَابَتِهِمْ دَرَجَاتٌ مُتَفاوِتَةٌ فَمِنْهُمْ المُنِيْبُ إِلى اللهِ بِالرُّجُوْعِ إِلَيْهِ مِن المُخَالَفَاتِ والمَعَاصي والحَامِلُ الخَوْفُ وَالعِلْمُ.

موعظة بليغة في ذكر بعض نعم الله على خلقه

وَمِنْهُمْ المُنِيْبُ إِلى اللهِ فِي أَنْوَاعِ العِبَادَاتِ فَهُوَ سَاعٍ بِجُهْدِهِ ومصْدرُهَا الرَّجَاءُ وَمُطَالَعَةُ الوَعْدِ والثَّوَابِ وَهَؤُلاَءِ أبْسَطُ نُفُوْساً مِن الأَوَّلِيْنَ وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُنِيْبٌ بِالأمْرَيْنِ ولِكِنْ يَغْلِبُ عَلَى الأَوَّلِيْنَ الخَوْفُ وَيَغْلِبُ الرَّجَاءُ عَلَى الآخِرِيْن. وَمِنْهُمْ المُنِيْبُ إِلَيْهِ بالتَّضَرُّعِ والدُّعَاءِ وكَثْرَةِ الافْتِقَارِ وسُؤَالِ الحَاجَاتِ كُلِّهَا مَعَ قِيَامِهِمْ بالأمْرِ والنَّهْيِ وَمِنْهُمْ المُنِيْبُ إِلى اللهِ عَنْدَ الشَّدَائِدِ فِقِطْ إِنَابَة المُضْطَّرِّ لا إِنَابَة اخْتِيَارٍ. وَأَعْلَى أَنْوَاعِ الإِنَابَاتِ إِنَابَة الرُّوْحِ بِجُمْلَتِهَا إِلَيْهِ لِشِدَّةِ المَحَبَّةِ الخَالِصَةِ المُغْنِيَة لَهُمْ عَمَّا سِوَى مَحْبُوْبِهِمْ وَحِيْنَ أنَابَتْ إِلِيْهِ لَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْهُمْ شَيْء عَنِ الإِنَابَةِ فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا رَعِيَّتُهَا وَأَدّتْ وَظَائِفَهَا كَامِلَةً فَسَاعَةُ من إِنَابَة هَذَا أَعْظَمُ مِنْ إِنَابَة سِنِيْنَ مِنْ غَيْرِهِ وَذَلِكَ فَضْلُ اللهِ انتهي. ((موعظة)) عِبَادَ اللهِ نَحْنُ فِي عَصْرٍ بَارَكَ اللهُ فِيْهِ بَرَكَةً عَمَّتِ المَشَارِقَ والمَغَارِبَ وَكُلَّ مَا للأرْضِ مِنْ أَنْحَاءَ مِمَّا نَعْلَمُهُ وَجَّهَ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ أَفْكَارَ بَنِيْ آدَمَ إِلى مَا أَوْدَعَهُ فِي خَلْقِهِ مِنْ أَسْرَارً تَفُوْتُ الإحْصَاءَ وَيَسَّرَ لَهُمْ السَّبِيْلَ فَوَصِلُوا مِنْ التَّرَاقِي فِي الاخْتِراعِ والإطّلاعِ إِلى مَا يُدْهِشُ الأفْكارَ وتَزْدَادُ بِهِ عَقِيْدَةُ المُؤْمِنِ قُوَّةَّ فَلا يَعْتَرِيْهِ أدْنَى شَكِّ فِي مِا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُه. أَصْبَحَتِ الدُّنْيَا كُلُّهَا كَأَنَّهَا بَيْتٌ وَاحِدٌ يُكَلِّمُ النّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً مَعَ بُعْدِ المَسَافَةِ وِيُسَافِرُوْنَ بَرّاً وَبَحْراً فيَقْطَعُوْنَ بِالمَرَاكِبِ البَرِيَّةِ والبِحْرِيَّةِ فِي مُدَّةٍ يَسِيْرةٍ مَا يَحْتَاجُ إِلى مُدَّةٍ طَوِيْلَةٍ فِيْمَا مَضَى وِتِنْقُلُ تِلْكَ المَرَاكِبُ الّتِي خَلَقَهَا

اللهُ لَنَا مِنَ الأثْقَالِ بِقُوَّةٍ وسُرْعَةٍ تَقِفُ أَمَامَهَا الألبَابُ حَائِرَاتٍ بَلْ لِوْ أَرَادُوْا مُسَابَقَةَ الطّيْرِ فِي السَّمَاءِ لَسَبَقُوْهُ بِالطّائِراتِ. فَسُبْحَانَ مَنْ أَرْشَدَ عِبَادَهُ إِلَى صُنْعِ هَذِهِ المُخْتَرَعَاتِ قَالَ تَعَالَى: {وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وانْظُر إِلَى الكَهْرَباءِ وَفَائِدَتِهِا العَظِيْمَةِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَقَدْ صَارَ اللَّيْلُ بِأنْوَارِهِ وكَأنَّهُ نَهَارٌ وَمَا فِيْهِ مِنْ أسْبَابِ الرَّاحَةِ والمَنَافِعِ العَظِيْمَةِ الّتِي لَمْ تَحْصُلْ لِمَنْ قَبْلَنَا أَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَعْظَم البَرَاهِيْنِ والأدِلّةِ عَلَى صِدْقِ مَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ بِقَوْلِهِ: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} . وَعَلَى صِدْقِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ المَصْدُوْقُ مِنْ أَنَّ الزَّمَانَ يَتَقَارَبُ وَهَا أَنْتَ لاَ تَمْشِيْ شَرْقاً وَلاَ غَرْباً إِلاّ وأَنْتَ تَرَى وتَسْمَعُ مِنْ تِلْكَ الأَسْرَارِ مَا تَحَارُبِهِ الأَفْكَارُ فَنَحْنُ الَيْومَ نَتَقَلَّبُ فِي كُلِّ أَحْوَالِنَا فِي نَعِيْمٍ لَمْ يَظْفَرْ بِهِ عَصْرٌ مِنَ الإعْصَارِ حَتَّى إِنَّكَ تَرَى حَيَوَانَ هَذَا العَصْرِ فِي رَاحَةٍ وإِكْرَامٍ لَمْ تَتَمَتَّعْ بِهَا بَنُوْ العُصُورِ الْمَاضِيَاتِ إِنَّ حَقّاً عَلَيْنَا إِزاءَ كُلِّ هَذَا أنْ نَكُوْنَ أسْبَقَ الأجْيَالِ فِي مِيْدَانِ شُكْرِ اللهِ لِيُبَرْهِنَ كُلِّ مِنَّا أَنَّهُ يُحِسُّ وَيَشْعُرُ بِمًا اخْتَصَّهُ بِهِ مَوْلاَهُ. أ. هـ. ولكِنْ يَا لِلأَسَفِ لَمْ يَكُنْ مِنَّا شُكْرُ هَذِهِ النَّعَمِ وَاسْتِعْمَالُهَا فِي طَاعَةِ اللهِ وَمَرَاضِيْهِ وَدَلِيْلُ ذَلِكَ مًا تَرَى وَتَسْمَعُ مِنْ المَعَاصِي والمُنْكَراتِ الّتِي تَكَادُ أنْ تَبْكِي مِنْ فُشُوَّهَا وَازْدِيَادِهَا الجَمَادَاتُ. فَيَا للهِ لِلْمُسْلِمِيْنَ إِنَّهَا لَتَجْرَحُ قَلْبَ المُؤْمِنِ السَّالِمِ مِنْهَا حَرْجاً يُوْشِكُ أنْ يُوْصِلَهُ إِلى القَبْرِ اللهُمَّ وَفَّقْ وُلاَتَنَا لإِزَالَةِ هَذِهِ المُنْكَراتِ وَلِتْأِيْيِد الإِسلامِ.

حديث جليل نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس والحث علي صيانة الوقت

والمُسْلِمِيْنَ فِي جَمِيْعِ الجِهَاتِ وَوَفَّقْهُمْ لِلرِّفْقِ فِي رَعَايَاهُمْ والنُّصْحِ لَهُمْ وَسَدَّدْ خُطَاهُمْ. اللَّهُمَّ وَفّقْنَا لِصَالِحِ الأعْمَالَ، ونَجِّنَا مِنْ جَمِيعِ الأهْوَالِ، وأَمَنّا مِنْ الفَزَعِ الأَكْبَرِ يومَ الرْجْفِ والزلْزَالْ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا، وَلِجَمِيْعِ المُسْلِمِيْنَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وصلي اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) عَنْ ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عن النَّبِيّ (قَالَ نِعْمَتَانِ مَغْبُوْنِ فِيْهِمَا كَثِيْرٌ مِن النّاسِ الصّحة والفَرَاغُ رِواهُ البُخاريّ والتّرمذيّ والنّسائيّ وأحْمد وابن ماجة. لَقَدْ صَدَقَ رَسُولُ (فِيْمَا قَالَهُ فِي هَذَا الحَدِيْثِ العَظِيْمِ فَإِنَّ كَثِيْراً مِنَ النَّاسِ يُهْمِلُ وَاجِبَ النِّعَمِ عَلَيْهِ فلاَ يَسْتَقْبِلُ النِّعَمَ بِمَا يَجِبُ لَهَا مِنَ الشُكْرِ وَلاَ يُحَاوِلُ اسْتِبْقَاؤَهَا بأدَاءِ حَقِّ اللهَ فِيْهَا بَلْ يُعْرِضُ عَنْ اللهِ وَيَنْأى بِجَانِبِهِ وَلاَ يَذْكُرُ هَذِهِ النِّعْمَةَ مِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَى عَظَمِهَا إلاّ حِيْنَ يَعْدُوْ عَلَيْهَا المَرَضُ فيُذْبِلُ نَضْرَةَ العَافِيَةِ وَيَخْطُوْ بِقُوّةِ الشَّبَابِ عَلَى غَيْرِ مَوْعِدٍ إِلى ضَعْفِ الشَّيْخُوْخَةِ. أَمَّا حِيْنَ يَنْعَمُ الإِنْسَانُ بِسَلاَمَةِ أَعْضَائِهِ وقُوَّةِ بُنْيَتِهِ وَحِيْنَ يُحِسُّ الحَيَوِيَّةَ تَسْرِيْ فِي عُرْوْقِهِ فَهُوَ يَنْطَلِقُ فِي شَهَوَاتِهِ خَاضِعاً لَهَا، وَهُوَ يَظُنُّ نَفْسَهُ الآمِرَ النَّاهِي، وخَاسِراً بِهَا وَهُوَ يَحْسِبُ نَفْسَهُ قَدْ رَبَح كُلَّ شَيْءٍ. وتَمْضِيْ بِهِ أَيَّامُهُ وَلَيَالِيْهِ وَهُوَ يَرْتَعُ كَالحَيَوَانِ فِي مَلَذَّاتِهِ مِنْ مَأْكُوْلاتٍ وَمَشْرُوْبَاتٍ دُوْنَ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ حَلاَلٍ وَحَرَامٍ وِمْن غَيْرِ تَمِييْزٍ بَيْنَ طَيِّبٍ وَخَبِيْثٍ فَيُسِيءُ إِلى نَفْسِهِ وَيَبْخَسُهَا حَقّهَا إِذْ يُضَيِّعُ طَاقَتَهَا عَلَى العَمَلِ النَّافِعِ وعَلَى الطَّاعَةِ الوَاجِبَةِ فِي اللَّهْوِ واللَّعِب. قال اللهُ جَلَّ وَعَلاَ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}

وَبِلاَ شَكٍّ أَنَّ الصِّحَةَ عَرَضٌ لا يَدُوْمُ بَلْ يَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ وأَنَّ المَرَضَ يُفْقِدُ الإِنْسَانَ مُعْظَمَ طَاقَتَهُ عَلَى العَمَلِ بَلْ رُبَّمَا فَقَدَهَا كُلَّهَا وَعَجِزَ فَمِنَ السَّفَهِ والحُمُقِ إِذاً أَنْ لاَ يَغْتَنِمَ الإِنْسَانُ فُرْصَةَ الصِّحَّةِ والفَرَاغِ مِن الشَّوَاغِلِ لِلطَّاعَةِ والعِبَادَةِ. وَكُلُّ إنْسَانٍ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ يَوْمٍ يَتَقَدَّمُ بِهِ الزَّمَنُ يَقْصُرُ عُمُرُهُ وَمَقْدِرَتُهُ عَلَى العَمَلِ تَضْعُفُ كُلَّمَا خَطَا بِهِ الزَّمَنُ وَمحْصُوْلُهُ مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ يَقِلُّ كُلَّمَا أَقْعَدَهُ المَرَضُ أَوْ أَثْقَلَتْهُ السُّنُوْن فالعَاقِلُ اليَقِظُ يُحَافِظُ عَلَى وَقْتِهِ أَكْثَرَ مِنْ مُحَافَظَتِهِ عَلَى مَالِهِ وَلاَ يُضَيِّعُ مِنْهُ شَيْئاً بَلْ يَسْتَعْمِلَهُ فِيْمَا يُقَرِّبُهُ إِلى اللهِ والدّارِ الآخِرَةِ أَوْ مَا هُوَ سَبَبٌ إِلى ذَلِكَ فَإِنَّ فَاتَهُ شَيْءٌ أَوْ نَسِيَ شَيْئاً مِنْ أَعْمَالِهِ بِاللّيْلِ قَضَاهُ بِالنَّهَارِ وبِالعَكْسِ. وللهِ آياتٌ كَوْنِيَّةٌ وآيَاتٌ قُرْآنِيّةٌ يَتَمَشَّى المُسْلِمُ النَّشِيْطُ المُبْتَعِدُ عَنْ الكَسَل والعَجْزِ عَلَى ضَوْئِهَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} وَقَالَ: {إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} فاللهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْ هَذِهِ عَبَثاً فالذّاهِلُونَ عن مَعَانِيْ هَذِهِ الآياتِ، الهَائِمُوْنَ وَرَاءَ مَنَافِعِهِمْ المُعَجَّلَةِ حَمْقَي لا يَنْتَصِحُوْنَ مِن حِكْمَةٍ وِلا يَسْتَفِيْدُوْنَ مِنْ دَرْسٍ تَجِدْهُمْ لا يُبَالُوْنَ بإضَاعَةِ أوقَاتِهمْ فِي غَيْرِ فائِدَةٍ وَرُبَّما أَضاعُوْهَا فِي المَعَاصِي. شِعْراً: ... أَجْنِبْ جِيَاداً مِنَ التَّقْوى مُضَمَّرةٌ ... لِلْسَّبْقِ يَومَ يَفُوزُ النّاسُ بالسّبَقِ ثَمُرُّ مَرَّ الرَّيَاحِ الهُوْجِ عَاصِفةٌ ... أوْ لَمْحَةِ البَرْقِ إذَا يَجْتَازُ بالأفُقِ وَارْكُضْ إِلى الغَايَةِ القُصْوى وخَلِّ لَهَا ... عِنَانَ صِدْقٍ رَمَى فِي فِتْيَةٍ صُدُقِ فإِنَّ خلْفَكَ أعْمَالاً مُثَبِّطَةٌ ... ولَسْتَ تَنْهَضُ إِلاَّ وَيْكَ بالعَنَقِ كَمْ حَّلَ عَزْمَكَ مِن دُنْياً مُعَرَّجَة ... بِقَصْدِكَ اليومَ عن مَسْلُوْكَةِ الطُّرِقِ يَا غَافِلاً والمَنَايَا مِنْهُ ذَاكِرَةٌ ... وَضَاحِكاً والرَّدَى مِنْهُ عَلَى حَنَقِ

.. قَطَعْتَ عُمْرَكَ فِي سَهْوٍ وفِي سِنَةٍ ... ومِنْ أمَامِكَ لَيْلٌ دَائِمُ آخر: ... ((إِذا شَغَّلَ الضُّيَاعُ آلاتِ لَهْوِهِمْ وَطَابَ لَهُمْ عِنْدَ المَلاَهِيَ مَحْفَلُ)) ((وَسُرُّوْا بِمَا فِيْهِ هَلاَكُ نُفُوْسِهِمْ وَدِيْنُهُمُ وَالأَهْلُ وَالمَالُ أَوَّلُ)) ((فَقُمْ وَتَوَضّأ وأقْصِدْ الماجِدَ الّذي إِذا مَا مَضَي الثُّلْثَانِ للَّيْلِ يَنْزِلُ)) ((يَقُولُ أَلاَ مِنْ سَائِل يُعْطَ سُؤْلَهُ ومُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرْ لَهُ مَا يُؤَمِّلُ)) ((ومِنْ مُذْنِبٍ مِمَّا جَنَى جَاءَ تَائِباً إِلى غَافِرٍ لِلّذَنْبِ لِلتَّوْبِ يَقْبَلُ)) ((وَكَرِّرْ سُؤَالاً وَالدُّعَا بِتَضَرُّعٍ لَعَلّكَ تُحْظَى بِالفَلاَحِ فَتُقْبَلُ)) ((وَقُلْ عَبْدُكَ المِسْكِيْنُ قَدْ جَاءَ تائِباً وَيَرْجُوْكَ تَوْفِيْقاً ولِلْعَفْوِ يَأْمَلُ)) ((فَجُدْ وَتَجَاوَزْ يَا جَوَادُ لِمًنْ أتَى وَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ رَجَاؤُكَ مَوْئِلُ)) ... ›? اللَّهُمَّ وَفّقْنَا لِصَالِحِ الأعْمَالَ، ونَجِّنَا مِنْ جَميِع الأهْوَالِ، وأمَنّا مِنَ الفَزَعِ الأكْبَرِ يومَ الرْجْفِ والزِلْزَالْ، واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا، وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ الأحْيَاِء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وصلي اللَّهُمَّ علي سيدنا مُحَمَّدٍ وآلِهِ وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ) ثُمَّ اعْلَمْ أَهْلَ الضَّيَاعِ لَلْوَقْتِ الَّذِينَ كَانَ أَمْرُهُمْ فُرُطَاً وأعْمَارُهُمْ سَبَهْلَلاً لا يُفِيْقُوْنَ مِنْ قَتْلِ أوْقَاتِهِمْ فِي البَطَالَةِ وعِنْدَ المُنْكَرَاتِ مِنْ كُرَة وفِدْيو وتِلفزْيُون ومِذْيَاعٍ وسِيْنَمَا وَوَرَقٍ وَغِيْبة ونَمِيْمةٍ وتَجَسُّسٍ عَلَى المُسْلِمْين وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَرُبَّمَا أَضَافُوْا إِلى ذَلِكَ الجِنَايَةَ عَلَى أَوْقَاتِ الآخَرِيْن فَشَغَلُوهُم عَنْ أَعْمَالِهِمْ بِشُئُونٍ تَافِهَةٍ أَوْ فِيْمَا يَعُوْدُ عَلَيْهِم بِالخُسْرانِ فَهَؤُلاَءِ أَسَاءُوا مِنْ جِهَتَيْن عَلَى أَنْفُسِهِمْ إِذْ يُمْضُونَ أَيَّامَهُمْ فِي غَيْرِ عَمَلٍ وعَلَى غَيْرِهِمْ حَيْثُ شَغَلُوْهُمْ عَنْ العَمَلِ والعَجَبُ أنَّ هَؤُلاَءِ الّذِيْنَ اعْتَادُوْا قَتْلَ الوَقْتِ إِذَا مَا تَبَيَّنَ فَشَلُهُمْ فِي نَوْبَةِ يَقْظَةٍ رَاحُوْا يَتَساءَلُوْنَ عَنْ سِرِّ هَذَا الفَشَلِ وَيَتَّهِمُوْنَ الأَيَّامَ تَارةً والحَظّ تَارةً أُخْرَى، كَأَنَّهُمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ مَطْبُوْعُونَ عَلَى النَّجَاحِ دُوْنَ عَمَلٍ وَأَنْ يَجْنُوْا ثِمَارَ مَوَاهِبِهِمْ بَعْدَ أَنْ قَتَلُوْا هَذِهِ المَوَاهِبَ. أَمَّا السَّبَبُ الحَقِيْقِي لِفَشَلِهِمْ فَهُوَ لاَ يَخْطُرُ لَهُمْ بِبالٍ وَلاَ يُفَكِّرُوْنَ فِيْهِ وَذَلِكَ لِضُعْفِ عُقُوْلِهم. فَعَلَى العَاقِلِ أَنْ يَبْتَعِدَ عَنْ هَؤُلاَءِ الكُسَالَى كُلَّ البُعْدِ لِئلا يُؤَثِّرُوْا عَلَيْهِ فَيُصِيْبُهُ مَا أَصَابَهُمْ مَنْ ضَيَاعِ العُمْرِ سُدَى ويَجْتَهِدَ فِي صُحْبَتِهِ ضِدَّ هَؤُلاَءِ أُنَاساً أتْقِيَاءَ مُحَافِظِيْنَ عَلَى أَوْقَاتِهِمْ لاَ يُمْضُوْنَهَا إِلاَ فِي طَاعَةِ اللهِ وَمَا أَحْسَنَ مَا قيل: ... أخو الفِسْقِ لا يُغْرُوْكَ مِنْهُ تَوَدُدٌ ... ... فكُلُ حِبَالِ الفَاسِقْيِنَ مَهِينُ وَصَاحِبْ إذَا مَا كُنْتَ يَوْماً مُصَاحِباً ... أَخَا ثِقَةٍ بالغَيْبِ مِنْكَ أَمِيْنُ آخر: ... بِعَشْرَتكَ الكِرَامَ تُعَدُّ مِنْهُمْ ... فَلاَ تُرَيَنْ لِغَيرِهُمُ أَلُوفْا آخر: ... فَصَاحِبْ تَقِيّاً عَالِماً تَنْتَفِعْ بِهِ فَصُحْبَةُ أَهْلِ الْخَيْرِ تُرْجَى وَتُطْلَبُ وَإِيَّاكَ والفُسَّاقَ لاَ تَصْحَبَنَّهُمْ فَقُرْبُهُمُ يُعْدِى وَهَذَا مُجَرَّبُ ... ›?

.. فَإِنََّا رَأَيْنَا المَرْءَ يَسْرِقُ طَبْعَهُ مِنْ الإِلْفِ ثُمَّ الشَّرُّ لِلنَّاسِ أَغْلَبُ وجَانِبْ ذَوِيْ الأَوْزارِ لاَ تَقَرَبنَّهُمْ فَقُرْبُهُمُ يُرْدي ولِلْعِرْضِ يَثْلِبُ ... ›? آخر: ... وأَهْوَ مِنْ الإِخْوَانِ كُلّ مُجَنِّبٍ ... عَنْ اللَّهْوِ مقْدَاماً عَلَى فِعْلِ طَاعَةِ لَهُ عِفَّةٌ عَنْ كُلِ شَيْءِ مُحَرَمٍ ... وَذُوْ رَغْبَةٍ فيمَا يَقُوْدُ لجَنَّةِ آخر: ... لاَ يُعْجِبَنْكَ أثْوَابٌ عَلَى رَجُلٍ ... وَانظُرْ إِلى دِيْنِهِ وَانظُرْ إِلى الأدَبِ فالعُوْدُ لَوْ لَمْ تَفُحْ مِنْهُ رَوَائِحُهُ ... مَا فَرَّقَ النَّاسُ بَيْنَ العُودِ والحَطَبِ وبالتَّالِي فالّذِي يُرْشِدُنَا إِلَيْهِ النَّبِيُّ (فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ يُقَرِّرُ أوّلاً أنَّ صِحَّةَ البَدَنِ نِعْمَةُ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ عَلَيْنَا لِيُرَبّي فِيْنَا الوَعْيَ بِقِيْمَةِ الطَّاقَةِ الإنْسَانِيَّةِ الّتِي خَلَقَهَا اللهُ فِيْنَا. فَنَسْتَغِلّها فِيْمَا يَعُوْدُ عَلَيْنَا أَفْرَاداً وَجَمَاعَةً بالخَيِْر والنَّفْعِ. وَيُقَرَّرُ لَنَا (ثَانِياً أنَّ الوَقْتَ هُوَ الحَيَاةُ، وَأَنَّ مَا نَحْسِبُهُ فَرَاغاً فَنَتَفَنَّنُ فِي وَسَائِلِ قَتْلِهِ هُوَ الطَّرِيْقُ إِلى التَّقَدُّمِ فَالحَقِيْقَةُ أَنْ الحَيَّ الّذِي يُقَدِّرُ حَيَاتَهُ يَبْخَلُ فِي الوَقْتِ أَنْ يَكُونَ فَيْهِ فَارِغاً وَيَجْتَهِدُ فِيْهِ فِي العَمَلِ الّذِي يُقرّبُهُ إِلى اللهِ وإِلى مَرْضَاتِهِ مِنْ صَلاَةٍ وَصَدقَةٍ وتَهْلِيلٍ وتَسْبِيحٍ وتكْبيرٍ وتَحْمِيدٍ. وَمِنْ اسْتِغْلالِ الوَقْتِ بأنْفَعِ الوَسَائِلِ المُدَاوَمَةُ عَلَى الْعَمَِل وَإِنْ كَانَ قَلِيْلاً. وَذَلِكَ أَنَّ اسْتِدَامَةَ الْعَمَلِ القَلِيْلِ عَلَى تَوَالي الزَّمَانِ واسْتِمْرَارِهِ يُكَوِّنُ مِنْ القَلِيْلِ كَثِيْراً مِنْ حَيْثُ لاَ يَجِدُ الإِنْسَانُ مَشَقَّةً وَلاَ ضَجَراً. وفِي الْحَدِيْثِ إِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلى اللهِ مَادَامَ وَإِنْ قَلَّ وفِي الْحَدِيْثِ الآخَرِ إِنَّ الدَّيْنَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدّيْنَ أَحَدٌ إِلاَ غَلَبَهُ فَسَدَّدُوْا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوْا واسْتَعِيْنُوْا بالغَدْوَةِ والرَّوْحَةِ وشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ والقَصْدَ القَصْدَ.

فقَدْ خَتَمَ (هَذَا الْحَدِيثَ بِوَصِيَّةٍ خَفِيْفَةٍ عَلَى النُّفُوسِ، نَافِعَةٍ تُرْشِدُ إِلى المُحَافَظَةِ عَلَى الوَقْتِ، حَيْثُ حَثّ فِيْهَا عَلَى التَّبْكِيْر وَرغَّبَ أَنْ يَبْدأَ المُسْلِمُ أَعْمَالَ يَوْمِهِ نَشِيْطاً طَيّبَ النَّفْسِ مُكْتَمِلَ العَزْمِ فَإِنَّ الحِرْصَ عَلَى الاْنتِفَاعِ مِنْ أَوَّلِ الْيَوْمِ يَسْتَتْبِعُ الرَّغْبَةَ القَوِيَّةَ فِي أنْ لاَ يَضِيْعَ سائِرُهُ سُدَى. فَهَذِهِ الأوْقَاتُ الثّلاثَةُ المَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيْثِ، كَمَا أَنَّهَا السَّبَبُ الوَحِيْدُ لِقَطْعِ المَسَافَاتِ القَرِيْبَةِ والبَعِيْدَةِ فِي الأَسْفَارِ الحِسّيِةِ مَعَ رَاحَةِ المُسَافِرِ وَرَاحَةِ رَاحِلَتِهِ وُوُصْوْلِهِ بِرَاحَةٍ وَسُهُوْلَةٍ فَهِيَ السَّبَبُ الوَحِيْدُ لِقَطْعِ السَّفَرِ الأُخْرَوِيِّ وَسْلُوْكِ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيْمِ والسَّيْرِ إِلى اللهِ سَيْراً جَمِيْلاً. فَمَتَى أَخَذَ العَامِلُ نَفْسَهُ وَشَغَلَهَا بِالْخَيْرِ والأَعْمَالِ الصَّالِحَِة المُنَاسِبَةِ لِوَقْتِهِ أَوَّلَ نَهَارِهِ وآخِرَ نَهَارِهِ وشَيْئاً مِنْ لَيْلِهِ وخُصُوصًاً آخِرَ اللَّيْلِ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْخَيْرِ وَمِنْ البَاقِيَاتِ الصّالِحَاتِ أَكْمَلُ حَظٍّ وَأَوْفَرُ نَصِيْبٍ وَنَالَ السَّعَادَةَ وَالفَوْزَ وَالفَلاحَ وَتَمّ لَهُ النَّجَاحُ بِإِذْنِ اللهِ فِي رَاحَةٍ وَطُمَأْنِيْنَةٍ مَعَ ُحُصْولِ مَقْصَدِهِ الدُّنْيَويّ وأغْرَاضِهِ النَّفْسِيَّةِ. وَمِمَّا وَرَدَ فِي الحَثِّ عَلَى صِيَانَةِ الوَقْتِ مَا وَرَدَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ (قَالَ اغْتَنِِمْ خَمْساً قَبْلَ خَمْسٍ: شَبابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ وغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ. وَقَالَ (مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ غَالِيَةٌ أَلاَ إِنَ سِلْعَةَ اللهِ الجَنَّةَ وَرُوِيَ عَنْ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ مَرَّ بِيْ رَسُوْلُ الله (وأنَا مُضْطَجِعَةٌ مُتَصَحَّبَةٌ فَحَرَّكَنِيْ بِرِجْلِهِ ثُمَّ قَالَ يَا بُنَيَّةَ قُوْمِيْ فاشْهَدِي رِزْقَ رَبَّكِ وَلاَ تَكُونِي مِنَ الغَافِلِيْنَ فَإِنَّ اللهَ يَقْسِمُ أَرْزَاقَ النَّاسِ مَا بَيْنَ طُلُوْعِ الفَجْرِ إِلى طُلُوْعِ الشَّمْسِ) إِذْ أَنَّ الجَادِيْنَ أَوْ الكُسَالَى يَتَمَيَّزُوْنَ فِي هَذَا الوَقْتِ فَيُعْطَى كُلُّ امْرئٍ حَسَبَ اسْتِعْدَادِهِ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا والآخِرَةِ. شِعْراً: ... إَذَا المَرْءُ لم يَطْلُبْ مَعَاشاً لِنَفْسِهِ ... شَكَا الفَقْرَ أَوْ لاَمَ الصَّدِيْقَ فَأكْثَرَا وَصَارَ عَلَى الأَدَنَيْنِ كَلَّاً وَأَوْشَكَتْ ... صِلاتُ ذَوِيْ القُرْبَى لَهُ أَنْ تَنْكَرَا

وخِتَاماً فَيَنْبَغِيْ لِلْعَاقِلِ اللَّبِيْبِ أَنْ لاَ يُضَيِّعَ أَيَّامَ صِحَّتِهِ وَفَراغَ وقْتِهِ بِالتَّقْصِيْرِ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَأَنْ لاَ يَثِقَ بِسَالِفِ عَمَلٍ وَيَجْعَلَ الاجْتِهَادَ غَنِيْمَةَ صِحَّتِهِ، وَيَجْعَلَ الْعَمَلَ فُرْصَةَ فَراغِهِ. فلَيْسَ الزَّمَانُ كُلُّهُ مُسْتَعِدَاً وَلاَ مَا فَاتَ مُسْتَدْرِكاً. شِعْراً: ... لَيْسَ السَّعَادَة أَنْ تَبِيْتَ مُنَعَّمَا ... وتَظَلُّّ سَالِكاً مَسْلكَ الكَسْلانِ مَا لِلرِّجَالِ وللتَّنَعُمِ إِنَّمَا ... خُلِقُوا ليْعُبدُوْا خَالِقَ الإِنْسَانِ قَال بَعْضُهُمْ فَوْتُ الوَقْتِ أَشَدُّ مِنْ فَوْتِ الرُّوْحِ عِنْدَ أَصْحَابِ الحَقِيْقَةِ لأَنَّ فَوْتَ الرَّوْحِ انْقِطَاعٌ عَنْ الخَلْقِ وَفَوْتَ الوقتِ انْقِطَاعٌ عَنْ الحَقِّ. وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الرَّاحَةُ لِلرِّجَالِ غَفْلٌَة ولِلنِّسَاءِ غِلْمَةٌ فَالفَرَاغُ مَفْسَدَةٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لاً تُمْضِ يَوْمَكَ فِي غَيْرِ مَنْفَعَةٍ وَلاَ تُضِعْ مَا لَكَ فِي غَيْرِ الفِعْلِ الحَسَنِ، فَالعُمْرُ أقْصَرُ مِنْ أنْ يَنْفَدَ فِي غَيْرِ المَنَافِعِ كَمَا قِيْلَ: أَذَانُ الْمَرْءِ حِيْنَ الطِّفْل يَأتِيْ وتَأْخِيْرُ الصَّلاةِ إِلى المَمَاتِ دَلِيْلٌ أَنَّ مَحْيَاهُ قَلِيْلٌ كَمَا بَيْنَ الأذَانِ إِلى الصَّلاَةِ ... ›? وَالْمَالُ أَقَلُّ مِنْ أَنْ يُصْرَفَ فِي غَيْرِ الصَّنَائِعِ والعَاقِلِ أَجَلُّ وأَكْيَسُ مِنْ أنْ يُفْنِي أَياَّمَهُ فِيْمَا لاَ يَعُودُ إِلَيْهِ نَفْعُهُ وَخَيْرُهُ ويُنْفِقُ أَمْوَالَهُ فِيْمَا لاَ يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابُهُ وأجْرُهُ. وَقَالَ عِيْسَى عَلَيْهِ وعَلَى نَبِيّنَا أَفْضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ البّرُّ ثَلاَثَةٌ المَنْطِقُ والنَّظَرُ والصَّمْتُ فَمَنْ كَانَ مَنْطِقُهُ فِي غَيْرِ ذِكْرٍ فَقَدْ لَغا ومَنْ كَانَ نَظَرُهُ فِي غَيْرِ اعْتِبَارَ فَقَد سَها ومَنْ كَانَ صَمْتُهُ فِي غَيْرِ فِكْرٍ فَقَدْ لَهَا. شِعْراً: ... عَقَلْتُ فَودَّعْتُ التَّصَابِي وَإِنَّما ... تَصُرُّمُ لَهْوِ المَرْءِ أنْ يَكْمُلَ العَقْلُ أَرَى الكُفْرَ شَرَاً فِي الحَيَاةِ وَبَعْدَهَا ... ولاَ عُمرَ إِلاّ مَا يُنَالُ بِهِ الفَضْلُ

ومِمَّا يَحْفِزُ الإِنْسَانَ عَلَى المُسَابَقَةِ إِلى فِعْلِ الطَّاعَاتِ تَذَكُّرُ يَوْمِ القِيَامَةِ وَحَالَةَ السَّبْقِ لِلْمُجدِّيْنَ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا مَضَتِ الأَوْقَاتُ فِي غَيْرِ طَاعَةِ وَلَمْ تَكُ مَحْزُوْناً فَذَا أعْظَمُ الخَطْبِ عَلاَمَةُ مَوْتِ الْقَلْبِ أَنْ لاَ تَرَى بِهِ حَرَاكاً إِلى التّقْوَى ومَيْلاً عَنِ الذَّنْبِ ... ›? وَقَالَ الآخَرُ: ... وَلَوْ قَدْ جِئْتَ يَوْمَ الفَصْلِ فَرْداً وأبْصَرْتَ المَنَازِلَ فِيْهِ شَتَّى لأَعْظَمْتَ النَّدَامَةَ فِيْهِ لَهْفاً عَلَى مَا فِي حَيَاتِكَ قَدْ أَضَعْتَا ... ›? فَالعَاقِلُ مَنْ يُبَادِرُ أَيَّامَ الصِّحَّةِ وَالَّسلاَمَةِ وَلاَ يُفَوِّتُ مِنْهَا شَيْئاً فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللهِ. قَالَ الأَعْشَى: ... إِذا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنَ التُّقَى وَأَبْصَرْتَ بَعْدَ اْلمَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا نَدِمْتَ عَلَى أَنْ لاَ تَكُوْنَ كَمِثْلِهِ وَأَنَّكَ لَمْ تُرْصِدْ كَمَا كَانَ أَرْصَدَا شِعْراً: ... وَاِنْ سَكَنَتْ عَمَّا قَلِيْلٍ تَحَرَّكُ وَاِنْ سَكَنَتْ عَمَّا قَلِيْلٍ تَحَرَّكُ وبَادِرْ بأَوْقَاتِ السَّلامَةِ إِنَّهَا رِهَانٌ وهَلْ لِلرَّهْنِ عِنْدَكَ مَتْرَكُ ... ›?

وصية الإمام الموفق وابن القيم رحمهما الله

نَسْألِ اللهُ أَنْ يُوفِقَنَا لِتَدبُّرِ آياتِهِ وفَهْمِ سُنَّةِ نَبِيِّهِ (والْعَمَلِ بِهِمَا وأنْ يَرْزُقَنَا الانْتِفَاعَ بِمُرُورِ الزَّمَنِ عَلَى خَيْرِ وَجْهٍ إِنَّهُ القَادِرُ عَلَى ذَلِكَ، اللَّهُمَّ أَيْقِظْنَا مِنْ هَذِهِ السِّنَةِ وَوَفِقْنَا لاِتِّبَاعِ ذَوِي النُّفُوسِ المُحْسِنَةْ وآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، اللَّهُمَّ وآتِنَا أَفْضَلَ مَا تُؤْتِي عِبَادَكَ الصَّالِحِيْنَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسِلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرحمَ الرَاحِمِينَ وصَلّي اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وعَلَى آلِهِ وصَحبِهِ أجْمَعين. (فَصْلٌ) وفِي وَصِيَّةِ الإِمَامِ المُوَفَّقِ ابنِ قُدَامَهَ مَا لَفْظُهُ: فاغْتَنِمْ رَحِمَكَ اللهُ حَيَاتَكَ النَّفِسْيَةَ واحْتَفِظْ بأَوْقَاتِكَ العَزِيْزَةِ واعْلَمْ أنَّ مُدَّةَ حَيَاتِكَ مَحْدُوْدَةٌ وأَنْفَاسَكَ مَعْدُوْدَةٌ فكُلُ نَفَسٍ يَنْقُصُ بِهِ جُزْءُ مِنْكَ والعُمْرُ كُلُّهُ قَصِيْرٌ والبَاقِي مِنْهُ هُوَ اليَسِيْرُ وَكُلُ جُزْءٌ مِنْهُ جَوَهَرَةٌ نَفِسْيَةٌ لاَ عِدْلَ لَهَا والبَاقِي مِنْهُ هُوَ اليَسِيْرُ وَكُلُ جُزْءٌ مِنْهُ جَوَهَرَةٌ نَفِسْيَةٌ لا عِدْلَ لَهَا ولاَ خَلفَ مِنْهَا فإِنَّ بِهَذِهِ الحَيَاةِ اليَسِيْرَةِ خُلُودُ الأَبَدِ فِي النَّعِيْمِ أَوْ الْعَذَابِ الأَلِيْمِ. وإذا عَادَلْتَ هَذِهِ الحَيَاةَ بِخُلُودِ الأَبَدِ عَلِمْتَ أَنَّ كُلَّ نَفَسٍ يُعَادِلُ أكْثَرَ مِنْ أَلفِ أَلفِ عَامٍ فِي نَعِيْمِ لاَ خَطَرَ لَهُ أَوْ خِلافَ ذَلِكَ ومَا كَانَ هَكَذَا فَلاَ قِيْمَةَ لَهُ فَلاَ تُضَيِّعَ جَوَاهِرَ عُمْرِكَ النَّفِسْيَةَ بِغَيْرِ عَمَل وَلاَ تُذْهِبْهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ واجْتَهِدْ أَنْ لاَ يَخْلُو نَفَسٌ مِنْ أَنْفَاسِكَ إِلاَّ فِي عَمَلِ طَاعَةٍ أَو قُرْبَةٍ تُقَرِّبُ بِهَا فإِنَّكَ لَوْ كَانَ مَعَكَ جَوْهَرَةٌ مِنْ جَوَاهِرِ الدُنْيَا لَسَاءَكَ ذَهَابُهَا فَكَيْفَ تُفَرَّطُ فِي سَاعَاتِكَ وكَيْفَ لاَ تَحْزَنُ عَلَى عُمُرِكَ الذَّاهِبِ بِغَيْرِ عِوَضٍ انتهي. وعَنْ عُمَرَ بنِ ذَرٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ اعْمَلُوا لأِنْفُسِكُمْ رَحِمَكُم اللهُ فِي هَذَا اللَّيلِ وَسَوَادِهِ، فإِنَّ المَغْبُوْنَ مَنْ غُبِنَ خَيْرَ اللَّيلِ والنَّهَارِ، والمَحْرُوْمُ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهُمَا، إِنَّمَا جُعِلا سَبِيْلاً لِلْمُؤْمِنِينَ إِلى طَاعَةِ رَبّهم، وَوَبَاِلاً عَلَى الآخَرِيْنَ لِلغَفْلَةِ عَنْ أَنْفُسِهِم فأَحْيُوا للهِ أَنْفُسَكُمْ بذِكْرِهِ، فإنَّمَا تَحْيَا القُلُوبُ بِذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. كَمْ مِنْ قَائِمٍ للهِ جَلَّ وَعَلا فِي هَذَا اللَّيلِ قَدْ اغْتَبَطَ بقِيَامِهِ فِي ظُلْمَةِ

حُفْرَتِهِ وَكَمْ مِنْ نَائِمٍ فِي هَذَا اللَّيلِ قَدْ نَدِمَ عَلَى طُوْلِ نَوْمَتِهِ عِنْدَمَا يَرَى مِنْ كَرَامَةٍ اللهِ لِلْعَابِدِيْنَ غَداً فاغْتَنِمُوْا مَمَرَّ السَّاعَاتِ واللَّيَالِي والأَيَّامِ رَحِمَكُم الله وَرَاقِبُوا اللهَ جَلَّ وَعَلا فِي كُلِّ لَحْظَةٍ ودَاوِمُوْا شُكْرَهُ. قَالَ مُحَمَّد بنُ عَلي الترمذيُ اجْعَل مُرَاقَبَتَكَ لِمَنْ لاَ تَغِيْبُ عَنْ نَظَرِهِ إِلَيْكَ واجْعَلْ شُكْرَكَ لِمَنْ لاَ تَنْقَطِعُ نِعْمَتُهُ عَنْكَ واجْعَلْ خُضُوْعَكَ لِمَنْ لاَ تَخْرُجُ عَنْ مُلْكِهِ. وَقَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: العَبْدُ مِنْ حِيْنِ اسْتَقَرَّتْ قَدَمُهُ فِي هَذِهِ الدَارِ فَهُوَ مُسَافِرٌ فِيْهَا إِلى رَبِّهِ، وَمُدَّةُ سَفَرِهِ عُمْرُهُ والأيَّامُ واللَّيالِي مَرَاحِلُ فَلاَ يَزَالُ يَطْوِيْهَا حَتّى يَنْتَهِِي السَّفَرُ، فالكَيِّسُ لاَ يَزَالُ مُهْتَماً بِقَطْعِ المَرَاحِلِ فِيْمَا يُقَرَّبُهُ إِلى اللهِ لِيَجِدَ مَا قَدَّمَ مُحْضَراً ثُمَّ النّاسُ مُنْقَسِمُونَ إِلى أقْسَامٍ، مِنْهُمْ مَنْ قَطَعَهَا مُتَزَوَّداً بِمَا يُقَرَّبُهُ إِلى دَارِ الشَّقَاءِ مِنْ الكُفْرِ وَأَنْوَاعِ المَعَاصِيْ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَطَعَهَا سَائِراً فِيْهَا إِلى اللهِ وإِلى دَارِ السَّلامِ، وَهُمُ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ: سَابِقُوْنَ أدُّوْا الفَرَائِضَ وأَكْثَرُوْا مِنْ النَّوَافِل بأنْوَاعِهَا، وَتَرَكُوْا المَحَارِمَ، والمَكْرُوْهَاتِ وفُضُولِ المُبَاحَاتِ، ومُقْتَصِدُوْنَ أَدَّوْا الفَرَائِضَ وتَرَكُوْا المَحَارِمَ، وَمِنْهُمْ الظَالِمُ لِنَفْسِهِ الَّذِي خَلَطَ عَمَلاً صَالِحاً وآخَرَ سَيّئاً وهُمْ فِي ذَلِكَ دَرَجَاتٍ يَتَفَاوَتُوْنَ تَفَاوُتاً عَظِيْماً أ.هـ. وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: النَّاس مُنْذُ خُلِقُوا لَمْ يَزَالُوْا مُسَافِرِيْنَ لَيْسَ لّهُمْ حَطٌ عَنْ رِحَالِهم إِلا فِي الْجَنَّةِ أَو النَّارِ والعَاقِلُ يَعْلَمُ أَنْ السّفَرَ مبْنِيٌ عَلَى المَشَقَّةِ وَرُكُوبِ الأَخْطَارِ وَمِنَ المُحَالِ عَادَةً أَنْ يُطْلَبَ فِيْهِ نَّعِيمٌ، ولَذَةٌ وَرَاحَةٌ إِنَّمَا ذَلِكَ بَعْدَ اْنِتِهَاءِ السَّفَرِ وَمِنَ المَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ وَطْأَةِ قَدَمٍ أَوْ كُلَّ آنٍ مِنْ آنَاتِ السَّفَرِ غَيْرَ وَاقِفَةٍ وَلاَ المُكَلَّفُ وَاقِفٌ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ سَافَرَ عَلَى الحَالِ التِي يُحُبُ أَنْ

قصيدة في الحث علي أخذ الزاد للدار الآخرة

يَكُوْنَ المُسَافِرُ مِنْ تَهْيِئَةِ الزَّادِ المُوْصِلِ وَإِذَا نَزَلَ أَوْ نَامَ أَوْ اسْتَرَاحَ فَعَلَى اسْتِعْدَادٍ. شِعْراً: ... أَنْتَ المُسَافِرُ والدُّنْيَا الطَرِيقُ وَأَنْ فَاسٌ خُطَاكَ وَرَأْسُ المَرْءِ إِيْمَانُ فَاجْعَلْ لِنَفْسِكَ تَقْوَى اللهِ مَدْرَجَةً فَلِلإِسَاءَاتِ قُطَّاعُ وأَعْوَانُ يَا قَومُ دُنْيَاكُمُوْا دَاٌر مُزَوَّقَةٌ لَكِنْ لَهَا وُضِعَتْ فِي الرَّمْلِ أَرْكَانُ بِهَا سُقُوفٌ بِلاَ أُسٍ مُزَخْرَفَةٌ وكَيْفَ يُبْنِيَ بِغْيْرِ الأُسِّ بُنْيَانُ كَمْ فَاتِحٍ عَيْنَهُ فِيْهَا تَخَطَّفَهُ أيْدِي الرَّدَى قَبْلَ أَنْ تَنْضَمَّ أَجْفَانُ هِيَ السَّرَابُ وَمَاءُ الوَجْهِ تُرْهِقُهُ وَلاَ يَرَى فِيْهِ وَجْهَ المَاءِ عَطْشَانُ رَحّى يَدُوْرُ دَقِيْقٌ شَأْنَهُ عَجَبٌ غَدَا لِكُلِّ خَلِيْلٍ وَهُوَ طَحَّانُ يَسُرُّ كُلُّ فَتَّى طُوْلُ الزَّمَانِ بِهِ ولِلْفَتَى حَاصِلُ الأزْمَانِ إِزْمَانُ ... ›? وَقَالَ ابْنُ القَيْمِ رَحِمَهُ اللهُ وعِمَارَةُ الوَقْتِ الاشْتِغَالُ فِي جَمِيعِ آنَائِهِ بِمَا يُقَرِبُ إِلى اللهِ أوْ يُعِيْنُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ مَأْكَلٍ وَمَشْرَبٍ أوْ مَنْكَحٍ أَوْ مَنَانٍ أَوْ رَاحَةٍ

فأنَّهُ مَتَى أَخَذَهَا بِنِيَّةِ القُوَّةِ عَلَى مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَتَجَّنَب مَا يُسْخِطُهُ كَانَتْ مِنْ عِمَارَةِ الوَقْتِ وَإِنْ كَانَ لَهُ فِيْهَا أَتَمَّ لَذَّةٍ فَلاَ تَحْسَبْ عِمَارَةَ الوَقْتِ بِهَجْرِ اللَّذَاتِ وَالّطيَّبَاتِ فالمُحِبُ الصَّادِقُ رُبَّمَا كَانَ سَيْرُهُ القَلْبِي فِي حَالِ أَكْلِهِ وشُرْبِهِ وجِمَاعِ أَهْلِهِ وَرَاحَتِهِ أَقْوَى مِنْ سَيْرِهِ البَدَنِي فِي بَعْضِ الأَحْيَانِ. وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: والْعَبْدُ إِذَا عَزَمَ عَلَى فِعْلِ أَمْرٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْلَمَ أَوَّلاً هَلْ هُوَ طَاعَةٌ للهِ أمْ لاَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَاعَةً فَلاَ يَفْعَلَهُ إِلاَّ أنْ يَكُونَ مُبَاحاً يَسْتَعِيْنُ بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ وحِيْنَئِذٍ يَصِيْرُ طَاعةً فَإذَاً بَانَ لَهُ أَنَّهُ طَاعَةٌ فَلاَ يُقْدِمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَنْظُرَ هَلْ هُوَ مُعَانٌ عَلَيْهِ أَمْ لاَ فِإنْ لَمْ يَكُنْ مُعَاناً عَلَيْهِ فلا يُقْدِمْ عَلَيْهِ فَيُذِلَ نَفْسَهْ وإِنْ كَانَ مُعَاناً عَلَيْهِ بَقِيَ عَلَيْهِ نَظَرٌ وهُوَ أنْ يَأْتِيَهْ مِنْ غَيْرِ بَابِهِ أَضَاعَهُ أَوْ فَرَّطَ فِيْهِ أَوْ أَفْسَدَ مِنْهُ شَيْئاً فَهَذِهِ الأُمُوْرُ الثلاَثةُ: الطَّاعَةُ والإِعَانَةُ والهِدَايَةُ أَصْلُ سَعَادَةِ العَبِْد وفَلاَحِهِ. وَهَوَ مَعْنَي قَولِ الْعَبِْد لِرَبَّهِ إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِيْنُ فأَسْعَدُ الخَلْقِ أَهْلُ هَذِهِ العِبَادَةِ والاسْتِعَانَةِ والهِدَايةِ إَلى المَطْلُوبِ وأشقَاهُمْ مَنْ عَدِمَ الأُمُوْرَ الثلاثَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ لَهُ نَصِيْبٌ مِنْ إيَّاكَ نَعْبُدُ ونَصِيْبُهُ مِنْ إِيَّاكَ نَسْتَعِيْنُ مَعْدُوْمٌ أَوْ ضَعِيْفٌ فَهَذَا مَخْذُوْلٌ مَهِيْنٌ مَحْزُوْنُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ نَصِيْبُهُ مِنْ إِيَّاكَ نَسْتَعِيْنُ قَوِياً ونَصِيْبُهُ مِنْ إيَّاكَ نَعْبُدُ ضَعِيْفاً أَوْ مَفْقُوْداً فَهَذَا لَهُ نُفُوذٌ وَتَسَلُّطٌ وَقُوَّةٌ ولكِنْ لاَ عَاقِبَةَ لَهُ بَلْ عَاقِبَتُهُ أَسْوَءُ عَاقِبَةً. وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ لَهُ نَصِيْبٌ مَنْ إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِيْنُ ولَكِنْ نَصِيْبُهُ مَنْ الهِدَايَةِ إَلى المَقْصُوْدِ ضَعِيْفٌ جِداً كَحَالِ كَثِيْرٍ مِنْ العِبَادِ والزُهَادِ الَّذِيْنَ قَلَّ عِلْمُهُمْ بحَقَائِقِ مَا بَعَثَ اللهُ بِهِ مُحَمَّداً (مَنَ الهُدَى والتُقَى. شِعْراً: ... مَا الفَخْرُ إِلاَّ لأَهْلِ العِلْمِ العلم إِنَّهُمُوا ... عَلَى الهُدَى لِمنْ اسْتَهْدَى أَدلاَّءُ وَقِيَمةُ المَرْءِ مَا قَدْ كَانَ يُحْسِنُهُ ... وَالجَاهِلُونَ لأَهْلِ العِلْمِ أَعْدَاءُ فَعِشْ بِعِلْمٍ تَفُزْ حَياً بِهِ أَبَداً ... النَّاسُ مَوْتَى وأهْلُ العِلْمِ أَحْيَاءُ

اللَّهُمَّ اِجْعَلْ إيْمَانَنَا بِكَ عَمِيْقَاً وسَهِلْ لَنَا إِلى مَا يُرْضِيْكَ طَرِيْقاً وألطُفْ بِنَا يَا مَوْلاَنََا وَوَفِقْنَا لِلْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ تَوْفِيْقَاً وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: أَقَامَ اللهُ سُبْحَنهَ ُهَذَا الخَلْقَ بَيْنَ الأَمْرِ والنَّهْي والعَطَاءِ والمَنْعِ فافْتَرَقُوْا فِرقتَيْنِ، فِرقَهً قَابَلَتْ أَمْرَهُ بالتَّرْكِ، وَنَهِيَهُ بالاِرْتِكَابِ، وَعَطَاءَهُ بِالغَفْلَةِ، عَنْ الشُكْرِ ومَنْعَهُ بِالسُّخْطِ وهَؤُلاَءِ أَْعْدَاؤُهُ، وفِيْهِمْ مِنَ العَدَاوَةِ بِحَسَبِ مَا فِيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ. وقِسْمً قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ عَِيْدُكَ، فإِنْ أَمَرْتَنَا سَارَعْنَا إِلى الإِجَابَةِ، وإِنْ نَهَيْتَنَا أَمْسَكْنَا نُفُوسَنَا وكَفَفْنَاهَا عَمَّا نَهَيْتَنَا عَنْهُ وإِنْ أعْطَيْتَنَا حَمِدْنَاكَ وشَكَرْنَاكَ، وإِنْ مَنَعْتَنَا تَضَرَّعْنَا إِلْيكَ وذَكَرْنَاكَ، فَلَيسَ بَيْنَ هَؤُلاَءِ وبَيْنَ الجَنَّةِ إِلاَ سِتْرُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا، فإِذَا مَزَّقَهُ عَلَيهِم المَوتُ، صَارُوا إِلى النَّعِِْيِم المُقِيْمِ وقُرَّةِ العَيْنِ، كَمَا أَنَّ أُولَئِكَ لَيْسَ بَيْنَهُمْ وبَيْنَ النّارِ إِلاَ سِتْرُ الحَيَاةِ، فإِذَا مَزَّقَهُ المَوتُ صَارُوا إِلى الحَسْرةِ والأَلَمِ. فَإذَا تَصَادَمَتْ جُيُوشُ الدُّنْيَا والآخِرَةِ فِي قَلْبِكَ وأَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ مِنْ أَيّ الفَرِيْقَينِ أَنْتَ، فَانْظُرْ مَعَ مَنْ تَمِيْلُ مِنْهُمَا، ومَعَ مَنْ تُقَاتِلُ، إذْ لاَ يَمْكِنُكَ الوُقُوفُ بَيْنَ الجَيْشَيْنِ، فأَنْتَ مَعَ أَحَدِهِمَا لاَ مَحَالَةَ. فَفَرِيقٌ مِنْهُمْ اسْتَغَشُّوْا الهَوَى فَخَالَفُوهُ، واسَتَنْصَحُوْا العَقْلَ فَشَاوَرُهُ، وفَرَّغُوا قُلُوبَهُمْ لِلْفِكْرِ فِيْمَا خُلِقُوْا لَهْ، وَجَوَارِحَهُم لِلْعَمَلِ بِمَا أُمِرُوْا بِهِ،

وَأَوْقَاتَهم لِعِمَارَتِهَا بِمَا يَعْمُرُ مَنَازِلَهُمُ فِي الآخِرَةِ، واسْتَظْهَرُوْا عَلَى سُرْعَةِ الْعَمَلِ بالمُبَادَرَةِ إِلى الأَعْمَالِ، وسَكَنُوا الدُّنْيَا وقُلُوبُهُمْ مُسَافِرَةٌ عَنْهَا، واسْتَوْطَنُوا الآخِرَةَ قَبْلَ انْتِقَالِهِم إِلَيْهَا. واهْتَمُّوْا بِاللهِ وطَاعَتِهِ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ، وَتَزَوَّدُوْا لِلآخِرَةِ عَلَى قَدْرِ مَقَامِهِمْ فِيْهَا، فَجَعَلَ لَهُمْ سُبْحَانَهُ مِنْ نَعِيْمِ الْجَنَّةِ وَرَوْحهَا أنْ آنَسَهُمْ بِنَفْسِهِ، وَأقْبَلَ بقُلُوبِهِمْ إِلَيْهِ، وَجَمَعَهَا عَلَى مَحَبَّتِهِ، وشَوَّقَهُمْ إِلى لِقَائِهِ وَنَعَّمَهُمْ بقُرْبِهِ، وَفَرَّغَ قُلُوبَهُمْ مِمَّا مَلأ قُلُوبَ غَيْرِهِمْ مِنْ مَحَبَّةِ الدُّنْيَا والهَمَّ والحُزْنِ عَلَى فَوْتِهَا، والغَمَّ مِنْ خَوْفِ ذَهَابِهَا، فاسْتَلاَنُوْا مَا اسْتَوْعَرَهُ المُتْرَفُوْنَ، وأَنِسُوْا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الجَاهِلُونَ، صَحِبُوا الدُّنْيَا بأَبْدَانِهِمْ والملأ الأَعْلَى بأَرْوَاحِهِمْ عَلَى حَدِّ قَوْلِ الشَّاعِر: وَصَاحَبُوْهَا بأَبْدَانٍ قُلُوبُهُمُ طَيْرٌ لَهَا فِي ضِلاَلِ العَرْشِ أوْكَارُ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ سَيَّدُ عَمَلِهِ وطَرِيْقُهُ الّذِي يَعُدُّ سُلُوْكَهُ إِلى اللهِ طَرْيقَ العِلْمِ والتَّعْلِيمِ قَدْ وَفَّرَ عَلَيْهِ زَمَانَهُ مُبْتَغِياً بِهِ وَجْهَ اللهِ فَلاَ يَزَالُ كَذَلِكَ عَاكِفاً عَلَى طَرِيقِ العِلْمِ والتَّعْلِيمِ حَتَّى يَصِلَ مِنْ تِلْكَ الطَّرِيْقِ إِلى اللهِ وَيَفْتَحَ لَهُ فِيْهَا الفَتْحَ الخَاصَّ أّوْ يَمُوْتَ فِي طََرِيْقِ طَلَبِهِ فَيُرجَى لَهُ الوُصُولُ إِلى مَطْلَبِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللهِ} . وَقَدْ حُكِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ كَثِيْرَةٍ مِمَّنْ أَدْرَكَهُ الأَجَلُ وَهُوَ حَرِيْصٌ طَالِبٌ لِلْقُرْآنِ أنَّهُ رُؤِيَ بِعْدِ مَوْتِهِ وأَخْبَرَ أَنَّهُ فِي تَكْمِيْلِ مَطْلُوبِهِ وأنّهُ يَتَعَلَّمُ فِي البَرْزَخِ فإِنَّ العَبْدَ يَمُوْتُ عَلَى مَا عَاشَ عَلَيْهِ.

ومن النَّاس من يكون سيد عمله الذكر وقَدْ جعله زاده لمعاده ورأس ماله لمآله فمتي فتر عَنْهُ أو قصر رأي أنه قَدْ غبن وخسر. ومن النَّاس من يكون سيد عمله وطريقة الصَّلاة فمتي قصر في ورده منها أو مضي عَلَيْهِ وَقْت وَهُوَ غير مشغول بها أو مستعد لها أظلم عَلَيْهِ وقته وضاق صدره. ومن النَّاس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدي كقضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وأنواع الصدقات قَدْ فتح له في هَذَا وسلك منه طريقاً إلي ربه. ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ طَرِيْقُهُ الصَّوْمَ فَهُوَ مَتَى أَفْطَرَ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ وَسَاءَتْ حَالُهُ. ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ طَرِيْقُهُ تِلاَوَةَ القُرْآنِ وَهِيَ الغَالِبُ عَلَى أَوْقَاتِهِ وَهِيَ أَعْظَمُ أَوْرَادِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ طَرِيْقُهُ الأَمْرَ بالمَعْرُوْفِ والنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ قَدْ فَتَحَ اللهُ لًهُ فِيْهِ وَنَفَذَ مِنْهُ إِلى رَبِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ طَرِيْقُهُ الَّذِي نَفَذَ فِيْهِ الحَجَّ والاعْتِمَارَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ طَرِيْقُهُ قَطْعَ العَلائِقِ وتَجْرِيْدَ الهِمَّةِ وَدَوَامَ الْمُرَاقَبَةِ وَمُرَاعَاةَ الخَوَاطِرِ وحِفْظَ الأَوْقَاتِ أَنْ تَذْهَبَ ضَائِعَةً. وَمِنْهُمْ جَامَعُ المَنْفَذِ السَّالِكُ إِلى اللهِ فِي كُلِّ وَادٍ الوَاصِلُ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ فَهُوَ جَعَلَ وَظَائِفَ عُبُودِيَّتِهِ قِبْلَةَ قَلْبِهِ وَنَصْبَ عَيْنِهِ يَؤُمُّهَا أَيْنَ كَاَنَتْ وَيَسِيْرُ

معها حيث سارت قَدْ ضرب مَعَ كُلّ فريق بسهم فأين كانت العبودية وجدته هناك إن كَانَ علم وجدته مَعَ أهله أو جهاده وجدته في صف المجاهدين أو صلاة وجدته في القانتين أو ذكر وجدته في الذاكرين أو إحسان ونفع وجدته في زمرة المحسنين أو محبة ومُرَاقَبَة وإنابة إلي الله وجدته في زمرة المحسنين المنيبين. يَدِيْنُ بِدِيْنِ العُبُوْدِيَّةِ أنّي اسْتَقَلَّتْ رَكَائِبُهَا وَيَتَوجَّهُ إِلَيْهَا حَيْثُ اسْتَقَرَّتْ مَضَارِبُهَا لَوْ قِيْلَ لَهُ: مَا تُرِيْدُ مِنَ الأَعْمَالِ؟ لَقَالَ أُرِيْدُ أَنْ أُنفِّذَ أَوَامِرَ رَبِّيْ حَيْثُ كَانَتْ وأَيْنَ كَانَتْ جَالِبَةً مَا جَلَبَتْ مُقْتَضِيَةً مَا اقْتَضَتْ جَمَعَتْنِيْ أَوْ فَرَّقَتْنِيْ. لَيْسَ لِي مُرَادٌ إِلاَّ تَنْفِيذُها والقِيَامُ بِأدَائِهَا مُرَاقِباً لَهُ فِيْهَا عَاكِفاً عَلَيْهِ بِالرُّوْحِ والقَلْبِ وَالبَدَنِ وَالسِّرّ قَدْ سَلَّمْتُ إِلَيْهِ المَبِيْعَ مُنْظَِراً مِنْهُ تَسْلِيْمَ الثَّمَنِ {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} فَهَذَا هُوَ الْعَبْدُ السّالِكُ إِلى رَبِّهِ النّافِذُ إِلَيْهِ حَقِيْقَةً. ومعني النفوذ إليه أن يتصل به قَلْبهُ ويعلق به تعلق المحب التام المحبة بمحبوبه فيسلوا به عن جَمِيع المطالب سواه فلا يبقي في قَلْبهِ إِلا محبة الله وأمره وطلب التقرب إليه)) وصلي الله علي مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين. (فصل) فإذا سلك الْعَبْد علي هَذَا الطَرِيق عطف عَلَيْهِ ربه فقربه واصطفاه وأخذ بقَلْبهُ إليه وتولاه في جَمِيع أموره في معاشه ودينه وتولي تربيته أحسن وأبلغ مِمَّا يرَبِّي الوالد الشفيق ولده فإنه سُبْحَانَهُ القيوم الْمُقِيم لكل شيء من المخلوقات طائعها وعاصيها. فَكَيْفَ تَكُون قيوميته بمن أحبه وتولاه واثره علي ما سواه ورضي به من

النّاسِ حَبِيْباً وَرَبّاً وَوَكِيْلاً وَنَاصِراً وَمُعِيْناًً وَهَادِياً فَلَوْ كَشَفَ الغِطَاءُ عَنْ ألطَافِهِ وَبِرِّهِ وَصُنْعِهِ لَهُ مِنْ حَيْثُ يَعْلَمُ وَمِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُ لَذَابَ قَلْبُهُ مَحَبَّةً لَهُ وَشَوْقاً إِلَيْهِ وَتَقَطّعَ شُكْراًً لَهُ. وَلَكِنْ حَجَبَ القُلُوبَ عَنْ مُشَاهَدَةِ ذَلِكَ إِخْلادُهَا إِلى عَالَمِ الشَّهَوَاتِ والتَّعَلُّقِ بِالأسْبَابِ فَصَدَّتْ عَنْ كَمَالِ نَعِيْمِهَا وَذَلِكَ تَقْدِيْرُ العَزِيْزِ العَلِيْمِ وإِلاَّ فَأيُّ قَلْبٍ يَذُوْقُ حَلاَوَةَ مَعْرِفَةِ اللهِ وَمَحَبَّتِهِ ثُمَّ يَرْكَنُ إِلى غَيْرِهِ وَيَسْكُنُ إِلى مَا سِوَاهُ هَذَا مَا لاَ يَكُوْنُ أَبَداً. ومن ذاق شَيْئاً من ذَلِكَ وعرف طريقاً موصلة إلي الله ثُمَّ تركها وأقبل علي إرادته وراحاته وشهواته ولذاته وقع في آثار المعاطب وأودع قَلْبَهُ سجون المضايق وعذب في حياته عذاباً لم يعذب به أَحَداً من العالمين، فحياته عجز وغم وحزن وموته كدر وحسرة ومعاده أسف وندامة قَدْ فرط عَلَيْهِ أمره وشتت عَلَيْهِ شمله وأحضر نَفْسهُ الغموم والأحزان. فلا لذة الجاهلين ولا راحة العارفين يستغيث فلا يغاث ويشتكي فلا يشكي فقَدْ ترحلت أفراحه وسروره مدبرة وأقبلت آلامه وأحزانه وحسراته فقَدْ أبدل بأنسه وحشة وبعزه ذلاً وبغناه فقراً وبجمعيته تشتيتاً وأبعدوه فلم يظفر بقربهم وأبدلوه مكَانَ الأنس إيحاشاً. ذَلِكَ بأنه عرف طريقه إلي الله ثُمَّ تركها ناكباً مكباً علي وجهه فأبصر ثُمَّ عمي وعرف ثُمَّ أنكر وأقبل ثُمَّ أدبر ودعي فما أجاب وفتح له فولي ظهره الْبَاب قَدْ ترك طَرِيق مولاه وأقبل بكليته علي هواه. فلو نال بعض حظوظه وتلذذ براحاته وشؤونه فهو مقيد الْقَلْب عن

انطلاقه في فسيح التَّوْحِيد وميادين الأنس ورياض المحبة وموائد القرب قَدْ انحط بسبب إعراضه عن إلههِ الحق إلي أسفل سافلين وحصل في عداد الهالكين فنار الحجاب تطلع كُلّ وَقْت فؤاده وإعراض الكون عَنْهُ – إذ أعرض ربه – حائل بينه وبين مراده. فهو قبر يمشي علي وجه الأرض وروحه في وحشة من جسمه وقَلْبهُ في ملال من حَيَاتهُ يتمني الموت ويشتهيه ولو كَانَ فيه ما فيه حتى إذا جاءه الموت علي تلك الحال والعياذ بِاللهِ فلا تسأل عما يحل به من الْعَذَاب الأليم بسبب وقوع الحجاب بينه وبين مولاه الحق وإحراقه بنار البعد من قربه والإعراض عَنْهُ وقَدْ حيل بينه وبين سعادته وأمنيته. فَلَوْ تَوَهَّمَ العَبْدُ المِسْكِيْنُ هَذِِهِ الحالَ وَصَوَّرْتها لَهُ نَفْسُهُ وَاَرَتْهُ إِيَّاهَا عَلَى حَقِيقَتِهَا لتَقَطَّعَ وَاللهِ قَلْبُهُ وَلَمْ يَلْتَذَّ بِطَعَامٍ وَلاَ شَرَابٍ وَلَخََرَجَ إِلى الصُّعْداتِ يَجْأرُ إِلى اللهِ وَيَسْتَغِيْثُ بِِهِ وَيَسْتَعْتِبُهُ فِي زَمَنِ الاسْتِعْتَابِ هَذَا مَعَ أَنَّهُ إِذا آثَرَ شَهَواتِهِ وَلِذَّاتِهِ الْفَانِيَةَ الّتِي هِيَ كخَيَالِ طَيْفٍ أَوْ مُزْنَةِ صَيْفٍ نَغَّصَتْ عَلَيْهِ لذَّتَها أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهَا وَحِيْلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا أَقْدَرَ مَا كَانَ عَلَيْهَا وتِلْكَ سُنَّةُ اللهِ فِي خَلْقِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} . وهَذَا هُوَ غِبُّ إعراضه وإيثار شهواته علي مرضاة ربه يعوق القدر عَلَيْهِ أسباب مرداه فيخسر الأمرين جميعاً فيكون معذباً في الدُّنْيَا بتنغيص شهواته وشدة اهتمامه بطلب ما لم يقسم له وإن قسم له منه شيء فحشوه الخوف والحزن والنكد والألم فهم لا ينقطع وحَسْرَة لا تنقضي وحرص لا ينفد وذل لا

ينتهي وطمَعٌ لا يقلع وهَذَا في هذه الدار. وأما في البرزخ فأضعاف أضعاف ذَلِكَ قَدْ حيل بينه وبين ما يشتهي وفاته ما كَانَ يتمناه من قرب ربه وكرامته ونيل ثوابه وأحضر جَمِيع غمومه وأحزانه، وأما في دار الجزاء فسجن أمثاله من المبعدين المطرودين فواغوثاه ثُمَّ واغوثاه بغياث المستغيثين وأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. فَمَنْ أعْرَضَ عَنْ اللهِ بالكُليَّةِ أعْرَضَ اللهُ عَنْهُ بالكُلَّيَّةِ وَمَنْ أعْرَضَ اللهُ عَنْهُ لَزِمَهُ الشّقَاءُ والبُؤْسُ والبَخْسُ فِي أَحْوالِهِ وأعمَالِهِ وقَارَنَهُ سُوءُ الحَالِ وَفَسَادٌ فِي دِيْنِهِ ومَاَلهِ ِفَإِنَّ الرّبَّ إِذَا أعْرَضَ عَنْ جِهَةٍ دَارَتْ بِهَا النُّحُوسُ وأظْلَمْتْ أرْجاؤُهَا وانْكَسَفَ أنوارُهَا وَظَهَرَ عَلَيْهَا وَحْشَةُ الإِعْرَاضِ وَصَارَتْ مَأْوَى لِلشَّيَاطِيْنَ وَهَدَفاً لِلشُّرُورِ وَمَصّباً لِلْبََلاءِ. فَالمَحْرُوْمُ كُلَّ المَحْرُوْمِ مَنْ عَرَفَ طَرِيقاً إِلَيْهِ ثُمَّ أعْرَضَ عَنْهَا أَوْ وَجَدَ بَارِقَةً مِنْ حُبِّهِ ثُمَّ سُلِبَها لَمْ يَنْفُذْ إِلى رَبَّهِ مِنْها خُصُوصاً إِذَا مَالَ بِتِلْكَ الإِرَادَةِ إِلى شَيْءٍ مِنْ اللَّذَاتِ وانْصَرَف بجُمْلَتِهِ إِلى تَحْصِيْلِ الأغْرَاضِ والشّهَوَاتِ عاكِفَاً عَلَى ذَلِكَ فِي لَيْلِهِ وَنَهارِهِ وَغُدُوَّهِ وَرَوَاحِهِ هابِطاً مِنَ الأوْجِ الأعْلَى إِلى الحَضِيضِ الأدْنَى. قَدْ مضت عَلَيْهِ برهة من أوقاته وكَانَ همه الله وبغيته قربه ورضاه وإيثاره علي كُلّ ما سواه علي ذَلِكَ يصبح ويمسي ويظِلّ ويضحي وكَانَ الله في تلك الحال وليه لأنه ولي من تولاه وحبيب من أحبه ووالاه. فأصبح في سجن الهوى ثاوياً وفي أسر الْعَدُوّ مقيماً وفي بئر المعصية ساقطاً وفي أودية الحيرة والتفرقة هائماً معرضاً عن المطالب العالية إلي

الأغراض الخسيسة الفانية كَانَ قَلْبهُ يحوم حول العرش فأصبح محبوساً في أسفل الحُش: فَأَصْبَحَ كَالبَازِ المُنَتَّفِ رِيْشُهُ ... يَرَي حَسَراتٍ كُلَّمَا طَارَ طَائِرُ وقَدْ كَانَ دَهْراً فِي الرِّيِاضِ مُنَعَّماً ... عَلَى كُلِّ مَا يَهْوَى مِنَ الصَّيْدِ قَادِرُ إِلى أَنْ أصَابَتْهُ مِنَ الدّهْرِ نَكْبَةٌ ... إِذَا هُوَ مَقْصُوصُ الجناحَيْنِ حَاسِرُ فَيَا مَنْ ذَاقَ شَيْئاً مِنْ مَعْرِفَةِ رَبِّهِ وَمَحَبَّتِهِ ثُمَّ أعْرَضَ عَنْهَا واسْتَبْدَلَ بِغَيْرِها مِنْهَا يَا عَجَباً لَهُ بأيَّ شَيْءٍ تَعَّوَض وكَيْفَ قَرَّ قَرارُهُ فَما طَلَبَ الرُّجوعَ إِلى أحنِيَتِهِ وَمَا تَعَرّض وَكَيْف اتّخَذَ سِوَى أحنِيَتِهِ سَكناً وجَعَلَ قََلبَهُ لِمَنْ عَادَاهُ مَولاَهُ مِنْ أجْلِهِ وطَناً أمْ كَيْفَ طَاوَعَهُ قَلْبُهُ عَلَى الاصْطِبَارِ وَوَافَقَهُ عَلَى مُسَاكَنَةِ الأغْيَارِ. فَيَا مُعْرِضاً عَنْ حَيَاتِهِ الدَائِمَةِ وَنَعِيْمِهِ المُقِيمِ وَيَا بَائِعاً سَعَادَتَهُ العُظْمَى بِالعَذَابِ الألْيِمِ وَيَا مُسْخِطاً مَنْ حَيَاتًهُ وَرَاحَتُهُ وَفَوْزُهُ فِي رِضاهُ وطَالِباً رضى مَنْ سَعادَتُهُ فِي إِرْضاءِ سِوَاهُ إِنّمَا هِيَ لَذّةٌ فَانِيةٌ وشَهْوَةٌ مُنْقِضَيةٌ تَذْهَبُ لذّاتُها وتَبَقَى تَبِعَاتُهَا فَرَحُ سَاعَةٍ لاَ شَهْرٍ وغَمُّ سَنَةٍ بَلْ دَهْرِ طَعَامٌ لَذْيِذٌ مَسْمُومٌ أوَّلُهُ لذّةٌ وآخِرُهُ هَلاَكُ. فالعَالِم عَلَيْهَا والساعي في توصيلها كدودة القز يسد علي نَفْسهُ المذاهب بما نسج عَلَيْهَا من المعاطب فيندم حين لا تنفع الندامة ويستقيل حين لا تقبل الاستقالة فطوبي لمن أقبل علي الله بكليته وعكف عَلَيْهِ بإرادته ومحبته.

فإن الله يقبل عَلَيْهِ بتوليه ومحبته وعطفه ورحمته وإن الله سُبْحَانَهُ إذا أقبل علي عبد استنارت جهاته وأشرقت ساحاتها وتنورت ظلماتها وظهر عَلَيْهِ آثار إقباله من بهجة الجلال وآثار الجمال. وَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ أَهْلُ المَلأِ الأعْلَى بِالمَحَبّةِ والمُوالاَةِ لأنَّهُمْ تَبَعٌ لِمَوْلاهُمْ فَإِذَا أحَبَّ عَبْداً أحبُّوهُ وإِذَا وَالَى وَلِيّاً وَالوْهُ إِذَا أحَبّ اللهُ الْعَبْدَ نَادَى يَا جِبْرائيلُ إِنّي أُحِبُّ فُلاناً فَأَحَّبَّهُ فيُنادِي جِبْرائيلُ فِي السَّماءِ إنّ اللهَ يُحِبُّ فُلاناً فَأَحِبُّوهُ فيُحِبُّهُ أَهْلُ السّماءِ ثُمَّ يُحِبُّهُ أَهْلُ الأرْضِ. فَيُوْضَعُ لَهُ القَبُولُ بَيْنَهُمْ ويجْعَلُ اللهُ قُلُوبَ أوْلِيائِهِ تَفِدُ إِلَيْهِ بالوُدِّ والمَحَبّةِ والرَحْمَةِ ونَاهِيْكَ مَنْ يَتوجَّهُ إِلَيْهِ مالِكُ المُلكِ ذُو الجَلاَلِ والإِكْرَامِ بِمَحَبَّتِهِ ويُقْبِلُ عَلَيْهِ بأنْوَاعِ كرَامَتِهِ ويَلْحَظُهُ المَلأٌ الأعْلَى وأَهْلُ الأرْضِ بالتَّبْجِيلِ والتّكريمِ وَذَلِكَ فضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ واللهُ ذُوْ الفَضْلِ العَظِيمِ. وصلي الله علي مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين (فَصْلٌ) (قاعدة) السائر إلي الله والدار الآخرة بل كُلّ سائر إلي مقصد لا يتم سيره ولا يصل إلي مقصوده إِلا بقوتين – قوة علمية – وقوة عملية – فبالقوة العلمية يبصر منازل الطَرِيق ومواضع السلوك فيقصدها سائراً فيها ويجتنب أسباب الهلاك ومواضع العطب وطرق المهالك المنحرفة عن الطَرِيق الموصل. فقوته العلمية كنور عَظِيم بيده يمشي في ليلة عظيمة مظلمة شديدة الظلمة فهو يبصر بذَلِكَ النور ما يقع الماشي في الظلمة في مثله من الوهاد والمتآلف ويعثر به من الأحجار والشوك وغيره ويبصر بذَلِكَ النور أيضاً أعلام الطَرِيق وأداتها المنصوبة عَلَيْهَا فلا يضل عَنْهَا فيكشف له النور عن الأمرين

أَعْلاَمِ الطَرِيقِ وَمَعاطِبِها وبالقُوّةِ العَمَلِيّةِ يَسِيْرُ حَقِيْقَةً بَلِ السَّيْرُ هُوَ حَقِيقَةُ القُوَّةِ العَلَميّةِ فَإِنَّ السَّيْرَ هُوَ عَمَلُ المُسَافِرِ وكَذَلِكَ السَائِرُ إِلى رَبَّهِ إِذَا أبْصَرَ الطَرِيقَ وأعْلامَهَا وأبْصَرَ المَغَابِرَ والوِهَادَ والطُّرُقَ النّاكِبَةَ عَنْهَا فقَدْ حَصَلَ لَهُ شَطْرُ السّعادَةِ والفَلاحِ وَبقِيَ عَلَيْهِ الشّطْرُ الآخَرُ وَهُوَ أنْ يَضَعَ عَصاهُ عَلَى عَاتِقِهِ ويُشَمِّرَ مسافِراً فِي الطَّرِيقِ قَاطِعاً مَنَازِلَهَا بَعْدَ مَنْزِلَةٍ فَكُلَّمَا قَطَعَ مَرْحَلَةً اسْتَعَدَّ لِقَطْعِ الأُخْرَى وَاسْتَشْعَرَ القُرْبَ مِنَ المَنْزِلِ فَهانَ عَلَيْهِ مشَقّةُ السَّفَرِ. وَكُلَّمَا سَكَنَتْ نَفْسُهُ مِنْ كَلاَلِ السَّيْرِ ومُواصَلَةِ الشَّدِّ والرَّحِيلِ وَعَدها قُرْبُ التّلاقي وبَرْدُ العَيْشِ عَنْدَ الوُصُولِ فَيُحْدِثُ لَهَا ذَلِكَ نَشاطاً وَفَرَحاً وهِمَّةً فَهُو يَقُولُ: يَا نَفْسُ أبْشِرِي فَقَدْ قَرُبَ المَنْزِلُ وَدَنَا التّلاقِي فَلا تَنْقطِعِي فِي الطّرِيقِ دُونَ الوُصُولِ فَيُحَالَ بَيْنَكِ وَبَيْنَ مَنَازِلِ الأحِبَّةِ. فإن صبرت وواصلت المسري وصلت حميدة مسرورة جذلة وتلقتك الأحبة بأنواع التحف والكرامَاتَ ولَيْسَ بينك وبين ذَلِكَ إِلا صبر ساعة فإن الدُّنْيَا كُلّهَا كساعة من ساعات الآخرة وعمرك درجة من درج تلك الساعة فالله الله لا تنقطعي في المفازة فهو وَاللهِ الهلاك والعطب لو كنت تعلمين. فإن استصعب عَلَيْهِ فليذكرها ما أمامها من أحبائها وما لديهم من الإكرام والإنعام وما خلفها من أعدائها وما لديهم من الإهانة والْعَذَاب وأنواع البَلاء فإن رجعت فإلي أعدائها رجوعها وإن تقدمت فإلي أحبائها مصيرها وإن وقفت في طريقها أدركها أعداؤها فَإِنَّهُمْ وراءها في الطلب ولابد لها من قسم من هذه الأقسام الثلاثة فلتختر أيها شاءت انتهي.

شِعْراً: تَراهُمْ وأَمْلاَكُ الرِّضَا يَقْدُمُونَهِمْ ... إِلى جَنَّةٍ طَابَتْ وَطَابَ نَعِيمُهَا يَسِيْرُوْنَ فِي أَمْنٍ إِذَا الخَلْقُ فُزَّعٌ ... وَقَدْ بَرَزَتْ نَارٌ وَشَبَّ جَحِيْمُهَا آخر: فَلِلّهِ كَمْ مِنْ خَيْرةٍ قَدْ تَهَيَّئَتْ ... لِقَوْمٍ عَلَى الأَقْدَامِ بِاللَّيْلِ قُوَّمُ يُنَاجُوْنَ رَبَّ العَالَمِيْنَ إلهَهُمْ ... فَتَسْرِي هُمُوْمُ القَوْمِ وَالنَّاسُ نُوَّمُ آخر: وللهِ ألْطافٌ بَطيِّ قَضَائِهِ ... أَخُو الفَهْمِ فِي أسْرَارِهَا يَتَفَهَّمُ فَمُوْسَى بِقَذْفِ الْيَمِّ تَمَّ عُلُوُّهُ ... ترَقَّى إِلى أعْلَى الذُرَى وَهُوَ مُكْرَمُ ويُوْسُفُ بَعْدَ الجُبِّ والسّجْنِ حُقْبَةً ... حَوَى المُلْكَ وَهُوَ المُسْتَفادُ المُعَظَّمُ وبِالصَّبْرِ والتَّقْوَى تُنَالُ هِبَاتُهُ ... وأتْقَى الوَرَى عِنْدَ المُهَيْمِنِ أكْرَمُ وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: السنة شجرة والشهور فروعها والأيام أغصانها والساعات أوراقها والأنفاس ثمرها فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة ومن كانت في معصية فثمرته حنظِلّ وإنما يكون الجداد يوم المعاد فعَنْدَ ذَلِكَ يتبين حلو

الثمار من مرها. والإخلاص والتَّوْحِيد شجرة في الْقَلْب فروعها الأعمال وثمره طيب الحياة في الدُّنْيَا والنَّعِيم الْمُقِيم في الآخرة وكما أن ثمار الْجَنَّة لا مقطوعة ولا ممنوعة فثمرة التَّوْحِيد والإخلاص في الدُّنْيَا كَذَلِكَ. والشرك والكذب والرياء شجرة في الْقَلْب ثمرها في الدُّنْيَا الخوف والهم والغم وضيق الصدر وظلمة الْقَلْب وثمرها في الآخرة الزقوم والْعَذَاب الأليم وقَدْ ذكر هاتين الشجرتين في سورة إبراهيم. وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: اِشْتَرِ نَفْسَكَ فَالسُّوقُ قَائِمَةٌ والثَّمَنُ مَوْجُودٌ وَلابُدَّ مِنْ سِنَةِ الغََفْلَةِ وَرُقادِ الهَوَى ولَكِنْ كُنْ خَفِيْفَ النَّوْمِ فَحُرَّاسُ البَلَدِ يَصْحُونَ دَنَا الصَّبَاحُ نُورُ العَقْلِ يُضِيءُ فِي لَيْلِ الهَوَى فَتَلُوحُ جَادَةُ الصَّوَابِ فَيَتَلَّمحُ البَصِيْرُ فِي ذَلِكَ النُّوْرِ عَوَاقِبَ الأُمورِ اُخْرُجْ بالعَزْمِ مِنْ هَذَا الفِنَاءِ الضّيّقِ المَحْشُوَّ بالآفاتِ إِلى ذَلِكَ الفِنَاءِ الرَّحْبِ الَّذِي فِيهِ مَا لاَ عَيْنٌ رأتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. فَهُنَاك لاَ يَتَعَذّرُ مَطلوبٌ وَلاَ يٌفْقَدُ محبُوبٌ يَا بَائِعَاً نَفْسَهُ بِهَوَى مَنْ حُبُّهُ ضَنَاً وَوَصْلُهُ أذَى وحُسْنُهُ إِلى فَنَاءِ لَقَدْ بِعْتَ أنْفَسَ الأَشْيَاءِ بِثَمَنٍ بَخْسٍ كأنّكَ لَمْ تَعْرِفْ قَدْرَ السِّلعَةِ حَتّى إِذَا قَدَمْتَ يَوْمَ التَّغَابُنْ تَبَيَّنَ لَكَ الغَبْنُ فِي عَقَدِ التّبايُعِ لاَ إِلهَ إِلاَ اللهُ سِلْعَة اللهُ مُشْتَريها، وثَمَنُهَا الجَنّةُ. اللَّهُمَّ ثبتنا علي قولك الثابت في الحياة الدُّنْيَا وفي الآخرة اللَّهُمَّ وأيدنا بنصرك وارزقنا من فضلك ونجنا من عذابك يوم تبعث عبادك، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلمين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى وسَلم.

قصيدة بليغة في التضجر من أهل هذا الزمان

شِعْراً: كَرِهْتُ وَعَلاَّمِ الغُيوبِ حَيَاتِي ... وأَصْبَحْتُ أَرجْو أنْ تَحينَ وَفَاتي فَشَا السُوءُ إِلا فِي القَلْيلِ مِنَ الوَرَى ... وَخَاضُوا بِحَارَ اللهْوِ والشَّهَواتِ وضَاعَتْ لَدَيْهِمْ حُرْمَةُ الدِّينِ واغْتَدَتْ ... نُفُوسُهُمُوْا فِي الفِسْقِ مُنْغَمِسَاتِ وَقَدْ فَسَدَتْ أَخْلاقُهُمْ وَتَغَّيرتْ ... وأضْحَتْ خِلالُ الخِزْيِ مُنْتَشِرَاتِ وَسَارَ الخَنَا فِيْهِمْ فلَسْتُ أرَي سِوَى ... كَتَائِبِ فُسَّاقٍ وجًمْعَ طُغَاةِ فمِنْهُمْ كَذُوْبٌ فِي الوِدَادِ مُخَادِعٌ ... أرَاهُ صَدِيقِي وَهُوَ رأْسُ عُدَاتِي يُقابِلُنِي بِالبِشْرِ واللُطْفِ عِنْدَمَا ... يَرَانِي ويَدْعُو لِيْ بِطُولِ حَيَاتِي وإِنْ غِبْتُ عَنْهُ سَبَّنْي وأَهَانَني ... وَعَدَّ عُيُوبي للوَرَى وَهَنَاتِي وَمِنْهُمْ شَقِيٌ هَمُّهُ الفِسْقُ والزِنَا ... وَلَوْ كَانَ عُقْبَاهُ إِلى الهَلَكَاتِ تُلاقِيهِ يَجْرِي خَلْفَ مُسْلِمَةٍ بِلاَ ... حَيَاءٍ وَلاَ خَوْفٍ مِنَ اللعَنَاتِ

كَأنْ لَمْ يُفَكِّرْ أنَّ تِلْكَ كَأخْتِهِ ... فَيَغْمِزُهَا لِلْحَظِ والغَمَزَاتِ وَيُبْدِي لَهَا الإِعْجَابَ غِشَّاً وَخِدْعَةً ... ولَمْ يَرْعَ حقَّ اللهِ فِي الحُرُمَاتِ وآخَرُ أَمْسَى لِلْعُقَارِ مُعَاقِراًً ... وأَصْبَحَ فِي خَبْلٍ وفِي سَكَرَاتِ تَرَاهُ إِذَا مَا أَسْدَلَ اللّيلُ سِتْرَهُ ... عَلَيْهِ وَوَافِيَ بَادِيَ الظُلُمَاتِ يُدِيْرُ ابْنةَ العُنْقُودِ بَيْنَ صِحَابِهِ ... ويَطْرَبُ بَيْنَ الكَأْسِ والنَغَمَاتِ وَقَدْ أَغْفَلَ المِسْكِيْنُ ذِكْرَ مَمَاتِهِ ... وَمَا سَيُلاقِي مِنْ جَوَى النَّزَعَاتِ يَتِيْهُ عَلَى كُلِّ العِبادِ بِعُجْبِهِ ... وَيَخْتَالُ كِبْراً نَاسِياً لِغَدَاةِ غَدَاةَ يُوارَى فِي التُّرَابِ ويَغْتَدِي ... طَعَاماً لَدُودِ القَبْرِ والحَشَرَاتِ وآخَرُ مَغْرُورٌ بكَثْرَةِ مَالِهِ ... وَمَا عِنْدَهُ فِي البَنْكِ مِنْ سَنَدَاتِ يُفاخِرُ خَلْقَ اللهِ بالْجَاهِ والغِنَى ... وَبِالْمَالِ لاَ بِالفَضْلِ والحَسَنَاتِ وَلَمْ يَدْرِ أَنَّ الْمَالَ فَانٍ وأَنَّهُ ... يَزُولُ كَسُحْبِ الصّيْفِ مُنْقَشِعَاتِ

وَذَا شَاهِدٌ بِالزُّورِ إِنْ يَسْتَعِنْ بِهِ ... أَخُوْ شِقْوةٍ يَشْهَدْ بِكُلِّ ثَبَاتِ وَلَمْ أَدْرِ مَاذَا قَدْ أَعَدَّ لِموْقِفٍ ... بِهِ يَقِفُ العَاصِيْ بِغَيْرِ حُمَاةِ وَذَا آكِلٌ مَالَ اليَتِيْمِ وَلَمْ يَدَعْ ... لَهُ عِنْدَ رَدِّ الحَقِّ غَيْرَ فُتَاتِ وَفِي بَطْنِهِ قَدْ أدْخَلَ النّارَ عَامِداً ... وَأَصْبَحَ مَحْرُوْماًً مِنَ النَّفَحَاتِ وَذَلِكَ مُغْتابٌ وَهَذَا مُنَافِقٌ ... لِحِطَّتِهِ قَدْ عُدَّ فِي النّكِرَاتِ وَهَذَا يَغُشُّ النَّاسَ فِي البَيْعِ والشِرَا ... وَأَرْبَاحُهُ مَنْزُوْعَةُ البَرَكَاتِ وَهَذَا حَوَى كُلَّ الخَنَا وَصِفَاتُهُ ... مَعَ الخَلْقِ والخَلاَّقِ شَرُّ صِفَاتِ وَكَمْ مُعْلِنٍ لِلْفِطْرِ وَالنَّاسُ صُوَّمُ ... يُجَاهِرُ فِي الإِفْطَارِ فِي الطُّرُقَاتِ ولَيْسَ يُبَالِي بانْتِقَامِ إلَهِه ... وَتَعْذِيْبِهِ لِلأَنْفُسِ النَّجِسَاتِ وَكَمْ مِنْ غَنِيٍّ مُسْتَطِيْعٍ تَرَاهُ لاَ ... يُبَادِرْ بِحَجِّ البَيْتِ قَبْلَ فَوَاتِ فَيَسْعَى بِنَفْسٍ مِلْؤُهَا البِرُّ وَالتُّقَى ... لِتَلْبِيَةِ الرَّحْمَنِ فِي عَرَفَاتِ

وَلَمْ أَرَ إِلاَّ النَّزْرَ فِيْهِمْ مُسارِعاً ... لإِحْيَاءِ دِيْنِ اللهِ بِالصَّلَوَاتِ وَمَا الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ إِلاَّ وَسَائِلٌ ... عَلَى المُتّقِي تَسْتَنزْلُ الرَّحَمَاتِ وَتَنْهَي عَنْ الفَحْشَاءِ والْمُنْكَرِ الَذي ... يَزُجُّ بِمَنْ يَأتْيِهِ فِي الكُرُبَاتِ وَيَنْدُرُ أَنْ أَلْقَى غَنِيّاًً بِمَالِهِ ... يَجُودُ لِذِي جُوعٍ وَذَاتِ عُرَاةِ فَمَا ائْتَمَرُوا بِالأمْرِ كَلا وَلاَ انْتَهَوْا ... عَنْ النَّهْي حَتَّى سَوَّدُوا الصَّفَحَاتِ وَعَاثُوا فَسَاداً فِي الْبِلادِ فَأَصْبَحُوا ... بعِصْيَانِهِمْ فِي أسْفَلِ الدَّرَجَاتِ خَلاَئِقُ يَأْبَاهَا الرَّشِيْدُ لِقُبْحِهَا ... وَلاَ يَرْتَضِيْهَا غَيْرُ أَحْمَقَ عَاتِي ويُنْكِرُها ذُوْ العَقْلِ والرَّأْيِ والحِجَا ... ويَخْجَلُ مِنْهَا صَادِقُ العَزَمَاتِ وَمَنْ يَتَّخِذْها مَنْهَجاً خَابَ سَعْيُهُ ... وَلاَ يَقْتَنِيْ مِنْهَا سِوَى الحَسَرَاتِ إِذَا جَاءَ وَقْتُ الصَّيْفِ شَدَّ رِحَالَهُ ... إِلى الغَرْبِ يَلْهُوْ والشَّبَابُ مُوَاتِي كأَنَّ بَنِي الإِسْلاَمِ فِي عَصْرِنا غَدَوْا ... لِهَدْمِ عُلاَ الإِسْلاَمِ شَرَّ دُعاةِ

فَتُوبُوا عِبَادَ اللهِ للهِ وَارْجِعُوا ... إِلَيْهِ تَنَالُوا مُنْتَهَى الرَّغَبَاتِ وَلاَ تَقَرّبُوا مَا لاَ يَحِلُّ وأَبْعِدُوا ... نُفُوسَكُمُوا حَتَّى عَنْ الشُّبُهَاتِ وأَدُّوا حُقوقَ اللهِ وارْعَوْا حُدودَهُ ... كَمَا يَنْبَغِي فِي الجَهْرِ والخَلَوَاتِ وَلاَ تَهِنُوا يَوماً وَلاَ تَحْزَنُوا لِمَا ... يُصِيْبُكُمُوا فِي الحَقِّ مِنْ عَقَبَاتِ تَفُوزُوا برِضْوانِ الإِلَهِ ولُطْفِهِ ... ويُغْدِقْ عَلَيْكُمْ أنْعُمَاً وهِبَاتِ وَيَفْتَحْ لَكُمْ بَابَ القَبَولِ ويَسْتَجِبْ ... إِذَا مَا دَعَوْتُمْ صَالِحَ الدَّعَوَاتِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ فِي النَّسْلِ قُرَّةَ أعْيُنٍ ... وَيَرْزُقَكُمُ مِنْ أطْيَبِ الثَّمَرَاتِ ويُمْدِدْكُمُ بالنَّصْرِ حَتَّى إِذَا طَغَى ... عَلَيْكُمُ عدُوٌ رَدَّهُ بِشَتَاتِ فَمَا حَلَّ هَذَا الحَالُ إِلاَّ لِنَبْذِكُمْ ... تَعَالِيمَ دِيْنِ اللهِ نَبْذَ نَوَاةِ وَمَا سَلَّطَ اللهُ الْعَدُوَّ عَلَيْكُمُ ... فَلَمْ يَبْقَ فِيْكُمْ غَيْرُ بَعْضِ رُفَاتِ سِوَى بَعْدِكُمْ عَنْ دِيِنهِ ولأنّكُمْ ... قَنِعْتُمْ عَنْ الأعْمَالِ بالكَلِمَاتِ

من كلام ابن القيم في الجهاد

اللَّهُمَّ ثَبِّتْ وقو محبتك في قلوبنا واشرح صدرونا ونورها بنور الإِيمَان وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين وألهمنا ذكرك وشكرك وَاجْعَلْنَا ممن يفوز بالنظر إلي وجهك في جنات النَّعِيم يا حليم ويا كريم وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلمين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يا أرحم الراحمين وصلي الله علي مُحَمَّد وعلي آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) وَقَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: الجِهَادُ أرْبَعُ مَرَاتِبَ أحدُهَا أنْ يُجاهِدَهَا عَلَى تَعَلُّمِ الهُدَي ودِينِ الحقِّ الّذِي لاَ فلاحَ لَها وَلاَ سَعادَةَ لَها فِي معَاشِهَا ومَعادِها إِلا بِهِ وَمَتى فَاتَها علمُهُ شَقِيَتْ فِي الدَّارَيْن الثَّانِيَة أَنْ يُجاهِدَهَا عَلَى العَمَلِ بِهِ عِلْمِهِ وإِلاَّ فمُجَرَّدُ العِلْم بِلا عَمَلٍ إنْ لَمْ يَضُرَّها لَمْ يَنْفَعْهَا الثّالِثَةُ أنْ يُجاهِدَ عَلَى الدَّعْوَةِ إلَيْهِ وتَعْلِيمِهِ مَنْ لاَ يَعْلَمُهُ وإِِلاّ كَانَ مِنْ الّذينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ الهُدَي والبَيِّنَاتِ وَلاَ يَنْفَعُهُ علمُهُ وَلاَ يُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ اللهِ. الرابعة: أن يجاهدها علي الصبر علي مشاق الدعوة إلي الله وأذى الخلق ويتحمل ذَلِكَ كله لله فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين فإن السَّلَف مجمعون علي العَالِم لا يستحق أن يسمي ربانياً حتى يعرف الحق ويعمل به ويعلمه. فمن علم وعلَّمَ وعمل فذاك يدعي عظيماً في ملكوت السماء وأما جهاد الشيطان فمرتبتان جهاده علي دفع ما يلقي إلي الْعَبْد من الشبهات والشكوك القادحة في الإِيمَان.

الثَّانِيَة: جِهادُهُ عَلَى دَفْعِ ما يُلْقِيِه مِنَ الإِرَادَاتِ والشَّهَوَاتِ فَالجِهَادُ الأوّلُ يَكُوُن بَعْدَُ اليَقِينُ والثّاني بَعْدَهُ الصَّبْرُ قَالَ تَعَالَى {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} فأخْبَرَ أَنَّ إِمامَةَ الدِّيْنِ إِنَما تُنَالُ بِالصَّبْرِ واليَقِيْنَ فَالَّصْبُر يَدْفَعُ الشَّهَوَاتِ والإِرَادَاتِ واليَقِينُ يَدْفَعُ الشُّكُوكَ والشُّبُهَاتِ وأمّا جِهَادُ الكُفّارِ والمُنَافِقِيْنَ فأَرْبَعُ مَرَاتِبَ بالْقَلْبِ وَاللّسَانِ والْمَالِ وَالنَّفْسِ وَجِهَادُ الكُفّارِ أَخَصُّ باليَدِ وَجِهَادُ المُنَافِقِيْنَ أَخَصُّ باللّسَانِ وأما جِهَادُ أَرْبَابِ الظُّلْمِ والبِدَعِ والمُنْكَرَاتِ فَثَلاَثُ مَرَاتِبَ الأُولَى باليَدِ إِذَا قَدَرَ فَإِنْ عَجِزَ انْتَقَلَ إِلى اللّسَانِ فَإِنْ عَجَزَ جَاهَدَ بقَلْبِهِ فَهَذِهِ ثَلاَثَةَ عشْرَةَ مَرْتَبَةً مِنَ الجِهادِ وَمَنْ مَاتَ ولَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بالغَزْوِ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنَ النّفاقِ وَلاَ يَتِمُّ الجِهَادُ إِلاَ بالهِجْرَةِ وَلاَ الهِجْرَةُ والجِهادُ إِلاّ بالإِيمَانِ. والراجون رحمة الله هم الَّذِينَ قاموا بهذه الثلاثة قال تَعَالَى " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ» . وكما أن الإِيمَان فرض علي كُلّ أحد ففرض عَلَيْهِ هجرتان في كُلّ وَقْت هجرة إلي الله عَزَّ وَجَلَّ بالتَّوْحِيد والإخلاص والإنابة والتوكل والخوف والرجَاءَ والمحبة والتوبة وهجرة إلي رسوله بالمتابعة والانقياد لأمره والتصديق بخبره وتقديم أمره وخبره علي أمر غيره وخبره. فمن كانت هجرته إلي الله ورسوله فهجرته إلي الله ورسوله ومن كانت هجرته إلي دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلي ما هاجر إليه. وفرض عَلَيْهِ جهاد نَفْسه في ذات الله وجهاد شيطانه فهَذَا كله فرض

عين لا ينوب فيه أحد عن أحد وأما جهاد الكفار والمنافقين فقَدْ يكتفي فيه ببعض الأمةِ إذا حصل مِنْهُمْ مقصود. وأَكْمَلُ الخَلْقِ عَنْدَ اللهِ مَنْ أَكْمَلَ مَرَاتِبَ الجِهَادِ كُلّهَا، وَالخَلْقُ مُتَفاوِتُونَ فِي مَنَازِلِهِمْ عَنْدَ اللهِ تَفاوُتَهُمْ فِي مَرَاتِبِ الجِهَادِ وَلِهَذَا كَانَ أكْمَلُ الخَلْقِ وأكْرَمُهُمْ عَلَى اللهِ خَاتَمُ أنْبِيائِهِ وَرُسُلِهِ فَإِنّهُ كَمَّلَ مَرَاتِبَ الجِهَادِ وَجَاهَدَ فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ وَشَرَعَ فِي الجِهَادِ مِنْ حِيْنَ بُعِثَ إِلى أَنْ تَوَفَّاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهُ لَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ " يَا أيها الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ " شَمَّرَ عَنْ ساقِ الدَّعْوَةِ وَقامَ فِي ذَاتِ اللهِ أَتَمَّ قِيَامٍ وَدَعَا إِلى اللهِ لَيْلاً وَنَهَاراً وَسِرّاً وَجَهْراً فَلَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ " فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ " صَدَعَ بأمْرِ اللهِ لاَ تأخُذُهُ فِيْهِ لَوْمَةُ لاَئِمٍ فَدَعَا إِلى اللهِ الصّغيرَ وَالكَبِيْرَ والحُرَّ والْعَبْدَ والذّكَرَ وَالأُنْثَى والأحْمَرَ والأسْوَدَ والجِنَّ والإِنْسَ. ولما صدع بأمر الله وصرح لقومه بالدعوة وناداهم بسب آلهتهم وعيب دينهم اشتد أذاهم له ولمن استجاب له من أصحابه ونالوهم بأنواع الأذى وهذه سنة الله عَزَّ وَجَلَّ في خلقه كما قال تَعَالَى " مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ " وَقَالَ: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنسِ وَالْجِنِّ " وَقَالَ: «كَذَلِكَ مَا أَتَي الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ» . فعزي سُبْحَانَهُ بذَلِكَ وأن له أسوةً بمن تقدمه من المرسلين وعزي أتباعه بقوله " أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ» .

شِعْراً: لَعَمْرِيَ إِنَّ المَجْدَ وَالفَخْرَ وَالعُلاَ ... وَنَيْلَ الأمَانِيْ وَارْتفَاعَ المَرَاتِبِ لِمَنْ قَامَ بِالدِّيْنِ الحَنَيِيْفيِّ صَادِقَاً ... وَجَاهَدَ أَهْلَ الشَّرِ مِنْ كُلِّ نَاكِبِ وَِقَولِهِ " أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ، أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ، مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَمَن جَاهَدَ فَإنما يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ " {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ، وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} . فليتأمل الْعَبْد سياق هذه الآيات وما تضمنته من العبر وكنوز الحكم فإن النَّاس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين: إما أن يَقُولُ أحدهم آمنا، وإما أن لا يَقُولُ ذَلِكَ بل يستمر علي السيئات والكفر. فمن قال آمنا. امتحنه ربه وابتلاه وفتنه والفتنة الابتلاء والاختبار ليتبين الصادق من الكاذب. ومن لم يقل آمنا فلا يحسب أنه يعجز الله ويفوته ويسبقه فإنه إنما يطوي المراحل في يديه. وَكَيْفَ يَفِرُّ المَرْءُ عَنْهُ بِذَنْبِهِ ... إِذَا كَانَ يَطْوي فِي يَدَيْهِ المَرَاحِل فمن آمن بالرسل وأطاعهم عاداه أعداؤهم وآذوه فابتلي بما يؤلمه،

وإن لم يؤمن بِهُمْ ولم يطعهم عوقب في الدُّنْيَا والآخرة فحصل له ما يؤلمه وكَانَ هَذَا المؤلم أعظم وأدوم من ألم إتباعهم فلابد من حصول الألم لكل نفس آمنت أو رغبت عن الإِيمَان لكن المُؤْمِن يحصل له الألم لكل نفس آمنت أو رغبت عن الإِيمَان لكن المُؤْمِن يحصل له الألم في الدُّنْيَا ابتداء ثُمَّ يكون له العاقبة في الدُّنْيَا والآخرة والمعرض عن الإِيمَان يحصل له لذة ابتداء ثُمَّ يصير في الألم الدائم، وصلي الله علي مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين (فَصْلٌ) وَسُئِلَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ أيُّمَا أَفْضَلُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُمَكَّنَ أَوْ يُبْتَلىَ فَقَالَ لا َيُمَكَّنُ حَتَّى يُبْتَلَى واللهُ تَعَالَى ابْتَلى أُولًي العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ فَلَمَّا صَبَرُوْا مَكّنَهُمْ. فَلاَ يَظُنُّ أَحَدٌ أَنَّهُ يَخْلُصُ مِنَ الأَلَمِ البَتَّةَ وإِنَّمَا تَفَاوَتَ أَهْلُ الآلامِ فِي العُقُولِ فَأَعْقَلُهُمْ مَنْ بَاعَ أَلماًً مُسْتَمِرّاً عَظِيْماً بأَلَمٍ مُنْقَطِعٍ يَسِيْرٍ وأشْقَاهُمْ مَنْ بَاعَ الأَلَمَ المُنْقَطِعَ اليَسِيْرَ بالألمِ العَظِيْمِ المُسْتَمِرْ. فَإِنْ قِيْلَ كَيْفَ يَخْتَارُ العَقْلُ لِهَذَا؟ قِيْلَ الحَامِلُ لَهُ عَلَى هَذَا النَّقدُ والنَّسيْئَةُ والنَّفْسُ مُوَكَّلَةٌ بِالعَاجِلِ {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} أيّ الدُّنْيَا {وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} {إِنَّ هَؤُلاَءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} وهَذَا يَحْصُلُ لِكُلَّ أحَدٍ فَإِنّ الإِنْسَانَ مَدَنِيٌّ بِالطَّبْعِ لابُدَّ لَهُ أنْ يَعِيْشَ مَعَ النَّاسِ. وَالنَّاس لّهُمْ إرادات وتصورات فيطلبون منه أن يوافقهم عَلَيْهَا وإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه، وإن وافقهم حصل له الأذى والْعَذَاب تَارَّة مِنْهُمْ، وتَارَّة من غيرهم كمن عنده دين وتقي حل بين قوم فجار ظلمة ولا يتمكنون من فجورهم وظلمهم إِلا بموافقته لّهُمْ وسكوته عنهم فإن وافقهم أو سكت عنهم سلم من شرهم في الابتداء ثُمَّ يسلطون عَلَيْهِ بالإهانة والأذى أضعاف

ما كَانَ يخافه ابتداء لو أنكر عَلَيْهمْ وخالفهم وإن سلم مِنْهُمْ فلابد أن يهان ويعاقب علي يد غيرهم. فالحزم كُلّ الحزم في الأخذ بما قَالَتْ أم الْمُؤْمِنِين لمعاوية: من أرضي الله بسخط النَّاس كفاه الله مؤنة النَّاس ومن أرضي النَّاس بسخط الله لم يغنوا عَنْهُ شَيْئاً. ومن تأمل أحوال العَالَم رأي هَذَا كثيراً فيمن يعين الرؤساء علي أغراضهم الفاسدة وفيمن يعين أَهْل البدع علي بدعهم هرباً من عقوبتهم فمن هداه الله وألهمه رشده ووقاه شر نَفْسهُ امتنع من الموافقة علي فعل المحرم وصبر علي عداوتهم ثُمَّ يكون له العاقبة في الدُّنْيَا والآخرة كما كانت للرسل وأتباعهم كالمهاجرين والأنصار ومن ابتلي من العِلماًء والعباد وصالحي الولاة والتجار وغيرهم ولما كَانَ الألم لا محيص منه البتة عزي سُبْحَانَهُ من اختار الألم اليسير المنقطع علي الألم العَظِيم المستمر بقوله " مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» . فضرب لمدة هَذَا الألم أجلاً لابد أن يأتي وَهُوَ يوم لقائه فيلتذ الْعَبْد أعظم اللذة بما تحمل من الألم في الله ولله وأكد هَذَا العزاء والتسلية برجَاءَ لقائه ليحمل الْعَبْد اشتياقه إلي لقاء ربه ووليه علي تحمل مشقة الألم العاجل بل ربما غيبة الشوق إلي لقائه عن شهود الألم والإحساس به ولهَذَا سأل النَّبِيّ ? ربه الشوق إلي لقائه فَقَالَ الدُّعَاء الَّذِي رواه أَحَمَد وابن حبان: (اللَّهُمَّ إني أسألك بعلمك الغيب وقدرتك علي الخلق أحيني إذا

كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك نعيماً لا ينفذ وأسألك قرة عين لا تنقطع وأسألك الرِّضَا بعد الِقَضَاءِ وأسألك برد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلي وجهك وأسألك الشوق إلي لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللَّهُمَّ زينا بزينة الإِيمَان وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين) . فالشوق يحمل المشتاق علي الجد في السير إلي محبوبه ويقرب عَلَيْهِ الطَرِيق ويطوي له العبيد ويهون عَلَيْهِ الآلام والمشاق وَهُوَ من أعظم نعمة أنعم الله بها علي عبده ولكن لهذه النعمة أقوال وأفعال وأعمال هما السبب الَّذِي تنال به وَاللهُ سُبْحَانَهُ سميع لتلك الأقوال عليم بتلك الأفعال وَهُوَ عليم بمن يصلح لهذه النعمة كما قال تَعَالَى " فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاَءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهمْ مِن بَيْنِنَا ألَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ» . فإذا فاتت الْعَبْد نعمة من نعم ربه فليقَرَأَ علي نَفْسهُ " ألَيْسَ الله بأعلم بالشاكرين " ثُمَّ عزاهم تَعَالَى بعزاء آخر وَهُوَ أن جهادهم فيه إنما هُوَ لأنفسهم وثمرته عائدة عَلَيْهمْ وإنه غني عن العالمين ومصلحة هَذَا الجهاد ترجع إليهم لا إليه سُبْحَانَهُ ثُمَّ أخبر أنه يدخلهم بجهادهم وإيمانهم في زمرة الصالحين ثُمَّ أخبر عن حال الداخل في الإِيمَان بلا بصيرة وأنه إذا أوذي في الله جعل فتنة النَّاس له كعذاب الله. وهي أذاهم له ونيلهم إياه بالمكروه والألم الَّذِي لابد أن يناله الرسل وأتباعهم ممن خالفهم جعل ذَلِكَ الَّذِي ناله مِنْهُمْ كعذاب الله الَّذِي فر منه المؤمنون بالإِيمَان فالمؤمنون لكمال بصيرتهم فروا من ألم عذاب الله إلي الإِيمَان وتحملوا ما فيه من الألم الزائل المفارق عن قريب.

وهَذَا لضعف بصيرته فر من ألم عذاب أعداء الرسل إلي موافقتهم ومتابعتهم ففر من ألم عذاب الله فجعل ألم فتنة النَّاس في الفرار منه بمنزلة ألم عذاب الله وغبن كُلّ الغبن إذ استجار من الرمضاء بالنار وفر من ألم ساعة إلي ألمِ الأبد وإذا نصر الله جنده وأولياءه قال إني معكم والله عليم بما انطوي عَلَيْهِ صدره من النفاق. والمقصود أن الله سُبْحَانَهُ اقتضت حكمته أنه لابد أن يمتحن النُّفُوس ويبتليها فيظهر بالامتحان طيبها من خبيثها ومن يصلح لموالاته وكراماته ومن لا يصلح وليمحص النُّفُوس التي تصلح له ويخلصها بكير الامتحان كالذهب لا يخلص ولا يصفو من غشه إِلا بالامتحان إذ النفس في الأصل جاهلة ظالمة وقَدْ حصل لها بالجهل والظلم من الخبث ما يحتاج خروجه إلي السبك والتصفية فإن خَرَجَ في هذه الدار وإِلا ففي كير جهنم فإذا هُذِّبَ الْعَبْدُ ونقي أذن له في دخول الْجَنَّة. قال الناظم رَحِمَهُ اللهُ: وَإِنَّ جِهَادَ الكُفْرِ فَرْضُ كِفَايَةٍ ... وَيَفْضُلُ بَعْدَ الفَرْضِ كُلَّ تَعَبُّدِ لأَنَّ بِهِ تَحْصِيْنُ مِلَّةِ أَحْمَدٍ ... وَفَضْلُ عُمُومِ النَّفْعِ فَوْقَ المُقَيَّدِ فَلِلّهِ مَنْ قَدْ بَاعَ للهِ نَفْسَهُ ... وجُوْدُ الفَتَى فِي النَّفْسِ أَقْصَى التَّجَوُّدِ وَمَنْ يَغْزُ إِنْ يَسْلَمْ فَأجْرٌ ومَغْنَمٌ ... وإِنْ يَرْدَ يَظْفُرْ بالنَّعِيْمِ المُخَلَّدِ

وَمَا مُحْسِنٌ يَبْغِيْ إِذَا مَاتَ رَجْعَةً ... سِوَى الَّشَهَدا كَيْ يَجْهَدُوْا فِي التَّزَودِ لِفَضْلِ الَّذِي أُعْطْوا وَنَالُوا مِنَ الرِّضَى ... يَفُوقُ الأَمَانِيْ فِي النَّعِيمِ المُسَرْمَدِيْ كَفَى أَنَّهُمْ أَحْيَا لَدَى اللهِ رُوْحُهُمْ ... تَرُوْحُ بِجَنَّاتِ النَّعِيْمِ وَتَغْتَدِيْ وغُدْوَةُ غَازٍ أَوْ رَواحُ مَُجاهِدٍ ... فَخَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا بِقَوْلِ مُحَمَّدِ يُكَفَّرُ عَنْ مُسْتَشْهَدِ البَرِّ مَا عَدَا ... حُقُوقَ الوَرَى والكُلُّ فِي البَحْرِ فَاجْهَدِ وَقَدْ سُئِلَ المْخُتَارُ عَنْ حَرِّ قَتْلِهِمْ ... ... فَقَالَ يَرَاهُ مِثْلَ قَرْصَةِ مُفْرَدِ كُلُوْمُ غُزَاةِ اللهِ ألوَانُ نَزْفِهَا ... دَمٌ وكَمِسْكٍ عَرْفُهَا فَاحَ فِي غَدِ وَلَمْ يَجْتَمِعَ فِي مَنْخِرِ المَرْءِ يَا فَتَى ... غُبَارُ جِهَادٍ مَعَ دُخَانٍ لَظَى أشْهَدِ كَمَنْ صَامَ لَمْ يُفْطِرْ وقَامَ فَلَمْ يَنَمْ ... جِهَادُ الفَتَى فِي الفَضْلِ عِنْدَ التَّعَدُّدِ لَشَتَانَ مَا بَيْنَ الضَّجِيْعِ بِفُرْشِهِ ... وسَاهِرِ طَرْفٍ لَيْلَةً تَحْتَ أَجْرَدِ يُدَافِعُ عَنْ أََْهْلِ الهُدَى وَحِرْيْمِهِمْ ... وَأْمَواِلِهْم بِالنَفْسِ والْمَالِ واليَدِ

وَمَنْ قَاتَلَ الأَعْدَاءَ لإِعْلاَءِ دِيْنِنَا ... فَذَا فِي سَبِيْلِ اللهِ لاَ غَيْرُ قَيِّدِ وَيَحْسنُ تَشْيِيْعُ الغُزَاةِ لِرَاجِلٍ ... وَحَلَّ بِلاَ كُرْهٍ تَلَقِيْهُمُ أشْهَدِ وأَهْلُ اْلكِتَابِ والمَجُوسُ إِنْ تَشَا أغْزُهُمْ ... بِغَيْرِ دُعَاءٍ إِذْ بِإِبْلاغِهِمْ بُدِيْ ويُغْزَوْنَ حَتَّى يُسْلِمُوْا أَوْ يُسَلِّمُوْا ... صَغَاراً إِلَيْنَا جِزْيَةَ الذُّلِ عَنْ يَدِ وَغَيْرُ أُولَى فَلْيُدْعَ قَبْلَ قِتَالِهِ ... إَلى أَشْرَفِ الأدّيَانِ دِيْنِ مُحَمَّدِ وَعَرِّفْهُ بالبُرْهَانِ حَتْمَ اِتِّبَاعِهِ ... وَلاَ تَقْبَلَنْ مِنْهُ سِوَاهُ بأَوْطَدِ وإِنَّ رِبَاطَ المَرْءِ أَجْرٌ مُعَظَّمٌ ... مُلازِمُ ثَغْرِ لِلِّقَا بالتَّعَدُّدِ ويَجّْرِيْ عَلَى مَيْتٍ بِهِ أَجْرُ فِعْلِهِ ... كَحَيٍ وَيُؤْمَنْ بافْتِتَانِ بمَجْلَدِ وَلاَ حَدَّ فِي أَدْنَاهُ بَلْ أرْبَعُوْنَ فِي الـ ... تَّمَامِ ويُعْطَى أَجْرَ كُلِّ مُزَيَّدِ وأَفْضَلُهُ مَا كَانَ أخْوَفَ مَرْكَزاً ... وأَقْرَبَ مِنْ أرْضِ الْعَدُوِّ المُنَكِدِ وَذَلِكَ أَثْنَى مِنْ مُقَامٍ بمَكَةٍ ... وَفِي مَكَّةٍ فَضْلُ الصَّلاَةِ فَزَيَّدِ

فائدة جليلة ويليها موعظة بليغة

وَمَنْ لَمْ يُطِقْ فِي أرْضِ كُلِّ ضَلاَلةٍ ... ِقَياماً وَإِظهَاراً لِدِيْنِ مُحَمَّدِ فَحَتْمٌ عَلَيْهِ هِجْرَةٌ مَعَ أَمْنِهِ الْـ ... هَلاَكَ وَلَوْ فَرْداَ وَذَاتَ تَعَدُّدِ بِلاَ مَحْرَمٍ مَشْياً وَلَوْ بَعَدُ المَدَى ... لِفِعْلِ الصَّحَابِيَاتِ مَعَ كُلِّ مُهْتَدِ اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لما وفقت له الصالحين من خلقك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلمين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. فائدة جليلة وَقَالَ إذا أصبح الْعَبْد وأمسي وليس همه إِلا الله وحده يحمل الله سُبْحَانَهُ حوائجه كُلّهَا وحمل عَنْهُ كُلّ ما أهمه، وفرغ قَلْبهُ لمحبته ولِسَانه لذكره وجوارحه لطاعته وإن أصبح وأمسي والدُّنْيَا همه حمله الله همومها وغمومها وأنكادها ووكله إلي نَفْسهُ فشغل محبته بمحبة الخلق ولِسَانه عن ذكره بذكرهم وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم. فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره كالكير ينفخ بطنه ويعصر أضلاعه في نفع غيره فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بلي بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته قال تَعَالَى " وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانَاً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ» . أ.هـ. شِعْراً: كَأنِّي بنَفْسِيْ قَدْ بَلَغْتُ مَدَى عُمْرِي ... وأنْكَرْتُ مَا قَدْ كُنْتُ أَعْرِفْ مِنْ دَهْرِي

وَطَالَبَنِيْ مَنْ لاَ أَقُوُمُ بِدَفْعِهِ ... وحُوِّلْتُ مِنْ دَارِي إِلى ظُلْمَةِ القَبْرِ وَفَازَ بِمِيْرَاثِي أُنُاسٌ فَشَتَّتُوْا ... بإِفْسَادِهِمْ مَا كُنْتُ أَجْمَعُ فِي عُمْرِي وأَهْمَلَنِي مَنْ كَانَ يُبْدِي مَحَبَّتِيْ ... وأُخْلِصُهُ وُدِّيْ ويَغْمِرُهُ بِرِّيْ وَلَمْ يَسْخُ لِي مِنْهُمْ صَدِيْقُ بِدَعْوَةٍ ... إِذَا مَا جَرَى يَوماً بحَضْرَتِهِ ذِكْرِي وأَضْحَى لِبَيْتِيْ سَاكِنٌ مُبْهَجٌ بِهِ ... وفِي اللّحْدِ بَيْتِيْ لاَ أَقُوْمُ إَلى الحَشْرِ فَيَا شِقْوَتِي إنْ لَمْ يَجْدْ بنَجَاتِهِ ... إِلَهْي ولَمْ يَجْبُرْ برَحْمَتِهِ فَقْرِي فَقَدْ أثقُلْتْ ظَهْرِي ذُنُوْبٌ لَوْ أنَّهَا ... عَلَى ظَهْرِ طُوْرٍ أَثْقَلَتْهُ مِنْ الوِزْرِ " موعظة " عِبَادَ اللهِ مضي رِجَال من هذه الأمة كانوا يخشون ربهم خشية العارفين الموقنين لذَلِكَ كانت أقوالهم وأفعالهم موزونة بما للشرع من موازين كَانُوا يزنون كلامهم قبل أن يلفظوا به لأنهم يوقنون أن خالقهم سمعها وشهد عَلَيْهَا وَهُوَ تَعَالَى خَيْر شاهد. كَانُوا إذا أظلم الليل يقفون في محاريبهم باكين متضرعين لهُمْ أنين كأنين المرضي ولهم حنين كحنين الثكلى وكَانُوا ربما مروا بالآية من كتاب الله

فجعلوا يرددونها بقلب حزين فأثرت عَلَيْهمْ ومرضوا بعدها مَاتَ أولئك السَّلَف الصالح الَّذِينَ تتجافي جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً. وماتت تلك الخشية وأعقبها قَسْوَة أذهلت العباد عن طاعة الله فصاروا يأتون ويذرون ما يذرون دون سؤال عن سخط الله ورضاه. وغدت جوارحهم مطلقة في كُلّ ما يغضب الله وصَارَت أفعالهم فوضي لَيْسَ لها ضوابط ولا قيود العين تجول في المناظر المحرمة من نساء سافرات إلي سينماء إلي تلفزيون إلي الفيديو معلم الفساد إلي كورة إلي مجلاتٍ في طيها الشرور إلي صورة مجسدة وغير مجسدة إلي كتب هدامة للأَخْلاق إلي غير ذَلِكَ من المحرمَاتَ التي تجرح القُلُوب. والفرج يسرح كما شَاءَ إلي الفواحش الدين ضعيف والخلق فاسد والأذنُ لا تشبع من سماع ما يسخط ربها والبطن يستزيد من سحت الأقوات. وأما اليد فحدث ولا حرج في تعدي الحدود وأما اللسان فليله ونهاره يتحرك ويتقلب في منكر القول وزوره ولا كأن ربه السميع البصير العليم موجود وتراه في أعراض الغوافل ويمزق جلودهم في السب والغيبة والبهت والكذب ولا يعف عن عرض أي بشر. ويحلف بِاللهِ العلي العَظِيم كُلّ يوم مرات ولا يهمه أبر في يمينه أم فجر وأما وعوده وعهوده وعقوده فتهمل ولا كأنه مكلف باحترامها فهَذَا وأمثاله قَدْ انهمكوا في المعاصي وتوغلوا فيها وصَارَت عندهم عادات وشَيْء طبعيٌّ مألوفٌ لهُمْ.

ولذَلِكَ إذا مررت بِهُمْ أو مررت حول بيوتهم استوحشت من سماع الأغاني والرقص والمطربين والسب واللعن والقذف والاستهزاء بالدين وأخذت في العجب بين هَؤُلاَءِ وأولئك الَّذِينَ في أوقات التجليات في حنادس الظلم يناجون ربهم راغبين في رضوان العزيز الجبار خائفين من سخط المنتقم القهار متفكرين في سرعة حلول الْمَنَايَا التي تسارع الأيام والليالي في اقترابها وموقنين بأنهم محاسبون علي الفتيل والنقير والقطمير عالمين بأنهم مكلفون بواجبات عبودية ما قاموا بالقليل منها وهم عَنْهَا مسؤلون وعلي ما قدموه من خَيْر وشر قادمون. وهل حال هَؤُلاَءِ السعداء في جانب أولئك التعساء الأشقياء إِلا كحال المصاب بالجنون في جانب أوفر النَّاس عقلاً وأكملهم وقاراً فأكثر يا أخي من قولك الحمد لله الَّذِي عافانَا مِمَّا ابتلاهم الله يعافيهم ولا يبلانَا قال تَعَالَى {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ألا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} وَكُلَّ كَسْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَجْبُرُهُ ... وَمَا لِكَسْرِ قَنَاةِ الدِّيْنِ جُبْرَانُ فتنبه أيها المُؤْمِن واعْلَمْ أنك مسئول عن كُلّ ما تعمل لا مهمل كالأنعام فانهج نهج الاستقامة وراقب ربك في مصادرك ومواردك لتقف عَنْدَ الحدود قال بعض المرشدين إلي معَالِم الرشد ضارباً لذَلِكَ مثلاً: واعْلَمْ أن الإِنْسَان في تقَلْبه في أطوار حياته كمثل غريب ألقت به المقادير إلي قوم استقبلوه بترحاب وتكريم وكَانَ ذَلِكَ النازل فاقَد القوى غير عَالِم بما عَلَيْهِ القوم من الشئون ولا يدري من أين أتي ولا إلى أين يذهب.

فقام القوم بواجبات خدمته وإكرامه حتى قويت حواسه وجوارحه ومداركه وأخذ يعمل القوم فَجَاءَ رجل من علائقهم قائلاً: يا هَذَا إن هذه الدار التي توطنها مكرموك ما هِيَ دار إقامة ولا هِيَ مملوكة لأحد من الخلق ولكنهم أمثالك نزلاء من كَانُوا يعمرون هذه الدار قبلهم ثُمَّ رحلوا وتركوها وما كَانَ رحيلهم إلي مكَانَ بعيد ولكنه كَانَ إلي سجن ضيق ومكَانَ مظلم لو أرسلت ببصرك لرأيته وقَدْ فقدوا تلك القوي وتناسوا ذَلِكَ النَّعِيم. ثُمَّ أخذ بيده إلي مكَانَ قفر وأعني به المقبرة وَقَالَ له: هَذَا مراح القوم ومسقط رؤوسهم وإن الطَرِيق التي توصلك إلي هَؤُلاَءِ القوم هِيَ الطَرِيق التي سلكها مكرموك وإنها لطَرِيق ذات عقبات مهلكة ولها أوحال من تورطها هلك ولا مخلص من تلك الأحوال إِلا بتجنب تلك العقبات أو تجاوزها عدواً. فإن رمت السلامة فسر فريداً متحفظاً من تخاصم القوم وتنازعهم ومن ملاهييهم وألعابهم ولا تصغ لمن يناديك من خلفك فإن الَّذِي يناديك من خلفك في طَرِيق النجاة هُوَ أجهل منك بها ولا تخالف من ناداك من الأمام فَإِنَّهُمْ أدري منك بمفاوز الطَرِيق. وإياك أن تشتبه عَلَيْكَ الطرق وأصوات المنادين فإن طَرِيق السلامة لها أعلام ومصابيح نيرة علي رأس كُلّ مرحلة من مراحلها وأما باقي الطرق فإنها مظلمة موحشة مهلكة وما هِيَ إِلا طَرِيق واحدة ولكنها ذات شعب ومسارب كثيرة. فاحذر أن تتهاون بنفسك كما تهاون القومُ بنفوسهم فهلكوا وهم لا يشعرون فإن كَانَ النازل الغريب علي استعداد لتعقل النصائح وذا قابيلة تقبل

الإرشاد وقف علي أفواه الطَرِيق وفتح عينيه واستعمل فكره وتبصر في أمره وتدبر عواقب ما عَلَيْهِ وأخذ لنفسه بأحوط الأحوال وأقربها إلي السلامة وجعل عينه متجهة للنظر إلي منازل الراحلين التي لا أنيس بها ولا جلَيْسَ. وَتَأَمَّلَ سُرْعَةَ الرَّحِيْلِ وقِصَرَ أَوْقَاتِ الإقَامَةِ وتَجَنَّبَ الألْعَابَ والمَلاَهِي وسَلَكَ سَبِيْلَ المُهْتَدِيْنَ وإِنْ كََانََ ضَيِّقَ الحَضِيْرَةِ قَاصِرَ النَّظَرِ ضَعِيْفَ الهِمَّةِ ضَائِعَ العَقْلِ سَيئَ التَّصَوُرِ فَاقِدَ الفِكْرِ خَبِيْثَ الاسْتِعْدَادِ لَئِيْمَ الطَّبْعِ لا يَجِدُ بُداً مِنْ مُنَازَعَةِ اللاَّعِبِيْنَ ومُسَابَقَةِ اللاَّهِيْنَ وَتَغَافََِل عَنْ عَاقِبَةِ أَمْرِهِ وسُوْءِ مَصِيْرِهِ وتَبَاعَدَ عَنْ صِيَاحِ النَّاصِحِيْنَ وأَصْغَى إِلى مُدَاهَنةِ الغَاوِيْنَ أَصْبَحَ مِنْ النادِمِيْنَ. وما ضربنا لك هَذَا المثل إِلا لتعلم أنك أَنْتَ الغريب الَّذِي نزلت يوم ولدتك أمك بقومك وأَنْتَ ضعيف القوي لا تعلم شَيْئاً كما قال تعالي " والله أخرجكم من بطونِ أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمَعَ والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون)) ففرح بك قومك وأكرموك إلي أن قويت الآت أعمالك وصرت تحسن الرحيل وحدك. ونريد بالرحيل هنا سلوك إحدى الطريقين إما طَرِيق الكمالات وإما طَرِيق النقائص لأنهما مسارب المكلفين الَّذِينَ لابد لهُمْ من السير فيها للوصول إلي أحد الغايتين فإنه ما من طَرِيق إِلا ولها غاية ينتهي إليها مسير سالكها. وما نريد بالرجل العاقل المرشد إِلا صاحبَ الرسالة عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام أو النائب عَنْهُ في تبليغها وما نريد بمن يناديك من الأمام إِلا السَّلَف

الصالح الَّذِينَ سبقونا بالإِيمَان وبينوا لنا طَرِيق النجاة أو الأتقياء المقتفون لآثارهم الَّذِينَ ثبتت استقامتهم. وما نريد بالَّذِينَ ينادوك من خلفك إِلا الَّذِينَ لا قدم لهُمْ في طَرِيق النبوة فلم يسلكوا سبيل المهتدين بل اعتمدوا في إرشادهم علي مقال لا حال معه ولا عمل وهَذَا لا تصلح متابعته لأنهم أجهل النَّاس بطَرِيق الاستقامة. وما أَهْل الاستقامة إِلا الَّذِينَ راقبوا قُلُوبهمْ وأمسكوا ألسنتهم وطهروا أقلامهم فلا عزم لهُمْ إِلا علي أعمال البر والمواساة ولا يقولون إِلا الحق المنجي ولا يكتبون إِلا ما لو سئلوا عَنْهُ يوم القيامة لأحسنوا الإجابة والَّذِينَ يذكرون الله كثيراً وإذا ذكر الله وجلت قُلُوبهمْ والبكاؤون من خشية الله المقتفون لآثاره ?. شِعْراً: ... نُورُ الْحَدِيْثِ مُبِيْنٌ فَادْنُ وَاقْتَبِسِ ... وَاحْدُ الرِّكَابَ لَهُ نَحْوَ الرِّضَا النَّدُسِ مَا العِلْمُ إِلاَ كِتَابُ اللهِ أَوْ أَثَرٌ ... يَجْلُو بِنُوْرِ هُدَاهُ كُلِّ مُلْتَبِسِ نُوْرٌ لِمُقْتَبِسٍ خَيْرٌ لِمُلْتَمِسٍ ... حِمىً لِمُخْتَرِسٍ نُعْمَى لِمُبْتَئِسِ فاعْكُفْ بِبَابِهِمَا عَلَى طِلابِهِمَا ... تَمْحُوْ العَمَى بِهِمَا عَنْ كُلِّ مُلْتَبِسِ

وَرِدْ بِقَلْبِكَ عذْباً مِنْ حِيَاضِهِمَا ... تَغْسِلْ بِمَائِهِمَا مَا فِيْهِ مِنْ دَنَسِ واقْفُ النَّبِيَّ واتْبَاعَ النَّبِيّ وَكُنْ ... مِنْ هَدْيِهِمْ أَبَداً تَدْنُوْ إِلى قَبَسِ والْزَمْ مَجَالِسَهُمْ وَاحْفَظْ مُجَالِسَهُمْ ... وَانْدَبِ مَدَارِسَهُمْ بالأرْبُعِ الدُّرُسِ واسْلُكْ طَرِيْقَهُمْ وَاتْبَعْ فَرِيقَهُمُ ... تَكُنْ رَفِيْقَهُمُ فِي حَضْرَةِ القُدُسِ تِلْكَ السَّعَادَةُ إِنْ تُلْمِمْ بِسَاحَتِهَا ... فَحُطَّ رَحْلَكَ قَدْ عُوْفِيْتَ مِنْ تَعَسِ وما نريد بمراحل حياتك إِلا الأطوار التي تتقلب بك فيها الشمس كُلَّما غربت أو أشرقت وتنتقل بك إليها الليالي وأَنْتَ لا تشعر فما أسرع مُرُور الشمس بك إلي نهاية أجلك وما أغفلك عن عملها فيك. وما نريد بأوحال حياتك إِلا متابعة شهواتك عَنْدَ بلوغ الحلم فإن لطور الشبوبية أوحال مهلكه وهي الشهوات البهيمية التي تضطر الشباب الَّذِي غلبت شهوته عقله إلي مغازلة الغانيات ومعانقة الملاهي وتعاطي المحرمَاتَ فيصير قي أوحال تناسبه. وما من أحد تستطيع تلك الأوحال إِلا الَّذِي وفقه الله فتباعد عن ظلمَاتَ الزيغ وتنور بنور العلم الديني الَّذِي علمه العليم الخبير لرسوله ? وأمره بتعليمه للناس لأنه جل شأنه هُوَ الحكيم العليم الَّذِي علم الداء ودبر

الدواء قال تَعَالَى {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} انتهي بتصرف يسير. شِعْراً: مَثِّلْ لِنَفْسِكَ أَيُّهَا المَغْرُوْرُ ... يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَاءُ تَمُوْرُ قَدْ كُوِّرَتْ شَمْسُ النَّهَارِ وأُضْعِفَتْ ... حَرّاً عَلَى رُؤُسِ العِبَادِ تَفُوْرُ وَإِذَا الجِبَالَ تَعَلّقَتْ بأُصُوْلِهَا ... فَرَأَيْتَهَا مِثْلَ السَّحَابِ تَسِيْرُ وَإِذَا النُّجُومُ تَسَاقَطَتْ وَتَنَاسَرَتْ ... وَتَبَدَّلَتْ بَعْدَ الضّيَاءِ كَدُوْرُ وَإِذَا العِشَارُ تَعَطَّلَتْ عَنْ أَهْلِهَا ... خَلَتِ الدَّيَارُ فَمَا بِهَا مَعْمُوْرُ وَإِذَا الوُحُوْشُ لَدَى القِيَامَةِ أُحْضِرَت ... وَتَقُوْلُ لِلأَمْلاَكِ أَيْنَ نَسِيْرُ فَيُقَالُ سِيْرُوْا تَشْهَدُوْنَ فَضَائِحاً ... وَعَجَائِباً قَدْ أُحْضِرَتْ وَأُمُوْرُ وَإِذَا الجَنِيْنُ بِأُمِّهِ مُتَعَلِّقٌ ... خَوْفَ الحِسَابِ وقَلْبُهُ مَذْعُوْرُ هَذَا بِلاَ ذَنْبٍ يَخَافُ لِهَوْلِهِ ... كَيْفَ الْمُقِيْمُ عَلَى الذُّنُوْبِ دُهُوْرُ

فصل يحتوي علي نبذة يسيرة من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -

اللَّهُمَّ ثَبِّتْ وقوي محبتك في قلوبنا وألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لطَاعَتكَ وامتثال أمرك اللَّهُمَّ نور قلوبنا بنور الإِيمَان وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين وتوفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين واغفر لنا ولوالدينا وَجَمِيع المسلمين بِرَحْمَتِكَ يا أرحم الراحمبن وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) ((نَخْتُمُ هَذَا الجُزْءَ في فَصْلٍ يَحْتَوِيْ عَلَى نُبْذَةٍ يَسِيْرَةٍ)) ((عَنْ سِيْرَةِ النَّبِيِّ ?)) ((وَنُمُوذجٍ عَنْ حِلْمِهِ وَوَفَائِهِ)) هو مُحَمَّد بن عَبْد اللهِ بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مره بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن مَعد بن عدنان هَذَا متفق علي صحته. ولا خلاف أن عدنان من ولد إسماعيل بن إبراهيم وإسماعيل هُوَ الذبيح علي القول الصحيح والقول بأنه إسحق باطل ولا خلاف أنه ? ولد بمَكَّة عام الفيل يوم الاثنين لثمان خلون من ربيع الأول وقيل لعشر منه وقيل لاثنتي عشرة خلت منه سنة 571 م. وأما عَبْد اللهِ أبو رسول الله ? فكَانَ أحسن أولاد عبد المطلب وأعفهم وكَانَ أبوه يحبه والأكثر يقولون أنه توفي والنَّبِيّ ? حمل وقيل أنه مَاتَ ولِرَسُولِ اللهِ ? شهران وَجَمِيع ما خلفه عبد المطلب خمسة أحمال وجارية

قصيدة في مدح النبي - صلى الله عليه وسلم -

حبشية اسمها بركة وكنيتها أم أيمن وهي حاضنته ?. وروي البيهقي أنه ? ولد مختوناً وذكر البيهقي أيضاً لما كانت اللَّيْلَة التي ولد فيها رسول الله ? ارتج إيوان كسري وسقط من أربع عشرة شرفة وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذَلِكَ من ألف عام وغاضت بحيرة ساوة. وإلي هَذَا أشار الشاعر في قوله: نُوْرٌ مِنَ الرَّحْمنِ أرْسَلَهُ هُدَى ... لِلنَّاسِ فَازْدَهَرَ الزَّمَانُ وأيْنَعَا دَعْ عَنْكَ إيْوَانَاً لِكِسْرَى عِنْدَمَا ... هَتَفُوْا بِمَوْلِدِهِ هَوَى وتَصَدَّعَا واذْكُرْهُ كَيْفَ أَتَى شُعُوْباً فُرِّقَتْ ... أَهْوَاءُهَا كُلٌّ يُصَحِّحُ مَا ادَّعَا فَهَدَاهُمْ لِلْحَقِّ حَتَّى أصْبَحُوْا ... فِي اللهِ إِخْوَانَاً تَرَاهُمْ رُكَّعَا أَبْنَاءَ أَخْيَافٍ تَجَمَّعَ شَمْلُهُمْ ... أَبْنَاءَ أَخْيَافٍ تَجَمَّعَ شَمْلُهُمْ فَتَحْوا لَهُ الدُّنْيَا فَسَارَ مُظَفَراً ... وَبَنَوْا لَهُ حِصْناً أَشَمَّ مُمَنَّعَا بَذَلُوْا النُّفُوسَ رَخِيْصَةً فِي نَصْرِهِ ... فَتَسَنَّمُوْهَا مِ السَّلاَمِ الأَرْفَعَا

لَهْفِيْ عَلَى مَاضِي الحَنِيْفَةِ أِنَّهُ ... مَاضٍ تَعَلَّقَ زَاهِياً وَتَضَوَّعَا أَيَّامَ كَانَ الدِّيْنُ تُشْرِقُ شَمْسُهُ ... أَيَّامَ كَانَ الدِّيْنُ تُشْرِقُ شَمْسُهُ يَا أُمَّةَ التَّوْحِيْدِ هَذَا مَجْدُكُمْ ... إِنّيْ لأخْشَى أَنْ يَضَلَّ مُضَيَّعَا سِيْرُوْا عَلَى سُنَنِ النَّبِيّ وَجَنِّبُوْا ... زَيْفَ الحَضَارَةِ عَنْكُمُ أَنْ يَخْدَعَا وَخُذُوْا لَكُمْ مِنْ سُنَّةِ الهَادِي هُدَى ... فَهُوَ المَنَارُ إِذَا الضَّلاَمُ تَجَمَّعَا وروي الإمام أَحَمَد وغيره عن العرباض بن سارية عن النَّبِيّ ? قال إني عَنْدَ الله في أم اْلكِتَاب لخاتم النبيين وأن آدم لمجندل في طينته وسوف أنبئكم بتأويل ذَلِكَ دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسي قومه ورؤيا أمي التي رأت أنه خَرَجَ منها نور أضأت له قصور الشام. قال في اللطائف وخروج هَذَا النور عن وضعه إشارة إلي ما يجئ به من النور الَّذِي اهتدي به أَهْل الأرض وزالت به ظلمة الشرك كما قال تَعَالَى: {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ} . اللَّهُمَّ يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أنقذنا من نوم الغَفْلَة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا وزنوبنا ولا تؤخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا واكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلمين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. ... ... ... ... ...

بعد مولده - صلى الله عليه وسلم - أول وقصة رضاعه

(فَصْلٌ) وبعد مولده ? أرضعته أمه آمنه بنت وهب بن مناف بن زهرة بن كلاب ثُمَّ أرضعته ? ثوبية عتيقة أبي لهب أعتقها حين بشرته بولادة النَّبِيّ ? ثُمَّ أرضعته حليمة السعدية. قَالَتْ حليمة السعدية التي أراد الله أن تَقُوم بإرضاعه قدمت مكه مَعَ تسع نسوة من بني سعد بن بكر نلتمس الرضاع في سنة شهباء علي أتان لي ومعي صبي لنا وقَدْ عرض رسول الله ? علي كُلّ امرأة منا فأبين أن يرضعنه حينما علمن أنه يتيم الأب. وَذَلِكَ أَنَا كنا نرجو المعروف من أبي الصبي فكنا نقول إنه يتيم ما عسي أن تصنع أمه وجده فكنا نكرهه لذَلِكَ قَالَتْ: فو الله ما بقي من صواحبي امرأة إِلا أخذت رضيعاً فَلَمَّا لم أجد غيره قُلْتُ لزوجي وَهُوَ الحارث بن عبد العزي والله إني لا أكره أن أرجع من بين صواحبي ولَيْسَ معي رضيع لانطلقن إلي ذَلِكَ اليتيم ولآخذنه. قال لا ضرر عَلَيْكَ أن تفعلي. عسي الله أن يجعل لنا فيه بركة فذهب ثُمَّ أخذته بما هُوَ عَلَيْهِ فأقبل عَلَيْهِ ثديي بما شَاءَ من لبن فشرب حتى روي وشرب ابني حتى شبع فودعت النساء بعضهن بعضاً. ثُمَّ ركبت أتاني وأخذت محمداً بين يدي ثُمَّ مشت أتاني حتى سبقت دواب النَّاس الَّذِينَ كَانُوا معي وصاروا يتعجبون مني ثُمَّ وصلنا إلي منازل بني سعد ولا أعلم أرضاً من أرض الله أجدب منها فكانت غنمي تروح علي حين قدمنا به كثيرة اللبن فنحلب ونشرب.

خروجه -صلى الله عليه وسلم - مع عمه أبي طالب إلي أن بلغ بصرى

وفي السنة الرابعة من عمره ذكر أن ملكين شقا بطنه واستخرجا قَلْبهُ وشقاه فاستخرجا منه علقة سوداء ثُمَّ غسلا قَلْبهُ وبطنه بالثلج وَقَالَ أحدهما زنه بعشره من أمته فوزنه ثُمَّ مازال يزيد حتى بلغ الألف فَقَالَ والله لو وزنته بأمته لوزنها. وماتت أمه عَلَيْهِ السَّلام ولم يستكمل إذ ذاك سبع سنين حين انصرفت من زيارات أخواله بني النجار وكانت خرجت به معها ومعه دايتُهُ أم أيمن قدمت به إلي مَكَّة بعد موتها. فكفله جده عبد المطلب ورق عَلَيْهِ رقة لم يرقها علي أحد من أولاده فكَانَ لا يفارقه وما يجلس علي فراشه إجلالاً له إِلا رسول الله ?. وقدم مكه قوم من بني مدلج من القافة فَلَمَّا نظروا إليه قَالُوا لجده احتفظ به فلم نجد قدماً أشبهَ بالقدم الَّذِي في المقام من قدمه فَقَالَ لأبي طالب اسمَعَ ما يَقُولُ هَؤُلاَءِ واحتفظ به. وتوفي جده عبد المطلب في السنة الثامنة من مولده ? وأوصي به إلي عمه أبي طالب شقيق أبيه عَبْد اللهِ فكفله وأحسن كفالته قال الواقدي أقام أبو طالب من سنة ثمان من مولد رسول الله ? إلي السنة العاشرة من النبوة ثلاثاً وأربعين سنة يحوطه ويقوم بأمره ويذب عَنْهُ ويلطف به. ولما بلغ ? اثنتي عشرة سنة خَرَجَ مَعَ عمه أبي طالب حتى بلغ بُصْرَي فرآه بحيرُ الراهب واسمه جرجيس فعرفه فَقَالَ وَهُوَ آخذ بيده هَذَا سيد العالمين هَذَا يبعثه الله رحمة للعالمين فَقَالَ وما علمك بذَلِكَ فَقَالَ إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إِلا وخرَّ ساجداً ولا

تزوجه -صلى الله عليه وسلم - خديجة رضي الله عنها

تسجد إِلا لنبي وإني أعرفه بخاتم النبوة في أسفل غضروف كتفه مثل التفاحة وإنا نجده في كتبنا. وسأل أبا طالب أن يرده خوفاً عَلَيْهِ من اليهود الْحَدِيث رواه ابن أبي شيبة وفيه أنه أقبل عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام وعَلَيْهِ غمامة تظله. ثُمَّ خَرَجَ ? مرة أخري ومعه ميسرة غلام خديجة في تجارة لها حتى بلغ سوق بصري وله إذ ذاك خمس وعشرون سنة. فنزل تحت ظِلّ شجرة فَقَالَ نسطورُ الراهب ما نزل تحت هذه الشجرة إِلا نبي وكَانَ ميسرة يري في الهاجرة ملكين يظلانه من الشمس فَلَمَّا رجعوا إلي مَكَّة ساعة الظهيرة وخديجة في عليَّةٍ لها رأت رسول الله ? وهو علي بعيره وملكَانَ يظلانه ذكره أبو نعيم. اللَّهُمَّ عمق إيماننا بك وبملائكتك وبكتبك وبرسلك وبالْيَوْم الآخر وبالقدر خيره وشره وآتنا في الدُّنْيَا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وصلي الله علي مُحَمَّد وآله وسلم. (فَصْلٌ) وتزوج رسول الله ? خديجة بعد ذَلِكَ وكانت تحت أبي إهابة بن زرارة التميمي ثُمَّ تزوجها عتيق بن عائد المخزومي فولدت له هنداً وكَانَ لها حين تزوجها رسول الله ? من العمر أربعون سنة فولدت له بنين وبنات وكل أولاده منها حاشا إبراهيم فإنه من مارية القبطية التي أهدها له المقوقس صَاحِبُ مصرَ. فالذكور من ولده القاسم وبه كَانَ يكني وَهُوَ أكبر ولده عاش أياماً

يسيرة قبل النبوة وولد له غير إبراهيم والقاسم عَبْد اللهِ وَهُوَ المسمي بالطيب والطاهر لأنه ولد بعد النبوة وأما إبراهيم فولد له بالْمَدِينَة وعاش عامين غير شهرين ومَاتَ قبل موته عَلَيْهِ السَّلام بثلاثة أشهر يوم كسوف. وأما بناته ? فأربع زينب تحت أبي العاص بن الربيع وكانت خديجة خالته وَالثَّانِيَة رقية تزوجها عثمان بن عفان وماتت بعد بدر بنحو ثلاثة أيام وزينب ماتت في حياة أبيها ? والثالثة أم كلثوم وهي أصغر بناته كانت مملكة بعتبة بن أبي لهب فلم يدخل بها وطلقها فتزوجها عثمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فماتت عنده في حياة رسول الله ?. الرابعة فاطمة تزوجها علي بن أبي طالب فولدت له الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم وابناً مَاتَ صغيراً اسمه المحسن وماتت فاطمة بعد رسول الله بستة شهور، وخديجة أول امرأة تزوج بها وأول امرأة ماتت من نسائه وأمره جبريل أن يقَرَأَ عَلَيْهَا السَّلام من ربها. وهي أول امرأة آمنت به وعاضدته وناصرته علي أمره وكَانَ لها منه المنزلة العإلية. اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك ومحبة كتبك وملائكتك ورسلك وأوليائك في قلوبنا ثبوت الجبال الراسيات ونور قلوبنا بنور الإِيمَان وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع المسلمين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله علي نبينا مُحَمَّد وعلي آله وصحبه أجمعين. شِعْراً: دَعَاكُمْ إِلى خَيْرِ الأمُورِ مُحَمَّدٌ ... ولَيْسَ العَوالِي فِي القَنَا كالسَّوافِلِ دَعَاكُم إِلى تَعْظِيمِ مَنْ خَلْقَ الضُحَى ... وشُهْبَ الدُّجَى مِنْ طَالِعَاتِ وآفِلِ وحَثَّ عَلَى تطْهِيْرِ جِسْمٍ ومَلْبَسٍ ... وعَاقَبَ فِي قَذْفِ النِّسَاءِ الغَوافِلِ فَصَلَّي عَلَيْهِ اللهُ مَاذَرَّ شَارِقٍ ... ومَا فَتَّ مِسْكاً ذِكْرُهُ فِي المَحَافِلِ

رعية الغنم واتجاره -صلى الله عليه وسلم - وذكر أولاده

(فَصْلٌ) ولم يرث ? من والده شَيْئاً بل ولد يتيماً عائلاً فاسترضع في بني سعد ولما بلغ مبلغاً يمكنه أن يعمل عملاً كَانَ ? يرعي الغنم مَعَ إخوانه من الرضاع في البادية وكَذَلِكَ لما رجع إلي مَكَّة كَانَ يرعاها لأهلها علي قراريط كما ذكر البخاري في صحيحه. فعن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيّ ? قال ما بعث الله نبياً إِلا رعي الغنم فَقَالَ أصحابه وأَنْتَ فَقَالَ نعم كنت أرعاها علي قراريط لأَهْل مَكَّة. ولما شب لخديجة ? كَانَ يتجر وكَانَ شريكه السائب بن أبي السائب وذهب بالتجارة لخديجة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا إلي الشام علي جعل يأخذه ولما شرفت خديجة بزواجه وكانت ذات يسار عمل في مالها وكَانَ يأكل من نتيجة عمله وحقق الله ما امتن عَلَيْهِ به سورة الضحى بقوله جل ذكره: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} بالإيواء والإغناء قبل النبوة والهداية بالنبوة هداه الله للكتاب والإِيمَان ودين إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام ولم يكن يدري قبل ذَلِكَ قال تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وكَانَ عَلَيْهِ الصَّلاة والسلام أحسن قومه خلقاً وأصدقهم حديثاً وأعظمهم أمانة وأبعدهم عن الفحش والأَخْلاق التي تدنس الرِّجَال حتى كَانَ أفضل قومه مروءة وأكرمهم مخالطة وأخيرهم جواراً وأعظمهم حِلماً

قصيدة لبعض الصحابة حول دعوته - صلى الله عليه وسلم - للتوحيد

وأصدقهم حديثاً فسموه الأمينَ. لما جمَعَ الله فيه من الأمور الصَّالِحَة الحميدة والفعال السديدة من الحلم والصبر وَالشُّكْر والعدل والتواضع والعفة والجود والشجاعة والحياء حتى شهد له بذَلِكَ ألد أعدائه النضر بن الحارث من بني عبد الدار حيث يَقُولُ قَدْ كَانَ مُحَمَّد فيكم غلاماً حدثاً أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثاً وأعظمكم أمانةً حتى إذا رأيتم في صدغية الشيب وجاءكم بما جاءكم قلتم ساحر لا وَاللهِ ما هُوَ بساحر. قال ذَلِكَ في معرض الاتفاق علي ما يقولونه للعرب الَّذِينَ يحضرون الموسم حتى يكنوا متفقين علي ما يقولونه للعرب الَّذِينَ يحضرون الموسم حتى يكونوا متفقين علي ما يقولونه ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان قائلاً هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يَقُولَ ما قال قال: لا. فَقَالَ هرقل: ما كَانَ ليدع الكذب علي النَّاس ويكذب علي الله ورد ذَلِكَ في أول صحيح البخاري. ثَوَى فِي قُرَيْشٍ خَمْسَ عَشْرَةَ حَجَّةً ... يُذَكِّرُ لَوْ يَلْقَى صَدِيْقاً مُوَاتِيَا وَيَعْرِضُ فِي كُلِّ المَوَاسِمِ نَفْسهُ ... فَلَمْ يَرَى مَنْ يُؤْوِيْ وَلَمْ يَرَ دَاعِيَا فَلَمَّا أَتَانَا واطْمَأَنَّتْ بِهِ النَّوَى ... وَكُنَا لَهُ عَوْناً مِنْ اللهِ بَادِيَا يَقُصُّ لَنَا مَا قَالَ نُوْحٌ لِقَوْمِهِ ... وَمَا قَالَ مُوْسَى إِذَا أَجَابَ المُنَادِيا

كلام شيخ الإسلام رحمه الله حول صفات النبي - صلى الله عليه وسلم -

فَأَصْبَحَ لاَ يَخْشَى مِنَ النَّاسِ وَاحِداً ... قَرِيْباً وَلاَ يَخْشَى مِنَ النَّاسِ نَائِيَا بَذَلْنَا لَهُ الأَمْوَالَ مِنْ جُلِّ مَالِنَا ... وأَنْفُسَنَا عِنْدَ الوَغَى والتَّآسِيَا نُعَادِي الَّذِي عَادَى مِنْ النَّاسِ كُلِّهَمْ ... جَمِيْعاً وَلَوْ كَانَ الْحَبِيْبَ المُوَاسِيَا ونَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لاَ رَبَّ غَيْرهُ ... وأنَّ كِتَابَ اللهِ أَصْبَحَ هَادِيَا اللَّهُمَّ اغفر لنا جَمِيع ما سلف منا من الذُّنُوب. واعصمنا فيما بقي من أعمارنا، ووفقنا لعمل صالح ترضي به وعنا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلمين وصلي الله علي مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) وَقَالَ شيخ الإسلام رَحِمَهُ اللهُ وقَدْ نقل النَّاس صفات النَّبِيّ ? الطاهرة الدالة علي كمالهِ ونقلوا أخلاقه من حلمه وشجاعته وكرمه وزهده وغيره ونَحْنُ نذكر بعض ذَلِكَ: ففي الصحيحين عن البراء بن عازب قال: كَانَ رسول الله ? أحسن النَّاس وجهاً وأحسنهم خلقاً لَيْسَ بالطويل الذاهب ولا بالقصير وعنه قال كَانَ رسول الله ? بعيد ما بين المنكبين عَظِيم الجمة إلي شحمة أذنيه علية حلة حمراء ما رأيت شَيْئاً قط أحسنَ منه. وفي البخاري وسئل البراءُ أكَانَ رسول الله ? مثل السيف؟ قال: لا بل مثل القمر. وفي الصحيحين من حديث كعب بن مالك قال كَانَ النَّبِي ? إذا سُرَّ استنار وجهه حتى كأنه فلقةُ قمر.

وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال كَانَ رسول الله ? ضخم الرأس والقدمين ولم أر قبله ولا بعده مثله وكَانَ بسيط الكفين ضخم اليدين وسئل عن شعره فَقَالَ كَانَ شعراً رجلاًً لَيْسَ بالجعد ولا بالسبط بين أذنيه وعاتقه. وفي الصحيحين عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة قال كَانَ رسول الله ? ضليع الفم أشكل العينين منهوس وفسرهما ابن سماك بن حرب فَقَالَ واسع الفم طويل شق العين قليل لحم العقب. وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال كَانَ رسول الله ? لَيْسَ بالطويل البائن ولا بالأَبْيَض الأبهق ولا بالأدم ولا بالجعد ولا بالسبط. وفي الصحيحين عَنْهُ قال كَانَ رسول الله ? أزهر اللون كأن عرقه اللؤلؤ إذا مشي تكفأ وما مسست ديباجة ولا حريرة ألينَ من كفِّ رسول الله ? وروي عن ابن عباس قال كَانَ رسول الله ? أبلج الثنيتين إذا تكلم رؤيَ النور يخَرَجَ من ثناياه. وعن أنس قال دخل عَلَيْنَا رسول الله ? فَقَالَ عندنا – أي نامَ – فعرق وجاءت أمي بقارورة فجعلت تسلت العرق فيها فاستيقظ رسول الله ? فَقَالَ يا أم سليم ما هَذَا الَّذِي تصنعين قَالَتْ هَذَا عرقك نجعله في طيبنا وإنه أطيب من الطيب أخرجاه. وروي الدرامي عن جابر قَالَ: رَسُولُ اللهِ ? لا يسلك طريقاً فيتبعه أحد إِلا عرف أنه سلكه من طيب عرقه ?.

وفي حديث أم معبد المشهور لما مر بها النَّبِيّ ? في الهجرة هُوَ وأبو بكر ومولاه ودليلهم وجَاءَ زوجها فَقَالَ صفيه لي يا أم معبد فقَالَتْ رجل ظاهر الوضاءة حلو المنطق فضل لا نزر ولا هذر كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن. وذكر بَعْضهمْ زيادة علي هَذَا قال فيه: في وصف أم معبد الخزاعية لِرَسُولِ اللهِ ? قال أبو معبد لزوجته صفي لي صَاحِبَ قريش الَّذِي يطلب يا أم معبد قَالَتْ رَأَيْت رجلاً ظاهرَ الوضأة – أي الحسن والنظافة مبتلج الوجه – أي مشرق ذو نور -. حسن الخلق لم تعبه ثجلةٌ – أي لَيْسَ بطنه ضخم – ولم تزر به صعلة – أي لَيْسَ رأسه صغير – وسيم – أي جميل معتدل القامة – في عينه دعج – أي شدة سواد العين مَعَ سعتها -. وفي أشفاره وطف – كثرة شعر الحاجبين – وفي صوته صحل – صوته رخيم – أحور – شدة بياض العين في شدة سوادها – أطحل أزج – كَانَ عينه مكحولة وإن لم تكحل – دقيق الحاجبين في طول – أقرن – مقرون الحاجبين – شديد سواد الشعر في عنقه سطح – أي ارتفاع وطول وفي لحيته كثافة. إذا صمت فعَلَيْهِ الوقار وإذا تكلم سما – أي ارتفع – وعلاه البهاء – الحسن والجمال وكأن منطقه خرزات يتحدرن حلو المنطق فصل لا نزر ولا هذر – أي لا عِيَّ فيه ولا ثرثرة أجهر النَّاس وأجملهم من بعيد وأحلاهم وأحسنهم من قريب.

قصة أبي أيوب الأنصاري ونزول الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنده

ربعة لا تشنؤه من طول ولا تقتحمه عين من قصر غصن بين غصنين فهو أنظر الثلاثة منظراً وأحسنهم قدراً له رفقاء يخصون به إذا قال استمعوا لقوله وإذا أمر تبادروا إلي أمره محفود – أي يطيعه أصحابه مسرعين – محشود – يجتمعون حوله. اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لما وفقت له الصالحين من خلقك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلمين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " قصة أبي أيوب الأنصاري " أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد الأنصاري، شهد بدراً والعقبة وروي مائة وخمسين حديثاً، مَاتَ بأرض الروم غازياً سنة 52 هـ ودفن إلي أصل حصن بالقسطنطينية، وله قصة يحلو ذكرها. بعد ما تآمرت قريش بدار الندوة علي قتل رسول الله ? وجَاءَ جبريل عَلَيْهِ السَّلام إلي رسول الله ? فأخبره بذَلِكَ وأمره أن لا ينام في مضجعه تلك اللَّيْلَة. وجَاءَ رسول الله ? إلي أبي بكر نصف النَّهَارَ في ساعة لم يكن يأتيه فيها متقنعاً فَقَالَ اخَرَجَ من عندك فَقَالَ إنما هم أهلك يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ رسول الله ? إن الله قَدْ أذن لي في الْخُرُوج فَقَالَ أبو بكر الصحبة يَا رَسُولَ اللهِ، قال نعم فَقَالَ أبو بكر فخذ بأبي وأمي إحدى الراحلتين، فَقَالَ بالثمن، وأمر علياً رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن يبيت تلك اللَّيْلَة علي فراشه ?. ومضي رسول الله ? إلي بيت أبي بكر فخرجا من خوخة في بيت أبي بكر ليلاً، ومضي رسول الله ? وأبو بكر إلي غار ثور، فنسجت العنكبوت

علي بابه، وحام الحمام فوق الغار وجدت قريش في طلبهما وأخذوا معهم القافة حتى انتهوا إلي باب الغار، فوقفوا عَلَيْهِ فَلَمَّا رأوا الحمام فوقه والعنكبوت قَدْ نسجت علي به استبعدوا ذَلِكَ جداً وأعمي الله بصائرهم وأبصارهم وفي ذَلِكَ يَقُولُ الشاعر: وَمَا حَوَى الغَارُ مِنْ خَيْرٍ ومِنْ كَرَمٍ ... وكُلُ طَرْفٍ مِنَ الكُفَّارِ عَنْهُ عَمِيْ ظَنُّوْا الحَمَامَ وظَنَّوْا العَنْكَبُوتَ عَلَى ... خَيْرِ البَرِيَّةِ لَمْ تَنْسِجْ وَلَمْ تَحُمِ وِقَايَةُ اللهِ أَغْنَتْ عَنْ مُضَاعَفَةٍ ... مِنَ الدُرُوْعِ وعَنْ عَالٍ مِنْ الأُطُمِ فَقَالَ أبو بكر: يَا رَسُولَ اللهِ لو أن أحدهم نظر إلي ما تحت قدميه لأبصرنا، فَقَالَ ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا وكانَا يسمعان كلامهم إِلا أن الله عمي عَلَيْهمْ أمرهما إن الله علي كُلّ شَيْء قدير. بلغ النَّبِيّ ? الْمَدِينَة، فتلقته قُلُوب أهلها بأكرم ما يتلقي به وافد، وتطلعت إليه عيونهم تبثُهُ شوق الْحَبِيب إلي حبيبه، وفتحوا له قُلُوبهمْ ليحل منها في سويدائها، وأشرعوا له أبواب بيوتهم لينزل فيها أعز منزل، فكَانُوا يخرجون كُلّ يوم إلي الحرة ينتظرونه، فإذا اشتد حر الشمس رجعوا إلي منازلهم. فَلَمَّا كَانَ يوم الاثنين ثاني عشر الأول علي رأس ثلاث عشرة سنة من نبوته ? خرجوا علي عاداتهم فَلَمَّا حميت الشمس رجعوا، فصعد رجل من

اليهود علي أطم من آطام الْمَدِينَة فرآي رسول الله ? وأصحابه مبيضين يزول بِهُمْ السراب، فصرخ بأعلى صوته يا بني قيلة، هَذَا صاحبكم هَذَا جدكم الَّذِي تنتظرونه. فثار الأنصار إلي السِّلاح، ليتلقوا رسول الله ?، وسمهت الوجية والتكبير في بني عمرو وبن عوف وكبر المسلمون فرحاً وَسُرُوراً بقدومه. فَلَمَّا كَانَ يوم الْجُمُعَة ركب فأدركته الْجُمُعَة في بني سالم ابن عوف فصلاها في المسجد الَّذِي في بطن الوادي، فكانت أولَ جمعة صلاها بالْمَدِينَة، ثُمَّ ركب ناقته فجاءت سادات يثرب في طريقها كُل يريد أن يظفر بشرف نزوله ? عنده. فأتاه عتبان بن مالك، وعباس بن عبادة بن نضلة في رِجَال من بني سالم بن عوف، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ أقم عندنا في الْعَدَد والعدة والمنعة قال (خلوا سبيلها فإنها مأمورة) فخلوا سبيل ناقته ?. فانطلقت حتى إذا وازنت دار بني بياضة تلقاه زياد بن لبيد وفروة بن عمرو، في رِجَال من بني بياضة، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ هَلُمَّ إلينا إلي الْعَدَد والعدة والمنعة، قال (خلوا سبيلها فإنها مأمورة) فخلوا سبيلها. فانطلقت حتى إذا وازنت دار بني الحرث بن الخزرج اعترضه ابنُ الربيع وخارجة بن زيد وعبد الله بن رواحة في رِجَال من بني الحرث

ابن الخزج فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ هَلُمَّ إلينا إلي الْعَدَد والعدة والمنعة قال: «خلوا سبيلها فإنها مأمورة» . فخلوا سبيلها. فانطلقت حتى إذا مرت بدار بني عدي بن النجار وهم أخواله دنيا أم عبد المطلب سلمي بنت عمرو إحدى نسائهم اعترضها سليط بن قيس وأبو سليط أسيره ابن أبي خارجة في رِجَال من بني عدي ابن النجار فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ إلي أخوالك إلي الْعَدَد والعدة والمنعة قال: " خلوا سبيلها فإنها مأمورة» . فخلوا سبيلها. فانطلقت حتى إذا أتت دار بني مالك ابن النجار بركت علي باب مسجده ? وَهُوَ يومئذ مربد – الموضع الَّذِي يجفف فيه التمر – لغلامين يتيمين من بني النجار ثُمَّ من بني مالك ابن النجار في حجر معاذ بن عفراء: سهل وسهيل ابني عمرو فَلَمَّا بركت ورسول الله ? عَلَيْهَا لم ينزل وثَبِّتْ فسارت غير بعيد ورسول الله ? واضع لها زمامها لا يثنيها به. ثُمَّ التفت إلي خلفها فرجعت إلي مبركها أول مرة فبركت فيه ثُمَّ تحلحلت – أي تحركت – ورزمت - أي رغت ورجعت في رغائها ووضعت جرانها فنزل عَنْهَا ?. فاحتمل أبو أيوب الأنصاري رحل النَّبِيّ ? وكأنما يحمل كنوز الدُّنْيَا من شدة الفرح والسرور وبادر أبو أيوب يرحب برسول الله ? قال أبو أيوب لما نزل علي رسول ? في بيتي نزل في السفل وأنَا وأم أيوب في العلو فقُلْتُ له: يا نَبِيَّ اللهِ بأبي أَنْتَ وأمي إني لا أكره وأعظم أن أكون

فوقك وتَكُون تحتى فاظهر أَنْتَ فكن في العلو وننزل نَحْنُ فنكن في السفل. فَقَالَ يا أبا أيوب ارفق بنا وبمن يغشانَا أن نكون في سفل البيت قال فكَانَ رسول الله ? في سفله وكنا فوقه في المسكن فلَقَدْ انكسر حب لنا فيه ماء فقمت أَنَا وأم أيوب بقطيفة لنا ما لنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفاً أن يقطر علي رسول الله ? منه شَيْء فيؤذيه. قال وكنا نصنع له العشاء ونَبْعَث به إليه فإذا رد عَلَيْنَا فضلة تيممت أَنَا وأم أيوب موضع يده فأكلنا منه نبتغي بذَلِكَ البركة حتى إذا بعثنا إليه ليلة بعشائه وقَدْ جعلنا له فيه بصلاً أو ثوماً فرده رسول الله ? ولم أر ليده فيه أثراً قال فجئته فزعاً فقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ بأبي وأمي رددت عشاءك ولم أر فيه موضع يدك وَكُنْت إذا رددته عَلَيْنَا تيممت أَنَا وأم أيوب موضع يدك نبتغي بذَلِكَ البركة قال إني وجدت فيه ريح هذه الشجرة وأنَا رجل أناجي فأما أنتم فكلوه قال فأكلناه ولم نصنع له تلك الشجرة بعد. شِعْراً: إِلى مَوْلاَكَ سَلِّمْ كُلَّ أمْرِ ... تّفُزْ فِي كُلِّ صُبْحٍ أوْ عَشِيِّ وصُنْ مِنْكَ الفُؤادَ بِحُسْنِ سَيْرٍ ... بإخْلاصٍ عَلَى النّهْجِ السَّوِيِّ ومِنْ مَوْلاَكَ أْطْلُبْ مَنْحَ فَضْلٍ ... تَنَلْ مِنْهُ صَفَا العَيشِ الهَنِيِّ وأكْثِرْ مِنْ صَلاتِكَ مَعَ سَلامٍ ... عَلَى أسْمَى نَبِيٍّ هَاشِمِيَّ صَلاةُ اللهِ يَتْلُوهَا سَلامٌ ... ... عَلَيْهِ دَامَ كَالمِسْكِ الزَّكيِّ اللَّهُمَّ اجعلنا من المتقين الأَبْرَار وأسكنا معهم في دار القرار، اللَّهُمَّ وفقنا بحسن الإقبال عَلَيْكَ والإصغاء إليك للتعاون فِي طَاعَتكَ والمبادرة إلي خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأَمْرِكَ والرِّضَا

موعظة بليغة في التحذير من الغضب

بقضائك والصبر علي بَلائِكَ وَالشُّكْر لنعمائك، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلمين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يا أرحم الراحمين وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. " موعظة " عِبَادَ اللهِ إن الإِنْسَان منا كما علمتم معرض للأذي والإساءة والإهانة وعرضه للأخطار، والمهلكات، فمنحه الله قوة يدفع بها الإهانة، ويدفع بها الخطر، وينجو بها بإذن الله من الهلاك، هِيَ قوة الْغَضَب والحمية. وخلق الْغَضَب من النار، فتسلط الشيطان عَلَيْنَا من هَذَا الطَرِيق وركبنا وَقْت الْغَضَب، حتى صار النَّاس في غضبهم حمقي متهورين، وسفهاء طائشين. فكرِهَ النَّاس الْغَضَب لذَلِكَ، واصطلحوا علي ذمهِ مطلقاً، وهَذَا خطأ فظيع وخلط لا يجوز، فلَيْسَ كُلّ غضب مذموم ولا كُلّ حلم بممدوح، والله جَلَّ وَعَلا لا يخلق لنا طبعاً إِلا لحكمة، ولا يركب فينا قوة الحمية والْغَضَب إِلا لسبب وحكمة. فالأذى إذا جاءنا لا يدفع إِلا بالْغَضَب، والشر إذا نالنا لا يدفع إِلا بالْغَضَب، وحماية الدين والأعراض والشرف لا تدفع إِلا بالْغَضَب، فمن فقَدْ قوة الْغَضَب بالكلية، أو ضعفت فيه الحمية فهو ناقص محلول العزم، مفقود الحزم، معدوم الرجولة. وقَدْ امتدح الله غضب الْمُؤْمِنِين علي الكفار، وحميتهم الدينية، لما له من أثر في إعلاء كلمة الله، فَقَالَ تَعَالَى {أَشِدَّاء عَلَي الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} .

وَقَالَ " أَذِلَّةٍ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَي الْكَافِرِينَ " وَقَالَ " وليجدوا فيكم غلظة " وأمرنا بالْغَضَب إذا انتهكت حرمة الدين، والغيرة علي حدود الله، فَقَالَ في الزناة " وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْم الآخرِ» . فمن فقَدْ قوة الْغَضَب، يصبح جبانَا ضعيفاً، وذليلاً حقيراً لا يأنف من العار ولا يهمه، ولا يتألم لأذى السفهاء، يتطاول السفهاء والفسقة علي حرمه، فلا يغار لعرض، ولا يغضب لشرف، فيكون تيساً في صورة إنسان، وجماداً لا إحساس له، ولا شعور. ولَيْسَ الحِلم في شَيْء، وإنما هُوَ جبن وخور وذلة وقَدْ ورد عن النَّبِيّ ? أنه قال لن يدخل الْجَنَّة ديوث، قَالُوا وما الديوث يَا رَسُولَ اللهِ قال الَّذِي لا يغار علي أهله. وَقَالَ سعد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَا رَسُولَ اللهِ لو وجدت مَعَ أهلي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة شهداء فَقَالَ ? نعم، فَقَالَ كلا والَّذِي بعثك بالحق، إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذَلِكَ، فَقَالَ ? اسمعوا إلى ما يَقُولُ سيدكم، إنه لغيور وأنَا أغير منه والله أغير مني. وإذا لم يغضب الإِنْسَان لعرضه ضاعت الأنساب واختلطت الأولاد، وكل أمة تموت الغيرة فيهم لابد وأن تضيع العفة، والصيانة من نسائها، وهَذَا هُوَ الضعف والخور والعجز، والجبن، الَّذِي استعاذ منه النَّبِيّ ?، وكيف تذم رجلاً يغضب لدينه، إذا رأي المنكرات، وقَدْ أمر بمحاربتها وكيف يصلح المرء عيوب نَفْسهِ إذا لم يغضب عَلَيْهَا، ويشتد في ردها عن هواها.

أما الْغَضَب المذموم فهو الَّذِي يعمي صاحبه عن الحق، ويفقده بصر البصيرة، والفكر فتأخذه العزةُ بالإثم، ويعرض عن النصح إذا نصح، وَرُبَّمَا زَادَ هيجانَاً، وإذا روجع فَيَقُولُ ازداد سخطاً ولجاجاً. وقَدْ يحدث منه ضرر علي من حوله، وتجده متغيراً لونه، مرتعشة أعضاؤه، زائغاً بصره، وكالأعمى يسب الجماد والْحَيَوَان، ويبطش بكل ما يصادفه، حتى إنه يتلف الأثاث، والرياش، وَرُبَّمَا لا يشفي غله، وقَدْ يحدث منه طلاق، ولعن وسب، وشتم، فهَذَا غضب مذموم قبيح مرذول ينتصر فيه إبلَيْسُ علي هَذَا الَّذِي لا يملك نَفْسَهُ عَنْدَ الْغَضَب كما قيل: وَمَا غَضَبُ الإِنْسَانِ إِلاَّ حَمَاقَةٌ ... إِذَا كَانَ فِيْمَا لَيْسَ للهِ يَغْضَبُ ومثل هَذَا الْغَضَب يهدم الجسم، ويتلف الصحة، ويحرم صاحبه الرَّاحَة والهناء ويجعل نظرته إلي الحياة مظلمة سوداء فالتفريط في الْغَضَب ضعف، والإفراط تهور وجنون، والمحمود منه الوسط والاعتدال والقصد المحمود منه أن يكون غضبك للدين فإذا اعتدي قوم علي الإسلام بالطعن والتشهير أو التشكيك في العقائد كما يحاول الملحدون وكما يفعل المبشرون فيجب أن تغضب عَلَيْهمْ انتصاراً لديننا ودفاعاً عن شرعنا. ومن الْغَضَب المحمود الْغَضَب علي من تعدي علي بلاد إسلامية أو تعدي علي مسلم أو مدح غير الدين الإسلامي أو ذكر الله أو كتابه أو ملائكته أو رسله بسوء أو سب صحابياً أو إماماً مشهوراً بالتقي والورع

والاستقامة أو طعن في رِجَال الدين لأجل دينهم أو كذب علي الله أو علي رسله أو حل شَيْئاً من المحرمَاتَ أو حرم شَيْئاً مِمَّا حلله الله أو استهان بكتاب الله أو سنة رسوله ? أو كُتبِ أَهْل العلم المحققين مثل الإمام أَحَمَد والشَّافِعِي ومالك وأبي حنيفة والموفق والمجد وابن أبي عمر وشيخ الإسلام وابن القيم وابن كثير وابن رجب وابن مفلح ونحوهم من العِلماًء المشهورين بالاستقامة والبعد عن البدع وكأئمة الدعوة. ومن الْغَضَبِ المحمود الْغَضَبُ علي من مدح الكفرة والمنافقين وأئمة الضلال والحياري كابن عرَبيِّ وابن رشد والفارابي وابن سينا وابن كلاب والعفيف التلمساني وابن سبعين وابن الفارض وابن الرواندي والكوثري والبوصيري والمعري ونحو هَؤُلاَءِ من الملاحدة والزنادقة والمبتدعة والفسقة والظلمة وأعوانهم. ومن الْغَضَب المحمود الْغَضَب علي من ابتدع في الدين بدعاً أو نشرها أو دعا إليها أو مدح محلليها أو مدح الكفار أو مدح الملاهي والمنكرات التي حطمت الأَخْلاق وقضت عَلَيْهَا وأتلفت الأموال وقتلت الأوقات وأورثت الخلق أفانين العدوات وأحدثت التفرق في البيوت والقُلُوب. شِعْراً: (إِنَّ المَلاَهِيَ أَلْقَتْ بَيْنَنَا إِحَناً ... وَأَوْرَثَنْنَا أَفَانِيْنَ العَدَوَاتِ) (وَهَلْ أُصِيْبَ شَبَابُ الْيَوْمِ وانْحَرَفُوْا ... إِلاَّ بِتَقْلِيْدِ أَصْحَابِ الضَّلاَلاَتِ)

من وفائه - صلى الله عليه وسلم - وما جرىله عند تزوجه بخديجة وتأييد خديجة له رضي الله عنها

(مِنْ كُلِّ أَهْوَجَ لاَ دِيْنٌ وَلاَ أَدَبٌ ... وَلاَ حَيَاءٌ ومَعْدُوْمُ المُرُؤَاتِ) (يَرَي التَّمَدُّنِ فِي تَطْوِيْلِ شَارِبِهِ ... وَحَلْقِ لِحْيَتِهِ مِثْلَ الخَوَاجَاتِ) (يُقَلِّدُ الكُفْرِ فِي تَطْوِيْلِ أَظْفُرِهِ ... أقْبِحْ بِهِ مِنْ سَفِيْهٍ سَاقِطٍ عَاتِ) اللَّهُمَّ قوي إيماننا بك وبملائكتك وبكتبك وبرسلك وبالْيَوْم الآخر وبالقدر خيره وشره اللَّهُمَّ وفقنا للهداية وجنبنا أسباب الجهالة والغواية اللَّهُمَّ ثبتنا علي الإسلام والسنة ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أَنْتَ الوهاب، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلمين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يا أرحم الراحمين وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) ومن وفائه ? ما أخرجه البخاري في صحيحه عن عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ ما غرت علي أحد من نساء النَّبِيّ ? ما غرت علي خديجة وما رأيتها ولكن كَانَ النَّبِيّ ? يكثر ذكرها. وَرُبَّمَا ذبح الشاة ثُمَّ يقطعها أعضاء ثُمَّ يبعثها في صدائق خديجة فربما قُلْتُ له كأن لم يكن في الدُّنْيَا امرأة إِلا خديجة فَيَقُولُ إنها كانت وكَانَ لي منها ولد، كانت خديجة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا في الجاهلية سيدة وقورة ذات عقل رزين وصاحبة مال ويسار وجاه وشرف تستأجر الرِّجَال في مالها وتضاربهم إياه.

فَلَمَّا وقع في سمعها ما يتحدث به النَّاس ويتناقله العارفون عن المصطفي ? من الوفاء والصدق والأمانة والنصح وحسن السيرة وكريم الشمائل والسخاء ونحو ذَلِكَ من مكارم الأَخْلاق ومحاسن الشيم ما لم تسمعه عن غيره حتى سماه قومه الأمين استأجرته ليخَرَجَ في مالها تاجراً وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره. فسافر عَلَيْهِ أفضل الصَّلاة والسَّلام بقصد الاتجار إلي الشام يصحبه غلامها ميسرة فباعا وابتاعا وربحا ربحاً عظيماً وظهر له ? في هذه السفرة من البركات وإفاضة الخيرات الشَيْء الكثير وجعل الله حبه في قلب غلامها ميسرة وأعجب بما شاهده منه. وكانت سنُّهُ ? في هذه السفرة خمساً وعشرين سنة وهي السفرة الثَّانِيَة من أسفاره إلي الشام ولما رجع قافلاً من الشام وقدم مَكَّة ورأت خديجة ما وفقه الله له من ربح كَانَ علي يديه وبركات وفيرة. وما أتحفها به غلامها ميسرة مِمَّا شاهده من حسن سيرته وما جعل الله علي يديه من البركات كُلّ ذَلِكَ حفزه في نفس خديجة وحببه إليها فلم تتمالك نفسها وكَانَ سنها نحو الأربعين سنة وهي كما وصفنا وأضعاف ما وصفنا من كرامة محتدها وشرف حسبها وحسن سيرتها رَضِيَ اللهُ عَنْهَا. فأرسلت إلي رسول الله ? تخطبه لنفسها فقام ? ينجز رغبتها ويجيب طلبتها واستدعي أعمامه حتى دخلها علي عمها عمرو بن أسد فخطبها منه بواسطة عمه أبي طالب فزوجها عمها. ثُمَّ قام أبو طالب عم رسول الله ? خطيباً فَقَالَ الحمد لله الَّذِي جعلنا

من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضي معد وعنصر مضر وجعلنا حضنة بيته وسُواس حرمه وجعل لنا بيتاً محجوباً وحرماً آمناً وجعلنا حكام النَّاس. ثُمَّ إن ابن أخي هَذَا مُحَمَّد بن عَبْد اللهِ لا يوزن به رجل شرفاً ونبلاً وفضلاً وإن كَانَ في الْمَال قل فإن الْمَال ظِلّ زائل وأمر حائل وعارية مستردة وَهُوَ وَاللهِ بعد هَذَا له نبأ عَظِيم وخطر جليل وقَدْ خطب إليكم رغبة في كريمتكم خديجة وقَدْ بذل لها من الصداق كَذَا وعلي ذَلِكَ تم الأَمْر. ولما أكرمه الله بالرسالة وشرفه بالنبوة كانت خديجة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أسرع النَّاس به إيمانَاً ولدعوته تصديقاً وله إجابة ولم تنتظره آيةٌ أخري زيادة علي ما علمته من مكارم أخلاقه ? وما سمعت من خوارق العادات التي كانت تظهر علي يديه. وأول شَيْء بديء به الوحي الرؤيا الصادقة فكَانَ لا يري رؤيا إِلا جاءت مثل فلق الصبح ثُمَّ حبب إليه الخلاء والعزلة عن البشر فكَانَ يخلو بغار حراء فيتعبد فيه الليإلي ذوات الْعَدَد فتَارة يمكث عشرة وتَارة أكثر إلي شهر. وكانت عبادته إذ ذاك علي الشريعة الحنيفية دين أبيه إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام ويأخذ زاده فإذا نفد رجع إلي خديجة فيتزود لمثلها حتى جَاءَ مبلغ الوحي وملك السماء جبريل عَلَيْهِ السَّلام فبينما هُوَ قائم علي الجبل إذ فاجأءه جبريل وَقَالَ أبشر يا مُحَمَّد أَنَا جبريل وأَنْتَ رسول الله إلي هذه الأمة. ثُمَّ قال له اقَرَأَ قال ما أَنَا بقاريء يريد بذَلِكَ أنه أمي لم يتعلم القراءة من قبل فغطه بالنمط الَّذِي كَانَ ينام عَلَيْهِ حتى بلغ منه الجهد ثُمَّ أرسله فَقَالَ له اقَرَأَ قال ما أَنَا بقارئ فأخذه فغطه ثانية ثُمَّ أرسله فَقَالَ اقَرَأَ قال ما أَنَا

بقارئ فأخذه فغظه الثالثة فَقَالَ " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ " فرجع عَلَيْهِ السَّلام مذعوراً خائفاً يرجف فؤاده ولا يتمالك نَفْسهُ من هول المنظر وشدة ما ألم به فدخل علي خديجة زوجته فَقَالَ " زملوني زملوني " لفوني في ثوبي، ليزول عَنْهُ ما يجد من الرعب والقشعريرة التي انتابته من رؤية الملك فزملوه حتى ذهب عَنْهُ الخوف. فذكر لخديجة الأَمْرَ وأخبرها قائلاً لَقَدْ خشيت علي نفسي من شدة ما أصابني من غط الملك لي ولم يكن عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام يعرف شَيْئاً عن جبريل ووصفه وأشكاله، فأجابته خديجة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا علي الفور ووقفت ذَلِكَ الموقف المشرف في تثبيت فؤاده وتهدئة أعصابه وتقوية دواعي الأمل فيه قائلة كلا وَاللهِ لا يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين علي نوائب الحق فلا يسلط الله عَلَيْكَ الشياطين والأوهام ولا مراء أن الله اختارك لهداية قومك. ثُمَّ لم تكتف بهَذَا القدر من القول بل أرادت أن تتثَبِّتْ ممن لّهُمْ علم بحال الرسل واطلاع علي أخبارهم بما قرؤوه في الكتب القديمة فانطلقت به إلي ورقة بن نوفل وَهُوَ ابن عمها وكَانَ امرأ قَدْ تنصر في الجاهلية وكَانَ يكتب اْلكِتَاب العبراني فيكتب من الإنجيل ما شَاءَ الله أن يكتب وكَانَ شيخاً كبيراً قَدْ عمي. فقَالَتْ له خديجة يا ابن عم اسمَعَ من ابن أخيك فَقَالَ يا ابن أخي ماذا تري فأخبره عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام خبر ما رأي فَقَالَ له ورقة هَذَا الناموس الَّذِي

أنزل الله علي موسى لأنه يعرف أن واسطة الوحي بين الله وبين أنبيائه هُوَ جبريل عَلَيْهِ السَّلام. ثُمَّ قال يا ليتني فيها جذعاً إذ يخرجك قومك من بلادك التي نشأت بها لمعاداتهم إياك وكراهتم لك حينما تطالبهم بتغيير اعتقاداتهم التي وجدوا عَلَيْهَا آباءهم فكَانَ قول ورقة موضع استغراب النَّبِيّ ? لما يعرفه من حب قومه له لاتصافه بصدق الْحَدِيث والأمانة ومكارم الأَخْلاق حتى سموه الأمين. وَقَالَ أو مخرجيَّ هم قال لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إِلا عودي علي حد ما جَاءَ في القرآن الكريم {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ} وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} وقولهم: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ} . ثُمَّ قال ورقة مستأنفاً: وإن يدركني يومك انصرك نصراً مؤزراً ثُمَّ توفي ورقة بعدها بقليل: قال وهَذَا نموذج من مناقب أمنا وأم الْمُؤْمِنِين خديجة ومواقفها إزاء ما كَانَ يحدث للنبي ?. ولذا كَانَ ? يبادلها الوفاء والإخلاص وكَانَ يحنو ويديم ذكرها بعد موتها اللَّهُمَّ صلي وسلم عَلَيْهِ. وكَانَ ? يكثر ذكرها وَرُبَّمَا ذبح الشاة ثُمَّ يقطعها أعضاء ثُمَّ يبعثها في صدائق خديجة وهَذَا يشعر ببقاء ودها واستمرار حبه لها وإخلاصه حتى كَانَ يتعهد صديقاتها بالإهداء والعطاء بعد موتها. ولذا قَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ما غرت علي أحد من نساء النَّبِيّ ? ما غرت علي خديجة وما رأيتها وفي حديث رواه البخاري عن عَائِشَة رضي الله عَنْهَا

قَالَتْ: استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة علي رسول الله ? فعرف استئذان خديجة فارتاع لذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُمَّ هالة قَالَتْ: فغرت. ... الْحَدِيث. وفي الاستيعاب لأبي عمر ج ص 1810 بسنده إلي عَائِشَة قَالَتْ: جاءت عجوز إلي النَّبِيّ ? فَقَالَ لها من أَنْتَ قَالَتْ أَنَا جثامة المزنية: قال بل أَنْتَ حسانة المزنية: كيف حالكم كيف كنتم بعدنا قَالَتْ بخَيْر بأبي أَنْتَ وأمي يَا رَسُولَ اللهِ. فَلَمَّا خرجت قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ تقبل علي هذه العجوز هَذَا الإقبال قال إنها كانت تأتينا أيام خديجة وإن حسن العهد من الإِيمَان: مقابلة طيبة وملاطفة جميلة وتودد محمود ووفاء من النَّبِيّ ? لزوجته خديجة التي ماتت وطالما أيدته وخففت عَنْهُ وسلته وعاشرته وتبادل هُوَ وإياها الْمَوَدَّة ولم تكدر خاطره ولا مرة واحدة عكس ما عَلَيْهِ زوجات هَذَا الجيل المنحرف إِلا النادرة. وأخَرَجَ أبو داود ج2 ص 63 أن عمر بن السائب حدثه أنه بلغه أن رسول الله ? كَانَ جالساً يَوْماً فأقبل أبوه من الرضاعة فوضع له بعض ثوبه فقعد عَلَيْهِ ثُمَّ أقبلت أمه فوضع لها نصف ثوبه من جانبه الآخر فجلست عَلَيْهِ ثُمَّ أقبل أخوه من الرضاعة فقام له رسول الله ? فأجلسه بين يديها. وعَنْدَ أَحَمَد من حديث مسروق عن عَائِشَة: آمنت بي إذ كفر بي النَّاس وصدقتني إذ كذبني النَّاس وواستني إذ حرمني النَّاس ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء وكَانَ جَمِيع أولاده عَلَيْهِ السَّلام منها عدا إبراهيم فإنه من مارية القبطية وتوفيت خديجة قبل الهجرة بثلاث سنين وحزن عَلَيْهَا ? حزناً

شديداً لما كَانَ لها من الأعمال النبيلة والوفاء التام والتأييد له وتثبيته ولما لها من آراء سديدة. ومنها القاسم الَّذِي كَانَ يكني به وسائر ولده إبراهيم وبوفاتها انطفأ مصباح منير وعون كبير ليتمثل النساء بأعمالها في حسن الوفاء والإخلاص والصدق والبر فإنها امرأة ولكنها خَيْر من آلاف الرِّجَال وفي مثلها وأشباهها لو يوَجَدَ حسن التمثل يَقُولُ المتنبي: (وَلَوْ كَانَ النِسَاءُ كَمَنْ فَقَدْنَا ... لَفُضِّلَتِ النِّسَاءُ عَلَى الرِّجَالِ) ولهَذَا استحقت أجر العاملين وثواب المخلصين وجاءتها البشارة من رب السماء علي لسان جبريل الأمين قائلاً " يَا رَسُولَ اللهِ هذه خديجة قَدْ أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب شك من الراوي " وَذَلِكَ عِنْدَمَا كَانَ ? في غار حراء فإذا هِيَ أتتك فاقَرَأَ عَلَيْهَا السَّلام من ربها ومني وبشرها ببيت في الْجَنَّة من قصب لا صخب فيه ولا نصب " فقَالَتْ هُوَ السَّلام ومنه السَّلام وعلي جبريل السَّلام وعَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ السَّلام ورحمة الله وبركاته. رَأَتْ خَدِيْجَةُ إِنْسَانَاً تُصَاحِبُهُ ... عِنَايَةُ اللهِ رَغْمَ الفَقْرِ واليُتُمِ فاخْتَارَتْ المُصْطَفَى زَوْجاً لَهَا ولَقَدْ ... وَفِيَّ لَهَا المُصْطَفَى المُخْتَارُ بالذِّمَمِ يُثْنِيْ عَلَيْهَا ولاَ يَنْسَى فَضَائِلَهَا ... مِثْلُ اسْتِجَابَتِهَا فِي لاَ وَفِي نَعَمِ أَوْلاًَدُهُ غَيْرُ إِبْراهِيْمَ سِتَّتُهُمْ ... أَتَوهُ مِنْهَا وَنُورُ الشَّمْسِ فِي النَّجِمِ آخر: ... لَقَدْ سَمِعْنَا بأَوْصَافٍ لَكُمْ حَسُنَتْ ... فَسَرَّنَا مَا سَمِعْنَاهُ وَأَرْضَانَا مِنْ قَبْلِ رُؤْيَتِكُمْ نلَنَا مَحَبَّتَكُمْ ... والأذْنُ تَعْشِقُ قَبْلَ العَيْنِ أَحْيَانَا " موعظة " عِبَادَ اللهِ إن شأن الصَّلاة عَظِيم جداً في ديننا معشر المسلمين وفي كُلّ دين وأسرارها العظيمة وبركاتها العميمة وفوائدها الكثيرة لا تخفي علي كثير من الْمُؤْمِنِين. ولَيْسَتْ الصَّلاة مجرد أقوال يلوكها اللسان وحركات تؤديها الجوارح بلا تدبر من عقل ولا تفهم ولا خشوع من قلب لَيْسَتْ تلك التي ينقرها صاحبها نقر الديكة ويخطفها خطف

موعظة بليغة في عظم شأن الصلاة

الغراب ويمر بها مر السحاب كأن وراءه طالب حثيث ويلتفت فيها التفات الثعلب يميناً وشمالاً وفوقاً وتحتاً. كلا فالصَّلاة المقامة تماماً هِيَ التي تأخذ حقها من التأمل والخشية والخضوع والسكون واستحضار عظمة المعبود جل جلاله. وَذَلِكَ أن القصد من الصَّلاة وسائر العبادات هُوَ تذكير الإِنْسَان بربه الأعلى الَّذِي خلق فسوي والَّذِي قدر فهدي. والصَّلاة صلة بين الْعَبْد وربه تقوي بها محبة الْعَبْد لربه كُلَّما تكررت قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ فإن المحب يتلذذ بخدمة محبوبه وتصرفه في طاعته وكُلَّما كانت المحبة أقوي كانت لذة الطاعة والخدمة أكمل فليزن الْعَبْد إيمانه ومحبته بهَذَا الميزان ولينظر هل هُوَ ملتذ بخدمة محبوبه أو

متكره لها يأتي بها علي السآمة والملل والكراهة فهَذَا محك إيمان الْعَبْد ومحبته لله. قال بعض السَّلَف إني أدخل في الصَّلاة فأحمل هم خروجي منها ويضيق صدري إذا فرغت لأني خارج منها ولهَذَا قال النبي ? وجعلت قرت عيني في الصَّلاة ومن كانت قرة عينه في شَيْء فإنه لا يود أن يفارقه ولا يخَرَجَ منه فإن قرة عين الْعَبْد نعيمه وطيب حَيَاتهُ به وَقَالَ بعض السَّلَف إني لأفرح بالليل حين يقبل لما تتلذذ به عيشتي وتقر به عيني من مناجاة من أحب وخلوتي بخدمته والتذلل بين يديه واغتم للفجر إذا طلع لما اشتغل به النَّهَارَ عن ذَلِكَ فلا شَيْء ألذ للمحب من خدمة محبوبه وطاعته أين هَؤُلاَءِ ممن لذتهم وأنسهم عَنْدَ المنكرات. وَقَالَ بَعْضهمْ تعذبت بالصَّلاة عشرين سنة ثُمَّ تنعمت بها عشرين سنة وهذه اللذة والتنعم بالخدمة إنما تحصل بالمصابرة علي التكره والتعب أولاً فإذا صبر عَلَيْهِ وصدق في صبره أفضي به إلي هذه اللذة. وَقَالَ أبو زيد سقت نفسي إلي الله وهي تبكي فما زلت أسوقها حتى انساقت إليه وهي تضحك أهـ. وَقَالَ الله تَعَالَى " وأقم الصَّلاة لذكري " وَقَالَ ? إنما فرضت الصَّلاة وأمر بالحج وأشعرت المناسك لإقامة ذكر الله رواه أبو داود ولهَذَا كانت عنوان علي الفلاح قال تَعَالَى " إنما يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْم الآخرِ وَأَقَامَ الصَّلاة "

والمراد بعمارتها بالصَّلاة والقربات وَقَالَ ?: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإِيمَان» . فإن الله يَقُولُ: {إنما يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْم الأخرِ وَأَقَامَ الصَّلاة} . وجَاءَ ذكر الصَّلاة في القرآن في مواضع كثيرة وأثني جَلَّ وَعَلا علي المقيمين لها والمحافظين عَلَيْهَا وأخبر أنها تنهي عن الفحشاء والْمُنْكَر ومن دعاء الخليل عَلَيْهِ السَّلام أنه يسأل ربه أن يجعله مقيماً لها قال تَعَالَى: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاة وَمِن ذُرِّيَّتِي} . ومدح بها إسماعيل قال تَعَالَى {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاة وَالزَّكَاة وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} وأمر جَلَّ وَعَلا موسى بإقامتها أول ما يأمره به في ساعات الوحي الأولي قال تَعَالَى: {وَأنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَي * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا آله إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاة لِذِكْرِي} وَقَالَ له ولهارون {أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاة} . وفي وصية لقمان لابنه يا بني أقم الصَّلاة وأمر بالمعروف وانه عن الْمُنْكَر ... الآية وينطق الله عيسي وَهُوَ في مهده فَيَقُولُ " وَأَوْصَانِي بِالصَّلاة وَالزَّكَاة مَا دُمْتُ حَيّاً} ويأمر الله بها صفوة خلقه وخاتم أنبيائه فَيَقُولُ جَلَّ وَعَلا {اتْلُ مَا أُوحِيَ إليكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاة إِنَّ الصَّلاة " وَيَقُولُ جَلَّ وَعَلا وتقدس {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاة وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} . ويبتدؤ بها أوصاف الْمُؤْمِنِين ويختم بها فَيَقُولُ سُبْحَانَهُ وتعالي " قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ " الآيات إلي قوله {وَالَّذِينَ

هُمْ عَلَي صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} ويؤكد المحافظة عَلَيْهَا حضراً وسفراً وفي الأمن والخوف والسلم والحرب {حَافِظُواْ عَلَي الصَّلَوَاتِ والصَّلاة الْوُسْطَي وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ، فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانَاً} وأخبر جَلَّ وَعَلا عمن أضاعوا الصَّلاة واتبعوا الشهوات أن عاقبة أعمالهم وسوء مالهم شر وخسران فَقَالَ {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاة وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} وجعلها النَّبِيّ ? الشعار الفاصل بين المسلم والكافر فَقَالَ بين الرجل وبين الكفر ترك الصَّلاة وَقَالَ العهد الَّذِي بيننا وبينهم الصَّلاة فمن تركها فقَدْ كفر وفي الْحَدِيث الآخر من ترك الصَّلاة متعمداً فقَدْ برئت منه ذمة الله ورسوله وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام من فاتته صلاة فكأنما وتر أهله وماله. ومِمَّا يدل علي عظم شأن الصَّلاة مَعَ تقدم اهتمام المسلمين بتوجيه المحتضَرِ وَهُوَ في سكرات الموت إلي القبلة وكَذَلِكَ وضعه في قبره متجهاً إلي القبلة وما ذاك إِلا أنها الجهة التي يتجه إليها كُلَّما أراد أن يتعرف إلي ربه ويدعوه ويجدد الصلة بينه وبين ربه في الصَّلاة. عَلَى الصَلْواتِ الخَمْسِ حَافِظْ فَإِنّهَا ... لاَكَدُ مَفْرُوْضِ عَلَى كُلِّ مُهْتَدِ فَلاَ رُخْصَةِ فِي تَرْكِهَا لِمُكَلَّفٍ ... وأَوْلُ مَا عَنْهُ يُحَاسَبُ فِي غَدِ بإهْمَالِهَا يَسْتَوجِبُ المَرَءُ قَرْنَهُ ... بِفرعَونَ مَعَ هَامَانَ فِي شَرِ مَوْردِ وَمَازَالَ يُوصِيْ بالصَّلاَةِ نَبِيُّنَا ... لَدَى المَوْتِ حَتَّى كَلَّ عَنْ نُطْقِ مِذْوَدِ اللَّهُمَّ انهج بنا مناهج المفلحين وألبسنا خلَع الإِيمَان واليقين، وخصنا منك بالتَّوْفِيق المبين، ووفقنا لقول الحق وإتباعه وخلصنا مِنَ الْبَاطِلِ وابتدعه، وكن لنا مؤيداً ولا تجعل لفاجر عَلَيْنَا يداً واجعل لنا عيشاً رغداً ولا

تشمت بنا عدواً ولا حاسداً، وارزقنا عِلماً نافعاً وعملاً متقبلاً، وفهماً ذكياً صفياً وشفاءً من كُلّ داء، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المسلمين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وصلي الله علي مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) إذا فهمت ذَلِكَ فعَلَيْكَ أن تعتني بها وتجتهد في كُلّ ما يصلحها ويكملها تجتهد أولاً في الطهارة والنظافة في جسمك وثوبك وموضع فعَلَيْكَ أولاً بالاستبراء من البول والغائط بأن تتأني قليلاً حتى يخَرَجَ البول كله بدون نتر. وهو دفع بقيت البول وبدون مصر للذكر فإن الْعَمَل يحدث السلس وتغسل محل الغائط حتى يعود المحل كما قبل التغوط خال من آثار النجاسة ولزوجتها لئلا تَكُون حاملاً للنجاسة في صلاتك فتبطل. ثُمَّ عَنْدَ الوضوء تزيل ما يمنع وصول الماء إلي البشرة من مرهم أو وازلين أو دهن علي غير جرح يضره الماء وتتفقَدْ عَنْدَ الوضوء أخمص القدمين والعقب وَهُوَ مؤخر القدم وأعلي الجبة وما حول المرافق. وفي الغسل صماخ الأذنين وطي الركبتين وما تحت الشعور والإبط والسرة وما بين الأصابع أصابع الرجلين والأظافر إن كانت طواِلاً وتمنع الماء ويضرك قصها وإِلا فتقصها ثُمَّ بعد تنتبه لهذه الدقائق. وتَكُون محسناً للوضوء وتسعي في تفقد ما يفسدها أو ينقصها كما تراه في فعل الصَّلاة عَنْدَ بعض النَّاس تري عنده من العبث والحركة والتلفت ما يجعلك في شك منه هل هُوَ في صلاة أم لا فتجده أحيانَاً ينظر ساعته وأحيانَاً يصلح غترته وأحيانَاً يواسي ثوبه ويطالعه وأحيانَاً يعبث في محل لحيته وأحيانَاً في أنفه أو عينه وفي خفهِ، وفي ركوعه وسجوده ما يدهشك.

ولعلك تظن أن هَذَا مبالغة ولكن إذا أردت الوقوف علي ذَلِكَ فَانْظُرْ بعد ما تسلم إلي الَّذِينَ يكلمون وإلي من يصلي وحده وعلي كُلّ حال الأَمْر عَظِيم ومَعَ ذَلِكَ النَّاس في غَفْلَة وسهو عن ذَلِكَ. وأما الطُّمَأْنِينَة في الصَّلاة فيفهم قدر تركها من حديث المسيء في صلاته الَّذِي رواه أبو هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رجلاً دخل المسجد ورسول الله ? جالس في ناحية المسجد فصلي ثُمَّ جَاءَ إلي النَّبِيّ ? فسلم عَلَيْهِ فَقَالَ له ? وعَلَيْكَ السَّلام ارجع فصل فإنك لم تصل. فصلي ثُمَّ جَاءَ فسلم فَقَالَ وعَلَيْكَ السَّلام فارجع فصل فإنك لم تصل فصلي ثُمَّ جَاءَ فسلم فَقَالَ وعَلَيْكَ السَّلام فَقَالَ في الثَّانِيَة أو في التي تليها علمني يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ " إذا قمت إلي الصَّلاة فأسبغِ الوضوء " ثُمَّ استقبل القبلة فكبِّر ثُمَّ اقَرَأَ ما تيسر معك من القرآن ثُمَّ اركع حتى تطمئن راكعاً ثُمَّ ارفع حتى تستوي قائماً ثُمَّ اسجد حتى تطمئن ساجداً ثُمَّ ارفع حتى تطمئن جالساً ثُمَّ اسجد حتى تطمئن ساجداً ثُمَّ ارفع حتى تطمئن جالساًَ. ثُمَّ افعل ذَلِكَ في صلاتك كُلّهَا رواه البخاري ومسلم فتأمل قوله ? لمن ترك الطُّمَأْنِينَة ارجع فصل فإنك لم تصل فإن هَذَا نفي صريح في أن الرجل وإن كَانَ يفعل صورة الصَّلاة في رأي العين لم يأت بحَقِيقَة الصلاة. والَّذِي جعله كذلكَ تركه للطمأنينة فيها وهي ركن من أركانها إذاً فليطمئن الَّذِي يريد أن يصدق عَلَيْهِ أنه صلي وليعلم أَهْل السرعة والنقر

ذَلِكَ تماماً وليمرنوا أنفسهم علي التأني والتريث والرفق حتى يعدوا في فريق المصلين. وإن لم يطمئنوا فليعلموا أنهم هم وتارك الصَّلاة سواء حكمهم بمقتضي قوله ? للمستعجل في صلاته ارجع فصل فإنك لم تصل، وَقَالَ أبو هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أوصاني خليلي ? بثلاث ونهاني عن ثلاث نهاني عن نقرة كنقرة الديك (العجلة في الصَّلاة) وإقعاء كإقعاء الكلب (وضع الإلية علي الأرض ونصب الساقين ووضع اليدين علي الأرض) . والتفات كالتفات الثعلب، وَقَالَ ? لا يزال الله مقبلاً علي الْعَبْد في صلاته ما لم يلتفت فإذا صرف وجهه انصرف عَنْهُ ونهي ? عن رفع البصر إلي السماء في الصَّلاة، إذا علمت ذَلِكَ فابذل يا أخي كُلّ ما في وسعك من الاجتهاد في تكميل صلاتك وَاحْذَر من التفريط فيها فعَلَيْهَا مدار عَظِيم. والمعاني التي تتم بها الصَّلاة كثيرة منها حضور الْقَلْب ومعناه أنك تفرغ قلبك عن الشواغل التي تتعلق بالدُّنْيَا وزينتها متفهماً لما تتلوه أو تقوله أو تسمعه إن كنت مأموماً فتصرف ذهنك وهمتك إلي إدراك المعني بدفع الخواطر الشاغلة وقطع موادها فإن المواد إذا لم تنقطع لم تنصرف الخواطر والهواجس عَنْهَا والمواد إما ظاهرة وهي ما يشغل السمَعَ والبصر. وإما باطنة وهي أشد كمن تشبعت به الهموم في أودية الدُّنْيَا فإنه لا ينحصر فكره في فن واحد ولم يغنه غض البصر لأن ما وقع في الْقَلْب كافٍ في الاشتغال به.

وعلاج ذَلِكَ إن كَانَ من المواد الظاهرة بقطع ما يشغل البصر والسمَعَ وَهُوَ القرب من القبلة والنظر إلي موضع السجود والابتعاد في الصَّلاة عما فيه نقوش أو تطريز أو نحو ذَلِكَ مِمَّا يلهي ويشغل الْقَلْب فإن النَّبِيّ ? صلي في أنبجانية فيها أعلام ونزعها وَقَالَ ((إنها ألهتني آنفاً عن صلاتي)) . وإن كَانَ من المواد الباطنة فطَرِيق علاجه أن يرد النفس قهراً إلي ما يقَرَأَ في الصَّلاة ويشغلها به عن غيره ويستعد لذَلِكَ قبل الدخول في الصَّلاة بأن يقضي أشغاله ويجتهد علي تفريغ قَلْبهُ عن الهواجس ويجدد علي نَفْسهُ ذكر الآخرة وخطر القيام بين يدي الله عَزَّ وَجَلَّ وهول المطلع. فإن لم تذهب وتسكن الأفكار بذَلِكَ فليعلم أنه إنما يتفكر فيما أهمه واشتهاه وناسب لهوه فليترك تلك الشهوات وليقطع تلك العلائق. واعْلَمْ أن العلة والمرض متي تكمن لا ينفع فيه إِلا الدواء القوي والعلة إذا قويت جاذبت المصلي وجاذبها إلي أن تقضي الصَّلاة في المجاذبة ومثل ذَلِكَ كمثل رجل تحت شجرة أراد أن يصفو له فكره أو أراد أن ينام وكانت هذه الشجرة مأوي للعصافير تقع عَلَيْهَا وتشوش عَلَيْهِ بأصواتها وحركاتها وفي يده عصا يطردها به فما يستقر فكره حتى تعود العصافير فيشتغل بها. فقيل له هَذَا شَيْء يدوم لا ينقطع فإن أردت الخلاص مِمَّا شوش عَلَيْكَ فاقطع الشجرة فكَذَلِكَ شجرة الشهوة وحب الدُّنْيَا إذا ارتفعت وتفرقت أغصانها انجذبت إليها الأفكار فذهب العمر النفيس في دفع ما لا يندفع والسبب الوحيد حب الدُّنْيَا فهو الَّذِي يجذب الأفكار ويولدها وينميها فعلي العاقل أن يجتهد في قلع حبها وَهُوَ صعب جداً علي أكثر الخلق.

ولهَذَا كَانَ السَّلَف يعتنون بالصَّلاة اعتناءً عظيماً ويتلذذون بها ويحزنون لانقضائها وَقَالَ بَعْضهمْ تفقدوا قلوبكم في ثلاثة مواضع في الصَّلاة وفي القرآن وفي ذكر الله فإن وجدتم حلاوة وإِلا فالْبَاب مغلق. ومن المؤسف أنك تجد كثيراً من النَّاس يأتي الصَّلاة كالمكره بدَلِيل أنه إذا تأخر الإمام ولو قليلاً ضاقت صدورهم مَعَ أنه في صلاة ما انتظروا الصَّلاة وتجدهم يسرعون الْخُرُوج بعدها بخلاف المجيء إليها. وتجدهم يحرصون علي الإمام الَّذِي ينقرها مَعَ أنه في أمور الدُّنْيَا علي العكس إذا أراد أحدهم أن يذهب إلي طبيب ليكشف عَلَيْهِ حرص علي من يتركد ويطمئن ويطيل الفحص ويتقنه ولو بزيادة كثيرة لما يؤمله من النصح وإتقان الْعَمَل. وكَذَلِكَ إذا أراد صنعه شَيْء حرص علي البصير الخبير المتقن لذَلِكَ. أما في الصَّلاة فكما ذكرنا ما يهتم لها ولا يبالي ويراها عَلَيْهِ أثقل من أحد ورضوي وهي عشر دقائق أو أقل ولو وقف مَعَ صديق له أو قريب أو زميل ساعة أو أكثر وأراد التفرق لقال ساعة المحب قصيرة لأنسه به وتلذذه بمناجاته. وأما رب العالمين الَّذِي نعمه عَلَيْهِ لا تعد ولا تحصي فالوقوف أمامه طويل وإن كَانَ قصيراً وصدق الله العَظِيم حيث يَقُولُ: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} فلا حول ولا قوة إِلا بِاللهِ العلي العَظِيم {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} . شِعْراً: وَمِنَ البَلِيَّةِ أَنْ تَرَى لَكَ صَاحِبَاً ... فِي صُورَةِ الرَجُلِ السَمْيِعِ المُبْصِرِ فِطِنُ بِكُلِّ مُصِيْبَةٍ فِي مَالِهِ ... وَإِذَا يُصَابُ بِدِيْنِهِ لَمْ يَشْعُرِ

نماذج من حلمه - صلى الله عليه وسلم -

آخر: ... فِي أَنَّ الدُّنْيَا ... بقُلُوبِ النَّاسِ مُتَمَكِنْ حُبُّهَا هِيَ المُشْتَهَى والمُنْتَهَى ومَعَ السُّهَى ... أمَانِيٌ مِنْهَا دُوْنَهُنَّ العَظَائِمُ وَلَمْ تَلْقَنَا إِلاَّ وفِيْنَا تَحَاسُدٌ ... عَلَيْهَا وإِلاَّ فِي الصُّدُوْرِ سَخَائِمُ وَاللهُ أَعْلَمُ وصلي الله علي مُحَمَّد وآله وسلم. (فَصْلٌ) وإليك نماذج من حلمه فقَدْ أراد مرة أن يعلم أصحابه الحلم والأناة والتؤدة وضبط النفس فروي أن أعرابياً جَاءَ يَوْمًاً يطلب من النَّبِيّ ? شَيْئاً فأعطاه ? ثُمَّ قال له أحسنت إليك قال الأعرابي ولا أجملت فغضب المسلمون وقاموا إليه فأشار إليهم أن كفوا ثُمَّ قام ? ودخل منزله فأرسل إليه وزاده شَيْئاً ثُمَّ قال له أحسنت إليك قال نعم فجزاك الله من أَهْل وعشيرة خيراً. فَقَالَ النَّبِيّ ? إنك قُلْتُ ما قُلْتُ آنفاً وفي نفس أصحابي من ذَلِكَ شَيْء فان أحببت فقل بين أيديهم حتى يذهب ما في صدورهم عَلَيْكَ قال نعم فَلَمَّا كَانَ الغد جَاءَ فَقَالَ له النَّبِيّ ? إن هَذَا الأعرابي قال ما قال فزدناه فزعم أنه رضي أكَذَلِكَ قال نعم فجزاك الله من أَهْل وعشيرة خيراً. فَقَالَ رسول الله ? مثلي ومثل هَذَا وكمثل رجل له ناقة شردت عَلَيْهِ فاتبعها النَّاس فلم يزيدوها إِلا نفوراً فناداهم صاحبها فَقَالَ لهُمْ خلوا بيني وبين ناقتي فإني أرفق بها منكم وأعلم فتوجه لها بين يديها فأخذ من قمام الأرض فردها حتي جاءت واستناخت وشد عَلَيْهَا رحلها واستوي عَلَيْهَا وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار. ومن ذَلِكَ ما ورد عن جابر بن عَبْد اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنه ? كَانَ يقبض للناس يوم حنين من فضة في ثوب بلال فَقَالَ رجل يا نَبِيّ اللهِ أعدل فقام عمر فَقَالَ ألا أضرب عنقه فإنه منافق فَقَالَ معاذ الله أن يتحدث النَّاس أني

أقتل أصحابي ". رواه مسلم. ومن ذَلِكَ ما ورد عن أنس بن مالك قال كنت أمشي مَعَ النَّبِيّ ? وعَلَيْهِ برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة فنظر إلي صفحة عاتق النَّبِيّ ? وقَدْ أثرت بها حاشية البرد من شدة الجبذة ثُمَّ قال يا مُحَمَّد مر لي من مال الله الَّذِي عندك فالتفت إليه فضحك ثُمَّ أمر له بعطاء متفق عَلَيْهِ. ومن ذَلِكَ ما ورد عن أَبِي هُرَيْرَةِ رضي الله قال كنا إذا صحبنا رسول الله ? في سفر تركنا له أعظم شجرة وأظلها فينزل تحتها فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها فَجَاءَ أعرابي فَقَالَ يا مُحَمَّد من يمنعك مني فَقَالَ رسول الله ? الله يمنعني منك ضع السيف فوضعه، ولم يعاقبه ?. وورد أنه ? كَانَ يقسم تمراً في عرجونه في يوم شديد الحر فهجم عَلَيْهِ أعرابي فضايقه فضربه رسول الله ? بعرجونه فَقَالَ له الرجل أتضربني يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ له خذ فاقتص فَقَالَ له بل عفوت يَا رَسُولَ اللهِ، فَانْظُرْ إلي عفوه ? عن الرجل الَّذِي أراد قتله فإنه لفت بعفوه نظر الرجل إلي مكارم أخلاقه ? ولذَلِكَ ذهب الرجل إلي قومه فَقَالَ لّهُمْ جئتكم من عَنْدَ خَيْر النَّاس. وفي ذَلِكَ من توجيههم إلى النظر في تعاليمه والبحث فيما جاءهم به من عَنْدَ ربهم ما قَدْ يكون سبباً في إسلامهم وهدايتهم وهذه هِيَ النتيجة التي يسعي لها ?. ومن ذَلِكَ ما أخرجه الطبراني عن عَبْد اللهِ بن سلام بإسناد رجاله ثقات

قال لما أراد الله هدي زيد بن سعنة قال زيد: ما من علامَاتَ النبوة شيء إِلا وقَدْ عرفتها في وجه مُحَمَّد حين نظرت إليه إِلا اثنتين لم أخبرهما منه يسبق حلمه جهله ولا تزيده شدة الجهل عَلَيْهِ إِلا حلماً. ... قال زيد فخَرَجَ رسول الله ? يَوْماً من الحجرات ومعه علي بن أبي طالب فأتاه رجل علي راحلته كالبدوي فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ لي نفر في قرية بني فلان قَدْ أسلموا ودخلوا في الإسلام وَكُنْت قَدْ حدثتهم إن أسلموا أتاهم الرزق رغداً وقَدْ. فأنَا أخشي يَا رَسُولَ اللهِ أن يخرجوا من الإسلام طمعاً كما دخلوا فيه طمعاً فإن رَأَيْت أن ترسل إليهم بشَيْء تغيثهم به فعلت فنظر إلي رجل بجانبه أراه علياً فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ ما بقي منه شيء قال زيد بن سعنة فدنوت إليه فقُلْتُ يا مُحَمَّد هل لك أن تبيعني تمراً معلوماً في حائط بني فلان إلي أجل معلوم إلي أجل كَذَا وَكَذَا قال لا تسمي حائط بني فلان قلتُ نعم فبايعني فأطلقت همياني فأعطيته ثمانين مثقالاً من ذهب في تمر معلوم إلي أجل كَذَا وَكَذَا فأعطاها الرجل وَقَالَ اعدل عَلَيْهمْ وأغثهم. قال زيد فَلَمَّا كَانَ قبل محل الرجل بيومين أو ثلاث خَرَجَ رسول الله ? ومعه أبو بكر وعمر وعثمان في نفر من أصحابه. فَلَمَّا صلي علي الجنازة ودنا إلي الجدار ليجلس إليه أتيته فأخذت بمجامَعَ قميصه وردائه ونظرت إليه بوجه غليظ قُلْتُ يا مُحَمَّد ألا تقصيني حقي فوَاللهِ ما علمت بني المطلب إِلا مطلاً ولَقَدْ كَانَ بمخالطتكم علم، ونظرت إلي عمر وعَيْنَاهُ تدوران في وجهه كالفلك المستدير.

ثُمَّ رماني ببصره فَقَالَ: يا عدو الله أتقول لِرَسُولِ اللهِ ? ما أسمَعَ وتصنع به ما أري فوالَّذِي نفسي بيده لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي رأسك ورسول الله ? ينظر إلي في سكون وتؤده. فَقَالَ ياعمر أَنَا وَهُوَ كنا أحوج إلي غير هَذَا أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن اتباعه اذهب به يا عمر فأعطه حقه وزده عشرين صاعاً من تمر مكَانَ ما رُعتَهُ فال زيد فذهب بي عمر فأعطاني حقي وزادني عشرين صاعاً من تمر. فقُلْتُ ما هذه الزيادة ياعمر قال أمرني رسول الله ? أن أزيدك مكَانَ ما رعتك قال وتعرفني يا عمر قال لا قُلْتُ أَنَا زيد بن سعنة قال الحبر قُلْتُ الحبر قال فما دعاك إلي أن فعلت برسولي ما فعلت وقُلْتُ له ما قُلْتُ. قُلْتُ يا عم لم يكن من علامَاتَ النبوة شَيْئاً إِلا وقَدْ عرفته في وجه رسول الله ? حين نظرت إليه إِلا اثنتين لم أخبرهما منه. يسبق حلمه جهله ولا تزيده شدة الجهل عَلَيْهِ إِلا حلماً. وقَدْ اختبرتهما أشهدك يا عمر أني قَدْ رضيت بِاللهِ رباً وبالإسلام ديناً وبمُحَمَّد نبياً وأشهدك أن شطر مالي فإني أكثرها مالاً صدقة علي أمة مُحَمَّد ? قال عمر أو علي بَعْضهمْ فإنك لا تسعهم قُلْتُ أو علي بَعْضهمْ فرجع عمر وزيد إلي رسول الله ? فَقَالَ زيد أشهد أن لا إله إِلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وآمن به وصدقة وبايعه وشهد معه مشاهد كثيرة. ثُمَّ توفي في غزوة تبوك مقبلاً غير مدبرٍ – رحمَ اللهُ زيداً، من هذه الآثار وما يأتي بعدها يتبين لك كيف قام رسول الله ? بالقسط وأقامه علي نَفْسهِ

من مزحه - صلى الله عليه وسلم - وعفوه وتواضعه

وأتباعه وأصحابه بلا محاباة ولا مداهنة فكَانَ في ذَلِكَ في القمة العإلية التي لا يصل إليها راق في تنفيذ أمر الله وتطبيقه علي الكبير والصغير والقوي والضعيف والشريف والوضيع والسيد والمسود. اللَّهُمَّ ارزقنا حبك وحب من يحبك وحب الْعَمَل الَّذِي يقربنا إلي حبك، اللَّهُمَّ ثَبِّتْ إيماننا ثبوت الجبال الراسيات ووفقنا للعمل بالباقيات الصالحات واعصمنا يا مولانَا عن المحرمَاتَ والمشتبهات واغفر لنا جَمِيع الخطايا والزلات وافتح لدعائنا باب القبول والإجابات يا أجود الأجودين وأكرم الأكرمين وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) ومن ذَلِكَ حلمه مَعَ الأعرابي الَّذِي قال له أتضربني يَا رَسُولَ اللهِ فإنه ? لم يتماد في غضبه ولم يستنكر من الأعرابي استفهامه الَّذِي فيه المطالبة فَقَالَ للأعرابي خذ العرجون واقتص مني. ولَقَدْ بلغ من حلمه ? أنه لم يضرب امرأة ولا خادماً ولما قيل له وَهُوَ في القتال لو لعنتهم يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ إنما بعثت رحمة ولم أبعث لعانَاً وعِنْدَمَا لقي ? من قومه أشد ما لقي ناداه ملك الجبال وسلم عَلَيْهِ. ثُمَّ قال يا مُحَمَّد إن الله سمَعَ قول قومك وأنَا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت أن أطبق عَلَيْهمْ الأخشبين فَقَالَ رسول الله ?: بل أرجو أن يخَرَجَ الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شَيْئاً. ولما أذاه المشركون يوم أحد وكسروا رباعيته وشجوا وجهه وشق ذَلِكَ

علي أصحابه فَقَالُوا لو دعوت عَلَيْهمْ فَقَالَ إني لم أبعث لعانَاً ولكن بعثت داعياً ورحمة اللَّهُمَّ اغفر لقومي أو اهدِ قومي فَإِنَّهُمْ لا يعلمون. وَقَالَ أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ خدمت النَّبِيّ ? عشر سنين فما قال لشَيْء صنعته: لم صنعته ولا لشَيْء لم أصنعه لمَ لمْ تصنعه وكَانَ إذا عاتبني بعض أهله يَقُولُ دعوه فلو قُضِيَ لكَانَ. وقَدْ روي أنه ? كَانَ في سفر وأمر أصحابه بإصلاح شاةٍ فَقَالَ رجل يَا رَسُولَ اللهِ علي ذبحها وَقَالَ آخر علي سلخُها وَقَالَ آخر علي طبخها فَقَالَ رسول الله ? وعلي جمعُ الحطب فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ نكفيك الْعَمَل فَقَالَ علمت أنكم تكفونني ولكن أكره أن أتميز عليكم وإن الله سُبْحَانَهُ وتعالي يكره من عبده أن يراه متميزاً بين أصحابه وقَدْ جَاءَ وفد النجاشي فقام ? يخدمهم فَقَالَ أصحابه نكفيك قال إنهم كَانُوا لأصحابنا مكرمين وأنَا أحب أن أكافئهم. وجاءته امرأة في عقلها شَيْء فقَالَتْ إن لي إليك حَاجَة فَقَالَ اجلسي في أي سكك الْمَدِينَة شئت أجلس إليك حتى أقضي حاجتك فخلا معها في بعض الطَرِيق حتى فرعت من حاجتها وجَاءَ في البخاري كانت الأمةُ تأخذ بيد رسول الله ? فتنطلق به حيث شاءت. ودخل الحسن بن علي والنَّبِيّ ? يصلي فركب علي ظهره وَهُوَ ساجد فأبطأ في سجوده حتى نزل الحسن فَلَمَّا فرغ قال له بعض أصحابه لَقَدْ أطلت سجودك قال إن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله. وكَانَ ? يباسط أصحابه وكَانَ رجل يسمي زهيراً يهادي النَّبِيّ ? بما

يستطرف من موجود البادية وكَانَ ? يهاديه ويكافئه بموجود الحاضرة وبما يستطرف منها وكَانَ ? يَقُولُ زهير باديتنا ونَحْنُ حاضرته. ولَقَدْ جَاءَ إلي السوق يَوْماً فوَجَدَ زهيراً قائماً من قبل ظهره وضمه بيده إلي صدره فأحس زهير أنه الرَّسُول ? فجعل يمسح ظهره في صدر النَّبِيّ ? رجَاءَ البركة من الله ثُمَّ من جسده ? فجعل ? يَقُولُ من يشتري الْعَبْد قال زهيرٌ إذاً تجدني كاسداً فَقَالَ المصطفي ? أَنْتَ عَنْدَ الله غالٍ. وكَانَ ? يمزح ولا يَقُولُ إِلا حقاً فمن ذَلِكَ أن رجلاً جاءه فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ احملني فَقَالَ أحَمَلَكَ علي ابن الناقة فَقَالَ ما عسي يغني عني ابن الناقة فَقَالَ النَّبِيّ ? ويحك وهل يلد الجمل إِلا الناقة. وجاءته مرة عجوز فقَالَتْ يَا رَسُولَ اللهِ ادع الله لي أن يدخلني الْجَنَّة فَقَالَ يا أم فلان لا يدخل الْجَنَّة عجوز فولت تبكي فَقَالَ أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز إن الله تَعَالَى يَقُولُ: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} . ومن ذَلِكَ أن أنساً كَانَ له أخ يُقَالُ له أبو عمير وكَانَ له نغر ((طائر صغير)) يلعب به فمَاتَ فدخل علي النَّبِيّ ? ذات يوم وَهُوَ حزين فَقَالَ ما شأنه قيل له مَاتَ نغره فَقَالَ يا أبا عمير ما فعل النغير. وكَانَ النَّبِيّ ? يكرم كريم كُلّ قوم ويوليه أمرهم ويقبل معذرة المعتذر إليه وإليك قصة كعب بن زهير غضب كعب علي أخيه بجير حين أسلم وآمن بالنَّبِيّ ? فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام من لقي منكم كعب بن زهير فليقتله. فكتب بجيرُ إلي أخيه كعب يخبره بذَلِكَ وأن النَّبِيّ ? أهدر دمه فإن كَانَ لك في نفسك حَاجَة فصر إليه فإنه يقبل من جَاءَ تائباً ولا يطالبه بما عمل

قبل الإسلام. فَلَمَّا بلغ اْلكِتَاب كعباً فر إلي قبيلته لتجيره فأبت عَلَيْهِ ذَلِكَ فأشفق وخاف علي نَفْسهِ وأرجف به أعداؤه فقدم الْمَدِينَة ونزل علي علي بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فأتي به إلي المسجد وَقَالَ هَذَا رسول الله ? فقم إليه واستأمنه. فسمَعَ كلامه وقام إليه حتى جلس بين يديه فوضع يده في يده قائلاً يَا رَسُولَ اللهِ إن كعب بن زهير قَدْ جَاءَ يستأمنك تائباً مسلماً فهل أَنْتَ قابل منه ذَلِكَ إن أَنَا جئتك به قال نعم قال أَنَا كعب بن زهير فَقَالَ النَّبِيّ ? الَّذِي يَقُولُ ما يَقُولُ. ووثب إليه رجلٌ من الأنصار فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ دعني وعدو الله أضرب عنقه فَقَالَ له رسول الله ? دعه عَنْكَ فإنه قَدْ جَاءَ تائباً نازعاً ثُمَّ أخذ كعب في إنشاء قصيدته المشهورة يمدح فيها رسول الله ? ويذكر خوفه وإرجافَ الوشاة به ومطلعها: بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِيْ الْيَوْمَ مَتْبُوْلُ ... مُتَيَّمٌ إِثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُوْلُ إلي أن بلغ: إِنَّ الرَّسُولَ لَنُوْرٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ ... مُهَنَّدٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ مَسْلُوْلُ فرمي رسول الله ? بردته الشريفة إليه وعفا عَنْهُ كما هِيَ عادته الكريمة

وكَانَ ? لا يواجه أَحَداً في وجهه بشَيْء يكرهه لسعة صدره وغزارة عقله وشدة حيائه وكَانَ ? يأمر بالرفق ويحث عَلَيْهِ وينهي عن العنف ويبغضه ولم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ولا يجزي بالسيئة السيئة بل يعفو ويصفح اللَّهُمَّ صل وسلم عَلَيْهِ. وكَانَ يزور ضعفاء المسلمين تلطفاً بِهُمْ وإيناساً لهُمْ ويعود مرضاهم ويشهد جنائزهم سواء كانت لشريفٍ أو وضيعٍ وبذَلِكَ كَانَ خَيْر أسوة وكَانَ ? أصبر النَّاس علي ما يكون من قبيح الأفعال مِنْهُمْ وسوء سيرتهم وقبيح سريرتهم لأن الله تَعَالَى شرح صدره فاتسع لما تضيق منه صدورهم. وكَانَ ? كاملاً في قوة عقله وإدراكه وصحة قياسه الفكري وصدق ظنونه وصحة فهمه وقوة حواسه مفطوراً علي الصبر والسكون والحياء والمروءة والْمَوَدَّة والرحمة والهداية للخلق وحب الْخَيْر لهُمْ وإعطاء الحكمة حقها في سائر أموره. وكَانَ ? ذا سياسة شريفة ومعارف منيفة ونظر ثاقب ورأي صائب وحدس موافق وفضائل مقصودة وأَخْلاق محمودة دينه الإسلام وخلقه القرآن يرضي لرضاه ويسخط لسخطه محرراً للشرائع حافظاً للودائع. وكَانَ ? كثير الأفضال يصل من قطعه ويعطي من حرمه ويبذل لمن منعه ويعفو عمن ظلمه ويغضي طرفه عن القذى ويحبس نَفْسه عن الأذى لا ينتقم مَعَ القدرة ويصبر علي ما يشق ويكره ولا يزيد مَعَ أذي الجاهل إِلا صبراً وحلماً. وما خُيِّرَ بين أمرين إِلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا وَكَمْ أعرض عن

موعظة مشهد من مشاهد القيامة

جاهل ومعاند وكَانَ (يأكل مَعَ الخادم ويبادر إلي خدمة القادم ويرقعُ ثوبه ويخصف نعله ويقمُّ بيته ويخدم أهله ويحمل بضاعته من السوق مَعَ أنه سيد ولد آدم وأكرم الخلق علي الله. وكَانَ (رحيماً حتى بأعدائه ألم تر أنه لما دخل يوم فتح مَكَّة علي قريش: وقَدْ جلسوا بالمسجد الحرام وصحبه ينتظران أمره فيهم من قتل أو غيره. قَالَ لِقُرَيْشٍ مَا تَظُنُّونَ أَنَّي فَاعِلٌ بِكُمْ قَالُوا خَيْرَاً أَخٌ كَرِيْمٌ وابنُ أَخٍ كَرِيْمٍ فَقَالَ (أَقُولُ كَمَا قَالَ أخِيْ يُوْسُفُ: لاَ تَثْرِيْبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ. اذْهَبْوا فأنْتُمُ الطُّلَقَاءُ وَلاَ غَرابَةَ فَقَدْ انْفَرَدَ بالأَخْلاقِ الفَاضِلَةِ والمَحَاسِنَ والمَعَارِفَ والتَودُدَ والرِفْقِ وَمِنْ النَظْمِ الَّذِي لاَ يُصْلِحُ أَنْ يُوصَفَ بِهِ إِلاَّ النَّبِيُ (ما يلي: تَلْقَاهُ وَهُوَ مَعَ الإحسانِ مُعْتِذَراً ... وقَدْ يُسِيءُ مُسِيءٌ وَهُوَ غَضْبَانُ إِذَا بَدَا وَجَهُ ذَنْبِ فَهْوَ ذُوْ سِنَةٍ ... وَإِنْ بَدَا وَجْهُ خَطْبٍ فَهْوَ يَقْظَانُ إِذَا تَيَمَّمَهُ العَافِي فكوْكَبُهُ ... سَعْدٌ ومَرْعَاهُ فِي وَادَيْهِ سَعْدَانُ أحْيَا بِهِ اللهُ هَذَا الخَلْقَ كُلَّهُمُ ... كَأَنَهُ الرُوْحُ وَالمَخْلُوْقُ جُثْمَانُ عِبَادَ اللهِ إن أمامكم يوم لا كالأيام يوم فيه من الأهوال والشدائد والكروب ما يشيب الوالدان وتذهل فيه المرضعة عما أرضعت يوم يتغير فيه العَالِم وينتهي نظامه الَّذِي نراه. فتنثر الكواكب وتتساقط وتطوي السماء كطي السجل للكتب يزيلها الله وتبدل الأرض غير الأرض وتمد كما أخبر الله تَعَالَى وينفخ في الصور فيقوم النَّاس من قبورهم لرب العالمين. وحينئذ يحشر الكافر أعمي لا يبصر أصم لا يسمَعَ أبكم لا ينطق يمشي

عَلَى وَجْهِهِ لِيَعْلَمَ مِنْ أَوَّلِ الأَمْر أنَّهُ مِنْ أَهْلِ الإِهَانَةِ ويَكُونُ أسْوَدَ الوَجْهِ أْزْرَقَ العَيْنَيْنِ فِي مُنَتْهَى العَطَشِ فِي يَوْمُ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِيْنَ ألفَ سَنَةٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وبَيْنَ الشَّمَسِ إِلا مِقْدَارُ مِيْلٍ. إذْ ذَاكَ يِقِفُ مَبْهُوْتاً ذَاهِلَ العَقْلِ شَاخِصَ البَصَرِ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ تُرَاباً ثُمَّ يُؤْمَرُ بِهِ إِلى النَّارِ ويُسْلَكُ فِي سِلْسِلةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً وَبَعْدَ دُخُولِهِ فِيْهَا لا يَخْرُجُ مِنَها أبَداً وَلاَ يَزَداُد إِِلاَ عَذَاباً ولا يُفَتَّرُ عَنْهُ. إِن اسْتَغَاثَ يُغَاثُ بِمَاءٍ كَالُمْهلِ يَشْوِيْ الوُجُوْهَ ويُذِيْبُ الأَمْعَاءَ وَيُحْرِقُ الجُلُودَ تُحِيْطُ بِهِ النّارُ مِنْ كُلِ جِهَاتِهِ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مَهِادٌ ومِنْ فَوْقِهِم غَواشٍ كُلَّما نَضِجَ جِلْدُهُ بُدِّلَ جِلْداً غَيْرَهُ. وكُلَّما أْرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا قُمِعَ بمَقَامََِعَ مِنْ حَدِيْدٍ كُلُ هَذَا العَذَابَ يُعَانِيْهِ ولا يَمُوْتُ {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} لا يَمُوتُ فِيْهَا ولا يَحْيَا وسَواءٌ صَبَرَ أمْ لَمْ يَصْبِرْ هُوَ خَالِدٌ فِي جَهَنَّمَ خُلُوداً لا انْتِهَاءَ لَهُ أبَدَاً. عن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رسول الله ? أتي بفرس يجعل كُل خطو منه أقصي بصره فسار وسار معه جبريل عَلَيْهِ السَّلام. فأتي علي قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم كُلَّما حصدوا عاد كما كَانَ فَقَالَ يا جبريل من هَؤُلاَءِ قال هَؤُلاَءِ المجاهدون في سبيل الله تضاعف لهُمْ الحسنات بسبعمائة ضعف وما أنفقوا من شَيْء فهو يخلفه. ثُمَّ أتي علي قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر كُلَّما رضخت عادت كما كانت ولا يفتر عنهم من ذَلِكَ شَيْء قال يا جبريل من هؤلاء قال هؤلاء الَّذِينَ

تثاقُلْتُ رؤوسهم عن الصَّلاة. ثُمَّ أتي علي قوم علي أدبارهم رقاع وعلي أقبالهم رقاع يسرحون كما تسرح الأنعام إلي الضريع والزقوم ورضف جهنم قال: ما هؤلاء يا جبريل، قال: هؤلاء الَّذِينَ لا يؤدون صدقات أموالهم وما ظلمهم الله وما الله بظلام للعبيد. ثُمَّ أتي علي رجل قَدْ جمَعَ حزمة عظيمة لا يستطيع حملها وَهُوَ يريد أن يزيد عَلَيْهَا قال: يا جبريل ما هَذَا، قال: هَذَا رجل من أمتك عَلَيْهِ أمانة النَّاس لا يستطيع أداءها وَهُوَ يريد أن يزيد عَلَيْهَا. ثُمَّ أتي علي قوم تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من حديد كُلَّما قرضت عادت كما كانت لا يفترعنهم من ذَلِكَ شَيْء قال: يا جبريل ما هؤلاء، قال: خطباء الفتنة. ثُمَّ أتي علي حجر صغير يخرج منه ثور عَظِيم فيريد الثور أن يدخل من حيث خرج فلا يستطيع قال: ما هَذَا يا جبريل، قال: هَذَا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة فيندم عَلَيْهَا فيريد أن يردها فلا يستطيع. ثُمَّ أتي علي وادٍ فوَجَدَ ريحاً طيبةً ووَجَدَ ريح مسك مَعَ صوت فَقَالَ: ما هَذَا، قال: صوت الْجَنَّة، تَقُول: يارب ائتني بأهلي وبما وعدتني فقَدْ كثر غرسي وحريري وسندسي وإستبرقي وعبقريي ومرجاني وفضتي وذهبي وأكوابي وصحافي وأباريقي وفواكهي وعسلي ومائي ولبني وخمري ائتني بما وعدتني. قال: لك كُلّ مسلم ومسلمة ومُؤْمِن ومؤمنة ومن آمن بي وبرسلي وعمل

صالحاً ولم يشرك شيئاً ولم يتخذ من دوني أنداداً فهو آمن ومن سألني أعطيته ومن أرضني جزيته ومن توكل علي كفيته إني أَنَا الله لا إله إلا أَنَا لا خلف لميعادي قَدْ أفلح المؤمنون تبارك الله أحسن الخالقين، فقَالَت: رضيت. ثُمَّ أتي علي وادٍ فسمِعَ صوتاً منكراً، فَقَالَ: يا جبريل ما هَذَا الصوت، قال: هَذَا صوت جهنم تَقُول يا رب ائتني بأهلي وبما وعدتني فقَدْ كثرت سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وغساقي وغسليني وقَدْ بعد قعري واشتد حري ائتني بما وعدتني قال لك كُلّ مشرك ومشركة وخبيث وخبيثة وكل جبار لا يؤمن بيوم الحساب، قَالَتْ: قَدْ رضيت، رواه البزار عن أبي العإلية – أو غيره – عن أَبِي هُرَيْرَةَ الترغيب والترهيب جـ 4 ص 454 في كتاب صفة الْجَنَّة والنار. عن أبي سعيد رَضِيَ اللهُ عنهُ عن النَّبِيّ ? قال: «ويل وادٍ في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره)) . وعنه رضي الله عنه النَّبِيّ ? قال في قوله: " سأرهقه صعوداً)) قال: «جبل من نار يكلف الكافر أن يصعده فإذا وضع يده عَلَيْهِ ذابت فإذا رفعها عادت وإذا وضع رجله عَلَيْهِ ذابت فإذا رفعها عادت يصعد سبعين خريفاً ثُمَّ يهوي كَذَلِكَ " رواه أَحَمَدُ والحاكمُ وَقَالَ: صحيح الإسناد. عَظِيمٌ هَوْلُهُ وَالنَّاسُ فِيه ... حَيَارَى مِثْلَ مَبْثُوثِ الفَراشِ بِهِ تَتَغَيَّرُ الالْوانُ خَوفَاً ... وتَصْطَكُّ الفَرائِضُ بارْتِعَاشِ هُنَالِكَ كُلُّ مَا قَدَّمْتَ يَبْدُو ... فَعَيْبُكَ ظَاهِرٌ وَالسِّرُّ فَاشِ تَفَقََّدْ نَقْصَ نَفْسِكَ كُلَّ يَوْم ... فَقَدْ أوْدَى بِهَا طَلَبُ المَعَاشِ إلا لِمْ تَبْتَغِي الشَّهَواتِ طَوْرَاً ... وَطوْراً تَكْتْسِي لِيْنَ الرَّياشِ اللَّهُمَّ ألحقنا بعبادك الابْرَار وآتنا في الدُّنْيَا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

نماذج من عدل النبي - صلى الله عليه وسلم - ويلي ذلك موعظة بعدها أيضا نماذج من عدله - صلى الله عليه وسلم -

نَمَاذِجُ مِنْ عَدْلِه ? من ذَلِكَ ما ورد عن عروة عن عَائِشَة أن امرأة سرقت في عهد رسول الله ? في غزوة الفتح ففزع قوها إلي أسامه بن زيد يستشفعون به قال: عروه فَلَمَّا كلمه أسامه فيها تلوَّنَ وجه رسول الله ?. وَقَالَ: أتكلمني في حد من حدود الله تعالى، فَقَالَ أسامة: استغفر لي يَا رَسُولَ اللهِ، فَلَمَّا كَانَ العشي قام رسول الله ? خطيباً فأثني علي الله بما هُوَ أهله، ثُمَّ قال: أما بعد فإنما أهلك من كَانَ قبلكم أنهم كَانُوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عَلَيْهِ الحد والَّذِي نفس مُحَمَّد بيده لو أن فاطمة بنت مُحَمَّد سرقت لقطعت يدها. ثُمَّ أمر رسول الله ? بتلك المرأة فقطعت يدها، الْحَدِيث أخرجه البخاري. ولما كَانَ العباس عم النَّبِيّ ? في وثاقه مَعَ الأسري يئنُّ فأرق النَّبِيّ ? فسئل عن سبب أرقه – أي عدم نومه – وقَدْ نصره الله نصراً مؤزراً قال: سمعت أنين العباس في وثاقه فأسرع بعض المُسْلِمِيْنَ لما سمعه وحل وثاقه وعاد فأخبر النَّبِيّ ? أنه حل وثاق العباس قال ? اذهب فافعل ذَلِكَ بالأسري كلهم فتأمل هَذَا النصف والعدل منه ?. (موعظة) عِبَادَ اللهِ من أحكام ديننا ووحي قرآننا وتعالى م نبينا مُحَمَّد ? المقررة

الثابتة أنه لا فضل لعرَبِّي علي عجمي ولا لأبيض علي أسود ولا لسيد علي مسود ولا لملك علي مملوك ولا صعلوك إلا بالتقوي. فالمعيار الصحيح والميزان العدل الحق للتفاضل بين الأفراد والجماعات والترجيح بين مختلف الطوائف والطبقات والهيئات ما جَاءَ عن رب الأرض والسماوات: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ولم يقل سُبْحَانَهُ وتعالى: إن الكريم من عظم جاهه أو كثر ماله أو كثر رجاله واستسلم له النَّاس طائعين ومكرهين، بل الكريم عنده من اتصف بالتقوي. فالعاقل من راقب الله في السِّرّ والنجوي وعامل النَّاس بالمساواة ولم يراعِ الرتب والدرجات والشرف والسيادات وسوي بينهم وفق تسوية الله لهُمْ في الواجبات والحدود والعبادات. فتأمل تجد في الموقف بالصَّلاة والحج وكيف يتساوي فيه الامير والمأمور والعَظِيم والحقير والغني والفقير والصعلوك والوزير كلهم بلسان واحد ولهجة صادقة يؤدون العبادة لمولاهم العلي الكبير وهم معترفون بشده الافتقار إليه والعجز والتقصير فتلك هِيَ المساواة كُلّ المساواة التي جَاءَ بها الإسلام ودعي إليها النَّبِيّ ? ومكنها في نفوس أصحابه أي تمكين. كما ستري ما سنذكره إن شاء الله من عدلهم وإنصافهم وحبهم للمساواة وإيثارهم العدل في الاحكام وتأمل ما في هَذَا الْحَدِيث الشريف وما قاله المصطفي ? وتأمل ما بعده مِمَّا سيأتيك من سيرته أ. هـ. أخرَجَ ابن عساكر عن عَبْد اللهِ بن حدرد الأسلمي رَضِيَ اللهُ عنهُ أنه كَانَ ليهودي عَلَيْهِ أربعة دراهم فاستعدي عَلَيْهِ فَقَالَ: يا مُحَمَّد إن لي علي هَذَا

سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - من آياته وأخلاقه وأقواله وأفعاله قاله الشيخ تقي الدين

أربعة دراهم وقَدْ غلبني عَلَيْهَا، قال: أعطه حقه، قال: والَّذِي بعثك بالحق ما أقدر عَلَيْهَا، قال: أعطه حقه، قال: والَّذِي نفسي بيده ما أقدر عَلَيْهَا قَدْ أخبرته أنك تبعثنا إلي خيبر فأرجو أن تغنمنا شيئاً فأرجع فأقضيه. قال: أعطه حقه، وكَانَ رسول الله ? إذا قال ثلاثاً لم يراجع فخرج ابن أبي حدرد إلي السوق وعلي رأسه عصابة وَهُوَ متزر ببردة فنزع العمامة فاتزر بها ونزع البرده فَقَالَ: اشتر مني هذه البردة، فباعها منه بأربعة دراهم فمرت عجوز فقَالَتْ: ما لك يا صَاحِب رسول الله ? فأخبرها فقَالَتْ: ها دونك هَذَا البرد لبرد عَلَيْهَا طرحته عَلَيْهِ. وعن أبي سعيد الخدري قال: جَاءَ أعرابي إلي النَّبِيّ ? يتقاضاه ديناً كَانَ عَلَيْهِ فاشتد عَلَيْهِ حتي قال: أحرج عَلَيْكَ إلا قضيتني فانتهره أصحابه فَقَالُوا: ويحك تدري من تكلم، فَقَالَ: إني أطلب حقي، فَقَالَ النَّبِيّ ?: هلا مَعَ صَاحِب الحق كنتم ثُمَّ أرسل إلي خولة بنت قيس فَقَالَ لها: إن كَانَ عندك تمر فأقرضينا حتي يأتينا تمر فنقضيك فقَالَتْ: نعم بأبي أَنْتَ وأمي يَا رَسُولَ اللهِ، فأقرضته فقضي الأعرابي وأطعمه. فَقَالَ: أوفيت أوفي الله لك، فقال: أولئك خيار النَّاس إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع أخرجه ابن ماجة ورواه البزار من حديث عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عنهَا مختصراً. وأخرَجَ الطبراني عن خولة بنت قيس امرأة حمزة بن عبد المطلب رَضِيَ اللهُ عنهُمَا قَالَتْ: كَانَ علي رسول الله وسق من تمر لرجل من بني ساعدة فأتاه يقتضيه فأمر رسول الله ? رجلاً من الأنصار أن يقضيه فقضاه تمراً دون تمره

فأبي أن يقبل فَقَالَ: أترد علي رسول الله ?. قال: نعم ومن أحق بالعدل من رسول الله ? فاكتحلت عينا رسول الله ? بدموعه، ثُمَّ قال: صدق ومن أحق بالعدل مني لا قدَّسَ الله أمة لا يأخذ ضعيفها حقه من شديدها ولا يتعتعه. ثُمَّ قال: «يا خولة عديه واقضيه فإنه لَيْسَ من غريم يخرج من عِنْدَ غريمه راضياً إلا صلت عَلَيْهِ دواب الأرض ونون البحار ولَيْسَ من عبد يلوي غريمه وَهُوَ يجد إلا كتب الله عَلَيْهِ في كُلّ يوم وليلة إثماً. ولما بلغ بنيان قريش موضع الركن اختصم القبائل كُلّ قبيلة تريد أن ترفع الركن إلي موضعه وكادوا يقتتلون علي ذَلِكَ فَقَالَ لهُمْ أبو أمية ابن المغيرة بن عَبْد اللهِ بن عمرو بن مخزوم وكَانَ شريفاً مطاعاً: اجعلوا الحكم بينكم لأول من يدخل من باب الصفا فقبلوا ذَلِكَ منه وكَانَ أول داخل رسول الله ? فَلَمَّا رأوه قَالُوا: الأمِينُ أقبل وكَانَ يسمي في الجاهلية ((الأمِين)) لأمانته وصدقه فَقَالُوا جميعاً رضينا بحكمه. ثُمَّ قصوا عَلَيْهِ قصتهم فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام: هَلُمَّ إلي ثوباً، فأتي به فوضع الركن فيه يعني الحجر الأسود ثُمَّ قال: لتأخذ كُلّ قبيلة بطرف من هَذَا الثوب فحمله من أربعة أطراف أربعة من وجوه القبائل وأشرافها وزعمائها ورفعوه إلي محاذاة موضع الحجر. فتناوله رسول الله ? من الثوب ووضعه بيده الشريفة في محله فكَانَ الأشراف والزعماء خدماً له ? وفي ذَلِكَ يَقُولُ هبيرة بن وهب المخزومي:

قصيدة مرثية لحسان يرثي بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

تَشَاجَرَتِ الأحْيَاءُ فِي فَضْلِ خُطَّةٍ جَرَتْ طَيْرُهُمْ بالنَّحْسِ مِنْ بَعْدِ أَسْعَدِ تَرَامَوْا بِهَا بالغَضِّ بَعْدَ مَوَدَّةٍ وَأَوْقَدَ نَاراً بَيْنَهُمْ شَرُّ مُوْقِدِ فَلَمَّا رَأَيْنَا الأمر قَدْ حَانَ جَدُّهُ وَلم يَبْق شَيْءٌ غَيْرَ سَلِ المُهَنَّدِ رَضِيْنَا وَقُلْنَا العَدْلُ أَوّلُ طَالِعٍ يَجِيءُ مِنَ البَطْحَاءِ مِنْ غَيْرِ مَوْعِدِ فَفَاجَأنَا هَذَا الأمِيْنُ مُحَمَّدٌ فَقُلْنَا رَضِيْنَا بالأمِيْنِ مُحَمَّد بِخَيْرِ قُرَيْشٍ كُلِّهَا أسْوَ شِيْمَةٍ وَفِي الْيَوْمِ مَعَ مَا يُحْدِثُ اللهُ فِي غَدِ فَجَاءَ بأَمْرٍ لم يَرَ النَّاسُ مِثْلَهُ أَعَمَّ وأَرْضَى فِي العَوَاقِبِ والبَدِيْ أَخَذْنَا بأَطْرَافِ الرِّدَاءِ وكُلُّنَا لَهُ حِصَّةٌ مِنْ رَفْعِهِ قَبْضَةُ اليَدِ فَقَالَ ارْفَعُوْا حَتَّى إِذَا مَا عَلَتْ بِهِ أكُفُّهُمُ وَالَى بِهِ خَيْرُ مُسْنِدِ وَكُلُّ رَضِيْنَا فِعْلَهُ وَصَنِيْعَهُ فَأَعْظِمْ بِهِ مِنْ رَأْيٍ هَادٍ وَمُهْتَدِ وتِلْكَ يَدٌ مِنْهُ عَلَيْنَا عَظِيْمَةٌ

.. يَرُوْحُ بِهَا هَذَا الزَّمَانُ وَيَغْتَدِيْ ... ›? والأربعة الآخذون بطرف الرداء هم: عتبة بن ربيعة بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزي بن قصي، وأبو حذيفة ابن المغيرة بن عمرو بن مخزوم بن يقظة، وقيس بن عدي السهمي، وَاللهُ أَعْلَمُ وصلي الله علي مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم. ومِمَّا ينطبق علي الرَّسُول ? ما يلي: ... فمَا غَابَ عن حِلْمٍ وَلاَ شَهِدَ الخِنَا ... وَلاَ اسْتَعْذَبَ العَوْرَاءَ يَوْماً فَقَالَهَا يَدُوْمُ عَلَى خَيْرِ الخِلالِ ويَتَّقِيْ ... تَصَرُّمَهَا مِنْ شِيْمَةٍ وَانْتِقَالُهَا وَتَفْضُلُ أيْمَانَ الرِجَالِ شِمَالُهُ ... كَمَا فَضَلَتْ يُمْنَى يَدْيِهِ شِمَالهَا وَيَبْتَذِلُ النَّفْسَ المَصُوْنَةَ نَفْسُهُ ... إِذَا مَا رَأَى حَقاً عَلَيْهِ ابْتِذَالُهَا (فَصْلٌ) وَقَالَ شيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ: وسيرة النَّبِيّ ? من آياته وأخلاقه وأقواله وأفعاله وشريعته من آياته وأمته من آياته وكرامَات صالحي أمته من آياته. وَذَلِكَ يظهر بتدبر سيرته من ولد إلي أن بعث ومن حين بعث إلي أن مَاتَ وبتدبر نسبه وبلده وأصله وفصله فإنه كَانَ من أشرف أَهْل الأرض نسباً من صميم سلالة إبراهيم الَّذِي جعل الله في ذريته النبوة واْلكِتَاب. فلم يأت نبي من بعد إبراهيم إلا من ذريته وجعل له ابنين إسماعيل وإسحاق وذكر في التوراة هَذَا وهَذَا وبشر في التوراة بما يكون من ولد إسماعيل. ولم يكن في ولد إسماعيل من ظهر فيما بشرت به النبوات غيره ودعا إبراهيم لذرية إسماعيل بأن يبعث فيهم رسولاً مِنْهُمْ ثُمَّ هُوَ من قريش صفوة بني إبراهيم من بني هاشم صفوة قريش. ومن مَكَّة أم القري وبلده البيت الَّذِي بناه إبراهيم ودعا النَّاس إلي

حجه، ولم يزل محجوجاً من عهد إبراهيم مذكوراً في كتب الأنبياء بأحسن وصف، وكَانَ من أكمل النَّاس تربية ونشأة لم يزل معروفاً بالصدق والبر والعدل ومكارم الأخلاق وترك الفواحش والظلم وكل وصف مذموم. مشهوداً له بذَلِكَ عِنْدَ جَمِيع من يعرفه قبل النبوة وممن آمن به وكفر بعد النبوة، لا يعرف له شَيْء يعاب به لا في أقواله ولا في أفعاله ولا في أخلاقه ولا جربت عَلَيْهِ كذبة قط ولا ظلم ولا فاحشة. وكَانَ خلقه وصورته من أكمل الصور وأتمها وأجمعها للمحاسن الدالة علي كماله، وكَانَ أمياً من قوم أميين لا يعرف لا هُوَ ولا هم ما يعرفه أَهْل اْلكِتَاب ((التَّوْرَاةَ وَالإنجِيلَ)) . ولم يقَرَأَ من علوم النَّاس ولا جالس أهلها ولم يدع بنبوة إلي أن أكمل الله له أربعين سنة فأتي بأمر هُوَ أعجب الأمور وأعظمها وبكلام لم يسمَعَ الأولون والآخرون بنظيره. وأخبر بأمر لم يكن في بلده ولا في قومه من يعرف مثله ولم يعرف قبله ولا بعده، لا في مصر من الأمصار ولا في عصر من الأعصار من أتي بمثل ما أتي به ولا من ظهر كظهوره. ولا من أتي من العجائب والآيات بمثل ما أتي به ولا من دعا إلي شريعة أكمل من شريعته، ولا من ظهر دينه علي الأديان كُلّهَا بالعلم والحجة وباليد والقوة كظهوره. ثُمَّ إنه اتبعه اتباع الأنبياء وهم الضعفاء من النَّاس وكذبه أَهْل الرئاسة

وعادوه وسعوا في هلاكه وهلاك من تبعه بكل الطرق، كما كَانَ الكفار يفعلون مَعَ الأنبياء وأتباعهم. والَّذِينَ اتبعوه لم يتبعوه لرغبة ولا لرهبة، فإنه لم يكن عنده مال يعطيهم ولا جهات يوليهم إياها ولا كَانَ له سيف بل كَانَ السيف والجاه والْمَال مَعَ أعدائه، وقَدْ آذوا أتباعه بأنواع الأذي وهم صابرون محتسبون لا يرتدون عن دينهم لما خالطت قُلُوبهمْ حلاوة الإيمان والمعرفة. وكانت مَكَّة يحجها الْعَرَب من عهد إبراهيم فتجتمَعَ في الموسم قبائل الْعَرَب فيخرج إليهم يبلغهم الرسالة ويدعوهم إلي الله صابراً علي ما يلقاه من تكذيب المكذب وجفاء الجافي وإعراض المعرض إلي أن اجتمَعَ بأَهْل يثرب وكَانُوا جيران اليهود قَدْ سمعوا أخباره مِنْهُمْ وعرفوه. فَلَمَّا دعاهم علموا أنه النَّبِيّ المنتظر الَّذِي تخبرهم به اليهود وكَانُوا قَدْ سمعوا من أخباره ما عرفوا به مكانته، فإن أمره كَانَ قَدْ انتشر وظهر في بضع عشرة سنة فآمنوا به وتابعوه علي هجرته وهجرة أصحابه إلي بلدهم وعلي الجهاد معه فهاجر هُوَ ومن اتبعه إلي الْمَدِينَة وبها المهاجرون والأنصار لَيْسَ فيهم من آمن برغبة دنيوية ولا برهبة إلا قليلاً من الأنصار أسلموا في الظاهر ثُمَّ حسن إسلام بَعْضهمْ ثُمَّ أذن له في الجهاد ثُمَّ أمر به. ولم يزل قائماً بأمر الله علي أكمل طريقة وأتمها من الصدق والعدل والوفاء لا يحفظ عَلَيْهِ كذبة واحدة ولا ظلم لأحد ولا غدر بأحد، بل كَانَ أصدق النَّاس وأعدلهم وأبرهم وأوفاهم بالعهد مَعَ اختلاف الأحوال عَلَيْهِ من حرب وسلم وأمن وخوف وغني وفقر وقله وكثرة وظهوره علي الْعَدُوّ

تَارة وظهور الْعَدُوّ عَلَيْهِ تَارة. وهو علي ذَلِكَ كله ملازم لأكمل الطرق وأتمها حتي ظهرت الدعوة في جَمِيع أرض الْعَرَب التي كانت مملوءة من عبادة الأوثان ومن أخبار الكهان وطاعة المخلوق في الكفر بالخالق وسفك الدِّمَاء المحرمة وقطيعة الأرحام لا يعرفون آخرةً ولا معاداً. فصاروا أعلم أَهْل الأرض وأدينهم وأعدلهم وأفضلهم وهذه آثار علمهم وعملهم في الأرض وآثار غيرهم يعرف العقلاء فرق ما بين الأمرين وَهُوَ ? مَعَ ظهور أمره وطاعة الخلق له وتقديمهم له علي الأنفس والأموال مَاتَ ولم يخلف درهماً ولا ديناراً ولا متاعاً ولا دابةً إلا بغلته وسلاحه ودرعه مرهونة عِنْدَ يهودي علي ثلاثين وسقاً من شعير ابتاعها لأهله. وكَانَ بيده عقار ينفق منه علي أهله والباقي يصرفه في مصالح المُسْلِمِيْنَ فحكم بأنه لا يورث ولا يأخذ ورثته منه شيئاً وَهُوَ في كُلّ وَقْت يظهر علي يديه من الآيات وفنون الكرامَاتِ ما يطول وصفه. ويخبرهم بما كَانَ وما يكون ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن الْمُنْكَر ويحل لهُمْ الطيبات ويحرم عَلَيْهمْ الخبائث ويشرع الشريعة شيئاً بعد شيء. أكمل الله دينه الَّذِي بعث به وجاءت شريعته أكمل شريعة لم يبق معروف تعرف العقول أنه معروف إلا أمر به ولا منكر تعرف العقول أنه منكر إلا نهي عنهُ.

لم يأمر بشَيءٍ فقيل: ليته لم يأمر به ولا نهي عن شَيْء فقيل: ليته لم ينه عنهُ وأحل الطيبات لم يحرم شيئاً منها كما حرم في شرع غيره وحرم الخبائث لم يحل منها شيئاً كما استحله غيره. وجمَعَ محاسن ما عَلَيْهِ الأمم فلا يذكر في التوراة والإنجيل والزبور نوع من الخبر عن الله وعن ملائكته وعن الْيَوْم الآخر إلا وقَدْ جَاءَ به علي أكمل وجه وأخبر بأشياء لَيْسَتْ في هذه الكتب. وأمته أكمل الأمم في كُلّ فضيلة فإذا قيس علمهم بعلم سائر الأمم ظهر فضل علمهم وإن قيس دينهم وعبادتهم وطاعتهم لله بغيرهم ظهر أنهم أدين من غيرهم وإذا قيس شجاعتهم وجهادهم وصبرهم علي المكاره في ذات الله ظهر أنهم أعظم جهاداً وأشجع قلوباً وهذه الفضائل به نالوها ومنه تعلموها وَهُوَ الَّذِي أمرهم بها ا. هـ. وَقَالَ آخر: اعْلم أن من شاهد أحواله ? وأصغي إلي سماع أخباره المشتملة علي أخلاقه وأفعاله وأحواله وعاداته وسجاياه وسياسته لأصناف الخلق وهدايته إلي ضبطهم وتألفه أصناف الخلق وقوده إياهم إلي طاعته. مَعَ ما يحكي من عجائب أجوبته في مضائق الأسئلة وبدائع تدبيراته في مصالح الخلق ومحاسن إشاراته في تفصيل ظاهر الشرع التي يعجز الْفُقَهَاء والعقلاء عن إدراك أوائل دقائقها في طول أعمارهم لم يبق له ريب ولا شك في أن ذَلِكَ لم يكن مكتسباً بحيلة تَقُوم بها القوة البشرية. بل لا يتصور ذَلِكَ إلا بالاستمداد من تأييد سماوي وقوة إلهية وأن

ذَلِكَ كله لا يتصور لكذب ولا ملبس بل كانت شمائله وأحواله شواهد قاطعه بصدقه حتي أن العرَبيَّ القُحَّ كَانَ يراه فَيَقُولُ: وَاللهِ ما هَذَا وجه كذاب. فكَانَ يشهد له بالصدق بمجرد رؤيته لشمائله فَكَيْفَ من شاهد أخلاقه ومارس أحواله في جَمِيع مصادره وموارده أ. هـ. وَقَالَ حسان يرثي رسول الله ?: بِطَيْبَةَ رَسْمٍ للرَّسُوْلِ وَمَعْهَدُ مُنِيْرٌ وَقَدْ تَعْفُو الرُّسُوْمُ وتَهْمُدُ وَلاَ تَنْمَحِيْ الآيَاتُ مِنْ دَارِ حُرْمَةٍ بِهَا مِنْبَرُ الهادِيْ الَّذِِي كَانَ يَصْعَدُ وَوَاضِحُ آياتٍ وَبَاقِي مَعَالِمٍ وَرَبْعٌ لَهْ فِيها مُصَلَّى ومَسْجِدُ بِهَا حُجُرَاتٌ كَانَ يَنْزِلُ وَسْطَهَا مِنَ اللهِ نُوْرٌ يُسْتَضَاءُ وَيُوْقَدُ مَعَالِمُ لم تُطْمَسْ عَلَى العَهْدِ آيُهَا أتَاهَا البِلَى فَالآيُ مِنْهَا تَجْدَّدُ عَرَفْتُ بِهَا رَسْمَ الرَّسُوْلِ وعَهْدَهُ وَقَبْراً بِهِ وَارَاهُ فِي التُّرْبِ مَلْحَدُ وَهَلْ عَدَلَتْ يَوْماً رَزِيَّةٌ هَالِكٍ رَزِيّةَ يَوْمٍ مَاتَ فِيه مُحَمَّد ... ›?

.. تَقَطَّعَ فِيه مَنْزِلُ الوَحْي عنهُمُ وَقَدْ كَانَ ذَا نُوْرٍ يَغُورُ ويُنْجِدُ يَدُلُّ عَلَى الرَّحْمَنِ مَنْ يَقْتَدِيْ بِهِ وَيُنْقِذُ مِنْ هَوْلِ الخَزَايَا ويُرْشِدُ إِمَامٌ لَهُمْ يَهْدِيْهُمُ الحَقَّ جَاهِداً مُعَلِمُ صِدْقٍ إِنْ يُطِيْعُوهُ يَسْعَدُوا عَفُوٌ عنِ الزَّلاَّتِ يَقْبَلُ عُذْرَهُمْ وأنْ يُحْسِنُوا فَاللهُ بالْخَيْرِ أَجْوَدُ فَبَيْنَاهُمُوْا فِي نِعْمَةِ اللهِ بَيْنَهُمْ دَلِيْلٌ بِهِ نَهْجُ الطَّرِيْقَةِ يُقْصَدُ عَزِيْزٌ عَلَيْهِ أَنْ يَحِيْدُوْا عن الهُدَى حَرِيْصٌ عَلَى أَنْ يَسْتَقِيْمُوْا وَيَهْتَدُوْا عَطُوفٌ عَلَيْهِمْ لاَ يُثَنِّيْ جَنَاحَهُ إِلى كَنَفٍ يَحْنُوْ عَلَيْهِمْ وَيَمْهَدُ فَبَيْنَاهُمُوْا فِي ذَلِكَ النُّوْرِ إِذْ غَدَى إِلى نُورِهِمْ سَهْمٌ مِنَ المَوْتِ مُقْصِدُ فَأَصْبَحَ مَحْمُوْداً إِلى اللهِ رَاجِعاً يُبَكِّيْهِ جَفْنُ المُرْسَلاتِ ويَحْمَدُ وأَمْسَتْ بِلاَدُ الحُرْمِ وَحْشاً بِقَاعُهَا لِغَيْبَةِ مَا كانت مِنْ الوَحْي تَعْهَدُ قِفَاراً سِوَى مَعْمُوْرَةِ اللَّحْدِ ضَافَهَا

.. فَقِيْدٌ يُبَكِّيْهِ بِلاَطٌ وغَرْقَدُ ومَسْجِدُهُ فَالمُوحِشَاتُ لِفْقْدِهِ خَلاَءٌ لَهُ فِيه مَقَامٌ وَمَقْعَدُ فَبَكّىْ رَسُوْلَ اللهِ يَا عَيْنُ عَبْرَةً وَلاَ أعْرِفَنّكَ الدَّهْرَ دَمْعُكِ يَجْمُدُ وَمَا لَكِ لاَ تَبْكِيْنَ ذَا النِّعْمَةِ الَّتِيْ عَلَى النَّاسِ مِنْهَا سَابِغٌ يَتَغَمَّدُ فَجُوْدِيْ عَلَيْهِ بالدُّمُوْعِ وأعْولِي لِفَقْدِ الَّذِي لاَ مِثْلَهُ الدَّهْرُ يُوْجَدُ وَمَا فَقَدْ المَاضُوْنَ مِثْلَ مُحَمَّدٍ وَلاَ مِثْلَهُ حَتَّى القِيَامَةَ يُفْقَدُ أَعَفَّ وَأَوْفَى ذِمَّةً بَعْدَ ذِمَّةٍ وَأَقْرَبَ مِنْهُ نَائِلاً لاَ يُنَكَّدُ وأَبْذَلَ مِنْهُ لِلطَّرِيْفِ وتَالِدٍ إِذَا ظَنَّ مِعْطَاءٌ بِمَا كَانَ يُتْلَدُ وَأَكْرَمَ حَيّاً فِي البُيُوْتِ إِذَا انْتَمَى وَأَكْرَمَ جَداً أبْطَحِيّاً يُسَوَّدُ وأَمْنَعَ ذِرْوَاتٍ وأَثْبَتَ فِي العُلَى دَعَائِمَ عِزٍّ شَاهِقَاتٍ تُشَيَّدُ وأَثْبَتَ فَرْعاً فِي الفُرُوْعِ ومَثْبَتاً وعُوْداً غَذَاهُ المُزْنُ فَالعُوْدُ أَغْيَدُ

.. رَبّاهُ وَلِيْداً فاسْتَتَمَّ تَمَامُهُ عَلَى أَكْرَمِ الخَيْرَاتِ رَبٌّ مُمَجَّدُ تَنَاهَتْ وِصَاتُ المُسْلِمِيْنَ بِكَفِّهِ فَلاَ العِلْمُ مَحْبُوسٌ وَلاَ الرَّأْيُ يُفْنَدُ أَقُوْلُ وَلاَ يُلْفَى لِقَوْلِيَ عَائِبٌ مِنَ النَّاسِ إلا عَازِبُ العَقْلِ مُبْعَدُ ولَيْسَ هَوَائِي نَازِعاً عن ثَنَائِهِ لَعَلِّيْ بِهِ فِي جَنَّةِ الخُلْدِ أُخْلَدُ مَعَ المُصْطَفَى أَرْجُوْ بِذَاكَ جِوَارَهُ وفِي نَيْلِ ذَاكَ الْيَوْمِ أسْعَى وَأَجْهَدُ ... ›? آخر: ... سَأَنْظِمُ مِنْ فَخْرِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ... لآلِيءَ لاَ يَبْلَى جَدِيدُ نِظَامِهَا تَضَوَّعَ طِيباً عَرْفُهَا فَكَأَنَّهُ ... تَضَوُّعُ أَزْهَارٍ بَدَتْ مِنْ كِمَامِهَا سَجَايا أَبَتْ إلا السِّمَاكَيْنِ مَنْزِلاً ... فَفَاقَ عَلَى العَلْيَاءِ عِلْقُ مَقَامِهَا خِلاَلٌ إِذَا لاَحت قباب لدي علا ... تُنيفُ فَتَعْلُوهَا قِبَابُ خِيَامِهَا إِذَا يَمَّمُوا يَوْماً إِمَامَ مَكَارِمٍ ... فأَحَمَد قَدْ أَضْحَى إِمَامَ إِمَامِهَا فَكم ذُوْ عُلا أَوْمَا لِدَرْكِ مَقَامِهَا ... فَمَرَّ وَلم يُدْرِكْ مَرَامِي مَرَامِهَا وَكم ظَامِيءٍ قَدْ رَامَ يُرْوَى بَرِيِّهَا ... فَآبَ وقَدْ أَضْحَى عَليلَ أُوَامِهَا لِذَاكَ العُلاَ قَلبِي مَشُوقٌ بِحُبِّهِمْ ... وقَدْ شوَقْت نَفْسِي بِطُولِ مُقَامِهَا فَلِلَّهِ عَيْنٌ لاَ تَمَلُّ بُكَاءَهَا ... وقَدْ حُرِمَتْ فِيه لَذِيذَ مَنَامِهَا وَنَفْسٌ عَلَى بُعْدِ الدِّيَارِ قَرِيحَةٌ ... تُطَارِحُ فِي البَلْوَى حَمَامَ حِمَامِهَا وَعُمَرٌ مَضَتْ أَيّامُ شَرْخِ شَبَابِهِ ... وقَدْ قَدَّ صَرْفُ الدَّهْرِ غُصْنَ قَوامِهَا

موعظة بليغة في غربة الدين وانحطاط أهل هذا الزمن وكثرة الفتن والمنكرات والفساد

.. فَيَا نَسْمَةَ الأسْحَارِ مِنْ نَحْوِ يثْرِبٍ ... أَلِمِّي بنَفْسٍ قَدْ ذَوَتْ بضِرامِهِا وَيَا حَادِيَ الأظْعَانِ نَحْوَ قِبَابِهِمْ ... إلا فَاخْصُصِ العَلْيَا بِطِيبِ سَلاَمِهَا اللَّهُمَّ توفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (موعظة) عِبَادَ اللهِ نَحْنُ في زمن بلغ فِيه الفساد مبلغاً ما كَانَ يدور في خلد إنسان وهان عَلَى كثير من النَّاس الْيَوْم أن يتقدموا إلي المعاصي مطمئنين وخف عَلَيْهمْ جداً أن يرتكبوا ما حرم الله عَلَيْهمْ غير هيابين من الله تعالى ولا مبالين بنواهيه. ولعل زمننا هَذَا ينطبق عَلَيْهِ ما في حديث أنس رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: يأتي عَلَى النَّاس زمان القابض عَلَى دينه كالقابض عَلَى الجمر "، وما في حديث أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عنهُ عن النَّبِيّ ? أنه قال: «بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبي للغرباء)) أخرجه مسلم. وأخرجه الإمام أَحَمَدُ وابنُ ماجة من حديث ابن مسعود بزيادة في آخره وهي –: قيل يَا رَسُولَ اللهِ: ومن الغرباء، قال: «النزاع من القبائل)) ، وأخرجه أبو بكر الآجُرِّي وعنده –: قيل ومن هم يَا رَسُولَ اللهِ، قال: «الَّذِينَ يصلحون إِذَا فسد النَّاس)) . وأخرجه غيره، وعنده قال: «الَّذِينَ يفرون بدينهم من الفتن)) ، وأخرجه الترمذي من حديث كثير بن عَبْد اللهِ المزني عن أبيه عن جده عن النَّبِيّ ?: ((إن الدين بدأ غريباً وسيرجع غريباً فطوبي للغرباء الَّذِينَ يصلحون ما أفسد

النَّاس من سنتي)) ، وفي حديثه: " قيل ومن هم يَا رَسُولَ اللهِ قال: «الَّذِينَ يصلحون حين فساد النَّاس)) . أما الْحَدِيث الأول فهو واضح ومنطبق كُل الانطباق عَلَى هَذَا الزمان فيما أري وَاللهُ أَعْلَمُ وَذَلِكَ أنك تري الشر والفساد في كُلّ مكَان منتشراً والْخَيْر نادر الوجود فالفتن في البيوت والأسواق والدكاكين والسيارات والقطارات والطائرات فتن شهوات نساء سافرات وفتن شكوك وإلحاد وشبهات من أناس منحرفين وكتب ضلال ومجلات تحمل في طيها البلايا والشرور وفيديوهات تعلم الفساد أبلغ تعليم وتهيج عَلَيْهِ، حدث فتن يرقق بعضها بعضاً وحوادث الأخري أعظم من الأولي ومن أعظم ما حدث كثرة الخدامين والخدامَاتِ والسواقين والطباخين والمربين فإن ضررهم عَظِيم عَلَى الدين والأخلاق والدُّنْيَا. فانتبه يا من زين له سوء عمله وأتي بكفار أعداء الله ورسوله والْمُؤْمِنِين وأمنهم عَلَى محارمه خدامين أو سواقين أو مربين أو نحو ذَلِكَ عياذَاً بِاللهِ من ذَلِكَ. شعراً: ... إِذَا أكْثَرُ الأجَانِبُ فِي بِلاَدٍ تَلاَشَى الأمْنُ وانْتَشَرَ الفَسَادُ وقَدْ كُنْتُ أَشْكُو مِنْ حَوَادِثَ بُرْهَةٍ وأسْتَمْرِسُ الأيَامَ وهِي صَحَائِحُ إِلى أَنْ تَغَشَّتْنِيْ وُقِيْتَ حوَادِثُ تُحَقِّقُ أَنَّ السَّالِفَاتِ مَنَائِحُ آخر: ... ظُلَمٌ تَهَافَتْ آخِذَاتٌ بَعْضُهَا بالبَعْضِ تَسْتَلِبُ الفُؤَادَ الألْمَعَا لاَ يَسْتَبِيْنُ المَرْءُ فِيها كَفَّهُ تَذَرُ الحِجَى بالبَاطِلاَتِ مُوَلَّعَا ... ›?

.. وجَهَالَةٌ جَهْلاَ يَرْتَعُ أهْلُهَا فِي حِنْدِسٍ مِنْهَا وَسَاءَتْ مَرْتَعَا ... ›? وفتن أموال انفتحت عَلَى النَّاس بكثرة وفتن أولاد وبنات وزوجات وزملاء وشركاء وعمال منافقين كذابين لا يصلون ولا يصومون وكثرة مغتابين ونمامين وخداعين ومكارين ومجاهرة بالمعاصي وقلة أنصار وأعوان وكثرة مثبطين عن الأمر بالمعروف والنهي عن الْمُنْكَر ونحو ذَلِكَ مِمَّا يطول ذكره. وقل أن تجد من هؤلاء من يحافظ عَلَى أركَانِ الإسلام. ولكن المتمسك بدينه القائم بدفع هذه المعارضات والعوائق التي لا يصمد لها إلا أَهْل البصائر واليقين وأَهْل الإيمان المتين الثابتين ثبوت الجبال الراسيات من أفضل خلق الله وأعلاهم درجة عِنْدَ الله وأعظمهم عنده قدراً جعلنا الله وإياكم مِنْهُمْ إنه القادر عَلَى ذَلِكَ. ... وَهَذَا زَمَانُ الصَّبْرِ مَنْ لَكَ بالّتِي ... لِقَبْضٍ عَلَى جَمْرِ فَتَنْجُو مِنْ البَلاَ وأما الْحَدِيث الثاني فالإسلام فِي أول أمره غريب قليل لأن النَّاس كَانُوا قبل مبعث رسول الله ? عَلَى ضلاله عامة فَلَمَّا بُعث مُحَمَّدٌ ? لم يستجب له فِي أول الأمر إلا الواحد بعد الواحد من كُلّ قبيلة وكَانَ المستجيب له خائفاً من عشيرته يؤذي غاية الأذي وينال منه وَهُوَ صابر عَلَى ذَلِكَ فِي الله عَزَّ وَجَلَّ. وكَانَ المسلمون إذ ذاك مستضعفين يشردون كُلّ مشرَّد ويهربون بدينهم إلي الْبِلاد النائية كما هاجروا إلي الحبشة مرتين ثُمَّ هاجروا إلي الْمَدِينَة وكَانَ مِنْهُمْ من يعذب فِي الله ويقتل كعمار وأمه وأبيه وبلال وغيرهم من الصحابة.

ولعله مر بك أثناء اْلكِتَاب ما جري عَلَيْهمْ فِي أول إسلامهم من الأذي فقَدْ ذكرنا نماذج مِنْهُمْ، قال بَعْضهمْ أبيات لا تنطبق إلا عَلَى الصحابة رضوان الله عَلَيْهمْ أجمعين: قَوْمٌ لَقَدْ آمَنُوْا بِاللهِ خَالِقِهِمْ وَهَاجَرُوْا وَاتَّقَوا إِثْماً وَعُدْوَانََا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيْلِ اللهِ بَلْ صَبَرُوْا وَصَابَرُوْا لِذَوِيْ الإشْرَاكِ أَزْمَانَا تَعَلُّمُ العِلْمِ بالإصْبَاحِ هَمُّهُمُوْا وَيَنْقَضِيْ لَيْلُهُمْ ذِكْراً وَقُرْآنَا وَجَامِعُ الأمر إِنْ تَطْلُبْ لِوَصْفِهِمُوْا نَهَارُهُمْ أَسُدٌ واللَّيْلُ رُهْبَانَا ... ›? فكَانَ الداخلون فِي الإسلام إذ ذاك غرباء. ثُمَّ ظهر الإسلام بعد الهجرة إلي الْمَدِينَة وعز وصار أهله ظاهرين كُلّ الظهور ودخل النَّاس بعد ذَلِكَ فِي دين الله أفواجاً وأكمل الله لهُمْ الدين وأتم عَلَيْهمْ النعمة. وتوفِي رسول الله ? والأمر عَلَى ذَلِكَ وأَهْل الإسلام عَلَى غاية من الاستقامة فِي دينهم وهم متعاضدون متناصرون. وكَانُوا عَلَى ذَلِكَ فِي زمن أبي بكر وعمر رَضِيَ اللهُ عنهُمَا ثُمَّ عمل الشيطان مكائده عَلَى المُسْلِمِيْنَ وألقي بأسهم بينهم وأفشي فيهم فتن الشبهات والشهوات. ولم تزل هاتان الفتنتان تتزايدان شيئاً فشيئاً حتي استحكمت مكيدة

الشيطان وأطاعه أكثر الخلق فمِنْهُمْ من أطاعه ودخل فِي فتنة الشبهات وَمِنْهُمْ من دخل فِي فتنة الشهوات وَمِنْهُمْ من دخل فِي الفتنتين. وكل ذَلِكَ مِمَّا أخبر النَّبِيّ ? بوقوعه فأما فتنة الشبهات. فقَدْ روي عن النَّبِيّ ? من غير وجه: أن أمته ستفترق عَلَى أزيد من سبعين فرقة وأن تلك الفرق فِي النار إلا واحدةً وهي من كانت عَلَى ما هُوَ عَلَيْهِ هُوَ وأصحابه ?. وعن أبي برزة عن النَّبِيّ ? قال: إنما أخشي عليكم الشهوات التي فِي بطونكم وفروجكم ومضلات الفتن وفِي رواية ومضلات الهوي. فَلَمَّا دخل أكثر النَّاس فِي هاتين الفتنتين أو إحديهما أصبحوا متقاطعين متباغضين بعد أن كَانُوا إخواناً متحابين متواصلين فإن فتنة الشهوات عمت غالب الخلق ففتنوا بالدُّنْيَا وزهرتها فصَارَت غاية قصدهم لها يطلبون وبها يرضون ولها يغضبون ولها يوالون وعَلَيْهَا يعادون فقطعوا لذَلِكَ أرحامهم وسفكوا دماءهم وارتكبوا معاصي الله بسبب ذَلِكَ. وأما فتنة الشبهات والأهواء المضلة فبسببها تفرق أَهْل القبلة وصاروا شيعاً وكفر بَعْضهمْ بعض وأصبحوا أعداءً وفرقاً وأحزاباً بعد أن كَانُوا إخوانَاً قُلُوبهمْ عَلَى قلب رجل واحد فلم ينج من هذه الفرق كُلّهَا إلا الفرقة الواحدة الناجية. وهم المذكورون فِي قوله ?: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين عَلَى الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتي يأتي أمر الله وهم عَلَى ذَلِكَ.

وهم فِي آخر الزمان الغرباء المذكورون فِي هذه الأحاديث الَّذِينَ يصلحون إِذَا فسد النَّاس ويصلحون ما أفسد النَّاس من السنَّة وهم الَّذِينَ يفرون بدينهم من الفتن وهم النزاع من القبائل. لأنهم قلوا فلا يوَجَدَ فِي كُلّ قبيلة مِنْهُمْ إلا الواحد وقَدْ لا يوَجَدَ فِي بعض القبائل مِنْهُمْ أحد كما كَانَ الداخلون فِي الإسلام فِي أول الأمر كَذَلِكَ. وفِي مسند الإمام أَحَمَد عن عبادة بن الصامت أنه قال لرجل من أصحابه: يوشك إن طالت بك الحياة أن تري الرجل قَدْ قَرَأَ القرآن عَلَى لسان مُحَمَّد ? فأعاده وأبداه وأحل حلاله وحرم حرامه ونزل عِنْدَ منازله لا يجوز فيكم إلا كما يجوز الحمار الميت. ومثله قول ابن مسعود: يأتي عَلَى النَّاس زمان يكون المُؤْمِن فِيه أذل من الأمة، وإنما ذل المُؤْمِن آخر الزمان لغربته بين أَهْل الفساد من أَهْل الشبهات والشهوات فكلهم يكرهه ويؤذيه لمخالفة طريقته لطريقتهم ومقصوده لمقصودهم ومباينته لما هم عَلَيْهِ من الشر والفساد والخبث وسائر الصفات القبيحة التي أهونها توريد الكفار والملاهي والمنكرات لبلاد المُسْلِمِيْنَ. وتجد أكثر من يؤذيه سقطهم وسفلهم ولئامهم لقلة أعوانه وأنصاره وكثرة المخذلين والمرجفين وأعوان إبلَيْسَ وجنوده خذلهم الله ودمرهم. فكم فتروا عزم آمر بمعروف أو ناهٍ عن منكر بقولهم ما أَنْتَ بمكلف بِهُمْ أتركهم عَلَيْكَ بنفسك ونحو هَذَا الكلام والعياذ بِاللهِ. شِعْراً: ... قَرَبَتْ وَحَانَتْ أرْبةٌ لاِرْتِحَالِيْ ... عن هَذِهِ الدُّنْيَا بِلاَ إِشْكَالِ الأرض قَدْ مَنَعَتْ كَلاهَا والسَّمَا ... ظَنَّتْ وَذَلِكَ رَائِدُ الأهَوَالِ ظَهَرَ الفَسَادُ بِبَرَّهَا وَبِبَحْرِهَا ... وتَنَكَرَتْ أحْوَالُهَا فِي الحَالِ لم يَبْقَ فِي الدُّنْيَا جَمِيْلٌ ظَاهِرٌ ... إلا أَقَاصِيْصُ القُرُوْنِ الخَالِ

هَلْ فِي الوَرَى مُتَيَقَضٌ مُتَحَفِّظٌ ... يَدَعْ الثَّوانِيَ عنهُ فِي الأعمال وقَدْ تَسْلِبُ الايَّامُ حَالاتِ أَهْلِهَا وَتَعْدُوْا عَلَى أُسْدِ الرِّجَالِ الثَّعَالِبُ آخر: ... إِذَا هَلَكَتْ أُسْدُ العَرِيْنَ وَلم يَكُنْ لَهَا خَلَفٌ فِي الغِيْلِ سَادَ الثَّعَالِبُ آخر: ... لمَّا تَبَدَّلَتِ المَجَالِسُ أَوْجُهاً غَيْرَ الَّذِيْنَ عهِدْتُ مِنْ عُلَمَائِهَا وَرَأَيْتُهَا مَحْفُوفَةً بِسِوَى الأوْلَى كَانُوا وُلاَةَ صُدُرْوِهَا وَفِنَائِهَا أَنْشَدْتُ بَيْتاً سَائِراً مُتَقَدِّماً والعَيْنُ قَدْ شَرِقَتْ بِجَارِيَ مَائِهَا أَمَّا الخِيَامُ فَإِنَّهَا كَخِيَامِهِمْ وَأَرَى رِجَالَ الحَيِّ غَيْرَ رِجَالِهَا ... ›? فيا له من زمان يواجه فِيه المُؤْمِن الصابر عواصف الفتن وَرُبَّمَا تمني الموت لما يري من المنكرات التي لا يستطيع لها تغييراً واسمَعَ إلي ما ورد. فعن محمر عن يحيي بن أبي كثير قال: دخلت عَلَى أبي مسلمة ابن عبد الرحمن وَهُوَ مريض فَقَالَ: إن استطعت أن تموت فمت فوَاللهِ ليأتي عَلَى النَّاس زمان يكون الموت أحب إلي أحدهم من الذهب الأحمر. قُلْتُ: وفِي زمننا هَذَا موجود فِي كثير من أقطار الأرض مسلمون ينوع عَلَيْهمْ الْعَذَاب عشية وضحاها وبودهم لو ماتوا واستراحوا فالموت أحب إليهم من الذهب الأحمر، وَقَالَ طاووس: لا تحرز دين المرء إلا حفرته.

وروي أن ابن عباس قال لعمر رَضِيَ اللهُ عنهُمَا: أكثرت الدُّعَاء بالموت حتي خشيت أن يكون ذَلِكَ أسهل لك عِنْدَ أوان نزوله فلماذَا مللت أما تعين صَالِحاً أو تَقُوم فاسداً قال يا ابن عباس: إني قائل لك قولاً وَهُوَ إليك، قال: قُلْتُ لن يعدوني، قال: كيف لا أحب فراقهم وفيهم ناس كُلّ فاتح فيه للهوةٍ من الدُّنْيَا إما بحق لا ينوء به أو بباطل لا يناله ولولا أن أسأل عنهم لهربت منكم فأصبح الأرض مني بلاقع، وَاللهُ أَعْلم وصلي الله عَلَى مُحَمَّد. (فَصْلٌ) ومن كلام أَحَمَد بن عاصم الأنطاكي وكَانَ من كبار التابعين قال: إني أدركت من الأزمنة زمانَاً عاد فِيه الإسلام غريباً كما بدأ إن ترغب فِيه إلي عَالمٍ وجدته مفتوناً بحب الدُّنْيَا يحب التعَظِيم والرياسة، قُلْتُ: وما أكثره فِي زمننا فأمعن نظرك، قال: وإن ترغب فِيه إلي عابد وجدته جاهلاً فِي عبادته مخدوعاً صريعاً غدره إبلَيْس قَدْ صعد به إلي أعلا درجة العبادة وَهُوَ جاهل بأدناها فَكَيْفَ له بأعلاها. وسائر ذَلِكَ من الرعاع همج عوج ذئاب مختلسة وسباع ضارية وثعالب ضوار هَذَا وصف عيون أَهْل زمانك من حملة العلم والقرآن ودعاة الحكمة، أخرجه أبو نعيم فِي الحلية، فهَذَا وصف أَهْل زمانه، فَكَيْفَ بما حدث بعده من العظائم والدواهي التي لم تخطر بباله ولم تدر فِي خياله من المنكرات. وعن الحسن البصري أنه قال: لو أن رجلاً من الصدر الأول بعث الْيَوْم ما عرف من الإسلام شيئاً إلا تلك الصَّلاة. قُلْتُ: وفِي زمننا الصَّلاة

جسم بلا روح عِنْدَ كثير من البقايا المتمسكين بها فلا حول ولا قوة إلا بِاللهِ العَلَى العَظِيم وَهُوَ حسبنا ونعم الوكيل. ثُمَّ قال: والَّذِي نفسي بيده لئن عاش عَلَى هذه المنكرات فرأي صَاحِب بدعة يدعو إلي بدعته وصَاحِب دنيا يدعو إلي دنياه فعصمه الله تعالى وجعل قَلْبهُ يحن إلي ذكر السَّلَف فيتبع آثارهم ويستن بسنتهم ويتبع سبيلهم كَانَ له أجر عَظِيم. وَقَالَ عَلَى بن أبي طالب: تعلموا العلم تعرفوا به واعملوا به تكونوا من أهله فإنه سيأتي بعد زمان ينكر الحق فِيه سبعة أعشارهم. وَقَالَ ابن مسعود: يوشك من عاش منكم أن يري منكراً لا يستطيع له غير أن يعلم الله من قَلْبهُ أنه له كاره. قُلْتُ: وقَدْ وقع شيء كثير فِي زمننا وقبله مثل الصور والتلفزيون والفيديو والمذياع والكورة والسفور وحلق اللحية والدخان. ... لَقَدْ بَانَ لِلنَّاسِ الهُدَى غَيْرَ أنَّهُمْ ... غَدَوْ ابِجَلا يِبْبِ الهَوَى قَدْ تَجْلْبَبُوْا آخر: ... اعْتَزِلْ أَهْلَ المَلاَهِيْ وَالكُرَةْ ... وَاحْذَرِ الفِدْيُوْ وَتِلْفَازَ الضَّرِرْ كم بِهَا قَدْ ضَاعَ عُمْرٌ يَا فَتَى ... لَوْ صُرِفْ فِي طَاعَةٍ نِلْتَ الأجَرْ وَقَالَ أبو الدرداء: لَوْ خرج إليكم رسول الله ? الْيَوْم ما عرف شيئاً مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وأصحابه إلا الصَّلاة، وعن ابن عباس قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: " من تمسك بسنتي عِنْدَ فساد أمتي فله أجرُ مائة شهيد " رواه البيهقي ورواه الطبراني من حديث أَبِي هُرَيْرَةِ إلا أنه قال: فله أجر شهيد. وروي الترمذي عن أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقُلْتُ لم ما تصنع بهذه الآية قال: قُلْتُ: قول الله تعالى " يَا أيها الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكم أَنفُسَكم لاَ يَضُرُّكم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ".

ويليه النونية لابن القيم في المتمسكين بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر الزمان

قال: أما وَاللهِ لَقَدْ سألت عنهَا خبيراً سألت عنهَا رسول الله ? فَقَالَ: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن الْمُنْكَر حتي إِذَا رَأَيْت شحاً مطاعاً وهويً متبعاً ودنيا مؤثرةً وإعجابَ كُلّ ذي رأي برأيه فعَلَيْكَ بنفسك ودع عنكَ العوام. فإن من ورائكم أياماً الصابر فيهن عَلَى دينه كالقابض عَلَى الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون كعملكم، قال الترمذي: عن ابن مبارك وزَادَ غَيْر عتبة أي الراوي وَهُوَ ابن حكيم خمسين رجلاً منكم، وروي الطبراني من حديث عتبة بن غزوان قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ? من ورائكم أيام الصبر المتمسك فيها يومئذ بمثل ما أنتم عَلَيْهِ كأجر خمسين منكم. وَقَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ تعالى: هَذَا ولِلْمُتَمَسِّكِيْنَ بسُنَّةِ الْـ مُخْتَارِ عِنْدَ فَسَادِ ذِيْ الأزْمَانِ أَجْرٌ عَظِيْمٌ لَيْسَ يَقْدُرُ قَدْرَهُ إلا الَّذِي أَعْطَاهُ لِلإِنْسَانِ فَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنٍ لَهُ وَرَوَاهُ أَيْضاً أَحْمَدُ الشَّيْبَانِي أَثَراً تَضَمَّنَ أَجرْ َخَمْسِيْنَ امْرأً مِنْ صَحْبِ أَحْمَدَ خِيْرَةِ الرَّحْمنِ إِسْنَادُهُ حَسَنٌ ومِصْدَاقٌ لَهُ فِي مُسْلِمٍ فَأَفْهَمْهُ بِالإحْسَانِ أَنَّ العِبَادَةَ وَقْتَ هَرْجٍ هِجْرَةٌ حَقاً إِلى وَذَاكَ ذُوْ بُرْهَانِ هَذَا فكم مِنْ هِجْرِةٍ لَكَ أَيُّهَا السّـ سُنِّيُ بِالتَّحْقِيْقِ لاَ بِأَمَانِ

.. هَذَا وَكم مِن هِجْرِةٍ لهُمْ بِمَا قَالَ الرَّسُولُ وجَاءَ فِي القُرْآنِ ولَقَدْ أَتَى مِصْدَاقُهُ فِي التِرْمِذِيُ لِمَنْ لَهُ أُذَنَانِ وَاعِيَتَانِ فِي أَجْرِ مُحْيِيْ سُنَّةً مَاتَتْ فَذَا كَ مَعَ الرَّسُولِ لِمَنْ لَهُ عَيْنَانِ تَشْبِيْهُ أُمَّتِهِ بِغَيْثٍ أوّلٍ مِنْهُ وآخِرُهُ فَمُشْتَبِهَانِ فَلِذَاكَ لاَ يُدْرَي الَّذِي هُوَ مِنْهُمَا قَدْ خُصَّ بِالتَّفْضِيْلِ والرُّجْحَانِ ولَقَدْ أَتَى أَثَرٌ بِأَنَّ الْفَضْلَ فِي الـ ـطَرَفَيْنِ أعَنِيْ أَوَّلاً والثَّانِي والْوَسْطُ ذُوْ ثَبَجٍ فَاعْوَجَ هَكَذَا جَاءَ الْحَدِيْثُ ولَيْسَ ذَا نُكْرَانِ ولَقَدْ أَتَى فِي الوَحْيِ مِصْدَاقٌ لَهُ فِي الثُلَّثَيْنِ وذَاكَ فِي القُرْآنِ أَهْلُ اليَمِيْنِ فَثُلَّةٌ مَعَ مِثْلِهَا والسَّابِقُوْنَ أَقَلُّ فِي الحُسْبَانِ مَا ذَاكَ إلا أَنَّ تَابِعَهُمْ هُمُ الْـ غُرَبَاءُ لَيْسَتْ غُرْبَةَ الأوْطَانِ لَكِنَّهَا وَاللهِ غُرْبَةُ قَائِمِ

.. بِالدِّيْنِ بَيْنَ عَسَاكِرِ الشَّيْطَانِ فَلِذَاكَ شَبَّهَهُمْ بِهِ مَتْبُوْعُهُمْ فِي الغُرْبَتَيْنِ وَذَاكَ ذُوْ تِبْيَانِ لم يُشْبِهُوْهُمْ فِي جَمِيْعِ أُمُوْرِهِمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَيْسَ يَسْتَوِيَانِ فَانْظُرْ إِلى تَفْسِيْرِهِ الغُرَبَاءَ بِالْـ مُحْبِيْنَ سُنَّتِهِ بِكُلِّ زَمَانِ طُوْبَى لّهُمْ والشَّوْقُ يَحْدُوْهُمْ إِلى أَخْذِ الْحَدِيْثِ وَمُحْكََمِ القُرْآنِ طُوْبَى لّهُمْ لم يَعْبَؤُا بنُحَاتَةِ الْـ أفْكَارِ أَوْ بِزُبَالَةِ الأذْهَانِ طُوْبَى لهُمْ رَكِبُوا عَلَى مَتْنِ العَزَا ثُمَّ قَاصِدِيْنَ لِمَطْلَعِ الإيمان طُوْبَى لهُمْ لم يَعْبَؤُا شيئاً بِدَالْـ أَراءِ إِذ أغْنَاهُمُ الوَحْيَانِ طُوْبَى لهُمْ وإِمَامُهُمْ دُوْنَ الوَرَى مَنْ جَاءَ بِالإيمان والفُرْقَانِ وَاللهِ مَا ائْتَمُّوْا بِشَخْصٍ دُوْنَهُ إلا إِذَا مَا دَلَّهُمْ بِبَيَانِ فِي الْبَابِ آثَارٌ عَظِيْمٌ شَأْنُهَا أَعْيَتْ عَلَى العُلَمَاءِ فِي الأزْمَانِ

.. إِذْ أَجْمَعَ العُلَمَاءُ أَنَّ صَحَابَةَ الـ مُخْتَارِ خَيْرُ طَوَائِفِ الإنسان ذَا بِالضَّرُوْرَةِ لَيْسَ فِيه الخُلْفُ بَيْـ نَ اِثْنَيْنِ مَا حُكِيَتْ بِهِ قَوْلاَنِ فَلِذَاكَ ذِي الأثَارِ أَعْضَلَ أَمْرُهَا وَبَغَوْا لَهَا التَّفْسِيْرَ بِالإحْسَانِ فَاسْمَعْ إِذَا تَأْوِيْلَهَا وافْهَمْهُ لاَ تَعْجَلْ بِرَدٍّ مِنْكَ أَوْ نُكْرَانِ إِنَّ البِدَارَ بِرَدِّ شَيْءٍ لم تُحِطْ عِلْماً بِهِ سَبَبٌ إَلى الحِرْمَانِ وَالفَضْلُ مِنْهُ مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدُ وَهُمَا لأَهْلِ الفَضْلِ مَرْتَبَتَانِ وَالفَضْلُ ذُوْ التَقْيِيْدِ لَيْسَ بِمُوْجِبِ فَضْلاً عَلَى الإطْلاَقِ مِنْ إِنْسَانِ لاَ يُوْجِبُ التَقْيِيْدُ أَنْ يَقْضِي لَهُ بِالاسْتِوَاءِ فَكَيْفَ بِالرُّجْحَانِ إِذْ كَانَ ذُوْ الإطْلاَقِ حَازَ مِنْ الفَضَا ئِلِ فَوْقَ ذِي التَّقْيِيْدِ بِالإحْسَانِ فَإِذَا فَرَضْنَا وَاحِداً قَدْ حَازَ نَوْ عَاً لم يَحُزْهُ فَاضِلُ الإنسان لم يُوْجِبِ التَّخْصِيْصُ مِنْ فَضْلِ عَلَيْـ

.. ـهِ وَلاَ مُسَاوَاةٍ وَلاَ نُقْصَانِ مَا خَلْقُ آدَمَ بِاليَدِيْنِ بِمُوْجِبٍ فَضْلاً عَلَى المَبْعُوْثِ بِالقُرْآنِ وَكَذَا خَصَائِصُ مَنْ أَتَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ كُلِّ رُسْلِ اللهِ بِالبُرْهَانِ فَمُحَمَّدٌ أَعْلاَهُمُ فَوْقاً وَمَا حَكمتَ لَهُمْ بِمَزِيَّةِ الرُّجْحَانِ فَالحَائِزُ الخَمْسِيْنَ أَجْراً لم يَحُزْ هَا فِي جَمِْيعِ شَرَائِعِ الإيمان هَلْ حَازَهَا إِذْ كَانَ قَدْ عَدِمَ المُعِيْـ نَ وَهُمْ فَقَدْ كَانُوْا أْولِي أَعْوَانِ والرَّبُ لَيْسَ يُضِيْعُ مَا يَتَحَمَّلُ الْـ مُتَحَمَّلُونَ لأَجْلِهِ مِنْ شَانِ فَتَحَمُّلِ الْعَبْد الوَحْيِدِ رِضَاهُ مَعْ فَيْضِ الْعَدُوِّ وَقِلَّةِ الأعْوَانِ مِمَّا يَدُلَّ عَلَى يَقِيْنٍ صَادِقٍ وَمَحَبَّةٍ وحَقِيْقَةِ العِرْفَانِ يَكْفِيه ذُلاً وَاغْتِرَاباً قِلَّةُ الْـ أَنْصَارِ بَيْنَ عَسَاكِرِ الشَّيْطَانِ فِي كُلّ يَوْمٍ فِرْقَةٌ تَغْزُوْهُ إِنْ تَرْجِعْ يُوَافِيه الفَرِيْقُ الثَّانِي

.. فَسَلِ الغَرِيْبَ المُسْتَضَامَ عن الّذِيْ يَلْقَاهُ بَيْنَ عِدَى بِلا حُسْبَانِ هَذَا وقَدْ بَعُدَ المَدَى وَتَطَاوَلْ الْـ عَهْدُ الَّذِي هُوَ مُوْجِبُ الإحْسَانِ ولِذَاكَ كَانَ كَقَابِضٍ جَمْراً فَسَلْ أَحْشَاءَهُ عن حَرِّ ذِيْ النِيْرَانِ وَاللهُ أَعْلم بالَّذِي فِي قَلْبهُ يَكْفِيه عِلْمُ الوَاحِدِ المَنَانِ فِي الْقَلْبِ أَمْرٌ لَيْسَ يَقْدُرُ قَدْرَهُ إلا الَّذِي آتَاهُ لِلإِنْسَانِ بِرٌ وَتَوْحِيْدٌ وَصَبْرٌ مَعَ رِضَا وَالشُّكْرُ والتَّحْكِيْمُ لِلْقُرْآنِ سُبْحَانَ قَاسِمِ فَضْلِهِ بَيْنَ العِبَا دِ فَذَاكَ مُوْلِ الفَضْلِ والإحْسَانِ فَالفَضْلُ عِنْدَ اللهِ لَيْسَ بِصُوْرَةِ الْـ أَعْمَالِ بَلْ بِحَقَائِقِ الإيمان وَتَفَاضُلُ الأعمال يَتْبَعُ مَا يَقُوْ مُ بِقَلْبِ صَاحِبَِِهَا مِنْ البُرْهَانِ حَتَّى يَكُونَ العَامِلاَنِ كِلاَهُمَا فِي رُتْبَةٍ تَبْدُوْ لَنَا بِعِيَانِ هَذَا وبَيَنْهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَا

موعظة بليغة في الحث على الإقبال على النفس والاعتناء بها

.. والأرض فِي فَضْلٍ وفِي رُجْحَانِ وَيَكُونُ بَيْنَ ثَوَابِ ذَا وَثَوَابِ ذَا رُتَبٌ مُضَاعَفَةٌ بِلا حُسْبَانِ هَذَا عَطَاءُ الرَّبِ جَلَّ جَلاَلُهُ وَبِذَاكَ تُعْرَفُ حِكْمَةُ الرَّحْمنِ ... ›? وَاللهُ أَعْلم وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه وسلم. " موعظة " عِبَادَ اللهِ إن لكم بأبدانكم عناية عظيمة لا تساميها العنايات بل كُلّ حياتكم ذاهبة فيما تبذلونه لخدمة هَذَا البدن من مجهودات ألَيْسَ ليلكمْ ونهاركمْ فِي كد مديم لجمع الأموال وهل كُلّ تلك الأموال إلا وسيلة تصلون بِهَا ما لهَذَا البدن من ملذوذات. لا بأس بالاعتناء بالبدن لكن بدون هَذَا الإفراط الَّذِي لا يرتضيه العاقل اللبيب لأن البدن مهما أكرم ماله إلي التُّرَاب تتمتع بلذيذ لحمه الديدان والَّذِي ينبغي أن تهتم به وتصرف عنايتك به نفسك قبل جسمك التي أَنْتَ بِهَا من صفوة هَذَا العَالم وعَلَى العناية بِهَا تتوقف سعادتك فِي هذه الحياة وبعد الْمَمَات. ولهذه النفس غذاء ولعلك تود أن تعرفه وَهُوَ جدير بالاعتناء منك والتقدير والجد لَهُ والتشمير لأن منفعته دنيا وأخرى ولا نسبةَ بينها وبين منفعة هذه الأبدان. ذَلِكَ الغذاء أو القوت هُوَ أنواع الطاعات كإخلاص الأعمال لله

والذكر لَهُ وَالشُّكْر لَهُ ومحبته وتعظيمه والقيام التام بأركَان الإسلام الشهادتين والصَّلاة والزَّكَاة والصيام والحج وسائر الباقيات الصالحات وأنواع العلوم والمعارف أوحاها الله وأودعها هذه المصنوعات. والاعتناء بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم وما إلي ذَلِكَ من أنواع القربات والَّذِي يظهر لنا من حالك وسيرتك أنك فِي شغل شاغل عن الإقبال عَلَى النفس وتغذيتها بما قلنا من أنواع الطاعات ذَلِكَ أن قلبك متعلق بتحصيل غذاء الجسم والاعتناء به فهو الَّذِي نصب عينيك. ولذَلِكَ تشب وتشيب وتموت وأَنْتَ جاهل بضروريات الدين الإسلامي وَرُبَّمَا مر عَلَيْكَ مدة طويلة بدون أن تتفكَّرَ بنعم الله وتذكره بلسانك وتشكره عَلَى ما أولاك وكَذَلِكَ الآخرة ربما أنها تمضي المدة ولا تذكرها ولا تستعد لها. وكما أن للأبدان أمراض كثيرة فللنفس أمراض أكثر وأعظم وأخطر وتلك الأمراض هِيَ السيئات التي من وقيها رحم قال الله تعالى: " وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم ". وكَذَلِكَ من أمراض النفس رذائل الأخلاق والجهل بالشرع الحكيم ولهذه الأمراض دواء نافع بإذن الله أن تتوب توبة نصوحاً إلي الله وتتخلق بضد الْفِعْل أو الخلق الذميم فهل لك شوق إلي هَذَا الدواء الشافِي بإذن الله كما أنك تشتاق بل تهرول وتسرع إلي طبيب الأبدان ومعك ما معك من الْمَال إِذَا أحسست بمرض فِي بدنك وإن لم تجد فِي بلادك ذهبت تطلب الشفاء ولَوْ فِي بلاد الحرية والكفر محكمة القوانين أعداء الله ورسوله والْمُؤْمِنِين.

أما بديع السموات والأرض فلا أراك تلتجي لَهُ إلا عِنْدَ الشدائد وهَذَا وَاللهِ قبيح ممن يدين بدين الإسلام يؤمن بالبعث والنشور، فالتفت يا أخي لنفسك وذكرها بنعم الله عَلَيْكَ لتتمكن محبته وأقبل عَلَيْهَا وعودها عَلَى الآداب الشرعية. شِعْراً: ... يَا خَادِمَ الجِسْمِ كم تَسْعَى لِخِدْمَتِهِ أَتَطْلُبُ الرِّبْحَ مِمَّا فِيه خُسْرَانُ أَقْبِلْ عَلَى النَّفَسِ واسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا فأَنْتَ بِالنَّفْسِ لاَ بِالجِسْمِ إِنْسِانُ ... ›? آخر: ... أَرَى وُجُوْدَكَ هَذَا لم يَكُنْ عَبَثاً إلا لِتَكْمُلَ مِنْكَ النَّفْسُ فَانْتَبِهِ فَاعْدِلْ عن الجِسْمِ لاَ تُقْبِلْ عَلَيْهِ وَمِلْ إِلى رِعَايَةِ مَا الإنسان أَنْتَ بِهِ فَمُؤْيِسُ النَّفْسِ عن أَهْوَائِهَا يَقِظٌ وَمُطْوِعُ النَّفْسِ فِيه غَيْرَ مُنْتَبِهِ واسْلُكْ سَبِيْلَ الهُدَى تَحْمِدْ مَغَبَّتَهُ فَمَنْهَجُ الحَقِّ بَادٍ غَيْرَ مُشْتَبِهِ ... ›? إِذَا فهمت ذَلِكَ فاعْلم أن غذاء نفسك ودوائها عِنْدَ أَهْل العلم العاملين به الَّذِينَ يصدقون أقوالهم بأفعالهم المعظمون للشريعة الَّذِينَ إِذَا رأيتهم ذكرت الله الَّذِينَ لا يتشبهون بأعداء الله ولا يجاهرون بالمعاصي الصادعون بالحق الَّذِينَ لا تأخذهم فِي الله لومة لائمٍ الَّذِينَ لا تهمهم الدُّنْيَا وزخارفها البراقة.

وكَذَلِكَ موجود الدواء الَّذِي ذكرنا فِي كتب العلماء السلفيين أتباع الصحابة والتابعين كالائمة الأربعة والموفق وابن أبي عمر وشيخ الإسلام وابن القيم وابن رجب وابن مفلح وابن كثير ومن تتلمذ عَلَى كتبهم ممن جَاءَ بعدهم واقتفي أثرهم وسار عَلى نهجهم فجزاهم الله عن الإسلام والمُسْلِمِيْنَ خيراً. شِعْراً: ... عِلْمُ الْحَدِيثِ أَجَلَّ السُؤْالِ والوَطَرِ ... فَاقّطَعْ بِهِ العَيْشَ تَعْرِفْ لَذَّةَ العُمُرِ وانْقُلْ رِحَالَكَ عن مَغْنَاكَ مُرْتَحِلاً ... لِكَي تَفُوْزَ بِنَقْلِ العِلْمِ والأثَرِ وَلاَ تَقُلْ: عَاقَنِي شُغْلٌ فلَيْسَ يًرَى ... فِي التَّرْكِ لِلعِلْمِ مِنْ عُذَرٍ لِمُعْتَذِرِ وَأَيُ شُغْلٍ كَمِثْلِ العِلْمِ تَطْلُبُهُ ... وَنَقْلِ مَا قَدْ رَوَوْا عن سَيِدِ البَشَرِ؟ ألْهَىْ عن العِلْمِ أَقْوَاماً تَطْلُبُهُمْ ... لَذّاتِ دُنْياً غَدَوْا مِنْهَا عَلَى غَرَرِ وَخَلَفُوا مَالَهُ حَظٌ وَمَكْرُمَةٌ ... إِلى الَّتِي هُيَ دَأْبُ الهُونِ والخَطَرِ وأَيُ فَخْرٍ بِدُنْيَاهُ لاَ بَقَاءَ لَهَا ... وَبِالعَفَافِ وَكَسْبِ العِلْمِ فَافْتَخِرِ يَفْنَى الرِّجَالُ وَيَبْقَى عِلْمُهُمْ لَهُمُ ... ذِكْراً يُجَّدِدُ فِي الآصَالِ والبُكُرِ وَيَذْهَبُ المَوُتَ بِالدُّنْيَا وَصَاحِبِهَا ... ولَيْسَ يَبْقَى لَهُ فِي النَّاسِ مِنْ أَثَرِ تَظُنُّ أَنَّكَ بالدُّنْيَا أَخُوُ كِبَرٍ ... وأَنْتَ بِالجَهْلِ قَدْ أَصْبَحْتَ ذَا صِغَرِ لَيْسَ الكَبْيِرُ عَظِيْمُ القَدْرِ غَيْرَ فَتَى ... مَا زَالَ بَالعِلْمِ مَشْغُولاً مَدَى العُمُرِ قَدْ زَاحَمَتْ رُكْبَتَاهُ كُلُّ ذِي شَرَفٍ ... فِي العِلْمِ والحِلْمِ لاَ فِي الفَخْرِ والبَطَرِ فَجَالِسِ العُلًماءِ المُقْتَدَى بِهِمُ ... تَسْتَجْلِبِ النَفْعَ أَوْ تَأمَنْ مِنَ الضَّرَرِ هُمْ سَادَةُ النَّاسِ حَقاً وَالجُلُوسُ لَهُمْ ... زِيَادَةٌ هَكَذَا قَدْ جَاءَ فِي الخَبَرِ والمَرْءُ يَحْسَبُ مِنْ قَوْمٍ يُصَاحِبُهُمْ ... فَارْكَنْ إِلى كُلِّ صَافِي العِرْضَ عن كَدَرِ فَمَنْ يُجَالِسْ كَرِيْماً نَالَ مَكَرْمَةً ... ولم يَشِنْ عِرضَهُ شَيْءٌ مِنْ الغِيْر

كصَاحِبِ العِطْرِ إِنْ لم تَسْتَفِدْ هِبَةً ... مِنْ عِطْرِهِ لم تَخِبْ مِنْ رِيْحِهِ العَطِرِ وَمَنْ يُجَالِسْ رَدِيءَ الطَّبْعِ يُرْدِ بِهِ ... ونَالَهُ دَنَسٌ مِنْ عِرْضِهِ الكَدِرِ كصَاحِبِ الكِيْرِ إِنْ يَسْلم مُجَالِسُهُ ... مِنْ نَتْنِهِ لم يُوَقَّ الحَرْقَ بِالشَّرَرِ وَكُلُ مَنْ لَيْسَ يَنْهِاهُ الحَيَاءُ وَلاَ ... تَقْوَى فَخَفْ كُلَّ قُبْحٍ مِنْهُ وانْتَظِرِ وَالنَّاسُ أخْلاَقُهُمُ شَتَّى وَأَنْفُسُهُمْ ... مِنْهُمْ بَصِيرُ وَمِنْهُمْ مُخْطِئُ النَّظَرِ وَأَصُوْبُ النَّاسِ رَأْياً مَنْ تَصَرُّفُهُ ... فِي مَا بِهِ شَرَفُ الألْبَابِ وَالفِكَرِ وَارْكَنْ إِلى كُلِّ مَنْ فِي وِدِّهِ شَرَفٌ ... مِنْ نَابِهِ القَدْرِ بَيْنَ النَّاسِ مُشْتَهِرِ فَالمَرْءُ يَشْرُفُ بِالأخْيَارِ يَصْحَبُهُمْ ... وَإِنْ يَكُنْ قَبْلُ شيئاً غَيْرَ مُعْتَبَرِ إِنَّ العَقْيِقَ لَيَسُمْوُ عِنْدَ نَاظِرِهِ ... إِذَا بَدَا وَهُوَ مَنْظُومُ مَعَ الدُّرَرِ والمَرْءُ يَخْبُثُ بِالأشْْرَارِ يَألَفُهُمْ ... وَلَوْ غَدَا حَسَنَ الأخلاق وَالسِّيَرِ فَالمَاءُ صَفْوٌ طَهُورٌ فِي أَصَالَتِهِ ... حَتَى يُجَاوِرَهُ شَيْءٌ مِنْ الكَدَرِ فَكُنْ بِصَحْبِ رَسُولِ اللهِ مُقْتَدياً ... فَإنهُمْ لِلّهُدَى كَالأنْجُمِ الزُّهُرِ وَإِنْ عَجَزْتَ عن الحَدِ الَّذِي سَلَكُوا ... فَكُنْ عن الحُبِ فِيهمْ غَيْرَ مُقْتَصِرٍ وَالحَقْ بِقَوْمٍ إِذَا لاَحَتْ وُجُوهُهُمُ ... رَأْيْتَهَا مِنْ سَنَا التَّوْفِيقِ كَالقَمَرِ أضْحَوْا مِنَ السَنَةِ العَلْيَاءِ فِي سَنَنِ ... سَهْلٍ وَقَامُوْا بِحِفْظِ الدِّيْنِ وَالأثَرِ أَجَلُّ شَيْءٍ لَدَيْهِمْ: قَالَ أَخْبَرَنَا ... عن الرَّسُولِ بِمَا قَدْ صَحَّ مِنْ خَبَرِ هَذِي المَكَارِمُ لاَ قَعْبَانِ مِنْ لَبَنِ ... وَلاَ التَّمَتُعَ بِاللَّذَاتِ وَالأشَرِ لاَ شَيْءَ أَحْسَنَ مِنْ: قَالَ لِرَّسُوُل وَمَا ... أَجَلٌّ مِنْ سَنَدٍ عن كُلِّ مُشْتَهِرِ وَمَجْلِسٍ بَيْنَ أَهْلِ العِلْمِ جَادَ بِمَا ... حَلاَ مِنَ الدُرِ أَوْ حُلّيٌ مِنَ الدُّرَرِ يَوْمٌ يَمُرُّ وَلم أَرْوِ الْحَدِيثَ بِهِ ... فَلَسْتَ أَحْسِبُ ذَاكَ الْيَوْمَ مِنْ عُمُرِي فَإِنَّ فِي دَرْسِ أَخْبَارِ الرَّسُولِ لَنَا ... تَمَتُّعاً فِي رِيَاضِ الْجَنَةِ الخُضُرِ

كلام ابن رجب على حديث ابن عباس في وصية الرسول - صلى الله عليه وسلم -

.. تَعَلُلاً إِذْ عَدِمْنَا طِيْبَ رُؤْيَتِهِ ... مَنْ فَاتَهُ العَيْنُ هَدّا الشَوْقَ بِالأثَرِ كَأَنَهُ بَيْنَ ظَهْرِيْنَا نُشَاهِدُهُ ... فِي مَجْلِسِ الدَّرْسِ بِالآصَالِ وَالبُكُرِ زَيْنُ النُبُوَةِ عَيْنُ الرُّسْلِ خَاتِمُهُمْ ... بَعْثاً وَأَوّلُهُمْ فِي سَابِقِ القَدَرِ صَلَى عَلَيْهِ إِلَهُ العَرْشِ ثُمَّ عَلَى ... أشْيَاعِهِ مَا جَرَى طَلِّ عَلَى زَهَرِ مَعَ السَّلامِ دَوَماً والرِّضَا أَبَداً ... عن صَحْبِهِ الأكْرمِيْنَ الأنْجُمِ الزُّهُرِ وعن عَبِيْدِكَ نَحْنُ المُذْنِبِيْنَ فَجُدْ ... بِالأمْنِ مِنْ كُلِّ مَا نَخْشَاهُ مِنْ ضَرَرِ وَتُبْ عَلَى الكُلِّ مِنَا واعْطِنَا كَرَماً ... دُنْيا وأُخْرَى جَمِيْعَ السُؤْلِ وَالوَطَرِ اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك فِي قلوبنا وقوها ووفقنا لشكرك وذكرك وارزقنا التأهب والاستعداد للقائك واجعل ختام صحائفنا كلمة التَّوْحِيد وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. قال ابن رجب رَحِمَهُ اللهُ: عَلَى حديث ابن عباس المتضمن لوصية النَّبِيّ ? فإنه تضمن وصايا عظيمة وقواعد كلية من أهم أمور الدين وأجلها حتي قال الإمام أبو الفرج ابن الجوزي فِي كتابه صيد الخاطر: تدبرت هَذَا الْحَدِيث فأدهشني وكدت أطيش ثُمَّ قال فوا أسفاً من الجهل بهَذَا الْحَدِيث وقلة الفهم لمعناه. فقوله ?: " احفظ الله: يحفظك يعني احفظ حدود الله وحقوقه وأوامره ونواهيه، وحفظ ذَلِكَ هُوَ الوقوف عِنْدَ أوامره بالامتثال وعِنْدَ نواهيه بالاجتناب وعِنْدَ حدوده فلا يتجاوز ولا يتعدي ما أمر به إلي ما نهي عنهُ ". ودخل فِي ذَلِكَ فعل الواجبات جميعاً وترك المحرمَاتَ كُلّهَا كما فِي حديث ثعلبة المرفوع: " إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحرم حرمَاتَ فلا تنتهكوها وحد حدوداً فلا تعتدوها ". وَذَلِكَ يدخل فِي حفظ حدود الله كما ذكره الله تعالى فِي قوله: " والحافظون لحدود الله " وَقَالَ تعالى: " هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنِ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ".

وفسر الحفيظ هاهنا بالحافظ لأوامر الله وفسر بالحافظ لذنوبه حتي يرجع منها، وكلاهما يدخل فِي الآية. ومن حفظ وصية الله لعباده وامتثلها فهو داخل أيضاً، والكل يرجع إلي معني واحد. وقَدْ ورد فِي بعض ألفاظ حديث يوم المزيد فِي الْجَنَّة، إن الله تعالى يَقُولُ لأَهْل الْجَنَّة إِذَا استدعاهم لزيارته وكشف لهُمْ الحجاب: " مرحباً بعبادي الَّذِينَ حفظوا وصيتي ورعوا عهدي وخافوني بالغيب وكَانُوا مني عَلَى كُلّ حال مشفقين ". فأمره ? لابن عباس أن يحفظ الله يدخل فِيه هَذَا كله. ومن أعظم ما يجب حفظه من المأمورات الصلوات الخمس، قال الله تعالى: " وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ". وَقَالَ ?: " من حافظ عَلَيْهَا كَانَ لَهُ عِنْدَ الله عهدٌ أن يدخله الْجَنَّة ". وفِي حديث آخر: " من حافظ عليهن كن نوراً وبرهانَاً ونجاةً يوم القيامة " وكَذَلِكَ الطهارة فإنها مفتاح الصَّلاة. وَقَالَ النَّبِيّ ?: " لا يحافظ عَلَى الوضوء إلا مُؤْمِنٌ فإن الْعَبْد تنتفض طهارته ولا يعلم بذَلِكَ إلا الله، فالمحافظة عَلَى الوضوء للصلاة دَلِيل عَلَى ثبوت الإيمان فِي الْقَلْب. ومِمَّا أمر الله بحفظه الإيمان لما ذكره كفارة اليمين قال: " ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكم إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكم ". فإن الإيمان كثيراً ما تقع من النَّاس وموجباتها مختلفة. فتَارة يجب بِهَا كفارة يمين وتَارة يجب فيها كفارة مغلظة وتَارة يلزم بِهَا

المحلوف عَلَيْهِ من طلاق ونحوه. فمن حفظ أيمانه دل عَلَى دخول الإيمان فِي قَلْبهِ. وكَانَ السَّلَف كثيراً ما يحافظون عَلَى الأيمان فمِنْهُمْ من كَانَ لا يحلف بِاللهِ البتة. وَمِنْهُمْ من كَانَ يتورع حتي يكفر فيما شك فِيه الحنث. ووصي الإمام أَحَمَد رَحِمَهُ اللهُ عِنْدَ موته أن يخرجَ عنهُ كفارة يمين. وَقَالَ أظن أني حنثت فِي يمين حلفتها. وقَدْ روى عن أيوب عَلَيْهِ السَّلام: أنه كَانَ إِذَا مر باثنين يحلفان بِاللهِ ذهب فكفر عنهما يمينهما لئلا يأثمان وهما لا يشعران. ولهَذَا لما حلف عَلَى ضرب امرأته مائة جلدة أفتاه الله بالرخصة لحفظه لأيمانه وأيمان غيره. وقَدْ اختلف العِلماء هل تتعدي الرخصة إلي غيره أم لا؟ وَقَالَ يزيد بن حبيب: بلغني أن من حملة العرش من يسيل من عينيه أمثال الأنهار من البُكَاء فإِذَا رفع رأسه قال: سبحانك ما تخشي حق خشيتك فَيَقُولُ الله تعالى: " لكن الَّذِينَ يحلفون باسمي كاذبين لا يعلمون ذَلِكَ " وقَدْ ورد التشديد العَظِيم فِي الحلف الكاذب بِاللهِ. ولا يصدر كثرة الحلف بِاللهِ إلا من الجهل بِاللهِ تعالى وقلة هيبةٍ فِي الصدور. ومِمَّا يلزم المُؤْمِن حفظه رأسه وبطنه كما فِي حديث ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عنهُ المرفوع: " الاستحياء من الله حق الحياء أن يحفظ الرأس ما وعي ويحفظ البطن وما حوي " أخرجه الإمام أَحمَدُ والترمذي. وحفظ البطن وما حوى يتضمن حفظ الْقَلْبِ عن الإصرار عَلَى محرم.

وقَدْ جمَعَ الله ذَلِكَ كله فِي قوله تعالى: " إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلّ أُولئِكَ كَانَ عنهُ مَسْؤُولاً ". ويدخل فِي حفظ البطن وما حوي حفظه من إدخال الحرام إليه من المأكولات والمشروبات. اللَّهُمَّ طهر قلوبنا من النفاق وعملنا منَ الرياء وألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة وآذَاننا عن الاستماع إلي ما لا يرضيك وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: ومِمَّا يجب حفظه من المنهيات حفظ اللسان والفرج. وفِي حديث أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عنهُ: " من حفظ ما بين لحييه وما بين رجليه دخل الْجَنَّة " أخرجه الحاكَم، وأخرجه البخاري من حديث سهل بن سعد رَضِيَ اللهُ عنهُ عن النَّبِيّ ? ولفظه: " من يضمن لي ما بين لحييه ورجليه أضمن لَهُ الْجَنَّة ". وفِي مسند الإمام أَحَمَد عن أبي موسي عن النَّبِيّ ? قال: " من حفظ ما بين فقميه وفرجه دخل الْجَنَّة ". وقَدْ أمر الله بحفظ الفرج خاصة ومدح الحافظين قال الله تعالى: " قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ "، وَقَالَ: " والحافظين فروجهم والحافظات " وَقَالَ تعالى: " وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَأنهُمْ فَإنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ " وقَدْ روى عن أبي إدريس الخولاني: أن أول ما وصى الله به آدم عِنْدَ إهباطه إلي الأرض بحفظ فرجه وأن لا يضعه إلا فِي حلال.

قوله: " بحفظك " يعني: أن من حفظ حدود الله وراعي حقوقه حفظه الله فإن الجزاء من جنس الْعَمَل كما قال تعالى: " وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكم " وَقَالَ: " فاذكروني أذكركمْ ". وَقَالَ: " إن تنصروا الله ينصركم ". وحفظ الله تعالى لعبده يتضمن نوعين: أحدهما حفظه لَهُ فِي مصالح دنياه كحفظه فِي بدنه وولده وأهله وماله. وفِي حديث ابن عمرو رَضِيَ اللهُ عنهُمَا قال: لم يكن رسول الله ? يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: " اللَّهُمَّ إني أسألك العافية فِي الدُّنْيَا والآخرة، اللَّهُمَّ إني أسألك العفو والعافية فِي ديني ودنياي وآخرتي وأهلي ومالي، اللَّهُمَّ استر عوراتي وآمن روعاتي واحفظني من بين يدي ومن خلفِي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي ". أخرجه الإمام أَحَمَدُ وَأَبُو دَاود والنسائي وابن ماجة. وهَذَا الدُّعَاء منتزع من قول الله تعالى: " لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ " الآية. قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عنهُمَا: هم الملائكة يحفظونه بأمر الله فإِذَا جَاءَ القدر خلوا عنهُ. وَقَالَ عَلَى رَضِيَ اللهُ عنهُ: إن مَعَ كُل رجل ملكين يحفظانه مِمَّا لم يقدر فإِذَا جَاءَ القدر خليا بينه وبينه وإن الأجل جنة حصينة. وَقَالَ مجاهد: ما من عبد إلا لَهُ ملك يحفظه فِي نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام فما من شَيْء يأتيه إلا قال وراءك إلا شيئاً قَدْ أذن الله فِيه فيصيبه. ومن حفظ الله للعبد أن يحفظه فِي صحة بدنه وقوته وعقله وماله. قال بعض السَّلَف: العَالِم لا يحزن، وَقَالَ بَعْضهمْ: مَن حفِظَ القرآنَ

متع بعقله، وتأول ذَلِكَ بَعْضهمْ عَلَى قوله: (ثُمَّ رددناه أسفل سافلين إلا الَّذِينَ آمنوا وعملوا الصالحات) . وكَانَ الطيب أبو الطبري قَدْ جاوز المائة سنة وَهُوَ ممتع بعقله وقوته فوثب يوماً من سفينة كَانَ فيها إلي الأرض وثبة شديدة فعوتب عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: هذه جوارح حفظناها فِي الصغر فحفظها الله عَلَيْنَا فِي الكبر. وعكس هَذَا أن الجنيد رأي شيخاً يسأل النَّاس فَقَالَ: إن هَذَا ضيع الله فِي صغره فضيعه الله فِي كبره. وقَدْ يحفظ الله الْعَبْد بصلاحه فِي ولده وولد ولده كما قيل فِي قوله تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} إنهما حفظا بصلاح أبيهما. وَقَالَ مُحَمَّد بن المنكدر إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده وقريته التي هُوَ فيها والدويرات التي حولها فما يزالون فِي حفظ الله وستره. وَاللهُ أَعْلم وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: ومتي كَانَ الْعَبْد منشغلاً بطاعة الله تعالى يحفظه فِي تلك الحال كما فِي مسند الإمام أَحمَد عن حميد بن هلال عن رجل قال: أتيت النَّبِيّ ? فإِذَا هُوَ برَبِّي بيتنا فَقَالَ: " إن امرأة كانت فِيه فخرجت فِي سرية من المُسْلِمِيْنَ وتركت ثنتي عشرة عنزاً وصيصيتها قال: ففقدت عنزاً وصيصيتها كانت تنسج بها. فقَالَتْ: يا رب إنك قَدْ ضمنت لمن خرج فِي سبيلك أن تحفظ عَلَيْهِ ولأني قَدْ فقدت عنزاً من غنمي وصيصيتي وإني أنشدك عنزي وصيصيتي وإني أنشدك عنزي وصيصيتي.

قال: فجعل رسول الله ? يذكر شدة مناشدتها ربِهَا تبارك وتعالى. قَالَ رَسُولُ اللهِ ? ": فأصبحت عنزها ومثلها وصيصيتها ومثلها وهاتيك فأتها إن شئت " قال: فقُلْتُ بل أصدقك. وكَانَ بعض السَّلَف بيده الميزان يزن به دراهم فسمَعَ الآذَان فنهض ونفضها عَلَى الأرض وذهب إلي الصَّلاة فَلَمَّا عاد جمعها فلم يذهب منها شيء. ومن أنواع حفظ الله لمن حفظه فِي دنياه أن يحفظه من كُلّ شر كُلّ من يريده بأذي من الجن والإنس كما قال تعالى: (ومن يتق الله يجعل لَهُ مخرجاً) قَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عنهَا: يكفِيه غم الدُّنْيَا وهمها. وَقَالَ الربيع بن خيثم: يجعل لَهُ مخرجاً من كُل ما ضاق عَلَى الناس. وكتبت عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عنهَا إلي معاوية: إن اتقيت الله كفاك الناس. وإن اتقيت النَّاس لم يغنوا عنكَ من الله شيئاً. وكتب بعض الخلفاء إلي عمرو الغفاري كتاباً يأمره فِيه بأمرٍ يخالف كتاب الله، فكتب إليه: إني نظرت فِي كتاب الله فوجدته قبل كتاب أمير الْمُؤْمِنِين وإن السماوات والأرض لَوْ كانتا رتقاً عَلَى امرء فاتقي الله عَزَّ وَجَلَّ جعل لَهُ مخرجاً والسلام. وأنشد بَعْضهمْ: بتقوي الإلَه نجا من نجا. كتب بعض السَّلَف إلي أخيه: أما بعد فإنه من اتقي الله فقَدْ حفظ نَفْسه ومن ضيع تقواه فقَدْ ضيع نَفْسهُ والله الغني عنه. شِعْراً: ... عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ فِي كُلِّ حَالَةٍ ... تَجِدْ نَفْعَهَا يَوْمَ الحِسَابِ المُطَوَّلِ ألا إِنَّ تَقْوَى اللهِ خَيْرُ بِضَاعَةٍ ... وَأَفْضَلُ زَادِ الضَّاعِنِ المُتَحَمِلِ آخر: ... وَلاَ خَيْرَ فِي طُوْلِ الحَيَاةِ وعَيْشِهَا ... إِذَا أَنْتَ مِنْهَا بِالتُّقَى لم تُزَوَّدِ

ومن عجيب حفظ الله لمن حفظه: أن يجعل الحيوانات المؤذية بِالطَّبْعِ حافظة لَهُ من الأذي وساعية فِي مصالحه كما جري لسفينة مولي النَّبِيّ ? حيث كسر به المركب وخرج إلي جزيرة فرأي السبع فَقَالَ: يا أبا الحارث أَنَا سفينة مولي النَّبِيّ ? فجعل يمشي حوله ويدله عَلَى الطَرِيق حتي أوقفه عَلَيْهَا ثُمَّ جعل يهمهم كأنه يودعه وانصرف عنه. وكَانَ أبو إبراهيم السايح قَدْ مرض فِي برية بقرب دير فَقَالَ لَوْ كنت عِنْدَ باب الدير لنزل الرهبان فعالجوني. فَجَاءَ السبع فاحتمله عَلَى ظهره حتي وضعه عَلَى باب الدير فرآه الرهبان فأسلموا وكَانُوا أربعمائة. وكَانَ إبراهيم بن أدهم نائماً فِي بستان وعنده حية فِي فمها طاقة نرجس فما زالت تذب عنهُ الذباب حتي استيقظ. فمن حفظ الله حفظه من الحيوانات المؤذية بِالطَّبْعِ وجعل تلك الحيوانات حافظة له. ومن ضيع الله ضيعه بين خلقه حتي يدخل عَلَيْهِ الضَّرَر ممن كَانَ يرجو أن ينفعه ويصير أخص أهله به وأرفقهم به يؤذيه. كما قال بَعْضهمْ: إني لأعصي الله فأعرف ذَلِكَ فِي خلق خادمي وحماري. يعني أن خادمه يسوء خلقه عَلَيْهِ ولا يطيعه وحماره يستعصي عَلَيْهِ فلا يواتيه لركوبه. فالْخَيْر كله مجموع فِي طاعة الله والإقبال عَلَيْهِ، والشر كله مجموع فِي معصية الله. شِعْراً: ... إِذَا انْتَسَبَ النَّاسُ كَانَ التَقيُّ ... بِتَقْوَاهُ أَفْضَلَ مَنْ يَنْتَسِبُ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَكْسِبْ بِهِ ... مِنَ الحَظِّ أَفْضَلَ مَا يُكْتَسَبُ وَمَنْ يَتْخِذْ سَبَباً لِلنَّجَاةِ ... فَإِنَّ تُقَى اللهِ خَيْرُ السَّبَبُ اللَّهُمَّ نورقلوبنا بنور الإيمان وثبتها عَلَى قولك فِي الحياة الدُّنْيَا وفِي الآخرة وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين وتوفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين يا أكرم

الأكرمين ويا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) النوع الثاني من الحفظ وَهُوَ أشرفها وأفضلها: حفظ الله تعالى لعبده فِي دينه فيحفظ عَلَيْهِ دينه وإيمانه فِي حَيَاتهُ عن الشبهات المردية والبدع المضلة والشهوات المحرمة ويحفظ عَلَيْهِ دينه عِنْدَ موته فيتوفاه عَلَى الإسلام. قال الحكم بن أبان عِنْدَ أبي مكي: إِذَا حضر الرجل الموت يُقَالُ للملك: شم رأسه، قال: أجد فِي رأسه القرآن، قال: شم قَلْبه، قال: أجد فِي قَلْبه الصيام، قال: شم قدميه، قال: أجد فِي قدميه القيام، قال: حفظ نَفْسه فحفظه الله عز وجل. أخرجه بن أبي الدنيا. وقَدْ ثَبِّتْ فِي الصحيحين من حديث البراء بن عازب أن النَّبِيّ ? علمه أن يَقُولُ عِنْدَ منامه: "اللَّهُمَّ إن قبضت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين". وفِي حديث عمر عن النَّبِيّ ? أنه علمه أن يَقُولُ: " اللَّهُمَّ احفظني بالإسلام قائماً واحفظني بالإسلام قاعداً واحفظني بالإسلام راقداً ولا تطع فِي عدواً ولا حاسداً " أخرجه ابن حبان فِي صحيحه. وكَانَ النَّبِيّ ? إِذَا ودع من يريد السفر يَقُولُ لَهُ: " استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم أعمالك ". وفِي رواية وكَانَ يَقُولُ: "إن الله إِذَا استودع شيئاً حفظه " أخرجه النسائي وغيره. وأخرج الطبراني حديثاً مرفوعاً: "إن الْعَبْد إِذَا صلي الصَّلاة عَلَى وجهها صعدت إلي الله ولها برهان كبرهان الشمس وَتَقُول لصاحبِهَا: حفظك الله كما حفظتني، وإِذَا ضيعها لفت كما يلف الثوب الخلق ثم

يضرب بِهَا وجه صاحبِهَا وَتَقُول: ضيعك الله كما ضيعتني". وكَانَ عمر رَضِيَ اللهُ عنهُ يَقُولُ فِي خطبته: اللَّهُمَّ اعصمنا بحفظك وثبتنا عَلَى أمرك. ودعا رجل لبعض السَّلَف أن يحفظه الله. فَقَالَ: يا أخي لا تسألن عن الحفظ الدنيوي قَدْ يشترك فِيه البر والفاجر، فالله تعالى يحفظ عَلَى المُؤْمِن دينه وبين ما يفسده عَلَيْهِ بأسباب قَدْ لا يشعر بِهَا العبد. وقَدْ يكون ما يكرهه وهَذَا كما حفظ يوسف عَلَيْهِ السَّلام قال تعالى: (كَذَلِكَ لنصرف عنهُ السُّوء والفحشاء) وعصمه الله منها من حيث لا يشعر وحال بينه وبين أسباب المعاصي المهلكة. كما رآي معروف الكرخي شباباً يتهاونون فِي الْخُرُوج إلي القتال فِي فتنة فَقَالَ: اللَّهُمَّ احفظهم فقيل لَهُ: تدعو لهؤلاء؟ فَقَالَ: إن حفظهم لم يخرجوا إلي القتال. وسمَعَ عمرُ رجلاً يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنك تحول بين المرء وقَلْبهُ فحل بيني وبين معاصيك فأعجب عمر ودعا لَهُ بخَيْر: وروي ابن عباس رَضِيَ اللهُ عنهُمَا فِي قوله تعالى: (يحول بين المرء وقلبه) قال: يحول بين المُؤْمِن وبين المعصية التي تجره إلي النار. حج بعض المتقدمين فبات بمَكَّة مَعَ قوم فهمَّ بمعصية فسمَعَ هاتفاً يهتف يَقُولُ: ويلك ألم تحج فعصمه الله مِمَّا همَّ به. وخرج بَعْضهمْ مَعَ رفقة إلي معصية فَلَمَّا هم بمواقعتها هتف به هاتف: كُلّ نفس بما كسبت رهينة " فتركها. ودخل رجل غيضة ذات شجر فَقَالَ: لَوْ خلوت ها هنا بمعصية من كَانَ يراني؟ فسمِعَ صوتاً ملأ بين حافتي الغيضة: ألا يعلَمُ من خلق وَهُوَ اللطيف الخبير.

وهم رجل بمعصية فخرج إليها فمر فِي طريقه بقاص عَلَى النَّاس فوقف عَلَى حلقته فسمعه يَقُولُ: أيها الهامُّ بالمعصية أما علمت أن خالق الهمة مطلع عَلَى همتك فوقع مغشياً عَلَيْهِ فما أفاق إلا من توبة. وَمِنْهُمْ من عصم نَفْسهُ بموعظة جرت عَلَى لسان من أراد منه الموافقة عَلَى المعصية كما جري لأحد الثلاثة الَّذِينَ دخلوا الغار وانطبقت عَلَيْهمْ الصخرة، فإنه لما جلس من تلك المرأة مجلس الرجل من امرأته قَالَتْ لَهُ يا عَبْد اللهِ اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه فقام عنها. وكَذَلِكَ الكفل من بني إسرائيل كَانَ لا يتورع عن معصية فأعجبته امرأة فأعطاها ستين ديناراً فَلَمَّا قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وقَالَتْ: أكرهتك؟ قَالَتْ: لا، ولكن عمل ما عملته قط وإنما حملني عَلَيْهِ الحاجة. فَقَالَ: تخافين الله ولا أخافه ثُمَّ قام عنهَا ووهب لها الدنانير، وَقَالَ: وَاللهِ لا يعصي الله الكفل أبداً ومَاتَ من ليلته فأصبح مكتوباً عَلَى بابه قَدْ غفر الله للكفل. أخرج الإمام أَحَمَد والترمذي حديثه هَذَا من حديث ابن عمر مرفوعاً. وراود رجل امرأة عن نفسها وأمرها بغلق الأبواب فقلعت وقَالَتْ: بقي باب واحد. قال: أي باب؟ قَالَتْ: الْبَاب الَّذِي بيننا وبين الله تعالى فلم يتعرض لها. وراود رجل أعرابية قال: لها ما يرانَا إلا الكواكب. قَالَتْ: فأين مكوكبِهَا وهَذَا كله من ألطاف الله تعالى وحيلولته بين الْعَبْد ومعصيته. قال الحسن وذكر أَهْل المعاصي: هانوا عَلَيْهِ فعصوه ولَوْ عزوا عليه

فعصمهم، وَقَالَ بشر: ما أصر عَلَى معصية الله كريم ولا آثر الدُّنْيَا عَلَى الآخرة حليم. وَاللهُ أَعْلم وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه وسلم. (فصل) ومن أنواع حفظ الله لعبده فِي دينه: أن الْعَبْد قَدْ يسعي فِي سبب من الدنيا؛ الولايات أو التجارات أو غَيْرَ ذَلِكَ فيحول الله بينه وبين ما أراده لما يعلم لَهُ من الخيرة فِي ذَلِكَ وَهُوَ لا يشعر مَعَ كراهته لذلك. قال ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عنهُ: إن الْعَبْد ليهم بالأمر من التجارة أو الإمارة فينظر الله إليه فَيَقُولُ للملائكة: اصرفوه عنهُ فإني إن يسرته لَهُ أدخلته النار فيصرفه الله عنهُ فيظِلّ يتطير يَقُولُ: سبقني فلان. دهاني فلان وما هُوَ إلا فضل الله عز وجل. وأعجب من هَذَا الْعَبْد قَدْ يطلب باباً من أبواب الطاعات ولا يكون فِيه خَيْر لَهُ فيحول الله بينه وبينه صيانة لَهُ، وَهُوَ لا يشعر. وأخرج الطبراني وغيره حديث أنس مرفوعاً، يَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ: "إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغني ولَوْ أفقرته لأفسده ذَلِكَ، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولَوْ أغنيته لأفسده ذلك". وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الصحة ولَوْ أسقمته لأفسده ذَلِكَ وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا السقم ولَوْ صححته لأفسده ذلك. وإن من عبادي من يطلب باباً من العبادة فاكفه عنهُ كيلا يدخله العجب. إني أدبر. إني أدبر عبادي بعلمي بما فِي قُلُوبهمْ إني عليم خبير".

كَانَ بعض المتقدمين يكثر سؤال الشهادة فهتف به هاتف إنك إن غزوت أسرت وإن أسرت تنصرت فكف عن سؤاله وفِي الجملة فمن حفظ حدود الله وراعي حقوقه تولي الله حفظه فِي أمور دينه ودنياه وفِي دنياه وآخرت. وقَدْ أخبر الله تعالى: أنه ولي الْمُؤْمِنِين وأنه يتولي الصالحين وَذَلِكَ يتضمن أنه يتولي مصالحهم فِي الدُّنْيَا والآخرة ولا يكلهم إلي غيره. قال تعالى: (الله ولي الَّذِينَ آمنوا يخرجهم من الظلمَاتَ إلي النور) وَقَالَ تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} وَقَالَ تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} وَقَالَ تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} . فمن قام بحقوق الله فإن الله يتكفل لَهُ بالقيام بجَمِيع مصالحه فِي الدُّنْيَا والآخرة. فمن أراد أن يتولي الله حفظه ورعايته فِي أموره كُلّهَا فليراع حقوق الله عليه. ومن أراد أن لا يصيبه شَيْء مِمَّا يكره فلا يأت شيئاً مِمَّا يكرهه الله. كَانَ بعض السَّلَف يدور عَلَى المجالس وَيَقُولُ: من أحب أن تدوم لَهُ الغاية فليتق الله. وَقَالَ العمري الزاهد لمن طلب منه الوصية: كما تحب أن يكون الله لك فهكَذَا كن لله عز وجل. وفِي بعض الآثار يَقُولُ الله: (وعزتي وجلالي لا أطلع عَلَى قلب عبد فأعلم أن الغالب عَلَيْهِ حب التمسك بطاعتي إلا توليت سياسته وتقويمه) . وفِي بعض الكتب المتقدمة يَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ: (ابن آدم لا تعلمني ما يصلحك ابن آدم اتقني. . . ونم حيث شئت) .

والمعني: أنك إِذَا قمت بما عَلَيْكَ لله من حقوق التقوي فلا تهتم بعد ذَلِكَ بصالحك فإن الله هُوَ أعلم بِهَا منك وَهُوَ يوصلها إليك عَلَى أتم الوجوه من غَيْرَ اهتمام منك بها. وفِي حديث جابر رَضِيَ اللهُ عنهُ أن النَّبِيّ ? قال: "من كَانَ يحب أن يعلم منزلته عِنْدَ الله فلينظر كيف منزلة الله عنده فإن الله ينزل الْعَبْد منه حيث أنزله من نفسه ". فهَذَا يدل عَلَى أنه عَلَى قدر اهتمام الْعَبْد بحقوق الله وبأداء حقوقه مراعاة حقوقه ومراعاة حدوده واعتنائه بذَلِكَ وحفظه لَهُ يكون اعتناؤه به وحفظه له. فمن كَانَ غاية همه رَضِيَ اللهُ عنهُ وطلب قربه ومعرفته ومحبته وخدمته فإن الله يكون لَهُ عَلَى حسب ذَلِكَ كما قال تعالى: (فاذكروني أذكركم "، " وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم) بل هُوَ سُبْحَانَهُ أكرم الاكرمين فهو يجازي بالحسنة عشراً ويزيد. ومن تقرب منه شبراً تقرب منه ذراعاً، ومن تقرب من ذراعاً تقرب منه باعاً ومن أتاه يمشي أتاه هرولة. ما يؤتي الإنسان إلا من قبل نَفْسه ولا يصيبه المكروه إلا من تفريطه فِي حق ربه عز وجل. قال عَلَي رَضِيَ اللهُ عنهُ: لا يرجوَنَّ عبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه. قال بَعْضهمْ: من صفِي صفِي له، ومن خلط خلط عليه. وَقَالَ مسروق: من راقب الله فِي خطرت قَلْبهُ عصمه الله فِي حركات جوارحه وبسط له. هَذَا المعني يطول جداً. وفيما أشرنا إليه كفاية ولله الحمد والمنة. شِعْراً: ... إِذَا صَدَرَتْ مِنْكَ الذُّنُوْبُ فَدَاوِهَا ... بِرَفْعِ يَدِ فِي اللَّيْلِ واللَّيِلُ مُظْلِمُ وَلاَ تَقْنَطَنْ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَمَّا ... قُنُوْطُكَ مِنْهَا مِنْ خَطَايَاكَ أَعْظَمُ فَرَحْمَتُهُ لِلْمُحْسِنِيْنَ كَرَامَةٌ ... وَرَحْمَتُهُ لِلْمُذْنِبِيْنَ تَكَرُّمُ

اللَّهُمَّ ثبتنا عَلَى قولك الثابت فِي الحياة وبعدها، وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك المفلحين الَّذِينَ نورت قُلُوبهمْ بمعرفتك، وأهلتهم لخدمتك، وحرستهم من عَدُوّكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ، بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) وقوله ? تجده أمامك وفِي رواية أخري تجاهك معناه: أن من حفظ حدود الله راعي حقوقه وَجَدَ الله معه فِي جَمِيع الأحوال يحوطه وينصره ويحفظه ويوفقه ويؤيده ويسدده فأنه قائم عَلَى كُلّ نفس بما كسبت. وهو تعالى {مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} قال قتادة: ومن يتق الله ومن يتق الله يكن معه. ومن يكن الله معه فمعه الفئة التي لا تغلب والحارس الَّذِي لا ينام والهادي الَّذِي لا يضل. كتب بعض السَّلَف إلي أخ لَهُ أما بعد: إن كَانَ الله معك فمن تخاف وإن كَانَ عَلَيْكَ فمن ترجو والسلام. وهذه المعية الخاصة بالمتقين غَيْرُ المعية العامة المذكورة فِي قوله تعالى: (وهو معكم أينما كنتم) وقوله: {وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} . فإن المعية الخاصة تقتضي النصر والتأييد والحفظ والاعانة، كما قال تعالى لموسي عَلَيْهِ السَّلام وهارون: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} وقوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} . وكَانَ النَّبِيّ ? قَدْ قال لأبي بكر الصديق رَضِيَ اللهُ عنهُ فِي تلك الحال: " ما ظنك باثنين الله ثالثهما ".

فهَذَا غَيْرُ المعني المذكور فِي قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} فإن ذَلِكَ عام لكل جماعة. ومن هَذَا المعني الْخَاص الْحَدِيث الالهي وقوله فِيه: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتي أحبه فإِذَا أحببته كنت سمعه الَّذِي يسمَعَ به وبصره الَّذِي يبصر به ويده التي يبطش بِهَا ورجله التي يمشي بها " إلي غَيْرَ ذَلِكَ من نصوص اْلكِتَاب والسنة الدالة عَلَى قرب الرب سُبْحَانَهُ ممن أطاعه واتقاه وحفظ حدوده وراعاه. دخل بنان الحمال البرية عَلَى طَرِيق تبوك فاستوحش فهتف به هاتف: لم تستوحش؟ ألَيْسَ حبيبك معك؟ فمن حفظ الله وراعي حقوقه وجده أمامه وتجاهه عَلَى كُلّ حال فليستأنس به وليستغن به عن خلقه. وفِي الْحَدِيث: " أفضل الإيمان أن يعلم الْعَبْد أن الله معه حيث كان " أخرجه الطبراني وغيره وبسط هَذَا القول يطول جداً. كَانَ بعض العِلماء الربانيين كثير السفر وحده فخرج النَّاس مرة معه يودعونه فردهم. اللَّهُمَّ يا من خلق الإنسان فِي أحسن تقويم وبقدرته التي لا يعجزها شَيْء يحيي العظام وهي رميم. نسألك أن تهدينا إلي صراطك المستقيم صراط الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وأن تغفر لنا ولوالدينا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ الاحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

(فَصْلٌ) وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ عَلَى قوله ?: "تعرف إلي الله فِي الرخاء يعرفك فِي الشدة ": المعني: أن الْعَبْد إِذَا اتقي الله وكَانَ بينه وبينه معرفة فعرفه ربه فِي الشدة وعرفه عمله فِي الرخاء فنجاه من الشدائد بتلك المعرفة. وهذه أيضاً معرفة خاصة تقتضي القرب من الله عَزَّ وَجَلَّ ومحبته لعبده وإجابته لدعائه ولَيْسَ المراد بِهَا المعرفة العامة، فإن الله لا يخفِي عَلَيْهِ حال أحد من خلقه كما قال تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} وَقَالَ تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ} . وهَذَا التعرف الْخَاص هُوَ المشار إليه فِي الْحَدِيث الإلهي: " لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتي أحبه" إلي أن قال: "ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه ". اجتمَعَ الفضيل بشعوانة العابدة فسألها الدُّعَاء، فقَالَتْ: يا فضيل وما بينك وبينه، إن دعوته أجابك. فشهق الفضيل شهقة خر مغشياً عليه. وَقَالَ أبو جعفر السائح: أتي الحسن إلي حبيب أبي مُحَمَّد هارباً من الحجاج فَقَالَ: يا أبا مُحَمَّد احفظني من الشرط هم عَلَى أثري. فَقَالَ: يا أبا سعيد ألَيْسَ بينك وبينه من الثِّقَة ما تدعوه فيسترك من هؤلاء، ادخل البيت، فدخل الشرط عَلَى أثره فلم يروه فذكروا ذَلِكَ للحجاج فَقَالَ: بل كَانَ فِي بيته إلا أن طمس عَلَى أعينهم فلم يروه.

ومتي حصل هَذَا التعرف الْخَاص للعبد معرفة خاصة بربه توجب لَهُ الإنس به والحياء منه. وهذه معرفة خاصة غَيْر معرفة الْمُؤْمِنِين العامة. ومدار العارفين كلهم عَلَى هذه المعرفة وهَذَا التعرف وإشاراتهم تومئ إلي هذا. سمَعَ أبو سليمان رجلاً يَقُولُ: سهرت البارحة فِي ذكر النساء. فَقَالَ: ويحك أما تستحي منه يراك ساهراً فِي ذكَر غيره؟ ولكن كيف تستحي ممن لا تعرف؟ وَقَالَ أَحَمَد بن عاصم الأنطاكي: أحب أن لا أموت حتي أعرف مولاي. ولَيْسَ معرفته الإقرار به، ولكن المعرفة الَّذِي إِذَا عرفته استحييت منه. وهذه المعرفة الخاصة والتعرف الْخَاص توجب طمأنينة الْعَبْد بربه وثقته به فِي إنجائه من كُلّ شدة وكرب وتوجب استجابة الرب دعاء عبده. لما اختفِي الحسن البصري من الحجاج قيل لَهُ: لَوْ خرجت فإنَا نخاف أن يدل عليك. فبكي ثُمَّ قال: أخرج من مصري وأهلي وإخواني، إن معرفتي برَبِّي ونعمه عَلَى أن سينجيني منه إن شَاءَ الله تعالى. فما ضره الحجاج بشَيْء، ولَقَدْ كَانَ يكرمه بعد ذَلِكَ إكراماً شديداً. وَقَالَ رجل لمعروف: هيجك عَلَى الانقطاع والعبادة ذكر الموت والبرزخ والْجَنَّة والنار؟ فَقَالَ معروف: أي شَيْء هَذَا إن ملكاً هَذَا كله بيده إن كانت بينك وبينه معرفة كفاك جَمِيع هذا. وَاللهُ أَعْلم. وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه وسلم.

(فَصْلٌ) ومِمَّا يبين هَذَا ويوضحه الْحَدِيث الَّذِي أخرجه الترمذي من حديث أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عنهُ عن النَّبِيّ ?: "من سره أن يستجيب لَهُ عِنْدَ الشدائد فليكثر الدُّعَاء فِي الرخاء ". وخرج ابن أبي الدُّنْيَا وابن أبي حَاتِم وابن جرير وغيرهم من حديث يزيد الرقاشي عن أنس يرفعه: " إن يونس عَلَيْهِ السَّلام لما دعي فِي بطن الحوت قَالَتْ الملائكة: يا رب هَذَا صوت معروف فِي بلاد غريبة؟ فَقَالَ الله: أما تعرفون ذلك؟ قَالُوا: ومن هو؟ قال: عبدي يونس. قَالُوا: عبدك يونس الَّذِي لم يزل يرفع عملاً متقبلاً ودعوة مستجابة؟ قال: نعم. قَالُوا: يا رب أفلا ترحم ما كَانَ يصنع فِي الرخاء فتنجيه به فِي البلاء؟ قال: بلي فأمر الله الحوت فطرحه بالعراء. وَقَالَ الضحاك بن قيس: اذكروا الله فِي الرخاء يذكركم فِي الشدة. إن يونس عَلَيْهِ السَّلام كَانَ يذكر الله فَلَمَّا وقع فِي بطن الحوت قال الله تعالى: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} . وإن فرعون كَانَ طاغياً ناسياً لذكر الله فَلَمَّا أدركه الغرق قال: آمنت. فَقَالَ الله تعالى: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} . وَقَالَ رشدين بن سعد: قال رجل لأبي الدرداء رَضِيَ اللهُ عنهُ: أوصني، فَقَالَ: اذكر الله فِي السراء يذكرك فِي الضراء فإن الْعَبْد إِذَا ذكر فِي السراء فنزلت به ضراء فدعا الله عَزَّ وَجَلَّ قَالَتْ الملائكة: صوت معروف فشفعوا له.

وإِذَا كَانَ لَيْسَ بدعاء فِي السراء فنزلت به ضراء فدعا الله عَزَّ وَجَلَّ قَالَتْ الملائكة صوت لَيْسَ بمعروف فلا يشفعون له. وحديث الثلاثة الَّذِينَ دخلوا الغار وانطبقت عَلَيْهمْ الصخرة يشهد لهَذَا أيضاً. فإن الله فرج عنهم بدعائهم بما كَانَ سبق مِنْهُمْ من الأعمال الصَّالِحَة الْخَالِصَة فِي حال الرخاء من بر الوالدين وترك الفجور وأداء الامانة الخفية. فإِذَا علم: أن التعرف إلي الله فِي الرخاء يوجب نعرفة الله لعبده فِي الشدة فلا شدة يلقاها الْعَبْد فِي الدُّنْيَا أعظم من شدة الموت وهي أَهْوَن مِمَّا بعدها إن لم يكن مصير الْعَبْد إلي خير. وإن كَانَ مصيره إلي خَيْر فهي آخر شدة يلقاها. فالواجب عَلَى الْعَبْد: الاستعداد للموت قبل نزوله، بالأعمال الصَّالِحَة والمبادرة إلي ذَلِكَ فإنه لا يدري المرء متي تنزل به هذه الشدة من ليل أو نهار. وذكر الأعمال الصَّالِحَة والمبادرة إلي ذَلِكَ فإنه لا يدري المرء متي تنزل به هذه الشدة من ليل أو نهار. وذكر الأعمال الصَّالِحَة عِنْدَ الموت مِمَّا يحسن ظن المُؤْمِن بربه ويهون عَلَيْهِ شدة الموت ويقوي رجاءه. قال بَعْضهمْ: يستحبون أن يكون للمرء خيبة من عمل صالح ليكون أَهْوَن عَلَيْهِ عِنْدَ نزول الموت أو كما قال. وكَانُوا يستحبون أن يموت الرجل عقب طاعة عملها من حج أو جهاد أو صيام. وَقَالَ النخعي: كَانُوا يستحبون أن يكون للمرء خيبة من عمل صالح ليكون أَهْوَن عَلَيْهِ عِنْدَ نزول الموت أو كما قال. وكَانُوا يستحبون أن يموت الرجل عقب طاعة عملها من حج أو جهاد أو صيام. وَقَالَ النخعي: كَانُوا يستحبون أن يلقنوا الْعَبْد محاسن عمله عِنْدَ موته لكي يحسن ظنه بربه. قال أبو عبد الرحمن السلمي فِي مرضه: كيف لا أرجو رَبِّي وقَدْ صمت لَهُ ثمانين رمضان. ولما احتضر أبو بكر ابن عياش وبكوا عَلَيْهِ قال: لا تبكوا

فإني ختمت القرآن فِي هذه الزاوية ثلاثة عشر ألف ختمة. وروي أنه قال لابنه: أتري إن الله يضيع لأبيك أربعين سنة يختم كُل ليلة. وَقَالَ بعض السَّلَف لابنه عِنْدَ موته ورآه يبكي قال: لا تبكي فما أوتي أبوك قط. وختم آدم بن أبي إياس القرآن وَهُوَ مسجي للموت ثُمَّ قال: بحبي لك إلا رفقت بي فِيه ذَا المصرع؟ كنت أؤملك لهَذَا كنت أرجوك لهَذَا لا إله إلا الله، ثُمَّ قضي رحمه الله. وكَانَ عبد الصمد الزاهد يَقُولُ عِنْدَ موته: سيدي لهَذَا الساعة خبأتك حقق حسن ظني بك. وَقَالَ ابن عقيل عِنْدَ موته وقَدْ بكي النسوة: قَدْ وقفت منه خمسين سنة فدعوني أتهنأ بلقائه. ولما هجم القرامطة عَلَى الحجاج وقتلوهم فِي الطواف وكَانَ عَلَى بن باكوية الصوفِي يطوف فلم يقطع الطواف والسيوف تأخذه حتي وقع. تضرعٌ إلي فاطر السموات والأرض وثناء عليه يَا مَنْ عَلَيْهِ مَدَى الأيامِ مُعْتَمَدِي ... إِلَيْكَ وَجَّهْتُ وَجْهِي لاَ إِلى أَحْدِ يِا مَالِكَ المُلْكِ يَا مُعْطِيَ الجَزِيْلَ لِمَنْ ... يَرْجُوْ نَدَاهُ بِلاَ مَنٍ وَلاَ نَكَدِ مَا لِي سِوْاكَ وَمَا لِي غَيْرَ بَابِكَ يَا ... مَوْلاَيَ فَامْحُ بِعَفْوٍ مَا جَنَتْْهُ يَدِي وانْعِمْ وأَمْطِر عَلَيْنَا رَحْمَةً فَلَنَا ... عَوُائِدٌ مِنْكَ بِالإحْسَانِ وَالْمَدَدِ وانْظُرْ إِليْنَا فَكم أَوْلَيْتَنَا نِعَماً ... مَا أَنْ تَمُرُّ عَلَى بَالٍ وَلاَ خَلِدِ يَا مَنْ يُجْيِبُ دُعَائِيْ عِنْدَ مَسْأَلَتِي ... وَمَنْ عَلَيْهِ وَإِنْ أَخَطَأتُ مُعْتَمَدِي وَاللهُ أَعْلم. وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.

(فَصْلٌ) وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: فمن أطاع الله واتقاه فِي حَيَاتهُ تولاه الله عِنْدَ وفاته عَلَى الإيمان وثبته بالقول الثابت فِي القبر عِنْدَ سؤال الملكين ودفع عنهُ عذاب القبر وآنس وحشته فِي تلك الوحدة والظلمة. قال بعض السَّلَف: إِذَا كَانَ الله معك عِنْدَ دخول القبر فلا بأس عَلَيْكَ ولا وحشة. ورؤي بعض الصالحين فِي النوم بعد موته فسئل عن حاله فَقَالَ: يؤنسني رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فمن كَانَ الله سُبْحَانَهُ وتعالى أنيسه فِي ظلمَاتَ اللحود إِذَا فارق الدُّنْيَا وتخلي عنها. وفِيه ذَا يَقُولُ بَعْضهمْ: فَيَا رَبُّ كُنْ لِي مُؤْنِساً يَوْمَ وَحْشَتِي ... فإني بما أنزلته لمصدق وَمَا ضَرَّنِي أَنِي إِلى اللهِ صَائِرٌ ... وَمَنْ هُوَ مِنَ أَهْلِي أَبَرُ وَأَشْفَقُ وكَذَلِكَ أهوال القيامة وأفزاعها وشدائدها إِذَا تولي الله عبده المطيع لَهُ فِي الدُّنْيَا أنجاه من ذَلِكَ كله. قال قتادة فِي قوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} . قال: (من الكرب عِنْدَ الموت ومن أفزاع يوم القيامة) . وَقَالَ عَلَى بن أبي طلحة عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عنهُمَا فِي هذه الآية: ينجيه من كُلّ كرب فِي الدُّنْيَا والآخرة. وَقَالَ زيد بن أسلم فِي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} . قال: يبشر فِي ذَلِكَ عِنْدَ موته وفِي قبره ويوم البعث فإنه لفِي الْجَنَّة، وما ذهبت فرحة البشارة من قلبه. وَقَالَ ثابت البناني فِي هذه الآية: بلغنا أن المُؤْمِن يبعثه الله من قبره يتلقاه الملكَانَ اللذان كانَا معه فِي الدُّنْيَا فيقولان لَهُ لا تخف ولا تحزن فيؤمن الله خوفه ويقر عينه.

فما من عظيمة تغشي النَّاس يوم القيامة إلا وهي للمُؤْمِن قرة عين لما هداه الله ولما كَانَ يعمل فِي الدنيا. خرج ذَلِكَ كله ابْن أَبِي حَاتِم وغيره. وأما من لم يتعرف إلي الله فِي الرخاء فلَيْسَ لَهُ أن يعرفه فِي الشدة لا فِي الدُّنْيَا ولا فِي الآخرة، وشواهد هَذَا مشاهدة حالهم فِي الدُّنْيَا وحالهم فِي الآخرة أشد وما لهُمْ من ولي ولا نصير. قوله ?: "إِذَا سألت فاسأل الله" أمر بإفراد الله تعالى بالسؤال ونهي عن غيره من الخلق. وقَدْ أمر سُبْحَانَهُ وتعالى بسؤاله فَقَالَ: {وَاسْأَلُواْ اللهَ مِن فَضْلِهِ} . وفِي الترمذي عن ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عنهُ مرفوعاًَ: " من لا يسأل الله يغضب عليه ". وفِيهِ أيضاً عن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عنهُ: " اسألوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل". وفِيهِ أيضاً: "إن الله يحب الملحين فِي الدعاء ". وفِي حديث آخر: " ليسأل أحدكم حاجته كلها حتي يسأل شسع نعله إِذَا انقطع ". وفِي هذَا المعني أحاديث كثيرة. وفِي النهي عن سؤال الخلق أحاديث كثيرة صحيحة. وفِي حديث ابن مسعود وابن عمر رَضِيَ اللهُ عنهُمَا مرفوعاً: " لا يزال الْعَبْد يسأل وَهُوَ غني حتي يخلق وجهه فلا يكون لَهُ عِنْدَ الله وجه ". وقَدْ بايع النَّبِيّ ? جماعة من الصحابة عَلَى أن لا يسألوا النَّاس شيئاً مِنْهُمْ الصديق رَضِيَ اللهُ عنهُ وأبو ذر وثوبان.

من كلام ابن القيم وفوائده يليه موعظتان

وكَانَ أحدهم يسقط سوطه وخطام ناقته فلا يسأل أَحَداً أن يناوله إياه رضي الله عنهم. واعلم أن سؤال الله تعالى دون خلقه هُوَ المتعين عقلاً وشرعاً. وَذَلِكَ من وجوه متعددة منها أن السؤال فِيهِ بذل لماء الوجه وذل للسائل وَذَلِكَ لا يصلح إلا لله وحده. فلا يصلح الذل إلا لله بالعبادة والمسألة وَذَلِكَ من غاية المحبة الصادقة. سئل يوسف بن الحسين: ما بال المحبين يتلذذون بذلهم فِي المحبة فأنشد: ذُلَّ الفَتَى فِي الحُبِ مَكْرُمَةٌ ... وَخُضُوعُهُ لِحَبِيْبِهِ شَرَفُ وهَذَا الذل وهذه المحبة لا تصلح إلا لله وحده وهذه حَقِيقَة العبادة التي يختص بِهَا الإله الحق. كَانَ الإمام أَحمَدُ رَحِمَهُ اللهُ يَقُولُ فِي دعائه: اللَّهُمَّ كما صنت وجهي عن السجود لغيرك فصنه عن المسألة لغيرك. وَقَالَ أبو الحسين الأقطع: كنت بمَكَّة سنة فأصابتني فاقة وضرر فكنت كُلَّما أردت أن أخرج إلي المسألة هتف بي هاتف يَقُولُ: الوجه الَّذِي تسجد لي به تبذله لغيري. انتهي كلامه رَحِمَهُ اللهُ تعالى. وَاللهُ أَعْلم وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم. (فَصْلٌ) وَقَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: للعبد ستر بينه وبين الله وستر بينه وبين النَّاس فمن هتك الستر

الَّذِي بينه وبين الله هتك الله الستر الَّذِي بينه وبين الناس. للعبد رب هُوَ ملاقيه، وبيت هُوَ ساكنه، فينبغي لَهُ أن يسترضي ربه قبل لقائه، ويعمر بيته قبل انتقاله إليه. إضاعة الوَقْت أشد من الموت، لأن إضاعة الوَقْت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدُّنْيَا وأهلها. الدُّنْيَا من أولها إلي آخرها لا تساوي غم ساعة فَكَيْفَ بغم العمر كله. محبوب الْيَوْم يعقب المكروه غداً، ومكروه الْيَوْم يعقب المحبوب غداً. أعظم الرِّبْح فِي الدُّنْيَا: أن تشغل نفسك كُلّ وَقْت بما هُوَ أولي بِهَا وأنفع لها فِي معادها. كيف يكون عاقلاً من باع الْجَنَّة بما فيها بشهوة ساعة. المخلوق إِذَا خفته استوحشت منه وهربت منه والرب تعالى إِذَا خفته أنست به وقربت إليه. لَوْ نفع العلم بلا عمل لما ذم الله سُبْحَانَهُ أحبار أَهْل اْلكِتَاب، ولَوْ نفع الْعَمَل بلا إخلاص لما ذم المنافقين. إِذَا جري عَلَى الْعَبْد مقدور يكرهه فله فِيهِ ست مشاهد: أحدها: مشهد التَّوْحِيد وأن الله هُوَ الَّذِي قدره وشاءه وخلقه وما شَاءَ الله كَانَ وما لم يشأ لم يكن. الثاني: مشهد العدل وأنه ماض فِيهِ حكمه عدل فِيهِ قضاؤه. الثالث: مشهد الرحمة وإن رحمته فِيه ذَا المقدور غالبة لغضبة وانتقامه ورحمته وعفوه.

الرابع: مشهد الحكمة وإن حكمته سُبْحَانَهُ اقتضت ذَلِكَ لم يقدره سدي ولا قضاه عبثاً. الخامس: مشهد الحمد وأن لَهُ سُبْحَانَهُ الحمد التام عَلَى ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ وجوهه. السادس: مشهد العبودية وأنه محض من كُلّ وجه تجري عَلَيْهِ أحكام سيده وأقضيته بحكم كونه ملكه وعبده فيصرفه تحت أحكامه القدرية كما يصرفه تحت أحكامه الدينية فهو محل لجريان هذه الأحكام عليه. الاجتماع بالإخْوَان قسمان: أحدهما: اجتماع عَلَى مؤانسة الطبع وشغل الوَقْت، فهَذَا مضرته أرجح من منفعته، وأقل ما فِيهِ أنه يفسد الْقَلْب ويضيع الوقت. الثاني: الاجتماع بِهُمْ عَلَى التعاون عَلَى أسباب النجاة والتواصي بالحق والصبر، فهَذَا من أعظم الغنيمة وأنفعها. ولكن فِيهِ ثلاث آفات: إحداها: تزين بَعْضهمْ لبعض. الثَّانِيَة: الكلام والخلطة أكثر من الحاجة. الثالثة: أن يصير ذَلِكَ شهوة وعادة ينقطع بِهَا عن المقصود. وبالجملة: فالاجتماع والخلطة لقاح، إما للنفس الأمارة، وإما للقلب والنفس المطمئنة والنتيجة مستفادة من اللقاح فمن طاب لقاحه طابت ثمرته. وهذه الأرواح الطيبة لقاحها من الملك والخبيثة لقاحها من الشيطان

وقَدْ جعل الله سُبْحَانَهُ بحكمته الطيبات للطيبين والطيبين والطيبين للطيبات وعكس ذلك. بين الْعَبْد وبين الله والْجَنَّة قنطرة تقطع بخطوتين خطوة عن نَفْسه، وخطوة عن الخلق فيسقط نَفْسه ويلغيها فيما بينه وبين النَّاس ويسقط النَّاس ويلغيهم فيما بينه وبين الله؛ فلا يلتفت إلا إلي الله من دله عَلَى الله وعَلَى الطَرِيق الموصلة إليه. من عرف نَفْسه اشتغل بإصلاحها عن عيوب الناس. من عرف ربه اشتغل به عن هوي نفسه. أنفع الْعَمَل أن تغيب فِيه عن النَّاس بالإخلاص وعن نفسك بشهود المنة فلا تري فِيه نفسك ولا تري الخلق. دخل النَّاس النار من ثلاثة أبواب: باب شبهة أورثت شكاً فِي دين الله، وباب شهوة أورثت تقديم الهَوَى عَلَى طاعته ومرضاته، وباب غضب أورث العدوان عَلَى خلقه. أصول الخطايا كُلّهَا ثلاثة: الكبر، وَهُوَ الَّذِي أصار إبلَيْس إلي ما أصاره والحرص، وَهُوَ الَّذِي أخرج آدم من الجنة. والحسد، وَهُوَ الَّذِي جرأ أحد ابني آدم عَلَى أخيه. فمن وقي شر هذه الثلاثة فقَدْ وقي الشر، فالكفر من الكبر، والمعاصي من الحرص، والبغي والظلم من الحسد. جمَعَ النَّبِيّ ? فِي قوله: "فاتقوا الله وأجملوا فِي الطلب" بين مصالح الدُّنْيَا والآخرة. فالآخرة ونعيمها ولذاتها، إنما تنال بتقوي الله وراحة القلب

والبدن وترك الاهتمام والحرص الشديد والتعب والعناء والكد والشقاء فِي طلب الدُّنْيَا، إنما ينال بالإجمال فِي الطلب. فمن اتقي الله فاز بلذة الآخرة ونعيمها، ومن أجمل فِي الطلب استراح من نكد الدُّنْيَا وهمومها، فالله المستعان: قَدْ نَادَتِ الدُّنْيَا عَلَى نَفْسِهَا ... لَوْ كَانَ فِي ذَي الخُلُقِ مَنْ يَسْمَعُ كم وَاثِقٍ بِالعَيْشِ أَهْلَكَتْهُ ... وَجَامِعٍ فَرَقَتْ مَا يَجْمَعُ سر التوكل عَلَى الله وحقيقته: هُوَ اعتماد الْقَلْب عَلَى الله وحده، فلا يضر مباشرة الأسباب مَعَ خلَوْ الْقَلْب من الاعتماد عَلَيْهَا والركون إليها، كما لا ينفعه قوله: توكلت عَلَى الله، مَعَ اعتماده عَلَى غيره وركونه إليه وثقته به. فتوكل اللسان شَيْء، وتوكل الْقَلْب شيء. كما أن توبة اللسان مَعَ إصرار الْقَلْب مَعَ اعتماده عَلَى غيره وركونه إليه وثقته به. فتوكل اللسان شَيْء، وتوكل الْقَلْب شيء. كما أن توبة اللسان مَعَ إصرار الْقَلْب مَعَ اعتماد قَلْبهُ عَلَى غيره، مثل قوله: تبت إلي الله وَهُوَ مصر عَلَى معصيته مرتكب لها. اتباع الهَوَى وطول الأمل، مادة كُلّ فساد، فإن اتباع الهَوَى يعمي عن الحق معرفة وقصداً، وطول الأمل ينسي الآخرة ويصد عن الاستعداد لها. إِذَا أراد الله بعبد خيراً جعله معترفاً بذنبه، ممسكاً عن ذنب غيره، جواداً بما عنده، محتملاً لأذي غيره، وإن أراد به شراً عكس ذَلِكَ عليه. العقول المقيدة بالتَّوْفِيق، تري أن ما جَاءَ به الرَّسُول ? هُوَ الحق الموافق للعقل والحكمة.

والعقول المضروبة بالخذلان، تري المعارضة بين العقل والنقل وبين الحكمة والشرع. أقرب الوسائل إلي الله، ملازمة السنة والوقوف معها فِي الظاهر والباطن ودوام الافتقار إلي الله، وإرادة وجهه وحده بالأقوال والأفعال. وما وصل أحد إلي الله إلا من هذه الثلاثة، وما انقطع عنهُ أحد إلا بانقطاعه عنهَا أو عن أحدها. الأصول التي انبني عَلَيْهَا سعادة الْعَبْد ثلاثة، ولكل واحد منها ضد، فمن فقَدْ ذَلِكَ الأصل حصل عَلَى ضده، التَّوْحِيد وضده الشرك، والسنة وضدها البدعة، والطاعة وضدها المعصية. ولهذه الثلاثة ضد واحد وَهُوَ: خلَوُ الْقَلْب من الرغبة فِي الله وفيما عنده، ومن الرهبة منه وما عنده. إِذَا استغني النَّاس بالدُّنْيَا، فاستغن أَنْتَ بِاللهِ، وإِذَا فرحوا بالدُّنْيَا فافرح أَنْتَ بِاللهِ، وإِذَا أنسوا بأحبابهم فاجعل أنسك بالله. وإِذَا تعرفوا إلي ملوكهم وكبرائهم وتقربوا إليهم لينالوا بِهُمْ العزة والرفعة، فتعرف أَنْتَ إلي الله وتودد إليه، تنل بذَلِكَ غاية العز والرفعة. قال بعض الزهاد: ما علمت أن أَحَدا سمَعَ بالْجَنَّة والنار تأتي عَلَيْهِ ساعة لا يطيع الله فيها بذكر أو صلاة أو قراءة أو إحسان. فَقَالَ لَهُ رجل إني أكثر البُكَاء فَقَالَ: إنك إن تضحك وأَنْتَ مقر بخطيئتك خَيْر من أن تبكي وأَنْتَ مدل بعملك، وأن المدل لا يصعد عمله فوق رأسه. فَقَالَ: أوصني فَقَالَ: دع الدُّنْيَا لأهلها كما تركوا هم الآخرة لأهلها، وكن فِي الدُّنْيَا كالنحلة، إن أكلت أكلت طيباً، وإن أطعمت أطعمت طيباً، وإن سقطت عَلَى شَيْء لم تكسره ولم تخدشه.

النعم ثلاثة: نعمة حاصلة يعلم بِهَا الْعَبْد، ونعمة منتظرة يرجوها، ونعمة هُوَ فيها لا يشعر بها. فإِذَا أراد إتمام نعمته عَلَى عبده، عرفه نعمته الحاضرة، وأعطاه من شكره قيداً يقيدها به حتي لا تشرد فإنها تشرد بالمعصية وتبقي بالشكر، ووفقه لعمل يستجلب به النعمة المنتظرة، وبصره بالطرق التي تسدد وتقطع طريقها، ووفقه لاجتنابِهَا، وإِذَا بِهَا قَدْ وافقته إليه عَلَى أتم الوجوه، وعرفه النعم التي هُوَ فيها ولا يشعر بها. ويحكي أن أعرابياً دخل عَلَى الرشيد فَقَالَ: أمير الْمُؤْمِنِين ثَبِّتْ الله عَلَيْكَ النعم التي أَنْتَ فيها بإدامة شكرها، وحقق لك النعم التي ترجوها بحسن الظن به ودوام طاعته، وعرفك النعم التي أَنْتَ فيها ولا تعرفها لتشكرها، فأعجبه ذَلِكَ منه وَقَالَ: ما أحسن تقسيمه. قال شقيق بن إبراهيم: أغلق باب التَّوْفِيق عن الخلق من ستة أشياء: اشتغالهم بالنعمة عن شكرها، ورغبتهم فِي العلم وتركهم العمل والمسارعة إلي الذنب وتأخَيْر التوبة، والاغترار بصحبة الصالحين وترك الاقتداء بأفعالهم، وإدبار الدُّنْيَا عنهم وهم يتبعونها، وإقبال الآخرة عَلَيْهمْ وهم معرضون عنها. قُلْتُ: وأصل ذَلِكَ: عدم الرغبة والرهبة، وأصله ضعف اليقين، وأصله ضعف البصيرة، وأصله مهانة النفس ودناءتها، واستبدال الَّذِي هُوَ أدني بالَّذِي هُوَ خير. النَّاس مُنْذُ خلقوا لم يزالوا مسافرين، ولَيْسَ لّهُمْ حط من رحالهم إلا فِي الْجَنَّة أو النار، والعاقل يعلم أن السفر مبني عَلَى المشقة وركوب الأخطار، ومن المحال عادة أن يطلب فِيه نعيم ولذة وراحة، إنما ذَلِكَ بعد انتهاء السفر.

ومن المعلوم أن كُلّ وطأة قدم، أو كُلّ من آنات السفر غَيْر واقفة، ولا المكلف واقف، وقَدْ ثَبِّتْ أنه سافر عَلَى الحال التي يجب أن يكون المسافر عَلَيْهَا من نهيئة الزَادَ الموصل، وإِذَا نزل أو نام أو استراح، فعَلَى قدم الاستعداد للسير. لله عَلَى الْعَبْد فِي كُلّ عضو من أعضائه أمر، وله عَلَيْهِ فِيه نهي، وله فِيه نعمة، وله فِيه منفعة ولذة، فإن قام فِي ذَلِكَ العضو بأمره واجتنب فِيه نهيه. فقَدْ أدي شكر الله عَلَيْهِ فِيه، وسعي فِي تكميل انتفاعه ولذته به، وإن عطل أمر الله ونهيه فِيه، عطله الله من انتفاعه بذَلِكَ العضو، وجعله من أكبر أسباب ألمه ومغرته. وله عَلَيْهِ فِي كُلّ وَقْت من أوقاته عبودية تقدمه إليه وتقربه منه، فإن شغل وقته بعبودية الوَقْت، تقدم به إلي ربه، وإن شغله بهوي أو راحة وبطالة تأخر، فالْعَبْد لا يزال فِي تقدم أو تأخر، ولا وقوف فِي الطَرِيق البتة. قال تعالى: {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} . وَاللهُ أَعْلم وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه وسلم. وَقَالَ القحطاني رَحِمَهُ اللهُ: يَا أَيُّهَا السُّنيُّ خُذْ بِوَصِيَّتِي ... وَأخْصُصْ بِذَلِكَ جُمْلَةَ الإخْوانِ وَاقْبِلْ وَصِيَّةَ مُشْفِقٍ مَتَوَدِّدٍ ... وَأسْمَعْ بِفَهْمٍ حَاضِرٍ يَقْظَانِ كُنْ فِي أُمُورِكَ كُلِّهَا مُتَوَسِّطاً ... عَدْلاً بِلاَ نَقْصٍ وَلاَ رُجْحَانِ واعْلم بِأَنَّ اللهَ رَبٌّ وَاحِدٌ ... مُتَنَزَّهٌ عن ثَالِثٍ أَوْ ثَانِ

.. الأوَّلُ المُبْدِي بِغَيْرِ بِدَايَةٍ ... والآخِرُ المُفْنِي وَلَيْسَ بِفَانِ رُكْنُ الدَّيانَةِ أَنْ تُصَدِّقَ بِالقَضَا ... لاَ خَيْرَ فِيٍ بَيْتٍ بِلا أَرْكَانِ فَاقْصِدْ هُدِيْتَ وَلاَ تَكُنْ مُتَغَالِياً ... إِنَّ القُدُوْرَ تَفُورُ بِالغَلَيَانِ دِنْ بِالشَّرِيْعَةِ واْلكِتَابِ كِلَيْهِمَا ... فَكِلاَهُمَا لِلّدِينِ وَاسِطَتَانِ وإِذَا دُعِيْتَ إِلى أَدَاءِ فَرْيْضَةٍ ... فَأنْشَطْ وَلاَ تَكُ فِي الإجَابَةِ وَانِ قُمْ بِالصَّلاَةِ الخَمْسِ واعْرِفْ قَدْرَهَا ... فَلَهُنَّ عِنْدَ اللهِ أَعْظَمُ شَانِ لاَ تَمْنَعَنَّ زَكَاةَ مَالِكَ ظَالِماً ... فَصَلاتَنَا وَزَكَاتَنَا أُخْتَانِ لاَ تَعْتَقِدْ دِيْنَ الرَّوافِضِ أِنَّهُمْ ... أَهْلُ المُحَالِ وَشِيعَةُ الشَّيْطَانِ إٍِنَّ الرَّوافِضَ شّرُّ مَنْ َوِطىءَ الحَصَا ... مِنْ كُلِّ إِنْسٍ نَاطِقٍ أَوْ جَانِ مَدَحُوا النَّبِيَّ وَخَوَّنُوا أَصْحَابَهُ ... وَرَمَوْهُمْ بِالظُّلْمِْ والعُدْوَانِ قُلْ إِنَّ خَيْرَ الأنْبِياءِ مُحَمَّدٌّ ... وَأَجَلُّ مَنْ يَمْشِي عَلَى الكُثْبَانِ قُلْ خَيْر قَوْلٍ فِيٍ صَحَابَةِ أََحْمَدٍ ... وامْدَحْ جَمِيعَ الآلِ والنِّسْوانِ دَعْ مَا جَرَى بَيْنَ الصَحَابَةِ فِي الوَغَى ... لِسُيُوفِهِمْ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعَانِ لاَ تَقْبَلَنَّ مِنَ التَّوَارِخِ كُلَّ مَا ... جَمَعَ الرُّواةُ وَخَطَ كُلُّ بَنَانِ ارْوِ الْحَدِيثَ المُنْتَقَى عن أَهْلِهِ ... سِيْمَا ذَوِي الأحْلاَمِ والأسْنَانِ واحْفَظْ لأَهْلِ البَيْتِ وَاجِبَ حَقِّهِمْ ... وَاعْرِفْ عَلِياً أيَّمَا عِرْفَانِ لاَ تَنْتَقِصْهُ وَلاَ تَزِدْ فِي قَدْرِهِ ... فعَلَيْهِ تَصْلَى النَّارَ طَائِفَتَانِ إِحْدَاهُمَا لاَ تَرْتَضِيْهِ خَلِيْفَةً ... وَتَنُصُّهُ الأخْرى إِلهاً ثَانِ احْذَرْ عِقَابِ اللهِ وَارْجُ ثَوَابَهُ ... حَتَّى تَكُونَ كَمَنْ لَهُ قَلْبَانِ وإِذَا خَلَوْتَ بِريَبَةٍ فِي ظُلْمَةٍ ... وَالنَفْسُ دَاعِيَةٌ إِلى الطُغْيَانِ فاسْتَحْيْ مِنْ نَظَرِ الإلَه وَقُلْ لَهَا ... إِنَّ الَّذِي خَلَقَ الظَّلاَمَ يَرَانِي

.. كُنْ طَالِباً لِلّعِلْمِ واعْمَلْ صَالِحاً ... فَهُمَا إِلى سُبْلِ الهُدَى سَبَبَانِ لاَ تَعْصِ رَبَّكَ قَائِلاً أَوْ فَاعِلاً ... فَكِلاَهُمَا فِي الصُّحْفِ مَكْتُوبَانِ جَمِّلْ زَمَانَكَ بِالُّسُكوِت فَإِنَّهُ ... زَيْنُ الحَلِيْمِ وَسِتْرَةُ الحَيْرانِ كُنْ حِلْسَ بَيْتِكَ إِنْ سَمِعْتَ بِفِتْنَةٍ ... وَتَوَقَّ كُلُّ مُنَافِقٍ فَتَّانِ أَدَ الفَرائِضَ لاَ تَكُنْ مُتَوانِياً ... فَتَكُونَ عِنْدَ اللهِ شَرَّ مُهَانِ أَدَمِ السِّوَاكَ مَعَ الوُضُوءِ فَإِنَّهُ ... مُرْضِي الإلهِ مُطهَّرِ الأسْنَانِ سَمِّ الإلَه لَدَى الوُضُوءِ بِنْيَّةٍ ... ثُمَّ اسْتَعِذْ مِنْ فِتْنَةِ الوَلْهَانِ فَأَسَاسُ أَعْمَالِ الوَرَى نِيَّاتُهُمْ ... وعَلَى الأسَاسِ قَواعِدُ البُنْيَانِ لاَ تَلْقَ رَبَّكَ سَارِقاً أَوْ خَائِناً ... أَوْ شَارِباً أَوْ ظَالِماً أَوْ زَانِي أَيْقِنْ بِأَشْرَاطِ القِيَامَةِ كُلِّهَا ... واسْمَعْ هُدِيتَ نَصِيْحَتِي وَبَيَانِ أَحْسِنْ صَلاَتَكَ رَاكِعاً أَوْ سَاجِداً ... بِتَطْمْؤُنٍ وَتَرَفُّقٍ وَتَدَانِ حَصِّنْ صِيَامَكَ بِالسُّكُوتِ عن الخَنَا ... أَطْبِقْ عَلَى عَيْنَيْكَ بِالأجْفَانِ لاَ تَمْشِ ذَا وَجْهَيْنِ مِنْ بَيْنِ الوَرَى ... شَرُّ البَرْيَّةِ مَنْ لَهُ وَجْهَانِ لاَ تَحْسُدَنْ أَحَداً عَلَى نَعْمَائِهِ ... إِنَّ الحَسُودَ لِحُكَمِ رَبِّكَ شَانِ لاَ تَسْعَ بَيْنَ الصَّاحِبَيْنِ نَمِيْمَةً ... فَلأَجْلِهَا يَتَبَاغَضُ الخِلاَنِ وَتَحَرَّ بِرَّ الوَالِدّيْنِ فَإِنَهُ ... فرض عَلَيْكَ وطاعة السلطان " فِي غَيْرِ مَعْصِيَةِ الإلَهِ فَإِنَهُ ... لاَ طَاعَةٌ لِلْخَلْقِ فِي العِصْيَانِ لاَ تَخْرُجَنَّ عَلَى الإمام مُحَارِباً ... ولَوْ أَنَّهُ رَجُلِ مِنَ الحُبْشَانِ وَمَتَى أُمِرْتَ بِبِدْعَةٍ أَوْ زَلَّةٍ ... فَاهْرُبْ بِدِيْنِكَ آخِرَ البُلْدَانِ الدِّيْنُ رَأْسُ الْمَالِ فاسْتَمْسِكْ بِهِ ... فَضَيَاعُهُ مِنْ أَعْظَمِ الخُسْرَانِ لاَ تَخْلُ بِامْرَأةٍ لَدَيْكَ بِرِيْبَةٍ ... لَوْ كُنْتَ فِي النُّسَّاكِ مِثْلَ بَنَانِ

.. واغْضُضْ جُفُونَكَ عن مُلاَحَظَةِ النِّسَا ... وَمَحَاسِنِ الأحْدَاثِ وَالصِّبْيَانِ واحْفِرْ لِسِرِّكَ فِي فُؤَادِكَ مَلْحَداً ... وادْفِنْهُ فِي الأحْشَاءِ أَيَّ دِفَانِ لاَ يَبْدُ مِنْكَ إِلى صَدِيقِكَ زَلَّةٌ ... واجْعَلْ فُؤَادَكَ أَوْثَقَ الخُلاَّنِ لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الذُّنُوبِ صِغَارَهَا ... فَالقَطْرُ مِنْهُ تَدَفُّقُ الخِلْجَانِ وَإِذَا نَذَرْتَ فَكُنْ بِنَذْرِكَ مُوَفْياً ... فَالنَّذْرُ مِثْلُ العَهْدِ مَسْئُولاَنِ لاَ تَشْغَلَنّ بِعَيْبِ غَيْرِكَ غَافِلاً ... عن عَيْبِ نَفْسِكَ إِنَّهُ عَيْبَانِ لاَ تُفْنِ عُمْرَكَ فِي الجِدَالِ مُخَاصِماً ... إِنَّ الجِدَالَ يُخِلُّ بِالأدْيَانِ وَاحْذَّرْ مُجَادَلَةَ الرِّجَال فَإِنَّهَا ... تَدْعُو إِلى الشَّحْنَاءِ وَالشَّنَآنِ وَإِذَا اضْطُرِرْتَ إِلى الجِدَالِ وَلم تَجِدْ ... لَكَ مَهْرَباً وَتَلاَقَتَ الصَّفَانِ فَاجْعَلْ كِتَابَ اللهِ دِرْعاً سَابِغاً ... وَالشَّرْعَ سَيْفَكَ وَابْدُ فِي المَيْدَانِ وَالسُّنَةَ البَيْضَاءَ دُوْنَكَ جُنَّةًَ ... وَارْكَبْ جَوَادَ العَزْمِ فِي الجَوَلاَنِ واثْبُتْ بِصَبْرِكَ تَحْتَ ألْوَيِةِ الهُدَى ... فَالصَّبْرُ أَوْثَقُ عُدَّةِ الإنسان واطْعن بِرُمْحِ الحَقِ كُلَّ مُعَانِدٍ ... للهِ دَرُّ الفَارِسِ الطَّعَانِ واحْمِلْ بِسَيْفِ الصِّدْقِ حَمْلةَ مُخْلِصٍ ... مُتَجَرِّدٍ للهِ غَيْرَ جَبَانِ وَإِذَا غَلَبْتَ الخَصْمِ لاَ تَهْزَأْ بِهِ ... فَالعُجْبَ يُخْمِدُ جَمْرَةَ الإنسان لاَ تَغْضَبَنَّ إِذَا سُئِلْتَ وَلاَ تَصِحْ ... فَكِلاَهُمَا خُلُقَانِ مَذْمُومَانِ كُنْ طُوْلَ دَهْرِكَ سَاكِتاً مُتَواضِعاً ... فَهُمَا لِكُلِّ فَضِيْلَةٍ بَابَانِ واخْلَعْ رِدَاءَ الكِبْرِ عنكَ فَإِنَّهُ ... لاَ يَسْتَقِلُّ بِحَمْلِهِ الكَتِفَانِ كُنْ فَاعِلاً لِلّخَيْرِ قَوَّإلا لَهُ ... فَالقَوْلُ مِثْلُ الْفِعْلِ مُقْتَرِنَانِ مِنْ غَوْثِ مَلْهُوْفٍ وَشَبْعَةِ جَائِعٍ ... وَدِثَارِ عُرْيَانٍ وَفِدْيَةِ عَانِ فَإِذَا فَعَلْتَ الْخَيْرَ لاَ تَمْنُنْ بِهِ ... لاَ خَيْرَ فِي مُتَمَدِّحٍ مَنَانِ

.. اشْكُرْ عَلَى النَّعْمَاءِ واصْبِرْ لِلْبَلاَ ... فَكِلاَهُمَا خُلُقَانِ مَمْدُوْحَانِ لاَ تَشْكُوَنَّ بِعِلّةٍ أَوْ قِلَّةٍ ... فَهُمَا لِعِرَضِ المَرْءِ فَاضِحَتَانِ صُنْ حُرَّ وَجْهِكَ بِالقَنَاعَةِ إِنَّمَا ... صَوْنَ الوُجُوهِ مُرُوْءَةُ الفِتْيَانِ بِاللهِ ثِقْ وَلَهُ أَنِبْ وَبِهِ اسْتَعِنْ ... فَإِذَا فَعَلتَ فَأَنْتَ خَيْرُ مُعَانِ وَإِذَا عَصَيْتَ فَتُبْ لِرَّبِكَ مُسْرِعاً ... حَذَرَ الْمَمَاتِ وَلاَ تَقُلْ لم يَانِ وَإِذَا ابْتُلِيْتَ بِعُسْرَةٍ فَاصْبِرْ لَهَا ... فَالعُسْرُ فَرْدٌ بَعْدَهُ يُسْرَانِ لاَ تَتَّبِعْ شَهَوَاتِ نَفْسِكَ مُسْرِفاً ... فَاللهُ يُبْغِضُ عَابِداً شَهْوَانِي اعْرِضْ عن الدُّنْيَا الدَّنيَّةِ زَاهِداً ... فَالزُّهْدُ عِنْدَ أُولِي النُّهَى زُهْدَانِ زُهْدّ عن الدُّنْيَا وَزُهْدّ فِي الثَّنَا ... طُوبَى لِمَنْ أَمْسَى لَهُ الزُّهْدَانِ وَاحْفَظْ لِجَارِكَ حَقَّهُ وَذِمَامَهُ ... وَلِكُلَِّ جَارٍ مُسْلِمٍ حَقَّانِ واضْحَكْ لِضَيْفِكَ حِيْنَ يُنْزِلُ رَحْلَهُ ... إِنَّ الكَرِيْمَ يُسَرُّ بِالضَّيِفَانِ وَصِلْ ذَوِي الأرْحَامِ مِنْكَ وَإِنْ جَفَوْا ... فَوِصَالُهُمْ خَيْرٌ مِنْ الهِجْرانِ وَاصْدُقْ وَلاَ تَحْلِفْ بِرَبِكَ كَاذِباً ... وَتَحَرَّ فِي كَفَّارَةِ الإيمان وَتَوَقَّ أَيْمَانَ الغَمُوسِ فَإِنَّهَا ... تَدَعْ الدّيَارَ بِلاَقِعَ الحِيْطَانِ أَعْرِضْ عن النِّسْوانِ جُهْدَكَ وانْتَدِبْ ... لِعِنْاقِ خَيْراتٍ هُنَاكَ حِسَانِ فِي جَنَّةٍ طَابَتْ وَطَابَ نَعْيْمُهَا ... مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ بِهَا زَوْجَانِ إِنْ كُنْتَ مُشْتَاقاً لَهَا كَلِفاً بِهَا ... شَوْقَ الغَرِيْبِ لِرُؤْيَةِ الأوْطَانِ كُنْ مُحْسِناً فِي مَا اسْتَطَعْتَ فَرُبَما ... تُجْزَى عن الإحْسَانِ بِالإحْسَانِ واعْمَلْ لِجَنَّاتِ النَّعِيْمِ وَطِيْبِهَا ... فَنَعِيْمُهَا يَبْقَى وَلَيْسَ بِفَانِ قُمْ فِي الدُّجَى واتْلُ اْلكِتَابَ وَلاَ تَنَمِ ... إلا كَنَوْمَةِ حَائِرٍ وَلْهَانِ فَلَرُبَما تَأْتِي المَنِيَّةُ بَغْتَةً ... فَتُسَاقُ مِنْ فُرُشٍ إِلى الأكْفَانِ

.. يَا حَبَّذَا عَيْنَانِ فِي غَسَقِ الدُجَى ... مِنْ خَشْيَةِ الرَّحْمَنِ بَاكِيَتانِ لاَ تَجْزَعَنَّ إِذَا دَهَتْكَ مُصِيْبَةٌ ... إِنَّ الصَّبْورَ ثَوَابُهُ ضِعْفَانِ فَإِذَا ابْتُلِيْتَ بِنَكْبَةٍ فَاصْبِرْ لَهَا ... اللهُ حَسْبِي وَحْدَهُ وَكَفَانِي وعَلَيْكَ بِالفِقْهِ المُبَيِّنِ شَرْعَنَا ... وَفَرَائِضِ المِيْرَاثِ وَالقُرْآنِ أَمْرِرْ أَحَادِيثَ الصِّفَاتِ كَمَا أَتَتْ ... مَنْ غَيْرَ تَحْرِيْفٍ وَلاَ هَذَيَانِ هُوَ مَذْهَبُ الزُّهْرِيُ وَوَافَقَ مَالِكٌ ... وَكِلاَهُمَا فِي شَرْعِنا عَلَمَانِ واللهُ يَنْزِلُ كُلَّ آخِرِ لَيْلَةٍ ... بِسَمَائِهِ الدُّنْيَا بِلاَ كِتْمَانِ فَيَقُولُ هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُجِيْبُهُ ... فَأَنَا القَرْيِبُ أُجِيْبُ مَنْ نَادَانِي والأصْلُ أَنَّ اللهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ ... شَيْءٌ تعالى الرَّبُّ ذُو الإحْسَانِ صَلَّى الإلَهُ عَلَى النَّبِيّ مُحَمَّدٍ ... مَا نَاحَ قَمْرِيٌّ عَلَى الأغْصَانِ وعَلَى جَمِيْعِ بَنَاتِهِ وَنِسَائِهِ ... وعَلَى جَمِيْعِ الصَّحْبِ والإخْوانِ (موعظة) عِبَادَ اللهِ: أين الَّذِينَ سادوا وشادوا أوطاننا، وحكموا وأحكموا بنيانَا، وجمعوا فحشدوا أموالاً وأعوانَاً عوضوا بأرباح الهَوَى خسرانَاً، وبدلوا بإعزاز الكبر والتجبر هوانَاً وأخرجوا من ديارهم بعد الجموع وحدانَاً، وما استصحبوا مِمَّا جمعوا إلا أكفاناً. نصِيْبُكَ مِمَّا تَجْمَعَ الدَّهْرَ كُلَّهُ ... رِدَاً أنِ تُطْوَى فِيه مَا وَحَنُوْطُ آخر: ... فَمَا تَزَوَدَ مِمَّا كَانَ يَجْمَعُهُ ... سِوَى حَنُوطِ غَدَاةِ البَيْنِ فِي خَرَقِ وغَيْرَ نِفْحَةِ أَعْوَادٍ تُشَبُ لَهُ ... وَقَلّ ذَلِكَ مِنْ زَادٍ لِمُنْطَلِقِ يحملون عَلَى الأعناق ولا يسمون ركبانَاً، وينزلون بطون الألحاد ولا يسمون ضيفانَاً، متقاربين فِي القبور ولا يسمون جيراناً.

أولَيْسَ قَدْ رأينا كيف ينقلون ولا كفانَا، فيا من قَدْ بقي من عمره القليل ولا يدري متي يقع الرحيل، كأنك بطرفك حين الموت يسيل والروح تنزع والكرب ثقيل، والنقلة قَدْ قربت وأين المقيل، أفِي الْجَنَّة ونعيمها والسلسبيل أم فِي الجحيم وأنكالها وأغلالها وبئس المقيل. يا من تعد أنفاسه استدركها، يا من ستفوته أيامه أدركها، إن أعز الخلق عَلَيْكَ نفسك فلا تهلكها كم أغلقت باباً عَلَى قبيح، وكم أعرضت عن قول المخلص النصيح، أعظم الله أجرك فِي عمر قَدْ مضي ما رزقت فِيه العفو ولا الرضي. انقضت فِيه اللذات كمن قضي، وصَارَت الحسرات من الشهوات عوضاً، قال الله جَلَّ وَعَلا وتقدس {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} وَقَالَ تعالى {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} وَاللهُ أَعْلم وصلي الله عَلَى مُحَمَّد. " موعظة " عِبَادَ اللهِ: ما هذه الغَفْلَة وأنتم مستبصرون وما هذه الرقدة وأنتم مستيقظون كيف نسيتم الزَادَ وأنتم راحلون، أين من كَانَ قبلكم إلا تتفكرون أما رأيتك كيف نازلهم المنون {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} . عِبَادَ اللهِ: لَوْ حضرت القُلُوب لجرت من العيون عيون فكأنكمْ بالآلام قَدْ اعترضت، وبالأجسام قَدْ انقضت، وبالأوصال قَدْ فصلت، فرحم الله عبداً أعتق نَفْسهُ من رق شهواتها ونظر لها قبل مماتها وأخذ من جدته عتاداً لفقره وادخر من صحته زَاداً لقبره قبل أن يفوت زمن الاستدراك بوقوع الهلاك. فكأنكم بالموت قَدْ حل العراص، وأنشب مخالبيه فِي الأرواح للاقتناص، وأين لكم الفلات فلات حين مناص ثُمَّ يقومون للحساب والجزاء والقصاص. وإِذَا الخلائق قَدْ حشرت، وإِذَا الصحف نشرت، وإِذَا جهنم

قَدْ سيقت ومرارة الندم قَدْ ذيقت، فستنطق عليكم الجوارح وتنشر حين الِقَضَاءِ الفضائح. فيا خجل المقصرين ويا أسف المذنبين ويا حَسْرَة المفرطين ويا سوء منقلب الظالمين، قال الله جَلَّ وَعَلا وتقدس وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} . وَقَالَ تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} . خَفِ اللهُ فِي ظُلْمِ الوَرَى واحْذَرَنَّهُ ... وَخَفْ يَوْمَ عَضَ الظَالِمِونَ عَلَى اليَدِ وَاللهُ أَعْلم وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وسلم. فصل: قال بعض السَّلَف: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بشَيْء وقر فِي صدره. وَقَالَ بَعْضهمْ: الَّذِي كَانَ فِي صدر أبي بكر رضي الله عنه المحبة لله والنصيحة لعباده وَقَالَ طائفة من العارفين: ما بلغ من بلغ بكثرة صيام ولا صلاة ولكن بسخاوة الأنفس وسلامة الصدر والنَّصِيحَة للأمة، زَادَ بَعْضهمْ: وبذم نفوسهم. وَقَالَ آخر: إنما تفاوتوا بالإرادات ولم يتفاوتوا بكثرة الصيام والصلوات. وذكر لأبي سليمان: طول أعمار بني إسرائيل وشدة اجتهادهم فِي الأعمال، وأن من النَّاس من غبطهم بذَلِكَ، فَقَالَ: إنما يريد الله منكم صدق النِّيْة فيما عنده. أو كما قال.

كلام ابن رجب على حديث سددوا وقاربوا ... الخ

وَقَالَ ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عنهُ لأصحابه: أنتم أكثر صوماً وصلاةً من أصحاب مُحَمَّد ?، وهم كَانُوا خيراً منكم، قَالُوا: وبما ذاك؟ قال: كَانُوا أزهد منكم فِي الدُّنْيَا وأرغب فِي الآخرة. يشير إلي الصحابة رَضِيَ اللهُ عنهُمْ فاقوا عَلَى من بعدهم بشدة تعلق قُلُوبهمْ بالآخرة ورغبتهم فيها وإعراضهم عن الدُّنْيَا وتحقيرها وتصغيرها. وهذه الحال ورثوها من نبيهم ?، فإنه كَانَ أشد الخلق فراغاً بقَلْبهُ من الدُّنْيَا وتعلقه بِاللهِ والدار الآخرة مَعَ ملابسته للخلق بظاهره، وقيامه بأعباء النبوة وسياسة الدين والدنيا. وكَذَلِكَ خلفاؤه الراشدون بعده، وكَذَلِكَ أعيان التابعين لهُمْ بإحسان كالحسن وعمر بن عَبْد الْعَزِيز وقَدْ كَانَ فِي زمأنَّهُمْ من هُوَ أكثر مِنْهُمْ صوماً، اللَّهُمَّ ارزقنا حبك وحب من يحبك وحب الْعَمَل الَّذِي يقربنا إلي حبك، اللَّهُمَّ ثَبِّتْ إيماننا ثبوت الجبال الراسيات ووفقنا للعمل بالباقيات الصالحات واعصمنا يا مولانَا عن المحرمَاتَ والمشتبهات واغفر لنا جَمِيع الخطايا والزلات وافتح لدعائنا باب القبول والإجابات يا أجود الأجودين وأكرم الأكرمين وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (فصل) وَقَالَ ابن رجب رَحِمَهُ اللهُ عَلَى " قوله ? فِي حديث أَبِي هُرَيْرَةِ وعَائِشَة رَضِيَ اللهُ عنهُمَا فسددوا وقاربوا: المراد بالتسديد الْعَمَل بالسداد، وَهُوَ القصد والتوسط فِي العبادة فلا يقصر فيما أمر به، ولا يتحمل منها ما لا يطيقه". قال النضرُ بنُ شُمَيْلٍ: السداد القصد فِي الدين والسبيل، وكذا

المقاربة، المراد التوسط بين التفريط والإفراط فهما كلمتان بمعني واحد أو متقارب، وَهُوَ المراد بقوله فِي الرواية الأخري: " عليكم هدياً قاصداً ". قوله: وأبشروا يعني أن من مشي فِي طاعة الله عَلَى التسديد والمقاربة فليبشر، فإنه يصل ويسبق الدائب المجتهد فِي الأعمال فإن طريقة الاقتصاد والمقاربة أفضل من غيرها. فمن سلكها فليبشر بالوصول فإن الاقتصاد فِي سنة خَيْر من الاجتهاد فِي غيرها. وخَيْر الهُدَى هدي مُحَمَّد ?، فمن سلك طريقه كَانَ أقرب إلي الله من غيره. ولَيْسَتْ الفضائل بكثرة الأعمال البدنية، لكن بكونها خالصة لله صواباً عَلَى متابعة السنة وبكثرة معارف القُلُوب وأعمالها. فمن كَانَ بِاللهِ أعلم وبدينه وأحكامه وشرائعه أعلم، وله أخوف وأحب وأرجي فهو أفضل ممن لَيْسَ كَذَلِكَ، وإن كَانَ أكثر منه عملاً بالجوارح. وإلي هَذَا المعني الإشارة فِي حديث عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عنهَا بقول النَّبِيّ ?: "سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن يدخل أَحَداً منكم عمله الْجَنَّة، وإن أحب الأعمال إلي الله أدومها وإن قل". فأمر بالاقتصاد فِي الْعَمَل وأن يضم إلي ذَلِكَ الْعَمَل بأحب الأعمال إلي الله، وبأن الْعَمَل وحده لا يدخل الجنة. وصلاةً، ولكن لم يصل إلي ما وصلت إليه قُلُوب هؤلاء من ارتحاله عن الدُّنْيَا وتوطنها فِي الآخرة.

فأفضل النَّاس من سلك طَرِيق النَّبِيّ ? وخواص أصحابه فِي الاقتصاد فِي العبادة البدنية والاجتهاد فِي الأحوال القبلية فإن سفر الآخرة يقطع بسير القُلُوب لا بسير الأبدان. جَاءَ رجل إلي بعض العارفين فَقَالَ لَهُ: قطعت إليك مسافة، فَقَالَ لَهُ: لَيْسَ هَذَا الأمر بقطع المسافات، فارق نفسك بخطوة وقَدْ حصل لك مقصودك. قال أبو يزيد: رَأَيْت رب العزة فِي المنام فقُلْتُ لَهُ: يا رب كيف الطَرِيق إليك؟ قال: اترك نفسك وتعال. ما أعطيت أمة ما أعطيت هذه الأمة ببركة متابعة نبيها ?، حيث كَانَ أفضل الخلق، وهديه أكمل الهُدَى مَعَ ما يسر الله عَلَى يديه من دينه، ووضع به الآصار والأغلال عن أمته، فمن أطاعه فقَدْ أطاع الله وأحبه الله، واهتدي بهدي الله. فمن جملة ما حصل لأمته ببركته وتيسير شريعته أن من صلي مِنْهُمْ العشاء فِي جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلي الفجر فِي جماعة فكأنما قام الليل كله، فيكتب لَهُ قيام ليلة وَهُوَ نائم عَلَى فراشه، ولا سيما إن نام عَلَى طهر وذكر حتي تغلبه عيناه. ومن صام مِنْهُمْ ثلاثة أيام من كُلّ شهر فقَدْ صام الشهر كله وَهُوَ صائم لبقية الشهر فِي ضيافة الله، ومفطر لَهُ فِي رخصه والطاعم الشاكر لَهُ أجر الصائم الصابر. ومن نوي أن يقوم من الليل فغلبته عَيْنَاهُ فنام كتب لَهُ ما نوي، وكَانَ نومه عَلَيْهِ صدقة. وَقَالَ أبو الدرداء: يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم كيف يسبقون سهر الحمقي وصيامهم. ولهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيث الصحيح: "رب قائم حظه من قيامه السهر، وصائم حظه من صيامه الجوع والعطش" رواه الطبراني وأَحمَدُ بنُ حنبل.

وَقَالَ بَعْضهمْ: كم من مستغفر ممقوت وساكت مرحوم، وهَذَا استغفر وقَلْبهُ فاجر، وهَذَا ساكت وقَلْبهُ ذاكر، وَقَالَ بَعْضهمْ: لَيْسَ الشأن فيمن يقوم الليل، إنما الشأن فيمن ينام عَلَى فراشه ثُمَّ يصبح وقَدْ سبق الركب. اللَّهُمَّ وفقنا لما وفقت إليه القوم وأيقظنا من سنة الغَفْلَة والنوم وارزقنا الاستعداد لذَلِكَ الْيَوْم الَّذِي يربح فِيه المتقون، اللَّهُمَّ وعاملنا بإحسانك وَجَدَ عَلَيْنَا بِفَضْلِكَ وامتنانك وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون اللَّهُمَّ ارحم ذلنا بين يديك واجعل رغبتنا فيما لديك، ولا تحرمنا بذنوبنا، ولا تطردنا بعيوبنا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: قوله ?: " اغدوا وروحوا وشَيْء من الدلجة ". كقوله فِي الرواية الأخري: " استعينوا بالغدوة والروحة وشَيْء من الدلجة ". يعني أن هذه الأوقات الثلاثة تَكُون أوقات السير إلي الله بالطاعات، وهي آخر الليل وأول النَّهَارَ وآخره. وقَدْ ذكر الله هذه الأوقات فِي قوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} . وَقَالَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} ، وَقَالَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} .

وذكر الله تعالى الذكر فِي طرفِي النَّهَارِ فِي مواضع كثيرة من كتابه كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} وَقَالَ: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} . وقال: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} وَقَالَ: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} . فهذه الأوقات الثلاثة منها وقتان وهما أول النَّهَار وآخره يجتمَعَ فِي كُل من هذين الوقتين عمل واجب هُوَ تطوع فأما الْعَمَل الواجب فهو صلاة الصبح وصلاة العصر وهما من أفضل الصلوات الخمس، وهما البردان اللذان من حافظ عَلَيْهِمَا دخل الْجَنَّة، وقَدْ قيل فِي كُلّ مِنْهُمَا أنها الصَّلاة الوسطي. وأما الْعَمَل التطوع فهو ذكر الله بعد صلاة الصبح حتي تطلع الشمس، وبعد العصر حتي تغرب الشمس. وقَدْ وردت النصوص الكثيرة فِي أذكار الصباح والمساء وفِي فضل من ذكر الله حيث يصبح وحيث يمسي. وقَدْ روي من حديث ابن عمر رَضِيَ اللهُ عنهُمَا مرفوعاً: " ابن آدم اذكرني ساعة من أول النَّهَارَ وساعة من آخره أغفر لك ما بين ذَلِكَ إلا الكبائر أو تتوب منها ". وكَانَ السَّلَف لآخر النَّهَارَ أشد تعظيماً من أوله. قال ابن المبارك: بلغنا أنه من ختم نهاره بذكر الله كتب نهاره كله ذكراً. وَقَالَ أبو الجلد: بلغنا أن الله تعالى ينزل مساء كُلّ يوم إلي السماء الدُّنْيَا ينظر إلي أعمال بني آدم. عَلَيْكَ يَاذَا الجَلاَلِ مُعْتَمَدِي ... طُوبَى لِمَنْ كُنْتَ أَنْتَ مَوْلاَهْ طُوبَى لِمَنْ بَاتَ خَائِفاً وَجِلاً ... يَشْكُوا إِلى ذِي الجَلاَلِ بَلْوَاهْ وَمَا بِهِ عِلَّةٌ وَلاَ سَقَمٌ ... أَكْثَرَ مِنْ حُبّهِ لِمَوْلاَهْ

ورأي بعض السَّلَف أبا جعفر القاري فِي المنام فَقَالَ لَهُ: قل لأبي حازم – يعني الأعرج الزاهد الكيس: إن الله وملائكته يتراءون مجلسك بالعشيات. والظاهر أن أبا حازم كَانَ يقص عَلَى النَّاس آخر النهار. وقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيث أن الذكر بعد الصبح أفضل من أربع رقاب وبعد العصر أحب من ثمان. وأيضاً فيوم الْجُمُعَة آخره أفضل من أوله لما يرجي فِي آخره من ساعة الإجابة. ويوم عرفة آخره أفضل من أوله لأنه وَقْت الوقوف. وكَذَلِكَ آخر الليل أفضل من أوله، وَكَذَا قال السَّلَف، واستدلوا بحديث النزول الإلهي. وهَذَا كله مِمَّا يرجح به قول من قال أن صلاة العصر هِيَ الوسطي. وأما الوَقْت الثالث فهو الدلجة. والإدلاج سير آخر الليل، والمراد هنا الْعَمَل فِي آخر الليل وَهُوَ وَقْت الاستغفار كما قال تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} وَقَالَ: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} . وهو آخر أوقات النزول الإلهي المتضمن لاستعراض حوائج السائلين، واستغفار المذنبين، وتوبة التائبين، وسط الليل للمحبين للخلوة بحبيبهم، وآخر الليل للمذنبين يستغفرون من ذنوبهم، من عجز عن مُشَارَكَة المحبين فِي الجري معهم فِي ذَلِكَ المضمار فلا أقل من مُشَارَكَة المذنبين فِي الاعتذار. ورد فِي بعض الآثار: أن العرش يهتز من السحر. قال طاووس ما كنت أظن أن أَحَدًا ينام فِي السحر.

وفِي الْحَدِيث الَّذِي خرجه الترمذي: " من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل. سير الدلجة آخر الليل يقطع به سفر الدُّنْيَا والآخرة ". ولهَذَا الْحَدِيث الَّذِي أخرجه مسلم: " إِذَا سافرتم فعليكم بالدلجة فإن الأرض تطوي بالليل " وقَدْ دخل الأشتر عَلَى عَلَي رَضِيَ اللهُ عنهُ وَهُوَ يصلي فأنشد: اصْبِرْ عَلَى مَضَضِ الإدْلاَجِ بِالسَّحَرِ ... وفِي الرَّواحِ عَلَى الطَاعَاتِ وَالبُكَرِ لاَ تَضْجَرَنّ وَلاَ يُعْجِزْكَ مَطْلَبُهَا ... فَالهَمُ يَتْلَفُ بَيْنَ اليَأْسِ وَالضَّجَرِ إِنّي رَأَيْتُ وفِي الأيَّامِ تَجْرُبَةٌ ... لِلصَّبْرِ عَاقِبَةٌ مَحْمُودَةُ الأثَرِ وَقَلَّ مَنْ جَدَّ فِي أَمْرٍ تَطَلّبَهُ ... واسْتَصْحِبَ الصَّبْرَ إلا فَازَ بِالظَفَرِ اللَّهُمَّ ألحقنا بعبادك الصالحين الأبْرَار، وآتنا فِي الدُّنْيَا حسنة وفِي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا، وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ الأحياء مِنْهُمْ والميتين، بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وصلي الله عَلَى سيدنا مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: وقوله ?: " والقصد القصد تبلغوا ". حث عَلَى الاقتصاد فِي العبادة، والتوسط فيها بين الغلَوْ والتقصير"، ولذَلِكَ كرره مرة بعد مرة. وفِي مسند البزار من حديث حذيفة رَضِيَ اللهُ عنهُ: ما أحسن القصد فِي الفقر، وما أحسن القصد فِي الغني، وما أحسن القصد فِي العبادة. وكَانَ مطرِّفُ بن عَبْد اللهِ بن الشخِّيْر قَدْ اجتهد فِي العبادة فَقَالَ له

أبوه: خَيْر الأمور أوسطها، الحسنة بين السيئتين، وشر السير القحقحة أن يلح فِي شدة السير حتي تَقُوم عَلَيْهِ راحلته وتعطب فيبقي منقطع به سفره، انتهي. ويشهد لهَذَا الْحَدِيث المروي عن عَبْد اللهِ بن عمرو رَضِيَ اللهُ عنهُمَا مرفوعاً: "إن هَذَا الدين متين فأوغل فِيه برفق ولا تبغض إلي نفسك عبادة الله، فإن المنبت لا سفراً قطع ولا ظهراً أبقي فاعمل عمل امريء يظن أنه لن يموت إلا هرماً وَاحْذَر حذر امريء يخشي أن يموت غداً" أخرجه حميد بن زنجويه وغيره. وفِي تكرير أمره بالقصد إشارة إلي المداومة عَلَيْهِ فإن شدة السير والاجتهاد مظنة السآمة والانقطاع، والقصد أقرب إلي الدوام، ولهَذَا جعل عاقبة القصد البلوغ. قال أدلج: بلغ المنزل. فالمُؤْمِن فِي الدُّنْيَا يسير إلي ربه حتي يبلغ إليه كما قال تعالى: (يا أيها الإنسان إنك كادح إلي ربك كدحاً فملاقيه) وَقَالَ تعالى: (واعبد ربك حتي يأتيك إليقين) ، قال الحسن: يا قوم: المداومة فإن الله لم يجعل لعمل المُؤْمِن أجلاً دون الموت ثُمَّ تلي هذه الآية. وَقَالَ أيضاً: نفوسكم مطاياكم فأصلحوا مطاياكم تبلغكم إلي ربكم عز وجل. وإصلاح المطايا، الرفق بِهَا وتعاهدها بما يصلحها من قوتها والرفق بِهَا فِي سيرها، فإِذَا أحس بِهَا بتوقف فِي السير تعاهدها تَارة بالتشويق وتَارة بالتخويف حتي تسير. قال بعض السَّلَف: الرجَاءَ قائد والخوف سائق، والنفس بينهما، كالدابة الحرون، فمتي فتر قائدها وقصر سائقها وقفت فتحتاج إلي الرفق بِهَا والحدو لها حتي يطيب لها السير.

قال خليد العصري: إن كُلّ حبيب يحب أن يلقي حبيبه فأحبوا ربكم وسيروا إليه مسيراً جميلاً لا مصعداً ولا مميلاً، فغاية السير يوصل المُؤْمِن إلي ربه، ومن لا يعرف الطَرِيق إلي ربه لم يسلك إليه فِيه، فهو والبهيمة سواء. قال ذو النون: السفلة من لا يعرف الطَرِيق إلي الله ولا يتعرفه. والطَرِيق إلي الله هُوَ سلوك صراطه المستقيم الَّذِي بعث الله به رسوله وأنزل به كتابة وأمر الخلق كلهم بسلوكه والسير فيه. قال ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عنهُ: الصراط المستقيم، تركنا مُحَمَّد ? فِي أدناه وطرفه فِي الْجَنَّة، وعن يمينه جواد وثُمَّ رِجَال يدعون من مر بِهُمْ، فمن أخذ فِي تلك الجواد انتهت به إلي النار، ومن أخذ عَلَى الصراط انتهي به إلي الجنة. ثُمَّ قَرَأَ: (وأن هَذَا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) أخرجه ابن جرير وغيره. فالطَرِيق الموصل إلي الله واحد، وَهُوَ صراطه المستقيم، وبقية السبل كُلّهَا سبل الشيطان، من سلكها قطعت به عن الله، وأوصلته دار سخطه وغضبه وعقابه، فربما سلك الإنسان فِي أول أمره عَلَى الصراط المستقيم ثُمَّ ينحرف عنهُ آخر عمره فيسلك بعض سبل الشيطان فيقطع عن الله فيهلك. "إن أحدكم ليعمل بعمل أَهْل الْجَنَّة حتي ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع فيعمل بعمل أَهْل النار فيدخل النار" وَرُبَّمَا سلك بالرجل أولاً بعض سبل الشيطان ثُمَّ تدركه السعادة فيسلك الصراط المستقيم فِي آخر عمره فيصل به إلي الله.

والشأن كُلّ الشأن فِي الاستقامة عَلَى الصراط المستقيم من أول السير إلي الله (ذَلِكَ فضل الله يؤتيه من يشاء) (والله يدعو إلي دار السَّلام ويهدي من يشاء إلي صراط مستقيم) . ما أكثر من يرجع أثناء الطَرِيق وينقطع، فإن القُلُوب بين أصبعين من أصابع الرحمن (يثَبِّتْ الله الَّذِينَ آمنوا بالقول الثابت) . خَلِيْليَّ قُطّاعٌ الطَرِيقِ إِلى الحِمَا ... كَثِيرٌ وَأَمَّا الوَاصِلُونَ قَلِيْلُ وفِي الْحَدِيث الصحيح الإلهي (القدسي) يَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ: (من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولة". وفِي المسند زيادة: "والله أعلا وأجل والله أعلا وأجل"، وفِيه أيضاً: يَقُولُ الله: (ابن آدم قم إلي وامش إلي أهرول إليك) . اللَّهُمَّ أعذنا بمعافاتك من عقوبتك وبرضاك من سخطك واحفظ جوارحنا من مخالفة أمرك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ الأحياء مِنْهُمْ جوارحنا من مخالفة أمرك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه. (فَصْلٌ) الوصول إلي الله نوعان: أحدهما فِي الدُّنْيَا، والثاني فِي الآخرة. فأما الوصول الدنيوي فالمراد به: أن القُلُوب تصل إلي معرفته، فإِذَا عرفته أحبته، وأنست به فوجدته منها قريباً، ولدعائها مجيباً، كما فِي بعض الآثار: " ابن آدم اطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كُلّ شَيْء، وإن فتك فاتك كُلّ شيء ".

الصراط المستقيم فِي الدُّنْيَا يشتمل عَلَى ثلاث درجات: درجة الإسلام، ودرجة الإيمان، ودرجة الإحسان. فمن سلك درجة الإسلام إلي أن يموت عَلَيْهَا منعته من الخلود فِي النار، ولم يكن لَهُ بد من دخول الْجَنَّة، وإن أصابه قبل ذَلِكَ ما أصابه. ومن سلك عَلَى درجة الإيمان إلي أن يموت عَلَيْهَا منعته من دخول النار بالكلية فإن الإيمان يطفئ لهب نار جهنم حتي تَقُول: يا مُؤْمِن جز فقَدْ أطفأ نورك لهبي. وفِي المسند عن جابر رَضِيَ اللهُ عنهُ مرفوعاً: "لا يبقي بر ولا فاجر إلا دخلها فتَكُون عَلَى المُؤْمِن برداً وسلاماً كما كانت عَلَى إبراهيم، حتي إن للنار ضجيجاً من بردهم، هَذَا ميراث ورِثَه المحبونه من حال أبيهم إبراهيم عَلَيْهِ السلام". ومن سلك عَلَى درجة الإحسان إلي أن يموت عَلَيْهَا وصل بعد الموت إلي الله: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} . وفِي الْحَدِيث الصحيح: "إِذَا دخل أَهْل الْجَنَّة الْجَنَّة نادي مناد يا أَهْل الْجَنَّة إن لكم عِنْدَ الله موعداً يريد أن ينجزكموه. فيقولون: ما هو؟ ألم يبيِّض وجوهنا؟ ألم يثقل موازيننا؟ فوَاللهِ ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم، ولا أقر لأعينهم من النظر إليه، وَهُوَ الزيادة، ثُمَّ تلا: لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} . كل أَهْل الْجَنَّة يشتركون فِي الرواية ولكن يتفاوتون فِي القرب فِي حال الرؤية. عموم أَهْل الْجَنَّة يرون ربهم يوم المزيد وَهُوَ يوم الْجُمُعَة، وخواصهم ينظرون إلي وجه الله فِي كُلّ يوم مرتين بكرة وعشياً. العارفون لا يسليهم عن محبوبهم قصر ولا يرويهم دونه نهر.

وَيَرُونَهُ سُبْحَانَهُ مِنْ فَوقِهِمْ ... نَظَرَ العِيَانِ كَمَا يُرَى القَمَرانِ هَذَا تَوُاتَرَ عن رَسُوْلِ اللهِ لم ... يُنْكِرُهُ إلا فَاسِدُ الإيمان وَأَتَى بِهِ القُرّآنُ تَصْرِيَحاً وَتَعْـ ... ـريْضاً هُمَا بسِيَاقِهِ نَوْعَانِ وَهِيَ الزِيادَةُ قَدْ أَتَتْ فِي يُونُسٍ ... تَفْسِيرَ مَنْ قَدْ جَاءَ بِالقُرّآنِ وَهِيَ المَزْيِدُ كَذَاكَ فَسَرَهُ أَبُو ... بَكْرٍ هُوَ الصِدْيِقُ ذُوْ الإيمان وعَلَيْهِ أَصْحَابُ الرَّسُولِ تَتَابَعُو ... هُمْ بَعْدَهُمْ تَبَعِيَةَ الإحْسَانِ اللَّهُمَّ امنُنْ عَلَيْنَا بإصلاح عيوبنا واجعل التقوي زادنا وفِي دينك اجتهادنا وعليك توكلنا واعتمادنا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) وفِي المسند عن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عنهُمَا مرفوعاً: "إن أدني أَهْل الْجَنَّة منزلة لينظر فِي ملكه ألفِي سنة يري أقصاه كما يري أدناه، ينظر إلي أزواجه وخدمه، وإن أفضلهم منزلة لمن ينظر إلي وجه الله تبارك وتعالى كُلّ يوم مرتين" وأخرجه الترمذي، ولفظه "إن أدني أَهْل الْجَنَّة منزلة لمن ينظر إلي أزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة". وأكرمهم عَلَى الله من ينظر إلي وجهه غدوة وعشياً ثُمَّ قَرَأَ رسول الله ?: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ولهَذَا المعني قَالَ رَسُولُ اللهِ ? فِي الْحَدِيث الصحيح حديث جرير بن عَبْد اللهِ البجلي: " إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون فِي رؤيته ". قال: " فإن استطعتم إلا تغلبوا عَلَى صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل

غروبِهَا فافعلوا ". ثُمَّ قَرَأَ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} . ولما كَانَ هذان الوقتان فِي الْجَنَّة وقتان للرؤية فِي خواص أَهْل الْجَنَّة، خص ? عَلَى المحافظة عَلَى الصَّلاة فِي هذين الوقتين فِي الدُّنْيَا فمن حافظ عَلَى هاتين الصلاتين فِي الدُّنْيَا فِي هذين الوقتين وصلاهما عَلَى أكمل وجوههما وخشوعهما وحضورهما وأدبهما فإنه يرجي لَهُ أن يكون ممن يري الله فِي هذين الوقتين فِي الْجَنَّة، لا سيما إن حافظ بعدهما عَلَى الذكر وأنواع العبادات حتي تطلع الشمس أو تغرب. فإن وصل الْعَبْد ذَلِكَ بدلجة آخر الليل فقَدْ اجتمَعَ لَهُ السير فِي الأوقات الثلاثة وهي: الدلجة، والغدوة، والروحة، فيوشك أن يعقبه الصدق فِي هذَا السير الوصول الأعظم إلي ما يطلبه فِي مقعد صدق عِنْدَ مليك مقتدر. من لزم الصدق فِي طلبه أداه الصدق إلي مقعد الصدق. {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} . المحب لا يقطع السؤال عمن يحب ويتحسس الأخبار وينسم الرياح ويستدل بآثار السلوك عَلَى الطَرِيق إلي محبوبه. لَقَدْ كبرت همة الله مطلوبِهَا وشرفت نفس الله محبوبِهَا {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} . مَا لِلْمُحْبِ سِوَى إِرَادَةَ حُبِهِ ... إِنَّ المُحِبَ بِكُلِّ بَرٍ يُصْرَعُ قيمة كُلّ امريءٍ ما يطلب، فمن كَانَ يطلب الله فلا قيمة لَهُ من طلب الله فهو أجل من أن يقوم. ومن طلب غيره فهو أخس من أن يكون لَهُ قيمة.

قال الشبلي: من ركن إلي الدُّنْيَا أحرقته بنارها فصار رماداً تذروه الرياح، ومن ركن إلي الآخرة أحرقته بنورها فصار سبيكة ذهب ينتفع به، ومن ركن إلي الله أحرقه نور التَّوْحِيد فصار جوهراً لا قيمة له. اللَّهُمَّ هب لنا ما وهبته لأوليائك وتوفنا وأَنْتَ راض عنا وقَدْ قبلت اليسير منا وَاجْعَلْنَا يا مولانَا من عبادك الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أرحم الراحمين. وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) فِي قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} هذه الآية كانت تشتد عَلَى الخائفين من العارفين، فإنها تقتضي أن من العباد من يبدو لَهُ عِنْدَ لقاء الله ما لم يكن يحتسب لَهُ، ولهَذَا قال عمر رَضِيَ اللهُ عنهُ: لَوْ أن لي ملك الأرض لافتديت به من هول المطلع. وفِي الْحَدِيث: " لا تمنوا الموت فإن هول المطلع شديد، وإن من سعادة المرء أن يطول عمره ويرزقه الله الإنابة ". وَقَالَ بعض حكماء السَّلَف: كم موقف خزي يوم القيامة لم يخطر عَلَى بالك قط. ونظير هَذَا قوله تعالى: {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} واشتمل عَلَى ما هُوَ أعم من ذَلِكَ وَهُوَ أن يكون لَهُ أعمال يرجو بِهَا الْخَيْر فتصير هباءً منثوراً وتبدل سيئاتٍ. وقَدْ قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ

كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} . وَقَالَ: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً} . وَقَالَ الفضيل فِي هذه الآية: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} قال: عملوا أعمالاً وحسبوا أنها حسنات فإِذَا هِيَ سيئات. وقريب من هَذَا أن يعمل الإنسان ذنباً يحتقره ويستهون به فيكون هُوَ سبب هلاكه. كما قال تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} . وَقَالَ بعض الصحابة: إنكم تعملون أعمالاً هِيَ فِي أعينكم أدق من الشعر، كنا نعهدها عَلَى عهد رسول الله ? من الموبقات، وأصعب من هَذَا زين لَهُ سوء عمله فرآه حسناً. قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} . قال ابن عيينة: لما حضرت مُحَمَّد بن المنكدر الوفاة جزع فدعوا لَهُ أبا حازم فَجَاءَ فَقَالَ لَهُ ابن المنكدر: إن الله يَقُولُ: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} فأخاف أن يبدو لي من الله ما لم أكن أحتسب. فجعلا يبكيان جميعاً. أخرجه ابن أبي حاتم. وزَادَ ابن أبي الدنيا. فَقَالَ لَهُ أهله: دعوناك لتخفف عَلَيْهِ فزدته فأخبرهم بما قال. وَقَالَ الفضيل بن عياض: أخبرت عن سليمان التيمي أنه قيل لَهُ: أَنْتَ أَنْتَ ومن مثلك؟ فَقَالَ مه لا تقولوا هَذَا لا أدري ما يبدو لي من الله. سمعت الله يَقُولُ: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} . وكَانَ سفيان الثوري يَقُولُ عِنْدَ هذه الآية: ويل لأَهْل الرياء من

هذه الآية، وهَذَا كما فِي حديث الثلاثة الَّذِينَ هم أول من تسعر بِهُمْ النار، العَالم والمتصدق والمجاهد. وكَذَلِكَ من عمل أعمالاً صَالِحَة وكانت عَلَيْهِ مظَالم فهو يظن أن أعماله تنجيه فيبدو لَهُ ما لم يكن يحتسب، فيقتسم الغرماء أعماله كُلّهَا ثُمَّ يفضل لهُمْ فضل فيطرح من سيئاتهم عَلَيْهِ ثُمَّ يطرح فِي النار. وقَدْ يناقش الحساب فيطلب منه شكر النعم فتَقُوم أصغر النعم فتستوعب أعماله كُلّهَا وتبقي بقية فيطالب بشكرها فيعذب. ولهَذَا قال عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام: " من نوقش الحساب عذب أو هلك". وقَدْ يكون لَهُ سيئات تحبط بعض أعماله أو أعمال جوارحه سوي التَّوْحِيد فيدخل النار. وفِي سنن ابن ماجة من رواية ثوبان مرفوعاً: " إن من أمتي من يجيئ بأعمال أمثال الجبال فيجعلها الله هباءً منثوراً ". وفِيه: " وهم قوم من جلدتكم ويتكلمون بألسنتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون من الليل ولكنهم قوم إِذَا خلوا بمحارم الله انتهكوها ". وأخرجَ يعقوب بن أبي شيبة وابن أبي الدُّنْيَا فِي حديث سالم مولي أبي حذيفة مرفوعاً: " ليجَاءَ يوم القيامة بأقوام معهم من الحسنات مثل جبال تهامة، حتي إِذَا جئ بِهمْ جعل الله أعمالهم هباءً ثُمَّ أكبهم فِي النار ". قال سالم: خشيت أن أكون منهم. فَقَالَ أما أنَّهُمْ كَانُوا يصومون ويصلون ويأخذون هنيهة من الليل، لعلهم كَانُوا إِذَا عرض لهُمْ شَيْء سراً حراماً أخذوه فأدحض الله أعمالهم. وقَدْ يحبط الْعَمَل بآفة من رياء خفِي أو عجب به ونحو ذَلِكَ ولا يشعر به صاحبه. قال ضيغم العابد: إن لم تأت الآخرة بالسرور لَقَدْ اجتمَعَ عليه

الأمران هم الدُّنْيَا وشقاء الآخرة. فقيل لَهُ: كيف لا تأتيه الآخرة بالسرور وَهُوَ يتعب فِي دار الدُّنْيَا ويدأب؟ قال: كيف القبول، كيف بالسلامة. ثُمَّ قال: كم من رجل يري أنه قَدْ أصلح عمله يجمَعَ ذَلِكَ كله يوم القيامة ثُمَّ يضرب به وجهه، ومن هنا كَانَ عامر بن عبد قيس وغيره يقلقون من هذه الآية: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} . وَقَالَ ابن عون: لا تثق بكثرة الْعَمَل، فإنك لا تدري يقبل منك أم لا، ولا تأمن ذنوبك فإنك لا تدري هل كفرت عنكَ أم لا؟ لأن عملك عنكَ مغيب كله لا تدري ما الَّذِي صانع به. وبكي النخعي عِنْدَ الموت وَقَالَ: أنتظر رسول رَبِّي ما أدري أيبشرني بالْجَنَّة أو النار؟ وجزع غيره عِنْدَ الموت، قيل لَهُ تجزع؟ قال: إنما هِيَ ساعة ولا أدري أين يسلك بي؟ وجزع بعض الصحابة عِنْدَ موته، فسئل عن حاله فَقَالَ: إن الله قبض خلقه قبضتين، قبضة للجنة وقبضة للنار ولست أدري فِي أي القبضتين أنا؟ ومن تأمل هَذَا حق التأمل أوجب لَهُ القلق فإن ابن آدم متعرض لأهوال عظيمة من ذَلِكَ، الوقوف بين يدي الله عَزَّ وَجَلَّ ودخول النار ويخشي عَلَى نَفْسهِ الخلود فيها بأن يسلب إيمانه عِنْدَ الموت، ولم يأمن المُؤْمِن شيئاً من هذه الأمور {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} . فتحقق هَذَا، يمنع ابن آدم القرار. إِذَا افْتَكَرَ اللَّبِيْبُ رَآى أُمُوْراً ... تَرُدُ الضَّاحِكَاتِ إِلى الوُجُوْمِ

الرياء: تعريفه، خطره، ضرره، من يفعله

رأي بَعْضهمْ قائلاً يَقُولُ لَهُ: وَكَيْفَ تَنَامُ العَيْنُ وَهِيَ قَرْيْرَةٌ ... وَلم تَدْرِ فِي أَيْ المَحَلَيْنِ تَنْزِلُ؟ وسئل بعض الموتي وكَانَ مجتهداً عن حاله؟ فأنشد يَقُولُ: ولَيْسَ يَعْلَمُ مَا فِي القَبْرِ دَاخِلَهُ ... إلا الإلَهُ وَسَاكِنِ الأجْداثِ وَقَالَ غيره: أَمَا وَاللهِ لَوْ عَلِمَ الأنَامُ ... لِمَا خُلِقُوا لِمَا غَفَلُوا وَنَامُوا لَقَدْ خُلِقُوا لِمَا لَوْ أبْصَرَتْهُ ... عُيِونُ قُلُوبِهِمْ تَاهُوا وَهَامُوا مَمَاتٌ ثُمَّ قَبْرٌ ثُمَّ حَشْرٌ ... وَتَوبِيْخٌ وأَهْوالٌ عِظَامُ اللَّهُمَّ ثَبِّتْ إيماننا بك ومحبتك فِي قلوبنا ثبوت الجبال الراسيات واعصمنا يا مولانَا مِنْ جَمِيعِ الموبقات ووفقنا للعمل بالباقيات الصالحات وارفع منازلنا فِي فسيح الجنات وارزقنا النظر إلي وجهك الكريم يا حكيم يا عليم يا حي يا قيوم وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. . . (فَصْلٌ فِي الرِّيَاءِ) اعْلم عصمنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ أن القُلُوب تمرض كما تمرض الأبدان بل مرضها أشد ومن أمراضها الرياء وَهُوَ من أخطر أمراض القُلُوب ومن الأوباء الأخلاقية الضارة التي تحتاج إلي علاج دائم ويقظة مستمرة وَهُوَ مأخوذ من الرؤيا لأن المرائي يري النَّاس فعله للخَيْر ليثنوا عَلَيْهِ ويحمدوه ويأمنوه فيستولي بذَلِكَ عَلَى قُلُوبهمْ فيكون لَهُ سلطان عَلَيْهمْ يصل به

إِلى لَذَّتِهِ وَيَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى تَحْصِيلِ شَهَوَاتِهِ وَهَذَا الرِّيَاء إِنَّمَا يَكُونُ مِنْ رَجُلٍ قَصُرَ نَظَرَهُ وَرَقَّ دِينُهُ فَإِن هَذَا هُوَ الَّذِي يَتَصَوَّرُ أَنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْهُ يُصَلِّي كَثِيراً أَوْ رَأَوْهُ يُطِيلُ الصَّلاة أَوْ يَصُومُ النَّوَافِلَ أَوْ يَحُجُّ أَوْ يَتَصَدَّقَ أَوْ يَفْعَلُ أَيَّ فَعْلٍ مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ يَحْسِنُونَ بِهِ الظَّنَّ وَيُعَامِلُونَهُ مُعَامَلَةً خَاصَّةً تَتْرُكُهُ فِي دُنْيَاهُ فِي سُرُور. شِعْراً: ... كُنْ بِخُمُولِ النُّفُوسِ قَانِعْ ... لا تَطْلُبْ الذكْرَ فِي الْمَجَامِعْ فَلَنْ يَزَالَ الْفَتَى بِخَيْرٍ ... مَا لم تُشِر نَحْوَهُ الأصَابِعْ وَأَمَّا الْعَاقِلُ بَعِيدُ النَّظَرِ صَادِقُ الإيمان فَإِنَّهُ يَعْلم عِلْماً يَقِيناً لا يَشُوبُهُ الظَّنُّ أَنَّ الأمر كُلّهُ دُنْيًا وَأخْرَى للهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ الْعَالم كُلَّهُ أَعْجَزُ مِنْ أَنْ يَدْفَعَ أَجَلاً أَوْ يُكْثِرَ رِزْقاً أَوْ يُجِيرَ مِنْ نَائِبَةٍ تَنْزِلُ عَلَى الإنسان كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ ?: «وَاعْلم أَنَّ الأمَّةَ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْء لم يَنْفَعُوكَ إلا بِشَيْء قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْء لم يَضُرُّوكَ إلا بِشَيْء قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ)) . فَإِذَا كَانَ الْخَلْقُ بِهَذَا الضَّعْفِ فَلا يَلْتَفِتُ لِمُرَاآتِهِمْ إلا مَنْ كَانَ سَخِيفَ الْعَقْلِ وَضَعِيفَ الدِّيْن عَلَى أَنَّ رِيَاءَ الْمُرَائِي لا يَخْفِي حَتَّى عَلَى الْخَلْقَ غَالِباً فَإِنَّ حَرَكَاتِهِ لا تَشْتَبِهُ بِأَعْمَالِ الْمُخْلِصِينَ الَّذِينَ قَدْ اسْتَوَتْ ظَوَاهِرُهُمْ وَبَوَاطِنُهُمْ عَلَى السَّوَاءِ. قَالَ عَلَى كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: لِلْمُرَائِي ثَلاثُ عَلامَاتٍ أَوْلاً أَنَّهُ يَكْسَلُ إِذَا كَانَ وَحْدَهُ وَيَنْشَطُ إِذَا كَانَ فِي النَّاسِ وَيَزِيدُ فِي الْعَمَل إِذَا أَثْنِيَ عَلَيْهِ النَّاسُ وَيَنْقُصُ إِذَا ذُمَّ وَقَدْ وَرَدَتْ آيَاتُ وَأَحَادِيثُ وَآثَارٌ تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّيَاءِ وَأَنَّهُ مَمْقُوتٌ مِنْهَا قَوْلُ اللهِ تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} وَقَالَ تعالى: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} . قَالَ مُجَاهِد: هُمْ أَهْلُ الرِّيَاءِ، وَقَالَ تعالى: {َمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ

عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} نَزَلَ ذَلِكَ فِي مَنْ يَطْلُبُ الأجَر وَالْحَمْدَ بِعِبَادَاتِهِ وَأَعْمَالِهِ. وَأَمَّا الأحَادِيث فَعن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ? يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعْمَتَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيها؟ قَالَ: قَاتَلْتَ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالُ هُوَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيل ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أَلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجَلٌ تَعَلم الْعِلم وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعْمَتَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلتَ فِيه قَالَ تَعَلمتَ الْعِلم وَعَلمتَهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنِ قَالَ كَذِبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلمتَ لِيُقَالُ عَالم وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالُ هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أَلْقِيَ فِي النَّارِ وَرَجَلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَال فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيه اقَالَ مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيه إلا أَنْفَقْتَ فِيه لَكَ قَالَ كَذِبْتَ وَلِكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالُ هُوَ جَوَّادٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أَلْقِيَ فِي النَّارِ)) . رَوَاهُ مُسْلم وَالنِّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّان. وَعن عَبْدِ اللهِ بن عمرو بنِ العاصِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرْنِي عن الْجِهَادِ وَالْغَزْوِ فَقَالَ: «يَا عَبْدَ اللهِ بن عَمْرِو إِنْ قَاتَلْتَ صَابِراً مُحْتَسِباً بَعَثَكَ اللهُ صَابِراً مُحْتَسِباً وَإِنْ قَاتَلْتَ مُرَائِياً مُكَاثِراً بِعَثَكَ اللهُ مُرَائِياً مُكَاثِراً يَا عَبْدَ اللهِ بنَ عَمْروٍ عَلى أَيِّ حَالٍ قَاتَلْتَ أَوْ قُتِلْتَ بَعَثَكَ اللهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ)) . رواه أبو داود. وَعن أَبِي بن كَعْبٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «بَشِّرْ هَذِهِ الأمَّةَ بِالسَّنَا وَالرِّفْعَةِ وَالدِّينِ وَالتَّمْكِينِ فِي الأرض فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمِلَ الآخرة لِلدُّنْيَا لم

يَكُنْ لَهُ فِي الآخرة مِنْ نَصِيبٍ)) . رَوَاهُ أَحَمَدُ وَابنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكم وَالْبَيْهَقِي، إِذَا فَهِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلم أَنَّ هُنَاكَ أُمُوراً خَمْسَةً 1- مُرَاءٍ وَهُوَ الْعَابِدُ الَّذِي يُظْهِرُ خِصَالَ الْخَيْر 2- ومُرَائي وَهُمْ الْخَلْقُ الَّذِينَ يُظْهِرُ الْمُرَائِي لَهُمْ أَعْمَالَهُ 3- وَمُرَاء لأَجْلِهِ وَهُوَ الْجَاهُ وَالْمَالُ وَالسُّلْطَانُ وَحُبُّ الْحَمْدِ وَكَرَاهَةُ الذَّمِّ وَرِيَاءٌ وَهُوَ قَصْدُ إِظْهَارِ الْعِبَادَةِ لذَلِكَ الْغَرَضِ، وَالْمُرَاؤن بالعبادات أَقْسَامٌ، الْقِسْمُ الأوَّلُ الْمُرَاؤُنَ فِي الْعَقَائِدَ الدِّينِيَّةِ وَهُمْ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ لِلنَّاسِ أنَّهُمْ مُوَحِّدُونَ يَشْهَدُونَ أَنَّ لا إِله إلا اللهِ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ خِلافَ ذَلِكَ أَوْ يُظْهِرُونَ أنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ جَنَّةٍ أَوْ نَارٍ وَيُظْهِرُونَ لِلنَّاسِ أنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْمَلائِكَةِ وَيُصَدِّقُونَ بِوُجُودِهِمْ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ فِي قُلُوبِهِمْ غَيْرَ ذَلِكَ وَلا رَيْبَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ كُفْرٌ نَاقِلٌ عن الْمِلَّةِ الإسلاميَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ لأَنَّهُ تَكْذِيبٌ للهِ وَلِرَسُولِهِ وَصَاحِبُه إِنْ لم يَتُبْ فَهُوَ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ. قَالَ اللهُ تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} فَهَذَا لِلْمُرَائِي الشِّرير الذَّلِق اللسانِ الَّذِي إِذَا تَكَلم رَاقَ كَلامُهُ لِلسَّامِعِ وَظَنَّهُ يَتَكَلم بِكَلامٍ نَافِعٍ وَيُؤَكَّد هَذَا الْمُرَائِي مَا يَقُولُ بِأَنَّهُ يُخْبِرُ أَنَّ اللهَ يَعْلم أَنْ مَا نَطَقَ بِهِ مُوَافِقٌ وَمُطَابِقٌ لِمَا فِي قَلْبهُ وَهُوَ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ لأَنَّهُ يُخَالِفُ قَوْلُه فِعْلَه. وَقَالَ تعالى فِي الآية الأخرى: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكم إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} . وَمَا أَكْثَرَ أَشْبَاهِ هَؤلاءِ فِي زَمَنِنَا مِنْ مُنْكِرِي الْجِنِّ وَالْمَلائِكَة وَالْبَعْثَ مِمَّنْ نَجِدُهُمْ يَجْبَنُونَ عِنْدَ الْمُوَاجَهَةِ وَيَتَظَاهَرُونَ بِالإيمان عِنْدَ لِقَاءِ الْمُؤْمِنِينَ

الأدلة على تحريمه، علامات المرائي، أول الناس يقضي عليه

وَيَعْتَرِفُونَ بِوُجُودِهِمْ لِيَتَّقُوا الأذَى وَلِيَتَّخِذُوا هَذَا السِّتَارَ وَسِيلَةً لِلأذَى وَإِذَا انْفَرَدُوا مَعَ أَوْلِيَائِهِمْ مِنْ شَيَاطِينِ الإنس صَرَّحُوا بِمُعْتَقَدَاتِ قُلُوبِهِمْ وَتَفَكَّهُوا بِأَكْلِ لُحُومِ الْمُؤْمِنِين وَطَعنوا فِي الدِّين وَحَمَلَتِهِ وَصَرَّحُوا بِإنْكَارِ الْجِنِّ وَالْمَلائِكَةِ وَهَؤُلاءِ كَفَرَةٌ مُنَافِقُونَ وَالرِّيَاءُ فِي الْعَقِيدَة عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ أَكْبَرِ دَرَجَاتِ الرِّيَاءِ وَأَشَدَّهَا أَثَراً وَضَرَراً. الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمُرَاؤُنَ فِي الْفَرَائِضِ وَالأرْكَانَ الشَّرْعِيَّةِ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ أَرْكَانَ الدِّينِ مِنْ صَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَحَجٍ أَمَامَ النَّاسِ مِنْ أَجْلِ غَرَضٍ مِن الأغْرَاضِ الَّتِي ذَكَرتُ آنِفًا فَإِذَا خَلا الْوَاحِدُ مِنْهُمْ بِنَفْسِهِ لم يَعْمَلْ شيئاً فَلْوَلا الْغَرَضُ الَّذِي يُرِيدُ تَحْقِيقَهُ مَا صَامَ وَلا صَلَّى وَلا حَجَّ وَلا زَكَّى فَهَذَا الْعَمَلُ بَاطِلٌ لأَنَّهُ لم يُرِدْ بِهِ وَجْهَ اللهِ فَعن أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «تُعْرَضُ أَعْمَالُ بَنِي آدَمَ بَيْنَ يَدَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صُحُفٍ مُخَتَّمَةٍ فَيَقُولُ اللهُ أَلْقُوا هَذَا وَاقْبَلُوا هَذَا فَتَقُولُ الْمَلائِكَةُ يَا رَبُّ وَاللهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُ إلا خَيْراً فَيَقُولُ إِن عَمَلَهُ كَانَ لِغَيْرَ وَجْهِي وَلا أَقْبَلُ الْيَوْمَ مِن الْعَمَلِ إلا مَا أُرِيدَ بِهِ وَجْهِي. صَاحَ اسْتَمِعْ نُصْحًا أَتَاكَ مُفَصَّلاً كَتَفَصُّلِ الْعِقِيَانِ فَوْقَ لَئَآلِي بَادِرْ بَقَايَا عُمْرِكَ الْفَانِي فَلا تَصْرِفْهُ إلا فِي الرِّضَا الْمُتَوَالي وَاشْغَلْ فُؤَادَكَ دَائِباً مُتَفَكِّراً فِي مَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِ الإجْلالِ وَاخْلِصْ عِبَادَتَكَ الَّتِي بَاشَرْتَهَا فِي الْقَوْلِ وَالأحوال وَالأفْعَالِ ... ›?

.. وَاشْغلْ بِذِكْرِ اللهِ قَلْبَكَ لاهِجاً بِصِفَاتِهِ الْعُلْيَا بِلا إِمْلالِ وَاجْعَلْ مَمَاتَكَ نَصْبَ عَيْنَيْكَ إِنَّهُ أَوْلَى الأمُورِ وَأَنْصَحُ الأحوال وَاعْلم بِأَنَّكَ بَعْدَ ذَاكَ مُحَاسِبٌ فَاضْبُطْهُ لا تَكُ فِيه ذَا إِهْمَالِ وَاعْلم بِأَنَّكَ بَعْدَ ذَلِكَ صَائِرٌ إِمَّا إِلى بُؤْسٍ أَوْ الإفْضَالِ وَادْأَبْ عَلَى حِفْظِ الشَّرِيعَةِ سَالِكًا سُبْلَ الْهُدَى لا قَالِياً أَوْ غَالِي وَابْدَأْ بِحِفْظِ الْقَلْبِ عن شُبُهَاتِهِ وَاعْرَفْ مَسَاوِيهَا عَلَى الإجْمَالِ ثُمَّ اسْقِهِ مَاءَ الْحَيَاةِ بِوَاعِظٍ مِنْ مُحْكم التَّنْزِيلِ فِي إِجْلالِ وَاحْرِسْ فَرَاغَكَ بِالتَّذَكُّرِ إِنَّهُ عُمُرٌ إِذَا مَا ضَاعَ مِنْكَ لَغَالي وَاحْفَظْ جَوَارِحَكَ الَّتِي أُوتِيتَهَا عن كُلِّ مَا يَقْضِي بِكُلِّ نَكَالِ وَاعْلم بِأَنَّكَ مَا خُلِقْتَ سَبَهْللاً فَاعْبُدْ آلهَ الْعَرْشِ بِالإقْبَالِ وَاجْعَلْ سَلاحَكَ دَعْوَةً بِإِنَابَةٍ

المراؤون في العبادات أقسام مثال للمرائي الشرير

.. وَالْجَأْ إِلىمَوْلاكَ غَيْرَ مُبَالِي وَاسْأَلْهُ لا تَسْأَمْ فَإِنَّكَ عَبْدُهُ فَهُوَ الْكَرِيمُ وَرَبُّ كُلِّ نَوَالِ يَا رَبُّ فَاقْطَعْ عن فُؤَادِي كُلَّ مَا أَرْجُوهُ إلا مِنْكَ مِنْ آمَالِ وَاغْسِلْهُ مِنْ دَرَنِ الذُّنُوبِ فَإنَّهُ مَرَضُ الْقُلُوبِ وَمُوجِبُ الإعْلالِ وأَرِحْهُ مِنْ مَرَضِ الرِّيَاءِ فَإِنَّهُ أَصْلُ الْفَسَادِ وَأَفْسَدُ الأشْغَالِ وَاخْتُمْ بِنَا بِالْخَيْرِ عَاجِلِهِ الَّذِي تَبْدُو حَلاوَةُ ذَوْقِهِ بِمَآلِ وَاجْعَلْ صَلاتَكَ دَائِمًا تَتْرَى عَلَى كِنْزِ الْمَعَالِي السَّيِدِ الْمِفْضَالِ وَكَذَا عَلَى آلٍ لَهُ وَصَحَابَةٍ أَهْلِ الْعُلا وَالْعِزِّ وَالإجْلالِ ... ›? (فَصْلٌ) وَأَقْبَحُ أَنْوَاعُ الرِّيَاءِ: مَا فُعِلَ لِلْحُصُولِ عَلَى لَذَّةِ مُحَرَّمَةٍ كَأَنْ يَحْتَالَ عَلَى الْفِسْقِ بامْرَأَةٍ أَوْ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى سَلْبِ مَالٍ ظُلْماً وَعُدْوَانَاً أَوْ يَتَوَسَّلُ بِهِ إِلى إِيذَاءِ بَرِيءٍ فِي عِرْضِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ دِينِهِ وَصَاحِبُ هَذَا الْعَمَلِ مُعَرَّضٌ نَفْسه لِلْمُجَازَاتِ عَلَى عَمَلِهِ أَشَدَّ الْجَزَاءِ وَالْعِقَابِ عَلَيْهِ أَسْوَأَ الْعِقَابِ فِي يَوْمٍ يُؤْخَذُ فِيه الْمُجْرِمُونَ بِالنَّوَاصِي إِنْ لم يَتُبْ مِنْ عَمَلِهِ ذَلِكَ تَوْبَةً نَصُوحاً. وِمِنْ أَنْوَاعِ الرِّيَاءِ الرِّيَاءُ فِي الْفَرَائِضِ الدِّينِيَّةِ لِلْحُصُولِ عَلَى لَذَّةٍ مُبَاحَةٍ. شِعْراً: ... لا يَغُرَّنَّكَ تَعْوِيجُ الْعنق ... وَلِبَاسُ الصُّوفِ وَالثَّوْبِ الْخَلَقْ

.. وَخُشُوعِ الْمَرْءِ فِي ظَاهِرِهِ ... وَهُوَ فِي الْخَلْوَةِ تِنِّينٌ حنِقْ يَبْلَعُ الْفِيلَ مُسِراً فَإِذَا ... بَلَعَ الذَّرَّةَ فِي الْجَهْرِ اخْتَنَقْ وِمِنْ أَنْوَاعِ الرِّيَاءِ، الرِّيَاءُ فِي الْفَرَائِضِ الدِّينِيَّةِ لِلْحُصُولِ عَلَى لَذَّةٍ مُبَاحَةٍ.كَأَنْ يَحْتَالَ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ عَلَى الْحُصُولِ عَلَى مَالٍ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ وَنَحْوِهَا وَلَوْلا هَذَا الْغَرَضَ مَا قَامَ بِأَدَائِهَا وَهَذَا شِرْك بِاللهِ بَلْ فِي الْحَقِيقَة عِبَادَةٌ لِلشَّهْوَةِ لا للهِ وَلَوْ كَانَ عِنْدَ صَاحِبِ هَذَا الْعَمَلِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِن الأدَبِ وَالْحَيَاءِ لَخَجِلَ مِنْ خَالِقِهِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُخْلِصَ الْعِبَادَةَ لَهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَلَكِنَّهُ بَدَلاً مِنْ ذَلِكَ قَدْ جَعَلَ عِبَادَتَهُ وَسِيلَةً لاقْتِنَاصِ الْمَلاذِ وَالْحُصُولِ عَلَى الشَّهَوَاتِ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْمُرَاؤُونَ بِالنَّوَافِلِ الَّتِي يُؤَدُّونَهَا فِي حَضْرَةِ النَّاسِ وَيَتْرُكُونَهَا إِذَا خَلَوْا أَوْ يَجِيدُونَ الْفَرَائِضَ وَيُطِيلُونَهَا فِي حَضْرَةِ النَّاسِ وَإِذَا انْفَرَدُوا خَفَّفُوا وَهَذَا أَيْضاً قَبِيحٌ وَلَكِنَّهُ دُونَ الأوَّلِ وَوَجْهُ قُبْحِهِ أَنَّ عِبَادَةَ اللهِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ خَالِصَةٌ لَهُ لا يَشُوبِهَا رِيَاءٌ أَبَداً فَمَنْ يُؤَدِّيهَا لَغَرَضٍ مِنْ الأغْرَاضِ فَقَدْ أَشْرَكَ فِيه مَعَ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ غَبِيٌّ مَمْقُوتٌ يَسْتَحِقُّ الذَّمِّ وَالْعِقَابَ إِنْ لم يَتُبْ لأَنَّهُ قَدْ اسْتَهَانِ بِعِبَادَةِ اللهِ وَجَعَلَهَا وَسِيلَةً لِلْحُصُولِ عَلَى الأغْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالشَّهَوَاتِ الْجِسْمَانِيَّةِ مَعَ أَنَّ النَّوَافِلَ مَثَلاً لم تُشْرَعْ إلا لِلْحُصُولِ عَلَى الثَّوَابِ الْكَثِيرِ وَالدَّرَجَاتِ الرَّفِيعَةِ عِنْدَ اللهِ تعالى فَانْقَلَبَتْ عَلَى الْمُرَائِي بِهَا شَرّاً وَوَبَإلا بِفِعْلِهَا رِيَاءً وَأَصْبَحَ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا عِقَاباً وَذَلِكَ فَسَادٌ وَخَلَلٌ عَظِيمٌ فَكم مِنْ إِنْسَانٍ يُرَائِي يَتَظَاهَرُ بِالصَّلاحِ وَيَتَبَاعَدُ عن مُحَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ وَنَفْسِهِ فَاجِرَةٌ لا يَتَوَرَّعُ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَاسْتِحْلالِهَا بِأَدْنَى الْوَسَائِل وعِنْدَ مُعَامَلَتِهِ فِي بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ اسْتِئْجَارٍ يَظْهَرُ مَخْبَرُهُ عَكْسَ مَنْظَرِهِ عَلَى حَدِّ قَوْلِ الشَّاعِرِ: مَا فِي الْكَثِيرِينَ إلا الْمَكْرَ وَالْمَلَقُ ... شَوْكٌ إِذَا اخْتُبَرُوا زَهْرٌ إِذَا رَمِقُوا فَإِنْ دَعَاكَ إِلى قُرْبِ بِِِهِمْ قَدَرٌ ... فَدَارَهِمْ وَاقْتَربْ مِمَّنْ بِهُمْ تَثِقُ هُمْ أُمُّ غَيْلانَ لا أَصْلٌ وَلا ثَمَرٌ ... وَلا نَسِيمٌ ولا ظِلٌّ وَلا وَرَقُ جَفُّوا مِنْ اللؤم حَتَّى لَوْ أَصَابَهُمْ ... ضُوءُ السُّهَى فِي ظَلامِ اللَّيْلِ لا احْتَرَقُوا لَوْ صَافَحُوا الْمُزْنَ مَا ابْتَلَتْ أَنَامِلُهُمْ ... وَلَوْ يَخُوضُونَ بَحْرَ الصِّينِ مَا غَرِقُوا

قصيدة تتضمن النصح والزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة

آخر: ... قَوْمٌ هُموا شَرُّ خَلْقِ اللهِ كُلِّهِمُ ... وَأَخْبَثُ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الدِّينِ هُمْ فِي الظَّوَاهِرِ زُهَّادٌ أَوْلو وَرَعٍ ... وَفِي الْبَوَاطِنِ إِخْوَانُ الشَّيَاطِينِ يُحَرِّمُونَ الَّذِي حََلَّ الإلَه لَهُمْ ... وَيَسْتَبِيحُونَ أَمْوَالَ الْمَسَاكِينِ يَا بِئْسَ مَا فَعَلُوا يَا بِئْسَ مَا تَرَكُوا ... وَهُمْ يُعِدُّونَ فِينَا بِالْمَلايِينِ آخر: ... مِنْ أَيّ نَوَاحِي الأرض ألقَى رِضَاكم ... وَأَنْتُمْ أُنَاسٌ مَا لِمَرْضَاتِهِمْ نَحْوُ فَلا حَسَنٌ نَأْتِي بِهِ تَقْلِبُونَهُ ... وَلا إِنْ أَسَأنَا كَانَ عِنْدَكم عَفْوُ وَيَقُولُ الآخر فِي الْمُرَائِينَ بِأَعْمَالِهم: أَظْهَرُوا لِلنَّاسِ زُهْداً ... وَعَلَى الدِّينَارِ دَارُوا وَلَهُ صَلَّوْا وَصَامُوا ... وَلَهُ حَجُّوا وَزَارُوا لَوْ يُرَى فَوْقَ الثُّريّا ... وَلَهُمْ رِيشٌ لَطَارُوا آخر: إِنَّ الْجَلِيسَ يَقُولُ الْخَيْر تَحْسِبَهُ ... خَيْراً وَهَهْيَهَاتَ فَانْظُرْ مَا بِهِ الْتَمَسَا قال ابن رجب رَحِمَهُ اللهُ: واعْلم أن الْعَمَل لغَيْر الله أقسام فتَارة يكون رياءً محضاً كحال المنافقين كما قال تعالى: {وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً} . وهَذَا الرياء المحض لا يكاد يصدر عن مُؤْمِن فِي فرض الصَّلاة والصيام وقَدْ يصدر فِي الصدقة أو الحج الواجب أو غيرهما من الأعمال الظاهرة أو التي يتعدي نفعها فإن الإخلاص فيها عزيز وهَذَا الْعَمَل لا يشك مسلم أنه حابط وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة وتَارة يكون الْعَمَل لله ويشاركه الرياء فإن شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل عَلَى بطلانه أيضاً وحبوطه.

أنواع الرياء، الرياء في الفرائض، الرياء في النوافل

شِعْراً: ... دَعِ الرِّيَاءَ لِمَنْ لَذَّ الرِّيَاءُ لَهُ ... فَإِنَّهُ الشِّرْكُ فَاحْذَرْ زَلَةَ القَدَمِ وَمُتْ عَلَى المِلَّةِ السَمْحَاءِ مَوْتَ فَتَى ... رَأي الْمَمَاتَ عَلَيْهَا أَكْرَمَ الكَرَمِ آخر: ... يُلْبِسُ اللهُ فِي العَلاَنْيَةِ الْعَبْدَ الَّذِي ... كَانَ يَخْتَفِي فِي السَّرِيْرَةِ حَسَناً كَانَ أَوْ قَبِيْحاً سَيُبْدَى ... كُلُّ مَا كَانَ ثُمَّ مِنْ كُلِّ سِيَرةِ فَاسْتَحِ مِنَ اللهِ أَنْ تُرائِي لِلنَّاسِ ... فإِنَّ الرِّيَاءَ بِئْسَ الذَّخِيْرَةِ وفِي صحيح مسلم عن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عنهُ عن النَّبِيّ ? قال يَقُولُ الله تبارك وتعالى: أَنَا أغني الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك معي فِيه غيري تركته وشركه، وأخرجه ابن ماجه ولفظه فأنَا منه بريء وَهُوَ للذي أشرك. وأخرج الإمام أَحمَدُ عن شداد بن أوس عن النَّبِيّ ? قال: من صلي يرائي فقَدْ أشرك ومن تصدق يرائي فقَدْ أشرك فإن الله عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: أَنَا خَيْر قسيم لمن أشرك بي شيئاً فإن جدة عمله قليله وكثيره لشريكه الَّذِي أشرك به أَنَا عنهُ غني، وأخرج الإمام أَحمَدُ والترمذي من حديث أبي سعيد ابن أبي فضالة وكَانَ من الصحابة قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: إِذَا جمَعَ الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فِيه نادا مناد من كَانَ أشرك فِي عمل عمله لله فليطلب ثوابه من عِنْدَ غَيْر الله عَزَّ وَجَلَّ، فإن الله أغني الشركاء عن الشرك انتهي وَاللهُ أَعْلم. (فَصْلٌ) القسم الرابع: من المرائين المتحدثين بأعمالهم بعد تمامها كأن يَقُولُ الواحد: صليت كَذَا وصمت كَذَا وحججت كَذَا من أفعال الْخَيْر وهَذَا وإن كَانَ لا يحبط الْعَمَل الَّذِي تم عَلَى وجه صحيح إلا أنه ينظر إلي مقصده من التحدث بذَلِكَ فإن كَانَ فساداً كَانَ محرماً وإن كَانَ فراراً من ذم النَّاس ورغبة فِي مدحهم بدون أن يقصد منها الوصول إلي غرض غَيْرَ ذَلِكَ كَانَ ملوماً من جهة واحدة وأنه قصد رياء النَّاس بطاعة الله وقَدْ علمت أن ذَلِكَ لا يجوز.

النية عليها مدار عظيم، عمل المرائي عليه، أدلة على تحريمه

القسم الخامس: المراؤون بالهيئة والزي فتري الواحد من هؤلاء يتكلف الْعَمَل عَلَى نحول بدنه واصفرار وجهه كي يظهر بمظهر العابد الَّذِي أضناه وأنهكه السهر وانحل جسمه الصوم وَمِنْهُمْ من يتكلف خفض صوته أو يلبس ثوباً يختلف عن أثواب أهله وبني جنسه ليلفت أنظار النَّاس إليه هَذَا النوع من الرياء سخيف جداً لا يتأثر به إلا ضعاف العقول صغار النُّفُوس وكل هؤلاء من شرار النَّاس الَّذِينَ يجب عَلَى النَّاس أن يحذروا مِنْهُمْ ويمقتوهم ولا يبالوا بِهُمْ ولا بحليهم وأزيائهم. شِعْراً: ... تَقُوْمُ إِذَا مَا قِمْتَ تَشْفَعُ خُطْبَةً ... تُخَوِّفُ فِيه وَالدِمُوعُ تَزَيَّعُ كَأَنَّكَ صَيَّادٌ تَسِيْلُ دُمُوْعُهُ ... مِنَ البَرْدِ وَالصَّيَادُ يَفْرِي وَيَقْطَعُ يَجُذٌّ رِقَابَ الطَيِّرِ مِنْ غَيْرِ رَحْمَةٍ ... وعَيْنَاهُ مِنْ بَرْدِ العَشِيَّةِ تَدْمَعُ تُزَهَّدُ فِي الدُّنْيَا وأَنْتَ بِنَهْبِهَا ... مُلِحُّ عَلَى الدُّنْيَا تَكُدٌّ وَتَجْمَعٌ آخر: ... أَرَى النَّاسَ فِي الدُّنْيَا كَرَاعٍ تَنَكَرَتْ ... مَراعِيهِ حَتَى لَيْسَ فِيهنَّ مَرْتَعُ فَمَاءٌ بِلاَ مَرْعَى وَمَرْعَى بِغَيْرِ مَاءِ ... وَحَيْثُ تَرَى مَاءً فَمَرْعَى وَمَسْبَعُ ثُمَّ اعْلم: أن النِّيْة عَلَيْهَا مدار عَظِيم مدار الثواب والعقاب فإن المرء يتحدث بعمله الصالح أو يظهره ليكون قدوة صَالِحَة لهُمْ ومثإلا حسناً يقتدون به لا يريد بذَلِكَ إلا وجه الله وابتغاء مرضاته بنشر الفضيلة وإحيائها بين النَّاس من غَيْرَ أن ينظر إلي مدحهم لَهُ وذمهم لَهُ فلا يثنيه شَيْء عن عمل الصالحات ولا يغريه عَلَيْهَا رضاء أحد من النَّاس عَلَى أن يكون يقظاً نبيهاً لا يجعل للغرور والعجب إليه سبيلاً فإن عمله عَلَى ذَلِكَ الوجه الحسن لا يكون رياءً بل ربما يكون مستحباً إن تأكد من اقتداء النَّاس به فِي عمله الصالح وكَذَلِكَ تنظر الشريعة الإسلامية الكريمة إلي جَمِيع الأعمال فإن ترتب عَلَى الْعَمَل فسادٌ كانَ مذموماً وإن ترتب عَلَيْهِ صلاحٌ كَانَ ممدوحاً فجَمِيع أحكامها مبنية عَلَى جلب المصالح ودرء المفاسد وكلها ترمي إلي تهذيب النُّفُوس وتطهير

الرياء في الهيئة، علاج نافع لقلع الرياء وقطعه

القُلُوب وتربية النوع الإنساني أحسن تربية وتأديبه أفضل الأدب ويكفِي فِي ذَلِكَ قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} . وختاماً فعَلَى العاقل أن يتفكر ويعلم مضرة الرياء وما يفوته من صلاح قَلْبهُ وما يحرم عنهُ من التَّوْفِيق وما يتعرض لَهُ من العقاب والمقت الشديد والخزي الظاهر فمهما تفكر الإنسان وقابل ما يحصل لَهُ من العباد والتزين لّهُمْ فِي الدُّنْيَا بما يفوته فِي الآخرة وبما يحبط عَلَيْهِ من ثواب الأعمال فإنه يسهل عَلَيْهِ قطع الرغبة عنهُ كمن يعلم أن العسل لذيذ ولكن إِذَا بان لَهُ أن فِيه سماً أعرض عنهُ ثُمَّ أي غرض لَهُ فِي مدحهم وإيثار ذم الله لأجل حمدهم ولا يزيده حمد النَّاس رزقاً ولا أجلاً ولا ينفعه يوم فقره وفاقته. وأما الطمَعَ فيما فِي أيدي النَّاس فبأن يعلم أن الله تعالى هُوَ الرزاق وَهُوَ المسخر للقُلُوب بالمنع والإعطاء وأن الخلق مضطرون فيه. ولا رازق إلا الله ومن طمَعَ فِي الخلق لم يخل من الذل والخيبة وإن وصل إلي المراد لم يخل عن المنة والمهانة فَكَيْفَ يليق بعاقل أن يترك ما عِنْدَ الله برجَاءَ كاذب ووهم فاسد وقَدْ يصيب وقَدْ يخطيء وإِذَا أصاب فلا تفِي لذته بألم منته ومذلته. شِعْراً: ... أَمِنْ بَعْدِ غَوْصِي فِي عُلُومِ الحَقَائِقِ وَطُولِ انْبِسَاطِي فِي مَوَاهِبِ خَالِقِي وفِي حِيْنَ إشْرَافِي عَلَى مَلَكُوتِهِ أَرَى طَالِباً رِزْقاً إِلى غَيْرَ رَازِقِ وَأَيَّامُ عُمْرِ المَرْءِ مُتْعَةُ سَاعَةٍ تَجِيءُ حَثِيْثاً مِثْلَ لمحَةِ بَارِقِ ... ›?

.. وَقَدْ آذَنَتْ نَفْسِي بِتَقْوِيْضِ رَحْلِهَا وَأَسْرَعَ فِي سَوْقِي إِلى المَوْتِ سَائِقِي وَإِنِّي وَإِنْ أَوْغَلْتُ أَوْ سِرْتُ هَارِباً مِنَ المَوْتِ فِي الآفَاقِ فَالمَوْتُ لاَحِقِي آخر: ... شَادَ الأنَامُ قُصُورَهُمْ وَتَحَصَّنُوا مِنْ كُلِّ طَالِبِ حَاجَةٍ أَوْ رَاغِبِ فَارْغَبْ إِلى مَلِكِ المُلُوكِ وَلاَ تَكُنْ يَا ذَا الضَّراعَةِ طَالِباً مِنْ طَالِبِ ... ›? وأما ذم الخلق لَهُ فلا يحذر منه فإنه لا يزيده ذمهم شيئاً ما لم يكتبه الله عَلَيْهِ ولا يعجل أجله ولا يؤخر رزقه ولا يجعله من أَهْل النار إن كَانَ من أَهْل الْجَنَّة ولا يبغضه إلي الله ولا يؤخر رزقه ولا يجعله من أَهْل النار إن كَانَ من الَّذِينَ يحبهم الله فالعباد كلهم عجزة لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً فإِذَا قرر فِي قَلْبهِ آفة هذه الأسباب وضررها فترت رغبته عَنِ الرياء وأقبل عَلَى الله قَلْبهُ والعاقل لا يرغب فيما يكثر ضرره ويقل نفعه فهَذَا دواء نافع قالع للرياء من أصله بإذن الله فهَذَا من الأدوية العلمية القالعة مغارس الرياء من أصله بإذن الله وأما الدواء العملي فهو أن يعود نَفْسه إخفاء العبادات وإغلاق الأبواب دونها كما تغلق الأبواب دون الفواحش فلا تنازعه نَفْسُهُ إلي طلب غَيْر الله به. وبالتالي: فمن كَانَ ذا عقل وعلم وبصيرة عرف شدة حاجته يوم القيامة وشدة فقره إلي صافِي الحسنات فخشي أن يأتي ذَلِكَ الْيَوْم بصلاة أو صيام أو حج أو جهاد أو نحو ذَلِكَ من الأعمال لم يخلصه لله فيحبط عمله فتصير حسناته أنقص من سيئاته ولَوْ كَانَ أخلص الْعَمَل لله فِي الدُّنْيَا لرجحت حسناته عَلَى سيئاته فيدخل الْجَنَّة فَلَمَّا فاته ذَلِكَ الإخلاص فلا تسأل عن ذهاب نفسه

حسرات فيخاف اللبيب ذَلِكَ فيغلب عَلَى عقله حذر الرياء والتصنع للعباد ويقبل عَلَى تصحيح عمله وتنقيته من شوائب الرياء حتي يوافِي به يوم القيامة خالصاً صواباً. "موعظة" عِبَادَ اللهِ: أوصيكم ونفسي بتقوي الله فالزموها، وأحثكم عَلَى الأعمال الصَّالِحَة فاغتنموها، إن الزمان يطوي بكم مسافة الأعمار لا شك وأنتم راحلون عن هذه الدار فيا معشر الشيوخ ماذَا تنتظرون بعد المشيب وهل بعده إلا الموت فإن الموت قريب إنه لَيْسَ إلي البقاء من سبيل فماذَا تزودتم للرحيل ويا معشر الشباب أنفقتم غرر الأعمار عِنْدَ المذياع والكرة ونحو ذَلِكَ مِمَّا يصدكم عن ذكر الله وعن الصَّلاة ويا معشر التجار لَقَدْ ضاعت أعماركم فِي ألووَكم ربح فلان وَكم بيع البيت الفلاني والأرض الفلانية وخذ هذه الجريدة وأعطني الأخري إلا صرفتم بعض الوَقْت إلي المسابقة إلي غرف الْجَنَّة وأراضيها وأنفقتم بعض ما وهبكم الله من المكاسب إلي ما يرضي الله من تفقَدْ الفقراء الَّذِينَ لَيْسَ لّهُمْ موارد لا قليلة ولا كثيرة ممن يستعينون بِهَا عَلَى طاعة الله ومن مساجد تحتاج إلي ترميم أو فرش وإلي إنشاء مساجد عِنْدَ من لَيْسَ عندهم شَيْء منها أو إلي طباعة مصاحف طباعة جيدة فتوزعوها عَلَى التالين للقرآن آناء الليل والنَّهَارَ أو طبع كتب دينية فيها تقوية للشريعة ونشر لمحاسن الإسلام ككتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وابن رجب وابن مفلح وابن كثير والموفق والمجد والشَّيْخ المجدد الشَّيْخ مُحَمَّد بن عبد الوهاب ونحوهم من العلماء العاملين بعلمهم المصلحين المخلصين الَّذِينَ لا تأخذهم فِي الله لومة لائم نسأل الله أن ييسر لنا فِي هذَا الزمان أمثالهم لنصر دينه إنه القادر عَلَى ذلك. شعراً: ... نَصَحْتُكَ لاَ تَصْحَبْ سِوَى كُلّ فَاضِلٍ ... كَرِيْمِ السَّجَايَا بِالتَّعَفُّفِ وَالظَّرْف وَلاَ تَعْتَمِدْ غَيْرَ الكِرَامِ فَوَاحِدٌ ... مِنَ النَّاسِ إَنْ حَصَّلْتَ خَيْرٌ مِنَ الألف

فصل في الكبر والعجب، أنواع الكبر، من أسباب الكبر

شِعْراً: الْمَالُ يَذْهَبُ حِلَّهُ وَحَرَامَهُ طُرّاً وَتَبْقَى فِي غَدٍ آثَامَهُ لَيْسَ التَّقِيُّ بِمُتَّقِ لإلاهِهِ حَتَى يَطِيبُ شَرَابُهُ وطَعَامُهُ وَيَطِيبُ مَا يَحْوِي وَيَكْسِبُ كَفُّهُ وَيَكُوْنُ فِي حُسْنِ الْحَدِيثِ كَلاَمُهُ نَطَقَ النَّبِيُّ لَنَا بِهِ عن رَبِّهِ فعَلَى النَّبِيِّ صَلاَتُهُ وَسَلاَمُهُ ... ›? اللَّهُمَّ طهر قلوبنا من النفاق وعملنا من الرياء وطهر مكسبنا من الربا وألسننا من الكذب ووفقنا لمصالحنا واعصمنا عن ذنوبنا وقبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. فصل فِي الكبر والعجب اعْلم وفقنا وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ: أن مِمَّا يتأكد تحريمه واجتنابه فِي رمضان وغيره الكبر والإعجاب لأنهما يسلبان الفضائل ويكسبان الرذائل ولَيْسَ لمن استولينا عَلَيْهِ قبول النصح ولا قبول التأديب لأن المتكبر يعتقَدْ فِي نَفْسه أنه جليل عَظِيم متعال عن رتبة المتعلمين والكبر فِي اللغة العزة والعظمة ومثله الكبرياء وقَدْ فسر ? الكبر بأنه بطر الحق وغمط النَّاس والكبر والعجب من الصفات النفسية المرذولة التي كثيراً ما تثير الْغَضَب والحقد وتورث العداوة والبغضاء وتورث الاحتقار والازدراء بِالنَّاسِ واغتيابهم

من أنواع الكبر والفرق بينه وبين ما يحفظ به الكرامة من العزة

ويجافِي بين الصدق وكظم الغيظ وقبول النصح ويعمي المرء عن عيوبه ويحول بينه وبين العلم والانقياد للحق. والكبر نوعان: أحدهما التكبر عَلَى الحق وَهُوَ رده ودفعه وعدم قبوله وَهُوَ عَالم به سواء كَانَ من حقوق الله أو من حقوق عباده فمعني بطر الحق رده وجحده وَهُوَ عَالم به فكل من رد الحق فإنه مستكبر عنهُ بحسب ما رد من الحق ومعني غمط النَّاس احتقارهم وتنقصيهم وَذَلِكَ ناشَيْء عن عجب الإنسان بنفسه وتعاظمه عَلَيْهمْ فالعجب بالنفس يحمل عَلَى التكبر عَلَى الخلق واحتقارهم والاستهزاء بِهُمْ وتنقيصهم بقوله أنه ممتاز عنهُ بما سما به فِي نظر نَفْسه وإذن يري ذَلِكَ الغَيْر فِي درجة منحطة عن درجته فيعتقد حينئذ أن مستواه فوق مستوي غيره وَذَلِكَ هُوَ الكبر بعينه فالعجب عنهُ نشأ الكبر وعَلَى أصله تفرع. وللكبر أسباب كثيرة فقَدْ تَكُون عن صفة كمال كالعلم والنسب والجاه والسُّلْطَان وَرُبَّمَا نشأ عن غرور ووهم بحيث يعتقَدْ أنه أكمل من غيره خطأ وجهلاً وهَذَا برهان عَلَى نقص عقله ولذا يَقُولُ مُحَمَّد بن عَلَى الباقر ما دخل قلب امرءٍ شَيْء من الكبر إلا نقص من عقله مثل ما دخل من ذَلِكَ قل أو كثر. فإن كَانَ الكبر ناشئاً عن العلم كَانَ صاحبه مثالاً سيئاً وقدوة رديئة، خصوصاً إِذَا دفعه الكبر إلي صفة ذميمة كالحسد والحقد، أو أفضي به إلي ارتكاب مظلمة من المظالم بيده أو لِسَانه، فإن ضرر هَذَا لا يقدر، لأن النَّاس يقتدون بالعلماء فِي أقوالهم وأفعالهم، فيستسهلون عِنْدَ ذَلِكَ ارتكاب الجرائم، ويستبيحون الاتصاف بالصفات الذميمة، وفِي هذَا شرٌّ عَظِيم، وأيضاً فإن العَالم المتكبر ينصرف النَّاس عنه وينفضون من حوله، فلا ينتفع

بعلمه إلا من يوافقه عَلَى هواه فلا يرده عن خطأ، ولا يشير عَلَيْهِ بحق ولا يزاحمه فِي غرض ومثل هَذَا لا فائدة من تعليمه لأنه ناقص النفس ضعيف الإرادة ومن كَانَ هَذَا شأنه فإن علمه وبال عليه. أما العلم النافع فهو الَّذِي يرَبِّي الأنفس، ويطهرها من الصفات الرديئة، ويعرف الْعَبْد ربه ونفسه وخطر أمره، وهَذَا يورث الخشية والتواضع، فيكون صاحبه مثإلا حسناً فِي النَّاس، وقدوة صَالِحَة فِي الأقوال والأفعال. وإن كَانَ الكبر ناشئاً عَن النسب فإنه ربما يكون سبباً للطعَن فِي ذَلِكَ النسب، وحمل النَّاس عَلَى اعتقاد أنه نسب رديء العنصر، خسيس الأصل، فإن النسب الشريف هُوَ الَّذِي يترتب عَلَيْهِ آثار صَالِحَة تدل عَلَى رفعته وكرمه، أما من يتكبر ويظلم ويؤذي عِبَادَ اللهِ ويحتقرهم فإنه لا يكون من عنصر طيب، ولا من أصل كريم غالباً، وقَدْ يتهم النَّاس من يفعل ذَلِكَ بأنه ولد زنا، وَذَلِكَ أن الله وصف النمام والفاجر والمناع للخَيْر بالوصف الذميم كما تقدم وَذَلِكَ لأن الأعمال الفاجرة تتبع خبث المني غالباً، ما لم ييسر الله لولد الزنا بيئة صَالِحَة يترَبِّي فيها وينزع من نَفْسه تلك الصفات الرديئة التي ورثها من أصله واكتسبهَا من والديه. وإن كَانَ الكبر ناشئاً عَن الجاه والسُّلْطَان فإنه غالباً يفضي إلي شر أنواع الظلم وانتهاك المحارم من حقوق الله وحقوق خلقه، فما ترتب عَلَيْهِ مظلمة أو ضياع حق فهو الكبر الضار. وأما العزة التي ينشأ عنهَا ما ينفع النَّاس، وما يحفظ كرامة المرء وعدالته ومكانته، مثل ترفع الحاكم عَن مخالطة العوام ومجالستهم ومجاملتهم بما يسقط هيبته أو يطعمهم فِي قضائه أو يسهل لهُمْ الإخلال بما

موعظة تتضمن التحذير من المعاصي قابلة لأن تكون خطة إذا كملت

يقتضيه الشرع، فإن مثل هَذَا لا يعد تكبراً لأنه إِذَا أهمله الإنسان لم يكن جديراً بالحكم إنما الكبر الممنوع هُوَ أن لا يبالي بِهمْ فلا يسمَعَ شكوي ضعيفهم ولا يسمح لَهُ بالدنو منه ليعبر عن مظالمه، أو يحقد عَلَى من توسع فِي الدفاع عن نَفْسه بما لا يرضيه، أو أعرض عن سماع النَّصِيحَة واستكبر عن الْعَمَل بالحق، فإنه فِي هذه الحال يكون متكبراً مذموماً ممقوتاً. ... لِكُلِّ بَنِي الدُّنْيَا مُرَادٌ وَمَقْصَدٌ وَإِنَّ مُرَادِي صِحَّةٌ وَفَرَاغُ لأَبْلُغَ فِي عِلْمِ الشَّرِيْعَةِ مَبْلَغاً يَكُونُ بِهِ لِي فِي الجِنَانِ بَلاَغُ ففِي مِثْلَ هَذَا فَلْيُنَافِسْ أُولِي النُّهَى وَحَسْبِي مِنَ الدُّنْيَا الغَرُوْرِ بَلاَغُ فَمَا الفَوْزُ إلا فِي نَعِيْمٍ مُؤَبَّدٍ بِهِ العَيْشُ رَغْدٌ وَالشَّرَابُ يُسِاغُ ... ›? اللَّهُمَّ إنَا نسألك العفو والعافية فِي ديننا ودنيانَا وأهلنا وأموالنا ونسألك أن تغفر لنا ولوالدينا وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين. " موعظة " عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ توعد اللهُ عباده الَّذِينَ يخالفون أمره ويعرضون عن مراقبته وينصرفون عن عبادته وذكره ويجترؤون عَلَى معاصيه بشديد غضبه وعَظِيم سخطه وحذرهم بأسه وانتقامه فما بال المُسْلِمِيْنَ بعد القرون الأولي ودخولهم فِي هذه الأزمان عمدوا إلي محارم الله فارتكبوها ومنهياته فاستباحوها ومأموراته فاجتنبوها ونبذوها وقطعوا الأسباب بينهم وبين خالقهم ورازقهم

وعادوا بمر الشكوي من تغَيْر الأحوال وانتزاع البركة من الأرزاق والآجال ولَيْسَ الغريب أن تذهب البركة من أرزاق العصاة وأموالهم فإن الله جَلَّ وَعَلا يغار عَلَى أوامره أن تجتنب ومحارمه أن ترتكب عِبَادَ اللهِ إن المحافظة عَلَى أوامره التي أمركم بِهَا فِي كتابه وعَلَى لسان نبيه مُحَمَّد ? بمنزلة العهد والميثاق بينكم وبينه تعالى أن يحوطكم برحمته ويسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة وأن يكون معكمْ بالعون والتَّوْفِيق فإِذَا حاربتموه بارتكاب معاصيه وإهمال أوامره فقَدْ حاربتم بديع السماوات والأرض ذا القوة المتين ولستم بمعجزيه أن يرسل عليكم عذاباً فِي الدُّنْيَا ولعذاب الآخرة أشد وأبقي عِبَادَ اللهِ اتقوا الله وراقبوه فِي سركم وجهركمْ وإياكمْ أن تظنوا أن الله يهمل المسيء فلا يجازيه ولا يحاسبه عَلَى جرمه وذنبه الَّذِي اقترفه ومن ظن ذَلِكَ كَانَ من الَّذِينَ يخادعون الله والَّذِينَ آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون يا عِبَادَ اللهِ: قَدْ كَانَ قبلكم من الأمم من اصطفاهم الله عَلَى علم عَلَى العالمين وآتاهم من الآيات ما فِيه بلاغ للعابدين وأسبغ عَلَيْهم نعمه ظاهرة وباطنة فما رعوها حق رعايتها وقَالُوا نَحْنُ أبناء الله وأحباؤه فَلَمَّا أفسدوا فِي الأرض لم تغن عنهم النذر شيئاً وأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} وفِي الْحَدِيث إن الله ليملي للظَالمِ فإِذَا أخذه لم يفلته. شِعْراً: ... نَامَتْ جُفُونُكَ وَالمَظْلُومُ مُنْتَبِهٌ ... يَدْعُو عَلَيْكَ وَعْيُنُ اللِه لم تَنَمِ آخر: ... وَمَا مِنْ يَدٍ إلا يَدُ اللهِ فَوقَهَا ... وَلاَ ظَالِمٌ إلا سَيُبْلَى بِظَالِمِ آخر: ... خَفِ اللهَ فِي ظُلْمِ الوَرَى واحْذَرَنَّهُ ... وَخَفْ يَوْمَ عَضَ الظَالِمِونَ عَلَى اليَدِ وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ عن ذَاكَ غَافِلاً ... وَلَكِنّهُ يُمْلِي لِمَنْ شَاءَ إِلى الغَدِ

أنواع الكبر، وذكر بعض الطغاة المتكبرين على الحق

وَلاَ تَغْتَررْ بِالحِلْمِ عن ظُلْمِ ظَالِمٍ ... سَيَأخُذُهُ أَخْذاً وَبِيْلاً وعن يَدِ آخر: ... إِذَا المَرْءُ أحْمَى نَفْسَه كُلَّ شَهْوَةٍ ... ... لِصِحَّةِ أيَّامٍ تَبِيْدُ وَتَنْفَدُ فَمَا بَالُهُ لاَ يَحْتَمِي عن حَرَامِهَا ... لِصِحَّةِ مَا يَبْقَى لَهُ وَيُخَلَّدُ اللَّهُمَّ ثبتنا عَلَى نهج الاستقامة وأعذنا من موجبات الحَسْرَة والندامة يوم القيامة وخفف عنا ثقل الأوزار، وارزقنا عيشة الأبْرَار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (وفِي كتاب الأخلاق) قال: والكبر أنواع وأعظم أنواع الكبر عَلَى الله وعَلَى رسله، وهَذَا شر أنواع الكبر، لأن الإنسان ضعيف المخلوق من ماء مهين، الَّذِي يصرعه أضعف الحيوانات إِذَا سلطه الله عَلَيْهِ لا يليق به ولا يحل لَهُ أن يتكبر عَلَى من خلقه وأوجده ومنه يستمد بقاءه ويحتاج إليه فِي كُلّ لحظة وفِي كُل حركة وسكون. ومن جهل قدر ربه فهو من بهيمة الأنعام أو أضل، كما أخبر الله عمن استكبروا عَلَيْهِ وعَلَى رسله، وكيف يجهل الإنسان قدر إلههِ القادر القاهر الَّذِي أبدع العَالَم عَلَى أحسن إحكام وأدق تكوين وله سُبْحَانَهُ فِي كُلّ جزء من خلقه شاهد واضح الدلالة، وحجة ظاهرة البيان، تدل عَلَى أنه هُوَ ذَلِكَ الصانع الَّذِي {َيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} فمن تكبر عَلَى الله فلم يؤمن بذاته وصفاته أو استكبر عن عبادته فإنه سيري نتيجة كبريائه ذلاً وصغاراً وعذاباً أليماً يوم البعث والنشور، فضلاً عما يصيب كثيراً من

المتكبرين عن عبادة الله من الانتقام الدنيوي، كما وقع للنمرود وفرعون وغيرهم من المتكبرين. وأما المتكبر عَلَى رسل الله فهو كالمتكبر عَلَى الله فِي نتيجته فإن جزاءه الخلود فِي نار جهنم، لأنَّهُمْ إنما جاءوا بِتَوْحِيدِ اللهِ وتنزيهه عن كُلّ ما لا يليق به، وهداية النَّاس إلي سبيل السعادة، فمن استكبر عَلَيْهمْ ولم يؤمن بِهُمْ فقَدْ كفر بربه وخسر خسرانَاً مبيناً. ولَقَدْ قال المستكبرون من قريش: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} يريدون الوليد بن المغيرة من مَكَّة وأبا مسعود الثقفِي من أَهْل الطائف، دفعهم الكبر إلي أن يطلبوا من هُوَ عندهم وفِي زعمهم أعظم رئاسة من المُصْطَفَى ? لأنه غلام يتيم وإن كَانَ من أطهر أصلابهم وأشرف أنسابهم فرد الله عَلَيْهمْ بقوله {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} ، ذَلِكَ أنَّهُمْ جهلة متهورون غلاظ القُلُوب حسدة لم يقدروا الله الَّذِي خلقهم والَّذِينَ من قبلهم، الحكيم الَّذِي يضع الأشْيَاءِ مواضعها وينزل الأمور منازلها. وروي مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا مَعَ رسول الله ? ونَحْنُ ستة نفر فَقَالَ المشركون: اطرد هؤلاء عنكَ فَإنَّهُمْ وإنَّهُمْ، قال فكنت أَنَا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسميهما، قال فوقع فِي نفس النَّبِيّ ? من ذَلِكَ ما شَاءَ الله فحدث به نَفْسه، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} وروي عن خباب بن الأرت – فِي سبب نزول هذه الآية – قال: جَاءَ الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري فوجدوا النَّبِيّ ? قاعداً مَعَ بلال وعمار وصهيب وخباب، فِي ناس من الضعفاء من الْمُؤْمِنِين، فَلَمَّا رأوهم حقروهم، فخلوا به فَقَالُوا: إنَا نحب أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا به

نماذج من تكبر المشركين على ضعفاء المسلمين واقتراحاتهم

الْعَرَب فضلنا، فإن وفود الْعَرَب تأتيك، فنستحي أن يرانَا الْعَرَب قعوداً مَعَ هذه الأعبد فإِذَا نَحْنُ جئناك فأقمهم عنا، فإِذَا نَحْنُ فرغنا فاقعدهم إن شئت، قال "نعم"، قَالُوا: فاكتب لنا عَلَيْكَ كتاباً، فدعا بالصحيفة، ليكتب لهُمْ، ودعا علياً ليكتب، فَلَمَّا أراد ذَلِكَ ونَحْنُ قعود فِي ناحية، إذ نزل جبريل عَلَيْهِ السَّلام، فَقَالَ: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} ثُمَّ ذكر الأقرع وصاحبه فَقَالَ: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} . ثُمَّ ذكرنا فَقَالَ: {وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} فرمي رسول الله ? بالصحيفة ودعانَا فأتيناه وَهُوَ يَقُولُ {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} فدنونا منه حتي وضعنا ركبنا عِنْدَ ركبتيه فكَانَ رسول الله ? يجلس معنا فإِذَا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل الله {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يَقُولُ لا تعد عيناك عنهم تجالس الأشراف {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} أما الَّذِي أغفل قَلْبه عن الذكر فهو عيينة بن حصن والأقرع، وأما فرطاً فهلاكاً، فإِذَا بلغنا الساعة التي كَانَ يقوم فيها قمنا وتركناه حتي يقوم، وإلا صبر أبداً حتي نقوم، رواه ابن أبي شيبة ورواه أبو نعيم. ومعني هَذَا أن هذين الرجلين حملهما الكبر والأنفة عَلَى احتقار بعض هؤلاء الْمُؤْمِنِين لضعفهم من جهة الْمَال والنسب فطلبا من النَّبِيّ ? أن يختصهم بمجلس لا يشمل هؤلاء الضعفاء وفِي رواية أنَّهُمْ يؤمنون به إن فعل ذَلِكَ وكَانَ ? حريصاً عَلَى إيمان النَّاس، كما ذكر الله عنهُ بقوله {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} .

الهوجاء التي نزل القرآن بالتحذير عنها والإبعاد عنها لقبحها

وَقَالَ {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} وَقَالَ {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} وَقَالَ: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} ورأي أن هَذَا لا يضر أصحابه خصوصاً بعد أن يدخل هذان معهما، فإن الدين كفيل بإذن الله فِي تهذيبهما فأجابهما إلي طلبهما. شعراً: الدِّيْنُ رُوْحٌ بِهِ تَحْيَا الأنَامُ كَمَا ... دَمَارُهَا أَبَداً بِالكُفْرِ يَنْحَتِمُ وَالكُفْرُ شَيْنٌ بِهِ الإصْلاَحُ مُنْعَدِمٌ ... وَالدِّيْنٌ زَيْنٌ بِهِ الأحوال تَنْتَظِمُ ولكن الله تعالى الَّذِي شرع الدين وَهُوَ الَّذِي فوق عباده جميعاً أبي عَلَى نبيه ذَلِكَ وأعلمه أنه لا يبالي بالمتكبرين، ولا يحفل بدخولهم فِي دينه، ما دامت أنفسهم متأثرة بالعزة الكاذبة واحتقار الْمُؤْمِنِين لأن دينه تعالى قَدْ جَاءَ بالِقَضَاءِ عَلَى هذه الرذيلة ولم يجعل الاحترام وعلو الهمة والمنزلة ورفعة القدر مرتبطاً برفعة النسب أو كثرة الْمَال أو الجاه والسُّلْطَان، وإنما جعل ذَلِكَ مرتبطاً بالعلم النافع وتقوي الله، ولذا قال لنبيه {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} وَقَالَ: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} الآية فصدع ? بأمر الله تعالى وبلغ ما أوحي إليه. شِعْراً: ... رَغِبْتُ عن الدُّنْيَا لِعِلْمِيَ أَنَّهَا مَحَلُّ حَيَاةِ المَرْءِ فِيه إبَلاَغُ وقَدْ لاَحَ فِي فَوْدَيَّ شَيْبٌ عَلَى الرَّدَى دَلِيْلٌ وفِيه مَا أَرَدْتُ بَلاَغُ وَأَمَّلْتُ مِنْ مَوْلاَيَ نَظْرَةَ رَحْمَةٍ يَكُوْنُ بِهَا مِنِّي إِليْهِ بَلاَغُ ... ›?

.. فَأحْظَى إِذَا الأبْرَارُ قِيْلَ لَهُمْ غَداً هَلِمُّوا إِلى دَارِ النَّعِيْمِ فَرَاغُوا رَأَيْتُ بَنَيْها مَا رَمَتْهُمُ سِهَامُهَا فَطَاشَتْ وَلاَ حُمَّ الحِمَامُ فَرَاغُوا فَعُجِبْتُ إِلى دَارِ البَقَاءِ بِهِمَّتِي فَعِنْدِي عنهَا رَاحَةٌ وَفَرَاغُ ... ›? اللَّهُمَّ مكن محبة القرآن فِي قلوبنا ووفقنا لتلاوته آناء الليل والنَّهَارَ اللَّهُمَّ وارزقنا الْعَمَل به والدعوة إليه واجعله حجة لنا وقائداً لنا إلي جنتك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين. " موعظة " عِبَادَ اللهِ: إنما يسعد المسلمون أن يتبعوا الحق ويدعوا إليه ولا تأخذهم فِي الله لومة لائم ويقبلوا النَّصِيحَة ممن ينصحهم ويعملوا بِهَا راضية نفوسهم شاكرة ألسنتهم غَيْرَ مستكبرين ولا متعنتين ولم يعمهم الهَوَى عن اتباع الحق إذ ذاك تكمل لهُمْ السعادة ويتم لهُمْ النَّعِيم وقَدْ فشا فِي النَّاس داء الكبر واستحكَم ولا أقصد بذَلِكَ من الكبر الخيلاء والتبختر فقط وإنما أقصد كبر المتكبر عن قبول نصح الناصح وإرشاد المشترشد فإن الأولَ وإن كان شراً لكن الثاني شر منه فإن المرء إذا لم يقبل نصيحة الناصح كَانَ راضياً عن نَفْسه ومتي رضي عن نَفْسه عميت عن عيوبِهَا فلا يؤثر فيها نصح ولا ينفع معها إرشاد لأن الغرور متحكم فيها والشهوات محيطة بِهَا فإِذَا أراد الله بعبده خيراً بصره بعيوب نَفْسه فأصلحها واتهمها دائماً بالنقص وطالبِهَا بالكمال حتي تلتحق بالنُّفُوس الزكية والأرواح الطاهرة وهكَذَا كَانَ سلفنا الصالح

قصيدة زهدية في الحث على الأعمال الصالحة ويليها موعظة

فكَانَ أمير الْمُؤْمِنِين عُمَرُ بنُ الْخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عنهُ يَقُولُ: رحم الله امرأً أهدي إلي عيوب نفسي وكَانُوا إِذَا أرشدهم أخٌ من إخوأنهمْ إلي عيب فِي نفوسهم فرحوا بهَذَا التنبيه وطهروا نفوسهم منه وشكروا من نصحهم وجعلوا نصيحته منة لَهُ عَلَيْهمْ ولم يأنفوا أو لم يستكبروا لأنَّهُمْ يتهمون نفوسهم ويرونها ناقصة ويسعون إلي رفعتها إلي أوج الكمال وبهَذَا بلغوا ما بلغوا ونالوا ما نالوا، يا عِبَادَ اللهِ: كيف نرضي عن نُفُوسنا والله جَلَّ وَعَلا يَقُولُ: (إن النفس لأمارة بالسوء) عِبَادَ اللهِ: من منا بلغ معشار ما بلغه عمر فِي كمال نَفْسه وقوة إيمانه وشدة يقينه وقَدْ كَانَ يَقُولُ لأصحابه: من رأي منكم فِيَّ اعوجاجاً فليقومه هكَذَا كَانَ ظنه رَضِيَ اللهُ عنهُ بنفسه عَلَى جلالة قدره وعلو منزلته فِي دينه وكل ما كَانَ أكبر كَانَ أقل إعجاباً بنفسه وأكثر مطالبة لها بسلوك طَرِيق الحق. شِعْراً: ... نَالُوا بِذَلِكَ فَرْحَةً وَسُرُوراً ... وَسَعَوْا فَأَصْبَحَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورَا قَوْمٌ أَقَامُوْا لِلإِلَهِ نُفُوسَهُمْ ... فَكَسَا وُجُوْهَهُمُ الوَسِيمَةَ نُوْرَا تَرَكُوْا النَّعِيْمَ وَطَلَّقُوا لَذَّاتِهِمْ ... زُهْداً فَعَوَّضَّهُمْ بِذَاكَ سُرُوْرَا قَامُوا يُنَاجُوْنَ الإلَهَ بِأّدْمُعٍ ... تَجْريْ فَتَحْكِي لُؤْلُؤاً مَنْثُورَا سَتَروْا وُجُوهَهُمُوْا بِأَسْتَارِ الدُّجَى ... لَيْلاً فَأَضْحَتْ فِي النَّهَارِ بُدُوْرَا عَمِلُوا بِمَا عَلِمُوا فَجَادُوْا بالَّذِي ... وَجَدُوْا فَأَضْحَتْ حَظُّهُمْ مَوْفُورَا وإِذَا بَدَا لَيْلٌ سَمِعْتَ أَنِيْنَهُمْ ... وَشَهِدْتَ وَجْداً مِنْهُمُوْا وَزَفْيِرَا تَعِبُوْا قَلِيلاً فِي رِضَا مَحْبُوبِهِمْ ... فَأَرَاحَهُمْ يَوْمَ المَعَادِ كَثِيْرَا صَبَرُوا عَلَى بَلْوَاهُمُوا فَجَزَاهُمُوْا ... يَوْمَ القِيَامَةِ جَنَّةً وَحَرِّيْرَا اللَّهُمَّ اجعلنا من أَهْل الصلاح والنجاح والفلاح، ومن المؤيدين بنصرك وتأييدك ورضاك وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

التكبر على الخلق من شر الرذائل وأقبح الخصال وصاحبه ممقوت

(فَصْلٌ) وأما التكبر عَلَى خلق الله فهو من شر الرذائل وأسوأ الصفات، لأنه يستلزم مظَالم شائنة وجرائم ممقوتة وقَدْ يفضي به ذَلِكَ إلي التكبر عَلَى الله وعَلَى رسله لأن الله تعالى نهي عن ارتكاب تلك المظَالم، وحذر عاقبة شرها، فلم يبال به ولم يخشَ وعيده، ولم يخف بطشه، وفِي ذَلِكَ كبر وعتو وتمرد. وأيضاً فإن المستعظم عَلَى عبد من عِبَاد اللهِ لا يصغي لقوله مهما كَانَ حقاً مفروضاً ولا يدخر مجهوداً فِي رده بالْبَاطِل وهَذَا من أَخْلاق الكافرين الَّذِينَ يستكبرون عَلَى الله فمن أجل ذَلِكَ حرم الله الكبر ونهي عنه نهياً شديداً1 هـ بتصرف. وقَدْ وردت آيات وأحاديث فِي ذم الكبر والنهي عنهُ من ذَلِكَ آية سورة الأعراف المشيرة إلي حرمان الحق وعمي الْقَلْب عن معرفة آيات الله تعالى وفهم أحكامه، قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ} . وَقَالَ تعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} وَقَالَ: {إنه لا يحب المستكبرين} وَقَالَ تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً} وَقَالَ: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} وَقَالَ: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} . وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عنهُ أن رسول الله ? قال: " لا

في الحث على التواضع، والابتعاد عن الكبر والأدلة على ذلك

ينظر الله يوم القيامة إلي من جر إزاره بطراً ". متفق عَلَيْهِ، وعنه أن رسول الله ? قال: " بينما رجل يمشي فِي حلة، تعجبه نَفْسهُ مرجل رأسه، يختال فِي مشيته خسف الله به فهو يتجلجل فِي الأرض إلي يوم القيامة ". متفق عليه. وعن ثوبان رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: "من مَاتَ وَهُوَ بريء من الكبر والغلول والدين دخل الجنة ". رواه الترمذي واللفظ لَهُ والنسائي، وابن ماجه وابن حبان فِي صحيحه. وعن أبي سعيد وأَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عنهُمَا قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: " يَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ: العزُّ إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني شيئاً مِنْهُمَا عذبته ". رواه مسلم بلفظ "يَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ: العزُّ إزاره، والكبرياء رداؤه، فمن ينازعني عذبته ". وعن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عنهُمَا قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: " يَقُولُ الله جَلَّ وَعَلا: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً مِنْهُمَا ألقيته فِي النار". رواه ابن ماجة واللفظ لَهُ وابن حبان فِي صحيحه. وعن حارثة بن وهب رَضِيَ اللهُ عنهُ قال سمعت رسول الله ? يَقُولُ: " إلا أخبركم بأَهْل النار؟ . كُلّ عتل جواظ مستكبر ". رواه البخاري ومسلم. وعن أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللهُ عنهُ عن رسول الله ? قال: "من تواضع لله درجة يرفعه الله درجة حتي يجعله الله فِي أعَلَى عليين ومن تكبر عَلَى الله درجة يضعه الله درجة، حتي يجعله فِي أسفل سافلين، ولَوْ أن أحدكم يعمل فِي صخرة صماء لَيْسَ عَلَيْهَا باب ولا كوة لخرج ما غيبه للناس كائناً ما كان" رواه ابن ماجة وابن حبان فِي صحيحه. وعن أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللهُ عنهُ عن النَّبِيّ ? قال: " احتجت الْجَنَّة والنار فقَالَتْ النار: فِيَّ الجبارون والمتكبرون، وقَالَتْ الْجَنَّة: فيَّ

ضعفاء المُسْلِمِيْنَ ومساكينهم، فقضي الله بينهما: إنك الْجَنَّة رحمتي أرحم بك من أشاء، وإنك النار عذابي أعذب به من أشاء، ولكليكما عَلَىَّ ملؤها ". رواه مسلم. وعن أبي سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف قال: التقي عَبْدُ اللهِ بنُ عمر وعبدُ الله بنُ عمرو بن العاص رَضِيَ اللهُ عنهُمْ عَلَى المروة فتحدثا ثُمَّ مضي عَبْدُ اللهِ بنُ عمرو وبقي عَبْدُ اللهِ بنُ عمر يبكي فَقَالَ لَهُ رجل: ما يبكيك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: هذا. يعني عَبْد اللهِ بن عمرو زعم أنه سمَعَ رسول الله ? يَقُولُ: "من كَانَ فِي قَلْبهِ مثقال حبة من خردل من كبر كبَّه الله لوجهه فِي النار ". رواه أَحَمَد ورواته رواة الصحيح. بلغ يا أخي هَذَا الْحَدِيث حاملي الماجستير والدكتوراه والبكالوريوس والعالمية ونحوهم من يرون النَّاس بعين الاحتقار والتنقص لما عندهم من الكبر والعجب والعظمة. شِعْراً: ... لَوْ عَرَفَ الإنسان مِقْدَارِهِ ... لم يَفْخَرِ المَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ أَمْسَ الَّذِي مَرَّ عَلَى قُرْبِهِ ... يَعْجَزُ كُلُّ الخَلْقِ عن رَدِّهِ آخر: لاَ تَفْخَرَنَّ بِمَا أُوْتِيْتَ مِنْ نِعَمٍ ... عَلَى سِوَاكَ وَخَفْ مِنْ مَكْرِ جَبَّارِ فأَنْتَ فِي الأصْلِ بِالفَخَّارِ مُشْتَبِهٌ ... مَا أَسْرَعَ الكَسْرَ فِي الدُّنْيَا لِفَخَّارِ آخر: اعْجَبْ لِمُحْتَكِرِ الدُّنْيَا وَبَانِيْهَا وعن قَرِيْبٍ عَلَى كُرْه يُخَلّيْهَا دَارٌ عَواقِبُ مَفْرُوْحَاتِهَا حَزَنٌ إِذَا أَعَارَتْ أَسَاءَتْ فِي تَقَاضِيْهَا يَا مَنْ يُسَرُّ بِأَيَّامٍ تَسِيْرُ بِهِ إِلى الفَنَاءِ وَأَيَّامٍ يُقَضِّيْهَا ... ›?

.. قِفْ فِي مَنَازِلِ أَهْلِ العِزَّ مُعْتَبِراً وانْظُرْ إِلى أَيِّ شَيْءٍ صَارَ أَهْلُوهَا صَارُوْا إِلى حَدَثٍ فِيه مَحَاسِنُهُمْ عَلَى الثَّرَى وَدَوِيُ الدُوْدِ يَعْلُوهَا ... ›? اللَّهُمَّ يسرنا لليسري وجنبنا العسري وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. " موعظة " عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ كانت القُلُوب موضع العناية التامة عِنْدَ السَّلَف الصالح لأنَّهُمْ يعلمون كما قال النَّبِيّ ?: " إِذَا صلحت صلح الجسد كله" وَذَلِكَ لأنها مبدأ الحركات البدنية، والإرادات النفسانية، فإن صدرت من القُلُوب إرادة صَالِحَة تحرك البدن حركة طاعة، وإن صدرت عنهَا إرادة فاسدة تحرك البدن حركة فاسدة، فهو كملك والأعضاء كالرعية، ولا شك أن الرعية تصلح بصلاح الملك وتفسد بفساده، وكَانَ واجباً عَلَيْنَا أن نكون كما كَانَ سلفنا فِي العناية بهاتيك القُلُوب لأن بِهَا سعادتنا بإذن الله وبِهَا شقاؤنا، ولكن يا للأسف ما كَانَ من ذَلِكَ شَيْء والَّذِي كَانَ منا أننا أهملنا قلوبنا إهمالاً تتجرح لَهُ القُلُوب، وتذوب لَهُ الأكباد ولذَلِكَ نشأ فينا نتيجة الإهمال كثرة الأمراض فِي القُلُوب وتشعبت وأعضلت وصعب شفاؤها، وانعدم أطباؤها ومن وصل إلي هَذَا الحد فهو فِي خطر عظيم. فمن الأمراض التي أزمنت فِي قلوبنا مرض الرياء الَّذِي لا يكاد يسلم منه إلا النوادر، ومن الأمراض التي أصبنا بِهَا مرض العجب، ولهَذَا يعتقد

الصغَيْر منا والكبير الكمال فِي نَفْسه ومن اعتقَدْ ذَلِكَ فِي نَفْسه هوي لأنه لا يلتفت إلي ما به كمال الرِّجَال، ومرض ينتج مرضاً آخر هُوَ مرض الكبر وصف الأنذال والأرذال والجهال، والمتكبر لا ينظر إليه بعين الرِّضَا والكبر ينشأ عنهُ مرض الحسد والحسود يتمني زَوَال نعمة الله عن خلقه، والحسد يولد الحقد الَّذِي ربما حمل صاحبه عَلَى قتل من لا ذنب له إلا ما أولاه الله من النعم، ولَيْسَ هَذَا كُل ما فِي قلوبنا من الأمراض بل فيها مرض البخل والشح الَّذِي وصل بنا إلي منع الزَّكَاة أو بعضها، وغَيْرَ ذَلِكَ كثير وكلها أمراض مهلكات، ونَحْنُ لا نهتم بقلوبنا ولا بأمراضها وإنما نهتم بأمراض أجسامنا، ونبادر فِي علاجها إلي المستشفيات، وأمراضها يسيرة بسيطة بِالنِّسْبَةِ إلي أمراض القُلُوب، ونهتم أيضاً بجمال ظواهرنا فنبالغ فِي تحسين ملابسنا ومراكبنا ومساكننا ومجالسنا وأبداننا، انظر إلينا عِنْدَ الذهاب إلي مقر الْعَمَل لتعجب من تغفيلنا وانخداعنا، ولَوْ كانت عنايتنا بالقُلُوب كعنايتنا بالملابس فقط ما كنا بهذه الحالات المحزنات. شِعْراً: ... تَفَكَّرْتُ فِي الدُّنْيَا فَأبْصَرْتُ رُشْدَهَا ... وَذَلَّلْتُ بِالتَّقْوى مِنْ اللهِ حَدَّهَا أَسَأْتُ بِهَا ظَناً فَأَخْلَفْتُ وَعْدَهَا ... وَأَصْبَحْتُ مَوْلاَهَا وَقَدْ كُنْتُ عَبْدَهَا آخر: ... خَلِيْلَّيْ قُوْمَا فاحْمِلاَ لِي رِسَالَةً وَقُولاَ لِدُنْيَانَا الَّتِي تَتَصَنَّعُ عَرَفْنَاكِ يَا خَدَاعَةَ الخَلْقِ فَاذْهَبِي أَلَسْنَا نَرَى مَا تَصْنَعِيْنَ وَنَسْمَعُ فَلاَ تَتَجَلَّيْ لِلْعُيُونِ بِزِيْنَةٍ فَإِنَّا مَتَى مَا تَسْفُرِي نَتَقَنَّعُ نُغَطِي بِثَوْبِ اليَأْسِ عنكَ عُيُوبَنَا إِذَا لاَحَ يَوْماً مِنْ مَخَازِيْكِ مَطْمَعُ ... ›?

آخر: ... رَتَعنا وَجُلْنَا فِي مَرَاعِيْكِ كُلِّهَا فلم يَهْنَنَا فِي مَا رَعَيْنَاهُ مَرْتَعُ ... ›? آخر: ... يَا آمِرِيْ بِاقْتِنَاءِ الْمَالِ مُجْتَهِداً ... كَيْمَا أَعِيْشُ لِمَالِي فِي غَدٍ رَغَداً هَبْنِيْ بِجَهْدِيَ قَدْ أَصْلَحْتُ أَمَرْ غَدٍ ... فَمَنْ ضَمِيْنِيْ بِتَحْصِيْلِ الحَيَاةِ غَداً اللَّهُمَّ أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الْبَاطِل باطلاً وجنبنا اتباعه، واغفر لنا ولولدينا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) عن حذيفة رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: كنا مَعَ النَّبِيّ ? فِي جنازة قال: "ألا أخبركم بشر عِبَادِ اللهِ؟ : الفظ المستكبر، إلا أخبركم بخَيْر عِبَادِ اللهِ؟ الضعيف المستضعف لله، ذو الطمرين لا يؤبةَ لَهُ لَوْ أقسم عَلَى الله لأبره" رواه أَحَمَد ورواته رواة الصحيح إلا مُحَمَّد بن جابر. وعن عَبْد اللهِ بن سلام رَضِيَ اللهُ عنهُ: أنه مر فِي السوق وعَلَيْهِ حزمة من حطب، فقيل لَهُ ما يحَمَلَكَ عَلَى هَذَا، وقَدْ أغناك الله عن هذا؟ قال أردت أن أدفع الكبر، سمعت رسول الله ? يَقُولُ "لا يدخل الْجَنَّة من فِي قَلْبهِ خردلة من كبر" رواه الطبراني بإسناد حسن والأصبهاني إلا أنه قال ذرة من كبر. وعن عمرو بن شعيب رَضِيَ اللهُ عنهُ عن أبيه عن جده قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر فِي صور الرِّجَال يغشاهم الذل من كُل مكَانَ يساقون إلي سجن فِي جهنم يُقَالُ لَهُ بولس، تعلوهم نار الأنيار يسقون من عصارة أَهْل النار طينة الخبال. رواه النسائي والترمذي واللفظ له

لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة خردل من كبر

وَقَالَ: حديث حسن وعن عَبْد اللهِ بن مسعود رَضِيَ اللهُ عنهُ عن النَّبِيّ ? قال: "لا يدخل الْجَنَّة من كَانَ فِي قَلْبهُ مثقال ذرة من كبر" فَقَالَ رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة قال: إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس" رواه مسلم والترمذي. وعَن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عنهُمَا أن النَّبِيّ ? قال: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة فَقَالَ أبو بكر رَضِيَ اللهُ عنهُ:يَا رَسُولَ اللهِ إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده. فَقَالَ لَهُ رسول الله ?: "إنك لست ممن يفعله خيلاء" رواه مالك والبخاري واللفظ له. وعن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عنهُمَا قال: سمعت رسول الله ? يَقُولُ: "من تعظم فِي نَفْسه واختال فِي مشيته لقي الله تبارك وتعالى وَهُوَ عَلَيْهِ غضبان" رواه الطبراني فِي الكبير واللفظ لَهُ ورواته محتج بِهم فِي الصحيح والحاكم بنحوه وَقَالَ صحيح عَلَى شرط مسلم. وعن خولة بنت قيس رَضِيَ اللهُ عنهُمَا أن النَّبِيّ ? قال: "إِذَا مشت أمتي المطيطأ، وخدمتهم فارس الروم، سلط بَعْضهمْ عَلَى بعض" رواه ابن حبان فِي صحيحه ورواه الترمذي وابن حبان أيضاً من حديث ابن عمر، وروري عن أسماء بنت عميس رَضِيَ اللهُ عنهَا، قَالَتْ: سمعت رسول الله ? يَقُولُ: "بئس الْعَبْد عبد تخيل واختال ونسي الكبير المتعال، بئس الْعَبْد عبد تجبر واعتدي، ونسي الجبار الأعلَى، بئس الْعَبْد عبد سها ولها، ونسي المقابر والبلي، بئس الْعَبْد عبد عتي وطغي، ونسي المبتدأ والمنتهي بئس الْعَبْد عبد يختل الدُّنْيَا بالدين، بئس الْعَبْد عبد يختل الدين بالشبهات، بئس الْعَبْد عبد طمَعٌ يقوده، بئس الْعَبْد عبد هوي يضله، بئس الْعَبْد عبد رغب يذله رواه الترمذي. شِعْراً: ... لاَ تَبِخَلَنَّ بِدُنَياً وَهْيَ مُقِبْلَةٌ ... فَلاَ يَضُرُّ سِوَى التَّبْذِيْرُ وَالسّرَفُ وَإِنْ تَولَّتْ فَأحْرَى أَنْ تَجُودَ بِهَا ... فَالشُّكْرُ مِنْهَا إِذَا مَا أَدْبَرَ خَلِفُ

أول ثلاثة يدخلون النار، أربعة يبغضهم الله

آخر: ... إِنَّ المَؤُنَةَ وَالحِسَابَ كِلَيْهِمَا ... قُرِنَا بِهَذَا الدَّرْهَمِ المَذْمُوْمِ كَلِفَ الأنَامُ بِذِمِّهِ وَبِضَمِّهِ ... فَتَعَجَّبُوْا لِمُذَمّمٍ مُضْمُوْمِ وعن أَبِي هُرَيْرَةِ عنهُ قال قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم، شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر" رواه مسلم والنسائي، وعنه رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: " أربعة يبغضهم الله البياع الحلاف والفقير المختال، والشَّيْخ الزاني، والإمام الجائر ". رواه النسائي وابن حبان فِي صحيحه. وعنه رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: " عرض عَلَى أول ثلاثة يدخلون النار: أمير مسلط، وذو ثروة من مال لا يؤدي حق الله فِيه، وفقير فخور" رواه ابن خزيمة وابن حبان فِي صحيحه. وأخرَجَ ابن ماجه والحاكم وصحح إسناده أن رسول الله ? بصق يوماً عَلَى كفه ووضع أصبعه عَلَيْهِ وَقَالَ: "يَقُولُ الله تعالى: ابن آدم أتعجزني وقَدْ خلقتك من مثل هذه؟ حتي إِذَا سويتك وعدلتك، مشيت بين بردين، وللأرض منك وئيد، جمعت ومنعت، حتي إِذَا بلغت التراقي، قُلْتُ أتصدق، وأني أوان الصدقة" وَاللهُ أَعْلم وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم. شِعْراً: ... دَعِ الكِبْرَ واجْنَحْ لِلتَّوَاضُعِ تَشْتَمِلْ ... وِدَادَ مَنِيْعِ الوِدِّ صَعْبٌ مَرَاقُهُ وَدَاوِ بِلِيْنٍ مَا جَرَحْتَ بِغِلْظَةٍ ... فَطِبُّ كَلاَمِ المَرْءِ طِيْبُ كَلاَمِهِ آخر: ... حَقَيق بِالتَوَاضُعِ مَنْ يَمُوْتُ ... وَيَكْفِي المَرْءَ مِنْ دُنْيَاهُ قُوْتُ فَمَا لِلْمَرْءِ يُصْبِحُ ذَا هَمُوُمٍ ... وَحِرْصٍ لَيْسَ يُدْرِكُهُ النُعُوْتُ فَيَا هَذَا سَتَرْحَلُ عن قَرِيْبٍ ... إِلى قَوْمٍ كَلاَمُهُمُ السُكُوْتُ آخر: ... تَذَلَّلْ لِمَنْ إِنْ تَذَلَلْتَ لَهُ ... يَرَى ذَاكَ لِلْفَضْلِ لاَ لِلْبَلَهْ

أبيات في الحث على التزود للآخرة ويليها موعظة بليغ

.. وَجَانِبْ صَدَاقَةَ مَنْ لم يَزَلْ ... عَلَى الأصْدِقَاءِ يَرَى الفَضْلَ لَهُ آخر: ... إِذَا تَاهَ الصَّدِيْقُ عَلَيْكَ كِبْراًُ ... فَتِهْ كِبْراً عَلَى ذَاكَ الصَّدِيْقِ فَإيْجَابُ الحُقُوْقِ بِغَيْرِ رَاعِ ... حُقُوُقَكَ رَأْسُ تَضْيِيْعِ الحُقُوْقِ آخر: ... تَواضَعْ إِذَا مَا نِلْتَ فِي النَّاسِ رِفْعَةً ... فَإِنَّ رَفْيعَ القَوْمِ مَنْ يَتَوَاضَعُ وَدَاوِمْ عَلَى حَمْدِ الإلهِ وَشُكْرِهِ ... وَذْكر لَهُ فَهُوَ الَّذِي لَكَ رَافِعُ آخر: ... يَا غَافِلاً عن سَاعَةٍ مَقْرُوْنَةٍ ... بِنَوَادِب وَصَوَارِخٍ وَثَوَاكِلِ قَدِّمْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ صَالِحاً فَالمَوْتُ أَسْرَعُ مِنْ نُزُوْلِ الهَاطِلِ حَتَّامَ سَمْعُكَ لاَ يَعِي لِمُذَّكِرٍ وَصَمِيْمُ قَلْبِكَ لاَ يَلِيْنُ لِعَاذِلِ تَبْغِي مِنَ الدُّنْيَا الكَثْيِرَ وَإِنَمَا يَكْفِيكَ مِنْ دُنْيَاكَ زَادُ الرَّاحِلِ آيُ اْلكِتَابِ يَهُزُّ سَمْعَكَ دَائِماً وَتَصُمُّ عنهَا مُعْرِضاً كَالغَافِلِ كم لِلإِلَهِ عَلَيْكَ مِنْ نِعَمٍ تُرَى وَمَوَاهِبٍ وفَوَائِدٍ وَفَوَاضِلِ كم قَدْ أَنَالَكَ مِنْ مَوَانِحِ طَوْلِهِ فَأسْألْهُ عَفْواً فَهُوَ غَوْثُ السَّائِلِ ... ›? اللَّهُمَّ مكن حبك فِي قلوبنا وألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لامتثال طَاعَتكَ وأمرك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.

أبيات في ذم الدنيا ويليها، من خير عباد الله ومن شرهم

" موعظة " عِبَادَ اللهِ: من تكبر أذله ومن تواضع لله رفعه الله والمتكبرون يحشرون يوم القيامة فِي صور الذر تطؤهم النَّاس لهوانهم عَلَى الله تعالى المتكبرون شرار الخلق وأَهْل النار كُل جعظري جواظ مستكبر، المتكبر يشمخ بأنفه إِذَا تكلَم، ويجافِي مرفقيه عن جنبيه لاوياً عَنقه، يقارب خطاه إِذَا مشي، متطاولاً عَلَى إخوانه، مترفعاً عَلَى أقرانه، ينظر النَّاس شظراً بمؤخر العين، متقدماً عَلَيْهمْ إِذَا مشي، محتقراً للعامة، ولا فرق عنده بينهم وبين الحمير استهجإلا منه لهُمْ، فالمتكبر لا يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه، لأنه لا يقدر عَلَى ذَلِكَ، ولا يقدر عَلَى التواضع وَهُوَ رأس أَخْلاق المتقين، ولا يقدر عَلَى ترك الحقد، ولا يقدر أن يدوم عَلَى الصدق، ولا يقدر عَلَى ترك الْغَضَب، ولا عَلَى كظم الغيظ، ولا يسلم من الازدراء بِالنَّاسِ واحتقارهم ولا يسلم من اغتيابهم وتنقيصهم، لأن فِيه من العظمة والعزة والكبرياء، ما يمنعه من ذَلِكَ، فما من خلق ذميم إلا وصَاحِب الكبر والعظمة مضطر إليه، ليحفظ به عزه وعظمته، وما من خلق محمود إلا وَهُوَ عاجز عنهُ خوفاً من أن يفوته عزه وعظمته، ولذَلِكَ ورد فِي الْحَدِيث أنه لا يدخل الْجَنَّة من فِي قَلْبهِ مثقال ذرة من كبر، ومِمَّا جَاءَ فِي وصية لقمان لابنه {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} ومن تعاليم ربنا لهذه الأمة ونبيها عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام، بقول الله تعالى: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} فيا أيها المتكبر الناظر فِي عطفِيه، المتعاظم فِي نَفْسه، إن شأنك حقير، وقدرك صغَيْر ولست بمحسوب فِي العير، ولا فِي النفير، وما لك عِنْدَ عاقل من حساب، ولا تقدير، لا قليل ولا كثير، فهون عَلَيْكَ، وارفق بنفسك، فإنك مغرور، يا مسكين وتدبر كلام رب العالمين {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} ، {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} وذم الكبر فِي القرآن كثير، والمتكبر

أبيات زهدية ويليها موعظة متضمنة لبعض صفات المتكبر

عدو لله ولنفسه وللناس، ويقصر فِي الواجب ويدعي ما لَيْسَ لَهُ ويتشدق فِي الكلام، ويتألق فِي اللباس، وإنه لثقيل فِي حركاته وسكناته، بغيض فِي أمره ونهيه، ومجالسته، ومؤاكلته ومشاربته، والويل كُل الويل لمن صاهره أو شاركه أو ربطته به صلة، لأن داء الكبر يعدي ويسري فتبعد السلامة من المقترب منه رأي بعض أَهْل العلم من يختال فِي مشيته فغمز جنبه، ثُمَّ قال لَيْسَتْ هذه مشية من فِي بطنه خراء، وكيف يتكبر من أوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يحمل البول والعذرة، هَذَا أكبر برهان عَلَى أنه دنس جاهل مجهول نكرة ممتلئاً كبراً وإعجاباً بنفسه وسمعة، ورياءً، ولؤماً وشؤماً وشرهاً فهو أشبه شَيْء بالدخان يملأ الفضاء ويتك صدور النَّاس وأصله من القمامَاتَ والأوساخ المبعثرة، نسأل الله أن يقلل هَذَا النوع المنحط وأن يكثر ضده من أَهْل التواضع واللين والعطف والحنان: قال الله تعالى {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} اللَّهُمَّ أنظمنا فِي سلك عبادك الأخيار ونجنا بِرَحْمَتِكَ من عذاب النار وأسكنا الْجَنَّة مَعَ أوليائك الأبْرَار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) وللكبر آثار تظهر عَلَى الجوارح كُلّهَا تدور حول ذَلِكَ النظر، فتري المتكبر إن سمح بممشاه مَعَ النَّاس يكون متقدماً عَلَيْهمْ، حريصاً جداً أن يكونوا كلهم خلفه، وتراه إن جلس معهم ورضي أن يكونوا جلساءه، محتفظاً بصدر المجلس مستقلاً به ويسره أن يصغوا إلي كلامه، ويؤلمه كلام غيره وتجده ينتظر من النَّاس أن يتلقوا كلامه بالقبول والتصديق. شِعْراً: ... وَمُسْتَعْبَدٍ إِخْوَانَهُ بِثَرَائِهِ ... لَبِسْتُ لَهُ كِبْراً أَبَرَّ عَلَى الكِبْرِ وَقَدْ زَادَنِيْ تِيْهَاً عَلَى مُتَكَبِّرٍ ... أَرَانِيَ أَغْنَى وَإِنْ كُنْتُ ذَا فَقْرِ

آخر: ... حَجَابٌ وَإِعْجَابٌ وَفَرْطُ تَصَلُّفٍ ... وَمَدُّ يَدٍ نَحْوَ العُلَى بِتَكَلُّفِ ولَوْ كَانَ هَذَا مِنْ وَرَاءِ كِفَايَةٍ ... عَذَرْنَا وَلَكَنْ مِنْ وَرَاءِ تَخَلُفِ آخر: ... يَا قَلْيلَ القَدْرِ مَوْفُورَ الصَّلَفْ ... والَّذِي فِي التِيْهِ قَدْ حَازَ السَّرَفْ كُنْ لَئِيْمَاً وَتَوَاضَعْ تُحْتَمَلْ ... أَوْ سَخِيَاً يُحْتَمَلْ مِنْكَ الصَّلَفْ آخر: ... فَخَرٌ بِلاَ حَسَبٍ عُجْبٌ بِلاَ أَدَبِ ... كِبْرٌ بِلاَ نَشَبٍ هَذَا مِنَ العَجَبِ آخر: ... الْمَرُء يُعْجِبُنِيْ وَمَا كَلمتُهُ ... ويُقَالُ لِيْ هَذَا اللَبِيْبُ اللَّهْذَمُ فَإِذَا قَدَحْتُ زِنَادَهُ وَوَرَيْتَهُ ... فِي الكَفِّ زَافَ كَمَا يَزْيِفُ الدِرْهَمُ ومن آثار الكبر: تصعير الخد، والنظر شزراً، وإطراق رأسه، وجلوسه متربعاً أو متكئاً. وتظهر آثار الكبر أيضاً فِي أقوال المتكبر حتي فِي صوته ونغمته وصيغة كلامه فِي الإيراد وقيل لأحمق تكبر وقام ساخطاً عَلَى أستاذه لماذَا قمت فَقَالَ دخلت ولم يحترمني وجلست فلم يكرمني ولم يدر من أَنَا واستشهد بقول الشاعر: (ولَوْ كَانَ إِدْرَاكُ الهُدَى بِتَذَلُلٍ رَأَيْتُ الهُدَى أَنْ لاَ أَمِيْلَ إِلى الهُدَى) ... ›? آخر: ... كَالثَّوْرِ عَقْلاً وَمِثْلُ التَّيِسِ مَعْرِفَةً ... ... فَلاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الحَقِّ والفَنَدِ الجَهْلُ شَخْصٌ يُنَادِي فَوْقَ هَامَتِهِ ... لاَ تَسْأَلِ الرَّبْعَ مَا فِي الرَّبْعَ مِنْ أَحَدِ آخر: ... وَمَنْ أمَنَ الآفَاتِ عُجْباً بِرَأْيِهِ ... أَحَاطَتْ بِهِ الآفَاتُ مِنْ حَيْثُ يَجْهَلُ آخر: ... وَمَا رَفَعَ النَفْسَ الوَضِيْعَةَ كَالتُقَى ... وَلاَ وَضَعَ النَّفَسَ الرَّفِيعَةَ كَالكُفْرِ ويظهر أيضاً أثر الكبر فِي مشيه وتبختره وقيامه وجلوسه وحركاته وسكناته وفِي تعاطيه لأفعاله، وفِي سائر تقلباته فِي أحواله وأقواله وأعماله. وفِي كتاب الخمول والتواضع لابن أبي الدُّنْيَا عن أبي بكر الهذلي قال: بينما نَحْنُ مَعَ الحسن، إذ مر عَلَيْهِ ابن الأهتم يريد المنصور وعَلَيْهِ جباب خز، قَدْ نضد بعضها فوق بعض عَلَى ساقه، وانفرج عنهَا قباؤه وهو

في التحذير من الكبر ومقارنة المتكبر ومصاهرته ومشاركته. . . الخ

يمشي ويتبختر، إذ نظر إليه الحسن نظرة فَقَالَ: أف أف، شامخ بأنفه ثاني عطفه، مصعر خده، ينظر فِي عطفِيه أي حميق ينظر فِي عطفِيه فِي نعم غَيْرَ مشكورة ولا مذكورة، غَيْرَ المأخوذ بأمر الله فيها، ولا المؤدي حق الله منها وَاللهِ أن يمشي أحدهم طبيعته يتلجلج تلجلج المجنون فِي كُل عضو منه نعمة وللشيطان بِهَا لعنة، فسمعه ابنُ الأهتم، فرجع يعتذر إليه، فَقَالَ: لا تعتذر إليَّ وتب إلي ربك، أما سمعت قول الله تعالى: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} . ورأي ابن عمر رجلاً يخطر فِي مشيته فَقَالَ: إن للشياطين إخواناً. وروي عن عَلَى بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال: من أراد أن ينظر إلي رجل من أَهْل النار فلينظر إلي رجل قاعد وبين يديه قوم قيام، وَقَالَ أنس: لم يكن شخص أحب إليهم من رسولِ الله ?، وكَانُوا إِذَا رأوه لم يقوموا لَهُ لما يعلمون من كراهته لذلك. ومن آثار الكبر أن المتكبر يحرص جداً عَلَى أن يمشي معه غيره ويكون الماشي معه خلفه، وكَانَ عبد الرحمن بن عوف لا يعرف من بين عبيده إذ كَانَ لا يظهر فِي صورة ظاهرة، ومشي قوم خلف الحسن البصري فمنعهم، وكَانَ ? فِي بعض الأوقات يمشي مَعَ بعض أصحابه فيأمرهم بالتقدم ويمشي فِي غمارهم، إما لتعليم غيره أو لينفِي عن نَفْسه وساوس الشيطان بالكبر والإعجاب. ومن آثار الكبر أن يستنكف من جلوس غيره معه بالقرب منه إلا أن يجلس بين يديه، والتواضع خلافه، ومنها أن لا يتعاطي شغلاً فِي بيته، وقَدْ كَانَ النَّبِيّ ? كما روت عَائِشَة – فِي مهنة أهله يعني خدمتهم، من آثار الكبر أن لا يحمل متاعه إلي بيته ولَوْ كَانَ لا يثقله، وَهُوَ خلاف التواضع، فقَدْ كَانَ ? يفعل ذَلِكَ، وَقَالَ عَلَى كرم الله وجهه: لا ينقص الرجل الكامل من

من آثار الكبر، المتكبرين إخوان الشياطين

كماله من شَيْء إلا عياله، وكَانَ أبو عبيدة يحمل سطلاً لَهُ من خشب إلي الحمام وَهُوَ أمير. وَقَالَ ثابت بن مالك: رَأَيْت أبا هريرة أقبل من السوق يحمل حزمة حطب وَهُوَ يومئذ خليفة لمروان، فَقَالَ أوسع الطَرِيق للأمير يا ابن مالك، وعن الأصبغ بن نباتة قال: كأني أنظر إلي عمر رَضِيَ اللهُ عنهُ معلقاً لحماً فِي يده اليسري وفِي يده اليمني الدرة يدور فِي الأسواق حتي دخل رحله، وَقَالَ بَعْضهمْ رَأَيْت علياً رَضِيَ اللهُ عنهُ قَدْ اشتري لحماً بدرهم فحمله فِي ملحفته، فقُلْتُ لَهُ أحمل عنكَ يا أمير الْمُؤْمِنِين، فَقَالَ لا، أبو العيال أحق أن يحمل. وروي أن عمر بن عَبْد الْعَزِيز أتاه ليلة ضيف وكَانَ يكتب فكاد السراج يطفأ، فَقَالَ الضيف: أقوم إلي المصبح فأصلحه فَقَالَ: لَيْسَ من كرم الرجل أن يستخدم ضيفه، قال: أفأنبه الغلام؟ فَقَالَ: هِيَ أول نومة نامها. فقام فأخذ البطة فملأ المصباح زيتاً، فَقَالَ الضيف: قمت أَنْتَ بنفسك يا أمير المؤمنين! فَقَالَ: ذهبت وأنَا عمر ورجعت وأنَا عمر ما نقص مني شَيْء وخَيْر النَّاس من كَانَ عِنْدَ الله متواضعاً ومن آثار الكبر تطويل الشارب الضي يسمي شنبات كأنها ريش الجعل إِذَا ابتدأ بالطيران أو نزل قبل أن يدخله، قال الله تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} . وكَذَلِكَ إمالة العقال إلي الجبهة أو إلي جانب الرأس. ومن آثاره إسبال الثياب والتفاخر بها. وحكي أن مطرف بن عَبْد اللهِ بن الشخِّيْر نظر إلي المهلب بن أبي صفرة وعَلَيْهِ حلة يسحبِهَا ويمشي الخيلاء، فَقَالَ مطرف: يا عَبْد اللهِ ما هذه المشية التي يبغضها الله ورسوله فَقَالَ المهلب: أما تعرفني وتنهاني مِمَّا رَأَيْت فَقَالَ: بل أعرفك أولك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة وحشوك فيما بين ذَلِكَ بول وعذرة، قال بعضهم.

شِعْراً: ... يَا مَنْ تَلَبَّسَ أَثْوَاباً يَتِيْهُ بِهَا ... تِيْهَ المُلُوكِ عَلَى بَعْضِ المَسَاكِيْنِ مَا غَيْرَ الجُلُّ أَخْلاَقَ الحَمِيْرِ وَلاَ ... نَقْشُ البَرَاذِعِ أَخْلاَقَ البَرَاذِيْنِ آخر: ... مَليءٌ بِبَهْرٍ وَالتِفَاتَ وَسَعْلَةِ ... وَمَسْحَةِ عُثْنُوْنٍ وَفَتْلِ الاصَابِعِ آخر: ... أَيُهَا المُدَعِي الفِخَارَ دَعِ الفَخُـ ... رِ لِذِيْ الكِبْرِيَاءِ وَالجَبَرُوْتُ نَسْجُ دَاوُوْدُ لم يُفِدْ لَيْلَةَ الغَا ... رِ وَكَانَ الفِخَارِ لِلْعنكَبُوتُ وَبَقاءُ السَّمَنْدَلِ فِي لَهَبِ النَّا ... رِ مُزِيْلٌ فَضِيْلَةَ اليَاقُوتُ يَا مُظْهِرَ الكِبْرِ إِعْجَاباً بِصُورَتِهِ ... ???? ... انْظُرْ خَلاَكَ فَإِنَّ النَّتْنَ تَثْرِيْبُ ... ???? ... لَوْ فَكَّرَ النَّاسُ فِي مَا فِي بُطُونِهِمْ ... ???? ... مَا اسْتَشْعَرَ الكِبْرَ شُبَّانُ وَلاَ شِيْبُ ... ???? ... هَلْ فِي ابْنِ آدَمَ مِثْلَ الرَّأْسِ مَكْرُمَةً ... ???? ... بِأَرْبَعٍ هُوَ فِي الاقْدَارِ مَضْرُوْبُ ... ???? ... أَنْفٌ يَسِيْلُ وَأُذْنٌ رِيْحُهَا سَهِكٌ ... ???? ... وَالعَيْنُ مُرْفَضَّةٌ وَالثَّغْرُ مَلْعُوْبُ ... ???? ... يَا ابْنَ التُّرَابِ وَمَأكُوْلَ التُرَابِ غَداً ... ???? ... اقْصُرْ فَإِنَّكَ مَأْكُوْلٌ وَمَشْرُوْبُ ... ›? ... ????ومن آثاره: جعل خاتم ذهب أو ساعة فيها ذهب. ومن آثار الكبر جعل الكبكات فِي أكمام الثياب، وَقَالَ زيد بن وهب: رَأَيْت عُمَر بن الْخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عنهُ خرج إلي السوق، وبيده الدرة، وعَلَيْهِ إزاره فِيه أربع عشرة رقعة بعضها من جلد وعوتب عَلَى كرم الله وجهه فِي إزار مرقوع، فَقَالَ: يقتدي به المُؤْمِن ويخشع لَهُ القلب. أين هؤلاء من أَهْل زماننا المظلم. ومن آثار الكبر: الأكل أو الشرب باليسار وَهُوَ خلاف السنة والعقل

والأدب. فإن اليسار لما يستكره كالاستجمار والاستنجَاءَ والتمخط وإخراج ما فِي الأنف. أو فِي الجروح من صديد وغسل الأوساخ والنجاسات، أو لما يحرم ويستقذر كالدخان والخمر، وإليمني عَلَى العكس للأكل والشراب والتسوك والتطيب، وتقديمها للسلام وللمناولة ونحو ذَلِكَ مِمَّا هُوَ لائق بها. شِعْراً: ... وَتَاهَ سَعِيْدٌ أَنْ أُفِي د وِلاَيَةً ... وَقُلِّدَ أَمْراً لم يَكُنْ مِنْ رِجَالِهِ وَأَدْبَرَ عَنِّي عِنْدَ إِقْبَالِ حَظِهِ ... وغَيْرَ حَالِيْ عِنْدَهُ حُسْنُ حَالِهِ وَضَاقَ عَلَى حَقّي بِعُقْبِ اتَّسَاعِهِ ... فَأَوْسَعْتُهُ عُذْراً لِضِيْقِ احْتِمَالِهِ وقَدْ يصل الكبر ومثله العجب – بصاحبه إلي أن يورده موارد الكفر برب العالمين، كما حصل للمتكبرين عَلَى الله ورسله، فمن ذَلِكَ ما روي أن رجلاً كَانَ جالساً فِي طَرِيق فمرت به امرأة فقَالَتْ: يا عَبْد اللهِ كيف الطريق؟ فَقَالَ يا هناة أمثلي يكون من عبيد الله؟ وخطب رجل آخر فِي النَّاس، فَلَمَّا انتهي من خطبته قال لَهُ بعض الناس. أكثر الله من أمثالك فَقَالَ لهُمْ: لَقَدْ كلفتم الله شططا. أي أمراً بعيداً ومشقاً نعوذ بِاللهِ تعالى من حاله. وحالة أمثاله قللهم الله فِي المُسْلِمِيْنَ. وآخر أضل راحلته فالتمسها فلم يجدها فَقَالَ: إن لم يرد الله إلي راحلتي لا صليت لَهُ صلاة أبداً، فالتمسها النَّاس فوجدوها، فَقَالُوا لَهُ: قَدْ رد الله عَلَيْكَ راحلتي فصل، فَقَالَ: إن يميني يمين مصر، كأنه يهدد الله، نعوذ بِاللهِ من ذَلِكَ وآخر دخل مسجد البصرة فبسط ناس لَهُ أرديتهم تعظيماً لَهُ، فمشي عَلَيْهَا وَقَالَ لرجل يماشيه: (لمثل هَذَا فليعمل العاملون) اقتباساً من آية الصافات، إلي هَذَا الحد يصل الكبر بأهله قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: وَسَلِ العِيَاذَ مِنَ التَّكَبُرِ والهَوَى فَهُمَا لِكُلِ الشَّرِ جَامِعَتَانِ وَهُمَا يَصُدَانِ الفَتَى عن كُلِّ طُرْ قِ الْخَيْر إِذْ فِي قَلْبِهِ يَلِجَانِ فَتَراهُ يَمْنَعُهُ هَوَاهُ تَارَةً والكِبْرُ أُخْرَى ثُمَّ يَجْتَمِعَانِ ... ›?

.. وَاللهِ مَا فِي النَّارِ إلا تَابِعٌ هَذَيْنِ فَاسْألْ سَاكِنِي النِيْرَانِ ... ›? آخر: ... قَدْ يَطْفَحُ اللُّؤْمُ حَتَى إِنَّ صَاحِبِهِ ... يَنْسَي الحَيَاةَ فَيَغْدُ يَدَعِي الكَرَمَا إِنَّ الجَهَالَةَ إِنْ كانَتْ قَذَى بَصَرٍ ... رَأى الضَلاَلَ هُدَىً واسْتَسْمَنَ الوَرَمَا كم مِنْ أَرَاذِلَ أَطْغَتْهَا سَفَهَاتُّهَا ... حَتَى إدَّعَتْ وَهِيَ أَذْنَاباً لَهَا الشَمَمَا إِنْ عُدَّتْ الوَحْشُ مَا عُدَّتْ وَلاَ بَقَرٌ ... أَوْ عُدَّتْ الطَيْرُ مَا عُدَّتْ وَلاَ رَخَمَا وَالنَّاسُ كَالنَّاسِ فِي خَلْقٍ وَبَيْنَهُمُوْا ... فِي الخُلْقِ بُوْنٌ فَذَا أرْضٌ وَذَا سَمَا ونصيب المتكبر من النَّاس أن يزدروه ويحتقروه ويمتهنوه ويمقتوه، ويعملوا خلاف ما يفهمون أنه يحبه مِنْهُمْ حتي يدعوه يغلي من معاملتهم غيظاً وحقداً، ولَوْ أمكن النَّاس أن يجعلوا المتكبر دائماً فِي غموم وهموم لما تأخروا عن ذَلِكَ، فالنَّاس لّهُمْ كرامة يفعلون بمن يكرهونه من أجل أنه يحتقرهم ويمتهن كرامتهم ويري نَفْسهُ فوقهم فهم يدركون أنه لئيم لا يتوضع إلا إِذَا أهنته ولا يعرف نَفْسهُ إلا إِذَا احتقرته وعاملته مثل معاملته وأنه ينطبق عَلَيْهِ قول الشاعر: فِي النَّاس مَنْ لاَ يُرْتَجَى نَفْعُهُ ... إلا إِذَا مُسَّ بِأَضْرَارِ كَالعُودِ لاَ تَطْمَعُ فِي رِيْحِهِ ... إلا إِذَا أُحْرِقَ بِالنَّارِ آخر: ... يَا مَنْ تَبَرَّمَتِ الدُّنْيَا بِطَلْعَتِهِ ... كَمَا تَبَرَّمَتِ الأجْفَانُ بِالسُّهُدِ يَمْشِي عَلَى الأرض مُخْتَإلا فَأحْسِبُهُ ... لِثِقْلِ طَلْعَتِهِ يَمْشِي عَلَى كَبِدِي آخر: ... لاَ تَلْطَفَنَّ بِدِي لُؤْمٍ فَتُطْغِيَهُ ... أَغْلَظْهُ يَأْتِيَكَ مِطْوَاعاً وَمِذْعَانَا إِنَّ الحَدِيْدَ تُليْنُ النَّارُ قَسْوَتَهُ ... ولَوْ صَبَبَتْ َعَلَيْهِ البَحْرَ مَا لاَنَا آخر: ... الكَلْبُ إِنْ جَاعَ لم يُعْدِمْكَ بَصْبَصَةً ... وَإِنْ يَنَلْ شِبْعَةٍ يَنْبَحْ عَلَى الاثَرِ آخر: ... أَهِنْ عَامِراً تَكْرُمْ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا ... أَخُوْ عَامِرٍ مَنْ مَسَّهُ بِهَوَانِ

آخر: ... إِنَّ ذَا اللُّؤْمِ إِذَا أَكْرَمْتَهُ ... حَسِبَ الاكْرَامَ حَقاً لِزمَكْ فَأَهِنْهُ إِنَّهُ مِنْ لُؤْمِهِ ... إِنْ تَسُمْهُ بِهَوَانٍ أَكْرَمَكْ آخر: ... اثْنِانِ بُغْضُهُمْ غَالِباً عِنْدَ الكَثِيْرِ ... مُتَكَبِرُ فِي نَفْسِهِ وَبَخْيِلُ وأما نصيب المتكبر من الله فكما سمعت من الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة التي إِذَا سمعها المتواضع الموفق فتش عَلَى نَفْسهُ خشية أن يكون قَدْ دخل عَلَيْهِ الكبر وَهُوَ غَافِل عنه. عَجِبْتُ لِمَا تَتَوْقُ النَّفْسُ جَهْلاً ... إِلَيْهِ وَقَدْ تَصَرَّمَ لاِنْبِتَاتِ وَعِصْيَانِي العَذُوْلَ وَقَدْ دَعَانِي إِلى رُشْدِي وَمَا فِيه نَجَاتِي أُؤَمِّلُ أَنْ أَعِيْشَ وَكُلُّ يَوْمٍ بِسَمْعِيْ رَنَّةٌ مِنْ مُعْوِلاَتِي وَأَيْدِي الحَافِريْنَ تَكِلُّ مِمَّا تُسَوِّيْ مِنْ مَسَاكِنَ مُوْحِشَاتِ نُرَاعُ إِذَا الجَنَائِزُ قَابَلَتْنَا وَنَسْكُنُ حِيْنَ تَخْفَى ذَاهِبَاتِ كَرَوْعَةِ ثُلَّةٍ لِظُهُورِ ذِئْبٍ فَلَمَّا غَابَ عَادَتْ رَاتِعَاتِ فَإِنْ أَمَّلْتَ أَنْ تَبْقَى فَسَائِلْ بِمَا أَفْنَى القُرُوْنَ الخَالِيَاتِ فكم مِنْ ذِي مَصَانِعَ قَدْ بَنَاهَا وَشَيَّدَهَا قَلِيْلُ الخَوْفِ عَاتِي قَلِيلُ الهَمِّ ذِيْ بَالٍ رَخِيٍ أَصَّمَ عن النَّصَائِحِ والعِظَاتِ ... ›?

من يعمل ضد الكبر، مع رفعة مكانه، ومن آثار الكبر

.. فَبَاتَ وَمَا يُرَوَّعُ مِنْ زَوَالٍ صَحِيْحَاً ثُمَّ أَصْبَحَ ذَا شِكَاتِ فَبَاكَرهُ الطَّبِيْبُ فَرِيْعَ لَمَّا رَآهُ لاَ يُجِيْبُ إَلى الدُّعَاةِ فَلَوْ أَنَّ المُفَرِّطَ وَهُوَ حَيٌ تَوْخَّى البَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ لَفَازَ بِغِبْطَةٍ وَأَصَابَ حَظَاً وَلم يَغْشَ الامُوْرَ المُوْبِقَاتِ فَيَالَكِ عِنَدَهَا عِظَةً لِحَيٍ وَيَا لَكِ مِنْ قُلُوبٍ قَاسِيَاتِ وَكُلُ أَخِي ثَرَاءٍ سَوْفَ يُمْسِي عَدِيمَاً والجَمِيْعُ إِلى شَتَاتِ كَأَنْ لم يُلْفَ شَيْءٌ مَا تَقَضَّى وَلَيْسَ بِفَائِتٍ مَا سَوْفَ يَأْتِي ... ›? اللَّهُمَّ إنَا نعوذ بك من سوء الِقَضَاءِ وشماتة الأعداء، وعضال الداء، وخيبة الرجَاءَ وزَوَال النعمة وفجأة النقمة، ونسألك أن تغفر لنا ولوالدينا، وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ، بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. فَصْلٌ وللكبرعلاج قَدْ ذكره العلماء: أولاً أن يعرف الإنسان ربه ويعرف نَفْسهُ، فإنه إِذَا عرف ربه حق المعرفة علم أنه لا تليق العظمة والكبرياء إلا بِاللهِ، وإِذَا عرف نَفْسهُ علم أنه ضعيف ذليل لا يليق به إلا الخضوع لله والتواضع والذلة، قال الله تعالى: {قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ} .

وَقَالَ تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} ففِي الآيات الإشارة إلي خلق الإنسان وإلي آخر أمره وإلي وسطه، أما أوله فهو أنه لم يكن شيئاً مذكوراً وقَدْ كَانَ فِي حيز العدم دهوراً، ثُمَّ خلقه العزيز الحكيم من تراب ثُمَّ من نطفة ثُمَّ من علقة ثُمَّ من مضغة ثُمَّ جعله عظاماً ثُمَّ كسا العظام لحماً، فقَدْ كَانَ هَذَا بداية وجوده أولاً جماداً لا يسمَعَ ولا يبصر ولا يحس ولا يتحرك ولا ينطق ولا يبطش ولا يدرك ولا يعلم، كَذَا خلقه الله. ثُمَّ امتن عَلَيْهِ فَقَالَ: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} أي بينه وأوضحه وسهله، كما فِي قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} فالله جَلَّ وَعَلا هُوَ الَّذِي أحيا الإنسان بعد أن كَانَ جماداً ميتاً، تراباً أولاً ونطفة ثانياً، وأسمعه بعد أن كَانَ أصم وبصره بعد ما كَانَ فاقَدْ البصر، وقواه بعد الضعف، وعلمه بعد الجهل، كما قال تعالى: {وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . فمن كَانَ هَذَا أوله، وهذه أحواله، فمن أين لَهُ البطر والأشر والكبرياء والخيلاء؟ وَهُوَ الضعيف الحقير بِالنِّسْبَةِ إلي قدرة البارئ جَلَّ وَعَلا كما قال تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ} وَقَالَ: {خلقناهم مِمَّا يعلمون} وَقَالَ: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ} فليتأمل العاقل هل يليق الكبر بمن هَذَا أوله، وآخره أنه يسلب روحه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته وحسه وإدراكه وحركته وجماله وَجَمِيع أحواله، فيعود كما كَانَ أولاً جماداً، لا يبقي إلا شكل أعضائه وصورته فِيه ولا حركة، ثُمَّ يوضع فِيه ذَا التُّرَاب فيصير جيفة منتناً، كما كَانَ فِي الأول نطفة مذرة، تبلي أعضاؤه وتتفتت أجزاؤه، وتنخر عظامه ويصير رميماً وفاتاً ويأكل الدود أجزاءه،

نماذج أيضا في الملابس والأكل والتناول للمتكبر

ويكون جيفةً يهرب منه كُلّ حيوان ويستقذره الإنسان، وأحسن أحواله أن يعود تراباً كما كَانَ، ثُمَّ يحييه الَّذِي خلقه أول مرة فيقاسي البَلاء والشدائد وأهوال المعجزات، فيخرج من قبره كما أخبر تعالى بقوله: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} فينظر إلي قيامة قائمة، وسماء منفرجة مشققة، وأرض مبدلة، وجبال مسيرة، ونجوم منكدرة، وشمس منكسفة، وأحوال مظلمة وملائكة غلاظ شداد، وجهنم تزفر قال تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} ينظر إليها المجرم فيتحسر، ويري صحائف منشورة، فَيُقَالُ: {اقْرَأْ كَتَابَكَ} فِيه جَمِيع عمله من أوله إلي آخره {يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} ، وَقَالَ: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} . فما لمن هَذَا حاله ومآلهُ والتكبر والتعاظم والتجبر، بل مآله وللفرح فِي لحظة واحدة، فضلاً عن الأشر والبطر، قال ?: " لَوْ تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولما تلذذتم بالنساء عَلَى الفرش ". فهَذَا من أحسن الطرق لتذليل النفس وحملها عَلَى الخضوع التواضع لله الَّذِي لَهُ الكبرياء فِي السماوات والأرض وَهُوَ العزيز الحكيم. وأما العلاج الثاني فهو: التواضع لله بالْفِعْل ولسائر الخلق بالمواظبة عَلَى أَخْلاق المتواضعين المتبعين لطريقة سيد المرسلين ومن جملتها ما فيها من التواضع بالمثول قائماً وبالركوع والسجود " إنما أَنَا عبد آكل كما يأكل العبد" وقَدْ ذكرنا نموذجاً من تواضعه ? فِي فضل التواضع من أحب الزيادة فيرجع إليه قال بعض من رضي بالكفاف وقنعه

قصيدة زهدية في الحث على القناعة

الله بما آتاه ومن عَلَيْهِ بالتواضع. ... أَيَا لاَئِمِي مَالِي سِوَى البَيْتِ مَوْضِعٌ أَرَى فِيه عِزاً إِنَّهُ لِي أَنْفَعُ فِرِاشِي وَنَطْعِي فَرْوَتِي فَرَجِيْتِي لِحَافِي وَأَكْلِيْ مَا يَسُدُ وَيُشْبِعُ وَمَرْكُوْبِيَ الآنَ الأتَانُ وَنَجْلُهَا لأَخَلاَقِ أَهْلِ الدِّيْنِ وَالعِلْمِ أَتْبَعُ وَقَدْ يَسَرَ اللهُ الكَرِيْمُ بِفَضْلِهِ غِنَى النَّفْسِ مَعَ شَيْءٍ بِهِ أَتَقَنَّعُ أوْفِرُهُ لِلأَهْلِ خَوْفاً يَرَاهُمْ عَدُوٌ بِعَيْشٍ ضَيِّقٌ فَيُشَنَّعُ وَأصْبِرُ فِي نَفْسِي عَلَى مَا يَنُوْبُنِي وَأَطْلُبُ عَفْوَ اللهِ فَالعَفْوُ أَوْسَعُ وَمَا دُمْتُ أَرْضَى بِاليَسِيْرِ فَإِنَّنِي غَنِيٌ لِغَيْرِ اللهِ مَا كُنْتُ أَخْضَعُ وَرَبِّيَ قَدْ آتَانِي الصَّبْرَ وَالغِنَى عن النَّاسِ فِي هَذَا لِيَ العِزُ أَجْمَعُ وَقَدْ مَرَّ مِنْ عُمْرِي ثَلاَثٌ أَعُدُّهَا وَسِتُونَ فِي رَوْضٍ مِنَ اللُّطْفِ أَرْتَعُ وَوَجْهِيَ مِنْ ذُلِّ التَّبَذُلِ مُقْفِرٌ مُقِلٌ وَمِنْ عِزِّ القَنَاعَةِ مُوْسَعُ ... ›?

.. وَمِنْ حُسْنِ ظَنِّي أَنَّ ذَا يَسْتَمِرُ لِي ... إِلى المَوْتِ إِنَّ اللهَ يُعْطِي وَيَمْنَعُ وَإِنَّيَ لاَ أَلْجَأُ إِلى غَيْرِ بَابِهِ ... فَأَبْقَى كَمَا قَدْ قِيْلَ وَالقَوْلُ يُسْمَعُ نُوقِّعُ دُنْيَانَا بِتَمْزِيْقِ دِيْنِنَا ... فَلاَ دِيْنُنَا يَبْقَى وَلاَ مَا نُرَقِعُ فَطُوْبَى لِعَبْدٍ آثَرَ اللهَ رَبَّهُ ... وَجَادَ بِدُنْيَاهُ لِمَا يُتَوْقَّعُ اللَّهُمَّ انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، ووفقنا للعمل بما فهمتنا، اللَّهُمَّ إن كنا مقصرين فِي حفظ حقك، والوفاء بعهدك، فأَنْتَ تعلم صدقنا فِي رجَاءَ رفدك، وخالص ودك، اللَّهُمَّ أَنْتَ أعلم بنا منا، فبكمال جودك تجاوز عنا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ، الأحياء مِنْهُمْ والميتين، بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. فصل: ولا يتم التواضع بعد المعرفة إلا بالْعَمَل، ولذَلِكَ أمر الْعَرَب الَّذِينَ تكبروا عَلَى الله ورسوله بالإيمان وبالصَّلاة جميعاً، وقيل الصَّلاة عماد الدين، وفِي الصَّلاة أسرار لأجلها كانت عماد الدين، ومن جملتها ما فيها من التواضع بالمثول قائماً وبالركوع والسجود، قال حكيم بن حزام: بايعت النَّبِيّ ? عَلَى أن لا آخر قائماً، فبايعه ? ثُمَّ فقه وكمل إيمانه بعد ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ السجود عندهم هُوَ منتهي الذلة والضعة أمروا به لتنكسر بذَلِكَ خيلاؤهم، ويزول كبرهم، ويستقر التواضع فِي قُلُوبهمْ، وبه أمر سائر الخلق، فإن الركوع والسجود والمثول قائما هُوَ الَّذِي يقتضيه التواضع فكَذَلِكَ من عرف نَفْسهُ، فينظر كُلّ ما يتقاضاه الكبر من الأفعال فليواظب عَلَى نقيضه، حتي يصير التواضع لَهُ خلقاً، فإن القُلُوب لا تتخلق بالأخلاق المحمودة إلا بالعلم والعمل. شِعْراً: ... إِذَا المَرْءُ لم يَحْفَظْ ثَلاَثاً فَخَلّهِ ... وَرَى الظَّهْرِ وَاصْحَبْ طَالِباً لِلسَّلاَمَةِ فَأْوَّلُهَا الإخْلاَصُ للهِ وَحْدَهُ ... وَثَانِيْهَا تَابِعْ مَنْ أَتَى بِالرِّسَالَةِ

وَثَالِثُهَا جَنِّبْ هُدِيْتَ تَكَبُراً ... لِتَسْلَمَ مِنْ نَّارِ الجَحِيْمِ العَظِيْمَةِ ومن كَانَ يعتريه الكبر من جهة النسب، فليداو قَلْبهُ بأمرين أولاً: أن هَذَا جهل من حيث أنه تقوي وتعزز بكمال غيره وإنما يحصل لَهُ بكماله. قال الشاعر: لَعَمْرُكَ مَا الإنسان إلا ابْنُ يَوْمِهِ ... عَلَى مَا تَجَلَّى يَوْمَهُ لاَ ابْنُ أَمْسِهِ وَمَا الفَخْرُ بِالعَظْمِ الرَّمِيْمِ وَإِنَّمَا ... فِخَارُ الَّذِي يَبْغِي الفِخَارَ بِنَفْسِهِ وَقَالَ آخر فيمن افتخر بآبائه ذوي الشرف مَعَ رداءته فِي نَفْسهُ: لَئِنْ فَخَرْتَ بِآبَاءٍ ذَوِي شَرَفٍ ... لَقَدْ صَدَقْتَ وَلَكِنْ بِئْسَ مَا وَلَدُوْا آخر: ... وَإِذَا افْتَخَرْتَ بِأَعْظَمٍ مَقْبُورَةٍ ... فَالنَّاسُ بَيْنَ مُكَذِبٍ وَمُصَدِقِ فَاقِمْ لِنَفْسِكَ بِانْتِسَابِكَ شَاهِداً ... بِحَدِيْثِ مَجْدٍ لِلْقَدِيْمِ مُحَقِّقِ آخر: ... إِذَا المَرْءُ لم تَسْتَأنِفْ المَجْدَ نَفْسُهُ ... فَلاَ خَيْرَ فِي مَا أَوْرَثَتْهُ جُدُوْدُهُ آخر: ... وَمَا يُجْدِي افْتِخَارُكَ بِالاوَالِي ... إِذَا لم تَفْتَخِرْ فَخْراً جَدِيْداً الثاني أن يعرف نسبه الحقيقي، فيعرف أباه وجده فإن أباه القريب نطفة قذرة، وجده الْبَعِيد تراب ذليل، وقَدْ عرفه الله تعالى نسبه فَقَالَ جل علا: (الَّذِي أحسن كُلّ شَيْء وبدأ خلق الإنسان من طين، ثُمَّ جعل نسله منن سلالة من ماء مهين) فمن أصله التُّرَاب المهين الَّذِي يداس بالأقدام ثُمَّ خمر طينه حتي صار حمأً مسنوناً كيف يتكبر؟ شِعْراً: ... عَجِبْتُ مِنُ مُعْجَبٍ بِصُوْرَتِهِ ... وَكَانَ بِالأمْسِ نُطْفَةٌ مَذِرَةْ وَفِي غَدٍ بَعْدَ حُسْنِ طَلَعَتِهِ ... يَصْيِرُ فِي اللَّحْدِ جِيْفَةً قَذِرَةْ وَهُوَ عَلَى تِيْهِهِ وَنَخْوَتِهِ ... مَا بَيْنَ جَنْيْهِ يَحْمِلُ العَذِرَهْ آخر: ... إِذَا كَبُرَتْ نَفْسُ الفَتَى قَلَّ عَقْلُهُ ... وَأَمْسَى وَأْضْحَى سَاخِطاً مُتَعَتِّبَا

الكبر بالنسب وبالجمال وبالقوة والكبر بالمال وعلاجه بإذن الله

وَإِنْ جَاءَ يَسْتَقْضِي مِنَ النَّاسِ حَاجَةٌ ... يَرَى أَنَّهَا حَقٌ عَلَيْهمْ مُرَتَّبَا وَإِنْ طَالَبُوهُ أَوْ أَبَوْهُ بِحَقْهِمْ ... لَوَى وَجْهَهُ غَيْظَاً عَلَيْهِمْ وَقَطَّبَا يَرَى أَنَّ كُلَّ النَّاسِ قَدْ خُلِقُوا لَهُ ... عَبِيْداً وَفِي كُلِّ القُلُوبِ مُحَبَّبَا فَلاَ يَرْتَضِي إِنْ لم يَكُنْ تَحْتَ أَمْرِهِ ... مِنَ الكَوْنِ يَجْرِي مَا أَرَادَ وَمَا أَبَى وَاللهُ أَعْلم وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم. (فَصْلٌ) وإن كَانَ التكبر بالجمال فدواؤه أن ينظر إلي باطنه نظر العقلاء، ولا ينظر إلي الظاهر نظر البهائم، ومهما نظر إلي باطنه رأي من القبائح ما يكدر عَلَيْهِ تعززه بالجمال، فإن الأقذار فِي جَمِيع أجزائه، فالرجيع فِي أمعائه، والبول فِي مثانته والمخاط فِي أنفه، والبزاق فِي فمه، والوسخ فِي أذنيه، والدم فِي عروقه، والصديد تحت بشرته والصنان تحت إبطه، يغسل الغائط بيده كُلّ يوم مرتين أو ثلاثاً ليخرج من باطنه ما لَوْ عاينه لاستقذره، فضلاً عن أن يمسه أو يشمه، فهل يليق بمن هذه حآله الكبر والتعاظم. كلا ما يليق به إلا التواضع للذي أوجده. وفِي أول أمره خلق من النطفة وفِي بطن أمه يتغذي بدم الحيض، وأخرج من مجري البول مرتين، قال طاووس لعمر بن عَبْد الْعَزِيز – قبل توليه الخلافة وزهده فِي الدُّنْيَا –: ما هذه مشية من فِي بطنه خراء، إذ رآه يتبخر، فإِذَا نظر إلي أنه خلق من ماء مهين، وأسكن فِي أقذار، وسيموت فيصير جيفة لم يفتخر بجمآله الَّذِي هُوَ كخضراء الدمن، كيف ولَوْ كَانَ جمآله باقياً، وجسمه عن هذه الأشْيَاءِ خَالِيًا، لكَانَ يجب عَلَيْهِ أن لا يتكبر، ويعلم أن هَذَا عرضة للزَوَال بمرض أو حرق أو قرحة أو برص أو تشويه، فمعرفة هَذَا تماماً تنزع بإذن الله من الْقَلْب داء الكبر والعجب لمن أكثر تأملها. شِعْراً: ... لَيْسَ الكَرِيْمُ الَّذِي إِنْ نَالَ مَكْرُمَةً ... أَوْ نَالَ مَالاً عَلَى إِخْوَانِهِ تَاهَا

الحُرُيَرْ دَادُ لِلإِخْوَانِ مَرْحَمَةً ... إِنْ نَالَ فَضْلاً مِنَ الرَحْمَنِ أوجَاهَا وإن كَانَ التكبر بالقوة فالعلاج أن يعلم أن القوة لله جميعاً ويعلم ما سلط عَلَيْهِ من العلل والأمراض، وأنه لَوْ أصابه عود يسير ودخل فِي لحمه لأقلق راحته، وأقض مضجعه ولَوْ وجع أصبع أو عرق من عروق بدنه لتألم وصار أعجز من كُلّ عاجز، وأذل من كُلّ ذليل، وأن البعوضة والجرثومة الدقيقة إِذَا سلطت عَلَيْهِ أهلكته وإن حمي ساعة تحلل من بدنه ما لا ينجبر بالمدة الكثيرة، قال الشاعر: وَلاَ تَمْشِيْ فَوْقَ الأرض إلا تَوَاضُعاً فَكم تَحْتَهَا قَوْمٌ هُمُو مِنْكَ أَرْفَعُ وَإِنْ كُنْتَ فِي عِزٍّ رَفِيع وَمِنْعَةٍ فَكم مَاتَ مِنْ قَوْمٍ هُمُوا مِنْكَ أَمْنَعُ ... ›? فمن كَانَ هذه حاله فلا يليق به الكبر، ثُمَّ من البهائم ما هُوَ أقوي بكثير منه، وأي افتخار وتعاظم فِي صفة يسبقه فيها الحمار. والبغل والثور والفيل. وإن كَانَ التكبر بالْمَال فبأن يعرف ويعلم أنه عرض زائل، وفِي معناه التكبر بكثرة الأتباع والأنصار، ويُقَالُ لها كثرة الشعبية، وكَذَلِكَ التكبر بولاية السلاطين والأمراء، وكل ذَلِكَ تكبر بأمر خارجي أي خارج عن ذات الإنسان وهَذَا أقبح أنواع الكبر، فإن المتكبر بماله أو عقاره لَوْ ذهب ماله أو انهدم عقاره أو تلف لعاد فِي لحظة ذليلاً من أذل الخلق وكل متكبر بأمر خارج عن ذاته من أجهل الخلق، كيف والمتكبر بالْمَال لَوْ تأمل لرأي فِي إليهود والنصاري وغيرهم من الكفرة من يزيد عَلَيْهِ فِي الْمَال والتجمل والثروة، فأف لشرف يسبقك به يهودي ونحوه، ويأخذه سارق أو نحوه فِي لحظة،

فيعود صاحبه ذليلاً حقيراً مفلساً. وإن كَانَ الكبر بالعلم - وَهُوَ أعظم الآفات، وأغلب الأدواء وأبعدها عن قبول العلاج إلا بشدة شديدة، ولذَلِكَ قال عمر رَضِيَ اللهُ عنهُ: العَالم إِذَا زل بزلته عَالم فيعجز العَالم أن لا يستعظم نَفْسهُ بالإضافة إلي الجاهل، لكثرة ما نطق به الشرع من فضائل العلم وأهله – فَلابُدَّ للعَالم من معرفة أمرين: أحدهما أن يعلم أن حجة الله عَلَى أَهْل العلم آكد، وأنه يحتمل من الجاهل ما لا يحتمل من العَالم، قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} فإن من عصي الله عَلَى علم ومعرفة أعظم جناية ممن عصي الله عَلَى جهل، لأن العَالم لم يقض حق نعمة الله عَلَيْهِ ولذَلِكَ قال النَّبِيّ ?: " يجَاءَ بالرجل يوم القيامة فيلقي فِي النار فتندلق أقتابه فيدور بِهَا كما يدور الحمار فِي الرحي فيجتمَعَ إليه أَهْل النار، فيقولون: يا فلان ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهي عن الْمُنْكَر فَيَقُولُ بلي كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهي عن الْمُنْكَر وآتيه" رواه البخاري ومسلم. فإِذَا تفكر فيما أمامه من الخطر العَظِيم وعلم ما كَانَ عَلَيْهِ السَّلَف الصالح الصحابة فمن بعدهم من التواضع والخوف مِمَّا أمامهم من الأهوال والكربات والشدائد، امتنع بإذن الله من الكبر، فقَدْ كَانَ بعض الصحابة يَقُولُ: ليتني لم تلدني أمي، وَيَقُولُ الآخر ليتني شجرة تعضد ويأخذ الاخر تبنة وَيَقُولُ: يا ليتني كنت هذه التبنة، وَيَقُولُ الآخر: ليتني كنت طيراً أوكل، وَيَقُولُ الآخر: ليتني لم أكن شيئاً مذكوراً. شِعْراً: ... لاَ يُدْرِكُ العَلْيَا عَلَى التَّحْقِيْقِ ... إلا مَنِ اسْتَقَامَ فِي الطَّرِيْقِ وَجَنَّبَ الِّتلْفَازِ وَالمِذْيَاعَ ... وَكُورَةً وَسَائِرَ المَلاَهِي

حال من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ولا يعمل بذلك العمل بالختام، مما يضر بعلماء العصر الحاضر

شِعْراً: وَأَحْسَنُ أَخْلاَقِ الفَتَى وَأَجَلُّهَا ... تَوَاضُعُهُ لِلنَّاسِ وَهُوَ رَفِيعُ وَأْقْبَحُ شَيْءٍ أَنْ يَرَى المَرْءُ نَفْسَهُ ... رَفِي عاً وَعِنْدَ العَالَمِيْنَ وَضِيْعُ الثاني: أن العَالم يعرف أن الكبر لا يليق إلا بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي (إلَيْسَ كمثله شَيْء وَهُوَ السميع البصير) وأنه إِذَا تكبر صار ممقوتاً عِنْدَ الله بغيضاً، وقَدْ أحب الله منه أن يتواضع، وأن يفكر فِي خطر الخاتمة، فكم من إنسان مزدري محتقر لكفره أو فسقه فتح الله عَلَيْهِ باب التوبة والإنابة، فأقبل عَلَى الله فسعد بذَلِكَ وشهد لَهُ بالْجَنَّة كعمر رَضِيَ اللهُ عنهُ، وبالعكس فكم من إنسان عمل بعمل أَهْل الْجَنَّة زمناً طويلاً وفِي آخر الأمر عمل بعمل أَهْل النار فيدخلها كثعلبة وبلعام ونحوهما ممن ارتد عن الإسلام وفِي حديث ابن مسعود قوله ?: "إن أحدكم ليعمل بعمل أَهْل الْجَنَّة حتي ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عَلَيْهِ اْلكِتَاب فيعمل بعمل أَهْل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أَهْل النار حتي ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عَلَيْهِ اْلكِتَاب فيعمل بعمل أَهْل الْجَنَّة فيدخلها" متفق عليه. فمهما بلغ المرء من العلم والتقي والورع والزهد فهو فِي خطر من سوء الخاتمة التي عَلَيْهَا المدار، فبملاحظتها يتلاشي الكبر بإذن الله. ومن أضر ما عَلَى كثير من عِلماء هَذَا الزمان الشهادات الحالية التي يسمونها دكتوراه وماجستير وعالمية وبكالوريوس ونحو ذَلِكَ لأن من حصل عَلَيْهَا رآي من لم يحصل عَلَيْهَا بعين الاحتقار والامتهان والازدراء ومَعَ ذَلِكَ فهي عِنْدَ بَعْضهمْ مضعفة للتوكل عَلَى الله من قبل الرزق يؤيد ذَلِكَ ما يجري عَلَى ألسنة كثير مِنْهُمْ بقولهم لمن لم يحصل عَلَيْهَا أمن حياتك أحصل عَلَى شهادة. ونسوا قول الله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} وقوله {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} وقوله {وَعَلَى اللهِ

ويلي ذلك قصيدة زهدية فيها عبر ومواعظ

فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} . وكثير من أولئك أهملوا التوكل عَلَى الله وتوكلوا عَلَى الشهادة المذكورة. شِعْراً: ... سَعَى رِجَالٌ لِنَيْلِ الرِزْقِ واجْتَهَدُوْا ... لاَبُدَّ مِنْ سَبَبٍ للّرِزْقِ فِي الطْلَبِ حُسْنُ الدُّعَاءِ مَفَاتِيْحُ الغِنَى وَعَلَى ... رَبِّ العِبَادِ إِجَابَاتُ المَطَالِيْبِ أَتَطْلُبُ رِزْقَ اللهِ مِنْ عِنْدَ غَيْرِهِ وَتُصْبِحُ منْ خَوْفِ العَوَاقِبِ آمِنَا وَتَرْضَى بِصَرَّافٍ وَإِنْ كَانَ مُشّرِكاً ضَمِيْناً وَلاَ تَرْضَى بِرَبِكَ ضَامِنَا كَأَنَّكَ لم تقَرَأَ بِمَا فِي كِتَابِهِ فَأَصْبِحْتَ مَنْحُولَ اليَقِيْنِ مُبَايِنَا ... ›? يشير إلي قول الله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} وقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} . ومن أمعن نظره فِي النَّاس وسبرهم وَجَدَ ذَلِكَ بكثرة، ووَجَدَ عندهم من الطغيان والأبهة والكبر الشَيْء الكثير، يظهر ذَلِكَ عَلَى ألسنتهم وهيئاتهم نسأل الله العصمة لنا ولإخواننا المُسْلِمِيْنَ. ... بَاتُوا عَلَى قُلَلِ الاجْبَالِ تَحْرِسُهُمْ غُلْبُ الرِّجَالِ فَلم تَنْفَعْهُمْ القُلَلُ واسْتُنْزِلُوا بَعْدَ عِزٍ عن مَعَاقِلِهِمْ إِلى مَقَابِرِهِمْ يَا بِئْسَ مَا نَزَلُوْا نَادَاهُمْ صَارِخٌ مِنْ بَعْدَمَا دُفِنُوا أَيْنَ الاسِرَّةُ وَالتِيْجَانُ وَالحُلَلُ أَيْنَ الوُجُوهُ الَّتِي كاَنَتْ مُحَجَّبَةً مِنْ دُوْنِهَا تُضْرَبُ الاسْتَارُ وَالكِلَلُ ... ›?

.. فَأَفْصَحَ القَبْرُ عنهُمْ حِيْنَ سَاءَلَهُمْ تِلْكَ الوُجُوهُ عَلَيْهَا الدُوْدُ يَقْتَتِلُ قَدْ طَالَمَا أَكَلُوا فِيهٍا وَمَا شَرِبُوا فَأَصْبَحُوا بَعْدَ طُوْلِ الأكْلِ قَدْ أُكِلُوْا وَطَالَمَا كَنَزُوا الأموال وادَّخَرُوا فَخَلَّفُوهَا عَلَى الأعْدْاءِ وَارْتَحَلُوْا وَطَالَمَا شَيَّدُوا دُوْراً لِتُحْصِنَهُمْ فَفَارَقُوا الدُوْرَ والأهْلِيْنَ وانْتَقَلُوْا أَضْحَتْ مَسَاكِنُهُمْ وَحْشاً مُعَطَّلَةً وَسَاكِنُوهَا إِلى الأجْدَاثِ قَدْ رَحَلُوا سَلِ الْخَلِيفَةَ إِذْ وَافَتْ مَنِيَّتُهُ أَيْنَ الجُنُوْدُ وَأَيْنَ الخَيْلُ وَالخَوَلُ أَيْنَ الكُنُوزَ الَّتِي كَانَتْ مَفَاتِحُهَا تَنُوْءُ بِالعُصْبَةِ المُقْوِيْنَ لَوْ حَمَلُوْا أَيْنَ العَبِيْدُ الَّتِي أَرْصَدْتَهُمْ عُدَداً أَيْنَ الحَدِيْدُ وَأَيْنَ البِيْضُ وَالأسَلُ أَيْنَ الفَوَارِسُ وَالغِلْمَانُ مَا صَنَعُوا أَيْنَ الصَوَارِمُ وَالخِطِّيَةُ الذُبُلُ أَيْنَ الكُمَاةُ أَلم يَكْفُوا خَلِيْفَتَهُمْ لَمَّا رَأْوْهُ صَرِيْعاً وَهُوَ يَبْتَهِلُ

.. أَيْنَ الكَمَاةُ الَّتِي مَاجُوا لِمَا غَضِبُوا أَيْنَ الحُمَاةُ الَّتِي تُحْمَى بِهَا الدُوَلُ أَيْنَ الرُمَاةُ أَلم تَمْنَعْ بِأّسْهُمِهِمْ لَمَّا أَتَتْكَ سِهَامُ المَوْتِ تَنْتَصِلُ هَيْهَاتَ مَا كَشَفُوا ضَيْماً وَلاَ دَفَعُوْا عنكَ المَنِيَّةَ إِذْ وَافَى بِكَ الأجَلُ وَلاَ الرُّشَى دَفَعَتْهَا عنكَ لَوْ بَذَلُوْا وَلاَ الرُّقَى نَفَعَتْ فِيها وَلاَ الحِيَلُ مَا سَاعَدُوّكَ وَلاَ وَاسَاكَ أَقْرَبُهُمْ بَلْ سَلَّمُوكَ لَهَا يَا قُبْحَ مَا فَعَلُوْا مَا بَالُ قَبْرِكَ لاَ يَأْتِي بِهِ أَحَدٌ وَلاَ يَدُوْرُ بِهِ مِنْ بَيْنِهِمْ رَجُلُ مَا بَالُ ذِكْرِكَ مَنْسِياً وَمُطْرَحاً وَكُلُهُمُ بِاقْتِسَامِ الْمَالِ قَدْ شُغِلُوْا مَا بَالُ قَصْرِكَ وَحْشاً لاَ أَنِيْسَ بِهِ يَغْشَاكَ مِنْ كَنَفَيِهِ الرَوْعُ والوَهَلُ لاَ تُنْكِرَنَّ فَمَا دَامَتْ عَلَى مَلِكٍ إلا أَنَاخَ عَلَيْهِ المَوْتِ والوَجَلُ وَكَيْفَ يَرّجُو دَوَامَ العَيْشِ مُتَّصِلاً وَرُوْحُهُ بِجِبَالِ المَوْتِ مُتَّصِلُ وجِسْمُهُ لِبُنَيَّاتِ الرَّدَى غَرَضٌ

الغضب، تعريفه، درجاته، التحذير منه

.. وَمَالُهُ زَائِلٌ عنهُ ومُنْتَقِلُ ... ›? اللَّهُمَّ امنن عَلَيْنَا بإصلاح عيوبنا واجعل التقوي زادنا وفِي دينك اجتهادنا وعَلَيْكَ توكلنا واعتمادنا اللَّهُمَّ ثبتنا عَلَى نهج الاستقامة وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين. فَصْلٌ فِي الْغَضَبِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْه اعْلم وفقنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ وجنبنا وَإِيَّاكَ وإياهم كُلّ خلق رذيل: أن مِمَّا يتأكد اجتنابه فِي رمضان وفِي غيره الْغَضَب إلا أن تنتهك محارم الله فيغضب لما يغضب الله ويملك نَفْسهُ فيما عدا ذَلِكَ إلا أن يبغي عَلَيْهِ وتعريف الْغَضَب أنه قوة أودعها الله فِي الإنسان تثور من باطنه فتحمله عَلَى الدفاع عما يحبه من الأغراض وتدفعه إلي البطش بكل ما يؤذيه فإِذَا اعتدي عَلَيْهِ معتد أو حيل بينه وبين أغراضه تثور تلك القوة فيغلي دمه وينتشر فِي العروق ويرتفع إلي أعالي البدن فيظهر أثره عَلَى الوجه والعينين. والْغَضَب من مداخل الشيطان إلي قلب الإنسان فإن الْغَضَب غول العقل وإِذَا ضعف جند العقل هجم جند الشيطان ومهما غضب الإنسان لعب الشيطان به كما يلعب الصبية بالكرة. وللغضب ثلاث درجات: أولاً درجة الاعتدال وَذَلِكَ بأن يغضب ليدفع عن دينه أو نَفْسهِ أو ماله أو يغضب ليدافع عن الحقوق العامة ونصرة المظلومين وتلك الحالة هِيَ التي من أجلها خلق الله الْغَضَب فهو مخلوق لحكمة ولولا أن الله جعل ذَلِكَ فِي الإنسان لفسدت الأرض بانتشار الفوضي وتقويض دعائم النظم الاجتماعية والدينية لأن من لا يغضب لعرضه لا يغار لنسائه فتختلط الإنساب وتعم الفوضي فِي ذَلِكَ الْبَاب ويصبح الإنسان

أسباب الغضب كثيرة نذكر منها طرفا

كالحيوانات التي يسطو بعضها عَلَى بعض بدون غيرة ولا حمية ولا معرفة لما يترتب عَلَى ذَلِكَ من التناسل الَّذِي به حياة النوع الإنساني وبقاء العمران إلي الاجل الَّذِي قدره الله لَهُ فِي ذَلِكَ الوجود. ومن لا يغضب لنفسه فإنه يكون معرضاً للزَوَال من هَذَا الوجود أو معرضاً لأن يسخره غيره كما تسخر الدواب التي لا تغضب لنفسها. ومن لا يغضب لمآله فإنه لا يلبث أن يسلبه النَّاس منه ويصبح فقيراً معدماً وإِذَا فشي سلب الْمَال فإن نظام الْعَمَل يتعطل وتبطل الأعمال التجارية والصناعية والزراعية ويعتمد النَّاس عَلَى سلب بَعْضهمْ بعضا. ومن لا يغضب لدينه فإنه فِي الغالب لا يستقر عَلَى دين لأن اختلاف طبائع النَّاس واختلاف أنظارهم من أكبر البواعث عَلَى اختلاف معتقداتهم فمن لا يغار عَلَى دينه يكون عرضة لتقليد القوي فِي كُلّ ما يراه فينتقل من دين إلي دين. وهكَذَا فخلق الله الْغَضَب ليحمي النَّاس بَعْضهمْ بعضاً فيستقر النظام ويقف كُلّ واحد عِنْدَ الحد الَّذِي قدر الله لَهُ فِيه ذه الحياة قال الله تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} . وَقَالَ تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} . وللغضب أسباب كثيرة تختلف باختلاف أحوال النَّاس وطبائعهم واستعدادهم للتأثر بالأشْيَاءِ فنذكر طرفاً منها ليجتنبِهَا الإنسان، فمنها الجدال والمزح والسخرية بِالنَّاسِ نعوذ بِاللهِ والاستهزاء بِهُمْ وإطلاق اللسان في

السب واللعن والغيبة ومن ذَلِكَ الكبر والعجب لأن المتكبر المعجب بنفسه يتأثر كُلَّما فاته ما يعتقَدْ أنه ينافِي عظمته وخيلاءه فإِذَا طالبه أحد بحق اهتاج غضبه وهكَذَا إِذَا نهي عن رذيلة لأنه من سخافة عقله يعتقَدْ أنه كامل من كُلّ وجه فلا يصح لأحد عنده أن يأمره أو ينهاه أو يقف فِي سبيله أو يتقدم عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الواقع ناقص من كُلّ وجه ويحاول أن يجبر نقصه بكبريائه وعظمته وَهُوَ مغرور. ... وَمَنْ جَهِلَتْ نَفْسُهُ قَدْرَهُ رَأَى غَيْرُهُ مِنْهُ مَا لاَ يَرَى ... ›? ومن أسباب الْغَضَب مصاحبة الاشْرَار الَّذِينَ لا يفرقون بين الممدوح والمذموم من الْغَضَب فيحسبون التهور والطيش شجاعة ويعدون طغيان الْغَضَب الموجب للظلم رجولة ويتبجحون بذَلِكَ فَيَقُولُ الواحد مِنْهُمْ: أَنَا الَّذِي لا أصبر عَلَى مكروه، ولا عَلَى مكر ولا أحتمل من أحد أمراً، ومعناه حَقِيقَة: لا عقل فِي ولا حلم يذكر فِي معرض الفخر بالجهل فإِذَا سمعه الجاهل رسخ فِي ذهنه حسن الْغَضَب وحب التشبه بالقوم فيقوي به الْغَضَب، ومهما اشتدت نار الْغَضَب وقوي اضطرامها أعمت صاحبِهَا وأصمته عن كُلّ موعظة فإِذَا وعظ لم يسمَعَ بل زاده ذَلِكَ غضباً وإِذَا استنار بنور عقله وراجع نَفْسهُ لم يقدر إِذَا ينطفئ نور العقل وينمحي فِي الحال بدخان الْغَضَب والعياذ بالله. فإن معدن الفكر الدماغ ويتصاعد عِنْدَ شدة الْغَضَب من غليان دم الْقَلْب دخان مظلم إلي الدماغ يستولي عَلَى معادن الفكر وَرُبَّمَا يتعدي إلي معادن الحس فتظلم عينه وتسود عَلَيْهِ الدُّنْيَا ويكون دماغه عَلَى مثال كهف اضطرمت فِيه النار فاسود جوه وحمي مستقره وامتلأت بالدخان جوانبه وكان

آثار نار الغضب بالأمثلة الموضحة لها

فِيه سراج فانمحي أو انطفأ فلا تثَبِّتْ فِيه قدم ولا يسمَعَ فِيه كلام ولا يري فِيه صورة ولا يقدر عَلَى إطفائه لا من داخل ولا من خارج بل ينبغي أن يصبر إلي أن يحترق جَمِيع ما يقبل الاحتراق فكَذَلِكَ يفعل الْغَضَب فِي الْقَلْب والدماغ، وَرُبَّمَا تقوي نار الْغَضَب فتفني الرطوبة التي فيها حياة الْقَلْب فيموت صاحبه غيظاً كما تقوي النار فِي الغار فيتفكك وتهدم أعإليه عَلَى أسفله وَذَلِكَ لأبطال النار ما فِي جوانبه من القوة الممسكة الجامعة لأجزائه فهكَذَا حال الْقَلْب عِنْدَ الْغَضَب نسأل الله العافية والسلامة. وبالحَقِيقَة فالسَّفِي نَة فِي متلاطم الأمواج عِنْدَ اضطراب الرياح فِي لجة البحر أحسن حالاً وأرجي سلامة من النفس المضطربة غيظاً إذ فِي السَّفِي نَة من يحتال ويتسبب لتسكينها وتدبيرها وينظر لها ويسوسها بإذن الله وأما الْقَلْب فهو صَاحِب السَّفِي نَة وقَدْ سقطت حيلته إذ أعماه الْغَضَب وأصمه انتهي. ومن أسباب الْغَضَب: فوات اللذات والشهوات من مطعم ومشرب ومسكن ونحو ذَلِكَ لكن إن كانت هذه الأشْيَاءِ مملوكة لَهُ وحيل بينه وبينها، فإن كَانَ بدون مبرر شرعي فله أن يغضب حتي يسترده ويكون فِيه ذه الحالة لَيْسَ مذموماً ثُمَّ إن كَانَ الَّذِي فاته ضرورياً لَهُ كَانَ الْغَضَب واجباً من أجله وإن كَانَ كمالياً كَانَ الْغَضَب من أجله جائزاً وإن كَانَ حراماً عَلَيْهِ أو غَيْرَ مملوك لَهُ كَانَ الْغَضَب مذموماً. شِعْراً: ... لاَ تَغْضَبَنَّ عَلَى امْرِئٍ ... لَكَ مَانِعٌ مَا فِي يَدَيِهِ واغْضَبْ عَلَى الطَّمِعَ الَّذِي ... اسْتَدْعَاكَ تَطْلُبُ مَا لَدَيِهِ ومن أسباب الْغَضَب: الوشايات والنمائم فمن النَّاس من يغضب لمجرد وشاية نقُلْتُ إليه عن بعض النَّاس أو لمجرد نميمة بلغته من نمام بدون أن يتثَبِّتْ فِي الأمر فيعتدي عَلَى الأبرياء بإزالتهم عن أعمالهم، أو نقلهم عنهَا إلي محلات لا يرغبونها، أو يتسبب لقطع ما هُوَ ماش لهُمْ من

أرزاق أو يؤذيهم فِي أبدأنهم أو يقدح فِي أعراضهم أو ينشز الزوجة أو بالعكس بأن ينشز الزوج إلي غَيْرَ ذَلِكَ من الجرائم التي تترتب عَلَى الْغَضَب وَرُبَّمَا كانت الكلمة التي نقُلْتُ إليه عَلَى فرض صدورها لا تساوي شيئاً من غضبه، وَذَلِكَ شر ما يترتب عَلَى الْغَضَب من الظلم فعَلَى من كانت نَفْسهُ تتأثر بمثل ذَلِكَ أن يعالجها بالتثَبِّتْ حتي إِذَا تأكد من صدق ما نقل إليه كَانَ لَهُ الحق فِي أن يدفع عن نَفْسهُ بقدر ما أصابه بدون بغي ولا عدوان والعفو فِي مثل هذه الحالِ أفضل خصوصاً إِذَا أنكر المنقول عنهُ ما نسب إليه فإن الإنكار اعتذار يستوجب الرأفة والرحمة وبالتالي فمن نظر الدُّنْيَا بعين البصيرة والاعتبار هان عَلَيْهِ كُلّ شَيْء وسامح أخاه المسلم وقبل ميسور عذره واحتسب الاجَر عِنْدَ الله والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. شِعْراً: ... سَكَنْتُكَ يَا دَارَ الفَنَاءِ مُصَدِّقاً بِأَنِّي إِلى دَارِ البَقَاءِ أَصِيْرُ وَأَعْظَمُ مَا فِي الأمر أَنِّي صَائِرٌ إِلى عَادِلٍ فِي الحُكْمِ لَيْسَ يَجُوْرُ فَيَا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ أَلْقَاهُ عِنْدَهَا وَزَادِي قَلِيْلٌ والذُّنُوبُ كَثِيْرُ فَإِنْ أكُ مُجْزِياً بِذَنْبِي فَإِنَّنِي بِشَرِّ عِقَابِ المُذْنِبِيْنَ جَدِيْرُ وَإِنْ يَكُ عَفْوٌ ثُمَّ عني وَرَحْمَةٌ فَثُمَّ نَعِيْمٌ دَائِمٌ وَسُرُوْرُ ... ›?

من أسباب الغضب، علاج الغضب

اللَّهُمَّ جد عَلَيْنَا بكرمك، وأفض عَلَيْنَا من نعمك، وتغمدنا بِرَحْمَتِكَ وعاملنا برأفتك ووفقنا لخدمتك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ، بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) ومن أسباب الْغَضَب المشاحة فِي البيع والشراء: فيغضب الواحد إِذَا لم تكن السومة تناسب القيمة أو ساومه ولم يشتر أو لم يقرضه أو لم يعنْه أو نحو ذَلِكَ والْغَضَب فِي مثل هذه الأحوال حماقة لا مبرر لها لأنه ما دام لم يعتد عَلَى حقه فلَيْسَ لَهُ أن يغضب وعَلَيْهِ أن يعتدل فِي بيعه وشرائه، وأن يمرن نَفْسهُ عَلَى احتمال ما يقع عادة عِنْدَ البيع والشراء من النزاع وأن يمرن نَفْسهُ دائماً عَلَى التواضع ويذكرها بعظمة الله ويفهمها بأنه ضعيف مخلوق من ماء مهين، وأنه صائر إلي الفناء، وأنه سيكون عظاماً بالية يوطأ بالأقدام كما قيل: ... يُدَّفِنُ بَعْضُنَا بَعْضاً وَتَمْشِي أَوَاخِرُنَا عَلَى هَامِ الأوَالِي ... ›? ومن كَانَ هَذَا شأنه فلا يليق به التكبر فيحقر خلق الله ويطغي عَلَيْهمْ الَّذِينَ ربما رفعهم الله عَلَيْهِ قال بعضهم. ... لاَ تَحْقِرنَّ أَبَيْتَ اللَّعْنِ ذَا أَدَبٍ فَكم وَضِيْعٍ مِنْ الأقْوَامِ قَدْ رَئِسَا ... ›?

المواطن التي يحسن الغضب لها، تقسيم العباد في حال الغضب

.. فَرُبَّ قَوْمٍ حَقَرْنَاهُمْ فَلم نَرَهُمْ أَهْلاً لِخِدْمَتِنَا كَانُوا لَنَا رُؤَسَا ... ›? فإِذَا نزعت نَفْسهُ إلي التواضع فإنه لا يتألم لتلك الاعتبارات التي يتألم منها المتكبرون وبهَذَا بإذن الله يدفع عن نَفْسهِ سرعة الْغَضَب إلي أن تقل حدتها وتذهب ثورتها وهَذَا أهم ما تعالج به أنفس المستعدين بفطرتهم للغضب وأما من كانت سرعة غضبه لَيْسَتْ طبيعة لَهُ ولكنها اكتسبت بالعادة والمخالطة فإنه يعالج بأمور أولاً اجتناب مصاحبة الأشْرَار والبعد عنهم، ثانياً: اجتناب الأسباب المثيرة للغضب آنفاً ثالثاً تعليمه أنه لَيْسَ للإنسان أن يغضب إلا من أجل دينه أو نَفْسهِ أو عرضه أو ماله وما زَادَ عَلَى هَذَا فهو رذيلة مذمومة يجب عَلَى العاقل أن يتنبه لها ولا يذرها تتسلط عَلَيْهِ فتضيع سلطة العقل ويصبح الإنسان عرضة للهلاك فِي الدُّنْيَا والآخرة وحسبك فِي ذم الْغَضَب أن النَّبِيّ ? خطب فِي الناس عصر يوم من الأيَّام فكَانَ مِمَّا قاله لهُمْ: "إن بني آدم خلقوا عَلَى طبقات شتي ألا وإن مِنْهُمْ البطيء الْغَضَب سريع الفيء والسريع الْغَضَب سريع الفيء والبطيء الْغَضَب بطيء الفيء فتلك بتلك ألا وإن مِنْهُمْ بطيء الفيء سريع الْغَضَب ألا وخيرهم بطيء الْغَضَب سريع الفيء وشرهم سريع الْغَضَب بطيء الفيء ألا وإن مِنْهُمْ حسن الِقَضَاءِ حسن الطلب وَمِنْهُمْ سيء الِقَضَاءِ حسن الطلب وَمِنْهُمْ سيء الطلب حسن الِقَضَاءِ فتلك بتلك ألا وإن مِنْهُمْ سيء الِقَضَاءِ سيء الطلب ألا وخيرهم الحسن الِقَضَاءِ الحسن الطلب وشرهم سيء الطلب ألا وإن الْغَضَب جمرة فِي قلب ابن آدم أما رأيتم إلي حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه وسيئات الْغَضَب كثيرة ونتائجه الوخيمة أكثر. فمن أحس بشَيْء من ذَلِكَ فليلصق بالأرض ". رواه الترمذي.

من سيئات الغضب، وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بترك الغضب

ومن سيئاته: أن الطلاق غالباً يحدث عن غضب، ومن سيئاته أن الفراق بين الأقارب والأولاد يقع غالباً عن غضب. ومن سيئاته: إتلاف بعض الْمَال أو كله. شِعْراً: ... إِذَا المَرْءُ لم يَغْلِبْ مِنَ الغَيْضِ سَوْرَةً ... فلَيْسَ وإِنْ فَضَّ الصَّفَا بِشَدِيْدِ ومن سيئاته: أنه ربما قضي عَلَى نَفْسهِ أو عَلَى أولاده بسبب غضبه ومن سيئات الْغَضَب أن الإنسان إِذَا غضب أطلق لِسَانه بالقذف والغيبة والنميمة والبهت والاستهزاء والسخرية والشتم والسب وسائر أنواع المعاصي التي تقضي عَلَى حسناته إن كَانَ لَهُ حسنات وإلا فتوقره من سيئات عدوه ولَوْ ملك نَفْسهُ لسلم من ذَلِكَ كله. ومن سيئاته: أنه يفضي إلي المهاترات الشفهية وتبادل السباب بين المتخاصمين وهَذَا لا يجوز وَكم من معارك تبتذل فيها الأعراض وتعدو الشتائم المحرمة عَلَى الحرمَاتِ البعيدة ولَيْسَ لهذه الآثام الغليظة من علة إلا تسلط الْغَضَب، وضياع الأدب، ولذَلِكَ كَانَ ضبط النفس عِنْدَ سورانه دَلِيل قدرة محمودة ورزانة عقل وحسبك دليلاً عَلَى ذَلِكَ ما ورد عَنِ ابن مسعود قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: "ما تعدون الصرعة فيكم"؟ قَالُوا: الَّذِي لا تصرعه الرجال. قال "لا. ولكن الَّذِي يملك نَفْسهُ عِنْدَ الغضب" وراه مسلم. وَقَالَ رجل للنبي ?: أوصني ولا تكثر عَلَىَّ لعَلَى لا أنسي. قال: " لا تغضب ". وروي أَبُو هُرَيْرَةِ أن رجلاً قال: يَا رَسُولَ اللهِ مرني بعمل وأقلل. قال: " لا تغضب ". ثُمَّ أعاد عَلَيْهِ فَقَالَ: " لا تغضب ". ثُمَّ أعاد عَلَيْهِ فَقَالَ: " لا تغضب ". رواه البخاري، وَقَالَ ابن عمر: قُلْتُ لِرَسُولِ اللهِ ?: قل لي قولاً وأقلله، لعَلَى أعقله. فَقَالَ: " لا تغضب ". فأعدت عَلَيْهِ مرتين، كُلّ ذلك

التحذير من العقاب وقت الغضب، والصفح عمن أساء، قدرة الشيطان

يرجع إلي " لا تغضب ". أخرجه أبو يعَلَى بسند حسن وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةِ: قال النَّبِيّ ?: " لَيْسَ الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الَّذِي يملك نَفْسهُ عِنْدَ الغضب" متفق عَلَيْهِ، وَقَالَ ابن عمر: قال النَّبِيّ ?: " من كف غضبه ستر الله عورته ". أخرجه ابن أبي الدنيا. وإليك بعض الآثار: قال عَبْد اللهِ بن مسعود: انظروا إلي الرجل عِنْدَ غضبه وأمانته عِنْدَ طمعه وما علمك بحلمه إِذَا لم يغضب وما علمك بأمانته إِذَا لم يطمَعَ، وكتب عمر بن عَبْد الْعَزِيز إلي عامله: أن لا تعاقب عِنْدَ غضبك وإِذَا غضبت عَلَى رجل فاحبسه فإِذَا سكن غضبك فأخرجه فعاقبه عَلَى قدر ذنبه، وَقَالَ عَلَى بن زيد: أغلظ رجل من قريش لعمر بن عَبْد الْعَزِيز القول فأطرق عمر زمانَاً طويلاً ثُمَّ قال أردت أن يستفزني الشيطان بعز السُّلْطَان فأنال منك الْيَوْم ما تناله مني غداً. وَقَالَ بَعْضهمْ لابنه: يا بني لا يثَبِّت العقل عِنْدَ الْغَضَب كما لا تثَبِّت الروح فِي الحي فِي التنانير المسجورة ومِمَّا يروي عن ذي القرنين أنه لقي ملكاً من الملائكة فَقَالَ: علمني عِلماً أزداد به إيمانَاً ويقيناً قال: لا تغضب فإن الشيطان أقدر ما يكون عَلَى ابن آدم حين يغضب فرد الْغَضَب بالكظم وسكنه بالتودة وَإِيَّاكَ والعجلة، وعن ابن عباس قال: لما قدم عيينة بن حصن نزل عَلَى ابن أخيه الحر بن قيس: وكَانَ من النفر الَّذِينَ يدنيهم عمر، إذ كَانَ القراء أصحاب مجلس أمير الْمُؤْمِنِين عمر ومشاورته كهولاً كَانُوا أو شبانَاً فَقَالَ عيينة يا ابن أخي استأذن لي أمير الْمُؤْمِنِين فاستأذن لَهُ فَلَمَّا دخل قال: هيه يا ابن الخطاب فوَاللهِ ما تعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر حتي هم أن يوقع به فَقَالَ الحر يا أمير الْمُؤْمِنِين إن الله

على الإنسان وقت الغضب، ويليه قصيدة زهدية

يَقُولُ لنبيه ?: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} وإن هَذَا من الجاهلين، فوَاللهِ ما جاوزها عمر حين تلاها عَلَيْهِ وكَانَ وقافاً عِنْدَ كتاب الله وإنما غضب عمر رَضِيَ اللهُ عنهُ وهم بردع الأعرابي لتطاول الأعرابي عَلَيْهِ لأنه لم يدخل ناصحاً أو مشيراً بخَيْر وإنما دخل عَلَيْهِ فِي سلطانه ليشتمه دون مبرر وليسأله عطاءً جزيلاً عَلَى غَيْر عمل فَلَمَّا ذكر عمر بأن هَذَا من الجاهلين أعرض عنهُ وتركه ينصرف سالماً وفِي الْحَدِيث "من كظم غيظاً وَهُوَ يقدر أن ينفذه، دعاه الله يوم القيامة عَلَى رؤوس الخلائق حتي يخيره فِي أي الحور العين. شِعْراً: ... مَنْ لِي بِإِنْسَانٍ إِذَا أَغَضَبْتُهُ ... وَجَهِلْتُ كَانَ الحِلْمُ رَدَّ جَوَابِهِ وَتَرَاهُ يُصْغِي لِلْحَدِيْثِ بِسَمْعِهِ ... وَبِعَقْلِهِ وَلَعَلَّهُ أَدْرَى بِهِ إِذَا مَا سَفِيه نَالَنِي مِنْهُ نَائِلٌ ... مِنَ الذَّمِ لم يَحْرُجْ بِمَوقِفِهِ صَدْرِي أَعُوْدُ إِلى نَفْسِي فَإِنْ كَانَ صَادِقاً ... عَتِبْتُ عَلَى نَفْسِي وَأَصْلَحْتُ مِنْ أَمْرِي وَإلا فَمَا ذَنْبِي إِلى النَّاسِ إِنْ طَغَى ... هَوَاهَا فَمَا تَرْضَى بِخَيْرٍ وَلاَ شَرٍّ تَنَبَهْ قُبَيْلَ المَوْتِ إِنْ كُنْتَ تَعْقِلُ فَعَمَا قَلِيْلٍ لِلْمَقَابِرِ تُنْقَلُ وَتُمْسِي رَهِيْناً لِلْقُبُورِ وَتَنْثَنِي لَدِي جَدَثٍ تَحْتَ الثَرَى تَتَجَنْدَلُ فَرِيْداً وَحِيْداً فِي التُّرَابِ وِإِنْمَا قَرِيْنُ الفَتَى فِي القَبْرِ مَا كَانَ يَعْمَلُ فَوَا أَسَفاً مَا يَفْعَلُ الدُوْدُ وَالثَرَى بِوَجْهٍ جَمِيْلٍ كَانَ للهِ يَخْجَلُ وَمَا يَفْعَلُ الجِسْمُ الوَسِيْمُ إِذَا ثَوَى وَصَارَ ضَجِيْعَ القَبْرِ يَعْلُوْهُ جَنْدَلُ ... ›?

موعظة جليلة القدر في التحذير من الغضب والحث على الرفق

.. وَبَطْنِي بَدَا فِيه الرَّدَى ثُمَّ لَوْ تَرَى دَقِيْقَ الثَّرَى فِي مُقْلَتِي يَتَهَرْوَلُ أَعَيَنْايَ جُوْدَا بِالدُمُوعِ عَلَيْكُمَا فَحُزْنِي عَلَى نَفْسِي أَحَقُ وَأَجْمَلُ وَيَا مُدَّعِي حُبِي هَلُّمَ بِنَا إِذَا ... بَكَى النَّاسُ نَبْكِي لِلْفِرَاقِ وَنُهْمِلُ دَعِي اللَّهْوَ نَفْسِي واذْكُرِي حُفْرَةَ البِلَى وَكَيْفَ بِنَا دُوْدُ المَقَابِرِ يَفْعَلُ إِلى اللهِ أَشْكُو لاَ إِلى النَّاسِ حَالَتِي إِذَا صِرْتُ فِي قَبْرِي وَحِيْداً أُمَلْمَلُ ... ›? اللَّهُمَّ يا حي يا قيوم يا عَلَى يا عَظِيم أبرم لهذه الأمة أمرَ رشد يعز فِيه أَهْل طَاعَتكَ ويذل فِيه أَهْل معصيتك ويؤمر فِيه بالمعروف وينهي فِيه عن الْمُنْكَر اللَّهُمَّ بارك فِي أعمارنا وأصلح أعمالنا ونياتنا وذرياتنا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. " موعظة " عِبَادَ اللهِ: من عِبَادِ اللهِ من ترونه سيء الخلق، عنيفاً شرساً فِي كُلّ حال إن قال فعنف قوله ينطق بالكلمة فلعنفها تحدث من الشر ما لا يحكيه المقال إن مثل هَذَا لا تطول معه عشرة نساء ولا صداقة رِجَال ولا يجد قلباً يعطف عَلَيْهِ ولَوْ كَانَ فِي أشد الأحوال ولَوْ قيل لك إن البهائم تنفر منه لعنفه وشراسته فصدِّق هَذَا المقال وللناس عذر واضح فِي نفورهم من هَذَا العنيف السيء الأخلاق ولا لوم عَلَيْهمْ إِذَا فارقوه الفراق الَّذِي لَيْسَ بعده من تلاق فإن

فصل في الحسد، معنى الحسد، أدلة على تحريمه وذمه

الطباع البشرية متفقة عَلَى بغض العنْف وكيف يحب النَّاس من يؤذيهم بأقواله وأفعاله بسبب وبغَيْر سبب فالعنيف شؤم عَلَى نَفْسه قبل أن يكون شؤماً عَلَى سواه وَرُبَّمَا عم شؤمه دنياه وأخراه قال ?: "من يحرم الرفق يحرم الْخَيْر كله" رواه مسلم وأَحَمَد وأبو داود وابن ماجه، وفِي الْحَدِيث الآخر: "إن الله تعالى رفيق يحب الرفق، ويعطي عَلَى الرفق ما لا يعطي عَلَى العنف رواه مسلم أما الرفيق: فهو الْعَبْد الحسن الخلق الوقور الحليم الَّذِي أينما كَانَ ومتي كَانَ تصبو إليه القُلُوب لأنه إن قال فقوله حلَوْ لأنه أديب حكيم وإن فعل فأفعاله ترشد إلي تعلمِ الأدب ولَيْسَ بنو آدم الَّذِينَ يحبون الرفق، بل يشاركهم فِي ذَلِكَ سائر الحيوانات، وإن شئت فَانْظُرْ مبلغ حنين تلك الحيوانات إليهم فكن رفيقاً أيها المُؤْمِن تجمَعَ بين حب الله وحب عباده ولَيْسَ بعد ذَلِكَ لذوي النهي أرب، اللَّهُمَّ اختم لنا بخاتمة السعادة وَاجْعَلْنَا ممن كتبت لّهُمْ الحسني وزيادة وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. فَصْلٌ فِي بَيَانِ تَحْرِيْمِ الحَسَدْ اعْلم وفقنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ وجنبنا وَإِيَّاكَ وإياهم كُلّ خلق ذميم: أن مِمَّا يتأكد اجتنابه فِي كُل زمان ومكَانَ الحسد إذ هُوَ من الذُّنُوب المهلكات، ومعني الحسد: أن يجد الإنسان فِي صدره وقَلْبهُ ضَيِّقاً وحرجاً وكراهية لنعمة أنعم الله بِهَا عَلَى عبد من عباده فِي دينه أو دنياه حتي أنه ليحب زوالها عنهُ وَرُبَّمَا تمني ذَلِكَ أو سعي فِي إزالتها وحسبك بذمه وقبحه أن الله تعالى أمر رسوله ? أن يتعوذ من شر الحاسد كما أمر بالاستعاذة من شر

الشيطان قال الله تعالى: {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} . والحرص والحسد من مداخل الشيطان إلي الْقَلْب فمهما كَانَ الْعَبْد حريصاً عَلَى كُلّ شَيْء أعماه وأصمه قال ?: " حبك للشَيْء يعمي ويصم ". ونور البصيرة هُوَ الَّذِي يعرف مداخل الشيطان فإِذَا غطاه الحسد والحرص لم يبصر فحينئذ يجد الشيطان فرصة فيحسن عِنْدَ الحريص كُلّ ما يوصله إلي شهواته وإن كَانَ منكراً وفاحشاً، فبالحسد لعنَ إبلَيْس وجعل شيطانَاً رجيماً وأما الحرص فإنه أبيح لآدم الْجَنَّة كُلّهَا إلا الشجرة، فأصاب حاجته إبلَيْس من آدم بالحرص فأكل من الشجرة التي نهاه الله عنها. ومن أجل أن الحسد بهذه الدرجة ورد فِيه تشديد عَظِيم حتي قال فِيه الرَّسُول ?: "الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب" رواه أبو داود وابن ماجه، وَقَالَ ?: "لا يجتمَعَ فِي جوف عبد غبار فِي سبيل الله، وفيح جهنم ولا يجتمَعَ فِي جوف عبد الإيمان والحسد" رواه ابن حبان فِي صحيحه ورواه البيهقي. والَّذِي يجب أن يفهم من هَذَا الْحَدِيث: أن الإيمان الصادق الكامل الَّذِي يستحضر صاحبه أن كُلّ أفعال الله لحكمة لا يجتمَعَ مَعَ الحسد الَّذِي يغضب من فعل الله وقسمته وَيَقُولُ ? فِي الحسد:"لا يزال النَّاس بخَيْر ما لم يتحاسدوا" رواه الطبراني، والمعني وَاللهُ أَعْلم: أنَّهُمْ إِذَا تحاسدوا ارتفع الْخَيْر مِنْهُمْ وكيف لا يرتفع مِنْهُمْ الْخَيْر وكل مِنْهُمْ يتمني أن يزول الْخَيْر الَّذِي عِنْدَ أخيه، ونهي ? عن الحسد فَقَالَ: "ولا تحاسدوا" والحسد نتيجة من نتائج الحقَدْ وثمرة من ثمراته المترتبة عَلَيْهِ فإن من يحقد عَلَى إنسان يتمني زَوَال نعمته ويغتابه وينم عَلَيْهِ ويعتدي عَلَى عرضه، ويشمت فِيه لما يصيبه

من البَلاء، وغَيْرَ ذَلِكَ من الصفات المذمومة التي لا تليق بالإنسان وكثيراً ما تري الحاسد ينقب عن مساوئ المحسود فيبرزها عَلَى صفة الذم والتثريب فينتبه المحسود لها ويتجنبِهَا فيكون السبب فِي إزالتها عدوه الحاسد كما قيل: ... عُدَاتِي لَهُمْ فَضْلٌ عَلَيَّ وَمِنَةً فَلاَ أَذْهَبَ الرّحْمَنُ عَنّي الأعَادِيَا هُمُوْا بَحَثُوْا عن زَلَّتِي فاجْتَنَبْتُهَا وَهُمْ نَافَسُونِي فَاكْتَسَبْتُ المَعَالِيَا ... ›? وَيَقُولُ الآخر: ... وَإِذَا أَرَادَ اللهُ نَشْرَ فَضِيْلَةٍ طُوِيَتْ أَتَاحَ لَهَا لِسَانَ حُسُودِ لَوْلاَ اشْتِعَالُ النَّارِ فِي جزل الغَضَا مَا كَانَ يُعْرِفُ طِيْبُ رِيْحِ العُوْدِ آخر: ... مُحَسَّدُوْنَ وَشَرُّ النَّاسِ مَنْزِلَةً مَنْ عَاشَ فِي النَّاسِ يَوْماً غَيْرَ مَحْسُودِ آخر: ... إِنّي حُسِدْتُ فَزَادَ اللُه فِي حَسَدِي لاَ عَاشَ مَنْ عَاشَ يَوماً غَيْرَ مَحْسُودِ مَا يُحْسَدُ المَرءُ إلا مِنْ فَضَائِلِهِ بِالعِلْمِ والظُّرْفِ أَوْ بِالْبَأسِ والجُوْدِ آخر: ... سُبْحَانَ مَنْ َسَّخَر لِي حَاسِدِي ... يُحْدِثُ لِي فِي غَيْبَتِي ذِكْرَا لاَ أَكْرَهُ الغِيْبَةَ مِنَ حَاسِدِيْ ... يُفِيدُنِيْ الشُهْرَةَ وَالأجْرَا وكفِي بالحقَدْ ذماً أن يكون الحسد ثمرة من ثمراته وأثراً من آثاره. شِعْراً: ... فَلاَ تَحْسِدَنْ يَوماً عَلَى فَضْلِ نِعْمَةٍ ... فَحَسْبُكَ عَاراً أَنْ يُقَالَ حَسُوْدُ

مراتب الحسد خمس موضحة

آخر: ... ألا قُلْ لِمَنْ كَانَ لِي حَاسِداً ... أَتَدْرِيْ عَلَى مَنْ أَسَأَتَ الأدَبْ أَسَأَتَ عَلَى اللِه فِي فِعْلِهِ ... لأَنَّكَ لم تَرّضَ لِي مَا وَهَبْ وفِي الغالب أن الحسد يكون بين النظراء والزملاء وأرباب الصناعات والمراتب والمناصب الحكومية فالتاجر يحسد التاجر والصانع يحسد الصانع والنجار يحسد النجار والفلاح يحسد الفلاح وأرباب الجاه يحسدون أرباب الجاه وذوو المناصب الحكومية يحسد بَعْضهمْ بعضاً ومن الأمثال المتداولة قولهم عدو المرء من يعمل عمله وللحسد أعاذنا الله وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ منه مراتب. أحدها أن يتمني زَوَال النعمة عن الغَيْر، ويعمل ويسعي فِي الوسائل المحرمة الظالمة ويسعي فِي إساءته بكل ما يستطيع وهَذَا الغاية فِي الخبث والخساسة والنذالة وهذه الحالة هِيَ الغالبة فِي الحساد خصوصاً المتزاحمين فِي صفة واحدة فإن من يربح مِنْهُمْ ربحاً كبيراً أو يظفر بلذة يرقبِهَا غيره فإن ذَلِكَ الغَيْر يحسده عَلَى ما حصل لَهُ من ذَلِكَ ويسعي إلي حرمانه فِي ذَلِكَ الرِّبْح ليظفر هُوَ به ويكثر ذَلِكَ فِي طلاب المناصب والجاه. المرتبة الثَّانِيَة: أن يتمني زَوَال النعمة ويحب ذَلِكَ، وإن كانت لا تنتقل إليه، وهَذَا أيضاً فِي غاية الخبث، ولكنها دون الأولي. الثالثة أن يجد من نَفْسهِ الرغبة فِي زَوَال النعمة عن المحسود سواءً انتقُلْتُ إليه أو إلي غيره ولكنه فِي جهاد مَعَ نَفْسهِ وكفها عن ما يؤذي خوفاً من الله تعالى وكراهية فِي ظلمِ عِبَادِ اللهِ ومن يفعل هَذَا يكون قَدْ كفِي شر غائلة الحسد، ودفع عن نَفْسهِ العقوبة الأخروية ولكن ينبغي لَهُ أن يعالج نَفْسهُ من هَذَا الوباء حتي يبرأ منه. الحالة الرابعة: أن يتمني زَوَال النعمة عن الغَيْرِ، بغضاً لذلك

الشخص، لسبب شرعي، كأن يكون ظالماً يستعين عَلَى مظالمه بهذه النعمة فيتمني زوالها ليريح النَّاس من شره ومثل أن يكون فاسقاً يستعين بهذه النعمة عَلَى فسقه وفجوره، فيتمني زَوَال المغل هَذَا عنهُ ليريح العباد والْبِلاد من شره القاصر والمتعدي، فهَذَا لا يسمي حسداً مذموماً وإن كَانَ تعريف الحسد يشمله، ولكنه فِي هذه الحال يكون ممدوحاً لاسيما إِذَا كَانَ يترتب عَلَيْهِ عمل يدفع هَذَا الظلم والعدوان ويردع هَذَا الظالم. الحالة الخامسة: أن يحب ويتمني لنفسه مثلها فإن لم يحصل لَهُ مثلها فلا يحب زوالها عن صاحبِهَا فهَذَا لا بأس به إن كَانَ كالنعم الدنيوية كالْمَال المباح والجاه المباح وإن كَانَ من النعم الدينية كالعلم الشرعي والعبادة الشرعية كَانَ محموداً كأن يغبط من عنده مال حلال ثُمَّ سلط عَلَى هلكته فِي الحق من واجب ومستحب فإن هَذَا من أعظم الأدلة عَلَى الإيمان ومن أعظم أنواع الإحسان وَكَذَا من آتاه الله الحكمة والعلم فوفق لنشره، كما فِي الْحَدِيث: " لا حسد إلا فِي اثنتين رجل آتاه الله مالاً، فسلطه عَلَى هلكته فِي الحق، ورجل آتاه الله الحكمة، فهو يقضي بِهَا ويعلمها ". فهذان النوعان من الإحسان لا يعادلهما شَيْء إلا إن ترتب عَلَيْهِ وساوس شيطانية، وخواطر نفسانية تجر الإنسان إلي مواضع الخطر التي تفسد عمله كأن يَقُولَ فِي نَفْسهِ أَنَا أحق منه بهَذَا فهَذَا اعتراض عَلَى حكمة الله وقسمته ولا يجوز ذَلِكَ: شِعْراً: ... عَيْنُ الحَسُودِ عَلَيْكَ الدَّهْرَ حَارِسَةٌ ... تُبْدِي المَسَاوِئ والإحْسَانَ تُخْفِيه يَلْقَاكَ بِالبِشْرِ بِيَدْيِهِ مُكَاشَرَةً ... والْقَلْبُ مَضْطَغِنٌ فِيه الَّذِي فِيه إِنْ الحَسُودَ بِلاَ جُرْمٍ عَدَاوَتُهُ ... فلَيْسَ يَقْبَلُ عُذْراً فِي تَجَنِيَّهِ آخر: ... عَلَيْكَ أَخَي بِالتُّقَى وَلُزُوْمه ... وَلاَ تُكْثِرَنْ مَا فِيه زَيْدٌ وَلاَ عَمْرُوْ

أسباب الحسد كثيرة نذكر بعضها والأمثلة لها

فَزَهْرَةُ ذِي الدُّنْيَا سَرِيْعٌ ذُبُولُهَا ... وفِي نَهْي طَهَ لِلّنَّبِي لَنَا ذِكْرُ وَكُنْ مُنْشِداً مَا قَالَ بَعْضُ أُوْلِي النُهَى ... فَكم حِكْمَةٍ غَرَّاءَ قَيَّدَهَا الشِّعْرُ (إِذَا المَرْءُ جَازَ الأرْبَعِيْنَ وَلم يَكُنْ ... لَهُ دُوْنَ مَا يَأْتِي حَيَاءٌ وَلاَ سِتْرُ) (فَدَعْهُ وَلاَ تَنْفُسْ عَلَيْهِ الَّذِي أَتَى ... وَإِنْ مَدَّ أَسْبَابَ الحَيَاةِ لَهُ العُمْرُ) آخر: أَأَقْصُدُ بِالمَلاَمَةِ قَصْدَ غَيْرِي ... وَأَمْرِي كُلُّهُ بَادِي الخِلاَفِ إِذَا عَاَش امْرُؤٌ خَمْسِيْنَ عَاماًَ ... ولم يُرَ فِيه آثَارُ العَفَافِ فَلاَ يُرْجَى لَهُ أَبَداً رَشَادٌ ... فقَدْ أَرْدَى بِنِّيَتِهِ التَّجَافِي وَلِمَ لاَ أَبْذُلُ الإنْصَافَ مِنِي ... وَأَبْلُغُ طَاقَتِي فِي الانْتِصَافِ لِي الوَيْلاَتُ إِنْ نَفَعَتْ عِظَاتِي ... سِوايَ ولَيْسَ لِي إلا القَوَافِي (فَصْلٌ) ثُمَّ اعْلم أن للحسد أسباباً. الأول: العداوة والبغضاء وهَذَا أشد أسباب الحسد. الثاني: التعزز والترفع وَهُوَ أن يثقل عَلَيْهِ أن يرتفع عَلَيْهِ غيره فإِذَا أصاب أحد زملائه ولاية أو مالاً خاف أن يتكبر عَلَيْهِ وَهُوَ لا يطيق تكبره وافتخاره عليه. السبب الثالث الكبر وَهُوَ أن يكون فِي طبعه أن يتكبر عَلَيْهِ ويستحقره ويستصغره ويستخدمه فإِذَا نال ولايةً خاف أن لا يحتمل تكبره ومن التكبر والتعزز كَانَ حسد أكثر الكفار لِرَسُولِ اللهِ ? إذ قَالُوا: كيف يتقدم علينا

غلام يتيم فنطأطئ رؤوسنا له. فَقَالُوا {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} . السبب الرابع التعجب كما أخبر الله عن الأمم الماضية إذ {قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} فتعجبوا من أن يفوز برتبة الرسل والوحي والقرب من الله بشر مثلهم فحسدوهم وأحبوا زَوَال النعمة عنهم. الخامس الخوف من فوت مقصد من المقاصد وَذَلِكَ يختص بمتزاحمين عَلَى مقصود واحد وَذَلِكَ مثل الضرات عِنْدَ زوجهن والتلاميذ عِنْدَ الأستاذ والإخوة فِي التزاحم عَلَى نيل المنزلة فِي قلب الأبوين ليتوصل به إلي مقاصد الكرامة والْمَال وخدام الملك فِي نيل المنزلة من قلبه. السادس حب الرياسة وطلب الجاه لنفسه من غَيْرِ توصل به إلي مقصود وَذَلِكَ كالرجل الَّذِي يريد أن يكون عديم النظير فِي فن من الفنون إِذَا غلب عَلَيْهِ حب الثناء والمدح واستفزه الفرح بما يمدح به، فإنه لَوْ سمِعَ بنظيرأً لَهُ فِي أقصي أقطار الأرض لساءه ذَلِكَ، وأحب موته أو زَوَال تلك النعمة التي عِنْدَ الَّذِي يشاركه بِهَا فِي المنزلة من شجاعة أو علم أو صناعة أو جمال أو ثروة أو نحو ذلك. السابع: خبث النفس وحبِهَا للشر وشحها بالْخَيْر لعِبَادِ اللهِ، فتجد المتصف بذَلِكَ إِذَا ذكر لَهُ اضطراب ونكبات تصيب النَّاس وإدبارهم وفوت مقاصدهم وتنغيص عيشهم استنار وجهه وفرح به وصار يبثه وَرُبَّمَا أتي بإشاعته فِي صورة الترحم والتوجع فهو أبداً يحب الإدبار لغيره ويبخل بنعمة الله عَلَى عباده كأنه يؤخذ ما أعطاهم الله من ماله وخزانته، عَلَى أنه لَيْسَ بينه

وبينهم عداوة وهَذَا لَيْسَ لَهُ سبب إلا التعمق فِي الخبث والرذالة والنذالة والخساسة فِي الطبع اللئيم ولذَلِكَ يعسر معالجة هَذَا السبب لأنه جهول ظلوم ولَيْسَ يشفِي علة صدره ويزيل حزازة الحسد الكامن فِي قَلْبهِ إلا زَوَال النعمة فحينئذ يتعذر الدواء أو يعز ومن هَذَا قول بعضهم. وَكُلٌّ أُدَاوِيْهِ عَلَى قَدْرِ دَائِهِ سِوَى حَاسِدِي فَهْيَ الَّتِي لاَ أَنَالُهَا وَكَيْفَ يُدَاوِيْ المَرْؤُ حَاسِدَ نِعْمَةٍ إِذَا كَانَ لاَ يُرْضِيْهِ إلا زَوَالُهَا ... ›? قال بَعْضهمْ: رَأَيْت أكثر النَّاس إلا من عصم الله وقليل ما هم يتعجلون الشقاء والهم والتعب لأنفسهم فِي الدُّنْيَا ويحتقبون عَظِيم الإثم الموجب للنار فِي الآخرة بما لا يحظون معه بنفع أصلاً من نيات خبيثة يحرصون عَلَيْهَا من تمني الغلاء المهلك للناس وللصغار ومن لا ذنب لَهُ وتمني أشد البَلاء لمن يكرهونه وقَدْ علموا يقيناً أن تلك النيات الفاسدة لا تعجل شيئاً مِمَّا يتمنونه أو توجب كونه وأنَّهُمْ لَوْ وصفوا نياتهم وحسنوها لتعجلوا الرَّاحَة لأنفسهم وتفرغوا بذَلِكَ لمصالح أمورهم، ولا اقتنوا عَظِيم الأجَر فِي المعاد، من غَيْر أن يؤخر ذَلِكَ شيئاً مِمَّا يريدونه أو يمنع كونه، فأي غبن أعظم من هذه الحال التي نبهنا عَلَيْهَا 1 هـ. وأما الأسباب الأخري فيتصور إزالتها فِي المعالجة, وقَدْ تجتمع أسباب الحسد المذكور كُلّهَا فِي شخص واحد أو أكثرها. ... أَعْطَيْتُ كُلَّ النَّاسِ مِنْ نَفْسِي الرِّضَا ... إلا الحَسُودَ فِإَنَّهُ أَعْيَانِي لاَ أَنَّ لِي ذَنْباً لَدَيْهِ عَلِمْتُهُ ... إلا تَظَاهُرُ نِعْمَةِ الرَّحْمَنِ

دواء الحسد بعد معرفة أضراره

.. يَطْوِيْ عَلَى حُنْقٍ حَشَاهُ لأًنْ رَأى ... عِنْدِيْ كَمَالُ غِنَى وَفَضْلُ بَيَانِ مَا إِنْ أَرَى يُرْضِيِهِ إلا ذِلْتِي ... وذَهَابُ أَمْوَالِي وَقَطْعُ لِسَانِي وقَدْ ذكر العلماء للحسد دواءً فأولاً أن تعرف أنه ضرر عَلَيْكَ فِي الدين والدُّنْيَا ولا ضرر به عَلَى المحسود لا فِي الدُّنْيَا ولا فِي الدين بل ينتفع به فيهما جميعاً أما ضرره فِي الدين فلأنه سخط لِقَضَاءِ الله وقدره، وكراهة لنعمته عَلَى عبده المُؤْمِن وانضم إليه غش المسلم وترك نصحه وترك الْعَمَل بقوله ?: " لا يؤمن أحدكم حتي يحب لأخيه ما يحب لنفسه ". وانضم أيضاً إلي ذَلِكَ أنه شارك إبلَيْس وهذه خبائث تأكل الحسنات وأما ضرره فِي الدُّنْيَا فإنه الألم النقد الحاضر والْعَذَاب الدائم. وأما كونه لا ضرر عَلَى المحسود فواضح لأن النعمة لا تزول بالحسد وأما منفعته فِي الدُّنْيَا للمحسود فهو أن أهم مقاصد أكثر أبناء الدُّنْيَا إيصال الضَّرَر والهم إلي أعدائهم وَهُوَ متوفر فِي الحسد وقَدْ فعل الحاسد بنفسه مرادهم فأَنْتَ بالحَقِيقَة عدو لنفسك وصديق لعَدُوّكَ ومَعَ هَذَا كله فقَدْ أدخلت السرور عَلَى إبلَيْسَ وَهُوَ أعدي عدو لك ولغيرك ولَوْ عقُلْتُ تماماً لعكست وكلفت نفسك نقيض الحسد إذ أن كُلّ مرض يعالج بضده فمثلاً يكلف لِسَانه الثناء عَلَيْهِ من غَيْرِ كذب ويلزم نَفْسهُ بره إن قدر فهذه الأفعال تعمل مقاربة تطيب قلب المحسود ويحب الحاسد ويصير ما يتكلفه أولاً طبعاً آخراً ولا يعمل بوساوس الشيطان إن هَذَا عجز ونفاق وخوف لأن ذَلِكَ من خدعه ومكائده فهَذَا الدواء إلا أنه مر قل من يقدر عَلَيْهِ قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} الآية وبالتالي فإن خَيْر ما للمرء أن يكون مستريحاً فِي دنياه لعل الله أن يجعله من أَهْل الْجَنَّة فِي أخراه. وفِي الدُّنْيَا فِي أمن وفِي رغد هَذَا شَيْء متحقق وقديماً قيل:

أبيات حول طهارة القلب من الحسد والنقد والبغض، بشارة سارة لمن وفق لها، والأدلة على ذلك

.. يَا طَالِبَ العَيْشِ فِي أَمْنٍ وَفِي دَعَةٍ رَغْداً بَلاَ قَتَرٍ صَفْواً بَلاَ كَدَرِ خَلِّصْ فُؤَادَكَ مِنْ غِلٍّ وَمِنْ حَسَدٍ فَالغِلُّ فِي الْقَلْبِ مِثْلُ الغِلِّ فِي العُنُقِ ... ›? آخر: ... مَتَى تَجْمَعَ الحَسْدَ العَمِيْقَ وَغِيْبَةً ... وَنَماً وَكَذِباً تَخْتَطِبْكَ المَنَاصِبُ وَإِنْ تجْمَع الإخْلاَصَ والزُهْدَ وَالتُقَى ... وَعِْلماً وَحِلْماً تَجْتَنِبْكَ المَرَاتِبُ آخر: ... (لَمَا عَفَوْتَ وَلم أحْقِدْ عَلَى أَحَدٍ ... أَرَحْتُ نَفْسِيَ مِنْ هَمِّ العَدَاَواتِ) (إِنّي أُحَيّي عَدُوّي عِنْدَ رُؤْيَتِهِ ... لأَدْفَعَ الشَرَّ عَنِّي بِالتَّحِيَاتِ) وَقَالَ آخر: إِلْقِ الْعَدُوِّ بِوَجْهِ لا قُطُوبَ بِهِ يَكَادُ يَقْطُرُ مِنْ مَاءِ البَشَاشَاتِ فَأحَزَمُ النَّاسِ مَنْ يَلْقَى أَعَادِيَهُ فِي جِسْمِ حِقْدٍ وَثَوْبٍ مِنْ مَوَدَاتِ آخر: ... أُجَامِلُ أَقْوَاماً حَيَاءً وَقَدْ أَرَى صُدُوْرَهُمُ بَادٍ عَلَى مِرَاضُهَا ... ›? والطَرِيق الوحيد أن تعلم تماماً أن الْخَيْر كله فِي أن لا يكون فِي نفسك لأحد من المُسْلِمِيْنَ غش ولا تحسد أَحَداً عَلَى خَيْر أعطاه الله إياه ثُمَّ أي ضرر

يحصل لك لَوْ كَانَ غيرك فوقك فِي الْمَال أو فِي المنصب، إنه مسكين، ما نقص من دنياك ولا من آخرتك مثقال ذرة. وإِذَا رَأَيْت قلبك صافياً محباً لإخوانك من المُسْلِمِيْنَ الْخَيْر كارهاً لهُمْ ما تكره لنفسك، فهذه بشارة للمستقيم، وليسمَعَ إلي ما ورد عن أنس بن مالك قال كنا جلوساً عِنْدَ رسول الله ? فَقَالَ "يطلع الآن عليكم رجل من أَهْل الْجَنَّة فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه، قَدْ علق نعَلَيْهِ بيده الشمال. فَلَمَّا كَانَ الغد قال النَّبِيّ ? مثل مقالته أيضاً فطلع الرجل عَلَى مثل حاله الأول فَلَمَّا قام النَّبِيّ ? تبعه عَبْد اللهِ بن عمرو أي تبع ذَلِكَ الرجل فَقَالَ إني لاحيتُ أبي، فأقسمت أني لا أدخل عَلَيْهِ ثلاثاً، فإن رَأَيْت أن تؤريني إليك حتي تمضي فعلت قال نعم قال أنس فكَانَ عَبْد اللهِ يحدث أنه بات معه تلك الثلاث الليالي فلم يره يقوم من الليل شيئاً غَيْرَ أنه إِذَا تعارَّ من الليل ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ وكبر، حتي قام لصلاة الفجر. قال عَبْد اللهِ غَيْرَ أني لم أسمعه يَقُولُ إلا خيراً فَلَمَّا مضت الثلاث الليالي وكدت أن أحتقر عمله قُلْتُ يا عَبْد اللهِ لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر ولكن سمعت رسول الله ? يَقُولُ لك ثلاث مرات يطلع عليكم الآن رجل من أَهْل الْجَنَّة فطلعت أَنْتَ الآن فأردت أن آوي إليك فأنظر عملك فأقتدي بك فلم أرك عملت كبير عمل فما الَّذِي بلغ بك ما قَالَ رَسُولُ اللهِ ? قال ما هُوَ إلا ما رَأَيْت فَلَمَّا وليت دعاني فَقَالَ ما هُوَ إلا ما رَأَيْت غَيْرَ أني لا أجد فِي نفسي لأحد من المُسْلِمِيْنَ غشاً ولا حسداً عَلَى خَيْر أعطاه الله إياه فَقَالَ عَبْد اللهِ هذه التي بلغت بك رواه أَحَمَد بإسناد صحيح. شِعْراً: ... كُلُّ العَدَاوَاتِ قَدْ تُرْجَى مَوَدَّتُهَا ... إلا عَدَاوَةَ مَنْ عَادَاكَ مِنْ حَسَدِ فَإِنَّهَا نُكْتَةٌ فِي الْقَلْبِ ثَابِتَةٌ ... ولَيْسَ يَدْفَعُهَا شَيْءٌ سِوَى الصَّمَدِ آخر: ... إِنَّ العَرَانِيْنَ تَلْقَاهَا مُحَسَّدَةً ... وَلاَ تَرَى لِلِئَامِ النَّاسِ حُسَّادَا

موعظة بليغة في التحذير من الحسد

ج آخر: ... مَا ضَرِنْي حَسَدُ اللِّئَامِ وَلم يَزَلْ ... ذُوْ الفَضْلِ يَحْسُدُهُ ذَوُوْ النُقْصَانِ يَا بُؤْسَ قَوْمٍ لَيْسَ جُرْمُ عَدُوّهِمْ ... إلا تَتَابُعُ نَعْمَةِ الرَّحْمَنِ موعظة: عِبَادَ اللهِ إن داء الحسد من أعظم الأدواء، والابتلاء به من أشد البلوي، يحمل صاحبه عَلَى مركب صعب، ويبعده عن التقوي، ويركبه الأهواء فيظِلّ ويغوي، يضيق صدر الحسود وينفطر قَلْبهُ إِذَا رأي نعمة الله عَلَى أخيه المسلم فيعاني من البؤس واللأوي، ما لا يستطيع أن يبث معه ما يجده من الحزن والقلق، ولا يقدر عَلَى الشكوي، إلا إلي الشيطان ونفسه الأمارة بالسُّوء أو من هُوَ مثله فِي الحسد، فقاتل الله الحسود لا يفعل الْخَيْر ولا يحبه لإخوانه المسلمين، غاية أمنيته زَوَال نعمة الله عن عباده إنه بعمله سالك طَرِيق إبلَيْسَ لعنه الله، فما أوقع الشيطان فِي معصية الله إلا حسده لأبينا آدم وامتناعه من السجود بعد ما أمره الله، وما حمل قابيل عَلَى قتل هابيل إلا حسده لأخيه حيث تقبل الله منه قربانه الَّذِي أراد به وجه الله والدار الآخرة وما منع المشركين والمترفين من اتباع الرسل إلا الحسد والكبر، وما حمل أَهْل اْلكِتَاب عَلَى كراهة الدين الإسلامي وصرف المُسْلِمِيْنَ عن كتاب الله والإيمان بسيد الرسل وخاتمهم إلا ما ذكره الله عنهم {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} الآية، وَقَالَ ?: " الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ". الحاسد لا يضمر إلا غدراً ولا يعمل إلا شراً ولا يدبر إلا مكراً. وجملة القول أن الحاسد ميسر للعسري لا تجدي معه المواعظ والنصائح وقَدْ قيل إن بضاعة إبلَيْسَ خمسة أصناف يبيعها من قوم معروفين، وهي الحسد وأهله العلماء، وأَهْل الحرفة الواحدة، أي كُلّ من يتفق عملهم مسلمين أو غَيْر مسلمين، والكبر وأهله الأنذال والسفلة والسفهاء والحمقاء ومن لا خَيْر فِيه من المحترفين المنحرفين. شِعْراً: ... لِكُلِّ امْرِىءٍ شَكْلُ مِنْ النَّاسِ وَحْدَهُ ... فَأَرْجَحُهُمْ عَقْلاًً أَقَلُهُمْ شَكْلا

وَكُلُ أُنَاسٍ يُعْرَفُوْنَ بِشَكْلِهِمْ ... فَأْكْثَرُهُمْ شَكْلاً أَقَلُهُمْ عَقْلا وَإِنَّ كَبِيْرَ العَقْلِ لَيْسَ بِوَاجِدٍ ... لَهُ بَيْنَ أَلْفٍ حِيْنَ يَفْقِدُهُ مِثْلا وَكُلُ سَفِيهٍ طَائِشٍ إِنْ فَقَدْتَهُ ... وَجَدْتَ لَهُ فِي كُلِّ زَاوْيَةٍ عِدْلا آخر: ... فَشَرْطُ الفِلاحَةِ غَرْسُ النَّبَات ... وَشَرْطُ الرّيَاسَةِ غَرْسُ الرِجَّال فَإِنْ لم تُعَاشِرْ سِوَى كَامِلٍ ... بَقِيْتَ وَحِيْداً لِعِزِّ الكَمَال والجور والطغيان، وأهله الملوك والأمراء والوزراء والعظماء، وأعوأنهُمْ من الفسقة والمجرمين، والكيد وأهله النساء، والنمامين والدلالين، والمنسببين وبئست البضاعة بضاعة الشيطان، ويا حَسْرَة المشترين، ويا ندامتهم {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ} قيل إنه كَانَ رجل يغشي أحد الملوك فيقوم بحذاء الملك فَيَقُولُ أحسن إلي المحسن بإحسانه، فإن المسيء سيكفيكه إساءته، فحسده رجل عَلَى ذَلِكَ المقام، والكلام فسعي به إلي الملك، فَقَالَ إن هَذَا الَّذِي يقوم بحذائك وَيَقُولُ وَيَقُولُ ما يَقُولُ يزعم أنك أبخر، فَقَالَ لَهُ الملك وكيف يصح ذَلِكَ عندِي، قال تدعوه إليك فإنه إِذَا دنا منك وضع يده عَلَى أنفه لئلا يشم رائحة البخر، فَقَالَ لَهُ انصرف حتي أنظر وأتحقق ذَلِكَ، فخرج من عِنْدَ الملك، فدعا الحاسد ذَلِكَ الرجل إلي منزله فأطعمه طعاماً فِيه ثوم فخرج الرجل من عنده وذهب إلي الملك عَلَى عادته وقام بحذاء الملك فَقَالَ أحسن إلي المحسن بإحسانه فإن المسيء سيكفيكه إساءته فَقَالَ لَهُ الملك ادن مني، فدنا منه ووضع يده عَلَى فِيه، مخافة أن يشم الملك منه رائحة الثوم فَقَالَ الملك فِي نَفْسهِ ما أري فلانَا إلا صدَقَ، قال وكَانَ الملك لا يكتب بخطه إلا بجائزةٍ أو صلةٍ فكتب له كتاباً بخطه إلي عاملهِ قال فيه إذا أتاك حاملُ كتابي هَذَا فاذبحه واسلخه، واحش جلده تبناً وابعث به إلي، وأخذ اْلكِتَاب وخرج فلقيه الرجل الَّذِي سعي به إلي الملك وكذب عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: ما هَذَا اْلكِتَاب قال خط الملك لي به صلة فَقَالَ هبه لي فَقَالَ هُوَ لك

فأخذه، الساعي ومضي به إلي عامل الملك، فَقَالَ لَهُ العامل: فِي كتابك أني أذبحك وأسلخك فَقَالَ إن اْلكِتَاب لَيْسَ لي، فالله الله، فِي أمري حتي تراجع الملك مراجعة فذبحه وسلخه وحشي جلده تبناً، وأرسله للملك كعادته وَقَالَ مثل قوله، فتعجب الملك، ثُمَّ عاد الرجل إلي الملك كعادته وَقَالَ مثل قوله، فتعجب الملك، وَقَالَ لَهُ ما فعل اْلكِتَاب، فَقَالَ لقيني رجل هُوَ فلان فاستوهبه مني فوهبته لَهُ، قال لَهُ الملك إنه ذكر لي أنك تزعم أني أبخر قال ما قُلْتُ ذَلِكَ، قال فلم وضعت يدك عَلَى فيك قال لأنه أطعمني طعاماً فِيه ثوم فكرهت أن تشمه، قال صدقت، ارجع إلي مكانك، فقَدْ كفِي المسيء إساءته فَانْظُرْ يا أخي كيف دارت عَلَى الباغي الدوائر واسأل ربك أن يعافيك من هذه الأمراض الفتاكة التي ربما قضت عَلَى حَيَاته وأوصلته فِي الآخرة نار جهنم. وختاماً فعَلَى اللبيب أن يتجنب الحسد فإنه من خلق الأدنياء وصفة الجهلاء فإن أبصرت بقائم فاعضده ويسر لَهُ السبيل حسب استطَاعَتكَ وإن رَأَيْت نعمة أسبغها الله عَلَى عبد من عباده فاسع إلي مثلها بقلب طاهر ووجدان نقي لعلك أن تبلغها بإذن الله. فعزيزة النفس إن أبصر غيره فِي أمر يثني عَلَيْهِ به، أو رآه فِي منزلة يغبط عَلَيْهَا فلا يجول فِي وهمه أن يحسده عَلَى نعمته أو يحط من منزلته بل يسعي كُلّ السعي لينال مثل مناله ويرقي مثل رقيه فإن زادت فِيه عزة النفس والإباء فلا يرضي لنفسه إلا بما فوق ذَلِكَ المقام: شِعْراً: ... أَسَأْتُ فَمَا عُذْرِيْ إِذَا انْكَشَفَ الغِطَا وَأَظْهَرَ رَبُّ العَرْشِ مَا أَنَا أسْتُرُ ... ›?

قصيدة فيها عظة عن الإساءة إلى عباد الله المؤمنين ويليها قصيدة

.. إِذَا اللهُ نَادَانِي بِيَوْمِ قِيَامَةٍ تَعَدَّيْتَ حَدَّ العِلْمِ هَلْ أَنْتَ تُوْجَزُ أَسَأْتَ إِلى خَلْقِي وَحَقِّي تَرَكْتَهُ فَأَيْنَ الحَيَا مِنِّي فَإِنِّي أَكْبَرُ دَعَوْتَ إِلى عِلْمٍ وَأَظْهَرْتَ حِكْمَةً وأَنْتَ عَلَى الدُّنْيَا عَكُوْفٌ مُشَمِّرُ وَخَالَفْتَ مَا قَدْ قُلْتَ وَازْدَدْتَ غَفْلَةً وَقَلْبُكَ لِلَّذَاتِ وَالغِشِّ يُضْمِرُ ظَنَنْتَ بِأَنِّي مُهْمِلٌ لامْرِءٍ عَصَى كَأَنَّكَ لم تَعْلم بِأَنَّكَ تُحْشَرُ هُنَالِكَ يَمْتَازُ المُسِيْؤُنَ كُلُّهُمْ فَوَا حَسْرَتَا إِنْ كُنْتُ مِمَّنْ يُحَسَّرُ فَيَا حَيُّ يَا قَيُّوْمُ يَا خَيْرَ رَاحِمٍ وَمَنْ هُوَ لِلْزَّلاَتِ وَالذَّنْبِ يَغْفِرُ عَصَيْتُكَ مِنْ لُؤْمِي وَنْفِسي ظَلمتُهَا وَذَنْبِي فِي عُمْرِي يَزِيْدُ وَيَكْثُرُ وَلَكِنَّنِي إِنْ جِئْتُ ذَنْباً وَزَلَّةً أْرَجِيْكَ يَا رَحْمَنُ لِلْوَهْنِ تَجْبُرُ وَتَغْفِرُ لِي ذَنْبِيْ وَتُصْلِحُ عِيْشَتِيْ وَتَرْحَمُ آبَائِي فَإِنَّكَ تَقْدِرُ

موعظة في الحث على التزود للآخرة ويليها قصيدة زهدية

.. وَأَرْجُوْكَ يَا رَحْمَنُ إِذْ مَا سَتَرْتَنِي بِدُنْيِايَ فِي يَوْمِ القِيَامَةِ تَسْتُرُ ... ›? اللَّهُمَّ حبب إلينا الإيمان وزينه فِي قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان وَاجْعَلْنَا مِنْ الراشدين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. " موعظة " إخواني إن فِي مواعظ الأيَّام والليالي لعبرة لذوي البصائر ركائب أموات تزعج عن مقصورات القصور ثُمَّ تحمل إلي مضائق القبور، فكم قَدْ شاهدتم من شخصيات فِي الأرض، قَدْ وضعت، وَكم قَدْ عاينتم من أبدان ناعمة فِي الأكفان قَدْ لفت وإلي مضيق الإلحاد قَدْ زفت فيا لها من غاية يستبق إليها العباد ويا لَهُ من مضمار يتناوبه جواد بعد جواد ويا لَهُ من هول شديد يعقبه أهوال شداد فتنة قبور وحشر فِي موقف مهيل موقف فِيه تنقطع الإنساب وتخضع فِيه الرقاب وتنسكب فِيه العبرات وتتصاعد فِيه الزفرات ذَلِكَ موقف تنشر فِيه الدواوين، وتنصب فِيه الموازين، ويمد فِيه الصراط، وحينئذ يقع الامتياز فناج مسلم ومكردس فِي النار. دخل عمر بن عَبْد الْعَزِيز رَحِمَهُ اللهُ عَلَى سابق البربري وَهُوَ يتمثل بالأبيات المشهورة من قصيدة الأعشي. ... أَجِدَّكَ لم تَذْكُرْ وِصَاةَ مُحَمَّدٍ نَبِّي الإلَهِ حِيْنَ أَوْصَى وَأَشْهَدَا إِذَا أَنْتَ لم تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنَ التُّقَى وَأَبْصَرْتَ بَعْدَ المَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا ... ›?

قصيدة لسابق البربري ألقاها على عمر بن عبد العزيز رحمهما الله

.. نَدِمْتَ عَلَى أَنْ لاَ تَكُوْنَ كَمِثْلِهِ وَأَنَّكَ لم تُرْصِدْ كَمَا كَانَ أَرْصَدَا ... ›? فغشي عَلَى عمر رَحِمَهُ اللهُ فَلَمَّا أفاق قال زدنا فَقَالَ القصيدة التي تلي: ... بِسْمِ الَّذِي أُنِْزلَتْ مِنْ عِنْدِهِ السُّوَرُ الحَمْدُ للهِ أَمَّا بَعْدُ يَا عُمَرُ إِنْ ُكْنَت تَعْلَمُ مَا تُبْقِي وَمَا تَذَرُ فَكُنْ عَلَى حَذَرٍ قَدْ يَنْفَعُ الحَذَرُ وَاصْبِرْ عَلَى القَدَرِ المَقْدُوْرِ وَارْضَ بِهِ وَإِنْ أَتَاكَ بِمَا لاَ تَشْتَهِي القَدَرُ فَمَا صَفَى لامْرِىءٍ عَيْشٌ يُسَرُّ بِهِ إلا وَأَعْقِبَ يَوْماً صَفْوُهُ كَدَرُ قَدْ يَرْعَوِي المَرْءُ يَوْماً بَعْدَ هَفْوَتِهِ وَتُحْكِمُ الجَاهِلَ الأيَّامُ وَالعِبَرُ إِنَّ التُّقَى خَيْرُ زَادٍ أَنْتَ حَامِلُهُ وَالبِّرُ أَفْضَلُ مَا تَأْتِي وَمَا تَذَرُ مَنْ يَطْلُبِ الجَوْرَ لاَ يَظْفُرْ بِحَاجَتِهِ وَطَالِبُ العَدْلِ قَدْ يُهْدَى لَهُ الظَّفَرُ وفِي الهُدَى عِبَرٌ تُشْفَى القُلُوْبُ بِهَا كَالغَيْثِ يَحْيَى بِهِ مِنْ مَوْتِهِ الشَّجَرُ ولَيْسَ ذُوْ العِلْمِ بِالتَّقْوَى كَجَاهِلِهَا وَلاَ البَصِيْرُ كَأَعْمَى مَالَهُ بَصَرُ ... ›?

.. والذِّكْرُ فِيه حَيَاةٌ لِلْقُلُوبِ كَمَا تَحْيَا الْبِلاَدُ إِذَا مَا جَاءَهَا المَطَرُ والعِلْمُ يَجْلَو العَمَى عن قَلْبِ صَاحِبِهِ كَمَا يُجَلَّى سَوادَ الظُّلْمَةِِ القَمَرُ لاَ يَنْفَعُ الذِّكْرُ قَلْباً قَاسِياً أَبَدَاً وَهَلْ يَلِيْنُ لِقَوْلِ الوَاعِظِ الحَجَرُ مَا يَلْبَثُ المَرْءُ أَنْ يَبْلَى إِذَا اخْتَلَفَتُ يَوْماً عَلَى نَفْسِهِِ الرَّوْحَاتُ وَالبِكَرُ والمَرْءُّ يَصْعَدُ رَيْعَانُ الشَّبَابِ بِهِ وَكُلُّ مُصْعِدَةٍ يَوْماً سَتَنْحَدِرُ وَكُلُّ بَيْتٍ سَيَبْلَى بَعْدَ جِدَّتِهِ وَمِنْ وَرَاءِ الشَّبَابِ المَوْتُ وَالكِبَرُ والمَوْتُ جَسْرٌ لِمَنْ يَمْشِيْ عَلَى قَدَمٍ إِلى الأمُورِ الَّتِي تُخْشَى وتُنْتَظَرُ فَهُمْ يَمُرُّونَ أَفْوَاجاً وَتَجْمَعُهُمْ دَارٌ يَصِيْرُ إِلَيْهَا البَدْو والحَظَرُ كم جَمْعُ قَوْمٍ أشَتَّ الدّهْرُ شَمْلَهُمْ وَكُلُّ شَمْلٍ جَمِيْعٍ سَوْفَ يَنْتَثِرُ وَرُبَّ أَصْيَدَ سَامَ الطَّرْفِ مُقْتَضِباً بِالتّاجِ نِيْرَانُهُ لِلْحَرْبِ تُسْتَعِرُ

.. يَظَلُّ مُفْتَرِشَ الدِّيْبَاجِ مُحْتَجِباً عَلَيْهِ تُبْنِى قِبَابُ المُلْكِ والحُجَرُ إِلى الفَنَاءْ وَإِنْ طَالَتْ سَلاَمَتُهُمْ مَصِيْرُ كُلِّ بَنِي أنثَى وَإِنْ كَبُرُوا إِذَا قَضَتْ زُمَرٌ آجَالهَا نَزَلَتْ عَلَى مَنَازِلِهِمْ مِنْ بَعْدِهَا زُمَرُ أَصْبَحْتُمْ جُزُراً لِلْمَوْتِ يَأْخُذُكُمْ كَمَا البَهَائِمُ فِي الدُّنْيَا لَكُمْ جُزُرُ أَبَعْدَ آدَمَ تَرْجُونَ الخُلُودَ وَهَلْ تَبْقَى الفُرُوْعُ إِذَا مَا الأصْلُ يَنْعَقِرُ ولَيْسَ يَزْجُرُكُمْ مَا تُوعَظُونَ بِهِ والبَهْمُ يَزْجُرُهَا الرَّاعِي فَتَنْزَجِرُ لاَ تَبْطُرُوْا وَاهْجُرُوا الدُّنْيَا فَإِنَّ لَهَا غِباً وَخِيْماً وَكُفْرُ النِّعْمَةِ البَطَرُ ثُمَّ اقْتَدُوا بِالأوْلَى كَانُوا لَكُمْ غُرَراً ولَيْسَ مِنْ أُمَّةٍ إلا لَهَا غُرَرُ مَتَى تَكُونُوا عَلَى مِنْهَاجِ أَوَّلِكُمْ وَتَصْبِرُوا عن هَوَى الدُّنْيَا كَمَا صَبَرُوْا مَا لِي أَرَى النَّاسَ والدُّنْيَا مُوَليِّةٌ وَكُلُّ حَبْلِ عَلَيْهَا سَوْفَ يَنْبَتِرُ لاَ يَشْعُرُونَ إِذَا مَا دِيْنَهُمْ نُقِصُوا

أركان الكفر أربعة، بيان منشاؤها ويليها قصيدة زهدية حول القلب وما يعرض له، مثل القلب كمثل حصن له أبواب

.. يَوْماً وَإِنْ نُقِصَتْ دُنْيَاهُمْ شَعِرُوا حَتَى مَتَى أَكُ فِي الدُّنْيَا أَخَا كَلَفٍ فِي الخَدَّ مِنّي إِلى لَذّاتِهَا صَعَرُ وَلاَ أَرَى أَثَراً لِلذِّكْرِ فِي جَسَدِي وَالحَبْلُ فِي الحَجَرِ القَاسِي لَهُ أَثَرُ لَوْ كَانَ يُسْهِرُ لَيْلِي ذِكْرُ آخِرَتِي كَمَا يُؤَرِّقُنِي لِلْعَاجِلْ السَّفَرُ إِذَاً لَدَاوَيْتُ قَلْباً قَدْ أَضَرَّ بِهِ طُوْلُ السَّقَامِ وَكَسْرُ العَظْمِ يَنْجَبِرُ ثُمَّ الصَّلاةُ عَلَى المَعْصُوْمِ سَيِّدِنَا مَا هَبَتْ الرِّيْحُ وَاهْتَزَّتْ بِهَا الشَّجَرُ ... ›? اللَّهُمَّ ثَبِّتْ إيماننا ثبوت الجبال الراسيات واشرح صدورنا للإسلام وثبتنا عَلَيْهِ وَاجْعَلْنَا مِنْ حزبك المفلحين وعبادك الصالحين الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: أركَانَ الكفر أربعة: الكبر والحسد والْغَضَب والشهوة فالكبر يمنعه الانقياد والحسد يمنعه قبول النَّصِيحَة وبذلها والْغَضَب يمنعه العدل والشهوة تمنعه التفرغ للعبادة فإن انهدم ركن الكبر سهل عَلَيْهِ الانقياد وإِذَا انهدم ركن الحسد سهل عَلَيْهِ قبول النصح وبذله وإِذَا انهدم ركن الْغَضَب سهل عَلَيْهِ العدل والتواضع وإِذَا انهدم ركن الشهوة سهل عَلَيْهِ الصبر والعفاف والعبادة. وزَوَال الجبال عن أماكنها أيسر من زَوَال هذه الأربعة عمن بُلِيَ بِهَا ولا

سيما إِذَا صَارَت هيئات راسخة وملكات وصفات ثابتة فإنه لا يستقيم لَهُ معها عمل البتة. ولا تزكو نَفْسهُ مَعَ قيامها بِهَا، وكُلَّما اجتهد فِي الْعَمَل أفسدته عَلَيْهِ هذه الأربعة وكل الآفات متولدة منها وإِذَا استحكمت فِي الْقَلْب أرته الْبَاطِل فِي صورة الحق والحق فِي صورة الْبَاطِل والمعروف فِي صورة الْمُنْكَر والْمُنْكَر فِي صورة المعروف وقربت منه الدُّنْيَا وبعدت منه الآخرة. وإِذَا تأملت كفر الأمم رأيته ناشيئاً منها وعَلَيْهَا يقع الْعَذَاب وتَكُون خفته وشدته بحسب خفتها وشدتها فمن فتحها عَلَى نَفْسه فتح عَلَيْهِ أبواب الشرور كُلّهَا عاجلاً وآجلاً، ومن أغلقها عن نَفْسه أغلق عنهُ أبواب الشرور، فإنها تمنع الانقياد والإخلاص والتوبة والإنابة وقبول الحق ونصيحة المُسْلِمِيْنَ والتواضع لله ولخلقه. (ومنشأ هذه الأربعة) : من جهله بربه وجهله بنفسه فإنه لَوْ عرف ربه بصفات الكمال ونعوت الجلال. وعرف نَفْسهُ بالنقائص والآفات، لم يتكبر ولم يغضب لها، ولم يحسد أَحَداً عَلَى ما آتاه الله، فإن الحسد فِي الحَقِيقَة نوع من معاداة الله، فإنه يكره نعمة الله عَلَى عبده، وقَدْ أحبهَا الله ويحب زوالها عنهُ، والله يكره ذَلِكَ، فهو مضاد لله فِي قضائه وقدره ومحبته وكراهته، ولذَلِكَ كَانَ إبلَيْس عدوه حَقِيقَة، لأن ذنبه كَانَ عن كبر وحسد. فقلع هاتين الصفتين بمعرفة الله وتوحيده، والرِّضَا به وعنه، والإنابة إليه وقلع الْغَضَب بمعرفة النفس، وأنها لا تستحق أن يغضب لها، وينتقم لها فإن ذَلِكَ إيثار لها بالرِّضَا والْغَضَب عَلَى خالقها وفاطرها وأعظم ما تدفع به هذه الآفة أن يعودها أن تغضب لَهُ سُبْحَانَهُ وترضي لَهُ فكُلَّما دخلها شَيْء من الْغَضَب والرِّضَا لَهُ خرج منها مقابله من الْغَضَب والرِّضَا لها وَكَذَا بالعكس.

وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: أساس كُلّ خَيْر أن تعلَمَ أن ما شَاءَ الله كَانَ وما لم يشأ لم يكن، فتيقن حينئذ أن الحسنات من نعمه فتشكره عَلَيْهَا، وتتضرع إليه أن لا يقطعها عنكَ، وأن السيئات من خذلانه وعقوبته، فتبتهل إليه أن يحول بينك وبينها، ولا يكلك فِي فعل الحسنات وترك السيئات إلي نفسك وقَدْ أجمَعَ العارفون عَلَى أن كُلّ خَيْر أصله بتوفيق الله للعبد وكل شر أصله خذلانه لعبده وأجمعوا عَلَى أن التَّوْفِيق أن لا يكلك الله إلي نفسك وأن الخذلان هُوَ أن يخلي بينك وبين نفسك فإِذَا كَانَ كُلّ خَيْر فأصله التَّوْفِيق وَهُوَ بيد الله لا بيد الْعَبْد فمفتاحه الدُّعَاء والرغبة والرهبة إليه فمتي أعطي الْعَبْد هَذَا المفتاح فقَدْ أراد أن يفتح لَهُ ومتي أضله عن المفتاح بقي باب الْخَيْر مرتجاً دونه، وَقَالَ أمير الْمُؤْمِنِين عُمَر بن الْخَطَّاب إني لا أحمل هم الإجابة ولكن أحمل هم الدُّعَاء فإِذَا أُلهِمتُ الدُّعَاء فإن الإجابة معه وعَلَى قدر نية الْعَبْد وهمته ومراده ورغبته فِي ذَلِكَ يكون توفيقه سُبْحَانَهُ وإعانته فالمعونة من الله تنزل عَلَى العباد عَلَى قدر همهم ونياتهم ورغبتهم ورهبتهم والخذلان ينزل عَلَيْهمْ عَلَى حسب ذَلِكَ فالله سُبْحَانَهُ أحكم الحاكمين، وأعلم العالمين يضع التَّوْفِيق فِي مواضعه اللائقة به والخذلان فِي مواضعه اللائقة به، وَهُوَ العليم الحكيم وما أتي من أتي إلا من قبل إضاعة الشكر وإهمال الافتقار والدُّعَاء ولا ظفر بمشئة الله وعونه إلا بقيامه بالشكر وصدق الافتقار والدُّعَاء وملاك ذَلِكَ الصبر فإنه من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فإِذَا قطع الرأس فلا بقاء للجسد. ... عَلَيْكَ بِتَقْوى اللهِ يِا نَفْسُ سَرْمَدَا وَلاَ تُلْحِقِي بِالخَلْقِ ضُرّاً تَعَمُّدَا ... ›?

.. وَلاَ تَحْسِدِي حَيّاً وَلَوْ جَارَ واعْتَدَى عَلَيْكَ فَمَا يَحْيَى البُغَاةُ مُخَلَّدَا تَدُوْرُ عَلَى البَاغِي الدَّوَائِرُ عنوةً وَيَحْيَى سَعِيْدَ ذُوْ الفَضِيْلَةِ أَمْجَدَا وَكُلُّ حَسُودٍ يَنْخَرُ الحِقْدُ قَلْبَهُ يَذُوْبُ كَشَمْعٍ فِي سَعِيْرٍ تَوَقَّدَا يَعِيْشُ وَنَارُ الغَيْضِ تُحْرِقُ كَبِدَهُ وَإِنْ مَاتَ أَضْحَى الجَمْرُ فِيه مُجَدَّدَا فَجَازِ أَخَا فَضْلٍ وَرَاعِ ذِمَامَهُ وَسَامِحْ عَدُواً إِنْ قَلاَكَ وَنَدَّدَا فَإِنّي رَأَيْتُ الفَضْلَ خَيْرَ ذَخِيْرَةٍ لِمَنْ رَامَ قَبْلَ المَوْتِ أَنْ يَتَزَوَّدَا ... ›? موعظة ج إخواني إن الغَفْلَة عن الله مصيبة عظيمة قال تعالى: (ولا تكونوا كالَّذِينَ نسوا الله فأنساهم أنفسهم) فمن غفل عن ذكر الله وألهته الدُّنْيَا عن الْعَمَل للدار الآخرة أنساه الْعَمَل لمصالح نَفْسه فلا يسعي لها بما فِيه نفعها ولا يأخذ فِي أسباب سعادتها وإصلاحها وما يكملها وينسي كَذَلِكَ أمراض نَفْسه وقَلْبه وآلامَه فلا يخطر بباله معالجتها ولا السعي فِي إِزَالَة عللها وأمراضها التي تؤل إلي الهلاك والدمار وهَذَا من أعظم العقوبات فأي عقوبة أعظم من عقوبة من أهمل نَفْسهُ وضيعها ونسي مصالحها وداءها ودواءها وأسباب سعادتها وفلاحها وحياتها الأبدية فِي النَّعِيم الْمُقِيم ومن تأمل هَذَا الموضع تبين لَهُ أن كثيراً من الخلق قَدْ نسوا أنفسهم وضيعوها وأضاعوا

ذكر بعض أبواب القلب التي يدخل معها الشيطان، التحذير عن مواقع التهم ومواقفها 8 النية عليها مدار الأعمال، القلوب

حظها وباعوها بثمن بخس بيع المغبون ويظهر ذَلِكَ عِنْدَ الموت ويتجلي ذَلِكَ كله يوم التغابن {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ} الآية. اللَّهُمَّ ثَبِّتْ إيماننا بك ثبوت الجبال الراسيات ونور قلوبنا بنور الإيمان وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين وأصلح أولاًدنا واغفر لآبائنا وأمهاتنا واجمعنا وإياهم مَعَ عبادك الصالحين فِي جنات النَّعِيم وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وأصحابه أجمعين. (قال فِي منهاج القاصدين) [فصل] اعْلم أن الْقَلْب بأصل فطرته قابل للهدي، وبما وضع فِيه من الشهوة والهَوَى، مائل عن ذَلِكَ، والتطارد فِيه بين جند الملائكة والشياطين دائم، إلي أن ينفتح الْقَلْب لأحدهما فيتمكن ويستوطن، ويكون اختيار الثاني اختلاساً، كما قال تعالى {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} وَهُوَ الَّذِي إِذَا ذكر الله خنس وإِذَا وقعت الغَفْلَة انبسط، ولا يطرد جند الشياطين من الْقَلْب إلا ذكر الله تعالى، فإنه لا قرار لَهُ مَعَ الذكر. واعْلم أن مثل الْقَلْب كمثل حصن، والشيطان عدو يريد أن يدخل الحصن ويملكه ويستولي عَلَيْهِ، ولا يمكن حفظ الحصن إلا بحراسة أبوابه، ولا يقدر عَلَى حراسة أبوابه من لا يعرفها ولا يتوصل إلي دفع الشيطان إلا بمعرفة مداخله، ومداخل الشيطان وأبوابه. . صفات الْعَبْد، وهي كثيرةإلا أَنَا نشير إلي الأبواب العظيمة الجارية مجري الدروب التي لا تضيق عن كثرة جنود الشيطان. فمن أبوابه العظيمة: الحسد، والحرص. فمتي كَانَ الْعَبْد حريصاً عَلَى شَيْء، أعماه حرصه، وأصمه، وغطي نور بصيرته التي يعرف بِهَا مداخل الشيطان. وكَذَلِكَ إِذَا كَانَ حسوداً فيجد الشيطان حينئذٍ الفرصة،

فيحسن عِنْدَ الحريص كُلّ ما يوصله إلي شهوته، وإِذَا كَانَ منكراً أو فاحشاً، ومن أبوابه العظيمة. الْغَضَب، والشهوة، والحدة فإن الْغَضَب غول العقل، وإِذَا ضعف جند العقل هجم حينئذ الشيطان فلعب بالإنسان. وقَدْ روي أن إبلَيْسَ يَقُولُ: إِذَا كَانَ الْعَبْد حديداً، قلبناه كما يقلب الصبيان الكرة. ومن أبوابه: حب التزين فِي المنزل، والأثاث فلا يزال يدعو إلي عمارة الدار، وتزيين سقوفها وحيطانها، والتزين بالثياب، والأثاث، فيخسر الإنسان طول عمره فِي ذلك. ومن أبوابه: الشبع فإنه يقوي الشهوة، ويشغل عن الطاعة. ومنها الطمَعَ فِي النَّاس، فإن من طمَعَ فِي شخص، بالغ بالثناء عَلَيْهِ بما لَيْسَ فِيه، وداهنه ولم يأمره بالمعروف، ولم ينهه عن المنكر. ومن أبوابه: العجلة، وترك التثَبِّتْ وقَدْ قال النَّبِيّ ?: " العجلة من الشيطان، والتأني من الله تعالى ". ومن أبوابه: حب الْمَال، ومتي تمكن من الْقَلْب أفسده وحمله عَلَى طلب الْمَال من غَيْر وجهه، وأخرجه إلي البخل وخوفه الفقر فمنع الحقوق اللازمة. ومن أبوابه: حمل العوام عَلَى التعصب فِي المذاهب، دون الْعَمَل بمقتضاها ومن أبوابه أيضاً حمل العوام عَلَى التفكر فِي ذات الله تعالى وصفاته، وفِي أمور لا تبلغها عقولهم حتي يشككهم فِي أصل الدين. ومن أبوابه: سوء الظن بالمُسْلِمِيْنَ فإن من حكم عَلَى مسلم بسوء ظنه، احتقره وأطلق فِيه لِسَانه، ورأي نَفْسهُ خيراً منه. وإنما يترشح سوء الظن بخبث الظان، لأن المُؤْمِن يطلب المعاذير للمؤمنين والمنافق يبحث عن عيوبهم. وينبغي للإنسان أن يحترز عن مواقفهم التهم، لئلا يساء به الظن،

فهَذَا طرف من مداخل الشيطان وعلاج هذه الأفات سد المداخل بتطهير الْقَلْب من الصفات المذمومة، وسيأتي الكلام عَلَى هذه الصفات إن شَاءَ الله تعالى مفصلاً. وإِذَا قلعت عن الْقَلْب أصول هذه الصفات، بقي للشيطان بالْقَلْب خطرات واجتيازات من غَيْر استقرار فيمنعه من ذَلِكَ ذكر الله تعالى، وعمارة الْقَلْب بالتقوي. ومثل الشيطان كمثل كلب جائع يقرب منك، فإن لم يكن بين يديك لحم وخبز، فإنه ينزجر بأن تَقُول لَهُ: اخسأ، وإن كَانَ بين يديك شَيْء من ذَلِكَ وَهُوَ جائع، لم يندفع عنكَ بمجرد الكلام، فكَذَلِكَ الْقَلْب الخالي عن قوت الشيطان ينزجر عنهُ بمجرد الذكر. فأما الْقَلْب الَّذِي غلب عَلَيْهِ الهَوَى فإنه يرفع الذكر إلي حواشيه فلا يتمكن الذكر من سويدائه، فيستقر الشيطان فِي السويداء. وإِذَا أردت مصداق ذَلِكَ، فتأمل فِي صلاتك، وانظر إلي الشيطان كيف يحدث قلبك فِي مثل ذَلِكَ الموطن، بذكر السوق، وحساب العالمين، وتدبير أمر الدُّنْيَا واعْلم أنه قَدْ عفِي عن حديث النفس ويدخل فِي ذَلِكَ ما هممت به، ومن ترك ذَلِكَ خوفاً من الله تعالى كتبت لَهُ حسنة، وإن تركه لعائق رجونا لَهُ المسامحة، إلا أن يكون عزماً، فإن العزم عَلَى الخطيئة خطيئة بدَلِيل قوله ?: " إِذَا التقي المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فِي النار، قيل: ما بال المقتول؟ قال: إنه كَانَ حريصاً عَلَى قتل صاحبه ". وكيف لا تقع المؤاخذة بالعزم، والأعمال بالنِّيْة، وهل الكبر والرياء إلا أمور باطنة؟ ولَوْ أن إنسانَاً رأي عَلَى فراشه أجنبية ظنها زوجته لم يأثم بوطئها، ولَوْ رأي زوجته وظنها أجنبية أثم بوطئها، وكل هذ معلق بعقَدْ القلب.

في الثبات على الخير والشر ويليها قصيدة زهدية ويليه قصيدة

وقَدْ ورد فِي الْحَدِيث أن النَّبِيّ ? كَانَ يَقُولُ "يا مثَبِّتْ القُلُوب ثَبِّتْ قلوبنا عَلَى دينك، يا مصرف القُلُوب اصرف قلوبنا إلي طاعتك". وفِي حديث آخر: "مثل الْقَلْب كمثل ريشة بأرض فلاة تقلبِهَا الرياح" واعْلم أن القُلُوب فِي الثبات عَلَى الْخَيْر والشر والتردد بينهما ثلاثة: الأول قلب عمر بالتقوي، وزكي بالرياضة، وطهر عن خبائث الأخلاق، فتنفرج فِيه خواطر الْخَيْر من خزائن الغيب، فيمده الملك بالهُدَى. الْقَلْب الثاني: قلب مخذول، مشحون بالهَوَى، ودنيس بالخبائث ملوث بالأخلاق الذميمة فيقوي فِيه سلطان الشيطان لاتساع مكانه، فيضعف سلطان الإيمان، ويمتلئ الْقَلْب بدخان الهَوَى، فيعدم النور، ويصير كالعين الممتلئة بالدخان لا يمكنها النظر؛ ولا يؤثر عنده زجر ولا وعظ. والْقَلْب الثالث: قلب يبتدئ فِيه خاطر الهَوَى، فيدعوه إلي الشر، فيلحقه خاطر الإيمان، فيدعوه إلي الخير. مثاله، أن يحمل الشيطان حملة عَلَى العقل، ويقوي داعي الهَوَى، وَيَقُولُ: أما تري فلانَاً وفلانَاً كيف يطلقون أنفسهم فِي هواها حتي يعد جماعة من العلماء، فتميل النفس إلي الشيطان، فيحمل الملك حملة عَلَى الشيطان، وَيَقُولُ: هل هلك إلا من نسي العاقبة، فلا تغتر بغَفْلَة النَّاس عن أنفسهم، أرَأَيْت لَوْ وقفوا فِي الصيف فِي الشمس ولك بيت بارد، أكنت توافقهم أم تطلب المصلحة؟ أفتخالفهم فِي حر الشمس، ولا تخالفهم فيما يؤول إلي النار فتميل النفس إلي قول الملك، ويقع التردد بين الجندين، إلي أن يغلب عَلَى الْقَلْب ما هُوَ أولي به، فمن خلق للخَيْر يسر لَهُ ومن خلق للشر يسر لَهُ قال تعالى {فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} اللَّهُمَّ وفقنا لما تحبه وترضاه.

شِعْراً: ... إِلى كم إِذَا مَا غِبْتُ تُرْجَى سَلاَمتي ... وقَدْ قَعَدْتْ بِي الحَادِثَاتُ وَقَامَتِ وَعُمّمْتُ مِنْ نَسْجِ القَتِيْرِ عِمَامَةً ... رُقُومُ البِلَى مَرْقُومَةٌ بِعِمَامَتِي وَكُنْتَ أَرَى لِي فِي الشَّبَابِ عَلاَمَةً ... فَصِرْتُ وَإِنّي مُنْكِرٌ لِعَلاَمَتَي ومَا هِيَ إلا أَوْبَةٌ بَعْدَ غَيْبَةٍ ... إِلى الغَيْبَةِ القُصْوَى فَثَمَّ قِيَامَتِي كَأَنِيْ بِنَفْسِي حَسْرَةً وَنَدَامَةً ... تُقَطَّعُ إِذْ لم تُغْنِ عني نَدَامَتِي مُنَى النَّفْسِ مِمَّا يُوْطِيءُ المَرْءَ عَشْوَةً إِذَا النَّفْسُ جَالَتْ حَوْلَهُنَّ وَحَامَتِ وَمَنْ أَوْطَأَتْهُ نَفْسُهُ حَاجَةً فَقَدْ أَسَاءَتْ إِليْهِ نَفْسُهُ وَألامَتِ أَمَا والَّذِي نَفْسِيْ لَهُ لَوْ صَدَقْتُهَا لَرَدَّدْتُ تَوْبِيْخِي لَهَا وَمَلاَمَتِي فَلِلَّهِ نَفْسٌ أَوْطَأَتْنِي مِنَ العَشَا حُزُوْناً وَلَوْ قَوَّمْتُهَا لاَسْتَقَامَتِ وللهِ يَوْمُ أَيَّ يَومٍ فَظَاعَةً وَأَفْظَعُ مِنْهُ بَعْدَ يَوْمُ قِيَامَتِي وللهِ أَهْلِي إِذْ حَبَوْنِيْ بِحُفْرَةٍ وَهُمْ بِهَوانِي يَطْلُبُونَ كَرَامَتِي وللهِ دُنْيَا لاَ تَزَالُ تَرَدُّنِي إِبَاطِيْلُهَا فِي الجَهْلِ بَعْدَ اسْتِقَامَتِي ... ›? اللَّهُمَّ ثَبِّتْ إيماننا بك ومحبتك فِي قلوبنا ثبوت الجبال الراسيات واعصمنا يا مولانَا مِنْ جَمِيعِ الموبقات ووفقنا للعمل بالباقيات الصالحات

ذكر مداخل الشيطان إلى القلوب

وارفع منازلنا فِي فسيح الجنات وارزقنا النظر إلي وجهك الكريم يا حكيم يا عليم يا حي يا قيوم وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. . (فَصْلٌ) تكلم أحد العلماء فِي بيان مداخل الشيطان إلي القلوب فَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ اعْلم أن الْقَلْب مثاله مثال حصن رفيع والشيطان عدو يريد أن يدخل الحصن ويملكه ويستولي عليه. ولا يقدر عَلَى حفظ الحصن إلا بحراسة أبواب الحصن ومداخله ومواقع ثلمه، ولا يقدر عَلَى حراسة أبوابه من لا يعرف أبوابه. وحماية الْقَلْب عن فساد الشيطان فرض عين واجب عَلَى كُلّ عبد مكلف، وما لا يتوصل إلي الواجب إلا به فهو واجب. ولا يتوصل إلي دفع الشيطان إلا بمعرفة مداخله، فصَارَت معرفة مداخل الشيطان واجبة. ومداخل الشيطان وأبوابه صفات الْعَبْد نحو الشهوة والْغَضَب والحدة والطمَعَ وغيرها وهي كثيرة، ولكنا نشير إلي معظم وسائله فِي إغواء الخلق وتسلطه عَلَيْهمْ بِهَا إن شَاءَ الله. وجملتها وسائل عشرة نذكرها ونذكر كيفية علاجها والتخلص منها، فهذان تقريران. التقرير الأول: فِي ذكرنا الوسيلة الأولي الحسد والحرص، فمن حصل عَلَى هاتين الخصلتين عمي وصم، وهما من أعظم مداخل الشيطان وأكبر وسائله. وقَدْ روي أن نوحاً عَلَيْهِ السَّلام لما ركب البحر وحل فِي السَّفِينَة من كُلّ زوجين اثنين كما أمر فرأي فِي السَّفِينَة شيخاً لم يعرفه.

فَقَالَ لَهُ نوح: من أدخلك؟ قال: دخلت لأصيب قُلُوب أصحابك فتَكُون قُلُوبهمْ معي وأبدأنهُمْ معك. فَقَالَ نوح: أخرج يا عدو الله فإنك رجيم، فَقَالَ إبلَيْسُ: خمس أهلك بهن النَّاس وسأحدثك مِنْهُمْ بثلاث، ولا أحدثك باثنين. فأوحي إلي نوح إنه لا حَاجَة لك إلي الثلاث، مره يحدثك بالاثنين. فَقَالَ: ما الاثنتان؟ فَقَالَ: هما اللتان لا تكذباني، هما اللتان لا تخلفاني بهما أهلك النَّاس الحرص والحسد. فبالحسد لعنت وجعلت شيطانَاً رجيماً، والحرص أصبت حاجتي من آدم، أبيح لآدم الْجَنَّة كُلّهَا إلا الشجرة التي عرف بِهَا فوسوست لَهُ حتي أكلها. الوسيلة الثَّانِيَة: الشهوة والْغَضَب فإنهما من أعظم المكايد للشيطان، فمهما غضب الإنسان لعب لَهُ الشيطان، وعن بعض الأنبياء أنه قال لإبلَيْسَ: بأي شَيْء تغلب ابن آدم؟ قال: آخذه عِنْدَ الْغَضَب وعِنْدَ الهوي. وظهر إبلَيْسُ لراهب، فَقَالَ: أي أَخْلاق بني آدم أعون لك عليهم؟ فَقَالَ: الحدة، إن الْعَبْد إِذَا كَانَ حديداً قلبناه كما تقلب الصبيان الكرة. وقيل لإبلَيْسَ: كيف تقلب ابن آدم؟ فَقَالَ: إِذَا رضي جئت حتي أكون فِي قَلْبهِ، وإِذَا غضب جئت حتي أكون عَلَى رأسه. الوسيلة الثالثة: حب الشهوات والزينة فِي الدُّنْيَا فِي الثياب والأثاث والدور والمراكب، فإن الشيطان إِذَا رأي ذَلِكَ غالباً عَلَى قلب إنسان باض فِيه وفرخ. فلا يزال يدعوه إلي عمارة الدُّنْيَا وتزيين سقوفها وحيطانها وتوسيع الأبنية، ويدعوه إلي التزين بالأثواب النفيسة ويستسخره طول عمره.

فإِذَا أوقعه فيها فقَدْ استغني عن معاودته فإن بعض ذَلِكَ يجر إلي بعض، فلا يزال يؤديه من شَيْء إلي شَيْء إلي أن يستاق إليه أجله فيموت وَهُوَ فِي بحر الأماني يعوم، وفِي سبيل الضلال يخوض، ومن ذَلِكَ يخشي سوء الخاتمة نعوذ بِاللهِ منها. الوسيلة الرابعة: الطمَع، فإِذَا كَانَ الطمَع غالباً عَلَى الْقَلْب لم يزل الشيطان يحسن لَهُ التصنع لمن طمَعَ فِيه حتي يصير المطموع فِيه كأنه معبوده. وقَدْ قال الرَّسُول ? "إياكم واستشعار الطمَع فإنه يشرب الْقَلْب شدة الحرص ويختم عَلَى القُلُوب بطابع حب الدُّنْيَا، وَهُوَ مفتاح كُلّ سيئة، وسبب إحباط كُلّ حسنة". هَذَا هُوَ الغاية فِي الْخُسْرَانُ والهلاك. الوسيلة الخامسة: العجلة فِي الأمور وكثرة الطيش والفشل، وروي عن رسول الله ? أنه قال "الأناة من الله والعجلة من الشيطان". وروي أنه لما ولد عيسي عَلَيْهِ السَّلام أتت الشياطين إبلَيْسَ فَقَالُوا: أصبحت الأصنام قَدْ نكست رؤوسها فَقَالَ: هَذَا حادث قَدْ حدث مكانكم فطار حتي جَاءَ خافقي الأرض. فلم يجد شيئاً فوَجَدَ عيسي عَلَيْهِ السَّلام قَدْ ولد وإِذَا الملائكة قَدْ حفت حوله. فَقَالَ لهُمْ إن نبياً قَدْ ولد البارحة، ما حملت أنثي قط ولا وضعت إلا وأنَا بحضرتها إلا هَذَا فاستيأسوا من عبادة الأصنام بعد هذه اللَّيْلَة ولكن ائتوا بني آدم من قبل الخفة والعجلة. عصمنا الله وإياكم من الزلل ووفقنا لصالح الْعَمَل وهدانَا بفضله

سبيل الرشاد وطَرِيق السداد إنه جل شأنه نعم المولي ونعم النصير وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) الوسيلة السادسة: الفتنة بالدراهم والدنانير وسائر أصناف الأموال والعروض والدواب والعقارات وكل ما يكون فضله عَلَى قدر الحاجة والقوت فهو مستقر الشيطان. وروي أن الرَّسُول ? لما بعث، قال إبلَيْس لشياطينه: لَقَدْ حدث أمر فانظروا ما هُوَ، فانطلقوا ثُمَّ جاءوا وقَالُوا: ما ندري قال إبلَيْس: أَنَا آتيكم بالخبر. فذهب وجَاءَ، قال: قَدْ بعث مُحَمَّد ?، قال: فجعل يرسل شياطينه إلي أصحاب الرَّسُول ? فينصرفون خائبين، فيقولون: ما صحبنا قوماً قط مثل هؤلاء، نصيب مِنْهُمْ ثُمَّ يقومون للصلاة فيمحون ذلك. فَقَالَ إبلَيْس: رويداً بِهُمْ عسي الله أن يفتح لهُمْ الدُّنْيَا فهناك تصيبون حاجتكم منهم. الوسيلة السابعة: البخل وخوف الفقر فإن البخل هُوَ أصل لكل خطيئة، وروي عن إبلَيْسَ لعنه الله أنه قال: ما غلبني ابن آدم فلن يغلبني فِي ثلاث، آمره أن يأخذ الْمَال من غَيْر حقه وينفقه فِي غَيْر حقه ويمنعه من مستحقه. وَقَالَ سفيان الثوري: لَيْسَ للشيطان سلاح عَلَى الإنسان مثل خوف الفقر، فإِذَا قبل ذَلِكَ منه أخذ فِي الْبَاطِل ومنع من الحق وتكلم بالهَوَى وظن بربه السُّوء، وَهُوَ من أعظم الآفات عَلَى الدين. الوسيلة الثامنة: سوء الظن بالمُسْلِمِيْنَ وقَدْ قال تعالى {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} .

ومن حكم بشَيْء عَلَى غيره بالظن فإن الشيطان يبعثه عَلَى أن يطول فِيه اللسان بالغيبة فيهلك، أو يقصر فِي القيام بحقوقه أو يتواني فِي إكرامه أو ينظره بعين الاحتقار أو يري نَفْسهُ خيراً منه. وكل ذَلِكَ من المهلكات، فمهما رَأَيْت إنسانَاً يسيء الظن بِالنَّاسِ طالباً لعيوبهم فاعْلم أنه خبيث فِي الباطن، فإن المُؤْمِن يطلب المعاذير، والمنافق يطلب العيوب للخلق. الوسيلة التاسعة: الشبع من الطعام والتأنق فِي المآكل الفاخرة، فإن الشبع يقوي الشهوات وهي أسلحة الشيطان التي بِهَا يصول. وروي أن إبلَيْسَ ظهر يوماً ليحيي بن زكريا عَلَيْهِ السَّلام فرأي عَلَيْهِ معاليق من كُلّ شَيْء، فَقَالَ لَهُ يحيي عَلَيْهِ السَّلام: ما هذه المعاليق. فَقَالَ: هذه هِيَ الشهوات التي أصيب بِهَا بني آدم، فَقَالَ: هل لي منها شَيْء؟ فَقَالَ: ربما شبعت فتثاقلت عن الصَّلاة وعن الذكر. فَقَالَ: هل غَيْرَ ذلك؟ قال: لا، فَقَالَ يحيي: لله عَلَىَّ أن لا أملأ بطني، فَقَالَ إبلَيْس: عَلَى لله لا أنصح مسلماً. الوسيلة العاشرة: تعاطي العوام الَّذِينَ لم يمارسوا العلوم ولم يتبحروا فيها بالتفكير فِي ذات الله عَزَّ وَجَلَّ وصفاته وفِي الأمور التي لا تبلغها عقولهم حتي يؤدي ذَلِكَ إلي الاعتقادات الكفرية وهم لا يشعرون. وهم فِي غاية ما يكونون من الفرح والسرور والاطمئنان إلي ما وقع فِي صدورهم. وهم فِي غاية الخطأ ويظنون أن ما اعتقدوه هُوَ العلم والبصيرة، فما هَذَا حاله يكون من أعظم الأبواب للشيطان فِي اللعب بعقولهم وإيقاعهم فِي الأمور المكروهة.

علاج مداخله في دفعها وإزالتها

فهذه وسائل الشيطان ومداخله إلي الْقَلْب وهي كثيرة، وفيما ذكرناه تنبيه عَلَى ما ورائها. وبالجملة فلَيْسَ فِي الآدمي صفة مذمومة إلا وهي سلاح للشيطان ومدخل من مداخله. التقرير الثاني: فِي بيان العلاج فِي دفعها وإزالتها، اعْلم أن علاج هذه الأمور وإزالتها إنما يكون بالدُّعَاء إلي الله والالتجَاءَ إليه فِي دفعها وإزالتها، وبالاجتهاد فِي قلع هذه الصفات المذمومة عن الْقَلْب، والعناية فِي ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ، فهذه دوافع ثلاثة نذكرها. الدافع الأول: يكون باللجَاء إلي الله بالدُّعَاء راجياً منه تحصيل الألطاف الخفية فِي إبعاد الشياطين وإزالتهم، وعن عبد الرحمن بن أبي ليلي، قال: كَانَ الشيطان يأتي الرَّسُول ? وبيده شعلة نار فيقوم بين يديه وَهُوَ يصلي فيقَرَأَ ويتعوذ فلا يذهب. فأتي جبريل عَلَيْهِ السَّلام إلي النَّبِيّ ? فَقَالَ لَهُ ?: قل أعوذ بكلمَاتِ الله التامَاتِ التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما يلج فِي الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها. ومن شر فتن الليل والنَّهَار وطوارق الليل والنَّهَار إلا طارقاً يطرق بخَيْر يا رحمن، فطفيت شعلته وخر وجهه. وعن الحسن البصري أنه قال: نبئت أن جبريل أتي إلي رسول الله ?، فَقَالَ: إن عفريتاً من الجن يكيدك فإِذَا أويت إلي فراشك فاقَرَأَ آية الكرسي. وعن الرَّسُول ? أنه قال: أتاني شيطان فنازعني ثُمَّ نازعَني فأخذت بحلقه والَّذِي بعثني بالحق ما أرسلته حتي وجدت برد لِسَانه عَلَى يدي، ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح طريحاً حتي تنظروا إليه.

الدافع الثاني: العناية فِي إِزَالَة هذه الصفات المذمومة من القُلُوب وقلعها منها فإن الشيطان مثل الكلب فِي التسلط عَلَى الإنسان. فإِذَا كَانَ الإنسان متصفا بهذه الصفات الذميمة من الْغَضَب والحسد والحرص والطمَع وغيرها كَانَ بمنزلة من يكون بين يديه خبز ولحم فإن الكلب لا محالة يتهور عَلَيْهِ ويتوثب ولا يندفع غالباً إلا بمشقة شديدة، وإن لم يكن متصفاً بِهَا لم يطمَع فِيه لأنه لا داعي لَهُ هنالك ويكون دفعه بأسهل ما يكون وأيسره فإنه يندفع بالنهر والخسا والزجر، فتزال بنقائضها. فيزال الْغَضَب بالرضاء والسكينة، ويزال الكبر بالتواضع، ويزال الحسد بمعرفة حق المحسود وأن الَّذِي اختص به فضل من الله فلا يمكن دفعه. ويزال الطمَع بالورع والاكتفاء بما أعطاه الله عَزَّ وَجَلَّ، ويزال الحرص بتحقيق حال الدُّنْيَا وانقطاعها بالموت. وهكَذَا تفعل فِي كُل خصلة مذمومة بالاجتهاد فِي إزالتها. الدافع الثالث: ذكر الله تعالى، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ منَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} . والمعني أنَّهُمْ إِذَا ألمَّ بقُلُوبهمْ شيء من هذه الصفات الذميمة فزعوا إلي ذكر الله تعالى وتذكروه، فعِنْدَ ذَلِكَ يحصل التبصر لهُمْ فِي عواقب أمورهم. نعم الذكر لا يكون طارداً للشيطان إلا إِذَا كانت القُلُوب معمورة بالخوف والتقوي. فأما إِذَا كانت خالية عن ذَلِكَ فربما يكون الذكر غَيْرَ مُجْدٍ، ومثال هَذَا من يطمَعَ فِي شرب الدواء قبل الاحتمي والمعدة مشحونة بغليظ الطعام ويطمَع فِي أنه ينفعه كما ينفع الَّذِي يشربه بعد الاحتمي وتخلية المعدة عَن الأطعمة.

فالذكر هُوَ الدواء والتقوي هُوَ الاحتمي، فإِذَا حصل الذكر فِي قلب فارغ عن غَيْر الذكر اندفع الشيطان كما تندفع العلة بنزول الدواء فِي معدة خالية عَن الأطعمة كما أشار إليه تعالى بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} . اللَّهُمَّ إنا نسألك حياة طيبة، ونفساً تقيةً، وعيشةً نقيةً، وميتةً سويةً، ومرداً غَيْر مخزٍ ولا فاضحٍ. اللَّهُمَّ اجعلنا من أَهْل الصلاح والنجاح والفلاح، ومن المؤيدين بنصرك وتأييدك ورضاك يا رب العالمين. " اللَّهُمَّ مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الْخَيْر إنك عَلَى كُل شيء قدير ". يا ودود يا ذا العرش المجيد يا مبدئ يا معيد يا فعال لما تريد نسألك بنور وجهك الَّذِي ملأ أركَانَ عرشك وبقدرتك التي قدرت بِهَا عَلَى جَمِيع خلقك وبِرَحْمَتِكَ التي وسعت كُلّ شيء لا إله إلا أَنْتَ أن تغفر ذنوبنا وسيئاتنا وأن تبدلها لنا بحسنات إنك جواد كريم رؤوف رحيم. اللَّهُمَّ افتح لدعائنا باب القبول والإجابة وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) قال رجل للحسن يا أبا سعيد أينام الشيطان فتبسم وَقَالَ لَوْ نام لاسترحنا. فإِذَاً لا خلاص للمُؤْمِن منه نعم سبيل إلي دفعه وتضعيف قوته قال

النَّبِيّ ?: " إن المُؤْمِن ينضي شيطانه كما ينضي أحدكم بعيره فِي سفره ". وَقَالَ ابن مسعود: شيطان المُؤْمِن مهزول وَقَالَ قيس بن الحجاج قال لي شيطاني دخلت فيك وأنَا مثل الجزور وأنَا الآن مثل العصفور قُلْتُ ولم ذاك قال تذيبني بذكر الله تعالى. وعن أبي بكر رَضِيَ اللهُ عنهُ قال قَالَ رَسُولُ اللهِ ? عليكم بلا إله إلا الله والاستغفار فأكثروا مِنْهُمَا فإن إبلَيْسَ قال أهلكت بني آدم بالذُّنُوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار. فَلَمَّا رَأَيْت ذَلِكَ أهلكتهم بالأهواء وهم يحسبون أنَّهُمْ مهتدون رواه الحافظ أبو يعَلَى الموصلي وَقَالَ مجاهد ما من شيء أكسر لظهر إبلَيْسَ من " لا إله إلا الله ". وَقَالَ عباس الدوري سمعت يحيي بن معين يَقُولُ كنت إِذَا دخلت منزلي قرأت آية الكرسي مرة. فبينما أَنَا ذات ليلة أقرؤها فإِذَا هاتف يَقُولُ كم تقَرَأَ هذه لَيْسَ أحد يحسن يقرؤها غيرك. فقُلْتُ مجيباً لَهُ وأري هَذَا يسؤك وَاللهِ لأزيدنك فصرت أقرؤها فِي اللَّيْلَة خمسين مرة أو ستين مرة قال عباس فحدثت مُحَمَّد بن سهل فَقَالَ كَانَ جرياً عَلَى الإنس والجن أو كما قال. وَقَالَ بشر بن منصور عن وهيب بن الورد خرج رجل إلي الجبانة بعد ساعة من الليل فسمَعَ حساً وأصواتاً شديدةً وجئ بسرير وجَاءَ شيء جلس عَلَيْهِ واجتمَعَ إليه جنود. ثُمَّ صرخ من لي بعروة بن الزبير فلم يجبه أحد حتي تابع ما شَاءَ الله من الأصوات فَقَالَ واحد مِنْهُمْ أَنَا أكفيكه.

قال: فتوجه نحو الْمَدِينَة وأنَا أنظر ثُمَّ أوشك الرجعة فَقَالَ لا سبيل إلي عروة قال ويلك لم يَقُولُ كلمَات إِذَا أصبح وإِذَا أمسي فلا يخلص إليه. قال الرجل فَلَمَّا أصبحت قُلْتُ لأهلي جهزوني فأتيت الْمَدِينَة فسألت عنهُ حتي دللت عَلَيْهِ فإِذَا شيخ فقُلْتُ شيئاً تقوله إِذَا أصبحت وإِذَا أمسيت. فأبي أن يخبرني فأخبرته بما رَأَيْت وبما سمعت فَقَالَ ما هُوَ غَيْر أني أَقُول إِذَا أصبحت. آمنت بِاللهِ العَظِيم وكفرت بالجبت والطاغوت واستمسكت بالعروة الوثقي لا انفصام لها والله سميع عليم. إِذَا أصبحت قُلْتُ ثلاث مرات وإِذَا أمسيت قُلْتُ ثلاث مرات. وعن ابن عباس أنه قال إن الشياطين قَالُوا لإبلَيْسَ يا سيدنا إنا لنفرح بموت العَالم ما لا نفرح بموت العابد والعَالم لا نصيب منه. قال انطلقوا فانطلقوا إلي عابد وأتوه فِي عبادته فَقَالُوا نريد أن نسألك فَقَالَ سل. فَقَالَ إبلَيْسُ هل يقدر ربك أن يجعل الدُّنْيَا فِي جوف بيضة قال لا أدري قال أترونه كفر فِي سماعه. ثُمَّ جَاءَ إلي رجل عَالم فِي حلقة يضاحك أصحابه فَقَالُوا إنا نريد أن نسألك فَقَالَ سل. فَقَالَ هل يقدر ربك أن يجعل الدُّنْيَا فِي جوف بيضة قال نعم قال كيف. قال يَقُولُ كن فيكون، قال أترون ذَلِكَ لا يعدو نَفْسهُ هَذَا يفسد عَلَىَّ عالَمَاً كثيراً.

.. حَيَاتُكَ فِي الدُّنْيَا قَلِيْلُ بَقاؤُهَا ... وَدُنْيَاكَ يَا هَذَا شَدِيْدُ عناؤُهَا وَلاَ خَيْرَ فِيه غَيْرَ زَادٍ مِنَ التَّقَي ... يُنَالُ بِهِ جَنَّاتُ عَدْنٍ وَمَاؤُهَا بَلَى إِنّهَا لِلْمُؤْمِنِينَ مَطِيّةً ... عَلَيْهَا بُلُوغُ الْخَيْرِ وَالشَرُّ دَاؤُهَا وَمَنْ يَزْرَعِ التَقْوى بِهَا سَوْفَ يَجْتَنِي ... ثِمَاراً مِنَ الفِرْدَوْسِ طَابَ جَنَاؤُهَا نُؤَمّلُ أَنْ نَبْقَى بِهَا غَيْرَ أَنَّنَا ... عَلَى ثِقَةٍ أَنَّ الْمَمَاتَ انْتِهَاؤُهَا فَكُنْ أَيُهَا الإنسان فِي الْخَيْرِ رَاغِباً ... يَلُوحُ مِنَ الطَّاعَاتِ فِيكَ بَهَاؤُهَا وَجَانِبْ سَبِيْلَ الغَيِّ وَاتْرُكْ مَعَاصِياً ... يُذِيبُكَ مِنْ نَّارِ الجَحِيْمِ لَظَاؤُهَا فَلاَبُدَّ يَوْماً أَنْ تَمُوْتَ بِمَشْهَدٍ ... يُسَاعِدُ مَنْ نَاحَتْ عَلَيْكَ بُكَاؤُهَا وَتَنْزِل قَبْراً – لاَ أَبَالَكَ – مُوْحِشاً ... تَكُونُ ثَرَى أَمْ عَلَيْكَ ثَرَاؤُهَا وَتَبْقَى بِهِ ثَاوٍ إِلى الحَشْرِ وَالجَزَا ... وَنَفْسُكَ يَبْدُو فِي الحِسَابِ جَزَاؤُهَا فَإِمَّا تَكُونُ النَّفْسُ ثَمَّ سَعِيدَةً ... فَطُوْبَى وَإلا فَالضَّرِيْعُ غِذاؤُهَا يُسَاقُ جَمِيْعُ النَّاسِ فِي مَوْقِفِ القَضَا ... وَتُنْشَرُ أَعْمَالٌ يَبِيْنُ وَبَاؤُهَا هُنَالِكَ تَبْدُو لِلْعِبَادِ صَحَائِفٌ ... فَتُوضَعُ فِي المِيْزَانِ وَالذَنْبُ دَاؤُهَا وَكم مِنْ ذَلِيْلٍ آخِذٍ بِشِمَالِهِ ... صَحِيفَتَهُ السَّوْدَا الشَّدِيدُ بَلاَؤُهَا وَآخَرُ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ آخِذٌ ... صَحِيفَتَهُ البَيْضَاءَ طَابَ لِقَاؤُهَا فَيَأْتِي نَبِيُّ اللهِ لِلرَّبِ سَاجِداً ... فَيُثْنِي بِنَعْمَاءِ يَجْلُّ ثَنَاؤُهَا فَيْدْعُوْهُ رَبُّ العَرْشِ: سَلْنِي فَإِنَّنِي ... لِنَفْسِكَ بِالمَحْبُوْبِ عِنْدِي رِضَاؤُهَا فَقَالَ: إِلَهِي أُمَّتِي مِنْكَ تَرْتَجْيِ ... لأَشْفَعَ بَعْدَ الإذْنِ فَهْوَ مُنَاؤُهَا فَيُعْطِيهِ مَوْلاَهُ الكَرِيْمُ شَفَاعَةً ... لأُمَّتِهِ الغَرَّاءِ طَابَ هَنَاؤُهَا

فَيَرْجِعُ طَهَ مُسْتَقِيْمٌ سُرُورُهُ ... تَخَالُ بِهِ البُشْرَى جَلِياً ضِيَاؤُهَا فَيَحْمَدُ مَوْلاَهُ الجَلِيْلَ ثَنَاؤُهُ ... عَلَى نِعَمٍ لاَ يُسْتَطَاعُ انْحِصَاؤُهَا هُنَالِكَ أَمِّ المُصْطَفَى جَنَّةَ العَلاَ ... وَأُمَّتُهُ تَقْفُوْا كَذَا شُهَدَاؤُهَا وَيَسْقِي رَسُولُ اللهِ مَنْ شَاءَ كَوْثَراً ... بَآنِيَةٍ عَدَّ النَّجُومِ اقْتِفَاؤُهَا فَيَارِبُّ أَوْرِدْنَا جَمِيْعاً لِحَوْضِهِ ... لِتُرْوَى نُفُوْسٌ مِنْهُ طَالَ ظَمَاؤُهَا وَأتْمِمْ لَنَا حُسْنَ الخِتَامِ إِذَا دَنَتْ ... وَفَاةٌ وَحَانَتْ لِلْحَيَاةِ انْمِحَاؤُهَا وَهَوِّنْ عَلَى الرُّوْحِ الْمَمَاتَ فَإِنَّهَا ... تُحِبُّ البَقَا لَكِنْ لِقَاكَ هَواؤُهَا وفِي القَبْرِ ثَبْتْهَا عَلَى قُوْلِكَ الهُدَى ... إِذَا سُئٍلَتْ كَيْ يَسْتَقِيْمَ بَقَاؤُهَا وَإِنْ نُفِخَتْ فِي الصُّوْرِ نَفْخَةُ بَعْثِنَا ... فَقُلْ أَنْتُمُ أَهْلُ اليَمْيِنِ أولاَؤُهَا فنَحْنُ اعْتَمَدنَا الفَضْلَ مِنْكَ مَعَ الرَّجَا ... فَحَقَّقْ رَجَا نَفْسٍ لَدَيْكَ رَجَاؤُهَا وَصَلِّ عَلَى المُخْتَارِ طَهَ مُحَمَّدٍ ... شَفِيعِ البَرَايَا يَوْمَ يَأْتِي نِدَاؤُهَا وَآلِ وَأَصْحَابِ مَدَى الدَّهْرِ مَا بَدَا ... نَهَارٌ وَمَا جَنَّ اللَّيَالِي دُجَاؤُهَا انتهى اللَّهُمَّ إنك تعلم سرنا وعلانيتنا وتسمَعَ كلامنا وتري مكاننا لا يخفِي عَلَيْكَ شيء من أمرنا نَحْنُ البؤساء الفقراء إليك المستغيثون المستجيرون بك نسألك أن تقيض لدينك من ينصره ويزيل ما حدث من البدع والمنكرات ويقيم علم الجهاد ويقمَع أَهْل الزيغ والكفر والعناد ونسألك أن تغفر لنا ولوالدينا وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين. موعظة إخواني أين أحبابكم الَّذِينَ سلفوا أين أترابكم الَّذِينَ رحلوا وانصرفوا، أين أصحاب الأموال وما خلفوا.

ندموا والله عَلَى التفريط يا ليتهم عرفوا هول مقام يشيب منه الوليد، إِذَا {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} . فواعجباً لك كُلَّما دعيت إلي الله توانيت، وكُلَّما حركتك المواعظ إلي الخيرات أبيت، وعَلَى غيك وجهلك تماديت، وَكم حذرت من المنون فما التفت إلي قول الناصح وتركته وما باليت. يا من جسده حي ولكن قَلْبهُ ميت، ستعاين عِنْدَ قدوم هادم اللذات ما لا تشتهي وتريد {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} . كم أزعج الموت نفوساً من ديارها، وَكم أتلف البلي من أجساد منعمة لم يدارها، وَكم أذل فِي التُّرَاب وجوها ناعمة بعد رفعتها واستقرارها. انتبه يا أخي فالدُّنْيَا أضغاث أحلام، ودار فناء لَيْسَتْ بدار مقام، ستعرف وتفهم نصحي لك بعد أيام. وما غاب عنكَ ستراه عَلَى التمام إِذَا أكشف الغطاء عنكَ وصار بصرك حديد، وهناك تندم ولات ساعة ندم. شِعْراً: قُلْ لِلَّذِي أَلِفَ الذُّنُوبَ وأجْرَمَا ... وغَدَ عَلَى زَلاَّتِهِ مُتَنَدِمَا لاَ تَيْأَسَنْ واطْلُبَ كَرِيماً دَائِمَاً ... يُوْلِي الجَمِيْل تَفَضُلاً وتَكَرُّمَا يَا مَعْشَرَ العَاصِيْنَ جُوْدٌ وَاسِعٌ ... عِنْدَ الإلَه لِمَنْ يَتُوبُ ويَنْدَمَا يَا أَيُّهَا الْعَبْدُ المُسِيء إِلى مَتَى ... تُفْني زَمَانَكَ فِي عَسَى ولَرُبَّمَا بَادِرْ إِلى مَوْلاَكَ يَا مَنْ عُمْرُهُ ... قَدْ ضَاعَ فِي عِصْيَانِهِ وتَصَرَّمَا واسْأَلَهُ تَوفِيقاً وعَفْواً ثُمَّ قُلْ ... يَا رَّبُ بَصِرْنِي وَزِلْ عني الْعَمَا ثُمَّ الصَّلاَة عَلَى النَّبِيّ أَجَلُّ مَنْ ... قَدْ خُصَّ بِالتَّقْرِيْبِ مِنْ رَّبِ السَّمَا

قال أحد العلماء إن القلب كالحصن ... الخ

وعَلَى صَحَابَتِهِ الأفَاضَلِ كُلّهِمِ ... مَا سَبَّحَ الدّاعِي الإلَه وعَظَّمَا اللَّهُمَّ أنظمنا فِي سلك حزبك المفلحين، وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك المخلصين، وآمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) قال أحد العلماء: اعلم أن الْقَلْب كالحصن وعَلَى ذَلِكَ الحصن سور وللسور أبواب وفِيه ثُلَمٌ وساكنه العقل والملائكة تتردد إلي ذَلِكَ الحصن وإلي جانب الحصن ريض (وَهُوَ المكَانَ يؤوي إليه) وفِيه الهَوَى والشياطين تختلف إلي ذَلِكَ الريض من غَيْر مانع والحرب قائم بين أَهْل الحصن وأَهْل الريض والشياطين لا تزال تدور حول الحصن تطلب غَفْلَة الحارس والعبور من بعض الثلم وأن لا يفتر الحراسة لحظة فإن الْعَدُوّ لا يفتر. وينحصر الشيطان فِي ستة أجناس لا يزال بابن آدم حتي ينال منه واحداً منها أو أكثر. أحدها شر الكفر والشرك. ثانياً البدعة. ثالثا كبائر الذُّنُوب. رابعاً الصغائر. ثُمَّ الاشتغال بالمباحات عن الاستكثار من الطاعات

ثُمَّ الاشتغال بالمفضول عن الفاضل. والأسباب التي يعتصم بِهَا الْعَبْد من الشيطان عشرة. أولها الاستعاذة بِاللهِ. ثانياً قراءة المعوذتين. ثالثا قراءة آية الكرسي. رابعاً قراءة البقرة. خامساً قراءة أول سورة حم المُؤْمِن إلي {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} . سابعاً لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ له الملك والحمد وَهُوَ عَلَى كُلّ شيء قدير مائة مرة. ثامناً كثرة ذكر الله. تاسعاً الوضوء مَعَ الصَّلاة. عاشراً إمساك فضول النظر والكلام والطعام ومخالطة النَّاس. انتهي وختاماً فأَهْل التقوي لا يتعذرعَلَيْهمْ سد أبواب الشيطان وحفظها بالحراسة أي الأبواب الظاهرة والطرق الجلية التي تفضي إلي المعاصي الظاهرة. وإنما يتعثرون فِي طرقه الغامضة فَأنَّهُمْ لا يهتدون إليها فيحرسونها لأن الأبواب المفتوحة إلي الْقَلْب للشيطان كثيرة. وباب الملائكة باب واحد وقَدْ التبس ذَلِكَ الْبَاب الواحد بهذه الأبواب الكثيرة، فالْعَبْد فيها كالمسافر الَّذِي يبقي فِي بادية كثيرة الطرق غامضة. المسالك فِي ليلة مظلمة فلا يكاد يعلم الطَرِيق إلا بعين بصيرة وطلوع شمس مشرقة. والعين البصيرة هاهنا هِيَ الْقَلْب المصفِي بالتقوي والشمس المشرقة هي

العلم العزير المستفاد من كتاب الله وسنة رسوله ? فيما يهتدي به إلي غوامض طرقه وإلا فطرقة كثيرة وغامضة. قال عَبْد اللهِ بن مسعود رَضِيَ اللهُ عنهُ خط لنا رسول الله ? يَوْماً خطاً وَقَالَ " هَذَا سبيل الله " ثُمَّ خط خطوطاً عن يمين الخط وعن شماله ثُمَّ قال " هذه سبل عَلَى كُلّ سبيل شيطان يدعو إليه ". ثُمَّ تلا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكم عن سَبِيلِهِ} . وَقَالَ أحد العلماء يجب عَلَى المُؤْمِن أن يحب العلماء العاملين بعلمهم حَقِيقَة البعيدين عن الانهماك فِي الدُّنْيَا البعيدين عن الرياء وحب الشهرة والظهور والوقوع فِي أعراض النَّاس الغافلين. السالمين من الحسد والكبر والعجب ويلازم مجالسهم ويسألهم عما أشكل عَلَيْهِ ويتعظ بنصحهم. ويجتنب الأعمال القبيحة ويتخذ الشيطان عدواً كما قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكم عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} . أي فعادوه بطاعة الله تعالى ولا تطيعوه فِي معاصي الله تعالى وكونوا عَلَى حذر منه فِي جَمِيع أحوالكمْ وأفعالكمْ وعقائدكمْ. وإِذَا فعلتم فعلاً فتفطنوا لَهُ فإنه ربما يدخل عليكم الرياء، ويزين لكم القبائح والفواحش واستعينوا عَلَيْهِ بربكم، وتعوذوا بِاللهِ منه. المهم أنك إِذَا علمت أن الشيطان لعنه الله لا يغفل عنكَ أبداً فلا تغفل عمن ناصيتك بيده وَهُوَ الله جل جلاله وتقدست أسماؤه وصفاته الزم ذكره وحمده وشكره. فالشيطان عدو مسلط عَلَى الإنسان ومقتضي ذَلِكَ أن لا يوَجَدَ منه غَفْلَة ولا فترة عَن التزيين والإغواء والإضلال.

قال تعالى إخباراً عما قاله إبلَيْسُ: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعن أَيْمَانهمْ وَعن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} وَقَالَ: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} . اللَّهُمَّ اجعلنا من المتقين الأبْرَار وأسكنا معهم فِي دار القرار، اللَّهُمَّ وفقنا بحسن الإقبال عَلَيْكَ والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون فِي طَاعَتكَ والمبادرة إلي خدمتك وحسن الأدب فِي معاملتك والتسليم لأَمْرِكَ والرِّضَا بقضائك والصبر عَلَى بَلائِكَ وَالشُّكْر لنعمائك، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله أجمعين. (فَصْلٌ) قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكم عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} الآية إِذَا فهمت ذَلِكَ فعَلَيْكَ بتحقيق العبودية لله، والتوكل عَلَيْهِ، والافتقار فِي أحوالك إليه، واستعاذتك به من شر عَدُوّكَ وعدوه، فبذَلِكَ تنجو من سلطته، وتنجو من غائلته. قال الله جَلَّ وَعَلا: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} . فمن تحقق بهذه الصفات العلية من الإيمان بِاللهِ تعالى، والعبودية به والتوكل عَلَيْهِ، واللجَاء والافتقار إليه، والاستعاذة، والاستجارة به، كيف يكون لعدو الله عَلَيْهِ سلطان، والله حبيبه وولي حفظه ونصره. وفِي وصية رسول الله ? لابن عباس: " احفظ الله يحفظك احفظ الله

تجده أمامك تعرف إلي الله فِي الرخاء يعرفك فِي الشدة ". فالشأن فِي الْعَبْد يكون بينه وبين ربه معرفة خاصة بقَلْبه بحيث تجده قريباً منه يستأنس به فِي خلوته ويجد حلاوة ذكره ودعائه ومناجاته وخدمته. ولا يجد ذَلِكَ إلا من أطاعه فِي سره وعلانيته ومتي وَجَدَ الْعَبْد هَذَا فقَدْ عرف ربه وصار بينه وبينه معرفة خاصة. فإِذَا سأله أعطاه وإِذَا دعاه أجابه والْعَبْد لا يزال فِي كرب وشدائد فِي الدُّنْيَا، وفِي البرزخ، وفِي الموقف، فإِذَا كَانَ بينه وبين ربه معرفة خاصة كفاه الله ذَلِكَ كله. وهَذَا هُوَ المشار إليه فِي وصية رسول الله ? لابن عباس تعرف إلي الله فِي الرخاء يعرفك فِي الشدة. فالعلم ما عرف الْعَبْد ربه، ودله عَلَيْهِ حتي عرفه، ووحده وأكثر من ذكره، وحمده وشكره وأنس به، واستحيا من قربه، وعبده كأنه يراه. فالشأن كله فِي أن الْعَبْد يستدل بالعلم عَلَى ربه، فيعرفه فإِذَا عرف ربه فقَدْ وجده منه قريباً، ومتي وجده منه قريباً قربه إليه وأجاب دعاءه. كما فِي الأثر الإسرائيلي ابن آدم اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كُلّ شيء. فأصل العلم العلم بِاللهِ الَّذِي يوجب خشيته ومحبته والقرب منه والإنس به، ثُمَّ يتلوه العلم بأحكام الله، وما يحبه ويرضاه من الْعَبْد من قول أو عمل أو حال أو اعتقاد. فمن تحقق بهذين العلمين كَانَ علمه عِلماً نافعاً، وحصل لَهُ العلم النافع والْقَلْب الخاشع والنفس القانعة والدُّعَاء المسموع.

قصيدة بليغة

ومن فاته هَذَا العلم النافع وقع فِي الأربع التي استعاذ منه النَّبِيّ ?، وصار علمه وبإلا وحجةً عَلَيْهِ فلم يتنفع به. لأنه لم يخشع قَلْبهُ لربه ولم تشبع نَفْسهُ من الدُّنْيَا، بل ازداد حرصاً عَلَيْهَا وطلباً لها، ولم يسمَع دعاؤه، لعدم امتثاله لأوامر ربه، وعدم اجتنابه لما يسخطه ويكرهه. هَذَا إن كَانَ علمه عِلماً يمكن الانتفاع به وَهُوَ المتلقي عن اْلكِتَاب والسنة. فإن كَانَ متلقي من غَيْر ذَلِكَ فهو غَيْر نافع فِي نَفْسه ولا يمكن الانتفاع به بل ضرره أكثر من نفعه. وعلامة هَذَا العلم الَّذِي لا ينفع أن يكسب صاحبه الزهو والفخر والخيلاء وطلب العلو والرفعة فِي الدُّنْيَا والمنافسة فيها وطلب مباهاة العلماء ومماراة السفهاء ويصرف به وجوه النَّاس وقَدْ ورد عن النَّبِيّ ? أن من طلب العلم ليجاريَ به العلماء أو ليماريَ به السفهاء ويصرف به وجوه النَّاس أدخله الله النار. ولبعض العلماء: يَقُولُونَ لِي هَلاَّ نَهَضَتَ إِلى العُلاَ ... فَمَا لَذَّ عَيْشُ الصَّابِرِ المُتَقَنِّعِ وَهَلاَ شَدَدْتَ العِيْسَ حَتَى تَحُلَّها ... بِمِصْرٍ إِلى ظِلِ الجَنَابِ المُرَفِعِ فَفِيها قُضَاةٌ لَيْسَ يَخْفَى عَلَيْهُمُوا ... تَعَيَّنُ كَوْنَ العِمْ ِغَيْرَ مُضَيَّعِ وَفِيها شُيُوخُ الدِيْنِ وَالفَضْلِ وَالأوْلَى ... يُشِيْرُ إِليْهِمْ بَالعُلاَ كُلُّ أُصْبُعِ وَفِيها وَفِيها وَالمَهَانَةُ ذِلَّةٌ ... فَقُمُ واسْعَ وَاقْصِدْ بَابَ رِزْقِكَ وَاقْرَعِ فقُلْتُ نَعْمْ أَسْعَى إِذَا شِئْتُ أَنْ أُرِى ... ذَلِيْلاً مُهَاناً مُسْتَخَفاً بِمَوَضِعِي وَأَسْعَى إِذَا مَا لَذَّ لي طُوْلُ مَوْقِفِي ... عَلَى بَابِ مَحْجُوْبِ اللِقَاءِ مُمَنَّعِ وَأَسْعَى إِذَا كَانَ النِفَاقُ طَرِيْقَتِي ... أَرُوْحُ وَأَغْدُوْ فِي ثِيَابِ التَّصَنُّعِ وَأَسْعَى إِذَا لم يَبْقَ فِي بَقِيَّةٌ ... أُرَاعِيْ بِهَا حَقَّ التُّقَى وَالتَّوَرُعِ

.. فَكم بَيْنَ أَرْبَابِ الصُدُوْرِ مَجَالِساً ... تُشَبُّ بِهَا نَّارُ الغَضَى بَيْنَ أَضْلُعِيْ وَكم بَيْنَ أَرْبَابِ العُلُوْمِ وَأَهْلِهَا ... إِذَا بَحَثُوْا فِي المُشْكِلاَتِ بِمَجْمَعِ مُنَاظَرَةً تُحْمِي النُّفُوسَ فَتَنْتَهِي ... وَقَدْ شَرَعُوا فِيها إِلى شَرِّ مَشْرَعِ إِلى السَّفَهِ المُزْرِيْ بِمَنْصِبِ أَهْلِهِ ... أَوْ الصَّمْتِ عن حَقٍ هُنَاكَ مُضَيَّعِ فَإِمَّا تَوَقَّى مَسْلَكَ الدِيْنِ وَالتُقَى ... وَإِمَا تَلَقَّى عُصَّة المُتَجَرّعِ آخر: ... أنِسْتُ بِلأَوَاءِ الزَمَانِ وَذِلِهِ ... فَيَا عِزَّةَ الدُّنْيَا عَلَيْكِ سَلاَمُ إِلى كم أُعَانِي تِيْهَهَا وَدَلاَلَهَا ... أَلم يَأْنِ عنهَا سَلْوُة وَسَامُ وقَدْ أَخْلَقَ الأيَّامُ جِلْبَابَ حُسْنِهَا ... وَأَضْحَتْ وَدِيْبَاجُ البَهَاءِ مَسَامُ عَلَى حِيْنِ شَيْبٍّ قَدْ ألَمَّ بَمَفْرِقِي ... وَعَادَ رُهَامُ الشَّعْرِ وَهُوَ ثَغَامُ طَلاَئِعُ ضَعْفٍ قَدْ أَغَارَتْ عَلَى القُوَى ... وَثَارَ بِمَيْدَانِ المِزَاجِ قَتَامُ فَلاَ هِيَ فِي بُرْجِ الجَمَالِ مُقِيْمَةٌ ... وَلاَ أَنَا فِي عَهْدِ المُجُونِ مُدَامُ تَقَطَّعَتْ الأسْبَابُ بَيْنِي وَبَيْنَهَا ... ولم يَبْقَ فِينَا نِسْبَةٌ وَلِئَامُ وَعَادَتْ قَلُوصُ العَزْمِ عَنِّي كَلِيْلَةً ... وقَدْ جُبَّ مِنْهَا غَارِبٌ وَسَنَامُ كَأَنِّي بِهَا والْقَلْبُ زُمَّتْ رِكَابُهُ ... وَقِّوَض أَبْيَاتٌ لَهُ وَخِيَامُ وَسِيْقَتْ إِلى دَارِ الخُمُولِ حُمُولُهُ ... يَحُنُّ إِلَيْهَا وَالدُمُوعُ رُهَامُ حَنِيْنَ عَجُولٍ غَرَّهَا البَوُّ فَانْثَنَتْ ... إِلَيْهِ وَفِيها أَنَّةٌ وَضُغَامُ تَوَلَّتْ لَيَالٍ لِلْمَسَرَّاتِ وَانْقَضَتْ ... لِكُلِّ زَمَانٍ غَايَةٌ وَتَمَامُ فَسَرْعَانَ مَا مَرَّتْ وَوَلَّتْ وَلَيْتَهَا ... تَدُوْمُ وَلَكِنْ مَا لَهُنَّ دَوَامُ دُهُورٌ تَقَضَّتْ بِالمَسَرَّاتِ سَاعَةً ... وَيَوْمُ تَوَلَّى بِالمَسَاءَةِ عَامُ فَلِلَّهِ دَرُّ الغَمِ حَيْثُ أَمَدَّنِي ... بِطُولِ حَيَاةٍ والهُمُومُ سِهَامُ

أَسِيْرُ بِتَيْمَاءِ التَّحَيُرِ مُفْرَداً ... وَلِي مَعَ صَحْبِي عِشْرَةٌ وَنَدَامُ وَكم عِشْرَةٍ مَا أَوْرَثَتْ غَيْرَ عُسْرَةٍ ... وَرُبَّ كَلاَمِ فِي القُلُوبِ كُلاَمُ فَمَا عِشْتُ لاَ أنْسَى حُقُوقَ صَنِيْعِهِ ... وَهَيْهَاتَ أَنْ يُنْسَى لَدَيَّ ذِمَامُ كَمَا اعْتَادَ أَبْنَاءُ الزَّمَانِ وَأَجْمَعَتْ ... عَلَيْهِ فِئَامٌ إِثْرَ ذَاكَ قِيَامُ خَبَتْ نَارُ أعْلاَمِ المَعَارِفِ وَالهُدَى ... وَشُبَّ لِنِيْرَانِ الضَّلاَلِ ضُرَامُ وكَانَ سَرِيْرُ العِلْمِ صَرْحاً مُمَرَّداً ... ... يُنَاغِي القِبَابَ السَّبْعَ وَهِي عِظَامُ مَتِيْناً رَفِيعاً لاَ يُطَارُ غُرابُهُ ... عَزيْزاً مَنِيْعاً لاَ يَكَادُ يُرَامُ يَلُوحُ سَنَا بَرْقِ الهُدَى مِنْ بُرُوْجِهِ ... كَبَرْقٍ بَدَا بَيْنَ السِّحَابِ يُشَامُ فَجَرَّتْ عَلَيْهِ الرَاسِيَاتُ ذُيُولَهَا ... فَخَرَّتْ عُرُوشٌ مِنْهُ ثُمَّ دَعَامُ وَسِيْقَ إِلى دَارِ المُهَانَةِ أهْلُهُ ... مَسَاقَ أَسَيْرٍ لاَ يَزَالُ يُضَامُ كَذَا تَجْرِيَ الأيَّامُ بَيْنَ الوَرَى عَلَى ... طَرَائِقَ مِنْهَا جَائِرٌ وَقَوَامُ فَمَا كُلُّ مَا قَدْ قِيْلَ عِلْمٌ وَحِكْمَةٌ ... وَمَا كُلُّ أَفْرَادِ الحَدِيْدِ حُسَامُ وَلِلدَّهْرِ ثَارَاتٌ تَمْرُّ عَلَى الفَتَى ... نَعِيْمٌ وَبُؤْسٌ، صِحَّةٌ وَسَقَامُ وَمَنْ يَكُ فِي الدُّنْيَا فَلاَ يَعْتِبَّنْهَا ... فلَيْسَ عَلَيْهَا مَعْتَبٌ وَمَلاَمُ أَجِدَّكَ مَا الدُّنْيَا وَمَاذَا مَتَاعُهَا ... وَمَاذَا الَّذِي تَبْغِيْهِ فَهُوَ حُطَامُ تَشَكَّلَ فِيها كُلُّ شَيِءٍ بِشَكْلِ مَا ... يُعَانِدُهُ وَالنَّاسُ عنهُ نِيَامُ تَرَى النَّقْصَ فِي زِي الكَمَالِ كَأَنَّمَا ... عَلَى رَأْسِ رَبَّاتِ الحِجَالِ عِمَامُ فَدَعْهَا وَنَعْمَاهَا هَنِيْئاً لأَهْلِهَا ... وَلاَ تَكُ فِيها رَاعِياً وَسَوَامُ تَعَافُ العَرَانِيْنُ السِمَّاطَ عَلَى الخِوَى ... إِذَا مَا تَصَدَّى لِلطَّعَامِ طَغَامُ عَلَى أَنَّهَا لاَ يُسْتَطَاعُ مَنَالُهَا ... لِمَا لَيْسَ فِيه عُرْوَةٌ وَعِصَامُ ولَوْ أَنْتَ تَسْعَى إِثْرَهَا أَلْفُ حَجَّةٍ ... وَقَدْ جَاوَزَ الطِبْيَيْنِ مِنْكَ جِزَامُ

فضل الاستغفار والحث عليه

.. رَجَعْتَ وقَدْ ضَلَّتْ مَسَاعِيْكَ كُلُّهَا ... بِخُفَيْ حُنَيْنٍ لاَ تَزَالُ تُلامُ هَبِ إِنَّ مَقَالِيْدَ الأمُورِ مَلَكْتَهَا ... وَدَانَتْ لَكَ الدُّنْيَا وَأَنْتَ هُمَامُ وَمُتِّعْتَ باللَّذْاتِ دَهْراً بِغِبْطَةٍ ... ألَيْسَ بِحَتْمً بَعْدَ ذَلِكَ حِمَامُ فَبَيْنَ البَرايَا والخُلُودِ تَبَايُنٌ ... وبَيْنَ الْمَنَايَا والنُّفُوسِ لِزَامُ قَضَيَّة أنْقادَ الأنَامُ لِحُكْمِهَا ... ومَا حَادَ عنهَا سَيِدٌ وغُلاَمُ ضَرُورْيَةُ تَقِضْيْ العُقُولُ بِصِدْقِهَا ... سَلْ إِنْ كَانَ فِيها مِرْيَةٌ وخِصَامُ سَلْ الأرض عن حَالِ المُلُوكِ الَّتِي خَلَتْ ... لَهُمْ فَوقَ، فَوقَ الفْرْقَدَيْنِ مَقَامُ اِبوْابِهْمِ لِلوافِدْيْنَ تَرَاكُمُ ... بِأعْتَابِهِم لِلعَاكِفْيِنَ زِحَامُ تُجْبكَ عن أَسْرارِ السُيُوفِ الَّتِي جَرَتْ ... عَلَيْهِمْ جَواباً لَيْسَ فِيه كَلاَمُ بِأْنَّ الْمَنَايَا أَقَصْدَتْهمُ نِبَالُهَا ... ومَا طَاشَ عن مَرْمَى لَهُنَّ سِهَامُ ... وَسيِقُوا مَسَاقَ الغَابِرينَ إَلى الرَدَي ... وَأْفْقَرَ مِنْهُمْ مَزَلٌ وَمَقَامُ وَحُلوا مَحَلاً غَيْرَ مَا يَعْهَدُوْنَهُ ... فلَيْسَ لَهُمْ حَتَّى القِيَامُ قِيَامُ ألَمَّ بِهِمْ رَيبُ المَنُوْنِ فَعَالَهُمْ ... فَهُمْ بَيْنَ أَطْبَاقِ الرُغَامِ رُغَامُ اللَّهُمَّ خفف عنا الأوزار وارزقنا عيشة الأبْرَار واصرف عنا شر الأشْرَار واعتق رقابنا ورقاب آبائنا وأمهاتنا من النار يا عزيز يا غفار يا كريم يا ستار ويا حليم يا جبار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى الله عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) فِي فضائل الاستغفار يستحب الإكثار من الاستغفار فِي كُلّ وَقْت، ويتأكد فِي الزمان الفاضل، والمكَانَ الفاضل، قال تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ} وَقَالَ: {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وَقَالَ تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} وَقَالَ تعالى، مخبراً

عن نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكم إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكم جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكم أَنْهَاراً} الاية، وَقَالَ تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلا اللهُ} وَقَالَ تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلم نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَّحِيماً} . وعن شداد بن أوس – رَضِيَ اللهُ عنهُ – عن النَّبِيّ ? قال: " سيد الاستغفار أن يَقُولُ الْعَبْد: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لا إله إلا أَنْتَ، خلقتني وأنَا عبدك، وانَا عَلَى عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عَلَى، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، إنه لا يغفر الذُّنُوب إلا أَنْتَ ". وعن ابن عمر – رَضِيَ اللهُ عنهُمَا – قال: إنَا كنا لنعد لِرَسُولِ اللهِ صلي الله عَلَيْهِ وسلم فِي المجلس يَقُولُ: " رب إغفر لي، وتب عَلَى، إنك أَنْتَ التواب الغفور " مائة مرة. وعن عَبْد اللهِ بن بسر – رَضِيَ اللهُ عنهُ – قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: " طوبي لمن وَجَدَ فِي صحيفته: استغفاراً كثيراً ". وعن أَبِي هُرَيْرَةِ – رَضِيَ اللهُ عنهُ – قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: " إن الله عَزَّ وَجَلَّ ليرفع الدرجة للعبد الصالح فِي الْجَنَّة فَيَقُولُ: يا رب، أني لي هذه؟ فَيَقُولُ: باستغفار ولدك لك ". وعن ابن عباس – رَضِيَ اللهُ عنهُمَا – قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: " من لزم الاستغفار جعل الله لَهُ من كُلّ هم فرجاً ومن كُلّ ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب ".

وعَن الأغر المزني – رَضِيَ اللهُ عنهُ – قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: " إنه ليغان عَلَى قلبي، وإني لأستغفر الله فِي الْيَوْم مائة مرة ". وَقَالَ حذيفة: كنت ذرب اللسان عَلَى أهلي، فقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَقَدْ خشيت أن يدخلني لساني النار، فَقَالَ النَّبِيّ ?: " فأين أَنْتَ من الاستغفار، فإني أستغفر الله فِي الْيَوْم مائة مرة " أخرجه النسائي. وعن زيد مولي رسول الله ?، أنه سمَعَ النَّبِيّ ? يَقُولُ: " من قال: أستغفر الله الَّذِي لا إله إلا هُوَ الحي القيوم، وأتوب عَلَيْهِ غفر لَهُ، وإن كَانَ قَدْ فرَّ من الزحف " رواه أبو داود. وعن أبي سعيد الخدري – رَضِيَ اللهُ عنهُ – عن النَّبِيّ ? قال: " من قال حين يأوي إلي فراشه: أستغفر الله الَّذِي لا إله إلا هُوَ الحي القيوم، وأتوب إليه – ثلاث مرات – غفرتْ لَهُ ذنوبه، وإن كانت عدد رمل عالج، وأن كانت عدد أيام الدُّنْيَا " رواه الترمذي. وعن أنس – رَضِيَ اللهُ عنهُ – سمعت رسول الله ? يَقُولُ: " قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك عَلَى ما كَانَ منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لَوْ بلغت ذنوبك عنان السماء ثُمَّ استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لَوْ أتيتني بقراب الأرض خطايا ثُمَّ لقيتني لا تشرك بي شيئاً أتيتك بقرابِهَا مغفرة " رواه الترمذي. وَاللهُ أَعْلم وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.

فصل: وعن أبي سعيد الخدري – رَضِيَ اللهُ عنهُ – عن النَّبِيّ ? قال: " قال إبلَيْسُ: وعزتك لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم فِي أجسادهم، فَقَالَ: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهُمْ ما استغفروني ". وعن الزبير – رَضِيَ اللهُ عنهُ – أن رسول الله ? قال: " من أحب أن تسره صحيفته فليكثر فيها من الاستغفار ". وعن أَبِي هُرَيْرَةِ – رَضِيَ اللهُ عنهُ – عن الرَّسُول ? قال: " إن الْعَبْد إِذَا أخطأ خطيئة نكتت فِي قَلْبهُ نكتة، فإن هُوَ نزع واستغفر صقلت، فإن عاد زيد فيها حتي تعلَو قَلْبهُ، فذَلِكَ الران الَّذِي ذكره الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} . وروي عن أنس – رَضِيَ اللهُ عنهُ – أن رسول الله ? قال: " إن للقُلُوب صدأً كصدأ النُّحاس، وجلاؤها الاستغفار ". وروي عن أنس بن مالك – رَضِيَ اللهُ عنهُ – قال: كَانَ رسول الله ? فِي مسيرة، فَقَالَ: " استغفروا الله، فاستغفرنا، فَقَالَ أتموها سبعين مرة فأتممناها، فَقَالَ رسول الله ?: ما من عبد ولا أمة يستغفر الله فِي يوم سبعين مرة إلا غفر الله لَهُ سبعمائة ذنب، وقَدْ خاب عبد أو أمة عمل فِي يوم وليلة أكثر من سبعمائة ذنب ". وعن أَبِي هُرَيْرَةِ – رَضِيَ اللهُ عنهُ – قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: " والَّذِي نفسي بيده لَوْ لم تذنبوا لذهب الله تعالى بكم

ولجَاءَ بقوم يذنبون فيستغفرون الله تعالى فيغفر لهم" رواه مسلم. وفِي حديث سلمان: "فاستكثروا فِيه من خصلتين ترضون بهما ربكم وخصلتين لا غني لكم عنهما، فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله، والاستغفار وأما التي لا غني لكم عنهما فتسألونه الْجَنَّة وتعوذون به من النار". فهذه الخصال الأربع المذكورة فِي الْحَدِيث كُلّ منها سبب للمغفرة والعتق من النار، فأما كلمة الإخلاص فإنها تهدم الذُّنُوب وتمحوها محواً، ولا تبقي ذنباً، ولا يسبقها عمل، وهي تعدل عتق الرقاب الَّذِي يوجب العتق من النار، ومن قالها خالصاً من قَلْبهُ حرمه الله عَلَى النار. وأما كلمة الاستغفار فمن أعظم أسباب المغفرة فإن الاستغفار دعاء بالمغفرة، ودعاء الصائم إِذَا اجتمعت لَهُ الشروط وانتفت الموانع مستجاب حال صيامه وعِنْدَ فطره. وفِي حديث أَبِي هُرَيْرَةِ: "ويغفر الله إلا لمن أبي، قَالُوا يا أبا هريرة ومن يأبي؟ قال: يأبي أن يستغفر الله". وَقَالَ لقمان لابنه: يا بني عوِّد لسانك الاستغفار، فإن لله ساعات لا يرد فِيه سائلاً، وقَدْ جمَعَ الله بين التَّوْحِيد والاستغفار، فِي قوله: {فاعْلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك} . وفِي بعض الآثار: أن إبلَيْسَ قال: أهلكت النَّاس بالذُّنُوب وأهلكوني بالاستغفار ولا إله إلا الله.

قصيدة في الحث على التضرع إلى رب العزة والجلال

والاستغفار ختام الأعمال الصَّالِحَة كُلّهَا فيختم به الصَّلاة والحج والقيام فِي الليل ويختم به المجالس، فإن كانت ذكراً كَانَ كالطابع عَلَيْهَا وإن كانت لغواً كَانَ كفارة لها، فكَذَلِكَ ينبغي أن يختتم صيام رمضان بالاستغفار يرقَعُ ما تخرق من الصيام باللغو والرفث "ويجتهد فِي الإكثار من الأعمال والتقلل من شواغل الدُّنْيَا والإقبال عَلَى الآخرة ما دام فِي قيد الحياة". تضرع إلي رب العزة والجلال: اسْتَغْفِرُ اللهَ عَمَا كَانَ مِنْ زَلَلٍ ... وَمِنْ خَطَإٍ تَخَطَّا بِالمُصِيْبَاتِ ولَيْسَ إلا إِلى الرَّحْمَنِ مُنْتَجِعِي ... فَهْوُ العَلِيْمُ بِأَحْوَالِي وَنِيَّاتِ وَهْوَ الرَّحْيِمُ وَمَلْجَأ مَنْ يَلْوذُ بِهِ ... الكَاشِفُ الغَمِ الْقَاضِي لِحَاجَاتِ وَقَدْ مَدَدْتُ حِبَالِي رَاجِياً فَرَجاً ... وَمُنْشِداً قِيْلَ دَاعٍ ذِي امْتِحَانَاتِ فَقُلْتُ مُشْتَكِياً مَا قَالَ مُبْتَهِلاً ... بِاللهِ مُرْتَجِياً تَفْرِيْجَ أَزْمَاتِ فَصِل حِبَالِي وَأوصَالِي بِحَبْلِكَ يَا ... ذَا الكِبْرِيْاءِ وَحَقَّق فِيكَ رَغْبَاتِي أنَا الذَّلِيْلُ أَنَا المِسْكِيْنُ ذُو شَجَنِ ... أنَا الفَقْيِرُُ إِلى رَبِّ السَمَواتِ أنَا الكَسِيْرُ أَنَا المُحْتَاجُ يَا أَمَلِي ... جُدْ لِي بِفَضْلِكَ وَاعْفُ عن خَطِيْئَاتِ أنَا الغَرِيْبُ فَلاَ أَهْلٌ وَلاَ وَطَنٌ ... أنَا الوَحِيْدُ فَكُنْ لِي فِي مُلِمَّاتِ أنَا العُبَيْدُ الَّذِي مَا زِلْتُ مُفْتَقِراً ... إِلَيْكَ يَا سَيْدِي فِي كُلِّ حَالاتِ لاَ أَسْتَطِيْعُ لِنَفْسِي جَلْبَ مَنْفَعَةٍ ... وَلاَ عن النَّفْسِ لِي دَفْعَ المَضَرّاتِ مَا لِي سِوَاكَ وَلاَ لِي عنكَ مُنْصَرَفٌ ... ذَكْرَاكَ فِي الْقَلْبِ قُرْآنِي وَآيَاتِ أَنْتَ القَدِيْرُ عَلَى جَبْري بِوَصْلِكَ لِي ... أَنْتَ العَلْيْمُ بِأَسْرَارِ الخَفِياتِ أَدْعُوكَ يَا سَيِّدي يَا مُشْتَكَى حَزَنِي ... يَا جَابِرِي يَا مُغِيثِي فِي مُهِمَاتِ فَانْظُرْ إِلى غُرْبَتِي وَارْحَمْ ضَنَا جَسَدِي ... يَا رَاحِمَ الخَلْقِ يَا بَارِي البَرْيَاتِ وَقَدْ دُهِيْتُ فَلم يُسْمَعْ وقُلْتُ فَمَا ... أَجْدَى لَدَى نَاصِرِي فَاسْمَعْ شِكَايَاتِ

أَنْتَ المُغِيْثُ وأَنْتَ المُسْتَعَانُ وَلاَ ... تَخْفَى عَلَيْكَ إِرَادَتِي وَغَايَاتِ وَنَاصِرِي غَاضَنِي بَلْ هَاضَنِي وَشَفَا ... أَوْغَارُ قَوْمٍ بَغُوْا واعُظْمَ لَوًعَاتِ يَا قَادِراً قَاهِراً مَنْ كَانَ ذَا عَنَتٍ ... أَنْتَ القَدْيْرُ لِقَهْرِ الظَالِمِ العَاتِ يَا رَبِّ فَاغْفِرْ لِمَنْ لم يَدْرِ مَا قَصْدُوا ... وَمَا أَرَادَ الأعَادِي مِنْ مَصرّاتِ وأَنْتَ يَا سَيِدْي يَا مَنْتَهَى أْمَلِي ... تَدْرِي وَتَعْلَمُ مَقْصُودِي وَنِيَاتِ والرَّاحِمُ الكَافِلُ الكَافِي لآمَلِهِ ... المَاجِدُ الغَافِرُ المَاحِي لِزَلاَتِ وَمَا اقْتَرَحْتُ وَمَا قَدْ كُنْتَ مُجْتَرِحاً ... مِنَ الذُّنُوبِ فَإِنّي ذُو الخَلِيْاتِ وَابْسُطْ بِفَضْلِكَ لِي مَا كُنْتَ آمَلَهُ ... يَا مَنْ لَهُ الفَضْلُ مَحْضاً فِي البَّريَاتِ وَمَنْ لَهُ الجُوْدُ وَالمَوجُودُ أَجْمَعُهُ ... والخَلْقُ والأمر ثُمَّ الكَائِنُ الآتِي وَعَبْدُكَ المُشْتَكِي وَالمُرْتَجِي فَرَجاً ... لاَطِفْهُ وَارْحَمْهُ وَاحْفُفْ بِالعِنَايَاتِ وَصِلْ يَا رَبِّ مَا هَبَّ النَسِيْمُ وَمَا ... غَنَى الحَمَامُ عَلَى أَفْنَانِ أيْكَاتِ عَلَى النَّبِيّ الأمِيْنِ المُصْطَفَى شَرَفاً ... وَالآلِ والصَحْبِ أصْحَابِ الكْرَامَاتِ اللَّهُمَّ يا عَالم الخفيات ويا سامَعَ الأصوات ويا باعث الأموات ويا مجيب الدعوات ويا قاضي الحاجات يا خالق الأرض والسموات أَنْتَ الله الأحد الصمد الَّذِي لم يلد ولم يولد ولم يكن لَهُ كفواً أحد الوهاب الَّذِي لا يبخل والحليم الَّذِي لا يعجل لا رادَّ لأَمْرِكَ ولا معقب لحكمك نسألك أن تغفر ذنوبنا وتنور قلوبنا وتثَبِّتْ محبتك فِي قلوبنا وتسكننا دار كرامتك إنك عَلَى كُل شَيْء قدير وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين. شِعْراً: ... تَزَوَّجَتِ البَطَالَةُ بِالتَّوَانِيْ ... فَأَوْلَدَهَا غُلاَماً مَعَ غُلاَمَةْ فَأَمَّا الابْنُ فَسَمَّوْهُ بِفَقْرِ ... وَأَمَا البِنْتُ سَمَّوْهَا نَدَامَةْ حث عَلَى المبادرة إلي الأعمال الصالحة إِذَا هَبَّتْ رِيَاحُكَ فَاغْتَنِمْهَا ... فَإِنَّ لِكُلِّ خَافِقَةٍ سُكُونُ وَإِنْ دَرَّتْ نِيَاقُكَ فَاحْتَلِبْهَا ... فَمَا تَدْرِي الفَصِيْلُ لِمَنْ يَكُونُ

وصية - نصيحة

بسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمْ (خاتمة، وصية، نصيحة) اعْلم وفقنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ لما يحبه الله ويرضاه أن مِمَّا يجب الاعتناء به حفظاً وعملاً كلام الله جَلَّ وَعَلا وكلام رسوله ?. وأنه ينبغي لمن وفقه الله تعالى أن يحث أولاده عَلَى حفظ القرآن وما تيسر من أحاديث النَّبِيّ ? المتفق عَلَى صحتها عنهُ كالبخاري ومسلم. ومن الفقه مختصر المقنع ليتيسر لَهُ استخراج المسائل ويجعل لأولاده ما يحثهم عَلَى ذلك. فمثلاً يجعل لمن يحفظ القرآن عَلَى صدره حفظاً صحيحاً عشرة آلاف أو أزيد أو أقل حسب حاله فِي الغني. ومن الأحاديث عقود اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عَلَيْهِ الإمامان البخاري ومسلم، يجعل لمن يحفظ ذَلِكَ ستة آلاف (6000) . فإن عجزوا عن حفظها فالعمدة فِي الْحَدِيث يجعل لمن حفظها ثلاثة آلاف (3000) أو الأربعين النووية ويجعل لمن حفظها ألفاً (1000) . ويجعل لمن يحفظ مختصر المقنع فِي الفقه ألفين (2000) من الريالات فالغيب سبب لحفظ المسائل وسبب لسرعة استخراج ما أريد من ذَلِكَ وما أشكل معناه أو يدخلهم فِي مدارس تحفيظ القرآن والسنة هِيَ مدارس التعليم العالي الممتاز الباقي النافع فِي الدُّنْيَا والآخرة أو يدخلهم فِي حلقات تحفيظ القرآن الكريم الموجودة فِي المساجد. فمن وفقه الله لذَلِكَ وعمل أولاده بذَلِكَ كَانَ سبباً لحصول الأجر من الله وسبباً لبرهم به ودعائهم لَهُ إِذَا ذكروا ذَلِكَ منه ولعله أن يكون سبباً مباركاً يعمل به أولاده مَعَ أولادهم فيزيد الأجَر لَهُ ولهم نسأل الله أن يوفق الجَمِيعَ لحسن النِّيةِ أنه القادر عَلَى ذلك.

فصل في النصيحة مرتان

ولم أَرَى لِلْخَلائِقِ مِنْ مُرَبٍ ... كَعِلْمِ الشَّرعِ يُؤْخَذُ عن ثِقَاتِ بِبَيْتِ اللهِ مَدْرَسَةٍ الأوَالِي ... لِمَنْ يَهْوَى العُلُومَ الرَّاقِيَاتِ (فَصْلٌ) النَّصِيحَة مرتان: فالأولي فرض وديانة، وَالثَّانِيَة تنبيه وتذكير، وأما الثالثة فتوبيخ وتقريع إن أمكن ولم يحصل عَلَيْكَ ضرر، والنصح سراً لا جهراً وبتعريض لا تصريح إلا أن لا يفهم المنصوح تعريضك فلابد من التصريح، ولا تنصح عَلَى شرط القبول منك فإن تعديت فأَنْتَ مخطئ. من أردت قضاء حاجته بعد أن سألك إياها أو أردت ابتداءه بقضائها فلا تعمل إلا ما يريده هُوَ لا ما تريده أَنْتَ وإلا فأمسك فإن تعديت هَذَا كنت مسيئاً لا محسناً. لا تنقل إلي صَدِيقكَ ما يؤلم نَفْسَهُ ولا ينتفع بمعرفته ولا تكتمه ما يستضر بجهله ولا يسرك أن تمدح بما لَيْسَ فيك لأنَّ نقصك ينبه النَّاس عَلَيْهِ بل الَّذِي ينبغي لك غمك بذَلِكَ وقديماً قيل: وَمَدْحُكَ الشَّخْصَ بِالأخلاق يَعْدمُهَا ... لِلْحُرِ ذِي اللُّبِ تَبْكِيْتٌ وتَخْجِيْلٌ ما شَيء أضيع وأضعف من عَالم ترك النَّاس علمه لفساد طريقته، وما شَيء أضيع وأضعف من جاهل أخذ النَّاس بجهله لنظرهم إلي عبادته. وروي أن عمر أتي بشاهد عنده فَقَالَ لَهُ ائتني بمن يعرفك فأتاه برجل فأثني عَلَيْهِ خيراً، فَقَالَ لَهُ عمر أَنْتَ جاره الأدني الَّذِي يعرف مدخله ومخرجه. قال لا قال فكنت رفيقه فِي السفر الَّذِي يستدل به عَلَى مكارم الأخلاق، قال لا قال فعاملته بالدرهم والدينار، قال لا. قال أظنك رأيته قائماًً فِي المسجد يهمهم بالقرآن يخفض رأسه طوراً ويرفعه أخري. قال نعم قال اذهب فلست تعرفه ثُمَّ قال للرجل اذهب فأتني بمن يعرفك.

من علامَات الاستدراج العمي عن العيوب وصرف نعم الله فِي معاصيه وخَيْر الرزق ما سلَم من الإثم فِي الاكتساب والغش فِي الصناعة والسلامة من أثمان المحركات كالمسكرات والدخان والتليفزيون والفيديو والكورة الورق التي يستعملها سخفاء العقول والبعيدون عَنِ الدين، أراح الله المُسْلِمِيْنَ منها وَمِنْهُمْ وَجَمِيع آلات المعاصي والملاهي والسلامة من الربا بجَمِيع أنواعه. من شغله طلب الدُّنْيَا عَنِ الآخرة ذل، إما فِي الدُّنْيَا وإما فِي الآخرة، ومن نظر فِي سير السَّلَف عرف تقصيره وتخلفه عن درجات الرجال. للإنسان المفرط موقفان يندم الإنسان فيهما عَلَى ضياع الوَقْت ندامة عظيمة حيث لا ينفع الندم، ولا يفيد التأسف والحزن. الأول: ساعة الاحتضار حين يستدبر الإنسان الدُّنْيَا ويستقبل الآخرة ويتمني لَوْ أمهل برهة من الزمن ليتلافِي ويصلح ما أفسد وهيهات. قال تعالى {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} . والجواب عَلَى السؤال الَّذِي قَدْ فات أوانه {وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} . الموقف الثاني: فِي الآخرة قال تعالى {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} . الآيات. وَقَالَ تعالى {وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ * وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ * وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} . وَقَالَ تعالى {وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآيات. وَقَالَ تعالى {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ} . قال بعض العلماء: أفضل البُكَاء بُكَاء الْعَبْد عَلَى ما سلف من ذنوبه

ومعاصيه وعَلَى ما فات من أوقاته فِي غَيْر طاعة الله جَلَّ وَعَلا وَقَالَ إنما يخاف المُؤْمِن الموت لخوفه من الذُّنُوب والانقطاع عَن الأعمال الصَّالِحَة من ذكر الله وما والاه مِنْ جَمِيعِ أفعال الطاعات والقربات وإلا فأحب شَيء إليه لقاء ربه جَلَّ وَعَلا الواجب عَلَى الإنسان العاقل أن يحافظ عَلَى وقته أكثر من محافظته عَلَى ماله وأن يحرص عَلَى الاستفادة منه فيما ينفعه ويقربه إلي الله عز وجل. ولَقَدْ كَانَ السَّلَف أحرص ما يكونون عَلَى أوقاتهم لأنَّهُمْ يعرفون قيمتها ولذَلِكَ يَقُولُ الحسن البصري: أدركت أقواماً كَانُوا عَلَى أوقاتهم أشد منكمْ حرصاً عَلَى دراهمكم ودنانيركم. وَقَالَ يا ابن آدم إنما أَنْتَ أيام مجموعة كُلَّما ذهب يوم ذهب بعضك. وَقَالَ آخر: الوَقْت إِذَا فات لا يستدرك ولا شَيء أعز منه. وكَانُوا يحرصون كُلّ الحرص إلا يمرَّ زمن ولَوْ يسيراً دون أن يتزود فِيه بعمل صالح أو علم نافع أو مجاهدة للنفس أو إيصال نفع إلي قريب أو بعيد. وَقَالَ ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عنهُ: ما ندمت عَلَى شَيء ندمي عَلَى يوم غربت شمسه نقص فِيه أجلي ولم يزدد فِيه عملي. وَقَالَ آخر: كُلّ يوم يمر بي لا أزداد فِيه عِلماً يقربني من الله عَزَّ وَجَلَّ فلا بورك فِي طلوع شمس ذَلِكَ إليوم. إِذَا مر بي يوم ولم أقتبس هدي ... ولم أستفد عِلماً فما ذاك من عمري من جهل قيمة الوَقْت الآن فسيأتي عَلَيْهِ يوم يعرف فِيه قيمة الوَقْت ولكن بعد فوات الأوان ويتمني أنه شغل وقته الماضي بالباقيات الصالحات من تسبيح وتحميد وتهليل وتكبير وقراءة لكتاب الله وصلاة وصيام وزكاة وحج وبر وصلة رحم ونحو ذَلِكَ مِمَّا يجده موفراً أحوج ما يكون إليه. إِذَا أَنْتَ لم تزرع وأبصرت زارعاً ... ندمت عَلَى التفريط فِي زمن البذر قيل لأحد العلماء: ما بال كتب السَّلَف وكلامهم ومواعظهم أنفع من كلامنا وكتبنا ومواعظنا، قال: لأنَّهُمْ يتكلمون لعز الإسلام ونفع المُسْلِمِيْنَ ورضا الرحمن وإِزَالَة ما يضر الإسلام والمُسْلِمِيْنَ.

ونَحْنُ نتكلم لعز النفس وطلب الدُّنْيَا وقبول الخلق والشهرة والظهور والتصنع والرياء وطلب المدح والثناء. قال أبو بكر الصديق رَضِيَ اللهُ عنهُ: اتق الله بطاعته وأطلع الله بتقواه ولتخفْ يداك من دماء المُسْلِمِيْنَ وبطنك من أموالهم ولسانك من أعراضهم وحاسب نفسك فِي كُلّ خطوة وراقب الله فِي كُلّ نفس. وَاللهُ أَعْلم. (فَصْلٌ) وَقَالَ ابن القيم: دافع الخطرة فإن لم تفعل صَارَت شهوة فإن لم تفعل صَارَت عزيمة وهمة فإن لم تدافعها صَارَت فعلاً فإن لم تداركه بصده صار عادة فيصعب عَلَيْكَ الانتقال عنها. واعْلم أن كُلّ علم اختياري هُوَ الخواطر والأفكار فإنها توجب التصورات والتصورات تدعو إلي الإرادات والإرادات تقتضي وقوع الْفِعْل وكثرة تكراره تعطي العادة. فصلاح هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار وفسادها بفسادها وصلاح الخواطر بأن تَكُون مُرَاقَبَة لوليها وإلاهها صاعدة إليه دائرة عَلَى مرضاته ومحابه فإنه سُبْحَانَهُ به كُلّ صلاح ومن عنده كُلّ هدي ومن توفيقه كُلّ رشد ومن توليه لعبده كُلّ حفظ ومن تولي الْعَبْد عنْه وإعراضه عنهُ كُلّ ضلال وشقاء. واعْلم أن الخطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها إلي الفكر فيأخذها الفكر فيؤديها إلي التذكر فيأخذها التذكر فيؤديها إلي الإرادة فتأخذها الإرادة فتؤديها إلي الجوارح والْعَمَل فتستحكم فتصير عادة فردها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها. ومعلوم أن الإنسان لم يعط إماتة الخواطر ولا القوة عَلَى قطعها فإنها تهجم عَلَيْهِ هجوم النفس إلا أن قوة الإيمان والعقل تعينه عَلَى قبول أحسنها ورضاه به وساكنته لَهُ وعَلَى دفع أقبحها وكراهته لَهُ ونفرته منه.

وقَدْ خلق الله النفس شبيهة بالرحي الدائرة التي لا تسكن ولابد لها من شَيْء تطحنه فإن وضع فيها حب طحنته وإن وضع فيها تراب أو حصي طحنته فالخواطر والأفكار التي تجول فِي النفس هِيَ بمنزلة الحب الَّذِي يوضع فِي الرحي ولا تبقي تلك الرحي معطلة قط بل لابد لها من شَيْء يوضع فيها. فمن النَّاس من تطحن رحاه حباً يخرج دقيقاً ينفع به نَفْسَهُ وغيره وأكثرهم يطحن رملاً وحصي وتبناً ونحو ذَلِكَ فإِذَا جَاءَ وَقْت العجن والخبز تبين لَهُ حَقِيقَة طحينه أهـ قُلْتُ وبَعْضهمْ من يطحن برحاه نجاسات كالزناة واللوطية واللصوص وأَهْل الملاهي وَجَمِيع الفسقة. وَقَالَ ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عنهُ ارض بما قسم الله لك تكن من أغني النَّاس واجتنب ما حرم الله عَلَيْكَ تكن من أورع النَّاس وأد ما افترض الله عَلَيْكَ تكن من أعبد الناس. وَقَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: لله سُبْحَانَهُ عَلَى كُلّ أحد عبودية بحسب مرتبته سوي العبودية العامة التي سوي بين عباده فيها. فعَلَى العَالم من عبودية نشر السنة والعلم الَّذِي بعث الله به رسوله ? ما لَيْسَ عَلَى الجاهل وعَلَيْهِ عبودية الصبر عَلَى ذَلِكَ ما لَيْسَ عَلَى غيره. وعَلَى الحاكم من عبودية إقامة الحق وتنفيذه وإلزامه من هُوَ عَلَيْهِ به والصبر عَلَى ذَلِكَ والجهاد عَلَيْهِ ما لَيْسَ عَلَى المفتي وعَلَى الغني من عبودية أداء الحقوق التي فِي ماله ما لَيْسَ عَلَى الفقير. وعَلَى القادر عَلَى الأمر بالمعروف والنهي عن الْمُنْكَر بيده ولِسَانه ما لَيْسَ عَلَى العاجز عنهما. وقَدْ غر إبلَيْسُ كثيراً من الخلق بأن زين لهُمْ الاقتصار عَلَى القيام بنوع من الذكر والقراءة والصَّلاة والصيام والزهد فِي الدُّنْيَا والانقطاع عن الاختلاط بِالنَّاسِ وعطلوا القيام بالعبوديات المتعدي نفعها المتقدم ذكرها. وإِذَا قُلْتُ لأحدهم كيف حالك قال بخَيْر وسرور وأي خَيْر وسرور فيمن

يري محارم الله تنتهك وحدوده تضاع والمنكرات والملاهي فِي البيوت والأسواق وَهُوَ بارد الْقَلْب مداهن ساكت لا يشعر بهَذَا النقص العَظِيم وعِنْدَ نقوص الدُّنْيَا يشتغل قَلْبهُ ولِسَانه وجسده ولله در القائل: مَا لِي أَرَى النَّاسَ والدُّنْيَا مُوَلّيَةٌ ... وَكُلَّ جَمْعِ عَلَيْهَا سَوْفَ يَنْتَثِرُ لاَ يَشْعُرُونَ إِذَا مَا دِيْنَهُمْ نُقِصُوْا ... يَوْمَاً وَإِنْ نُقِصَتْ دُنْيَاهُمُ شَعِرُوْا آخر: ... وعِنْدَ مُرَادِ اللهِ تَفْنَى كَمَيْتٍ ... وعِنْدَ مُرَادِ النَّفْسِ تُسْدِيْ وتُلْحِمُ آخر: ... تَرَاهُ يَشْفَقُ مِنْ تَضْيِيْعِ دِرْهَمِهِ ... ولَيْسَ يَشْفْقُ مِنْ دِيْنٍ يُضْيِعُهُ آخر: ... تُفَكِرُ فِي نُقْصًانِ مَالُكَ دَائِماً ... وَتَغْفَلُ عن نُقْصَانِ دِيّنِكَ والعُمْرِ ويُلْهِيكَ خَوْفُ الفَقْرِ عن كُلِّ طَاعَةٍ ... وَخِيْفَةُ حَالِ الفَقْرِ شَرٌ مِنَ الفَقْرِ قال بعض العلماء: الزم الأدب وفارق الهَوَى والْغَضَب واعمل فِي أسباب التيقظ واتخذ الرفق حزباً والتأنيَ صاحبات والسلامة كهفاً والفراغ غنيمةً والدُّنْيَا مطيَّةً والآخرةَ منزلاً. شِعْراً: وأَصْبَحْتُ فِي مَا كُنْتَ أبْغْيَ مِنْ الغِنَى ... إلي الزهد فِي الدُّنْيَا الدنية أحوجا وحَسَّبْتُ نَفْسِي بَيْنَ بَيْتِي وَمَسْجِدِي ... وَقَدْ صِرْتُ مِثْلَ النَّسْرِ أهْوَى التَّعَرُجَا وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصَرِيَّ: إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْ لِلْمُؤْمِن راحة دون الجنة. وَقَالَ فضيل لَيْسَ الغريب من يمشي من بلد إلي بلد ولكن الغريب صالح بين فساق قُلْتُ: لَيْسَ الغَرِيبُ غَرِيْبُ الشَامِ واليَمَنِ ... إِنّ الغَرِيْبَ تَقِيُّ بَيْنَ فُسَّاقِ وَقَالَ آخر: احذر الغَفْلَة ومخاتل الْعَدُو وطربات الهَوَى وأماني النفس وضراوة الشهوة قال ابن القيم واعْلم أن الصبر عَلَى الشهوة أسهل من الصبر عَلَى ما توجبه الشهوة. فإن الشهوة إما أن تَكُون توجب أَلَمًا وعقوبة. وإما أن تقطع لذة أكمل منها. وإما أن تضيع وقتاً إضاعته حَسْرَة وندامة.

وإما أن تثلم عرضاً توفيره أنفع للعبد من ثلمه. وإما أن تذهب مالاً بقاؤه خيرٌ من ذهابه. وإما تضع قدراً وجاهاً قيامه خَيْرٌ من وضعه. وإما أن تسلب نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة. وإما أن تطرق لوضيع إليك طريقاً لم يكن يجدها من قبل. وإما أن تجلب هماً وغماً وحزناً وخوفاً لا يقارب لذة الشهوة. وإما أن تنسي عِلماً ذكره ألذ من نيل الشهوة. وإما أن تشمت عدواً وتحزن ولياً. وإما أن تقطع الطَرِيق عَلَى نعمة مقبلة. وإما أن تحدث عيباً يبقي صفة لا تزول، فإن الأعمال تورث الصفات والأخلاق أهـ. وَقَالَ المحاسبي رَحِمَهُ اللهُ: اطلب آثار من زاده العلم خشية والْعَمَل بصيرة والعقل معرفة. واعْلم أن فِي كُلّ فكرة أدباً وفِي كُلّ إشارة عِلماً وإنما يميز ذَلِكَ من فهم عَن الله مراده وجني فَوَائِد اليقين من خطابه وعلامة ذَلِكَ فِي الصادق إِذَا نظر اعتبر وإِذَا صمت تفكر. وإِذَا تكلم ذكر وإِذَا منع صبر وإِذَا أعطي شكر وإِذَا ابتلي استرجع وإِذَا جُهِلَ عَلَيْهِ حلَم وإِذَا علم تواضع وإِذَا علم رفق وإِذَا سئل بذل. شفاء للقاصد وعون للمسترشد حليف صدق وكهف بر قريب الرِّضَا فِي حق نَفْسه بعيد الهمة فِي حق الله تعالى نيته أفضل من عمله وعمله أبلغ من قوله. موطنه الحق ومعقله الحياء ومعلومه الورع وشاهده الثِّقَة لَهُ بصائر من النور يبصر بِهَا وحقائق من العلم ينطق بِهَا ودلائل من اليقين يعبر عنها. يحسبه الجاهل صميتاً عيياً وحكمته أصمتته ويحسبه الأحمق مهذاراً والنَّصِيحَة لله أنطقته ويحسبه الجاهل غنياً والتعفف أغناه ويحسبه فقيراً والتواضع أدناه.

لا يتعرض لما لا يعنيه ولا يتكلف فوق ما يكفِيه ولا يأخذ ما لَيْسَ بمحتاج إليه ولا إليه ولا يدع ما وكل بحفظه النَّاس منه فِي راحة وَهُوَ من نَفْسهِ فِي تعب قَدْ أمَاتَ بالورع حرصه وحسم بالتقي طعمه وأمَاتَ بنور العلم شهواته. فهكَذَا فكن ولمثل هؤلاء فاصحب ولآثارهم فاتبع وبأخلاقهم فتأدب واعْلم وسع الله بالفهم قلبك وأنار بالعلم صدرك وجمَعَ باليقين همك أني وجدت كُلّ بَلاء داخل عَلَى الْقَلْب من نتاج الفضول وأصل ذَلِكَ الدخول فِي الدُّنْيَا بالجهل ونسيان المعاد بعد العلم. والنجاة من ذَلِكَ ترك كُلّ مجهول فِي الورع وأخذ كُلّ معلوم فِي اليقين أهـ. وإِذَا اشتبه عَلَيْكَ أمر من الأمور أو خفيت عَلَيْكَ قضية فارجع إلي اْلكِتَاب والسنة ولا تحتكم فيها إلي العقل لأنه يقوي ويضعف أهـ ويتأثر بالمؤثرات. قال ابن المبارك: الْقَلْب مثل المرآة إِذَا طالت صدئت وكالدابة إِذَا غفل عنهَا عدلت عن الطريق. وَقَالَ أحد الحكماء: الْقَلْب مثل بيت لَهُ ستة أبواب ثُمَّ قيل احذر ألا يدخل عَلَيْكَ من أحد الأبواب شَيْء فيفسد عَلَيْكَ البيت. والأبواب هِيَ العينان واللسان والسمع والبصر واليدان والرجلان فمتي انفتح باب من هذه الأبواب بغَيْر علمٍ ضاع البيت. وفرض اللسان الصدق فِي الرِّضَا والْغَضَب وكف الأذي. وفرض البصر الغض عَن المحارم وترك التطلع فيما حجب وستر. وفرض السمع تبع للكلام والنظر فكل ما لا يحل لك الكلام فِيه والنظر إليه فلا يحل لك استماعه ولا التلذذ به والبحث عما كتم عنكَ تجسس. وسماع اللهو والغناء وأذي المُسْلِمِيْنَ حرام كالميتة، سئل القاسم عن سماع الغناء فَقَالَ: إِذَا ميز الله بين الحق والْبَاطِل يوم القيامة أين يقع الغناء قيل فِي حوز الْبَاطِل قال فأفت نفسك.

وفرض اليدين والرجلين أن يكفهما ولا يبسطهما إلي محرم ولا يقبضهما عن حق وفرض الأنف أن لا يشم ما لا يجوز لَهُ شمه. قُلْتُ وقَدْ ترك باباً وَهُوَ أهمها وأخطرها وَهُوَ الفرج وفرضه حفظه عما عدا الزوجة والمملوكة قال تعالى {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} . واعْلم أن أنجي الطَرِيق الْعَمَل بالعلم والتحرز بالخوف والغني بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ فاشتغل بإصلاح حالك وافتقر إلي ربك وتنزه عَن الشبهات وأقلل حوائجك إلي النَّاس فإن كثير الحاجات مملول عنْدَ القريب والبعيد. لاَ تَسْأَلَنَّ إِلى صَدِيْقٍ حَاجَةً ... فَيَحُولُ عنكَ كَمَا الزَمَانُ يَحُولُ وَاسْتَغْنَ بِالشَيْءِ القَلْيِلِ فَإِنَّهُ ... مَا صَانَ عِرْضَكَ لاَ يُقَالُ قَلِيْلُ مَنْ عَفَّ خَفَّ عَلَى الصَّدِيْقِ لِقَاؤُهُ ... وَأَخُو الحَوَائِجِ وَجْهَهُ مَمْلُوْلُ وَأَخُوكَ مَنْ وَفَرْتَ مَا فِي كَفِهِ ... وَمَتَى عَلِقْتَ بِهِ فَأَنْتَ ثَقْيِلُ قيل لأحد الفقراء: ما أفقرك؟ فَقَالَ: لَوْ عرفت راحة الفقر لشغلك التوجع لنفسك عَن التوجع لي فالفقر ملك ما عَلَيْهِ محاسبة وقيل لَهُ لما لا يري أثر الحزن عَلَيْكَ فَقَالَ لأنني لم أتخذ شيئاً يحزنني فقده. وَقَالَ بعض الحكماء: من أحب أن تقل همومه ومصائبه فليقلل قنيته للخارجات من يده لأن أسباب الهم فوت المطلوب أو فقد المحبوب ولا يسلم مِنْهُمَا إنسان قال الشاعر: ومن سره أن لا يري ما يسوؤه ... فلا يتخذ شيئاً يخاف لَهُ فقداً وذكر أنه لما غرقت البصرة أخذ النَّاس يستغيثون لإخراج أموالهم فخرج الحسن رَضِيَ اللهُ عنهُ ومعه قصعته وعصاه فَقَالَ نجا المخفون وقيل لأحد الزهاد أترضي من الدُّنْيَا بهذه الحال فَقَالَ إلا أدلك عَلَى من رضي بدون هَذَا قال نعم قال من رضي بالدُّنْيَا بدلاً من الآخرة. وقيل لمُحَمَّد بن واسع رَحِمَهُ اللهُ أترضي بالدون فَقَالَ: إنما رضي بالدون من رضي بالدُّنْيَا بدلاً من الآخرة. وَقَالَ زاهد لملك أَنْتَ عبد عبدي لأنك

تعبد الدُّنْيَا لرغبتك فيها وأنَا مولاها لرغبتي عنهَا وزهدي فيها. شعراً: أَنْتَ الأمِيْرُ عَلَى الدُّنْيَا لِزُهْدِكَ فِي ... حُطَامِهَا وَطَرِيْقُ الحَقِ مَسْلُوْكُ وأَنْتَ عَبْدُ لَهَا مَا دُمْتَ تَعْشَقُهَا ... إِنَّ المُحِبَّ لِمَنْ يَهْوَاهُ مَمْلُوْكُ آخر: ... أرَي الدُّنْيَا لِمَنْ هِيَ فِي يَدَيْهِ ... عَذَاباً كُلَّمَا كَثُرَتْ لَدَيْهِ تُهِيْنُ المُكْرِمِيْنَ لَهَا بِصُغْرٍ ... وَتُكْرِمُ كُلَّ مَنْ هَانَتْ عَلَيْهِ إِذَا اسْتَغْنَيْتَ عن شَيءٍ فَدَعْهُ ... وَخُذْ مَا أَنْتَ مُحْتَاجٌ إِليْهِ آخر: ... أَرَى أَشْقِيَاءَ النَّاسِ لاَ يَسْأَمُوْنَهَا ... عَلَى أنَّهُمْ فِيها عُرَاةٌ وَجُوَّعُ أَرَاهَا وَإِنْ كَانَتْ تُحِبُّ كَأَنَّهَا ... سَحَابَةُ صَيْفٍ عن قَلِيْلٍ تَقَشَّعُ وَقَالَ مالك بن أنس: كنا عنْدَ جعفر بن مُحَمَّد فدخل سفيان الثوري فَقَالَ لَهُ حدثني رَحِمَكَ اللهُ فَقَالَ يا أبا عَبْد اللهِ أكثر من الْحَدِيث أعلمك ثلاثاً خَيْر لك من مال كثير يا سفيان إِذَا أنعم الله عَلَيْكَ نعمة فأكثر من الحمد لله فإن الله تعالى يَقُولُ {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} . وإِذَا قُلْتُ نفقتك فعَلَيْكَ بالاستغفار فإنه يزيدك من الْمَال والولد والنعمة قال الله تعالى {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} وإِذَا اشتد بك الكرب فعَلَيْكَ بلا حول ولا قوة إلا بِاللهِ فإنها كنز من كنوز الْجَنَّة فجعل سفيان يقولها ويعدها فِي يده ثلاثاً. وَقَالَ رجل لعمر بن عَبْد الْعَزِيز عَلَيْكَ بما يبقي لك عِنْدَ الله فإنه لا يبقي لك ما عِنْدَ النَّاس فبلغ ذَلِكَ الزهري فَقَالَ لَقَدْ وعظه بالتوراة والإنجيل والفرقان. من أصعب الأشْيَاءِ عَلَى الإنسان معرفته بعيوبه والإمساك عن الدخول فيما لا يعنيه. قُلْتُ والغيبة والكذب والرياء. مِمَّا يجب الابتعاد عنهُ والتحذير منه مُجَالَسَة أَهْل الفساد لأنه يعلق

بالإنسان من مجالستهم والاتصال بِهُمْ أضعاف ما يعلق به من مُجَالَسَة العقلاء لأن الفساد أشد التحاماً بالطباع والنفس والشيطان يساعدان عَلَى ذلك. وَمَا يَنْفَعُ الجَرْبَاءَ قُرْبُ صَحِيْحَةٍ ... إِليْهَا وَلَكِنَّ الصَّحِيْحَةَ تُجْرَبُ العاقل حَقِيقَة هُوَ من آثرالطاعة عَلَى المعصية وآثر العلم عَلَى الجهل وآثر الدين عَلَى الدُّنْيَا وكف أذَاه عَن النَّاس والعَالم حَقِيقَة هُوَ من خشي الله تعالى وعمل بما علم. قال تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} . (فائدة) إحالة الأعمال الصَّالِحَة إلي وجود الفراغ من أمور الدُّنْيَا من الحمق لوجوه منها إيثار الدُّنْيَا عَلَى الآخرة والله يَقُولُ {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} . والثاني: أن تسويف الْعَمَل إلي أوان فراغه دَلِيل عَلَى جهل الإنسان وغباوته لأنه قَدْ لا يجد مهلة فربما اختطفه الموت قبل ذَلِكَ وَرُبَّمَا يزداد شغله لأن أشغال الدُّنْيَا يجذب بعضها بعضاً ولا تنتهي غالباً إلا بالموت. قال الشاعر: وَمَا قَضَى أَحَدٌ مِنْهَا لُبَانَتَهُ ... وَلاَ انْتَهَى أَرَبٌ إلا إِلى أَرَبَ فالواجب عَلَى الإنسان المبادرة إلي الأعمال الصَّالِحَة عَلَى أي حال كَانَ وأن ينتهز فرصة الإمكَان قبل مفاجأة هادم اللذات وأن يتوكل عَلَى الله ويطلب منه العون فِي تيسيرها إليه وصرف الموانع الحائلة. قال الشاعر عَلَى اغتتام الوَقْت: وَخُذْ مِنْ قَرِيْبٍ وَاسْتَجِبْ وَاجْتَنِبْ غَداً ... وَشَمِرْ عن السَّاقِ إِجْتِهَاداً بِنَهْضَة وَكُنْ صَارِماً كَالوَقْتِ فَالمَقْتُ فِي عَسَى ... وَإِيَّاكَ مَهْلاً فَهْيَ أخْطَرُ عِلَّةِ وَسِرْ زَمِناً وَانْهَضْ كَسِيْراً فَحَظَّكَ الْـ ... بَطَالَةُ مَا أَخَّرْتَ عَزْماً لِصِحَّةِ وَجُذّ بِسَيْفِ العَزْمِ سَوْفَ فَإِنْ تَجِدْ ... تَجْدْ نَفْساً فَالنَفْسُ إِنْ جُدْتَ جَدَّتِ

فصل من وصايا أبي حنيفة

قال الفضيل بن عياض: لَوْ أن أَهْل العلم أكرموا أنفسهم وشحُّوا عَلَى دينهم وأعزوا العلم وصانوه وأنزلوه حيث أنرله الله لخضعت لهم رقاب الجبابرة وانقاد لهم الناس وكانوا لهم تبعاً وعز الإسلام وأهله، ولكنهم أذلوا أنفسهم ولم يبالوا بما نقص من دينهم إذا سلمت لهم دنياهم فبذلوا علمهم لأبناء الدنيا ليصيبوا بذلك ما في أيدي الناس فذلوا وهانوا عَلَى الناس. انتهي. وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ العِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ ... ولَوْ عَظّمُوهُ فِي النُّفُوسِ لَعُظّمَا وَلَكِنْ أَهَانُوْهُ فَهَانُوْا وَدَنَّسُوْا ... مُحَيَّاهُ بِالأطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا فَإِنْ قُلْتُ زَنْدَ العِلْمِ كَابٍ فَإِنَمَا ... كَبَى حَيْثُ لم تُمْحَ حِمَاهُ وأَظْلَمَا آخر: ... اعْمَلْ بِعِلْمِكَ تَغْنَمْ أيُّهَا الرَّجُلُ ... لاَ يَنْفَعُ العِلْمُ إِنْ يَحْسُنِ العَمَلُ والعِلْمُ زَيْنٌ وَتْقوى اللهِ زِينَتُهُ ... والمُتَّقُونَ لَهُمْ فِي عِلْمِهِمْ شُغُلُ وحُجَّةُ اللهِ يَاذَا العِلْمِ بَالِغَةٌ ... لاَ المَكْرُ يَنْفَعُ فِيها لاَ وَلاَ الحِيَلُ تَعَلَّمِ العِلْمَ واعْمَلْ مَا اسْتَطَعْتَ بِهِ ... لاَ يُلْهِيَنَّكَ عَتَهُ اللَّهْوُ والجَذَلُ وعَلَّمَ النَّاسَ واقْصِدْ نَفْعَهُمْ أبَدَاً ... إِيَّاكَ إِيَّاكَ أَنْ يَعْتَادَكَ المَلَلُ وَعِظْ أَخَاكَ بِرِفْقٍ عِنْدَ زَلَّتِهِ ... فَالرِّفْقُ يَعْطِفُ مَنْ يَعْتَادُهُ الزَّلَلُ وَإِنْ تَكُنْ بَيْنَ قَوْمٍ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ ... فَأمُرْ عَلَيْهِمْ بِمَعْروفٍ إِذَا جَهِلُوْا فَإِنْ عَصَوْكَ فَراجِعْهُمْ بِلاَ ضَجَرِ ... واصْبِرْ وَصَابِرْ وَلاَ يَحْزُنْكَ مَا فَعَلُوْا فَكُلُّ شَاةٍ بِرِجْلَيْهَا مُعَلَّقَةٌ ... عَلَيْكَ نَفْسَكَ إِنْ جَارُوْا وَإِنْ عَدَلُوْا والحمد لله رب العالمين، وصلواته عَلَى سيدنا مُحَمَّد خاتم النبيين، وآله الطاهرين. (فَصْلٌ) ومن وصايا أبي حنيفة لأبي يوسف: لا تتكلم بين يدي العامة إلا بما تسأل عنهُ، قُلْتُ أو (فيما يعود عَلَيْهمْ بما ينفعهم وإنْ لم يسألوا) . ولا تكثر الْخُرُوج إلي السوق ولا تكلم المراهقين فَإنَّهُمْ فتنة (قُلْتُ إلا لضرورة أو حاجة) .

ولا تمش فِي قارعة الطَرِيق مَعَ المشايخ والعامة فإنك إن قدمتهم ازدري بعلمك وإن أخرتهم ازدري بك من حيث أنَّهُمْ أسن منك. قال النَّبِيّ ?: " من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا فلَيْسَ منا ". ولا تقعد عَلَى قوارع الطَرِيق فإن دعاك ذَلِكَ فاقعد فِي المسجد. ولا تأكل فِي الأسواق والمساجد قُلْتُ إلا لضرورة أو حاجة. ولا ترض لنفسك من العبادات إلا بأكثر مِمَّا يفعله غيرك وتعاطاها فإن العامة إِذَا لم يروا الإقبال عَلَيْهَا أكثر مِمَّا يفعلون اعتقدوا فيك قلة الرغبة واعتقدوا أن علمك لا ينفعك إلا ما نفعهم الجهل الَّذِي هم فيه. وإِذَا دخلت بلدة فيها أَهْل العلم فلا تتخذها لنفسك بل كن كواحد من أهلها ليعلموا أنك لا تقصد جاههم ولا يخرجون عَلَيْكَ بأجمعهم ويطعنون فِي مذهبك وتصير مطعوناً عندهم بلا فائدة. وإن استفتوك فلا تناقشهم فِي المناظرة والمطارحات. ولا تذكر لهُمْ شيئاً إلا عن دَلِيل واضح. ولا تطعن فِي أساتذتهم فَإنَّهُمْ يطعنون فيك. قُلْتُ إلا أن يكونوا مبتدعين كالأشاعرة فيحذر عنهم. وكن من النَّاس عَلَى حذر. وكن لله تعالى فِي سرك كما أَنْتَ لَهُ فِي علانيتك. ولا يصلح أمر العلم إلا بعد أن يجعل سره كعلانيته. وإِذَا أولاك السُّلْطَان عملاً فلا تقبل ذَلِكَ منه إلا بعد أن تعلمَ أنه إنما يوليك ذَلِكَ لعلمك. وَإِيَّاكَ أن تتكلم فِي مجلس النظر عَلَى خوف، فإن ذَلِكَ يورث الخلل فِي الألفاظ، والكلل فِي اللسان. وَإِيَّاكَ أن تكثر الضحك، فإنه يميت القلب.

ولا تمش إلا عَلَى طمأنينة. قُلْتُ لقول الله تعالى {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} . ولا تكن عجولاً فِي الأمور قُلْتُ إلا فيما حث الشارع عَلَى الإسراع والمبادرة فيه. وإِذَا تكلمت فلا تكثر التصويت، ولا ترفع صوتك. قُلْتُ لأنه يدل عَلَى قلة العقل قال الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} . واتخذ لنفسك السكون وقلة الحركة، ليتحقق عِنْدَ النَّاس ثباتك. ولأنه يدل عَلَى رزانة العقل. وأكثر من ذكر الله تعالى فيما بين النَّاس، ليتعلموا ذَلِكَ منك. قُلْتُ وليكون لَهُ مثل أجورهم لحديث من دل عَلَى خَيْر فله مثل أجر فاعله. واتخذ لنفسك ورداً خلف الصلوات تقَرَأَ فِيه القرآن، وتذكر الله تعالى وتحمده وتشكره. واتخذ أياماً معدودة من كُلّ شهر تصوم فيها ليقتدي بك غيرك. ولا تطمئن إلي دنياك وإلي ما أَنْتَ فِيه فإن الله سائلك عن جَمِيع ذلك. وإِذَا عرفت إنسانَاً بالشر فلا تذكره به بل اطلب منه خيراً فاذكره به. إلا فِي باب الدين فإنك إن عرفت فِي دينه ذَلِكَ فاذكره للناس كي لا يتبعوه وليحذروه، قال عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام "اذكروا الفاجر بما فِيه حتي يحذره الناس" وإن كَانَ ذا جاه ومنزلة فاذكر ذَلِكَ ولا تبال من جاهه فإن الله تعالى معينك وناصرك وناصر الدين. فإن فعلت ذَلِكَ مرة هابوك ولم يتجاسر أحد عَلَى إظهار البدعة فِي الدين. ولا تجالس أَحَداً من أَهْل الأهواء إلا عَلَى سبيل الدعوة إلي الدين ولا تشاتم.

وإِذَا أذن المؤذن فتأهب لدخول المسجد لئلا تتقدم عَلَيْكَ العامة قُلْتُ بل للمبادرة إلي أداء الفريضة وليقتدي بك غيرك. ولا تتخذ دارك فِي جوار السلطان. وما رَأَيْت عَلَى جارك فاستره فإنه أمانة. ولا تظهر أسرار الناس. ومن استشارك فِي شَيء فأشر عَلَيْهِ بما يقربك إلي الله تعالى. وَإِيَّاكَ والبخل فإنه تنقص به المروءة ولا تكن طماعاً ولا كذاباً. قُلْتُ: ولا جاسوساً ولا غياباً ولا نماماً ولا غشاشاً. وأظهر غني الْقَلْب مظهراً فِي نفسك قلة الحرص والرغبة وأظهر من نفسك الغني ولا تظهر الفقر وإن كنت فقيراً. وكن ذا همة فإن من ضعفت همته ضعفت منزلته. وإِذَا مشيت مَعَ الطَرِيق فلا تتلفت يميناً ولا شمالاً بل داوم النظر فِي الأرض قُلْتُ: إلا لضرورة أو حاجة. ولا تماكس بالحبات والدوانق وحقر الدُّنْيَا المحقرة عِنْدَ أَهْل العلم (أي عِلماء الآخرة العاملون بعلمهم لا علماء الدنيا) . وول أمورك غيرك ليمكنك الإقبال عَلَى العلم وَإِيَّاكَ أن تكلم المجانين ومن لا يعرف المناظرة والحجة من أَهْل العلم والَّذِينَ يطلبون الجاه ويستغرقون بذكر المسائل فيما بين النَّاس فَإنَّهُمْ يطلبون تخجيلك ولا يبالون منك وإن عرفوك عَلَى الحق. وإِذَا دخلت عَلَى قوم كبار فلا ترتفع عَلَيْهمْ ما لم يرفعوك لئلا يلحق بك مِنْهُمْ أذية. وإِذَا كنت فِي قوم فلا تتقدم عَلَيْهمْ فِي الصَّلاة ما لم يقدموك عَلَى وجه التقدير. قُلْتُ إلا أن يكون أقرأهم لكتاب الله فيتقدم. وَاللهُ أَعْلم وصلي الله عَلَى مُحَمَّد.

(فَصْلٌ) صحبة أَهْل الصلاح تورث فِي الْقَلْب الصلاح وصحبة أَهْل الشر والفساد تورث فِي الْقَلْب الفساد. أخوك من عرفك العيوب وصَدِيقُكَ من حذرك من الذنوب. كَانَ بعض العلماء لا يدع أَحَداً يغتاب فِي مجلسه أَحَداً يَقُولُ إن ذكرتم الله أعَنَّاكُمْ وإن ذكرتم النَّاس تركناكم. وَقَالَ آخر: لا تكن ولياً لله فِي العلانية وعدوه فِي السر. وَقَالَ كُلّ ما شغلك عن الله عَزَّ وَجَلَّ من أَهْل ومال وولد فهو عَلَيْكَ شؤم. إِذَا كانت الآخرة بالْقَلْب جاءت الدُّنْيَا تزاحمها وإِذَا كانت الدُّنْيَا بالْقَلْب لم تزاحمها الآخرة لأنها كريمة فاجعل الآخرة فِي قلبك. ومن أعطاه الله فضلاً فِي دنيا فليحمد الله، وليكثر من شكره وذكره، ولا يفخرن به عَلَى أخيه، ولا يتداخله الكبر والعجب والتعاظم. وَقَالَ: لا تبدر منكم عِنْدَ الْغَضَب كلمة الفحش، فإنها تزيد العار والمنقصة، وتلحق بكم العيب والهجنة، وتجر عليكم المآثمَ والعقوبةَ. وَقَالَ خَيْر الملوك شرفاً من بدل سنة السُّوء فِي مملكته بالسنة الصَّالِحَة، وشرهم من بدل السنة الصَّالِحَة الحسنة بالسنة السوء. والدَلِيل عَلَى غريزة الجود السماحة عِنْدَ العسرة ومعني العسرة (الضيق والشدة) . والدَلِيل عَلَى غريزة الورع الصدق عِنْدَ السخط والبعد عن الشبهات ومواضع الريب والإكثار ومن ذكر الله وحمده وشكره والتفتيش عَلَى المآكل والمشارب والملابس ونحوها بدقة. والدَلِيل علي غريزة الحلمِ العفو عِنْدَ الغضب.

ومن أعظم النَّاس مصيبة من لم يكن لَهُ عقل ولا حكمة، ولا لَهُ فِي الأدب رغبة. شِعْراً: ... قَدْ مَضَى فِي اللَّهْوِ عُمْرِي ... وَتَنَاهِي فِيه أَمْرِي شَمَّرَ الأكيَاسُ وأَنَا ... وَاقِفٌ قَدْ شِيبَ أمْرِي بَانَ رِبْحُ النَّاسِ دُونِي ... ولِحِيْنِي بَانَ خُسْرِي لَيتَنِي أَقْبَلُ وَعْظِي ... لَيْتَنِي أَسْمَعُ زَجْرِي كُلَّ يَوْمٍ أَنَا رَهْنٌ ... بَيْنَ آثَامِي وَوِزْرِي لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَرِى لِيْ ... هِمَّةً فِي فَكِّ أسْرِي أَوْ أَرَى فِي ثَوْبِ صِدْقٍ ... قَبْلَ أَنْ أَنْزِلَ قَبْرِي وَيْحَ قَلْبِي مِنْ تَنَاسِيـ ... ـهِ مُقَامِي يَوْمَ حَشرِي واشْتِغَالِي مِنَ خَطَايَا ... أَثْقَلَتْ وَاللهِ ظَهْرِي اللَّهُمَّ ارحم عباداً غرهم طول إمهالك وأطعمهم دوام إفضالك ومدوا أيديهم إلي كرم نوالك وتيقنوا أن لا غني لهُمْ عن سؤالك وَجُدْ عَلَيْنَا وعَلَيْهمْ بِرَحْمَتِكَ الواسعة واغفر لنا ولهم وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ يا رب العالمين وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. " موعظة " عِبَادَ اللهِ أين الَّذِينَ سادوا وشادوا أوطانَاً، وحكموا وأحكموا بنيانَاً، وجمعوا فحشدوا أموإلا وأعوانَاً عوضوا بأرباح الهَوَى خسرانَاً، وبدلوا بإعزاز الكبر والتجبر هوانَاً وأخرجوا من ديارهم بعد الجموع وحدانَاً، وما استصحبوا مِمَّا جمعوا إلا أكفاناً. نَصِيْبُكِ مِمَّا تَجْمَع الدَّهْرَ كُلَّهُ ... رِدَآنِ تُطْوَى فِيه مَا وَحَنُوْطُ آخر: ... فَمَا تَزودَ مِمَّا كَانَ يَجْمَعُهُ ... سِوَى حَنُوطٍ غَدَاةَ البَيْنِ فِي خَرْقِ وغَيْر نِفْحَةِ أَعْوادٍ تَشْبُّ لَهُ ... وَقَلّ ذَلِكَ مِنْ زَادٍ لِمُنْطَلَقِ

العقبات التي يتدرج فيها الشيطان لإغراء العبد

يحملون عَلَى الأعناق ولا يسمون ركبانَاً، وينزلون بطون الإلحاد ولا يسمون ضيفانَاً، متقاربين فِي القبور ولا يسمون جيراناً. أو لَيْسَ قَدْ رأينا كيف ينقلون ولا كفانَا، فيا من قَدْ بقي من عمره القليل ولا يدري متي يقع الرحيل، كنك بطرفك حين الموت يسيل والروح تنزع والكرب ثقيل، والنقلة قَدْ قربت وأين المقيل، أفِي الْجَنَّة ونعيمها والسلسبيل أم فِي الجحيم وأنكالها وأغلالها وبئس المقيل. يا من تعد عَلَيْهِ أنفاسه استدركها، يا من ستفوته أيامه أدركها، إن أعز الخلق عَلَيْكَ نفسك فلا تهلكها كم أغلقت باباً عَلَى قبيح، وَكم أعرضت عن قول المخلص النصيح، أعظم الله أجرك فِي عمر قَدْ مضي ما رزقت فِيه العفو ولا الرضي. انقضت فِيه اللذات كمن قضي، وصَارَت الحسرات من الشهوات عوضاً، قال الله جَلَّ وَعَلا وتقدس {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} وَقَالَ جَلَّ وَعَلا {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} . اللَّهُمَّ نجنا بِرَحْمَتِكَ من النار وعافنا من دار الخزي والبوار وأدخلنا بِفَضْلِكَ الْجَنَّة دار القرار وعاملنا بكرمك وجودك يا كريم يا غفار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) وَقَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: [العقبات التي يتدرج منها الشيطان لإغواء الْعَبْد] " العقبة الأولى ": عقبة الكفر بِاللهِ ولقائه وبصفات كماله وبما أخبرت به رسله عنهُ، فإنه إن ظفر به فِي هذه العقبة بردت نار عداوته واستراح.

فإن اقتحم هذه العقبة ونجا منها ببصيرة الهداية وسلم معه نور الإيمان طلبه عَلَى: " العقبة الثانية ": وهي عقبة البدعة إما باعتقاد خلاف الحق الَّذِي أرسل الله به رسوله وأنزل به كتابه، وإما التعبد بما لم يأذن به الله، من الأوضاع والرسوم المحدثة فِي الدين التي لا يقبل الله منها شيئاً. والبدعتان فِي الغالب متلازمتان قل أن تنفك إحداهما عن الأخري، كما قال بَعْضهمْ: تزوجت بدعة الأقوال ببدعة الأعمال، فاشتغل الزوجان بالعرس فلم يفجأهم إلا وأولاد الزنا يعيشون فِي بلاد الإسلام، تضج مِنْهُمْ العباد والْبِلاد إلي الله تعالى. وَقَالَ شيخنا: تزوجت الحَقِيقَة الكافرة بالبدعة الفاجرة فتولد بينهما خسران الدُّنْيَا والآخرة. فإن قطع هذه العقبة وخلص منها بنور السنة واعتصم منها بحَقِيقَة المتابعة وما مضي عَلَيْهِ السَّلَف الأخيار من الصحابة والتابعين لهُمْ بإحسان. وهيهات أن تسمح الأعصار المتأخرة بواحد من هَذَا الضرب، فإن سمحت به نصب لَهُ أَهْل البدع الحبائل وبغوه الغوائل وقَالُوا: مبتدع محدث، فإِذَا وفقه الله لقطع هذه العقبة طلبه عَلَى: " العقبة الثالثة ": وهي عقبة الكبائر فإن ظفر فيها زينها الله لَهُ وحسنها فِي عينه وسوف به وفتح لَهُ باب الإرجَاء وَقَالَ لَهُ: الإيمان هُوَ التصديق نَفْسُهُ فلا تقدح فِيه الأعمال (أي أعمال الفسوق والعصيان) . وَرُبَّمَا أجري عَلَى لِسَانه وأذنه كلمة طالما أهلك بِهَا الخلق وهي قوله: (لا يضر مَعَ التَّوْحِيد ذنب كما لا ينفع مَعَ الشرك حسنة) والظفر به فِي عقبة البدعة أحب إليه، لمناقضتها الدين، ودفعها لما بعث الله به رسوله.

وصاحبهَا لا يتوب منها، ولا يرجع عنهَا بل يدعو الخلق إليها، والاجتهاد عَلَى إطفاء نور السنة. وتولية من عزله الله ورسوله، وعزل من ولاه الله ورسوله، واعتبار ما رده الله ورسوله، ورد ما اعتبره، وموالاة من عاداه، ومعاداة من والاه وإثبات ما نفاه، ونفِي ما أثبته. وتكذيب الصادق وتصديق الكاذب، ومعارضة الحق بالْبَاطِل وقلب الحقائق بجعل الحق باطلاً والْبَاطِل حقاً، والإلحاد فِي دين الله، وتعمية الحق عَلَى القُلُوب، وطلب العوج لصراط الله المستقيم، وفتح باب تبديل الدين جملة. فإن البدع تستدرج بصغيرها إلي كبيرها، حتي ينسلخ صاحبِها من الدين كما تنسل الشعرة من العجين. فمفاسد البدع لا يقف عَلَيْهَا إلا أرباب البصائر، والعميان ضالون فِي ظلمة العمي {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} . فإن قطع هذه العقبة بعصمة الله أو بتوبة نصوح تنجيه منها طلبه عَلَى: " العقبة الرابعة ": وهي عقبة الصغائر فكال لَهُ منها بالقفزان وَقَالَ: ما عَلَيْكَ إِذَا اجتنبت الكبائر ما غشيت اللمم أو ما علمت أنها تكفر باجتناب الكبائر وبالحسنات، ولا يزال يهون عَلَيْهِ أمرها حتي يصر عليها. فيكون مرتكب الكبيرة الخائف الوجل النادم أحسن حإلا منه، فالإصرار عَلَى الذنب أقبح منه ولا كبيرة مَعَ التوبة والاستغفار، ولا صغيرة مَعَ الإصرار. وقَدْ قال ?: " إياكم ومحقرات الذنوب ". ثُمَّ ضرب لذَلِكَ مثلاً بقوم نزلوا بفلاة من الأرض فأعوزهم الحطب. فجعل هَذَا يجيء بعود وهَذَا بعود حتي جمعوا حطباً كثيراً فأوقدوا ناراً وأنضجوا خبزتهم.

فكَذَلِكَ إن محقرات الذُّنُوب تتجمع عَلَى الْعَبْد وَهُوَ يستهين بشأنها حتي تهلكه. فإن نجا من هذه العقبة بالتحرز والتحفظ ودوام التوبة والاستغفار وأتبع السيئة الحسنة طلبه عَلَى: " العقبة الخامسة ": وهي عقبة المباحات التي لا حرج عَلَى فاعلها، فشغله بِهَا عن الاستكثار من الطاعات، وعن الاجتهاد فِي التزود لمعاده ثُمَّ طمَعَ فِيه أن يستدرجه منها إلي ترك السُّنَن، إلي ترك الواجبات. وأقل ما ينال منه: تفويته الأرباح والمكاسب العظيمة والمنازل العالية ولَوْ عرف السعر ما فوت عَلَى نَفْسهِ شيئاً من القربات، ولكنه جاهل بالسعر. فإن نجا من هذه العقبة ببصيرة تامة ونور هاد ومعرفة بقدر الطاعات والاستكثار منها وقلة المقام عَلَى الميناء وخطر التجارة وكرم المشتري، وقدر ما يعوض به التجار فبخل بأوقاته وضمن بأنفاسه أن تذهب فِي غَيْر ربحٍ، طلبه الْعَدُوّ عَلَى: " العقبة السادسة ": وهي عقبة الأعمال المرجوحة المفضولة من الطاعات فأمره بِهَا وحسنها فِي عينه وزينها لَهُ وأراه ما فيها من الفضل والرِّبْح، ليشغله بِهَا عما هُوَ أفضل منها وأعظم كسباً وربحاً. لأنه لما عجز عن تخسيره أصل الثواب طمَعَ فِي تخسيره كماله وفضله، ودرجاته العالية، فشغله بالمفضول عن الفاضل وبالمرجوح عن الراجح، وبالمحبوب لله عن الأحب إليه، وبالمرضي عن الأرضي له. ولكن أين أصحاب هذه العقبة؟ فهم الأفراد فِي العالم. والأكثرون قَدْ ظفر بِهم فِي العقبات الأوَلِ. فإن نجا منها بفقه فِي الأعمال ومراتبِهَا عِنْدَ الله ومنازلها فِي الفضل،

ومعرفة مقاديرها والتمييز بين عاليها وسافلها ومفضولها وفاضلها ورئيسها ومرؤوسها وسيدها ومسودها. فإن فِي الأعمال سيداً ومسوداً ورئيساً ومرؤوساً وذروة وما دونها، كما فِي الْحَدِيث الصحيح: " سيد الاستغفار أن يَقُولُ الْعَبْدُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لا إله إلا أنت " الحديث. وفِي الْحَدِيث الآخر: " الجهاد ذروة سنام الأمر ". وفِي الأثر الآخر: (إن الأعمال تفاخرت فذكر كُلّ عمل منها مرتبة وفضله وكَانَ للصداقة مزية فِي الفخر عليهن) . ولا يقطع هذه العقبة إلا أَهْل البصائر والصدق من أولي العلم السائرين عَلَى جادة التَّوْفِيق، قَدْ أنزلوا الأعمال منازلها وأعطوا كُلّ ذي حق حقه. فإِذَا نجا منها أحد لم يبق هناك عقبة يطلبه الْعَدُوّ عَلَيْهَا سوي واحدة لابد منها، ولَوْ نجا منها أحدٌ لنجا منها رسل الله وأنبياؤه وأكرم الخلق عليه. وهي عقبة تسليط جنده عَلَيْهِ بأنواع الأذي باليد واللسان والْقَلْب عَلَى حسب مرتبته فِي الْخَيْر، فكُلَّما علت مرتبته أجلب عَلَيْهِ الْعَدُوّ بخيله وظاهر عَلَيْهِ بجنده، وسلط عَلَيْهِ حزبه وأهله بأنواع التسليط. وهذه العقبة لا حيلة لَهُ فِي التخلص منها، فإنه كُلَّما جد فِي الاستقامة والدعوة إلي الله والقيام به بأمره جد الْعَدُوّ فِي إغراء السفاء به، فهو فِي هذه العقبة قَدْ لبسَ لامةَ الحرب، وأخذ فِي محاربة الْعَدُوّ لله وبالله. فعبوديته فيها عبودية خواص العارفين وهي تسمي عبودية المراغمة ولا ينتبه لها إلا أولُوْ البصائر التامة، ولا شَيْء أحب إلي الله من مراغمة وليه لعدوه وإغاظته لَهُ. أ. هـ. شِعْراً: وَلَمَّا قَسَا قَلْبِي وَضَاقَتْ مَذَاهِبْي ... جَعَلْتُ الرَّجَا مِنّي لِعَفْوكَ سُلَمَا تَعَاظَمِنِي ذَنْبِيْ فَلَمَّا قَرَنْتُهُ ... بِعَفْوكَ رَبِّي كَانَ عَفْوُكَ أَعْظَمَا

الحكمة كالجواهر

فَلِلَّهِ دَرُّ العَارِفِ النَّدْبِ إِنَّهُ ... تِسْحُّ لِفَرْطَ الوَجْدِ أَجْفَانُهُ دَمَا يُقِيْمُ إِذَا مَا اللَّيْلُ مَدَّ ظَلاَمَهُ ... عَلَى نَفْسِهِِ مِنْ شِدّةِ الخَوْفِ مَأْتَمَا فَصِيْحاً إِذَا مَا كَانَ مِنْ ذِكْرِ رَبِّهِ ... وَفِي مَا سِوَاهُ فِي الوَرَى كَانَ مُعْجَمَا وَيَذْكُرُ أَيَّاماً مَضَتْ مِنْ شَبَابِهِ ... وَمَا كَانَ فِيها مِنْ الجَهَالَةِ أجْرَمَا فَصَارَ قَرْيْنَ الهَمِّ طُوْلَ نَهَارِهِ ... وَيَخْدِمُ مَوْلاَهُ إِذَا اللَّيْلُ أَظْلَمَا يَقُولُ إِلَهِي أَنْتَ سُؤْلِي وَبُغْيَتِي ... كَفَى بِكَ لِلرَّاجِيْنَ سُؤْلاً وَمَغْنَمَا فأَنْتَ الَّذِي غَذَّيْتَنِي وَكَفَلْتَنِي ... وَمَا زِلْتَ مَنَّانَاً عَلَيَّ وَمُنْعِمَا آخر: ... سَبِيْلُ الخَلْقِ كُلِّمِ الفَنَاءُ ... ... فَمَا أَحَدٌ يَلُوْمُ لَهُ البَقَاءُ يُقْرِّبُنَا الصَّبَاحُ إِلى الْمَنَايَا ... وَيُدنِينَا إِليْهِنَّ المَسَاءُ أَتَأْمَلُ أَنْ تَعِيْشَ وَأَيُّ غُصْنٍ ... عَلَى الأيَّامِ طَالَ لَهُ النَّمَاءُ تَرَاهُ أَخْضَرَ العِيْدَانِ غَضًّا ... فَيُصْبِحُ وَهُوَ مُسْوَدُّ غُثَاءُ وَجَدْنَا هَذِهِ الدُّنْيَا غَرُوْراً ... مَتَى مَا تُعْطَ يُرْتَجَعُ العَطَاءُ فَلاَ تَرْكَنْ إِلَيْهَا مُطْمَئِنّاً ... فَلَيْسَ بِدَائِمٍ مِنْهَا الصَّفَاءُ اللَّهُمَّ نور قلوبنا بنور الإيمان وثبتنا عَلَى قولك الثابت، فِي الحياة الدُّنْيَا وفِي الآخرة، ويسرنا لليسري وجنبنا للعسري، وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ، بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) الحكمة كالجواهر فِي الصدف فِي قعور البحار، فلا تنال إلا بالغواصين الحذاق. العاقل لا تدعه عيوبه يفرح بما ظهر من محاسنه. النصح بين النَّاس تقريع. إعادة الاعتذار تذكير للذنب وما عفا عن الذنب من وبخ به.

رب كلام جوابه السكوت، ورب عمل الكف عنهُ أفضل، ورب خصومة الإعراض عنهَا أصوب. الدُّنْيَا تهين من كانت تكرمه، والأرض تأكل من كانت تطعمه. نَمِيْرُ مِنْ أَمِّنَا الغَبْرَاءِ مِيْرَتَنَا ... وَلِلْبَسِيْطَةِ مِنْ أَجْسَادِ نَامِيَرُ أمر الدُّنْيَا أقصر من أن تتعادي فِيه النُّفُوس، وأن تتفانَا وأن تطاع فِيه الضغائن والأحقاد. وَقَالَ: لا يستطيع أحد أن يجد الْخَيْر والحكمة إلا أن تخلص نَفْسُهُ فِي المعاد، ولا خلاص لَهُ إلا أن تَكُون لَهُ ثلاثة أشياء: وزير، وولي، وصديق. فوزيره عقله، ووليه عفته، وصديقه عمله الصالح. الجود هُوَ أن تجود بمالك، وتصون نفسك عن مال غيرك، وأقصي غاية الجود أن تجود بنفسك فِي سبيل الله. يَجُوْدُ بِالنَفْسِ إِنْ ظَنَّ البَخِيْلُ بِهَا ... وَالجُوْدُ بِالنَّفْسِ أَقْصَى غَايَةِ الجُوْدِ قابل غضبك بحلمك، وجهلك بعلمك، ونسيانك بِذِكْرِكَ، وتزود من الْخَيْر وأَنْتَ مقبل خَيْر من أن تتزود وأَنْتَ مدبر. العجب ممن يحتمي من المآكل الرديئة ولا يترك الذُّنُوب مخافة رب العالمين. ويستحي من الخلق ولا يستحي ممن لا تخفِي عَلَيْهِ خافية. قال تعالى {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} . العمي خَيْر من الجهل، لأن العمي يخاف منه السقوط فِي حفرة، والجهل يخاف منه الوقوع فِي الهلاك. ينبغي للرئيس أن يبتدي بتقويم نَفْسهِ قبل أن يبتدي بتقويم رعاياه. وإلا كَانَ بمنزلة من رام استقامة ظِلّ معوج قل تقويم عوده الَّذِي هُوَ ظِلّ له. إِبْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عن غَيِّهَا ... فَإِذَا انْتَهَتْ عنهُ فَأنْتَ حَكَيْمُ فَهُنَاكَ يُقْبَلُ مَا تَقُوْلُ وَيُقْتَدَى ... بِالرَّأَي مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْلِيْمُ

استدامة الصحة تَكُون بإذن الله بترك التكاسل عن التعب وبترك الامتلاء من الطعام والشراب وترتيب المآكل. للقلب آفتان الهم والغم، فالغم يعرض منه النوم، والهم يعرض منه السهر. العلم كثير والعمر قصير فخذ من العلم أحسنه وما بلغك قليله إلي كثيره مَا حَوَى العِلْمُ مِنَ الخَلْقِ أَحَداً ... لاَ ولَوْ حَاوَلَهُ أَلْفَ سَنَهْ إِنَمَا العِلْمُ كَبَحْرٍ زَاخِرٍ ... فَاتَخِذْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أَحْسَنَهْ عجباً لمن عرف الدُّنْيَا وأنها دار فناء كيف تلهيه عن دار البقاء التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر عَلَى قلب بشر. إعطاء المريض ما يشتهيه أنفع لَهُ من أخذه بكل ما لا يشتهيه. الدُّنْيَا تنصح تاركها وتغش طالبِهَا فنصيحتها لتاركها ما تريه من تغيرها بأهلها وفتكها بهم ونكدها وكدرها وغمومها وهمومها. وغشها لطالبِهَا ما تذيقه من لذة ساعتها ثُمَّ تعقبه مرارة طعمها وسوء منقلبها. طالب الدُّنْيَا كناظر السراب يحسبه سبباً لريه فيتعب نَفْسَهُ فِي طلبه فإِذَا جاءه خانه ظنه وفاته أمله وبقي عطشه ودامت حسرته وندامته وخسر طولَ عنائه. وَقَالَ آخر: الإنسان فِي الدُّنْيَا معذب بجَمِيع أحوالها غَيْر باق عَلَيْهِ ما يصير إليه من أسبابها. قليل التهنئة بما يجده من ملاذها دائم النكد والكبد والغصص بمفارقة أحبابه فيها. يا هَذَا الدُّنْيَا وراءك والآخرة أمامك والطلب لما وراءك هزيمة. إنما يعجب بالدُّنْيَا من لا فهم لَهُ الدُّنْيَا كأضغاث أحلام تسر النائم. لعب خيال يحسبهَا الطفل حَقِيقَة فأما العاقل فيفهمها.

فصل في الحكمة

رَأَيْتُ خَيَالَ الظِلِّ أكْبَرَ عْبَرَةٍ ... لِمَنْ هُوَ فِي عِلْمِ الحَقِيْقَةِ رَاقٍ شُخُوصٌ وَأشْبَاحٌ تَمُرُّ وَتَنْقَضِي ... جَميْعاً وتَفْنَى والمُحَرِّكُ باقٍ قال ثابت بن قرة: راحة الجسم فِي قلة الطعام، وراحة الروح فِي قلة الآثام، وراحة اللسان فِي قلة الكلام قُلْتُ إلا بذكر الله وما ولاه. والذُّنُوب للقلب بمنزلة السموم إن لم تهلكه أضعفته ولابد، والضعيف لا يقوي عَلَى مقاومة العوارض. قال عَبْد اللهِ بن المبارك: رَأَيْتُ الذُنُوبَ تُمِيْتُ القُلُوبَ ... وقَدْ يُورثُ الذُلَّ إدْمَانُهَا وَتَرْكُ الذُنُوبَ حَيَاةُ القُلُوبِ ... وخَيْرٌ لِنَفْسِِكَ عِصْيَانُهَا كل شَيْء إِذَا كثر رخص إلا العلم والعقل كُلَّما كثر أحدهما غلا. وَاللهُ أَعْلم وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم. [فصل فِي الحكمة] قال الله تبارك وتعالى (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتي الحكمة فقَدْ أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولَوْ الألباب) وعن عَبْد اللهِ بن عمر رَضِيَ اللهُ عنهُمَا قال قَالَ رَسُولُ اللهِ ? "ما أهدي المرء المسلم لأخيه هدية أفضل من حكمة يزيده بِهَا هدي ويرده بِهَا عن ردي" أخرجه البيهقي فِي شعب الإيمان وأبو نعيم فِي الحلية. وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام "أوتيت جوامِعَ الكلم واختصرت لي الحكمة اختصاراً. وفِي الصحيحين عن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عنهُ عن النَّبِيّ ? قال: "بعثت بجوامِعَ الكلم". وعن ابن مسعود قال سمعت رسول الله ? يَقُولُ " لا حسد إلا فِي اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه عَلَى هلكته فِي الحق ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بِهَا ويعلمها ". رواه البخاري ومسلم.

وقيل: إن فِي التوراة أنَّ الله قال لموسي عَلَيْهِ وعَلَى نبينا أفضل الصَّلاة والسَّلام [عظم الحكمة فإني لا أجعل الحكمة فِي قلب عبد إلا وأردت أن أغفرَ لَهُ فتعلمها ثُمَّ اعمل بِهَا ثُمَّ ابذلها كي تنال بذَلِكَ كرامتي فِي الدُّنْيَا والآخرة] . وأخرَجَ أبو يعَلَى الموصلي من حديث عُمَر بن الْخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عنهُ عن النَّبِيّ ? قال: إني أوتيت جوامِعَ الكلم وخواتمه واختصر لي الكلام اختصاراً وَقَالَ ?: أعطيت جوامِعَ الكلم واختصر الْحَدِيث لي اختصاراً. وَقَالَ لقمان: إن الْقَلْب يحيا بالكلمة من الحكمة كما تحيا الأرض بوابل المطر. وَقَالَ أبان بن سليم: كلمة حكمة من أخيك خَيْر لك من مالٍ يعطيك. وَقَالَ بعض الحكماء الحكمة صديقة العقل، وميزان العدل، وعين البيان، وروضة الأرواح، ومزيحة الهموم عن النُّفُوس بإذن الله. وأنس المستوحش وأمن الخائف ومتجر الرابح وحظ الدُّنْيَا والآخرة بإذن الله لمن وفقه الله. وسلامة العاجل والآجل لمن وفقه الله. وَقَالَ آخر: الحكمة نور الأبصار وروضة الأفكار ومطية الحلم وكفيل النجاح. وضمين الْخَيْر والرشد والداعية إلي الصواب والسفير بين العقل والقلوب. لا تندرس آثارها ولا تعفو ربوعها كُلّ ذَلِكَ لمن وفقه الله تعالى. وروي عن الشعبي أنه قال: لَوْ أن رجلاً سافر من أقصي الشام إلي أقصي اليمن ليسمَعَ كلمة واحدة ينتفع بِهَا فيما يستقبل من عمره ما رَأَيْت أن سفره قَدْ ضاع. وَقَالَ بعض الْعُلَمَاء من تفرد بالعلم لم توحشه الخلوة ومن تسلي

فائدة عظيمة النفع

بالكتب لم تفته سلوة وإن هذه القُلُوب تمل كما تمل الأبدان فابتغوا لها طرائف الحكمة. والحكمة موقظة للقُلُوب من سنة الغَفْلَة ومنقذة للبصائر من سنة الحيرة ومحيية لها بإذن الله من موت الجهالة ومستخرجة لها من ضيق الضلالة لمن وفقه الله تعالى. [فائدة عظيمة] اعْلم أن من كَانَ داؤه المعصية، فشفاؤه الطاعة، ومن كَانَ داؤه الغَفْلَة، فشفاؤه اليقظة، ومن كَانَ داؤه كثرة الانشغال، فشفاؤه فِي تفريغ المال. فمن تفرغ من هموم الدُّنْيَا قَلْبهُ، قل تعبه، وتوفر من العبادة نصيبه، واتصل إلي الله مسيره، وارتفع فِي الْجَنَّة مصيره، وتمكن من الذكر والفكر والورع والزهد والاحتراس من وساوس الشيطان، وغوائل النفس. ومن كثر فِي الدُّنْيَا همه، أظلم طريقه، ونصب بدنه، وضاع وقته، وتشتت شمله، وطاش عقله، وانعقَد لِسَانه عن الذكر، لكثرة همومه وغمومه، وصار مقيد الجوارح عن الطاعة، من قَلْبه فِي كُلّ واد شعبة، ومن عمره لكل شغل حصة. فاستعذ بِاللهِ من فضول الأعمال والهموم فكل ما شغل الْعَبْد عن الرب فهو مشئوم، ومن فاته رضي مولاه فهو محروم، كُلّ العافية فِي الذكر والطاعة، وكل البَلاء فِي الغَفْلَة والمخالفة، وكل الشفاء فِي الإنابة والتوبة، وانظر لَوْ أن طبيباً نصرانياً نهاك عن شرب الماء البارد لأجل مرض فِي جسدك لأطعته فِي ترك ما نهاك عنهُ، وأَنْتَ تعلَمُ أن الطبيب قَدْ يصدق وقَدْ يكذب وقَدْ يصيب وقَدْ يخطئ وقَدْ ينصح وقَدْ يغض، فما بالك لا تترك ما نهاك عنهُ أنصح الناصحين وأصدق القائلين وأوفِي الواعدين لأجل مرض الْقَلْب الَّذِي إِذَا لم تشف منه فأَنْتَ من أهلك الهالكين.

ختام

تَبْغِي الوُصُوْلَ بِسَيْرِ فِيه تَقْصِيْرُ ... لاَ شَكَّ أَنَّكَ فِي مَا رُمْتَ مَغْرُوْرُ قَدْ سَارَ قَبْلَكَ أَبْطَالٌ فَمَا وَصَلُوْا ... هَذَا وفِي سَيْرِهِمْ جِدٌ وَتَشْمِيْرُ يَا مُدَّعِي الحُبَّ فِي شَرْعِ الغَرَامِ وَقَدْ ... أَقَامَ بَيِّنَةُ لَكِنَّهَا زُوْرُ أَفْنَيْتَ عُمَرَكَ فِي لَهُوٍ وفِي لَعَبٍ ... هَذَا وأَنْتَ بَعِيْدُ الدَارِ مَهْجُوْرُ لَوْ كَانَ قَلْبُكَ حَياً ذُبْتَ مِنْ كَمَدٍ ... مَا لِلْجِرَاحِ بِجِسْمِ المَيْتِ تَأْثِيْرُ اللَّهُمَّ إنَا نسألك نفساً مطمئنة تؤمن بلقائك وترضي بقضائك، اللَّهُمَّ إنَا نسألك باسمك الطاهر الطيب المبارك الأحب إليك الَّذِي إِذَا دعيت به أجبت، وإِذَا سئلت به أعطيت، وإِذَا استرحمت به رحمت، وإِذَا استفرجت به فرجت أن تغفر سيئاتنا وتبدلها لنا بحسنات يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين. وختاماً فالواجب عَلَى الإنسانِ المبادرة إلي الأعمال الصَّالِحَة، وأن ينتهز فرصة الإمكَانِ قبل هجوم هادم اللذات. وأن يستعين بِاللهِ ويتوكل عَلَيْهِ ويسأله العون فِي تيسير الأعمال الصَّالِحَة وصرف الموانع الحائلة بينه وبينها. وليحرص عَلَى حفظ القرآن، وتدبره، وتفهمه، والْعَمَل به، وكَذَلِكَ السنة، ويحرص عَلَى أداء الصَّلاة فِي جماعة. ويحرص عَلَى مجالس الذكر، ويحفظ لِسَانه عن الغيبة والنميمة والسعاية والكذب وَجَمِيع الأعمال والأخلاق السيئة. ويتهيأ للرحيل، ويتفقَد نَفْسَهُ بما عَلَيْهِ، وما لَهُ فإن كَانَ عنده حقوق لله كزكاة أو لخلقه كأمانات أو عواري أو وصايا أداها بسرعة خشية أن يفَجَاءَهُ الموت وهي عنده. فإِذَا لم تؤدها أَنْتَ فِي حياتك، فمن بعدك من أولاد أو إِخْوَان يبعد اهتمامهم بذَلِكَ، لأنَّهُمْ يهتمون ويشتغلون بما خلفته لهُمْ وضيعت بسببه نفسك.

حث على التأهب والاستعداد لهادم اللذات

فالله الله البدار بالتفتيش عَلَى النفس، والمبادرة بالتوبة والإكثار من الاستغفار. ومِمَّا يحثك عَلَى ذَلِكَ ذكر مرارة الموت الَّذِي سماه رسول الله ? هادم اللذات، وتذكر شدة النزع والتفكير فِي الموتي الَّذِينَ حبسوا عَلَى أعمالهم ليجاوزوا بِهَا فلَيْسَ فيهم من يقدر عَلَى محو خطيئة، ولا عَلَى زيادة حسنة. وعاد بَعْضهمْ مريضاً فَقَالَ لَهُ كيف تجدك؟ قال: هُوَ الموت. قال لَهُ: وكيف علمت أنه الموت؟ قال: أجدني أجتذب اجتذاباً، وكأن الخناجر فِي جوفِي، وكأن جوفِي تنُّور محميٌّ يتلهب. قال لَهُ: فاعهد (أي أوصي) ، قال: أري الأمر أعجل من ذَلِكَ فدعا بدواة وصحيفة قال: فوَاللهِ ما أتي بِهَا حتي شخص بصره فمات. وَقَالَ إبراهيم بن يزيد العبدي: أتاني رياح القيسي فَقَالَ: يا أبا إسحاق انطلق بنا إلي أَهْل الآخرة نحدث بقربهم عهداً. فانطلقت معه، فأتي المقابر فجلسنا إلي بعض تلك القبور، فَقَالَ: يا أبا إسحق ما تري هَذَا متمنياً لَوْ مُنِّأَ، قُلْتُ: أن يرد وَاللهِ إلي الدُّنْيَا فيستمتع من طاعة الله ويصلح. قال: فها نَحْنُ، ثُمَّ نهض فجد واجتهد، فلم يلبث إلا يسيراً حتي مات. ومِمَّا يحثك عَلَى التأهب والاستعداد لهادم اللذات أن تصور لنفسك عرضها عَلَى ربك وتخجيله إياك بمضيض العتاب عَلَى فعل ما نهاك عنهُ قال جَلَّ وَعَلا: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} . وَقَالَ رسول الله ?: " ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه تبارك وتعالى لَيْسَ بينه وبينه ترجمان ". وعن صفوان بن محرزٍ قال: كنت آخذاً بيد ابن عمر إذ عرض له

رجل، فَقَالَ كيف سمعت رسول الله ? يَقُولُ فِي النجوي يوم القيامة. فَقَالَ: سمعت رسول الله ? يَقُولُ: " إن الله يدني المُؤْمِن فيضع عَلَيْهِ كنفه، ويستره من النَّاس، ويقرره بذنوبه. وَيَقُولُ لَهُ أتعرف ذنب كَذَا، أتعرف ذنب كَذَا، حتي إِذَا قرره بذنوبه ورأي فِي نَفْسهِِ أنه قَدْ أهلك. قال: فإني قَدْ سترتها عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وأنَا أغفرها لك اليوم. ومِمَّا يحثك عَلَى الاستعداد للموت والابتعاد عن المعاصي أن تتخايل وتتصور شهادة المكَانِ الَّذِي تعصي فِيه عَلَيْكَ يوم القيامة. فعن أَبِي هُرَيْرَةِ قال: قَرَأَ رسول الله ? {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} فَقَالَ: " أتدرون ما أخبارها، أن تشهد عَلَى كُل عبد بما عمل عَلَى ظهرها، أن تَقُول عمل كَذَا وَكَذَا فِي يوم كَذَا وَكَذَا، فهو أخبارها ". ومِمَّا يحثك عَلَى التأهب والاستعداد للموت والابتعاد عن المعاصي أن تمثل نفسك عِنْدَ بعض زللك كأنه يؤمر بك إلي النار التي لا طاقة لمخلوق بها. وتصور نفاد اللذة وذهابهَا وبقاء العار والعذاب. تَفْنَى اللَّذَاذَةُ مِمَّنْ نَالَ شَهْوَتَهُ ... مِنَ الحَرَامِ وَيَبْقَى الإثُمُ وَالعَارُ تَبْقَى عَوَاقِبُ سُوْءٍ فِي مَغَبَّتهَا ... لاَ خَيْرَ فِي لَذَّةٍ مِنْ بَعْدِهَا النَارُ عن أَبِي هُرَيْرَةِ عن النَّبِيّ ? أنه قال: " ناركم هذه ما يوقَدْ بنو آدم جزء واحد من سبعين جزءًا من حر جهنم ". قَالُوا: وَاللهِ إن كانت لكافية. وَقَالَ بعض السَّلَف: ربما مثل لي رأسي بين جبلين من نارٍ وَرُبَّمَا رأيتني أهوي فيها حتي أبلغ قعرها فَكَيْفَ تهنأ الدُّنْيَا من كانت هذه صفته. وكَانَ عمر رَضِيَ اللهُ عنهُ ربما توقَدْ لَهُ النار ثُمَّ يدني يديه منها ثُمَّ يَقُولُ: يا ابن الخطاب هل لك عَلَى هَذَا صبر. ومِمَّا يحثك عَلَى الاستعداد وتفقد شؤنك وأمرك ذكر أحوال كثير من السَّلَف الصالح الَّذِي أقلقهم خوف الحساب والْعَذَاب فِي البرزخ والنار.

لما أهديت معاذة العدوية إلي زوجها صلة بن أشيم أدخله ابن أخيه الحمام ثُمَّ أدخله بيتاً مطيباً فقام يصلي حتي أصبح وفعلت زوجته معاذة مثله. فَلَمَّا أصبح عاتبه ابن أخيه إلي رجل عنده متغَيْر اللون، فَقَالَ لَهُ: ما الَّذِي بك؟ فَقَالَ: إني ذقت حلاوة الدُّنْيَا فصغر فِي عيني زهرتها وملاعبِهَا، واستوي عندِي حجارتها وذهبها. ورَأَيْت كأن النَّاس يساقون إلي الْجَنَّة، وانَا أساق إلي النار، فأسهرت لذَلِكَ ليلي، وأظمأت نهاري، وكل ذَلِكَ صغَيْر حقير فِي جنب عفو الله، وثوابه عَزَّ وَجَلَّ وجنب عقابه. وَقَالَ إبراهيم التيمي مثلت نفسي فِي النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها. فقُلْتُ لنفسي أي شَيْء تريدين، قَالَتْ أريد أن أردَّ إلي الدُّنْيَا فأعمل صَالِحاً، قال: فقُلْتُ أَنْتِ فِي الأمنية فاعملي. وسمَعَ عُمَر بن الْخَطَّاب رجلاً يتهجد فِي الليل ويقَرَأَ سورة الطور، فَلَمَّا بلغ قوله تعالى {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِن دَافِعٍ} . قال عمر: قسم ورب الكعبة حق، ثُمَّ رجع إلي بيته فمرض شهراً يعوده النَّاس، ولا يدرون ما سبب مرضه. وكَانَ جماعة من السَّلَف مرضوا من الخوف ولزموا منازلهم وبَعْضهم صار صَاحِب فراش. وكَانَ الحسن يَقُولُ فِي وصف الخائفين: قَدْ براهم الخوف فهم أمثال القداح ينظر إليهم الناظر فَيَقُولُ مرضى وما بهم مرض وَيَقُولُ: قَدْ خولطوا وقَدْ خالط القوم من ذكر الآخرة أمر عظيم.

فصل في أحاديث وردت في الدعاء

اللَّهُمَّ يا منور قُلُوب العارفين، يا قاضي حوائج السائلين يا قابل توبة التائبين ويا مفرِّجاً عن المكروبين والمغمومين، تب عَلَيْنَا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ، بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) عن بريدة قال: سمَعَ النَّبِيّ ? رجلاً يَقُولُ: اللَّهُمَّ إني أسألك بأني أشهد أنك أَنْتَ الله لا إله إلا أَنْتَ الأحد الصمد الَّذِي لم يلد ولم يولد ولم يكن لَهُ كفواً أحد. فَقَالَ رسول الله ?: والَّذِي نفسي بيده لَقَدْ سأل الله باسمه الأعظم الَّذِي إِذَا دعي به أجاب وإِذَا سئل به أعطي أخرجه أبو داود والترمذي. وعن أنس رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: دعا رجل فَقَالَ: اللَّهُمَّ إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أَنْتَ الحنان المنان بديع السموات والأرض ذو الجلال والإكرام يا حي يا قيوم. فَقَالَ النَّبِيّ ?: أتدرون بما دعا؟ قَالُوا: الله ورسوله أعلم. قال: والَّذِي نفسي بيده لَقَدْ دعا الله باسمه الأعظم إِذَا دعي به أجاب وإِذَا سئل به أعطي، أخرجه أصحاب السنن. عن سعد بن أبي وقاص قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: " دعوة ذي النون إذ دعي ربه وَهُوَ فِي بطن الحوت لا إله إلا أَنْتَ سبحانك إني كنت من الظالمين ". فإنه لم يدع بِهَا رجل مسلم فِي شَيْء قط إلا استجاب لَهُ، رواه الترمذي والنسائي والحاكم وَقَالَ صحيح الإسناد. وعن معاوية بن أبي سفيان قال: سمعت رسول الله ? يَقُولُ "من دعا بهؤلاء الكلمَاتِ الخمس لم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه (لا إله إلا الله والله أكبر لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ، لَهُ الملك وله الحمد وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْء قدير لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله) رواه الطبراني بإسناد حسن.

وعن معاذ بن جبل قال: سمَعَ رسول الله ? رجلاً وَهُوَ يَقُولُ (يا ذا الجلال والإكرام) فَقَالَ: " قَدْ استجيب لك فسل". رواه الترمذي. اللَّهُمَّ اجعلنا مكثرين لذكرك مؤدين لحقك حافظين لأَمْرِكَ راجين لوعدك راضين فِي جَمِيع حالاتنا عنك. راغبين فِي كُلّ أمورنا إليك مؤملين لفضلك شاكرين لنعمك. يا من يحب العفو والإحسان، ويأمر بهما اعف عنا، وأحسن إلينا. فإنك بالَّذِي أَنْتَ لَهُ أَهْل من عفوك أحق منا بالَّذِي نَحْنُ لَهُ أَهْل من عقوبتك. اللَّهُمَّ ثَبِّتْ رجاءك فِي قلوبنا، واقطعه عمن سواك، حتي لا نرجو غيرك ولا نستعين إلا إياك، يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، ويا أكرم الأكرمين. اللَّهُمَّ هب لنا اليقين والعافية، وإخلاص التوكل عَلَيْكَ، والاستغناء عن خلقك. واجعل خَيْر أعمالنا ما قارب آجالنا. اللَّهُمَّ اغننا بما وفقتنا لَهُ من العلم، وزينا بالحلم وأكرمنا بالتقوي وجملنا بالعافية. اللَّهُمَّ افتح مسامِعَ قلوبنا لذكرك وارزقنا طَاعَتكَ وطاعة رسولك ووفقنا للعمل بِكِتَابِكَ وسنة رسولك. اللَّهُمَّ إنَا نسألك الهُدَى والتقي والعافية والغني، ونعوذ بك من درك الشقاء، ومن جهد البَلاء ومن سوء الِقَضَاءِ ومن شماتة الأعداء. اللَّهُمَّ لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الْخَيْر كله، وإليك يرجع الأمر علانيته وسره، أَهْل الحمد والثناء أَنْتَ، لا إله إلا أَنْتَ سبحانك إنك عَلَى كُلّ شَيْء قدير. اللَّهُمَّ اغفر لنا جَمِيع ما سلف منا من الذُّنُوب، واعصمنا فيما بقي من أعمارنا، ووفقنا لعمل صالح ترضي به عنا. اللَّهُمَّ يا سامَعَ كُلّ صوت، ويا بارئ النُّفُوس بعد الموت، يا من لا

تشتبه عَلَيْهِ الأصوات، يا عَظِيم الشأن، يا واضح البرهان، يا من هُوَ كُلّ يوم فِي شأن، اغفر لنا ذنوبنا إنك أَنْتَ الغفور الرحيم. اللَّهُمَّ يا عَظِيم العفو، يا واسع المغفرة، يا قريب الرحمة، يا ذا الجلال والإكرام، هب لنا العافية فِي الدُّنْيَا والآخرة. اللَّهُمَّ يا حي يا قيوم فرغنا لما خلقتنا لَهُ، ولا تشغلنا بما تكفلت لنا به، وَاجْعَلْنَا ممن يؤمن بلقائك، ويرضي بقضائك، ويقنع بعطائك، ويخشاك حق خشيتك. اللَّهُمَّ اجعل رزقنا رغداً، ولا تشمت بنا أحداً. اللَّهُمَّ رغبنا فيما يبقي، وزهدنا فيما يفني، وهب لنا اليقين الَّذِي لا تسكن النُّفُوس إلا إليه، ولا يعول فِي الدين إلا عليه. اللَّهُمَّ إنَا نسألك بعزك الَّذِي لا يرام وملكك الَّذِي لا يضام وبنورك الَّذِي ملأ أركَانَ عرشك أن تكفينا شر ما أهمنا وما لا نهتم به وأن تعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. اللَّهُمَّ يا عليم يا حليم يا قوي يا عزيز ياذَا المنِّ والعطا والعز والكبرياء يا من تعنوا لَهُ الوجوه وتخشع لَهُ الأصوات. وفقنا لصالح الأعمال وأكفنا بحلالك عن حرامك وبِفَضْلِكَ عمن سواك إنك عَلَى كُلّ شَيْء قدير. اللَّهُمَّ إنَا نسألك رحمة من عندك تهدي بِهَا قلوبنا، وتجمع بِهَا شملنا، وتلَمَّ بِهَا شعثنا، وترفع بِهَا شاهدنا، وتحفظ بِهَا غائبنا، وتزكي بِهَا أعمالنا، وتلهمنا بِهَا رشدنا، وتعصمنا بِهَا من كُل سوء يا أرحم الراحمين. اللَّهُمَّ ارزقنا من فضلك، واكفنا شر خلقك، واحفظ عَلَيْنَا ديننا وصحة أبداننا. اللَّهُمَّ يا هادي المضلين ويا راحم المذنبين، ومقيل عثرات العاثرين،

نسألك أن تلحقنا بعبادك الصالحين الَّذِي أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يا رب العالمين. اللَّهُمَّ يا عَالمَ الخفيات، ويا رفيع الدرجات، يا غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذا الطول لا إله إلا أَنْتَ إليك المصير. نسألك أن تذيقنا برد عفوك، وحلاوة رحمتك، يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وأرأف الرائفين وأكرم الأكرمين. اللَّهُمَّ اعتقنا من رق الذُّنُوب، وخلصنا من أشر النُّفُوس، وأذهب عنا وحشة الإساءة، وطهرنا من دنس الذُّنُوب، وباعد بيننا وبين الخطايا وأجرنا من الشيطان الرجيم. اللَّهُمَّ طيبنا للقائك، وأهلنا لولائك وأدخلنا مَعَ المرحومين من أوليائك، وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين. اللَّهُمَّ أعنا عَلَى ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وتلاوة كتابك، وَاجْعَلْنَا مِنْ حزبك المفلحين، وأيدنا بجندك المنصورين، وارزقنا مرافقة الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. اللَّهُمَّ يا فالق الحب والنوي، يا منشِيءَ الأجساد بعد البلي يا مؤوِيَ المنقطعين إليه، يا كافِي المتوكلين عَلَيْهِ، انقطع الرجَاءَ إلا منك، نسألك أن تمطر محل قلوبنا من سحائب برك وإحسانك وأن توفقنا لموجبات رحمتك وعزائم مغفرتك إنك جواد كريم رؤوف غفور رحيم. اللَّهُمَّ إنَا نسألك قلباً سليماً، ولسانَاً صادقاً، وعملاً متقبلاً، ونسألك بركة الحياة وخَيْر الحياة، ونعوذ بك من شر الحياة وشر الوفاة. اللَّهُمَّ إنَا نسألك باسمك الأعظم الأغر الأجل الأكرم الَّذِي إِذَا دعيت به أجبت وإِذَا سئلت به أعطيت أن تغفر ذنوبنا وتستر عيوبنا. ونسألك بوجهك الكريم أكرم الوجوه، يا من عنت لَهُ الوجوه،

وخضعت لَهُ الرقاب، وخشعت لَهُ الأصوات، ياذَا الجلال والإكرام. يا حي يا قيوم، يا مالك الملك، يا من هُوَ عَلَى كُلّ شَيْء قدير، وبكل شَيْء عليم، لا إله إلا أَنْتَ، بِرَحْمَتِكَ نستغيث، ومن عذابك نستجير. اللَّهُمَّ اجعلنا نخشاك حتي كأننا نراك، واسعدنا بتقواك، ولا تشقنا بمعصيتك. اللَّهُمَّ إنك تسمَعَ كلامنا، وتري مكاننا، وتعلَمُ سرنا وعلانيتنا لا يخفِي عَلَيْكَ شَيء من أمرنا نَحْنُ البؤساء الفقراء إليك، المستغيثون المستجيرون الوجلون المشفقون المعترفون بذنوبنا. نسألك مسألة المسكين، ونبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وندعوك دعاء الخائف الضرير. اللَّهُمَّ يا من خضعت لَهُ رقابنا، وفاضت لَهُ عباراتنا، وذلت لَهُ أجسامنا، ورغمت لَهُ أنوفنا لا تجعلنا بدعائك أشقياءا، وكن بنا رؤوفاً يا خَيْر المسؤلين. اللَّهُمَّ إنَا نسألك نفساً مطمئنة، تؤمن بلقائك وترضي بقضائك، وتقنع بعطائك، يا أرأف الرائفين، وأرحم الراحمين. اللَّهُمَّ إنَا نسألك التَّوْفِيق لما تحبه من الأعمال، ونسألك صدق التوكل عَلَيْكَ، حسن الظن بك يا رب العالمين. اللَّهُمَّ اجعلنا من عبادك المخبتين، الغرِّ المحجَّلين الوفد المتقبلين يا أرحم الراحمين. اللَّهُمَّ إنَا نسألك حياة طيبة، ونفساً تقية، وعيشة نقية، وميتة سوية، ومرداً غَيْرَ مخزٍ ولا فاضح. اللَّهُمَّ اجعلنا من أَهْل الصلاح والنجاح والفلاح، ومن المؤيدين بنصرك وتأييدك ورضاك يا رب العالمين. " اللَّهُمَّ مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز

من تشاء وتذل من تشاء بيدك الْخَيْر إنك عَلَى كُلّ شَيء قدير". يا ودود ياذَا العرش المجيد يا مبديء يا معيد يا فعال لما تريد نسألك بنور وجهك الَّذِي ملأ أركَانَ عرشك وبقدرتك التي قدرت بِهَا عَلَى جَمِيع خلقك وبِرَحْمَتِكَ التي وسعت كُلّ شَيْء لا إله إلا أَنْتَ أن تغفر ذنوبنا وسيئاتنا وأن تبدلها لنا بحسنات إنك جواد كريم رؤوف رحيم. اللَّهُمَّ افتح لدعائنا باب القبول والإجابة وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يا أرحم الراحمين. وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين. فَوَائِد عظيمة النفع واعجباً منك يضيع منك الشَيء القليل وتتكدر وتتأسف، وقَدْ ضاع أشرف الأشْيَاءِ عندك وَهُوَ عمرك الَّذِي لا عوضَ لَهُ، وأَنْتَ عِنْدَ قتالات الأوقات الكورة والتلفاز والمذياع ونحوها من قطاع الطَرِيق عن الأعمال الصَّالِحَة، ولكن ستندم "يوم يناد المنادي من مكَانٍ قريبٍ، يوم يسمعون الصيحة بالحق ذَلِكَ يوم الخروج. شِعْراً: قال بَعْضهمْ: أُقِلّبُ كُتُباً طَالَمَا قَدْ جَمَعْتُهَا ... وَأَفْنَيْتُ فِيها العَيْنَ وَالعَيْنَ وَالِيْدَا وَأَصْبَحْتُ ذَا ظَنٍّ بِهَا وَتَمَسُّكٍ ... لِعِلْمِيْ بِمَا قَدْ صُغْتُ فِيها مُنَضَّدَا وَاحْذَرُ جُهْدِي أَنْ تُنَالَ بِنَائِلٍ ... مَهِيْنٍ وَأَنْ يَغْتَالَهَا غَائِلُ الرَّدَى

وَأَعْلَمُ حَقاً أنَّنِيْ لَسْتُ بَاقِياً ... فَيَا لَيْتَ شِعْرِيْ مَنْ يُقَلّبُهَا غَدَا آخر: ... أَتَطْمَعُ أَنْ تُخَلَّدَ لاَ أبالَكْ ... أَمِنْتَ مِنَ المَنِيَّةِ أَنْ تَنَالَكْ فَكُنْ مُتَوِّقعاً لِهُجُوْمِ مَوْتٍ ... يُشَتّتُ بَعْدَ جَمْعِهِمُوْا عِيَالَكْ كَأَنِّيْ بِالتُّرَابِ عَلَيْكَ يُحْثَى ... وَبَالبَاكِيْنَ يَقْتَسِمُونَ مَالَكْ آخر: ... يَا مَنْ سَيَنْأى عن بَنِيْهْ ... كَمَا نَأَى عنهُ أَبُوْهْ مَثّلْ لِنَفْسِكَ قَوْلَهُمْ ... جَاءَ اليَقِيْنُ فَوجِّهُوْهْ وَتَحَلَّلُوْا مِنْ ظُلْمِهِ ... قِبْلَ الْمَمَاتِ وحَلِّلُوْهْ تم هَذَا الجزء بعون الله وتوفيقه ونسأل الله الحي القيوم العَلَى العَظِيم ذا الجلال والإكرام الواحد الأحد الفرد الصمد الَّذِي لم يلد ولم يولد ولم يكن لَهُ كفواً أحد أن يعز الإسلام والمُسْلِمِيْنَ وأن يخذل الكفرة والمشركين وأعوأنَهُمْ وأن يصلح من فِي صلاحه صلاحٌ للإسلام والمُسْلِمِيْنَ ويهلك من فِي هلاكه عزٌ وصلاحٌ للإسلام والمُسْلِمِيْنَ وأن يلَمَّ شعث المُسْلِمِيْنَ ويجمَعَ شملهم ويوحد كلمتهم وأن يحفظ بلادهم ويصلح أولادهم ويشف مرضاهم ويعافِي مبتلاهم ويرحم موتاهم ويأخذ بأيدينا إلي كُلّ خَيْر ويعصمنا وإياهم من كُلّ شر ويحفظنا وإياهم من كُلّ ضر وأن يغفر لنا ولوالدينا وَجَمِيع المُسْلِمِيْنَ برحمته إنه أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلي الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين. والله المسئول أن يجعل عملنا هَذَا خالصاً لوجهه الكريم وأن ينفع به نفعاًَ عاماً إنه سميع قريب مجيب عَلَى كُلّ شَيْء قدير. والحمد لله رب العالمين والصَّلاة والسَّلام عَلَى أشرف المرسلين نبينا مُحَمَّد خاتم الأنبياء والمرسلين المبعوث رحمة للعالمين وعَلَى آله وصحبه أجمعين. ومن تبعهم بإحسانٍ إلي يوم الدين وسلِّم تسليماً كثيراً. " عَبْد الْعَزِيز المُحَمَّد السلمان "

الجزء الخامس

وَقْفٌ للهِ تَعَالَى تَأْلِيفُ الفَقِير إلى عَفْوِ رَبِّهِ عَبدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ السّلمانِ المدرس في معهد إمام الدعوة بالرياض سابقاً الجزء الخامسُُُُُُُُ

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَوَائِد عظيمة النفع وَقَفَ قَوْمٌ عَلَى عَالِم فَقَالُوا: إِنَّا سَائِلُوكَ أَفَمُجِيبُنَا أَنْتَ؟ قَالَ: سَلُوا وَلا تُكْثِرُوا، فَإِنَّ النَّهَارَ لَنْ يَرْجِعَ وَالْعُمُرَ لَنْ يَعُودَ، وَالطَّالِبَ حَثِيثٌ فِي طَلَبِهِ. قَالُوا: فَأَوْصِنَا. قَالَ: تَزَوَّدُوا عَلَى قَدْرِ سَفَرِكُمْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّاد مَا أَبْلَغَ الْبُغْيَةَ. ثُمَّ قَالَ: الأَيَّامُ صَحَائِفُ الأَعْمَارِ فَخَلَّدُوهَا أَحْسَنَ الأَعْمَال، فَإِنَّ الْفُرَصَ تَمُرُّ مَرَّ السَحَابِ، والتَّوَانِي مِنْ أَخْلاقَ الْكُسَالَى وَالْخَوَالِفِ، وَمَنِ اسْتَوْطَنَ مَرْكَبَ الْعَجْزِ عَثَرَ بِهِ. تَزَوَّجَ التَّوَانِي بِالْكَسَلِ فَوُلِدَ بَيْنَهُمَا الْخُسْرَانُ. أ. هـ. قَالَ بَعْضُهُمْ: تَزَوَّجَتِ الْبَطَالَةَ بالتَّوَانِي ... فَأَوْلَدَهَا غُلامًا مَعَ غُلامِهْ فَأَمَّا الابْن سَمُّوه بِفَقْرٍ ... وَأَمَّا الْبِنْت سَمُّوهَا نَدَامَهْ أَيُهَا الأَخ تَدَبَّرْ أَمْرَكَ فَإِنَّكَ في زَمَنِ الرِّبْح ووَقْت الْبَذْرِ وَاحْذَرْ أَنْ يَخْدَعَكَ الْعَدُوّ عن نَفِيْس هَذَا الجوهَر فَتُنْفِقُهُ بكَفِّ التَّبْذير وَاللهِ لِئْن فَعَلْتَ لَتَغْرَسَنَّ شَجَرَةَ النَّدامَة فَيَتَساقَطُ عَلَيْكَ من كُلّ فن منها حَسْرَة وندامة وَاحْذَر من اخْتِلاسِ الأعْدَاءِ لَهُ وَالأَعداء أرْبَعَة: إبلَيْسَ لَعَنَهُ الله، والدُّنْيَا، والنفس الأمارة بالسُّوء، والهَوَى. شِعْرًا: ... إِنِّي بُلِيتُ بِأَرْبَعٍ مَا سُلِّطُوا ... إِلا لأَجْلِ شَقَاوَتِي وَعَنَائِي إِبلَيْسَ وَالدُّنْيَا وَنَفْسِي وَالْهَوَى ... كَيْفَ الْخَلاصُ وَكُلُّهُمْ أَعْدَائِيُُُُُُُُ

ِبسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمْ مُلاحظة: لا يسمح لأي إنسان أنْ يَخْتَصرَهُ أوْ يَتَعَرَّضَ له بما يُسَمُونَه تَحقِيقاً لأَنْ الإِختصار سَبَبٌ لتعطيل الأصْل والتحقيق أرَى أنَّهُ إتهام للمؤلف، ولا يُطبع إلا وقفاً لله تعالى على من ينتفع به من المسلمين. (فائدةٌ عَظِيمَةُ النَّفَعْ لِمَنْ وَفَّقَهُ الله) مَا أنْعَمَ اللهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً أَفْضَلَ مِنْ أنْ عَرَّفَه لاَ إلهَ إِلا الله، وفهَّمَهُ معناها، ووفقه للعمَلِ بِمُقْتَضَاهَا، والدَّعْوَةِ إليْهَا. الذِّكْرُ أَصْدَقُ قَوْلٍ فَافْهَمِ الْخَبَرَا ... لأَنَّهُ قَوْلُ مَنْ قَدْ أَنْشَأَ الْبَشَرَا فَاعْمَلْ بِهِ إِنْ تُرِدْ فَهْمًا وَمَعْرِفَةً ... يَا ذَا النُّهَى كَيْ تَنَالَ الْعِزَّ وَالْفَخَرَا وَتَحْمدِ اللهَ فِي يَوْمِ الْمَعادَ إِذَا ... جَاءَ الْحِسَابُ وَعَمَّ الْخَوْفُ وَانْتَشَرَا للهِ دَرُّ رِجَالٍ عَامِلِينَ بِهِ ... فِيمَا يَدِقُ وَمَا قَدْ جَلَّ وَاشْتَهَرَا آخر: جَمِيعُ الْكُتبِ يُدْرِك مَنْ قَرَاهَا ... مِلالٌ أَوْ فُتُورُ أَوْ سَآمَهْ سِوَى الْقُرْآنِ فَافْهَمْ وَاسْتَمِعْ لِي ... وَقَوْلِ الْمُصْطَفَى يَا ذَا الشَّهَامَهُُُُُُُُُُُُْ

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) اللِّيْلُ والنَّهَارَ يَعْمَلان فِيْكَ فاعْمَلْ فيهما أَعْمَالاً صَالِحَةً تَرْبَحَ وتَحْمَدِ العَاقِبةَ الحَمَيْدَة إن شَاءَ الله تَعَالَى. (2) المَلائِكةُ يَكْتُبَان مَا تَلفَّظُ به، فَاحْرَصْ عَلَى أنْ لا تَنْطِقَ إلاَّ بِمَا يَسُرُّكَ يَوم القِيَامِةْ أَشْرَفُ الأَشْيَاءِ قَبلْبُكَ، وَوَقْتُكَ، فَإِذَا أَهْمَلْتَ قَلْبَكَ وَضَيَّعْتَ وَقْتَكَ، فَمَاذَا يَبْقَى مَعَكَ، كُلّ الْفَوَائِد ذَهَبتْ. شِعْرًا: ... إِنِّي أَبُثُّكَ مِنْ حَدِيثِي ... إِنَّ الْحَدِيثَ لَهُ شُجُونُ غَيَّرْتُ مَوْضِعَ مِرْقِدِي ... لَيْلاً فَفَارَقَنِي السُّكُونُ قُلْ لِي فَأَوَّلَ لَيْلَةٍ ... في القَبْرِ كَيْفَ تَرَى يَكُونُ (3) اعْلَم أنَّ قِصَرَ الأمَلِ عَلَيْهِ مَدِارٌ عَظِيم، وحِصْنُ الأمَلِ ذِكْرُ الموِتِ، وحِصْنُ حِصْنِهِ ذِكْرُ فِجْأَةِ الموتِ وَأخْذُ الإِنسان على غِرَّةٍ وغَفْلةٍ، وهُوَ في غِرُرٍ وفُتُور عن الْعَمَل للآخرة. نَسْأَلْ الله أَنْ يُوقِضَ قُلوبَنَا إنه على كُلّ شَيْء قدير. اللَّهُمَّ صلى على مُحَمَّد وآله وسلم شِعْرًا: ... سَلِ اللهَ عَقْلاً نَافِعًا وَاسْتَعِذْ بِهِ ... مِن الْجَهْلِ تَسْأَلْ خَيْرُ مُعْطٍ لِسَائِلِ فَبِالْعَقْلِ تَسْتَوْفِي الْفَضَائِلِ كُلِّهَا ... كَمَا الْجَهْلُ مُسْتَوْفٍ جَمِيعَ الرَّذَائِلُُُُُُُُِ

فَائِدَةٌ عَظِيْمَةُ النَّفْعِ قال أحد الْعُلَمَاء رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: عَلَيْكَ يا أخي بمحاربة الشيطان وقهره، وَذَلِكَ لخصلتين أحدهما: أنه عدو مظِلّ مبين لا مطمَعَ فيه بمصالحة واتقاء شره أبدًا لأنه لا يرضيه ويقنعه إِلا هلاكك أصلاً فلا وجه إذًا للأمن من هَذَا الْعَدُوّ والغَفْلَة عَنْهُ، قال الله جَلَّ و َعَلا: {أَلَمْ أَعْهَدْ إليكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} ، والخصلة الثَّانِيَة أنه مجبول على عداوتك ومنتصب لمحاربتك في الليل والنَّهَارَ يرميك بسهامه وأَنْتَ غَافِل عَنْهُ ثُمَّ هوله مَعَ جَمِيع الْمُؤْمِنِين عداوة عامة، ومَعَ المجتهد في العبادة والعلم عداوة خاصة ومعه عَلَيْكَ أعوان نفسك الأمارة بالسُّوء والهوى والدُّنْيَا وَهُوَ فارغ وأَنْتَ مشغول وَهُوَ يراك وأَنْتَ لا تراه وأَنْتَ تنساه ولا ينساك فإذًا لا بد من محاربته وقهره، وإِلا فلاتأ من الفساد والهلاك والدمار، ومحاربته بالاستعاذة بِاللهِ والإكثار من ذكره.ُُُُ

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اعْلَمْ وفقنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المسلمين أنه لم يؤثر عن أحدٍ من السَّلَف الصالح من الصحابة وتابعيهم بإحسان تعَظِيم أحد من أَهْل البدع والموالين لأَهْل البدع والمنادين بموالاتهم، لأن أَهْل البدع مرضى قُلُوب ويخشى على من خالطهم أو اتصل بِهُمْ أن يصل إليه من ما بِهُمْ من هَذَا الداء العضال، لأن المريض يعدي الصحيح ولا عكس، فالحذر الحذر مِنْ جَمِيعِ أَهْل البدع، ومن أَهْل البدع الَّذِينَ يجب البعد عنهم وهجرانهم، الجهمية، والرافضة، والمعتزلة، والماتريدية، والخوارج، والصوفية، والأشاعرة، ومن على طريقتهم من الطوائف المنحرفة عن طريقة السَّلَف، فينبغي للمسلم أن يحذرهم ويحذر عنهم وصلى الله على مُحَمَّد وآله وسلم. فائدة عظيمة المنفعة العلم بما جَاءَ عن الله جل جلاله وتقدست أسماؤه وما جَاءَ عن رسوله ? خَيْر ميراث، والتَّوْفِيق من الله خَيْر قائد، والاجتهاد في طاعة الله خَيْر بضاعة ولا مال أحسن من عمل الرجل في يده ولا مصيبة أعظم من الكفر بِاللهِ، ولا عوين أوثق من الاعتماد على الله، ثُمَّ مشاورة أصحاب الرأي من الْمُؤْمِنِين، ولا أوحش من الكبر والعجب والكفر والنفاق.

فصل في النميمة والأدلة على تحريمها

[وقف لله تَعَالَى] (فَصْلٌ في تَحْرِيْمِ النَّمِيْمَة) ويجب اجتناب النميمة قال الله تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ كُلّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ} وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «ألا أخبركم بشراركم» ؟ قَالُوا: بلى، قال: «المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون للبراء العنت» . رواه أَحَمَد. وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «لا يدخل الْجَنَّة نمام» . وعن ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «ألا أنبئكم ما العضة هِيَ النميمة القالة بين النَّاس» . رواه مسلم. وعن عبد الرحمن بن غنم وأسماء بنت يزيد رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «خيار عباد الله الَّذِينَ إذا رؤا ذكر الله وشرار عباد الله المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون البراء العنت» . رواهما أَحَمَد والبيهقي في شعب الإِيمَان. وعن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم مر بقبرين يعذبان فَقَالَ: «إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكَانَ يمشي بالنميمة، وأما الآخِر فكَانَ لا يتسبرئ من بوله» . الْحَدِيث رواه البخاري. فالنميمة نقل كلام بعض النَّاس لبعض لقصد الإفساد، وإيقاع العداوة والبغضاء، فالنم خلق ذميم لأنه باعث للفتن وقاطع للصلات وزارع للحقَدْ، ومفرق للجماعات، يجعل الصديقين عدوين والأخوين أجنبيين، والزوجين متنافرين، فهذه المعصية معصية النميمة،

ولا يرضاها لنفسه إِلا من انحطت قيمته ودنؤت نَفْسهُ، وكَانَ عندها حقيرًا، وصار كالذباب ينقل الجراثيم. وأما من كَانَ يشعر بنفسه، فلا يرضى لها هذه الحالة، وهي حرام بجَمِيع أنواعها، سواء كانت بين الأصدقاء والأصحاب أو عَنْدَ أرباب الجاه والسُّلْطَان، وهي شر أنواع النميمة وأشد خطرًا فإن هذه هِيَ السعاية ولا يخفى ما وراء ذَلِكَ من المفاسد العظيمة فكم جرت من ويلات على كثير من الأبرياء الْمُؤْمِنِين الغافلين طاهري القُلُوب سليمي الصدور فقضت على أرواحهم وأموالهم وَكَمْ نكلت بكثير من الْعُلَمَاء فأخرجتهم من ديارهم وأموالهم وأصبحوا عرضة للمحن والنوائب وَكَمْ ضرت بصالحين مطمئنين فأودعتهم السجون وسلبتهم الحقوق، وجعلت للفسقة عَلَيْهمْ سلطانًا، وَكَمْ حرمت أطفالاً من قوتهم وسلبت مِنْهُمْ نعيمهم بدون جناية اقترفوها أو كانت بين زوجين، أو بين الأَهْل والأقرباء، ولا ريب في أن النميمة في هذه الحالة أشد من النميمة بين الأصدقاء والأصحاب، لإفضائها إلى قطيعة الرحم والطلاق غالبًا، ومن ذَلِكَ النميمة بين الجماعات والإفساد بين القبائل ومن ذلك النميمة لرفع الثِّقَة من مزاحم في تجارة أو صناعة أو زراعة ومن ذَلِكَ النميمة لإنزال شخص عن مكانته واحترامه عَنْدَ فئة من النَّاس. هَذَا معظم أنواع النميمة، وهي كما تَرَى من شر ما منيت به الفضيلة ورزئت به الإنسانية فليتق الله ذووا الألسنة الحداد ولا ينطقوا إِلا بما فيه الْخَيْر لخلق الله، ويكفيكم في هَذَا قول المصطفى صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «ومن كَانَ يؤمن بِاللهِ واليوم الآخِر فليقل خيرًا أو ليصمت» . رواه البخاري ومسلم.

فإذا تبين أن النميمة داء وبيل، وشر خطير تترتب عله كُلّ هذه الشرور والمفاسد فعلى من نقُلْتُ إليه النميمة مثل أن يُقَالُ له: قال فيك فلان كَذَا وَكَذَا، أو فعل في حقك كَذَا ونحو ذَلِكَ أن لا يصدق الناقل لأن النمام فاسق لا يصح الوثوق بخبره. ثانيًا: أن ينهي الناقل وينصحه إن كَانَ يظن به خيرًا ويعتقَدْ أن يتأثر بالموعظة الحسنة فيذكر له ما يترتب على نمامته من إيذاء الأبرياء وظلم النَّاس في أموالهم وأرزاقهم ويحذره من عاقبة وشايته وأنه ربما ينكشف أمره عَنْدَ حاكمٍ عادلٍ فيقتص منه شر قصاصٍ أو يظهر كذبه عَنْدَ من ينقل إليه فينعكس غرضه وأنه ربما نم على رجل أقوى منه فينتقم لنفسه بما لا قبل له به وإن النمام ساقط المروءة في أنظار النَّاس، مبغوضًا عندهم حتى أقربائه الَّذِينَ فيهم خَيْر وصلاح، فربما يرتدع بذَلِكَ. ثالثًا: أن لا يظن بأخيه الغائب السُّوء وخَيْر علاج يقضي عَلَيْهِ أن ينصرف النَّاس عن النمام ولا يستمعون له لأنه حسود وأكثر من يعادي أَهْل الفصل والدين الحساد لأنهم لا يرضون أعمالهم، وتجد الحسود إذا عجز أن يصل إلى ما وصل إليه الكرام يعيبهم ويتنقصهم. قال الشاعر: إِذَا بَعُدَ الْعُنُقُودُ عَنْهُ وَلَمْ يَصِلْ ... إليه بِوَجْهٍ قَالَ مُرٌّ وَحَامِضُ آخر: ... وَقَدْ يَنْبَحُ الْكَلْبُ السَّحَابَ وَدُونَهُ ... مَهَامِهُ تُعْشِي نَظْرَةَ الْمُتَأَمِلِ قال الشاعر: (وَذُو النَّقْصِ فِي الدُّنْيَا بِذِي الْفَضْلِ مَوْلَعُ)

وَيَقُولُ الآخر: لا يَسْلَمُ الشَّرَفُ الرَّفِيعُ مِن الأَذَى ... حَتَّى يُرَاقَ عَلَى جَوَانِبِهِ الدَّمُ وَيَقُولُ الآخر: وَكَذَا الْمَنَايَا مَا يَطَأْنَ بِمَنْسَمٍ ... إِلا عَلَى أَعْنَاقُ أَهْلِ السُّودَدِ وَيَقُولُ الآخر: إِنّ الْوَرَى أَعْدَاءُ مَنْ فَضَلَ الْوَرَى آخر: ... الْمَرْءُ يُقْلَى إِنْ عَلا ... حَسَدًا وَيُهْوَى إِنْ هَوَى كَالْغُصْنِ يُرْجَمْ مُشَمِّرًا ... أَبَدًا وَيُسْقَى إِنْ ذَوَى آخر: وَمَا زَالَتِ الأَشْرَاف تُهْجَى وَتُمْدَحُ وَيَقُولُ الآخر: وَيَبِيتُ قَوْمُ يُحْسَدُونَ مُحَمَّدًا ... وَذُو الْفَضْلِ لا تَلْقَاهُ إِلا مُحَسَّدًا آخر: ... وَكَأَنَّمَا شَرَفُ الشَّرِيفِ إِذَا ائْتَمَى ... جُرْمٌ جَنَاهُ عَلَى اللَّئِيمِ الرَّاضِعِ آخر: ... مَوْسُومَةُ بِالْحُسْنِ ذَاتَ حَوَاسِدِ ... إِنَّ الْحِسَانَ مَظَنَّةُ لِلْحُسَّدِ آخر في التحذير من النميمة والغيبة والبهت إلخ.... تَنَحَّ عَنْ النَّمِيمَةِ وَاجْتَنِبْهَا ... فَإِنَّ النَّمَ يُحْبِطُ كُلَّ أَجْرِ يُثِيرُ أَخُو النَّمِيمَةِ كُلَّ شَرٍّ ... وَيَكْشِفُ لِلْخَلائِقِ كُلَّ سِرِ وَيَقْتُلُ نَفْسَهُ وَسِوَاهُ ظُلْمًا ... وَلَيْسَ النَّمُ مِنْ أَفْعَالِ حُرٍّ آخر: وَيَحْرُمُ بُهْتُ وَاغْتِيَابُ نَمِيمَةُ ... وَإِفْشَاءُ سِرٍّ ثُمَّ لَعْنُ مُقَيَّدِ

آخر: ... وَصَاحِبُ النَّمِّ كَالدَّاءِ الْعَيَاءِ إِذَا ... مَا ارْفَضَّ فِي الْجِلْدِ يَجْرِي هَا هُنَا وَهُنَا يُبْدِي وَيُخْبِرُ عَنْ عَوْرَاتِ صَاحِبِهِ ... وَمَا يَرَى عِنْدَهُ مِنْ صَالِحٍ دَفَنَا آخر: ... وَلِدّيَانَاتِ أَهْلُ يَعْرفون بِهَا ... وَلِنَّمَامَةِ بَيْنَ النَّاسِ فُسَّاقُ روي عن عمر بن عَبْد الْعَزِيز أنه دخل عَلَيْهِ رجل فذكر عنده وشاية في رجل آخر فَقَالَ عمر: إن شئت حققنا هَذَا الأَمْر الَّذِي تَقُول فيه وننظر فيما نسبته إليه. فإن كنت كاذبًا فأَنْتَ من أَهْل هذه الآيَة: {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} وإن كنت صادقًا فأَنْتَ من أَهْل هذه الآيَة: {هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ} وإن شئت عفونا عَنْكَ فَقَالَ: العفو يا أمير الْمُؤْمِنِين لا أَعُود إليه أبدَا. إِذَا وَاشٍ أَتَاكَ بِقَوْلِ زُورٍ ... فَلا تَدَعِ الصَّدِيق لِقَوْلِ وَاشِي وَلا تُخْبِرْ بِسِرِّكَ كُلُّ سِرٍّ ... إِذَا مَا جَاوَزَ الاثْنَيْنِ فَاشِي وَلا تَصْحَبْ قَرِينَ السُّوءِ وَانْظُرْ ... لِنَفْسِكَ مَنْ تُقَارِنُ أَوْ تُمَاشِي ورفع إنسان رقعة إلى الصَاحِب بن عباد يحثه على أخذ مال يتيم وكَانَ له مال كثير فكتب على ظهره الرقعة: النميمة قبيحة، وإن كانَتْ صحيحة والميت رَحِمَهُ اللهُ، واليتيم جبره الله، والْمَال ثمره الله، والساعي لعنه الله. وَقَالَ الحسن البصري: من نقل إليك حديثًا فاعْلَمْ أنه ينقل إلى غيرك حديثك ووشى رجل برجل إلى أحد الولاة فَقَالَ: أتحب أن نقبل منك ما قُلْتُ فيه على أن نقبل منه ما قال فيك؟ قال: لا، قال: فكف عن الشر يكف عَنْكَ.

شِعْرًا: ... لا تُفْشِ سِرًّا مَا اسْتَطَعْتَ إلى امْرِئٍ يُفْشِي إليك سَرَائِرًا يَسْتَوْدِعُ فَكَمَا تَرَاهُ بِسِرٍّ غَيْرِكَ صَانِعًا فَكَذَا بِسِرِّكَ لا أَبَالَكَ يَصْنَعُ آخر: ... لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءُ يُسْتَطَبُّ بِهِ ... إِلا النَّمَامَةَ وَالطَّاعُونَ وَالْهَرَمَا آخر: ... لا تَقْبَلَنَّ نَمِيمَةً بُلِّغْتَهَا وَتَحْفَظَنَّ مِنَ الَّذِي أَنْبَاكَهَا إِنَّ الَّذِي أَهْدَى إليك نَمِيمَةً سَيَنِمُ عَنْكَ بِمِثْلِهَا قَدْ حَاكَهَا ... ›? وَقَالَ ابن المبارك: ولد الزنا لا يكتم الْحَدِيث. أشار به إلى أن كُلّ من لم يكتم الْحَدِيث، ومشى بالنميمة دل على أنه ولد زنا استنباطًا من قوله تَعَالَى: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} والزنيم هُوَ الدعي. وروى أن بعض السَّلَف زار أخًا له، وذكر له عن بعض إخوانه شَيْئًا يكرهه، فَقَالَ له: يا أخي أطلت الغيبة، وأتيتني بثلاث جنايات، بغضت إلى أخي، وشغلت قلبي بسبه، واتهمت نفسك الأمنية. أ. هـ. شِعْرًا: ... لِسَانُ الْفَتَى حَتْفُ الْفَتَى حِينَ يَجْهَلُ ... وَكُلُّ امْرِئٍ مَا بَيْنَ فَكَّيْهِ مَقْتَلُ إِذَا مَا لِسَانُ الْمَرْءِ أَكْثَرَ هَذْرَهُ ... فَذَاكَ لِسَانُ بِالبَلاءِ مُوَكَّلُ وَكَمْ فَاتِحٍ أَبْوَابَ شرٍّ لِنَفْسِهِ ... إِذَا لَمْ يَكُنْ قُفْلُ عَلَى فِيهِ مُقْفَلُ كَذَا مَنْ رَمَى يَوْمًا شَرَارَاتِ لَفْظِهِ ... تَلَقَّتْهُ نِيرَانُ الْجَوَابَاتِ تَشْعَلُ وَمَنْ لَمْ يُقَيِّدْ لَفْظَهُ مُتَحَمِّلاً ... سَيُطقُّ فِيهِ كُلَّ مَا لَيْسَ يَجْمُلُ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي فِيهِ مَاءُ صِيَانَةٍ ... فَمِنْ وَجْهِهِ غُصْنُ الْمَهَابَةِ يَذْبُلُ

موعظة جليلة

فَلا تَحْسَبَنَّ الْفَضْلَ فِي الْحِلْمِ وَحْدَهُ ... بَلْ الْجَهْلُ فِي بَعْضِ الأَحَايِينِ أَفْضَلُ وَمَنْ يَنْتَصِرْ مِمَّنْ بَغَى فَهُوَ مَا بَغَى ... وَشَرُّ الْمُسِيئَينِ الَّذِي هُوَ أوَّلُ وقَدْ أَوْجَبَ اللهُ الْقِصَاصَ بِعَدْلِهِ ... وَللهِ حُكْمُ فِي الْعُقُوبَاتِ مُنَزَلُ فَإِنْ كَانَ قَوْلٌ قَدْ أَصَابَ مَقَاتِلاً ... فَإِنَّ جَوَابَ الْقَوْلِ أَدْهَى وَأَقْتَلُ وَقَدْ قِيلَ فِي حِفْظِ اللِّسَانِ وَخَزْنِهِ ... مَسَائِلُ مَنْ كُلِّ الْفَضَائِلِ أَكْمَلُ وَمَنْ لَمْ يُقَرِّبْهُ سَلامَةُ غَيبِهِ ... فَقُرْبَانُهُ فِي الْوَجْهِ لا يُتَقَبَّلُ وَمَنْ يتَّخِذْ سُوءَ التَّخَلُّفِ عَادَةً ... فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي عِتَابٍ مُعَوَّلُ وَمِنْ كَثُرَتْ مِنْهُ الْوَقِيعَةُ طَالِبًا ... بِهَا عِزَّةً فَهُوَ الْمُهِينُ الْمُذَلَّلُ وَعَدْلُ مُكَافَاةِ الْمُسِيءِ بِفِعْلِهِ ... فَمَاذَا عَلَى مَنْ فِي الْقَضِيَّةِ يَعْدِلُ وَلا فَضْلَ فِي الْحُسْنَى إِلَى مَنْ يُحِسُّهَا ... بَلَى عِنْدَ مَنْ يَزْكُو لَدَيْهِ التَّفَضُّلُ وَمَنْ جَعَلَ التَّعْرِيضَ مَحْصُولَ مَزْحِهِ ... فَذَاكَ عَلَى الْمَقْتِ الْمُصَرَّحِ يَحْصُلُ وَمَنْ أَمِنَ الآفَاتِ عَجَبًا بِرَأْيِهِ ... أَحَاطَتْ بِهِ الآفَاتُ مِنْ حَيْثُ يَجْهَلُ أُعَلِّمِكُمُ مَا عَلَّمَتْنِي تَجَارُبِي ... وَقَدْ قَالَ قَبْلِي قَائِلُ مُتَمَثِّلُ إِذَا قُلْتَ قَوْلاً كُنْتَ رَهْنَ جَوَابِهِ ... فَحَاذِرْ جَوَابَ السُّوءِ إِنْ كُنْتَ تَعْقِلُ إِذَا شِئْتَ أَنْ تَحْيَا سَعِيدًا مُسَلَّمًا ... فَدَبِّرْ وَمَيِّزْ مَا تَقُولُ وَتَفْعَلُ وَاللهُ أَعْلَمُ. وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم. (موعظة) عباد الله إن صفات الشر وخصال السُّوء ما وجدت في قوم إِلا كَانُوا أهلاً لغضب الله وسخطه فاستحقوا الشقاء والذل في الدُّنْيَا والآخِرَة وإن من أقبح الخصال وأشنع الخلال الغيبة والنميمة وقَدْ انهمك النَّاس فيهما وصَارَت مجالسهم لا تعمر إِلا بهما يسمَعُ المرء من أخيه الكلمة ليفرج بها من كربه ويخفف بها من آلامه فينقلها إلى صاحبها قصد الإيقاع به والتفريق بين الْمُؤْمِنِين هذه يا عباد الله غاية الدناءة، ومنتهى الخسة والنذالة واللآمة ألا شهامة تحمل النمام على كتمانه سر أخيه ألا مروءة تمنعه من أن ينم على أخيه المسلم، إن النمام لا يعرف

للشهامة سبيلاً، ولا للمروءة طريقًا، إن من ينم على المسلمين ليبدل الود جفًا وبغضًا والصفو كدرًا وحقدًا ويفتح أبواب الشرور والجنايات على مِصْرَاعَيْهَا بين الْمُؤْمِنِين من أكبر المصائب، وأشد الرزايا على هَذَا المجتمَعَ الإنساني، وكَذَلِكَ الغيبة فإنها تذهب الحسنات، وأَنْتَ تريد أن تكشفه للناس تريد مِنْهُمْ أن يحقروه ويزدروه ويحترسوا منه أن يكون يومًا لَهُمْ من الأصحاب أَنْتَ تريد مِنْهُمْ أنه أن خطب مِنْهُمْ منعوه لتحقيرك إياه عندهم تريد من غيبتك له أن يبعد مِنْهُمْ ويكون منطويًا عنهم لما لقتنهم مِمَّا ذكرته فيه ويكون في وحشيةٍ مِنْهُمْ وتريد مِنْهُمْ أن لا يردوا عَلَيْهِ السَّلام إذا سلم لما عندهم له مِمَّا لقنتهم من الازدراء والاحتقار وإن كَانَ صانعًا فبسبب غيبتك له أن يجفوا صنعته فتقف، وإن كَانَ تاجرًا فتريد بغيبتك أن تخسر تجارته لإعراضهم عَنْهُ، وتريد أنه إذا كَانَ له أولادٌ أو بناتٌ يرغب في تزويجهم أن يأنف النَّاس مِنْهُمْ فيبورون، هَذَا وَاللهِ شَيْء يؤلم النُّفُوس الزكية لأنها مضار عظيمة جدًا تنزل بمن تغتابه فعلى العاقل أن لا يصدق المغتاب أن يرده خائبًا ولا يظن بأخيه المسلم إِلا خيرًا. اللَّهُمَّ يا من بيده خزائن السماوات والأَرْض عافنا من محن الزمان، وعوارض الفتن، فإنا ضعفاء عن حملها، وإن كنا من أهلها، اللَّهُمَّ وفقنا لصالح الأعمال، ونجنا مِنْ جَمِيعِ الأهوال، وأمنا من الفزع الأكبر يوم الرجف والزلزال، واغفر لنا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلّى اللهُ على محمدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. يُشَارِكُكَ الْمُغْتَابُ فِي حَسَنَاتِهِ وَيُعْطِيكَ أَجْرَيْ صَوْمِهِ وَصَلاتِهِ ... ›?

.. وَيَحْمِلُ وِزْرًا عَنْكَ ظَنَّ بِحَمْلِهِ عَنْ النُّجْبِ مِنْ أَبْنَائِهِ وَبَنَاتِهِ فَكَافِيهِ بِالْحُسْنَى وَقُلْ رَبِّ جَازِهِ بِخَيْرٍ وَكَفِّرْ عَنْهُ مِنْ سَيِّئَاتِهِ فَيَا أَيُّهَا الْمُغْتَابُ زِدْنِي فَإِنْ بَقِي ثَوَابُ صَلاةٍ أَوْ زَكَاةٍ فَهَاتِهِ فَغَيْرُ شَقِيٍّ مَنْ يَبِيتُ عَدُوُّهُ يُعَامِلُ عَنْهُ اللهَ فِي غَفَلاتِهِ فَلا تَعْجَبُوا مِنْ جَاهِل ضَرَّ نَفْسَهُ بِإِمْعَانِهِ فِي نَفْعٍ بَعْضِ عُدَاتِهِ وَأَعْجَبُ مِنْهُ عَاقِلٌ بَاتَ سَاخِطًا عَلَى رَجُلٍ يُهْدِي لَهُ حَسَنَاتِهِ وَيَحْمِلُ مِنْ أَوْزَارِهِ وَذُنُوبِهِ وَيَهْلَكُ فِي تَخْلِيصِهِ وَنَجَاتِهِ فَمَنْ يَحْتَمِلْ يَسْتَوْجِبِ الأَجْرَ وَالثَّنَا وَيُحْمَدُ فِي الدُّنْيَا وَبَعْدَ وَفَاتِهِ وَمَنْ يَنْتَصِفْ يَنْفَخْ ضِرًا مَا قَدْ انْطَفَى وَيَجْمَعُ أَسْبَابَ الْمَسَاوِي لِذَاتِهِ فَلا صَالِحٌ يُجْزَى بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلا حَسَنٌ يُثْنَى بِهِ فِي حَيَاتِهِ يَظَلَّ أَخُو الإِنْسَانِ يَأْكُلُ لَحْمَهُ كَمَا فِي كِتَابِ اللهِ حَالَ مَمَاتِهِ ... ›?

الباعث على النميمة أمور متنوعة

.. وَلا يَسْتَحِي مِمَّنْ يَرَاهُ وَيَدَّعِي بِأَنَّ صِفَاتِ الْكَلْبِ دُونَ صِفَاتِهِ وَقَدْ أَكَلا مِنْ لَحْمِ مَيْتٍ كِلاهُمَا وَلَكِنْ دَعَى الْكَلْبُ اضْطِرَارُ اقْتِيَانِهِ تَسَاوَيْتُمَا أَكْلاً فَأَشْقَاكُمَا بِهِ غَدًا مَنْ عَلَيْهِ الْخَوْفُ مِنْ تُبَعَاتِهِ وَمَا لِكَلامٍ مَرَّ كَالرِّيحِ مَوْقِعٌ فَيَبْقَى عَلَى الإِنْسَانُ بَعْضُ سِمَاتِهِ ... ›? (فَصْلٌ) ثُمَّ اعْلَمْ أن الباعث على النميمة إما إرادة السُّوء بالمحكي عَنْهُ، أو إظهار الحب للمحكي له أو التفرج بالْحَدِيث أو الخوض في الفضول ونحو ذَلِكَ ومن آفات الكلام كلام ذي اللسانين الَّذِي يتكلم لكل من المتعاديين بكلام يوافقه فيظهر له إذا قابله أنه صديقه الحميم الحريص على مصلحته الساعي في منفعته ويظهر له أنه عدوٌّ لعدوه وأنه حرب عَلَيْهِ مثله فيغتر بقوله وينخدع بوشيه فيفضي إليه بخبيئه ويبوح له بأسراره أو اتقى به شره وكيده، ومكره وخداعه فإذا فاقره ذهب إلى عدوه وأعلمه بخبئ أمره وبمكتوم سره وطعن في عرضه ونال من شرفه وأظهر له أنه عدو له وأنه له الصديق الوفي فتطمئن نَفْسهُ إليه وينطلق في ذم الآخِر والنيل من عرضه ثُمَّ يحدث هَذَا بما فكر فيه وقدر وبيت ودبر فيذهب به إلى الأول ويقصه عَلَيْهِ قصًا يوغر صدره ويشعل في قَلْبهُ نار العداوة فيزداد العداوة، وتربو البغضاء والشحناء وهكَذَا بين الاثنين والحزبين فمثل هَذَا منافق كذاب نمام خداع غشاش مكار ظَالِم.

شِعْرًا: ... صَافِي الْكَرِيمَ وَخَيْرُ مَنْ صَافَيْتَهُ ... مَنْ كَانَ ذَا دَيْنٍ وَكَانَ عَفِيفَا إِنَّ الْكَرِيمَ وَإِنْ تَضَعْضَعَ حَاله ... فَالطَّبْعُ مِنْهُ لا يَزَال شَرِيفَا وَاحْذَر مُؤَاخَاةَ اللَّئِيمِ فَإِنَّهُ ... يُبْدِي الْقَبِيحِ وَيَكْتُمُ الْمَعْرُوفَا وَالنَّاسُ مِثْلُ دَرَاهِمٍ مَيَّزْتَهَا ... فَوَجَدْتَ فِيهَا فِضَّةً وَزُيُوفَا آخر: ... لا تَمْدَحَنَّ امْرأ حَتَّى تُجَرِّبَهُ ... فَرُبَّمَا قَامَ إِنْسَانٌ مَقَامَ فِئَةْ فَالدَّالَ وَالذَّالُ فِي التَّصْوِيرِ وَاحِدَةٌ ... وَالدَّال أَرْبَعَةٌ وَالذَّالُ سُبْعُمائَةْ يشار بذَلِكَ إلى الأعداء الأبجدية في قول فدال أربعة والذال سبعمائة ورسمهما واحد إِلا أن الذال تتميز بنقطة فقط. شِعْرًا: ... وَكَمْ مِنْ صَدِيق وُدُّهُ بِلِسَانِهِ ... خُؤْونٍ بِظَهْرِ الْغَيْبِ لا يَتَذَمَّمُ يُضَاحِكُنِي عُجْبًا إِذَا مَا لَقِيتُهُ ... وَيَصْدِفُنِي مِنْهُ إِذَا غِبْتُ أَسْهُمُ كَذَلِكَ ذُو الْوَجْهَيْنِ يُرْضِيكَ شَاهِدًا ... وَفِي غَيْبِهِ إِنْ غَابَ صَابٌ وَعَلْقَمُ آخر: ... تَطَلَّبْتُ فِي الدُّنْيَا خَلِيلاً فَلَمْ أَجِدْ ... وَمَا أَحَدٌ غَيْرِي لِذَلِكَ وَاجِدُ فَكَمْ مُضْمِرٍ بُغْضًا يُرِيكَ مَحَبَّةً ... وَفِي الزَّنْدِ نَارٌ وَهُوَ فِي اللَّمْسِ بَارِدُ آخر: ... تَنَكَّر مَنْ كُنَّا نُسَرُّ بِقُرْبِهِ ... وَصَارَ زُعَافًا بَعْدَ مَا كَانَ سَلْسَلا وَحُقّ لِجَارٍ لَمْ يُوَافِقْهُ جَارُهُ ... وَلا لا أَمَتْهُ الدَّارُ أَنْ يَتَحَوَّلا آخر: ... لا أَشْتَكِي زَمَنِي هَذَا فَأَظْلِمُهُ ... وَإِنَّمَا أَشْتَكِي مِنْ أَهْلِ ذَا الزَّمَنِ هُمُ الذِّيَابُ الَّتِي تَحْتَ الثِّيَابُ فَلا ... تَكُنْ إِلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ بِمُؤْتَمِنِ آخر: ... مَنْ عَاشَ غَيْرَ مُدَاجِ مَنْ يُعَاشِره ... أَسَاء عشرة أصْحَاب وَإِخْوَانِ كَمْ صَاحِبٍ يَتَمَنَّى لَوْ نُعِيتَ لَهُ ... وَإِنْ تَشَكَّيْتُ آخَانِي وَفَدَّانِ

ومن الآفات المهلكة التي يتأكد تجنبها في رمضان وغيره المدح وله ست آفات أربع في المادح واثنتان في الممدوح الأولى: أنه قَدْ يفرط فينتهي به إلى الكذب. الثَّانِيَة: أنه قَدْ يدخله الرياء إذ لا يكون قَلْبهُ كَذَلِكَ. الثالثة: أنه قَدْ يَقُولُ ما لا يتحققه ولا سبيل له إلى الإطلاع عَلَيْهِ. الرابعة: أنه قَدْ يمدح الظَالِم والفاسق والكافر والمنافق وهَذَا أمر عَظِيم. الخامسة: أنه يحدث في الممدوح كبرًا وإعجابًا، وهما مهلكتان. السادسة: أنه يحدث في الممدوح فتورًا ورضى عن نَفْسهُ، عِنْدَمَا يثني عَلَيْهِ بالْخَيْر، ويحصل معه فرح وسرور، فيقل اجتهاده وتشميره عن الْعَمَل لأنه يظن أنه قَدْ أدرك النهاية وقَدْ وردت أحاديث في ذم المدح في الوجه لمن خيف عَلَيْهِ مفسدة من إعجاب ونحو. من ذَلِكَ ما ورد عَنْ أَبِي مُوسَى الأشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ وَيُطْرِيهِ فِي الْمِدْحَ فَقَالَ: «أَهْلَكْتُمْ أَوْ قَطَعْتُمْ ظَهْرَ الرَّجُلِ» . متفق عَلَيْهِ. والإطراء المبالغة في المدح. وقَدْ بالغ بعض الشعراء الَّذِينَ يتقربون إلى أسيادهم بما يرضيهم طمعًا في الدُّنْيَا، أو اتقاء شرهم، ولولا التحذير عن مثلها لما سقناها نسأل الله العافية: قال المتنبي: يَا مَنْ أَلُوذُ بِهِ فِيمَا أَؤمِلُهُ وَمَنْ أَعُوذُ بِهِ مِمَّا أُحَاذِرُهُ لا يَجْبُرُ النَّاسُ عَظْمًا أَنْتَ كَاسِرُهُ وَلا يَهِيضُونَ عظمًا أَنْتَ جَابِرُهُ ... ›?

وَيَقُولُ الآخِر نسأل الله العافية: ... مَا شِئْتَ لا مَا شَاءَتِ الأَقْدَارِ ... فَاحْكُمْ فَأَنْتَ الْمَالِكُ الْقَهَّارُ ولو اعتصم بِاللهِ وعلم أنه لا يضر ولا ينفع إِلا الله جَلَّ وَعَلا لأغناه وكفاه، وحال بين من يخشاه وبينه، قال تَعَالَى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ، وَقَالَ: {وَمَن يَعْتَصِم بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وعلام يخضع المُؤْمِن أو يتذلل لمخلوق مثله، يحتاج إلى ما يحتاج إليه. شِعْرًا: ... الْحَمْدُ لله لَيْسَ الرِّزْقَ بِالطَّلَبِ ... وَلا الْعَطَايَا لِذِي عَقْلٍ وَلا أَدَبِ إِنْ قَدَّرَ اللهَ شَيْئًا أَنْتَ طَالبُهُ ... يَوْمًا وَجَدْتَ إليه أَقْرَبَ السَّبَبِ آخر: ... صَرَفْتُ عَنْ الْكَثْرَاتِ وَجْهَ تَوَجُّهِي ... إِلَى وَحْدَةِ الْوَجْهِ الْكَرِيمِ الْمُمَجَّدِ فَمَا خَابَ مَصْرُوفًا إِلَى الْحَقِّ وَجْهُهُ ... وَقَدْ خَابَ مَنْ أَضْحَى إِلَى الْخَلْقِ يَجْتَدِي آخر: ... لَوْ أَنَّنِي خَيَّرْتُ كُلَّ فَضِيلَةٍ ... مَا اخْتَرْتُ إِلا صَالِحِ الأَعْمَالِ كُلُّ الأُمُورِ تَزُولُ عَنْكَ وَتَنْقَضِي ... إِلا الْعَمَلِ للهِ فَهُوَ الْبَاقِي آخر: ... مَوْلاكَ يَكْفِيكَ فَالْزَمْ بَابَ طَاعَتِهِ ... فَقَدْ كَفَى النَّاسَ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتَا مَنْ يَعْتَمِدْ غَيْرَهُ يَرْجِعْ بِمَحْرَمَةٍ ... كَالْمُبْتَغِي بِالْفَلا الصَّحْرَاءِ أَحْوَاتَا نَصَحْتُكَ لا تَسْأَلْ مِنَ النَّاسِ وَالْتَمِسْ ... بِكَفَّيْكَ فَضْلَ اللهِ فَالرِّزْقُ أَوْسَعُ فَلَوْ سُئِلَ النَّاسُ التُّرَابَ لأَوْشَكُوا ... إِذَا قِيلَ هَاتُوا أَنْ يَمَلُّوا وَيَمْنَعُوا آخر: ... لا تَخْضَعَنَّ لِمَخْلُوقٍ عَلَى طَمَعٍ ... فَإِنَّ ذَلِِكَ نَقْصُ مِنْكَ فِي الدِّينِ

المدح من الآفات المهلكة

وَاسْتَرْزِقِ اللهَ مِمَّا فِي خَزَائِنِهِ ... فَإِنَّمَا الأَمْرُ بَيْنَ الْكَافِ وَالنُّونِ يشير إلى قول الله جَلَّ وَعَلا: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلاً ذُكِرَ عِنْدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَجُلٌ خَيْرًا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْحَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ» . يَقُولُهُ مِرَارًا «إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا لا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسِبُهُ كَذَا وَكَذَا. إِنْ كَانَ يُرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ، وَحَسِيبُهُ اللهُ وَلا يُزَكِّي عَلَى اللهِ أَحَدًا» . متفق عَلَيْهِ. وَعَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ الْمِقْدَادُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَجُلاً جَعَلَ يَمْدَحُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَعَمِدَ الْمِقْدَادُ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَجَعَلَ يَحْثُو فِي وَجْهِهِ الْحَصْبَاءَ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: مَا شَأْنُكَ؟ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمْ الْمَدَّاحِينَ فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمْ التُّرَاب» . رواه مسلم. وقَدْ ذكر شراح الْحَدِيث أن المداحين المعنيين هنا هم الَّذِينَ اتخذوا مدح النَّاس عادة يستألون به فأما من مدح على الأَمْر الحسن والْفِعْل الجميل ترغيبًا وتنشيطًا وتحريضًا للناس على الإقتداء به فلَيْسَ بمداح وختامًا فإن التمدح مدرجة إلى الكذب والمسلم يجب أن يكون نبيهًا حذرًا يثنى على غيره فلا يذكر إِلا ما يعلم من خَيْر ولا يجنح إلى المبالغة في المدح فمهما كَانَ الممدوح جديرًا بالثناء فإن المبالغة في مدحه ضرب من الكذب على أن الممدوح إن كَانَ رزين العقل انتقَدْ المتجاوز للحد في مدحه كما قيل.

وَمَدْحُكَ الشَّخْصَ بِالأَخْلاقِ يَعْدِمُهَا لِلْحُرِّ ذِي اللَّبِ تَبْكِيتٌ وَتَخْجِيل ... ›? وَقَالَ الآخر: ... إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَمْدَحْهُ حُسْنُ فِعَاله فَمَادِحُهُ يَهْذِي وَإِنْ كَانَ مُفْصِحَا ... ›? وأجاب بعض الصلحاء المبالغ في مدحه بقوله: ... كُفِيتَ أَذَىً يَا مَنْ تَعَدُّ مَحَاسِنِي عَلانِيَّتِي هَذَا وَلَمْ تَدْرِ بَاطِنِي ... ›? وأجاب الآخِر بقوله: ... وَلَوْ عَلِمَ الْخَلائِقُ سُوءَ فِعْلِي لَمَا رَدُّوا إِلَى مِثْلِي سَلامَا ... ›? وحيث أن الشَّافِعِي لا يحب الرياء والشهرة وطلب المدح والثناء يَقُولُ: ... أَرَى الْغِرَّ فِي الدُّنْيَا إِذَا قِيلَ فَاضِلٌ تَرَقَّى عَلَى رُؤْسِ الرِّجَالِ وَيَخْطُبُ وَإِنْ كَانَ مِثْلِي لا فَضِيلَةَ عِنْدَهُ يُقَاسُ بِطِفْلِ فِي الشَّوَارِعِ يَلْعَبُ ... ›? وأما الثناء من الإِنْسَان على نَفْسهُ فشناعة وفظاعة وقَدْ قيل لحكيم ما الَّذِي لا يحسن وإن كَانَ حقًّا؟ فَقَالَ: مدح الرجل نَفْسهُ. وَقَالَ معاوية رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لرجل: من سيد قومك؟ فَقَالَ: أَنَا. فَقَالَ: لو كُنْتَهُ لَمَا قُلْتَهُ. قال بَعْضهمْ: ... وَمَا حَسَنَ أَنْ يَمْدَحَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ وَلَكِنْ أَخْلاقًا تَذُمُّ وَتَمْدَحُ ... ›?

.. وَمَا كُلُّ حِينٍ يَصْدُقُ الْمَرْءُ ظَنَّهُ وَلا كُلُّ أَصْحَابِ التِّجَارَةِ يَرْبَحُ وَلا كُلُّ مَنْ تَرْجُو لِغَيْبِكَ حَافِظًا وَلا كُلُّ مَنْ ضَمَّ الْوَدِيعَةَ يَصْلَحُ ... ›? وَرُبَّمَا آل حب المدح بصاحبه إلى أن يصير ديدانه مدح نَفْسهُ إما لتوهمه أن النَّاس غفلوا عن فضله وأخلوا بحقه من المدح فتسوقه المنافسة إلى مدح نَفْسهُ وفتح باب الاستهزاء عَلَيْهِ وإما ليخدعهم بتدلَيْسَ نَفْسهُ بالمدح والإطراء فيعتقَدْ الجهال أن قوله حق متبع وصدق مستمَعَ وإما لتلذذه بسماع الثناء وسرور نَفْسهُ بالمدح ولأي واحدٍ من الثلاثة كَانَ مدح النفس فهو الجهل الصريح والنقص الفضيح، والكبر القبح لأنه ناشيء عن عقل فاسدٍ. وقَدْ قال بعض الشعراء: ... وَدَعْوَةُ الْمَرْءِ تُطْفِي نُورَ بَهْجَتِهِ هَذَا بِحَقٍّ فَكَيْفَ الْمُدَّعِي زَلَلا ... ›? وينبغي للعاقل أن يسترشد إِخْوَان الصدق الَّذِينَ هم أصفياء القُلُوب الَّذِينَ يثق بدينهم وأمانتهم فهم مرايا المحاسن والعيوب لينبهوه على مساويه التي صرفه حسن الظن بنفسه عَنْهَا فَإِنَّهُمْ أمكن نظرًا وأسلم فكرًا ويجعلون ما ينبهونه عَلَيْهِ من مساويه عوضًا عن تصديقه المدح فيه. قال الشاعر: ... لا تَحْقِرَنَّ الرَّأْيَ وَهُوَ مُوَافِقٌ ... حُكْم الصَّوَابِ وَلَوْ أَتَى مِنْ نَاقِصِ فَالدُّرُّ وَهُوَ أَجَلُّ شَيْء يُقْتَنَى ... مَا حَطَّ قِيمَتَهُ هَوَانُ الْغَائِصِ

آخر: ... خَصَائِصُ من تُشَاوِرُهُ ثَلاثٌ ... فَخُذْهَا مِنْ لِسَانِي بِالْوَاثِيقَةْ وَدَادُ خَالِصُ وَوَفُورُ عَقْلٍ ... وَمَعْرِفَةٌ لِحَالِكَ بِالْحَقِيقَةْ فَإِنْ تَمتْ لَهُ هَذِي الْمَعَانِي ... فَتَابِعْ أَيَهُ وَاسْلُكْ طَرِيقَةْ وقَدْ روى أنس بن مالك عن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: «الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ، إذا رأى فيه عيبًا أصلحه» . وكَانَ عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: رحم الله امرأ أهدي إلينا مساوينا لنصلحها. وقيل لبعض الحكماء: أتحب أن تهدى إليك عيوبك؟ قال: نعم ممن يريد براءتي من العيوب لا من عدو يشمت بالذُّنُوب. ومِمَّا يقارب هَذَا القول ما روي عن عُمَر بن الْخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه قال لابن عباس: من تَرَى نوليه حمص فَقَالَ رجلاً صحيحًا منك لا تسوء به الظن بأنه لَيْسَ من أَهْل الكفاية نصيحًا لك مخلصًا فِي طَاعَتكَ قال عمر تَكُون أَنْتَ ذَلِكَ الرجل قال ابن عباس: لا تنفع بي مَعَ سوء ظنك بي لما حملت كلامي على التعريض، وسؤال الولاية. وأما قول يوسف عَلَيْهِ السَّلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ} فلأنه قصد بذَلِكَ التنبيه على استقلاله بما سأل أن يفوض إليه لمصلحة لا يقوم بها غيره وهي العلم بجَمِيع الجهات المتعلقة بهذه الخزائن من حسن الاستخراج وحسن التصرف وإقامة العدل الكامل مَعَ الحفظ التام لذَلِكَ فهو لما رأى الملك استخلصه لذَلِكَ وجعله مقدمًا عَلَيْهِ وفي المحل العالي وجب عَلَيْهِ النَّصِيحَة التامة للملك والرعية، وأما طلب ما يحصل به الثناء من وجه يستحب فذَلِكَ محمود، وَهُوَ طَرِيق إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلاة

والسَّلام حيث قال: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} أي اجعلني بحيث أفعل ما إذا مدحت به يكون مادحي صادقًا ولذَلِكَ ينبغي للإنسان إذا أثني عَلَيْهِ أن يَقُولُ اللَّهُمَّ اجعلني خيرًا مِمَّا يظنون ويكثر من حمد الله وشكره. شعرًا: ... إِذَا شِئْتَ أَنْ تَبْقَى مِن اللهِ نِعْمَةٌ ... فَسَارِعْ إِلَى حَمْدِ الإِلهِ وَشُكْرِهِ وَلا تَعْصِيَنَّ اللهَ فِيمَا رُزِقْتَهُ ... فَيَنْزِعُ عَنْكَ اللهُ وَاسِعِ رِزْقِهِ آخر: ... إِذَا رَبُّنَا أَعْطَاكَ دُنْيَا فَجُدْ بِهَا ... عَلَى النَّاسِ أَهْلِ الدِّينِ قَبْلَ التَّفَلُّتِ فَلا الْجُودُ يُفْنِيهَا إِذَا هِيَ أَقْبَلَتْ ... وَلا الْبُخْلُ يُبْقِيهَا إِذَا هِيَ وَلَتِ آخر: ... تَبَارَكَ مَنْ سَاسَ الأُمُورَ بِعِلْمِهِ ... وَذَلَّ لَهُ أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ قَسَّمَ الأَرْزَاقَ بَيْنَ عِبَادِهِ وَفَضَّلَ بَعْضَ النَّاسِ فِيهَا عَلَى بَعْضِ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْحِرْصَ فِيهِ يَزِيدُهُ فَقُولُوا لَهُ يَزْدَادُ فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ آخر: ... وَدَاوِ وَلازِمْ قَرْعَ بَابٍ مُؤمِّلاً فَمَا خَيَّبَ الْمَوْلَى رَجَاءَ مُؤَمِّلِ وَصَابِرْ فَمَا نَالَ الْعُلا غَيْرُ صَابِرٍ وَقُلْ وَاعِظًا لِلنَّفْسِ عِنْدَ التَّمَلْمُلِ مَعَ الصَّبْرِ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ مُنَاكَ أَوْ مُنَايَا كِرَام فَاصْبِرِي وَتَحَمَّلِي وَدَاوِ لِسُقْمِ الْقَلْبِ وَاعْمُرْ خَرَابَهُ ... بِذِكْرِكَ مَوْلانَا فَسَبِّحْ وَهَلِّلِ

موعظة ويليها قصيدة زهدية

اللَّهُمَّ اكتب في قلوبنا الإِيمَان وأيدنا بنور منك يا نور السماوات والأَرْض، اللَّهُمَّ ووافتح لدعائنا باب القبول والإجابة واغفر لنا وارحمنا بِرَحْمَتِكَ الواسعة إنك أَنْتَ الغفور الرحيم وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين. موعظة أين من عمر العمائر والفلل واحترس أين من عمر الحدائق وغرس ونصب لنفسه سرير العز وجلس وبلغ الغاية في العتو والطغيان وعن الحق انتكس وظن في نَفْسهُ البقاء ولكن خاب الظن في النفس، أقلقهُ خوف الموت واختلس وأنزل بالقهر عن ظهر الفرس وحمل إلى دار البَلاء فانطمس وتركه في ظلام ظلمة من الجهل والدنس فالعاقل من اغتنم الوَقْت قبل أن يختلس وصبر نَفْسهُ على طاعة مولاه إلى أن تنتهي الحياة وَيَنْقَطِعُ النَّفْس، وَأَكْثِرْ مِنْ سُؤَال اللهِ أَنْ يُوفِقَكَ وَيُعِينَكَ شِعْرًا: ... إِذَا كَانَ عَوْنُ اللهِ لِلْعَبْدِ مُسْعِفًا ... تَهَيَّا لَهُ فِي كُلِّ أَمْرٍ مُرَادُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَوْنُ الله لِلْفَتَى ... فَأَكْثَرُ مَا يَجْنِي عَلَيْهِ اجْتِهَادُهُ آخر: ... فَكَابِدْ إِلَى أَنْ تَبْلُغِ النَّفْسُ عُذْرِهَا ... وَكُنْ فِي اقْتِبَاسِ الْعِلْمِ طلاع أَنْجُدِ وَلا يَذْهَبَنَّ الْعُمْرُ مِنْكَ سَبَهْللاً ... وَلا تُغْبَنَنْ بِالنِّعْمَتَيْنِ بَلْ أَجْهِدِ فَمَنْ هَجَرَ اللَّذَاتِ نَالَ الْمُنَى وَمَنْ ... أَكَبَّ عَلَى اللَّذَاتِ غَضَّ عَلَى إليدِ شِعْرًا: ... نَبْنِي وَنَجْمَعُ وَالآثَارُ تَنْدَرِسُ وَنَأْمَلُ اللُّبْثَ وَالأَعْمَارُ تُخْتَلَسُ ... ›?

ج ... ذَا اللُّبِ فَكِّرْ فَمَاذَا الْعَيْشِ مِنْ طَمَعٍ لا بُدَّ مَا يَنْتَهِي أَمْرٌ وَيَنْعَكِسُ أَيْنَ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ وَمَنْ كَانُوا إِذَا النَّاسُ قَامُوا هَيْبَةً جَلَسُوا وَمَنْ سُيُوفُهُمْ فِي كُلِّ مُعْتَرَكٍ تَخْشَى وَدُونَهُمْ الْحُجَّابُ وَالْحَرَسُ أَضْحَوْا بِمَهْلَكَةٍ فِي وَسْطِ مَعْرَكَةٍ صَرْعَى وَصَارُوا بِبَطْنِ الأَرْضِ وَانْطَمَسُوا وَعَمَّهُهُمْ حَدَثٌ وَضَمَّهُمْ جَدَثٌ بَاتُوا فَهُمْ جُثَثٌ فِي الرَّمْسِ قَدْ حُبِسُوا كَأَنَّهُمْ قَطُ مَا كَانُوا وَمَا خُلِقُوا وَمَاتَ ذِكْرُهُمْ بَيْنَ الْوَرَى وَنُسُوا وَاللهِ لَوْ عَايَنَتْ عَيْنَاكَ مَا صَنَعَتْ أَيْدِي الْبِلَى بِهِمُوا وَالدُّودُ يَفْتَرِسُ لَعَايَنَتْ مَنْظِرًا تُشْجَى الْقُلُوبُ لَهُ وَأَبْصَرَتْ مُنْكَرًا مِنْ دُونِه الْبَلَسُ مِنْ أَوْجُهٍ نَاظِرَاتٍ حَارَ نَاظِرُهَا فِي رَوْنَقِ الْحُسْنِ مِنْهَا كَيْفَ يَنْطَمِسُ وَأَعْظُمٍ بَالياتٍ مَا بِهَا رَمَقٌ وَلَيْسَ تَبْقَى لِهَذَا وَهِيَ تُنْتَهَسُ وَأَلْسُنٍ نَاطِقَاتٍ زَانَهَا أَدَبٌ مَا شَأْنُهَا شَانَهَا فِي الْمَنْطِقِ الْخَرَسُ ... ›?

مما يتأكد اجتنابه في رمضان وغيره

.. حَتَّامَ يَا ذَا النُّهَى لا تَرْعَوِي سَفَهًا وَدَمْعَ عَيْنَيْكَ لا يَهْمِي وَيَنْبَجِسُ ... ›? اللَّهُمَّ اهدنا بهداك إلى صراطك المستقيم ووفقنا للقيام بحقك على الوجه المطلوب يا كريم وَاجْعَلْنَا يا مولانَا ممن أتاك بقلب سليم واغفر لنا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلّى اللهُ على محمدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ) ومِمَّا يتأكد اجتنابه في رمضان وغيره الشتم وَهُوَ رمي أعراض النَّاس بالمعائب القبيحة وذكرهم بقبيح القول حضرًا أو غيبًا. عن سهل بن سعد قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الْجَنَّة» . رواه البخاري. وعن عَبْد اللهِ بن مسعود قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» . وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «يا معشر من آمن بلِسَانه ولم يفض الإِيمَان إلى قَلْبهُ لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإن من تتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته» . وفي حديث المعراج: «ومررت بقوم لَهُمْ أظفار من نحاسٍ يخمشون وجوههم وصدورهم، فقُلْتُ: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الَّذِينَ يأكلون لحوم النَّاس ويقعون في أعراضهم» . وَقَالَ سفيان بن حسين: ذكرت رجلاً بسوء عَنْدَ إياس بن معاوية فنظر في وجهي وَقَالَ: أغزوت الروم؟ قُلْتُ: لا، قال: أغزوت السند والهند والترك؟ قُلْتُ: لا، قال: أفسلم منك الروم والسند والهند

ولم يسلم منك أخوك المسلم؟ قال: فلم أعد بعدها، وقل: أن تجد مولعًا بلحوم الغوافل عيابًا للناس إِلا وفيه من العيوب ما لو اشتغل بإصلاح بعضها لكَانَ أولى به، وأحفظ لوقته، وأسلم لدينه، وأسلم لعرضه فإنه إذا عابهم عابوه وأكثروا فيه ويستمرون في البذاءة والوقاحة ولا يمل بل يفرح. شِعْرًا: ... إِذَا أَنْتَ عِبْتَ النَّاسَ عَابُوا وَأَكْثَرُوا عَلَيْكَ وَأَبْدَوا فِيكَ مَا كَانَ يُسْتَرُ وَإِمَّا ذَكَرَتْ النَّاسَ فَاتْرُكْ عُيُوبَهم وَلا عَيْبَ إِلا مِثْلَ مَا فِيكَ يُذْكَرُ فَإِنْ عِبْتَ قَوْمًا بِالَّذِي فِيكَ مِثْلُهُ فَكَيْفَ يَعِيبُ الْعُورَ مَنْ هُوَ أَعْوَرُ وَإِنْ عِبْتَ قَوْمًا بِالَّذِي لَيْسَ فِيهِمْ فَذَلِكَ عِنْدَ النَّاسِ وَاللهُ أَكْبَرُ ... ›? آخر: ... قَبِيحٌ مِن الإِنْسَانِ يَنْسَى عُيُوبَهُ ... وَيَذْكُرْ عَيْبًا فِي أَخِيهِ قَدْ اخْتَفَى وَلَوْ كَانَ ذَا عَقْلٍ لَمَا عَابَ غَيْرَهُ ... وَفِيهِ عُيُوبٌ لَوْ رَآهَا بِهَا اكْتَفَى آخر: ... وَمَطْرُوفَةٍ عَيْنَاهُ عَنْ عَيْبِ نَفْسِهِ ... وَإِنْ بَانَ عَيْبٌ مِنْ أَخِيهِ تَبَصَّرَا آخر: ... أَتَبُصْرُ فِي الْعَيْنِ مِنّيْ الْقَذَا ... وَفِي عَيْنِكَ الْجِذْعُ لا تُبْصِرُ وَلا أَحْسَنَ مِن الإِعْرَاضِ عَن السفيه والدني قال بَعْضهمْ: إِذَا جَارَيْتَ فِي خُلُقِ دَنِيئًا ... فَأَنْتَ وَمَنْ تُجَارِيهِ سَوَاء

آخر: ... وَمَنْ رَدَّ الْكَلامَ عَلَى سَفِيهٍ ... كَمَنْ دَفَعَ السِّلاحَ إِلَى عَدُوٍ آخر: ... لَوْ كُلُّ كَلْبٍ عَوَى أَلْقَمْتَهُ حَجَرًا ... لأَصْبَحَ الصَّخْرُ مِثْقَالاً بِدِينَارِ آخر: ... أَوَكَلَّمَا طَنَّ الذُّبَابُ زَجَرْتُهُ ... إِنَّ الذُّبَابَ إِذًا عليَّ كَرِيمُ آخر: ... فَمَا كُلُّ كَلْبٍ نَابِحٍ يَسْتَفِزَّنِي ... وَلا كُلُّ مَا طَنَّ الذُّبَابُ أَرَوَّعُ آخر: ... وَلَوْ كُلَّمَا كَلْبُ عَوَى مِلْتُ نَحْوَهُ ... أُجَاو ِبُهُ إِنَّ الْكِلابَ كَثِيرُ وعن معاذ بن جبل رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أخبرني بعمل يدخلني الْجَنَّة ويباعدني من النار. قال: «لَقَدْ سألت عن عَظِيم وإنه ليسير على من يسره الله عَلَيْهِ تعبد الله لا تشرك به شَيْئًا، وتقيم الصَّلاة وتؤتي الزَّكَاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت» . ثُمَّ قال له: «ألا أدليك على أبواب الْخَيْر الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل» ثُمَّ تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} حتى بلغ: {يَعْمَلُونَ} . ثُمَّ قال: «ألا أخبرك برأس الأَمْر وعموده وذروة سنامه» ؟ قُلْتُ: بلى يَا رَسُولَ اللهِ. قال: «رأس الأَمْر الإسلام، وعموده الصَّلاة وذروة سنامه الجهاد» . ثُمَّ قال: «قال: ألا أخبرك بملاك ذَلِكَ كله» ؟ قُلْتُ: بلى يَا رَسُولَ اللهِ. فأخذ بلِسَانه ثُمَّ قال: «كف عَلَيْكَ هَذَا» . قُلْتُ: يا نَبِيّ اللهِ وانَا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فَقَالَ: «ثكلتك أمك، وهل يكب النَّاس في

النار على مناخرهم» أو قال: «على وجوهم إِلا حصائد ألسنتهم» . رواه الترمذي. شِعْرًا: أَلا أحْفَظْ لِسَانَكَ إِنَّ اللِّسَا ... نَ سَرِيعُ إِلَى الْمر فِي قَتْلِهِ وَإِنَّ اللِّسَانَ دَلِيلُ الْفُؤَادِ ... يَدُلُّ الرِّجَالَ عَلَى عَقْلِهِ آخر: ... اغْمِدْ لِسَانَكَ لا يَنْسَلَّ عَنْ فَمِّهِ فَإِنَّهُ فِي عُيُوبِ الْخَلْقِ طَعَّانُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِثْلَ يَأْجُوجَ اللِّسَانُ إذًا لَمْ يُبْنَ مِنْ دُونِهِ كَالسَّدِ أَسْنَانُ ... ›? آخر: ... لِسَانُ الْمَرْءِ لَيْثُ فِي كَمِين ... إِذَا خَلَى عَلَيْهِ لَهُ إِغَارَةْ فَصُنْهُ عَنْ الْخَنَا بِلِجَام صَمْتٍ ... يَكُنْ لَكَ مِنْ بَلِيَاتٍ سَتَارَةْ آخر: ... وَأحْفَظْ لِسَانَكَ وَاحْتَرِزْ مِنْ لَفْظِهِ فَالْمَرْءُ يَسْلَمُ بِاللِّسَانِ وَيَعْطَبُ ... ›? آخر: ... أحْفَظِ لِسَانَكَ لا تَقُولُ فَتُبْتَلَى ... إِنَّ الْبَلاءَ مُوَكَّلُ بِالْمَنْطِقِ آخر: ... لِسَانَكَ لَكَ الْمَمْلُوكُ مَا دُمْتَ صَامِتًا وَأَنْتَ لَهُ الْمَمْلُوكُ حِينَ تَكَلَّمُ ... ›? آخر: ... يَكُب الْفَتَى فِي النَّارِ حَصْدُ لِسَانِهِ ... وَإِرْسَالُ طَرْفِ الْمَرْءِ أَنْكَى فَقَيّدِ آخر: ... مَا إِنْ نَدِمْتُ عَلَى سُكُوتِي مَرَّة وَلَقَدْ نَدِمْتُ عَلَى الْكَلامِ مِرَارًا ... ›?

وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ» . رَوَاهُ أَحَمْدُ والتِّرْمِذِي. وَخَرَّجَ الْبَزَّارُ من حديث أَبِي بُسْر أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلْنِي الْجَنَّةِ قَالَ: «أَمْسِكْ هَذَا» . وَأَشَارَ إِلى لِسَانه فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ وقَالَ: «ثَكَلَتْكَ أُمُّكَ هَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي النَّارِ إِلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» . والمراد بحصائد الألسن جزاء الكلام المحرم وعقوباته، فإن الإِنْسَان يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيئات ثُمَّ يحصد يوم القيامة ما زرع فمن زرع خيرًا من قول أو عمل حصد الكرامة ومن زرع شرًّا من قول أو عملٍ حصد الندامة وفي حديث أَبِي هُرَيْرَةِ عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «أكثر ما يدخل الناس النار الأجوفان الفم والفرج» . رواه الإمام أَحَمَد والترمذي وخَرَجَ البخاري والترمذي عن سهل بن سعد قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الْجَنَّة» . وفي الْحَدِيث الآخِر أنه صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «أتدرون من المفلس» ؟ قَالُوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فَقَالَ: «إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة ويأتي وقَدْ شتم هَذَا، وقذف هَذَا، وأكل مال هَذَا، وسفك دم هَذَا، وضرب هَذَا فيأخذ هَذَا من حسناته وهَذَا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عَلَيْهِ أخذ من خطاياهم فطرحت عَلَيْهِ ثُمَّ طرح في النار» . رواه مسلم والترمذي ومِمَّا يتأكد اجتنابه الفحش وَهُوَ كُلّ ما اشتد قبحه من الذُّنُوب والمعاصي وكَذَلِكَ الرياء نسأل الله السلامة مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوب. شِعْرًا: ... مَنْ شَاءَ عَيْشًا رَخيًا يَسْتَفِيدُ بِهِ ... فِي دِينِهِ ثُمَّ فِي دُنْيَاهُ إِقْبَالا فَلْيَنْظُرَنَّ إِلَى مَنْ فَوْقَهُ بِتُقَى ... والْيَنْظُرَنَّ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ حَالا

عن أَبِي هُرَيْرَةِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «من لم يدع قول الزور والْعَمَل به فلَيْسَ لله حَاجَة في أن يدع طعامه وشرابه» . رواه البخاري وَأَبُو دَاود واللفظ له. ويسن لمن شتم وَهُوَ صائم أن يَقُولُ: «إني صائم» . سواء في رمضان أو غيره لما ورد عن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «إذا كَانَ صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل إني صائم» . متفق عَلَيْهِ. شِعْرًا: تَزَوَّدْ مَا اسْتَطَعْتَ لِدَارِ خُلْدٍ فَخَيْرُ الزَّادِ زَادُ الْمُتَّقِينَا وَلا يَغْرُرْكَ فِي الدُّنْيَا ثَرَاءٌ هُنَاكَ تَرَى أُجُورُ الْعَامِلِينَا تَبَصَّرْ يَا هَدَاكَ اللهُ إِنَّا نَسِيرُ عَلَى طَرِيقِ السَّابِقِينَا فَإِنَّ الْمَوْتَ غَايَةُ كُُلِّ حَيٍ وَبَطْنُ الأَرْضِ مَثْوَى الْعَالَمِينَا أَلَمْ تَعْلَمْ بِأَنَّ اللاءَ كَانُوا مُلُوكًا فِي الْقُرُونِ الْغَابِرِينَا أَضَاعُوا الْعُمْرَ فِي لَهْوٍ وَظُلْمٍ وَحَادُوا عَنْ طَرِيقِ الْمُتَّقِينَا وَلَمْ يَجِدُوا لِدَفْعِ الْمَوْتِ عَنْهُمْ ... سَبِيالاً فَاسْتَكَانُوا صَاغِرِينَا نَعِيمُ الْخُلْدِ لا يَفْنَى فَسَارِعْ ... لأَعْمَالِ الْعِبَادِ الصَّالِحِينَا

موعظة في التحذير عن المعاصي

اللَّهُمَّ اختم بالأعمال الصالحات أعمارنا وحقق بِفَضْلِكَ آمالنا وسهل لبلوغ رضاك سبلنا وحسن في جَمِيع الأَحْوَال أعمالنا يا منقذ الغرقى ويا منجي الهلكى ويا دائم الإحسان أذقنا برد عفوك وأنلنا من كرمك وجودك ما تقر به عيوننا من رؤيتك في جنات النَّعِيم واغفر لنا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلّى اللهُ على محمدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. موعظة قال ابن الجوزي رَحِمَهُ اللهُ: الحذر الحذر من المعاصي فإنها سيئة العواقب، والحذر الحذر من الذُّنُوب خصوصًا ذنوب الخلوات فإن المبارزة لله تَعَالَى تسقط الْعَبْد من عينه سُبْحَانَهُ ولا ينال لذة المعاصي إِلا دائم الغَفْلَة، فأما المُؤْمِن اليقظان فإنه لا يلتذ بها، لأنه عَنْدَ التذاذه يقف بإزائه علمه بتحريمها وحذره من عقوبتها، فإن قويت معرفته رأى بعين علمه قرب الناهي وَهُوَ الله فيتنغص عيشه في حال التذاذه فإن غلبه سكر الهوى كَانَ الْقَلْب متنغصًا بهذه المراقبات وإن كَانَ الطبع في شهوته فما هِيَ إِلا لحظة ثُمَّ خزي دائم وندم ملازم وبُكَاء متواصل وأسف على ما كَانَ مَعَ طول الزمان حتى إنه لو تيقن العفو وقف بإزائه حذار العتاب فأف للذنوب ما أقبح آثارها وأسوء وأخبارها. انتهى. شِعْرًا: ... أَيَضْمَنُ لِي فَتَىً تَرْكَ الْمَعَاصِي ... وَأَرْهَنُهُ الْكَفَالَةَ بِالْخَلاصِ أَطَاعَ اللهَ قَوْمٌ فَاسْتَرَاحُوا ... وَلَمْ يَتَجَرَّعُوا غُصَصَ الْمَعَاصِي آخر: ... خَلِيلِي إِنِّي مَا غَبَطْتُ سِوَى الَّذِي ... أَتَى مُخْلِصًا للهِ رَبِّ الْبَرِيَّةِ يَقُومُ طِوَالَ اللَّيْلِ تَجْرِي دُمُوعُهُ ... عَلَى مَا مَضَى مِنْ مُوبِقَاتٍ وَزَلَّتِي آخر: ... مَنْ مِثْلُ رَبِّكَ تَعْصِيه وَتَهْجُرُهُ ... وَيُسْبِلُ السِّتْرَ يَا ذَا الْغَدْرِ فَارْتَدعِ يَا نَاقِضَ الْعَهْدِ يَا مَنْ حَاله قُبحتْ ... مَعَ الإِلهِ بِلا خَوْفٍ وَلا جَزَعِ

فصل في تحريم الظلم والأدلة على ذلك

ضَيَّعْتَ عُمْرَكَ تَسْوِيفًا بِلا عَمَلٍ ... تُمْسِي وَتُصْبِحُ بَيْنَ الْحِرْصِ وَالطَّمَعِ وَتَسْمَعُ الْوَعْظَ لانْتِهَاكَ زَاجِرَةُ ... بَلْ أَنْتَ فِي غَفْلَة عَنْ ذَاكَ فَاسْتَمِع فَقُمْ لِتَقْرَعَ بَابًا لِلَّذِي كَثُرتْ ... لِلسَّائِلِينَ عَطَايَاهُ وَأَنْتَ مَعِي لَعَلَّهُ أَنْ يَرَانَا تَائِبِينَ لَهُ ... يَمُنُّ بِالْعَفْوِ عَنْ عِصْيَانِنَا الشَّنِعِ وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. فصل في (تحريم الظلم) اعْلَمْ وفقنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن الظلم مرتعه وخيم وعاقبته سيئة وَهُوَ منبع الرذائل ومصدر الشرور، وحد الظلم أنه وضع الشَيْء في غير موضعه وَهُوَ انحراف عن العدالة ومتى فشى وشاع في أمة أهلكها وإذا حل في قرية أو مدينة دمرها. وَهُوَ والفساد قرينان بهما تخرب الديار وتزول الأمصار وتقل البركات ويحل الفشل محلها وَهُوَ ظلمَاتَ تزل الأقدام في غياهبه وتضل به الأفهام ويظهر الفساد وينتشر بسببه وينتشر بسببه الفزع بين النَّاس. وأعظم الظلم وأشده وأخبثه الشرك بِاللهِ قال الله تَعَالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم} ، وَقَالَ: {أَنَا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} ، وَقَالَ تَعَالَى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ اليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} الآيات. وَقَالَ: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} الآيَة.

أمثلة لآثاره ويليها موعظة

هَذَا مِمَّا ورد في القرآن الكريم في حق الظالمين وأما السنة فمن ذَلِكَ ما ورد عن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الظلم ظلمَاتَ يوم القيامة» . رواه البخاري، ومسلم، والترمذي. وعن جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمَاتَ يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كَانَ قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم» . رواه مسلم. وعن أبي مُوَسى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله ليملي للظَالِم فإذا أخذه لم يفلته - ثُمَّ قَرَأَ -: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} . رواه البخاري، ومسلم، والترمذي. وَأَظْلِمْ أَهْلِ الظُّلْمِ مَنْ بَاتَ مُشْرِكًا ... بِرَبِّ الْوَرَى فَافْهَمْهُ فَهْمَ مُوَحِّدِ وظلم النَّاس أنواع يجمعها قوله: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» . وعن عَبْد اللهِ بن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الشيطان قَدْ يئس أن يعبد الأصنام في أرض الْعَرَب ولكنه سيرضى منكم بدون ذَلِكَ بالمحرمَاتَ وهي الموبقات يوم القيامة اتقوا الظلم ما استطعتم فإن الْعَبْد يجيء بالحسنات يوم القيامة يرى أنها ستنجيه فما زال عبد يَقُولُ يا رب ظلمني عبدك فَيَقُولُ: امحوا من حسناته وما يزال كَذَلِكَ حتى ما يبقى له حسنة من الذُّنُوب» . إِنْ تَمْطُلِ اليوم الْحُقُوقَ مَعَ الْغِنَى ... فَغَدًا تُؤدِّيهَا مَعَ الإِفْلاسِ وَإِذَا أَحَبَّ اللهُ يَوْمًا عَبْدَهُ ... أَلْقَى عَلَيْهِ مَحَبَّةً فِي النَّاسِ

«وإن مثل ذَلِكَ كسفر نزلوا بفلاة من الأَرْض لَيْسَ معهم حطب فتفرق القوم ليحبطوا فلم يلبثوا أن احتطبوا فأعظموا النار وطبخوا ما أرادوا وكَذَلِكَ الذُّنُوب» . رواه أبو يعلى من طَرِيق إبراهيم بن مسلم الهجري عن أبي الأحوص عن ابن مسعود. ورواه أَحَمَد، والطبراني بإسناد حسن نحوه باختصار. وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو شَيْء فليتحلله منه اليوم من قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كَانَ له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عَلَيْهِ» . رواه البخاري، والترمذي. وعنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أتدرون من المفلس» ؟ قَالُوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فَقَالَ: «إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقَدْ شئتم هَذَا وقذف هَذَا، وأكل مال هَذَا، وسفك دم هَذَا، وضرب هَذَا فيعطى هَذَا من حسناته وهَذَا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عَلَيْهِ أخذ من خطاياهم فطرحت عَلَيْهِ ثُمَّ طرح في النار» . رواه مسلم، الترمذي. وعن ابن عثمان عن سلمان وسعد بن مالك وحذيفة بن اليمان وعبد الله بن مسعود حتى عد ستة أو سبعة من أصحاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: إن الرجل لترفع له يوم القيامة صحيفة حتى يرى أنه ناج فما تزال مظَالِم بني دم تتبعه حتى ما يبقى له من حسنة ويحمل عَلَيْهِ من سيئاتهم. رواه البيهقي في الشعب بإسناد جيد.

وعن أبي ذر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم فيما يرويه عن ربه عَزَّ وَجَلَّ. أنه قال: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا» . الْحَدِيث رواه مسلم والترمذي وابن ماجة. وروي عن ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن النَّبِيّ ? قال: «لا تظلموا فتدعوا فلا يستجاب لكم، وتستسقوات فلا تسقوا، وتستنصروا فلا تنصروا» . رواه الطبراني. اللَّهُمَّ انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، ووفقنا للعمل بما فهمتنا، اللَّهُمَّ إن كنا مقصرين في حفظ حقك، والوفاء بعهدك، فأَنْتَ تعلم صدقنا في رجَاءَ رفدك، وخالص ودك، اللَّهُمَّ أَنْتَ أعلم بنا منا، فبكمال جودك تجاوز عنا، واغفر لنا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين، الأحياء مِنْهُمْ والمَيتين، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (موعظة) عباد الله بما أن الله جَلَّ وَعَلا من عليكم بالإسلام فيجب عليكم أن تحبوه، فإنه الَّذِي بيده خَيْر الدُّنْيَا والآخِرَة، وأن تحبوا رسوله ? الَّذِي لولا الله ثُمَّ لولاه لكنتم من حطب جهنم تلتهب بكم أبد الآبدين، وأن تحبوا أحباب الله، وأحبابه هم الَّذِينَ لزموا طاعة مولاهم وتباعدوا عن معصيته كما يتباعد الإِنْسَان عما يقتله من سم ونحوه بل السم أَهْوَن وأخف من كثير المعاصي كيف لا والمعاصي لا تسلم فاعلها إِلا إلى الْعَذَاب الأليمِ إن لم يتجاوز عَنْهُ مولاه مضى في صدر هذه الأمة أناس قال الله فيهم: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وهم الَّذِينَ كَانُوا بأرواحهم في سبيل الله يجودون، وكَانُوا يرون السعادة كُلّ السعادة في ذَلِكَ الجود وإذا لم يستطيعوا

قصيدة زهيدة فيها عبر ومواعظ

كَانُوا لذَلِكَ يحزنون وكَانَ هؤلاء النَّاس يحبون رسولهم فوق محبتهم لأموالهم وأنفسهم وكَانَ حب أحدهن لأخيه أعظم من حبه لأثاثه وماله يحب له ما يحب لنفسه ولذَلِكَ كَانُوا في كُلّ المنافع، لا يعرفون إِلا خلق الإيثار، كما حكى الله عنهم بقوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ سل التاريخ عَلَيْهمْ يخبر عنهم أخبارًا ما سمعت قط بمثلها يخبرك أنهم كَانُوا سادة الدُّنْيَا يعترف بذَلِكَ الْعَدُوّ قبل الصديق اعتراف إقرار وإذعان يخبرك أنهم كَانُوا إذا اتجهوا لغزو جهة ينهزم أهلها وبينهم وبينهم مسافة عظبمة وكيف لا يعزهم ربهم وقُلُوبهمْ كانت وقفًا على حبه وحب رسوله ? وحب كُلّ ما يرضيه من مبار، هؤلاء كَانُوا عبيد الله عبودية ما رأت الدُّنْيَا عبودية مثلها في سائر العبيد عدا الرسل الكرام لذَلِكَ كَانُوا يحنون لطاعته حنينًا لا ينقضي عجبه وَهُوَ مخلص وشديدٌ كَانُوا لا يشبعون من العبادة بالنَّهَارَ فيستقبلون الليل بعزائمهم بعثتها همم عاليةٌ، اتكل ولا تمل من العبادة، بل هِيَ في العبادة كالسمك في البحر، والليل على ذَلِكَ شهيد ومن الَّذِي يَقُولُ إن الدُّنْيَا والآخِرَة هؤلاء الَّذِينَ هم خَيْرةُ الله من خلقه هم سلفنا الصالح، فينبغي أن نقفوا آثارهم، ونكون على مثل ما كَانُوا عَلَيْهِ من المحبة الفائقة والطاعة الفريدة لمولانَا. قال بَعْضهمْ يصف السَّلَف: مُسْتَوْفِزِينَ عَلَى رَحْلٍ كَأَنَّهُمْ ... رَكْبٌ يُرِيدُونَ أَنْ يَمْضُوا وَيَنْتَقِلُوا عَفَّتْ جَوَارِحُهُمْ عَنْ كُلِّ فَاحِشَةٍ ... فَالصِّدْقُ مَذْهَبُهُمْ وَالْخَوْفُ وَالْوَجَلُ آخر: ... تَنَعَّمَ قَوْمٌ بِالْعِبَادَةِ وَالتُّقَى ... أَلَذَّ النَّعِيمِ لا اللَّذَاذَةَ فِي الْخَمْرِ فَقَرَّتْ بِهِ طُولَ الْحَيَاةِ عُيُونُهُمُ ... وَكَانَتْ لَهُمْ زَادًا إِلَى الْقَبْرِ

آخر: ... دَعِ التَّكَاسُل فِي الطَّاعَاتِ تَفْعَلُهَا ... فلَيْسَ يَسْعَدُ بِالطَّاعَاتِ كَسْلانُ وَاشْدُدْ يَدَيْكَ بِحَبْلِ اللهِ مُعْتَصِمًا ... فَإِنَّهُ الرُّكْنُ إِنْ خَانَتْكَ أَرْكَانُ مَنِ اسْتَعَانَ بِغَيْرِ اللهِ فِي طَلَبٍ ... فَإِنَّ نَاصِرَهُ عَجْزٌ وَخُذْلانُ مَنْ يَزْرَعِ الشَّرِ يَحْصُدْ فِي عَوَاقِبِهِ ... نَدَامَة وَلِحَصْدِ الزَّرْعِ إِبَّانُ مَنِ اسْتَنَامَ إِلَى الأَشْرَارَ نَامَ وَفِي ... قَمِيصِهِ مِنْهُمْ صِلٌ وَثُعْبَانُ وَكُلُّ كَسْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَجْبُرُهُ ... وَمَا لِكَسْرِ قَنَاةِ الدِّينِ جُبْرَانُ آخر: ... اعْلَمْ بِأَنَّ طَرِيقَ الْحَقِّ مُنْفَرِدُ ... وَالسَّالِكُونَ طَرِيقَ الْحَقِّ أَفْرَادُ لا يَطْلُبُونَ وَلا تُطْلَبْ مَسَاعِيهِمْ ... فَهُمْ عَلَى مَهَل يَمْشُونَ قُصَّادُ وَالنَّاسُ فِي غَفْلَةٍ عَمَّاله قَصَدُوا ... فَجُلّهُمْ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ رُقَّادُ آخر: ... يَا بَاغِي الإِحْسَانِ يَطْلُبُ رَبَّهُ ... لِيَفُوزَ مِنْهُ بِغَايَةِ الآمَالِ انْظُرْ إِلَى هَدْيَ الصَّحَابَةِ وَالَّذِي ... كَانُوا عَلَيْهِ فِي الزَّمَانِ الْخَالِ وَاسْلُكْ طَرِيق الْقَوْمِ أَيْنَ تَيَمَّمُوا ... خُذْ يَمْنَةً فَالدَّرْبُ ذَاتُ شَمَالِ تَاللهِ مَا اخْتَارُوا لأَنْفُسِهِمْ سِوَى سُبُلَ الْهُدَى فِي الْقَوْلِ وَالأَفْعَالِ دَرَجُوا عَلَى نَهْجِ الرَّسُولِ وَهَدْيِهِ وَبِهِ اقْتَدَوْا فِي سَائِرِ الأَحْوَالِ نِعْمَ الرَّفِيقُ لِطَالِبٍ يَبْغِي الْهُدَى فَمَاله فِي الْحَشْرِ خَيْرُ مَآلِ الْقَانِتِينَ الْمُخْبِتِينَ لِرَبِّهِمْ النَّاطِقِينَ بِأَصْدَقِ الأَقْوَالِ ... ›?

.. التَّارِكِينَ لِكُلِّ فِعْلٍ سَيءٍ وَالْعَامِلِينَ بِأَحْسَنِ الأَعْمَالِ أَهْوَاءُهُمْ تَبَعٌ لِدِينِ نَبِيِّهِمْ وَسِوَاهُمْ بِالضِّدِّ مِنْ ذِي الْحَالِ مَا شَابَهُمْ فِي دِينِهِمْ نَقْصٌ وَلا فِي قَوْلِهِمْ شَطْحُ الْجَهُولِ الْغَالِ عَمِلُوا بِمَا عَلِمُوا وَلَمْ يَتَكَلَّفُوا فَلِذَاكَ مَا شَابُوا الْهُدَى بِضَلالِ وَسِوَاهُمُ بِالضِّدِ فِي أَحْوَالِهِمْ تَرَكُوا الْهُدَى وَدَعَوا إِلَى الضَّلالِ فَهُمْ الأَذِلَّةُ لِلْحَيَارَى مَن يَسِرْ بِهُدَاهُمُ لَمْ يَخْشَ مِنْ إِضْلالِ وَهُمُ النُّجُومُ هِدَايَةً وَإِضَاءَةً وَعُلُو مَنْزِلَةٍ وَبُعْدَ مَنَالِ يَمْشُونَ بَيْنَ النَّاسِ هَوْنًا نُطْقُهُمْ بِالْحَقِّ لا بِجَهَالَةِ الْجُهَّالِ حَلِمًا وَعِلْمًا مَعَ تُقَىً وَتَوَاضِعِ وَنَصِيحَةٍ مَعَ رُتْبَةِ الإِفْضَالِ يُحْيُونَ لَيْلَهُمْ بِطَاعَةِ رَبِّهِمْ بِتِلاوَةٍ وَتَضَرُّعٍ وَسُؤَالِ وَعُيُونُهُمْ تَجْرِي بِفَيْضِ دُمُوعِهِمْ مِثْلَ انْهِمَالِ الْوَابِلِ الْهَلالِ ... ›?

الأحاديث الواردة في التحذير من الظلم واتقاء دعوة المظلوم

.. فِي اللَّيْلِ رُهْبَانٌ وَعِنْدَ جِهَادِهِمْ لِعَدُوِّهِمْ مِنْ أَشْجَعِ الأَبْطَالِ وَإِذَا بَدَا عَلَمُ الرِّهَبَانِ رَأَيْتَهُمْ يَتَسَابَقُونَ بِصَالِحِ الأَعْمَالِ بِوُجُوهِهِمْ أَثَرُ السُّجُودِ لِرَبِّهِمْ وَبِهَا أَشِعَةُ نُورِهِ الْمُتَلالِ وَلَقَدْ أَبَانَ لَكَ الْكِتَابُ صِفَاتِهِمْ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ الْمُبِينِ الْعَالِ وَبِرَابِعِ السَّبْعِ الطِّوَالِ صَفَاتُهُمْ قَوْمٌ يُحِبُّهُمُ ذُووا أدْلالِ وَبَرَاءَةٍ وَالْحَشْرِ فِيهَا وَصْفُهُمْ وَبِهَلْ أَتَى وَبِسُورَةِ الأَنْفَالِ ... ›? اللَّهُمَّ أذقنا عفوك وغفرانك واسلك بنا طَرِيق مرضاتك، وعاملنا بلطفك وإحسانك واقطع عنا ما يبعد عن طَاعَتكَ، اللَّهُمَّ وثَبِّتْ محبتك في قلوبنا وقوها ويسر لنا ما يسرته لأوليائك، واغفر لنا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين الأحياء مِنْهُمْ والمَيتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ) وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى اليمَنِ فَقَالَ: «اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَالْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ يَرْفَعُهَا اللَّهُ فَوْقَ الْغَمَامِ وَيَفْتَحُ لَهَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ وَيَقُولُ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ» . رواه أَحَمَد والترمذي وحسنه وابن ماجة، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والبزار مختصرًا بلفظ: «ثلاث حق على الله أن لا يرد لَهُمْ دعوة: الصائم حتى يفطر، والمظلوم حتى ينتصر، والمسافر حتى يرجع» . وفي رواية للترمذي: «ثلاث دعواتٍ لا شك في إجابتهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده» . وروى أبو داود هذه بتقديم وتأخَيْر. وعن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «اتقوا دعوة المظلوم، فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة» . رواه الحاكم وَقَالَ: رواته متفق على الاحتجاج بِهُمْ إِلا عاصم بن كليب فاحتج به مسلم وحده. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا فَفُجُورُهُ عَلَى نَفْسِهِ» . رواه أَحَمَد بإسناد حسن. وروى عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا دعوتان لَيْسَ بينهما وبين الله حجاب دعوة المظلوم، ودعوة المرء لأخيه بظهر الغيب. رواه الطبراني وله شواهد كثيرة. وعن خزيمة بن ثابت رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام يَقُولُ الله: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين» . رواه الطبراني. شِعْرًا: ... وَمَا مِنْ يَدٍ إِلا يَدُ اللهِ فَوْقَهَا ... وَلا ظَالِمٌ إِلا سَيُبْلَى بِظَالِمِ

وأبيات في وصفها

آخر: ... وأظلم أَهْلِ الظُّلْمِ مَنْ بَاتَ مُشْرِكًا ... بِخَالِقِهِ فَاحْذَرْ هُدِيتَ عَنِ الشِّرْكِ قال بَعْضهمْ يصف دعوة المظلوم وَهُوَ في الحَقِيقَة لغز. وَسَائِرَةٍ لَمْ تَسْرِ فِي الأَرْضِ تَبْتَغِي مَحَلاً وَلَمْ يَقْطَعْ بِهَا الْبِيْدَ قَاطِعُ سَرَتْ حَيْثُ لَمْ تَحْدَ الرِّكَابُ وَلَمْ تُنَخْ لِوَرْدٍ وَلَمْ يَقْصُرْ لَهَا الْقَيْدَ مَانِعُ تَمُرُّ وَرَاءَ اللَّيْلِ وَاللَّيْلُ ضَارِبٌ بِجُثْمَانِهِ فِيهِ سَمِيرٌ وَهَاجِعُ إِذَا وَفَدَتْ لَمْ يَرْدُدِ اللهُ وَفْدَهَا عَلَى أَهْلِهَا وَاللهُ رَاءٍ وَسَامِعُ تَفَتَّحُ أَبْوَابُ السَّمَاوَاتِ دُونَهَا إِذَا قَرَعَ الأَبْوَابَ مِنْهُنَّ قَارِعٌ وَإِنِّي لأَرْجُو اللهَ حَتَّى كَأَنَّمَا أَرَى بِجَمِيلِ الظَّنِّ مَا اللهُ صَانِعُ آخر: ... أَلا رُبَّ ذِي ظُلْمٍ كَمَنْتُ لِحَرْبِهِ فَأَوْقَعُهُ الْمَقْدُورُ أَيَّ وُقُوعٍ وَمَا كَانَ لِي إِلا سِلاحُ تُركُّعٍ وَأَدْعِيَةٌ لا تُتَّقَى بِدُرُوعِ وَهَيْهَاتَ أَنْ يَنْجُو الظَّلُومُ وَخَلْفَهُ سِهَامُ دُعَاءٍ مِن قِسِّيٍ رُكُوعِ ... ›? وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها

ذكر طرف من ما في صحف إبراهيم وموسى يليها موعظة بليغة في الحث على نصر المظلوم، الظلم لا يختص بأرباب الوظائف

هنا التقوى ها هنا» . ويشير إلى صدره «بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كُلّ المسلم على المسلم حرام دمه، وماله، وعرضه» . رواه مسلم. وعن أبي ذر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ ما كانت صحف إبراهيم؟ قال: «كانت أمثالاً كُلّهَا: أيها الملك المسلط المبتلي المغرور إني لم أبعثك لتجمع الدُّنْيَا بعضها على بعض ولكني بعثتك لترد عني دعوة المظلوم فإني لا أردها وإن كانت من كافر وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبًا على عقله أن يكون له ساعات فساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نَفْسهُ وساعة يتفكر فيها في صنع الله عَزَّ وَجَلَّ وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب. وعلى العاقل أن لا يكون ظاعنًا إِلا لثلاث تزودٍ لمعادٍ أو مرمةٍ لمعاش أو لذةٍ في غير محرم وعلى العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه مقبلاً على شأنه حافظًا للِسَانه ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إِلا فيما يعنيه. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ فما كانت صحف مُوَسى عَلَيْهِ السَّلام؟ قال: «كانت عبرًا كُلّهَا: عجبت لمن أيقن بالموت ثُمَّ يفرح، وعجبت لمن أيقن بالنار ثُمَّ هُوَ يضحك، عجبت لمن أيقن بالقدر ثُمَّ هُوَ ينصب، عجبت لمن رأى الدُّنْيَا وتقلبها بأهلها ثُمَّ اطمأن إليها عجبت لمن أيقن بالحساب غدًا ثُمَّ لا يعمل» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أوصني قال: «أوصيك بتقوى الله، فإنها رأس الأَمْر كله» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ زدني. قال: «عَلَيْكَ بتلاوة القرآن وذكر الله عَزَّ وَجَلَّ، فإنه نور لك في الأَرْض، وذخر لك في السماء» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ زدني. قال: «إياك وكثرة الضحك، فإنه

موعظة بليغة في التحذير من الشر وأهله

يميت الْقَلْب، ويذهب بنور الوجه» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ زدني. قال: «عَلَيْكَ بالجهاد فإنه رهبانية أمتي» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ زدني. قال: «أحب المساكين وجالسهم» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ زدني. قال: «انظر إلى من هو تحتك ولا تنظر إلى من هُوَ فوقك، فإنه أجدر أن لا تزدرى نعمة الله عندك» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ زدني. قال: «قل الحق وإن كَانَ مرًّا» . قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ زدني. قال: «ليردك عن النَّاس ما تعلمه من نفسك ولا تجد فيما تأتي وكفى بك عيبًا أن تعرف من الناس ما تجهله من نفسك وتجد عَلَيْهمْ فيما تأتي» . ثُمَّ ضرب بيده على صدري، فَقَالَ: «يا أبا ذر لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق» . رواه ابن حبان في صحيحه واللفظ له والحاكم، وَقَالَ: صحيح الإسناد اللَّهُمَّ توفنا مسلمين وألحقنا بعادك الصالحين الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون واغفر لنا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك ويسرنا لليسرى وجنبنا العسرى واغفر لنا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (موعظة) : عباد الله ما للألسن عن شكر نعم الله المتتالية قاصرة، وما للعيون إلى زهرة الحياة الدُّنْيَا الفانية ناظرة، وما للأقدام عن طَرِيق الهداية الواضحة حائرة وما للعزائم والهمم عن الْعَمَل الصالح فاترة وما للنفوس لا تتزود من التقوى وهي مسافرة وما لها لا تتأهب وتستعد للنقلة إلى دار الآخِرَة، أركونًا إلى الدُّنْيَا وقَدْ فرقت الجموع وكسرت أعناق الأكاسرة وقصرت آمال القياصرة وأدارت على أهلها من تقلبها الدائرة أم

اغترارًا بالإقامة، ومطايا الأيام بكم في كُلّ لحظة سائرةٍ أم تسويفًا بالتوبة والأعمال فهذه وَاللهِ الفكرة والصفقة الخاسرة لَقَدْ رانت على القُلُوب قبائح الأعمال، وضربت عَلَيْهَا وعلى المسامَعَ من الذُّنُوب أقفالٌ فيا خجلة من سئل فعدم الجواب أو بجوابٍ يستحق عَلَيْهِ أليم الْعَذَاب ويا حَسْرَة من نوقش عن الدقيق والجليل في الآخِرَة الحساب، ويا ندامة من لم يحصل إِلا على الْغَضَب من الكريم الوهاب ويا خيبة من ماله إلى نار تلتهب إلى إحراقه التهابًا، فمتى تقبلون على الله بقُلُوب صادقة لا تنتهون من مفارقة الذُّنُوب بعزمة صادقة، لا في الصادقين تيقنون أنه ثابت لكم قدم، ولا في التائبين صحت لكم توبة وإقلاع وعزم وندم. ولا عَنْدَ تلاوة كتاب الله تقشعر منكم الجلود ولا عَنْدَ سماع المواعظ ترق منكم القُلُوب التي هِيَ أقسى من الجلمود فبماذا ترجون لحاق السعداء وكيف تطمعون في الفوز والنجاة معهم غدًا وأنتم تتبعون الخطايا بالخطايا وتبارزون. الله بها في البكر والعشيا، فيا حَسْرَة نفوس أطمأَنْتَ إلى الدُّنْيَا دار الغرور، ويا خراب قُلُوب عمرت بأماني كُلّهَا باطل وزورٍ، ويا نفاذ أعمار ينقص منها كُلّ يوم وساعة ولا يزَادَ ويا خيبة مسافر يسير السير السريع وَهُوَ بلا زادٍ، فالبدار البدار عباد الله بالتوبة البدار والغنيمة الغنيمة قبل خروج وَقْت الاختيار، وإيتان وَقْت لا تقال فيه العثار: ... نَسِيرُ إِلَى الأَجَالِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ ... وَأَيَّامُنَا تُطْوَى وَهُنَّ مَرَاحِلُ وَلَمْ نَرَ مِثْلَ الْمَوْتِ حَقًّا كَأَنَّهُ ... إِذَا مَا تَخَطَّتُهْ الأَمَانِي بَاطِلُ تَرَحَّلْ مِن الدُّنْيَا بِزَادٍ مِنَ التُّقَى ... فَعُمْرَكَ أَيَّامٌ تُعَدُّ قَلائِلُ آخر: ... هِيَ الدُّنْيَا حَقِيقَتُهَا مُحَالٌ ... تَمُرُّ كَمَا يَمُرُّ بِكَ الْخَيَالُ وَكَمْ قَدْ غَرَّ زُخْرُفُهَا رِجَالاً ... غُرُورَ ذَوِي الظَّمَا بِالْقَاعِ آلُ

جج آخر: ... سَوَاءٌ مَنْ أَقَلَّ التُّرْبُ مِنَّا ... وَمَنْ وَارَى مَعَالِمَهُ التُّرَابُ وَإِنَّ مُزَايِل الْعَيْشِ اخْتِصَارًا ... مُسَاوٍ لِلَّذِينَ بَقُوا فَشَابُوا وَأَوَّلُنَا الْعَنَاءُ إِذَا طَلَعْنَا ... إِلَى الدُّنْيَا وَآخِرُنَا الذَّهَابُ آخر: ... قَدْ نَادَتِ الدُّنْيَا عَلَى نَفْسِهَا ... لَوْ كَانَ فِي الْعَالَم مَنْ يَسْمَعُ كَمْ آمِل خَيَّبْتُ آمَاله ... وَجَامِعِ بَدّدْتُ مَا يَجْمَعُ آخر: ... خَرَجْتُ مِن الدُّنْيَا كَأَنِّي لَمْ أَكُنْ دَخَلْتُ إليها قَطُّ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ تَبَلَّغْتُ فِيهَا بِاليسِيرِ وَقَدْ كَفَى وَحَصَّلْتُ فِيهَا مَا عَمَرْتُ بِهِ قَبْرِي يُؤَنِّسُنِي فِيهِ إِذَا مَا سَكَنْتُهُ وَنِعْم رَفِيقٌ صَاحِبٌ لِي إِلَى الْحَشْرِ فَيَا عَامِرَ الدُّنْيَا رُوَيْدَكَ فَاقْتَصِرْ فَإِنَّ سِهَامَ الْمَوْتِ تَأْتِي وَمَا تَدْرِي وَإِيَّاكَ وَالتَّفْرِيطَ فالْغَبْنُ كُلُّهُ لِمَنْ مُنِحَ الدُّنْيَا وَرَاحَ بِلا أَجْرِ ... ›? آخر: ... عَلَى مِثْلِ هَذَا كُلُّ جَمْعٍ مَاله ... وِصَالُ وَتَفْرِيقُ يسر وَيُؤْلمُ وَإِنْ مُنِعَ الْغُيَّابُ أَنْ يَقْدَمُوا لَنَا ... فَإِنَّا عَلَى غُيَّابِنَا سَوْفَ نَقْدَمُ آخر: ... يَا مُنْزِلاً لَعِبَ الزَّمَانُ بِأَهْلِهِ ... فَأَبَادَهُمْ بِتَفَرُّق وَسَيجُمَعُوا ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ ... وَبَقَى الَّذِينَ حَيَاتُهُمْ لا تَنْفَعُ آخر: ... وَعَضَتْكَ أَجْدَاثٌ وَهُنَّ صُمُوتُ ... وَأَصْحَابُهَا تَحْتَ التُّرَابُ خُفُوتُ أَيَا جَامِعَ الدُّنْيَا لِغَيْرِ بَلاغِهِ ... لِمَنْ تَجْمَعِ الدُّنْيَا وَأَنْتَ تَمُوتُ

كلام نفيس لشيخ الإسلام حول الظلم والأمثلة الموضحة لذلك

آخر: ... يَا نَفْسُ مَا هِيَ إِلا صَبْرُ أَيَّامِ ... كَأَنَّ مُدَّتَهَا أَضْغَاثُ أَحْلامِ يَا نَفْسُ جُوزِي عَنِ الدُّنْيَا مُبَادَرَةً ... وَخَلِّ عَنْهَا فَإِنَّ الْعَيْشَ قُدَّامِ آخر: ... تَقْنَ اللَّذَاذَةُ مِمَّنْ نَا لَذَّتَهَا ... مِن الْحَرَامِ وَيَبْقَى الإثْمُ وَالْعَارُ تَبْقَى مَغَبَّةُ وُسُوءٍ مِنْ تَطَلُّبِهَا ... لا خَيْرَ فِي لَذَّةٍ مِنْ بَعْدِهَا النَّارُ آخر: ... بَنِي الدُّنْيَا أَقِلُوا الْهَمَّ فِيهَا ... فَمَا فِيهَا يَؤُولُ إِلَى الْفَوَاتِ بِنَاءٌ لِلْخَرَابِ وَجَمْعُ مَالٍ ... لِيَفْنَى وَالتَّؤالُدُ لِلْمَمَاتِ اللَّهُمَّ وفقنا للإستعداد لما أمامنا واهدنا سبيل الرشاد ووفقنا للعمل الصالح ليوم المعاد واغفر لنا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين الأحياء مِنْهُمْ والمَيتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ) وعن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا» . فَقَالَ رجل: يَا رَسُولَ اللهِ أنصره إذا كَانَ مظلومًا؛ أفرَأَيْت إن كَانَ ظالمًا كيف أنصره؟ قال: «تحجزه أو تمنعه عن الظلم فإن ذَلِكَ نصره» . رواه البخاري. فالمظلوم في حقه أو ماله يمنع عَنْهُ الظلم ويرفع عَنْهُ الحيف بكل ما يستطاع من الوسائل والقصد أن تَكُون ايد مَعَ يد المظلوم حتى يأخذ حقه وأما نصر الظَالِم فمنعه عن الظلم فإن أراد استلاب مال حلت بينه وبينه وأخذت بيده. وإن أراد البطش ببريء ضربت على يده إن كانت يدك أقوى من يده وتراعي الحكمة لئلا ينقلب ظالمًا لك وإن كانت النَّصِيحَة رادعة

سلكتها وإِلا فتستعمل معه القوة حتى يرجع إلى الحق، وطرق الظلم كثيرةٌ جدًّا ووسائله جمةٌ وكل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه. ولا يختص الظلم بأرباب الوظائف والمناصب وأرباب الحكم والسُّلْطَان، حيث أن كلا ممن عدا هؤلاء رب بيت أو بيوتٍ، وزعيم أسرة وفي الأسرة الكبير والصغير والقوي والضعيف والخادم والأجير ولكل واحد من هؤلاء حقوق في أعناق المسؤلين وسيسألون عَنْهَا بل إنَّ الإِنْسَان ليعد ظالمًا إذا تعدى على حقوق نَفْسهُ الشخصية فقَدْ يكون مبذرًا وحالته تدعو إلى الاقتصاد وقَدْ يكون مقترًا وحالته تدعو إلى التيسير فمن ظلم الإِنْسَان لأهله سياستهم بالقَسْوَة كما يفعله بَعْضهمْ ظنًّا منه أنه مدعاة لاحترامهم له أو يبخل عَلَيْهمْ فلا ينفق النفقة الواجبة كأمثالهم أو لا يحسن معاشرتهم فقَدْ ذكر أن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ ذات يوم مستلقيًا على ظهره في بيته وصبيانه يلعبون حوله فدخل عَلَيْهمْ. أحد عماله فانكر ذَلِكَ عَلَيْهِ فَقَالَ له عمر: كيف أَنْتَ مَعَ أهلك؟ فَقَالَ: إذا دخلت سكت الناطق. فَقَالَ له عمر: اعتزل عملنا فإنك لا ترفق بأهلك وولدك فَكَيْفَ ترفق بأمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وسلم ومن ظلمه لأولاده أن يتركهم بلا أمرٍ ولا نهيٍ ولا توجيهٍ ومَعَ هَذَا فربما وجدته أمر النَّاس البعيدين عَنْهُ بالمعروف وينهاهم عن الْمُنْكَر وقَدْ صدق عَلَيْهِ المثل شِعْرًا: ... كَمُرْضِعَةٍ أَوْلادَ أُخْرَى وَضَيَّعَتْ ... بَنِي بَطْنِهَا هَذَا الضَّلالُ عَنْ الْقَصْدِ آخر: ... كَتَارِكَةٍ بَيْضَهَا بِالْعَرَاءِ ... وَمُلْبِسَةٍ بَيْضَ أُخْرَى جَنَاحَا

ومن ظلمه لجيرانه أن لا يقوم بحق الجوار لَهُمْ، ولا يواسيهم بل ولا يكف شره وشر أولاده وأهله ولَقَدْ أوصى الله بالجار فقال (والجار ذي القربى، والجار الجنب) وأوصى رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم به فَقَالَ: «ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه» . وقيل: إن فلانة تصوم النَّهَارَ وتَقُوم الليل وهي سئية الخلق تؤذي جيرانها بلسانها. فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «لا خَيْر فيها، هِيَ من أَهْل النار» . شِعْرًا: يَلُومُونَنِي إِنْ بِعْتُ بِالرُّخْصِ مَنْزِلِي ... وَلَمْ يَعْلَمُوا جَارًا هُنَاكَ يَنْغِصُ فَقُلْتُ لَهُمْ كَفُوا الْمَلامَ فَإِنَّمَا ... ف بِجِيرَانِهَا تَغْلُو الدِّيَارُ وَتَرَخُصُ ومن ظلم القضاة الحيف مَعَ أحد الخصمين أو شهادة الشهود وشر أنواع الظلم ظلم ولاة الأمور لرعيتهم وإذا انتشر الظلم في أمة سلبت الأمن على الرواح والأموال والأعراض وانتشرت فيها المفاسد وسوء الأَخْلاق، وفشت فيها العداوة والبغضاء وأكل القوي الضعيف، وقُلْتُ فيها اليد العاملة، واتسع نطاق الجهل وتذهب من الأمة الشجاعة والحمية، ويحل محلها النفاق والملق، ويثمران النميمة ونقل الكلام والْغَضَب والسرقة والاختلاس ونهب أموال النَّاس والربا والتطفيف في المكاييل والموازين والتغرير بالعامل والغش والخيانة للوديع والأجير والجعيل والمقارض والشريك والوكيل وهَذَا كله من الظلم الَّذِي توعد الله أهله، وَقَالَ فيهم: {أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} ولكنها درجات متفاوتة والجزاء على كُلّ شَيْء بحسبه ولَقَدْ وصل النَّاس اليوم في ظلم بَعْضهمْ بعضًا إلى حد تقصر عن شرحه العبارة وَذَلِكَ أنهم لا يتهيبون ظلمًا إِلا إذا رأوا بجانبه إقامة الحد الشرعي فإذا أمن أحدهم من العقوبة

الشرعية بطش بطش الجبارين، فإذا اشتهت نَفْسهُ قذف شخص قذفه مهما كَانَ نقي العرض وإذا اشتهت نَفْسهُ سب إنسان وشتمه سبه وشتمه بل ولعنه والعياذ بِاللهِ وإذا اشتهت نَفْسهُ غيبة غَافِل أو بهته إغتابه وبهته وإذا اشتهت نَفْسهُ ضربه مال عَلَيْهِ وضربه ضربًا لا رحمة معه وإذا همت بأكل ماله نفذ ذَلِكَ بغاية الجرأة والوقاحة وبطرق شتى مسلكها يهون وإن سولت له نَفْسهُ أن يطعن بنسب إنسان وحسبه طعن طعنًا تقشعر منه الأبدان وإذا زينت له نَفْسهُ أن يقتل إنسانَا أراق دمه في الحال غير مفكر وغير متندم وهكَذَا من توغل في الظلم وأمن العقوبة لا يقوم في نَفْسهُ لون من الظلم إِلا نفذه مسرعًا كأنه لا يؤمن بالبعث ولا بالموت ولا بأن الجزاء واقع على الأعمال ولذَلِكَ تَرَى نيران الظلم تلتهب في أنحاء الدُّنْيَا بحالة تزعج الناظرين ولَقَدْ غفل النَّاس عن عواقب الظلم دنيًا وأخرى ولو علموا أن شقاء الدُّنْيَا والآخِرَة وليد الظلم وأثر مِمَّا له من آثار ما دنا من الظلم أحد ولو لبهيم لا يحسب له أدنى حساب فالظلم يتغير منه قلب المظلوم ويتفاوت التغير بتفاوت ما للظلم من مقدار وعَلَى قَدْرِ ذَلِكَ الظلم يكون الْغَضَب والانتقام، خصوصًا إذا كَانَ المظلوم ضعيفًا لا ناصر له. شعرًا: خَفِ اللهَ فِي ظُلْمِ الْوَرَى وَاحْذَرَنَّهُ ... وَخَفْ يَوْمَ عَضّ الظَّالِمِينَ عَلَى اليدِ وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ يُهْمِلُ خَلْقَهُ ... وَلَكِنَّهُ يُمْلِي لِمَنْ شَاءَ إِلَى الْغَدِ آخر: ... إِذَا مَا الظَّلُومُ اسْتَحْسَنَ الظُّلْمَ مَذْهَبًا ... وَلَجَّ عُتُوًا فِي قَبِيحِ اكْتِسَابِهِ فَكِلْهُ إِلَى صِرْفِ إلَّيالي فَإِنَّهَا ... سَيَبْدُوا لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِهِ فَكَمْ قَدْ رَأَيْنَا ظَالِمًا مُتَمَرِّدًا ... يَرَى النَّجْمَ تِيهًا تَحْتَ ظِلِّ رِكَابِهِ

فَعَمَّا قَلِيلٍ وَهُوَ فِي غَفَلاتِهِ ... أَنَاخَتْ صُرُوفُ الْحَادِثَاتِ بِبَابِهِ فَأَصْبَحَ لا مَالٌ وَلا جَاهٌ يُرْتَجَى ... وَلا حَسَنَاتٌ يَلْتَقِي فِي كِتَابِهِ وَجُوزِي بِالأَمْرِ الَّذِي كَانَ فَاعِلاً ... وَصَبَّ عَلَيْهِ اللهُ سَوْطَ عَذَابِهِ شِعْرًا: ... يَا غَافِلَ الْقَلْبِ عَنْ ذِكْرِ الْمَنِيَّاتِ ... عَمَّا قَلِيل سَتُلقَى بَيْنَ أَمْوَاتِ فَاذْكُرْ مَحَلَّكَ مِنْ قَبْلِ الْحُلُولِ بِهِ ... وَتُبْ إِلَى اللهِ مِنْ لَهْوٍ وَلَذَّاتِ إِنَّ الْحَمَامَ لَهُ وَقْتٌ إِلَى أَجَلٍ ... فَاذْكُرْ مَصَائِبَ أَيَّامٍ وَسَاعَاتِ لا تَطْمَئِنَّ إِلَى الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا ... قَدْ آن لِلْمَوْتِ يَا ذَا اللبِّ أَنْ يَأْتِي اللَّهُمَّ اجعلنا ممن أفاق لنفسه وفاق بالتحفظ أبناء جنسه وأعد عدة تصلح لرمسه واستدراك في يومه ما ضيعه في أمسه واغفر لنا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين اللَّهُمَّ احفظنا من المخالفة والعصيان ولا تؤاخذنا بجرائمنا وما وقع منا من الخطأ والنسيان واغفر لنا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين الأحياء مِنْهُمْ والمَيتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. موعظة عباد الله لَقَدْ امتلأت الأَرْض من الشر ووسائله. وضجت وما فيها مِمَّا وصل إليه من المعاصي الإِنْسَان وإن شئت فزر أي جهةٍ من جهات العَالِم وتَرَى ما يتقطع له قلبك حسرات افتتن النَّاس بزخارف الدُّنْيَا فاستولت على قُلُوبهمْ وملكتها فنسوا يوم الحساب وأصبحت المعاصي أمرًا مألوفًا عَنْدَ كثير من النَّاس وغلب المستقيمون على أمرهم فلم يستطيعوا إزالتها فتمادى المجرمون على انتهاك الآداب فتفاقم الخطب ثُمَّ تفاقم إلى أن التهبت الدُّنْيَا بالموبقات خف الزنى الَّذِي هُوَ من كبائر الذُّنُوب حتى صار الغيور الْمُنْكَر به المقبح يسمى رجعيًّا لا يعرف الحرية

مَعَ أن الزنى من بين المعاصي عار تسود له الوجوه، وتنتكس له الرؤوس وتنهدم به بيوت المجد العاية، وهان التعامل بالربا مَعَ أنه من بين سائر المعاصي قَدْ توعد الله فاعله المستمر على التعامل به بالحرب وقارف كثير من النَّاس المسكرات مَعَ أن الخمر أم الخبائث وهذه شهادة الزور قَدْ هأَنْتَ مَعَ أنها من عظائم الذُّنُوب وهذه فاحشة اللواط قَدْ انتشرت انتشار الوباء مَعَ أن القرآن يحكي عن أمة كانت تفعل ذَلِكَ أنها خسف بها، وأمطرت عَلَيْهَا حجارة من سجيل وأما الأَرْض فهان اغتصابها مَعَ أن المغتصب يكون طوقًا لمغتصبه في دار الانتقام، وأما الأموال والأعراض فحدث عن الاستخفاف بها وانتهاكها ولا حرج وهَذَا الغش قَدْ صار عادةً لا يكاد يسلم منه معامل مَعَ أن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «من غشنا فلَيْسَ منا» . وهَذَا حلق اللحية قَدْ أصبح عَنْدَ كثير من النَّاس كأنه واجب مَعَ أمر النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم بإعفائها هَذَا وأضعاف أضعافه حاصل في هَذَا العصر المظلم الحالك الَّذِي عادة فيه غربة الدين. شِعْرًا: ... سَمَّوْكَ يَا عَصْرَ الظَّلامِ سَفَاهَةً عَصْرَ الضِّيَاءِ وَأَنْتَ شَرُّ الأَعْصُرِ وَتَقَدَّمَتْ فِيكَ الْحَضَارَةُ حَسْبَمَا قَالُوا فِيَا وَحْشِيَّةَ الْمُتَحَضِّرِ وَالْعِلْمُ قَدْ يَأْتِي بِكُلِّ بَلِيَّةٍ وَيَسِيرُ نَحْوَ الْمَوْتِ بِالْمُسْتَبْصِرِ ... ›?

آخر: ... وَلا خَيْر فِي الدُّنْيَا وَلا فِي نَعِيمِهَا ... إِذَا انْحَطَّتِ الْبَازَاتُ وَارْتَفَعَ الْبَطُّ آخر: ... لَقَدْ أُخِّرَ التَّصْدِيرُ عَنْ مُسْتَحَقِّهِ ... وَقُدِّمَ غَمْرٌ جَامِدُ الذُّهْنِ خَامِدُهُ آخر: ... إِذَا لَمْ يَكُنْ صَدْرُ الْمَجَالِسِ سَيِّدًا ... فَلا خَيْرَ فِيمَنْ صَدَّرَتْهُ الْمَجَالِسُ وَكَمْ قَائِلٍ مَا لي رَأَيْتُكَ رَاجِلاً ... فَقُلْتُ لَهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ فَارِسُ آخر: ... لا يَغُرَّنَكُمْ عُلُوُّ لَئِييْم ... فَعُلُّوُه لا يَسْتَحِقُّ سِفَالٍ فَارْتِفَاعُ الْغَرِيق فِيهِ فُضُوحِ ... وَعُلُو الْمَصْلُوبِ فِيهِ نَكَالْ آخر: ... هَذَا الزَّمَان عَلَى مَا فِيهِ مِنْ عِوَجٍ ... حَكَى انْقِلابَ لَيَإليه بِأَهْلِيهِ غَدِيرَ مَاءٍ تَرَآ فِي جَوَانِبِهِ ... خِيَالُ قَوْمٍ تَمَشَّوْا فِي نَوَاحِيهِ فَالرَّأْسُ يُنْظَرُ مَنْكُوسًا أَسَافلُهُ ... وَالرِّجْلُ تُنْظَرُ مَرْفُوعًا أَعَالِيهِ آخر: ... وَعَاشَ بِدَعْوَى الْعِلْمِ نَاسُ وَمَا لَهُمْ ... مِن الْعِلْمِ حَظُّ لا بِعَقْل وَلا نَقْلِ آخر: ... وَقْتُ عَلا قَدْرُ الْوَضِيعِ بِهِ ... وَغَدا الشَّرِيفُ يَحُطُّهُ شَرَفُهْ كَالْبَحْرِ يَرْسُبُ فِيهِ لُؤْلُؤهُ ... سِفْلاً وَيَطْفُو فَوْقَهُ جِيفُهْ اللَّهُمَّ ارزقنا حبك وحب من يحبك وحب الْعَمَل الَّذِي يقربنا إلى حبك وألهمنا ذكرك وشكك ووفقنا للقيام بحقك وخلصنا من حقوق خلقك ورضنا باليسير من رزقك يا خَيْر من دعاه داعٍ وأفضل من رجاه راج، يا قاضي الحاجات ومجيب الدعوات هب لنا ما سألناه وحقق رجاءنا فيما تمنيناه يا من يملك حوائج السائلين ويعلم ما في صدور الصامتين

ذكر بعض الكبائر والتحذير من الظلمة وأعوانهم

أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك واغفر لنا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ) قال شيخ الإسلام رَحِمَهُ اللهُ: والظلم لا يباح بحال حتى أن الله تَعَالَى قَدْ أوجب على الْمُؤْمِنِين أن يعدلوا على الكفار في قوله: {كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} والْمُؤْمِنِين كَانُوا يعادون الكفار بأمر الله فَقَالَ تَعَالَى: {لا يحملنكم بغضكم للكفار على أن لا تعدلوا بل اعدلوا عَلَيْهمْ فإنه أقرب للتقوى} وحينئذ فهؤلاء المشركين لَيْسَ لبَعْضهمْ أن يفعل ما به يظلم غيره بل إما أن يؤدي قسطه فيكون محسنًا ولَيْسَ له أن يمتنع عن أداء قسطه من ذَلِكَ الْمَال امتناعًا يؤخذ به قسطه من سائر الشركاء فيتضاعف الظلم عَلَيْهمْ. فإن الْمَال إذا كَانَ يؤخذ لا محالة وامتنع بجاهٍ أو رشوةٍ أو غيرهما كَانَ قَدْ ظلم من يؤخذ منه القسط الَّذِي يخصه، ولَيْسَ هَذَا بمنزلة أن يدفع عن نَفْسهُ الظلم من غير ظلم لغيره فإن هَذَا جائز مثل أن يمتنع عن أداء ما يخصه، فلا يؤخذ ذَلِكَ منه ولا من غيره. وهَذَا كالوظائف السلطانية التي توضع على القرى، مثل أن يوضع عَلَيْهمْ عشرة آلاف درهم فيطلب من له جاه بأمرةٍ أو مشيخةٍ أو رشوةٍ أو غير ذَلِكَ أن لا يخذ منه شيء وهم لا بد لهم من أخذ جميع المال وإذا فعل ذلك أخذ ما يخصه من الشركاء فيمتنع من أخذ ما ينوبه ويؤخذ من سائر الشركاء فإن هَذَا ظلم منه لشركائه لأن هَذَا لم يدفع الظلم عن نَفْسهُ إِلا بظلم شركائه وهَذَا لا يجوز.

ولَيْسَ له أن يَقُولُ: أَنَا لم أظلمهم، بل ظلمهم من أخذ مِنْهُمْ الحصتين لأنه يُقَالُ أولاً: هَذَا الطالب قَدْ يكون مأمورًا ممن فوقه أن يأخذ ذَلِكَ الْمَال فلا يسقط عن بَعْضهمْ نصيبه إِلا إذا أخذه من أخذه من نصيب الآخِر فيكون أمره بأن لا يأخذ أمرًا بالظلم. الثاني: أنه لو فرض أنه الآمر الأعلى فعَلَيْهِ أن يعدل بينهم فيما يطلبه مِنْهُمْ وأن أصل الطلب ظلمًا فعَلَيْهِ أن يعدل في هَذَا الظلم ولا يظلم فيه ظلمًا ثانيًا فيبقى ظلمًا مكررًا فإن الواحد منهم إذا كان قسطه مائة فطولب بمائتين كان قد ظلم ظلمًا مكررًا بخلاف ما إذا أخذ من كُلّ قسطه، ولأن النُّفُوس ترضى بالعدل بينها بالحرمان وفيما يؤخذ منها ظلمًا ولا ترضى بأن يخص بعضها بالعطاء أو الإعفاء. الثالث: أنه إذا طلب من القاهر أن لا يأخذ منه وَهُوَ يعلم أنه يضع قسطه على غيره فقَدْ أمره بما يعلم أنه يظلم فيه غيره. ولَيْسَ للإنسان أن يطلب من غيره ما يظلم فيه غيره وإن كَانَ هُوَ لم يأمره بالظلم كمن يولي شخصًا ويأمره أن لا يظلم وَهُوَ يعلم أنه يظلم فلَيْسَ له وكذلك من وكل وكيلاً وأمره أن لا يظلم وهو يعلم أنه يظلم فليس له أن يوليه ومن طلب من غيره أن يوفيه دينه من ماله الحلال وَهُوَ يعلم أنه لا يوفيه إِلا مِمَّا ظلمه من النَّاس وكَذَلِكَ إذا طلب منه أن يعفيه من الظلم وَهُوَ يعلم أنه لا يعفيه إِلا بظلم غيره فلَيْسَ له أن يطلب منه ذَلِكَ. أ. هـ. وَقَالَ في تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين لما عد بعض الكبائر قال: ومنها الدخول على الظلمة بغير قصد صحيح بل إعانة لَهُمْ وتوقيرًا

مشهد يوضح لك ما يكون أمامك بعد البعث

ومحبةً، قال الله تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثُمَّ وَالْعُدْوَانِ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} وعن جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «ستَكُون أمراء، من دخل عَلَيْهمْ فأعانهم على ظلمهم وصدقهم بكذبهم فلَيْسَ مني، ولست منه، ولن يرد على الحوض» . رواه أَحَمَد والبزار بإسناد رجاله رِجَال الصحيح وابن حبان في صحيحه وهَذَا لفظه وساق غير هَذَا الْحَدِيث حول هَذَا الموضوع ثُمَّ قال: قَدْ يَقُولُ من اعتاد الدخول على الملوك الظلمة والقضاة الخونة إنما قصدي بذَلِكَ نصر المظلوم أو مساعدة ضعيف أو دفع ظلامة أو التسبب في معروف ونحو ذَلِكَ وهَذَا لا يخلو إما أن يكون ممن يتناول من مآكلهم ومشاربهم، ويشاركهم في مقاصدهم ومآربهم، ويقبل من أموالهم التي اكتسبوها من الجهات المحرمَاتَ أو وجوه المظَالِم والمكوس والمصادرات، ويداهنهم فيما يراه عندهم من المنكرات، فهَذَا لا يحتاج النظر في سوء حاله إلى دَلِيل إذ يشهد كُلّ ذي بصيرة أنه ضال عن سواء السبيل وأنه من {بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} ويزعمون أنهم {مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} ثُمَّ قال: ليت شعري كيف يمكن من يأكل من أموالهم، أن ينكر قبيح أفعالهم، وأنى يرجع الظَالِم مِنْهُمْ إليه وَهُوَ يرى منته في الصحبة واللقمة عَلَيْهِ، وكيف يقبل منه الكلام وباطنه قَدْ امتلأ من ماله الحرام. واختصار الكلام في مثل هَذَا أليق والسَّلام وإن كَانَ ممن يعف عن مآكلهم ومشاربهم ولا يقبل مِنْهُمْ إدرارًا ولا صلةً وينكر عَلَيْهمْ ما قَدْ يراه عندهم من المنكر

فهَذَا في محل اشتباه والحالة ميزان يعلم بها صحته من سقمه وَهُوَ أن يرى أنه كالمكره في دخوله عَلَيْهمْ وكلامه معهم ويود أن لو كفي بغيره ولو انتصر المظلوم بسواه ولا يتبجح بصحبتهم ولا بالاجتماع عَلَيْهمْ ولا في فلتات لِسَانه قُلْتُ للسلطان وَقَالَ لي السُّلْطَان وانتصر بي فلان فنصرته وطلب مني المساعدة فلان فساعدته ونحو ذَلِكَ ولو قدم السُّلْطَان المعروف لما شق عَلَيْهِ ذَلِكَ بل يجد عنده انشراحًا بذَلِكَ وفرحًا به إذا كفاه الله التعرض إلى هَذَا الخطر العَظِيم بما لا يثق بصحة قصده فيه، ولا يقطع بإخلاص نيته في القيام به. انتهى. يَا طَالِبَ الْعِلْمِ مَهْلاً لا تُدَنِّسُهُ ... بِالْمُوبِقَاتِ فَمَا لِلْعِلْمِ مِنْ خَلَفِ الْعِلْمُ يَرْفَعُ بَيْتًا لا عِمَادَ لَهُ ... وَالْجَهْلُ يَهْدِمُ بَيْتَ الْعِزِّ وَالشَّرَفِ آخر: ... فَمَا لَكَ وَالْبَقَاءَ بِدَارِ ذُلٍّ ... وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةُ الْفَضَاءِ إِذَا خَانَ الأَمِيرُ وَكَاتِبَاهُ ... وَقَاضِي الأَرْضِ دَاهَنَ فِي الْقَضَاءِ فَوَيْلٌ ثُمَّ وَيْلٌ ثُمَّ وَيْلٌ ... لِقَاضِي الأَرْضِ مِنْ قَاضِي السَّمَاءِ آخر: ... عَنَوا يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ شَبَابًا فَلَمَّا حَصَّلُوهُ وَحَشَّرُوا وَصَحَّ لَهُمْ إِسْنَادُهُ وَأُصُولُهُ وَصَارُوا شُيُوخًا ضَيَّعُوهُ وَأَدْبَرُوا وَمَالُوا عَلَى الدُّنْيَا فَهُمْ يَحْلُبُونَهَا بِأَخْلافِهَا مَفْتُوحَةً لا تُصَرَّرُوا ... ›?

ج ... فَيَا عُلَمَاءَ السُّوءِ أَيْنَ عُقُولُكُمْ وَأَيْنَ الْحَدِيثُ الْمُسْنَدُ الْمُتَخَيِّرُ ... ›? آخر: ... رَأَيْتُ فَقِيهَ الشَّكْلِ لا عِلْمَ عِنْدَهُ ... وَيَقْنَعُ مِنْ حَالِ الْفَقَاهَةِ بِالاسمِ آخر: ... فَقُلْتُ وَقَدْ وَافَى بِتَضْلِيعِ عِمَّةٍ ... تَضَلَّعَ جَهْلاً مَا تَضَلَّعَ بِالْعِلْمِ عَجِبْتُ لأَهْلِ الْعِلْمِ كَيْفَ تَشَاغَلُوا عَنِ الْعِلْمِ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَ الْمَمَالِكِ يَطُوفُونَ حَوْلَ الظَّالِمِينَ كَأَنَّمَا يَطُوفُونَ حَوْلَ الْبَيْتِ وَقْتَ الْمَنَاسِكِ ... ›? آخر: ... دَعِ الْمَنَاصِبْ لِنَاسٍ يُشْغَفُونَ بِهَا ... وَاضْرِبْ عَلَى النَّفْسِ لا تَسْمَعْ دَعَاوِيهَا لا يَعْرِفُ الزُّهْدَ إِلا كُلُّ مَنْ عَزَفَت ... نَفْسٌ لَهُ عَنْ هَوَى الدُّنْيَا وَطَارِيهَا وَاسْتَدْرَكَ الْعُمْرَ فِي الْقُرْآنِ يَقْرَؤُهُ ... وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مَعْ كُتبٍ تُدَانِيهَا اللَّهُمَّ إنا نسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والعزيمة على الرشد والغنيمة من كُلّ بر والسلامة من كُلّ إثُمَّ ونسألك أن تغفر لنا. اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قواعد الإِيمَان في قلوبنا وشيد فيها بنيانه ووطد فيها أركانه وألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا بِطَاعَتكَ وامتثال أمرك وآتنا في الدُّنْيَا حسنة وفي الآخِرَة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا وَلِوالدينَا وَجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ) إذا فهمت ما تقدم من شناعة الظلم وقبح عاقبته وما ورد من

الوعيد الشديد على مرتكبه وأن من مَاتَ قبل رد المظَالِم أحاط به يوم القيامة خصماؤه فهَذَا يأخذ بيده وهَذَا يقبض على ناصيته وهَذَا يمسك يده وهَذَا يتعلق بلببه وهَذَا يتعلق برقبته هَذَا يَقُولُ: ظلمني فغشني. وهَذَا يَقُولُ: ظلمني فبخسني. وهَذَا يَقُولُ: خدعني. وهَذَا يَقُولُ: قذفني. وهَذَا يَقُولُ: أكل مالي. وهَذَا يَقُولُ: شتمني. وهَذَا يَقُولُ: اغتابني. وهَذَا يَقُولُ: كذب علي. وهَذَا يَقُولُ: قطع رحمي. وهَذَا يَقُولُ: جاورني فأساء مجاورتي. وهَذَا يَقُولُ: رآني مظلومًا فلم ينصرني. وهَذَا يَقُولُ: رآني على منكر فلم ينهني. وهَذَا يَقُولُ: جحد مالي. وهَذَا يَقُولُ: باعني وأخفى عني عيب السلعة. وهَذَا يَقُولُ: سرق مالي. وهَذَا يَقُولُ: قطع من ملكي. وهَذَا يَقُولُ: شهد علي بالزور. وهَذَا يَقُولُ: سخر بي. وهذه زوجة تَقُول: لم يعدل بيني وبين زوجته الأخرى. وهذه تَقُول أكل صداقي. وهَذَا يَقُولُ: تعدى على محارمي. وهَذَا يَقُولُ: نشز زوجتي. وهذه تَقُول: نشز زوجي. وهَذَا يَقُولُ: غدر بي. وهَذَا يَقُولُ: خانني. وهَذَا يَقُولُ: دلس علي. وهَذَا يَقُولُ: نجش علي في السلعة التي أريد شراءها. وهَذَا يَقُولُ: كادني. وهَذَا يَقُولُ: منعني النوم بملاهيه من مذياع وتلفزيونه وبكمه وسينمائه. فبينما أَنْتَ على تلك الحال المخيفة التي لا يرى فيها بغضك من كثرة من تعلق بك من الغرماء الَّذِينَ أنشبوا فيك مخالبهم وأحكموا في تلابيبك أيديهم وأَنْتَ مبهوت متحير مضطرب الفكر والعقل من كثرتهم ومطالبتهم حتى لم يبق أحد ممن جالستهم أو عاملتهم أو صاهرتهم أو شاركتهم ولو

مدة قليلة إِلا وقَدْ استحق عَلَيْكَ مظلمة وقَدْ ضعفت عن مقاومتهم ومددت عنق الرجَاءَ إلى سيدك ومولاك لعله أن يخلصك من أيديهم. إذا قرع سمعك نداء الجبار جَلَّ وَعَلا وتقدست أسماؤه: {اليوم تُجْزَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ اليوم} فعَنْدَ ذَلِكَ ينخلع قلبك وتضطرب أعضاؤك من الهيبة وتوقن نفسك بالبوار وتذكر ما أنذرك الله تَعَالَى به على لسان رسله حيث قال: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إليهمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} . وقوله: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} الآيَة فيالها من مصيبة، وما أشدها من حَسْرَة في ذَلِكَ اليوم، إذا جَاءَ الرب جَلَّ وَعَلا للفصل بين عباده بحكمه العدل وشوفه الظَالِم بالخطاب وعلم أنه مفلس فقير عاجز مهين لا يقدر على أن يرد حقًّا أو يظهر عذرًا. فعَنْدَ ذَلِكَ تؤخذ حسناته التي تعب عَلَيْهَا في عمره، ليلاً ونهارًا حضرًا وسفرًا وتنقل إلى الخصماء عوضًا عن حقوقهم وتقدم حديث أَبِي هُرَيْرَةِ في بيان المفلس من الأمة فلينظر العاقل إلى المصيبة في مثل ذَلِكَ اليوم الَّذِي ربما لا يسلم له فيه شَيْء من الحسنات فإن سلم شَيْء ابتدره الغرماء وأخذوه فَكَيْفَ تَكُون حال من رأى صحيفته خالية من حسناتٍ طالما تعب فيها، فإذا سأل عَنْهَا قيل له نقُلْتُ إلى صحيفة خصمائك الَّذِينَ ظلمتهم ويرى صحيفته مشحونة بسيئات لم يعملها،

قصيدة في التحذير من الظلم وأنه سيقتص من الظالم

فإذا سأل عَنْهَا ومن أين جاءت إليه؟ قيل: هذه سيئات القوم الَّذِينَ طالما تمضمضت بهتك أعراضهم وتناولت أموالهم وقذفتهم وشتمتهم وقصدتهم بالسُّوء وخنتهم في المبايعة والمجاورة والمعاملة ونحو ذَلِكَ من أنواع الظلم اللَّهُمَّ قو إيماننا بك وبملائكتك وبكتبك وبرسلك وباليوم الآخِر وبالقدر خيره وشره وثبتنا على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين. شِعْرًا: ... وَفِي النَّاسِ مِنْ ظُلْمُ الْوَرَى عَادَةً لَهُ وَيَنْشُرُ أَعْذَارًا بِهَا يَتَأَوَّلُ جَرِيءٌ عَلَى أَكْلِ الْحَرَامِ وَيَدَّعِي بِأَنَّ لَهُ فِي حِلِّ ذَلِكَ مَحْمَلُ فَيَا آكِلَ الْمَالِ الْحَرَامِ ابن لَنَا بِأَيِّ كِتَابٍ حَلَّ مَا أَنْتَ تَأْكُلُ أَلَمْ تَدْرِ أَنَّ اللهَ يَدْرِي بِمَا جَرَى وَبَيْنَ الْبَرَايَا فِي الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ حَنَانِيكَ لا تَظْلِمْ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ وَبِالْبَعْثِ عَمَّا قَدْ تَوَلَّيْتُ تُسْأَلُ وَتَوَقَّفُ لِلْمَظْلُومِ يَأْخُذُ حَقَّهُ فَيَأْخُذُ يَوْمَ الْعَرْضِ مَا كُنْتُ تَعْمَلُ وَيَأْخَذُ مِنْ وِرْزٍ لِمَنْ قَدْ ظَلَمْتَه فَيُوضَعُ فَوْقَ الظُّهْرِ مِنْكَ وَيَجْعَلُ فَيَأْخُذْ مِنْكَ اللهَ مَظْلَمَةَ الَّذِي ظَلَمْتَ سَرِيعًا عَاجِلاً لا يُؤَجَّلُ ... ›?

.. تَفِرُّ مِن الْخَصْمِ الَّذِي قَدْ ظَلَمْتَهُ وَأَنْتَ مُخَوَّفٌ مُوجَفُ الْقَلْبِ مُوجَلُ تَفِرُّ فَلا يُغْنِي الْفِرَارُ مِن الْقَضَا وَإِنْ تَتَوَجَّلْ لا يُفِيدُ التَّوَجُّلُ فَيَقْتَصُّ مِنْكَ الْحَقَّ مَنْ قَدْ ظَلَمْتَهُ بَلا رَأْفَةٍ كَلا وَلا مِنْكَ يَخْجَلُ ... ›? وحكي أن الرشيد حبس أبا العتاهية فكتب على جدار الحبس: ... أَمَا وَاللهِ إِنَّ الظُّلْمَ شُؤْمٌ وَمَا زَالَ الْمُسِيءُ هُوَ الظَّلُومُ إِلَى الدَّيَّانَ يَوْمَ الدِّينِ نَمْضِي وَعِنْدَ اللهِ تَجْتَمِعُ الْخُصُومُ سَتَعْلَمُ فِي الْحِسَابِ إِذَا الْتَقَيْنَا غَدًا عِنْدَ الْمَلِيكِ مَنْ الظَّلُومُ تَنَامُ وَلَمْ تَنَمْ عَنْكَ الْمَنَايَا تَنَبَهْ لِلْمَنِيَّةِ يَا نَؤُومُ لَهَوْتَ عَن الْفَنَاءِ وَأَنْتَ تَفْنَى وَمَا حَيٌّ عَلَى الدُّنْيَا يَدُومُ تَرُومُ الْخُلْدُ فِي دَارِ الْمَنَايَا وَكَمْ قَدْ رَامَ غَيْرُكَ مَا تَرُومُ سَلِ الأَيَّامَ عَنْ أُمَمٍ تَقَضَّتْ سَتُخْبِرُكَ الْمَعَالِمُ وَالرُّسُومُ ... ›?

فأخبر الرشيد بذَلِكَ فَبَكَى بكاءً شديدًا ودعًا أبا العتاهية فأستحله ووهب له ألف دينارٍ لحبسه من غير موجبٍ شرعي. آخر: ... مَا دَارُ دُنْيَا لِلْمُقِيمِ بِدَارِ ... وَبِهَا النُّفُوسُ فَرِيسَةُ الأَقْدَارِ مَا بَيْنَ لَيْلٍ عَاكِفٍ وَنَهَارِهِ ... نَفَسَانِ مُرْتَشِفَانِ لِلأَعْمَارِ طُولُ الْحَيَاةِ إِذَا مَضَى كَقَصِيرِهَا ... وَاليسْرُ لِلإِنْسَانِ كَالإِعْسَارِ وَالْعَيْشُ يَعْقِبُ بِالْمَرَارَةِ حُلْوَهُ ... وَالصَّفْوُ فِيهِ مُخَلَّفُ الأَكْدَارِ وَكَأَنَّمَا تَقْضِي بُنِيَّاتُ الرِّدَى ... لِفَنَائِنَا وَطْرًا مِن الأَوْطَارِ وَالْمَرْءُ كَالطَّيْفِ الْمُطِيفِ وَعُمْرُهُ ... كَالنَّوْمُ بَيْنَ الْفَجْرِ وَالأَسْحَارِ خَطْبٌ تَضَاءَلَتَ الْخُطُوبُ لِهَوْلِهِ ... أَخْطَارُهُ تَعْلُو عَلَى الأَخْطَارِ نُلْقِي الصَّوَارِمَ وَالرِّمَاحَ لِهَوْلِهِ ... وَنَلُوذُ مِنْ حَرْبٍ إِلَى اسْتِشْعَارِ إِنَّ الَّذِينَ بَنُوا مَشِيدًا وَانْثَنَوْا ... يَسْعُونَ سَعْي الْفَاتِكِ الْجَبَّارِ سَلَبُوا النَّضَارَةَ وَالنَّعِيمَ فَأَصْبَحُوا ... مُتَوَسِّدِينَ وَسَائِدَ الأَحْجَارِ تَرَكُوا دِيَارَهُمُ عَلَى أَعْدَاهِم ... وَتَوَسَّدُوا مَدَرًا بِغَيْرِ دِثَارِ خَلَطَ الْحِمَامُ قَوِيَّهمُ بِضَعِيفِهِمْ ... وَغَنِيَّهمُ سَاوَى بِذِي الأَقْتَارِ وَالْخَوْفُ يُعْجِلُنا عَلَى آثَارِهِمْ ... لا بُدَّ مِنْ صُبْحِ الْمُجِدِّ السَّارِي وَتَعَاقُبُ الْمَلَوَيْنِ فِينَا نَاثِرٌ ... بِأَكَرِّ مَا نَظَمَا مِن الأَعْمَارِ اللَّهُمَّ يا عَالِم الخفيات ويا سامَعَ الأصوات ويا باعث الأموات ويا مجيب الدعوات ويا قاضي الحاجات يا حالق الأَرْض والسماوات أَنْتَ الله الأحد الصمد الَّذِي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، الوهاب الَّذِي لا يبخل والحليم الَّذِي لا يعجل لا راد لأَمْرِكَ ولا معقب لحكمك نسألك أن تغفر ذنوبنا وتنور قلوبنا وتثَبِّتْ محبتك في قلوبنا وتسكننا دار كرامتك إنك على كُلّ شَيْء قدير وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.

موعظة في التحذير من الظلم وسائر المعاصي

موعظة عباد الله لَقَدْ توعد الله الَّذِينَ يخالفون أمره ويتصرفون عن ذكره ويجترؤن على معاصيه بشديد غضبه وعَظِيم سخطه وحذرهم بأسه وانتقامه فما بال كثير من النَّاس بعد القرون الأولى عمدوا إلى محارم الله فارتكبوها ومأموراته فاجتنبوها ثُمَّ عادوا بمر الشكوى من تغبر الأَحْوَال وانتزاع البركة من الأرزاق والأموال. أحسبت أنك يا ابن آدم تهمل وتترك فلا تعاقب، وتظلم وتتقلب في النَّعِيم كيف شئت ولا تحاسب أنسيت قول النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «إن ليملي للظَالِم حتى إذا أخذه لم يفلته» . كُلّ هَذَا من جهالتك وانطماس بصيرتك ولكن اعمل ما شئت فسيرى الله عملك ثُمَّ ترد إليه ويجازيك بما تستحق جهلت في حال النَّعِيم وكَانَ الواجب عَلَيْكَ أن تتعرف إِلَى اللهِ في الرخاء ليعرفك في الشدة، ولكن لم تفعل وأصبحت بعد زوالها منك شكو لمن؟ تشكو لمن عصيته بالأمس تشكو لمن خالفت أوامره وفعلت نواهيه مَعَ علمك أنه المنتقم الجبار تشكو لمن حاربته بالمعاصي المتنوعة وقَدْ أسبغ عَلَيْكَ نعمه ظاهرة وباطنة ولو شَاءَ لمنعها عَنْكَ لأنه الفعال لما يريد تشكو لمن تأكل نعمه في أرضه مستعينًا بها على معاصيه أليس عملك هَذَا في منتهى اللآمة والخساسة يمدك بالنعم وتبارزه بالمعاصي ألك صبر على جهنم وزمهريرها ألك طاقة بالويل والغساق والزقوم والحميم والضريع، عباد الله هَذَا الَّذِي نَحْنُ فيه من الانهماك في الدُّنْيَا وقتل كُلّ الوَقْت في جمعها والابتعاد عن الآخِرَة وانتشار المعاصي بسرعة هائلة ما هُوَ والله

فصل في مشهد من مشاهد يوم القيامة عند نشر الصحائف

إِلا بما كسبت أيدينا قال تَعَالَى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} الآيَة. عباد الله إن غلاء الأسعار، وانتشار الأمراض، وما رأيتم من الفتن والتعقيد في الممتلكات والتقاطع والعقوق ما هُوَ وَاللهِ إِلا جزاء عملنا وما هُوَ إِلا قليل من كثير فقَدْ تمادينا في المعاصي والله يغار على أوامره أن تجتنب ومحارمه أن ترتكب قال صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «لا أحد أغير من الله» . الْحَدِيث. تَيَقَنْتُ أَنِّي مُذْنِبٌ وَمُحَاسِبْ وَلَمْ أَدْرِ هَلْ نَاجٍ أَنَا أَوْ مُعَاقَبُ وَمَا أَنَا إِلا بَيْنَ أَمْرَيْنِ وَاقِفٌ فَإِمَّا سَعِيدٌ أَمْ بِذَنْبِي مُطَالَبُ وَقَدْ سَبَقْتَ مِنِّي ذُنُوبٌ عَظِيمَةٌ فَيَا لَيْتَ شِعْرِي مَا تَكُونُ الْعَوَاقِبُ فَيَا مُنْقِذِ الْغَرْقَى وَيَا كَاشِفَ الْبَلا وَيَا مَنْ لَهُ عِنْدَ الْمَمَاتِ مَوَاهِبُ أَغِثْنَا بِغُفْرَانٍ فَإِنَّكَ لَمْ تَزَلْ مُجِيبًا لِمَنْ ضَاقَتْ عَلَيْهِ الْمَذَاهِبُ ... ›? اللَّهُمَّ أحينا في الدُّنْيَا مؤمنين طائعين وتوفنا مسلمين تائبين واغفر لنا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ) وعن عَبْد اللهِ بن الزبير بن العوام رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: لما نزلت هذه السورة على رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} قال الزبير

رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أي رسول الله أيكرر عَلَيْنَا ما كَانَ بيننا في الدُّنْيَا مَعَ خواص الذُّنُوب؟ قال صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «نعم ليكررن عليكم حتى يؤدي إلى كُلّ ذي حق حقه» . قال الزبير: وَاللهِ إن الأَمْر لشديد. رواه الترمذي. وعن أبي سعيد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: ((والَّذِي نفسي بيده إنه ليختصم حتى الشاتان فيما انتطحا)) . تفرد به أَحَمَد رَحِمَهُ اللهُ. وفي المسند عن أبي ذر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه قال: رأى النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم شاتين ينتطحان فَقَالَ: «أتدري فيما ينتطحان يا أبا ذر» ؟ قُلْتُ: لا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «لكن الله يدري وسيحكم بينهما» . فتفكر الآن في نفسك إن خلت صحيفتك عن المظَالِم وعفى الله عَنْكَ ورحمك فأيقنت بسعادة الأبد كيف يكون سرورك واغتباطك في منصرفك من فصل الِقَضَاءِ وقَدْ خلع عَلَيْكَ خلعة الرِّضَا وعدت بسعادة لَيْسَ بعدها شقاء ونعم بدنك بنعيم لا يدور بحواشيه الفناء وعَنْدَ ذَلِكَ طار قلبك سرورًا وأنسًا وابتهاجًا وفرحًا وصرت من الحزب الَّذِينَ ابيضت وجوههم واستنارت وأشرقت فتصور مشيك بين الخلائق رافعًا رأسك خَاليًا من الأوزار ظهرك، يعرف في وجهك نضرة النَّعِيم والخلق ينظرون إليك وإلى حالك ويغبطونك في حسنك وجمالك والملائكة يَمْشُونَ بين يديك يبشرونك بما يسرك. وإن تكن الأخرى والعياذ بِاللهِ بأن خرجت الصحيفة مملؤة من المظَالِم ومقته الله ولعنه ونكس هَذَا المجرم رأسه الوجه أزرق

وبعدها أبيات فيها تمجيد لله وتضرع

العينين وأخذته الزبانية بناصيته يسحبونه على وجهه على ملأ من الخلق وهم ينظرون إليه وَهُوَ ينادي بالويل والثبور له ولأمثاله {لَا تَدْعُوا اليوم ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} فما أعظم جرم من يستتر ويحترز عن ملاء من الخلق خشية الافتضاح عندهم في هذه الدُّنْيَا المضمحلة المنقرضة ثُمَّ لا يخشى من الافتضاح عَنْدَ علام الغيوب وفي ذَلِكَ الملاء العَظِيم مَعَ التعرض لسخط بديع السماوات والأَرْض فالق الحب والنوى. شِعْرًا: ... تَوَارَى بِجُدْرَانِ الْبُيُوتِ عَنِ الْوَرَى وَأَنْتَ بِعَيْنِ اللهِ لَوْ كُنْتَ تُنْظُرُ وَتَخْشَى عُيُونَ النَّاسِ أَنْ يَنْظُرُوا بِهَا وَلَمْ تَخْشَ عَيْنَ اللهِ وَاللهُ يَنْظُرُ آخر: ... يَا مَنْ يَرَى مَدَّ الْبَعُوضِ جَنَاحَهَا فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ الْبَهِيمِ الأَلِيلِ وَيَرَى مَنَاطَ عُرُوقِهَا فِي نَحْرِهَا وَالْمُخَّ فِي تِلْكَ الْعِظَامِ النُّحَلِ وَيَرَى مَكَانَ الدَّمِ مِنْ أَعْضَائِهَا مُتَنَقِّلاً مِنْ مَفْصِلٍ فِي مَفْصِلِ وَيَرَى مَكَانَ الْمَشْيِ مِنْ أَقْدَامِهَا وَخَطِيضَهَا فِي مَشْيِهَا الْمُسْتَعْجِلِ وَيَرَى وَيَسْمَعُ حِسَّ مَا هُوَ صَوْتُهَا فِي قَعْرِ بَحْرٍ غَامِضٍ مُتَجَدْوِلِ ... ›?

موعظة في الحث على التزود للآخرة وفيها عبر ومواعظ

.. أَصْوَاتُهَا مَرْفُوعَةً عَِنْدَ النِّدَا أَرْزَاقُهَا مَقْسُومَةٌ لِسُّؤَلِ اغْفِرْ لِعَبْدٍ تَابَ مِنْ فَرَطَاتِهِ مَا كََانَ مِنْهُ فِي الزَّمَانِ الأَوَّلِ آخر: ... إِنَّ الْقُلُوبَ يَدُ الْبَارِي تُقَلِّبُهَا فَاسْأَل مِن اللهِ تَوْفِيقًا وَتَثْبِيتًا مَنْ يُضلِلِ اللهَ لا تَهْدِيهِ مَوْعِظَةُ وَإِنْ هَدَاهُ فَلَوْ قَدْ كَانَ عِنْتِيْتَا فَهَذِهِ غُرْبَةُ الإِسْلامِ أَنْتَ بِهَا ... فَكُنْ صَبُورًا إِذَا فِي اللهِ أَوْذِيتَا وَاسْأَلْهُ مِنْ فَضْلِهِ خَيْرًا يَمُنَّ بِهِ ... عَلَيْكَ وَاصْبِرْ وَلَوْ فِي الدِّينِ عُودِيتَا وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ مَخْلُوقٌ لِطَاعَتِهِ ... فَإِنْ أَجَبْتَ فَلِلْخَيْرَاتِ أُوتِينَا وَسَوْفَ تَرْضَى غَدًا إِنْ كُنْتَ مُعْتَصِمًا ... بِالْوَاحِدِ الْفَرْدِ لا بِالشِّرْكِ إِنْ جِيتَا اللَّهُمَّ نور قلوبنا بنور الإِيمَان وثَبِّتْ محبتك فيها وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا حب أوليائك وبغض أعدائك وآتنا في الدُّنْيَا حسنة وفي الآخِرَة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (مَوْعِظَةٌ في الحَثِّ عَلى الإقْبَالِ عَلى الآخِرَةِ) إخواني أين رفقاؤنا وإخواننا أين ذهب معارفنا وجيرانَا أين أصدقاؤنا أين زملاؤنا وأقراننا أين علماؤنا العاملون بعلمهم أين آباؤنا

ويليها قصيدة زهدية في الحث على الاستعداد للموت وما بعده

وأجدادنا رحلوا وَاللهِ بعدهم بقاؤنا هذه مساكنهم فيها غيرهم قَدْ نسيناهم محبهم وجفاهم أين أصحاب القصور الحصينة، والأنساب العالية الرصينة والعقول الراجحة الرزينة قبضت عَلَيْهمْ يد الْمَنَايَا فظفرت ونقلوا إلى أجداثٍ ما مهدت إذ حفرت ورحلوا بذنوب لا يدرون هل غفرت أو بقيت فالصحيح مِنْهُمْ بالحزن قَدْ سقم والمدعو إلى دار البلى أسرع ولم يقم واْلكِتَاب قَدْ سطر بالذُّنُوب فرقم. ولذيذ عيشهم بالتنغيص قَدْ ختم وفراقهم لأحبابهم وأموالهم قَدْ حتم والولد قَدْ ذل ويتم فتفكروا في القوم كيف رحلوا وتذكروا ديارهم أين نزلوا، واسألوا منازلهم عنهم ماذا فعلوا فانتبه من رقادك قبل أن تصل ما وصلوا يا من غفل وسهى ولهى ونسي المقابر والبلى. شِعْرًا: ... إِنَّ الْحَبِيبَ مِن الأَحْبَابِ مُخْتَلَسُ ... لا يَمْنَعُ الْمَوْتَ بَوَّابٌ وَلا حَرَسُ فَكَيْفَ تَفْرَحُ بِالدُّنْيَا وَلَذَّتِهَا ... يَا مَنْ يُعَدُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَالنَّفْسُ أَصْبَحْتَ يَا غَافِلاً فِي النُّقْصِ مُنْغَمِسًا ... وَأَنْتَ دَهْرَكَ فِي اللَّذَاتِ مُنْغَمِسُ لا يَرْحَمُ الْمَوْتُ ذَا جَهْلٍ لِغَرَّتِهِ ... وَلا الَّذِي كَانَ مِنْهُ الْعِلْمُ يُقْتَبَسُ كَمْ أَخْرَسَ الْمَوْتُ فِي قَبْرٍ وَقَفْتُ بِهِ ... عَنِ الْجَوَابِ لِسَانَا مَا بِهِ خَرْسُ قَدْ كَانَ قَصْرُكَ مَعْمُورُ لَهُ شَرَفُ ... وَقَبْرُكَ اليوم فِي الأَجْدَاثِ مُنْدَرِسُ آخر: ... لَنا كُلّ يَومٍ رَنَّةٌ خَلفَ ذاهِبٍ وَمُسْتَهْلَكٌ بينَ النَوى وَالنَوائِبِ وَقَلعَةُ إِخْوَان كَانَا وَرَاءَهُمْ نُرامِقُ أَعْجَازَ النُّجُومِ الغَوَارِبِ ... ›?

.. نُوادِعُ أَحداثَ اللَيالي عَلى شَفًا نُوادِعُ أَحداثَ اللَيالي عَلى شَفًا وَنَأمُلُ مِن وَعدِ المُنى غَيرَ صادِقٍ وَنَأمَلُ مِن وَعدِ الرَدى غَيرَ كاذِبِ إِلى كَم نُمَنّى بِالغُرورِ وَنَنثَني بِأَعناقِنا لِلمُطمِعاتِ الكَواذِبِ نُراعُ إِذا ما شيكَ أَخمَصُ بَعضِنا وَأَقدامُنا ما بَينَ شَوكِ العَقارِبِ وَنُمشي بِآمالٍ طِوالٍ كَأَنَّنا أَمِنّا بَناتَ الخَطبِ دونَ المَطالِبِ نَعَم إِنَّها الدُّنْيَا سِمومٌ لِطاعِمٍ وَخَوفٌ لِمَطلوبٍ وَهَمٍّ لِطالِبِ وَإنَا لَنَهواها عَلى الغَدرِ وَالقِلا وَنَمدَحُها مَع عِلمِنا بِالمَعائِبِ وَمَن كانت الأَيّامُ ظَهرًا لِرَحلِهِ فَيا قُربَ ما بَينَ المَدى وَالرَكائِبِ تَحِلُّ الرَزايا بِالرِجالِ وَتَنجَلي وَرُبَّ مُصابٍ يمُقْلِعِ عَن مَصائِبِ ... ›? آخر: عَزّى بَعْضهمْ أخًا فَقَالَ: ... تَصَبَّرْ فَإِنَّ الأَجْرَ أَسْنَى وَأَعْظَمُ ... وَلازِمْ لِمَا يَهْدِي لِمَا هُوَ أَقْوَمُ وَلَوْ جَازَ فَرْطُ الْحُزْنِ لِلْمَرْءِ لَمْ يُفِدْ ... فَمَا بَالَنَا لا نَسْتَفِيدُو نَأْثَمُ ج

فصل في تحريم القتل وذكر آثار السيئة وعواقبه الوخيمة

وَإِنِّي عَنْ نَدْبِ الأَحِبَّةِ سَاكِتُ ... وَإِنْ كَانَ قَلْبِي بِالأَسَى يَتَكَلَّمُ وَقَالَ آخر مَاتَ له طفل: فَإِنْ كُنْتَ تَبْكِيهِ طَلابًا لِنَفْعِهِ ... فَقَدْ نَالَ جَنَّاتِ النَّعِيمِ مُسَارِعًا وَإِنْ كُنْتَ تَبْكِي أَنَّهُ فَاتَ عَوْدُهُ ... عَلَيْكَ بِنَفْعِ فَهُوَ قَدْ صَارَ شَافِعًا آخر: ... جَاوَرْتُ أَعْدَائِي وَجَاوَرَ رَبِّهُ ... شَتَّانَ بَيْنَ جَوَارِهِ وَجِوَارِي اللَّهُمَّ يا حي يا قيوم يا من لا تأخذه سنة ولا نوم يا ذا الجلال والإكرام يا واحد أحد يا فرد صمد يا بديع السماوات والأَرْض نسألك أن تنصر الإسلام والمسلمين وأن تعلى كلمة الحق والدين وأن تشمل بعنايتك وتوفيقك كُلّ من نصر الدين وأن تملأ قلوبنا بمحبتك ومحبة رسلك وأوليائك وأن تلهمنا ذكرك وشكرك وأن تأخذ بنواصينا إلى ما ترضاه وأن ترزقنا الاستعداد لما أمامنا وأن تهون أمر الدُّنْيَا عَلَيْنَا وأن تغفر لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين الأحياء مِنْهُمْ والمَيتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ) في تحريم القتل وإثُمَّ القاتل اعْلَمْ وفقنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المسلمين أن القتل من أكبر الكبائر وأعظم الذُّنُوب وأشد الآثام بل هُوَ أغلظها جميعًا بعد الإشراك بِاللهِ وما زال النَّاس مُنْذُ تكونوا جماعات وظهر فيما بينهم تعارض الرغبات والشهوات وتمكنت بها في النُّفُوس بواعث التعدي يرون أن جريمة القتل من أكبر الجرائم وَذَلِكَ أنها سلب لحياة المجني عَلَيْهِ بغير حق وتيتيم لأولاده وترميل لنسائه وحرمان لأهله وأقاربه وإضاعةً لحقوقه،

وقطع لأعمال حَيَاتهُ، والحيلولة بينه وبين التوبة والوصايا وغير ذَلِكَ وإيصال النَّاس حقوقهم إن كَانَ عَلَيْهِ لَهُمْ شَيْء وأَنْتَ إذا تتبعت المعاصي معصية معصية لا تجد لواحدةٍ منها فسادًا يساوي فساد القتل لأن الإِنْسَان إذا مَاتَ ومحي من الوجود ذهب كله ولم يبق ناحية من نواحيه ولَيْسَ ذَلِكَ المعنى في أي معصية ولذَلِكَ كانت هذه الكبيرة تلي الشرك بِاللهِ وورد عن أبي مُوَسى رضي الله عنه عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «إذا أصبح إبلَيْسَ بث جنوده فَيَقُولُ: من أضل اليوم مسلما ألبسته التاج. قال: فيجيء هَذَا فَيَقُولُ: لم أزل به حتى طلق امرأته، فَيَقُولُ: يوشك أن يتزوج، ويجيء هَذَا فَيَقُولُ: لم أزل به حتى عق والديه، فَيَقُولُ: يوشك أن يبرهما، ويجيء هَذَا فَيَقُولُ: لم أزل به حتى أشرك فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ، ويجيء هَذَا فَيَقُولُ: لم أزل به حتى قتل فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ ويلبسه التاج» . رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه. وأيضًا تحد لشعور الجماعة البشرية الَّذِي فطرت عَلَيْهِ من اعتقاد أن الحياة جعلها الله حقًّا لكل حيٍّ يمتع به ولا يجوز انتزاعه منه إِلا بحق شرعي. وأيضًا جريمة القتل مزعزعة لما ترجو هذه الجماعة، من هدوء الحياة واستقرارها وأيضًا هدم لعمارة شادها الله تتَكُون منها ومن أمثالها العمارة لهَذَا الكون. وهَذَا القرآن الكريم يحدثنا عن أول اعتداءٍ وقع من الإِنْسَان على أخيه ويصور لنا كيف كَانَ القاتل والمقتول كلاهما يعدان القتل جريمة آثمة تستوجب غضب الله وعقابه وأن القاتل لشعوره بهَذَا كَانَ يعالج في

ما قاله العلماء حول جريمة القتل وبعده الأدلة على تحريم القتل

نفسه الأقدام على هذه الجريمة علاج الكاره المتحرج حتى {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . وَقَالَ بعض المفسرين علة قوله تَعَالَى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} من أجل الاعتداء الَّذِي لا موجب له ولا مبرر على المسالمين الوادعين الَّذِينَ لا يريدون شرًّا ولا مدافعة {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} أن جريمة قتل نفس واحدة بلا مبرر من قصاص أو دفع لفساد عام كجريمة قتل النَّاس جميعًا وأن حماية نفس واحدة واستحياءها بهذه الحماية في أية صورة من صورها ومنها القصاص كأنها استحياء للناس جميعًا. ذَلِكَ أن الاعتداء على نفس واحدة هُوَ اعتداء على حق الحياة الَّذِي يصون للناس جميعًا فالاستهتار بهَذَا الحق اعتداء على كُلّ من يدلي به ويتحصن به والمحافظة عَلَيْهِ محافظة على الحق الَّذِي تصان به دماء النَّاس وأرواحهم فلَيْسَتْ نفس مفردة هِيَ التي تقتل إنما هُوَ حقها في الحياة التي يشاركها فيها النَّاس، ولَيْسَتْ نفس مفردة هِيَ التي تصان إنما هِيَ كُلّ نفس مستحقة للصيانة بما استحقت به تلك النفس الواحدة. أ. هـ. وقَدْ اختلف الْعُلَمَاء هل للقاتل من توبة أم ى فروى البخاري عن سعيد بن جبير قال: اختلف علماء الكوفة فيها فرحلت إلى ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فسألته فَقَالَ: نزلت هذه الآيَة: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} . الآيَة وهي من آخر ما نزل، وما نسخها شَيْء.

وعن سالم بن أبي الجعد قال: كنا عَنْدَ ابن عباس بعد ما كف بصره فأتاه رجل فناداه يا عَبْد اللهِ بن عباس ما تَرَى في رجل قتل مؤمنًا متعمدًا؟ فَقَالَ: {فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} قال: أفرَأَيْت إن {تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} قال ابن عباس: ثكلته أمه وأنى له التوبة والهدى والَّذِي نفسي بيده، لَقَدْ سمعت نبيكم صلى الله عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: «ثكلته أمه، قاتل مُؤْمِن متعمدًا، جَاءَ يوم القيامة آخذ بيمينه أو بشماله، تشخب أوداجه في قبل عرش الرحمن يلزم قاتله بشماله وبيده الأخرى رأسه يَقُولُ: يا رب سل هَذَا فيما قتلني» ؟ وأيم الَّذِي نفس عَبْد اللهِ بيده لَقَدْ أنزلت هذه الآيَة فما نسختها من آية حتى قبض نبيكم صلى الله عَلَيْهِ وسلم وما نزل بعدها من برهان. وعن عَبْد اللهِ بن مسعود عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «يجيء المقتول متعلقًا بقاتله يوم القيامة آخذ رأسه بيده فَيَقُولُ: يا رب سل هَذَا فيم قتلني قال: فَيَقُولُ قتلته لتَكُون العزة لفلان قال: فإنها لَيْسَتْ له بؤ بإثمه قال: فيهوى في النار سبعين خريفًا» . وعن معاوية رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: سمعت رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: «كُلّ ذنب عَسَى الله أن يغفره إِلا الرجل يموت كافرًا أو الرجل يقتل مؤمنًا متعمدًا» . رواه أَحَمَد والنسائي، ولأبي داود من حديث أبي الدرداء كَذَلِكَ وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «من أعان على قتل مُؤْمِن بشطر كلمة لقي الله مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله» . اللَّهُمَّ أَنَا نعوذ بك من شر أنفسنا وشر الدُّنْيَا والهوى ونعوذ بك من الشيطان الرجيم ونسألك أن تغفر وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

أدلة على تحريم القتل وأنه لا توبة للقاتل عند بعض أهل العلم

(فَصْلٌ) أخَرَجَ الطبراني في الكبير والضياء في المختَارَّة عن أنس بن مالك رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «أبى الله أن يجعل لقاتل المُؤْمِن توبة» . وروي عن البراء بن عازب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «لزَوَال الدُّنْيَا أَهْوَن على الله من قتل مُؤْمِن بغير حق» . رواه ابن ماجة بإسناد حسن. ورواه البيهقي والأصبهاني، وزَادَ فيه: «ولو أن أَهْل سماواته وأَهْل أرضه اشتركوا في دم مُؤْمِن لأدخلهم الله النار» . وعن عَبْد اللهِ بن عمرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: لزَوَال الدُّنْيَا أَهْوَن عَنْدَ الله من قتل رجل مسلم» . رواه مسلم والنسائي والترمذي مرفوعًا وموقوفًا ورجح الموقوف. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بِن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاء» . رواه البخاري ومسلم وعن عَبْد اللهِ بن عمرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «لن يزال المُؤْمِن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا» . وَقَالَ ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: إن من ورطات الأمور التي لا مخَرَجَ لمن أوقع نَفْسهُ فيها سفك الدم الحرام بغير حله. رواه البخاري والحاكم وَقَالَ: صحيح على شرطهما وروى ابن ماجة عن عَبْد اللهِ بن عمرو قال: رَأَيْت رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم يطوف بالكعبة وَيَقُولُ «ما أطيبك وما أطيب ريحك ما أعظمك وما أعظم حرمتك والَّذِي نفس مُحَمَّد بيده لحرمة المُؤْمِن عَنْدَ الله أعظم من حرمتك ماله ودمه» . وعن أبي سعيد وأَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عن رسول الله

صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «لو أن أَهْل السماء وأَهْل الأَرْض اشتركوا في دم مُؤْمِن لأكبهم الله في النار» . رواه الترمذي وَقَالَ: حديث حسن غريب وروى الطبراني في الصغير من حديث أبي بكرة عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «لو أن أَهْل السماوات والأَرْض اجتمعوا على قتل مسلم لكبهم الله جميعًا على وجوههم في النار» . وعن جندب بن عَبْد اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «من استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين الْجَنَّة ملء كف من دم امرئ مسلم أن يهريقه، كما يذبح به دجاجة كُلَّما تعرض لباب من أبواب الْجَنَّة حال الله بينه وبينه ومن استطاع منكم أن لا يجعل في بطنه إِلا طيبًا فليفعل فإن ما ينتن من الإِنْسَان بطنه» . رواه الطبراني ورواته ثقات. وَقَالَ عبد الملك بن مروان كنت أجالس بريرة بالْمَدِينَة فكانت تَقُول لي: يا عبد الملك إني أرى فيك خصالاً، وإنك لخليق أن تلي الأَمْر فإن وليته فاحذر الدُّنْيَا فإني سمعت رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: «إن الرجل ليدفع عن باب الْجَنَّة بعد أن ينظر إليها، بملء محجمة من دم يهريقه من مسلم بغير حق» . انتهى. وعن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «أبغض النَّاس إِلَى اللهِ ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه» . رواه البخاري.

قال شيخ الإسلام: أخبر صلى الله عَلَيْهِ وسلم أن أبغض النَّاس إِلَى اللهِ هؤلاء الثلاثة وَذَلِكَ لأن الفساد إما في الدين وإما في الدُّنْيَا فأعظم فساد الدُّنْيَا قتل النُّفُوس بغير حق، ولهَذَا كَانَ أكبر الكبائر بعد أعظم فساد الدين الَّذِي هُوَ الكفر. وعن أبي الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: سمعت رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: «كُلّ ذنب عَسَى الله أن يغفره إِلا لرجل يموت مشركًا أو يقتل مؤمنًا متعمدًا» . رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه والحاكم وَقَالَ: صحيح الإسناد وعن أبي مُوَسى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «إذا أصبح إبلَيْسَ بث جنوده، فَيَقُولُ: من أضل اليوم مسلمًا ألبسته التاج. قال: فيجيء هَذَا فَيَقُولُ: لم أزل به حتى طلق امرأته فَيَقُولُ: يوشك أن يتزوج، ويجيء هَذَا فَيَقُولُ: لم أزل به حتى عق والديه، فَيَقُولُ: يوشك أن يبرهما، ويجيء هَذَا فَيَقُولُ: لم أزل به حتى أشرك فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ، ويجيء، فَيَقُولُ: لم أزل به حتى قتل فَيَقُولُ: أَنْتَ أَنْتَ، ويلبسه التاج» . رواه ابن حبان في صحيحه. وعن أبي سعيد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «يخَرَجَ عنق من النار يتكلم فَيَقُولُ: وكلت اليوم بثلاثةٍ: بكل جبار عنيدٍ ومن جعل مَعَ الله إلهًا آخر ومن قتل نفسًا بغير حق فينطوي عَلَيْهمْ فيقذفهم في حمراء جهنم» . رواه أَحَمَد والبزار. فَإِيَّاكَ قَتْلُ النَّفْسِ ظُلْمًا لِمُؤْمِنٍ فَذَلِكَ بَعْدَ الشِّرْكِ كُبْرَى التَفَسُّدِ كَفَى زَاجِرًا عَنْهُ توعُّدُ قَادِرٍ بِنَارٍ وَلَعْنٍ ثُمَّ تَخْلِيدِ مُعْتَدِ فَقَدْ قَالَ عَبْد اللهِ ذُو الْعِلْمِ وَالتُّقَى بِنَفْيِ مَتَابِ الْقَاتِلِ الْمُتَعَمِّدِ ... ›?

ذكر من يرى أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمدا أو عدوانا

اللَّهُمَّ يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغَفْلَة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا وأنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا وأمنن عَلَيْنَا يا مولانَا بتوبة تمحو بها عنا كُلّ ذنب وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين الأحياء مِنْهُمْ والمَيتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ) وممن يرى أنه لا توبة لقاتل المُؤْمِن عمدًا أَبُو هُرَيْرَةِ وعبد الله بن عمرو وأبو سلمة وعبيد بن عمير والحسن والضحاك بن مزاحم نقله ابْن أَبِي حَاتِم عنهم وبالتالي فلو لم يرد في بيان ضخامة هَذَا الذنب ذنب القتل، وعظمه الَّذِي لا يتناهى إِلا قوله تَعَالَى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} . لكَانَ فيها كفاية وموعظة وزجر، ففيها من الوعيد الشديد الَّذِي ترجف منه القُلُوب وتنصدع له الأفئدة وينزعج منه أولو العقول، فقرن سُبْحَانَهُ وتَعَالَى القتل بالشرك، وبين أن جزاءه جهنم وأنه خالد فيها وأن مَعَ ذَلِكَ الْعَذَاب والخلود غضب الرب جَلَّ وَعَلا ولم تسكت الآيَة، بل أضافت إلى ذَلِكَ اللعن، وَهُوَ الطرد والإبعاد عن الرحمة ولم تنته الآيَة إلى هَذَا الحد من بيان عظم جزاء القاتل بل صرحت تصريحًا لا خفاء فيه بأن عذاب ذلك القاتل سيكون نوعًا وحده في الشدة لا يماثله عذاب أي معصية ما عدا الشرك، فذنبه أعظم الذُّنُوب وعقوبته أشد العقوبات هَذَا مِمَّا ورد في قتل الإِنْسَان غيره وأما قتل الإِنْسَان نَفْسهُ المعروف عندنا اليوم بالانتحار فهو نوع من قتل النفس التي حرم الله وَهُوَ جدير بأن يكون أفظع أنواع القتل لأن حرض الإِنْسَان على حَيَاتهُ أمر فطري يبعد

كل البعد أن تثور عَلَيْهِ عوامل الْغَضَب والانتقام. ونفس الإِنْسَان لَيْسَتْ ملكًا له فهو لم يخلق نَفْسهُ ولا عضوا من أعضائه، بل ولا خلية من خلاياه، وإنما نَفْسهُ وديعة وأمانة عنده استودعه الله إياه، فلا يجوز له التفريط فيها ولا التصرف فيها إِلا على وفق الشرع فيكف بالاعتداء عَلَيْهَا بالتخلص منها قال تَعَالَى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} فالمسلم يراد منه أن يكون صلب العود قوي العزم في مواجهة الشدائد ولم يبح له أن يهرب من الحياة، ويخلع ثوبها لبَلاء نزل به، أو أملٍ كَانَ يحلم به فخاب أمله فإن المُؤْمِن خلق للجهاد لا للعقود وللكفاح لا للفرار، وإيمانه بِاللهِ وخلقه يأبيان عَلَيْهِ أن يفر من ميدان الحياة ومعه السِّلاح الَّذِي لا يفل، والذخيرة التي لا تنفد، سلاح الإِيمَان المكين، وذخيرة الخلق المتين الَّذِي استمده من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال تَعَالَى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إليك إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وفقنا الله وَجَمِيع المسلمين إلى الإقتداء بهما والتمسك بهما علمًا وعملاً. وإذا كَانَ جزاء من قاتل المُؤْمِن عمدًا ما سمعت فإن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم يصور لنا جزاء قاتل نَفْسهُ من ذَلِكَ قوله صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجَّأَ بِهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا» . رواه البخاري ومسلم والترمذي وَأَبُو دَاود والنسائي، فهَذَا الْحَدِيث يصرح بالخلود المؤبد في حق قاتل نَفْسهُ ويفيد أن قاتل نَفْسهُ في أي آلة من

جريمة قتل الإنسان نفسه والأدلة على ذلك

الآلات القاتلة يعذب نَفْسهُ بتلك الآلة في نار جهنم فيستعملها هناك كما استعملها هنا عِنْدَمَا قتل نَفْسهُ فيجتمَعَ عَلَيْهِ عذابان عذاب النار وعذاب الآلة المذكورة نسأل الله العافية في الدُّنْيَا والآخِرَة وعن وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الَّذِي يَخْنُقُ نَفْسَهُ يَخْنُقُهَا فِي النَّارِ، وَالَّذِي يَطْعَنُ نَفْسَهُ يَطْعَنُ نَفْسَهُ فِي النَّارِ والَّذِي يَقْتَحِمُ يَقْتَحِمُ فِي النَّارِ» . رواه البخاري. ومن ذَلِكَ ما أخرجه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِرَجُلٍ مِمَّنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ: «هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ» . فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ قَاتَلَ ذَلِكَ الرَّجُلُ قِتَالًا شَدِيدًا فَأَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الَّذِي قُلْتَ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ قَدْ قَاتَلَ قِتَالاً شَدِيدًا وَقَدْ مَاتَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِلَى النَّارِ» . فَكَادَ بَعْضُ الْمُسْلِمِين أَنْ يَرْتَابَ فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ، إِذْ قِيلَ لَهُ إِنَّهُ لَمْ يَمُتْ وَلَكِنَّ بِهِ جِرَاحة شَدِيدةٌ فَلَمَّا كَانَ مِنْ اللَّيْلِ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْجِرَاحِ فَأَخَذَ ذُبَابَ سَيْفِهِ فَتَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» . ثُمَّ أَمَرَ بِلَالًا فَنَادَى بِالنَّاسِ «إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ» . وعن جندب بن عبد الله البجلي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((كان ممن كان قيلكم رجل به جرح فجزع فاخذ سكينًا فحز بها يده، فما رقأ الدم حتى مات فقال الله بادرني عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة)) وعن جابر بن سمرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أن رجلاً كانت به جراحة فأتى قرنًا له فأخذ مشقصًا فذبح به نَفْسهُ فلم

يصل عَلَيْهِ النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم. رواه ابن حبان في صحيحه. عَنْ أَبِي قِلَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ الضَّحَّاكِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَايَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الْإِسْلَامِ كَاذِبًا متعمدًا فَهُوَ كَمَا قَالَ وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْء عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ فِي شَيْء لَا يَمْلِكُ وَلَعْنُ الْمُؤمِنِ كَقَتْلِهِ وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ وَمَنْ ذَبَحَ نَفْسَهُ بِشَيْء عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِي وَمُسْلِمْ. وجَاءَ في ترويع المسلم عدة أحاديث كقوله صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى ينتهي، وإن كَانَ أخاه لأبيه وأمه» . وَقَالَ ?: «من نظر إلى مسلم نظرة يخيفه فيها بغير حق أخافه الله يوم القيامة» . وَقَالَ ?: «من أخاف مؤمنًا كَانَ حقًّا على الله ألا يؤمنه من أفزاع يوم القيامة» . شِعْرًا: ... فَيَا عَجَبًا نَدْرِي بِنَارٍ وَجَنَّةٍ ... وَلَيْسَ لِذِي نَشْتَاقُ أَوْ تِلْكَ نَحْذَرُ إِذَا لَمْ يَكُنْ خَوْفٌ وَشَوْقٌ وَلا حَيَا ... فَمَاذَا بَقِي فِينَا مِنَ الْخَيْرِ يُذْكَرُ وَلَيْسَ لِحَرٍّ صَابِرِينَ وَلا بَلَى ... فَكَيْفَ عَلَى النِّيرَانِ يَا قَوْمُ نَصْبِرُ وَفَوْتُ جِنَانِ الْخُلْدِ أَعْظَمُ حَسْرَةً ... عَلَى تِلْكَ فَلَلْيَسْتَحْسِرِ الْمُتَحَسِّرِ فَأُفٍّ لَنَا أُفٍّ كِلابُ مَزَابِلٍ ... إِلَى بتْنِهَا نَغْدُوا وَلا نَتَذَبَّرُ نَبِيعُ خَطِيرًا بِالْحَقِيرِ عِمَايَةً ... وَلَيْسَ لَنَا عَقْلُ وَلُبٌّ مُنَوَّرُ

موعظة فيالحث على طاعة المولى جل وعلا والحث على العمل

فَطُوبِي لِمَنْ يُؤْتَى الْقَنَاعَةَ وَالتُّقَى ... وَأَوْقَاتُهُ فِي طَاعَةِ اللهِ يَعْمُرُ آخر: ... تَوَرَّعْ وَدَعْ مَا أَنْ يَرِيبُك كلّهُ ... جَمِيعًا إِلَى مَا لا يَرِيبِكَ تَسْلَمِ وَحَافظَ عَلَى أَعْضَائِكَ السَّبْعِ جُمْلَةً ... وَرَاعِ حُقُوَق اللهِ فِي كُلُّ مُسْلِم وَكُنْ رَاضِيًا بِاللهِ رَبًّا وَحَاكِمًا ... وَفَوّضْ إليه فِي الأُمُورِ وَسَلّم آخر: ... لِكَسْرَةٌ مَنْ رَغِيفِ الْخُبْزِ تُشْبِعُنِي ... وَشَرْبَةٌ مِنْ قَرَاحٍ الْمَاءِ تُرْوِينِي وَخِرْقَةٍ مِنْ خَشِينِ الثَّوْبِ تَسْتُرُنيِ ... حَيًّا وَإِنْ مِتُّ تَكْفِينِي لِتَكْفِينِي لا أَبْتَغِي وَصْلَ مَنْ يَبْغِي مُفَارَقَتِي ... وَلا ألينُ لِمَنْ يَبْتَغِي لِينِي آخر: ... قَنِعْتُ بِالْقُوتِ فِي زَمَانِي ... وَصُنْتُ نَفْسِي عَنِ الْهَوَانِ خَوْفًا مِن النَّاسِ أَنْ يَقُولُوا ... فَضْل فُلانٍ عَلَى فُلانِ مَنْ كُنْتُ عَنْ مَاله غَنِيًّا ... فَلا أُبَالي إِذَا جَفَانِي وَمَنْ رَآنِي بِعَيْنِ نَقْصٍ ... رَأَيْتُه بِالَّذِي رَآنِي وَمَنْ رَآنِي بِعَيْنِ تَمٍّ ... رَأَيْتُهُ كَامِلَ الْمَعَانِي اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لامتثال أمرك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وسلم. موعظة عباد الله طلب الرزق الحلال فريضة على كُلّ مسلم فالتمس الرزق أيها المسلم من حله وَإِيَّاكَ وما نهاك الله عَنْهُ وحرمه فمتاع الدُّنْيَا قليل؛ أيها المسلم إن جمعك للمال من حله عبادة إذا كنت تريد به إعفاف نفسك، والقيام بما أوجبه الله عَلَيْكَ من الحقوق، وَاحْذَر من

ترك الْعَمَل، وافعل الأسباب التي بها يحصل الرزق بإذن الله، واعْلَمْ أن من ترك الْعَمَل وغلب عَلَيْهِ الكسل حتى صار كلا على الخلق يعده أهله ثقلاً ويراه صاحبه بغيضًا، ولا يلقاه أحد إِلا وكره لقياه قال تَعَالَى حاثًا على طلب الرزق: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاة فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} والمُؤْمِن المحترف الكسوب الَّذِي يأكل من عمل يده مكرم محبوب محترم عَنْدَ أهله والأولاد وكَانَ نوح وداود يحترفان التجارة ومُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وسلم رعى الغنم، ومُوَسى كَانَ أجيرًا عَنْدَ صَاحِب مدين وكَانَ إدريس خياطًا، وما أبعد هذه الأعمال الشريفة عن الكسل والبطالة وكَانَ السَّلَف رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ عمالاً مكتسبين فكلهم ما بين غني شريف وفقير شريف عفيفٍ، لا تشغلهم الدُّنْيَا عن الآخِرَة ولا يمنعهم الدين عن طلب الكسب والقيام بالواجبات، وهم مَعَ هذا من أقوى النَّاس توكلاً على الله ورضى بما قدّر وقضاه وهَذَا أمر الله به ورضيه. شِعْرًا: لِمَنْ تَطْلُبَ الدُّنْيَا إِذَا لَمْ تَرِدْ بِهَا ... رِضَى الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ رَبِّ الْبَرِيَّةِ آخر: ... وَكُنْ بِالَّذِي قَدْ خَطَّ بِاللَّوْحِ رَاضِيًا فَلا مَهْرَبٌ مِمَّا قَضَاهُ وَخَطَّهُ وَإِنَّ مَعَ الرِّزْقِ اشْتِرَاطُ الْتِمَاسِهِ وَقَدْ يَتَعَدَّى إِنْ تَعَدَّيْتَ شَرْطَهُ فَلَوْ شَاءَ أَلْقَى فِي فَمِّ الطَّيْرِ قُوتَهُ وَلَكِنَّهُ أَوْحَى إِلَى الطَّيْرِ لَقْطَهُ ... ›?

فصل في التحذير من الزنا وبيان خطره وأضراره

آخر: ... وَمَا طَلَبُ الْمَعِيشَةِ بِالتَّمَنِي ... وَلِمَنْ أَلْقِ دَلْوَكَ بِالدَّلاءِ تَجِيءُ يِمِلْئِهَا طَوْرًا وَطَورًا ... وَتَجِيءُ بِحَمْأةٍ وَقَلِيلِ مَاءِ آخر: لا تَقْعُدَنَّ بِكَسْرِ الْبَيْتِ مُكْتَئِبًا يَفْنَى زَمَانُكَ بَيْنَ اليأَسِ وَالأَمَلِ وَاِحْتَلْ لِنَفْسِكَ فِي رِزْقٍ تَعِيشُ بِهِ فَإِنَّ أَكْثَرَ عَيْشِ النَّاسِ بِالْحِيَلِ وَلا تَقُلْ إِنَّ رِزْقِي سَوْفَ يُدْرِكُنِي وَإِنْ قَعَدَتُ فَلَيْسَ الرِّزْقُ كَالأَجَلِ ... ›? اللَّهُمَّ اغفر لنا ولا تعذبنا ووفقنا ولا تخذلنا ولا تسلب الإِيمَان منا لا ملجأ إِلا إليك ولا معول لنا إِلا عَلَيْكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين. فصل في التحذير من الزنا وآثاره في الدُّنْيَا والآخِرَة اعْلَمْ وفقنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن الله جَلَّ وَعَلا من حكمته ورحمته ركب في الإِنْسَان شهوة الفرج تركيبًا قويًّا وجعل لها عَلَيْهِ سلطة شديدةً فإذا هاجت كانت أشد الشهوات عصيانًا على العقل فلا تقبل منه صرفًا ولا عدلاً فمن لم يجعله الله قوي الإرادة شجاعًا انقاد لها صاغرًا وأطاعها ذليلاً ولولا قوة هذه الشهوة التي جعلها الله وشدة سلطانها على الإِنْسَان لأبى أن يحتمل ما يترتب عَلَيْهَا من

مشاق البيتوتة وتكاليف الزوجية وتربية الأولاد والكد والتعب من أجلهم والرضى بالآلام التي تنتابه إذا مرضوا أو أصيبوا بمكروهٍ. فخلق الله هذه الشهوة من القوة من أوضح الدلالة على قدرة الخالق وكمال علمه وخبرته وجليل حكمته فإن الإِنْسَان مسوق إلى التناسل رغم أنفه ومسخر على احتمال كُلّ ما يترتب عَلَيْهِ من النصب ومَعَ ذَلِكَ فهو راضٍ كُلّ الرِّضَا. وكَذَلِكَ المرأة لولا ما جعل الله فها من هذه الشهوة القوية ما كانت تستطيع حمل عبء الولادة والحمل ومشاق تربية الأولاد وهم صغار والسهر في الليالي والقيام على حراستهم ودفع الأضرار المكروهة عنهم وهم أطفال صغار واحتمال ما يعتريهم من الآلام وعدم الرَّاحَة وأيضًا فإن الله قَدْ خلق النساء على حالةٍ من الضعف لا يقدرن معها على احتمال تكاليف الحياة ومشاق الجهاد في معتركها. فسخر الله لهن الرِّجَال يحملون عنهن كُلّ ما يعجزهن عن احتماله في سبيل حياتهن بدافع هذه الشهوة القوية التي أودعها العزيز الحكيم جَلَّ وَعَلا، ولولاها لما كَانَ للنساء هَذَا السُّلْطَان على النُّفُوس. وإذا علمت ذَلِكَ من أن شهوة الفرج لها من القوة والتأثير هذه المكانة وأنها إنما خلقت لحكمة أرادها الله فاعْلَمْ أن العقل مسئول عن تصريف هذه الشهوة والوقوف معها عَنْدَ الحد الَّذِي خلقت من أجله ولا يتركها تهيج بالوسائل المختلفة بل يجب عَلَيْهِ أن يبعد عن كُلّ المناظر والأسباب التي تحركها وتبعثها إلى ما هُوَ ممنوع شرعًا. والأسباب التي

ما قاله العلماء في الزنا ومضاره وآثاره في الدنيا والآخرة

تثير هذه الشهوة وتهيجها منها: النظر، والخلوة بالأجنبية، وحديث النفس، وتقدم الكلام على النظر والخلوة. وشر مضار شهوة الفرج الزنا واللواط فالزنا اكبر الكبائر بعد الشرك والقتل وَهُوَ فاحشة مهلكة وجريمة موبقة وفساد لا تقف جرائمه عَنْدَ حد ولا تنتهي آثاره ونتائجه إلى غاية وَهُوَ ضلال في الدين وفساد في الأَخْلاق وانتهاك للحرمَاتَ والأعراض واستهتار بالشرف والمروءة، وداعية للبغضاء والعداوة. وإليك ما قال أحد المتكلمين عَنْهُ: عاره يهدم البيوت الرفيعة ويطأطئ الرؤس العالية ويسود الوجوه البيض ويصبغ بأسود من القار أنصع العمائم بياضًا ويخرس الألسنة البليغة ويبدل أشجع النَّاس من شجاعتهم جبنًا لا يدانيه جبن ويهوي بأطول النَّاس أعناقًا وأسماهم مقامًا وأعرقهم عزًّا إلى هاوية من الذل والازدراء والحقارة لَيْسَ لها من قرارٍ. وَهُوَ أقدر أنواع العار على نزع ثوب الجاه مهما تسع ونباهة الذكر مهما بعدت وإلباس ثوب من الخمول ينبو بالعيون عن أن تلفت إلى من كَانَ في بيوتهم لفتة احترامٍ وَهُوَ أي الزنا لطخة سوداء إذا لحقت تاريخ أسرة غمرت كُلّ صحائفه البيض وتركت العيون لا تَرَى منها إِلا سوادًا حالكًا. وَهُوَ الذنب الظلوم الَّذِي إن كَانَ في قوم لا يقتصر على شين من قارفته من نسائهم بل يمتد شينه إلى من سواها مِنْهُمْ فيشينهن جميعًا شينًا يترك لهن من الأثر في أعين الناظرين ما يقضي على مستقبلهن النسوي وَهُوَ العار الَّذِي يطول عمره طولاً فقاتله الله من ذنب وقاتل فاعَلَيْهِ. أ. هـ. وَقَالَ آخر: إن الزنى يحط نَفْسهُ من سماء الفضيلة إلى حضيض الرذيلة ويصبح بمكَانَ من غضب الله ومقته عَظِيم ويكون عَنْدَ الخلق

ممقوتًا وفي دنياه مهين الجانب عديم الشرف منحط الكرامة ساقط العدالة تزدريه العامة من الفاسقين وإن كَانَ على أخلاقهم ويسير في ركابهم. وتبعد عَنْهُ الخاصة من ذوي المروءة والكرامة والشرف، مخافة أن يلوثهم ويعديهم بجربه ولا تقبل روايته ولا تسمَعَ شهادته ولا يرغب في مجاورته بل يبتعد عَنْهُ كُلّ البعد ويكون متهمًا في حركاته وسكناته وَجَمِيع حالاته ولا يرغب في مصادقته ومخالطته ومعاملته. إن سار قال النَّاس: أين يذهب هَذَا المجرم؟ وإن قعد قَالُوا: لم قعد هَذَا الفاسق في هَذَا المكَانَ وإن صاحبته أو عاملته أخذوك بذنبه ورموك بما رموه به غالبًا وإن جاورته فأعظم النَّاس إخلاصًا لك ومعرفةً بك شك في نزاهتك وأبعد عن زيارتك يخشى أن يظن أنه يريد بيت هَذَا الفاسق ولو جَاءَ إليه لأمر ضروري أكثر التلفت عَسَى أن لا يراه أحد وَهُوَ حول باب هَذَا الدنس النذل المجرم. وإن مشت معه أنثى من أقاربه ظنوها أجنبية منه جريًا على ما اشتهر به وعلم عَنْهُ وإن جَاءَ إلى بيت إنسان شريف لأمر ضروري اشمأز منه وحرص على التخلص منه بسرعة لا يراه أحد وَهُوَ عَنْدَ بابه وإن مشى مَعَ شريف لحاجة في النَّهَارَ ود الشريف أنه كَانَ بالليل لئلا يراه أحد وَهُوَ يمشي مَعَ هَذَا الدنس العرض الساقط نسأل الله العافية. اللَّهُمَّ اجعلنا لكتابك من التالين، ولك به من العاملين وبما صرفت فيه من الآيات منتفعين، وإلى لذيذ خطابه مستمتعين، ولأوامره ونواهيه خاضعين وبالأعمال مخلصين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين الأحياء مِنْهُمْ والمَيتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

قصيدة زهدية فيها مواعظ وعبر

ج شِعْرًا: ... رَأَيتُكَ فَيْمَا يُخْطِئُ النَّاسُ تَنظُرُ وَرَأسُكَ مِن مَاءِ الخَطيئةِ يَقْطُرُ تَوَارَى بِجُدرانِ البُيوتِ عَنِ الوَرى وَأَنْتَ بِعَينِ اللَهِ لَو كُنتَ تَشعُرُ وَتَخشى عُيونَ الناسِ أَن يَنظُروا بِها وَلَم تَخشَ عَينَ اللَهِ وَاللَهُ يَنظُرُ وَكَمْ مِن قَبيحٍ قَد كَفى اللَهُ شَرَّهُ أَلا إِنَّهُ يَعفو القَبيحَ وَيَستُرُ إِلى كَم تَعامى عَن أُمورٍ مِنَ الهُدى وَأَنْتَ إِذا مَرَّ الهَوى بِكَ تُبصِرُ إِذا ما دَعاكَ الرُشدُ أَحجَمتَ دونَهُ وَأَنْتَ إِلى ما قادَكَ الغَيُّ تَبدُرُ وَلَيْسَ يَقومُ الشُكرُ مِنكَ بِنِعمَةٍ وَلَكِن عَلَيكَ الشُكرُ إِن كُنتَ تَشكُرُ وَما كُلُّ ما لَم تَأتِ إِلّا كَما مَضى مِنَ اللَهوِ في اللَذاتِ إِن كُنتَ تَذكُرُ وَما هِيَ إِلّا تَرحَةٌ بَعدَ فَرحَةٍ كَذالِكَ شُربُ الدَهرِ يَصفو وَيَكدُرُ كَأَنَّ الفَتى المُغتَرَّ لَم يَدرِ أَنَّهُ تَروحُ عَلَيْهِ الحادِثاتُ وَتَبكُرُ أَجَدَّكَ أَمّا كُنتَ وَاللَهوُ غالِبٌ عَلَيكَ وَأَمّا السَهوُ مِنكا فَيَكثُرُ ... ›?

موعظة في الحث على التوبة من الذنوب

.. وَأَمّا بَنو الدُّنْيَا فَفي غَفَلاتِهِم وَأَمّا يَدُ الدُّنْيَا فَتَفري وَتَجزُرُ وَأَمّا جَميعُ الخَلقِ فيها فَمَيِّتٌ وَلَكِنَّ آجالاً تَطولُ وَتَقصُرُ لَهَوتَ وَكَمْ مِن عِبرَةٍ قَد حَضَرتَها وَأَنْتَ تَرَى في ذَاك أَنَّكَ تَتْجُرُ خُدِعتَ عَنِ الساعاتِ حَتّى غُبِنتَها وَغَرَّتكَ أَيّامٌ قِصارٌ وَأَشهُرُ فَيا بانِيَ الدُّنْيَا لِغَيرِكَ تَبتَني وَيا عامِرَ الدُّنْيَا لِغَيرِكَ تَعمُرُ وَمالَكَ إِلّا الصَبرُ وَالبِرُّ عُدَّةٌ وَإِلا اعتِبارٌ ثاقِبٌ وَتَفَكُّرُ ... ›? وأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. موعظة عباد الله إن التوبة من الذُّنُوب مفتاح السعادة في هذه الدار وفي دار القرار، وإنما كانت التوبة كَذَلِكَ لأن بها يغفر الله الذُّنُوب جميعًا لا فرق بين صغارها والكبار ولأن التائب إذا صحت توبته بأن اجتمعت شروطها وانتفت الموانع يصبح التوبة أمينًا على دينه لا يخل بواجب من واجبات الإسلام فتوبوا عباد الله توبة نصوحًا لتستنير قلوبكم وأبدانكم بدل ظلمَاتَ كانت مخيمة عَلَيْهَا تثقلكم عن طاعة مولاكم وستجدون بإذن الله انشراحًا في صدوركم بدل انقباضها وضيقها فإن الذُّنُوب تؤثر على

وبعدها أبيات تتضمن حكم وزهد وعبر

القُلُوب والأبدان انقباضًا يشتد على المصر على الذُّنُوب حتى يضيق به فسيح الأرجَاءَ ولك أيها التائب العامل بالطاعات الأمل القوي بتوالي الطاعات لأن الخيرات تنتج بإذن الله بعضها بعضًا ولك الأمل القوي بأن تنقاد لك الأرزاق بعد أن كانت ممتنعة فتصبح في يسر بعد أن كنت في إعسارٍ ولك الأمل في أن العداوات التي كانت بينك وبين الخلق تصبح بإذن الله حبًّا يلفت الأنظار ذَلِكَ أن الذُّنُوب والمعاصي هِيَ أسباب الشرور والعقوبات المؤلمَاتَ وأن المرء بالتوبة منها يرضي بديع الأَرْض والسماوات فتأكد أيها الأخ أن التوبة هِيَ الينبوع الفياض لكل خَيْر في الدُّنْيَا والآخِرَة فلا تشك في أن الله تَعَالَى يفيض من فضله وجوده ما يفيض على من أخلص الْعَمَل لجلاله فتب أيها الأخ واصدق في التوبة واسأله أن يبلغك بها رضوانه وأن يجعلك من حزبه المفلحين الَّذِينَ {لاَ خَوْفٌ عَلَيْهمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} فتعيش وتموت وتبعث في رعاية ربك ولطفه وغيرك ممن لم يتوبوا في إهانته البالغة يتقلبون فعَلَيْكَ بالاعتماد على الله والتوكل عَلَيْهِ واللجَاءَ إليه دائمًا متضرعًا متملقًا خصوصًا في آخر الليل. شِعْرًا: ... إِذَا وَجَدَ الإِنْسَان لِلْخَيْرِ فُرْصَةً ... وَلَمْ يَغْتَنِمْهَا فَهُوَ لا شَكَّ خَاسِرُ وَهَلْ مِثْلَ تَالي اللَّيْلِ لِلْعَفْوِ مَوْسِمُ ... وَلَكِنْ فَأَيْنَ الْعَامِلُ الْمُتَبَادِرُ شِعْرًا: ... لَبِسْتُ ثَوْبَ الرَّجَا وَالنَّاسُ قَدْ رَقَدُوا وَبِتُ أَشْكُو إِلَى مَوْلاي مَا أَجِدُ فَقُلْتُ يَا أَمَلِي فِي كُلِّ نَائِبَةٍ وَمَنْ عَلَيْهِ لِكَشْفِ الضُّرِّ أَعْتَمِدُ ... ›?

.. أَشْكُو إليك أُمُورًا أَنْتَ تَعْلَمُهَا مَالي إِلَى حَمْلِهَا صَبْرٌ وَلا جَلَدُ وقَدْ مَدَدْتُ يَدِي بِالذُّلِّ مُبْتَهِلاً إليك يَا خَيْرَ مَنْ مُدَّتْ إليه يَدُ فَلا تَرُدَنَّهَا يَا رَبُّ خَائِبَةً فَبَحْرُ جُودِكَ يُرْوِي كُلَّ مَنْ يَرِدُ آخر: ... عَطَاءُ ذِي الْعَرْشِ خَيْرٌ مِنْ عَطَائِكُمُ وَسَيْبُهُ وَاسِعٌ يُرْجَى وَيَنْتَظَرُ أَنْتُمْ يُكَدِّرُ مَا تُعْطُونَ مِنَّتُكُمْ وَاللهُ يُعْطِي وَلا مَنٌّ وَلا كَدَرُ لا حُكْمَ إِلا لِمَنْ تَمْضِي مَشِيئَتُهُ لا حُكْمَ إِلا لِمَنْ تَمْضِي مَشِيئَتُهُ آخر: ... شَادَ الْمُلُوكَ قُصُورَهُمْ فَتَحَصَّنُوا عَنْ كُلِّ طَالِبِ حَاجَةً أَوْ رَاغِبِ غَالَوْا بِأَبْوَابِ الْحَدِيدِ لِعِزِّهَا وَتَتَوَّقُوا فِي قُبْحِ وَجْهِ الْحَاجِبِ فَإِذَا تَلَطَّفَ فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِمْ رَاجٍ تَلَقَّوْهُ بِوَعْدٍ كَاذِبِ فَاقْصِدْ إِلَى مَلِكِ الْمُلُوكِ وَلا تَكُنْ يَا ذَا الضَّرَاعَةِ طَالِبًا مِنْ طَالِبِ ... ›? اللَّهُمَّ وفقنا للتوبة النصوح، وَاجْعَلْنَا ممن يغدو مشمرًا في طاعتك

أدلة على تحريم الزنا وبيان أعظم أنواع الزنا وعظم حق الجار

ويروح وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. فَصْلٌ (أدلة على تحريم الزنا) قال الله تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} . ومن السنة ما ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» . الْحَدِيث رواه البخاري ومسلم. عَنْ ابْن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ» . رواه البخاري ومسلم. وعن عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يشهد أن لا إله إِلا الله، وأن محمدًا رسول الله إِلا في إحدى ثَلَاثٍ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ فإنه يرجم ورجل خَرَجَ محاربًا لله ولرسوله، فإنه يقتل، أو يصلب، أو ينفى من الأَرْض أو يقتل نفسًا فيقتل بها» . رواه أبو دلود والنسائي. عن عثمان بن أبي العاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عن رسول الله

صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «تفتح أبواب السماء نصف الليل فينادي مناد: هل من داع فيستجاب له، هل من سائل فيعطى، هل من مكروب فيفرج عَنْهُ، فلا يبقى مسلم يدعو بدعوة إِلا استجاب الله عَزَّ وَجَلَّ له، إِلا زانية تسعى بفرجها، أو عشارًا» . وفي رواية: «إن الله يدنو من خلقه فيغفر لمن يستغفر إِلا لبغي بفرجها أو عشار» . رواه أَحَمَد والطبراني. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ - حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ الْمُلاعَنَةِ -: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَلَيْسَتْ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْء وَلَنْ يُدْخِلَهَا اللَّهُ جَنَّتَهُ وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إليه احْتَجَبَ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفَضَحَهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ» . رواه أبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه. وعن ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: سألت رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم: أي الذنب أعظم عَنْدَ الله؟ قال: «أن تجعل لله ندًا وَهُوَ خلقك» . قُلْتُ: إن ذَلِكَ لعَظِيم، ثُمَّ أي؟ قال: «أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك» . قُلْتُ: ثُمَّ أي؟ قال: «أَنْتَ تزاني حليلة جارك» . رواه البخاري ومسلم ورواه الترمذي والنسائي. وعن المقداد بن الأسود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم لأصحابه: «ما تقولون في الزنا» ؟ قَالُوا: حرام حرمه الله عَزَّ وَجَلَّ ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة. فَقَالَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم لأصحابه: «لأن يزني الرجل بعشر نسوةٍ، أيسر عَلَيْهِ من أن

يزني بامرأة جاره» . رواه أَحَمَد ورواته ثقات والطبراني في الكبير والأوسط. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا عَنْهُمَا لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ إِلَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ حَتَّى عَدَّ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَلَكِنِّي سَمِعْتُهُ أَكَثَرَ مِنْ ذَلِكَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كَانَ الْكِفْلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَانَ لَا يَتَوَرَّعُ مِنْ ذَنْبٍ عَمِلَهُ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَأَعْطَاهَا سِتِّينَ دِينَارًا عَلَى أَنْ يَطَأَهَا فَلَمَّا أَرَادَهَا عَلَى نَفْسِهَا ارْتَعَدَتْ وَبَكَتْ فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ؟ قَالَتْ: لأنَّهُ عَمَلٌ مَا عَمِلْتُهُ قَطُّ وَمَا حَمَلَنِي عَلَيْهِ إِلَّا الْحَاجَةُ فَقَالَ: تَفْعَلِينَ أَنْتَ هَذَا مِنْ مَخَافَةِ اللهِ فَانَا أَحْرَى اذْهَبِي فََلِكَ مَا أَعْطَيْتُكَ وَوَاللَّهِ لَا أَعْصِيهِ بَعْدَهَا أَبَدًا فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ فَأَصْبَحَ مَكْتُوبًا عَلَى بَابِهِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِلْكِفْلِ فَعَجَبَ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ» . رواه الترمذي وَقَالَ: حديث حسن وابن حبان في صحيحه والحاكم وَقَالَ: صحيح الإسناد. وعن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «إذا ظهر الزنا والربا في قوم، فقَدْ أحلوا بأنفسهم عذابًا» . رواه الحاكم وَقَالَ: صحيح الإسناد. وَعَنْ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُرْمَةُ نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ كَحُرْمَةِ أُمَّهَاتِهِمْ مَا مِنْ رَجُلٍ مِنْ الْقَاعِدِينَ يَخْلُفُ رَجُلًا مِنْ الْمُجَاهِدِينَ فِي أَهْلِهِ فَيَخُونُهُ إِلَّا وَقَفَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَأْخُذُ مِنْ حَسَنَاتِهِ مَا شَاءَ، حَتَّىَ يَرْضَى» . ثُمَّ الْتَفَتَ إلينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «فَمَا ظَنُّكُمْ» ؟ رواه مسلم وَأَبُو دَاود.

موعظة في التحذير من الزما وذكر مفاسده

وروى أبو يعلى وأَحَمَد وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ من حديث: «وَمَنْ مَاتَ مُدْمِنُ خَمْرْ سَقَاهُ اللَّهُ مِنْ نَهْرِ الْغُوطَةِ» . قِيلَ: وَمَا نَهْرُ الْغُوطَةِ؟ قَالَ: «نَهْرٌ يَجْرِي مِنْ فُرُوجِ الْمُومِسَاتِ يُؤْذِي أَهْلَ النَّارِ رِيحُ فُرُوجِهِمْ» . شِعْرًا: ... تَبِيتُ عَلَى الْمَعَاصِي وَالْمَسَاوِي ... فَأَنْتَ بِغَفْلَةٍ وَاللهِ بِتَّا يُدِيمُ عَلَيْكَ إِحْسَانًا وَفَضْلاً ... وَأَنْتَ تُدِيمُ لُؤْمًا أَيْنَ كُنْتَا وَبِالْعِصْيَانِ تَخْطُر بِاخْتِيَالٍ ... سَكَرْتَ مِنَ الْغُرُور وَمَا صَحَوْتَا أَفِقْ مِنْ غَفْلَةٍ وَأَنِبْ لِرَبَّ ... تَنَلْ مِنْهُ السَّمَاحَ إِذَا أَنَبْتَا وَتَظْفَرُ بِالْقُبُولِ وَبِالأَمَانِي ... وَفِي الدَّارَيْنِ بِالإِسْعَادِ فُزْتَا اللَّهُمَّ ارحم غربتنا في القبور وآمنا يوم البعث والنشور وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. فَصْلٌ عباد الله كلنا يعلم أن الزنا من كبائر الذُّنُوب وأن فيه فسادًا للزاني والزانية أما فساده للزانية فهو واضح لأنها بذَلِكَ الجرم العَظِيم - جرم الزنا - تجد حلاوة فتفسد كُلّ من اتصل بها، فيصبحون في تعلقهم بالنساء كالكلب المسعور هَذَا من جهةٍ ومن جهةٍ أخرى تفسد فراش زوجها إن كَانَ ذات زوجٍ وَرُبَّمَا أدخلت عَلَيْهِ أولادًا من الزناة ينفق عَلَيْهمْ طول حَيَاتهُ ويرثون منه بعد وفاته، ويتفوظون حرم الزوج، وَرُبَّمَا تولوا عقَدْ نكاح لهن، أو صاروا محارم لهن في حج، أو نحو ذَلِكَ نسأل الله العافية ومن جهة فساد الزاني فإنه بالزنا ينكلب ويتولع فيه، وكل أنثى يتعدى عَلَيْهَا يحلو لها هَذَا السفاح فنفسد كالأولى كثيرين من الناس

تنبهوا بعد أن كَانُوا غافلين فيفسدون من النساء كثيرات وهكَذَا فالواني لص يسرق ثروة النَّاس في حياتهم وبعد الْمَمَات بما يدخله عَلَيْهمْ من أولاد يعولونهم وإن كانت المرأة التي تعدى عَلَيْهَا غير متزوجة فقَدْ أفسد حياتها بهتك عرضها وصرف أنظار راغبي الزواج عَنْهَا فتعيش بعد جرم الزنا عيشة ذل وهوان لا زوج يحصنها ولا عائل يعولها هَذَا مضافًا إلى سوء السمعة وإلى الجناية على شرفها وأهلها فيقفون منه موقف الانتقام غالبًا وَرُبَّمَا قضوا عَلَيْهِ أو على ابنتهم وإن لم يقضوا وثَبِّتْ ذَلِكَ بطرق الشرع فإما جلد مائة وإما رجم يؤدي بالنفسين، هَذَا عاقبة هذه الكبيرة عصمنا الله وإياكم منها ومِنْ جَمِيعِ المعاصي فعلى الإِنْسَان أن يفكر ويعرف عواقب الجنايات على الأعراض ليحذر ويحذر عَنْهَا أجنبية أو قريبة ولا ادري كيف يقدم الزاني على الزنا وَهُوَ يؤمن أن الله مطلع عَلَيْهِ لا تخفى عَلَيْهِ منه خافية وأن جزاءه إن لم يتب توبةً نصوحًا الهاوية نسال الله السلامة منها ولا أدري كيف يزني وَهُوَ لا يشك أنه سيجازى على فعله في الدُّنْيَا قبل الآخِرَة ومن كَانَ الزنا من أعماله فلا يؤمن حتى على محارمه ولا يرغب في مصاهرته ولا مجاورته ولا مشاركته ولا معاملته ولا الإجتماع معه في محل عمله قال الله تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «إذا ظهر الزنا والربا في قرية، فقَدْ أحلوا بأنفسهم عذاب الله» . رواه الحاكم اللَّهُمَّ احمنا من الفواحش ما ظهر منها وما بطن وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. مُحَمَّد اللَّهُمَّ اكتب في قلوبنا الإِيمَان وأيدنا بنور منك يا نور السماوات والأرض اللَّهُمَّ وافتح لدعائنا باب القبول والإجابة واغفر لنا وارحمنا

من مضار الزنا وآثاره السيئة على الزاني

بِرَحْمَتِكَ الواسعة إنك أَنْتَ الغفور الرحيم وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين. فَصْلٌ ومن مضار الزنا وآثاره السيئة في المجتمَعَ الإنساني ضياع النسل والجناية عَلَيْهِ فالزاني والزانية لو أدركا متا قَدْ يترتب على زنيتهما التي تنقضي على الفور من الآثام والشرور لهان عَلَيْهِمَا أن ينفيا من الوجود ولا يرتكبا تك الجريمة الشنعاء فقَدْ يترتب على عملهما وجود ولدٍ قَدْ تخنقه تلك الفاسقة في مهده وتسقطه جنينًا. وقَدْ تلده إنسانَا كاملاً ثُمَّ تطرحه في شارع أو مسجد أو نحو ذَلِكَ معرضًا لمحن الحياة ومصائب الليالي والأيام لا يعرف له أمًا تحنو عَلَيْهِ ولا أبًا يرحم طفولته، ويحفل بتربيته، وقَدْ يؤول إلى حضانة إنسان غير مستقيم فيربيه على غير دين الإسلام أو على أَخْلاق فاسدة فينشأ عضوًا ضارًا بالمجتمَعَ الإنساني وَذَلِكَ بَلاء عَظِيم وضرر مبين. فإن كانت المزني بها ذات زوج كانت خيانتها أشد وجنايتها أعظم فإنها تدخل عنصرًا غريبًا بين أبنائها تغش به زوجها فيربى غير بنيه يكد يومه ويسهر ليله لينفق على من ظنه له ولدًا وَهُوَ في الحَقِيقَة لَيْسَ له أبًا وقد يكون هذا الولد الذي أدخل على هذا الإنسان نكبة على الأسرة بتمامها فإنه قَدْ ينزع إلى أبيه الحقيق ويتبعه في أخلاقه وفساده وإجرامه فيفسد على الإِنْسَان الأسرة بأكملها. وإن كانت غير متزوجة فإن هَذَا الفاسق المتعدي تعدى على شرفها وعائلتها وأقاربها، فأفسد حياتهم، وأهان كرامتها، وأساء

سمعتها وسمعتهم وعرضها للقتل أو للعقوبة الشديدة أو عرض عرضها للسقوط في بوءةٍ لا ينقذها منها إِلا الموت فإن قتلت فهو السبب الأول في قتلها، وإن أسقطت فهو الجاني، والإثُمَّ أوله وآخره، قَدْ نال منه ذَلِكَ الغادر المعتدي الحظ الأوفر. ولو قيل لهَذَا المجرم الفاسق هل ترضى عملك أن يعمل في بناتك وأخوتك لبطش بالقائل إن كَانَ ضعيفًا يقدر على الانتقام منه والنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه» . رواه البخاري فما أبعد هَذَا المعتدي عن الْعَمَل بهَذَا الْحَدِيث. وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ أَنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِي الزِّنَا فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا: مَهْ مَهْ؟ فَقَالَ: «أدْنُهْ» . فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا قَالَ: «اجْلِسْ» . فَجَلَسَ فَقَالَ: «أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ» ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ. قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ» . قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ» ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ» . قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِأُخْتِكَ» ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِأَخَوَاتِهِمْ» . قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ» ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ» . قَالَ: «أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ» ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ قَالَ: «وَلَا النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالَاتِهِمْ» . قَالَ: فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ وَحَصِّنْ فَرْجَهُ» قَالَ: فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْء. وورد عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم أنه قال: «ما من ذنب بعد الشرك أعظم عَنْدَ الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له» .

ومن مضار الزنا أن هَذَا الولد المدخل على البريء منه يرث من ماله ويكون محرمًا لبناته وزوجاته ولا يحتجبن عَنْهُ. ومن مضاره أنه إضاعة للمال الَّذِي نهي عن إضاعته. ومن مضاره اختلاط الأنساب وإفساد الأَخْلاق وأنه يفضى إلى فناء الأمة وأنه يدعو إلى الشقاق والفساد وأنه يوقع في الأمراض وينشرها ومن آثاره السيئة على البدن السيلان والسل الرئوي، والزهري والتشويش والقروح الأكالة. ومن آثاره السيئة أنه يصرف الْقَلْب عن صحته واستقامته إلى مرضه وانحرافه. ومن ذَلِكَ أنه يعمي الْقَلْب ويطمس نوره وأنه يحقر النفس ويقمعها وأنه يسقط كرامة الإِنْسَان عَنْدَ الله وعَنْدَ خلقه وأنه يؤثر في نقصان العقل وانه يمحق بركة العمر وأنه يضعف في الْقَلْب تعَظِيم الله ومثله سائر المعاصي نسأل الله العفو والمعافاة من ذَلِكَ كله. وَالسِّرّ في كثرة الزنا إلى هَذَا الحد موت غيرة كثير من النَّاس على نسائهم لا يبالون بهن ولا تتحرك مِنْهُمْ شعرة غيرة وحمية، يدلك على ذَلِكَ أن الرجل يرى امرأته بعينيه تتزين وتخَرَجَ من بيته إلى حيث لا يعلم ليلاً ونهارًا وتركب مَعَ أي سائق شاءت، وتدخل على أي خياط أرادت وتذهب إلى أي دكتورٍ باسم الكشف والعلاج وزوجها مشغول بدنياه لا يهتم لها تَرَى في خروجها رجالاً أجمل منه وأقوى منه وأنظف منه. وَمِنْهُمْ الأفصح الأحلى كلامًا منه وهَذَا يحادثها وذاك يسامرها وقل -

ولا تبال -: إن بَعْضهمْ يغازلها، وكثيرًا ما تمتد إليها الأيدي الخائنة فهل هِيَ حجر كلا إنها بشر وناقصة عقل ودين فقل من تقوى على الوقوف أمام شهواتها فلا تقف مخافة الله بينها وبين هيجانها الحيواني. بل الرجل الَّذِي هُوَ أقوى منها عقلاً ودينًا لا يستطيع أن يقف أمام نَفْسهُ إذا هاجت وطلبت هَذَا الشَيْء وأصبحت تشعر بلذة لم تشعر بها في حياتها. أما البكر فواضح وأما المتزوجة فإن لذة الحلال عندها ناقصة لا تساوي لذة الحرام ولا تدانيها فإن الممنوع أحب وألذ كما قيل: وَزَادَنِي كَلَفًا فِي الْحُبِّ أَنْ مَنَعَتْ أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَى الإِنْسَانِ مَا مُنِعَا ... ›? لاسيما وإبلَيْسَ يساعد عَلَيْهِ والنفس الأمارة بالسُّوء والهوى. فإذا ذاقت هذه اللذة الجديدة اشتد حرصها عَلَيْهَا كُلّ وَقْت وحينئذ تَكُون هِيَ الطالبة لا المطلوبة فتصبح تفتك بالرِّجَال فتكًا وكل رجل يزني ينكلب فيفتك النساء. وكل امرأة يفتك بها الرجل تنكلب فتفك بالرِّجَال ويكون في هَذَا من الفساد في الأَرْض ما لا يعلم مداه إِلا الله وفي هذه الجيوش الفاسدة الجرب من الأمراض المختلفة والأوباء الكثيرة ما لا يعلم له قدر ولا حصر وباختلاطهم والحال هذه تسري أمراضهم إلى الأصحاء نسأل الله أن يعصمنا وإخواننا المسلمين منها وأن يقمَعَ أهلها والراضين بها والقادرين على إزالتها ولم يزيلوها.

الزنا تختلف درجاته وما قال ابن القيم حول موضوع الزنا

اللَّهُمَّ قوي إيماننا بك وبملائكتك وبكتبك وبرسلك وباليوم الآخِر وبالقدر خيره وشره اللَّهُمَّ وفقنا للهداية وجنبنا أسباب الجهالة والغواية اللَّهُمَّ ثبتنا على الإسلام والسنة ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أَنْتَ الوهاب، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين الأحياء مِنْهُمْ والمَيتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ) إذا فهمت ذَلِكَ فاعْلَمْ أن الزنا أعاذنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المسلمين منه تختلف درجاته في غلظه فلَيْسَ الزنا في امرأة الكافر المحارب مثله في امرأة المعاهد ولَيْسَ هُوَ في امرأة المعاهد مثله في امرأة المسلم ولَيْسَ هُوَ في امرأة المسلم الَّذِي لَيْسَ لك بجار مثله في امرأ الجارة ولَيْسَ هُوَ في امرأة الجار مثله في امرأة الجار القريب منك وامرأة الأقرب أشد من امرأة القريب وامرأة المجاهد أشد من امرأة غيره وغير ذات الزوج لَيْسَ الزنا بها كالزنا بذات الزوج وهكَذَا تتفاوت درجاته. وَقَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: وأعظم أنواع الزنا أن يزني بحليلة جاره فإن مفسدة الزنا تتضاعف بتضاعف ما ينتهكه من الحرمة، فالزنا بالمرأة التي لها زوج، أعظم إثمًا وعقوبة من التي لا زوج لها إذ فيه انتهاك حرمة الزوج وإفساد فراشه وتعليق نسب غيره عَلَيْهِ وغير ذَلِكَ من أنواع أذاه فهو أعظم إثمًا وجرمًا من الزنا بغير ذات البعل، فإن كَانَ زوجها جارًا له إنضاف إلى ذَلِكَ سوء الجوار. وقَدْ ثَبِّتْ عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم أنه قال: «لا يدخل الْجَنَّة

من لا يأمن جاره بوائقه» . ولا بائقة أعظم من الزنا بامرأته فالزنا بمائة امرأةٍ لا زوج لها أيسر عَنْدَ الله من الزنا بامرأة الجار فإن كَانَ الجار أخًا له أو قريبًا من أقاربه انضم إلى ذَلِكَ قطيعة الرحم فيتضاعف الإثُمَّ فإن كَانَ الجار غائبًا في طاعة الله كالصَّلاة وطلب العلم والجهاد تضاعف الإثُمَّ. حتى إن الزاني بامرأة الغازي في سبيل الله يوقف له يوم القيامة ويُقَالُ خذ من حسناته ما شئت قال النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «فما ظنكم» ؟ أي ما ظنكم أن يترك له من حسنات قَدْ حكم في أن يأخذ منها ما شَاءَ على شدة الحاجة إلى حسنةٍ واحدةٍ حيث لا يترك الأب لابنه ولا الصديق لصديقه حقًّا يجب عَلَيْهِ. فإن اتفق أن تَكُون المرأة رحمًا منه إنصاف إلى ذَلِكَ قطيعة رحمها فإن اتفق أن يكون الزاني محصنًا كَانَ الإثُمَّ أعظم فإن كَانَ شيخًا كَانَ أعظم إثمًا وَهُوَ أحد الثلاثة الَّذِينَ {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أََلِيمٌ} فإن اقترن بذَلِكَ وقوعه في شهرٍ حرامٍ، أو بلدٍ حرامٍ، أو وقتٍ معظمٌ عَنْدَ اللهِ كأوقات الصلواتِ وأوقات الإجابة تضاعف الإثُمَّ والعقوبة وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم. وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: ومفسدة الزنا مناقضة لصلاح العَالِم فإن المرأة إذا زنت أدخلت العار على أهلها زوجها وأقاربها ونكست رؤوسهم بين النَّاس وإن حملت من الزنا، فإن قتلت ولدها جمعت بين الزنا والقتل وإن أبقته حملته على الزوج فأدخلت على أهلها وأهله

كثرة الزنا من أشراط الساعة، ما اختص به حد الزنا من بين سائر الحدود

أجنبيًا لَيْسَ مِنْهُمْ فورثهم ولَيْسَ مِنْهُمْ ورآهم وخلا بِهُمْ وانتسب إليهم ولَيْسَ مِنْهُمْ وأما زنا الرجل فإنه يوَجَدَ اختلاط الأنساب أيضًا وإفساد المرأة المصونة وتعريضها للتلف والفساد ففي هذه الكبيرة خراب الدُّنْيَا والدين. ومن خاصيته أنه يوجب الفقر ويقصر العمر ويكسو صاحبه سواد الوجه وثوب المقت بين النَّاس. ومن خاصيته أيضًا أنه يشتت الْقَلْب ويمرضه ويجلب الهم والحزن والخوف ويباعد صاحبه من الملك ويقربه من الشيطان فلَيْسَ بعد مفسدة القتل أعظم من مفسدته ولهَذَا شرع فيه القتل على أشنع الوجوه وأفحشها وأصعبها ولو بلغ الْعَبْد أن امرأته أو حرمته قتلت كَانَ أسهل عَلَيْهِ من أن يبلغه أنها زنت. وفي الصحيحين من خطبة النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم في صلاة الكسوف أنه قال: «يا أمة مُحَمَّد، وَاللهِ إنه لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمدٍ، وَاللهِ لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا» ثُمَّ رفع يديه فَقَالَ: «اللَّهُمَّ هل بلغت» . وفي ذكر هذه الكبيرة بخصوصها عقب صلاة الكسوف سر بديع لمن تأمله فظهور الزنا من أمارات خراب العَالِم وَهُوَ من أشراط الساعة كما في الصحيحين عن أنس بن مالك رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه قال: لأحدثكم حديثًا لا يحدثكموه أحد بعدي سمعته من النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: «من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويشرب الخمر، ويظهر الزنا، ويقل الرجل وتكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد وقَدْ جرت سنة الله سُبْحَانَهُ في خلقه أنه عَنْدَ ظهور الزنا يغضب

الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى ويشتد غضبه فَلا بُدَّ أن يؤثر غضبه في الأَرْض عقوبة» . وخص سُبْحَانَهُ حد الزنا من بين سائر الحدود بثلاث خصائص، أحدها القتل فإنه أبشع القتلات وحيث خففه فقَدْ جمَعَ فيه بين العقوبة على البدن بالجلد وعلى الْقَلْب بتغريبه عن وطنه سنة، الثاني أنه نهى عباده أن تأخذهم بالزناة رأفة في دينه بحيث تمنعهم من إقامة الحد عَلَيْهمْ. الثالث: أنه سُبْحَانَهُ أمر أن يكون حدهما بمشهد من الْمُؤْمِنِين فلا يكون في خلوة حيث لا يراهما أحد وَذَلِكَ أبلغ في مصلحة الحد وحكمة الزجر. ومن الأسباب التي ربما تَكُون سببًا إلى الوقوع في هذه المعصية خروج النساء إلى الأسواق متبرجات لسان حالهن يدعو إليهن الفسقة فخروجهن في هَذَا الزمان إلى الأسواق خطر عليهن من أكبر الأخطار فقل أن تسلم المرأة من التعرض لها إذا خرجت قولاً أو فعلاً وقَدْ يكون معها أبوها أو أخوها ولا تسلم من الاعتداء. ومن الأسباب دخول الجانب على المرأة فإن الأجنبي إذا وقعت عينه على المرأة فأعجبته أو أعجبها كَانَ وراء ذَلِكَ الأمور التي تخشى عواقبها وأخطر الأجانب على المرأة أقارب زوجها وأقارب أبويها فَإِنَّهُمْ يترددون غالبًا وَرُبَّمَا كَانَ يجمعهم بيت واحدٌ وتَارَّة تَكُون وحدها في البيت عَنْدَ دخول أحدهم. وفي ظِلّ ذَلِكَ التردد والتزاور والاجتماع يكون ما يكون مَعَ الدوام

ذكر بعض أسباب الزنا والحث على العفاف ويليه قصيدة زهدية في الحث على التزود للآخرة والاستعداد للموت

والاستمرار ومن الأسباب وجود الخدامين والخدامَاتَ والمربيات والسواقين والطباخين والخيطاطين والخياطات ونحو ذَلِكَ. ومن الأسباب تأخَيْر من بلغ من الشابات والشبان فإنه بمجرد بلوغه تهيج عَلَيْهِ الشهوة هيجان النيران فإذا لم يكن بجانبه حلال يطفئ ذَلِكَ الهيجان رما أطفأه بما يعقب له العار في الدُّنْيَا ويعقبه في الآخِرَة إن لم يتب النار. ومن تلك الأسباب اعوجاج الأزواج وخيانتهم بالاتصال بغيرهن على غير الوجه الشرعي فإن المرأة إذا علمت أن زوجها أصبح لغيرها أصبحت لغيره مقلدة له في ذَلِكَ ومتبعة لطريقته فسفلت فباعت عرضها تسفلاً منها وانتقامًا من زوجها الَّذِي فتح أمامها باب الإثُمَّ وسار أمامها في مهاوي الخطيئة والمرأة غالبًا على دين زوجها، أفلا يكون هَذَا الرجل هُوَ الفاسق الآثُمَّ لأنه الَّذِي سن لها هذه السنة السيئة ومن سن سنة سيئة فعَلَيْهِ وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة وَرُبَّمَا كَانَ مثالاً سيئًا يقتدى به في ذَلِكَ وَرُبَّمَا قلدته بناته وأولاده وأخواته وقديمًا قيل في الزوجة. ... لا تَطّلِعْ مِنْكَ عَلَى رَيْبَةٍ فَيَتْبَعُ الْمَقْرُونُ حَبْلَ الْقَرِينِ ... ›? آخر: ... وَلا تَجْلِسْ إِلَى أَهْلِ الدَّنَايَا ... فَإِنَّ خَلائِقَ الْفُسَّاقِ تُعْدِي وروى القاسم بن بشير في أماليه وابن عدي عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا مرفوعًا: عفوا تعف نساؤكم» . وروى ابن ماجة بإسناد حسن عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «من ستر عورة أخيه ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة

أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه بها» . قال بَعْضهمْ: يَا هَاتِكًا حَرَمَ الرِّجَالِ وَتَابِعًا طُرُقَ الْفَنَادِ فَأَنْتَ غَيْرُ مُكَرَّمِ مَنْ يَزْنِ فِي قَوْمٍ بِأَلْفَيْ دِرْهَمْ فِي أَهْلِهِ يُزْنَى بِرُبْعِ الدِّرْهَمِ إِنَّ الزِّنَا دِينٌ إِذَا اسْتَقْرَضْتَهُ كَانَ الْوَفَاءُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ فَاعْلَمِ ... ›? وإنه لينذر جدًا أن تَرَى فاجرًا من بيت عفيف أو عفيفًا من بيتٍ فاجر وإن وَجَدَ ذَلِكَ على ندرته فَلا بُدَّ وَاللهُ أَعْلَمُ أن يكون من تأثير بيئة أخرى غير بيئة المنزل التي هِيَ المزرعة الأولى لبذور الأَخْلاق. شِعْرًا: ... أَرَى صَاحِبَ النِّسْوَانِ يَحْسَبُ أَنَّهَا ... سَوَاءٌ وَبُونٌ بَيْنَهُنَّ بَعِيدُ فَمِنْهُنَّ جَنَّاتٌ يَفِيءُ ضَلالُهَا ... وَمِنْهُنَّ نِيْرَاةٌ لَهُنَّ وَقُودُ آخر: ... بَعْضُ النِّسَاءِ وَإِنْ عُرِفْنَ بِعِفَّمةٍ ... جِيَفٌ عَلَيْهِنَّ النُّسُورُ الْحُوَّمُ اليوم عِنْدَكَ جِيدُهَا وَحَدِيثُهَا ... وَغَدًا لِغَيْرِكَ عَطْفُهَا وَالْمُعْصَمُ كَالْخَانِ تَنْزِلُهُ وَتَصْبِحُ رَاحِلاً ... عَنْهُ وَيَنْزِلُ فِيهَا مَنْ لا يَعْلَمُ وأولى النَّاس بالعفة والحرص على التحلي بفضيلتها والابتعاد عن مواقع الريب هم الْعُلَمَاء والعظماء لأنهم قدوة يقتدى بِهُمْ. أقوالهم مأثورة، وأفعالهم منظورة، وهفواتهم عظائم، وزلاتهم من أكبر الجرائم فعَلَيْهمْ أن يعرفوا أقدار أنفسهم ويقدروا لها موضعها من الكرامة.

أَدْرِكُوا الْعِلْمَ وَصُونُوا أَهْلَهُ ... عَنْ ظَلُومٍ حَادَ عَنْ تَبْجِيلِهِ إِنَّمَا يَعْرِفُ قَدْرَ الْعِلْمِ مَنْ ... سَهِرَتَ عَيْنَاهُ فِي تَحْصِيلِهِ آخر: ... يَا خَائِفَ الْمَوْتِ لَو أَمْسَيْتَ خائِفَهُ كانت دُمُوعُكَ طُولَ الدَّهْرِ تَنْبَجِسُ أَمَا يَهُولُكَ يَومٌ لا دِفَاعَ لَهُ إِذْ أَنْتَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ مُنْغَمِسُ أَمَا تَهُولُكَ كَأسٌ أَنْتَ شارِبُها وَالْعَقْلُ مِنْكَ لِكُوبِ الْمَوْتِ مُلْتَبِسُ لِلْمَوْتِ مَا تَلِدُ الأَقْوَامُ كُلُّهُمْ وَلِلْبِلَى كُلُّ مَا بَنُوا وَمَا غَرَسُوا إِيّاكَ إِيّاكَ وَالدُّنْيَا وَلَذَّتَها فَالْمَوتُ فِيهَا لِخَلْقِ اللهِ مُفْتَرِسُ إِنَّ الْخَلائِقَ فِي الدُّنْيَا لَوِ اجتَهَدوا أَنْ يَحبِسُوا عَنْكَ هَذَا الْمَوْتَ ما حَبَسُوا إِنَّ الْمَنِيَّةَ حَوْضٌ أَنْتَ تَكرَهُهُ وَأَنْتَ عَمّا قَليلِ سَوْفَ تَنغَمِسُ ما لي رَأَيتُ بَني الدُّنْيَا قَدِ اِفتَتَنوا كَأَنَّمَا هَذِهِ الدُّنْيَا لَهُمْ عُرُسُ إِذَا وَصَفْتُ لَهُم دُنْيَاهُمُ ضَحِكوا وَإِن وَصَفْتُ لَهُمْ أُخْرَاهُمُ عَبَسُوا مَا لِي رَأَيْتُ بَنِي الدُّنْيَا وَإِخْوَتِهَا كَأَنَّهُم لِكِتَابِ اللهِ مَا دَرَسُوا ... ›?

فاحشة اللواط وبيان قبحه ومخالفته لمقتضى الطبيعة

اللَّهُمَّ وفقنا لسلوك مناهج المتقين وخصنا بالتَّوْفِيق المبين وَاجْعَلْنَا بِفَضْلِكَ من المخلصين الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون. اللَّهُمَّ وفقنا للعمل بما يرضيك وجنبنا أسباب سخطك ومعاصيك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. فصل في إثُمَّ فاحشة اللواط اعْلَمْ وفقنا الله وَإِيَّاكَ لما يحبه ويرضاه وجنبنا وَإِيَّاكَ ما يكرهه ولا يرضاه أن اللواط رذيلة من أسوء الرذائل وخصلة من شر الخصال التي لا تليق بالإِنْسَان فإن الله خلق الإِنْسَان من ذكر وأنثى وجعل الأنثى محلاً لِقَضَاءِ الشهوة ومَكَانًا لذَلِكَ الْعَمَل الْخَاص فهو مسوق بفطرته إلى ذَلِكَ المعنى. واللواط - أعاذنا الله وَإِيَّاكَ منه - خروج عن ذَلِكَ، واعتداءٌ صريح على الطبيعة التي ركبها الله وَذَلِكَ شر وبيل وفساد كبير وفيه عار الزنا وإثمه وعقابه بل هُوَ أشد عارًا أعظم إجرامًا ونَحْنُ بالبداهة ندرك أن عار امرأة يزنى بها لَيْسَ كعار رجل يلاط به كما أن احتقارنا وبغضنا إياها مهما كَانَ شديدًا أخف على كُلّ حال من نفرتنا من اللوطي ومقتنا له. والسبب في هَذَا أن الزنا وإن خالف مقتضى الشرعة لم يخالف مقتضى الطبيعة التي ركبها الله في الإِنْسَان بخلاف اللواط فقَدْ خالف مقتضى الشريعة والطبيعة معًا. وقَدْ أجمَعَ أَهْل العلم على تحريم اللواط وقَدْ ذمه الله تَعَالَى في كتابه وعاب من فعله وذمه رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم. قال الله تَعَالَى: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَال شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ}

آثار اللواط السيئة وذكر بعض مضاره ومفاسده

وفي قصة قوم لوط يبدو انحراف الفطرة واضحًا حتى لأن لوطًا ليجيبهم بأنهم بدع دون خلق الله فيها وأنهم في هَذَا الانحراف الشنيع غير مسبوقين. قال عمرو بن دينار في قوله تَعَالَى: {مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ} قال: ما نزل ذكر على ذكر حتى كَانَ قوم لوط. وَقَالَ الوليد ابن عبد الملك لولا أن الله عَزَّ وَجَلَّ قص عَلَيْنَا خبر قوم لوط ما ظننت أن ذكرًا يعلو ذكرًا. وعجب أن نرى تلك العادة الشائنة القبيحة تنتقل من أولئك الأَشْرَار الَّذِينَ خسف الله بِهُمْ إلى غيرهم من النوع الإنساني مَعَ إنها لم تكد توَجَدَ في الحيوانات الأخرى فإنك لا تكاد تجد حيوانَا من الذكور يأتي ذكرًا مثله اللَّهُمَّ إِلا قليلاً نادرًا كبعض الحمر الأهلية وإلى ذَلِكَ تشير الآيَة الكريمة فإنه تَعَالَى يَقُولُ لَهُمْ: إن تلك الفاحشة لم يسبقكم بها أحد من العالمين والعَالِم كُلّ ما سِوَى الله فيشمل الإِنْسَان والْحَيَوَان قال في كتاب الأَخْلاق الدينية. وإذا كَانَ الإِنْسَان تسوقه شهوته إلى أن يفعل ما تأباه نفوس الحيوانات العجماء فماذا يكون حاله أليس من أكبر المصائب أن تنحط درجة الإِنْسَان في شهوة الفرج عن درجة الْحَيَوَان. اللَّهُمَّ إن في ذَلِكَ من الخزي والعار ما لا تطيقه النُّفُوس الكريمة ولا تحتمله الطباع السليمة فلو لم يكن في رذيلة اللواط سِوَى ذَلِكَ لكفى بها ذمًا يصرف النَّاس عَنْهَا ويزهدهم فيها ولكنها فوق ذَلِكَ يترتب عَلَيْهَا من المضار والمفاسد ما يؤذي المجتمَعَ الإنساني. وإليك البيان. أولاً: إذا فشت تلك العادة في أمة من الأمم وأصبحت

داء خلقيًّا فيها لا تلبث أن تتعرض للفناء بانقراض نسلها ولو بعد حين لأن الرِّجَال فيها تنصرف عن النساء، فيقل النسل تدريجيًا وتنقرض الأمة فِي وَقْت ما. ثانيًا: أنم اللائط يستغني بالذكر عن المرأة فإن كَانَ متزوجًا يهمل زوجته، فيعرضها للخنا والفساد، وإن كَانَ أعزب، لم يفكر في الحصول على زواج وإذا عمت اللواطية أمة استغنت رجالها عن نسائها وأصبحت النساء ضائعات لا يجدن موئلاً ولا يظفرن بمعين يرحم ضعفهن وفي ذَلِكَ من الخطر الاجتماعي والعمراني ما فيه. وَقَالَ: فداء اللواطية ماله الانصراف عن النساء ومَعَ ذَلِكَ فإن إتيان النساء في غير محل الولادة عادة مرذولة يترتب عَلَيْهَا ضياع النسل كما قدمنا. ثالثًا: أن اللائط لا يبالي أن يستهوي الأحداث الَّذِينَ لا يدركون العار ولا يعرفون الفضيحة فيمرنهم على فساد الأَخْلاق ويولد عندهم ذَلِكَ الداء فإذا ما بلغوا حد الرجولة وجدوا أنفسهم منغمسين في الرذيلة فيضيع الحياء من وجوههم ولا يبالون بارتكاب الجرائم الأخلاقية، ولا يتعففون عن المحرمَاتَ الدنيئة ويكون ذَلِكَ الوزر في عنق اللائط الَّذِي عمل على إفساد أخلاقهم وكَانَ سببًا في انتزاع ماء الحياء من وجوههم وَذَلِكَ عَظِيم عَنْدَ الله تَعَالَى ومن يفعله يضاعف له الْعَذَاب يوم القيامة لأن عَلَيْهِ ورزين وزر ذَلِكَ الْعَمَل الشائن ووزر إفساد الغلام الَّذِي لم يكلف لتلك الشهوة الفاسدة التي تخلف وراءها ذَلِكَ البَلاء المبين. أ. هـ. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى. اللَّهُمَّ يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغَفْلَة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا وأمنن عَلَيْنَا يا مولانَا بتوبة تمحو بها عنا كُلّ ذنب وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا

والأدلة على تحريمه وخصال قوم لوط قبحهم الله

وَلِجَمِيعِ المُسْلمين الأحياء مِنْهُمْ والمَيتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. فَصْلٌ: والدَلِيل من السنة على تحريم اللواط وعظم جرمه وعقوبة فاعله قوله صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» . رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة والبيهقي. عَنْ جَابِرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ عَمَلُ قَوْمِ لُوطٍ» . رواه ابن ماجة والترمذي وَقَالَ: حديث حسن غريب والحاكم وَقَالَ: صحيح الإسناد وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «لعن الله من عمل عمل قوم لوط لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط» . رواه النسائي وعن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: إن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلاً، أو امرأة في دبرها» . رواه الترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه، ومِمَّا جَاءَ في إتيان النساء في أدبارهن ما يلي. وعن عَبْد اللهِ بن عمرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «هِيَ اللوطية الصغرى يعني الرجل يأتي امرأته في دبرها. وعن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَحْيُوا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحِي مِنْ الْحَقِّ لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ» . رواه أَحَمَد والبزار ورجالهما رِجَال الصحيح. وروي عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنه قال: عشر خصال من أعمال قوم لوط: تصفيف الشعر، وحل الإزار، ورمي البندق، والخذف بالحصا، واللعب بالحمام الطيارة، والصفير بالأصابع، وفرقعة الأكعب، وإسبال الإزار، وحل أزر الأقبية، وإدمان شرب الخمر، وإتيان الذكور وستزيد

ما قاله ابن القيم حول فاحشة اللواط

عَلَيْهَا هذه الأمة مساحقة النساء في أدبارهن» . رواه أبو يعلى بإسناد جيد وروي عن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «ثلاثة لا تقبل لَهُمْ شهادة أن لا إله إِلا الله: الراكب والمركوب، والراكبة والمركوبة، والإمام الجائر» . حديث غريب جدًا رواه الطبراني في الأوسط. وعن جابر رض الله عَنْهُ أن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم نهى عن محاش النساء. رواه الطبراني في الأوسط ورواته ثقات. وروى ابن ماجة والبيهقي كلاهما عن الحارث بن مخلدة عن أَبِي هُرَيْرَةِ عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «لا ينظر الله إلى رجل جامَعَ امرأة في دبرها» . وعنه رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «ملعون من أتى امرأة في دبرها» . رواه أَحَمَد وَأَبُو دَاود وعنه رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «من أتى حائضًا، أو امرأة في دبرها أو كاهنًا فصدقه كفر بما أنزل على مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وسلم» . وعن مجاهد عن أَبِي هُرَيْرَةِ قال: من أتى صبيًا فقَدْ كفر. وروي عن أنس بن مالك رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «من مَاتَ من أمتي يعمل عمل قوم لوط نقله الله تَعَالَى إليهم حتى يحشره معهم» . وخَرَجَ الطبراني من حديث جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال فيه: «وإذا كثر اللواطية رفع الله يده عن الخلق، فلا يبالي في أي وادٍ هلكوا» . وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم. (فَصْلٌ) ولما كانت فاحشة اللواط شأنها في القبح كما ذكر اختلف أئمة الإسلام في عقوبتها لمن ثبتت عَلَيْهِ فَقَالَ قوم: إنها كالزنا تمامًا أي يرجم فيها المحصن، ويجلد غيره مائة جلدةٍ ويغرب. وَقَالَ آخرون: يرجم

الفاعل والمفعول به على أي حال كَانُوا عملاً بالْحَدِيث المتقدم قوله صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «فاقتلوا الفاعل والمفعول به» . قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ وقَدْ أطبق أصحاب رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم على قتله لم يختلف فيه مِنْهُمْ رجلان وإنما اختلفت أقوالهم في صفة قتله. ومن تأمل قوله سُبْحَانَهُ: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} ، وقوله في اللواط: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ} تبين له تفاوت ما بينهما فإنه سُبْحَانَهُ نكر الفاحشة في الزنا أي هُوَ فاحشة من الفواحش وعرفها في اللواط، وَذَلِكَ يفيد انه جامَعَ لمعاني اسم الفاحشة كما تَقُول: زيد الرجل، ونعم الرجل زيد، أي: أتأتون الخصلة التي استقر فحشها عَنْدَ كُلّ أحد فهي لظهور فحشها وكماله غنية عن ذكرها بحيث لا ينصرف الاسم إلى غيرها، ثُمَّ أكد سُبْحَانَهُ شأن فحشها بأنها لم يعملها أحد من العالمين قبلهم {مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ} . ثُمَّ زَادَ في التأكيد بأن صرح بما تشمئز منه القُلُوب وتنبو عَنْهُ الأسماع وتنفر منه أشد النفور وَهُوَ إتيان الرجل رجلاً مثله ينكحه كما ينكح الأنثى فَقَالَ: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَال} ثُمَّ نبه على استغنائهم عن ذَلِكَ. وأن الحامل لَهُمْ عَلَيْهِ لَيْسَ إِلا مجرد الشهوة لا الحاجة التي لأجلها مال الذكر إلى الأنثى من قضاء الوطر ولذة الاستمتاع وحصول الْمَوَدَّة والرحمة التي تنسى المرأة لها أبويها وتذكر بعلها، وحصول النسل الَّذِي هُوَ حفظ هَذَا النوع الَّذِي هُوَ أشرف المخلوقات وتحصين المرأة. وقضاء الوطر وحصول علاقة المصاهرة التي هِيَ أخت النسب وقيام الرجل على النساء وخروج أحب الخلق إِلَى اللهِ من جماعهن

كالأنبياء والأَوْلِيَاء والْمُؤْمِنِين ومكاثرة النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأنبياء بأمته إلى غير ذَلِكَ من مصالح النكاح. والمفسدة التي في اللواط تقاوم ذَلِكَ كله وترَبِّي عَلَيْهِ بما لا يمكن حصر فساده ولا يعلم تفصيله إِلا الله عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ أكد سُبْحَانَهُ قبح ذَلِكَ بأن اللواطية عكسوا فطرة الله التي فطر الله عَلَيْهَا الرِّجَال وقلبوا الطبيعة التي ركبها الله في الذكور وهي شهوة النساء دون الذكور فقلبوا الأَمْر وعكسوا الفطرة والطبيعة فأتوا الرِّجَال شهوة من دون النساء. ولهَذَا قلب الله سُبْحَانَهُ عَلَيْهمْ ديارهم فجعل عإليها سافلها، وكَذَلِكَ قلبوا هم ونكسوا في الْعَذَاب على رؤوسهم ثُمَّ أكد سُبْحَانَهُ قبح ذَلِكَ بأن حكم عَلَيْهمْ بالإسراف وَهُوَ مجاوزة الحد فَقَالَ: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} فتأمل هل جَاءَ مثل ذَلِكَ أو قريب منه في الزنا؟ . وأكد سُبْحَانَهُ عَلَيْهمْ بقوله: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ} ثُمَّ أكد سُبْحَانَهُ عَلَيْهمْ الذم بوصفين في غاية القبح فَقَالَ: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} وسماهم مفسدين في قول نبيهم: {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} وسماهم ظالمين في قول الملائكة لإبراهيم عَلَيْهِ السَّلام: {أَنَا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} فتأمل من عوقب بمثل هذه العقوبات ومن ذمه الله بمثل هذه المذمَاتَ ولما جادل فيهم خليله إبراهيم الملائكة وقَدْ أخبروه بإهلاكهم قيل له: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} .

موعظة في التحذير من اللواط والعياذ بالله

شِعْرًا: ... وَكُن ناصِحًا لِلْمُسْلِمِينَ جَمِيعِهِمْ بِإِرْشَادِهِمْ لَلْحَقِّ عِنْدَ خَفَائِهِ وَمُرْهُم بِمَعْرُوفِ الشَّرِيعَةِ وَاِنْهِهِمْ عَنِ السُّوءِ وَاِزْجُر ذَا الْخَنَا عَن خَنائِهِ وَعِظْهُمْ بِآيَاتِ الإِلَهِ بِحِكْمَةٍ لَعَلَّكَ تُبْرِي دَاءَهُمُ بِدَوَائِهِ فَإِنْ يَهْدِي مَوْلانَا بِوَعْظِكَ وَاحِدًا تَنَلْ مِنْهُ يَوْمَ الْحَشْرِ خَيْرِ عَطَائِهِ وَإِلا فَقَدْ أَدَّيْتُ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْكَ وَمَا مَلَكْتَ أَمْرَ اِهْتِدَائِهِ ... ›? اللَّهُمَّ اجعلنا من حزبك المفلحين وعبادك الصالحين الَّذِينَ أهلتهم لخدمتك وجعلتهم ممن قبلت أعماله يارب العالمين وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. موعظة عباد الله ذنب اللواط من أعظم الذُّنُوب يغضب رب العباد إنها لفاحشة يضيق بها الفضا وتعج لها السماء ويحل بها البَلاء فكشف حال، وسوء مآل، وداء عضال، وقبح أفعال وعيب دونه سائر العيوب، عيب تموت به الفضيلة وتحيا به الرذيلة وتتفتت على أهلها الأكباد، وتذوب من أجلها حياة القُلُوب، فعمل مسبوب، ووضع مقُلُوب، وفاعل ملعون، ومفعول به عَلَيْهِ مغضوب، وخلق فاسد، وشرف مسلوب، وعرض ممزق، وكرامة معدومة، وزهري، وجرب ذو ألوان، وقذر وأنتان، ووساخة دونها كُلّ وساخة، اللَّهُمَّ إن في هذه

الفعلة الشنيعة من الخزي والعار ما لا تطيقه الطباع السليمة، كانت أمة قديم عصرها، باق ذكرها، كثير شرها تسكن بين الحجاز والشام، ترتكب هذه الفاحشة الشنيعة والجريمة الفظيعة علنًا في نواديهم ويذرون ما خلق الله من أزواج، ولا يبالون بمن يعتب عَلَيْهمْ ويشنع عَلَيْهمْ ولا يخافون لومة اللوام، فبعث الله إليهم لوطًا عَلَيْهِ وعلى نبينا أفضل الصَّلاة والسَّلام فدعاهم إلى التَّوْحِيد، وترك عبادة الأصنام وحذرهم من فعل فاحشة اللواط وبالغ في إنذارهم وتحذيرهم، وكَانَ الجزاء والجواب مِنْهُمْ على هذه النَّصِيحَة أن قَالُوا: {أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} ومقصود هؤلاء الأشقياء بهَذَا الوصف السخرية والتهكم بلوط ومن معه، وهَذَا كما يقوله الفساق والمرجة المعاصرون لبعض الصلحاء إذا أنكروا عَلَيْهمْ ووعظوهم، أخرجوا عنا هذا المتدين، أو هَذَا المتزهد، وهَذَا برهان واضح على أن قُلُوبهمْ ممتلئة من الحقَدْ والحسد والغيظ على الْمُؤْمِنِين فليموتوا بغيظهم ولله در القائل: ... إِذَا بَعُدَ الْعُنْقُودُ عَنْهُ وَلَمْ يَصِلْ ... إليه بِوَجْهٍ قَالَ مُرٌّ وَحَامِضُ وَيَقُولُ الآخر: دَعِ الْحَسُودَ وَمَا يَلْقَاهُ مِنْ كَمَدٍ ... كَفَاكَ مِنْهُ لَهِيبُ النَّارِ فِي كَبِدِهْ إِنْ لُمْتَ ذَا حَسَدِ نَفَّسْتَ كُرْبَتَهُ ... وَإِنْ سَكَتَّ فَقَدْ عَذَّبْتَهُ بِيَدِهْ آخر: ... ضَارِي الطِّبَاعِ سُرُورُ النَّاسِ يُحْزِنُهُ ... وَلا انْشِرَاحَ لَهُ إِلا إِذَا آذَى آخر: ... فَدْمٌ يَذُمُّ فُنُونَ الْعِلْمِ مُحْتَقِرًا ... بِهَا وَمِنْ جَهْلِ الأَشْيَاءِ عَادَاهَا

مما جرى لقوم لوط وما حاق بهم من العقوبة

آخر: ... أَصَمَّكَ سُوءُ فَهْمِكَ عَنْ خِطَابِي ... وَأَعْمَاكَ الضَّلالُ عَنْ اهْتِدَائِي قال الله تبارك وتَعَالَى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} . وَقَالَ آخر: وَلا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ ... ›? فقلبت مدينتهم أي قوم لوط واتبعوا بحجارة من سجيل مسومة عَنْدَ الله للمسرفين أيها المسلم أتدري لماذا ذكر الله أخبارهم في كتابه العَظِيم وعلى لسان نبيه الكريم إنه وَاللهُ أَعْلَمُ لنعتبر بما أصابهم، ونحذر كُلّ الحذر ما كَانُوا عَلَيْهِ من سوء الحال، وقبح الفعال، قال الله تَعَالَى: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} سبحان الله كيف يقع ذكر على ذكر وَهُوَ يعلم أن الله جَلَّ وَعَلا يراه وقَدْ نهاه ويعلم ما في ذَلِكَ من مخالفة العقل والدين، وما فيه من مرض خطير، وشر مستطير، وخزي وعار، هَذَا بالحَقِيقَة فعل تترفع عَنْهُ طباع الكلاب. والبغال والحمير، بل والقردة والخنازير، وما ظهر اللواط في أمة إِلا أذلت وأخزيت، وسلب عزها، وإذا أرادها الله عَزَّ وَجَلَّ إهلاك قرية فسق فيها المترفون فاستحقت الخراب والدمار، قال الله تَعَالَى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} فانتبهوا أيها الإِخْوَان وتناصحوا واحفظوا أولادكم واعلموا أنكم مسئولون عنهم وعن همالكم لَهُمْ احرصوا عَلَيْهمْ فوق حرصكم على أموالكم لعلكم تنجوا من التبعات وتسلموا من العقوبات جعلنا الله وإياكم ممن إذا خوف بِاللهِ ندم وخاف

ورزقنا وإياكم من الإنابة والإنصاف ما يلحقنا بصالح الأسلاف وغفر لَنَا وَلَكُمْ وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلمين إِنَّهُ جَوَادٌ كَرِيمٌ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ) وتأمل خبث اللواطية وفرط تمردهم على الله حيث جاءوا نبيهم لوطًا لما سمعوا بأنه قَدْ طرقه أضياف هم من حسن البشر صوروا فأقبل اللواطية إليه يهرعون، فلم رآهم قال لَهُمْ: {يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} ففدى أضيافه ببناته يزوجهم بهنَّ خوفًا على نَفْسهُ وعلى أضيافه من العار الشديد. فَقَالَ: {يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أليس مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} فردوا عَلَيْهِ ولكن رد جبار عنيد {قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} فنفث نَبِيّ اللهِ نفثة مصدور خرجت من قلب مكروب، فَقَالَ: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} . فكشف له رسل الله عن حَقِيقَة الحال وأعلموه أنهم ممن لَيْسَ يوصل إليهم ولا إليه بسببهم فلا تخف مِنْهُمْ ولا تعبأ بِهُمْ وهون عَلَيْكَ، فَقَالُوا: {يَا لُوطُ أَنَا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إليك} وبشروه بما جاءوا به من الوعد له، ومن الوعد المصيب لقومه فَقَالُوا: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ} فاستبطأ نَبِيّ اللهِ عَلَيْهِ السَّلام موعد هلاكهم، وَقَالَ: أريد أعجل من هَذَا فقَالَتْ الملائكة: {أليس الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} .

التحذير عن النظر إلى الأمرد والخلوة به وبعده أبيات حكم

فوَاللهِ ما كَانَ بين إهلاك أعداء الله ونجاة نبيه وأوليائه إِلا ما بين السحر وطلوع الفجر وإذا بديارهم قَدْ اقتلعت من أصولها ورفعت نحو السماء حتى سمعت الملائكة نباح الكلاب ونهيق الحمير، فبرز المرسوم الَّذِي لا يرد، من عَنْدَ الرب الجليل، على يدي عبده ورسوله جبريل بأن يقلبها عَلَيْهمْ، كما أخبر به في محكم التنزيل. فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ من قائل: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَإليها سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً} فجعلهم آية للعالمين وموعظة للمتقين ونكالاً وسلفًا لمن شاركها في أعمالهم من المجرمين وجعل ديارهم بطَرِيق السالكين {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ} أخذوا على غرة وهم نائمون، وجاءهم بأسه وهم في سكرتهم يعمهون فما أغنى عنهم ما كَانُوا يكسبون تقلبوا على تلك اللذات طويلاً فأصبحوا بها يعذبون. ... مَآرِبَ كَانَتْ فِي الْحَيَاةِ لأَهْلِهَا مَآرِبَ كَانَتْ فِي الْحَيَاةِ لأَهْلِهَا ... ›? ذهبت اللذات وأعقبت الحسرات وانقضت الشهوات وأورثت الحسرات تمتعوا قليلاً وعذبوا طويلاً رتعوا مرتعًا وخيمًا فأعقبهم عذابًا أليمًا أسكرتهم خمرة تلك الشهوات فما استفاقوا منها إِلا وَهُوَ في منازل الهالكين فندموا وَاللهِ أشد الندامة حين لا ينفع الندم وبكوا على ما أسلفوه بدل الدموع بالدم فلو رَأَيْت الأعلى والأسفل من هذه الطائفة والنار تخَرَجَ من منافذ وجوههم وأبدانهم وهم بين أطباق الجحيم، وهم يشربون بدل لذيذ الشراب كؤوس الحميم، ويُقَالُ لَهُمْ وهم على وجوههم يسحبون {ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} ، {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ولَقَدْ قرب سبحانه

مسافة الْعَذَاب بين هذه الأمة وبين إخوانهم في الْعَمَل، فَقَالَ مخوفًا لَهُمْ {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} . انتهى. ومن الأسباب التي ربما تَكُون سببًا إلى هذه المعصية النظر إلى الأمرد، فعلى الإِنْسَان أن يمنع نَفْسهُ من ذَلِكَ، فقَدْ صح عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم أنه قال: «زنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، وزنا اليد لبطش، وزنا الرجل الخطا، وزنا الأذن الاستماع، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذَلِكَ أو يكذبه» . ولأجل ذَلِكَ بالغ الصالحون في الأعراض عن المردان وعن النظر إليهم وعن مخاطبتهم وعن مجالستهم قال الحسن بن ذكوان: لا تجالسوا أولاد الأغنياء فإن لَهُمْ صورًا كصور العذارى فهم أشد فتنة من النساء. وَقَالَ بعض التابعين: ما أَنَا بأخوف على الشاب الناسك مَعَ سبعٍ ضارٍ من الغلام الأمرد يقعد إليه وكَانَ يقال: لا يبيتن رجل مَعَ أمرد في مكَانَ واحد وحرم قياسًا على المرأة لأن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «ما خلا رجل بامرأة إِلا كَانَ الشيطان ثالثهما» . وفي المردان من يفوق النساء بحسنه فالفتنة به أعظم وانه يمكن في حقه من الشر ما لا يمكن في حق النساء ويسهل في حقه من طَرِيق الريبة والشر ما لا يتسهل في حق المرأة، فهو بالتحريم أولى، وأقوال السَّلَف في التنفير مِنْهُمْ والتحذير من رؤيتهم أكثر من أن تحصر. شِعْرًا: ... صُنِ الْحُسْنَ بِالتَّقْوَى وَإِلا فَيَذْهَبُ فَنُورُ التُّقَى يَكْسُو جَمَالاً وَيَكْسِبُ وَمَا يَنْفَعُ الْوَجْهَ الْجَمِيلَ جَمَاله وَلَيْسَ لَهُ فِعْلٌ جَمِيلٌ مُهَذَّبُ ... ›?

موعظة لأبي الدرداء رضي الله عنه وبعدها ليس الغريب

.. فَيَا حَسَنَ الْوَجْهِ اتَّقِ اللهَ إِنْ تُرِدْ دَوَامَ جَمَالٍ لَيْسَ يَفْنَى وَيَذْهَبُ يَزِيدُ التُّقَى ذَا الْحُسْنِ حُسْنًا وَبَهْجَة وَأَمَّا الْمَعَاصِي فَهِيَ لِلْحُسْنِ تَسْلِبُ وَتَكْسِفُ نُورَ الْوَجْهِ بَعْدَ بَهَائِهِ وَتَكْسُوهُ قُبْحًا ثُمَّ لِلْقَلْبِ تَقْلِبُ فَسَارِعْ إِلَى التَّقْوَى هُنَا تَجِدِ الْهَنَا غَدًا فِي صَفَا عَيْشٍ يَدُومُ وَيَعْذُبُ فَمَا بَعْدَ ذِي الدُّنْيَا سِوَى جَثَّةٍ بِهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ أَوْ لَظَى تَتَلَهَّبُ ... ›? وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وسلم. موعظة روى أبو الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «تفرغوا من الدُّنْيَا، فإنه من كانت الدُّنْيَا أكبر همه، فرق الله عَلَيْهِ أمره وجعل فقره بين عينيه ومن كانت الآخِرَة أكبر همه جمَعَ الله له أموره وجعل غناه في قَلْبهُ وما أقبل عبد بقَلْبهُ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلا جعل الله قُلُوب الْمُؤْمِنِين تفد إليه بالود والرحمة وكَانَ الله عَزَّ وَجَلَّ إليه بكل خَيْر أسرع» . ولما دخل أبو الدرداء الشام قال: يا أَهْل الشام اسمعوا قول أخٍ ناصحٍ فاجتمعوا إليه فَقَالَ: ما لي أراكم تبنون ما لا تسكنون وتجمعون ما لا تأكلون وتؤملون ما لا تدركون إن الَّذِينَ كَانُوا قبلكم بنوا مشيدًا وأملوا بعيدًا وجمعوا عتيدًا فأصبح أملهم غرورًا ومساكنهم قبورًا. وَقَالَ بَعْضهمْ: ... أَجِدّكَ مَا الدُّنْيَا وَمَاذَا نَعِيمُهَا ... وَهَلْ هِيَ إِلا جَمْرَةٌ تَتَوَقَّدُ لَعمرِي لَقَدْ شَاهَدْتُ فِيهَا عَجَائِبًا ... وَصَاحِبْنِي فِيهَا مَسْودٌ وَسَيِّدُ رَأَيْتُ بِهَا أَهْلُ الْمَوَاهِبِ مَرَّةً ... وَقَدْ طَابَ عَيْشٌ وَالسُّرُورُ يُجَدَّدُ

فَمَا رَاعَهمُ إِلا الرَّزَايَا ثَوَابِتٌ ... عَلَيْهِمْ وَقَامَتْ فِي أَذَاهُمْ تُحَشِّدُ وَأَسْقَتْهُمُوا كَأْسًا مِن الذُّلِ مُتْرَعًا ... وَكَانَ لَهُمْ فَوْقَ السَّمَاكِينِ مَقْعَدُ وَدَانَتْ لِمَنْ نَاوَاهُمُ بَعْضَ بُرْهَةٍ ... عَلَى نَكَدٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ يُجَدَّدُ آخر: ... أَأمل أن أخلد والْمَنَايَا ... تدور علي من كُلّ النواحي وما أدري وإن أمسيت يومًا ... لعلي لا أعيش إلى الصباح إن كُلّ يوم يمر بكم يحمل ما ثَبِّتْ فيه من خَيْر أو شر يمضي فلا يعود أبدًا فإن قدرتم أن تحظوا كُلّ يوم بمكرمةٍ وتثبتوا فيه حسنةً فلا تؤخروا فإن الأيام صحائف فخلدوا فيها الجميل فقَدْ رأيتم حفظها لما استودعت من المحامد والمحاسن والمكارم في قديم الدهر وحديثه. شِعْرًا: لَيْسَ الغَريبُ غَريبَ الشَّامِ واليمَنِ إِنَّ الغَريبَ غَريبُ اللَّحدِ والكَفَنِ تَمُرُّ ساعاتُ أَيَّامي بِلا نَدَمٍ ولا بُكاءٍ وَلا خَوْفٍ ولا حَزَنِ سَفَري بَعيدٌ وَزادي لا يُبَلِّغَني سَفَري بَعيدٌ وَزادي لا يُبَلِّغَني مَا أَحْلَمَ اللهَ عَني حَيْثُ أَمْهَلَني وقَدْ تَمادَيْتُ في ذَنْبي ويَسْتُرُنِي أَنَا الَّذِي أُغْلِقُ الأَبْوابَ مُجْتَهِداً عَلى المعاصِي وَعَيْنُ اللهِ تَنْظُرُني يَا زَلَّةً كُتِبَتْ يَا غَفْلَةٍ ذَهَبَتْ يَا حَسْرَةً بَقِيَتْ في القَلبِ تَقْتُلْنِي ... ›?

ج ... دَعْ عَنْكَ عَذْلِي يا مَنْ كَانَ يَعْذِلُنِي لَوْ كُنْتَ تَعْلَمْ مَا بِي كُنْتُ تَعْذُرُنِي دَعْني أَنُوحُ عَلى نَفْسي وَأَنْدِبُها دَعْني أَنُوحُ عَلى نَفْسي وَأَنْدِبُها دَعْنِي أَسِحُّ دُمُوعًا لا انقطاع لَهَا فَهَلْ عَسَى عَبْرَةٌ مِنْهَا تُخَلِّصُنْي كَأَنَّني بَينَ تلك الأَهلِ مُنطَرِحًا عَلى الفِراشِ وَأَيْديهِمْ تُقَلِّبُني وَقَدْ أَتَوْا بِطَبيبٍ كَيْ يُعالِجَني وَلَمْ أَرَ مِنْ طَبِيبِ اليوم يَنْفَعُني واشَتد نَزْعِي وَصَار المَوتُ يَجْذِبُها مِن كُلّ عِرْقٍ بِلا رِفقٍ ولا هَوَنِ واستَخْرَجَ الرُّوحَ مِني في تَغَرْغُرِها وصَارَ في الحَلْقَ مُرًا حِينَ غَرْغَرَني وَغَمَّضُوني وَراحَ الكُلُّ وانْصَرَفوا بَعْدَ الإِياسِ وَجَدُّوا في شِرَا كَفَنِي وَقامَ مَنْ كانَ أَوْلَى النّاسِ في عَجَلٍ وَقامَ مَنْ كانَ أَوْلَى النّاسِ في عَجَلٍ وَقالَ يا قَوْمِ نَبْغِي غاسِلاً حَذِقًا حُرًا أَدِيْبًا أَرِيبًا عَارِفًا فَطِنِي فَجاءَني رَجُلٌ مِنْهُمْ فَجَرَّدَني مِنَ الثِّيابِ وَأَعْرَاني وأَفْرَدَني

.. واطَّرَّحُونِي عَلى الأَلْواحِ مُنْفَرِدًا وَصَارَ فَوْقي خَرِيرُ الماءِ يَنْظِفُني وَأَسْكَبَ الماءَ مِنْ فَوقي وَغَسَّلَني غُسْلاً ثَلاثاً وَنَادَى القَوْمَ بِالكَفَنِ وَأَلْبَسُوني ثِيابًا لا كِمومَ لها وَصارَ زَادي حَنُوطًِا حينَ حَنَّطَني وَقَدَّموني إِلى المحرابِ وانصَرَفوا خَلْفَ الإِمَامِ فَصَلَّى ثُمَّ وَدَّعَني صَلَّوْا عَلَيَّ صَلاةً لا رُكوعَ لها ولا سُجودَ لَعَلَّ اللهَ يَرْحَمُني وَأَنْزَلوني في قَبري على مَهَلٍ وَأَنْزَلُوا واحِدًا مِنْهُمْ يُلَحِّدُني وَكَشَّفَ الثّوْبَ عَن وَجْهي لِيَنْظُرَني وَأَسْبلَ الدَّمْعَ مِنْ عَيْنيهِ أَغْرَقَني فَقامَ مُحتَرِمًا بِالعَزمِ مُشْتَمِلاً وَصَفَّفَ اللَّبِنَ مِنْ فَوْقِي وفارَقَني وقَالَ هُلُّوا عَلَيْهِ التُّرْبَ واغْتَنِموا حُسْنَ الثَّوابِ مِنَ الرَّحمنِ ذِي المِنَنِ في ظُلْمَةِ القبرِ لا أُمٌّ هناك ولا أَبٌ شَفيقٌ ولا أَخٌ يُؤَنِّسُني وَأَوْدَعُونِي وَلَجُوا في سُؤ الهِمُوا مَا لِي سِوَاكَ إِلَهِي مَنْ يُخَلِّصْنِ

فصل في التحذير عن تعاطي المسكرات وقبل ذلك مقدمة توطئه لذلك

.. وَهالَني صُورَةً في العينِ إِذْ نَظَرَتْ مِنْ هَوْلِ مَطْلَعِ ما قَدْ كَانَ أَدهَشَني مِنْ مُنكَرٍ ونكيرٍ ما أَقولُ لَهُمْ إذْ هَالَني مِنْهُمَا مَا كَانَ فَأَفْزَعَني فَامْنُنْ عَلَيَّ بِعَفْوٍ مِنك يَا أَمَلي فَإِنَّني مُوثَقٌ بِالذَّنْبِ مُرْتَهَنِ تَقاسمَ الأهْلُ مالي بعدما انْصَرَفُوا وَصَارَ وِزْرِي عَلى ظَهْرِي فَأَثْقَلَني فَلا تَغُرَّنَّكَ الدُّنْيَا وَزِينَتُها فَلا تَغُرَّنَّكَ الدُّنْيَا وَزِينَتُها وانْظُرْ إِلى مَنْ حَوَى الدُّنْيَا بِأَجْمَعِها هَلْ رَاحَ مِنْها بِغَيْرِ الزَّادِ والكَفَنِ ... ›? ... خُذِ القَنَاعَةَ مِنْ دُنْيَاك وارْضَ بِها ... لَوْ لم يَكُنْ لَكَ إِلا رَاحَةُ البَدَنِ يَا نَفْسُ كُفِّي عَنِ العِصْيانِ واكْتَسِبِي ... فِعْلاً جميلاً لَعَلَّ اللهَ يَرحَمُني اللَّهُمَّ أيقظنا من غفلتنا بِفَضْلِكَ وإحسانك وتجاوز عن جرائمنا بعفوك وغفرانك وألحقنا بالَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ في دار رضوانك وارزقنا كما رزقتهم من لذيذ مناجاتك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينِ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. فصل في التحذير عن تعاطي المسكرات والمخدرات اعْلَمْ وفقنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن من أشرف هبات الله للإنسان عقله وقَدْ روي عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنه قال في قول الله تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} أي في العقل، وورد عن المصطفى ? أنه قال: «ما اكتسب مكتسب مثل فضل علم يهدي صاحبه إلى هدى - أو يرده عن ردى، ولا استقام دينه حتى يستقيم عقله» .

فالعقل جعله الله للإنسان ليميز به النافع من الضار ويفهم عن الله شرعه لماذا حسن الحسن وقبح القبيح ويفهم ما لله من الحقوق وما لرسله وما ينبغي نحو عباد الله. فهو الجوهرة التي دون قدرها الأثمان وما يقدر بالأثمان بل الدُّنْيَا بأسرها لا قيمة لها بجانب هَذَا العقل العَظِيم الشأن الَّذِي رفع الله درجة بني آدم إلى أن أخاطبهم جَلَّ وَعَلا وَهُوَ الَّذِي صلح لأن يكون من خدمه تَعَالَى يؤدي ما له من واجباتٍ. وَهُوَ الَّذِي به يكون أهلاً لأن يكون من ضيوفه تَعَالَى في دار الكرامَاتَ، بل هُوَ الَّذِي سما به إلى أن يرى ربه تَعَالَى في دار الرضوان، إن قيمة كُلّ شَيْء إنما تقدر بقدر ما له من آثار العقل، لا يدانيه فيها غيره، مهما كَانَ لذَلِكَ الغير من مقدار، إذ هُوَ أجل محنة منحها الله ابن آدم في هذه الدار بل لا تَكُون الْجَنَّة جنة إذا سلب العقل فيها من الإِنْسَان. إذا علمت ذَلِكَ فاعْلَمْ أن النَّاس يتفاوتون في الدرجات بتفاوت ما لَهُمْ من عقول فكُلَّما كَانَ العقل أقوى كَانَ أقدر على دفع النفس عما لها من فضول ومن هَذَا نستطيع أن نقول إن أعقل الْمُؤْمِنِين أتقاهم لله أما ضعيف العقل فيضعف دفعه للنفس عن ما لها من شهوات. هُوَ من الأَشْيَاءِ التي تشير أسماؤها إلى معناها سمي عقلاً لأنه يعقل صاحبه غالبًا عما لا ينبغي ولذَلِكَ إذا جن الإِنْسَان رأيته كالوحش الضاري يبطش بكل ما قابله. مَا وَهَبَ اللهُ لامْرِئٍ هِبَهْ ... أَشْرَفَ مِنْ عَقْلِهِ وَمِنْ أَدَبِهْ هُمَا حَيَاةُ الْفَتَى فَإِنْ فُقِدَا ... فَإِنَّ فَقْدَ الْحَيَاةِ أَجْمَلُ بِهْ آخر: ... يَزينُ الْفَتَى فِي النَّاسِ صِحَّةُ عَقْلِهِ ... وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ مَكَاسِبُهْ

ج وَيُرزِي بِهِ فِي النَّاسِ قِلَّةُ عَقْلِهِ ... وَإِنْ كَرُمَتْ أَعْرَاقُه وَمَنَاسِبُهُ وَأَفْضَل قَسْمِ الله لِلْمَرْءِ عَقْلُهُ ... ولَيْسَ مِن الْخَيْرَاتِ شَيْءٌ يُقَارِبُهُ إِذَا أَكْمَلَ الرَّحْمَنُ لِلْمَرْءِ عَقْلَهُ ... فَقَدْ كَملَتْ أَخْلاقُهُ وَضَرَائِبَهُ آخر: ... إِذَا كُنْتَ ذَا عِلْمَ وَلَمْ تَكُ عَاقِلاً ... فَأَنْتَ كَذِي نَعْلٍ وَلَيْسَ لَهُ رِجْلُ أَلا إِنَّمَا الإِنْسَانُ عُمْدٌ لِعَقْلِهِ ... وَلا خَيْرَ كَذِي نَعْلٍ وَلَيْسَ لَهُ رِجْلُ أَلا إِنَّمَا الإِنْسَانُ عُمْدٌ لِعَقْلِهِ ... وَلا خَيْرَ فِي غِمْدٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ نَصْلُ والمقصود من سياق هذه المقدمة حول العقل، هُوَ أنه يوَجَدَ قسم من النَّاس قَدْ عميت بصائرهم وأسقطوا أنفسهم من درجة الكمال الَّذِي أعدهم الله له، وأنزلوا أنفسهم إلى مرتبة الْحَيَوَان أو أنزل، ورضوا بأن يكونوا معاول لهدم الفضيلة ويدًا عاملة لنشر الرذيلة وهؤلاء قَدْ استحوذ عَلَيْهمْ الشيطان ولعب بِهُمْ وزين لَهُمْ أن يفارقوا عقولهم زمنًا بتناول المخدرات وتعاطي المسكرات ولَيْسَ هَذَا الاعتداء على العقل الَّذِي شرفهم الله به في العمر مرة بل ولا في السنة مرة لكنه عندهم دوامًا نسأل الله العافية أما علم أولئك التعساء أن الخمر أم الخبائث ورأس الْمُنْكَر كله وطَرِيق الفساد العام. فساد الدين وفساد الأَخْلاق وفساد العقل وفساد الجسم وفساد الْمَال وفساد الذرية ولهَذَا قال صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «اجتنبوا الخمر فإنها مفتاح كُلّ الشر» . رواه الحاكم وَقَالَ: صحيح الإسناد، فالخمر محرمة باْلكِتَاب والسنة والإجماع. أما اْلكِتَاب فقوله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} إلى قوله: {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} . اللَّهُمَّ قوي إيماننا بك ونور قلوبنا بنور الإِيمَان وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين

اللَّهُمَّ يا ملقب القُلُوب ثَبِّتْ قلوبنا على دينك وألهمنا ذكرك وشكرك وأمنا من سطوتك ومكرك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينِ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ) وأما السنة فقول النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» . رواه أبو داود والإمام أَحَمَد وروى عَبْدُ اللهِ بنَ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ، وَشَارِبَهَا، وَسَاقِيَهَا، وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا، وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا، وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إليه» . رواه أبو داود. وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «من شرب الخمر في الدُّنْيَا، ومَاتَ ولم يتب منها، وَهُوَ مدمن لها، لم يشربها في الآخِرَة» . رواه مسلم وروى مسلم عن جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «إن على الله عهدًا لمن شرب المسكر، أن يسقيه الله من طينة الخبال» . قيل: يَا رَسُولَ اللهِ وما طينة الخبال؟ قال: «عرق أَهْل النار» . وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «من شرب الخمر في الدُّنْيَا، يحرمها في الآخِرَة» . وورد أن مدمن الخمر كعابد وثن وروى النسائي من حديث عمر أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «لا يدخل الْجَنَّة عاق، ولا مدمن خمر» . وفي رواية: «ثلاثة لا يدخلون الْجَنَّة: مدمن الخمر، والعاق لوالديه، والديوث، وَهُوَ الَّذِي يقر السُّوء في أهله» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ والتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ» . رواه البخاري،

وفي الْحَدِيث: «من زنى أو شرب الخمر، نزع الله منه الإِيمَان كما يخلع الإِنْسَان القميص من رأسه» . وفيه عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم أنه قال: «ان رائحة الْجَنَّة لتوَجَدَ من مسيرة خمسمائة عام ولا يجد ريحها عاق ولا منان ولا مدمن خمر ولا عابد وثن» . وروى الإمام أَحَمَد من حديث أبي مُوَسى الأشعري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «لا يدخل الْجَنَّة مدمن خمر ولا مُؤْمِن بسحر ولا قاطع رحم ومن مَاتَ وَهُوَ يشرب الخمر سقاه الله من نهر الغوطة وَهُوَ ماء يجري من فروج المومسات - أي الزانيات - يؤذي أَهْل النار ريح فروجهن» . وَقَالَ ابن عمر: أمرني رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم أن آتيه بمدية وهي الشفرة فاتيته بها فأرسل بها فأرهفت ثُمَّ أعطانيها وَقَالَ: «اغد علي بها» . ففعلت فخَرَجَ بأصحابه إلى أسواق الْمَدِينَة، وفيها زقاق الخمر قَدْ جلبت من الشام فأخذ المدية مني فشق ما كَانَ من تلك الزقاق بحضرته ثُمَّ أعطانيها وأمر أصحابه الَّذِينَ كَانُوا معه أن يمضوا معي وأن يعاونوني وأمرني أن آتي الأسواق كُلّهَا فلا أجد فيها زق خمر إِلا شققته ففعلت فلم أترك في أسواها زقًا إِلا شققته. وعن عَبْد اللهِ بن عمرو قال: إن هذه الآيَة التي في القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} قال: هِيَ في التوراة إن الله أنزل الحق ليذهب به الْبَاطِل ويبطل به اللعب والمزامير والزفن، والكبارات يعني البرابط، والزمارات، يعني به الدف والطنابير والشعر، والخمر مرة لمن طعمها أقسم الله بيمينه وعزته من شربها بعد ما حرمتها لأعطشنه يوم القيامة، ومن تركها بعد ما حرمتها لأسقينه إياها في حظيرة القدس.

اللَّهُمَّ اغفر لنا ذنوبنا حالت بيننا وبين ذكرك شكرك واعف عن تقصيرنا فِي طَاعَتكَ ووفقنا للزوم الطَرِيق الموصلة إليك وثبتنا عَلَيْهَا حتى الْمَمَات اللَّهُمَّ طهر قلوبنا من النفاق وعلمنا من الرياء وطهر مكسبنا من الربا وألسننا من الكذب ووفقنا لمصالحنا واعصمنا عن ذنوبنا وقبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عَلَيْهِ ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وتوفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. قصيدة تحتوي على حكم ومواعظ تَأوَّيني هَمُّ كَثِيرٌ بِلابِلُهْ ... طَرُوقًا فَغَالَ النَّوْم عَنِّي غَوَائِلُهْ فَوَيْحِي مِنَ الْمَوْتِ الَّذِي هُوَ وَاقِعٌ ... وَلِلْمَوْتِ بَابٌ أَنْتَ لا بُدَّ دَاخِلُهْ أَيَأْمَنُ رَيْبِ الدَّهْرِ يَا نَفْسُ وَاهِنٌ ... تَجِيشُ لَهُ بِالْمُفْظَعَاتِ مَرَاجِلُهْ فَلَمْ أَرَ فِي الدُّنْيَا وَذُو الْجَهْلِ غَافِلٌ ... أَسِيرًا يَخَافُ الْقَتْلَ وَاللَّهْوُ شَاغِلُهْ فَمَا بَاله يَفْدِي مِن الْمَوْتِ نَفْسَهُ ... وَيَأْمَنُ سَيْفَ الدَّهْرِ وَالدَّهْرُ قَاتِلُهْ وَلا يَفْتَدِي مِن مَوْقِفٍ لَوْ رَمَى الرَّدَى ... بِهِ جَبَلاً أَضْحَتْ سَرَابَا جَنَادِلُهْ وَبَعْدَ دُخُولِ الْقَبْرِ يَا نَفْسُ كُرْبَةٌ ... وَهَوْلٌ تُشِيبُ الْمُرْضِعِينَ زَلازِلُهْ إِذَا الأَرْضُ خَفَّتَ بَعْدَ نَقْلٍ جِبَالِهَا ... وَخَلَّى سَبِيلَ الْبَحْرِ يَا نَفْسُ سَاحِلُهْ فَلا يَرْتَجِي عَوْنًا عَلَى حَمْلِ وِزْرِهِ ... مُسِيءٌ وَأَوْلَى النَّاسِ بِالْوِزْرِ حَامِلُهْ إِذَا الْجَسَدُ الْمَعْمُورُ زَايَل رُوحَه ... خَوَى وَجَمَالُ الْبَيْتِ يَا نَفْسُ آهِلُهْ وَقَدْ كَانَ فِيهِ الرُّوحُ حِينًا يَزِينُهُ ... وَمَا الْغِمْدُ لَوْلا نَصْلُهُ وَحَمَائِلُهْ يُزَايلُنِي مَالي إِذَا النَّفْسُ حَشْرَجَتْ ... وَأَهْلِي وَكَدْحِي لازِمِي لا أَزَايلُهْ إِذَا كَلَّ عِنْدَ الْجُهْدِ يَا نَفْسُ مُنْطِقِي ... وَعَايَنْتُ عِنْدَ الْمَوْتِ مَا لا أُحَاوِلُهْ وَيَغْسِلُ مَا بِالْجِلْدِ مِنْ ظَاهِرِ الأَذَى ... وَلا يَغْسِلُ الذَّنْبَ الْمُخَالِفَ غَاسِلُهْ وَمَنْ تُفْلِتِ الأَمْرَاضُ يَوْمًا فَإِنَّهُ ... سَيُوشِكُ يَوْمًا أَنْ تُصَابَ مَقَاتِلُهْ

وَقَدْ تُفْلِتُ الْوَحْشَ الْجِبَالُ وَرُبَّمَا ... تَقَبَّضَتِ الْوَحْشِيَّ يَوْمًا حَبَائِلُهْ إِذَا الْعِلْمُ لَمْ تَعْمَلْ بِهِ صَارَ حُجَّةً ... عَلَيْكَ وَلَمْ تُعْذَرْ بِمَا أَنْتَ جَاهِلُهْ وَقَدْ يُنْعِشُ الذِّكْرُ الْقُلُوبَ، وَإِنَّمَا ... تَكُونُ حَيَاةُ الْعُودِ فِي الْمَاءِ وَابِلُهْ أَرَى الْغُصْنَ لا يَنْمِي إِذَا جَفَّ أَصْلُهُ ... وَلَيْسَ بِبَاقٍ مَنْ أُبِيحَتْ أَوَائِلُهْ فَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَبْصَرْتَ هَذَا فَإِنَّمَا ... يُصَدَّقُ قَوْلَ الْمَرْءِ مَا هُوَ فَاغِلُهْ وَلا يَسْتَقِيمُ الدَّهْرَ سَهْمٌ لِوَجْهِهِ ... بِهِ مَيْلٌ حَتَّى يُقَوَّمَ مَائِلُهْ وَفِيكَ إِلَى الدُّنْيَا اعْتِرَاضٌ وَإِنَّمَا ... تُكَالُ لَدَى الْمِيزَانِ مَا أَنْتَ كَائِلُهْ فَلا تَنْتَكِثْ بَعْدَ الْهَوَى عَنْ بَصِيرَةٍ ... كَمَا نَكَثَ الْحَبْلَ الْمُضَاعَفَ فَاتِلُهْ وَتَطْلُبُ فِي الدُّنْيَا الْمَنَازِلَ وَالْعُلا ... وَتَنْسَى نَعِيمًا دَائِمًا لا تُزَايلُهْ كَمَنْ غَرَّهُ لَمعُ السَّرَابِ بَقِيعَةٍ ... فَقَصَّرَ عَنْ وِرْدٍ تَجِيشُ مَنَاهِلُهْ وَقَدْ خَانَتْ الدُّنْيَا قُرونًا تَتَابَعُوا ... كَمَا خَانَ أَعْلَى الْبَيْتَ يَوْمًا أَسَافِلُهْ وَتُصْبِحُ فِيهَا آمِنًا ثُمَّ لَمْ تَكُنْ ... لِتَأْمنَ فِي وَادٍ بِهِ الْخَوْفُ نَازِلُهْ وَقَدْ خَتَلَتْنَا بِاللَّطِيفِ مِهَ الْهَوَى ... كَمَا يَخْتِلُ الْوَحْشِيَّ بِالشَيْءِ خَاتِلُهْ رَضِينَا بِمَا فِيهَا سَفَاهًا وَلَمْ يَكُنْ ... يَبِيعُ سَمِينَ اللَّحْمِ بِالْغَيْثِ آكِلُهْ وَعَاقِبَةُ اللَّذَاتِ تَخْشَى وَإِنَّمَا ... يُكَدِّرُ يَوْمًا عَاجِلَ الأَمْرِ آجِلُهْ وَإِنْ فَرَحَتْ بِالْمَرْءِ يَوْمًا حَلائِلٌ ... فَلا بُدَّ يَوْمًا أَنْ تُرِنَّ حَلائِلُهْ فَكَمْ مِنْ فَتَى قَدْ كَانَ فِي شِرِّةِ الصِّبَا ... فَأَقْصَرَ بَعْدَ الْعَذْلِ عَنْهُ عَوَاذِلُهْ إِذَا مَا سَمَا حَقٌّ إليك وَبَاطِلٌ ... عَلَيْكَ فَلا يَذْهَبْ بِحَقَّكَ بَاطِلُهْ وَقَدْ يَأْمَلُ الرَّاجِي فَيُكْذِبُ ظَنَّهُ ... أُمُورٌ وَيَلْقَى الشَّيْءَ مَا كَانَ يَأْمَلُهْ اللَّهُمَّ انظمنا في سلك الفائزين برضوانك، وَاجْعَلْنَا مِنْ المتقين الَّذِينَ أعددت لَهُمْ فسيح جنانك وأدخلنا بِرَحْمَتِكَ في دار أمانك وعافنا يا مولانَا في الدُّنْيَا والآخِرَة مِنْ جَمِيعِ البلايا وأجزل لنا من مواهب فضلك وهباتك ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينِ

الأحْيَاءِ مِنْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ) وأجمعت الأمة على تحريم الخمر، وقليل الخمر وكثيره كله حرام لما أخرجه ابن حبان والطحاوي عن سعد بن أبي وقاص رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره» . وروى أَحَمَد وابن ماجة والدارقطني وصححه عن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «ما أسكر كثيره فقليله» . وروى أَحَمَد في مسنده وَأَبُو دَاود في سننه بسندٍ صحيح عن أم سلمة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: نهى رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم عن كُلّ مسكر ومفتر ولم يكتف الشارع بتحريم شرب قليلها وكثيرها، بل حرم الاتجار بها ولو مَعَ غير المسلمين فلا يحل لمسلم يؤمن بِاللهِ واليوم الآخِر أن يعمل مستوردًا أو مصدَّرًا أو صَاحِب محل لبيع الخمر أو عاملاً في هَذَا المحل كيف وقَدْ لعن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشتراة له. وَكَذَا يحرم إهداؤها فقَدْ روي عن جابر بن عَبْد اللهِ قال: كَانَ رجل يحمل الخمر من خيبر إلى الْمَدِينَة فيبيعها من المسلمين فحمل منها بمالٍ فقدم بها الْمَدِينَة فلقيه رجل من المسلمين فَقَالَ: يا فلان إن الخمرة قَدْ حرمت فوضعها حيث انتهى على تل وسجى عَلَيْهَا بأكسية ثُمَّ أتى النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ بلغني أن الخمر قَدْ حرمت قال: «أجل» . قال: لي أن أردها على من ابتعتها منه؟ قال: «لا يصح ردها» . قال: لي أن

وجوب مقاطعة مجالس الخمر وشرابها وتحريم بيع الخمر وإهدائها

أهديها إلى من يكافيني منها؟ قال: «لا» قال: فإن فيها مالاً ليتامى في حجري. قال: «إذا أتانَا مال البحرين فانَا نعوض أيتامك من مالهم» . ثُمَّ نادى بالْمَدِينَة فَقَالَ رجل: يَا رَسُولَ اللهِ الأوعية ينتفع بها؟ قال: «فحلوا أوكيتها» . فانصبت حتى استقرت في بطن الوادي. ويجب مقاطعة مجالس الخمر وشاربيها فعن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: سمعت رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: «من كَانَ يؤمن بِاللهِ واليوم الآخِر فلا يقعد على مائدة تدار عَلَيْهَا الخمر» . رواه أَحَمَد ومعناه عَنْدَ الترمذي. وروي عن عمر بن عَبْد الْعَزِيز أنه كَانَ يجلد شارَبِّي الخمر، ومن شهد مجلسهم، وإن لم يشرب، ورووا عَنْهُ أنه رفع إليه قوم شربوا الخمر فأمر بجلدهم فقيل إن فيهم فلانَا، وقَدْ كَانَ صائمًا، فَقَالَ: به ابدؤوا أما سمعتم قول الله تَعَالَى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ} . وروى عن عثمان بن عفان أنه كَانَ يَقُولُ: اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث إنه كَانَ رجل فيمن كَانَ قبلكم يتعبد ويعتز النَّاس فعلقته امرأة غوية فأرسلت إليه جارتها أن تدعوه لشهادةٍ فدخل معها فطفقت كُلَّما دخل بابًا أغلقته دونه حتى أفضى إلى امرأة وضيئةٍ عندها غلام وباطية خمر فقَالَتْ: إني وَاللهِ ما دعوتك لشهادةٍ ولكن دعوتك لتقع علي أو تقتل هَذَا الغلام أو تشرب هَذَا الخمر فسقته كأسًا فَقَالَ: زيدوني فلم يزل حتى وقع عَلَيْهَا وقتل النفس فاجتنبوا الخمر فإنها لا تجتمَعَ هِيَ والإِيمَان أبدًا أوشك أحدهما أن يخَرَجَ صاحبه. رواه البيهقي. وروى الطبراني بسند صحيح والحاكم وَقَالَ: صحيح على شرط مسلم عن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أن أبا بكرٍ وعمر وناسًا جلسوا بعد

وفاة رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم فذكروا أعظم الكبائر فلم يكن عندهم فيها علم فأرسلوني إلى عَبْد اللهِ بن عمرو أسأله فأخبرني أن أعظم الكبائر شرب الخمر فأتيتهم فأخبرتهم فأنكروا ذَلِكَ ووثبوا إليه جميعًا حتى أتوه في داره فأخبرهم أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «إن ملكًا من ملوك بني إسرائيل أخذ رجلاً فخيره بين أن يشرب الخمر أو يقتل نفسًا أو يزني أو يأكل لحم الخنزير أو يقتلوه فاختار الخمر وأنه لما شربها لم يمتنع من شَيْء أرادوه منه» . وأن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «ما من أحد يشربها فتقبل له صلاة أربعين ليلة، ولا يموت وفي مثانته منها شَيْء إِلا حرمت عَلَيْهِ بها الْجَنَّة، فإذا مَاتَ في أربعين ليلة مَاتَ ميتة جاهلية» . وفي تصوير إثُمَّ الخمر يَقُولُ أمير الْمُؤْمِنِين علي بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لو وقعت قطرة منها في بئر فبنيت عَلَيْهِ منارة لم أؤذن عَلَيْهَا ولو وقعت في بحر فجف فنبت الكلأ لم أرعه. وَقَالَ ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا لو دخلت أصبعي فيها لم تتبعني. قال بَعْضهمْ محذرًا عن الخمر: إِلامَ وَأَنْتَ فِي زَهْوٍ وَلَهْوٍ ... وَإِنَّ الْعُمْرَ مُعْظَمُهُ تَقَلَّصْ تُعَاقِرُ خَنْدَرِيسَ السُّوءِ دَوْمًا ... نَدِيمُكَ مَنْ إِلَى الْفَحْشَا تَرَبَّصْ وَتَهْجُرُ كُلَّ ذِي هَدْيٍ قَوِيمٍ ... وَتُوصِلُ كُلَّ سِكِّيرٍ تَمَلَّصْ بِذَا أَطْفَأْتَ نُورَ الْعَقْلِ حَتَّى ... ضَللْتَ عَنِ الْهِدَايَةِ يَا مُنْغَّصْ أَنِرْ بِإِنَابَةِ للهِ عَقْلاً ... لَهُ نُورُ الْهُدَى بِالْحَقِّ حَصْحَصْ اللَّهُمَّ ثَبِّتْ لنا قلوبنا على دينك وألهمنا ذكرك وشكرك واختم لنا بخاتمة السعادة وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينِ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. موعظة: عباد الله إنما حرم الله عليكم الخمر لما فيه من الأضرار والأخطار، وما منعكم من شربها إِلا لما ينشأ عن ذَلِكَ من المفاسد

والشرور والأضرار، فشارب الخمر ملعون على لسان نبيكم مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وسلم وبائعها، وشاريها، وعاصرها ومعتصرها، وساقيها، وحاملها، والمحمولة إليه، ومدمن شربها لا يدخل الْجَنَّة، بل يدخل النار ويسقى من طينة الخبال، عرق أَهْل النار وورد أن مدمن الخمر كعابد وثن فشارب الخمر مفسد لدينه، ومفسد لجسمه، وصحته وجان على نَفْسهُ، وعلى أولاده، وأقاربه، وأهله وجيرانه ومفرط في ماله ومسرف فيه وعابث بكرامته، وساع إلى الشر والفساد بيده، ورجله، ولِسَانه، وصائل، خبيث على الخلاق والأديان شارب الخمر عضو مسموم في جسم مواطنيه إذا لم يبادروه بالعلاج أو يقطعوه أصابهم ضرره، شارب الخمر يزين الشر ويحسنه، لبنيه، وبناته، وأصدقائه ويدعوهم بلسان حاله ومقاله، وأنتم تعلمون أن داعي الفساد مجاب قي كُلّ زمان ومكَانَ وأنصاره بلا عدٍّ ولا حسبان، وإذا دبت الخمر في رأس شاربها فقَدْ شعوره، وزنى، ولاط، أو ليط به، وجَاءَ بأنواع الفحش، والفجور، وسب وشتم، وقذف، ولعن، وطلق وسب الدين والمسلمين بل ربما وقع على أمه، أو بنته أو أخته أو على نساء جيرانه أو على بهائمه، وَرُبَّمَا كفر بِاللهِ وارتد عن الإسلام، وترك الصَّلاة، وأفطر في رمضان، وسب القرآن، وبالجملة أن من تعاطى الخمر سقط من شاهق مجده إلى مستوى الخنازير، والقردة يصدق بهَذَا من عاين شارب الخمر وقَدْ استولى عَلَيْهِ الشراب وغطى عقله فتَرَى من يقوده متعب، يجره كما يجر الدابة الحرون بل الدابة تمشي احيانَا هادئة إذا جرت لا تتعب القائد دائمًا، وأما السكران فيميل بقائده هكَذَا وهكَذَا حتى يكلفه متاعب عظيمة، والدابة إذا رأت حفرة امتنعت عَنْهَا وتباعدت عَنْهَا، أما شارب الخمر فتَكُون الحفرة أمامه، ويسقط فيها، والدابة ربما دافعت عن طعامها وشارب الخمر تسلب منه النقود، ولا

يحصل منه أدنى ممانعة، ومعنى هَذَا أن البهيمة أرجح وأحسن حالاً منه وقَدْ قال الخبير بأحوال شراب الخمر: من أراد أن يعرف قدر السكير فلينظر إلى قهقهته، وضحكه، والخمار يوالي الصفعات على قفاه، ولينظر رقصه أمام البزور، كأنه قرد يرقصه صاحبه، ليضحك من يراه، ولينظره وَهُوَ يجري وراء أمه، أو بنته، ليقضي منها حاجته ومناه، ولينظر وامرأته تكنس ملابسه وتمسحها من الأوساخ التي يقذفها على ثيابه، والقاذورات، هَذَا قدر شارب الخمر عندنا، أما عَنْدَ الله عَزَّ وَجَلَّ فهو كعابد وثن ملعون نسأل الله جَلَّ وَعَلا أن يعصمنا وإخواننا المسلمين منها ومن سائر المعاصي وأن يلطف بنا ويوفقنا. شِعْرًا: ... أَتَعْصِي اللهَ وَهُوَ يَرَاكَ جَهْرًا ... وَتَنْسَى فِي غَدٍ حَقًا لِقَاهُ وَتَخْلُوا بِالْمَعَاصِي وَهُوَ دَانٍ ... إليك وَلَسْتَ تَخْشَى مِنْ سُطَاهُ وَتُنْكُرُ فِعْلَهَا وَلَهُ شُهُودٌ ... عَلَى الإِنْسَانِ تُكْتُبُ مَا حَوَاهُ فَوَيْلُ الْعَبْدِ مِنْ صُحْف وَفِيهَا ... مَسَاوِيهِ إِذَا وَافَى مَسَاهُ وَيَا حُزْنَ الْمُسِيءِ لِشُؤْمِ ذَنْبٍ ... وَبَعْدَ الْحُزْنِ يَكْفِيهِ جَوَاهُ وَيَنْدَمُ حَسْرَةً مِنْ بَعْدِ فَوْتٍ ... وَيَبْكِي حَيْثُ لا يُجْدِي بُكَاهُ يَعَضُّ يَدَيْهِ مِنْ أَسَفٍ وَحُزْنٍ ... وَيَنْدَمُ حَسْرَةً مِمَّا دَهَاهُ فَكُنْ بِاللهِ ذَا ثِقَةٍ وَحَاذِرٍ ... هُجُومَ الْمَوْتِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَرَاهُ وَبَادِرْ بِالْمَتَابِ وَأَنْتَ حَيٌّ ... لَعَلَّكَ أَنْ تَنَالَ بِهِ رِضَاهُ وَتَقْفُ الْمُصْطَفَى خَيْرَ الْبَرَايَا ... رَسُولاً قَدْ حَبَاهُ وَاجْتَبَاهُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُهَيْمِنِ كُلِّ وَقْتٍ ... سَلامٌ عَطَّرَ الدُّنْيَا شَذَاهُ اللَّهُمَّ يا عَظِيم العفو يا واسع المغفرة يا قريب الرحمة، يا ذا الجلال والإكرام اللَّهُمَّ أذقنا عفوك وغفرانك واسلك بنا طَرِيق مرضاتك. وعاملنا بلطفك وإحسانك واقطع عنا ما يبعد عن طَاعَتكَ اللَّهُمَّ وثَبِّتْ محبتك في

موعظة في التحذير عن الخمر وبين ما ينشأ عن شربها

قلوبنا وقوها ويسر لنا ما يسرته لأوليائك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينِ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. فَصْلٌ: واعْلَمْ أن الخمر نجسة يغسل ما أصابته من بدن أو ثوب أو إناء ويصب على ما أصابته من الأَرْض ماء كنجاسة البول لما في حديث أبي ثعلبة الخشني أنه قال: يَا رَسُولَ اللهِ أَنَا بأرض قوم أَهْل كتاب يأكلون الخنزير ويشربون الخمر أفنأكل في آنيتهم قال: «لا، إِلا أن تجدوا غيرها، فاغسلوها ثُمَّ كلوا فيها» . ولا يجوز التداوي بالخمر لما في صحيح مسلم عن طارق بن سويد الجعفي انه سال النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها فَقَالَ: أصنعها للدواء فَقَالَ: «إنه لَيْسَ بدواءٍ ولكنه داء» . وروى أبو داود في سننه من حديث أبي الدرداء قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «إن الله انزل الداء والدواء وجعل لكل داءٍ دواء، فتداووا ولا تتداووا بالمحرم» . وذكر البخاري في صحيحه عن ابن مسعود أن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم وفي السُّنَن عن أَبِي هُرَيْرَةِ قال: نهى رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم عن الدواء الخبيث. وفي السُّنَن انه صلى الله عَلَيْهِ وسلم سئل عن الخمر يجعل في الدواء؟ فَقَالَ: «إنها داء ولَيْسَ بالدواء» . رواه أبو داود والترمذي، ويذكر عَنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وسلم أنه قال: «من تداوى بالخمر فلا شفاه الله» . وقَدْ نبه ابن القيم رجمه الله على جانب نفسي هام فَقَالَ: وها هنا سر لطيف في كون المحرمَاتَ لا يستشفى بها فإن شرط الشفاء بالدواء تلقيه بالقبول واعتقاد منفعته وما جعل الله فيه من بركة الشفاء فإن

النافع وهو المبارك وأنفع الأَشْيَاءِ أبركها والمبارك من النَّاس هُوَ الَّذِي ينتفع به حيث حل ومعلوم أن اعتقاد المسلم تحريم هذه العين مِمَّا يحول بينه وبين اعتقاد بركتها ومنفعتها وبين حسن ظنه بها وتلقي طبعه لها بالقبول بل كُلَّما كَانَ الْعَبْد أعظم إيمانَا كَانَ أكره لها وأسوأ اعتقادًا فيها وطبعه أكره شَيْء لها فإذا تناولها في هذه الحال كانت داءٌ لا دواءً إِلا أن يزول اعتقاد الخبث فيها وسوء الظن والكراهة بالمحبة وهَذَا ينافي الإِيمَان فلا يتناولها المُؤْمِن قط إِلا على وجه أنها داء. انتهى. ومن ذَلِكَ تلك المواد التي تعرف باسم المخدرات مثل الحشيش، والكوكايين، والأفيون ونحوها مِمَّا عرف أثرها عَنْدَ متعاطيها أنها تؤثر في العقل فيرى الْبَعِيد قريبًا وبالعكس القريب بعيدًا ويذهل عن الواقع ويتخيل ما لَيْسَ بواقع ويسبح في بحر من الأوهام والأحلام وهَذَا ما يريد متعاطيها لأجل أن يذهلوا أنفسهم وينسوا دينهم ودنياهم ويهيموا في أودية الخيال. وهَذَا غير ما تحدثه من فتور في الجسم وخدر في الأعصاب وهبوط في الصحة وفوق ذَلِكَ ما تحدثه من خور في النفس وتحلل الإرادة وتمييع للخلق وتضعيف للشعور بالواجب مِمَّا يجعل هؤلاء التعساء المدمنين لها أعضاء مضرة بالمجتمَعَ فضلاً عما وراء ذَلِكَ من إتلاف الأموال وخراب البيوت. وَقَالَ شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه ما خلاصته: إن هذه الحشيشة الملعونة هِيَ وآكلوها ومستحلوها الموجبة لسخط الله ورسوله وسخط عباده الْمُؤْمِنِين المعرضة صاحبها لعقوبة الله تشتمل على ضررٍ في دين

ذكر بعض مفاسد الخمر وأضرارها وشؤمها ولؤمها وقبحها

المرء وعقله وخلقه وطبعه وتفسد الأمزجة حتى جعلت خلقًا كثيرًا مجانين، وتورث من مهانة آكلها ودناءة نَفْسهُ وغير ذَلِكَ. فضررها من بعض الوجوه أعظم من الخمر ولهَذَا قال الْفُقَهَاء: إنه يجب فيها الحد كما يجب في الخمر، والسكر منها حرام باتفاق المسلمين. ومن استحل ذَلِكَ وزعم أنه حلال فإنه يستتاب فإن تاب وإِلا قتل مرتدًا لا يصلى عَلَيْهِ ولا يدفن في مقابر المسلمين. إِلَى كَمْ ذَا التَّمَادِي بِالدَّسَائِسْ ... وَأَنْتَ بِحَمْأَةِ الْبُهْتَانِ غَاطِسْ تُسَاعِدُ كُلَّ نَمَّامٍ بِإِفْكٍ ... وَتَغْتَالُ الأَكَارِمَ وَالأَوَانِسْ تُسَابِقُ كُلَّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ... بِمَا تُبْدِيهِ مِنْ فِتَنِ الْوَسَاوِسْ أَضَعْتَ الْعُمْرَ فِي زُورٍ وَوِزْرٍ ... وَلَهْوٍ مَعَ ذَوِي الْغَدْرِ الأَبَالِسْ فَعَجِّلْ بِالْمَتَابِ لِنَيْلِ عَفْوٍ ... لِتُحْبَى مِنْ جَنَا مَا أَنْتَ غَارِسْ وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين. فصل في بعض مضار الخمر ونسوق إليك نموذجًا من مضار الخمر مِمَّا ذكره الْعُلَمَاء والأطباء: 1- أنها فساد في الدين. 2- أنها فساد في الأَخْلاق. 3- أنها فساد في العقل. 4- أنها فساد في الجسم تحطم قوته وتهدم بنيته وتسقم الجسد. 5- أنها فساد في الذرية.

6- أنها جناية على الشرف. 7- أن الخمر رجس من عمل الشيطان. 8- أنها نجسة، تنجس ما اتصلت به. 9- أنها تورث الذل والمهانة. 10- أن ضررها متعدٍ. 11- أنها تضر اقتصاديًا. 12- ما فيها من الضَّرَر الاجتماعي. 13- أن الجهاز الهضمي يصاب بالنزلة المعوية الحادة فيحصل فساد في الهضم وخمود في المعدة والتهاب في الأمعاء واستحالة في منسوج الكبد وتيبس والتهاب وتغير فيه وأخيرًا تفتت الكبد وتتلف وتنتهي حَيَاتهُ. 14- أن الجهاز البولي والتناسلي يحصل فيه تنبه، ينشأ عَنْهُ التهاب الكلى وفساد منسوجها وضعف الانعاظ وضياع محصل النسل. 15- الجهاز العصبي يصاب المخ باضطراب يكون منه الجنون السكري والخوف والخيالات المختلفة كرؤية الهيئات الشنيعة والارتعاش وفقَدْ الإحساس والشلل المحدود الَّذِي يؤول إلى شللٍ عمومي وقَدْ تؤدي الخمر إلى الصراع والتشنج واستحالة المراكز العصبية المخية الشوكية وعلى العموم يحصل في البنية اضطراب تضعف أمامه عن مقاومة المؤثرات الخارجية.

16- أنه يعتري الْقَلْب ضمور والاستحالة الشحمية فينشأ عن ذَلِكَ إبطاء في الدورة الدموية بالرئة تحدث عَنْهُ النزل الشعبية وموت الفجأة. 17- أنه يسبب انسداد في بعض أوعية الرئة وَذَلِكَ ما تعرف أعراضه بالسعال. 18- أنها تعرقل هضم الطعام فينشأ عن ذَلِكَ التخم والحموضة في المعدة والقيء. 19- تضعف المناعة وتخدر الكرات الدموية البيضاء التي يجعلها الله حارسة لجسم الإِنْسَان. 20- التعريض لفجأة ذهاب البصر. 21- مبادرة انقطاع شهوة الجماع وسرعة وقوف النسل. 22- أن أكثر حوادث السيارات من شراب الخمر والمخدرات وبالحَقِيقَة أن الشيطان يصد الشارب عن ذكر الله وعن الصَّلاة ويوقعه في معصية الله وسخطه ويعرضه لخزي الدُّنْيَا وعذاب الآخِرَة يرتكب الكبائر ويقترف الجرائم والآثام ويخبط في الحرام، ويتجنب ما وجب عَلَيْهِ من الأحكام، فيفعل نكرًا وينطق بالعظائم من القول والزور ويسب ربه وأمه وأباه ويطلق ويزني ويلوط ويعبث بالأعراض والكرامَاتَ ويتلف أثاثه وأمواله ويوسخ ثيابه ويبول على نَفْسهُ ويبكي بلا سبب ويضحك من غير عجب فتهزأ به الصبيان ويعبث به الفساق ويسخر به السفهاء ويمقته العقلاء ويبغضه أهله للخطر المتوقع منه في سكره ليلاً ونهارً ويمقته

جيرانه ولا يأمنون من وثباته إذا سكر ولا شك إن فتك أن الخبائث الخمر أشد من فتك الطاعون والحرب والمجاعات والعاهات لإن ضرر الخمر اقتصادي وصحي ونفسي واجتماعي وأخلاقي. فشاربها عضو مسموم في جسم أمته ومواطنيه إن لم يعالج أو يسِوَى له عملية ويقطع سرى سمه وداؤه الفتاك إلى سائر الأعضاء وأثر على الجسم كله. وقيل لعدي بن حَاتِم: مالك لا تشرب الخمر؟ فَقَالَ: ما أحب أن أصبح حكيم قومي وأمسي سفيههم وكَانَ بعض الملوك يجمَعَ أفاضل دولته ويلقي عَلَيْهمْ أسئلة علمية يتعرف بها فضلهم فيومًا حضر هَذَا المجلس رجل رث الهيئة فكَانَ إذا انتهى الْعُلَمَاء من إجابتهم تكلم بما لم يحم حوله واحد مِنْهُمْ وكَانَ ذَلِكَ حاله في كُلّ سؤال ولما انصرف الْعُلَمَاء أراد أن ينصرف هُوَ أيضًا فأشار إليه الملك أن لا ينصرف فَلَمَّا خليا أدناه الملك ثُمَّ أدناه حتى أجلسه إلى جنبه ثُمَّ عرض عَلَيْهِ كأسًا من الخمر فاستعفى فألح عَلَيْهِ أن يشربها فاستعفى وأخبره أنه لا يريدها ثُمَّ قال للملك: إني الآن في مجلس يحسدني عَلَيْهِ النَّاس جميعًا وَهُوَ إحسان ومكَانَ عَظِيم لم يوصلني إليه إِلا عقلي فلا أسيء إلى عقلي أبدًا باحتساء كأس من الخمر يقضي عَلَيْهِ فازداد إعجاب الملك به وازداد فضلاً عنده على فضله ولعله كَانَ يختبره بذَلِكَ. وختامًا فإن الفلاح مرجو حصوله باجتنابها قال عز من قائل: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . نسأل الله أن يوقظ ولاتنا فيأخذوا على أيدي السفهاء منا ويزيل ما حدث من هذه المنكرات، وأن يوقفنا وَجَمِيع المسلمين لطاعته، ويتوفانا

نظم يتضمن ذم الخمر والتحذير عنها وحدها وحكمها

مسلمين، ويلحقنا بعباده الصالحين، وَيَغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينِ وَيَرْحَمْنَا بِرَحْمَتِهِ أنَّهُ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فصل في التحذير عن المسكرات) وَإِيَّاكَ شُرْبًا لِلْخُمُورِ فَإِنَّهَا تُسَوَّدُ وَجْهَ الْعَبْدِ فِي اليوْمِ مَعْ غَدِ أَلا إِنْ شُرْبَ الْخَمْرِ ذَنْبٌ مُعَظَّمٌ يُزِيلُ صِفَاتِ الآدَمِي الْمُسَدَّدِ فَيَلْحَقُ بِالأَنْعَامِ بَلْ هُوَ دُونَهَا يُخَلِّطُ فِي أَفْعَاله غَيْرَ مُهَْدِ وَيَسْخَرُ مِنْهُ كُلُّ رَاءٍ لِسُوءِ مَا يُعَايِنُ مِنْ تَخْلِيطِهِ وَالتَّبَدُدِ يُزِيلُ الْحَيَا عَنْهُ وَيَذْهَبُ بِالْغِنَا وَيُوقِعُ فِي الْفَحْشَا وَقَتْلِ الْمُعَرْبَدِ وَكُلُّ صِفَاتِ الذَّمِ فِيهَا تَجَمَّعَتْ كَذَا سُمِّيتَ أُمَّ الْفُجُورِ فَاسْنِدِ فَكَمْ آيَةٍ تُنْبِي بِتَحْرِيمِهَا لِمَنْ فَكَمْ آيَةٍ تُنْبِي بِتَحْرِيمِهَا لِمَنْ وَقَدْ لَعَنَ الْمُخْتَارُ فِي الْخَمْرِ تِسْعَةً رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ خَيْرِ مُرْشِدِ وَأَقْسَمَ رَبُّ الْعَرْشِ أَنْ لَيُعَذِّبَنْ عَلَيْهَا رَوَاهُ أَحْمَدٌ عَنْ مُحَمَّدِ وَمَا قَدْ أَتَى فِي حَظْرِهَا بَالِغٌ إِذَا تَأَمَلْتَهُ حَدَّ التَّوَاتُرِ فَاهْتَدِ ... ›?

موعظة وبيان مفاتح سعادة الإنسان ويليها قصيدة زهدية

.. وَاجْمَعْ عَلَى تَحْرِيمِهَا النَّاسُ كُلُّهُمْ فَكَفِرْ مُبِيحِيهَا وَفِي النَّارِ خَلِّدِ وَإِدْمَانِهَا إِحْدَى الْكَبَائِرِ فَاجْتَنِبْ لَعَلَّكَ تُحْظَى بِالْفَلاحِ وَتَهْتَدِي وَيَحْرُمُ مِنْهَا النَّزْرُ مِثْلَ كَثِيرِهَا ولَيْسَتْ دَاوَءً بِلْ هِيَ الدَّاءُ فَابْعِدِ فَمَا جَعَلَ اللهُ الْعَظِيمَ دَوَاءَنَا بِمَا هُوَ مَحْظُورٌ بِمِلَّةِ أَحْمَدِ وَكُلُّ شَرَابٍ إِنْ تَكَاثَرَ مُسْكِرٌ يُحَرَّمُ مِنْهُ النَّزْرُ بِالْخَمْرِ فَاعْدِدِ وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ يَحْرُمُ مُطْلَقًا وَلَوْ كَانَ مَطْبُوخًا بِغَيْرِ تَقَيُّدِ فَسِيَّانَ مِنْ بُرٍّ وَمِنْ ذُرَةٍ وَمِنْ شَعِيرٍ وَتَمْرٍ أَيْ وَكُلِّ مُعَوَّدِ سِوَى لِظَمَا الْمُضْطَّرِ إِنْ مُزِجَتْ بِمَا يُرَوِّي وَلِلْمُغْتَصِّ إجْمَاعًا ازْرُدِ ثَمَانِينَ فَاجْلِدْ مُسْلِمًا شَارِبًا رِضَى عَلَيْهَا بِاسْكَارِ الْكَثِيرِ الْمُزَبِّدِ وَمَنْ مَاتَ فِي حَدٍّ بِغَيْرِ تَزَيُّدٍ فَلا غُرْمَ فِيهِ وَلْيُغَسَّلْ وَيُلْحَدِ ... ›? موعظة عباد الله إن مفتاح سعادة المرء في دنياه وأخراه أن يراقب مولاه

بحيث يكون في كُلّ حال من أحواله مستحضرًا عظمة ربه وجلاله ولا ينساه مؤمنًا بأنه تَعَالَى يراه أينما كَانَ ويعلم سره ونجواه فمن كَانَ هكَذَا أورثه ذَلِكَ خشية ربه في سره وعلانيته، فإذا خاف الإِنْسَان ربه خوفًا صحيحًا وقف ولا بد عِنْدَمَا حد له من حدود يفعل أوامره ويجتنب نواهيه لا يحمله على ذَلِكَ إِلا إجلاله لربه، ومن أبعد الْعَبْد أن يقرب المعصية من كَانَ هكَذَا، لأنه يستحضر أن الله تَعَالَى يراه، ويوقن أن الله تَعَالَى يجازيه على كُلّ ما قدم من طاعة أو معصية فإذا وصل الْعَبْد إلى هذه الحالة كَانَ مَعَ توفيق الله له من صفوة خلق الله المتقين الَّذِينَ لله تَعَالَى بِهُمْ عناية فوق ما يتصوره المتصورون هُوَ أنه تَعَالَى أخبره عن مبلغ هذه العناية في اْلكِتَاب المبين أخبر تَعَالَى أنه معهم لما هم عَلَيْهِ مِمَّا وفقهم له من تقوى وإحسان، وإذا كَانَ الأَمْر هكَذَا. فمن يغلب التقي ومعه القاهر الغلاب ومن يذله ومعه من بيده ناصية كل مخلوق ومن يحوجه ومعه من كُلّ العوالم تتقلب في بحبوحة جوده وكرمه الباهر، ومن يشقيه ومعه من لا سعادة إِلا وهي من فيض كرمه وإحسانه. فعَلَيْكَ بلزوم تقوى الله وطاعته تنل السعادة في الدُّنْيَا والآخِرَة، قال صل الله عَلَيْهِ وسلم: «أفضل الإِيمَان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت» . رواه الطبراني وصلى الله على نبينا مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين. شِعْرًا: قصيدة وعظية زهدية ألق لها سمعك ... أَعَارَتْكَ دُنْيًا مُسْتَرَدٌّ مُعَارُهَا ... غَضَارَةَ عَيْشٍ سَوْفَ يَذْوِي اخْضِرَارُهَا وَهَلْ يَتَمَنَّى الْمُحْكَمُ الرَّأْي عِيشَةً ... وَقَدْ حَانَ مِنْ دُهْمِ الْمَنَايَا مَزَارُهَا وَكَيْفَ تَلَذُّ الْعَيْنُ هَجْعَةَ سَاعَةٍ ... وَقَدْ طَالَ فِيمَا عَايَنَتْهُ اعْتِبَارُهَا وَكَيْفَ تَقِرُّ النَّفْسُ فِي دَارِ نُقْلَةٍ ... قَدْ اسْتَيْقَنَتْ أَنْ لَيْسَ فِيهَا قَرَارُهَا

وَإِنِّي لَهَا فِي الأَرْضِ خَاطِرُ فِكْرَةٌ ... وَلَمْ تَدْرِ بَعْدَ الْمَوْتِ أَيْنَ مَحَارُهَا أليس لَهَا فِي السَّعْيِ لِلْفَوْزِ شَاغِلٌ ... أَمَا فِي تَوَقِّيهَا الْعَذَابَ ازْدِجَارُهَا فَخَابَتْ نُفُوسُ قَادَهَا لَهْو سَاعَةٍ ... إِلَى حَرِّ نَارٍ لَيْسَ يَطْفَى أَوَارُهَا لَهَا سَائِقٌ حَادِ حَثِيثٌ مُبَادِرٌ ... إِلَى غَيْرِ مَا أَضْحَى إليه مَدَارُهَا تُرَادُ لأَمْرٍ وَهِيَ تَطْلُبُ غَيْرَهُ ... وَتَقْصِدْ وَجْهًا فِي سِوَاهُ سِفَارُهَا أَمُسْرِعَةٌ فِيمَا يَسُوءُ قِيَامُهَا ... وَقَدْ أَيْقَنَتْ أَنَّ الْعَذَابَ قُصَارُهَا تُعَطَّلُ مَفْرُوضًا وَتَعْنَى بِفَضْلَةٍ ... لَقَدْ شَفَّهَا طُغْيَانُهَا وَاغْتِرَارُهَا إِلَى مَا لَهَا مِنْهُ الْبَلاءَ سُكُونُهَا ... وَعَمَّا لَهَا مِنْهُ النَّجَاحُ نِفَارُهَا وَتُعْرِضُ عَنْ رَبٍّ دَعَاهَا لِرُشْدِهَا ... وَتَتَبعُ دُنْيًا جَدَّ عَنْهَا فِرَارُهَا فَيَا أَيُّهَا الْمَغْرُورُ بَادِرْ بِرَجْعَةٍ ... فَلِلَّهِ دَارٌ لَيْسَ تَخْمُدُ نَارُهَا وَلا تَتَخَيَّرْ فَانِيًا دُونَ خَالِدٍ ... دَلِيلٌ عَلَى مَحْضِ الْعُقُولِ اخْتِيَارُهَا أَتَعْلَمْ أَنَّ الْحَقَّ فِيمَا تَرَكْتَهُ ... وَتَسْلُكُ سُبْلاً لَيْسَ يَخْفَى عَوَارُهَا وَتَتْرُكَ بَيْضَاءَ الْمَنَاهِجَ ضِلَّةً ... لِبَهْمَاءَ يُؤْذِي الرِّجْلَ فِيهَا عُثَارُهَا تُسَرُّ بِلَهْوٍ مُعْقِبٍ بِنَدَامَةٍ ... إِذَا مَا انْقَضَى لا يَنْقَضِي مُسْتَثَارُهَا وَتَفْنَى اللَّيَالي وَالْمَسَرَّاتُ كُلَّهَا ... وَتَبْقَى تِبَاعَاتُ الذُّنُوبِ وَعَارُهَا فَهَلْ أَنْتَ يَا مَغْبُونُ مُسْتَيْقِظٌ فَقَدْ ... تَبَيَّنَ مِن سِرِّ الْخُطُوبَ اسْتِتَارُهَا فَعَجِّلْ إِلَى رِضْوَانِ رَبِّكَ وَاجْتَنِبْ ... نَوَاهِيَهُ إِذْ قَدْ تَجَلَّى مَنَارُهَا تَجِدُّ مُرُورُ الدَّهْرِ عَنْكَ بِلاعِبِ ... وَتُغْرِي بِدُنْيَا سَاءَ فِيكَ سَرَارُهَا فَكَمْ أُمَّةٍ قَدْ غَرَّهَا الدَّهْرُ قَبْلَنَا ... وَهَاتِيكَ مِنْهَا مُقْفِرَاتٌ دِيَارُهَا تَذَكَّرْ عَلَى مَا قَدْ مَضَى وَاعْتَبِرْ بِهِ ... فَإِنَّ الْمُذَكِّي لِلْعُقُولِ اعْتِبَارُهَا تَحَامَى ذُرَاهَا كُلَّ بَاغٍ وَطَالِبٍ ... وَكَانَ ضَمَانًا فِي الأَعَادِي انْتِصَارُهَا تَوَافَتْ بِبَطْنِ الأَرْضِ وَأَنْشَتَّ شَمْلُهَا ... وَعَادَ إِلَى ذِي مُلكةِ مُسْتَعَارُهَا وَكَمْ رَاقِدٍ فِي غَفْلَةٍ عَنْ مَنِيَّةٍ ... مُشَمِّرَةٍ فِي الْقَصْدِ وَهُوَ سِعَارُهَا

وَمَظْلَمَةٍ قَدْ نَالَهَا مُتَسَلِّطٌ ... مُذِّلٌ بِأَيْدٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ ثَأْرُهَا أَرَاكَ إِذَا حَاوَلْتَ دُنْيَاكَ سَاعِيًا ... عَلَى أَنَّهَا بَادٍ إليك أَزْوُرَارُهَا وَفِي طَاعَةِ الرَّحْمَنِ يُقْعِدُكَ الْوَنَى ... وَتُبْدِي أَنَاةً لا يَصِحُّ اعْتِذَارُهَا تُحَاذِرُ إِخْوَانًا سَتَفْنَى وَتَنْقَضِي ... وَتَنْسَى الَّتِي فَرْضٌ عَلَيْكَ حِذَارُهَا كَأَنِّي أَرَى مِنْكَ التَّبَرَّمَ ظَاهِرًا ... مُبِينًا إِذَا الأَقْدَارِ حُلَّ اضْطِرَارُهَا هُنَاكَ يَقُولُ الْمَرْءُ مَنْ لِي بِأَعْصُرٍ ... مَضَتْ كَانَ مِلْكًا فِي يَدَيَّ خِيَارُهَا تَنَبَّهْ لِيَوْمٍ قَدْ أَظَلَّكَ وِرْدُهُ ... عَصِيبٍ يُوَافِي النَّفْسَ فِيهِ احْتِضَارُهَا تَبَرّأ فِيهِ مِنْكَ كُلُّ مُخَالِطٍ ... وَأَنَّ مِن الآمَالِ فِيهِ انْهِيَارُهَا فَأَوْدَعْتُ فِي ظَلْمَا ضَنْكٍ مَقَرُّهَا ... يَلُوحُ عَلَيْهَا لِلْعُيُونِ اغْبِرَارُهَا تُنَادِي فَلا تَدْرِي الْمُنَادِي مُفْرَدًا ... وَقَدْ حُطَّ عَنْ وَجْهِ الْحَيَاةِ خِمَارُهَا تُنَادَى إِلَى يَوْمٍ شَدِيدٍ مُفَزِّعٍ ... وَسَاعَةِ حَشْرٍ لَيْسَ يَخْفَى اشْتِهَارُهَا إِذَا حُشرتْ فِيهِ الْوُحُوشُ وَجُمِّعَتْ ... صَحَائِفُنَا وَانْثَالَ فِينَا انْتِثَارُهَا وَزُيَّنَتِ الْجَنَّاتِ فِيهِ وَأَزْلَفَتْ ... وَأُذِكيَ مِنْ نَارِ الْجَحِيمِ اسْتِعَارُهَا وَكُوِّرَتِ الشَّمْسُ الْمُنِيرَةِ بِالضُّحَى ... وَأُسْرِعَ مِنْ زَهْرِ النُّجُومِ انْكِدَارُهَا لَقَدْ جَلَّ أَمْرٌ كَانَ مِنْهُ انْتِظَامُهَا ... وَقَدْ عُطِّلَتْ مِنْ مَالِكيْهَا عِشَارُهَا فَإِمَّا لِدَارٍ لَيْسَ يَفْنَى نَعِيمُهَا ... وَأَمَّا لِدَارٍ لا يُفَكُّ إِسَارُهَا بِحَضْرَةِ جَبَّارٍ رَفِيقٍ مُعَاقِبٍ ... فَتُحْصَى الْمَعَاصِي كُبْرُهَا وَصِغَارُهَا وَيَنْدَمُ يَوْمَ الْبَعْثِ جَانِي صِغَارِهَا ... وَتُهْلِكَ أَهْلِيهَا هُنَاكَ كِبَارُهَا سَتُغْبَطُ أَجْسَادٌ وَتَحْيَا نُفُوسُهَا ... إِذَا مَا اسْتَوى أَسْرَارُهَا وَجِهَارُهَا إِذَا حَفُّهُمْ عَفْوُ الإِلَهِ وَفَضْلُهُ ... وَأسْكَنَهُمْ دَارًا حَلالاً عِقَارُهَا يَفزُّ بَنُو الدُّنْيَا بِدُنْيَاهُمْ الَّتِي ... يَظُنُّ عَلَى أَهْلِ الْحُظُوظِ اقْتِصَارُهَا هَيِ الأُمُّ خَيْرُ الْبَرِّ فِيهَا عُقُوقُهَا ... وَلَيْسَ بِغَيْرِ الْبَذْلِ يُحْمَى ذِمَارُهَا

ج فَمَا نَالَ مِنْهَا الْحَظَّ إِلا مُهِينُهَا ... وَمَا الْهُلْكُ إِلا قُرْبُهَا وَاعْتِمَارُهَا تَهَافَتَ فِيهَا طَامِعٌ بَعْدَ طَامِعٍ ... وَقَدْ بَانَ لِلُّبِ الذَّكِيّ اخْتِبَارُهَا تَطَامَنْ لِغَمْرِ الْحَادِثَاتِ وَلا تَكُنْ ... لَهَا ذَا اعْتِمَارٍ يَجْتَنِبْكَ غِمَارُهَا وَإِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ مِنْهَا بِمَا تَرَى ... فَقَدْ صَحَّ فِي الْعَقْلِ الْجَلِيِّ عِيَارُهَا رَأَيْت مُلُوكَ الأَرْضِ يَبْغُونَ عُدَّةً ... وَلَذَّةِ نَفْسٍ يُسْتَطَابُ اجْتِرَارُهَا وَخَلُّوا طَرِيقَ الْقَصْدِ فِي مُبْتَغَاهُمُ ... لِمُتْبِعَةِ الصِّفَارُ جَمٌّ صِغَارُهَا وَإِنَّ الَّتِي يَبْغُونَ نَهْجَ بَقِيَّةٍ ... مَكِين لِطُلابِ الْخَلاصِ اخْتِصَارُهَا هَلْ الْعِزُّ إِلا هِمَّةٌ صَحَّ صَوْنُهَا ... إِذَا صَانَ هَمَّاتُ الرِّجَالِ انْكِسَارُهَا وَهَلْ رَابِحٌ إِلا امْرُؤٌ مُتَوَكِّلٌ ... قُنُوعٌ غَنِيُّ النَّفْسِ بَادٍ وَقَارُهَا وَيَلْقَى وُلاةُ الْمُلْكِ خَوْفًا وَفِكْرَةً ... تَضِيقُ بِهَا ذَرْعًا وَيَفْنَى اصْطِبَارُهَا عَيَانًا نَرَى هَذَا وَلَكِنْ سَكْرَةً ... أَحَاطَتْ بِنَا مَا أَنْ يَفِيقُ خُمَارُهَا تَدَبَّرْ مَن الْبَانِي عَلَى الأَرْضِ سَقْفَهَا ... وَفِي عَلْمِهِ مَعْمُورُهَا وَقِفَارُهَا وَمَنْ يُمْسِكُ الإِجْرَامَ وَالأَرْضَ أَمْرُهُ ... بِلا عَمَدٍ يُبْنَى عَلَيْهِ قَرَارُهَا وَمَنْ قَدَّرَ التَّدْبِيرَ فِيهَا بِحِكْمَةٍ ... فَصَحَّ لَدَيْهَا لَيْلُهَا وَنَهَارُهَا وَمن فَتقَ الأَمْوَاهَ فِي صَفْحِ وَجْهِهَا ... فَمِنْهَا يُغَذَّى حَبُّهَا وَثِمَارُهَا وَمَنْ صَيَّرَ الأَلْوَانَ فِي نُورِ نَبْتِهَا ... فَأَشْرَقَ فِيهَا وَرْدُهَا وَبَهَارُهَا فَمِنْهُنَّ مُخْضَرٌّ يَرُوقُ بِصَيْصُهُ ... وَمِنْهُنَّ مَا يَغْشَى اللِّحَاظَ احْمِرَارُهَا وَمَنْ حَفَرَ الأَنْهَارَ دُونَ تَكلُّفٍ ... فَثَارَ مِنَ الصُّمِّ الصِّلابِ انْفِجَارُهَا وَمَنْ رَتَّبَ الشَّمْسَ الْمُنِيرَ ابْيِضَاضُهَا ... غُدوًّا وَيَبْدُو بِالْعَشِيّ اصْفِرَارُهَا وَمَنْ خَلَقَ الأَفَلاكَ فَامْتَدَّ جَرْيُهَا ... وَأَحْكَمَهَا حَتَّى اسْتَقَامَ مَدَارُهَا وَمَنْ إِنْ أَلمتْ بِالْعُقُولِ رَزِيَّةٌ ... فَلَيْسَ إِلَى حَيٍّ سِوَاهُ افْتِقَارُهَا تَجِدْ كُلَّ هَذَا رَاجِعٌ نَحْوَ خَالِقٍ ... لَهُ مُلْكُهَا مُنْقَادَةً وَائْتِمَارُهَا

في تحريم حلق اللحية وقصها ونتفها وإنه تشبه بالكفار

أَبَانَ لَنَا الآيَاتِ فِي أَنْبِيَائِهِ ... فَأَمْكَنَ بَعْدَ الْعَجْزِ فِيهَا اقْتِدَارُهَا فَأَنْطَقَ أَفْوَاهًا بِأَلْفَاظِ حِكْمَةٍٍ ... وَمَا حَلَّهَا إِثْغَارُهَا وَاتِّغَارُهَا وَأَبْرِزَ مِنْ صُمٍّ الْحِجَارَةِ نَاقَةً ... وَأَسْمَعُهُمْ فِي الْحِينِ مِنْهَا حُوَارُهَا لِيُوقِنَ أَقْوَامٌ وَتَكَفُّرِ عُصْبَةً ... أَتَاهَا بِأَسْبَابِ الْهَلاكِ قدَارُهَا وَشَقَّ لِمُوَسَى الْبَحْرَ دُونَ تَكَلُّفُ ... وَبَانَ مِنَ الأَمْوَاجِ فِيهِ انْحِسَارُهَا وَسَلَّمَ مِنْ نَارِ الأَنُوقَ خَلِيلَهُ ... فَلَمْ يُؤْذِهِ إِحْرَاقُهَا وَاعْتِرَارُهَا وَنَجَى مِن الطُّوفَانِ نُوحًا وَقَدْ هَدَّتْ ... بِهِ أُمَّةٌ أَبدَى الْفُسُوقَ شِرَارُهَا وَمَكَّنَ دَاوُدًا بِأَيْدٍ وَابْنَهُ ... فَتَعْسِيرُهَا مُلْقَىً لَهُ وَبِدَارِهَا وَذِلَّلِ جَبَّارَ الْبِلادِ بِأَمْرِهِ ... وَعَلَّمَ طَيْرًا فِي السَّمَاءِ حِوَارُهَا وَفَضَّلَ بِالْقُرْآنِ أُمَّةَ أَحْمَدٍ ... وَمَكَّنَ فِي أَقْصَى الْبِلادِ مُغَارُهَا وَشَقَّ لَهُ بَدْرَ السَّمَاءِ وَخَصَّهُ ... بِآيَاتٍ حَقٍّ لا يُخَلُّ مُعَارُهَا وَأَنْقَذَنَا مِنْ كُفْرٍ أَرْبَابِنَا بِهِ ... وَقَدْ كَانَ عَلَى قُطْبِ الْهَلاكِ مَنَارُهَا فَمَا بَالُنَا لا نَتْرُكُ الْجَهْلَ وَيْحَنَا ... لِنُسْلَمُ مِنْ نَارٍ تَرَامَى شَرَارُهَا اللَّهُمَّ تب عَلَيْنَا قبل أن تشهد عَلَيْنَا الجوارح ونبهنا من رقدات الغفلات وسامحنا فأَنْتَ الحليم المسامح وانفعنا بما علمتنا وعلمنا ما ينفعنا فمنك الفضل والمنائح وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينِ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. فَصْلٌ في تَحْرِيمِ حَلْقِ اللِّحْيَةِ ومِمَّا يتأكد اجتنابه والبعد عَنْهُ، والتحذير منه في رمضان وفي غيره حلق اللحية وقصها ونتفها لما يأتي من الآيات وَالأَحَادِيث.

.. قال الله تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} قال البغوي رَحِمَهُ اللهُ قيل: الرِّجَال باللحى، والنساء بالذوائب، وَقَالَ الله تَعَالَى: {وَأَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ} ، وَقَالَ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} ، وَقَالَ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} وقَدْ رأى النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم على عَبْد اللهِ بن عمرو ثوبين معصفرين فَقَالَ له: «إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها» . رواه مسلم , فالعاقل المتدين البصير الورع يبعد كُلّ البعد عن تقليدهم والتشبه بِهُمْ، والدنو إلى مستواهم المنحط الشاذ وإليك ما ورد في التحذير عن التشبه بِهُمْ، والأَمْر بمخالفتهم لتَكُون على بصيرة من ذَلِكَ وتفهم الأدلة وتنصح من رأيته يقلدهم ويتشبه بِهُمْ وتبين له أنه قَدْ أمر صلى الله عَلَيْهِ وسلم بإعفاء اللحية ومخالفة المشركين فعن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس» . رواه أَحَمَد ومسلم. وعن ابن عمر عن النَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «خالفوا المشركين وفروا اللحى، وأحفوا الشوارب» . متفق عَلَيْهِ. وروى الإمام أَحَمَد عن أَبِي هُرَيْرَةِ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «أعفوا اللحى وجزوا الشوارب، ولا تشبهوا باليهود والنَّصَارَى» . وللبزار: «لا تشبهوا بالأعاجم، أعفوا اللحى» . وروى عن ابن عمر قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «من تشبه بقوم فهو مِنْهُمْ» . رواه أَحَمَد وَأَبُو دَاود.

الأدلة على تحريم حلق اللحية وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يعفونها

وَقَالَ أيضًا: «إن اليهود والنَّصَارَى لا يصبغون فخالفوهم» . رواه البخاري ومسلم. وعن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «لَيْسَ منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا النَّصَارَى» . وروي عن ابن عمر: «من تشبه بِهُمْ حتى يموت حشر معهم» . وفي كتاب عُمَر بن الْخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إلى عتبة بن فرقَدْ: وَإِيَّاكَ وزي أَهْل الشرك. رواه البخاري ومسلم. قال ابن عقيل رحمه الله: النهي عن التشبه بالعجم للتحريم. وَقَالَ شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية رَحِمَهُ اللهُ: التشبه بالكفار منهي عَنْهُ بالإجماع. وَقَالَ على حديث ابن عمر: من تشبه بقوم فهو مِنْهُمْ. وقَدْ احتج الإمام أَحَمَد وغيره بهَذَا الْحَدِيث قال: وهَذَا أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بِهُمْ، وإن كَانَ ظاهره يقتضي كفر المتشبه بِهُمْ كما في قوله تَعَالَى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} . انتهى. وقَدْ جَاءَ في حديث رواه ابن إسحاق وابن جرير أنه صلى الله عَلَيْهِ وسلم قال: «إن الله أمرني بإعفاء لحيتي وقص شارَبِّي» . ومن الأدلة على تحريم حلق اللحية قوله صلى الله عَلَيْهِ وسلم: «من رغب عن سنتي فلَيْسَ مني» . ومن سنته صلى الله عَلَيْهِ وسلم

إعفاء اللحية. وروى الإمام أَحَمَد في زوائد المسند بأسانيد جيدة عن علي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: كَانَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم عَظِيم اللحية، وهَذَا يدل على أنه كَانَ يعفيها، ولا يأخذ منها شَيْئًا. وروى مسلم عن جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: كَانَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم كثير اللحية وعن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: لحيته قَدْ ملأت من ها هنا وأمر يده على عارضه. وعن عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وسلم كث اللحية، تملأ عارضيه. وقال أبو معمر: قلنا لخباب ابن الأرت أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر؟ قال: نعم، فقلنا له: بم كنتم تعرفون قراءته؟ قال: باضطراب لحيته. رواه البخاري. وسئل ابن عمر رضي الله عنهما: كيف كنتم تعرفون قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السرية؟ قال: باضطراب لحيته. وعن عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته. رواه ابن ماجة والترمذي وصححه، فهذا يدل على عظمها وطولها وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ كفًا من ماء فأدخله تحت حنكه، فخلل به لحيته، وقال: «هكذا أمرني ربي» . رواه أبو داود. وعن عمرو بن شعيب رضي الله عنه عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تنتفوا الشيب فإنه نور المسلم ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كتب الله له بها حسنة ورفع له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة» . رواه أحمد وأبو داود.

قال بعض العلماء: حلق اللحية صفة المخنثين من الرجال، في اللحية خصال نافعة

وَالذي يَحْلِقُها قََدْ كَرهَ الشَّعْرَ الأسْوَدَ، فَضْلاً عنْ الأَبيضِ الذِي هُوَ نورُ المَسلِم، وقد أخْرَجَ مُسْلِمُ في الصَّحيْحِ مِن حَديْثِ قتادة عن أنسِ بن مالكٍ قالَ: كنّا نكرَهُ أنْ يَنِتفَ الرَّجُلُ الشَّعْرَةَ البَيْضاءَ مِن رأسِه ولِحْيَتِه. وكانَ أبُو بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه كَثَّ اللحْيَةِ، وكَانَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رَقيْقَ اللَّحْيةِ، وَكانَ عليُّ عَرْيضَ اللحية، وَقَدْ مَلأتْ مَا بَيْنْ مَنْكِبَيْهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقدْ قالَ صَلَّى اللهُ عَلْيهِ وسَلم: «عَلْيكُم بسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيَّينَ منْ بَعْدِيْ، عضُّوا عَليْهَا بالنَّواجِذِ، وَإيَّاكُمْ وَمُحْدثَاتُ الأمُورِ، فَإنَّ كُلَّ مُحْدَثةٍ بَدْعة» . الخ ومن الأدلة على تحريم حلق اللحية - مع ما تقدم، وأنه تشبه بأعداء الله اليهود والنصارى - أنه أيضًا تشبه بالنساء. وبالأمرد في عدم الشعر بالوجه، وقد ورد اللعن للمتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال، في عدة أحاديث تقدمت في فصل مفرد لها. وأيضًا فحلق اللحية تغيير لخلق الله وتمثيل بالشعر، وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مثل بالشعر فليس له عند الله خلاق» . رواه الطبراني. قال أهل اللغة: مثل بالشعر: صيرة مُثْلَه، بأن حلقه من الخدود أو نتفه، أو غيره بالسواد. وقد عمت هذه البدعة في زمننا، وانتشرت انتشارًا يؤلم قلب كل

حلق اللحية تشبه بالنساء والمراد والأفرنج وتمثيل بالشعر

مؤمن، فإنه إذا التفت إلى وجوه من حوله من الرجال وجد الأكثر منهم مغيرًا لما جمله الله به، وجعله - لو أبقاه - داعيًا إلى وقاره واحترامه وهيبته، ويندر جدًا أن ترى وجه المتأدب بآداب الشريعة، الذي لا يتعرض للحيته بحلق ولا قص ولا نتف، ولا تسويد الشعر الأبيض، عليه ما زينه الله به من سيما الرجولة والوقار حيث أبقاها، إذ هو بحلقها يزيل جماله الشاهد في بقائها وينفق ماله في حلقها وسيسأل عنه يوم القيامة ويهدم رجولته، ويعدم هيبته ووقاره، ويرضى لنفسه أن يعيش طول حياته متشبهًا بأعداء الإسلام الإفرنج، فإن حلقها علامتهم جميعًا في هذا الزمان كما نشاهد وأما إعفاء اللحية فعلامة المرسلين وأتباعهم وأحبائهم السائرين علي منهاجهم عباد الله الصالحين. نسأل الله أن يوفقنا لسلوك منهاجهم إنه القادر على ذلك. قال ابن القيم: ثم تأمل لم صارت المرأة والرجل إذا أدركا اشتركا في نبات العانة ثم ينفرد الرجل عن المرأة باللحية، فإن الله عز وجل لما جعل الرجل قَيِّمًا على المرأة، وجعلها كالخول والعاني في يديه، ميزة عليها بما فيه له المهابة والعز والوقار والجلالة، لكماله وحاجته إلى ذلك، ومنعتها المرأة، لكمال الاستمتاع بها والتلذذ، لتبقى نضارة وجهها وحسنه لا يَشِينُهُ الشعر. انتهى. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. فصل: وقال في الدر المختار وأما الأخذ منها وهي دون القبضة كما يفعله بعض المغاربة ومخنثة الرجال فلم يبحه أحد اهـ ورد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن أبي ليلى قاضي المدينة شهادة من كان ينتف لحيته والحلق أعظم بكثير، لأنه لا يبقي شيئًا منها

حلق اللحية إذا أزيلت ولم تعد فيه دية كاملة وبعدها قصيدة

وقال أبو شامة وقد حدث قوم يحلقون لحالهم وهو أشد مما نقل عن المجوس من أنهم كانوا يقصونها وقال في التمهيد: ويحرم حلق اللحية ولا يفعله إلا المخنثون من الرجال. أ. هـ. قال بعضهم: أَلا أَيُّهَا الْمَغْرُورُ فِي جَرِ ثَوْبِهِ ... وَجَزٍّ لِبَعْضٍ الرَّأْسِ فِعْلَ الأَسَافِلِ فَمَا الْعِزُّ فِي حَلْقِ اللِّحَا أَوْ خَنَافِسٍ ... وَلا شُرْبِ دَخَّانٍ هَوَتْهُ الأَسَافِلِ وَلَكِنَّهُ بِالْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَالتُّقَى ... وَجُودٍ وَحِلْمٍ وَاقْتِنَاءِ الْفَضَائِلِ آخر: ... لَيْسَ السِّيَادَةُ أَشْنَابًا مُفَتَّلَةً ... وَلا لِحًا أَنْهِكَتْ بِالْمُوسِ وَالنِّيَرِ لَكِنَّهَا بِالتُّقَى وَالزُّهْدِ يَعْرِفُهَا ... مَنْ بِالْفَضَائِلِ مَشْهُورًا لَدَى الْبَشَرِ آخر: ... لَعَمْرُكَ مَا الإِنْسَانُ إِلا ابْنُ دِينِهِ ... فَلا تَتْرُكِ التَّقْوَى اتِّكَالاً عَلَى النَّسَبْ فَقَدْ رَفَعَ الإِسْلامُ سَلْمَانَ فَارِسٍ ... وَقَدْ وَضَعَ الشَّرْكُ الشَّقِيَّ أَبَا لَهَبْ آخر: ... لِكُلِّ شَيْءٍ زِينَةٌ فِي الْوَرَى ... وَزِينَةُ الْمَرْءِ بِتَوْحِيدِهِ قَدْ يُرْفَعُ الْمَرْءُ بِتَوْحِيدِهِ ... فِينَا وَإِنْ كَانَ وَضِيعَ النَّسَبْ ... وفي اللحية خصال نافعة: أولاً: مخالفة المشركين. ثانيًا: تمييز الرجل عن المرأة. ثالثًا: تمييز الرجل عن الصبي وتغطية ما في منبتها من تشوية أو تثن لاسيما في الكبر. رابعًا: تعظيم الرجل الذي يعفيها وتوقيره. خامسًا: أن إعفاءها من سنن المرسلين. سادسًا: أنه ينظر إلى معفيها بعين التعظيم والإجلال والتقدير. سابعًا:

تقديم من يعفيها على الجماعة وتعقيله والسلامة من تضييع قطعة من العمر في حلقها أو قصها ثامنًا: صحة إمامته بالجماعة. تاسعًا إبعاده عن مشابهه النساء والصبيان، واليهود والنصارى والمجوس والمخنثين. ووصف بعض بني تميم من رهط الأحنف بن قيس، قال: وددت أنا اشترينا للأحنف لحية بعشرين ألفًا، فلم يذكر حنفه ولا عوره، وذكر كراهية عدم اللحية، لإن من لا لحية له يرى عند العقلاء ناقصًا، وكان الأحنف عاقلاً حليمًا، يضرب به المثل في الحلم، وذكر عن شريح القاضي، قال: وددت أن لي لحية بعشرة آلاف درهم وأهل زمننا بعضهم يود لو عدمها وساق آلافًا من الورق ولا تفيد معه النصائح مهما أيدت بالآيات والأحاديث، وذكر العلماء أن في اللحية إذا أزيلت بالكلية ولم تعد الدية كاملة، وهؤلاء المجاهرون بهذه المعصية العظيمة، المعاكسون لهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في إبقائها وإكرامها، والمتشبهون باليهود والنصارى في حلقها، يرون الجمال والتمدن بالقضاء على أعظم الفوارق بين الذكر والأنثى وهو اللحية عكس رأي أهل الدين والصلاح، قال الله تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} وأكثر حالقي لحاهم وصل بهم التشبه إلى حد إن أبقوا شواربهم واقفة ليس فيها قصير، وكأنهم بفعلهم هذا يعاندون المصطفى صلى الله عليه وسلم ويعاكسونه، حيث أنه يأمر بإبقاء اللحى وإحفاء الشوارب، وزيادة على هذا يجعلون ما يسمى بالتواليت ويفرقونه ويكدونه، وبعضهم يزيد ويخنفس، فهل هذا التشبه والتتبع لسفاسف الأخلاق إلا من الانتكاس وعمى البصيرة والتقليد الأعمى ولا يفهم أن هذا إزالة

للجمال والرجولة والهيبة والوقار والكمال، نعوذ بالله من الانتكاس وهذا من نتيجة تقليد الأجانب، ولهذا ترى كثيرًا من الناس أهملوا أمر الدين واستهانوا بحقوقه، وعبثوا بواجباته وانتهكوا حرمات الله، ولم يبالوا بارتكاب ما لا يرضاه الله من الشرور والمنكرات والقبائح، سائر كل منهم وراء شهوته وهواه، ونفسه الأمارة بالسوء. قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وقال تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} ويا ليت أنهم قلدوا الأجانب فيما يفيد وينفع من الصناعات. وكل ما يرقي شؤونهم، من الفنون التي تعود إلى مصلحة الإسلام والمسلمين، لكن قلدوهم فيما يضر ولا ينفع، في حلق اللحى وشرب الدخان، ولعب القمار والمسكرات، والربا في البنوك وغيرها، وفي التأمينات، وفي الملاهي بأنواعها، وفي التصوير والتبرج والتهتك واللعب بالكرة، وضياع العمر عند المذياع والتلفزيون والسينماء، وسائر أنواع المحرمات التي قضت على العمر والوقت والمال والأخلاق، فيا للأسف على ذهاب العمر النفيس الذي لا قيمة له ولا خطر، ولا يعادلة جوهر ولا ذهب ولا فضة ولا در ولا مرجان، ولا لؤلؤ ولا عقيان عند الملاهي والمنكرات التي سوف يعضون أيديهم على ضياع الوقت عندها إذا نودوا للوقوف بين يدي العزيز الجبار. اللهم اجعل الإيمان هادمًا للسيئات، كما جعلت الكفر هادمًا للحسنات ووفقنا للأعمال الصالحات، واجعلنا ممن توكل عليك فكفيته، واستهداك فهديته ودعاك فأجبته، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الرحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.

ج شِعْرًا: ... أَعُوذُ بِرَبِّ الْعَرْشِ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ ... وَأَسْأَلُهُ عَفْوًا لِكُلِّ خَطِيئَةٍ وَحِفْظًا لِدِينِي ثُمَّ دُنْيَايَ ثُمَّ مَا أُكِنُّ وَمَا أَبْدِيهِ مَعْ حُسْنِ نِيَّةِ فَأَحْيَا مُحِبًّا لِلنَّبِي وآله وَأَصْحَابِهِ فِي خَيْرِ هَدْيٍ وَسُنَّةِ فَمِنْ هَدْيِ خَيْرِ الْخَلْقِ إِعْفَاءٌ لِحْيَةٍ وَمِنْ هَدْيِهِ يَا صَاحِ لُبْسٌ لِعَمَّةِ وَقَدْ جَاءَ أَقْوَامٌ عَتَاةٌ تَجَاسَرُوا عَلَى هَدْمِ أَعْلامِ الْهُدَى بِوَقَاحَةِ وَيَا لَيْتَهُمْ لمَّا عَنْ الْحَقِّ أُعْرِضُوا بِأَفْعَالِهِمْ مَا عَارَضُوا بِصَرَاحَةِ هُمُ مَثَّلُوا مِنْ جَهْلِهِمْ بِوُجُوهِهِمْ لَقَدْ بَلَغُوا فِي ذَاكَ حَدَّ الشَّنَاعَةِ أَقُولُ لِمَنْ أَمْسَى عَن الدِّينِ نَاكِبًا مُعَانِدًا أَعْلامَ الْهُدَى لِلشَّرِيعَةِ يُجَاهِرُ فِي نُكْرٍ وَيُبْدِي تَشَبُّهًا بِأَعْدَاءِ دِينٍ يَا لَهَا مِنْ خَسَارَةِ يُمَثِّلُ فِي وَجْهٍ بِحَلْقٍ لِلحْيَةِ لَعَمْرِي لَقَدْ سَاوَى لِوَجْهٍ بِعَانَةِ فَأَصْبَحَ مِنْهُ الْوَجْهُ أُسْتًا مَشَوَّهًا لَدَى كُلِّ ذِي عَقْلٍ بِأَقْبَحِ صُورَةِ تَعَوَّدَ هَذَا الْخُلْقَ طَبْعًا لأَنَّهُ يُلائِمُ مَا يَعْتَادُهُ مِنْ خَلاعَةِ ... ›?

اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار واسكنا معهم في دار القرار، اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين. ... أَخِي اسْتَمِعْ مِنِّي هُدِيتَ نَصِيحَةٍ ... بِقَوْلٍ حَرِيٌّ بِالصَّوَابِ وَنَافِعِ أَتَتْ مِنْ أَخِي وِدٍّ شَفِيقٍ عَلَى الَّذِي ... عَن الْكِبْرِ نَاءٍ مَائِلٍ لِلتَّوَاضِعِ إِذَا أَبْصَرْتَ عَيْنَاكَ مَخْلُوقَ لِحْيَةٍ ... مُقَلِّدَ أَهْلِ الْغَرْبِ صُهْبَ الْمَفَارِعِ فَلِلَّهِ فَالْجَأْ حَامِدًا مُتَضَرِّعًا ... وَقُلْ مَا أَتَى عَمَّنْ أَتَى بِالشَّرَائِعِ لَعَلَّكَ أَنْ تَحْيَا سَعِيدًا مُنَابِذًا ... لأَخْلاقِهِمْ تُحْضَى بِأَعْلَى الْمَوَاضِعِ وَتَعْنَى بِأَخْلاقِ النَّبِي وَصَحْبِهِ ... مُعَفِّي اللَّحَا أَهْلِ الْعُلُومِ الْجَوَامِعِ فَكَمْ بَيْنَ مَنْ قَدْ شَابَهوا خَيْرَ مُرْسَلٍ ... بِإِعْفَائِهِمْ أَكْرِمْ بِهِمْ مِنْ مُتَابِعِ وَمَنْ رَدَّ أَمْرَ الْمُصْطَفَى فَاغْتَدَى لَهَا ... بِحَلْقِ لَهَا أَوْ نَتْفِهَا بِالأَصَابِعِ أَوْ الْقَصِّ أَوْ تَحْرِيقَهَا أَوْ بَكِيِّهَا ... يَرَى تَرْكَهَا مِنْ مُعْظَمَاتِ الْفَضَائِعِ يُغَيِّرُ عَلَيْهَا كُلَّ صُبْحٍ بِمَا حَقٍ ... إِذَا مَا بَدَا شَعْرٌ عَلاهُ بِقَاطِعِ كَأَنَّ لَهُ ثَأْرًا عَلَيْهَا مُضَاعَفًا ... فَمَا نَاصِحٍ مُغْنٍ وَلا شَفْعُ شَافِعِ مُهَدَّةْ فِي كُلِّ صُبْحٍ وَرَوْحَةٍ ... فَمَا أَمْنُهَا إِلا بِجِلْدٍ مُمَانِعِ إِذَا قُلْتُ لَمْ تَعْصِ النَّبِي مُحَمَّدًا ... فَتَحْلِقُهَا حَلْقَ الْعَنِيدِ الْمُدَافِعِ أَمَا أَوْجَبَ الرَّحْمَنُ طَاعَةَ أَحْمَدٍ ... عَلَيْنَا وَعِصْيَانَ الْعَدُوِّ الْمُقَاطِعِ أَمَا قَالَ أَرْخُوا لِلِّحَاءِ وَوَفِّرُوا ... فَوَفَّرْ تَكُنْ لِلْمُصْطَفَى بِمُتَابِعِ فَاطْرَقَ حَتَّى أَنْ ظَنَنْتَ بِأَنَّهُ ... سَيَرْجِعُ عَنْ إِتْلافِهَا بِمُسَارِعِ وَيَنْدَمُ عَمَّا قَدْ مَضَى مِنْهُ أَوَّلاً ... وَيَعْزِمُ فِي جِدَّ مِنَ الْجَزْمِ قَاطِعِ فَقَالَ بِمَا قَالَ الْكَثِيرُ مُعَانِدًا ... أَلَسْتَ تَرَى غَيْرِي فَلَسْتَ بِسَامِعِ فَقُلْتُ أليس الأَكْثَرُونَ عَن الْهُدَى ... تَوَلَّوْا فَضَلُّوا فِي وَخِيمِ الْبَلاقِعِ

موعظة بليغة

وَفِي تَافِهَةَ الأَشْيَاءِ لِلضِّدِّ قَلَّدُوا ... وَفِي الدِّينِ وَالأَخْلاقِ صُفْرُ الْبَضَائِعِ فَيَا بُعْدَ مَا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ عِنْدَمَا ... تُقَارِنُ فِي عَدْلٍ عَن الْجُورِ شَاسِعِ وَأَخْتمُ قَوْلِي حَوْلَ مَا قُلْتُ أَوَّلاً ... فَمَا فِي يَدِي حَوْلٌ وَلَسْتُ بِدَافِعِ سَلامٌ عَلَى مُعْفِي اللِّحَا كُلَّ مَا بَدَا ... لَنَا شَعْرُهَا مَا بَيْنَ سُودِ وَنَاصِعِ وَصلى إِلَهِي كُلَّ مَا ذَرَّ شَارِقٌ ... عَلَى أَحْمَدِ الْمُخْتَار جَمِّ الْمَنَافِعِ وبالتالي فلو لم يكن في حلقها إلا أنه اعتراض على حكمة الله حيث جعلها ميزة للرجل عن الأنثى ثانيًا: أن من نواقض الإسلام كراهة ما جاء عن الله أو عن رسوله ويخشى على حالقها من ذلك. ثالثًا: أن حلقها معصية لله ولرسوله لقوله تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} وقد أمر الرسول بإعفائها. رابعًا: أن حلقها تمثيل بالشعر وتقدم حديث من مثل بالشعر فليس له عند الله خلاقٌ. خامسًا: أنه تشبه باليهود. سادسًا: أنه تشبه بالنصارى. سابعًا: أنه تشبه بالمجوس. ثامنًا: أنه تشبه بالنساء. تاسعًا: أنه تشبه بالمرد. عاشرًا: أنه دليل على أن حالقها يميل إلى غير أمته. الحادي عشر: أن من حلقها أو قص منها لرضاء الزوجة أو الزملاء ملتمس رضا الناس بسخط الله لأن من عصى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فقد عصى الله. اللهم ثبت وقوِّ محبتك في قلوبنا واشرح صدورنا ونورها بنور الإيمان واجعلنا هداة مهتدين وألهمنا ذكرك وشكرك واجعلنا ممن يفوز بالنظر إلى وجهك في جنات النعيم يا حليم ويا كريم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. موعظة: عباد الله ما بال الكثير اليوم لا يسمعون، وإذا سمعوا لا ينتفعون، أفي آذانهم صمم، أم هم في الأمر متهاونون، ولأي شيء يجتمعون، ويقوم فيهم الخطباء المجيدون، والوعاظ المبلغون، ويذكرونهم أيام

الله فلا يخشع الوعاظ ولا الموعوظون، ويرغبونهم في الخير فلا يسارعون، وينذرونهم عواقب السوء فلا يتأثرون {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} لقد كان السلف الصالح إذا وعظوا تأثر المستمع لهم تأثرًا عظيمًا، وفارق ما عنده من المنكرات والمحرمات، وفارق من أصر عليها من أقاربه، وأولاده، وإخوانه، وآبائه، وجدد توبة نصوحًا، عما سلف له من الأعمال، التي لا يرتضيها الدين الإسلامي، فأين أولئك من هؤلاء الخلف، الذين ضيعوا تعاليم الدين الإسلامي، وضيعوا العمل به، وتركوا الانقياد لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، تأمل كيف ترى أكثرهم أضاعوا الصلاة، وعطلوا الأحكام، وتساهلوا بأمر الحرام، يمرون بالمساجد، وقت الصلاة، فلا يعيرونها أي اهتمام أما الملاهي والمنكرات فإليها يسرعون وعليها يعكفون وإلى ما فيها من الأغاني والمجون والسخف يتسابقون فإنا لله وإنا إليه راجعون، أين الخوف من الجبار، أين الحياء من فاطر الأرض والسماوات، أين المروءة والاعتصام بالقرآن، وما كان عليه آباؤكم وأجدادكم العباد الكرام، الذين كانت المساجد تغص بهم شيوخًا وشبانًا، وكانت تعج بأصواتهم تسبيحًا، وتحميدًا وتهليلاً، وتكبيرًا، واستغفارًا، وقرآنًا، وكانوا يؤمون المساجد قبل الآذان زرافات ووحدانا، ولا يتخلف منهم إلا معذور، إما مريض أو غائب، أو نحو ذلك، وكان المار ببيوتهم ليلاً يسمع زجل التسبيح، والتهليل والبكاء والأنين والتضرع إلى بديع السماوات والأرض، والإلحاح بدعائه، والالتجاء إليه والإنابة، عكس ما عليه هؤلاء الخلف، الذين صدق عليهم قول الله تعالى {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ

أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} الذين بحثت عنهم في الليل، وجدتهم حول الملاهي والمنكرات، متربعين أمام التلفزيون، وغناء المطربين، وإن بحثت عنهم في صلاة الفجر وجدتهم في فرشهم، إثر سهرهم حول تلك المنكرات، وإن بحثت عنهم وقت صلاة الظهر ففي شؤون الدنيا، وما يتعلق بها، وإن أردتهم في صلاة العصر، وجدت بعضهم عند الكورة، والبعض عند التلفزيون، والبعض عند المذياع، وأغانيه وملاهيه، وإن سألت عنهم وقت صلاة المغرب، وجدت بعضهم يمشي مترددًا، والبعض في الملعب، والبعض عند التلفزيون، أو المذياع، وأما العشاء الآخرة فتلك هم فيها أقسام أكثرهم حول التلفزيون أو في الأسواق، أو يلعبون ورقة، أو نحو ذلك من المنكرات وهكذا قتلوا أوقاتهم الثمينة، وضيعوها، وقضوا على مستقبلهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله والله أعلم بما أراده بعباده، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} والحالة هذه مخيفة لذوي العقول، والفهوم، لاسيما وقد توالت أسباب الهناء والراحة، والسرور، والاطمئنان، وقد قيل إذا رأيت الله تعالى أنعم على عبدٍ وهو مقيم على معصيته فاعلم أنه مستدرج وروى عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معصيته فإنما ذلك استدراج ثم تلا: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} » . وقال قتادة: ما أخذ الله قومًا إلا عند سكرتهم وغرتهم، ونعمتهم، فلا تغتروا بالله، فإنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون. شِعْرًا: ... كُلُّ الْمَصَائِبِ قَدْ تَمُرُّ عَلَى الْفَتَى ... فَتَهُونُ غَيْرَ مُصِيبَةٍ فِي الدِّينِ

وقال ابن الجوزي رحمه الله: الحذر الحذر من المعاصي فإنها سيئة العواقب، والحذر الحذر من الذنوب خصوصًا ذنوب الخلوات، فإن المبارزة لله تعالى تسقط العبد من عينه سبحانه ولا ينال لذة المعاصي إلا دائم الغفلة. فأما المؤمن اليقظان فإنه لا يلتذ بها، لأنه عند التذاذه يقف بإزائه علمه بتحريمها وحذره من عقوبتها، فإن قويت معرفته رأى بعين عمله قرب الناهي وهو الله) . تَوَارَى بِجِدْرَانِ الْبُيُوتِ عَنِ الْوَرَى ... وَأَنْتَ بِعَيْنِ اللهِ لاشَكَّ تَنْظُرُ فيتنغص عيشه في حال التذاذه فإن غلبه سكر الهوى كان القلب متنغصًا بهذه المراقبات وإن كان الطبع في شهوته فما هي إلا لحظة ثم خزي دائم وندم ملازم وبكاء متواصل وأسف على ما كان مع طول الزمان. حتى إنه لو تيقن العفو وقف بإزائه حذار العتاب فأفٍ للذنوب ما أقبح آثارهًا وأسوء أخبارها انتهى كلامه. أَمَا آنَ الرُّجُوعُ إِلَى الصَّفُوحِ ... عَن الزَّلاتِ وَالْفِعْلِ الْقَبِيحِ تُبَادِرُهُ بِقُبْحِ الْفِعْلِ سِرًّا ... وَلا تَخْشَاهُ بِالْقَوْلِ الصَّرِيحِ هَدَاكَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ... وَأَنْتَ ضَلَلْتَ عَنْ هَذَا الصَّحِيحِ وَفِي دُنْيَاكَ تُؤثرُ كُلَّ فَانٍ ... عَنِ الْبَاقِي الْمُعَزَّزِ وَالْمَلِيحِ آخر: ... يَا طَالِبَ الطِّبِّ مِنْ دَاءِ تَخَوَّفَهُ ... إِنَّ الطَّبيبَ الَّذِي أَبْلاكَ بِالدَّاءِ هُوَ الطَّبِيبُ الَّذِي يُرْجَى لِعَافِيَةٍ ... لا مَنْ يُذِيبُ لَكَ التِّرْيَاقَ بِالْمَاءِ اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنًا لإغتنام أوقات المهلة ووفقنًا لصالحنا واعصمنا من قبائحنا وذنوبنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا واكنته سرائرنا من أنواع القبائح.

فصل في صيانة الوقت

والمعائب التي تعلمها منا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين فَصْلٌ في الحَثِّ عَلَى صِيَانَةِ الوَقْتِ وصرفه فيما فيه النفع من صلاة وزكاة وصيام وحج وتسبيح وتهليل وتكبير، وسائر أنواع القربات لله، التي هي عمارة بيته الذي سيسكنه طويلا. ومما يتأكد إجتنابه والتحذير منه في رمضان وغيره الجلوس في المجالس التي هي كفيلة بالخسران والندامة، كمجالس آلات اللهو من الاسطوانات والمذياع وأعظم من ذلك السينما والتلفزيون والفديو والكرة. أما المذياع فلأنه آلة لهو محرم، لدخوله في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} الآية وقد فسر لهو الحديث، كثير من السلف - من الصحابة والتابعين - بالغناء والمزامير، وفسره بعضهم بالأساطير والقصص من أخبار ملوك الأعاجم والروم، وبعضهم فسر لهو الحديث بكل باطل يلهي ويشغل عن الخير، فإن فسرت هذه الآية بالغناء والمزامير فهو رأس الملاهي كلها، وإن فسرت بما يجمع ذلك من كل باطل يلهي ويشغل عن الخير فهو الجامع لذلك، وفوق ذلك الوصف، ومن المعلوم لدى كل ذي عقل سليم منصف أن الراديو المقصود الأصلي منه اللهو والغناء، والاشغال عن طاعة الله. وفي المذياع يجمع بين كلام الله والغناء، وهذا من أعظم التنقص والامتهان لكتاب الله، ومن جهة أخرى فهو استهزاء واستخفاف بكتاب الله وقد قال جل وعلا وتقدس: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ} وعدم

سماع الأغنية من المرأة الأجنبية

تنزيه كتاب الله عن مزامير الشيطان من أعظم الظلم وأقبحه، وأجور الجور وأشنعه وربما أغلق المذاع كراهة للقرآن وهذا ردة قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} . قال ابن القيم رحمه الله في كتابه إغاثة اللهفان: وأما سماعه أي الغناء، من المرأة الأجنبية أو الأمرد، فمن أعظم المحرمات، وأشدها فسادًا للدين. قال الشافعي رحمه الله: وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعهم فهو سفيه، ترد شهادته، وغلظ القول فيه، وقال: هو دياثة، فمن فعل ذلك كان ديوثًا. قال القاضي أبو الطيب: وإنما جعل صاحبها سفيهًا لأنه دعا الناس إلى الباطل ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيهًا فاسقًا. قلت: فكيف لو رأى الراديو، وما يأتي من الخلاعة والغناء، والمنكرات العظيمة، التي أنبتت النفاق، ومكنته من قلوب الأولاد والشباب والكهول والشيوخ، إلا من عصمه الله، وكذلك لو رأى التلفزيون أو السينما أو المجلات الخليعة، وما في ذلك من المفاسد والصور والمنكرات والشرور والخلاعات فيالله للمسلمين. وقال: كان الشافعي يكره التغبير، وهو الطقطقة بالقضيب، ويقول: وضعته الزنادقة ليشغلوا به عن القرآن. قال: وأما العود والطنبور وسائر الملاهي فحرام، ومستمعه فاسق. قال ابن القيم: وأما تسميته رُقَيَّةَ الزنا: أي الغناء فهو اسم موافق لمسماه ولفظ مطابق فليس في رُقْيه الزنا أنجع منه، وهذه التسميه معروفة عن الفضيل بن عياض، قال إبراهيم بن محمد المروزي، عن

أبي عثمان الليثي قال: قال يزيد بن الوليد: يا بني أمية إياكم والغناء، فإنه ينقص الحياء ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وأنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السكر، فإن كنتم ولا بد فاعلون فجنبوه النساء فإن الغناء داعية الزنا. قال: وأخبرني محمد بن الفضل الأزدي قال: نزل الحطيئة برجل من العرب، ومعه ابنته مليكة، فلما جن الليل سمع غناء فقال لصاحب المنزل: كف هذا عني. فقال: وما تكره من ذلك؟ فقال: إن الغناء من رادة الفجور، ولا أحب أن تسمعه هذه، يعني ابنته فإن كففته وإلا خرجت عنك، ثم ذكر عن خالد بن عبد الرحمن، قال: كنا في عسكر سليمان بن عبد الملك، فسمع غناء من الليل، فأرسل إليهم بكرة، فجيء بهم، فقال: إن الفرس ليصهل فتستودق له الرمكة، وإن الفحل ليهدر فتضبع له الناقة، وإن التيس لينب فتستخرم له العنز، وإن الرجل ليتغنى فتشتاق له المرأة، ثم قال: اخصوهم. فقال عمر بن عبد العزيز: هذا مثلة فلا يحل فخلى سبيلهم. فإذا كان الشاعر المفتوق اللسان، الذي هابت العرب هجاءه، خاف عاقبة الغناء، وأن تصل رقيته إلى حرمته، فما الظن بغيره، ولا ريب أن كل غيور يجنب أهله سماع الغناء، كما يجنبهن أسباب الريب. ومن طرق أهله إلى سماع رقية الزنا فهو أعلم بالإثم الذي يستحقه، ومن الأمر المعلوم عند القوم أن المرأة إذا استعصت على الرجل اجتهد أن يسمعها صوت الغناء، فحينئذ تعطي الليان، وهذا لأن المرأة سريعة الانفعال للأصوات جدًا، فإذا كان الصوت بالغناء كان انفعالها من وجهين، من جهة الصوت، ومن جهة معناه، ولهذا قال

الغناء ينبت النفاق لأن له خواص لها تأثير في القلوب

النبي صلى الله عليه وسلم لأنجشة حاديه: «يا أنجشة رويدك رفقًا بالقوارير» . يعني النساء، فإذا اجتمع إلى هذه الرقية الدف والشبابه والرقص بالتخنث والتكسر فلو حبلت المرأة من غناء حبلت من هذا الغناء، فلعمر الله كم من حرة صارت بالغناء من البغايا، وكم من حر أصبح به عبدًا للصبيان والصبايا، وكم من غيور تبدل به اسمًا قبيحًا بين البرايا، وكم من ذي غنىً وثروة أصبح بسببه على الأرض بعد المطارف والحشايا، وكم من معافى تعرض له فأمسى وقد وحلت به أنواع البلايا، وكم أهدى للمشغوف من أشجانٍ وأحزانٍ، فلم يجد بدًا من قبول تلك الهدايا، وكم جرع من غصة، وأزال من نعمة، وجلب من نقمة، وذلك منه من إحدى العطايا، وكم خبأ لأهله من الآم منتظره، وغموم متوقعة، وهموم مستقبلة. قال: وأما تسميته منبت النفاق فعن ابن مسعود قال: الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء الزرع، والذكر ينبت الأيمان في القلب، كما ينبت الماء الزرع، فإن قيل: فما وجه انباته للنفاق من بين سائر المعاصي؟ قيل: هذا من أدل شيء على فقه الصحابة في أحوال القلوب وأعمالها، ومعرفتهم بأدويتها وأدوائها، وأنهم هم أطباء القلوب، دون المنحرفين عن طريقتهم، الذين داووا أمراض القلوب بأعظم أدوائها، فكانوا كالمداوي من السقم بالسم القاتل، وهكذا والله فعلوا بكثير من الأدوية التي ركبوها أو بأكثرها، فاتفق قلة الأطباء وكثرة المرضى، وحدوث أمراض مزمنة لم تكن في السلف، والعدول عن الدواء النافع الذي ركبه الشارع، وميل المريض إلى ما يقوي مادة

المرض فاشتد البلاء، وتفاقم الأمر، وامتلأت الدور والطرق والأسواق من المرضى، وقام كل جهول يطب الناس. وقال: فاعلم أن للغناء خواص لها تأثير في صبغ القلوب بالنفاق ونباته كنبات الزرع بالماء، فمن خواصه أنه يلهي القلب ويصده عن فهم القرآن وتدبره، والعمل بما فيه، فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبدًا، لما بينهما من التضاد فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى، ويأمر بالعفة ومجانبة شهوات النفس وأسباب الغي، وينهى عن اتباع خطوات الشيطان، والغناء يأمر بضد ذلك كله ويحسنه، ويهيج النفوس إلى شهوات الغي، فيثير كامنها، ويزعج قاطنها، ويحركها إلى كل قبيح ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح، فهو والخمر رضيعَا لبان وفي تهييجها علي القبائح كفرسَى رهان، فإنه صنو الخمر ورضيعه، ونائبه وحليفه، وحديثه وصديقه، عقد الشيطان بينهما عقد الإخاء الذي لا يفسخ. وهو جاسوس القلوب، وسارق المروءة، وسوس العقل، يتغلغل في مكامن القلوب، ويطلع على سرائر الأفئدة، ويدب إلى محل التخييل، فيثير ما فيه من الهوى والشهوة والسخافة والرقاعة والرعونة والحماقة، فبينما ترى الرجل وعليه سمة الوقار، وبهاء العقل، وبهجة الأيمان، ووقار الإسلام، وحلاوة القرآن، فإذا سمع الغناء ومال إليه، نقص عقله، وقل حياؤه وذهبت مروءته، وفارقه بهاؤه، وتخلى عنه وقاره، وفرح به شيطانه، وشكا إلى الله إيمانه، وثقل عليه قرآنه، وقال: يا رب لا تجمع بيني وبين قرآن عدوك في صدر واحد. اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد ونسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك ونسألك قلبا سليمًا ولسانًا صادقًا ونسألك من خير ما

أبيات من النونية تناسب الموضوع

تعلم ونعوذ بك من شر ما تعلم ونستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب. ولله أعلم. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. من النونية في سماع أهل الجنة. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَيُرْسَلُ رَبُّنَا ... ???? ... رِيحًا تَهُزُّ ذَوَائِبَ الأَغْصَانِ ... ???? ... فَتَثِيرُ أَصْوَاتًا تَلَذُّ لِمَسْمَعِ الْـ ... ???? ... إِنْسَانِ كَالنَّغَمَاتِ بِالأَوْزَانِ ... ???? ... يَا لَذَّةَ الأَسْمَاعِ لا تَتَعَوَّضِي بِلَذَاذَةِ الأَوْتَارِ وَالْعِيدَانِ ... ???? ... أَوَ مَا سَمِعْتَ سَمَاعَهُمْ فِيهَا غِنَا ... ???? ... ءَ الْحُورِ بِالأَصْوَاتِ وَالأَلْحَانِ ... ???? ... وَاهًا لِذَيَّاكَ السَّمَاعِ فَإِنَّهُ ... ???? ... مُلِئَتْ بِهِ الأَذَانِ بِالإِحْسَانِ ... ???? ... وَاهًا لِذَيَّاكَ السَّمَاعِ وَطِيبِهِ ... ???? ... مِنْ مِثْلِ أَقْمَارٍ عَلَى أَغْصَانِ ... ???? ... وَاهًا لِذَيَّاكَ السَّمَاعِ فَكَمْ بِهِ ... ???? ... لِلْقَلْبِ مِنْ طَرَبٍ وَمِنْ أَشْجَانِ ... ???? ... وَاهًا لِذَيَّاكَ السَّمَاعِ وَلَمْ أَقُلْ ... ???? ... ذَيَّاكَ تَصْغِيرًا لَهُ بِلِسَانِ ... ???? ... مَا ظَنَّ سَامِعَهُ بِصَوْتٍ أَطْيَبَ الْـ ... ???? ... أَصْوَاتِ مِنْ حُورِ الْجِنَانِ حِسَانِ ... ???? ... نَحْنُ النَّوَاعِمُ وَالْخَوَالِدُ خَيِّرَا ... ???? ... تٌ كَامِلاتٌ الْحُسْنِ وَالإِحْسَانِ ... ›? ... ????ج

جج ... لَسْنَا نَمُوتُ وَلا نَخَافُ وَمَالَنَا ... ???? ... سَخَطٌ وَلا ضَعَنٌ مِنَ الأَضْعَانِ ... ???? ... طُوبَى لِمَنْ كُنَّا لَهُ وَكَذَاكَ طُو ... ???? ... بَى لِلَّذِي هُوَ حَظُنَا لَفْظَانِ ... ???? ... نَزِهْ سَمَاعَكَ إِنْ أَرَدْتَ سَمَاعَ ... ???? ... ذَيَّاكَ الْغِنَا عَنْ هَذِهِ الأَلْحَانِ ... ???? ... لا تُؤْثِر الأَدْنَى عَلَى الأَعْلَى فَتُحْـ ... ???? ... رَمَ ذَا وَذَا يَا ذِلَّةَ الْحِرْمَانِ ... ???? ... إِنَّ اخْتِيَارَكَ لِلسَّمَاعِ النَّازِلِ الْـ ... ???? ... أَدْنَى عَلَى الأَعْلَى مِن النُّقْصَانِ ... ???? ... وَاللهِ إِنَّ سَمَاعَهم فِي الْقَلْبِ وَالْـ ... ???? ... إِيمَانِ مِثْلُ السُّمِّ فِي الأَبْدَانِ ... ???? ... وَاللهِ مَا أَنْفَكَ الَّذِي هُوَ دَأْبُهُ ... ???? ... أَبَدًا مِن الإِشْرَاكِ بِالرَّحْمَنِ ... ???? ... فَالْقَلْبُ بَيْتُ اللهِ جَلَّ جَلاله ... ???? ... حُبًّا وَإِخْلاصًا مَعَ الإِحْسَانِ ... ???? ... فَإِذَا تَعَلَّقَ بِالسَّمَاعِ أَصَارَهُ ... ???? ... عَبْدًا لِكُلِّ فُلانَةٍ وَفُلانِ ... ???? ... حُبُّ الْكِتَابِ وَحُبُّ أَلْحَانِ الْغِنَا ... ???? ... فِي قَلْبِ عَبْدٍ لَيْسَ يَجْتَمِعَانِ ... ???? ... ثَقُلُ الْكِتَابُ عَلَيْهِمُوا لَمَّا رَأَوْا ... ???? ... تَقْيِيدَهُ بِشَرَائِعِ الإِيمَانِ ... ›? ... ????

موعظة بليغة ويليها قول بعض العارفين في السماع

.. وَاللَّهُوُ خَفَّ عَلَيْهِمْ لَمَّا رَأَوْا ... ???? ... مَا فِيهِ مِنْ طَرَبٍ وَمِنْ أَلْحَانِ ... ???? ... قُوتُ النُّفُوسِ وَإِنَّمَا الْقُرْآنُ قُوتُ ... ???? ... الْقَلْبِ أَنَّى يَسْتَوِي الْقُوتَانِ ... ???? ... وَلِذَا تَرَاهُ حَظُّ ذِي النُّقْصَانِ كَالْـ ... ???? ... جُهَّالِ وَالصِّبْيَانِ وَالنِّسْوَانِ ... ???? ... وَأَلذُهُمْ فِيهِ أَقَلُّهُمْ مِنْ الْـ ... ???? ... مَقْلِ الصَّحِيحِ فَسَلْ أَخَا الْعُرْفَانِ ... ???? ... يَا لَذَّةَ الْفُسَّاقِ لَسْتَ كَلَذَّةِ الْـ ... أَبْرَارِ فِي عَقْلٍ وَلا قُرْآنِ نسأل الله أن يلهمنَا رشدنَا ويبصرنَا بعيوب أنفسنَا ويشغلنا بإصلاحها ويوفقنا لقبول نصح الناصح وإرشاد المرشد. والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وسلم. موعظة عباد الله اعتاد الناس أن من طلب شيئًا من نفائس الدنيا لا يهدأ ولا ينام، بل يسعى للوصول إليه، ليله، ونهاره، سعي النشيط الهمام، وكلما سد في وجهة باب، قرع بابًا آخر، وإن تعدد الأبواب، كما هو دأب الحريص المقدام، وكلما نظر إلى قدر ما يطلب هان عليه السعي، وما يلقاه من مصاعب والآم والعجيب أنه لا يمل ولا يسأم، وإن واصل السعي سنين، وأعجب من ذا أنه لا ينثني عن مطلوبه، وإن مس شرفه وأهين، وإن استصعب عليه الوصول استعان بذوي الوجاهة المحترمين، ولا يزال هذا يواصل السعي حتى يصل مبتهجًا إلى ماله من مرام أنت تطلب الجنة يا هذا ولا نفيس أنفس منها لإنها لا تفنى ولا تبيد، ولأن لك فيها ما اشتهت نفسك، ولذت عينك

دون أي تقييد، ولأنك خالد فيها أبدًا دون أن يكدر، بأي مكدر، ذلك العيش الرغيد فهل شمرت عن ساق وسعيت للوصول إليها، كما تسعي فقط لذلك الفاني من الحطام، المشاهد أنك لا تسعي لتلك الجنة ولا يخطر لك السعي إليها علي بال، ولو أنك ساويتها في السعي إليها بأي مطلوب دنيوي لكنت من عظماء الرجال، ولكن يا للأسف لم يكن من ذلك شيء، والسعي للجنة لا يكون بالكلام، ولا بالأماني والأحلام، ولكن بصالحات الأعمال، وهل تزهدت أنت في شيء كما تزهدت في تلك الأعمال الفخام، ولذلك أجري الله العادة أن من خاف شيئا من مؤلمات الدنيا يبعد عنه ويفر، وكل الفرار، ويذهب هدوئه وطمأنينته، وربما ذهب نومه اضطرارا لا اختيارا ولا يطمئن بعض الاطمئنان إلا إذا احترس منه بكل ما يقدر عليه من أعوان، وأنصار، يفعل كل ذلك لئلا يصل إليه من الأذى ما يكدر عليه حياته وصفوها جهنم يا هذا اعظم مخوف فهل عملت الاحتياط لها كما تحتاط لمخوفات هذه الدار. الذي يتبادر منك ويظهر أن إيمانك بها ضعيف وأنك لم تعمل أي احتياط لها، فلو كان إيمانك قوي في قوله تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} لسعيت جهدك في الأعمال الصالحات، التي تحول بينك وبينها ولأزعجك وأقلقك ولم تهنأ بنوم ولا طعام وشراب، وأمامك تلك العقبات، شِعْرًا: ... وَكَيْفَ تَنَامُ الْعَيْنُ وَهِيَ قَرِيرَةٌ ... وَلَمْ تَدْرِ فِي أَيِّ الْمَكَانِينِ تَنْزِلُ آخر: ... تَذَكَّرْتُ أَيَّامِي وَمَا كَانَ فِي الصَّبَا ... مِنْ الذَّنْبِ وَالْعِصْيَانِ وَالْجَهْلِ وَالْجَفَا وَكَيْفَ قَطَعْتُ الْعُمْرَ سَهْوًا وَغَفْلَةً ... فَأَسْكَبْتُ دَمْعِي حَسْرَةً وَتَلَهُّفَا وَنَادَيْتُ مَنْ لا يَعْلَمُ السِّرَّ غَيْرُهُ ... وَمِنْ وَعْدِ الْغُفْرَانِ مَنْ كَانَ قَدْ جَفَا

وَتَابَ إليه مِنْ ... كِبَارِ ... ذُنُوبِهِ ... فَجَادَ ... عَلَيْهِ ... بِالْجَمِيلِ تَعَطُّفَا أَغِثْنِي إِلَهِي وَاعْفُ عَنِّي فَإِنَّنِي ... أَتَيْتُ كَئِيبًا نَادِمًا مُتَلَهِّفَا وَخُذْ بِيَدِي مِنْ ظُلْمَةِ الذَّنْبِ سَيِّدِي ... وَجُدْ لِي بِمَا أَرْجُوهُ مِنْكَ تَلَطُّفَا اللهم وفقنا لاتباع الهدى وجنبنا أسباب الهلاك والشقا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وقال بعض العارفين: السماع يورث النفاق في قوم، والتكذيب في قوم، والفجور في قوم، والرعونة في قوم، واكثر ما يورث عشق الصور، واستحسان الفواحش، وإدمانه يثقل القرآن على القلب، ويكرهه إلى سماعه بالخاصة، وإن لم يكن هذا نفاقًا فما للنفاق حقيقة، وسر المسألة أنه قرآن الشيطان كما سيأتي، فلا يجتمع هو وقرآن الرحمن في قلب أبدًا، وأيضًا فإن أساس النفاق أن يخالف الظاهر الباطن، وصاحب الغناء بين أمرين: إما أن يتهتك فيكون فاجرًا، أو يظهر النسك فيكون منافقًا، فإنه يظهر الرغبة في الله والدار الآخرة وقلبه يغلي بالشهوات، ومحبة ما يكرهه الله ورسوله من أصوات المعازف وآلات اللهو، وما يدعو إليه الغناء ويهيجه، فقلبه بذلك مغمور، وهو من محبة ما يحبه الله ورسوله وكراهة ما يكرهه قفر وهذا محض النفاق. وأيضًا فإن الإيمان قول وعمل، قول الحق وعمل بالطاعة وهذا ينبت علي الذكر وتلاوة القرآن، والنفاق قول الباطل وعمل الغي، وهذا ينبت على الغناء، وأيضًا فمن علامات النفاق قلة ذكر الله، والكسل عند القيام إلى الصلاة، وقل أن تجد مفتونًا بالغناء إلا وهذا وصفه، وأيضًا فإن النفاق مؤسس على الكذب، والغناء من أكذب الشعر، فإنه

تسمية الغناء بالصوت الأحمق وقرآن الشيطان

يحسن القبيح ويزينه ويأمر به، ويقبح الحسن ويزهد فيه، وذلك عين النفاق وأيضًا فإن النفاق غش ومكر وخداع، والغناء مؤسس على ذلك، وأيضًا فإن المنافق يفسد من حيث يظن أنه يصلح، كما أخبر الله سبحانه بذلك عن المنافقين، وصاحب السماع يفسد قلبه وحاله، من حيث يظن أنه يصلحه، والمغني يدعو القلوب إلى فتنة الشهوات، والمنافق يدعوها إلى فتنة الشبهات قال الضحاك: الغناء مفسدة للقلب، مسخطة للرب. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى مؤدب ولده: ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي، التي بدؤها من الشيطان وعاقبتها سخط الرحمن، فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم أن صوت المعازف واستماع الأغاني، واللهج بها، ينبت النفاق في القلب، كما ينبت العشب على الماء، فالغناء يفسد القلب، وإذا فسد القلب هاج فيه النفاق. قال: وأما تسميته قرآن الشيطان. فمأثور عن التابعين. وعن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن إبليس لما أنزل إلى الأرض قال: يا رب أنزلتني إلى الأرض وجعلتني رجيمًا، فاجعل لي بيتًا، قال: الحمام. قال: فاجعل لي مجلسًا. قال: الأسواق ومجامع الطرق. قال: فاجعل لي طعامًا. قال: كل ما لم يذكر اسم الله عليه. قال: فاجعل لي شرابًا. قال: كل مسكرٍ. قال: اجعل لي مؤذنًا. قال: المزمار. قال: اجعل لي قرآنًا. قال: الشعر. قال: فاجعل لي كتابًا. قال: الوشم. قال: اجعل لي حديثًا. قال: الكذب. قال: اجعل لي رسلاً. قال: الكهنة. قال: اجعل لي مصائد، قال: النساء» . اللهم خفف عنا الأوزار وارزقنا عيشة الأبرار واصرف عنا شر الأشرار وأعتق رقابنا ورقاب آبائنا وأمهاتنا من النار يا عزيز يا غفار ويا كريم ويا ستار

ويا حليم ويا جبار واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين شِعْرًا: ... قَدْ أَشْرَقَتْ (رَايَةُ الإِسْلامِ) وَالأَدَبِ ... فَحَيِّهَا مُعْلِنًا بِالشِّعْرِ وَالْخَطَبِ وَاهْجُرْ سَبِيلَ الأوُلَى جَادُوا بِشِعْرِهِمْ ... لِمَنْزِلٍ دَارَسِ الإطلالِ مِنُ نُوَبِ يُشْجِيهِمْ ذِكْرُ آرَام نَعِمْنَ بِهِ ... تَسُومُ بِنْتُ الرُّبَى فِي مَأْمَنَ خَصَبِ وَذِكْرُ عَيْنٍ لَهَا فِي الْقَلْبِ مَنْزِلَةُ ... تَلْقَى قُلُوب أُولِي الأَحْلامِ فِي كُرَبِ كَمِثْلِ رِيمِ يَمِينِ الرَّنْدِ قَدْ عَرَضَتْ ... أَلْقَتَ إِليَّ سِهَامَ الْحُزْنِ وَالشَّجَبِ عِينُ الْمَهَاةِ رَمَتنِي وَهِيَ مُعْرِضَةُ ... فَصِرْتُ ذَا حَيْرَةِ فِي كَفِّ مُسْتَلِبِ لَمَّا تَوَلَّتْ بِقَلْبِي قُلْتَ وَآسَفِي ... هَلْ مِنْ جَنَاحٍ فَأقْفُو مُنْتَهَى طَلَبِي؟ لَوْلا التَّجَلُّدُ مَا أَمْسَيْتُ فِي سَكَنٍ ... وَكُنْتُ فِي الْبَيْدِ بَيْنَ الْوَحْشِ لَمْ أَثْبِ لَعَلَّ رِيحُ الصِّبَا تَأْتِي بِرَائِحَةِ ... مِنْ نَفْجِ عَنْبَرِهَا يَشْفِي لِذِي الْوَصَبِ مَا كُنْتُ أَعْرِفُ قَبْلَ إليوْمِ مَا وَصَفَتْ ... أَهْلُ النَّسِيبِ مِنَ الأَشْجَانِ وَالْكَأَبِ لَمَا بُلِيتُ أَقَمْتُ الْعُذْرَ دُونَهُمْ ... عُذْرَ الْخَبِيرِ بِسَهْمِ الْفَاتِكِ الأَرَبِ فَلَيْتَ ذَا الْعَقْلِ يَرْثِي لِي وَيَعْذُرُنِي ... وَلَيْتَ أَهْلُ النُّهَى وَالدِّينِ وَالأَدَبِ إِذْ يَعْذِلُونُ لِصَبٍ يَأْتِ مُكْتَئِبًا ... يَلْقَوْنَ مِثْلَ الَّذِي أَلْقَى مِن النَّصَبِ أَوْ يَرْجِعُونَ إِلَى نُصْحٍ وَمَوْعِظَةٍ ... مِنَ الْكِتَابِ وَتَذْكِيرٍ بِهَدْي نَبِي كَيْمَا يَكُونُ مَرِيضٌ الْقَلْبِ مِنْ سَفَهٍ ... أَوْ غَفْلَةٍ بَيْنَ خَوْفِ اللهِ وَالرَّغَبِ نِعْمَ الشِّفَاءُ كِتَابُ اللهِ مَعَ سُنَنِ ... كَمْ أَبْرَءَآ دَنِفِ التَّشْكِيكِ وَالرِّيبِ فَأَدْمِنَ الْوَعْظَ وَالإِرْشَادِ مُجْتَهِدًا ... وَانْشُرْ مَحَاسِنِ هَذَا الدِّينِ فِي دَأَبِ أَمَا تَرَى النَّشْءَ قَدْ حَادَتْ رَكَائِبَهُمْ ... عَنِ التَّقَدُّمِ لِلْعَالي مِنَ الرُّتَبِ؟ وَغَرَّهُمْ صَوْتُ مِذْيَاعٍ قَدْ امْتَلأَتْ ... مِنْهُ الْمَسَامِعُ فِي تَمْجِيدِ كُلَّ غَبِي؟ بَثُوا الدِّعَايَةَ لِلدُّنْيَا وَزُخْرَفِهَا ... وَلِلتَّنَافُس بِالأَمْوَالِ وَالنَّشَبِ وَضَلَّلُوا النَّشْء بِالآرَاءِ خَادِعَةٌ ... وَضَيَّعُوا الْوَقْتَ فِي مَلْهَى وَفِي طَرَبِ

وَلَقَّبُوا الْحَقَّ الْقَابًا مُشَوَّهَةً ... لِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ باللَّقَبِ وَحَارَبُوا الدِّينَ وَالأَخْلاقَ جُهْدَهُمُ ... يَا بِئْسَ مَا وُعِدُوا فِي شَرِ مُنْقَلَبِ وَحَسَّنُو السُّبُلَ اللآتِي يَهِيمُ بِهَا ... قَوْمُ يَرَوْنَ الْعُلَى بِالْمِقْول الذَّرِبِ مَا الْعِلْمُ سَبْكٌ وَتَنْمِيقٌ وَشَقْشَقَةُ ... مِنْ دُونِ نُورٍ مِنَ الْوَحْيَيْن مُصْطَحِبِ أَغَايَةَ الْعِزِّ أَنْ تَقْلُوا مَبَادِئَكَمْ؟ ... وَتَتْرُكُوا مَجْدَكُمْ نَهْبًا لِمُنْتَهَبِ؟ وَهَلْ يُعدُ عَزِيزًا مِنْ نِهَايَتُهُ؟ ... قَعْرُ الْجَحِيمِ مَعَ الطَّاغِي أَبِي لَهَبِ؟ وَكَمْ غَبِيٍ يَرَى الإِسْلامَ أَخَرَّنَا! ... وَالْكَفَرَ قَدّمِ أَهْلَ الْغَرْبِ وَالْعَجَمِي يَرَى التَّقَدمُ فِي تَرْكِ التَّدَيُّنَ لَمْ ... يَنْظُرْ لِصَفْوَتِنَا فِي سَالِف الْحُقُبِ لِذَاكَ عَابَ عَلَى الإِسْلامِ يَهْدِمُهُ ... بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالتَّعْظِيمِ لِلصُّلْبِ مِثْلُ الْغُرَابِ الَّذِي يَهْوَى وَيَعْجُبُه ... مَشْيُ الْحَمَامَةِ فِي حُسْنٍ وَفِي خَبَبِ فَحَاوِلْ الْغُمْرُ أَنْ يَحْكِي لِمَشْيَتِهَا ... فَضَلّ مِشْيَتَهُ الأُولَى وَلَمْ يُصِبِ (لا تَظْلِمُوا الدِّينَ إِذْ كَلَّتْ عَزَائِمِكم) ... وَتَلَصَّقُوا كُلَّ عَيْبٍ فِيهِ بِالْكَذِبِ! تَعَلُّمُ الطِّبِ لَيْسَ الشَّرْعَ يَمْنَعُهُ ... وَلا الصَّنَائِعُ فِي نَفْعٍ لِمُكْتَسِبِ وَإِنَّمَا حَرَّمَ الشَّرْعُ الأُمُورَ إِذَا ... أَدَّتْ لِمَعْصِيَةِ تُلْقِيكَ فِي الْعَطَبِ بَلْ جَاءَنَا النَّصُّ فِي إِعْدَادِ قُوتِنَا ... كَيْمَا يَكُونُ عَدُو الدِّينِ فِي رَهَبِ! وَمَنْ أَرَادَ رُقِيًّا أَوْ مُغَالَبَةً ... مِن دُونِ دِينٍ فَمَا أَوْهَاهُ مِنْ سَبَبِ مَهْلاً بَنِي يَعْربٍ لا تَخْلدُوا كَسَلاً ... وَشَجِّعُوا النَّشْءَ مِنْ أَبْنَائِنَا النُّجُبِ عَلَى اقْتِحَامِ الْعُلَى فِي كُلِّ آوِنَةٍ ... وَحَاذِرُوا سَكْرَةَ اللَّذَاتِ وَاللَّعِبِ كَيْمَا تَعُودُ إِلَى الإِسْلامِ عِزَّتُهُ! ... وَيَصْبَحُ الْجَهْلُ وَالْكُفْرَانُ فِي نَصَبِ أَفِتْيَةُ الدِّينِ وَالْعِلْمِ الصَّحِيحِ لَكُمْ ... مَنَاهِلُ عَذُبَتْ أَحْلَى مِن الضَّرْبِ وَطَالِبُ الْعِلْمِ مَأْمُولٌ لَهُ أَبَدًا ... مُسْتَقْبَلٌ شَامِخٌ أَعْلَى مِن الشُّهُبِ وَالْمَجْدُ وَالْعِلْمُ مَقْرُونَانِ فِي قَرَنٍ ... لَكِنَّمَا الْعِلْمُ لا يُجْنَى بِلا تَعَبِ يَا فِتْيَةِ الضَّادِ إِنَّ الْعِزَّ أَجْمَعُهُ ... فِي الدِّينِ وَالْخُلُقِ الْمَمْدُوحِ فِي الْكُتُبِِ

مَا بَارَزَ الْمُصْطَفَى قَوْمًا بِعِدَّتِهِ ... وَلا الْعَدِيدِ وَلَكِنْ صِدْقُ مُحْتَسَبِ وَلا الصَّحَابَةُ مَنْ خَافَتْ جُمُوعُهُمُ ... أَهْلُ الْبَسِيطَةِ مِنْ نَاءٍ وَمُقْتَرِبِ هُمْ دَوَّخُوا كُلَّ جَبَّارٍ وَذِي أَشَرَ ... بِعَزمَةِ الصِّدْقِ ثُمَّ الْعَزْمُ بِالْقُضُبِ تِلْكَ الْغَطَارِفَةُ الأَمْجَادِ لَمْ يَهِنُوا ... يَوْمًا عَلَى شِدَّةِ الضَّرَاءِ وَالسَّغَبِ حَدَاهُمْ الشَّوْقُ لِلْمَوْعُودِ فِي زَبُرُ ... حَتَّى اسْتَوَوْا فَوْقَ مَتْنِ الْعِزِّ بِالْغَلَبِ وَأَنْزَلُوا الْفُرْسَ عَنْ دِيوَانِ مَمْلَكَةٍ ... مَنِيعَةٍ شَمَخَتِ عَنْ كُلَّ مُغْتَصِبِ وَلَمْ يَعُدْ مَجْدُهَا مِن بَعْدِهِمْ أَبَدَا ... وَكَانَتْ الْفُرْسُ تَحْتَ الذُّلِّ لِلْعَرَبِ وَقَيْصَرُ قَصَّرَتْ أَيَّامَهُ وَغَدَا ... تَحْتَ السَّنَابِكِ فِي وَيْلٍ وَفِي حَرَبِ أَمَا سَمِعْتَ بِجُنْدِ اللهِ كَمْ نَصَرُوا؟ ... وَمَزَّقُوا الرُّومَ بِالْحَمَلاتَ وَالرُّعُبِ؟ وَفِي (الأَبِلَّةِ) وَ (الْيَرْمُوكَ) مَا فَعَلُوا ... وَ (الْقَادِسِيَّةِ) يَوْمَ الْجَحْفَل اللَّجِبِ وَكَمْ بِأَنْدَلسٍ مِنْ وَقْعَةٍ عَظُمَتْ ... فَنَالَتِ الْعُرْبُ فِيهَا مُنْتَهَى الأَرَبِ وَأَصْبَحَ الْحَقُّ فِي الآفَاقِ مُنْبَعِثًا! ... كَالشَّمْسِ لَكِنَّهُ أَبْهَى وَلَمْ يَغِبِ ثُمَّ الصَّلاةُ عَلَى أَزْكَى الْوَرَى شَرَفًا ... أَكْرِمْ بِهِ خَيْرَ مَبْعُوثٍ وَمُنْتَخَبِ! عصمنا الله وإياكم من الزلل ووفقنا لصالح العمل وهدانا بفضله اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. فَصْلٌ: وأما تسميته بالصوت الأحمق والصوت الفاجر، فهي تسمية الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى، فروى الترمذي من حديث ابن أبي ليلى، عن عطاء عن جابر رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن عوف إلى النخل، فإذا ابنه إبراهيم يجود بنفسه، فوضعه في حجره ففاضت عيناه، فقال

كلام نفيس لشيخ الإسلام، الشرائع هي غذاء القلوب في قوتها

عبد الرحمن: أتبكي وأنت تنهى الناس؟ قال: «إني لم أنه عن البكاء، وإنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين، صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة، وخمش وجوه، وشق جيوب، ورنة، وهذه رحمة، ومن لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ، لولا أنه أمر حق، ووعد صدق وأن آخرنا سيلحق أولنا لحزنا عليك حزنًا هو أشد من هذا، وإنا بك لمحزونون، تبكي العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب» . قال الترمذي: هذا حديث حسن. فانظر إلى هذا النهي المؤكد بتسميته صوت الغناء صوتًا أحمق، ولم يقتصر على ذلك حتى وصفه بالفجور ولم يقتصر على ذلك حتى سماه من مزامير الشيطان، وأما تسميته صوت الشيطان فقد قال تعالى للشيطان وجز به {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} عن ابن عباس {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} كل داع إلى معصية، ومن المعلوم أن الغناء من أعظم الدواعي إلى المعصية، ولهذا فسر صوت الشيطان به انتهى بتصرف يسير) إنتبه وألق سمعك وحضر قلبك لكلام شيخ الإسلام. وقال شيخ الإسلام رحمة الله عليه: والشرائع هي غذاء القلوب وقوتها، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه ويروى مرفوعا: «إن كل آدب يحب أن تؤتى مأدبته، وأن مأدبة الله هي القرآن» . ومن شأن الجسد إذا كان جائعًا فأخذ من طعام حاجته استغنى عن طعام آخر حتى لا يأكله - إن أكل منه - إلا بكراهة وتجشم، وربما ضره أكله، أو لم ينتفع به، ولم يكن هو المغذي الذي يقيم بدنه، فالعبد إذا أخذ من غير الأعمال المشروعة بعض حاجته، قَلَّتْ رغبته في المشروع وانتفاعه به بقدر ما اعتاض من غيره، بخلاف من صرف نهمته وهمته إلى المشروع، فإنه تعظم محبته له ومنفعته به، ويتم دينه به، ويكمل إسلامه.

ولهذا تجد من أكثر من سماع القصائد لطلب صلاح قلبه تنقص رغبته في سماع القرآن، حتى ربما كرهه، ومن أكثر من السفر إلى زيارة المشاهد ونحوها، لا يبقى لحج البيت المحرم في قلبه من المحبة والتعظيم ما يكون في قلب من وسعته السنة، ومن أدمن على أخذ الحكمة والآداب من كلام حكماء فارس والروم، لا يبقى لحكمة الإسلام وآدابه في قلبه ذاك الموقع، ومن أدمن على قصص الملوك وسيرهم، لا يبقى لقصص الأنبياء وسيرهم في قلبه ذاك الاهتمام ونظائر هذه كثيرة. ولهذا عظمت الشريعة النكير على من أحدث البدع وحذرت منها، لأن البدع لو خرج الرجل منها كفافًا لا عليه ولا له لكان الأمر خفيفًا، بل لا بد أن توجب له فسادًا في قلبه ودينه، ينشأ من نقص منفعة الشريعة في حقه، إذ القلب لا يتسع للعوض والمعوض عنه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في العيدين الجاهليين: «إن الله قد أبدلكم بهما يومين خيرًا منهما» . فيبقى اغتذاء قلبه من هذه الأعمال المبتدعة مانعًا من الاغتذاء، أو من كمال الاغتذاء بتلك الأعمال النافعة الشرعية، فتفسد عليه حاله من حيث لا يعلم كما يفسد جسد المغتذي بالأغذية الخبيثة من حيث لا يشعر، وبهذا يتبين لك بعض ضرر البدع. أ. هـ. قلت: لله دره من إمام ما أعمله وأبصره بأمراض القلوب وعلاجها فتدبر كلامه رحمه الله بحضور قلب لعل الله ينفعك به. والله أعلم. اللهم ثبت قلوبنا على الإيمان ووفقنا لصالح الأعمال، اللهم تفضل علينا بالقبول والإجابة وارزقنا صدق التوبة وحسن الإنابة، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

من الأدلة على تحريم الغناء، خمس عشرة خصلة إذا عملت حل البلاء

اللهم اعتقنا من رق الذنوب، وخلصنا من شر النفوس، وأذهب عنا وحشة الإساءة، وطهرنا من دنس الذنوب، وباعد بيننا وبين الخطايا وأجرنا من الشيطان الرجيم وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) ومن الأدلة على تحريم الغناء ما روى سعيد بن أبي زيد عن أخيه عن ليث بن أبي سليم عن عبد الرحمن بن باسط عن عائشة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله حرم المغنية وبيعها، وثمنها وتعليمها والاستماع إليها» . وروى لاحق بن حسين بن عمر أن ابن أبي الورد المقدسي قال: حدثنا أبو المرجي ضرار بن علي بن عمير القاضي الجيلاني حدثنا أحمد بن سعيد عن محمد بن كثير الحمصي حدثنا فرج ابن فضالة عن يحيى بن سعيد عن محمد بن الحنفية عن علي ابن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا علمت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء، إذا كان المال دولاً، والأمانة مغنمًا والزكاة مغرمًا، وأطاع الرجل زوجته، وعق أمه، وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، ولبس الحرير، واتخذت القينات، والمعازف، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليتوقعوا عند ذلك ريحًا حمراء ومسخًا وخفسًا وعن معاوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهى عن تسع، وأنا أنهاكم عنهن، ألا إن منهن الغناء والنوح والتصاوير» . الحديث. وعن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحل تعليم

المغنيات، ولا شراؤهن ولا يبعهن، ولا اتخاذهن، وثمنهن حرام، وقد أنزل الله ذلك في كتابه {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} الآية والذي نفسي بيده ما رفع رجل عقيرته بالغناء إلا ارتدفه شيطانان يضربان بأرجلهما صدره وظهره حتى يسكت» . وعن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله حرم تعليم المغنيات، وشراءهن وبيعهن، وأكل أثمانهن» . وذكر البخاري عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف» . وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من جلس إلى قينة، صب في أذنيه الآنك يوم القيامة» . وعن ابن عباس في قول الله عز وجل {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} قال: الغناء. وعن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يشرب ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، تضرب على رؤوسهم المعازف والقينات، يخسف الله بهم الأرض» . قال حذيفة بن إليمان رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعرض الفتن على القلوب، كعرض، الحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها نكتت فيه سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود القلوب على قلبين أسود مربدًا كالكوز مجخيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض» . قال ابن

القلوب عند عرض الفتن عليها نوعان، كلام شيخ الإسلام

القيم: فشبه عرض الفتن على ما القلوب شيئًا فشيئًا كعرض عيدان الحصير وهي طاقاتها شيئًا فشيئًا، وقسم القلوب عند عرضها عليها إلى قسمين: قلب إذا عرضت عليه فتنة أشربها، نكتت فيه نكتة سوداء، كما يشرب الأسفنج الماء، فتنكتت فيه نكتة سوداء، فلا يزال يشرب كل فتنة تعرض عليه، حتى يسود وينتكس، وهو معنى قوله: «كالكوز مجخيا» . أي منكوسا. فإذا اسود وانتكس، عرض له من هذين الآفتين خطران متراميان به إلى الهلاك، أحدهما اشتباه المعروف عليه بالمنكر فلا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا وربما استحكم عليه هذا المرض، حتى يعتقد المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، والحق باطلاً، والباطل حقًا. الثاني تحكيمه هواه على ما جاءه به الرسول صلى الله عليه وسلم، وانقياده للهوى واتباعه له. وقلب أبيض، قد أشرق فيه نور الإيمان وأزهر مصابحه، فإذا عرضت عليه الفتنة أنكرها وردها، فازداد نوره وإشراقه وقوته، والفتنة التي تعرض على القلوب هي أسباب مرضها، وهي فتن الشهوات وفتن الشبهات، فتن الغي والضلال، فتن المعاصي والبدع، فتن الظلم والجهل، فالأولى توجب فساد القصد والإرادة، والثانية توجب فساد العلم والاعتقاد. أ. هـ. والله أعلم. وصلى على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) فالقلوب نوعان قلب إذا عرضت عليه الفتنة أشربها وأحبها ومال

على حديث عقبة ويليه قصيدة زهدية

إليها وأيدها، وقلب ينكرها وينفر منها ويحذر عنها، فذلك القلب الأبيض الذي أشرق بنور الإيمان، وهو معنى ما تقدم في حديث حذيفة، وقال أيضًا: ومن حيل الشيطان ومكائده الكلام الباطل، والآراء المتهافتة، والخيالات المتناقضة، التي هي زبالة الأذهان، ونحاتة الأفكار، والزبد الذي تقذف به القلوب المظلمة المتحيرة، التي تعدل الحق بالباطل، والخطأ بالصواب، وقد تقاذفت بها أمواج الشبهات، ورانت عليها غيوم الخيالات، فمركبها القيل والقال، والشك والتشكيك، وكثرة الجدال، ليس لها حاصل من اليقين يعول عليه، ولا معتقد مطابق للحق يرجع إليه {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} وقد اتخذ لذلك القرآن مهجورًا. ومما ورد في النهي عما يلهو به الرجل إلا ما استثنِيَ ما ورد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل، إلا رميه بقوسه وتأدبيه فرسه، وملاعبته أهله، فإنهن من الحق» . ففي الحديث دليل على أن كل ما يلهو به الإنسان فهو باطل، أي محرم ممنوع ما عدا هذه الثلاث التي استثناها رسول صلى الله عليه وسلم، فإنهن من الحق أو وسيلة إلى الحق. وقال شيخ الإسلام رحمه الله في الكلام علي حديث عقبة: «كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل» . الحديث ما معناه: الباطل ضد الحق فكل ما لم يكن حقًا، أو وسيلة إليه، ولم يكن نافعًا فإنه باطل مشغل للوقت، مفوت على الإنسان ما ينفعه في دينه ودنياه، فيستحيل على الشرع إباحة مثل هذا. أ. هـ. اللهم اكتب في قلوبنا الإيمان وأيدنا بنور منك يا نور السماوات والأرض اللهم وافتح لدعائنا باب القبول والإجابة واغفر لنا وارحمنا

برحمتك الواسعة إنك أنت الغفور الرحيم وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين. فصل: وقال ابن القيم رحمه الله: إذا أشكل حكم شيء هل هو للإباحة أو للتحريم؟ فلينظر إلى مفسدته، وثمرته وغايته، فإن كان مشتملاً على مفسدة راجحة ظاهرة، فإنه يستحيل على الشارع الأمر به أو إباحته، بل العلم بتحريمه من شرعه قطعي ولاسيما إذا كان مفضيًا إلى ما يغضب الله ورسوله وقال إلى شيخ الإسلام: لا يجوز اللعب بالطاب والمنقلة، وكل ما أفضى كثيره إلى حرمه، وإذا لم يكن فيه مصلحة راجحة، لأنه يكون سببًا للشر والفساد، وما ألهى أو شغل عن ما أمر الله به فهو منهي عنه، وإن لم يحرم جنسه كالبيع والتجارة، وسائر ما يلهى به البطالون من أنواع اللهو وسائر ضروب اللعب مما لا يستعان به على حق شرعي، فكل ذلك حرام. أ. هـ. وكذا ينبغي أن يحذر مما يعوق سيره إلى الله والدار الآخرة، كالمطالعة في المجلات والصحف، والكتب التي لا يعود على صاحبها منها إلا الضرر، وضياع عمره الذي هو رأس ماله فيها قال بعضهم: آخر: ... إِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عُمْرُكَ فَاحْتَرِزْ ... عَلَيْهِ مِنَ الإِنْفَاقِ فِي غَيْرِ وَاجِبِ آخر: ... وَأَسْوَأَ النَّاسِ تَدْبِيرًا لِعَاقِبَةٍ ... مَنْ أَنْفَقَ الْعُمْرَ فِيمَا لَيْسَ يَنْفَعُهُ وسوف يسأل الإنسان عما أفناه فيه. فقد قال رسول صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدمَا ابن ادم يوم القيامة حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وماذا عمل بما علم» . فالعاقل من كان ملء قلبه، ومالك لبه قوله تعالى {قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} فسارع في الخيرات وبادر بالأعمال الصالحات، عاملا بقوله صلى الله عليه وسلم: «بادروا بالأعمال سبعًا هل تنتظرن إلا فقرًا منسيًا أو غنىً مطغيًا،

أو مرضًا مفسدًا، أو هرمًا مفندًا، أو موتًا مجهزًا، أو الدجال فالدجال شر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر» . رواه الترمذي. شِعْرًا: ... نَخْطُوا وَمَا خَطْوُنَا إِلا إِلَى الأَجَلِ وَنَنْقَضِي وَكَأنَّ الْعُمْرَ لَمْ يَطُلِ وَالْعَيْشُ يُؤْذِنُنَا بِالْمَوْتِ أَوَّلُهُ وَنَحْنُ نَرْغَبُ فِي الأَيَّامِ وَالدُّوَلِ يَأْتِي الْحِمَامُ فَيُنْسِي الْمَرْءَ مُنْيَتَهُ وَأَعْضَلُ الدَّاءِ مَا يُلْهِي عَنْ الأَمَلِ ... ›? آخر: ... تُرْخِي النَّوَائِبُ عَنْ أَعْمَرِنَا طَرَفًا ... وَنَسْتَقِرُّ وَقَدْ أَمَسْكَنَ بِالطُّولِ لا تَحْسَبِ الْعَيْشَ ذَا طُولٍ فَتَتْبَعُهُ ... يَا قُرْبَ مَا بَيْنَ عُنْقِ الْمَرْءِ وَالْكَفَلِ سَلَّى عَنْ الْعَيْشِ أَنَّا لا نَدُومُ لَهُ ... وَهَوَّنَ الْمَوْتَ مَا نَلْقَى مِنْ الْعَلَلِ لَنَا بِمَا يَنْقَضِي مِنْ عُمْرِنَا شُغُلٌ ... وَكُلُّنَا عَلِقُ الأَحْشَاءِ بِالْغَزَلِ وَنَسْتَلِذُّ الأَمَانِي وَهِيَ مُرْدِيَةٌ ... كَشَارِبِ السُّمّ مَمْزُوجًا مَعَ الْعَسَلِ مَا هَذِهِ الدُّنْيَا بِدَارِ مَسَرَّةٍ ... فَتَخَوَّفوا مَكْرًا لَهَا وَخِدَاعَا بَيْنَا الْفَتَى فِيهَا يُسَرُّ بِنَفْسِهِ ... وَبِمَاله يَسْتَمْتِعُ اسْتِمْتَاعَا حَتَّى سَقَتْهُ مِنْ الْمَنِيَّةِ شَرْبَةً ... وَحَمَتْهُ فِيهِ بَعْدَ ذَاكَ رِضَاعَا فَغَدَا بِمَا كَسَبَتْ يَدَاهُ رَهِينَةً ... لا يَسْتَطِيعُ لِمَا عَرَتْهُ دِفَاعَا لَوْ كَان يَنْطِقُ قَالَ مِنْ تَحْتَ الثَّرَى ... فَلْيُحْسِنِ الْعَمَلَ الْفَتَى مَا اسْتَطَاعَا آخر: ... يُسِيءُ امْرُؤُ مِنَّا فَيُبْغَضُ دَائمَا ... وَدُنْيَاكَ مَا زَالَتْ تُسِيءُ وَتُومَقُ أَسَرَّ هَوَاهَا الشَّيْخُ وَالْكَهْلُ وَالْفَتَى ... بِجَهْلٍ فَمِنْ كُلِّ النَّوَاظِرِ تُرْمَقُ

موعظة بليغة لبعض العلماء على قول الله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)

ج ... وَمَا هِيَ أَهْلُ أَنْ يُؤهَّلَ مِثْلُهَا ... لِوُدٍّ وَلَكِنَّ ابْنَ آدَمَ أَحْمَقُ اللهم لا تشغل قلوبنا بما تكلفت لنا به، ولا تجعلنا في رزقك خولاً لغيرك، ولا تمنعنا خير ما عندك بشر ما عندنا، واغفر لنا لوالدينا ولجميع المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. موعظة قال بعض العلماء بعد سياقه لقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} أيها الناس لقد كانت الأمة الإسلامية فيما مضى متمسكة بكتاب الله، عاملة بسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، صحيحة في عقائدها، صالحة في أعمالها حسنة في معاملاتها وعاداتها، كريمة في أخلاقها بصيرة في دينها راقية في آدابها وعلومها فكانت عزيزة الجانب، قوية الشوكة، جليلة مهيبة، صاحبة السلطان والصولة على من عداها، واليوم تغير أمرها، وتبدل حالها، اختلت عقائدها وفسدت أعمالها، وساءت معاملاتها وعادتها، وتدهورت أخلاقها وجهلت أمر دينها ودنياها وتأخرت علومها وصنائعها فصارت ذليلة الجانب، ضعيفة الشوكة، ساقطة الكرامة، فاقدة الهيبة مغلوبة على أمرها، متأخرة في مرافق حياتها تتخبط في ظلمات الجهل، وتنقاد للخرافات والأوهام، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} وما ذلك إلا لأنها خالفت كتاب ربها، وانحرفت عن طريق الهادي نبيها، وسارت وراء هواها، وفتنت بزخارف الحضارة المزيفة، والمدنية الكاذبة وظنت الإباحية حرية والخلاعة رُقِيًّا، فتعدت حدود الدين والعقل.

فصل في بيان تحريم الدخان والأدلة على ذلك

وأغضبت خالق الأرض والسماء فساءت حالها، وسلط عليها عدوها، قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أيها الناس لقد ذاقت الأمة وبال أمرها، وعوقبت بشر أمالها، وتجرعت مرارة الذل والهوان، والتفرق والإنحلال، كل ذلك نتيجة لازمة لعدم استقامة الأمة، وانحرافها عن الصراط المستقيم، {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ} كل ذلك نازل بنا وواقع علينا، ونحن لا نفيق من سكرتنا، ولا ننتبه من غفلتنا، ولا ننزجر بالمحن والبلايا، ولا نعتبر بحوادث الأيام فلو كانت لنا نفوس حية وقلوب يقظة وشعور حي وإحساس قوي، لنبهتنا البلايا، وأيقظنا المؤلمات، أيها المسلم: الدين عقيدة صحيحة، وعبادة قوية، ومعاملات حسنة عادلة، وأخلاق كريمة، فانظروا وفكروا، وفتشوا علي أنفسكم، هل أنتم سائرون في أعمالكم وأحوالكم علي منهج الصراط المستقيم، أم أنتم منحرفون عنها، فألزموها السير على الطريق القويم، وفقنا الله وإياكم للأستقامة، وأمننا وإياكم من أهوال يوم القيامة، ووقانا وإياكم شر الحسرة والندامة، وغفر لنا ولكم ولجميع المسلمين، برحمته إنه أرحم الراحمين، صلى الله علي محمد وعلي آله وصحبه أجمعين. فصل في تحريم الدخان وذكر مفاسده ومما يتأكد اجتنابه والتحذير عنه الدخان، لدخوله في قسم المحرمات، ومن الأدلة على تحريمه قوله تعالى في حق رسوله صلى الله عليه وسلم {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} ولا

يمتري عاقل في دخوله في الخبائث وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» . وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: نهى رسول صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر. وفي الحديث الآخر: «ما أسكر الفرق منه، فملء الكف منه حرام» . فهذه الأدلة تدل على حرمته، فإنه تارة يسكر، وتارة يفتر، ومن الأدلة المؤيدة لما سبق، أنه ثبت طبيًا أن التبغ يفتر ومن الأدلة المؤيدة لما سبق، أنه ثبت أن التبغ يحتوي على كمية كبيرة من مادة النيكوتين السامة، وأن شاربه يتعرض لأمراض خطرة في بدنه أولاً، ثم تدريجيًا فيضطرب الغشاء المخاطي ويهيج ويسيل منه اللعاب بكثرة، ويتغير، ويتعسر عليه هضم الطعام، وأيضًا يحدث التهابًا في الرئتين، ينشأ عنه سعال، ويتسبب عن ذلك تعطيل للشرايين الصدرية، وعروض أمراض، ربما يتعذر البرء منها وما يجتمع على باطن القصبة من آثار التدخين، يجتمع مثله على عروق القلب، والقلب يضغط على فتحاته فيحصل عسر في التنفس، ويؤثر على القلب بتشويش انتظام دقاته، وربما أدى بشاربه إلى الموت، فيكون شاربه قد تسبب لقتل نفسه وقتل النفس محرم من الكبائر قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} وقال ع: «من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدَا» . ومن الأدلة على تحريمه أنه إسراف، وليس فيه مباح، بل هو محض ضرر، بإخبار أهل الخبرة من شاربيه وغيرهم، وقد حرم الله الإسراف، وأخبر جل وعلا أنه لا يحب المسرفين قال تعالى: {وَلاَ

ذكر بعض مضار الدخان - من الأدلة على تحريمه أيضا

تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} وقال: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} . والتبذير هو الذي ينفقه الإنسان في غير طاعة وفيما لا منفعة فيه وقال مجاهد: لو أنفق ماله في الحق ما كان تبذيرَا وسئل ابن مسعود عن التبذير فقال: إنفاق المال في غير حقه. وقال ابن عباس: إنفاق المال في غير منفعة. وقال بعضهم: الإسراف الإنفاق في معصية الله تعالى وإن قَلَّتْ. فيتبين لك مما مضى ومما يأتي أن هذا الدخان الخبيث المحرم عين الإسراف والتبذير وقال صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره» . وهذا في الجار الذي بينك وبينه جدار وقال فيه أيضًا: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» . فكيف بالجيران الطيبين الكرام الكاتبين الذين عن اليمين وعن الشمال قعيد وهم الذين يكتبون الحسنات والسيات فالمدخن يؤذيهم نعوذ بالله من حاله والمفروض أنه يستعمل المسواك طيب الرائحة بدلاً من هذه الشجرة الخبيثة ومن خصائص هذا الدخان أنه ينفر عن الطاعة وعن قراءة القران والمكث في المساجد ومحبة أهل الدين والصلاح الخ. ونهى الشرع عن إضاعة المال، وكم من حريق التهم نفوسًا وأموالاً، سببه الدخان، وكم من بريء اتصل بشاربه فصار مثله، وكم من ملايين من الأثمان يوميًا تحرق وتتلف في هذا الدخان الخبيث الكريه فنضرب لذلك مثلاً لما يتلف يوميًا من الفلوس بسبب شرب الدخان، فإذا كانت الدولة عشرين مليونًا، وثلاثة أرباعهم يشربونه، أي

خمسة وسبعون في المائة، وقلنا أدنى مصرف للواحد يوميًا في الدخان ريال، فمعناه أن الذي يتلف على الجميع يوميًا خمسة عشر مليونًا من الريالات وفي الشهر يكون الذي يتلف في سبيل هذا الدخان الخبيث أربعمائة وخمسين مليونًا، وفي السنة خمسة آلاف مليون وأربع مائة مليون من الريالات. نسأل الله أن يعصمنا وإخواننا المسلمين منه ومن سائر المعاصي اللهم صل على محمد وآله وسلم ومن الأدلة على تحريم الدخان كون رائحته كريهة، تؤذي الناس الذين لا يستعملونه، وتؤذي الكرام الكاتبين، وتؤذي المعقبات، وبالخصوص أذيته في مجامع الناس، كاجتماعهم لصلاة الجماعة، ولصلاة التراويح، إن وجد من شاربيه أحد يصلي التراويح، وكذا يؤذي زملاءه، إن كان أستاذًا أو كان تلميذَا، ويؤذي زوجته، ويسري إلى أولاده، لأنه إذا شربه عنده صار تعليمًا فعليًا لهم، وما نالهم من الضرر الناشئ عن الدخان الذي صار هو السبب في شربهم له فلا يسلم والله أعلم من الإثم، وكذلك يسري لقرابته وأصدقائه، وجيرانه وزملائه أحيانًا، وإيصال الضرر إلى المسلم حرام، وأذيته حرام وقد ورد عن صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أكل ثومًا أو بصلاً فليعتزلنا، وليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته» . وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الناس» . وفي الحديث الآخر: «من آذى مسلمًا فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله» . وأذية المسلم محرمة، ومن المعلوم عند كل عاقل منصف، أن رائحة الدخان، لا تقل كراهتها وأذيتها عن كراهية رائحة الثوم والبصل والكراث» . بل هي عند بعضهم أعظم كراهة وهذا الدخان من العادات القبيحة، المضرة بالشارب وغيره فترى الشاب تميل نفسه إليه، ويميل به هواه إلى مشابهة غيره في تعاطيه، وربما عدة تظرفًا، وظنه مدنية وترفًا، فإذا قدم له أحد

ذكر بعض آثار مضار الدخان

زملائه أو أترابه أو غيرهم هذا الدخان لأول مره، وبدأ يستنشق دخانه السام، ولا يلبث إلا قليلاً حتى يأخذ في الإكثار من تناول هذا السم الناقع، فيصبح له عادة لا يستطيع إلى تركها سبيلا، وإذا طال الزمن، ومكث على ذلك مدة: استحكمت في نفسه هذه العادة القبيحة السيئة، وبدأت صحته تضعف، وقوته تنقص، وشهيته للطعام تقل، ورغبته في المشي وما يقوي البدن تضعف، وإذا ذلك الوجه الناظر الحسن المشرق، وذلك الجسم الممتلئ عافية، والشباب الغض قد تغير وعراه الذبول، وتمكن منه النحول، فترى جلده يسترخي، وبصره يضعف، وسمعه كذلك يضعف، وقوة الشهوة تضعف جدًا، وعقله يضعف بإذن الله تبعًا للجسم، ويصبح بعد غضارته ونضارته ذابلاً، وجسمًا ناحلاً، يأخذه سعال مؤلم، ويحس بخفقان قلبه، ودقه وفتور جسمه، ويتمنى بعد ذلك لو يقاسمه إنسان ماله، ويتسبب له في منعه من هذه العادة السيئة الخبيثة، ولكن أنى له بذلك، هيهات إلا أن يشاء الله جل وعلا، فالله على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ثم هذا الشارب للدخان يفقد بشاشته ويحرم صفاء نفسه، وقوة فكره، فتتغير أخلاقه وتتبدل صفاته، وتراه إذا أعوزه الدخان أحيانًا، يذهل نفسه وينكس رأسه كأنما هو في هم ناصب، وعناء وتعب، وقد تتغير سجاياه، فإذا ذلك الحليم الهادئ الأعصاب، غضوب جموح، وإذا ذلك الساكن هائج وثائر، يظهر منه فلتات كلام، يتعجب منها من يعرفه أولاً، وتراه يلجأ إلى تناول الدخان، لتسكين غضبه، وتهدئة ثائرة نفسه. فعلى العاقل أن يبتعد عن هذا وأمثاله من الفسقة قال بعضهم: تَبَاعَدْ عَن الْفُسَّاقِ لا تَقْرَبَنَّهُمْ ... فَقُرْبُهُمُ يُعْدِي الصَّحِيحْ وَيُعْطِبُ فَكَمْ مِنْ صَحِيحٍ صَارَ بِالْقُرْبِ مِنْهُمُوا ... أَخَا عِلَلٍ مِمَّا بِهِمْ فَهُوَ أَجْرَبُ

ما قاله الشيخ عبد الله بن محمد لما سئل عن الدخان رحمه الله

آخر: ... صَاحِبُ أَخَا الدِّينِ كَيْ تَحْظَى بِصُحْبَتِهِ ... فَالطَّبْعُ مُكْتَسَبٌ مِنْ كُلِّ مَصْحُوبِ كَالرِّيحِ آخِذَةٌ مِمَّا تَمُرُّ بِهِ ... نَتْنًا مِنَ النَّتْنِ أَوْ طِيبًا مِنَ الطِّيبِ وختامًا فعلى الإنسان أن يتعاهد أبناءه، وكذلك على المعلم أن بتعاهد الطلاب بالنصح والتحذير من هذا الوباء الفتاك، وعليه أن يراقبهم في كل وقت، وبالأخص في أوقات الفراغ، وأن يحرص كل الحرص على أنهم لا يتصلون بمن يشرب الدخان ليحفظ عليهم صحتهم وراحتهم، ويدفع عنهم شر هذا المرض ويصون أموالهم عن الضياع حتى إذا عقلوا عرفوا لوليهم ذلك الجميل الذي أسداه إليهم. تُعَالِجُ بِالتَّطَبُّبِ كُلِّ دَاءٍ ... وَلَيْسَ لِدَاءِ ذَنْبِكَ مِنْ عِلاجِ سِوَى ضَرَعٍ إِلَى الرَّحْمَن ِمَحْضٍ ... بِنِيَّةِ خَائِفٍ وَيَقِينِ رَاجِ وَطُولِ تَهَجُّدٍ بِطُلابٍ عَفْوٍ ... بِلَيْلٍٍ مُدْلِّهِمِ السِّتْرِ دَاجِ وَإِظْهَارِ النَّدَامَةِ كُلَّ وَقْتٍ ... عَلَى مَا كُنْتُ فِيهِ مِن اعْوِجَاجِ لَعَلَّكَ أَنْ تَكُونَ غَدًا عَظِيمًا ... بِبُلْغَةِ فَائِزٍ مَسْرُورِ نَاجِ اللهم يا هادي المضلين ويا راحم المذنبين، ومقيل عثرات العاثرين، نسألك أن تلحقنا بعبادك الصالحين الذين أنعمت عليهم من النبيين والصدقيين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا. والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. (فَصْلٌ) سئل الشيخ عبد الله بن محمد رحمه الله عن التنباك الذي اعتاد شربه كثير من الناس؟ فأجاب رحمه الله: لا ريب أن الله تعالى بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بجوامع الكلم، وهي من خصائصه التي خصه الله بها من بين الأنبياء، كما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ذكر خصائصه: «وأوتيت جوامع الكلم» . وهي أن يقول الكلمات اليسيرة، الجامعة لأحكام كثيرة، لا تعد ولا تحصى، ومن

ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر حرام» . فدخل في هذه الكلمة جميع المسكرات، التي وتزيل العقل، من الأطعمة والأشربة الموجودة في زمانه والحادثة بعده صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن المسكر وهو الخمر الذي يغطي العقل ويزيله، كما في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام» . ولفظ مسلم: «وكل مسكر حرام» . وعن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن البتع؟ فقال: «كل شراب أسكر فهو حرام» . وفي رواية لمسلم: «كل شراب مسكر حرام» . ونقل ابن عبد البر إجماع أهل العلم بالحديث على صحته وأنه أثبت شيء في تحريم المسكر، وجاء التصريح بالنهي عن قليل ما أسكر كثيره، إذا تقرر هذا. فاعلم أن المسكر الذي يزيل العقل نوعان (أحدهما) ما كان فيه لذة وطرب. قال العلماء: وسواء كان من حب أو من تمر أو لبن أو غير ذلك، وأدخلوا في ذلك الحشيشة التي تعمل من ورق العنب أو غيرها، مما يؤكل لأجل لذته وسكره (والثاني) ما يزيل العقل ويسكر، ولا لذة فيه ولا طرب، كالبنج ونحوه، وأكثر العلماء الذين يرون تحريم ما أسكر كثيره، يرون حد من شرب ما يسكر كثيره، وإن اعتقد حله متأولاً، وهو قول الشافعي وأحمد. قال: وبما ذكرنا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام أهل العلم يتبين لك بيان تحريم التَّتِنِ الذي كثر في هذا الزمان استعامله وصح بالتواتر عندنا والمشاهدة أسكاره في بعض الأوقات، خصوصًا إذا أكثر منه، أو تركه يومًا أو يومين لا يشربه ثم

حد شارب الدخان أو زارعه أو من وجدت منه رائحته

شربه فإنه يسكر ويزيل العقل، حتى إن صاحبه يحدث عند الناس ولا يشعر بذلك، نعوذ بالله من الخزي وسوء البأس، فلا ينبغي لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلتفت إلى قول أحد من الناس إذا تبين له كلام الله، وكلام رسوله في مثله من المسائل، وذلك لأن الشهادة بأنه رسول الله تقتضي طاعته وأن لا يعبد الله إلا بما شرع وأن يقدم أمره على قول كل أحد من الناس. وقال رحمه الله: والذي يشرب التنباك إن كان شربه له بعد ما عرف أنه حرام فيضرب ثمانين جلدة، ضربًا خفيفًا ما يضره، فإن كان شربه وهو جاهل فلا حد عليه، ويؤمر بالتوبة والاستغفار، والذي يقول لكم من علماء تهامة إن التِّتِنَ ليس حرامًا ولا حلالاً فهذا جاهل ما يعرف ما يقول، ولا يلتفت لقوله وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر حرام» . «وما أسكر كثيره حرم قليله» . وأجاب أيضًا: إذا شهد اثنان على ريح التِّتِنِ من فم رجل جلد ثمانين جلدة. وأجاب أيضًا: وأمَّا شارب التِّتِنَ إذا شهد عليه شاهدان أنهم رأوه يشربه فيجلد أربعين جلدة. وأجاب أيضًا: وأما شارب التِّتِنِ فيؤدب بأربعين جلدة، فإن لم ينته بذلك أدب بثمانين. وأجاب أيضًا: والذي زرع التنباك يؤدب، أو يوجد في بيته أو متاعه أو يشربه يؤدب.

وما قاله العلماء لما سئلوا عن حكمة الشيخ حمد بن معمر والشيخ عبد الله أبو بطين والشيخ خالد بن محمد من فقهاء المالكية

وأجاب أيضًا: إذا شهد اثنان على ريح التتن من فم رجل يحد، لأن الصحابة رضي الله عنهم حدوا على ريح الخمر، وهذا خمر، لأنه مسكر خمر وكل مسكر خمر. وسئل الشيخ حمد بن ناصر بن معمر عن التِّتِنِ؟ فأجاب: هو حرام لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر خمر» . وفي لفظ: «حرام» . وفي لفظ: «ما أسكر كثيره، فملء الكف منه حرام وهذا عام في كل مسكر» . فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم وقد نص العلماء على ذلك. وسئل عن شارب التنباك؟ فأجاب: وأما شارب التنباك فيجلد أربعين جلدة. وقد سئل الشيخ عبد الله أبا بطين عن التنباك؟ فأجاب بقوله: الذي نرى فيه التحريم، لعلتين (أحدهما) حصول الأسكار فيما إذا فقده شاربه مدة ثم شربه، أو أكثر منه، وإن لم يحصل إسكار حصل تخدير وتفتير، وروى الإمام أحمد حديثًا مرفوعًا أنه صلى الله عليه وسلم: نهى عن كل مسكر ومفتر (والعلة الثانية) أنه منتن مستخبث عند من لم يعتده. واحتج العلماء بقوله تعالى {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} وأما من ألفه واعتاده فلا يرى خبثه، كالجعل لا يستخبث العذرة وكالخنزير يترك الطيبات ويأكل النجاسات وكالهدهد يأكل العذرة. وأجاب الشيخ خالد بن أحمد بن أحمد من فقهاء المالكية بقوله: لا تجوز إمامة شارب التنباك، ولا يجوز الاتجار به ولا بما يسكر.

وممن حرم الدخان ونهى عنه من علماء مصر الشيخ أحمد السنهوري البهوتي الحنبلي، وشيخ المالكية اللقاني، ومن علماء دمشق النجم الغزي العامري الشافعي، ومن علماء اليمن الشيخ إبراهيم بن جمعان، وكثير من العلماء المعاصرين في المملكة العربية السعودية، كالشيخ عبد الرحمن الناصر السعدي، والشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، وعلماء كثيرون يطول علينا تعدادهم، فنكتفي بمن ذكرنا، ومن أراد زيادة على هؤلاء فليسأل، ولا أظن يفتي بحله عالم عاقل، يعلم مضاره دِينِيًّا واقتصاديًا واجتماعيًا وخلقيًا وصحيًا، بل ولا أظن عالمًا يتوقف بالقول بتحريمه، حتى ولو أنه ممن ابتُلِيَ بشربه لوضوح مضاره، وبالأخص لشرابه، وان شككت فاسأل منصفيهم يخبرونك ويحذرونك، اللهم اعصمنا من جميع المعاصي، وامنن علينا يا مولانا وجميع المسلمين بالتوفيق للعمل الصالح، والاستقامة على الطريق، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، برحمتك يأرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) وقال في تيصرة الإخوان: وقد أشغل جهايذة الأطباء قوة أفكارهم، ودققوا النظر غاية في اكتشاف أضرار التبغ بنوعيه المعلومين، وشحذوا أقلامهم في بيان ما ظهر لهم فيه، بعد التحقيق والتدقيق التَّامَّيْنِ، فذكروا (أولاً) أنه من الفصيلة الباذنجانية التي تشتمل على أكثر النباتات السامة، كالبلادوتا والبرش والبنج، قالوا: وهو

نوعان، توتون وتنباك، ولا يختلف أحدهما عن الآخر في تركيبه الكيماوي إلا قليلا، فانهما مركبان من أملاح البوتاس والنوشادر، ومن مادة صمغية، ومادة أخرى مرة حريقة، تسمى نيكوتين. قالوا: وهي سم من أشد السموم فعلاً، بحيث أنه لو وضعت نقطة منها على لسان كلب لمات في أقرب زمن، مع أن الكلب أقوى تحملاً للسموم من الإنسان، ومن سائر أنواع الحيوان، وذكروا أن الدخان الذي يتصاعد عن أوراق التبغ المحترقة، يحوي كمية وافرة من المادة السامة هي النيكوتين، فإذا دخل الفم والرئتين أثر فيهما تأثيرًا موضعيًا وعموميًا لأنه عند دخوله الفم توتر المادة الحريقة السامة التي فيه - وهي النيكوتين - في الغشاء المخاطي فتهيجه تهيجًا قويًا، وتسيل منه كمية زائدة من الطعام وتغير تركيبة الكيماوي، بحيث، تقلل فعله في هضم الطعام وكذلك تفعل في مفرز المعدة، مثل ما فعلت في مفرز الفم، فيحصل حينئذ عسر في مفرز الهضم، وعند وصول الدخان إلى الرئتين على طريق الحنجرة، تؤثر فيها التهابًا قويًّا مزمنًا، فتهيج السعال حينئذ، لإخراج ذلك المفرز الغزير، الذي هو البلغم المعروف ويتسبب عن ذلك تعطيل الشرايين الصدرية وعروض أمراض صدرية يتعذر البرء منها. وبالجملة فقد تحقق عن عامة المحققين، من أئمة الطب، أن مضار الدخان - أعم من أن يكون توتونًا أو تنباكًا - كثيرة، قالوا: ويشعر بأعراضها الجزئية كل من يباشر استعماله قبل الاعتماد عليه، وهي دوران وغثيان، وقيء وصداع، وارتخاء العضلات أي الأعصاب، ثم سبات أي راحة وهو كناية عن حاله التخدير الذي هو من لوازم التبغ، وما ذكر

الدخان لا يتشبث به غالبا إلا وقت السفه وقلة المعرفة

من الأعراض الناشئة عنه، في بدء استعماله قبل الأعتماد عليه، لما يحويه من المادة السامة التي هي النيكوتين، ويجد فساد الذوق وعسر الهضم، وقلة القابلية للطعام وهذه الأشياء كلها تحدث من تخلل الدخان في اللعاب، فيسبب اضطرابًا معديًّا، وكثيرًا ما يحدث المرض المعروف بالبيروسس، وهو الحرقة المعدية، وهذا كله في استعماله على سبيل القلة والإعتدال، وأما الإكثار منه فهو مفض إلى عطب ليس له زوال، ومن المعلوم الثابت شرعًا أن كل ما أضر بالصحة يحرم تعاطيه قطعًا، ولذلك حرم الأكل فوق الشبع، وأكل الطين، لما فيهما من الأضرار بالصحة، قال عليه الصلاة والسلام: «من أكل الطين فكأنما أعان على قتل نفسه» . وفي رواية: «فإنما أعان على قتل نفسه» . وليس التدخين أقل ضررًا من أكل الطين، بل هو أشد ضررًا منه بكثير، قال: وقد سألت عدة من الأطباء الموثوقين بهم عن تفاوتهما في الضرر؟ فأجابوا: بأنه لا نسبة بينهما في الضرر تفاوتًا كليًا، حيث أن الجزء الفعال، الذي ينشأ عن التدخين وهو النيكوتين، لا يعادله شيء في الأضرار، كما هو ظاهر لدى الامتحان، فيكون نهي الشارع صلى الله عليه وسلم عن أكل الطين، لما فيه من الضرر، شاملاً لفعل التدخين بالأولوية حيث كان الضرر فيه أشد وأعظم، كما علمته، قال: وقد ذكر جمع من أكابر العلماء وجهابذة الأطباء: أن من العقل - فضلاً عن الشرع - وجوب اجتناب التدخين، حفظًا للصحة التي هي من الله تعالى منة ومنحة، ودفعا لدواعي الضعف الذي هو من مقدمات الهلاك والدمار، كما هو معلوم لذوي الأستبصار كيف وقد قال الله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} على أنه لا يقتصر ضرر التدخين على المدخن وحده، بل يعم حلساءه في المكان، لأنه يفسد الهواء، فيتعين الفرار حينئذ من الجلوس في أماكن التدخين، ولاسيما إذا كانت مغلقة

الأبواب. قالوا: ويسري الضرر أيضًا إلى نسله، فيجعله ضعيف البنية، شاحب اللون، فاسد المزاج، لتمكن سم التبغ في جسم الوالد أما سريان الضرر قبل الولادة، فيما إذا كانت الأم تشرب أيضًا كالأب، فمن تغذيته حال كونه جنينًا، من دم أمه الفاسد بسم التبغ، الذي هو النيكوتين، حيث أنه يفعل على الحويصلات العصبية فعلاً مؤثرًا، يتصل بالجنين. وأما سريان الضرر عليه بعد الولادة، فمن ثلاث جهات (أحدهما) تَغَذِيهِ من اللبن المتحمل سموم التبغ، المفسدة للمواد الغذائية، (ثانيها) استنشاقه الهواء الفاسد بتدخين الأبوين أو أحدهما، (ثالثهما) صيرورة الأبوين سببًا حاملاً للولد على سلوك تلك العادة الوخيمة، وذلك لأن الطفل من طبعه التقليد والتشبه بمن يراه، فإذا نظر أبويه يدخنان، وعلى فرض أنهما ينهيانه عن ذلك فنظر لكونه لا يفهم سر النهي لا ينتهي من غير مبالاة، إلى أن يصير التدخين عادة لازمة، فإذا اعتاد هذا المسكين التدخين من مبدأ نشأته، فهناك الطامة الكبرى، والبلية العظمى، لأنه لا يلبث قليلاً إلا ويشكو من قلة القابلية ووجع الصدر، ويصحبه أيضًا سعال قوي، مزعج للصدر، ولا يزال يزداد ضعفًا على ضعف، وسقمًا على سقم إلى أن يمضي عمره في الأسقام والآلام. والله أعلم. اللهم اجعل الإيمان هادمًا للسيئات، كما جعلت الكفر هادمًا للحسنات ووفقنا للأعمال الصالحات، واجعلنا ممن توكل عليك فكفيته، واستهداك فهديته ودعاك فأجبته واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.

إما إذا ميز وعقل وعلم مضاره الصحية والدينية والمالية والأخلاقية والاجتماعية فلا ويلي ذلك قصائد في ذم الدخان

(فَصْلٌ) قَالَ: وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ عَادَةَ التَّدْخِينِ مِنْ أَقْبَحِ العَوْائِدِ، لأنَّهَا تَسْتَبْعِدُ مُتَّبِعِيهَا، وَتُقَيِّدُهُمْ بِسَلاسِلَ وَأَغْلالٍ، بِحَيْثُ أَنَّهُمْ إِذَا أَرَادُوا التَّخَلُّصَ لا يَجْدُونَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلا، وَهِيَ عَادَةٌ لَوْ لَمْ يَتَّبِعْهَا الإِنْسَانُ في زَمَنِِ صِبَاهُ - الذِي هُوَ زَمَنُ جَهْلِهِ، وَعَدْمِ تَبَصُّرِهِ بِالعَوَاقِبِ -، لَكَانَتْ قَلِيَلةً جِدًا بَيْنَ أَفْرَادِ النُّوعِ الإِنْسَانِي وَالبُرْهَانُ عَلَى ذَلِكَ مَا تَرَاهُ مِنْ غَيْرِ المُدَخِّنِ، فَإِنَّهُ إِذَا شَبَّ وَصَارَ بِتَمَامِ التَّمْيِيزْ، وَتَحَقَّقَ مَضَارَّ الدُّخَانِ الصِّحِّيَّةِ وَالمَاليةِ، وَالأَخْلاقِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ، عَنْ طَرِيقِ الاسْتِقْصَاءِ وَالنَّظَرِ أَوْ عَنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ وَالخَبَرِ، حَمِدَ اللهَ تَعَالَى حَمْدًا كَثِيرًا عَلَى عَدَمِ دُخُولِهِ تَحْتَ سَيْطَرَةِ تِلْكَ العَادَةِ الوَخِيمَةِ، وَمَنْ تَكُنْ هَذِهِ حَالَتُهُ فَإِنَّهُ يَتَبَاعَدُ بِلا شَكِّ عَنِ السُّلُوكِ فِي هَذَا الطَّرِيق، الذِي يوصِّلُهُ إِلَى فِرَاشِ التَّمْرِيضِ، بِسَلْبِ الصِّحَّةِ التي يُقَدَّرُ قَدْرُهَا. قَالَ: هَذَا وَإِنَّ التَّعَوُّدَ عَلَى التَّدْخِينِ لا يَحْصَلُ غَالبًِا إِلا فِي أَيَّامِ الصِّبَا، كَمَا عَلِمْتَهُ آنِفَا، حَيْثُ يَكُونُ الإِنْسَانُ حِينَئِذٍ بِتَمَامِ الاسْتِعْدَادِ لِلتَّقْلِيدِ فِيمَا يَرَاهُ وَيَسْمَعُهُ مِنْ سِوَاهُ، فَتَرَى الصَّبِيَّ يُدَخِّنُ تَشَبُهًا بِغَيْرِهِ، رَغْمًا عَنِ اسْتِكْرَاهِهِ لِرَائِحَةِ الدُّخَانِ، وَمَرَارَةِ طَعْمِهِ مُتَكَلِّفًا تَحَمُّلَ أَثْقَالِ أَعْرَاضِهِ المُتَقَدِّمَةِ الذِّكْرِ، مِنْ دَوَرَانِ الرَّأْسِ وَصُدَاعِهِ، وَغثَيَانِ الصَّدْرِ وَأَوْجَاعِهِ فَإِذَا تَعَوَّدَهُ بَعْدَ طُولِ المُكَابَدَةِ، وَتَحَمُّلِ المَشَاقِ وَتَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِهِ لا يَجِدُ لَهُ غِنَىً عَنْ تَعَاطِيهِ، لَكِنَّهُ كُلَّمَا كَبُرَ سِنُّهُ وَزَادَ لا يَقْرِنُ القَوْلَ بِالفِعْلِ، إِلَى أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْهُ الدَّاءُ، وَيَصِلُ إِلَى حَالَةٍ لا يَنْفَعُهُ الدَّوَاءُ فَيْبَقَى هَذَا المِسْكِينُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ فِي مُقَاسَاتِ الآلامِ وَشِدَّةِ الأَسْقَامِ، يَغْبِطُ

الأَصِّحَّاءِ عَلَى التَّوَسّدِ فَي الفِرَاشِ، وَطِيبِ المَنَامِ وَيُكْثِرُ مِنَ التَّأَوُّهُ وَالأَنِينِ، وَيَتَأَسَّفُ عَلَى فَقْدِ الصِّحَّةِ التِي بَاعَهَا بِلَذَّةِ التَّدْخِينِ، فَالحَذَرَ الحَذَرَ، وَالفِرَارَ الفِرَارَ مِنْ لَذَّةٍ تُوجِبُ البَوَارَ وَالدَّمَارَ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الدِّرَايَةِ فِي هَذَا الشَّأْنِ مِنْ أَطِبَّاءِ الزَّمَان، مَا نَصُّهُ: أَمَّا التَّدْخِينُ بِالتُوتُن والتِّنْبَاكِ فَإِنَّهُمَا مُحْتَوِيَانِ عَلَى مَادَّةٍ سُمِّيَّةٍ عَظِيمَةِ التَّأْثِيرِ، تُسَمَّى نِيكُوتِينْ، فَلَوْ استُخْلِصَتْ وَحْدَهَا، وَجُرِّبَ فِعْلُهَا، بِوَضْعٍ جُزْءٍ يَسِيرٍ مِنْهَا عَلَى لِسَانِ كَلْبٍ لَقَتَلَتْهُ حَالاً بِأَسْرَعِ مَا يُمْكِنُ، وَهَذَا السُّمُّ تَحْتَ رِدَاءٍ رَقِيقٍ، بِوَاسِطَةِ التَّدْخِينِ المُسْتَعْمَلِ عُمُومًا، وَقَدْ قِيلَ: تَرُومُ الشَّهْدَ مِنْ أَنْيَابِ أَفْعَى ... وَطَعْمَ الدِّبْسِ مِنْ مُرٍّ غَرِيزِي كِلا الأَمْرَيْنِ لَمْ يَطْلُبْهُ إِلا ... جَهُولُ جَهْلُه المُرْدِي غَرِيَزِي لِذَاكَ سَرَيْت بِالإِفْسَادِ تَرْجُو ... صَلاحَ الحَالِ مِنْ مَلِكٍ عَزِيزِ رُوَيْدَكَ غَرَّكَ الشَّيْطَانُ حَتَّى ... ضَلَلْتَ عَنِ الحَقِيقَةِ يَا عَزِيزِي إِذَا رُمْتَ الصَّلاحَ أَنِبْ لِرَبٍّ ... تَفُزْ بِالخَيْرِ وَالحِرْزِ الحَرِيزِ آخر: ... إِنَّ الأَفَاعِي وَإِنْ لانَتْ مَلامِسُهَا عِنْدَ التَّقَلُّبِ فِي أَنْيَابِهَا العَطَبُ ... ›? فَمِنْ مَضَرَّاتِهِ الكُلِّيَّةِ: تَخْرِيبُ كُرَيَّاتِ الدَّمِ، وَمِنْهَا التَّأْثِيرُ عَلَى القَلْبِ، وَمِنْهَا مُعَارَضَتُهُ لِشَهْوَةِ الطَّعَامِ، وَمِنْهَا انْحِطَاطُ القُوَى العَصَبِيَّةِ عَامَّةً، وَيَظْهَرُ هَذَا بِالخُدُورِ وَالدَّوَرَانِ الذِي يَحْصُلُ حُدُوثُهُ عَقِبَ اسْتِعْمَالِ التَّدْخِينِ لِمَنْ لَمْ يَأْتَلِفَهُ، وَلِمَنْ كَانَ مُؤْتَلِفًا وَانْقَطَعَ عَنْهُ مُدَّةَ عَشْرِ سَاعَاتٍ تَقْرِيبًا، وَمِنْ مَضَرَّاتِهِ إِحْدَاثِهِ لِلْجُنُونِ التُّوتُونِيّ. قَالَ: وَقَدْ اطَّلَعْتُ عَلَى رِسَالَةٍ لِلْمُحَقِّقِ مُحَمَّد فِقْهِي العَيْنِيَ نَزْيلُ

الأسِتَانَة العَلِيَّةْ، وَهُوَ مِنْ فُقَهَاءِ الحَنَفِيَّةِ، ذَكَرِ فِيهَا تَحْرِيمُ الدُّخَانِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ (أَحَدُه) : كَوْنُهُ مُضِرًا بِالصِّحَّةِ بِأَخْبَارِ الأَطِبَّاءِ المُعْتَبَريْنَ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذِلَكَ يَحْرُمُ اسْتِعْمَاله اتِّفَاقًا. (ثَانِيهَا) : كَوْنُهُ مِنَ المُخَدِّرَاتِ المُتَّفَقُ عَلَيْهَا عِنْدَهُمْ، المَنْهِيّ عَنِ اسْتِعْمَالِهَا شَرْعًا، لِحَدِيثِ أَحْمَدَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُلِّ مُسْكِر وَمُفَتِّرٍ، وَهُوَ مُفَتِّرٌ بِاتِّفَاقِ الأَطِبَّاءِ، وَكَلامُهُمْ حٌجَة فِي ذَلِكَ وَأَمْثَاله، سَلَفًا وَخَلَفًا. (ثَالِثُهُمَا) : كَوْنُ رَائِحَتِهِ الكَرِيهَةِ تُؤذِي النَّاسَ الذِينَ لا يَسْتَعْمِلُونَهُ، وَعَلَى الخُصُوصِ في مَجَامِعِ الصَّلاةِ وَنَحْوِهَا بَلْ وَتُؤْذِي المَلائِكَةَ المُكَرَّمِينَ، وَقَدْ رَوَى الشَّيْخَانُ فِي صَحِيحِهِمَا عَنْ جَابِرِ بِن عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَرْفوعًا: «مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزِلْنَا وَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدنَا، وَلْيَقْعُد في بَيْتِهِ» . وَمَعْلُومٌ أَنَّ رَائِحَة التَّدْخِينِ لَيْسَتْ أَقَلَّ كَرَاهَةً مِنْ رَائِحَةِ مَا ذُكِرَ مِنَ الثُّومِ وَالبَصَلِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (إَنَّ المَلائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ النَّاسُ) ، وفي الحَدِيثُ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ آذَى مُسْلِمًا فَقَدْ آذَنِي، وَمَنْ آذَنِي فَقَدْ آذَى اللهَ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. (رَابِعُهَا) : كَوْنُه سَرَفًا إِذْ لَيْسَ فِيهِ نَفَعٌ مُبَاحٌ، بَلْ فِيهِ الضَّرَرُ المُحَقَّقُ، بِإِخْبَارِ أَهْلِ الخِبْرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَحُرْمَةَ مَا فِيهِ السَّرَفُ وَالضَّرَرُ، ثَابِتَةٌ شَرْعًا وَعَقْلاً، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مُفَصَّلاً. قَالَ: وَقَدْ نَصَّ فِي (نِصَابُ الاحْتِسَابَ) وَغَيْرِهِ مِنَ المُعْتَبَرَاتِ الفِقْهِيَّةِ عَلَى: أَنَّ اسْتِعْمالَ المُضِرِّ حَرامٌ اتفاقًا. قَالَ: وَقَالَ العَلامَةُ أَحْمَدُ العَبجِيّ الحَلَبِيَ في كِتَابِ الأَشْرِبَةِ مِنْ

شَرْحِهِ عَلَى (الدُّرِّ المُخْتَارِ، شَرْحُ تَنْوِيرِ الأَبْصَارِ) بَعْدَ نَقْلِ الشَّارِحِ تَحْرِيمُ الدُّخَانِ عَنْ شَيْخِهِ النَّجْمُ الغَزِّيْ: وَقَدْ أَوْضَحْنَا تَحْرِِيمِه في رِسَالَةٍ لَمْ تُسْبَقْ بنَظِير، أَدْخَلْنَا تَحْرِيمَهُ فِيهَا تَحْتَ الأُصُولِ الأَرْبَعَةِ، وَرَدَدْنَا كُلَّ مَا نَافَاهُ مِنْ كَلامِ الغَيْرِ رَادًّا جَامِعًا مَانِعًا، مُؤيَّدًا بالحُجَجِ. اللَّهُمَّ الْهِمْنَا ذِكْرِكَ وشُكْركَ وَوَفِقْنَا لِطَاعَتِكَ وامْتِثَالِ أَمْرِكْ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. شِعْرًا: ... يَا مَنْ يَرُومُ التُّقَى مِنْ كُلِّ مَأْثَمَةٍ اسْلكْ سَبِيلَ الهُدَى وَامْشِ عَلَى السُّنَنِ وَلا تَحُدْ أَبَدًا عَنْ ذِي الطَّرِيقِ تَفُزْ وَخَالِفَ النَّفْسَ وَاقْهَرْهَا عَنِ المِحَنِ إِيَّاكَ مِنْ مِحْنَةٍ تُلْقِيكَ فِي عَطَبٍ لاسِيَّمَا مَا فَشَى فِي النَّاسِ مِنْ تُتُنِ مُخَدرٌ الجِسْمِ لا نَفَعٌ بِهِ أَبَدَا بَلْ مُورِثُ الضُّرِّ وَالأَسْقَامِ فِي البَدَنِ وَحَيْثُ قَدْ ثَبَتَتْ هِذِي الصِّفَاتُ لَهُ فَاجْزِمْ بِتَحْرِيمِهِ إِنْ كُنْتَ ذَا فِطَنْ وَإِنْ تُرِدْ ثِقَةً فِيمَا أَقُولُ فَسَلْ بِهِ الخَبِيرَ تَنَلْ مِنْ عِلْمِهِ الحَسَن ... ›? وقال آخر: ... كَمْ في الدُّخَانِ مَعَائِبٌ وَمَكَارِهٌ دَلَّتْ رَذَائِلُهُ عَلَى إِنْكَارِهِ ... ›?

.. سَأُرِيكَ بَعْضًا مِنْ مَعَائِبِ شُرْبِهِ يَا صَاحِبي أَحْبَبَتْنِي أَمْ كَارِهِ يُؤْذِي الكِرَامَ الكَاتِبِينَ بَنَتْنِهِ وَأَمَاَم وَجْهِكَ شُعْلَةٌ مِنْ نَارِهِ كَمْ مِنْ نُقُودٍ يَا فَتَى وَملابِسٍ أَتْلَفْتَهَا بِشَرَائِهِ وَشَرَارِهِ وَبِهِ الثَّاَنيَا اللؤْلُؤِيَّةِ أُفْسِدَتْ بِقَبِيحِ لَوْنِ سَوَادِهِ وَصَفَارِهِ كَانَتْ كَمِثْلِ الدُّرِ حُسْنًا شَانَهَا مِنْ نَفْخِهَا الشِّدْقَيْنِ فِي مِزْمَارِهِ وَتَرَا الصَّفَارَ عَلَى شَوَارِبِهِ بَدَا مِنْ جَذْبِهِ الدُخَانَ مِنْ مِنْخَارِهِ وَتَرَى الذِي فِي شُرْبِهِ مُتَوِلِهًا يَلْتَذُّ فِي الصُّهْرُوجِ بِاسْتِكْثَارِهِ وَتَرَا الهَوَامَ إِذَا أَحَسَّ بِرِيحِهِ تَرَكَ المَكَانَ وَفَرَّ مِنْ أَوْكَارِهِ وَالنَّحْلُ لا تَلْوِي إليه لِخُبْثِهِ أَبَدًا وَلا تَدْنُو إِلَى أَزْهَارِهِ وَلِنَتْنِهِ وَلِقُبِحِهِ فِي طَعْمِهِ لَمْ تَدْنُ سَائِمَةٌ إِلَى أَشْجَارِهِ إِنْ خَالَطَ المَأْكُولُ مِنْهُ دُرَيْهِمٌ غَلَبَتْ خَبَائِثُه عَلَى قِنْطَارِهِ ... ›?

.. وَإِذَا تَنَاوَلَ سَاخِنًا مِنْ مَأْكَلٍ سَالَ أَنْفُهُ وَأَنِفْتَ مِنْ أَقْذَارِهِ فَإِنْ انْتَهَيْتَ وَمَا أَظُنَّكَ تَنْتَهِي وَرَغِبْتَ عَنْهُ نَجْوَتَ مِنْ أَوْعَارِهِ وَأَرَحْتَ نَفْسَكَ مِنْ عَنَا تَحْصِيلِهِ وَحَفِظتَ مَالَكَ مِنْ مُصَابِ خَسَارِهِ ... ›? وقال آخر: ... يَا شَارِبَ التِّنْبَاكِ مَا أَجَرَاكَا مَن ذَا الذِي فِي شُرْبِهِ أَفْتَاكَ أَتَظُنَّ أَنَّ شَرَابَهُ مُسْتَعْذَبٌ أَمْ هَلْ تَظُنَّ بَأَنَّ فِيِه غِذَاكَا هَلْ فِيهِ نَفْعٌ ظَاهِرٌ لَكَ يَا فَتَى كَلا فَلا فِيهِ سِوَى إِيَذَاكَا وَمَضرَّةٌ تَبْدُو وَخُبْثُ رَوَائِحٍ مَكْرُوهَةٍ تُؤذِي بِهَا جُلَسَاكَا وَفُتُورُ جُسْمٍ وَارْتُخَاءُ مَفَاصِلٍ مَعَ ضِيقِ أَنْفَاسٍ وَضُعْفِ قُوَاكَا وَتَلافُ مَالٍ لا تَجِدْ عِوَضًا لَهُ إَلا دُخَانًا قَدْ حَشَى أَحْشَاكَا وَرَضَيْتَ فِيهِ بَأَنْ تَكُونَ مُبَذِّرًا وَأَخُو المُبَذِّرِ لَمْ يَكُنْ يَخْفَاكَا ... ›?

ما قاله الشيخ محمد الطريبشي المالكي في الدخان

.. فَإِذَا حَضَرْتَ بِمَجْلِسٍ وَاسْتَنْشَقُوا مِنْ فِيكِ رِيحًا يَكْرَهُونَ لِقَاكَا يَكْفِيكَ ذَمًّا فِيهِ أَنَّ جَمِيعَ مَن قَدْ كَانَ يَشْرَبُهُ يَوَدُّ فِكَاكَا فَارْفُقْ بِنَفْسِكَ وَاتَّبِعْ آثَارَ مَنْ أَهْدَاكَ لا مَنْ فِيهِ قَدْ أَغْوَاكَا إِنْ كُنْتَ شَهْمًا فَاجْتَنِبْهِ وَلا تَكُنْ فِي شُرْبِهِ مُسْتَتْبِعًا لِهَوَاكَا إِنَّي نَصَحْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِنَصِيحتى وَنَهَيْتُ فَاتْبَعْ قَولَ مَنْ يَنْهَاكَا وَبَذْلَتُ قَوْلِي نَاصِحًا لَكَ يَا فَتَى فَعَسَاكَ تَقْبَلُ مَا أَقُولَ عَسَاكَا ... ›? وَقَالَ الشَّيْخُ العَلامَةُ الفَقِيهُ مُحَمَّدُ الطَرَابِيشِي الحَلَبِيّ المَالِكِيّ بَعْدَ كَلامٍ لَهُ طَوِيلٍ عَلَى الدُّخَانِ مَا لَفْظُهُ: وَبِالجُمْلَةِ فَقْدَ تَحَرَّرَ مِنْ مَجْمُوعِ مَا تَقَرَّر الحُكْمُ عَلَى الدُّخَانِ المَشْهُورِ بِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ المُخَدَّرَاتِ التِي يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا، وَأَنَّهُ مُضِرٌّ بِالصِّحَّةِ ضَرَرًا بَيِّنًا، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ حَرَامٌ بِالاتِّفَاقِ، وَلِذَلِكَ - أَيْ لِمَا ذُكِرَ مِنْ مَضَرَّاتِهِ الوَخِيمَةِ - حَرُمَ شُرْبُهُ دِينًا - أَيْ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ - عِنْدَ الأَئِمَّةِ المحَققينَ، كَمَا حُرِّمَ طِبًّا، إِلَى أَنْ قَالَ: وَالنَّصُّ عَلَى المَنْعِ مِنْ شُرْبِهِ وَبَيْعِهِ يَقْتَضِي تَحْرِيمهما، إِذْ مُفَاُد الْمَنْعِ التَّحْرِيمُ، وَحَيْثُ حَرُمَ بَيْعُهُ لِحُرْمَةِ شُرْبِهِ، حَرُمَ شِرَاؤُهُ أَيْضًا لأنَّ كُلَّ مَا يَحْرُمُ بَيْعُهُ يَحْرُمُ شِرَاؤُهُ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَحَلِّهِ. فَقِفْ عِنْدَ هَذِه الفُتْيَا لِهَذا المَالِكِيّ، وَعِنْدَ فُتْيَا الحَنَفِيّ التي قَبْلَهَا تَعْرِفُ كَلامَ المُحَقِّقِينَ رَحْمَةُ اللهِ عَلَى أَهْلِ العِلْمِ.

فصل في تحريم التصوير والأدلة على تحريمه استعمالا واقتناء وبيعا وشراء وهبة واتهابا إذا كأنت الصور لذوات الأرواح

اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَان وَثَبَّتْ مَحَبَّتكَ فِيهَا وَقَوِّهَا وَأَلْهِمْنَا حَمْدَكَ وَشُكْرَكَ وَارْزُقْنَا حُبَّ أَوْلِيَائِكَ وَبُغْضَ أَعْدِائِكَ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. فَصْلٌ: في بَيَانِ تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ وَاسْتِعْمَاله وَاتِّخَاذِهِ اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَاكَ وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ لَمَا يُحِبّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ وَجَنِّبْنَا وَإِيَّاكَ وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ مَا يَكْرَهُهُ وَلا يَرْضَاهُ، أَنَّ مِمَّا يَتَأَكَّدُ اجْتِنَابُهُ وَالتَّحْذِيرُ عَنْهُ - فِي رَمَضَانَ وَغَيْرُهُ - التَّصْوِيرُ لِذَوَاتِ الأَرْوَاحِ مُجَسَّدَةً أَوْ غَيْرُ مُجَسَّدَةٍ، وَقَدْ كَانَ بِسَبَبِهِ حَدَثَ الشِّرْكُ الأَكْبَرُ فِي بَنِي آدَمَ، كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِير: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنَا مِهْرَانُ عَنْ مُوسَى عَنْ مُحَمَّدِ بن قَيْسٍ في قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} قَالَ: كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ، وَكَانَ لَهُمْ أَتْبَاعٌ يَقْتَدُونَ بِهِمْ، فَلَمَّا مَاتُوا قَالَ أَصْحَابُهُمْ الذِينَ كَانُوا يَقْتَدُونَ بِهِمْ: لَوْ صَوَّرْنَاهُمْ كَانَ أَشْوَق لَنَا إِلَى العِبَادَةِ إِذَا ذَكَرْنَاهُمْ، فَصَوَّرُوهُمْ. فَلَمَّا مَاتُوا جَاءَ آخَرُونَ دَبَّ إليهم إِبْلِيسُ، فَقَالَ: إَنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَبِهِمْ يُسْقَوْنَ المَطَرَ، فَعَبَدُوهُم، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا – فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} هَذِهِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَلَمَا هَلَكُوا صَوَّرَ قَوْمُهُمْ صُوَرَهُمْ، ثُمَّ طَالَ عَليهِم الأمدُ فَعَبَدُوهُمْ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِم بِسَنَدِهِ عَنْ أبِي المُطَهَّرِ قَالَ: ذَكَرُوا عَنْدَ أَبِي جَعْفر - وَهُوَ قَائِمٌ يُصلي - يَزِيدَ بنَ المهَلبِ، قَالَ: فَلَمَّا انْفَتَلَ مِنْ صَلاتِهِ،

قَالَ: ذَكَرْتُمْ يَزِيدَ بنَ المُهَلَّبِ أَمَّا إِنَّهُ قُتِلَ فِي أَوَّلِ أَرْضٍ عُبِدَ فِيهَا غَيْرُ اللهِ، قَالَ: ثُمَّ ذَكَرُوا رَجُلاً مُسْلِمًا، وَكَانَ مُحَبَّبًا فِي قَوْمِهِ، فَلَمَّا مَاتَ اعْتَكَفُوا حَوْلَ قَبْرِهِ فِي أَرْضِ بَابِلَ، وَجَزِعُوا عَلَيْهِ فَلَمَّا رَأَى إِبْلِيسُ جَزَعَهُم عَلَيْهِ تَشَبَّهَ فِي صُورَةِ إِنْسَانَ ثُمَّ قَالَ: إِنِّي أَرَى جَزَعَكُمْ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ، فَهَلْ لَكُمْ أَنْ أُصَوِّرَ لَكُمِ مِثْلَهُ فَيكونُ في نَادِيكُم فَتَذْكُرُونَهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَصَوَّرَ لَهُم مِثْلَهُ، قَالَ: وَوَضَعُوهُ فِي نَادِيهِمْ، وَجَعَلُوا يَذْكُرُونَهْ. فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنْ ذِكْرِهِ، قَالَ لَهُمْ: هَلْ لَكُمْ أَنْ أَجْعَلَ فِي مَنْزِلِ كُلَّ رَجُلٍ مِنْكُمْ تِمْثَالاً فَيَكُونَ فِي بَيْتِهِ فَتَذْكُرُونَهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَمَثِّل لِكُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ تِمْثَالاً مِثْلهْ، فَأَقْبَلُوا فَجَعَلُوا يَذْكُرُونَهُ بِهِ، قَالَ: وَأَدْرَكَ أَبْنَاؤُهُمْ، فَجَعَلُوا يَرَوْنَ مَا يَصْنَعُونَ بِهِ، قَالَ: وَتَنَاسَلُوا وَدَرَسَ أَمْرُ ذِكْرِهِمْ إِيَّاهْ، حَتَّى اتَّخَذُوهُ إِلَهًا يَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ، وَأْولادُهُمْ، كَانَ أَوَّلَ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ وُدّ الصَّنَمُ الذِي سَمُّوهُ وَدَّا. أ. هـ. وَعَنْ هَذَا انْتَشَرَتْ الوَثَنِيَّة، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهَا فِي كُلِّ زَمَانِ وَمَكَانْ، وَفِي هَذَا التَّصْويرِ مَعْنَىً فِي غَايَةِ القُبْحِ وَالبَشَاعَةْ، وَهُوَ التَّشَبُّهِ بِالخَالِقِ الحَكِيمِ، فَإِنَّ المُصَوِّرَ بِيَدِهِ أَوْ بِآلَة يَرْسِمُ الصُّورَةَ رَسْمًا يُشْبِهُ الحَقِيقَةَ وَلِذَا يُقَالُ لِلْمُصَوِّرِينَ يَوْمَ القِيَامَةْ: «أَحْيُوا مَا خَلَقْتُم» ، وَيُكَلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِي الصُّورَةِ الرُّوحِ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ أَبَدًا، فَيْسَتَمِرُّ العَذَابْ نَسْأَلُ اللهَ العافية. فَصْلٌ: وَإليك الأَدِلَّةُ الدَّالَةُ عَلَى تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ، وَمَشْرُوعِيَّةِ طَمْسِ الصُّوَرِ، سَوَاءً كَانَ مُجَسَّدَةً أَوْ غَيْرَ مُجَسَّدَةْ وَفِي عَمَلِهَا الوَعِيدُ الشَّدِيدُ لِلْمُصَوِّرِينَ، وَالإِخْبَارُ بِأنَّ المَلائِكَةَ لا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةَ.

وَأَنَّ التَّصْوِيرُ مِنْ سُنَنِ النَّصَارَى. قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} ، قَالَ عِكْرِمَة: هُمِ الذِينَ يَصْنَعُونَ الصُّوَرْ. وَعَنْ أَبِي هَرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ اللهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مَمَّنَ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً، أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً، أَوْ لِيَخْلُقُوا شَعِيرَةً» . أَخْرَجَاهُ. وَلَهُمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: «كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارْ، يُجْعَلُ لَهُ بَكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسٌ فَيُعَذِّبُهُ فِي جَهَنَّمْ» . وَعَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فِي الدُّنْيَا كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلَيْسَ بِنَافِخْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَ عَليَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مُسْتَتِرَةُ بِقَرامٍ فِيهِ صُورَةٌ، فَتَلَّوَنَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثٌمَّ تَنَاوَلَ السِّتْرَ فَهَتَكَهُ ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمِ القِيَامَةِ الذِينَ يُشَبِّهُونَ بِخَلْقِ اللهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِي، وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمْ. وَعَنْهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا اشْتَرَتْ نَمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرِ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ عَلَى البَابِ،

فَلَمْ يَدْخُلَ، فَعَرِفْتُ فِي وَجْهِهِ الكَرَاهِيَة، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ أَتُوبُ إِلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، مَاذَا أَذْنَبْتُ؟ قَالَ: «مَا بَالُ النَّمْرُقَةْ» ؟ فَقَالَتْ: اشْتَرْيتُهُا لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا، فَقَالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوُرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ القِيَامَة، وَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ» . وَقَالَ: «إِنَّ البَيْتَ الذِي فِيهَ الصُّوَر لا تَدْخُلُهُ المَلائِكَةْ» . رَوَاهُ مَالِك، وَالشَّيْخَانْ. وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيُّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى التَّمَاثِيلَ قَامَ بَيْنَ البَابَيْنِ وَجَعَلَ يَتَغَيَّرُ وَجْهُهْ. وَلِمُسْلِمِ عَنْ أَبِي الهَيَّاجِ قاَل: قَالَ لِي عَلِيَّ: أَلا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثنَِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أَنْ لا تَدَعْ صُورَةً إِلا طَمَسْتَهَا، وَلا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلا سَوَّيْتَهْ. وَعَنْ أَبِي طَلْحَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا تَدْخُلُ المَلائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلا صُورَة» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا، وَأُذُنَانِ يَسْمَعَانْ، وَلِسَانٌ يَنْطِقُ، يَقُولُ: إِنَِّي وُكَِّلْتُ بِثَلاثَةٍ: بِمَنْ جَعَلَ مَعَ اللهِ إلِهًا آخَرْ، وَبِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، وَبِالمُصَوِّرْ» . وَفِي البُخَارِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ، وَثَمَنِ الكَلْبِ، وَكَسْبِ البَغْيِ، وَلَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ، وَالوَاشِمَةَ وَالمُسْتَوْشِمَةَ، وَالمُصَوِّرَ. اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ عَلْمٍ لا يَنْفَعْ وَعَمَلٍ لا يُرْفَعُ وَدُعَاءٍ لا يُسْمَعُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ) وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ المُصَوِّرِينَ. رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ. وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا اشْتَكَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ بَعْضَ نِسَائِهِ كَنِيسَةً يُقَالُ لَهَا: مَارِيَةً، وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ حَبِيبَةَ أَتَيَا أَرْضَ الحَبَشَة، فَذَكَرَتَا مِنْ حُسْنِهَا وَتَصَاوِير فَيهَا، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: «أُولَئِكَ إِذَا مَاتَ فِيهِم الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنُوا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَر، أُولَئِكَ شِرُارُ خَلْقِ اللهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمِ القَيَامَةِ مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ قَتَلَهُ نَبِيّ، أَوْ قَتَلَ أَحَدَ وَالِدَيْهِ، وَالمُصَوِّرُونَ، وَعَالِمٌ لا يَنْتَفِعُ بِعِلْمِهِ» . رَوَاهُ البَيْهَقِيّ فِي شُعَبِ الإِيمَان. وَعَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَنَازَةٍ فَقَالَ: «أَيّكُمْ يَنْطَلِقُ إِلَى المَدِينَةِ فَلا يَدَعُ بِهَا وَثَنًا إِلا كَسَرَهُ، وَلا قَبْرًا إِلا سَوَّاهُ، وَلا صُورَةً إِلا لَطَّخَهَا» فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَانْطَلَقَ فَهَابَ أَهْلَ المَدِينَةِ فَرَجَعْ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا أَنْطَلِقُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَانْطَلَقَ ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لَمْ أَدَعْ بِهَا وَثَنًا إِلا كَسَرْتُهُ، وَلا قَبْرًا إِلا سَوَّيْتَه، وَلا صُورَةً إِلا لَطَّخْتُهُا، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ عَادَ لِصَنْعَةِ شَيْءٍ مِنْ هَذَا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَابْنُهُ عَبْدُ اللهِ فِي زَوَائِدِ المُسْنَد، وَأَبُو دَاود الطَّيَالِسي في مُسْنَدِهِ. وَعَنْ أُسَامَةَ بنُ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ

الفوائد المأخوذة من الأحاديث المتقدمة في التصوير

صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الكَعْبَةِ وَرَأَى صُوَرًا، قَالَ: فَدَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ، فَأَتَيْتُهُ بِهِ فَجَعَلَ يَمْحُوهَا وَيَقُولُ: «قَاتَلَ اللهُ قَوْمًا يُصَوِّرُونَ مَا لا يَخْلُقُونَ» رَوَاهُ أَبُو دَاودَ الطَّيَالِسي في مُسْنَدِهِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدْ. ... وَأَصْلُ الحَزْمِ أَنْ تُضْحِي وَتُمْسِي ... وَرَبُّكَ عَنْكَ فِي الحَالاتِ رَاضِ وَأَنْ تَعْتَاضَ بِالتَّخْلِيطِ رُشْدًا ... فَإِنَّ الرُّشْدَ مِنْ خَيْرِ اعْتَيَاضِ وَدَعْ عَنْكَ الذِي يُغْوِي وَيُرْدِي ... وَيُورِثُ طُولَ حُزْنٍ وَارْتِمَاضِ وَخُذْ بِاللَّيْلِ حَظَّ النفسِ وَاطْرُدْ ... عَنِ العَيْنَيْنِ مَحْبُوبَ الغِمَاضِ فَإِنَّ الغَافِلِينَ ذَوِي التَّوَانِي ... نَظَائِرٌ لِلْبَهَائِمِ فِي الغياضِ اللَّهُمَّ وَفِّقَنَا لِصَالِحِ الأَعْمَالَ، وَنَجِّنَا مِن جَمِيعِ الأهْوَالِ، وَأَمِّنَا مِنَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ يَوْمَ الرجْفِ وَالزِلْزَالِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ فِيمَا فِي الأَحَادِيثِ المُتَقَدِّمَةِ مِنَ الفَوَائِدْ) فَفِي الحَدِيثِ الأَوَّلِ مِنَ الفَوَائِدِ (أَوَّلاً) : تَحْرِيمُ التَّصْوِيرِ لِمَا فِيهِ مِنْ المُضَاهَاةِ بِخَلْقِ اللهِ. (ثَانِيًا) : أَنَّهُ لا أَحَدَ أَلأمَ مِنَ المُصَوِّرْ. (ثَالِثًا) : التَّحْذِيرُ وَالتَّنْفِيرُ عَنِ التَّصْوِيرِ. (رَابِعًا) : أَنَّ المُصَوِّرِينَ عِنْدَهُمْ مِنْ قِلَّةِ الحَيِاءِ، وَسَخَافَةِ العُقُولِ مَا لا يُوجَدُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ حَيْثُ أَنَّهُمْ بِفِعْلِهِمْ يُضَاهِئُونَ بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ. (خَامِسًا) : تَحَدِّيهِم فِي أَنْ يَخْلُقُوا ذَرَّة أَوْ حَبَّة، وَبَيَانِ عَجْزِهْم وَحَقَارَتِهِمْ. (سَادِسًا) : أَنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ الصُّورَةِ المُجَسَّدَةَ وَغَيْرُ المُجَسَّدَةَ وَهْيِ التِي لا ظِلَّ لَهَا. (وَالعِلَّّّةُ) فِي تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ هِيَ المُضَاهَاةُ بَخَلْقِ اللهِ تَعَالَى

وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الظُّلْمِ، (وَالعِلَّةُ الثَّانِيَةُ) لِلتَّحْرِيمِ هِيَ: أَنْ التَّصْوِيرَ وَسِيلَةٌ إِلَى عِبَادَةِ الصُّوَرِ، كَمَا وَقَعَ لِقَوْمِ نُوحٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ المُشْرِكِينَ وَالنَّصَارَى، وَالوَسَائِلَ لَهَا أَحْكَامُ المَقَاصِدِ، وَلَهُ (عِلَّةٌ ثَالِثَةٌ) وَهِيَ: التَّشَبُّهِ بِالنَّصَارَى وَالمُشْرِكِينَ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» وَكُلُّ وَاحِدَةً مِنْ هَذِهِ العِلَلِ الثَّلاثَ تَكْفِي فِي تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ. وَحَدِيثُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ، وَأَنَّهُ مَنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ؛ لِلْوَعِيدِ عَلَيْهِ بِالنَّارِ، وَأَنَّ التَّحْرِيمَ عَامْ فِي كُلِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ ذَوَاتِ الأَرْوَاحِ، وَأَنَّهُ يَجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ نَفْسٌ فَيُعَذّبُهُ فِي جَهَنَّمَ، وَفِي الحَدِيثِ إِثْبَاتُ البَعْثِ وَالحِسَابِ، وَالجَزَاءِ عَلِى الأَعْمَالِ، وَفِي الحَدِيثِ التَّحْذِيرِ وَالتَّنْفِيرِ عَنِ التَّصْوِيرِ. وَالحَدِيثِ الذِي بَعْدَهُ فِيهَ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ، وَأَنَّهُ مِنَ الكَبَائِرِ وَأَنَّ المُصَوّرَ فِي الدُّنْيَا يُكَلَّفُ أَنْ يَنْفُخَ فِي الصُّوَرِ التِي صَوَّرَهَا الرُّوحَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَهَذَا الأمْرُ يُرَادُ بِهِ إِهَانَتَهُمْ، وَتَعْجِيزَهُمْ، وَتَحْقِيرَهُمْ، وَفِي الحَدِيثِ إِثْبَاتُ البَعْثِ وَالحِسَابِ، وَالجَزَاءِ عَلَى الأَعْمَالِ. وَحَدِيثُ ابْنُ مَسْعُودٍ فِيهَ دَلِيلٌ أَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ المُصَوِّرُونَ، وَدَلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ وَأَنَّهُ مِنَ الكَبَائِرِ، وَإِثْبَاتِ البَعْثِ وَالحِسَابِ، وَالجَزَاءِ عَلَى الأَعْمَالِ. وَحَدِيثُ ابْنُ عُمَرَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ، وَأَنَّهُ مِنَ الكَبِائِرِ، وَعَلَى اسْتِمْرَارِ تَعْذِيبِ المُصَوِّرِينَ، لأَنَّهُمْ لا يَقْدِرُونَ عَلَى إِحْيَاءِ

الصَّوَرِ المَطْلُوبِ مَنْهُمْ إِحْيَاؤُهَا، وَإِثْبَاتُ البَعْثِ وَالحِسَابِ، وَالجَزَاءِ عَلَى الأَعْمَالِ. وَحَدِيثُ عَائِشَة (أَوَّلاً) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ، يُسْتَفَادُ مِنْ إِنْكَارِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَصْبِ السِّتْرِ، وَتَلَوُّنِ وَجْهِهِ وَهَتْكِهِ لَهُ، وَمِنْ الوعِيدِ الشَّدِيدِ لِلْمُصَوِّرِينَ. (ثَانِيًا) : أَنَّهُ مِنَ الكَبَائِر، لِمَا جَاءِ فَيهِ مِنَ الوَعِيدِ الشَّدِيدِ. (ثَالِثًا) : أَنَّ المُصَوِّرِينَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ. (رَابِعًا) : أَنَّ عِلَّةَ التَّحْرِيمِ هِي المُضَاهَاةُ بِخَلْقِ اللهِ. (خَامِسًا) : أَنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الصُّورَةُ مُجَسَّدَةً أَوْ غَيْرَ مُجَسَّدَةْ، لأَنَّ التِي أَنْكَرَهَا النَّبِيَُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ مُجَسَّدَةْ. (سَادِسًا) : الغَضَبُ عِنْدَ رُؤْيَةِ المُنْكَرِ وَتَمَعُّرِ الوَجْهِ. (سَابِعًا) : كَرَاهَةُ دُخُولِ البَيْتِ الذِّي فِيهِ صُورَةً. (ثَامِنًا) : إِنْكَارً المُنْكَرِ بَحَسَبِ الاسْتِطَاعَةِ وَالقُدْرَةِ، فَمَنْ قَدِرَ بِيَدِهِ فَهُوَ الوَاجِبُ عَلَيْهِ، كَمَا فَعَلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَِي هَتْكِ السِّتْرِ بِيَدِهِ الكَرِيمَةِ، فَإِنَّ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ. (تَاسِعًا) : أَنَّهُ يُكَلِّفُ أَنْ يَنْفُخَ الرُّوحَ فِيهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي قُدْرَتِهِ. (عَاشِرًا) : دَلِيلٌ عَلَى اسْتِمْرَارِ عَذَابِ المُصَوِّرِ، وَإِثْبَاتِ البَعْثِ وَالحِسَابِ، وَالجَزَاءِ عَلَى الأَعْمَالِ. اللَّهُمَّ اخْتِمْ لَنَا بِخَاتِمَةِ السَّعَادَةِ وَاجْعَلْنَا مَمَّنْ كُتِبَتْ لَهُمْ الحُسْنَى وَزِيَادَة، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(حَادِي عَشَرْ) : أَنَّ البَيْتَ الذِي فِيهِ صُورَةٌ لا تَدْخُلُهْ المَلائِكَةُ. وَحَدِيثُ أَبِي الهيَّاجِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى طَمْسِ الصُّوَرِ، وَهَدْمِ القُبُورِ المُشَرَّفَةِ، وَفِيهِ أَنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ المُجَسَّدَةِ وَغَيْرَهَا، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إِنْكَارِ المُنْكَرِ، وَالرَّدِ عَلِى مَنْ زَعَمَ أَنَّ المَنْعَ خَاصٌ بِالصُّوَرِ المُجَسَّدَةِ فَإِنَّ الصُورَةَ التِي أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَحْوِهَا غَيْرُ مُجَسَّدَةٍ. وَحَدِيثُ أَبِي طَلْحَةَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ المَلائِكَةَ لا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ وَلا كَلْبٌ، وَالمُرَادُ المَلائِكَة الذِينَ يَنْزِلُونَ بِالرَّحْمَةِ وَالبَرَكَةِ المُسْتَغْفِرُونَ لِلْعَبْدِ، المُصَلُّونَ عَلَيْهِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلا فَوَاتِ هَذِهِ الغَنَائِمْ لَكَانَ العَاقِلُ يَحْزَنُ لِذَلِكَ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ هُنَالِكَ آثَامٌ، وَسَبَبٌ امْتِنَاعِ دُخُولِ المَلائِكَةَ الْبَيْتَ الذِي فِيهِ صُورَةٌ، كَوْنُهَا مَعْصِيَةً فَاحِشَةً، وَفِيهَا مُضَاهَاةً بِخَلْقِ اللهِ، وَأَمَّا الكَلْبُ فَلِكَوْنِهِ نَجِسًا، وَلِكَثْرَةِ أَكْلِهِ النَّجَاسَةَ، وَلِقُبْحِ رَائِحَتِهِ، وَلأنَّهُ مَنْهِيَّ عَنِ اتِّخَاذِهَا إِلا لِحَرْثٍ أَوْ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ. وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: «يَخْرُجُ عُنْقٌ مِنَ النَّارِ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ، وَأَنَّهُ مِنْ كَبِائِرِ الذُّنُوبِ لِشِدَّةِ الوَعِيدِ، وَإِنْ مَصِيرَ المُصَوِّرِينَ إِلَى النَّارِ، مَعَ الجَبَابِرَةِ وَالمُشْرِكِينَ، وَأَنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ مَا لَهُ ظِلٌّ وَمَا لا ظِلَّ لَهُ، وَأَنَّ هَذَا الجُزء الخَارِجَ مِنَ النَّارِ المُوَكَّلِ بِالمُصَوِّرِ وَالمُشْرِكِينَ وَالجَبَّارِ لَهُ عَيْنَانِ وَلِسَانٌ، وَأَنَّهُ يَنْطِقُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ، وَعَلَى البَعْثِ وَالحِسَابِ، وَالجَزَاءِ عَلَى الأَعْمَالِ، وَإِثْبَاتِ النَّارِ، ثُمَّ تَأَمَّلْ وَاسْأَلْ رَبَّكَ العَافِيَةَ كَيْفَ قَرَنَ المُصَوِّرَ بِالجَبَّارِ العَنِيدِ، وَبِمَنْ جَعْلَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ، تَفْهَمُ كَيْفَ قَدْرِ المُصَوِّرِ، وَكَيْفَ يَكُونُ عَذَابُهُ، وَالحَدِيثُ

الذِي سَبَقَ تُؤَكِّد عِبَارَتُهُ: «إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ المُصَوِّرُونَ» ، وَالحَدِيثُ السَّابِقُ أَيْضًا يُفْهِمْكَ أَنَّ الذنبَ كَبِيرٌ جِدًا، وَلِذَلِكَ يُكَلَّفُ فَاعِلُهُ وَهُوَ فِي النَّارِ أَنْ يَنْفُخَ فِيمَا صَوَّرَ الرُّوحَ وَلَيْسَ فِي إِمْكَانِهِ، فَيَسْتَمِرُّ التَّبْكِيتُ وَالتَّعْذِيبُ. كَمَا وَرَدَ فِي خَائِنِ الأَمَانَةِ وَالمُتَحَلِّمِ بِمَا لَمْ يَرَ مِنْ أَنَّهُ يكلف إخراجها بعد سقوطها في النار. والحَدِيثُ الذي بَعْدَهُ فِيهِ لَعْنُ آكِلِ الرِّبَا وَمُوكِلِهِ، وَالوَاشِمَةِ وَالمُسْتَوْشِمَةِ، وَالمُصَوِّرِ؛ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ التَّصْوِيرِ، وَأَنَّهُ مِنْ الكَبِائِر، لأنَّ اللَّعْنَ لا يَكُونُ إِلا عَلَى كَبِيرَةٍ، وَفِيهِ شِدَّةُ الوَعِيدِ لِلْمُصَوِّرِينَ، لأنَّ اللَّعْنَ هُوَ الطَّرْدُ وَالإِبْعَادُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى، وَفِيهِ أَنَّ التَّحْرِيمَ عَامٌ لِمَا لَهُ ظِلٌ وَلِمَا لا ظِلَّ لَهُ مِنْ صُوَرِ ذَوَاتِ الأَرْوَاحِ. وَكَذَا حَدِيثُ أَبِي جُحَيْفَةَ فِيهِ لَعْنُ المُصَوِّرِ، وَإِنَّ التَّصْوِيرِ مِنَ الكَبَائِرِ لِلْوَعِيدِ الشَّدِيدِ. وَحَدِيثُ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمِّ حَبِيبَةَ وَمَا بَعْدَهُ وَاضِحُ المَعْنَى. قَالَ الإِمَامُ النَّوَوِي رَحِمَهُ اللهُ: قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنَ العُلَمَاء: تَصْوِيرُ صُورَةِ الحَيَوَانِ حَرَامٌ، شَدِيدُ الحُرْمَةِ وَهُوَ مِنَ الكَبَائِرِ، لأنَّهُ مُتَوَعِّدٌ عَلَيْهِ بِهَذَا الوَعِيدِ الشَّدِيدِ، المَذْكُورِ فِي الأَحَادِيثِ، وَسَوَاءٌ صَنَعَهُ بِمَا يُمْتَهَنُ أَوْ بِغَيْرِهِ، فَصَنْعَتُهُ حَرَامٌ بِكُلِّ حَالِّ، لأنَّ فِيهِ مُضَاهَاةٌ بِخَلْقِ اللهِ، وَسَوَاءٌ مَا كَانَ فِي ثَوْبٍ أَوْ بِسَاطٍ، أَوْ دِرْهَمٍ أَوْ دِينَارٍ، أَوْ فِلْسٍ أَوْ إِنَاءٍ، أَوْ حَائِطٍ أَوْ غَيْرِهَا، قَالَ: وَلا فَرْقَ فِي هَذَا كُلِّهِ بَيْنَ مَا لَهُ ظِلٌ وَمَا لا ظِلَّ لَهُ، هَذَا تَلْخِيصُ مَذْهَبِنَا فِي المَسْأَلَةِ، وَبِمَعْنَاهَا قَالَ جَمَاهِيرُ العُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمِنْ بَعْدَهُمْ وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِي، وَمَالِكٍ، وَأِبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ.

قصيدة في الحث على قيام الليل والزهد في الدنيا والوصية بالتقوى

شِعْرًا: ... فَلا تَرْجُ إِلا اللهِ فِي كُلِّ حَادِثٍ فَأَلْقِ إليه بَثَّ شَكْوَاكَ تُحْمَدُ لَهُ المَلْكُ بِالأَكْوَانِ لا بِمُؤازِرِنْ وَلا بَنَصِيرٍ فِي الدِّفَاعِ لِمُعْتَدِ قَرِيبُ وَلَكِنَ بِالذُّنُوبَ تَبَاعَدَتْ مَسَائِلُنَا عَنْ رَوْضِ إِحْسَانِهِ النَّدِي فَقُمْ قَارِعًا لِلْبَابِ وَالنَّابِ نَادِمًا عَلَى مَا جَرَى وَارْفَعْ دُعَاءَكَ يَصْعَدِ وَقُمْ سَائِلاً وَالدَّمْعُ فِي الخَدِّ سَائِلٌ تَجِدْ مَا تَشَا مِنْ لُطْفِهِ وَكَأنْ قَدِ وَقُمْ زُلَفًا فِي اللَّيْلِ إِنْ نَشَرَ الدُّجَى جَنَاحَ غُدَافٍ يُلْبِسُ الكَوْنَ عَنْ يَدِ وَرُدَّ ظَلامَ اللَّيْلِ بِالذِّكْرِ مُشْرِقًا فَقَدْ فَازَ مَنْ بِالذِّكْرِ يَهْدِي وَيَهْتَدِي وَأَمَّا بَنُو الدُّنْيَا فَلا تَرْجُ نَفْعَهُمْ فَلا مُنْجِدٌ فِيهِمْ يُرَجَّى لِمُجْتَدِ فَإِنِّي تَتَبَّعْتُ الأَنَاَم فَلَمْ أَجِدْ سِوَى شَامِتٍ أَوْ حَاسِدٍ أو مُفَنِّدِ وَقَدْ رَضَعُوا ثَدْيَ المَهَابَةِ كُلُّهُمْ وَكُلٌ بِذَيْلِ الذُّلِّ أَصْبِحَ مُرْتَدِ فلم أَرَ أَرْمَى إَلا بِالسِّهَامِ مِن الدُّعَا إَلَى مَقْتَلِ الأَعْدَاءِ مِنْ قَوْسِ مِذْوَد ... ›?

موعظة بليغة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه

.. وَعَنْ مَا قَلِيلٍ يُدْرِكُ السَّهْمُ صَيْدَهُ فَكَمْ صَادَ سَهْمُ اللَّيْلِ مُهْجَةَ أَصْيَدِ وَأُوصِيكَ بِالتَّقْوَى لِرَبِّكِ إِنَّهُ سَيَحْمِدُ تَقْوَاهُ المُوَفَّقُ فِي غَدِ وَخُذْ لَكَ مِنْ دُنْيَاكَ زَادًا فَإِنَّمَا أَقَامَكَ فِي الدُّنْيَا لأَخْذِ التَّزَوُّدِ وَعَنْ مَا قَلِيلٍ قَدْ أَنَاحَ رِكَابُنَا بِقَصْرِ خَلِيٍّ مُظْلِمِ الجَوِّ فَدْفَدِ فَإِنَّ اللَّيَالي كَالمَرَاكِبِ تَحْتَنَا تَرُوحُ بِنَا فِي كُلِّ حِينٍ وَتَغْتَدِي فَيَا حَبَّذَا جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا تَحُطُّ رِحَالَ القَادِمِ المُتَزَوُّدِ وَلَيْسَ لَنَا إِلا الرَّجَاءُ فَإِنَّهُ يُبْلِغُنَا مِنْ فَضْلِهِ خَيْرَ مَقْعَدِ ... ›? اللَّهُمَّ اسْلُكْ بِنَا مَنَاهِجَ السَّلامَةِ وَعَافِنَا مِنْ مُوجِبَاتِ الحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ وَوَفِّقْنَا لِلاسْتِعْدَادِ لِمَا وَعَدْتَنَا وَأَدِمْ لَنَا إِحْسَانِكَ وَلُطْفَكَ كَمَا عَوَّدْتَنَا وَأَتْمِمْ عَلَيْنَا مَا بِهِ أَكْرَمْتَنَا بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. مَوْعِظَةْ خَطَبَ عَلَيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى المِنْبَرِ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: اتَّقُوا اللهِ عِبَادَ اللهِ، وَبَادِرُوا آجَالِكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ، وَابْتَاعُوا مَا يَبْقَى بِمَا يَزُولُ عَنْكُمْ - أَيْ اشْتَرُوا مَا يَبْقَى مِنَ النَّعِيمِ الأَبَدِي، مِمَّا لا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلا

أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرْ، بِمَا يَفْنِي مِنْ لَذَّة الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَشَهَوَاتِهَا الزَّائِلَةْ، وَتَرْحًلُوا فَقَدْ جَدَّ لَكُمُ الانْتِقَالْ - أَيْ حُثِثْتُمْ وَأُزْعِجْتُمْ إِلَى الرَّحِيلِ - وَاسْتَعِدُّوا فَانْتَبِهُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِدَارِ إِقَامَةٍ، فَاسْتَبْدِلُوهَا بِدَارِ الآخِرَةِ فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثًا، وَلَمْ يَتْرُكُكُمْ سُدَى - أَيْ مُهْمَلِين، بِلا رَاعٍ يَزْجُرُكُمْ عَمَّا يَضُرُّكُمْ، وَيَسُوقَكُمُ إِلَى مَا يَنْفَعُكُمْ - وَمَا بَيْنِ أَحَدِكُمْ وَبَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ إِلا المَوْتُ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ، وَإِنَّ غَايةً هِيَ الأَجَلُ، تَنْقُصُهَا اللَّحْظَةُ، وَتَهْدِمُهَا السَّاعَةُ لَجَدِيرَةٌ بِقِصَرِ المُدَّةِ، وَإِنَّ غَائِبًا يَحْدُوهُ الْجَدِيدَانِ اللَّّّيْلِ وَالنَّهَارِ لَحَرِيٌّ بِسُرْعَةِ الأَوْبَةِ، وَإِنَّ قَادِمًا يَقْدُمُ بِالفَوْزِ أَوْ الشَّقْوَةِ لَمُسْتَحِقٌّ لأَفْضَلِ العُدَّةْ فَتَزَوَّدُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الدُّنْيَا مَا تُحْرَزُونَ بِهِ أَنْفُسَكُم غَدًا، فَاتَّقَى عَبْدٌ رَبَّهُ، نَصَحَ نَفْسَهُ، قَدَّم تَوْبَتَهُ وَغَلَبَ شَهْوَتَهُ، فَإِنَّ أَجَلَهُ مَسْتُورٌ عَنْهُ، وَأَمَلَهُ خَادِعٌ لَهُ، وَالشَّيْطَانُ مُوَكّلٌ بِهِ، يُزَيِّنُ لَهُ المَعْصِيْةَ لِيَرْكَبَهَا وَيُمَنِّيهِ التَّوْبَةَ لَيُسَوِفِهَا حَتَّى تَهْجُمَ مَنِّيَتِهِ عَلَيْهِ، أَغْفَل مَا يَكُونَ عَنْهَا. ... قَلَبَ الزَّمَانُ سَوَادَ رَأْسِكَ أَبْيَضَا ... وَنَعَاكَ شَيْبُكَ كُلُّه فَتَيقَضَا وَعَرَفْتَ نَفْسَكَ فِي سُكُونِكَ قَاعِدًا ... وَعَرَفْتَ نَفْسَكَ إِذْ هَمَمْتَ لِتَنْهَضَا فَلَئِنْ عَجِبْتُ لأَعْجَبَنَّ لِغَافِل ... يُمْسِي وَيُصْبِحُ لِلْحَوَادِثِ مُعْرِضًا آخر: ... جَهُولٌ لَيْسَ تَنْهَاهُ النَّوَاهِي ... وَلا تَلْقَاهُ إِلا وَهُوَ سَاهِي يُسَرُّ بِيَوْمِهِ لَعِبًا وَلَهْوًا ... وَلا يَدْرِي وَفي َغِده الدَّوَاهِي مَرَرْتُ بِقَصْرِهِ فَقُلْتُ مَنْ ذَا ... عَجِِيبًا فِيهِ مُزْدَجَرٌ وَنَاهِي رَأَيْتٌ بِبَابِهِ سُودَ الجَوَارِي ... فَقَالُوا ذَلِكَ المَلِكُ المُبَاهِي تَبَيَّنْ أَيَّ دَارٍ أَنْتَ فِيهَا ... وَلا تَسْكُنْ إليها وَادْرِ مَا هِي اللَّهُمَّ اعْصِمْنَا عَنِ المَعَاصِي وَالزَّلاتِ وَوَفِّقْنَا لِلْعَمَلِ بِالبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

فصل في تحريم الرشوة وبيان اضرارها ومفاسدها

فَصْلٌ فِي تَحْرِيمِ الرِّشْوَةْ اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، أَنَّ الرِّشْوَةَ دَاءٌ مِنْ أَخْطَرَ الأَدْوَاءِ فَتْكًا بِالمُجْتَمَعَاتِ، ذَلِكَ أَنَّهَا لا تَشِيعُ فِي مُجْتَمَعٍ إِلا تَدَاعَتْ أَرْكَانُهْ، وَهَبَطَ فِي مُسْتَوَاهُ الخُلُقِي إِلَى الحَضِيضِ، وَسَيْطَرَتْ فَيهِ المَادَّةُ الجَشِعَةُ عَلَى الحُكَّامِ وَالمَحْكُومِينَ، فَيُصْبِحُ صَاحِبُ الحَقِّ فِي قَلَقٍ، لأَنَّهُ لا يُمْكِنَهُ الحُصُولُ عَلَى حَقِّهِ إِلا إِذَا قَدَّمَ جُعْلاً لَمْنَ عِنْدَهُ وَسِيلَةٌ لِلْحُصُولِ عَلَيْهِ. وَلا تَرَى صَاحِبُ ظَلامَةً يَطْمَعُ فَي رَفْعِ ظَلامَتِهِ عَنْهُ، إَلا أَنْ يَرْشِي مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى رَفْعِهَا، وَقَدْ يَبْلُغُ الأَمْرُ بَالمُرْتَشِي إَلَى أَنْ يُمَاكِسَ الرَّاشِي فِي مِقْدَارِ الرِّشْوَةِ، وَرُبَّمَا كَانَ ذِلَكَ جَهْرًا، بَلا حَيِاءٍ وَلا خَجَلْ. وَلا تَسْأَلْ عَنْ مَا يَنْتُجُ عَْنَها مِنَ الأَضْرَارِ التي لا تُعَدُّ وَلا تُحْصَى مِنْ ضَيَاعِ الكَرَامَةِ، وَهَضْمِ الحُقُوقِ، وَقَبْر النُّبُوغْ وَتَلاشِى الْجِدِّ فِي العَمَلِ، وَاضْمِحْلالُ الغِيَرِة عَلِى أَدَاءِ الوَاجِبِ، وَتَرْكَ العَامِلِينَ كُلُّ ذَلِكَ يَذْهَبُ وَلا تَجِدْ لَهُ أَثَرَا، وَيَحِلُّ مَكَانَهُ الخُمُولُ وَالضَّعْفُ، وَالغِشُّ وَالخِيَانَةْ، وَمَا إِلَى ذَلِكْ. إِذَا رُشْوَة مِنْ سُورِ بَيْتٍ تَقَحَّمَتْ ... ???? ... لِتَسْكُنَ فِيهِ وَالأَمَانَةُ فِيهِ ... ???? ... سَعَتْ هَرَبًا مِنْهُ وَوَلَّتْ كَأَنَّهَا ... ???? ... حَلِيمٌ تَوَلَّى عَنْ جَوَابِ سَفِيهِ ... ›? ... ???? وَتُصَابُ مَصَالِحُ الأُمَّةِِ بِالشَّلَلْ، وَعُقُولِ النَّابِغِينَ بِالعُقْمِ، وَمَوَاهِِبُ المُفَكِّرِينَ بِالجُمُودِ، وَعَزَائِمُ المُجِدِّينَ وَهِمَمِهُمْ بِالخُورِ وَالفُتُورِ، وَأَيُّ خَيْرٍ

يُرْجَى مَنْ يَوْمٍ يَكُونُ مِقْيَاسُ الكَفَاءَة فِيهم مَا يَتَقَّرَبُ المَرْؤُوسُ بِهِ مَن قُرَابِين، وَأَيُّ ثَمَرةٍ مِنْ عَمَلٍ لا يُوصَلَ إليه إِلا بِالرُّشَا وَالمَطَامِعِ. وَقَدْ تُلْبَسُ الرِّشْوَةُ ثَوْبًا مُسْتَعَارًا وَلَكِنْ يَشِفُّ عَنْ حَقِيقَتِهَا كَمَا قِيل: ... ثَوْبُ الرِّيَاءِ يَشِّفُ عَمَّا تَحْتَهُ ... ???? ... فَإِذَا التَحَفْتَ بِهِ فَإِنَّكَ عَارِي ... ›? ... ???? فَقَدْ تَكُونُ الرِّشْوَةُ فِي صُورَةِ تُحْفَةٍ أَوْ هَدِيَّة، أَوْ مُحَابَاةٍ فِي بَيْعٍ أَوْ شِرَاء، أَوْ إِبْرَاءٌ مِنْ دِين، أَوْ يُشْرِكهُ في أَرْض أَوْ يَتَوَسَّطُ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكْ، وَنَحْوِ ذَلِكِ وَكُلُّ هَذِهِ الحِيَلِ لا تُزْيلُ الحَقَائِقَ. وَهْي فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ رُشْوَةٌ بَشِعَةُ المَنْظَرُ، سَيِّئَةُ الْمَخْبَرْ كَرِيهَةُ الرَّائِحَةِ، مُلَوَّثَةٌ لِلشَّرَفِ، مُضَيِّعَةٌ لَلْعِفَّةِ وَالكَرَامَةِ وَالمَهَابَةِ وَلِذَا كَانَ الرَّاشِي وَالمُرْتَشِي مَلْعُونِين، لأَنَّ الرَّاشِي يُسَاعِدُ المُرْتَشِي عَلَى تَضْيِيعِ الحُقُوقِ، وَيُسَهِّلَ لَهُ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالبَاطِلِ، وَيُنَمِّي فِيهِ الخُلُقَ الذَّمِيمْ، وَيُيَسِّرُ لَهُ التَّحَكُمَ فِيمَا هُوَ حَقٌّ لِغَيْرِهِ، فَيَسْتَمْرِئُ هَذَا الْمَرْعَى الْوَخِيم، وَالمُرْتَشِي قَدْ أَخَذَ مَالَ غَيْرِهِ، وَمَنَعَ الحَقَّ عَنْ صَاحِبِهِ حَتَّى يَأْخُذُ الرُّشْوَة مِنْهُ. وَالرُّشْوَةُ الْمُحَرَّمَةُ هِيَ مَا تُوصِلُ بِهِ إِلَى إِبْطَالِ حَقٍّ، أَوْ تَمْشِيَةِ بَاطِلْ، أَمَّا مَا وَقَعَ لَلتَّوَصُّلِ لَحِقٍ، أَوْ دَفْعِ ظُلْمٍ، فَلَيْسَ بِرُشْوَةٍ مَنْهِيَّةٍ، قَالَ فِي المُغْنِي: فَأَمَّا الرُّشْوَةُ فِي الحُكْمِ، وِرُشْوَةُ الْعَامِلِ، فَحَرَامٌ بِلا خَلافْ. قَالَ تَعَالَى: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} قَالَ الحَسَنُ، وَسَعِيدُ بنُ جُبَيْر في تَفْسِيره: هُوَ الرِّشْوَة. وَقَالَ: فَأَمَّا الرَّاشِي، فَإِنْ رَشَاهُ لِيَحْكُمَ لَهُ

بِبَاطِلْ، أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُ حَقًا فَهُوَ مَلْعُونْ، وَإِنْ رَشَاهُ لِيَدْفَع ظُلْمَهُ، وَيَجْزِيَهُ عَلَى وَاجِبَه، فَقَدْ قَالَ عَطَاءٌ، وَجَابِرُ بنُ زَيْدٍ، وَالحَسَنْ: لا بَأَسْ أَنْ يُصَانِعَ عَنْ نَفْسِهِ، قَالَ: وَلأَنَّهُ يَسْتَنْقِذُ مَاله، كَمَا يَسْتَنْقِذُ الرَّجُلِ أَسِيرَه. انتهى. قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ اللهُ الرَّاشِي وَالمُرْتَشِي فِي الحُكْم» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. أَمَّا الحَدِيثِ فَوْجُهُ الاسْتِدْلالُ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ الرَّشْوَةِ وَاضِحْ، إِذْ لا يَسْتَحِقُ لَعْنَةَ اللهِ إِلا فَاسِقٌ أَوْ كَافِرْ، وَأَمَّا الآيةُ فَقِيلَ: إَنَّ مَعْنَاهَا: لا تُدْلُوا بِأَمْوَالِكُمْ إِلَى الْحُكَّامْ، أَيْ لا تُصَانِعُوهُم بِهَا، وَلا تَرْشُوهُمْ لِيَقْطَعُوا لَكُمْ حَقًا لِغَيْرَكُمْ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ لا يَحِلُّ لَكُمْ، فَالآيةُ تَنْهِي المُسْلِمِينَ عَنْ أَنْ يَأَكْلُوا أَمْوَالَهُمْ بَيْنَهُمْ بِالبَاطِلْ، وَالرُّشْوَةُ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ هَذَا الأَكْل الْمَنْهِيّ عَنْهُ. قَالَ بَعْضُهم يَصِف المُحَابِينَ لأَصْدِقَائِهم: قَالَ الشَّاعِر: ... إِذا حَاوَلُوا أَمْرًا لِشَخْصٍ يَهُمُّهُمْ ... تَنَاسُوا أُمُورَ الشَّرْعَ فِيهِ وَلَفَّقُوا وَإِلا رَمُوا أَوْرَاقِهِ عِنْدَ وَجْهِهِ ... وَقَالُوا لَهُ خُذْ مَا تَرَاهُ وَأَطْرَقُوا آخر: ... وَإلى اليقِينَ وَعَادِ الشَّكَ أَجْمَعَهُ وَإلى اليقِينَ وَعَادِ الشَّكَ أَجْمَعَهُ فَالخَطْبُ عَمَّ وَصَارَ النَّاسُ كُلُّهُم مُعَظِّمِينَ لِبِدْعِيٍّ وَمَرْدُودِ هَذَا الزَّمَانُ الذي كُنَّا نُحَاذِرُهُ فِي قَوْلِ كَعبٍ وَفِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودِ ... ›?

.. فَصَاحِبُ الدِّينِ مَمْقُوتٌ وَمُنْكَتِمٌ وَصَاحِبُ الفِسْقِ فِيهِمِ غَيْرُ مَظْهُودِ كُلٌّ يُقَلِّدُ فِي الأَهْوَاءِ صَاحِبَهُ حَتَّى البِلادَ لَهَا شَأنٌ بِتَقْلِيدِ وَالأَمْرُ بِالعُرْفِ ثُمَّ النَّهْيُ عَنِ نُكُرٍ صَارَا لَدَيْنَا بِلا شَكٍ كَمَفْقُودِ إِذَا نَصَحْتَ لِشَخْصٍ قَالَ أَنْتَ كَذَا فِيكَ العُيوبُ لَدَيْنَا غَيْرَ مَحْمُودِ إِذَا رَأَوا صَالِحًا يَدْعو لِنَهْجِ هُدَىً تَأنَّبُوهُ بِإِيذَاءٍ وَتَبْعِيدِ حُكْمُ القَوَانِينِ قُالُوا فِيهِ مَصْلَحَةٌ وَفِي الرِّبَا سَاعَدْتَ شِيبٌ لِمَوْلُودٌ أَهْلُ الهَوَى وَالرَّدَى مَالُوا لِمُحْدَثَةٍ قَالُوا الشَّرِيعَةَ لا تَكْفِي لِمَقْصْودِ قُولُوا لَهُمْ قُوْلَ نُصْحٍ مَا بِهِ شَطَطٌ مَقَالَةً صَاغَهَا حَبْرٌ بِتَسْدِيدِ مُخَالِفُ الشَّرْعِ لَمْ يَظْفُرْ بِحَاجَتِهِ لَوْ نَالِ خَيْرًا قُصَارَاهُ لِتَبْدِيدِ إِنْ دَامَ هَذَا وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ غِيَر لَمْ يُبْكَ مَيْتٍ وَلَمْ يُفْرَحْ بِمَوْلُودِ ... ›? اللَّهُمَّ إِنَّا نسألكَ العافية في الدُّنيا والآخرَةِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْعَفَو والْعَافيةَ في دِيننَا ودُنيانَا وآخِرتنَا وَأَهْلِنَا وَمَالِنَا، اللَّهُمَّ اسْتُر عَوراتِنا وَأَمنِ روعاتِنا واحْفَظنا مِن بين أيدينا ومنِ خَلفنا وَعن أيمانِنَا وعن شَمائِلنا ومن

معنى الراشي والمرتشي والأدلة على تحريمها

فَوقِنا ونَعُوذ بعَظمَتِكَ أَنْ نُغْتَالَ من تَحْتِنا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ. اللَّهُمَّ اسلك بنا مناهج السلامة وعافنا من موجبات الحسرة والندامة ووفقنا للاستعداد لما وعدتنا وأدم لنا إحسانك ولطفك كما عودتنا وأتمم علينا ما به أكرمتنا بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ) قَالَ العُلَمَاءُ: الرَّاشِي هُوَ الذِي يُعْطِي الرِّشْوَةُ، وَالمُرْتَشِي هُوَ الذِي يَأْخُذُ الرِّشْوَة، قَالُوا: وَإِنَّمَا سُمِّي مِنْحَةُ الحُكَّامِ رِشْوة لأَنّها وُصْلَةٌ إِلَى المَقْصُودْ، بَنَوْعٍ مِنَ التَّصْنِيع، مَأْخُوذٌ مِنَ الرَّشَاءِ، وَهُوَ الحَبْلُ الذِي يُتَوَّصل بِهِ إِلَى نَزْحِ المَاءِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: ... وَلَيْتَ الحُكْمَ خَمْسًا بَعْدَ عَشْرٍ ... ???? ... لَعَمْرِي وَالصِّبَا فِي العُنْفُوِانِ ... ???? ... فَلَمْ تَضِعِ الأَعَادِي قَدْرَ شَانِي ... ???? ... وَلا قَالُوا فُلانٌ قَدْ رَشَانِي ... ›? ... ???? وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ آخر: أَنَّ اللَّعْنَة عَلَى الرَّائِشَ أَيْضًا، وَهُوَ السَّاعِي بَيْنَهُمَا، وَهُوَ تَابِعٌ لِلرَّاشِي فِي قَصْدِهِ، إِنْ قَصَدَ خَيْرًا لَمْ تَلْحَقُهُ اللَّعْنَةِ، إِلا لَحِقْتَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، عَنْ أِبِي أُمَامَةَ البَاهِلِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ شَفَعَ لِرَجُلٍ شَفَاعَةً فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةْ، فَقَدْ أَتِى بِابًا مِنْ أَبْوِابِ الرِّبَا» ، وَعَنِ ابِنِ مَسْعُودٍ قَال: السَّحُتْ: أَنْ تَطْلُبَ لأَخِيكَ الْحَاجَةَ، فَتَقْضِي فَيُهْدِي إليك هَدِيَّةً فَتَقَبَلُهَا مِنْهُ. وَعَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ كَلَّمِ ابْنَ زِيَادٍ فِي مَظْلَمَةٍ فَرَدَّهَا، فَأَهْدَى إليه

قصيدة زهدية فيها عبر ومواعظ

صَاحِبُ المَظْلَمَةِ وَصِيفًا، فَرَدَّهَا وَلَمْ يَقْبَلُهَا، وَقَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُول: مَنْ رَدَّ عَنْ مُسْلِمٍ مَظْلَمَةٍ فَأَعْطَاهُ عَلَيْهَا قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا فَهْوَ سَحُتْ، فَقَالَ الرَّجُلْ: يَا أَبَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ مَا كُنَّا نَظُنُّ أَنْ السُّحْتَ إِلا الرِّشْوَةُ فِي الحُكْمِ، فَقَالَ: ذَلِكَ كُفْرٌ نَعُوذُ بِاللهِ مِنْهُ. قَالَ العُلَمَاءُ: وَيَحْرُمُ عَلَى القَاضِي قُبُولُ هَدِيَّة إِلا مِمَّنْ كَانَ يُهَادِيهِ قَبْلَ وِلايَتِهْ، إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ حُكُومَةْ، لِمَا رَوَىَ أَبُو سَعِيدٍ قَالَ: بَعَثَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً مِنَ الأَزْدِ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَقَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِي إلي، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «مَا بَالُ العَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيِجِيءُ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهِدِيَ إلي، أَلا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ فَيَنْظُرَ أُيُهْدَى إليه أَمْ لا، وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا نَبْعَثُ أَحَدًا مِنْكُمْ فَيَأخُذَ شَيْئًا إِلا جَاءَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءْ أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرْ» ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حَتَّى رَأَيْتُ عُقْدَةَ إِبْطَيْهِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ» ثلاثًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. شِعْرًا: ... لا يَأْمَِنِ الوَقْتَ إِلا الخَائِنُ البَطِرُ مَنْ لَيْسَ يَعْقِلُ مَا يَأْتِي وَمَا يَذَرُ مَا يَجْهَلُ الرُّشْدَ مَنْ خَافَ الإِلَه وَمَن أَمْسَى وَهِمَّتُهُ فِي دِينِهِ الفْكَرُ فِيمَا مَضَى فِكْرَةٌ فِيهَا لِصَاحِبِهَا إِنْ كَانَ ذَا بَصَرٍ بِالرَّأْيِ مُعْتَبِرُ أَيْنَ القُرُونُ وَأَيْنَ المُبْتَنُونَ لَنَا هَذِي المَدائِنُ فِيهَا المَاءُ وَالشَّجَرُ ... ›?

.. وَأَيْنَ كِسْرَى أَنُو شُرْوانَ مَالَ بِهِ صَرَفُ الزَّمَانِ وَأَفْنَى مُلْكَهُ الغِيَرُ بَلْ أَيْنَ أَهْلُ التُّقَى بَعْدَ النَّبِيّ وَمَنْ جَاءَتْ بِفَضْلِهُم الآيَاتُ وَالسُّوَرُ أُعْدُدْ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِيقَ أَوَّلَهُمْ وَنَادِ مِنْ بَعْدِهِ فِي الفَضْلِ يَا عُمَرُ وَعُدَّ مِنْ بَعْدِ عُثْمَانٍ أَبَا حَسَنٍ فَإِنَّ فَضْلَهُمَا يُرْوَى وَيُذَّكَرُ لَمْ يَبْقَ أَهْلُ التُّقَى فِيهَا لِبِرِّهُمُ وَلا الجَبَابِرَةُ الأَمْلاكُ مَا عَمَرُوا فَاْعَملْ لِنَفْسِكَ وَاحْذَرْ أَنْ تُوَرِّطَهَا فِي هُوَّةِ مَالَهَا وِرْدٌ وَلا صَدَرُ مَا يَحْذَرُ اللهَ إِلا الرَّاشِدُونَ وَقَدْ يُنْجِي الرَّشِيدَ مِنَ المَحْذُورَةِ الحَذَرُ وَالصَّبْرُ يُعْقِبُ رِضْوَانًا وَمَغْفِرِةً مَعَ النَّجَاحِ وَخِيْرُ الصُّحْبَةِ الصَّبْرُ النَّاسُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا عَلَى سَفَرٍ وَعَنْ قَرِيبٍ بِهِمْ مَا يَنْقَضِي السَّفَرُ فَمِنْهُمْ قَانِعٌ رَاضٍ بِعَيْشَتِهِ وَمِنْهُمْ مُوسِرٌ وَالقَلْبُ مُفْتَقِرُ مَا يُشْبِعُ النَّفْسَ إِنْ لَمْ تُمْسِ قَانِعَةً شَيْءٌ وَلَوْ كَثُرَتْ فَي مِلْكِهَا البَدْرُ ... ›?

موعظة بليغة في الحث على الورع وتجنب أكل الأموال بالباطل

.. والنَّفْسُ تَشْبَعُ أَحْيَانًا فَيُرْجِعُهَا نَحْوَ المَجَاعَةِ حُبُّ العَيْشِ وَالبَطَرُ وَالمَرْءُ مَا عَاشَ فِي الدُّنْيَا لَهُ أَثَرٌ فَمَا يَمُوتُ وَفِي الدُّنْيَا لَهُ أَثَرُ ... ›? اللَّهُمَّ مَكِّنْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بَنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْنَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَزَحْزِحْنَا عَنِ النَّار وَأَدْخِلْنَا الْجَنَّةَ دَارَ القَرارِ وَمَتِّعْنَا بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ وَأَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. مَوْعِظَة عِبَادَ اللهْ: لَقْدَ نَهَانَا رَبُّنَا جَلَّتْ قُدْرَتُهُ عَنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالبَاطِلِ، وَاسْتِحْلالِهَا بِدُونِ حَقٍّ، وَأَخْذِهَا بِوَجْهٍ لَمْ يُبِحْهُ الدِّينْ وَلَمْ يُشَرِّعْهُ، يَنْهَانَا عَنْ رَفْعَ الدَّعَاوِي الكَاذِبَةِ، وَالإِدْلاءِ بِالقَضَايَا المُخْتَلِقَةِ المُلَفَّقَةِ، وَتَقْدِيمِ صَفَحَاتِهَا إِلَى القُضَاةِ، رَجَاءِ الفَصْلٌ فِيهَا بِالبَاطِلِ، اسْتِنَادًا إِلَى اليمِينِ الغَمُوسِ الْكَاذِبَةِ، وَارْتِكَانًا عَلَى شَهَادَةِ الزُّوْرِ الفَاجِرَةِ، أَوْ اعْتِمَادًا عَلَى الشَّفَاعَاتِ وَالوَسَائِطِ، وَاسْتِظْهَارًا بِتِلْكَ الرَّشَاوِي التِي تُقَدَّمُ بِاسْمِ الهَدَايَا إِلَى مَنْ لا خَلاقَ لَهُمْ، فَيَتَخَّطُونَ العَدَالَةَ لِقَاءَ هَذَا، وَيَجُورُونَ فِي الحُكُومَةِ وَالقَضَاءِ. إِنَّ أَمْوَالَ النَّاسِ التِي تُؤْكَلُ بِالبَاطِلِ قَبْسٌ مِنْ نَارْ، وَأُتُونُ مُسْتَعِرَةٌ بِاللَّظَى، وَتَنُّورٌ مَسْجُورٌ، مُوقِد إِنَّ أَمْوَالَ النَّاسِ التي تُؤْكَلُ بِالبَاطِلِ، جَذْوَةٌ مِنْ لَهِيبٍ، وَشُعْلَةٌ مُتَوَهِّجَةٌ، إِنَّ أَمْوالَ النَّاسِ التِي تُؤْكَلُ بِالبَاطِلِ آفةٌ مُهْلِكَةٌ، تَأْكُلُ الأَخْضَرِ وَاليابِسْ وَتَأْتِي عَلَى الغَضِّ وَالهَشِيمِ، هَذَا إِذَا فَنِيَتْ وَزَالَتْ، وَأَمَّا إِذَا بَقِيَتْ وَدَامَتْ، وَرَبَتْ وَنَمَتْ، وَزَادَتْ وَكَثُرَتَ،

وَشَبَّ عَلَيْهَا جِسْمُهُ، وَنَمَا عَلَيْهَا عَظْمُهُ وَلَحْمُهُ، فَالْوَيْلُ ثُمَّ الوَيْلُ ثُمَّ الْوَيْلُ لآكِلِ الحَرَامِ، الْتَفِتُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ يَمِينًا وَشِمَالاً تَرَوْا إِنَّ أَمْوَالَ النَّاسِ التِي أُكِلَتْ حَرَامًا مَا أَغْنَتْ آكِلِيهَا، وَمَا أَجْدَتْ عَلَى غَاصِبِيهَا وَنَاهِبِيهَا، بَلْ عَلَى العَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، أَتَتْ عَلَى بُيُوتِهِمْ فَخَرَّبَتْهَا، وَدَكَّتْ صُرُوحَ عِزِّهِمْ وَمَجْدِهِمْ فَهَدَّمَتْهَا، فَلَيْتِ شِعْرِي بِمَاذَا يَكُونُ الجَوَابُ إِذَا وَقَفُوا غَدًا بَيِنَ يَدِيْ أَحْكَمِ الحَاكِمِينَ وَسَأَلَهُمْ عَنْ هِذِهِ الأَمْوَالْ بِأَيِّ وَجِهٍ أَخَذُوهَا، وَعَلَى أَيّ دِينٍ اسْتَبَاحُوهَا، وَبِأَيّ شَيْءٍ يَنْطِقُونَ إَذَا شَهَدَتْ عَلَيْهُمْ الْجَوَارِحُ وَوَاجَهَتْهُمُ الأَعْضَاءُ بِالحَقَائِقِ، فَقَالَ اللِّسَانُ: بِي نَطَقَ كِذْبًا وَبُهْتَانًا، وَقَالَتِ اليدَانِ: بِي أَخَذَ المَالَ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، وَأَنْفَقَهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، وَقَالَتْ الرِّجْلانْ: بِي سَعِى الأَثِيمُ إِلَى دَارِ القَضَاءِ يَطْلُبُ الإِنْصَافَ، كَأَنَّهُ مَغْبُونٌ وَمَظْلُومٌ، وَقَالَتِ الرِّجْلانِ أَيْضًا بِي مَشَى إِلَى الزِّنَا أَوْ اللِّواطْ، أَوْ السَّرِقَةِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الجَرَائِمْ. آكِلُ الحَرَامِ فَتِّشْ حَوَاليك تَجِدُ الْحَرَامَ لا يَنْفَعْ، قَلِّبْ النَّظَرَ مَلِيًّا تَرَى المُبْطِلُ لا يَتَقَدَّمْ، تَأَمَّلْ قَلِيلاً وَفَكِّرْ فِي الْعَاقِبَةِ، فَإِنَّ العَافِيَةَ تَزُولُ، ارْجِعْ النَّظَرَ كُرَّاتٍ وَرَدِّدِ الْبَصَرِ مَرَّاتٍ، تُجبْكَ الحَوَادِثُ بِلَهْجَةِ الخَبِيرِ، بِأَنَّ العُمُرَ وَإْنْ طَالَ قَصِيرْ، وَإِنَّ الحِسَابِ عَسِيرُ وَشَدِيدٌ، وَأَنَّ المَوْقِفَ رَهِيبٌ وَشَاقٌ، وَأَنَّ الْمَصِيرَ إِمَّا إِلَى الجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ. أَيُّهَا النَّاسُ أَيْقِنُوا بِأَنَّ الأَحْكَامِ التِي تُؤْخَذُ فِي الدُّنْيَا بِالسَّفْسَطَةِ وَالتَّدْلِيسِ لا تَرْفَعُ الإثْمَ، وَلا تَرُدُّ العِقَابْ، لأنَّ الحُكُومَةْ سَتُعَادُ، وَالشُّهُودَ عِيَانٌ، وَالْقَضَاءُ بِالْقِسْطَاسِ، وَالقَاضِي الحَكَمْ الْعَدْلُ، قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} . وَقَالَ: {وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ الحَاجِيَّاتِ التِي تُؤْخَذُ خِلْسَةً وَتُخْتَطَفُ فِي غَفْوَةٍ، أَوْ تُؤْخَذُ رَغْمًا وَكُرْهًا فِي صَحْوٍ وَيَقَظَةٍ، بَاقِيَةٌ لأَصْحَابِهَا سَتَقْضُونَهَا مِنْ حَسَنَاتِكِمْ، وَتُؤَدُّونَهَا مِنْ مُبَرَّاتِكُمْ، إِنْ كَانَتْ لَكُمْ حَسَنَاتٌ وَمَبَرَّاتٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَخَذَ مِنَ خَطَايَا أَصْحَابِهَا فَطُرِحَتْ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ تُلْقَوْنَ بِهَا فِي النَّارِ، فَاتَّقُوا اللهَ، وَتَحَرُّوا الكَسْبِ الطَّيِّبْ، فَقْدَ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتْدَرُونَ مَنِ المُفْلِسْ» ؟ قَالُوا: المُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعٌ، فَقَالَ: «إِنَّ المُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي مِنْ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَّ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» . شِعْرًا: ... خَفِ اللهَ وَانْظْرِ فِي صَحِيفَتِكَ التِي حَوَتْ كُلَّمَا قَدَّمْتَهُ مِنْ فِعَالِكَا فَقَدْ خَطَّ فِيهَا الكَاتِبَانِ فَأَكْثَرَا وَلَمْ يَبْقَ إِلا أَنْ يَقُولا فَذَالِكَا وَوَاللهِ مَا تَدْرِي إِذَا مَا لَقِيتَهَا أَتُوضَعُ فِي يُمْنَاكَ أَوْ فِي شَمِالِكَا وَلا تَحْسَبَنَّ المَرْءَ يَبْقَى مُخَلَّدًا فَمَا النَّاسُ إِلا هَالِكٌ فَابْكِ هِالِكَا آخر: ... إِذَا انْقَطَعْتْ أَعْمَالُ عَبْدٍ عَنِ الوَرِى تَعَلَّقَ بِالرَّبِ الكَرِيمِ رَجَاؤُهُ ... ›?

حكم التأمين وصفة التأمين والأدلة على تحريمه

جج ... فَأَصْبحَ حُرًا عِزَّةً وَقَنَاعَةً عَلَى وَجْهِهِ أَنْوَارُهُ وَضِيَاؤُهُ وَإِنْ عَلِقَتْ بِالْخَلْقِ أَطْمَاعُ نَفْسِهِ تَبَاعَدَ مَا يَرْجُو وَطَالَ عَنَاؤُهُ فَلا تَرْجُ إِلا اللهَ لِلْخَطْبِ وَحْدَهُ وَلَوْ صَحَّ فِي خِلِّ الصَّفَاءِ صَفَاؤُهُ ... ›? اللَّهُمَّ اجْعَلْ قُلُوبَنَا مَمْلُوءَةً بِحُبِّكَ وَأَلْسِنَتَنَا رَطِبَةً بِذْكْرِكَ وَنُفُوسَنَا مُطِيعَةً لأَمْرِكَ وَأَمِّنَّا مِنْ سَطْوَتِكَ وَمَكْرِكَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ العَافِيةَ فِي دِينِنَا ودُنْيَانَا وَأُخْرَانَا وَأَهْلِنَا وَمَا لَنَا اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا وَأَمِّنْ رَوْعَاتِنَا وَاحْفَظْنَا مِنْ بَيْنَ أَيْدِينَا وَمِنْ خَلْفَنَا وَعَنْ أَيْمَانِنَا وَعَنْ شَمَائِلِنَا وَمِنْ فَوقِنَا ونَعُوذُ بعَظمَتِكَ أَنْ نُغْتَالَ من تَحْتِنا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ في حكم التأمين) اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَجَنَّبَنَا وَإِيَّاكَ وَجَمِيعِِ المُسْلِمِينَ مَا يَكْرَهُهُ وَلا يَرْضَاهُ أَنَّ مَمَّا حَدَثَ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَانْتَشَرَ فِي الأَرْضِ انْتِشَارَ الْوَبَاءِ الفَتَّاكْ، مَا يُسَمَّى بِالتَّأْمِين عَلَى الحَيَاةِ وَعَلَى الأَمْوَالِ، وَهُوَ عَقْدٌ بَيْنَ طَرَفَيْنِ، أَحَدُهُمَا: مُؤَمِّنٌ، وَالآخَرُ مٌؤَمَّنٌ، يَلْتَزِمُ فِيهِ المُؤْمِنُ أَنْ يُؤَدِّي إِلَى المُؤْمِّن مَبْلَغًا مِنَ المَالِ، أَوْ شَيْئًا مُرَتَّبًا عَنِدَمَا يَحْصُل ضَرَرٌ أَوْ حَادِثْ، وَذَلِكَ فِي مُقَابِلِ قِسْطٌ أَوْ أَيَّةِ دُفْعَةٍ مَاليةٍ أُخْرَى يُؤَدِّيهَا المُؤْمِّنُ إِلَى المُؤَمَّنِ. وَفِي الغَالِبِ أَنَّ الذِي يَقُومُ بِالتَّأْمِينِ شَرِكَاتٌ مُسَاهِمَةٌ كَبِيرَةٌ مٌهِمَّتُهَا

التأمين على الحياة والمال ابطاله من وجوه عديدة

التِي مِنْ أَجْلِهَا أُنْشِئَتْ: التَّأْمِينُ عَلَى الحَيِاةِ فِيمَا زَعَمُوا، وَعَلَى الأَمْوَالِ أَيْ ضَمَانِهَا، وَدَفْع ثَمَنَهَا إَذَا تَلَفَتْ، فَانْكَبَّ النَّاسُ عَلَيْهَا انْكِبَابًا عَظِيمًا، وَلَمْ يُفَكِّرُوا وَلَمْ يَفْحَصُوا، وَلِمْ يَسْأَلُوا عَنْ حِلَّهَا وَحُرْمَتِهَا وَضَرَرِِهَا، عَاجِلاً وَآجِلاً. فَأَمَّا التَّأْمِينُ عَلَى الحَيَاةِ فَطَرِيقَتُهُمْ فِيهَا أَنَّهُ إِذَا أَرَادَ الإِنْسَانُ أَنْ يُؤَمِّنَ عَلَى حَيَاتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى مَرْكَزِ شَرِكَةِ التَّأْمِينْ وَيُفْهِمُهَا أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَدْفَعَ مِنَ الأَمْوَالِ كَذِا لِتَضْمَنَ لَهُ حَيَاتَهُ كَذِا مِنَ السِّنِينِ، وَإِذَنْ هِيَ تُحْضِرُ حُكَمَاءَهَا البَارِعِينَ فِيمَا زَعَمَتْ وَيَبْحَثُونَ جِسْمَهُ بِحْثًا دَقِيقًا، ثُمَّ يُعْطُونَ الشَّرِكَةِ رَأْيَهُمْ فِي مَبْلَغِ صِحَّتِهِ عِنْدَهُمْ، وَفِي سَنِّهِ التِي هُوَ فِيهَا إِذْ ذَاكَ، فَإِذَا أَحَاطَ رِجَالُ الشِّرْكَةِ العَامِلُونَ بِمِقْدَارِهِ أَصْدَرُوا أَمْرَهُمْ بِضَمَانِ حَيِاتِهِ عَشْرَ سِنِين، أَوْ عِشْرِين، أَوْ ثَلاثِين، أَوْ أَرْبَعِين، أَوْ خَمْسِين. وَلَيْسَ كُلُّ شَخْصٍ بَلِ المُرَادُ عِنْدَهُم الصَّحِيحُ، أَمَّا المَرِيضِ أَوْ مِنْ يَتَعَاطَى الأَشْيَاءِ التي تَجْلِبُ الأَمْرَاضْ فَيُقَدَّرُ لَهُ عَلَى قَدْرِ حَاله فِيمَا يَرَوْنَ، فَإِذَا انْتَهَى تَسَلَّمُوا أَوَّلَ قِسْطٍ مِنَ الأَقْسَاطِ التِي اتَّفَقُوا عَلَيْهَا مَعَ المُتَعَاقِدْ. وَهَذِهِ الأَقْسَاط مَعَ المُدَّةِ المَعْلُومَةْ تَكُونث مَكْتُوبَةً فِي وَثِيقَةً يَمِضِي عَلَيْهَا مُمَثِّلُ الشِّرْكَةِ وَالمُتَعَاقِدْ، وَبِيَدِ كُلٍّ مِنْهُمَا نُسْخَةً مِنْهَا، تَكُونُ سَنَدًا لَهُ عَلَى الآخَرِ عِنْدَ اللّزُوم، وَتَلْتَزِمُ الشَّرِكَةُ فِي هَذِهِ الوَثِيقَة: إِنَّ المُتَعَاقِدْ مَعَهَا لَوْ مَاتَ فِي اليوم الذِي حَصَلَ فِيهِ الْعَقْدِ تَدْفَعُ لِوَرِثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ، أَوْ لِمَنْ يُعَيِّنَهُ فِي الوَثِيقَةِ - وَإِنَ كَانَ لا يَقْرَبُ لَهُ، وَلا لَهُ بِهِ صِلةْ، وَلَوْ أَنَّهُ خَادِمٌ عِنْدَهُ، أَوْ عِنْدَ غِيْرِهِ - تَدْفَعُ مَبْلَغًا يُوَازِنُ أَوْ يَزْيدُ عَنِ المَبْلَغِ الذِي ذَكِرَ المُتَعَاقِدْ أَنَّهُ يَدْفَعُهُ لِلشَّرِكَةِ فِي المُدَّةِ الْمُتَّفِق عَلَيْهَا، لَكِنْ يَشْتَرِطُ

هَؤُلاءِ الْوَضِيعُونْ أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ عَادِيَّا، لَيْسَ بِجِنَايَةٍ مِنْ الْوَرَثَةِ، وَلِهَذَا: الشِّرْكَة لا تَدْفَعُ المَبْلَغَ بِمُجَرَّدِ أَنْ يُقَالُ لَهَا: إِنَّهُ مَاتَ، بَلْ لَهَا أَبْحَاثٌ وَمُنَاقَشَاتٌ تَطُولُ وَتَدُق، يَكْتَشِفُونَ بِهَا كَيْفَ مَات، رُبَّمَا يَنْشَأ عَنْ هَذِهِ الفُحُوصِ سَبُّ المَيِّتِ وَلَعْنَهُ وَأَعْمَاله وَمَا أَرَّثَ وَإِنْ قِيلَ لَهُمْ، أَوْ ظَنُّوا أَنَّ الْمَوْتَ يُرَادُ بِهِ الوُصُولُ إِلَى الْمَبْلَغِ الْمَعْلُومِ، فَانْظُرْ كَيْفَ يَعْمَلُونْ. عَافَانَا اللهُ وَإِيَّاكَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ. وَعِنْدَ هَؤُلاءِ الْوَضعِيّينَ فِيمَا ذُكِرَ أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ بَعْضُ الأَقْسَاطِ ثُمَّ عَجِزِ عَنِ البَاقِي ذَهَبَ عَلَيْهِ كُلُّ الذِي دَفَعَهُ، وِفِيهِ شُرُوطٌ أُخْرَى، مِنْهَا كَوْنُ الشِّرْكَة تَشْتَرِطُ عَلَى نَفْسِهَا أَنْ تَدْفَعَ رِبْحًا خَمْسَةِ فِي الْمِائَةِ فِي حَالِةِ اسْتِمْرَارُ عَقْدِ التَّأْمِين، وَهَذَا عَقْدٌ بَاطِلٌ بِلا شَكْ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا تَسْلِيمُ دَرَاهِمُ مُقَسَّطَةٌ فِي دَرَاهِمَ أَكْثَرَ مِنْهَا مُؤَجَّلَةً، قًدْ يَتَحَصَّلُ عَلَيْهَا، وَقَدْ تَفُوتُ عَلَيْهِ فِي حَالَةِ عَجْزِهِ عَنْ بَعْضِ الأَقْسَاطِ، فَحِقِيقَتُهَا شِرَاءُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَهُوَ مَمْنُوع، وَشِرَاءُ دَرَاهِمٍ بِدَرَاهِمَ أَكْثَرَ مَنْهَا وَهُوَ مَمْنُوع. وَمِنْ جِهَةٍ فَهِيَ تُشْبِهُ بَيْعَ الآبِقِ الذِي لا يَصِحُّ بَيْعُه، فِي حَالَةِ جَهَالَةِ الحُصُولِ عَلِى العِوَضِ المَشْرُوطِ، وَقَدْ يَفُوتُ عَلَيْهِ مَعَ رَأْسِ مَاله، وِمَعَ مَا فِيهِ مِنَ الرِّبَا. وَبِهَذَا يَتَبَيَّنْ أَنَّ مَسْأَلَةَ التَّأْمِينِ عَلَى الحَيِاةِ هِيَ مِنَ المُعَامَلاتِ الفِاسِدَةْ، وَلِمُشَابَهَتِهَا لِعَقْدِ الْمَيْسِرِ حَقِيقَةٌ وَمَعْنَى، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .

اللَّهُمَّ اجْمَعْ قُُلُوبِ المُؤْمِنِينَ عَلِى مَحَبَّتِكَ وَطَاعَتِكَ، وَأَزِلْ عَنْهُمَ مَا حَدَثَ مِنَ المنُكْرَاتِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. فَصْلٌ: وَأَمَّا التَّأْمِينُ عَلَى الأَمْوَالِ فَأَنَا أُوَضِّحُ لَكَ خَطَرَهُ وَضَرَرَهُ، وَأُمَثِّلُ لَهُ، وَأَذْكُرُ مَا تَيَسَّرِ مِنَ الأَدِلَّةِ عَلِى تَحْرِيمِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ إِنْسَانٌ إِلَى شَرِكَةِ التَّأْمِينِ مَثَلاً: عَشْرَةِ آلافِ رِيَالٍ، لِتَأْمِينِ بِضَاعَتِهِ التِي قَيمَتُهَا نِصْفُ مُلْيُونٍ، أَوْ لِتَأْمِين مَكْتَبَتِهِ أَوْ مَطْبَعَتِهِ التِي تُسَاوِي نِصْفَ مَلْيُونٍ مَثَلاً، ثُمَّ تَلِفَتْ، فَالزَّائِدَةُ عَلِى مَا دَفَعَهُ لِلشَّرِكَةِ عَلِى أَيّ وَجْهٍ تُحِلُّ لَهُ، أليس يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرًا فَأَصَابَتْهُ جِائِحَةٌ، فَلا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذُ مِنْهُ شِيْئًا، بِمَ يَأْخُذُ أُحَدَكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ» . رَوَاهُ مْسْلِمْ. وَإِذَا سَلِمَتْ الْبِضَاعَةُ الْمُؤَمَّنَةُ، أَوْ الْمَطْبَعَةْ أَوْ الْمَكْتَبَةُ أَوْ الْبَيْتُ، فَبِأَيِّ وَجْهٍ يَحِلُّ لِلشَّرِكَةِ أَكْلَ مَا دَفَعَهُ لَهَا مُقَسِّطًا أَوْ دُفْعَةً وَاحِدَةً، لا هِبَةً وَلا مِيرَاثًا وِلا وِقْفًا، أليس بِدُونِ مُقَابِلْ، أليس اللهُ جَلَّ وَعَلا يَقُولُ: وُهْوَ أَصْدَقُ قَائِلْ: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} مَعَ الحَدِيثِ المُتَقَدِّمْ: «بِمَ يَأْخُذُ أُحَدَكُمْ مَالَ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ» أليس هَذَا العَمَلُ فِيهِ مِنَ الغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ مَا لا يَخْفَى. وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي النَّهْي عَنِ الْغَرَرِ، مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ المُنَابَذَةِ، وَهِيَ طَرْحُ الرَّجُل ثَوْبَهُ بِالبَيْعِ إِلَى الرَّجُلْ قَبْلَ أَنْ يُقَلِّبهُ أَوْ يَنْظُرُ إليه. وَنَهَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ المُلامَسَةِ، وَهِيَ لَمْسَ الرَّجَلِ الثَّوْبَ لا يَنْظُرُ إليه، وَنَهَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الحَصَاةِ، وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ.

ج شِعْرًا: ... لَيْسَ الظَّرِيفُ بِكَامِلٍ فِي ظَرْفِهِ ... حَتَّى يَكُونَ عَنِ الحَرَامِ عَفِيفَا فَإِذَا تَوَرَّعَ عَنْ مَحَارِمِ رَبِّهِ ... فَهُنَاكَ يُدْىَ فِي الأَنِامِ ظَرِيفَا وَقَالَ: «لا تَشْتَرُوا السَّمَك فِي المَاءِ فَإِنَّهُ غَرَرٌ» وَنَهَى عَنْ بَيْعِ حَبْلِ الحَبْلَةِ. وَنَهَى عَنْ ضَرْبَةِ الغَائِص، وَهُوَ مَا سَيُخْرِجُهُ الغَائِصُ، وَنَهَى عَنْ شِرَاءِ الصَّدَقَاتِ حَتَّى تُقْبَضُ، وَنَهَى عَنْ بَيْعِ المَغَانِمِ حَتَّى تُقَسَّم، وَنَهَى عَنْ بَيْعُ المَضَامِينَ، وَهُوَ مَا يَنْتُجُ مِنْ أَصَلابِ فُحُولِ الإِبِلِ الأَصْلِيَّةِ مِنْ نِتَاجٍ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الغَرَرِ وَالجَهَالَةِ. وَقَالَ العُلَمَاءُ: وَلا يَجُوزُ بَيْعُ الآبِقِ وَالشَّارِدِ، وَلا الطَّيْرِ فِي الهَوَاءِ لأَنَّهُ تَرَدَّدَ بَيْنَ الحُصُولِ وَعَدَمِهِ، وَكُلُّ هَذِهِ النَّوَاحِي تَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ التَّأْمِينِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى دَاخِلٌ فِي القَرْضِ الذِي يَجُرُّ نَفْعًا وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى فَهُوَ قِمَارٌ، لأنَّ المُتَقَامِرَيْنِ الأَصليَيْنِ حِينَ المُقَامَرَةِ لا يَدْرِي كُلٌّ مِنْهُمَا لِمَنْ تُكُونَ الغَلَبَةُ، حَتَّى يَكُونُ المَالُ الذِي اتَّفَقَا أَنْ يَدْفَعَهُ الْمَقْمُورُ وَهَكَذَا الحَالُ هُنَا وَمَا يُرَى مِن أَخْذِ الشَّرِكَةِ مَالَ المُتَعَاقِدِ أَوَّلاً لا عِبْرَةً بِهِ، فَقْدَ يَنْقَلِبُ الأمْرُ، وَتَكُونُ هِيَ الدَّافِعَةُ، وَكَمَا أَنَّ المُقُامِرَ يَعْتَمِدُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى حَظِّهِ، وَيَنْتَظِرُ مَا يَنْكَشِفُ مِمَّا غُيِّبَ لَهُ أَوْ لِصَاحِبِهِ، فَكَذَلِكِ الأَمْرُ هُنَا، لا مُرَجِّحَ لأَحَدِهِمَا عَلَى الآخَرِ فِي الأَخْذِ أَوْ الدَّفْعِ، وَمَا تَرِاهُ مِنَ الرُّجْحَانِ فِي جَانِبِ الشَّرِكَةِ قَدْ يَنْقَلِبُ مَرْجُوحًا. وَكَمَا أَنَّ المُشْتَغِلينَ بِاللَّعِبِ بِالقُمَارِ لم يَعْمَلْ أَحَدُهُمَا عَمْلاً يُفِيدُ صَاحِبَهُ أَي فَائِدَةً يَسْتَحِقُّ بِهَا المََبْلَغُ الذِي يَأْخُذُهُ مِنْهُ لَوْ غَلَبَهُ، فَالأمْرُ فِي هَذِهِ الشَّرِكَاتِ وَمَنْ يَتَعَاقَدُ مَعَهَا كَذَلِكَ، وَكَمَا أَنَّ الدَّفْعَ فِي القِمَارِ يَكُونُ مِنْ جَاِنبٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الجَانِبُ المَغْلُوبُ فَالأمرُ هُنَا كَذِلَكَ.

وَكَمَا أَنَّ المُشْتَغِلِينَ بِلِعْبِِ القُمَارِ، لَمْ يَعْمَلْ أَحَدُهُمَا عَمَلاً يُفِيدُ مِنْهُمَا، وَبِنَاءٌ عَلَيْهِ يَدْفَعُ المَالَ الْمَشْرُوطَ، فَكَذَلِكَ هُنَا، تَقُولُ الشِّرِكَة لَهُ: إِنْ احْتَرَقَ الْبَيْتُ، أَوْ المُسْتَوْدَعُ، أَوْ الْمَكْتَبَةُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، أَخَذْتُ مِنِي قَيمَتُهُ بَالِغًا مَا بَلَغَ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَرِقُ، أَسْتَمِرُّ أَنَا آخُذُهَا مَا تَدْفَعُهُ لِي، إِنْ كَانَ مُقَسَّطًا، فِي مُقَابِلِ ذَلِكَ الضَّمَانِ. وَكَمَا أَنَّ الْمُتَقَامِرِينِ يَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي وَجَلِ مِنْ ظُهُورِ الغَلَبَةِ فِي جَانِبِ صَاحِبِهِ وَيُسَرُّ كُلَّ السُّرُورِ، وَإِذَا ظَهَرْتَ نَتِيجَةُ اللَّعِبِ فِي نَاحِيَتِهِ كَذَلِكَ الحَالُ هُنَا، فَالشَّرِكَةُ مَا دَامَ هَذَا الْمَغْرُورُ - الذِي هُوَ صَاحِبُهَا – يَدْفَعُ، وَفِي جَانِبِهَا الاطمِئْنَانُ عَلَى الْمَنْزِلِ فِي سُرُورٍ، إِلا أَنَّهَا مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى مَمْلُوءَةً رُعْبًا وَخَوْفًا مِنْ أَنْ يَطْرَأ الطَّارِئُ المَخُوفُ الذِي بِهِ تُصْبِحُ مُكُلَّفَةً بِدَفْعِ الضَّمَانِ، وَالمُتَعَاقِدُ دَائِمًا فِي أَلَمٍ وَهَمٍّ، مِنْ دَفْعِهِ مَا هُوَ مُكَلَّفٌ نَفْسَهُ بِهِ، لأَنَّهُ فِي هَذِهِ الحَالَةِ فِي مَظْهَرِ الْمَغْلُوبِ، لَكِنْ لَوْ حَدَثَ بِالمَنْزِلِ حَرِيقٌ يُفْزِعُهُ لَوْ حَصَلَ وَلا ضَمَانٌ – تَرَاهُ فِي مُنْتَهَى الفَرَحِ وَالسُّرُورِ، لأَنَّهُ فِي اطْمِئْنَانٍ عَلَى قِيمَةِ الْمَنْزِلِ، كَأَنَّهَا فِي جَيْبِهِ، وَعَلَى كُلٍّ فَإِنْ غُلِبَتْ الشَّرِكَةُ فَهِي تَغْلِبُ مَرَّاتٍ لا تُعَدُّ وَلا تُحْصَى، وَأَيْضًا فَالشَّرِكَةُ غَالِبًا تُعَامِلُ بِالرِّبَا، لأنَّهَا تُعْطِي الأَمْوَالَ بِفَوْائِدَ، فَالمَالُ بِاخْتِلاطِهِ بِالأَمْوَالِ الرَّبَوِّيَةِ، وَبِاسْتِعْمَاله فِي الرِّبَا أَصْبَحَ خَبِيثًا مُلَوَّثًا، ثُمَّ بِرَدِ مَبْلَغٍ مِنَ الرِّبَا مِنَ الْمَبْلَغِ الأَصلي، يَزِيدُ خُبْثًا عَلَى خُبْثِهِ، فَيَكُون الدَّافِعُ لِلشَّرِكَةِ - الذِي هُوَ المُؤَمِّنُ - قَدْ أَعَانَ عَلَى فُشُوِّ الرِّبَا، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ، وَيَقُولُ جَلَّ وَعَلا وَتَقَدَّسَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} . شِعْرًا: ... زِيَادَةُ المَالِ مِنْ رِبْحِ البُنُوكِ وِمَا ... ضَاهَى البُنُوكَ مِنَ الأَرْبَاحِ خُسْرَانِ فَاْحَذْر مَكَاسِبِهَا إِنْ كُنْتَ ذَا وَرِعِ ... فَفِي الحَلالِ لأَهْلِ الدِّين غُنْيَانُ

التأمين على السيارات وحوادثها

آخر: ... فَإِيَّاكَ إِيَّاكَ الرِّبَا فَلَدِرْهَمٌ ... أَشَدُّ عِقَابًا مِنْ زِنَاكَ بِنُهَّدِ وَتُمْحَقُ أَمْوَال الرِّبَا وَإِنْ نِمْتْ ... وَيَرْبُو قَلِيل المَالِ فِي صِدْقِ مَوْعِدِ آخر: ... وَقَائِلَةٍ مَا لِي أَرَِاكَ مُجَانِبًا ... أُمُورًا وَفِيهَا لِلتِّجَارَةِ مُرْبَحُ فَقُلْتُ لَهَا كُفِي مَلامَكَ وَاسْمِعِي ... فَنَحْنُ أُنَاسٌ بِالسَّلامَةِ نَفْرَحُ اللَّهُمَّ ثَبِّت مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَوَفِّقْنَا لِشُكْرِكَ وَذِكْرِكَ وَارْزُقْنَا التَّأَهُبَّ وَالاسْتِعْدَادَ لِلقَائِكَ وَاجْعَلْ خِتَامَ صَحَائِفِنَا كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وَأَمَّا التَّأْمِينُ عَلَى السَّيَارَاتِ وَحَوَادِثِهَا فَهُوَ أَعْظَمُ خَطَرًا، وَأَكْثَرُ جَهَالَةً مِنْ مَا مَثَّلْنَا فِيهِ (أَوَّلاً) : لأَنَّ السَّيَّارَةَ كَمَا يَأْتِي يَفُوتُ فِيهَا نُفُوسٌ وَأَمْوَالٌ لا تَقَعُ فِي الحُسْبَانِ، وَصِفَةُ التَّأْمِينِ لَهَا: هُوَ أَنْ يَتَّفِق الشَّخْصُ الذي يُرِيدُ التَّأْمِينَ لَهَا مَعَ شَرِكَةِ التَّأْمِينِ، سَوَاء كَانَ كَامِلاً أَوْ ضِدَّ الغِيرِ أو الغَيَارِ، فَيْدَفَعُ قَدْرًا مَعْلُومًا مِنَ الْمَالِ عَلَى تَأْمِينِهَا مُدَّةً مَعْلُومَةً بِشُرُوطٍ وَالتِزَامَاتٍ مَعْلُومَةٍ عِنْدَ الْجَمِيعِ، وَمَهْمَا حَصَلَ عَلَى هَذِهِ السَّيَّارَةِ المُؤَمَّنَةِ مِنْ إِصَابَاتٍ أَوْ أَصَابَتْ غَيْرَهَا، وَغَرِمَ صَاحِبُهَا أَمْوَالاً بِسَبِبِ مَا أَتْلَفَتْ مِنْ نُفُوسٍ وَأَمْوَالٍ، أَوْ تَلِفَ بِهَا فِي خِلالِ هَذِهِ المُدَّةِ المُتَعَاقَدِ عَلَيْهَا، فَإِنَّ شَرِكَةِ التَّأْمِينِ مُلْزَمَةٌ بِضَمَانِهِ، بَالِغًا فِيهَا مَا بَلَغَ فَمَثَلاً لَوْ أَمَّنَ سَيَّارَتَهُ الكَبِيرَةَ بِخَمْسَةِ آلافٍ، وَتَلِفَ فِيهَا مائَةُ نَفْسٍ، وَاحْتَرَقَتْ هِيَ، وَبِهَا نُقُودٌ كَثِيرَةٌ احْتَرَقَتْ مَعَهَا، فَالشَّرِكَةُ مَلْزَمَةٌ بِضَمَانِ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَالزَّائِدُ عَلَى خَمْسَةِ آلافِ مِنَ دِيَّاتٍ وَأَمْوَالٍ مَا المُسَوَّغُ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْخُذَهُ مِنَ الشَّرِكَةِ؟ أليس بِدُونِ مُقَابِلٍ؟ وَقَدْ مَرَّتْ الآيَةُ الكَرِيمَةُ، وَالأَحَادِيثُ

موعظة وبعدها قصيدة في الحث على الاستعداد للموت

الشَّرِيفَةُ فِي الفَصْلٌ الذِي قَبْلَ هَذَا فَنَكْتَفِي بِذَلِكَ عَنِ التِّكْرَارِ وَالإِطَالَةِ وبالتالي فَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ مِنْ أَضْرَارِ التَّأْمِينِ إِلا أَنَّ أَكْثَرَ المُؤْمِنِينَ لِسَيَّارَاتِهِمْ أَدَّى بِهِمْ ذَلِكَ إِلَى أَنْ تَهَوَّرُوا فِي السُّرْعَةِ فِي السِّيَاقَةِ لِلسَّيَّارَةِ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ الشَّرِكَةَ سَتَقُومُ بِدَفْعِ مَا نَتَجَ عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ اقْتَدَى بهم غيرهم في السُّرْعَةِ فَحَصَلَ بِذَلِكَ أَضْرَارٌ عَظِيمَةٌ لا يَعْلَمُ مَدَاهَا إِلا اللهُ جَلَّ وَعَلا فَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ العَلَيِّ العَظِيمِ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. مَوْعِظَة أَيُّهَا الإِخْوَانُ لَقَدْ ذَهَبَ أَكْثَرُ عَامِكُمْ وَفَاتَ، وَتَقَضَّتْ أَيَّامُهُ وَلَيَاليه وَأَنْتُمْ مُنْهَمِكُونَ فِي اللَّذَاتِ، فَمَا أَسْرَعَ مَا تَضَرَّمَتْ مِنْهُ الأَوْقَاتُ، وَمَا أَكْثَرَ مَا خَطَبَكُمْ لِسَانُ حَاله بِزَوِاجِرِ العِظَاتِ، وَمَا أَطْوَلَ مَا نَادَى بِكُمْ مُنَادِي الشِّتَاتِ. أَبَنِي أَبِينَا نَحْنُ أَهْلُ مَنَازِلٍ ... ???? ... أَبَدًا غُرَابُ البَيْنِ فِيهَا يَنْعِقُ ... ›? ... ???? آخر: ... يُسَاقُ بَنِي الدُّنْيَا إِلَى الحَتْفِ عَنْوَةً ... وَلا يَشْعُرُ الْبَاقِي بِحَالَةِ مَنِْ يَمْضِِي كَأَنَّهُمُ الأَنْعَامُ في جَهْلِ بَعْضِهَا ... بِمَا تَمَّ مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ عَلَى بَعْضِ فَطُوبَى لِمَنْ تَدَارَكَ الهَفَوَاتِ، وَبُشْرَى لِمَنْ لازَمَ تَقْوَى اللهِ، وَعَمِلَ بِالبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَهَنِيئًَا لِمَنْ أَذْهَبَ السَّيِّئَاتِ بِالحَسَنَاتِ، وَيَا خَيْبِةَ مَنْ شَغَلَتْهُ المَلاهِي وَالمُنْكَرَاتِ عَنْ طَاعَةِ رَفِيعِ الدَّرَجَاتِ، وَمَا أَعْظَمَ خَسَارَةَ مَنْ بَاعَ نَفِيسَ آخِرَتِهِ بِخَسِيسِ دُنْيَاهُ، وَحَسْرَةً لَهُ يَوْمَ {يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} وَتَعْسًا وَجَدْعًا لَهُ {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} . هُوَ المَوتُ ما مِنْهُ ملاذٌ وَمَهْرَبُ ... مَتَى حُطَّ عَنْ نَعْشِهِ ذَاكَ يَرْكَبُ

ج نُشاهدُ ذا عَينَ اليقينَ حَقيقَةً عَلَيهِ مضى طِفلٌ وَكهلٌ وَأَشيَبُ وَلكن عَلا الرَّانُ القُلُوبَ كَأَنَّنَا بِمَا قَدْ عَلِمْنَاهُ يَقِينًا نُكَذِّبُ نُؤَمِّلُ آمَالاً وَنَرْجُو نِتَاجَهَا وَعَلَّ الرَّدَى مِمّا نُرَجّيهِ أَقْرَبُ وَنَبْنِي القُصُورَ المُشْمَخِرَّاتِ في الهَوَى وَفِي عِلْمِنَا أَنَّا نَمُوتُ وَتَخْرَبُ وَنَسْعَى لِجَمْعِ المَالِ حِلاً وَمَأْثَمًا وَبِالرَّغْمِ يَحْوِيهِ البَعِيدُ وَأَقْرَبُ نُحَاسَبُ عَنْهُ دَاخِلاً ثُمَّ خَارِجًا وَفِيمَا صَرَفْنَاهُ وَمِنْ أَيْنَ يُكْسَبُ وَيُسْعَدُ فِيهِ وَارِثٌ مُتَعَفِّفٌ تَقِيٌّ وَيَشْقَى فِيهِ آخِرُ يَلْعَبُ وَأَوَّلُ مَا تَبْدُو نَدَامَةُ مُجْرِمٍ إِذَا اشْتَدَّ فِيهِ الكَرْبُ وَالرُّوحُ تُجْذَبُ وَيُشْفِقُ مِنْ وَضْعِ الكِتَابِ وَيَمْتَنِي لَوْ أَنْ رُدَّ لِلدُّنْيَا وَهَيْهَاتَ مَطْلَبُ وَيَشْهَدُ مِنَّا كُلُّ عُضْوٍ بِفِعْلِهِ وَليْسَ عَلَى الجَبَّارِ يَخْفَى المُغَيَّبُ إِذَا قِيلَ أَنْتُمْ قَدْ عَلِمتُمْ فَمَا الذي عَمِلْتُمْ وَكُلٌّ فِي الكِتَابِ مُرَتَّبُ ... ›?

.. وَمَاذَا كَسَبْتُمْ فِي شَبَابٍ وَصِحَّةٍ وَفِي عُمُرٍ أَنْفَاسُكُمْ فِيهِ تُحْسَبُ فَيَا لَيْتَ شِعْرِي مَا نَقُولُ وَمَا الذِي نُجُيبُ بِهِ وَالأَمْرُ إِذْ ذَاكَ أَصْعَبُ إِلَى اللهِ نَشْكُو قَسْوَةً فِي قُلُوبِنَا وَفِي كُلِّ يَوْمٍ واعِظُ الْمَوْتِ يَنْدُبُ وَلِلَّهِ كَمْ غَادٍ حَبِيبٍ وَرَائِحٍ نُشَيِّعُهُ لِلقَبْرِ وَالدَّمْعُ يَسْكُبُ أَخٌ أَوْ حَمِيمٍ أَوْ تَقِيٌّ مُهَذَّبٌ يُواصِلُ في نُصْحِ العِبَادِ وَيَدْأَبُ نَُهِيلُ عَلَيْهِ التُّربَ حَتَّى كَأنَّهُ عَدُوٌّ وَفِي الأَحْشَاءِ نَارٌ تَلَهَّبُ وَمَا الحَالُ إِلا مِثْلُ مَا قَالَ مَنْ مَضَى وَبِالجُمْلَةِ الأَمْثَالُ لِلنَّاسِ تُضْرَبُ لِكُلِّ اجْتِمَاعٍ مِنْ خَلِيلَيْنِ فِرْقَةٌ وَلَو بَينَهُمْ قَدْ طَابَ عَيْشٌ وَمَشْرَبُ وَمِنْ بَعْدِ ذَا حَشْرٌ وَنَشْرٌ وَمَوْقِفٌ وَيَوْمٌ بِهِ يُكْسَى المَذَلَّةَ مُذْنِبُ إِذَا فرَّ كُلٌّ مِنْ أَبِيهِ وَأُمِّهِ كَذَا الأُمُّ لَمْ تَنْظُرْ إليه وَلا الأَبُ وَكَمْ ظَالِمٍ يَدْمِي مِنَ العَضِّ كَفُّهُ مَقَالتَهُ يا وَيلَتِي أَيْنَ أَذْهَبُ ... ›?

فصل في التحذير من الغش

.. إِذا اِقْتَسَمُوا أَعْمَاله غُرَماؤُهُ وَقِيلَ لهُ هَذَا بِمَا كُنْتَ تَكْسِبُ وَصُكَّ لَهُ صَكٌّ إِلَى النَّارِ بَعْدَمَا يُحَمَّلُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ وَيُعَذَّبُ وَكَمْ قَائِلٍ وَاحَسْرَتا لَيْتَ أَنَّنَا نُرَدُّ إِلَى الدُّنْيَا نُنِيبُ وَنَرْهَبُ فَحُثُّوا مَطَايَا الإِرْتِحَالِ وَشَمِّرُوا إِلَى اللهِ وَالدَّارِ التي لَيْسَ تَخْرُبُ فَمَا أَقْرَبَ الآتِي وَأَبْعَدَ مَنْ مَضَى وَهَذَا غُرابُ البَيْنِ بِالدَّارِ يَنْعُبُ وَصَلِّ إلهي ما هَمَا الوَدْقُ أَوْ شَدَا عَلَى الأَيكِ سَجَّاعُ الحَمَامِ المُطَرِّبُ عَلَى سَيِّدِ السَّادَاتِ وَالآلِ كُلِّهِمْ وَأَصْحَابِهِ مَا لاحَ في الأُفُقِ كَوكَبُ ... ›? اللَّهُمَّ ثَبِّتْ وَقَوِّي إِيمَانَنَا بِكَ ومَلائِكَتِكَ وَكُتُبِكَ وَرُسُلِكَ واليوم الآخِر وَالقَدَرِ خَيْرِه وَشَرِّهِ اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإيمَانِ وَاشْرَحْ صُدُورِنَا وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ الغِشِّ) اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ أَنَّ مِمَّا يَتَأَكَّدُ اجْتِنَابُهُ وَالتَّحْذِيرِ عَنْهُ وَإِنْكَارُهُ، الغِشُّ وَالخِدَاعُ فِي المُعَامَلاتِ

فَإِنَّ الإِسْلامَ يُحَرِّمُ ذَلِكَ بِكُلِّ صُورَةٍ، فِي بَيْعٍ وَشِرَاءٍ وَفِي سَائِرِ أَنْوَاعِ المُعَامَلاتِ الإِنْسَانِيَّةِ، وَالمُسْلِمُ مُطَالَبُ بِالتْزَامِ الصَّدْقِ فِي كُلِّ شُؤُونِهِ، وَالنَّصِيحَةُ فِي الدِّينِ أَغْلا مِنْ كُلِّ كَسْبٍ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الدِِّينُ النَّصِيحَةُ» . وَقَالَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: «الْبَيْعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» وَمَرَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ يَبِيعُ طَعَامًا فَأَعْجَبَهُ ظَاهِرُهُ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ، فَرَأَى بَلَلاً فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا صَاحِبُ الطَّعَامِ» ؟ قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ (أي المطر) فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَهَلا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» . وَفِي رِوَايِةٍ: أَنَّهُ مَرَّ بِطَعَامٍ وَقَدْ حَسَّنَهُ صَاحِبُهُ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِيهِ، فَإِذَا طَعَامُ رَدِيءٌ، فَقَالَ: «بِعْ هَذَا عَلَى حِدَةٍ، وَهَذَا عَلَى حِدَةٍ مَنْ غَشَّنَا فَلَيَْسَ مِنَّا» . فَانْظُرْ بِمَاذَا حَكَمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ غَشَّ فِي الطَّعَامِ، وَالطَّعَامُ مَادَةً يَنْقَضِي أَثَرُهَا بِسُرْعَةٍ، فَكَيْفَ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، فَالإِيمَانُ الصَّحِيحُ الكَامِلُ يَقْتَضِي الصِّدْقَ وَالإِخْلاصَ، وَالتَّقْوَى وَالنُّصْحَ، وَأَنْ يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ. فَإِذَا سَأَلَكَ إِنْسَانٌ مُؤْمِنٌ عَنْ حَالِ رَجُلٍ وَأَخْلاقِهِ، وَأَمَانَتِهِ، وَدِينِهِ، فَأَجَبْتَهُ بِغَيْرِ مَا تَعْرِفُ وَتَعْلَمُ، كَأَنْ كَانَ فَاسِقًا فَقُلْتُ: إِنَّهُ صَالِحٌ، أَوْ كَانَ صَالِحًا فَقُلْتَ: إِنَّهُ مِنَ المُفْسِدِينَ، فَقَدْ غَشَشْتَهُ. وَفِي الحَدِيثِ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» ، وَإِذَا سَأَلَكَ أَخُوكَ المُؤْمِنُ عَنِ امْرَأَةٍ يُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، تَعْرِفُهَا

وَتَعْلَمُ صِفَاتِهَا، وَأَخْلاقِهَا وَأَهْلِهَا، فَلَمْ تَصْدِقُهُ الحَقِيقَةِ، وَلَمْ تَذْكُرْ لَهُ الحَقَّ الذِي تَعْرِفُهُ، فَقُلْتَ لَهُ: إِنَّ شَكْلَهَا جَمِيلٌ، وَهِيَ قَبِيحَةٌ ذَمِيمَةٌ، أَوْ قُلْتَ لَهُ: ذَمِيمَةٌ، وَهِيَ جَمِيلَةٌ، أَوْ أَجْبَتَهُ أَنَّ أَخْلاقَهَا وَسِيَرَتَهَا غَيْرُ حَمِيدَةٍ وَالأمْرُ بِخَلافِ ذَلِكَ، فَقَدْ كَذَبْتَ وَغَشَشْتَ وَكُنْتَ مِنَ الخَائِنِينَ وَإِذَا سَأَلَكَ أَخُوكَ عَنْ تَاِجرٍ وَمُعَامَلَتِهِ لِلنَّاسِ فَقُلْتَ غَيْرَ الحَقِّ، وَعميَّت عَلَيْهِ أَمْرَهُ فَمَدَحْتَهُ وَهُوَ مَذْمُومٌ، فَاعْلَمْ أَنَّكَ بِذَلِكَ جَمْعَتَ بَيْنَ الغِشِّ وَالكَذِبِ. وَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الغِشِّ لِلنَّفْسِ وَالأَهْلِ وَالمُجْتَمَعِ الإِسْلامِي الإِتْيَانُ بِكُفَارِ خَدَّامِين أَوْ سَوَّاقِينَ أَوْ طَبَّاخِينَ أَوْ خَيَّاطِينَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لأَنَّهُمْ أَعْدَاءُ اللهِ وَرَسُلِهِ وَالْمُؤْمِنين وَلا يَألُون جُهْدًا عَنِ السعي فِي ضَرَرِ الإِسْلامِ وَالْمُسْلِمِينَ فَيَجِبْ الْبُعْدِ عَنْهُمْ مَهْمَا أَمْكَنَ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ. شِِعْرًا: ... حَتَّى مَتَى لا تَرَى عَدْلاً تُسِرُّ بِهِ ... وَلا تَرَى لِدُعَاةِ الْحَقِّ أَعْوَانَا مُسْتَمْسِكِينَ بِحَقٍّ قَائِلِينَ بِهِ ... إِذَا تَلَّونَ أَهْلُ الشَّرِ أَلْوَانَا يَا لِلرِّجَال لدَاءٍ لا دَوَاءَ لَهُ ... وَقَائِدُ الْقَوْمِ أَعْمَى قَادَ عُمْيَانَا آخر: ... بَذَلْتُ لَهُمْ نُصْحِي بِمُنْعَرَج اللّوى ... فَلَمْ يَسْتَبِينُوا الرُّشْدَ إِلا ضُحَى الْغَدِ آخر: ... لَقَدْ أَبَاحَكَ غِشًّا فِي مُعَامَلَةٍ مَنْ كُنْتَ مِنْهُ بِغَيْرِ الصِّدْقِ تَنْتَفِعُ ... ›? وَمَحَلِّ ذَلِكَ كُلِّهِ فِيمَا تَقَدَّمَ إِذَا كَانَ السَّائِلُ لَهُ مَصْلَحَةٌ تَتَعَلَّقُ بِمَنْ يَسْأَلُكَ عَنْهُمْ، فَيَلْزِمُكَ دِيَانَةً وَإِنْسَانِيَّةً أَنْ تَصْدِقَهُ الْخَبَرَ، وَأَنْ تَبْذِلَ لَهُ النَّصِيحَةِ خَالِصَةً لِوَجْهِ اللهِ تَعَالى، أَمَّا إِذَا كَانَ السَّائِلُ مِنَ الذِينَ يَبْحَثُونَ عَنْ أَحْوَالِ النَّاسِ وَيَتْبَعُونَ عَوْرَاتِهِمْ وَهَفْوَاتِهِمْ لِلتَّشْهِيرِ بِهِمْ، وَالْقَدْحِ في أَعْرَاضِهِمْ وَتَنَقُّصِهِمْ فَلْيَكُنْ جَوَابَكَ لَهُ عَلَى كُلِّ سُؤَالٍ، قَوْلَ النَّبِيِّ

الغش يدخل في أشياء كثيرة نذكر بعضها

صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ» . وَقُلْ لَهُ: الأَوْلَى بِكَ أَنْ تُفَتِّشَ عَلَى نَفْسِكَ وَعُيُوبِهَا، وَتَسْعَى فِي إِصْلاحِهَا وَاحْذَرْ أَنْ تَتَّصِفَ بِمَا قَالَ الشَّاعِرُ: ... شَرُّ الوَرَى مَنْ بِعَيْبِ النَّاسِ مُشْتَغِلاً مِثْلُ الذُّبَابِ يُرَاعِي مَوْضِعَ الْعِلَل ... ›? وَاعْمَلْ بِمَا قَالَ الآخر: ... عَلَيْكَ نَفْسَكَ فَتِّشْ عَنْ مَعَائِبِهَا وَخَلِّ مِنْ عَثَرَاتِ النَّاسِ لِلنَّاسِ ... ›? وَإِذَا كَانَ الْغِشُّ - وَهُوَ تَقْدِيمُ الْبَاطِلِ فِي ثَوْبٍ مِنَ الْحَقِّ - يَكُونُ فِي الرَّأْيِ وَالْعَمَلِ، وَالْفَتْوَى وَالإِرْشَادِ، وَالتَّوْجِيهِ وَالْوَظِيفَةِ، فَإِنَّ غِشَّ الطَّعَامِ فِي الإِفْسَادِ أَقَلُّ بِدَرَجَاتٍ مِنْ الغِشِّ فِي هَذِهِ النَّوَاحِي، الْمُمْتَدُ أَثَرُهَا الشَّامِلُ ضَرَرُهَا، وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ السَّلَفُ يَفْهَمُونَ مَدَى ضَرَرِ الغِشِّ، وَيُطَبِّقُونَ أَحَادِيثَ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانُوا يُبَيِّنُونَ مَا فِي الْمَبِيعِ مِنْ عَيْبٍ وَلا يَكْتُمُونَ، وَيَصْدُقُونَ وَلا يَكْذِبُونَ، وَيَنْصَحُونَ وَلا يَغُشُّونَ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يَحِلُّ لامْرِئٍ مُسْلِمٍ يَبِيعُ سِلْعَةً يَعْلَمُ بِهَا دَاءً إِلا أَخْبَرَ بِهِ» . وَبَاعَ ابنُ سِيرِينَ شَاةً، فَقَالَ لِلْمُشْتَرِي: أَبْرَأُ إليك مِنْ عَيْبٍ فِيهَا، إِنَّهَا تَقَلِبُ العَلَفَ بِرِجْلِهَا، وَبَاعَ الْحَسَنُ بن صَالِحٍ جَارِيَةً فَقَالَ لِلْمُشْتَرِي: إِنَّهَا مَرَّةً عِنْدَنَا تَنَخَّمَتْ دَمًا، وَمَعَ هَذَا يَأْبَى ضَمِيرُ الْمُؤْمِنِ إِلا أَنْ يَذْكُرَ الْعَيْبَ وَإِنْ نَقَصَ الثَّمَنُ، وَتَتَأكَّدَ الْحُرْمَةُ إِذَا قَوَّى غِشَّهُ بِيَمِينٍ كَاذِبَةٍ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَلِفُ مَنْفَعَةٌ لِلسِّلْعَةِ مَمْحَقَةٌ لِلْبَرَكَةِ» . شِعْرًا: ... كُلْ وَاشْرَب الناسَ عَلَى خِبْرَةٍ ... فَهُمْ يَمُرُّونَ وَلا يَعْذُبُونْ وَلا تُصَدِّقُهم إِذَا حَدَّثُوا ... فَإِنَّنِي أَعْهَدُهُمْ يَكْذِبُونْ وَإِنْ أََرَوْكَ الوِدَّ عَنْ حَاجَةٍ ... فَفِي حِبَالٍ لَهُمْ يَجْذبُونْ

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِصَالِحِ الأَعْمَالِ وَأَكْفِنَا بِحَلالِكَ عَنْ حَرَامِكَ وَبِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرِ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. فَصْلٌ: عِبَادَ اللهِ قَدْ أَصْبَحِ الغِشُّ عِنْدَ كَثِيرٍ منَ الباَعَةِ رُكْنًا وَيَنْذُرُ وُجُودُ بَائِعٍ غَيْرِ غَاشٍ، فَيَنْبَغِي لِلإِنْسَانِ فِي هَذَا الزَّمَانِ الذِي سَادَ فِيهِ الْغِشُّ وَعَمَّ وَطَمَّ، وَقَلَّ فِيهِ الرَّدْعُ، وَالضَّرْبُ عَلَى أَيْدِي الْغَشَّاشِينَ، أَنْ يَتَحَفَّظَ بِكُلِّ مَا يُمْكِنُ مِن تَحَفُّظٍ، وَيَنْتَبِهِ كُلَّ الانْتِبَاهِ لِكَلامِهِمْ، وَحَرَكَاتِهِمْ، وَسَكَنَاتِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ سُرِقَ وَهُوَ لا يَشْعُرُ. وَلِهَذَا تَجِدْ رِجَالاً يُقْبِلُونَ عَلَى الْبَاعَةِ، وَهُمْ قَلِيلُوا الْخِبْرَةَ، سَرِيعُوا التَّصْدِيقِ لِمَا يُقَالُ لَهُمْ، فَيَلْعَبُ بِهِمْ هَؤُلاءِ الْغَشَّاشُونَ وَيَسْتَغِلُّونَ سَذَاجَتَهُمْ فِي كَسْبٍ مُضَاعَفٍ، أَوْ تَغْطِيَةِ عَيْبٍ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَبُرَتْ خِيَانَةٌ أَنْ تُحَدِّثَ أَخَاكَ حَدِيثًا هُوَ لَكَ بِهِ مُصَدِّقٌ، وَأَنْتَ لَهُ كَاذِبٌ» . وَلَعَلَّكَ فَهِمْتَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ الْغِشَّ لَيْسَ مَحْصُورًا فِي السُّوقِ بَلْ يَقَعُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُ فِي السُّوقِ، لأَنَّهُ مَحَلُّ الأَخْذِ وَالإِعْطَاءِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْعُقُودِ غَالبًا، الْمُهِمُّ أَنَّكَ تَتَحَفَّظْ مِنْ هَؤُلاءِ الْغَشَّاشِينَ السُّرَاقِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا سُرَّاقًا لأَنَّ السِّرْقَةَ الأَخْذُ عَلَى وَجْهِ الاخْتِفَاءِ، وَهُوَ مُنْطَبِقٌ عَلَى الْغَشَّاشِ. تَذْهَب إِلى الْمَأْكُولِ أَوِ الْمَشْرُوبِ، أَوْ مَا يَجْعَلُ فِي أَحَدِهِمَا، فَتَجِدُ أَعْلاهُ نَظِيفًا مُنَقَّىً، تَشْتَاقُ إِلى شِرَائِهِ، وَعِنْدَمَا تَأْخُذُهُ وَتُسَلِّمُ الْفُلُوسِ، وَتَنْظُرُ إليه بِدَقَّةٍ تَجِدْهُ مُخْتَلِفًا عَمَّا نَظَرْتَ إليه أَوَّلاً، بِرَدَاءَةٍ، وَإِنْ ذَهَبْتَ إِلى بَاعَةِ الْمَلابِسِ قَدَّمَ لَكَ الْبَائِعُ ثَوْبًا رَدِيئًا بِاسْمِ أَجْوَدِ الْمَلابِسَ، وَيُعْلِمُكَ بِثَمَنٍ زَائِدٍ جِدًّا عَنْ ثَمَنِهِ الْحَقِيقِي فَإِنْ لَمْ تَكُنْ

مُنْتَبِهًا وَصَدَّقْتَ الْبَائِعِ كُنْتَ مَسْرُوقًا بِذَلِكَ الْفَرْقِ الْكَبِيرِ، وَإِنْ نَاقَشْتَهُ الْقَوْلَ عَاجَلَكَ بَأَغْلَظِ الأَيْمَانِ بَأَنَّهُ يَنْتَقِي لَكَ الْجَيِّدِ لِيَخْدِمَكَ وَلِتَتَعَرَّفْ بِمَحَلِّهِ لِتَكُونَ زَبُونًا لَهُ، حَتَّى رُبَّمَا لا تَشُكُّ فِي أَنَّهُ صَادِقٌ مِنْ كَثْرَةِ الأَيْمَانِ التِي لَفَظَهَا فُوهُ، وَسَوَّدَ بِهَا صَحِيفَتَهُ، وَإِذَا أَتَيْتَ إِلى تَاجِرِ الدَّقِيقِ حَلَفَ لَكَ أَنَّ هَذَا مِنْ أَحْسَنِ البُرِّ، وَهُوَ مَجْمُوعٌ مِنْ شَعِيرٍ وَبُرٍّ مُنْخِشِ، قَدْ أَكَلَ الدُّودُ لُبَّهُ، أَلا يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ جَلَّ وَعَلا شَاهِدٌ رَقِيبٌ، وَأَنَّهُ أَعَدَّ لأَمْثَاله مِنْ الْغَشَّاشِينَ أَنْوَاعَ الْعُقُوبَاتِ إِنْ لَمْ يَتُوبُوا إليه، وَتَاجِرُ الْمَاشِيَةِ تَجِدُ حَوْلَهُ لَفِيفًا مِن النَّجَاشِينَ الذِينَ يَكْتَنِفُونَ الْمُشْتَرِي مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فَهَذَا يَزِيدُ كَاذِبًا، وَذَاكَ يَحْلِفُ آثِمًا، إِلى أَنْ يَقَعَ فِي الشِّرْكِ الْمِسْكِينُ، إِذَا كَانَ شَارِيًا، أَمَّا إِذَا كَانَ بَائِعًا زَهُّدُوْهُ فِيمَا يُرِيدُ بَيْعَهُ، وَأَحَاطُوَا بِهِ وَكُلٌّ يُرذِّلُ سِلْعَتَهُ مِنْ جِهَةٍ، إِلى أَنْ تَسْقُطَ مِنْ عَيْنِ صَاحِبِهَا فَيبِيعُهَا لَهُمْ بِثَمَنٍ بَخْسٍ. وَإِذَا أَتَيْتَ إِلى بَائِعٍ الْخُضَرِ وَجَدْتَ الأَعَلا زَيْنًا وَالوَسَطَ فَاسِدًا مُمَرِّضًا لِلْبَدَنِ، وَتَدْخُلُ إِلى مَنْ عِنْدَهُ السَّمْنُ وَالزُّبْدُ وَالْعَسَلُ فَيَبِيعَكَ بِاسْمِ الْجَيِّدِ، وَإِذَا عَرَضْتَهُ عَلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ أَهْلَ الصِّنْفِ قَالُوا لَكَ: هَذَا غَيْرُ الذِي تُرِيدُ، أَوْ مَخْلُوطًا مَعَهُ غَيْرُهُ. ومثله القهوة المحموسة يخلِطُونَ مَعَهَا غَيْرَهَا. وَإِذَا ذَهَبْتَ إِلى مَبِيعِ السَّيَّارَاتِ رَأَيْتَ مَا يُزْعِجُكَ وَيُشَتِّتُ ذِهْنَكَ مِنْ كُثْرَةِ النَّجَاشِينَ وَالغَشَّاشِينَ الْمُعَمِّينَ لِلْعُيُوبِ الذِينَ قَدْ مَهَرُوا فِي الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ وَالْمَلْقِ وَالنِّفَاقِ. وَإِذَا أَتَيْتَ أَهْلَ الأَوَانِي وَالْغَضَارِ وَالصَّنَادِيقِ وَجَدْتَ الأَصْبَاغَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ لِتَغْطِيَةِ الْعَيْبِ عن الْمُشْتَرِي. وَإِذَا ذَهَبْتَ إِلى أَرْبَابِ الصَّنَائِعِ وَجَدْتَ أَكْثَرَهُمْ عِنْدَهُ مِنْ الْغِشِّ

وَإخْلافِ الْوَعْدِ الشِّيْءَ الْكَثِيرَ، وَلا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ نَجَّارِ وَحَدَّادِ، وَخَيَّاطٍ وَصَبَّاغٍ، وَصَائِغٍ وَطَبَّاخٍ، وَسَبَّاكٍ وَبَنَّاءٍ، وَنَقَّاشٍ وَخَزَّارُ، وَسَاعَاتِي وَحَبَّاكٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ، كُلُّهُمْ فِي حِرْصٍ تَامٍ عَلَى أَخْذِ الْفُلُوسِ، وَلَوْ بِلا عَمَل يُقَابِلُهُ. فَانْتَبِه لَهُمْ. وَإِنْ ذَهَبْتَ إِلى بَائِعِي مَوَادِّ الْبِنَاءِ وَجَدْتَ أَكْثَرَهُمْ عِنْدَهُ مِنْ أَلْوَانِ الْغِشِّ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، يَعْرِفُهَا أَهْلُ الْخِبْرَةِ بِذَلِكَ. وَبِهَذَا صَارَ جَوُّ التِّجَارَةِ، الْمِهْنَةِ الشَّرِيفَةِ، التِي لَوْ صَدَقَ صَاحِبُهَا لَحَلَّتْ عَلَيْهِ الْبَرَكَةُ جَوًّا وَبِيئًا، مُشْبَعًا بِالْكَذِبِ واَلأَيْمَانِ الآثِمَةِ، مَلِيئًا بِالتَّغْرِيرِ، وَالْغِشِّ وَالتَّدْلِيسِ، وَإِخْفَاءِ الْعُيُوبِ، وَمَا إِلى ذَلِكَ، وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ بَاقِي أَهْلِ الأَعْمَالِ وَالصَّنَائِعِ، وَالْمُقَاوِلِينَ وَغَيْرَهُمْ وَمِنْ أَلْوَانِ الْغِشِّ تَطْفِيفُ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، وَقَدْ اهْتَمَّ الْقُرْآنُ بِهَذَا الْجَانِبِ مِنْ الْمُعَامَلَةِ، وَجَعَلَهُ مِنْ وَصَايَاهُ الْعَشْرِ فِي آخِرِ سُورَةِ الأَنْعَامِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} ، وَقَالَ: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} ، وَقَالَ تَعَالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . وَلَقَدْ بَعَثَ اللهُ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلامُ يَدْعُو قَوْمَهُ أَوَّلاً إِلى تَوْحِيدِ اللهِ، وَيُتْبِعُهُ بِالنَّهْيِ وَالتَّحْذِيرِ عَنْ نَقْصِ الْمِكْيَالُ وَالْمِيزَانِ مُبَيِّنًا أَنَّ ذَلِكَ إِفْسَادٌ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا، قَالَ تَعَالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} .

أبيات في الحث على التوبة والالتجاء إلى الله جل وعلا وتقدس

ج شِعْرًا: ... يَا مُنْفِقَ الْعُمْرِ فِي حِرْصٍ وَفِي طَمَعٍ إِلى مَتَى قَدْ تَوَلَّى وَانْقَضَى الْعُمُرُ إِلى مَتَى ذَا التَّمَادِي فِي الضَّلالِ أَمَّا تَثْنِيكَ مَوْعِظَةً لَوْ يَنْفَعُ الذِّكْرُ بَادِرْ مَتَابًا عَسَى مَا كَان مِنْ زَلَلٍ وَمَا اقْتَرَفْتَ مِنَ الآثَامِ يُغْتَفَرُ وَجَنِّبْ الْحِرْصَ وَاتْرُكْهُ فَمَا أَحَدٌ يَنَالُ بِالْحِرْصِ مَا لَمْ يَعْطِهِ الْقَدَرُ وَلا تُؤْمِلْ لِمَا تَرْجُو وَتَحْذَرُهُ مَنْ لَيْسَ فِي كَفِّهِ نَفْعٌ وَلا ضَرَرُ وَفَوِّضِ الأَمْرَ لِلرَّحْمَنِ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ فِي كُلِّ مَا تَأْتِي وَمَا تَذَرُ وَاحْذَرْ هُجُومَ الْمَنَايَا وَاسْتَعِدَّ لَهَا مَا دَامَ يُمْكِنُكَ الإِعْدَادُ وَالْحَذَرُ ... ›? اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا عِلْمًا نَافِعًا وَعَمَلاً مُتَقَبِّلاً وَرِزْقًا وَاسِعًا نَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى طَاعَتِكَ، وَقَلْبًا خَاشِعًا، وَلِسَانًا ذَاكِرًا، وَإِيمَانًا خَالِصًا، وَهَبْ لَنَا إِنَابَةَ الْمُخْلِصِينَ، وَخُشُوعِ الْمُخْبِتِينَ، وَأَعْمَالِ الصَّالِحِينَ، وَيَقِينِ الصَّادِقِينَ، وَسَعَادَةَ الْمُتَّقِينَ، وَدَرَجَاتِ الْفَائِزِينَ، يَا أَفْضَلْ مَنْ رُجِيَ وَقُصِدَ، وَأَكْرَمَ مَنْ سُئِلَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

أضرار انتفاص الحقوق بالبخس والتطفيف

(فَصْلٌ) وَاعْلَمْ أَنَّ انْتِقَاصَ الْحُقُوقِ عَلَى أَيُّ طَرِيقِ كَانَ أَسَاسٌ كَبِيرٌ لِزَعْزَعَةِ الثِّقَةِ فِي الْمُجْتَمِعِ، وَسَبِيلٌ إِلى قَطْعِ الصَّلاتَ وَإِثَارَةِ الأَحْقَادِ وَالْبَغْضَاءِ وَالْعَدَاوَةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَلِذَلِكَ يَنْتَشِرُ الْفَسَادُ فِي الأَرْضِ، وَتَضِيعُ الْمَصَالِحُ، فَالْقِصَّةُ يُفْهَمُ مِنْهَا - كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ - أَنَّ الْهَدَفَ هُو اقْتِلاعُ الْخَلْقِ الذِي يَدْفَعُ الإِنْسَانِ إِلى انْتِقَاصِ الْحُقُوقِ، وَالْكَيْدِ لأَصْحَابِهَا عَن طَرِيقِ الْغِشِّ وَالْخَدِيعَةِ، وَعَنْ طَرِيقِ تَسْخِيرِ الْمَنَافِعِ الْعَامَةِ، وَحُقُوقِ النَّاسِ، فِي سَبِيلِ الْحُصُولِ عَلَى الْمَنَافِعِ اِلْخَاصَةِ، وَهَذَا هُوَ الذِي يَعْقِبُ حَقًّا الإِفْسَادَ فِي الأَرْضِ، وَزَلْزَلَةَ الْحَيَاةِ الْعَامَّةِ عَلَى أَصْحَابِهَا. قَالَ: وَمِنْ هُنَا يَجْدُرُ بِالْمُوَظِّفِ وَالْكُتَّابِ وَالْمُوَجِّهِ وَالْمُشِير وَالْمُعَلِّمِ أَنْ يَأْخُذُوا لأَنْفُسِهِمْ مِنْ تَخْصِيصِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ فِي رِسَالَةِ شُعَيْبٍ، وَقَرْنِهَما بِعِبَادَةِ اللهِ، وَاعْتِبَارِ انْتِقَاصِهِمَا إِفْسَادًا فِي الأَرْضِ - يُجْدُرُ بِهِمْ جَمِيعًا أَنْ يَأْخُذُوا لأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمَ عِظَةً، وَأَجْدَى عِبْرَةً، وَإِنَّ انْتِقَاصَ الْكَيْل وَالْمِيزَانِ - فِيمَا وَرَاءَ السِّلَعِ الْمَادِيَّةِ - لأَشَدُّ خَطَرًا، وَأَقْبَحُ أَثَرًا، وَأَعْظَمُ ضَرَرًا مِنْ انْتِقَاصِ حَفْنَةٍ مِنْ قَمْحٍ، أَوْ أَوْقِيَةٍ مِنْ رَطْلٍ. إِنَّ مِنْ حَقِّ الإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِحَقِّهِ كَامِلاً غَيْرَ مَنْقُوصٍ، وَمِنْ حَقِّ الْمُؤْمِن عَلَى أَخِيهِ الْمُؤْمِنْ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ حَقِّهِ، وَيُعَاوِنَه فِي الْحُصُولِ عَلَيْهِ، وَمِنْ حَقِّهِ أَنْ يُرْشِدَهُ إِذَا اسْتَرْشَدَهُ، وَأَنْ يَمْحَضَهُ النَّصْحَ إِذَا اسْتَنْصَحَهُ، وَأَنْ يَفِي لَهُ إِذَا عَاهَدَهُ، وَأَنْ يُصَدَقُهُ إِذَا حَدَّثَهُ أَوْ وَعَدَهُ، إِنَّها مُبَادَلَةُ وَلَكِنْ لَيْسَتْ فِي السِّلَعِ وَلا فِي الطَّعَامِ، وَلا فِي الشَّرَابِ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي الْخَلْقِ وَالْمُرُوءَةِ وَالصِّدْقُ وَالإِيمَان، وَالانْحِرَافٌ

من أضرار الغش مسائل متعددة

فِيهَا عَنْ مُقَابَلَةِ الْخَيْرِ بِالْخَيْرِ، تَطْفِيفٌ فِي الْكَيْلِ، وَانْتِقَاصٌ لِلْحُقُوقِ. وَقَدْ جَعَلَهُ اللهُ عَلامَةً مِنْ عَلامَاتِ التَّكْذِيبِ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَأَنْزَلَ فِي شَأْنِهِ سُورَة كاملة، هي سورة اسْتَهْلَها بِقَوْلِهِ: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . انتهى. وَلَقْدَ صَارَ الْغِشُّ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى اللَّبَنَ فِي ضَرْعِ الْحَيَوَانِ وَحَتَّى فِي الشُّعُورِ، جَعَلُوا يَصْبُغُونَها بِالسَّوَادِ غِشًّا وَتَدْلِيسًا. شِعْرًا: ... قَالَتْ أَرَاكَ خَصَبْتَ الشَّيْبَ قُلْتَ لَهَا ... سَتَرَْتُه عَنْكِ يَا سَمْعِي وَيَا بَصَرِي فَقَهْقَهْتْ ثُمَّ قَالَتْ إِنَّ ذَا عَجَبٌ ... تَكَاثَرَ الْغِشُّ حَتَّى صَارَ فِي الشَّعْرِ آخر: ... إِنَّ السَّوَادَ لِتَدْلِيسِ يُغَشُّ بِهِ ... كَالثَّوْبِ فِي الَّسْوِق مَطْوِيًا عَلَى خَرَقِ آخر: ... أُسَوّدُ أَعْلاهَا وَتَأْبَى أُصُولُهَا ... فَيَا لَيْتَ مَا يَسْوَدُّ مِنْهَا هُوَ الأَصْلُ آخر: ... يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُسَوَّدُ شَعْرَهِ ... كَيْمَا يُعَدُّ بِهِ مِنْ الشُّبَّانِ أُرْفُقْ فَلَوْ سَوَّدْتَ كُلَّ حَمَامَةٍ ... بَيْضَاءَ مَا عُدَّتْ مِنْ الْغِرْبَانِ آخر: ... فَإِنْ تَسْأَلَنِي عَنْ خِضَابِي فَإِنَّنِي ... لَبِسْتُ عَلَى فَقْدِ الشَّبَابِ حِدَادَا آخر: ... دَعْنِي فَإِنَّ غَرِيمَ الشَّيْبِ لازَمَنِي ... وَذَا زَمَانُكَ فَأمرحْ فِيهِ لازَمَنِي مَضَى الشَّبَابُ بِمَا أَحْبَبْتُ مِنْ مَنَحٍ ... وَالشَّيْبُ وَافَى بِمَا أَبْغَضْتُ مِنْ مَحَنِ فَمَا كَرِهْتَ ثوى عِنْدِي وَعَنَّفَنِي ... وَمَا حَرِصْتُ عَلَيْهِ مُنْذُ عَنَّ فَنِي آخر: ... يَا خَاضب الشَّيْبِ بالْحِنَّاء تَسْترُهُ ... سَلِ الإِلَه سِتْرًا مِنَ النَّارِ لَنْ يَرْحَلِ الشَّيْبَ مِنَ دَارٍ يُلِمُّ بِهَا ... حَتَّى يَرُحّلَ عَنْهَا صَاحِبَ الدَّارِ

آخر: ... قَصَرَ اللَّيَالي خَطْوَهُ فَتدانَى ... وَحَنَوْنَ قَائِمَ صُلْبِهِ فَتَحَانَا وَالْمَوْتُ يَأْتِي بَعْد ذَلِكَ كُلِّهِ ... وَكَأَنَّمَا يَعْنِي بِذَاكَ سِوَانَا آخر: ... لأَمْرٍ مَا بَكيتُ وَهَاجَ شَوْقِي ... وَقَدْ سَجَعَتْ عَلَى الأَيْكِ الْحَمَامُ لأَنَّ بَيَاضَهَا كَبَيَاضِ شَيْبِي ... فَمَعْنَى شَجْوِهَا قُرْبُ الْحِمَامِ آخر: ... لِلضَّيْفِ أَنْ يُقْرَأ وَيُعْرَفَ حَقُّهُ ... وَالشَّيْبُ ضَيْفُكَ فَاقْرِهِ بِخِضَابِ وَافَى بأَكْذَبَ شَاهِدٍ وَلَرُبَّمَا ... وَافَى الْمَشِيبُ بِشَاهِدٍ كَذَّابِ فَافْسَخْ شِهَادَتَهُ عَلَيْكَ بِخَضْبِهِ ... تَنْفِي الظُّنُونَ بِهِ عَنِ الْمُرْتَابِ فَإِذَا دَنَا وَقْتُ الْمَشِيبِ فَخَلِّهِ ... واَلشَّيْبُ يَذْهَبُ فِيهِ كُلَّ ذَهَابِ آخر: ... لِمَّا سَئَمْتُ مِن الْمَشِيبِ أَجَبْتُهُم ... قَوْلَ امْرءٍ فِي أَمْرِهِ لَمْ يَمْذِقِ طَحَنَ الزَّمَانُ بِرَيْبِهِ وَصُرُوفِهِ ... عُمْرِي فَثَارَ غُبَارَهُ فِي مَفْرِقَيْ آخر: ... لَمَّا رَأَتْ شَيْبِي تَغَيَّرَ لَوْنُهُ ... وَرَأتُهُ مُحْتَجِبًا وَرَاءَ حِجَابِ قَالَتْ خَضِبْتَ فَقُلْتُ شَيْبِي إِنَّمَا ... لَبِسَ الْحِدَادَ عَلَى ذَاهَابِ شَبَابِي وبالتالي فَإِنَّ الْغِشَّ مَعْصِيَةٌ للهِ وَلِرَسُولِهِ، وَأَنَّهُ لا يَفِيدُ صَاحِبَهُ إِلا الْوَزْرَ، وَالْخِزْيَ الْعَاجِلَ وَالآجِلَ إِنْ لَمْ يَتُبْ، وَالْعَارْ (ثَالِثًا) : أَنَّ الْغِشَّ يُضَيِّعُ الثِّقَةَ، وَأَنَّهُ مِمَّا يَجْلِبُ الْهَمَّ وَالْغَمَّ، وَأَنَّهُ حَجَرٌ فِي طَرِيق تَقَدُّمِ صَاحِبِ الْعَمَلِ، وَأَنَّ النَّاسَ إِذَا عَرَفوُهُ بِذَلِكَ انْصَرَفُوا عَنْهُ، وَأُغَِْقَ فِي وَجْهِهِ أَبْوَابُ الرِّبْحِ. وَمِنْ جِنَايَاتِ الْغِشِّ عَلَى صَاحِبِه أَنَّ الْبَرَكَةَ تَذْهَبُ مِن عَمَلِ يَدَيْهِ، وَرُبَّمَا دَارَتْ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ الدَّوَاِئرْ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ نَفْسَ صَاحِبِه خَبِيثَةٌ طَاغِيَةٌ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ صَاحِبُه يُعْتبَرُ مِمَّنْ يَأْكُلُ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ.

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ صَاحِبِه مَا عِنْدَهُ رَأْفَةٌ وَرَحْمَةٌ لإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّهُ مَا يُحِبُّ لَهُمْ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّه سَبَبٌ لِقَطْعِ الصِّلاتِ، وَزَعْزَعَةِ الثِّقَةِ فِي الْمُجْتَمَعِ، وَأَنَّهُ سَبَبٌ لإِثَارَةِ الأَحْقَادِ وَالْبضُْغضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِنَشْرِ الْفَسَادِ وَتَضْيِيع الْمَصَالِحِ. وَأَنَّهُ مَانِعٌ لِلإِنْسَانِ مِنْ تَمَتُّعِهِ بِحَقِّهِ كَامِلاً، وَأَنَّهُ مُنَاقِضٌ لِمَا هُوَ مَطْلُوبٌ مِنْهُ، مِنْ أَنَّهُ يُمَكِّنُ أَخَاهُ مِنْ حَقِّهِ وَيُعَاوِنُهُ فِي الْحُصُولِ عَلَيْهِ. وَأَنَّهُ مُنَاقِضٌ لِلنَّصِيحَةِ. وَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ عِدَادِ الْكَذَّابِينَ الْخَوَنَةِ وَالظَّلَمَةِ وَأَنَّهُ بَعِيدٌ عَنِ الإِخْلاصِ. وَأَنَّ صَاحِبَهُ يَكُونُ مَرْمُوقًا بَعَيْنِ الاحْتِقَارِ وَالازْدِرَاءِ عَكْسَ الْمُخْلِصِ فِي عَمَلِهِ. وَأَنَّ الْغِشَّ أَكْبَرُ بُرْهَانٍ عَلَى أَنَّ صَاحِبَهُ لا يُزَكِّي وَأَنَّهُ لا يَتَنَسَّخِ مِن الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ لأَن مَنْ يَأْخُذُ أَمْوَالَهم يَبْعِد جِدًا أَنْ يُعْطِيهُمْ. وَأَنَّ الْغِشَّ بُرْهَانٌ عَلَى أَنَّ عِنْدَ صَاحِبِهِ مِنَ الطَّمَعِ وَالشُّحِ وَالْبُخْلِ وَالْهَلَعِ الشَّيْءُ الْكَثِيرُ بِدَلِيلٍ عَدَمِ اكْتِفَائِهِ بِمَا أَعْطَاهُ اللهِ. وَأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِ إِيمَانِ صَاحِبِهِ، وَعَدَمِ احْتِرَامِهِ لأَحَادِيثِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاكَسَتِهِ لَهَا مَعَ عِلْمِهِ بِهَا. وَمِنْ جِنَايَاتِ الْغِشِّ أَنَّهُ يُوقِعُ صَاحِبَهُ فِي طُولِ الْمَوْقِفِ وَالْحِسَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَكَثْرَةِ الْخُصَمَاءِ الذِينَ أخَذَ أمَوْاَلَهُم بغير حَقٍّ.

وَأَنَّهُ سَبَبٌ لإِضَاعَةِ حَسَنَاتِهِ، أَوْ لِحَمْلِ سَيِّئَاتِ غَيْرِهِ مِمَّنْ غَشَّهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ عَلَى وَجْهِ الاخْتِفَاءِ لِجَنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْغِشِّ. وَمِنْ مَضَارِّ الْغِشِّ أَنَّ صَاحِبَهُ يُسِيءُ إِلى أَوْلادِهِ وَأُسْرَتِهِ إِذَا اشْتَهَرَ بِهِ، لأَنَّهُ يُلوثُهُمْ بِهَذِهِ السُّمْعَةِ السَّيِّئَةِ، وَالْفَائِهَةِ وَالْقَبِيحَةِ، وَيَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى أَنْ يَقُولُوا لَهُمْ: عَائِلَةُ الْغَشَّاشِ، وَأَعْظِمْ بِهَا مِنْ أَذِيَّةٍ لِلْمُسْتَقِيمِينَ، وَأَذِيَّةِ الْغَشَّاشِ لأَوْلادِهِ خَاصَّةَ أَشَدُ بِكَثِيرٍ مِنْ أَذَيْتِهِ لِبَاقِي الأُسْرَةِ الْبَعِيدَيْنِ مِنْهُ، لأَنَّ الأَبْنَاءِ حَوْلَ أَبِيهُمْ يَأْخُذُونَ عَنْهُ،َ َوْيَنْشَئُونَ عَلَى أَخْلاق أَبِيهِمْ غَالِبًا فَإِنَّهُمْ إِذَا نَشَئُوا عِنْدَهُ لا بُدَّ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ طَبَاعِهِ، وَيُوشِكُ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُ غَشَّاشِينَ بَعْدَ مَا يَبْلُغُوا مَبْلَغ الرُّجُولَةِ، فَيَكُونَ أَبُوهُمْ سَبَبًا فِي وُقُوعِهِمْ فِي ضَرَرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَإِنْ تَحَرَّجُوا وَلا سَلَكُوا طَرِيقَةَ أَبِيهِمْ بِالْغِشِّ فَمَا مِنْ سَلامَة، يُعَيِّرُهُمُ النَّاسُ وَيَقُولُونُ لَهُمْ: يَا أَوْلادَ الْغَشَّاشِ، وَهَذِهِ أَذِيَّةٌ عَظِيمَةٌ، تُؤَدِّي إِلى التَّشَاجُرِ وَالتَّقَاطُعِ وَالتَّهَاجُرِ وَتَبَادُلِ السِّبَابِ. وَأَمَّا أَذِيَّةُ الْغَشَّاشِ لِجَمَاعَتِهِ وَأَهْلِ بَلَدِهِ فَوَاضِحَةٌ، لأَنَّهُ يَكُونُ لَهُمْ قُدْوَةً سَيِّئَةً، يُسَمُّونَهُمْ قَوْمَ الْغَشَّاشِ، وَجَمَاعَةَ الْغَشَّاشِ، وَالطِّبَاعُ سَرَّاقَةٌ مِنْ حَيْثُ يَشْعُرُ أَصْحَابُهَا وَمِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ، فَيَسْرِي إليهمْ هَذَا الطَّبْعُ وَالْخُلُقُ الذِي هُوَ الْغِشُّ، فَإِنْ لَمُ يُصِبْ الْجَمِيعَ تَأثرَ بِهِ الْبَعْضُ كَالْجَرَبِ. وَبِهَذَا تُنْسَبُ الْجَمَاعَةُ وَالسَّاكِنُونَ فِي بَلَدِهِ إِلى الْغِشِّ، نَظَرًا لِذَلِكَ الْغَشَّاشِ، وَيُقَالُ: بَلَدُ الْغَشَّاشِ، كَمَا يُقَالَ: بِلادُ الْفَرَاعِنَةِ، وَهَذِهِ مُصِيبَةُ عَظِيمَةٌ، وَدَاهِيَةٌ دَهْيًا. وَأَمَّا ضَرَرُ الْغَشَّاشِ وَأَذِيَّتُهُ لِلدِّينِ، فَيَالَهَا مِنْ مُصِيبَةٍ فَادِحَةٍ، وَعَقَبَةٍ كَؤُودٍ ضِدَّ الْقَائِمِينَ بِالدَّعْوَةِ إِلى الإِسْلامِ، وَنَشْر مَحَاسِنِهِ، وَالْحَثِّ

عَلَى التَّخَلُّقِ بأخْلاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَالتَّأدُبِ بِآدَابِهِمْ، لأَنَّ أَعْدَاءَ الإِسْلامِ إِذَا نَظَرُوا إِلى هَؤُلاءِ الْغَشَّاشِينَ، يَرْمُونَ الدِّين الإِسْلامِي بِالنَّقْصِ، وَلا يَقُولُونَ: إِنَّ النَّقْصَ فِي النَّاسِ لِعَدَمِ تَمَسُّكِهِمْ بِالدِّينِ، وَعَدَمِ تَطْبِيقِهِمْ لأَحْكَامِهِ، بَلْ يُلْصِقُونَ النَّقْصَ وَالْعَيْبَ بِالدِّينِ الإِسْلامِي، وَذَلِكَ صَدُّ عَن إتِّبَاعِ الدِّينِ الْحَقِّ، وَهَذَا قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ، مِمَّا يَنْشَأُ عَنِ الْغِشِّ مِنَ الأَضْرَارِ وَالأَذَايَا، اقْتَصَرْنَا عَلَيْهِ خَشْيَةَ الإِطَالَةِ، وَإِلا هُوَ يَسْتَدْعِي مُصَنَّفًا وَحْدَهُ. وبالتالي فَمَا الدَّاعِي إِلى ذَلِكَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ؟ أَهُوَ الْقُوتُ الذِي تَكَفَّلَ بِهِ الْحَيِّ الذِي لا يَمُوت. وَمَا رَأَيْنَا تَقِيًّا مَاتَ جَوْعًا، أَوْ مُؤْمِنًا وَرِعًا قَضَى غَرْثَانًا طَاوِيًا، أَمْ هُوَ الْجَشَعُ وَالطَّمَعُ، وَشَرَهُ النُّفُوسِ فِي جَمْعِ الْحُطَامِ الْفَانِي؟ وَقَدْ أُمِرْنَا بِمُجَاهَدَةِ النُّفُوسِ، وَتَقْوِيمِهَا حَتَّى تَرْعَوِي وَتَسْتَقِيمَ، أَمْ إِنَّ ذَلِكَ الْمُشْتَرِي قَدْ ارْتَكَبَ مِنْ الْوِزْرِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعُقُوبَةَ. أَيُّهَا التُّجار مَا هَكَذَا يَكُونُ الرِّبْحُ، وَمَا هَكَذَا يَكُونُ الْمَكْسَبُ وَمَا بِتَلْكَ الأَسَاليبَ تَتَكَوَّنُ الثَّرْوَةِ وَيَجْمَعُ الْمَالُ، وَلَكِنَّ بِالصِّدْقِ وَالأَمَانَةِ وَالذِّمَّةِ وَالشَّرَفِ، وَالْعِفَّةِ عن الْحَرَامِ، فَكِّرُوا فِي مَصِيرِ مَا أَتْعَبْتُمْ نُفُوسَكُمْ وَأَبْدَانَكُمْ فِي جَمْعِهِ، وَفَكَّرُوا فِي الْمُنَاقَشَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ دُخُولِهِ وَخُرُوجِهِ، وَأَنَّكُمْ مُفَارِقُوهُ عَنْ قَرِيبٍ رَغَمَ أُنُوفِكُمُ لأناسِ يُضَيِّعُوُه في الملاهي والمنكرات كالتلفزيون والفيديو والسينماء والْمَذَايِيع وَالسَّفَرِ لِبِلادِ الْكُفْرِ. وَبَعْضُهُمْ يُنْفِقُونُهَا فِي دِرَاسَتِهِمْ عَلَى الْكَفَرَةِ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ، وَيَأْتُونَ بِشِهَادَاتٍ مِن الْكُفَّار يأكلون بها نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ مِمَّا ابْتُلُوا بِهِ. اللَّهُمَّ احْفَظْنَا مِن الْمُخَالَفَةِ وَالْعَِْصَيانِ وَلا تُؤَاخِذْنَا بِجَرَائِمنَا ومَا وَقَعَ مِنَّا ِمْن الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ

قصيدة زهدية ويليها موعظة بليغة وبعدها قصيدة

منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وعلى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. شِعْرًا: ... أَبْعَدَ بَيَاضِ الشَّيْبِ أَعْمُرُ مَنْزِلاً سِوَى الْقَبْرِ إِنِّي إِنْ عَمَرتُ لأَحْمَقُ يُخْبِرُنِي شَيْبِي بَأَنِّيِ مَيِّتٌ وَشِيكُّا فَيَنْعَانِي إِليَّ وَيَصْدُقُ يُخَرَّقَ عُمْرِي كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَهَلْ مُسْتَطَاعٌ رَقْعُ مَا يَتَخَرَّقُ كَأَنِّي بِجِسْمِي فَوْقَ نَعْشِي مُمَدًّا فَمَنْ سَاكِتْ أَوْ مُعْوِل يَتَحَرَّقُ إِذَا سُئِلُوا عَنِّي أَجَابُوا وَأَعْوَلُوا وَأَدَمَعُهُم تَنْهَلُ هَذَا الْمُوَفَّقُ وَغُيبتُ فِي صَدْعٍ مِنْ الأَرْضِ ضَيِّقٍ وَأوُدعْتِ لَحْدًا فَوقَهُ الصَّخْرُ مُطْبَقُ وَيَحْثُو عَلَيَّ التُّربَ أَوْثَقُ صَاحِبٍ وَيُسْلِمُنِي لِلْقَبْرِ مِنْ هُوَ مُشْفِقُ فَيَا رَبَّ كُنْ لِي مُؤْنِسًا يَوْمَ وَحْشَتِي فَإِنِّي بِمَا أَنْزَلْتَهُ لَمُصَدِّقُ وَمَا ضَرَّنِي أَنِّي إِلى اللهِ صَائِرٌ وَمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِي أَبَرُّ وَأَرْفَقُ آخر: ... نَرْضَى بِمَا قَدَّرَ الرَّحْمَنُ مَوْلانَا وَمَا يَكُونُ وَمَا مِنْ أَمْرِهِ كَانَا ... ›? ج

.. وَالحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدَ الحَامِدِينَ لَهُ حَمْدًا كَثِيرًا كَمَا يُرْضِيهِ رِضْوَانًا أَلا فَإِنَّا لَهُ مَاضٍ تَصَرُّفُهُ فِينَا لَعْمرِي أَلا إليه رُجْعَانَا قَضَى وَقَدَّرَ أَنَّ الْمَوْتَ دَائِرَةٌ كُؤوسُهُ فِي الوَرَى لِمْ تبُْقِ إِنْسَانَا فَأَيْنَ عَادٌ وَكِسْرَى وَابنُ ذِي يَزِنٍ وَمَنْ يُوازِرُهُمْ وَمَنْ لَهُمْ عَانَا لَمْ يَمْنَعِ الْمَوْتَ عَنْهُمْ حَاجِبُونَ وَلَمْ يُبْقِ البَلَى لَهُمُ صَرْحًا وَإِيوَانَا بَلْ أَيْنَ صَفْوَةٌ خَلْقِ اللهِ قَاطِبَةً وَأَرْجَحَ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مِيزَانَا تَجَرَّعَ الكُلُّ كَأْسَ الْمَوْتِ وَانْتَقِلُوا عَنْ هَذِهِ الدَّارِ شِيبَانًا وَشُبَّانَا فَتِلَكَ مَوْعِظَةٌ لأنْفُسٌ فُجِعَتْ أَضْحَتْ وَقَدْ لَقِيَتْ هَمَّا وَأَحْزَانَا ... ›? اللَّهُمَّ ثَبِّتْ وَقَوِي إِيمَانَنَا بِكَ وَبِمَلائِكَتِكَ وَبِكُتُبِكَ وَبِرُسُلِكَ وَبِاليوم الآخرِ وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ اللَّهُمَّ أَصْلِحْ أَحْوَالَنَا وَأَكْفِنَا شَرَّ أَشْرَارَنَا واحْفَظنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِينَا وَمِنْ خَلْفِنَا ونَعُوذُ بعَظمَتِكَ أَنْ نُغْتَالَ مِنْ تَحْتِنَا وَنَسْأَلَكْ أَنْ تَغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. اللَّهُمَّ إِنَّ نَوَاصِينَا بِيَدِكَ وَأُمُورَنَا تَرْجِعُ إليك وَأَحْوَالُنَا لا تَخْفَى عَلَيْكَ، وَأَنْتَ مَلْجَؤُنَا وَمَلاذُنَا، وَإليك نَرْفَعُ بَثَّنَا وَحُزْنَنَا وَشِكَايَتَنَا، يَا مَنْ يَعْلَمُ سِرَّنَا وَعَلانِيتَنَا نَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلْنَا مِمَّنْ تَوَكَّلَ عَلْيَكَ فَكَفَيْتَهُ وَاسْتَهْدَاكَ

فَهَدَيْتَهُ وَهَبْ لَنَا مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ وَجُدْ عَلَيْنَا بِإِحْسَانِكَ الْعَمِيمِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. موعظة: عِبَادَ اللِه فَتِّشُوا قُلُوبَكُمْ بِتَأَنِّ وَائِّتَآدٍ، وَابْحَثُوا عَمَّا تَغَلْغَلَ فِيهَا مِنَ الأَضْغَانِ وَالأَحْقَادِ، فَإِذَا وَجَدْتُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَاجْتَهِدُوا وَاعْمَلُوا عَلَى سُرْعَةِ إِزَالَتِهِ وَمَحْوِهِ بِجَدٍ وَاجْتِهَادٍ وَأَعْرِضُوا بِكُلِّيَتِكُمْ عَنْ وَحْيِ الشَّيْطَانِ وَوَسَاوِسِهِ، وَاسْتَعِيذُوا بِاللهِ القَوِيِّ القَدِيرِ مِنْ هَمَزَاتِهِ وَهَوَاجِسِهِ، فَإِنَهُ لا يُرِيدُ إِلا إِيقَاعَكُمْ فِي البَلا، وَتَعْرِيضَكُم لِسَخَطِ اللهِ وَمَقْتِهِ الشَّدِيدِ، مَاذَا يَضُّرُكُمْ إِنْ تَنَازَلْتُمْ عَنْ بَعْضِ حُقُوقِكُمْ، وَتَجَاوَزْتُمْ وَصَفَحْتُمْ عَمَّنْ أَسَاءَ إليكُمْ مِنْ إِخْوَانِكُمْ، وَقَصَدْتُمْ وَجْهَ اللهِ وَثَوَابِهِ فِي صَفْحِكُمْ وَتَنَازُلِكُمْ، وَبِذَلِكَ تَكُونُونَ قَدْ أَرْضَيْتَمُ اللهَ رَبِّ العَالَمِين، وَأَبْعَدْتُمْ شَبَحَ الشَّرِ عَنْكُمْ وَعَنْ إِخْوَانِكُمْ المُسْلِمِينَ وَكُنْتُمْ أَصْحَابَ الْفَضْلِ وَالمِنَّةِ، يَشْكُرُ اللهُ وَالنَّاسُ لَكُمْ هَذَا الخُلُقُ الطَّيِّبَ الحَمِيدَ، أَلا فَاحْرِصُوا عِبَادَ اللهِ عَلَى الفَضْلِ العَظِيمِ، وَأَقْبِلُوا سِرَاعًا إليه، وَاكْظِمُوا غَيْظَكُمْ، وَابْذِلُوا جُهْدَكُمْ فِي التَّغَلُبِّ عَلَيْهِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ، فَاللهُ يَغْفِرُ مِنْ ذُنُوبِ العَافِينَ عَنِ النَّاسِ، وَيُمَجِّدُ الكَاظِمِينَ الْغَيْظَ، وَيَتَوَلاهُمْ بِالفَضْلِ وَالكَرَامَةِ، وَيُزَوِّجُهُمْ مِنْ حُورِ الجِنَانِ مَا يَشَاءُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَيَدْعُوهُمْ يَوَمَ القِيَامَةِ عَلَى رُؤُوسِ الخَلائِقِ إِلَى تِلْكَ الكَرَامَةِ لِيَعْلَمْ فَضْلَهُمْ، وَيَشْهَدَ مَجْدَهُمْ القَرِيبُ وَالبَعِيدُ. فَإِذَا مَا عَلِمْتُمْ هَذَا فَقَارِنُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُعَامِلُ اللهُ بِهِ المُشَاحِنَ الحُقُودَ الحَسُودَ، الذِي أَجَابَ دَاعِي الشَّيْطَانِ، وَأَعْرَضْ عَنْ نَصِيحَةِ رَبِّهِ الذِي خَلَقَهُ وَرَزَقَهُ، وَيَسَّرَ لَهُ أُمُورَهُ، وَأَصَّرَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ التَّقَاطُعِ وَالشَّحْنَاءِ وَالصُّدُودِ، وَسَتَرَوْنَ أَنَّهُ بِعِنَادِهِ وَإِبَائِهِ وَاسْتِكْبَارِهِ قَدْ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ عَرَّضَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا لِنِقَمِ اللهِ

الْمُتَعَاقِبَةِ، وَأَبْقَى لَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ جَهَنَّمَ يَلْقَى فِيهَا الْعَذَابَ الأليمَ، وَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ الْمُتَهَاجِرِينَ الْمُتَشَاحِنِينَ يُعْرِضُ اللهُ عَنْهُمَا، وَإِذَا أَفَاضَ عَلَى خَلْقِهِ رَحْمَتَهُ كَانَ الْحُرْمَانُ نَصِيبَهُمَا وَلا يَزَالانِ هَكَذَا حَتَّى يُزِيلا مَا بَيْنَهُمَا مِن الْخِصَامِ وَيَعُودَا إِلى مَا كَانَا عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ مِن الصَّفَاءِ وَالْوِئَامِ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَفُوٌ غَفُورٌ. تَفَهَّمُوا يَا إِخْوَانِي جَيِّدًا، وَاقْرَعُوا قُلُوبَكُمْ بِمَا سَمِعْتُمْ مِن الزَّوَاجِرِ وَالْعِظَاتِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَقْرَبَ الْمُتَصَافِيينَ إِلى اللهِ أَسْبَقُهُمَا إِلى الصَّفْحِ وَتَنَاسِي مَا فَاتَ، وَأَعْظَمَهُمَا أَجْرًا مِنْ بَدَأَ بِالسَّعْيِ إِلى إِزَالَةِ الأَضْغَانِ وَالأَحْقَادِ، فَإِنْ اسْتَجَابَ خَصْمُهُ لِلصُّلْحِ وَلَمْ يَتَأَخَّرْ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَاسْتَحَقَّ نَصِيبَهُ مِنْ الأَجْرِ وَالثَّوَابِ، وَإِنْ أَبَى وَامْتَنَعَ فَقَدْ احْتَمَلَ الإِثْمِ وَالْعِقَابَ فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَاعْمَلُوا بِهَذِهِ النَّصِيحَةِ، وَسَارِعُوا بِالاعْتِذَارِ إِلى رَبِّكُمْ، وَاسْتَجِيبُوا إِلى دَاعِي الْهُدَى وَالرَّشَادِ، وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ، وَهَلِّمُوا سِرَاعًا إِلى مُصَافَاةِ مِنْ خَاصَمْتُمْ مِنْ إِخْوَانِكُمْ، وَبِذَلِكَ تَصُونُونَ بُيُوتَكُمْ مِن الْخَرَابِ، وَتَحْفَظُونَ أَمْوَالَكُمْ مِنَ التَّلاشِي وَالذِّهَابِ، وَتَرْجُونَ رِضَا رَبَّكُمْ وَعَفْوَهُ يَوْمَ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَهْجُرَ مُؤْمِنًا فَوْقَ ثَلاثِ، فَإِنْ مَرَّتْ بِهِ ثَلاثٌ فَلْيَلْقَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ فَقَد اشْتَرَكَا فِي الأَجْرِ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ فَقَدْ بَاءَ بالإِثْمِ وَخَرَجَ الْمُسَلِّمُ مِنْ الْهَجْر» . وَرَوَى الطَّبَرَانِي عَنْ جَابِر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

«تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَمِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَيَغْفِرُ لَهُ، وَمِنْ تَائِبٍ فَيُتَابُ عَلَيْهِ، وَيُرَدُّ أَهْلُ الضَّغَائِنِ بِضَغَائِنِهِمْ حَتَّى يَتُوبُوا» . وَوَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ أَنْ يُنْفِّذَهُ دَعَاهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلائِقِ حَتَّى يُخَيَّرَهُ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ» . اللَّهُمَّ أَعِذْنَا مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجَزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَضَلْعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. شِعْرًا: ... أَجِدُكَ مَا الدُّنْيَا وَمَاذَا نَعِيمُهَا وَهَلْ هِيَ إِلا جَمْرَةٌ تَتَوَقَّدُ إِذَا نَالَ مِنْهَا طَالِبٌ مَا يَرُومُهُ وَسَاعَدَهُ الْمَقْدُورُ فَالْمَرْءُ يَسْعَدُ أَتَاهُ غَدًا مِنْ خَطْبِهَا كُلُّ فَادِحٍ وَيَلْقَاهُ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ يُنَكِّدُ لَعَمْرِي لَقَدْ شَاهَدْتُ مِنْهَا عَجَائِبًا وَصَاحَبَنِي فِيهَا مَسُودٌ وَسَيِّدُ رَأَيْتُ بِهَا أَهْلَ الْمَوَاهِبِ مَرَّةً (وَقَدْ طَابَ عَيْشٌ وَالسُّرُورُ يُجَدَدُ) فَمَا رَاعهُمْ إِلا الرَّزَايَا ثَوَابِتٌ عَلَيْهِمْ وَقَامَتْ فِي أَذَاهُمْ تُحَشِّدُ وَأَسْقَتْهُمْ كَأْسًا مِنَ الذُّلِ مُتْرَعًا وَكَانَ لَهُمْ فَوْقَ السِّمَاكَيْنِ مَقْعَدُ ... ›?

اليمين الغموس والأدلة على تحريمها والحث على تجنبها

.. وَدَامَتْ لِمَنْ نَاوَاهُمْ بَعْضَ بَرْهَةٍ عَلَى نَكَدٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ يُجَدَّدُ وَقَدْ شَاهَدَتْ عَيْنَاكَ مَنْ كَانَ بَعْدَهُمْ فَمَالي وَوَصْفِي لِلَّذِي أَنْتَ تَشْهَدُ ... ›? اللَّهُمَّ أَرِنَا الْحَقَّ حَقًّا وَارْزُقْنَا اتِّبَاعَهُ وَأَرِنَا الْبَاطِلَ بَاطِلاً وَارْزُقْنَا اجْتِنَابَهُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ) اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، أَنَّ مِمَّا يَتَأكَّدُ اجْتِنَابُهُ اليمِينُ الْغُمُوسُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلاَ يَنظُرُ إليهمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قِيلَ: نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ضَيْعَةٍ، فَهَمَّ الْمُدَّعِي عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِفَ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ، فَنَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ اليمِين، وَأَقَرَّ لِلْمُدَّعِي بِحَقِّهِ، وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ اقْتَطَع حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةُ» . فَقَالَ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بن مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لِيَقْطِعَ بِهَا مَالَ امْرئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللهَ تَعَالى وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ» . إِذَا فَهِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ

اليمين الغَمُوسَ لَيْسَ بِالأَمْرِ الهَيِّنِ، فَإِنَّهَا إِنَّمَا سُمِّيَتْ غَمُوسًا لأَنَّهَا تَغْمِسُ الحَالِفَ فِي النَّارِ، وَكَيْفَ لا يَكُونَ كَذَلِكَ وَهُوَ يَتَقَدَّمُ بِلا اكْتِرَاثِ وَلا مُبَالاةٍ، إِلَى أَحَدِ الأَسْمَاءِ الحُسْنَى فَيَحْلِفُ بِهَا، مُؤَكِّدًا قَوْلَهُ عِنْدَ السَّامِعِ بِهَذَا الحَلِفِ وَلا يُفَكِّرُ أَنَّ هَذَا القَسَمُ العَظِيمُ إِذَا لَمْ يَتُبْ مِنْ ذَلِكَ تَوْبَةً نَصُوحًا، وَيُقْلِعَ إِلَى اللهِ وَيَنْدَمَ عَلَى مَا فَعَلَ فَإِنَّهُ يَضُرُّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، أَمَّا ضَرَرَهُ فِي الدُّنْيَا فَيَكُونُ سَبَبًا لِمَحْقِ البَرَكَةِ لَهُ فِيمَا يَتَعَاطَاهُ، وَإِذَا انْتُزِعَتِ البَرَكَة حَلَّ مَحَلَّهَا الفَشَلُ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الحَلِفَ مَنْفَقَةٌ لِلسَّلْعَةِ مَمْحَقَةٌ لِلْكَسْبِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى البَزَّارُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اليمين الفَاجِرَةُ تُذْهِبَ المَالَ – أَوْ قَالَ -: تَذْهَبُ بِالمَالِ» وَإِذَا ذَهَبَ المَالُ خَرِبَ البَيْتُ وَأَصْبَحَ صَاحِبُهُ فِي عِدَادِ الفُقَرَاءِ، وَأَمَّا فِي الآخِرَةِ فَحَسْبُ الحَالِفِ أَنَّ يَسْمَعَ مَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بن عَمْرو بنِ العاصِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الكَبَائِرُ: الإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقِ الوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَاليمين الغَمُوسُ» ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ شَيْءٌ مِمَّا عَصَى اللهُ بِهِ هُوَ أَعْجَلُ عُقُوبَةً مِنَ البَغْي، وَمَا مِنْ شَيْءٍ أُطِيعَ اللهُ بِهِ أَسْرَعَ ثَوَابًا مِنَ الصِّلَةِ، واليمين الفَاجِرَةُ تَدْعُ الدِّيَارَ بَلاقِعَ» . رَوَاهُ البَيْهَقِي. ثُمَّ إِنَّ الحَلِفَ بِاللهِ كَذِبًا اسْتِخْفَافًا بِاسمِ اللهِ وَاسْتِهَانَةً بِهِ، وَتَشَبُّهٌ بِحَالِ المُنَافِقِينَ، الذِينَ أَخْبَرَ اللهُ عَمَّا قَالُوا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}

فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ بِهَذَا الحَلِفِ، وَبِهَذَا الكَذِبِ الذِي يُخَيَّلُ إليهمْ أَنَّهُ سَبِيلُ لِلنَّجَاةِ عِنْدَ النَّاسِ يُهْلِكُونَ أَنْفَسَهُمْ، وَاللهُ يَعْلَمُ الحَقَّ وَيَكْشِفُهُ لِلنَّاسِ، فَيَهْلِكَ الكَاذِبُ فِي الدُّنْيَا بِكَذِبِهِ، وَيَهْلِكُ فِي الآخِرَةِ يَوْمَ لا يُفِيدُهُ إِنْكَارُهُ شَيْئًا، وَكَفَى بِالحَلِفِ الكَاذِبِ شُؤْمًا وَلُؤْمًا أَنَّهُ فِعْلُ المُنَافِقِينَ، وَأَنَّ فَاعِلُهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ إِنَّمَا يَفْعَلُ فِعْلاً يُشَابِهُ فِيهِ أَهْلَ النِّفَاقِ، أَخْبَثَ الكُفَّارِ، الذِينَ أَخْبَرَ اللهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ رِجْسٌ وَأَنَّهُمْ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، وَانْطَبَقَ عَلَى كَثِِيرٍ مِنْ أَهْلِ هَذَا العَصْرِ قَوْلُ الشَّاعِر: ... زَمَانُ كُلُّ حِبٍِّ فِيهِ خَبٌّ ... وَطَعْمُ الخِلِّ خَلٌّ لَوْ يُذَاقُ لَهُمْ سُوقٌ بِضَاعَتُهُ النِّفَاقُ ... فَمَنْ نَاقْ يَكُونْ لَهُ نِفَاقُ آخر: ... أَمْسَى النِّفَاقُ دُرُوعًا يُسْتَجَنٌ بِهَا ... عَنِ الأَذَى وَيُقَوّي سَرْدَهَا الحَلِفُ وَيَعْظُمُ الإِثْمُ إِذَا كَانَ الحَلِفُ الكَاذِبُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ اقْتِطَاعُ مَالِ عَبْدٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ» وَمَنْ يُطِيقُ أَنْ يَلْقَى خَالِقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ، الذِي السَّمَاوَات وَالأَرْضُ قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَالآية التي قَرَأَهَا المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِثْرَ الحَدِيثِ مِصْدَاقًا لِمَا أَخْبَرَ تُفِيدَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَظِيمٌ، فَإِنَّهَا تُخْبِرُ عَنِ الذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلَيلاً، بِأَنَّهُ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ، وَمَعْرُوفٌ أَنَّ الذِي لا نَصِيبَ لَهُ فِي الآخِرَةِ الكَافِرُ وَالعِيَاذُ بِاللهِ، وَإِلا فَالذِي لا عَمَلَ لَهُ إِلا الإِيمَانِ والعملُ الصالحُ لا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ:

تهاون الناس بالإيمان وبالأخص عند البيع والشراء والاجارة

إِنَّهُ لا خَلاقَ فِي الآخِرَةِ، وَمَعَ أَنَّهُ لا خَلاقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ فَلا يُكَلِّمَهُ الله وَلا يَنْظُرُ إليه يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلا يُزَكِّيهِ وَلَهُ عَذَابٌ أليمٌ فَلْيَتَأَمَّلِ العَاقِلُ اللَّبِيبُ مَا فِي هَذِهِ مِنَ الوَعِيدِ الشَّدِيدِ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ اتَّصَفَ بِذَلِكَ، نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ غَضَبِهِ. وَلَقَدْ بَلَغَ تَهَاوُنُ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ بِالأَيْمَانِ الكَاذِبَةِ إِلَى مَا تَقْشَعِرُّ مِنْهُ الجُلُودُ، حَتَّى فِي حَدِيثِهِمْ فِي بُيُوتِهِمْ، وَفِي مَجَالِسِهِمْ الخَاصَّةِ، وَفِي أَسْوَاقِهِمْ، وَفِي مُعَامَلاتِهِمْ، وَفِي أَوْعَادِهِمْ وَيِأْتِي بِالقَسَمِ بِهَذَا اللَّفْظِ (وَاللهِ العَظِيمِ) يُؤَيِّدُونَ مَا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ مِنْ مَوَاعِيدٍ وَهُمْ فِي ذَلِكَ مُتَّهَمُونَ فِي إِخْلافِ الوْعْدِ، كَمَا قِيل: وَفِي اليمين عَلَى مَا أَنْتَ فَاعِلُهُ ... مَا دَلَّ أَنَّكَ فِي المِيعَادِ مُتَّهَمُ وَاسْتَمِعْ لَهُمْ وَخُصُوصًا عِنْدَ البَيعِ وَالشِّرَاءِ، لِيَبِيعُوا مَا مَعَهُمْ بِسُرْعَةٍ مِنْ نَاحِيَةٍ، وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى لِيَكْثُرَ رِبْحُهُمُ فِي زَعْمِهِمْ، فَعَلَى الإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ حَذِرًا مِنْهُم، وَلَوْ حَلَفُوا أَمَامَهُ فَقَدْ أَصْبَحَ الحَلِفُ عِنْدَهُمْ عَادَةً، وَلِهَذَا أَكْثَرُ النَّاسِ إِذَا حَلَفُوا لَهُ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعُهْمُ يَحْلِفُونَ، وَلْيَبْشِرُوا الحَالِفِينَ عَلَى سِلَعِهِم كَذِبًا وَتَرْوِيجًا أَنَّ رِبْحَهُمْ مَهْمَا كَثُرَ مَصِيرُهُ لِلزَّوَالِ، فَإِنَّهُ لا بَرَكَةَ فِيهِ، وَكَيْفَ يُبَارِكُ فِي رِبْحٍ لَمْ يَجِئْ إِلا مِنْ غِشٍّ وَتَدْلِيسٍ وَكَذِبٍ وَمَعْصِيَةٍ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أليمٌ» فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلاثَ

قصيدة في الحث على تدبر القرآن

مِرَاتٍ فقَالَ أَبُو ذَرٍّ. خَابُوا وَخَسِرُوا يَا رَسُولَ مَنْ هُمْ؟ قَالَ «الْمُسْبِلُ وَالْمَنَّانُ وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ» . وَلا يَجُوزُ الحَلِفُ بِغَيْرِ اللهُ لا بِكَعْبَةٍ وَلا بِنَبِي وَلا مَلَكٍ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أوْ لَيَصْمُتْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. ولما ورد عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنه سَمِعَ رَجُلاً يَقُولُ: وَالْكَعْبَةِ. فَقَالَ لا تَحْلِفْ بِغَيْرِ اللَّهِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِي وَحَسَّنَهُ، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح على شرطهم، ولا يَجُوزُ الحَلِفُ بِالأَمَانَةِ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ بُرَيْدَةَ مَرْفُوعًا: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ حَلَفَ بِالأَمَانَةِ» . وَرِجَالُهُ ثِقَات. اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكركَ وشكرِك وَوَفِّقْنَا لامْتَثِالِ أَمْرِكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. تَدَبَّرْ كِتَابَ اللهِ يَنْفَعْكَ وَعْظُهُ ... ???? ... فَإِنَّ كِتَابَ اللهِ أَبْلَغُ وَاعِظِ ... ???? ... وَبِالْعَيْنِ ثُمَّ القَلْبِ لاحِظْهُ وَاعْتَبِرْ ... ???? ... مَعَانِيَهُ فَهُوَ الهُدَى لِلْمُلاحِظِ ... ???? ... وَأَنْتَ إِذَا أَتْقَنْتَ حِفْظَ حُرُوفِهِ ... ???? ... فَكُنْ لِحُدُودِ اللهِ أَقْوَمَ حَافِظِ ... ???? ... وَلا يَنْفَعُ التَّجْوِيدُ لافِظَ حُكْمِهِ ... ???? ... وَإِنْ كَانَ بِالقُرْآنِ أَفْصَحَ لافِظِ ... ???? ... وَيُعْرَفُ أَهْلُوهُ بِإِحْيَاءِ لَيْلِهِمْ ... ???? ... وَصَوْمِ هُجَيْرِي لاهِجِ القَيْضِ قَائِظِ ... ›? ... ????

موعظة بليغة في الحث على تعظيم الله والاستحياء منه

.. وَغَضّهِمْ الأَبْصَارَ عَنْ كُلِّ مَأْثَمٍ ... ???? ... يَجُرُّ بِتَكْرِيرِ العُيُونِ اللَّوَاحِظِ ... ???? ... وَكَضْمِهُمُوا لِلْغَيْظِ عِنْدَ اسْتَعَارِهِ ... ???? ... إِذَا عَزَّ بَيْنَ النَّاسِ كَظْمُ المَغَائِظِ ... ???? ... وَأَخْلاقُهُمْ مَحْمُودَةٌ إِنْ خَبَرْتَهَا ... ???? ... فَلَيْسَتْ بِأَخْلاقٍ فِظَاظٍ غَلائِظِ ... ???? ... تَحَلَّوْ بِآدَابِ الكِتَابِ وَأَحْسَنُوا التَّ ... ???? ... فَكُّرِ فِي أَمْثَاله وَالمَوَاعِظِ ... ›? ... ???? ... فَفَاضَتْ عَلَى الصَّبْرِ الجَمِيلِ نُفُوسُهُمْ ... سَلامٌ عَلَى تِلْكَ النُّفُوسِ الفَوَائِضِ اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلينَا الإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. موعظة عِبَادَ اللهِ إِنَّ مِنْ أَعْجَبِ العَجَبِ أَنْ يَعْصِي الرَّجُلُ مَوْلاهُ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ عَجْبًا لأنَّ المُؤْمِنَ يَتَيَقَّنُ يَقِينًا لا شَكَّ فِيهِ أَنَّ مَوْلاهُ جَلَّ وَعَلا يَرَاهُ، وَيَعْلَمُ سَرَّهُ وَنَجْوَاهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الإِنْسَانَ يَسْتَحِيي أَنْ يَفْعَلْ مَا يُغْضِبُ أَخَاهُ وَهُوَ يَرَاهُ، وَمَعَ أَنَّهُ لا يَمْلِكُ لَهُ ضَرًا وَلا نَفْعًا فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَلا فِي دَارِ القَرَارِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا حَاله مَعَ هَذَا المَخْلُوقِ فَعَجِيبٌ جِدًا أَنْ لا يَكُونَ أَشَدَّ احْتِرَامًا وَحَيَاءً مَعَ فَاطِرِ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الذِي أَوْجَدَ الجَمِيعَ مِنَ العَدَمِ وَهُوَ الذِي يَحْفَظُ عَلَيْكَ الحَيَاةَ وَهُوَ الذِي أَسْبَغَ عَلَيْكَ النِّعَمَ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، وَأَدَامَ ذَلِكَ عَلَيْكَ وَوَالاهُ، وَلَوْ شَاءَ لَسَلَبَكَ كُلَّ نِعْمَةٍ، وَأَحَّلَ بِكَ كُلَّ نِقْمَةٍ، وَجَعَلَكَ فِي هَذَا الوُجُودِ عِبْرَةً لأولي الأَبْصَارِ، أَضِفْ إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الذِي يُمِيتُكَ، وَيُعَامِلُكَ فِي قَبْرِكَ

بِمَا يُنَاسِبُ مَالَكَ مِنْ أَعْمَالِ، وَهُوَ الذِي يَبْعَثُكَ بَعْدَ مَوْتِكَ، وَيَسُوقُكَ إِلَى ذَلِكَ المَوْقِف الذِي هَوْلَهُ يُشِيبُ الأَطْفَالُ، وَهُوَ الذِي يُحَاسِبُكَ عَلَى مَا كَانَ مِنْكَ فِي حَيِاتِكَ الأُولِى مِنَ الأَفْعَالِ، وَهُوَ الذِي يَأْمُرُ بِكَ إِمَّا إِلَى الجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ، نَعَمْ إِنَّهُ مِنْ أَعْجَبِ العَجَبِ أَنْ يُجَاهِرَ المُؤْمِنُ رَبَّهُ بِالمَعْصِيَةِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَالِكُ دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ، إِنَّ البُرْهَان الذِي لا مَغْمَزَ فِيهِ عَلَى أَنَّكِ تَسْتَحِيي مِنْ رَبِّكَ أَيُّهَا المُؤْمِنُ، أَنْ تَكُونَ بَعِيدًا كُلَّ البُعْدِ دَائِمًا عَنْ مَعَاصِي اللهِ، فَتَحْبِسْ لِسَانَكَ عَنِ القَذْفِ وَالكَذِبِ وَالنَّمِيمَةِ وَالغَيْبَةِ، وَالخُلْفِ فِي الوَعْدِ، وَعَنِ المِرَاءِ وَالجِدَالِ وَالاسْتِهْزَاءِ، وَالسُّخْرِيَّةِ بِالنَّاسِ، وَاللَّعْنِ وَالفُحْشِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مَمَّا هُوَ مُحَرَّمٌ شَرْعًا أَوْ مَكْرُوهٍ، لأنَّ اللِّسَانَ إِنَّمَا خُلِقَ لِتَلاوَةِ كِتَابِ اللهِ وَذِكْرِهِ، وَلِتُرْشِدَ بِهِ خَلْقَ اللهِ، وَتُظْهِرَ بِهِ مَا فِي ضَمِيرَكَ مِنْ حَاجَاتِِِِِِ دِينِكَ وَدُنْيَاكَ، وَتُدَافِعُ بِهِ عَنْ دِينِكَ وَنَفْسِكَ وَأَهْلِكَ، فَإِذَا اسْتَعْمَلْتَهُ فِي غَيْرِ مَا خُلِقَ لَهُ كَانَ وَبَالاً عَلَيْكَ، وَتَحْبِسُ عَيْنَكَ، لأنَّهَا إِنَّمَا خُلِقَتْ لَكَ لِتَهْتَدِي فِي الظُّلُمَاتِ، وَتَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى قَضَاءِ الحَاجَاتِ، وَتَنْظُرُ بِهَا بِعَيْنِ الاعْتَبارِ إِلَى عَجِائِبِ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فَتَعْتَبِرَ بِمَا فِيهَا مِنَ الآيَاتِ البَاهِرَاتِ؛ فَاحْفَظْهَا عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْمُحَرَّمَاتِ، مِنْ نَظَرِ إِلَى غَيْرِ مُحْرِمٍ مِنَ النِّسَاءِ، أَوْ إِلَى مُسْلِمٍ بِعَيْنِ الاحْتَقَارِ وَالازْدِرَاءِ، أَوْ إِلَى تِلْفِزْيُونٍ أَوْ إِلَى سِينَمَاءِ، أَوْ إِلِى صُورَةٍ مَليحَةٍ بِشَهْوَةٍ، أَوْ تَطّلِعَ بِهَا عَلَى عَيْبِ مُسْلِم، أَوْ إِلَى بَيْتِ جَار أَوْ غَيْرِ جَارِ مِمَّنْ لا يَرْضَى بِذَلِكَ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ المُحَرَّمَاتِ. وَأَمَّا الأُذُنَ فَاحْفَظْهَا عَنْ أَنْ تُصْغِي بِهَا إِلَى اسْتِمَاعِ المَلاهِي وَالمُنْكَرَاتِ، أَوْ إِلَى بِدْعَةٍ أَوْ إِلَى غِيبَةٍ أَوْ فُحْشٍ، أَوْ قَذْفَ مُسْلِمٍ أَوْ

أبيات في الحث على التزود للآخرة

حَدِيثِ قَوْمٍ وَهُمْ لاسْتِمَاعِكَ كَارِهُونَ، أَوْ إِلَى الخَوْضِ بِالبَاطِلِ، أَوْ ذِكْرِ مَسَاوِئ النَّاسِ، لأَنَّهَا خُلِقَتْ لَكَ لِتَسْمَعَ بِهَا كَلامَ اللهَ وَسُنَّةِ رَسُولَهِ، وَمَا يَنْفَعُكَ فِي دُنْيَاكَ وَأُخْرَاكَ وَلِتَتَوَصَّلَ بِهَا إِلَى الاسِتَفادَةِ مِنَ العُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، المُوَصِلَّةِ إِلَى مَرْضَاةِ اللهِ وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ، الدَّائِمِ فِي جِوَارِ رَبِّ العَالَمِينَ، فَإِذَا أَصْغَيْتَ بِهَا إَلَى شَيْءٍ مِنَ المُحَرَّمَاتِ أَوْ المَكْرُوهَاتِ، صَارَ مَا كَانَ عَلَيْكَ، وَانْقَلَبَ مَا كَانَ سَبَبَ فَوْزِكَ سَبَبَ هَلاكِكَ، وَهَذَا غَايَةُ الخُسْرَانِ، وَلا تَظُنُّ أَنَّ الإِثْمَ يَخْتَصُّ بِهِ القَائِلُ دُونَ المُسْتَمِعِ إَلا إِنْ أَنْكَرِ بِلِسَانِهِ، أَوْ بِقَلْبِهِ إِنْ خَافَ، وَإِنْ قَدِرَ عَلَى القِيَامِ وَالابْتِعَادَ عَنْهُمْ، أَوْ قَدِرَ عَلَى قَطْعِ الكَلامِ بِكَلامٍ آخرَ فَلَمْ يَفْعَلْ فَهُوَ آثِمٌ، وَكَذَلِكَ يَكُفُّ البَطْنَ وَالفَرْجَ عَنِ المُحَرَّمَاتِ، وَاليدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَحَاسَّةَ السَّمْعِ وَالبَصَرِ. شٍعْرًا: ... أَحْبَابَنَا نُوَبُ الزَّمانِ كَثِيرَةُ ... وَأَمَرُّ مِنْهَا رِفْعَةُ السُّفَهَاءِ هَلْ يَسْتَفِيقُ النَّاسُ مِنْ سَكَرَاتِهِمْ ... وَنَرَى النُّذُولَ بِذِلَّةٍ وَبِلاءِ آخر: ... وَقَائِلَةٍ شِبْتُمْ فَقُلْتُ لَهَا شِبْنَا وَفِي هَذِهِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ أُنْشِبْنَا وَيَا لَيْتَنَا لَمَّا تَقَضَّى شَبَابُنَا خَلَصْنَا وَأَخْلَصْنَا وَلَكِنَّنَا شِبْنَا فَيَا عَجَبًا مِنَّا عَلَى اللهِ نَجْتَرِي وَتَهْوي سَوَافِي الرِّيحِ أَرْوَاحَنَا جُبْنَا وَكَيْفَ أَضْعَنَا بَاقِيًا لِمُعَجَّلٍ سَيَفَنَى لَقَدْ نِلْنَا بِصَفْقَتِنَا غِبْنَا وَكَمْ صَرَفَتْنَا بَيْنَ مَلْهَى وَمَلْعَبٍ فَمَا إِنْ نَكَرْنَا قُبْحَ ذَاكَ وَمَا عِبْنَا ... ›?

القذف والتحذير من فعله والأدلة على تحريمه

ج ... وَنَادِي سِفَاهٍ قَدْ حَضَرْنَا وَإِنَّمَا عَنِ الرُّشْدِ وَالتَّوْفِيقِ يَوْمِئِذٍ غِبْنَا فَيَا لَيْتَ شِعْرِي مَا يَكُونُ جَوَابُنَا إِذا نَحْنُ فِي وَفْدِ القُبُورِ غَدًا أُبْنَا أَيَنْفَعُ إِنْكَارٌ وَذُو العَرْشِ عَالِمٌ بِمُودَعَةٍ صَدْرًا وَمُلْزَمَةٍ ضِبْنَا أَلا لَيْسَ إَلا عَفْوُهُ عَنْ ذُنُوبِنَا فَإِن يَخِبِ التَّقْدِيرُ فِيهِ فَقَدْ خِبْنَا ... ›? اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَهَا، وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ المُفْلِحِينَ الذِينَ نَوَّرْتَ قُلُوبَهُمْ بِمَعْرِفَتِكَ، وَأَهَّلْتَهُمْ لِخْدْمَتِكِ، وَحَرَسْتَهُمْ مِنْ عَدُوِّكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. فَصْلٌ في القذف اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ لَمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ أَنَّ القَذْفَ - هُوَ الرَّمْيُ بِالزِّنَا - مُحَرَّمٌ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وِالإِجْمَاعِ، أَمَّا الكِتَابِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ» وَعَدَّ مِنْهَا: «قَذْفَ المُحْصَنَاتِ» .

الحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَلَمَّا عَظَّمَ جَلَّ وَعَلا أَمْرَ الزِّانِي بِوُجُوبِ جَلْدِهِ، وَكَذَا رَجْمِهِ إِنْ كَانَ مُحْصَنًا، وَأَنَّهُ لا تَجُوزُ مُقَارَنَتَهُ وَلا مُخَالَطَتَهُ عَلَى وَجْهٍ لا يَسْلَمُ فِيهِ مِنَ الشَّرِ، بَيَّنَ تَعَالَى تَعْظِيمَ الإِقْدَامِ عَلَى رَمْيِ الأَعْرَاضِ المُحَصَّنَةِ العَفِيفَةِ بِالزِّنَا، وَشَدَّدَ فِي عُقُوبَتِهِ، فَأَوْجَبَ عَلَى القَاذِفِ إِذَا لَمْ يُقِمْ البَيِّنَةَ عَلَى مَا قَالَ ثَلاثَة أَحْكَامٍ. (أَحَدُهَا) : أَنْ يُجْلَدْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً. (الثَّانِي) : أَنْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ، فَيَكُونُ سَاقِطَ الاعْتِبَارِ فِي النَّاسِ، مُلْغَى القَوْلُ، لا تُسْمَعُ لَهُ كَلِمَةُ، وَلا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَلَوْ حُدَّ لِلْقَذْفِ حَتَّى يَتُوبَ. (الثَّالِثُ) : أَنَّهُ يَكُونُ فَاسِقًا، لَيْسَ بِعَدْلٍ عِنْدَ اللهِ وَلا عِنْدَ النَّاسِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَعْمَدُ إِلَى امْرَأَةٍ مُتَمَتِّعَةً بِالحَصَانَةِ وَالعِفَّةِ وَالنَّزَاهَةِ، بَعِيدَةً عَنِ الرِّيبَةِ، رُبَّمَا أَنَّهَا لا تَخْطُرُ لَهَا بِبَالٍ، وَلا تُحَدِّثَ بِهَا نَفْسَهَا، وَرُبَّمَا كَانَتْ ذَاتَ دِينٍ، غَافِلَةً عَنْهُ، مُقَضِّيَةً وَقْتَهَا فِي إِصْلاحِ شَأْنِهَا، وَتَدْبِيرِ بَيْتِهَا، وَتَرْبِيَةِ أَوْلادِهَا، وَتَطْهِيرِ نَفْسِهَا، فَيَرْمِيهَا بِالزِّنَا الذِي يَثْلِمُ بِهِ عِرْضَهَا، وَيَجْرَحُهُ، وَيُشِيعُ الفَاحِشَةَ عَلَيْهَا، وَيُشَوِّهُ بِهِ سُمْعَتِهَا وَتَسُوءُ بِهِ حَالُهَا، وَوَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ سَيِّءِ الآثَامِ مَا يُجْلِبُ الهُمُومِ واَلغُمُومِ وَالأَنْكَادِ وَالأَحْزَانِ، وَمَاذَا تَكُونُ نَظْرَةُ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى المَقْذْوفِ وَأُسْرَتِهِ، وَمَاذَا يَكُونُ غَضَبُهُمْ عَلَى القَاذِفِ وَمَنْ سَاعَدَهُ وَنَشَرَ مَعَهُ الفَاحِشَةَ. نَسْأَلُ اللهُ العَافِيَةَ. وَقَالَ سَيَّدُ قُطْب عَلَى هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: إِنَّ تَرْكَ الأَلْسِنَةِ تُلْقِي التُّهَمِ عَلَى المُحْصَنَاتِ - وَهُنَّ العَفَيفَاتِ الحَرِائِرُ ثَيِّبَاتٍ أَوْ أَبْكَارًا - بِدُونِ دَلِيل قَاطِع يَتْرُكُ المَجَالَ فَسِيحًا لِكُلِّ مَنْ شَاءِ أَنْ يَقْذِفَ بَرِيئَةً أَوْ بَرِيئًا بِتِلْكَ التُّهْمَةِ النَّكْرَاءِ، ثُمَّ يَمْضِي آمِنًا فَتُصْبِحُ الجَمَاعَةُ وَتُمْسِي وَإِذَا أَعْرَاضُهَا

اضرار القذف كثيرة ويليها موعظة بليغة وبعدها قصيدة

مُجَرَّحَةً، وَسُمْعَتُهَا مُلَوَّثَةٌ، وَإِذَا كُلُّ فَرْدٍ فِيهَا مُتَّهَمٌ أَوْ مُهَدَّدٌ بِالاتِهَامِ، وَإِذَا كُلُّ زَوْجٍ فِيهَا شَاكٌّ فِي زَوْجِهِ، وَكُلُّ رَجُلٍ فِيهَا شَكَّ فِي أَصْلِهِ، وَكُلُّ بِيْتٍ فِيهَا مُهَدَّدٌ بِالانْهِيَارِ. وِهِيِ حَالَةٌ مِنَ الشَّكِ وَالقَلَقِ وَالرِّيبَةِ لا تُطَاقُ، ذَلِكَ إِلَى أَنَّ اطِّرَادِ سَمَاعِ التُّهَمِ يُوحِي إِلَى النُّفُوسِ المُتَحَرِّجَةِ مِنْ ارْتِكَابِ الفِعْلَةِ أَنَّ جَوَّ الجَمَاعَةِ كُلُّهُ مُلَوَّثٌ، وَأَنَّ الفِعْلةَ فِيهَا شَائِعَةٌ، فَيُقْدِمُ عَلَيْهَا مَنْ كَانَ يَتَحَرَّجُ مِنْهَا، وَتَهُونُ فِي حِسِّهِ بَشَاعَتُهَا بِكَثْرَةِ تَرْدَادِهَا، وَشُعُورِهِ بِأَنَّ كَثِيرِينَ غَيْرُهُ يَأْتُوونَهَا، وَمَنْ ثَمَّ لا تُجْدِي عُقُوبَةُ الزِّنَا فِي مَنْعِ وُقُوعِهِ، وَالجَمَاعَةُ تُمْسِي وَتُصْبِحُ وَهِي تَتَنَفَّسُ فِي ذَلِكَ الجَوِّ المُلَوَّثِ المُوحِي بِارْتِكَابِ الفَحْشَاءِ. لِهَذِا وَصِيَانَةً لِلأَعْرَاضِ مِنَ التَّهَجُّمِ وَحِمَايَةً لأَصْحَابِهَا مِنَ الآلامِ الفَظِيعَةِ التِي تُصَبُّ عَلَيْهِمْ شَدَّدَ القُرْآنُ الكَرِيمُ فِي عُقُوبَةِ القَذْفِ، فَجَعَلَهَا قَرِيبَةً مِنْ عُقُوبَةِ الزِّنَا.. ثَمَانِينَ جَلْدَةً.. مَعَ إِسْقَاطِ الشَّهَادَةِ، وَالوَصْمِ بِالفِسْقِ.. وَالعُقُوبَةُ الأُولَى: جَسَدِيَّةٌ. وَالثَّانِيَةُ: أَدَبِيَّةٌ فِي وَسَطِ الجَمَاعَةِ، وَيَكْفِي أَنْ يُهْدَرَ قَوْلُ القَاذِفِ فَلا يُؤْخَذُ لَهُ بِشَهَادَةٍ، وَأَنْ يَسْقُطُ اعْتَبَارُهُ بَيْنَ النَّاسِ وَيَمْشِي بَيْنَهُمْ مُتَّهَمًا لا يُوثَقُ لَهُ بِكَلامٍ. وَالثَّالِثَةُ: دِينِّيةٌ فَهُوَ مُنْحَرِفٌ عَنِ الإِيمَانِ، خَارِجٌ عَنِ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيم.. ذَلِكَ إِلا أَنْ يَأْتِي القَاذِفُ بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ بِرُؤْيَةِ الفِعْلَ، أَوْ بِثَلاثَةٍ مَعَهُ إِنْ كَانَ قَدْ رَآهُ. فَيَكُونُ قَوْلُهُ إِذًا صَحِيحًا، وَيُوقَعُ حَدَّ الزِّنَا عَلَى صَاحِبِ الفِعْلَةِ. وَالجَمَاعَةُ المُسْلِمَةِ لا تَخْسَرُ بِالسُّكُوتِ عَنْ تُهْمَةٍ غَيْرِ مُحًقَّقِةٍ كَمَا تَخْسَرُ بِشُيُوعِ الإِتِّهَامِ وَالتَّرَخُّصِ فِيهِ، وَعَدَمِ التَّحَرُّجِ مِنْ الإِذَاعَةِ بِهِ، وَتَحْرِيضِ الكَثِيرِينِ مِنَ المُتَحَرِجِّينَ عَلَى ارْتِكَابِ الفِعْلَةِ

التِي كَانُوا يَسْتَقْذِرُونَهَا، وَيَظُنُّونَهَا مَمْنُوعَةً فِي الجَمَاعَةِ أَوْ نَادِرَةٌ. ذَلِكَ فَوْقَ الآلامِ الفَظِيعَةِ التِي تُصِيبُ الحَرَائِرَ الشَّرِيفَاتِ وَالأَحْرَارِ الشُّرَفَاءِ، وَفَوْقَ الآثَارِ التِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا فِي حَيَاةِ النَّاسِ وَطُمَأْنِينَةِ البُيُوتِ. انْتَهَى. اللَّهُمَّ اكْتُبْ فِي قُلُوبِنَا الإِيمَانَ وَأَيِّدْنَا بِنُورٍ مِنْكَ يَا نُورَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، اللَّهُمَّ افْتَحْ لِدُعَائِنَا بَابَ القَبُولِ وَالإِجَابَةِ، وَاغْفِرْ لَنَا بِرَحْمَتِكِ الوَاسِعَةِ إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُورِ الرَّحِيمِ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. مَوْعِظَةٌ عِبَادَ اللهِ: سُنَّةُ اللهِ فِي خَلْقِهِ أَنْ لا يُؤَاخِذَ مُذْنِبًا بِذَنْبٍ اقْتَرَفَهُ، أَوْ جَرِيمَةً اجْتَرَمَهَا، أَوْ جَرِيرَةً ارْتَكَبَهَا إِلا بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَتّقُوهُ مِنْ مَحَارِمِهِ، وَيَجْتَنِبُوهُ مِنَ المُوبِقَاتِ المُؤَدِّيَةِ بِهِمْ إِلَى هُوَّةِ الهَلاكِ وَالدَّمَارِ، وَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ جَلَّ وَعَلا إِلَى هَذِهِ الأُمَّةِ الإِسْلامِيَّةَِ مُحَمَّدًا رَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّبِيّ الأُمِيَ {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابَهُ الكَرِيم، {قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ، {يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ} فِيهِ هُدَىً وَتِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ مِمَّا يَحْتَاجُ إليه النَّاسُ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ، فَاسْتَمْسَكَ المُسْلَمُونَ مُدَّةً مِنَ الدَّهْرِ بِهَدْيِهِ، وِتَخَلَّقُوا بِآدَابِهِ، فَكَانُوا فِي ذَلِكَ الحِينِ أَهْلَ الحَوْلِ وَالطَّوْلِ وَالقُوَّةِ وَالمَنَعَةِ، تَعْنُوا لَهُمْ الوُجُوهُ، وَتَخْضَعُ لَهُمْ الرِّقَابُ فَلَمْ يَقُمْ لَهُمْ مُنَازِعٌ إَلا ابْتَزُّوا مُلْكَهُ، وَاسْتَبَاحُوا مَكَانَ العِزَّةِ مِنْهُ، وَأَخَذُوا بِطَرْفِي الشَّرْقِ وَالغَرْبِ، وَكَانُوا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ، وَيُؤْمِنُونَ بِاللهِ، كَانُوا فِي تِلْكَ الأَزْمَانِ يَعْمَلُونَ بِطَاعَةِ اللهِ وَيَتَّقُونَهُ، وَيُحْسِنُونَ فِي عِبَادَتِهِ وَإِلَى عِبَادِهِ، وَيَصْبِرُونَ عَنْ مَعَاصِيهِ، وِعَلَى أَقْدَارِهِ، فَكَانَ اللهُ مَعهم بِعَوْنِهِ

وَتَوْفِيقِهِ وَنَصْرِهِ وَتَأْيِيدِهِ وَتَسْدِيدِهِ، يِا عِبَادَ اللهِ كَانَ كُبَرَاءُ النَّاس وَسَادَتُهم في الصَّدْرِ الأَوَّلِ أَشَّدُ النَّاسِ ظُهُورًا بِالتَّمَسُّكِ بِالِّدينِ تَقْتَدِي بِهِمْ العَامَّةُ فِي تَوْحِيدِهم وَعِبَادَاتِهِمْ وَمُعَامَلاتِهِمْ، فَانْعَكَسَتْ عَلَيْنَا الآنَ القَضِيَّةُ، وَصَارَ العَامَّةِ أَشَدُّ تَمَسُّكًا بِالدِّينِ، وَأَرْسَى عَقِيدَةً مِنْ أُولَئِكَ، وَأَصْبَحَ كَثِيرٌ مِنَ المُتَعَلِّمِينَ الذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُثَقَّفُونَ، يَحْمِلُونَ المُؤَهِّلاتِ المَعْرُوفَةِ أزهَدَ النَّاسُ فِي الدِّينِ، وَأَبْعَدَهم عَنْ تَعَاليمِهِ، نَبَذَهُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ كَمَا تُنْبَذُ النَّوَاةُ، لا لأنهُم وَقَفُوا عَلَى عَيْبٍ فِي الدِّينِ، أَوْ هَفْوَةٍ فِي أُصُولِهِ، وَلَكِنَّهُمْ مُقَِّدُونَ فِي هَذَا الضَّلالِ لِقَوْمٍ عَرَفُوا {ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} وَرَأَوْا تَكَاليفَ الدِّينِ وَتَعَاليمَهُ لا تَتَّفِقُ مَعَ شَهَوَاتِهِمْ وَمَلاذِهِمْ، فَاتَّخَذُوا الخُرُوجَ عَنْ تَكَاليفِهِ لِلْحُصُولِ عَلَى مَلاذِ الحَيِاةِ، {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} . شِعْرًا: ... يَقُولُونُ فِي الإِسْلامِ ظُلْمًا بِأَنَّهُ ... يَصُدّ ذَوِيهِ عِنْ طَرِيقِ التَّقَدُمِ وَلَوْ كَانَ ذَا حَقًّا فَكََيْفَ تَقَدَّمْتْ ... أَوَائِلُهُ فِي عَهْدِهَا المُتَقَدِّمِ وَإِنْ كَانَ ذَنْبُ المُسْلِمِ اليوم جَهْلُهُ ... فَمَاذَا عَلَى الإِسْلامِ مِنْ جَهْلِ مُسْلِمِ هَلْ العِلْمِ فِي الإِسلامِ إلاّ فَرِيضَة ... وَهَلْ أُمَّةٌ سَادَتَ بِغَيْرِ التَّعَلُّمِ لَقَدْ أَيْقَظَ الإِسْلامْ لِلْمَجْدِ وَالعُلا ... بَصَائِرَ أَقْوَامِ عَنِ المََجْدِ نُوَّمِ فَأشْرَقَ نُورُ العِلْمِ مِنْ حُجُرَاتِهِ ... عَلَى وَجِهِ عَصْرٍ بِالجَهَالَةِ مُظْلِمِ وَدَكَّ خُصُونَ الجَاهِلِيِّةِ بِالهُدَى ... وَقَوِّضَ أَطْنَابَ الضَّلالِ المُخَيَّمِ وَأَنْشَطَ بِالعِلْمِ العَزَائِمِ وَابْتَنَى ... لأَهَلْيَهِ مَجْداً لَيْسَ بَالمُتَهَدِّمِ وَأَطْلَقَ أَذْهَانَ الوَرَى مِنْ قِيُودِهَا ... فَطَارَتْ بِأَفْكَارٍ عَلَى المَجْدِ حُوَّمِ وَفَكّ أُسَارَ القَوْمِ حَتَّى تَحَفَّزُو ... نُهُوضًا إِلَى العَلْيَاءِ مِنْ كُلِّ مَجْثِمِ فَخَلُّوا طَرِيقًا لِلْبَدَاوَةِ مَجْهَلا ... وَسَارُوا بِنَهْجٍ لِلْحَضَارَةِ مُعْلمِ

فدَوَّت بمُسْتَنّ العُلَى نَهَضَاتُهُمْ ... كَزْعَزَعِ رِيحٍ أَوْ كَتَيَّارِ غَيْلَمِ وَعَمَّا قَلِيلٍ طَبَّقَ الأَرْضَ حُكْمُهُ ... بِأَسْرَعَ مِنْ رَفْعِ الْيَدَيْنِ إِلَى الفَمِ وَقَدْ حَاكَتْ الأَفْكَارُ عِنْد اصْطِدَامِهَا ... تَلألُؤَ بَرْقِ العَارِضَ المُتَهَزِّمِ وَلاحَتْ تَبَاشِيرُ الحَقَائِقِ فَانْجَلَتْ ... عَنِ النَّاسِ في الدُّنْيَا شُكُوكَ التَّوَهُمِ فَلَيْسَ لمُثْرٍ نَقْصُهُ حَقّ مُعْدِمٍ ... وَلا عَرَبِيٍ بَخْسُهُ فَضْلَ أَعَجْمِ وَلا فَخْرَ لِلإِنْسَانِ إِلا بِدِينِهِ ... وَلا فَضْلَ إِلا بِالتُّقَى وَالتَّكَرُّمِ آخر: ... هُوَ المَوْتُ فَاصْنَعْ كُلَّ مَا أَنْتَ صَانِعُ وَأَنْتَ لِكَأْسِ المَوْتِ لا بُدَّ جَارِعُ أَلا أَيُّهَا المَرْءُ المُخَادِعُ نَفْسَهُ رُوَيْدًا أَتْدْرِي مَنْ أَرَاكَ تُخَادِعُ وَيَا جَامِعَ الدُّنْيَا لِغَيْرِ بَلاغِهِ سَتَتْرُكُهَا فَانْظُرْ لِمَنْ أَنْتَ جَامِعُ فَكَمْ قَدْ رَأَيْتَ الجَامِعِينَ قَدْ أَصْبَحَتْ لَهُمْ بَيْنَ أَطْبَاقِ التُّرَابِ مَضَاجِعُ لَوْ أَنَّ ذَوِي الأَبْصَارِ يَرْعَوْنَ كُلَمَّا يَرَوْنَ لَمَا جَفَّتْ لِعَينٍ مَدَامِعُ طَغَى النَّاس مِنْ بَعْدِ النَّبِي مُحَمَّدٍ فَقَدْ دَرَسْتَ بَعَدْ النَّبِي الشَّرَائِعُ وَصَارَتْ بُطُونِ المُرْمِلاتِ خَمِيصَةً وَأَيْتَامُهَا مِنْهُمْ طَرِيدٌ وَجَائِعٌ وَإِنَّ بُطُونِ المُكْثِرِينَ كَأَنَّمَا يُنَقْنِقُ فِي أَجْوَافِهِنَّ الضَّفَادِعُ ... ›?

ج ... فَمَا يَعْرِفُ العَطْشَانَ مَنْ طَالَ رِيُّهُ وَلا يَعْرِفُ الشَّبْعَانُ مَنْ هُوَ جَائِعُ وَتَصْرِيفُ هَذَا الخَلْقِ للهِ وَحْدَهُ وَكُلٌّ إليه لا مَحَالَةَ رَاجِعُ وَللهِ فِي الدُّنْيَا أَعَاجِيبُ جَمَّةٌ تَدُلُّ عَلَى تَدْبِيرِهِ وَبَدَائِعُ وَللهِ أَسْرَارُ الأُمُورِ وَإِنْ جَرَتْ بَهَا ظَاهِرًا بَيْنَ العِبَادَ المَنَافِعُ وَللهِ أَحْكَامُ القَضَاءِ بِعِلْمِهِ أَلا فَهُوَ مُعْطٍ مَا يَشَاءُ وَمَانِعُ إِذَا ظَنَّ مَنْ تَرْجُو عَلَيْكَ بِنَفْعِهِ فَدَعْهُ فَإِنَّ الرِّزْقَ فِي الأَرْضَ وَاسِعُ وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا مُنَاهُ وَهَمُّهُ سَبَتْهُ المُنَى وَاسْتَعْبَدَتْهُ المَطَامِعُ وَمَنْ عَقَل اسْتَحْيَى وَأَكْرَمَ نَفْسَهُ وَمَنْ قَنِعَ اسْتَغْنَى فَهْلَ أَنْتَ قَانِعُ لِكُلِّ امْرِءٍ رَأْيَانِ رَأْيٌ يَكُفُّهُ عَنِ الشَّرِ أَحْيَانًا وَرَأْيٌ يُنَازِعُ ... ›? اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، نَسْأَلُكَ أَنْ تَكْفِينَا مَا أَهْمَّنَا وَمَا لا نَهْتَمُّ بِهِ، وَأَنْ تَرْزُقَنَا الاسْتَعْدَادِ لِمَا أَمَامَنَا، وَأَنْ تَغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ.

صريح القذف وما يترتب عليه ويحصل باللسان والإشارة

اللَّهُمَّ كَمَا صُنْتَ وُجُوهَنَا عَنِ السُّجُودِ لِغَيْرِكَ فَصُنْ وُجُوهَنَا عَنِ المَسْأَلَةِ لِغَيْرِكَ، اللَّهُمَّ مَنْ كَانَ عَلَى هَوَى وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ عَلَى حَقٍّ فَرُدَّهُ إِلَى الحَقِّ حَتَّى لا يَظِلُّ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ أَحَدٌ اللَّهُمَّ لا تَشْغَلْ قُلُوبَنَا بِمَا تَكَفَّلْتَ لَنَا بِهِ وِلا تَجْعَلْنَا فِي رِزْقِكِ خَوَلاً لِغَيْرِكِ وَلا تَمْنَعْنَا خَيْرَ مَا عِنْدَكَ بِشَرِّ مَا عِنْدَنَا، وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. (فَصْلٌ) وَصَرِيحُ القَذْفِ أَنْ يَقُولَ: يَا زَانِي، أَوْ يَقُولُ لَهُ: يَا لُوطِيّ، أَوْ يَا عَاهِرُ، أَوْ يَقُولُ لَهُ: إِنَّكَ قَدْ زَنَيْتَ، أَوْ زَنَى فَرْجُكَ، أَوْ يَا مَنْيُوكُ، أَوْ يَا وَلَدُ الزَّانِي، أَوْ يَا وَلَدَ الزَّانِيَةِ، فَفِي الأَوَّلِ قَذْفٌ لَهُ، وَفِي الأَخِيرَتَيْن قَذْفٌ لأَبِيهِ وأُمِّهِ، أَوْ يَقُولُ لابنتِهَا: يَا ابْنَةَ الزَّانِيَةِ وَكِنَايتُه أي القَذْفُ أَنْ يَقُولَ: يَا قَحْبَةُ، أَوْ يَا فَاجِرَةُ، أَوْ يِا خَبِيثَةُ فَفِي الصَّرِيحِ - إِذَا اجْتَمَعْتْ الشُّرْوطُ - يُحَدُّ ثَمَانِين وَفِي الكِنَايَةِ إِذَا فَسَّرَهَا بِذَلِكَ. وَالشُّرُوطُ المُعْتَبَرَةُ لإِقَامَةِ الحَدِّ (أَحَدُهُمَا) مُطَالَبَةُ المَقْذُوفِ لِلْقَاذِفِ بِحَقِّهِ وَاسْتِدَامَةِ الطَّلَبِ إِلَى إِقَامَةِ الحَدِّ، بِأَنْ لا يَعْفُو، (وَالثَّانِي) أَنْ لا يَأْتِي بِبِيِّنَةٍ عَلَى مَا قَذَفَهُ بِهِ لِمَفْهُومِ قَوْلهِ تَعَالَى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} وَالشَّّّّّّّرْطِ (الثَّالِثُ) أَنْ لا يُصَدِّقَهُ المَقْذُوف، فَإِنْ صَدَّقَهُ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ الحَدُّ لأنَّ تَصْدِيقَهُ لَهُ أَبَلَغُ مِنْ إِقَامَةِ البَيِّنَةِ وَيُشْتَرَطُ أَنْ لا يُلاعِنَ القَاذِفُ المَقْذُوفَ إِنْ كَانَ القَاذِفُ زَوْجًا، فَإِنْ لاعَنْ سَقَطْ عَنْهُ الحَدُّ وَيُعَزَّرُ بِقَوْلِهِ: يَا كَافِرُ، يَا مُنَافِقُ، يَا سَارِقُ، يَا فَاسِقُ، يَا فَاجِرُ، يَا حِمَارُ، يا تَيْسُ، يَا رَافِضِي، يَا عَدُوَّ اللهِ، يَا جَائِرُ، يَا شَارِبُ الخَمْرِ، يَا كَذَّابُ أَوْ كَاذِبٌ، أَوْ يَا ظَالِمُ، أَوْ يَا خَائِنُ، أَوْ يَا مُخَنَّثُ، أَوْ يَا قَوَّادُ، أَوْ دَيُّوثُ. وَالدَّيُّوثُ هُوَ الذِي يُقِرُّ الفَاحِشَةَ عَلَى أَهْلِهِ، وَالقَوَّادُ هُوَ السِّمْسَارُ فِي الزِّنَا وَبِاللُّغَةِ الشَّعْبِيَّةِ الجَرَّارُ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَاقِعُونُ فِي القَذْفِ الذِي فِي الحَقِيقَةِ عَلَيْهِمْ عُقُوبَتُهُ دُنْيًا وَأُخْرَى. وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكِ أَنَّ النَّاسَ لا يُقِيمُونَ لِهَذَا القَوْل وَزْنًا فَلِهَذَا لا يُسْمَعُ لِهَذَا الحَدِّ ذِكْرٌ وَلا لِلْمُطَالَبَةِ بِهِ، وَهَذَا غَلَطٌ، بَلْ يَنْبَغِي لِلإِنْسَانِ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى كَرَامَتِهِ، وَيُطَالِِبَ بِحَقِّهِ، لاسِيَّمَا وَفِي المطَالَبَةِ فِي مِثْلِ حَدِّ

من الاخرص ويلي ذلك شروط الكلام لمن أراد السلامة من الزلل غالبا

القَذْفِ ردْعٌ لِهَؤُلاءِ المُطْلِقِينَ لأَلْسِنَتِهِم العِنَانُ فِي الفُحْشِ وَالسَّبِّ وَنَشْرِ هَذِهِ الأَخْلاقِ السَّيِّئَةِ التِي تَضُرُّهُم وَتَضُرُّ غَيْرَهُم فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بالْكَلَمَةِ مَا يَتَبَيَّنَ فِيهَا، يَزِلُّ بِهَا فِي النَّار أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْربِ» . وَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بنُ جَبَلُ: يَا رَسُولَ اللهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّار عَلَى وُجُوهُهُم إِلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» . وفي الحديث: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليوم الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» . وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} وَقَالَ عُقْبَةُ بنُ عَامِرٍ: مَا النَّجَاةُ يَا رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلِيَسَعُكَ بَيْتُكَ وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكِ» . «وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ إِلَى اللهِ القَلْبُ القَاسِي» . إِذَا فَهِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ لِلْكَلامِ شُرُوطًا لا يَسْلَمُ المُتكلّمُ مِنْ الزَّلَلِ إِلا إِذَا عَمِلَ بِهَا بِإِذْنِ اللهِ، وَلا يَعْرَى مِنَ النَّقْصِ إِلا بَعْدَ أَنْ يَسْتَوْفِيهَا بِإِذْنِ اللهِ ذَكَرَهَا العُلَمَاءُ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ. الشَّرْطٌ الأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الكَلامُ لِدَاعٍ يَدْعُو إليه أَمَّا الذِي لا دِاعِيَ لَهُ مِنْ جَلْبِ نَفْعِ أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ فَتَرْكُهُ أَوْلَى. وَالشَّرْطُ (الثَّانِي) : أَنْ يَأْتِي بِهِ فِي مَوْضِعِهِ، وَيَتَوَخَّى بِهِ إِصَابَةَ فُرْصَتِهِ، بِأَنْ يَتَرَقَّبَهَا وَيَتَحَرَّاهَا. وَالشَّرْطُ (الثَّالِثُ) : أَنْ يَقْتَصِرَ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ الحَاجَةِ. وَالشَّرْطُ (الرَّابِعُ) : أَنْ يَتَخَيَّرَ اللَّفْظَ الذِي يَتَكَلَّمِ بِهِ، فَأَمَّا الذِي لا دَاعِيَ لَهُ مِنْ جَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضَرِرٍ هَذَيَانٌ، وَمَا لا سَبَبَ لَهُ هَجْرٌ، وَمَنْ سَامَحَ نَفْسَهُ فِي الكَلامِ إِذَا عَرَضَ لَهُ وَهَبَّ فِي خَاطِرِهِ، وَلَمْ يُرَاعِ صِحَّةَ دَوَاعِيهِ، وَإِصَابِةِ مَعَانِيهِ، كَانَ قَوْلُهُ مَرْذُولاً، وَرَأْيُهُ مَعْلُولاً، كَمَا حُكِيَ أَنَّ

شَابًا كَانَ يُجَالِسُ الأَحْنَفَ وَيُطِيلُ الصَّمْتَ، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ الأَحْنَفُ، فَخَلَتِ الحَلَقَةُ يَوْمًا مِنَ المُتَكلمِين، فَقَالَ الأَحْنَفُ: تَكَلَّمْ يَا ابْنَ أَخِي، فَقَالَ: يَا عَمِّ لَوْ أَنَّ رَجُلاً سَقَطَ مِنْ شَرفِ هَذَا المَسْجِدِ يَضُرُّهُ شَيْءٍ؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي لَيْتَنَا تَرَكْنَاكَ مَسْتُورًا. ثُمَّ تَمَثَّلَ الأَحْنَفُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: ... وَكَائِنْ تَرَى مِنْ صَامِتٍ لَكَ مُعْجِبًا ... ???? ... زَيَادَتُهُ أَوْ نَقْصُهُ فِي التَّكَلُّمِ ... ???? ... لِسَانُ الفَتَى نِصْفٌ وَنِصْفُ فُؤَادُهُ ... ???? ... فَلَمْ يَبْقَ إِلا صُورَةُ اللَّحْمِ وَالدَّمِ ... ›? ... ???? فَلِسَانُ العَاقِلُ مِنْ وَرَاءِ قَلْبِهِ، فَإِذَا أَرَادَ الكَلامَ رَجَعَ إِلَى قَلْبِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينًا أَوْ دُنْيَا تَكَلَّمَ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ كَالقَذْفِ وَالكَذِبِ وَالنَّمِيمَةِ أَمْسَكَ فَلا يُخْرِجُهُ، وَقَلْبُ الجَاهِل مِنْ وَرَاءِ لِسَانِهِ، يَتَكَلَّمُ بِكُلِّ مَا عَرَضَ لَهُ، فَالعَاقِلُ يَتَفَكَّرُ وَيَزنُ كَلامَهُ ثُمَّ يَتَكَلَّمُ بِمَا يَرَى أَنَّ فِيهِ لَهُ مَصْلَحَةً، وَلا مَضَرَّةَ فَيهِ عَلَيْهِ. وَقَالَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ: مَنْ لَمْ يَعُدَّ كَلامَهُ مِنْ عَمَلِهِ كَثُرَتْ خَطَايَاهُ. وَقَالَ بَعْضُ البُلَغَاءِ: احْبِسْ لِسَانَكَ قَبْلَ أَنْ يَحْبِسَكَ أَوْ يُتْلِفَ نَفْسَكَ. وَقَالَ النَّبيّ ? لِمُعَاذ: «وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» وَقَالَ بَعْضُهُم: مَنْ كَثُرَ كَلامُهُ كَثُرَتْ آثَامُهُ. فَعَلَيْكَ بِطَرِيقِ السَّلفِ الذِينَ عَمَّرُوا أَوْقَاتَهُمِ بِتَقْوَى اللهِ. ... قُلوُبٌ بِتَقْوَى اللهِ وَالذكر تَعْمُر ... وَأَوْجُهُهُمْ بِالقُرب والبِشْرِ تَزْهُرُ يُنَاجُونَ مَوْلاهُمْ بِفَرْطِ تَضَرُّعٍ ... وَأَدْمُعُهُمْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ تَقْطُرُ آخر: ... صَلَّى الإِلَهُ عَلَى قَوْمٍ شَهدتهُم كَانُوا إِذَا ذَكَرُوا أَوْ ذُكِّرُوا شَهِقُوا ... ›?

موعظة في الحث على حفظ الوقت في الباقيات الصالحات

.. كَانُوا إِذَا ذَكَرُوا نَارَ الْجَحِيمَ بَكَوْا وَإِنْ تَلا بَعْضُهُمْ تَخْوِيفَهَا صَعِقُوا مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ مِن الشَّيطَانِ يَأْخُذُهُمْ عِنْدَ التِّلاوَةِ إِلا الْخَوْفُ وَالشَّفَقُ صَرْعَى مِن الْحُزْنِ قَدْ سَجَّوْا ثَيَابَهُمُ بَقِيَّةُ الرُّوحِ فِي أَوْدَاجِهِمْ رَمَقُ حَتَّى تَخَالَهُمُ لَوْ كُنْتَ شَاهِدَهُمْ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَالاشْفَاقِ قَدْ زَهَقُوا صَانُوا الْعُيُونَ عَنْ الْعَوْرَاتِ جُهْدَهُمُ وَفِي لُحُومِ الْوَرَى وَالْكِذْبِ مَا نَطَقُوا ... ›? اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتِكَ فِي قُلُوبِنَا ثُبُوتَ الْجِبَال الرَّاسِيَاتِ وَوَفِّقْنَا لِلْعَمَلِ بِالْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ وَاعْصِمْنَا مِنْ الذُّنُوبِ الْمُوبِقَاتِ وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ تَتَلَقَّاهُم الْمَلائِكَةُ بِالْبَشَارَاتِ وَمَتِّعْنَا بِالنَّظَرِ إِلى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِِ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وَسَلَّمَ. مَوْعِظَةٌ عِبَادَ اللهِ لَقَدْ ضَاعَتْ أَعْمَارَنَا فِي الْقِيلِ وَالْقَالِ، وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ، وَالْمَدَاهَنَةِ، وَالانْهِمَاكِ فِي الدُّنْيَا، إِلى أَنْ اسْتَلْحَقَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ جُزْءًا مِنْ اللَّيْلِ مُضَافًا إِلى النَّهَارِ، وَكَأَنَّنَا لَمْ نُخْلقَ ْإِلا لِهَذِهِ الأَعْمَالِ، أَفَلا نَسْتَيْقِظُ مِنْ غَفْلَتِنَا، وَنَحْفَظُ أَلْسِنَتِنَا عَنْ نَهْشِ أَعْرَاضِ الْغَوَافِلِ، وَالطَّعْنِ فِي الأَحْسَابِ وَالأَنْسَابِ، وَنَصْرِفَ جَلَّ الأَوْقَاتِ إِلى الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، الَّتِي هِيَ خَيْرٌ عِنْدَ رَبَّنَا ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدّا، وَنَذْكُرَ

مَوْلانَا الذِي فَضْلُهُ عَلَيْنَا مِدْرَارٌ، فَإِنَّ الذِّكْرَ عَاقِبَتُهُ الْجَنَّةُ دَارُ الْكَرَامَةِ وَالْقَرَارِ، مَعَ رِضَى رَبَّنَا الذِي دُونَهُ كُلُّ ثَوَابٍ، تَاللهِ لَوْ عَرَفْتُمْ قِيمَةِ النَّصِيحَةِ لَبَادَرْتُمْ إِلى الْعَمَلِ بِهَا كُلَّ الْبَدَارِ، فَإِنَّكَ وَأَنْتَ تَذْكُرُ اللهَ أَفْضَلَ مِمَّنْ يُفَرِّقُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةِ وَسَائِرَ الأَمْوَالِ، وَأَفْضَلُ مِنْ أَنْ تُجَاهِدَ الْعَدُوّ فَيَضْرِبَ عُنُقَكَ أَوْ تَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتَكُونَ مِنْ الشُّهَدَاءِ الأَبْرَارِ، كَيْفَ لا وَالذِّكْرُ خَيْرُ الأَعْمَالِ وَأَزْكَاهَا، وَأَرْفَعَهَا لِلدَّرَجَاتِ عِنْدَ مَوْلانَا الْوَهَّابُ حَسْبُ الذَّاكِرِ: أَنْ تَحُفَّهُ الْمَلائِكَةُ، وَتَنْزِلُ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ، وَتَغْشَاهُ الرَّحَمَاتُ، وَمَنْ فِي الْوُجُودِ مِثْلُ الذَّاكِرُ، وَهُوَ وَقْتُ ذِكْرِهِ للهِ يَذْكُرُهُ بَارِئُ الْكَائِنَاتِ، وَمَنْ مِثْلُهُ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ بِالذِّكْرِ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ، يَحْفَظَهُ مِنَ الشَّيْطَانِ وَوَسَاوِسَهِ الْفَاتِنَاتِ، وَمَنْزِلَةُ الذَّاكِرِ بَيْنَ الْغَافِلِينَ كَمَنْزِلَةِ الْحَيِّ بَيْنَ الْمَيِّتِينَ، وَذِكْر اللهِ يُنِيرُ الْقَلْبَ، وَيُوقِظَهُ وَيُحْيِيهِ، وَيُزِيلُ رَانَهُ وَيَهْدِيهِ إِلى الْحَقِّ. شِعْرًا: ... وَإِنَّ أَحْسَنَ قَوْلٍ أَنْتَ سَامِعُهُ ... قَوْلٌ تَضَمَّنَ تَوْحِيدَ الذِي خَلَقَا آخر: ... لا يُدْرِكَ الْمَجْدَ إِلا مُخْلِصٌ فَطِنٌ ... يُرْضِي الإِلهَ بِإتْقَانِ الْعِبَادَاتِ آخر: ... لا يُدْرِكَ الْمَجْدَ إِلا مُخْلِصٌ فَطِنٌ ... يُرْضِي الإِلهَ بِإتْقَانِ الْعِبَادَاتِ آخر: ... رَجَاءُ إِلهِ الْخَلْقِ عِنْدِي ذَخِيرَةٌ ... وَلِشِدَّةِ الْعُظْمَى تُعَدُّ الذَّاخَائِرُ عَلَيْكَ بِذِكْرِ اللهِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ ... فَمَا خَابَ عَبْدٌ لِلْمُهَيْمِنِ يَذْكُرُ وَصَلَّى عَلَى خَيْرِ الأَنَامِ مُحَمَّدٍ ... وَأَصْحَابِهِ وَالآلِ مَا دُمْتَ تَقْدِرُ شِعْرًا: ... والذِّكرُ فيه حَيَاةٌ لِلقُلُوبِ كَمَا ... تَحْيَا الْبِلادَ إِذَا مَا جَاءَهَا الْمَطَرُ وَقَالَ الآخر: وَخَيْرُ مَقَامٍ قُمْتَ فِيهِ وَخَصْلَةٍ ... تَحَلَّيْتَها ذِكْرُ الإِلَهِ بِمَسْجِدِ آخر: (أَحِنُّ اشْتِيَاقًا لِلْمَسَاجِدِ لا إِلى) ... قُصُورٍ وَفُرْشٍ بِالطِّرَازِ مُوَشَّحُ

وَأَمْنَحُ وُدِّي لِلْمَسَاكِينِ صَافِيًا أُجَالِسُهُمْ وَالْهَجْرَ لِلْغَيْرِ أَمْنَحُ فَفِي ذُلِّ نَفْسِي عِزُّهَا وَبِمَوْتِهَا حَيَاةٌ لأَجَلِ الْغَالِي بِالدُّونِ أَسْمِحُ (لَنَا بِاعْتِزَالٍ لَذَّ فِي جَانِبَ الْهَوَى مُجَاوَرَةُ الأَسْفَارِ لِلصَّدْرِ تَشْرَحُ) (فَإِنْ شِئْتَ تَفْسِيرًا مُرَادَ مُحَقِّقٍ وَإِنْ شِئْتَ تَوْحِيدًا بِهِ الْمَرْءُ يُفْلِحُ) (وَإِنْ رَمُتَ كُتبًا لِلْحَدِيثِ وَشَرْحِهِ وَجَدَتَ وَلَمْ يَعْدُوكَ أُنْسٌ وَمَرْبَحُ) (وَإِنْ رُمْتَ آدَابًا وَتَارِيخَ مَنْ مَضَى وَجَدْتَ وَفَاتَ الْوَقْتُ وَالْفِكْرُ يَسْرَحُ (وَإِنْ رُمْتَ كُتبَ الْفِقْهِ أَوْ كُتبَ أَصْلِهِ تَنَاوَلْتَ أَحْكَامًا بِهَا الْقَلْبُ يَفْرَحُ) وَتَسْلَمُ مِنْ قِيلٍ وَقَالَ وَمِنْ أَذَى جَلِيسٍ وَمِنْ وَاشٍ يَنِمُ وَيَجْرَحُ ... ›? اللَّهُمَّ أَيْقظَ قُلُوبَنَا وَنَوِّرْهَا بِنُورِ الإِيمَان وَثَبَّتْ فِيهَا مَحَبَّتكَ ثُبُوتَ الِجبَالِ الرَّاسِياتِ وَوَفّقْنَا لِلْعَمَلِ بِالْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ وَجَنِّبْنَا جَمِيعَ الْمُوبِقَاتِ وَلا تُزِغْ قُلُوبِنَاَ بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَهَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ، اللَّهُمَّ افْتَحْ لِدُعَائِنَا بَابَ الْقَبُولِ وَالإِجَابَةِ اللَّهُمَّ صلى عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وَسَلَّمَ. اللَّهُمَّ اعْطِنَا مِنْ الْخَيْرِ فَوْقَ مَا نَرْجُو وَاصْرِفْ عَنَّا مِنْ السُّوءِ فَوْقَ مَا نَحْذَر. اللَّهُمَّ عَلِّقْ قُلُوبَنَا بِرَجَائِكَ وَاقْطَعْ رَجَاءَنَا عَمَّنْ سِوَاكَ. اللَّهُمَّ إِنَّكَ

فصل في ذكر علامات الساعة وانها ثلاثة أقسام

تَعْلَمُ عُيُوبَنَا فَاسْتُرْهَا وَتَعْلَمَ حَاجَاتِنَا فَاقْضِهَا كَفَى بِكَ وَلِيًّا وَكَفَى بِكَ نَصِيرًا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِسُلُوكِ سَبِيلِ عِبَادِكَ الأَخْيَارِ، وَاغْفِرْ لَنَا. (فَصْلٌ) : عِبَادَ اللهِ لَقَدْ أَخْبَرَ رَبُّنَا جَلَّ وَعَلا أَنَّ حَيَاةً أُخْرَى نُجَازَى فِيهَا عَلَى مَا كَانَ مِنْ أَعْمَالٍ، وَلا شَكَّ فِي تِلْكَ الْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ، لأَنَّ اللهَ تَعَالى أَخْبَرَ بِهَا فِي كِتَابِهِ، وَأَخْبَرَ بِهَا جَمِيعُ الرُّسُلِ، وَأَخْبَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَلامَاتٍ دَالَّةٍ عَلَى إقْتِرَابِهَا، يَزْدَادُ بِهَا إِيمَانًا ذُو الْقَلْبِ السَّلِيمِ، وَهَذِهِ الْعَلامَاتُ تَنْقَسِمُ إِلى ثَلاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ ظَهَرَ وَانْقَضَى، وَهِيَ الأَمَارَاتِ الْبَعِيدَةِ، وَقِسْمٌ ظَهَرَ وَلَمْ يَنْقَضِ، بَلْ لا يَزَالُ فِي ازْدِيَادٍ حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْغَايَةَ ظَهَرَ، وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهِيَ الأَمَارَاتُ الْقَرِيبَةُ الْكَبِيرَةُ الَّتِي تَعْقِبُهَا السَّاعَةُ، فَإِنَّهَا تَتَابَعُ كَنِظَامِ خَرَزَاتٍ انْقَطَعَ سِلْكُهَا. فَالأُولَى الَّتِي ظَهَرَتْ وَمَضَتْ، مِنْهَا: بِعَثَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَوْتُهُ، وَفَتْحُ الْمَقْدِسِ، وَقتْلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَمِنْهَا وَقْعَةُ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ، فَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لا تَقُومُ السَّاعَةِ حَتَّى تَقْتَتِلُ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ، يَكُونُ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ، دَعْوَاهَا وَاحِدَةٌ» . وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَسَيُصْلِحُ اللهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» . وَمِنْهَا: مُلْكُ بَنِي أُمَيَّةَ، وَمَا جَرَى عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ فِي أَيَّامِهِمْ مِنْ الأَذِيَّةِ، كَقَتْلِ الْحُسَيْنِ، وَرَمْي الْكَعْبَةِ بِالْمَنْجَنِيقِ، وَنَارُ الْحِجَازِ الَّتِي أَضَاءَتْ لَهَا أَعْنَاقُ الإِبِلِ بِبُصْرَى، وَمِنْهَا خُرُوجُ كَذَّابِيْنَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَدَّعِي أَنَّهُ نَبِيّ، وَمِنْهَا كُثْرَةُ الْمَالِ، وَكَثْرَةُ الزَّلازِلْ. الثَّانِيَةُ: الْعَلامَاتُ الْمُتَوَسِّطَةِ، مِنْهَا: قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَقُومُ السَّاعَةِ حَتَّى يَكُونُ أَسْعَدُ النَّاسِ بِالدُّنْيَا لُكَعَ بن لُكَع» . وَاللكَعُ الْعَبْدُ

الأَحْمَقُ وَاللئِيمُ، وَالْمَعْنَى: لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ اللئَامُ وَالْحَمْقَى وَنَحْوَهُمْ رُؤَسَاءُ النَّاسِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَنْ أَنَسٍ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عُبَّادٌ وَجُهَّالٌ وَقُرَّاءٌ فَسَقَةٌ» . وَفِي لَفْظٍ: «فُسَّاقٌ» . رَوَاهُ أَبُو نَعِيمٍ، وَالْحَاكِمُ عَنْ أَنَسٍ. وَمِنْهَا: أَنْ يُرَى الْهِلالُ سَاعَةَ يَطْلُعُ، فَيُقَالُ: لِلَيْلَتَيْنِ لِكِبَرِهِ، رَوَى مَعْنَاهُ الطَّبَرَانِي عَنْ ابن مَسْعُودٍ، وَفِي لَفْظٍ: «مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ انْتِفَاخُ الأَهِلَّةِ» . أَي: عِظَمُهَا. وَمِنْهَا انْحِسَارُ الْفُرَاتِ عَنْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بن الْحَارِثِ بن نَوْفَلَ قَالَ: كُنْتُ وَاقِفًا مَعَ أُبِّيِ بِنْ كَُعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ: لا يَزَالُ النَّاسُ مُخْتَلِفَةٌ أَعْنَاقُهُمْ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا. قُلْتُ: أَجَلْ، قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يُوشِكُ الْفُرَاتُ أَنْ يَحْسِرَ عَنْ جَبَلِ مِنْ ذَهَبٍ، فَإِذَا سَمِعَ بِهِ النَّاسُ سَارُوا إليه، فَيَقُولُ مَنْ عِنْدَهُ: لَئِنْ تَرَكَنَا النَّاسُ يَأْخُذُونَ مِنْهُ لَيُذْهَبَنَّ بِهِ كُلَّهُ» . قَالَ: «فَيَقْتَتِلُونَ عَلَيْهِ، فَيُقْتَلُ مِنْ كُلِّ مَائَةٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَمِنْهَا مَا فِي حَدِيثِ ابن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ تَسْلِيمُ الْخَاصَّةِ، وَفُشُوّ التِّجَارَةِ، حَتَّى تُعِينَ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا عَلَى التِّجَارَةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيّ. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ السَّلامُ عَلَى الْمَعْرِفَةِ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِي، وَعَنْ حُذَيْفَة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ مُشَارَكَةُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِي التِّجَارَةِ، وَالتَّسْلِيمُ لِلْمَعْرِفَةِ» . أَخْرَجَهُ أَبُو نَعِيمٍ، وَعَنْ ابنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ

من علامات الساعة المتوسطة فشو التجارة وإعانة المرأة زوجها في التجارة وأشياء أخرى وبعد ذلك قصيدة

وَسَلَّمَ: «إِنَّّّّّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُسَلِّمَ الرَّجُلَ عَلَى الرَّجُلِ لا يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِلا لِلْمَعْرِفَةِ» . رَوَاهُ أَحَمْدَ. وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ بَيْنَ يَدَي السَّاعَةِ تَسْلِيمُ الخَاصَّةِ، وَفُشُوِّ التِّجَارَةِ، حَتَّى تُعْينُ المَرْأَةُ زَوْجَهَا عَلَى التِّجَارَةِ، وَشِهَادَةُ الزُّورِ، وَظُهُورِ القَلْمِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَمِنْهَا مَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا رَأَيْتُمْ الصَّدَقَةَ كُتِمَتْ وَغُلَّتْ، وَاسْتُؤْجِرَ عَلَى الغَزْوِ، وَأخْرِبَ العَامِرُ، وَعُمِرَ الخَرَابُ، وَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَتَمَرَّسُ بِأَمَانَتِهِ فَإِنَّكَ وَالسَّاعَةُ هَاتَيْنِ» . رَوَاهُ الطَبَرَانِي. وَعَنِ ابنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَكتنى المَسَاجِدَ، وَيُعْمَرَ خَرَابٌ، وَيُخَرَّبَ عُمْرَانٌ» . الحَدِيثُ رَوَاهُ الطَبَرَانِي، وَعَنْ عَلِيّ بنِ أَبِي طَالِب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ سُوءُ الجِوَارِ، وَأَنْ تَجْلِبُ الدُّنْيَا بِالدِّينِ، وَالتَّعْلِيمَ لِغَيْرِ اللهِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدُ، وَالحَاكِمُ. وَمِنْهَا تَقْلِيدُ الأَجَانِبِ، وَقَدْ وَقَعَ، حَتَّى أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ تَرَكُوا الدِّينَ، وَلاسِيَّمَا بَعْضُ المُتَدَيِّنِينَ، وَرَأَوْا التَّقَدُّمَ فِي تَقْلِيدِ الكَفَرَةِ، وَرَبَائِبَ الكَفَرَةِ وَمِنْهَا لَعْنُ آخِرِ هَذِهِ الأُمَّةِ أَوَّلَهَا، وَقَدْ حَصَلَ، وَمِنْهَا اتِّخَاذُ المَسَاجِدِ طُرُقًا، وَمِنْهَا مَا قَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا وَهُوَ مَرْفُوعٌ إِلَى النَّبِيَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُكْمًا أَنَّهُ قَالَ: «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَبِسَتْكُمْ فِتْنَةٌ، يَهْرَمُ فِيهَا الكَبِيرُ وَيَرْبُو فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً، إِذَا تُرِكَ مِنْهَا شَيْءٌ قِيلَ تُرِكَتْ السُّنَّةُ» قَالُوا: وَمَتَى ذَاكَ؟ قَالَ: «إِذَا ذَهَبَتْ عُلَمَاؤُكُمْ، وَكَثُرَتْ قُرَّاؤُكُمْ، وَقَلَّتْ فُقَهَاؤُكُم، وَكَثُرَتْ أُمَرَاؤُكُمْ وَقَلَّتْ أُمَنَاؤُكُم، وَالتُمِسَتْ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ، وَتُفُقِّهِ لِغيْرِ الدِّينِ» .

قُلْتُ: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ اليوم يَتَعَلَّمُونَ لأجْلِ الحُصُولَ عَلَى شَهَادَةَ المَاجِسْتِير أَو الدكتوراه أو البكاريُوس أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لا لأجْلِ إِزَالَةِ الجهل عن نفسِهِ وَنَفْع المسلمين بِتَعْلِيمهم بل لأجلِ الدُّنْيَا فَهْوَ تَعَلُّمٌ لِغَيْرِ الدِّينَ نسأل الله العافية وهؤلاء يَنْطَبِقُ عليهم قول الشاعر: ... هَوِّنْ عَلَيْكَ فَمَا تَعْدُ شَهَادَتُهُمْ ... جَوَازَ سَفْرٍ إِلَى نَيْلِ الوُرَيْقَاتِ فَهَذَا الحَدِيثُ عَلَمٌ مِنْ أَعْلامِ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِدْقِ رِسَالَتِهِ، فَإِنَّ كُلَّ فَقَرَةٍ مِنْ فَقَرَاتِهِ قَدْ تَحَقَّقَتْ فِي العَصْرِ الحَاضِرِ عَصْرُ المَلاهِي وَالمُنْكَرَاتِ وَالفِتَنِ وَالشُّرُورِ، وَالسُّفُورِ والتلفزيون والفِيديُواتِ وَالمذَايِيعِ وَالكُراتِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا أَلْهَى وَأَشْغَلَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ. شِعْرًا: ... يَا مَنْ بِدُنيَاهُ اِشتَغَلْ قَدْ غَرَّهُ طُولُ الأَمَلْ المَوْتُ يَأْتِي بَغتَةً وَالصَّدْرُ صُنْدُوقُ العَمَلْ ... ›? قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلا: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} . وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن سُلَيْمَانَ مَوْقُوفًا، وَالحَسَنُ بنُ سُفْيَانَ، وَابْنُ عَسَاكِرَ مَرْفُوعًا: «إِذَا ظَهَرَ القَوْلُ، وَخُزِنَ العَمَلُ، وَائْتلَفَتْ الأَلْسُنُ، وَاخْتَلَفَتْ القُلُوبُ، وَقَطَعَ كُلُّ ذِي رَحِم رَحِمَهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ لَعَنَهُمْ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ» . وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالحَاكِمُ، وَابْنُ مَاجَة عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

مَرْفُوعًا: «إِذَا كَانَتْ الفَاحِشَةُ فِي كِبَارِكُم، وَالمُلْكُ في صِغَارِكُمْ، وَالعِلْمُ في مُرَادِكُمْ، وَالمُدَاهَنَةَ فِي خِيَارِكُمْ» ، يَعْنِي فَتَقْرُبُ إِقَامَةُ السَّاعِةِ. وَمِنْهَا مَا فِي صَحِيحِ البُخَارِي وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَلا أُحَدِّثَكُمْ بِحَدِيثٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يحدثكم به أحد غيري؟ سمعت رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أنَ ْيُرْفَعَ العِلْمُ، وَيَكْثُرُ الجَهْلُ، وَيَكْثُر الزِّنَا، وَيَكْثُرُ شُرْبُ الخَمْرِ، وَيَقِلُّ الرِّجَالُ، وَيَكْثُرُ النِّسَاءُ، حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً القَيِّمُ الوَاحِدُ» وَمِنْ أَمَارَاتِهَا تَضْيِيعُ الأَمَانَةِ، وَإِضَاعَتُهَا تَوْسِيدُ الأَمْرِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، وَمِنْهَا فُشُوِّ الرِّبَا وَقَدْ عَمَّ. وَقَالَ أَحَدُ العلماء رحمه الله تعالى في معرض كلام له: وَإِنْ تَشَوَّفْتُمْ إِلَى سَمِاع الأَعْذَار، وَتَشَوَّقْتُمْ إِلَى جِمَاع الأَمْرِ الذِي هُوَ سَبَبٌ لِقَوْلِي حَذَارِ حَذَارِ، فَأَلْقُوا السَّمْعَ لِمَا أَقُولُ وَتَدَبَّرُوا مَا أَوْرَدْتُهُ مِنْ الشَّوَاهِد وَالنُّقُول، أليس هَذَا زَمَانُ الصَّبْر، الصَّابِرُ فِيهِ كَقَارِضٍ عَلَى الجَمْرِ، رَأَيْنَا فِيهِ مَا أَنْذَرَ بِهِ الرسول ? وَصَحَّت به الأَحَادِيثُ وَالنُّقُولُ لِكُلِّ سَؤُول، آياتٍ وَعَلاماتٍ مَا كَانَتْ تَقَعُ فِيمَا مَضَى مِنَامَاتٍ، وَيَوَدُّ كُلٌّ أَنَّهُ عَنْدَ المُنَى مَاتَ، وَقَدْ أَمَرَ النَّبِي ? بِأَنْ يَلْزَمَ العَالِمُ عِنْدَهَا خَاصَّةَ نَفْسِهِ وَيَدَعِ العَوَامْ، مِنْ ذَلِكَ الشُّحُّ المُطَاعُ وَدُنْيًا مُؤْثَرَةْ، وَهَوَى لَهُ ذُو اتِّبََاع، وَإِعْجَابُ كُلُّ ذِي رَأْي بِرَأْيِهِ وَذَلِكَ عَيْنِ الابتداع، قَدْ مَرَجَتِ الأَمَانَاتُ وَالعُهُود، وَكَثُرَ القَائِلُونَ بِالزُّورِ وَالشُّهُود، وَجَمَّ الاخْتِلافُ، وَقَلَّ الائْتِلافُ، وَكُذِّبِ الصَّادِقُ، وَصَدَقَ الكَاذِبُ، وَخُوِّنَ الأَمِينُ، وَائْتُمِنَ الخَائِنُ، وَنَطَقَ الرُّوَيْبِضَةَ، وتكلم الرجُل التافِهُ في أَمْرِ العَامَّةْ، وَتَعَلَّمَ المُتَعَلَّمُ لِغَيْرِ العَمَل، وَكَانَ التَّفَقُهُ لِلدُّنْيَا وَلَيْسَ لَهُ فِي الآخِرَةِ أَمَل، وَأُهِينَ الكَبِيرُ، وَقَدِّمَ الصَّغِير، وَرُفِعَتِ الأَشْرَارُ،

وَوُضِعَتِ الأَخْيَار فلا يُتْبَعُ العليم، ولا يُسْتَحَى مِنَ الحليم، واتُّخِذَتِ البدعة سُنَّة فلا يُغَيِّرها مَنْ مَرَّ، وَصَارَ الموت إلى العلماء أَحَبُّ مِنَ الذَّهَبِ الأَحْمَر، وَاسْتَعْلَى الجُهَالُ عَلَى العُلماء، وقَهَرَ السُّفَهَاءُ الحُلماءُ، وَوُلِيَ الدِّينُ غَيْرَ أَهْلِهِ، وَظَهَرَ الفُحْشُ مِنْ كُلِّ جَاهِلٍ عَلِى قَدْرِ جَهْلِهِ. انْتَهِى. ... الله أكْبَرَ فِي الدِّفَاعِ سَأَبْتَدِي ... وَهُوَ المُعِينُ عَلَى نَجَاحِ المَقْصَدِ وَهُوَ الذِي نَصَرَ النَّبِيَّ مُحَمَّدًا ... وَسَيَنْصُرُ المُتَّبِعِينَ لأَحْمَدَ وَبِهِ أَصُولُ عَلَى جَمِيعِ خُصُومِنَا ... وَأَعُدُّهُ عَوْنًا عَلَى مَنْ يَعْتَدِي سَأَسُلُّ سَهْمًا فِي كِنَانِةِ وَحْيِهِ ... وَبِهِ أَشُدُّ عَلَى كَتائبِ حُسَّدِي وَبِهِ سَأَجْدَعُ أَنْفَ كُلِّ مُكَابِرٍ ... وَبِهِ سَأَرْصُدُ لِلْكَفُورِ المُلْحِدِ وَسَأَسْتَجِيرُ بِذِي الجَلالِ وَذِي العُلا ... فَلَنْ أُضَامَ إِذَا اسْتَجَرْتُ بِسَيِّدِي وَسَأَسْتمِدُّ العَوْنَ مِنْهُ عَلَى الذِي ... لَمَزَ الأَحِبَّةَ بِالكَلامِ المُفْسِدِ حَتَّى أُشّتِّتَ شَمْلَهُمْ بِأَدِلَّةٍ ... مِثْلَ الصَّوَاعِقِ فِي السَّحِابِ الأَسْوَدِ وَبِنُورِ وَحْي الله أَكْشِفُ جَهْلَهُمْ ... حَتَّى يُبَيِّنَ عَلَى رُؤُوسِ المَشْهَدِ لا تَلْمِزُونَا يَا خَفَافِيشَ الدُّجَا ... بِتَطَرُّفٍ وَتَسَرُّعٍ وَتَشَدُّدِ لا تَقْذِفُونَا بِالشُّذُوذِ فَإِنَّنَا ... سِرْنَا عَلَى نَهْجِِ النَّبِيِّ مُحَمَّدِ وَلِكُلِّ قَوْل نَسْتَدِلُّ بِآيَةٍ ... أَوْ بِالحَدِيثِ المُسْتَقِيمِ المُسْنَدِ وَالنَّسْخَ نَعْرِفُ وَالعُمُومَ وَأَنَّنَا ... مُتَفَطِّنُونَ لِمُطْلَقٍ وَمُقَيَّدِ وَنُصُوصُ وَحْي اللهِ نُتْقِنُ فَهْمَهَا ... لا تَحْسِبُونَ الفَهْمَ كَالرأْي الرَّدِي وَإِذَا تَعَارَضَتِ النُّصُوصُ فَإِنَّنَا ... بِأُصُولِ سَادَتِنَا الأئمةِ نَهْتَدِي وَنُحَارِبُ التَّقْلِيدَ طُولَ زَمَانِنَا ... مَعُ حُبِّنَا لِلْعَالِمِ المُتَجَرَّدِ وَكَذَا الأَئِمَّةُ حُبُّهُم مُتَمَكَّنٌ ... مِنْ كُلِّ نَفْسٍ يَا بَرِيَّةُ فَاشْهَدِي وَتَرِقُّ أَنْفُسُنَا لِرُؤْيَةِ مَنْ غَدَا ... فِي رِبْقَةِ التَّقْلِيدِ شِبْهَ مُقَيَّدِ

ج إِنَّا نَرِى التَّقْلِيدَ دَاءً قَاتِلاً ... حَجَبَ العُقُولَ عَنِ الطَّرِيقِ الأَرْشَدِ جَعَلَ الطَّرِيقَ عَلَى المُقَلِّدَ حَالِكًا ... فَتَرَى المُقَلَّدَ تِائِهًا لا يَهْتَدِي فَلِذَا بَدَأْنَا فِي اجْتِثَاثِ جُذُورِهِ ... مِنْ كُلِّ قَلْبٍ خَائِفٍ مُتَرَدِّدِ وَلَسَوْفَ نَدْمُلُ دَاءَهُ وَجِرَاحَهُ ... بِمَرِاهِمِ الوَحْيِ الشَّرِيفِ المُرْشِدِ نَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ طُولَ حَيَاتِنَا ... فِي كُلِّ حِينٍ فِي الخَفَا وَالمَشْهَدِ وَنُحَارِبُ الشِّرْكِ الخَبِيثَ وَأَهْلَهُ ... حَرْبًا ضَرُوسًا بِاللَّسِانِ وَبِاليدِ وَكَذَلِكَ البِدَعُ الخَبِيثَةُ كُلَّهَا ... نَقْضِي عَلَيْهَا دونَ بَابِ المَسْجِدِ هَذِي طَرِيقَتُنَا وَهَذَا نَهْجُنَا ... فَعَلامَ أَنْتُمْ دُونَنَا بِالمَرْصَدِ لِمَا تَطْعَنُونَا وَتَلْمِزُونَا كَأَنَّنَا ... جِئْنَا بِرَأْيٍ لِلْعَقِيدَةِ مُفْسِدِ أَلِمَذْهَبٍ وَلِعَادَةٍ وَحُكُومَةٍ ... تَتَهَرَّبُونُ مِنَ الحَدِيثِ المُسْنَدِ هَذَا الحَدِيثُ تَلألأتْ أَنْوَارُهُ ... رَغْمَ الجَهُولِ وَرَغْمَ كُلِّ مُقَلِّدِ إِنْ كُنْتُمْ تَتَضَرَّرُونَ بِنُورِهِ ... فَالشَّمْسُ تَطْلَعُ رَغْمَ أَنْفِ الأَرْمَدِ بِاللهِ قُولُوا مَا الذِي أَنْكَرْتُمُوا ... عَلَى البَرِيَّةَ لِلْحَقِيقَةِ تَهْتَدِي هَدَّدْتُمونَا بِالمَذَاهِبِ بِعْدَ مَا ... وَضَحَ الدَّلِيلُ فَبِئْسَ مِِنْ مُتَهَدِّدِ وَيَهْتُمُونَا بِالقَبَائِحِ كُلِّهَا ... وَعَرَضْتُمُونَا بِالقَنَاعِ الأَسْوَدِ وَرَفَعْتَمُونَا لِلْوُلاةِ تَشَفِّيًا ... وَفَرَحْتُمُوا بِتَهَدُّدٍ وَتَوَعُّدِ لاكِنَّنَا لُذْنَا بِبَابِ إِلَهِنَا ... فَأَرَاحَنَا مِنْ كُلِّ خِصْمٍ مُعَْتَدِ وَجَلا الحقيقةَ لِلْمَلأ فَخَسَأْتُمُوا ... وَالسُّوءُ يَظْهَرُ مِنْ خَبِيثِ المَقْصَدِ يَا مَعْشَرِ الإِخْوَانِ سِيرُوا ... وَأَبْشِرُوا وَثِقُوا بِنَصْرِ الوَاحِدِ المُتَفَرِّدِ وَلِتُعْلِنُوهَا لِلْبَرِيَّةِ كُلِّهَا ... إِنَّا بِغَيْرِ مُحَمَّدٍ لا نَقْتَدِي لا نَطْلُبُ الدُّنْيَا وَلا نَسْعَى لَهَا ... اللهُ مَقْصَدُنَا وَنِعمَ المَقْصَدِ لَيْسَ المَنَاصِبُ هَمَّنَا وَمُرَادُنَا ... كَلا وَلا ثَوْبِ الخَدِيعَةِ نَرْتَدِي إِنَّا لنَسعْى فِي صَلاحِ نُفُوسِنَا ... بِعلاجِ أَنْفُسِنَا المَرِيضَةِ نَبْتَدِي

موعظة في الحث على الزهد في الدنيا والتزود للآخرة

وَنُحِبُّ أَنْ نَهْدِي البَرِيَّةِ كُلِّهَا ... نَدَعُ الْقَرِيب قَبِيلَ نُصْحِ الأَبْعَدِ وَبِوَاجِبِ المعروفِ نأْمر قَوْمَنَا ... وَنَقُومُ صَفَّا في الطَّرِيقِ المُفْسِدِ لَو تُبْصِرُ الإِخْوانَ في حَلَقَاتِنَا ... مِنْ عَالِمٍ أَوْ طالب مسترشدِ لَرَأَيْتَ عِلْمًا وَإِتِّبَاعًا صَادِقًا ... لِلسُّنَّةِ الغَرَّاءِ دُونَ تَرَدُّدِي أَنْعِمْ بطلاب الحديثِ وأَهْلِهِ ... وَأجِلُّهُم عن كل قَوْلِ مُفْسِدِ هُمْ زِينةُ الدُّنْيَا مَصَابِيحُ الهُدَى ... طُلَعُوا عَلَى الدُّنْيَا طُلُوع الغَرْقَدِ وَرِثُوا النَّبِيِّ فَأَحْسَنُوا فِي إِرْثِهِ ... وَحَمَوْهُ مِنْ كَيْدِ الخَبِيثِ المُعْتَدِي سَعِدُوا بِهَدْي مُحَمَّدٍ وَكَلامِهِ ... وَسِوَاهُمُ بِكَلامِهِ لَمْ يَسْعُدِ وَالدِّينُ قَالَ اللهُ قَالَ رَسُوله ... وَهُمْ لِدِينِ اللهِ أَفْضَلُ مُرْشِدِ وَالفِقْهُ فَهْمُ النَّصِ فَهْمًا وَاضِحًا ... مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَتَأْوِيلٍ رَدِيْ لا تَحْسَبَنَّ الفَقْه مَتْنًا خَالِيًا ... مِنْ كُلِّ قَولٍ لِلْمُشَرِّعِ مُسْنَدِ فَعَلَيْكَ بِالوَحْيَيْنِ لا تَعْدُوهُمَا ... وَاسْلُكْ طَرِيقهُمَا بِفهْمِ جَيِّدِ فَإِذَا تَعَذَّرَ فَهْمُ نَصٍّ غَامِضٍ ... فَاسْتَفْتِ أَهْلَ الذِّكْرِ كَالمُسْتَرْشِدِ بِالبَيَّنَاتِ وَالزَّبُورِ فَإِنَّهُ ... مِنْ أَمْرِ رَبَّكَ فِي الكِتابِ فَجَوِّدِ وَاعلم بأنَّ مَن اقْتَدَى بِمُحَمَّدٍ ... سَيَنَاله كَيْدُ الغُوَاةِ الحُسَّدِ وَيَذوق أَنْواعَ العَدَاوةِ وَالأَذَى ... مِنْ جَاهِلٍ وَمُكَابِرٍ وَمُقَلَّدِ فَاصْبِرْ عَلَيْهِ وَكُنْ بِرَبَّكَ وَاثِقًا ... هَذَا الطَّرِيقُ إِلَى الهُدَى وَالسُّؤْدَدِ مَوْعِظَةٌ عِبَادَ اللهِ انْتَبِهُوا وَبَادِرُوا بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، فَإِنَّ أَعْمَارَكُم سَرِيعَةُ الانْصِرَامِ، وَالأَيَّام وَاللَّيالِي تَمُرُّ بِكم مَرَّ السَّحَابِ، وَالدُّنْيَا إِذَا تَأَمَّلَهَا اللَّبِيبُ رَآهَا كَالسَّرَابِ، وَصَدَقَ القَائِلُ فِي وَصْفِهَا حَيْثُ قَالَ: شِعْرًا: ... حَيَاةٌ وَمَوْتٌ وَانْتِظَارُ قِيَامَةٍ ... ثَلاثُ أَفَادَتْنَا أُلُوفَ مَعَانِ فَلا تَمهْرَ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ إِنَّهَا ... تُفَارِقُ أَهْلِيْهَا فِرَاقَ لِعَانِ

وَلا تَطْلُبَاهَا مِنْ سَنَانٍ وَصَارِمِ ... بِيَوْمِ ضِرَابٍ أَوْ بِيَوْمِ طِعَانِ فَإِنْ شِئْتُمَا أَنْ تَخْلَصَا مِنْ أَذَاتِهَا ... مُحِطًا بِهَا الأَثْقَال وَاتبعانِ وقال آخر: أَلا كُلُّ حَيِّ هَالِكٍ وَابْنُ هَالِكٍ وَذُو نَسَبٍ فِي الهَالِكِينَ عَرِيقُ إِذَا امْتَحَنَ الدُّنْيَا لَبِيبٌ تَكَشَّفَتْ لَهُ عَنْ عَدُّوٍّ فِي ثِيَابِ صَدِيقِ ... ›? آخر: ... هِيَ الدُّنْيَا تَقُولُ بِمِلْءِ فِيهَا ... حَذَارِ حَذَارِ مِنْ فَتْكِي وَبَطْشِي فَلا يَغْرُوكُمَا مِنِّي إِبْتِسَامٌ ... فَقَوْلِي مُضْحِكٌ وَالفعْلُ مُبْكِي آخر: ... أَقُولُ وَيَقْضِي اللَهُ مَا هُوَ قَاضِي ... وَإِنّي بِمَا يَقْضِي الإِلَهُ لَرَاضِي أَرَى الخَلْقَ يَمْضِي وَاحِدٌا بَعدَ واحِدٍ ... فَيا لَيتَني أَدْرِي لِمَا أَنا مَاضِي كَأَن لَم أَكُن حَيًّا إِذا حُثَّ غَاسِلي ... وَأَسْرَعَ لَفَّيْ ثِيابِ بَياضِي أَعْوَامٌ سَرِيعَةُ المُرُورِ، وَشُهُورٌ تَقْتَفِي إِثْرَ شُهُورٍ وَعِبَرٌ بَيْنَ ذَلِكَ تَتْرَى، فَعَلامَ الغُرُورُ، فَلا تَغْتَرُّوا بِالدُّنْيَا فَقَدْ نَهَاكُمْ اللهُ عَنِ الاغْتِرَارِ بِهَا وَضُرِبَتْ لَكُمْ بِأَخْذِ أَمْثَالِكُم الأَمْثَالُ، أَرَتْكُمْ عِيَانًا كَيْفَ تَقَلَّبَتْ بِأَهْلِهَا الأَحْوَالُ، وَخَدَعَتْهُمْ الآمَالُ، حَتَّى انْتَهَتْ لَهُمْ الآجَالُ، قَبْلَ أَنْ يَحْصُلُوا عَلَى مَا سَيَتَمَنَّوْنَهُ مِنْ صَالِحِ الأَعْمَالِ، فَاسْتَيْقِظُوا مِنْ نَوْمِكُمْ، وَحَاسِبُوا أَنْفُسَكُم عَلَى مَا اكْتَسَبَتْهُ مِنَ الذُّنُوبِ وَالمَعَاصِي الثِّقالِ، فَأَيُّ نَفْسٍ مِنَّا لَمْ تَحْمِلْ ظُلْمًا، وَأَيُّ جَارِحَةًَ مِنْ جَوَارِحِنَا لَمْ تَقْتَرِفُ إِثْمًا، وَأَيُّ عَمَل مِنْ أَعْمَالِنَا يَلِيقُ بِذَلِكَ المَقَامُ، وَأَيُّ وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِنَا تَمَحَّضَ لِلطَّاعَةِ وَخَلا مِنَ الآثَامِ، لَقَدْ جَنَيْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا بِالذُّنُوبِ جِنَايَة عَظِيمَةً،

فَلَيِّنُوا قُلُوبِكُمْ بِذِكْرِ هَاذِمِ اللَّذَاتِ، لَعَلَّهَا تَلِينُ، وَعِظُوهَا بِذِكْرِ القَبْرِ وَفِتْنَتِهِ فَإِنَّهُمَا لَحَقُّ اليقِين، وَذَكِّرُوهَا {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} ، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً} ، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} شِعْرًا: ... وَفِي دُونِ مَا عَايَنْتَ مِنْ فَجَعَاتِهَا إِلَى دَفْعِهَا دَاعٍ وَبِالزُّهْدِ آمِرُ ج فَجُدَّ وَلا تَغْفَلُ وَكُنْ مُتَيَقِّظًا فَعَمَّا قَلِيلِ يَتْرُكُ الدَّارَ عَامِرُ وَشَمِّرْ وَلا تَفْتُرْ فَعُمْرُكَ زَائِلٌ وَأَنْتَ إِلَى دَارِ الإِقَامَةِ صَائِرُ وَلا تَطْلُبِ الدُّنْيَا فَإِنَّ نَعِيمَهَا وَإِنْ نِلْتَ مِنْهَا غِبَّهُ لَكَ ضَائِرُ أَمَا قَدْ نَرَى فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ يَرُوحُ عَلَيْنَا صَرْفُهَا وَيُبَاكِرُ تَعَاوَرَنَا آفَاتُهَا وَهُمُومُهَا وَكَمْ قَدْ نَرَى يَبْقَى لَهَا المُتَعَاوِرُ فَلا هُوَ مَغْبُوطٌ بِدُنْيَاهُ آمِنٌ وَلا هُوَ عَنْ تَطْلابِهَا النَّفْسَ قَاصِرُ ... ›? اللَّهُمَّ أَيْقَظْنَا مِن سَنَةِ الغَفْلَةِ ونَبِّهْنَا لاِغْتِنَامِ أَوقَاتِ المُهْلَةِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا لِكِتَابِكَ مِنَ التَّالِينَ وَلَكَ بِهِ مِنَ العَامِلِينَ وَبِمَا صَرَّفْتَ فِيهِ مِنَ الآيَاتِ مُنْتَفِعِينَ، وَإِلَى لَذِيذِ خِطَابِهِ مُسْتَمِعِينَ، وَلأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ

ذكر قتال فتن تقع في آخر الزمان ويليها قصيدة

خَاضِعِينَ وَبِالأَعْمَالِ مُخْلِصِينَ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدْ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) : وَمِنْ عَلامَاتِ السَّاعَةِ المُتَوَسِّطَةِ مَا أَخْبَرِ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الفِتَنِ التِي تَقَعُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمُرُّ الرَّجُلُ عَلَى القَبْرِ فَيَتَمَرَّغُ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي مَكَانَ صَاحِبِ هَذَا القَبْرِ، وَلَيَْس بِهِ الدِّيْنُ إِلا البَلاءُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. شِعْرًا: ... يَبكِي رِجَالٌ عَلَى الحَيَاةِ وَقَدْ ... اشْتَقْتُ يَا قَوْمِي إِلَى قُرْبِِ الأَجَلْ مِن قَبلِ أَنْ تَعْرُضْ لِقَلْبِي فَتْنَةٌ ... فَتَصْرِفُهُ عَنْ طَاعَةِ المَوْلَى الأجَلْ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَأْتِيَّنَ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يَدْرِي القَاتِلُ فِي أَيِّ شَيْءٍ قَتَلَ، وَلا المَقْتُولُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ قُتِلَ» ، وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْعَدَوِيِّ عَنْ يُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: هَاجَتْ رِيحٌ حَمْرَاءُ بِالْكُوفَةِ، فَجَاءَ رَجُلٌ لَيْسَ لَهُ هُجَيْرَا إِلا: يَا عَبْدَ اللَّهِ بنَ مَسْعُودٍ جَاءَتْ السَّاعَةُ، قَالَ: فَقَعَدَ وَكَانَ مُتَّكِئًا، فَقَالَ: إِنَّ السَّاعَةَ لا تَقُومُ حَتَّى لا يُقْسَمَ مِيرَاثٌ، وَلا يُفْرَحَ بِغَنِيمَةٍ، ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا، وَنَحَّاهَا نَحْوَ الشَّامِ، فَقَالَ: عَدُوٌّ يَجْمَعُونَ لأَهْلِ الإِسْلامِ، وَيَجْمَعُ لَهُمْ أَهْلُ الإِسْلامِ. قُلْتُ: الرُّومَ تَعْنِي؟ قَالَ: نَعَمْ، وَتَكُونُ عِنْدَ ذَاكُمْ الْقِتَالِ رَدَّةٌ شَدِيدَةٌ، فَيَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ، لا تَرْجِعُ إِلا غَالِبَةً، فَيَقْتَتِلُونَ حَتَّى يَحْجُزَ بَيْنَهُمْ اللَّيْلُ، فَيَفِيءُ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ، وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ، ثُمَّ يَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ، لا تَرْجِعُ إِلا غَالِبَةً، فَيَقْتَتِلُونَ حَتَّى يَحْجُزَ بَيْنَهُمْ اللَّيْلُ، فَيَفِيءُ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ، وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ، ثُمَّ يَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ، لا تَرْجِعُ إِلا غَالِبَةً، فَيَقْتَتِلُونَ حَتَّى يمسوا،

زهدية ثم موعظة بليغة في الحث على التفتيش على النفس

فَيَفِيءُ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ كُلُّ غَيْرُ غَالِبٍ، وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ، فَإِذَا كَانَ اليوم الرَّابِعِ نَهَدَ إليهمْ بَقِيَّةُ أَهْلِ الإِسْلامِ، فَيَجْعَلُ اللَّهُ الدَّبْرَةَ عَلَيْهِمْ، فَيَقْتَتِلُونَ مَقْتَلَةً، إِمَّا قَالَ: لا يُرَى مِثْلُهَا، وَإِمَّا قَالَ: لَمْ يُرَ مِثْلُهَا، حَتَّى إِنَّ الطَّائِرَ لَيَمُرُّ بِجَنَبَاتِهِمْ فَمَا يُخَلِّفُهُمْ حَتَّى يَخِرَّ مَيْتًا، فَيَتَعَادُّ بَنُو الأَبِ كَانُوا مِائَةً، فَلا يَجِدُونَهُ بَقِيَ مِنْهُمْ إِلا الرَّجُلُ الْوَاحِدُ، فَبِأَيِّ غَنِيمَةٍ يُفْرَحُ، أَوْ أَيُّ مِيرَاثٍ يُقَاسَمُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ سَمِعُوا بِبَأْسٍ هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَجَاءَهُمْ الصَّرِيخُ إِنَّ الدَّجَّالَ قَدْ خَلَفَهُمْ فِي ذَرَارِيِّهِمْ، فَيَرْفُضُونَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ وَيُقْبِلُونَ فَيَبْعَثُونَ عَشَرَةَ فَوَارِسَ طَلِيعَةً. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لأَعْرِفُ أَسْمَاءَهُمْ وَأَسْمَاءَ آبَائِهِمْ، وَأَلْوَانَ خُيُولِهِمْ، هُمْ خَيْرُ فَوَارِسَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ، أَوْ مِنْ خَيْرِ فَوَارِسَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. شِعْرًا: نَنْسَى المَنَايَا عَلَى أَنَّا لَهَا غَرَضُ فَكَمْ أُنَاسٍ رَأَيْنَاهُمْ قَدِ اِنْقَرَضُوا إِنَّا لَنَرْجُو أُمُورًا نَسْتَعِدُّ لَهَا وَالمَوْتُ دُونَ الَّذِي نَرْجُوهُ مُعْتَرِضُ لِلَّهِ دُرُّ بَنِي الدُّنْيَا لَقَدْ غُبِنُوا لِمَا اطْمَأَنُّوا بِهِ مِنْ جَهْلِهِمْ وَرَضُوا مَا أَربَحَ اللَهُ فِي الدُّنْيَا تِجَارَةَ إِنْـ سَانٍ يَرَى أَنَّهَا مِنْ نَفْسِهِ عِوَضُ لَبِئْسَتِ الدَّارُ دَارًا لا نَرَى أَحَدًا مِنْ أَهْلِهَا نَاصِحًا لَمْ يَعْدُهُ غَرَضُ ... ›?

موعظة بليغة في ذكر الجنة وصفتها وما أعد الله لأهلها والحث على طاعة الله عز وجل

.. مَا بَالُ مَنْ عَرَفَ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةَ لا يَنْكَفُ عَنْ عَرَضِ الدُّنْيَا وَيَنْقَبِضُ تَصِحُّ أَقْوَالُ أَقْوَامٍ بِوَصْفِهِمُ وَفِي القُلُوبِ إِذَا كَشَّفتْهَا مَرَضُ وَالنَّاسُ فِي غَفْلَةٍ عَمَّا يُرَادُ بِهِمْ وَكُلُّهُمْ عَنْ جَدِيدِ الأَرْضِ مُنْقَرِضُ وَالحَادِثَاتُ بِهَا الأَقْدَارُ جَارِيَةٌ وَالمَرْءُ مُرْتَفِعٌ فِيهَا وَمُنْخَفِضُ يَا لَيْتَ شِعْرِي وَقَدْ جَدَّ الرَّحِيلُ بِنَا حَتَّى مَتَى نَحْنُ فِي الغِرَّاتِ نَرْتَكِضُ نَفْسُ الحَكِيمِ إِلَى الْخَيْرَاتِ سَاكِنَةٌ وَقَلبُهُ مِنْ دَوَاعِي الشَرِّ مُنْقَبِضُ اصْبِرْ عَلَى الحَقِّ تَسْتَعذِبْ مَغَبَّتَهُ وَالصَّبْرُ لِلْحَقِّ أَحْيَانًا لَهُ مَضَضُ وَما اِستَرَبْتَ فَكُنْ وَقَّافَةً حَذِرًا قَدْ يُبرَمُ الأَمْرُ أَحْيَانًا فَيَنْتَقِضُ ... ›? مَوْعِظَةٌ عِبَادَ اللهِ اتَّقُوا اللهِ وَبَادِرُوا بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ أَنْ يُغْلَقَ عَنْكُمُ البَابَ، وَابْتَدِرُوا الأَوْبَةَ قَبْلَ أَنْ يُرْخَى دُونَكُمْ حِجَابُهَا، وَانْتَهِزُوا فُرَصَ الحَيَاةِ فَقَدْ اقْتَرَبْتْ السَّاعَةُ وَتَضَاعَفَ اقْتِرَابُهَا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ} فَيَا عِبَادَ اللهِ تَذَكَّرُوا مَوَاقِفَ الخَلائِقِ بَيْنَ يَدَي العَزِيزِ الجَبَّارِ فِي يَوْمِ يُحَرَّرُ فِيهِ الحِسَابُ، وَأَعِدُّوا لِلْحِسَابِ صَوَابَ الجَوَابِ، فَلا بُدَّ أَنْ يُطْلَبُ مِنْكُمْ عَلَى كُلُّ مَسْأَلٍة جَوَابُهَا،

وَاجْتَنِبُوا التَّسْوِيفَ فَإِنَّ سُيُوفَ المَنِّيَةِ قَاطِعَة، يَا مَعْشَرِ المُسَوِّفِينَ أَظَنَنْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الدُّنْيَا مُخَلَّدُون، وأنتمُ مَعَ العَاصِينَ قَاعِدُونَ، كَمْ مَرَّتْ بِكُمْ مَوَاسِمُ الطَّاعَاتِ، وَأَنْتُمْ عَنِ اسْتِغْلالِهَا بِالبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ رَاقِدُونَ، فَمَا بَالُكَ أَيُّهَا الغَافِلُ تُسَارِعُ فِي مُتَابَعَةِ هَوَاكَ، مَعَ أَنَّكَ فِي العِبَادَةِ مُتَكَاسِل، وَتُتْلَى عَلَيْكَ آيَاتُ مَوْلاكَ وَأَنْتَ عَنْهَا مُعْرِضٌ إِعْرَاضَ الجَاهِلَ تَسْمَعُ المَلاهِي فَتَمِيلُ إليها بِقَلْبِكَ وَتُبْصِرُ المَنَاهِي مِنْ تِلفزيُون وَفِديو وَسِينمَاء وَسَافِرَاتٍ وَصُور فَلا تَتَحَرَّكُ وَلا تَتَمَعَّرَ، هَلْ أَنْتَ مُكَذّبٌ بِالتَّحْرِيم، أَوْ مُتَشَّكِكٌ فِي البَعْثِ وَعَذَاب القَبْرِ وَالحِسَابَ وَالصِّرَاطِ وَالمِيزَانِ، فَيَا مُؤْمِنًا بِيَوْمِ الحِسَابِ تَهَيأ لِلْمُحَاسَبَةِ، وَيَا مُذْعِنًا بِحُقُوقِ الرَّبِ اسْتَعِدَّ لِلْمُطَالَبَةُ وَيَا طَوَيلَ الأَمَلِ كَمْ آمَالٍ أَصْبَحَتْ خَائِبَة، فَكَأنَّكَ بِالمَوْتِ وَقَدْ نَزَلَ بِسَاحَتِكَ وَنَزَلْتَ فِي القَبْرِ مَعَ عَمَلِكَ وَحُشِرْتَ وَعُرِضْتَ عَلَى عَالم سَرِِيرَتِكَ وَعَلانِيَّتِكَ وَكَأَنَّكَ بِالحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالحِسَابِ بَيْنَ يَدَي اللهِ عَزَّ وَجَل، وَكَأَنَّكَ بِالأَهْوَالِ وَالمَخَاوُفِ وَقَدْ أَحَاطَتْ وَاشْتَدَّ الخَوْفُ وَالوَجَلُ وَكَأَنَّكَ بِالجَحِيمِ وَقَدْ سُعِّرَتْ وَقَدْ أُزْلِفَتْ، فَالبِدَارَ قَبْلِ انْقِضَاءَ الأَعْمَارِ. شِعْرًا: ... يَا وَيْحَ مَنْ أَنْذَرَهُ شَيْبُهُ ... وَهُوَ عَلَى غَيّ الصِّبَا مُنْكَمِشْ يَعْشُوا إِلَى نَارِ الهَوَى بَعْدَمَا ... أَصْبَحَ مِنْ ضُعْفَ القُوَى يَرْتَعِشْ لَمْ يَهَبِ الشَّيْبَ الذِي مَا رَأَى ... نُجُومَهُ ذُو اللُّبِ إِلا ارْتَعَشْ فَذَاكَ إِنْ مَاتَ فَسُحْقًا لَهُ ... وَإِنْ يَعِشْ عُدَّ كَمَنْ لَمْ يَعِشْ فَهَاكَ كَأْسُ النُّصْحِ فَاشْرَبْ وَجُدْ ... بِفَضْلِهِ الكَأْسِ عَلَى مَنْ عَطِشْ آخر: ... تَجرّدْ مِنَ الدّنيا فإنّك إنّما ... خَرجْتَ إلى الدُّنيا وأنتَ مُجَرَّدُ وَتُبْ مِنْ ذُنُوبٍ مُوبِقَاتٍ جَنَيْتَهَا ... فَمَا أَنْتَ فِي دُنْيَاكَ هَذِي مُخَلَّدُ آخر: ... وَمِنْ عَجَبِ الدُّنْيَا كُوني وَصَبْوَتِي ... إليها عَلَى سِنِّي كَأَنّي وَلِيدُهَا أُجَارِي اللَّيَالِي لَيْلَةً بَعْدَ لَيْلَةٍ ... مُشِيحًا كَأَنِّي تِرْبُهَا وَطَرِيدُهَا اللَّهُمَّ اهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَوَفِّقْنَا لِلْفِقْهِ فِي دِينِكَ القَوِيمِ،

واجعلنا مِنَ العَامِلِينَ بِهِ قَوْلاً وَفِعْلاً الدَّاعِينَ إليه، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. موعظة: عِبَادَ اللهِ مَا نَدمَ مَنْ أَطَاعَ اللهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ، وَلا عَادَتْ الطَّاعَاتُ عَلَى صَاحِبِهَا إِلا بِالخَيْرِ وَالبَرَكَةِ فِي كُلِّ آنٍ، وَالعُصَاةُ فِي كُلِّ زَمَنٍ هُمْ المَمْقُتُونَ مَهْمَا ابْتَسَمْتْ لَهُمْ الدُّنْيَا وَقَضُوا فِيهَا بَعْضَ مَآرِبِهِمْ، وَمَهْمَا هَامُوا بِحُبِّهَا وَأَحْكَمُوا أَسَالِيبَ جَمْعِهَا، فَإِنَّ الدُّنْيَا لا تَبْتَسِمُ لِفَاسِقٍ إِلا لِتَسْحَقَهُ، وَلا تَفْتَحُ ذِرَاعَيْهَا لِمُقْبِلٍ عَلَيْهَا إِلا لِتُحْرِقَهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} فَمَاذَا غَرَّكَ فِيهَا أَيُّهَا المِسْكِينُ، إِنْ كَانَ الذِي غَرَّكَ فِيهَا كَثْرَةُ النَّقْدَيْنِ أَوْ مَا نَابَ مَنَابَهُمَا مِنْ أَوْرَاقٍ، فَإِنَّ الجَنَّةَ حَصْبَاؤُهَا اللُّؤْلُؤُ، وَتُرَابُها الزَّعْفَرَانُ، وَبِنَاؤُهَا الذَّهَبُ وَالفِضَّةُ، وَالدُّرُ وَاليَاقُوتُ، وَإِنْ كَانَ الذِي غَرَّكَ مِنْهَا فَوَاكِهُهَا وَمَطْعُومَاتِهَا وَمَا حَوْتَ مِنْ مَتَاعٍ، فَإِنَّ فِي الجَنَّةِ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَإِنْ كَانَ الذِي غَرَّكَ جَمَالُ نِسَائِهَا، فَإِنَّ فِي الجَنَّةِ: {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} ، {وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً} لَوْ ظَهَرَ بَنَانُ إِحْدَاهُنَّ عَلَى الدُّنْيَا لأَضَاءَتْ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهِ فِي خَدِّهَا أَصْفَى مِنَ المِرْآةِ، وَتُسَرُّ بِمُشَاهَدَتِهَا سُرُورًا لا يَعْلَمُ قَدْرَهُ إِلا اللهُ، لا تَنْظُرُ إِلا إليها وَلا تَنْظُرُ إِلا إليك، لا تَتَكَلَّمْ إِلا بِمَا يَسُرُّكَ، تَأْمُرُهَا فَتَخْضَعُ، وَتُحَدِثُّهَا فَتَسْمَعُ، إِذَا تَكَلَّمَتْ أَطْرَبَتْ، لا تَفْتَخِرُ عَلَيْكَ بِحُسْنِهَا وَجَمَالِهَا، وَلا تَمُنُّ بِجَمِيلِ صُنْعِهَا، لا تَنْفُرُ مِنْكَ وَلا تَغْضَبُ، وَلا تَلْهُو عَنْكَ وَلا تَصْخَبُ، الجَمَالُ كِسَاؤُهَا، وَالكَمالُ رِدَاؤُهَا، وَالوُدُّ وَالوَفَاءُ مِنْ طَبْعِهَا، لا يَعْلُو صَوْتُهَا عَلَى صَوْتِكَ، وَلا تَجْتَهِدُ إِلا فِي مَرْضَاتِكَ، هَادِئَةً، سَاكِنَةً رَاضِيَةً. تِلْكَ وَأْمَثالُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ المَعْلُومِينَ، مِن قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}

إلى قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أَيُّهَا المسلمون، لَقَدْ فَازَ وَالله مِنِ اجْتَهَدَ فِيمَا يُنَجِّيهِ، وَخَابَ مَنْ أَتْعَبَ نَفْسَهُ فِيمَا يُخْزِيهِ، وَأَنْتُم الآنَ في فُسْحَةٍ مِنْ أَجَلِكُمْ، وَصِحَّةٍ مِنْ أَبْدَانِكُمْ، وَاكْتِمَالٍ مِنْ عُقُولِكُمْ، وَآخِرُ الأَجَلِ غَائِبٌ عَنْكُمْ، وَلا تَدْرُونَ كَيْفَ حَالُكُم بَعْدَ يَوْمِكم فَسَارِعُوا {إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ} مِنْ قَبْلِ أَنْ يَفْقِدَ البَدَنُ صِحَّتَهُ، وَيَقُولُ الحَقُّ كَلِمَتَهُ، فَيَنْقَضِي الأَجَلُ، وَيُخْتَمُ عَلَى العَمَلِ، فَلا يُنْقَصُ فِيهِ وَلا يُزَادُ، وَلا يُعَدَّلُ فِيهِ شَيْءٍ إِلَى المَعَادِ، تَقُولُ: لَيْتَنِي أَطَعْتُ، وَمَا هِي بِنَافِعَةٍ، وَلَيْتَنِي مَا عَصَيْتُ، وَلَيْسَتْ بِدَافِعَةٍ، إِذًا فَأَضْيَعُ النَّاسِ وَأَخْسَرُهم صَفْقَةً مَنْ سَوَّفَ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ، وَأَشَدُّهُمْ خُسْرَانًا مَنْ لَمْ يُبَادِرْ فِي التَّوْبَةِ مِنْ ذَنْبِهِ، قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} وَفِي الحَدِيثِ: «أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ» . رَوَاهُ البُخَارِيّ. إِلَى اللهِ تُبْ قَبْلَ انْقِضَا زَمَنِ العُمْرِ ... ???? ... أُخَيَّ وَلا تَأْمَنْ مُسَاوَرَةَ الدَّهْرِ ... ???? ... لَقْدَ حَدَّثْتَكَ الحَادِثَاتِ نُزُولَهَا ... ???? ... وَنَادَتْكَ إَلا أَنَّ سَمْعَكَ ذُو وَقْرِ ج ... ???? ... تَنُوحُ وَتَبْكِي لِلأَحِبَّةِ أَنْ مَضُوا ... ???? ... وَنَفَسَكَ لا تَبْكِي وَأَنْتَ عَلَى الأَثْرِ جج ... ›? ... ???? آخر: ... وَمَا حَالاتُنَا إِلا ثَلاثُ ... شَبَابٌ ثُمَّ شَيْبٌ ثُمَّ مَوْتُ وَآخِرُ مَا يُسَمَّى المَرْءُ شَيْخًا ... وَيَتْلُوهُ مِنْ الأَسْمَاءِ مَيْتُ آخر: ... إِنِّي أَبُثُّكَ مِنْ حَدِيثِي ... وَالحَدِيثُ لَهُ شُجُونْ غَيَّرْتُ مَوْضِعَ مَرْقَدِي ... لَيْلاً فَفَارَقَنِي السُّكُونْ

فصل في ذكر بعض الأحاديث التي وردت في الفتن

ججج قُلْ لِي فَأَوَّلُ لَيْلَةٍ ... فِي القَبْرِ كَيْفَ تَرَى تَكُونُ آخر: ... فَبَادِرْ إِلَى الخَيْرَاتِ قَبْلَ فَوَاتِهَا ... وَخَالِفْ مُرَادَ النَّفْسِ قَبْلَ مَمَاتِهَا سَتَبْكِي نُفُوسٌ فِي القِيَامَةِ حَسْرَةً ... عَلَى فَوْتِ أَوْقَاتٍ زَمَانَ حَيَاتِهَا فَلا تَغْتَرِرْ بِالعِزِّ وَالمَالَ وَالمُنَى ... فَكَمْ قَدْ بُليْنَا بِانْقَلابِ صِفَاتِهَا آخر: ... إِذَا مَرِضْنَا نَوَيْنَا كُلَّ صَالِحَةٍ وَإِنْ شُفِينَا فَمِنَّا الزَّيْغُ وَالزَّلَلُ نُرْضِي الإلَهَ إِذَا خِفْنَا وَنُسْخِطُهُ إِذَا أَمِنَّا فَمَا يَزْكُوا لَنَا عَمَلُ ... ›? اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِسَبِيلِ الطَّاعَةِ، وَثَبِّتْنَا عَلَى إِتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، وَلا تَجْعَلَنَا مِمَّنْ عَرَفَ الحَقَّ وَأَضَاعَهُ، وَاخْتِمْ لَنَا بِخَيْرٍ مِنْكَ يَا كَرِيمُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) في ذكر بعض الأحاديث التي وردت في الفتن وما يقع في آخرالزمان عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قاَلَ: إِذَا أَحَبَّ أَحَدُكم أَن يَعْلَم أَصَابَتْهُ الفِتْنَة أَمْ لا؟ فَلْيَنْظُرْ فَإْنِ كَانَ رَأَى حَلالاً كَانَ يَرَاهُ حَرَامًا فَقَدْ أَصَابَتْهُ الفِتْنَةُ، وَإِنْ كَانَ يَرَى حَرَامًا يَرَاهُ حَلالاً فَقَدْ أَصَابَتْهُ. رَوَاهُ الحَاكِمُ. وَعَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَزِعًا، مُحْمَرًا وَجْهُهُ، يَقُولُ: «لا إِلَهَ إِلا الله، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اليوم مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوَجَ مِثْلُ هَذِهِ» وَحَلَّقَ بأصْبُعِهِ الإِبْهَامَ وَالتِّي تَلِيهَا، قَالَتْ: فَقُلْتَ: يَا رَسُولَ اللهِ

أَنَهْلَكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: «نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالبُخَارِيّ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذيّ، وَابْنُ مَاجِة. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، يَبِيعُ قَوْمٌ دِينَهُم بِعَرضٍ مِنَ الدُّنْيَا» . رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ عَبْدُ اللهِ بنِ عَمْرُو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَتَكُونُ فِتَنٌ يُفَارِقُ فِيهَا الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأَخَاهُ، تَطِيرُ الفِتْنَةُ فِي قُلُوبِ رِجَالٍ مِنْهُمْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، حَتَّى يُعَيَّرَ الرَّجُلُ فِيهَا بِصَلاتِهِ، كَمَا تُعَيَّرُ الزَّانِيَةُ بِزِنَاهَا» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِي. قُلْتُ: وَهَذَا الحَدِيثُ فِيهِ عَلَمٌ مِنْ أَعْلامِ نُبَوَّتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِدْقِ رِسَالَتِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ وَقَعَ مَا ذُكِرَ فَفَارَقَ رِجَالٌ آبِاءهُم بِسَبِبِ فِتْنَةِ التلفزيون، وَبِسَبَبِ فِتْنَةِ الكُرَةِ، فَارَقَ رِجَالٌ آبَاءهمُ وَإِخْوانهُم وَزَوْجَاتِهِمْ، نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَعْصِمَنَا مِنْهَا، وَوَقَعَ فِي زَمَانِنَا أَيْضًا أُنَاسٌ يَتَهَكَمُونَ وَيَسْخَرُونَ بِالمُصَلِّينَ، وَمَنْ عَلَيْهَا سِيِّمَا الصَّالِحِينَ مِنْ إِعْفَاءِ لِحْيَةٍ، وَاقْتِنَاءِ كُتُبِ السَّلَفِ، وَكَثرةِ تَلاوَةٍ لِكَلامِ اللهِ، وَالبُخَارِيّ وَمُسْلِم، وَيَرْمُونَهُم بِأَنَّهُم رَجْعِيُّونَ وَمُتَأَخِّرُونَ وَمُنْحَطُّونَ، وَضِدَّهُمْ مِمَّنْ لا يَشْهَدُونَ الصَّلاةِ، حَالِقي اللِّحَى، شُرَّابِ الدُّخَانِ، أَهْلِ الخَنَافِسِ وَالتَّوَالِيتَ، يُسَمُّونَهُم المُتَمَدِّنِينَ المُثَقَّفِينَ، وَهَذَا انْعِكَاسٌ نَسْأَلُ اللهَ العَافِيَةَ وَالثَّبَاتَ عَلَى الإِسْلام {وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} ، {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ} .

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدَرِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَا أَعْرَابِيٌّ فِي بَعْضِ نَوَاحِي الْمَدِينَةِ فِي غَنَمٍ لَهُ عَدَا عَلَيْهِ الذِّئْبُ فَأَخَذَ شَاةً مِنْ غَنَمِهِ، فَأَدْرَكَهُ الأَعْرَابِيُّ فَاسْتَنْقَذَهَا مِنْهُ وَهَجْهَجَهُ فَعَانَدَهُ الذِّئْبُ يَمْشِي، ثُمَّ أَقْعَى مُسْتَثْفِرًا بِذَنَبِهِ يُخَاطِبُهُ، فَقَالَ: أَخَذْتَ رِزْقًا رَزَقَنِيهِ اللَّهُ، قَالَ: وَاعَجَبًا مِنْ ذِئْبٍ مُقْعٍ مُسْتَثْفِرٍ بِذَنَبِهِ يُخَاطِبُنِي، فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَتْرُكُ أَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: وَمَا أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّخْلَتَيْنِ بَيْنَ الْحَرَّتَيْنِ، يُحَدِّثُ النَّاسَ عَنْ نَبَإِ مَا قَدْ سَبَقَ وَمَا يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ، قَالَ: فَنَعَقَ الأَعْرَابِيُّ بِغَنَمِهِ، حَتَّى أَلْجَأَهَا إِلَى بَعْضِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ مَشَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ضَرَبَ عَلَيْهِ بَابَهُ، فَلَمَّا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَيْنَ الأَعْرَابِيُّ صَاحِبُ الْغَنَمِ» فَقَامَ الأَعْرَابِيُّ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَدِّثْ النَّاسَ بِمَا سَمِعْتَ، وَبمَا رَأَيْتَ» فَحَدَّثَ الأَعْرَابِيُّ النَّاسَ بِمَا رَأَى مِنْ الذِّئْبِ، ومَا سَمِعَ مِنْهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ: «صَدَقَ آيَاتٌ تَكُونُ قَبْلَ السَّاعَةِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ أَحَدُكُمْ مِنْ أَهْلِهِ فَتُخْبِرَهُ نَعْلُهُ أَوْ سَبوطُهُ أَوْ عَصَاهُ بِمَا أَحْدَثَ أَهْلُهُ بَعْدَهُ» . رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَرُوَاتُهُ ثِقَاتٌ، وَعَنْ سَهْل بنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اللَّهُمَّ لا يُدْرِكْنِي زَمَانٌ أَوْ لا تُدْرِكُوا زَمَانًا لا يُتْبَعُ فِيهِ العَلِِيم، وَلا يُسْتَحْيَ فِيهِ مِنَ الحَلِيمِ، قُلُوبُهُم قُلُوبُ الأَعَاجِمِ، وَأَلْسِنَتُهُمْ أَلْسِنَةُ العَرَبِ» . رَوَاهُ أَحْمَدَ. وَعَنْ حُذَيْفَةُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا

نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادٌ كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلا مَا أُشْرِبَهُ مِنْ هَوَاهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَحْمَدُ. وعن عبدِ اللهِ بن عَمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنَّا قُعُودًا عَنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ الفِتَنَ فَأَكْثَرَ فِي ذِكْرَهَا حَتَّى ذَكَرَ فِتْنَةَ الأَحْلاسِ قَالَ: «هِيَ هَرَبٌ وَحَرْبٌ» ، ثُمَّ فِتْنَةُ السَّرَّاءِ: «دَخَنُهَا مِنْ تَحْتِ قَدَمِيْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ قَرْيَتِي يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنِّي وَلَيْسِ مِنِّي، وَإِنَّمَا أَوْلِيَائِي المُتَّقُونَ، ثُمَّ يَصْطَلِحُ النَّاسُ عَلَى رَجُلٍ كَوَرْكٍ عَلَى ضَلْعٍ، ثُمَّ فِتْنَةُ الدُّهَيْمَاء: «لا تَدَعُ أَحَدًا مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ إِلا لَطِمَتْهُ لَطْمَةً، فَإِذَا قِيلَ انْقَضَتْ تَمَادَتْ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، حَتَّى يَصِيرُ النَّاسُ عَلَى فِسْطَاطَيْنِ، فَسْطَاطِ إِيمَانٍ لا نِفَاقَ فِيهِ، وَفِسْطَاطَ نِفَاقَ لا إِيمَانَ فِيهِ، فَإِذَا كَانَ ذَاكُمْ فَانْتَظِرُوا الدَّجَالَ مِنْ يَوْمِهِ أَوْ غَدِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالحَاكِمُ. وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ، وَتَكُونَ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَة عَظِيمَةٌ، وَدَعْوَاهُمَا وَاِحدَةٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا نَنْقُلُ لَبِنَ الْمَسْجِدِ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَكَانَ عَمَّارٌ يَنْقُلُ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ، فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَسَحَ عَنْ رَأْسِهِ الْغُبَارَ وَقَالَ: «وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، عَمَّارٌ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ» . رَوَاهُ البُخَارِيّ.

وعن حَبَّةَ العُرَنِي قَالَ: دَخَلْنَا مَعَ أَبِي مسْعُودٍ الأَنْصَارِيّ عَلَى حُذَيْفَةَ بنِ اليمَانِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَسْأَلُهُ عَنِ الفِتَنِ فَقَالَ: دُورُوا مَعَ كِتَابَ اللهِ حَيْثُ ما دَارَ، وَانْظُرُوا الفِئَة التِي فِيهَا ابْنُ سُمَيَّةِ فَاتبعُوهَا، فَإِنَّهُ يَدُورُ مَعَ كِتَابَ اللهِ حَيْثُ مَا دَارَ، قَالَ: فَقُلْنَا لَهُ: وَمَنْ ابْنُ سُمَيَّة؟ قَالَ: عَمَّارُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَقْتُلُكَ الفِئَةُ البَاغِيَةُ، تَشْرَبُ شَرْبَةَ ضِيَاحٍ تَكنْ آخِرَ رِزْقَكَ مِنَ الدُّنْيَا» . رَوَاهُ الحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَقَالَ: صَحِيحٌ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فَابْنُ سُمَيَّةَ مَعَ الحَقِّ» . رَوَاهُ الطَّبَرِانِي، وَالبَيْهَقِي. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْشِرْ يَا عَمَّارُ، تَقْتُلَكَ الفِئَةُ البَاغِيَةُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. قُلْتث: وَفِي هَذِهِ الأَحَادِيثُ عَلَمٌ مِنْ أَعْلامِ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصِدْقِ رِسَالَتِهِ، وَمَزِيَّةً لَعَلِيّ وَلِعَمَّارٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وَهُوَ أَنَّهُمَا مَعَ الحَقَّ. وَعَنْ إِسْرَائِيلَ بنَ أَبِي مُوسَى قَالَ: سَمِعْتُ الحَسَنْ - يَعْنِي البَصْرِيّ - يَقُولُ: اسْتَقْبَلَ واللهِ الحَسَنُ بنُ عَلِيّ مُعَاوِيَةَ بِكَتَائِبَ أَمْثَالَ الجِبَالِ، فَقَالَ عَمْرُو بنُ العَاصِ: إِنِّي لأَرَى كَتَائِبَ لا تُوَلِّي حَتَّى تَقْتُلَ أَقْرَانَهَا، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة - وَكَانَ وَاللهِ خَيْرَ الرَّجَلُيْنِ -: أَيْ عَمْرُو إِنْ قَتَلَ هَؤُلاءِ هَؤُلاءِ، وَهَؤُلاءِ هَؤُلاءِ مَنْ لِي بِأُمُورِ النَّاسِ، مَنْ لِي بِنَسَائِهِم، مَنْ لِي بِضَيْعَتِهِمْ فَبَعَثَ إليه رَجُلَيْنِ مَنْ قُرَيْش مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ سُمْرَة، وَعَبْدِ اللهِ بن عَامِر بنِ كُريز، فقالَ: اذْهَبَا إَلَى هَذَا الرَّجُل

فَاعْرِضَا عَلَيْهِ، وَقُولا لَهُ، وَاطْلُبَا إليه، فَأَتَيَاهُ فَدَخَلا عَلَيْهَ فَتَكَلَّمَا وَقَالا لَهُ، وَطَلَبَا إليه، فَقَالَ لَهُمَا الحَسَنُ بنُ عَلِيّ: إِنَّا بَنُو عَبْدِ المُطَّلِبِ قَدْ أَصَبْنَا مِنْ هَذَا المَالِ، وَإِنَّ هَذِهِ الأُمَّة قَدْ عَاثَتْ فِي دِمَائِهَا، قَالا: فَإِنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْكَ كَذَا وَكَذَا، وَيَطْلُبَ إليك وَيَسْأَلُكَ، قَالَ: فَمَنْ لَي بِهَذَا؟ قَالا: نَحْنُ لَكَ بِهَ، فَمَا سَأَلَهُمَا شَيْئًا إِلا قَالا: نَحْنُ لَكَ بِهِ. فَصَالَحَهُ، فَقَالَ الحَسَنُ - أَيْ البَصْرِيّ -: وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى المِنْبَرِ وَالحَسَنُ بنُ عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا إِلَى جَنْبِهَ، وَهُوِ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً وَعَلَيْهِ أُخْرَى، وَيَقُولُ: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بِيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ المُسْلِمِينَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالبُخَارِيّ. وَفِي هَذَا الخَبَرِ أَيْضًا مُعْجزَةٌ حَيْثُ وَقَعَ مِصْدَاقُهُ بِمَا كَانَ مِنْ إِصْلاحِ الحَسَنِ بَيْنَ أَهْلِ العِرَاقِ وَأَهْلِ الشَّامِ. شِعْرًا: ... نَهَارُكَ فِي بَحْرِ السَّفَاهَةِ تَسْبَحُ وَلَيْلُكَ عَن ْنَوْمِ الرَّفَاهَةِ يُصْبِحُ وَفِي لَفْظِكَ الدَّعْوَى وَلَيْسَ إِزَاؤُهَا مِنَ العَمَلِ الزَّاكِي دَلِيلٌ مُصَحَّحُ إِذَا لَمْ تُوَافِقْ قَوْلةً مِنْكَ فِعْلَةٌ فَفِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ حَدِيثِكَ تَفْضَحُ تَنَحَّ عَنِ الغَايَاتِ لَسْتَ مِنْ أَهْلِهَا طَرِيقُ الهُوِينَا فِي سُلُوكِكَ أَوْضَحُ ... ›?

خطبة في ذم الفتن لأحد العلماء رحمة الله عليه

.. إِذَا كُنْتَ فِي سِنِّ النَّهْي غَيْرَ صَالِحٍ فَفِي أَيّ سِنِّ بَعْدَ ذَلِكَ تَصْلَحُ ... ›? اللَّهُمَّ افْتَحْ لِدُعَائِنَا بَابَ القَبُولِ وَالإِجَابَة، وَارْزُقْنَا صِدْقَ التَّوْبَةِ وَحُسْنَ الإِنَابَةِ، وَيَسِّرْنَا لِلْيُسْرَى وَجَنِّبْنَا العُسْرَى، وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وعلى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. خطبة في ذَمِّ الفِتن لأَحَدِ العُلماء رحمةُ الله عليه الحمد الله الذي ألبس من شاء من عباده ملابس الهداية والتوفيق وألزمهم كلمة التقوى فصارت الطاعة لهم خير أنيس ورفيق. وألهمهم شغل أوقاتهم بالخير فصرفوا كل وقت لما هو به خليق. أحمده سبحانه وتعالى حمدًا تفرج به الكروب ويتسع به المضيق، وأشكره شكر عبد إذا سمع المواعظ يفيق. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة عبد لاذ بجنابه فنجاه من كل كرب وضيق، وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله أفضل الخلق ذا النسب العريق اللَّهُمَّ صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه خير عشيرة ورفيق. أما بعد: أيها الناس اتقوا الله تعالى واعلموا أن الفتنة نار شديد حزامها جائرة أحكامها، مسمومة سهامها، ممقوتة أيامها، داعية إلى الشرك أعلامها، تغير النعم وتعجل النقم وتقطع التواصل وَتُصَيِّرُ أَهْلَهَا إِلَى التَّبَاغُضِ وَالتدابرَ أو التَّخَاذُلِ يُطْلِعُ الشَّيْطَانُ فِيهَا رأسه، وَيَبَثُّ بها في القلوب وسْوَاسَه فَيَجْعَلُ الآراءَ حَائِرَةْ وَالأحكامَ جَائِرَة

وَالأهواءَ مُخْتلفةْ وَالأحقادَ مُكْتَنِفَةْ وَجَمَرَاتِ الفُؤَادِ مُوَقَّدَةْ وَطُرُقَاتِ الرَّشَاِد مُؤْصَدَةُ حتى يكون القريب بعيدًا وذُو الأهل والعشيرة وحيدًا. وهل هي إلا نار وقودها الغضب ومذكيها الهوى وطاعة الشيطان والصخب وقادحها الجهل واللعب ومؤججها العناد والكذب وموقدها الأديان والأنفس والأموال ومآل أهلها أشر مآل تصير الديار بلا وقع وتعجز خروقها الراقع موقظها ملعون وقاتلها ومقتولها إلى النار والهون تطمع العدو في أهلها وتقطع المودة من أصلها تقطع سبل الولد والمال وتصير أهلها إلى سوء حال ليلهم سهر ونهارهم كدر. فالله عباد الله أن يوري الشيطان بينكم زنادها أو يورد قلوبكم أقبح ميرادها فيظفر منكم بخبث السرائر ويطحنكم بدواهي الجوائر، ثم تبوءوا في الدنيا بعارها وشارها وفي الآخرة بخسارتها ونارها، ولا تلتذوا في العاجلة بشرب عقارها فتندموا في الآخرة غب إخمارها واحذروا أن تَسْلُكُوا من الفتن سبلها وألزموا كلمة التقوى. وكونوا أحق بها وأهلها وذروا نخوة الحمية ودعوة الجاهلية فقد جعلكم الله بالإسلام إخوانًا وأمركم أن تكونوا على البر والتقوى أعوانًا ولا تكونوا كالذين أرجأوا العمل بسوف وحتى بأسهم بَيْنَهُمْ شديد تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى فقد سمعتم ما وصف الله به نبيه المختار وأصحابه الخيرة الأبرار حين ضرب لهم في كتابه مثلاً وأمركم باتباعه قولاً وعملاً فقال جل جلاله: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} .. إلخ الآية. وقال ?: «إن من الناس أناسًا مفاتيح للخير مغاليق للشر، ومن الناس أناسًا مغاليق للخير مفاتيح للشر، فطوبى لمن جعله الله مفتاحًا للخير وويل لمن كان مغلاقًا للخير مفتاحًا للشر» . وقال ?: «الفتنة راقدة لعن الله موقظها» ، وقال ?:

«إذا التقى المسلمون بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار» ، قالوا: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه» . وقال ?: «يأتي المقتول يوم القيامة تشخب أوداجه دمًا متعلقًا بالقاتل يقول: يا رب سل عبدك هذا فيم قتلني» . وقال ? في حديث أبي موسى الأشعري: «يكون في آخر الزمن فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا وَيُمْسِي كافرًا، وَيُمْسِي مؤمنًا ويصبح كافرًا يبيع دينه بعرض من الدنيا» . إن الفتنة أشد من القتل فهي داء ممزوج بالمرارة شاربها وسفينة غارقة في الهلاك راكبها ونار محرقة بلهيبها موقدها ما تحملها قوم إلا ندموا عليها ولا أضرم نارها أحد إلا وقع فيها وهل يضرمها إلا كل سفيه جاهل ولا يصطليها إلا كل حليم عاقل. فتأكل بلهبها أموالهم وتسلم إلى المقابر أبطالهم يهرع إلى أهلها من كل دار شيطانها ويصبح لهم في كل رأس أجواؤها فحينئذٍ تكون الغلبة للشياطين وتكون الظلمة عليهم سلاطين فيؤمِّرون سفهاءهم فيضلون ويخالفون رأي عقالهم فيهلكون أو يَضْمَحِلًُّون. جعلني الله وإياكم ممن أفاق لنفسه وفاق بالتحفظ أبناء جسنه وأعد عدة تصلح لرمسه واستدرك في يومه ما ضيعه في أمسه إن أحلى ما وعظ به الواعظون وتلذذ لخطابه المستمعون كلام من نحن لعفوه وكرمه مؤملون والله تعالى يقول وبقوله يهتدي المهتدون: {فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} الآيات بارك الله لي ولكم. اللَّهُمَّ هَبْ لَنَا مَا وَهَبْتَهُ لأَوْلِيَائِكَ وَتَوَّفَنَا وَأَنْتَ رَاضٍ عَنَّا وَقَدْ قَبِلْتَ اليسِيرَ مِنَّا وَاجْعَلْنَا يَا مَوْلانَا مِنْ عِبَادِكَ الذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيهِمْ ولا هُمُ يَحْزَنُونَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

موعظة بليغة تتضمن الحث على التفتيش على النفس والسبب في نزع البركة من الأموال والأعمار والأولاد والأعمال

موعظة عِبَادَ اللهَ لَقْدَ أَصْبَحَ النَّاسُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا أَهَمُّ عِنْدَهُمْ بِكَثِيرٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ فَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إليه رَاجِعُونَ، فِي لَيْلِهْمْ وَنَهَارِهم مَشْغُولِينَ شُغْلَ العَاشِقِينَ المُسْتَغْرِقِينَ كَأَنَّهُمْ مَا خُلِقُوا إِلا لَهَا، وَأَمَّا الدِّينُ فَلا يَخْطُرُ عَلَى بَالِهِم وَإِنْ خَطَرَ فَطيفٌ يَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، أَثَّرَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي هَذَا الإِنْهِمَاكِ العَظِيمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّيْطَانَ بَلَغَ فِي تَهْوِينِ الدِّينِ عِنْدَهُمْ الغَايَةَ وَمِمَّا يَدُلُّكَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّكَ تَرَى الشَّخْصَ يَرْتَدُّ عَنِ الدِّينِ فَلا يُسْأَلُ وَلا يُنَاقَشُ، وَلِذَلِكَ نْزِعَتْ البَرَكَةُ مِنْ أَعْمَارِنَا وَأَعْمَالِنَا وَأَمْوَالِنَا وَأَوْلادِنَا، وَأَصْبَحْنَا وَقَدْ ضَرَبَ الذُّلُّ عَلَيْنَا سُرَادِقَةُ وَنَحْنُ كَأَنَّا لَسْنَا مِنَ الأَحْيَاءِ، أَمَّا عَدَمُ البَرَكَةِ فِي أَعْمَارِنَا فَلأنَّ أَحَدُنَا يَمُرُّ عَلَيْهِ الشَّهْرُ وَالعَامُ لا تَرَى لِحَيَاتِهِ مِنْ َأثرَ فِي الإِصْلاحِ وَتَوْجِيهِ المُنْحَرِفِينَ، وَالقِيَامِ التَّامِ المُثْمِر بِالأَمْرِ بِالمَعْرُوفَ وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ وَالسَّعْيِ فِي إِزَالَةِ مَا يَمَسُّ الدِّينَ مِمَّا حَلَّ فِي بِلادِ المُسْلِمِينَ مِنْ المُنْكَرَاتِ وَالمَفَاسِدِ وَالشُّرُورِ، وَلَوْ سَأَلْتَ أَحَدُنَا هَلْ لَكَ مِنْ حَيَاتِكَ أَثٌر نَافِعٌ لَتَلَجْلَجَ فِي الكَلامِ يَنْظُرُ وَرَاءَهُ فَلا يَرَى أَثَرًا، وَيَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّ الأَيَّامَ مَرَّتْ سُدَى تَتْلُوهَا الأَيَّامُ هَذَا مِنْ عَدَمْ البَرَكَةِ فِي أَعْمَارِنَا، وَأَمَّا عَدَمُ البَرَكَةِ فِي أَعْمَالِنَا فلأَنَّ أَحدُنَا مَا دَامَ مُسْتَيْقِظًا يَتَحَرَّكُ وَلا تَنْقَطِعُ أَقْواله وَلا أَفْعَاله وَلَكِنَّهَا تَدُور بَيْنَ حَرَامٍ أَوْ مَكْرُوهٍ، أَوْ عَبَثٍ لا يَلِيقُ أَنْ يَصْدُرَ مِنَ الرِّجَالِ، فَتَجِدُ الكَذِبَ وَالنَّمِيمَةَ وَالقَذْفَ وَالغِيبَةَ وَالتَّمَلُّقِ وَالنِّفَاقَ وَالرِّيَاءَ وَتَعْظِيمَ العُصَاةِ المُجَاهِرينَ بِهَا وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَأَمَّا عَدَمُ البَرَكَةِ فِي أَمْوَالِنَا فلأَنَّ أَحَدَنَا يَكُونُ عِنْدَهُ المَالُ الكَثِيرُ فَتَرَاهُ يُبَعْثِرَهُ فِي سَبِيلِ شَهَوَاتِهِ وَمَلَذَّاتِهِ الفَاجِرَةِ أَوْ يَكْنِزَهُ وَلا يُخْرِجُ

مِنْهُ الزَّكَاةَ، وَإْنْ عَرَضْتَ عَلَيْهِ مَشْرُوعًا دِينِيًا فَرَّ مِنْكَ مَذْعُورًا فَأَيُّ بَرَكَةٍ تَكُونُ فِي مِثْلِ هَذَا المَالُ، وَأَمَّا عَدَمُ البَرَكَةِ فِي أَوْلادِنَا فلأَنَّهُمْ فِي صِغَرِهِمْ يَكُونُونَ شَيَاطِينَ يُتْعِبُونَ فِي التَّرْبِيَةِ آبَاءَهُم وَأُمَّهَاتِهِم، فَإِذَا شَبُّوا شُغِلُوا بِشَهَوَاتِهِمْ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهمْ لِلْوَالِدَيْنِ مِنْ صُنُوفِ البِرِّ وَأَكْثَرُهُمْ يَكُونُ طُولَ حَيَاتِهِ حَرْبًا عَلَى وَالِدَيْهِ يُرِيهُمَا أَنْواعَ الإِهَانَاتِ وَالأَذَايَا وَأَيُّ بَرَكة فِي أَوْلادٍ هَذَا حَالهُم مَعَ وَالدَيْهِم، وَاللهُ أَعْلَمُ أَنَّ نَزْعَ البَرَكَةُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ عُقُوبَةً لَنَا عَلَى إِقْبَالِنَا عَلَى الدُّنْيَا وَإِعْرَاضِنَا عَنِ الدِّينِ فَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ العَلِيّ العَظِيمِ. شِعْرًا: ... زَمَانُ كُلُّ حِبّ فيه خَبُ ... وَطَعْمُ الخلّ خَلُ لَوْ يُذَاقُ لَهُمْ سُوقٌ بَضَاعَتهُ النِّفَاقُ ... فَمَنْ نَاقَ يَكُونُ لَهُ نَفَاقُ آخر: ... خَمْسُونَ عَامًا تَوَلَّتْ فِي تَصَرُّفِهَا ... عُسْرٌ وَيُسْرٌ عَلَى الحَالين أَشْهَدُهُ لَمْ أَبْكِ مَنْ زَمْنٍ صَعْبٍ فُجِعْتُ بِهِ ... إِلا بَكَيْتُ عَلَيْهِ حِينَ أَفْقِدُهُ وَمَا جَزِعَتْ عَلَى مَيْتٍ فُجِعْتُ بِهِ ... إَلا ظَلَلْتُ لِسَتْرِ القَبْرِ أُحْسُدُهُ وَمَا ذَمَمْتُ زَمَانًا فِي تَقَلُّبِهِ ... إِلا وَفِي زَمَنِي قَدْ صِرْتُ أَحْمَدُهُ آخر: ... أَحُنُّ إِلَى وَقْتٍ مَضَى بِغَضَارة ... إِذِ العَيْش رَطبٌ وَالزمانُ مُوَاتي وَأَبْكِي زَمَانًا صَالِحًا قَدْ فَقدتُهُ ... يُقَطِّعُ قَلْبِي ذِكْرُهُ حَسَرِاتِ آخر: ... هَذَا الزَّمَانُ الذِي كُنَّا نُحَاذِرُهُ فِي قَوْلِ كَعْبٍ وَفِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودِ وَقْتٌ بِهِ الحَقُّ مَرْدُودٌ بِأَجْمَعِهِ وَالظُّلْمُ وَالبَغْيُ فِيهِ غَيْرُ مَرْدُودِ إِنْ دَامَ هَذَا وَلَمْ يَحْصُلَ لَهُ غِيَرٌ = لَمْ يُبْكَ مَيْتٌ وَلَمْ يُفْرَحْ بِمْولُودِ ... ›?

أعمال يزيد بن معاويى وعقبة المري الإجرامية الفظيعة في المدينة المنورة وإباحتها للعسكر ثلاثا نعوذ بالله من حالهما وأعمالهما الاجرامية

ج ... زَعَمُوا لُبَيْدًا قَالَ فِي عَصْرٍ لَهُ وَبَقِيْتُ فِي خَلَفٍ كَجِلْدِ الأَجْرَبِ وَأَرَاهُ أَعْدَى خَلْفُه مِنْ خَلْفِهِ جَرَبًا وَأَعْيَا الدَّاءُ كُلَّ مُجَرِّبِ وَتَضَاعَفَ الْجَربُ الَّذِي عَدْوَاهُ لا تَنْفَكُّ عَنْ مَاضٍ وَلا مُتَعَقِّبِ وَتَضَاعَفَ الدَّاءُ العُضَالُ فَخَلْفَنَا بَلَغَ الجُذَامَ وَعَصْرُنَا عَصْرٌ وَبِي ... ›? اللَّهُمَّ أَشْرِبْ مَحَبَّتِكَ فِي قُلُوبَنَا وَوَفَّقْهَا لِلتَّفَكُّرِ فِي عَظِيم نِعَمِكَ عَلَيْنَا لِتَقْوَى وَتَزْدَادَ وَارْزُقْنَا حُبَّ أَحْبَابكَ وَبُغْضَ أَعَدَائِكَ. اللَّهُمَّ وَثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ وَلا تُزْغْهَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وَسَلَّمَ. (فَصْلٌ) وَعَنْ مُحَمَّدٍ بنِ سَعِيدٍ - يَعْنِي ابْنُ رُمَّانَةَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمَّا حَضَرَهُ المَوْتُ قَالَ لِيَزِيد بنِ مُعَاوِيَةَ: قَدْ وَطَّأْتَ لَكَ البِلادَ، وَفَرشْتُ لَكَ النَّاسَ وَلَسْتُ أَخَافُ عَلَيْكُم إِلا أَهْلَ الحِجَازِ فَإِنْ رَابَكَ مِنْهُمْ رَيْبٌ فَوَجِّهْ إليهمْ مُسْلِمُ بنُ عُقْبَةَ المَرِّيّ، فَإِنِّي قَدْ جَرَّبتَهُ غَيْرَ مَرَّةٍ فَلَمْ أَجِدْ لَهُ مَثَلاً لِطَاعَتِهِ وَنَصِيحَتِهِ، فَلَمَّا جَاءَ يَزِيدُ خِلافُ ابْنِ الزُّبَيْر وَدُعَاؤهُ إِلَى نَفْسِهِ دَعَا مُسْلِمَ بنِ عُقْبَةَ المَرِّيّ - وَقَدْ أَصَابَهُ الفَالِجُ - وَقَالَ: إِنَّ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ عَهِدَ إليَّ فِي مَرَضِهِ: إِنْ رَابَنِي مِنْ أَهْلِ الحِجَازِ رَائِبٌ أَنْ أُوَجِّهَكَ إليهمْ، وَقَدْ رَابِنِي فَقَالَ: إِنِّي كَمَا ظَنَّ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ اعْقِدْ لِي، وَعَبِّ الجُيُوشَ، قَال: فَوَرَدَ المَدِينَةَ فَأَبَاحَهَا ثَلاثًا، ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى بَيْعَةِ يَزِيدَ،

أَنَّهُمْ أَعْبَدٌ لَهُ قِنٌّ فِي طَاعَةِ اللهِ وَمَعْصِيَتِهِ، فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِكَ إِلا رَجُلاً وَاحِدًا مِنْ قُرَيْشٍ أُمُّهُ أُمُّ وَلَدٍ فَقَالَ لَهُ: بَايِعْ يَزِيدَ عَلَى أَنَّكَ عَبْدٌ فِي طَاعَةِ اللهِ وَمَعْصِيَتِهِ قَالَ: لا بَل فِي طَاعَةِ اللهِ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ ذَلِكَ مِنْهُ وَقَتَلَهُ، فَأَقْسَمَتْ أُمَّهُ قَسَمًا لَئِنْ أَمْكَنَهَا اللهُ مِنْ مُسْلِمٍ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا أَنْ تُحْرِقَهُ بِالنَّارِ، فَلَمَّا خَرَجَ مُسْلِمُ بنُ عُقْبَة مِنَ المَدِينَةِ اشْتَدَّتْ عِلَّتُهُ فَمَاتَ، فَخَرَجَتْ أُمَّ القُرَشِيّ بِأعْبُدٍ لَهَا إِلَى قَبْرِ مُسْلِم بن عُقْبَة، فَأَمَرَتْ أَنْ يُنْبَشَ مِنْ عِنْدَ رَأْسِهِ فَلَمَّا وَصَلُوا إليه إِذَا ثُعْبَانٌ قَدِ الْتَوَى عَلَى عُنُقِهِ قَابِضًا بِأَرْنَبَةِ أَنْفِهِ يَمُصُّهَا، قَالَ: فَكَاعَ القَوْمُ عَنْهُ. وَقَالُوا: يَا مَوْلاتِنَا انْصَرِفِي فَقَدْ كَفِاكِ اللهِ شَرُّهُ وَأَخْبَرُوهَا، قَالَتْ: لا أَوْ أَوْفِي للهِ بِمَا وَعَدْتُهُ، ثُمَّ قَالَتْ: انْبِشُوا مِنْ عِنْدَ الرِّجْلَيْنِ، فَنَبَشُوا فَإِذَا الثُّعْبَانُ لاوِيًا ذَنَبُه بِرَجْلَيْهِ، قَالَ: فَتَنَحَّتْ فَصَلَّتْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَتْ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ إِنَّمَا غَضِبْتُ عَلَى مُسْلِم بنِ عُقْبَةَ اليوم لَكَ فَخَلِّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، ثُمَّ تَنَاوْلَتْ عُودًا فَمَضَتْ إِلَى ذَنَبِ الثُّعْبَانِ فَانْسَلَّ مِنْ مُؤَخِّرِ رَأْسِهِ فَخَرَجَ مِنَ القَبْرِ ثُمَّ أمرَتْ بِهِ فَأُخْرِجَ مِنَ القَبْرِ فَأُحْرِقَ بِالنَّارِ. رَوَاهُ الطَّبَرَانِي. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ فِي ثَقِيفَ كَذَّابًا وَمُبِيرًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيّ. وَقَالَ النَّوَوِي: اتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ المُرَادَ بِالكَذَّابِ هُنَا: المُخْتَارُ بنُ أبِي عُبَيْدٍ. وَبِالمُبِيرُ: الحَجَّاجُ بنُ يُوسُفَ. وَعَنْ أَبِي نَوْفَلَ قَالَ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللهِ بنَ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَلَى عقَبةِ المَدِينَةِ، قَالَ: فَجَعَلَتْ قُرَيْش تَمُرُّ عَلَيْهِ وَالنَّاسُ حَتَّى مَرَّ عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فَوَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، السَّلامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، السَّلامُ عَلَيْكَ أَبَا خُبَيْبٍ، أَمَا وَاللهِ لَقَدْ

قسوة الحجاج وتجريه على الله بانتهاك حرمات المسلمين وعدم وقوفه على حدود الله وعدد من قتل ومن سجن فيما نقل

كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللهِ إِنْ كُنْتَ مَا عَلمْتُ صَوَّامًا قَوَّامًا، وَصُولاً لِلرَّحِمِ، أَمَا وَاللهِ لأُمَّةٌ أَنْتَ شَرُّهَا لأُمَّةُ خَيْرٍ، ثُمَّ نَفَذَ عَبْدُ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فَبَلَغ الحَجَّاجُ مَوْقِفُ عَبْدِ اللهِ وَقَوْلُهُ فَأَرْسَلَ إليه، فَأُنْزِلَ عَنْ جِذْعِهِ، فَأُلْقِيَ فِي قُبُورِ اليهود، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أُمِّهِ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فَأَبَتْ أَنْ تَأْتِيهِ، فَأَعَادَ عَلَيْهَا الرَّسُولُ لَتَأتِيَنِّي أَوْلا لأَبْعَثَنَّ إليك مَنْ يَسْحَبُكِ بِقُرُونِكِ، قَالَ: فَأَبْتَ، وَقَالَتْ: وَاللهِ لا آتِيكَ حَتَّى تَبْعَثُ إلى مَنْ يَسْحَبُنِي بِقُرُونِي، قَالَ: فَقَالَ: أَرُونِي سَبْتِي فَأَخَذَ نَعْلَيْهِ ثُمَّ انْطَلَقَ يَتَوَذَّفُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتَنِي صَنَعْتُ بِعَدُوِّ اللهِ، قَالَتْ: رَأَيْتُكَ أَفْسَدْتَ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ، وَأَفْسَدَ عَلَيْكَ آخِرَتَكَ، بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقُولُ: يَا ابْنَ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ. أَنَا وَاللهِ ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ. أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكُنْتُ أَرْفَعُ بِهِ طَعَامَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَعَامَ أَبِي بَكْرٍ مِنَ الدَّوَابِ، وَأَمَّا الآخِرُ فَنِطَاقُ المَرْأَةِ التِي لا تَسْتَغْنِي عَنْهُ أَمَا إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَنَا: «أَنَّ فِي ثَقِيفَ كَذَّابًا وَمُبِيرًا» ، فَأَمَّا الكَذَّابُ فَرَأَيْنَاهُ، وَأَمَّا المُبِيرُ فَلا إِخَالُكَ إِلا إِيَّاهُ، قَالَ فَقَامَ عَنْهَا وَلَمْ يُرَاجِعْهَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ النَّاجِي قَالَ: لَمَّا ظَفَرَ الحَجَّاجُ بِابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَتَلَهُ وَمَثَّلَ بِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى أُمِّ عَبْدِ اللهِ وَهِيَ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فَقَالَتْ: كَيْفَ تَسْتَأْذِنُ عَلَيَّ وَقَدْ قَتَلتَ ابْنِي؟ فَقَالَ: إِنَّ ابْنَكِ أَلْحَدَ فِي حَرَمِ اللهِ، فَقَتَلْتُهُ مُلْحِدًا عَاصِيًا حَتَّى أَذَاقَهُ اللهُ عَذَابًا أليمًا، وَفَعَلَ بِهِ وَفَعَلَ، فَقَالَتْ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّ المُسْلِمِينَ، وَاللهِ لَقَدْ قَتَلْتَ صَوَّامًا قَوَّامًا بَرًّا بِوَالِدَيْهِ، حَافِظًا لِهَذَا الدِّينِ، وَلَئِنْ أَفْسَدْتَ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ لَقْدَ أَفْسَدَ عَلَيْكَ آخِرَتَكَ، وَلَقَدْ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ثَقِيفٍ كَذَّابَانِ الآخِرُ مِنْهُمَا أَشَرُّ مِنَ الأَوّلِ، وَهُوَ المُبِيرُ» ، وَمَا

هُوَ إِلا أَنْتَ يَا حَجَّاجُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَالحَاكِمُ وَهَذَا لَفْظُهُ، وَقِيلََ: إِنَّ الحَجَّاجَ قَالَ لَهَا: صَدَقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَدَقْتِ أَنَا المُبِيرُ. وَعَنِ الحَسَن قَالَ: قَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لأَهْلِ الكُوفَةِ: اللَّهُمَّ كَمَا أئِتَمْنُتُهم فَخَانُونِي، وَنَصَحْتُ لَهُمْ فَغَشُّونِي، فَسَلِّطْ عَلَيْهِمْ فَتَى ثَقِيف الذَّيَّالِ المَيَّالُ يَأْكُلُ خُضْرَتَهَا، وَيَلْبِسُ فَرْوَتَهَا وَيَحْكُمَ فِيهِم بِحُكْمِ الجََاهِلَيَّةِ. قَالَ الحَسَنُ: وَمَا خَلَقَ اللهُ الحَجَّاجَ يَوْمَئِذٍ. رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَاقِ، وَالبَيْهَقِي فِي الدَّلائِلِ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ. قَالَ البَيْهَقِيّ: وَلا يَقُولُ عَلِي ذَلِكَ إلا تَوْفِيقًا. وَعَنْ هِشَامِ بنِ حَسَّانَ قَالَ: أَحْصُوا مَا قَتِلِ الحَجَّاجُ صَبْرًا، فَبَلَغَ مِائَةَ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفِ قَتِيلٍ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ. وَقَالَ الأَصْمَعِيّ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِم عَنْ عُبَادَةَ بنِ كَثِيرٍ عَنْ قَحْدَمٍ قَالَ: أَطْلَقَ سُلَيْمَانُ بنُ عَبْدِ المَلِك فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ وَاحِدَا وَثَمَانِينَ أَلِفًا، مِنْهُم ثَلاثُونَ أَلْفَ امْرَأةٍ، وَعُرضَتْ السُّجُونُ بَعْدَ الحَجَّاج فَوَجَدُوا فِيهَا ثَلاثَةً وَثَلاثِينَ أَلْفًا لَمْ يَجبْ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُم قَطْعٌ وَلا صَلْبٌ. وَقَالَ الرَّيَاشِي: حَدَّثَنَا عَبَّاسُ الأَزْرَقُ عَنِ السَّرِيّ بنِ يَحْيَى قَالَ: مَرَّ الحَجَّاجُ فِي يَوْمِ جُمْعَةٍ فَسَمِعَ اسْتِغَاثَةً، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: أَهْلُ السُّجُونَ يَقُولُونَ: قَتَلَنَا الحَرُّ، فَقَالَ: قُولُوا لَهُمْ: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} قَالَ: فَمَا عَاشَ بَعْدَهَا إِلا أَقَلَّ مِنْ جُمْعَةٍ حتَىَّ قَصَمَهُ اللهُ قَاِصُم كُلِّ جَبَّارٍ.

وَعَنْ هِشَامِ بنِ حَسَّانِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: لَوْ أَنَّ الأُمَمَ تَخَابَثَتْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَأَخْرَجَتْ كُلُّ أُمَّةٍ خَبِيثَهَا ثُمَّ أَخْرَجْنَا الحَجَّاجَ لَغَلْبَنَاهُمْ. رَوَاهُ أَبُو نَعِيمٍ فِي الحِلْيَةِ. وَقَالَ فِي الرَّوْضَةِ النَّدِيَّةِ شَرْحُ الدُّرَّةِ البَهِيَّةِ: وَقَدْ أُحْصِيَ الذِينَ قَتَلَهم الحَجَّاجُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَبَلَغُوا مِائَةَ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفًا (120000) . وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بنِ الجَرَّاح قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يَزَالُ أَمْرُ أُمَّتِي قَائِمًا بِالقِسْطِ حَتَّى يَكُونَ أَوَّلُ مَنْ يَثْلِمُهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أُمَيَّة يُقَالُ لَهُ: يَزِيدُ» . رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، وَالبَزَّارُ. وَعَنْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: وُلِدَ لأَخِي أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيّ ? غُلامٌ فَسَمَّوْهُ الوَلِيدُ، فَقَالَ النبي ?: «سَمَّيْتُموهُ بِأَسْمَاءِ فَرَاعِنَتِكُم، ليَكُونُنَّ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الوَلِيدُ لَهُوَ أَشَرَّ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ مِنْ فِرْعَوْنَ لِقَوْمِهِ» . رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ. قَالَ الهَيْثَمِيّ: وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخر: رِجَاله ثِقَاتٌ. شِعْرًا: ... خَفِ اللهِ فِي ظُلْمِ الوَرَى وَاحْذَرَنَّهُ ... وَخَفْ يَوْمَ غَضَّ الظَّالِمِينَ عَلَى الْيَدِ وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ عَنْ ذَاكَ غَافِلاً ... وَلَكِنَّهُ يُمْلَي لِمَنْ شَا إِلَى الغَدِ فَلا تَغْتَرِرْ بِالحِلْمِ عَنْ ظُلْمِ ظَالِمٍ ... سَيَأخُذُهُ أَخْذًا وَبِيلاً وَعَنْ يَدِ اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَنَا رَغَدًا، ولا تُشْمِتْ بِنَا أَحَدَا. اللَّهُمَّ رَغَبْنَا فِيمَا يَبْقَى، وزهدنا فيما يَفَنى، وهب لنا اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يُعَوَّلُ في الدين إلا عليه. اللَّهُمَّ إنا نسألك بعزك الذي لا يرام وملكك الذي لا يضام، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفينا ما أهمنا وما لا نهتم به وأن تعيذنا

موعظة تتضمن بيان من هو العارف بالله حقيقة

من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. اللَّهُمَّ يا عليم يا حليم يا قوي يا عزيز يا ذا المن والعطا والعز والكبرياء يا مَنْ تَعْنُوا له الوجُوه وتخشع له الأصوات وفقنا لصالح الأعمال واكفنا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك إنك على كل شيء قدير. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. موعظة: عِبَادَ اللهِ إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَقْدُرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَلَمْ يَعْرِفُوهُ المَعْرِفَةُ التِي لا تَلِيقُ بِجَلاله وَعَظَمَتِهِ، وَلَوْ عَرَفُوهُ هَذِهِ المَعْرِفَةَ وَقَدَّرُوهُ مَا صَدَّقَ العَقْلُ أَنْ يَكُونُوا بِهَذِهِ الحَالِ، إِنَّ العَارِفَ بِاللهِ تَعَالَى يَخْشَاهُ، فَتَعْقِلُهُ هَذِهَ الخَشْيَةُ عَمَّا لا يَنْبَغِي مِنَ الأَفْعَالِ كَيْفَ لا وَهَذَا القُرَآنُ يَقُولُ اللهُ فِيهِ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} العَارِفُ بِاللهِ تَعَالَى لا يَجْرُؤُ أَنْ يُحَرِّكَ لِسَانَهُ بِكَلِمَةٍ مِنَ المُنْكَرَاتِ لأَنَّهُ يُؤْمِنُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَسْمَعُ السِّرَّ واَلنَّجْوَى، وَلا يَجْرُؤ أَنْ يَسْتَعْمِلَ عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ فِي عَمَلٍ لَيْسَ بِحَلالٍ، لأَنَّهُ يُؤْمِنُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَرَاهُ مَهْمَا اخْتَفَى وَاجْتَهَدَ فِي الاخْتِفَاءِ وَكَذَلِكَ لا يُقْدِمُ وَيَعْزِمْ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ مِنَ المُحَرَّمَاتِ لأَنَّهُ يُؤْمِنُ بِوَعِيدِ اللهِ عَلَى مَنِ اجْتَرَأَ وَانْتَهَكَ المَحْظُورَاتِ، العَارِفُ بِاللهِ حَقّ المَعْرِفَةَ لا يَنْطَوِي عَلَى رَذِيلَةٍ كَالكِبْرِ وَالعُجْبِ وَالحِقْدِ وَالنِّفَاقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الرَّذَائِلِ المَمْقُوتَاتِ لأَنَّهُ لا يُؤْمِنُ أَنَّ مَا فِي قَلْبِهِ لا يَخْفَى عَلَى مَنْ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ، فَلا يَسْتَرِيحُ حَتَّى يَكُونَ بَاطِنُهُ كَظَاهِرِهِ مُطَهَّرًا عَنِ الفَوَاحِشِ، وَكَذَلِكَ لا يَتَعَامَلُ بِالرِّبَا وَيَبْتَعِدُ كُلَّ البُعْدِ عَنِ الرِّيَاءِ وَنَحْوِهِمَا مِنَ المُحَرَّمَاتِ، وَكَذَلِكَ لا تَسْمَعُ مِنْ فَمِهِ عِنْدَ نُزُولِ البَلا إِلا الحَسَنَ الجَمِيلَ فَلا يَغْضَبُ لِمَوْتِ عَزِيزٍ أَوْ فَقْدِ مَالٍ، أَوْ مَرَضٍ شَدِيدٍ لأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ غَضَبَهُ يَتَوَجَّهُ إِلَى الحَكِيمِ العَلِيمِ اللَّطِيفِ

ذكر بعض علامات الساعة المتوسطة

الخَبِيرِ، وَلا يَصْدُرُ مِنَ العَارِفِ بِاللهِ حَسَدٌ لِخَلْقِ اللهِ عَلَى مَا أَوْلاهُمْ مِنْ نِعْمَةٍ لأنَّهُ يُؤْمِنُ أَنَّ اللهَ قَسَّمَ النِّعَمَ بَيْنَ عِبَادِهِ وَلَيْسَ لِقِسْمَتِهِ رَادُّ، وَكَذَلِكَ العَارِفُ لا يَيْأَسْ مِنْ زَوَالِ شِدَّةٍ مَهْمَا تَعَقَّدَتْ وَاسْتَحْكَمَتْ، وَلا يَيْأَسُ مِنْ حُصُولِ خَيْرٍ مَهْمَا سَمَا وَابْتَعَدَ، لأنَّهُ يُؤْمِنُ أَنَّ الأُمُورَ كُلَّهَا بِيَدِ اللهِ الذِي إِذَا أَرَادَ شَيْئًا قَالَ لَهُ: كُنْ فَكَانَ، العَارِفُ بِاللهِ لا يُقَنِّطَ المُؤْمِنُ العَاصِي مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَلا يُؤَمِّنُ المُحْسِنَ، لَكِنَّهُ يَرْجُو لِلْمُحْسِنِ وَيَخَافُ عَلَى المُسِيءِ، العَارِفُ بِاللهِ لا يَغُشُّ مُؤْمِنًا، وَلا يُسِيءُ إِلَى الجَارِ العَارِفُ بِالله يُمُيِّزُ بَيْنَ الأَصْدِقَاءِ المُخْلِصِينَ مِنَ المُبَهْرِجِينَ المُزَيَّفِينَ لكثرة تَفرُسه فيهم قال بَعْضُهُمْ: أَلْمْ تَعْلَمْ بِأَنِّي صَيْرَفِيٌّ ... أَحُكُ الأَصِدْقَاءَ عَلَى مَحَكِّ فَمِنْهُمْ بَهْرَجُ لا خَيْرَ فِيهِ ... وَمِنْهُمْ مَنْ أُجَوِّزُهُ بِشَكّ وَمِنْهُم خَالِصُ الذَّهَبِ المُصَفَّى ... بِتَزْكِيَتِي وَمِثْلِي مَنْ يُزَكِي اللَّهُمَّ أعِذْنَا بِمَعافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَبِرَضَاكَ مِنْ سَخْطِكَ واحْفَظ جَوارِحَنَا مِنْ مُخَالَفَة أمْرك، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) : وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: حَجَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّةَ الوَدَاعَ، ثُمَّ أَخَذَ بِحَلَقَةِ بَابِ الكَعْبَةِ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَشْرَاطِ السَّاعَةِ» ؟ فَقَامَ إليه سَلْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَخْبِرْنَا فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ إِضَاعَةُ الصَّلاةِ، وَالمَيْلُ مَعَ الهَوَى، وَتَعْظِيمُ رَبِّ المَالِ» ، فَقَالَ سَلْمَانُ: وَيَكُونَ هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَا سَلْمَانُ تَكُونُ الزَّكَاةُ مَغْرَمًا، وَالفَيْءُ مَغْنَمًا، وَيُصَدَّقُ الكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ الخَائِنُ، وَيَخُونُ الأَمِينُ، وَيَتَكَلَّمُ الرُّوَيْبِضَةُ» ، قَالُوا:

وَمَا الرَّويبِضَةُ؟ قَالَ: «يَتَكَلَّمُ فِي النَّاسِ مَنْ لَمْ يَتَكَلَّمَ، وَيُنْكِرُ الْحَقَّ تِسْعَةً أَعْشَارِهِمْ، وَيَذْهَبُ الإِسْلامُ فَلا يَبْقَى إِلا اسْمُهُ، وَيَذْهَبُ الْقُرْآنُ فَلا يَبْقَى إلا رَسْمُهْ، وَتُحَلَّى الْمَصَاحِفُ بِالذَّهَبِ، وَتَتَسَمَّنُ ذُكُورُ أُمَّتِي، وَتُكُونُ الْمشُورَةُ لِلإِمَاءِ، وَيَخْطُبُ عَلَى الْمَنَابِر الصِّبْيَانُ، وَتَكُونُ الْمُخَاطَبَةُ لِلنِّسَاءِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تُزَخْرَفُ الْمَسَاجِدُ كَمَا تُزَخْرَفُ الْكَنَائِسُ وَالْبِيعُ، وَتُطَوَّرُ الْمَنابِرُ، وَتَكْثُرُ الصُّفُوفُ مَعَ قُلُوبٍ مُتَبَاغِضَةٍ، وَأَلْسُنٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَهْوَاءٍ جَمَّةٍ» . قَالَ سَلْمَانُ: وَيَكُونُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ عِنْدَ ذَلِكَ يَا سَلْمَانُ يَكُونُ الْمُؤْمِنُ أَذَلَّ مِنْ الأمَةِ، يَذُوبُ قَلْبُهُ فِي جَوْفِهِ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ مِمَّا يَرَى مِنْ الْمُنْكَرِ فَلا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُغَيِّرَهُ، وَيَكْتَفِي الرِّجَالُ بِالرِّجَالِ، وَالنِّسَاءُ بِالنِّسَاءِ، وَيُغَارُ عَلَى الْغُلْمَانِ كَمَا يُغَارُ عَلَى الْجَارِيَةِ الْبِكْرِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَا سَلْمَانُ يَكُونُ أَمَرَاءُ فَسَقَةٌ، وَوُزَرَاءُ فَجَرَةٌ، وَأُمَنَاءُ خَوَنَةٌ يُضِيعُونَ الصَّلاةَ، وَيَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ، فَإِنْ أَدْرَكْتُمُوهُمْ فَصَلُّوا صَلاتِكُمْ لِوَقْتِهَا عِنْدَ ذَلِكَ يَا سَلْمَانُ يَجِيءُ سَبْيٌ مِنْ الْمَشْرِقِ، وَسَبْيٌ مِنْ الْمَغْرِبِ جُثُاؤُهُمْ جُثَاءَ النَّاسِ، وَقُلُوبهُم قُلُوبُ الشَّيَاطِينَ، لا يَرْحَمُونَ صَغِيرًا وَلا يُوَقِّرُونَ كَبِيرًا، عِنْدَ ذَلِكَ يَا سَلْمَانُ يَحُجُّ النَّاسُ إِلى هَذَا الْبَيْتِ الْحَرَامِ، تَحُجُّ مُلُوكُهُمْ لَهْوًا وَتَنَزُّهًا، وَأَغْنِيَاؤُهُمْ لِلتِّجَارَةِ، وَمَسَاكِينُهم لِلْمَسْأَلَةِ وَقُرَّاؤُهُمْ رِيَاءً وَسُمْعَةً» . قَالَ: وَيَكُونُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، عِنْدَ ذَلِكَ يَا سَلْمَانُ يَفْشُو الْكَذِبُ، وَيَظْهَرُ الْكَوْكَبُ لَهُ الذَّنْبُ، وَتُشَارِكُ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا فِي التِّجَارَةِ، وَتَتَقَارَبُ الأَسْوَاقُ» . قَالَ: وَمَا تَقَارُبُهَا؟ قَالَ: «كَسَادُهَا، وَقِلَّةُ أَرْبَاحِهَا، عِنْدَ ذَلِكَ يَا سَلْمَانُ يَبْعَثُ اللهُ رِيحًا فِيهَا حَيَّاتٌ صُفْرٌ فَتَلْتَقِطُ رُؤَسَاءَ الْعُلَمَاءِ لَمَّا رَؤا الْمُنْكَرِ فَلَمْ يُغَيُّرُوهُ» . قَالَ: وَيَكُونُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَالذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ» . رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ.

قصر الصلاة وإطالة الخطبة من أشراط الساعة

وَعَنْ ابنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ كُلَّ عَشِيَّةِ خَمِيسِ: سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ تُمَاتُ فِيهِ الصَّلاةُ، وَيُشْرَفُ فِيهِ الْبُنْيَانُ، وَيَكْثُرُ فِيهِ الْحَلَفُ وَالتَّلاعُنُ، وَيَفْشُوا فِيهِ الرُّشَا وَالزِّنَا، وَتُبَاعُ الآخِرَةُ بِالدُّنْيَا، فَإِذَا رَأَيْتَ ذَلِكَ فَالنَّجَا النَّجَا. قِيلَ: وَكَيْفَ النَّجَا؟ قَالَ: كُنْ حِلْسًا مِنْ أَحْلاسِ بَيْتِكَ، وَكُفَّ لِسَانَكَ وَيَدَكَ. رَوَاهُ ابنُ أَبِي الدُّنْيَا. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ سُوءُ الْجِوَارِ، وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ، وَأَنْ يُعَطَّلَ السَّيْفُ مِنْ الْجِهَادِ، وَأَنْ تُخْتَلَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ» . رَوَاهُ ابنُ مَردَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيِّ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّكُمْ فِي زَمَانٍ الصَّلاةُ فيهِ طَويلَةٌ، والْخُطْبَةُ فِيهِ قَصِيرَةُ، وَعُلمَاؤُه كَثيرٌ، وَخُطَبَاؤُه قَليلٌ، وَسَيَأتِي عَلَى النَّاسِ زَمانٌ الصَّلاةُ فيهِ قصيرةٌ والْخُطبةُ فيهِ طويلةٌ، خُطَبَاؤُهُ كَثِيرٌ، وَعُلَمَاؤُهُ قَلِيلٌ، يُؤَخِّرُونَ الصَّلاةَ، صَلاةُ الْعَشِيّ إِلى شَرْقِ الْمَوْتَى، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ فَلْيُصَلِّ الصَّلاةُ لِوَقْتِهَا وَلِيَجْعَلْهَا مَعَهُمْ تَطَوُّعًا. رَوَاهُ الطَّبَرَانِي قَالَ الْهَيْثَمِيّ: وَرِجَاله رِجَالُ الصَّحِيحِ. وَرَوَى الإِمَامُ مَالِكْ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ يَحْيَى بن سَعِيدٍ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالِ لإِنْسانٍ: إِنَّكَ فِي زَمَانٍ كَثِيرٌ فُقَهَاؤُهُ قَلِيلٌ قَُرَّاؤُهُ، تُحْفَظُ فِيهِ حُدُودُ الْقُرْآنِ، وَتُضَيَّعُ حُرُوفُهُ، قَلِيلٌ مَنْ يَسْأَلُ، كَثِيرٌ مَنْ يُعْطَى، يُطِيلُونَ فِيهِ الصَّلاةُ، وَيُقَصِّرُونَ الْخُطْبَةَ، يُبْدُونَ أَعْمَالَهُمْ قَبْلَ أَهْوَائِهِمْ. وَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ، كَثِيرٌ قُرَّاؤُهُ، تُحْفَظُ فِيهِ حُرُوفُ الْقُرْآنِ، وَتَضْيَّعُ حُدُودُه كَثِيرٌ مَنْ يَسْأَلُ قَلِيلٌ مَنْ يُعْطَى يُطِيلُونَ فِيهِ الْخُطْبَةَ، وَيُقْصِّرُونَ الصَّلاةَ، يُبْدُونَ فِيهِ أَهْوَاءهُم، قَبْلَ أَعْمَالِهِم.

قُلْتُ: وَفِي هَذَا الْخَبَرِ أُمُورٌ وَقَعَتْ فِي زَمَنِِنَا، مِنْهَا قِلَّةُ الْفُقَهَاءِ بِمَعْنَى الْكَلِمَةِ، أَمَّا الْمُتَسمُونَ فَمَوْجُودُونَ بدُونِ مَعْنَى، وَمِنْهَا مَا وُجِدَ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْمُجِيدِينَ لِلْقرَاءَةِ، الْمُضِيِّعِينَ لِلْعَمَلِ، تَسْمَعُهُ مِنْهُمْ غَضًّا طَرِيًّا بِتَجْوِيدٍ وَفَصَاحَةٍ، وَمِنْهَا إِطَالَةُ الْخُطْبَةِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ زَمَنِنَا وَتَقْصِيرِ الصَّلاةِ، وَهَذا خِلافُ السُّنَّةِ، وَمِنْهَا كَثْرَةُ سُؤَالِهِمْ، وَقِلَّةُ إِعْطَائِهِمْ، فَهَؤُلاءِ طَرِيقَتُهُمْ ضِدُّ طَرِيقَةِ السَّلَفِ نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ الانْتِكَاسِ، وَعَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا حَمَلَةَ الْعِلْمِ اعْمَلُوا بِهِ، فَإِنَّمَا الْعَالِمُ مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ، وَوَافَقَ عِلْمَه عَمَلُه، وَسَيَكُونُ أَقْوَامٌ يَحْمِلُونَ الْعِلْمَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهمْ، يُخَالِفُ عَمَلُهُمْ عِلْمَهُم، وَتُخَالِفُ سَرِيرَتُهم عَلانِيَّتَهُمْ يَجْلِسُونَ حِلَقًا فَيُبَاهِي بَعْضُهُم بَعْضًا، حَتَّى أَنَّ الرَّجُلَ لِيَغْضَب عَلَى جَلِيسِه أَنْ يَجْلِسَ إِلى غَيْرِهِ وَيَدَعَهُ أُولَئِكَ لا تَصْعَدُ أَعْمَالَهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ تِلْكَ إِلى اللهِ. رَوَاهُ الدَّارِمِي. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَهَذَا الأَثَرُ لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ لأَنَّهُ إِخْبَارٌ عَنْ أَمْرٍ غَيْبِيّ فَلا يُقَالُ إِلا عَنْ تَوْقِيفٍ. وَعَنْ أبِي الزَّاهِرِيَّةِ - وَاسْمُهُ حُدَيْرُ بنُ كُرَيْبٍ - يَرْفَعُ الْحَدِيثَ: «إِنَّ اللهَ تَعَالى قَالَ: أَبُثُّ الْعِلْمَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، حَتَّى يَعْلَمَهُ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ، وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ بِهِمْ، أَخَذْتُهُم بِحَقي عَلَيْهِمْ» . رَوَاهُ الدَّارِمِيّ وَأَبُو نَعِيمٍ فِي الْحِلْيَةِ قُلْتُ: وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُعْجِزَة وَقَعَتْ طِبْقَ مَا ذكر. وَعَنْ عَمْرو بن تَغْلِبَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَكْثُرَ التُّجَّارُ، وَيَظْهَرَ

قصيدة زهدية ويليها موعظة في الحث على الزهد

الْقَلَمُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيّ فِي مُسْنَدِهِ. شِعْرًا: ... أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْمَرْءَ يُودِي شَبَابُهُ وَأَنَّ الْمَنَايَا لِلرِّجَالِ تُشَعِّبُ فَمِنْ ذَائِقٍ كَأْسًا مِن الْمَوْتِ مُرَّةً وَآخَرُ أُخْرَى مِثْلَهَا يَتَرَقَّبُ لَهَا مِنْهُمُ زَادٌ حَثِيثٌ وَسَائِقٌ وَكُلٌّ بِكَأْسِ الْمَوْتِ يَوْمًا سَيَشْرَبُ وَمَا وَارِثٌ إِلا سَيُورَثُ مَاله وَلا سَالِبٌ إِلا قَرِيبًا سَيُسْلَبُ وَلا آلِفٌ إِلا سَيَتْبَعُ إِلْفَهُ وَلا نِعْمَةٌ إِلا تَبِيدُو وَتَذْهَبُ وَمَا مِنْ مُعَانٍ فِي الْمَصَائِب جَمَّةٌ يُعَاوِرُهَا الْعَصْرَانِ إِلا سَيَعْطَبُ أَرَى النَّاسَ أَصْنَافًا أَقَامُوا بِغُرْبَةٍ تُقَلِبُهُمْ أَيَامُهَا وَتَقَلَّبُ بَدَارِ غُرُورٍ حُلْوَةٍ يَعْمُرونَهَا وَقَدْ عَايَنُوا فِيهَا زَوَالاً وَجَرَّبُوا يَذُمُونَ دُنْيًا لا يَرِيحُونَ دَرَّهَا فَلَمْ أَرَ كَالدُّنْيَا تُذَمُ وَتُحْلَبُ ... ›? ... تَسُرهُمُ طَوْرًا وَطَورًا تُذِيقُهُمْ ... مَضِيضَ مَكَا وَحَرَّهَا يَتَلَهَّبُ اللَّهُمَّ اعْتِقْنَا مِنْ رِِقِّ الذُّنُوبْ وَخَلِّصْنَا مِنْ شَرِّ النُّفُوس، وَأَذْهِبْ عَنَّا وَحْشَةَ الإِسَاءَةْ، وَطَهِّرْنَا مِنْ دَنَسِ الذُّنُوبِ، وَبَاعِدْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْخَطَايَا وَأَجِرْنَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم.

اللَّهُمَّ رَضِّنَا بِقَضَائِكَ وَأَعِنَّا عَلَى الدُّنْيَا بِالْعِفَّةِ وَالزُّهْدِ وَالْقَنَاعَةِ وَعَلَى الدِّينِ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَطَهِّرْ أَلْسِنَتَنَا مِنْ الْكِذْبِ وَقُلُوبَنَا مِنْ النِّفَاقِ وَأَعْمَالِنَا مِنْ الرِّيَاءِ وَاحْفَظْ أَبْصَارَنَا مِنْ الْخِيَانَةِ فَإِنَّكَ تَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيَنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورِ. اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ أَنْفُسِنَا وَالشَّيْطَانِ وَالدُّنْيَا وَالْهَوَى وَنَسْأَلُكَ أَنْ تَغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. مَوْعِظَةٌ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} ، وَقَالَ: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} عِبَادَ اللهِ يَعِيشُ ابن آدَمَ مَا قَدّرَ اللهُ لَهُ أَنْ يَعِيشَ وَيَمْشِي الإِنْسَانُ فِي هَذِهِ الأَرْضِ وَيَتَقَلَّبُ فِيهَا وَيَرَى حُلْوَهَا وَمُرَّهَا وَسُرُورَهَا وَأَحْزَانِهَا، وَيَأْخُذُ فِيهَا حَظَّهُ مِنْ الشَّقَاءِ وَحَظَّهُ مِنْ السَّعَادَةِ، بِمِقْدَارِ مَا قَدَّرَهُ اللهُ لَهُ وَمَا قَدَّرَهُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لِكُلِّ هَذَا نِهَايَةٌ وَلِكُلِّ ذَلِكَ غَايَةٌ قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلا: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} ، وَقَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} ، وَقَالَ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} فَسِبِيلُ الْمَوْتِ غَايَةُ كُلِّ حَيّ، وَالْخُلُودُ فِي دَارِ الْفَنَاءِ غَيْرُ مَعْقُولٍ، أَيُّهَا الْمُسْلِمُ عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحْبِبْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ. شِعْرًا: قال بعضهم في ابن له مَات: آخر: ... وَهَوَّنَ مَا أَلْقَى مِنَ الْوَجْدَّ أَنَّنِي ... أُجَاوِرُهُ فِي دَارِهِ اليوم أَوْ غَدِ لَعَمرْكُ مَا الدُّنْيَا بِدَارِ إِقَامَةِ ... إِذَا زَال عَنْ عَيْنِ الْبَصِيرِ غِطَاؤُهَا آخر: ... كَمْ رَأَيْنَا مِنْ أُنُاسٍ هَلَكُوا ... وَبَكَى أَحْبَابُهُمْ ثُمَّ بُكُوا

تَرَكُوا الدُّنْيَا لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ ... وَدُّهُمْ لَوْ قَدَّمُوا مَا تَرَكُوا كَمْ رَأَيْنَا مِنْ مُلُوكٍ سُوَقَةْ ... وَرَأَيْنَا سُوَقَةً قَدْ مَلَكُوا آخر: ... وَكُلُّ أُمٍّ وَإِنْ سُرَّتْ بِمَا وَلَدَتْ ... يَوْمًا سَتُشْكَلُ مَا رَبَّتْ مِنَ الْوَلَدِ آخر: ... وَكَيْفَ بَقَاءَ النَّاسِ فِيهَا وَإِنَّمَا ... يُنَالَ بِأَسْبَابِ الْفَنَاءِ بَقَاؤُهَا آخر: ... حَسْبُ الْخَلِيلَيْنِ نَأَيُ الأَرْضِ بَيْنَهُمَا ... هَذَا عَلَيْهَا وَهَذَا تَحْتَهَا بَالِي سَلام عَلَى دَار الْغُرُورِ فَإِنَّهَا ... مُنَغَّصَةٌ لِذَاتُهَا بِالْفَجَائِعِ فَإِنْ جَمَعَتْ بَيْنَ الْمُحِبينَ سَاعَةً ... فَعَمَّا قَلِيلٍ أَرْدَفَتْ بِالْمَوَانِعِ آخر: ... عَلَى مِثْلِ هَذَا كُلُّ جَمْعٍ مَاله ... وِصَالٌ وَتَفْرِيقٌ يَسُرُّ وَيُؤْلِمُ وَإِنْ مُنَعَ الْغُيَّابُ أَنْ يَقْدَمُوا لَنَا ... فَإِنَّا عَلَى غُيَّابِنَا سَوْفَ نَقْدَمُ فَالْبَقَاءُ فِي الدُّنْيَا مُحَالٌ، هَذِهِ الدُّنْيَا جَسْرٌ، هَذِهِ الدُّنْيَا مَمَرٌ وَمَعْبَرٌ وَطَرِيقٌ إِلى الآخِرَةِ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَخَبَّطُ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَ وَيَتَعَثرُ فِيهَا وَلا يَهْتَدِي، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُوَفِّقُهُ اللهُ فَيَسْلُكُهَا مُسْتَقِيمًا لا يَلْوي عَلَى شَيْءٍ إِلا عَلَى زَادِ الآخِرَةِ، وَأَمَلٍ يَهْدِفُ إليه، فِي تِلْكَ الدَّارِ الْبَاقِيَةِ، ذَلِكَ الْهَدَفُ هُوَ رِضَى رَبِّ الْعِزَّةِ وَالْجَلالِ، الذِي فِيهِ كُلُّ نَعِيمٍ الذِي فِيهِ الْهُدُوءِ وَالاطْمَئُنَانُ وَالذِي فِيهِ الْفَوْزَ وَالنَّجَاةُ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ، تِلْكَ حَال مَنْ اتَّعَظَ وَاعْتَبَرَ فَنَفَعْتُه الْعِبْرَةُ وَلَمِسَ الْمَوعِظَةُ مِنْ دُرُوسٍ الْحَيَاةِ وَأَحْدَاثها فَاهْتَدَى، وَزَادَهُ اللهُ هُدى، تِلْكَ حَالٌ مَنْ اعْتَبَرُوا فنَفَعْتُهُم الْعِبْرَة، وَجَعَلُوا التَّقْوَى إِلى اللهِ أَمَامَهُمْ لا يَحِيدُونَ عَنْهَا، يَخَافُون رَبَّهُمْ وَيَخْشَوْنَ سُوء الْحِسَابِ {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} . أَيُّهَا الْمُسْلِمُ لَقَدْ خَرَجْت مِنْ ظُلمَاتٍ، وَسَتَنْتَهِي إِلى ظُلُمَاتٍ خَرَجَتْ مِنْ ظُلُمَاتِ الأَرْحَامِ، وَتَنْتَظِرُكَ ظُلُمَاتُ الْقُبُورِ، خَرَجَتْ مِنْ

أَحْشَاءِ أُمِّكَ، وَاسْتَقْبَلَكَ أَحْشَاءٌ أُخْرَى أَقْوَى وَأَعْظَمُ، قَالَ تَعَالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} دَفَعكَ جَوْفٌ يَحِنُّ عَلَيْكَ إِلى جَوْفِ الأَرْضِ، وَبَيْنَ الْجَوْفَيْنِ أُمُورٌ وَأُمُورٌ فَفِي الدُّنْيَا السَّرَّاءُ وَالضَّرَّاءُ وَالسَّعَادَةُ وَالشَّقَاءُ إِنَّكَ تَخْرُجُ مِنْ شِدَّةٍ إِلى رَخَاءٍ، وَمِنْ رَخَاءٍ إِلى بَلاءٍ، وَتُصَادِفُكَ عَقَبَاتٌ فِي طَرِيقِكَ بَعْدَ عَقَبَاتٍ، وَتَتَغَيَّرُ أَحْوَالُكَ مِنْ حَالاتٍ إِلى حَالاتٍ، فَمِنْ ذُلٍّ إِلى عِزٍّ، وَمِنْ عِزٍّ إِلى ذُلٍّ، وَمِنْ غِنًى إِلَى فَقْرٍ، وَمِنْ فَقْرٍ إِلى يُسْرٍ، وَمِنْ صِحَّةٍ إِلى مَرَضٍ، وَمِنْ مَرَضٍ إِلى عَافِيَةٍ، وَمِنْ رَاحَةً إِلى تَعَبٍ. هَذِهِ هِيَ الدُّنْيَا وَهَذِهِ هِيَ أَحْوَالُهَا عِزُّهَا لا يَدُومُ، وَرَخَاؤُهَا لا يَبْقَى، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فَحَاسِبْ نَفْسَكَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبَ، وَزِنْ أَعْمَالَكَ قَبْلَ أَنْ تُوزَنَ عَلَيْكَ، وَرَاقِبْ مَوْلاكَ الذِي لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ، وَتُبْ إليه تَوْبَةٍ نَصُوحًا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} . تَوَرَّعْ وَتُبْ وَازْهَدْ وَصَلِّ وَصُمْ وَلا ... تَوَرَّعْ وَتُبْ وَازْهَدْ وَصَلِّ وَصُمْ وَلا وَكُنْ دَائِمًا فِي الذِّكْرِ وَالشُّكْرِ قَائِمًا ... عَلَى الصِّدْقِ وَالإِخْلاصِ فِي كُلِّ مَوْطِنِ آخر: ... يَلَذُ بِهَذَا الْعَيْش مَنْ لَيْسَ يَعْقِلُ ... وَيَزْهَدُ فِيهِ الأَلْمَعِيُّ الْمُحَصِّلُ وَمَا عَجَبٌ نَفْسٌ تَرَى الرَّأْي إِنَّمَا الْ ... عَجِيبَةُ نَفسٌ مُقْتَضَى الرَّأْيِ تَفْعَلُ إِلى اللهِ أَشْكُو هِمَّةً دُنْيَويَةً ... إِلى اللهِ أَشْكُو هِمَّةً دُنْيَويَةً آخر: ... وَالْمَرْءُ مِثْلُ هِلالٍ حِينَ تُبْصِرُهُ ... يَبْدُو ضَعِيفًا ضَئِيلاً ثُمَّ يتَّسقُ يَزْدَادُ حَتَّى إِذَا مَا لَمْ تَمَّ أَعْقَبهُ ... كَرُّ الْجَدِيدَيْنِ نَقْصًا ثُمَّ يَنْمَحِقُ

يُنْهْنِهَا مَوْتُ النَّبِيهِ فَتَرْعَوي ... ???? ... وَيَخْدَعُهَا رُوحُ الحَيَاةِ فَتَغْفُلُ ... ???? ... وَفِي كُلِّ جُزْءٍ يَنْقَضِي مِنْ زَمَانِهَا ... ???? ... مِنَ الجِسْمِ جُزْء مِثْلَهُ يَتَمَلمَلُ ... ›? ... ???? شِعْرًا: ... أَمَامَكَ أَيُّهَا المَغْرُورُ يَوْمٌ ... تَشِيبُ لِهَوْلِهِ سُودُ النَّوَاصِي وَأَنْتَ كَمَا عَهِدْتُكَ لا تُبَالِي 1 ... بِغَيْرِ مَظَاهِرِ العَبِثِ الرَّخَاصِ آخر: ... عِشْ مَا بَدَا لَكَ هَلْ تَرَاكَ تَعِيشُ ... أَتَظُنُّ سَهْمَ الحَادِثَاتِ يَطِيشُ عِشْ كَيْفَ شِئْتَ لَتَأيْنَّكْ وَقْعَةٌ ... يَوْمًا وَلا لِجَنَاحِِ جِسْمِكَ رِيشُ آخر: ... إِذَا الشِّيبُ لاحَتْ لَمْحَةٌ مِنْ ثَغَامِهِ ... فَعَصْرُ الصِّبَا لَمْ يَبْقَ غَيْرُ رِسَامِهِ أَلا كُلُّ إِنْسَانٍ وَإِنْ طَالَ عُمْرُهُ ... إِلَى الحَتَفِ مَأْخُوذٌ بِفَضْلِ زَمَامِهِ أَلا كُلُّ حَيٍّ لِلْحَمَامِ طَرِيدَةٌ ... وَكُلُّ فَقِيدٍ مِنْ رَمَايَا سِهَامِهِ تَمُرُّ اللَّيَالِي بُؤْسُهَا وَنَعِيمُهَا ... كَطَيْفٍ يَرَاهُ حَالِمٌ فِي مَنَامِهِ اللَّهُمَّ يَا مَنْ فَتَحَ بَابَهُ لِلْطَالِبينَ، وَأَظْهَرَ غِنَاهُ لِلَّرَاغِبِينَ نَسْأَلُكَ أَنْ تَسْلُكَ بِنَا سَبِيلَ عِبَادِكَ الصَّادِقِينَ، وَأَنْ تَلْحِقَنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، اللَّهُمَّ أَحْي قُلوبًا أَمَاتَهَا البُعْدُ عَنْ بَابِكَ، وَلا تُعَذِّبْهَا بِأليمِ عِقَابِكَ، يَا كَرِيمُ يَا مَنَّانُ، يَا مَنْ جَادَ عَلَى عِبَادِهِ بِالأنْعَامِ وَالأَفْضَالِ، اللَّهُمَّ أَيْقِظْنَا مِنْ غَفْلَتِنَا بِلُطْفِكَ وَإِحْسَانِكَ وَتَجَاوَزْ عَنْ جَرَائِمنا بِعَفْوِكَ وَغُفْرَانِكَ، وَارْزُقْنَا مَا رَزَقَتْ أَوْلِيَاءَكَ مِنْ نَعِيمِ قُرْبِكَ وَلَذَّةِ مُنَاجَاتِكَ وَصِدْقِ حُبِّكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ: «يَخْرُجُ في آخرِ الزَّمَانِ رِجَالٌ يَخْتِلُونَ الدَّنْيَا بِالدِّين يَلْبَسُونَ لِلنَّاسِ جُلودَ الضَّأْنِ مِنَ اللِّينِ، أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنَ السُّكَر، وَقُلُوبِهم قلُوبُ الذِّئَابَ، يَقُولُ اللهُ: أَبِي تَغْتَرُّوَن أَمْ عَلَيَّ تَجْتَرِئُونَ، فَبِي حَلَفْتُ لأَبْعَثَنَّ عَلَى أُولَئِكَ مِنْهُمْ فِتْنَةً تَدَعُ الحَلِيم مِنْهُمْ حَيْرَانَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يُبَالِي المَرْءُ بِمَا أَخَذَ المَالَ، أَمِنْ حَلالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالبُخَارِيّ، وَالدَّارِمِيّ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَالذِي بَعَثَنِي بِالحَقِّ لَتَكُونَنَّ بَعْدِي فَتْرَةٌ فِي أُمَّتِي يُبْتَغَى فِيهَا المَالُ مِنْ غَيْرِ حِلّهِ، وَتُسْفَكُ فِيهَا الدِّمَاءُ وَيُسْتَبْدَلُ فِيهَا الشِّعْرُ بِالقُرْآنِ» . رَوَاهُ الدَّيْلَمِي. وَعَنْ الحَسَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلا أَكَلَ الرِّبَا، فَمَنْ لَمْ يَأْكُلْهُ أَصَابَهُ مِنْ غُبَارِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنّسَائِي، وَابْنُ مَاجَة. وَعَنْ مُعَاذِ بن أنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا تَزَالُ الأُمَّةُ عَلَى الشَّرِيعَةِ مَا لَمْ تَظْهَرَ فِيهِم ثَلاثٌ: مَا لَمْ يُقْبَضْ مِنْهُمْ العِلْمَ، وَيَكْثُرَ فِيهِمْ وَلَدُ الحَنْثِ، وَيَظْهَرُ فِيهم الصَّقَّارُونَ» ، قَالُوا: وَمَا الصَّقَّارُونَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «نَشْءٌ يَكُونُونَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، تَكُونُ تَحِيَّتُهم بَيْنَهُم التَّلاعُنُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالطَّبَرَانِي. وَعَنْ مُعَاذٍ بِنْ جَبَلَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَقْوَامٌ إِخْوَانُ العَلانِيَةِ، أَعْدَاءُ السَّرِيرَةِ» ، فَقِيلَ:

يَا رَسُولَ اللهِ وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟ قَالَ: «ذَلِكَ بِرَغْبَةِ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَرَهْبَةِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ» . رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَالبَزَّارُ، وَالطَّبَرَانِي، وَأَبُو نُعَيمُ فِي الحِلْيَةِ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فِرْقَةٍ مِنَ المُسْلِمِينَ يَقْتُلَهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالحَقِّ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَعَنْ طَارِقِ بِنْ زِيَادٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَى الخَوَارِجِ فَقَتَلَهُم ثُمَّ قَالَ: انْظُرُوا فَإِنَّ نَبِيّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّهُ سَيَخْرُجُ قَوْمٌ يَتَكَلَّمُونَ بِالحَقِّ لا يُجَاوِزُ حُلوقَهم يَخْرُجُون مِنَ الحَقِّ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، سِيمَاهُمْ إِنَّ مِنْهُم رَجُلاً أَسْوَدَ مُخَدَّجَ الْيَدِ، فِي يَدِهِ شَعْرَاتٌ سُودٌ، إِنْ كَانَ هُوَ فَقَدْ قَتَلْتُمْ شَرَّ النَّاسِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ فَقَدْ قَتَلْتُمْ خَيْرَ النَّاسِ» فَبَكَيْنَا. ثُمَّ قَالَ: اطْلُبُوا، فَطَلَبْنَا فَوَجَدْنَا المُخَدَّجَ، فَخَرَرْنَا سُجُودًا، وَخَرَّ عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَعَنَا سَاجِدًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيّ. وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حِينَ فَرِغَ مِنَ الحَرُورِيَّةِ: إِنَّ فِيهِمْ رَجُلاً مُخَدَّجَ الْيَدِ، لَيْسَ عَلَى عَضُدِهِ عَظْمٌ، فِي عَضُدِهِ حَلَمَةٌ كَحَلَمَةِ الثَّدْيِ، عَلَيَْها شَعَرَاتٌ طِوَالٌ عُقْفٌ، فَالْتُمِسَ فَلَمْ يُوجَدْ، قَالَ: وَأَنَا فِيمَنْ يَلْتَمِسُ، فَمَا رَأَيْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ جَزِعَ قَطٌّ أَشَدَّ مِنْ جَزَعِهِ يَوْمَئِذٍ، قاَلُوا: مَا نَجِدُهُ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ. قَالَ: مَا اسْمُ هَذَا المَكَانَ؟ قَالُوا: النَّهْرَوَانِ. قَالَ: كَذَبْتُمْ إِنَّهُ لَفِيهمْ فَالْتَمِسُوهُ. قَالُوا: فَثَّوَّرْنَا القَتْلَى فَلَمْ نَجِدْهُ، فَعُدْنَا إليه، فَقُلْنَا: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ مَا نَجِدُهُ، قَالَ: مَا اسْمُ هَذَا المَكَان؟ قُلْنَا: النَّهْرَوَان. قَالَ:

صَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَكَذَبْتُمْ، إِنَّهُ لَفِيهمْ فَالْتَمِسُوهُ، فَالْتَمَسْنَاهُ فَوَجَدْنَاهُ فِي سَاقِيَةٍ، فَجِئْنَا بِهِ فَنَظْرَتُ إِلَى عَضُدِهِ لَيْسَ فِيهَا عَظمٌ، وَعَليْها كَحَلَمَةِِ ثَدْي المَرْأَةِ، عَلَيْهَا شَعَرَاتٌ طِوَالٌ عُقْفٌ. رَوَاهُ عَبْدُ اللهِ بن ِالإِمَامِ أَحْمَدُ في كِتَابِ السُّنَّةِ. وَعَنْ أَنْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ فَتَكُونُ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ وَالشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ وَتَكُونُ الْجُمُعَةُ كَاليوم وَيَكُونُ اليوم كَالسَّاعَةِ وَتَكُونُ السَّاعَةُ كَالضَّرَمَةِ بِالنَّارِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ» ، قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: «الرَّجُلُ التَّافِهُ يتكلم فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ» . وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا يَزْدَادُ الأمْرُ إِلا شِدَّةً، وَلا الدُّنْيَا إِلا إِدْبَارًا، وَلا النَّاسُ إِلا شُحًا، وَلا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ، وَلا المَهِْدي إِلا عِيسَى بنُ مَرْيَمَ» . رَوَى الحَدِيثَيْنِ ابْنُ مَاجَة. وَعَنْ سَالِمْ بنِ أَبِي الجَعْدِ عَنْ زِيَادِ بنِ لُبَيْدٍ قَالَ: ذَكَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَقَالَ: «ذَاكَ عِنْدَ أَوَانِ ذَهَابِ العِلْمِ» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَذْهَبُ العِلْمُ وَنَحْنُ نَقْرَأُ القُرْآنَ، وَنُقْرِؤُهُ أَبْنَاءَنَا، وَيُقْرِؤُهُ أَبْنَاؤُنَا أَبْنَاءَهُم إِلَى يِوْمِ القَيِامَةِ؟ قَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا زِيَادُ، إِنْ كُنْتُ لأَرَاكَ مِنْ أَفْقَهِ رَجُلٍ بِالمَدِينَةِ، أَوَ لَيْسَ هَذِهِ اليهود وَالنَّصَارَى يَقْرَؤُونَ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ لا يَعْمَلُونَ بِشَيْءٍ مِنْهُمَا» ؟ . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَة. وَعَنْ سَلامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ أَشْرَاطِ

السَّاعَةِ أَنْ يَتَدَافَعَ أَهْلُ المَسْجِدِ فَلا يَجِدُونَ إِمَامًا يُصلى بِهِمْ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. قُلْتُ: وَهَذَا الحَدِيثُ عَلَمٌ مِنْ أَعْلامِ النُّّّبُوَّةِ وَصِدْقِ الرِّسَالَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَكُونَ المُؤْمِنُ فِيهم أَذَلَّ مِنَ الأَمَةِ، يَذُوبُ قَلْبُهُ فِي جَوْفِهِ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي المَاءِ مِمَّا يَرَى مِنَ المُنْكَرِ فَلا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُغَيِّرَهُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوِيه. وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. (فَصْلٌ) : وَعَنْ جَابِرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَسْتَخْفِي المُؤْمِنُ فِيهِم كَمَا يَسْتَخْفِي المُنَافِقُ فِيكُم» . رَوَاهُ ابْنُ السُّنِّي. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَمُرَّ الرَّجُلِ بِالمَسْجِدِ فَلا يَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَعَنْ حُذَيْفَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «يَأْتِي دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ» ، وَوَصَفَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ: «مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا» ، قَالَ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَتُ ذَلِكَ؟ قَالَ: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ» ، قَالَ: «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلا إِمَامٌ» ، قَالَ: «اعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يَأتِيْكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ» . رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَمُسْلِمٌ. شِعْرًا: ... إِنَّ الجَمَاعَةَ حَبْلُ اللهِ فَاعْتَصِمُوا ... بَهَا إِنَّهَا العُرْوَةُ الوُثْقَى دَانَا اللهُ يَدْفَعُ بِالسُّلْطَانِ مُعْضِلَةٌ ... عَنْ دِينَنَا رَحْمَةَ مِنْهُ وَرِضْوَانًا لَوْلا المُهَيْمِنُ لَمْ تَأْمَنْ لَنَا سُبُلٌ ... وَكَانَ أَضْعَفُنَا نَهْبًا لأَقوَانَا وَعَنِ الضَّحَاكِ أَنَّهُ قَالَ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ تَكْثُرُ فِيهِ الأَحَادِيثُ حَتَّى يَبْقَى المُصْحَفُ عَلَيْهِ الغُبَارُ لا يَلْتَفَتُ إليه. قُلْتُ: وَهَذِهِ مُعْجِزَةٌ وَقَعَتْ فَإِنَّ المُصْحَفَ مَهْجُور، وَالإِقْبَالُ عَلَى المَلاهِي وَالمُنْكَراتِ وَالجَرَائِدِ وَالمَجَلات فَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ العَلِيّ العَظِيم وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الوَكِيلِ.

فَصْلٌ وَعَنْ وَابِصَةَ الأَسَدِي عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللهِ بنَ مَسْعُودٍ قَالَ: مَتَى تَكُونُ أَيَّامُ الهَرَجِ؟ قَالَ: حِينَ لا يَأْمَنُ الرَّجُلُ جَلِيسَهُ. قَالَ: فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: اكْفُفْ نَفْسَكَ وَيَدَكَ، وادْخُلْ دَارَكَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَفِي المُسْنَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الإسلام سُفَهَاءُ الأَحْلامِ، حُدَثَاءُ الأَسْنَانِ، - أَوء قَالَ - أَحْدَاثٌ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ النَّاسِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ بِأَلْسِنَتِهِمْ لا يَعْدُو تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الإِسْلامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، فَمَنْ أَدْرَكَهُمْ فَلْيَقْتُلْهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا عِنْدَ اللَّهِ» . قُلْتُ: هَذَا الحَدِيثُ وَالذِي قَبْلَهُ فِيهِمَا عَلَمٌ مِنْ أَعْلامِ النُّبُوَّةِ. وَعَنْ حُذَيْفَةَ بنِ إليمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ الحَلِفُ بِغَيْرِ اللهِ، وَالشَّهَادَةُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْتَشْهَدَ، وَكَثْرَةُ الطَّلاقِ، وَمَوْتُ الفُجْأَةِ» . أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيمٌ فِي الحِلْيَةِ، قُلْتُ: وَهَذَا الحَدِيثُ عَلَمٌ مِنْ أَعْلامِ النُّبُوَّةِ، وَصِدْقِ الرِّسَالَةِ، فَإِنَّ كُلَّ فَقْرَةٍ مِنْ فَقَرَاتِهِ قَدْ تَحَقَّقَتْ فِي العَصْرِ الحَاضِرِ، فَتَأَمَّلْهُ بِدِقَّةٍ. فَإِنَّ الحَلِفَ بِغَيْرِ اللهِ قَدْ كَثُرَ جِدًا، وَكَذِلَكَ الشَّهَادَةُ يَبْذُلُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِدُونِ طَلَب، وَكَذَلِكَ كَثْرَةُ الطَّلاقُ وَهَذِهِ تَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ إِيمَانِ هَؤُلاءِ، وَأَمَّا مَوْتُ الفَجْأَةُ فَكَثِيرٌ، فَمِنْهُ السَّكْتَةُ القَلْبِيَّةِ، وَالجَلْطَةُ الدَّمَوِيَّةُ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْ انْقِلابِ السَّيَارَاتِ وَتَصَادُمِهَا، وَسُقُوطُ الطَّائِرَةِ وَالانْفَجَارَاتِ، فَكُلُّهَا يَصْدُقُ عَلَيْهَا مَوْتُ الفُجْأَةِ. اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ لا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى، وَكُلُّ الأَحَادِيثَ التِي تَقَدَّمَتْ وَالتِي تَأْتِي تَأَمَّلْهَا وَطَبِّقْهَا، وَلا حَاجَةِ إِلَى شَرْحِهَا لأَنَّهُ شَيْءٌ وَاضِحٌ وَاقِعٌ، وَلَكِنَّ

النَّاسَ فِي غَفْلَةٍ عَنْهَا مُعْرِضُوَن، وَمُنْهَمِكُونَ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَجَمْعِهَا وَالتَّكَاثُرِ فِيهَا، وَالاشْتِغَالُ بِمَا يلهي ويصد عن ذكر الله فَتَأَمَّلْ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَأْتِي عَلَى النَّاِس زَمَانٌ لا يَسْلَمُ لِذِي دِينٍ دِينَهُ إِلا مَنْ هَرَبَ بِدِينِهِ مِنْ شَاهِقٍ إِلَى شَاهِقٍ، وَمِنْ جُحْرٍ إِلَى جُحْرٍ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تُنَلْ المَعِيشَةُ إِلا بِسَخَطِ اللهِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ - كَانَ هَلاكُ الرَّجُلِ عَلَى يَدَيْ أَبَوَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبَوَانِ كَانَ هَلاكُهُ عَلَى يَدَيْ قَرَابَتِهِ أَوْ الجِيرَانِ» ، قَالُوا: كَيْفَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «يُعَيِّرُونَهُ بِضِيقِ المَعِيشَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُورْدُ نَفْسَهُ المَوَارِدَ التِي يُهْلِكُ فِيهَا نَفْسَهُ» . رَوَاهُ البَيْهَقِيّ كَمَا فِي كِتَابِ الزُّهْدَ (ج3، ص444) مِنْ كِتَابِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ. وَعَنْ حُذَيْفَةِ بنِ إليمَانِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ بَيْعُ الحُكْمِ، وَكَثْرَةُ الشُّرَطِ» . أَخْرَجُهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الحِلْيَةِ. قُلْتَ: هَذَا الحَدِيث وَالذِي قَبْلَهُ فِيهِمَا أَعْلامٌ مِنْ أَعْلامِ النُّبُوَةِ فَتَأَمَّلْ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ ظُهُورُ شَهَادَةِ الزُّورِ، وَكِتْمَانِ الحَقّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالبُخَارِيّ. قُلْتُ: هَذَا حَدِيثٌ فِيهِ عَلَمٌ مِنْ أَعْلامِ النُّبُوَّةِ. شِعْرًا: ... تَخَيَّرْ قَرِينًا مِنْ فِعَالِكَ إِنَّمَا يَزِينُ الفَتَى فِي القَبْرِ مَا كَانَ يَفْعَلُ فَإِنْ كُنْتَ مَشْغُولاً بِشَيْءٍ فَلا تَكُنْ بِغَيْرِ الذِي يَرْضَى بِهِ اللهُ تَشْغَلُ فَلا بُدَّ بَعْدَ القَبْرِ مِنْ أَنْ تُعِدَّهُ لِيَوْمٍ يُنَادِي المَرْءُ فِيهِ فَيُسْأَلُ ... ›?

العلامة الثالثة من أشراط الساعة خروج الدجال وذكر صفته وإتباعه ومكثه ومقتله

.. فَلَنْ يَصْحَبِ الإِنْسَانَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ وَلا قَبْلَهُ إِلا الذِي كَانَ يَعْمَلُ أَلا إِنَّمَا الإِنْسَانُ ضَيْفٌ لأَهْلِهِ يُقِيمُ قَلِيلاً عِنْدَهُمْ ثُمَّ يَرْحَلُ ... ›? آخر: ... مَا دُمْتَ حَيًا فَطِعْ لله مُجْتَهِدًا ... فَإِنَّمَا أَنْتَ فِي دَارِ العِبَادَاتِ وَأَكْثَرُ الذِّكْرَ لِلْمَوْلَى وَكُنْ حَذِرًا ... مَنْ غَفْلَةِ النَّفْسِ عَنْ ذِكْرِ المَنِيَّاتِ فَالمَوْتُ يَأْتِي بِوَقْتٍ لَسْتَ تَعْلَمُهُ ... فَكُنْ لَهُ مُسْتَعِدًا قَبْلَ أَنْ يَأْتِي كَمْ مِنْ صَحِيحٍ غَدَا مِنْ بَيْتِهِ سَحَرًا ... وَبِالمَسَاءِ غَدَا جَارًا لأَمْوَاتِ وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. (فَصْلٌ) الأَمَارَةُ الثَّالِثَةُ مِنْهَا خُرُوجِ الدَّجَالِ، وَقَدْ أَنْذَرَتْ بِهِ الأَنْبَيَاءُ قَوْمَهَا، وَحَذَّرَتْ مِنْهُ أُمَمَها، وَنَعَتتْهُ بِالنُّعُوتِ الظَّاهِرَةِ، وَوَصَفَتْهُ بِالأَوْصَافِ البَاهِرَةِ، وَحَذَّرِ مِنْهُ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْذَرَ، وَنَعَتَهُ لأُمَّتِهِ نُعُوتًا لا تَخْفَى عَلَى ذِي بَصَرٍ، فَعَنْ نَافِع عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الدَّجَالَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ النَّاسِ فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَيْسَ بِأَعْوَرٍ، أَلا وَإِنَّ المَسِيحَ الدَّجَالَ أَعْوَرُ العَيْنِ إليمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِئَةٌ» . رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَمُسْلِمٌ، وَأَحْمَدُ. وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا بُعِثَ نَبِّيٌّ إِلا قَدْ أَنْذَرَ أُمَّتَهُ الدَّجَالَ الأَعْوَرَ الكَذَّابَ، أَلا وَإِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَإِنَّ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَكْتُوبٌ كَافِرٌ» . وَفِي رِِوَايَةً: «يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُسْلِمٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

وَعْنْ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنِّي حَدَّثْتُكُمْ عَنْ الدَّجَّالِ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ لا تَعْقِلُوا إِنَّ مَسِيحَ الدَّجَّالِ رَجُلٌ قَصِيرٌ أَفْحَجُ جَعْدٌ، أَعْوَرُ مَطْمُوسُ الْعَيْنِ، لَيْسَ بِنَابِئَةٍ وَلا حَجْرَاءَ، فَإِنْ أُلْبِسَ عَلَيْكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مَسِيحَ الضَّلالَةِ أَعْوَرَ العَيْنِ، أَجْلَى الجَبْهَةِ، عَرِيضَ النَّحْرِ فِيهِ دَفأ كَأَنَّهُ قَطَن بن العزّى» ، فَقَالَ قطن: هَلْ يَضُرُّنِى شَبَهُهُ؟ قَالَ: «لا، أَنْتَ مُسْلِمٌ وَهُوَ امْرُؤ كَافِرٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمَّا أُسْرِيَ بِي رَأَيْتُ الدَّجَالَ فِي صُورَتِهِ رُؤْيَا عَيْنٍ لَيْسَ رُؤْيَا مَنَام» ، فَسُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ: «أَقْمَرُ هَجَّانًا فَيْلَمَانِيًّا، إِحْدَى عَيْنَيْهِ قَائِمَةٌ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيَ، كَأَنَّ شَعْرَهُ أَغْصَانُ شَجَرَةٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَعَنِ النَّوَاسِ بنِ سَمْعَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الدَّجَّالَ خَارِجٌ مِنْ خَلَّةً بَيْنَ الشَّأْمِ وَالْعِرَاقِ، فَعَاثَ يَمِينًا وَشِمَالاً، يَا عِبَادَ اللَّهِ فَاثْبُتُوا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَابْنُ مَاجَة. وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ الدَّجَالَ يَخْرُجُ مِنْ أَرْضٍ بِالمَشْرِقِ يُقَالُ لَهَا: خُرَاسَانُ، يَتْبَعُهُ أَقْوَامٌ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَة، وَأَحْمَدُ، وَالحَاكِمُ.

وَعَن ْجَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الدَّجَّالَ يَخْرُجُ فِي خِفَّةٍ مِنَ الدِّينِ، وَإِدْبَارٍ مِنَ العِلْمِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ. وَعَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيِهِ: كَافِرٌ، يَقْرَؤُهَا كُلُّ مُؤْمِن، كَاتِبٌ وَغَيْرُ كَاتِبِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَة عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلا أُخْبِرُكُم عَنِ الدَّجَّالِ حَدِيثًا مَا حَدَّثَهُ نَبِيٌّ قَوْمَهُ؟ إِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّهُ يَجِيءُ مَعَهُ مِثْلُ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَالتِّي يَقُولُ إِنَّهَا الجَنَّةُ هِيَ النَّارُ» . رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الدَّجَّالِ: «إِنَّ مَعَهُ نَارٌ وَمَاءٌ، فَنَارُهُ مَاءٌ بَارِدٌ، وَمَاؤُهُ نَارٌ، فَلا تَهْلِكُوا» ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَأَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَعَنْهُ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الدَّجَّالَ يَخْرُجُ وَإِنَّ مَعَهُ مَاءٌ وَنَارٌ، فَأَمَّا الذِي يَرَاهُ النَّاسُ مَاءٌ فَنَارٌ تُحْرِقُ، وَأَمَّا الذِي يَرَاهُ النَّاسُ نَارًا فَمَاءٌ بَارِدٌ عَذْبٌ طَيِّبٌ» ، فَقَالَ عُتْبَةُ: وَأَنَا سَمِعْتُهُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ حُذَيْفَةَ. وَعَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لأَنَا أَعْلَمُ بِمَا مَعَ الدَّجَّالِ مِنْهُ، مَعَهُ نَهْرَانِ يَجْرِياَنِ، أَحَدُهُمَا رَأْيَ العَيْنِ: مَاءٌ أَبْيَضٌ، وَالآخَرُ: رَأْيَ العَيْنِ نَارٌ تَأَجَّجُ فأما إِنْ أَدْرَكْنَ أَحَدًا فَلْيَأْتِ النَّهْرَ الذِي يَرَاهُ نَارًا، وَلْيُغْمِضْ ثُمَّ لِيُطَأْطِئْ رَأْسَهُ فَيَشْرَبْ مِنْهُ فَإِنَّهُ مَاءٌ بَارِدَا، وَإِنَّ الدَّجَالَ مَمْسُوحُ العَيْنِ، عَلَيْهَا ظَفْرَةٌ غَلِيظَةٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنِ النَّوَاسِ بنِ سَمْعَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّجَّالَ فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ فِي طَائِفَةِ

وما يقع في آخر الزمان من الفتن والمنكرات

النَّخْلِ فَلَمَّا رُحْنَا إِلَى رَسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفَ ذَلِكَ فِينَا، فَقَالَ: «مَا شَأْنُكُمْ» ؟ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَكَرْتَ الدَّجَّالَ الغَدَاة فَخَفَّضْتَ فِيهِ ثُمَّ رَفَّعْتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ، قَالَ: «غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُنِي عَلَيْكُمْ، إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ، وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ، وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، إِنَّهُ شَابٌّ قَطَطٌ، عَيْنُهُ قائمة» الحديث. وفيه: قَالَ «فَيَأْتِي القَوْمِ فَيَدْعُوهُمْ فَيَسْتَجِيبُوا لَهُ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ، فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ أَنْ تُمْطِرَ وَيَأْمُرُ الأَرْضَ أن تُنْبِتَ فَتُنْبِتُ، وَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُرَى وَأَسْبَغَهُ ضُرُوعًا وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ، ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ ما بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ ثُمَّ يَمُرُّ الخَرِبَةِ فَيَقُولُ لَهَا: أَخْرِجِي كُنُوزَكِ. فَيَنْطَلِقُ فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ» . الحَدِيثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَابْنُ مَاجَة. وَعَنْ أَنَسٍ بِنْ مَالِكَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَتْبَعُ الدَّجَّالَ مِنْ يَهُودِ أَصْبَهَانِ سَبْعُونَ أَلْفًا عَلَيْهِم الطَّيَالِسَةُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. اللَّهُمَّ اعفُ عنْ تَقْصِيرنَا في طَاعَتِكَ وَشُكْرِكَ، وأَدِمْ لَنَا لُزومَ الطَّريقِ إلى ما يُقْرِّبُنَا إليك وَهَبْ لَنَا نَورًا نَهْتِدِيَ بِهِ إليك، وَيَسِّرْ لَنَا مَا يَسَّرْتَهُ لأهْلِ مَحَبَّتِكَ، وَأَيْقِظْنَا مِنْ غَفْلاتِنَا، وَأَلْهِمْنَا رُشْدَنَا، وَاسْتُرْنَا فِي دُنْيَانَا وَآخِرَتِنَا، وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ المتقين، وَأَلْحِقْنَا بِعبَادِك الصالِحينْ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) عَنِ النَّوَاسِ بنِ سَمْعَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «مَنْ أَدْرَكَ الدَّجَّالَ فَلْيَقْرَأَ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الكَهْفِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَفَظَ عَشْرَ آيَاتٍ مَنْ أَوَّلِ سُورَةِ الكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَعَنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ فَوَاللهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيهِ وَهُوْ يَحْسَبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَيَتْبَعُه مِمَّا يَبْعَثُ بِهِ مِنَ الشُّبَهَاتِ، أَوْ لِمَا يَبْعَثُ بِهِ مِنَ الشُّبَهَاتِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَعَنْ أُمِّ شَرِيكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَيَفِرَّنَّ النَّاسُ مِنْ الدَّجَّالِ فِي الجِبَالِ» ، قَالَتْ أُمُّ شُرَيْكٍ: يَا رَسُولَ اللهِ فَأَيْنَ العَرَبْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «هُمْ قَلِيلٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَأَمَّا قَدْرُ لُبْثِهِ فِي الأَرْضِ فَعَنْ النَّوَّاسِ بنِ سَمْعَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا لَبْثُهُ – أَي الدَّجَّالُ – فِي الأَرْضِ؟ قَالَ: «أَرْبَعُونَ يَوْمًا، يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمْعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ» ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ فَذَلِكَ اليوم الذِي كَسَنَةٍ أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلاةُ يَومٍ؟ قَالَ: «لا، اقْدُرُوا لَهُ» ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا إِسْرَاعُهُ فِي الأَرْضِ؟ قَالَ: «كَالغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَابْنُ مَاجَة. وعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قَالَتْ قَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَمْكُثُ الدَّجَّالُ فِي الأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، السَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَالشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ، وَالْجُمُعَةُ كَاليوم، واليوم كَاضْطِرَامِ السَّعْفَةِ فِي النَّارِ» . رَوَاهُ البَغَوِي فِي شَرْحِ السُّنَّةِ.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالأَعْمَاقِ أَوْ بِدَابِقٍ، فَيَخْرُجُ إليهمْ جَيْشٌ مِنْ الْمَدِينَةِ مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ فَإِذَا تَصَافُّوا قَالَتْ الرُّومُ: خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا نُقَاتِلْهُمْ، فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: لا وَاللَّهِ لَا نُخَلِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا، فَيُقَاتِلُوهُمْ فَيَنْهَزِمُ ثُلُثٌ لا يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ أَبَدًا، وَيُقْتَلُ ثُلُثٌ هم أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَفْتَتِحُ الثُّلُثُ لا يُفْتَنُونَ أَبَدًا، فَيَفْتَتِحُونَ القُسْطَنْطِينِيَّةَ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ الْغَنَائِمَ وَقَدْ عَلَّقُوا سُيُوفَهُمْ بِالزَّيْتُونِ إِذْ صَاحَ فِيهِمْ الشَّيْطَانُ إِنَّ الْمَسِيحَ قَدْ خَلَفَكُمْ فِي أَهْلِيكُمْ، فَيَخْرُجُونَ وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَإِذَا جَاءُوا الشَّامَ خَرَجَ، فَبَيْنَمَا هُمْ يُعِدُّونَ لِلْقِتَالِ يُسَوُّونَ الصُّفُوفَ إِذْ أُقِيمَتْ الصَّلاةُ فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَأَمَّهُمْ فَإِذَا رَآهُ عَدُوُّ اللَّهِ ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ، فَلَوْ تَرَكَهُ لانْذَابَ حَتَّى يَهْلِكَ، وَلَكِنْ يَقْتُلُهُ اللَّهُ بِيَدِهِ فَيُرِيهِمْ دَمَهُ فِي حَرْبَتِهِ» . رواه مسلم. وعن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ إِلا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، وَلَيْسَ نَقْبٌ مِنْ أَنْقَابِهَا إِلا عَلَيْهِ ملائِكَةُ صَافِّينَ تَحْرُسُهَا، فَيَنْزِلُ بِالسِّبْخَةِ فَتَرْجُفُ الْمَدِينَةُ ثَلاثَ رَجَفَاتٍ، يَخْرُجُ إليه كُلُّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. اللَّهُمَّ اْكُتبْ فِي قُلُوبِنَا الإِيمَانَ وَأَيِّدْنَا بِنُورٍ مِنْكَ يَا نُورَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، اللَّهُمَّ وافْتَحْ لِدُعَائِنَا بَابَ القَبُولِ والإِجَابَةِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا. اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتِكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَارْزُقْنَا القِيَامَ بِطَاعَتِكَ، وَجَنِّبْنَا مَا يُسْخِطَكَ، وَأَصْلِحْ نِيَّاتِنَا وَذُرَّيَاتِنَا وَأَعِذْنَا مِنْ شَرِّ نُفُوسِنَا وَسَيَّئَاتِ أَعْمَالِنَا، وَأَعِذْنَا مِنْ عَدُوِّكَ وَاجْعَلْ هَوَانَا تَبَعًا لَمَا جَاءِ بِهِ رَسُولُكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

خطبة عظيمة كلها امثال وحكم للنبي - صلى الله عليه وسلم -

وَسَلَّمَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. إِنْ أَبْطَأَتْ صِلَةُ الأَرْحَامِ واَبْتَعِدَتْ ... عَنَّا فَأَقْرَبُ شَيْءٍ رَحْمَةُ اللهِ لا يُرْتَجَى كَشْفُ ضَرَّاء وَنَازِلَةٍ ... فِي كُلِّ حَادِثَةٍ إِلا مِنَ اللهِ فَثِقْ بِرَبِّكَ فِي كُلِّ الأُمُورِ وَلا ... تَجْعَل يَقِينَكَ يَوْمًا إِلا بِاللهِ لَهُ عَلَيْنَا جَزِيلَ الشُّكْرِ مُنْتَشِرًا ... فِي كُلِّ حَادِثَةٍ فَضْلُ مِنَ اللهِ كَمْ مِنْ لَطَائِفَ أَوْلاهَا العِبَادَ وَكَمْ ... أَشْيَا لا تَنْحَصِي فَضْلاً مِنَ اللهِ فَاضْرَعْ بِقَلْبٍ كَئِيبٍ مُخْبِتٍ وَجِلٍ ... مُسْتَعْطِفٍ خَائِفٍ مَنْ خَشْيَةِ اللهِ وَقُلْ إِذَا ضَاقَتْ الحَالاتُ مُبْتَهَلاً ... يَا رَبّ يَا رَبَّ وَاسْأَلْ رَحْمَةَ اللهِ مَا لِي مَلاذٌ وَلا ذُخْرٌ أَلُوذُ بِهِ ... وَلا عِمَادٌ وَلا رُكْنٌ سِوَى اللهِ رَبٌ تَفَرَّدَ فِي مُلْكٍ لَهُ وَعَلا ... وَفَضْلُهُ وَاسِعٌ وَالحَمْدُ للهِ أَرْجُوهُ سُبْحَانَهُ أَنْ لا يُخَيِّبَ لِي ... ظَنًا فَحَسْبِي مَا أَرْجُوهُ مِنَ اللهِ فَقُمْ وَحُثَّ التَّمَادِي كَمْ عَسَى وَمَتَى ... كَمْ أَيَّهُا النَّفْسُ إِعْرَاضٌ عَنِ اللهِ آه عَلَى زَمَنٍ مِنِّي مَضَى فُرُطًا ... سَبَهْلَلاً لَمْ يَكُنْ فِي طَاعَةِ اللهِ أَفْرَحُ لِنَفْسِي وَقَلْبِي كُلَّمَا رَجَعَا ... عَنِ المَعَاصِي بِتَوْفِيقٍ مِنَ اللهِ وَرُبَّمَا بَكَيَا خَوْفَ الذُّنُوبِ وَمَا ... قَدْ أَسْلَفَا مِنْ خَطِيئَاتٍ إِلَى اللهِ ثُمَّ الصَّلاةُ عَلَى المُخْتَار سَيِّدنا ... مُحَمَّدٍ المُصْطَفَى المُرْسَلْ مِنَ اللهِ (خطبة عظيمة كُلُّهَا أَمْثَالٌ وَحِكَمٌ لِلنَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَبَعْدَ أَنْ حَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ تَعَالَى، وَأَوْثَقَ العُرَى كَلِمَةُ التَّقْوَى، وَخَيْرَ المِلَلِ مِلّةُ إِبْرَاهِيمَ، وَخَيْرُ السُّنَنِ سُنَّةُ مُحَمَّدٍ، وَأَشْرَفُ الحَدِيثِ ذِكْر اللهِ، وَأَحْسَنَ القَصَصَ هَذَا القُرْآنُ، وَخَيْرَ الأُمُورِ عَوَازِمُهَا وَشَرَّ الأُموُرِ مُحْدَثَاتُهَا، وَأَحْسَنَ الهَدْي هُدْىُ الأَنْبِيَاءِ، وَأَشْرَفُ المَوْتِ قَتْلُ الشَّهِيدِ، وَأَعْمَى

العَمَى الضَّلالَةُ بَعْدَ الهُدَى، وَخَيْرُ العِلْمِ مَا نَفَعَ، وَخَيْرُ الهَدى ما اتُّبِعَ، وَشَرَّ العَمَى عَمَى القَلْبِ، وَإليدِ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ إليدِ السُّفْلَى، وَمَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مَمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى، وَشَرَّ المَعْذِرَةِ حِينَ يَحْضُر المَوْتُ، وَشَرَّ النَّدَامَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَمِنْ النَّاسَ مَنْ لا يَأتِي الصَّلاةَ إلا دُبُرًا، ومِنْهُمْ مَنْ لا يذكُرُ اللهَ إِلا هَجْرًا، وَأَعْظَمُ الخَطَايَا اللِّسَانُ الكَذُوبُ، وَخَيْرُ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ، وَخَيْرُ الزَّادِ التَّقْوَى، وَرَأْسُ الحِكْمَةِ مَخَافَةُ اللهِ، وَخَيْرُ مَا وَقَرَ فِي القَلْبِ اليقين، وَالارْتِيَابُ مِنَ الكُفْرِ، وَالنِّيَاحَةُ مِنْ عَمَلِ الجَاهِلِيَّةِ، وَالغُلُولُ مِنْ جُثَا جَهَنَّم، وَالكَنْزُ كَيٌّ مِنَ النَّارِ، وَالشِّعْرُ مِنْ مَزَامِيرِ إِبْلِيسَ، وَالخَمْرُ جِمَاعُ الإِثْمِ، وَالنِّسَاءُ حِبَالَةُ الشَّيْطَانِ، وَالشَّبَابُ شُعْبَةٌ مِنَ الجُنُونِ، وَشَرُّ المَكَاسِبِ كَسْبُ الرِّبَا، وَشَرُّ المَآكِلِ مَالُ إلِيتمِ، وَالسَّعِيدُ مِنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ، وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ أَحَدُكم إِلَى مَوْضِعِ أَرْبَعَةِ أَذْرُع، وَالأمْرُ بِآخِرِهِ، وَمَلاكُ العَمَل خَوَاتِمُه، وَسِبَابُ المُؤْمِنُ فُسوقٌ، وَقِتُالُ المُؤْمِنُ كُفْرٌ، وَأَكْلُ لَحْمِهِ مَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ، وَحُرْمَةُ مَاله كَحُرْمَةِ دَمِهِ، وَمَنْ يَتَأَلَّ عَلَى اللهِ يُكْذِبْهُ، وَمَنْ يَغْفِرْ يَغْفِرْ اللهُ لَهُ، وَمَنْ يَعْفُ يَعْفُ اللهُ عَنْهُ، وَمَنْ يَكْظِمْ الغَيْظَ يَأْجُرْهُ اللهُ، وَمَنْ يَصْبِرْ عَلَى الرَّزِيَّةِ يُعَوِّضْهُ اللهُ، وَمَنْ يَتْبَعْ السُّمْعَةَ يُسَمِّعُ اللهُ بِهِ، وَمَنْ يَصْبِرْ يُضْعِفُ اللهُ لَهُ، وَمَنْ يَعْصِ اللهُ يُعَذِّبْهُ اللهُ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلأُمَّتِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلأُمَّتِي، أَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ» . انْتَهَى. شِعْرًا: ... سَبَقَ القَضَاءُ بِكُلِّ مَا هُوَ كَائِنٌ وَاللهُ يَا هَذَا لِرِزْقِكَ ضَامِنُ تَعَنَّى بِمَا تُكْفَى وَتَتْرُكُ مَا بِه تُعْنَى كَأَنَّكَ لِلْحَوَادِثِ آمِنُ ... ›?

من علامات الساعة العظمى المسيح عيسى بن مريم

.. أَوَ مَا تَرَى الدُّنْيَا وَمَصْرَعَ أَهْلِهَا فَاعْمَلْ لِيَوْمِ فِرَاقِهَا يَا خَائِنُ وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ لا أَبَا لَكَ فِي الذي أَصْبَحْتَ تَجْمَعُهُ لِغَيْرِكَ خَازِنُ يَا عَامِرَ الدُّنْيَا أَتَعْمُرُ فِي الذِي لَمْ يَبْقَ فِيهِ مَعَ المَنِيَّةِ سَاكِنُ المَوْتُ شَيْءٌ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ حَقٌّ وَأَنْتَ بِذِكْرِهِ مُتَهَاوِنُ إِنَّ المَنِيَّةِ لا تُؤامِرُ مِنْ أَتَتْ فِي نَفْسِهِ يَوْمًا وَلا تَسْتَأْذِنُ ... ›? اللَّهُمَّ افْتَحْ لِدُعَائِنَا بَابَ القَبُولِ والإِجَابَةِ، وَوَفِّقْنَا لِلتَّوْبَة النَّصُوحِ وَالإِنَابَةِ وَثَبَّتْ مَحَبَّتكَ في قُلُوبِنَا تَثْبِيتَ الْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ وَألْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَثَبِّتْنَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتَ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وَمِنْ عَلامَاتِ السَّاعَةِ العُظْمَى المَسِيحُ عِيسَى بنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَنُزُولهُ ثَابِتٌ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الأُمَّةِ، أَمَّا الكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} أي ليُؤْمِنَنَّ بِعِيسَى قَبْلَ مَوْتِ عِيسِى، وَذَلِكَ عِنْدَ نُزُولِهِ مِنَ السَّمَاءِ آخِرَ الزَّمَانِ، حَتَّى تَكُونَ المِلَّةُ وَاحِدَةٌ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ.

وَأَمَّا السُّنَّةُ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبَي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلاً فَيَكْسِرَ الصليبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ، حَتَّى تَكُونَ السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» . وَأَمَّا الإِجْمَاعُ فَقَدْ أَجْمَعَتْ الأُمَّةُ عَلَى نُزُولِهِ وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ انْعَقَد الإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ يَنْزِلُ وَيَحْكُمُ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ المُحَمَّدِيَّةِ. وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَنْزِلَ عِيسَى بنُ مَرْيَمَ فَيَقْتُلُ الدَّجَّالَ، ثُمَّ يَمْكُثُ فِي الأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً إِمَامًا عَادِلاً وَحَكَمًا مُقْسِطًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، وَأَبُو يَعْلَى. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: (يَمْكُثُ عِيسَى أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يُتَوَفّى وَيُصلى عَلَيْهِ المُسْلِمُونَ، وَيُدْفَنُ عِنْدَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ حِبَّانَ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيُهِلَّنَّ عِيسَى بنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ بالحَجِّ أَوْ العُمْرَةِ أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُمَا جَمِيعًا» ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ، وَإِنِّي أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابِنِ مَرْيَمَ لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَإِنَّهُ نَازِلٌ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوهُ، رَجُلٌ مَرْبُوعٌ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ، عَلَيْهِ ثَوْبَان مُمَصِّرَانِ كَأَنَّ رَأْسَهُ يَقْطُرُ وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ، فَيَدُقُّ الصليبَ وَيَقْتُلُ

من علامات الساعة العظمى خروج يأجوج ومأجوج

الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَيدعو الناس إلى الإسلام، ويُهْلِكَ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلَ كُلَّهَا إلاَّ الإِسْلامِ، وَيُهْلِكُ اللَّهُ فِي زَمَانِهِ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ، ثُمَّ تَقَعُ الأَماَنَةُ على الأَرْضِ حَتَّى تَرْتَعَ الأُسُودُ مَعَ الإِبِل، وَالنِّمارُ مَعَ البَقَرِ، وَالذِّئَابُ مَعَ الْغَنَمِ، وَيَلْعَبَ الصِّبْيَانُ بِالْحَيَّاتِ لا تَضُرُّهُمْ» الحَدِيث. وَمِنْ عَلامَاتِ السَّاعَةِ العُظْمَى خُرُوجُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهُوَ ثَابِتٌ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِجْمَاعِ، أَمَّا الكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثُ النَّوَّاسِ بنِ سَمْعَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُوحَي إِلَى عِيسَى بنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ بَعْدَ قَتْلِهِ لِلدَجَّال: إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي لا يَدَانِ لأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ، فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، فَيَمُرُّ أَوَلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا، وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُونَ: لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَاءٌ، وَيَحْصُرونَُ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ» . وَقَال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ عَشْرُ آيَاتٍ: طُلُوعُ الشَّمْسِ مَنْ مَغْرِبِهَا، وَالدُّخَانُ، وَالدَّابَةُ، وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَنُزُولُ عِيسَى بنِ مَرْيَمَ، وَثَلاثَةُ خُسُوفَاتٍ، وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنٍ» الحَدِيث، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَة مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ بنِ أُسَيْدٍ، وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ وَذَكَرَ فِيهِ: «خَسْفٌ بِالمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِالمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ العَرَبِ» .

من علامات الساعة العظمى هدم الكعبة شرفها الله والدخان

وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيُحَجَّنَّ هَذَا البَيْتَ وَليُعْتَمَرَنَّ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجٌ» . أَخْرَجَهُ البُخَارِيّ. وَمِنَ العَلامَاتِ العُظْمَى هَدْمُ الكَعْبَةِ المُشَرَّفَةِ. أَخْرَجَ البُخَارِيّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يُخَرِّبُ الكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الحَبَشَةِ» ، وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا نَحْوَهُ وَزَادَ: «وَيَسْلِبُهَا حُلِيَّهَا، وَيُجَرِّدُهَا مِنْ كِسْوَتِهَا، فَلَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ أُصَيْلِعَ أُفَيْدِعَ يَضْرِبُ عَلَيْهَا بِمِسْحَاتِهِ أَوْ مِعْوَلِهِ» ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إليه - يَعْنِي ذَا السُّوَيْقَتَيْنِ - أَسْوَدَ أَفْحَجَ يَنْقُضُهَا حَجَرًا حَجَرًا» يَعْنِي الكَعْبَةَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَخْرُجُ ذُو السَّوَيْقَتَيْنِ عَلَى الكَعْبَةِ» ، قَالَ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: «فَيَهْدِمُهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَرَوَى البَزَّارُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَقُومَ السَّاعَةُ حَتَّى لا يُحَجَّ البَيْتُ» . وَمِنْ عَلامَاتِ السَّاعَةِ العُظْمَى: الدُّخَانُ، قَالَ العُلَمَاءُ: آيَةُ الدُّخَانُ ثَابِتَةٌ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَمَّا الكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَالحَسَنُ وَزَيْدُ بنُ عَلِيّ رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى: هُوَ دُخَانٌ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ يَدْخُلُ فِي أَسْمَاعِ الكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ، وَيَعْتَرِي المُؤْمِنَ كَهَيْئَةِ الزُّكَامِ، وَتَكُونُ الأَرْضُ كُلُّهَا كَبَيْتٍ

من علامات رفع القرآن من الصدور والسطور

أَوْقِدَ فِيهِ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: طَلَعَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ، فَقَالَ: «مَا تَذَاكَرُونَ» ؟ قَالُوا: السَّاعَة يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْا فِيهَا آيَاتٍ» فَذَكَرَ مِنْهَا الدُّخَانُ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَابْنُ مَاجَة، وَأَنَّهُ يَمْكُثُ فِي الأَرْضِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وِفِي حِدِيثِ حُذَيْفَةَ بنِ إليمَانِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ دُخَانَا يَمْلأ مَا بَيْنَ المَشْرِقَ وَالمَغْرِبِ، يَمْكُثُ فِي الأَرْضِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَأَمَّا المُؤْمِنُ فَيُصِيبُهُ مِنْهُ شِبْهُ الزّكَامِ، وَأَمَّا الكَافِرُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ السَّكْرَانِ يَخْرُجُ الدُّخَانُ مِنْ فِيهِ وَمِنْخَرِيهِ، وَعَيْنَيْهِ وَأُذَنَيْهِ وَدُبُرِهِ» . رَوَاهُ الطَّبَرَانِي. وَمِنْ عَلامَاتِ السَّاعَةِ العُظْمَى رَفْعُ القُرْآنِ العَظِيمُ مِنَ الصُّدُورِ وَالسُّطُورِ، وَهِيَ مِنْ أَشَدِّ مُعْضِلاتِ الأُمُورِ، فَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِي مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: «يُسْرَى عَلَى كِتَابِ اللهِ لَيْلاً فَيُصْبِحُ النَّاسُ وَلَيْسَ مَنْهُ آيَةٌ وَلا حَرْفٌ فِي جُوْفٍ إِلا نُسِخَتْ» ، وَعِنْدَ الدَّيْلَمِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: «لا تَقُومَ السَّاعَةُ حَتَّى يَرْجِعَ القُرْآنُ مِنْ حَيْثُ جَاءَ، لَهُ دَوِيٌّ حَوْلَ العَرْشِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَا لكَ؟ فَيَقُولُ: مِنْكَ خَرَجْتُ وَإليك أَعُودُ، أُتْلَى فَلا يُعْمَلُ بِي» ، وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَة مِنْ َحَدِيثِ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مرفوعًا: «يَدْرَسُ الإِسْلامُ حَتَّى لا يَدْرُونَ مَا صِيَامٌ وَلا صَلاةٌ وَلا نُسُكٌ وَلا صَدَقَةٌ، وَيُسْرَى عَلَى كِتَابِ اللهِ فِي لَيْلَةٍ فَلا يَبْقَى فِي الأَرْضِ مِنْهُ آيَةٌ» . فَعَلَيْكَ يَا أَخِي بِالإكثار مِنْ تَلاوَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُرْفَع. شِعْرًا: ... أَعَزُّ مَا كَانَ فِي الدُّنْيَا بَيْتُ ربِّنَا ... وَخَيْرُ جَلِيسٍ فِي الزَّمَانِ كِتَابُهُ آخر: ... عَلَيْكَ بِذِكْرِ اللهِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ ... فَمَا خَابَ عَبْدٌ لِلْمُهَيْمِنْ يَذْكُر

من علامات الساعة العظمى طلوع الشمس من مغربها

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَا وَفَّقْتَ إليه القَوْم وَأَيْقِظْنَا مِنْ سِنَةِ الغَفْلَةِ وَالنَّوْم وَارْزُقْنَا الاسْتِعْدَادَ لِذَلِكَ اليوم الذِي يَرْبَحُ فِيهِ الْمُتَّقُونَ، اللَّهُمَّ عَامِلْنَا بِإحْسَانِكَ وَجُدْ عَلَيْنَا بِفَضْلِكَ وَامْتِنَانِكَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، اللَّهُمَّ ارْحَمْ ذُلَّنَا بَيْنَ يَدَيْكَ وَاجْعَلْ رَغْبَتَنَا فِيمَا لَدَيْكَ وَلا تَحْرِمْنَا بِذُنُوبِنَا، وَلا تَطْرُدْنَا بِعُيوبِنَا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وَمِنْ عَلامَاتِ السَّاعَةِ وَأَشْرَاطُهَا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا. قَالَ العُلَمَاءُ رَحِمَهُمْ اللهُ: طُلُوع الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ثَابِتٌ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} . إِذَا فَهِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا عِدَّةُ أَحَادِيثَ، مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلَمٌ فِي صَحِيحِه عَنْ عَبْدُ اللهِ بنِ عَمْرُو بنِ العَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ أَوَّلَ الآيَاتِ خُرُوجًا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجِ الدَّابَةِ عَلَى النَّاسِ ضُحَى، وَأَيَّتُهُمَا كَانَتْ قَبْلَ صَاحِبَتِهَا فَالأُخْرَى عَلَى أَثَرِهُا قَرِيبًا مِنْهَا» ، وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرِّ الغَفَارِيّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمًا: «أَتَدْرُونَ أَيْنَ تَذْهَبُ الشَّمْسُ» ؟ قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ تَجْرِي حَتَّى تَنْتَهِي إِلَى مُسْتَقَرِّهَا تَحْتَ العَرْشِ فَتَخِرُّ سَاجِدَةً، فَلا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُقَالُ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَرْجِعُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلَعِهَا تَجْرِي لا يَسْتَنْكِرُ النَّاسُ مِنْهَا شَيْئًا، حَتَّى تَنْتَهِي إِلَى مُسْتَقَرِّهَا ذَلِكَ تَحْتَ العَرْشِ، فَيُقَالُ لَهَا: ارْجِعِي

ارْتَفِعِي، أصْبِحِي طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِكِ، فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِهَا» ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «أَتَدْرُونَ مَتَى ذَلِكُمْ؟ حِينَ {لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ} الآيَة. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلَعُ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا جَمِيعًا، فَذَلِكَ حِينَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا» . أَخْرَجَهُ البُخَارِيّ. وَعَنْ صَفْوَانَ بنِ عَسَّالٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ قِبَلِ مَغْرِبَ الشَّمْسِ بَابًا مَفْتُوحًا عَرْضُهُ سَبْعُونَ سَنَةً، فَلا يَزَالُ ذَلِكَ مَفتُوحًا لِلتَّوْبَةِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ نَحْوِهِ فَإِذَا طَلَعَتْ مِنْ نَحْوِهِ {لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَة. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعِينَ، فَذَلِكَ حِينَ {لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ} » فَقَرَأَ الآيةَ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَالمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنْ قَبْلُ أَنْ يَأْتِي بَعْضُ الآيَاتِ لا يَنْفَعُهُ إِيمَانُهُ إِنْ آمَنَ بَعْدَ إِتْيَانِهَا، وَلا يَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ المُقَصِّرِ أَنْ يُزَادَ خَيْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، بَلْ يَنْفَعُه مَا كَانَ مَعَهُ مِنَ الإيمَانِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَمَا كَانَ لَهُ مِنَ الخَيْرِ المَوْجُودِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِي بَعْضُ الآيَاتِ وَالحِكْمَةُ ظَاهِرَةٌ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا كَانَ الإيمَانُ يَنْفَعُ إِذَا كَانَ بِالْغَيْبِ وَكَانَ اخْتِيَارًا مِنَ العَبْدِ، فَأَمَّا بَعْدَ وُجُودِ الآيَاتِ فَيَصِيرُ الأمْرُ شَهَادَةً، وَلَمْ يَبْقَ لِلإيْمَانِ فَائِدَةٌ لأَنَّهُ يُشْبِهُ الإيمَانَ الضَّرُورَيّ وَلِهَذَا لَمَّا أَدْرَكَ فِرْعَوْنَ الغَرَقُ، وَجَزَمَ بِالهَلاكِ،

كلام نفيس حول هذه العلامة

{قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ، قَالَ اللهُ تَعَالَى مُبَيِّنًا أَنَّ هَذَا الإيمَانَ فِي هَذِهِ الحَالَةِ غَيْرُ ناَفِع {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} وَقَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ أَمْثَالِ فِرْعَوْنِ مِمَّنْ عَايَنُوا بِأسَ اللهِ وَأَدْرَكُوا الغُرُورَ وَاعْتَرَفُوا بِمَا كَانُوا يُْنِكرُونَ، وَأَقَّرُوا بِوْحَدَانِيَّةِ اللهِ، وَكَفَرُوا بِشُرَكَائِهِم مِنْ دُونِهِ، وَلَكِن الأَوَانَ كَانَ قَدْ فَاتَ: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} ذَلِكَ أَنَّ سُنَّةَ اللهِ قَدْ جَرَتْ عَلَى أَنْ لا تُقْبَلَ التَّوْبَةُ بَعْدَ ظُهُورِ بَأْسِ اللهِ فَهِيَ تَوْبَةُ فَزَعٍ وَخَوْفٍ، لا تَوْبَةُ إِيمَانٍ صَحِيحٍ. شِعْرًا: ... وَلَمَّا دَنَى مِنِّي السِّيَاقُ تَعَطَّفَتْ عَلَيَّ وَعِنْدِي عَنْ تَعَطُّفِهَا شُغْلُ أَتَتْ وَحِيَاضُ المَوْتِ بَيْنِي وَبَيْنِهَا وَجَادَتْ بِوَصْلٍ حِينَ لا يَنْفَعُ الوَصْلُ ... ›? وَهَذِهِ سُنَّةُ اللهِ فِي جَمِيعِ الكُفَّارِ، إِذَا وَصَلُوا إِلَى هَذِهِ الحَالَةِ الاضْطِرَارِيَّةِ أَنَّهُ لا يَنْفَعُهُمْ الإيمَانُ، لأَنَّ إِيمَانَهُم صَارَ مُشَاهِدًا كَإِيمَانِ الوَارِدِينَ عَلَى القِيَامَةِ، وَالذِي يَنْفَعُ الإيمَانُ بِالغَيْبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} فَالشَّأْنُ فِي الإيمَانُ بِالغَيْبِ الذِي لَمْ يُرَ وَلَمْ يُشَاهَدْ وَإِنَّمَا نُؤْمِنُ بِهِ لِخَبَرِ اللهِ وَخَبَرِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَعَنْ أَبِي العَإليةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} ، قَالَ: يُؤْمِنُونُ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليوم الآخِرِ، وَجَنَّتِهِ وَنَارِهِ، وَلِقَائِهِ، وَيُؤْمِنُونَ بِالحَيَاةِ بَعْدَ المَوْتِ، وَبِالبَعْثِ فَهَذَا غَيْبٌ كُلُّهُ. أ. هـ. قَالَ فِي لَوَائِحَ الأَنَوْارَ: فَيَتَخَلَّصُ مِنْ مَجْمُوعِ الأَحَادِيثِ المَذْكُورَةِ وَمَا

فِي مَعْنَاهَا مِمَّا هُوَ مُسَطَّرٌ فِي الدُّرِّ المَنْثُورِ لِلسُّيُوطِي: أَنَّ الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ مِنْ مَغْرِبِهَا لا يَنْفَعُ الإيمَانُ المُحْدَثُ فِي ذَلِكَ اليوم لِمَنْ كَانَ كَافِرًا أَوْ مُشْرِكًا، وَلا التَّوْبَةِ المُحْدَثَةُ فِيهِ لِمَنْ كَانَ مُخَلِّطًا، وَلا أَعْمَالُ البِرِّ المُحْدَثَةِ فِيهِ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ يَعْمَلَهَا قَبْلَ ذَلِكَ اليوم، وَأَمَّا مَنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مُؤْمِنًا فَإِنَّ الإِيمَانَ المُجَرَّدَ عَنِ الأَعْمَالِ السَّابِقَةِ عَلَى ذَلِكَ اليوم يَنْفَعُ صَاحِبَهُ، لأجْلِ نَجَاتِهِ وَإيمَانِهِ المُتَجَدِّدِ يَوْمَئِذٍ يَنْفَعُهُ أَيْضًا لأَنَّهُ نُورٌ عَلَى نُورٍ، وَإِنْ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ عَنْ سَيَّئَاتِهِ، وَأَنَّ الإيمَانَ السَّابِقَ مَعَ التَّخْلِيطِ يَنْفَعُهُ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ التِي كَانَ يَعْمَلُهَا، وَإِنَّمَا المَمْنُوعُ قُبُولُ تَوْبَتِهِ عَنْ تَخْلِيطِهِ، وَقَبُولُ مَا لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِهِ مِنَ الإيمَانِ وَأَعْمَالِ البَرِّ قَبْلَ ذَلِكَ اليوم، وَالضَّابِطُ أَنَّ كُلّ بِرٍّ مُحْدَثٍ يَكُونُ السَّبَبُ فِي إِحْدَاثِهِ رُؤْيَةَ الآيَةِ، وَلَمْ يَسْبِقْ مِنْ صَاحِبِهِ مِثْلُهُ، لا يَنْفَعُ سَوَاءً كَانَ مِنَ الأُصُولِ أَوْ الفُرُوعِ، وَكُلُّ بِرٍّ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِكَوْنِ صَاحِبِهِ كَانَ عَامِلاً بِهِ قَبْلَ رُؤْيَةَ الآيَةِ يَنْفَعُ، وَهَذَا التَّحْقِيقُ نَبَّهَ عَلَى مِثْلِهِ الإِمَامُ المُحَقِّقُ العَلامَةُ ابْنُ مُفْلِح فِي الآدَابِ، قَالَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا طَبَعَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى كُلِّ قَلْبٍ بِمَا فِيهِ، وَكَفَى النَّاسُ العَمَلُ» : ليْسَ المُرَادُ بِهَذَا الخَبَرِ تَرْكُ مَا كَانَ يَعْمَلُهُ مِنَ الفَرِائِضِ – أَيْ وَكَذَا مِنَ النَّوَافِلِ – قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنَ المَغْرِبِ، فَيَجِبُ الإِتْيَانِ بِمَا كَانَ يَعْمَلُهُ مِنَ الفَرَائِض قَبْلَ ذَلِكَ، وَيَنْفَعُهُ مَا يَأتيْ بهِ مِنْ الإيْمَانِ الذِيْ كَانَ َيأتيْ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَكَفَى النَّاسَ العَمَلُ، أَيْ: عَمَلاً لَمْ يَكُونُوا يَعْمَلُونَهُ. وَحَكَى ابْنُ الجَوْزِي عَنِ الضَّحَاكِ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَهُ بَعْضُ الآيَاتِ وَهُوَ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ مَعَ إِيمَانِهِ قُبِلَ مِنْهُ كَمَا يُقْبَلُ مِنْهُ قَبْلَ الآيَةِ. قَالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: فَالعَمَلُ الصَّالِحُ الذِي سَبَبَهُ ظُهُورُ الآيِةِ اضْطَرَّتْهُ إليه، وَأَمَّا مَا كَانَ يَعْمَلُهُ فَظُهُورُ الآيَةِ لا تَأْثِيرَ لَهَا فِيهِ، فَبَقِيَ الحُكْمُ كَمَا قَبْلَ الآيَةِ.

اللَّهُمَّ قَوِ إِيمانَنَا بِكَ وبملائكتِكَ وَبِكُتُبِكَ وَبِرُسُلِكَ وباليوم الآخر وبالقدرِ خيرِه وشرِّهِ. اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا عَلى قَولِكَ الثَّابِتِ في الحَياةِ الدُّنيا وَفي الآخِرَة، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. شِعْرًا: ... كُلٌّ يَزُولُ وَكُلٌّ هَالِكٌ فَان إِلا الإِلهُ وَمَا للهِ مِنْ ثانِ قَضَى وَقَدَّرَ تَقْدِيرًا فَأَتْقَنَهُ سُبْحَانَهُ هُوَ ذُو عِزٍّ وَسُلْطَانِ فَارْضُوا بِمَا قَدَّرَ الجَبَّارُ وَاحْتَسِبُوا إِنَّ الرِضَا بِالقَضَا حَقٌّ لِدَيَّانِ وَبَادِرُوا بِثَنَاءِ اللهِ وَارْتَجِعُوا عِنْدَ المَصَائِبِ فِي سِرٍّ وَإِعْلانِ لا تَأْسَفَنَّ عَلَى مَا فَاتَ مِنْ عَرَضٍ فَالرَّبُ يَخْلِفُهُ فَضْلاً بِإِحْسَانِ هَذِي الحَيَاةُ وَرَبِي صَفْوُهَا كَدَرٌ لا بُدَّ زَائِلَةٌ عَنْ كُلِّ إِنْسَانِ يَشْقَى اللَّبِيبُ وَيُمْسِي فِيهَا ذَا عَطَبٍ تَبًا لَهَا دَارُ أَكْدَارٍ وَأَحْزَانِ إِنَّ المُصَابَ الذِي يَأْتِي بِلا عَمْلِ يَوْمَ المَعَادِ وَمَنْ يُجْزَى بِحِرْمَانِ وَمَا أَصَابَ جَمِيعَ النَّاسِ مِنْ ضَرِرٍ إِلا بِظُلِمِهُمُوا شُؤْمٍ وَعِصْيَانِ ... ›?

من علامات الساعة خروج الدابة من الأرض

.. نَسْتَغْفِرُ اللهَ قَدْ بَانَتْ جَرَاءَتُنَا عَلَى إلا إلَهَ وَلَمْ نَسْخَطْ لِشْيَطَانِ نَحُنُ المُسِيئوُنَ نَحْنُ التَّابِعُونَ هَوَى نَحْنُ الأُلَى خَلَطُوا ذَنْبًا بِعِصْيَانِ وَنَحْنُ فِي غَفْلَةٍ عَمَّا أُرِيدَ بِنَا وَالكُلُّ فِي سَكْرَةٍ وَيْحًا لِسَكْرَانِ وَلَمْ نُرَاقِبْ إِلَهَ العَرْشِ فِي عَمَلِ وَذَا وَرَبَّكَ مِنَّا ضُعْفُ إِيمَانِ ... ›? اللَّهُمَّ ثَبَّتْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَوَفَّقْنَا لِشُكْرَكَ وَذِكْرَكَ وَارْزُقْنَا التَّأَهُبَ وَالاسْتِعْدَادِ لِلقَائِكَ وَاجْعَلْ خَتَامَ صَحَائِفِنَا كَلِمَةَ التَّوْحِيدَ وَاغْفِرْ لَنَا. اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ وَمَحَبَّةِ كُتُبِكَ وَمَلائِكَتِكَ وَرُسُلِكَ وَأَوْلِيَائِكَ فِي قُلُوبِنَا ثُُبُوتِ الجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وَمِنْ عَلامَاتِ السَّاعَةِ وَأَشْرَاطِهَا خُرُوجُ الدَّابَّةِ مِنَ الأَرْضِ، وَخُرُوجُهَا ثَابِتٌ بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} وَهَذِهِ الدَّابَّة تَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عِنْدَ فَسَادِ النَّاسِ، وَتَرْكِهِمْ أَوَامِرَ اللهِ، وَتَبْدِيلِهِمْ الدِّينَ الحَقَّ وَتُكَلِّمَهُمْ، وَالدَّلِيلِ مَنَ السُّنَّةِ مَا وَرَدَ عَنْ حُذَيْفَةِ بنِ أُسَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَرَوْا عَشْرَ آيَاتٍ» فَذَكَرَ مِنْهَا الدَّابَّةَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمُ.

من علامات الساعة خروج النار من قعر عدن

وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سِتًّا» فَذَكَرَ: «وَدَابَّةَ الأَرْضِ» . رَوَاهُ ابنُ مَاجَة، وَعَنْ طَلْحَةَ بنِ عُمَرَ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ جَاءَ فِيهِ: قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّابَّةَ فَقَالَ: «لَهَا ثَلاثٌ خَرَجَاتٍ فِي الدَّهْرِ، فَتَخْرُجُ خَرْجَةً مِنْ أَقْصَى البَادِيَةِ، وَلا يَدْخُلُ ذِكْرُهَا القَرْيَةَ، أَعْنِي مَكَةَ، ثُمَّ تَكْمُنُ زَمَنًا طَوِيلاً، ثُمَّ تَخْرُجُ خَرْجَةً أُخْرَى دُونَ تِلْكَ، فَيَعْلُوا ذِكْرُهَا فِي أَهْلِ البَادِيَةِ، وَيَدْخُلُ ذِكْرُهَا القَرْيَةَ» ، يَعْنِي مَكَة، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ بَيْنَمَا النَّاسُ فِي أَعْظَمِ المَسَاجِدِ وَأَكْرَمِهَا المَسْجِدِ الحَرَامِ، لَمْ يَرُعْهُم إِلا وَهِي تَرْغُوا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالمَقَامِ، تَنْفُضُ عَنْ رَأْسِهَا التُّرَابَ فَارْفَضَّ النَّاسُ عَنْهَا شَتَّى وَمَعَا، وَتَثْبُتُ عِصَابَةٌ مِنْ المُؤْمِنِينَ وَعَرَفُوا أَنَّهُمْ لَمْ يُعْجِزُوا اللهَ، فَبَدَأَتْ بِهِمْ فَجَلَتْ وُجُوهَهُم حَتَّى جَعَلَتْهَا كَالْكَوْبِ الدُّرِيّ، وَوَلَّتْ فِي الأَرْضِ لا يُدْرِكُهَا طَالِبٌ، وَلا يَنْجُو مِنْهَا هَارَبٌ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَعَوَّذُ مِنْهَا فِي الصَّلاةِ، فَتَأْتِيهُ مِنْ خَلْفِهِ فَتَقُولُ: يَا فُلانُ الآنَ تُصلى، فَيُقْبلُ عَلَيْهَا فَتَسِمُه فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ تَنْطَلِقُ، وَيَشْتَرِكُ النَّاسُ فِي الأَمْوَالِ وَيَصْطَحِبُونَ فِي الأَمْصَارِ، يُعْرَفُ المُؤْمِنُ مِنَ الكَافِرِ، حَتَّى إِنَّ المُؤْمِنَ لِيَقُولَ: يَا كَافِرُ اقْضِنِي حَقِّي، وَحَتَّى إِنَّ الكَافِرَ يَقُولُ: يَا مُؤْمِنُ اقْضِنِي حَقِّي» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَخْرُجُ الدَّابَّةُ وَمَعَهَا خَاتَمُ سُلَيْمَانُ، وَعَصَا مُوسَى بنِ عُمْرَانَ عَلَيْهِمَا السَّلامُ، فَتَجْلُو وَجْهَ المُؤْمِنُ بِالعَصَا، وَتَخْطِمُ أَنْفَ الكَافِر بِالخَاتَمِ، حَتَّى إَنَّ أَهْلَ الخِوَانِ لَيْجَتَمِعُونَ، فَيَقُولُ هَذَا: يَا مُؤْمِنُ، وَيَقُولُ هَذَا: يَا كَافِرُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَة، وَأَحْمَدُ.

وَمِن عَلامَاتَ السَّاعَةِ خَرُوجُ النَّارِ التِي تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدْنِ تَحْشُرُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِم، تَبِيتُ حَيْثُ بَاتُوا، وَتَقِيلُ حَيْثُ قَالُوا، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُحَشَرُ النَّاسُ عَلَى ثَلاثِ طَرَائِقَ: رَاغِبِينَ وَرَاهِبِينَ، وَاثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ، وَثَلاثَةٌ عَلَى بَعِيرِ، وَعَشْرَةٌ عَلَى بَعِير، وَتَحْشُرُ بَقِيَّتَهُمْ النَّارُ، تَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا، وَتَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا، وَتُصْبِحُ مَعَهُمْ حَيْثُ أَصْبَحُوا، وَتُمْسِي مَعَهُمْ حَيْثُ أَمْسُوا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ حُذَيْفَةَ بنِ أُسَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ حَتَّى تَرَوْا عَشْرَ آيَاتٍ» ، وَمِنْهَا: «نَارٌ تَخْرُجُ مِنَ إليمَنِ تَطْرُدُ النَّاسُ إِلَى مَحْشَرِهِمْ» . رَوَاهُ السِّتَّةُ إِلا البُخَارِيّ، وَعَنْ أَنْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أََنَّ عَبْدَ اللهِ بنِ سَلامَ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَوَّلِ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ. فَقَالَ: «نَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ المَشْرِقِ إِلَى المَغْرِبِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَتَخْرُجُ نَارٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ، أَوْ مِنْ بَحْرِ حَضْرَمَوْتَ قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ تَحْشُرُ النَّاسَ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ فَمَا تَأْمُرنَا؟ قَالَ: ((عَلَيْكُمْ بِالشَّامِ» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيّ. تَنْبِيهٌ: وَرَدَ عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ السَّاعَةَ لا تَقُومُ إِلا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ، فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَجِيءُ بَعْدَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ رِيحٌ بَارِدَةٌ مِنْ قِبَلِ الشَّامِ، فَلا تُبْقِي عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ أَحَدًا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ الإِيمَانِ إلا قَبَضَتْهُ، حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ دَخَلَ

من علامات الساعة الكبار مجموعة في ثمانية أبيات

فِي كَبَدِ جَبَلٍ لَدَخَلَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَقْبِضَهُ، فَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ فِي خِفَّةِ الطَّيْرِ وَأَحْلامِ السِّبَاعِ، لا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا وَلا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا، فَيَتَمَثَّلُ لَهُمْ الشَّيْطَانُ فَيَقُولُونَ مَا تَأْمُرَنَا؟ فَيَأْمُرَهُمْ بِعِبَادَةِ الأَوْثَانِ فَيَعْبُدُونَهَا، وَهُمْ فِي ذَلِكَ دَارٌّ رِزْقُهم، حَسَنٌ عَيْشُهُم، ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ» . وَأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ أَيْضًا، وَالتِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيثِ النَّوَاسِ بنِ سَمْعَانَ: «فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللهُ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَأْخُذُ تَحْتَ آبَاطِهِم، فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِن وَكُلَّ مُسْلِم، وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ تَهَارُجَ الحُمُرِ» - أَيْ يَتَسَافَدُونَ تَسَافُدَ الحُمُرِ جَمْعُ حِمَار -: «فَعَلَيْهِم تَقُومُ السَّاعَةُ» . وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ الحَاكِمْ: «أَنَّ اللهَ يَبْعَثُ رِيحًا مِنَ إليمَنِ ألينُ مِنَ الحرير فَلا تَدَعُ أَحَدًا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ إِلا قَبَضَتْهُ» . وَقَالَ السَّفَارِينِي نَاظِمًا لِلْعَلامَاتِ العِظَامِ، وَالأَشْرَاطِ الجِسَامِ التِي تَعْقِبُهَا السَّاعَةُ: ... وَمَا أَتَى بِالنَّصِ مِنْ أَشْرَاطَ فَكُلُّهُ حَقٌّ بِلا شِطَاط مِنْهَا الإِمَامُ الخَاتِمُ الفَصِيحُ مُحَمَّدُ المَهْدِيُّ وَالمَسِيحُ وَأَنَّهُ يَقْتُلُ لِلْدَّجَّالِ بِبَابِ لِدُّخَلِّ عَنْ جِدَالِ وَأَمْرَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَثْبتِ فَإِنَّهُ حَقٌّ كَهَدْمِ الكَعْبَةِ ... ›?

.. وَأَنَّ مِنْهَا آيَةُ الدُّخَانِ وَأَنَّهُ يُذْهَبُ بِالقُرْآنِ طُلُوعُ شَمْسِ الأُفْقِ مِنْ دَبُورِ كَذَاتِ أَجْيَادٍ عَلَى المَشْهُورِ وَآخِرُ الآيَاتِ حَشْرُ النَّارِ كَمَا أَتَى فِي مُحْكَمِ الأَخْبَارِ فَكُلُّهَا صَحَّتْ بِهَا الأَخْبَارُ وَسَطَّرَتْ آثَارَهَا الأَخْيَارُ ... ›? وَقَالَ القَحْطَانِي: ... أَيقِن بِأَشرَاطِ القِيَامَةِ كُلَِّهَا واسْمَعُ هُدِيتَ نَصيحتى وَبَيَانِي كَالشَّمْسِ تَطلُعُ مِنْ مَكانِ غُرُوبِهَا وَخُرُوجِ دَجَّالٍ وَهَوْلِ دُخَانِ وَخُرُوجِ يَأْجُوجٍ وَمأَجُوجٍ مَعًا مِنْ كُلِّ صَقْعٍ شَاسِعٍ وَمَكَانِ (وَنُزُولِ عِيسَى قَاتِلاً دَجَّالَهُمْ يَقْضِي بِحُكْمِ العَدْلِ وَالإِحْسَانِ) ... ›? اللَّهُمَّ يَا مُصْلِحَ الصَّالِحِينَ أَصْلِحْ فَسَادَ قُلُوبِنَا واسْتُرْ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ عُيُوبَنَا وَاغْفِرْ بِعَفْوكَ وَرَحْمَتِكَ ذُنُوبَنَا وَهَبْ لَنَا مُوبِقَاتِ الْجَرَائِر واسترْ عَلَيْنَا فَاضِحَاتِ السَّرَائِر ولا تُخلِنَا في مَوْقَفِ الْقِيَامَةِ مِنْ بَرْدِ عَفْوِكَ وَغُفْرانِكَ وَلا تَتْرُكْنَا مِنْ جَمِيلِ صَفْحِكَ وَإحْسَانِكَ، وآتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وفي الآخَرِةَ حَسَنَةً وقِنَا عَذَابَ النَّار، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

فصل يحتوي على تخويف وتشويق وتزهيد في الفاني

(فَصْلٌ) اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ وَجَمِيعَ المُسْلِمِينَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الخَلْقَ لِيَعْبُدُوهُ، وَيَعْرِفُوهُ وَيَخْشَوْهُ وَيَخَافُوهُ، وَنَصَبَ لَهُمْ الأَدِلّةَ الدَّالَةَ عَلَى عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ لِيَهَابُوهُ، وَيَخَافُوهُ خَوْفَ إِجْلالٍ، وَوَصَفَ لَهُمْ شِدَّةَ عَذَابِهِ، وَدَارَ عِقَابِهِ التِي أَعَدَّهَا لِمَنْ عَصَاهُ لِيَتَّقُوهُ بِصَالِحِ الأَعْمَالِ، وَلِهَذَا كَرَّرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ ذِكْرَ النَّارِ وَمَا أَعَدَّهُ فِيهَا لأَعْدَائِهِ مِنَ العَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالأَغْلالِ، وَمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّرِيعِ وَالزَّقُومِ واَلحَمِيمِ وَالسَّلاسِلِ وَالغَسَّاقِ وَالغِسْلِينِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهَا مِنَ الأَهْوَالِ وَالفَضَائِع وَالعَظَائِم، وَدَعَا عِبَادَهُ بِذَلِكَ إِلَى خَشْيَتِهِ وَتَقْوَاهُ، وَالمُسَارَعَةِ إِلَى امْتِثَالِ مَا يَأْمُر بِهِ وَيُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَاجْتِنَابِ مَا يَنْهَى عَنْهُ وَيَكْرَهُه وَيَأْبَاهُ، وَأَخْبَرَ جَلَّ وَعَلا بِأَنَّ الخَلْقَ وَارِدُوهَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} فَأَنْتَ مِنَ الوُرُودِ عَلَى يَقِينٍ، وَمِنَ النَّجَاةِ عَلَى شَكٍّ، فَيَا أَيُّهَا الغَافِلُ السَّاهِي عَنْ نَفْسِهِ، المَغْرُورُ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الاشْتِغَالِ بِعَمَائِرِهِ وَأَرَاضِيهِ وَسَيَّارَاتِهِ، وَشَرِكَاتِهِ وَمُقَاوَلاتِهِ وَزَوْجَاتِهِ وَأَوْلادِهِ، وَكُلِّ مَا يُلْهِيهِ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَطَاعَتِهِ، وَالالْتِفَاتِ إِلَى دَارِ القَرَارِ، دَعْ التَّفَكُّرَ وَقَتْلَ الوَقْتِ فِيمَا أَنْتَ مُرْتَحِلٌ عَنْهُ، وَجَادٌّ فِي السَّيْرِ عَنْهُ، وَاصْرِفْ فِكْرَكَ فِيمَا أَمَامَكْ فَاسْتَشْعِرْ فِي قَلْبِكَ هَوْلَ ذَلِكَ المَوْرِدِ لَعَلَّكَ تَسْتَعِدّ لِلنَّجَاةِ مِنْهُ وَتَأَمَّلْ فِي حَالِ الخَلْقِ وَقَدْ خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً {مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} تَفَكَّرْ فِي ازْدِحَامِ الخَلائِقِ وَقَدْ صَهَرَتْهُم الشَّمْسُ، إِلا مَنْ أَظَلَّهُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ، وَاشْتَدَّ الكَرْبُ وَالغَمُّ مِنَ الوَهَجِ، وَتَدَافَعَتْ الخَلائِقُ لِشِدَّةِ

ويوضح لك مشهد من مشاهد القيامة

الزِّحَامِ، وَاخْتِلافِ الأقْدَامِ، وَانْضَافَ إِلَى ذَلِكَ شِدَّةُ الخَجَلِ وَالحَيَاءِ، وَالخَوْفِ مِنَ الفَضَائِحِ وَالاخْتِزَاءِ عِنْدَ العَرْضِ عَلَى الجَبَّارِ، وَقُرْبُ الشَّمْسُ مِنَ الخَلْقِ فَيَبْلُغُ عَرَقُهم فِي الأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُم فِي الأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا» . شِعْرًا: ... يَضْحَكُ المَرْءُ وَالبُكَاءُ أَمَامَهُ ... وَيَرْومُ البَقَاءِ وَالمَوْتُ رَامَهْ وَيَمْشِي الحَدِيثُ فِي كُلِّ لَغْوٍ ... وَيُخْلَى حَدِيثُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلأمْرٌ بَكَاهُ كُلُّ لَبِيبٍ ... وَنَفَى فِي الضَّلامِ عَنْهُ مَنَامَهْ صَاحِ حَدِّثْ حَدِيثَهُ وَاخْتَصرْهْ ... فَمُحَالٌ بِأَنْ تُطِيقُ تَمَامَهْ عَجَزَ الوَاصِفُونَ عَنْهُ فَقَالُوا ... لَمْ نَجِي مِنْ بِحَارِهِ بِكُضَامَهْ فَلْتُحَدِّثْهُ جُمْلَةً وَشَتَاتًا ... وَدَعْ الآنَ شَرْحَهُ وَنِظَامَهْ آخر: ... وَكَيْفَ يَلَذُّ العَيْشَ مَنْ هُوَ مُوقِنٌ ... بِمَوْقِف عَدْلٍ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ كَأَنَّا نَرَى أَنْ لا نَشُورَ وَأَنَّنَا ... سُدَى مَا لَنَا بَعْدَ المَمَاتِ مَصَادِرُ أَلا لا وَلَكِنَّا نَغُرُّ نُفُوسَنَا ... وَتَشْغَلُنَا اللذَّاتِ عَمَّا نُحَاذِرُ فَصْلٌ: وَتَأَمَّلْ صِفَةَ يَوْمِ القِيَامَةِ وَدَوَاهِيهِ، لَعَلَّكَ أَنْ تَسْتِعِدَّ لَهُ قَبْلَ أَنْ تُفَارِقَ الرُّوحُ البَدَنَ، وَيُحَالُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، وَتَنْدَم حِينَ لا يَنْفَعُكَ النَّدَمُ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ اليوم الرَّهِيبُ تَنْفَطِرُ السَّماَءُ وَالكَوَاكِبُ تَنْتَثِرُ، وَالبِحَارُ تُفَجَّرُ وَالنُّجُومُ تَنْكَدِرُ، وَالشَّمْسُ تُكَوَّرُ وَالجِبَالُ تُسَيَّرُ، وَالعِشَارُ

تُعَطَّلُ، وَالوُحُوشُ تُحْشَرُ، وَالنُّفُوسُ تُزَوَّجُ، وَالجَحِيمُ تُسَعَّرُ وَالجَنَّةْ تُقَرَّبُ، وَالأَرْضُ تُمَدُّ يَوْمَ تَرَى الأَرْضَ قَدْ زُلْزِلَتْ، وَأَخْرَجَتْ أَثْقَالَهَا {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} يَوْمَ تُحْمَلُ {الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} ، {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلاً} ، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} ، {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} ، {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} ، يَوْمَ تُرَجُّ الأَرْضُ رَجَّا، وَتُبَسُّ الجِبَالُ بِسَّا، يَوْمَ {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} ، {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} يَوْمَ يَنْسِفُ اللهُ الجِبَالَ {نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً} يَوْمَ {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} يَوْمَ تَنْشَقُّ فِيهِ السَّمَاءُ فَتَكُونُ {وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} ، {َيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ} ، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} . شِعْرًا: وَبَعدَ دُخُولِ القَبْرِ يَا نَفْسُ كُرْبَةٌ ... وَهَوْلٌ تُشِيبُ المُرْضِعِينَ زَلازِلُهْ إِذَا الأَرْضُ خَفَّتْ بَعْدَ ثَقْلِ جِبَالِهَا ... وَخَلَّى سَبِيلَ البَحْرِ يَا نَفْسُ سِاحِلُهْ فلا يَرْتَجِي عَوْنًا عَلَى حَمْلِ وِزْرِهِ ... مُسِيءٌ وَأَوْلَى النَّاسِ بِالوِزْرِ حَاِمِلُهْ إِذَا الجَسَدُ المَعْمُورُ زَايلَ رُوحَهُ ... خَوَى وجَمَالُ البَيْتِ يَا نَفْسُ آهِلُهْ

وَقَدْ كَانِ فِيهِ الرُّوحُ حَيًّا يَزِينُهُ ... وَمَا الغِمْدُ لَولا نَصْلُهُ وَحَمَائِلُهُ يُزَايلُُنِي مَالِي إَذِا النَّفْسُ حَشْرَجَت ... وَأَهْلِي وَكَدْحِي لازِمِي لا أُزَايِلُهْ وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} ، وَقَالَ: {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ} ، وَقَالَ: {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} ، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً} الآيَة. {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} ، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} ، {يَوْمَ تَبْلُوا كُل نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} ، يَوْمَ تَعْلَمُ فِيهِ كُلُّ نَفْسٍ مَا أَحْضَرَتْ وَتَشْهَدُ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ، يَوْمَ تَخْرُسُ فِيهِ الأَلْسُنُ، وِتَنْطِقُ فِيهِ الجَوَارِحُ، يَوْمٌ شَيَّبَ ذِكْرُهُ سَيَّدَ المُرْسَلِينَ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شَيَّبَتْنِي هُودٌ، وَالوَاقِعَةُ، وَالمُرْسَلاتُ، وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، وَإَذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» . أَخْرَجَهُ الحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيَ وَحَسَّنَهُ. شِعْرًا: ... لأَمْرِ مَا تَصَّدُعَتِ القُلُوبُ ... وَبَاحَ بِسِرِّهَا دَمْعٌ سَكِيبُ وَبَاتَتْ فِي الجَوَانِحِ نَارُ ذِكْرَى ... لَهَا مِنْ خَارِج أَثَرٌ عَجِيبُ وَمَا خَفَّ اللَّبِيبُ لِغَيْرِ شَيْءٍ ... وَلا أَعْيَا بِمَنطِقِهِ الأَرِيبُ ذَرَاهُ لائِمَاُه فَلا تُلُومَا ... فَرُبَّتَ لائِمٍ فِيهِ يَحُوبُ رَأَى الأَيَّامَ قَدْ مَرَّتْ عَلَيْهِ ... مُرُورَ الرِّيحِ يَدْفَعُهَا الهُبُوبُ وَمَا نَفَسٌ يَمُرُّ عَلَيْهِ إِلا ... وَمِنْ جُثْمَانِهِ فِيهِ نَصِيبُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ لَوْ يَدْرِي مَقَامٌ ... بِهِ الولْدَانُ مِنْ رَوْعٍ تَشِيبُ وَهَذَا المَوْتُ يُدْنِيهِ إليه ... كَمَا يُدْنِي إِلَى الهَرَمِ المَشِيبُ مَقَامٌ تٌسْتَلَذُّ بِهِ المَنَايَا ... وَتُدْعَى فِيهِ لَوْ كَانَتْ تُجِيبُ وَمَاذَا الوَصْفُ بِالِغُهُ وَلَكِنْ ... هِيَ الأَمْثَالُ يَفْهَمُهَا اللَّبِيبُ

اللَّهُمَّ اقْبَلْ تَوْبَتَنَا وَاغْسِلْ حَوْبَتَنَا وَأَجِبْ دَعْوَتَنَا وَثَبِّتْ حُجَّتَنَا وَاهْدِ قُلُوبَنَا وَسَدّدْ أَلْسِنَتَنَا وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ قُلُوبِنَا وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {اليوم نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} ، وَقَالَ: {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} قَالَ المُفَسِّرُونَ: إِنَّهُمْ يُنْكِرُونُ الشِّرْكَ وَتَكْذِيبَ الرُّسُلِ، فَيَخْتِمُ اللهُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ خَتْمًا لا يَقْدِرُونَ مَعَهُ عَلَى الكَلامِ، وَتَكَلَّمُ أَيْدِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ، وَتَشْهَدُ أَرْجُلهُمْ عَلَيْهم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ بِاخْتِيَارِهِمْ، بَعْدَ إِقْدَارِ اللهِ تَعَالَى لَهَا عَلَى الكَلامِ لِيَكُونَ أَدَلَّ عَلَى صُدُورِ الذَّنْبِ مِنْهُمْ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَأَحْمَدُ، وَالنِّسَائِيّ، وَالبَزَّارُ وَغَيْرُهُم عَنْ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اليوم نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} الآيَة. قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَحَكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَمَّ أَضْحَكْ» ؟ قُلْنَا: لا يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «مِنْ مُخَاطَبَةِ العَبْدِ رَبَّهُ، يَقُولُ: يَا رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، فَيَقُولُ: إِنِّي لا أُجِيزُ عَلَيَّ إِلا شَاهِدًا مِنِّي، فَيَقُولُ: {كَفَى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} وَبِالكَرَامِ الكَاتِبِينَ شُهُودًا، فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَيُقُالُ لأَرْكَانِهِ: انْطِقِي، فَتَنْطِقُ بِأَعْمَاله، ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الكَلامِ، فَيَقُولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلْ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالا: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَلْقَى العَبْدَ رَبَّهُ، فَيَقُولُ اللهُ: أَلَمْ أُكْرِمْكَ وَأُسَوِّدْكَ وَأُزَوِّجْكَ، وَأُسَخِّرْ لَكَ الإِبلَ، وَأَذَرُكَ تَرْأَسُ وَتَرَبَّعُ؟ فَيَقُولُ: بَلَى أَيْ رَبِّ.

نظم لابن القيم في الأرض تحدث وتشهد بما كان عمل عليها

فَيَقُولُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلاقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لا، فَيُقَالُ: إِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي، ثُمَّ يَلْقَى الثَّانِي فَيَقُولُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَلْقَى الثَّالِثُ فَيَقُولُ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: آمَنْتُ بِكَ وَبِكِتَابِكَ وَرَسُولِكَ، وَصليتُ وَصُمْتُ وَتَصَدَّقْتُ، وَيُثْنَي بَخَيْرِ مَا اسْتَطَاعَ، فَيَقُولُ: أَلا نَبْعَثُ شِاهِدًا عَلَيْكَ؟ فَيُفَكِّرُ فِي نَفْسِهِ، مَنْ الذِي يَشْهَدُ عَلَيْهِ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ، وَيُقَالُ لِفَخْذِهِ: انْطِقِي، فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ وَفَمُهُ وَعِظَامُه بِعَمَلِهِ مَا كَانَ، وَذَلِكَ لِيُعْذِرَ مِنْ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ المُنَافِقُ وَذَلِكَ الذِي يُسْخَطُ عَلَيْهِ» . قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ فِي ذِكْرِ بَعْضِ أَهْوَالِ يَوْمِ القِيَامَةِ: وَتحَدِّثُ الأَرْضَ التِي كُنَّا بِهَا أَخْبَارَهَا فِي الحَشْرِ لِلرَّحْمَانِ وَتَظَلُّ تَشْهَدُ وَهِي عَدْلٌ بِالذَي مِنْ فَوْقِهَا قَدْ أَحْدَثَ الثَّقَلانِ وَتُمَدُّ أَيْضًا مِثْلَ مَدِّ أَدِيمِنَا مِنْ غَيْرِ أَوْدِيَةٍ وَلا كُثْبَانِ وَتَقِيءُ يَوْمَ العَرْضِ مِنْ أَكَبْادِهَا كَالأَصْطِوَانِ نَفَائِسُ الأَثْمَانِ كُلٌّ يَرَاهُ بِعَيْنِهِ وَعِيَانِهِ مَا لامْرِئٍ بِالأَخْذِ مِنْهُ يَدَانِ وَكَذَا الجِبَالُ تُفَتُّ فَتًّا مُحْكَمًا فَتَعُودُ مِثْلُ الرَّمْلِ ذِي الكُثْبَانِ وَتَكُونُ كَالعِهْنِ الذِي أَلْوَانُهُ وَصِبَاغُه مِنْ سَائِرِ الأَلْوَانِ ... ›?

.. وَتُبَسُّ بَسًا مِثْلَ ذَاكَ فَتَنْثَنِي مِثْلَ الهَبَاءِ لِنَاظِرِ الإِنْسَانِ وَكَذَا البِحَارُ فَإِنَّهَا مَسْجُورَةٌ قَدْ فُجِّرَتْ تَفْجِيرِ ذِي السُّلْطَانِ وَكَذَالَكِ القَمَرَانِ يَأْذَنُ رَبُّنَا لَهُمَا فَيَجْتَمِعَانِ يَلْتَقِيَانِ هَذِي مُكَوَّرةٌ وَهَذَا خَاسِفٌ وَكِلاهُمَا فِي النَّارِ مَطْرُوحَانِ وَكَوَاكِبُ الأَفْلاكِ تُنْثَرُ كُلُّهَا كَلآلِئٍ نُثِرَتْ عَلَى مِيدَانِ وَكَذَا السَّمَاءُ تُشَقُّ شِقًا ظَاهِرًا وَتَمُورُ أَيْضًا أَيَمَا مَوَرَانِ ... ›? وَتَصِيرُ بَعْدَ الانْشِقَاقِ كَمِثل هَذَا المُهْلِ أَوْ تَكُ وَرْدَة كَدِهَانِ. وَقاَلَ القَحْطَانِي رَحِمَهُ اللهُ: ... يَوْمُ القِيَامَةِ لَوْ عَلِمْتَ بِهَوْلِهِ لَفَرَرْتَ مِنْ أَهْلٍ وَمِنْ أَوْطَانِ يَوْمٌ تَشَقَّقَتِ السَّمَاءُ لِهَوْلِهِ وَتَشِيبُ فِيهِ مَفَارِقُ الوِلْدَانِ يَوْمٌ عَبُوسٌ قَمْطَرَيرٌ شَرُّهُ فِي الخَلْقِ مُنْتَشِرٌ عَظِيمُ الشَّأنِ يَوْمٌ يَجِيءُ المُتَّقُونَ لِرَبِّهِم وَفْدًا عَلَى نُجُبٍ مِنَ العِقْيانِ ... ›?

.. وَيَجِيءُ فِيهِ المُجْرِمُونَ إِلَى لَظَى يَتَلَمَّظُونَ تَلَمُّظَ العَطْشَانِ ... ›? مَوْعِظَةٌ فَيَا أَيُّهَا المُهْمِلُونَ الغَافِلُونَ تَيَقَّظُوا فَإليكُم يُوَجَّهُ الخِطَابُ وَيَا أَيُّهَا النَائِمُونَ انْتَبِهُوا قَبْلَ أَنْ تُنَاخَ لِلرَّحِيلِ الركابْ، قَبْلَ هُجُومِ هَادِمِ اللَّذَاتِ وَمُفَرِّقَ الجَمَاعَاتِ وَمُذِلِّ الرِّقَابِ وَمُشَتِّتِ الأَحْبَابِ فَيَا لَهُ مِنْ زَائِر لا يَعُوقُهُ عَائِق وَلا يُضْرَبُ دُونَهُ حِجَاب، وَيَا لَهُ مِنْ نَازِلٍ لا يَسْتَأْذِنُ عَلَى المُلُوكِ وَلا يلِحُ مِنَ الأَبْوَابِ، وَلا يَرْحَمُ صَغِيرًا وَلا يُوَقِّر كَبِيرًا وَلا يَخَافُ عَظِيمًا وَلا يَهَابُ ألا وَأنَّ بَعْدُهُ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ السُّؤَالِ وَالجَوَابِ، وَوَرَاءهِ هَوْلُ البَعْثِ وَالحَشْرِ وَأَحْواله الصِّعَابِ مِنْ طُولِ المَقَامِ وَالازْدِحَامِ فِي الأَجْسَامِ وَالمِيزَانِ وَالصِّرَاطِ وَالحِسَابِ. نظم في البعث بعد الموت والجزاء ... وَإِنَّ نَفْخَةَ إِسْرَافِيلَ ثَانِية ... فِي الصُّوَرِ حَقًا فَيَحْيَى كَلُّ مَنْ قُبِرا كَمَا بَدَا خَلْقَهُم رَبِّي يُعِيدُهُمُ ... سُبْحَانَ مَنْ أَنْشَأَ الأَرْوَاحَ وَالصُّوَرا حَتَّى إِذَا مَا دَعَا لِلْجَمْعِ صَارِخُهُ ... وَكُلُّ مَيْتٍ مِنْ الأَمْوَاتِ قَدْ نُشِرَا قَالَ الإِلَهُ قِفُوهُم لِلسُؤَال لِكَيْ ... يَقْتَصُّ مَظْلُومُهُم مِمَّنْ لَهُ قَهَرَا فَيُوقَفُونَ أُلُوفًا مِنْ سِنِينِهِم ... وَالشَّمْسُ دَانيةَ وَالرَّشحُ قَدْ كَثُرَا وَجَاءَ رَبُّك وَالأملاكُ قَاطِبةٌ ... لَهُمْ صُفُوفٌ أَحَاطَتْ بِالوَرَى رُمَرَا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِالنَّارِ تَسْحَبُهَا ... خُزَّانُهَا فَأَهَللتْ كُلَّ مَنْ نَظَرَا لَهَا زَفِيرٌ شَدِيدٌ مِنْ تَغَيُّظِهَا ... عَلَى العُصَاةِ وَتَرْمِي نَحْوَهُم شَرَرَا وَيُرْسِلُ اللهُ صُحْفَ الخَلْقِ حَاوِيَةً ... أَعْمَالُهم كُلُّ شَيْءٍ جَلَّ أَوْ صَغُرَا فَمَنْ تَلقْتُه بِإليمْنَى صَحِيفَتُهُ ... فَهُوَ السَّعِيدُ الذِي بِالفَوْزِ ظَفِرَا وَمَنْ يَكُنْ بِاليدِ اليسْرَى تَنَاوَلَهَا ... دَعَا ثُبُورًا وَللنِّيرَانِ قَدْ حُشِرَا

الميزان حقيقي نشر صحف الأعمال في جميع الأعمال

وَوَزْنُ أَعْمَالِهِم حَقًّا فَإِنْ ثَقُلَتْ ... بِالخَيْرِ فَازَ وَإِنْ خَفّتَت فَقَدْ حُشِرَا وَإِنْ بالمثل تُجْزَى السَّيِئَات كَمَا ... يَكُونُ فِي الحَسَنَاتِ الضِّعْفِ قَدْ وَفَرَا وَكُلُّ ذَنْبٍ سِوَى الإِشْرَاكِ يَغْفِرُهُ ... رَبِّي لِمْنَ شَاءَ وَلَيْسَ الشِّرْكُ مُغْتَفَرَا وَجَنَّةُ الخُلْدِ لا تَفْنَى وَسَاكِنُهَا ... مُخَلَّدَ لَيْسَ يَخْضَى المَوْتَ وَالكِبَرَا أَعَدَّهَا اللهُ دَارًا لِلْخُلُودِ لِمَنْ ... يَخْشَى الإِلَهَ وَللنَّعْمَاءَ قَدْ شَكَرَا وَيَنْظُرُونَ إِلَى وَجْهِ الإِلَهِ بِهَا ... كَمَا يَرَى النَّاسُ شَمْسَ الظُّهْرِ وَالقَمَرَا كَذَلِكَ النَّارُ لا تَفْنَى وَسَاكِنُهَا ... أَعَدَّهَا اللهُ مَوْلانَا لِمَنْ كَفَرَا وَلا يُخَلَّدُ فِيهَا مَنْ يُوَحِّدُهُ ... وَلَوْ بِسَفْكِ دَمِ المَعْصُومِ قَدْ فَجَرَا وَكَمْ يُنَجِّي إِلَهِي بِالشَّفَاعَةِ مِنْ ... خَيْرِ البَرِيَّةِ مِنْ عَاص بَهَا سُجِرَا اللَّهُمَّ أَيْقَظْنَا مِن نَوْم الغَفْلَةِ ونَبِّهْنَا لاِغْتِنَامِ أَوقَاتِ المُهْلَةِ وَوَفِّقْنَا لِمَصَالِحِنَا واعْصِمْنَا مِنْ قَبَائِحِنَا وَذُنُوبِنَا ولا تُوآخِذْنَا بِمَا انْطَوتْ عليه ضَمَائِرُنُا. اللَّهُمَّ اعْصِمْنَا عَنْ الْمُخَالَفةِ والعصيانِ وألْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ يَا كرِيمُ يَا مَنَّان، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ منْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ) : ثُمَّ تَأَمَّلْ فِي المِيزَانِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَيزَانٌ حَقِيقِيّ لَهُ كفَّتَانِ وَلِسَانٌ، تُوزُنُ بِهِ أَعْمَالُ العِبَادِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {َمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى

الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ العَظِيمِ» . الأَكثرُ عَلَى أَنَّهُ مِيزَانٌ وَاحِدٌ لِجَمِيعِ الأُمَمِ وَلِجَمِيعَ الأَعْمَالِ، وَإِنَّمَا جُمِعَ بِاعْتِبَارَ تَعَدُّدِ الأَعْمَالِ المَوْزُونَةِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الأَشْخَاصِ، أَوْ لِلتَّفْخِيمِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُرْسِل إليهمْ إِلا وَاحِدٌ، وَقِيلَ: لأَنَّ المِيزَانَ يَحْتَوِي عَلَى لِسَانٍ وَكَفَّتَيْنِ وَشَاهِينَ، وَلا يَتِمُّ الوَزْنُ إِلا بِاجْتِمَاعِهَا. وَرُوِيَ أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ: سَأَلَ رَبَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُرِيَهُ المِيزَانَ، فَأَرَاهُ كُلَّ كِفَّةٍ مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، فَغُشِي عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: يَا إِلَهِي مَنِ الذِي يَقْدِرُ أَنْ يَمْلأ كِفَّتَهُ حَسَنَاتٍ؟ فَقَالَ: يَا دَاوُدَ إِنِّي إِذَا رَضِيتُ عَنْ عَبْدِي مَلأتُها بِتَمْرَةٍ. وَأَخْرَجَ البَزَّارُ، وَالبَيْهَقِيُّ فِي البَعْثِ عَنْ أَنَسٍ بنِ مَالِكَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُؤْتَى بِابْنِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُوقَفُ بَيْنَ كِفَّتَيْ المِيزَانَ، وَيُوكُلُ بِهِ مَلَكٌ، فَإِنْ ثَقُلَ مِيزَانُهُ نَادَى المَلَكُ بِصَوْتٍ يُسْمِعُ الخَلائِقَ: سَعُدَ فُلانُ بنُ فُلانٍ سَعَادَةً لا يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا، وَإِنْ خَفَّ مِيزَانُهُ نَادَى المَلَكُ بِصَوْتٍ يُسْمِعُ الخَلائِقَ: أَلا شَقِيَ فُلانٌ شَقَاوَةً لا يَسْعَدُ بَعْدَهَا أَبَدًا» ، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: ذَكَرْتُ النَّارُ فَبَكَيْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يُبْكِيكِ» ؟ قُلْتُ: ذَكَرْتُ النَّارَ فَبَكَيْتُ، فَهَلْ تَذْكُرُونَ أَهْلِيكُم يَوْمَ القِيَامَةِ؟ فَقَالَ: «أَمَّا فِي ثَلاثِ مَوَاطِنَ فَلا يَذْكُرُ أَحَدًا أحَدًا: عِنْدَ المِيزَانِ، حَتَّى يَعْلَمَ أَيَخِفُّ مِيزَانُهُ أَمْ يَثْقُلُ، وَعِنْدَ تَطَايُرِ الصُّحُفِ، حَتَّى يَعْلَمَ أَيَقَعُ كِتَابَهُ فِي يَمِينِهِ أَمْ فِي شِمَاله أَمْ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَعِنْد الصِّرَاطِ إَذَا وَضَعَ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ حَتَّى يَجُوزَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. فَلا تَغْفَلْ عَنِ المِيزَانِ بِلْ فَكِّرْ فِيهِ وَخَطَرِهِ، وَأَنَّ الأَعْيُنَ شَاخِصَةٌ إِلَى لِسَانِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لا يَنْجُو مِنْ خَطَرِهِ إِلا مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا،

وَوَزْنَ أَعْمَاله فِيهَا بِمِيزَانِ الشَّرْعِ، وَتَتَبَّعَ أَقْواله وَخَطَرَاتِهِ وَلَحَظَاتِهِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوهَا قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، وَاعْلَمْ أَنَّ مِمَّا يِجِبُ الإِيمَانُ بِهِ كَالمِيزَانِ الصُّحُفِ، وَهِيَ صُحُفُ الأَعْمَال، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} فَيُجْمَعُ لَهُ عَمَلُهُ كُلُّهُ فِي كِتَابٍ يُعْطَاهُ يَوْمَ القِيَامَةِ حِينَ البَعْثِ وَالحِسَابِ، يَلْقَاُه مَفْتُوحًا غَيْرَ مَطْوِيّ يَقْرَؤُهُ، فِيهِ جَمِيعُ عَمَلِهِ مِنْ أَوَّلِ عُمْرِهِ إِلَى آخِرِهِ، قَالَ تَعَالَى: {يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ * بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} ، وَقَالَ: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} ، وَقَالَ: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ} . فَلَيْسَ بِمُهْمَلٍ بَلْ لَهُ مَلائِكَةٌ يَتَعَاقَبُونَ عَلَيْهِ، حَرَسٌ بِاللَّيْلِ وَحَرَسٌ بِالنَّهَارِ، وَيَحْفَظُونَهُ مِنَ الأَسْوَاءِ وَالحَادِثَاتِ، كَمَا يَتَعَاقَبُ مَلائِكَة آخَرُونَ لِحِفْظِ الأَعْمَالِ مَنْ خَيْرٍ أَوْ شَرِّ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، فَاثْنَانِ عَنِ اليمين وَالشَّمِالِ يَكْتُبَانِ الأَعْمَالَ، صَاحِبُ اليمين يَكْتُبُ الحَسَنَاتِ، وَصَاحِبُ الشِّمَالِ يَكْتُبُ السَّيِّئَاتِ، وَمَلَكَانِ آخِرَانِ يَحْفَظَانِهِ وَيَحْرُسَانِهِ، وَاحِدٌ مِنْ وَرَائِهِ، وَآخَرُ مِنْ قُدَّامِهِ، فَهُوَ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَمْلاكٍ بِالنَّهَارِ، وَأَرْبَعَةٍ آخَرِينَ بِاللَّيْلِ بَدَلاً، حَافِظَانِ وَكَاتِبَانِ، كَمَا فِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونِ فِي

فصل في الحساب وأخذ الكتاب باالأيان والشمائل

صَلاةِ الصُّبْحِ، وَصَلاةِ العَصْرِ، فَيَصْعَدُ إليه الذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُم وَهُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: أَتَيْنَاهُمْ وَهُم يُصَلُّونَ، وَتَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ» ، وَفِي الحَدِيثِ الآخَرِ: «إِنَّ مَعَكُم مَنْ لا يُفُارقُكُم إِلا عِنْدَ الخَلاءِ وَعِنْدَ الجِمَاعِ، فَاسْتَحْيُوهُمْ وَأَكْرِمُوهُمْ» . شِعْرًا: ... إِنْ سَرَّكَ الشَّرَفُ العَظِيمُ مَعَ الغِنَى وَيَكُونُ يَوْمَ أَشَدِّ خَوْفٍ وَابِلا يَوْمَ الحِسَابِ إَذَا النُّفُوسِ تَثَاقَلَتْ فِي الوَزْنِ إِذْ غَبَطَ الأَخَفُّ الأَثْقَلا فَاعْمَلْ لِمَا بَعْدَ المَمَاتِ وَلا تَكُنْ عَنْ حَظِّ نَفْسِكَ فِي حَيَاتِكَ غَافَلا ... ›? اللَّهُمَّ انْهَجْ بِنَا مَنَاهِجَ الْمُفْلِحِينَ وأَلْبِسْنَا خِلَعَ الإِيمَانِ واليقين وَخُصَّنَا مِنْكَ بالتَّوْفِيقِ الْمُبِين وَوَفِّقْنَا لِقَوْلِ الْحَقِّ وإتَّبَاعِهِ وَخَلَّصْنَا مِنْ الْبَاطِل وابْتِدَاعِهِ وَكَنْ لَنَا مَؤَيِّدًا وَلا تَجْعَلْ لِفَاجِرٍ عَلَيْنَا يَدًا وَاجْعَلْ لَنَا عَيْشًا رَغَدًا وَلا تُشْمِتْ بِنَا عَدوًّا وَلا حَاسِدًا وَارْزُقْنَا عِلْمًا نَافِعًا وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً وَفَهْمًا ذَكِيًّا وَطَبْعًا صَفِيًّا وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) إِذَا فَهِمْتَ ذَلِكَ وَأَنَّكَ غَيْرَ مَتْرُوكٍ سُدَى، فَالوَاجِبُ عَلَيْكَ إِنْ كُنْتَ عَاقِلاً تُرِيدُ نَجَاةَ نَفْسِكَ أَنْ لا تَغْفَلَ وَلا سَاعَةً، وَأَنْ تَكُونَ دَائِمًا عَلَى حَذَرٍ، وَتَفَكَّرْ فِيمَا أَمَامَكْ مِنْ العَقَبَاتِ وَالأَهْوَالِ المُزْعِجَاتِ، وَاذْكُرْ

تَطَايُرَ الصُّحُفِ إِلَى الأَيْمَانِ وَالشَّمَائِلِ، قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ} الآيَاتِ وَقَالَ عَزَّ مِنْ قائِل: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً * وَيَصْلَى سَعِيراً} . وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يُؤْتَى بِالعَبْدِ يَوْمَ القِيَامَةِ أَوْ الأَمَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيُنَادِي مُنَادٍ عَلَى رُؤُوسِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ: هَذَا فُلانُ بنُ فَلانٍ مَنْ كَانَ لَهُ حَقٌّ فَليَأْتِ إِلَى حَقِّهِ، فَتَفْرَحُ المَرْأَةُ أَنْ يَكُونَ لَهَا الحَقُّ عَلَى أَبِيهَا أَوْ أُمِّهَا أَوْ أَخِيهَا أَوْ زَوْجِهَا ثُمَّ قَرَأَ: {فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ} فَيَغْفِرُ اللهُ مِنْ حَقِّهِ مَا يَشَاءُ، وَلا يَغْفِرُ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ شِيْئًا فَيُنْصَبُ لِلنَّاسِ، فَيَقُولُ: ائْتُوا إِلَى النَّاسِ حُقُوقَهُم، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ فَنِيْتْ الدُّنْيَا، مِنْ أَيْنَ أُوتِيهُمْ حُقُوقَهُمْ؟ فَيَقُولُ: خُذُوا مِنْ أَعْمَاله الصَّالِحَةِ فَأَعْطُوا كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، فَإِنْ كَانَ وَلِيًّا للهِ فَفَضَلَ لَهُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ضَاعَفَهَا اللهُ لَهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ بِهَا الجَنَّةَ، ثُمَّ قَرَأَ: {إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} وَإِنْ كَانَ عَبْدًا شَقِيًّا قَالَ المَلِكَ: رَبِّ فَنِيَتْ حَسَنَاتُه وَبَقِيَ طَالِبُونَ كَثِيرٌ، فَيَقُولُ: خُذُوا مِنْ سَيَّئَاتِهِم فَأَضِيفُوهَا إِلَى سَيِّئَاتِهِ، ثُمَّ صُكُّوا لَهُ صَكًّا إِلَى النَّارِ. وَعَنْ أَنْسٍ أَنَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهِ لا

يَظْلِمُ المُؤْمِنَ حَسَنَةً يُثَابُ عَلَيْهَا الرِّزْقَ فِي الدُّنْيَا، وَيُجْزَى بِهَا فِي الآخِرَةِ، وَأَمَّا الكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، فَإِذَا كَانَ يَوْمَ القِيَامَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَةً» . وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ، وَالحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَاكُ فِي قَوْلِهِ: {وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً} ، يَعْنِي: الجَنَّةَ، نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُسْكِنَنَا وَإِخْوَانِنَا المُسْلِمِينَ الجَنَّةَ. وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرُو بنِ العَاصِ أَنَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى سَيُخَلِّصُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُؤُوسِ الْخَلائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَنْشُرُ لَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلاًّ كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ. فَيَقُولُ: لا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ تعالى: بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، فَإِنَّهُ لا ظُلْمَ عَلَيْكَ اليوم فَيُخْرَجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلاتِ؟ فَقَالَ: فإِنَّكَ لا تُظْلَمُ فَتُوضَعُ السِّجِلاتُ فِي كَفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ، فَطَاشَتْ السِّجِلاتُ، وَثَقُلَتْ الْبِطَاقَةُ، ولا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ. وَخُصّ مِمَّنْ يُحَاسَبُ وَتُوزَنُ أَعْمَالُهْم طَائِفَتَانِ، فَمِنِ الكُفَّارِ مِنْ لَيْسَ لَهُمْ حَسَنَةٌ، فَهُؤلاءِ يَقَعُونَ فِي النَّارِ مِنْ غَيْرِ حِسَابٍ وَلا مِيزَانٍ، وَمِنَ المُؤْمِنِينَ مِنْ لا سَيِّئَةَ لَهُ وَلَهُ حَسَنَاتٌ كَثِيرَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى مَحْضِ الإِيمَانِ، فَهَذَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ بِغَيْبِ حِسَابٍ، كَمَا فِي قِصَّةِ السَّبْعِينَ أَلْفًا، وَمَنْ شَاءَ اللهُ أَنْ يُلْحِقَهُ بِهم، وَهُمْ الذِينَ يَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ كَلَمْحِ

قصيدة في علامات صحة القلب وطهارته من أدران الذنوب

البَصَرِ، وَكَالبَرْقِ الخَاطِفِ، وَكَالرِّيحِ، وَكَأْجَاوِدْ الخَيْلِ، وَمَنْ عَدَا هَذَيْنِ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالكُفَّارِ يُحَاسَبُونَ، وَتُعْرَضُ أَعْمَالُهم عَلَى المَوَازِينِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم} : إِنَّهُ يَحْشُرُ الخَلائِقَ كُلَّهُم يَوْمَ القِيَامَةِ، البَهَائِمِ وَالدَّوَابِ وَالطَّيْرِ وَكُلِّ شَيْءٍ، فَيَبْلُغُ مِنْ عَدْلِ اللهَ يَوْمَئِذٍ أَنْ يَأْخُذُ لِلْجَمَّاءِ مِنَ القَرْنَاءِ، ثُمَّ يَقُولُ: كُونِي تُرَابًا، فلذلِكَ {يَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً} فَتَفَكَّرْ فِي صَحِيفَتِكَ، وَكُنْ عَلَى حَذَرٍ خَشْيَةَ أَنْ تَخْرُجَ مَمْلُوَءةً بِالسَّيِّئَاتِ. وَاللهُ أَعْلَمْ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. ... عَلامَةُ صِحَّةٍ لِلْقَلْبِ ذِكرٌ لِذِي العَرْشِ المُقَدَّسِ ذِي الجَلالِ وَخِدْمَةُ رَبِّنَا فِي كُلِّ حَالِ بِلا عَجْزٍ هُنَالِكَ أَوْ كَلالِ وَلا يَأْنَسْ بِغَيْرِ اللهِ طُرًا سِوَى مَنْ قَدْ يَدُلُّ إِلَى المَعَالي وَيَذْكُرُ رَبَّهُ سِرًا وَجَهْرًا وَيُدْمِنُ ذِكْرَهُ فِي كُلِّ حَالِ وَفِيهَا وَهُوَ ثَانِيها إِذَا مَا يَفُوتُ الوِرْدُ يَوْمًا لاشْتِغَالِ فَيَأْلَمُ لِلْفَوَاتِ أَشَّدَ مِمَّا يَفُوتُ عَلَى الحَرِيصِ مِنَ الفِضَالِ ... ›?

.. وَمِنْهَا شُحُّهُ بِالوَقْتِ يَمْضِي ضَيَاعًا كَالشَّحِيحِ بِبَذْلِ مَالِ وَأَيْضًا مِنْ عَلامَتِهِ اهْتِمَامٌ بِهَمٍ وَاحِدٍ غَيْرَ انْتِحَالِ فَيَصْرَفُ هَمَّهُ للهِ صِرْفًا وَيَتْرُكُ مَا سِوَاهُ مِنَ المَوَالِ وَأَيْضًا مِنْ عَلامَتِهِ إِذَا مَا دَنَا وَقْتُ الصَّلاةِ لِذِي الجَلالِ وَأَحْرَمَ دَاخِلاً فِيهَا بِقَلْبٍ مُنِيبٍ خَاضِعٍ فِي كُلِّ حَالِ تَنَاءَى هَمُّهُ وَالغَمُّ عَنْهُ بِدُنْيَا تَضْمَحِلُّ إِلَى زَوَالِ وَوَافَى رَاحَةٌ وَسُرُورَ قَلْبٍ وَقُرَّةَ عَيْنِهِ وَنَعِيمَ بَالِ وَيَشْتَدُّ الخُرُوجُ عَلَيْهِ فِيهَا فَيَرْغَبُ جَاهِدًا فِي الابْتِهَالِ وَأَيْضًا مِنْ عَلامَتِهِ اهْتِمَامٌ بِتَصْحِيحِ المَقَالَةِ وَالفِعَالِ وَأَعْمَالٍ وَنِيَّاتٍ وَقَصْدٍ عَلَى الإِخْلاصِ يَحرصُ بِالكَمَالِ أَشَدَّ تَحَرُّصًا وَأَشَدَّ هَمًا مِنَ الأَعْمَالِ تَمَّتْ لا يُبالي ... ›?

.. بِتَفْرِيطِ المُقَصِّرِ ثُمَّ فِيهَا وَإِفْرَاطٍ وَتَشْدِيدِ لِغَالي وَتَصْحِيحِ النَّصِيحَةِ غَيْرَ غِشٍّ يُمَازِجُ صَفْوَهَا يَوْمًا بِحَالِ وَيَحْرِصُ فِي إتِّبَاعُ النَّصُ جَهْدًا مَعَ الإِحْسَانِ فِي كُلَّ الفِعَالِ وَلا يُصْغِي لِغَيْرِ النَّصِ طُرًا وَلا يَعْبَأَ بِآرَاءِ الرِّجَالِ فَسِتُّ مَشَاهِدٍ لِلْقَلْبِ فِيهَا عَلامَاتٌ عَنِ الدَّاءِ العُضَالِ وَيَشْهَدُ مِنْهُ لِلرَّحْمَنِ يَوْمًا بِمَا أَسْدَى عَلَيْهِ مِنَ الفِضَالِ وَيَشْهَدُ مِنْهُ تَقْصِيرًا وَعَجْزًا بِحَقِّ اللهِ فِي كُلِّ الخِلالِ فَقَلْبٌ لَيْسَ يَشْهَدُهَا سَقِيمٌ وَمَنْكُوسٌ لِفِعْلِ الخَيْرِ قَالي فَإِنْ رُمْتَ النَّجَاةَ غَدًا وَتَرْجُوا نَعِيمًا لا يَصِيرُ إِلَى زَوَالِ نَعِيمٌ لا يُبِيدُ وَلَيْسَ يَفْنَى بِدَارِ الخُلْدِ فِي غُرَفٍ عَوَالِ فَلا تُشْرِكْ بِرَبِّكَ قَطُّ شَيْئًا فَإِنَّ اللهَ جَلَّ عَنِ المِثَالِ ... ›?

.. عَلا بِالذَّاتِ فَوْقَ العَرْشِ حَقًّا بِلا كَيْفٍ وَلا تَأْوِيلِ غَالِ عُلُوُّ القَدْرِ وَالقَهْرِ اللَّذَانِ هُمَا للهِ مِنْ صِفَةِ الكَمَالِ بِهَذَا جَاءَنَا فِي كُلِّ نَصٍّ عَنِ المَعْصُومِ فِي صَحْبٍ وَآلِ وَيَنْزِلُ رَبُّنَا فِي كُلِّ لَيْلٍ إِلَى أَدْنَى السَّمَاوَاتِ العَوَالي لِثُلْثِ اللَّيْلِ يَنْزِلُ حَِينَ يَبْقَى بِلا كَيْفٍ عَلَى مَرِّ اللَّيَالي يُنَادِي خَلْقَهُ هَلْ مِنْ مُنِيبٍ وَهَلْ مِنْ تَائِبٍ فِي كُلِّ حَالِ وَهَلْ مِنْ سَائِلٍ يَدْعُو بِقَلْبٍ فَيُعْطَى سُؤْلَهُ عِنْدَ السُّؤَالِ وَهَلْ مُسْتَغْفِرٍ مِمَّا جَنَاهُ مِنَ الأَعْمَالِ أَوْ سُوءِ المَقَالِ وَيَشْهَدُ أَنَّمَا القُرْآنُ حَقًّا كَلامُ اللهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِلالِ وَلا تَمْوِيهِ مُبْتَدِعٍ جَهُولٍ بَخَلْقِ القَوْلِ عَنْ أَهْلِ الضَّلالِ وَآيَاتُ الصِّفَاتِ تُمَرُّ مَرًا كَمَا جَاءَتْ عَلَى وَجْهِ الكَمَالَ ... ›?

.. إَلَهٌ وَاحِدٌ أَحَدٌ عَظِيمٌ عَلِيمٌ عَادِلٌ حَكَمُ الفِعَالِ رَحِيمٌ بِالعِبَادِ إِذَا أَنَابُوا وَتَابُوا عَنْ مُتَابَعَةِ الضَّلالِ شَدِيدُ الانْتِقَامِ لِمَنْ عَصَاهُ وَيُصليهِ الجَحِيمَ وَلا يُبَالي فَبَادِرْ بِالذِي يَرْضَاهُ تَحْظَى بِخَيْرٍ فِي الحَيَاةِ وَفِي المَآلِ وَلازِمْ ذِكْرَهُ فِي كُلِّ وْقْتٍ وَلا تَرْكَنْ إِلَى قِيلٍ وَقَالِ وَأَهْلِ العِلْمِ نَافِسْهُمْ وَسِائِلْ وَلا يَذْهَبْ زَمَانُكَ فِي اغْتِفَالِ وَأَحْسَنَ وَانْبَسِطْ وَارْفُقْ وَنَافِسْ لأَهْلِ الخَيْرِ فِي رُتَبَ المَعَالي فَحُسْنُ البِشْرِ مَنْدُوبٌ إليه وَيَكْسُوا أَهْلَهُ ثَوْبَ الجَمَالِ وَأَحْبِبْ فِي الإِلَهِ وَعَادِ فِيهِ وَأَبْغِضْ جَاهِدًا مِنْهُ وَوَالِ وَأَهْلَ الشِّرْكِ بَايِنْهُم وَفَارِقْ وَلا تَرْكَنْ إِلَى أَهْلِ الضَّلالِ وَتَشْهَدُ قَاطِعًا مِنْ غَيْرِ شكٍّ بِأَنَّّّّّ اللهَ جَلَّ عَنِ المِثَالِ ... ›?

.. وَرُؤْيَا المُؤْمِنِينَ لَهُ تَعَالَى عِيَانًا فِي القِيَامَةِ ذِي الجَلالِ يَرَى كَالبَدْرِ أَوْ كَالشَّمْسِ صَحوًا بِلا غَيْمٍ وَلا وَهْمٍ خِيَالِ وَمِيزَانُ الحِسَابِ كَذَاكَ حَقًّا مَعَ الحَوْضِ المُطَهَّرِ كَالزِلالِ وَمِعْرَاجُ الرَّسُولِ إليه حَقًّا بِنَصِّ وَارِدِ لِلشَّكِ جَالي كَذَاكَ الجَسْرُ يُنْصَبُ لِلبرَايَا عَلَى مَتْنِ السَّعِيرِ بِلا مُحَالِ فَنَاجٍ سَالِمٍ مِنْ كُلِّ شَرٍّ وَهَا هُوَ هَالِكٍ لِلنَّارِ صَالي وَتُؤْمِنُ بِالقَضَا خَيْرًا وَشَرًّا وَبِالمَقْدُورِ فِي كُلِّ الفِعَالِ وَأَنَّ النَّارَ حَقٌ قَدْ أَعِدَتْ لأَعْدَاءِ الرُّسُولِ ذَوِي الضَّلالِ بِحِكْمَةِ رَبِّنَا عَدْلاً وَعِلْمًا بِأَحْوَال الخَلائِقِ فِي المَالِ وَأَنَّ الجَنَّةَ الفِرْدَوْسَ حَقٌّ أُعِدَّتْ لِلْهُدَاةِ أُوُلِي المَعَالِ بِفَضْلٍ مِنْهُ إِحْسَانًا وَجُودًا بِلا شَكٍّ هُنَالِكَ لِلسُّؤَالِ

.. وَكُلٌّ فِي المَقَابِرِ سَوْفَ يُلْقَى وَتَكْرِيمًا لَهُمْ بَعْدَ الوِصَالِ نَكِيرًا مُنْكَرًا حَقًّا بِهَذَا أَتَانَا النَّقْلُ عَنْ صَحْبٍٍ وَآلِ وَأَعْمَالاً تُقَارِنُهُ فَإِمَّا بِخَيْرٍ قَارَنْتَ أَوْ سُوءِ حَالِ ... ›? (مَوْعِظَةٌ) اسْتَلِبْ زَمَانِكَ يَا مَسْلُوبْ! وَغَالِبِ الهَوَى يَا مَغْلُوبْ! وَحَاسِبْ نَفْسَكَ فَالعُمْرُ مَحْسُوبْ، وَامْحِ قَبِيحَكَ فَالقَبِيحُ مَكْتُوبْ، وَاعَجِبًا لِنَائِمٍ وَهُوَ مَطْلُوبْ، وَلِضَاحِكٍ وَعَلَيْهِ ذُنُوبْ. ... أَلا ذَكِّرَانِي قَبْلَ أنْ يَأْتِي المَوْتُ ... وَيُبْنَى لِجُثْمَانِي بِدَارِ البَلَى بَيْتُ وَعَرَّفَنِي رَبِّي طَرِيقَ سَلامَتِي ... وَبَصَّرَنِي لَكِنَّنِي قَدْ تَعَامَيْتُ وَقَالُوا مَشِيبُ الرَّأْسِ يَحْدُو إِلَى البِلا ... فَقُلْتُ: أَرَانِي قَدْ قَرُبَتُ فَأَدْنِيتُ أَيْنَ الدُّموعُ السَّوَاجِمْ؟ قَبْلَ المَنَايَا الهَوَاجِمْ، أَيْنَ القَلَقُ الدَّائِم؟ لِلذُّنُوبِ القَدَايم، أَتَرَى أَثَّرتِ المَلاوِمْ؟ فِي هَذِهِ الأَقَاوِمْ، أَيُّهَا الْقَاعِدُ وَالْمَوْتُ قَائِمٌ أَنَائِمٌ أَنْتَ عَنْ حَدِيثِنَا أَمْ مُتَنَاوِمْ؟ لا بُدَّ وَالله مِنْ ضَرْبَةِ لازِمْ تَقْرُعُ لَهَا نَادِمْ، لا بُدَّ مِنْ مَوْجِ هَوْلٍ مُتَلاطِمْ، يُنَادِي فِيهِ نُوحُ الأَسَى لا عَاصِمْ، لا بُدَّ مِنْ سَقَمِ السَّالِمْ يَنْسَى فِيهِ يَا أَمَّ سَالِمْ. يَا مَنْ سَيَنْأى عَنْ بَنِيهْ ... كَمَا نَأَى عَنْهُ أَبُوهْ مَثِّلْ لِنَفْسِكَ قَوْلَهُمْ ... جَاءَ اليقين فَوَجِّهُوهْ وَتَحَلَّلُوا مِنْ ظُلْمِه ... قَبْلَ الْمَمَاتِ وَحَلِّلُوهُ اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، يَا بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، نَسْأَلُكَ أَنْ تَكْفِينَا مَا أَهَمَّنَا وَمَا لا نَهْتَمُّ بِهِ وَأَنْ تَرْزُقَنَا الاسْتِعْدَادِ لِمَا أَمَامَنَا، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

ذكر بعض المعاصي والذنوب التي قد تلبس بها أو ببعضها

(فَصْلٌ) وَمِمَّا يَنْبَغِِي إِيرَادُه في هَذَا المَقَامِ بَعْضُ المَعَاصِي التِي قَدْ تَلَبَّس بِهَا أَوْ بِبَعْضِهَا بَعْضُ النَّاسِ لِيَبْتَعِدَ عَنْهَا، وَعَنْ مَنْ يُقَارِفُهَا، وَيَنْصَحُ عَنْهَا، وَيُبَيِّنُ أَنَّهَا أَمْرَاضٌ فَتَّاكَةٌ أَعْظَمُ وَأَخْطَرُ مِنْ أَمْرَاضِ الأَبْدَانِ، لأَنَّهَا تُذْهِبُ الحَسَنَاتِ، وَرُبَّمَا أَدَّتْ بِالإِنْسَانِ إِلَى الهَلاكِ الأَبَدَيّ، وَالعَذَابُ السَّرْمَدِيّ، مِنْ ذَلِكَ: أَكْلُ الحَرَامِ، أَوْ رِيَاءَ، أَوْ رِبَا، أَوْ إِصْرَارٌ عَلَى مَنْعِ زَكَاةٍ، أَوْ عَدَمُ تَنَزُّهٍ مِنْ بَوْلٍ، أَوْ تَرْكُ حُضُورِ جُمْعَةٍ أَوْ جَمَاعَةٍ، أَوْ غِيبَةٌ، أَوْ نَمِيمَةٌ، أَوْ حَسَدٌ، أَوْ مَنْعِ حُقُوقٍ وَاجِبَاتٍ، أَوْ كَذِبٌ عَلَى اللهِ، أَوْ أَذِّيَةُ جَارٍ، أَوْ قَرِيبٍ، أَوْ كَثْرَةُ أَيْمَانٍ لِتَرْوِيجِ سِلعٍ، أَوْ غِشٌّ فِي بَيْعٍِ أَوْ شِرَاءٍ، أَوْ تَدْلِيسٌ، أَوْ اقْتِطَاعُ شَيْءٍ مِنْ أَرَاضِي المُسْلِمِينَ، أَوْ اسْتِعْمَالِ آلاتِ اللَّهْوِ وَالطَّرَبِ، كَالعُودِ وَالبَكمِ وَالتِّلِفِزْيُونِ وَالمِذْيَاعِ وَالفيديو، أَوْ تَغِييرُ مَنَارِ الأَرْضِ، أَوْ لُبْسُ الرِّجَالِ لِلْحَرِيرِ، أَوْ الذَّهَبِ، أَوْ تَشَبُّهٍ بِنَسَاءٍ، أَوْ نَظَرٌ إِلَى مُحَرَّمٍ، أَوْ إِعَانَةُ ظَالِمٍ، أَوْ تَرُك نَصْرِ مَظْلُومٍ يَقْدِرُ عَلَى نَصْرِهِ، أَوْ شِهَادَةٌ بِزُورٍ، أَوْ نَجْشٌ لإِيذَاءِ مُؤْمِنْ، أَوْ تَرْكِ الْوَلاءِ وَالْبَرَاءِ بِمُجَالَسَةِ الْعُصَاةِ، وَمُوَاكلتُهم، وَتَرْكُ هَجْرِهِم، أَوْ تَدْلِيسٌ، أَوْ غِشٌ أَوْ مُجَاهَرَةٌ بِالْمَعَاصِي، كَحَلْقِ اللِّحْيَةِ، وَشُرْبِ الدُّخَانِ، وَتَشَبُهٍ بَأَعْدَاءِ الإِسْلامِ، بِجَعْلِ خَنَافِسَ وَتَوَإليتٍ، وَكَخُلْوَةٍ بِامْرَأَةٍ لا تُحِلُّ لَهُ، أَوْ يُرْكِبُهَا مَعَهُ، وَلا مَحْرَمَ مَعَهَا وَالْعِيَاذُ بِاللهِ، أَوْ تَصْوِيرُ ذَوَاتِ الأَرْوَاحِ أَوْ شِرَائِهَا، أَوْ الرِّضَى بِهَا وَعَدَمُ إتْلافِهَا، أَوْ مَيْلٌ مَعَ بَعْضِ مَنْ يَجِبُ الْعَدْلُ بَيْنَهُمْ، أَوْ تَنْشِيزُ زَوْجَةٍ عَلَى زَوْجِهَا، أَوْ بِالْعَكْسِ، بَأَنْ يُنَشِّزَ الزَّوْجَ عَنْهَا، أَوْ إضْرَارٌ لِتَفْتَدِي مِنْهُ، أَوْ جَعْلُ يَدٍ عَلَى قَرِيبَةً لَهُ وَمَنْعِهَا مِنْ الزَّوَاجِ إِلا لَهُ أَوْ لِمَنْ يُرِيدُهَا لَهُ، أَوْ مُسَاعَدَةٌ لِصَاحِبِ مَعْصِيَةٍ، أَوْ يُؤْوِي مُحْدِثًا، أَوْ عُقُوقٌ لِوَالِدٍ أَوْ وَالِدَةٍ، أَوْ قَطِيعَةُ رَحِمٍ، أَوْ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ

كثير من الناس ليبتعد عنها ويحذر عنها لأنها أرامض فتاكة

زِنَى أَوْ لِوَاطٍ، أَوْ إِتْيَانُ مَنْ حَاضَتْ، أَوْ إِتْيَانُهَا فِي الدُّبُرِ، أَوْ إِتْيَانُ بَهِيمَةٍ، أَوْ دِيَاثَةٌ، أَوْ كَتْمُ شَهَادَةٍ، أَوْ خِيَانَةٌ، أَوْ تَكْذِيبٌ بِالمَلائِكَةِ، أَوْ بِالجِنِّ، أَوْ بِالبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَالجَزَاءِ عَلَى الأَعْمَالِ، وَالجَنَّةِ وَالنَّارِ، أَوْ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللهِ، أَوْ قَذْفُ مُحْصَنٍ، أَوْ شُرْبُ مُسْكِر، أَوْ سُجُودٌ لِغَيْرِ اللهِ، أَوْ أَنْ تُلْحَقَ المَرْأَةُ أَوْلادًا بِزَوْجِهَا، وَكَذَا الزَّانِي إِذَا أَدْخَلَ أَوْلادًا عَلَى غَيْرِهِ، أَوْ أَخْذُ مَكْسٍ أَوْ إِعَانَةٌ عَلَيْهِ، أَوْ وَشْمٌ، أَوْ نَمْصٌ، أَوْ مَحَبَّةُ قِيَامٍ لَهُ، أَوْ مُخَاصَمَةٌ بِبَاطِلٍ، أَوْ جُورٍ فِي وَصِيَّةٍ، أَوْ اتِّخَاذُ مَسَاجِدَ عَلَى القُبُورِ أَوْ إِسْرَاجُهَا، أَوْ سَرِقَةٌ، أَوْ جَحْدُ عَارِيَّةً، أَوْ كَذِبُ عَلَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ غَصْبٌ مَالِ مُسْلِمٍ، أَوْ أَكْلُ مَالِ يَتِيمٍ، أَوْ فِطْرٌ فِي رَمَضَانَ، أَوْ خِيَانَةٌ فِي كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ ذَرْعٍ، أَوْ تَقْدِيمُ الصَّلاةِ عَلَى وَقْتِهَا، أَوْ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا، أَوْ ضَرْبُ مُسْلِمٍ بِلا حَقٍّ، أَوْ تَرْوِيعُهُ، أَوْ سَبٌّ لِلصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، أَوْ رِشْوَةٌ فِي الحُكْمِ، أَوْ قِيَادَةٌ، أَوْ نِسْيَانٌ لِلْقُرْآنِ، أَوْ تَحْرِيقُ حَيَوانٍ بِالنَّارِ، أَوْ تَرْكُ الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، أَوْ يَأْسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، أَوْ أَمْنٌ مِنْ مِكْرِ اللهِ، أَوْ وَقِيعَةٌ فِي أَهْلِ العِلْمِ وَالقُرْآنِ، أَوْ سِحْر، أَوْ بَهْتُ مُسْلِم، أَوْ تَهَاوُنُ القَادِرِ بِالحَجِّ إِلَى أَنْ يَمُوتَ، أَوْ تَكْذِيبٍ بِالقَدَرِ، أَوْ هَجْرُ مُسْلِمٍ فَوْقَ ثَلاثٍ إِلا لِعُذْرٍ فِي المَهْجُورِ كَتَظَاهُرِهِ بِالفِسْقِ، أَوْ يَكُونَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ أَوْ بَيْعُ حُرٍّ وَأَكْلُ ثَمَنِهِ، أَوْ مَنْعِ أَجِيرٍ أُجْرَتَهُ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ العَمَلِ مِنْهُ، أَوْإِتْيَانُ كَاهِنٍ، أَوْ اتِّخَاذ شَيْءٍ فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا، أَوْ لَعْنُ مُسْلِم، أَوْ التَّسَبُّبُ فِي لَعْنِ الوَالِدَيْنِ، أَوْ يَقُولُ فِي يَمِينِهِ: وَإِلا كُنْتُ يَهُودِيًا أَوْ نَصْرَانِيًا، أَوْ كَافِرًا وَنَحْوَ هَذَا وَالعِيَاذُ بِاللهِ، أَوْ يَتَتَبَّعُ عَوْرَاتِ المُسْلِمِينَ، أَوْ يُنَابِزَ بِالأَلْقَابِ المَكْرُوهَةِ عِنْدَ مَنْ لُقِّبَ بِهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، أَوْ يَنْتَسِبَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، أَوْ يَطْعَن فِي الأَنْسَابِ الثَّابِتَةِ فِي ظَاهِرِ الشَّرْعِ، أَوْ نِيَاحَةٍ عَلَى مَيِّتٍ، أَوْ امْتِنَاعِ المَرْأَةِ مِنْ فِرَاشِ زَوْجِهَا بِلا

عُذْرٍ، أَوْ يَقُولُ لِمُسْلِمٍ يَا كَافِرُ، أَوْ يَا عَدُوَّ اللهِ، أَوْ يَسُبُّ الدَّهْرَ، أَوْ يَعْصِرُ العِنَبَ لِلْخَمْرِ، أَوْ يَزْرَعُ الدُّخَانَ، أَوْ يَبِيعُه أَوْ يُوَرِّدُهُ، أَوْ يَحْلِقُ لِحَى المُسْلِمِينَ، أَوْ يُسَاعِدُهُم عَلَى التَّشَبُّهِ بِأَعْدَاءِ اللهِ بِتَصليحِ خَنَافِسِهِم وَجُعْلانِهِم وَتَوَإلياتِهم، وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَوْ يُقَامِرُ، أَوْ يَشْهَدُ بِالرِّبَا أَوْ يُوَكِّلُهُ أَوْ يَكْتُبُهُ، أَوْ يَمْنَعُ ابْنَ السَّبِيلِ عَنْ فَضْلٍ مَا، أَوْ يَمُنُّ بِالعَطَاءِ، أَوْ يُسْبِلُ وَيَجُرُّ ثِيَابَهُ خُيَلاءً، أَوْ يَجُورُ في الحُكْمِ، أَوْ يُحْدِثُ فِي الدِّينِ، أَوْ يُؤْوِي مُحْدِثًا، أَوْ يَتَكَبَّرُ، أَوْ يَخْتَالُ فِي مَشْيَتِهِ، أَوْ يَعْتَادُ الكَذِبَ، أَوْ يَكْذِبُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، أَوْ يَسْتَمِعُ لِمَنْ يَكْرَهُونَ سَمَاعَهُ، أَوْ يَكُونُ ذَا وَجْهَيْنِ، أَوْ يَغُلُّ مِنَ الغَنِيمَةِ، أَوْ يَقْتُلُ نَفْسَهُ، أَوْ يَقْتُلُ ذِمِيًّا، أَوْ يَأْكُلُ الحَرَامَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، أَوْ سُخْرِيَةٌ وَاسْتِهْزَاءٌ بِمُسْلِمٍ، أَوْ تَعَلُّمُ العِلْمَ لِغَيْرِ وَجَهِ اللهِ، أَوْ يُفَسِّرُ القُرْآنَ بِرَأْيِهِ، أَوْ يَكْتُمُ عِلْمًا شَرْعِيًا مَعَ تَعَيُّنِ الجَوَابِ عَلَيْهِ، أَوْ مِرَاءٌ فِي القُرْآنِ، أَوْ مُرُورٌ بَيْنَ يَدَيْ مُصَلِّ، أَوْ يَسْتَدِينَ وَلا يُرِيدُ الوَفَاءَ، أَوْ يُحَلِّلَ المَرْأَةَ لِغَيْرِهِ، أَوْ تُحَلَّلَ لَهُ، أَوْ إِفْشَاءُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ السِّرِّ الذِي بَيْنَهُمَا، أَوْ يَجْعَلُ عِنْدَهُ فِي بَيْتِهِ كُفَارًا لِخَدَّامِينَ وَمُرَبِّينَ وَسَوَّاقِينَ وَطَبَّاخِينَ وَخَيَّاطِينَ رِجَالاً وَنِسَاءً أَوْ يَتَسَّبَبْ لإِتْيَانِهم لِبَلادِ المُسْلِمِين. وذُقْتُ مَرَارَتَ الأَشَيَاطُرًا ... فَمَا طَعْمٌ أَمَرَّ مِنَ المَعَاصِي وَنَحُْ هَذِهِ المَعَاصِي، وَرُبَّمَا خَرَجَ مِنْ صَحِيفَةِ الإِنْسَانِ مَعْصِيَة يَظُنُّهَا سَهْلَةٌ وَهِي عِنْدَ اللهِ عَظِيمَةٌ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ العَبْدَ لِيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ» وَرُبَّمَا عَمَلَ أَعْمَالاً ظَنَّهَا حَسَنَاتٍ فَتَبْدُوا يَوْمَ القِيَامَةِ سِيِّئَاتٍ بِسَبَبِ رِيَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَمَا أَدْرِي وَإِنْ أَمَّلْتُ عُمْرًا ... لَعَلِّي حَينَ أُصْبِحُ لَسْتُ أُمْسِي وَلِلدُّنْيَا وَسَاكِنهَا سُيُولٌ ... وَأَنْتَ عَلَى مَدَارِجِهنَّ مُرْسِيْ

الصراط وأحواله وعظم خطبه ودهشته وبعد موعظة

كَأَنَّكَ لا تَرَى بِالخَلْقِ نَقْصًا ... وَأَنْتَ تَرَاهُ كُلَّ شُرُوقِ شَمْسِ أَلَمْ تَرَ أَنَّ كُلَّ صَبَاحِ يَوْمٍ ... واللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ (فَصْلٌ) ثُمَّ تَفَكَّرْ - بَعْدَ تَفَكُّرِ فِيمَا سَبِقَ - فِي الصِّرَاطِ الذِي هُوَ الجِسْرُ المَنْصُوبِ عَلَى متْنِ جَهَنَّمَ بَيْنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، خَرَجَ البَيْهَقِيّ مِنْ حَدِيثِ زِيَادٍ النُمَيْرِيّ عَنْ أَنَسٍ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الصِّرَاطُ كَحَدِّ الشَّفْرَةِ، أَوْ كَحَدِّ السَّيْفِ، وَإِنَّ المَلائِكَةَ يُنْجُّونَ المُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ جِبْرَيلَ لآخِذٌ بِحُجْزَتِي، وَإِنِّي لأَقُولُ: يَا رَبِّ سَلِّمْ سلِّمْ، فَالزَّالُّونَ وَالزَّالاتُ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ» ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدَرِيّ عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ حَدِيثًا طَوِيلاً قَالَ فِيهِ: «ثُمَّ يُضْرَبُ الجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ، وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ، فَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سلِّمْ» ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا الجِسْرُ؟ قَالَ: «دَحْضُ مَزَلَّةٌ، فِيهِ خَطَاطِيفٌ وَكَلاليبٌ، وَحَسَكَةٌ تَكُونُ بِنَجْدٍ فِيهَا شُوَيْكَةٌ يُقَالُ لَهَا: السَّعْدَانُ فَيَمُرُّ المُؤْمِنُ كَطَرْفِ العَيْنِ، وَكَالبَرْقِ، وَكَالرِّيحِ، وَكَالطَّيْرِ، وَكَأَجَاوِدِ الخَيْلِ وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ، وَمُكَرْدَسٌ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ» . خَرَّجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. خَطَبَ أَحَدُ العُلَمَاءِ خُطْبَةً بِلِيغَةً فَقَالَ: اعْلَمُوا أَنَّكْمْ مَيَّتُون وَمَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ المَوْتِ قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلا: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} . وَتُوقَفُونَ عَلَى أعمالكم وَتُجْزَوْنَ بها فلا تَغُرَّنكم الحياة الدنيا فإنها بِالبَلاءِ وَالمَصَائِبِ مَحْفُوفَة، وَبِالفَنَاءِ مَعْرُوفَة، وَبِالغَدْرِ مَوْصُوفَة، وَكُلُّ مَا فِيهَا إِلَى زَوَالٍ وَهِيَ بَيْنَ أَهْلِهَا دُوَلٌ وَسِجَال. شِعْرًا: مَا أَفْضَحَ المَوْتَ لِلدُّنْيَا وَزِينتِهَا ... جِدًّا وَمَا أَفْضَحَ الدُّنْيَا لأَهْلِيهَا لا تَرْجِعَنَّ عَلَى الدُّنْيَا بِلائِمَةٍ ... فَعُذْرُهَا لَكَ بَادٍ فِي مَسَاوِيهَا

لَمْ تُبْقَ في غَيْبِهَا شَيْئًا لِصَاحِبَهَا ... إِلا وَقَدْ بَيَّنَتْهُ في مَعَانِيهَا تُفْنِي البَنِينَ وَتُفْنِي الأَهْلَ دَائِبَةً ... وَنَسْتَنِيمُ إليها لا نُعَادِيهَا فَمَا يَزِيدُكُمْ قَتْلُ الذِي قَتَلَتْ ... وَلا العَدَاوَةُ إِلا رَغْبَةً فِيهَا لا تَدُومُ أَحْوَالُهَا، وَلا تَسْلَمُ مِنْ شَرِّهَا نُزَّالُهَا، بَيْنَا أَهْلُهَا فِي صَفِاءٍ وَرَخَاءِ وَسُرُورٍ وَنَعِيمٍ وَخَبُور إِذَا هُمْ مِنْهَا فِي بَلاءٍ وَغُرُور، العَيْشُ فِيهَا مَذْمُوم وَالرَّخَاءُ فِيهَا لا يَدُوم وَإِنَّمَا أَهْلُهَا فِيهَا أَعْرَاضٌ مُسْتَهْدَفَة تَرْمِيهَا بِسِهَامِهَا وَتَقْصِمُهُمْ بِحِمَامِهَا، وَكُلٌّ حَتْفُهُ فِيهَا مَقْدُور وَحَظُّهُ فِيهَا مَوْفُور. وَاعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ أَنَّكَمْ وَمَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا عَلَى سَبِيل مَنْ قَدْ أَمْضَى مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُُمْ مِمَّنْ كَانَ أَطْوَل مِنْكُمْ أَعْمَارًا وَأَشَدَّ مِنْكُمْ بَطْشًا وَأَعْمَرِ دِيَارًا وَأَبْعَدَ آثَارًا فَأَصْبَحَتْ أَصْوَاتُهُم هَامِدَةً خَامِدَةً مِنْ بَعْدِ طُولِ تَقَلُّبِهَا وَأَصْبَحَتْ أَجْسَادُهُم بَإلية وَدَيَارُهُم عَلَى عُرُوشِهَا خَاوِيَة وآثارهم عافية. وَاسْتَبْدَلُوا القُصُورَ المُشَيَّدَةِ وَالسُّرُرِ وَالنَّمَارِقِ المُمَهَّدَةِ بِالتُّرَابِ وَالصُّخُورِ وَالأَحْجَارِ المُسَنَّدَةِ فِي القُبور اللاطِئَة المُلَحَّدَةِ فَمَحَلُّهَا مُقْتَرَب وَسَاكِنُهَا مُغْتَرِب بَيْنَ أَهْلِ مَحِلَّةٍ مُوحِشِينِ. لا يَسْتَأْنِسُونَ بِالعُمْرَانِ وَلا يَتَوَاصُلُونَ تَوَاصُل الجِيران على ما بَيْنَهُمْ مِنْ قُرْبِ المَكَانِ وَالجَوِارِ وَدُنُوِّ الدارِ وَكَيْفَ يَكُونُ بَيْنَهُمْ تَوَاصُلٍ وَقَدْ أَكَلَتْهُمْ الجنَاَدِلُ وَالثَّرى وَأَصْبَحُوا بَعْدَ الحَيَاةِ أَمْوَاتًا وَبَعْدَ نَضَارَةِ العَيْشِ رُفَاتًا. فَجَعَ بِهِمُ الأَحْبَابِ وَسَكَنُوا تَحْتَ التُّرَابِ ظَعَنُوا فَلَيْسَ لَهُمْ إِيَاب فَكَأَّنْ صِرْتُمْ إِلَى مَا صَارُوا إليه مِنَ البَلاءِ وَالوِحْدَة فِي دَارِ المَثْوَى وَارْتُهِنْتُمْ فِي ذَلِكَ المَضْجَعِ وَضَمَّكُمْ ذَلِكَ المُسْتَوْدَع. فَكَيْفَ بِكُمْ إِذَا عَايَنْتُمُ الأُموُرَ بُعْثِرَتِ القُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ وَوُقِّفْتُمْ لِلتَّحْصِيلِ بَيْنَ يَدَيْ المَلِك الجَلِيلِ فَطَارَتْ القُلُوبُ لإِشْفَاقِهَا مِنْ سَالِفِ الذُّنُوبِ وَهُتِكَتِ الحُجُبُ وَالأَسْتَار وَظَهَرتْ مِنْكُم العُيُوبُ وَالأَسْرَار.

قصيدة وعظية ثم خطبة في أشراط الساعة

هُنَالِكَ تُجْزَى كل نَفْس بِمَا كَسَبتْ قَالَ اللهُ جَلَّ جَلاله: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ} الآيَة. قَالَ بَعْضُ الحُكَمَاء: تَبًا لِطَالِبِ دُنْيًا لا بَقَاءَ لَهَا ... كَأَنَّمَا هِيَ فِي تَعْرِيفِهَا حُلُمُ صَفَاؤُهَا كَدَرٌ سُرُورُهَا ضَرَرٌ ... أَمَانُهَا غَرَرٌ أَنْوَارُهَا ظُلَمُ شَبَابُهَا هَرَمٌ رَاحَاتُهَا سَقَمٌ ... لَذَّاتِها نَدَمٌ وُجْدَانُهَا عَدَمُ لا يَسْتَفِيقُ مِنَ الأَنْكَادِ صَاحِبُهَا ... لَوْ كَانَ يَمْلِكُ مَا قَدْ ضُمِّنَتْ أَرَمُ فَخَلِّ عَنْهَا وَلا تَرْكَنْ لِزَهْرَتِهَا ... فَإِنَّهَا نِعَمٌ فِي طَيِّهَا نَقِمُ وَاعْمَلْ لِدَارِ نعَِيمٍ لا نَفَادَ لَهَا ... وَلا يُخَافُ بِهَا مَوْتٌ وَلا هَرَمُ آخر: ... يَا آمِنَ السَّاحَةِ لا يُذْعَرُ ... بَيْنَ يَدَيْكَ الفَزَعُ الأَكْبَرُ وَإِنَّمَا أَنْتَ كَمَحْبُوسَةٍ ... حُمَّ رَداَهَا وَهِيَ لا تَشْعُرُ وَالمَرْءُ مَنْصُوبٌ لَهُ حَتْفُهُ ... لَوْ أَنَّهُ مِنْ عَمَهٍ يُبْصِرُ وَهَذِهِ النَّفْسُ لَهَا حَاجَةٌ ... وَالعُمْرُ عَنْ تَحْصِيلِهَا يَقْصُرُ وَكُلَّمَا تُزْجَرُ عَنْ مَطْلَبٍ ... كَانَتْ بِهِ أَكْلَفَ إِذْ تُزْجَرُ وَإِنَّمَا تَقْصُرُ مَغْلُوبَةً ... كَالمَاءِ عَنْ عُنْصُرِهِ يَقْصُرُ وَرُبَّمَا أَلْقَتْ مَعَاذِيرَهَا ... لَوْ أَنَّهَا وَيْحَهَا تُعْذَرُ وَنَاظِرُ المَوْتِ لَهَا نَاظِرٌ ... لَوْ أَنَّهَا تَنْظُرْ إِذْ يُنْظَرُ وَزَائِرُ المَوْتِ لَهُ طَلْعَةٌ ... يُبْصِرُهَا الأَكْمَهُ وَالمُبْصِرُ وَرَوْعَةُ المَوْتِ لَهَا سَكْرَةٌ ... مَا مِثْلُهَا مِنْ رَوْعَةٍ تُسْكِرُ وَبَيْنَ أَطْبَاق الثَّرى مَنْزلٌ ... يَنْزِلُهُ الأَعْظَمُ وَالأَحْقَرُ يَتْرُك ذُو الفَخْرِ بِهِ فَخُرَهُ ... وَصَاحِبُ الكِبْرِ بِهِ يِصْغُرُ

.. قَدْ مَلأتْ أَرْجَاءَهُ رَوْعَةٌ ... نَكِيرُهَا المَعْرُوفُ وَالمُنْكَرُ وَبَعْدُ مَا بَعْدُ وَأَعْظِمْ بِهِ ... مِنْ مَشْهَدٍ مَا قَدْرُهُ يُقْدَرُ يُرْجَفُ مِنْهُ الوَرَى رَجْفَةً ... يَنْهَدُّ مِنْهَا المَلأ الأَكْبَرُ وَلَيْسَ هَذَا الوَصْفُ مُسْتَوْفِيًا ... كُلَّ الذِي مِنْ وَصْفِهِ يُذْكَرُ وَإِنَّمَا ذَا قَطْرَةُ أَرْسَلَتْ ... مِنْ أَبْحُرٍ تَتْبَعُهَا أَبْحُرُ وَقَدْ أَتَاكَ الثَّبْتُ عَنْهُ بِمَا ... أَخْبَرَكَ الصَّادِقُ إِذْ يُخْبِرُ فَاعْمَلْ لَهُ وَيْكَ وِإِلا فَلا ... عُذْرَ وَمَا مِثْلُكَ مَنْ يُعْذَرُ اللَّهُمَّ في سِلْكِ الْفَائِزِنَ بِرِضْوانِكَ، واجْعَلْنَا مِنْ الْمُتَّقِينَ الذِينَ أعْدَدْتَ لَهُمْ فَسِيحَ جَنَّاتِكَ، وأَدْخِلْنَا بِرَحْمَتِكَ فِي دَارِ أَمَانِكَ وعافنا يا مَوْلانا في الدُّنْيَا والآخِرةِ مِن جَمِيعِ الْبَلايَا وأجْزِلْ لِنَا مِنْ مَوَاهِب فَضْلِكَ وَهِبَاتِكَ وَمَتَّعْنَا بالنَّظَر إلى وَجْهِكَ الْكَريمِ مَعَ الذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَدَاءِ والصَّالِحِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. مَوْعِظَةٌ قَالَ أَحَدُ العُلَمَاءِ رَحِمَهُ اللهُ فِي مَوْعِظَةٌ وَعَظَهَا أَلا أَنَّ الدُّنْيَا بَقَاؤُهَا قَلِيلٌ، وَعَزِيزُهَا ذَلِيل، وَغَنِّيها فَقِير، شَابُّهَا يَهْرَمْ، وَحَيُّهَا يَمُوت، وَلا يَغُرُّكمْ إِقْبَالُهَا مَعَ مَعْرِفَتِكُم بِسُرْعَةِ إِدْبَارِهَا وَالمَغْرُورُ مِنِ اغْتَرَّ بِهَا. أَيْنَ سُكَّانُهَا الذِينَ بَنُوا مَرَابِعَهَا وَشَقَّقُوا أَنْهَارَهَا وَغَرَسُوا أَشْجَارِهَا وَأَقَامُوا فِيهَا أَيَّامًا يَسِيرَةً وَغَرَّتْهُمْ بِصُحْبَتِهم وَغُرُّوا بِنَشَاطِهِمْ فَرَكِبُوا المَعَاصِي إِنَّهُمْ كَانُوا وَاللهِ بِالدُّنْيَا مَغْبُوطِينَ بِالمَالِ عَلَى كثرة المَنْعِ عَلَيْهِ مَحْسُودِينَ عَلَى جَمْعِهِ. مَا صَنَعَ التُّرَابُ بِأَبْدَانِهِمْ وَالرَّمْلُ بِأَجْسَامِهِم وَالدِّيدَانُ بِأَوْصَالِهِم وَلُحُومِهِم وِعِظَامِهِم وَإِذَا مَرَرْتَ فَنَادِهِمْ إِنْ كُنْتَ مُنَادِيًا وَادْعُهُمْ إِنْ كُنْتَ لا بُدَّ دَاعِيًا. وَمُرَّ بِعَسْكَرِهِم وِانْظُرْ إِلَى تَقَارُبِ مَنَازِلِهِمْ وَسَلْ غَنِيَّهُمْ مَا بَقَى مِنْ غِنَاهُ وَسَلْ فَقِيرِهُمْ مَا بَقَى مِنْ فَقْرِهِ، وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الأَلْسُنِ الَّتِي كَانُوا بِهَا يَتَكَلَّمُونَ

وعن الأعين التي كَانُوا بها ينظرون وسلهم عن الأعضاء الرقيقة. والوجوه الحسنة والأجساد الناعمة ما صنعت بها الديدان. محت الألوان، وأكلت اللحمان، وعفرت الوجوه، ومحت المحاسن، وكسرت الفقار، وأبانْتِ الأعضاء، ومزقت الأشلاء قَدْ حيل بينهم وبين الْعَمَل وفارقوا الأحبة. فكم من ناعم وناعمة أصبحت وجوهم بإلية، وأجسادهم من أعناقهم بائنة، وأوصالهم متمزقة، وقَدْ سألت الحدق على الوجنات، وامتلأت الأفواه صديدًا، ودبت دواب الأَرْض في أجسامهم، وتفرقت أعضاؤهم. ثُمَّ لم يلبثوا إِلا يسيرًا حتى عادت العظام رميمًا قَدْ فارقوا الحدائق فصاروا بعد السعة إلى المضائق قَدْ تزوجت نساؤهم وترددت في الطرق أبناؤهم. فمِنْهُمْ والله الموسع له في قبره الغض الناعم فيه المتنعم بلذاته، فيا ساكن القبر ما الَّذِي غرك في الدُّنْيَا هل تظن أنك تبقى أو تبقى لك أين دارك الفيحاء ونهرك المطرد وأين ثمرتك الحاضر ينعها وأين رقاق ثيابك وأين كسوتك لصيفك وشتائك هيهات هيهات يا مغمض الوالد والأخ وغاسلةً وحاملةً يا مدليه في قبره وراحل عَنْهُ، ليت شعري كبف نمت على خشونة الثرى، وبأي خديك بدأ البلى، يا مجاور الهلكى صرت في محله الموت، ليت شعري ما الَّذِي يلقاني به ملك الموت عَنْدَ خروج روحي من الدُّنْيَا. شِعْرًا: انْتَبِهْ مِنْ كُلِّ نَوْمٍ أَغْفَلَكْ ... وَاخْشَ رَبًّا بِالْعَطَايَا جَمَّلَكْ تَابِعِ الْمُخْتَارَ وَاسْلُكْ نَهْجَهُ ... فَهُوَ نُورٌ مَنْ مَشَى فِيهِ سَلَكْ ثِقْ بِمَوْلاكَ وَكُنْ عَبْدًا لَهُ ... إِنَّ عَبْدَ اللهِ فِي الدُّنْيَا مَلِكْ جَدِّدِ التَّوْبَ عَلَى مَا قَدْ مَضَى ... مِنْ زَمَانٍ بِالْمَعَاصِي أَشْغَلَكْ

حَاسِبْ النَّفْسَ وَعَلِّمْهَا الرِّضَى ... بِالْقَضَا وَاعْصِ هَوَاها تَرْضَ لَكْ خُذْ مِنَ التَّقْوَى لِبَاسًا طَاهِرًا ... فَالتُّقَى خَيْرُ لِبَاسٍ يَمْتَلَكْ دَاوِم الذِّكْرِ لِخَلاقِ الْوَرَى ... وَاتْرُكِ الأَمْرِ لِمَنْ أَجْرَى الْفَلَكْ ذُلَّ وَاخْضَعْ وَاسْتَقِمْ وَاعْبُدْ لَهُ ... مُخْلِصًا يَفْتَحُ بَابَ الْخَيْرِ لَكْ رَوِّحِ الْقَلْبَ لَهُ وَاعْكِفْ عَلَى ... بَابِهِ فَهُوَ الَّذِي قَدْ فَضَّلَكْ زَيِّن الْبَاطِنَ بِالتَّقْوَى تَفُزْ ... حَسِّنِ الظَّاهِرَ تُعْطَى أَمَلَكْ سَلِّمَ الأَمْرَ لَهُ تَسْلَمْ فَكَمْ ... مِن فَتَى إِذْ سَلَّمَ الأَمْرَ سَلَكْ شُقَّ حُجْبَ الْكَوْنِ لِلْمَعْبُودِ لا ... تَلْتَفِتْ إِلا إليه يَقْبَلَكْ صُنْ عَنْ الدُّنْيَا لِسَانًا وَيَدًا ... وَفُؤَادًا وَلَهُ اخْلِصْ عَمَلَكْ ضُمَّ أَحْشَاكَ عَلَى تَوْحِيدِهِ ... فَهُوَ نُورٌ يُذْهِبُ الدَّاجِي الْحَلِكْ طِبْ لَهُ وَاقْنَعْ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ ... فَهُوَ كَافٍ فَضْلَهُ قَدْ شَمَلَكْ ظَنَّ خَيْرًا تَلْقَ مَا قَدْ تَرْتَجِي ... مِنْ جَمِيعِ الْخَيْرِ حَتَّى يَقْبَلَكْ عُدْ إليه كُلَّمَا حَلَّ الْبَلا ... عَلَّ تَسْلَمْ مِنْ رَجِيمٍ سَوَّلَكْ خُضْ بِحَارَ الْعُذْرِ فِي جَنْحِ الدُّجَى ... لِكَرِيمٍ بِالْعَطَايَا خَوَّلَكْ فَاتْرُكِ التَّدْبِيرَ وَالْعِلْمَ لَهُ ... اسْأَلِ الْمَوْلَى يُصَفِّي مَنْهَلَكْ قُلْ بِذُلِّ: يَا رَحِيمُ الرُّحَمَا ... يَا مُنْجِي بِالْعَطَايَا مَنْ هَلَكْ كُنْ مُجِيرًا وَنَصِيرًا وَحِمَىً ... لِعُبَيْدٍ مُذْنِبٍ قَدْ سَأَلَكْ لُذْتَ بِالْبَابِ فَحَاشَا أَنْ أُرَى ... تَعِبًا وَالأَمْرُ وَالتَّدْبِيرُ لَكْ مَرَّ عَيْشِي وَالْخَطَا أَبْعَدَنِي ... وَاعْتِقَادِي الصَّفْحُ عَمَّا كَانَ لَكْ نَجِّنَا مِنْ كُلِّ كَرْبٍ وَبَلا ... يَوْمَ يَلْقَى الْعَبْدُ مَكْتُوبَ الْمَلَكْ هَبْ لَنَا السِّتْرَ وَلا تَفْضَحْ لَنَا ... يَا إِلَهِي وَاعْفُ عَمَّنْ سَاءَ لَكْ يَا مُحِبَّ الْعَفْوِ يَسِّرْ أَمْرَنَا ... وَاقْضِ عَنَّا مَا لِمَخْلُوقٍ وَلَكْ

.. وَتَحَنَّنْ بِالْعَطَايَا كَرَمًا ... أَنْتَ مَوْلانَا وَأَوْلَى مَنْ مَلَكْ انتهى. اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا للقيام بأمرك وأعذنا من عدونا وعَدُوّكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. اللَّهُمَّ أَنَا نسألك العفو والعافية في ديننا ودنيانَا وأهلنا وأموالنا ونسألك أن تَغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ) : ذكر الترمذي من حديث أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيّ ? قال: «يجَاءَ بابن آدم يوم القيامة كأنه بذخ فيوقف بين يدي الله عَزَّ وَجَلَّ فَيَقُولُ: الله له: أعطيتك وخولتك وأنعمت عَلَيْكَ فماذا صنعت؟ فَيَقُولُ: جمعته وثمرته وتركته أكثر ما كَانَ فارجعني آتيك به، فَيَقُولُ له: أرني ما قدمت، فَيَقُولُ: يا رب جمعته وثمرته وتركته أكثر ما كَانَ فارجعني آتك به، فإذا عبد لم يقدم خيرًا فيمضى به إلى النار» . فتفكر يا مسكين في نفسك ما دمت في قيد الحياة وأَنْتَ تحكم في مالك ولا لك معارض وتتصرف فيه كيف شئت واجعل يوم تبلى السرائر نصب عينيك بين ما أَنْتَ في هَذَا اليوم العَظِيم الَّذِي قَدْ امتلئت فيه القُلُوب من الخوف والقلق والرعب والذعر والانزعاج وقَدْ بلغت القُلُوب الحناجر. قال تَعَالَى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوب لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} فبينما النَّاس في هذه الحال التي حدثت عَنْهَا إذا جيء بجنهم تقاد بسبعين ألف زمام مَعَ كُلّ زمان سبعون ألف ملك يجرونها حتى تَكُون بمرأى من الخلق ومسمَعَ يرون لهيبها ويسمعون زفيرها فبينما أَنْتَ في تلك الحال إذا أخذ بضبعك وقبض على عضديك وجيء بك تتخطى الرقاب وتخترق الصفوف

والخلائق ينظرون إليك حتى إذا وقفت بين يدي الله تَعَالَى فسئلت عن القليل والكثير والدقيق والجليل والقطمير والنقير ولا تجد أحدًا يجاوب عَنْكَ بلفظة ولا يعينك بكلمة ولا يرد عَنْكَ جوابًا في مسألة. وأَنْتَ شاهدت من عظم الأَمْر وجلالة القدر وهيبة الحظرة ما أذهب بيانك وأخرس لسانك وأذهل جنانك. ونظرت يمينًا وشمالاً وبين يديك فلم تر إِلا النار وعملك الَّذِي كنت تعمل وكلمك رب العزة جل جلاله بغير حجاب يحجبك ولا ترجمان يترجم لك. وكيف تَكُون حيرتك ودهشتك إذا قيل: عاملت فلانَا يوم كَذَا وَكَذَا في كَذَا وَكَذَا وغبنته في كَذَا وَكَذَا وغششته في السلعة الفلانية. وتركت نصيحته في كَذَا وَكَذَا وبعته السلعة المعيوبة ولم تبين له العيب أو غصبت فلانَا أو ظلمت فلانَا أو قتلت فلانَا أو أعنت فلانَا أو أعنت على قتله أو نحو ذَلِكَ. وقيل: ما حجتك أقم بينة ائت ببرهان فأردت الكلام فلم تبين وجئت بعذر فلم يستبن هيهات أنى لك الكلام ولم تنقحه وأنى لك بالعذر في الدُّنْيَا لم تصححه قال الله جَلَّ وَعَلا: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} . وَقَالَ تبارك وتَعَالَى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} الآيات، وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} الآيتين. فَانْظُرْ في هَذَا الموقف عَنْدَ السؤال بأي بدن تقف بين يدي الله وبأي لسان تجيبه فأعد للسؤال جوابًا وللجواب صوابًا فما شئت من قلب يخلع ومن كبد تصدع ومن لسان يتلجج ومن أحشاء تتموج ومن نفس تريد أن تخَرَجَ.

شِعْرًا: ... سُبْحَانَ ذِي الْمَلَكُوتِ أَيَّةُ لَيْلَةٍ ... مَخَضَتْ صَبِيحَتُهَا بِيَوْمِ الْمَوْقِفِ لَوْ أَنَّ عَيْنًا أَوْهَمَتْهَا نَفْسُهَا ... يَوْمَ الْحِسَابِ تَمَثُّلاً لَم تَطْرُفِ وانظر ما أشأم تلك الأرباح التي ربحتها وأخسر تلك المعاملات التي ألهتك عن ما خلقت له انظر كيف ذهبت عَنْكَ مسراتها وبقيت حسراتها والشهوات التي في ظلم العباد انْفَذْتَهَا كيف ذهب عَنْكَ الفرح بها وبقيت التبعة. وانظر هل يقبل منك فدا في ذَلِكَ الموقف الرهيب وما الَّذِي يخلصك من ذَلِكَ السؤال قال الله تبارك وتَعَالَى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} . وفي بعض الأخبار يتمنى رِجَال أن يبعث بِهُمْ إلى النار ولا تعرض قبائحهم على الله تَعَالَى ولا تكشف مساوئهم على رؤوس الخلائق، فما ظنك بهَذَا المقام وبهَذَا السؤال وبهَذَا النكال والوبال. وما ظنك بنفسك وقَدْ جيء بجهنم على الوصف الَّذِي تقدم وقَدْ دنت من الخلائق، وشهقت وزفرت، وثارت وفارت. ونهض خزانها والموكلون بها، والمعدون لتعذيب أهلها متسارعين إلى أخذ من أمروا بأخذه، ساحبين له على بطنه وحرِّوََجْهِهِ سامعين مطيعين لله {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} . فتصور حالك وكيف وقَدْ امتلأت القُلُوب خوفًأ ورعبًا وذعرًا وفزعًا، وارتعدت الفرائص، وبلغت القُلُوب الحناجر، واصطفت الأحشا، وتقطعت الأمعاء، وطلبوا الفرار وطاروا لو يحصل لَهُمْ مطار. وجئت الأمم على الركب وأيقن المذنوبون بالهلاك والعطب وسوؤ المنقلب، ونادى الأنبياء والصديقون والأَوْلِيَاء: نفسي نفسي. كُلّ نفس قَدْ أفردت لشأنها وتركت لما بها قال الله جَلَّ وَعَلا وتقدس:

{يَوْمَ تَأْتِي كُلّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} ، ,قال تبارك وتَعَالَى: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} وظن كُلّ إنسان أنه هُوَ المأخوذ وأنه هُوَ المقصود والمطلوب، وذهلت العقول وطاشت الألباب، وتحيرت الأذهان، وفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه. واشتغل بشأنه الَّذِي يهمه ويعنيه، وسئل عن جَمِيع أمره سره وجهره، دقيقه وجليله كثيره وقليله، وسئل عن أعضائه عضوًا عضوًا وجارحة، وعن شكره عَلَيْهَا، وعن أداء حق الله فيها. وظهرت القبائح وكثرت الفضائح، وبدت المخازي واشتهرت المساوي، وتركك الأَهْل والأقربون، ولم ينفعك مال ولا بنون، وأقبلت تجادل عن نفسك وتخاصم عَنْهَا وتطلب المعاذير لها قال الله جَلَّ وَعَلا: {يَوْمَ تَأْتِي كُلّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} . وقَدْ أسلمت وأفردت واشتغل كُلّ إنسان عَنْكَ بنفسه قال الله جَلَّ وَعَلا: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} ، وَقَالَ عز من قائل: {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} الآيَة. وأنشدوا: خَلِيلِي مَا أَقْضِي وَمَا أَنَا قَائِلٌ ... إِذَا جِئْتُ عَنْ نَفْسِي بِنَفْسِي أُجَادِلُ وَقَدْ وَضَعَ الرَّحْمَنُ فِي الْخَلْقِ عَدْلَهُ ... وَسِيقَ جَمِيعُ النَّاسِ واليوم بَاسِلُ وَجِيءَ بِجُرْم النَّارِ خَاضِعَة لَهُ ... وَثُلَّثْ عُرُوشٌ عِنْدَهَا وَمَجَادِلُ فَيَا لَيْتَ شِعْرِي ذَلِكَ اليوم هَلْ أَنَا ... أَأَغْفَر أَمْ أُجْزَى بِمَا أَنَا فَاعِلُ فَإِنْ أَكُ مُجْزِيًا فَعَدْلٌ وَحُجَّةٌ ... وَإِنْ يَكُ غُفْرَانٌ فَفَضْلَ وَنَائِلُ آخر: ... أَلَمْ تَسْمَعْ عَن النَّبَأَ الْعَظِيمِ ... وَعَنْ خَطْبِ خُلِّقَتَ لَهُ جَسِيم

وَزِلْزَالٍ يَهُدُّ الأَرْضَ هَدًّا ... وَيَرْمِي فِي الْحَضِيضَةٍ بِالنُّجُومِ وَأَهْوَالٍ كَأَطْوَادٍ رَوَاسِي ... تَلاطَمُ فِي ظُلُوعِ كَالْهَشِيمِ فَمِنْ رَاسٍ يَشِيبُ وَمِنْ فُؤَادٍ ... يَذُوبُ وَمِن هُمُومٍ فِي هُمُومِ وَسَكْرَانٍ وَلَمْ يَشْرَبْ لِسُكْرٍ ... وَهَيْمَانٍ وَلَمْ يَعْلقْ بِرِيمِ وَمُرْضِعَةٍ قَدْ أَذْهَلَهَا أَسَاهَا ... فَمَا تَدْرِي الرَّضِيعَ مِن الْفَطِيمِ وَمُؤْتَمَةٍ تَوَلَّتْ عَنْ بَنِيهَا ... وَأَلْقَتْ بِإليتِيمَةِ وَاليتِيمِ وَحُبْلَى أَسْقَطَتْ ذُعْرًا وَخَوْفًا ... فَيَاللهِ لِلْيَوْمِ الْعَقِيمِ وَهَذَا مَشْهَدٌ لا بُدَّ مِنْهُ ... وَجَمْعٌ لِلْحَدِيثِ وَلِلْقَدِيمِ وَمَا كِسْرَى وَقَيْصَرُ وَالنَّجَاشِي ... وَتُبَّعُ وَالْقُرُومُ بَنُوا الْقُرُومِ بِذَاكَ اليوم إِلا فِي مَقَامٍ ... أَذَلَّ مِن التُّرَابِ لِذِي السَّلِيمِ وَمَا لِلْمَرْءِ إِلا مَا سَعَاهُ ... لِدَارِ الْبُوْسِ أَوْ دَارِ النَّعِيمِ وَأَنْتَ كَمَا عَلِّمْتَ وَرَبَّ أَمْرٍ ... يَكُونُ أَذَاهُ أَوْقَعُ بِالْعَلِيمِ فَدَعْ عَيْنَيْكَ تَسْبَحْ فِي مَعِينٍ ... وَقَلْبَكَ ذَرْهُ يَقْلُبُ فِي جَحِيمِ وَشُقَّ جُيُوبَ صَبْرِكَ شَقَّ ثُكْلَى ... تَعَلَّقَتِ ابْنَهَا رَجُلاً سَهُومِ وَمَاذَا الأَمْرُ ذَلِكُمُ وَلَكِنْ ... تُشَبَّهُ بِالْبِحَارِ يَدُ الْكَرِيمِ اللَّهُمَّ نجنا بِرَحْمَتِكَ من النار وعافنا من دار الخزي والبوار وأدخلنا بِفَضْلِكَ الْجَنَّة دار القرار وعاملنا بكرمك وجودك يا كريم يا غفار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. خطبة في أشراط الساعة لأحد الْعُلَمَاء رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى الحمد لله الَّذِي جعل الليل والنَّهَارَ خلقة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً

الَّذِي اعترفت بوحدانيته جَمِيع مخلوقاته فارجع البصر إلى السماء هل تَرَى من فطور أحمده سُبْحَانَهُ وتَعَالَى حمد عبد معترف بصدق اليقين وأشكره شكرًا دائمًا في كُلّ حين. وأشهد أن لا إله وحده لا شريكه له الملك الحق المبين وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين اللَّهُمَّ صلِّ وسلم على عبدك ورسولك مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وصلاة وسلامًا يمتدان إلى يوم الدين. أما بعد: أيها النَّاس اتقوا الله تَعَالَى فإن تقواه من النار حصن حصين وتنزهوا عن حب الدُّنْيَا كي تفوزوا مَعَ الزاهدين عباد الله انتبهوا من رقادكم فإن الأجل إلى القبور يسير ولم يبق من دنياكم إِلا إليسير اقتربت الساعة فالدُّنْيَا على شرف هار وظهرت علامتها ظهور الشمس في رابعة النَّهَارَ. ألا إن الدُّنْيَا قَدْ أدبرت وولت حذاء ولم يبق منها إِلا كصبابة عيش يتصابها أهلها وإن الآخِرَة قَدْ أقبلت فكونوا من أبناء الآخِرَة ولا تكونوا من أبناء الدُّنْيَا فإن اليوم عمل ولا حساب وغدًا حساب ولا عمل، أما ترون الأمانة قَدْ ضيعت والزمان تغير بظهور الفواحش في كُلّ مكَانَ وتتابع الفتن ودخولها من كُلّ باب ووقوف الأعراب على أفواه الشعاب وتطاول الحفاة العراة في البنيان. وفشو الحسد والظلم والجور وقتل النفس بغير حق ونزع الإِيمَان والرحمة من القُلُوب وجور الحكام وفتك الأعراض وموت الْعُلَمَاء العاملين واحدًا بعد واحد كأنهم للمنية أغراض. وفشو الزنا والربا وهما سبب الفقر والأمراض وساد القبيلة منافقوها وعلا فجارها صالحيها وصار زعيم القوم أرذلهم وارتفعت الأصوات في المساجد وأكرم الرجل مخافة شره فصار العاصي عَنْدَ النَّاس قريبًا والمطيع بين أظهرهم غريبًا.

ألا هل معين على غربة الإسلام ألا هل معين على غربة الإسلام فقَدْ بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فعَنْدَ ظهور هذه العظائم يؤخذ بالجرائم أما كَانَ المغنم دولاً والأمانة مغنمًا والزَّكَاة مغرمًا أما تعلم العلم لغير الدين أما أطاع الرجل زوجته وعق أمه وبر صديقه وجفا أباه. أما شربت المسكرات ولبس الحرير واتخذت القينات والمعازف ألا فإن المصطفى عَلَيْهِ أفضل الصَّلاة والسَّلام قال: «إذا ظهرت هذه فارتقبوا عَنْدَ ذَلِكَ ريحًا حمرًا ومسخًا وخسفًا» . وفي صحيح مسلم من حديث حذيفة مرفوعًا: «لن أن تَقُوم الساعة حتى تروا عشر آيات فذكر الدخان وخروج يأجوج ومأجوج وتخريب الكعبة ورفع القرآن من صدور حامليه وخروج الدابة ومحمدًا المهدي وطلوع الشمس من مغربها. فإذا طلعت ورآها النَّاس آمنوا أجمعون فذَلِكَ حين لا ينفع نفسًا إيمانه لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا وآخر الآيات نار تخَرَجَ من إليمن تطرد النَّاس إلى محشرهم تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معه حيث قَالُوا» . فانتبهوا لهذه الأهوال بما يؤمنكم بالتوبة النصوح والزموا باب مولاكم واقرعوه فإنه مفتوح {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . أجارني الله وإياكم من عذاب النار وأصلح لي ولكم الْعَمَل لدار القرار. إن أحسن المواعظ للمتدبرين كلام الله الملك الحق المبين والله يَقُولُ وبقوله يهتدي المؤمنون: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . أعوذ بِاللهِ من الشيطان الرجيم: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} . بارك الله لي ولكم في القرآن العَظِيم. ونفعني وإياكم بما فيه الآيات والذكر

الحكيم أَقُول قولي هَذَا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كُلّ ذنب فاستغفروه إنه هُوَ الغفور الرحيم. (فَصْلٌ) وخَرجَ مسلم من حديث أبي مالك الأشجعي عن أبي حازم عن أَبِي هُرَيْرَةِ وأبي مالك عن ربعي عن حذيفة كلاهما عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكر حديث الشفاعة، وفيه قال: «فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُومُ وَيُؤْذَنُ لَهُ وَتُرْسَلُ معه الأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ، فَيَقُومَانِ جَنَبَتَيْ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالاً، فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ» ، قَالَ: قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَيُّ شَيْء كَمَرِّ الْبَرْقِ؟ قَالَ: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الْبَرْقِ كَيْفَ يَمُرُّ وَيَرْجِعُ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ، وَأَشَدِّ الرِّجَال تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ، وَنَبِيُّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ، وَحَتَّى يَجِيءَ الرَّجُلُ فَلا يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إِلا زَحْفًا» . قَالَ: «وَفِي حَافَتَيْ الصِّرَاطِ كَلالِيبُ مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ، وَمُكَرْدَسٌ فِي النَّارِ» . وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ إِنَّ قَعْرَ جَهَنَّمَ لَسَبْعِينَ خَرِيفًا. وروى أبو الزعراء عن ابن مسعود قال: (يأمر الله بالصراط فيضرب على جهنم فيمر النَّاس عَلَى قَدْرِ أعمالهم زمرًا زمرًا، أوائلهم كلمح البرق، ثُمَّ كمر الريح، ثُمَّ كمر الطير، ثم كمر البهائم، حتى يمر الرجل سعيًا، وحتى يمر الرجل مشيًا، حتى يجيء آخرهم يتلبط على بطنه، فَيَقُولُ: يا رب لم بطأت بي؟ فَيَقُولُ: إني لم أبطئ بك، إنما أبطأ بك عملك) ، وَذَلِكَ أن الإِيمَان والْعَمَل الصالح في الدُّنْيَا هو

الصراط المستقيم في الدُّنْيَا الَّذِي أمر الله العباد بسلوكه والاستقامة عَلَيْهِ وأمرهم بسؤال الهداية إليه، فمن استقام سيره على هَذَا الصراط المستقيم في الدُّنْيَا، ولم ينحرف عَنْهُ يمنةً ولا يسرةً استقام سيره على الصراط المنصوب على متن جهنم ومن لم يستقم سيره على الصراط المستقيم في الدُّنْيَا بل انحرف عَنْهُ إمّا إلى فتنة الشبهات، أو إلى فتنة الشهوات كَانَ اختطاف الكلاليب له على صراط جهنم، بحسب اختطاف الشبهات والشهوات له عن هَذَا الصراط المستقيم. شِعْرًا: أَمَامِي مَوْقِفٌ قُدَّامُ رَبِّي يُسَائِلْنِي وَيَنْكَشِفُ الْغِطَاءُ وَحَسْبِي أَن أَمُرَّ عَلَى صِرَاطٍ كَحَدِّ السَّيْفِ أَسْفَلُهُ لَظَاءُ ... ›? ففكر في أهوال الصراط وعظائمه، وما يحل بالإِنْسَان من الذعر والخوف عَنْدَ رؤيته، ووقوع بصرك على جهنم من تحته، وسماعك شهيقها وتغيظها على الكفرة، وقَدْ اضطرت إلى أن تمشي على الصراط الَّذِي مرت صفته وصفة المُرُور عَلَيْهِ مَعَ ضعف حالك، وكونك حافيًا عاريًا، وثقل الظهر بالأوزار المانعة عن المشي في الأَرْض المستوية فضلاً عن المشي على حد الصراط، فتصور وضعك رجلك عَلَيْهِ وإحساسك بحدته وأَنْتَ مضطر إلى أن ترفع رجلاً وتضع الأخرى، وأَنْتَ مندهش مِمَّا تحتك وأمامك ممن يئنون، وآخرون يزلون، وآخرون يخطفون بالخطاطيف وبالكلاليب، والعويل والبُكَاء تسمَعَ له تتابعًا وَدَوِيًّا، وتنظر الَّذِينَ ينتكسون على رؤوسهم، وآخرون على

قصيدة رحلة ومصير تحتوي على عبر وتزهيد ومواعظ

وجوههم، فتعلوا الأرجل، فيا له من منظر فظيع، ومرتقًى ما أصعبه، ومجاز ما أضيقه، ومكَانَ ما أهوله، وموقف ما أشقه، وكأني بك مملوء من الرعب والذعر، تلفت يمينًا وشمالاً إلى من حولك من الخلق، وتجيل فيهم بصرك، وهم يتهافتون قدامك في جهنم، والزعقات بالويل والثبور قَدْ ارتفعت من قعر جهنم، لكثرة من يزل عن الصراط، والنَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «رب سلم سَلم» . فتصور لو زلت قدمك فهل ينفعك ندمك، وتحسرك في ذَلِكَ الوَقْت كلا {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} . اللَّهُمَّ يا حي يا قيوم يا بديع السماوات والأَرْض نسألك أن تكفينا ما أهمنا وما لا نهتم به وأن ترزقنا الاستعداد لما أمامنا بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. رحلة ومصير: ... يَا مَنْ يُتَابِعُ سَيَّدَ الثَّقَلانِ كُنْ لِلْمُهَيْمِنِ صَادِقَ الإِيمَانِ وَاعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ خَالِقُكَ الَّذِي سَوَّاكَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِنْسَانِ خَلَقَ الْبَرِيَّةَ كُلَّهَا مِنْ أَجْلِ أَنْ تَدْعُوهُ بِالإِخْلاصِ وَالإذْعَانِ قَدْ أَرْسَلَ الآيَاتِ مِنْهُ مُخَوِّفًا لِعِبَادِهِ كَيْ يُخْلِصَ الثَّقَلانِ وَأَبَانَ لِلإِنْسَانِ كُلَّ طَرِيقَةٍ كَيْ لا يَكُونَ لَهُ اعْتِذَارٌ ثَانِي ... ›?

.. ثُمَّ اقْتَضَى أَمْرًا وَنَهْيًا عَلَّهَا تَتَمَيَّزُ التَّقْوَى عَنِ الْعِصْيَانِ وَوُلِدْتَ مَفْطُورًا بِفِطْرَتِكَ الَّتِي لَيْسَتْ سِوَى التَّصْدِيقِ وَالإيمَانِ وَبُلِيتَ بِالتَّكْلِيفِ أَنْتَ مُخَيَّرٌ وَأَمَامَكَ النَّجْدَانِ مُفْتَتَحَانِ فَعَمِلْتَ مَا تَهْوَى وَأَنْتَ مُرَاقَبٌ مَا كُنْتَ مَحْجُوبًا عَنِ الدَّيَّانِ ثُمَّ انْقَضَى الْعُمْرُ الَّذِي تَهْنَا بِهِ وَبَدَأْتَ فِي ضَعْفٍ وَفِي نُقْصَانِ وَدَنَا الْفِرَاقُ وَلاتَ حِينَ تَهَرُّبٌ أَيْنَ الْمَفَرُّ مِن الْقَضَاءِ الدَّانِي وَالْتَفَّ صَحْبُكَ يَرْقُبُونَ بِحَسْرَةٍ مَاذَا تَكُونُ عَوَاقِبُ الْحَدَثَانِ وَاسْتَلَّ رُوحَكَ وَالْقُلُوبُ تَقَطَّعَتْ حَزَنًا وَأَلْقَتْ دَمْعَهَا الْعَيْنَانِ فَاجْتَاحَ أَهْلَ الدَّارِ حُزْنٌ بَالِغٌ وَاجْتَاحَ مَنْ حَضَرُوا مِنَ الْجِيرَانِ فَالْبِنْتُ عَبْرَى لِلْفِرَاقِ كَئِيبَةً وَالدَّمْعُ يَمْلأ سَاحَةَ الأَجْفَانِ وَالزَّوْجَ ثَكْلَى وَالصِّغَارُ تَجَمَّعُوا يَتَطَّلَعُونَ تَطَلُّعَ الْحَيْرَانِ ... ›?

.. وَالابْنُ يَدْأَبُ فِي جِهَازِكَ كَاتِمًا شَيْئًا مِنَ الأَحْزَانِ وَالأَشْجَانِ وَسَرَى الْحَدِيث وَقَدْ تَسَائَلَ بَعْضُهُمْ أَوْ مَا سَمِعْتُمْ عَنْ وَفَاةِ فُلانِ قَالُوا سَمِعْنَا وَالْوَفَاةُ سَبِيلُنَا غَيْرَ الْمُهَيْمِنِ كُلُّ شَيْءٍ فَانِي وَأَتَى الْحَدِيث لِوَارِثِيكَ فَأَسْرَعُوا مِنْ كُلِّ صَوْبٍ لِلْحُطَامِ الْفَانِي وَأَتَى الْمُغَسِّلُ وَالْمُكَفِّنُ قَدْ أَتَى لِيُجَلِّلُوكَ بِحُلِّةِ الأَكْفَانِ وَيُجَرِّدُوكَ مِنَ الثِّيَابِ وَيَنْزَعُوا عَنْكَ الْحَرِيرَ وَحُلَّةَ الْكَتَّانِ وَتَعُودُ فَرْدًا لَسْتَ حَامِلَ حَاجَةٍ مِن هَذِهِ الدُّنْيَا سِوَى الأَكْفَانِ وَأَتَى الْحَدِيث لِوَارِثِيكَ فَأَسْرَعُوا فَأَتُوا بِنَعْشٍ وَاهِنَ الْعِيدَانِ صَلُّوا عَلَيْكَ وَأَرْكَبُوكَ بِمَرْكَبٍ فَوْقَ الظُّهُورِ يُحَفُّ بِالأَحْزَانِ حَتَّى إِلَى الْقَبْرِ الَّذِي لَكَ جَهَّزُوا وَضَعُوكَ عِنْدَ شَفِيرِهِ بِحَنَانِ وَدَنَا الأَقَارِبُ يَرْفَعُونَكَ بَيْنَهُمْ لِلْحَدِّ كَيْ تُمْسِي مَعَ الدِّيدَانِ ... ›?

.. وَسَكَنْتَ لَحْدًا قَدْ يَضِيقُ لِضَيْقِهِ صَدْرَ الْحَلِيمِ وَصَابِرُ الْحَيَوَانِ وَسَمِعْتَ قَرْعَ نِعَالِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا وَضَعُوكَ فِي الْبَيْتِ الصَّغِيرِ الثَّانِي فِيهِ الظَّلامُ كَذَا السُّكُونُ مُخَيَّمٌ وَالرُّوحُ رَدَّ وَجَاءَكَ الْمَلَكَانِ وَهُنَا الْحَقِيقَةُ وَالْمُحَقِّقُ قَدْ أَتَى هَذَا مَقَامُ النَّصْرِ وَالْخُذْلانِ إِنْ كُنْتَ فِي الدُّنْيَا لِرَبِّكَ مُخْلِصًا تَدْعُوهُ بِالتَّوْحِيدِ وَالإِيمَانِ فَتَظَلُّ تَرْفُلُ فِي النَّعِيمِ مُرَفَهًا بِفَسِيحِ قَبْرٍ طَاهِرِ الأَرْكَانِ وَلَكَ الرَّفِيقُ عَنِ الْفِرَاقَ مُسَلِّيًا يُغْنِي عَنِ الأَحْبَابِ وَالأَخْدَانِ فُتِحَتْ عَلَيْكَ مِنَ الْجِنَانِ نَوَافِذٌ تَأْتِيكَ بِالأَنْوَارِ وَالرَّيْحَانِ وَتَظَلُّ مُنْشَرِحَ الْفُؤَادِ مُنْعَمًا حَتَّى يَقُومَ إِلَى الْقَضَا الثَّقَلانِ تَأْتِي الْحِسَابَ وَقَدْ فَتَحَتَ صَحِيفَةً بِالنُّورِ قَدْ كُتِبَتْ وَبِالرِّضْوَانِ وَتَرَى الْخَلائِقَ خَائِفِينَ لِذَنْبِهِمْ وَتَسِيرُ أَنْتَ بِعِزَّةٍ وَأَمَانِ ... ›?

.. وَيُظِلُّكَ اللهُ الْكَرِيمُ بِظِلِّهِ وَالنَّاسُ فِي عَرَقٍ إِلَى الآذَانِ وَتَرَى الصِّرَاطَ وَلَيْسَ فِي صُعُوبَةٌ كَالْبَرَقِ تَعْبُرُ فِيهِ نَحْوَ جِنَانِ فتَرَى الْجِنَانَ بِحُسْنِهَا وَجَمَالِهَا وَتَرَى الْقُصُورَ رَفِيعَةَ الْبُنْيَانِ طِبْ فِي رَغِيدِ الْعَيْشِ دُونَ مَشَقَّةٍ تَكْفِي مَشَقَّةٌ سَالِفِ الأَزْمَانِ وَالبَسْ ثِيَابَ الْخُلْدِ وَاشْرَبْ وَاغْتَسِلْ وَابْعِدْ عَنِ الأَكْدَارِ وَالأَحْزَانِ سِرْ وَانْظُرْ الأَنْهَارَ وَاشْرَبْ مَاءَهَا مِنْ فَوْقِهَا الأَثْمَارُ فِي الأَفْنَانِ وَالشَّهْدُ جَارٍ فِي الْعُيُونِ مُطَهَرٌ مَعَ خَمْرَةِ الْفِرْدَوْسِ وَالأَلْبَانِ وَالزَّوْجُ حُورٌ فِي الْبُيُوتِ كَوَاعِبٌ بِيضُ الْوُجُوهِ خَوَامِصُ الأَبْدَانِ ... ›? ... أَبْكَار شِبْهِ الدَّارِ فِي أَصْدَافِهِ ... وَاللُّؤلُو الْمَكْنُونِ وَالْمُرْجَانِ وَهُنَا مَقَرٌّ لا تَحُولَ بَعْدَهُ ... فِيهِ السُّرُورِ بِرُؤْيَةِ الرَّحْمَنِ أَمَّا إِذَا مَا كُنْتَ فِيهَا مُجْرِمًا ... مُتَتَبِّعًا لِطَرَائِقِ الشَّيْطَانِ ثَكِلْتَكَ أُمُّكَ كَيْفَ تَحْتَمِلُ الأَذَى ... أَمْ كَيْفَ تَصْبِرُ فِي لَظَى النِّيَرانِ فَإِذَا تَفَرَّقَ عَنْكَ صَحْبُكَ وَانْثَنَى ... حُمَّالُ نَعْشِكَ جَاءَكَ الْمَلَكَانِ جَاءآلآ مَرْهُوبِينَ منِ ْعيَنْيِهِمَا ... تُرْمَى بِأَشْوَاظٍ مِنَ النِّيرَانِ

نصيحة لهارون الرشيد

سَألاكَ عَنْ رَبٍّ قَدِيرٍ خَالِقٍ ... وَعَنِ الَّذِي قَدْ جَاءَ بِالْقُرْآنِ فَتَقُولُ لا أَدْرِي وَكُنْتُ مُصَدِّقًا ... أَقْوَالُ شِبْهِ مَقَالَةِ الثَّقَلانِ فَيُوبِّخَانِكَ بِالْكَلامِ بِشَدَّةِ ... وَسَيَضْرِبَانِكَ ضَرْبَةَ السَّجَانِ فَتَصِيح صَيْحَةَ آسَفٍ مُتَوَجِّعٍ ... وَيَجِي الشُّجَاعُ وَذَاكَ هَوْلٌ ثَانِي وَيَجِي الرَّفِيقُ فَيَا قَبَاحَةَ وَجْهِهِ ... فَكَأَنَّهُ مُتَمَرِّدٌ مِنْ جَانِ وَتَقُولُ يَا وَيْلا أَمَالِي رَجْعَةٌ ... حَتَّى أحلَّ بِسَاحَةِ الإِيمَانِ لَوْ عُدْتَ لِلدُّنْيَا لَعُدْتَ لِمَا مَضَى ... فِي جَانِبِ التَّكْذِيبِ وَالْعِصْيَانِ اللَّهُمَّ يا جامَعَ النَّاس ليوم لا ريب فيه اجمَعَ بيننا وبين الصدق والنِّيْة الصَّالِحَة والإِخْلاص والخشوع والْمُرَاقَبَة واليقين والعلم والمعرفة والفصاحة والبيان والفهم في القرآن وخصنا منك بالمحبة والاصطفائية ووفقنا للعمل الصالح الرشيد والرزق الهنيء الَّذِي لا حجاب به في الدُّنْيَا ولا حساب ولا سؤال ولا عقاب عَلَيْهِ في الدُّنْيَا والآخِرَة، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وعلى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. نصيحة لهارون الرشيد قام مُحَمَّد بن أوس الهلالي لهارون الرشيد واعترضه عِنْد الحجر فَقَالَ: يا أمير الْمُؤْمِنِين استمَعَ كلامي فإنك إن سمعته حقًا قبلته وإن سمعته باطلاً فلا تعبأ به فوقف الرشيد. فَقَالَ أوس: يا من غذي في نعيم وتردد في ملك سليم إن خفت الْعَذَاب الأليم وأحببت البقاء في سرور فلا تسمعن ممن أَنْتَ بينهما ولا تغترن بشَيْء من قولهما فإن الله عَزَّ وَجَلَّ يخلو بك دونهما والموت يصل إليك على الطوع

والكره منهما فلا تصدقان بالذليل ولا تتكثرن بالقليل ولا تعتصم بغير دافع ولا تطمئن إلى غير مانع لا يمنع ولا يدفع عَنْكَ. فإنك بعين الله وبحضرة بيته الَّذِي جعله مثابةً للناس الزائرين ومنحجرًا للفاجر فانتفض الرشيد وجلس وخلا يديه عنهما وأومأ أن خذوا الرجل فأخذ حتى قضى طوافه وصلى وَرَجَعَ إلى المنزل الَّذِي نزل به ودعا بالرجل فأدخل عَلَيْهِ شيخ جليل. فَقَالَ: من قبيلتك؟ قال: بنو هلال. قال: قبيلة مشهورة فما حَمَلَكَ أن كلمتني بالَّذِي كلمتني. قال: إشفاقًا عَلَيْكَ إذا أنضيت الركاب وأتعب الرِّجَال وأنفقت الأموال في أمور الله عَزَّ وَجَلَّ أعلم بها حتى إذا صرت إلى غاية الطالب وموضع ترجو فيه الرحمة اعتمدت على ظالمين طاغيين قَدْ جبلا على الغشم ونشأ على الظلم وقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} . فنكس الرشيد رأسه وأقبل ينكت في الأَرْض وعَيْنَاهُ تذرفان ثُمَّ رفع رأسه فَقَالَ: من أين مطعمك وشربك؟ قال: من عِنْد من يرزقك. قال: من ذاك؟ قال: من عِنْد من خلق الحب والنوى وأخَرَجَ الحب من الثرى من طعام سهرت فيه العيون وتعبت في حصاده الأجساد وحرسته الملائكة حتى أتاني به القدر بلا رنق ولا كدر. قال: ألك عيال؟ قال: نعم. قال: ومن هنَّ؟ قال: زوجة. قال: أتختلف إلى تجارة أو تحترف في صناعة؟ قال: قَدْ كفان الله مؤنةً ذَلِكَ بالعافية. قال: أفلا أجري عَلَيْكَ رزقًا تستعين به على بعض أمورك وتستغني به عن الطلب من غيرك؟ قال: إني بِاللهِ أغنى مني بما بذلت لي من ذَلِكَ. قال: ألك حَاجَة؟ قال: نعم، أطع الله عَزَّ وَجَلَّ فيما تعلم من سرك فإنك تصل إلى كُلّ محبوب وتنال به كُلّ مطلوب ولست تبلغ شَيْئًا من نكاية عَدُوّكَ

إِلا من طَاعَتكَ لربك فإنك إن أطعته جعل ناصية عَدُوّكَ بيدك فلا تشاء أمرًا إِلا بلغته ولا مكروهًا إِلا نلته. قال: ألك حَاجَة غيرها؟ قال: أتؤمنني من الموت؟ قال: لا أقدر على ذَلِكَ، قال: فتجيرني من النار؟ قال: لَيْسَتْ في يدي، قال: فتدخلني الْجَنَّة؟ قال: لست أملك، قال: أفتحي لي ميتًا حتى أساله عما عاين ورأى، قال: ذاك في قدرة غيري. قال: ما أَنْتَ إِلا كسائر من تَرَى من رعيتك غير أن الله عَزَّ وَجَلَّ فضلك عَلَيْهمْ بما أعطاك من هَذَا الحطام الزائل واستخلفك في الأَرْض لينظر كيف تعمل. ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ الرشيد: الحمد لله الَّذِي جعل في رعية أَنَا عَلَيْهَا مثله ولا تزال هذه الأمة بخَيْر ما لم يعدموا هَذَا ونظراءه وأشباهه. قُلْتُ: هَذَا من رقم (1) في العفاف والزهد. وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ. شِعْرًا: ... اعْمَلْ بَعَلْمِكَ تَغْنَمْ أَيُّهَا الرَّجُلُ ... لا يَنْفَعُ الْعِلْمُ إِنْ لَمْ يَحْسُنِ الْعَمَلُ وَالْعِلْمُ زينٌ وَتَقْوَى اللهِ زِينَتُهُ ... وَالْمُتَّقُونَ لَهُمْ فِي عِلْمِهِمْ شُغُلُ وَحُجَّةُ اللهِ يَا ذَا الْعِلْم بَالِغَةٌ ... لا الْمَكْرُ يُنْفَعُ فِيهَا لا وَلا الْحِيَلُ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَاعْمَلْ مَا اسْتَطَعْتَ بِهِ ... لا يُلْهِيَنَّكَ عَنْهُ اللَّهْوُ وَالْجَدَلُ وَعَلِّمِ النَّاسَ وَاقْصُدْ نَفْعَهُمْ أَبَدَا ... إِيَّاكَ إيَّاكَ أَنْ يَعْتَادَكَ الْمَلَلُ وَعِضْ أَخَاكَ بِرِفْقٍ عِنْدَ زَلَّتِهِ ... فَالْعِلْمُ يَعْطِفُ مَنْ يَعْتَادُهُ الزَّلَلُ وَإِنْ تَكُنْ بَيْنَ قَوْمٍ لا خَلاقَ لَهُمْ ... فَأَمُرْ عَلَيْهمْ بِمَعْرُوف إِذَا جَهَلُوا فَإِنْ عَصَوْكَ فَرَاجِعْهُمْ بِلا ضَجَر ... وَاصْبِرْ وَصَابِرْ وَلا يَحْزُنْكَ مَا فَعَلُوا فَكُلُّ شَاةٍ بِرِجْلَيْهَا مُعَلَّقَةٌ ... عَلَيْكَ نَفْسَكَ إِنْ جَارُوا وَإِنْ عَدَلُوا اللَّهُمَّ إنا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتجمَعَ بها شملنا،

رسالة الإمام مالك لهارون الرشيد

وتلم بها شعثنا، وترفع بها شاهدنا، وتحفظ بها غائبنا، وتزكي بها أعمالنا، وتلهمنا بها رشدنا، وتعصمنا بها من كُلّ سوء يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. اللَّهُمَّ يا هادي المضلين ويا راحم المذنبين، ومقيل عثرات العاثرين، نسألك أن تلحقنا بعبادك الصالحين الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يا رب العالمين. اللَّهُمَّ يا عَالِم الخفيات، ويا رفيع الدرجات، يا غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إِلا أَنْتَ إليك المصير. نسألك أن تذيقنا برد عفوك، وحلاوة رحمتك، يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، ويا أرأف الرائفين وأكرم الأكرمين، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وعلى آله وصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. (فَصْلٌ) (من رسالة الإمام مالك لهارون الرشيد) (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) الحمد لله رب العالمين والصَّلاة والسَّلام على أشرف المرسلين سيدنا مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فإني كتبت إليك بكتاب لم آلك فيه رشدًا، ولم أدخرك فيه نصحًا، تحميدًا لله، وأدبًا عن رسول الله - ? - فتدبره بعقلك، وردد فيه بصرك، وأرعه سمعك، ثُمَّ اعقله بقلبك، وأحضره فهمك، ولا تغيبن عَنْهُ ذهنك. فإن فيه الفضل في الدُّنْيَا، وحسن ثواب الله تَعَالَى في الآخِرَة، اذكر نفسك في غمرات الموت وكربه، وما هُوَ نازل به منك، وما أَنْتَ

موقوف عَلَيْهِ بعد الموت من العرض على الله سُبْحَانَهُ، ثُمَّ الحساب ثُمَّ الخلود بعد الحساب. وأعد الله عَزَّ وَجَلَّ ما يسهل به عَلَيْكَ أهوال تلك المشاهد وكربها فإنك لو رَأَيْت أَهْل سخط الله تَعَالَى وما صاروا إليه من ألوان الْعَذَاب وشدة نقمته عَلَيْهمْ، وسمعت زفيرهم في النار وشهيقهم مَعَ كلوح وجوههم وطول غمهم، وتقلبهم في دركاتها على وجوههم لا يسمعون ولا يبصرون، ويدعون بالويل والثبور وأعظم من ذَلِكَ حَسْرَة إعراض الله تَعَالَى عنهم، وانقطاع رجائهم وإجابته إياهم بعد طول الغم بقوله: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} . لم يتعاظمك شَيْء من الدُّنْيَا إن أردت النجاة من ذَلِكَ ولا أمتلك من هوله، ولو قدمت في طلب النجاة منه جَمِيع ما ملك أَهْل الدُّنْيَا - كَانَ في معاينتك ذَلِكَ صغيرًا. ولو رَأَيْت أَهْل طاعة الله تَعَالَى وما صاروا إليه من كرم الله عَزَّ وَجَلَّ ومنزلتهم مَعَ قربهم من الله عَزَّ وَجَلَّ ونضرة وجوههم، ونور ألوانهم، وسرورهم بالنَّعِيم الْمُقِيم، والنظر إليه والمكانة منه. لتقلل في عينك عَظِيم ما طلبت به صغير ما عِنْد الله، ولصغر في عينك جسيم ما طلبت به صغير ذَلِكَ من الدُّنْيَا. فاحذر على نفسك حذرًا غير تغرير، وبادره بنفسك قبل أن تسبق إليها، وما تخاف الحَسْرَة منه عِنْد نزول الموت، وخاصم نفسك على مهل وأَنْتَ تقدر بإذن الله على جر المنفعة إليها، وصرف الحجة عَنْهَا قبل أن يتولى الله حسابها.

ثُمَّ لا تقدر على صرف المكروه عَنْهَا واجعل من نفسك لنفسك نصيبًا بالليل والنَّهَارَ، وصل من النَّهَارَ اثنتي عشرة ركعة، واقَرَأَ فيهن ما أحببت، إن شئت صلهن جميعًا، وإن شئت متفرقات، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «من صلى من النَّهَارَ اثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتًا في الْجَنَّة» . اللَّهُمَّ ثَبِّتْ إيماننا بك وبملائكتك وكتبك ورسلك واليوم الآخِر والقدر خيره وشره، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: وصل من الليل ثمان ركعات بجزء من القرآن، وأعط كُلّ ركعة حقها، والَّذِي ينبغي فيها من تمام الركوع والسجود، وصلهن مثنى مثنَى، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? -: أنه كَانَ يصلي من الليل ثمان ركعات، والوتر ثلاث ركعات سِوَى ذَلِكَ يسلم من كُلّ اثنتين. وصم ثلاثة أيام من كُلّ شهر: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? أنه قال: «ذَلِكَ صيام الدهر» . وأعط زكاة مالك طيبة بها نفسك حين يحول عَلَيْهِ الحول ولا تؤخرها بعد حلها، وضعها فيمن أمر الله تَعَالَى، ولا تضعها إِلا في أَهْل ملتك من المسلمين، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «إن الله تَعَالَى لم يرض من الصدقة بحكم نبي ولا غيره حتى حدها هُوَ على ثمانية أجزاء. قال عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} .

واحجج حجة الإسلام من أطيب مالك، وأزكاه عندك، فإن الله تَعَالَى لا يقبل إِلا طيبًا، وبلغني أن قوله تَعَالَى: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثُمَّ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثُمَّ عَلَيْهِ} غفر له. مر بطاعة الله وأحبب عَلَيْهَا، وانه عن معاصي الله تَعَالَى، وأبغض عَلَيْهَا، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «مروا بالمعروف، وانهوا عن الْمُنْكَر، فإنما هلك من كَانَ قبلكم بتركهم نهيهم عن المعاصي، ولم ينههم الربانيون والأحبار» . فمروا بالمعروف وانهوا عن الْمُنْكَر من قبل أن ينزل بكم الَّذِي نزل بِهُمْ، فإن الأَمْر بالمعروف والنهي عن الْمُنْكَر لا يقدم أجلاً، ولا يقطع رزقًا. أحسن إلى من خولك الله تَعَالَى، واشكر تفضيله إياك عَلَيْهمْ، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه كَانَ يصلى فانصرف، وَقَالَ: «أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إِلا عَلَيْهِ جبهة ملك ساجد، فمن كَانَ له خول فليحسن إليه، ومن كره فليستبدل، ولا تعذبوا خلق الله» . الزم الأَدَب من وليت أمره وأدبه، ومن يجب عَلَيْكَ النظر في أمره، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال للفضل بن العباس: «لا ترفع عصاك على أهلك، وأخفهم في الله» . لا تستلم إلى النَّاس واستجرهم في طاعة الله، لا تغمص النَّاس واخفض لَهُمْ جناحك، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال:

«ألا أحدثكم بوصية نوح ابنه. قال: آمرك باثنين، وأنهاك عن اثنين: أمرك بقول لا إله إِلا الله، فإنها لو كانَتْ في كفة والسماوات والأَرْض في كفة وزنتها، ولو وضعتها على حلقة قصمتها. وقل: سبحان الله وبحمده فإنها عبادة الخلق، وبها تقطع أرزاقهم، فإنهما يكثران لمن قالها الولوج على الله عَزَّ وَجَلَّ، وأنهاك عن الشرك والكبر، فإن الله محتجب عنهما فَقَالَ له بعض أصحابه: أمن الكبر أن يكون لي الدابة النجيبة؟ قال: لا. قال: أمن الكبر أن يكون لي الثوب الحسن؟ قال: لا. قال: أفمن الكبر أن يكون لي الطعام أجمَعَ عَلَيْهِ النَّاس؟ قال: لا. إنما الكبر أن تسفه الحق، وتغمص الخلق، وَإِيَّاكَ والكبر والزهو، فإن الله عَزَّ وَجَلَّ لا يحبهما، وبلغني عن بعض الْعُلَمَاء أنه قال: «يحشر المتكبرون يوم القيامة في صور الذر تطؤهم النَّاس بتكبرهم على الله عَزَّ وَجَلَّ» . وَسَلْ الْعِيَاذَ مِنَ التَّكَبُّرِ وَالْهَوَى ... فَهُمَا لِكُلِّ الشَّرِ جَامِعَتَانِ وَهُمَا يَصُدَّانِ الْفَتَى عَنْ كُلِّ طُرْ ... قِ الْخَيْرِ إِذْ فِي قَلْبِهِ يَلْجَانِ فَتَرَاهُ يَمْنَعُهُ هَوَاهُ تَارَةً ... وَالْكِبْرُ أُخْرَى ثُمَّ يَجْتَمِعَانِ وَالله مَا فِي النَّارَ إِلا تَابِعٌ ... هَاذَيْنِ فَاسْئَلْ سَاكِنِ النِّيرَانِ آخر: ... قُلْ لِلْوَضِيعِ إِذَا تَكَبَّرَ لا تُبَلْ ... تِهْ كُلَّ تِيْهِكَ بالْوِلاية والْعَمَلْ مَا ازْدَدْتَ حِينَ وَلَيْتَ إِلا خِسَّةً ... كَالْكَلْبِ أَنْجَسُ مَا يَكُونُ إِذَا اغْتَسَلْ اللَّهُمَّ يا من بيده خزائن السماوات والأَرْض، عافنا من محن الزمان، وعوارض الفتن، فإنا ضعفاء عن حملها، وإن كنا من أهلها، اللَّهُمَّ وفقنا لصالح الأعمال، ونجنا مِنْ جَمِيعِ الأهوال، وأمنا من الفزع الأكبر يوم

الرجف والزلزال، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: لا تأمن على شَيْء من أمرك من لا يخاف الله، فإنه بلغني عن عُمَر بن الْخَطَّاب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أنه قال: شاور في أمرك الَّذِينَ يخافون الله، احذر بطانة السُّوء، وأَهْل الرَّدَى على نفسك. فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «ما من نبي ولا خليفة إِلا وله بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن الْمُنْكَر، وبطانة لا تألوه خبالاً، وَهُوَ مَعَ الَّذِي استولت عَلَيْهِ، ومن وقي بطانة السُّوء فقَدْ وُقِيَ» . واستنبطن أَهْل التقوى من النَّاس، وأكرم ضيفك فإنه يحق عَلَيْكَ إكرامه، وارع حق جارك ببذل المعروف، وكف الأَذَى عَنْهُ، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «من كَانَ يؤمن بِاللهِ واليوم الآخِر فليكرم ضيفه» . وتكلم بخَيْر أو اسكت، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «من كَانَ يؤمن بِاللهِ واليوم الآخِر فليقل خيرًا أو ليمسك» . واتق فصول المنطق، فإنه بلغني عن ابن مسعود أنه قال: أنذركم فضول المنطق، وأكرم من وادك وكافئه بمودته، وَإِيَّاكَ والْغَضَب في غير الله، لا تأمر بخَيْر إِلا بدأت بفعله، ولا تنه عن سوء إِلا بدأت بتركه، دع من الأَمْر ما لا يعنيك، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» . صل من قطعك، واعف عمن ظلمك، واعط من حرمك، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «إنها أفضل أَخْلاق الدُّنْيَا والآخِرَة» .

اتق كثرة الضحك، فإنه يدعو إلى السفه، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? -: أن ضحكه كَانَ تبسمًا. لا تمزح فتدم نفسك، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «إني لأمزح ولا أَقُول إِلا حقًا» . لا تخالف إلى ما نهيت عَنْهُ، وإذا نطقت فأوجز، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «وهل يكب النَّاس في نار جهنم إِلا هَذَا» يعني: لِسَانه. لا تصغر خدك للناس، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «إن أَهْل الْجَنَّة كُلّ هين لين سهل طلق» . اترك من عمال السِّرّ ما لا يحسن بك أن تعمله في العلانية: اتق كُلّ شَيْء تخاف فيه تهمة في دينك ودنياك، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «من كَانَ يؤمن بِاللهِ واليوم الآخِر فلا يقف مواقف التهم» . أقلل طلب الحوائج من النَّاس، فإن في ذَلِكَ غضاضة، وبلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال لرجل: «لا تسأل النَّاس، وليكن مجلسك بيتك أو مسجدك» . وبلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «المساجد بيوت المتقين» . لا تكثر الشخوص من بيتك إِلا في أمر لا بد منه، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «ستة مجالس المسلم ضامن على الله ما كَانَ في شَيْء منهن: في سبيل الله، أو في بيت الله، أو في عيادة مريض، أو شهود جنازة، أو جمعة، أو عِنْد إمام مقسط يعزره ويوقره» .

أحسن خلقك مَعَ أهلك، ومن اعتز بك، فإن ذَلِكَ رضًا لربك، ومحبة في أهلك، ومثراة في مالك، ومنسأة في أجلك. فإنه بلغني عن بعض الْعُلَمَاء من الصحابة أنه قال ذَلِكَ. أحسن البشر إلى عامة النَّاس، واتق شتمهم وغيبتهم فإن الله تَعَالَى قال: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ} . وبلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «لا تشتم النَّاس» وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآله وَسَلَمَ. (فَصْلٌ) وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: اتق أَهْل الفحش، ومُجَالَسَة أَهْل الرَّدى، ومحادثة الضعفة (أي ضعفاء العقول) من النَّاس، فإنه بلغني عن ابن مسعود - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أنه قال: اعتبر النَّاس بأخدانهم فإنما يخادن الرجل الرجل مثله. أكرم اليتيم، وارحمه، واعطف عَلَيْهِ، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «من كفل يتيمًا له أو لغيره كنت أَنَا وَهُوَ في الْجَنَّة كهاتين» ، وأشار بأصبعيه فضمهما. أعرف لابن السبيل حقه، واحفظ وصية الله تَعَالَى فيه فإنه بلغني أن أول من ضاف الضيف إبراهيم الخليل عَلَيْهِ السَّلام. أعن المظلوم، وانصره ما استطعت، وخذ على يد الظَالِم، وادفعه عن ظلمه، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «من مشي مَعَ مظلوم حتى يثَبِّتْ له حقه، ثَبِّتْ الله قدمه يوم تزول الأقدام» . اتق إتباع الهوى في ترك الحق، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «إني أخاف عليكم اثنتين: إتباع الهوى، وطول الأمل» . فإن إتباع الهوى يصد عن الحق، وطول الأمل ينسي الآخِرَة.

انصف النَّاس من نفسك ولا تستطل عَلَيْهمْ، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «أشرف الأعمال ثلاثة: ذكر الله على كُلّ حال، ومواساة الأخ من الْمَال، وإنصاف النَّاس من نفسك» . اغضض بصرك عن محارم الله، فإنه بلغني عن علي - كرم الله وجهه - أنه قال: لا تتبع النظرة النظرة، فإنما لك النظرة الأولى، ولَيْسَتْ لك الأخرى. اتق المطعم الوبيّ، والمشرب الوبيّ، والملبس الوبيّ، فإن ذَلِكَ تذهب أنفته، وتبقى عاقبته، وإن الله سُبْحَانَهُ أدب رسله، فَقَالَ: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} . وَقَالَ النَّبِيّ عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام: «من أكل بأخيه المسلم أكلة أطعمه الله مكانها أكلة من نار، ومن سمعَ بأخيه المسلم سمعَ الله به يوم القيامة، ومن لبس بأخيه المسلم ثوبًا ألبسه الله مكانه ثوبًا من نار» . اقبل عذر من اعتذر إليك، وارجع عما كرهت، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «من اعتذر إلى أخيه المسلم فلم يعذره كَانَ عَلَيْهِ مثل وزر صَاحِب مكس» . لتكن يدك العليا على كُلّ من خالطت، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «اليد العليا خَيْر من اليد السفلى» . اصحب الأخيار فَإِنَّهُمْ يعينونك على أمر الله عَزَّ وَجَلَّ، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «ما تحاب رجلان في الله إِلا كَانَ أفضلهما أشدهما حبًا لصاحبه» . صل رحمك وإن قطعك، ولا تكافئه بمثل ما أتى إليك، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أن رجلاً قال له: إن لي أقرباء، أعفوا ويظلموني، وأصل ويقطعوني، وأحسن ويسيئوني، أفأكافئهم؟ فَقَالَ ?: «إذن

تتركوا جميعًا، ولكن إذا أساءوا فأحسن، فإنه لن يزال لك عَلَيْهمْ من الله ظهير» . اللَّهُمَّ يا من فتح بابه للطالبين وأظهر غناه للراغبين ألهمنا ما ألهمت عبادك الصالحين وأيقظنا من رقدة الغافلين إنك أكرم منعم وأعز معين، واغفر لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: ارحم المسكين المضطر، والغريب المحتاج، وأعنه على ما استطعت من أمره، فإنه بلغني عن ابن عباس: أنه قال: (كُلّ معروف صدقة) . ارحم السائل واردده من بابك بفضل معروفك بالبذل منك، أو قول معروف تقوله له، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «رد عَنْكَ مذمة السائل بمثل رأس الطير من الطعام» . لا تزهد في المعروف عِنْد من تعرفه وعِنْد من لا تعرفه، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «لا تزهد في المعروف ولو أن تصب من دلوك في إناء المستقي» . أرد بكل ما يكون منك من خَيْر إلى أحد الله، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أن قوله عَزَّ وَجَلَّ: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ} ... الآيَة قال: المنافق الَّذِي إن صلّى رآءى، وإن فاتته لم يبلغ إليها {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} قال: الماعون: الزَّكَاة التي فرضها الله عَزَّ وَجَلَّ. إياك والرياء، فإنه بلغني أنه لا يصعد عمل المرائي إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، ولا يزكيه عنده. إن استطعت أن تعمل بعمل ما عملت فيما بينك

وبين الله فافعل، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «نضر الله امرءًا سمَعَ مقالتي فوعاها حتى يبلغها غيره، فرب غائب أحفظ من شاهد ورب حامل فقه غير فقيه» . لا يغفل قلب امرئٍ مسلم عن ثلاث خصال: إخلاص الْعَمَل لله، والنَّصِيحَة للإمام العادل، والنَّصِيحَة لعامة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم. إياك وسوء الخلق، فإنه يدعوا إلى معاصي الله تَعَالَى، وقَدْ بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «خياركم أحسنكم أخلاقًا» . اخضع لله إذا خلوت بعملك، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? -: (أن ملكًا أتاه فَقَالَ: إن ربك يقرئك السَّلام وَيَقُولُ: إن شئت أجعلك ملكًا نبيًا أو عبدًا نبيًا فأشار إليه جبريل عَلَيْهِ السَّلام أن تواضع، فما أكل متكئًا حتى مَاتَ) . لا تظلم النَّاس فيديلهم الله عَلَيْكَ، فإنه بلغني عن بعض الْعُلَمَاء من الصحابة أنه قال: ما ظلمت أحدًا أشد عليَّ ظلمًا من أحد لا يتعسن عليّ إِلا بِاللهِ تَعَالَى. احذر البغي فإنه عاجل العقوبة، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «إن أعجل الْخَيْر ثوابًا صلة الرحم، وإن أعجل الشر عقوبة اليمين الغموس تترك الديار بلاقع» . لا تحلف بغير الله في شَيْء، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «لا تحلفوا بآبائكم، ليحلف حالف بِاللهِ أو ليسكت» . ولا تحلف بِاللهِ في كُلّ شَيْء فإنه بلغني أن ذَلِكَ قوله تَعَالَى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ} . اللَّهُمَّ أعمر قلوبنا وألسنتنا بِذِكْرِكَ وشكرك ووفقنا للامتثال لأَمْرِكَ، وأمنا من سطوتك ومكرك وَاجْعَلْنَا مِنْ أوليائك المتقين وحزبك

المفلحين، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: ارحم النَّاس يرَحِمَكَ اللهُ بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «من لا يرحم النَّاس لا يرَحِمَهُ اللهُ» . أحبب طاعة الله يحبك الله، ويحببك إلى خلقه، قال الله عَزَّ وَجَلَّ لنبيه: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} . وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام: «إن الله جعل قرة عيني في السجود» . وَقَالَ بعض الْعُلَمَاء: ما أسر عبد قط سريرة خَيْر إِلا ألبسه الله رداءها، ولا أسر سريرة شر قط إِلا ألبسه الله رداءها. وليكن عَلَيْكَ السكينة والوقار في منطقك ومجلسك ومركبك، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «إذا ركبتهم هذه الدواب العجم فأعطوها من حظها من الأَرْض» . عَلَيْكَ بالحلم والإغضاء عما كرهت، ولا تتبع ذَلِكَ من أحد بلغك عَنْهُ أذى ولا تكافئه فإن في ذَلِكَ الفضل في الدُّنْيَا والآخِرَة، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «إن الله يحب الحليم الحيي العفيف المتعفف» . ادفع السيئة بالتي هي أحسن، بلغني عن النبي - ? - أنه قال: «أيها السلمي اتق العقوبة وقطيعة الرحم، فإن في ذَلِكَ شَيْنًا في الدُّنْيَا وتباعد في الآخِرَة» . وبلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «اشتكت الرحم إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ممن يقطعها، فرد الله عَلَيْهَا: أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك» .

إذا غضبت من شَيْء من أمر الله فاذكر ثواب الله على كظم الغيظ، قال الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} الآيَة. وبلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «ما امتلأ رجل غيظًا فكظمه لله إِلا ملأه الله رضوانَا يوم القيامة» . إذا وعدت موعدًا في طاعة الله فلا تخلفه، وإذا قُلْتُ قولاً فيه رضا الله فأوف به ودم عَلَيْهِ، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «من تكفل بستٍّ أتكفل له بالْجَنَّة: إذا حدث لم يكذب، وإذا وعد لم يخلف، وإذا ائتمن لم يخن، وغض بصره، وحفظ فرجه، وكف يده» . إذا حلفت على يمين ليست من طاعة الله فلا تهمن بها وكفرها، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «لا نذر في معصية الله وكفارتها كفارة يمين، والنذر يمين، وإذا حلفت على يمين ثُمَّ رَأَيْت غيرها خيرًا منها فأت الَّذِي هُوَ خَيْر وكفر عن يمينك» فإنه بلغني عن النَّبِيّ ? أنه قال ذَلِكَ. إياك والتزيد في القول، وأن تَقُول قولاً وأَنْتَ تعلم أنه لم يكن، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: الإمام الكذَّاب، والعائل المزهو، والشَّيْخ الزاني» . بر والديك وخصهما منك بالدُّعَاء في كُلّ صلاة، وأكثر لهما الاستغفار، وابدأ بنفسك قبلهما، فإن إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلام - قال: (رب اغفر لي ولوالديَّ) فبدأ بنفسه قبل والديه. وبلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «من سره أن ينسأ له في عمره، ويزَادَ في رزقه، فليتق الله ربه وليصل رحمه» . اشكر النَّاس ما أتوا إليك من خيرهم، وكافئهم إن قدرت عَلَيْهِ، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «من لم يشكر النَّاس لم يشكر الله» والله

اللَّهُمَّ قو إيماننا بك وبملائكتك وبكتبك وبرسلك وباليوم الآخِر وبالقدر خيره وشره، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: إذا ركبت الدابة فوضعت رجلك في الركاب فقل: بسم الله، وإذا استويت راكبًا فقل: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} الآيَة. فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ كُلَّما ركب دابة. قُلْتُ: (ومثلها السيارة، والطائرة، والقطار، والسَّفِينَة ونحوها) . إذا أكلت أو شربت فاذكر اسم الله، فإن نسيت في أول حالك فاذكره إذا ذكرت، بلغني عن ابن مسعود - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أنه قال: تذكر اسم الله حين تذكر، فإنه يحول بين الخبيث وبين أن يأكل معك ويتقيأ ما أكل، فإذا فرغت فقل: الحمد لله الَّذِي أطعمنا وسقانَا وجعلنا مسلمين، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ إذا أكل وشرب. وإذا أكلت ومعك آخر فكل مِمَّا يليك بيمينك، ولا تأكل من فوق الطعام ولا من بين يدي أحد، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال لرجل يفعله: «اذكر اسم الله، وكل مِمَّا يليك وكل بيمينك ولا تأكل بشمالك، ولا تشرب بشمالك» . وبلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «إنها أكلة الشيطان» . لا تسافر ما استطعت إِلا في يوم الخميس، فإنه بلغني عن النَّبِيّ

- ? - أنه كَانَ يستحب أن يسافر يوم الخميس لا يسافر إِلا فيه. إذا أصابك كرب فقل: يا حي يا قيوم بِرَحْمَتِكَ أستغيث، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ عِنْد الكرب. احترس ممن يقرب إليك بالنميمة، ويبلغ الكلام عن النَّاس، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «ملعون من لعن أباه، ملعون من لعن أمه، ملعون من غير تخوم الأَرْض، ملعون كُلّ صقار» . وَهُوَ: النمام. لا تجر ثيابك فإن الله لا يحب ذَلِكَ، وبلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «من جر ثيابه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة» . أطع الله في معصية النَّاس، ولا تطع النَّاس في معصية الله، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» . إذا أصابك حزن أو سقم أو زلة أو لأواء - يعني الجوع - فقل: الله رَبِّي لا أشرك به شَيْئًا. ثلاث مرات، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه كَانَ يأمر بذَلِكَ من أصابه شَيْء من ذَلِكَ. اصبر على ما أصابك من فجائع الدُّنْيَا وأحزانها لقول الله تَعَالَى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} . والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد. لا تمارين أحدًا وإن كنت محقًا، بلغني أن قول الله عَزَّ وَجَلَّ: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} أنه المراء. إذا هممت بأمر من أمور الدُّنْيَا ففكر في عاقبته، بلغني عن النَّبِيّ

- ? - أنه قال: «إذا هممت بأمر من أمور الدُّنْيَا ففكر في عاقبته، فإن كَانَ رشدًا فأمضه، وإن كَانَ غيًا فانته منه» . وَإِيَّاكَ والتجريد خَاليا، فإنه ينبغي لك أن تستحي من الله إذا خلوت، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «لا أحب أن يلي لي شَيْئًا من لا يستحي من الله في الخلاء» . وَإِيَّاكَ أن تدخل الحمام والماء إِلا بإزار، ولا يدخل معك أحد الحمام إِلا بإزار وأَنْتَ تقدر على ذَلِكَ. فإن لم تقدر فغض طرفك عن كُلّ أحد مكشوفًا، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «لا يحل لامرئٍ يؤمن بِاللهِ واليوم الآخِر أن يدخل الحمام إِلا بإزار» . وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ. اللَّهُمَّ نور قلوبنا واشرح صدورنا واستر عيوبنا وأمن خوفنا واختم بالصالحات أعمالنا وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك الصالحين وحزبك المفلحين الذين لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: أفش السَّلام وإن استطعت أن لا يسبقك أحد إليه فافعل تعط بذَلِكَ فضلاً عن النَّاس، وبلغني عن ابن مسعود أنه قال: السَّلام اسم من أسماء الله، وضعه فيكم فأفشوه فيكم، فإن الرجل إذا سلم كتب له عشر حسنات. أدب ولدك ومن وليت أمره على خلقك وأدبك حتى يتأدبوا على ما أَنْتَ عَلَيْهِ فيكونوا لك عونًا على طاعة الله. بلغني عن ابن مسعود - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أنه قال: كُلّ مؤدب يحب أن يؤخذ بأدبه، وإن أدب الله هُوَ القرآن. وإذا استشارك أحد فإن شئت تكلمت، وإن شئت سكتَّ، واجتهد

رأيك، فإنه بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «المستشار بالخيار إن شَاءَ تكلم، وإن شَاءَ سكت» . لا تفش على أحدٍ سرًا أفشاه إليك فإنما هِيَ أمانة استودعكها وائتمنك عَلَيْهَا، إِلا أن يكون إفشاؤه خيرًا له في دنياه وآخرته فأفشها عَلَيْهِ وانصحه فيها، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «من حق المسلم على المسلم إذا استنصحه أن ينصحه» . إذا تعلمت علمًا من طاعة الله فلير عَلَيْكَ أثره، ولير فيك سمته، وتعلم للذي تعمله، وتعلم له السكينة والحلم والوقار. بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «الْعُلَمَاء ورثة الأنبياء» . رد جواب الكِتَاب إلى كُلّ أحد كتب إليك، فإنما هُوَ كرد السَّلام قال الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} . وَقَالَ ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أرى رجع اْلكِتَاب عليَّ حقًا كما أرى رجع السَّلام. الزم الحياء فإنه خلق الإسلام، وفيه قال ?: «لكل شَيْء خلق، وخلق الإسلام: الحياء» . إذا سافرت فقل: «اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، ودعوة المظلوم، وسوء المنظر في الأَهْل والْمَال، والحور بعد الكور» . بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ إذا سافر. إياك وظلم الضعيف، ومن لا يستعين عَلَيْكَ إِلا بِاللهِ، لقول النَّبِيّ - ? -: «ثلاثة لا ترد دعوتهم الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة

المظلوم فإنها تصعد فوق الغمام، فَيَقُولُ الله لها: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين» . إذا ودعت مسافرًا فقل: «زودك الله التقوى، وغفر لك ذنبك، ويسر لك الْخَيْر حيثما كنت، استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك» . لأن النَّبِيّ ? كَانَ يأمر أصحابه بها. إذا حضرت السُّلْطَان فاشفع بخَيْر، وَإِيَّاكَ والكلام عنده إِلا بما يرضي الله، لقول النَّبِيّ - ? -: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أنها تبلغ ما بلغت يكتب له بها سخطه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أنها تبلغ ما بلغت، يكتب له بها رضوانه إلى يوم القيامة» . أرد ما أردت به الله ما استطعت، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «صدقة السِّرّ تطفئ غضب الرب» . اتق كثرة التزكية لنفسك، أو ترضى بها من أحد يقولها لك في وجهك، بلغني أن رجلاً امتدح رجلاً عِنْد النَّبِيّ - ? - فَقَالَ: «ويحك قطعت عنقه، ولو سمعها ما أفلح أبدًا» . إياك ومدح النَّاس والثناء عَلَيْهمْ في وجوههم، لقول النَّبِيّ - عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام -: «احثوا التُّرَاب في وجوه المداحين» . طهر ثيابك ونقها من معاصي الله تَعَالَى، فإنه بلغني أن قوله تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ، يأمره أن لا يلبسها على عذرة. واكره لك أحد ما تكرهه لنفسك، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه بايع جريرًا البجلي على الإسلام والنَّصِيحَة لكل مسلم.

إياك والحسد والشره فهما خلقان مرديان لصاحبهما في الدُّنْيَا والآخِرَة، وَقَالَ ? فيهما: «لا حسد إِلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً وسلطه على إنفاقه في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها» . شِعْرًا: ... كُلُّ الْعَدَاوَةِ قَدْ تُرْجَى إِمَاتَتُهَا ... إِلا عَدَاوَةَ مَنْ عَادَاكَ مِنْ حَسَدِ فَإِنَّ الْقَلْبَ مِنْهَا عُقْدَةٌ عُقِدَتْ ... وَلَيْسَ يَفْتَحُهَا رَاقٍ إِلَى الأَبَدِ إِلا الإِلَهُ فَإِنْ يَرْحَمْ تُحَلُّ بِهِ ... فَالْجَأْ إِلَى اللهِ لا تَرْكَنْ إِلَى أَحَدِ اقتد في أمورك برأي ذي الإنصاف من أَهْل التقوى. بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «خياركم شبانكم المتشبهون بشيوخكم، وشراركم شيوخكم المتشبهون بشبانكم» . لا تحتقر أحدًا، ولا تجالس مأفونًا، فإن الوحدة خَيْر من جلَيْسَ السُّوء. عَلَيْكَ بمعالي الأَخْلاق وكريمها، واتق رذائلها وما سفف منها، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «إن الله يحب معالي الأَخْلاق ويكره سفسافها» . إذا رَأَيْت من فضلت عَلَيْهِ في دينك ودنياك فأكثر حمد الله عَلَيْهِ، فإن ذَلِكَ من الشكر، بلغني عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام - أنه قال: «ما أنعم الله على عبد بنعمة فَقَالَ: الحمد لله إِلا كَانَ ذَلِكَ أعظم من تلك النعمة وإن عظمت» . لا تركب المثرة الحمراء، ولا تلبس المعصفر، فقَدْ نهِيَ رسول الله - ? - عن ذَلِكَ. إذا غضبت وأَنْتَ قائم فاقعد، وإن كنت قاعدًا فاضطجع، لقول النَّبِيّ - ? -: «إذا غضب أحدكم وَهُوَ قائم فليجلس فإن ذهب عَنْهُ الْغَضَب وإِلا فليضطجع» . لا تتطيرن من شَيْء تراه أو تسمعه.

وإذا كَانَ من ذَلِكَ شَيْء فقل: اللَّهُمَّ لا يأتي بالْخَيْر إِلا أَنْتَ ولا يدفع السُّوء إِلا أَنْتَ، ولا حول ولا قوة إِلا بِاللهِ. فقَدْ علمت أن النَّبِيّ - ? - كَانَ يأمر بذَلِكَ لمن رأى من ذَلِكَ شَيْئًا. لا تتوضأ بشَيْء مِمَّا تأكل من الطعام (إِلا من لحم الجزور) ولا تدلك به في الحمام، فإن ذَلِكَ من الجفاء. لا تتخلقن بالخلوق إِلا أن يكون في أثر النورة ليذهب ريحها، فقَدْ بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «بينما رجل في بردتين له متخلق يتبختر فيهما إذ ساخت به الأَرْض فهو يتجلجل فيه إلى يوم القيامة» . اللَّهُمَّ توفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: لا تحلف بالطلاق ولا بالعتاق، فإنها من أيمان الفساق. بلغني عن عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أنه قال: أربع جائزة إذا تكلم بهن: الطلاق، والعتاق، والنكاح، والنذر. وأربعة يمسون والله عَلَيْهمْ ساخط، ويبيحون والله عَلَيْهمْ غَضْبَان: المتشبهون من الرِّجَال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرِّجَال، ومن أتى بهيمة، أو عمل عمل قوم لوط. لا تتطيبن بشَيْء من الطيب يظهر لونه، فإن النَّبِيّ - ? - قال: «طيب الرِّجَال ما بطن لونه وظهر ريحه، وطيب النساء ما ظهر لونه وبطن ريحه» . الزم الرأي الحسن، والهدي الحسن، والاقتصاد بلغني عن ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أنه قال: الرأي الحسن جزء من خمسة وعشرين جزءًا من النبوة.

إن استطعت أن لا تدع العمامة والبرد في العيدين والْجُمُعَة فافعل. لما علمت من أمر النَّبِيّ - عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام - أنه كَانَ يلبس العمامة والبرد في العيدين والْجُمُعَة. إذا صافحت أحدًا فلا تنزعن يدك من يده، حتى يكون هُوَ الَّذِي ينزع يده عن يدك، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه لم يصافح أحدًا فنزع يده حتى يكون هُوَ الَّذِي ينزع يده. إذا أقبل عَلَيْكَ رجل بوجهه يحدثك فلا تصرف وجهك عَنْهُ حتى يكون هُوَ الَّذِي يصرف وجهه عَنْكَ، وإذا جلست إلى جنب رجل أو جلس إلى جنبك رجل فلا تقومن من بين يديه، ولا تجاوزن ركبتك ركبتيه، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه لم تتجاوز ركبته ركبة جلَيْسَ له. وإذا أحسست من أمير ظلامة أو تغطرسًا فقل: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر أعز من خلقه جميعًا، الله أكبر مِمَّا أخاف وأحذر، وأعوذ بِاللهِ الممسك السماء أن تقع على الأَرْض إِلا بإذنه من شر فلان، اللَّهُمَّ كن لي جارًا من فلان وجنوده، أن يفرط عليَّ أحد مِنْهُمْ أو أن يطغى، جل جلالك وعز جارك، ولا إله غيرك) تَقُول ذَلِكَ ثلاث مرات. بلغني عن ابن عباس أنه قال ذَلِكَ وأمرنا به. وإذا كتبت إلى أحد من غير أَهْل الإسلام فلا تكتبن سلام الله عَلَيْكَ، ولكن اكتب: السَّلام على من اتبع الهدى، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه كتب ذَلِكَ إلى مسيلمة. إذا عطست في الخلاء فاذكر اسم الله خفيًا. لا تدهن في مدهن

ذهب ولا فضة، ولا تستجمر في مجامر الذهب والفضة، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه نَهِيَ عن الشرب في إناء الذهب والفضة. لا تنم على الحرير والديباج فإنه لبسة النساء، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه نَهِيَ عن لبس الحرير والديباج إِلا للنساء. إذا رَأَيْت أمرًا في أهلك وخاصتك مِمَّا ينبغي تغييره فلا تحابين مِنْهُمْ أحدًا، وقم فيه بالَّذِي يحق عَلَيْكَ، بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «انصر أخاك ظالمًا ومظلومًا» . إذا هممت بأمر من طاعة الله - عَزَّ وَجَلَّ - فلا تحبسه إن استطعت فواقًا حتى تمضيه، فإنك لا تأمن الأحداث، وإذا هممت بأمر غير ذَلِكَ فإن استطعت أن لا تمضيه فواقًا فافعل لعل الله تَعَالَى يحدث لك تركه. لا تستحي إذا دعيت لأمر لَيْسَ بحق أن تَقُول: لا، فإن الله تعالى يَقُولُ: {وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} إذا سمعت المؤذن يؤذن فقل كما يَقُولُ إِلا أنك تَقُول إذا قال: حي على الصَّلاة، حي على الفلاح: لا حول ولا قوة إِلا بِاللهِ. بلغني ذَلِكَ عن النَّبِيّ - ? -. لا تخلون بامرأة لَيْسَتْ لك بمحرم، بلغني عن عُمَر بن الْخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه قال: ما خلا رجل بامرأة لَيْسَتْ له بمحرم إِلا كَانَ ثالثهما الشيطان. شِعْرًا: ... لا تَخْلُ بامْرَأَةٍ لَدَيْكَ بِرِيبَةٍ ... لَوْ كُنْتَ فِي النُّسَّاكِ مِثْلَ بَنَانِ إِنَّ الرِّجَالَ النَّاظِرِينَ إِلََى النِّسَا ... مِثْلُ الْكِلابِ تَطُوفُ باللُّحْمَانِ إِنْ لَمْ تَصُنْ تِلْكَ اللُّحُومَ أُسُودُهَا ... أُكِلَتْ بِلا عِوَضٍ وَلا أَثْمَانِ

ألغاز بعدها أجوبتها

إذا قال الإمام: آمين، فقل: آمين، فإنه ينبغي إذا فرغ من أم القرآن أن يَقُولُ: آمين، ويقوله من خلفه. بلغني عن النَّبِيّ - ? - أنه قال: «إذا أمن الإمام فأمنوا فإن الملائكة تؤمن لتأمين الإمام، فمن وافق منكم تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه» . أ. هـ. ما اخترناه وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ. (فَصْلٌ) أسئلة وأجوبة السؤال الأول عن واحد لا ثاني له. وعن دين لا يقبل الله غيره. وعن مفتاح الصلاة وبم تختم. وعن غراس الْجَنَّة وعن صلاة كُلّ شَيْء. وعن أربعة فيهم الروح ولم يكونوا في أصلاب الرِّجَال ولا أرحام النساء. وعن رجل لا أب له. وعن رجل لا أم له ولا أب. وعن حيوان جرى بصاحبه. وعن بقعة من الأَرْض طلعت عَلَيْهَا الشمس مرة واحدة ولم تطلع عَلَيْهَا قبل ذَلِكَ ولا بعده. وعن ظاعن ظعن مرة ولم يظعن قبلها ولا بعدها. وعن شجرة نبتت على إنسان. وعن شَيْء يتنفس ولا روح له. وعن الحكمة في المحو الَّذِي في القمر. وعن ميت مَاتَ ألف شهر ومائتي شهر. وعن جبل ارتفع ثُمَّ رجع. وعن إثنان لا ثالث لهما.

وخمسة لا سادس لها. وستة لَيْسَ لها سابع. وسبعة لَيْسَ لها ثامن. وثمانية لا تاسع لها. وتسعة لا عاشر لها. وعشرة لَيْسَ لَهُمْ حادي عشر. وثلاثة عشر لا رابع عشر لَهُمْ. وعن أحب كلمة إِلَى اللهِ. وما الموضع الَّذِي لَيْسَ له قبلة. وعن شَيْء حل بعضه وحرم بعضه. وعن نبي نهى الله النَّبِيّ ? أن يعمل عمله. وعن من بعثه الله ولَيْسَ من بني آدم ولا من الجن ولا من الملائكة. وعن نفس ماتت وضربت ببعضها ميت فحيا بإذن الله. وعن كافر لم تأكل الأَرْض لحمه. وعن نفس خرجت من نفس ولا نسبة بينهما. وعن اثنين تكُلَّما في الدهر مرة واحدة فقط ثم هما سكوت إلى يوم القيامة. وعن أنفع كلمة وأرفع وأحسن كلمة وأزكى كلمة. وعن جماعة شهدوا الحق وهم كاذبون. وعن جماعة شهدوا الحق فأدخلوا النار ومن شهدوا عليه. وعن شَيْء على الأَرْض من الْجَنَّة. وعن صيدين صادهما رجل فحل أحدهما له وحرم عَلَيْهِ الآخِر. وعن امرأة أوحى الله إليها

وعن خمسة مشوا على وجه الأَرْض ولم يولدوا. وعن أم لم تولد. وعن ماء لم يذكر أنه نبع من الأَرْض ولم يذكر أنه نزل من السماء. ج: الجواب الواحد لا ثاني له: فالله جل جلاله وتقدست أسماؤه، وأما الدين الَّذِي لا يقبل الله غيره: فدين الإسلام الله تَعَالَى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} . وأما مفتاح الصَّلاة فالتكبير وتختم بالتسليم. وأما غراس الْجَنَّة فسبحان الله والحمد لله ولا إله إِلا الله والله أكبر. وأما صلاة كُلّ شَيْء: سبحان الله وبحمده. وأما الَّذِي فيهم الروح ولم يكونوا في أصلاب الرِّجَال ولا أرحام النساء: فهم آدم وحواء وناقة صالح عَلَيْهِ السَّلام وعصا مُوَسى لما قلبها الله حية والكبش الَّذِي فدى به إبراهيم ابنه قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيم} . وأما الموضع الَّذِي لَيْسَ له قبلة: فظهر بيت الله (أي سطح الكعبة) . وأما الرجل الَّذِي لا أب له: فعيسى عَلَيْهِ وعلى نبينا السَّلام. وأما الرجل الَّذِي لا أم له ولا أب: فآدم عَلَيْهِ السَّلام. وأما الْحَيَوَان الَّذِي جرى بصاحبه: فالحوت الَّذِي سار بيونس في البحر. وأما البقعة التي طلعت عَلَيْهَا الشمس مرة واحدة: فأرض البحر الَّذِي فلقه الله لمُوَسى ومن معه من بني إسرائيل. وأما الاثنان اللذان لَيْسَ لهما ثالث: فالليل والنَّهَارَ. وأما الثالث التي لَيْسَ لها رابع فالطلاق الثالث. وأما الخمسة التي لا سادس لها: فالصلوات الخمس المفروضة. وأما الستة اللذين لا سابع لَهُمْ: فالأيام التي خلق الله فيه السماوات والأَرْض.

وأما السبعة التي لا ثامن لها: فأيام الأسبوع. وأما الثمانية الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ تاسع: فحملة العرش يوم القيامة. قال الله جل وعلا: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} . وأما التسعة اللذين لا عاشر لَهُمْ: فالتسعة الرهط الَّذِينَ ذكرهم الله في سورة النمل. قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} . وأما العشرة التي لَيْسَ لها حادي عشرة: فقوله تَعَالَى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} . وأما الإحد عشر: فإخوة يوسف. وأما الإثنا عشر: فشهور السنة. وأما الثلاثة عشر: فإخوة يوسف وأبوه وأمه. وأما أحب كلمة إِلَى اللهِ: فكلمة الإِخْلاص: (لا إله إِلا الله) . وأما الشَيْء الَّذِي أحل بعضه وحرم بعضه: فهو نهر طالوت قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} . وأما الَّذِي بعثه الله ولَيْسَ من الإنس ولا من الملائكة ولا من الجن فهو الغراب قال الله تَعَالَى: {فَبَعَثَ اللهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ} . وأما النفس التي ماتت وضرب ببعضها ميتًا آخر فحيا بإذن الله فهي بقرة بني إسرائيل قال الله جَلَّ وَعَلا: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى} . وأما الشجرة التي نبتت على إنسان: فالتي أنبتها الله على يونس ابن متى قال تَعَالَى: {وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} . وأما النفس التي دخلت في نفس أخرى وخرجت ولَيْسَ بينهما مناسبة

فهو يونس بن متى عَلَيْهِ السَّلام دخل في بطن الحوت وخَرَجَ قال تَعَالَى: {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ} . وأما الكنز من كنوز الْجَنَّة فلا حول ولا قوة إِلا بِاللهِ كما في الْحَدِيث. وأما الماء الَّذِي لم يذكر أنه نبع من الأَرْض ولم يذكر أنه نزل من السماء فالماء الَّذِي نبع بين أصابع النَّبِيّ ?. وأما الحكمة التي في محو آية الليل القمر فالله أعلم بأنه لأجل تمييز الليل من النَّهَارَ ولمنافع أخرى تتعلق بالنَّبَات والزروع والأشجار والثمار. وأما النَّبِيّ الَّذِي نهى الله النَّبِيّ ? أن يعمل مثل عمل عمله فهو يونس قال الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} . وأما الشهود الَّذِي شهدوا الحق وهم كاذبون: فهم المنافقون، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} . وأما الشهود الَّذِي شهدوا بالحق وأدخلوا النار ومن شهدوا عَلَيْهِ: فالجوارح، قال الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الآيات. وأما الجبل الَّذِي ارتفع وعاد فجبل الطور أعاده الله قال الله جَلَّ وَعَلا: {وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} . وأما الكافر الَّذِي لم تأكل الأَرْض لحمه فقارون.

وأما الَّذِي في الأَرْض وَهُوَ من الْجَنَّة: فالحجر الأسود. وأما الصيدان اللذان صادهما رجل فأحل له أحدهما وحرم عَلَيْهِ الآخِر: فمحرم صاد صيدين من البر واحد ومن البحر واحد فالَّذِي من البر حرامٌ والَّذِي من البحر حلال. وأما الَّذِي مَاتَ ألف شهر ومائتي شهر ثُمَّ أحياه الله: فالعزيز عَلَيْهِ السَّلام، قال الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {فَأَمَاتَهُ اللهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} . وأما المرأة التي أوحى الله إليها: فأم مُوَسى، قال الله جَلَّ وَعَلا: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} . وأما الأم التي لم تولد: فحواء عَلَيْهِ السَّلام. وأما الأم التي لم تلد: فمَكَّة المكرمة أم القرى قال الله جَلَّ وَعَلا: {لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى} أ. هـ. انتهى. فَصْلٌ: سئل الشَّافِعِي عن رجلين خطبا امرأةً فحلت لإحداهما ولم تحل للآخر. فَقَالَ: إن الَّذِي لم تحل له أربع زوجات فحرمت عَلَيْهِ الخامسة. س: فَقَالَ ما تَقُول في رجلين شربا خمرًا فوجب على أحدهما الحد ولم يجب على الآخِر وكانَا مسلمين؟ فَقَالَ: إن أحدهما حرًا بالغًا فوجب عَلَيْهِ الحد والآخِر صغير لم يبلغ. س: قال: فما تَقُول في خمسة زنوا بامرأة فوجب على أحدهم القتل وعلى الآخِر الرجم، وعلى الثالث الحد، وعلى الرابع نصف الحد، ولم يجب على الخامس حد؟ فَقَالَ: أما الأول: فمشرك زنى بمسلمة فوجب عَلَيْهِ القتل، وأما الثاني: فمسلم محصن زنى فوجب عَلَيْهِ الرجم، وأما الَّذِي وجب عَلَيْهِ الحد: فمسلم بكر زنى

وأما الرابع: فمملوك زنى فوجب عَلَيْهِ نصف الحد، وأما الَّذِي لم يجب عَلَيْهِ شَيْء: فالصبي، والمجنون. س: قال: فما تَقُول في رجل أخذ كأسًا من ماء فشرب بعضه وحرم عَلَيْهِ الباقي؟ قال: هَذَا لما شرب بعضه وقع على الباقي نجاسة فحرم عَلَيْهِ. س: قال: فما تَقُول في رجل دفع إلى امرأته كيسًا مختومًا وَقَالَ لها: أَنْتَ طالق إن لم تفرغيه، ولا تفتحيه، ولا تفتقيه، ففرغته على ذَلِكَ الحكم ولم يلحقها طلاق؟ فَقَالَ: إن الكيس مملوءًا سكرًا أو ملحًا فوضعته في الماء فذاب وتفرغ. س: قال: فما تَقُول في جماعة صلحاء سجدوا لغير الله تَعَالَى وهم في فعلهم مطيعون؟ قال: الملائكة سجدوا لآدم. س: قال: فما تَقُول في رجل لقي جارية فقبلها وَقَالَ: فديت من أبي جدها، وأخي عمها، وأنَا زوج أمها فما تكون منه؟ قال: هِيَ ابنته. س: قال: فما تَقُول في امرأة لقيت غلامًا فقبلته قَالَتْ: فديت من أمي وَلَدَتْ أمَّهُ، وأخو زوجي عمه، وأبو ابن حماتي، وأنَا امرأة أبيه؟ قال: هِيَ أُمُّهُ. س: وَقَالَ: ما تَقُول في رجل تزوج امرأة وزوج ابنه أمها فجاءت الأم والبنت بولدين، فما يكون الولد من ذَلِكَ وَذَلِكَ؟ فَقَالَ: ابن الأم خال لابن البنت، وابن البنت عم لابن الأم. س: وَقَالَ: ما تَقُول في رجل مَاتَ وخلف ستمائة درهم وله من الورثة أخت فأصابها درهم واحد؟

الأعرابي وهارون الرشيد

فَقَالَ: هَذَا شخص مَاتَ وخلف ستمائة درهم، وترك بنتين أصابهما الثلثان أربعمائة درهم وخلف والدته أصابها السدس مائة درهم، وخلف زوجة أصابها الثمن، وَهُوَ خمس وسبعون درهمًا، وله اثنا عشر أخًا لكل واحد منهما درهمان، ففضل للأخت درهم. وَقَالَ آخر ملغزًا: تَزَوَّجَ شَخْصٌ أَمْ شَخْصٍ وَأُخْتَهُ ... كَذَا أُخْتَهُ الأُخْرَى وَلَيْسَ بِبَاطِلِ وَشَخْصٌ أَتَى أَيْضًا بِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ ... وَقَالُوا لَهُ أَجْرٌ لَدَى كُلِّ فَاضِلِ وَقَالَ آخر: أَلا فَاسْأَلُوا مَنْ كَانَ بِالْعِلْمِ بَارِعًا ... وَفِي الْفِقْهِ أَفْنَى عُمْرَهُ بِابْتِذَالِهِ عَنِ الْمَرْءِ يُوصِي قَاصِدًا وَجْهَ رَبِّهِ ... لِزَيْدٍ كَمَا سَمَّاهُ مِنْ ثُلْثِ مَالِهِ فَإِنْ يَكُنْ الْمُوصَى لَهُ مُتَمَوِّلاً ... دَفَعْنَا لَهُ الْمُوصَى لَهُ بِكَمَالِهِ وَإِنْ كَانَ ذَا فَقْرٍ وَقَلٍّ وَفَاقَةٍ ... حَرَمْنَاهُ ذَاكَ الْمَالَ فَارْثَ لِحَالِهِ أَيُحْرَمُ ذُو فَقْرٍ وَيُعْطَاهُ ذُو الْغِنَى ... وَلا تَسْتَنِدْ إِلا لِعِزِّ جَلالِهِ فَلا تَعْتَمِدْ إِلا عَلَى اللهِ وَحْدَهُ ... وَلا تَسْتَنِدْ إِلا لِعِزِّ جَلالِهِ اللَّهُمَّ أعطنا من الْخَيْر فوق ما نرجو واصرف عنا من السُّوء فوق ما نحذر. اللَّهُمَّ علق قلوبنا برجائك واقطع رجاءنا عمن سواك. اللَّهُمَّ إنك تعلم عيوبنا فاسترها وتعلم حاجتنا فاقضها كفى بك وليًا وكفى بك نصيرًا. يا رب العالمين اللَّهُمَّ وفقنا لسلوك سبيل عبادك الأخيار وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. فَصْلٌ: ذكر أنه لما دخل هارون الرشيد الحرم الشريف ابتدأ بالطواف ومنع النَّاس من الطواف.

فسبقه أعرابي وجعل يطوف معه فشق ذَلِكَ على هارون والتفت إلى حاجبه كالْمُنْكَر عَلَيْهِ. فَقَالَ الحاجب: أخل المطاف لأمير الْمُؤْمِنِين فَقَالَ الأعرابي: إن الله ساوى بين الأنام في هَذَا المقام والبيت الحرام. فَقَالَ تَعَالَى: {سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} فَلَمَّا سمَعَ الرشيد ذَلِكَ من الأعرابي أمر حاجبه بالكف عَنْهُ ثُمَّ جَاءَ الرشيد إلى الحجر الأسود ليستلمه. فسبقه الأعرابي فاستلمه ثُمَّ أتى إلى المقام ليصلى فيه فسبقه الأعرابي فصلى فيه. فَلَمَّا فرغ الرشيد من صلاته قال للحاجب: ائتني بالأعرابي فأتى الحاجب الأعرابي وَقَالَ له: أجب أمير الْمُؤْمِنِين. فَقَالَ: ما لي إليه حَاجَة إن كانَتْ له حَاجَة فهو أحق بالقيام إليها فانصرف الحاجب مغضبًا فأبلغ الرشيد ما قاله الأعرابي. فَقَالَ الرشيد: صدق نَحْنُ أحق بالقيام والسعي إليه ثُمَّ نهض إليه حتى وقف بإزاء الأعرابي وسلم عَلَيْهِ فرد السَّلام. فَقَالَ له الرشيد: يا أخا الْعَرَب أأجلس هنا بأمرك، فَقَالَ الأعرابي: لَيْسَتْ البيت بيتي، ولا الحرم حرمي، البيت بيت الله، والحرم حرم الله ونَحْنُ فيه سواء إن شئت تجلس وإن شئت تنصرف. فعظم جواب الأعرابي على الرشيد حيث سمَعَ كلامًا لم يخطر على باله أن أحدًا يواجهه به فجلس إلى جنبه. وَقَالَ له: يا أعرابي أريد أن أسألك عن فرضك فإن قمت به فأَنْتَ بغيره

أقوم وإن عجزت عَنْهُ فأَنْتَ عن غير أعجز. فَقَالَ الأعرابي: سؤالك هَذَا سؤال متعلم أو سؤال متعنت، فعجب الرشيد من سرعة جوابه، وَقَالَ: بل سؤال متعلم. فَقَالَ الأعرابي: قم واجلس مقام السائل من المسئول. قال: فقام الرشيد وجثى على ركبتيه بين يدي الأعرابي. فقال: قد جلست. قال: سل عما بدا لك فقال: أخبر عن فرض الله عليك. فَقَالَ له: تسألني عن أي فرض؟ أعن فرض واحد؟ أم عن خمسة فروض؟ أم عن ستة عشر فرضًا؟ أم عن أربعة وثلاثين فرضًا؟ أم عن أربعة وتسعين فرضً؟ أم عن واحد من أربعين؟ أم عن واحدة في العمر؟ أم عن خمسة من مائتين؟ فضحك. ثُمَّ قال: سألتك عن فرض فأتيتني بحساب الدهر. فَقَالَ: يا هارون لولا إن الدين حساب لما أخذ الله الخلائق بالحساب يوم القيامة قال الله جَلَّ وَعَلا: {فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} . قال: فبدا الْغَضَب في وجه هارون حيث كلمه باسمه ولم يقل يا أمير الْمُؤْمِنِين، ثُمَّ قال له: فسر لي ما قُلْتُ. فَقَالَ الحاجب: لما رأى غضب الرشيد: أعف عَنْهُ يا أمير الْمُؤْمِنِين، وهبه لله في هَذَا المقام الشريف. فضحك الأعرابي من قولهما فَقَالَ له الرشيد: مم تضحك؟ قال: عجبًا منكما فإن أحدكما كما يستوهب أجلاً في عقله أنه قَدْ حظر، والآخِر يستعجل أجلاً لم يحظر.

فَلَمَّا سمَعَ الرشيد ذَلِكَ هانَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا، ثُمَّ قال له: سألتك بِاللهِ أن تفسر ما قُلْتُ فقَدْ تشوَقْت إلى شرحه. فَقَالَ الأعرابي: أما سؤالك عما فرض الله عليّ فقَدْ فرض علي فروضًا كثيرة. فأما الفرض الواحد فهو: دين الإسلام. وأما الخمسة الفروض فهي: الصلوات الخمس. وأما السبعة عشر فهي: عدد ركعات الفرض الخمس: الصبح اثنتان، والظهر أربع، والعصر أربع، والمغرب ثلاث، والعشاء أربع. وأما الأربع والثلاثين فهي: سجدات الصلوات الخمس. وأما الأربع والتسعين فهي: التكبيرات في الصلوات الخمس وأما الواحدة من أربعين: فهي الزَّكَاة: ربع العشر دينار من أربعين دينارًا، وشاة من أربعين شاة. وأما الواحدة في العمر: فهي حجة الإسلام. وأما الخمسة من المأتين: فهي زكاة الفضة. وتسمى: الورق. فَسُرَّ الرشيد من تفسير هذه المسائل ومن ذكاء الأعرابي وفطنته وإجابته. ثُمَّ أمر له بعشرة الآف درهم، فَقَالَ: لا حَاجَة لي بها ردها إلى أصحابها، فَقَالَ له: أتريد أن أجري لك جراية تكفيك مدة حياتك. قال: الَّذِي أجرى عَلَيْكَ يجري علي. قال: فإن كَانَ عَلَيْكَ دين قضيناه فلم يقبل منه شَيْئًا لله دره على هذه العفة هَذَا من رقم (1) في الزهد والورع ياليت هَذَا الطراز يوجد.

ثُمَّ أنشأ يَقُولُ: هَبِ الدُّنْيَا تُوَاتِينَا سِنِينَا ... فَتَكْدُرُ تَارَّةً وَتَلِينُ حِينَا فَمَا أَرْضَى بِشَيْءٍ لَيْسَ يَبْقَى ... وَأَتْرُكُهُ غَدًا لِلْوَارِثِينَا كَأَنِّي بِالتُّرَابِ عَلَيَّ يُحْثَى ... وَبِالإِخْوَانِ حَوْلِي نَائِحِينَا وَيَوْمَ تَزْفُر النِّيرَانُ فِيهِ ... وَتُقْسِمُ جَهْرَةً لِلسَّامِعِينَا وَعِزَّةِ خَالِقِي وَجَلالِ رَبِّي ... لانْتَقَمْنَ مِنَ الْعُصَاةِ أَجْمَعِينَا لغز في الأَرْض وَأُمٌّ أَوْلادُهَا فَوْقَ ظَهْرِهَا ... وَفِي بَطْنِهَا أَعْجِبْ بذَلِكَ مِنْ أَمْرِ أَحَلُّو بِإِجْمَاعِ الأَئِمَّةِ وَطْأَهَا ... وَمَا مِنْ جَمَاعِ قَدْ أَتُوهُ وَلا نُكْرِ إِذَا حَمَلَتْ مِنْهُمْ بِشَخْصٍ فَلا يُرَى ... لَهُ صُورَةٌ حَتَّى الْقِيَامَةِ وَالْحَشْرِ في ميزان وَقَاضِي قُضَاةٍ يَفْصِلُ الْحُكْمَ سَاكِتًا ... وَبِالْحَقِّ يَقْضِي لا يَبُوحُ فَيَنْطِقُ قَضَى بِلِسَانٍ لا يَمِيلُ وَإِنْ يَمِلْ ... عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فَهُوَ مُصَدَّقُ وفي سمَكَّة وَذَاتُ جَنَاحٍ لا تَطِيرُ وَلا تَمْشِي ... تُصَادُ وَلَيْسَتْ فِي الطُّيُورِ وَلا الْوَحْشِ عَلَيْهَا قَمِيصٌ مِن لُجَيْنٍ مُدَبَّجَ ... يُحَاكِي فُصُوصَ الْجَوْشَنِ الْمُحْكَم النَّقْشِ تَسِيرُ وَلا يَدْنُو مِن الأَرْض جِسْمُهَا ... وَتَسْبِقُ إِنْ شَاءَتْ أَخَا الأَيْدِ وَالْبَطْشِ وفي الْقَلْب أَيَا عُلْمَاءَ النَّاسِ هَلْ تُخْبِرُونَنِي ... عَنِ الرَّائِحِ الْغَادِي الْمُقِيمِ الْمُسَافِرِ يَجُوبُ نَوَاحِي الأَرْضِ فِي عُشْرِ سَاعَةٍ ... وَفِي الْوَكْرِ لَمْ يَبْرَحْ وَلَيْسَ بِطَائِرِ في آدم وَذِي حَسَبٍ فِي النَّاسِ لا يُنْكِرونَهُ ... وَلَيْسَ لَهُ فِي النَّاسِ أُمٌّ وَلا أَبُ

وفي آدم وعيسى والقمر عَجِبْتُ لِمَوْلُودٍ وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ ... وَذِي وَلَدٍ مَا إِنْ لَهُ أَبَوَانِ وآخر: ... وَيَكْمُلُ فِي خَمْسِ وَعَشْرٍ شَبَابَهُ ... وَيَهْلِكُ فِي سَبْعِ مَعًا وَثَمَانِ في يونس عَلَيْهِ السَّلام وَمَا حَيّ بَدَا مِنْ بَطْنِ حَيٍ ... تَمَامًا ذَلِكَ الْعَجَبُ الْعَجِيبُ فَعَاشَا لَيْسَ بَيْنَهُمَا وِصَالٌ ... وَلا نُعْمَى وَلا نَسَبٌ قَرِيبُ في الحجر الأسود وَأَسْوَدُ لا تَلْقَاهُ إِلا بِسَجْدَةٍ ... وَتَقْبِيلة أَوْ مَسْحَةٍ بِالأَصَابِعَ تَرَى الْمَلِكَ الْجَبَّارَ يَعْنُو لِوَجْهِهِ ... جَلالاً وَيَلْقَاهُ بِرَهْبَةِ خَاضِعَ انتهى. شِعْرًا: ... يَا مَنْ يُعِدُ غَدًا لِتَوْبَتِهْ ... أَعَلَى يَقِينٍ مِنْ بُلُوغِ غَدِ الْمَرْءُ فِي زَلَلٍ عَلَى أَمَلْ ... وَمَنِّيَةُ الإِنْسَانِ بِالرَّصْدِ أَيَّامَ عُمُركَ كُلَّهَا عَدَدْ ... وَلَعَلَّ يَوْمَكَ آخِرُ الْعَدَدِ يا أخي التوبة قبل أن تصل إليك النوبة، الإنابة قبل أن يغلق باب الإجابة، الإفاقة فيا قرب وَقْت الفاقة، إنما الدُّنْيَا سوق للتجر ومجلس وعظ للزجر وليل صيف قريب الفجر، المكنة مزنة صيف، الفرصة زورة طيف، الصحة رقدة ضيف، والغرة نقدة زيف، الدُّنْيَا معشوقة وكيف، البدار البدار فالوَقْت سيف. يا غافلاً عن مصيره، يا واقفًا في تقصيره سبقك أَهْل العزائم وأَنْتَ في اليقظة نائم، قف على الْبَاب وقوف نادم، ونكس رأس الذل وقل أَنَا ظَالِم وناد في الأسحار مذنب وواهم، وتشبه بالقوم وإن لم تكن مِنْهُمْ وزاحم، وابعث بريح الزفرات سحاب دمَعَ ساجم، قم في الدجا نادبا، وقف على الْبَاب تائبًا، واستدرك من العمر ذاهبًا، ودع اللهو والهوى جانبًا، وإذا لاح الغرور رأى راهبًا، وطلق الجنيا إن كنت للأخرى طالبًا.

موعظة ويليها قصيدة وعظية

اللَّهُمَّ ثَبِّتْ وقو محبتك في قلوبنا واشرح صدورنا ونورها بنور الإِيمَان وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين وألهمنا ذكرك وشكرك وَاجْعَلْنَا ممن يفوز بالنظر إلى وجهك في جنات النَّعِيم يا حليم ويا كريم وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. موعظة إخواني رحل الأحباب إلى القبور وسترحلون، وتركوا القصور والأموال، والأوطان وستتركون، وتجرعوا كأس الفراق وستتجرعون. وقدموا على ما قدموا واستقدمون، وندموا على التفريط في الأعمال وستندمون، وتأسفوا على أيام الإهمال وستتأسفون، وشاهدوا ما لَهُمْ عِنْد قدوم هادم اللذات وستشهدون. ووقفوا ببصائرهم على الأهوال، وستقفون، وسئلوا عما عملوا وستسألون، ويود أحدهم لو يفتدى بالْمَال وستودون. فبادروا بالمتاب قبل يوم الحساب وخيبة الظنون، فكأنكم بأيام الشباب وقَدْ أبلتها يد المنون، وقَدْ أظلكم من فجاءة الموت ما كنتم توعدون. قال الله تبارك وتَعَالَى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ} فَكَيْفَ بك يا من صناع عمره فرطا في القيل والقال وعِنْد المذياع والكرة والتلفزيون. ماذا يكون موقفك إذا نفخ في الصور ما في القبور وحصل ما في الصدور وضاقت الأمور وظهر المستور. وخَرَجَ الخلائق من القبور ياله من يوم فيه الزلازل والأهوال وفيه تسير الجبال وترادف المزعجات والأهوال، وتنقطع فيه الآمال، ويقل فيه الاحتيال. فيا خسارة أَهْل الشمال يوم نزل فيه الأقدام وتتبلد فيه الأفهام، ويطول

فيه القيام وتتابع فيه الهموم والآلام وتظهر الجرائم والآثار وينقطع فيه الكلام. ياله من يوم، يوم يقوم النَّاس لرب العالمين يوم الحَسْرَة والندامة يوم الزلزلة والطامة يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة يوم الصاخة: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} . شِعْرًا: ... كأْسُ الْمَنِيَّةِ دَائِرٌ مَا بَيْنَنَا ... يَسْقِيكُمُوا وَيَدُورُ لِلنُّدَمَاءِ فِي الْمَوْتِ أَعْظَمُ عِبْرَةِ لِمُبْصَّرٍ ... أَوْ عِبْرَة مَمْزُوجَةٍ بِدِمَاءِ فَهُوَ الْمُصِيبَةُ وَهُوَ أَكْبَرُ آيَةٍ ... مُفْنِي الْوَرَاء وَمِحْنَةُ الْعُقَلاءِ وَهُوَ الرَّزِيَّةُ وَالْبَلِيَّةُ وَالَّذِي ... يَسْطُو عَلَى الآبَاءِ وَالأَبْنَاءِ فَاشْدُدْ حَيَازِيمَ الرَّحِيلِ إِلَى الأُولَى ... وَاخْرُجْ مِن الأَدْوَاءِ وَالْحُكَمَاءِ إِنَّ الْغَنَائِمَ فِي التَّوَكُّلَ وَالرِّضَا ... لَيْسَتْ مَعَ الصَّفْرَاءِ وَالْحَمْرَاءِ لَوْ أَنَّ عُمْرًا مِن طَبِيبٍ يُشْتَرَى ... عَاشَ الطَّبِيبُ وَلَمْ يَمُتْ بِالدَّاءِ يَا مَوْتُ أَقْرَبُ مَنْ يَكُون عَلَى الْفَتَى ... تُلْقِيهِ فِي الصَّعْقَاءِ وَالرَّمْضَاءِ يَا مَوْتُ مَا لَكَ لا تُبَقِّي مَاجِدًا ... يَا هَاذِمَ اللَّذَاتِ وَالسَّرَاءِ يَا فِتْنَةَ الأُمَرَاءِ وَالْوُزَرَاءِ يَا ... مُسْتَهْلِكَ الشُّرَفَاءِ وَالْخُلَفَاءِ يَا حَسْرَةَ الظُّرَفَاءِ وَاللُّطَفَاءِ يَا ... مُسْتَأْصَلَ النُّبَلاءِ وَالنُّجَبَاءِ الْمَوْتُ حَتْمٌ يَوْم بِأَنِّي وَعْدُهُ ... مَا وَعْدُهُ وَعْدًا بِغَيْرِ فَاءِ كَمْ فَلَّ جَيْشًا كَمْ رَمَى مِنْ أَسْهُمٍ ... كَمْ فَضَّ شَمْلاً كَمْ قَضَى بِعَزَاءِ كَمْ خَصَّ طِفْلاً كَمْ كَوَى مِنْ وَالِدٍ ... كَمْ هَدَّ رُكْنًا بَعْدَ دَكِّ بِنَاءِ كَمْ فَضَّ نَفْسًا كَمْ بَرَى مِنْ حَاكِمٍ ... مِنْ بَعْدِ عِزٍّ قَائِمٍ وَحِصَاءِ لا عِزَّ لِلدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ أَهْلُهَا ... دَارِ الْفَنَا لَيْسَتْ بِدَارِ بَقَاءِ ثُمَّ الصَّلاةُ عَلَى النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى ... مِنْ صَفْوَةُ الْفُصَحَاءِ وَالنُّجَبَاءِ وَالآلِ وَالأَصْحَابِ أَعْلامِ الْهُدَى ... مَا سَارَ رَكْبُ الْحَجِ فِي الْبَطْحَاءِ

موعظة ويليها قصيدة وعظية

اللَّهُمَّ ارحم عبادًا غرهم طول إمهالك وأطمعهم دوام إفضالك ومدوا أيديهم إلى كرم نوالك وتيقنوا أن لا غنى لَهُمْ عن سؤالك وَجَدَ عَلَيْنَا وعَلَيْهمْ بِرَحْمَتِكَ الواسعة وَاْغِفرْ لَنَا وَلَهُمْ وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. موعظة اسمَعَ يا من يسعى لقاعد، ويسهر لراقَدْ، ويحرس لراصد، ويزرع لحاصد، ويبخل لباذل، ويجوع لآكل. شِعْرًا: ... وَذِي حِرْصٍ تَرَاهُ يُلِمُّ وَفْرًا ... لِوَارِثِهِ وَيَدْفَعُ عَنْ حِمَاهُ كَكَلْبِ الصَّيْدِ يُمْسِكُ وَهُوَ طَاوٍ ... فَرِيسَهُ لِيَأْكُلَهَا سِوَاهُ آخر: ... يُفْنِي الْبَخِيلُ بِجَمْعِ الْمَالِ مُدَّتَهُ ... وَلِلْحَوَادِثِ وَالْوُرَّاثِ مَا يَدَعُ كَدُودَةِ الْقَرِّ مَا تَبْنِيهِ يَهْدِمُهَا ... وَغَيْرُهَا بِالَّذِي تَبْنِيهِ يَنْتَفِعُ اسمَعَ يا غَافِل لَيْسَ بمغفول عَنْهُ، عن قليل ينهد ركناك وفي القبر سكناك، قلب قاسي كقُلُوب الكفار حرص كحرص الفار ينقب بالأظفار. قل لي ما موقفك إذا وقعت الواقعة وقرعت القارعة وأزف لك الرحيل إلى قبرك واجتمَعَ الغسال والغسيل والعائد يغمز عينيه، والْحَبِيب يقلب كفيه. حتى إذا انقطع نفسك وحثى على جدثك، وانطوى زمانك وخوي جثمانك وأخرجت من منزلك الَّذِي بنيته وتركت مالك الَّذِي جمعته وأبقيته. أينفعك حينئذٍ حلال أصبته ومنعته، أو حرام غصبته أو نشب حصنته أو ولد حضنته، أو ربع أسسته، أو حطام حرسته، أو أرضًا حوشتها.

كلا لا ينفعك إِلا خَيْر لوجه الله أمضيته، أو خصم أرضيته، أو قريب وصلته وأعطيته، أو والدة أو والد بريته. انتبه يا نائم واستقم يا قائم وأكثر من الزَادَ فإن الطَرِيق بعيد والبحر عميق وخفف الحمل فإن الصراط دقيق وأخلص الْعَمَل فإن الناقَدْ بصير. وأخر نومك إلى القبر وفرحك إلى الميزان وشهواتك وراحتك إلى الآخِرَة ولذاتك إلى الحور العين. وتقرب إِلَى اللهِ جَلَّ وَعَلا بحب أَهْل الطاعة وبغض أَهْل المعاصي واهجرهم وتباعد عنهم وَاحْذَر وحَذِّر عنهم واسأل ربك الثبات على الإِيمَان حتى الْمَمَات. ومن كلام بَعْضهمْ أما تسمعون أيها النَّاس داعي الموت يدعوَكَمْ، وحاديه يحدوَكَمْ أما ترون صرعاه في منازلكم وقتلاه بين أيديكم ففيم التصامم عن الداعي والتشاغل عن الحادي والتعامي عن مصارع القتلى والتغَافِل عن مشاهدة الهلكى، فرحم الله امرأً أيقظ نَفْسهُ في مهلة الحياة قبل أن توقظه روعة الْمَمَات، واستعد لما هُوَ آت قبل الانبتات، وحلول الفوات، وكأن الحكم قَدْ وقع والخطاب قَدْ ارتفع، أعرض من أعرض وسمَعَ من سمَعَ. شِعْرًا: ... قَطَعْتُ زَمَانِي حِينًا فَحِينَا ... أُدِير مِن اللَّهْوِ فِيهِ فُنُونَا وَأَهْمَلْتُ نَفْسِي وَمَا أهْمِلَتْ ... وَهَوَّنْتَ مِنْ ذَاكَ مَا لَمْ يَهُونَا وَرُبَّ سُرُورٍ شَفَى غَلَّةً ... وَوَلَّى فَأعْقَبَ حُزْنًا رَصِينَا وَكَمْ آكِلُ سَاعَةٍ مَا يُرِيد ... يُكَابِدُ مَا أَوْرَثْتَهُ سِنِينَا وَمَا كَانَ أَغْنَى الْفَتَى عَنْ نَعِيمٍ ... يَعُودُ عَلَيْهِ عَذَابًا مُهِينَا وَكَمْ وَعَظَتْنِي عِظَاةُ الزَّمَانِ ... لَوْ أَنِّي أُصِيخ إِلَى الْوَاعِظِينَا وَكَمْ دَعَانِي دَاعِي الْمَنُونِ ... وَأَسْمَعَ لَوْ كُنْتَ فِي السَّامِعِينَا

ميمة ابن القيم رحمه الله

وَمَاذَا أؤمِّلُ أَوْ أَرْتَجِيه ... وَقَدْ جُزْتُ سَبْعًا عَلَى الأَرْبَعِينَا فَلَوْ كَانَ عَقْلِي مَعِي حَاضِرًا ... سَمِعْتُ لَعَمْرِي مِنْهُ أَنِينَا وَلَنْ يَبْرَحَ الْمَرْءُ فِي رَقْدَةٍ ... يَغِطُّ إِلَى أَنْ يُوَافِي الْمَنُونَا فَتُوقِظُهُ عِنْدَهَا رَوْعَةٌ ... يُقَطِّعُ مِنْهُ هُنَاكَ الْوَاتِينَا وَإِذْ ذَاكَ يَدْرِي بِمَا كَانَ فِيهِ ... وَتَجْلُو الْحَقَائِقُ مِنْهُ الظُّنُونَا اللَّهُمَّ أنظمنا في سلك حزبك المفلحين، وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك المخلصين وآمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مَعَ الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فصل) قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: إِذَا طَلَعَتْ شَمْسُ النَّهَارَ فَإِنَّهَا ... ???? ... أَمَّارَةُ تَسْلِيمِي عَلَيْكُمْ فَسَلِّمُوا ... ???? ... سَلامٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ ... ???? ... وَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَفَضْلٌ وَأَنْعُمُ ... ???? ... عَلَى الصَّحْبِ وَالإِخْوَانِ وَالْوِلْدِ وَالألى ... ???? ... رَعَاهُمُ بِإِحْسَانٍ فَجَادُوا وَأَنْعَمُوا ... ???? ... وَسَائِرِ من لِلسُّنَّةِ الْمَحْضَةِ اقْتَفَى ... ???? ... وَمَا زَاغَ عَنْهَا فَهُوَ حَقٌّ مُقَوَّمُ ... ???? ... أُولَئِكَ أَتْبَاعُ النَّبِيِّ وَحِزْبِهِ ... ???? ... وَلَوْلاهُمُ مَا كَانَ فِي الأَرْضِ مُسْلِمُ ... ›? ... ????

.. وَلَوْلاهُمُ كَادَتْ تَمِيدُ بِأَهْلِهَا ... ???? ... وَلَكِنْ رَوَاسِيهَا وَأَوْتَادُهَا هُمُ ... ???? ... وَلَوْلاهُمُ كَانَتْ ظَلامًا بِأَهْلِهَا ... ???? ... وَلاكِنَّهُمْ فِيهَا بِدُورٌ وَأَنْجُمُ ... ???? ... أُولَئِكَ أَصْحَابِي فَحَيَّ هَلاً بِهُمْ ... ???? ... وَحَيَّ هَلاً باِلطَّيِّبِينَ وَأَنْعُمُ ... ???? ... لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ سَلامٌ يَخُصُّهُ ... ???? ... يُبَلِّغُهُ الأَدْنَى إليه وَيَنْعَمُ ... ???? ... فَيَا مُحْسِنًا بَلِّغْ سَلامِي وَقُلْ لَهُمْ ... ???? ... مُحِبُّكُمُ يَدْعُو لَكُمْ وَيُسَلِّمُ ... ???? ... وَيَا لائِمِي فِي حُبِّهِمْ وَوَلائِهِمْ ... ???? ... تَأَمَّلْ هَدَاكَ اللهُ مَنْ هُوَ أَلْوَمُ ... ???? ... بَأَيِّ دَلِيلٍ أَمْ بِأَيَّةِ حُجَّةٍ ... ???? ... تَرَى حُبَّهُمْ عَارًا عَلَيَّ وَتَنْقِمُ ... ???? ... وَمَا الْعَارُ إِلا بُغْضُهُمْ وَاجْتِنَابُهُمْ ... ???? ... وَحُبُّ عِدَاهُمْ ذَاكَ عَارٌ وَمَأْثَمُ ... ???? ... أَمَا وَالَّذِي شَقَّ الْقُلُوبَ وَأَوْدَعَ الْـ ... ???? ... مَحَبَّةَ فِيهَا حَيْثُ لا تَتَصَرَّمُ ... ???? ... وَحَمَّلَهَا قَلْبَ الْمُحِبِّ وَإِنَّهُ ... ???? ... لِيَضْعُفُ عَنْ حَمْلِ الْقَمِيصِ وَيَأْلَمُ ... ???? ... وَذَلَّلَهَا حَتَّى اسْتَكَانَتْ لِصَوْلَةِ الْـ ... ???? ... مَحَبَّةِ لا تَلْوِي وَلا تَتَلَعْثَمُ ... ????

.. وَذَلَّلَ فِيهَا أَنْفُسًا دُونَ ذُلِّهَا ... ???? ... حِيَاضُ الْمَنَايَا فَوْقَهَا وَهِيَ حُوَّمُ ... ???? ... لأَنْتُمْ عَلَى قُرْبِ الدِّيَارِ وَبُعْدِهَا ... ???? ... أَحِبَّتُنَا إِنْ غِبْتُمُ أَوْ حَضَرْتُمُ ... ???? ... سَلُوا نَسَمَاتِ الرِّيحِ كَمْ قَدْ تَحَمَلَتْ ... ???? ... مَحَبَّةَ صَبِّ شَوْقِهِ لَيْسَ يُكْتَمُ!! ... ???? ... وَشَاهِدُ هَذَا أَنَّهَا فِي هَبُوبِهَا ... ???? ... تَكَادُ تَبُثُّ الْوِجْدَ لَوْ تَتَكَلَّمُ ... ???? ... وَكُنْتُ إِذَا مَا اشْتَدَّ بِي الشَّوْقُ وَالْجَوَى ... ???? ... وَكَادَتْ عُرَى الصَّبْرِ الْجَمِيلِ تَفَصَّمُ ... ???? ... أُعَلِّلُ نَفْسِي بِالتَّلاقِي وَقُرْبِهِ ... ???? ... وَأُوْهِمُهَا لَكِنَّهَا تَتَوَهَّمُ ... ???? ... وَأُتْبِعُ طَرْفِي وِجْهَةً أَنْتُمُ بِهَا ... ???? ... فَلِي بِحِمَاهَا مَرْبَعٌ وَمُخَيَّمُ ... ???? ... وَأَذْكُرُ بَيْتًا قَاله بَعْضُ مَنْ خَلا ... ???? ... وَقَدْ ضَلَّ عَنْهُ صَبْرُهُ فَهُوَ مُغْرَمُ ... ???? ... (أُسْائِلُ عَنْكُمْ كُلَّ غَادٍ وَرَائِحٍ ... ???? ... وَأُومِي إِلَى أَوْطَانِكُمْ وَأُسَلِّمُ) ... ???? ... وَكَمْ يَصْبِرِ الْمُشْتَاقُ عَمَّنْ يُحِبُّهُ ... ???? ... وَفِي قَلْبهُ نَارُ الأَسَى تَتَضَرَّمُ ... ???? ... أَمَّا وَالَّذِي حَجَّ الْمُحِبُّونَ بَيْتَهُ ... ???? ... وَلَبُّوا لَهُ عِنْدَ الْمَهَلِّ وَأَحْرَمُوا ... ????

.. وَقَدْ كَشَفُوا تِلْكَ الرُّؤُوسِ تَوَاضُعًا ... ???? ... لِعِزَّةِ مَنْ تَعْنُوا الْوُجُوهُ وَتَسْلِمُ ... ???? ... يُهِلُّونَ بِالْبِيدَاءِ لَبَّيْكَ رَبَّنَا ... ???? ... لَكَ الْمُلْكُ وَالْحَمْدُ الَّذِي أَنْتَ تَعْلَمُ ... ???? ... دَعَاهُمْ فَلَبُّوه رِضىً وَمَحَبَّةً ... ???? ... فَلَمَّا دَعَوْهُ كَانَ أَقْرَبَ مِنْهُمُ ... ???? ... تَرَاهُمْ عَلَى الإِنْضَاءِ شُعْثًا رُؤُوسُهُمْ ... ???? ... وَغُبْرًا وَهُمْ فِيهَا أَسَرُّ وَأَنْعَمُ ... ???? ... وَقَدْ فَارَقُوا الأَوْطَانَ وَالأَهْلَ رَغْبَةً ... ???? ... وَلَمْ يَثْنِهِمْ لَذَّاتُهُمْ وَالتَّنَعُّمُ ... ???? ... يَسِيرُونَ مِنْ أَقْطَارِهَا وَفِجَاجِهَا ... ???? ... رِجَالاً وَرُكْبَانًا وَلله أَسْلَمُوا ... ???? ... وَلَمَّا رَأَتْ أَبْصَارُهُمْ بَيْتَهُ الَّذِي ... ???? ... قُلُوبُ الْوَرَى شَوْقًا إليه تَضَرَّمُ ... ???? ... كَأَنَّهُمْ لََمْ يَنْصِبُوا قَطُّ قَبْلَهُ ... ???? ... لأَنَّ شَقَاهُمْ قَدْ تَرَحَّلَ عَنْهُمُ ... ???? ... فَلِلَّهِ كَمْ مِنْ عِبْرَةٍ مُهَرَاقَةٍ ... ???? ... وَأُخْرَى عَلَى آثَارِهَا تَتَقَدَّمُ ... ???? ... وَقَدْ شَرِقَتْ عَيْنُ الْمُحِبِّ بِدَمْعِهَا ... ???? ... فَيَنْظُرُ مِنْ بَيْنِ الدُّمُوعِ وَيُسْجِمُ ... ???? ... إِذَا عَايَنَتْهُ الْعَيْنُ زَالَ ظَلامُهَا ... ???? ... وَزَالَ عَنِ الْقَلْبِ الْكَئِيبِ التَّأَلُّمُ ... ????

.. وَلا يَعْرِفُ الطَّرْفُ الْمُعَاينُ حُسْنَهُ ... ???? ... إِلَى أَنْ يَعُودَ الطَّرْفُ وَالشَّوْقُ أَعْظَمُ ... ???? ... وَلا عَجَبٌ مِنْ ذَا فَحِينَ أَضَافَهُ ... ???? ... إِلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَنُ فَهُوَ الْمُعَظَّمُ ... ???? ... كَسَاهُ مِنَ الإِجْلالِ أَعْظَمَ حُلَّةٍ ... ???? ... عَلَيْهَا طِرَازٌ بِالْمَلاحَةِ مُعْلَمُ ... ???? ... فَمِنْ أَجْلِ ذَا كُلُّ الْقُلُوبِ تُحِبُّهُ ... ???? ... وَتَخْضَعُ إِجْلالاً لَهُ وَتُعَظِّمُ ... ???? ... وَرَاحُوا إِلَى التَّعْرِيفِ يَرْجُونَ رَحْمَةً ... ???? ... وَمَغْفِرَةً مِمَّنْ يَجُودُ وَيُكْرِمُ ... ???? ... فَلِلَّهِ ذَاكَ الْمَوْقِفُ الأَعْظَمُ الَّذِي ... ???? ... كَمَوْقِفِ الْعَرْضِ بَلْ ذَاكَ أَعْظَمُ ... ???? ... وَيَدْنُو بِهِ الْجَبَّارُ جَلَّ جَلاله ... ???? ... يُبَاهِي بِهِمْ أَمْلاكَهُ فَهُوَ أَكْرَمُ ... ???? ... يَقُولُ عِبَادِي قَدْ أَتَوْنِي مَحَبَّةً ... ???? ... وَإِنِّي بِهِمْ بَرٌّ أَجْوَدُ وَأَرْحَمُ ... ???? ... فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي غَفَرْتُ ذُنُوبَهُمْ ... ???? ... وَأَعْطَيْتُهُمْ مَا أَمَّلُوهُ وَأَنْعَمُ ... ???? ... فَبُشْرَاكُمْ يَا أَهْلَ ذَا الْمَوْقِفِ الَّذِي ... ???? ... بِهِ يَغْفِرُ اللهُ الذُّنُوبَ وَيَرْحَمُ ... ???? ... وَمَا رُؤِيَ الشَّيْطَانُ أَغْيَظُ فِي الْوَرَى ... ???? ... وَأَحْقَرَ مِنْهُ عِنْدَهَا وَهُوَ الأَمُ ... ????

.. وَذَاكَ لأَمْرٍ قَدْ رَآهُ فَغَاظَهُ ... ???? ... فَأَقْبَلَ يَحْثُو التُّرْبَ غَيْظًا وَيَلْطِمُ ... ???? ... وَمَا عَايَنْتَ عَيْنَاهُ مِنْ رَحْمَةٍ أَتَتْ ... ???? ... وَمَغْفِرَةٍ مِنْ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ تُقْسَمُ ... ???? ... بَنَى مَا بَنَى حَتَّى ظَنَّ أَنَّهُ ... ???? ... تَمَكَّنَ مِنْ بُنْيَانِهِ فَهُوَ مُحْكَمُ ... ???? ... أَتَى اللهُ بُنْيَانًا لَهُ مِنْ أَسَاسِهِ ... ???? ... فَخَرَّ عَلَيْهِ سَاقِطًا يَتَهَدَّمُ ... ???? ... وَكَمْ قَدْرَ مَا يَعْلُوا الْبِنَاءُ وَيَنْتَهِي ... ???? ... إِذَا كَانَ يَبْنِيهِ وَذُو الْعَرْشِ يَهْدِمُ!! ... ???? ... وَرَاحُوا إِلَى جَمْعٍ فَبَاتُوا بِمَشْعَرِ الْـ ... ???? ... حَرَامِ وَصَلُّوا الْفَجْرَ ثُمَّ تَقَدَّمُوا ... ???? ... إِلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى يُرِيدُونَ رَمْيَهَا ... ???? ... لِوَقْتِ صَلاةِ الْعِيدِ ثُمَّ تَيَمَّمُوا ... ???? ... مَنَازِلَهُمْ لِلنَّحْرِ يَبْغُونَ فَضْلَهُ ... ???? ... وَإِحْيَاءَ نُسْكٍ مِنْ أَبِيهِم يُعَظَّمُ ... ???? ... فَلَوْ كَانَ يُرْضِي اللهَ نَحْرُ نُفُوسِهِمْ لَدَانُوا بِهِ طَوْعًا وَلِلأَمْرِ سَلَّمُوا ... ???? ... كَمَا بَذَلُوا عِنْدَ الْجِهَادِ نُحُورَهُمْ ... ???? ... لأَعْدَائِهِ حَتَّى جَرَى مِنْهُمْ الدَّمُ ... ›? ... ???? ... وَلَكِنَّهُمْ دَانُوا بِوَضْعِ رُؤُوسِهِمْ ... ????

.. وَذَلِكَ ذُلٌّ لِلْعَبِيدِ وَمِيسَمُ ... ???? ... وَلَمَّا تَقَضَّوْا ذَلِكَ التَّفَثَ الَّذِي ... ???? ... عَلَيْهمْ وَأَوْفُوا نَذْرَهُمْ ثُمَّ تَمَّمُوا ... ???? ... دَعَاهُمْ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ زِيَارَةً ... ???? ... فَيَا مَرْحَبًا بِالزَّائِرِينَ وَأَكْرِمُ ... ???? ... فَلِلَّهِ مَا أَبْهَى زِيَارَتَهُمْ لَهُ!! ... ???? ... وَقَدْ حُصِّلَتْ تِلْكَ الْجَوَائِزُ تُقْسَمُ ... ???? ... وَللهِ إِفْضَالُ هُنَاكَ وَنِعْمَةٌ ... ???? ... وَبِرٌّ وَإِحْسَانٌ وَجُودٌ وَمَرْحَمُ ... ???? ... وَعَادُوا إِلَى تِلْكَ الْمَنَازِلِ مِنْ مِنَى ... ???? ... وَنَالُوا مُنَاهُمْ عِنْدَهَا وَتَنَعَّمُوا ... ???? ... أَقَامُوا بِهَا يَوْمًا وَيَوْمًا ثَالِثًا ... ???? ... وَأُذِّنَ فِيهِمْ بِالرَّحِيلِ وَأُعْلِمُوا ... ???? ... وَرَاحُوا إِلَى رَمْيِ الْجِمَارِ عَشِيَّةً ... ???? ... شِعَارُهُمْ التَّكْبِيرُ وَاللهُ مَعْهُمُ ... ???? ... فَلَوْ أَبْصَرْتَ عَيْنَاكَ مَوْقِفَهُمْ بِهَا ... ???? ... وَقَدْ بَسَطُوا تِلْكَ الأَكُفَّ لِيُرْحَمُوا ... ???? ... يُنَادُونَهُ يَا رَبُّ يَا رَبُّ إِنَّنَا ... ???? ... عَبِيدُكَ لا نَدْعُو سِوَاكَ وَتَعْلَمُ ... ???? ... وَهَا نَحْنُ نَرْجُو مِنْكَ مَا أَنْتَ أَهْلُهُ ... ???? ... فَأَنْتَ الَّذِي تُعْطِي الْجَزِيلَ وَتُنْعِمُ ... ???? ... وَلَمَّا تَقَضَّوْا مِنْ مِنَى كُلَّ حَاجَةٍ ... ????

.. وَسَالَتْ بِهِمْ تِلْكَ الْبِطَاحُ تَقَدَّمُوا ... ???? ... إِلَى الْكَعْبَةِ الْبَيْتَ الْحَرَامَ عَشِيَّةً ... ???? ... وَطَافُوا بِهَا سَبْعًا وَصَلُّوا وَسَلَّمُوا ... ???? ... وَلَمَّا دَنَا التَّوْدِيعُ مِنْهُمْ وَأَيْقَنُوا ... ???? ... بِأَنَّ التَّدَانِي حَبْلُهُ مُتَصَرِّمُ ... ???? ... وَلَمْ يَبْقَ إِلا وَقْفَةٌ لِمُوَدِّعٍ ... ???? ... فَلِلَّهِ أَجْفَانٌ هُنَالِكَ تَسْجُمُ!! ... ???? ... وَللهِ أَكْبَادٌ هُنَالِكَ أُودِعَ الْـ ... ???? ... غَرَامُ بِهَا!! فَالنَّارُ فِيهَا تَضَرَّمُ ... ???? ... وَللهِ أَنْفَاسٌ يَكَادُ بِحَرِّهَا ... ???? ... يَذُوبُ الْمُحِبُّ الْمُسْتَهَامُ الْمُتَيَّمُ ... ???? ... فَلَمْ تَرَ إِلا بَاهِتًا مُتَحَيِّرًا ... ???? ... وَآخِرَ يُبْدِي شَجْوَهُ يَتَرَنَّمُ ... ???? ... رَحَلْتُ وَأَشْوَاقِي إليكُمْ مُقِيمَةٌ ... ???? ... وَنَارُ الأَسَى مِنِّي تُشَبُّ وَتُضْرَمُ ... ???? ... أُوَدِّعُكُمْ وَالشَّوْقُ يَثْنِي أَعِنَّتِي ... ???? ... وَقَلْبِي أَمْسَى فِي حِمَاكُمْ مُخَيِّمُ ... ???? ... هُنَالِكَ لا تَثْرِيبَ يَوْمًا عَلَى امْرِئٍ ... ???? ... إِذَا مَا بَدَا مِنْهُ الَّذِي كَانَ يَكْتُمُ ... ???? ... فَيَا سَائِقِينَ الْعَيْسَ بِاللهِ رَبِّكُمْ ... ???? ... قِفُوا لِي عَلَى تِلْكَ الرُّبُوعِ وَسَلِّمُوا ... ???? ... وَقُولُوا مُحِبٌّ قَادَهُ الشَّوْقُ نَحْوَكُمْ ... ????

.. قَضَى نَحْبَهُ فِيكُمْ تَعِيشُوا وَتَسْلَمُوا ... ???? ... قَضَى اللهُ رَبُّ الْعَرْشِ فِيمَا قَضَى بِهِ ... ???? ... بِأَنَّ الْهَوَى يُعْمِي الْقُلُوبَ وَيُبْكِمُ ... ???? ... وَحُبُّكُمْ أَصْلُ الْهُدَى وَمَدَارُهُ ... ???? ... عَلَيْهِ وَفَوْزٌ لِلْمُحِبِّ وَمَغْنَمُ ... ???? ... وَتَفْنَى عِظَامُ الصَّبِّ بَعْدَ مَمَاتِهِ ... ???? ... وَأَشْوَاقُهُ وَقْفٌ عَلَيْهِ مُحَرَّمُ ... ???? ... فَيَا أَيُّهَا الْقَلْبُ الَّذِي مَلَكَ الْهَوَى ... ???? ... أَزِمَّتَهُ حَتَّى مَتَى ذَا التَّلوُّمُ؟! ... ???? ... وَحَتَّامَ لا تَصْحُوا؟! وَقَدْ قَرُبَ الْمَدَى ... ???? ... وَدُنَّتْ كُؤُوسُ السَّيْرِ وَالنَّاسُ نُوَّمُ ... ???? ... بَلَى سَوْفَ تَصْحُو حِينَ يَنْكَشِفُ الْغِطَا ... ???? ... وَيَبْدُو لَكَ الأَمْرُ الَّذِي أَنْتَ تَكْتُمُ ... ???? ... وَيَا مُوقِدًا نَارًا لِغَيْرِكَ ضَوْؤُهَا ... ???? ... وَحَرُّ لَظَاهَا بَيْنَ جَنْبَيْكَ يُضْرَمُ ... ???? ... أَهَذَا جَنَى الْعِلْمِ الَّذِي قَدْ رَضِيتَهُ ... ???? ... لِنَفْسِكَ فِي الدَّارَيْنِ جَاهٌ وَدِرْهَمُ؟! ... ???? ... وَهَذَا هُوَ الرِّبْحُ الَّذِي قَدْ كَسَبْتَهُ؟! ... ???? ... لعَمْرُكَ لا رِبْحٌ وَلا الأَصْلُ يَسْلَمُ!! ... ???? ... بَخِلْتَ بِشَيْءٍ لا يَضُرُّكَ بَذْلُهُ ... ???? ... وَجُدْتَ بِشَيْءٍ مِثْلُهُ لا يَقُومُ ... ???? ... بَخِلْتَ بِذَا الْحَظِّ الْخَسِيسِ دَنَاءَةً ... ????

.. وَجُدْتَ بِدَارِ الْخُلْدِ لَوْ كُنْتَ تَفْهَمُ ... ???? ... وَبِعْتَ نَعِيمًا لا انْقِضَاءَ لَهُ وَلا ... ???? ... نَظِيرَ بِبَخْسٍ عَن قَلِيلٍ سَيُعْدَمُ ... ???? ... فَهَلا عَكَسْتَ الأَمْرِ إِنْ كُنْتَ حَازِمًا ... ???? ... وَلَكِنْ أَضَعْتَ الْحَزْمَ لَوْ كُنْتَ تَعْلَمُ ... ???? ... وَتَهْدِمُ مَا تَبْنِي بِكَفِّكَ جَاهِدًا ... ???? ... فأَنْتَ مَدَى الأَيَّامِ تَبْنِي وَتَهْدِمُ ... ???? ... وَعِنْدَ مُرَادِ اللهِ تَفْنَى كَمَيِّتٍ ... ???? ... وعِنْدَ مُرَادِ النَّفْسِ تُسْدِي وَتُلْحِمُ ... ???? ... وَعِنْدَ خِلافِ الأَمْرِ تَحْتَجُّ بِالْقَضَا ... ???? ... ظَهِيرًا عَلَى الرَّحْمَنِ لِلْجَبْرِ تَزْعُمُ ... ???? ... تَنَزَّهُ مِنْكَ النَّفْسُ عَنْ سُوءِ فِعْلِهَا ... ???? ... وَتَعْتِبُ أَقْدَارَ الإِلَهِ وَتَظْلِمُ ... ???? ... تَحُلُّ أُمُورًا أَحْكَمَ الشَّرْعُ عَقْدَهَا ... ???? ... وَتَقْصُدُ مَا قَدْ حَلَّهُ الشَّرْعُ تُبْرِم ... ???? ... وَتَفْهَمُ مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ خِلافَ مَا ... ???? ... أَرَادَ لأَنْ الْقَلْبَ مِنْكَ مُعَجَّمُ ... ???? ... مُطِيعٌ لِدَاعِي الْغَيِّ عَاصٍ لِرُشْدِهِ ... ???? ... إِلَى رَبِّهِ يَوْمًا يُرَدُّ وَيَعْلَمُ ... ???? ... مُضِيعُ لأَمْرِ اللهِ قَدْ غَشَّ نَفْسَهُ ... ???? ... مُهِينٌ لَهَا أَنَّى يُحِبُّ وَيُكْرَمُ ... ???? ... بَطِيءٌ عَنْ الطَّاعَاتِ أَسْرَعُ لِلْخَنَا ... ????

.. مِنَ السَّيْلِ فِي مَجْرَاهُ لا يَتَقَسَّمُ ... ???? ... وَتَزْعُمُ مَعَ هَذَا بِأَنَّكَ عَارِفٌ ... ???? ... كَذَبْتَ يَقِينًا بِالَّذِي أَنْتَ تَزْعُمُ ... ???? ... وَمَا أَنْتَ إِلا جَاهِلٌ ثُمَّ ظَالِمٌ ... ???? ... وَأَنَّكَ بَيْنَ الْجَاهِلِينَ مُقَدَّمُ ... ???? ... إِذَا كَانَ هَذَا نُصْحُ عَبْدٍ لِنَفْسِهِ ... ???? ... فَمَنْ ذَا الَّذِي مِنْهُ الْهُدَى يُتَعَلَّمُ؟! ... ???? ... وَفِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ قَدْ قَالَ مَنْ مَضَى ... ???? ... وَأَحْسَنَ فِيمَا قَاله الْمُتَكَلِّمُ ... ???? ... (فَإِنْ كُنْتَ لا تَدْرِي فَتِلْكَ مُصِيبَةٌ ... ???? ... وَإِنْ كُنْتَ تَدْرِي فَالْمُصِيبَةُ أَعْظَمُ) ... ???? ... وَلَوْ تُبْصِرُ الدُّنْيَا وَرَاءَ سُتُورِهَا ... ???? ... رَأَيْتَ خَيالاً فِي مَنَامٍ سَيُصْرَمُ ... ???? ... كَحُلْمٍ بِطَيْفٍ زَارَ فِي النَّوْمِ وَانْقَضَى الْـ ... ???? ... مَنَامُ وَرَاحَ الطَّيْفُ وَالصَّبُّ مُغْرَمُ ... ???? ... وَظِلٍّ أَرَتْهُ الشَّمْسَ عِنْدَ طُلُوعِهَا ... ???? ... سَيَقْلُصُ فِي وَقْتِ الزَّوَالِ وَيَفْصِمُ ... ???? ... وَمُزْنَةِ صَيْفٍ طَابَ مِنْهَا مَقِيلُهَا ... ???? ... فَوَلَّتْ سَرِيعًا وَالْحُرُورُ تَضَرَّمُ ... ???? ... وَمَطْعَمِ ضَيْفٍ لَذَّ مِنْهُ مَسَاغُهُ ... ???? ... وَبَعْدَ قَلِيلٍ حَاله تِلْكَ تُعْلَمُ ... ???? ... كَذَا هَذِهِ الدُّنْيَا كَأَحْلامِ نَائِمٍ ... ????

.. وَمِنْ بَعْدِهَا دَارُ الْبَقَاءِ سَتَقْدَمُ ... ???? ... فَجُزْهَا مَمَرًّا لا مَقَرًّا وَكُنْ بِهَا ... ???? ... غَرِيبًا تَعْشِ فِيهَا حَمِيدًا وَتَسْلَمُ ... ???? ... أَوْ ابْنَ سَبِيلٍ قَالَ فِي ظِلِّ دَوْحَةٍ ... ???? ... وَرَاحَ وَخَلَّى ظِلَّهَا يَتَقَسَّمُ ... ???? ... أَخَا سَفَرٍ لا يَسْتَقِرُّ قَرَارُهُ ... ???? ... إِلَى أَنْ يَرَى أَوْطَانَهُ وَيُسْلِّمُ ... ???? ... فَيَا عَجَبًا!! كَمْ مَصْرَعٌ وَعَظَتْ بِهِ ... ???? ... بَنِيهَا!! وَلَكِنْ عَنْ مَصَارِعِهَا عَمُوا ... ???? ... سَقَتْهُمْ كُؤُوسَ الْحُبِّ حَتَّى إِذَا نَشَوْا ... ???? ... سَقَتْهُمْ كُؤُوسَ السُّمِّ وَالْقَوْمُ نُوَّمُ ... ???? ... وَأَعْجَبُ مَا فِي الْعَبْدِ رُؤْيَةُ هَذِهِ الْـ ... ???? ... عَظَائِمِ وَالْمَغْرُورُ فِيهَا مُتَيَّمُ ... ???? ... وَمَا ذَاكَ إِلا أَنَّ خَمْرَةَ حُبِّهَا ... ???? ... لَتَسْلِبُ عَقْلَ الْمَرْءِ مِنْهُ وَتَصْلِمُ ... ???? ... وَأَعْجَبُ مِنْ ذَا أَنَّ أَحْبَابَهَا الأُلَى ... ???? ... تَهِينُ وَلِلأَعْدَا تُرَاعِي وَتُكْرِمُ ... ???? ... وَذَلِكَ بُرْهَانٌ عَلَى أَنَّ قَدْرَهَا ... ???? ... جَنَاحُ بَعُوضٍ أَوْ أَدَقَّ وَأَلأَمُ ... ???? ... وَحَسْبُكَ مَا قَالَ الرَّسُولُ مُمَثِّلاً ... ???? ... لَهَا وَلِدَارِ الْخُلْدِ وَالْحَقُّ يُفْهَمُ ... ???? ... كَمَا يُدْلِيَ الإِنْسَانُ فِي اليمِّ أَصْبُعًا ... ????

.. وَيَنْزِعُهَا مِنْهُ فَمَا ذَاكَ يَغْنَمُ ... ???? ... أَلا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً ... ???? ... عَلَى حَذَرٍ مِنْهَا وَأَمْرِي مُبْرَمُ ... ???? ... وَهَلْ أَرِدَن مَاءَ الْحَيَاةِ وَأَرْتَوِي ... ???? ... عَلَى ظَمَأٍ مِنْ حَوْضِهِ وَهُوَ مُفْعَمُ ... ???? ... وَهَلْ تَبْدُونَ أَعْلامُهَا بَعْدَ مَا سَفَتْ ... ???? ... عَلَى رَبْعِهَا تِلْكَ السَّوَافِي فَتُعْلَمُ ... ???? ... وَهَلْ أَفْرِشَنْ خَدِّي ثَرَى عَتَبَاتِهِمْ ... ???? ... خُضُوعًا لَهُمْ كَيْمَا يَرِقُّوا وَيَرْحَمُوا ... ???? ... وَهَلْ أَرْمِينَ نَفْسِي طَرِيحًا بِبَابِهِمْ ... ???? ... وَطَيْرُ مَنَايَا الْحُبِّ فَوْقِي تُحَوِّمُ ... ???? ... فَيَا أَسَفِي تَفْنَى الْحَيَاةُ وَتَنْقَضِي ... ???? ... وَذَا الْعُتْبُ بَاقٍ مَا بَقِيتُمْ وَعِشْتُمُ ... ???? ... فَمَا مِنْكُمُ بُدَّ وَلا عَنْكُمُ غِنَى ... ???? ... وَمَا لِي مِنْ صَبْرٍ فَأَسْلُوَ عَنْكُمُ ... ???? ... وَمَنْ شَاءَ فَلْيَغْضَبْ سِوَاكُمْ فَلا إذًا ... ???? ... إِذَا كُنْتُمُ عَنْ عَبْدِكُمْ قَدْ رَضِيتُمُ ... ???? ... وَعُقْبَى اصْطِبَارِي فِي هَوَاكُمْ حَمِيدَةٌ ... ???? ... وَلَكِنَّهَا عَنْكُمْ عِقَابٌ وَمَأْثَمُ ... ???? ... وَمَا أَنَا بِالشَّاكِي لِمَا تَرْتَضُونَهُ ... ???? ... وَلَكِنَّنِي أَرْضَى بِهِ وَأُسَلَّمُ ... ???? ... وَحَسْبِي انْتِسَابِي مِنْ بَعِيدٍ إليكُمُ ... ????

.. أَلا إِنَّهُ حَظٌّ عَظِيمٌ مُفَخَّمُ ... ???? ... إِذَا قِيلَ هَذَا عَبْدُهُمْ وَمُحِبُّهُمْ ... ???? ... تَهَلَّلَ بِشْرًا وَجْهُهُ يَتَبَسَّمُ ... ???? ... وَهَا هُوَ قَدْ أَنْدَى الضَّرَاعَةَ سَائِلاً ... ???? ... لَكُمْ بِلِسَانِ الْحَالِ وَالْقَالِ مُعْلِمُ ... ???? ... أَحِبَّتَهُ عَطْفًا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ ... ???? ... لَمُظْمىً وَإِنَّ الْمَوْرِدَ الْعَذْبَ أَنْتُمُ ... ???? ... فَيَا سَاهِيًا فِي غَمْرَةِ الْجَهْلِ وَالْهَوَى ... ???? ... صَرِيعَ الأَمَانِي عَنْ قَرِيبٍ سَتَنْدَمُ ... ???? ... أَفِقْ قَدْ دَنَا الوَقْتُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ ... ???? ... سِوَى جَنَّةٍ أَوْ حَرٍّ نَارٍ تَضَرَّمُ ... ???? ... وَبِالسُّنَّةِ الْغَرَّاءِ كُنْ مُتَمَسِّكًا ... ???? ... هِيَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى الَّتِي لَيْسَ تُفْصَمُ ... ???? ... تَمَسَّكَ بِهَا مَسْكَ الْبَخِيلِ بِمَاله ... ???? ... وَعُضَّ عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ تَسْلَمُ ... ???? ... وَدَعْ عَنْكَ مَا قَدْ أَحْدَثَ النَّاسُ بَعْدَهَا ... ???? ... فَمُرْتَعُ هَاتِيكَ الْحَوَادِثِ أَوْخَمُ ... ???? ... وَهَيِءْ جَوَابًا عِنْدَمَا تَسْمَعُ النِّدَا ... ???? ... مِنَ اللهِ يَوْمَ الْعَرْضِ مَاذَا أَجَبْتُمُ ... ???? ... بِهِ رُسُلِي لَمَّا أَتَوْكُمْ فَمَنْ يَكُنْ ... ???? ... أَجَابَ سِوَاهُمْ سَوْفَ يُخْزَى وَيَنْدَمُ ... ???? ... وَخُذْ مِنْ تُقَى الرَّحْمَنِ أَعْظَمَ جُنَّةٍ ... ????

.. لِيَوْمٍ بِهِ تَبْدُو عِيَانًا جَهَنَّمُ ... ???? ... وَيُنْصَبُ ذَاكَ الْجِسْرُ مِنْ فَوْقِ مَتْنِهَا ... ???? ... فَهَاوٍ وَمَخْدُوشٌ وَنَاجٍ مُسَلَّمُ ... ???? ... وَيَأْتِي إِلَهُ الْعَالَمِينَ لِوَعْدِهِ ... ???? ... فَيَفْصُلُ مَا بَيْنَ الْعِبَادِ وَيَحْكُمُ ... ???? ... وَيَأْخُذُ لِلْمَظْلُومِ رَبُّكَ حَقَّهُ ... ???? ... فَيَا بُؤْسَ عَبْدٍ لِلْخَلائِقِ يَظْلِمُ!! ... ???? ... وَيُنْشَرُ دِيوَانُ الْحِسَابِ وَتُوضَعُ الْـ ... ???? ... مَوَازِينُ بِالْقِسْطِ الَّذِي لَيْسَ يَظْلِمُ ... ???? ... فَلا مُجْرِمٌ يَخْشَى ظَلامَةَ ذَرَّةٍ ... ???? ... وَلا مُحْسِنٌ مِنْ أَجْرِهِ ذَاكَ يُهْضَمُ ... ???? ... وَتَشْهَدُ أَعْضَاءُ الْمُسِيءِ بِمَا جَنَى ... ???? ... كَذَاكَ عَلَى فِيهِ الْمُهَيْمِنُ يَخْتِمُ ... ???? ... فَيَا لَيْتَ شِعْرِي!! كَيْفَ حَالُكَ عِنْدَمَا ... ???? ... تَطَايَرُ كُتُبُ الْعَالَمِينَ وَتُقْسَمُ؟! ... ???? ... أَتَأْخُذُ بِاليمْنَى كِتَابِكَ أَمْ تَكُنْ ... ???? ... بِالأُخْرَى وَرَاءَ الظَّهْرِ مِنْكَ تَسَلَّمُ ... ???? ... وَتقْرَأُ فِيهِ كُلُّ شَيْءٍ عَمِلْتَهُ ... ???? ... فَيُشْرِقُ مِنْكَ الْوَجْهُ أَوْ هُوَ يُظْلِمُ ... ???? ... تَقُولُ كِتَابِي فَاقْرَؤُوهُ فَإِنَّهُ ... ???? ... يُبَشِّرُ بِالْفَوْزِ الْعَظِيمِ وَيُعْلِمُ ... ???? ... وَإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى فَإِنَّكَ قَائِلٌ ... ????

.. أَلا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَهُ فَهُوَ مُغْرَمُ ... ???? ... فَبَادِرْ إِذَا مَا دَامَ فِي الْعُمْرِ فُسْحَةٌ ... ???? ... وَعَدْلُكَ مَقْبُولُ وَصَرْفُكَ قَيِّمُ ... ???? ... وَجُدَّ وَسَارِعْ وَاغْتَنِمْ زَمَنَ الصِّبَا ... ???? ... فَفِي زَمَنِ الإِمْكَانَ تَسْعَى وَتَغْنَمُ ... ???? ... وَسِرْ مُسْرِعًا فَالسَّيْلُ خَلْفُكَ مُسْرِعٌ ... ???? ... وَهَيْهَاتَ مَا مِنْهُ مَفَرٌّ وَمَهْزَمُ!! ... ???? ... (فَهُنَّ الْمَنَايَا أَيَّ وَادٍ نَزَلْتَهُ ... ???? ... عَلَيْهَا الْقُدُومُ أَوْ عَلَيْكَ سَتَقْدَمُ) ... ???? ... وَمَا ذَاكَ إِلا غَيْرَةٌ أَنْ يَنَالَهَا ... ???? ... سِوَى كُفْؤِهَا وَالرَّبُّ بِالْخَلْقِ أَعْلَمُ ... ???? ... وَإِنْ حُجِبَتْ عَنَّا بِكُلِّ كَرِيهَةٍ ... ???? ... وَحُفَّتْ بِمَا يُؤْذِي النُّفُوسَ وَيُؤْلِمُ ... ???? ... فَلِلَّهِ مَا فِي حَشْوِهَا مِنْ مَسَرَّةٍ ... ???? ... وَأَصْنَافِ لَذَّاتِ بِهَا يُتَنَعَّمُ!! ... ???? ... وَللهِ بَرْدُ الْعَيْشِ بَيْنَ خِيَامِهَا ... ???? ... وَرَوْضَاتِهَا وَالثَّغْرُ فِي الرَّوْضِ يَبْسِمُ ... ???? ... فَلِلَّهِ وَادِيهَا الَّذِي هُوَ مَوْعِدُ الْـ ... ???? ... مَزِيدِ لِوَفْدِ الْحُبِّ لَوْ كُنْتَ مِنْهُمُ ... ???? ... بِذَيَّالِكَ الْوَادِي يَهِيمُ صَبَابَةً ... ???? ... مُحِبٌّ يَرَى أَنَّ الصَّبَابَةَ مَغْنَمُ! ... ???? ... وَللهِ أَفْرَاحُ الْمُحِبِّينَ عِنْدَمَا ... ????

.. يُخَاطِبُهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيُسَلِّمُ ... ???? ... وَللهِ أَبْصَارٌ تَرَى اللهَ جَهْرَةً ... ???? ... فَلا الضَّيْمُ يَغْشَاهَا وَلا هِيَ تَسْأَمُ ... ???? ... فَيَا نَظْرَةً أَهْدَتْ إِلَى الْوَجْهِ نَضْرَةً ... ???? ... أَمِنْ بَعْدِهَا يَسْلُو الْمُحِبُّ الْمُتَيَّمُ؟ ... ???? ... وَللهِ كَمْ مِنْ خَيْرَةٍ لَوْ تَبَسَّمَتْ ... ???? ... أَضَاءَ لَهَا نُورٌ مِنْ الْفَجْرِ أَعْظَمُ ... ???? ... فَيَا لَذَّةَ الأَبْصَارِ إِنْ هِيَ أَقْبَلَتْ ... ???? ... وَيَا لَذَّةَ الأَسْمَاعِ حِينَ تَكَلَّمُ ... ???? ... وَيَا خَجْلَةَ الْغُصْنِ الرَّطِيبِ إِذَا انْثَنَتْ ... ???? ... وَيَا خَجْلَةَ الْبَحْرَيْنِ حِينَ تَبَسَّمُ؟؟ ... ???? ... فَإِنْ كُنْتَ ذَا قَلْبٍ عَلِيلٍ بِحُبِّهَا ٌ ... ???? ... فَلَمْ يَبْقَ إِلا وَصْلُهَا لَكَ مَرْهَمُ ... ???? ... وَلاسِيَّمَا فِي لَثْمِهَا عِنْدَ ضَمِّهَا ... ???? ... وَقَدْ صَارَ مِنْهَا تَحْتَ جِيدِكَ مِعْصَمُ ... ???? ... يَرَاهَا إِذَا أَبْدَتْ لَهُ حُسْنَ وَجْهِهَا ... ???? ... يَلَذُّ بِهَا قَبْلَ الْوِصَالِ وَيَنْعَمُ ... ???? ... تَفَكَّهُ مِنْهَا الْعَيْنُ عِنْدَ اجْتِلائِهَا ... ???? ... فَوَاكِهَ شَتَّى طَلْعُهَا لَيْسَ يُعْدِمُ ... ???? ... عَنَاقِدُ مِنْ كَرْمٍ وَتُفَّاحُ جَنَّةٍ ... ???? ... وَرُمَّانُ أَغْصَانٍ بِهَا الْقَلْبُ مُغْرَمُ ... ???? ... وَلِلْوَرْدِ مَا قَدْ أَلْبِسْتَهُ خُدُودُهَا ... ????

.. وَلِلْخَمْرِ مَا قَدْ ضَمَّهُ الرِّيقُ وَالْفَمُ ... ???? ... تَقَسَّمَ مِنْهَا الْحُسْنُ فِي جَمْعِ وَاحِدٍ ... ???? ... فَيَا عَجَبًا مِنْ وَاحِدٍ يَتَقَسَّمُ ... ???? ... تُذَكِّرُ بِالرَّحْمَنِ مَنْ هُوَ نَاظِرٌ ... ???? ... فَيَنْطِقُ بِالتَّسْبِيحِ لا يَتَلَعْثَمُ ... ???? ... لَهَا فِرَقٌ شَتَّى مِنَ الْحُسْنِ أَجْمَعَتْ ... ???? ... بِجُمْلَتِهَا إِنَّ السُّلُوَّ مُحْرَّمُ ... ???? ... إِذَا قَابَلَتْ جَيْشَ الْهُمُومِ بِوَجْهِهَا ... ???? ... تَوَلَّى عَلَى أَعْقَابِهِ الْجَيْشُ يُهْزَمُ ... ???? ... فَيَا خَاطِبَ الْحَسْنَاءِ إِنْ كُنْتَ رَاغِبًا ... ???? ... فَهَذَا زَمَانُ الْمَهْرِ فَهُوَ الْمُقَدَّمُ ... ???? ... وَلَمَّا جَرَى مَاءَ الشَّبَابِ بِغُصْنِهَا ... ???? ... تَيَقَّنَ حَقًّا أَنَّهُ لَيْسَ يَهْرَمُ ... ???? ... وَكُنْ مُبْغِضًا لِلْخَائِنَاتِ لِحُبِّهَا ... ???? ... لِتُحْظَى بِهَا مِنْ دُونِهِنَّ وَتَنْعَمُ ... ???? ... وَكُنْ أَيَّمَا مِمَّا سِوَاهَا فَإِنَّهَا ... ???? ... لِمِثْلِكَ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ تَأَيَّمُ ... ???? ... وَصُمْ يَوْمَكَ الأَدْنَى لَعَلَّكَ فِي غَدٍ ... ???? ... تَفُوزُ بِعِيدِ الْفِطْرِ وَالنَّاسُ صُوَّمُ ... ???? ... وَأَقْدَمْ وَلا تَقْنَعْ بِعَيْشٍ مُنَغَّصٍ ... ???? ... فَمَا فَازَ بِاللَّذَاتِ مَنْ لَيْسَ يُقْدِمُ ... ???? ... وَإِنْ ضَاقَتْ الدُّنْيَا عَلَيْكَ بِأَسْرِهَا ... ????

.. وَلَمْ يَكُ فِيهَا مَنْزِلٌ لَكَ يُعْلَمُ ... ???? ... فَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا ... ???? ... مَنَازِلُكَ الأُولَى وَفِيهَا الْمُخِيَّمُ ... ???? ... وَلَكِنَّنَا سَبْيُ الْعَدُوِّ فَهْلَ تَرَى ... ???? ... نُرَدُّ إِلَى أَوْطَانِنَا وَنُسَلِّمُ ... ???? ... وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ الْغَرِيبَ إِذَا نَأَى ... ???? ... وَشَطَّتْ بِهِ أَوْطَانُهُ فَهُوَ مُغْرَمُ ... ???? ... وَأَيُّ اغْتِرَابٍ فَوْقَ غُرْبَتِنَا الَّتِي ... ???? ... لَهَا أَضْحَتْ الأَعْدَاءُ فِينَا تَحَكَّمُ ... ???? ... وَحَيَّ عَلَى رَوْضَاتِهَا وَخِيَامِهَا ... ???? ... وَحَيَّ عَلَى عَيْشٍ بِهَا لَيْسَ يَسْأَمُ ... ???? ... وَحَيَّ عَلَى السُّوقِ الَّذِي يَلْتَقِي بِهِ الْـ ... ???? ... مُحِبُّونَ ذَاكَ السُّوقُ لِلْقَوْمِ يُعْلَمُ ... ???? ... فَمَا شِئْتَ خُذْ مِنْهُ بِلا ثَمَنٍ لَهُ ... ???? ... فَقَدْ أَسْلَفَ التُّجَّارُ فِيهِ وَأَسْلَمُوا ... ???? ... وَحَيَّ عَلَى يَوْمِ الْمَزِيدِ فَإِنَّهُ ... ???? ... لِمَوْعِدُ أَهْلِ الْحُبِّ حِينَ يُكَرَّمُوا ... ???? ... وَحَيَّ عَلَى وَادٍ هُنَالِكَ أَفْيَحٍ ... ???? ... وَتُرْبَتُهُ مِنْ أَذْفَرِ الْمِسْكِ أَعْظَمُ ... ???? ... مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ هُنَاكَ وَفِضَّةٍ ... ???? ... وَمِنْ خَالِصِ الْعِقْيَانِ لا تَتَفَصَّمُ ... ???? ... وَمِنْ حَوْلِهَا كُثْبَانُ مِسْكٍ مَقَاعِدُ ... ????

.. لِمَنْ دُونَهُمْ هَذَا الْعَطَاءُ الْمُفَخَّمُ ... ???? ... يَرَوْنَ بِهِ الرَّحْمَنَ جَلَّ جَلاله ... ???? ... كَرُؤْيَةِ بَدْر التِّم لا يُتَوَهَّمُ ... ???? ... كَذَا الشَّمْسُ صَحْوًا لَيْسَ مِنْ دُونِ أُفِقْهَا ... ???? ... سَحَابٌ وَلا غَيْمٌ هُنَاكَ يُغَيِّمُ ... ???? ... فَبَيْنَاهُمْ فِي عَيْشِهِمْ وَسُرُورِهِمْ ... ???? ... وَأَرْزَاقُهُمْ تَجْرِي عَلَيْهِمْ وَتُقْسَمُ ... ???? ... إِذَا هُمْ بِنُورٍ سَاطِعٍ قَدْ بَدَا لَهُمْ ... ???? ... وَقَدْ رَفَعُوا أَبْصَارَهُمْ فَإِذَا هُمُ ... ???? ... بِرَبِّهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ قَائِلٌ لَهُمْ: ... ???? ... سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمُ وَنَعِمْتُمُ ... ???? ... سَلامٌ عَلَيْكُمْ يَسْمَعُونَ جَمِيعُهُمْ ... ???? ... بِآذَانِهِمْ تَسْلِيمَهُ إِذْ يُسَلِّمُ ... ???? ... يَقُولُ سَلُونِي مَا اشْتَهَيْتُمْ فَكُلَّ مَا ... ???? ... تُرِيدُونَ عِنْدِي إِنَّنِي أَنَا أَرْحَمُ ... ???? ... فَقَالُوا جَمِيعًا نَحْنُ نَسْأَلُكَ الرِّضَى ... ???? ... فَأَنْتَ الَّذِي تُولِي الْجَمِيلَ وَتَرْحَمُ ... ???? ... فَيُعْطِيهِمُ هَذَا وَيُشْهِدُ جَمْعَهُمْ ... ???? ... عَلَيْهِ تَعَالَى اللهُ فَاللهُ أَكْرَمُ ... ???? ... فَبِاللهِ مَا عُذْرُ امْرِئٍ هُوَ مُؤْمِنٌ ... ???? ... بِهَذَا وَلا يَسْعَى لَهُ وَيُقَدِّمُ؟! ... ???? ... وَلَكِنَّمَا التَّوْفِيقُ بِاللهِ إِنَّهُ ... ????

.. يَخُصُّ بِهِ مَنْ شَاءَ فَضْلاً وَيَنْعَمُ ... ???? ... فَيَا بَائِعًا غَالٍ بِبَخْسٍ مُعَجَّلٍ ... ???? ... كَأَنَّكَ لا تَدْرِي بَلَى سَوْفَ تَعْلَمُ ... ???? ... فَقَدِّمْ فَدَتْكَ النَّفْسُ نَفْسَكَ إِنَّهَا ... ???? ... هِيَ الثَّمَنُ الْمَبْذُولُ حِينَ تُسَلَّمُ ... ???? ... وَخُضْ غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَارْقَ مَعَارِجَ الْـ ... ???? ... مَحَبَّةِ فِي مَرْضَاتِهِمْ تَتَسَنَّمُ ... ???? ... وَسَلَّمْ لَهُمْ مَا عَاقَدُوكَ عَلَيْهِ إِنْ ... ???? ... تُرِدْ مِنْهُمْ أَنْ يَبْذِلُوا وَيُسْلَّمُوا ... ???? ... فَمَا ظَفِرَتْ بِالْوَصْلِ نَفْسٌ مُهَيْنَةٌ ... ???? ... وَلا فَازَ عَبْدٌ بِالْبَطَالَةِ يَنْعَمُ ... ???? ... وَإِنْ تَكُ قَدْ عَاقَتْكَ سُعْدَى فَقَلْبُكَ الْـ ... ???? ... مُعَنى رَهِينٌ فِي يَدَيْهَا مُسَلَّمُ ... ???? ... وَقَدْ سَاعَدَتْ بِالْوَصْلِ غَيْرَكَ فَالْهَوَى ... ???? ... لَهَا مِنْكَ وَالْوَاشِي بِهَا يَتَنَعَّمُ ... ???? ... فَدَعْهَا وَسَلِّ النَّفْسَ عَنْهَا بِجَنَّةٍ ... ???? ... مِنَ الْعِلْمِ فِي رَوْضَاتِهَا الْحَقُّ يَبْسِمُ ... ???? ... وَقَدْ ذُلِّلَتْ مِنْهَا الْقُطُوفُ فَمَنْ يُرِدْ ... ???? ... جَنَاهَا يَنَلْهُ كَيْفَ شَاءَ وَيَطْعَمُ ... ???? ... وَقَدْ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَتَزَيَّنَتْ ... ???? ... لِخُطَّابِهَا فَالْحُسْنُ فِيهَا مُقَسَّمُ ... ???? ... وَقَدْ طَابَ مِنْهَا نَزْلُهَا وَنَزِيلُهَا ... ????

الشفاعة العظمى وما يتعلق بها وبعد قصيديه في مدح

.. فَطُوبَى لِمَنْ حَلُّوا بِهَا وَتَنَعَّمُوا ... ???? ... أَقَامَ عَلَى أَبْوَابِهَا دَاعِي الْهُدَى ... ???? ... هَلِمُّوا إِلَى دَارِ السَّعَادَةِ تَغْنَمُوا ... ???? ... وَقَدْ غَرَسَ الرَّحْمَنُ فِيهَا غِرَاسَةً ... ???? ... مِنَ النَّاسِ وَالرَّحْمَنُ بِالْخَلْقِ أَعْلَمُ ... ???? ... وَمَنْ يَغْرِسِ الرَّحْمَنُ فِيهَا فَإِنَّهُ ... ???? ... سَعِيدٌ وَإِلا فَالشَّقَاءُ مُحَتَّمُ ... ›? ... ???? اللَّهُمَّ وفقنا لقول الحق وإتباعه وخلصنا من وساوس قلوبنا الحاملة على التورط في هوة الْبَاطِل وابتداعه واجعل إيماننا إيمانًا خالصًا صادقًا قويًا وكن لنا مؤيدًا ولا تجعل لفاجر عَلَيْنَا يدًا واجعل عيشنا عيشًا رغدًا. ولا تشمت بنا عدوًا ولا حاسدًا وارزقنا في محبتك علمًا نافعًا ورزقًا واسعًا وعملاً متقبلاً وحفظًا كاملاً وفهمًا ذكيًا وطبعًا صفيًا وأدبًا مرضيًا، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) في الشفاعة العظمى تأمل ما في حديث الشفاعة العظمى الَّذِي رواه أَبُو هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: كنا مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دعوة، فرفع إليه الذراع - وكانت تعجبه - فنهس منها نهسة وَقَالَ: «أَنَا سيد النَّاس يوم القيامة هل تدرون مم ذاك؟ يجمَعَ الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيبصرهم الناظر، ويسمعهم الداعي، وتدنوا مِنْهُمْ الشمس، فيبلغ النَّاس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فَيَقُولُ النَّاس: ألا ترون إلى ما أنتم فيه وإلى ما بلغكم، ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فَيَقُولُ بعض النَّاس لبعض: أبوَكَمْ آدم، فيأتونه فيقولون: يا آدم أَنْتَ أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك الْجَنَّة، ألا تشفع لنا إلى ربك؟ ألا تَرَى ما نَحْنُ فيه وما

بلغنا؟ فَقَالَ: إن رَبِّي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي، نفسي، نفسي اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوح أَنْتَ أول رسول إلى أَهْل الأَرْض، وقَدْ سماك الله عبدًا شكورًا، ألا تَرَى إلى ما بلغنا؟ ألا تشفع لنا إلى ربك؟ فيقول: إن رَبِّي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قَدْ كَانَ لي دعوة دعوت بها على قومي، نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقولون: أَنْتَ نَبِيّ اللهِ وخليله من أَهْل الأَرْض، اشفع لنا إلى ربك، ألا تَرَى ما نَحْنُ فيه؟ فَيَقُولُ لَهُمْ: إن رَبِّي قَدْ غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني كنت كذبت ثلاث كذبات، فذكرها، نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى مُوَسى، فيأتون مُوَسى فيقولون: يا مُوَسى أَنْتَ رسول الله فضلك الله برسالاته وبكلامه على النَّاس، اشفع لنا إلى ربك، أما تَرَى إلى ما نَحْنُ فيه؟ فَيَقُولُ: إن رَبِّي قَدْ غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قَدْ قتلت نفسًا لم أومر بقتلها، نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى، فيقولون: أَنْتَ رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، وكلمت النَّاس في المهد، اشفع لنا عِنْد ربك، ألا تَرَى إلى ما نَحْنُ فيه؟ فَيَقُولُ عيسى: إن رَبِّي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنبًا، نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيأتون فيقولون: يا محمدًا أَنْتَ رسول الله، وخاتم الأنبياء، وقَدْ غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا تَرَى إلى ما نَحْنُ فيه؟ فأنطلق فآتي العرش فأقع ساجدًا لرَبِّي، ثُمَّ يفتح الله علي من محامده، وحسن الثناء عَلَيْهِ شَيْئًا لم يفتحه على أحد قبلي، ثُمَّ يُقَالُ يا مُحَمَّد ارفع رأسك، سل تعطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأَقُول: أمتي يا رب، يا رب أمتي يا رب، فَيُقَالُ: يا مُحَمَّد أدخل من أمتك لا حساب عَلَيْهمْ من الْبَاب الأيمن من أبواب الْجَنَّة، وهم شركاء النَّاس فيما

رب العزة تبارك وتعالى

سِوَى ذَلِكَ من الأبواب، - ثُمَّ قال -: والَّذِي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الْجَنَّة كما بين مَكَّة وهجر، أو كما بين مَكَّة وبصرى» . رواه البخاري، ومسلم. وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ. اللَّهُمَّ توفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. شِعْرًا: ... إِلَهُ الْعَالَمِينَ وَكُلِّ أَرْضٍ ... وَرَبُّ الرَّاسِيَاتِ مِنَ الْجِبالِ بَناهَا وَاِبْتَنَى سَبْعًا شِدَادًا بِلا عَمَدٍ يُرَيْنَ وَلا رِجَالِ وَسَوَّهَا وَزَيَّنَهَا بِنُورٍ مِنَ الشَّمْسِ الْمُضِيئَةِ وَالْهِلالِ وَمِنْ شُهُبٍ تَلألأُ فِي دُجَاهَا مَرَامِيهَا أَشَدُّ مِنَ النِّصَالِي وَشَقَّ الأَرْضَ فَاِنْبَجَسَتْ عُيُونًا وَأَنْهَارًا مِنَ الْعَذْبِ الزِّلالِ وَبارَكَ فِي نَوَاحِيهَا وَزَكَّى بِهَا مَا كَانَ مِنْ حَرْثٍ وَمَالِ فَكُلُّ مُعَمَّرٍ لا بُدَّ يَوْمًا وَذِي دُنْيَا يَصِيرُ إِلَى الزَّوَالِ ... ›?

فصل في مجيء جهنم إلى الموقف أيات حول هذا الموضوع تكاد

.. وَيَفْنَى بَعْدَ جِدَّتِهِ وَيَبْلَى سِوَى الْبَاقِي الْمُقَدَّسِ ذِي الْجَلالِ وَسِيقَ الْمُجْرِمُونَ وَهُمْ عُرَاةٌ إِلَى ذَاتِ السَّلاسِلِ وَالنَّكَالِ فَنَادَوْا وَيْلَنَا وَيْلاً طَوِيلاً وَعَجُّوا فِي سَلاسِلِهَا الطِّوَالِ فَلَيْسُوا مَيِّتِينَ فَيَسْتَرِيحُوا وَكُلُّهُمُ بَحَرِّ النَّارِ صَالِ وَحَلَّ الْمُتَّقُونَ بِدَارِ صِدْقٍ وَعَيْشٍ نَاعِمٍ تَحْتَ الضِّلالِ لَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ وَمَا تَمَنُّوا مَنَ الأفْرَاحِ فِيهَا وَالكَمَالِ ... ›? اللَّهُمَّ يا مثَبِّتْ القُلُوب ثَبِّتْ محبتك في قلوبنا وقوها ووفقنا لمحبة أوليائك وبغض أعدائك ويسرنا لليسرى وجنبنا العسرى وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين وبِكِتَابِكَ وبرسلك مقتدين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ. اللَّهُمَّ وفقنا توفيقًا يقينًا عن معاصيك ووفقنا للعمل بما يرضيك، وارزقنا محبتك ومحبة من يحبك، وبغض من يعاديك، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. فَصْلٌ: وتأمل إذا جيء بجهنم إلى الموقف، تقاد بسبعين ألف زمام مَعَ كُلّ زمام سبعون ألف ملك يجرونها، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ

لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} ، وَقَالَ: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً} ، {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} ، وَقَالَ: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أليس هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين} . في ذَلِكَ الوَقْت يتذكر الإِنْسَان سعيه، ويستحضر إن كانَتْ أحوال الدُّنْيَا وشواغل المتاع أغفلته وأنسته، أيًّا كَانَ يتذكره، ويستحضره، ولكن حيث لا يفيد التذكر والاستحضار إِلا الحَسْرَة والندامة، وتصور ما وراء ذَلِكَ من الْعَذَاب والبلوى. وَقَالَ في آية ق: {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} قوي لا يحجبه حجاب، وهَذَا هُوَ الموعد الَّذِي غفلت عَنْهُ، وهَذَا هُوَ الموقف الَّذِي لم تحسب له حسابه، وهذه هِيَ النهاية التي كنت لا تتوقعها، ولا تهتم لها وتستهين بها في الدُّنْيَا فالآن فَانْظُرْ {فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ} ، وفي الآيَة الأخرى يَقُولُ تَعَالَى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ اليوم فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} .

تتصدع لها القلوب جهنم لها عينان وذكر علماء السوء والمصورين

وعن ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام، مَعَ كُلّ زمام سبعون ألف ملك يجرونها» . رواه مسلمٌ. فبينما النَّاس في الكروب والأهوال والشدائد سمعوا لها زفيرًا وجرجرةً. تفصح عن شدة الغيظ والْغَضَب، فعِنْد ذَلِكَ أيقن المجرمون بالعطب، وجثت الأمم على الركب، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} ، ثَبِّتْ عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «من كذب علي متعمدًا فليتبوء بين عيني جهنم مقعدًا» قَالُوا: وهل لها من عينين؟ قال: «نعم ألم تسمعوا قول الله تَعَالَى: {إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} قيل: المكَانَ الْبَعِيد مسيرة مائة عام، وقيل خمسمائة عام، وَذَلِكَ إذا أتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، يشد بكل زمام سبعون ألف ملك، لو تركت لأتت على كُلّ بر وفاجر» . وأخَرَجَ الترمذي من حديث أَبِي هُرَيْرَةِ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يخَرَجَ عنق من النار يوم القيامة له عينان يبصران وأذنان يسمعا، ولسان ينطق، يَقُولُ: إني وكلت بثلاثة، بمن جعل مَعَ الله إلهًا آخر، وبكل جبار عنيد، وبالمصور» . وعن ابن عباس قال: إن الْعَبْد ليجر إلى النار، فتشهق إليه شهقة البغلة إلى الشعير، ثُمَّ تزفر زفرة لا يبقى أحد إِلا خاف» . هكَذَا رواه ابْن أَبِي حَاتِم مختصرًا. وعن ابن مسعود قال: إذا بقى في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من نار، فيها مسامير من نار، ثُمَّ جعلت تلك التوابيت في توابيت من نار، ثُمَّ جعلت تلك التوابيت في توابيت من نور، ثُمَّ قذفوا في نار

أول الناس يقضى بينهم وأول من تسعر بهم النار

الجحيم، فيرون أنه لا يعذب في النار غيرهم، ثُمَّ تلا ابن مسعود {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً} . وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الكافر ليرى جهنم فيظن أنها مواقعته من مسيرة أربعمائة سنة» . ليكون ذَلِكَ من باب تعجيل الهم والحزن لَهُمْ، فإن توقع الْعَذَاب والخوف منه قبل وقوعه عذاب ناجز، وَقَالَ تَعَالَى: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} الآيات، أي يكاد بعضها ينفصل عن بعض من شدة غيظها عَلَيْهمْ، وحنقها بِهُمْ، وبعد قذفهم بها تغلي بِهُمْ، كما يغلي الحب القليل في الماء الكثير، قاله الْعُلَمَاء. واعْلَمْ أن أول من تسعر بِهُمْ جهنم من ذكروا في ما ورد عن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: الله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن أول ناس يقضى بينهم يوم القيامة رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يُقَالُ جريء، فقَدْ قيل، ثُمَّ أمر به فسحب على وجهه، ثُمَّ ألقى في النار ورجل تعلم العلم وعلمه، وقَرَأَ القرآن، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليُقَالُ عَالِم، وقرأت القرآن ليُقَالُ هُوَ قارئ، فقَدْ قيل، ثُمَّ أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عَلَيْهِ وأعطاه من أصناف الْمَال كله فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إِلا أنفقت فيها لك، قال

كذبت ولكنك فعلت ليُقَالُ هُوَ جواد، فقَدْ قيل، ثُمَّ أمر به فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار» أخرجه مسلم. والترمذي بمعناه، وَقَالَ معاذ بن جبل وذكر علماء السُّوء: من إذا وعظ عنف، أو وعظ أنف، فذاك في أول درك من النار، ومن الْعُلَمَاء من يأخذ علمه مأخذ السُّلْطَان فذَلِكَ في الدرك الثاني من النار، ومن الْعُلَمَاء من يحرز علمه، فذَلِكَ في الدرك الثالث من النار، ومن الْعُلَمَاء من يتخَيْر الكلام والعلم لوجوه النَّاس، ولا يرى سفلة النَّاس له مَوْضِعًا، فذَلِكَ في الدرك الرابع، ومن الْعُلَمَاء من يتكلم كلام اليهود والنَّصَارَى وأحاديثهم، ليكثر حديثهم، فذَلِكَ في الدرك الخامس من النار، ومن الْعُلَمَاء من ينصب نَفْسهُ للفتيا، يَقُولُ للناس: سلوني، فذَلِكَ الَّذِي يكتب عِنْد الله متَكَلُّفًا، والله لا يحب المتكلفين، فذَلِكَ في الدرك السادس من النار، ومن الْعُلَمَاء من يتخذ علمه مروءة وعقلاً، فذَلِكَ في الدرك السابع من النار، ذكره غير واحد من الْعُلَمَاء. قال القرطبي: مثله لا يكون رأيًا، وإنما يدرك توقيفًا. وفي حديث ذكره أسد بن مُوَسى أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن في جهنم لواديًا، جهنم لتتعوذ من شر ذَلِكَ الوادي كُلّ يوم سبع مرات، وإن في ذَلِكَ الوادي لجبًا، إن جهنم وَذَلِكَ الوادي ليتعوذان بِاللهِ من شر ذَلِكَ الجب، وإن في ذَلِكَ الجب لحية، إن جهنم والوادي وَذَلِكَ الجب ليتعوذون من شر تلك الحية، أعدها الله للأشقياء من حملة القرآن» . ... لأَمْرٍ مَا تَصَدَّعَتِ الْقُلُوبُ ... وَبَاحَ بِسِرِّهَا دَمْعٌ سَكِيبُ وَبَاتَتْ فِي الْجَوَانِحِ نَارُ ذِكْرَى ... لَهَا مِنْ خَارِجٍ أَثَرٌ عَجِيبُ وَمَا خَفَّ اللَّبِيبُ لِغَيْرِ شَيْءٍ ... وَلا أَعْيَا بِمَنْطِقِهِ الأَرِيبُ ذَرَاهُ لائِمَاهُ فَلا تَلُومَا ... فَرُيَّتَ لأئِمٍ فِيهِ يَحُوبُ

رَأَى الأَيَّامَ قَدْ مَرَّتْ عَلَيْهِ ... مُرُورَ الرِّيحِ يَدْفَعُهَا الْهَبُوبُ وَمَا نَفَسٌ يَمُرُّ عَلَيْهِ إِلا ... وَمِنْ جُثْمَانِهِ فِيهِ نَصِيبُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ لَوْ يَدْرِي مَقَامٌ ... بِهِ الْوِلْدَانُ مِنْ رَوْعِ تَشِيبُ وَهَذَا الْمَوْتُ يُدْنِيهِ إليه ... كَمَا يُدْنِي إِلَى الْهَرَمِ الْمَشِيبُ مَقَامٌ تُسْتَلَذُّ بِهِ الْمَنَايَا ... وَتُدْعَى فِيهِ لَوْ كَانَتْ تَجِيبُ وَمَاذَا الْوَصْفُ بَالِغُهُ وَلَكِنْ ... هِيَ الأَمْثَالُ يَفْهَمُهَا اللَّبِيبُ وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ. (فَصْلٌ) فما ظنك أيها المهمل المفرط في عمره بسكَانَ هذه الدار، ضيقة الأرجَاءَ، مظلمة المسالك، مبهمة المهالك، يخلد فيها الأسير، ويوقَدْ فيها السعير، طعام أهلها الزقوم، وشرابهم الحميم، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} والنزل هُوَ ما يعد للضيف عِنْد قدومه، فدلت هذه الآيات على أن أَهْل النار يتحفون عِنْد دخولها بالأكل من شجرة الزقوم، والشراب من الحميم، وهم إنما يساقون إليها عطاشًا، كما قال تَعَالَى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} ، قال أبو عمران الجوني بلغنا أن أَهْل النار يبعثون عطاشًا يقفون في مشاهد القيامة عطاشًا، ثُمَّ قَرَأَ: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} . وَقَالَ تَعَالَى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِّنْ حَمِيمٍ} .

طعام أهل النار وشرابهم وجوعهم وعطشهم وطلبهم

خَرَجَ الترمذي، وابن ماجة، وابن حبان في صحيحه من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنَ الزَّقُّومِ قُطِرَتْ فِى دَارِ الدُّنْيَا لأَفْسَدَتْ عَلَى أَهْلِ الدُّنْيَا مَعَايِشَهُمْ فَكَيْفَ بِمَنْ يَكُونُ طَعَامَهُ» . وقَالَ الترمذى: صَحِيحٌ. وروي موقوفًا عن ابن عباس، وعن سعيد بن جبير قال: إذا جاع أَهْل النار استغاثوا من الجوع، فأغيثوا بشجرة الزقوم، فأكلوا منها فانسلخت وجوههم، حتى لو أن مارًا مر عَلَيْهمْ يعرفهم، لعرف جلود وجوههم، فإذا أكلوا منها ألقي عَلَيْهمْ العطش، فاستغاثوا من العطش فأغيثوا بماء كالمهل والمهل الَّذِي قَدْ انتهى حره، فإذا أدنوه من أفواههم أنضج حره الوجوه، فيصهر به ما في بطونهم، ويضربون بمقامَعَ من حديد، فيسقط كُلّ عضو على حياله، يدعون بالثبور، ويدل على هَذَا قوله تَعَالَى: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} ، والمعنى: يترددون بين جهنم والحميم، فمرة إلى هَذَا ومرة إلى هَذَا، قاله قتادة وابن جريج وَغَيْرِهمَا. وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً} وَقَالَ: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ} . وروى الإمام أَحَمَد بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تَعَالَى: {وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ} قال: شوك يأخذ بالحلق لا يدخل ولا

شرابهم غسلين وحميم والطعام ضريع زقوم

يخَرَجَ، وعن ابن عباس في قوله تَعَالَى: {مِن ضَرِيعٍ} قال: شجر في جهنم. وَقَالَ مجاهد: الضَرِيعٍ: الشبرق اليابس، وروي عن ابن عباس: الشبرق نبت ذو شوك لاط بالأَرْض، فإذا هاج سمي ضريعًا، وخرج الترمذي من حديث أبي الدرداء عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يلقى على أَهْل النار الجوع فيعدل ما هم فيه من الْعَذَاب فيستغيثون، فيغاثون بطعام من ضريع، لا يسمن ولا يغني من جوع، فيستغيثون فيغاثون بطعام ذا غصة، فيذكرون أنهم كَانُوا يجيزون الغصص في الدُّنْيَا بالشراب، فيستغيثون، بالشراب، فيدفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد، فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم، فإذا وصلت بطونهم قطعت ما في بطونهم» وذكر بقية الْحَدِيث، وقَدْ روي هَذَا موقوفًا على أبي الدرداء. وَقَالَ جَلَّ وَعَلا وتقدس: {فَلَيْسَ لَهُ اليوم هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ} روي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {مِنْ غِسْلِينٍ} قال: هُوَ صديد أَهْل النار. وَقَالَ شبيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس: الغسلين الدم والماء يسيل من لحومهم، وَهُوَ طعامهم، وعن مقاتل قال: إذا سال القيح والدم بادروا إلى أكله، قبل أن تأكله النار. وَقَالَ عز من قائل: {وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ} ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: {لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلَا شَرَاباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً} ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} ، وَقَالَ

الأدلة على ذلك سابقا ولاحقا وبعدها

تَعَالَى: {وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ} ، وَقَالَ عز من قائل: {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: {وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً} الحميم الَّذِي قَدْ انتهى حره، والغساق قيل: إنه ما يسيل من بين جلد الكافر ولحمه، وقيل: الزمهرير البارد الَّذِي يحرق من برده، قاله ابن عباس، وعن عَبْد اللهِ بن عمرو قال: الغساق القيح الغليظ، لو أن قطرة منه تهرق في المغرب لأنتنت أَهْل المشرق، ولو أهريقت في المشرق، لأنتنت أَهْل المغرب، وَقَالَ مجاهد: (غساق) الَّذِي لا يستطيعون أن يذوقوه من برده، وَقَالَ قتادة: هُوَ ما يغسق أي يسيل من القيح والصديد من جلود أَهْل النار ولحومهم، وفروج الزناة ودموع أَهْل النار وعروقه، وَقَالَ كعب: غساق عين في جهنم يسيل إليها حمة كُلّ ذات حمة من حية وعقرب وغير ذَلِكَ، فيستنقع فيؤتى بالآدمي فيغمس فيها غمسة واحدة، فيخَرَجَ وقَدْ سقط جلده ولحمه عن العظام. ويتعلق جلده ولحمه في عقبيه وكعبيه ويجر لحمه كما يجر الرجل ثوبه. رواه ابْن أَبِي حَاتِم. وأما الصديد فَقَالَ مجاهد في قوله تَعَالَى: {وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ} ، قال: يعني: القيح والدم، وَقَالَ قتادة: ما يسيل من بين لحمه وجلده، وَقَالَ تَعَالَى: {يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ} . وخَرَجَ الإمام أَحَمَد، والترمذي من حديث أبي أمامة عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: {وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ} قال: يقرب إلى فيه فيكرعه، فإذا أدْنِيَ منه شوى وجهه، ووقعت فروة رأسه،

قصيدة زهدية

فإذا شربه قطع أمعاءه، حتى يخَرَجَ من دبره، وفي صحيح مسلم عن جابر عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن لله عهدًا لمن شرب المسكرات ليسقينه من طينة الخبال» . قالوا: يا رسول الله ما طينة الخبال؟ قال: «عرق أهل النار أو عصارة أهل النار» . وخرج الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مَاتَ مدمن خمر، سقاه الله من نهر الغوطة، قيل: ما نهر الغوطة، قال: نهر يخَرَجَ من فروج المومسات، يؤذي أَهْل النار نتن فروجهم» . وعن أبي سعيد عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قول الله تَعَالَى: {كَالْمُهْلِ} قال: «كعكر الزيت، فإذا قرب إلى وجهه سقطت فروة وجهه» ، وَقَالَ عطية: سئل ابن عباس عن قوله تَعَالَى: {كَالْمُهْلِ} قال: غليظ كردي الزيت، وَقَالَ الضحاك: أذاب ابن مسعود فضة من بيت الْمَال، ثُمَّ أرسل إلى أَهْل المسجد، فَقَالَ: من أحب أينظر إلى المهل فلينظر إلى هَذَا. وخرج الطبراني من طَرِيق تمام بن نجيح عن الحسن عن أنس عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو أن غربًا من حميم جهنم جعل في وسط الأَرْض، لآذى نتن ريحه وشدة حره ما بين المشرق والمغرب» . أَخَافُ وَرَاءَ الْقَبْرِ إِنْ لَمْ يُعَافِنِي ... أَشَدَّ مِن الْقَبْرِ الْتِهَابًا وَأَضْيَقَا إِذَا جَاءَنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَائِدٌ ... عَنِيتٌ وَسَوَّاقٌ يَقُودُ الْفَرَزْدَقَا أَسَاقُ إِلَى نَارِ الْجَحِيمِ مُسَرْبَلاً ... سَرَابِيلَ قُطْرَانٍ لِبَاسًا مُحَرِّقًا إِذَا شَرِبُوا فِيهَا الصَّدِيدَ رَأَيْتَهُمْ ... يَذُوبُونَ مِنْ حَرِّ الصَّدِيدِ تَمَزُّقَا شِعْرًا: أَفْنَى شَبَابَكَ كَرُ الطَّرْفِ وَالنَّفَسِ فَالْمَوْتُ مُقْتَرِبٌ وَالدَّهْرُ ذُو خَلَسِ ... ›?

.. لا تَأْمَنِ الْمَوْتَ فِي طَرْفٍ وَلا نَفَسٍ وَإِنْ تَمَنَّعْتَ بِالْحُجُّابِ وَالْحَرَسِ فَمَا تَزَالُ سِهَامُ الْمَوْتِ صَائِبَةً فِي جَنْبِ مُدَّرِعٍ مِنْهَا وَمُتَّرِسِ أَرَاكَ لَسْتَ بِوَقَّافٍ وَلا حَذِرٍ كَالْحَاطِبِ الْخَالطِ الأَعْوَادِ فِي الْغَلَسِ تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا إِنَّ السَّفِينَةَ لا تَجْرِي عَلَى الْيَبَسِ أَنَّى لَكَ الصَّحْوُ مِن سُكْرٍ وَأَنْتَ مَتَى تَصِّحُ مِنْ سَكْرَةٍ تَغْشَاكَ مِنْ نَكَسِ مَا بَالُ دِينِكَ تَرْضَى أَنْ تُدَنِّسَهُ وَثَوْبُكَ الدَّهْرَ مَغْسُولٌ مِن الدَّنَسِ لا تَأْمَنِ الْحَتْفَ فِيمَا تَسْتَلِذُّ وَإِنْ لانَتْ مَلامِسُهُ فِي كَفِّ مُلْتَمِسِ الْحَمْدُ للهِ شُكْرًا لا شَرِيكَ لَهُ كَمْ مِنْ حَبِيبٍ مِن الأَهْلِينَ مُخْتَلَسِ ... ›? اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك في قلوبنا وقوها وارزقنا القيام بِطَاعَتكَ وجنبنا ما يسخطك وأصلح نباتنا وذرياتنا وأعذنا من شر نُفُوسنَا وسيئات أعمالنا وأعذنا من عَدُوّكَ واجعل هوانَا تبعًا لما جَاءَ به رسولك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. اللَّهُمَّ يا حي يا قيوم يا علي يا عَظِيم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أَهْل طَاعَتكَ ويذل فيه أَهْل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن الْمُنْكَر

كسوة أهل النار فرشهم وأغطيتهم وألوان من العذاب وبعد

اللَّهُمَّ اعمر قلوبنا وألسنتنا بِذِكْرِكَ وشكرك ووفقنا للامتثال لأَمْرِكَ وأمنا من سطوتك ومكرك وَاجْعَلْنَا مِنْ أولياءك المتقين وحزبك المفلحين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وأما كسوة أَهْل النار فقَدْ ذكر جَلَّ وَعَلا ثيابهم، فَقَالَ: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ} . وفي كتاب أبي داود، والنسائي، والترمذي عن بريدة أن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى على رجل خاتمًا من حديد، فَقَالَ: «ما لي أرى عَلَيْكَ حلية أَهْل النار» ، وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أنس أن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن أول من يكسى حلة من النار إبلَيْسَ، يضعها على حاجبه، ويسحبها من خلفه ذريته خلفه، وَهُوَ يَقُولُ: يا ثبوره. وهم ينادون: يا ثبورهم. حتى يقفوا على النار، فَيَقُولُ: يا ثبوره ويقولون: يا ثبورهم، فَيُقَالُ: {لَا تَدْعُوا اليوم ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} خرجه الإمام أَحَمَد. وفي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري، عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة، وعَلَيْهَا سربال من قطران، ودرع من جرب» . وفي مسند الإمام أَحَمَد

عن حبيب بن المغفل عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «ما تحت الكعبين من الإزار في النار» قَالَ الْعُلَمَاءُ: إن المراد ما تحت الكعب من البدن والثوب معًا، وأنه يسحب ثوبه في النار كما كَانَ يسحبه في الدُّنْيَا خيلاء. وخَرَجَ أبو داود وغيره من حديث المستورد عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من أكل برجل مسلم أكلة في الدُّنْيَا أطعمه الله مثلها في جهنم، ومن كسي أو اكتسى برجل مسلم ثوبًا كساه الله مثله في جهنم» . وَقَالَ تَعَالَى: {لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} فطعامهم نار وشرابهم نار. قَالَ اللهُ تَعَالَى: {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ} ، ولباسهم نار، ومهادهم نار، قال تَعَالَى: {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} . وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} فهم بين مقطعات النيران، وسرابيل القطران وضرب المقامَعَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّما أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله ? قال: «لو أن مقمعًا من حديد وضع في الارض فاجتمَعَ له الثقلان ما أقلوه من الأَرْض» وعن أبي سعيد الخدري قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «لو ضرب الجبل بمقمَعَ من حديد لتفت ثُمَّ عاد كما كَانَ» . وَقَالَ ابن عباس في قوله تَعَالَى: {وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} قال يضربون بها، فيقع كُلّ عضو على حياله، فيدعون بالثبور. وَقَالَ تَعَالَى: {فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} الغساق ما سال من جلود

أَهْل النار من القيح والصديد، وَقَالَ القرطبي هُوَ عصارة أَهْل النار. وَقَالَ السدي: هُوَ الَّذِي يسيل من دموع أَهْل النار يسقونه من الحميم، وقوله: {وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} أي عذاب آخر، أو مذوق آخر، أو نوع آخر من شكل الْعَذَاب. ومعنى {أَزْوَاجٌ} : أجناس، وأنواع، وأشباه، ونظائر. وقيل: هُوَ الزمهرير، وقوله: {هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ} الآيَة أي الأتباع داخلون معكم بشدة، والاقتحام: الالقاء في الشَيْء بشدة، فَإِنَّهُمْ يضربون بمقامَعَ من حديد، حتى يقتحموها بأنفسهم خوفًا من تلك المقامَعَ، فأخبر جَلَّ وَعَلا عن قيل أَهْل النار، بَعْضهمْ لبعض كما قال تَعَالَى في الآيَة الأخرى: {كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} . فبدل السَّلام يتلاعنون، ويتكاذبون، ويكفر بَعْضهمْ ببعض، فَتَقُول الطائفة الأولى دخولاً للتي بعدها: لا مرحبًا بِهُمْ. أي: لا اتسعت منازلهم في النار، والرحب والسعة. والمعنى: لا كرامة لَهُمْ، وهَذَا إخبار من الله جَلَّ وَعَلا بانقطاع الْمَوَدَّة بينهم وأن مودتهم في الدُّنْيَا تصير عداوة، كما قال في الآيَة الأخرى: {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} . فتأمل حال أولئك التعساء الَّذِينَ كَانَ بَعْضهمْ يملي لبعض في الضلال، كيف تناكروا، وتلاعنوا في جهنم، وأصبحوا يتقلبون في أنواع الْعَذَاب، ويعانون في جهنم ما لا تطيقه الجبال وما يفتت ذكره الأكباد، يقتحمون إلى جهنم إقتحامًا. ويتجلجلون في مضائقها، ويتحطمون في دركاتها، ويضطربون بين غواشيها، ويطوفون بينها وبين حميم آن، ولا تسأل عما يعانونه من ثقل السلال والأغلال، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ

وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} ، وَقَالَ: {وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} . وَقَالَ: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} فهذه ثلاثة أنواع، أحدها: الأغلال، وهي في الأعناق، كما ذكر الله سُبْحَانَهُ، وَقَالَ معمر عن قتادة في قوله تَعَالَى: {مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} قال: مقرنين في القيود والأغلال. وروى ابْن أَبِي حَاتِم بإسناده عن مُوَسى بن أبي عَائِشَة أنه قَرَأَ قوله تَعَالَى: {أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قال: تشتد أيديهم بالأغلال في النار، فيستقبلون الْعَذَاب بوجوههم قَدْ شدت أيديهم، فلا يقدرون على أن يتقوا بها كُلّ ما جَاءَ نوع من الْعَذَاب، يستقبلون بوجوههم وبإسناده عن فيض بن إسحاق عن فضيل بن عياض: إذا قال الرب تبارك وتَعَالَى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} تبدره سبعون ألف ملك، كلهم يتبدر أيهم يجعل الغل في عنقه، النوع الثاني: الأنكال. وهي القيود. قاله ابن عباس، وعكرمة، ومُحَمَّد ابن كعب، وطاووس، وأبو عمران الجوني وغيرهم. وَقَالَ أبو عمران الجوني القيود لا تحل وَاللهِ أبدًا. وروى أبو سنان عن الحسن: أما وعزته ما قيدهم مخافة أن يعجزوه، ولكن قيدهم لترسى في النار. اللَّهُمَّ وفقنا توفيقًا يقينًا عن معاصيك، وأرشدنا برشدك إلى السعي فيما يرضيك، وأجرنا يا مولانَا من خزيك وعذابك، وهب لنا ما وهبته لأوليائك وأحبابك، وآتنا في الدُّنْيَا حسنة، وفي الآخِرَة حسنة، وقنا عذاب النار، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

شِعْرًا: ... لَوْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاكَ أَهْلَ الشَّقَا ... فِي النَّارِ قَدْ غُلُّوا وَقَدْ طُوِّقُوا تَقُولُ أَوْلاهُمْ لأُخْرَاهُمُ ... فِي لُجَحِ الْمُهْلِ وَقَدْ أُغْرِقُوا وَقَدْ كُنْتُمُ حُذِّرْتُمْ حَرَّهَا ... لَكِنْ مِنْ النِّيرَانِ لَمْ تَفْرَقُوا وَجِيءَ بِالنِّيرَانِ مَزْمُومَةً ... شَرَارُهَا مِنْ حَوْلِهَا مُحْدِقُ وَقِيلَ لِلنِّيرَانِ أَنْ أَحْرِقِي ... وَقِيلَ لِلْخُزَّانِ أَنْ أَطْبِقُوا وَأَوْلِيَاءُ اللهِ فِي جَنَّةٍ ... قَدْ تُوِّجُوا فِيهَا وَقَدْ مُنْطِقُوا تَدَبَّرُوا كَمْ بَيْنَهُمْ إِخْوَتِي ... ثُمَّ أَجِيلُوا فِكْرَكُمْ وَانْتَقُوا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} قال مُحَمَّد بن كعب القرظي في قوله تَعَالَى: {الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} تأكله النار إلى فؤاده فإذا بلغت فؤاده أنشئ خلقه. وعن ثابت البناني أنه قَرَأَ هذه الآيَة ثُمَّ قال: تحرقهم إلى الأفئدة وهم أحياء، لَقَدْ بلغ مِنْهُمْ الْعَذَاب ثُمَّ يبكي. وَقَالَ العوفي عن ابن عباس في قول الله تَعَالَى: {فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ} أدخلهم في عمد ممدة عَلَيْهمْ بعماد في أعناقهم السلاسل فسدت بها الأبواب. اللَّهُمَّ اقبل توبتنا واغسل حوبتنا وأجب دعوتنا وثَبِّتْ حجتنا واهد قلوبنا وسدد ألسنتنا واسلل سخيمة قولبنا وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) قَالَ اللهُ تَعَالَى: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} قال ابن عباس: تسلك في دبره حتى تخَرَجَ من منخريه حتى لا يقوم على

رجليه. وَقَالَ ابن جريج: قال ابن عباس: السلسة تدخل في استه، ثُمَّ تخَرَجَ من فيه، ثُمَّ ينظمون فيها كما ينظم الجراد في العود، حين يشوى. خرجه ابْن أَبِي حَاتِم. وَقَالَ جويبر في قول الله تَعَالَى: {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} قال: يجمَعَ بين ناصيته وقدميه في سلسلة من وراء ظهره. وَقَالَ السدي - في هذه الآيَة -: يجمَعَ بين ناصية الكافر وقدميه، فتربط ناصيته بقدمه وظهره، ويفتل. وذكر الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال: يؤخذ بناصيته وقدميه ويكسر ظهره كما يكسر الحطب في التنور. وبئس المصير. وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} عن أبي عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته» . خرجه الإمام أَحَمَد، والترمذي، والحاكم وقالا: صحيح. وَقَالَ: {أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قال عطاء: يرمى به في النار منكوسًا فأول شَيْء منه تمسه النار وجهه. وقَدْ أجرى الله العادة أن الإِنْسَان يبقى وجهه بيديه وجسمه فأما هنا فهو لا يملك أن يدفع عن نَفْسهُ النار بيديه ولا برجليه فيدفعها بوجهه، ويتقي به سوء الْعَذَاب، مِمَّا يدل على شدة الهول والاضطراب فمجرد تصوره يزعج ويقلق ويفزع. وفي زحمة هَذَا الْعَذَاب يتلقى التوبيخ، والتأنيب، وتدفع إليه حصيلة حَيَاتهُ، ويا لها من حصيلة، {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} وفي الآيَة الأخرى قال: {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . اللَّهُمَّ نور قلوبنا بنور الإِيمَان ووفقنا لمحبتك ومحبة من يحبك وألهمنا ذكرك وشكرك وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك الصالحين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. قَدْ أمْسَتِ الطَّيْرُ وَالأَنْعَامُ آمِنَةً

ذلك قصيدة زهدية

.. وَالنُّونُ فِي الْبَحْرِ لَمْ يُخْبَأَ لَهَا فَزَعُ وَالآدَمِيُّ بِهَذَا الْكَسْبِ مُرْتَهَنٌ لَهُ رَقِيبٌ عَلَى الأَسْرَارِ يُطَّلِعُ إِذْ النَّبِيُّونَ وَالأَشْهَادُ قَائِمَةٌ وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ وَالأَمْلاكُ قَدْ خَشَعُوا وَطَارَتِ الصُّحْفُ فِي الأَيْدِي مُنَشَّرةً فِيهَا السَّرَائِرُ وَالأَخْبَارُ تُطَّلَعُ فَكَيْفَ سَهْوُكَ وَالأَنْبَاءُ وَاقِعَةٌ عَمَّا قَلِيلٍ وَلا تَدْرِي بِمَا تَقَعُ أَفِي الْجِنَانِ وَفَوْزِ لا انْقِطَاعَ لَهُ أَم الْجَحِيمِ فَلا تُبْقِي وَلا تَذَرُ تَهْوِي بِسَاكِنَهَا طَوْرًا وَتَرْفَعُهُمْ إِذَا رَجَوْا مَخْرَجًا مِنْ غَمِّهَا قُمِعُوا طَالَ الْبُكَاءُ فَلَمْ يَنْفَعْ تَضَرُّعُهُمْ هَيْهَاتَ لا رِقَّةٌ تُغْنِي وَلا جَزَعُ لِينْفَع الْعِلْمُ قَبْلَ الْمَوْتِ عَالِمَهُ قَدْ سَالَ قَوْمٌ بِهَا الرُّجْعَى فَمَا رَجَعُوا ... ›? اللَّهُمَّ أتمم عَلَيْنَا نعمتك الوافية وارزقنا الإِخْلاص في أعمالنا والصدق في أقوالنا، وعد عَلَيْنَا بإصلاح قلوبنا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

موعظة تتضمن التخويف من النار والحث ما يقرب إلى الله

موعظة عباد الله إن بين أيديكم يوم لا شك فيه ولا مراء، يقع فيه الفراق، وتنفصم فيه العرى، فتدبروا أمركم قبل أن تحضروا، وانظروا لأنفسكم نظر من قَدْ فهم ودرى، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً} ، يا له من يوم يشيب فيه الولدان، وتسير فيه الجبال، وتظهر فيه الخفايا، وتنطق فيه الأعضاء، شاهدة بالأعمال، فانتبه يا من قَدْ وهي شبابه، وامتلأ بالأوزار كتابه، عباد الله أما بلغكم أن النار للكفار والعصاة أعدت، إنها لتحرق كُلّ ما يلقى فيها، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} ، وَقَالَ: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} عباد الله أما بلغكم أن طعام أهلها الزقوم، وشرابها الحميم، قال عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام: «لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الأَرْض لأمرت على أَهْل الدُّنْيَا معيشتهم» فَكَيْفَ بمن هُوَ طعامه، لا طعام له غيره، قال تَعَالَى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} . أخرَجَ الطبراني، وابْن أَبِي حَاتِم من طَرِيق منصور بن عمار حدثنا بشير بن طلحة عن خالد بن الدريك عن يعلى بن منية رفع الْحَدِيث إلى النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ينشئ الله لأَهْل النار سحابة سوداء مظلمة، فَيُقَالُ: يا أَهْل النار أي شَيْء تطلبون؟ فيذكرون بها سحابة الدُّنْيَا، فيقولون: يا ربنا الشراب، فتمطر أغلالً تزيد في أغلالهم، وسلاسل تزيد في سلاسلهم، وجمرًا يلتهب عَلَيْهمْ» .

شِعْرًا: ... مَثِّلْ وُقُوفَكَ أَيُّهَا الْمَغْرُورُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاءُ تَمُورُ مَاذَا تَقُولُ إِذَا وَقَفْتَ بِمَوْقِفٍ فَرْدًا وَجَاءَكَ مُنْكَرٌ وَنَكِيرُ مَاذَا تَقُولُ إِذَا وَقَفْتَ بِمَوْقِفٍ فَرْدًا ذَلِيلاً وَالْحِسَابُ عَسِيرُ وَتَعَلَّقَتْ فِيكَ الْخُصُومُ وَأَنْتَ فِي يَوْمِ الْحِسَابِ مُسَلْسَلٌ مَجْرُورُ وَتَفَرَّقَتْ عَنْكَ الْجُنُودُ وَأَنْتَ فِي ضِيقِ الْقُبُورِ مُوَسَّدٌ مَقْبُورُ وَوَدِدْتَ أَنَّكَ مَا وَلِيتَ وَلايَةً يَوْمًا وَلا قَالَ الأَنَامُ أَمِيرُ وَبَقِيتَ بَعْدَ الْعِزِّ رَهْنَ حَفِيرَةٍ فِي عَالَمِ الْمَوْتَى وَأَنْتَ حَقِيرُ وَحُشِرْتَ عَرْيَانًا حَزِينًا بَاكِيًا قَلِقًا وَمَا لَكَ فِي الأَنَامِ مُجِيرُ أَرَضِيتَ أَنْ تَحْيَا وَقَلْبَكَ دَارِسٌ عَافِي الْخَرَابَ وَجِسْمُكَ الْمَعْمُورُ أَرَضِيتَ أَنْ يُحْظَى سِوَاكَ بِقُرْبِهِ أَبَدًا وَأَنْتَ مُعَذَّبٌ مَهْجُورُ مَهِّدْ لِنَفْسِكَ حُجَّةً تَنْجُو بِهَا يَوْمَ الْمِعَادِ وَيَوْمَ تَبْدُو الْعُورُ ... ›?

ذكر عدد أبواب النار وصفة أبوابها صفة ذهابهم

اللَّهُمَّ اغفر لنا ذنوبنا قبل أن تشهد عَلَيْنَا الجوارح ونبهنا من رقدات الغفلات فأَنْتَ الحليم المسامح، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ. اللَّهُمَّ وفقنا توفيقًا يقينًا عن معاصيك، ووفقنا للعمل بما يرضيك، وارزقنا محبتك ومحبة من يحبك وبغض من يعاديك، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) تفكر عافنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المسلمين، وأدم الفكر في جهنم، واعْلَمْ أن لها سبعة أبواب كما أخبر جَلَّ وَعَلا، قال عز من قائل: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} . وخرج الإمام أَحَمَد، والترمذي من حديث ابن عمر عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن لجهنم سبعة أبواب، باب منها لمن سل سيفه على أمتي» . وفي حديث أبي رزين العقيلي عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعمر: «إن للنار سبعة أبواب، ما منهن بابان إِلا ويسر الراكب بينهما سبعين عامًا» . خرجه عَبْد اللهِ بن الإمام أَحَمَد، وابن أبي عاصم، والطبراني، والحاكم وغيرهم. وخَرَجَ ابْن أَبِي حَاتِم من طَرِيق حطان الرقاشي قال: سمعت عليًا يَقُولُ: هل تدرون كيف أبواب جهنم، قلنا: هِيَ مثل أبوابنا هذه، قال: لا، هِيَ هكَذَا بعضها فوق بعض. وفي رواية له: بعضها أسفل بعض. وَقَالَ تَعَالَى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا

فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} فتأمل حال هؤلاء الأشقياء الكفار كيف يساقون سوقًا عنيفًا إلى جهنم، بزجر وتوبيخ، وتقريع وتهديد، ووعيد كما قال عَزَّ وَجَلَّ: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً} أي يدفعون إليها دفعًا، هَذَا وهم عطاش ظماء جياع نصبون وجلون قَدْ بلغ مِنْهُمْ الخوف والرعب كُلّ مبلغ. قال تَعَالَى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} وهم في تلك الحال صم وبكم وعمي مِنْهُمْ من يمشي على وجهه، قال تَعَالَى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} . وروى مخلد بن الحسن عن هشام بن حسان قال: خرجنا حجَّاجًا فنزلنا منزلاً في بعض الطَرِيق، فقَرَأَ رجل معنا هذه الآيَة: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} فسمعته امرأةٌ ف قَالَتْ: أعد رَحِمَكَ اللهُ. فأعادها ف قَالَتْ: خلفت في البيت سبعة أعبد، أشهدكم أنهم أحرار، لكل باب واحد مِنْهُمْ. خرجه ابن أبي الدُّنْيَا. شِعْرًا: ... يَا غَافِلاً عَنْ مَنَايَا سَاقَهَا الْقَدَرُ مَاذَا الَّذِي بَعْدَ شَيْبِ الرَّأْسُ تَنْتَظِرُ عَايِنْ بِقَلْبِكَ إِنَّ الْعَيْنَ غَافِلَةٌ عَنِ الْحَقِيقَةِ وَاعْلَمْ أَنَّهَا سَقَرُ ... ›?

إلى النار، طبقات النار، محاولة أهل النار للخروج منه

.. سَوْدَاءُ تَزْفُرُ مِنْ غَيْظٍ إِذا سُعِرَتْ لِلظَّالِمِينَ فَمَا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَكَ غَيْرَ الْمَوْتِ مَوْعِظةٌ لَكَانَ فِيهِ عَنِ اللَّذَّاتِ مُزْدَجَرُ ... ›? آخر: ... اسْلُكْ بُنَيَّ مَنَاهِجَ السَّادَاتِ ... وَتَخَلَّقَنَ بِأَشْرَفِ العَادَاتِ لا تُلهِيَنَّكَ عَن مَعادِكَ لَذَّةٌ ... تَفْنَى وَتُوَرِثُ دَائِمَ الْحَسَراتِ وَإِذا اتَّسَعتَ بِرِزْقِ رَبِّكَ فَاِجْعَلَنْ ... مِنْهُ الأَجَلَّ لأَوْجُهِ الصَّدَقَاتِ وَارْعَ الْجِوارِ لأَهْلِهِ مُتَبَرِّعًا ... بِقَضَاءِ مَا طَلَبُوا مِنَ الْحَاجَاتِ قال الضحاك في قول الله تَعَالَى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} هِيَ سبعة أدراك بعضها فوق بعض فأعلاها: فيه أَهْل التَّوْحِيد يعذبون عَلَى قَدْرِ ذنوبهم ثُمَّ يخرجون، والثاني: فيه النَّصَارَى، والثالث: فيه اليهود، والرابع: الصابئون، والخامس: فيه المجوس، والسادس: فيه مشركوا الْعَرَب، والسابع: فيه المنافقون. وعن ابن جريج في قوله تَعَالَى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} ، قال: أولها جهنم، ثُمَّ لظى، ثُمَّ الحطمة، ثُمَّ السعير، ثُمَّ سقر، ثُمَّ الجحيم، وفيها أبو جهل، ثُمَّ الهاوية. خرجه ابن أبي الدُّنْيَا وغيره. وقَدْ وصف الله الأبواب بأنها مغلقة عَلَيْهمْ، فَقَالَ: {إِنَّهَا عَلَيْهمْ مُّؤْصَدَةٌ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {عَلَيْهمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ} ، قال مقاتل: يعني: أبوابها مطبقة عَلَيْهمْ، فلا يفتح لها باب، ولا يخَرَجَ منها غم، ولا يدخل فيها روح آخر الأبد. وهَذَا الإطباق نوعان: أحدهما خاص لمن يدخل في النار أو من يريد الله التضييق عَلَيْهِ، أجارنا الله والمسلمين من ذَلِكَ، قال أبو توبة اليزني: إن في النار أقوامًا مؤصدة عَلَيْهمْ كما يطبق الحق على طبقه. خرجه ابْن أَبِي حَاتِم.

والثاني الإطباق العام وَهُوَ إطباق النار على أهلها المخلدين فيها. وقَدْ قال سفيان وغيره في قول الله تَعَالَى: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} قَالُوا: هُوَ طبق النار على أهلها. وَقَالَ أبو الزعراء عن ابن مسعود: وإذا قيل لَهُمْ: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} أطبقت عَلَيْهمْ، فلا يخَرَجَ مِنْهُمْ أحد. وَقَالَ أبو عمران الجوني: إذا كَانَ يوم القيامة أمر الله بكل جبار عنيد، وكل شيطان مريد، وبكل من يخاف من شره العبيد، فأوثقوا بالحديد، ثُمَّ أمر بِهُمْ إلى جهنم التي لا تبيد، ثُمَّ أوصدها عَلَيْهمْ ملائكة رب العبيد، قال: فلا وَاللهِ لا تستقر أقدامهم على قرارٍ أبدًا، ولا وَاللهِ لا ينظرون فيها إلى أديم سماءٍ أبدًا، ولا وَاللهِ لا تلتقي جفون أعينهم على غمض نوم أبدًا، ولا وَاللهِ لا يذوقون فيها بارد ولا شراب أبدًا. وقَدْ أخبر سُبْحَانَهُ وتَعَالَى أن الكفار يحاولون الْخُرُوج ويرغمون على البقاء فيها. قال تَعَالَى: {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {كُلَّما أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} الآيَة. فلا يزالون يريدون الْخُرُوج مِمَّا هم فيه من الشدة وأليم مس الْعَذَاب ولا سبيل لَهُمْ إلى ذَلِكَ، كُلَّما رفعهم اللهب فصاروا في أعلا جهنم ضربتهم الزبانية بمقامَعَ الحديد فيردونهم إلى أسفلها. وأخبر جَلَّ وَعَلا أنهم يطلبون منه الْخُرُوج منها فَقَالَ مخبرًا عما قَالُوا: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} . والجواب على ذَلِكَ يَقُولُ

وسؤالهم وجوابهم وبعد ذلك موعظة بليغة

الرب جَلَّ وَعَلا: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} . أمانيهم فيها الهلاك وما لَهُمْ من النار فكاك قَالَ اللهُ تَعَالَى: {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ} ، وَقَالَ: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} الآيَة. وَقَالَ: {ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} . وَقَالَ: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} ، وَقَالَ: {لَا يُقْضَى عَلَيْهمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا} ، وَقَالَ: {أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِن رَّحْمَتِي} ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: {فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً} ، وَقَالَ: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} ، وَقَالَ: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} . ومن السنة ما خرجه الشيخان عن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار: ثم يقوم مؤذن بينهم يا أهل النار لا موت ويا أهل الجنة لا موت كل خالد بما هو فيه» . وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيوقف بين الْجَنَّة والنار ويذبح ويُقَالُ: يا أَهْل الْجَنَّة خلود فلا موت، ويا أَهْل النار خلود فلا موت» . رواه البخاري. وما أخرجه الطبراني وأبو نعيم وابن مردويه عن ابن مسعود قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو قيل لأَهْل النار: إنكم ماكثون في النار عدد كُلّ حصاة في الدُّنْيَا لفرحوا، ولو قيل لأَهْل الْجَنَّة: إنكم ماكثون

في الْجَنَّة عدد كُلّ حصاة لحزنوا ولكن جعل لَهُمْ الأبد» . هَذَا مِمَّا يدل على عدم فناء النار وبقاء أهلها فيها ينقلبون في أنواع الْعَذَاب لا راحة ولا نوم، ولا هدوء ولا قرار لَهُمْ، بل من عذاب إلى آخر، ولكل واحد مِنْهُمْ حد معلوم عَلَى قَدْرِ عصيانه وذنبه، إِلا أن أقلهم لو عرضت عَلَيْهِ الدُّنْيَا بحذافيرها لافتدى بها من شدة ما هُوَ فيه، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن أدنى أَهْل النار عذابًا يوم القيامة ينتعل بنعلين من نار يغلي دماغه» من حرارة نعله فَانْظُرْ الآن إلى من خفف عَلَيْهِ، واعتبر بمن شدد عَلَيْهِ الْعَذَاب ممن يسحبون على وجوههم في النار، ويُقَالُ لَهُمْ: ذوقوا مس سقر، وَقَالَ: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ} . أي: تأكل لحومهم وعروقهم وعصبهم وجلودهم، ثُمَّ تبدل غير ذَلِكَ. وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} قال قتادة: قال ابن عباس {صَعُوداً} صخرة في جهنم يسحب عَلَيْهَا الكافر على وجهه. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. موعظة عباد الله عليكم بتقوى الله، فإن تقواه عروة مالها انفصام وقدوة يأتم بها الكرام، وسراج يضيء للأفهام، من تعلق بها حمته بإذن الله محذور العاقبة، ومن تحقق بحملها وقته بإذن الله شرور كُلّ نائبة، والحذر من دار فرقة مالها أسلاف، وقرار حرقة مالها انصراف، وأماني رجعة مالها إسعاف، فانهضوا عباد الله في استعمال ما يقربكم من دار القرار، واتركوا كُلّ ما يدنيكم من دار البوار، فإنها المصيبة الجامعة

قصيدة زهدية فيها عبر ومواعظ

والعقوبة الواقعة، يا لها دار انقطع من الرجَاءَ انحلالها، وامتنع من الفناء بقاء نكالها، وشعار أهلها الويل الطويل، ودثارهم البُكَاء والعويل، وسرابيل الخزي الوبيل، ومقيلهم الهاوية وبئس المقيل، يقطع مِنْهُمْ الحميم أمعاء طالما ولعت بأكل الحرام، وتضعضع مِنْهُمْ الجحيم أعضاء طالما أسرعت إلى اكتساب الآثام قَدْ كثر مِنْهُمْ الأنين، وحلت بِهُمْ المثلات، فجلودهم كُلَّما نضجت بدلت جلودًا غيرها، وكرر عَلَيْهمْ الْعَذَاب، ووجوههم مسودة لسوء الحساب، والزبانية تقمعهم فيذوقون أليم العقاب، ينادون إلهًا ضيعوا أوامره وارتكبوا نواهيه ونسوه، وحق عَلَيْهمْ في الآجلة حكمه لما أغضبوه يقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} ، {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فيجيبهم بعد حين إجابة دعوى ذي قوة متين: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} فحينئذٍ ينقطع عندها وَاللهِ تأميل المذنبين، ويجتمَعَ التنكيل على المذنبين، ويرتفع في جهنم عويل المجرمين المعذبين {فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ} فيا لها من حَسْرَة ويا لها من ندامة لا تشبهها ندامة ويا لها من خسارة لا تعادلها خسارة {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} . اللَّهُمَّ أَنَا نعوذ بك من شر أنفسنا وشر الدُّنْيَا والهوى، ونعوذ بك من الشيطان الرجيم ونسألك أن تَغْفِرِ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. شِعْرًا: إِنْ كُنْتَ تَطْمَعُ فِي الْحَيَاةِ فَهَاتِ كَمْ مِنْ أَبٍ لَكَ صَارَ فِي الأَمْوَاتِ مَا أَقْرَبَ الشَّيْءَ الْجَدِيدَ مِنَ الْبِلَى يَوْمًا وَأَسْرَعَ كُلَّ مَا هُوَ آتِ اللَّيْلُ يَعْمَلُ وَالنَّهَارَ وَنَحْنُ عَمَّـ ـمَا يَعْمَلانِ بِأَغْفَلِ الْغَفِلاتِ

.. يَا ذَا الَّذي اتَّخَذَ الزَّمَانَ مَطِيَّةً وَخُطَا الزَّمَانِ كَثِيرَةُ الْعَثَراتِ مَاذَا تَقُولُ وَلَيْسَ عِنْدَكَ حُجَّةٌ لَوْ قَدْ أَتَاكَ مُنَغِّصُ اللَّذَاتِ أَوْ مَا تَقُولُ إِذَا حَلَلْتَ مَحَلَّةً لَيْسَ الثِّقَاتُ لأَهْلِهَا بِثِقَاتِ أَوْ مَا تَقُولُ وَلَيْسَ حُكْمُكَ نَافِذًا فِيمَا تُخَلِّفُهُ مِن التَّرِكَاتِ مَا مِنْ أَحَبَّ رِضَاكَ عَنْكَ بِخَارِجٍ مَا مِنْ أَحَبَّ رِضَاكَ عَنْكَ بِخَارِجٍ زُرْتُ الْقُبُورَ قُبُورَ أَهْلِ الْمُلْكِ فِي الدُّ نْيَا وَأَهْلِ الرَّتْعِ فِي الشَّهَوَاتِ كَانُوا مُلُوكَ مَآكِلٍ وَمَشَارِبٍ وَمَلابِسٍ وَرَوَائِحٍ عَطِرَاتِ ... ›?

حالة أهل النار فيها وهم بالعذاب وشدة حرارتها وبعد قمرها وما تحتوي

.. فَإِذَا بِأَجْسَادٍ عَرِينَ مِن الْكِسَا وِبِأَوْجُهٍ فِي التُّرْبِ مُنْعَفِرَاتِ لَمْ تُبْقِ مِنْهَا الأَرْضُ غَيْرَ جَمَاجِمٍ بِيضٍ تَلُوحُ وَأَعْظُمٍ نَخَرَاتِ إِنَّ الْمَقَابِرَ مَا عَلِمْتُ لَمَنْظِرٌ يَهْدِي الشَّجَا وَيُهَيِّجُ الْعَبَرَاتِ سُبْحَانَ مَنْ قَهَرَ الْعِبَادَ بِقُدْرَةٍ بَارِي السُّكُونِ وَنَاشِرِ الْحَرَكَاتِ ... ›? اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لامتثال أمرك، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ. اللَّهُمَّ نور قلوبنا واشرح صدورنا واستر عيوبنا وأمن خوفنا واختم بالصالحات أعمالنا وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك الصالحين وحزبك المفلحين الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) فتفكر يا أخي في حال هؤلاء الَّذِينَ قَدْ عريت من اللحم عظامهم فبقيت الأرواح منوطة بالعروق وعلائق العصب وهي تنش في لفح تلك النيران، وهم مَعَ ذَلِكَ يتمنون الموت فلا يموتون، فَكَيْفَ بك أيها العاصي لو نظرت إلى هؤلاء المجرمين وقَدْ اسودت وجوههم، وأعميت أبصارهم، وأبكمت ألسنتهم، وقصمت ظهورهم، وكسرت عظامهم، وجدعت آنافهم، وآذانهم، ومزقت جلودهم، وغلت أيديهم إلى أعناقهم وجمَعَ بين نواصيهم وأقدامهم، ولهيب النار سار في بواطنهم، وحيات جهنم وعقاربها متشبثة بظواهرهم.

ثُمَّ انظر في أودية جهنم وشعابها، فعن أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفًا قبل أن يبلغ قعره» . رواه أَحَمَد، والترمذي. إِلا أنه قال: «واد بين جبلين يهوي فيه الكافر سبعين خريفًا قبل أن يبلغ قعره» . وعن ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} قال: واد في جهنم يقذف فيه الَّذِينَ يتبعون الشهوات. رواه الطبراني، والبيهقي. وعن علي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تعوذوا بِاللهِ من جب الحزن أو وادي الحزن» قيل: يَا رَسُولَ اللهِ وما جب الحزن أو وادي الحزن؟ قال: «واد في جهنم تتعوذ منه جهنم كُلّ يوم سبعين مرة أعده الله للقراء المرائين» . رواه البيهقي بإسناد حسن. ثُمَّ انظر يا أخي وتأمل في قعر جهنم وظلماتها وتفاوت دركاتها فعن خالد بن عمير قال: خطب عتبة بن غزوان ري الله عَنْهُ فَقَالَ: إنه ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عامًا ما يدرك لها قعرًا وَاللهِ لتملأنه أفعجبتم. رواه مسلم هكَذَا. وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: كنا عِنْد النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسمعنا وجبة فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أتدرون ما هَذَا» ؟ قلنا: الله ورسوله أعلم قال: «هَذَا حجر أرسله الله في جهنم مُنْذُ سبعين خريفًا فالآن حين انتهى إلى قعرها» . رواه مسلم. وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:

«أوقَدْ على النار ألف سنة حتى ابيضت، ثُمَّ أوقَدْ عَلَيْهَا ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة» رواه مالك، والترمذي. وعنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «نار ابن آدم التي يوقدون منها جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم» ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وإن كانَتْ لكافية، قال: «فإنها فضلت بتسعة وستين جزءًا» . أخرجه مال، ومسلم وزَادَ: «كُلّهَا مثل حرها» . وعن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن ناركم هذه جزءٌ من سبعين جزءًا من نار جهنم ولولا أنها أطفئت بالماء مرتين ما انتفعتم بها وإنها لتدعوا الله أن لا يعيدها فيها» . رواه ابن ماجة. وروى الأئمة عن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اشتكت النار إلى ربها فقَالَتْ: رَبِّي أكل بعضي بعضًا، فجعل لها نفسين: نفسًا في الشتاء، ونفسًا في الصيف، فشدة ما يجدون من البرد من زمهريرها، وشدة ما يجدون من الحر من سمومها» . أخرجه البخاري ومسلم والترمذي. اللَّهُمَّ ثبتنا عِنْد نزول غمرات هادم اللذات، وخفف عنا شدة كرب السياق، وغصص السكرات، الله وآنس وحشتنا في القبر الضيق العطن، ولقنا جواب الملك الموكل بالفتن وارحمنا عِنْد مضاجعة التُّرَاب والديدان ومفارقة الأَهْل والإِخْوَان، وأمنا عِنْد طلوع هول المطلع الفظيع وبلوغ صوت المنادي إلى أذن كُلّ سميع، وثَبِّتْ قلوبنا عِنْد تقلب القُلُوب إذا مد الصراط على النيران وتطاير العقول إذا نصب الميزان ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم يا ذا الفضل العميم بمنك وجود يا كريم، وَاغْفِرْ لَنَا

وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) ثُمَّ تفكر بقلبك، وألق السمَعَ لقوله تَعَالَى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} الآيَة وقوله عَزَّ من قائل: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} ، وقوله تَعَالَى: {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} ، وقوله تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، وقوله تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أليس هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} الآيتين. روى الأعمش عن يزيد الرقاشي عن أنس عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يلقى البُكَاء على أَهْل النار، فيبكون حتى تنقطع الدموع، ثُمَّ يبكون الدم حتى يصير في وجوههم كيهئة الأخدود، ولو أرسلت فيه السفن لجرت» . خرجه ابن ماجة، وروى سلام بن مسكين عن قتادة عن أبي بردة بن أبي مُوَسى عن أبيه قال: إن أَهْل النار ليبكون الدموع في النار، حتى لو أجريت السفن في دموعهم لجرت،

ثُمَّ إنهم ليبكون بالدم بعد الدموع، ولمثل ما هم فيه فليبك. وَقَالَ صالح المري: بلغني أنهم يصرخون في النار حتى تنقطع أصواتهم فلا يبقى مِنْهُمْ إِلا كهيئة الأنين من المدنف. وروى الوليد بن مسلم عن أبي سلمة الدوسي - واسمه ثابت بن شريح - عن سالم بن عَبْد اللهِ عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كَانَ يدعو: «اللَّهُمَّ ارزقني عينين هطالتين يشفيان الْقَلْب بذروف الدموع من خشيتك، قبل أن يكون الدمَعَ دمًا، والأضراس جمرًا» . سالم بن عَبْد اللهِ هُوَ المحارَبِّي، وحديثه مرسل. وروى الوليد بن مسلم أيضًا عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن إسماعيل بن عبيد الله قال: إن داود عَلَيْهِ السَّلام قال: (رب ارزقني عينين هطالتين يبكيان بذروف الدموع ويشفيان من خشيتك، قبل أن يعود الدمَعَ دمًا، والأضراس جمرًا) ، قال وكَانَ داود عَلَيْهِ السَّلام يعاتب في كثرة البُكَاء، فَيَقُولُ: دعوني أبكي قبل يوم البُكَاء، قبل تحرق العظام، واشتعال اللحى،، وقبل أن يؤمر بي {مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} وروى يونس بن ميسرة عن أبي إدريس الخولاني قال: إن داود عَلَيْهِ السَّلام قال: أبكي نفسي قبل يوم البُكَاء، أبكي نفسي قبل أن لا ينفع البُكَاء، ثُمَّ دعا بجمر فوضع يده عَلَيْهِ، حتى إذا حره رفعها، وَقَالَ: أَوَّهْ لعذاب الله، أَوَّهْ أَوَّهْ قبل أن لا ينفع أَوَّهْ. وروى ثابت البناني عن صفوان بن محرز قال: كَانَ لداود عَلَيْهِ السَّلام يومًا يتأوه فيه، يَقُولُ: أَوَّهْ أَوَّهْ من عذاب الله عَزَّ وَجَلَّ قبل أن لا ينفع أَوَّهْ، قال: فذكره صفوان ذات يوم في مجلس فَبَكَى حتى

غلبه البُكَاء فقام. وَقَالَ عَبْد اللهِ بن رباح الأنصاري: سمعت كعبًا يَقُولُ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} قال: كَانَ إذا ذكر النار قال: أَوَّهْ من النار، أَوَّهْ من النار. والتأوه هُوَ التوجع والتحزن. قال المثقف العبدي: ... إِذَا مَا قُمْتُ أَرْحَلُهَا بِلَيْلٍ ... ???? ... تَأَوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الْحَزِينِ ... ›? ... ???? وفي حديث الأعمش عن شمر بن عطية عن شهر بن حوشب عن أم الدرداء في ذكر أَهْل النار قال: «فيقولون ادعوا خزنة جهنم، فيقولون: {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} قال: فيقولون: ادعوا مالكًا، فيقولون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ} قال الأعمش: نبئت أن بين دعاءهم وبين إجابة مالك لَهُمْ ألف عام، قال: فيقولون: ادعوا ربكم فإنه لَيْسَ أحد خيرًا من ربكم فيقولون: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} قال: فيجيبهم: {قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} ، قال: فعِنْد ذَلِكَ يئسوا من كُلّ خَيْر، وعِنْد ذَلِكَ يأخذون في الحَسْرَة والزفير والويل» . خرجه الترمذي مرفوعًا، وموقوفًا على أبي الدرداء. وروى أبو معشر عن مُحَمَّد بن كعب القرظي قال: لأَهْل النار خمس دعوات، يكلمون في أربع منها، ويسكت عنهم في الخامسة فلا يكلمون، يقولون: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا

فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} فيرد عَلَيْهمْ: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} ثُمَّ يقولون: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} فيرد عَلَيْهمْ: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلّ نَفْسٍ هُدَاهَا} إلى آخر الآيتين، ثُمَّ يقولون: {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} فيرد عَلَيْهمْ: {أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ} ثُمَّ يقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} فيرد عَلَيْهمْ: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ} ثُمَّ يقولون: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} فيرد عَلَيْهمْ: {قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} إلى قوله: {وَكُنتُم مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} قال: فلا يتكلمون بعد ذَلِكَ. أخرجه آدم بن أبي إياس وابْن أَبِي حَاتِم. قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: ... فَيَا سَاهِيًا فِي غَمْرَةِ الْجَهْلِ وَالْهَوَى ... ???? ... صَرِيعَ الأَمَانِي عَنْ قَرِيبٍ سَتَنْدَمُ ... ???? ... أَفِقْ قَدْ دَنَى الْوَقْتُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ سِوَى جَنَّةٍ أَوْ حَرِّ نَارٍ تَضَرَّمُ ... ???? ... وَبِالسُّنَّةِ الْغَرَّاءِ كُنْ مُتَمَسِّكًا ... ???? ... هِيَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى الَّتِي لَيْسَ تُفْصَمُ ... ???? ... تَمَسَّكْ بِهَا مَسْكَ الْبَخِيلِ بِمَاله ... ???? ... وَعَضَّ عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ تَسْلَمِ ... ???? ... وَدَعْ عَنْكَ مَا قَدْ أَحْدَثَ النَّاسُ بَعْدَهَا ... ???? ... فَمَرْتَعُ هَاتِيكَ الْحَوَادِثِ أَوْخَمُ ... ›? ... ????

.. وَهَيِّءْ جَوَابًا عِنْدَمَا تَسْمَعُ النِّدَا ... ???? ... مِنَ اللهِ يَوْمَ الْعَرْضِ مَاذَا أَجَبْتُمُ ... ???? ... بِهِ رُسُلِي لِمَا أَتَوْكُمْ فَمَنْ يَكُنْ ... ???? ... أَجَابَ سِوَاهُمْ سَوْفَ يُخْزَى وَيَنْدَمُ ... ???? ... وَخُذْ مِنْ تُقَى الرَّحْمَنِ أَعْظَمَ جُنَّةٍ ... ???? ... لِيَوْمٍ بِهِ تَبْدُو عِيَانًا جَهَنَّمُ ... ???? ... وَيُنْصَبُ ذَاكَ الْجَسْرُ مِنْ فَوْق مَتْنِهَا ... ???? ... فَهَاوٍٍ وَمَخْدُوشٌ وَنَاجٍ مُسَلَّمُ ... ???? ... وَيَأْتِي إلهُ الْعَالَمِينَ لِوَعْدِهِ ... ???? ... فَيَفْصِلُ مَا بَيْنَ الْعِبَادِ وَيَحْكُمُ ... ???? ... وَيَأْخُذُ لِلْمَظْلُومِ رَبُّكَ حَقَّهُ ... ???? ... فَيَا بُؤْسَ عَبْدٍ لِلْخَلائِقِ يَظْلِمُ ... ???? ... وَيُنْشَرُ دِيوَانُ الْحِسَابِ وَتُوضَعُ الْـ ... ???? ... ـمَوَازِينُ بِالْقِسْطِ الَّذِي لَيْسَ يَظْلِمُ ... ???? ... فَلا مُجْرِمٌ يَخْشَى ظَلامَةَ ذَرَّةٍ ... ???? ... وَلا مُحْسِنٌ مِنْ أَجْرِهِ ذَاكَ يُهْضَمُ ... ???? ... وَتَشْهَدُ أَعْضَاءُ الْمُسِيء بِمَا جَنَى ... ???? ... كَذَاكَ عَلَى فِيهِ الْمُهَيْمِنُ يَخْتُمُ ... ???? ... فَيَالَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ حَالِكُ عِنْدَمَا ... ???? ... تَطَايَرُ كُتُبُ الْعَالَمِينَ وَتُقْسَمُ ... ›? ... ????

عليه وما قيل في جب الحزن وذكر تمني أهل النار وبعد ذلك قصيدة

.. أَتَأْخُذُ بِالْيُمْنَى كِتَابَكَ أَمْ تَكُنْ ... ???? ... بِالأُخْرَى وَرَاءَ الظَّهْرِ مِنْكَ تَسَلَّمُ ... ???? ... وَتَقْرَأُ فِيهَا كُلَّ شَيْءٍ عَمِلْتَهُ ... ???? ... فَيُشْرِقُ مِنْكَ الْوَجْهُ أَوْ هُوَ يُظْلِمُ ... ???? ... تَقُولُ كِتَابِي فَاقْرَؤُهُ فَإِنَّهُ ... ???? ... يُبَشِّرُ بِالْفَوْزِ الْعَظِيمِ وَيُعْلِمُ ... ???? ... وَإِنْ تَكُنْ الأُخْرَى فَإِنَّكَ قَائِلٌ ... ???? ... أَلا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَهُ فَهُوَ مَغْرَمُ ... ???? ... فَبَادِرْ إِذَا مَا دَامَ فِي الْعُمْرِ فُسْحَةٌ ... ???? ... وَعَدْلُكَ مَقْبُولٌ وَصَرْفُكَ قَيِّمُ ... ???? ... وَجُدَّ وَسَارِعْ وَاغْتَنِمْ زَمَنَ الصِّبَا ... ???? ... فَفِي زَمَنِ الإِمْكَانِ تَسْعَى وَتَغْنَمُ ... ???? ... وَسِرْ مُسْرِعًا فَالْمَوْتُ خَلْفَكَ مُسْرِعًا ... ???? ... وَسِرْ مُسْرِعًا فَالْمَوْتُ خَلْفَكَ مُسْرِعًا ... ›? ... ???? اللَّهُمَّ ثَبِّتْ وقو محبتك في قلوبنا واشرح صدورنا ونورها بنور الإِيمَان وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين وألهمنا ذكرك وشكرك وَاجْعَلْنَا ممن يفوز بالنظر إلى وجهك في جنات النَّعِيم يا حليم ويا كريم، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. في الثناء على أَهْل الْجَنَّة وتبشيرهم، وتبكيت أَهْل النار، وتقريعهم على إهمالهم وتفريطهم.

روى صفوان بن عمرو قال: سمعت أيفع بن عبد الكلاعي يَقُولُ: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا دخل أَهْل الْجَنَّة الْجَنَّة، وأَهْل النار النار، قال الله: يا أَهْل الحنة {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} قال: نعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم، رحمتي ورضواني وجنتي، امكثوا فيها خالدين مخلدين. ثُمَّ يَقُولُ لأَهْل النار: {كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} فَيَقُولُ: بئس ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم سخطي ومعصيتي وناري، امكثوا فيها خالدين مخلدين، فيقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنََّا ظَالِمُونَ} فَيَقُولُ: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} فيكون ذَلِكَ آخر عهدهم بكلام ربهم عَزَّ وَجَلَّ» . خرجه أبو نعيم، وَقَالَ: كَذَا رواه أيفع مرسلاً. وعن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِأَنْعَمِ النَّاسِ يَومَ القِيَامةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ فَيُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤُسٌ قَطُّ، وَلاَ رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ» . أخرجه مسلم، وأخرجه ابن ماجة أيضًا عن أنس بن مالك قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يؤتى يوم القيامة بأنعم أَهْل الدُّنْيَا من الكفار، فَيُقَالُ: اغمسوه في النار غمسة فيغمس فيها ثُمَّ يخَرَجَ، فَيُقَالُ: أي فلان هل أصابك نعيم قط؟ فَيَقُولُ: ما أصابني نعيم قط، ويؤتى بأشد الْمُؤْمِنِين ضررًا وبَلاء، فَيُقَالُ: اغمسوه

في الْجَنَّة غمسة، فيغمس فيها غمسة، فَيُقَالُ له: أي فلان هل أصابك ضر وبَلاء فَيَقُولُ: لا ما أصابني ضر قط ولا بَلاء» . قال ابن رجب رَحِمَهُ اللهُ: وأعظم أَهْل النار حجابهم عن الله عَزَّ وَجَلَّ وإبعادهم عَنْهُ، وإعراضه عنهم، وسخطه عَلَيْهمْ كما أن رضوان الله على أَهْل الْجَنَّة أفضل من كُلّ نعيم الْجَنَّة وتجليه لَهُمْ ورؤيتهم إياه، أعظم مِنْ جَمِيعِ أنواع نعيم الْجَنَّة، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ} فذكر تَعَالَى لَهُمْ ثلاثة أنواع من الْعَذَاب: حجابهم عَنْهُ، ثُمَّ صليهم الجحيم، ثُمَّ توبيخهم بتكذيبهم به في الدُّنْيَا، ووصفهم بالران على قُلُوبهمْ، وَهُوَ صدأ الذُّنُوب الَّذِي اسودت به قُلُوبهمْ، فلم يصل إليها بعد ذَلِكَ في الدُّنْيَا شَيْء من معرفة الله، ولا من إجلاله ومهابته، وخشيته ومحبته، فكما حجبت قُلُوبهمْ في الدُّنْيَا عن الله حجبوا في الآخِرَة عن رؤيته، وهَذَا بخلاف حال أَهْل الْجَنَّة، قال تَعَالَى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ} والَّذِينَ أحسنوا هم أَهْل الإحسان والإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه) كما فسره النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سأله عَنْهُ جبريل عَلَيْهِ السَّلام، فجعل جزاء الإحسان الحسنى - وَهُوَ الْجَنَّة - والزيادة - وهي النظر إلى وجه الله عَزَّ وَجَلَّ - كما فسره بذَلِكَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث صهيب وغيره. انتهى. اللَّهُمَّ قوي إيماننا بك ونور قلوبنا بنور الإِيمَان وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين اللهم يا مقلب القُلُوب ثَبِّتْ قلوبنا على دينك وألهمنا ذكرك وشكرك وأمنا من سطوتك ومكرك، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

فصل في الثناء على أهل الجنة وتحث على الأعمال

وَقَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: ... أَوَ مَا سَمِعْتَ مُنَادِي الإِيمَانِ يُخْبِرُ عَنْ مُنَادِي جَنَّةِ الْحَيَوَانِ يَا أَهْلَهَا لَكُمُ لَدَى الرَّحْمَنُ وَعْـ ـدُ هُوَ مُنْجِزُهُ لَكُمْ بِضَمَانِ قَالُوا أَمَا بَيَّضْتَ أَوْجُهَنَا كَذَا أَعْمَالَنَا ثَقَّلْتَ فِي الْمِيزَانِ وَكَذَاكَ قَدْ أَدْخَلْتَنَا الْجَنَّاتِ حِيـ ـنَ أَجَرْتَنَا مِنْ مَدْخَلِ النِّيرَانِ فَيَقُولُ عِنْدِي مَوْعِدٌ قَدْ آنَ أَنْ أُعْطِيكُمُوهُ بِرَحْمَتِي وَحَنَانِي فَيَرَوْنَهُ مِنْ بَعْدِ كَشْفِ حِجَابِهِ جَهْرًا رَوَى ذَا مُسْلِم بِبَيَانِ وَلَقَدْ أَتَانَا فِي الصَّحِيحَيْنِ اللَّذَيْ نِ هُمَا أَصَحُّ الْكُتُبِ بَعْدَ قُرْآنِ بِرِوَايَةِ الثِّقَةِ الصَّدُوقِ جَرِيرٍ الْـ ـبجَلِيِّ عَمَّنْ جَاءَ بِالْقُرْآنِ أَنَّ الْعِبَادَ يَرَوْنَهُ سُبْحَانَهُ رُؤْيَا الْعِيَانَ كَمَا يُرَى الْقَمَرَانِ فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ كُلَّ وَقْتٍ فَاحْفَظُوا الْـ ـبَرْدَيْنِ مَا عِشْتُمْ مَدَى الأَزْمَانِ ... ›?

.. وَلَقَدْ رَوَى بِضْعٌ وَعِشْرُونَ امْرُوءٌ مِنْ صَحْبِ أَحْمَدِ خَيْرَةِ الرَّحْمَنِ أَخْبَارَ هَذَا الْبَابِ عَمَّنْ قَدْ أَتَى بِالْوَحْيِ تَفْصِيلاً بِلا كِتْمَانِ وَأَلَذُّ شَيْءٍ لِلْقُلُوبِ فَهِذِهِ الْـ أَخْبَارُ مَعَ أَمْثَالِهَا هِيَ بَهْجَةُ الإِيمَانِ وَاللهِ لَوْلا رُؤْيَةُ الرَّحْمَنِ فِي الْـ جَنَّاتٍ مَا طَابَت لِذِي الْعِرْفَانِ أَعْلَى النَّعِيمِ نَعِيمُ رُؤْيَةِ وَجْهِهِ وَخِطَابُه فِي جَنَّةِ الْحَيَوَانِ وَأَشَدُّ شَيْءٍ فِي الْعَذَابِ حِجَابُهُ سُبْحَانَهُ عَنْ سَاكِنِي النِّيرَانِ وَإِذَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ نَسُوا الَّذِي هُمْ فِيهِ مِمَّا نَالَتِ الْعَيْنَانِ فَإِذَا تَوَارَى عَنْهُمْ عَادُوا إِلَى لَذَّاتِهِمْ مِنْ سَائِرِ الأَلْوَانِ فَلَهُمْ نَعِيمٌ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ سِوَى هَذَا النَّعِيمِ فَحَبَذَا الأَمْرَانِ أَوَ مَا سَمِعْتَ سُؤَالَ أَعْرفِ خَلْقِهِ بِجَلالِهِ الْمَبْعُوثِ بِالْقُرْآنِ ... ›?

الصالحة وبعدها موعظة بليغة في فصل يحتوي على

.. شَوْقًا إليه وَلَذَّةِ النَّظَرِ الَّذِي بِجَلالِ وَجْهِ الرَّبِّ ذِي السُّلْطَانِ فَالشَّوْقُ لَذَّةٌ رُوُحه فِي هَذِهِ الدُّ نْيَا وَيَوْمَ قِيَامَةِ الأَبْدَانِ تَلْتَذُّ بِالنَّظَرِ الَّذِي فَازَتْ بِهِ دُونَ الْجَوَارِحِ هَذِهِ الْعَيْنَانِ وَاللهِ مَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا أَلَـ ـذُّ مِنْ اشْتِيَاقِ الْعَبْدِ لِلرَّحْمَنِ وَكَذَاكَ رُؤْيَةُ وَجْهِهِ سُبْحَانَهُ هِيَ أَكْمَلُ اللَّذَاتِ لِلإِنْسَانِ ... ›? اللَّهُمَّ انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، ووفقنا للعمل بما فهمتنا، اللَّهُمَّ إن كنا مقصرين في حفظ حقك والوفاء بعهدك فأَنْتَ تعلم صدقنا في رجَاءَ رفاك، وخالص ودك، اللَّهُمَّ أَنْتَ أعلم بنا منا فبكمال جودك تجاوز عنا، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ. اللَّهُمَّ اجعلنا لكتابك من التالين ولك به من العاملين وبما صرفت فيه من الآيات منتفعين، وإلى لذيذ خطابه مستمعين، ولأوامره ونواهيه خاضعين وبالأعمال مخلصين، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) عباد الله وقَدْ سبق ذكر النار وأهوالها، وغمومها وأنكالها وطباقتها، وشراب أهلها وطعامهم، وما إلى ذَلِكَ مِمَّا أعده الله جَلَّ وَعَلا لأهلها من أنواع الْعَذَاب الأليمِ الأبدي السرمدي أعاذنا الله وإياكم وَجَمِيع

ما يقال لأهل الجنة عند دخولهم لها وما يقولونه هم

المسلمين منها، ويقابلها دار أخرى دار قرار ونعيم، وسرور وحبور، وأمن وصحة، وحياة أبدية فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين مِمَّا لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، دار جعلها الكريم الرحيم الغافر الجواد الماجد، دار ضيافة يكرم فيها عباده الأخيار الَّذِينَ وفقهم الله لخدمته والْعَمَل بطاعته، ولا تظنن هذه الضيافة فيها محدودة، ولا أن الكرامة فيها تنتهي، بل الكرامة كُلّ ما تحبه وتتمناه أمامك، إن كنت ممن سبقت له من الله الحسنى. فاستثر الخوف من قلبك، بطول فكرك في أصحاب جهنم، وفي أحوالهم وتقلباتهم، وحسرتهم، وندامتهم على تفريطهم، واذكر طعامهم وشرابهم، وألوان عذابهم وخلودهم، واستثر الرجَاءَ، بطول فكرك فيما أعده الله لأولياءه وأصفيائه في دار كرامته من النَّعِيم الْمُقِيم والعيش السَّلِيم الموعود لأَهْل الْجَنَّة، جعلنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المسلمين ممن يحلها، وسق نفسك بسوط الخوف، وقدها بزمام الرجَاءَ إلى الصراط المستقيم لتنال الملك العَظِيم، وتسلم من الْعَذَاب الأليمِ، وتفكر في قدوم أَهْل الْجَنَّة، وما يلاقون من الحفاوة والتكريم، وما يُقَالُ لَهُمْ عَنْدَ قدومهم. قال تَعَالَى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} إلى قوله: {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} بعد أن ذكر جَلَّ وَعَلا أحوال الأشقياء، وما يلاقونه يوم القيامة من الأهوال والكروب والشدائد، أردف ذَلِكَ بذكر أحوال السعداء، وما

أبواب الجنة وهيآت أهلها وشرابهم وما يطاف عليه به

يلاقونه إذ ذاك من النَّعِيم، وما يُقَالُ لَهُمْ والمراد بالسوق هنا الإسراع بِهُمْ إلى دار الكرامة والرضوان كما يفعل بمن يكرم من الوافدين على بعض الملوك، بخلاف السوق المتقدم في حق الكفار، فإنه طردهم إلى الْعَذَاب والذل والهوان، كما يفل بالمجرم الأسير إذا سيق إلى السجن أو القتل فشتان ما بين السوقين {حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} المعنى أنهم إذا وصلوا إليها وقَدْ فتحت أبوابها لَهُمْ كما تفتح الخدم باب المنزل للضيف عَنْدَ قدومه، وتقف له منتظرة حضوره فرحًا واستبشارًا لقدومه، فرحوا بما أفاء الله عَلَيْهمْ من النَّعِيم، وبما شاهدت أعينهم مِمَّا لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ثُمَّ أخبر جَلَّ وَعَلا أن خزنة الْجَنَّة يسلمون على الْمُؤْمِنِين، فَقَالَ عز من قائل: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} فبدؤهم بالسلام، التضمن للسلامة من كل شر ومكروه أي سلمتم فلا يلقكم بعد اليوم ما تكرهون ثم قالوا لهم: {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} . أي سلامتكم ودخولكم بطيبكم، فإن الله حرمها إِلا على الطيبين، فبشروهم بالسلامة والطيب، والدخول والخلود، ثُمَّ أخبر عما يقوله المؤمنون إذا عاينوا ذَلِكَ النَّعِيم الْمُقِيم والعطاء الجزيل بعد دخولهم واستقرارهم، حامدين لله على ما أولاهم ومن به عَلَيْهمْ وهداهم له، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء} ونحو هذه الآيَة {وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ} . اللَّهُمَّ ثَبِّتْ إيماننا بك ومحبتك في قلوبنا ثبوت الجبال الراسيات واعصمنا يا مولانَا مِنْ جَمِيعِ الموبقات ووفقنا للعمل بالباقيات الصالحات

وارفع منازلنا في فسيح الجنات وارزقنا النظر إلى وجهك الكريم يا حكيم يا عليم يا حي يا قيوم وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. قال ابن القيم: ... أَبْوَابُهَا حَقُّ ثَمَانِيَةٌ أَتَتْ فِي النَّصِّ وَهِيَ لِصَاحِبِ الإِحْسَانِ بَابُ الْجِهَادِ وَذَاكَ أَعْلاهَا وَبَا بُ الصَّوْمِ يُدْعَى الْبَابُ بِالرَّيَّانِ وَلِكُلِّ سَعْيٍ صَالِحٍ بَابُ وَرَ بُ السَّعْيِ مِنْهُ دَاخِلٌ بِأَمَانِ وَلَسَوْفَ يُدْعَى الْمَرْءُ مِنْ أَبْوَابِهَا جَمْعًا إِذَا وَافَى حُلَى الإِيمَانِ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ هُوَ الصِّدِّيقُ ذَا كَ خَلِيفَةُ الْمُبْعُوثِ بِالْقُرْآنِ ... ›? وتفكر في وجوه أَهْل الْجَنَّة التي أخبر الله عَنْهَا بقوله: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} أي بهاءه ونضارته ورونقه فإن توالي اللذات والمسرات والأفراح يكسب الوجه نورًا وحسنًا، وبهجة وإشراقًا، تبرق منه أسارير الوجه. ثُمَّ أخبر جَلَّ وَعَلا عما يسقاه الأَبْرَار من الشراب الطيب اللذيذ، فَقَالَ: {يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ} الرحيق من أسماء الخمر. قاله ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وابن زيد. وَقَالَ الإمام أَحَمَد: حدثنا حسن حدثنا زهير عن سعيد عن أبي المحاصر الطائي عن عطية بن سعد العوفي عن أبي سعيد الخدري أراه قَدْ رفعه إلى النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أيما مُؤْمِن

وما يطوف عليهم وطعامهم ومقامهم

سقى مؤمنًا شربة ماء على ظمأ سقاه الله يوم القيامة من الرحيق المختوم، وأيما مُؤْمِن أطعم مؤمنًا على جوع أطعمه الله من ثمار الْجَنَّة، وأيما مُؤْمِن كسا مؤمنًا ثوبًا على عُرْيٍ كساه الله من خضر الْجَنَّة» ، وقوله: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} أي خلطه مسك. وعن أبي الدرداء: هُوَ شراب أبيض مثل الفضة، يختمون به شرابهم، ولو أن رجلاً من أَهْل الدُّنْيَا أدخل أصبعه فيه ثُمَّ أخرجها، لم يبق ذو روح إِلا وَجَدَ طيبها، وقوله: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} المعنى - وَاللهُ أَعْلَمُ - وفي مثل هَذَا الحال فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله، وليتفاخر المتفاخرون، وليتباهى المتباهْوَن، ويكاثر ويستبق إلى مثله المستبقون، كقوله تَعَالَى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ} ، وقوله: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} المعنى أن هَذَا الشراب الموصوف المختوم بالمسك: يفض ختمه، ثُمَّ يمزج بشَيْء من هذه العين المسماة {تَسْنِيمٍ} التي {يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} وَهُوَ أشرف شراب أَهْل الْجَنَّة وأعلاه، قاله أبو صالح، والضحاك. ولهَذَا قال: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} أي يشربها المقربون، وقيل: يشرب منها المقربون، وَقَالَ تَعَالَى: {وَيُطَافُ عَلَيْهمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَأَنْتَ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً * عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً * وَيَطُوفُ عَلَيْهمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً} بعد ما أخبر جَلَّ وَعَلا أنه وقاهم شر ذَلِكَ اليوم، فلا يحزنهم الفزع الأكبر، وأنه لقاهم نضرة في وجوههم، وَسُرُورًا في قُلُوبهمْ، فجمَعَ لَهُمْ بين النَّعِيم الظاهر، والنَّعِيم الباطن، وأنه {جَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} ، وأنهم في جلسة مريحة مطمئنة، والجو حولهم رخاء ناعم، دافئ في غير حر نَدِيِ، في غير برد، فلا شمس تلهب،

ولا برد يقرس، وقريبة أغصانها وثمارها من مريدها يناله قاعدًا أو قائمًا، أخبر عما يدور به الولدان والخدم، من الطعام والشراب الَّذِي عَلَى قَدْرِ ريهم، لا يزيد عَنْهُ ولا ينقص، قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ واصفًا لطعامهم وشرابهم: ... وَطَعَامُهُمْ مَا تَشْتَهِيهِ نُفُوسُهُمْ وَلُحُومُ طَيْرٍ نَاعِمٍ وَسِمَانِ وَفَوَاكِهٌ شَتَّى بِحَسْبِ مُنَاهُمُ يَا شِبْعَة كَمُلَتْ لِذِي الإِيمَانِ لَحْمٌ وَخَمْرٌ وَالنِّسَا وَفَوَاكِهٌ وَالطِّيبُ مَعْ رُوحٍ وَمَعْ رَيْحَانِ وَصِحَافُهُمْ ذَهَبٌ تَطُوفُ عَلَيْهِمْ بِأَكَفِّ خُدَّامٍ مِن الْوِلْدَانِ وَانْظُرْ إِلَى جَعْلِ اللَّذَاذَةِ لِلْعُيُو نِ وَشَهْوَةٍ لِلنَّفْسِ فِي الْقُرْآنِ لِلْعَيْنِ مِنْهَا لَذَّةٌ تَدْعُو إِلَى شَهَوَاتِهَا بِالنَّفْسِ وَالأَمْرَانِ سَبَبُ التَّنَاوُلِ وَهُوَ يُوجِبُ لَذَّةً أُخْرَى سِوَى مَا نَالَتِ الْعَيْنَانِ ... ›? اللَّهُمَّ ارزقنا حبك وحب من يحبك وحب الْعَمَل الَّذِي يقربنا إلى حبك، اللَّهُمَّ ثَبِّتْ إيماننا ثبوت الجبال الراسيات ووفقنا للعمل بالباقيات الصالحات واعصمنا يا مولانَا عن المحرمَاتَ والمشتبهات واغفر لنا جَمِيع الخطايا والزلات وافتح لدعائنا باب القبول والإجابات يا أجود الأجودين. اللَّهُمَّ امنن عَلَيْنَا بإصلاح عيوبنا واجعل التقوى زادانَا وفي دينك

أنهار الجنة وثمرات الجنة والجور التي فيها - كلام أهل الجنة أطيب الكلام

اجتهادنا وعَلَيْكَ توكلنا واعتمادنا، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وَقَالَ تَعَالَى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} هَذَا الكلام استئناف مسوق لشرح محاسن الْجَنَّة الموعود بها الْمُؤْمِنِين وبيان كيفية أنهارها التي أشير إليها وأنها تجري من تحتهم، فَقَالَ - مفسرًا لذَلِكَ - {فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ} أي غير متغيرة الطعم والريح واللون، بل هُوَ أعذب المياه وأصفاها، وأطيبها وألذها شربًا والثاني: {وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} لا بحموضة ولا غيرها. الثالث: {وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ} لم تدنسها الأرجل، ولم تكدرها الأيدي، ولَيْسَ فيها كراهة طعم ولا ريح ولا غائلة سكر، بل يلتذ شاربها لذة عظيمة، لا كخمر الدُّنْيَا التي يكره مذاقها، وتصدع الرأس، وتزيل العقل. والرابع: {وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} أي قَدْ صفي عن القذى والوسخ، وما يكون في عسل الدُّنْيَا قبل تصفيته من الشمَعَ، وفضالات النحل وغيرها، وبدئ بالماء لأنه لا يستغنى عَنْهُ في الدُّنْيَا، ثُمَّ باللبن لأنه يجري مجرى الطعام لكثير من الْعَرَب في غالب أوقاتهم، ثُمَّ بالخمر، لأنه إذا حصل

الري والشبع تشوَقْت النفس لما يستلذ به، ثُمَّ بالعسل لأن فيه الشفاء في الدُّنْيَا مِمَّا يمرض من المطعوم والمشروب. الخامس: {وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ الثَّمَرَاتِ} أي ولهم في الْجَنَّة أنواع من الثمار المختلفة الطعوم والروائح والأشكال، من نخيل وأعناب، وتفاح ورمان وتين وغير ذَلِكَ، مِمَّا لا نظير له في الدُّنْيَا: وَقَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ في شراب أَهْل الْجَنَّة: ... يُسْقَوْنَ مِنْ خَمْرٍ لَذِيذِ شُرْبُهَا بِالْمِسْكِ أَوَّلَهُ كَمِثْلِ الثَّانِي مَن خَمْرَةٍ لَذَّتْ لِشَارِبِهَا بِلا غَوْلٍ وَلا دَاءٍ وَلا نُقْصَانِ وَالْخَمْرُ فِي الدُّنْيَا فَهَذَا وَصْفُهَا تَغْتَالُ عَقْلَ الشَّارِبِ السَّكْرَانِ وَبِهَا مِن الأَدَّوَاءِ مَا هِيَ أَهْلُهُ وَيُخَافُ مِنْ عَدَمِ لِذِي الْوِجْدَانِ فَنَفَى لَنَا الرَّحْمَنُ أَجْمَعَهَا عَنْ الْـ ـخَمْر الَّتِي فِي جَنَّةِ الْحَيَوَانِ وَشَرَابُهُمْ مِنْ سَلْسَبِيلِ مَزْجُهُ الْـ ـكَافُورُ ذَاكَ شَرَابُ ذِي الإِحْسَانِ هَذَا شَرَابُ أُولِي اليمِين وَلَكِنْ الْـ أَبْرَارُ شُرْبُهُمْ شَرَابُ ثَانِي ... ›?

.. يُدْعَى بِتَسْنِيمٍ سَنَامُ شَرَابِهِمْ شُرْبٌ الْمُقَرَّبِ خِيرَةِ الرَّحْمَنِ صَفَّى الْمُقَرَّبُ سَعْيَهُ فَصَفَا لَهُ ذَاكَ الشَّرَابُ فَتِلْكَ تَصْفِيَتَانِ لَكِنَّ أَصْحَابَ الْيَمينِ فَأَهْلُ مَزْ جٍ بِالْمُبَاحِ وَلَيْسَ بِالْعِصْيَانِ مُزِجَ الشَّرَابُ لَهُمْ كَمَا مَزَجُوا هُمُ أَعْمَالَ ذَاكَ الْمَزْجُ بِالْمِيزَانِ هَذَا وَذُو التَّخْلِيطِ مَزْجًا أَمْرُهُ وَالْحُكْمُ فِيهِ لِرَبِّنَا الدَّيَّانُ ... ›? اللَّهُمَّ اكتب في قلوبنا الإِيمَان وأيدنا بنور منك يا نور السماوات والأَرْض اللَّهُمَّ وافتح لدعائنا باب القبول والإجابة، واغفر لنا بِرَحْمَتِكَ الواسعة إنك أَنْتَ الغفور الرحيم، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) قال تَعَالَى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً * وَإِذَا رَأَيْتَ ثُمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً * عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} بعد أن ذكر جَلَّ وَعَلا وصف أواني مشروبهم، ووصف مشروبهم، ذكر أوصاف السقاة الَّذِينَ يسقونهم ذَلِكَ الشراب، وأنهم ولدان من ولدان الْجَنَّة، يأتون على ما هم عَلَيْهِ من الشباب والطراوة والنظارة، لا يهرمون ولا يتغيرون، ولا تضعف أجسامهم عن الخدمة، وإنك إذا رَأَيْت هؤلاء الولدان خلتهم لحسن ألوانهم، ونضارة وجوههم لؤلؤًا

زوجات أهل الجنة وسرورهم وفرحهم وأنسهم وأمنهم

منثورًا، ولما ذكر جَلَّ وَعَلا نعيم أَهْل الْجَنَّة، ذكر أن هناك أمور عالية عظيمة، يعني في الْجَنَّة وسعتها وارتفاعها، وما فيها من المساكن، والغرف المزينة المزخرفة، مِمَّا لا يدركه الوصف، ولديه من البساتين الزاهرة، والثمار الدانية، والفواكه الشهية، ولحوم الطيور الطرية، والأنهار التي قال الله جَلَّ وَعَلا عَنْهَا: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ الثَّمَرَاتِ} . وَقَالَ في سورة الواقعة - مخبرًا عما هم فيه من النَّعِيم وأنهم مخدومون في شرابهم وطعامهم، مكفيون مؤنة ما يريدون -: {يَطُوفُ عَلَيْهمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنزِفُونَ} وبعد وصف الشراب، وصف جَلَّ وَعَلا الطعام، فَقَالَ: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} ثُمَّ بعد ذكر الطعام والشراب ذكر نساءهم فَقَالَ: {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} . ثُمَّ ذكر السبب في متعتهم بكل هَذَا النَّعِيم فَقَالَ: {جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فكما حسنت مِنْهُمْ الأعمال، أحسن الله لَهُمْ الجزاء، ووفر لَهُمْ الفوز والنَّعِيم، فجازاهم على ما عملوا وأثابهم بما كسبوا في الدُّنْيَا، وزكوا به أنفسهم من صالح الأعمال، ونصبوا له بأداء فرائضه على أتم الوجوه وأكملها، فهم كَانُوا قوامين الليل، صوامين النَّهَارَ {كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} . ... وَأَهْوَى مِنَ الْفِتْيَانِ كُلَّ مُوَحِّدٍ ... مُلازَمِ ذِكْرِ اللهِ فِي كُلِّ سَاعَةِ لَهُ عِفَّةٌ عَنْ كُلِّ فِعْلٍ مُحَرَّمٍ ... وَذُو رَغْبَةٍ فِيمَا يُؤَدِّي لِجَنَّةِ

وتزايد ما هم فيه من النعيم المقيم وبعده نظم من النونية

وبعد أن وصف نساءهم وصف جَلَّ وَعَلا حديثهم حينئذٍ فَقَالَ: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا تَأْثِيماً * إِلَّا قِيلاً سَلَاماً سَلَاماً} ، أي: لا يسمعون في الْجَنَّة اللغو أي الهراء من الْحَدِيث، ولا هجر القول، ما تتقزز منه النُّفُوس الراقية، ذات الأَخْلاق العالية ولا يسمعون كلامًا يؤثم صاحبه، ولكن يسمعون أطيب الكلام وَهُوَ التسليم من بَعْضهمْ على بعض، وَذَلِكَ أنها دار الطيبين، ولا يكون فيها إِلا كُلّ طيب، وهَذَا دَلِيل على حسن أدب أَهْل الْجَنَّة في خطابهم فيما بينهم، وأنه أطيب السَّلام، وسامي الكلام، مِمَّا يستساغ، كما قال تَعَالَى: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . ثُمَّ بعد أن ذكر حال السابقين وبين مالهم من نعيم مقيم في جنات النَّعِيم، أردف ذَلِكَ بذكر أصحاب اليمين فَقَالَ: {وَأَصْحَابُ اليمين مَا أَصْحَابُ اليمين * فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وَظِلّ مَّمْدُودٍ * وَمَاء مَّسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ * إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لِّأَصْحَابِ اليمين} . ففيها كُلّ ما تشتهيه النُّفُوس، وتلذ الأعين به، من مطاعم ومشارب، وملابس ومناكح، ومناظر حسنة، ويرى فيها الأشجار الملتفة، والمباني المزخرفة، ويرى فيها الرياض المعجبة، والطيور المطربة المشجية، ما يأخذ بالقُلُوب، ويسر النُّفُوس ويفرحها، وتجد الواحد عنده من الزوجات اللآتي في غاية الجمال، الجامعات لجمال الظاهر والباطن، اللآتي قال الله عنهم: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} ما يملأ الْقَلْب سرورًا ولذة وفرحًا، وعنده

من الخدم والغلمان المخلدين ما به تحصل الرَّاحَة وَالطُّمَأْنِينَة والأُنْس، وتتم به لذة العيش، وتكمل به الغبطة، وفوق ذَلِكَ رضى بديع السماوات والأَرْض، وسماع كلامه، ولذة القرب منه، والابتهاج والسرور برضاه، والخلود الدائم الأبدي، الخالي من المكدرات والمنغصات، وتزايد ما هم فيه من النَّعِيم الْمُقِيم، والعيش السَّلِيم، كُلّ وَقْت وحين، قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ - في صفة عرائس الْجَنَّة، وحسنهن وجمالهن، ولذة وصالهن ومهورهن: يا مَنْ يَطُوفُ بِكَعْبَةِ الْحُسْنِ الَّتِي حُفَّتْ بِذَاكَ الْحِجْرِ وَالأَرْكَانِ وَيَظَلُّ يَسْعَى دَائِمًا بَيْنَ الصَّفَا وَمُحَسِّرٌ مَسْعَاهُ لا الْعَلَمَانِ وَيَرُومُ قُرْبَانَ الْوِصَالِ عَلَى مِنَى وَالْخَيْفُ يَحْجِبُهُ عَنِ الْقُرْبَانِ فَلِذَا تَرَاهُ مُحْرِمًا أَبَدًا وَمَوْ ضِعُ حِلِّهِ مِنْهُ فَلَيْسَ بِدَانِي يَبْغِي التَّمَتُعَ مُفْرَدًا عَنْ حِبِّهِ مُتَجَرِّدًا يَبْغِي شَفِيعَ قِرَانِ فَيَظَلُّ بِالْجَمَرَاتِ يَرْمِي قَلْبَهُ هَذِي مَنَاسِكُهُ وَكُلُّ زَمَانِ وَالنَّاسُ قَدْ قَضَّوْا مَنَاسِكَهُمْ وَقَدْ حَثُوا رَكَائِبَهُمْ إِلَى الأَوْطَانِ ... ›?

ج ... وَخَدَتْ بِهِمْ هِمَمٌ لَهُمْ وَعَزَائِمُ نَحْوَ الْمَنَازِلَ أَوَّلَ الأَزْمَانِ رُفِعَتْ لَهُمْ فِي السَّيْرِ أَعْلامُ الْوِصَا لِ فَشَمِّرُوا يَا خَيْبَةَ الْكَسْلانِ وَرَأَوا عَلَى بُعْدٍ خِيَامًا مُشْرِفَا تٍ مُشْرِقَاتِ النُّورِ وَالْبُرْهَانِ فَتَيَمَّمُوا تِلْكَ الْخِيَامَ فَآنَسُوا فِيهِنَّ أَقْمَارًا بِلا نُقْصَانِ مِنْ قَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لا تَبْغِي سِوَى مَحْبُوبِهَا مِنْ سَائِرِ الشُّبَّانِ قَصَرَتْ عَلَيْهِ طَرْفَهَا مِنْ حُسْنِهِ وَالطَّرْفُ فِي ذَا الْوَجْهِ لِلنَّسْوَانِ أَوْ أَنَّهَا قَصَرَتْ عَلَيْهِ طَرْفَهُ مِنْ حُسْنِهَا فَالطَّرْفُ لِلذُّكْرَانِ وَالأَوَّلُ الْمَعْهُودُ مِنْ وَضْعِ الْخِطَا بِ فَلا تَحُدْ عَنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَلَرُبَّمَا دَلَّتْ إِشَارَتُه عَلَى الثَّـ ـانِي فَتِلْكَ إِشَارَةٌ لِمَعَانِي هَذَا وَلَيْسَ الْقَاصِرَاتُ كَمَنْ غَدَتْ مَقْصُورَةً فَهُمَا إِذًا صِنْفَانِ ... ›?

.. يَا مُطْلِقَ الطَّرْفِ الْمُعَذَّبِ فِي الأُلَى جُرِّدْنَ عَنْ حُسْنٍ وَعَنْ إِحْسَانِ لا تَسْبِينَّكَ صُورَةٌ مِنْ تَحْتِهَا الدَّ اءُ الدَّفِينُ تَبُوءُ بِالْخُسْرَانِ قَبُحَتْ خَلائِقُهَا وَقُبِّحَ فِعْلُهَا شَيْطَانَةٌ فِي صُورَةِ الإِنْسَانِ تَنْقَادُ لِلأَنْذَالِ وَالأَرْذَالِ هُمْ أَكْفَاؤُهَا مِنْ دُونِ ذِي الإِحْسَانِ مَا ثُمَّ مِنْ دِينٍ وَلا عَقْلٍ وَلا خُلُقٍ وَلا خَوْفٍ مِن الرَّحْمَنِ وَجَمَالُهَا زُورٌ وَمَصْنُوعٌ فَإِنْ تَرَكْتُهُ لَمْ تَطْمَح لَهَا الْعَيْنَانِ طُبِعَتْ عَلَى تَرْكِ الْحِفَاظِ فَمَا لَهَا بِوَفَاءِ حَقِّ الْبَعْلِ قَطُ يَدَانِ إِن قَصَّرَ السَّاعِي عَلَيْهَا سَاعَةً قَالَتْ وَهَلْ أَوْلَيْتَ مِنْ إِحْسَانِ أَوْ رَامَ تَقْوِيمًا لَهَا اسْتَعْصَتْ وَلَمْ تَقْبَلَ سِوَى التَّعْوِيجِ وَالنُّقْصَانِ أَفْكَارُهَا فِي الْمَكْرِ وَالْكيدِ الَّذِي ... ›?

.. قَدْ حَارَ فِيهِ فِكْرَةُ الإِنْسَانِ فَجَمَالُهَا قِشْرٌ رَقِيقٌ تَحْتَهُ مَا شِئْتَ مِنْ عَيْبٍ وَمِنْ نُقْصَانِ نَقْدٌ رَدِيءٌ فَوْقَهُ مِنْ فِضَّةٍ شَيْءٌ يُظَنُّ بِهِ مِنْ الأَثْمَانِ فَالنَّاقِدُونَ يَرَوْنَ مَاذَا تَحْتَهُ وَالنَّاسُ أَكْثَرْهُم مِن الْعُمْيَانِ أَمَّا جَمِيلاتُ الْوُجُوهِ فَخَائِنَا تُ بُعُولَهنَّ وَهُنَّ لِلأَخْدَانِ وَالْحَافِظَاتُ الْغَيْبِ مِنْهُنَّ الَّتِي قَدْ أَصْبَحَتْ فَرْدًا مِنْ النّسْوَانِ فَانْظُرْ مَصَارِعَ مَنْ يَلِيكَ وَمَنْ خَلا مِنْ قَبْلُ مِن شَيْبٍ وَمِنْ شُبَّانِ وَارْغَبْ بِعَقْلِكَ أَنْ تَبِيعَ الْغَالِي الْـ بَاقِي بِذَا الأَدْنَى الَّذِي هُوَ فَانِي إِنْ كَانَ قَدْ أَعْيَاكَ خُودٌ مِثْلَ مَا تَبْغِي وَلَمْ تَظْفَرْ إِلَى ذَا الآنِ فَاخْطُبْ مِنَ الرَّحْمَنِ خُودًا ثُمَّ قَدِّ مْ مَهْرَهَا مَا دُمْتَ ذَا إِمْكَانِ ذَاكَ النِّكَاحُ عَلَيْكَ أَيْسَرُ إِنْ يَكُنْ ... ›?

حلي أهل الجنة ومساكنهم الفاخرة العالية

.. لَكَ نِسْبَةٌ لِلْعِلْمِ وَالإِيمَانِ وَاللهِ لَمْ تُخْرَجْ إِلَى الدُّنْيَا لِلَّذْ ةِ عَيْشِهَا أَوْ لِلْحُطَامِ الْفَانِي لَكِنْ خَرَجْتَ لِكَيْ تُعِدَّ الزَّادَ لِلْـ أُخْرَى فَجِئْتَ بِأَقْبَحِ الْخُسْرَانِ أَهْمَلْتَ جَمْعَ الزَّادِ حَتَّى فَاتَ بَلْ فَاتَ الَّذِي أَلْهَاكَ عَنْ ذَا الشَّانِ وَاللهِ لَوْ أَنَّ الْقُلُوبَ سَلِيمَةٌ لِتَقَطَّعَتْ أَسَفًا مِن الْحُرْمَانِ لَكِنَّهَا سَكَرَى بِحُبِّ حَيَاتِهَا الدُّ نْيَا وَسَوْفَ تَفِيقُ بَعْدَ زَمَانِ ... ›? اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك في قلوبنا ثبوت الجبال الراسيات وجنبنا الخطايا والذُّنُوب الموبقات ووفقنا للعمل بالباقيات الصالحات وألهمنا ذكرك في جَمِيع الأوقات وزحزحنا عن النار وأدخلنا فسيح الجنات يا رفيع الدرجات. اللَّهُمَّ أعنا على ذكرك وحسن عبادتك، وتلاوة كتابك، وَاجْعَلْنَا مِنْ حزبك المفلحين، وأيدنا بجندك المنصورين. وارزقنا مرافقة الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وبعد أن وصف الله جَلَّ وَعَلا شراب أَهْل الْجَنَّة وآنيته، وما هم فيه من النَّعِيم، وصف ملابسهم بقوله: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ} وذكر بعده حليهم فَقَالَ: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} وفي سورة فاطر يَقُولُ

جَلَّ وَعَلا: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} . وَقَالَ في الآيَة الأخرى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} إلخ، وَقَالَ عز من قائل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً * أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} ففي آية سورة الدخان ذكر جَلَّ وَعَلا من ضروب نعيمهم خمسة ألوان: 1- مساكنهم فَقَالَ: {فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} والمسكن الطيب يطيب بأمرين: (أ) أن يكون الساكن فيه آمنًا مِنْ جَمِيعِ ما يخافه ويحذر منه، وَهُوَ المقام الأمين. (ب) أن يكون فيه أسباب النزهة من الجنات والعيون، وَذَلِكَ في قوله: {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} . 2- ملابسهم، وهي التي ذكرها بقوله: {يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} . 3- استئناس بَعْضهمْ ببعض، بجلوسهم على جهة التقابل وَهُوَ ما أشار إليه بقوله: {مُّتَقَابِلِينَ} .

ذبح الموت بين الجنة والنار في صورة كبش أملح

4- الأزواج وَهُوَ المشار إليه بقوله: {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} . 5- المأكول كما في قوله: {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} هَذَا جزاء المتقين لله، الَّذِينَ تجنبوا ما يسخطه من المعاصي، وفعلوا ما يرضيه من الطاعات، وبعد أن وصف ما هم فيه من نعيم مقيم، بين أن حياتهم في هَذَا النَّعِيم مستمرة دائمة لا يلحقها موت ولا فناء ولا انقطاع فَقَالَ: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} ، فلا يخشون في الْجَنَّة موتًا ولا فناءًا أبدًا، ففي الصحيحين أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يؤتى بالموت في صورة كبش أملح، فيوقف بين الْجَنَّة والنار، ثُمَّ يذبح ثُمَّ يُقَالُ: يا أَهْل الْجَنَّة خلود فلا موت، ويا أَهْل النار خلود فلا موت» . وروى أَبُو هُرَيْرَةِ وأبو سعيد أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يُقَالُ لأَهْل الْجَنَّة إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تيأسوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا» . رواه مسلم. ومَعَ هَذَا النَّعِيم، فقَدْ نجاهم من عذاب الجحيم، تفضلاً منه وإحسانَا، فأعطاهم ما يطلبون، ونجاهم مِمَّا يرهبون وهَذَا هُوَ الفلاح والفوز العَظِيم. قال ابن القيم: ... أَوَ مَا سَمِعْتَ بِذَبْحِهِ لِلْمَوْتِ بَيْـ نَ الْمَنْزِلَيْنِ كَذَبْحِ كَبْشِ الضَّانِ ... ›?

.. حَاشَا لِذَا الْمَلَكِ الْكَرِيمِ وَإِنَّمَا هُوَ مَوْتُنَا الْمَحْتُومُ لِلإِنْسَانِ وَاللهُ يُنْشِىءُ مِنْهُ كَبْشًا أَمْلَحًا يَوْمَ الْمَعَادِ يُرَى لَنَا بِعِيَانِ ... ›? وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: ... هَذَا وَخَاتِمَةُ النَّعِيمِ خُلُودُهُم أَبَدًا بِدَارِ الأَمْنِ وَالرِّضْوَانِ أَوَ مَا سَمِعْتَ مُنَادِيَ الإِيمَانِ يُخْبِرُ عَنْ مُنَادِيهِمْ بِحُسْنِ بَيَانِ لَكُمُ حَيَاةٌ مَا بِهَا مَوْتٌ وَعَا فِيَةٌ بِلا سُقْمٍ وَلا أَحْزَانِ وَلَكُمْ نَعِيمٌ مَا بِهِ بُؤْسٌ وَمَا لِشَبَابِكُمْ هَرَمٌ مَدَى الأَزْمَانِ كَلا وَلا نَوْمٌ هُنَاكَ يَكُونَ ذَا نَوْمٌ وَمَوْتٌ بَيْنَنَا أَخَوَانِ هَذَا عَلِمْنَاهُ اضْطِرَارًا مِنْ كِتَا بِ اللهِ فَافْهَمْ مُقْتَضَى الْقُرْآنِ ... ›? ونعود إلى لباس أَهْل الْجَنَّة والكلام عَلَيْهِ. فلباس أَهْل الْجَنَّة في الْجَنَّة الحرير، ومنه سندس، وَهُوَ رفيع

الديباج، للقمصان والغلائل ونحوها مِمَّا يلي أبدانهم، والاستبرق هُوَ غليظ الديباج لامعه، مِمَّا يلي الظاهر، كما هُوَ المعهود في لباس الدُّنْيَا، وأما الحل فقيل: إن صفة حلي الأَبْرَار أنه من فضة وصفة حلي المقربين من الذهب، وقيل: لأن أَهْل الْجَنَّة يلبسون هَذَا تَارَّة، والآخِر تَارَّة، وقَدْ يجمعون بينهما. وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) ثُمَّ بعد ذَلِكَ ذكر جَلَّ وَعَلا وتقدس أنهم يسقون شرابًا آخر طهورًا، قيل: طاهرٌ من الأقذار والأقذاء، لم تدنسه الأيدي والأرجل، كخمر الدُّنْيَا وقيل إنه لا يصير بولاً نجسًا ولكنه يصير في أبدانهم كريح المسك، وَذَلِكَ أنهم يؤتون بالطعام فيأكلون، فإذا كَانَ آخر ذَلِكَ أتوا بالشراب الطهور فيشربون، فتطهر بطونهم، ويصير ما أكلوا رشحًا، يخَرَجَ من جلودهم أطيب من المسك الأذفر، وتضمر بطونهم، وتعود شهوتهم، وَقَالَ مقاتل: هُوَ عين ماء على باب الْجَنَّة، من شرب منها نزع الله ما في قَلْبهُ من غل وغش وحسد. وعن أمير الْمُؤْمِنِين علي بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه قال: إذا انتهى أَهْل الْجَنَّة إلى باب الْجَنَّة وجدوا هنالك عينين، فكأنما ألهموا ذَلِكَ، فشربوا من إحداهما، فأذهب الله ما في بطونهم من أذى، ثُمَّ اغتسلوا من الأخرى فجرت عَلَيْهمْ نضرة النَّعِيم، فأخبر سُبْحَانَهُ وتَعَالَى بحالهم الظاهر، وجمالهم الباطن، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ اليوم فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُم مَّا يَدَّعُونَ * سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} في هذه الآيات يخبر جَلَّ وَعَلا عن أَهْل الْجَنَّة: أنهم يوم القيامة إذا ارتحلوا من العرصات فنزلوا في روضات الجنات، أنهم في شغل مفكة للنفس، ملذٍ لها، من كُلّ ما تهواه

النُّفُوس، وتلذه العيون. قال الحسن البصري وإسماعيل بن خالد: في شغل عما فيه أَهْل النار من الْعَذَاب. وَقَالَ ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن المسيب وعكرمة والحسن وقتادة والأعمش وسليمان التيمي والأوزاعي: شغلهم افتضاض الأبكار. والخلاصة أن من يدخل الْجَنَّة يتمتع بنعيمها ولذاتها، ويكون بذَلِكَ في شغل عما سواه، إذ يرى ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فأنى له أن يفكر فيما سواه وَهُوَ بذَلِكَ فرح مستبشر، ضحوك السن، هادئ البال، لا يرى شَيْئًا يغمه أو ينغص عَلَيْهِ حبوره وسروره. ... وَلَقَدْ رُوِينَا أَنَّ شُغْلَهُم الَّذِي ... قَدْ جَاءَ فِي يَس دُونَ بَيَانِ شُغْلُ الْعَرُوسِ بِعُرْسِهِ مِنْ بَعْدِمَا ... عَبِثَتْ بِهِ الأَشْوَاقُ طُولَ زَمَانِ بِاللهِ لا تَسْأَلْهُ عَنْ أَشْغَالِهِ ... تِلْكَ اللَّيَالِي شَأْنُهُ ذُو شَانِ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً بِصَبٍّ غَابَ عَنْ ... مَحْبُوبِهِ فِي شَاسِعِ الْبُلْدَانِ وَالشَّوْقُ يُزْعِجُهُ إليه وَمَا لَهُ ... بِلِقَائِهِ سَبِبٌ مِن الإِمْكَانِ وَافَى إليه بَعْدَ طُولِ مَغِيبِهِ ... عَنْهُ وَصَارَ الْوَصْلُ ذَا إِمْكَانِ أَتَلُومُهُ أَنْ صَارَ ذَا شُغْلٍ بِهِ ... لا وَالَّذِي أَعْطَى بِلا حُسْبَانِ يَا رَبُّ غَفْرًا قَدْ طَغَتْ أَقْلامُنَا ... يَا رَبُّ مَعْذِرَةً مِنَ الطُّغْيَانِ اللَّهُمَّ أعطنا من الْخَيْر فوق ما نرجو واصرف عنا من السُّوء فوق ما نحذر. اللَّهُمَّ علق قلوبنا برجائك واقطع رجاءنا عمن سواك. اللَّهُمَّ إنك تعلم عيوبنا فاسترها وتعلم حاجتنا فاقضها كفى بك وليًا وكفى بك نصيرًا يا رب العالمين. اللَّهُمَّ وفقنا لسلوك سبيل عبادك الأخيار، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

المتقون هم الذين يورثهم الله الجنة آيات

(فَصْلٌ) قال تَعَالَى: {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} يذكر جَلَّ وَعَلا ما يتلقى به عباده الْمُؤْمِنِين، الْمُتَحَابِّينَ فيه، تشريفًا لَهُمْ وتكريمًا، وتسكينًا لروعهم، مِمَّا يكون في ذَلِكَ اليوم من الأهوال والكروب والشدائد، فَقَالَ: {يَا عِبَادِ} الآيَة. ثُمَّ بين من يستحق هَذَا الندا فَقَالَ: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} فعِنْدَمَا يسمَعَ النَّاس المنادي ينادي بالآيَة الأولى، وهي قوله: {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} يرجوها النَّاس كلهم فإذا سمعوا الآيَة التي تليها يئس النَّاس منها غير الْمُؤْمِنِين ثُمَّ ذكر ما يُقَالُ لَهُمْ على سبيل البشرى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} وبعد ذَلِكَ ذكر طرفًا مِمَّا يتنعمون به من النَّعِيم، فَقَالَ: {يُطَافُ عَلَيْهمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} أي وبعد أن يستقروا بالْجَنَّة، ويهدأ روعهم، تدور عَلَيْهمْ خدامهم من الولدان المخلدين بصحاف من الذهب، مترعة بألوان الأطعمة، وبأكواب فيها أصناف الشراب مِمَّا لذ وطاب. وعن أنس قال: كَانَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعجبه الرؤيا، فيسأل عَنْهُ إذا لم يكن يعرفه، فإذا أُثْنِيَ عَلَيْهِ معروف كَانَ أعجب لرؤياه إليه، فأتته امرأة فقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ رأيت

كأني أتيت، فأخرجت من الْمَدِينَة، فأدخلت الْجَنَّة، فسمعت وجبة انفتحت لها الْجَنَّة، فنظرت فإذا فلان وفلان وفلان، فسمت اثني عشر رجلاً كَانَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بعثهم في سرية قبل ذَلِكَ، فجيء بِهُمْ عَلَيْهمْ ثياب طلس، تشخب أوداجهم، فقيل: اذهبوا بِهُمْ إلى نهر البيذخ، قال: فغمسوا فيه، فخرجوا ووجوههم كالقمر ليلة البدر، فأتوا بصحفة من ذهب فيها بسر، فأكلوا من ذَلِكَ البسر ما شاءوا، فما يقلبونها من وجه إِلا أكلوا من الفاكهة ما أرادوا، وأكلت معهم، فَجَاءَ البشير من تلك السرية، فَقَالَ: أصيب فلان، وفلان، حتى عد اثني عشر رجلاً، فدعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المرأة فَقَالَ: «قصي رؤياك» فقصتها وجعلت تَقُول: جيء بفلان، وفلان كما قال. رواه الإمام أَحَمَد في مسنده بنحوه وإسناده على شرط مسلم. وبعد هَذَا التفصيل لبعض ما في الْجَنَّة من نعيم، عمم ذَلِكَ فَقَالَ: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ففيها ما تشتهيه أنفس أهلها من صنوف الأطعمة والأشربة والألبسة، والأياء المعقولة والمسموعة، ونحوها مِمَّا تطلبه النُّفُوس وتهواه، كائنًا ما كَانَ. وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً * وَكَأْساً دِهَاقاً} بعد أن ذكر جَلَّ وَعَلا حال المجرمين المكذبين الطاغين، أعقبه بمآل المتقين، وما يفوزون به من الجنات التي وصفها، ووصف ما فيها، وذكر أنها عطاء منه، ففي ذكرها استنهاظ، وحث لعوالي الهمم، بدعوتهم إلى المثابرة على الطاعات والازدياد منها، وفي تذكر ما في هَذَا المفاز والمنجى الْبَعِيد عن النار،

والزوجات الكواعب، اللاتي على سن واحد متقارب، ما يمنع ذا اللب من الانهماك في الدُّنْيَا ولذاتها، وقتل الأوقات في طلبها وتحصيلها. قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: فَصْلٌ فيما أعد الله لأوليائه المتمسكين بالْكِتَاب والسنة: يَا خَاطِبَ الْحُورِ الْحِسَانِ وَطَالِبًا لِوِصَالِهِنَّ بِجَنَّةِ الْحَيَوَانِ لَوْ كُنْتَ تَدْرِي مَنْ خَطَبْتَ وَمَنْ طَلَبْـ تَ بَذَلْتَ مَا تَحْوِي مِنَ الأَثْمَانِ أَوْ كُنْتَ تَدْرِي أَيْنَ مَسْكَنُهَا جَعَلْـ ـتَ السَّعْيَ مِنْكَ لَهَا عَلَى الأَجْفَانِ وَلَقَدْ وَصَفْتُ طَرِيقَ مَسْكَنِهَا فَإِنْ رُمْتَ الْوِصَالَ فَلا تَكُنْ بِالْوَانِي أَسْرِعْ وَحُثَّ السَّيْرَ جَهْدَكَ إِنَّمَا مَسْرَاكَ هَذَا سَاعَةً لِزَمَانِ فَاعْشِقْ وَحَدِّثْ بِالْوِصَالِ النَّفْسَ وَابْـ ـذِلْ مَهْرَهَا مَا دُمْتَ ذَا إِمْكَانِ وَاجْعَلْ صِيَامَكَ قَبْلَ لُقْيَاهَا وَيَوْ مْ الْوَصْلِ يَوْمَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانِ وَاجْعَلْ نُعُوتَ جَمَالِهَا الْحَادِي وَسِرْ تَلْقَى الْمَخَاوُفَ وَهِيَ ذَاتُ أَمَانِ ... ›?

.. لا يُلْهِيَنَّكَ مَنْزِلٌ لَعِبْتَ بِهِ أَيْدِي الْبِلا مِنْ سَالِفِ الأَزْمَانِ فَلَقَدْ تَرَحَّلَ عَنْهُ كُلُّ مُسَرَّةٍ وَتَبَدَلَتْ بَالْهَمِّ وَالأَحْزَانِ سِجْنٌ يَضِيقُ بِصَاحِبِ الإِيمَانِ لَـ ـكِنْ جَنَّةُ الْمَأْوَى لِذِي الْكُفْرَانِ سُكَّانُهَا أَهْلُ الْجَهَالَةِ وَالْبَطَا لَةِ وَالسَّفَاهَةِ أَنْجَسُ السُّكَّانِ وَأَلَذُّهُمْ عَيْشًا فَأَجْهَلُهُمْ بِحَـ ـقِ اللهِ ثُمَّ حَقَائِقِ الْقُرْآنِ عَمْرتْ بِهِمْ هَذِي الدِّيَارُ وَأَقْفَرَتْ مِنْهُمْ رُبُوعُ الْعِلْمِ وَالإِيمَانِ قَدْ آثَرُوا الدُّنْيَا وَلَذَّةُ عَيْشِهَا الْـ فَانِي عَلَى الْجَنَّاتِ وَالرِّضْوَانِ صَحِبُوا الأَمَانِي وَابْتُلُوا بِحُظُوظِهِمْ وَرَضُوا بِكُلِّ مَذَلَّةٍ وَهَوَانِ كَدْحًا وَكَدًا لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ مَا فِيهِ مِنْ غَمٍّ وَمِنْ أَحْزَانِ وَاللهِ لَوْ شَاهَدتَ هَاتَيْكَ الصُّدُو رِ رَأَيْتَهَا كَمَرَاجِلِ النِّيرَانِ ... ›?

.. وَوَقُودُهَا الشَّهَوَاتُ وَالْحَسَرَاتُ وَالآ لامُ لا تَخْبُو مَدَى الأَزْمَانِ أَبْدَانُهُمْ أَجْدَاثُ هَاتِيكَ النُّفُو سِ اللائِي قَدْ قُبِرتْ مَعَ الأَبْدَانِ أَرْوَاحُهُمْ فِي وَحْشَةٍ وَجُسُومُهُمْ فِي كَدْحِهَا لا فِي رِضَا الرَّحْمَنِ هَرَبُوا مِن الرِّقِ الَّذِي خُلِقُوا لَهُ فَبُلُو بِرِقِّ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ لا تَرْضَ مَا اخْتَارُوا هُمُ لِنُفُوسِهِمْ فَقَدْ ارْتَضُوا بِالذُّلِّ وَالْحِرْمَانِ لَوْ سَاوَتْ الدُّنْيَا جَنَاحَ بَعُوضَةٍ لَمْ َيَسْقِ مِنْهَا الرَّبُّ ذُو الْكُفْرَانِ لَكِنَّهَا وَاللهِ أَحْقَرُ عِنْدَهُ مِنْ ذَا الْجَنَاحِ الْقَاصِرِ الطَّيَرَانِ وَلَقَدْ تَوَلَّتْ بَعْدُ عَنْ أَصْحَابِهَا فَالسَّعْدُ مِنْهَا حَلَّ بِالدَّبَرَانِ لا يُرْتَجَى مِنْهَا الْوَفَاءُ لِصَبِّهَا أَيْنَ الْوَفَا مِنْ غَادِرِ خَوَّانِ طُبِعَتْ عَلَى كَدْرِ فَكَيْفَ يَنَالُهَا صَفْوٌ أهَذَا قَطُ فِي إِمْكَانِ ... ›?

من القرآن تطير القلوب فرحا وسرورا وتحثها على الاجتهاد

.. يَا عَاشِقَ الدُّنْيَا تَأَهَّبْ لِلَّذِي قَدْ نَالَهُ الْعُشَّاقُ كُلَّ زَمَانِ أَوْ مَا سَمِعْتَ بَلْ رَأَيْتَ مَصَارِعَ الْـ ـعُشَّاقِ مِنْ شَيْبٍ وَمِنْ شُبَّانِ ... ›? اللَّهُمَّ إليك بدعائنا توجهنا وبفنائك أنخنا وَإِيَّاكَ أملنا ولما عندك من الجود والإحسان طلبنا ولرحمتك رجونا، ومن عذابك أشفقنا ولعفوك وغفرانك تعرضنا فاعف عنا وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) قَالَ اللهُ تَعَالَى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلَاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً * تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً} لما ذكر تَعَالَى أنه يدخل التائبين الْجَنَّة، وصف هذه الْجَنَّة بجملة أوصاف (أولاً) : أحبر أنها جنات إقامة دائمة، لا كجنات الدُّنْيَا، وقَدْ وعد بها المتقين، وهي غائبة لم يشاهدوها، ووعد الله حق لا يخلف، فهم آتوها لا محالة. (ثانيًا) : أنهم لا يسمعون فيها كلامًا ساقطًا تافهًا لا معنى له، كما يوَجَدَ في الدُّنْيَا، بل يسمعون فيها سلامًا، والسَّلام اسم جامَعَ للخَيْر، لأنه يضمن السلامة. (ثالثًا) : أن لَهُمْ ما يشتهون من المطاعم والمشارب، في قدر وَقْت البكرة ووَقْت العشي من نهار أيام الدُّنْيَا، أي إن الَّذِي بين غدائهم وعشائهم في الْجَنَّة قدر ما بين غداء أحدنا في الدُّنْيَا وعشائه. ... فَكَّرْتُ فِي الْجَنَّةِ الْعُلْيَا فَلَمْ أَرَهَا ... تَنَالُ إِلا عَلَى جَسْرٍ مِنَ التَّعَبِ

في الطاعات رجاء أن يكونوا من أهلها ويليها أحاديث في سن أهل الجنة وعرضهم وطولهم

ولما ذكر جَلَّ وَعَلا وتقدس أن هذه الْجَنَّة تخالف جنات الدُّنْيَا ذكر ما هُوَ سبب استحقاقها فَقَالَ: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً} المعنى: هذه الْجَنَّة التي وصفت بهذه الصفات الشريفة، نورثها من عبادنا المتقين الَّذِينَ يطيعون الله في السِّرّ والعلن، ومعنى إيراثهم الْجَنَّة: الإنعام عَلَيْهمْ بالخلود فيها في أكمل نعيم، وقيل: نجعلها لَهُمْ كملك الميراث الَّذِي هُوَ أقوى تمليك، بأن نبقي عَلَيْهِ الْجَنَّة، كما نبقي على الوارث مال الموروث، ولأن الأتقاء يلقون ربهم يوم القيامة وقَدْ انقضت أعمالهم، وثمرتها باقية وهي الْجَنَّة، فإن أدخلهم الْجَنَّة فقَدْ أورثهم من تقواهم، كما يورث الوارث من المتوفى الْمَال الَّذِي خلفه. وجَاءَ بمعنى الآيَة قوله تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} إلى أن قال: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} ، وَقَالَ: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ * مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ * وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ * إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} ، وَقَالَ: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاة وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ

لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهمْ مِّن كُلّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} إلى غير ذَلِكَ من الآيات المنوهة بذكرهم وشرفهم وعظم جزائهم فنكتفي بالآيات التي ذكرنا، وما أوضحناه من معاني الآيات السابقات نسأل الله الحي القيوم ذا الجلال والإكرام، بديع السماوات والأَرْض، الواحد الأحد الفرض الصمد، الَّذِي {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} أن ينفع بها إنه القادر على ذَلِكَ. وأما الأحاديث الواردة في الْجَنَّة، فمنها ما ورد عن أَبِي هُرَيْرَةِ عن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قال الله تبارك وتَعَالَى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» واقرؤوا إن شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، وعنه قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّىٍّ فِى السَّمَاءِ إِضَاءَةً، لاَ يَبُولُونَ وَلاَ يَتَغَوَّطُونَ وَلاَ يَتْفِلُونَ وَلاَ يَمْتَخِطُونَ، أَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ، وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ، وَمَجَامِرُهُمُ الأَلُوَّةُ، أَزْوَاجُهُمُ الْحُورُ الْعِينُ، عَلَى خَلْقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ، سِتُّونَ ذِرَاعًا فِى السَّمَاءِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قال ابن القيم: هَذَا وَسِنَّهُمْ ثَلاثٌ مَعَ ثَلا ثِينَ الَّتِي هِيَ قُوَّةُ الشُّبَّانِ وَصَغِيرُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ فِي ذَا عَلَى حَدٍ سَوَاءٌ مَا سِوَى الْوِلْدَانِ ... ›?

.. وَلَقَدْ رَوَى الْخُضَرِيُّ أَيْضًا أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ بَعْدَهَا عَشْرَانِ وَكِلاهُمَا فِي التِّرْمِذِيُّ وَلَيْسَ ذَا بِتَنَاقُضٍ بَلْ هَا هُنَا أَمْرَانِ حَذْفُ الثَّلاثِ وَنَيِّفٌ بَعْدَ الْعُقُو دِ وَذِكْرَ ذَلِكَ عِنْدَهُمُ سِيَّانِ عِنْدَ اتِّسَاعٍ فِي الْكَلامِ وَعِنْدَمَا يَأْتُوا بِتَحْرِيرٍ فَبِالْمِيزَانِ وَالطُّولُ طُولُ أَبِيهِمْ سِتُّونَ لَـ كِنْ عَرْضُهم سَبْعٌ بِلا نُقْصَانِ الطُّولُ صَحَّ بِغَيْرِ شَكٍّ فِي الصَّحِيـ ... ???? ... ـحَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا لَنَا شَمْسَانِ ... ???? ... وَالْعَرْضُ لَمْ نَعْرِفْهُ فِي إِحْدَاهُمَا ... ???? ... لَكِنْ رَوَاهُ أَحْمَد ُالشَّيْبَانِي ... ???? ... هَذَا وَلا يَخْفي التَّنَاسُبُ بَيْنَ هَـ ذَا الْعَرْضِ وَالطُّولِ الْبَدِيعِ الشَّانِ كُلُّ عَلَى مِقْدَراِ صَاحِبِهِ وَذَا تَقْدِيرُ مُتْقِنِ صَنْعَةِ الإِنْسَانِ هَذَا كَمَالُ الْحُسْنِ فِي أَبْشَارِهِمْ وَشُعُورِهِمْ وَكَذَلِكَ الْعَيْنَانِ أَلْوَانُهُمْ بِيضُ وَلَيْسَ لَهُمْ لُحَى جُعْدُ الشُّعُور مُكَحَّلُوا الأَجْفَانِ ... ›?

في بيان أدنى أهل الجنة منزلة وأعلامهم منزلة

اللَّهُمَّ اسلك بنا سبيل النجاة، وبلغ كلامنا ما أمله ورجاءه واجعل لنا عندك أعظم قدر وجاه، ولا تحرمنا من فضلك العَظِيم يا أكرم الأكرمين، وَأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) في بيان أدنى أَهْل الْجَنَّة منزلةً عن الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ سَأَلَ رَبَّهُ مَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً؟ فَقَالَ: رَجُلٌ يَجِىءُ بَعْدَ مَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: رَبِّ كَيْفَ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ؟ وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ، فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ لَهُ: لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ، وَمِثْلُهُ. فَقَالَ فِي الْخَامِسَةِ: رَضِيتُ رَبِّ، فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ. فَيَقُولُ: رَضِيتُ رَبِّ. قَالَ: رَبِّ فَأَعْلاَهُمْ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ غَرْسَ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا، فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» . رواه مسلم. وعن ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «إِنِّي لأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولاً الْجَنَّة، رَجُلاً يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ حَبْوًا، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ. فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إليه أَنَّهَا مَلأَى، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلأَى، فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ. فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إليه أَنَّهَا مَلأَى. فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا

غرف الجنة وما بين مصراعيها

مَلأَى، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا. فَيَقُولُ: أَتَسْخَرُ بِي، أَوْ تَضْحَكُ مِنِّى وَأَنْتَ الْمَلِكُ» . قال: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ? ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، فَكَانَ يَقولُ: «ذَلِكَ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وعن أبي مُوَسى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن النَّبِيّ ? قال: «إن للمُؤْمِن في الْجَنَّة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها في السماء ستون ميلاً، للمُؤْمِن فيها أهلون، يطوف عَلَيْهمْ المُؤْمِن، فلا يرى بَعْضهمْ بعضًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. الميل: ستة آلاف ذراع. وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيّ ? قال: «والَّذِي نفس مُحَمَّد بيده إن ما بين مصراعين من مصاريع الْجَنَّة لكما بين مَكَّة وهجر» . متفق عَلَيْهِ. وعن أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيّ ? قال: «إن في الْجَنَّة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة سنة ما يقطعها» . متفق عَلَيْهِ. وعنه عن النَّبِيّ ? قال: «إن أَهْل الْجَنَّة ليتراءون أَهْل الغرف من فوقهم كما تراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ تلك منازل الأنبياء، لا يبلغها غيرهم، قال: «بلى والَّذِي نفسي بيده، رِجَال آمنوا بِاللهِ وصدقوا المرسلين» . متفق عَلَيْهِ. وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رسول الله ? قال: «لقاب قوس في الْجَنَّة خَيْر مِمَّا تطلع عَلَيْهِ الشمس أو تغرب» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وعن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رسول الله ? قال: «إن في الْجَنَّة سوقً يأتونها

كل جمعة، فتهب ريح الشمال، فتحثوا في وجوههم وثيابهم، فيزدادون حسنًا وجمالاً فيرجعون إلى أهليهم وقَدْ ازدادوا حسنًا وجمالاً، فَيَقُولُ لَهُمْ أهلوهم: وَاللهِ لَقَدْ ازددتم حسنًا وجمالاً، فيقولون: وأنتم وَاللهِ لَقَدْ ازددتم بعدنا حسنًا وجمالاً» . رواه مسلم. وعن معاذ بن جبل رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن النَّبِيّ ? قال: «يدخل أَهْل الْجَنَّة الْجَنَّة جردًا مردًا مكحلين، بني ثلاث وثلاثين» . رواه الترمذي، وَقَالَ: حديث حسن غريب. وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قلنا: يَا رَسُولَ اللهِ حدثنا عن الْجَنَّة ما بناؤها؟ قال: «لبنة من ذهب، ولبنة منن فضة، وملاطها المسك، وحصباؤها الؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبئس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه» . الْحَدِيث رواه أَحَمَد واللفظ له، والترمذي. وعن عَبْد اللهِ بن عمرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «إن في الْجَنَّة غرفًا يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها» . فَقَالَ أبو مالك الأشعري: لمن هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قال: «لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وبات قائمًا وَالنَّاس نيام» . رواه الطبراني، والحاكم، وَقَالَ: على شرطهما. ورواه أَحَمَد، وابن حبان في صحيحه. وعن عَبْد اللهِ بن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: (لكل مسلم خيرة، ولكل خيرة خيمة، ولكل خيمة أربعة أبواب، يدخل عَلَيْهَا من كُلّ باب تحفة وهدية وكرامة لم تكن قبل ذَلِكَ، لا مرحات، ولا دفرات، ولا سخرات،

ولا طماحات، حور عين، كأنهن بيض مكنون» . رواه ابن أبي الدُّنْيَا من رواية جابر الجعفي موقوفًا. وعن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رسول الله ? قال: «بينا أَنَا أسير في الْجَنَّة، إذ أَنَا بنهر حافتاه قباب الؤلؤ المجوف، فقُلْتُ: ما هَذَا يا جبريل، قال: هَذَا الكوثر الَّذِي أعطاك ربك. قال: فضرب الملك بيده. فإذا طينه مسك أذفر» . رواه البخاري. وروي عن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: سمعت رسول الله ? يَقُولُ: «في الْجَنَّة بحر للماء، وبحر للبن، وبحر للعسل، وبحر للخمر، ثُمَّ تشقق الأنهار منها بعد» . رواه البيهقي. وعن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «خلق الله جنة عدن بيده، ودلى فيها ثمارها، وشق فيها أنهارها، ثُمَّ نظر إليها، فَقَالَ لها: تكلمي، فقَالَتْ: قَدْ أفلح المؤمنون، فَقَالَ: وعزتي لا يجاورن فيك بخيل» . رواه الطبراني في الكبير، والأوسط بإسنادين أحدهما جيد. ورواه ابن أبي الدُّنْيَا من حديث أنس أطول منه، ولفظه قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «خلق الله جنة عدن بيده، لبنة من درة بيضاء، ولبنة من ياقوتة حمراء، ولبنة من زبرجدة خضراء، وملاطها مسك، حشيشها الزعفران، حصباؤها اللؤلؤ، ترابه العنبر، ثُمَّ قال لها: انطقي: قَالَتْ: قَدْ أفلح المؤمنون. فَقَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: وعزتي وجلالي: لا يجاورني فيك بخيل» ثُمَّ تلا رسول الله ?: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك في قلوبنا وقوها ونور قلوبنا بنور الإِيمَان وَاجْعَلْنَا هداة مهتدين، وآتنا في الدُّنْيَا حسنة وفي الآخِرَة حسنة وقنا عذاب النار، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: ... وَالْجَنَُّة اسْمُ الْجِنْسِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ جِدَا وَلَكِنْ أَصْلُهَا نَوْعَانِ ذَهَبِيَّتَانِ بِكُلِّ مَا حَوَتَاهُ مِنْ حُليٍّ وَآنِيَةٍ وَمِنْ بُنْيَانِ وَكَذَاكَ أَيْضًا فِضَّةٌ ثِنْتَانِ مِنْ حُليٍّ وَبُنْيَانِ وَكُلِّ أَوَانِ لَكِنَّ دَارَ الْخُلْدِ وَالْمَأْوَى وَعَدْ نِ وَالسَّلامِ إِضَافَةٌ لِمَعَانِ أَوْصَافُهَا اسْتَدعَتْ إِضَافَتَهَا إِلَيْـ ... ???? ... ـهَا مِدْحَةً مَعَ غَايَةَ التِّبْيَانِ ... ???? ... لَكِنَّمَا الْفِرْدَوْس أَعْلاهَا وَأَوْ سَطُهَا مَسَاكِنُ صَفْوَةِ الرَّحْمَنِ أَعْلاهُ مَنْزِلَةً لأَعْلَى الْخَلْقِ مَنْـ زِلَةً هُوَ الْمَبْعُوثُ بِالْقُرْآنِ وَهِيَ الْوَسِيلَةُ وَهِيَ أَعْلَى رُتْبَةً خَلُصَتْ لَهُ فَضْلاً مِن الرَّحْمَنِ وَلَقَدْ أَتَى فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ ... ???? ... تَفْصِيلُ الْجِنَانِ مُفَصَّلاً بِبَيَانِ ... ???? ... هِيَ أَرْبَع ثِنْتَانِ فَاضِلَتَانِ وَا يَالِيهِمَا ثِنْتَانِ مَفْضُولانِ ... ›?

الكوثر وأبحر الجنة من ماء ولبن وعسل وخمر

.. فَالأَوْلَيَانِ الْفَضْلَيَانِ لأَوْجُهٍ عَشْرٍ وَيَعْسُرُ نَظْمُهَا بِوِزَانِ وَإِذَا تَأَمَّلْتَ السِّيَاقَ وَجَدْتَهَا فِيهِ تَلُوحُ لِمَنْ لَهُ عَيْنَانِ سُبْحَانَ مَنْ غَرَسَتْ يَدَاهُ جَنَّةُ الْـ ... ???? ... فِرْدَوْسِ عِنْدَ تَكَامُلِ الْبُنْيَانِ ... ???? ... وَيَدَاهُ أَيْضًا اتْقَنَتْ لِبِنَائِهَا فَتَبَارَكَ الرَّحْمَنُ أَعْظَمُ بَانِي لَمَّا قَضَى رَبُّ الْعِبَادِ الْغَرْسَ قَا لَ تَكَلَّمِي فَتَكَلَّمَتْ بِبَيَانِ قَدْ أَفْلَحَ الْعَبْدُ الَّذِي هُوَ مُؤْمِنٌ مَاذَا ادَّخَرْتَ لَهُ مِن الإِحْسَانِ ... ›? اللَّهُمَّ يا من بيده خزائن السماوات والأَرْض، عافنا من محن الزمان، وعوارض الفتن، فإنا ضعفاء عن حملها، وإن كنا من أهلها، اللَّهُمَّ وفقنا لصالح الأعمال، ونجنا مِنْ جَمِيعِ الأهوال، وأمن من افزع الأكبر يوم الرجف والزلزال، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) روي عن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أرض الْجَنَّة بيضاء، عرصتها صخور الكافور وقَدْ أحاط به المسك، مثل كثبان الرمل، أنهار مطردة، فيجتمَعَ فيها أَهْل الْجَنَّة، أدناهم

وآخرهم، فيتعارفون، فيبعث الله ريح الرحمة، فتهيج عَلَيْهِمْ ريح المسك، فيرجع الرجل إلى زوجته وقَدْ ازداد حسنًا وطيبًا، فَتَقُول له: لَقَدْ خرجت من عِنْدِي وأنَا بك معجبة، وأنَا بك الآن أشد إعجابًا» . رواه ابن أبي الدُّنْيَا. وعن كريب أنه سمَعَ أسامة بن زيد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألا مشمر إلى الْجَنَّة، فإن الْجَنَّة لا خطر لها، هِيَ ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز وقصر مشيد، ونهر مطرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، حلل كثيرة، ومقام في أبد، في دار سليمة، وفاكهة وخضرة، وحبرة ونعمة، في محلة عالية بهية» قَالُوا: نعم يَا رَسُولَ اللهِ، نَحْنُ المشمرون، قال: «قولوا: إن شَاءَ الله» فَقَالَ القوم: إن شَاءَ الله. رواه ابن ماجة، وابن أبي الدُّنْيَا، والبزار، وابن حبان في صحيحه، والبيهقي. وعن سماك أنه لقي عَبْد اللهِ بن عباس بالْمَدِينَة، بعد ما كف بصره، فَقَالَ: يا ابن عباس ما أرض الْجَنَّة؟ قال: مرمرة بيضاء من فضة، كأنها مرآة. قُلْتُ: ما نورها؟ قال: ما رَأَيْت الساعة التي يكون فيها طلوع الشمس؟ فذَلِكَ نورها، إِلا أنه لَيْسَ فيها شمس ولا زمهرير، قال: قُلْتُ: فما أنهارها؟ أفي أخدود؟ قال: لا ولكنها تجري على أرض الْجَنَّة، مستكفة، لا تفيض ها هنا ولا ها هنا، قال الله لها: كوني فكانَتْ. قُلْتُ: فما حلل الْجَنَّة؟ قال: فيها شجرة ثمر كأنه الرمان، فإذا أراد ولي الله منها كسوة انحدرت إليه من غصنها، فانفلقت له عن سبعين حلة، ألوانًا بعد ألوان، ثُمَّ تنطبق فترجع كما كانَتْ. رواه ابن أبي الدُّنْيَا موقوفًا بإسناد حسن.

الحوض المورود صفته، لونه، طعمه، موضعه، من يرده

وروي عن عمران بن حصين وأَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ قالا: سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قوله تَعَالَى: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} قال: «قصر في الْجَنَّة من لؤلؤة، فيها سبعون دارًا من ياقوتة حمراء، في كُلّ دار سبعون بيتًا، من زمردة خضراء، في كُلّ بيت سبعون سريرًا، على كُلّ سرير سبعون فراشًا من كُلّ لون، على كُلّ فراش امرأة، في كُلّ بيت سبعون وصيفًا ووصيفة، يعطى المُؤْمِن من القوة ما يأتي على ذَلِكَ كله في غداة واحدة» . رواه الطبراني. وعن أسماء بنت أبي بكر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكر سدرة المنتهى - فَقَالَ: «يسير الراكب في ظِلّ الفنن منها مائة سنة، أو يستظِلّ بها مائة راكب شك يحيى، فيها فراش الذهب، كأن ثمارها القلال» . رواه الترمذي. وَقَالَ: حديث حسن صحيح غريب. وفي حديث أُبَيَّ بن كعب أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قيل له: ما الحوض؟ قال: «والَّذِي نفسي بيده إن شرابه أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، وأبرد من الثلج، وأطيب ريحًا من المسك، وآنيته أكثر عددًا من النجوم، لا يشرب منه إنسان فيظمأ أبدًا، ولا يصرف عَنْهُ إنسان فيروى أبدًا» . رواه ابن أبي عاصم وغيره. وأخَرَجَ الشيخان وَغَيْرِهمَا من حديث عَبْد اللهِ بن عمرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من ريح المسك، كيزانه كنجوم السماء من شرب منه لا يظمأ أبدًا» . وأخَرَجَ مسلم في صحيحه من حديث حذيفة بن اليمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

ومن يرد عنه، عدد كيزانه، الكوثر

قال: «ليردن على الحوض أقوام، فيختلجون دوني، فأَقُول: رب أصحابي، رب أصحابي، فَيُقَالُ: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» . وأخَرَجَ الطبراني، وابن حبان، والحاكم وصححه عن خباب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «سيكون أمراء من بعدي فلا تصدقوهم بكذبهم، ولا تعينوهم على ظلمهم، فمن فعل لم يرد عليّ الحوض» . وأخَرَجَ البخاري ومسلم غيرها من طَرِيق أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أَنَا فرطكم على الحوض من ورد شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدًا، وليردن عليَّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ثُمَّ يحال بيني وبينهم» . قال أبو حازم: فسمَعَ النعمان ابن أبي عياش وانَا أحدث هَذَا الْحَدِيث، فَقَالَ: هكَذَا سمعت سهلاً يَقُولُ؟ قُلْتُ: نعم، فَقَالَ: وانَا أشهد على أبي سعيد الخدري سمعته يزيد: «إنهم مني، فَيُقَالُ: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأَقُول: سحقًا لمن بدل بعدي» . وعن عتبة بن عبدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: جَاءَ أعرابي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ما حوضك الَّذِي تحدث عَنْهُ؟ فذكر الْحَدِيث إلى أن قال فَقَالَ الأعرابي: يَا رَسُولَ اللهِ فيها فاكهة؟ قال: «نعم، وفيها شجرة تدعى طُوبَى، هِيَ تطابق الفردوس» فَقَالَ: أي شجر أرضنا تشبه؟ قال: «لَيْسَ تشبه شَيْئًا من شجر أرضك، ولكن أتيت

الشام» ؟ قال: لا يَا رَسُولَ اللهِ، قال: «فإنها تشبه شجر في الشام، تدعى الجوزة تنبت على ساق واحد، ثُمَّ ينتشر أعلاها» . قال: فما عظم أصلها؟ قال: «لو ارتحلت جزعة من إبل أهلك لما قطعتها حتى تنكسر ترقوتها هرمًا» . قال: فيها عنب؟ قال: «نعم» . قال: فما عظم العنقود منها؟ قال: «مسيرة شهر للغراب الأبقع، ولا ينثني ولا يفتر» ، قال: فما عظم الحبة منه؟ قال: «هل ذبح أبوك تيسًا من غنمه عظيمًا، فسلخ إهابه فأعطاه أمك، فَقَالَ: ادبغي هَذَا، ثُمَّ افري لنا منه ذنوبًا، يروي ماشيتنا» ؟ قال: نعم، قال: «فإن تلك الحبة تشبعني وأَهْل بيتي» . فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وعامة عشيرتك» . رواه الطبراني في الكبير، والأوسط، واللفظ له، والبيهقي بنحوه، وابن حبان في صحيحه، بذكر الشجرة في موضع والعنب في آخر، ورواه أَحَمَد باختصار. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، حَافَّتَاهُ مِنْ ذَهَبٍ وَمَجْرَاهُ عَلَى الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، تُرْبَتُهُ أَطْيَبُ مِنْ الْمِسْكِ، وَمَاؤُهُ أَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ، وَأَبْيَضُ مِنْ الثَّلْجِ» رواه ابن ماجة والترمذي وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ عن جرير رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: نزلنا الصفاح، فإذا رجل نائم في تحت شجرة قَدْ كادت الشمس تبلغه، قال: فقُلْتُ للغلام: انطلق بهَذَا النطع فأظله. قال فأنطلق فأظله، فَلَمَّا استيقظ فإذا هُوَ سلمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فأتيته أسلم عَلَيْهِ، فَقَالَ: يا جرير تواضع لله، فإن من تواضع لله في الدُّنْيَا رفعه الله يوم القيامة، يا جرير هل تدري ما الظلمَاتَ يوم القيامة؟ قُلْتُ: لا أدري، قال: ظلم النَّاس بينهم ثُمَّ أخذ عودًا لا أكاد

أراه بين إصبعيه فَقَالَ: يا جرير لو طلبت في الْجَنَّة مثل هَذَا العود لم تجده، قُلْتُ: يا أبا عَبْد اللهِ؟ أين النخل والشجر؟ فَقَالَ: أصولها اللؤلؤ والذهب وأعلاه الثمر. رواه البيهقي بإسناد حسن. وعن الْبَرَاءُ بن عازب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في قوله تَعَالَى: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} قال: إن أَهْل الْجَنَّة يأكلون من ثمار الْجَنَّة، قيامًا وقعودًا ومضطجعين. رواه البيهقي وغيره موقوفًا بإسناد حسن. وعن علي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: يساق الَّذِينَ اتقوا ربهم إلى الْجَنَّة زمرا حتى إذا انتهوا إلى أول باب من أبوابها وجدوا عندها شجرة، يخَرَجَ من تحت ساقها عينان تجريان، فعمدوا إلى إحداهما كأنما أمروا بها فشربوا منها، فأذهب ما في بطونهم من قذى وأذى، ثُمَّ عمدوا إلى الأخرى فتطهروا منها فجرت عَلَيْهمْ نضرة النَّعِيم، فلن تتغير أبشارهم بعدها أبدًا، ولن تشعث أشعارهم كأنما دهنوا، ثُمَّ انتهوا إلى خزنة الْجَنَّة، فَقَالُوا: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} ثُمَّ تتلقاهم الولدان يطيفون بِهُمْ كما يطيف ولدان أَهْل الدُّنْيَا بالحميم يقدم من غيبته، يقولون له: أبشر بما أعد الله لك من الكرامة، قال: ثُمَّ ينطلق غلام من أولئك الغلمان إلى بعض أزواجه من الحور العين فَيَقُولُ: قَدْ جَاءَ فلان - باسمه الَّذِي كَانَ يدعى به في الدُّنْيَا - فَتَقُول: أَنْتَ رأيته؟ فَيَقُولُ: أَنَا رأيته. وهو ذا في أثري. فيستخف إحداهن الفرح، حتى تَقُوم على أسكفة بابها فإذا انتهى إلى منزله نظر إلى أي شَيْء أساس بنيانه فإذا جندل اللؤلؤ فوقه صرح أخضر وأصفر وأحمر من كُلّ لون ثُمَّ رفع رأسه فنظر إلى سقفه فإذا مثل البرق فلو أن الله تَعَالَى قدره له لألم أن يذهب بصره، ثُمَّ طأطأ رأسه فنظر إلى

صفة أهل الجنة ونعيمهم

أزواجه وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة، وزرابي مبثوثة، فتظروا إلى تلك النعمة ثُمَّ اتكئوا فَقَالُوا: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ} ثُمَّ ينادي مناد: تحيون فلا تموتون، وتقيمون فلا تظعنون. قال ابن القيم: ... فَاسْمَعْ صِفَاتِ عَرَائِسِ الْجَنَّاتِ ثُمَّ اخْتَرْ لِنَفْسِكَ يَا أَخَا الْعِرْفَانِ حُورٌ حِسَانٌ قَدْ كَمَلْنَ خَلائِقًا وَمَحَاسِنًا مِنْ أَجْمَلِ النِّسْوَانِ حَتَّى يَحَارُ الطَّرْفُ فِي الْحُسْنِ الَّذِي قَدْ أَلْبَسَتْ فَالطَّرْفُ كَالْحَيْرَانِ وَيَقُولُ لَمَّا أَنْ يُشَاهِدَ حُسْنَهَا سُبْحَانَ مُعْطِي الْحُسْنِ وَالإِحْسَانِ وَالطَّرْفُ يَشْرَبُ مِنْ كُؤُوسِ جَمَالِهَا فَتَرَاهُ مِثْلَ الشَّارِبِ النَّشْوَانِ كَمُلَتْ خَلائِقُهَا وَأُكْمِلَ حُسْنُهَا كَالْبَدْرِ لَيْلَ السِّتِ بَعْدَ ثَمَانِ وَالشَّمْسُ تَجْرِي فِي مَحَاسِنِ وَجْهِهَا وَاللَّيْلُ تَحْتَ ذَوَائِبِ الأَغْصَانِ فَتَرَاهُ يَعْجَبُ وَهُوَ مَوْضِعُ ذَاكَ مِن لَيْلٍ وَشَمْسٍ كَيْفَ يَجْتَمِعَانِ ... ›?

.. فَيَقُولُ سُبْحَانَ الَّذِي ذَا صُنْعُه سُبْحَانَ مُتْقِنِ صَنْعَةَ الإِنْسَانِ وَكِلاهُمَا مَرَآةُ صَاحِبِهِ إِذَا مَا شَاءَ يُبْصِر وَجْهَهُ يَرَيَانِ فَيَرَى مَحَاسِنَ وَجْهِهِ فِي وَجْهِهَا وَتَرَى مَحَاسِنَهَا بِهِ بِعَيْنَانِ حُمْرُ الْخُدُودِ ثُغُورُهُنَّ لآلِئ سُودُ الْعُيُونِ فَوَاتِرُ الأَجْفَانِ وَالْبَدْرُ يَبْدُو حِينَ يَبْسُمُ ثَغْرُهَا فَيُضِيءُ سَقْفُ الْقَصْرِ بِالْجِدْرَانِ وَلَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ بَرْقًا سَاطِعًا يَبْدُو فَيَسْأَلُ عَنْهُ مَنْ بِجِنَانِ فَيُقَالُ هَذَا ضَوْءُ ثَغْرٍ ضَاحِكٍ فِي الْجَنَّةِ الْعُلْيَا كَمَا تَرَيَانِ للهِ لاثِمُ ذَلِكَ الثَّغْرِ الَّذِي فِي لَثْمِهِ إِدْرَاكُ كُلِّ أَمَانِ رَيَّانَةُ الأَعْطَافِ مِنْ مَاءِ الشَّبَا ... ???? ... بِ فَغُصْنُهَا بِالْمَاءِ ذُو جَرَيَانِ ... ???? ... لما جَرَى مَاءُ الشَّبَابِ بِغُصْنِهَا حَمَلَ الثِّمَارَ كَثِيرَةَ الأَلْوَانِ فَالْوَرْدُ وَالتُّفَّاحُ وَالرُّمَّانُ فِي غُصْنٍ تَعَالَى غَارِسُ الْبُسْتَانِ ... ›?

يأكل أهل الجنة ولا مخاط ولا بول ولا غائط ولا قذر

إلى أن قال: ... وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً بِصَبٍّ غَابَ عَنْ مَعْشُوقِهِ فِي شَاسِعِ الْبُلْدَانِ وَالشَّوْقُ يُزْعِجُهُ إليه وَمَا لَهُ بِلِقَائِهِ سَبَبٌ مِن الإِمْكَانِ وَافَى إليه بَعْدَ طُولِ مَغِيبهِ عَنْهُ وَصَارَ الْوَصْلُ ذَا إِمْكَانِ أَتَلُومُهُ أَنْ صَارَ ذَا شُغْلٍ بِهِ لا وَالَّذِي أَعْطَى بِلا حُسْبَانِ ... ›? اللَّهُمَّ ثَبِّتْ وَقَوِّي إِيمَانَنَا بِكَ وَمَلائِكَتِكَ وَكُتُبِكَ وَرُسُلِكَ وَاليوم الآخِر، والقَدَرِ خَيْره وَشَرهِ، وَاشْرَحْ صُدُورِنَا وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ هَبْ لَنَا مَا وَهَبْتَهُ لِعِبَادِكَ الأَخْيار وانْظُمْنَا في سِلْكِ الْمُقَرَّبينَ والأَبْرَارِ وآتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وفي الآخَرِةَ حَسَنَةً وقِنَا عَذَابَ النَّار، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. (فَصْلٌ) عن جَابِرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَأْكُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ، وَلا يَمْتَخِطُونَ، وَلا يَتَغَوَّطُونَ، وَلا يَبُولُونَ، طَعَامُهُمْ ذَلِكَ جُشَاءٌ كَرَيحِ الْمِسْكِ، يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّكْبِيرَ كَمَا تُلْهَمُونَ النَّفَسَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ. وَعَنْ زَيْدِ بنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ

إلى النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ تَزْعُمُ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونِ وَيَشْرَبُونَ؟ قَالَ: «نعم، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيُعْطَى قُوَّةَ مِائَةِ رَجُلٍ فِي الأَكْلِ وَالْشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ» . قَالَ: فَإِنَّ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ تَكُون لَهُ الْحَاجَةُ، وَلَيْسَ فِي الجَنَّةِ أَذَى؟ قَالَ: «تَكُون حَاجَة أَحَدِهِمْ رَشْحًا يَفِيضُ مِنْ جُلُودِهِمْ كَرَشْحِ الْمِسْكِ فَيَضْمُرُ بَطْنُهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنِّسَائِي. وَرُوَاتُهُ مُحْتَجّ بِهِم في الصَّحِيحِ. ورواه الطبراني بإسناد صحيح. ولفظه في إحدى رواياته قال: بينما نَحْنُ عَنْدَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ أقبل رجل من اليهود، يُقَالُ له: ثعلبة بن الحارث فَقَالَ: السَّلام عَلَيْكَ يا مُحَمَّد، فَقَالَ: «وعليكم» . فَقَالَ له اليهودي: تزعم أن في الْجَنَّة طعامًا وشرابًا وأزواجًا، فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نعم تؤمن بشجرة المسك» ؟ قال: نعم. قال: «وتجدها في كتابكم» ؟ قال: نعم، قال: «فإن البول والجنابة عرق، يسيل من تحت ذوائبهم، إلى أقدامهم مسك» . وَرَواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم ولفظهما: أتى النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل من اليهود، فَقَالَ: يا أبا القاسم ألست تزعم أن أَهْل الْجَنَّة يأكلون فيها ويشربون؟ وَيَقُولُ لأصحابه: إن أقر لي بهَذَا خصمته، فَقَالَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بلى، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيُعْطَى قُوَّةَ مِائَةِ رَجُلٍ في المَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ، وَالشَّهْوَةِ، وَالْجِمَاعِ» ، فَقَالَ اليهودي: فإن الَّذِي يأكل ويشرب تَكُون له الحاجة، فَقَالَ له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حاجتهم يفيض من جلودهم مثل المسك، فإذا البطن قَدْ ضمر» . ولفظ النسائي نحو هَذَا.

طير الجنة، خدم أهل الجنة فاكهة أهل الجنة

.. هَذَا وَتَصْرِيفُ الْمَآكِلِ مِنْهُمُوا عَرَقٌ يَفِيضُ لَهُمْ مِنْ الأَبَدَانِ كَرَوَائِحِ الْمِسْكِ الَّذِي مَا فِيهِ مِنْ خِلْطٍ لَهُ مِنْ سَائِرِ الأَلْوَانِ فَتَعُودُ هَاتِيكَ الْبُطُونُ ضَوَامِرٌ تَبْغِي الطَّعَامَ عَلَى مَدَى الأَزْمَان لا غَائِطٌ فِيهَا وَلا بَوْلٌ وَلا مَخَطٌ وَلا بَصَقٌ مِن الإِنْسَانِ وَلَهُمْ جُشَاءٌ رِيحُهُ مِسْكٌ يَكُو نُ بِهِ تَمَامُ الْهَضْمِ بِالإِحْسَانِ هَذَا وَهَذَا صَحَّ عَنْهُ فَوَاحِدٌ فِي مُسْلِمٍ وَلأَحْمَدَ الأَثَرَانِ ... ›? وعن أنس بن مالك رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يرفعه: «إن أسفل أَهْل الْجَنَّة أجمعين من يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم، مَعَ كُلّ خادم صحفتان، واحدة من فضة، وواحدة من ذهب، في كُلّ صفحة لون لَيْسَ في الأخرى مثلها، يأكل من آخره كما يأكل من أوله، يجد لآخره من اللذة والطعم ما لا يجد لأوله، ثُمَّ يكون فوق ذَلِكَ رشح مسك وجشاء مسك، لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون» . رواه ابن أبي الدُّنْيَا واللفظ له، والطبراني، ورواته ثقات. وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن أدنى أَهْل الْجَنَّة منزلة إن له سبع درجات وَهُوَ على السادسة،

وفوقه السابعة، إن له لثلاثمائة خادم، ويغدى عَلَيْهِ في كُلّ يوم ويراح بثلاثمائة صحفة، - ولا أعلمه إِلا قال -: من ذهب، في كُلّ صفحة لون لَيْسَ في الأخرى، وإنه ليلذ أوله كما يلذ آخره، ومن الأشربة ثلاثمائة إناء، في كُلّ إناء لون لَيْسَ في الآخِر، وإنه ليلذ أوله كما يلذ آخره، وإنه ليَقُولُ: يا رب لو أذنت لي لأطعمت أَهْل الْجَنَّة وسقيتهم، لم ينقص مِمَّا عِنْدِي شَيْء» . الْحَدِيث رواه أَحَمَد عن شهرٍ عَنْهُ. وعن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن طير الْجَنَّة كأمثال البخت، ترعى في شجر الْجَنَّة» . فَقَالَ أبو بكر: يَا رَسُولَ اللهِ إن هذه لطير ناعمة، فَقَالَ: «أكلتها أنعم منها» . قالها ثلاثًا، «وإني لأرجو أن تَكُون ممن يأكل منها» . رواه أَحَمَد بإسناد جيد، والترمذي، وَقَالَ: حديث حسن، ولفظه قال: سئل النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما الكوثر؟ قال: «ذاك نهر أعطانيه الله، يعني في الْجَنَّة، أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، فيه طير أعناقها كأعناق الجزر) قال عمر: إن هذه لناعمة، فَقَالَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أكلتها أنعم منها» . (البخت) : بضم الموحدة، وإسكَانَ الخاء المعجمة، هِيَ الإبل الخراسنية. ... فَمَا الْعَيْشُ إِلا ذَاكَ لا عَيْشُ عَزَّةٍ وَسُعْدَى وَلا لَيْلَى وَلا أُمِّ سَالِمِ وَذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَا وَيُرْجَى لِعَبْدٍ قَارِعِ الْبَابِ لازِمِ ... ›?

وعن سليم بن عامر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: كَانَ أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولون: إن الله لينفعنا بالأعراب ومسائلهم، قال: أقبل أعرابي يومًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ذكر الله في الْجَنَّة شجرة مؤذية، وما كنت أرى أن في الْجَنَّة شجرة تؤذي صاحبها؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وما هِيَ» ؟ قال: السِّدر، فإن له شوكًا مؤذيًا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أليسَ الله يَقُولُ: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} ، خَضَد الله شوكه، فجعل مكَانَ كُلّ شوكة ثمرة، فإنها لتنبت ثمرًا تَفَتَّق الثمرةُ منها عن اثنين وسبعين لونًا من طعام، ما فيها لون يشبه الآخِر» . رواه ابن أبي الدُّنْيَا، وإسناده حسن. ورواه أيضًا عن سليم بن عامر عن أبي أمامة الباهلي عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثله. وروي عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال: الرمانة من رمان الْجَنَّة يجتمَعَ حولها بشر كثير يأكلون منها فإن جرى على ذكر أحدهم شَيْء يريده وجده في موضع يده حيث يأكل» . رواه ابن أبي الدُّنْيَا. وروى بإسناده أيضًا عَنْهُ قال: «إن التمرة من تمر الْجَنَّة طولها اثنا عشر ذراعًا، لَيْسَ له عجم» . شِعْرًا: ... فَسِرْ فِي الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ إِلَى الْعُلا عَلَى الصِّدْقِ وَالإِخْلاصِ وَالْبِرِّ وَالتُّقَى وَإِيَّاكَ وَالدُّنْيَا الْغَرُورَ فَإِنَّهَا مَتَاعٌ قَلِيلٌ مَالَهَا أَبَدًا بَقَا وَتُلْهِيكَ عَنْ جَنَّاتِ خُلْدٍ نَعِيمُهَا يَدُومُ وَيَصْفُو حَبَذَا ذَلِكَ مُلْتَقَى ... ›?

ثياب أهل الجنة وحللهم صورهم خيامهم ونورهم

.. وَفِيهَا رِضَا الرَّبِّ الْكَرِيمِ وَقُرْبُهُ وَرُؤْيَتُه أَكْرِمْ بِذَلِكَ مُرْتَقَى وَصَلِّ وَسَلِّمْ ذُو الْجَلالِ عَلَى أَحْمَدٍ شَفِيعِ الْبَرَايَا كُلَّمَا الْمُزْنُ أَغْدَقَا ... ›? اللَّهُمَّ أعذنا من شر نُفُوسنَا ومن شر الشيطان ومن شر الهوى ومن شر الدُّنْيَا وآتنا في الدُّنْيَا حسنة وفي الآخِرَة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا. اللَّهُمَّ انْظِمْنَا فِي سِلْكِ عِبَادِكَ الْمُفْلِحِينَ وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الْمُخْلِصِينَ الَّذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعلى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ) في ثيابهم وحللهم وعن أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من يدخل الْجَنَّة ينعم ولا يبأس، لا تبلى، ثيابه، ولا يفنى شبابه، في الْجَنَّة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» . رواه مسلم. وَعَنْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَوَّلُ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ ضَوْءُ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، وَالزُّمْرَةُ الثَّانِيَة عَلَى لَوْنِ أَحْسَنِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ، لِكُلِّ واحد مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ مِنَ الْحُورِ الْعَيْنِ، عَلَى كُلّ زَوْجَةٍ سَبْعُونَ حُلَّةً، يرى مخ سوقهما من وراء لحومهما وحللهما كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء» . رواه الطبراني بإسناد صحيح، والبيهقي بإسناد حسن، وتقدم

حديث أَبِي هُرَيْرَةِ المتفق عَلَيْهِ بنحوه. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَّكِئُ فِي الْجَنَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً قَبْلَ أَنْ يَتَحَوَّلَ، ثُمَّ تَأْتِيهِ امْرَأَة فَتَضْرِبُ مَنْكِبَهُ فَيَنْظُرُ وَجْهَهُ فِي خَدِّهَا أَصْفَى مِنْ الْمِرْآةِ، وَإِنَّ أَدْنَى لُؤْلُؤَةٍ عَلَيْهَا تُضِيءُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فَتُسَلِّمُ عَلَيْهِ، فَيَرُدُّ السَّلامَ وَيَسْأَلُهَا مَنْ أَنْتَ؟ فَتَقُولُ: أَنَا مِنْ الْمَزِيدِ، وَإِنَّهُ لَيَكُونُ عَلَيْهَا سَبْعُونَ ثَوْبًا أَدْنَاهَا مِثْلُ النُّعْمَانِ مِنْ طُوبَى، فَيَنْفُذُهَا بَصَرُهُ حَتَّى يَرَى مُخَّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ، وَإِنَّ عَلَيْهَا مِنْ التِّيجَانِ إِنَّ أَدْنَى لُؤْلُؤَةٍ مِنْهَا لَتُضِيءُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» . رواه أَحَمَد من طَرِيق ابن لهيعة عن دراج عن أبي الهيثم، وابن حبان في صحيحه من طَرِيق عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم. وروى الترمذي منه ذكر التيجان فقط من رواية رشدين عن عمرو بن الحارث، وَقَالَ: لا نعرفه إِلا من حديث رشدين. وعن شريح بن عبيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قال كعب: لو أن ثوبًا من ثياب أَهْل الْجَنَّة لبس اليوم في الدُّنْيَا لصعق من ينظر إليه، وما حملته أبصارهم. رواه ابن أبي الدُّنْيَا. ويأتي حديث أنس المرفوع: «ولو اطلعت امرأة من نساء أَهْل الْجَنَّة إلى الأَرْض لملأت ما بينهما ريحًا، ولأضاءت ما بينهما، ولنصيفها - يعني خمارها - على رأسها خَيْر من الدُّنْيَا وما فيها. رواه البخاري، ومسلم. شِعْرًا: ... بِقَدْرِ الْكَدِّ تُكْتَسَبُ الْمَعَالِي ... وَمَنْ طَلَبَ الْعُلَى سَهَرَ اللَّيَالِي وَمَنْ طَلَبَ الْعُلا مِنْ غَيْرِ كَدٍّ ... أَضَاعَ الْعُمْرَ فِي طَلَبِ الْمَحَالِ تَرُومَ الْخُلْدَ ثُمَّ تَنَامُ عَنْهَا ... يَغُوصُ الْبَحْرَ مَنْ طَلَبَ اللآلي

قصيدة زهدية جامعة لكثير من أحوال يوم القيامة

وفي الصحيحين من حديث عَبْد اللهِ بن قيس قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِلْعَبْدِ المُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَة طُولُهَا سِتُّونَ مِيلاً لِلْمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلُونَ يَطُوفُ عَلَيْهمْ لا يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا» . وأخَرَجَ ابن أبي الدُّنْيَا عن سعيد بن جبير: إن شهوته لتجري في جسده سبعين عامًا يجد اللذة ولا يلحقهم بذَلِكَ جنابة فيحتاجون إلى التطهير ولا ضعف ولا انحلال قوة، وطؤهم وطء التذاذ، نعيم لا آفة فيه بوجه من الوجوه. وأخَرَجَ أبو نعيم قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يستطع نور في الْجَنَّة فيرفعون رؤوسهم فإذا هُوَ من ثغر حوراء ضحكت في وجه زوجها» . وإلى هَذَا أشار الشاعر: شِعْرًا: فَلَوْ أَنَّ حُورًا فِي الدَّيَاجِي تَبَسَّمَتْ تَجَلَّى دُجَى الظَّلْمَاءِ فِي الأَرْضِ نُورُهَا وَلَوْ مُزِجَ الْمَاءُ الأُجَاجُ بِرِيقِهَا لأَصْبَحَ عَذْبًا سَلْسَبِيلاً بِحُورُهَا ... ›? آخرُ: ... يَا عَاشِقًا لِلْغَوَانِي مُغْرَمًا بِهَوَى دَارِ الْغُرُورِ وَعَيْشٍ شِيبَ بِالْكَدَرِ إِنَّ الْغَوَانِي الْحِسَانَ الْحُورَ مَسْكَنُهَا دَارُ السُّرُورِ عَلَى فُرشٍ عَلَى السُّرُرِ ... ›?

.. فِي سُنْدُس الْفُرْشِ أَقْمَارٌ عَلَى سُرُرٍ مِن الْيَواقِيتِ فِي قَصْرٍ مِن الدُّرَرِ يُشَاهِدُ الْمُخَّ فِي السَّاقَينِ نَاظِرُهَا مِنْ فَوْقِ سَبْعِينَ مَلْبُوسًا مِن الْحِبَرِ قَدْ طِلْنَّ شَوْقًا إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ كَمَا يَشْتَاقُ لِلْغَائِبِ الْمَحْبُوبِ فِي السَّفَرِ ... ›? اللَّهُمَّ قَوِّي إِيمَانِنَا بِكَ وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ القُلُوب ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَأَمِّنَّا مَنْ سَطْوَتِكَ وَمَكْرِكَ اغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. شِعْرًا: ... اللهُ أَعْظَمَ مِمَّا جَالَ فِي الْفِكَر وَحُكْمُهُ فِي الْبَرَايَا حُكْمُ مُقْتَدِرِ مَوْلَىً عَظِيمٌ حَكِيمٌ وَاحِدٌ صَمَدٌ حَيُّ قَدِ يُرْمُرِ يدُ فَاطِرَ الْفِطَرِ يَا رَبُّ يَا سَامِعَ الأَصْوَاتِ صَلِّ عَلَى رَسُولِكَ الْمُجْتَبِي مِنْ أَطْهَرِ الْبَشَرِ وَآلِهِ وَالصِّحَابِ الْمُقْتَدِينَ بِهِ أَهْلِ التُّقَى وَالْوَفَا وَالنُّصْحِ لِلْبَشَرِ أَشْكُو إليْكَ أُمُورًا أَنْتَ تَعْلَمُهَا فُتُورَ عَزْمِي وَمَا فَرَّطْتُ فِي عُمُرِي وَفَرْطَ مَيْلِي إِلَى الدُّنْيَا وَقَدْ حَسَرَتْ عَنْ سَاعِدِ الْغَدْرِ فِي الآصَالِ وَالْبُكَرِ ... ›?

.. يَا رَبِّ زِدْنِي تَوْفِيقًا وَمَعْرِفَةً وَحُسْنَ عَاقِبَةٍ فِي الْوِرْدِ وَالصَّدَرِ قَدْ أَصْبَحَ الْخَلْقُ فِي خَوْضٍ وَفِي ذُعُرٍ وَزَوْرِ لَهْوٍ وَهُمْ فِي أَعْظَمِ الْخَطَرِ وَلِلْقِيَامَةِ أَشْرَاطٌ وَقَدْ ظَهَرَتْ بَعْضُ الْعَلامَاتِ وَالْبَاقِي عَلَى الأَثَرِ قَلَّ الْوَفَاءُ فَلا عَهْدٌ وَلا ذِمَمُ وَاسْتَحْكَمَ الْجَهْلُ فِي الْبَادِينَ وَالْحَضَرِ دَعَوْا لأَدْيَانِهِمْ بِالْبَخْسِ مِنْ سُحْتٍ وَأَظْهَرُوا الْفِسْقَ وَالْعُدْوَانَ بِالأَشَرِ وَجَاهُروا بِالْمَعَاصِي وَارْتَضَوْا بِدَعًا عَمَّتْ فَصَاحِبُهَا يَمْشِي بِلا حَذَرِ وَطَالِبُ الْحَقِّ بَيْنَ النَّاسِ مُسْتَتِرٌ وَصَاحِبُ الإِفْكِ فِيهِمْ غَيْرُ مُسْتَتِرِ وَالْوَزْنُ بِالْوَيْلِ وَالأَهْوَاءِ مُعْتَبَرٌ وَالْوَزْنُ بِالْحَقِّ فِيهِمْ غَيْرُ مُعْتَبَرِ وَقَدْ بَدَا النَّقْضُ بِالإِسْلامِ مُشْتَهِرًا وَبُدِّلَتْ صَفْوَةُ الْخَيْرَاتِ بِالْكَدَرِ فَسَوْفَ يَخْرُجُ دَجَّالُ الضَّلالَةِ فِي هَرَجٍ وَقُحْطٍ كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ وَيَدَّعِي أَنَّهُ رَبُّ الْعِبَادِ وَهَلْ تَخْفَى صِفَاتُ كَذُوبٍ ظَاهِرِ الْعَوَرِ ... ›?

.. فَنَارُهُ جَنَّةُ طُوبَى لِدَاخِلِهَا وَزُورُ جَنَّتِهِ نَارٌ مِنَ السُّعُرِ شَهْرٌ وَعَشْرٌ لَيَإلى طُولَ مُدَّتِهِ لَكِنَّهُ عَجَبٌ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ فَيَبْعَثُ اللهُ عِيسَى نَاصِرًا حَكَمًا عَدْلاً وَيَعْضِدُهُ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ فَيَتْبَعُ الْكَاذِبَ الْبَاغِي وَيَقْتُلُهُ وَيَمْحَقُ اللهُ أَهْلَ الْبَغْي وَالضَّرَرِ وَقَامَ عِيسَى يُقِيمُ الْحَقَّ مُتَّبِعًا شَرِيعَةَ الْمُصْطَفَى الْمُخْتَارِ مِنْ مُضَرِ فِي أَرْبَعِينَ مِنَ الأَعْوَامِ مُخْصِبَةٌ فَيَكْسِبُ الْمَالَ فِيهَا كُلُّ مُفْتَقِرِ حَتَّى إِذَا أَنْفَذَ اللهُ الْقَضَاءَ دَعَى عِيسَى فَأَفْنَاهُمُ الْمَوْلَى عَلَى قَدْرِ وَعَادَ لِلنَّاسِ عِيدُ الْخَيْرِ مُكْتَمِلاً حَتَّى يَتِمَّ لِعِيسَى آخِرُ الْعُمُرِ وَالشَّمْسُ حِينَ تُرَى فِي الْغَرْبِ طَالِعَةً طُلُوعُهَا آيَةٌ مِنْ أَعْظَمِ الْكِبَرِ فَعِنْدَ ذَلِكَ لا إِيمَانَ يُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الْجُحُودِ وَلا عُذْرٌ لِمُعْتَذِرِ ... ›?

.. وَدَابَةٌ فِي وُجُوهِ الْمُؤْمِنِينَ لَهَا وَسْمٌ مِنْ النُّورِ وَالْكُفَّارِ بِالْقَتَرِ وَخَلْفُهَا الْفِتْنَةُ الدَّجَالُ قَبْلَهُمَا أَوْ بَعْدَ قَدْ وَرَدَ الْقَوْلانِ فِي الْخَبَرِ وَكَمْ خَرَابٍ وَكَمْ خَسْفٍ وَزَلْزَلَةٍ وَفِيحِ نَارِ وَآيَاتٍ مِنَ النُّذُرِ وَنَفْخَةٌ تُذْهِبُ الأَرْوَاحَ شِدَّتُهَا إِلا الَّذِينَ عَنُوا فِي سُورَةِ الزُّمَرِ وَأَرْبَعُونَ مِنَ الأَعْوَامِ قَدْ حُسِبْتَ لِكَيْ تُبَثَّ بِهَا الأَرْوَاحُ فِي الصُّوَرِ قَامُوا حُفَاةً عُرَاةٌ مِثْلَ مَا خُلِّقُوا مِنْ هَوْلِ مَا عَايَنُوا سَكْرَى بِلا سُكُرِ قَوْمٌ مُشَاةٌ وَرُكْبَانٌ عَلَى نُجُبِ عَلَيْهِمَا حُلَلٍ أَبْهَى مِنَ الزَّهْرِ وَيُسْحَبُ الظَّالِمُونَ الْكَافِرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ وَتُحِيطُ النَّارُ بِالشَّرَرِ وَالشَّمْسُ قَدْ أُدْنِيَتْ وَالنَّاسُ فِي عَرَقٍ وَفِي زِحَامٍ وَفِي كَرْبٍ وَفِي حَصَرِ وَالأَرْضُ قَدْ بُدِّلَتْ بَيْضَاءَ لَيْسَ لَهَا مَخْفَى وَلا مَلْجَأٌ يَبْدُو لِمُسْتَتِرِ ... ›?

.. طَالَ الْوُقُوفُ فَجَاءُوا آدَمًا فَرَجُوا شَفَاعَةً مِنْ أَبِيهِمْ أَوَّلُ الْبَشَرِ فَرَدَّ ذَاكَ إِلَى نُوحٍ فَرَدَّهُمُوا إِلَى الْخَلِيلِ فَأَبْدَى وَصْفَ مُفْتَقِرِ إِلَى الْكَلِيمِ إِلَى عِيسَى فَرَدَّهُمُوا إِلَى الْحَبِيبِ فَلَبَّاهَا بِلا حَصَرِ فَيَسْأَلُ الْمُصْطَفَى فَصْلَ الْقَضَاءِ لَهُمْ لِيَسْتَرِيحُوا مِنَ الأَهْوَالِ وَالْخَطَرِ تُطْوَى السَّمَاوَاتُ وَالأَمْلاكُ هَابِطَةٌ حَوْلَ الْعِبَادِ لِهَوْلٍ مُعْضِلٍ عَسِرِ وَالشَّمْسُ قَدْ كُوِّرَتْ وَالْكُتُبُ قَدْ نُشِرَتْ وَالأَنْجُمُ انْكَدَرَتْ نَاهِيكَ عَنْ كَدَرِ وَقَدْ تَجَلَّى إِلَهُ الْعَرْشِ مُقْتَدِرًا سُبْحَانَهُ جَلَّ عَنْ كَيْفٍ وَعَنْ فِكَرِ فَيَأْخُذُ الْحَقَّ لِلْمَظْلُومِ مُنْتَصِفًا مِنْ ظَالِمٍ جَارٍ بِالْعُدْوَانِ وَالْبَطَرِ وَالْوَزْنُ بِالْقِسْطِ وَالأَعْمَالُ قَدْ ظَهَرَتْ وَوَزْنُهَا عِبْرَةٌ تَبْدُو لِمُعْتَبِرِ وَكُلُّ مَنْ عَبَدَ الأَوْثَانَ يَتْبَعُهَا بِإِذْنِ رَبِّي وَصَارَ الْكُلُّ فِي سَقَرِ ... ›?

.. وَالْمُسْلِمُونَ إِلَى الْمِيزَانِ قَدْ قُسِمُوا ثَلاثَةً فَاسْمَعُوا تَقْسِيمَ مُخْتَصِرِ فَسَابِقٌ رَجَحَتْ مِيزَانُ طَاعَتِهِ لَهُ الْخُلُودُ بِلا خَوْفٍ وَلا ذُعُرِ وَمُذْنِبٌ كَثُرَتْ آثَامُهُ فَلَهُ شَفْعٌ بِأَوْزَارِهِ أَوْ عَفْوُ مُغْتَفِرِ وَوَاحِدٌ قَدْ تَسَاوَتْ حَالَتَاهُ لَهُ حَبْسٌ طَوِيلٌ وَبَيْنَ الْبِشْرِ وَالْحَصَرِ وَيُكْرِمُ اللهُ مَثْوَاهُ بِجَنَّتِهِ بِجُودِ فَضْلٍ عَمِيمٍ غَيْرِ مُنْحَصِرِ وَفِي الطَّرِيقِ صِرَاطٌ مُدَّ فَوْقَ لَظَى كَحَدٍّ سَيْفٍ سَطَا فِي دِقَّةِ الشَّعَرِ النَّاسُ فِي وَرْدِهِ شَتَّى فَمُسْتَبَقٌ كَالْبَرْقِ وَالطَّيْرِ أَوْ كَالْخَيْلِ فِي النَّظَرِ سَاعِي وَمَاشٍ وَمَخْدُشٍ وَمُعْتَلِقٍ نَاجٍ وَكَمْ سَاقِطٍ فِي النَّارِ مُنْتَشِرِ لِلْمُؤْمِنِينَ وُرُودٌ بَعْدَهُ صَدَرٌ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ وِرْدٌ بِلا صَدَرِ فَيَشْفَعُ الْمُصْطَفَى وَالأَنْبِيَاءُ وَمَنْ يَخْتَارُهُ الْمَلِكُ الرَّحْمَنُ فِي زُمَرِ ... ›?

.. فِي كُلِّ عَاصٍ لَهُ نَفْسٌ مُقَصِّرَةٌ وَقَلْبُهُ عَنْ سِوَى الرَّبِّ الْعَظِيمِ بَرِي فَأَوَّلُ الشُّفَعَا حَقًّا وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ ذُو الْبَهَاءِ الطَّيِّبِ الْعَطِرِ وَالْحَوْضُ يَشْرَبُ مِنْهُ الْمُؤْمِنُونَ غَدًا كَالأَرْيِ يَجْرِي عَلَى إلياقُوتِ وَالدُّرَرِ وَيَخْلُقُ اللهُ أَقْوَامًا قَدْ احْتَرَقُوا كَانُوا أُولِي الْعِزَّةِ الشَّنْعَاءِ وَالنَّجَرِ وَالنَّارُ مَثْوَى لأَهْلِ الْكُفْرِ كُلِّهِمُ طِبَاقُهَا سَبْعَةٌ مُسْوَدَّةُ الْحُفَرِ جَهَنَّمٌ وَلَظَى وَالْحَطْمُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ السَّعِيرُ كَمَا الأَهْوَالُ فِي سَقَرِ وَتَحْتَ ذَاكَ جَحِيمٌ ثُمَّ هَاوِيَةٌ يَهْوِي بِهَا أَبَدًا سُحْقًا لِمُحْتَقِرِ فِي كُلِّ بَابٍ عُقُوبَاتٌ مُضَاعَفَةٌ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ تَسْطُوا عَلَى النَّفَرِ فِيهَا غِلاظٌ شِدَادٌ مِنْ مَلائِكَةٍ قُلُوبُهُمْ شِدَّةً أَقْسَى مِنَ الْحَجَرِ لَهُمْ مَقَامِعُ لِلتَّعْذِيبِ مُرْصَدَةٌ وَكُلُّ كِسْرٍ لَدَيْهِمْ غَيْرِ مُنْجَبِرِ ... ›?

.. سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ شَعْثَاءُ مُوحِشَةٌ دَهْمَاءُ مُحْرِقَةٌ لَوَّاحَةُ الْبَشَرِ فِيهَا الْجَحِيمُ مُذِيبٌ لِلْوُجُوهِ مَعَ الْ أَمْعَاءِ مِنْ شِدَّةِ الأحْرَاقِ وَالشَّرَرِ فِيهَا الْغِسَاقُ الشَّدِيدُ الْبَرْدِ يَقْطَعُهُمْ إِذَا اسْتَغَاثُوا بِحَرِّ ثُمَّ مُسْتَعِرِ فِيهَا السَّلاسِلُ وَالأَغْلالُ تَجْمَعُهُمْ مَعَ الشَّيَاطِينِ قَسْرًا جَمْعَ مُنْقَهِرِ فِيهَا الْعَقَارِبُ وَالْحَيَّاتُ قَدْ جُعِلَتْ جُلُودُهُمْ كَالْبِغَالِ الدُّهْمِ وَالْحُمُرِ وَالْجُوعُ وَالْعَطَشُ الْمُضْنِي لأَنْفُسِهِمْ فِيهَا وَلا جَلَدٌ فِيهَا لِمُصْطَبِرِ لَهَا إِذَا مَا غَلَتْ فَوْرٌ يُقَلِّبُهُمْ مَا بَيْنَ مُرْتَفِع مِنْهَا وَمُنْحَدِرِ جَمْعُ النَّوَاصِي مَعَ الأَقْدَامِ صَيَّرَهُمْ كَالْقُوسِ مَحْنِيَّةً مِنْ شِدَّةِ الْوَتَرِ لَهُمْ طَعَامٌ مِن الزَّقُّومِ يَعْلَقُ فِي حُلُوقِهِمْ شَوْكُهُ كَالصَّابِ وَالصَّبِرِ يَا وَيْلَهُمْ تُحْرِقُ النِّيرَانُ أَعْظُمَهُمْ بِالْمَوْتِ شَهْوَتُهُمْ مِنْ شِدَّةِ الضَّجَرِ ... ›?

.. ضَجَّوْا وَصَاحُوا زَمَانًا لَيْسَ يَنْفَعُهُمْ دُعَاءُ دَاعٍ وَلا تَسْلِيمُ مُصْطَبِرِ وَكُلُّ يَوْمٍ لَهُمْ فِي طُولِ مُدَّتِهِمْ نَزْعٌ شَدِيدٌ مِن التَّعْذِيبِ وَالسَّعَرِ كَمْ بَيْنَ دَارِ هَوَانٍ لا انْقِضَاءَ لَهَا وَدَارِ أَمْنٍ وَخُلْدٍ دَائِمِ الدَّهَرِ دَارِ الَّذِينَ اتَّقُوْا مَوْلاهُمُ وَسَعَوْا قَصْدًا لِنَيْلِ رِضَاهُ سَعْيَ مُؤْتَمِرِ وَآمِنُوا وَاسْتَقَامُوا مِثْلَ مَا أُمِرُوا وَاسْتَغْرَقُوا وَقْتَهُمْ فِي الصَّوْمِ وَالسَّهَرِ وَجَاهَدُوا وَانْتَهَوْا عَمَّا يُبَاعِدُهُمْ عَنْ بَابِهِ وَاسْتَلانُوا كُلَّ ذِي وَعَرِ جَنَّاتُ عَدْنٍ لَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ بِهَا فِي مَقْعَدِ الصِّدْقِ بَيْنَ الرَّوْضِ وَالزَّهَرِ بِنَاؤُهَا فِضَّةٌ قَدْ زَانَهَا ذَهَبٌ وَطِينُهَا الْمِسْكُ وَالْحَصْبَا مِنَ الدُّرَرِ أَوْرَاقُهَا ذَهَبٌ مِنْهَا الْغُصُونُ دَنَتْ بِكُلِّ نُوعٍ مِن الرَّيْحَانِ وَالثَّمَرِ أَوْرَاقُهَا حُلَلٌ شَفَافَةٌ خُلِقَتْ وَاللُّؤْلؤُ الرَّطْبُ وَالْمُرْجَانُ فِي الشَّجَرِ ... ›?

.. دَارُ النَّعِيمِ وَجَنَّاتُ الْخُلُودِ لَهُمْ دَارُ السَّلامِ لَهُمْ مَأْمُونَةُ الْغِيَرِ وَحَنَّةُ الْخُلْدِ وَالْمَأْوَى وَكَمْ جَمَعَتْ جَنَّاتُ عَدْنٍ لَهُمْ مِنْ مُونِقٍ نَضِرِ طِبَاقُهَا دَرَجَاتٌ عَدُّهَا مائَةٌ كُلُّ اثْنَتَيْنِ كَبُعْدِ الأَرْضِ وَالْقَمَرِ أَعْلَى مَنَازِلِهَا الْفِرْدَوْسُ عَإليهَا عَرْشُ الإِلَهِ فَسَلْ وَاطْمَعْ وَلا تَذَرِ أَنْهَارُهَا عَسَلٌ مَا فِيهِ شَائِبَةٌ وَخَالِصُ اللَّبَنِ الْجَارِي بِلا كَدَرِ وَأَطْيَبُ الْخَمْرِ وَالْمَاءِ الَّذِي خَلِيَتْ مِنَ الصُّدَاعِ وَنُطْقِ اللَّهْوِ وَالسَّكَرِ وَالْكُلُّ تَحْتَ جِبَالِ الْمِسْكِ مَنْبَعُهَا يُجْرُونَهُ كَيْفَ شَاءُوا غَيْرَ مُحْتَجَرِ فِيهَا نَوَاهِدُ أَبْكَارٌ مُزَيَّنَةٌ يَبْرُزْنَ مِنْ حُلَلٍ فِي الْحُسْنِ وَالْخَفَرِ نِسَاؤُهَا الْمُؤْمِنَاتُ الصَّابِرَاتُ عَلَى حِفْظِ الْعُهُودِ مَعْ الإِمْلاقِ وَالضَّرَرِ كَأَنَّهُنَّ بُدُور فِي غُصُون نَقَا عَلَى كَثِيبٍ بَدَتْ فِي ظُلْمَةِ السَّحَرِ ... ›?

.. كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يُعْطَى قُوَى مائَةً فِي الأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالإِفْضَا بِلا خَوَرِ طَعَامُهُمْ رَشْحُ مِسْكٍ كُلَّمَا عَرِقُوا عَادَتْ بُطُونُهُمْ فِي هَضْمِ مُنْضَمِرِ لا جُوعَ لا بَرْدَ لا هَمٌ وَلا نَصَبٌ بَلْ عَيْشُهُمْ عَنْ جَمِيعِ النَّائِبَاتِ عَرِي فِيهَا الْوَصَائِفُ وَالْغُلْمَانُ تَخْدُمُهُمْ كَلُؤْلُؤ فِي كَمَالِ الْحُسْنِ مُنْتَثِرِ فِيهَا الْغِنَا وَالْجَوَارِي الْغَانِيَاتُ لَهُمْ بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ لِلْمَوْلَى مَعَ السَّمَرِ لِبَاسُهُمْ سُنْدُسٌ حُلاهُمْ ذَهَبٌ وَلُؤْلُؤٌ وَنَعِيمٌ غَيْرُ مُنْحَصِرِ وَالذِّكْرُ كَالنَّفَسِ الْجَارِي بِلا تَعَبٍ وَنُزِّهُوا عَنْ كَلامَ اللَّغْوِ وَالْهَذَرِ وَأَكْلُهَا دَائِمٌ لا شَيْءَ مُنْقَطِعٌ كَرِّرْ أَحَادِيثَهَا فِي أَطْيَبِ الْخَبَرِ فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ مَا لَمْ يَجْرِي فِي خَلَدٍ وَلَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا لِلسَّمْعِ وَالْبَصَرِ فِيهَا رِضَا الْمَلِكَ الْمَوْلَى بِلا غَضَبٍ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ نَفْعٌ بِلا غِيَرِ ... ›?

.. لَهُمْ مِن اللهِ شَيْءٌ لا نَظِيرَ لَهُ سَمَاعُ تَسْلِيمِهِ وَالْفَوْزُ بِالنَّظَرِ بِغَيْرِ كَيْفٍ وَلا حَدٍّ وَلا مَثلٍ حَقًّا كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ وَهِيَ الزِّيَادَةُ وَالْحُسْنَى الَّتِي وَرَدَتْ وَأَعْظَمُ الْمَوْعِدِ الْمَذْكُورِ فِي الزُّبُرِ للهِ قَوْمٌ أَطَاعُوهُ وَمَا قَصَدُوا سِوَاهُ إِذَا نَظَرُوا الأَكْوَانَ بِالْعِبَرِ وَكَابَدُوا الشَّوْقَ وَالأَنْكَادُ قُوَّتُهُمْ وَلازَمُوا الْجِدَّ وَالأَذْكَارَ فِي الْبُكَرِ يَا مَالِكَ الْمُلْكِ جُدْ لِي بِالرِّضَا كَرَمًا فَأَنْتَ لِي مُحْسِنٌ فِي سَائِرِ الْعُمُرِ يَا رَبِّ صَلِّ عَلَى الْهَادِي الْبَشِيرِ لَنَا وَآلِهِ وَانْتَصِرْ يَا خَيْرَ مُنْتَصِرِ مَا هَبَّ نَشْرُ الصَّبَا وَاهْتَزَّ نَبَتُ رُبَا وَفَاحَ طِيبُ شَذَا فِي نَسْمَةِ السَّحَرِ أَبْيَاتُهَا تِسْعُ عَشْرٍ بَعْدَهَا مائَةٌ كِلاهُمَا وَعْظُهَا أَبْهَى مِن الدُّرَرِ ... ›? اللَّهُمَّ أعذنا من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وصلع الدين وغلبة الرِّجَال، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ أعطنا من الْخَيْر فوق ما نرجو واصرف عنا من السُّوء فوق ما نحذر. اللَّهُمَّ علق قلوبنا برجائك، واقطع رجاءنا عمن سواك، اللَّهُمَّ إنك تعلم عيوبنا فاسترها، وتعلم حاجتنا فاقضها، كفى بك وليًا وكفى بك نصيرًا يا رب

موعظة بليغة

العالمين، اللَّهُمَّ وفقنا لسلوك سبيل عبادك الأخيار، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. موعظة عباد الله لَقَدْ امتن الله على خاتم رسله، وصفوة خلقه، سيدنا مُحَمَّد بن عَبْد اللهِ بأشرف المنن، واختصه بأجل النعم، وآتاه من فضله ما لم يؤت أحدًا سواه، أدبه فأحسن تأديبه، وهذبه فأكمل تهذيبه، ومنحه من الصفات الجميلة غايتها، ومن الأَخْلاق الكريمة نهايتها، ثُمَّ أثنى عَلَيْهِ فَقَالَ: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم} قَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: كَانَ خلقه القرآن يرضى برضاه، ويسخط بسخطه، وكَانَ ? أوسع النَّاس صدرًا، وأصدقهم قولاً، وإلينهم جانبًا، وأكرمهم عشرةً، يؤلف النَّاس ولا ينفرهم، ويكرم كريم كُلّ قوم، ويوليه عَلَيْهمْ، يتفقَدْ أصحابه ويعطي كُلّ جلَيْسَ نصيبه حتى لا يحسب جليسه أحدًا أكرم عَلَيْهِ منه، من جالسه أو قاربه بحاجة سايره، حتى يكون هُوَ المنصرف عَنْهُ، قَدْ وسع النَّاس بسطه وخلقه، فصار لَهُمْ أبًا رحيمًا. وصاروا عنده في الحق سواء، لذَلِكَ اجتمعت عَلَيْهِ القُلُوب بعد نفورها، وتألفت النُّفُوس بعد جموحها، تحقيقًا لقوله تَعَالَى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} وكَانَ ? حليمًا مَعَ الأَذَى، عفوا مَعَ القدرة، صبروا على المكاره، وتلك خصال أدبه بها ربه، فَقَالَ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} . سأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبريل عَلَيْهِ السَّلام عن تفسيرها، فَقَالَ: إن الله يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، وكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكرم النَّاس، وأسخاهم يدا، وأطيبهم

نفسًا، ما سئل عن شَيْء قط فَقَالَ لا، من سأله حَاجَة لم يرده إِلا بها، أو بميسور من القول، يجيب دعوة من دعاه، ويقبل الهدية لو كأَنْتَ كراعًا، ويكافئ عَلَيْهَا خيرًا منها، وكَانَ عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام أشجع النَّاس، وأعظم النَّاس غيرة وإقدامًا، فر الفرسان والأبطال عَنْهُ غير مرة، وَهُوَ ثابت لا يبرح مقبل لا مدبر، ولا يتزحزح، وكَانَ صلوات الله وسلامه عَلَيْهِ أشد النَّاس حياء، وأكثرهم عن العورات إغضاء. قال أبو سعيد الخدري: كَانَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشد حياء من العذراء في خدرها، وكَانَ إذا كره شَيْئًا عرفناه في وجهه وكَانَ لا يخاطب أحدًا بما يكره حياء وكرمًا. أما شفقته ورحمته ورأفته ولطفه بجَمِيع الخلق، فنما ذكر الله عَنْهُ بقوله: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} ، وَقَالَ عز من قائل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} وأما تواضعه – مَعَ علو منصبه ومكانته، ورفع رتبته - فقَدْ خيره الله بين أن يكون ملكًا نبيًا، أو عبدًا نبيًا، فاختار عبدًا نبيًا، وكَانَ يَقُولُ: «إنما أَنَا عبد، آكل كما يأكل الْعَبْد، وأجلس كما يجلس الْعَبْد» وكَانَ يجالس الفقراء، ويعود المساكين، ويجلس مَعَ أصحابه مختلطًا بِهُمْ كأنه واحد مِنْهُمْ، وكَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أحيني مسكينً، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين» . وأما عدله وأمانته، وعفته ومروءته، ووقاره وهيبته، وصدقه ووفاؤه بالعهد وحفظه للوعد، وصلته للأرحام، وعطفه على الأيتام، فقَدْ بلغ في كُلّ ذَلِكَ الغاية، ووصل إلى النهاية، وأما زهده وورعه، فقَدْ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إني عرض علي أن تجعل لي بطحاء مَكَّة ذهبًا، فقُلْتُ: لا

قصيدة زهدية وعظية

يا رب. أجوع يومًا، وأشبع يومًا، فأما اليوم الَّذِي أجوع فيه فأتضرع إليك وأدعوك، وأما اليوم الَّذِي أشبع فيه فأحمدك وأثني عَلَيْكَ» . وقَالَتْ أم الْمُؤْمِنِين عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَا كنا آل مُحَمَّد لنمكث شهرًا ما نستوقَدْ نارًا، إن هُوَ إِلا التمر والماء، وأما خوفه من ربه، وطاعته لَهُ فعَلَى قَدْرِ عمله به ولذَلِكَ قال: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً وَلَبَكَيْتُم كثيرًا، أرى ما لا ترون، وأسمَعَ ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إِلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله وَاللهِ لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً وَلَبَكَيْتُم كثيرًا، ولما تلذذتم بالنساء على الفراش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إِلَى اللهِ تَعَالَى» . وكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلى حتى تورمت قدماه، فَقَالَتْ له عَائِشَة: أتكلف هذا وقَدْ غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فَقَالَ: «أفلا أكون عبدًا شكورًا» ؟ هَذَا يا عباد الله قليل من كثير من صفات سيد المرسلين ذي الخلق العَظِيم، والقدر الفخيم، فهل لكم أن تتأملوا هذه الصفات الجليلة والخصال الحميدة، فتمسكوا بها وتسيروا على نهجها قال تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} الآيَة. شِعْرًا: ... يَا نَفْسُ تُوبِي فَإِنَّ الْمَوْتَ قَدْ حَانَا وَاعْصِي الْهَوَى فَالْهَوَى مَا زَالَ فَتَّانَا أَمَا تَرَيْنَ الْمَنَايَا كَيْفَ تَلْقُطُنَا لَقْطًا فَتُلْحِقُ أُخْرَانَا بِأُولانَا ... ›?

.. فِي كُلِّ يَوْمٍ لَنَا مَيِّتٌ نُشَيِّعُهُ نَرَى بِمَصْرَعِهِ آثَارَ مَوْتَانَا يَا نَفْسُ مَإلى وَلِلأَمْوَالِ أَتْرُكُهَا خَلْفِي وَأُخْرَجُ مِنْ دُنْيَايَ عُرْيَانَا أَبَعْدَ خَمْسِينَ قَدْ قَضَيْتُهَا لِعِبَا قَدْ آنَ أَنْ تَقْصُرِي قَدْ آنَ قَدْ آنَا مَا بِالُنَا نَتَعَامَى عَنْ مَصَائِرُنَا نَنْسَى بِغَفْلَتِنَا مَنْ لَيْسَ يَنْسَانَا نَزْدَادُ حِرْصًا وَهَذَا الدَّهْرُ يَزْجُرَنَا كَانَ زَاجِرَنَا بِالْحِرْصِ أَغْرَانَا أَيْنَ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ وَمَنْ كَانَتْ تَخِر لَهُ الأَذْقَانُ إِذْعَانَا صَاحَتْ بِهِمْ حَادِثَاتُ الدَّهْرِ فَانْقَلَبُوا مُسْتَبْدِلِينَ مِن الأَوْطَانِ أَوْطَانَا خَلَّوا مَدَائِنَ كَانَ الْعِزُّ مَفْرَشُهَا وَاسْتَفْرَشُوا حُفُرًا غُبْرًا وَقِيعَانَا يَا رَاكِضًا فِي مَيَادِين الْهَوَى مَرِحًا وَرَافِلاً فِي ثِيَابِ الْغَيِّ نَشْوَانَا مَضَى الزَّمَانُ وَوَلَّى الْعُمْرُ فِي لَعِبٍ يَكْفِيكَ مَا قَدْ مَضَى قَدْ كَانَ مَا كَانَا ... ›?

فصل في وصف نساء أهل الجنة وما يحصل لهم عند اللقاء

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا تَوفيقًا يَقِينًا عَنْ مَعَاصِيكِ، وَأَرَشِدْنَا إلى السَّعْيِ إلى مَا يُرْضِيكَ وأَجِرْنَا يَا مَوْلانَا مِنْ خِزْيكَ وَعَذَابِكَ وَهَبْ لَنَا مَا وَهَبْتَهُ لأَوْلِيَائِكَ وَأَحْبَابِكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ والمَيِّتِينَ. اللَّهُمَّ قوي إيماننا بك وبملائكتك وبرسلك وباليوم الآخِر وبالقدر خيره وشره، اللَّهُمَّ وَوَفِّقْنَا لامْتِثَالِ أَوَامِرَكَ، واجتناب نواهيك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. فَصْلٌ في وصف نساء أَهْل الْجَنَّة عَنْ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لغَدْوَةٌ في سَبِيلِ اللهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ أَوْ مَوْضِعُ قَيْدِهِ - يَعْنِي سَوْطَهُ - مِنْ الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَوْ اطَّلَعَتْ مَنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَى الْأَرْضِ لَمَلأَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيْحًا ولأضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا، وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» . رَوَاهُ البُخَاريِ وَمُسْلِمٌ وَالطَّبَرانِيّ مُخْتَصَرًا بِإسْنَادٍ جَيِّدٍ، إِلا أَنَّهُ قَالَ: «ولَتَاجُهَا عَلَى رَأسِهَا خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» . (النصِيفُ) : الخِمَارُ. (أَلْقَابُ) : هُوَ القَدْرُ، وَقَالَ أَبُو مَعْمَرٍ: قَابُ القَوْسِ مِنْ مَقْبَضِهِ إلى رَأْسِهِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، والتِي تَلِيهَا عَلَى أَضْوَءِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ وَلِكُلِّ امْرئٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ اثْنَتَانِ، يَرَى مُخَّ سُوقِهما مِنْ وَرَاءِ اللحْمِ، وَمَا فيِ الجَنَّةِ أَعْزَبٌ» . رَواهُ

البُخَارِيّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيُرَى بَيَاضُ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ سَبْعِينَ حُلَّةً حَتَّى يُرَى مُخُّهَا وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ عزّ وَجَلَّ يَقُولُ: {كَأَنَّهُنَّ إلىاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} فَأَمَّا إلياقُوتُ فَإِنَّهُ حَجَرٌ لَوْ أَدْخَلْتَ فِيهِ سِلْكًا ثُمَّ اسْتَصْفَيْتَهُ لأُرِيتَهُ مِنْ وَرَائِهِ» . رَوَاهُ ابْنُ أَبي الدُّنْيَا، وابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِه، والتِّرْمِذِي واللفظُ لَهُ وَقَالَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَمْ يَرْفَعْهُ، وَهُوَ أَصَحُّ. وروي عن أنس بن مالك رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: حدثني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «حدثني جبريل عَلَيْهِ السَّلام قال: يدخل الرجل على الحوراء فتستقبله بالمعانقة، والمصافحة» . قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فبأي بنان تعاطيه، لو أن بعض بنانها بدا لغلب ضوؤه ضوء الشمس والقمر، ولو أن طاقة من شعرها بدت لملأت ما بين المشرق والمغرب من طيب ريحها، فبينا هُوَ متكئ معها على أريكته إذ أشرف عَلَيْهِ نور من فوقه، فيظن أن الله عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أشرف على خلقه، فإذا حوراء تناديه: يا ولي الله، أما لنا فيك من دولة؟ ، فَيَقُولُ: ومن أَنْتَ يا هذه؟ ، فَتَقُول: أَنَا من اللواتي قال الله تبارك وتَعَالَى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} فيتحول عندها، فإذا عندها من الجمال والكمال ما لَيْسَ مَعَ الأولى، فبينا هُوَ متكئ معها على أريكته، وإذا حوراء أخرى، تناديه: يا ولي الله، أما لنا فيك من دولة؟ ، فَيَقُولُ: ومن أَنْتَ يا هذه؟ فَتَقُول: أَنَا من اللواتي قال الله عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ،

نظم لابن القيم في الحور العين

فلا يزال يتحول من زوجة إلى زوجة» . رواه الطبراني في الأوسط. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قَوْلِهِ: {كَأَنَّهُنَّ إلياقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} قَالَ: «يَنْظُرُ إِلَى وَجْهَهُ فِي خَدِّهَا أَصْفَى مِنْ الْمِرْآةِ، وَإِنَّ أَدْنَى لُؤْلُؤَةٍ عَلَيْهَا تُضِيءُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَإِنَّهُ لَيَكُونُ عَلَيْهَا سَبْعُونَ حَلة يَنْفُذُهَا بَصَرُهُ، حَتَّى يَرَى مُخَّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ» . رواه أَحَمَد، وابن حبان في صحيحه في حديث تقدم بنحوه، والبيهقي بإسناد ابن حبان، واللفظ له. قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ في صفة عرائس أَهْل الْجَنَّة وحسنهن وجمالهن ووصالهن: ... وَإِذَا بَدَتْ فِي حُلَّةٍ مِنْ لُبْسِهَا وَتَمَايَلَتْ كَتَمَايُلِ النَّشْوَانِ تَهْتَزُّ كَالْغُصْنِ الرَّطِيبِ وَحَمْلُهُ وَرْدٌ وَتُفَّاحٌ عَلَى رُمَّانِ وَتَبَخْتَرَتْ فِي مَشْيِهَا وَيَحِقُ ذَا كَ لِمِثْلِهَا فِي جَنَّةِ الْحَيَوَانِ وَوَصَائِفٌ مِنْ خَلْفِهَا وَأَمَامِهَا وَعَلى شَمَائِلِهَا وَعَنْ أَيْمَانِ كَالْبَدْرِ لَيْلَةَ تِمِّهِ قَدْ حُفَّ فِي غَسَقِ الدُّجَى بِكَوَاكِبِ الْمِيزَانِ ... ›?

.. فَلِسَانِهِ وَفُؤَادِهِ وَالطَّرْفُ فِي دَهَشٍ وَإِعْجَابٍ وَفِي سُبْحَانِ فَالْقَلْبُ قَبْلَ زِفَافِهَا فِي عُرْسِهِ وَالْعُرْسُ إِثْرَ الْعُرْسِ مُتَّصِلانِ حَتَّى إِذَا مَا وَاجَهَتْهُ تَقَابَلا أَرَأَيْتَ إِذْ يَتَقَابَلُ الْقَمَرَانِ فَسَلِ الْمُتَيَّمَ هَلْ يَحِلُّ الصَّبْرُ عَنْ ضَمٍّ وَتَقْبِيلٍ وَعَنْ فُلْتَانِ وَسَلْ الْمُتَيَّمَ أَيْنَ خَلَّفَ صَبْرَهُ فِي أَيِّ وَادٍ أَمْ بِأَيِّ مَكَانِ وَسَلْ الْمُتَيَّمَ كَيْفَ حَالَتُهُ وَقَدْ مُلِئَتْ لَهُ الأُذُنَانِ وَالْعَيْنَانِ مِنْ مَنْطِقٍ رَقَّتْ حَوَاشِيهِ وَوَجْـ ـهٍ كَمْ بِهِ لِلشَّمْسِ مِنْ جَرَيَانِ وَسَلْ الْمُتَيَّمَ كَيْفَ عِيشَتُهُ إِذَا وَهُمَا عَلَى فُرَشَيْهِمَا خَلَوَانِ يَتَسَاقَطَانِ لَئَآلِئًا مَنْثُورَةً مِنْ بَيْنِ مَنْظُومٍ كَنَظْمِ جُمَانِ وَسَلْ الْمَتَيَّمَ كَيْفَ مَجْلِسُهُ مَعَ الْـ مَحْبُوبَ فِي رَوْحٍ وَفِي رَيْحَانِ ... ›?

.. وَتَدُورُ كَاسَاتُ الرَّحِيقِ عَلَيْهِمَا بِأَكُفٍّ أَقْمَارٍ مِن الْوِلْدَانِ يَتَنَازَعَانِ الْكَأْسَ هَذَا مَرَّةً وَالْخُودُ أُخْرَى ثُمَّ يَتَّكِئَانِ فَيَضُمُّهَا وَتَضُمُّهُ أَرَأَيْتَ مَعْـ شُوقَيْنِ بَعْدَ الْبُعْدِ يَلْتَقِيَانِ غَابَ الرَّقِيبُ وَغَابَ كُلُّ مُنَكِّدٍ وَهُمَا بِثَوْبِ الْوَصْلِ مُشْتَمِلانِ أَتَرَاهُمَا ضَجِرَيْنِ مِنْ ذَا الْعَيْشِ لا وَحَيَاةِ رَبِّكَ مَا هُمَا ضَجِرَانِ وَيَزِيدُ كُلٌّ مِنْهُمَا حُبًّا لِصَا حِبِهِ جَدِيدًا سَائِرَ الأَزْمَانِ وَوِصَالُهُ يَكْسُوهُ حُبًّا بَعْدَهُ مُتَسَلْسِلاً لا يَنْتَهِي بِزَمَانِ فَالْوَصْلُ مَحْفُوفٌ بِحُبٍّ سَابِقٍ وَبِلاحِقٍ وَكِلاهُمَا صِنْوَانِ فَرْقٌ لَطِيفٌ بَيْنَ ذَاكَ وَبَيْنَ ذَا يَدْرِيهِ ذُو شُغْلٍ بِهَذَا الشَّانِ وَمَزِيدُهُمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ حَاصِلٌ سُبْحَانَ ذِي الْمَلَكُوتِ وَالسُّلْطَانِ ... ›?

من كلام ابن القيم فيما يتعلق بالجنة وأهلها وهو كلام نفيس

.. يَا غَافِلاً عَمَّا خُلِقْتَ لَهُ انْتَبِهْ جَدَّ الرَّحِيلُ وَلَسْتَ بِإليقْظَانِ سَارَ الرِّفَاقُ وَخَلَّفُوكَ مَعَ الأُولى قَنَعُوا بِذَا الْحَظِّ الْخَسِيسِ الْفَانِ وَرَأَيْتَ أَكْثَرَ مَنْ تَرَى مُتَخَلِّفًا فَتَبَعْتَهُمْ فَرَضِيتَ بِالْحُرْمَانِ لَكِنْ أَتَيْتَ بِخُطَّتِي عَجْزٍ وَجَهْلٍ بَعْدَ ذَا وَصَحِبْتَ كُلَّ أَمَانِ مَنَّتْكَ نَفْسُكَ بِاللُّحُوقِ مَعَ الْقُعُو دِ عَن الْمَسِيرِ وَرَاحَةِ الأَبْدَانِ وَلَسَوْفَ تَعْلَمُ حِينَ يَنْكَشِفُ الْغِطَا مَاذَا صَنَعْتَ وَكُنْتَ ذَا إِمْكَانِ ... ›? وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. (فَصْلٌ) قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ (وكيف يقدر قدر دار غرسها الله بيده، وجعلها مقرًا لأحبابه، وملأها من رحمته وكرامته ورضوانه، ووصف نعيمها بالفوز العَظِيم، وملكها بالملك الكبير، وأودعها جَمِيع الْخَيْر بحذافيره، وطهرها من كُلّ عيب وآفة ونقص. فإن سألت عن أرضها وتربتها، فهي المسك والزعفران.

وإن سألت عن سقفها فهو عرش الرحمن. وإن سألت عن بلاطها، فهو المسك الأذفر. وإن سألت عن حصبائها، فهو اللؤلؤ والجوهر. وإن سألت عن بنائها، فلبنة من فضة، ولبنة من ذهب. وإن سألت عن أشجارها، فما فيها شجرة إِلا وساقها من ذهب وفضة، لا من الحطب والخشب. وإن سألت عن ثمرها، فأمثال القلائل إلين من الزبد، وأحلى من العسل. وإن سألت عن ورقها، فأحسن ما يكون من رقائق الحلل. وإن سألت عن أنهارها، فأنهار من ماء غير آسن {وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} . وإن سألت عن طعامهم، فـ {فَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} . وإن سألت عن شرابهم، فالتسنيم، والزنجبيل والكافور. وإن سألت عن آنيتهم فآنية الذهب والفضة في صفاء القوارير , وإن سألت عن سعة أبوابها، فبين المصراعين مسيرة أربعين من الأعوام، وليأتين عَلَيْهِ يوم وَهُوَ كظيظ من الزحام. وإن سألت عن تصفيق الرياح لأشجارها، فإنها تستفز بالطرب لمن

يسمعها. وإن سألت عن ظلها، ففيها شجرة واحدة يسير الراكب المجد السريع في ظلها مائة عام لا يقطعها. وإن سألت عن سعتها، فأدنى أهلها يسير في ملكه وسرره وقصوره وبساتينه مسيرة ألف عام. وإن سألت عن خيامها وقبابها، فالخيمة الواحدة من درة مجوفة، طولها ستون ميلاً من تلك الخيام. وإن سألت عن علإليها وجواسقها، فهي {غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} . وإن سألت عن ارتفاعها، فَانْظُرْ إلى الكوكب الطالع أو الغارب في الأفق الَّذِي لا تكاد تناله الأبصار. وإن سألت عن لباس أهلها، فهو الحرير والذهب. وإن سألت عن فُرُشِهم فَبَطائِنُها مِن اسْتَبْرَقٍ مَفْرُوشَةٍ في أَعْلَى ألرُّتَبِ. وإن سألت عن أرائكها، فهي الأسرة عَلَيْهَا البشخانات وهي الحجال، مزرة بأزرار الذهب، فمالها من فروج ولا خلال. وإن سألت عن وجوه أهلها وحسنهم، فعلى صورة القمر. وإن سألت عن أسنانهم، فأبناء ثلاث وثلاثين، على صورة آدم عَلَيْهِ السَّلام أبي البشر.

فصل في سماع أهل الجنة ويليه تتمة كلام له أيضا في أهل الجنة

وإن سألت عن أسماعهم، فغناء أزواجهم من الحور العين وأعلى منه سماع أصوات الملائكة والنبيين، وأعلى منهما خطاب رب العالمين. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ في سماع أَهْل الْجَنَّة) وَقَالَ في النونية ... قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَيُرْسِلُ رَبُّنَا رِيحًا تَهُزُّ ذَوَائِبَ الأَغْصَانِ فَتُثِير أَصْوَاتًا تَلَذُّ لِمَسْمَعِ الْـ إِنْسَانِ كَالنَّغَمَاتِ بِالأَوْزَانِ يَا لَذَّةَ الأَسْمَاعِ لا تَتَعَوَّضِي بِلَذَاذَةِ الأَوْتَارِ وَالْعِيدَانِ أَو مَا سَمِعْتَ سَمَاعَهم فِيهَا غِنَا ءَ الْحُورِ بِالأَصْوَاتِ وَالأَلْحَانِ وَاهًا لِذَيَّاكَ السَّمَاعِ فَإِنَّهُ مُلِئَتْ بِهِ الأَذُنَانِ بِالإِحْسَانِ وَاهًا لِذَيَّاكَ السَّمَاعِ وَطِيبِهِ مِنْ مِثْلِ أَقْمَارٍ عَلَى أَغْصَانِ وَاهًا لِذَيَّاكَ السَّمَاعِ وَلَمْ أَقُلْ ذَيَّاكَ تَصْغِيرًا لَهُ بِلِسَانِ ... ›?

.. وَاهًا لِذَيَّاكَ السَّمَاعِ فَكَمْ بِهِ لِلْقَلْبِ مِنْ طَرَبٍ وَمِنْ أَشْجَانِ مَا ظَنَّ سَامِعُهُ بِصَوْتِ أَطْيَبِ الْـ أَصْوَاتِ مِنْ حُورِ الْجِنَانِ حِسَانِ نَحْنُ النَّوَاعِمُ وَالْخَوَالِدُ خَيَّرَا تٌ كَامِلاتُ الْحُسْنِ وَالإِحْسَانِ لَسْنَا نَمُوتُ وَلا نَخَافُ وَمَا لَنَا سَخَطٌ وَلا ضَغَنٌ مِن الأَضْغَانِ طُوبَى لِمَنْ كُنَّا لَهُ وَكَذَاكَ طُو بَى لِلَّذِي هُوَ حَظُّنَا لَفْظَانِ فِي ذَاكَ آثَارٌ رُوِينَ وَذِكْرُهَا فِي التِّرْمِذِيِّ وَمُعْجَمِ الطَّبَرَانِي وَرَوَاهُ يَحْيى شَيْخُ الأَوْزَاعِي تَفْـ سِيرًا لِلَفْظَةِ يُحْبَرُونَ أَغَانِي نَزِّهْ سَمَاعَكَ إِنْ أَرَدْتَ سَمَاعَ ذَيَّـ ـاكَ الْغِنَا عَنْ هَذِهِ الأَلْحَانِ لا تُؤْثِرِ الأَدْنَى عَلَى الأَعْلَى فَتُحْـ رَمُ ذَا وَذَا يَا ذِلَّةَ الْحُرْمَانِ ... ›?

.. إِن اخْتِيَارَكَ لِلسَّمَاعِ النَّازِل الْـ أَدْنَى عَلَى الأَعْلَى مِنَ النُّقْصَانِ وَاللهِ إِنَّ سَمَاعَهُمْ فِي الْقَلْبِ وَالْـ أَبْدَانِ مِثْلُ السُّمِّ فِي الأَبْدَانِ وَاللهِ مَا انْفَكَّ الَّذِي هُوَ دَأْبُهُ أَبَدًا مِن الإِشْرَاكِ بِالرَّحْمَنِ فَالْقَلْبُ بَيْتُ الرَّبِّ جَلَّ جَلالُهُ حُبًّا وَإِخْلاصًا مَعَ الإِحْسَانِ فَإِذَا تَعَلَّقَ بِالسَّمَاعِ أَصَارَهُ عَبْدًا لِكُلِّ فُلانَةٍ وَفُلانِ حُبُّ الْكِتَابِ وَحُبُّ أَلْحَانِ الْغِنَا فِي قَلْبِ عَبْدٍ لَيْسَ يَجْتَمِعَانِ ... ›? وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. (فَصْلٌ) وإن سألت عن مطاياهم التي يتزاورون عَلَيْهَا، فنجائب أنشأها الله مِمَّا شَاءَ تسير بِهُمْ حيث شاءوا من الجنان. وإن سألت عن حليهم وشارتهم فأساور الذهب واللؤلؤ على الرؤوس ملابس التيجان.

وإن سألت عن غلمانهم، (فَوِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ) . وإن سألت عن عرائسهم وأزواجهم، فهن الكواعب والأتراب، اللاتي جرى في أعضائهن ماء الشباب، فللورد والتفاح ما لبسته الخدود، وللرمان ما تضمنته النهود، وللؤلؤ منثور ما حوته الثغور، وللرقة واللطافة ما دارت عَلَيْهِ الخصور، تجري الشمس من محاسن وجهها إذا برزت، ويضيء البرق من بين ثناياها إذا ابتسمت، إذا قابلت حبها فقل ما تشاء في تقابل النيرين، وإذا حادثته فما ظنك بمحادثة الحبين وإن ضمها إليه فما ظنك بتعانق الغصنين، يرى وجهه في صحن خدها، كما يرى في المرآة التي جلاها صقيلها، ويرى مخ ساقها من وراء اللحم، ولا يستره جلدها ولا عظمها ولا حللها. لو اطلعت على الدُّنْيَا لملأت ما بين الأَرْض والسماء ريحًا، ولاستنطقت أفواه الخلائق تهليلاً وتكبيرًا وتسبيحًا، ولتوخرف لها ما بين الخافقين، ولأغمضت عن غيرها كُلّ عين، ولطمست ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم، ولآمن من على ظهرها بِاللهِ الحي القيوم. ونصيفها على رأسها خَيْر من الدُّنْيَا وما فيها، ووصالها أشهى إليه مِنْ جَمِيعِ أمانيها، لا تزداد على طول الأحقاب إِلا حسنًا وجمالاً، ولا يزداد لها طول المدى إلا محبة ووصالاً، مبرأة من الحمل والولادة والحيض والنفاس، مطهرة من المخاط والبصاق والبول والغائط وسائر الأدناس، لا

وإن سألت عن حسن العشرة ولذة ما هنالك، فهن الْعَرَب المتحببات إلى الأزواج، بلطافة التبعل بالروح أي امتزاج، فما ظنك بامرأة إذا ضحكت في وجه زوجها أضاءت الْجَنَّة من ضحكها، وإذا انتقُلْتُ من قصر إلى قصر قُلْتُ هذه الشمس متنقلة في بروج فلكها، وإذا حاضرت زوجها فيا حسن تلك المحاضرة، وإن خاصرته فيا لذة تلك المعانقة والمخاصرة. ... وَحَدِيثُهَا السِّحْرُ الْحَلالُ لَوْ أَنَّهُ لَمْ يَجْنِ قَتْلَ الْمُسْلِمِ الْمُتَحَرِّزِ إِنْ طَالَ لَمْ يُمْلَلْ وَإِنْ هِيَ حَدَّثَتْ وَدَّ الْمُحَدَّثُ أَنَّهَا لَمْ تُوجِزِ ... ›? آخر: ... يُعَادُ حَدِيْثُهَا فَيَزِيْدُ حُسْنًا وَقَدْ يُسْتَقْبَحُ الشَيْء المُعَادُ ... ›? وإن غَنَّّتْ فَيَا لَذَّةَ الأبْصَارِ والأَسْمَاع، وإن آنَسَتْ وَأَمْتعَتْ فَيَا حَبَّذا تِلْكَ المؤَانَسَةِ والامْتَاع، وإنْ قَبلَتْ فلا شيْءَ أشْهَى مِنْ ٍذَلِكَ التّقِْبيْلِ، وإنْ نَوَّلْتَ فلا ألذَّ وَلاَ أَطْيَبَ مِنْ ذَلِكَ التَّنْوِيْلِ. هَذَا وإن سألت عن يوم المزيد، وزيارة العزيز الحميد، ورؤية وجهه المنزه عن التمثيل والتشبيه، كما تَرَى الشمس في الظهيرة، والقمر ليلة البدر، كما تواتر عن الصادق المصدوق النقل فيه، وَذَلِكَ موجود في الصحاح، والسُّنَن والمسانيد، من رواية جرير وصهيب وأنس وأَبِي هُرَيْرَةِ وأبي مُوَسى وأبي سعيد: فاستمَعَ يوم ينادي المنادي: يا أَهْل الْجَنَّة إن ربكم تبارك وتَعَالَى يستزيركم فحي على زيارته، فيقولون: سمعًا وطاعة، وينهضون إلى الزيارة مبادرين، فإذا بالنجائب قَدْ أعدت لَهُمْ، فيستوون،

يفنى شبابها، ولا تبلى ثيابها، ولا يخلق ثوب جمالها، ولا يمل طيب وصالها. قَدْ قصرت طرفها على زوجها، فلا تطمح لأحد سواه، وقصر طرفه عَلَيْهَا فهي غاية أمنيته وهواه، إن نظر إليها سرته، وإن أمرها بطاعته أطاعته، وإن غاب عَنْهَا حفظته، فهو معها في غاية الأماني والأمان. هَذَا ولم يطمثها قبله إنس ولا جان، كُلَّما نظر إليها ملأت قَلْبهُ سرورًا، وكُلَّما حدثته ملأت أذنه لؤلؤًا مَنْظُومًا منثورًا. وإذا برزت ملأت القصر والغرفة نورًا. وإن سألت عن السن، فأتراب في أعدل سن الشباب. وإن سألت عن الحسن، فهل رَأَيْت الشمس والقمر. وإن سألت عن الحدق، فأحسن سواد في أصفى بياض في أحسن حور. وإن سألت عن القدود، فهل رَأَيْت أحسن الأغصان، وإن سألت عن النهود فهن الكواعب، نهودهن كألطف الرمان. وإن سألت عن اللون، فكأنه إلياقوت والمرجان. وإن سألت عن حسن الخلق، فهن الخيرات الحسان، اللات جمع لهن بين الحسن والإحسان، فأعطين جمال الباطن والظاهر، فهن أفراح النُّفُوس، وقرة النواظر.

على ظهورها مسرعين، حتى إذا انتهوا إلى الوادي الأفيح الَّذِي جعل لَهُمْ موعدًا وجمعوا هناك فلم يغادر الداعي مِنْهُمْ أحدًا، أمر الرب تبارك وتَعَالَى بكرسيه فنصب هناك، ثُمَّ نصبت لَهُمْ منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، وجلس أدناهم – وحاشاهم أن يكون فيهم دنيء – على كثبان المسك، ما يرون أن أصحاب الكراسي فوقهم في العطايا. حتى إذا استقرت بِهُمْ مجالسهم، واطمأَنْتَ بِهُمْ أماكنهم، نادى المنادي: يا أَهْل الْجَنَّة إن لكم عَنْدَ الله موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هُوَ؟ ألم يبيض وجوهنا. ويثقل موازيننا؟ ويدخلنا الْجَنَّة، ويزحزحنا عن النار؟ فبينما هم كَذَلِكَ إذ سطع لَهُمْ نور أشرقت له الْجَنَّة، فرفعوا رؤوسهم فإذا الجبار جل جلاله وتقدست أسماؤه، قَدْ أشرف عَلَيْهمْ من فوقهم،وَقَالَ: يا أَهْل الْجَنَّة سلام عليكم، فلا ترد هذه التحية بأحسن من نقولهم: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلام ومنك السَّلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، فيتجلى لَهُمْ الرب تبارك وتَعَالَى يضحك إليهم، وَيَقُولُ: يا أَهْل الْجَنَّة، فيكون أول ما يسمعون منه تَعَالَى: أين عبادي الَّذِينَ أطاعوني بالغيب ولم يروني، فهَذَا يوم المزيد. فيجتمعون على كلمة واحدة: أن قَدْ رضينا فارض عنا، فَيَقُولُ: يا أَهْل الْجَنَّة: إني لو لم أرض عنكم لم أسكنكم جنتي، هَذَا يوم المزيد فاسألوني، فيجتمعون على كلمة واحدة: أرنا وجهك ننظر إليه. فيكشف لَهُمْ الرب جل جلاله الحجب ويتجلى لَهُمْ، فيغشاهم من نوره ما لو أن الله تَعَالَى قضى أن لا يحترقوا لاحترقوا، ولا يبقى في ذَلِكَ المجلس أحد إِلا حاضره ربه تَعَالَى محاضرة، حتى إنه

قصيدة زهدية عظيمة لأبي العتاهية

ليَقُولُ: يا فلان أتذكر يوم فعلت كَذَا وَكَذَا؟ يذكره ببعض غدراته في الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: يا رب ألم تغفر لي؟ فَيَقُولُ: بلى بمغفرتي بلغتك منزلتك هذه، فيا لذة الأسماع بتلك المحاضرة، ويا قرة عيون الأَبْرَار بالنظر إلى وجهه الكريم في الدار الآخِرَة، ويا ذلة الراجعين بالصفقة الخاسرة، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} . ... فَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا مَنَازِلُكَ الأُولَى وَفِيهَا الْمُخَيَّمُ وَلَكِنَّنَا سَبْيُ الْعَدُوُّ فَهَلْ تَرَى نَعُودُ إِلَى أَوْطَانِنَا وَنُسَلِّمُ ... ›? اللَّهُمَّ تَوفَّنَا مُسْلِمينَ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ لا خوفٌ عَلَيْهمْ ولا هُمْ يَحْزَنونَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. شِعْرًا: ... أَرَى النَّاسَ فِي الدُّنْيَا مُعَافًا وَمُبتَلَى وَمَا زَالَ حُكْمُ اللهِ فِي الأَرْضِ مُرْسَلا مَضَى فِي جَمِيعِ النَّاسِ سَابِقُ عِلْمِهِ وَفَصَّلَهُ مِنْ حَيْثُ شَاءَ وَوَصَّلا وَلَسْنَا عَلى حُلْوِ الْقَضَاءِ وَمُرِّهِ نَرَى حَكَمًا فِينَا مِنَ اللهِ أَعْدَلا بِلا خَلْقَهُ فِي الْخَيْرِ وَالشَرِّ فِتنَةً لِيَرْغَبَ فِيمَا فِي يَدَيْهِ وَيَسْأَلا ... ›?

.. وَلَمْ يَبْغِ إِلا أَنْ نَبُوءَ بِفَضْلِهِ عَلَيْنَا وَإِلا أَنْ نَتُوبَ فَيَقْبَلا هُوَ الأَحَدُ الْقَيُّومُ مِنْ بَعْدِ خَلْقِهِ وَمَا زَالَ فِي دَيْمُومَةِ الْخَلْقِ أَوَّلا وَمَا خَلَقَ الإِنْسَانَ إِلا لِغايَةٍ وَلَمْ يَتْرُكِ الإِنْسَانَ فِي الأَرْضِ مُهْمَلا كَفَى عِبْرَةً أَنَّا وَأَنَّكَ يَا أَخِي نُصَرِّفُ تَصْرِيفًا لَطِيفًا وَنُبْتَلَى كَانَا وَقَدْ صِرْنَا حَدِيثًا لِغَيْرِنَا يُخَاضُ كَمَا خُضْنَا الْحَدِيثَ بِمَنْ خَلا تَوَهَّمْتُ قَوْمًا قَدْ خَلُوا فَكَأَنَّهُمُ بِأَجْمَعِهِم كَانُوا خَيَالاً تَخَيَّلا وَلَسْتُ بِأَبْقَى مِنْهُمْ فِي دِيَارِهِمْ وَلَكِنَّ لِي فِيهَا كِتَابًا مُؤَجَّلا وَمَا النَّاسُ إِلا مَيِّتٌ وَابْنُ مَيِّتٍ تَأَجَّلَ حَيٌّ مِنْهُمْ أَوْ تَعَجَّلا فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ يُخْلِفُ وَعدَهُ بِمَا كَانَ أَوْصَى الْمُسْلِمِينَ وَأَرْسَلا هُوَ الْمَوْتُ يَا ابْنَ الْمَوْتِ وَالْبَعْثُ بَعْدَهُ فَمِنْ بَيْنِ مَبْعُوثٍ مُخفًا وَمُثْقَلاَ وَمِنْ بَيْنِ مَسْحُوبٍ عَلَى حُرٍّ وَجْهِهِ وَمِنْ بَيْنِ مَنْ يَأْتِي أَغَرَّ مُحَجَّلا ... ›?

.. عَشِقْنَا مِنَ اللَّذَاتِ كُلَّ مُحَرَّمٍ فَأُفٍّ عَلَيْنَا مَا أَغَرَّ وَأَجْهَلا لَقَدْ كَانَ أَقْوَامٌ مِنَ النَّاسِ قَبْلَنَا يَعَافُونَ مِنْهُنَّ الْحَلالَ الْمُحَلَّلا رَكَنّا إِلَى الدُّنْيَا فَطَالَ رُكُونُنَا وَلَسْنَا نَرَ الدُّنْيَا عَلَى ذَاكَ مَنْزِلا فَلِلَّهِ دَارٌ مَا أَحَثَّ رَحِيلَهَا وَمَا أَعْرَضَ الآمَالَ مِنْهَا وَأَطْوَلا أَبيّ الْمَرْءُ إِلا أَنْ يَطُولَ اغْتِرَارُهُ وَتَأْبَى بِهِ الْحَالاتُ إِلا تَنَقُّلا إِذَا أَمَّلَ الإِنْسَانُ أَمْرًا فَنَالَهُ سَمَا يَبْتَغِي فَوْقَ الَّذِي كَانَ أَمَّلا وَكَمْ مِنْ ذَلِيلٍ عَزَّ مِن بَعْدِ ذِلَّةٍ وَكَمْ مِنْ رَفِيعٍ كَانَ قَدْ صَارَ أَسْفَلا وَلَمْ أَرَ إِلا مُسْلِمًا فِي وَفَاتِهِ وَإِنْ أَكْثَرَ الْبَاكِي عَلَيْهِ وَأَعْوَلا وَكَمْ مِنْ عَظِيمِ الشَّأْنِ فِي قَعْرِ حُفْرَةٍ تَلَحَّفَ فِيهَا بِالثَّرَى وَتَسَرْبَلا أَيَا صَاحِبَ الدُّنْيَا وَثِقْتَ بِمَنْزِلٍ تَرَى الْمَوْتَ فِيهِ بِالْعِبَادِ مُوَكَّلا تُنَافِسُ فِي الدُّنْيَا لِتَبْلُغَ عِزَّها وَلَسْتَ تَنَالُ العِزَّ حَتَّى تَذَلَّلا ... ›?

فصل في نظر أهل الجنة إلى ربهم تبارك وتعالى وتقدس

.. إِذَا اصْطَحَبَ الأَقْوَامُ كَانَ أَذَلُّهُمْ لأَصْحَابِهِ نَفْسًا أَبَرَّ وَأَفْضَلا وَمَا الْفَضْلُ فِي أَنْ يُؤثِرَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ وَلَكِنَّ فَضْلَ الْمَرْءِ أَنْ يَتَفَضَّلا ... ›? اللَّهُمَّ يا من عم العباد فضله ونعماؤه، ووسع البرية جوده وعطاؤه، نسأل منك الجود والإحسان، والعفو والغفران، والصفح والأمان، والعتق من النيران، وتوبة تجلو أنوارها ظلمَاتَ الإساءة والعصيان، يا كريم يا. اللَّهُمَّ ثَبِّتْ إيماننا بك ثبوت الْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ، وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُور الإيمانِ وَاجْعَلْنَا هُداةً مُهْتَدِين وَأَصْلِحْ أَوْلادَنَا واغفر لآبائنا وأمهاتنا واجمعنا وإياهم مَعَ عبادك الصالحين في جنات النَّعِيم، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وأصْحابِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ) (في نظر أَهْل الْجَنَّة إلى ربهم تبارك وتَعَالَى) عن أَبَي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ نَاسًا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ?: «هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ» ؟ قَالُوا: لا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ» ؟ قَالُوا: لا، قَالَ: «فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ» فذكر الْحَدِيث بطوله. رواه البخاري، ومسلم. وَعَنْ صُهَيْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنْ النَّارِ؟ - قَالَ -: فَيَكْشِفُ

الْحِجَابَ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إليهِمْ مِنْ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ – ثُمَّ تلا هذه الآيَة -: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} » . رواه مسلم، والترمذي، والنسائي. وَعَنْ أَبِي مُوسى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ? قَالَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ خَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَةٍ، عَرْضُهَا سِتُّونَ مِيلاً، فِي كُلّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا أَهْلٌ مَا يَرَوْنَ الآخَرِينَ، يَطُوفُ عَلَيْهمْ الْمُؤْمِنُونَ، وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلا رِدَاءُ الْكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ» . رواه البخاري، واللفظ له، ومسلم، والترمذي. وَرُوِيَ عَنْ جَابِر بِنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ ?: «بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مَجْلِسٍ لَهُمْ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ عَلَى بَابِ الجَنَّةِ، فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ فَإِذَا الرَّبُّ تَبَاركَ وَتَعَالَى قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهمْ فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ سلوني، فَقَالُوا: نسألك الرِّضَا عنا، قال: رضائي أحلكم داري، وأنالكم كرامتي، وهَذَا أوانها فسلوني، قَالُوا: نسألك الزيادة، قال: فيؤتون بنجائب من ياقوت أحمر أزمتها من زمرد أخضر، وياقوت أحمر، فيحملون عَلَيْهَا، تضع حوافرها عَنْدَ منتهى طرفها، فيأمر الله عَزَّ وَجَلَّ بأشجار عَلَيْهَا الثمار، فتجيء حوراء من الحور العين وهن يقلن: نَحْنُ النَّاعِمَاتُ فَلا نَبْأَسُ، نَحْنُ الخالدات فلا نموت، أزواج قوم مؤمنين كرام، ويأمر الله عَزَّ وَجَلَّ بكثبان من مسك أبيض، فينشر عَلَيْهمْ ريحًا يُقَالُ: لها: المثيرة، حتى تنتهي بِهُمْ إلى جنة عدن، وهي قصبة الْجَنَّة، فَتَقُول الملائكة: يا ربنا قَدْ جَاءَ القوم، فَيَقُولُ: مرحبًا بالصادقين، مرحبًا بالطائعين. قال: فيكشف لَهُمْ الحجاب، فينظرون إِلَى اللهِ تبارك

موعظة بليغة في الحث على التزود للآخرة ويليها قصيدة فيها حكم

وتَعَالَى، فيتمتعون بنور الرحمن، حتى لا ينظر بَعْضهمْ بعضًا، ثُمَّ يَقُولُ: أرجعوهم القصور بالتحف، فيرجعون وقَدْ أبصر بَعْضهمْ بعضًا، فَقَالَ رسول الله ?: فذَلِكَ قوله: {نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} . رواه أبو نعيم، والبيهقي، واللفظ له، وَقَالَ: وقَدْ مضى في هَذَا الْكِتَاب، يعني: في كتاب البعث، وفي كتاب الرؤية ما يؤكد ما روي في هَذَا الخبر. انتهى. وَهُوَ عَنْدَ ابن ماجة، وابن أبي الدُّنْيَا مختصر قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ?: «بَيْنَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ فَرَفَعُوا رُءُوسَهُمْ فَإِذَا الرَّبُّ جلَّ جَلالهُ قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} فَلا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْء مِمَّا فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ مَا دَامُوا يَنْظُرُونَ إليه، حَتَّى يَحْتَجِبَ عَنْهُمْ، وَتَبْقَى فِيهِم بَرَكَتُهُ وَنُورُهُ» . هَذَا لَفْظُ ابْنُ مَاجَة، وَالآخرُ بِنَحْوِهِ. عن أنس بن مالك رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: جَاءَ جبريل عَلَيْهِ السَّلام وفي يده مرآة بيضاء فيها نكتة سوداء، فقُلْتُ: ما هذه يا جبريل؟ قال: هذه الْجُمُعَة يعرضها عَلَيْكَ ربك لتَكُون لك عيدًا ولقومك من بعدك، تَكُون أَنْتَ الأول، وتَكُون اليهود والنَّصَارَى من بعدك، قال: مالنا فيها؟ قال: فيها خَيْر لكم، فيها ساعة من دعا ربه فيها بخَيْر – هُوَ له قسم - إِلا أعطاه إياه، أو لَيْسَ بقسم إِلا ادخر له ما هُوَ أعظم منه، أو تعوذ فيها من شر هُوَ عَلَيْهِ مكتوب إِلا أعاذه، أو لَيْسَ عَلَيْهِ مكتوب إِلا أعاذه من أعظم منه، قُلْتُ: ما هذه النكتة السوداء فيها؟ قال: هذه الساعة تقم يوم الْجُمُعَة، وَهُوَ سيد الأيام عندنا، ونَحْنُ ندعوه في الآخِرَة: يوم المزيد. قال: قُلْتُ: لم تدعونه يوم المزيد؟ قال: إن ربك عزَّ وجل اتخذ في الْجَنَّة

واديًا أفيح من مسك أبيض، فإذا كَانَ يوم الْجُمُعَة نزل تبارك وتَعَالَى من عليين، فجلس على كرسيه، ثُمَّ حف الكرسي بمنابر من نور، وجَاءَ النبيون حتى يجلسوا عَلَيْهَا، ثُمَّ يجيء أَهْل الْجَنَّة حتى ينظروا إلى وجهه، وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا الَّذِي صدقتكم وعدي، وأتممت عليكم نعمتي، هَذَا محل كرامتي فسلوني، فيسألونه الرِّضَا، فَيَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ: رضاي أحلكم داري، وأنالكم كرامتي، فسلوني، فيسألونه حتى تنتهي رغبتهم، فيفتح لَهُمْ عَنْدَ ذَلِكَ ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، إلى مقدار منصرف النَّاس يوم الْجُمُعَة، ثُمَّ يصعد الرب تبارك وتَعَالَى على كرسيه، فيصعد معه الشهداء والصديقون» . أحسبه قال: «ويرجع أَهْل الغرف إلى غرفهم، درة بيضاء، لا فصم فيها ولا وصم، أو ياقوتة حمراء، أو زبرجدة خضراء منها غرفها، وأبوابها، مطردة فيها أنهارها، متدلية فيها ثمارها، فيها أزواجها وخدمها، فليسوا إلى شَيْء أحوج مِنْهُمْ إلى يوم الْجُمُعَة ليزداد فيه كرامة، وليزدادوا فيه نظرًا إلى وجهه تبارك وتَعَالَى ولذَلِكَ دعي يوم المزيد» . رواه ابن أبي الدُّنْيَا، والطبراني في الأوسط بإسنادين، أحدهما: جيد قوي، وأبو يعلى مختصرًا ورواته رواة الصحيح، والبزار، واللفظ له. قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: ... أَوَ مَا سَمِعْتَ بِشَأْنِهِمْ يَوْمَ الْمَزِيـ دِ وَأَنَّهُ شَانٌ عَظِيمُ الشَّانِ هُوَ يَوْمُ جُمْعَتِنَا وَيَوْمَ زِيَارَةِ الـ ـرَّحْمَنِ وَقْتَ صَلاتِنَا وَأَذَانِ وَالسَّابِقُونَ إِلَى الصَّلاةِ هُمْ الأُولَى ... ???? ... فَازُوا بِذَاكَ السَّبْقِ بِالإِحْسَانِ ... ???? ... سَبْقٌ بِسَبْقٍ وَالْمُؤَخَّرُ هَا هُنَا ... ???? ... مُتَأَخَّرٌ فِي ذَلِكَ الْمَيْدَانِ ... ????

.. وَالأَقْرَبُونَ إِلَى الإِمَامِ فَهُمْ أُولُو ... ???? ... الزُّلْفَى هُنَاكَ فَهَا هُنَا قُرْبَانِ ... ???? ... قُرُبٌ بِقُرْبٍ وَالْمُبَاعَدُ مِثْلُهُ بُعْدٌ بِبُعْدٍ حِكْمَةُ الدَّيَّانِ وَلَهُمْ مَنَابِرُ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ وَمَنَابِرُ إلياقُوتِ وَالْعِقْيَانِ هَذَا وَأَدْنَاهُمْ وَمَا فِيهِمْ دَنِي مِن فَوْقَ ذَاكَ الْمِسْكِ كَالْكُثْبَانِ مَا عِنْدَهُمْ أَهْلُ الْمَنَابِرِ فَوْقَهُمْ مِمَّا يَرَوْنَ بِهِمْ مِنَ الإِحْسَانِ فَيَرَوْنَ رَبَّهُمْ تَعَالَى جَهْرَةً نَظَرَ الْعِيَانِ كَمَا يُرَى الْقَمَرَانِ وَيُحَاضِرُ الرَّحْمَنُ وَاحِدَاهُمْ مُحَا ضَرَةَ الْحَبِيب يَقُولُ يَا ابْنَ فُلانِ هَلْ تَذْكُرُ اليوم الَّذِي قَدْ كُنْتَ فِيـ ... ???? ... ـهِ مُبَارِزًا بِالذَّنْبِ وَالْعِصْيَانِ ... ???? ... فَيَقُولُ رَبِّ أَمَا مَنَنْتَ بِغَفْرَةٍ قِدْمًا فَإِنَّكَ وَاسِعُ الْغُفْرَانِ فَيُجِيبُهُ الرَّحْمَنُ مَغْفِرَتِي الَّتِي قَدْ أَوْصَلَتْكَ إِلَى الْمَحَل الدَّانِي ... ›? اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا لِكِتَابِكَ مِنْ التَّإلينِ وَلكَ بِهِ مِنْ العاملينَ وَبِمَا صَرَّفْتَ فِيهِ مِنْ الآيات مُنْتَفِعينِ وَإلى لَذِيذِ خِطَابِه مُسْتَمِعينَ وَلأوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ خَاضِعين وَبِالأَعْمَالِ مُخْلِصِين، وَاغْفِرَ لَنَا

وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ قَوِّي إِيمَانِنَا بِكَ وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ، اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ القُلُوب ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ، وَأَمِّنَّا مَنْ سَطْوَتِكَ وَمَكْرِكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (موعظة) : عباد الله يجب عليكم أن تعلموا أنكم ما دمتم في هذه الدار فأنتم في دار المعاملات، وأن لكم درًا أخرى أبدية، فيها تستوفون مالكم على هذه المعاملات من جزاءات، فإن أحسنتم هنا أو أسأتم، كَانَ جزاؤكم هناك إحسانَا أو إساءات، هكَذَا وعدكم ربكم، وَهُوَ عليم بكل الأعمال، وعلى جزائكم عَلَيْهَا قدير، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} ، وَقَالَ: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} ، وَقَالَ: {يَوْمَ تَأْتِي كُلّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} من هَذَا قاطعًا تعلم أن شأن هذه المعاملات عَظِيم عظمًا لا يعرف قدره إِلا الرجل العاقل، الْبَعِيد النظر الحكيم، فإن عَلَيْهَا يترتب غضب الله وعقابه أو رضاه، والنَّعِيم الْمُقِيم، وشَيْء هَذَا قدره لا يتوقف ولا يتردد في بذل العناية به رجل بصير، وهذه المعاملات تارة تكون بينكم وبين الله، وتارة تكون مع عباد الله، فأما المعاملة مَعَ الله جَلَّ وَعَلا فبأن تسمَعَ وتطيع فيما أمر ونهى، وأما معاملتك مَعَ عباد الله الْمُؤْمِنِين، فبأن تحب لَهُمْ ما تحب لنفسك، وَذَلِكَ بأن تجعل نفسك ميزانَا في معاملة كبيرهم وصغيرهم، أَنْتَ تكره إساءتهم لك وتحب إحسانهم، فاحذر إساءتهم، وعاملهم بالإحسان، وكما تكره أن يمسوا مالك بسوء، فلتكن أموالهم منك في أمان،وكما تكره أن يتعرضوا لأولادك وأهلك وشخصك بشر، فكن لَهُمْ خَيْر حفيظ ونصير، وكما تحب أن يريحوك إذا جاوروك، فأرحهم عَنْدَ مجاورتك لَهُمْ، وكما تحب أن ينصحوك

ويصدقوك في وعودهم وعقودهم وأخبارهم، فاسبقهم أَنْتَ إلى ذَلِكَ، وكما تحب أن يفرحوا لفرحك، ويحزنوا لحزنك، فكن أَنْتَ كَذَلِكَ معهم، وكما تحب أن لا يتكلموا فيك إلا بخَيْر، فلا تكن أَنْتَ معهم بضد ذَلِكَ، وقس على ذَلِكَ ما يتعلق بالموضوع، وأما معاملتك مَعَ نفسك، فهي أن تعودها دائمًا على الْخَيْر بلا ضجر. شِعْرًا: ... أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْحَقَّ أَبْلَجُ لائِحُ وَأَنَّ لِجَاجَاتِ النُّفُوسِ جَوائِحُ إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَكْفُفْ عَنِ النَّاسِ شَرَّهُ فَلَيْسَ لَهُ مَا عَاشَ مِنْهُمْ مُصَالِحُ إِذَا كَفَّ عَبْدُ اللهِ عَمَّا يَضُرُّهُ وَأَكْثَرَ ذِكْرَ اللهِ فَالْعَبْدُ صَالِحُ إِذَا الْعَبْدُ لَمْ يَمْدَحْهُ حُسْنُ فِعَالِهِ فَلَيْسَ لَهُ وَالْحَمْدُ للهِ مَادِحُ إِذَا ضَاقَ صَدْرُ الْمَرْءِ لَمْ يَصْفُ عَيْشُهُ وَمَا يَسْتَطِيبُ الْعَيْشَ إِلا الْمُسَامِحُ وَبَيْنَا الْفَتَى وَالْمُلْهِيَاتُ يُذِقْنَهُ جِنَى اللَّهْوِ إِذْ نَاحَتْ عَلَيْهِ النَّوَائِحُ وَإِنَّ امْرأً أَصْفَاكَ فِي اللهِ وُدَّهُ وَكَانَ عَلَى التَّقْوَى مُعِينًا لِصَالِحُ ... ›?

يوم الجمعة يوم من أيام الرب عظيم يجمع الله فيه أهل الجنة في دار المزيد

.. وَإِنَّ أَلَبَّ النَّاسِ مَنْ كَانَ هَمُّهُ بِمَا شَهِدَتْ مِنْهُ عَلَيْهِ الْجَوَارِحُ ... ›? اللَّهُمَّ عَامِلَنَا بِلُطْفِكَ وَإِحْسَانِكَ، ووفقنا لطَاعَتكَ ومرضاتك، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجمَِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين غير خزايا ولا مفتونين وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجمَِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ) وروي عن حذيفة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أتاني جبريل، فإذا في كفه مرآة كأصفى المرايا وأحسنها، وإذا في وسطها نكتة سواداء، قال: قُلْتُ: يا جبريل ما هذه؟ قال: هذه الدُّنْيَا صفاؤها وحسنها، قال: قُلْتُ: وما هذه اللمعة السوداء في وسطها؟ قال: قال هذه الْجُمُعَة قال: قُلْتُ: وما الْجُمُعَة: قال: يوم من أيام ربك عَظِيم، وسأخبرك بشرفه وفضله واسمه في الدُّنْيَا والآخِرَة، أما شرفه وفضله واسمه في الدُّنْيَا، فإن الله تبارك وتَعَالَى جمَعَ فيه أمر الخلق وأما ما يرجى فيه، فإن فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم أو أمة مسلمة يسألان الله فيها خيرًا إِلا أعطاها إياه، وأما شرفه وفضله واسمه في الآخِرَة فإن الله تَعَالَى إذا صير أَهْل الْجَنَّة إلى الْجَنَّة، وأدخل أَهْل النار النار، وجرت عَلَيْهمْ أيامها وساعتها، لَيْسَ بها ليل ولا نهار إِلا قَدْ علم الله مقدار ذَلِكَ وساعته، فإذا كَانَ يوم الْجُمُعَة في الحين الَّذِي يبرز أو يخَرَجَ فيه أَهْل الْجُمُعَة،

نادى مناد: يا أَهْل الْجَنَّة أخرجوا إلى دار المزيد، لا يعلم سعتها وعرضها وطولها إِلا الله عَزَّ وَجَلَّ، فيخرجون في كثبان من المسك» ، قال حذيفة: وإنه لهو أشد بياضًا من دقيقكم هَذَا، قال: فيخَرَجَ غلمان الأنبياء بمنابر من نور، ويخَرَجَ غلمان الْمُؤْمِنِين بكراسي من ياقوت، قال: فإذا وضعت لَهُمْ، وأخذ القوم مجالسهم، بعث الله تبارك وتَعَالَى عَلَيْهمْ ريحًا تدعى المثيرة، تثير عَلَيْهمْ أثابير المسك الأَبْيَض، فتدخله من تحت ثيابهم،وتخرجه في وجوههم وإشعارهم، فتلك الريح أعلم كيف تصنع بذَلِكَ المسك، من امرأة أحدكم لو دفع إليها كُلّ طيب على وجه الأَرْض لكأَنْتَ تلك الريح أعلم كيف تصنع بذَلِكَ المسك، من تلك المرأة لو دفع إليها ذَلِكَ الطيب بإذن الله عَزَّ وَجَلَّ، قال: ثُمَّ يوحي الله سُبْحَانَهُ إلى حملة العرش فيوضع بين ظهراني الْجَنَّة، وبينه وبينهم الحجب فيكون أول ما يسمعون منه أن يَقُولُ: أين عبادي الَّذِينَ أطاعوني بالغيب ولم يروني، وصدقوا رسلي، واتبعوا أمري، فسلوني فهَذَا يوم المزيد. قال: فيجتمعون على كلمة واحدة: رب رضينا عَنْكَ، فارض عنا، قال: فيرجع الله تَعَالَى في قولهم: أن يا أَهْل الْجَنَّة إني لو لم أرض عنكم لما أسكنتكم جنتي فسلوني فهَذَا يوم المزيد، قال: فيجتمعون على كلمة واحدة: رب وجهك أرنا ننظر إليه. قال: فيكشف الله تبارك وتَعَالَى تلك الحجب ويتجلى لَهُمْ، فيغشاهم من نوره شَيْء، لو أنه قضى عَلَيْهمْ أن لا يحترقوا مِمَّا غشيهم من نوره، قال: ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ: ارجعوا إلى منازلكم، قال: فيرجعون إلى منازلهم، وقَدْ خفوا على أزواجهم، وخفين عَلَيْهمْ، مِمَّا غشاهم من نوره. انتهى. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةِ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ هل نرى ربنا؟ قال: نعم، هل تتمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر؟ قلنا: لا، قال: «كَذَلِكَ لا

تتمارون في رؤية ربكم عَزَّ وَجَلَّ ولا يبقى فذ يدلك المجلس أحد إِلا حاضره الله عَزَّ وَجَلَّ محاضرة حتى أن يَقُولُ للرجل منكم: ألا تذكر يا فلان يوم عملت كَذَا وَكَذَا يذكره بعض غدراته في الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: يا رب أفلم تغفر لي فَيَقُولُ: بلى فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه فبينما هم كَذَلِكَ غشيتهم سحابة من فوقهم فأمطرت عَلَيْهمْ طيبًا لم يجدوا مثل ريحه شَيْئًا قط ثُمَّ يَقُولُ: قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة فخذوا ما اشتهيتم، قال: فنأتي سوقًا قَدْ حفت به الملائكة فيه ما لم تنظر العيون إلى مثله ولم تسمَعَ الآذان ولم يخطر على القُلُوب، قال: فيحمل لنا ما اشتهينا لَيْسَ يباع فيه شَيْء ولا يشتَرَى وفي ذَلِكَ السوق يلقى يلقى أَهْل الْجَنَّة بَعْضهمْ بعضًا، فيقبل الرجل ذو المنزلة المرتفعة فيلقى من هُوَ دونه وما فيهم دني فيروعه ما يرى عَلَيْهِ من اللباس فما ينقص آخر حديثه حتى يتمثل له عَلَيْهِ أحسن منه وَذَلِكَ أنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها قال: ثُمَّ ننصرف إلى منازلنا فتلقانَا أزواجنا، فيقلن: مرحبًا وأهلاً لَقَدْ جئت وإن بك من الجمال والطيب أفضل مِمَّا فارقتنا عَلَيْهِ فنقول: أَنَا جالسنا اليوم ربنا الجبار عَزَّ وَجَلَّ ويحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا. قال ابن القيم في سوق الْجَنَّة: ... فَيَقُولُ جَلَّ جَلالُهُ قُومُوا إِلَى مَا قَدْ ذَخَرْتُ لَكُمْ مِنَ الإِحْسَانِ يَأْتُونَ سُوقًا لا يُبَاعُ وَيُشْتَرَى فِيهِ فَخُذْ مِنْهُ بِلا أَثْمَانِ ... ›?

.. قَدْ أَسْلَفَ التُّجَّارَ أَثْمَانَ الْمَبِيـ ... ???? ... ـعِ بِعَقْدِهِمْ فِي بيعةِ الرِّضْوَانِ ... ???? ... للهِ سُوقٌ قَدْ أَقَامَتُهُ الْمَلا ئِكَةُ الْكِرَامُ بِكُلِّ مَا إِحْسَانِ فِيهِ الَّذِي وَاللهِ لا عَيْنٌ رَأَتْ كَلا وَلا سَمِعَتْ بِهِ أُذُنَانِ كَلا وَلَمْ يَخْطُر عَلَى قَلْبِ امْرِئٍ فَيَكُونُ عَنْهُ مُعْبِرًا بِلِسَانِ فَيَرَى امْرَأً مِنْ فَوْقَهُ فِي هَيْئَةٍ فَيَرُوعُهُ مَا تَنْظُرُ الْعَيْنَانِ فَإِذَا عَلَيْهِ مِثْلُهَا إِذْ لَيْسَ يَلْـ ... ???? ... ـحَقُ أَهْلَهَا شَيْءٌ مِن الأَحْزَانِ ... ???? ... وَاهًا لِذَا السُّوقِ الَّذِي مِن حَلَّهُ نَالَ التَّهَانِي كُلَّهَا بِأَمَانِ يُدْعَى بِسُوقِ تَعَارُفٍ مَا فِيهِ مِنْ صَخَبٍ وَلا غِشٍّ وَلا أَيْمَانِ وَتِجَارَةٍ مَنْ لَيْسَ تُلْهِيهِ تِجَا رَاتٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ الرَّحْمَنِ أَهْلُ الْمُرُوءَةِ وَالْفُتُوَّةِ وَالتُّقَى وَالذِّكْرِ لِلرَّحْمَنِ كُلَّ أَوَانِ يَا مَنْ تَعَوَّضَ عَنْهُ بِالسُّوقِ الَّذِي

السوق الذي يلتقي فيه أهل الجنة ونظم لابن القيم حول هذا الموضوع كلام نفيس جدا

.. رُكزَتْ لَدَيْهِ رَايَةُ الشَّيْطَانِ لَوْ كُنْتَ تَدْرِي قَدْرَ ذَاكَ السُّوق لِمْ تَرْكَنْ إِلَى سُوق الْكَسَادِ الْفَانِي ... ›? اللَّهُمَّ انْظِمْنَا فِي سِلْكِ عِبَادِكَ الْمُفْلِحِينَ وَنَجِّنَا مِن لَفَحَاتِ الجَحِيمِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ والمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ) : اعْلَمْ أن الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى اختار من كُلّ جنس من أجناس المخلوقات أطيبه. واختصه لنفسه وارتضاه دون غيره، فإنه تَعَالَى طيب لا يحب إِلا الطيب، ولا يقبل من الْعَمَل والكلام والصدقة إِلا الطيب، فالطيب من كُلّ شَيْء هُوَ مختاره تَعَالَى، وأما خلقه تَعَالَى فعام للنوعين. وبهَذَا يعلم عنوان سعادة الْعَبْد وشقائه، فإن الطيب لا يناسبه إِلا الطيب ولا يرضى إِلا به، ولا يسكن إِلا إليه، ولا يطمئن قَلْبهُ إِلا به، فله من الكلم الطيب الَّذِي لا يصعد إِلَى اللهِ تَعَالَى إلا هُوَ، وَهُوَ أشد شَيْء نفرة عن الفحش في المقال، والتفحش في اللسان والبذاء، والكذب والغيبة والنميمة والبهت وقول الزور، وكل كلام خبيث. وكَذَلِكَ لا يألف من الأعمال إِلا أطيبها وهي الأعمال التي اجتمعت على حسنها الفطر السليمة مَعَ الشرائع النبوية، وزكتها العقول الصحيحة. فاتفق على حسنها الشرع والعقل والفطرة. مثل أن يعبد الله وحده لا يشرك به شَيْئًا، ويؤثر مرضاته على هواه، ويتحبب إليه جهده وطاقته، ويحسن إلى خلقه ما استطاع، فيفعل بِهُمْ ما يحب أن يفعلوه به، ويعاملهم بما يجب أن يعاملوه به،ويدعهم مِمَّا يجب أن يدعوه منه. وينصحهم لما ينصح به نَفْسهُ، ويحكم لَهُمْ بما يجب أن يحكم له به، ويحمل أذاهم ولا يحملهم أذاه، ويكف عن أعراضهم ولا يقابلهم بمثل ما نالوا من عرضه، وإذا رأى لَهُمْ

حسنًا أذاعه وإذا رأى لَهُمْ سيئًا كتمه، ويقيم أعذارهم ما استطاع فيما لا يبطل شريعة، ولا يناقض الله أمرًا ولا نهيًا. وله أيضًا من الأَخْلاق أطيبها وأزكاها، كالحلم والوقار والسكينة، والرحمة والصبر والوفاء، وسهوله الجانب ولين العريكة والصدق وسلامة الصدر من الغل والغش والحقَدْ والحسد، والتواضع وخفض الجناح لأَهْل الإِيمَان. والعزة والغلظة على أعداء الله وصيانة الوجه عن بذله وتذلله لغير الله والعفة والشجاعة والسخاء والمروءة. وكل خلق اتفقت على حسنه الشرائع والفطر والعقول. وكَذَلِكَ لا يختار من المطاعم إِلا أطيبها وَهُوَ الحلال الهنيء المريء الَّذِي يغذي البدن والروح أحسن تغذية، مَعَ سلامة الْعَبْد من تبعته. وكَذَلِكَ لا يختار من المناكح إِلا أطيبها وأزكاها. ومن الرائحة إِلا أطيبها وأزكاها. ومن الأصحاب والعشراء إِلا الطيبين مِنْهُمْ. فروحه طيب وبدنه طيب، وخلقه طيب، وعمله طيب، وكلامه طيب، ومطعمه طيب، ومشربه طيب، وملبسه طيب، ومنكحه طيب، ومدخله طيب ومخرجه طيب، ومنقَلْبهُ طيب، ومثواه كله طيب. فهَذَا ممن قَالَ اللهُ تَعَالَى فيه: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ومن الَّذِينَ يَقُولُ لَهُمْ خزنة الْجَنَّة: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} . وهَذَا الفناء تقتضي السببية، أي بسبب طيبكم ادخلوها. وَقَالَ تَعَالَى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} وقَدْ فسرت الآيَة بأن الكلمات الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ، والكلمات الطَّيِّبَاتُ، للطَّيِّبِينَ، وفسرت بأن النساء َالطَّيِّبَاتُ للرِجَال الطَّيِّبِينَ، والنساء الْخَبِيثَاتُ للرِجَال اِلْخَبِيثِينَ، وهي تعم ذَلِكَ وغيره.

فالكلمَاتَ والأعمال والنساء الطيبات لمناسبها من الطيبين والكلمَاتَ والأعمال والنساء الخبيثات لمناسبها الخبيثين. وَاللهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى جعل الطيب بحذافيره في الْجَنَّة، وجعل الخبيث بحذافيره في النار. فجعل الدور ثلاثة: دار أخلصت للطيبين، وهي حرام على غير الطيبين. وقَدْ جمعت كُلّ طيب، وهي الْجَنَّة. ودار أخلصت للخبيثين والخبائث، ولا يدخلها إِلا الخبيثون، وهي النار. ودار امتزج فيها الطيب والخبيث وخلط بينهما وهي هذه الدار. ولهَذَا وقع الابتلاء والمحنة بسبب هَذَا الامتزاج والاختلاط، وَذَلِكَ بموجب الحكمة الإلهية. فإذا كَانَ يوم معاد الخليقة ميز الله الخبيث من الطيب. فجعل الطيب وأهله في دار على حدة لا يخالطهم غيرهم، وجعل الخبيث وأهله في دار على حدة لا يخالطهم غيرهم، فعاد الأَمْر إلى دارين فقط: الْجَنَّة، وهي دار الطيبين، والنار: وهي دار الخبيثين. وأنشأ الله تَعَالَى من أعمال الفريقين ثوابهم وعقابهم، فجعل طيبات أقوال هؤلاء وأعمالهم وأخلاقهم هِيَ عين نعيمهم ولذاتهم، فأنشأ لَهُمْ منها أكمل أسباب النَّعِيم والسرور. وجعل خبيثات أقوال الآخرين وأعمالهم وأخلاقهم هِيَ عين عذابهم وآلامهم فأنشأ لَهُمْ منها أعظم أسباب العقاب والآلام، حكمة بالغة، وعزة باهرة قاهرة، ليرى عباده كمال ربوبيته، وكمال حكمته وعلمه وعدله ورحمته، وليعلم أعداؤه أنهم كَانُوا هم المفترين الكذابين، لا رسله البررة الصادقون قال الله تَعَالَى: {وَأَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ}

والمقصود أن الله سُبْحَانَهُ جعل للسعادة والشقاء عنوانَا يعرفان به. فالسَّعِيد الطيب لا يليق به إِلا طيب، ولا يأتي إِلا طيبًا، ولا يصدر منه إِلا طيب، ولا يلبس إِلا طيبًا، والشقي الخبيث لا يليق به إِلا الخبيث، ولا يأتي إِلا خبيثًا ولا يصدر منه إِلا الخبيث. فالخبيث: يتفجر من قَلْبهُ الخبث على لِسَانه وجوارحه. والطيب: يتفجر من قَلْبهُ الطيب على لِسَانه وجوارحه، وقَدْ يكون في الشخص مادتان، فأيهما غلب عَلَيْهِ كَانَ من أهله، فإن أراد الله به خيرًا طهره من المادة الخبيثة قبل الموافاة، فيوافيه يوم القيامة مطهرًا فلا يحتاج إلى تطهيره بالنار. فيطهره منها بما يوفقه له من التوبة النصوح، والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة حتى يلقى الله وما عَلَيْهِ خطيئة. ويمسك عن الآخِر مواد التطهير، فيلقاه يوم القيامة بمادة خبيثة ومادة طيبة، وحكمته تَعَالَى تأبى أن يجاوره أحد في داره بخبائثه، فيدخله النار طهرة له، وتصفية وسبكًا، فإذا خلصت سبيكة إيمانه من الخبث صلح حينئذٍ لجواره ومساكنة الطيبين من عباده. وإقامة هَذَا النوع من النَّاس في النار على حسب سرعة زَوَال تلك الخبائث مِنْهُمْ وبطئها فأسرعهم زوالاً وتطهيرًا أسرعهم خروجًا، جزاء وفاقا، وما ربك بظلام للعبيد. وما كَانَ المشرك خبيث العنصر خبيث الذات لم تطهر النار خبثه، بل لو خَرَجَ منها لعاد خبيثًا كما كَانَ كالكلب إذا دخل البحر ثُمَّ خَرَجَ منه فلذَلِكَ حرم الله تَعَالَى على المشرك الْجَنَّة. ولما كَانَ المُؤْمِن الطيب المطيب مبرًا من الخبائث، كأَنْتَ النار حرامًا عَلَيْهِ، إذا لَيْسَ فيه ما يقتضي تطهيره بها.

خطبة للإمام علي بن أبي طالب

فسبحان من بهرت حكمته العقول والألباب، وشهدت فطر عباده وعقولهم بأنه أحكم الحاكمين ورب العالمين، لا إله إِلا هُوَ. وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَمَ. (فَصْلٌ) خطب أمير الْمُؤْمِنِين علي بن أبي طالب رضوان الله عَلَيْهِ بالكوفة، فَقَالَ في كلام له: سبحانك خالقًا معبودًا بحسن بَلائِكَ في خلقك، خلقت دارًا وجعلت مأدبة ومطعمًا ومشربًا، وأزواجًا وقصورًا، وخدمًا وعيونًا وأنهارًا، ثُمَّ أرسلت داعيًا إلينا، فلا الداعي أجبنا، ولا فيما رغبتنا رغبنا، أقبلنا على جيفة نأكل منها، قَدْ زَادَ بعضنا على بعض حرصًا عَلَيْهَا، وافتضحنا لما اصطلحنا على حبها، عميت أبصار صالحينا وفقهائنا فيها، ولها من في قَلْبهُ مرض، فهو ينظر بعين غير صحيحة، ويسمَعَ بأذن غير سميعة، وقَدْ ملكت الشهوات عقله، وأماتت الدُّنْيَا قَلْبهُ، وذهلت عَلَيْهَا نَفْسهُ، فهو عبدها وعبد من في يديه منها شَيْء، حيثما زالت زال معها، وحيثما أقبلت أقبل إليها، لا يعقل ولا يسمَعَ، ولا يزدجر من الله بزاجر، ولا يتعظ من الله بواعظ. قَدْ رأى المأخوذين على الغرة حيث لا إقالة ولا رجعة كيف فاجاتهم تلك الأمور، ونزل بِهُمْ ما كَانُوا يوعدون، وفارقوا الدور، وصاروا إلى القبور، ولقوا دواهي تلك الأمور، فإذا نزلت بقُلُوبهمْ حسرات أنفسهم، اجتمعت عَلَيْهمْ خصلتان، حَسْرَة الفوت، وسكرة الموت، تفطرت لها قُلُوبهمْ، وتغيرت ألوانهم، وتردد فوافهم وحركوا لمخَرَجَ أرواحهم أيديهم وأرجلهم، فعرقت لذَلِكَ جباههم، ثُمَّ ازداد الموت فيهم، فحيل بين أحدهم ومنطقه وأنه لبين ظهراني قومه ففكر بعقل بقي له: فيم فني عمره، وفيم ذهبت أيامه!! عن الأصمعي رَحِمَهُ اللهُ قال: حجبت فنزلت ضرية في يوم جمعة، فإذا أعرابي قَدْ كور عمامته، وتنكب قوسه، فصعد المنبر فحمد الله، وأثنى عَلَيْهِ،

وصلى على نبيه ?، ثُمَّ قال: أيها النَّاس، إن الدُّنْيَا دار ممر، والآخِر دار مقر فخذوا من دار ممركم، ولا تهتكوا أستاركم عَنْدَ من لا تخفى عَلَيْهِ أسراركم، فإنه لن يستقبل أحدٌ يومًا من عمره إِلا بفارق آخر من أجله، وإن أمس موعظة، واليوم غنيمة، وغدًا لا يدري من أهله. فاستصلحوا ما تقدمون عَلَيْهِ، واقنوا ما لا ترجعون إليه، واخرجوا من الدُّنْيَا بقلوبكم قبل أن تخَرَجَ منها أبدانكم، ففيها خلقنم، وإلى غيرها ندبتم. وإنه لا قوي أقوي من الخالق، ولا ضعيف أضعف من مخلوق، ولا هرب من الله إِلا إليه، وكيف يهرب من يتقلب في يدي طالبه، و {كُلّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} عصمنا الله وإياكم من الزلل ووفقنا لصالح الْعَمَل وهدانَا بفضله سبيل الرشاد وطَرِيق السداد إنه جل شأنه نعم المولى ونعم النصير. ... لا يَخْدَعَنَّكَ صِحَّةٌ وَفَرَاغ مَا لا يَدُومُ عَلَيْكَ فَهُوَ مُعَارُ يَغْشَى الْفَتَى حُبَّ الْحَيَاةِ وَزِينَةَ الدُّ نْيَا وَيَنْسَى مَا إليه يُصَارُ وَإِذَا الْبَصَائِرُ عَنْ طَرَائِقِ رُشْدِهَا عَمِيَتْ فَمَاذَا تَنْفَعُ الأَبْصَارُ لا تَغْتَرِرْ بِالدَّهْرِ إِنْ وَافَاكَ فِي حَالٍ يَسُرُّكَ إِنَّهُ غَرَّارُ انْظُرْ إِلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكَ وَاعْتَبِرْ سَتَصِيرُ عَنْ قُرْبٍ إِلَى مَا صَارُوا آخر: ... النَّاسُ فِي غَفْلَةٍ عَمَّا يُرَادُ بِهُمْ وَمِمَّا يُفِيقُونَ حَتَّى يَنْفَدَ الْعُمُرُ ... ›?

قصة الذبيح إسماعيل عليه السلام في قصيدة

.. يُشِيعُونَ أَهَإليهِمْ بِجَمْعِمُوا وَيَنْظُرُونَ إِلَى مَا فِي قَدْ قُبِرُوا وَيَرْجِعُونَ إِلَى أَحْلامِ غَفْلَتِهِمْ كَأَنَّهُمْ مَا رَأَوْا شَيْئًا وَلا نَظَرُوا ... ›? اللَّهُمَّ إن حسناتنا من عطائك، وسيئآتنا من قضائك، فجد اللَّهُمَّ بما أعطيت، على ما به قضيت، حتى تمحو ذَلِكَ بذَلِكَ، اللَّهُمَّ إن مساوينا قطعت عنا الوسائل، غير أَنَا علمنا أنك رب كريم، ومولى رؤوف رحيم، فجرانَا مَعَ قبح أفعالنا، وضعف أعمالنا، علمنا بذَلِكَ، وحملنا – مَعَ البعد عَنْكَ - رجاؤنا في نوالك، فاستجب لنا، واغفر لنا وارحمنا، وتب عَلَيْنَا، وعافنا واعف عنا، وحقق رجاءنا، واسمَعَ دعاءنا بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. وهذه قصة الذبيح إسماعيل بن إبراهيم الخليل عَلَيْهِمَا الصَّلاة والسَّلام ... الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى ... إِنْعَامِهِ فَهُوَ ذُو الأَنْعَامِ وَالنِّعَمِ وَبَعْدَ هَذَا فَآلافُ الصَّلاةِ عَلَى ... مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الْعُرْبَانِ وَالْعَجَمِ وَالآلِ وَالصَّحْبِ ثُمَّ التَّابِعِينَ لَهُمْ ... مَا لاحَ بَرْقٌ وَسَحَّتْ أَعينُ الدِّيمِ إِنِّي نَظَمْتُ لأَمْرٍ لِلْخَلِيلِ بِمَا ... أَدَّاهُ فِكْرِي وَمَا أَبْدَى بِهِ قَلَمِي فَبَيْنَمَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُضْطَجِعًا ... الْعَيْنُ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبُ لَمْ يَنَمِ رَأَى مَنَامًا بِأَنَّ اللهَ يَأْمُرُهُ ... بِذَبْحِ ابن صَدُوقِ الْقَوْلِ ذِي الشِّيَمِ أَعْنِي أَبَا الْعَرَبِ إِسْمَاعِيلَ قَالَ بِهِ ... جَمَاعَةٌ مِنْ ذَوِي الأَلْبَابِ وَالْحِكَمِ وَبَعْضُهُمْ قَالَ إِسْحَقَ الذَّبِيحَ وَقَدْ ... تَوَاتَرَ الْقَوْلُ فِيمَنْ قَبْلُ كَانَ سُمِي نَادَاهُ إِنِّي أَرَى فِي النَّوْمِ ذَبْحَكَ يَا ... بُنَيَّ فَانْظُرْ فَمَا رُؤْيَايَ بِالْحُلُمِ

فَقَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ ... مُبَادِرًا أَنْتَ أَمْرَ اللهِ لَنْ تُلَمِ لَكِنَّ وَالدَتِي وَارَحْمَتَاهُ لَهَا ... مَاذَا يَحِلُّ بِهَا إِنْ خُبِّرَتْ بِدَمِ فَاقْرِي وَالِدَتِي مِنِّي السَّلامَ وَقُلْ ... لَهَا أصْبِرِي لِقَضَاءِ اللهِ وَاعْتَصِمِ حَولْ لِوَجْهِكَ عِنْدَ الذَّبْحِ يَا أَبَتِي ... وَاغْضُضْ بِطَرْفِكَ لا تَجْزَعْ لِسَفْكِ دَمِي فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ اللهِ يَفْعَلُ بِي ... مَا شَاءَ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ وَذُو كَرَمِ فَاسْتَسْلَمَا ثُمَّ سَارَ عَازِمِينَ عَلَى ... إِنْفَاذِ أَمْرِ إلَهٍ مُحْيِي الرِّمَمِ فَجَاءَ إِبْلَيْسُ يَسْعَى وَهُوَ ذُو عَجَلٍ ... فِي زِيِّ شَيْخٍ كَبِيرِ السِّنِّ ذِي هَرَمِ فَقَالَ أَنْتَ خَلِيلُ اللهِ تَسْمَعُ مَا ... يُوحِيهِ إِبْلَيْسَ فِي الأَضْغَانِ وَالْحُلُمِ أَجَابَهُ اخْسَأْ عَدَوَّ اللهِ إِنَّكَ إِبْـ ... ـلَيْسُ اللَّعِينُ قَرِينُ الشَّرِّ وَالنَّدَمِ فَرَاحَ عَنْهُ وَوَلَّى خَاسِئًا خَجِلاً ... يَقُولُ قَدْ فَاتَنِي الْمَطْلُوبُ وَآلِمِ ثُمَّ انْثَنَى نَحْوَ إِسْمَاعِيلَ مُمْتَحِنًا ... لَهُ يَقُولُ ادْنُ مِنِّي وَاسْتَمِعْ كَلَمِ أَبُوكَ يَزْعُمُ أَنَّ اللهَ يَأْمُرُهُ ... بِذَبْحِكَ اليوم مَا هَذَا مِنَ الشِّيَمِ فَقَالَ إِنْ كَانَ رَبُّ الْعَرْشِ يَأْمُرُهُ ... فَإِنَّنِي صَابِرٌ رَاضٍ بِلا نَدَمِ وَطَاعَةُ الرَّبِّ فَرْضٌ لا مَحِيصَ لَنَا ... عَنْهَا لأَنْ كُتِبَتَ فِي اللَّوْحِ بِاْلَقَلمِ فَارْجِعْ بِكِبْرِكَ عَنَّا إِنَّنَا بَرَءَآ ... مِنْكَ فَإِنَّكَ مَطْرُودٌ مِنَ الرَّحِمِ فراحَ عنه لِنَحْو الأم قَالَ لَهَا ... إنَّ ابنَكَ اليومَ مَذْبُوحٌ على وَهَمِ مِنْ أَجْلِ رُؤْيًا رَآهَا الشَّيْخُ حَقَّقَهَا ... يُرِيدُ انْجازَهَا هَلْ ذَا بِمُلْتَزَمِ قَالَتْ نَعَمْ مَا لَهُ بُدٌ وَكَيْفَ لَهُ ... بِأَنْ يُخَالِفَ مَنْ أَنْشَاهُ مِنْ عَدَمِ لَمَّا رَأَى إليأْسَ مِنْهُمْ رَدَّ مُكْتَئِبًا ... يَرنَّ أَرْنَانَ ذَاتِ الثُّكْلِ وَإليتُمِ إِذَا فَاتَهُ مَا جَرَى مِنْهُ وَأَمَّلَهُ ... وَبَاءَ بِالْخِزْيِ وَالْخُذْلانِ وَالنَّدَمِ وَانْقَادَ لِلذَّبْحِ إِسْمَاعِيلُ مُحْتَسِبًا ... لِحُكْمِ مَوْلاهُ يَمْشِي حَافِي الْقَدَمِ فَبَيْنَمَا هُوَ مُنْقَادٌ لِسَيِّدِهِ ... مَا فِيهِ مِنْ جَزَعٍ كَلا وَلا سَئَمِ

.. أَتَى الْخَلِيلُ بِسِكِّينٍ فَأَشْحَذْهَا ... حَتَّى غَدَتْ مِثْلَ بَرْقٍ دُجَى الظُّلَمِ فَقَالَ يَا أَبَتَاهُ ارْفَعْ ثِيَابَكَ لا ... يُصِيبُهَا قَذَرٌ عِنْدَ اصْطِبَابِ دَمِي وَيَفْجَعُ الأُمَّ مَهْمَا شَاهَدَتْهُ كَذَا ... فَاللهُ يَعْصِمُهَا مِنْ زَلَّةِ الْقَدَمِ وَالأَمُّ يَا وَالَدِي مَهْمَا رَجَعْتَ لَهَا ... فَاطْلُبْ لِي الْحَلَّ مِنْهَا وَأحْفَظْ الذِّمَمِ وَأَمْرَ مَوْلايَ نَفَّذْهُ بِذَبْحِكَ لِي ... وَاشْحذ لِشَفْرَةِ ذَبْحِي يَا أَبَا الْكَرَمِ كَيْمَا يَهُونُ عَليَّ الْمَوْت إِنَّ لَهُ ... لَشِدَّةٍ لَمْ تَصِفْهَا أَلْسُنُ الأُمَمِ قَالَ الْخَلِيلُ فَنِعْمَ الْعَوْنِ أَنْتَ عَلَى ... مَرْضَاةِ رَبِّي فَثِقْ بِاللهِ وَاعْتَصِمِ فَجَاءَ بِالْحَبْلِ شَدَّ الإِبْنُ ثُمَّ بَكَى ... لِرِقَّةِ غَلَبَتْهُ فَهُوَ لَمْ يُلَمِ أَمَرَّ شَفْرَتَهُ بِالنَّحْرِ فَانْقَلَبَتْ ... عَنْهُ ثَلاثًا وَلَمْ يَمْسَسْهُ مِنْ أَلَمِ فَقَالَ إِنَّ شَقَّ ذَا وَالنَّفْسُ مَا سَمِحَتْ ... فَكُبَّ وَجْهِي فَإِنِّي غَيْرَ مُهْتَضِمِ فَكَبَّهُ مِثْلَ مَا أَوْصَاهُ فَانْقَلَبَتْ ... إِذْ ذَاكَ شَفْرَتُهُ لَمْ تُفْرِ مِنْ أَدَمِ وَالأَرْضُ رَجَّتْ وَأَمْلاكُ السَّمَا جَارَتْ ... وَالْوَحْشُ عَجَّتْ وَعَمَّ الْخَطْبُ فِي الأُمَمِ وَاللهُ ذُو الْعَرْشِ فَوْقَ الْعَرْشِ يَعْجِبُ مِنْ ... إِيمَانِ عَبْدَيْهِ مَا عَنْهُ بِمُنْكَتِمِ أَوْحَى لِجِبْرِيلَ أَنْ أَدْرَكْهُمَا عَجلاً ... بِكَبْشِ ضَانٍ رَبِّي فِي رَوْضَةِ النَّعَمِ أَيْ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا فِي الْجِنَانِ رَعَى ... يَسْقَى مِنْ أَنْهَارَهَا عَذْبًا بِلا وَحَم فَجَاءَ بِالْكَبْشِ جِبْرِيلُ الأَمِينُ إِلَى ... ذَاكَ الْخَلِيلِ النَّبِيلِ الطَّاهِرِ الْعَلَمِ فَقَالَ هَذَا الْفِدَى مِنْ عِنْدَ رَبَّكَ عَنْ ... هَذَا الذَّبِيحِ جَزَا هَذَا دَمٌ بِدَمِ فَكَبَّرَ اللهَ جُبْرَائِيلُ حِينَئِذٍ ... وَالْكَبْشُ كَبَّرَ أَيْضًا نَاطِقًا بِفَمِ ثم الخَلِيلُ كَذاكَ الإِبنُ مَا بَرَحَا ... مُكَبَّرِيْنَ وذَا شُكْرٌ على النَّعَمِ وَسَرَّ أَهْلَ السَّمَا وَالأَرْضُ حَالَهُمَا ... وَاغْتَمَ إِبْلَيْسَ غَمًّا غَيْرَ مُنْصَرِمِ عَوَاقِبُ الصَّبْرِ تُنْجِي مَنْ يُلازِمُهَا ... وَالْحَمْدُ للهِ هَذَا آخِرُ الْكَلِمِ ثُمَّ الصَّلاةُ عَلَى الْمُخْتَارِ أَحْمَدَ مَا ... غَنَّتْ مُطَوَّقَةٌ فِي الأَيْكِ بِالنِّعَمِ

خطبة في التحذير عن المعاصي ويليها موعظة

.. وَالآلُ وَالصَّحْبُ ثُمَّ التَّابِعِينَ لَهُمْ ... مَا لاحَ فَجْرٌ فَأَجْلَى غَيْهَبَ الظُّلَمِ انتهى. اللَّهُمَّ أَنَا نَسْأَلُكَ نَفْسًا مُطْمَئِنَّةً، تُؤمِنُ بِلقَائِكْ وتَرْضَى بِقَضائِكْ، وتَقْنَعُ بِعَطَائِكْ، يا أرْأفَ الرائفين، وأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. اللَّهُمَّ أَنَا نَسْأَلُكَ التَّوْفِيق لما تُحِبُّه مِن الأعمال، ونسألُكَ صِدْقَ التوكلِ عليكْ، وحُسْنَ الظَنِّ بِكَ يَا رَبَّ العالمين. اللَّهُمَّ اجعلنا من عبادك المُخْبِتِين، الغُرِّ المُحَجَّلِين الوَفْدِ المُتَقَبِّلين. اللَّهُمَّ أَنَا نَسْأَلُكَ حَيَاةً طَيِّبةً، ونَفْسًا تَقِيَّةً، وعِيْشَةً نَقِيَّةً ومِيْتَةً سَويَّةً، ومَرَدًا غَيْرَ مُخْزِي ولا فاضح. اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أهلِ الصَّلاحِ والنَّجَاحِ والفَلاحِ، ومِن المُؤَيَّدِينَ بِنَصْرِكَ وتَأْييدِكَ ورِضاكَ. اللَّهُمَّ افْتَحْ لِدُعَائِنا بابَ القَبُولِ والإِجَابةِ واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيع المُسْلِمينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. خطبة في التحذير من المعاصي قال أحد الْعُلَمَاء رَحِمَهُ اللهُ عَلَيْهِ: الحمد لله الَّذِي حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن المتعرف إلى خلقه بما أسداه إليهم من الكرم والمنن الَّذِي أخَرَجَ النَّاس من الظلمَاتَ إلى النور وهداهم إلى صراطه المستقيم وجنبهم ما يوقعهم في مهامه الجحيم. الواحد الأحد الفرد الصمد العزيز الحكيم لا تدركه الأبصار وَهُوَ يدرك الأبصار وَهُوَ اللطيف الخبير أحمده سُبْحَانَهُ على فضله وجوده الغزير وأشكره وَالشُّكْر مؤذن بالزيادة والتوفير.

وأشهد أن لا إله إِلا الله وحده لا شريك له وَهُوَ نعم المولى ونعم النصير وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير اللَّهُمَّ صل وسلم على عبدك ورسولك مُحَمَّد وعلى آله وصبحه أولي الجد في الطاعة والتشمير صلاة وسلامًا دائمين متلازمين إلى يوم المصير. أما بعد: أيها النَّاس اتقوا الله تَعَالَى بفعل أوامره واجتناب مناهيه وقوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها النَّاس والحجارة عَلَيْهَا ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وتدبروا فيمن ضاع عمره في البطالة والتمادي وجمَعَ الْمَال ولا يبإلى أمن حلالٍ جمعه أم من حرام. ولا تأكلوا الربا فإن الله لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وَقَالَ هم في الوزر سواء قال الله جَلَّ وَعَلا: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ إليتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} وَقَالَ عز من قائل: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} وفي الْحَدِيث: «مْا تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ حَتَّى أعْلِنُوها إِلاَّ ابتلاهم الله بالطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي أَسْلاَفِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا. ومْا طفّف قَوْمٍ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلاَّ ابتلوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَؤُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ وَما مْنَعُ قَوْمٍ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا وَمْا خفر قَوْمٍ العَهْدَ اللَّهِ إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ. ولا حكموا بغير مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ» . وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلام: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» .

وقَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ الْمُسْلِمُ كَانَ فِي حَاجَتِهِ» . وَقَالَ في حجة الوداع: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ» وقَالَ عن الكعبة ما أعظمك وأعظم حرمتك وإن حرمة المُؤْمِن أعظم عَنْدَ الله منك. وقَالَ «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يأمن جاره بوائقه» وقَالَ مُعَاذُ أو ، مُؤَاخَذُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟» وَقَالَ الغيبة أشد مِنَ الزِّنَا الْحَدِيث إن من أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم» وَقَالَ: «اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وفي حديث أبي بكر «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ من عنده» رواه أَحَمَد وعن أَبِي هُرَيْرَةِ قال: قَالَ رَسُولِ اللهُ ?: «إذا خفيت الخطيئةُ لم تضرَّ إِلا صاحبَها وإذا ظهرتْ فلم تغيَّرْ ضَرَّتْ العامةَ» . وروى أَحَمَد عن عُمَر بن الْخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يوشك أن تخرب القرى وهي عامرة قَالُوا وكيف خرابها قال إذا علا فجارها على أبرارها وساد القبيلة منافقوها وروى أَحَمَد من حديث جَرِيرٍ أن النَّبِيّ ? قال: «مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي هُمْ َأَعَزُّ وأَكْثَرُ مِمَّنْ يَعْمَلُه فلم يُغَيِّرُوهُ إِلاَّ عَمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ» وروى البخاري عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالا هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعْرِ إِنْ كُنَّا نَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ?، مَنْ الْمُوبِقَاتُ» . فاتقو الله عباد الله بالإقلاع عن المعاصي وتوبوا إلى ربكم توبة نصوحًا

عَسَى ربكم أن يكفر عنكم سئاتكم واستدركوا بقية عمر أضعتم أوله فإن بقية عمر المُؤْمِن لا قيمة له جعلني الله وإياكم ممن أفاق لنفسه وفاق بالتحفظ أبناء جنسه وأعد عدة تصلح لرمسه. إن أحس ما وعظ به الواعظون كلام من نَحْنُ لعفوه وكرمه مؤملون والله يَقُولُ وبقوله يهتدي المهتدون وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون أعوذ بِاللهِ من الشيطان الرجيم: {فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى* وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} بارك الله لي ولكم في القرآن ولكم في القرآن العَظِيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أَقُول قولي هَذَا وأستغفر الله العَظِيم لي ولكم وَلِجَمِيعِ المسلمين فاستغفروه إنه هُوَ الغفور الرحيم. (موعظة) عباد الله إن العاقل اللبيب الفطن الرشيد من يسعى في نفع نَفْسهُ وأهله ودفع الضَّرَر عنهم، وانَا نرى في زمننا الَّذِي كثرت فيه المنكرات وانحطت فيه الأَخْلاق وقل فيه الورع وكثر فيه النفاق والرياء. تَرَى النَّاس يخشون النَّاس ولا يخافون ربًا قهارًا بطشه شديد وعذابه إليم تَرَى الرجل يفعل الْمُنْكَر جهارًا ولا تنهاه وتنسى أو تتناسى قول الله تَعَالَى: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ} ، وقوله: {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} . وقوله ?: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَليُغَيِّرَهُ بِيَدِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانه، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ» . فقل للذي يرى تارك الصَّلاة ولا ينهاه لا يجوز لك ذَلِكَ أنصح أخاك

المسلم وقل للذي قَدْ عميت بصيرته فأتى بكفار خدامين أو سواقين أو مربين أو طباخين أو خياطين أو نحو ذَلِكَ وأمِنْهُمْ على محارمه. خف الله وأحذر من عقوبة الدُّنْيَا قبل عقوبة الآخِرَة كيف تأتي بأعداء الله ورسوله والْمُؤْمِنِين، لَقَدْ أسأت إلى نفسك وأهلك والمسلمين. أما سمعت قول النَّبِيّ ?: «مَنْ جَامَعَ الْمُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ» . أو ما بلغك قصة الثلاثة الَّذِينَ هجرهم المسلمون نحوا من خمسين ليلة بأيامها حين تخلفوا عن رَسُولِ اللهُ ? في غزوة تبوك. أو ما بلغك أن أبا هريرة أقسم (لا يظله سقف هُوَ وقاطع رحم) وأَنْتَ وأعداء الله الكفار متصل بعضكم في بعض في البيت والسوق والسيارة عياذا بِاللهِ من ذَلِكَ {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوب الَّتِي فِي الصُّدُورِ} . وإذا رَأَيْت من يحلق لحيته ويبقي شاربه متشبها بالمجوس فقل له أما سمعت حَدِيثِ «أكرموا اللحى» وَحَدِيثِ «وَفِّرُوا اللِّحَى» وقول الله تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ إلىمٌ} ، وقوله ?: «كُلّ أُمَّتِى مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ» وعملك هَذَا مجاهرة. وإذا رَأَيْت شارب الدخان فإنصحه وبين له مضاره في الدين والبدن والدنيا. وإذا رَأَيْت من يقتل وقته أمام الملاهي والمنكرات فأنصحه وبين له المضار التي منها ترك الصَّلاة جماعة أو إهمالها بتاتا والعياذ بِاللهِ. وإذا رَأَيْت الَّذِي يطارد النساء في الأسواق فقل بِاللهِ هل ترضى أن الفسقة مثلك يطاردون نساءك أتق الله وتب إليه من هَذَا الخلق الرذيل.

وإذا رَأَيْت الَّذِي يغش المسلمين فقل له إتق الله أما بلغك حديث المصطفى ?: «مَنْ غَشَّنَا فلَيْسَ مِنَّا» . وإذا رَأَيْت من يعامل بالربا فقل كيف تحارب ربك الَّذِي أعطاك الْمَال خف الله وأحذر أن يمحقك الله ويمحق مالك. وإذا رَأَيْت من يسافر إلى بلاد الكفر فأنصحه وقل أما سمعت قول النَّبِيّ ?: «أَنَا بَرِىءٌ مِنْ كُلّ مُسْلِمٍ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ لاَ تَرَأيَ نَارَاهُمَا» وكَانَ ? يأخذ على أصحابه عَنْدَ البيعة يأخذ علي يد أحدهم «أن لاَ تَرَيَ نَارَك نار المشركين إِلا أن تَكُون حربا لَهُمْ» . وإذا رَأَيْت من يصور أو يبيع صور ذوات الأرواح فأنصحه وقل له أما بلغك: «أنَّ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ» أما بلغك مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فِي الدُّنْيَا كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ، وقل له أما سمعت حديث «كُلّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ يَجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْس فَتُعَذِّبُهُ فِي جَهَنَّمَ» إتق الله قبل أن تقف بين يديه حافيًا عاريًا أعزلاً. وإذا رَأَيْت من يبيع الصور أو آلات اللهو كالتلفزيون والكورة والمذياع والفيديو والسينماء والورق الملهية عما خلق الإِنْسَان له وأبا الخبائث الدخان ونحو هذه البدع المحرمة التي ضاع العمر والْمَال بسببها وقضت على الأَخْلاق والغيرة الدينية فقل له: أترضى لنفسك أن تتجر بالمحرمَاتَ وأن تَكُون ممن يعين على المعاصي وينشر الفساد إتق الله قبل أن يفاجئك هادم اللذات فتندم ولا يفيدك الندم. ويصدق عَلَيْكَ قول الشاعر: نَدَمُ الْبُغَاةِ وَلاتَ سَاعَةُ مندم ** وَالْبَغْيَ مَصْرَعُهُ وَخِيمَ الْمَصْرَعِ وإذا رَأَيْت من يطفف في المكيال والميزان أزو يأخذ راتبه كاملاً ولا يؤدي

كلام لابن القيم ويليه قصيدة ثم الدعاء والله أعلم وصلى الله على محمد

الْعَمَل كاملاً قل له: إتق الله أما تقَرَأَ قول رب العالمين: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيم * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} . وقل له: ستناقش عن عملك وإهمالك له في يوم كَانَ مقداره خمسين ألف سنة. وإذا رَأَيْت المغتابين نهاشة الأعراض أكالة لحوم الغوافل فقل لَهُمْ: أما قرأتم قول الملك الديان: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} الآيَة. وإذا رَأَيْت النمام فقل له: أما سمعت قول النَّبِيّ ?: «لا يدخل الْجَنَّة نمام» ، وهكَذَا تفعل عِنْدَمَا تريد أن تنصح أَهْل المعاصي نحو هؤلاء من منافقين ومتملقين وكذابين وخداعين ومرائين ومكارين. ولَقَدْ تضاعفت الغيبة والنميمة والكذب أضعافًا كثيرة بعد ظهور التلفزيون والتلفون والمسجلات فقَدْ كأَنْتَ بالأول لا توَجَدَ إِلا مَعَ اجتماع الأبدان والآن توَجَدَ ولو كَانَ بينهم مسافات بعيدة نسأل الله العافية. اللَّهُمَّ جنبنا البدع والمنكرات واغفر لنا جَمِيع الزلات ووفقنا للأعمال الصالحات وأسكنا فسيح الجنات وَجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. موعظة قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قَسْوَة الْقَلْب والبعد عن الله خلقت النار لإذابة القُلُوب القاسية أبعد الْقَلْب من الله الْقَلْب القاسي، إذ قسى قحطت العين. قَسْوَة الْقَلْب من أربعة أشياء إذا جاوزت قدر الحاجة: الأكل،

والنوم، والكلام، والمخالطة، كما أن البدن إذا مرض لم ينفع فيه الطعام والشراب فكَذَلِكَ الْقَلْب إذا مرض بالشهوات لم تنجح فيه المواعظ. من أراد صفاء قَلْبهُ فليؤثر الله على شهواته. القُلُوب المتعلقة بالشهوات محجوبة بقدر تعلقها بها. شغلوا قُلُوبهمْ بالدُّنْيَا، ولو شغلوها بِاللهِ والدار الآخِرَة لجالت في معاني كلامه وآياته المشهودة ورجعت إلى أصحابها بغرائب الحكم وطرف الفَوَائِد. إذا غذي الْقَلْب بالتذكر، وسقى بالتفكر، ونقى من الدغل، ورأى العجائب، وألهم الحكمة، خراب الْقَلْب من الأمن والغَفْلَة، وعمارته من الخشية والذكر. إذا زهدت القُلُوب في موائد الدُّنْيَا قعدت على موائد الآخِرَة بين أَهْل تلك الدعوة، وإذا رضيت بموائد الدُّنْيَا فاتتها تلك الموائد. والْقَلْب يمرض كما يمرض البدن وشفاؤه في التوبة والحمية ويصدأ كما تصدئ المرآة وجلاوة بالذكر، ويعرى كما يعرى الجسد وزينته التقوى، ويجوع ويظمأ كما يجوع البدن، وطعامه وشرابه المعرفة والمحبة والتوكل والإنابة والخدمة. للقب ستة مواطن يجول فيه لا سابع لها: ثلاثة سافلة، وثلاثة عالية. فالسافلة: دنيا تتزين له، ونفس تحدثه، وعدو يوسوس له، فهذه مواطن الأرواح السافلة لا تزال تجول فيها. والثلاثة العالية: علم يتبين له، وعقل يرشده، وإله يعبده. والقُلُوب جوالة في هذه المواطن. وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: ولا ريب أن الْقَلْب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغيرها وجلاؤه بالذكر فإنه يجلوه حتى يدعه كالمرآة البيضاء، فإذا ترك صدئ، فإذا ذكر جلاه.

وصدأ الْقَلْب بأمرين: بالغَفْلَة والذنب، وجلاؤه بشيئين: بالاستغفار والذكر. فمن كأَنْتَ الغَفْلَة أغلب أوقاته كَانَ الصدأ متراكمًا على قَلْبهُ، وصدأه بحسب غفلته، وإذا صدأ الْقَلْب لم تنطبع فيه صور المعلومَاتَ على ما هِيَ عَلَيْهِ فيرى الْبَاطِل في صورة الحق والحق في صورة الْبَاطِل، لأنه لما تراكم عَلَيْهِ الصدأ وأسود وركبه الران فسد تصوره وإدراكه، فلا يقبل حقًا ولا ينكر باطلاً. وهَذَا أعظم عقوبات الْقَلْب. وأصل ذَلِكَ من الغَفْلَة وإتباع الهوى فإنهما يطمسان نور الْقَلْب ويعميان بصره، قال تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} فإذا أراد الْعَبْد أن يقتدي برجل فلينظر: هل هُوَ من أَهْل الذكر أو من الغافلين. وهل الحاكم عَلَيْهِ الهوى أو الوحي. فإن كَانَ الحاكم عَلَيْهِ هُوَ الهوى وَهُوَ من أَهْل الغَفْلَة كَانَ أمره فرطًا. ومعنى الفرط قَدْ فسر بالتضييع، أي أمره الَّذِي يجب أن يلزمه ويقوم به، وبه رشده وفلاحه ضائع قَدْ فرط فيه، وفسر بالإسراف أي قَدْ أفرط، وفسر بالأهلاك، وفسر بالخلاف للحق، وكلها أقوال متقاربة. والمقصود أن الله سُبْحَانَهُ نهى عن طاعة من جمَعَ هذه الصفات، فينبغي للرجل أن ينظر في شيخه وقدوته ومتبوعه فإن وجده كَذَلِكَ فليبعد منه وإن وَجَدَ ممن غلب عَلَيْهِ ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ وإتباع السنة، وأمره غير مفروط عَلَيْهِ بل هُوَ حازم في أمره فليتمسك بغرزه، ولا فرق بين الحي والميت إِلا بالذكر، فمثل الَّذِي يذكر ربه والَّذِي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت وفي المسند مرفوعًا: «أكثر واذكر الله تَعَالَى حتى يُقَالُ: مجنون» . شِعْرًا: الذِّكْرُ أَصْدَقُ قَوْلٍ فَافْهَمِ الْخَبَرَا ... لأَنَّهُ قَوْلَ مَنْ قَدْ أَنْشَأَ الْبَشَرَا فَاعْمَلْ بِهِ إِنْ تُرِدْ فَهْمًا وَمَعْرِفَةً ... يَا ذَا النُّهَى كَيْ تَنَالَ الْعِزَّ وَالْفَخْرَا

وَتَحْمَدِ اللهَ فِي يَوْمِ الْمَعَادِ إِذَا ... جَاءَ الْحِسَابُ وَعَمَّ الْخَوْفُ وَانْتَشَرَا للهِ دَرُّ رِجَالٍ عَامِلِينَ بِهِ ... فِيمَا يَدِقُ وَمَا قَدْ جَلَّ وَاشْتَهَرَا قال ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: كل آفة تدخل على الْعَبْد فسببها ضياع الْقَلْب وفساد الْقَلْب يعود بضياع حقه من الله تَعَالَى ونقصان درجته ومنزلته عنده. ولهَذَا أوصى بعض الشيوخ فَقَالَ: احذروا مخالطة من تضيع مخالطته الوَقْت وتفسد الْقَلْب فإن ضاع الوَقْت وفسد الْقَلْب انفرطت على الْعَبْد أموره كُلّهَا وكَانَ ممن قال الله فيه: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} . ومن تأمل حال هذه الخلق وجدهم كلهم إِلا أقل القليل ممن غفلت قُلُوبهمْ عن ذكر الله تَعَالَى الَّذِي به تحيا القُلُوب وتطمئن واتبعوا أهواءهم وصَارَت أمورهم ومصالحهم فرطا، أي فرطوا فيما ينفعهم ويعود عَلَيْهمْ بمصالحهم، واشتغلوا بما لا ينفعهم بل بما يعود بضررهم عاجلاً وآجلاً. وهؤلاء قَدْ أمر الله سُبْحَانَهُ رسوله ألا يطيعهم فطاعة الرَّسُول ? لا تتم إِلا بعدم طاعة هؤلاء لأنهم إنما يدعون إلى ما يشاكلهم من أتباع الهوى والغَفْلَة عن ذكر الله. والغَفْلَة عن ذكر الله والدار الآخِرَة متى تزوجت باتباع الهوى تولد بينهما كُلّ شر وكثيرًا ما يقترن أحدهما بالآخِر ولا يفارقه. ومن تأمل فساد أحوال العَالِم عمومًا وخصوصًا وجده ناشئًا عهن هاذين الأصلين فالغَفْلَة تحول بين الْعَبْد وبين تصور الحق ومعرفته والعلم به فيكون بذَلِكَ من الضإلين، وإتباع الهوى يصده عن قصد الحق وإرادته وإتباعه، فيكون من المغضوب عَلَيْهمْ. وأما المنعم عَلَيْهمْ فهم الَّذِينَ من الله تَعَالَى عَلَيْهمْ بمعرفة الحق عِلْمًا وبالانقياد إليه وإيثاره عما سواه عملاً وهؤلاء هم الَّذِينَ على سبيل النجاة ومن سواهم على سبيل الهلاك.

ولهَذَا أمرنا الله سُبْحَانَهُ وتَعَالَى أن نقول كُلّ يوم وليلة عدة مرات {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيْهمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيْهمْ وَلاَ الضَّإلينَ} . فإن الْعَبْد مضطر كُلّ للاضطرار إلى أن يكون عارفا بما ينفعه في معاشه ومعاده وأن يكون موثرًا مريدًا لما ينفعه مجتنبًا لما يضره فبمجموع هذين قَدْ هدى إلى الصراط المستقيم فإن فاته معرفة ذَلِكَ سلك سبيل الضإلين. وإن فاته قصده وأتباعه سلك سبيل المغضوب عَلَيْهمْ وبهَذَا تعرف قدر هَذَا الدُّعَاء العَظِيم وشدت الحاجة إليه وتوقف سعادة الدُّنْيَا والآخِرَة عَلَيْهِ. وَقَالَ آخر: حافظ على الأوقات فإن الوَقْت رأس الْمَال ولا تضيعها بالفراغ وأملأها بالإفادة أو الاستفادة أو بهما جميعًا واعرف ما يذهب به ليلك ونهارك وجدد توبتك في كُلّ وَقْت. وقسم وقتك ثلاثة أقسام قسم لطلب العلم وقسم للعمل الَّذِي تستعين به على مصالح دنياك وآخرتك وقسم لحقوق نفسك وما يلزمك واعتبر بمن مضى وتفكر في منصرف الفريقين بين يدي الله جَلَّ وَعَلا وتقدس فريق في الْجَنَّة وفريق في السعير. واستحضر قرب الله منك كما في الْحَدِيث فإن لم تكن تراه فإنه يراك وأكرم الكتبة الحافظين فقَدْ أوصى رَسُولِ اللهُ بالجار من النَّاس الَّذِي بينك وبينه جدار وأحجار فَكَيْفَ بالجار الكريم الَّذِينَ قال الله فيهم {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} وَقَالَ جَلَّ وَعَلا وتقدس {عَنِ اليمين وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} . فرعاية جواره أحق وإكرام قربه أو جب لأنه أسبق وألصق ولَيْسَ بينك وبينه جدار ولا أحجار ولا حائل ومَعَ الأسف إلشديد أن الأذية لهما لا تفتر على مر الساعات ولكن مقل ومكثر. اللَّهُمَّ اجعل الإِيمَان هادمًا للسيئات كما جعلت الكفر عادمًا للحسنات ووفقنا للأعمال الصالحات، وَاجْعَلْنَا ممن توكل عَلَيْكَ

فكفيته واستهداك فهديته ودعاك فأحبته وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدْ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينْ. (فَصْلٌ) ثُمَّ أعلم أيها الأخر أنه ما من ساعة تمر على الْعَبْد لا يذكر الله فيها إِلا تأسف وتحسر على فواتها بغير ذكر الله ولذَلِكَ ينبغي للعاقل أن يجعل معه شَيْئًا يذكره لذكره الله كُلَّما غفل عَنْهُ. ويُقَالُ إن الْعَبْد تعرض عَلَيْهِ ساعات عمره في اليوم واللَّيْلَة فيراها خزائن مصفوفة أربع وعشرين خزانة فيرى في كُلّ خزانة أمضاها في طاعة الله ما يسره. فإذا مرت به الساعات التي غفل فيها عن ذكر الله رآاها فارغة ساءه ذَلِكَ وتندم حين لا يفيده الندم. وأما الساعات التي كَانَ يذكر الله فيها فلا تسأل عن سروره فيها وفرحه بها حتى يكاد أن يقتله الفرح والسرور. قال بَعْضهمْ أوقات الإِنْسَان أربعة لا خامس لها النعمة، والبلية، والطاعة، والمعصية. ولله عَلَيْكَ في كُلّ وَقْت منها سهم من العبودية. فمن كَانَ وقته الطاعة لله فسبيله شهود المنة من الله عَلَيْهِ أن هداه ووفقه للقيام بها. ومن كَانَ وقته المعصية فعَلَيْهِ بالتوبة والندم والاستغفار. ومن كَانَ وقته النعمة فسبيله الشكر والحمد لله والثناء عَلَيْهِ. ومن كَانَ وقته البلية فسبيله الرِّضَا بالِقَضَاءِ والصبر والرِّضَا رضي النفس عن الله، والصبر ثبات الْقَلْب بين يدي الرب. أ. هـ. العمر إذا مضى لا عوض وما حصل لك منه لا قيمة له. فعمر الإِنْسَان هُوَ ميدانه للأعمال الصَّالِحَة المقربة من الله تَعَالَى والموجبة له جزيل الثواب في الآخِرَة. ولكن ما يعرف قدر العمر إِلا نوادر الْعُلَمَاء.

قال الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وَقَالَ تبارك وتَعَالَى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَإليةِ} وَقَالَ: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} الآيات. وهذه هِيَ السعادة التي يكدح الْعَبْد ويسعى من أجلها ولَيْسَ له منها إِلا ما سعى كما قال جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَأَن لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} . فكل جزء يفوته من العمر خَإليا من عمل صالح. يفوته من السعادة بقدره ولا عوض له منه. فالوَقْت لا يستدرك ولَيْسَ شي أعز منه وكل جزء يحصل له من العمر غير خال من الْعَمَل الصالح يتوصل به إلى ملك كبير لا يفني ولا قيمة لما يوصل إلى ذَلِكَ لأنه في غاية الشرف والنفاسة. ولأجل هَذَا عظمت مراعاة السَّلَف الصالح رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ لأنفاسهم ولحظاتهم وبادروا إلى اغتنام ساعاتهم وأوقاتهم ولم يضيعوا أعمارهم في البطالة والتقصير ولم يقنعوا لأنفسهم إِلا بالجد والتشمير فلله درهم ما أبصرهم بتصريف أوقاتهم. تَبْغِي الْوُصُولَ بِسَيْرٍ فِيهِ تَقْصِيرُ ** لا شَكَّ أَنَّكَ فِيمَا رُمْتَ مَغْرُورُ قَدْ سَارَ قَبْلَكَ أَبْطَالٌ فَمَا وَصِلُوا ** هَذَا وَفِي سَيْرِهِمْ جَدٌّ وَتَشْمِيرُ قال بَعْضهمْ أدركت أقوما كَانُوا على ساعاتهم أشفق منكم على دنانيركم ودراهمكم فكما لا يخَرَجَ أحدكم دنيارًا ولا درهما إِلا فيما يعود نفعه عَلَيْهِ فكذالك السَّلَف لا يحبون أن تخَرَجَ ساعة بل ولا دقيقة من أعمارهم إِلا فيما يعود نفعه عَلَيْهمْ ضد ما عَلَيْهِ أَهْل هَذَا الزمان من قتل الوَقْت عَنْدَ المنكرات. بَقيَّةُ الْعُمْرِ عِنْدِي مَا لَهُ ثَمَنٌ ... وَإِنْ غَدَا غَيْرَ مَحْسُوبٍ مِنَ الزَّمَنِ يَسْتَدْرِكُ الْمَرْءُ فِيهَا مَا فَائِتَةٍ ... مِنَ الزَّمَانِ وَيَمْحُو السُّوءَ بِالْحَسَنِ

آخر: لا يَحَقْرِ الرَّجُلُ الرَّفِيعُ دَقِيقَةً ... فِي السَّهْوِ فِيهَا لِلْوَضِيعِ مَعَاذِرُ فَكَبَائِرُ الرَّجُلِ الصَّغِيِر صَغِيرَةٌ ... وَصَغَائِرُ الرَّجُلِ الْكَبِيرِ كَبَائِرُ رأى أحد الزهاد إنسانَا يأكل فطوره وَهُوَ يحتاج إلى مضغ فَقَالَ: هَذَا يستغرق وقتًا طويلاً فَلَمَّا أخَرَجَ فطوره وإذا هُوَ ما يستغرق إِلا وقتًا يسيرًا. فَقَالَ له: ما حَمَلَكَ على هَذَا فَقَالَ: إني حسبت ما بين المضغ والسف سبعين تسبيحة. لله دره على هذه الملاحظة ولَقَدْ بلغنا أن أحد علماء السَّلَف كَانَ يأكل بإليمنى والكراس بإليسرى. وإذا دخل الخلا أمر القارئ أن يرفع صوته كُلّ هَذَا محافظة على الوَقْت. بلغ يا أخي قتالة الأوقات عَنْدَ الملاهي والمنكرات من تلفاز ومذياع وكورات وجرائد ومجلات وقيل وَقَالَ ونحو ذَلِكَ. ويا أخي إن كنت ممن عصمهم الله من هذه الشرور والبلايا والمنكرات فكثر من حمد الله وشكره وذكره واسأله الثبات حتى الْمَمَات. وانصح إخوانك المسلمين واجتذبهم عن ضياع الأوقات فلعلك أن تَكُون سببًا لهدايتهم. وَلا يَذْهَبَنَّ الْعُمْرُ مِنْكَ سَبَهْلَلا ... وَلا تُغْبَنَنْ بِالنَّعْمَتَيْنِ بَلْ اجْهِدِ فَمَنْ هَجَرَ اللَّذَاتَ نَالَ الْمُنَى وَمَنْ ... أَكَبَّ عَلَى اللَّذَاتِ عَضَّ عَلَى إليدِ فَفِي قَمْعِ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ اعْتِزَازُهَا ... وَفِي نَيْلِهَا مَا تَشْتَهِي ذِلُ سَرْمَدِ ثُمَّ اعْلَمْ أيها الأخ إن الوَقْت لَيْسَ من ذهب كما يَقُولُ النَّاس فإنه أغلى من الذهب والفضة مهما بلغا كثرةً إنه الحياة من ساعة الميلاد إلى ساعة الوفاة فتنبه لذَلِكَ وحافظ عَلَيْهِ واقتد بالسَّلَف الصالح الَّذِينَ عرفوا قيمة الوَقْت.

قال ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ما ندمت على شَيْء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه عمري ولم يزد فيه عملي. وَقَالَ آخر: كُلّ يوم مر بي لا أزداد فيه علمًا يقربني من الله عَزَّ وَجَلَّ فلا بورك لي في طلوع شمسه. وَقَالَ آخر: من أمضى يومًا من عمره في غير حق قضاه أو فرض أداه أو مجد أثله أو حمد حصله أو خَيْر أسسه أو علم اقتبسه فقَدْ عق يومه وظلم نَفْسهُ. ولا تسأل عن ندمه يوم ينظر المرء ما قدمت يداه. وإذا كَانَ هَذَا حرص السَّلَف على الوَقْت والمحافظة عَلَيْهِ وتقديره عندهم فإن مِمَّا يحزن المسلم ويجرحه ويدمي الْقَلْب ويمزق الكبد أسىً وأسفًا ما نشاهده عَنْدَ كثيرين من الْمُؤْمِنِين من إضاعة للوَقْت تعدت حد التبذير والإسراف والتبديد. وبالحَقِيقَة أن السفيه هُوَ مضيع الوَقْت لأن الْمَال له عوض أما الوَقْت فلا عوض له. فالعاقل من حفظ وقته وتجنب ما يضيعه عَلَيْهِ كالجلوس عَنْدَ الملاهي والمنكرات ومطالعة في الكتب الهدامَاتَ إن من أخسر النَّاس أعمارًا من شغلتهم شهواتهم عن أمور دينهم ومصالح أمورهم قال الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} ، وَقَالَ عز من قائل: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} . اللَّهُمَّ يَا عَالِم الخَفياتِ وَيَا سَامِعَ الأَصْوَاتِ وَيَا بَاعِثَ الأَمْواتِ وَيَا مُجِيبَ الدَّعَوَاتِ وَيَا قَاضِي الحَاجَاتِ يَا خَالَق الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ أَنْتَ اللهُ الأحدُ الصمدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد، الوَهَّابُ الَّذِي لا يَبْخَلُ وَالحِليمُ الَّذِي لا يَعْجَلُ، لا رَادَّ لأمْركَ وَلا مُعَقِّبَ لِحُكَمِكَ، نَسْأَلَكَ أَنْ تَغفرَ ذُنوبَنَا وَتُنَورَ قلوبنَا وَتُثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَتُسْكِنَنَا دَارَ كَرَامَتِكَ إِنك عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير.

اللَّهُمَّ يا من خلق الإِنْسَان في أحسن تقويم وبقدرته التي لا يعجزها شَيْء يحيي العظام وهي رميم نسألك أن تهدينا إلى صراطك المستقيم صراط الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصِّدِّيقِينَ والشهداء والصالحين، وَأَنْ تَغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدْ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينْ. (فَصْلٌ) عن وهب بن منبه قال الحواريون: يا عيسى من أَوْلِيَاء الله الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون؟ فَقَالَ: الَّذِينَ نظروا إلى باطن الدُّنْيَا حين نظر النَّاس إلى ظاهرها والَّذِينَ نظروا إلى آجل الدُّنْيَا حين نظر النَّاس إلى عاجلها فأماتوا ما خشوا أن يميتهم، وتركوا ما عملوا أن سيتركهم، فصار استكثارهم منها استقلالاً، وذكرهم إياها فواتًا، وفرحهم بما أصابوا منها حزنًا، فما عارضهم منها رفضوه، أو من رفعتها بغير الحق وضعوه. خلقت الدُّنْيَا عندهم فلم يجددوها، وخربت بينهم فلم يعمروها، وماتت في صدورهم فليسوا يحيوها. يهدمونها فيبنون بها آخرتهم، ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لَهُمْ، رفضوها وكَانُوا برفضها فرحين، وباعوها وكَانُوا ببيعها رابحين. نظروا إلى أهلها صرعى قَدْ حلت بِهُمْ المثلات، فأحيوا ذكر الموت وأماتوا ذكر الحياة، يحبون الله ويحبون ذكره ويستضيئون بنوره.

قصص ومواعظ رائعة ومطالب عالية

لَهُمْ خبر عجيب، وعندهم الخبر العجيب، بِهُمْ قام الْكِتَاب وبه قاموا، وبهم من نطق الْكِتَاب، وبه نطقوا، وبهم علم الْكِتَاب وبه علموا فلَيْسَ يرون نائلاًَ مَعَ ما نالوا ولا أمانَا دون ما يرجون ولا خوفًا دون ما يحذرون. رواه الإمام أَحَمَد. [قصص ومواعظ رائعة ومطالب عالية] عن عمارة بن خزيمة الأنصاري أن عمه حدثه وَهُوَ من أصحاب النَّبِيّ ? أن النَّبِيّ ? ابتاع فرسًا من أعرابي فاستتبعه النَّبِيّ ? ليقضيه ثمن فرسه. فأسرع النَّبِيّ ? المشي وأبطأ الأعرابي. فطفق رِجَال يعترضون الأعرابي فيساومون بالفرس ولا يشعرون أن النَّبِيّ ? ابتاعه. حتى زَادَ بَعْضهمْ الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الَّذِي ابتاعه النَّبِيّ ?. فنادى الأعرابي النَّبِيّ ? فَقَالَ: إن كنت مبتاعًا هَذَا الفرس فابتعه وإِلا بعته. فقام النَّبِيّ ? حين سمَعَ نداء الأعرابي فَقَالَ: «أو لَيْسَ قَدْ ابتعته منك» ؟ قال الأعرابي: لا وَاللهِ ما بعتك. فَقَالَ النَّبِيّ ?: «بلى قَدْ ابتعته منك» فطفق النَّاس يلوذون بالنَّبِيّ ? والأعرابي وهما يتراجعان فطفق الأعرابي يَقُولُ: هَلُمَّ شهيدًا يشهد أني بايعتك؟ فمن جَاءَ من المسلمين قال للأعرابي: ويلك إن النَّبِيّ ? لم يكن ليَقُولُ إِلا حقًا. حتى جَاءَ خزيمة فاستمَعَ لمراجعة النَّبِيّ ? ومراجعة الأعرابي وطَفِقَ الأعرابي يَقُولُ: هَلُمَّ شهيدًا أني بايعتك؟

فَقَالَ خزيمة: أَنَا أشهد أنك قَدْ بايعته؟ فأقبل النَّبِيّ ? على خزيمة فَقَالَ: «بم تشهد» ؟ قال: بتصَدِيقكَ يَا رَسُولَ اللهِ. فجعل النَّبِيّ ? شهادة خزيمة شهادة رجلين. وقَدْ روى في بعض طرق هَذَا الْحَدِيث أن النَّبِيّ ? قال لخزيمة: «بم تشهد ولم تكن معنا» ؟ قال: يَا رَسُولَ اللهِ أَنَا أصدقك بخبر السماء أفلا أصدقك بما تَقُول؟ قال الخطابي: ووجه هَذَا الْحَدِيث أن النَّبِيّ ? حكم على الأعرابي بعلمه إذ كَانَ النَّبِيّ ? يَقُولُ صادقًا بارًا وجرت شهادة خزيمة في ذَلِكَ مجرى التوكيد لقوله له ? والاستظهار بها على خصمه. فصَارَت في التقدير مَعَ قول رسول الله ? كشهادة رجلين في سائر القضايا. رَحِمَهُ اللهُ. وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَمَ. فَصْلٌ: قال الواقدي عن أشياخ له: إن شيبة بن عثمان كَانَ يحدث عن إسلامه فَيَقُولُ: ما رَأَيْت أعجب مِمَّا كانَا فيه من لزوم ما مضى عَلَيْهِ آباؤنا من الضلالات. فَلَمَّا كَانَ عام الفتح ودخل النَّبِيّ ? عنوة قُلْتُ: أسير مَعَ قريش إلى هوزان بحنين فعَسَى إن اختلطوا أن أصيب من مُحَمَّد غرة فأثأر منه فأكون أَنَا الَّذِي قمت بثأر قريش كُلّهَا، وأَقُول: ولو لم يبق من الْعَرَب والعجم أحد إِلا اتبع محمدًا ما اتبعته أبدًا. فَلَمَّا اختلط النَّاس اقتحم رسول الله ? عن بغلته وأصلت السيف فدنوت أريد ما أريد منه ورفعت سيفي، فرفع لي شواظ من نار كالبرق حتى كاد يمحشني فوضعت يدي على بصري خوفًا عَلَيْهِ، فالتفت إلى رسول الله ? وناداني يا شيب ادن مني. فدنوت منه فمسح صدري وَقَالَ: «اللَّهُمَّ أعذه من الشيطان

فوالله لهو كَانَ ساعتئذٍ أحب إلى من سمعي وبصري ونفسي وأذهب الله عَزَّ وَجَلَّ ما كَانَ بي. ثُمَّ قال: ادن فقاتل. فتقدمت أمامه اضرب بسيفي، الله يعلم أني أحب أن أقيه بنفسي كُلّ شَيْء، ولو لقيت تلك الساعة أبي لو كَانَ حيًا لأوقعت به السيف. فَلَمَّا تراجع المسلمون وكروا كرة رجل واحد قربت بغلة رسول الله ? فاستوى عَلَيْهَا فخَرَجَ في أثرهم حتى تفرقوا في كُلّ وجه، وَرَجَعَ إلى معسكره فدخل خباءه، فدخلت عَلَيْهِ فَقَالَ: «يا شيب الَّذِي أراد الله بك خَيْر مِمَّا أردت بنفسك» . ثُمَّ حدثني بكل ما أضمرت في نفسي مِمَّا لم أكن أذكره لأحد قط. فقُلْتُ: فإني أشهد أن لا إله إِلا الله وأنك رسول الله. ثُمَّ قُلْتُ: أستغفر لي يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: «غفر الله لك» . وعن أنس بن مالك قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «كم من ضعيف متضعف ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره مِنْهُمْ البراء بن مالك» . وإن البراء لقي زحفًا من المشركين وقَدْ أوجع المشركون في المسلمين. فَقَالُوا له: يا براء إن رسول الله ? قال: إنك لو أقسمت على الله لأبرك، فأقسم على الله فَقَالَ: أقسمت عَلَيْكَ يا رب لما منحتنا أكتافهم فمنحوا أكتافهم. ثُمَّ التقوا على قنطرة السوس فأوجعوا المسلمين فَقَالُوا: أقسم على ربك، فَقَالَ: أقسمت عَلَيْكَ يا رب لما منحتنا أكتافهم وألحقني بنبيك ? فمنحوا أكتافهم وقتل البراء شهيدًا. وَاللهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ: أرسل عمر إلى الكوفة من يسأل عن سعد فكَانَ النَّاس يثنون عَلَيْهِ خيرًا حتى سئل عَنْهُ رجل من بني عبس. فَقَالَ: أما إذا أنشدتمونا عن سعد فإنه كَانَ لا يخَرَجَ في السرية ولا يعدل بالرعية ولا يقسم بالسوية. فَقَالَ سعد: اللَّهُمَّ إن كَانَ كاذبًا قام رياءً وسمعةً فاطل فأطل عمره وعظم فقره وعرضه للفتن. فكَانَ يرى وَهُوَ شيخ كبير قَدْ تدلى حاجباه من الكبر يتعرض للجواري يغمزهن في الطرقات وَيَقُولُ: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد. وَكَذَا سعيد بن زيد كَانَ مجاب الدعوة فقَدْ روى أن أروى بنت أوس استعدت مروان على سعيد وقَالَتْ: سرق من أرضي وأدخله في أرضه. فَقَالَ سعيد: اللَّهُمَّ إن كأَنْتَ كاذبة فأذهب بصرها وأقتلها في أرضها فذهب بصرها وماتت في أرضها. قال إبراهيم بن آدهم: مرض بعض العباد فدخلنا عَلَيْهِ نعوده فجعل يتنفس ويتأسف فقُلْتُ له: على ماذا تتأسف؟ قال: على ليلة نمتها، ويوم أفطرته، وساعة غفلت فيه عن ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ. وبكى بعض العباد عَنْدَ موته فقيل له: ما يبكيك؟ فَقَالَ: أن يصوم الصائمون ولست فيهم، ويذكر الذاكرون ولست فيهم، ويصلى المصلون ولست فيهم. تأمل يا أخي هذه الأماني لله دره وَاللهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: عن ابن أبي مليكة قال: لما كَانَ يوم الفتح ركب عكرمة بن

أبي جهل البحر هاربًا فخب بِهُمْ البحر فجعلت الصراري (أي الملاحون) يدعون الله ويوحدونه. فَقَالَ: ما هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا مكَانَ لا ينفع فيه إِلا الله قال: هَذَا إله مُحَمَّد الَّذِي يدعونا إليه، فارجعوا بنا. فرجع فأسلم. وَعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِى جَهْلٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ? يَوْمَ جِئْتُهُ: «مَرْحَبًا بِالرَّاكِبِ الْمُهَاجِرِ، مَرْحَبًا بِالرَّاكِبِ الْمُهَاجِرِ» . قُلْتُ: وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ لا أَدَعُ نَفَقَةً أَنْفَقُتُهَا عَلَيْكَ إِلا أَنْفَقْتُ مِثْلَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ. وعن عَبْد اللهِ بن أبي مليكة أن عكرمة بن أبي جهل كَانَ إذا اجتهد في اليمن قال: لا والَّذِي نجاني يوم بدر، وكَانَ يضع المصحف على وجهه وَيَقُولُ: كتاب رَبِّي، كتاب رَبِّي. استشهد عكرمة يوم إليرموك في خلافة أبي بكر، فوجدوا فيه بضعًا وسبعين من بين ضربةٍ وطعنةٍ ورميةٍ. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم. فَصْلٌ: قال الزبير: وحدثني عمي مصعب بن عَبْد اللهِ قال: جَاءَ الإسلام ودار الندوة بيد حكيم بن حزام فباعها بعد من معاوية بن أبي سفيان بمائة ألف درهم. فَقَالَ له عَبْد اللهِ بن الزبير: بعت مَكَّرمة قريش؟ فَقَالَ حكيم: ذهبت المكارم إِلا التقوى يا ابن أخي إني اشتريت بها دارًا في الْجَنَّة أشهدك أني قَدْ جعلتها في سبيل الله. وعن أبي بكر بن سليمان قال: حج حكيم بن حزام معه مائة بدنة قَدْ أهدها وجللها الحبرة وكفها عن أعجازها ووقف مائة صيف يوم عرفة في أعناقهم أطوقة الفضة قَدْ نقش في رؤوسها:

(عتقاء الله [عَزَّ وَجَلَّ] عن حكيم بن حزام) . وأعتقهم وأهدى ألف شاة. وعن مُحَمَّد بن سعد يرفعه: أن حكيم بن حزام بكى يومًا، فَقَالَ له ابنه: ما يبكيك؟ قال: خصال كُلّهَا أبكاني: أما أولها فبطء إسلامي حتى سبقت في مواطن كُلّهَا صَالِحَة، ونجوت يوم بدر وأُحُدٍ فقُلْتُ: لا أخَرَجَ أبدًا من مَكَّة ولا أوضع مَعَ قريش ما بقيت. فأقمت بمَكَّة ويأبى الله [عَزَّ وَجَلَّ] أن يشرح صدري للإسلام وَذَلِكَ أني أنظر إلى بقايا من قريش لَهُمْ أسنان متمسكين بِمَا هُمْ عَلَيْهِ من أمر الجاهلية فأقتدي بِهُمْ، ويا ليت أني لم أقتد بِهُمْ فما أهلكنا إِلا الاقتداء بآبانَا وكبرائنا. فَلَمَّا غزا النَّبِيّ ? مَكَّة جعلت أفكر، فخرجت أَنَا وأبو سفيان نستروح الخبر فلقي العباس أبا سفيان فذهب به إلى النَّبِيّ ? ورجعت فدخلت بيتي، فأغلقته علي ودخل النَّبِيّ ? مَكَّة فآمن النَّاس فجئته فأسلمت وخرجت معه إلى حنين. وعن عروة أن حكيم بن حزام أعتق في الجاهلية مائة رقبة وفي الإسلام مائة رقبة وحمل على مائة بعير. قال ابن سعد: قال مُحَمَّد بن عمر: قدم حكيم بن حزام الْمَدِينَة ونزلها وبنى بها دارًا، ومَاتَ بها سنة أربع وخمسون وَهُوَ ابن مائة وعشرين سنة رَحِمَهُ اللهُ. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وسلم. فَصْلٌ: عن أبي برزة الأسلمي: أن جليبيبًا كَانَ امرأ من الأنصار، وكَانَ أصحاب النَّبِيّ ? إذا كَانَ لأحدهم أيم (أي لا زوج لها) لم يزوجها حتى يعلم النَّبِيّ ? هل له فيها حَاجَة أم لا؟ فَقَالَ رسول الله ? ذات يوم لرجل من الأنصار: «يا فلان

زوجني ابنتك» . قال: نعم ونعمة عين، قال: «إني لست لنفسي أريدها» . قال: لمن؟ ، قال: «لجليبيب» . قال: يا رسول الله حتى أستأمر (أي أشاور) وأمها. فأتاها فَقَالَ: إن رسول الله ? يخطب ابنتك. قَالَتْ: نعم ونعمة عين زوج رسول الله ?. قال: إنه لَيْسَتْ لنفسه يريدها. قَالَتْ: فلمن؟ ، قال: لجليبيب، قَالَتْ: حلقى ألجليبيب؟ لا لعمر الله، لا أزوج جليبيبًا. فَلَمَّا قام أبوها ليأتي النَّبِيّ ? قَالَتْ الفتاة من خدرها لأبويها: من خطبني إليكما قالا: رسول ?. قَالَتْ: أفتردون على رسول الله ? أمره؟ ادفعوني إلى رسول الله فإنه لن يضيعني. فذهب أبوها إلى النَّبِيّ ? فَقَالَ: شأنك بها، فزوجها جليبيبًا. قال إسحاق بن عَبْد اللهِ بن أبي طلحة لثابت: أتدري ما دعا لها به النَّبِيّ ?؟ قال: وما دعا لها به النَّبِيّ عَلَيْهِ السَّلام؟ قال: «اللَّهُمَّ صب عَلَيْهَا الْخَيْر صبًّا، ولا تجعل عيشها كَدًّا كَدًا» . قال ثابت: فزوجها إياه، فبينما رسول الله ? في مغزى له، قال: «تفقدون من أحد؟» ، قَالُوا: نفقَدْ فلانَا ونفقَدْ فلانَا ونفقَدْ فلانَا. ثُمَّ قال: «هل تفقدون من أحد» ؟ قَالُوا: نفقَدْ فلانَا ونفقَدْ فلانَا. ثُمَّ قال: «هل تفقدون من أحد» ؟ قَالُوا: لا. قال: «لكني أفقَدْ جليبيبًا» . فطلبوه في القتلى.

فنظروا فوجدوه إلى جنب سبعةٍ، قَدْ قتلهم، ثُمَّ قتلوه. فَقَالَ رسول الله ?: «هَذَا مني وانَا منه، أقتل سبعة ثُمَّ قتلوه هَذَا مني وانَا منه أقتل سبعة ثُمَّ قتلوه هَذَا مني وانَا منه» . فوضعه رسول الله ? على ساعديه ثُمَّ حفروا له ما له سرير إِلا ساعدي رسول الله ? حتى وضعه في قبره. لله در هذه الأنفس فما أعزها وهذه الهمم فغما أرفعها! وَلَمَّا رَأَواَ بَعْضَ الْحَيَاةِ مَذَلَّةً ... عَلَيْهِمْ وَعِزَّ الْمَوْتِ غَيْرَ مُحَرَّمِ أَبَوْا أَنْ يَذُوقُوا الْعَيْشَ وَالذَمُّ وَاقِعٌ ... عَلَيْهِ وَمَاتُوا مَيْتَةً لَمْ تُذَمَّمِ وَلا عَجَبٌ لِلأُسْدِ إِنْ ظَفِرَتْ بِهَا ... كِلابُ الأَعَادِي مِنْ فَصِيحٍ وَأَعْجَمِ فَحَربَةُ وَحْشِيٍّ سَقَتْ حَمزَةَ الرَّدَى ... وَحَتْفُ عَلِيٍّ في حُسَامِ ابْنِ مُلْجَمِ رَوَى مُسْلِم في أفراده مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: انْطَلََقَ رَسُولُ اللهِ ? وأَصْحَابَهُ إلى بَدْر حَتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ» . قَالَ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ؟ ! قَالَ: «نَعَمْ» . قَالَ: بَخٍ بَخٍ يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: «مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ» . قَالَ: [لاَ] وَاللهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا. قَالَ «فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا» . قال: فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرْنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ ثُمَّ قَالَ: إِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّم. فَصْلٌ: قال الواقدي: لما أراد عمرو بن الجموح الْخُرُوج إلى أحد، منعه بنوه، وقَالُوا: قَدْ عذرك الله. فَجَاءَ إلى النَّبِيّ ? فَقَالَ:

إن بني يريدون حبسي عن الْخُرُوج معك وإني لأرجو أن أطأ بعرجتي [هذه] في الْجَنَّة فَقَالَ: «أما أَنْتَ فقَدْ عذرك الله» . ثُمَّ قال لبنيه: «لا عليكم لا تمنعوه لعل الله عَزَّ وَجَلَّ يرزقه الشهادة» . فخلوا سبيله. قَالَتْ امرأته هند بنت عمرو بن خزام: كأني أنظر إليه موليًا قَدْ أخذ درفته وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لا تردني إلى خربى وهي منازل بني سلمة. قال أبو طلحة: فمظرت إليه حين انكشف المسلمون ثُمَّ ثابوا وَهُوَ في الرعيل الأول، لكأني أنظر إلى ظلع في رجله وَهُوَ يَقُولُ: أَنَا وَاللهِ مشتاق إلى الْجَنَّة! ثُمَّ أنظر إلى ابنه خلاد [وَهُوَ] يعدو [معه] في إثره حتى قتلا جميعًا. وفي الْحَدِيث: أنه دفن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمر وأبو جابر في قبر واحد، فخرب السيل قبورهم فحفر عنهم بعد ست وأربعين سنة فوجدوا لم يتغير كأنهم ماتوا بالأمس. وَاللهُ أَعْلَمُ فَصْلٌ: عن أنس بن مالك قال: كنا جلوسًا مَعَ رسول الله ? فَقَالَ: «يطلع الآن عليكم رجل من أَهْل الْجَنَّة» . فطلع رجل من الأنصار تنظف لحيته من وضوئه قَدْ عل نعَلَيْهِ بيده الشمال. فَلَمَّا كَانَ الغد قال النَّبِيّ ? مثل ذَلِكَ، فطلع ذَلِكَ الرجل مثل المرة الأولى. فَلَمَّا كَانَ اليوم الثالث قال النَّبِيّ ع مثل مقالته أيضًا فطلع ذَلِكَ الرجل على مثل حاله الأولى فَلَمَّا قام النَّبِيّ ع تبعه عَبْد اللهِ ابن عمرو فَقَالَ: إني لاحيت أبي، فأقسمت أني لا أدخل عليه

ثلاثًا فإن رَأَيْت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت. قال: نعم. قال أنس: فكَانَ عَبْد اللهِ يحدث أنه بات معه تلك الثلاث الليإلى فلم يره يقوم من الليل شَيْئًا غير أنه إذا تعار تقلب على فراشه ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ، وكبر حتى لصلاة الفجر. قال عَبْد اللهِ: غير أني لم أسمعه يَقُولُ إِلا خيرًا، فَلَمَّا مضت الثلاث الليإلى، وكدت أن أحتقر عمله. قُلْتُ: يا عَبْد اللهِ لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة ولكن سمعت رسول الله ع يَقُولُ لك ثلاث مرات: «يطلع عليكم الآن رجل من أَهْل الْجَنَّة» . فطلعت أَنْتَ الثلاث المرات، فأردت أن آوى إليك. فَانْظُرْ ما عملك، فأقتدي بك، فلم أرك عملت كبير عمل، فما الَّذِي بلغ بك ما قَالَ رَسُولُ اللهِ ?؟ قال: ما هُوَ إِلا ما رَأَيْت، فَلَمَّا وليت دعاني فَقَالَ: ما هُوَ إِلا ما رَأَيْت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا ولا أحسد أحدًا على خَيْر أعطاه الله إياه. فَقَالَ عَبْد اللهِ: هذه التي بلغت بك. رواه أَحَمَد بإسناد على شرط البخاري ومسلم والنسائي. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وسلم. فَصْلٌ: عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله ? بعث جيشًا فيهم رجل يُقَالُ له حدير. وكأَنْتَ تلك السنة قَدْ أصابتهم سنة من قلة الطعام، فزودهم رسول الله ونسي أن يزود حديرًا. فخَرَجَ حدير صابرًا محتسبًا وَهُوَ في أخر الركب يَقُولُ: لا إله إِلا الله، والله أكبر، والحمد لله، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إِلا بِاللهِ. وَيَقُولُ: نعم الزَادَ هُوَ يا رب. فهو يرددها وَهُوَ في آخر الركب.

قال: فَجَاءَ جبريل إلى النَّبِيّ ? فَقَالَ له: إن رَبِّي أرسلني إليك يخبرك أنك زودت أصحابك ونسيت أن تزود حديرًا، وَهُوَ في آخر الركب يَقُولُ: لا إله إِلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله. فدعا النَّبِيّ ع رجلاً فدفع إليه زَادَ حدير وأمر إذا انتهى إليه حفظ عَلَيْهِ ما يَقُولُ: وإذا دفع إليه الزَادَ حفظ عَلَيْهِ ما يَقُولُ وَيَقُولُ له: إن رسول الله ع يقرئك السَّلام ورحمة الله ويخبرك أنه كَانَ نسي أن يزودك، وإن رَبِّي تبارك وتَعَالَى أرسل إلى جبريل يذكرني بك فذكره جبريل وأعلمه مكانك. فانتهى إليه وَهُوَ يَقُولُ: لا إله إِلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إِلا بِاللهِ، وَيَقُولُ: نعم الزَادَ هَذَا يا رب. قال: فدنا منه ثُمَّ قال له: إن رسول الله ع يقرئك السَّلام ورحمة الله وقَدْ أرسلني إليك بزَادَ معي، وَيَقُولُ: إني إنما نسيتك فأرسل إلى جبريل من السماء يذكرني بك. قال: فحمد الله وأثنى عَلَيْهِ وصلى على النَّبِيّ ع. ثُمَّ قال: الحمد لله رب العالمين، ذكرني رَبِّي من فوق سبع سماوات، ومن فوق عرشه، ورحم جوعي وضعفي، يا رب كما لم تنس حديرًا فاجعل حديرًا لا ينساك. قال: فحفظ ما قال وَرَجَعَ إلى النَّبِيّ ? فأخبره بما سمَعَ منه حين أتاه، وبما قال حين أخبره، فَقَالَ رسول الله ?: «أما إنك لو رفعت رأسك إلى السماء لرَأَيْت لكلامه ذَلِكَ نورًا ساطعًا ما بين السماء والأَرْض. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم. فَصْلٌ: عن مُحَمَّد بن سعد قال: كَانَ ذو البجادين يتيمًا لا ما له. فمَاتَ أبوه ولم يورثه شَيْئًا، وكفله عمه حتى أيسر.

فَلَمَّا قدم النَّبِيّ الْمَدِينَة جعلت نَفْسهُ تتوق إلى الإسلام ولا يقدر عَلَيْهِ من عمه حتى مضت السنون والمشاهد. فَقَالَ لعمه: يا عم إني قَدْ انتظرت إسلامك فلا أراك تريد محمدًا فأذن لي في الإسلام. فَقَالَ: وَاللهِ لئن اتبعت مُحَمَّد لا أترك بيدك شَيْئًا كنت أعطيتكه إِلا نزعته منك حتى ثوبيك. قال: فانَا وَاللهِ متبع محمدًا وتارك عبادة الحجر، وهَذَا ما بيدي فخذه، فأخذ ما أعطاه حتى جرده من إزاره. فأتي أمه فقطعت بجادًا لها باثنين فأتزر بواحدٍ وارتدى بالآخِر ثُمَّ أقبل إلى الْمَدِينَة وكَانَ بورقان فاضطجع في المسجد في السحر. وكَانَ رسول الله ? يتصفح النَّاس إذا انصرف من الصبح فنظر إليه فنظر إليه فَقَالَ: «من أَنْتَ» ؟ فانتسب له، وكَانَ اسمه عبد العزى. فَقَالَ: «أَنْتَ عَبْد اللهِ ذو البجادين» . ثُمَّ قال: «انزل مني قريبًا» . فكَانَ يكون في أضيافه حتى قَرَأَ قرانَا كثيرًا. فَلَمَّا خَرَجَ النَّبِيّ ? إلى تبوك قال: ادع لي بالشهادة فربط النَّبِيّ ? على عضده لحى سمرة وَقَالَ: «اللَّهُمَّ إني أحرم دمه على الكفار» . فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا أردت. قال النَّبِيّ ? إنك إذا خرجت غازيًا فأخذتك الحمى فقتلتك فأَنْتَ شهيد، أو وقصتك دابتك فأَنْتَ شهيد» . فأقاموا بتبوك أيامًا ثُمَّ توفي.

قال بلال بن الحارث: حضرت رسول الله ? ومَعَ بلال المؤذن شعلة من نار عَنْدَ القبر واقفًا بها. وإذا رسول الله ? وَهُوَ يَقُولُ: «أدينا إلى أخاكما» . فَلَمَّا هيأه لشقه في اللحد قال: «اللَّهُمَّ إني قَدْ أمسيت عَنْهُ راضيًا فارض عَنْهُ» . فَقَالَ ابن مسعود: ليتني كنت صَاحِب اللحد. وعن أبي وائل عن عَبْد اللهِ قال: وَاللهِ لكأني أرى رسول الله ?في غزوة تبوك وَهُوَ في قبر عَبْد اللهِ ذي البجادين وأبو بكر وعمر يَقُولُ: «أدنيا إلى أخاكما» . وأخذه من القبلة حتى أسكنه في لحده ثُمَّ خَرَجَ النَّبِيّ ? وولياهما الْعَمَل. فَلَمَّا فرغ من دفنه استقبل القبلة رافعًا يديه يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إني أمسيت عَنْهُ راضيًا فارض عَنْهُ» . وكَانَ ذَلِكَ ليلاُ فوَاللهِ لوددت أني مكانه، ولَقَدْ أسلمت قبله بخمس عشر سنة. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم. فَصْلٌ: عن مُحَمَّد بن سعد قال: أتى واثلة رسول الله ? فصلى معه الصبح. وكَانَ رسول الله ? إذا صلى وانصرف تصفح أصحابه فَلَمَّا دنا من واثلة قال: «من أَنْتَ» ؟ فأخبره. فَقَالَ: «ما جَاءَ بك» ؟ قال: جئت أبايع. فَقَالَ رسول الله ? «فيما أحببت وكرهت» ؟ قال نعم. قال: «فيما أطقت» ؟ قال: نعم. فأسلم وبايعه. وكَانَ رسول الله ? يتجهز يومئذ إلى تبوك فخَرَجَ واثلة إلى أهله فلقي أبا الأسقع فَلَمَّا رأى حاله قال: قَدْ فعلتها؟ قال: نعم قال أبوه: وَاللهِ لا أكلمك أبدًا.

فأتى عمه فسلم عَلَيْهِ فَقَالَ: قَدْ فعلتها؟ قال: نعم قال: فلامه أيسر من ملامة أبيه وَقَالَ: لم يكن ينبغي لك أن تسبقنا بأمر. فسمعت أخت واثلة كلامه فخرجت إليه وسلمت عَلَيْهِ بتحية الإسلام. فَقَالَ واثلة: أنى لك هَذَا يا أخية؟ قَالَتْ: سمعت كلامك وكلام عمك فأسلمت. فَقَالَ: جهزي أخاك جهاز غاز فإن رسول الله ? على جناح سفر. فجهزته فلحق برسول الله ? قَدْ تحمل إلى تبوك وبقي غبرات من النَّاس وهم على الشخوص. فجعل ينادي بسوق بني قينقاع: من يحملني وله سهمي؟ قال: وَكُنْت رجلاً لا رحلة بي. قال: فدعاني كعب بن عجرة فَقَالَ: أَنَا أحَمَلَكَ عقبة بالليل وعقبة بالنَّهَارَ ويدك أسوة يدي وسهمك لي. قال واثلة: نعم. قال واثلة: جزاه الله خيرًا لَقَدْ كَانَ يحملني ويزيدني وآكل معه ويرفع لي حتى إذا بعث رسول الله ? خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد المالك بدومة الجندل. خَرَجَ كعب في جيش خالد وخرجت معه فأصبنا فيئا كثيرًا فقسمه خالد بيننا فأصابني ست قلائص فأقبلت أسوقها حتى جئت بها خيمة كعب بن عجرة فقُلْتُ: اخَرَجَ رَحِمَكَ اللهُ فَانْظُرْ إلى قلائصك فاقبضها. فخَرَجَ وَهُوَ يبتسم وَيَقُولُ: بارك الله لك فيها ما حملتك وانَا أريد أن آخد منك شَيْئًا.

عن بشر بن عَبْد اللهِ عن واثلة بن الأسقع رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: كنَّا أصحاب الصفة في مسجد رسول الله ? وما فينا رجل له ثوب. ولَقَدْ اتخذ العرق في جلودنا طرقًا من الغبار، إذ خَرَجَ عَلَيْنَا رسول الله ? فَقَالَ: «ليبشر فقراء المهاجرين» .؟ ثلاثًا. وَاللهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ: عَنْ نَعِيم بن رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ قَالَ كُنْتُ أخدِمُ رَسُولَ اللهِ ?وَأَقُومُ لَهُ فِي حَوَائِجه نِهَارِي أجمَعَ، حَتَّى يُصلى رسولُ الله ?العشاء الأخرة. فأجلس على بابه إذا دخل بيته أَقُول: لعلها أن تحدث لِرَسُولِ اللهِ ? حَاجَة. فما أزال أسمعه سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله وبحمده حتى أمل فأرجع أو تغلبني عيني فأرقَدْ. فَقَالَ لي يومًا لما رأى من حفتي (أي العناية والخدمة) له وخدمتي إياه «يا ربيعة سَلْنِي أعطك» . قال: فقُلْتُ أنظر في أمري يَا رَسُولَ اللهِ ثم أعلمك ذَلِكَ. فَقَالَ: ففكرت في نفسي فعلمت أن الدُّنْيَا منقطعة وزائلة وأن لي فيها رزقًا سيأتيني، قال: فقُلْتُ أسأل رسول الله ? لآخرتي فإنه من الله عَزَّ وَجَلَّ بالمنزل الَّذِي هُوَ به. فجئته فَقَالَ: «ما فعلت يا ربيعة» ؟ أسألك يَا رَسُولَ اللهِ أن تشفع لي إلى ربك فيعتقني من النار. فَقَالَ: «من أمرك بهَذَا يا ربيعة» ؟ فَقُلْتُ: ولا الَّذِي بعثك بالحق ما أمرني به أحد ولكنك لما قُلْتُ «سلني أعطك» . وَكُنْت من الله بالمنزل الَّذِي أَنْتَ به نظرت في أمري فعرفت أن الدُّنْيَا منقطعة وزائلة وأن لي فيها رزقًا سيأتيني. فقُلْتُ: أسأل رسول الله ? لآخرتي. قال: فصمت رسول

فصل كان الفقهاء يتواصون بينهم بثلاث

الله ? طويلاً ثُمَّ قال لي: «إِنِّي فَاعِلٌ فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» . شِعْرًا: يَا أَيُّهَا الرَّاقِدُ كَمْ تَرْقُدُ ... قُمْ يَا حَبِيبِي قَدْ دَنَا الْمَوْعِدُ وَخُذْ مِنَ اللَّيْلِ وَسَاعَاَتِهِ ... حَظًّا إِذَا مَا هَجَعَ الرُّقَّدُ مَنْ نَامَ حَتَّى يَنْقَضِي لَيْلَهُ ... لَمْ يَبْلُغ الْمَنْزِلَ لَوْ يَجْهَدُ قُلْ لِذِي الأَلْبَابِ أَهْلِ التُّقَى ... قَنْطَرَةُ الْحَشْرِ لَكُمْ مَوْعِدُ اللَّهُمَّ نَجّنا برحمتِكَ مِن النارِ وعافِنا من دار الخِزْيَ والبَوَار، وَأَدْخِلنا بفَضْلِكَ الجنةَ دارَ القَرار وعامِلْنَا بكَرَمِكَ وَجودِكَ يا كَرِيمُ يا غَفارُ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) كَانَ الْفُقَهَاء يتواصون بينهم بثلاث ويكتب بذَلِكَ بَعْضهمْ إلى بعض من عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته ومن أصلح فيما بينه وبين الله أصلح الله تَعَالَى فيما بينه وبين النَّاس. وَقَالَ مُحَمَّد بن كعب القرظي: إذا أراد الله بعبد خيرًا جعل فيه ثلاث خلال: فقه في الدين، وزهادة في الدُّنْيَا، وبصرٍ بعيوبه. وَقَالَ الحسن بن صالح: الْعَمَل بالحسنة قوة في البدن، ونور في الْقَلْب، وضوء في البصر، والْعَمَل بالسيئ، وهن في البدن، وظلمة في الْقَلْب، وعمًى في البصر. وكتب الخسن البصري إلى عمر بن عَبْد الْعَزِيز يعظه: احتمال المؤنة المنقطعة التي تعقبها الرَّاحَة الطويلة خَيْر من تعجل راحة منقطعة تعقبها مؤنة باقية وندامة طويلة. واعْلَمْ أن الهول الأعظم أمامك ومن وراء ذَلِكَ داران إن أخطأتك هذه صرت على هذه، وكأنك بالدُّنْيَا لم تكن وبالآخِرَة لكم تزل. وكتب أحد عمال عمر بن عَبْد الْعَزِيز إليه (إلى مدينتنا قَدْ تهدمت فإن

رأى أمير الْمُؤْمِنِين أن يقطع لنا مالاً نرمها به فعل، فكتب عمر إليه: إذا قرأت كتابي ها فحصنها بالعدل ونق طرقها من الظلم فإنه عمارتها. وقيل: الدين والملك إِخْوَان توأمان لا قوام لأحدهما إِلا بصاحبه، لأن الدين أساس الملك، ثُمَّ صار الملك بعد حارسًا للدين فَلا بُدَّ للملك من أساس، ولا بد للدين من حارس، وما لا حارس له فهو ضائع، وما لا أساس له فهو مهدوم. كَانَ جماعة من الملوك يوعظون فيؤثر الوعظ في قُلُوبهمْ فيخرجون من ملكهم ودنياهم ويزهدون وكَانَ فيهم من يتفكر في نَفْسهُ ويعلم انقطاع الدُّنْيَا عَنْهُ وقرب رحيله منها ويخاف شدة الحساب وأهوال القيامة وما إلى ذَلِكَ فينفر من الدُّنْيَا ويزهد في الولاية وكل من تدبر القرآن وتأمل أحوال من مضى لا بد أن يتأثر ويتجافى عن الدُّنْيَا ولكن مقل ومكثر إِلا من عميت بصيرته. شِعْرًا: يَا خَدُّ إِنَّكَ إِنْ تُوسَدَ لَيِّنًا ... وُسِّدْتَ بَعْدَ الْمَوْتِ صُمَّ الْجَنْدَلِ فَامْهَدْ لِنَفْسِكَ صَالِحًا تَسْعَدْ بِهِ ... فَلَتَنْدَمَنَّ غَدًا إِذَا لَمْ تَفْعَلِ قال تَعَالَى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ} ، وَقَالَ تَعَالَى: {أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} ، وَقَالَ: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ} . قال تَعَالَى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً} ، وَقَالَ: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} . روى ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: بينما رجل ممن كَانَ قبلكم في مملكته تفكر فعلم أن ذَلِكَ منقطع عَنْهُ وأن الَّذِي هُوَ فيه قَدْ شغله عن عبادة ربه تَعَالَى فخَرَجَ ذات ليلة من قصره فأصبح في مملكة غيره فأتى ساحل البحر وكَانَ يضرب اللبن بالأجرة فيأكل ويتصدق بالفضل من قوته فلم يزل كَذَلِكَ حتى رفع إلى ملك تلك الناحية. فأرسل الملك إليه أن يأتيه فأعاد إليه الرَّسُول فأبى وَقَالَ: ماله وإياي فركب الملك فَلَمَّا رآه الرجل ولى هاربًا فَلَمَّا رأى ذَلِكَ الملك جد في أثره فلم

يدركه فناداه يا عَبْد اللهِ إنه لَيْسَ عَلَيْكَ مني بأس فأقام حتى أدركه. فَقَالَ له: من أَنْتَ يرَحِمَكَ اللهُ قال: فلان بن فلان صَاحِب كَذَا وَكَذَا فَقَالَ: وما شأنك، فَقَالَ: تفكرت في أمري فعلمت أن ما أَنَا فيه منقطع عني لا محالة وأنه قَدْ شغلني عن عبادة رَبِّي فتركته وجئت هنا أعبد رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ. فَقَالَ: ما أَنْتَ بأحوج إلى ما صنعت مني فنزل عن دابته فسيبها وإلى ثيابه فألقى بها ثُمَّ أتبعه فكانَا جميعا فدعوا الله تَعَالَى أن يميتهما جميعا فماتا. قال ابن مسعود: ولو كنت برملية مصر لأريتكم قبريهما بالنعت الَّذِي نعت لنا رسول الله ?. رواه أَحَمَد، وأبو يعلى بنحوه. إِلَى اللهِ أَشْكُو لَوْمَ نَفْسٍ شَحِيحَة ... عَلَى الْخَيْرِ قَدْ أَضْنَى فُؤَادِي عَلاجُهَا إِذَا سَأَلْتَنِي شَهْوَة قَدْ مَنَعْتُهَا ... أَدَامَتْ سُؤَإلى وَاسْتَمَرَّ لَجَاجُهَا وَإِنْ سُمْتُهَا خَيْرًا تَفُوزُ بِنَفْعِهِ ... غَدًا نَفَرتْ مِنِّي وَدَامَ انْزِعَاجَهَا فَقَدْ ضِقْتُ يَا مَوْلايَ ذَرْعًا وَأَظْلَمَتْ ... عَليَّ الأَرَاضِي الْوَاسِعَات فِجَاجُهَا فَهَبْ لِيَّ يَا نُوار السَّمَاوَاتِ فِطْرَةً ... يُضِيءُ لِعَيْنِي فِي السُّلُوكَ سَرَاجُهَا وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَمَ. فَصْلٌ: ثُمَّ اعْلَمْ أن الدُّنْيَا بأسرها وبجَمِيع لذاتها لا تساوي في باب السعادة واللذة الروحية شَيْئًا قال الإمام علي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أصاب الدُّنْيَا من حذرها وأصابت من أمنها، وَقَالَ: الدُّنْيَا لا تصفوا لشارب ولا تبقي لصَاحِب ولا تخلوا من فتنة ولا تنكشف إِلا عن محنة. فأعرض بقلبك عَنْهَا قبل أن تعرض عَنْكَ واستبدل بها خيرًا منها قبل أن تستبدل بك فإن نعيمها متحول وأحوالها متنقلة ولذاتها فانية وتباعتها باقية. واعْلَمْ أن مثل الدُّنْيَا كمثل الحية لين مسها قاتل سمها فاقتصد فيما يعجبك فيها لقلة ما يصحبك منها وكن أحذرهر ما تَكُون لها وأَنْتَ آنس بها فإن صاحبها كُلَّما اطمأن منها إلى سرور أشخصه لك مكروه أو غرور. وَقَالَ آخر: وجملت الأَمْر أنك إذا نظرت بعقلك أيها الرجل فعلمت

أن الدُّنْيَا لا بقاء لها، وأن نفعها لا يفي بضرها وتبعاتها من كد البدن وشغل الْقَلْب في الدُّنْيَا والْعَذَاب الإليمِ والحساب الطويل في الآخِرَة الَّذِي لا طاقة لك به. فإذا علمت ذَلِكَ جدًا زهدت في فضول الدُّنْيَا فلا تأخذ منها إِلا ما لا بدًا لك منه في عبادة ربك وتدع التنعم والتلذذ إلى الْجَنَّة دار النَّعِيم الْمُقِيم في جوار رب العالمين الملك القادر الغني الكريم وعلمت أن الخلق لا وفاء لَهُمْ. قال الواصف لحال أَهْل وقته: غَاضَ الْوَفَاءُ فَمَا تَلْقَاهُ فِي عِدَّةٍ ... وَأَعُوذُ الصِّدْقَ فِي الأَخْبَار وَالْقسم وعلمت أن مؤنة الخلق أكثر من معونتهم فيما يعنيك وتركت مخالطتهم إِلا فيما لا بد لك منه تنتفع بخيرهم وتجتنب من ضرهم وتجعل صحبتك لمن تربح في صحبته ولا تخسر ولا تندم على خدمته وأنسك بكتابه وملازمتك إياه. فَشَمِّرْ وَلُذْ بِاللهِ وَاحْفَظْ كِتَابَهُ ... فَفِيهِ الْهُدَى حَقًّا وَلِلْخَيْرِ جَامِعُ هُوَ الذَّخْرُ لِلْمَلْهُوفِ وَالْكَنْزُ وَالرَّجَا ... وَمِنْهُ بِلا شَكٍّ تُنَالُ الْمَنَافِعُ بِهِ يَهْتَدِي مَنْ تَاهَ فِي مُهِمَّهِ الْهَوَى ... بِهِ يَتَسَلَّى مَنْ دَهَتْهُ الْفَجَائِعُ فتَرَى منه كُلّ جميل وإفضال وتجده عَنْدَ كُلّ نائبة في الدُّنْيَا والآخِرَة كما في الْحَدِيث: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك» . وفي رواية: «تجده أمامك، تعرف إِلَى اللهِ في الرخاء يعرفك في الشدة» . الْحَدِيث. واعْلَمْ أن الشيطان خبيث قَدْ تجرد لمعادتك فاستعذ بربك القادر القاهر من هذا الكلب اللعين ولا تغفل عن مكائده فتطرده بذكر الله والاستعاذة من شره. فإنه يسير إذا ظهرت منك عزيمة صادقة وأنه كما قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} نسأل الله أن يوفقنا للعمل بكتابه وسنة رسوله ?.

وَقَالَ آخر: ما الدُّنْيَا وما إبلَيْسَ، أما الدُّنْيَا فما مضى منها فحلم وما بقى فأماني، وأما الشيطان فوَاللهِ لَقَدْ أطيع فما نفع بل ضر، ولَقَدْ عصي فما ضر. وعلمت جهالة هذه النفس وجماحها إلى ما يضرها ويهلكها فنظرت إليها رحمة لها نظرة العقلاء والْعُلَمَاء الَّذِينَ ينظرون في العواقب. لا نظر الجهال والصبيان الَّذِينَ ينظرون في الحال ولا يفطنون لغائلة الأَذَى وينفرون من مرارة الدواء فألجمها بلجام التقوى بأن تمنعها عما لا تحتاج إليه بالحَقِيقَة من فضول الكلام والنظر والتلبيس بخصلة فاسدة من طول أمل أو حسد أو كبر أو نحو ذَلِكَ. ثُمَّ اعْلَمْ أن الشيطان قاسم أباك وأمك حواء إنه لهما لمن الناصحين، وقَدْ علمت كذبه وغشه ورَأَيْت فعله بهما وأما أَنْتَ فقَدْ أقسم أن يغويك قال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} فاحذره وشمر عن ساق الجد في الفرار عن مكائده والعجب ممن يصدق في عدواته ويتبع غوايته. وَالنَّفْسُ كَالطِّفْلِ إِنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ عَلَى ... حُبِّ الرِّضَاعِ وَإِنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ وَرَاعِهَا وَهِيَ فِي الأَعْمَالِ سَائِمَةً ... وَإِنْ هِيَ اسْتَحْلَتْ الْمرعَى فَلا تُسَمِ كَمْ حَسَّنَتْ لَذَّةً لِلْمَرْءِ قَاتِلَةً ... مِنْ حَيْثُ لَمْ يَدْرِ أَن السُّمَّ فِي الدَّسَمِ وَخَالِفِ النَّفْسَ وَالشَّيْطَانَ وَاعْصِهِمَا ... وَإِنْ هُمَا مَحَّضَاكَ النُّصْحَ فَاتَّهِمِ وَاسْتَفْرِغِ الدَّمْعَ مِِنْ عَيْنٍ قَدْ امْتَلأتْ ... مِن الْمَحَارِمِ وَالْزَمْ حِمْيَةَ النَّدَمِ قال في الفنون: من عجيب ما نقدت من أحوال النَّاس كثرة ما ناحوا على خراب الديار وموت الأقارب والأسلاف والتحسر على الأرزاق بذم الزمان وأهله وذكر نكد العيش فيه. وقَدْ رأوا من انهدام الإسلام وشعث الأديان وموت السُّنَن وظهور البدع وارتكاب المعاصي وتقضي العمر في الفارغ الَّذِي لا يجدي والقبيح الَّذِي يوبق ويؤذي فلا أجد مِنْهُمْ من ناح على دينه ولا بكى على فارط عمره ولا آسى على فائت دهره. وما أرى لذَلِكَ سببًا إِلا قلة مبالاتهم بالأديان وعظم الدُّنْيَا في عيونهم ضد

ما كَانَ عَلَيْهِ السَّلَف الصالح يرضون بالبلاغ وينوحون على الدين، قُلْتُ: فَكَيْفَ لو رأى أَهْل هذا الزمن الَّذِي كثرت فيه المعاصي والملاهي وانفتحت فيه الدُّنْيَا على كثير من النَّاس فلا حول ولا قوة إِلا بِاللهِ. ومن عجب ما رَأَيْت أَنَا أن أحدنا إذ ناداه أمير أو وزير أو مساعد أو مدير يبادر ويقوم بسرعة لداعي الدُّنْيَا ولا يتأخر ويسمَعَ داعي الله يدعوه إلى الصَّلاة التي هِيَ الصلة بينه وبين ربه جَلَّ وَعَلا وتقدس فيتثاقل ولا يهتم لها وإن قام بعد التريث فكأنه مكره يدفع إليها دفعا عكس ما عَلَيْهِ السَّلَف الصالح من المبادرة والمرابطة وترك الأعمال فورًا عِنْدَمَا يسمعون (حي على الصَّلاة، حي على الفلاح) وكثير من المساجد عندهم تجد الصف الأول يتم قبل الأذان وقَدْ ازداد الطين بلة بما حدث عندنا من المنكرات قتالة الأوقات، مفرقة النُّفُوس والأبدان، ومشتت القُلُوب، وَذَلِكَ كالتلفزيون والمذياع والفيديو والجرائد والمجلات ومخالطة المنحرفين والفاسقين والكافرين والمجرمين أبعدهم الله. سَيْرُ الْمَنَايَا إِلَى أَعْمَارِنَا خَبَبُ ... فَمَا تَبِينُ وَلا يَعْتَاقُهَا نَصَبُ كَيْفَ النَّجَاءَ وَأَيْدِيهَا مُصَمِّمَتٌ ... بِذَبْحِنَا بِمُدَى لَيْسَتْ لَهَا نَصَبُ وَهَلْ يُؤْمِّلُ نَيْلَ الشَّمْلِ مُلْتَئِمًا ... سَفَرٌ لَهُمْ كُلَّ يَوْمٍ رِحْلَةٌ عَجَبُ وَمَا إِقَامَتُنَا فِي مَنْزَلٍ هَتَفَتْ ... وَفِيهِ بِنَا مُذْ سَكنَّا رَبْعَهُ نُوَبُ وَآذنتنا وَقَدْ تَمَّتْ عِمَارَتُهُ ... بِأَنَّهُ عَنْ قَرِيبٍ دَاثِرٌ خَرِبُ أَزْرَتْ بِنَا هَذِهِ الدُّنْيَا فَمَا أَمَلٌ ... إِلا لِرَيْبِ الْمَنَايَا عِنْدَهُ أَرَبُ هَذَا وَلَيْسَتْ سِهَامُ الْمَوْتِ طَائِشَةٌ ... وَهَلْ تَطِيشُ سِهَامٌ كُلُّهَا نَصَبُ وَنَحْنُ أَغْرَاضُ أَنْوَاعِ الْبَلأ بِهَا ... قَبْلَ الْمَمَاتِ فَمَرْمِيٌّ وَمُرْتَقِبُ أَيْنَ الَّذِينَ تَنَاهَوْا فِي ابْنِتَائِهِمُوا ... صَاحَتْ بِهِمْ نَائِبَاتُ الدَّهْرِ فَانْقَلَبُوا اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْهَا عَلى قَوْلِكَ الثَّابِتْ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وفي الآخِرةِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاة مُهْتَدينَ، وَتَوفَّنَا مُسْلِمينَ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

قصيدة وعظية

آخر: هذه قصيدة وعظية ألق لها سمعك: أَنِسْتُ بِلأوَاءٍ الزَّمَانِ وَذِلِّهِ ... فَيَا عِزَّةَ الدُّنْيَا عَلَيْكَ سَلامُ إِلَى كَمْ أُعَانِي تِيهَهَا ودَلالَهَا ... ألَمْ يَأْنِ عَنْهَا سَلْوَةُ وَسَآمُ وَقَدْ أَخْلَقَ الأَيَّامُ جِلْبِاب حُسْنِهَا ... وَأَضْحَتْ وَدِيبَاجُ الْبَهَاءِ مَسَامُ عَلَى حِينَ شَيْبٌ قَدْ أَلَمَّ بَمَفْرَقِي ... وَعَادَ رُهَامُ الشَّعْرِ وَهُوَ ثَغَامُ طَلائِعُ ضَعْفٍ قَدْ أَغَارَتْ عَلَى الْقُوَى ... وَثَارَ بِمِيدَانِ الْمِزَاجِ قَتَامُ فَلا هِيَ فِي بُرْجِ الْجَمَالِ مُقِيمَةٌ ... وَلا أَنَا فِي عَهْدِ الْمُجُونَ مُدَامُ تَقَطَّعَت الأَسْبَابُ بَيْنِي وَبَيْنَهَا ... وَلَمْ يَبْقَ فِينَا نِسْبَةٌ وَلِئَامُ وَعَادَتْ قُلُوصُ الْعَزْمِ عَنِّي كَلِيلَةً ... وَقَدْ جُبَّ مِنْهَا غَارِبٌ وَسَنَّامُ كَأَنِّي بِهَا والْقَلْبُ زُمَّتْ رِكَابهُ ... وَقُوِّضَ أَبْيَاتٌ لَهُ وَخِيَامُ وَسِيقَتْ إِلَى دَارِ الْخُمُولِ حُمُولُهُ ... يَحُنُّ إليها وَالدُّمُوعُ رُهَامُ حَنِينَ عَجُولٍ غَرَّهَا الْبَوُّ فَانْثَنَتْ ... إليه وَفِيهَا أَنَّهُ وَضُغَامُ تَوَلَّتْ لَيَالِ لِلْمَسَرَّاتِ وَانْقَضَتْ ... لِكُلِّ زَمَانٍ غَايَةٌ وَتَمَامُ فَسَرْعَانَ مَا مَرَّتْ وَوَلَّتْ وَلَيْتَهَا ... تَدُومُ وَلَكِنْ مَا لَهُنَّ دَوَامُ دُهُورٌ تَقَضَّتْ بِالْمَسَرَّاتِ سَاعَةً ... وَيَوْمَ تَوَلَّى بِالْمَسَاءَةِ عَامُ فَلِلَّهِ دَرُّ الْغَمِّ حَيْثُ أَمَدَّنِي ... بِطُولِ حَيَاةٍ وَالْهُمُومُ سِهَامُ أَسِيرُ بِتَيْمَاءٍ التَّحَيُّرِ مُفْرَدًا ... وَلِي مَعَ صَحْبِي عِشْرَةٌ وَنَدَامُ وَكَمْ عَشِيرَةٍ مَا أَوْرَثَتْ غَيْرَ عُسْرَةٍ ... وَرُبَّ كَلامِ فِي الْقُلُوبِ كَلامُ فَمَا عِشْتُ لا أَنْسَى حُقُوقَ صَنِيعِهِ ... وَهَيْهَاتَ أَنْ يُنْسَى لَدَيَّ ذِمَامُ كَمَا اعْتَادَ أَبْنَاءُ الزَّمَانِ وَأَجْمَعَتْ ... عَلَيْهِ فِئَامٌ إِثْرَ ذَاكَ فِيَامُ خَبَتْ نَارُ أَعْلامِ الْمَعَارِفِ وَالْهُدَى ... وَشُبَّ لِنِيرَانِ الضَّلالِ ضُرَامُ وَكَانَ سَرِيرَ الْعِلْمِ صَرْحًا مُمَرَّدًا ... يُنَاغِي الْقِبَابَ السَّبْعَ وَهِيَ عِظَامُ

.. مَتِينًا رَفِيعًا لا يُطَارُ غُرَابُهُ ... عَزِيرًا مَنِيعًا لا يَكَادُ يُرَامُ يَلُوحُ سَنَا بَرْقِ الْهُدَى مِنْ بُرُوجِهِ ... كَبَرْقٍ بَدَا بَيْنَ السَّحَابِ يُشَامُ فَجَرَّتَ عَلَيْهِ الرَّاسِيَاتُ ذُيُولَهَا ... فَخَرَّتْ عُرُوشٌ مِنْهُ ثُمَّ دَعَامُ وَسِيقَ إِلَى دَارِ الْمَهَانَةِ أَهْلُهُ ... مَسَاقَ أَسِيرٍ لا يَزَالُ يُضَامُ كَذَا تَجْرِي الأَيَّامُ بَيْنَ الْوَرَى عَلَى ... طَرَائِقَ مِنْهَا جَائِرٌ وَقَوَّامُ فَمَا كُلُّ مَا قَدْ قِيلَ عِلْمٌ وَحِكْمَةٌ ... وَمَا كُلُّ أَفْرَادِ الْحَدِيدِ حُسَامُ وَلِلدَّهْرِ تَارَاتٌ تَمُرُّ عَلَى الْفَتَى ... نَعِيمٌ وَبُؤْسٌ صِحَّةٌ وَسَقَامُ وَمَنْ يَكُ فِي الدُّنْيَا فَلا يَعْتِبَنَّهَا ... فَلَيْسَ عَلَيْهَا مَعْتَبٌ وَمَلامُ أَجِدَّكَ مَا الدُّنْيَا وَمَاذَا مَتَاعُهَا ... وَمَا الَّذِي تَبْغِيهِ فَهُوَ حُطَامُ تَشَكَّلَ فِيهَا كُلُّ شَيْءٍ بِشَكْلِ مَا ... يُعَانِدُهُ وَالنَّاسُ عَنْهُ نِيَامُ تَرَى النَّقْصَ فِي زِيِّ الْكَمَالِ كَأَنَّمَا ... عَلَى رَأْسِ رَبَّاتِ الْحِجَالِ عِمَامُ فَدَعْهَا وَنَعْمَاهَا هَنِيئًا لأَهْلِهَا ... وَلاتَكُ فِيهَا رَاعِيًا وَسَوَامُ تَعَافُ الْعَرَانِينُ السِّمَاطَ عَلَى الْخِوَى ... إِذَا مَا تَصَدَّى لِلطَّعَامِ طَغَامُ عَلَى أَنَّهَا لا يُسْتَطَاعُ مَنَالُهَا ... لِمَا لَيْسَ فِيهِ عُرْوَةٌ وَعِصَامُ وَلَوْ أَنْتَ تَسْعَى إِثْرَهَا أَلْفَ حَجَّةٍ ... وَقَدْ جَاوَزَ الطِّبْيَيْنِ مِنْكَ حِزَامُ رَجَعْتَ وَقَدْ ضَلَّتْ مَسَاعِيكَ كُلُّهَا ... بِخُفَى حُنَيْنٍ لا تَزَالُ تُلامُ هَبِ إِنَّ مَقَاليدَ الأُمُورِ مَلَكْتَهَا ... وَدَانَتْ لَكَ الدُّنْيَا وَأَنْتَ هُمَامُ وَمُتِّعْتَ بِاللَّذَاتِ دَهْرًا بِغِبْطَةٍ ... إليسَ بِحَتْمٍ بَعْدَ ذَاكَ حِمَامُ فَبَيْنَ الْبَرَايَا وَالْخُلُودِ تَبَايُنٌ ... وَبَيْنَ الْمَنَايَا وَالنُّفُوسِ لِزَامُ قَضِيَّةِ انْقَادَ الأَنَامُ لِحُكْمِهَا ... وَمَا حَادَ عَنْهَا سَيِّدٌ وَغُلامُ ضرُورِيَّة تقضي الْعُقُولُ بِصِدْقِهَا ... سَلْ إِنْ كَانَ فِيهَا مِرْيَةٌ وَخِصَامُ سَلْ الأَرْضَ عَنْ حَالِ الْمُلُوكِ الَّتِي خَلَتْ ... لَهُمْ فَوْقَ فَوْقَ الفرقدين مَقَامُ

.. بِأَبْوَابِهِمْ لِلْوَافِدِينَ تَرَاكُم ... بِأَعْتَابِهِمْ لِلْعَاكِفِينَ زِحَامُ تُجِبْكَ عَنْ أَسْرَارِ السُّيُوفِ الَّتِي جَرَتْ ... عَلَيْهِمْ جَوَابًا لَيْسَ فِيهِ كَلامُ بِأَنَّ الْمَنَايَا أَقْصَدَتْهُمْ نِبَالُهَا ... وَمَا طَاشَ عَنْ مَرْمَى لَهُنَّ سِهَامُ وَسِيقُوا مَسَاقَ الْغَابِرِينَ إِلَى الرَّدَى ... وَأَقْفَرْ مِنْهُمْ مَزَلٌ وَمَقَامُ وَحَلُّوا مَحْلاً غَيْرَ مَا يَعْهَدُونَهُ ... فلَيْسَ لَهُمْ حَتَّى الْقِيَامِ قِيَامُ أَلَمَ بِهِمْ رَيْبُ الْمَنُونِ فَغَالَهُمْ ... فَهُمْ بَيْنَ أَطْبَاقِ الرُّغَامِ رُغَامُ انتهى. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا مَا قَطَعَ قُلُوبَنَا عن ذِكرك واعفُ عن تَقْصِيرنَا فِي طَاعَتكَ وشُكْرِكْ وأدمْ لَنَا لزُومَ الطَرِيق إليكَ وهَبْ لَنَا نورًا نَهْتَدِي بِهِ إليكَ واسْلُكْ بنا سَبِيلَ أَهْلِ مَرْضَاتِكَ واقْطِعْ عَنَّا كُلّ ما يُبعدُنا عَنْ سَبِيلِكَ ويَسِّرْ لَنَا ما يَسَّرْتَهُ لأَهْلِ مَحَبَّتِكَ وأَيْقِظْنَا مِنْ غَفَلاتِنَا وأَلْهِمْنَا رُشْدَنَا وَحَقَّقْ بِكَرَمِكَ قَصْدَنَا واسْتُرْنَا في دُنْيانَا وآخرتِنَا واحْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ الْمُتَّقِينَ وأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِين، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ. شِعْرًا: أَرَى النَّاسَ فِي الدُّنْيَا مُعَافًا وَمُبْتَلىً ... وَمَا زَالَ حُكْمُ اللهِ فِي الأَرْضِ مُرْسَلا مَضَى فِي جَمِيعِ النَّاسِ سَابِقُ عِلْمِهِ ... وَفَصَّلَهُ مِنْ حَيْثُ شَاءَ وَوَصَّلا وَلَسْنَا عَلَى حُلْوِ الْقَضَاءِ وَمُرِّهِ ... نَرَى حكَمًا فِينَا مِنَ اللهِ أَعْدَلا بِلا خَلْقَهُ بِالْخَيْرِ وَالشَرِّ فِتْنَةً ... لِيَرْغَبَ مِمَّا فِي يَدَيْهِ وَيَسْأَلا وَلَمْ يَبْغِ إِلا أَنْ نَبُوءَ بِفَضْلِهِ ... عَلَيْنَا وَإِلا أَنْ نَتُوبَ فَيَقْبَلا هُو الأحَدُ القَيّومُ مِنْ بَعِد خَلقِه ... وَما زالَ في دَيمومَةِ المُلْكِ أولاً وَمَا خَلَقَ الإِنْسَانُ إِلا لِغَايَةٍ ... وَلَمْ يَتْرُكِ الإِنْسَانَ فِي الأَرْضِ مُهْمَلا كَفَى عِبْرَةً أَنِّي وَأَنَّكَ يَا أَخِي ... نُصَرَّفُ تَصْرِيفًا لَطِيفًا وَنُبْتَلَى كَانَا وَقَدْ صِرْنَا حَدِيثًا لِغَيْرِنَا ... نُخَاضُ كَمَا خُضْنَا الْحَدِيثَ لِمَنْ خَلا

.. تَوَهَّمْتُ قَوْمًا قَدْ خَلَوْا فَكَأَنَّهُمْ ... بِأَجْمَعِهِمْ كَانُوا خَيَالاً تَخَيَّلا وَلَسْتُ بِأَبْقَى مِنْهُمْ فِي دِيَارِهِمْ ... وَلَكِنَّ لِي فِيهَا كِتَابًا مُؤَجَّلا وَمَا النَّاسُ إِلا مَيِّتٌ وَابْنُ مَيِّتٍ ... تَأَجَّلَ حَيٌّ مِنْهُمْ أَوْ تَعَجَّلا وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ يُخْلِفُ وَعْدَهُ ... بِمَا كَانَ أَوْصَى الْمُرْسَلِينَ وَأَرْسَلا هُوَ الْمَوْتُ يَا ابْنَ الْمَوْتِ وَالْبَعْثُ بَعْدَهُ ... فَمِنْ بَيْنِ مَبْعُوثٍ مُخِفًّا وَمُثْقَلا وَمِنْ بَيْنِ مَسْحُوبٍ عَلَى حُرِّ وَجْهِهِ ... وَمِنْ بَيْنِ مَنْ يَأْتِي أَغَرَّ مُحَجَّلا عَشِقْنَا مِنَ اللَّذَاتِ كُلَّ مُحَرَّمٍ ... فَأُفٍّ عَلَيْنَا مَا أَغَرَّ وَأَجْهَلا رَكَنَّا إِلَى الدُّنْيَا فَطَالَ رُكُونُنَا ... وَلَسْنَا نَرَ الدُّنْيَا عَلَى ذَاكَ مَنْزِلا لَقَدْ كَانَ أَقْوَامٌ مِنَ النَّاسِ قَبْلَنَا ... يَعافُونَ مِنْهُنَّ الْحَلالَ الْمُحَلَّلا فَلِلَّهِ دَارٌ مَا أَحَثَّ رَحِيلُهَا ... وَمَا أَعْرَضَ الآمَالَ فِيهَا وَأَطوَلا أَبَى الْمَرْءُ إِلا أَنْ يَطُولَ اغْتِرَارُهُ ... وَتَأْبَى بِهِ الْحَالاتُ إِلا تَنَقُّلا إِذَا أَمَّلَ الإِنْسَانُ أَمْرًا فَنَالَهُ ... فَمَا يَبْتَغِي فَوْقَ الَّذِي كَانَ أَمَّلا وَكَمْ مِنْ ذَليلٍ عَزَّ مِنْ بَعْدِ ذِلَّةٍ ... وَكَمْ مِنْ رَفِيعٍ كَانَ قَدْ صَارَ أَسْفَلا وَلَمْ أَرَ إِلا مُسْلِمًا فِي وَفَاتِهِ ... وَإِنْ أَكْثَرَ الْبَاكِي عَلَيْهِ وَأَعْوَلا وَكَمْ مِنْ عَظِيمِ الشَّأْنِ فِي قَعْرِ حُفْرَةٍ ... تَلَحَّفَ فِيهَا بِالثَّرَى وَتَسَرْبَلا أَيَا صَاحِبَ الدُّنْيَا وَثِقْتَ بِمَنْزِلٍ ... تَرَى الْمَوتَ فِيهِ بِالْعِبَادِ مُوَكَّلا تُنَافِسُ فِي الدُّنْيَا لِتَبْلُغَ عِزَّهَا ... وَلَسْتَ تَنَالُ العِزَّ حَتَّى تَذَلَّلا إِذَا اصْطَحَبَ الأَقْوَامُ كَانَ أَذَلُّهُمْ ... لأَصْحَابِهِ نَفْسًا أَبَرَّ وَأَفْضَلا وَمَا الْفَضْلُ فِي أَنْ يُؤْثِرَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ ... وَلَكِنَّ فَضْلَ الْمَرْءِ أَنْ يَتَفَضَّلا آخر: ... يَا أَيُّهَا الْمُغْتَرُّ بِاللهِ ... فِرَّ مِنَ اللهِ إِلَى اللهِ وَلُذْ بِهِ وَاسْأَلْهُ مِنْ فَضْلِهِ ... فَقَدْ نَجَا مَنْ لاذَ اللهِ وَقُمْ لَهُ وَاللَّيْلُ فِي جنْحِهِ ... فَحَبَّذَا مَنْ قَامَ للهِ

.. وَاِتْلُ مِنَ الْوَحْيِ وَلَوْ آيَةً ... تُكْسَى بِهَا نُورًا مِنَ اللهِ وَغَفِّرِ الْوَجْهَ لَهُ سَاجِدًا ... فَعَزَّ وَجْهٌ ذَلَّ للهِ فَمَا نَعِيمٌ كَمُنَاجَاتِهِ ... لِقَانِتْ يُخْلِصُ للهِ وَاِبْعُدْ عَنِ الذَّنْبِ وَلا تَاتِهِ ... فَبُعْدُهُ قُرْبٌ مِنَ اللهِ يَا طَالِبًا جَاهًا بِغَيْرِ التُّقَى ... جَهِلْتَ مَا يُدْنِي مِنَ اللهِ لا جَاهَ إِلا جَاهُ يَوْمِ الْقَضَا ... إِذْ لَيْسَ حُكْمٌ لِسِوَى اللهِ وَصَارَ مَنْ يُسْعَدُ فِي جَنَّةٍ ... عالية فِي رَحْمَةِ اللهِ يَسْكُنُ فِي الْفِرْدَوْسِ فِي قُبَّةٍ ... مِنْ لُؤْلُؤٍ فِي جِيرَةِ اللهِ وَمَنْ يَكُنْ يُقْضَى عَلَيْهِ الشَّقَا ... فِي جَاحِمٍ فِي سَخَطِ اللهِ يُسْحَبُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ ... بِسَابِقِ الْحُكْمِ مِنَ اللهِ يَا عَجَبًا مِنْ مُوقِنٍ بِالْجَزَا ... وَهُوَ قَلِيلُ الْخَوْفِ للهِ كَأَنَّهُ قَدْ جَاءَهُ مُخْبِرٌ ... بِأَمْنِهِ مِنْ قِبَلِ اللهِ يَا رُبَّ جَبَّارٍ شَدِيدِ الْقُوَى ... أَصَابَهُ سَهْمٌ مِنَ اللهِ فَأَنْفَذَ الْمَقْتَلَ مِنْهُ وَكَمْ ... أَصْمَتْ وَتُصْمِي أَسْهُمُ اللهِ وَاِسْتَلَّ قَسْرًا مِنْ قُصُورٍ إِلَى الْـ ... أَجْدَاثِ وَاِسْتَسْلَمَ للهِ مُرْتَهَنًا فِيهَا بِمَا قَدْ جَنَى ... يُخْشَى عَلَيْهِ غَضَبُ اللهِ لَيْسَ لَهُ حَوْلٌ وَلا قُوَّةٌ ... الْحَوْلُ وَالْقُوَّةُ للهِ يَا صَاحِ سِرْ فِي الأَرْضِ كَيْمَا تَرَى ... مَا فَوْقَهَا مِنْ عِبَرِ اللهِ وَكَمْ لَنَا مِنْ عِبْرَةٍ تَحْتَهَا ... فِي أُمَمٍ صَارَتْ إِلَى اللهِ مِنْ مَلِكٍ مِنْهُمْ وَمِنْ سُوقَةٍ ... حَشْرُهُمُ هَيِّنٌ عَلَى اللهِ وَالحَظْ بِعَيْنَيْكَ أَدِيمَ السَّمَا ... وَمَا بِهَا مِنْ حِكْمَةِ اللهِ تَرَى بِهَا الأَفْلاكَ دَوَّارَةً ... شَاهِدَةً بِالْمُلْكِ للهِ

.. مَا وَقَفَتْ مُذْ أُجْرِيَتْ سَاعَةً ... أَوْ دُونَهاَ خَوْفًا مِنَ اللهِ وَمَا عَلَيْهَا مِنْ حِسَابٍ وَلا ... تَخْشَى الَّذي يُخْشَى مِنَ اللهِ وَهِيَ وَمَا غَابَ وَمَا قَدْ بَدَا ... مِنْ آيَةٍ فِي قَبْضَةِ اللهِ تُوَحِّدُ اللهَ عَلَى عَرْشِهِ ... فِي غَيْبِهِ فَالأَمْرُ للهِ وَمَا تَسَمَّى أَحَدٌ فِي السَّمَا ... وَالأَرْضِ غَيْرُ اللهِ بِاللهِ إِنَّ حِمَى اللهِ مَنِيعٌ فَمَا ... يَقْرُبُ شَيْءٌ مِنْ حِمَى اللهِ لا شَيْءَ فِي الأَفْوَاهِ أَحْلَى مِنَ التَّـ ... ـوْحِيدِ وَالتَّمْجِيدِ للهِ وَلا اطْمَأَنَّ الْقَلْبُ إِلا لِمَنْ ... يَعْمُرْهُ بِالذِّكْرِ للهِ وَإِنْ رَأَى فِي دِينِهِ شُبْهَةً ... أَمْسَكَ عَنْهَا خَشْيَةَ اللهِ أَوْ عَرَضَتهُ فَاقَةٌ أَوْ غِنَىً ... لاقَاهُمَا بِالشُّكْرِ للهِ وَمَنْ يَكُنْ فِي هَدْيِهِ هَكَذَا ... كَانَ خَلِيقًا بِرِضَى اللهِ وَكانَ فِي الدُّنْيَا وَفِي قَبْرِهِ ... وَبَعْدَهُ فِي ذِمَّةِ اللهِ وَفِي غَدٍ تُبْصِرُهُ آمِنًا ... لِخَوْفِهِ اليوم مِنَ اللهِ ما أَقْبَحَ الشَّيْخَ إِذَا مَا صَبَا ... وَعَاقَهُ الْجَهْلُ عَنِ اللهِ وَهُوَ مِنَ الْعُمْرِ عَلَى بَازِلٍ ... يَحْمِلُهُ حَثًّا إِلَى اللهِ هَلا إِذَا أَشْفَى رَأَى شَيْبَهُ ... يَنْعَاهُ فَاسْتَحْيَى مِنَ اللهِ كَأَنَّمَا رِينَ عَلَى قَلْبِهِ ... فَصَارَ مَحْجُوبًا عَنِ اللهِ مَا يُعْذَرُ الْجَاهِلُ فِي جَهْلِهِ ... فَضْلاً عَنِ الْعَالِمَ بِاللهِ دَارَانِ لا بُدَّ لَنَا مِنْهُمَا ... بِالْفَضْلِ وَالْعَدْلِ مِنَ اللهِ وَلَسْتُ أَدْرِي مَنْزِلِي مِنْهُمَا ... لَكِنْ تَوَكَّلْتُ عَلى اللهِ فَاعْجَبْ لِعَبْدٍ هَذِهِ حَالُهُ ... كَيْفَ نَبَا عَنْ طَاعَةِ اللهِ وَاسَوْأَتَا إِنْ خَابَ ظَنِّي غَدًا ... وَلَمْ تَسَعْنِي رَحْمَةُ اللهِ

.. وَكُنْتُ فِي النَّارِ أَخَا شِقْوَةٍ ... نَعُوذُ مِنْ ذَلِكَ بِاللهِ كَمْ سَوْءَةٍ مَسْتُورَةٍ عِنْدَنَا ... يَكْشِفُهَا الْعَرْضُ عَلَى اللهِ فِي مَشْهَدٍ فِيهِ جَمِيعُ الْوَرَى ... قَدْ نَكَّسُوا الأَذْقَانَ للهِ وَكَمْ تَرَى مِنْ فَائِزٍ فِيهِمُ ... جَلَّلَهُ سِتْرٌ مِنَ اللهِ فَالْحَمْدُ للهِ عَلَى نِعْمَةِ الْـ ... إِسْلامِ ثُمَّ الْحَمْدُ للهِ (فَصْلٌ) عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ سَمِعَ النَّبِىُّ ? رَجُلاً يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. فَقَالَ رَسُولِ اللهُ ?: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى» . أخرجه أبو داود، والترمذى. وًعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: دعا رجل: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الحنان الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ يا حي يا قيوم. فَقَالَ النَّبِىُّ ?: «أتَدْرُونَ بِمَ دَعَا؟ قَالُوا: الله ورسوله أعلم قَالَ: وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَقَدْ دعا اللَّهَ بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى» ، أخرجه أصحاب السُّنَن. عن سَعْدٍ عَنْ أَبِيِ وقاص قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ?: «دَعْوَةُ ذِى النُّونِ إِذْ دَعَى وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» . فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْء قَطُّ إِلاَّ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ» . رواه الترمذي والنسائي والحاكم وَقَالَ صحيح الإسناد. اللَّهُمَّ أَنَا نعوذ بك مِن شَر أسماعنا ومِن شَر أبصارنا ومِن شَر ألسِنَتنَا وشر قبوبنا وشر منينا. اللَّهُمَّ عافنا في أبداننا وفي أسماعنا وفي أبصارنا اللَّهُمَّ أَنَا نعوذ بك من الفقر والكفر، اللَّهُمَّ أَنَا نعوذ بك من عذاب القبر لا إله إِلا أَنْتَ. اللَّهُمَّ أَنَا نعوذ بك من علم لا ينفع وعمل لا يرفع ودعاء لا يسمَعَ.

اللَّهُمَّ أَنَا نعوذ بك من زَوَال نعمتك وتحول عافيتك وفجأة نقمتك، الهم أنفعنا بما علمتنا وعلمنا ما ينفعنا وزدنا عِلْمًا الحمد لله على كُلّ حال وأعوذ بِاللهِ من حال أَهْل النار. اللَّهُمَّ أغننا بالعلم وزينا بالحلم وأكرمنا بالتقوى وحملنا بالعافية. اللَّهُمَّ أَنَا نسألك صحة في إيمان وإيمانَا في حسن خلق ونجاحًا يتبعه فلاح، ورحمة منك وعافية ومغفرة منك ورضوانَا. اللَّهُمَّ أَنَا نعوذ بوجهك الكريم واسمك العَظِيم من الكفر والفقر. اللَّهُمَّ أَنَا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتجمَعَ بها شملنا، وتلم بها شعثنا، وترد بها الفتنا، وتصلح بها ديننا، وتحفظ بها غائبنا، وترفع بها شاهدنا، وتزكى بها علمنا، وتبيض بها وجوهنا وتلهمنا بها رشدنا وتعصمنا بها من كُلّ سوء. اللَّهُمَّ أعطنا إيمانَا صادقًا ويقينًا لَيْسَ بعده كفر ورحمة تنال بها شرف كرامتك في الدُّنْيَا والآخِرَة. اللَّهُمَّ أَنَا نسألك الفوز عَنْدَ الِقَضَاءِ ومنازل الشهداء وعيش السعداء والنصر على الأعداء ومرافقة الأنبياء. اللَّهُمَّ ما قصر عَنْهُ رأينا وضعف عَنْهُ عملنا ولم تبلغه نيتنا وأمنيتنا من خَيْر وعدته أحدًا من عبادك وخَيْر أَنْتَ معطيه أحدًا من خلقك فانَا نرغب إليك فيه ونسألكه يا رب العالمين. اللَّهُمَّ ارزقنا أعينا هطالة تشفيان الْقَلْب يذروف الدموع من خشيتك قبل أن تَكُون الدموع دمًا والأضراس جمرًا. اللَّهُمَّ اجعلنا هداة مهتدين غير ضإلين ولا مضلين حربًا لأعدائك وسلمًا لأوليائك نحب بحبك النَّاس ونعادي بعداوتك من خالفك من خلقك. اللَّهُمَّ إن نسألك الأمن يوم الوعيد من الْعَذَاب الشديد ونسألك الْجَنَّة دار الخلود مَعَ المقربين الشهود والركع السجود والموقين بالعهود والوعود إنك غفور رؤف ودود.

فوائد عظيمة النفع

اللَّهُمَّ أَنَا نسألك باسمك الطاهر الطيب المبارك الأحب إليك الَّذِي إذا دعيت به أجبت وإذا سئلت به أعطيت وإذا استرحمت به رحمت، وإذا استفرجت به فرجت. يَا حَيُّ يا قَيُّوم يا علي يا عَظِيم يا واحد أحد يا فرد صمد يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد يا ذا الجلال والإكرام أن تفتح لدعائنا باب القبول والإجابة. اللَّهُمَّ ارحم ذلنا يوم الأشهاد وأمن خوفنا من فزع المعاد ووفقنا لما تنجينا به من الأعمال في ظلم الإلحاد ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. قال بَعْضهمْ: أُقِلِّبُ كُتُبًا طَالَما قَدْ جَمَعْتُهَا ... وَأَفْنَيْتُ فيها العَيْنَ والعَيْنَ وَإليدَا وَأَصْبَحْتُ ذَا ظَنٍ بِهَا وَتَمَسُّكٍ ... لِعِلْمِي بِمَا قَدْ صُغْتُ فِيهَا مُنْضَّدَا وَأحْذَرُ جُهْدِي أَنْ تَنَالَ بِنَائِلٍ ... مَهِينٌ وَأَنْ يَغْتَالَهَا غَائِلُ الرَّدَى وَاعْلَمْ حَقًّا أَنَّنِي لَسْتُ بَاقِيًا ... فَيَإليتَ شِعْرِي مَنْ يُقَلِّبُهَا غَدَا آخر: ... الْعِلْمُ قَالَ اللهُ قَالَ رَسُولُهُ ... قَالَ الصَّحَابَةُ هُمْ أُولُو الْعِرْفَانِ لَوْ كَانَ هَذَا الْعِلْمُ يَحْصُلُ بِالْمُنَى ... مَا كَانَ يَبْقَى فِي الْبَرِيَّةِ جَاهِلُ اجْهَدْ وَلا تَكْسَلْ وَلا تَكُ غَافِلاً ... فَنَدَامَةُ الْعُقْبَى لِمَنْ يَتَكَاسَلُ (فَوَائِد عظيمة النفع لمن وفقه الله) واعجبًا منك يضيع الشَيْء القليل وتتكدر وتتأسف، وقَدْ ضاع أشرف الأَشْيَاءِ عندك وَهُوَ عمرك الَّذِي لا عوض له وأَنْتَ عَنْدَ قتالات الأوقات، الكورة والتلفاز والمذياع ونحوها من قطاع الطَرِيق عن الأعمال الصَّالِحَة، ولكن ستندم {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} . شِعْرًا: ... أَرَى النَّاسَ سَفْرًا فِي طَرِيقِ الْمَتَالِفِ ... فَمَنْ بَالِغٍ أُخْرَى الْمَدَى وَمُشَارِفِ وَمَا بَطْنُ هَذِي الأَرْضَ إِلا قَرَارَةٌ ... وَأَرْوَاحَنَا مِثْلُ السُّيُولِ الْجَوَارِفِ وَمَا الْعُمْرُ إِلا جَوْلَةٌ ثُمَّ أَوْلَهٌ ... وَنَحْنُ بِمِرْصَادِ الرَّقِيبِ الْمُشَارِفِ

خاتمة، وصية، نصيحة

(خاتمة، وصية، ونصيحة) اعْلَمْ وفقنا الله وَإِيَّاكَ وَجَمِيع المسلمين لما يحبه الله ويرضاه أن مِمَّا يجب الاعتناء به حفظًا وعملاً كلام الله جَلَّ وَعَلا وكلام رسوله ?. وأنه ينبغي لمن وفقه الله تَعَالَى أن يحث أولاده على حفظ القرآن وما تيسر من أحاديث النَّبِيّ ? المتفق على صحتها عَنْهُ كالبخاري ومسلم. ومن الفقه مختصر المقنع ليتيسر له استخراج المسائل ويجعل لأولاده ما يحثهم على ذَلِكَ. فمثلاً يجعل لمن يحفظ القرآن على صدره حفظًا صحيحًا عشرة آلاف أو أزيد أو أقل حسب حاله في الغنى. ومن الأحاديث عقود اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عَلَيْهِ الإمامان البخاري ومسلم، ويجعل لمن يحفظ لك ستة آلاف. فإن عجزوا عن حفظها فالعمدة في الْحَدِيث يجعل لمن حفظها ثلاثة آلاف، أو الأربعون النواوية ويجعل لمن يحفضها ألفًا. ويجعل لمن يحفظ مختصر المقنع في الفقه ألفين من الريالات فالغيب سبب لحفظ المسائل وسبب لسرعة استخراج ما أريد من ذَلِكَ وما أشكل معناه أو يدخلهم في مدارس تحفيظ القرآن فمدارس تعليم القرآن والسنة هِيَ مدارس التعليم العإلى الممتاز الباقي النافع في الدُّنْيَا والآخِرَة أو يدخلهم في حلقات تحفيظ القرآن الكريم الموجودة في المساجد. شِعْرًا: وَلَمْ أَرَى لِلْخَلائِقِ مِنْ مُرِبٍ ... كَعِلْمِ الشَّرْعِ يُؤْخَذُ عَنْ ثِقَاتِ بِبَيْتِ اللهِ مَدْرَسَةِ الأَوَالي ... لِمَنْ يَهْوَى الْعُلُومَ الرَّاقِيَاتِ فمن وفقه الله لذَلِكَ وعمل أولاده بذَلِكَ كَانَ سببًا لحصول الأجر من الله وسببًا لبرهم به ودعائهم له إذا ذكروا ذَلِكَ منه ولعله أن يكون سببًا مباركًا يعمل به أولاده مَعَ أولادهم فيزيد الأجر له ولهم نسأل الله أن يوفق

الجَمِيع لحسن النِّيْة إنه لقادر على ذَلِكَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. تم الجزء الخامس بعون الله وتوفيقه ونسأل الله الحي القيوم العلي العَظِيم ذا الجلال والإكرام الواحد الأحد الفرد الصمد الَّذِي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد أن يعز الإسلام والمسلمين وأن يخذل الكفرة والمشركين وأعوانهم وأن يصلح من في صلاحه صلاح للإسلام والمسلمين ويهلك من في هلاكه عز وصلاح للإسلام والمسلمين وأن يلم شعث المسلمين ويجمَعَ شملهم ويوحد كلمتهم وأن يحفظ بلادهم ويصلح أولادهم ويشف مرضاهم ويعافي مبتلاهم ويرحم موتاهم ويأخذ بأيدينا إلى كُلّ خَيْر ويعصمنا وإياهم من كُلّ شر ويحفظنا وإياهم من كُلّ ضر وأن يَغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِهِ إِنَّهُ أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. والله المسئول أن يجعل عملنا هَذَا خالصًا لوجهه الكريم وأن ينفع به نفعًا عامًا إنه سميع قريب مجيب على كُلّ شَيْء قدير. والحمد لله رب العالمين والصَّلاة والسَّلام على أشرف المرسلين نبينا مُحَمَّد خاتم الأنبياء والمرسلين المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين. ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا. عبد العزيز المُحَمَّد السلمان المدرس في معهد إمام الدعوة بالرياض شِعْرًا: تَمَنَّيْتُ فِي الدُّنْيَا عُلُومٌ أبثُهَا ... وأنْشُرُهَا فِي كُلِّ بَادٍ وَحَاضِرِ دُعَاءٌ إِلَى القُرْآنِ والسُنَّةِ الَّتِي ... تَنَاسَى رِجَالٌ ذِكْرَهَا فِي الْمَحَاضِرِ وقَدْ أَبْدَلُوهَا بِالْجَرَائِدِ تَارَّةً ... وَتِلْفَازِهِمْ رَأْسُ الشُّرُورِ الْمَنَاكِرِ وَمِذْيَاعِهِمْ أَيْضًا فَلا تَنْسَ شَرَّهُ ... فَكَمْ ضَاعَ مِنْ وَقْتٍ بِهَا بِالْخَسَائِرِ

فَصْلٌ: وإليك طرفًا مِمَّا حدث بأسباب النظر إلى النساء مِمَّا أدى بالإِنْسَان إلى ضياع الوَقْت والأمراض وآخرها الموت نسأل الله العافية سقناها لتأخذ حذرك ولا تهمل طرفك فيجنى عَلَيْكَ واسمَعَ إلى قول من تولعوا بنساء عفيفات وكن متيقظًا حذرًا للأتقع في شبكة العشق المودية إلى ضياع الوَقْت من النظر إلى النساء الأجنبيات منك خشية أن تقع فيما وقع به بَعْضهمْ. قال بعض من ابتلى بذك فمرض وأشرف على الموت نسأل الله العافية: (1) مَاذَا عَلَيْكَ إِذْ خُبِّرْتَ بِي دَنَفًا ... رَهْنَ الْمَنِيَّةِ يَوْمًا أَنْ تَعُودِينِي وَتَجْعَلِي نُطْفَةً فِي الْقُعْبِ بَارِدَةً ... فَتَغْمِسِي فَاكِ فِيهَا ثُمَّ تَسْقِينِي آخر: ... (2) قَالُوا تَصَبَّرَ فَمَا هَذا الْجُنُونُ بِهَا ... فَقُلْتُ يَا قَوْمُ لَيْسَ الْقَلْبُ مِنْ قِبَلِي آخر: ... قُلْ لِلْبَخِيلَةِ بِالسَّلامِ تَوَرُّعًا ... كَيْفَ اسْتَبَحْتَ دَمًا وَلَمْ تَتَوَرَّعِي هَلْ تَسْمَحِينَ بِبَذْلِ أَيْسَرَ نَائِلٍ ... أَنْ أَشْتَكِي بَثِّي إليْكِ وَتَسْمَعِي آخر: ... (3) أَجِدِ الْمَلامَةَ فِي هَوَاكِ لَذِيذَةٍ ... حُبًّا لِذِكْرِكِ فَلْيَلُمِّنِي اللَّوَمُ (4) آخر: فَيَا لَيْتَ أَنِّي يَوْمَ تَدْنُو مَنِيَّتِي ... شَمِمْتُ الَّذِي مَا بَيْنَ عَيْنَكِ وَالْفَمِ وَلَيْتَ غَسِيلِي كَانَ رِيقُكِ كُلِّهِ ... وَلَيْتَ حَنُوطِي مِنْ مُشَاشِكِ وَالدَّمِ آخر: (5) وَقَائِلَةٍ مَاذَا الشُّحُوبُ وَذِي الضَّنَى ... فَقُلْتُ لَهَا قَوْلَ الْمَشُوق الْمُتَيَّمِ أَتَانَا هَوَاكِ وَهُوَ ضَيْفٌ أُعِزُّهُ ... فَأَطْعَمْتُهُ لَحْمِي وَأَسْقَيْتُهُ دَمِي آخر: (6) لَئِنْ سَأنِي أَنْ نِلْتَنِي بِمَسَاءَةٍ ... لَقَدْ سَرَّنِي أَنِّي خَطَرْتُ بِبَالِكِ

(7) آخر: يَصِفُ حَالَه مَعَ مَعْشوقَيِه التي تَولّعَ بها: كَعُصْفُورَةٍ فِي كَفِّ طِفْلٍ يُهِينُهَا ... تَذُوقُ مَرَارَ الْمَوْتِ وَالطِّفْلُ يَلْعَبُ فَلا الطِّفْلُ ذُو عَقْلٍ يَرِقُّ لِحَالِهَا ... وَلا الطَّيْرُ مَتْرُوكَ الْجَنَاحَيْن يَذْهَبُ (8) آخر: إِذَا مَا التَقَيْنَا وَالْوُشَاةُ بِمَجْلِسٍ ... فَلَيْسَ لَنَا رُسْلٌ سِوَى الطَّرْفِ بِالطَّرْفِ وَإِنْ غَفَلَ الْوَاشُونَ فُزْتُ بِنَظْرَةٍ ... وَإِنْ نَظَرُوا نَحْوِي نَظَرْتُ إِلَى السَّقْفِ (9) آخر: أَفْدِي بِرُوحِي مَنْ شَبَّهْتُ طَلْعَتَهَا ... بِطَلْعَتِ الشَّمْسِ فَاغْتَاضَتْ لَتَشْبِيهِي قَالَتْ أَللشَّمْسِ طَرْفٌ مِثْلُ طَرْفِي ذَا ... إِنْ كُنْتَ تَفْهَمُ مَعْنَى مِنَ مَعَانِيهِ أَوْ هَلْ بِهَا مِثْلُ خَدِّي فِي تَوَرُّدِهِ ... أَوْ هَلْ بِهَا مِثْلُ قَدّ فِي تَثَنِّيهِ فَقُلْتُ دُونَكِ فَاقْنَصِي بِلا حَرَجٍ ... هَذَا لِسَانِي الَّذِي أَخْطَأَ فَعُضِّيهِ (10) آخر: مبالغ في الكذب قَدْ كَانَ لِي قَبْلَ الْهَوَى خَاتَمٌ ... وَاليوم لَوْ شِئْتُ تَمَنْطَقْتُ بِهْ فَنِيتُ حَتَّى صِرْتُ لَوْ زُجَّ بِي ... فِي مُقْلِةِ الْوَسْنَانِ لَمْ يَنْتَبَهْ (11) آخر: وَهَيْفَاءُ لا أُصْغِي إِلَى مَنْ يَلُومُنِي ... عَلَيْهَا وَيُغْرِينِي بِهَا أَنْ أَعِيبَهَا أَمِيلُ بِإِحْدَى مُقْلَتَيَّ إِذَا بَدَتْ ... إليها وَبِالأُخْرَى أُرَاعِي رَقِيبَهَا وَقَدْ غَفَلَ الْوَاشِي وَلَمْ يَدْرِ أَنَّنِي ... أَخَذْتُ لِعَيْنِي مَنْ سُلَيْمَى نَصِيبَهَا (12) آخر: ثِقي بِالَّذِي فِي الْقَلْبِ مِنْكِ فَإِنَّهُ ... عَظِيمٌ لَقَدْ حَصَّنْتُ سِرِّكِ فِي سِرِّي (13) آخر: أُعَانِقُهَا وَالنَّفْسُ بَعْدُ مُشَوَّقَةً ... إليها وَهَلْ بَعْدَ الْعِنَاقِ تَدَانِي وَأَلْثِمُ فَاهَا كَيْ تَزُولَ حَرَارَتِي ... فَيَشْتَدُّ مَا أَلْقَى مِنَ الْهَيَمَانِي

(14) آخر: وَلَمَّا الْتَقَيْنَا وَالدُّمُوع سَوَاجِمٌ ... خَرَسْتُ وَطَرْفِي بِالْهَوَى يَتَكَلَّمُ حَوَاجِبُنَا تَقْضِي الْحَوَائِجِ بَيْنَنَا ... وَنَحْنُ سُكُوتٌ والْهَوى يَتَكَلَّمُ (15) آخر: تَسَاهَمَ ثَوْبَاهَا فَفِي الدِّرْعِ رَأدَةٌ ... وَفِي الْمِرْطِ لَفَّاوَانِ رِدْ فُهُمَا عَبْلُ فَوَاللهِ مَا أَدْرِي أزِيدَت مَلاحَةً ... وَحُسْنًا عَلَى النِّسْوَانِ أَمْ لَيْسَ لِي عَقْلُ آخر: لَئِنْ طَلَبُوا مِنِّي لِدَعْوَايَ شَاهَدًا ... فَإِنَّ شُهُودِي أَرْبَعٌ ثُمَّ أَرْبَعُ نَحُولٌ وَذُلٌّ وَاشْتِيَاقٌ وَغُرْبَةٌ ... وَوَجْدٌ وَأَشْجَانٌ وَصَدٌّ وَأَدْمُعُ آخر: أَمَا وَجَلالِ اللهِ لَوْ تَذْكُرِينَنِي ... كَذِكْرِيكِ مَا كَفَكَفْتِ لِلْعَيْنِ مَدْمَعَا فَقَالَتْ بَلَى وَاللهِ ذِكْرًا لَوْ أَنَّهُ ... يُصَبُّ عَلَى صُمِّ الصَّفَا لِتَصَدَّعَا آخر: سَلِبْتِ عِظَامِي كُلَّهَا فَتَرَكْتَهَا ... مُجَرَّدَةً تُضْحِي لَدَيْكَ وَتَحْضُرُ وَأَخْلَيْتَهَا مِنْ مُخِّهَا فَكَأَنَّهَا ... أَنَابِيبُ فِي أَجْوَافِهَا الرِّيحُ تَصْفُرُ إِذَا سَمِعِتْ بِاسْمِ الْحَبِيبِ تَقَعْقَعَتْ ... مَفَاصِلُهَا مِنْ خَوْفِ مَا هِيَ تَنْظُرُ خُذِي بِيَدِي ثُمَّ ارْفَعِ الثَّوْبِ تَنْظُرِي ... ضَنَى جَسَدِي لَكِنَّنِي أَتَسَتَّرُ وَلَيْسَ الَّذِي يَجْرِي مِنَ الْعَيْنِ مَاؤُهَا ... وَلَكِنَّهَا رُوحِي تَذُوبُ فَتَقْطُرُ آخر: وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكَ رَوْعَةٌ ... لَهَا بَيْنَ جِلْدِي وَالْعِظَامِ دَبِيبُ فَمَا هُوَ إِلا أَنْ أَرَاهَا فَجَاءَةً ... فَأُبْهَتُ حَتَّى لا أَكَادُ أُجِيبُ آخر: هَلِ الْحُبِّ إِلا زَفْرَةُ بَعْدَ زَفْرَةٍ ... وَحَرٌّ عَلَى الأَجْسَادِ لَيْسَ لَهُ بَرْدُ وَفَيْضُ دُمُوعِ تَسْتَهِلُّ إِذَا بَدَا ... لَنَا عَلَمٌ مِنْ أَرْضِكُمْ لَمْ يَكُنْ يَبْدُو

آخر: وَلَمَّا وَقَفْنَا وَالرَّسَائِلُ بَيْنَنَا ... دُمُوعٌ نَهَاهَا الْوُجْدُ أَنْ تَتَوَقَّفَا ذَكَرْنَا اللَّيَإلى فِي الْعَقِيقِ وَظِلَّهَا الْـ ... نِيقِ فَقَطَّعْنَ الْقُلُوبَ تَأَسُّفَا آخر: وَإِنِّي لَتَعْرُونِ لِذِكْرَاكَ هَزَّةٌ ... كَمَا انْتَفَضَ الْعُصْفُورُ بَلَّلَهُ الْقَطْرُ آخر: وَأَخْرَجُ مِنْ بَيْنِ الْبُيُوتِ لَعَلَّنِي ... أُحَدِّثُ عَنْكَ النَّفْسَ فِي السِّرِّ خَاليا آخر: لَيْتَنِي إِذْ رَأَيْتَهَا كُلِّي عُيُون ... فَبِعَيْنَيْنِ فَلَسْتُ مِنْهَا أَشْبَعُ آخر: لِي فِي مَحَبَّتِهَا شُهُودُ أَرْبَعٌ ... وَشُهُودُ كُلِّ قَضِيَّةٍ إثْنَانِ خَفَقَانُ قَلْبِي وَاضْطِرَابُ جَوَانِحِي ... وَنُحُولُ جِسْمِي وَانْعِقَادُ لِسَانِي آخر: حَمِِدْتُ إِلَهِي إِذْ بَلانِي بِحُبِّهَا ... عَلَى حَول أغْنَى عَنِ النَّظَرِ الشَّزَرِ نَظَرْتُ إليها وَالرَّقِيبُ يَظُنُّنِي ... نَظَرْتُ إليه فَاسْتَرَحْتُ مِنَ الْعُذْرِ أَتَبْكِي عَلَى لبْنَى وَأَنْتَ تَرَكْتها ... فَكُنْتَ كَآتٍ حَتْفِهِ وَهُوَ طَائِعُ فَيَا قَلْبُ خَبِرْنِي إِذَا شَطَّتِ النَّوَى ... بِلُبْنَى وَبَانَتْ عَنْكَ مَا أَنْتَ صَانِعُ وإليك من قصيدة طويلة قيل: إنه إدعاها شعراء كثيرون نقتصر على سياق بعضها خوف الملل لأنها حول المائة منها: ... خُذُوا بِدَمِّي ذَاتَ الْوِشَاحِ فَإِنَّنِي ... رَأَيْتُ بِعَيْن فِي أَنَامِلِهَا دَمِي وَلا تَقْتُلُوهَا إِنْ ظَفِرْتُمْ بِقَتْلِهَا ... وَلَكِنْ سَلُوهَا كَيْفَ حَلَّ لَهَا دَمِي وَقُولُوا لَهَا يَا مَنِيَّةَ النَّفْسِ إِنَّنِي ... قَتِيلُ الْهَوَى وَالْعِشْقِ لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِي آخر: لَوْ كَانَ لِي صَبْرُهَا أَوْ عِنْدَهَا جَزَعِي ... لَكُنْتُ أَمْلِكُ مَا آتِي وَمَا أَدَعُ إِذَا دَعَا بِاسْمِهَا دَاعٍ لِيُحْزِنَنِي ... كَادَتْ لَهُ شُعْبَةٌ مِنْ مُهْجَتِي تَقَعُ آخر: لَمْ يَبْقَ لِي بَعْدَكُمْ رَسْمٌ وَلا طَلَلُ ... إِلا وَلِلشَّوْقِ فِي حَافَاتِهِ عَمَلُ

إِذَا شَمَمْتُ نَسِيمًا مِنْ بِلادِكُمْ ... فَقَدْتُ عَقْلِي كَأَنِّي شَارِبٌ ثِمَلُ آخر: ... أَدِيرِ لِحَاظَ الْقَلْبِ فِيَّ لِتَنْظُرِي ... إِلَى مُفْلِسٍ مِنْ صَبْرِهِ عَنْكَ مُعْدِمِ وَلا تُرْسِلِي هَذِي اللَّوَاحَظَ كُلَّهَا ... فَوَاحِدَةٌ تَكْفِيكِ قَتْلَ الْمُتَيَّمِ آخر: أَقُولُ لِعَيْنِي حِينَ جَادَتْ بِدَمْعِهَا ... وَإِنْسَانُهَا فِي لُجَّةِ الدَّمْعِ يَغْرَقُ خُذِي بِنَصِيبٍ مِنْ مَحَاسِنِ وَجْهَهَا ... ذَرِي الدَّمْعَ لِلْيَوْمِ الَّذِي نَتَفَرَّقُ آخر: أَقُولُ لَهَا رُدِّي الْحَدِيثَ الَّذِي انْقَضَى ... وَذِكْرَاكِ مِنْ ذَاكَ الْحَدِيثِ أُرِيدُ يُجَدِّدُ تَذْكَارُ الْحَدِيثِ مَوَدَّتِي ... فَذِكْرُكِ عِنْدِي وَالْحَدِيثُ جَدِيدُ أُنَاشِدُهَا إِلا تُعِيدُ حَدِيثَهَا ... كَأَنِّي بَطِيءُ الْفِهْمِ حِينَ تَعِيدُ آخر: أَفْدِي بِرُوحِي مَنْ شَبَّهْتُ طَلْعَتَهَا ... بِطَلْعَتِ الشَّمْسِ فَاغْتَاضَتْ لَتَشْبِيهِي قَالَتْ أَللشَّمْسِ طَرْفٌ مِثْلُ طَرْفِي ذَا ... إِنْ كُنْتَ تَفْهَمُ مَعْنَى مِنَ مَعَانِيهِ أَوْ هَلْ بِهَا مِثْلُ خَدِّي فِي تَوَرُّدِهِ ... أَوْ هَلْ لهََََا مِثْلُ قَدّ فِي تَثَنِّيهِ آخر: ... يَعُدُّ عَلَيَّ الْوَاشِيَانِ ذُنُوبَهَا ... وَمِنْ أَيْنَ لِلْوَجْهِ الْمَلِيحِ ذُنُوبُ آخر: وَإِيَّاكَ ذِكْرَ الْعَامِرِيَّةِ إِنَّنِي ... أَغَارُ عَلَيْهَا مِنْ فَمِ الْمُتَكَلِّمِ أَغَارُ عَلَيْهَا مِنْ أَبِيهَا وَأُمِّهَا ... وَمِنْ مَضَغِةِ الْمِسْوَاكِ إِذَا مُصَّ فِي الْفَمِ أَغَارُ عَلَى أَعْطَافِهَا مِنْ ثِيَابِهَا ... إِذَا وَضَعَتْهَا فَوْقَ جِسْمٍ مُنَعَّمِ وَأَحْسُدُ كَاسَاتٍ يُقَبِّلْنَ تَغْرَهَا ... إِذَا وَضَعَتْهَا مَوْضِعَ اللَّثْمِ فِي الْفَمِ عِرَاقِيَّةُ الأَطْرَافِ مَكِّيَّةُ الْحَشَا ... حِجَازِيَّةُ الْعَيْنَيْنِ طَائِيَةُ الْفَمِ ومنها: لَهَا حُكْمُ لُقْمَانٍ وَصُورَةُ يُوسُفٍ ... وَنَغَمَةُ دَاوُودٍ وَعِفَّةُ مَرْيَمِ وَلِي ضُرُّ أَيُّوبٍ وَوَحْشَةُ يُونُسٍ ... وَأَحْزَانُ يَعْقُوبٍ وَحَسْرَة آدَمِ

آخر: وَاللهِ مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَلا غَرَبَتْ ... إِلا وَأَنْتِ مُنَى قَلْبِي وَوَسْوَاسِي وَلا جَلَسْتُ إِلَى قَوْمِ أُحَدِّثُهُمْ ... إِلا وَأَنْتِ حَدِيثِي بَيْنَ جُلاسِي وَلا هَمَمْتُ بِشُرْبِ الْمَاءِ مِنْ عَطَشٍ ... إِلا رَأَيْتَ خَيَالاً مِنْكِ فِي الْكَأْسِ آخر: ... رُوحِي إليكِ بِكُلِّهَا قَدْ أَجْمَعَتْ ... لَوْ كَانَ فِيكِ هَلاكُهَا مَا أَقْلَعَتْ تَبْكِي عَلَيْكَ بكُلِهَا عَنْ كُلَّهَا ... حَتَّى يُقَالُ مِنَ الْبُكَاءِ تَقَطَّعَتْ آخر: ... وَلِي عَبَرَاتٌ تَسْتَهِلُّ صَبَابَةٌ ... عَلَيْكَ إِذَا بَرْقُ الْغَمَامَ تَأَلَّقَا أَلِفْتُ الْهَوَى حَتَّى حَلَتْ لِي صُرُوفُهُ ... وَرُبَّ نَعِيمٍ كَانَ جَالِبُهُ شَقَا وَأَذْهَلُ حَتَّى أَحْسِبُ الصَّدَّ وَالنَّوَى ... بِمُعْتَرَكِ الذِّكْرَى وِصَالاً وَمُلْتَقَى فَهَا أَنَا ذُو حَإلينِ أَمَّا تَلَذُّذِي ... فَحَيُّ وَأَمَا سَلْوَتِي فَلَكِ الْبَقَا آخر: مَا كَانَ ضَرَّكَ يَا شَقِيقَةَ مُهْجَتِي ... لَوْ أَنْ بَعَثْت تَحِيَّةً تُحْيِينِي ... زكي جَمَالاً أَنْتَ عَنْهُ غَنِيَّةٌ ... وَتَصَدَّقِي مِنْهُ عَلَى الْمِسْكِينِ آخر: ... وَرَأَيْتُهَا فِي الطَّرْسِ تَكْتُبُ مَرَّةً ... غَلَطًا وَتَمْحُو خَطَّهَا بِرَضَا بِهَا فَوَدِدْتُ لَوْ أَنِّي أَكُونُ صَحِيفَةً ... وَوَدِدْتُ أَنْ لا تَهْتَدِي لِصَوَابِهَا آخر: ... أَمْسِي وَأُصْبِحُ مِنْ تَذْكَارِكمْ قَلِقًا ... يَرْثِي لِي الْمُشْفِقَانِ الأَهْلِ وَالْوَلَدُ قَدْ خَدَّدَ الدَّمْعُ خَدِّي مِنْ تَذَكُّرِكُمْ ... وَاعْتَادَنِي الْمُضْنِيَانِ الشَّوْقُ وَالْكَمَدُ وَغَابَ عَنْ مُقْلَتِي نَوْمِي فَنَافَرَهَا ... وَخَانَنِي الْمُسْعِدَانِ الصَّبْرُ وَالْجَلَدُ لا غُرْوَ لِلدَّمْعِ أَنْ تَجْرِي غَوَارِبُهُ ... وَتَحْتَهُ الْخَافِقَانِ الْقَلْبُ وَالْكَبِدُ كَأَنَّمَا مُهْجَتِي نِضْؤُ بِبَلْقَعَةٍ ... يَعْتَادَهُ الضَّارِيَانِ الذِّئْبُ وَالأَسَدُ لَمْ يَبْقَ إِلا خَفِيُّ الرُّوحِ فِي جَسَدِي ... فِدَاؤُكِ الْبَاقِيَانِ الرُّوحُ وَالْجَسَدُ آخر: ... رُدُّوا الْمَطِيَّ وَإِلا رَدَّهَا نَفَسِي ... وَأَدْمُعِي فَهُمَا سَيْلٌ وَنِيرَانُ

يَا سَائِقَ الظَّعْنِ قَلْبِي فِي رِحَالِكُمُوا ... أَمَانَةٌ رَعْيُهَا وَالْحِفْظُ إِيمَانُ آخر: ... وَكَانَ فُوَآدِي خَإليا قَبْلَ حُبِّكُمْ ... وَكَانَ بِذِكْرِ الْخَلْقِ يَلْهُو وَيَمْرَحُ فَلَمَّا دَعَى قَلْبِي هَوَاكَ أَجَابَهُ ... فَلَيْسَ آرَاهُ عَنْ فِنَائِكِ يَبْرَحُ رُمِيتُ بِبُعُدٍ مِنْكَ إِنْ كُنْتُ كَاذِبًا ... وَإِنْ كُنْتُ فِي الدُّنْيَا بِغَيْرِكَ أَفْرَحُ فَإِنْ شِئْتَ وَاصَلْتِي وَإِنْ شِئْتِ فَاقْطَعِي ... فَلَسْتَ أَرَى قَلْبِي لِغَيْرِكِ يَصْلَحُ آخر: ... وَإِنِّي إِذَا اصْطَكَتْ رِقَابُ مَطِيِّكُمْ ... وَثِوَّرِ حَادٍ بِالرِّفَاقِ عَجُولُ أُخَالِفُ بَيْنَ الرَّاحَتَيْنِ عَلَى الْحَشَا ... وَأنْظُرُ أَنِّي مِلْتُمُ فَأَمِيلُ آخر: ... وَفِي حُبِّ ذَاتِ الْحَالَ لامَتْ عِصَابَةٌ ... يَظُنُّونَ أَنِّي لَسْتُ بِالرُّوحِ أَسْمَحُ يَقِيسُونَ حَإلى فِي الْغَرَامِ بِحَالِهِمْ ... وَكُلُّ إِنَاءٍ بِالَّذِي فِيهِ يَنْضَحُ آخر: ... وَعِزَّةِ اللهِ مَا لِي عَنْكُم عَوَضٌ ... وَلَيْسَ لِي بِسِوَاكُمْ بَعْدَكُمْ غَرَضُ وَمِنْ حَدِيثِي بِكُمْ قَالُوا بِهِ مَرَضٌ ... فَقُلْتُ لا زَالَ عَنِّي ذَلِكَ الْمَرضُ آخر: ... فَفِي بُعْدِهَا عَنِّي وَفَاتِي وَقُرْبِهَا ... حَيَاتِي وَإِسْعَادِي وَنَيْلُ مَرَامِي ... وَمِنْ وَجْنَتَيْهَا نَارٌ وُجْدِي وَخِصْرُهَا ... نُحُولِي وَمِنْ سُقْمِ الْجُفُونِ سِقَامِي فَكُنْ عَاذِرِي يَا عَاذِلِي فَدَلالُهَا ... دَلِيل عَلَى وِجْدِي بِهَا وَغَرَامِي آخر: ... تَجُولُ خَلاخِيلُ النِّسَاءُ وَلا أَرَى ... لِرَمْلَةَ خِلْخَالاً يَجُولُ وَلا قُلْبَا أُحِبُّ بَنِي الْعَوَامِ مِنْ أَجْلِ حُبِّهَا ... وَمِنْ أَجْلِهَا أَحْبَبْتُ أَخْوَالَهَا كَلْبَا آخر: ... نَالَتْ عَلَى يَدِهَا مَا لَمْ تَنَلْهُ يَدِي ... نَقْشًا عَلَى مِعْصَمٍ أَوْهَتْ بِهِ جَلَدِي كَأَنَّهُ طُرْقُ نَمْل فِي أَنَامِلِهَا ... أَوْ رَوْضَةٌ رَصَّعَتْهَا السُّحْبُ بِالْبَرْدِ سَأَلْتُهَا قَالَتْ لا تَكُنْ عَبِثًا ... مَنْ رَامَ مِنَّا وِصَالاً مَاتَ بِالْكَمَدِ

إلى أن قال: وَاسْتَرْجَعَتْ سَأَلَتْ عَنِّي فَقِيلَ لَهَا ... مَا فِيهِ مِنْ رَمَقٍ دَقَّتْ يَدًا بِيَدِي آخر: ... يَا مُنْيَةَ الْقَلْبِ مَاجِيدِ بِمُنْعَطِفٍ ... إِلَى سِوَاكَ وَلا حَبْلِي بِمُنْقَادِ لَوْلا الْمَحَبَّةُ مَا أَكْثَرْتُ ذِكْرَكُمُ ... وَلا سَأَلْتُ حَمَامَ الرُّوحِ إِسْعَادِي وَلا وَقَفْتُ عَلَى الْوَادِي أُسَائِلُهُ ... بِالدَّمْعِ حَتَّى رَثَى سَاكِنُ الْوَادِي آخر: ... مَا أَقْتلَ الْحُبِّ وَالإِنْسَانُ يَجْهَلُهُ ... وَكُلُّ مَا لَمْ يَذُقْهُ فَهُوَ مَجهُولُ رَاحَ الرُّمَاةُ إِلَى بَعْضِ الْمَهَا فَإِذَا ... بَعْضُ الرُّمَاةِ بِبَعْضِ الصَّيْدِ مَقْتُولُ آخر: ... إِذَا وَصِلْتُمْ إِلَى وَادِي الْمُحِبِّ سَلُو ... عَنْ حَالِ مُنْقَطِعِ أَوْدَى بِهِ السَّهَرُ وَفَتِّشُوا عَنْ فُؤَادٍ هَائِمٍ قَلِقٍ ... قَدْ ضَاعَ مِنِّي فَلا عَيْنٌ وَلا أَثَرُ آخر: وَدَّعْتَ قَلْبِي حِينَ وَدَّعْتُهُمْ آخر: ... عَشَقْتُكِ طِفْلاً وَاتَّخَذْتُكِ سَيِّدًا ... فَجَرَّعْتِنِي بِالصَّدِّ فَاتِحَةَ الرَّعْدِ فَبِاللهِ دَاوِينِي كَمَا قَدْ جَرَحْتِنِي ... بِفَاتِحَةِ الأَعرَافِ مِنْ رِيقِكِ الشَّهْدِ يريد بفاتحة الرعد رسم السورة لأن رسمها (المر) وبفاتحة الأعراف لأن رسمها (المص) يريد مص لسان المعشوقة لتزول حرارة الشوق والوَجَدَ والحرمان. آخر: ... وَلَوْ أَنَّ مَا بِي مِنْ جَوَى وَصَبَابَةٍ ... عَلَى جَمَلٍ لَمْ يَدخل النَّارَ كَافِرُ

إشارة إلى قول الله جَلَّ وَعَلا: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} . آخر: ... حَمَلْتُ جِبَالَ الْحُبِّ فِيكِ وَإِنَّنِي ... لأَعْجَزُ عَنْ حَمْلِ الْقَمِيصِ وَأَضْعُفُ وَمَا الْحُبُّ مِنْ حُسْنٍ وَلا مِنْ سَمَاحَةٍ ... وَلَكِنَّهُ شَيْءٌ بِهِ الرُّوحُ تَكْلَفُ

آخر: ... لَوْ عَايَنَتْ عَيْنَاك حسْنُ مُسَقِمَتِي ... مَا لَمَّتْنِي وَلَكُنُتْ أَوَّلُ مَنْ عَذَرْ عَيْنُ الرَّشَاقَدُّ النَّقَارِدْفُ النَّقَا ... شَعْرُ الدُّجَى شَمْسُ الضُّحَى وَجْهُ الْقَمَرْ آخر: ... أَقُولُ وَقَدْ جَدَّ الْغَرَامُ بِمُهْجَتِي ... وَفَاضَتْ جُفُونِي بَعْدَ أَدْمُعِهَا دَمَا إِذَا شِئْتَ أَنْ تَلْقَى مِنَ النَّاسِ مَيْتًا ... عَلَى صُورَةِ الأَحْيَاءِ فاَلْقَى مُتَيَّمَا آخر: ... وَأَنْتَ الَّذِي مَا مِنْ صَدِيقٍ وَلا أَخٍ ... يَرَى نِضْوَمَا أَبْقَيْتِ إِلا أَوَى لِيَا أُحِبُّ مِنَ الأَسْمَاءِ مَا وَافَقَ اسْمَهَا ... وَأَشْبَهَهُ أَوْ كَانَ مِنْهُ مُدَانِيَا وَإِنِّي لا أَسْتَنْعِسْ وَمَا بِي نِعْسَةٌ ... لَعَلَّ خَيَالاً مِنْكِ يَلْقَى خَيَاليا هِيَ السِّحْرُ إِلا أَنَّ لِلسِّحْرِ رُقْيَة ... وَإِنِّي لا أَلْقَى لِسِحْرِي رَاقِيَا إِذَا نَحْنُ أَدْلَجْنَا وَأَنْتَ أَمَامَنَا ... كَفَى لِمَطَايَانَا بِذِكْرِكَ هَادِيَا إلى أن قال: عَلَى مِثْلِ لَيْلَى يَقْتُلُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ ... وَإِنْ كَانَ مِن لَيْلَى عَلَى الْهَجْرِ طَاوِيَا آخر: ... أَعِدُّ اللَّيَالي لَيْلَةٍ بَعْدَ لَيْلَةٍ ... وَقَدْ عِشْتُ دَهْرًا لا أَعُدُّ اللَّيَاليا وَأَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الْبُيُوتِ لَعَلَّنِي ... أُحَدِّثُ عَنْكَ النَّفْسَ بِاللَّيْلِ خَاليا آخر: ... وَلَمَّا دَنَى مِنِّي السِّيَاقُ تَعَطَّفَتْ ... عَليَّ وَعِنْدِي عَنْ تَعَطُّفِهَا شُغْلُ أَتَتْ وَحِيَاضُ الْمَوْتِ بَيْنِي وَبَيْنِهَا ... وَجَادَتْ بِوَصْل حِينَ لا يَنْفَعُ الْوَصْلُ وَاسْمَعْ إلى قول أحد العشاق المبالغين في الكذب واسأل ربك العافية. كُلُّ الْعَذَابِ الَّذِي فِي النَّاس مُسْتَرَقٌ ... مِمَّا بِقَلْبِي مِنْ شَوْقٍ وَتَذْكَارِ لَوْلا مَدَامِعُ عُشَّاقٍ وَلَوْعَتُهُمْ ... لَبَانَ فِي النَّاسِ عِزُّ الْمَاءِ وَالنَّارِ

.. فَكُلُّ نَار فَمَنْ أَنْفَاسِهِمْ قَدَحَتْ ... وَكُلُّ مَاء فَمِنْ دَمْعِ لَهُمْ جَارِي آخر: ... سَأَلْتُهَا عَنْ فُوَآدِي أَيْنَ مَوْضِعُهُ ... فَإِنَّهُ ضَلَّ عَنِّي عِنْدَ مَسْرَاهَا قَالَتْ لَدَيْنَا قُلُوبٌ جَمَّةٌ جُمِعَتْ ... فَأَيُّهَا أَنْتَ تَعْنِي قُلْتُ أَشْقَاهَا

آخر: ... وَمِنْ عَجَبٍ أَنْ يَحْرِسُوكِ بِخَادِمٍ ... وَخُدَّامُ هَذَا الْحُسْنِ مِنْ ذَاكَ أَكْثَرُ عِذَارُكِ رَيْحَانٌ وَثَغْرُكِ جَوْهَرٌ ... وَخَدُّكِ يَاقُوتٌ وَخَالُكِ عَنْبَرُ آخر: ... بَدا لِي مِنْهَا مِعْصَمٌ حِينَ جَمَّرتْ ... وَكَفٌّ خَضِيبٌ زُيِّنَتْ بِبَنَانِ فَوَاللهِ مَا أَدْرِي وَإِنْ كُنْتُ دَارِيَا ... بِسَبْعِ رَمَيْن الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ آخر: ... وَكُنْتُ كَذَبَّاحِ الْعَصَافِيرِ دَائِبًا ... وَعَيْنَاهُ مِنْ وَجْدِ عَلَيْهِنَّ تُهْمِلُ فَلا تَنْظُرِي لَيْلَى إِلَى الْعَيْنِ وَانْظُرِي ... إِلَى الْكَفِّ مَاذَا بِالْعَصَافِيرِ تَفْعَلُ آخر: ... فَلَوْ كَانَ لِي قَلْبَانِ عِشْتُ بِوَاحِدٍ ... وَخَلَّيْتُ قَلْبًا فِي هَوَاكِ يُعَذَّبُ وَلَكِنَّمَا أَحْيَا بِقَلْبٍ مُرَوَّعِ ... فَلا الْعَيْشُ يَصْفُو لِي وَلا الْمَوْتُ يَقْرُبُ تَعَلَّمْتُ أَلْوَانَ الرِّضَا خَوْفَ سُخْطِهَا ... وَعَلَّمَهَا حُبِّي لَهَا كَيْفَ تَغْضَبُ آخر: ... جَرَى السَّيْلُ فَاسْتَبْكَانِي السَّيْلُ إِذْ جَرَى ... وَفَاضَتْ لَهُ مِنْ مُقْلَّتِي غُرُوبُ وَمَا ذَاكَ إِلا أَنْ تَيَقَنْتُ أَنَّنِي ... أَمُرُّ بِوَادِ أَنْتَ مِنْهُ قَرِيبُ آخر: ... أُسِرُّ الَّذِي بِي وَالدُّمُوعُ تَبُوحُ ... وَجِسْمِي سَقِيمٌ وَالْفُؤَادُ قَرِيحُ وَبَيْنَ ظُلُوعِي لَوْعَةٌ لَمْ أَزَلْ بِهَا ... أَذُوبُ إِشْتِيَاقًا وَالْفُؤَادُ صَحِيحُ آخر: ... عَلَقْتُ الْهَوَى مِنْهَا وَلِيدًا فَلَمْ يَزَلْ ... إِلَى اليوم يَنْمِي حُبُّهَا وَيَزِيدُ إِذَا قُلْتُ مَا بِي يَا بُثَيْنَةُ قَاتِلِي ... مِن الْحُبِّ قَالَتْ ثَابِتٌ وَيَزِيدُ وَإِنْ قُلْتُ رُدِّي بَعْضَ عَقْلِي أَعِشْ بِهِ ... مَعَ النَّاسِ قَالَتْ ذَاكَ مِنْكَ بَعِيدُ آخر: ... وَإِنِّي لَمُشْتَاقٌ إِلَى رِيحِ جَيْبِهَا ... وَحَلَّتْ مَكَانًا لَمْ يَكُنْ حُلَّ مِنْ قَبْلُ

آخر: ... مَحَا حُبُّهَا حُبَّ الأُولى كُنَّ قَبْلَهَا ... وحَلَّتْ مَكَانًا لم يَكُنْ حُلَّ مِنْ قَبْلُ آخر: ... لَيْلَى وَلَيْلِي نَفَى نَوْمِي اخْتِلافَهُمَا ... فِي الطَّوْلِ وَالطَّوْلِ طُوبَى لِي لَوْ اعْتَدَلا ... يَجُودُ بِالطُّولِ لَيلِي كُلَّمَا بَخِلَتْ ... بِالطَّوْلِ لَيْلَى وَإِنْ جَادَتْ بِهِ بَخِلا بِرَغْمِي أُطِيلُ الصَّدَّ عَنْهَا إِذَا نَأَتْ ... أُحَاذِرُ أَسْمَاعًا عَلَيْهَا وَأَعْيُنَا أَتَانِي هَوَاهَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الْهَوَى ... فَصَادَفَ قَلْبًا خَإليا فَتَمَكَّنَا نَهَارِي نَهَارُ النَّاسِ حَتَّى إِذا بَدَا ... لِيَ اللَّيْلُ هَزَّتْنِي إليكِ الْمَضَاجِعُ أَقَضِي نَهَارِي بِالْحَدِيثِ وَبِالْمُنَى ... وَيَجْمَعُنِي وَالْهَمَّ بِاللَّيْلِ جَامِعُ آخر: ... وَلَمَّا شَكَوْتُ الْحُبَّ قَالَتْ كَذَبتني ... فَمَا لِي أَرَى الأَعْضَاءَ مِنْكَ كَوَاسِيَا فَلا حُبَّ حَتَّى يَلْصَقُ الْجِلْدُ بِالْحَشَا ... وَتَذْهل حَتَّى مَا تُجِيبَ الْمُنَادِيَا آخر: ... وَمِمَّا دَهَانِي أَنَّهَا يَوْمَ أَعْرَضَتْ ... تَوَلَّتْ وَمَاءَ الْعَيْنِ فِي الْجِفْنِ حَائِرُ فَلَمَّا أَعَادِتْ مِنْ بَعِيدٍ بِنَظْرَةٍ ... إلى الْتِفَاتًا أَسْبَلَتْهُ الْمَحَاجِرُ آخر: ... وَلَكِنَّمَا أَفْشَاهُ دَمْعِي وَرُبَّمَا ... أَتَى الْمَرْءُ مَا يَخْشَا مِنْ حَيْثُ لا يَدْرِي آخر: ... لا وَالَّذِي جَعَلَ الْغُصُونَ مَعَاطِفًا ... لَهُمُوا وَصَاغَ الأَقْحُوانَ ثُغُورَا مَا مَرَّ رِيحُ الصِّبَا مِنْ أَرْضِهِمْ ... إِلا شَهِقْتُ لَهُ فَعَادَ سَعِيرَا آخر: ... رَمَتْنِي وَاسْتَتَرَتْ فِي خِدْرِهَا كَذَ ألْ ... قَنَّاصُ إِنْ رَامَ صَيْد الآبَدِ اسْتَتَرا فَرُبَّ صَبٍّ تَمَنَّى أَنَّهُ حَجَرٌ ... فِي الْبَيْتِ حِينَ أَكَبَّتْ تَلْثُمُ الْحَجَرا آخر: ... لِي فِي الْقُدُودِ وَفِي ضَمِّ النُّهُودِ وَفِي ... لَثْمِ الْخُدُودِ لُبَانَاتٌ وَأَوْطَارُ هَذَا اخْتِيَارِي فَوَافِقْ إِنْ رَضِيتَ بِهِ ... أَوْ لا فَدَعْنِي وَمَا أَهْوَى وَأَخْتَارُ لُمْنِي جُزَافًا وَسَامِحْنِي مُصَارَفَةً ... فَالنَّاسُ فِي دَرَجَاتِ الْحُبِّ أَطْوَارُ آخر: ... بَدَا فَأَرَانِي الظَّبْيَ وَالْغُصْنَ وَالْبَدْرَا ... فَتَبًّا لِقَلْبٍ لا يَبِيتُ بِهِ مُغْرَا

بَدِيعُ جَمَالٍ كُلَّمَا فِيهِ مُعْجِزٌ ... مِنَ الْحُسْنِ لَكِنْ وَجْهُهَا الآيَةُ الْكُبْرَى أَقَامَ بِلالُ الْخَال فِي صَحْنِ خَدِّهَا ... يُرَاقِبُ مِنْ لألاءِ غُرَّتَهَا الْفَجْرَا آخر: ... يُذَكِّرِنِي عَهْدَ النَّجَاشِي خَالُهَا ... وَأَجْفَانُهَا الْوَسْنَى تُذَكِّرُنِي كِسْرَى يَمِيلُ بِهَا خَمْرُ الدَّلالِ كَأَنَّمَا ... مَعَاطِفَهَا مِنْ خَمْرِ ألْحَاضِهَا سَكْرَى آخر: ... وَمَنْ لِي بِجِسْمٍ أَشْتَكِي مِنْهُ بِالْفَنَا ... وَقَلْبٍ فَأَشْكُو مِنْهُ بِالْخَفَقَانِ وَمَا عِشْتُ حَتَّى الآنَ إِلا لأَنَّنِي ... خَفِيتُ فَلَمْ يَدْرِ الْحِمَامُ مَكَانِي وَلَوْ أَنَّ عُمْرِي عُمْرُ نُوحٍ وَبِعْتُهُ ... بِسَاعَةِ وَصْلٍ مِنْكَ قُلْتُ كَفَانِي إِذَا إليأْسُ نَاجَى النَّفْسَ مِنْكَ بِلَنْ وَلا ... أَجَابَتْ ظُنُونِي رُبَّمَا وَعَسَانِي آخر: ... أَضُمُّ عَلَى الدَّاءِ الدَّفِينِ جَوَانِحِي ... وَأُظْهِرُ مِنْ خَوْفِ الرَّقِيبِ بَشَاشَتِي وَلَيْسَ تَلافِي مُذْ رُمِيتُ بِهَجْرِهَا ... عَجِيبٌ وَلَكِنَّ الْعَجِيبَ سَلامَتِي لَهَا قَدُّ عَسَّالٍ وَحُسْنُ مُعَتَّقٍ ... وَلِي قَلْبُ مَحْزُونٍ وَنَظْرَةُ بَاهِتِ آخر: ... وَلَمَّا التَقَيْنَا وَالنَّوَى وَرَقِيبُنَا ... غَفُلانِ عَنَّا ظِلْتُ أَبْكِي وَتَبْسِمُ فَلَمْ أَرَ بَدْرًا ضَاحِكًا قَبْلَ وَجْهِهَا ... وَلَمْ تَرَ قَبْلِي مَيِّتًا يَتَكَلَّمُ ظَلُومٌ كَمَتْنَيْهَا لِصَبٍّ كَخَصْرِهَا ... ضَعِيفِ الْقُوَى مِنْ فِعْلِهَا يَتَظَلَّمُ بِفَرِعٍ يُعِيدُ اللَّيْلَ وَالصُّبْحُ نَيِّرٌ ... وَوَجْهٍ يُعِيدُ الصُّبْحَ وَاللَّيْلُ مُظْلِمُ آخر: ... أَثَافٍ بِهَا مَا بِالْفُؤَادِ مِنَ الصَّلَى ... وَرَسْمٌ كَجِسْمِي نَاحِلٌ مُتَهَدِّمُ قَالُوا عَهِدْنَاكَ مِنْ أَهْلِ الرَّشَادِ فَمَا ... أَغْوَاكَ قُلْتُ اطْلُبُوا مِنْ لَحْظِهَا السَّبَبَا مَنْ صَاغَهَا اللهُ مِنْ مَاءِ الْحَيَاةِ وَقَدْ ... أَجْرَى بَقِيَّتُهَا فِي ثَغْرِهَا شَنَبَا مَاذَا تَرَى فِي مُحِبٍّ مَا ذُكَرْتِ لَهُ ... إِلا بَكَى أَوْ شَكَا أَوْ حَنَّ أَوْ طَرِبَا كَمْ لَيْلَةٍ بِتُّهَا وَالنَّجْمُ يَشْهَدُ لِي ... رَهِينَ شَوْقٍ إِذَا غَالَبْتُهُ غَلَبَا آخر: ... فَيَا حُسْنَنَا وَالدَّمْعُ بالدَّمْعِ وَاشُجٌ ... نُمَازِجُهُ وَالْخَدُّ بِالْخَدِّ مُلْصَقُ

وَقَدْ ضَمَّنَا وَشْكُ التَّلاقِي وَلَفَّنَا ... عِنَاقٌ عَلَى أَعْنَاقِنَا ثُمَّ ضَيِّقُ فَلَمْ تَرَ إِلا مُخْبِرًا عَنْ صَبَابَةٍ ... بِشَكْوَى وَإِلا عِبْرَةً تَتَرَقْرَقُ وَمِنْ قُبَلٍ قَبْلَ التَّلاقِي وَبَعْدَهُ ... تَكَادُ بِهَا مِنْ شِدَّةِ اللَّثْمِ نَشْرقُ آخر: ... كَيْفَ التَخَلُّصُ وَالْجُفُونُ نَوَاعِسٌ ... وَبِمَا التَّسَلِّي وَالْقُدُودُ رِشَاقُ وَأُحِبُّ تَلْسَعُنِي عَقَارِبُ صُدْغِهَا ... عِلْمًا بِأَنَّ رُضَا بَهُا تِرْيَاقُ آخر: ... وَمَهْزُوزَةٍ هَزَّ الْقَضِيبِ إِذَا مَشَتْ ... تَثَنَّتْ عَلَى دَلٍّ وَحُسْنِ قَوَامِي أَحَلَّتْ دَمِي مِنْ غَيْرِ جُرْمٍ وَحَرَّمَتْ ... بِلا سَبَبٍ يَوْمَ اللِّقَاءِ كَلامِي فُؤُادِي مَا أَبْقَيْتِ مِنِّي فَإِنَّهُ ... حُشَاشَةُ نَفْسٍ فِي نُحُولِ عِظَامِ آخر: ... وَلَمْ أَنْسَ ضَمِّي لِلْحَبِيبِ عَلَى رِضَا ... وَرَشْفِي رُضَابًا كَالرَّحِيقِ الْمُسَلْسَلِ وَلا قَوْلَهَا لِي عِنْدَ تَقْبِيلِ خَدِّهَا ... تَنَقَّلْ فَلَذَّاتُ الْهَوَى فِي التَّنَقُّلِ آخر: ... دُرِّيَةُ الْقَصْرِ لَوْلا سِمْطُ مَنْطِقِهَا ... وَظَبْيَةُ الْقَفْرِ لَوْلا الْحَلْيُ وَالْعَطَلُ سِيَّانَ بِيضُ ثَنَايَاهَا إِذَا ضَحَكَتْ ... وَمَبْسَمَ الْبَرْقِ لَوْلا النَّظْمُ وَالرَّتَلُ فُرْسَانُ طَعْنٍ وَضَرْبٍ غَيْرَ أَنَّهُمْ ... أَمْضَى سِلاحِهِمْ الْقَامَاتَ وَالْمُقَلُ شَوْسٌ عَلَى الشُّوسِ بِالْبَيْضِ الرِّقَاقِ سَطَوْا ... وَبِالْجُفُونِ عَلَى أَهْلِ الْهَوَى حَمَلُوا آخر: ... لَهَا خَالٌ عَلَى صَفَحَاتِ خَدٍّ ... كَنَقْطَةِ عَنْبَرٍ فِي صِحْنِ مَرْمَرْ وَأَجْفَانٍ بِأَسْيَافٍ تُنَادِي ... عَلَى عَاصِي الْهَوَى اللهُ أَكْبَرْ آخر: ... تَصَبَّرْتَ عَنْهُمْ وَانْثَنَيْتُ إليهم ... وَلَمْ يَبْقَ فِي قوْس التَّصَبّرُ مَنْزَعُ فَلا حَاجِزٌ بَيْنَ الأَحِبَّةِ حَاجِزٌ ... وَلا لَعْلَعٌ مُذْ فَارَقَ الْحَيُّ لَعْلَع

لَهَا مِنْ مَهَاةِ الرَّمْلِ عَيْنٌ مَرِيضَةٌ ... وَجِيدٌ كَجِيدِ الظَّبِي أَغِيدُ أَتْلَعُ وَلا عَجَبٌ فَالبُخْل فِي الْغِيدِ وَالدُّمَى ... طَبِيعَةُ نَفْسٍ لَيْسَ فِيهَا تَصَنُّعُ آخر: ... تَمِيسَ إِذَا عَايَنْتُ غُصْنَ قَوَامِهَا ... وَتَكْسِرُ كَسْرَاتِ الْجُفُونِ تَحَرُّشَا وَلِي دَهْشَةُ السَّاهِي إليها إِذَا بَدَتْ ... وَلَمْ تُبْدِ ذَاكَ الْخَدَّ إِلا لِتُدْهِشَا سَرَتْ فَوْقَ خَدَّيْهَا مِيَاهُ جَمَالِهَا ... فَمُدَّ مِن الأَصْدَاغ كَرْمًا مُعَرَّشَا وَشَى النَّاسُ أَنِّي فِي هَوَاهَا مُتَيَّمٌ ... لَقَدْ صَدَقَ الْوَاشِي النَّمُومُ بِمَا وَشَى آخر: ... دَعُوا الْوُشَاةَ وَمَا قَالُوا وَمَا نَقَلُوا ... بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مَا لَيْسَ يَنْفَصِلُ لَهَا سَرَائِرُ فِي قَلْبِي مُخَبَّأَةٌ ... لا الْكُتُبُ تَنْفَعُنِي فِيهَا وَلا الرُّسُلُ آخر: ... هَزُّوا الْقُدُودَ وَأَرْهَفُوا سَمْر الْقَنَا ... وَتَقَدَّمُوا عَوض السُّيُوفِ الأَعْيُنَا ... وَتَقَدَّمُوا لِلْعَاشِقِينَ فَكُلُّهُمْ ... أَخَذَ الأَمَانَ لِنَفْسِهِ إِلا أَنَا يَا قَلْبَهَا الْقَاسِي وَرِقَّةَ خِصْرِهَا ... هَلا انْتَقَلْتِ مِنْ هُنَاكِ إِلَى هُنَا لما انْثَتْ فِي حُلَّةٍ مِنْ سُنْدُسٍ ... قَالَتْ غُصُونُ الْبَانِ مَا أَبْقَتْ لَنَا وَبِخَدِّهَا وَبِشَعْرِهَا وَعِذَارِهَا ... مَعْنَى الْعَقِيقِ وَبَارِقٍ وَالْمُنْحَنَى آخر: ... مَا كُنْتُ أَعْرَفُ مَا مِقْدَارَ وَصْلُكِ لِي ... حَتَّى هَجَرْتِ وَبَعْضُ الْهَجْرِ تَأْدِيبُ أَرْضَى وَأَسْخَطُ أَوْ أَرْضَى تَلَوُّنَهَا ... وَكُلُّ مَا يَفْعَلْ الْمَحْبُوبُ مَحْبُوبُ آخر: ... وَمَنْ كَانَ ذَا صَبْوَةٍ بِالْمِلاحْ ... فَلا يَطْعَمُ النَّوْمَ إِلا قَلِيلْ بِرِدْفٍ ثَقِيلٍ وَخِصْرٍ نَحِيلْ ... وَخَدٍّ أَسِيلٍ وَطَرْفٍ كَحِيلْ وَتِلْكَ الْقُدُودِ وَتِلْكَ الْعُيُونْ ... فَكَمْ مِنْ جَرِيحٍ وَكَمْ مِنْ قَتِيلْ

آخر: ... وَمَا هَجَرَتْكِ النَّفْسُ أَنَّكِ عِنْدَهَا ... قَلِيلٌ وَإِنْ قَدْ قَلَّ مِنْكِ نَصِيبُهَا وَلَكِنَّهُمْ يَا أَجْمَلَ النَّاسِ أُولِعُوا ... بِقَوْلٍ إِذَا مَا زُرْتُ هَذَا حَبِيبُهَا آخر: ... وَأَمَرُّ مَا لاقَيْتُ مِنْ أَلَمِ الْهَوَى ... قُرْبُ الْحَبِيبِ وَمَا إليه وُصُولُ كَالْعَيْسِ فِي الْبِيدَاءِ يَقْتُلُهَا الظَّمَا ... وَالْمَاءُ فَوْقَ ظُهُورِهَا مَحْمُولُ آخر: ... أَمَاطَتْ كِسَاءَ الْخَزِّ عَنْ حُرِّ وَجْهِهَا ... وَأَرْخَتْ عَلَى الْمَتْنَيْنِ بُرْدًا مُهَلْهَلا مِنَ اللاء لَمْ يَحْجِجْنَ يَبْغِينَ حِسْبَةً ... وَلَكِنْ لِيَقْتُلْنَ الْبَرِيءَ الْمُغَفَّلا آخر: ... يَا مَنْ إِذَا نَظَرَتْ عَيْنِي مَحَاسِنُهَا ... أَلُومُهَا فِي هَوَاهَا ثُمَّ أَعْذِرُهَا يَا لِلرِّجَالِ أَمَا فِي الْحُبِّ مِنْ حَكَمٍ ... يَنْهَى الْعُيُونَ إِذَا جَارَتْ وَيَأْمُرُهَا لا تَطْلُبَنَّ مِِِِِن الأَعْطَافِ عَاطِفَةٌ ... فَإِنَّ أَعْدَلَهَا فِي الْحُبِّ أُجُورُهَا آخر: ... مَتَى أَوْعَدَتْ أَوْلَتْ وإِنْ وَعَدَتْ لَوَتْ ... وَإِنْ أَقْسَمَتْ لا تُبْرِئُ السُّقْمَ بَرَّتِ وَإِنْ عَرَضَتْ أُطْرِقْ حَيَاءً وَهِيبَةً ... وَإِنْ أَعْرَضَتْ أُشْفِقْ وَلَمْ أَتَلَفَّتِ بِهَا قَيْسُ لُبْنَى هَامَ بَلْ كُلُّ عَاشِقٍ ... كَمَجْنُونِ لَيْلَى أَوْ كُثَيَّرِ عَزَّةُُُُِ مَوَاطِنُ أَفْرَاحِي وَمَرْبَى مَآرَبِي ... وَأَطْوَارُ أَوْطَارِي وَتَخْفِيف خِيفَتِي أَخَذْتُمْ فُؤَادِي وَهُوَ بَعْضِيَ عِنْدَكُمْ ... فَمَا ضَرَّكُمْ لَوْ كَانَ بَعْضِي جُمْلَتِي كَأَنِّي هِلالُ الشَّكِّ لَوْلا تَأَوُّهِي ... خَفِيتُ فَلَمْ تُهْدَ الْعُيُونُ لِرُؤْيَتِي آخر: ... خُذُوا مِنْ صَبَا نَجْدِ أَمَانًا لِقَلْبِهِ ... فَقَدْ كَانَ رَيَّاهَا يَطِيرُ بِلُبِّهِ تَذَكَّرَ وَالذِّكْرَى تَشُوقُ وَذُو الْهَوَى ... يَتُوقُ وَمَنْ يَعْلِقْ بِهِ الْحُبُّ يُصْبِهِ أَغَارُ إِذَا آنَسْتُ فِي الْحَيِّ أَنَّهُ ... حِذَارًا وَخَوْفًا أَنْ تَكُونَ لِحُبِّهِ وَلَسْتُ عَلَى وَجْدِي بِأَوَّلِ عَاشِقٍ ... أَصَابَتْ سِهَامُ الْحُبِّ حَبَّةَ قَلْبِهِ آخر: ... خَطَطْتُ مِثَالَهَا وَجَلَسْتُ أَشْكُو ... إليها مَا لَقِيتُ عَلَى انْتِحَابِ

كَأَنِّيَ عِنْدَهَا أَشْكُو هُمُومِي ... إليها وَالشَّكَاةُ إِلَى التُّرَابِ آخر: ... إِذَا مَا نَهَى النَّاهِي فَلَجَّ بِيَ الْهَوَى ... أَصَخْتَ إِلَى الْوَاشِي فَلَجَّ بِي الْهَجْرُ تَوَهَّمْتُهَا أَلْوِي بِأَجْفَانِهَا الْكَرَى ... كَرَى النَّوْمِ أَوْ مَالَتْ بِأَعْكَافِهَا الْخَمْرُ وَيَوْمَ مَا تَثَنَّتْ لِلْوَدَاعِ وَسَلَّمَتْ ... بِعَيْنَيْنِ مَوْصُولٌ بِلَحْظِهِمَا السِّحْرُ آخر: ... فَخُذُوا أَحَادِيثَ الْهَوَى مِنْ صَادِقٍ ... مَا ضَلَّ عَنْ شَرْعِ الْغَرَامِ وَمَا غَوَى وَبَمُهْجَتِي رَشَأَ أَطَالَتْ عُذَّلِي ... فِيهَا الْمَلامَ وَقَدْ حَوَتْ مَا قَدْ حَوَى قَالُوا أَفِيهَا سِوَى رَشَاقَتِ قَدِّهَا ... وَفُتُورِ عَيْنِيهَا وَهَلْ مَوْتِي سِوَى يروي الأَرَاكُ مَحَاسِنَا عَنْ ثَغْرِهَا ... يَا طِيبَ مَا نَقَلَ الأَرَاكُ وَمَا رَوَى آخر: ... أظن وما جريت مثلك إنما ... قُلُوب نساء العالمين صخور ذريني أنم إن لم أنل منك زورة ... لعل خيالاً في المنام يزور آخر: ... وبيض بألحاظ العيون كأنما ... هززت سيوفًا واستللن خناجرا تصدين لي يومًا بمنعرج اللوى ... فغادرن قلبي بالتصبر غادر سفرن بدورًا وانتقبن أهلةً ... ومسن غصونًا والتفتن جأذرا وأطلعن بالأجياد بالدر أنجما ... جعلن لحبات القُلُوب ضرائرُُُُُُُُ آخر: رَشَا قد اتَّخَذَا الضُّلُوعُ كِنَاسَهُ ... وَالْقَلْبَ مَرْعَى وَالْمَدَامِعَ مَوْرِدَا سَلَبَ الْفُؤَادَ إِذَا بَدَا وَإِذَا رَنَا ... فَضَحَ الْغَزَالَةَ وَالْغَزَالَ الأَغْيَدَا كَالْوَرْدِ خَدًّا وَالْهِلالِ تَبَاعُدًا ... وَالضَّبْي جِيدًا وَالْقَضِيبِ تَأَوُّدَا سَيْفٌ تَرَقْرَقَ فِي شَبَاهُ فِرِنْدُهُ ... يَأْبَى بِغَيْرِ جَوَانِحِي أَنْ يُغْمَدَا

آخر: لَوْ كُنْتَ سَاعَةَ بَيْنَنَا مَا بَيْنَنَا ... وَشَهِدتَّ كَيْفَ نُكَرّرُ التَّوْدِيعَا أَيْقَنْتَ أَنَّ مِنَ الدُّمُوعِ مُحَدِّثًا ... وَعَلِمْتَ أَنَّ مِن الْحَدِيثِ دُمُوعَا آخر: يَا لائِمِي فِيمَنْ تَمَنَّعَ وَصْلُهَا ... عَنْ حُبِّهَا أَحْلَى الْهَوَى مَمْنُوعُهُ آخر: نَفُوزُ عَرَتْهَا نَفْرَةٌ فَتَجَاذَبَتْ ... سَوَالِفُهَا وَالْحَلْيُ وَالْخَصْرُ وَالرِّدْفُ وَخَيَّلَ مِنْهَا مَرْطُهَا فَكَأَنَّمَا ... تَثَنَّى لَنَا خُوطٌ وَلا حَضَنَا خَشْفُ وَقَابَلَنَا رُمَّا نَتَاغُصْنِ بَانَةٍ ... يَمِيلُ بِهِ بَدْرٌ وَيُمْسِكُهُ حِقْفُ آخر: فِي الْبَدْرِ مِنْ صَفْحَتِهَا لَمْحَةٌ ... وَلَمْحَةٌ فِي الظَّبْي مِنْ طَرْفِهَا انْتَهَى إِذَا مَشَتْ جَاذَبَهَا رِدْفُهَا ... كَأَنَّمَا تَمْشِي إِلَى خَلْفِهَا آخر: وَلَوْ أَذَى التَّطْوِيل سُقْتُ زِيَادَةً ... لَهَا صَاحِب التَّفْكِيرِ يَخْشَى وَيَحْذَرُُُُُ

الجزء السادس

وَقْفٌ للهِ تَعَالَى تَأْلِيفُ الفَقِير إلى عَفْوِ رَبِّهِ عَبدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ السّلمانِ المدرس في معهد إمام الدعوة بالرياض سابقاً الجزء السادس

شِعْرًا: ... أَلا لَيْتَ أَنِّي يَوْمَ تَدْنُو مَنِيِّتِي ... أُلازِمُ ذِكَرَ اللهِ فِي كُلِّ لَحْظَةِ وَآخِرُ رَمْقٍ مِنْ حَيَاتِي خِتَامُهُ ... بِكَلِمَةِ إِخْلاصٍ لِبَارِي البَرِّيَةِ آخر: ... أُقَلِّبْ كِتَبًا طَالَمَا قَدْ جَمَعْتُهَا ... وَأَفْنَيْتُ فِيهَا الْعَيْنَ والْعَيْنَ واَلْيَدَا وَأَصْبَحْتُ ذَا ظَنِّ بِهَا وَتَمَسُّكٍ ... لِعِلْمِيْ بِمَا قَدْ صُغْتُ فِيهَا مُنَضَّدَا وَأَحْذَرُ جُهْدِيْ أَنْ تَنَالَ بِنَائِلٍ ... مَهِينٍ وَأَنْ يَغْتَالَها غَائِلُ الرَّدَى وَأَعْلَمُ حَقًا أَنَّنِي لَسْتُ بَاقِيًا ... فَيَالَيْتَ شِعْرِيْ مَنْ يُقَلَّبُهَا غَدَا آخر: ... جَنَحَتْ شَمْسُ حَيَاتِي ... وَتَدَلَّتْ لِلْغُرُوبْ وَتَوَلَّى لَيْلُ رَأْسِي ... وَبَدَ فَجْرُ الْمَشِيبْ رَبِّي خَلِّصْنِي فَإِنِّي ... غَرِيق بَحْرِ الذُّنُوبْ وَأَنِلْنِي الْعَفْو يَا مَنْ ... أَقْرَبْ مِنْ كُلِّ قَرِيبْ آخر: ... وَمِنَ الْمَصَائِبِ وَالْمَصَائِبُ جَمَّةٌ ... هَجْرِ كِتَابِ الْوَاحِد الرَّحْمَنِ وَالإِنْكِبَابُ عَلَى صُحْفٍ قَدْ امْتَلأتْ ... بِالْمُنْكَراتِ وَتَضْيِيعٍ لأَزْمَانِ إِذَا المَرْءُ لَمْ يَحْفَظْ ثَلاثًا فَخَلِّهِ ... وَرَى الظَّهْرِ وَاصْحَبِ مُخْلِصًا لإِلِههِ فَأَوَّلُهَا الإِخْلاصُ لِلَّهِ وَحْدَهُ ... وَثَانِيهَا تَابِعْ مَنْ أَتَى بِالرِّسَالةِ وَثَالِثُهَا جَنِّبْ هوًا وَتَكَبُّرًا ... لِتِسْلَمَ مِنْ نَار الْجَحِيم الْعَضِيمَةِ آخر: ... إِنِّي أَبُثَكَ مِنْ حَدِيثِي ... والْحَدِيثُ لَهُ شُجُونْ غَيَّرْتُ مَرْقَدَ نَومِي ... لَيْلاً فَنَافَرِنِي السُّكُونْ قُلْ لِي فَأَوَّلُ لَيْلُةٍ ... فِي الْقَبْرِ تَرى يَكُونْ آخر: ... يَا مَنْ سَيَنا عَنْ بَنِيهْ ... كَمَا نَأَى عَنْهُ أَبُوهْ مَثِّلْ لِنَفْسِكَ قَوْلَهُ ... جَاءَ الْيَقِينُ فَوَجِّهُوه وَتَحَلَّلُوا مِنْ ظُلْمِهِ ... قَبْلَ الْمَمَاتِ وَحَلِّلُوه

آخر: أَعْوَامُ لَهْوٍ كَانَ يُحْزِنُ ذِكْرُهَا ... قَلْبَ الَّلِبِيب لِفَقْدِهَا لِلَّطَاعَةِ لَوْ أَنَّهَا مُلِئَتْ بِذِكْرِ إِلَهَنَا ... وَتِلاوَةِ الْقُرْآنِ زَالَ نَدَامَتِي آخر: قَدِّمْ لِنَفْسِكَ فِي الْحَيَاةٍ ... تَزوُّدَا فَلَقَدْ تُفَارِقَهَا وَأَنْتَ مُوَدَّعُ وَاهْتَمَّ لِلَسَّفَرِ الْقَرِيبْ فَإِنَّهُ ... أَنَاي مِنَ السَّفَرِ الْبَعِيدِ وَأَشْنَعُ واجْعَلْ تَزوُّدَكَ الْمَخافَةَ والتُّقى ... فَلَعَلَّ حَتْفَكَ فِي مَسَائِكَ أَسْرَعُ

بسم الله الرحمن الرحيم وَقَفَ قَوْمٌ عَلَى عَالٍم فَقَالَوْا: إِنَّا سُّائِلُوكَ أَفَمُجِبْيُنَا أَنْتَ؟ قَالَ: سَلَوْا وَلا تُكْثِرُوْا، فَّإِنَّ النَهَارَ لَنْ يَرِجِعَ وَالعُمُرَ لَنْ يَعُودَ، والطَّالِبَ حَثِيْثٌ فِي طَلبِه، قَالَوْا: فأَوْصَنَا، قَالَ: تَزَوَّدُوا عَلَى قَدَرِ سَفَرِكُمْ فإِنََّ خَيْرَ الزَّادِ مَا أَبْلَغَ البُغْيَةَ، ثُمَّ قَالَ: الأَيَّامُ صَحَائِفَ الأَعْمَارِ فَخلَّدُوْهَا أَحْسَنَ الأَعْمَال، فَإِنَّ الفرص تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، والتَّوَاني مِنْ أَخْلاق الكُسَالى وَالْخَوالِفِ، وَمَنْ اسْتَوْطَنَ مَرْكَبَ الْعَجْز عَثَرَ بِهِ، وَتَزَوَّجَ التَّوَاني بالْكَسَلَ فَوُلِدَ بَيْنَهُمَا الْخَسْرَانُ. أ. هـ. قَالَ بَعْضُهُمْ: شِعْرًا: ... تَزَوَّجَتِ الْبَطَالَةَ بالتَّوَانِي ... فَأَوْلَدَهَا غُلامًا مَعَ غُلامِهْ فَأَمَّا الابْن سَمُّوه بِفَقْرٍ ... وَأَمَّا الْبِنْت سَمُّوهَا نَدَامَة آخر: ... الذَّكْرُ أًصْدَقُ قَوْلٍ فافْهَمِ الْخَبَرَا ... لأنَّهُ قَوْلُ مَنْ قَدْ أَنْشَأ الْبَشَرا فَاعْمَلْ بِهِ إِنْ تُرِدْ فَهْمًا وَمَعْرِفَةً ... يَا ذَا النُّهَى كَيْ تَنَال العِزَّ والْفَخَرَا وَتَحْمِد الله في يَوْمِ الْمَعادَ إِذَا ... جَاءَ الْحِسَابُ وَعَمَّ الْخَوفُ وانْتَشَرَا لله دَرُّ رَجالٍ عَامِلِينَ بِهِ ... فِيمَا يَدِقُ وَمَا قَدْ جَلَّ وَاشْتَهَرَا قَال بَعْضُهُمْ: أَيُّهَا الأَخ تَدَبَّرْ أَمْرَكَ فَإِنَّكَ فِي زَمَنِ الرِّبْح وَوَقتِ الْبَذْرِ وَاحْذَرْ أَنْ يَخْدَعَكَ الْعَدُوَّ عَنْ نَفِيسِ هَذَا الْجوهَر فَتُنْفِقُهُ بِكَفِّ التّبْذِير، وَالله لَئِنْ فَعَلْتَ لَتَغْرَسَنَّ شَجَرِةَ النَّدَامَة فَيَتَسَاقَطُ عَلَيَكَ مِنَ كُلِّ فَنٍّ مِنْهَا حَسْرَةٌ وَنَدَامَة وَاحْذَرْ مِنْ اخْتِلاسِ الأَعْدَاءِ لَهُ، والأعداء أَرْبَعَة إِبْلِيسُ لَعَنَهُ الله، وَالدنيا، والنَّفْس الأمَّارة بالسُّوء، والْهَوَى. شِعْرًا ... إِنِّي بُلِيتُ بِأَرْبَعٍ مَا سُلِّطُوا ... إِلا لأَجْلِ شَقَاوَتِي وَعَنَائِي إِبْلَيْسَ وَالدُّنْيَا وَنَفْسِي وَالْهَوَى ... كَيْفَ الْخَلاصُ وَكُلَهُمْ أَعْدَائِي

بسم الله الرحمن الرحيم مُلاحَظَة: لا يسمح لأي إنسان أنْ يَخْتَصِرَهُ أوْ يَتَعرَّضَ له بما يُسَمُّونَه تَحْقِيقًا لأَنَّ الاخْتصار سَبَبٌ لِتعطيلِ الأصْلِ والتحقيق أرَى أَنَّهُ اتِهَامُ لِلْمُؤَلِفَ، ولا يُطْبَع إلا وقفًا لله تعالى على مَن ينتفع به من المسلمين. (فائدةٌ عَظِيمَةُ النَّفَعْ لِمَنْ وفَّقَهُ الله) ما أَنْعَم الله على عَبْدٍ نِعْمَةً أَفْضَلْ مِنْ أَنْ عَرَّفَه لا إله إلا الله، وَفَهَّمَهُ مَعْنَاهَا، وَوَفَّقَهُ لِلَعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا، والدَّعْوِة إِلَيْهَا. فوائد: وَاعَجَبًا مِنْكَ يَضِيعُ الشَّيءُ الْقَلِيل وَتَتَكِدر وَتَتَأَسَّفْ، وَقَدْ ضَاعَ عُمْرَكَ الذي لا عَوضَ له، وَأَنْتَ عِنْد قَتَّالات الأَوْقَاتِ: الْكُورَة والتِّلْفَاز والْمِذِياعِ ونحوها من قُطَّاعِ الطَّرِيقْ عَنْ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَلكَن سَتَنْدم {يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} .

بسم الله الرحمن الرحيم فائدة عَظِيمَةُ النَّفْع جِدًا لِبَعْضِ الْعُلَماء رَحِمَهُمْ اللهُ تَعَالَى (1) اللِّيلُ والنَّهارُ يَعْمَلان فِيكَ فاعْمَلْ فيهما أَعْمَالاً صَالِحَةً تَرْبَحَ وَتَحْمَدِ الْعَاقِبِةَ الْحَمِيدِة إن شاء الله تعالى. وَلَيْلُكَ شَطْرُ عُمْرِكَ فَاغْتَنِمْهُ ... وَلاَ تَذْهَبْ بِشَطْرُ العُمْرِ نَوْمَا آخر: عَلَيكَ بِذِكرِ اللَهِ في كُلِّ لَحْظَةٍ ... فَمَا خَابَ عَبْدٌ لِلْمُهَيْمنِ يَذْكُرُ (2) الملائِكةُ يَكْتُبَانِ مَا تَلفَّظُ به فَاحْرَصْ عَلَى أَنْ لا تَنْطِقَ إلا بِمَا يَسُرُّكَ يَوم الْقِيَامَةْ. إِنَّ الشَرائِعَ أَلقَت بَينَا حِكَمًا ... وَأَورَثَتنا أَفانينَ المَوَدَّاتِ وَهَلْ رَأَيْتَ كَمِثْلِ الدِّينِ مَنْفَعَةً ... لِلْعَبْدِ تُوصِلُهُ أَعْلَى الكَرَمَاتِ (3) اعْلَمْ أنَّ قِصَرَ الأَمَلِ عَلَيهَ مَدَارٌ عَظِيمْ، وحِِصْنُ الأَمَلِ ذِكْرُ الْمَوْتِ، وحِصْنُ حِصْنِهِ ذِكْرُ فَجَأَةِ الْمُوْتِ وَأَخْذُ الإِنْسان على غِرَّةٍ وَغَفْلَةٍ وَهُوَ فِي غِرُورٍ وَفُتُور عن العمل للآخرة. نسأل الله أَنْ يُوقِظََ قُلوبَنَا إنه على كل شيء قدير. اللَّهُمَّ صَلِّي عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمِ. فائدة: الْعِلْمُ بِمَا جَاء عَنِ الله وَعَن رَسُوله خَيْرُ مِيراثٍ، وَالتَّوفِيقُ مِنَ الله خَيْرُ قِائِدٍ، والاجْتِهَادُ في طَاعَةَ اللهِ خَيْرُ بِضَاعَةْ، وَلا مَالَ أَحْسَنَ مِنْ عَمَل الرَّجُل بِيَدِهِ، وَلا مُصِيبَةَ أَعْظَمُ مِنْ الْكُفْرِ بالله، ولا عَوَينَ أَوْثَقَ مِن الاعتماد عَلَى الله

فضل في الجهاد في سبيل الله والحث عليه والأدلة على ذلك

ثُمَّ مُشَاوَرَةِ أَصْحَاب الرَّأي وَالدِّين مِنْ الْمُؤمنين، ولا أوحَشَ مِنَ الْكِبْر والْعُجْب والنِّفَاق. آخر: سلِ اللهَ عَقلاً نافِعاً واستَعِذْ بهِ ... منَ الجَهلِ تَسأَلْ خَيرَ مُعْطٍ لِسائلِ فبالعَقلِ تَسْتَوْفِي الفضائلُ كُلُّها ... كَما الجَهلُ مُستَوفٍ جميعَ الرَّذائلِ تَنْبِيهِ: ومَن أَرَادَ طَبَاعَتَهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ الله لا يُريد بِه عَرَضًا مِن الدنيا فقد أذن لُه وجَزَى اللهُ خَيْراً مِنْ طَبَعَهُ وَفَقًا أَوْ أَعَانَ على طَبْعِهِ أَوْ تَسَبَّبَ لِطَبْعِهِ وَتَوْزِيعِهِ عَلَى إِخْوَانِهِ مِنَ الْمُسْلِمِين فقد ورد عنه ? أَنَّهُ قال: «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ» . رواه مسلم. وَوَرَدَ عنه ? أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلاَثَةَ نَفَرٍ الْجَنَّةَ: صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ، وَالرَّامِي بِهِ، وَمُنْبِلَهُ» . الحديث رواه أبو داود. وَوَرَدَ عَنْه ? أنه قال: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» . الحديث رواه مسلم. (فَصْلٌ) في الجهادِ في سبيل اللهِ اعْلمْ وَفَّقَنَا اللهُ وإيَّاكَ وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِين أَنَّ الْجِهادَ فِي سَبيلِ اللهِ أَفْضَلُ تَطَوُّع البَدَنِ، وَعَدَّهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رُكْناً سَادِسًا لِدِينِ الإِسْلامِ، وَهُوَ ذِرْوَةُ سَنَامِ الإسلامِ، وَمُوْجِبُ الْهِدَايَةِ، وَحَقِيقَة الإخْلاصِ، والزُّهْدِ في الدنيا، وَمَنَازِلُ أَهْلِهِ أَعْلَى الْمَنازِلِ فِي الْجَنَّةِ، كَمَا لَهُمْ الرِّفْعَةُ فِي الدُّنْيَا، فَهُم الأَعْلَوْنَ فِي الآخِرَةِ، وَكَانَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاس يَتَلَهَّفُونَ عَلَى الْجِهادِ الذِي أُغْلِقَتْ أَبْوابُهُ مِنْ زَمَنٍ بَعيدٍ، مِنْ عَهَدِ أَنْ كانَ الرجُلُ يَخْرُجُ بِنَفْسِهِ وبِمَالِهِ آمِلاً أَنْ يُنْفَقَ

كُلَّ مَالِهِ في سبيلِ اللهِ، وَأَنْ يَحْظَى بالشهادةِ في سبيلِ اللهِ، فإذا رَجَعَ سَالِمًا إلى أَهْلِهِ، رَجَعَ حَزِينًا على ما فَاتَهُ مِن مَقامِ الشَّهَادَةِ التِي كَانَ يَحْرصُ عليها كُلَّ الْحِرْصِ، وَلَقَدْ كانَ الْمُسْلِمُونَ في أَوَّلِ هَذِهِ الأمَّةِ أَقَلِّيَّةً بَيْنَ الأُمَمِ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ فُقَراءَ مِنَ الْمَالِ، ولكنْ كانُوا أَغْنِيَاءَ، بِمَا وَهَبَهُمُ اللهُ مِنَ البُطُولَةِ، غِنَىً لَمْ يَرْوِ لَنَا التَّارِيخُ نَظِيرَهُ بَيْنَ ذَوِي البُطُولاتِ، يَعْتَمِدُونَ في تِلْكَ البُطولَةِ على مَعونةِ مولاهُمْ لَهُم في كُلِّ حالٍ مِنَ الأَحْوَالِ. وَلَقْدَ كَانَتْ أَحْوَالُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ تُبَيَّضُ الوُجُوهَ وَتَمْلأُ القُلُوبَ سُرُورًا وَفَرَحًا، كَانُوا إِذَا نَازَلُوا الأَعْدَاءَ رَجَعُوا ظَافِرِينَ مُنْتَصِرِينَ، لا يُرَى عَلَيْهِمْ أَثرُ كَآبةٍ، اللَّهُمَّ إلا كَآبةُ الْحُزْنِ، على أنَّ أَحَدَهُم لَمْ يَفُزْ بِمَقامِ الشَّهَادَةِ التِي كَانَتْ عِنْدَهُمْ مُنْتَهَى الآمالِ، لِذَلِكَ دَوَّخُوا الدُّنْيَا، وَكَانُوا عِنْدَ الكُلِّ سَادَةَ الأَعِزَّاءِ، كَانُوا لا يَطْمَعُ فِيهِمْ طَامِعٌ، مَعَ أَنَّهُمْ أَقَلِيَّةٌ، وَكَانُوا إِذَا نُسِبُوا لِغَيْرِهِمْ فُقَرَاءَ، وَلَكِنَّهُمْ أَغْنِيَاءُ بالتَّوَكُّل عَلَى مَنْ بِيَدِهِ القُلوبُ، وَبِيَدِهِ كُلْ شيء لا إِلهَ إِلا هو جَلَّ وَعَلا وَتَقَدَّس. وَلَقَدْ كانَ مَعَهُمْ صَفْوَةُ الْخَلْقِ، وَعَنْ إِرْشَادَاتِهِ يُصْدِرُونَ مَا يَصْدِرُونَ مِنْ أَعْمَالٍِ، وَهُوَ كَانَ لا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى، كَمَا أَخْبَرَ اللهُ جَلَّ وَعَلا بِذَلِكَ، أَمَّا نَحْنُ فَعُدَّ مِنَّا بِمِئَآتِ الأُلُوفِ وَقُلْ مَا تُرِيدُ في غِنَانَا فَالْوَاحِدُ مِنَّا يَمْلِكُ الْمَلايينَ، وَمِنْ العَقَارَاتِ الشَّيْءَ الكَثِيرَ، وَلَكِنَّنَا مَعَ ذَلِكَ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، نُحِبُّ هَذِهِ الْحَيَاةَ، حُبًّا مَلَكَ مَشَاعِرَنَا كُلَّهَا اللَّحْمُ وَالعَظْمَ وَالعُروقَ وَكُلَّ شَيْءٍ وَنَكْرَهُ الْمَوْتَ كَرَاهَةً شَدِيدَةً وَالسَّبَبْ في ذلك - واللهُ أعلمُ -

أنَّ حُبَّ الدُّنْيَا، وَالتَّعَلُّقَ بِهَا هُوَ الذِي أَنْسَانَا، وَأَلْهَانَا عَنْ تَذَكُّر الْجِهَادِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهِ وَتَمَنِّيَهِ، وَبَذْلِ النَّفِيسِ فِيمَا يُقَرّبُ إِلَيْهِ، نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُوقِظَ قُلُوبَنَا، وَيُوَفِّقَنَا لِسُلُوكِ سَبِيلِ سَلَفِنَا. لِنُقيمَ عَلَمَ الْجِهَادِ، وَيَجْعَلْنَا مِنْ أَنْصَارِ دِينِهِ، وَحِزْبِهِ الْمُفْلِحِينَ وَأَنْ يَغْفِرَ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ منْهُم والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ) وَقَدْ وَرَدَ في فَضْلِ الْجِهَادِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهِ، وَبَيَانِ عَظِيمِ ثَوَابِهِ، آيَاتٌ وَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ، نَذْكُرُ طَرَفًا مِنْهَا إِنْ شَاءَ اللهِ تَعَالى. فَمِنَ الآيَاتِ قَوْلُهُ تَعَالى: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} فَفِي هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ ترغيبٌ في الْجِهَادِ على أَبْلَغِ وَجْهٍ، وَأَحْسَنِ صُورَةٍ. قَالَ ابنُ القَيَّمِ رحمه اللهُ على هذه الآية: فجعلَ سبحانَهُ ها هُنَا الجنَةَ ثَمَنًا لِنفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَمْوَالِهِمْ، إِذَا بَذَلُوهَا فِيهِ اسْتَحَقُّوا الثَّمَنَ، وَعَقَدَ مَعهمْ هَذَا العَقْدَ، وَأَكَّدَهُ بِأَنْوَاعٍ مِنْ التَّأْكِيدَاتِ. 1- أَوَّلاً: إِخْبَارُهُمْ بصِيغَةِ الْخَبَرِ الْمؤَكَّدِ بأداةً إِنَّ. 2- ثَانِيًا: الإِخْبَارُ بذلِكَ بِصَيْغَةِ الْمَاضِي الذي وَقَعَ وَثَبَتَ وَاسْتَقَرَّ. 3- ثَالِثًا: إِضَافةُ هذا العَقْدِ إلى نَفْسِهِ سُبْحَانَه، وَأَنَّهُ هو الذي اشْتَرَى هَذَا الْمَبِيعَ.

4- رَابِعًا: أَنَّهُ أَخْبَرَ بَأَنَّهُ وَعَدَ بِتَسْلِيمْ هَذَا الثَّمَن، وَعْدًا لا يُخْلِفُهُ وَلا يَتْرُكُهُ. 5- خَامِسًا: أَنَّهُ أَتَى بِصِيْغَةِ (عَلَى) الَّتِي لِلْوُجوب، إعْلامًا لِعِبادِهِ بَأنَّ ذَلِكَ حَقٌّ عَلَيْهِ، أَحَقَّه هو على نَفْسِهِ. 6- سَادِسًا: أَنَّهُ أَكَّدَ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ حَقًّا عَلَيْهِ. 7- سَابِعًا: أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ مَحَلِّ هَذَا الوَعْدِ، وَأَنَّهُ في أَفْضَلِ كُتُبهِ الْمُنَزَلةِ مِنْ السَّمَاءِ وَهِيَ التَّوراةُ وَالإِنْجِيلُ والقرآنُ. 8- ثَامِنًا: إِعْلامُهُ لِعِبَادِهِ بِصِيغةِ استفهامِ الإنكارِ، وَأَنَّهُ لا أَحَدَ أَوْفى بعهدِهِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ. 9- تَاسِعًا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى أَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَبْشِرُوا بِهَذَا الْعَقْدِ، وَيُبَشّرَ بِهِ بَعْضُهمْ بَعْضًا، بَشَارةَ مَنْ قَدْ تَمَّ لَهُ العَقْدُ وَلَزِمَ، بِحَيْثُ لا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارٌ، وَلا يَعْرِضُ لَهُ مَا يَفْسَخُهُ. 10- عَاشِرًا: أنهُ أَخْبَرَهُمْ إِخْبَارًا مُؤكَّدًا بَأَنَّ ذَلِكَ البيعَ الذي بَايَعُوهُ بِهِ هو الفوزُ العظيمُ، والبيعُ ها هُنَا بِمَعْنى الْمُبِيعِ الذي أَخَذُوهُ بِهَذَا الثَّمَن، وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَقَوْلُهُ: {بَايَعْتُم بِهِ} أَيْ عَاوَضْتُمْ وثامَنْتُمْ بِهِ، ثم ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَهْلَ هَذَا العَقدِ الذي وَقَّعَ العقْدَ وَتَمَّ لَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَهُمْ التَّائِبُونَ إلخ. انتهى. شِعْرًا: إِذَا قَلَّ دِينُ قَلَّ بَهَاؤُهُ ... وَضَاقَتْ عَلَيْهِ أَرْضُهُ وَسَمَاؤُهُ وَأَصْبَحَ لا يَدْرِي وَإِنْ كَانَ حَازِمًا ... أقدَّامَهُ خَيْرٌ لَهُ أَمْ وَرَاؤُهُ فَإِنْ كَانَ ذَا دِينٍ عَلاه بَهَاؤُهُ ... وَأَصْبَحَ مَسْرُورًا بِهِ أَصْدِقَاؤُهُ

وَيقولُ سَيِّدُ قُطْبِ رحمه الله على الآية المتقدمَةِ قَرِيبًا: هذا النَّصُ النَّصُ الذِي تَلَوْتُهُ مِنْ قَبْلُ وَسَمِعْتُهُ أَلْفَ مَرَّةٍ أَوْ تَزَيدُ في أَثْنَاءِ حِفْظِي لِلْقُرْآنِ، وَفِي أَثْنَاءِ تِلاوَتِهِ بعدَ ذَلِكَ وَدِرَاسَتِهِ، فِي أَكْثَر مِنْ رُبع قَرْنٍ، هَذَا النَّصْ أَشْهَدُ أَنَّنِي أَدْرِكُ مِنْهُ اللَّحْظَةَ مَا لَمْ أُدْرِكْهُ في أَلْفِ مَرَّةٍ أَوْ تَزِيدُ، إِنَّهُ نَصٌّ رَهِيبٌ، يَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَةِ العِلاقَةِ التِي تَرْبَطُ الْمُؤْمِنينَ الصادقينَ باللهِ، وَعَنْ حَقِيقَةِ البَيْعَةِ التِي في أعْنَاقِهِمْ طُولَ الْحَيَاةِ، فمَنْ بايَعَ البَيْعَةَ، وَوَفَى بِهَا فَهُوَ الْمُؤْمِنُ الْحَقُّ، الذِي يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ مَعْنَى الْمُؤْمِنِ وَحَقِيقَتِهِ، وَإِلاّ فَهِي دَعْوَى تَحْتَاجُ إلي التصديقِ والتحقيق. حقيقةُ هذهِ البَيْعَةِ - أَوْ هذه الْمُبَايَعَةِ كَمَا سَمَّاهَا اللهُ كَرَمًا منه وَفَضْلاً - أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَدْ اسْتَخْلَصَ لِنَفْسِهِ أَنْفُسَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَمْوَالَهُمْ، فَلَمْ يَعُدْ لَهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ، لَمْ يَعُدْ لَهُمْ أَنْ يَسْتَبِقُوا مِنْهَا بَقِيَّةً، لا يُنْفِقُونَهَا في سَبِيلِ اللهِ، لَمْ يَعُدْ لَهَمْ خِيارٌ فِي أَنْ يَبْذُلُوا أَوْ يُمْسِكُوا، كَلا إِنَّها بَيْعةٌ كامِلةٌ، فالثمَنُ الجَنةُ والطريقُ الجِهَادُ، والنِّهايةُ هِيَ النَّصْرُ أَوِ الاسْتِشْهَادُ، وَمِنْ رَحمتِهِ أَنْ جَعَلَ لِلصَّفْقَةِ ثَمنًا، وَإِلاّ فهو مالِكُ الأَنفُسِ والأَموَالِ وَلَكِنَّهُ كَرَّمَ هَذَا الإنسانَ، فَجَعَلَهُ مُرِيدًا، وَكَرَّمَهُ فَجَعل لَهُ أَنْ يعقِدَ العُقودَ وَيُمْضِيهَا حتَّى مَعَ اللهِ وَكَرَّمَهُ فقيَّدَهُ بعُقُودِهِ وَعُهُودِهِ، وجعلَ وَفَاءَهُ بِهَا مِقْيَاسَ آدَمِيَّتِهِ الكَرِيمةِ، كَمَا جَعَلَهُ مَنَاطَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ. وَإِنَّهَا لَبَيْعَةٌ رَهِيبَةٌ بِلا شَكٍّ، وَلَكِنَّهَا في عُنُقِ كُلِّ مُؤْمِنٍ، لا تَسْقُطُ عنهُ إلا بِسُقُوطِ إيمانِهِ وَالعِياذُ بِاللهِ، يَا اللهُ عونَكَ، فَإِنَّ العَقْدَ رَهِيبٌ، وَهؤلاءِ القَاعِدونَ بِالْمَلايينِ، في مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا يَدَّعُون أنهم مؤمنونَ بِكَ، وَهُمْ قَاعِدُونَ، لا يُقَاتلون لإِعْلاءِ

كَلِمَتِكَ، ولا يَقْتُلُون ولا يُقْتَلُون، ولا يُجَاهِدُون جِهَادًا مَا دُونَ القِتَالِ والقَتْلِ، يَسُدُّون بِهِ ثَغْرةً وَيُسَاهِمُونَ بِهِ في الدِّفَاعِ عَنْ دِينِك الذي أَرَدْت له النَّصْرَ والاستعلاءَ، قال: ولقد كانَتْ هذه الكماتُ تَدْخُلُ إلى قلوب مُسْتَمِعيها الأوَّلِينَ، على عهدِ الرسولِ صلَى اللهُ عليهِ وسلمَ، فَتَتَحَوَّلُ مِنْ فَوْرِهَا إلى وَاقِعٍ مِنْ وَاقع حَيَاتِهِمْ، وَلَمْ تَكُنْ مُجَرَّدَ مَعَانٍ يَتَمَلَّوْنَها بأذهانِهِمْ، وَيُحِسُّونَها مُجَرَّدَةً فِي مَشَاعِرِهِمْ، كانُوا يَتَلَقَّوْنَهَا للْعَمَل الْمبَاشِر بِها، لِتَحْوِيلِهَا إلى حَرَكةٍ مَنظورَةٍ، لا إلى صُورَةٍ مُتأمَّلَةٍ، هَكَذَا أَدْرَكَهَا عَبْدُ اللهِ بنُ رَوَاحة رضيَ اللهُ عَنْهُ في بَيْعَةِ العَقَبَةِ. قال محمدُ بن كعبِ القُرَظِي: قَالَ عَبْدُ اللهِ بن رواحةَ لِرسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي لَيلةَ العقبةِ - اشْتَرطْ لِرَبِّكَ وَلِنَفْسِكَ مَا شِئْتَ، فَقَالَ: «أشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، واشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكمْ وَأَمْوَالَكُمْ» . قَالَ: فَمَا لَنَا إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ؟ قَالَ: «الْجَنَّةِ» قَالُوا: رَبِحَ البَيْعُ، لا نُقِيلُ ولا نَسْتَقِيل فَنَزَلَتْ: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} . انْتَهَى باخْتِصَار. اللَّهُمَّ يَا عَالَم الخَفياتِ وَيَا سَامِعَ الأَصْوَاتِ وَيَا بَاعِثَ الأَمْواتِ وَيَا مُجِيبَ الدَّعَوَاتِ وَيَا قَاضِي الحَاجَاتِ يَا خَالَق الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ أَنْتَ اللهُ الأحدُ الصمدُ الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد، الوَهَّابُ الذي لا يَبْخَلُ وَالحِليمُ الذي لا يَعْجَلُ، لا رَادَّ لأمْركَ وَلا مُعَقِّبَ لِحُكَمِكَ، نَسْأَلَكَ أَنْ تَغفرَ ذُنوبَنَا وَتُنَورَ قلوبنَا وَتُثَبِّتَ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَتُسْكِنَنَا دَارَ كَرَامَتِكَ إِنك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

قصيدة ترغيب في إقامة الدعوة والنصيحة في الدين

تَأَلَّفَ بَرْقُ الْحَقِّ في الْعَارِضِ النَّجْدِي ... فَعَمَّ جَمِيعَ الكَوْنِ في الغَوْرِ والنَّجْدِ به زُعْزُعَتْ أَرْكَانُ كِسْرَى وقَيْصَرٍ ولم يُجَد مَا حَازَا مِنْ الْمَالِ والجُنْدِ وَأَمْثَالُهَا في السَّالِكينَ طرَيِقَهَمْ أَرنَاَ كَمَا قَدْ قَالَهُ صَادِقُ الوَعْدِ فَلِلهِ حَمْدٌ يَرْتَضِيهِ لِنَفْسِهِ عَلَى نِعْمٍ زَادَتْ عَنْ الحَصْرِ والعَدِّ فَأعْظَمهما بَعْثُ الرَّسُولِ مُحَمَّدٍ أَمِينُ إله الحَقِّ وَاسِطَةَ العِقْدِ دَعَانَا إِلى الإسلامِ دِينِ إِلَهَنَا وتَوْحِيدِهِ بالْقَوْلِ والفِعْلِ والقَصْدِ هَدَانَا بِهِ بَعْدَ الضَّلالَةِ والعَمَى وَأَنْقَذَنَا بَعْدَ الغِوَايَةِ بالرُّشْدِ حَبَانَا وَأَعْطَانَا الذِي فَوْقَ وَهْمِنَا وأَمْكَنَنَا مِن كُلِّ طَاغٍ وَمُعْتَدِّ وَأَيَّدَنَا بالنَّصْرِ واتَّسَعَتْ لَنَا مَمَالِكُ لا تَدْعُوا سِوَى الوَاحِدِ الفَرْدِ فَنَسْأَلُهُ إِتْمَامَ نِعْمَتِهِ بأنْ يُثَبِّتَنَا عِنْدَ الْمَصَادِرِ كَالوِرْدِ فيا فوزَ عبدٍ قَاَم لله جاهِدًا عَلَى قَدَمِ التجريدِ يَهْدِي وَيَسْتَهْدِي

آيات وأحاديث في الحث على الجهاد والترغيب فيه

.. وَجَرَّدَ في نَصْرِ الشَّريعَةِ صَارمًا ... بِعَزْم يُرَى أَمْضَى مِن الصَّارِمِ الْهِنْدِي وتابَعَ هَدْيَ الْمُصْطَفَى الطُهْرَ مُخْلِصًا لِخَالِقِهِ فِيمَا يُسِرُّ وَمَا يُبْدِي ويَا حَسْرَة الْمَحْرُومِ رَحْمَةَ رَبِّهِ بإِعْرَاضِهِ عن دِينِ ذِي الْجُودِ والْمَجْدِ ِ لَقَدْ فَاتَه الْخَيْرَ الكَثِيرُ وَمَا دَرَى وَقَدْ خَابَ واختارَ النُّحُوسَ عَلى السَّعْدِ ومِنْ بَعْدِ حَمْدِ اللهِ أَزْكَى صَلاتِهِ وَتَسْلِيمِهِ الأَوْفَى الكَثِيرِ بلا حَدِ عَلَى الْمُصْطَفَى خَيْرِ الأَنَامِ وآلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَهْل السَّوابِقِ والزُّهْدِ اللَّهُمَّ ثَبِّتْ إِيمَانَنَا بِكَ وَبِمَلائِكَتِكَ وَكُتُبِكَ وَرُسُلِك وَاليوْمِ الآخِرِ وَالْقَدَرِ خَيرِهِ وَشَرِّهِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ. اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا وَاشْرَحْ صُدُورَنَا وَاسْتُرْ عُيُوبَنَا وَأَمِّنْ خَوْفَنَا وَاخْتِمْ بِالصَّالِحَاتِ أَعْمَالِنَا وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَحِزْبِكَ المُفْلِحِينِ الذِينَ لا خَوفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُون، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. فَصْلٌ وَمِنْ الآيَاتِ التِي وَرَدَتْ في الْحَثِّ عَلَى الْجِهَادِ، وَالتَّرْغِيبِ فِيهِ، وَمُلازمةِ الصَّبْرَ عَلَيْهِ، قَوْلُهُ تَعَالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} وَقَوْلُهُ تَعَالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ

يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} . وَقَالَ تَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . وَقَالَ تَعَالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} . وَقَالَ تَعَالى: {لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً * دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً} . وَقَالَ تَعَالى: {انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} . شِعْرًا: أَطَيَبُ الطَّيبَاتِ فِعْلُ الفَرائض ... والْجِهَاد في سَبِيل الله لِقَتْلِ الأَعَادِي

وَقَالَ تَعَالى: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . وَأَمَّا الأَحَادِيثُ الواردةُ في فَضْلِ الْجِهَادِ، وَالْحَثِّ عَلَيْهِ بالنفسِ وَالْمَالِ، فَإِلَيْكَ مِنْهَا طَرَفًا فَتَأَمَّلْهُ وَاسْأَل اللهَ أَنْ يُقِيمَ عَلَمَ الْجِهَادِ في سَبِيلِهِ، وَأَنْ يَرْزُقَنَا وَإِيَّاكَ الشَّهَادَةَ، وَأَنْ يُلْحِقْنَا بِالسَّلَفِ الصَّالِحِ، وَيَجْمَعَنَا وَإِيَّاهُمْ في مُسْتَقَرِّ رَحْمَتِهِ إِنَّهُ جَوَّاد كريم. فَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «إِيمَانٌ بِاللهِ وَرَسُولِهِ» . قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ» . قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «حَجٌّ مَبْرُورٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ ابن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ يَا نَبِيَّ اللهِ أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ تَعَالى؟ قَالَ: «الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا» . قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» . قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَنَسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالََ رَسُولُ اللهِ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

شِعْرًا: وَلَمْ أَرَى فِي عُيُوبِ النَّاسِ عَيْبًا ... كَنَقْصِ القَادِرِينَ عَلَى الْجِهَادِ جِهَادِ النَّفْسِ مَعْ قَتَلِ الأَعَادِي ... لِدِينِ اللهِ فَافهَمْ مِنْ مُرَادِ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ» . قَالَ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «مُؤْمِنٌ فِى شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ اللهَ، وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالى أَوِ الْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ سَلْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ وَإِنْ مَاتَ فِيهِ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ» . رَوَاهُ مُسْلِم. وَعَنْ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلا الْمُرَابِطَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنَّهُ يُنْمِّي لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيُؤْمَنُ فِتْنَةِ الْقَبْرِ» . رواهُ أَبُو دَاودَ، والتِّرْمِذِي. وقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيح. وَعَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَال: سَمِعْتُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَنَازِلِ» . رواهُ التِّرْمذِي، وقال: حديثٌ حَسَنٌ صحيح.

اللَّهُمَّ اعْصِمْنَا عَن الْمَعَاصِي وَالزَّلات وَوَفِّقْنَا لِلْعَمَلِ بِالْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. فَصْلٌ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَضَمَّنَ اللهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لا يُخْرِجُهُ إِلا جِهَادٌ فِي سَبِيلِي وَإِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي فَهُوَ ضَامِنٌ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ أَوْ أَرْجِعَهُ إِلَى مَنْزِلِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ كُلِمَ لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ، وَرِيحُهُ رِيحُ مِسْكٍ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا قَعَدْتُ خِلافَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَبَدًا وَلَكِنْ لا أَجِدُ سَعَةً فَأَحْمِلَهُمْ وَلا يَجِدُونَ سَعَةً، وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنْ أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ» . رواه مسلم. وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَلْمُهُ يَدْمَى اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَاتَلَ في سَبِيلِ اللهِ مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ فَواقَ نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ جُرِحَ جَرْحًا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ نُكِبَ نَكْبَةً فَإِنَّهَا تَجِيءُ يَوْمَ القِيَامَةِ كَأَغْزَرِ مَا كَانَتْ لَوْنُهَا الزَّعْفَرَانُ وَرِيحُهَا كَالْمِسْكِ» . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشِعْبٍ في عُيَيْنَةٌ مِنْ مَاءٍ عَذْبَةٌ،

فَأَعْجَبَتْهُ فقال: لَوْ اعْتَزَلْتُ النَّاسَ فَأَقَمْتُ فِي هَذَا الشِّعْبِ وَلَنْ أَفْعَلَ حَتَّى أسْتَأذنَ رسولَ الله صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فَذَكَر ذلك لرسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فَقَالَ: «لا تَفْعَلْ فَإِنَّ مَقَامَ أَحَدِكُمْ في سبيلِ اللهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاتِهِ فِي بَيْتِهِ سَبْعِينَ عَامًا، أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يغفِرَ اللهُ لَكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ الْجَنَّةَ اغْزُو في سبيل اللهِ، مَنْ قاتلَ في سبيلِ الله فُوَاقَ ناقةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» . رواهُ التِّرْمِذِي. وقال: حديثٌ حسَنٌ. وعنهُ قالَ: قيلَ يَا رسولَ اللهِ ما يَعْدِلُ الْجهاد في سبيل اللهِ؟ قَالَ: «لا تَسْتَطِيعُونَهُ» . فَأَعَادُوا عليهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: «لا تَسْتَطِيعُونَهُ» . ثُمَّ قَالَ: «مَثَلُ الْمُجَاهِدِ في سبيلِ اللهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ القَانِتِ بآياتِ اللهِ لا يَفْتُرُ مِنْ صلاةٍ وَلا صِيَامٍ حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ في سبيلِ اللهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وهذا لفظُ مُسْلِمٍ. وفي رِوايةٍ للبُخاري أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولِ اللهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ قَالَ: «لا أَجِدُهُ» . ثُمَّ قَالَ: «هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلا تَفْتُرَ وَتَصُومَ وَلا تُفْطِرَ» ؟ فَقَالَ: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟ وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ رَجُلٌ مُمْسِكٌ بِعِنَانَ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَوْ فَزْعَةً طَارَ عَلَى مَتْنِهِ يَبْتَغِي الْقَتْلَ أَوِ الْمَوْتَ مَظَانَّهُ أَوْ رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ أَوْ شَعَفَةٍ مِنْ هَذِهِ الشَّعَفِ أَوْ بَطْنِ وَادٍ مِنْ هَذِهِ الأَوْدِيَةِ يُقِيمُ الصَّلاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ وَيَعْبُدُ رَبَّهُ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْيَقِينُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ إِلا فِي خَيْرٍ» . رواه مسلم. شِعْرًا: أفادَتْنِي الدِّيَّانَةُ كُلَّ عِزٍ ... وَهَل شَيءٌ أعَزُّ مِنَ الدِّيَانَةْ

فَصَيِّرْهَا لِنَفْسِكَ رَأْسَ مَالٍ ... وَصَيِّرْ بَعْدَهَا التَّقْوَى بِضَاعَةْ آخر: وَمَا نُبَالي إِذَا أَدْيَانُنَا سَلِمَتْ ... بِمَا فَقَدْنَاهُ مِنْ مَال وَمِنْ نَشَبِ فَالْمَالُ مُكْتَسَبٌ وَالْعِزُّ مَطْلَبُهُ ... في طَاعَةِ اللهِ لا فِي المَالِ وَالنَّسَبِ وَعَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ في الْجَنَّةِ مائةَ دَرَجَةٍ، أعدَّها اللهُ لِلْمُجَاهِدِينَ في سَبِيلِ اللهِ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كمَا بَيْنَ السَّمَاءَ والأرضِ» . اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِقَوْلِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ وَخَلِّصْنَا مِنْ وساوِسِ قُلُوبنَا الْحَامِلَةِ عَلَى التورُّطِ في هُوَّةِ البَاطِلِ وابتداعِهِ واجْعَلْ إِيمَانَنَا إِيمَانًا خَالِصًا صَادِقًا قَوِيًّا وَكُنْ لَنَا مُؤَيِّدًا وَلا تَجْعَلْ لِفَاجِرٍ عَلَيْنَا يَدًا وَاجْعَلْ عَيْشَنَا عَيْشًا رَغَدًا. وَلا تُشْمِتْ بِنَا عَدُوًّا وَلا حَاسِدًا وَارْزُقْنَا في مَحَبَّتِكَ عِلْمًا نَافِعًا وَرِزْقًا وَاسِعًا وَعَمَلاً مُتَقبَّلاً وَحِفْظًا كَامِلاً وَفَهْمًا ذَكِيًّا وَطَبْعًا صَفِيًّا وَأَدَبًا مُرْضِيًا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ. اللَّهُمَّ ألْهِمْنَا القِيَامَ بِحَقِّكَ، وَبَارِكْ لَنَا فِي الْحَلال مِنْ رِزْقَكَ، وَلا تَفْضَحْنَا بَيْنَ خَلْقِكَ، يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلَ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ يَا قَاضِيَ الْحَاجَاتِ وَيَا مُجِيب الدّعَواتِ هَبْ لَنَا مَا سَأَلْنَاهُ وَحَقِّقْ رَجَاءَنَا فِيمَا تَمَنَّيْنَاهُ وَأَمِّلْنَا يَا مِنْ يَمْلِكُ حَوائِجَ السَّائِلين وَيَعْلَمُ مَا فِي ضَمَائِر الصَّامِتِينَ، أَذِقْنَا بِرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةَ مَغْفِرَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) عَنْ أبي سَعِيدٍ الْخُدَرِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً، وَجَبَت لَهُ الْجَنَّةُ» . فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ فَقَالَ: أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا

رَسُولَ اللهِ. فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ، قَالَ: «وَأُخْرَى يَرْفَعُ اللهُ بِهَا الْعَبْدَ مَائةَ دَرَجَةٍ في الْجَنَّةِ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ» . قَالَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الْجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ، الْجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ» . رواهُ مُسْلِم. وَعَنْ أبي بَكْرِ بِنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِي قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَهُوَ بِحَضْرَةِ الْعَدُوِّ - يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ» . فَقَامَ رَجُلٌ رَثُّ الْهَيْئَةِ فَقَالَ: يَا أَبَا مُوسَى أَنْتَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَقْرَأُ عَلَيْكُمُ السَّلاَمَ ثُمَّ كَسَرَ جفْنَ سَيْفِهِ فَأَلْقَاهُ ثُمَّ مَشَى بِسَيْفِهِ إِلَى الْعَدُوِّ فَضَرَبَ بِهِ حَتَّى قُتِلَ. رواه مسلم. وَعَنْ أَبِي عَبْسٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَبْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ» . رواهُ البُخاري. وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ، وَلاَ يَجْتَمِعُ عَلَى عَبْدٍ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ» . رواهُ الترمذي، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيح. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «عَيْنَانِ لاَ تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللهِ» . رواهُ الترمذيُ، وقالَ: حديثٌ حسنٌ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ

موعظة بليغة في توجيه الأولاد توجيها صالحا

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللهِ فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَلَهُ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ، إِلاَّ الشَّهِيدُ، يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ، لِمَا يَرَى مِنَ الْكَرَامَةِ» . وفي رِوايةٍ: «لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ» . وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلاَّ الدَّيْنَ» . رواهُ مُسْلم. وفي روايةٍ لهُ: «الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللهِ يُكَفِّرُ كُلَّ شَيْءٍ إِلاَّ الدَّيْنَ» . اللَّهُمَّ اعْصِمْنَا وَاحْمِنَا عَنْ الرُّكُونِ إِلى عِدَاكَ وَارْزُقْنَا بُغْضَهُمْ وَأَعْوَانِهِم وَوَفِّقْنَا لِمَحَبَّتِكَ وَمَحَبَّةِ رُسُلِكَ وَأَوْلِيَائِكَ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ. اللَّهُمَّ نَجّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنْ النَّارِ وَعَافِنَا مِنْ دَارِ الْخِزْيِ وَالبَوَارِ وَأَدْخِلْنَا بِفَضْلِكَ الْجَنَّةَ دَارَ القَرَارِ وَعَامِلْنَا بِكَرَمِكَ وَجُودِكَ يَا كَرِيمُ يَا غَفَّارُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْياءِ مِنْهُم والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. موعظة: عِبَادَ اللهِ إِنَّ الأَوْلادَ بدُونِ تَرْبيةٍ لا قِيمَةَ لَهُمْ بَيْنَ صُفُوفِ الأَوْلادِ، بَلْ هُمْ بِدُونِ تَرْبِيَةٍٍ مُصِيبَةٌ كُبْرَى على الوَالِدَيْنِ خَاصةً وعلى الْمُجْتَمَعِ كُلِّهِ وَخَيرٌ مِنْ وُجُودِهِمْ بِدُونِ تَرْبِيَةٍ أَوْ بِتَرْبِيَةٍ فَاسِدَةٍ عَدَمُهُمْ، لأَنَّهُ لَيْسَ فِي عَدَمِهِمْ ضَرَرٌ، لا عَلَى الْوَالِدَيْنِ وَلا عَلَى الْجَمَاعَةِ وَلا عَلَى الأفرادِ، بَلْ في عَدَمِهِمْ مَصَالِحُ مُتَعَددةٌ، هَذَا بَيَانُ حَالِهِمْ بِلا تَرْبِيَةٍ أَوْ بِتَرْبِيَةٍ فَاسِدَةٍ، فَلْيَعْلَمْهُ الرَّجُلُ الْحَكِيمُ، أَمَّا التَّرْبِيَةُ فَشَيْءٌ هَيِّنٌ

يَسِيرٌ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فَمِنَ الأَسْبَابِ إِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ لا تَعْمَلَ أَنْتَ وَزَوْجَتُكَ أمامَ أَوْلادِكُمَا شَيْئًا يَكُونُ فَاعلُهُ مُتَوَجِّهًا عَلَيْهِ قَدْرٌ مِنْ اللوْمِ، بَلْ تَلْزمانِ الآدَابَ السَّامِيةَ وَالأَخْلاقَ الفَاضِلَةِ لِيَقْتَدُوا بِكُمَا، ذَلِكَ لأَنَّ الولدَ يُقَلِّدُ غَالِبًا أُمَّهُ وَأَبَاهُ تَقْلِيدًا مُطْلَقًا لا عِقَالَ لَهُ ولا زِمَامَ وَيَتَحَدَّثُ عَنْ سِيرةِ أَبَوَيْهِ وَأَفْعَالِهمَا وَيَفْتَخِرُ بِهِمَا وَبِمَا لَهُمَا مِنْ سَجَايَا وَيَمْدَحُهُمَا وَيذُبُّ عَنْهُمَا بِكُلِّ مَا يَسْتَطِيعُ هذا في الغالبِ كَمَا ذَكَرْنَا ويندُرُ خِلافُه تَأمَّلْ مَا حَكَاهُ القُرْآنُ الكريمُ لِتَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ صِدْقٌ وَأَنَّ صَلاحَ الأبَوَيْنِ وَتَوْجِيهَهُمَا تَوْجِيهًا حَسَنًا عَلَيْهِ مَدَارٌ عَظِيمٌ ذَكَرَ اللهُ في كِتَابِهِ العَزِيز مَرَّاتٍ أَنَّ الرُّسُلَ بَعْدَ إظْهَارِ الْمُعْجِزَاتِ يَدْعُونَ قَوْمَهُمْ لِلْكَمَالِ فَيُكَذِّبُونَهُم في دَعْوَتِهِمْ وَهُمْ رُسُلُ اللهِ بِحُجّةِ أَنَّ آبائهُمْ لَيْسَتْ أَعْمَالُهُمْ كَهِذِهِ الأَعْمَالِ فَيُرَجّحُونَ عَمَلَ آبَائِهِمْ وَهُمْ كَفْرٌ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ وَهُوَ دِينُ رَبِّنَا ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ قَالَ تَعَالى عَنْ مَا قالوه: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} وفي الآيةِ الأُخْرى: {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} هكذا الآباءُ عِنْدَ الأَبْنَاءِ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ العُظْمَى التي عِنْدَهُمْ لا تُدَانِيهَا مَنْزِلَةُ عَظِيمٍ، وَاسْمَعْ إِلى قَوْلِ الفَرَزْدَق يَتَحَدَّى جَرِيرًا: أُولئكَ آبائِي فجِئنِي بمِثْلِهِم إِذَا جَمَعَتْنَا يا جَرِيرُ الْمَجَامِعُ ويقول الآخر: إِنَّا َنَبْنِي عَلى مَا شَيَّدَتْهُ لَنَا آبَاؤُنا الغُرُّ مِنْ مَجدِوِ مِن كَرَمِ

آخر: وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الفِتْيَانِ مِنَّا عَلَى مَا كَانَ عَوَدَهُ أَبُوهُ حَتَّى إِنَّهُم كَانُوا في الْجَاهِلِيةِ يَحْلفونَ بآبائِهِمْ حَتَّى نَهَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «لا تَحْلِفُوا بآبائكم» . وكذلك نَهَى عَن الْحَلْفِ بِغَيْرِ الآباءِ، وَلِذَلِكَ أَبْنَاءُ الوَالِدَيْنِ الكَامِلَيْنِ لا يَعْمَلانِ إِلا الأَعْمَالَ الحسنةَ التِي رَأَوْا وَالِدَيْهِم يَعْمَلانِهَا فَيشِبُّونَ وَيَشِيبُونَ لا يَعْرِفونَ إِلا الكَمَالَ ولو كَلفْتَهُم غَيْرَهُ قَالُوا: إِنَّ هَذَا وَالِدَانا لا يَعْرِفَانِهِ، وَتَجِدُ أَبناءَ الْمُنْحَرِفِينَ الفَاسِدِينَ فَاسِدِينَ كَآبَائِهِمْ غَالِبًا، لأَنَّهُمْ وَرِثُوا الفَسَادَ مِنْ أَبَوَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ تَجِدُ أَبْنَاءَ الفَاسِدِينَ الفَاسِقِينَ يَحْكُونَ عَنْ آبائِهِمْ مَا يَتَغَيَّرُ لَهُ وَجْهُ صَاحِبِ الدِّينِ وَمِنَ النَّادِرِ أَنْ تَجِدَ وَلَدَ الفَاسِدينَ لَيْسَ فَاسِدًا وَمِنْ الشُّذوذِ أَيْضًا أَنْ تَجِدَ وَلَدَ التَّقِيِّ وَالتَّقِيّةِ شَقِيًّا فَاسِدًا هَذَا يُعْرَفُ قَدِيمًا قَبْلَ أَنْ يَتَوَلَّى تَعْلِيمَ الشَّبَابِ ضِعَافُ الدِّينِ وَمَنْ لا دِينَ لَهُمْ وَلا أَخْلاقَ وَإِنْ شِئْتَ فَاقَرأ قَوْلَ اللهِ تَعَالى: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} وَلَمْ يُبَرِّئَهَا قَوْمُهَا مِنْ الفَاحِشَةِ إِلا بَعْدَ أَنْ بَرَّأَهَا اللهُ جَلَّ وَعَلا عَقِبَ الوِلادَةِ عَلَى لِسَانِ وَلَدِهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ عَرَفَ قَوْمُهَا أَنَّ الوَلدَ يَتْبَعُ أَبَوَيْهِ فِي الغَالِب حَسْبَ العَادَةِ التِي أَجْرَاهَا اللهُ جَلَّ وَعَلا في الصَّلاحِ والفسادِ في الأَبَوَيْنِ فَاسْتَغْرَبُوا مِنْ مَرْيَمَ الطَّاهِرَةِ العَفِيفَةِ أَنْ تَفْعَلَ الفَاحِشَةَ لَمَّا رَأَوْا بأَعْيُنِهِمْ عَلَى كَتِفِهَا وَلدًا مِنْ الأَوْلادِ وَيَحَسْبِ مَا أَجْرَى اللهُ مِنْ العَادَةِ أَنَّهُ لا يَجِيءُ الوَلدُ إِلا مِنْ وَالِدٍ لِذَلِكَ فَهِمَ قومُها فِيهَا أَنَّهَا جَاءَتْ هَكَذَا مِنْ وَالِدَيْنِ صَالِحِينَ عَلى خِلافِ الْمُعْتَادِ وَلَمْ يَعْرِفُوا أَنَّهَا جَاءَتْ كَالْعَادَةِ صَالِحَةً مِنْ الصَّالِحِينِ إِلا

بَعْدَ أَنْ كَلَّمَهُمْ وَلَدُهَا عِيسَى عَلَيْهِ السلامُ عَقِبَ ولادَتِهِ بِمَا يُبِرِّؤُهَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ كَلامَهُمْ أَقْبَلَ عليهِمْ وَتَرَكَ الرَّضَاعَ وَأَشَارَ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ بَدَأَ يَتَكَلَّمُ فَوَصَفَ نَفْسَهُ بِجُمْلَةِ صِفَاتٍ فَقَالَ: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} . فَوِلادَةُ عِيسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلاةِ والسلامِ عَجِيبَةٌ حَقًّا بالقِيَاسِ إِلى مَأْلُوفِ البَشَرِ وَلَكِنْ لا غَرَابَةَ فِيهَا عِنْدَمَا تُقَاسُ إِلى خَلْقِ آدَمَ أَبِي البَشَرِ قَالَ اللهُ تَعَالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} فاللهُ جَلَّ وَعَلا لا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ في الأَرْضِ وَلا في السَّمَاءِ وَالْهَدَفَ الْمَقْصُودُ مِنْ مَا تَقَدَّمَ الْحِرْصُ وَالْجِدُّ وَالاجْتِهَادُ عَلَى تَوْجِيهِ الأَوْلادِ إِلى الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالأَخْلاقِ الفَاضِلَةِ وَأَنْ يَحْرِصُوا جَدًّا على مُلاحَظَتِهمْ وَحِفْظِهمْ عَنْ مُرَافَقَةِ الأَشْرَارِ وَمَنْعِهمْ مِنْ حُضُورِ الْمَلاهِي وَالْمُنْكَرَاتِ كَالتِّلِفِزيُون مَقْبَرَةُ الأَخْلاقِ والفِيدْيُو مُعَلِّمِ الفَسَاد وَالكُورةِ مُورِثَةِ العَدَاوَةِ وَالفُرقَةِ بَيْنَ القُلُوبِ وَالأَبْدَان وَمِنَ الْخُرُوجِ لَيْلاً حَسْبَ الاسْتِطَاعَةِ وَالقُدْرَةِ وَالْهِدَايَةُ وَالتَّوْفِيقُ بِيدِ اللهِ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَلَوْ كَانَ مِنْ ذُرِيَّةِ الرُّسُلِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَوْ كَانَ مِنْ أَوْلادِ الفَرَاعِنَةِ وَالْكَفَرَةِ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يُخْلَقَ سَعِيدًا تَخَلَفَتْ ... ظنُونُ مُرَبِّيهِ وَخَابَ الْؤُمِّلُ فَمُوسَى الذِي رَبَّاهُ جِبْرِيلُ كَافِرٌ ... وَمُوسَى الذِي رَبَّاهُ فِرْعَوْنُ مُرُسَلُ اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا عِلْمًا نَافِعًا وَعَمَلاً مُتَقَبِّلاً وَرِزْقًا وَاسِعًا نَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى طَاعَتِكَ، وَقَلْبًا خَاشِعًا، وَلِسَانًا ذَاكِرًا، وَإِيمَانًا خَالِصًا، وَهَبْ لَنَا إِنَابَةَ الْمُخْلِصِينَ وَخُشُوعَ الْمُخْبِتِينَ، وَأَعْمَالَ الصَّالِحِينَ، وَيَقِينَ الصَّادِقِينَ،

قصة النفر الذين أرسلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بئر معونة وقتلهم عامر بن الطفيل ويليها نظم لابن القيم

وَسَعَادَةَ الْمُتَّقِينَ، وَدَرَجَاتِ الفَائِزِينَ، يَا أَفْضَلَ مَنْ رُجِيَ وَقُصِدَ، وَأَكْرَمَ مَنْ سُئِلَ. اللَّهُمَّ يا مَنْ لا تَضُرَّهُ الْمَعْصِيةُ ولا تَنْفَعَهُ الطَّاعَةِ أَيْقِظْنَا مِنْ نَوْمِ الغَفْلَةِ وَنَبَّهْنَا لاغْتِنَامِ أَوْقَاتِ الْمُهْلَةِ وَوِفِّقْنَا لِمَصَالِحْنَا وَاعْصِمْنَا مِنْ قَبَائِحْنَا وَذُنُوبِنَا وَلا تُؤاخِذْنَا بِمَا انْطَوَتَ عَلَيْهِ ضَمَائِرُنَا وَأَكَنَّتْهُ سَرائِرُنَا مِنْ أَنْوَاعِ القَبَائِحِ والْمَعَائِبِ. اللَّهُمَّ أَرِنَا الْحَقَّ حَقًا وَارْزُقْنَا إتِّبَاعَه، وَأرِنا الباطل باطلاً وَارْزُقْنَا اجْتِنَابَهُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) في هذه الآيات الكريماتِ، والأحاديثِ الشريفةِ بيانُ فَضْلِ الْجِهَادِ وَالشُّهَدَاءِ وَكَرَامَتُهُمْ، وَمَا مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنْ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَفِي ضِمْنِهَا تَسْلِيَةٌ لِلأَحْيَاءِ عَنْ قَتْلاهم، وَتَعْزِيَةٌ لَهُمْ، وَتَنْشِيطٌ لَهُمْ عَلى القِتَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُثَابَرَةِ عليهِ، وَالتَّعَرُّضِ لِلشَّهَادَةِ، وَالْجِدِّ وَالاجتهادِ في الْحُصُولِ عَلَيْهَا، نَسْأَلُ اللهَ الْحَيَّ القيومَ، العليَّ العظيمَ، أَنْ يوفِقَنَا لَهَا إِنَّهُ القَادِرُ على ذلك. عَنْ أَنَسٍ بن مالكٍ - في أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذيِن أرسلَهُمْ نَبِيُّ اللهِ إلى بئْرِ مَعُونَةَ - قالَ: لا أَدْرِي أَرْبَعِينَ أَوْ سَبْعِينَ وَعَلَى ذَلِكَ الْمَاء عَامِرُ بنُ الطُّفيلِ الْجَعفريُ فخرَجَ أَولئك النَّفَرُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتُوا غَارًا مُشْرِفًا على الماءِ، فقعَدُوا فِيهِ ثُمَّ قَالَ: بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَيُّكُمْ يُبَلِّغُ رِسَالةَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ هَذَا الْمَاءِ؟ فَقَالَ - أُراهُ - أبو مِلْحَانَ الأَنْصَارِي: أَنَا أُبَلِّغُ رِسَالَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ حتَّى أَتَى حَوْلَ بَيْتِهِمْ فَاخْتَبَأ أمَامَ البُيُوتِ ثَمَّ قَالَ: يَا أَهْلَ بِئْرِ مَعُونَةَ إني رُسُولُ رَسُولِ اللهِ إليكُمْ أَني أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ،

وأَنَّ محمدًا عبدُهُ وَرَسُولُهُ فآمِنُوا باللهِ وَرَسُولِهِ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِنْ كَسْرِ البيتِ برمْحٍ، فَضَرَبَه في جَنْبِهِ حتى خَرَجَ مِنْ الشِّقِّ الآخر فقالَ: اللهُ أكبَرُ فُزْتُ وربِّ الكعبةِ فاتَّبَعُوا أَثَرَهُ حتى أَتَوْا أصحابَه في الغار فقَتَلَهُمْ أجمعينَ عامرُ بن الطفيلِ. وَقَالَ إِسْحَاقُ وَهُوَ ابنُ أَبي طَلْحَةَ: حَدَثَّنِي أَنَسُ بِنُ مَالكٍ أنَّ الله أنَزَل فِيهم قُرْآنًا (بِلِّغُوا عنا قَومَنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَرَضِينَا عَنْهُ) . ثُمَّ نُسِخَتْ فَرُفِعَتْ بعْدَ مَا قرأنها زَمانًا وأنزل الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} فَقَالَ: أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَسْرَحُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ اطِّلاعَةً فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟ قَالُوا: أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا ففعل ذَلِكَ بِهِمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا قَالُوا: يَا رَبِّ نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا» . قالَ ابنُ القَيِّمِ رحمه اللهُ: عَزَّى اللهُ نبيَّهُ وأولياءَهُ عَمَّنْ قُتِلَ مِنْهُمْ في سبيلِهِ، أَحْسَنَ تعزيةٍ وألطَفَهَا وَأدْعاهَا إلى الرِّضَا بِمَا قضاهُ لَهمْ، فقالَ: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً} الآية فجمَعَ لَهُمْ إلى الحياةِ الدَّائمةِ منزلةَ القُرْبِ منْهُ، وَأَنَّهم عندَهُ، وَجَرَيانَ الرزْقِ الْمستَمّرِ عليهم وفرَحَهُمْ بِمَا آتَاهمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وهو فوقَ الرِّضَا واستبشارَهُمْ بإخوانِهِمْ الذين باجتماعِهِم بِهِمْ يتمُّ سرورُهُمْ وَنَعِيمُهُمْ

وَاسْتِبْشَارَهُم بِمَا يُجَدّدُ لَهم كَلَّ وَقْتٍ مِنْ نِعْمَتِهِ وَكَرَامَتِهِ. وَعَنْ أَنَسِ أَنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ لَهَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ يَسُرُّهَا أَنْ تَرْجِعُ إِلَى الدُّنْيَا إِلاَّ الشَّهِيدُ فَإِنَّهُ يَسرُهُ أَنْ يَرْجِعَ إلى الدُّنْيَا فَيُقْتلَ مرةً أُخْرى مِمَّا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ» . تَفَرَّدَ بِهِ مُسْلم. وَعن جابر قَالَ: قالَ لِي رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَعَلِمْتَ أنَّ اللهَ أَحْيَا أَباكَ فَقَالَ له: تَمَنَّ. فَقَالَ لَهُ: أُرَدُّ إلى الدُّنْيَا فَأُقتَلُ فِيكَ مَرةً أُخْرَى، قالَ: إِنِّي قَضَيْتُ أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لا يُرْجَعُونَ» . وَعَنْ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ أَبِي جَعَلْتُ أَبْكِي وَأَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ فَجَعَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَوْنَنِي وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْهَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَبْكِيهِ - أَوْ مَا تَبْكِيهِ - مَا زَالَتْ الْمَلائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رُفِعَ» . وَعَنْ ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ جَعَلَ اللهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ، وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأَوي إلى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ في ظِلِّ العَرْشِ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَأْكَلِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ وَحُسْنَ مَقِيلِهِم، قَالُوا: يَا لَيْتَ إخْوَانِنَا يَعْلَمُونَ مَا صَنَعَ اللهُ بِنَا لِئَلا يَزْهَدُوا في الْجِهَاد، ولا يَنْكُلُوا عَنْ الْحَرْبِ فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ فَأَنْزِلَ هَذِهِ الآياتِ: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} الآيات.

قال ابن القيم رحمه الله: فالشَّأنُ لِلأرْوَاحِ بَعْدَ فِراقِهَا أبدَانَها وَاللهِ أعظَمُ شَانِ إمَّا عَذَابٌ أَوْ نَعِيمٌ دَائِمٌ قَدْ نُعِّمَتْ بِالرَّوْحِ والرَّيحَانِ وَتَصِيرُ طَيْرًا سَارِحًا مَعْ شَكْلِهَا تَجْنِي الثِّمَارَ بِجَنَّةِ الحَيَوانِ وَتَظَلُّ وَارِدَةً لأنْهَارٍ بِهَا حَتَّى تَعُودَ لِذَلِكَ الْجُثْمَانِ لَكِنَّ أَرْوَاحَ الذِينَ اسْتُشْهِدُوا فِي جَوفِ طَيْرٍ أَخْضَرٍ رَيَّانِ فَلَهُمْ بِذَاكَ مَزِيَّةٌ في عَيْشِهِم ونَعِيمُهُم لِلرُّوْحِ وَالأبدَانِ بَذَلُوا الجُسُومَ لربِّهِم فأعَاضَهُم أَجْسَامَ تِلكَ الطَّيرِ بالإحْسَانِ وَلَهَا قَنَادِيلٌ إليهَا تَنتَهِي مَأوَى لَهَا كَمَسَاكِنِ الإِنْسَانِ فالرُّوحُ بَعدَ الموتِ أكمَلُ حَالَةٍ منهَا بِهَذِي الدَّارِ في جُثمَانِ وَعذَابُ أشقَاهَا أشدُّ مِنَ الذِي ... قَدْ عَاينَت أبصَارُهَا بِعِيَانِ

قصة عبد الله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح وأنس بن النضر

اللَّهُمَّ يا فَالِقَ الحَبِّ والنَّوَى، يا مُنْشِئَ الأجْسَادِ بَعْدَ البلَى يا مُؤْوي المنْقَطِعِينَ إِليْه، يا كَافِي المُتَوَكِّلينَ عليه، انْقَطَعَ الرَّجَاءُ إلا مِنْكَ، وخابَتِ الظُنُونُ إلا فِيكَ، وضَعُفَ الاعْتمادُ إِلا عَلَيْكَ نسألُكَ أنْ تُمْطَرَ مَحْلَ قُلُوبِنَا مِن سَحائِبِ بِرِّكَ وإحْسَانِكْ وأَنْ تُوِفقَّنا لِمُوجِباتِ رَحْمَتِكَ وعَزَائِم مَغفرتِكَ إنكَ جَوادٌ كريم رؤوفٌ غفور رحيم. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا، وَلِسَانًا صَادِقًا، وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً، وَنَسْأَلُكَ بَرَكَةَ الحياةِ وَخَيْرَ الحيَاةِ، وَنَعُوذ بِكَ مِنْ شَرّ الحياةِ، وَشَرّ الوَفَاةْ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَم الرَّاحِمِيْنَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. وَقَالَ عَبْدُ الله بنُ عَمْروٍ بن حَرَام: رَأَيْتُ في النَّوْمِ قَبْلَ أُحُدٍ مُبَشِّر بن عَبْدِ الْمُنْذِرِ يَقُولُ لِي: أَنْتَ قَادِمٌ عَلَيْنَا في أَيَّام. فَقُلْتُ: وَأَيْنَ أَنْتَ؟ فَقَالَ: في الْجَنَّةِ نَسْرَحُ فِيهَا حَيْثُ نَشَاءُ قُلْتُ لَهُ: أَلَمْ تُقْتَلْ يَوْمَ بَدْرٍ؟ فَقَالَ: بَلَى، ثُمَّ أُحِييتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم، فقالَ: «هَذِهِ الشَّهَادَةُ يا جَابِرُ» . وَقَالَ خَيْثَمَةُ وَكَانَ ابْنُهُ قَدْ اسْتُشْهِدَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ -: لَقَدْ أَخْطَأْتَنِي وَقْعَةُ بَدْرٍ، وَكُنْتُ وَاللهِ عَلَيْهَا حَرِيصًا. حَتَّى سَاهَمْتُ ابْنِي في الْخُرُوجِ، فَخَرَجَ سَهْمُهُ فَرُزِقَ الشَّهَادَةَ وَقَدْ رَأَيْتُ البَارِحَةَ ابْنِي في النَّوْمِ في أَحْسَنِ صُورَةٍ، يَسْرَحُ في ثِمَارِ الْجَنَّةِ وَأَنْهَارِهَا، يَقُولُ: الْحقْ بِنَا تُرَافِقُنَا في الْجَنَّةِ، فَقَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَ رَبِّي حَقًّا، وَقَدْ وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ أَصْبَحْتُ مُشْتَاقًا إِلى مُرَافَقَتِهِ فِي الْجَنَّةِ، وَقَدْ كَبُرَتْ سِنِّي، وَرَقَّ عَظْمِي وَأَحْبَبْتُ لِقَاءَ رَبِّي، فَادْعُ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ يَرْزُقْنِي الشَّهَادَةَ وَمُرَافَقَةَ سَعْدٍٍ في الْجَنَّةِ، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ بِذَلِكَ، فَقُتِلَ بأُحُدٍ شَهِيدًا، وَقَالَ عَبْدُ اللهِ

ابنُ جَحْشٍ في ذَلِكَ اليَومِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُقْسِمُ عَلَيْكَ أَنْ ألْقَى الْعَدُوَّ غَدَا فَيَقْتُلُونِي ثُمَّ يَبْقُرُوا بَطْنِي، وَيَجْدَعُوا أَنْفِي وَأُذُنِي، ثُمَّ تَسْأَلُنِي فِيمَ ذَلِكَ فَأَقُولُ: فِيكَ. وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ أَعْرَجَ شَدِيدَ الْعَرَجِ، وَكَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ بَنِينَ شَبَابٌ يَغْزُونَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا غَزَا، فَلَمَّا تَوَجَّهَ إِلَى أُحُدٍ أَرَادَ أَنْ يَتَوَجَّهُ مَعَهُ فَقَالَ لَهُ بَنُوهُ: إِنَّ اللهَ قَدْ جَعَلَ لَكَ رُخْصَةً فَلَو قَعَدْتَ فَنَحْنُ نَكْفِيكَ وَقَدْ وَضَعَ اللهُ عَنْكَ الْجِهَادَ فَأَتَى عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ بَنِيَّ هَؤُلاَءِ يَمْنَعُونِي أَنْ أَخْرُجَ مَعَكَ وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ أُسَتَشْهَدَ فَأَطَأَ بِعَرْجَتِي هَذِهِ فِي الْجَنَّةِ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ وَضَعَ اللَّهُ عَنْكَ الْجِهَادَ» . وَقَالَ لِبَنِيهِ: «وَمَا عَلَيْكُمْ أَنْ تَدْعُوهُ لَعَلَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَرْزُقُهُ الشَّهَادَةَ» . فَخَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا. وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ، لَئِنِ اللهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ - يَعْنِي أَصْحَابَهُ - وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاَءِ - يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ - ثُمَّ تَقَدَّمَ، فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ الْجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ. قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ. قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ

رثاء للنبي - صلى الله عليه وسلم -

قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلاَّ أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ. قَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نَرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِى أَشْبَاهِهِ: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ} إِلَى آخرها. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَعَنْ سَمُرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَصَعِدَا بِي الشَّجَرَةَ، فَأَدْخَلاَنِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ، لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا، قَالاَ: أَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ» . رواه البخاري. شِعْرًا: لَبَيْكَ رَسُولَ اللهِ مَنْ كَانَ بَاكِيَا وَلا تَنْسَ قَبْرًا بالْمَدِينَةِ ثَاوِيَا جَزَى اللهُ عَنَّا كُلَّ خَيرٍ مُحَمَّدًا فَقَدْ كَانَ مَهْدِيًا دَلِيلاً وَهَادِيَا وَلَنْ تَسْرِيَ الذِكْرَى بِمَا هُوَ أَهْلُهُ إِذَا كُنْتَ لِلْبَرِّ الْمُطَهَّرِ نَاسِيَا أَتَنْسَى رَسُولَ اللهِ أَفْضَلَ مَنْ مَشَى وَآثَارُهُ بالْمَسْجَدَيْنِ كَمَا هِيَا وَكَانَ أَبَرَّ الناسِ بالناسِ كُلِّهم وَأَكْرَمَهُم بَيْتًا وَشِعِبًا وَوَادِيَا تَكَدَّرَ مِنْ بَعْدِ النبيّ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ سَلامُ اللهِ مَا كَانَ صَافِيَا

فَكَمْ مِنْ مَنَارٍ كَانَ أَوضَحَهُ لَنَا وَمِنْ عَلَمٍ أَمْسَى وَأَصْبَحَ عَافِيَا رَكَنَّا إلى الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ بَعْدَهُ وَكَشَّفَتِ الأَطْمَاعُ مِنَّا الْمَسَاوِيَا وَإِنّا لَنُرْمَى كُلَّ يَوْمٍ بِعَبْرَةٍ نَرَاهَا فَمَا نَزْدَادُ إلا تَمَادِيَا نُسَرُّ بِدَارٍ أَوْرَثَتْنَا تَضَاغُنَا عَلَيْهَا وَدَارٍ أَوْرَثَتْنَا تَعَادِيَا إِذا المَرءُ لَم يَلبَسْ لِبَاسًا مِنَ التُقى تَقَلَّبَ عُريانًا وَإِن كانَ كاسِيَا أَخي كُن عَلى يَأسٍ مِنَ الناسِ كُلِّهُم جَمِيعًا وَكُن ما عِشتَ للهِ راجِيَا أَلَم تَرَ أَنَّ اللهَ يَكْفِي عِبادَهُ فَحَسْبُ عِبادِ اللهِ بِاللهِ كافِيَا وَكَمْ مِنْ هَنَاتٍ مَا عَلَيْكَ لَمَستَهَا مِنَ النَّاسِ يَومًا أَو لَمَسْتَ الأَفاعِيَا أَخِي قَدْ أَبَى بُخْلِي وَبُخْلُكَ أَنْ يُرَى لِذِي فاقَةٍ مِنّي وَمِنْكَ مُوَاسِيَا كِلانا بَطينٌ جَنبُهُ ظَاهِرُ الكُسى وَفي النَّاسِ مَنْ يُمْسِي وَيُصْبِحُ طَاوِيَا كَأَنّا خُلِقنا لِلبَقاءِ وَأَيُّنا

.. وَإِن مُدَّتِ الدُّنْيَا لَهُ لَيْسَ فَانِيَا أَبى المَوتُ إِلا أَن يَكونَ لِمَن ثَوى مِنَ الخَلقِ طُرًّا حَيثُمَا كَانَ لاقِيَا حَسَمْتَ الْمُنَى يَا مَوْتُ حَسْمًا مُبَرِّحًا وَعَلَمْتَ يَا مَوتُ البُكَاءَ البَواكِيَا وَمَزَّقتَنا يا مَوتُ كُلَّ مُمَزَّقٍ وَعَرَّفتَنا يَا مَوْتُ مِنْكَ الدَوَاهِيَا أَلا يَا طَوِيلَ السَّهْوِ أَصْبَحْتَ ساهِيًا وَأَصْبَحتَ مُغتَرًّا وَأَصْبَحْتَ لاهِيَا أَفي كُلِّ يَومٍ نَحنُ نَلْقَى جَنازَةً وَفي كُلِّ يَوْمٍ نَحْنُ نَسْمَعُ نَاعِيَا وَفي كُلِّ يَومٍ مِنكَ نَرثِي لِمُعوِلٍ وَفي كُلِّ يَومٍ نَحْنُ نُسْعِدُ باكِيَا أَلا أَيُّها البَانِي لِغَيرِ بَلاغِهِ أَلا لِخَرابِ الدَّهرِ أَصْبَحْتَ بانِيَا أَلا لِزَوالِ العُمْرِ أَصْبَحْتَ جامِعًا وَأَصْبَحْتَ مُختالاً فَخورًا مُباهِيَا كَأَنَّكَ قَدْ وَلَّيتَ عَنْ كُلِّ مَا تَرى وَخَلَّفتَ مَن خَلَّفتَهُ عَنْكَ سالِيَا اللَّهُمَّ أَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا في الأُمُورِ كُلِّهَا وَأَجِرْنَا مِنْ خِزي الدنيا وعذاب الآخرةِ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ اللَّهُمَّ قَنِّعْنَا مِنْ الدُّنْيَا بِاليَسِيرِ وَسَهِل عَلينَا كُلّ أمر عَسِير وَوَفِّقْنَا لِمَا تُحِبَّه وَتَرْضَاهُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرِ وَأَسْكِنَّا دَارَ كَرَامَتِكَ

وقعة بدر وذكر سببها وماذا عمل - صلى الله عليه وسلم - فيها

يَا مَنْ هُو مَلْجَؤُنَا وَمَلاذُنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِير وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ كُلِّ هَمَّ فَرَجَا وَمِنْ كُلِّ ضَيْقٍ مَخْرَجًا وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ إخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) في وقعة بدر فَلَمَّا كَانَ في رَمَضَانَ في العام الثاني، في سَبْعَةَ عَشَرَ، في صَبِيحَةِ يوم الْجُمعةِ، وَقَعَتْ بَدْرُ بَيْنَ محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَيْشِهِ، وَبَيْنَ الْقَوْمِ الكَافِرين، أعداءِ اللهِ ورسولهِ، وهِيَ قِصَّةٌ مَشْهُورَةٌ مَعْرُوفَةٌ، مَذْكُورَةٌ في كُتُبِ السِّيَرِ وَالتَّوَارِيخِ وَمُلْخَّصُهَا أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ العِيرِ الْمُقْبِلَةِ مِنْ الشَّامِ لِقُرَيْشِ، العِيرُ التِي خَرَجُوا في طَلَبِهَا، لَمَا خَرَجَتْ مِنْ مَكَّةَ، وَكَانُوا نَحْوَ أَرْبَعِينَ رَجُلاً، وَفِيهَا أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ لِقُرَيْشٍ، حَتَّى لَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ قُوِّمَ مَا فِيهَا بِنَحْوِ خَمْسِينَ أَلْف دِينَارٍ فَتَرَامَتْ إِلى رَسُولِ اللهِ ? أَنْبَاؤُهَا، بِأَنَّهَا قَدْ فَصَلَتْ مِنْ الشَّام ِ، عَائِدَةً إِلى مَكَّةَ، فَنَدَبَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ، لِلْخُرُوجِ إِلَيْهَا، وَأَمَرَ مَنْ كَانَ ظَهْرُهُ حَاضِرًا بِالنُّهُوضِ، وَلَمْ يَنْتَظِرْ مَنْ كَانَ ظَهْرُهُ غَائِبًا، وَلَمْ يَحْتَفِلْ لَهَا احْتِفَالاً بَلِيغًا، لأَنَّهُ خَرَجَ مُسْرِعًا وَمَعَهُ ثَلاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةٌ عَشَرَ رَجُلاً، مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَسَارَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ بُيُوتَ السُّفيَا، وَهِيَ آبَارٌ عَذْبَةُ الْمَاءِ، عَلَى نَحْوِ مِيلٍ مِنْ الْمَدِينَةِ، فَنَزَلَ بِهَا يَوْمَ الأَحد، فَضَرَبَ عَسْكَرَهُ هُنَاكَ. ثُمَّ عَرَضَ الْجُنْدَ، فَرَدَّ مِنْهُمْ صِغَارَهُمْ، الذِينَ لا يَقْوَوْنَ عَلَى حَمْلِ السِّلاحِ، فَكَانَ مِمَّنْ رَدَّهُمْ عَبْدُ اللهِ بن عُمَرَ، وَرَافِعُ بن خُدَيْجٍ، وَالبَرَاءُ بنُ عَازِبٍ، وَأُسَيَّدُ بنُ حُضَيْرِ بِنْ سَمَّاكٍ، وزيدُ بنُ

الأرقم، وزيدُ بنُ ثابتٍ، وَعَرَضَ عُمَيْرَ بنَ أَبِي وَقَّاصٍ فَاسْتَصْغَرَهُ فَبَكَى عُمَيْرٌ، فَأَجَازهُ، وَسَيَّرَهُ مَعَ الْجَيْشِ، وَرَوَى الوَاقدي عن سَعْد ابن أبي وَقَّاصٍ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ أَخِي عُمَيْرَ بنَ أَبِي وَقَّاصِ، قَبْلَ أَنْ يَعْرِضَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَارَى، فَقُلْتُ مَالَكَ يَا أَخِي؟ قَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَرَانِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَسْتَصْغِرُنِي فَيَرُدَّنِي، وَأَنَا أُحِبُّ الْخُرُوجَ، لَعَلَّ اللهَ يَرْزُقَنِي الشَّهَادَةَ، قَالَ: فَعُرِضَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَصْغَرَهُ، فَقَالَ: «ارْجِعْ» . فَبَكَى عُمَيْرٌ، فَأَجَازَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَكَانَ سَعْدٌ يَقُولُ: كُنْتُ أَعْقِدُ لَهُ حَمَائِلَ سَيْفِهِ.. فَقُتِلَ بِبَدْرٍ وَهُوَ ابنُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَة. وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن بُيُوتَ السُّقْيَا فِي نَحْوِ خَمْسَةَ عَشَرَ وثَلاثِمِائَةِ، وَرُوِيَ أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عَدّ أَصْحَابَهُ يَوْمَ بَدْرِ، وَجَدَهُمْ ثَلاثَمِائَةٍ وَثَلاثَةَ عَشَرَ رَجُلاً فَفَرِحَ بِذَلِكَ وَقَال: «عِدّةَ أَصْحَابِ طَالُوتَ الذَّيِنْ جَازوا مَعَهُ النَّهْرَ» . وكان فِيهِمْ نَحْو سَبْعِينَ مِن الْمُهَاجِرِينَ، وَنَحْوُ مائتَيْن وَأَرْبَعِينَ مِنْ الأَنْصَارِ، ولَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ مِن الْخَيْلِ إِلا فَرَسَانِ، فَرَسٌ لِلزُبَيْرِ بنِ الْعَوَّامِ، وَفَرَسٌ لِلْمِقْدَادِ بِنْ الأَسْوَدِ الْكَنَدِي، وكان مَعَهُمْ سَبْعُونَ بَعِيرًا، يَعْتَقبُ الرَّجُلانِ والثَّلاثَةُ على الْبَعِير الواحدَ، والأَرْبَعَةُ عَلَى بَعِيرٍ وَاحِدٍ، يَتَبَادَلُونَ الرُّكُوبَ عَلَيْهِ، فَكَانَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَيُّ بنُ أبِي طَالبِ، وَمَرْثَدُ بنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيّ يَعْتَقِبُونَ بَعِيرًا، وَكَانَ حَمْزَةُ، وَزَيْدُ بنُ حَارِثَةَ، وَأَبُو كَبْشَةَ، وانَسَة مَوْلَيَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

قصيدة في مدح الصحابة رضي الله عنهم

يَعْتَقِبُونَ بَعِيْرًا، وكانَ أَبُو بَكْرٍ، وعُمَرُ، وعِبْدُ الرحمنِ بنُ عَوْفٍ يِعْتَقِبُونِ بَعِيْرًِا. وَهَكَذَا كَانَ كُلُ جَمَاعَةٍ يَتَعَاقَُبْونَ الْمَشْيَ، وَيَتَبَادَلُونَ الرُّكُوبَ عَلَى بَعِيرهِم، وكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأَبَى إلا أَنْ يُشَارِكَ أَصْحَابَهُ في تَعبَهِمْ ورَاحَتِهمِْ، وإلا أَنْ يَأْخُذَ دَوْرَهُ في الْمَشْي وفي الرُّكوبِ كَوَاحِدٍ منْهُمْ، فكانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا انْتَهَتَ نَوْبَتُهُ في الرُّكوبِ نَزَلَ فَيَقُولُ لَهُ رَفِيقَاهُ: اِرْكَبْ يَا رسولَ اللهِ، حتى نَمْشِيَ عَنْكَ. فَيَقُولُ لَهُمَا: «مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى مِنِّي على الْمشِي، ومَا أَنَا بأغْنَى عن الأَجْرِ مِنْكُمَا» . وكان أصحابُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حاجَةٍ شَدِيدَةٍ، فَقرٌ وَعُرِي، ولِذَلِكَ فقد رُوِيَ أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَر إلى أَصْحَابِهِ حينَ خَرَجُوا إلى بَدْرٍ، فَأَثَّرَ في نَفْسِهِ مَنْظَرُهُمْ، فَدَعَا اللهِ لَهُمَ، فقال: «اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ حُفاةٌ فاحْمِلْهُمْ، وَعُرَاةٌ فاكْسُهُمْ، وجِياعٌ فَأَشْبِعْهُمُ، وَعَالةٌ فََأَغْنِهِمْ مِنْ فَضْلِكَ» . واسْتَخْلَفَ على الْمَدِينةِ وعلى الصَّلاةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ، وَلَمَّا كانَ بالرَّوْحَاءِ رَدَّ أبا لُبَابةَ بنَ عبْدِ الْمُنْذِرِ، واسْتعْمَلُه على المدينة. شِعْرًا: وَنَشْهَدُ أنَّ اللهَ خَصَّ رَسُولَهُ بأصْحابِهِ الأبْرَارِ فَضْلاً وَأَيَّدَا فَهُمْ خَيرُ خَلْقِ اللهِ بَعْدَ أنْبِيائِهِ بِهِمْ يَقْتَدِي في الدِّينِ كُلُ مَنْ اقْتَدَا

وَأَفْضلُهم بَعْدَ النبي مُحَمَّدٍ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ذُو الْفَضْلِ والنَّدا لَقَد صَدَّقَ الْمُخْتَارَ فِي كُلِّ قَوْلِهِ وآمَن قَبلَ النَّاسِ حَقًّا وَوَحَّدَا وَفَادَاهُ يَومَ الْغَارِ طَوْعًا بِنَفْسِهِ وَوَاسَاهُ بالأمْوَالِ حَتَّى تَجَرَّدَا وَمِنْ بَعْدِهِ الْفَارُوُقُ لا تَنْسَ فَضْلَهُ لَقَدْ كَانَ لِلإِسْلامِ حِصْنًا مُشَيَّدَا لَقد فَتَحَ الْفَارُوقُ بالسَّيْفِ عَنْوةً كَثِيرَ بِلادِ الْمُسْلِمِينَ وَمَهَّدَا وَأَظْهَرَ دِينَ اللهِ بَعْدَ خَفَائِهِ وَأَطْفَأَ نَارَ الْمُشْرِكِينَ وَأَخْمَدَا وَعُثْمَانُ ذُو النُّورينِ قَدْ مَاتَ صَائِمًا وَقَدْ قَامَ بالْقُرَآنِ دَهْرًا تَهَجَّدَا وَجَهَّزَ جَيْشَ العُسْرِ يَومًا بِمَالِهِ وَوَسَّعَ لِلْمُخْتَارِ والصُّحْبِ مَسْجِدَا وَبَايَعَ عَنْهُ الْمُصْطَفَى بِشِمَالِهِ مُبَايَعَةِ الرِّضْوانِ حَقًّا وَأَشْهَدَا ولا تَنْسَ صِهّرَ الْمُصْطَفَى وابْنَ عَمِهِ فَقَدْ كانَ حبَرًا لِلْعُلُوم وَسَيِّدَا وَفَادَى رَسُولَ طَوْعًا بِنَفْسِهِ

تنظيمه - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في تشكيل حربي يلائم ظروف السير في أرض العدو وتوجيهه عيونه تأتيه بالخبر

.. عَشِيَّةَ لَمَّا بالفِراشِ تَوَسَّدَا وَمَنْ كَانَ مَوْلاهُ النَّبِيُ فَقَدْ غَدَا عَليٌّ لَهُ بالْحَقِ مَولاً وَمُنْجِدًا وَطَلْحَتُهُمْ ثُمَّ الزُّبَيْرُ وَسَعْدُهُمْ كَذَا وَسَعِيدٌ بالسَّعَادَةِ أُسْعِدَا وَكانَ ابْنُ عَوفٍ باذِلَ الْمَالِ مُنْفِقًا وَكَانَ ابنْ جَرَّاحٍ أَمِينًا مُؤَيَّدَا وَلا تَنْسَ بَاقِي صَحْبِهِ وَأَهْلَ بَيْتِهِ وَأَنْصَارَهُ والتَّابِعِينَ على الْهُدَى فَكُلُهُمْ أَثْنَى الإِلهُ عَلَيْهِمُ وَأَثْنَى رَسُولُ اللهِ أَيْضًا وَأَيَّدَا اللَّهُمَّ إِنا نعوذُ بكَ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ وَعَمَلٍ لا يُرْفَعُ وَدُعَاءٍ لا يُسْمَعُ، واغْفِرْ لنا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. اللَّهُمَّ إنا نعوذُ بكَ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ وَعَمَلَ لا يُرْفَعُ وَدُعَاءٍ لا يُسْمَعُ، واغْفِرْ لنا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا من حِزْبِكَ وَعِبَادِكَ الصَّالِحينَ الذين أَهَّلْتَهُمْ لِخِدْمَتِكَ وَجَعَلْتَهُمْ مِمَّنْ قَبِلْتَ صِيامَهُ وَقِيامَهُ، واغْفِرْ لنا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمينَ الأَحْياءِ منهم والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وكانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خَرَجَ مِنْ الْمَدِينةِ على غَيْرِ لِوَاءٍ مَعْقُودٍ، ولكِنّهُ مُنْذُ خَرَجَ مِنْ بُيُوتِ السُّقيَا وَضَعَ رِجَالَهُ في تَشْكِيلٍ حرْبِيّ، يُلائِمُ ظُرُفَ السَّيْر في أَرْضِ الْعَدُوّ، فقدْ يَلْقَوْنَ عَدُوِّهُمْ فُجْأةً، وهم على غَيْر أُهْبةٍ لِلْقتالِ، وقدْ يَأْخُذُهُمْ عَدُوُّهُمْ عَلَى غِرَّةٍ مِنَ

الْخَلْفِ، وَهُمْ كُلَمَّا بَعُدُوا عن الْمَدِينةِ تَقَدَّمُوا في أرضٍ يُسَيْطِرُ عليها الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَمَنْ يُشَابِهونَهُمْ في عَدَاوَةِ الإِسْلامِ، وَمِنْ أَجْل هَذَا أَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تَنْظِيمِ رِجَالِهِ، عَلَى النَّحْوِ الذِي أَحْرَى أَنْ يَأْمَنَ بِهِ الْمُفَاجَأَةَ، فَجَعَلَ عَلَى السَّاقَةِ قَيْسَ ابنَ أَبِي صَعْصَعَةَ، وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ الزُّبَيْرَ بنَ العَوَّامَ، وَأَظهَرَ السِّلاحَ، وَعَقَدَ ألْوِيةً ثلاثةً لِوَاءً أَبْيَضَ يَحْمِلُهُ مُصْعبُ بنُ عُمَيرٍ، وَرَايَتَانِ سَوْداَوَانِ، إِحْدَاهُمَا مَعَ عَلِيّ بنِ أبي طَالبٍ، وَالتِي للأَنْصَارِ إلى سَعْدِ بن مُعاذٍ. وَسَارَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمَّا قَرُبَ مِنْ الصَّفْرَاءِ قَدَّمَ عَيْنَيْنِ لَهُ إلى الْمُشْرِكِينَ، يَتَجَسَّسَانِ أَخْبَارَ العِيْر، وَالْعَيْنَّانِ بسْبَسُ بنُ عَمْروٍ الْجَهَنِي، وَعُدَيُّ بنُ أَبِي الزَّغْبَاءِ الْجُهَنِي، فَانْتَهَيَا إِلى مَاءِ بَدرٍ، فَوَجَدَا هُنَاكَ جَارِيَتَيْن تَسْتَقِيَانِ مِنْ الْمَاءِ، وَعَلِمَا مِنْ حِوَارِهِمَا أَنَّهُمَا تَتَرَقَّبَانِ عِيرَ قُرَيْشٍ، وَأَنَّهَا تَصِلُ إلى بَدْرٍ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ فَرَجَعَا إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأْخَبَرَاهُ بِذَلِكَ. وَأَمَّا أَبُو سُفْيَانُ فَقَدْ وَصَلَ إِلَيْهِ الْخَبَرُ بَأَنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ يَتَرَصَّدُونَ عوْدَتُه، فأرْسَلَ على عَجَلٍ رَسُولاً إلى قُرَيْشِ، يُنَبِّئُهَا بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ وَصَحْبُهُ، وَيَسْتَفِزُّهَا لِحَمَايَةِ أَمْوَالِهَا وَاسْتَأْجَرَ ضَمْضَمَ بنَ عَمْروٍ الغِفَارِيّ إلى مَكَّةَ، مُسْتَصْرِخًا لِقُرَيْشٍ بالنَّفِير إلى عِيرِهِمْ، لِيَمْنَعُوهُ مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، وَوَصَّى رَسُولَهُ أَنْ يَتَّخِذَ لِذَلِكَ كُلَّ وَسِيلَةٍ تُثِيرُ مَشَاعِرَ القَوْمِ، وَتَسْتَنْهِضُ هِمَمَهُمْ لِلْغَوْثِ وَالنَّجْدَةِ، فَاتَّخَذَ رَسُولُهُ لِذَلِكَ كُلَّ مَظَاهِرِ الصَّارِخِ الْمَلْهُوفِ، فَجَدَع بَعِيرَهُ، وَحَوَّلَ رَحْلَهُ وَشَقَّ قَمِيصَهُ، وَوَقَفَ يَصْرُخُ بِبَطْنِ الوَادِي، قَائِلاً: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اللَّطِيمَةَ اللَّطِيمَةَ، أَمْوَالُكُمْ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ، قَدْ عَرَضَ لَهَا مُحَمَّدٌ

أبو سفيان يتشمم أخبار المسلمين في طريقه انقسام الناس إلى قسمين

وَأَصْحَابُهُ، لا أَرَى أَنْ تُدْرِكُوهَا، الغَوْثَ الغَوْثَ، فَبَلَغَ الصَّرِيخُ أَهْلَ مَكَّةَ، فَنَهَضُوا وَأَوْعَبُوا في الْخُرُوجِ، وَأَعَانَ قَوِيُهُمْ ضَعِيفَهُمْ حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجلٌ إلا خَرَجَ، أَوْ بَعَثَ مَكَانَهُ رَجُلاً، وَيَقُولُ الرُّوَاةُ: إِنَّ أُميَّةَ بنَ خَلَفٍ أَرَادَ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْ النَّفِيرِ، فَجَاءَهُ عقبةُ بنُ أَبِي مُعْيطٍ، وَمَعْهُ مِجْمرةٌ وَبَخُورٌ فَوَضَعَهَا أَمَامَهُ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي نَدِيّ القَوْمِ، وَقَالَ لَهُ: اسْتَجْمِرْ أَبَا علي، فَإِنَّمَا أَنْتَ مِنْ النِّسَاءِ فَخَجَلَ وَاسْتَحْيَا، وَقَامَ مِنْ فَوْرِهِ، فَتَجَهَّزَ وَسَارَ مَعَ النَّاسِ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْ أَشْرَافِهِمْ سِوَى أَبِي لَهَبٍ، فَإِنَّهُ عَوَّضَ عَنْهُ رَجُلاً يُقَالُ لَهُ: العَاصُ بنُ هِشَامٍ، كانَ لأبي لَهَبٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُمْ مِنْ بُطونِ قُرَيْشٍ إلا بَنِي عَدِيٍّ فَلَمْ يَخْرُجْ مَعَهُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ وَخَرَجُوا من دِيَارِهِمْ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالى: {بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ} . وسَارَ أَبُو سُفْيَانَ بالعِيرِ يَتَشَمَّم الأَخْبَارَ في طَرِيقِهِ، حَتَّى إِذَا قَرُبَ مِنْ بِدْرٍ، تَقَدَّمَ الْعِيرَ حَذَرًا، حَتَّى وَرَدَ الْمَاءَ، فَسَأَلَ هُنَاكَ عَنْ أَخْبَارِ الْمُسْلِمِين، فَعَلِمَ أَنَّ رَاكِبَيْنِ كَانَا قَدْ نَزَلا عَلَى تَلٍّ هُنَاك، فَأَنَاخَا رَاحِلَتَيْهِمَا سَاعَةً، حَتَّى اسْتَقَيَا مِنْ الْمَاءِ، ثُمَّ رَحَلا، فَذَهَبَ أَبُو سُفْيَانَ إِلى ذَلِكَ التَّلِّ، وَنَظَر في مُنَاخِ الرَّاحلتينِ، فَأَخَذَ مِنْ أَبْعَارِهِمَا، وَفَرَكَهُ فِي يَدِهِ، فَوَجَدَ فِيهِ آثَارَ النَّوَى، فَعَلِمَ أَنَّ الرَّاكِبَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: هَذِهِ وَاللهِ عَلائِفُ يَثْرِبَ، وَهَذِهِ عُيُونُ مُحَمَّدٍ، قَدْ أَقْبَلَتْ، تَتَجَسَّسُ أَخْبَارَنَا وَرَجَعَ مُسْرِعًا إلى الْعَيْر، فجعلَ يَضْرِبُ وُجُوهَهَا وَيُحَوّلُها عَنِ السَّيْرِ إِلى بَدْرٍ، مُتَّجِهًا بِهَا إِلى سَاحِلِ البحرِ، تَارَكًا بَدْرًا إِلى يَسَارِهِ فَاسْتطَاعَ أَنْ يَنْجُو بَأَمْوَال قُرَيْشٍ، وَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ قَدْ نَجَا وَأَحْرَزَ العَيْرَ

النبي - صلى الله عليه وسلم - يستشير أصحابه عندما بلغه خروج قريش وأجوبة الصحابة على ذلك

كَتَبَ إِلى قريشٍ أَنْ ارْجِعُوا، فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا خَرَجْتُمْ لِتُحْرِزُوا عِيرَكُمْ، فَأتَاهُمْ الْخَبَرُ وَهُمْ بِالْجُحْفَةِ، فَهَمُّوا بالرُّجُوعِ وَرَغِبَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِذَلِكَ، وَلَكِنَّ أَبَا جَهْلٍ رَكِبَ رَأْسَهُ، وَعَزَّ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعُوا، فَتَضْعُفَ شَوْكَتُهُمْ بَيْنَ العربِ، وَيَطْمَعَ فِيهِمْ الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُهُمْ، فأخَذَ يَصِيحُ في القَوْمِ وَيَقُولُ: وَاللهِ لا نَرْجِعُ حَتَّى نَردَ بَدْرًا، فَنُقِيمَ بِهَا، وَنُطْعِمَ مَنْ حَضَرَنَا مِنْ العَرَبَ وَنَسْقِيَ الْخَمْرَ، وَتَعْزِفُ عَلَيْنَا القِيَانُ، وَتَسْمَعَ العربُ بنا، وبِمَسِيرنا، وَجَمْعِنَا، وَلا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا، وَجَعَلَ يُحَرِّضُ النَّاسَ. وَانْقَسَمَ النَّاسُ إلى قِسْمَيْنِ، فَرِيقٌ يَرَى أَنَّ الْخُرُوجَ إِنَّمَا كَانَ لإِنْقَاذِ العِيرِ، وَقَدْ نَجَّاهَا اللهُ، فلا مَعْنَى إِذًا لِلسَّيْرِ، وَفَرِيقٌ يَرَى رَأْيَ أَبِي جَهْل، فَيَدْعُو إلى مُواصَلَةِ السَّيْرِ، وَكَانَ من الفريقِ الأَوَّلِ بَنُوا عَدِيٍّ، وَبَنُوا زَهْرَةَ، وَمِمَّنْ أَشَارَ بِالرُّجُوعِ الأَخْنَسُ بنُ شَرِيْقٍ فَعَصَوْهُ فَرَجَعَ هُوَ وَبَنُوا زَهْرَةَ فَلَمْ يَشْهدْ بَدْرًا زُهْرِيُّ، فَاغْتَبَطَتْ بَنُوا زَهْرَةَ بَعَدَ ذَلِكَ بِرَأْي الأَخْنَسِ، فَلَمْ يَزَلْ فِيهِمْ مُطَاعًا مُعَظَّمًا، وَأَمَّا الفَرِيقُ الثَّانِي فَقَدْ وَاصَلُوا السَّيْرَ تَحْتَ ضَغْطِ أَبِي جَهْلٍ وَشِيعَتِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَسِيرُ عَلَى غَيْرِ مَا يَرَى مِنَ الرَّأْيِ، وَمَا يُضْمِرُ مِنَ العَقِيدَةِ، إِنَّمَا يَسِيرُ تَحْرُّجًا، وَمَدَارَاةً لِسَفَاهَةِ السُّفَهَاءِ، وَمَا زَالُوا يَسِيرونَ وَيَنْحَرُونَ، وَيُطْمِعُونَ، وَيَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَيُغَنُّونَ وَيُصَفِّقُونَ وَيُعَلِنُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِكُلِّ الوسَائلِ وَالدِّعَايَاتِ، حَتَّى وَصَلُوا إِلى وَادِي بَدْر، فَنَزَلُوا بالعُدْوَةِ القُصْوَى. اللَّهُمَّ ارْحَمْنَا إِذَا عَرِقَ الْجَبينُ وكَثُرَ الأنينُ وأَيِسَ مِنَّا الْقَريبُ والطبيبُ وَبكى عَلَيْنَا الصديقُ والحبيبُ وَارحَمْنَا يَا مَولانَا إِذَا وَارانَا التُّرابُ وَوَدَّعَنَا الأحْبَابُ وَفَارَقْنَا النَّعِيمَ وانقطَع عَنَّا النَّسِيم، وَاغْفِرْ لَنَا ولِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ الوَاسِعَةِ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

فَصْلٌ: وَلما بلغ رَسُول الله ? خُرُوجُ قُرَيْش اسْتَشَار أَصْحَابَهُ، فَتَكَلَّمَ الْمُهَاجِرُونَ فَأَحْسَنُوا، فَاسْتَشَارَهُمْ ثَانِيًا فَتَكَلَّمُوا أَيْضًا فَأَحْسَنُوا، ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ ثَالِثًا، ثُمَّ قَالَ: «أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ» . يُرِيدُ بِذَلِكَ الأَنْصَارَ، لأَنَّهُمْ كَانُوا أَكْثَرَ القَوْمِ عَدَدًا، وَكَانُوا قَدْ عَاهَدُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَمْنَعُوهُ في دِيَارِهِمْ، أَمَّا في خَارِجِ دِيَارِهِمْ فَلَمْ يَكُنْ عَهْدٌ يُلْزِمُهُمْ بِذَلِكَ، إِلا أَنْ يَرَوْا ذَلِكَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَلَمَّا سَمِعُوا قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِمُوا أَنَّهُ يَعْنِيهِمْ، فَبَادَرَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَأَنَّكَ تُرِيدُنَا. قَالَ: «أَجَلْ» . فَقَالَ سَعْدُ: إِنَّكَ عَسَى أَنْ تَكُونَ خَرَجْتَ لأَمْرٍ، وَأَحَدَثَ اللهُ لكَ غَيْرَهُ، فَانْظُر الذِي أَحْدَثَ اللهُ إِلَيْكَ، فَامْضِ إِلَيْهِ، فَإِنَّا قَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عُهُودَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَلَعَلَّكَ يَا رَسُولَ اللهِ تَخْشَى أَنْ لا تَكُونَ الأَنْصَارِ تَرَى عَلَيْهَا، أَنْ لا يَنْصُرُوكَ إِلا في دِيَارِهِمْ، وَإِنِّي أَقُولُ عن الأَنْصَارِ وَأُجِيبُ عَنْهُمْ، فَاظْعَنْ يَا رَسُولَ اللهِ حَيْثُ شِئْتَ، وَصِلْ حَبْلَ مَنْ شِئْتَ، وَاقْطَعْ حَبْلَ مَنْ شِئْتَ، وَخُذْ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا شِئْتَ، وَأَعْطِنَا مِنْهَا مَا شِئْتَ، وَمَا أَخَذْتَ مِنَّا أَحَبُّ إِلَيْنَا مِمَّا تَرَكْتَ، وَمَا أَمَرْتَ فِيهِ مِنْ أَمْرٍ فَأَمْرُنَا تَبَعٌ لأَمْرِكَ، فَوَاللهِ لَئِنْ سِرْتَ حَتَّى تَبْلُغَ البَرْكَ مِنْ غُمْدَانَ لَنَسِيرَنَّ مَعَكَ، وَاللهِ لَوْ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا البَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا، إِنَّا لَصُبُرٌ في الْحَرْبِ، صُدَّقٌ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَلَعَلَّ اللهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تُقرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللهِ، فَسُرَّ لِذَلِكَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَانْبَسَطَ وَجْهُهُ، وَبَدَا عَلَيْهِ البِشْرُ وَالرِّضَى والنَّشَاطُ. وَقَالَ لَهُ الْمِقْدَادُ: لا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى

موعظة بليغة تتضمن الحث على إيقاظ القلوب من رقدتها وأبيات زهدية

{اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} . ولكن نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ، وَعَنْ شِمَالِكَ، وَمِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ، وَمِنْ خَلْفِكَ، فَأشْرَقُ وَجْهُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُرَّ بِمَا سَمِعَ، وَقَالَ: «سِيرُوا عَلَى بَرَكَةِ اللهِ وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللهَ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَصَارِعَ القَوْم» . فَسَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلى بَدْرٍ حَتَّى نَزَلَ عِشَاءً أَدْنَى مَاءٍ مِنْ مِيَاهِ بَدْرٍ، فَقَالَ الْحُبَابُ بن الْمُنْذِر - وَكَانَ خَبِيرًا بِمِيَاهِ بَدْرٍ -: يَا رَسُولَ اللهِ أَهَذَا مَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللهُ، لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَّمَ مِنْهُ أَوْ نَتَأَخَّرُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ» . فَقَالَ الْحُبَابُ: يَا رَسُولَ اللهِ لَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلٍ، فَانْهَضْ بِالنَّاسِ حَتَّى نَأْتِي أَدْنَى مَاءٍ مِنْ القَوْمِ، فَنُنْزِلَه، فَإِنِّي أَعْرِفُ غَزَارَةَ مَائِهِ وَكَثْرَتهَ، فَننْزِلُهُ وَنُغَوّرُ مَا عَدَاهُ مِنْ الآبَارِ، ثُمَّ نَبْنِي عَلَيْهِ حَوْضًا، فَنَمْلؤُهُ مَاءً، فَنَشْرَبُ وَلا يَشْرَبُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ أَشَرْتَ بالرأي» . وَنَهَضَ بأصْحَابِهِ حَتَّى نَزَلُوا، ثُمَّ بَنُوا الْحَوْضَ عَلَى البِئْرِ، حَيْثُ أَشَارَ الْحُبَابُ، وَطَمَسُوا كُلَّ مَا وَرَاءَهُمْ مِن الآبَارِ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. عَصَمَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ الزَّلَلِ وَوَفِّقْنَا لِصَالِحِ العَمَلِ وَهَدَانَا بِفَضْلِهِ سَبِيلَ الرَّشَادِ وَطَرِيقَ السَّدَادِ إِنَّهُ جَلَّ شَأنُهُ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِير. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. مَوْعِظَةٌ عِبَادَ اللهِ اهْتِفُوا بالقُلُوب لَعَلَّهَا تَسْتَيْقِظُ مِنْ وَسَنِ الرُّقَادِ وَاصْرِفُوا نُفُوسَكمْ عَنْ مَوَارِدِ الإِبْعَادِ في دارِ النُّقْلَةِ وَالزَّوَالِ آثارَ السَّلَفِ الزُّهَادِ فَقَدْ نَاحَتْ الدُّنْيَا عَلَى أَهْلها بَألْسُنِ الانْقِلابِ وَلاحَتْ لَكُمْ مِنْ الآخرةِ شَوَاهِدُ الاقْتِرَابِ وَأَنْتُمْ عَمَّا أَضَلَّكُمْ مِنْهَا غَافِلُونُ وَبِمَا غَرَّكُمْ

قصيدة زهدية وعظيمة فيها حكم وعبر

وَأَلْهَاكُمْ عَنْهَا مُتَشَاغِلُونَ كَأَنَّكُمْ بِحَقِيقَةِ مَعْرِفَتِهَا جَاهِلُونَ أَوْ كَأَنَّكُمْ إِلى غَيْرِهَا رَاحِلُونَ فَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ فَاتْرُكُوا مَا أَنْتُمْ عَنْهُ مُنْقَلِبُونَ وَانْهَضُوا في التَّزوَّدِ لِمَا أَنْتُمْ إِلَيْهِ صَائِرُونَ، فَإِنَّ أَمَامَكمْ صَيْحَةٌ تُلْحِقُ الأَحْيَاءَ مِنْكُمْ بالأَمْوَاتِ وَتَذْهَلُ مَعَهَا النُّفُوسُ عَنْ مُلابَسَةِ اللذاتِ فَمَا أَقْرَبَ الوُصُولِ إِلَيْهَا لِمَنْ مَطَايَاهُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ الْمُبْلِيَانِ لِكُلِّ جَدِيدٍ الْمُقَرِّبَانِ لِكُلِّ بَعِيدٍ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ كَانَتْ الأَيَّامُ وَاللَّيَالِي مَطَايَاهُ سَارَتْ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَسِرْ. وَكَتَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إِلى أَخٍ لَهُ فَقَالَ: اعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّهُ يُخَيَّلُ إِلَيْكَ أَنَّكَ مُقِيمٌ وَأَنْتَ دَائِبُ السَّيْرِ تُسَاقُ سَوْقًا حَثِيثًا وَالْمَوْتُ مُتَوَجّهٌ إِلَيْكَ وَالدُّنْيَا تُطْوَى مِنْ وَرَائِكَ وَمَا مَضَى مِنْ عُمْرِكَ فَلَنْ يَرْجَعَ إِلَيْكَ. شِعْرًا: تَمُرُّ اللَّيَالِي وَالْحَوَادثُ تَنْقَضِي كَأَضْغَاثِ أَحْلام وَنَحْنُ رُقُودُ وَأَعْجَبُ مِنْ ذَا أَنَّهَا كُلُّ سَاعَةٍ تَجِدُ بِنَا سَيْرًا وَنَحْنُ قُعُودُ آخر: ... وَما هَذِهِ الأَيّام إِلا مَراحِل يَحُثُ بِهَا حَادٍ مِن الْمَوْتِ قَاصِدُ وَأَعْجَبُ شَيْءٍ لَوْ تَأَمَّلْتَ أَنَّهَا مَنَازِلُ تُطْوَى وَالْمُسَافِرُ قَاعِدُ آخر: ... أَتَحْسَبِ العُمْرَ مَرْدُودًا تَصَرُمُهُ هَيْهَاتَ أَنْ يَرْجِعَ الْمَاضِي مِنْ الْحُقُبِ فَبَادِرِ العُمْرَ قَبْلَ الفَوْتِ مُغْتَنِمًا مَا دُمْتَ حَيًّا فَإِنَّ الْمَوْتَ في الطَّلَبِ

.. فالعُمُرُ مُنْصَرِمٌ والوَقْتُ مُغْتَنَمٌ وَالدَّهْرُ ذُو غَيْرٍ فَأجْهَد به تُصِبِ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ قَالَ لأهْلِهِ: أَسْتَوْدِعُكُمْ اللهِ فَلَعَلَّهَا أَنْ تَكُونَ مَنِيَّتِي التِي لا أَقُومُ مِنْهَا وَكَانَ هَذَا دَأبَهُ إِذَا أَرَادَ النَّوْمَ. وَقَالَ آخَرُ: إِنْ اسْتَطَاعَ أَحَدُكُمْ أَنْ لا يَبِيتَ إِلا وَعَهْدُهُ عِنْدَ رَأْسِهِ مَكْتُوبُ فَلْيَفْعَلْ فَإِنَّهُ لا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَبِيتُ فِي أَهْلِ الدُّنْيَا وَيُصْبَحُ فِي أَهْلِ الآخِرَةِ. قُلْتُ: وَيَنْبَغِي لِكُلّ مَنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ لِمَحَلٍّ تَطْرُقُهُ السَّيَارَاتُ في وَقْتِنَا الذي كَثَر فِيهِ مَوْتُ الفُجَاءِ بسَبَبِ السُّرْعَةِ الْمُفْرِطَةِ مِنْ سَائِقِي السَّيَارَاتِ الذين لَيْسَ عِنْدَهُمْ حُرْمَةٌ لِلْمُسْلم نَسَأْلُ اللهَ الْحَيَّ القَيُّومَ أَنْ يوفِقَ وُلاتَنَا لِلأَخْذِ عَلَى أَيْدِيهِمْ وَرَدْعِهِمْ لِيَأْمَنَ الْمَشَاةُ وَيَطْمَئِنُّوا بَإِذْنِ اللهِ تعالى: إِنّي أَرِقتُ وَذِكرُ المَوتِ أَرَّقَني وَقُلْتُ لِلدَّمْعِ أَسْعِدْنِي فَأَسْعَدَنِي يَا مَن يَمُوتُ فَلَمْ تُحْزِنْهُ مَيْتَتُهُ وَمَنْ يَمُوتُ فَمَا أَولاهُ بِالْحَزَنِ تَبْغِي النَّجَاة مِنَ الأَحْدَاثِ مُحْتَرِسًا وَإِنَّمَا أَنْتَ وَالعِلاتُ في قَرَنِ يَا صَاحِبَ الرَّوْحِ ذِي الأَنْفَاسِ في بَدَنٍ بَيْنَ النَّهَارِ وَبَيْنَ اللَّيْلِ مُرتَهَنِ لَقَلَّمَا يَتَخَطَّاكَ اِختِلافُهُمَا حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَ الرُّوحِ وَالبَدَنِ طِيبُ الْحَياةِ لِمَنْ خَفَّتْ مَئُونَتُهُ وَلَمْ تَطِبْ لِذَوِي الأَثْقَالِ وَالْمُؤَنِ

لَمْ يَبْقَ مِمَّا مَضَى إِلا تَوَهُّمُهُ كَأَنَّ مَنْ قَدْ مَضَى بِالأَمْسِ لَمْ يَكُنِ وَإِنَّمَا الْمَرءُ فِي الدُّنْيَا بِسَاعَتِهِ سَائِلْ بِذلِكَ أَهْلَ الْعِلْمِ بِالزَمَنِ مَا أَوْضَحَ الأَمْرَ لِلْمُلْقِي بِعِبرَتِهِ بَيْنَ التَّفَكُّرِ وَالتَّجْرِيبِ وَالفِطَنِ أَلَسْتَ يَا ذَا تَرَى الدُّنْيَا مُوَلِّيَةً فَمَا يَغُرُّكَ فِيهَا مِنْ هَنٍ وَهَنِ لأَعْجَبَنَّ وَأَنَّى يَنْقَضِي عَجَبِي النَّاسُ فِي غَفْلَةٍ وَالْمَوتُ في سَنَنِ وَظَاعِنٍ مِنْ بَيَاضِ الرَّيطِ كِسْوَتُهُ مُطَيَّبٍ لِلْمَنايَا غَيْرِ مُدَّهِنِ غَادَرْتُهُ بَعْدَ تَشْيِيعَيهِ مُنْجَدِلاً في قُرْبِ دَارٍ وَفي بُعْدٍ مِنَ الوَطَنِ لا يَسْتَطيعُ اِنْتِقَاصًا في مَحَلَّتِهِ مِنَ القَبِيحِ وَلا يَزْدَادُ في الْحَسَنِ مَا بَالُ قَوْمٍ وَقَدْ صَحَّتْ عُقُولُهُم فِيمَا ادَّعَوا يَشْتَرُونَ الغَيَّ بِالثَمَنِ لِتَجْذِبَنّي يَدُ الدُّنْيَا بِقُوَّتِها إِلى الْمَنَايَا وَإِنْ نَازَعْتُهَا رَسَنِي وَأَيُّ يَوْمٍ لِمَنْ وَافَى مَنِيَّتَهُ

حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على كتمان أمره عن قريش وسؤاله عنهم وبعثه - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب

.. يَوْمٌ تَبَيَّنُ فِيهِ صُورَةُ الغَبَنِ لله دُنْيَا أُنَاسٍ دَائِنِينَ لَهَا قَدْ ارْتَعَوا في رِيَاضِ الغَيِّ وَالفِتَنِ كَسَائِمَاتٍ رَوَاعٍ تَبْتَغِي سِمَنًا وَحَتْفُهَا لَوْ دَرَتْ في ذَلِكَ السِّمَنِ اللَّهُمَّ طَهِّرْ قُلُوبَنَا مِنْ النِّفَاقِ وَعَمَلنَا منَ الرِّيَاءِ وَأَلْسِنَتَنَا مِنْ الكَذب اللَّهُمَّ وَقَوِّي إِيمَانَنَا بِكَ وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُور الإيمانِ واجعلنا هُداةً مُهْتَدِين اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ وَألْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَأَمِّنَّا مِنْ سَطْوَتِكَ وَمَكْْرِكِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. فَصْلٌ: وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَدِيدَ الْحِرْصِ عَلَى كِتْمَانِ أَمْرِهِ عَنْ النَّاسِ، حَتَّى لا يَقِفَ على حَقِيقَتِهِمْ أَحَدٌ، وَلا يَعْرِفَ مَقْصَدَهمْ أَحَدٌ فَجَعَلَ كُلَّمَا نَزَلَ مَنْزِلاً يَسْأَلُ عَنْ أَخْبَارِهِمْ، وَيَبْحَثُ عَنْهُمْ في حَيْطَةٍ وَحَذَرٍ. وَرَوَى ابن إِسْحَاقَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ قَرِيبًا مِنْ بَدْرٍ، فَرَكِبَ هُوَ وَرَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى وَقَفَ عَلى شَيْخٍ مِنْ العَرَبِ، فَسَأَلَهُ عَنْ قُرَيْشٍ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ وَمَا بَلَغَهُ عَنْهُمْ، فَقَالَ الشَّيْخُ: لا أُخْبِرُكُمَا حَتَّى تُخْبِرَانِي مِمَّنْ أَنْتُمَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَ ذَاكَ بِذَاكَ» . قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابِهِ خَرَجُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَ صَدَقَ الذِي أَخْبَرَنِي فَهُمْ اليَوْمَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، لِلْمَكَانِ الذِي بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَلَغَنِي أَنَّ قُرَيْشًا خَرَجُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَ

الذي أَخْبَرَنِي صَدَقَنِي فَهُمْ اليَوْمَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، لِلْمَكَانِ الذِي بِهِ قُرَيْشٌ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ خَبَرِهِ قَالَ: مِمَّنْ أَنْتُمَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ مِنْ مَاءَ» . ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ، قَالَ: يَقُولُ الشَّيْخُ: مِنْ مَاءٍ أَمِنْ مَاءَ العِرَاقِ. فَلَمَّا أَمْسَى بَعَثَ عَلَيَّ بن أَبِي طَالِبٍ، وَالزَّبَيْرُ بن العَوَّامِ، وَسَعْدَ بن أبي وَقَّاصِ، في نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلى مَاءِ بَدْرٍ، يَلْتَمِسُونَ الْخَبَرَ، فَوَجَدُوا سُقَاةَ قُرَيْشٍ يَسْقُونَ لَهُمْ فَأَمْسَكُوا بِغُلامَيْنِ مِنْهُمْ، فَجَاءوُا بِهِمَا وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي، فَجَعَلَ القَوْمُ يَسْأَلُونَهُمَا لِمَنْ أَنْتُمَا؟ وَهُمْ يَرْجُونَ أَنْ يَكُونَا مِنْ سُقَاةِ العَيْرِ، فَقَالَ الغلامان: نَحْنُ مِنْ سُقَاةِ قُريشٍ، بَعَثُونَا نَسْقِيهِمْ مِنَ الْمَاءِ، فَظَنُّوا أَنَّهُمَا يَكْذِبَانِ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُمَا، ثُمَّ يَسْأَلُونَهُمَا فَيَقُولانِ: نَحْنُ لِقُرَيْشٍ. فَلَمَّا أَوْجَعُوهُمَا ضَرْبًا قالا: نَحْنُ لأبي سُفْيَانَ فَتَرَكُوهُمَا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَلاتِهِ قَالَ: «إِذَا صَدَقَاكُمْ ضَرَبْتُمُوهُمَا، وَإِذَا كَذَبَاكُمْ تَرَكْتُمُوهُمَا، صدَقَا وَاللهِ إِنَّهُمَا لِقُريشٍ» . ثُمَّ سَألَهُمَا عَنْ قُرَيْشٍ، فَقَالا: هُمْ وَاللهِ وَرَاءَ هَذَا الكَثِيبِ الذِي تَرَى، بالعُدْوةِ القُصْوَى، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَمْ القَوْمُ» ؟ قَالا: كَثِيرٌ، قَالَ: «مَا عِدَّتُهُمْ» ؟ قَالا: لا نَدْرِي، قَالَ: «كَمْ يَنْحَرُونَ كُلَّ يَوْمٍ» ؟ قَالا: يَوْمًا تِسْعًا وَيَوْمًا عَشْرًا مِنْ الْجُزُرِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْقَوْمُ مَا بَيْنَ التِّسْعِمَائةِ وَالأَلْفِ» . ثُمَّ قَالَ: «فَمَنْ فِيهِمْ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ» ؟ فَجَعَلا يَذْكُرَانِ لَهُ، فَقَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَصْحَابِهِ: «هَذِهِ مَكَّةُ قَدْ أَلْقَتْ إِلَيْكُمْ أَفْلاذَ كَبِدِهَا» . فَعَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّها الْحَرْبُ لا مَحَالَةَ. اللَّهُمَّ قَوِّي إِيَمانَنَا بِكَ وَبِمَلائِكَتِكَ وَبُرسُلِكَ وباليومِ الآخِرِ وَبالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَوَفِّقْنَا لِطَاعَتِكَ وَامْتِثَالِ أَمْرِكَ

والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص إلى ماء يلتمسون الخبر وبناء الحوض والعريش

وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الْمُفْلِحِينَ الذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينََ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِين. (فَصْلٌ) وَكَمَا أَشَارَ الْحُبَابُ بنُ الْمُنْذِرِ بِبِنَاءِ الْحَوْضِ، أَشَارَ سَعْدٌ بنُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنْ يَبْنُوا لَهُ عَرِيشًا، يَشْرِفُ مِنْهُ عَلَى الْمَعْرَكَةِ وَيُوَجِّهُهَا وَيَأْمَنُ غِرَّةَ العَدُوِّ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ أَلا نَبْنِي لَكَ عَرِيشًا، تَكُونُ فِيهِ وَنُعِدُّ عندَكَ رَكَائِبَكَ، ثُمَّ نَلْقَى عَدُوَّنَا، فَإِذَا أَعَزَّنَا اللهُ وَأظْهَرْنَا عَلَى عَدُوِّنَا، كَانَ ذَلِكَ مَا أَحْبَبْنَا وَإِنْ كَانَتْ الأُخْرَى جَلَسْتَ عَلَى رُكَائِبَكَ، فَلَحِقْتَ بِمَنْ وَرَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا، فَقَدْ تَخَلَّفَ عَنْكَ أَقْوَامٌ مَا نَحْنُ بَأَشَدَّ مِنْهُمْ حُبًّا لكَ وَلَوْ ظَنُّوا أَنَّكَ تَلْقَى حَرْبًا مَا تَخَلَّفُوا عَنْكَ، يَمْنَعُكَ اللهُ بِهِمْ، وَيُنَاصِحُونَك، وَيُجَاهِدُونَ مَعَكَ، فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَعَا لَهُ بِخَيْرِ، ثُمَّ بُنِيَ العَرِيشُ عَلَى تَلٍّ، كَمَا أَشَارَ سَعْدٌ، وَأُعِدَّتْ عِنْدَهُ أَنْجَبُ الرَّكَائِب، وَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَوِّي الصُّفُوفَ، وَيَتَفَقَّدُ الرِّجَالَ، وَيُهَيِّئُ أَصْحَابَهُ لِلْقِتَالِ، وَدَفَع رَايتَهُ إِلى مُصْعَبِ بن عُمَيْرِ، فَتَقَدَّمَ بِهَا إِلى مَوْضِعِهَا الذِي أَمْرَهُ أَنْ يَضَعَهَا فِيهِ، ثُمَّ وَقَفَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلى الصُّفُوفِ، فَاسْتَقْبَلَ الْغَرْبَ وَجَعَلَ الشَّمْسَ وَرَاءَهُ، وَأَقْبلَ الْمُشْرِكُونَ، فَاسْتَقْبَلُوا الشَّمْسَ. وَخَطَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ، يَحُثُّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَيُرَغِّبُهُمْ فِي الأَجْرِ، فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَحُثِّكُمْ عَلَى مَا حَثَّكُمْ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ، فَإِنَّ اللهَ عَظِيمٌ شَأْنُهُ، يَأْمُرُ بالْخَيْرِ، وَيُحِبُّ الصِّدْقَ، وَيُعْطِي الْخَيْرَ أَهْلَهُ، عَلَى مَنَازِلِهِمْ عِنْدَهُ، وَإِنَّكُمْ قَدْ أَصْبَحْتُمْ بِمَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الْحَقِّ لا يَقْبلُ اللهُ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا مَا ابْتُغِي بِهِ وَجْهَهُ، وَإِنَّ

الصَّبْرَ في مَوَاطِنِ الْبَأسِ مِمَّا يُفَرِّجُ اللهُ بِهِ الْهَمَّ، وَيُنْجِي بِهِ مِنْ الغَمِّ، وَتُدْرَكُ بِهِ النَّجَاة فِي الآخِرَةِ، فِيكُمْ نَبِيُّ اللهِ، يُحَذِّرُكُم وَيَأْمُرُكُم، فَاسْتَحْيُوا اليَوْمَ أَنْ يَطَّلِعَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَمْرِكُم يَمْقُتُكُمْ عَلَيْهِ، فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ: {َمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} وَأَبْلُوا رَبَّكم في هَذِهِ الْمَوَاطِنِ أَمْرًا تَسْتَوْجِبُونَ بِهِ الذي وَعَدَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ، فَإِنَّ وَعْدَهُ حَقٌّ، وَقَوْلَهُ صِدْقٌ، وَعِقَابَهُ شَدِيدٌ، وَإِنَّمَا أَنَا وَأَنْتُمْ باللهِ الْحَيِّ القَيُوم، إليهِ أَلْجَأْنَا ظُهُورَنَا، وَبِهِ اعْتَصَمْنَا، وَعَلَيْهِ تَوَكَّلنَا، وَإِلَيْهِ الْمَصِيرِ، يَغْفِرُ اللهُ لِي وَلِلْمُسْلِمِينَ» . وَأَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ تَنْصَبُّ إِلى الوَادِي مِنْ الكَثِيب، وَعَدَدُ الْمُشْرِكِينَ قَرِيبٌ من الأَلْفِ مُقَاتِل، وَمَعَهُمْ مَائَةُ فَرَسٍ، وَسَبْعُمَائَةِ بَعِير، وَرُوِيَ أَنَّ أَيْمَاءَ بن رُخْصَةَ بَعَثَ إِلى قُرَيْشٍ ابْنَا لَهُ بعَشْرِ جَزَائِرِ، أَهْدَاهَا لَهُمْ، وَقَالَ: إِنَّ أَحْبَبْتُمْ أَنْ أَمُدَّكُم بِسِلاحٍ وَرِجَالٍ فَعَلْنَا، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ أَوْصَلَتْكَ رَحِمٌ، فَلَئِنْ كُنَّا إِنَّمَا نُقَاتِلُ النَّاسَ فَمَا بِنَا ضَعْفٌ عَنْهُمْ، وَإِنْ كُنَّا نُقَاتِلُ اللهَ كَمَا يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ فَمَا لأَحَدٍ باللهِ طَاقَةٌ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثْرَتَهُمْ، وَقِلَّةَ أَصْحَابِهِ، تَوَجَّهَ إلى اللهِ يَسْتَعِينُهُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ هَذِهِ قُرَيْشُ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلائِهَا وَفَخْرِهَا، تُحَادُّكَ وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ، اللَّهُمَّ فَنَصْرَكَ الذِي وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ فَأحِنْهُمُ الغَد» . اللَّهُمَّ أَبْرِمْ لِهَذِهِ الأُمَّةِ أَمْرَ رُشْدٍ يُعَزُ فِيهِ أَهْلُ طَاعَتِكَ وَيُذَلُّ فِيهِ أَهْلُ مَعْصِيَتِكَ وَيُؤْمَرُ فِيهِ بِالْمَعْرُوفِ وَيُنْهَى فِيهِ عَنْ الْمُنْكَرِ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء. اللَّهُمَّ مَكِّنْ مَحَبَّتَكَ في قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَأَلْهِمْنَا

إرسال المشركين عمير بن وهب يحرز لهم عدد المسلمين ورجوع عمير ممتلئا من الرعب والذعر والخوف والتعظيم لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ما رجع عمير من المسلمين وأخبر المشركين بما رأى دب الخلاف بهم

ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ بِحُضُورِ قَلْبٍ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ وَآتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ أَذِقْنَا عَفْوَكَ وَغُفْرَانَكَ وَاسْلُكْ بِنَا طَرِيقَ مَرْضَاتِكَ. وَعَامِلْنَا بِلُطْفِكَ وَإِحْسَانِكَ وَاقْطَعْ عَنَّا مَا يُبْعِدُ عَنْ طَاعَتِكَ اللَّهُمَّ وَثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَيَسِّرْ لَنَا مَا يَسَّرْتَهُ لأَوْلِيَائِكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وَأَرَادَ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يَسْتَوْثِقُوا مِنْ رِجَالِ الْمُسْلِمِينَ، قَبْلَ أَنْ يُنَازِلُوهُمْ، فَأَرْسَلُوا عُمَيْرَ بن وَهْبٍ الْجُمَحِي يَحْرُزُ لَهُمْ أَعْدَادَ الْمُسْلِمِينَ تَقْرِيبًا، وَيَتَعَرَّفُ أَحْوَالَهُمْ، فَلَمَّا اطَّلَعَ عَلَيْهِمْ عُمَيْرُ رَأَى الْمُسْلِمِينَ فِي مَنْظَرٍ يَبْعَثُ الرُّعْبَ والذُّعْرَ وَالْخَوْفَ وَيَسْتَوْجِبُ الْحَذَرَ الشَّدِيدَ، قَوْمٌ قَلِيلٌ عَدَدَهُمْ، وَلَكِنْ صُوَرُ الْمَوْتِ تَتَرَاءَى مِنْ مَنَاظِرِهِمْ، قَدْ تَرَاصَتْ صُفُوفُهُمْ، كَمَا يَتَرَاصُ البُنْيَانِ، وَتَلاحَمَتْ أَجْسَامُهُمْ كَمَا يَتَلاحَمُ الْحَدِيدُ، وَجَثُوا عَلَى الرُّكَبِ مُسْتَوْفِزِين، يَتْنَمَرُونَ تَنَمُّرَ الأُسُودِ الضَّوَارِي، وَيَتَلَمَظُونَ تَلَمُظَ الأفَاعِي، وَيَدُورُونَ بِعُيُونٍ تَبْعَثُ الْمَوْتَ حَيْثُمَا دَارَتْ، وَتَتَحَرَّكَ شِفَاهُهمُ بِمَا لا تَظْهِرُهُ أَصْوَاتُهُمْ، يَسُودُهُمْ صَمْتٌ رَهِيبٌ وَتَصْمِيمٌ عَجِيبٌ، وَعَزْمٌ صَارِمٌ عَلَى الاسْتِمَاتَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ، حَتَّى لَكَأَنَّهُمْ بَاعُوا لَهَا نُفُوسَهُمْ، فلا يُرِيدُونَ أَنْ يَرْجِعُوا إِلى أَهْلِيهِمْ، فَأَخَذَ عُمَيْرُ بِهَذَا الْمَنْظِرِ الْمُفْزِعِ الْمُقْلِقِ، وَرَجَعَ إِلى قَوْمِهِ فَقَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ البَلايَا تَحْمِلُ الْمَنَايَا.. نَوَاضِحُ يَثْرِبَ تَحْمِلُ الْمَوْتَ النَّاقِعَ، قَوْمٌ لَيْسَ لَهُمْ مَنَعَةٌ، وَلا مَلْجَأ إِلا سُيُوفَهُمْ، والله ما أَرَى أَنْ يُقْتَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى يُقْتَلَ رَجُلاً مِنْكُمْ، فَإِذَا أَصَابُوا مِنْكُمْ

أَعْدَادَهُمْ فَمَا خَيْرُ الْعَيْشِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَرُوا رَأْيَكُمْ، فَتَعَاظَمَتْ في أَعْيُن قُرَيْشٍ هِيبَةُ الْمُؤْمِنِينَ، وَانْهَارَتْ قُوَاهُمْ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَحَلَّ الْخَوْفِ مَحَلَّ التَّكَبر وَالزَّهْوِ وَالطُّغْيَانِ وَالاحْتِقَارِ، وَلَكِنْ ضَافَ عَلَى الْخَوْفِ التَّجَلُّدُ وَالْمُجَامَلَةُ، وَأَخَذَ الْخِلافُ يَدِبُّ بَيْنَ صُفُوفِهِمْ مِنْ جَدِيدٍ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَمْشِي إِلى بَعْضٍ، رَجَاءَ أَنْ يَنْفَضُوا قَبْلَ أَنْ تَنْشَبَ الْحَرْبُ، وَيَحْتَدِمُ الْقِتَالُ، وَأَدْرَكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَيَنْهُم مِن خِلافٍ، فَأَرَادَ أَنْ يُعْذِرَ إِلَيْهِمِ مِنْ نَفْسِهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ عُمَرَ بنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ لَهُمْ: ارْجِعُوا فَإِنَّهُ يَلِي هَذَا مِنِّي غَيْرَكُمْ، أَحَبُّ إِليَّ مِنْ أَنْ تَلَوْهُ مِنِّي، فَقَالَ حُكَيْمُ بن حِزَامٍ: قَدْ عَرَضَ وَاللهِ نِصْفًا فَاقْبَلُوهُ وَمَشَى إِلى عُتْبَةَ بن رَبِيعَةَ فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا الوَلِيدِ أَنْتَ كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيِّدَهَا وَالْمُطَاعِ فِيهَا، فَهَلْ لَكَ أَلا تَزَالَ تُذْكَرَ مِنْهَا بِخَيْرٍ آخِرَ الدَّهْرِ، قَالَ: وَمَا ذَاكَ يَا أَبَا خَالِدٍ؟ قَالَ: تَرْجِعُ بِالنَّاسِ، وَتَحْمِلْ دَمَ حَلِيفِكَ ابن الْحَضْرَمِي، وَمَا أَصَابَ مُحَمَّدٌ مِنْ تِلْكَ العِيرِ بِبَطْنِ نَخْلَةَ، قَالَ عُتْبَةُ: قَدْ فَعَلْتُ وَأَنْتَ عَلَيَّ بِذَلِكَ، ثُمَّ قَامَ عُتْبَةُ في الْمُشْرِكِينَ يَقُولُ: يَا قَوْمُ أَطِيعُونِي لا تُقَاتِلُونَ هَذَا الرَّجُلَ وَأَصْحَابَهُ، اعْصُبُوا هَذَا الأَمْرَ بِرَأْسِي، وَاجْعَلُوا جُبْنَهَابِي فَإِنَّ مِنْهُمْ رِجَالاً قَرَابَتَهُمْ قَرِيبَةً، وَلِئِنْ أَصَبْتُمُوه لا يَزالَ الرَّجلُ مِنْكُمْ يَنْظُرُ إلى قَاتِلِ أَبِيهِ وَأَخِيهِ فَيُورِثُ ذَلِكَ مِنْكُمْ شَحْنَاءَ وَأَضْغَانًا، وَلَنْ تَخْلَصُوا إِلى قَتْلِهِم حَتَّى يُصِيبُوا مِنْكُمْ عَدَدَهُمْ وَلا آمَنُ أَنْ تَكُونَ الدَّبِرَةُ عَلَيْكُم، وَأَنْتُم لا تَطْلُبُونَ إِلا دَمَّ هَذَا الرَّجُلِ، وَالْعِيرِ التِي أَصَابَ، وَأَنَا أَحْتَمِلُ ذَلِكَ، وَهُوَ عَلَيَّ، يَا قَوْمُ إِنْ يَكُ مُحَمَّدٌ كَاذِبًا يَكْفِيكُمُوهُ ذُؤبَانُ العَرَبِ، وَإِنْ يَكُنْ مَلِكًا أَكَلْتُمْ في

موعظة في التزهيد في الدنيا والحث على الرغبة في الآخرة وبعدها قصيدة مثلها تتضمن ما تضمنته تلك

مُلْكِ ابن أَخِيكُمْ، وَإِنْ يَكُنْ نَبِيًّا كُنْتُم أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ، يَا قَوْمُ لا ترُدُوا نَصِيحَتِي، وَلا تُسَفَّهُوا رَأْيِي. وَكَانَ أَبُو جَهْلٍ شَيْطَانُ هَذِهِ الْمَعْرَكَةِ، فَجَعَلَ يُسَفِّهُ رَأَيْ عُتْبَةَ بن رَبِيعَةَ، وَيَصِفُهُ بالْجُبْنِ، وَيُشِيعُ في النَّاسِ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ مَا قَالَ إِلا خَوْفًا عَلَى ابْنِهِ أَبِي حُذَيْفَةَ، فَقَدْ رَأَى أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ أَكْلَةَ جَزُورٍ، فَخَافَ عَلَى ابْنِهِ أَنْ يُقْتَلَ مَعَهُمْ، وَجَعَلَ يُحَرِّضُ النَّاسَ عَلَى الشَّرِّ، وَيَقُولُ: لا وَاللهِ لا نَرْجِعُ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ، وَاسْتَفْتَحَ في ذَلِكَ الْيَوْمِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَقْطَعْنَا ِللرَّحِمِ، وَآتانَا بِمَا لا نَعْرِفُ فأَحِنْهُ الغَدَاة. اللَّهُمَّ أَيُّنَا كَانَ أَحَبَّ إِلَيْكَ، وَأَرْضَى عِنْدَكَ، فَانْصُرْهُ الَيْوَمَ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} . وَبَعَثَ إلى عَامِرِ بن الْحَضْرَمِي الذِي قُتِلَ أَخُوهُ في نَخْلَةَ، فَجَعَلَ يُحَرِّضُهُ عَلَى أَنْ يَطْلُبَ ثَأرَ أَخِيهِ، فَقَامَ ابن الْحَضْرَمِي، (فَجَعَلَ يَحْثُوا عَلَى نَفْسِهِ التُّرَابَ وَيَصِيح وَاعُمَرَاهْ وَاعُمَرَاهْ) فَحَمِيَ النَّاسُ وَاسْتَوْثَقُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الشَّرِّ وَأَخَذُوا أُهْبَةَ الزَّحْف، وَاسْتَعَدُّوا للْقِتَالْ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (مَوْعِظَةٌ) عِبَادَ اللهِ انْتَبِهُوا لِلْمَوَاعِظِ وَاعْمَلُوا بِهَا فَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَيُّمَا عَبْدٍ جَاءَتْهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ اللهِ فِي دِينِهِ فَإِنَّمَا هِيَ نِعْمَةٌ مِنْ اللهِ سِيقَتْ إِلَيْهِ فَإِنْ قَبِلَهَا بِشُكْرٍ وَإِلا كَانَتْ حُجَّةً مِنْ اللهِ

عَلَيْهِ لِيَزْدَادَ بِهَا إثْمًا وَيَزْدَادُ اللهُ عَلَيْهِ بِهَا سُخْطًا. عِبَادَ اللهِ كَمْ قَدْ نُهِيتُمْ عن الاغْتِرَارِ بالدُّنْيَا وَحُطَامِهَا الْفَانِي وَالطَّمَأْنِينَةِ إِلَيْهَا وَالانْخِدَاعِ بِزَخَارِفِهَا وَكَمْ قَدْ نُهِيتُمْ عَنْ الإِيثَارِ لَهَا عَلَى الآخِرَةِ وَالاشْتِغَالِ بِهَا عَنْهَا قَالَ اللهُ تَعَالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} ، وَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِل: {فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} ، وَقَالَ تَعَالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً} ، وَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِل: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} وَإِنَّ دَارًا يَا عِبَادَ الله أَوْصَافِهَا فِي كِتَابِ الله وَسُنَّةِ رَسُولِهِ إِنَّها َغرُوْرٌ وَمَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَعِبٌ وَلَهِوٌ وَمَمَرٌّ وَطَرِيْقَ إِِلى الآخِرَةِ كَمَا هُوَ الوَاقِعُ دَارٌ مَمْلُؤَةٌ بالأكْدَارِ والْمَصَائِبَ والآلام والأَحْزَانِ دَارٌ ماَ أَضْحَكَتْ إِلا وَأَبِكَتْ ولا سَرَّتْ إِلا وأَسَاءَتْ دَارٌ نِهَايَةُ قُوَّةِ سَاكِنِيهَا إِلى الضَّعْفِ وَنِهَايَةُ شَبَابِهِمْ إِلى الْهَرَمِ وَنِهَايَةُ حَيَاتِهِمْ الْمَوْت. اللَّهُمَّ يَا مُصْلِحَ الصَّالِحِينَ أَصْلِحْ فَسَادَ قُلُوبِنَا وَاسْتُرْ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ عُيُوبَنَا وَاغْفِرْ بِعَفْوِكَ وَرَحْمَتِكَ ذُنُوبَنَا، وَهَبْ لَنَا مُوبِقَاتِ الْجَرَائِرِ وَاسْتُرْ عَلَيْنَا يَا مَوْلانَا فَاضِحَاتِ السَّرَائِرِ، وَلا تُخْلِنَا في مَوْقِفِ القِيَامَةِ من بَرْدِ عَفْوِكَ وَغُفْرَانِكَ وَلا تَتْركْنَا مِنْ جَمِيلِ صَفْحِكَ وَإِحْسَانِكَ وَآتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةَ وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

شِعْرًا: ... أَيَا بَانِيَ الدُّنْيَا لِغَيْرِكَ تَبْتَنِي ... وَيَا جَامِعَ الدُّنْيَا لِغَيْرِكَ تَجْمَعُ أَرَى الْمَرْءُ وَثَّابًا علَى كُلِّ فُرْصَةٍ وللْمَرْءِ يَومًا لا مَحَالَةً مَصْرَعُ آخر: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ إِصْبَاحٌ وَإِمْسَاءٌ وَحُبَّنَا هَذِهِ الدُّنْيَا هُوَ الدَّاءُ كَمْ أَيقَضَتْ بِصُروفٍ مِنْ حَوَادِثِهَا وَكُلَّنَا لِصُرُوفِِ الدَّهْرِ نَسَّاءُ أَيْنَ الْمُلُوكَ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ وَمَنْ قَادُوا الْجُنُودَ وَنَالُوا كُلَّ مَا شَاءُوا وَأَيْنَ عَادٌ وَاقْيَالَ الْمُلُوكِ وَمَنْ كَانَتْ لَهُمْ عِزَّةٌ فِي الْمُلُوكِ قَعْسَاءُ قَدْ مُتِعُوا بِقَلِيلٍ مِنْ زَخَارِفِهَا فِي عِزَّةٍ فَإِذَا النَّعْمَاءُ بَأْسَاءُ نَالُوا يَسِيرًا مِنَ اللَّذَاتِ وَانْصَرفُوا عَنْ دَارِهَا وَاِقْتَفى اللَّذَاتَ أَسْوَاءُ دَارٌ هَذَا وَصْفُهَا وَوَاقِعُهَا فَهَلْ يَغْتَرُّ بِهَا مَنْ لَهُ عَقْلٌ هَلْ يَأْمَنُهَا أَوْ يَطْمَئِنُ إِلَيْهَا ذُو عَقْلٍ رَزِين هَلْ يُعَادِي وَيُشَاحِنُ وَيُوَالِي مِنْ أَجْلِهَا إِلا نَاقِصُ الْعَقْلِ وَالدِّين فَاتَّقُوا اللهَ يَا عِبَادَ اللهِ وَكُونُوا مِنْ تَقَلبهَا عَلى غَايَةِ الْحَذَرِ وَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ وَذَلِّلُوا دُنْيَاكُمْ لآخِرَتِكُمْ وَاسْتَخْدِمُوهَا فِي الذي يُرْضِي رَبَّكُمْ فَإِنَّ الدُّنْيَا نِعْمَ الْمَطِيَّةُ لِمَنْ اسْتَخْدَمَهَا لِلآخِرَةِ وَلَنْ يَصْحَب الإنسانُ إِذَا فَارَقَهَا وَانْتَقَلَ مِنْهَا إِلا مَا قَدَّمَهُ فِيهَا مِنْ صَالِحِ

الأَعْمَالِ، قَالَ اللهُ تَعَالى: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} ، وَقَالَ تَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ وَبَادِرُوا بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ قَبْلَ هُجُومِ هَاذِمِ اللَّذَاتِ وَمُفَرِّقِ الْجَمَاعَاتِ قَبْلَ أَنْ تَأْتِي فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا. وَرَوَى البُخَارِيُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْكِبِي فَقَالَ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» . فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. وَيَقُولُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ ابن عَبَّاسٍ: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَتِّكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ» . عَسَى تَوْبَةٌ تُمْحَى بِهَا كُلُّ زَلَّةِ وَتَغْسِلُ أَدْرَانَ القُلُوبِ الْمَرِيضَةِ ِ أَجدَّكَ مَا الدُّنْيَا وَمَاذَا نَعِيمُهَا وَهَلْ هِيَ إِلا دَارُ بُؤْسٍ وَحَسْرَةِ وَلَمْ أَرَى فِيهَا مَا يَرُوقَ بَلَى بِهَا تُرِيقُ دَمَ الأَعْمَارِ أَسْيَاقُ غَفْلَةِ إِذَا أُدْرِكَتْ فِيهَا مَسَرَّةُ سَاعَةٍ أَتَتْكَ إِسَاءَاتٌ تُنْسِيكَ بالَّتِي

وَإِنْ عَطَفَتْ فَالْعَطْفُ عَطْفَ تَوَهُمٍ فَإِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ مِنْهَا بِعَطْفَةِ رَأَيْنَا أُنَاسًا قَدْ أَنَاخَتْ بِسَوْحِهِمْ وَقَالَتْ خُذُوا مِنْ زَهْرَتِي كُلَّ مُنْيَةِ فَغَرَّتْهُمُ حَتَّى اسْتَبَاحُوا حَرِيمَهَا وَحَطُّوا بِهَا الأَثْقَالَ مِنْ كُلِّ شَهْوَةِ فَمَا هِيَ إِلا أَنْ أَرَتْهُمْ نَعِيمَهَا وَمَدَّدُوا أَعْنَاقًا إِلى كُلِّ لِذَّةِ أَتَتْهُمْ فَأَجْلَتْ عَنْهُمُ كُلَّ شَهْوَةٍ أَرَادُوا وَأَخْلَتْ مِنْهُم كُلِّ غُرْفَةِ فَصَارُوا أَحَادِيثًا لِكُلِّ مُحَادِثٍ وَهُمْ سَمَرُ السُّمَارِ فِي كُلِّ سَمْرَةِ وَلِلْعَيْنِ كَانُوا قُرَّةً ثُمَّ أَصْبَحُوا وَهُمْ عِبْرَةٌ تَجْرِي بِهَا كُلُّ عَبْرَةِ تَبَدَّلَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ بِضِدِّهِ فَإِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ فِيهَا بِرُتْبَةِ فَصِحَّتُهَا وَالعِزُّ وَالْمَالُ بَعْدَهَا سَقَامٌ وَذِلٌ وَافْتِقَارٌ بِقِلَّةِ أَرَى هَذِهِ الأَعْمَارَ أَحْلامَ نَائِمٍ وَلَذَتَهَا طَيْفًا أَلَمَّ بِمُقْلَتِي أَلَسْتَ تَرَى الأَتْرَابَ قَدْ رَحَلُوا إلى

.. تُرَابٍ وَحَلَّوا فِي مَنَازِلِ وَحْشَةِ مُقِيمِينَ فِيمَا يَنْظُرُونَ مَتَى مَتَى تَرُوحُ إِلَيْهِمْ فِي عَشِيٍّ وَبُكْرَةِ وَتُقْبِلُ في جَيْشٍ قُصَارَى مَرَامِهِمْ نُزُولُكَ فَرْدًا حُفْرَةً أَيَّ حُفْرَةِ وَيَحْثُو عَلَيْكَ التُّرْبَ كُلُّ مُشَيِّعٍ ثَلاثًا وَهَذَا مِنْ فِعَالِ الأَحِبَةِ فَتَنْزِلُ دَارَ لا أَنيِسَ بِهَا وَلا خَلِيلَ بِهَا تُفْضِي إِلَيْهِ بِخُلَّتِي سِوَى رَحْمَةِ الرَّحْمَنِ يَا خَيْرَ رَاحِم أَسَأْنَا فَقَابِلْنَا بِعَفْوٍ وَرَحْمَةِ وَصَلِّي عَلَى الْمُخْتَارِ وَالآلِ إِنَّهَا لِحُسْنِ خِتَامِ فِي نِظَامِ القَصِيدَةِ اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِسُلُوكِ مِنَاهِجِ الْمُتَّقِين وَخصَّنَا بِالتَّوْفِيقِ الْمُبِين وَاجْعَلْنَا بِفَضْلِكَ مِنْ عِبَادِكَ الْمُخْلِصِينَ الذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. اللَّهُمَّ افْتَحْ لِدُعَائِنَا بَابَ الْقَبُولِ وَالإجَابَةِ وَوَفِّقْنَا لِلتَّوْبَةِ النَّصُوح وَالإنَابَةِ وَثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا تَثْبِيتَ الْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَثَبِّتْنَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.اللَّهُمَّ أَيْقِظْ قُلُوبَنَا وَنَوِّرْهَا بِنُورِ الإيمَان وَثَبَّتْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَارْزُقْنَا الْمَعْرِفَةِ بِكَ عَنْ بَصِيرَةٍ وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لِطَاعَتِكَ وَامْتِثَالِ أَمْرِكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ. واللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.

النبي - صلى الله عليه وسلم - يعبئ جيشه أحسن تعبية

(فَصْلٌ) وَعَبَّأَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ تَعْبِئَةٍ لأَصْحَابِهِ، وَحَثَّهُمْ عَلَى الثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ، وَقَالَ لَهُمْ: «لا تَحْمِلُوا حَتَّى آمرَكُم، وَإِنْ اكْتَنَفَكُم القَوْمُ فَاتْصَنحُوا عَنْكُمْ بالنَّبْلِ، وَلا تَسْلُوا السُّيُوفِ حَتَّى يَغْشُوكُم» . ثُمَّ رَجَعَ إِلى العَرِيشِ، فَدَخَلَهُ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَقَامَ سَعْدُ ابنُ مُعَاذٍ وَاقِفًا عَلَى البَابِ بَابِ العَرِيشِ، مُتَقَلِّدًا سَيْفَهُ، وَمَعَهُ رِجَالٌ مِنْ الأَنْصَارِ، يَحْرِسُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ علَيْهِ وَسَلَّمَ خَوْفًا عَلَيْهِ أَنْ يَدْهَمُهُ العَدُوُّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالنَّجَائِبُ مُهَيَّأَةٌ لَهُ إِنِ احْتِاجَ إِلَيْهَا رَكِبَهَا وَبَدَأْتَ قُرَيْشٌ الزَّحْفَ، فَانْدَفَعَ مِنْ صُفُوفِهَا الأَسْوَدُ ابنُ عَبْدِ الأَسَدِ الْمَخْزُومِي، إلى حَوْضِ الْمَاءِ الذي أَقَامَهُ الْمُسْلِمِونَ، وَهُوَ يَقُولُ: أَعَاهِدُ اللهَ لأَشْرَبَنَّ مِنْ حَوْضِهِمْ، أَوْ لأَهْدِمَنَّهُ، أَوْ لأَمُوتَنَّ مِنْ دُونِهِ، فَتَلَقاهُ حَمْزَةُ بنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بِضَرْبَةٍ مِنْ سَيْفِهِ أَطَنَّ بِهَا سَاقَهُ، فَوَقَعَ عَلَى الأَرْضِ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ يَزْحَف حَتَّى وَصَلَ إِلى الْحَوْض، فَجَعَلَ حَمْزَة يُتْابِعَهُ بِالسَّيْفِ حَتَّى قَتَلَهُ فِي الْحَوْضِ، وَحَمَىَ عَتُبَة بنُ رَبِيعَةَ مِنْ قَوْلِ أَبِي جَهْلٍ، فَانْدَفَعَ مِنَ الصَّفِ بَيْنَ أَخِيهِ شَيْبَةَ، وَابْنِهِ الوَلِيدِ، يَدْعُونَ إِلى الْمُبَارَزَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ ثَلاثَةٌ مِن الأَنْصَارِ، عَبْدُ اللهِ بنُ رَوَاحَةَ وَعَوْفُ وَمُعَوِّذُ أَبْنَاءُ عَفراءَ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَقَالُوا: مِنَ الأَنْصَارِ. قَالُوا: أَكْفَاءٌ كِرَام، وَإِنَّما نُرِيدُ بَنِي عَمِّنَا، وَنَادَوْا يَا مُحَمَّدُ أَخْرِجْ إَلِيْنَا أَكْفَاءَنَا، فَأَخْرَجَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمْزَةَ بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعُبَيْدَةَ بن الْحَارِثِ بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَلِيَّ بن أَبِي

طَالِبٍ فَبَارَزَ عُبَيْدَةُ عُتْبَةَ، وَبَارَزَ حَمْزَةُ شَيْبَةَ، وَبَارَزَ عَلِيٌّ الوَلِيدَ، فَأَمَّا حَمْزَةُ وَعَلِيٌّ فَلَمْ يَلْبَثْ كُلٌ مِنْهُمَا أَنْ قَتَلَ صَاحِبَهُ، وَأَمَّا عُبَيْدَةُ وَعُتْبَةُ فَقَدْ اخْتَلَفَا فِيمَا بَيْنَهُمَا ضَرْبَتَيْن، فَوَقَعَ كِلاهُمَا عَلَى الأَرْضِ، فَكَرَّ حَمْزَةُ وَعَلِيٌّ بَأسْيَافِهِمَا عَلَى عُتْبَةَ، فَذَفَّفَا عَلَيْهِ، وَحَمَلا عُبَيْدَةَ فَجَاءا بِهِ إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ قُطِعَتْ سَاقُهُ، وَجَعَلَ مُخُهَا يَسِيل، فَأَفْرَشَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدمَهُ الشَّرِيفَة، وَبَشَّرَهُ بِالشَّهَادَةِ، وَهُنَا حَمِيَ الْمُشْرِكُون، وَهَجَمُوا عَلَى صُفُوفِ الْمُسْلِمِينَ، هُجُومَ السَّيْلِ الْجَارِفِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكْسِرُوا هَجَمَاتِهِمْ بِالنَّبْلِ، وَهُمْ مُرَابِطُونَ فِي أَمَاكِنِهم، فَلَمَّا أَوْشَكَ الصَّفَانِ، أَنْ يَتَلاحَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْمِلُوا عَلَيْهِمْ وَنَادَى قَائِلاً: «وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يُقَاتِلُهُمْ اليَوْمَ رَجُلٌ فَيُقْتَلُ صَابِرًا مُحْتِسَبًا مُقْبِلاً غَيْرَ مُدْبِرٍ إِلا أَدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ» . فَهَجَمَ الْمُسْلِمُونَ بِقُلُوبٍ مِلْؤُهَا الإِيمَانُ بِالْحَقِّ، وَالرَّغْبَةُ فِي الشَّهَادَةِ، وَالطَّمَعُ في ثَوَابِ اللهِ، وَجَعَلُوا أَهْدَافَهُمْ رُؤوسَ الكَفَرَةِ، يَتَصَيَّدُونَهُمْ وَسَطَ الْجُمُوعِ الزَّاحِفَة، ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَلَيْهِمْ كَالصَّوَاعِقِ، وَهُمْ يَتَصَايَحُونَ تَصَائِحَ الأُسُودِ: يَا مَنْصُورُ أَمِتْ أَمِتْ. ثُمَّ حَمِيَ الوَطِيسُ وَاسْتَدَارَتْ رَحَى الْحَرْبِ، وَاشْتَدَّ القِتَالُ، وَهَانَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْحَيَاةُ، وَلَذَّتْ لَهُمْ الشَّهَادَةُ، وَاسْتَعْجَلُوا الْمَوْتَ فِي سَبِيلِهَا، حَتَّى إِنَّ عُمَيْرَ بنَ الْحُمَامِ لِيَصِيحُ مِنْ فَرْطِ سُرُورِهِ وَيَقُولُ: بَخٍ بَخٍ أَفَمَا بَيْنِي وَبَيْنَ الْجَنَّةِ إِلا أَنْ يَقْتُلَنِي هَؤُلاءِ؟ ثُمَّ يَرْمِي مِنْ يَدِهِ تَمَرَاتٍ كَانَ يَأكُلُ مِنْهَا، وَيَقُولُ: لَئِنْ أَنَا حَيَيْتُ

الدعاء إلى المبارزة وتقدم الأكفاء لها من الصحابة وتنافسهم فيها وشجاعتهم وتهالكهم على الشهادة وإمدادهم بالملائكة لتؤيدهم

حَتَّى آكَلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، ثُمَّ يَنْدَفِعُ إِلى الْمَعْرَكَةِ انْدِفَاعَ السَّهْمِ، وَحَتَّى إِنَّ عَوْفَ بن الْحَارِثِ لَيَسْأَلُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا يَضْحَكُ الرَّبُ مِن عَبْدِهِ فَيَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ: «غَمْسُهُ يَدَهُ في العَدُوِّ حَاسِرًا» . فَيَنْزِعُ دِرْعَهُ فَيَقْذِفُهَا، ثُمَّ يَأْخُذُ سَيْفَهُ، وَيَخُوضُ فِي الْمَعْرَكَةِ لا يُبَالِي أَوَقَعَ عَلَى الْمَوْتِ، أَمْ وَقَعَ الْمَوْتُ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ملءَ كَفِّهِ مِنْ الْحَصَى، فَرَمَى بِها وُجُوه العَدُوِّ، فَلَمْ تَتْرُكْ رَجُلاً مِنْهُمْ إِلا مَلأَتْ عَيْنَيْهِ، وَشُغِلُوا بالتُّرَابِ فِي أَعْيُنِهم، وَشُغِلَ الْمُسْلِمُونَ بِقَتْلِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ في شَأْنِ هَذِهِ الرَّمْيَةِ عَلَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} وَكَانَتْ الْمَلائِكَةُ يَوْمَئِذٍ تُبَادِرُ الْمُسْلِمِينَ إِلى قَتْلِ أَعْدَائِهِمْ، قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: بَيَنْمَا رَجُلٌ مِن الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِن الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ إِذْ سَمَعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ، وَصَوْتَ الفَارِسِ فَوْقَهُ، يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ، إِذْ نَظَرَ إِلى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ مُسْتَلْقِيًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ وَشَقَّ وَجْهُهُ كَضَرْبَةِ السَّوْطِ فَأَحْضَرَ ذَلِكَ أَجْمَعُ، فَجَاءََ الأَنْصَارِيُ فَحَدَّثَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «صَدَقْتُ، ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ» . وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الأَنْصَارِي: إِنِّي لأَتْبَعُ رَجُلاً مِنْ الْمُشْرِكِينَ لأَضْرِبَهُ، إِذْ وَقَعَ رَأْسُهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ سَيْفِي، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ قَدْ قَتَلَهُ غَيْرِي، وَجَاءَ رَجُلٌ بالعباسِ بن عبدِ الْمُطَّلِبِ أَسِيرًا، فَقَالَ العَبَّاسُ: إِنَّ هَذَا وَاللهِ مَا أَسَرَنِي، لَقَدْ أَسَرَنِي رَجُلٌ أَجْلَحُ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا عَلَى فَرَسٍ أَبْلَقَ، وَمَا أَرَاهُ في القَوْمِ، فَقَالَ الأَنْصَارِي: أَنَا أَسَرْتُهُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: «اسْكُتْ فَقَدْ أَيَّدَكَ اللهُ بِمَلَكٍ كَرِيمٍ، وَأُسِرَ مِنْ بَنِي

إبليس يقود المشركين ويشجعهم ويورطهم ثم يهرب

عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ثَلاثَةً، العَبَّاسُ، وَعَقِيلٌ، وَنَوْفَلُ بن الْحَرثِ. وَذَكَرَ الطَّبَرَانِي عَنْ رِفَاعَةَ بن رَافِعٍ قَالَ: لَمَّا رَأَى إِبْلِيسُ مَا يَفْعَلُ الْمَلائِكَةُ بِالْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ أَشْفَقَ أَنْ يَخْلُصَ القَتْلُ إِلَيْهِ، فَتَشَبَّثَ بِهِ الْحَرْثَ بن هِشَامٍ هَارِبًا، حَتَّى أَلْقَى نَفْسَهُ في البَحْرِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ نَظْرَتَكَ إِيَّاي، فَأَقْبَلَ أَبُو جَهْلٍ بنُ هِشَامٍ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ النَّاسِ لا يَهْزِمَنَّكُمْ خَذْلانُ سُرَاقَةَ إِيَّاكُم، فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى مِيعَادٍ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَلا يَهُولَنَّكُم قَتْلُ عُتْبَةَ، وَشَيْبَةَ، وَالْوَلِيد، فَإِنَّهُمْ قَدْ عَجَّلُوا فَوَالَّلاتِ وَالعُزَّى لا نَرْجِعُ حَتَّى نَقْرِنَهُم بِالْحِبَالِ، وَلا أَلْفَيْنَ رَجُلاً مِنْكُمْ قَتَلَ مِنْهُمْ رَجُلاً، وَلَكِنْ خُذُوهُمْ أَخَذَا، حَتَّى نَعْرِفَهُمْ سُوءَ صَنِيعِهِمْ، وَلا تَزَالُ تُضَاعفُ شَجَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ وَتَزْدَادُ قُوَاهُمُ الْمَعْنَوِيَّةِ وَالْحِسِّيَةُ وَتَزْدَادُ حَمَاسَتُهُمْ، حَتَّى لَيُحِسُّ الوَاحِدَ مِنْهُمْ أَنَّهُ كُفْءٌ لِعَشْرَةٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَتَضَاءَلَتْ فِي أَعْيُن الْمُؤْمِنِينِ كَثْرَةُ الْمُشْرِكِينَ، فَجَعَلُوا يَفْتَرِسُونَهُمْ كَمَا تَفْتَرِسُ الذِّئَابُ الْغَنَمِ، وَيَكْتَسِحُونَهُمْ كَمَا يَكْتَسِحُ السَّيْلُ الْغُثَاءَ، وَانْعَقَدَ فَوْقَ الْمَعْرَكَةِ جَوٌّ رَهِيبٌ، مَلأَ قُلُوبَ الْمُشْرِكِينَ بِالرُّعْبِ، كَمَا مَلأَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ بِالقُوَّةِ وَالثَّبَاتِ مِن اللهِ العَزِيزِ الْحَكِيم. وَرُوِيَ أَنَّ خُبَيْبَ بن يَسَافٍ كَانَ رَجُلاً شُجَاعًا، وَكَانَ يَأْبَى الإِسْلامَ، فَلَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ إِلى بَدْرٍ، خَرَجَ هُوَ وَقَيْسُ بن مُحْرِثٍ، فَعَرَضَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخْرُجَا مَعَهُ، فَقَالَ: «لا يَخْرُجْ مَعَنَا رَجُلٌ لَيْسَ عَلَى دِينِنَا» . فَقَالَ خُبَيْبٌ: قَدْ عَلِمَ قَوْمِي أَنِّي عَظِيمُ الغِنَاءِ في الْحَرْبِ، فَأقَاتِلُُ مَعَكَ لِلْغَنِيمَةِ، قَالَ: «لا، وَلَكِنْ أَسْلَمَ ثُمَّ قَاتلَ» . اللَّهُمَّ يا فالقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، يا مُنْشِئَ الأجْسَادِ بَعْدَ البلَى يا مُؤْوي المنْقَطِعِينَ إِليْه، يا كَافِي المُتَوَكِّلينَ عليه، انْقَطَعَ الرَّجَاءُ إلا مِنْكَ، وخابَتِ الظُنُونُ إلا فِيكَ، وضَعُفَ الاعْتمادُ إِلا عَلَيْكَ نسألُكَ أنْ تُمْطَرَ مَحْلَ قُلُوبِنَا

متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - المعركة واستنهاضه همم أصحابه، وعدد القتلى والأسرى

مِن سَحائِبِ بِرِّكَ وإحْسَانِكْ وأَنْ تُوِفقَّنا لِمُوجِباتِ رَحْمَتِكَ وعَزَائِم مَغفرتِكَ. اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَحُبَّ العَمَلِ الذِي يُقَرِّبُنَا إِلى حُبِّكَ اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لِشُكْرِكَ وَاحْفَظْنَا مِن الاغْتِرَارِ بِالدُّنْيَا وَالْهَوَى وَالنَّفْسِ وَعَدُوِّكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ إِنَّكَ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. (فَصْلٌ) وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَرِيشِهِ، يُتَابِعُ الْمَعْرَكَةَ، وَقَلْبُهُ مُتَعَلِّقٌ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَتَارَةً يَنْزِلُ إِلَيْهِمْ، فَيُنْهِضُ هِمَمَهُمْ، وَيُقَوِي بِإِذْنِ اللهِ قُلُوبَهُم، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ وَتَارَةً يَصْعَدُ إِلى الْجَبَلِ يَدْعُو رَبَّهُ، وَيُكَرِّرُ دُعَاءَهُ وَابْتِهَالَهُ للهِ، وَمُنَاشَدَتُهُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مِنْكَبَيْهِ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ الصِّدِيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَالَ: بَعْضُ مُنَاشَدَتِكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ مُنْجِزٌ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأُغْفِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِغْفَاءَةً وَاحِدَةً، وَأَخَذَ القَوْمُ النُّعَاسُ فِي حَالِ الْحَرْبِ، ثُمَّ رَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ فَقَالَ: «أَبْشِرْ يَا أَبَا بَكْرٍ، هَذَا جَبِريلُ عَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ، وَجَاءَ النَّصْرُ، وَأَنْزَلَ اللهُ جُنْدَهُ، وَأَيَّدَ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِين، وَمَنَحَهُم أَكْتَافَ الْمُشْرِكِينَ أَسْرًا وَقَتْلاً، وَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلى أَصْحَابِهِ، يَشُدُّ عَزَائِمَهُمْ، وَيُبَشِّرُهُمْ بِنَصْرِ اللهِ وَيَقُولُ لَهُمْ: «شُدُّوا، {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} .. مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ سَلَبُهُ، وَمَنْ أَسَرَا أَسِيرًا فَهُوَ لَهُ» ، فَحَمَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ حَمْلَةً صَادِقَةً، تَصَدَّعَتْ لَهَا جُمُوعُهُمْ، وَانْهَارَتْ أَمَامَهَا قُوَاهُمْ وَرَأَى الْمُشْرِكُونَ مَا أَصَابَ سَادَتِهم، فَأَلْقِيَ الرُّعْبُ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَخَذُوا يُلْقُونَ بِأَثْقَالِهِمْ، وَيَفِرُّونَ مِنَ الْمَعْرَكَةِ، نَجَاةً بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ

الْمَوْتِ، فَانْقَضَّ الْمُسْلِمُونَ يَأسِرُونَ وَيَهْزِمُونَ وَيَغْنِمُونَ، وَلَمَا وَضَعَ الْقَوْمُ أَيْدِيهُمْ يَأْسِرُونَ، نَظَرَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلى سَعْدِ بن مُعَاذٍ، فَرَأَى في وَجْهِهِ الكَرَاهَةَ لِمَا يَصْنَعُونَ، فَقَالَ: «لَكَأَنَّكَ يَا سَعْدُ تَكْرَهُ مَا يَصْنَعُ القَوْمُ» ؟ فَقَالَ: أَجَلْ وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، كَانَتْ أَوَّلَ وَقْعَة أَوْقَعَهَا اللهُ بأَهْلِ الشِّرْكِ، فَكَانَ الإثْخَانُ في القَتْلِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ اسْتِبْقَاءِ الرِّجَالِ، وَهَكَذَا تَصَدَّعَتْ جُمُوعُ الشِّرْكِ، أَمَامَ قُوَّةِ الإِيمَانِ باللهِ وَرَسُولِهِ وَانْجَلَتِ الْمَعْرَكَةُ عَنْ سَبْعِينَ قَتِيلاَ وَسَبْعِينَ أَسِيرَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ كُلَّ مَا خَلَّفَ الْمُشْرِكُونَ وَرَاءَهُمْ، مِنْ زَادٍ وَعَتَادٍ، أَمَّا الذِينَ فَازُا بِالشَّهَادَةِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَكَانُوا أَرْبَعَةَ عَشَرَ، فَبَدَأَتِ الْمَعْرَكَةُ في الصَّبَاحِ، وانْتَهَتْ في عَصْرِ ذَلِكَ الْيَومِ الذِي هُوَ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ مِن السَّنةِ الثانِيةِ لِلْهِجْرَةِ، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُدْفَنَ الشُّهَدَاءُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ، وأَنْ يُوَارَيَ الْقَتْلَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي قَلِيبٍ هُنَاكَ مَهْجُورَة، فَلَمَّا وُضِعُوا فِي الْقَلِيبِ، وَقَفَ عَلَيْهِم رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رِبِّي حَقًّا» . فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللهِ ما تُخَاطِبُ مِنْ أَقْوَامٍ قَدْ جَيَّفُوا. فَقَالَ: «وَالذِي نَفْسِي بَيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بَأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ الْجَوَاب» . وَرَوَى الْبُخَارِيّ في الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: إِنِّي لَفِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ، إِذْ الْتَفْتُ فإِذا عَنْ يَمِينِي وَعَنْ يَسَارِي فَتَيَانِ حَدِيثَا السِّنِ، فَكَأَنِّي لَمْ آمَنْ بِمَكَانِهِمَا إذْ قَالَ لِي أَحَدُهُمَا سِرًّا مِنْ صَاحِبه: يَا عَمُّ، أَرِنِي أَبَا جَهْلٍ، فَقُلْتُ: يَا ابْنَ أَخِي فَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ

قصة قتل أبي جهل لعنه الله وبيان من قتله وتحديد وقت المعركة ابتداء وانتهاء

رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لاَ يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الأَعْجَلُ مِنَّا. فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، قَالَ: فَغَمَزَنِي الآخَرُ فَقَالَ لِِي مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ فِي النَّاسِ، فَقُلْتُ: أَلاَ تَرَيانِ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي تَسْأَلانِي عَنْهُ. قَالَ: فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلاَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللهُ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَيُّكُمَا قَتَلَهُ» ؟ . فَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ. قَالَ: «هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا» ؟ . فَقَالاَ: لاَ. فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلى السَّيْفَيْنِ فَقَالَ: «كِلاَكُمَا قَتَلَهُ» . وَقَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ. والرَّجُلانِ مُعَاذَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ ومُعَاذَ بنِ عَفْرَاءَ: بُغْضُ الْحَيَاةِ وَخَوْفُ اللهِ أَخْرَجَنِي وَبيَعُ نَفْسِي بِمَا لَيْسَتْ لَهُ ثَمَنَا إنّي وَزَنْتُ الذي يَبْقَى لِيَعْدِلَهُ مَا لَيْسَ يَبْقَى فَلا واللهِ مَا وَزَنَا وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. (فَصْلٌ) (مِن مَوَاعِظِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَصَايَاهُ) قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَلُّوا أَنْفُسَكُمْ بالطَّاعَةِ، وأَلْبِسُوهَا قِنَاعَ الْمَخَافَةِ، واجْعَلُوا آخِرَتَكُم لأَنْفُسِكُم بالطاعةِ، لِمُسْتَقَرِّكُم، واعْلَمُوا أَنَّكُمْ عن قَليلٍ رَاحِلُون، وَإِلى اللهِ صَائِرُون ولا يُغْنِي عَنْكُم هُنَالِكَ إِلا صَالِحُ عَمَلٍ قَدَّمُتُمُوهُ، أَوْ حُسْنُ ثَوَابٍ حُزْتُمُوه» . وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في بَعْضِ خُطَبِهِ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الأَيَّامَ تُطْوى، والأَعْمَارَ تَفْنَى، والأبْدَانَ في الثَّرى تَبْلى، وإِنَّ اللَّيْلَ والنهارَ

يَتَرَاكَضَانِ تَرَاكُضَ الْبَريدِِ، يُقَرِّبَانِ كُلَّ بَعيدٍ، وَيُخْلقَانِ كُلَّ جَديدِ، وفي ذَلِكَ عِبادَ اللهِ ما أَلْهَى عن الشَّهَواتِ، وَرَغَّب في الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ» . وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعْضِ خُطَبِهِ: «أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ لَكُم نِهَايَةً، فانْتَهُوا إلى نِهَايَتِكُم، وإِنَّ لَكُمْ مَعَالِمَ، فانْتَهُوا إلى مَعَالِمِكُم، وإِنَّ الْمُؤمِنَ بَيْنَ مَخَافَتَيْنِ: أَجلٍ قَدْ مَضَى، لا يَدْري ما الله صَانِعُ فِيهِ، وأَجَلٍ قَدْ بَقِيَ، لا يَدْرِي ما اللهُ قاضٍ فيه فَلْيَتَزَوَّدِ الْعَبْدُ لِنَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ، وَمَنْ دُنْيَاهُ لآخِرَتِهِ، وَمِن الْحَيَاةِ قَبْلَ الْمَوتِ، فَإِنَّ الدُّنْيَا خُلِقَتْ لَكُم، وَأَنْتُمْ خُلِقْتُمْ لِلآخِرَةِ، فَوَالذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ما بَعدَ الْمَوْتِ مِن مُسْتَعْتَبٍ، ولا بَعْدَ الدنيا إلا الْجَنَّةُ أو النَّارُ» . وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا النَّاسُ كَأَنَّ الْمَوتَ عَلى غَيْرِنَا كُتِبَ وكأنَّ الْحَقَّ عَلَى غَيْرِنَا وَجَبَ، وكَأَنَّ الذي نُشَيِّعُ مِن الأَمْواتِ سَفَرٌ عَمَّا قَلِيل إِليْنَا رَاجِعُون، نُبَوئِهم أَجْدَاثَهُمْ، وَنَأْكُلُ تُرَاثَهُم، كَأَنَّا مُخَلَّدُونَ بَعْدَهُمْ، نَسِينَا كُلَّ وَاعِظَةٍ، وَأَمِّنَا كُلَّ جَائِحَةٍ طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُه عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ، طُوبَى لِمَنْ أَنْفَقَ مَالاً اكْتَسَبَهُ مِنْ غَيْرِ مَعْصِيةٍ، وَجَالَسَ أَهْلَ الفِقْهِ وَالْحِكْمَةِ وَخَالَطَ أَهْلَ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ طُوبَى لِمَنْ ذَلَّتْ نَفْسُهُ، وَحَسُنَتْ خَلِيقَتُهُ، وَطَابَتْ سَرِيرَتُهُ، وَعَزَلَ عَنِ النَّاسِ شَرَّهُ طُوبَى لِمَنْ أَنْفَقَ الْفَضْلَ مِنْ مَالِهِ، وَأَمْسَكَ الفَضْلَ مِنْ قَوْلِهِ وَوَسِعَتْهُ السُّنَّةُ، وَلَمْ تَسْتَهْوِهِ البِدْعَةُ» . أ. هـ. قِيلَ: إِنَّ خَيْريْ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فِي خَمْسِ خِصَالٍ وَهِيَ: غِنَى النَّفْسِ، وَكَفِّ الأَذَى، وَكَسْبِ الْحَلالِ، وَلِبَاسُ التَّقْوَى وَالثِّقَةِ بِاللهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَقَدْ

نَظَمَهَا أَحَدُ العُلَمَاءِ فَقَالَ: أَرَى خَيْرَيْ الدَّارَيْنِ يُجْمَعُ كُلُّهُ بِخَمْسِ خِلالٍ يَا لَهَا مِنْ لَطَائِفِ غِنَى النَّفْسِ مَعْ كَفِّ الأَذَى وَاِكْتِسَابِ مَا يَحِلُّ وَمَلْبُوسُ التُّقَى حِصْنُ خَائِفِ عَلَى كُلِّ حَالٍ كُنْ بِرَبِّكَ وَاثِقًا بِنَفْعٍ وَكَشْفِ الضُّرِّ عِنْدَ الْمَخَاوِفِ اللَّهُمَّ اسْلُكْ بِنَا سَبِيلَ أَهْلِ الطَّاعَة، وَوَفِّقْنَا لِلثَّبَاتِ عَلَيْهَا وَالاسْتِقَامَةِ، وَعَافِنَا مِنْ مُوجِبَات الْحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ، وَأَمِّنَا مِنْ فَزع يَوْمِ القِيَامَةِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا. اللَّهُمَّ اكْتُبْ فِي قُلُوبِنَا الإِيمَانَ وَأَيِّدْنَا بِنُورٍ مِنْكَ يَا نُورَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، اللَّهُمَّ وَافْتَحْ لِدُعَائِنَا بَابَ الْقَبُولِ وَالإِجَابَةِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا بِرَحْمَتِكَ الوَاسِعَةِ إِنَّكَ أَنْتَ الغَفُوُر الرَّحِيم، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وَلَمَّا بَرَدَتِ الْحَرْبُ، وَوَلَّى القَوْمُ مُنْهَزِمِينَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ يَنْظُر لَنَا مَا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ» ؟ فَانْطَلَقَ ابنُ مَسْعُودٍ فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ أَبْنَاءُ عَفْرَاءَ حَتَّى بَردَ، فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، وَقَالَ: أَنْتَ أَبُو جَهْلٍ. فَقَالَ: لِمنْ الدَّائِرَةُ اليَوْمَ، فَقَالَ للهِ وَلِرَسُولِهِ، وَهَلْ أَخْزَاكَ اللهُ يَا عَدُّوَ اللهِ؟ فَقَالَ: وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلُهُ قَوْمُه؟ فَقَتَلَهُ عَبْدُ اللهِ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: قَتَلْتُهُ. فَقَالَ: «اللهُ الذِي لا إِله إِلا هُوَ» . فَرَدَّدَهَا ثَلاثًا، ثُمَّ قَالَ: «اللهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ للهِ الذِي صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ، انْطَلِقْ أَرِنِيهِ» . فَأَنْطَلَقْنَا فَأَرَيْتُهُ إِيَّاهُ، فَقَالَ: «هَذَا فِرْعَونُ هَذِهِ الأُمَّة» .

مقتل أمية بن خلف وابنه وقسم النفل

وَأَسَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ أُمَيَّةَ بن خَلَفٍ، وابْنَهُ عَلِيًّا، فَأَبْصَرَهُ بِلالُ، وَكَانَ أُمَيَّةُ يُعَذِّبُ بِلالاً بِمَكَّةَ، فَقَالَ: رَأْسُ الكُفْرِ أُمَيَّةُ بن خَلَفِ، لا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا، ثُمَّ اسْتَصْرَخَ جَمَاعَةَ مِنَ الأَنْصَارِ، وَاشْتَدَّ عَبْدُ الرَّحْمَن ِبِهِمَا يَحْرِزُهُمَا مِنْهُمْ، فَأَدْرَكُوهُمْ فَشَغَلَهُمْ عَنْ أُمَيَّةَ بابْنِهِ، فَفَرغوا مِنْهُ وَلِحقُوهَمَا، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ: أُبْرُكْ. فَبَرَكَ، فَأَلْقَى نَفْسَهُ عَلَيْهِ، فَضَرَبُوهُ بِالسَّيْفِ مِنْ تَحْتِهِ فَقَتَلُوهُ، وَأَصَابَتْ بَعْضُ السُّيُوفِ رِجْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ. وَبَاتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَتَهُ بِوَادِي بَدْرٍ، ثُمَّ أَصْبَحَ مُرْتَحِلاً بأَصْحَابِهِ إِلى الْمَدِينَةِ، وَمَعَهُ الأسَارَى مِن الْمُشْرِكِين، وَالنَّفَلُ الذِي أَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الكُفَّارِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، نَزَلَ فَقَسَمَ النَّفَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ بِالسَّواءِ وَجَعَلَ لِلْفَرَسِ نَصِيبًا، وَلِلْفَارِسِ نَصِيبًا، وَجَعَلَ لِوَرَثَةِ مَنْ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حِصَّةً، وَكَانَ فَرِيقٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَحْضُرُوا الوَقْعَةَ، لأَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَّفَهُمْ أَعْمَالاً غَيْرَ أَعْمَالِ الْقِتَالِ، وَفَرِيقٌ حَجَزَهُ عُذْرٌ قَاهِرٌ، كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمَهُ، فَأَسْهَمَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَانُوا كَمَنْ حَضَرَ الْقِتَالَ، ثُمَّ ارْتَحَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ لَقِيَهُ الْمُسْلِمُونَ يُهَنِئُونَهُ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُسْلِمِين، وَجَعَلُوا يَعْتَذِرُونَ لَهُ عَمَّا كَانَ مَنْ تَأَخُرهِمْ مِنْ الْخُرُوجِ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُ أَسَيْدُ بنُ الْحُضَيْرِ: يَا رَسُولِ اللهِ الْحَمْدُ للهِ الذِي أَظْفَرَكَ، وَأَقَرَّ عَيْنُكَ، وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا كَانَ تَخَلُّفِي عَنْ بَدْرٍ، وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّكَ تَلْقَى عَدُوًا، وَلَكِنْ ظَنَنْتُ أَنَّهَا عَيْرٌ وَلَوْ ظَنَنْتُ أَنَّهَا عَدُّوٌّ مَا تَخَلَّفْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقْتَ» وَمِمَّا يَنْطَبِقُ عَلَى النَّبِيِّ ? مَا يَلِي:

مقتل عقبة بن أبي معيط لعنه الله والنضر بن الحارث

شِعْرًا ... تَكامَلَتْ فِيكَ أَوْصَافٌ خُصِصْتَ بِهَا ... فَكُلُّنَا بِكَ مَسْرُورٌ وَمُغْتَبِطُ السِّنُّ ضَاحِكَةٌ وَالكَفُّ مَانِحَةٌ ... وَالنَّفْسُ وَاسِعةٌ وَالوَجْهُ مُنْبَسِطُ آخر: ... صَفُوحٌ عَنِ الإِجْرَامِ حَتَّى كَأنَّهُ ... مِنَ العَفْوِ لَمْ يَعرف من الناس مُجْرِمَا ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّيْرِ إِلى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا بَلَغَ الأَثِيلَ، اسْتَعْرَضَ الأَسْرَى هُنَا، فَأَمَرَ بَاثْنِينِ مِنْهُمْ أَنْ يُقْتَلا، وَهُمَا النَّضْرُ بنُ الْحَارِثِ، وَعُقْبَةُ بنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَكَانَ كِلاهُمَا شَيْطَانًا من شَياطين قُرَيْشٍ، وَمِنْ أَشَدِّ الْمُشْرِكِينَ إِيذَاءً لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلأَصْحَابِهِ، وَأَفْظَعَهُم تَقَوُّلاً عَلَى كِتَابِ اللهِ، وَعَلَى رَسُولِهِ، لا يَفْتُرَانِ مِنْ الإِيذَاءِ لا لَيْلاً وَلا نَهَارًا، أَمَّا النَّضْرُ بنُ الْحَارِثِ فَقَدْ نَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرَةً هَلَعَ لَهَا قَلْبُهُ، وَأَيِسَ مِنَ البَقَاءِ بَعْدَهَا، فَقَالَ لِرَجُلٍ إِلى جَنْبِهِ: مُحَمَّدٌ وَاللهِ قَاتِلِي، فَقَدْ نَظَرَ إِليَّ بِعَيْنَيْنِ فِيهمَا الْمُوْتُ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: مَا هَذَا وَاللهِ مِنْكَ إِلا رُعْبٌ، وَجَعَلَ النَّضْرُ يَلْتَمِسُ شَفِيعًا لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَعَلَّهُ أَنْ يَعْفُو عَنْهُ، فَذَهَبَ إِلى مُصْعَبِ بنِ عُمَيْرٍ، وَكَانَ أَقْرَبَ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِ رَحِمًا، فَقَالَ لَهُ: كَلِّمْ صَاحِبَكَ أَنْ يَجْعَلَنِي كَرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَهُو وَالله قَاتِلِي إِنْ لَمْ تَفْعَلْ، فَقَالَ مُصْعَبِ: إِنَّكَ تَقُولُ فِي كِتَابِ اللهِ وَفِي نَبِيِّهِ كَذَا وَكَذَا، وَكُنْتَ تُعَذِّبُ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّضْرُ: لَوْ أَسَرَتْكَ قُرَيْشٌ مَا قَتَلَتْكَ وَأَنَا حَيٌّ أَبَدَا، قَالَ مُصْعَبِ: اللهِ إِنِّي لأَرَاكَ صَادِقَا، ثُمِّ إِنِّي لَسْتُ مِثْلُكَ، فَقَدْ قَطَعَ الإِسْلامُ الْعُهُودِ، وَكَانَ قَائِلاً: النَّضْرُ أَسِيرًا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اضْرِبْ عُنُقَهُ، وَاللَّهُمَّ أَغْنِ الْمِقْدَادَ مِنْ فَضْلِكَ» . فَقُتِلَ ضَرْبًا بِالسَّيْفِ، وَأَمَّا الآخَرُ وَهُوَ عُقْبَةُ بنُ أَبِي مُعْيَطٍ، فَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِ وَهُوَ بِعِرْقِ الظَّبْيَةِ، وَرَوَى أَنَّهُ

لَمَّا أَمَرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ عُقْبَةَ قَالَ: أَتَقْتُلَنِي يَا مُحَمَّدُ مِنْ بَيْنِ قُرَيْشٍ؟ قَالَ «نَعَمْ. أَتَدْرُونَ مَا صَنَعَ هَذَا بِي؟ جَاءَ وَأَنَا سَاجِدٌ خَلفَ الْمَقَام، فَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِي وَغَمَزَهَا، فَمَا رَفَعَهَا حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّ عَيْنِيَّ سَتَنْدُرَانِ، وَجَاءَ مَرَّةً أُخْرَى بِسَلا شَاةٍ فَأَلْقَاهُ عَلَى رَأْسِي وَأَنَا سَاجِدٌ، فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ فَغَسَلَتْهُ عَنْ رَأْسِي» . ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ. إِذَا أَنْتَ أَكْرَمْتَ الْكَرِيمَ مَلَكْتَهُ ... وَإِنْ أَنْتَ أَكْرَمْتَ اللَئيمَ تَمَرَّدَا فَوَضَعُ النَّدا في مَوضِعِ السَّيْفِ بِالعُلا ... مُضِرٌّ كَوَضْعِ السَّيْفِ في مَوْضِعِ النَّدا آخر: ... أُكْرَمْ لِئَامًا بِالْهَوَانَ فَإِنَّهُمْ ... إِنْ أُكْرَمُوا فَسَدُوا عَلَى الإِكْرَامِ لا تَلْطَفَنَّ بِذِي لُؤْمٍ فَتطْغَيَهُ ... أهِنْهُ يَأتِيكَ مِطْوَاعًا ومِذْعَانَا إِنَّ الْحَدِيدَ تُلِينُ النَّارُ قَسْوَتَهُ ... وَلَوْ صَبَبْتَ عَلَيْهِ الْبَحْرَ مَالانَا آخر: ... أَهنْ عَامِرًا تكْرُمْ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا ... أَخُو عَامِرٍ مَنْ مَسَّهُ بِهَوَانِ آخر: ... وَمَا شَيْءٌ أسَرَّ إلى لَئِيمْ ... إِذَا شَتَمَ الْكِرَامَ مِنَ الْجَواب مُتَارَكَةُ اللَئِيمِ بِلا جَوَابٍ ... أَشَدُّ عَلَيْهِ مَنْ مُرِّ الْعَذَابِ آخر: ... وَتَرَى الْكَرِيمَ يَعُزُّ حِينَ يَهُونُ ... وَتَرَى اللَّئِيمَ يَهونُ حِينَ يُهَانُ ثُمَّ مَضَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَرِيقِهِ إِلى الْمَدِينَة، فَدَخَلَهَا قَبْلَ الأسَارَى بَيْوم، وَكَانَ دُخُولُهُ مِنْ ثَنِيَّةِ الوَدَاع، وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الأَرْبَعَاءِ الثَّانِي وَالْعُشْرُونَ مِنْ رَمَضَان، فَتَلَقَّاهُ الْمُسْلِمُونَ يُهَنِئُونَهُ بِفَتْحِ اللهِ، فَقَدِم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَة مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا مُظَفَرًا، مَكْبُوتًا عَدُوُّهُ، مَسْرُورًا صَدِيقُهُ، قَدْ أَعْلَى كَلِمَةَ اللهِ، وَمَكَّنَ لَهُ رَبُّهُ، وَنَصَرَهُ وَأَعَزَّهُ. وَمِنْ اللَّطَائِفِ التِي ذَُكِرَتْ فِي هَذَا الْمَوْقِفِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لِمَا أَقْبَلُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يُهَنِئُونَهُ، قَالَ لَهُمْ سَلَمَةُ بن سَلامَةَ: مَا الذِي

تُهَنِئُونَنَا بِهِ، فَوَاللهِ إِنْ لَقِينَا إِلا عَجَائِزًا صُلْعًا، كَالْبُدُنِ الْمُعَقَلةٍ فَنَحَرْنَاهَا، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: «أَيّ ابن أَخِي أُولَئِكَ الْمَلا» . أَيْ هُمُ الأَشْرَافُ وَالسَّادَةُ الذِينَ لا يُسْتَهَانُ بِبَلائِهِم في الْقِتَالِ، وَلا بِمَكَانِهِمْ فِي الْقَوْمِ وَقَدْ أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى أَبُوا الطِّيبِ فَقَالَ: وَمَا عَدِمَ اللاقُوكَ بَأْسًا وَشِدَّةً وَلَكِنَّ مَنْ لاقَوْا أَشَدُّ وَأَنْجَبُ وَرَوَى ابنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرِهِ أَنَّ عَاتِكَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَأَتْ فِي مَنَامِهَا وَقَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ قُرَيْشٌ بِثَلاثِ لَيَالٍ - أَنَّ رَاكِبًا أَقْبَلَ عَلَى بَعِيرٍ، حَتَّى وَقَفَ عَلَى قُرَيْشِ، ثُمَّ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا آل غُدَر، انْفُروا إِلى مَصَارِعِكُم فِي ثَلاثٍ، وَظَلَّ يُكَرِّرُهَا هُنَا وَهُنَاكَ، وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَخَذَ صَخْرَةَ فَرَمَى بِهَا مِنْ أَعْلَى الْجَبَلِ فَأَقْبَلَتْ تَهْوِي، حَتَّى إِذَا كَانَتْ بِأَسْفَلِهِ، تَنَاثَرَتْ أَجْزَاؤُهَا فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ، فَمَا بَقِيَ بَيْتٌ وَلا دَارٌ بِمَكَّةَ إِلا دَخَلَتْهُ مِنْهَا فِلْقَةٌ، وَبَعْدَ ثَلاثٍ مِنْ هَذِهِ الرُّؤْيَا جَاءَ رَسُولُ أَبِي سُفْيَانَ يَصِيحُ بِالْقَوْمِ، وَيَسْتَفِزُّهُمْ لِيُنْقِذُوا عِيرَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ. وَرُوِيَ أَنَّ جُهَيْمَ بن الصَّلْتِ رَأَى وَهُمْ فِي طَرِيقهِمْ إِلى بَدْرٍ - كَأَنَ رَاكِبًا أَقْبَلَ عَلَى فَرَسِهِ، وَمَعَهُ بَعِيرٌ، حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ: قُتِلَ فُلانٌ وَفُلانٌ، وَأُسِرَ فُلانٌ وَفُلانٌ، لِرجَالٍ سَمَّاهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ ضَرَبَ بِخَنْجَرِهِ فِي لَبَّةِ بَعِيرِهِ، وَأَرْسَلَهُ فِي الْعَسْكَرِ، فَمَا بَقِيَ خِبَاءٌ مِنْ أَخِبيْتَهِم إلا أَصَابَهُ مِنْ دَمِه. وَرَوَى الْوَاقِدِي أَنَّ ضَمْضَمَ بن عَمْرو جَاءَ إِلى الْحَارِثِ بِنْ عَامِرٍ، فَقَالَ

موعظة بليغة في الزجر عن التعليق بالدنيا وترك الآخرة

لَهُ: إِنِّي رَأَيْتُ رُؤْيًا كَرِهْتُهَا، رَأَيْتُ - وَأَنَا كَالْيَقْظَانِ عَلَى رَاحِلَتِي - كَأَنَّ وَادِيًا يَسِيلُ دَمًا، فَقَالَ الْحَارِثْ: لَوْ سَمِعْتُ هَذَا مِنْكَ قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ مَا خَرَجْتُ، أَوْ قَالَ: مَا سِرْتُ خَطْوَةً، فَاطْوِ هَذَا الْخَبَرَ أَنْ تَعْلَمَهُ قُرَيْش، فَإِنَّهَا تَتَّهِمُ كُلَّ مَنْ عَوَّقَهَا عَنْ الْمَسِيرِ اللَّهُمَّ عَمِّقْ إِيمَانَنَا بِكَ وَبِمَلائِكَتِكَ وَبِكُتُبِكَ وَبِرُسُلِكَ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. عِبَادَ اللهِ تَأَمَّلُوا كَيْفَ تَغَيَّرَتْ أَحْوَالُ النَّاسِ فِي زَمَنٍ قَلِيلٍ، وَكَيْفَ آثَروا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى مَا عِنْدَ اللهِ، وَكَيْفَ شَغَلَتْهُمُ الأَمْوَالُ وَالأَهْلُ، وَالأَوْلادُ وَالْمَلاهِي، وَالْمُنْكَرَاتِ، عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنْ الصَّلاةِ، مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُمْ مَهْمَا عَاشُوا وَمَهْمَا نَالُوا مِن الدُّنْيَا، وَمَهْمَا تَلَذَّذُوا فَإِنَّهُمْ رَاحِلُونَ وَمَا فِي أَيْدِيهِمْ زَائِلٌ عَنْهُمْ وَخَالِفُهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَ اللهِ وَأَنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلا ذِكْرُ اللهِ وَمَا وَالاهُ وَمَنْ اشْتَرى الْعَاجِلَ بِالآجِل وَلَمْ يَتَّخِذِ الدُّنْيَا مَطِيَّةً تُوصِلُهُ إِلى الْمَقْصَدِ الذِي يَرْضَاهُ وَالْمُسْتَقَرِ الأَخِيرِ الذِي يَهْوَاهُ مَعَ الذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ، فَذَلِكُمْ الذِي لا تُفِيدُهُ الْمَوَاعِظُ، وَلا تَجْدِي فِيهِ النَّصَائِحُ وَلا تَرُدُّهُ الْعِبَرُ عَنْ غَيِّهِ، وَاقْتِحَامِهِ الْقَبَائِحَ، وَذَلِكَ هُوَ الذِي خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ، عِبَادَ اللهِ حَلالُ هَذِهِ الدُّنْيَا حِسَابٌ، وَحَرَامُهَا عِقَابٌ، وَمَآلِهَا إِلَى الدَّمَارِ وَالْخَرَابِ، وَلا يَطْمَئِنُ إِلَيْهَا إِلا جَاهِلٌ مُرْتَابٌ، قَدْ فَقَدَ الرُّشْدَ وَأَبْعَدَ عن الصَّوَابِ، فَكَمْ مِنْ ذِهَابٍ بِلا إِيَابٍ، وَكَمْ مِنْ حَبِيبٍ عَلَى الرَّغْمِ قَدْ فَارَقَ الأَحْبَابِ، وَتَرَكَ الأَهْلَ وَالأَصْحَابَ، وَانْتَقَلَ إِلى ثَوَابِ جَزِيلٍ أَوْ عِقَابٍ، وَأَنْتَ أَيُّهَا الْمُغَفَّلُ الْمَخْدُوعُ عَلَى جَمْعِهَا حَرِيصٌ مَعَ مَا تُشَاهِدُهُ مِن الأَكْدَارِ وَالتَّنْغِيصِ، وَكَانَ يَكْفِيكَ مِنْهَا الْقَلِيلِ. شِعْرًا: ... يَا مُحِبَّ الدُّنْيَا الْغَرُورِ إِغْتَِِرَارًا ... رَاكِبًا في طِلابِهَا الأَخْطَارَا

شِعْرًا: ... يَبْتَغِي وَصْبَهَا فَتَأبَى عَلَيْهِ ... وَتَرَى أُنْسَهُ فَتُبْدِي نِفَارَا آخر: ... خَابَ مَنْ يَبْتَغِي الْوصَال لَدَيْهَا ... جَارَةٌ لَمْ تَزلْ تُسِيءُ الْجِوَارَا كَمْ مُحِبٍّ أَرَتْهُ أُنْسًا فَلَمَّا ... حَاوَل الزَّوْرَ أَرَتْهُ ازْوِرَارَا آخر: ... وَلَوْ كَانَ ذَا عَقْلٍ لأَغْنَتْهُ بُلْغَةٌ مِن الْعَيْشِ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَكُ يَجْشَعُ إِلى أَنْ تَوَافِيهِ الْمَنِيَّةُ وَهُوَ بِالْقِنَاعَةِ فِيهَا آمِنًا لا يَرْوَعُ. قَالَ اللهُ تَعَالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ، وَقَالَ تَعَالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} . نَعَمْ لا بَأْسَ فِي جَمْعِ الْمَالِ وَاكْتِسَابِ الْحَلالِ لِلتَّمَتُعِ بِهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ الْفَانِيَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَاغِلاً عَنْ عِبَادَةِ اللهِ وَالاسْتِعْدَادِ لِلدَّارِ الآخِرَةِ لا سِيمَا إِذَا كَانَ مِمَّنْ وَفَّقَهُ اللهُ لانْفَاقِهِ فِي الْمَشَارِيعِ الدِّينِيَّةِ كَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَتَرْمِيمِهَا وَوَضْعِ الْمَاءِ لِلشَّارِبِينَ وَنَحْوَ ذَلِكَ بَلْ كَسْبُ الْمَالِ فَرِيضَة عَلَيْكَ لأَنَّ عَلَيْكَ أَنْ تُحَافِظْ عَلَى حَيَاتِكَ وَعَلى حَيَاةِ مَنْ تَجِبُ لَهُمْ عَلَيْكَ النَّفَقَاتِ وَأَنْتَ لا تُحَافِظَ عَلَى تِلْكَ الأَنْفُس إِلا بِإعْطَائِهَا مَا لِلْحَيَاةِ مِنْ ضَرُورِيَّاتٍ وَهَذِهِ الضَّرُورِيَّاتِ لا يُمْكِنُكَ أَنْ تَحْصُلَ عَلَيَهَا إِلا بِمَالٍ تَبْذِلُهُ عِنْدَ الْمُبَادَلاتِ إِذَنْ كَسْبُ الْمَالِ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الْحَيَاةِ فَرِيضَةٌ وَإِذَا أَرَدْتَ هَذَا الْكَسْبَ فَانْوِ عِنْدَ طَلَبِكَ لَهُ الْقِيَامَ بِمَا أَوْجَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ وَالتَّقْوَى بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ حَتَّى تَنْقَلِبَ عَادَاتُكَ عِبَادَاتٌ وَمِنْ أَفْضَلِ مَا تَأْكلُ مَا كَسَبْتَهُ بِيَدِكَ وَتَحَرَّ الْحَلالَ فِي كَسْبِهِ فَإِنَّهُ يُنِيرُ الْقَلْبَ وَسَبَبٌ لِقُبُولِ الدُّعَاءِ بِإِذْنِ اللهِ وَتَوَقَّ الْحَرَامَ فَإِنَّهُ يُظْلِمُ الْقُلُوبَ وَيُثْقَلُ الأَبْدَانَ عَنِ الأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ سَبَبٌ لِعَدَمِ قَبُولِ الدُّعَاءِ وَابْتَعِدْ عَنِ الشُّبُهَاتِ فِي كَسْبِكَ وَاجْتَنِبْ الْغِشَّ وَالْكَذِبَ وَالإِيمَانَ فِي كُلَّ مُعَامَلاتِكَ وَكُنْ صَادِقًا سَمْحًا

لَيِّنَ الْجَانِبِ لِلْمُسْلِمِينَ مُحِبًّا لَهُمْ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ وَكُنْ قَانِعًا فِي الدُّنْيَا رَاضِيًا بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ صَارِفًا جُلَّ أَوْقَاتِكَ لِلآخِرَةِ. اللَّهُمَّ يا مَنْ لا تَضُرَّهُ الْمَعْصِيةُ ولا تَنْفَعَهُ الطَّاعَةِ أَيْقِظْنَا مِنْ نَوْمِ الغَفْلَةِ وَنَبَّهْنَا لاغْتِنَامِ أَوْقَاتِ الْمُهْلَةِ وَوِفِّقْنَا لِمَصَالِحْنَا وَاعْصِمْنَا مِنْ قَبَائِحْنَا وَلا تُؤاخِذْنَا بِمَا انْطَوَتَ عَلَيْهِ ضَمَائِرُنَا وَأَكَنَّتْهُ سَرائِرُنَا مِنْ أَنْوَاعِ القَبَائِحِ والْمَعَائِبِ التي تَعْلَمُهَا مِنَّا، وامنُنْ عَلَيْنَا يَا مَوْلانَا بِتَوْبَةٍ تمحو بها عنا كُلَّ ذَنْبٍ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْياءِ مِنهُم وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. شِعْرًا: ... لا تَأْسَفَنَّ أَخَا عِلْمٍ لِفَائِتَةٍ فَكُلُّ مَا لَيْسَ مِنْ رِزْقِ الْفَتَى فَاتَا كَمْ مِنْ فَتَىً وَاصَلَ الأَسْفَارَ مُجْتَهِدًا مِنْ أَرْضِ دَارِينَ حَتَّى حَلَّ أَغْمَاتَا لَمْ يُسْعِفْ الرِّزْقُ بِالأَقْدَارِ بُغْيَتَهُ وَلَوْ أَقَامَ أَتَاهُ الرِّزْقُ مِيقَاتَا مَوْلاكَ يَكْفِيكَ فَالْزَمْ بَابَ طَاعَتِهِ فَقَدْ كَفَى النَّاسَ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتَا آخر: ... وَيْلٌ لأَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ ... مَاذَا يُقَاسُونَ مِنَ النَّارِ تَنْقَدُّ مِنْ غَيْظٍ فَتَغْلِي بِهِمْ ... كَمِرجَلٍ يَغْلِي عَلَى النَّارِ فَيَسْتَغِيثُونَ لِكَي يُعْتَبُوا ... أَلا لَعًا مِنْ عَثْرَةِ النَّارِ وَكُلُّهُمْ مُعْتَرِفٌ نَادِمٌ ... لَوْ تُقبَلُ التَّوْبَةُ فِي النَّارِ يَهْوي بِهَا الأَشْقَى عَلَى رَأْسِهِ ... فَالْوَيْلُُ لِلأَشْقَى مِنَ النَّارِ فَتَارَةً يَطَفْو عَلَى جَمْرِهَا ... وَتَارَةً يَرْسُبُ فِي النَّارِ

.. وَكُلَّمَا رَامَ فِرَارًا بِهَا ... فَرَّ مِنَ النَّارِ إِلى النَّارِ يَطُوفُ مِنْ أَفْعَى إِلى أَرْقَمٍ ... وَسُمُّهَا أَقْوَى مِنَ النَّارِ وَكَمْ بِهَا مِنْ أَرْقَمٍ لا يَنِي ... يَلْسَعُ مَنْ يُسْحَبُ فِي النَّارِ لا رَاحَةٌ فِيهَا وَلا فَتْرَةٌ ... هَيْهَاتَ لا رَاحَةَ فِي النَّارِ أََنْفَاسُهَا مُطْبَقَةٌ فَوْقَهُمْ ... وَهَكَذَا الأَنْفَاسُ فِي النَّارِ سُبْحَانَ مَنْ يُمْسِكُ أَرْوَاحَهُمْ ... فِي الدَّرَكِ الأَسْفََلِ فِي النَّارِ وَلَوْ جِبَالُ الأَرْضِ تَهْوِي بِهَا ... ذَابَتْ كَذَوْبِ الْقِطْرِ فِي النَّارِ طُوبَى لِمَنْ فَازَ بِدَارِ التُّقَى ... وَلَم يَكُنْ مِنْ حَصَبِ النَّارِ وَوَيْلُ مَنْ عُمِّرَ دَهْرًا وَلَمْ ... يُرْحَمْ وَلَمْ يُعْتَقْ مِنَ النَّارِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا حِذْرَكُمْ ... وَحَصِّنُوا الْجَنَّةَ لِلنَّارِ فَإِنَّهَا مِنْ شَرِّ أَعْدَائِكُمْ ... مَا فِي الْعِدَا أَعْدَى مِنَ النَّارِ وَأَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ مَوْلاكُمُ ... فَذِكْرُهُ يُنْجِي مِنَ النَّارِ وَاعَجَبًا مِنْ مَرِحٍ لاعِبٍ ... يَلْهُو وَلا يَحْفِلُ بِالنَّارِ يُوقِنُ بِالنَّارِ وَلا يَرْعَوِي ... كَأَنَّهُ يَرْتَابُ فِي النَّارِ وَهُوَ بِهَا فِي خَطَرٍ بَيِّنٍ ... لَوْ كَاسَ مَا خَاطَرَ بِالنَّارِ إِنَّ الأَلِبَّاءَ هُمُ قِلَّةٌ ... فَرَّوا إِلى اللهِ مِنَ النَّارِ وَطَلَّقُوا الدُّنْيَا بَتَاتًا وَلَمْ ... يَلُوُوا عَلَيْهَا حَذَرَ النَّارِ وَأَبْصَرُوا مِنْ عَيْبِهَا أَنَّهَا ... فَتَّانَةٌ تَدْعُو إِلى النَّارِ وَاللهِ لَوْ أَعْقِلُ لَمْ تَكْتَحِلْ ... بِالنَّوْمِ عَيْنِي خَيْفَةَ النَّارِ وَلا رَقَا دَمْعِي وَلا عِلْمَ لي ... أَنِّيَ في أَمْنٍ مِنَ النَّارِ وَلَمْ أَرِدْ مَاءً وَلا سَاغَ لي ... إِذا ذَكَرْتُ الْمُهْلَ فِي النَّارِ

غزوة أحد وذكر سببها وإعداد قريش لها

.. وَلَمْ أَجِدُ لَذَّةَ طَعْمٍ إِذَا ... فَكَّرْتُ في الزَقُّومِ فِي النَّارِ أَيُّ الْتِذَاذٍ بِنَعِيمٍ إِذَا ... أَدّى إِلى الشَّقْوَةِ فِي النَّارِ أَمْ أَيُّ خَيْرٍ في سُرُورٍ إِذَا ... أَعْقَبَ طُولَ الْحُزنِ فِي النَّارِ فَفَكِّرُوا في هَوْلِهَا وَاِحْذَرُوا ... مَا حَذَّرَ اللهُ مِنَ النَّارِ فَإِنَّهَا رَاصِدَةٌ أَهْلَها ... تَدُعُّهُمْ دَعًّا إِلى النَّارِ فَلَيْسَ مِثْلِي طَالِبًا حَبَّةً ... إِلا الْمُعَافَاةَ مِنَ النَّارِ وَطَالَمَا اسْتَرْحَمْتُهُ ضَارِعًا ... يَا رَبُّ حَرِّمَنِي عَلَى النَّارِ فَأَنْتَ مَوْلايَ وَلا رَبَّ لِي ... غَيْرُكَ أَعْتِقْنِي مِنَ النَّارِ وَلَمْ تَزَلْ تَسْمَعُنِي قَائِلاً ... أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ النَّارِ اللَّهُمَّ ثَبتنَا على قَولِكَ الثابِت في الحَيَاة وفي الآخِرَة وآتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابِ النَّارِ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ يَسِّرْ لَنَا سَبِيلَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ وَهَيِّئ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدَا وَاجْعَلْ مَعُونَتَكَ الْعُظْمَى لَنَا سَنَدَا وَاحْشُرْنَا إِذَا تَوَفَيْتَنَا مَعَ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ الذِينَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونُ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. فَصْلٌ فِي غَزْوَةِ أُحُدْ أُحُدٌ جَبَلٌ مَشْهُورٌ بِالْمَدِينَةِ، عَلَى أَقَلَّ مِن فَرْسَخٍ مِن الْمَدِينَةِ، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِتَوَحُّدِهِ وَانْقِطَاعِهِ عَن الْجِبَالِ الأُخَرِ هُنَاكَ، وَهُوَ الذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبّهُ» . وَكَانَتْ عِنْدَهُ الْوَقْعَةُ الْمَشْهُورَةُ فِي شَوَّالِ، بِالاتِّفَاقِ يَوْمَ السَّبْتِ لأحْدَى عَشَرَ لَيْلَةٍ خَلَتْ مِنْ شَوَّالِ، وَقِيلَ: لِسَبْعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْهُ وَقِيلَ: فِي نِصْفِهِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَاللهُ أَعْلَمُ.

أبو عامر الفاسق وظنه الفاشل لعنه الله

وَكَانَ سَبَبُهَا أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا رَجَعُوا مِنْ بَدْرٍ، وَقَدْ قُتِلَ أَشْرَافُهُم، وَأَصِيبُوا بِتِلْكَ الْمُصِيبَةِ التِي لَمْ يُصَابُوا بِمِثْلِهَا، وَرَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ بِعَيْرِهِ، مَشَى عَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي رُبَيْعَةَ، وَعِكْرَمَةُ بنُ أَبِي جَهْلٍ، وَصَفْوَانُ بن أُمَيَّةَ، فِي رِجَالٍ مِن قُرَيْشٍ مِمَّنْ أُصِيبَ آبَاؤُهُمْ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَإِخْوَانُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَكَلَّمُوا أَبَا سُفْيَانَ بِنْ حَرْبِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فِي تِلْكَ الْعِيرِ مِنْ قُرَيْشٍ تِجَارَةً، فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ وَتَرَكُمْ، وَقَتَلَ خِيَارَكُمْ، فَأَعِينُونَا بِهَذَا الْمَالِ عَلَى حَرْبِهِ، فَلَعَلَّنَا أَنْ نُدْرِكَ مِنْهُ ثَأْرَنَا بِمَنْ أَصَابَ مِنَّا فَفَعَلُوا، وَفِيهِمْ - كَمَا قَالَ ابنُ إسْحَاقَ وَغَيْرُهُ - نَزَلَتْ الآيةُ قَوْلُهُ تَعَالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} . وَأَخَذَتْ قُرَيْشُ تُعِدُّ لِذَلِكَ الْعُدَّةَ، وَتَرْصُدُ الأَمْوَالَ، وَتُعْبِئُ الْقُوَى، وَتَجْمَعُ السِّلاح َ، وَبَعَثَتْ رُسُلَهَا فِيمَنْ حَوْلَهَا مِنْ قِبَائِلِ الْعَرَبِ تَسْتَنْصِرُهُمْ، وَتَسْتَعِينُ بِهِمْ عَلَى تَمْكِينِ الضَّرْبَةِ، وَكَانَ مِنْ هَؤُلاءِ الرُّسُلِ أَبُو عَزَّةَ عَمْرُو بن عَبْدُ اللهِ الْجُمَحِي، قَدْ مَنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ فَقِيرًا، ذَا عِيَالٍ وَحَاجَةٍ، فَأَطْلَقَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلا فِدَاء، وَأَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ وَالْمِيَثاقَ أَنْ لا يُظَاهِرَ عَلَيْهِ أَحَدَا، وَلا يكُثْرُ عَلَيْهِ جَمْعَا، فَنَقَضَ الْعَهْدَ وَالْمِيَثَاقَ، وَذَهَبَ مَعَ الذَّاهِبِين إِلَى كَنَانَةَ وَتِهَامَةَ يُحَرِّضُ عَلَى الْقِتَالِ، قِتَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُكَثِّرُ عَلَيْهِ. وَهَكَذَا ظَلَّتْ قُرَيْشٌ طِوَالَ عَامِهَا تَبْذِلُ مِنْ أَمْوَالِهَا، وَتَجْمَعُ مِنْ أَنْصَارِهَا، وَتُعِدُّ مِنْ قُوَّتِهَا، حَتَّى بَلَغَتْ مِنْ ذَلِكَ مَا أَرَادَتْ وَغَدَتْ فِي أَتَمِّ أُهْبَةٍ، وَأَكْمَلِ اسْتِعْدَادٍ، فَلَمْ تَلْبَثْ حَتَّى حَصَلَتْ عَلَى جَيْشٍ لَجِبٍ، مِنْ رِجَالِهَا، وَمِمَّنْ حَالَفَهَا مِنْ الأَحَابِيشِ، مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَبَنِي الْهُونِ بن خُزَيْمَةَ، وَتَوَجَّهَتْ إِلى الْمَدِينَةِ فِي حَمَاسَةِ الْمَوْتُورِ، وَسُورَةِ الْمُغِيظِ الْمُحَنقِ، لِتَضْرِبَ الضَّرْبَةَ الْقَاضِيَةِ فِي زَعْمِهَا، وَأَبَتْ نِسَاءُ قُرَيْشٍ إِلا أَنْ يَكُنَّ مَعَ الْجَيْشِ يُحَمِّسْنَ الرِّجَالَ، وَيُثِرْنَ الْحَمِيَّةِ، فَخَرَجَ مِنْهُنَّ مِنْ رَبَّاتِ الْخُدُورِ نَحْوَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ امْرَأَةً، عَلَى رَأْسِهِنَّ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ، زَوْجُ أَبِي سُفْيَانَ بن حَرْبٍ، وَخَرَجَ مَعَ الْجَيْشِ أَبُو عَامِرٍ الأَوْسِي الْفَاسِقُ، وَكَانَ مُقَاوِمًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمُبَاعِدًا لَهُ، وَمُنْكرًا لِنُبُوَّتِهِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مُتَرَهِبًّا يَزْعُمُ أَنَّهُ يَنْتَظِرُ النَّبِيِّ الْمَبْعُوثَ، وَيَذْكُرُ لِلنَّاسِ كَثِيرًا مِنْ صِفَاتِهِ، يَقُولُ

لَهُمْ: أَنَّهُ قَدْ قَرُبَ خُرُوجُهُ، فَلَّمَا هَاجَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلى الْمَدِينَةِ، وَاتَّضَحَتْ صِفَاتِهِ لِلأَنْصَارِ وَاتَّبَعُوهُ حَسَدَهُ أَبُو عَامِرٍ وَأَنْكَرَ نُبُوَّتَهُ، وَكَانَ رَئِيسًا فِي الأَوْسِ قَبَّحَهُ اللهِ، كَعَبْدِ اللهِ بن أُبَيّ فِي الْخِزْرَجِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا حَسَدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّ عَبْدَ اللهِ بن أُبَيّ دَخَلَ فِي الإِسْلامِ ظَاهِرًا وَهُوَ مَعَ الْكُفَّارِ بَاطِنًا وَأَبُو عَامِرٍ خَرَجَ مِن الإِسْلامِ كَافِرًا مُبَاعِدًا، وَخَرَجَ مَعَهُ خَمْسُونَ مِنْ شِيعَتِهِ، مِن شَبَابِ الأَوْسِ وَغِلْمَانِهِمْ، فَأقَام فِي مَكَّةَ مُنَاصِرًا لِقُرَيْشٍ مُحَرِّضًا لَهَا عَلَى قِتَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا عَزِمَتْ قُرَيْشٌ عَلَى الْخُرُوجِ إِلى أُحُدٍ، مَنَّاهَا أَبُو عَامِرٍ أَنْ يُخَذِّلَ لَهَا قَوْمَهُ الأَوْسَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْ يَخْرُجَ مِنْ صُفُوفِ الْمُسْلِمِينَ، إِلى صُفُوفِ الْمُشْرِكِينَ إِذَا الْتَقَى الْجَمْعَانِ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ مُعْتَمِدًا عَلَى مَا كَانَ لَهُ مِنْ سَابِقِ الْمَكَانَةِ فِي قَوْمِهِ، مُعْتَقِدًا أَنَّهُ بِهَذِهِ الْمَكَانَةِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْدِثُ مَا يَشَاءُ مِنْ التَّفْرِيقِ فِي صُفُوفُ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ يَكْفِي لِذَلِكَ أَنْ يَظْهَرَ لَهُمْ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَأَنْ يُسْمِعَهُمْ صَوْتَهُ، فَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ، حَتَّى لَقَدْ كَانَ يَقُولُ لِقُرَيْشٍ، فِي يَقِينِ الْوَاثِقِ الْمُطْمَئِنِّ - لَوْ قَدِمْتُ عَلَى قَوْمِي لَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ رَجُلانِ، وَهَؤُلاءِ مَعِي نَفَرٌ مِنْ قَوْمِي، وَكَانَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَأَى رُؤْيَا فَلَمَّا أَصْبَحَ يَوْمَ الْجُمْعَةَ وَاجْتَمَعَ النَّاسُ خَطَبَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمد اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَأَيْتُ فِي مَنَامِي رُؤْيَا، رَأَيْتُ كَأَنِّي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ وَرَأَيْتُ كَأَنَّ سَيْفِي ذُو الْفُقَارِ انْقَصَمَ مِن عِنْدِ ظَبَّتِهِ، وَرَأَيْتُ َبَقرًا تُذْبَحُ، وَرَأَيْتُ كَأَنِّي مُرْدِفٌ كَبْشًا» . فَقَالَ النَّاسُ: فَمَا أَوَّلْتَهَا؟ قَالَ: «أَمَّا الدِّرْعُ الْحَصِينَةُ فَهِيَ الْمَدِينَةُ، فَامْكُثُوا فِيهَا، أَمَّا انْفِصَامُ سَيْفِي مِنْ عِنْدِ ظَبَّتِهِ فَمُصِيبَتِي فِي نَفْسِي، وَأَمَّا الْبَقَرُ فَقَتْلَى فِي أَصْحَابِي، وَأَمَّا أَنِّي مُرْدِفٌ كَبْشًا، فَكَبْشُ الْكَتِيبَةِ، نَقْتُلُهُ إِنْ شَاءَ اللهِ» . وَفِي رِوَايَةٍ:: «وَأَمَّا انْفِصَامِ سَيْفِي، فَقَتْلُ رَجُلِ مِنْ بَيْتِي» .

خروج جيش الكفرة والمنافقين يقوده أبو سفيان

اللَّهُمَّ انْظُمْنَا فِي سِلْكِ الْفَائِزِينَ بِرِضْوَانِكَ، وَاجْعَلْنَا مِنْ الْمُتَّقِينَ الذِينَ أَعْدَدْتَ لَهُمْ فَسِيحَ جِنَانِكَ، وَأَدْخِلْنَا بِرَحْمَتِكَ فِي دَارِ أَمَانِكَ، وَعَافِنَا يَا مَوْلانَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ مِنْ جَمِيعِ الْبَلايَا وَأَجْزِلْ لَنَا مِنْ مَوَاهِبِ فَضْلِكَ وَهِبَاتِكَ وَمَتِّعْنَا بِالنَّظَر إِلى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ مَعَ الذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وَفِي أَوَائِل شَهْرِ شَوَّالٍ مِنْ السنة الثانيةِ مِنْ الْهِجْرَةِ وَقِيلَ: فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ، خَرَجَ الْجَيْشُ الْجَرَّارُ مِنْ مَكَّةَ يَقُودُهُ أَبُو سُفْيَانَ بن حَرْبٍ، وَيَحْمِلُ لِوَاءَهُ طَلْحَةُ بنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَعَلى مَيْمَنَتِهِ خَالِدُ بن الْوَلِيْدِ، وَعَلَى مَيِسرَتِهِ عِكْرَمَةُ بن أَبِي جَهْلٍ، وَعَلَى رِجَالَتِهِ صَفْوَانُ ابنُ أُمَيَّةَ.. وَعَدَدُهُم ثَلاثَةُ آلافِ مُقَاتِلٍ فِي أَكْمَلِ اسْتِعْدَادٍ، وَأَحْسَنَ تَعْبِئَةٍ، مِنْ بَيْنِهِمْ مائَتَانِ مِنْ الْفُرْسَانِ الْمُدَرَّبِينَ عَلَى ظُهُورِ الْخَيْلِ وَسَبْعُمَائِةٍ مِنَ الدَّاَرعِينَ الْمُحَصَّنِينَ بِالزُّرَدِ وَالدُّرُوعِ الْوَاقِيَةِ، يَحْمِلُهُمْ عَدَدٌ وَافِرٌ مِنَ الرَّكَائِب وَيَتْبَعُهُمْ حَشْدٌ كَبِيرٌ مِن الْعَبِيدِ والْغُلْمَانِ يَقْضُونَ حَوَائِجَهُمْ، وَيَحْرِسُونَ مَتَاعَهُم، وَكَانَ مَعَ الْعَبِيدِ عَبْد حَبَشِيٌ اسْمُهُ وَحْشِيٌّ، وَكَانَ يُجِيدُ الرِّمَايَةَ بِالْحِرَابِ عَلَى طَرِيقَةِ الْحَبَشَةِ، فَأَغْرَاهُ سَيِّدُهُ جُبَيْرٌ بن مُطْعِمٍ بَقْتَلِ حَمْزَةَ بن عَبْدِ الْمُطَّلبِ عَمَّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ لَهُ: إِنْ قَتَلْتَهُ فَأَنْتَ عَتِيقٌ. وَكَذَلِكَ أَغْرَتْهُ بِهِ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ وَوَعَدَتْهُ عَلَى قَتْلِهِ خَيْرًا كَثِيرًا، وَكَانَ حَمْزَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَدْ قَتَلَ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ طُعَيْمَةَ بن عَدِي عَمَّ جُبَيْرِ، وَعُتْبَةَ بن رَبِيعَةَ بن أَبَا هِنْدٍ. وَكَانَتْ قُرَيْشٌ فِيمَا يَبْدُوا قَدْ خَرَجَتْ عَلَى خُطَّةٍ مَوْضُوعَةٍ، هِيَ أَنْ

تُفَاجِئَ الْمُسْلِمِينَ فِي عَقْرِ دَارِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَسْتَعِدُّوا فَإِنْ أَخْفَقُوا فِي هَذِهِ الْخُطَّةِ بِأَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ مُفَاجَأَةُ الْمُسْلِمِينَ وَعَلِمَ الْمُسْلِمُونَ بِخُرُوجِهِمْ، وَاسْتَعَدُّوا لَهُمْ فَالْخُطَّةُ الثَّانِيَةُ هِيَ التَّخْذِيلُ وَالإِرْجَافُ وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ صُفُوفِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ اللَّقَاءِ فَإِنْ أَخْفَقَتْ هَذِهِ الْخُطَّةُ وَلَمْ يَنْجَحُوا فِيهَا، فَالْخُطَّةُ الثَّالِثَةِ هِيَ الْفَتْكُ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ بِرُؤوسِ أَصْحَابِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ، كَمَا فَتَكَ الْمُسْلِمُونَ بِرُؤوسِهِمْ في وَقْعَةِ بَدْرٍ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَمَتْ قُرَيْشٌ أَمْرَهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَخَرَجَتْ تَوَاصُلِ السَّيْرِ فِي سِرٍّ حَتَّى نَزَلَتْ بِوَادِي أُحُد، عَلَى أَقَلَّ مِنْ فَرْسَخٍ مِن الْمَدِينَةِ، وَلَكِنْ مِنْ لُطْفِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ بِرَسُولِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، أَنَّ الْعَبَّاسَ بنَ عَبْدِ الْمُطَّلبِ كَتَبَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا أَخْبَرَهُ فِيهِ بِمَخْرَجِ قُرَيْشٍ هَذَا، وَبِمَا أَعَدَّتْ لَهُ مِن الرِّجَالِ وَالْعَتَادِ، وَبَعَثَ بِكِتَابِهِ هَذَا مَعَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي غَفَّارٍ، فَوَاصَل السَّيْر بِهِ حَتَّى بَلَغَ الْمَدِينَةَ فِي ثَلاثِ لَيَالٍ، فَلَمَّا بَلَغَهَا عَلِمَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قُبَاءٍ فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ فَسَلَّمَهُ الْكِتَابَ، فَدَفَعَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلى أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِ، فَاسْتَكْتمهُ الْخَبَرَ، ثُمَّ دَخَلَ سَعْدِ بن الرَّبِيعِ، فَأَخْبَرَهُ خَبَرَ الْكِتَابِ فَقَالَ سَعْدُ: وَاللهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ خَيْرًا، وَأُرْجِفَ الْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ بِأَمْرِ الْكِتَابِ، فَشَاعَ الْخَبَرُ بَيْنَ النَّاسِ، وَهَذَا مَا كَانَتْ تَخْشَاهُ قُرَيْشٌ. رَوَى الْوَاقِدِيُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بن عَمْرو بن أَبِي حَكِيمَةَ الأَسْلَمِي قَالَ: لَمَّا أَصْبَحَ أَبُو سُفْيَانَ قَالَ: أَحْلِفُ بِاللهِ أَنَّهُمْ جَاءُوا مُحَمَّدًا فَخَبَّرُوهُ مَسِيرَنَا وَحَذَّرُوهُ، وَأَخْبَرُوهُ بِعَدَدِنَا، فَهُمُ الآنَ يَلْزَمُونَ صِيَاصِيَّهُمْ، فَمَا أَنْ نُصِيبُ مِنْهُمْ شَيْئًا فِي وَجْهِنَا، فَقَالَ صَفْوَانٌ: إِنْ لَمْ يُصْحِرُوا لَنَا عَمَدْنَا إِلى نَخْلِ الأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فَقَطَعْنَاهُ، فَتَرَكْنَاهُمْ وَلا أَمْوَالَ لَهُم فلا يَجْتَبِرُونَهَا أَبَدًا، وَإِنْ أَصْحَرُوا لَنَا فَعَدَدُنَا أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِهِم، وَسِلاحُنَا أَكْثَرُ مِنْ سِلاحِهِمْ، وَلَنَا

استشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه عندما بات الخطر جاثما على أبواب المدينة

خَيْلٌ وَلا خَيْلَ مَعَهُمْ، وَنَحْنُ نُقَاتِلُ عَلَى وَتَرٍ عِندَهُم، وَلا وَتَرَ لَهُمْ عِنْدَنَا. اللَّهُمَّ أَظِلَّنَا تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِكَ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّكَ وَلا بَاقٍ إِلا وَجْهُكَ. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِكَ تَهْدِي بِهَا قُلُوبَنَا، وَتَجْمَعُ بِهَا شَمْلَنَا، وَتَلُمَّ بِهَا شَعْثَنَا، وَتَرْفَعُ بِهَا شَاهِدَنَا، وَتَحْفَظُ بِهَا غَائِبَنَا، وَتُزكِّي بِهَا أَعْمَالِنَا، وَتُلْهِمْنَا بِهَا رُشْدَنَا، وَتَعْصِمْنَا بِهَا مِنْ كُلَّ سُوء يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. اللَّهُمَّ ألْهِمْنَا الْقِيَامَ بِحَقِّكَ وَبَارِكْ لَنَا فِي الْحَلالِ مِنْ رِزْقَكَ وَلا تَفْضَحْنَا بَيْنَ خَلْقِكَ يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ وَأَفْضَلَ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ يَا قَاضِيَ الْحَاجَاتِ وَيَا مُجِيب الدّعَواتِ هَبْ لَنَا مَا سَأَلْنَاهُ وَحَقِّقْ رَجَاءَنَا فِيمَا تَمَنَّيْنَاهُ يَا مِنْ يَمْلِكُ حَوائِجَ السَّائِلين وَيَعْلَمُ مَا فِي ضَمَائِر الصَّامِتِينَ أَذِقْنَا بِرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةَ مَغْفِرَتِكَ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ ? عُيُونَهُ يَسْتَطْلِعُونَ لَهُ خَبَرَ الْقَوْمِ، فَجَاءُوا إِلى رَسُولِ اللهِ ? فَأَخْبُرُوهُ بِمَنْزِلِهِمْ مِنْ وَادِي أُحُدٍ، وَحَزَرُوا لَهُ عَدَدُهُمْ وَعِتَادَهُمْ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ قَدْ أَطْلَقُوا خُيُولَهُمْ وَإِبْلَهُمْ فِي مَزَارِعٍ الْمَدِينَةِ فَجَعَلَتْ تَأْكُل الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ حَتَّى أَوْشَكَتْ أَنْ تَدْخُلَ الْمَدِينَةِ وَبَاتَ الْخَطَرُ جَاثِمًا عَلَى الأَبْوَابِ، وَغَدَا الأَمْرُ لا يَقْبَلُ التَّسْوِيفَ، وَصَارَ مِن الوَاجِب عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَيَسْتَعِدُّوا، وَحُرِسَتِ الْمَدِينَةُ كُلَّها طِوَالَ اللَّيْلِ، فَبَاتَ وُجُوهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَعَلَيْهِمْ السِّلاحُ خَوْفًا عَلَى النَّبِيَّ ?.? فَلَمَّا أَصْبَحُوا جَمَعَ النَّبِيِّ ? أَهْلَ الرَّأْيِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَجَعَلُوا يَتَشَاوَرُونَ كَيْفَ يَلْقُونَ عَدُوَّهُمْ اللَّدُودَ.

رَوَى الْوَاقِدِي أَنَّ النَّبِيِّ ? قَالَ لأَصْحَابِهِ: «أَشِيرُوا عَلَيَّ» . فَقَامَ عَبْدُ اللهِ بن أُبَيِّ رَئِيسِ الْمُنَافِقِينَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ نُقَاتِلْ فِيهَا وَنَجْعَلُ النِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَّ فِي هَذِهِ الصَّيَاصِي، وَيُجْعَلُ مَعَهُم الْحِجَارَةَ، وَنَشْبِكُ الْمَدِينَةِ بِالْبُنْيَانِ، فَتَكُونُ كَالْحِصْنِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَتَرْمِي الْمَرْأَةُ وَالصَّبِي مِنْ فَوْقَ الصَّيَاصِي وَالآطَامِ، وَنُقَاتِلُ بَأَسْيَافِنَا فِي السِّكَكِ يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ مَدِينَتَنَا عَذْرَاءُ، مَا فُضَّتْ عَلَيْنَا قَطُ، وَمَا خَرَجْنَا إِلى عَدُوٍّ قَطُ مِنْهَا إِلا أَصَابَ مِنَّا، وَمَا دَخَلَ عَلَيْنَا قَطُ إِلا أَصَبْنَاهُ، فَدَعْهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ فَإِنَّهُمْ إِنْ أَقَامُوا أَقَامُوا بِشَرَّ مَحْبَسٍ، وَإِنْ رَجَعُوا رَجَعُوا خَائِبِينَ مَغْلُوبِينَ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا. يَا رَسُولَ اللهَ أَطِعْنِي فِي هَذَا الأَمْرَ، وَاعْلَمْ أَنِّي وَرَثْتُ هَذَا الرَّأْيَ مِنْ أَكَابرِ قَوْمِي وَأَهْلِ الرَّأْيِ مِنْهُمْ، فَهُمْ كَانُوا أَهْلَ الرَّأْيِ وَالتَّجْرِبَةِ. وَكَانَ هَذَا الرَّأْيُ هُوَ رَأْيُ رَسُولِ اللهِ ? وَهُوَ أَنْ لا يَخْرُجُوا مِنْ الْمَدِينَةِ، وَأَنْ يَتَحَصَّنُوا بِهَا فَإِنْ دَخَلُوهَا قَاتَلَهُمْ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَفْوَاهِ الأَزِقَّةِ وَالنِّسَاءُ مِنْ فَوْقِ الْبُيُوتِ، وَهُوَ رَأْيُ الأَكَابِرِ مِن الصَّحَابَةِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ. فَقَالَ رَسُولِ اللهِ ?: «امْكُثُوا ِفي الْمَدِينَةِ وَاجْعَلُوا النِّسَاءَ وَالذَّرَارِي فِي الآطَامِ فَإِنْ دَخَلُوا عَلَيْنَا قَاتَلْنَاهُمْ فِي الأَزِقَّةِ، فَنَحْنُ أَعْلَمُ بِهَا مِنْهُمْ وَرَمُوَا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانُ مِنْ فَوْقِ الصَّيَاصِي وَالآطَامِ» . فَبَادَرَ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ فَاتَهُمُ الْخُرُوجُ يَوْمَ بَدْرٍ وَرَغِبُوا فِي الشِّهَادَةِ، وَأَحَبُّوا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِالْخُرُوجِ، وَأَلَحُوا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ النِّيَّةِ الْحَسَنَةِ: إِنَّا نَخْشَى يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ يَظُنَّ عَدُونَا أَنَا كَرِهْنَا الْخُرُوجَ إِلَيْهِمْ جُبْنًا عَنْ لِقَائِهِم، فَيَكُونُ هَذَا جُرْأَةٌ مِنْهُمْ عَلَيْنَا وَقَدْ كُنْتَ يَوْمَ بَدْرٍ فِي ثَلاثِمَائةٍ فَظَفَّرَكَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَنَحْنُ الْيَوْمَ

خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَقَدْ كُنَّا نَتَمَنَّى هَذَا الْيَوْمَ وَنَدْعُو اللهَ بِهِ، فَقَدْ سَاقَهُ اللهُ إِلَيْنَا فِي سَاحَتِنَا. وَقَالَ مَالِكُ بن سِنَان: يَا رَسُولَ اللهِ نَحْنُ بَيْنَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، إِمَّا يُظْفِرُنَا اللهُ بِهِمْ فَهَذَا هُوَ الذِي نُرِيدُ، وَالأُخْرَى يَا رَسُولَ اللهِ يَرْزُقُنَا اللهُ بِهَا الشَّهَادَةَ، وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا أُبَالِي أَيَّهُمَا كَانَ، إِنَّ كُلاَّ لَفِيهِ خَيْرٌ. وَقَالَ حَمْزَةُ بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: وَالذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ لا أَطْعَمُ الْيَوْمَ طَعَامًا حَتَّى أُجَالِدَهُمْ بِسَيْفِي خَارِجًا مِن الْمَدِينَةِ. وَقَالَ النَّعْمَانُ بنُ مَالِكٍ: يَا رَسُولَ اللهِ لِمَ تُحْرِمْنَا الْجَنَّةُ فَوَالذِي لا إِلَه إِلا هُوَ لأَدْخُلَنَّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «بِمَ» ؟ فَقَالَ: إِنِّي امْرؤٌ أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَلا أَفِرُّ يَوْمَ الزَّحْفِ. وَقَالَ إِيَاسُ بن أَوْسٍ: لا أُحِبُّ أَنْ تَرْجِعَ قُرَيْشٌ إلى قَوْمِهَا فَيَقُولُونَ حصَرْنَا مُحَمَّدًا فِي صِيَاصِي يَثْرِبَ وَإِطَامِهَا فَتَكُونُ هَذِهِ جُرْأَةٌ لِقُرَيْشٍ عَلَيْنَا وَقَدْ وَطِئُوا سَعَفَنَا فَإِذَا لَمْ نَدَبَّ عَنْ غَرْسِنَا لَمْ يُزْرَعْ. وَرَأَى رَسُولُ اللهِ ? أَنَّ الْخُرُوجَ هُوَ الرَّغْبَةَ الْغَالِبَةَ، وَأَنَّ كَثْرَةَ النَّاسِ تَدْعُوا إِلَيْهِ فَصَلَّى بِهِمِ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ وَعَظَهُمْ وَأَمَرُهُمْ بِالْجَدِّ وَالْجِهَادِ. وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ لَهُمْ النَّصْرَ مَا صَبَرُوا، فَفَرِحَ النَّاسُ بِالشُّخُوصِ إِلى عَدُّوِهِمْ، وَلَكِنَّ كَثِيرًا كَرِهُوا ذَلِكَ الْمُخْرَجِ، لِمَا رَأَوا فِي وَجْهِ رَسُولِ اللهِ ? مِنَ الْكَرَاهَةِ لَهُ. وَأَخَذَ النَّاسُ يَتَأَهَّبُونَ لِلْقِتَالِ، فَيَلْبِسُونَ دُرُوعَهُمْ وَسِلاحَهُمْ وَيَتَوَافَدُونَ عَلَى

مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ ? فَلَمَّا كَانَ الْعَصْرُ كَانَ النَّاسُ قَدْ تَجَمَّعُوا وَاحْتَشَدُوا فَصَلَّى بِهِمْ صَلاةَ الْعَصْرِ وَأَمَرَ أَنْ يُرْفَعَ النِّسَاءُ وَالأَوْلادُ فِي الآطَامِ وَالْحُصُونِ، ثُمَّ دَخَلَ بَيْتَهُ لِيَلْبَسَ لامَتَهُ، وَالنَّاسُ فِي خَارِجِ الْبَيْتِ يَتَنَاقَشُونَ وَيَتَجَادَلُونَ فِي أَمْرِهِمْ، وَلا يَزَالُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ الْبَقاَءَ هُوَ الأَصْوَبُ، وَأَنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَكْرَهُوا رَسُولَ اللهِ ? عَلَى الْخُرُوجِ فَعَزَمَ عَلَيْهِ وَهُوَ كَارِهٌ لَهُ. وَجَاءَ سَعْدُ بن مُعَاذٍ وَأُسَيْدُ بن حُضَيْرٍ فَقَالا: قُلْتُمْ لِرَسُولِ اللهِ ? مَا قُلْتُمْ، وَاسْتَكْرَهْتُمُوهُ عَلَى الْخُرُوجِ وَالأَمْرُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ، فَرَدُّوا الأَمْرَ إِلَيْهِ! فَمَا أَمَرَكُمْ فَافْعَلُوهُ، وَمَا رَأَيْتُمْ لَهُ فِيهِ هَوَى أَوْ رَأْيًا فَأَطِيعُوهُ. فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ وَقَدْ لَبِسَ لامَةَ الْحَرْبِ، فَقَالَ الذِينَ كَانُوا يُلِحُّونَ فِي الْخُرُوجِ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُخَالِفَكَ، فَاصْنَعْ مَا بَدَالَكَ فَقَالَ: «قَدْ دَعَوْتَكُمْ إِلى هَذَا الْحَدِيثِ فَأَبَيْتُمْ، وَلا يَنْبَغِي لِنَبِيّ إِذَا لَبِسَ لامَتَهُ أَنْ يَضَعَهَا حَتَّى يَحْكُمُ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَعْدَائِهِ. انْظُرُوا مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَاتَّبِعُوهُ، وَامْضُوا عَلَى اسْمِ اللهِ، فَلَكُمُ النَّصْرُ مَا صَبَرْتُمْ» . وَعَقَدَ ثَلاثَةَ أَلْوِيَةٍ: لِوَاءٌ بِيَدِ أُسَيْدِ بن حُضَيْرٍ، وَلِوَاءٌ لِلْمُهَاجِرِينَ بِيَدِ مُصْعَبِ بن عُمَيْرٍ، وَقِيلَ: بِيَدِ عَلَيِّ بن أَبِي طَالِبٍ، وَدَفَعَ لِوَاءَ الْخَزْرَجِ، بِيَدِ الْحُبَابِ بن الْمُنْذِرِ. وَقِيلَ: بِيَدِ سَعْدِ بن عُبَادَةَ، ثُمَّ دَعَا بِفَرَسِهِ، فَرَكِبَهُ وَخَرَجَ فِي أَلْفٍ

موعظة بليغة مقارنة بيننا معشر العجزة والكسلا وبين السلف المجدون المجتهدون الحافظون لأوقاتهم

مِن أَصْحَابِهِ، فِيهِمْ مائةُ دَارِعٌ، وَالنَّاسُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ وَالسَّعْدَان يَعْدُوَانِ أَمَامَهُ، سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ، وَسَعْدُ بنُ مُعَاذٍ، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ، لِسِتٍ خَلَونَ مِنْ شَوَّالٍ، بَعْدَ أَنْ أَمَّرَ عَلَى الْمَدِينةِ ابن أُمِّ مَكْتُومٍ، يُصَلَّي بِالنَّاسِ. اللَّهُمَّ أَقِمْ عَلَمَ الْجِهَادِ وَاقْمَعْ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالزَّيْغِ وَالْعِنَادِ وَانْشُرْ رَحْمَتكَ عَلَى هُؤلاءِ الْعِبَادِ يَا مَنْ لَهُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَإِلَيْهِ الْمَعَادُ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا اللَّهُمَّ انْظِمْنَا فِي سِلْكِ أَهْلِ السَّعَادَةُ، وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الْمُحْسِنِينَ الذِينَ لَهُمْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. موعظة: عِبَادَ اللهِ كَانَ سَلَفُنَا فِي أَرْقَى دَرَجَةٍ، وَأَصْبَحْنَا بَعْدَهُمْ كَمَا تَرَوْنَ فِي حَالَةٍ يُرْثَى لَهَا مِن التَّهَالُكِ عَلَى الدُّنْيَا وَإهْمَالِ الآخِرَةِ، ذَلِكَ أَنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّ الآخِرَةِ لا تَنْتَهِي حَيَاتُهَا، وَأَنَّ الدُّنْيَا تَنْتَهِي فِي أَيَّامٍ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ مَتَاعِهَا أَنَّهُ قَلِيلٌ، فَوَضَعُوا حَيَاةَ الأَبَدِ نَصْبَ أَعْيُنِهم، وَجَدُّوا وَاجْتَهَدُوا فِي الْعَمَلَ لَهَا، كَمَا أَمَرَهُمْ اللهُ، فَلا تَكَادُ تَرَاهُمْ فِي لَيْلِهِمْ وَنَهَارِهِمْ إِلا وَهُمْ بعَمَلٍ مِنْ الأَعْمَالِ يَعْمَلُونَ وَذَلِكَ الْعَمَل مِنْ أَعْمَالِ الآخِرَةِ. وَلَقَدْ كَانُوا فِي كُلِّ نَفْسٍ مِنْ أَنْفَاسِهِمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ النَّفَسَ الأَخِير، الذِي تَنْتَهِي بِهِ آجَالِهِمْ، فَلَوْ قِيلَ لَهُمْ إِنَّكُمْ بَعْدَ سَاعَةَ تَنْتَهِي حَيَاتُكَمْ مَا زَادُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِن الإِكْثَارِ مِن الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ. أَمَّا اشْتِغَالُهُم بِهَذِهِ الْحَيَاةِ فَمَا كَانَ إِلا لأَنَّهُ وَسِيلَةٌ مِن الْوَسَائِلِ التِي

تُدْنِي إِلى الْجَنَّاتِ، وَتُبْعِدُ عن النَّارِ، لِهَذَا كَانُوا لا يَخَافُونَ الْمَوْتَ، وَيَحْرِصُونَ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، لَعَلَّهُمْ يَنَالُونَ الشَّهَادَةَ، وَيَبْكُونَ إِذَا لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُمْ الْخُرُوجُ إِلى الْجِهَادِ، كَمَا أَخْبَرَ اللهُ عَنْهُم، وَكَمَا مَرَّ عَنْهُمْ فِي الأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ، لِذلِكَ بَلَغُوا مِن الشَّجَاعَةِ مُنْتَهَاهَا، وَعَاشُوا وَمَاتُوا وَهُمْ سَادَةُ الْعَالَمِين. أَمَّا زُهْدُهُم في هَذِهِ الدُّنْيَا فَكَانَ مَوْضِعَ الْعَجَبِ لأَنَّ مَقْصُودَهُمْ غَيْرَهَا، وَلِهَذَا كَانُوا أَشْرَفَ أُمَّةٍ تَحَلَّى بِرُؤْيَتِهَا الزَّمَانُ. أَمَّا نَحْنُ فَقَصُرَ نَظَرُنَا قَصْرًا مِن الْعَارِ أَنْ يُنْسَبَ إِلى عُقَلاءَ الرِّجَالِ وَهَلْ يُتَصَوَّرْ أَنَّ الْعَاقِلَ تَمْلِكُ قَلْبَهُ وَقَالِبَهُ الدُّنْيَا وَحِطَامِهَا الْفَانِي، فَيَجْعَلُ كُلَّ مَقْصُودِهِ الْمَالُ، مَعَ أَنَّهُ يَقْرَأ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} . هَذَا هُوَ الذِي كَانَ مِنَّا فَالآخِرَةُ لا تَخْطُرُ لَنَا عَلَى بَالٍ، فَلِلدُّنْيَا أَبْدَانُنَا وَقُلُوبُنَا، وَلَهَا رِضَانَا وَسَخَطُنَا، وَإِنْ زُجْرنَا عَنْهَا إِزْدَادَ وَلَعُنَا بِهَا وَزَادَ إِقْبَالُنَا عَلَيْهَا وَتَضَاعَفَ جُهْدَنَا لَهَا. عَلَى حَد قَوْل الشَّاعر: وَإِذا زَجَرْتُ النَّفْسَ عَنْ شَغَفٍ بِهَا فَكَأَنَّ زَجْرَ غَويِّهَا إِغْرَاؤُهَا لِهَذَا كَرِهْنَا الْمَوْتَ كَرَاهَةً شَدِيدَةً فَفَقَدْنَا الشَّجَاعَةَ وَأَصَابَنَا الْوَهَنُ وَالْخَورُ وَالضَّعْفُ وَالْجُبْنُ. شِعْرًا: ... نَهَاكَ عَن الْبَطَالَةِ وَالتَّصَابِي ... نُحُولُ الْجِسْمِ وَالرَّأْسُ الْخَضِيبُ إِذَا مَا مَاتَ بَعْضُكَ فَابْكِ بَعْضَا ... فَبَعْضُ الشَّيْءِ مِنْ بَعْضٍ قَرِيبُ

قصيدة زهدية وعظية في غربة الإسلام والولاء والبراء

وَلِهَذا وَصَلَتْ بِنَا الْحَالُ إِلى أَنْ مَنَعْنَا الزَّكَاةَ أَوْ بَعْضَهَا وَهِيَ قَرِينَةُ الصَّلاةَ، وَمِن أَجْلِ الدُّنْيَا دَاهِنًّا، وَتَمَلَّقْنَا لأَعْدَاءِ اللهِ وَقُلْنَا لَهُ: يَا سَيِّدُ، أَوْ يَا مُعَلِّمُ، أَوْ يَا أُسْتَاذُ، هَذَا خِطَابُنَا لأَعْدَاءِ اللهِ مَعَ أَنَّ الْوَاجِب عَلَيْنَا نَحْوَهُمْ هِجْرَانُهُم وَالابْتِعَادُ عَنْهُمْ وَبُغْضُهُمْ للهِ قَالَ تَعَالَى: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} فَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا باللهِ الْعَلِّي الْعَظِيم، هَذَا يَا أَخِي هُوَ السَّبَبُ الْوَحِيدُ فِي انْحِطَاطِنَا، وَفِي عِزِّ سَلَفِنَا الأَجلاءِ الْكِرَامِ، وَلَوْ سَلَكْنَا طَرِيقَهُمْ مَا أَصَابَنَا هَذَا الذُّلُ وَالْهَوَانُ. قَصِيدَة زُهْدِيَّةٌ فِي غُرْبَةِ الدِّيْنِ وَالْوَلاءِ وَالْبَرَاءِ وَالتَّقَلُّلِ مِن الدُّنْيَا إلِى اللهِ نَشْكُوا غُرْبَةَ الدِّينِ وَالْهُدَى وَفُقْدَانَه مِنْ بَيْنِ مَنْ رَاحَ أَوْ غَدَا فَعَادَ غَرِيبًا مِثْلَ مَا كَانَ قَدْ بَدَا عَلَى الدِّينِ فَلْيُبْكِي ذُوو الْعِلْمِ وَالْهُدَى فَقَدَ طَمَسَتْ أَعْلامُهُ في الْعَوَالِمِ حَوَى الْمَالَ أَنْذَالُ الْوَرَى وَرَذَالُهُم وَقَدْ عَمَّ فِي هَذَا الزَّمَانِ ضَلالَهُم وَلا تَرْتَضِي أَقْوَالَهم وَفِعَالَهُمْ وَقَدْ صَارَ إِقْبَالُ الْوَرَى وَاحْتِيَالُهم عَلَى هَذِهِ الدُّنْيَا وَجَمْعِ الدَّرَاهِمِ

.. فَذُو الْمَالِ لا تَسْأْلَ أَخَصُّ خَدِينِهِم وَقَدْ نَفِقَ الْجَهْلُ الْعَظِيمُ بِحِينِهِم بِإعْرَاضِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ وَمَدِينِهِم وَإِصْلاحِ دُنْيَاهُمْ بِإفْسَادِ دِينِهِم وَتَحْصِيلِ مَلْذُوذَاتِهِمْ وَالمَطَاعِمِ مُحِبُّونَ لِلدُّنْيَا مُحِبُّونَ قَيْلَهَا وَلَوْ مُعْرِضًا عَنْ دِينِهِ وَلَهَاً لَهَا وَكُلُّهُمُ لا شَكَّ دَنْدَنَ حَوْلَهَا يُعَادُونَ فِيهَا بَلْ يُوَالُونَ أَهْلَهَا سَوَاءٌ لَدَيْهِم ذُو التُّقَى وَالْجَرَائِمِ إِلى اللهِ فِي هَذَا الصَّبَاحِ وَفِي الْمَسَا نَبُثُّ الدُّعَا فَالْقَلْبُ لا شَكَّ قَدْ قَسَا وَحُبُّ الْوَرَى الدُّنْيَا فَفِي الْقَلْبِ قَدْ رَسَى إِذَا انْتُقِصَ الإِنْسَانُ مِنْهَا بِمَا عَسَى يَكُونُ لَهُ ذَخْرًا أَتَى بِالْعَظَائِمِ بَكَى وَاعْتَرَاهُ الْمَسُّ مِنْ عُظْمِ مَا حَسَى وَخَرَّ صَرِيعًا إِذْ بَدَا النَّقْصُ وَأَفْلَسَا وَانْحَلَ جِسْمًا نَاعِمًا قَبْلُ مَا عَسَى وَأَبْدَى أَعَاجِيبًا مِن الْحُزْنِ وَالأَسَى عَلَى قِلَّةِ الأَنْصَارِ مِنْ كُلِّ حَازِمِ

.. وَنَادَى بِصَوْتٍ مزْعَجٍ مُتَكَلِّمًا وَبَاتَ حَزِينًا قَلْبُه مُتَكَلِّمًا وَقامَ عَلى سَاقٍ لِحَرَّاهُ مُعْلِمًا وَنَاحَ عَلَيْهَا آسِفًا مُتَظَلِّمًا وَبَاتَ بِمَا فِي صَدْرِهِ غَيْرَ كَاتِمِ فَذَا شَأْنُ أَهْلِ الْغَيِّ وَالْجَهْلِ وَالرَّدَى إِذَا انْتُقِصُوا الدُّنْيَا أَصَارُوا الثَّرَى نَدَى وَبَكُوا وَأَبْكُوا كُلَّ مَنْ رَاحَ أَوْ غَدَا فَأَمَّا عَلَى الدِّين الْحَنِيفِيِّ وَالْهُدَى وَمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ذَاتِ الدَّعَائِمِ وَلَوْ قُطَّعَتْ فِي كُلِّ أَرْكَانِهَا الْقُوَى وَلَوْ سَلَكْت كُلُّ الْوَرَى سُبْلَ مَن غَوَى أَوْ اتَّخَذَ الْمَخْلُوقُ مَعْبُودَهُ الْهَوَى فَلَيْسَ عَلَيْهَا وَالذِي فَلَقَ النَّوَى مِن النَّاسِ مَنْ بَاكٍ وَآسٍ وَنَادِمِ بُنُودٌ لَهَا فِيمَا مَضَى بَيْنَنَا انْتَفَتْ وَكُلُّ مُحَامِيٍّ لَهَا مَالَ وَالْتَفَتْ وَمَحْبُوبُنَا مَنْ أَبْغَضَتْهُ وَمَنْ نَفَت وَقَدْ دَرَسَتْ مِنْهَا الْمَعَالِمُ بَلْ عَفَتْ وَلَمْ يَبْقَ إِلا الإِسْمِ بَيْنَ الْعَوَالِمِ

.. وَقَدْ ظَهَرَتْ تِلْكَ الْفَوَاحِشُ وَالْجَفَا وَلا شَكَّ فِي فِعْلِ اللَّوَاطِ مَعَ الزِّنَى وَقَلْبِي إِذًا مِمَّا بَدَى مَسَّهُ الضَّنَى فَلا آمِرٌ بِالْعُرْفِ يُعْرَفُ بَيْنَنَا وَلا زَاجِرٍ عن مُعْضَلاتِ الْجَرَائِمِ بِحَارُ الْمَعَاصِي قَدْ طَمَى الآنَ لُجُهَا وَمُتَّسِعُ بَيْنَ الْبَرِيَّةِ ثَجُّهَا وَقَدْ لاحَ مِنْ فَوْقِ الْبَسِيطَةِ فَجُّهَا ومِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ غُودِرَ نَهْجُهَا عَفَاءً وأضْحَتْ طَامِسَاتِ الْمَعَالِمِ نَوَاظِرُنَا كَلَّتْ وَأَنْوَارُهَا طَفَتْ وَأَلْسُنُنَا عن بَحْثِ مِنْهَاجِهَا حَفَتْ مَنَاهِجُهَا واللهِ مِنْ بَيْنِنَا عَفَتْ وَقَدْ عُدِمَتْ فِينَا وَكَيْفَ وَقَدْ سَفتْ عَلَيْهَا السَّوَافِي مِنْ جَمِيعِ الأقَالِمِ تَظُنُونَ أَنَّ الدَّيْنَ لَبَيْكَ فِي الفَلا وَفِعْلَ صَلاةٍ والسُّكُوتَ عَن المَلا وَسَالِمْ وَخَالِطْ مَن لِذَا الدِّيْن قَدْ قَلا وَمَا الدِّيْنُ إِلا الْحُبُّ والْبُغْضُ والْولا كَذَاكَ الْبَرَا مِنْ كُلِّ غَاوٍ وَآثِمِ

.. فَأَفْرَادُنَا ظَنُّوَا النَّجَا فِي التَّنَسُكِ وَغَالِبُنَا مِنْهَاجُهُم في التَّسَلُّكِ وَمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ خَيْرِ مَسْلَكِ وَلَيْسَ لها مِنْ سَالِكِ مُتَمَسِّكِ بِدِين النَّبِي الأَبْطَحِي بن هَاشِمِ فَلَسْنَا نَرَى مَا حَلَّ فِي الديِّنِ وَامّحَتْ بِهِ الْمِلَّةِ السَّمْحَاءِ إِحْدَى الْقَوَاصِمِ عَسَى تَوْبَةٌ تَمْحُو ذُنُوبًا لِمُرْتَجِي عَسَى نَظْرَةٌ تَسْلُكْ بِنَا خَيْرَ مَنْهَجِ عَسَى وَعَسَى مِنْ نَفْحَةٍ عَلَّهَا تَجِي فَنَأْسَى عَلَى التَّقْصِيرِ مِنَّا وَنَلْتَجِي إِلى اللهِ فِي مَحْوِ الذُّنُوبِ الْعَظَائِمِ فَكُلُّ الْوَرَى فِي كَثْرَةِ الْمَالِ نَافَسَتْ وَرَانَتْ ذُنُوبٌ فِي الْقُلُوبِ وَقَدْ رَسَتْ وَفِي النَّهْيِ عَنْ كُلِّ الْمَعَاصِي تَنَاعَسَتْ فَنَشْكُوا إِلى اللهِ الْقُلوبَ التِي قَسَتْ وَراَنَ عَلَيْهَا كَسْبُ تِلْكَ الْمَآثِمِ نُرَاعِي أَخَا الدُّنْيَا فَذَاكَ هُوَ الأَخُ وَلَوْ كَانَ فِي كُلِّ الْمَعَاصِي مُلَطَّخُ أَلَسْنَا بَأَوْضَارِ الْخَطَا نتَضَمَّخُ أَلَسْنَا إِذَا مَا جَاءَنَا مُتَضَمِّخُ

بِأَوْضَارِ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ كُلِّ ظَالِمِ أَتَيْنَاهُ نَسْعَى مِنْ هُنَاكَ وَمِنْ هُنَا وَفِي عَصْرِنَا بَعْضٌ يُرَدُ وَلَوْ عَنَى أَتَيْنَا سِرَاعًا وَالرِّضَى عَنْهُ حثَّنَا نَهُشُّ إِلَيْهِمْ بِالتَّحِيَّةِ وَالشَّنَا وَنَهْرَعُ فِي إِكْرَامِهِم بالْولائِمِ إِذَا يُرْتَضَى فِي الدِّينِ هَلْ مِنْ مُعَلِّم أَفِقْ أَيُّهَا الْمَغْبُونُ هَلْ مِنْ تَنَدُّمٍ أَيَرْضَى بِهَذَا كُلُّ أَبْسَلَ ضَيْغَمٍ وَقَدْ بَرِيَ الْمَعْصُومُ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمِ بِدَارِ الْكُفْر غَيْرَ مُصَارِمِ وَلا مُنْكِرٍ أَقْوَالَهُمْ يَا ذَوِي الْهُدَى ومُبْغِضٍ أَفْعَالَ مَنْ ضَلَّ واْعَتَدَى ولا آمرٍ بالْعُرْفِ مِنْ بَيْنِهِم غَدَا ولا مُظْهِرٍ لِلدِّينِ بَيْنَ ذَوِي الرَّدَى فَهَلْ كَانَ مِنَّا هَجْرُ أَهْلِ الْجَرَائِمِ وَهَلْ كَانَ فِي ذَاتِ الْمُهَيْمِنِ وُدُّنَا وَهَلْ نَحْنُ قَاتَلْنَا الذِي عَنْهُ صَدَّنَا وَهَلْ نَحْنُ أَبْعَدَنَا غَدَا والذِي دَنَا وَلَكِنَّمَا الْعَقْلُ الْمَعِيشِيُ عِنْدَنَا مُسالَمَةُ الْعَاصِينَ مِنَ كُلِّ آثِمِ

.. أَيَا وَحْشَةً مِنْ بَيْنِ تِلْكَ الْمَنَازِلِ وَيَا وَصْمَةً لِلدِّينِ مِنْ كُلِّ نَازِلِ تَكَلَّمَتْ الأَوْبَاشُ وَسْطَ الْمَحَافِلِ فِيَا مِحْنَةَ الإِسْلامِ مِنْ كُلِّ جَاهِلِ وَيَا قِلَّةَ الأَنْصَارِ مِنْ كُلِّ عَالِمِ فَنَفْسَكَ فاخْزِمَْا إِذَا كُنْتَ حَازِمًا وَمِن بَابِهِ لا تَلْتَفِتْ كُنْ مُلازِمًا وَصَبْرٌ فَرَبُّ الْعَرْشِ لِلشِّرْكِ هَازِمًا وَهَذَا أَوَانُ الصَّبْرِ إِنْ كُنْتَ حَازِمًا عَلَى الدِّينِ فاصْبِرْ صَبْرَ أَهْل عَزَائِمِ وَمُدُّ يَدًا للهِ كُلَّ عَشِيَّةٍ وَسَلْ رَبَّكَ التَّثْبِيتَ فِي كُلِّ لَحْظَةِ عَلى مِلَّةِ الإِسْلامِ أَزْكَى الْبَرِيَةِ فَمَنْ يَتَمَسَّكَ بالْحَنِفِيَّةِ الَّتِي أَتَتْنَا عَنِ الْمَعْصُومِ صَفْوَةِ آدَمِ وعُضَّ عَلَيْهَا بالنَّواجِذِ إِذْ غَدَا وَحِيدًا مِنَ الْخِلانِ مَا ثَمَّ مُسْعِدًا عَلَى قِلَّةِ الأَنْصَارِ أَصْبَحَ وَاحِدًا لَهُ أَجْرُ خَمْسِينَ أَمْرًا مِنْ ذَوِي الْهُدَى مِن الصَّحْبِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ الأَكَارِمِ وَكُنْ عَنْ حَرَامٍ فِي الْمَآكِلِ سَاغِبًا

استعراض النبي - صلى الله عليه وسلم - لجيشه في مكان يقال له الشيخين وانشقاق الجيش بسب عبد الله ابن أبي رئيس المنافقين

.. وَلا تَمْشِ مِنْ بَيْنِ الْعِبَادِ مُشَاغِبًا ومُدَّ يدًا نَحْوَ الْمُهَيْمِنِ طَالِبًا وَنُحْ وابْكِ وَاسْتَنْصِرْ بِرَبِّكَ رَاغِبًا إِلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ أَرْحَمُ رَاحِمِ لِيَنْصُرَ هَذَا الدِّينِ مِنْ بَعْدِهَا عَفَتْ مَعَالِمُهُ فِي الأَرْضِ بَيْنَ الْعَوَالِمِ وَأَنْ يَكْبُتَ الأَعْدَا وَيَفْنُوا بِغِلِّهِمْ وَيَخْذُلَ أَعْدَاءَ الْهُدَى بأَقَلِّهِمِ مِن الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ وَخِلِّهِمْ وَصَلِّ عَلَى الْمَعْصُومِ والآلِ كُلِّهِمْ وَأَصْحَابِهِ أَهْلِ التُّقَى والْمَكَارِمِ بِعَدِّ وَمِيضِ الْبَرْقِ والرَّمْلِ والْحَصَى وَمَا انْهَلَّ وَدْقٌ مِنْ خِلالِ الْغَمَائِمِ اللَّهُمَّ يَا مَنْ عَمَّ الْوَرَى جُودُهُ وَإِحْسَانُه لنَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ الأَعْظَمِ الذِي إِذَا سُئِلْتَ بِهِ أَعْطَيْتَ وَإِذَا دُعِيتَ بِهِ أَجَبْتَ أَنْْْْْْ تُثَبِّتَ وَتُقَوِّي قُلُوبَنَا فِي الإِيمَانِ بِكَ وَبِمَلائِكَتِكَ وَبِكُتُبِكَ وَبِرُسُلِكَ وَبِالْيَوْمِ الآخرِ وَبِالْقَدْرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ اللَّهُمَّ وَأَيِّدْنَا بِنَصْرِكَ وَارْزُقْنَا مِنْ فَضْلِكَ وَنَجِّنَا مِنْ عَذَابِكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ. اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَوَفِّقْنَا لِشُكْرِكَ وَذِكْرِكَ وَارْزُقْنَا التَّأهُّبَ وَالاسْتِعْدَادَ لِلِقَائِكَ وَاجْعَلْ خِتَامَ صَحَائِفَنَا كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ) وَمَضَى ? حَتَّى وَصَلَ إِلى مَكَانٍ يُقَالُ لَهُ الشَّيْخَيْنِ، فَعَسْكَرَ بِهِ، ثُمَّ اسْتَعْرَضَ الْجَيْشَ، فَرَدَّ مَنْ اسْتَصْغَرَهُ مِنْ جُنُودِهِ. وَكَانَ فِيمَنْ رَدَّ رَسُولُ اللهِ ? مِنْ هَؤُلاءِ الصِّغَارِ رَافِعُ بن خَدِيجٍ وسمرة بن جُنْدُبٍ، فَقِيلَ لِرَسُولِ اللهِ ?: إِن رَافِعًا يُحْسِنُ الرِّمَايَةَ فَأجَازَهُ فَبَكَى سمرة ابن جُنْدُبٍ، وَقَالَ: أَجَازَ رَافِعًا وَرَدَّنِي مَع أَنِّي أَصْرَعُهُ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللهِ ? فَأَمَرَهُمَا أَنْ يَتَصَارَعَا فَكَانَ الْغَالِبُ سمرة، فَأجَازَهُ. وَبَاتَ رَسُولُ اللهِ ? لَيْلَتَهُ تِلْكَ بِالشَّيْخَيْنِ وَاسْتَعْمَلَ عَلَى حَرَسِ الْجَيْشِ مُحَمَّدَ بن سَلَمَةَ، وَعَلَى حَرَسِهِ، ذَكْوَانَ بن قَيْسٍ. وَنَامَ ? حَتَّى إِذَا كَانَ السَّحَرُ، قَالَ: «أَيْنَ الأَدِلاءُ، مَن رَجُلَ يَدُلُنَا عَلَى الطَّرِيقِ، يُخْرِجُنَا عَلَى الْقَوْمِ مِنْ كَثَبٍ» . فَقَامَ أَبُو خَيْثَمَةَ الْحَارِثِي، فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ. وَلَمَّا بَلَغَ ? الشَّوْطَ، وَهُوَ بُسْتَانٌ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَأُحُدٍ، انْشَقَّ الْجَيْشُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ?، فَرَجَعَ عَبْدُ اللهِ بن أُبَيّ بِثَلاثِمَائةِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ يَقُول: أَطَاعَ الْغُلْمَانَ وَعَصَانِي، فَعَلامَ نَقْتُلُ أَنْفُسَنَا هَا هُنَا، فَجَعَل عَبْدُ اللهِ بن عَمْرُو بن حَرَامٍ يُحَاوِلُ أَنْ يَثْنِيهُمْ عَنْ عَزْمِهِمْ هَذَا، وَيُنَاشِدُهُمْ اللهَ أَلا يَشُقُّوا عَصَا الْجَمَاعَةِ، وَأَنْ لا يَخْذُلُوا قَوْمَهُمْ وَنَبِيَّهُمْ فِي حَضْرَةِ الْعَدُوِّ، فَيَقُولُونَ لَهُ مُتَهَكِمِينَ بِهِ {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ} . وَقَدْ أَحْدَثَتْ هَذِهِ الْفِعْلَةُ الشَّنِيعَةُ، خَلْخَلَةً عَظِيمَةً فِي بِنَاءِ الْجَيْشِ، فِي هَذَا الْوَقْتِ الْحَرِجِ، وَأَحْدَثَتْ زَلْزَلَةً شَدِيدَةً فِي نُفُوس الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى لَقَدْ هَمَّتْ بَنُوا حَارِثَةَ مِن الْخَزْرَجِ، وَبَنُوا سَلَمَةَ الأَوْسِ، أَنْ تَفْعَلا كَمَا فَعَلَ أَصْحَابُ ابنُ أَُبَيّ، وَلَكِنْ عَصَمَهُمُ اللهُ، فَعَادُوا إِلى صُفُوفُ الْجَمَاعَةِ، وَسَارُوا مَعَ الْجَيْشِ، كَمَا يَسِيرُونَ. وَمَضَى رَسُولُ اللهِ ? إِلى أُحُدٍ، وَهُوَ جَبَلٌ كَثِيرُ الْمَسَالِكِ، وَالشِّعَابِ، تَقْطَعُهُ عِدَّةُ وِدْيَانٍ، وَيُدورُ دَوْرَةً وَاسِعَةً فِي مُوَاجَهِةَ السَّهْلِ الضَّيّقِ.

الذِي وَقَفَتْ عِنْدَهُ قُرَيْشٍ، كَمَا أَنَّ تَعَرجَاتِ الأَرْضِ جَعَلَتْ فِي انْحِدَارِهِ فَجَوَاتٍ، تُشْبِهُ الْحُفَرَ، تَصْلُحُ للإخْتِفَاءِ فِي الْحَرْبِ الدِّفَاعِيَّةِ، لِقَذْفِ النِّبَالِ. فَنَزَلَ رَسُولِ اللهِ ? فِي شَعبٍ عَلَى عُدْوَةِ الْوَادِي، إِلى جَانِب تلٍّ مُشْرِفٍ، يُقَالُ لَهُ: جَبَلُ عَيْنَيْن، وَهُنَاكَ أَخَذَ ? يَصُفُ أَصْحَابَهُ، وَيُعْبِئُهُمْ لِلْقِتَالِ، فَجَعَلَ ظُهُورَهُمْ إِلى الْجَبَلِ بِحَيْثُ يَحْتَمُونَ بِهِ مِنْ خَلْفِهِمْ وَجَعَلَ وَجُوهَهُمْ إِلى الْمَدِينَةِ، بِحَيْثُ يَسْتَقْبِلُونَ الْوَادِي، وَيُشْرِفُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَعْلاهُ وَجَعَلَ خَمْسِينَ مِن الرُّمَاةِ عَلَى جَبَل عَيْنَيْن. وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللهِ بن جُبَيْرِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَحْمُوا ظُهُورَ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْقِتَالِ، وَأَنْ لا يُمَكِّنُوا الْعَدُوِّ مِن اقْتِحَامِ هَذَا الْحِصْنِ، وَأَنْ لا يَبْرَحُوا مَكَانَهُمْ هَذَا، سَوَاءٌ أَكَانَ النَّصْرُ لِلْمُسْلِمِينَ أَمْ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ عَلَّمَهُمْ أَنْ يَنْضَحُوا الْخَيْلَ كُلَّمَا أَقْبَلَتْ نَحْوَهُمْ بِالنَّبْلِ، وَأَكَّدَ الْوَصِيَّةَ عَلَيْهِمْ أَنْ لا يُغَادِرُوا مَوَاضِعَهُمُ، وَإِنْ رَأَوْا أَصْحَابَهُمْ تَتَخَطَّفُهُمْ الطَّيْرُ. فَلَمَّا انْتَهَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَعْدِيلِ الصُّفُوفِ، وَإِعْدَادِ الْمَوَاضِعِ، خَطَبَ فِي النَّاسِ يُحَرِّضُهُمْ عَلَى الْقِتَالِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى الصَّبْرِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ لا يَبْدَءُوا بِقِتَالٍ حَتَّى يُؤَاذِنَهُمْ، وَبَيْنَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشْتَغِلاً بِصَفِّ جُنُودِهِ ظَهَرَ الْقُرَشِيُّونَ فِي السَّهْلِ الْمُنْبَسِطِ، تَحْتَ التَّلِّ، وَصَارَ الْجَيْشَانِ وَجْهًا لِوَجْهٍ. وَظَهَرَتْ نِسَاءُ قُرَيْشٍ، يَمْشِينَ بَيْنَ الصُّفُوفُ، وَيَضْرِبْنَ بِالدُّفُوفِ وَيُنْشِدْنَ الأَنَاشِيدِ، تَحْرِيضًا عَلَى الْقِتَالِ، وَإِثَارَةَ لِلْحَمِيَّةِ بَيْنَ الرِّجَالِ. اللَّهُمَّ نَجّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ النَّارِ وَعَافِنَا مِنْ دَارِ الْخِزْيَ وَالْبَوَارِ، وَأَدْخِلْنَا بفَضْلِكَ الْجَنَّةَ دَارَ الْقَرَارِ وَعَامِلْنَا بِكَرَمِكَ وَجُودِكَ يَا كَرِيمُ يَا غَفَّارُ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

إخفاق خطط الكفرة والمشركين عندما التقى الجمعان

(فَصْلٌ) فَلَمَّا الْتَقَى الْجَمْعَانِ، بَدَأَ أَبُو سُفْيَانَ خُطَّةَ التَّخْذِيلِ، بَيْنَ الأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرِينَ، فَنَادَى: يَا مَعْشَرَ الأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، خَلُّوا بَيْنَ وَبَيْنَ عَمِّنَا وَنَنْصَرِفُ عَنْكُمْ، فَذَهَبَ نِدَاؤُهُ صَرْخَةً فِي الْفَضَاءِ. فَأَعْقَبَهُ أَبُو عَامِرٍ الْفَاسِقُ، فَبَرَزَ بَيْنَ الصُّفُوفُ يُنَادِي قَوْمَهُ الأَوْسَ: يَا لَلأَوْسِ إِليَّ إِليَّ، فَمَا كَانَ جَوَابُهُ مِنْهُمْ إِلا اللَّعْنَ وَالسَّبِّ وَالشَّتْمَ وَالرَّمِيَ بِالْحِجَارَةِ وَالطَّرْدِ حَتَّى وَلَّى مُخْتَزِيًا خَجْلانَ، يَقُولُ: لِقُرَيْشٍ لَقَدْ أَصَابَ قَوْمِي بَعْدِي شَرٌّ. وَأَخْفَقَتْ خُطَّةُ التَّخْذِيلِ، كَمَا أَخْفَقَتْ خُطَّةُ الْمُفَاجَأَةِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ الْقِتَالِ مَفَرٌّ، وَهُنَا حَاوَلَتْ قُرَيْشٌ أَنْ تُطَوِّقَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَضُمُّ عَلَيْهِمْ جَنَاحَيْهَا بِحَرَكَةِ الْتِفَافٍ سَرِيعَةٍ. فَتَحَرَّكَ لِوَاءُ عِكْرَمَةَ مِنَ الْمَيْسَرَةِ، يُرِيدُ أَنْ يَدُورَ حَوْلَ عَسْكَرِهِمْ فَلَمْ يَسْتَطِعْ ذَلِكَ. فَحَاوَلَ مِثْلَهُ خَالِدُ بنُ الْوَلِيدِ مِنْ الْمَيْمَنَةِ، فَأَمْطَرَهُ الرُّمَاةُ وَابِلاً مِنَ النِّبَالِ، َفارْتَدَّتْ الْخَيْلُ عَلَى أَعْقَابِهَا مُسْرِعَةً. فَعَادَ الْكُفَّارُ إِلى أَمَاكِنِهِمْ كَمَا كَانُوا أَوَّلاً وَبَدَأ الْقِتَالُ بِالْمُبَارَزَةِ. فَخَرَجَ مِنْ صُفُوفُ الْمُشْرِكِينَ رَجُلٌ يَطْلُبُ الْمُبَارَزَةَ، فَبَرَزَ لَهُ الزُّبَيْرُ بنُ الْعَوَّامِ، فَقَتَلَهُ، فَسُرَّ بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ? وَكَبَّرَ فَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ. وَشَدُّوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَهُمْ يَتَصَايَحُونَ صَيْحَةَ الْحَرْبِ، (أَمِتْ أَمِتْ) فَهَجَمَ عَلِيَّ بن أَبِي طَالِبٍ عَلَى حَامِلِ لِوَائِهِمْ طَلْحَةِ بن أَبِي طَلْحَة فَقَتَلَهُ، فَكَبَّرَ الْمُسْلِمُونَ، وَسُرَّ النَّبِيِّ ? بِقَتْلِهِ، فَإِنَّهُ هُو كَبْشُ الْكَتِيبَةِ.

قتل حاملي لواء المشركين وكسر شوكتهم وتوليهم الأدبار

وَكَانَ قَزْمَانُ يُعْرَفُ بِالشَّجَاعَةِ، وَقَدْ تَأَخَّرَ، فَعَيّرَتْهُ نِسَاءُ بَنِي ظَفَرٍ فَأَتَى رَسُولَ اللهِ ?، وَهُوَ يُسَوِّي الصُّفُوفَ حَتَّى انْتَهَى إِلى الصَّفِّ الأَوَّلِ فَكَانَ عَلَى مَا قِيلَ أَوَّلُ مَنْ رَمَى فِي صَفِّ الْمُسْلِمِينَ بِسَهْمٍ، فَجَعَلَ يُرْسِلُ نَبْلاً كَأَنَّها الرِّمَاحُ، وَيَكُتُّ كَتِيتَ الْجَمَلِ، ثُمَّ فَعَلَ بِالسَّيْفِ الأَفَاعِيلَ حَتَّى قَتَلَ سَبْعَةً. وَأَصَابَتْهُ جِرَاحٌ فَوَقَعَ، فَنَادَاهُ قَتَادَةُ بن النُّعْمَان: أَبَا الْغَيْدَاقِ هَنِيئًا لَكَ الشَّهَادَةُ، فَقَالَ: إِنِّي وَاللهِ مَا قَاتَلْتُ يَا أَبَا عَمْروٍ عَلَى دِينٍ، مَا قَاتَلْتُ إِلا عَلَى الْحِفَاظِ، أَنْ تَسِيرَ قُرَيْشٌ إِلَيْنَا حَتَّى تَطَأ سَعَفَنَا، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ? فَقَالَ: «مِنْ أَهْلِ النَّارِ، إِنَّ اللهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُل الْفَاجِرُ» . ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ أَخُو طَلْحَةَ عُثْمَانُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ حَمْزَةُ فَقَتَلَهُ، فَأَخَذَ اللِّوَاءَ أَخُوهُمَا سَعِيدٌ، فَرَمَاهُ سَعْدُ بن أَبِي وَقَّاصٍ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ فَتَنَاوَبَ اللِّوَاءَ بَعْدَهُ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَوْلادِ طَلْحَةَ، وَكُلُّهُمْ يُقْتَلُونَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، فَحَمَلَ اللِّوَاءُ غُلامَ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ صُوءَابُ، فَقُتِلَ، وَسَقَطَ اللِّوَاءُ عَلَى الأَرْضِ، فَأَخَذَ الْمُشْرِكُونَ بِذَلِكَ أَخْذًا شَدِيدًا وَانْكَسَرَتْ شَوْكَتُهُمْ، وَانْفَرَجَتْ صُفُوفُهُمْ فَحَمَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ حَمْلَةً صَادِقَةً، وَأَمْنَعُوا فِيهِمْ ضَرْبًا بِالسُّيُوفِ، وَطَعْنًا بِالرِّمَاحِ، وَرَمْيًا بِالسِّهَامِ، فَانْكَشَفُوا وَوَلَّوْا الأَدْبَارِ وَجَعَلَتْ نِسَاؤُهُمْ تَصِيحُ وَتُوَلْوِلُ، وَأَخَذْنَ فِي الْهَرَبِ وَالْفِرَارِ، مِنْ الأَسْرِ مُشَمِّرَاتٍ عَنْ أَسَياقِهِنَّ، وَخَلاخِيلِهِنَّ، وَتَتَبَّعَ الْمُسْلِمُونَ أَعْدَاءَهُمْ يَضَعُونَ فِيهِمْ السِّلاحَ حَيْثُ شَاءُوا، حَتَّى أَبْعَدُوا عَن مُعَسْكَرِهِمْ. اللَّهُمَّ إِنَّ نَوَاصِينَا بِيَدِيكَ، وَأُمُورُنَا تَرْجعُ إِلَيْكَ، وَأَحْوَالِنَا لا تَخْفَى

مخالفة أهل الثفر لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أوقعتهم في مفاجئة الكفار يحاصرونهم كارين راجعين

عَلَيْكَ، وَآلامُنَا وَأَحْزَانُنَا وَهُمُومُنَا وَغُمُومُنَا كُلُّهَا مَعْلُومَةٌ لَدَيْكَ، اللَّهُمَّ قَدْ عَجَزَتْ قُدْرَتُنَا، وَقَلَّتْ حِيلَتُنَا، وَضَعَفَتْ قُوَّتُنَا، وَتَاهَتْ فِكْرَتُنَا، وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْنَا هُمُومُنَا وَأَوْصَابُنَا، وَأَنْتَ مَلْجَؤُنَا، وَمَلاذُنَا وَمَوْلانَا، وَسَيِّدُنَا وَإِلَيْكَ نَرْفَعُ بَثَّنَا وَحُزْنَنَا، وَشِكَايَتُنَا، يَا مَنْ يَعْلَمِ سِرَّنَا وَعَلانِيَّتُنَا، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ تَوَكَّلَ عَلَيْكَ، وَأَمِّنْ خَوْفَنَا إِذَا وَصَلْنَا إِلَيْكَ، وَلا تُخَيِّبْ رَجَاءَنَا إِذَا صِرْنَا بَيْنَ يَدَيْكَ، وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ تَسُوقُهُ الضَّرُورَاتُ إِلَيْكَ وَهَبْ لَنَا مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيم، وَجُدْ عَلَيْنَا بِإِحْسَانِكَ الْعَمِيمْ وَمَتِّعْنَا بِالنَّظَرِ إِلى وَجْهِكَ الْكَرِيم. اللَّهُمَّ مَكِّنْ حُبَّكَ فِي قُلُوبِنَا وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لامْتِثَالِ طَاعَتِكَ وَأَمْرِكَ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) ثُمَّ وَقَعُوا عَلَى الْغَنَائِم وَالأَسْلابِ يَجْمَعُونَهَا وَيَنْتَهِبُونَهَا وَهُمْ مُطْمَئِنُونَ إِلى أَنَّ ظُهُورَهُمْ لا تَزَالُ مَحْمِيَّةً بِرُمَاتِهِمْ، أَمَّا الرُّمَاةُ فَقَدْ خُيِّلَ لَهُمْ أَنَّ الْمَعْرَكَةَ انْتَهَتْ. وَأَنَّ الْهَزِيمَةَ قَدْ تَمَّتْ، وَخَشُوا أَنْ يَسْبَقَهُمْ إِخْوَانُهُمْ فِي جَمْعِ الْغَنَائِمِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا بَقَاؤُنَا هُنَا، وَقَدْ هَزَمَ اللهُ الْعَدُوَّ، هَؤُلاءِ إِخْوَانُكُمْ يَغْنَمُونَ، فَادْخُلُوا فَاغْنَمُوا مَعَ إِخْوَانِكُمْ، فَذَكَّرَهُمْ أَمِيرُهُمْ عَهْدَ رَسُولِ اللهِ ? وَوَصَيَّتَهُ لَهُمْ، وَحَذَّرَهُمْ عَاقِبَةَ الْخِلافِ وَالْعِصْيَانِ، وَلَكِنْ لَمْ يَسْمَعُوا مِنْهُ، وَظَنُّوا أَنْ لَيْسَ لِلْمُشْرِكينَ رَجْعَةٌ، فَذَهَبُوا فِي طَلَبِ الْغَنِيمَةِ وَأَخْلَوا الثَّغْرَ، وَتَرَكُوا أَمِيرَهُمْ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ لا يُجَاوِزُونَ الْعَِشْرَةَ فَانْكَشَفَ بِذَلِكَ الْحِصْنُ الذِي كَانَ يَحْمِي ظُهُورَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ خَالِدُ بن الْوَلِيدِ يَتَقَهْقَرُ وَعَيْنُهُ إِلى التَّلِّ لا تُفَارِقُهُ، فَلَمَّا رَأَى الرُّمَاةَ يَتْرُكُونَ مَوَاقِفَهُمْ انْقَلَبَ رَاجِعًا فِي دَوْرَةٍ، وَاسِعَةٍ مُتَّخِذًا مِنْ الأَرَاضِي الْمَسْتُورَةِ دَرْبًا وَطَرِيقًا

لَهُ، وَجَاءَ فِي أَعْقَابِهِ عِكْرَمَةُ بِلِوَائِهِ، فَتَسَلَّلوا فَوْقَ الْجَبَلِ وَأزَاحُوا الرُّمَاةَ الْبَاقِينَ مِنْ أَمَاكِنِهِمْ وَاقْتَحَمُوا خُطُوطَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْخَلْفِ، وَجَعَلُوا يَتَنَادُونَ بِشَعَارِهِمْ، يَا لَلْعُزَّى، يَالِهَبَلْ، فَأَقْبَلَ الْمُشْرِكُونَ بَعْدَ إِدْبَارِهِمْ، وَأَخَذَتْ عُمْرَةُ بِنْتُ عَلْقَمَةَ الْحَارِثِيَّةُ اللِّوَاءِ فَرَفَعَتْهُ، فَجَعَلُوا يَلُوذُونَ بِهِ وَفُوجِئَ الْمُسْلِمُونَ بِأَعْدَائِهِمْ قَدْ حَاصَرُوهُمْ وَأَوْجَعُوا فِيهِمْ قَتْلاً ذَرِيعًا فَاضْطَرَبَ أَمْرَهُمْ واَنْتَقضَتْ صُفُوفُهُمْ، وَجَعَلُوا يُقَاوِمُونَ عَلَى غَيْرِ نِظَامٍ وَيُقَاتِلُونَ عَلَى غَيْرِ شِعَارٍ، وَتَرَكُوا مَا انْتَهَبَوا وَخَلُّوا مَنْ أَسَرُوا، وَتَفَرَّقُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ. وَهَذِهِ عَاقِبَةُ الْحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا وَالْعَجَلَةْ الْمُثْمِرَة لِلنَّدَامَة. شِعْرًا: ... وَمُسْتَعْجِلِ وَالْمُكْثِ أَدْنَى لِرُشْدِهِ ... وَلَمْ يَدْرِ مَا يَلْقَاهُ حِينَ يُبَادِرُ وَنَظَرَ حُذَيْفَةَ إِلى أَبِيهِ الْيَمَانِ وَالْمُسْلِمُونَ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ وَهُمْ يَظُنُّونَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: أَيْ عِبَادَ اللهِ أَبِي، فَلََمْ يَفْهَمُوا قَوْلَهُ حَتَّى قَتَلُوهُ، فَقَالَ: يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ، فَأَرَادَ رَسُولُ اللهِ ? أَنْ يَدِيهُ، فَقَالَ: قَدْ تَصَدَّقْتُ بِديتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَزَادَ ذَلِكَ حُذَيْفَةَ خَيْرًا عِنْدَ النَّبِيِّ ?. وَقَالَ زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ ? يَوْمَ أُحُدٍ أَطْلُبُ سَعْدَ بن الرَّبِيعِ، فَقَالَ لِي: «إِنْ رَأَيْتَهُ فَأقْرأَهُ مِنِّي السَّلام َ، وَقُلْ لَهُ: يَقُولُ لَكَ رَسُولُ اللهِ ?: كَيْفَ تَجِدُكَ» ؟ قَالَ: فَجَعَلْتُ أَطُوفُ بَيْنَ الْقَتْلَى فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ بِآخِرِ رَمَقٍ وَبِهِ سَبْعُونَ ضَرْبَةً مَا بَيْنَ طَعْنَةٍ بِرُمْحٍ وَضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ وَرَمْيَةٍ بِسَهْمٍ. فَقُلْتَ: يَا سَعْدُ، إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلامُ، وَيَقُولُ لَكَ: «أَخْبِرْنِي كَيْفَ تَجِدُكَ» ؟ فَقَالَ: وَعَلَى رَسُولِ اللهِ ? السَّلام، قُلْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ، وَقُلْ لِقَوْمِي الأَنْصَار: لا عُذْرَ لَكُمْ عِنْدَ اللهِ إِنْ خُلِصَ إِلى رَسُولِ اللهِ ? وَفِيكُمْ عَيْنٌ تَطْرُف وَفَاضَتْ نَفْسُهُ مِنْ وَقْتِهِ. شِعْرًا: ... وَمَا الْمَرْءُ إِلا حَيْثُ يَقْضِي حَيَاتَهُ ... لِنُصْرَةِ دِينِ الله لا لِلتَّكَاثُرِ آخر: ... وَمَا الْبَأْسُ إِلا فِي لِحَدِيدِ مُرَكبٌ ... ومَا الْعِزُّ إلا في التُّقَى والدِّيَانَةِ

إبليس لعنه الله يصرخ وسط المعركة بأعلى صوته أن محمدا قد قتل

وَمَرَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ بِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَهُوَ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ فَقَالَ: يَا فُلانُ أَشَعَرْت أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ؟ فَقَالَ الأَنْصَارِي: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ قَدْ قُتِلَ فَقَدْ بَلَّغَ فَقَاتِلُوا عَنْ دِينِكُمْ فَنَزَلَ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} الآية. وَأَكْرَمَ اللهُ بِالشَّهَادَةِ مَنْ أَكْرَمَ وَهُمْ سَبْعُونَ، وَفِي وَسَطِ هَذِهِ الدَّهْشَةُ الْبَالِغَةُ صَرَخَ إِبْلِيسَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ إِنَّ مُحَمَّدًا قُدْ قُتِلَ، وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَفَرَّ أَكْثَرُهُمْ، وَكَانَ أَمْرَ اللهِ قَدَرًا مَقْدُورًا. وَمَرَّ أَنَسُ بنِ النَّضْرِ بِقَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ أَلْقَوْا بَأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ: مَا تَنْتَظِرُونَ، فَقَالُوا: قُتِلَ رَسُولُ اللهِ ? فَقَالَ: فَمَا تَصْنَعُونَ بِالْحَيَاةِ بَعْدَهُ قُومُوا مُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ. وَخَلَص الْمُشْرِكُونَ إِلى رَسُولِ اللهِ ? وَثَبَتَ ? فِي وَجْهِ الْعَدُوِّ، وَقَاتَلَهُمْ قِتَالاً شَدِيدًا فَظَلَّ يَرْمِي بِالنَّبْل حَتَّى فَنِيَ نَبْلُهُ، وَانْكَسَرَتْ سِيَّةُ قَوْسِهِ، وَانْقَطَعَ وَتَرُهُ، ثُمَّ ظَلَّ يَرْمِيهِمْ بِالْحِجَارَةِ، حَتَّى وَقَعَ لِشِقِّهِ. وَثَبَتَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنَ أَصْحَابِهِ، قِيلَ: إِنَّهُمْ دُونَ الْعَشَرَةَ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ فَوْقَ الْعَشَرَةَ، فَبَايَعُوهُ عَلَى الْمَوْتِ، وَأَحَاطُوا بِهِ، يَصُدُّونَ عَنْهُ هَجَمَاتِ الْعَدِوِّ، الذِينَ أَحْدَقُوا بِهِ مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ. وَشَدُّوا عَلَيْهِ يَرِيدُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ فَمَازَالَ هَؤُلاءِ النّفَرُ يَذُودُونَ عَنْهُ وَيُقَاتِلُونَ دُنَهُ، وَيَتَلَقَوْنَ ضَرَبَاتِ الْعَدُوِّ، وَلَكِنَّ الْعَدُوَّ جَرَحَ وَجْهَهُ ? وَكَسَرَ رَبَاعِيَّتَهُ وَهَشَمُوا الْبَيْضَةَ عَلَى رَأْسِهِ وَرَمُوهُ بِالْحِجَارَةِ، حَتَّى وَقَعَ وَسَقَطَ فِي حُفْرَةٍ مِنْ الْحُفَرِ الَّتِي كَانَ أَبُو عَامِرٍ الْفَاسِقُ يَكِيدُ بِهَا الْمُسْلِمِينَ

فَأَخَذَ عَلِيّ بِيَدِهِ، وَاحْتَضَنَهُ طَلْحَةُ بن عُبَيْدِ اللهِ، وَكَانَ الذِي تَوَلَّى أَذَاهُ ? عَمْرُو بن قَمِئَة، وَعُتْبَة بنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَقِيلَ: إِنَّ الذِي شَجَّهُ عَبْدُ اللهِ بنُ شِهَابٍ الزُّهْرِي عَمُّ مُحَمَّد بن مُسْلِم بن شِهَابِ الزَّهْرِي، وَقُتِلَ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَدَفَعَ اللِّوَاءَ إِلى عَلِيِّ بن أَبِي طَالِبٍ وَنَشَبَتْ حَلْقَتَانِ مِنْ حَلَقِ الْمَغْفَرِ فِي وَجْهِهِ، فَانْتَزَعَهُمَا أَبُو عُبَيْدَةَ بن الْجَرَّاحِ، وَعَضَّ عَلَيْهِمَا حَتَّى سَقَطَتْ ثَنيَّتَاهُ مِنْ شِدَّةِ غَوْصِهِمَا فِي وَجْهِهِ ?. اللَّهُمَّ انْظِمْنَا فِي سِلْكِ الْفَائِزِينَ بِرَضْوَانِكَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الْمُتَّقِينَ الذِينَ أَعْدَدْتَ لَهُمْ فَسِيحَ جِنَانِكَ، وَأَدْخِلْنَا بِرَحْمَتِكَ فِي دَارِ أَمَانِكَ وَعَافِنَا يَا مَوْلانَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ مِنْ جَمِيعِ الْبَلايَا وَأَجْزِلْ لَنَا مِنْ مَوَاهِبِ فَضْلِكَ وَهِبَاتِكَ وَمَتِّعْنَا بِالنَّظَرِ إِلى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ مَعَ الذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وَقَدْ أَبْلَى النَّفَرُ الذِينَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ? فِي الدِّفَاعِ عَنْهُ أَحْسَنَ الْبَلاءَ وَامْتَازَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ فِي دِفَاعِهِ بِالصِّدْقِ وَالشَّجَاعَةِ، فَقَدْ قَاتَلَ طَلْحَةُ بن عُبَيْدِ اللهِ عَنْهُ قِتَالاً شَدِيدًا، وَصَارَ يَذُودُ عَنْهُ بِالسَّيْفِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، وَيَدُورُ حَوْلَهُ يُتَرِّسُ بِنَفْسِهِ دُونَهُ، وَالسِّيُوفُ تَغْشَاهُ، وَالنَّبْلُ يَأْتِيهِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ. شِعْرًا: ... كَفَانِي فَخْرًا أَنْ أَمُوتَ مُجَاهِدًا ... وَحُبُّ إِلَهِي قَائِدِي مُنْذُ نَشْأَتِي

فَلَمْ يَزَلْ يَقِي رَسُولَ اللهِ ? بِنَفْسِهِ حَتَّى أَجْهَضَهُمْ عَنْهُ، فَانْكَشَفُوا عَنْهُ، فَكَانَ أَعْظَمَ النَّاسِ غِنَاءً عَنْ رَسُولِ اللهِ ?، فَجَعَلَ ? يَقُولُ: ((قَدْ أَوْجَبَ طَلْحَةُ)) . وَفِي مَغَازِي الأَمَوِي أَنَّ الْمُشْرِكِينَ صَعَدُوا عَلَى الْجَبَلِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ? لِسَعْدٍ: «أجْبُنْهُمْ» . - يَقُولُ أرْدُدْهُمْ - فَقَالَ: كَيْفَ أَرْدُّهُمْ وَحْدِي، قَالَ ذَلِكَ ثَلاثًا. فَأَخَذَ سَعْدُ سَهْمًا مِنْ كَنَانَتِهِ فَرَمَى بِهَا رَجُلاً فَقَتَلَهُ، قَالَ: ثُمَّ أَخَذْتُ سَهْمِي أَعْرِفُهُ فَرَمَيْتُ بِهِ آخرَ فَقَتَلْتُهُ، ثُمَّ أَخَذْتُهُ أَعْرِفُهُ فَرَمِيتُ بِهِ آخرَ فَقَتَلْتُهُ، فَهَبَطُوا مِنْ مَكَانِهِمْ، فَقُلْتُ: هَذَا سِهْمُ مُبَارَكٌ فَجَعَلْتُهُ فِي كَنَانَتِي فَكَانَ عِنْدَ سَعْدٍ حَتَّى مَاتَ، ثُمَّ كَانَ عِنْدَ بَنِيهِ. وَقَاتَلَتِ الْمَلائِكَةُ يَوْمَ أُحُدٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ ?. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَعْدٍ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ? يَوْمَ أُحُدٍ، وَمَعَهُ رَجُلاَنِ يُقَاتِلاَنِ عَنْهُ، عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ، كَأَشَدِّ الْقِتَالِ، مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلاَ بَعْدُ. وَقَالَ نَافِعُ بن جُبَيْرٍ: سَمِعْتُ رَجُلاً مِن الْمُهَاجِرِينَ يَقُولُ: شهَدِتْ أُحُدًا فَنَظَرْتُ إِلى النَّبْلِ يَأْتِي مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ وَرَسُولُ اللهِ ? وَسَطَهَا كُلُّ ذَلِكَ يُصْرَفُ عَنْهُ. وَرَمَى حِبَّانُ بنُ الْعَرِقَةِ بِسَهْمٍ فَأَصَابَ ذَيْلَ أُمِّ أَيْمَنَ - وَقَدْ جَاءَتْ تَسْقِي الْجَرْحَى - فَانْكَشَفَ عَنْهَا فَاسْتَغَرَقَ فِي الضَّحِكِ. فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ? فَدَفَعَ إِلى سَعْد ابن أَبِي وَقَّاصٍ سَهْمًا لا نَصْلَ لَهُ فَقَالَ: «ارْمِ» . فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي نَحْرِ حِبَّانَ فَوَقَعَ مُسْتَلْقِيًا وَبَدَتْ عَوْرَتُهْ.

فَضَحَكَ رَسُولُ اللهِ ? حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ. ثُمَّ قَالَ: «اسْتَقَادَ لَهَا سَعْدٌ أَجَابَ اللهُ دَعْوَتَكَ وَسَدَّدَ رَمْيَتَكْ» . وَكَانَ شَمَّاسُ بن عُثْمَانَ بن الشَّرِيدِ الْمَخْزُومِي لا يَرْمِي رَسُولَ اللهِ ? بَصَرَهُ يَمِينًا وَلا شِمَالاً إِلا رَآهُ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ بِسَيْفِهِ حَتَّى غُشِيَ رَسُولُ اللهِ ? فَتَرَّسَ بِنَفْسِهِ دُونَهُ حَتَّى قُتِلَ رَحِمَهُ اللهُ. وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ رَامِيًا شَدِيدَ الرَّمْي فَنَثَرَ كِنَانَتَهُ بَيْنَ يَدَي رَسُولِ اللهِ ? وَصَارَ يَرْمِي عَنْهُ وَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ ? كُلَّمَا مَرَّ بِهِ أَحَدٌ مِن أَصْحَابِهِ مَعَهُ كِنَانَةٌ يَقُولُ لَهُ: أُنْثُرْهَا لأَبِي طَلْحَةَ. وَكُلَّمَا رَمَى أَبُو طَلْحَةَ سَهْمًا نَظَرَ رَسُولُ اللهِ ? مِنْ وَرَائِهِ لِيَرَى مَوْقِعَ السَّهْمِ فَيَقُولُ أَبُو طَلْحَةَ: يَا نَبِيَّ اللهِ بَأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي لا تَنْظُرْ يُصِيبُكَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْقَوْمِ نَحْرِي دَوْنَ نَحْرِكَ وَوَجْهِي لِوَجْهِكَ فِدَاءٌ. وَتَرَّسَ أَبُو دُجَانَةَ بِنَفْسِهِ دُونَ رَسُولِ اللهِ ? فَجَعَلَ النَّبْلُ يَقَعُ فِي ظَهْرِهِ وَهُو مُنْحَنٍ عَلَى رَسُولِ اللهِ ? حَتَّى كَثَر فِيهِ النَّبْلُ وَرَمَى سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ دُونَ رَسُولِ اللهِ ? فَجَعَلَ رَسُولِ اللهِ ? يُنَاوِلُهُ النَّبْلَ وَهُوَ يَقُولُ: «ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي» . حَتَّى إِنَّهُ لَيُنَاوِلُهُ السَّهْمَ مَالَهُ نَصْلٌ فَيَقُولُ لَهُ: «ارْمِ بِهِ» فَيَرْمِي بِهِ. وَدَافَعَتْ عَنْ رَسُولِ اللهِ ? أُمُّ عِمَارَةَ وَهِي نُسَيْبَةُ بِنْتُ كَعْبِ الْمَازِنِيَّةُ وَكَانَتْ تَسْقِي النَّاسَ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمَّا رَأَتْ رَسُولَ اللهِ ? قَدْ أُحِيطَ بِهِ وَانْهَزَمَ عَنْهُ النَّاسُ وَضَعَتْ سِقَاءَهَا وَأَخَذَتْ سَيْفًا فَجَعَلَتْ تُقَاتِلُ أَشَدَّ الْقِتَالِ وَإِنَّهَا لَحَاجِزَةٌ

ثَوْبِهَا عَلَى وَسَطِهَا حَتَّى جُرِحَتْ ثَلاثَةَ عَشْرَ جُرْحًا وَظَلَّ عَلَى عَاتِقَها مِنْ هَذِهِ الْجِرَاحِ جُرْحٌ أَجْوَفَ لَهُ غَوْرٌ أَصَابَهَا بِهِ ابن قَمِئَةَ. وَقَدْ سُمِعَ رَسُولُ اللهِ ? يَقُولُ يَوَمْئِذٍ: «مَا الْتَفَتُ يَمِينًا وَلا شِمَالاً إِلا أَنَا أَرَاهَا تُدَافِعُ دُونِي» . وَجَاءَ فِي رِوَايَةٍ خَرَجَتْ نُسَيْبَةُ يَوْمَ أُحُدٍ وَزَوْجُهَا زَيْدُ بن عَاصِمٍ وَابْنَاهَا: حَبِيبٌ، وَعَبْدُ اللهِ. وَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ?: «بَارَكَ اللهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ» . فَقَالَتْ لَهُ نُسَيْبَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: ادْعُ اللهَ أَنْ نُرَافِقَكَ فِي الْجَنَّةِ. فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُمْ رُفَقَائِي فِي الْجَنَّةِ» . وَعِندَ ذَلِكَ قَالَتْ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: مَا أُبَالِي مَا أَصَابَنِي مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا فَهَذِهِ حَقًّا شَجَاعَةٌ مُدْهِشَةٌ لإِمْرَأَةٍ وَقَدْ تَحَمَّلَتْ مَا أَصَابَهَا مِن الْجِرَاحِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَهُوَ مَا يَعْجَزُ عَنْ تَحَمُّلَهُ الرِّجَالُ فَضْلاً عَنِ النِّسَاءِ {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} . اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِن الذِّينَ إِذَا أَحْسَنُوا اسْتَبْشَرُوا وَإِذَا أَسَاءُوا اسْتَغْفَرُوا اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلا تَنْقُصْنَا وَأَكْرِمْنَا وَلا تُهِنَّا وَأَعْطِنَا وَلا تَحْرِمْنَا وَآثِرْنَا وَلا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا وَأَرْضِنَا وَارْضَ عَنَّا، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ نَسْأَلُكَ أَنْ تُوَفِّقَنَا لِمَا فِيهِ صَلاحُ دِينَنَا وَدُنْيَانَا وَأَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا وَأَكْرِمْ مَثْوَانَا وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وَكَانَ الْحَبَّابُ بنُ الْمُنْذِرِ يَحُوشُ الْمُشْرِكِينَ كَمَا تُحَاشُ الْغَنَمُ وَاشْتَمَلُوا عَلَيْه مَرَّةً حَتَّى قِيلَ: قُدْ قُتِلَ.

ثُمَّ بَرَزَ والسَّيْفُ في يَدِهِ، وَقَدْ افْتَرَقُوا عَنْهُ وَجَعَلَ يَحْمِلُ عَلَى فِرْقَةٍ مِنْهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَهْرَبُوْنَ. وَقَامَ زِيَادُ بن السَّكَنِ فِي نَفَرٍ مِن الأَنْصَارِ فَقَاتَلُوا دُونَ رَسُولِ اللهِ ? رَجُلاً ثُمَّ رَجُلاً وَهُمْ يُقْتَلُونَ دُونَهُ حَتَّى كَانَ آخِرُهُمْ زِيَادُ فَقَاتَلَ حَتَّى أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحُ فَوَسَّدَهُ رَسُولُ اللهِ ? رِجْلَهُ حَتَّى مَاتَ. وَمَاتَ مُصْعَبُ بن عُمْيَرٍ دُونَ رَسُولِ اللهِ ? وَهُوَ يَتَلَقَّى عَنْهُ ضَرْبَةً قَدْ سُدِّدَتْ إِلَيْهِ قَتَلَهُ ابنُ قَمِئَةَ وَهُوَ يَحْسِبُهُ رَسُولَ اللهِ وَذَهَبَ يُذِيعُ بَيْنَ الْكُفَّارِ. وَقَدْ مَاتَ فِي ذَلِكَ دُونَ رَسُولِ اللهِ ? خَلْقٌ كَثِيرٌ كُلُّهُمْ يُفَدِّيهِ بِنَفْسِهِ وَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَدُّوِ حَتَّى يُصْرَعَ. وَرَوَى الْوَاقِدِي عَنْ سُفْيَانَ بن عُيَيْنَةَ قَالَ: لَقَدْ أُصِيبَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ? يَوْمَ أُحُدٍ نَحْوٍ مِنْ ثَلاثِينَ كُلُّهُمْ يَجِيءُ حَتَّى يَتَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ: وَجْهِي لِوَجْهِكَ الْفِدَاءُ وَنَفْسِي لِنَفْسِكَ الْفِدَاءُ وَعَلَيْكَ سَلامُ اللهِ غَيْرَ مُوَدَّعٍ. ثُمَّ عَرَفَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ? لا يَزَالُ حَيًّا فَأَحَاطُوا بِهِ حَتَّى كَشَفُوا عَنْهُ الْعَدُوَّ. وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ عَرَفَ رَسُولَ اللهِ ? كَعْبُ بنُ مَالِكٍ قَالَ: عَرَفْتُ عَيْنَيْهِ تَزْهُرَانِ مِنْ تَحْتِ الْمِغْفَرِ فَنَادَيْتُ بَأَعْلَى صَوْتِي: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَبْشِرُوا هَذَا رَسُولُ اللهِ ? فَأَشَارَ إِليَّ رَسُولُ اللهِ ? أَنْ أَنْصِتْ. وَفَاءَتْ إِلى رَسُولِ اللهِ ? جَمَاعَةٌ مِن الْمُسْلِمِينَ فَنَهَضُوا بِهِ إِلى الشَّعْب فَاحْتَمَى بِهِ مَعْ مَنْ كَانَ يَحْتَمِي هُنَاكَ مِنْ أَصْحَابِهِ.

وَنَهَضَ رَسُولُ اللهِ ? إِلى صَخْرَةٍ مِنْ الْجَبَلِ لِيَعْلُوهَا فَلَمْ يَقْدِرْ لِكُثْرَةِ النَّزِيفِ الذِي خَرَجَ مِن الْجِرَاحِ فَجَلَسَ تَحْتَهُ طَلْحَةُ بنُ عُبَيْدِ اللهِ فَنَهَضَ بِهِ حَتَّى اسْتَوَى عَلَيْهَا. وَحَانَتْ الصَّلاةُ فَصَلَّى بِهِمْ جَالِسًا وَصَارَ رَسُولُ اللهِ ? ذَلِكَ الْيَوْمِ تَحْتَ لِوَاءِ الأَنْصَارِ وَشَدَّ حَنْظَلَةُ الْغَسِيلُ - وَهُوَ حَنْظَلَةُ بنُ أَبِي عَامِرٍ - عَلَى أَبِي سُفْيَان. فَلَمَّا تَمَكَّنَ مِنْهُ حَمَلَ عَلَى حَنْظَلَةَ شَدَادُ بنُ الأَسْوَدِ فَقَتَلَهُ وَكَانَ جُنَبًا. فَإِنَّهُ سَمَعَ الصَّيْحَةَ وَهُوَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَقَامَ مِنْ فَوْرِهِ إِلى الْجِهَادِ فَأَخْبَرَ رَسُولُ اللهِ ? أَصْحَابَهُ أَنَّ الْمَلائِكَةَ تُغَسِّلُهُ ثُمَّ قَالَ: «سَلُوا أَهْلَهُ مَا شَأْنُهُ» . فَسَأَلُوا امْرَأَتَهُ فَأَخْبَرَتْهُمْ الْخَبَرَ. وَعِنْدَمَا امْتَدُّوا صُعُودًا فِي الْجَبَلِ أَدْرَكَ رَسُولُ اللهِ ? أُبَيَّ بن خَلَفٍ عَلَى جَوَادٍ لَهُ اسْمَه الْعَوْدُ كَانَ يُطْعِمُهُ فِي مَكَّةَ وَيَقُولُ أَقْتُلُ عَلَيْهِ مُحَمَّدًا، فَلَمَا سَمِعَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ?، قَالَ: «بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ إِنْ شَاءَ اللهِ» . فَلَّمَا أَدْرَكَهُ تَنَاوَلَ ?؛ الْحَرْبَةَ مِنَ الْحَارِثِ، وَطَعَنَ بِهَا عَدُّوَ اللهِ فِي تَرْقُوَتِهِ فَكَرَّ عَدُو اللهُ مُنْهَزِمًا، فَقَالَ لَهُ الْمُشْرِكُونَ: وَاللهِ مَا بِكَ مِنْ بَأْسٍ، فَقَالَ: وَاللهِ لَوْ كَانَ مَا بِي بَأَهْلِ الْمَجَازِ لَمَاتُوا أَجْمَعِينَ، وَمَاتَ فِي طَرِيقِهِ بِسَرِفٍ مَرْجِعَهُ إِلى مَكَّة. وَقَالَ ابنُ عُمَرَانِي لأَسِيرُ بِبَطْنِ رَابِغٍ بَعْدَ هُوِي مِن اللَّيْلِ إِذَا نَارَ تَأَجَّجَ لِي فيَمَّمْتُهَا فَإِذَا رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنْهَا فِي سِلْسِلَةٍ يَجْتَذِبُهَا يَصِيحُ: الْعَطَش الْعَطَش وَإِذَا رَجُلٌ يَقُولُ: لا تَسْقِهِ هَذَا قَتِيلُ رَسُولِ اللهِ ? هَذَا أُبِيُّ بنُ خَلَفٍ. وَظَنَّ الْمُشْرِكُونَ أَنَّهُمْ قَدْ انْتَقَمُوا لِيَوْمِ بَدْرٍ وَشَفُوا نُفُوسَهُمْ وَأَخَذَتِ الْمَعْرَكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ تَهْدَأُ حِدَّتُهَا وَتَخْمُدُ حَرَارَتُهَا، فَانْحَازَ الْمُشْرِكُونَ إِلى مُعَسْكَرَهِمْ، وَشُغِلُوا بِدَفْنِ قَتْلاهُمْ، وَأَخَذَتْ نِسَاؤُهُمْ يُمَثِّلْنَ بِالْقَتْلَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَمُثِّلَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ بِحَمْزَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَفْظَعَ تَمْثِيلَ حَتَّى

بَقَرَتْ بَطْنَهُ وَأَخْرَجَتْ كَبِدَهُ وَلاكَتْهَا فَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى أَنْ تُسِيغَهَا وَلَفَظَتْهَا. وَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ? بَعْدَ الْمَعْرَكَةِ تَأَثَّرَ تَأْثُّرًا شَدِيدًا وَقَالَ ?: «لَنْ أُصَابَ بِمِثْلِكَ أَبَدًا وَمَا وَقَفْتُ قَطُ مَوْقِفًا أَغْيَظُ مِنْ هَذَا» . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «أَكَلْتْ شَيْئًا» . قَالُوا: لا. قَالَ: «مَا كَانَ اللهُ لِيُدْخِلَ شَيْئًا مِنْ حَمْزَةَ فِي النَّارِ» . وَقَالَ ? لِوَحْشِي الذِي قَتَلَ حَمْزَةَ: «هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُغَيِّبَ وَجْهَكَ عَنِّي» . قَالَ وَحْشِي: فَخَرَجْتُ فَلَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللهِ ? وَخَرَجَ مُسَيْلَمَةَ الْكَذَّابُ قُلْتُ لأَخْرُجَنَّ إِلَيْهِ لَعَلِّي أَقْتُلُهُ فَأْكَافِئُ بِهِ حَمْزَةَ، قَالَ: فَخَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ ثُمَّ رَمَيْتُهُ بِحَرْبَتِي فَأَضَعُهَا بَيْنَ ثَدْيَيْهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ، قَالَ: وَوَثَبَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَار فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ عَلَى هَامَتِهِ. قَالَ ابن هِشَامٍ: فَبَلَغَنِي أَنَّ وَحْشِيًا لَمْ يَزَلْ يُحَدُّ فِي الْخَمْرِ حَتَّى خُلِعَ مِن الدِّيوَانِ. فَكَانَ عُمَرُو بنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ اللهَ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ قَاتِلَ حَمْزَةَ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِي بِإسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ سَعِيدِ بن الْمُسَيَّبِ قَالَ: كُنْتُ أَعْجَبُ لِقَاتِلِ حَمْزَةَ كَيْفَ يَنْجُو حَتَّى أَنَّهُ مَاتَ غَرِيقًا فِي الْخَمْرِ. وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بن جَحْشٍ بن خُزَيْمَةَ الأَسَدِيُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ قَدْ نَزَلُوا حَيْثُ تَرَى، وَقَدْ سَأَلْتُ اللهَ فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُقْسِمُ عَلَيْكَ أَنْ نَلْقَى الْعَدُوَّ غَدًا، فَيَقْتُلُونَنِي، وَيَبْقُرُونَنِي وَيُمَثِّلُونَ بِي، فَأَلْقَاكَ مَقْتُولاً قَدْ صَنَعَ هَذَا بِي فَتَقُولُ: فِيمَ صُنِعَ هَذَا بِكَ، فَأَقُولُ فِيكَ، وَأَنَا أَسْأَلُكَ أَخْرَى، أَنْ

قصيدة زهدية وعظية تثير عزائم أهل الطاعة

تَلِي تَرِكَتِي مِنْ بَعْدِي، فَقَالَ: نَعَمْ فَخَرَجَ، حَتَّى قُتِلَ، وَمُثِّلَ بِهِ وَدُفِنَ هُوَ وَحَمْزَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ. وَوَلِيَ تَرِكَتَهُ رَسُولُ اللهِ ? فَاشْتَرَى لابْنِهِ مَالاً بِخَيْبَرَ، فَأَقْبَلَتْ أُخْتُهُ حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ ?: «يَا حَمْنَةُ احْتَسِبِي» . قَالَتْ: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «خَالَكَ حَمْزَةَ» . قَالَتْ: إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، غَفَرَ اللهُ لَهُ وَرَحَمَهُ هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ. ثُمَّ قَالَ لَهَاَ: «احْتَسِبِي» . قَالَتْ: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «مُصْعَبَ بن عُمَيْرٍ» . قَالَتْ: وَأحَزَنَاهُ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهَا قَالَتْ: وَاعَقْرَاهْ، فَقَالَ ?: «إِنَّ لِلزَّوْجِ مِنْ الْمَرْأَةِ مَكَانًا مَا هُوَ لأَحَدٍ» . ثُمَّ قَالَ لَهَا: «لِمَ قُلْتَ هَذَا» . قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ ذَكَرْتُ يُتْمَ بَنِيهِ فَرَاعَنِي، فَدَعَا رَسُولَ اللهِ ? لِوَلَدِهِ أَنْ يُحْسِنَ عَلَيْهِمُ الْخَلَفُ فَتَزَوَّجَتْ طَلْحَةَ، فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمَّدَ بنَ طَلْحَةَ، فَكَانَ أَوْصَلَ النَّاسِ لِوَلَدِهَا، وَكَانَتْ حَمْنَةُ خَرَجَتْ يَوْمَئِذٍ إِلى أُحُدٍ مَعَ النِّسَاءِ يَسْقِينَ الْمَاءَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا. شِعْرًا: تَبَارَكَ مَنْ عَمَّ الْوَرَى بِنَوَالِهِ وَأَوْسَعَهُمْ فَضْلاً بِإِسْبَاغِ نِعْمَةِ وَقَدَّرَ أَرْزَاقًا لَهُمْ وَمَعَايِشًا وَدَبَّرَهُمْ فِي كُلِّ طَوْرٍ وَنَشْأَةِ أَحَاطَ بِهِمْ عِلْمًا وَأَحْصَى عَدِيدَهُمْ وَصَرَّفَهُمْ عَنْ حِكْمَةٍ وَالْمَشِيئَةِ

وَللهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمِنْهُمْ بِكُلِّ زَمَانٍ كَمْ مُنِيبٍ وَمُخْبِتِ وَكَمْ سَالِكٍ كَمْ نَاسِكٍ مُتَعَبِّدٍ وَكَمْ مُخْلِصٍ فِي غَيْبِهِ وَالشَّهَادَةِ وَكَمْ صَابِرٍ كَمْ صَادِقٍ مُتَبَتِّلٍ إِلى اللهِ عَنْ قَصْدٍ صَحِيحٍ وَنِيَّةِ وَكَمْ قَانِتٍ أَوَّابَ فِي غَسَقِ الدُّجَى مِنَ الْخَوْفِ مَحْشُو الْفُؤَادِ وَمُهْجَةِ يُنَاجِي بِآيَاتِ الْقُرْآنِ إِلَهَهُ بِصَوْتٍ حَزِينٍ مَعْ بُكَاءٍ وَخَشْيَةِ وَكَمْ ضَامِرِ الأَحْشَاءِ يَطْوِي نَهَارَهُ بِحَرِ هُجَيْرٍ مَا تَهَنَّا بشَرْبَةِ وَكَمْ مُقْبِلٍ فِي لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ عَلَى طَاعَةِ الْمَوْلَى بِجَدٍّ وَهِمَّةِ وَكَمْ زَاهِدٍ فِي هَذِهِ الدَّارِ مُعْرِضٍ وَمُقْتَصِرٍ مِنْهَا عَلَى حَدِ بُلْغَةِ تَزَيَّنَتِ الدُّنْيَا لَهُ وَتَزَخْرَفَتْ فَغَضَّ وَلَمْ يَغْتَرَّ مِنْهَا بِزِينَةِ وَكَمْ عَالِمٍ بِالشَّرْعِ للهِ عَامِلٌ بِمَوْجَبِهِ فِي حَالِ عُسْرٍ وَيُسْرَةِ وَكَمْ آمرٍ بِالرُّشْدِ نَاهٍ عَنْ الرَّدَى

.. سَرِيعٍ إِلى الْخَيْرَاتِ مِنْ غَيْرِ فَتْرَةِ فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَحْيَا سَعِيدًا مُوَفَّقًا وَتَحْظَى بِفَوْزٍ عِنْدَ نَشْرِ الصَّحِيفَةِ فَحَافِظْ عَلَى الْمَفْرُوضِ مِنْ كُلِّ طَاعَةٍ وَأَكْثِرْ مِنَ النَّفْلِ الْمُفِيدِ لِقُرْبَةِ بِكُنْتُ لَهُ سَمْعًا إِلى آخِرِ النَّبَا عَنِ اللهِ فِي نَصِّ الرَّسُولِ الْمُثَبَّتِ وَكُنْ فِي طَعَامٍ وَالْمَنَامِ وَخُلْطَةٍ وَنُطْقٍ عَلَى حَدِّ اقْتِصَارٍ وَقِلَّةِ وَجَالِسْ كِتَابِ اللهِ وَاحْلُلْ بِسَوْحِهِ وَدُمْ ذَاكِرًا فَالذِّكْرُ نُورُ السَّرِيرَةِ عَلَيْكَ بِهِ فِي كُلِّ حِينٍ وَحَالَةٍ وَباِلْفِكْرِ إِنَّ الْفِكْر كُحْلُ الْبَصِيرَةِ وَكُنْ أَبَداً فِي رَغْبَةٍ وَتَضَرُّعٍ إِلى اللهِ عَنْ صِدْقِ افْتِقَارٍ وَفَاقَةِ وَوَصْفِ اضْطِرَارٍ وَانْكِسَارٍ وَذِلَةٍ وَقَلْبٍ طَفُوحٍ بِالظُّنُونِ الْجَمِيلَةِ وَبَعْدُ فَإِنَّ الْحَقَّ أَفْضَل مَسْلَكٍ سَلَكْتَ وَتَقْوَى اللهِ خَيْرُ بِضَاعَةِ وَمَنْ ضَيَّعَ التَّقْوَى وَأَهْمَلَ أَمْرِهَا تَغَشَتْهُ فِي الْعُقْبَى فُنُونُ النَّدَامَةِ

وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا قُصَارَى مُرَادِهِ فَقَدْ بَاءَ بالْخُسْرَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي طَاعَةِ اللهِ شُغْلُهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ لا يَفُوزُ بِبُغْيَةِ وَمَنْ أَكْثَرُ الْعِصْيَانِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ فَذَاكَ طَرِيحٌ فِي فَيَافِي الْغِوَايَةِ بَعِيدٌ مِنَ الْخَيْرَاتِ حَلَّ بِهِ الْبَلا وَوَاجَهَهُ الْخُذْلانُ مِنْ كُلِّ وِجْهَةِ عَجِبْتُ لِمَنْ يُوصِي سِوَاهُ وَإِنَّهُ لأَجْدَرُ مِنْهُ بِاتِّبَاعِ الْوَصِيَّةِ يَقُولُ بِلا فِعْلٍ وَيَعْلَمُ عَامِلاً عَلَى ضِدِّ عِلْمٍ يَا لَهَا مِنْ خَسَارَةِ عُلُومٌ كَأَمْثَالِ الْجِبَالِ تَلاطَمَتْ وَأَعْمَالُهُ فِي جَنْبِهَا مِثْلُ قَطْرَةِ وَقَدْ أَنْفَقَ الأَيَّامَ فِي غَيْرِ طَائِلٍ كَمِثْل اللَّيَالِي إِذَا تَقَضَّتْ وَوَلَّتِ عَلَى السَّوْفِ وَالتَّسْوِيفِ شَرُّ مُصَاحِبٍ وَقَوْلِ عَسَى عَنْ فَتْرَةِ وَبَطَالَةِ تَنَكَّبَ عَجْزًا عَنْ طَرِيقِ عَزِيمَةٍ وَمَالَ لِتَأْوِيلٍ ضَعِيفٍ وَرُخْصَةِ

يَهِمُّ بِلا جَدٍّ وَلَيْسَ بِنَاهِضٍِ عَلَى قَدَمِ التَّشْمِيرِ مِنْ فَرْطِ غَفْلَةِ وَقَدْ سَارَ أَهْلُ الْعَزْمِ وَهُوَ مُخَلَّفُ وَقَدْ ظَفِرُوا بِالْقُرْبِ مِنْ خَيْر حَضْرَةِ وَقَدْ أَدْرَكُوا الْمَطْلُوبَ وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِقَيْدِ الأَمَانِي وَالْحُظُوظِ الْخَسِيسَةِ وَلَمْ يَنْتَهِزْ مِنْ فَائِتِ الْعُمْرِ فُرْصَةً وَلَمْ يَغْتَنِمْ حَالِي فَرَاغٍ وَصِحَّةِ وَلَمْ يَخْشَى أَنْ يَفْجَأهُ مَوْتٌ مُجَهِّزٌ فَإِنَّ مَجِيءَ الْمَوْتِ غَيْرُ مُؤَقَّتِ وَلَمْ يَتَأَهَّبْ لِلرُّجُوعِ لِرَبِّهِ وَلَمْ يَتَزَوَّدْ لِلطَّرِيقِ الْبَعِيدَةِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْمَوْتُ وَالْقَبْرُ وَالْبَلَى وَبَعَثٌ وَمِيزَانٌ وَأَخْذُ الصَّحِيفَةِ وَجَسْرٌ عَلَى مَتْنِ الْجَحِيمِ وَمَوْقِفٌ طَوِيلٌ وَأَحْوَالُ الْحِسَابِ الْمَهُولَةِ وَلَكِنَّهُ يَرْجُو الذِي عَمَّ جُودُهُ وَإِحْسَانُهُ وَالْفَضْلُ كُلَّ الْخَلِيقَةِ إِلَهٌ رَحِيمٌ مُحْسِنٌ مُتَجَاوِزٌ إِلَيْهِ رُجُوعِي فِي رَخَائِي وَشِدَّتِي

خيوب ظن أبي سفيان وخجله حيث ظهر - صلى الله عليه وسلم - سالما خلافا لأمله الفاسد

غِيَاثِي إِذَا ضَاقَتْ عَلَيَّ مَذَاهِبِي وَمِنْهُ أَرْجَى كَشْفُ ضُرِّي وَمِحْنَتِي فَيَا رَبُّ ثَبِتْنَا عَلَى الْحَقِّ وَالْهُدَى وَيَا رَبَّنَا اقْبِضْنَا عَلَى خََيْرِ مِلَّةِ وَعُمَّ أُصُولاً وَالْفُرُوعَ بِرَحْمَةٍ وَأَهْلاً وَأَصْحَابًا وَكُلَّ قَرَابَةِ وَسَائِرَ أَهْلِ الدِّينِ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ أَقَامَ لَكَ التَّوْحِيدَ مِنْ غَيْرِ رِيبَةِ وَصَلِّ وَسَلِّمْ دَائمِ الدَّهْرِ سَرْمَدَا عَلَى خَيْرِ مَبْعُوثٍ إِلى خَيْرِ أُمَّةِ اللَّهُمَّ يَا مَنْ عَمَّ الْعِبَادِ فَضْلُهُ وَنَعْمَاؤُهُ وَوَسِعَ الْبَرِيَّةَ جُودُهُ وَعَطَاؤُهُ نَسْأَلُكَ أَنْ تُوَفِّقَنَا لاِمْتِثَالِ أَمْرِكَ وَاجْتِنَابِ نَهْيِكَ وَأَنْ تُلْهِمَنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَأَنْ تَرْزُقْنَا حُبَّكَ وَحَبُّ مَنْ يُحِبُّكَ وَحُبَّ الْعَمَلِ الذِي يُقَرِّبُنَا إِلى حُبِّكَ وَاغْفِرْ لَنَا. اللَّهُمَّ وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْهَا عَلى قَوْلِكَ الثَّابِتْ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وفي الآخِرةِ، واجْعَلْنَا هُدَاة مُهْتَدينَ وَتَوفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. وَبَعْدَ ذَلِكَ مَشَى أَبُو سُفْيَانَ يَتَفَقَّدُ الْقَتْلَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَيَتَعَرَّفُ وُجُوهَهُمْ، فَلَمَّا وَجَدَ حَمْزَةَ صَرِيعًا بَيْنَهُمْ، جَعَلَ يَضْرِبُ فِي شِدْقِهِ بِكَعْبِ الرُّمْحِ، وَيَقُولُ: ذُقْ عَقَقٌ، فَرَآهُ الْحُلَيْسُ سَيِّدُ الأَحَابِيشِ، فَأنْكَرَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بابْنِ عَمِّهِ، وَهُوَ مَيِّتٌ، فَاسْتَحْيَا أَبُو سُفْيَانِ مِنْ هَذِهِ الزَّلَةِ، وَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَكْتُمَهَا عَلَيْهِ، وَلا يُذِيعُهَا فِي النَّاسِ، لأَنَّهَا سَخَافَةٌ وَسَمَاجَةٌ وَقَضَا

دفن الشهداء وجواب المسلمين لأبي سفيان حينما استعز واستنصر بالأصنام

عَاجِزٍ وَكَانَ هَمُّ أَبِي سُفْيَانَ أَنْ يَجِدَ رَسُولَ اللهِ ? فِي الْقَتْلَى، فَلَمَّا لَمْ يَجِدْهُ بَيْنَهُمْ، أَخَذَ الشَّكُ يُخَامِرُهُ فِي أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ، فَذَهَبَ إِلى نَاحِيَةِ الشَّعْبِ الذي اعْتَصَمَ بِهِ الرَّسُولُ ? وَأَصْحَابُهُ، وَجَعَلَ يُنَادِي: أَفِيكُمُ مُحَمَّدٌ، أَفِيكُمْ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ، أَفِيكُمْ ابنُ الْخَطَّابِ، فَنَهَى رَسُولُ اللهِ ? أَنْ يُجِيبُوهُ، فَلَمَّا لَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ مِن الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ لَهُمْ: أَمَّا هَؤُلاءِ فَقَدْ كَفَيْتُمُوهمْ، فَمَا مَلَكَ عُمَرُ نَفْسَهُ أَنْ قَالَ: كَذَبْتَ وَاللهِ يَا عَدُوَّ الله، قَدْ أَبْقَى اللهُ لَكَ مَا يَسُوءُكَ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ، وَكَأَنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَعْتَذِرَ مِمَّا فَعَلَتْ نِسَاءُ قُرَيْشٍ بِقَتْلَى الْمُسْلِمِينَ: إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ فِي الْقَوْمِ مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي، ثُمَّ جَعَلَ يَرْتَجِزْ قَائِلاً نِعْمَتْ فِعَالُ، إِنَّ الْحَرْبَ سِجَالٌ، أَعْلُ هَبْلْ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «قُولُوا له: اللهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ» . قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: لَنَا الْعُزَّى وَلاَ عُزَّى لَكُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «قُولُوا له؛ اللهُ مَوْلاَنَا وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ» . قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُولُوا لَهُ: «لا سَوَاءَ قَتْلانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلاكُمْ فِي النَّارِ» . ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ ? بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُدْفَنَ الْقَتْلَى حَيْثُ صُرِعُوا وَقَالَ لُفُّوهُمْ فِي ثِيَابِهِمْ، وَدِمَائِهِمْ، وَجِرَاحِهِمْ ... وَانْظُرُوا أَيَّهُمْ أَكْثَرَ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ، فَإِذَا أَشَارُوا إِلى رَجُلٍ قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ. وَكَانَ يَدْفُنُ الاثْنِيْنِ، وَالثَّلاثَةِ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ، لِمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ يَومَئِذٍ مِن الإِعْيَاءِ وَالضَّعْفِ، وَالْجِرَاحِ، فَيَعْجَزُوا أَنْ يَحْفُرُوا لِكُلِّ وَاحِدٍ قَبْرًا، وَدُفِنَ عَبْدُ اللهِ بن عَمْرِو بن حَرَامٍ، وَعَمْرُو ابنُ الْجَمُوح في قَبْرٍ وَاحِدٍ، لِمَا كَانَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْمَحَبَّةِ فَقَالَ: «ادْفُنُوا هَذَيْنِ الْمُتَحَابَيْنِ فِي الدُّنْيَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ حُفِرَ عَنْهُمَا بَعْدَ زَمَنٍ طَوِيلٍ وَيَدُ عَبْدُ اللهِ بن حرَامٍ عَلَى جِرَاحَتِهِ كَمَا

وَضَعَهَا حِينَ جُرِحَ، فَأَمِيطَتْ يَدُهُ عَنْ جِرَاحَتِهِ، فَانْبَعَثَتْ الدَّمْ فَرُدَّتْ إِلى مَكَانِهَا، فَسَكَنَ الدَّمُ وَمَا تَغَيَّرَ مِنْ حَالِهِ قَلِيلٌ وَلا كَثِيرٌ، قِيلَ لَهُ: أَفَرَأَيْت أَكْفَانَهُ فَقَالَ: إِنَّمَا دُفِنَ فِي نَمِرَةٍ خُمِّرَ بِهَا وَجْهَهُ وَعَلى رِجْلِيْهِ الْحَرْمَلِ فَوُجَدِتِ النَّمِرَةُ كَمَا هِيَ وَعَلَى رِجْلَيْهِ الْحَرْمَلُ عَلَى هَيْأَتِهِ وَبَيْنَ ذَلِكَ سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً. وَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ الله ? مِنْ دَفْنِ أَصْحَابِهِ رَكِبَ فَرَسَهُ وَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْمَدِينَةِ والْمُسْلِمُونَ مِنْ حَوْلِهِ، أَكْثَرُهُمْ جَرْحَى، يَتَحَامَلُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، مِمَّا بِهِمْ مِنْ شِدَّةِ الْجُهْدِ، وَيَتَلاوَمُونَ عَلَى الزَّلَةَ وَيَتَجَاوَزَ لَهُمْ عَنْهَا. وَلَمَّا وَصَلَ رَسُولُ اللهِ ? إِلى الْمَدِينَةِ، وَجَدَ النِّسَاءَ عِنْدَ بَابِهَا يَبْكِينَ قَتْلاهُنَّ، فَلَمَّا رَأَيْنَهُ مُقْبِلاً نَسِينَ مَا هُنَّ فِيهِ مِن الْحُزْنِ، وَأَسْرَعْنَ إِلَيْهِ، يَنْظُرْنَ إِلى سَلامَتِهِ، فَلَمَّا رَأَينَهُ فِي سَلامَةٍ، هَانَتْ عَلَيْهِنَّ الْمُصِيبَةُ. وَجَاءَتْ أُمُ سَعْدِ بن مُعَاذٍ تَعْدُو نَحْوَهُ، وَتَتَأَمَّلُهُ حَتَّى إِذَا اطْمَأَنَّتْ عَلَى سَلامَتِهِ، قَالَتْ: أَمَّا إِذَا رَأَيْتُكَ سَالِمًا فَقَدْ اشْوَتِ الْمُصِيبَةُ فَعَزَّاهَا رَسُولُ اللهِ ? بِابْنِهَا عَمْرِو بن مُعَاذٍ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: «يَا أُمَّ سَعْدٍ، أَبْشِري وَبَشِّرِي أَهْلِيهِمْ أَنَّ قَتْلاهُمْ تَرَافَقُوا فِي الْجَنَّةِ جَمِيعًا» . قَالَتْ: رَضِينَا بِرَسُولِ اللهِ، وَمَنْ يَبْكِي عَلَيْهِمْ بَعْدَ هَذَا. ثُمَّ قَالَتْ: ادْعُ يَا رَسُولَ اللهِ لِمَنْ خَلَّفُوا، قَالَ: «اللَّهُمَّ أَذْهِبْ حُزْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْبُرْ مُصِيبَتَهُمْ، وَأَحْسِنْ الْخَلَفَ عَلَى مَنْ خَلَّفُوا ثُمَّ عَزَمَ رَسُولُ اللهِ ? عَلَى أَصْحَابِهِ، مِن الْجَرْحَى أَنْ يَرْكَنُوا إِلى بُيُوتِهِمْ، وَلِيُدَاوُوا جِرَاحَهُمْ، فَتَخَلَّفَ عَنْهُمْ كُلُّ مَجْرُوحٍ، وَبَاتُوا يُوقِدُونَ النَّارَ، وَيُكَمِّدُونَ بِهَا الْجِرَاحَ.

وَمَضَى ?، حَتَّى جَاءَ بَيْتَهُ، فَمَا نَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ إِلا حَمْلاً، ثُمَّ مَشَى يَتَحَامَلُ عَلَى السَّعْدَيْنِ، سَعْدِ بن عُبَادَةَ، وَسَعْدِ بن مُعَاذٍ، حَتَّى دَخَلَ بَيْتَهُ، فَلَمَّا أَذَّنَ بِلالٌ لِصَلاةِ الْمَغْرِب خَرَجَ عَلَى مِثْلِ تِلْكَ الْحَالِ، يَتَوَكَّأُ عَلَى السَّعْدَيْنِ، فَصَلَّى ثُمَّ عَادَ إِلى بَيْتِهِ، وَبَاتَ وُجُوهُ الأَوْسِ، وَالْخَزْرَجِ عَلَى بَابِهِ فِي الْمَسْجِدِ، يَحْرِسُونَهُ، مَخَافَةَ أَنْ تَكِرَّ قُرَيْشٌ، وَهُمْ غَافِلُونَ. وَقَالَ كَعْب بن مَالِكٍ يَبْكِي حَمْزَة بن عَبْدِ الْمُطَّلِب: طَرَقَتْ هُمُومُكَ فَالرُّقَادُ مُسَهَّدُ ... وَجَزِعْتَ أَنْ سُلِخَ الشَّبَابُ الأَغْيَدُ وَدَعَتْ فُؤَادَكَ لِلْهَوَى ضَمَرِيَّةٌ ... فَهَوَاكَ غُورِيٌّ وَصَحْبُكَ مُنْجِدُ فَدَعِ التَّمَادِيَ في الْغَوايَةِ سَادِرًا ... قَدْ كُنْتَ في طَلَبِ الْغَوَايَةِ تُفْنَدُ وَلَقَدْ أَتَى لَكَ أنْ تَنَاهِيَ طَائِعًا ... أَوْ تَسْتَفِيقُ إِذَا نَهَاكَ الْمُرْشِدُ وَلَقَدْ هُدِدْتُ لِفَقْدِ حَمْزَةَ هُدَّةً ... ظَلَّتْ بَنَاتْ الْجَوْفِ مِنْهَا تَرْعُدُ وَلَوَ أنَّهُ فَجِعَتْ حِراءُ بِمِثْلِهِ ... لَرَأَيْتَ رَأْسَيْ صَخْرِهَا يَتَبَدَّدُ قَرْمٌ تَمَكَّنَ فِي ذُئَوَابَةِ هَاشِمٍ ... حَيْثُ النُّبُوَّةُ وَالنَّدَى وَالسُّؤْدُدُ وَالْعَاقِرُ الْكُومَ الْجِلادَ إِذَا غَدَتْ ... رِيحٌ يَكَادُ الْمَاءُ مِنْهَا يَجْمُدُ وَالتَّارِكُ الْقِرْنَ الْكَمِيَّ مُجَدَّلاً ... يَوْمَ الْكَرِيهَةِ والْقَنَا يَتَفَصَّدُ وتَراهُ يَرْفُلُ في الحديدِ كَأَنَّهُ ... ذُو لِبْدَةٍ شَثْنُ البراثِنِ أَرْبَدُ عَمُّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ وَصَفِيُّهُ ... وَرَدَ الْحِمَامَ فَطَابَ ذَاكَ الْمَوْرِدُ وَأَتَى الْمَنِيَّةَ مُعَلِمًا فِي أُسْرَةٍ ... نَصَرُوا النَّبِيَّ ومِنْهُمُ الْمُسْتَشْهِدُ ولَقَدْ أخالُ بِذَاكَ هِنْدًا بُشِّرَتْ ... لتُميتَ داخِلَ غُصَّةٍ لا تَبْرُدُ مِمّا صَبَحْنَا بالعَقَنْقَلِ قَوْمَهَا ... يَوْمًا تَغيَّبَ فيهِ عَنْها الأَسْعَدُ وبِبِئرِ بَدْرٍ إذْ يَرُدُّ وُجُوهَهُمْ ... جِبْريلُ تَحْتَ لوائِنا وَمُحَمَّدُ حَتَّى رَأَيْتُ لَدَى النَّبيِّ سَرَاتَهُمْ ... قِسْمَيْنِ نَقتُلُ مَنْ نَشَاء وَنَطْرُدُ

فأقامَ بالعَطَنِ المُعَطَّنِ مِنْهُمُ ... سَبْعُونَ عُتْبةُ مِنْهُمُ وَالأَسْوَدُ وابنُ المغيرَةِ قَدْ ضَرَبْنا ضَرْبَةً ... فوقَ الوريدِ لها رَشاشٌ مُزْبِدُ وَأُمَيَّةُ الْجُمَحيُّ قَوَّمَ مَيْلَهُ ... عَضْبٌ بأيدي المؤمنينَ مُهَنَّدُ فَأَتَاكَ فل الْمُشْرِكِينَ كَأَنَّهُمْ ... وَالْخَيْلُ تَثْفُنُهمْ نَعامٌ شُرَّدُ شتَّانَ مَنْ هُوَ في جَهَنَّمَ ثَاوِيًا ... أَبَدًا وَمَنْ هُوَ في الجِنانِ مخلَّدُ شتَّانَ مَنْ هُوَ في جَهَنَّمَ ثَاوِيًا ... أَبَدًا وَمَنْ هُوَ في الجِنانِ مخلَّدُ وَقَالَ كَعْب بن مَالِكٍ يُجِيبُ هَبِيرَة بن أبي وهب: ولكنْ بِبَدْرٍ سَائِلوا مَنْ لَقِيتُمُ ... مِنَ النّاسِ والأنبَاءُ بالغَيْبِ تَنْفَعُ وَإِنَّا بِأَرْضِ الخَوفِ لَو كَانَ أهْلُهَا ... سِوَانَا لَقَدْ أَجْلُوا بِلَيْلٍ فأقشَعُوا إذا جَاءَ منّا رَاكبٌ كانَ قولُهُ ... أَعِدّوا لِما يُزْجي ابنُ حرْبٍ ويجمَعُوا فَمَهْمَا يُهِمُّ النّاسَ مِمّا يُكِيدُنَا ... فَنَحْنُ لَهُ من سَائِرِ النّاس أَوْسَعُ فَلَوْ غَيْرُنَا كَانَتْ جَمِيعًا تَكِيدُهُ الـ ... ـبَرِيّةُ قَدْ أَعْطَوْا يَدًا وَتَوَرَّعُوا نُجَالِدُ لا تبغى عَلَيْنَا قَبِيلَةٌ ... مِنَ النّاسِ إلاّ أَنْ يَهانُوا وَيَفْظَعُوا وَلَمّا ابتَنَوا بالْعِرْضِ قَالَت سَيُوفَنَا ... عَلاَمَ إِذَا لَمْ نَمْنَعِ العِرْضَ نزرَعُ وَفِينَا رسولُ اللهِ نَتْبَعُ أمْرَهُ ... إِذَا قَالَ فِينَا الْقَوْلَ لا نَتَظَلَّعُ تَدَلَّى عَلَيْهِ الرَّوحُ مِنْ عند ربّهِ ... يُنزَّلُ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ ويُرفَعُ نَشَاوره فِيمَا نُرِيد وَقصرنا ... إِذَا مَا اشْتَهَى أَنَا نُطِيع وَنَسْمَعُ وَقَالَ رَسُولُ اللهِ لَمّا بدوا لَنَا ... ذَرُوا عَنْكُمْ هَوْلَ المنيَّاتِ وَاطْمَعُوا وَكُونُوا كَمَنْ يَشْرِي الحياةَ تَقرّبًا ... إلى ملِكٍ يُحيِي لَدَيْهِ ويُرجَعُ ولكنْ خُذوا مِيثَاقَكُمْ وَتَوَكَّلُوا ... عَلَى اللهِ إنَّ الأمْرَ للهِ أجمعُ فَسِرْنَا إليهِمْ جَهْرَةً فِي رِحَالِهِمْ ... ضُحيًّا عَلَيْنَا الْبيضُ لا نتخشَّعُ

.. بِمَلْمُومَةٍ فِيهَا السَّنَوَّرُ والقَنَا ... إِذَا ضَرَبُوا أَقْدَامَها لا تورّعُ فجئنَا إلى مَوجٍ من الْبَحْرِ وَسْطَهُ ... أَحَابِيشُ مِنْهُمْ حَاسِرٌ وَمقنّعُ ثَلاثةُ آلافٍ وَنَحْنُ عِصَابَة ... ثَلاَثُ مِئينٍ إنْ كَثُرْنَا فَأَرْبعُ نُغَوِرُهُم تجري الْمنيّةُ بَيْنَنَا ... نُشارِعُهُمْ حوضَ الْمَنَايا ونَشْرَعُ تَهَادَى قِسِيُّ النبعِ فينا وفيهِمُ ... وَمَا هو إلاَّ اليَثْرِبيُّ المُقَطَّعُ ومَنْجُوفةٌ حِرْمِيَّةٌ صَاعِديَّةٌ ... يُذَرُّ عليها السّمُّ سَاعةَ تَصْنَعُ تَصُوبُ بأَبْدَانِ الرّجَالِ وَتَارَةً ... تمرُّ بأَعراضِ البَصَارِ تَقَعْقَعُ وقال حسان بن ثابت: عَرَفتَ دِيارَ زَينَبَ بِالكَثيبِ ... كَخَطِّ الوَحَى في الورَق القَشيبِ تَداوَلها الرِياحُ وَكُلُّ جَونٍ ... مِنَ الوَسمِيِّ مُنهَمِرٍ سَكوبِ فَأَمسى رَسمُها خَلَقًا وَأَمسَت ... يَبابًا بَعدَ ساكِنِها الحَبيبِ فَدَع عَنكَ التَذَكُّرَ كُلَّ يَومٍ ... وَرُدَّ حَرارَةَ الصَدرِ الكَئيبِ وَخَبِّر بِالَّذي لا عَيبَ فيهِ ... بِصِدقٍ غَيرِ إِخبارِ الكَذوبِ بِما صَنَعَ المَليكُ غَداةَ بَدرٍ ... لَنا في المُشرِكينَ مِنَ النَصيبِ غَداةَ كَأَنَّ جَمعَهُمُ حِراءٌ ... بَدَت أَركانُهُ جُنحَ الغُروبِ فَلاقَيناهُمُ مِنّا بِجَمعٍ ... كَأُسدِ الغابِ مُردان وَشيبِ أَمامَ مُحَمَّدٍ قَد وازَرورهُ ... عَلى الأَعداءِ في لفح الحُروبِ بِأَيديهِم صَوارِمُ مُرهَفاتٌ ... وَكُلُّ مُجَرَّبٍ خاطي الكُعوبِ بَنو الأَوسِ الغَطارِفِ آزَرَتها ... بَنوا النَجّارِ في الدينِ الصَليبِ فَغادَرنا أَبا جَهلٍ صَريعًا ... وَعُتبَةَ قَد تَرَكنا بِالجَبوبِ وَشَيبَةَ قَد تَرَكنا في رِجالٍ ... إِذا نَسَبُوا ذَوي حَسَبٍ حَسيبِ

.. يُناديهِم رَسولُ اللَهِ لَمّا ... قَذَفناهُم كَباكِبَ في القَليبِ وقال كعب بن مالك أيضًا في يوم أحد: سَائِلْ قريشًا غداةَ السَّفْحِ مِنْ أُحُدِ ... ماذا لَقِينا وما لاقوا من الهَرَبِ كنّا الأُسُودَ وكانوا النُّمورَ إذ زَحَفُوا ... ما أنْ نراقِبْ مِنْ إلّ ولا نَسَبِ فَكَمْ تَرَكْنا بِها مِنْ سَيِّدٍ بَطَلٍ ... حامي الذِمارِ كريمِ الجَدّ والحَسبِ فِينا الرسُولُ شِهابٌ ثُمَّ نَتْبَعُهُ ... نُورٌ مُضيءٌ لَهُ فَضْلٌ على الشُّهُبِ الحَقُّ مَنْطِقُهُ والعَدْل سِيرَتُهُ ... فَمَنْ يُجبْهُ إليهِ يَنْجُ مِنْ تَبَبِ نَجْدُ المقدَّمِ ماضي الهمِّ مُعْتَزِمٌ ... حينَ القلوبُ على رجب منَ الرُّعُبِ نَمْضي ويذْمرُنَا مِنْ غيرِ مَعْصِيةٍ ... كأَنَّه البَدْرُ لم يُطْبَعْ على الكَذِبِ بَدَا لنا فاتَّبَعْناهُ نُصَدِّقُهُ ... وَكَذَّبوه فكُنَّا أسْعَدَ العَربِ جالُوا وجُلْنا فَمَا فَاءوا وَلا رَجَعوا ... ونَحْنُ نَثْفُنُهُمْ لَمْ نَأْلُ في الطلبِ ليسَا سواءً وشتَّى بين أمِرهمَا ... حِزْبُ الإلهِ وأهْلُ الشِّركِ والنُّصبِ ولكعب بن مالك: بَكَتْ عَيْني وحُقَّ لَهَا بُكَاهَا ... وَمَا يُغنِي البُكَاءُ ولا العَوِيلُ عَلَى أَسَدِ الإله غَدَاةَ قالوا ... أحمزةُ ذَاكُمُ الرّجُلُ القَتِيلُ أُصِيبَ المُسْلِمُونَ بِهِ جميعًا ... هُنَاكَ وَقَدْ أُصِيبَ بهِ الرّسُولُ أبَا يَعْلَى لكَ الأَرْكَانُ هُدَّتْ ... وأَنْتَ المَاجِدُ البَرُّ الوَصُولُ عليكَ سَلاَمُ رَبِّكَ في الجِنَانٍ ... مُخالِطُهَا نعيمٌ لا يَزولُ ألا يَا هَاشِمَ الأخْيَارِ صَبْرًا ... فكُلُّ فِعالِكُمْ حَسَنٌ جميلُ رَسُولُ اللهِ مصطبرٌ كَرِيمٌ ... بأمْرِ اللهِ ينطقُ إذْ يَقُولُ ألاَ مَنْ مُبَلغٌ عنّي لؤيًّا ... فَبَعْدَ اليومِ دَائِلَةٌ تَدُولُ وقبلَ اليومِ ما عَرَفُوا وَذَاقُوا ... وَقَائِعُنَان بِهَا يُشفَى الغَلِيلُ

قصيدة فيها حكم وحث على الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

.. نَسِيتُم ضَرْبَنَا بِقَلِيبِ بَدْرٍ ... غَدَاةَ أَتَاكُمُ الموتُ العَجيلُ غَدَاةَ ثَوَى أبو جهلٍ صَرِيعًا ... عليهِ الطيرُ حَائِمةٌ تَجُولُ وَعُتْبَةُ وابنُهُ خَرَّا جَمِيعًا ... وَشَيْبَةُ عَضَّهُ السَّيْفُ الصَّقِيلُ وقالت صفية بنت عبد المطلب تبكي أخاها حمزة بن عبد المطلب: أسائلة أصحاب أحد مخافة ... بنات أبي من أعجم وخبير فقال الخبير أن حمزة قد ثوى ... وزير رسول الله خير وزير دعاه إله الحق ذو العرش دعوة ... إلى جنة يحيى بها سرور فذلك ما كنا نرجى ونرتجى ... لحمزة يوم الحشر خير مصير فوالله لا أنساك ما هبت الصبا ... بكاء وحزنًا محضري ومسيري على أسد الله الذي كان مدرها ... يذود عن الإسلام كل كفور فيا ليت شلوى عند ذاك وأعظمى ... لدى أصبغ تعتادني ونسور أقول وقد أعلى النعى عشيرتي ... جزى الله خير من أخ ونصير شِعْرًا: فَلا يَغُرَنَّكُمْ لَمَّا جَرَى قَدَرٌ فَرُبَّمَا فِيهِ تَأْدِيبٌ وَتِبْيَانُ لِيَنْتَبِهْ غَافِلاً أَوْ قَائِلاً زَلَلاً وَمُعْجَبٌ غَرَّهُ بِالْعُجْبِ شَيْطَانُ كَمَا جَرَى فِي حُنَيْن إِذَا قَالَ قَائِلُهُمْ الْيَوْمَ مِنْ كَثْرَةٍ يَأْتِي لَنَا شَانُ فَأَدْبَرُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَانْهَزَمُوا لَمْ يَلُووا مِنْ أَحَدِ وَالْكُلُّ فُرْسَانُ

.. لَمْ يَبْقَ إِلا نَبِيُّ اللهِ يَطْعُنُهُمْ أَنَا ابنُ مُطَّلِبٍ وَالْجَدُّ عَدْنَان حَتَّى إِذَا قَالَ يَا أَصْحَابَ سَمْرِتَنَا هَلُمَّ إِنَّ عَلَى الرِّضْوَانِ رِضْوَانُ جَاؤُوا يُلَبُّونَ وَالأَسْيَافُ مُصْلَتةٌ كَأَنََّهُنَّ بأَيْدِي الْقَوْمِ نِيرَان تِلْكَ الأُمُورُ مِنَ الْبَارِي يُدَاوِلُهَا فَكُل يَوْمٍ لَهُ فِي خَلْقِهِ شَانُ لَمْ يَأْتِ مِن خَلَلٍ إِلا لَهُ سَبَبٌ فَانْظُرْ فَمِنْ أَي بَاب جَاء نَقْصَانُ اجْعَلْ مُرَادَكَ دِينَ اللهِ تَنْصُرُهُ فالْمُلْكُ بالدِّينِ لا بالْجُنْدِ يُنْصَانُ وَكُنْ معَ اللهِ لا تَخْشَى الْمَلا أَبَدًا يَكُنْ لَكَ اللهُ والأَمْلاكُ أَعْوَانُ والناسُ إلا قَلِيلٌ قَالَ أَكْثَرُهُمْ إِذَا رَأَوْا نَاصِحًا قَالُوا بِهِ جَانُ عَنْ نُصْرَةِ الدِّينِ أَمْوَاتٌ بِهِمْ وَهُنٌ وَنُصْرَةُ الْمَالِ فُرْسَانٌ وَشُجْعَانُ صَلِّحْ لِدُنْيَاكَ مَا يَخْصُصْكَ مِنْ أَحَدٍ لِلنَّاسِ وَادٍ وَقَدْ آوَتْكَ وُدْيَانُ تُنَفِّرُ النَّاسَ وَالإِخْوَانُ قَدْ سَكَتُوا

موعظة بليغة في الزجر عن المعاصي والملاهي والحث على صيانة الوقت

.. أَعْرِضْ وَكُنْ مِثْلَهم وَدِنْ بِمَا دَانُوا كُنْ لِلْمُلُوكِ عَلَى الأَهْوَاءِ تَعِشْ مَعَهُمْ فَاللهُ فِي جَنْبِهِ عَفْوٌ وَغُفْرَانُ يَا قَاتَلَ اللهُ مَنْ هَذِي مَقَالَتُهُ هَذَا ابن إِبْلِيسَ غَشَّاشٌ وَفَتَّانُ يَا حَسْرَةَ الدِّينِ مِنْ هَذَا وَشِيعَتِهِ إِنْ سُوعِدُوا لَمْ يَقُمْ لِلدِّينِ بُنْيَانُ (وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ كَمْ ثَبَّطُوا أُمَمًا عَنْ نَصْرِ دِينٍ وَلِلشَّيْطَانِ أَعْوَانُ) (فِي كُلِّ وَقْتٍ فَكُنْ مِنْهُمْ عَلَى حَذِرٍ لا يَخْدَعُوكَ فَهُمْ فِي الْمَكْرِ فُرْسَانُ) (وَاصْحَبْ أَخًا الزُّهْدِ لا تَبْغِي بِهِ بَدَلاً النَّاصِرَ الدِّينِ لِلتَّوْحِيدِ مِعْوَانُ) اللَّهُمَّ انْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا، وَعَلِّمْنَا مَا يَنْفَعُنَا، وَوَفِّقْنَا لِلْعَمَلَ بِمَا فَهَّمْتَنَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنَّا مُقَصِّرِينَ فِي حِفْظِ حَقِّكَ وَالوَفَاءِ بِعَهْدِكَ فَأَنْتَ تَعْلَمُ صِدْقَنَا فِي رَجَاءِ رِفْدِكَ وَخَالِصَ وِدِّكَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ أَعْلَمُ بِنَا مِنَّا، فَبِكَمَالِ جُودِكَ تَجَاوَزْ عَنَّا، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْياءِ منْهُم والمَيَّتِيْنَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) عِبَادَ اللهِ نَحْنُ فِي زَمَانٍ كَمَا تَرَوْنَ قَدْ كَثُرَ فِيهِ الشَّرُ وَوَسَائِلُهُ وَانْتَشَرَ فِي الأَرْضِ انْتِشَارًا لا يَخْطُرُ عَلَى الأَفْكَارِ فَإِذَا رُمْتُمْ حَاجَةً مِن السُّوقِ فَاقْضُوهَا بِسُرْعَةٍٍ مُنْكِرِينَ فِي قُلُوبِكُمْ وَفِي أَلْسِنَتِكُمْ حَسَبَ قُدْرَاتِكُمْ عَلَى مَنْ رَأَيْتُمُوهُ يَعْمَلُ الْمُنْكَرَاتِ وَاتْرُكُوا الاجْتِمَاعَ مَعَ مَنْ لا تَسْلَمُونَ

مِنْ الإِثْمِ إِذَا اتَّصَلْتُمْ بِهِ لاسِيَّمَا وَقَدْ كَثُرَ مَنْ لا تُؤْمَنُ شُرُورُهُ وَأَضْرَارُهُ وَمَفَاسِدُهُ وَاحْرَصُوا عَلَى غَضِّ أَبْصَارِكُمْ فَإِنَّكُمْ إِنْ أَطْلَقْتُمْ لَهَا الْعِنَانِ رَأَيْتُمْ مِنَ الْبَلايَا مَالا يُحْصِيهِ الْعَدُّ وَلا يَأْتِي عَلَيْهِ الْبَيَانُ تَرَوْنَ النِّسَاءَ فِي حَالَةٍ تُؤْلِمُ قَلْبَ كُلِّ مُؤْمِنٍ ذِي مُرُوءَةِ وَشِيمَةٍ وَغَيْرَةٍ دِينِيَّةٍ وَتَرَوْنَ الْغِشَّ السَّائِدَ فِي كُلِّ الْمُعَامَلاتِ بِدَرَجَةٍ قَلَّ أَنْ يَنْجُو مِنْهَا أَذْكَى النَّاسِ وَأَيْقَظُهُمْ وَأَقْوَاهُمْ فِرَاسَةً وَتَرَى الدُّخَانَ عَنْ يَمِينِكَ وَيَسَارِكَ تُؤْذِيكَ رَائِحَتُهُ الْكَرِيهَة وَتَرَى حَلاقِي اللَّحَى وَمُصَلِّحِي التَّوَالَيْتَاتِ وَالْخَنَافِسِ وَتَرَى النِّسَاءَ تَرْكَبُ مَعَ أَيِّ وَاحِدٍ بُدُون مَحْرَمٍ وَتَدْخُلُ عَلَى الْخَيَّاطِ يَقِيسُ عَلَيْهَا وَتَرْوَنَ الْكَثِيرَ مِنَ النَّاسِ لا يُعَرِّجُونَ عَلَى الْمَسَاجِدِ أَوْقَاتِ الصَّلاةِ وَتَرَوْنَ الْمُجَاهِرِينَ بِالْمَعَاصِي يَدُورُونَ فِي الأَسْوَاقِ لَيْسَ لَهُمْ شُغْلٌ إِلا مَا يُحْزِنُ قَلْبَ كُلِّ غَيورٍ لِدِينِهِ وَتَرَاهُمْ نَبَذُوا كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَأَقْبَلُوا عَلَى الْمَلاهِي وَالْمُنْكَرَاتِ إِقْبَالاً فَوْقَ مَا يَتَصَوَّرُهُ الْعَاقِلُ اللَّبِيبُ وَتَرَاهُمْ إِذَا قَضَوْا مَآرَبَهُمْ مِنْ كُتُبِ تَحْتَوِي عَلَى الدِّينِ وَغَيْرِهِ فِيهَا آيَاتٌ وَأَحَادِيثٌ أَلْقَوْهَا فِي الأَسْوَاقِ وَالْمَزَابِل مَعَ الْقُمَامِ وَكَذَلِكَ بَاقِي النِّعَمِ تَجِدْهَا مُلْقَاةً مَعَ الْقَاذُورَاتِ وَتَرَاهُمْ دَائِمًا فِي مُطَالِعَةِ الْجَرَائِدِ وَالْمَجَلاتِ وَلَوْ نَاوَلْتَ أَحْدَهُمْ مُصْحَفًا أَوْ الْبُخَارِي أَوْ مُسْلِمًا يَقْرَأُ شَيْئًا مِنْهُ لَسَارَعَ إِلى الضَّحِكِ أَوِ النَّوْمِ وَاسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ كَأَنَّكَ نَاوَلْتَهُ مَا يُذْهِبُ الْعُقُولَ وَيُرْقِدُ الأَبْدَانَ وَتَرَاهُ يَسْهَرَ كُلَّ لَيْلِهِ فِي صُنُوفِ الْمَعَاصِي وَعِنْدَ الْمَلاهِي لَكِنْ يَثْقُلُ عَلَيْهِ جَدًا أَنْ يَسْهَرَ سَاعَةً فِي طَاعَةً مَوْلاهُ وَتَرَاهُمْ أَمَامَ التَّلَفْزِيُونِ مُقَابِلِينَ لَهُ وَمُقْبِلِينَ بِقُلُوبِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأَسْمَاعِهِمْ وَلَوْ نُودِيَ أَحَدُهُمْ لَشَتَمَ الْمُنَادِي وَسَبَّهُ بَلْ رُبَّمَا لَعَنَهُ وَقَذَفَهُ خَوْفًا مِنْ فَوَاتَ مَا يَظْهَرُ فِيهِ مِنْ مُنْكَرَاتٍ مِنْ نِسَاءٍ سَافِرَاتٍ وَتَمْثِيلِيَّاتٍ خَلِيعَةٍ وَأَغَانِي مُهَيَّجةٍ لِلْفَسَادِ وَنَحْو ذَلِكَ تَمُرُّ السَّاعَاتُ لا يَمُلُّونَ بَلْ هُمْ مُرْتَاحُونَ لَهُ وَأَمَّا أَمَامَ رَبِّ الْعَالَمِينَ الذِي خَلَقَهُمْ وَرَزَقَهُمْ فَعَشَرُ الدَّقَائِقِ الَّتِي يَقِفُونَهَا فِي الصَّلاةِ أَثْقَلُ مِنْ رَضْوَى وَأُحُدٍ وَيَتَسَابَقُونَ إِلى الذِي يَمُرُّهَا مَرَّ السَّحَابِ وَإِذَا تَأَخَّرَ الإِمَامُ وَلَوْ دَقِيقَةً رَأَيْتَهُمْ يَتَلَفَتُونَ وَيَبْحَثُونَ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا أَكْثَرُوا مِن الاسْتِغْفَارِ وَالْحَوْقَلَةِ وَالتَّهْلِيلِ لِيُفْهِمُوهُ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُعَجِّلَ فَيُصَلِّى كَأَنَ عَلَى رُؤُوسِهِمْ حِمْلاً أَوْ عَلَى أَظْهُرِهِمْ حَتَّى الذِي يَتَأَخَّرُ بَعْدَ الصَّلاةِ وَيَقْعُدُ يَتَكَلَّمَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا الْمَنْهِيّ عَنْهُ فِي الْمَسْجِدِ وَهَذِهِ حَالَةٌ وَاللهِ يُرْثَى لَهَا قَالَ ابن القيم: يَا نَاصِرَ الإِسلاَمِ وَالسُّنَنِ الَّتِي جَاءَتْ عَنِ الْمَبعُوثِ بالْفُرقَانِ

ذكر بعض الحكم التي وقعت في أحد ونظم لابن القيم رحمه الله

.. يَا مَنْ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ وَقَولُهُ وَلِقَاؤُهُ وَرَسُولُهُ بِبَيَانِ اشْرَحْ لِدِينِكَ صَدْرَ كُلِّ مُوَحِّدٍ شَرْحًا يَنَالُ بِهِ ذُرَى الإِيمَانِ وَاجْعَلهُ مُؤْتَمًّا بِوَحْيِكَ لاَ بِمَا قَدْ قَالَهُ ذُو الإِفْكِ وَالْبُهتَانِ وَانْصُرْ بِهِ حِزبَ الْهُدَى وَاكْبِتْ بِهِ حِزْبَ الضَّلاَلِ وَشَيعَةَ الشَّيطَانِ وَانْعِشْ بِهِ مَنْ قَصْدُهُ إحْيَاؤُهُ وَاعْصِمْهُ مَنْ كَيْدِ امْرِىءٍ فَتَّانِ اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ وَتَحَوُّل عَافِيتَكِ وَفَجَاءَةِ نِقْمَتِكَ وَجَمِيعِ سَخَطِكَ وَنَسْأَلُكَ أَنْ تَغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) فِي ذِكْرِ بَعْضِ الْحِكَمِ الَّتِي كَانَتْ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ قَالَ ابنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ وَقَدْ أَشَارَ اللهُ سُبْحَانَهُ إِلى أُمَّهَاتِهَا وَأُصُولِهَا فِي سُورَةِ آل عِمْرَانَ حَيْثُ افْتَتَحَ الْقِصَّةَ بِقَوْلِهِ: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} إِلى تَمَامِ سَتِّينَ آيَةٍ، قَالَ فَمِنْهَا: تَعْرِيفُهُمْ بِسُوءِ عَاقِبَةِ الْمَعْصِيةَ، وَالْفَشَلِ وَالتَّنَازُعِ، وَأَنَّ الذِي أَصَابَهُمْ إِنَّمَا هُوَ بِشُؤْمِ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالى (3: 152) : {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ} .

فَلَمَّا ذَاقُوا عَاقِبَةَ مَعْصِيَتِهِمْ لِلرَّسُولِ وَتَنَازُعِهِمْ وَفَشَلِهِمْ كَانُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَشَّدَ حَذَرًا وَيَقْظَةً وَتَحَرُّزًا مِنْ أَسْبَابِ الْخُذْلانِ. وَمِنْهَا: أَنَّ حِكْمَةَ اللهِ. وَسُنَّتَهُ فِي رُسُلِهِ، وَأَتْبَاعِهِمْ: جَرَتْ بَأَنْ يُدَالُوا مَرَّةً، وَيُدَالَ عَلَيْهِمْ أُخْرَى، لَكِنْ تَكُونُ لَهُمْ الْعَاقِبَةُ، فَإِنَّهُمْ لَوْ انْتَصَرُوا دَائِمًا دَخَلَ مَعَهُمْ الْمُسْلِمُونَ، وَغَيْرُهُمْ، وَلَمْ يَتَمَيَّزِ الصَّادِقُ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَوْ انْتَصَرُوا عَلَيَهِمْ دَائِمًا، لَمْ يَحْصُلِ الْمَقْصُودُ مِن الْبِعْثَةَ وَالرِّسَالَةِ، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللهِ أَنْ جَمَعَ لَهُمْ بَيْنَ الأَمْرَيْنِ، لِيَتَمَيَّزَ مِنْ يَتْبَعُهُمْ وَيُطِيعُهمْ لِلْحَقِّ وَمَا جَاءُوا بِهِ، مِمَّنْ يَتْبَعُهُمْ عَلَى الظُّهُورِ وَالْغَلَبَةِ خَاصَةٍٍ. وَمِنْهَا: أَنَّ هَذَا مِنْ أَعْلامِ الرُّسُلِ كَمَا قَالَ هِرَقْلُ لأَبِي سُفْيَانَ: (هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ) ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: كَيْفَ الْحَرْب بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ؟ قَالَ: سِجَالٌ نُدَالُ عَلَيْهِ الْمَرَّةَ، وَيُدَالُ عَلَيْنَا الأَخْرَى، قَالَ: كَذِلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ. رَوَاهُ الْبُخَارِي. وَمِنْهَا: أَنَّ يَتَمَيَّزَ الْمُؤْمِنُ الصَّادِقُ مِن الْمُنَافِقِ الْكَاذِبِ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا أَظْهَرَهُمُ اللهُ عَلَى أَعْدَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ وَطَارَ لَهُمُ الصِّيتُ دَخَلَ مَعَهُمْ فِي الإِسْلامِ ظَاهِرًا مَنْ لَيْسَ مَعَهُمْ فِيهِ بَاطِنًا، فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ سَبَّبَ لِعِبَادِهِ، مِحْنَةً مَيَّزَتْ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ فَأَطْلَعَ الْمُنَافِقُونَ رُؤُوسَهُمْ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ، وَتَكَلَّمُوا بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَهُ، وَظَهَرَتْ مُخَبَاتُهُمْ، وَعَادَ تَلْوِيحُهُمْ تَصْرِيحًا وَانْقَسَمَ النَّاسُ إِلى كَافِرٍ، وَمُؤْمِنٍ، وَمُنَافِقٍ، اِنْقِسَامًا ظَاهِرًا لا يُفَارِقُهُمْ، فَاسْتَعَدُّوا لَهُمْ، وَتَحَرَّزُوا مِنْهُمْ.

قَالَ اللهُ تَعَالى (3: 179) : {مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ} أَيْ مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْتِبَاسِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُنَافِقِينَ، حَتَّى يُمَيِّزَ أَهْلَ الإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ كَمَا مَيَّزَهُمْ بِالْمِحْنَةِ يَوْمَ أُحُدٍ {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} الذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ فَإِنَّهُمْ مُتَمَيِّزُونَ فِي عِلْمِهِ وَغَيْبِهِ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُرِيدُ أَنْ يُمَيِّزَهُمْ تَمْيِيزًا مَشْهُودًا، فَيَقَعُ مَعْلُومُهُ الذِي هُوَ غَيْبٌ شِهَادَةٌ، وَقَوْلُهُ: {وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ} اسْتِدْرَاكْ لِمَا نَفَاهُ، مِنْ إطْلاعِ خَلْقِهِ عَلَى الْغَيْبِ كَمَا قَالَ: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} فَحَظَّكُم أَنْتُمْ وَسَعَادَتُكم فِي الإِيمان بِالْغَيْبِ الذِي يُطْلِعُ عَلَيْهِ رُسُلَهُ، فَإِنْ آمِنْتُمْ بِهِ وَاتَّقَيْتُم كَانَ لَكُمْ أَعْظَمُ الأَجْرِ وَالْكَرَامَةِ. وَمِنْهَا: اسْتِخْرجُ عُبُودِيَّةِ أَوْلِيَائِهِ وَحِزْبِهِ فِي السَّرَاءِ وَالضَّرَاءِ وَفِيمَا يُحِبُّونَ وَمَا يَكْرَهُونَ، وَفِي حَالِ ظَفَرِهِمْ، وَفِي حَالِ ظَفَرِ أَعْدَائِهِمْ بِهِمْ، فَإِذَا ثَبَتُوا عَلَى الطَّاعَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ فِيمَا يُحِبُّونَ وَمَا يَكْرَهُونَ، فَهُمْ عَبِيدُهُ حَقًّا وَلَيْسُوا كَمَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ مِن السَّرَاءِ وَالنِّعْمَةِ وَالْعَافِيَةِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَوْ نَصَرَهُمْ دَائِمًا، وَأَظْفَرَهُمْ بِعَدُوِّهِمْ، فِي كُلِّ مَوْطِن، وَجَعَلَ لَهُمْ التَّمَكُنَ، وَالْقَهْرَ لأَعْدَائِهِمْ أَبَدًا لَطَغَتْ نُفُوسُهُمْ، وَشَمَخَتْ وَارْتَفَعَتْ، فَلَوْ بَسَطَ لَهُمْ النَّصْرُ وَالظَّفَرَ لَكَانُوا فِي الْحَالِ الَّتِي يَكُونُوا فِيهَا لَوْ بَسَطَ لَهُمْ الرِّزْقُ فَلا يُصْلِحُ عِبَادَهُ إلا السَّرَّاءُ وَالضَّرَّاءُ، والشِّدَّةُ والرَّخَاءُ، وَالقَبْضُ وَالبَسْطُ فَهُوَ المُدَبِّرُ لأَمْرِ عِبَادِهِ كَمَا يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ إِنَّهُ بِهِمْ خَبِيرٌ بَصِير.

وَمِنْهَا: أَنَّهُمْ إِذَا امْتَحَنَهُمْ بِالْغَلَبَةِ، وَالْكَسْرَةِ وَالْهَزِيمَةَ، وَذُلُّوا وَانْكَسَرُوا وَخَضَعُوا؛ فَاسْتَوْجَبُوا مِنْهُ الْعِزَّةِ وَالنَّصْرَ، فَإِنَّ خِلْعَةَ النَّصْرِ إِنَّمَا تَكُونُ مَعَ وَلايَةِ الذُّلِّ وَالانْكِسَارِ، قَالَ اللهُ تَعَالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} ، {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً} فَهُوَ سُبْحَانَهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُعِزَّ عَبْدَهُ وَيَجْبُرَهُ وَيَنْصُرَهُ، كَسَرَهُ أَوَّلاً وَيَكُونُ جِبْرُهُ لَهُ وَنَصْرُهُ عَلَى مِقْدَارِ ذُلِّهِ وَانْكِسَارِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هَيَّأَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمَنِينَ مَنَازِلَ فِي دَارِ كَرَامَتِهِ لَمْ تَبْلُغْهَا أَعْمَالِهِمْ، وَلَمْ يَكُونُوا بَالِغِيهَا إِلا بِالْبَلاءِ وَالْمِحْنَةِ، فَقَيَّضَ لَهُمْ الأَسْبَابَ الَّتِي تُوصِلُهُمْ إِلَيْهَا، مِنْ ابْتِلائِهِ وَامْتِحَانِهِ، كَمَا وَفَّقَهُمْ للأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ وُصُولِهَا. وَمِنْهَا: أَنَّ النَّفُوسَ تَكْتَسِبُ مِنْ الْعَافِيَةِ الدَّائِمَةِ، وَالنَّصْرِ وَالْغِنَى طُغْيَانًا وَرُكُونًا إِلى الْعَاجِلَةِ، وَذَلِكَ مَرَضٌ يَعُوقُهَا عَنْ جِدِّهَا فِي سَيْرهَا إِلى اللهِ وَالدَّارِ الآخِرَةِ، فَإِذَا أَرَادَ بِهَا رَبُّهَا وَمَالِكُهَا وَرَاحِمُهَا كَرَامَتَهُ، قَيَّضَ لَهَا مِنْ الإبْتِلاءِ وَالإِمْتِحَانِ مَا يَكُونُ دَوَاءً لِذَلِكَ الْمَرَض الْعَائِق عَن السَّيْر الْحَثِيثِ إِلَيْهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْبِلاءِ وَالْمِحْنَةِ بِمَنْزِلَةِ الطَّبِيبِ يَسْقِي الْعَلِيلَ الدَّوَاءَ الْكَرِيه وَيَقْطَعُ مِنْهُ الْعُرُوقَ الْمُؤْلِمَةِ، لاسْتِخْرَاجِ الأَدْوَاءِ مِنْهُ، وَلَوْ تَرَكَهُ لَغَلَبَتْهُ الأَدْوَاءُ، حَتَّى يَكُونَ فِيهَا هَلاكُهُ. اللَّهُمَّ أَنظِمْنا في سِلكِ حِزبِكَ المُفلِحِين، واجْعلنا مِنْ عبادِكَ المُخْلِصين وآمِنَّا يومَ الفَزَع الأكَبرِ يومَ الدِين، واحْشُرْنَا مَعَ الذين أَنْعَمْتَ عَليهَم مِنَ النَبيين والصِّدِّيقين والشُهداء والصَّالِحِينِ، واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحياءِ منهمْ والميتينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِِ أَجْمَعِينَ.

وَإِنَّ ذَوِي الإِيمَانِ وَالْعِلْمِ وَالنُّهَى هُمْ الْغُرَبَاء طُوبَى لَهُمْ مَا تَغَرَّبُوا أُنَاسٌ قَلِيلٌ صَالِحُونَ بأمَّةٍ كَثِيرِينَ لَكِنْ بِالضَّلالَةِ أُشْرِبُوا وَقِيلَ لَهُمْ النُّزَاعُ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ عَلَى حَرْبِهِمْ أَهْلُ الضَّلالِ تَحَزَّبُوا وَلَكِنْ لَهُمْ فِيهَا الظُّهُورُ عَلَى الْعِدَا وَإِنْ كَثُرتْ أَعْدَاؤُهُم وَتَأَلَّبُوا وَكَمْ أَصْلَحُوا مَا أَفْسَدَ النَّاسُ بِالْهَوَى مِن السُّنَّةِ الْغَرَّا فَطَابُوا وَطَيَّبُوا وَقَدْ حَذَّرَ الْمُخْتَارُ مِنْ كُلِّ بِدْعَةٍ وَقَامَ بِذَا فَوْقَ الْمَنَابِرِ يَخْطُبُ فَقَالَ عَلَيْكُمْ بَاتَّبَاعِي وَسُنَّتِي فَعُضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَارْغَبُوا وَإِيَّاكُمْ وَالابْتِدَاعَ فَإِنَّهُ ضَلالٌ وَفِي نَارِ الْجَحِيمِ يُكَبْكِبُ فَدُومُوا عَلَى مِنْهَاجِ سُنَّةِ أَحْمَدٍ لَكِي تَرِدُوا حَوْضَ الرَّسُولِ وَتَشْرَبُوا فَإِنَّ لَهُ حَوْضًا هَنِيئًا شَرَابُهُ مِنْ الدُّرِ أَنْقَى فِي الْبَيَاضِ وَأَعْذَبُ لَهُ يَرِدُ السُّنِيُّ مِنْ حِزْبِ أَحْمَدٍ

.. وَعَنْهُ يُنْحَى مُحْدِثٌ وَمُكَذِبُ وَكَمْ حَدَثَتْ بَعْدَ الرَّسُولِ حَوَادِثٌ يَكَادُ لَهَا نُورُ الشَّرِيعَةِ يُسْلَبَ وَكَمْ بِدْعَةٍ شَنْعَاءَ دَانَ بِهَا الْوَرَى وَكَمْ سُنَّةٍ مَهْجُورَةٍ تُتَجَنَّبُ لِذَا أَصْبَحَ الْمَعْرُوفُ فِي الأَرْضِ مُنْكرًا وَذُو النُّكْرِ مَعْرُوفٌ إِلَيْهِمْ مُحَبَّبُ وَمَا ذَاكَ إِلا لإنْدِرَاسِ مَعَالَمِ مِنَ الْعِلْم إِذْ مَاتَ الْهُدَاتُ وَغُيِّبُوا وَلَيْسَ اغْتِرَابُ الدِّينِ إِلا كَمَا تَرَى فَسَلْ عَنْهُ ينْبِيكَ الْخَبِيرُ الْمُجَرِّبُ وَقَدْ صَحَّ أَنَّ الْعِلْمَ تَعْفُو رُسُومُهُ وَيَفْشُو الزِّنَا وَالْجَهْلُ وَالْخَمْرُ تُشْرَبُ وَتِلْكَ أَمَارَاتٌ يَدُلُ ظُهُورُهَا عَلَى أَنَّ أَهْوَالَ الْقِيَامَةِ أَقْرَبُ فَسَارِعْ لِمَا يُرْضِي الإِلهَ بِفِعْلِهِ وَدَعْ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ للهِ يُغْضِبُ وَخُذْ إِنْ طَلَبْتَ الْعِلْمَ عَنْ كُلِّ عَالِمٍ تَرَاهُ بَآدَابِ الْهُدَى يَتَأَدَّبُ لأَهْلِ السُّرَى تَهْدِي نَجُومُ عُلُومِهِ وَتُرْمي الْعِدَى مِنْ شُهْبِهَا حِينَ تُثْقَبُ

.. فَلازِمْهُ وَاسْتَصْبِحْ بِمَصْبَاحِ عِلْمِهِ لِتَخْلُصَ مِنْ جَسْرٍ عَلَى النَّارِ يُضْرَبُ فَخَيْرُ الأُمُورِ السَّالِفَاتُ عَلَى الْهُدَى وَشَرُّ الأُمُورِ الْمُحْدَثَاتِ فَجَنَّبُوا وَمَا الْعِلْمُ إِلا مِنْ كِتَابٍ وَسُنَّةٍ وَغَيْرُهُمَا جَهْلٌ صَرِيحٌ مُرَكَّبُ فَخُذْ بِهِمَا وَالْعِلْمِ فَاطْلُبُه مِنْهُمَا وَدَعْ عَنْكَ جُهَّالاً عَنْ الْحَقِّ أَضْرَبُوا خَفَافِيشُ أَعْشَاهَا النَّهَارِ بِضَوْئِهِ فَوَافَقَهَا مِنْ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ غَيْهَبُ فَظَلَّتْ تُحَاكِي الطَّيْرَ فِي ظُلْمَةِ الدُّجَا وَإِنْ لاحَ ضُوءُ الصُّبْحِ لِلْعِشِّ تَهْرَبُ وَخَتْمُ نِظَامِي بِالصَّلاةِ مُسَلِّمًا مَدَى الدَّهْرِ مَا دَامَتْ مَعَدٌ وَيَعْرِبُ عَلَى خَاتَمِ الرُّسُلِ الْكِرَامِ مُحَمَّدٍ بِهِ طَابَ خِتْمُ الأَنْبِيَاءِ وَطُيِّبُوا كَذَا الآلِ وَالصَّحْبِ الأَلَى بِجِهَادِهِمْ أَضَاءَ بِدِينِ اللَهِ شَرْقٌ وَمَغْرِبُ اللَّهُمَّ امْنُنْ عَلَيْنَا بِالإقْبَالِ عَلَيْكَ وَالتَّوْفِيقِ وَأَعِذْنَا مِن الْخَذْلانِ وَالتَّعْوِيقِ، وَفَرِّجْ عَنَّا كُلَّ هَمٍّ وَغَمٍّ وَضِيق، وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا نَقْوَى وَلا نُطِيق، يَا مَنْ كُلُّ نَفْسٍ إِلى جُودِهِ افْتَقَرَتْ، اللَّهُمَّ جَلَّلْنَا بِسِتْرِكْ وَاعْفُ عَنَّا بِكَرَمِكَ.

اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا للاسْتِعْدَادِ لِمَا أَمَامَنَا، اللَّهُمَّ وَقَوِّي إِيمَانَنَا بِكَ وَبِمَلائِكَتِكَ وّبِكُتِبَكَ وَبُرُسُلِكَ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا وَاشْرَحْ صُدُورَنَا وَوَفِّقْنَا لِمَا تُحِبُّهُ وَتَرْضَاهُ وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَعَامِلْنَا بِلُطْفِكَ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. اللَّهُمَّ أَعِذْنَا مِن الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجَزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَضَلْعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وَمِنْهَا: أَنَّ الشَّهَادَةَ عِنْدَهُ مِنْ أَعَلَى مَرَاتِبَ أَوْلِيَائِهِ وَالشُّهَدَاءُ هُمُ خَوَّاصُهُ الْمُقَرَّبُونَ مِنْ عِبَادِهِ وَلَيْسَ بَعْدَ دَرَجَةِ الصِّدِيقِيَّةِ إِلا الشَّهَادَةُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ عِبَادِهِ شُهَدَاءَ تُرَاقَ دِمَاؤُهُمْ فِي مَحَبَّتِهِ وَمَرْضَاتِهِ وَيُؤْثِرُونَ رِضَاهُ وَمَحَابَّهُ عَلَى نُفُوسِهِمْ وَلا سَبِيلَ إِلى نَيْلِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ إِلا بِتَقْدِيرِ الأَسْبَابِ الْمُفْضِيَةِ إِلَيْهَا مِنْ تَسْلِيطِ الْعَدُوُّ. وَمِنْهَا: أَنَّ الله سُبْحَانَهُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ أَعْدَاءَهُ وَيَمْحَقَهُمْ قَيَّضَ لَهُمْ الأَسْبَابَ الَّتِي يَسْتَوْجِبُونَ بِهَا هَلاكَهُمْ، وَمَحْقَهُمْ، وَمِنْ أَعْظَمِهَا بَعْدَ كُفْرِهِمْ بَغْيُهُمْ، وَطُغْيَانُهُمْ، وَمُبَالَغَتُهُمْ، فِي أَذَى أَوْلِيَائِهِ، وَمُحَارَبَتُهُمْ، وَقِتَالُهُمْ، وَالتَّسَلُّطُ عَلَيْهِمْ، فَيَتَمَحَّصُ بِذَلِكَ أَوْلِيَاؤُهُ، مِنْ ذُنُوبِهِمْ، وَعُيُوبِهِمْ، وَيَزْدَادُ بِذَلِكَ أَعْدَاؤُهُ، مِنْ أَسْبَابِ مَحْقِهِمْ وَهَلاكِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ سُبْحَانَهُ تَعَالى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ (3: 139 - 141) : {وََلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} . فَجَمَعَ لَهُمْ فِي هَذَا الْخِطَابِ بَيْنَ تَشْجِيعِهِمْ وَتَقْوِيَةِ نُفُوسِهِمْ وَإِحْيَاءِ عَزَائِمِهِمْ وَهِمَمِهِمْ، وَبَيْنَ حُسْنِ التَّسْلِيَةِ وَذِكْرِ الْحِكَمِ الْبَاهِرَةِ

الَّتِي اقْتَضَتْ إِدَالَةَ الْكُفَّارِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ} فَقَدْ اسْتَوَيْتُمْ فِي الرَّجَاءِ وَالثَّوَابِ، كَمَا قَالَ (4: 104) : {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ} فَمَا بَالَكُمْ تَهِنُونَ وَتَضْعُفُونَ عِنْدَ الْقَرْحِ وَالأَلَمِ فَقَدْ أَصَابُوا ذَلِكَ فِي سَبِيلِ الشَّيَطَانِ وَأَنْتُمْ أَصَبْتُمْ فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُدَاوِلُ أَيَّامَ هَذِهِ الْحَيَاةِ بَيْنَ النَّاسِ، وَأَنَّهَا عَرَضُ حَاضِرٌ يَقْسِمُهَا دُوَلاً بَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَعْدائِهِ، بِخِلافِ الآخِرَةِ، فَإِنَّ عِزَّهَا وَنَصْرَهَا وَرَجَاءَهَا خَالِصٌ لِلذِينَ آمنُوا. ثُمَّ ذَكَرَ حِكمَةً أُخْرَى وَهِيَ اتِّخَاذُهُ سُبْحَانَهُ مِنْهُمْ شُهَدَاءَ، فَإِنَّهُ يُحِبُّ الشُّهَدَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، وَقَدْ أَعَدَّ لَهُمْ أَعْلَى الْمَنَازِلِ، وَأَفْضَلَهَا وَقَدْ اتَّخَذَهُمْ لِنَفْسِهِ، فَلا بُدَّ أَنْ يُنِيلَهُمْ دَرَجَةَ الشَّهَادَةِ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالى: {وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} تَنْبِيهٌ لَطِيفُ الْمَوْقِعِ جِدًا عَلَى كَرَاهَتِهِ وَبُغْضِهِ لِلْمُنَافِقِينَ، الذين انْخَذَلُوا عَنْهُ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ يَشْهَدُوهُ، وَلَمْ يَتَّخِذْ مِنْهُمْ شُهَدَاءَ، لأَنَّهُ لَمْ يُحِبَّهُمْ فَأَرْكَسَهُمْ وَرَدَّهُمْ، لِيَحْرِمَهُمْ مَا خَصَّ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَمَا أَعْطَاهُ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنْهُمْ، فَثَبَّطَ هَؤُلاءِ الظَّالِمِينَ عَنِ الأَسْبَابِ الَّتِي وَفَّقَ لَهَا أَوْلِيَاءه وَحِزْبَهُ. ثُمَّ حِكْمَةً أُخْرَى فِيمَا أَصَابَهُمُ مِن الذُّنُوبِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهِيَ تَمْحِيصُ الذِينَ آمِنُوا وَهُوَ تَنْقِيَتَهُمْ وَتَخْلِيصُهُمْ مِن الذُّنُوبِ، وَمِنْ آفَاتِ النُّفُوسِ. وَمِنْهَا: أَنَّ وَقْعَةَ أُحُدٍ كَانَتْ مُقَدَّمَة وَإرْهَاصًا بَيْنَ يَدَيْ مَوْتِ النَّبِيِّ ? فَنَبَأَهُمْ وَوَبَّخَهُمْ عَلَى انْقِلابِهِمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ إِنْ مَاتَ رَسُولُ اللهِ ?، أَوْ قُتِلَ

بَلْ الْوَاجِبُ لَهُ عَلَيْهِمْ: أَنْ يَثْبُتُوا عَلَى دِينِهِ، وَتَوْحِيدِهِ، وَيَمُوتُوا عَلَيْهِ، أَوْ يُقْتَلَوا، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَعْبُدُونَ رَبَّ مُحَمَّدٍ ?، وَهُوَ حَيٌّ لا يَمُوتُ، فَلَوْ مَاتَ مُحَمَّدٌ أَوْ قُتِلَ لا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَصْرِفَهُمْ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَمَا جَاءَ بِهِ فَكُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ. وَمَا بَعَثَ اللهُ مُحَمَّدًا ? إِلَيْهِمْ لِيُخَلَّدَ لا هُوَ وَلا هُمْ، بَلْ لِيَمُوتُوا عَلَى الإِسْلامِ وَالتَّوْحِيدِ، فَإِنَّ الْمَوْتَ لا بُدَّ مِنْهُ، سَوَاءٌ مَاتَ رَسُولُ اللهِ ? أَوْ بَقِيَ وَلِهَذَا وَبَّخَهُمْ عَلَى رُجُوعِ مَنْ رَجَعَ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ لَمَّا صَرَخَ الشَّيْطَانُ بِأَنَّ: مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَقَالَ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} . وَالشَّاكِرُونَ هُمْ الذِينَ عَرَفُوا قَدْرَ النِّعْمَةِ فَثَبَتُوا عَلَيْهَا حَتَّى مَاتُوا أَوْ قُتِلُوا، فَظَهَرَ أَثَرُ هَذَا الْعِتَابِ وَحُكْمُ هَذَا الْخِطَابِ يَوْمَ مَاتَ رَسُولُ الله ? وَارْتَدَّ مَنْ ارْتَدَّ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَثَبَتَ الشَّاكِرُونَ عَلَى دِينِهِمْ، فَنَصْرَهُمُ اللهُ وَأَعَزَّهُمْ وَأَظْفَرَهُمْ بَأَعْدَائِهِمْ وَجَعَلَ الْعَاقِبَةَ لَهُمْ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ جَعَلَ لِكُلِّ نَفْسٍ أَجَلاً لا بُدَّ أَنْ تَسْتَوِفِيَهُ تَنَوَّعَتْ أَسْبَابُهُ، وَيَصْدُرُونَ عَنْ مَوْرِدِ الْقِيَامَةِ، مَصَادِرَ شَتَّى، فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ. ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ جَمَاعَةً كَثِيرَةً مِنْ أَنْبِيَائِهِ قُتِلُوا، وَقُتِلَ مَعَهُمْ أَتْبَاعٌ لَهُمْ كَثِيرُونُ، فَمَا وَهَنَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا ضَعَفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَمَا وَهَنُوا عِنْدَ الْقَتْلِ، وَلا ضَعُفُوا وَلا اسْتَكَانُوا، بَلْ تَلَقُوا الشَّهَادَةَ بِالْقُوةِ وَالْعَزِيمَةِ وَالإِقْدَامِ، فَلَمْ يَسْتَشِهَدُوا مُدْبِرِينَ مُسْتَكِينِينَ أَذِلَّةً

بَلْ اسْتُشْهِدُوا أَعِزَةً كِرَامًا مُقْبِلِينَ غَيْرَ مُدْبِرِينَ وَالصَّحِيحُ: أَنَّ الآية تَتَنَاوَلُ الْفَرِيقِينَ كَلِيْهِمَا، ثُمَّ أَخْبَر سُبْحَانَهُ عَمَّا اسْتَنْصَرَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ وَأُمَمِهِمْ عَلَى قَوْمِهِمْ مِنْ اعْتِرَافِهِمْ وَتَوْبَتِهِمْ وَاسْتِغْفَارِهِمْ وَسُؤَالِهِمْ رَبَّهُمْ أَنْ يُثَبّتَ أَقْدَامَهُمْ وَأَنْ يَنْصُرَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ فَقَالَ: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} . لَمَّا عَلِمَ الْقَوْمِ أَنَّ الْعَدُوَّ إِنَّمَا يُدَالُ عَلَيْهِمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَأَنَّ الشَّيَطَانَ إِنَّمَا يَسْتَزِلُّهُمْ وَيَهْزِمُهُمْ بِهَا، وَأَنَّها نَوْعَانِ تَقْصِيرٌ فِي حَقٍّ، أَوْ تَجَاوُزٌ لِحَدٍ، وَأَنَّ النَّصْرَ مَنُوطٌ بِالطَّاعَةِ، {قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} ثُمَّ عَلِمُوا أَنَّ رَبَّهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، إِنْ لَمْ يُثَبِّتْ أَقْدَامَهُمْ وَيَنْصُرَهُمْ لَمْ يَقْدِرُوا هُمْ عَلَى تَثْبِيتِ أَقْدَامِ أَنْفُسِهِمْ، وَنَصْرهَا عَلَى أَعْدَائِهِمْ، فَسَأَلُوهُ مَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ بِيَدِهِ دُونَهُمْ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يُثَبّتْ أَقْدَامَهُمْ وَيَنْصُرَهُمْ لَمْ يَثْبُتُوا، وَلَمْ يَنْتَصِرُوا. ثُمَّ ذَكَرَ حِكْمَةً أُخْرَى وَهِيَ: أَنْ يَتَمَيَّزَ الْمُؤْمِنُونَ مِن الْمُنَافِقِينَ فَيَعْلَمُهُمْ عِلْمَ رُؤْيَةٍ وَمُشَاهَدَةٍ، بَعْدَ أَنْ كَانُوا مَعْلُومِينَ فِي غَيْبِهِ، وَذَلِكَ الْعِلْمُ الْغَيْبِي لا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ثَوَابٌ، وَلا عِقَابٌ، وَإِنَّمَا يَتَرَتَّبُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ عَلَى الْمَعْلُومِ، إِذَا صَارَ مُشَاهِدًا وَاقِعًا فِي الْحِسِّ. فَوَفَّوْا الْمَقَامَيْنِ حَقَّهُمَا، مَقَامَ الْمُقْتَضِي، وَهُوَ: التَّوْحِيدُ وَالالْتِجَاءِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ، وَمَقَامِ إِزَالَةِ الْمَانِعِ مِن النُّصْرَةِ، وَهُوَ: الذُّنُوبِ وَالإِسْرَافِ، وَحَذَّرَهُمْ مِنْ طَاعَةِ عَدُوِّهِمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ إِنْ أَطَاعُوهُمْ خَسِرُوا الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ. شِعْرًا: ... لَعَمْري مَا الرَّزِيَّةِ فَقْدُ مَالٍ ... يَكُونُ بِفَقْدِهِ مِنْ مُعْدِمِينَا وَلَكِنَّ الرَّزِيَّةِ فَقْدُ دِينٍ ... يَكُونُ بِفَقْدِهِ مِنْ كَافِرِينَا

ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مَوْلى الْمُؤْمِنِين، وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ فَمَنْ وَالاهُ فَهُوَ الْمَنْصُورُ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ سَيُلْقِي فِي قُلُوبِ الذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ، الذِي يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْهُجُومِ عَلَيْهِمْ، وَالإِقْدَامِ عَلَى حَرْبِهِمْ، فَإِنَّهُ يُؤَيِّدُ حِزْبَهُ بِجُنْدٍ مِن الرُّعْبِ، يَنْتَصِرُونَ بِهِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، وَذَلِكَ الرُّعْبُ بِسَبَبِ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِن الشِّرْكِ بِاللهِ وَعَلى قَدْرِ الشِّرْكِ يَكُوُن الرُّعْبُ، وَالذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِالشِّرْكِ، لَهُمْ الأَمْنُ وَالْهُدَى وَالْفَلاحُ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ صَدَقَ وَعْدَهُ فِي النَّصْرَةِ عَلَى عَدُوِّهِ، وَهُوَ الصَّادِقُ الْوَعْدِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ اسْتَمَرُّوا عَلَى الطَّاعَةِ وَلُزُومِ مَرَاكِزِهِمْ امْتِثَالاً لأَمْرِ النَّبِيِّ ? لاسْتَمَرَّتْ نُصْرَتُهُمْ، وَلَكِنْ انْخَلَعُوا عَن الطَّاعَةِ وَفَارَقُوا مَرَاكِزَهُمْ فَانْخَلَعُوا عَنْ عِصْمَةِ الطَّاعَةِ، فَفَارَقَتْهُمُ النُّصْرَةُ فَصَرَفَهُمْ عَنْ عَدُّوِّهِمْ عَقُوبِةً وِابْتِلاءً وَتَعْرِيفًا لَهُمْ بِسُوءِ عَاقِبَةِ الْمَعْصِيَةِ، وَحُسْنِ عَاقِبَةِ الطَّاعَةِ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ عَفَا عَنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَنَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. انْتَهَى بِتَصَرُّفٍ يَسِير. اللَّهُمَّ أَحْيِنَا فِي الدُّنْيَا مُؤْمِنِينَ طَائِعِينَ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ تَائِبِينَ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. قَالَ ابن الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: يَا أيُّهَا الرَّجُلُ الْمُرِيدُ نَجَاتَهُ اسْمَعْ مَقَالَةَ نَاصِحٍ مِعوَانِ كُنْ فِي أُمُورِكَ كُلِّهَا مُتَمَسِّكًا بِالْوَحْيِ لا بِزَخَارِفِ الْهَذَيَانِ وَانْصُرْ كِتَابَ اللهِ وَالسُّنَنَ الَّتِي جَاءَتْ عَنِ الْمَبْعُوثِ بالْقُرْآنِ

وَاضْرِبْ بِسَيْفِ الْوَحْيِ كُلَّ مُعَطِّلٍ ضَرْبَ الْمُجَاهِدِ فَوْقَ كُلِّ بَنَانِ وَاحْمِلْ بِعَزْمِ الصِّدْقِ حَملَةَ مُخُلِصٍ مُتَجَرِّدٍ للهِ غَيرِ جَبَانِ وَاثبُْتْ بِصَبْرِكَ تَحْتَ أَلْوِيةِ الْهُدَى فَإِذَا أَصِبْتَ فَفِي رِضَا الرَّحْمَنِ وَاجْعَلْ كِتَابَ اللهِ وَالسُّنَنَ الَّتِي ثَبَتَتْ سِلاَحَكَ ثُمَّ صِحْ بِجَنَانِ مَنْ ذَا يُبَارِزُ فَلْيُقَدِّم نَفْسَهُ أَوْ مَنْ يُسَابِقُ يَبْدُ فِي الْمِيدَانِ وَاصْدَعْ بِمَا قَالَ الرَّسُولُ وَلا تَخَفْ مِنْ قِلَّةِ الأَنْصَارِ وَالأَعْوَانِ فَاللهُ نَاصِرُ دِينِهِ وَكِتَابِهِ وَاللهُ كَافٍ عَبْدَهُ بأمَانِ لا تَخشَ مِن كَيدِ العدُوِّ وَمكْرِهِم فَقِتَالُهُمْ بِالْكِذْبِ والْبُهتَانِ فَجُنُودُ أتبَاعِ الرَّسُولِ مَلاَئِكٌ وَجُنُودُهُمْ فَعَسَاكِرُ الشَّيطانِ شَتَّانَ بينَ العَسْكَرَيْنِ فَمَنْ يَكُنْ مُتَحَيِّزًا فَلَيْنُظُرِ الْفِئَتَانِ

وَاثْبُتْ وَقَاتِلْ تَحْتَ رَايَاتِ الْهُدَى وَاصْبِرْ فَنَصْرُ اللهِ رَبِّكَ دَانِ وَاذْكُرْ مَقَاتِلَهُمْ لِفُرْسَانِ الْهُدَى للهِ دُرُّ مَقَاتِلِ الْفُرْسَانِ وَادْرَأْ بِلَفْظِ النَّصِّ فِي نَحْرِ الْعِدَى وَارْجُمْهُمُ بِثَوَاقِبِ الشُّهبَانِ لا تَخْشَى كَثْرَتَهُمْ فَهُمْ هَمَجُ الْوَرَى وَذُبَابُهُ أَتَخَافُ مِنْ ذُبَّانِ وَاشْغَلْهُمُ عِنْدَ الْجِدَالِ بِبَعْضِهِمْ بَعْضًا فَذَاكَ الْحَزْمُ لِلْفُرْسَانِ وَإِذَا هُمُوا حَمَلُوا عَلَيْكَ فَلا تَكُنْ فَزِعًا لِحَمْلَتِهِمْ وَلا بِجَبَانِ وَاثْبُتْ وَلا تَحْمِلْ بِلا جُنْدٍ فَمَا هَذَا بِمَحْمُودٍ لَدَى الشُّجَعَانِ فَإِذَا رَأَيْتَ عِصَابَةَ الإِسْلاَمِ قَدْ وَافَتْ عَسَاكِرُهَا مَعَ السُّلطَانِ فَهُنَاكَ فَاخْتَرِقِ الصُّفُوفَ وَلا تَكُنْ بِالْعَاجِزِ الْوَانِي وَلاَ الْفَزْعَانِ وَتَعَرَّ مِنْ ثوبَيْنِ مَنْ يَلْبَسْهُمَا يَلْقَى الرَّدَى بِمَذَمَّةِ وَهَوانِ

ثَوبٍ مِنَ الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ فَوقَهُ ثَوْبُ التّعَصُّبِ بِئْسَتِ الثَّوبَانِ وتَحَلَّ بِالإِنْصَافِ أَفْخَرَ حُلَّةٍ زِينَتْ بِهَا الأَعْطَافُ وَالْكَتِفَانِ وَاجْعَل شِعَارَكَ خَشْيَةَ الرَّحْمَنِ مَعْ نُصْحِ الرّسُولِ فَحَبَّذَا الأَمْرَانِ وَتَمَسكَنَّ بِحَبْلِهِ وَبِوَحْيِهِ وَتَوَكَّلَنَّ حَقِيقَةَ التُّكْلاَنِ فَالْحَقُّ وَصْفُ الرّبِّ وَهُوَ صِرَاطُهُ الْـ ـهَادِي إِلَيْهِ لِصَاحِبِ الإيمَانِ وَهُوَ الصِّرَاطُ عَلَيْهِ رَبُّ الْعَرْشِ أَيْـ ـضًا وَذَا قَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَقُّ مَنْصُورٌ وَمُمْتَحَنٌ فَلاَ تَعْجَبْ فَهَذِي سُنَّةُ الرَّحْمَنِ وَبِذَاكَ يَظْهَرُ حِزْبُهُ مِنْ حَرْبِهِ وَلأَجْلِ ذَاكَ النَّاسُ طَائِفَتَانِ وَلأَجْلِ ذَاكَ الْحَرْبُ بَيْنَ الرُّسِلِ وَالْـ ـكُفَّارِ مُذْ قَامَ الْوَرَى سِجْلاَنِ لَكِنَّمَا الْعُقبَى لأَهْلِ الْحَقِّ إِنْ فَاتَتْ هُنَا كَانَتْ لَدَى الدَّيَّانِ وَاجْعَلْ لِقَلْبِكَ هِجْرَتَيْنِ وَلاَ تَنَمْ

.. فَهُمَا عَلَى كُلِّ امْرِءٍ فَرْضَانِ فَالْهِجْرَةُ الأُولَى إِلى الرَّحْمَنِ بِالـ إِخْلاصِ فِي سِرٍّ وَفي إِعْلانِ فَالْقَصْدُ وَجْهُ اللهِ بِالأَقْوَالِ وَالـ أَعْمَالِ وَالطَّاعَاتِ وَالشُّكرَانِ فَبِذَاكَ يَنْجُو الْعَبْدُ مِنْ إِشْرَاكِهِ وَيَصِيرُ حَقًّا عَابِدَ الرَّحْمَنِ وَالْهِجْرةُ الأُخْرَى إِلى الْمَبْعُوثِ بِالْـ حَقِّ الْمُبِينِ وَوَاضِحِ الْبُرْهَانِ فَيَدُورُ مَعْ قَوْلِ الرَّسُولِ وَفِعْلِهِ نَفِيًا وَإِثْبَاتًا بِلاَ رَوَغَانِ وُيُحَكِّمُ الْوَحْيَ الْمُبينَ عَلَى الذِي قَالَ الشُّيوخُ فَعِنْدَهُ حَكَمَانِ لاَ يَحْكُُمَانِ بِبَاطِلٍ أبَدًا وَكُلُّ الْعَدْلِ قَدْ جَاءَتْ بِهِ الْحَكَمَانِ وَهُمَا كِتَابُ اللهِ أَعْدَلَ حَاكِمٍ فِيهِ الشِّفَا وَهِدَايَةُ الْحَيْرَانِ وَالْحَاكِمُ الثَّاني كَلامُ رَسُولِهِ مَا ثَمَّ غَيْرُهُمَا لِذِي إِيمَانِ فَإِذَا دَعَوْكَ لِغَيْرِ حُكْمِهِمَا فَلا سَمْعًا لِدَاعِي الْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ

.. قُلْ لاَ كَرَامَةَ لاَ ولاَ نُعْمًا وَلا طَوْعًا لِمَنْ يَدْعُو إلى طُغيَانِ وَإِذا دُعِيتَ إِلى الرَّسُولِ فَقُلْ لَهُمْ سَمْعًا وَطَوْعًا لَسْتُ ذَا عِصْيَانِ وَإِذَا تَكَاثَرَتِ الْخُصُومُ وَصيَّحُوا فَاثْبُتْ فَصَيْحَتُهُمْ كَمِثْلِ دُخَانِ يَرْقَى إِلى الأَوْجِ الرَّفِيعِ وَبَعْدَه يَهْوِي إِلى قَعْرِ الْحَضِيضِ الدَّانِي هَذَا وَإنَّ قِتَالَ حِزْبِ اللهِ بِالـ أَعْمَالِ لا بِكَتَائِبِ الشُّجعَانِ وَاللهِ مَا فَتَحُوا الْبِلادَ بِكَثْرَةٍ أنَّى وَأَعْدَاهُمْ بِلاَ حُسْبَانِ وَكَذَاكَ مَا فَتَحُوا الْقُلُوبَ بِهَذِهِ الـ آرَاءِ بَلْ بِالْعِلمِ وَالإِيمَانِ وَشَجَاعَةُ الْفُرْسَانِ نَفْسُ الزُّهْدِ فِي نَفْسٍ وَذَا مَحْذُورُ كُلِّ جَبَانِ وَشَجَاعَةُ الْحُكَّامِ وَالْعُلَمَاءِ زُهْـ ـدٌ فِي الثَّنَا مِنْ كُلِّ ذِي بُطْلاَنِ فَإِذَا هُمَا اجْتَمَعَا لِقَلْبٍ صَادِقٍ شُدَّت رَكَائبُهُ إِلى الرَّحْمَنِ وَاقْصِد إِلى الأَقْرَانِ لاَ أَطْرَافِهَا

.. فَالْعِزُّ تَحْتَ مَقَاتِلِ الأَقْرَانِ وَاسْمَعْ نَصِيحَةَ مَنْ لَهُ خَبَرٌ بِمَا عِنْدَ الْوَرَى مِنْ كَثْرَةِ الْجَولاَنِ مَا عِنْدَهُمْ وَاللهِ خَيْرٌ غَيْرَمَا أَخَذُوهُ عَمَّنْ جَاءَ بِالْقُرْآنِ والْكُلُّ بَعْدُ فَبِدْعَةٌ أَوْ فِرِيَةٌ أَوْ بَحْثُ تَشْكِيكٍ وَرَأْيُ فُلانِ فَاصْدَعْ بِأَمْرِ اللهِ لا تَخْشَ الْوَرَى فِي اللهِ وَاخْشَاهُ تَفُزْ بأَمَانِ وَاهْجُرْ وَلَوْ كُلَّ الْوَرَى فِي ذَاتِهِ لاَ فِي هَوَاكَ وَنَخْوَةِ الشَّيطَانِ وَاصْبِرْ بِغَيْرِ تَسَخُّطٍ وَشِكَايَةٍ وَاصْفَحْ بِغَيْ بِغَيرِ عِتَابِ مَنْ هُوَ جَانِ وَاهْجُرهُمُ الْهَجْرَ الْجَمِيلَ بِلا أذَى إِنْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الْهِجْرَانِ وَانْظُرْ إِلى الأَقْدَارِ جَارِيَةً بِمَا قَدْ شَاءَ مِنْ غَيٍّ وَمِنْ إِيمَانِ وَاجْعَلْ لِقَلْبِكَ مُقْلَتَينِ كِلاَهُمَا بِالْحَقِّ فِي ذَا الْخَلْقِ نَاظِرَتَانِ فَانْظُرْ بِعَيْنِ الحُكْمِ وَارْحَمْهُمْ بِهَا إِذْ لا تُرَدُّ مَشِيئَةُ الدَّيَانِ

موعظة لابن الجوزي

.. وَانْظُرْ بَعْيْنِ الأَمْرِ وَاحْمِلْهُمْ عَلَى أَحْكَامِهِ فَهُمَا إِذًا نَظَرَانِ وَاجْعَلْ لِوَجْهِكَ مُقْلَتَينِ كِلاَهُمَا مِنْ خَشْيَةِ الرَّحْمَنِ بَاكِيَتَانِ لَوْ شَاءَ رَبُّكَ كُنْتَ أَيْضًا مِثلَهُمْ فَالْقَلْبُ بَيْنَ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ وَاحْذَرْ كَمَائِنَ نَفْسِكَ اللاَّتِي مَتَى خَرَجَتْ عَلَيْكَ كُسِرْتَ كَسْرَ مُهَانِ وَإِذَا انْتَصَرَتْ لَهَا فَأَنْتَ كَمَنْ بَغَى طَفْيَ الدُّخَانِ بِمَوْقِدِ النِّيرَانِ وَاللهُ أخْبَرَ وَهُوَ أَصْدَقُ قَائِلٍ أَنْ سَوْفَ يَنْصُرُ عَبْدَهُ بأَمَانِ مَنْ يَعْمَلِ السُّوء سَيُجْزَى مِثْلَهَا أَوْ يَعْمَلِ الْحُسْنَى يَفُزْ بِجِنَانِ هَذِيْ وَصِيَّةُ نَاصِحٍ وَلِنَفْسِهِ وَصَّى وَبَعْدُ لِسَائِرُ الإِخْوَانِ قَالَ ابن الْجَوْزِي رَحِمَهُ اللهُ: أَعْظَمُ الْمُعَاقَبَةِ أَنْ لا يُحِسَ الْمَعَاقَبُ بِالْعُقُوبَةِ، وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقَعَ السُّرُورُ بِمَا هُو عُقُوبة، كَالْفَرَحِ بِالْمَالِ الْحَرَامِ، وَالتَّمَكن مِن الذُّنُوبِ. وَمَنْ هَذِهِ حَالَهُ لا يَفُوزُ بِطَاعَةِ. وَإِنِّي تَدَبرت أَحْوَالَ أَكْثَر الْعُلَمَاءِ وَالْمُتَزَهِّدِينَ فَرَأَيْتَهُمُ فِي عُقُوبَاتِ لا يَحُسُّونَ بِهَا، وَمُعْظَمَهُا مِنْ قَبْلِ طَلَبِهِمْ لِلرِّيَاسَةِ. فَالْعَالِمُ مِنْهُمْ يَغْضِب إِنْ رُدَّ عَلَيْهِ خَطَؤُهُ، وَالْوَاعِظُ مُتَصَنّعُ بِوَعْظِهِ،

وَالْمُتَزهِّد مُنَافِقٌ أَوْ مُرَاءٍ. فَأَوَّلُ عُقُوبَاتِهِمْ، إِعْرَاضُهمْ عَنْ الْحَقِّ شُغْلاً بِالْخَلْقِ، وَمِنْ خَفِيِّ عُقُوبَاتِهِمْ سَلْبُ حَلاوَةِ الْمُنَاجَاةِ، وَلَذَةِ التَّعَبُدِ. إِلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ، وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتُ، يَحْفَظ الله بِهِمْ الأَرْضَ، بَوَاطِنَهُمْ كَظَوَاهِرَهُمْ بَلْ أَحْلَى، وَسَرَائِرَهُمْ كَعَلانِيَّتَهُمْ بَلْ أَحْلَى، وهممهم عِنْدَ الثَّرَيَا بَلْ أَعْلَى، إِنْ عُرِفُوا تَنَكَّرُوا وَإِنْ رُئيت لَهُمْ كَرَامَة أَنْكَرُوا. فَالنَّاسُ فِي غَفْلاتِهِمْ، وَهُمْ فِي قَطْعِ فَلاتِهِمْ، تَحِبُّهُمْ بِقَاع الأَرْض، وَتَفْرَح بِهِمْ أَمْلاكُ السَّمَاءِ. نَسْأَلُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ التَّوْفِيقَ لإتِّبَاعِهِمْ، وَأَنْ يَجْعَلْنَا مِنْ أَتْبَاعِهِمْ. وَسَلِ الْعِيَاذُ مِنْ التَّكَبُّرَ وَالْهَوَى ... فَهُمَا لِكُلِّ الشَّرِ جَامِعَتَانِ فَتَرَى هَوَاهُ يَمْنَعُهُ تَارَةً ... وَالْكِبْرُ أُخْرَى ثُمَّ يَجْتَمِعَانِ واللهِ مَا فِي النَّارِ إِلا تَابِعٌ ... هاذين فَاسْأَلْ سَاكِنِي النِّيرَانِ آخر: ... تَواضَع إِذَا مَا نِلْتَ فِي النَّاسِ رِفْعَةً ... فَإِنَّ رَفِيعَ الْقَوْمِ مَنْ يَتَوَاضَعُ وَدَاوِمْ عَلَى حَمْدِ الإِلَهِ وَشُكْرِهِ ... وَذِكْرٍ لَهُ فَهُوَ الذِي لَكَ رَافِعُ وَقَالَ ابن الْجَوْزِي: اعْتَبَرْتُ عَلَى أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَالزُّهَادِ أَنَّهم يُبْطِنُونَ الْكِبْرَ فَهَذَا يَنْظُرُ فِي مَوْضِعِهِ وَارْتِفَاعِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا لا يَعُودُ مَرِيضًا فَقِيرًا يَرَى نَفْسَه خَيْرًا مِنْهُ. حَتَّى أَنِّي رَأَيْتُ جَمَاعَةً يُوْمأ إِلَيْهِمْ، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لا أَدْقَنُ إِلا فِي دِكَّةِ أَحْمَدَ بن حَنْبَل، وَيَعْلَمُ أَنَّ فِي ذَلِكَ كَسْرُ عِظَامِ الْمَوْتَى، ثُمَّ يَرَى نَفْسَهُ أَهْلاً لِذَلِكَ التَّصَدُّرِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولِ: ادْفِنُونِي إِلى جَانِب مَسْجِدِي ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ يَصِير بَعْدَ مَوْتِهِ مَزُورًا كَمَعْرُوف الْكَرْخِي. وَهَذِهِ خِلَّةٌ مُهْلِكَة ولا يعلمون. قال النبي ?: «مَن ظن أنه خير من غيره فقد تكبر» وَقَلَّ مَنْ رَأَيْتُ إلا وهو يَرى نفسه. والعجبُ كُلَّ العجبِ مِمَّنْ يَرى نَفْسَه، أتراه بماذا؟ إن كان بالعلم فقد سَبَقَهُ الْعُلماء، وإن كان بالتعبد فقد سَبَقه العبَّاد، أو بالمال فإن المال لا يوجب بنفسه فضيلةً دِينيةً. فإن قال: قد عرفتُ ما لم يعرف غيري من العلم في زمني فما عليَّ مِمَّن تقدم.

غزوة حنين ويليها قصيدة

قيل له: ما نأمرك يا حافظ القرآن أن ترى نفسك في الْحِفْظِ كَمَنْ يَحْفَظُ النِّصف، ولا يا فقيه أن ترى نفسك في العلم كالعامي، إنما نَحْذَرُ عليك أن تَرى نفسَك خيرًا مِن ذَلِكَ الشخص المؤمن وإن قلَّ علمه، فإن الخيريةَ بالمعاني لا بصورة العِلم والعبادة. ومَن تلمح خصالَ نفسِه وذُنُوبَها علم أنه على يقين من الذنوب والتقصير. شِعْرًا: ... يَا صِحَاحَ الأَجْسَادِ كَيْفَ بَطَلْتُمْ ... لا لِعُذْرٍ عَنْ صَالِحِ الأَعْمَالِ لَوْ عَلِمْتُمْ أَنَّ الْبَطَالَةَ تُجْدِي ... حَسْرَةً فِي مَعَادِكم وَالْمَآلِ لَتَبَادَرْتُمْ إِلى مَا يَقِيكُمْ ... مِنْ جَحِيمٍ فِي بَعْثِكم وَنَكَالِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ غُرُورٌ ... لا أَبَدًا تُطْمِعُ الْوَرَى فِي الْمُحَالِ ج كَيْفَ يَهْنِيكموا الْقَرَارُ وَأَنْتُمْ ... بَعْدَ تَمْهِيدِكُم عَلَى الارْتِحَالِ كَيْفَ يَهْنِيكموا الْقَرَارُ وَأَنْتُمْ ... بَعْدَ تَمْهِيدِكُم عَلَى الارْتِحَالِ الْهُدَى وَاضِحٌ فَلا تَعْدِلُوا عَنْ ... ـهُ وَلا تَسْلُكوا سَبْلَ الضَّلالِ وَأَنِيبُوا قَبْلَ الْمَمَاتِ وَتُوبُوا ... تَسْلَمُوا فِي غَدٍ مِنَ الأَهْوَالِ اللَّهُمَّ افْتَحْ لِدُعَائِنَا بَابَ الْقُبُولِ وَالإِجَابَةِ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ. اللَّهُمَّ احْفَظْنَا مِنْ الْمَخَالَفَةِ وَالْعِصْيَانِ وَلا تُؤَاخِذْنَا بِجَرَائِمَنَا وَمَا وَقَعَ مِنَّا مِن الْخَطَأْ وَالنِّسْيَانِ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. غزوة حنين حنين واد قربَ ذي المجاز بينه وبين مكة ثلاث ليال قربَ الطائف وتُسَمَّى غزوة أوطاس سُمِّيتِ الغزوة باسم المكانين. لم ينقص شهر على مغادرة النبي ? للمدينة، حتى ترامت إليه الأخبار أن قبيلة هوزان النازلة شرق مكة، تحشد رجالها، وتستعد لهجوم مفاجئ على المسلمين.

وذلك لقلقها المتزايد من زيادة عدد المسلمين لا سيما بعد توقيع صلح الحديبية، وقد كانوا يعلمون - من قبل فتح مكة بزمن طويل - على إتارة مختلف قبائل العرب ضد الإسلام، أما وقد فتحت مكة، فقد أصبح لزامًا عليهم في رأيهم أن يوجهوا إلى الإسلام ضربة قاتلة، قبل أن يستفحل أمره، ويصبح من المحال القضاء عليه. وهم رجال حرب بطبيعتهم، فما كانوا يحتاجون لأكثر من أيام معدودات لحشد جيش كبير. ترامت إلى النبي ? أخبارها، فأوفد من يتبين له الأمر، وعاد الرسول يؤيد الخبر فأمر النبي ? على التو - أي على الفور - بتجهيز جيش قوي لسحق هوزان. وسرعان ما إلتف عشرة ألاف مقاتل ساروا وعلى رأسهم النبي ? إلى وادي حنين حيث احتشدت جنود هوزان. وقد أمدت مكة المسلمين بكميات وافرة من السلاح والعتاد بجانب الألفين من المقاتلين. وكانت هوزان حاذقة في الرماية بالسهام والنبال، يضاف إلى هذه أنها احتلت المراكز الممتازة كلها وقد وزعت زهرة رماتها فوق التلال والمرتفعات، واضطر المسلمون إلى النزول بالمراكز غير الملائمة، فكانت السهام تنزل عليهم من كل صوب وحدب أشبه بالمطر. بينما تقدمت ساقة هوزان لمهاجمة قلب جيش المسلمين، والتقى الجمعان وجهًا لوجه، وكانت طليعة المسلمين تحت إمرة خالد بن الوليد وهي مكونه من المكيين وفيهم غير المسلمين. فكانوا أول من خاض غمار المعركة. ولكنهم لم يتحملوا عنف القتال المرير فتقهقروا، وأدى تقهقرهم إلى اضطراب النظام بين صفوف المسلمين، فارتدوا جميعًا في غير نظام، وتقهقرت فيالق المهاجرين والأنصار هي الأخرى، وبقي النبي ? ومعه عمه العباس في فئة قليلة من المقاتلين وحدهم في العراء عرضة لسهام المهاجمين المحتشدين. رأى النبي جيش المسلمين يرتد فثبت في مركزه المحفوف بالخطر في رباطة جأش تدعوا إلى الإعجاب الشديد. كان العدو يتقدم في سرعة خاطفة، وكاد يكون بمفرده، ولكن

ذلك لم يؤثر فيه أي تأثير. ألم يكن في أمان ترعاه عناية الله العلي القدير! . نفس الشعور الذي لا يخونه، والثقة التي لا حد لها في معونة الله والإيمان بالنصر النهائي لقضيته. بقي وحده في الميدان وعاصفة العدو تدوي من حوله، ونادى بأعلى صوته: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب» وصرخ العباس بصوته الجهورى: (يا معشر الأنصاري الذين آووا ونصروا، يا معشر المهاجرين الذين بايعوا تحت الشجرة. إن محمدًا حي فهلموا) وكرر العباس النداء حتى تجاوبت في كل جنبات الوادي أصداؤه. وأجاب المسلمون من كل جانب: (لبيك! لبيك!) وعادت جموعهم تلتئم من جديد. وترجل نفر منهم عن أفراسهم وجمالهم وشدوا على العدو بعنف وجرأة، فلم يستطع العدو الثبات في وجههم وأخذ فريق منهم في الفرار، وبقى نفر آخر يقاوم وقتًا ما، ولكن عندما سقط حامل اللواء، ولوا جميعًا الأدبار. وعندما اعتزمت هوزان الخروج للقتال أمر كبيرها مالك - وهو فتى متهور في الثلاثين من عمره - أن يخرج النساء والأطفال مع الجيش، ظنًا أن وجود هؤلاء يكون مشجعًا ومثيرًا لعواطف رجاله، وحاثًا لهم، إن دارة الدائرة، على أن لا يتقهقروا ويولوا أعقابهم، ولكن لما أزفت الساعة الرهيبة تركوا وراءهم كل شيء: النساء، والأطفال، والغنم، فوقع في يد المسلمين أربعةٌ وعشرون رأس من الغنم، وأربعة آلاف أوقيةٍ من الفضة، غير ستة آلاف أسير. وبعد أن وضع المسلمون غنائمهم في مكان حريز، أخذوا في السير للحاق بعدوهم المتقهقر، وقد احتمى فريق منهم في قلعتهم في أوطاس، فأوفد إليهم النبي ? سرية من المسلمين لتشتيتهم، بينما احتمت ساقتهم بأسوار الطائف المحصنة تحصينًا متينًا مسلحًا، كانوا رجال حرب محنكين خبيرين بالأسلحة الحديثة كالمنجنيق، وكانوا قد اختزنوا مئونة عام كامل داخل الأسوار، وأقاموا عليها حراسة وفيرة العدد، ووزعوا حامياتها حول أسوار المدينة.

فخف النبي ? إلى حصونهم وضرب الحصار عليها، وقد استعان المسلمون بالأسلحة الحديثة التي أمددتهم بها بعض القبائل الأخرى، وثقل الحصار عليهم جميعًا فجمع النبي ? أصحابه للمشورة، واقترح أحد الشيوخ المحنكين تركهم وشأنهم فقد عاد الذئب إلى جحره وليس من الهين اصطياده، خصوصًا وأن المسلمين ما خرجوا إلا لرد العدوان، وها هو العدو أعجز من أن يضربهم، فأمر النبي برفع الحصار إذا لم يكن للمسلمين من هدف سوى إبعاد الخطر، وقد كان. وفي طريق عودتهم طلب بعضهم من النبي في نفس المكان الذي قذف فيه بالحجارة من قبل، أن يستنزل غضب الله على الأعداء. ولكنه بدلاً من أن يلعنهم ويستنزل غضب ربه، أخذ يصلي ويتضرع من أجلهم، ويبتهل إلى الله أن يهدي ثقيفًا إلى الإسلام، وأن تنضم إلى لواء النبي ?. وقبل الله دعاءه، فلم ينقض وقت طويل حتى دخل الجميع في دين الله أفواجًا، طوعًا ومن تلقاء أنفسهم. انتهى. شعرًا: ... أَسُيرُ الْخَطَايَا عِنْدَ بَابِكَ وَاقِفٌ لَهُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ قَلْبٌ مُخَالِفُ قَدِيمًا عَصَى عَمْدًا وَجَهْلاً وَغِرَّةً وَلَمْ يَنْهَهُ قَلْبٌ مِنَ الله خَائِفُ تَزِيدُ سِنُوهُ وَهُوَ يَزْدَادُ ضِلَّةً فَهَا هُوَ فِي لَيْلِ الضَّلالَةِ عَاكِفُ تَطَلَّعُ صُبْحُ الشَّيْبِ وَالْقَلْبُ مُظْلِمٌ فَمَا طَافَ فِيهِ مِنْ سَنَا الْحَقِّ طَائِفُ ثَلاثُونَ عَامًا قَدْ تَوَلَّتْ كَأَنَّهَا حُلُومُ مَنَامِ أَوْ بُرُوقٌ خَوَاطِفُ وَجَاءَ الْمَشِيبُ الْمُنْذِرُ الْمَرْءَ أَنَّهُ

صفات المنافقين لابن القيم

.. إِذَا ارْتَحَلَتْ عَنْهُ الشَّبِيبَةْ تَألِفُ فَيَا أَيَّهُا الْمَغْرُورُ قَدْ أَدْبَرَ الصِّبَا وَنَادَاكَ مِنْ سِنِّ الْكُهُولَةِ هَاتِفُ فَهَلْ أَرَّقَ الطَّرْفَ الزَّمَانُ الذِي مَضَى وَأَبْكَاهُ ذَنْبٌ قَدْ تَقَدَّمَ سَالِفُ فَخُذْ بِالدُّمُوعِ الْحُمْرِ حُزْنًا وَحَسْرَةً فَدَمْعُكَ يُنْبِي أَنَّ قَلْبَكَ آسِفُ نَسْأَلُ أَنْ يُوفِّقَنَا لِتَدبُّرِ آيَاتِهِ وَفَهْمِ سُنَّةِ نَبِيِّهِ ? وَالْعَمَلِ بِهِمَا وَأَنْ يَرْزُقْنَا الانْتِفَاعَ بِمُرُورِ الزَّمَنِ عَلَى خَيْرِ وَجْهٍ إِنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى ذَلِكَ، اللَّهُمَّ أَيْقِظْنَا مِنْ هَذِهِ السِّنَةِ وَوَفِّقْنَا لإتِّبَاعِ ذَوِي النُّفُوسِ الْمُحْسِنَةْ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ اللَّهُمَّ وَآتِنَا أَفْضَلَ مَا تُؤْتِي عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ. اللَّهُمَّ كَمَا صُنْتَ وَجُوهَنَا عَنْ السُّجُودِ لِغَيْرِكَ فَصُنْ وَجُوُهَنَا عَنْ الْمَسْأَلَةِ لِغَيْرِكَ. اللَّهُمَّ مَنْ كَانَ عَلَى هَوَىً وَهُوَ يَظُنَّ أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ فَرُدَّهُ إِلى الْحَقِّ حَتَّى لا يَظِلَّ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ أَحَدٌ. اللَّهُمَّ لا تَشْغَلْ قُلُوبَنَا بِمَا تَكَفَّلْتَ لَنَا بِهِ وَلا تَجْعَلْنَا فِي رِزْقِكَ خَولاً لِغَيْرِكَ وَلا تَمْنَعْنَا خَيْرَ مَا عِنْدَكَ بِشَرِّ مَا عِنْدَنَا، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. صفات المنافقين للإمام ابن القيم (فَصْلٌ) وَأَمَّا النِّفَاقُ: فَالدَّاءُ الْعُضَالُ، وَالْبَاطِنُ الذِي يَكُونُ الرَّجُلُ مُمْتَلِئًا مِنْهُ، وَهُوَ لا يَشْعُرُ. فَإِنَّهُ أَمْرٌ خَفِيٌّ عَلَى النَّاسِ وَكَثِيرًا مَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَلَبَّسَ بِهِ فَيَزْعُمُ أَنَّهُ مُصْلِحٌ وَهُوَ مُفْسِدٌ.

وَهُوَ نَوْعَانِ: أَكْبَرٌ، وَأَصْغَرٌ. فَالأَكْبَرُ: يُوجِبُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ فِي دَرْكِهَا الأَسْفَلِ وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ لِلْمُسْلِمِينَ إِيمَانَهُ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ. وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ مُنْسَلِخٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّه مُكَذِّبٌ بِهِ. لا يُؤْمِنُ بَأَنَّ اللهَ تَكَلَّمَ بِكَلامٍ أَنْزَلَهُ عَلَى بَشَرٍ جَعَلَهُ رَسُولاً لِلنَّاسِ، يَهْدِيهِمْ بِإِذْنِهِ، وَيُنْذِرُهمْ بَأْسَهُ، وَيُخَوِّفُهم عِقَابَهُ. وَقَدْ هَتَكَ اللهُ سُبْحَانَهُ أَسْتَارَ الْمُنَافِقِينَ وَكَشَفَ أَسْرَارَهُمْ فِي الْقُرْآنِ، وَجَلَّى لِعِباَدِهِ أُمُورَهُمْ لِيَكُونُوا مِنْهَا وَمِنْ أَهْلِهَا عَلَى حَذَرٍ، وَذَكَرَ طَوَائِفَ الْعَالَمِ الثَّلاثَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: الْمُؤْمِنِينَ، وَالْكُفَّارَ، وَالْمُنَافِقِينَ، فَذَكَرَ فِي الْمُؤْمِنِينَ أَرْبَعَ آيَاتٍ، وَفِي الْكُفَّارِ آيتَيْنِ، وَفِي الْمُنَافِقِينَ ثَلاثَ عَشْرَةَ آيَةِ لِكَثْرَتِهِم وَعُمُومِ الابْتِلاءِ بِهِمْ، وَشِدَّةِ فِتْنَتِهم عَلَى الإِسْلامِ وَأَهْلِهِ، فَإِنَّ بَلَيَّة الإِسْلام بِهِم شَدِيدَةٌ جِدًّا، لأَنَّهُمْ مَنْسُوبُونَ إِلَيْهِ، وَإِلى نُصْرَتِهِ وَمُوَالاتِهِ، وَهُمْ أَعْدَاؤُه فِي الْحَقِيقَةِ، يُخْرِجُونَ عَدَاوَتَهُ فِي كُلِّ قَالَبٍ، يَظُنُّ الْجَاهِلُ أَنَّهُ عِلْمٌ وَإِصْلاحٌ وَهُو غَايَةُ الْجَهْلِ وَالإِفْسَادِ. فَلِلَّهِ كَمْ مِنْ مَعْقَلٍ للإِسْلامِ قَدْ هَدَمُوهُ!؟ وَكَمْ مِنْ حِصْنٍ لَهُ قَدْ قَلَعُوا أَسَاسَهُ وَخَرَّبُوه؟! وَكَمْ مِنْ عَلَمٍ لَهُ قَدْ طَمَسُوهُ؟! وَكَمْ مِنْ لِوَاءٍ لَهُ مَرْفُوع قَدْ وَضَعُوه؟! وَكَمْ ضَرَبُوا بِمَعَاوِلِ الشَّبَهِ فِي أُصُولِ غِرَاسِهِ لِيَقْلَعُوهَا؟! وَكَمْ عَمّوا عُيُونَ مَوَارِدِه بِآرَائِهِمْ لِيَدْفِنُوهَا وَيَقْطَعُوهَا؟! فَلا يَزَالُ الإِسْلامُ وَأَهْلُه مِنْهُمْ فِي مِحْنَةٍ وَبِلِيَّةِ وَلا يَزَالُ يَطْرُقُه مِنْ شُبَهِهِمْ سَرِيَّةً بَعْدَ سَرِيَّةً، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ بِذَلِكَ مُصْلِحُونَ {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} ، {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} . اتَّفَقُوا عَلَى مُفَارَقَةِ الْوَحْيِ، فَهُمْ عَلَى تَرْكِ الإِهْتِدَاءِ بِهِ مُجْتَمِعُونَ {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} ، {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} وَلأَجْلِ ذَلِكَ {اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} . دَرَسَتْ مَعَالِمُ الإِيمَانِ فِي قُلُوبِهم فَلَيْسُوا يَعْرِفُونَهَا، وَدَثَرَتْ مَعَاهِدُه عَنْدَهُمْ فَلَيْسُوا يَعْمُرونَهَا، وَأَفلَتْ كَوَاكِبَهُ النَّيِّرَةِ مِنْ قُلُوبِهِمْ فَلَيْسُوا يُحْيَوْنَها

وَكَسَفَتْ شَمْسَهُ عِنْدَ اجْتِمَاعِ ظُلْمِ آرَائِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ فَلَيْسُوا يُبْصِرُونَهَا، لَمْ يَقْبَلُوا هُدَى اللهِ الذِي أرسَلَ بِهِ رَسُولَهُ. وَلَمْ يَرْفَعُوا بِهِ رَأْسًا، وَلَمْ يَرَوْا بالإعْرَاضِ عَنْهُ إِلى آرَائِهِمْ وَأَفْكَارِهِمْ بَأْسًا، خَلَعُوا نُصُوصَ الْوَحْي عَنْ سَلْطَنَةِ الْحَقِيقَةِ، وَعَزَلُوهَا عَنْ وَلايَةِ الْيَقِينِ وَشَنُّوا عَلَيْهَا غَارَاتِ التَّأْوِيلاتِ الْبَاطِلَةِ، فَلا يَزَالُ يَخْرُجُ عَلَيْهَا مِنْهُمْ كَمِينٌ بَعْدَ كَمِينٌ، نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ نُزُولَ الضَّيْفِ عَلَى أَقْوَامٍ لِئَامٍ، فَقَابَلُوهَا بِغَيْرِ مَا يَنْبَغِي لَهَا مِنْ الْقُبُولِ وَالإِكْرَامِ، وَتَلَقَّوْهَا مِنْ بَعِيدٍ، وَلَكِنْ بِالدَّفْعِ فِي الصُّدُورِ مِنْهَا وَالأَعْجَازِ، وَقَالُوا: مَالَكِ عِنْدَنَا مِنْ عُبُورٍ - وَإِنْ كَانَ لا بُدَّ - فَعَلى سَبِيلِ الاجْتِيَازِ، أَعَدُّوا لِدَفْعِهَا أَصْنَافَ الْعُدَدِ وَضُرُوبَ الْقَوَانِينِ، وَقَالُوا - لَمَّا حَلَّتْ بِسَاحَتِهِمْ - مَا لَنَا وَلِظَوَاهِرَ لَفْظِيَّةٍ لا تُفِيدُنَا شَيْئًا مِنْ الْيَقِين، وَعَوَامُّهم قَالُوا: حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ خَلْفُنَا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينِ، فَإِنَّهُمْ أَعْلَمُ بِهَا مِنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ، وَأَقْوَمُ بطرَائِق الْحُجَجِ وَالْبَرَاهِين، وَأُولئِكَ غَلَبَتْ عَلَيْهِمْ السَّذَاجَةُ وَسَلامَةُ الصُّدُورِ وَلَمْ يَتَفَرَّغُوا لِتَمْهِيدِ قَوَاعِدِ النَّظَرِ، وَلَكِنْ صَرَفُوا هَمَّهُمْ إِلى فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ، فَطَرِيقَةُ الْمُتَأَخِّرينَ: أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ، وَطَرِيقَةُ السَّلَفِ الْمَاضِينَ: أَجْهَلُ، لَكِنَّهَا أَسْلَمُ. أَنْزَلُوا نُصُوصَ السُّنَّةِ وَالْقُرْآنِ مَنْزِلَةَ الْخَلِيفَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، اسْمُهُ عَلَى السِّكَّةِ وَفِي الْخُطْبَةِ فَوْقَ الْمَنَابِرِ مَرْفُوعٌ، وَالْحُكْمُ النَّافِذُ لِغَيْرِهِ، فَحُكْمُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ وَلا مَسْمُوعٍ، لَبِسُوا ثِيَابَ أَهْلِ الإِيمَانِ عَلَى قُلُوبِ أَهْلِ الزَّيْغِ وَالْخُسْرَانِ، وَالْغِلِّ وَالْكُفْرَانِ، فَالظَّوَاهِرُ ظَوَاهِرُ الأَنْصَارِ، وَالْبَوَاطِنُ قَدْ تَحَيَّزَتْ إِلى الْكُفَّارِ، فَأَلْسِنَتُهُمْ ألْسِنَةُ الْمُسَالِمِينَ، وَقُلُوبُهُم قُلُوبُ الْمُحَارِبِين، وَيَقُولُونَ: {آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} .

رَأْسُ مَالِهِم الْخَدِيعَةُ وَالْمَكْرُ، وَبِضَاعَتُهُم الْكَذِبُ وَالْخَتْرُ، وَعِنْدَهِم الْعَقْلُ الْمَعِيشِي: أَنَّ الْفَرِيقَيْن عَنْهُمْ رَاضُونَ، وَهُمْ بَيْنَهُمْ آمِنُون {يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ} . قَدْ أَنْهَكَتْ أَمْرَاضُ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَوَاتِ قُلُوبَهُمْ فَأَهْلَكَتْهَا وَغَلَبَتِ الْقُصُورُ السَّيِّئَةُ عَلَى إِرَادَاتِهِمْ وَنِيَّاتِهِمْ فَأَفْسَدَتْهَا، فَفَسَادُهُمْ قَدْ تَرَامَى إِلى الْهَلاكِ، فَعَجِزَ عَنْهُ الأَطِبَّاءُ الْعَارِفُونَ {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} . مَنْ عَلِقَتْ مَخَالِبُ شُكُوكِهِمْ بَأَدِيمِ إِيمَانِهِ مَزَّقَتْهُ كُلَّ تَمْزِيقٍ، وَمَنْ تَعَلَّقَ شَرَرُ فِتْنَتِهِمْ بِقَلْبِهِ أَلْقَاهُ فِي عَذَابِ الْحَرِيقِ، وَمَنْ دَخَلَتْ شُبُهَاتُ تَلْبِيسِهِمْ فِي مَسَامِعِه حَالَتْ بَيْنَ قَلْبِهِ وَبَيْنَ التَّصْدِيقِ، فَفَسَادُهُمْ فِي الأَرْضِ كَثِير وَأَكْثَرُ النَّاسِ عَنْهُ غَافِلُون {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} . الْمُتَمَسِّكُ عِنْدَهُمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنةِ صَاحِبُ ظَوَاهِرٍ، مَبْخُوسُ حَظٍّ مِنْ الْمَعْقُولِ، وَالدَّائِرُ مَعَ النُّصُوصِ عِنْدَهُمَ كَحِمَارٍ يَحْمِلُ أَسْفَارًا فَهْمُه فِي حَمْلِ الْمَنْقُولِ وَبِضَاعَةُ تَاجِرِ الْوَحْيِ لَدَيْهِمْ كَاسِدَةٌ، وَمَا هُوَ عِنْدَهُمْ بِمَقْبُولِ، وَأَهْلُ الأَتْبَاعِ عِنْدَهُم سُفَهَاءُ فَهُمْ فِي خَلَوَاتِهِمْ وَمَجَالِسِهِمِ بِهِمْ يَتَطَيَّرُونَ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ} . قَالَ الشَّاعِرُ: (رَمَتْنِي بِدَائِهَا وَانْسَلَّتِ) . لِكُلِّ مِنْهُمْ وَجْهَانِ: وَجْهٌ يَلْقَى بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَجْهٌ يَنْقَلِبُ بِهِ إِلى إِخْوَانِهِ مِنْ الْمُلْحِدِينَ، وَلَهُ لِسَانَانِ: أَحَدُهُمَا يَقْلِبُه بِظَاهِرِ الْمُسْلِمِينَ وَالآخَرُ يترجمُ بِهِ عَنْ سِرِّهِ الْمَكْنُونِ {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} .

قَدْ أَعْرَضُوا عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ اسْتِهْزَاءً بِأَهْلِهِمَا وَاسْتِحْقَارًا، وَأَبَوا أَنْ يَنْقَادُوا لِحُكْمِ الْوَحْيَيْنِ فَرَحًا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ الذِي لا يَنْفَعُ الاسْتِكْثَارُ مِنْهُ إِلا شَرًّا وَاسْتِكْبَارًا فَتَرَاهُمْ أَبَدًا بِالْمُتَمَسِّكِينَ بِصَرِيح الْوَحْيِ يَسْتَهْزِئُونَ {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} . خَرَجُوا فِي طَلَبِ التِّجَارَةِ الْبَائِرَةِ فِي بِحَارِ الظُّلُمَاتِ، فَرَكِبُوا مَرَاكِبَ الشُّبَه وَالشُّكُوكِ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجِ الْخَيَالاتِ، فَلَعِبَتْ بِسُفُنِهِمْ الرِّيحُ الْعَاصِفُ؛ فَأَلْقَتْهَا بَيْنَ سُفن الْهَالِكِينَ {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} . أَضَاءَتْ لَهُمْ نَارُ الإِيمَانِ فَأَبْصِرُوا فِي ضَوْئِهَا مَوَاقِعَ الْهُدَى وَالضَّلالِ ثُمَّ طَفِئَ ذَلِكَ النُّورِ، وَبَقِيتْ نَارًا تَتَأَجَّجُ ذَاتَ لَهَبٍ وَاشْتِعَال، فَهُمْ بِتَلْكَ النَّارِ مُعَذبُون، وَفِي تِلْكَ الظُّلُمَاتِ يَعْمَهُونَ {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ} . أَسْمَاعُ قُلُوبِهم قَدْ أثْقَلَهَا الْوَقْرُ، فَهِيَ لا تَسْمَعُ مُنَادِي الإِيمَان، وَعُيونُ بَصَائِرِهم عليها غِشَاوَةُ الْعَمَى، فَهِي لا تُبْصِرُ حَقَائِقُ الْقُرْآنِ، وَأَلْسِنَتُهم بِهَا خَرَسٌ عَنْ الْحَقِّ، فَهُمْ بِهِ لا يَنْطِقُونَ {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} . صَابَ عَلَيْهِم صَيِّبُ الْوَحْي، وَفِيهِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ وَالأَرْوَاحِ، فَلَمْ يَسْمَعُوا مِنْهُ إِلا رَعْد التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ وَالتَّكَالِيفِ الَّتِي وُظِّفَتْ عَلَيْهم فِي الْمَسَاءِ وَالصَّبَاحِ، فَجَعَلُوا أَصَابِعَهُم فِي آذَانِهِمْ، وَاسْتَغْشَوا ثِيَابَهُمْ، وَجَدُّوا فِي الْهَرَبِ، وَالطَّلَبُ فِي آثَارِهِمْ وَالصِّيَاحُ، فَنُودِي عَلَيْهِمْ عَلَى رُؤوسِ الأَشْهَادِ، وَكُشِفَتْ حَالُهمْ لِلْمُسْتَبْصِرينَ، وَضَربَ لَهُمْ مَثَلانِ بِحَسَب حَالِ

الطَّائِفَتَيْنِ مِنْهُمْ: الْمُنَاظِرِينَ، وَالْمُقَلِّدِينَ، فَقِيلَ: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ} . ضَعُفَتْ أَبْصَارُ بَصَائِرِهِمْ عَنْ احْتِمَالِ مَا فِي الصَّيِّب مِنْ بَرُوقِ أَنْوَارِهِ وَضِيَاءِ مَعَانِيهِ، وَعَجَزتْ أَسْمَاعُهُمْ عَنْ تَلَقِّي رُعُودِ وَعُودِهِ وَأَوَامِرهِ وَنَوَاهِيِهِ، فَقَامُوا عِنْدَ ذَلِكَ حَيَارَى فِي أَوْدِيَةِ التِّيهِ، لا يَنْتَفِعُ بِسَمْعِهِ السَّامِعُ، وَلا يَهْتَدِي بِبَصَرِهِ الْبَصِيرُ {كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} واللهُ أَعْلَمُ. فَصْلٌ لَهُمْ عَلامَاتٌ يُعْرَفُونَ بِهَا مُبَيِّنَةٌ فِي السُّنَّةِ وَالْقُرْآنِ، بَادِيَةٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهَا مِنْ أَهْلِ بَصَائِرِ الإِيمَانِ، قَامَ بِهِمْ - وَاللهِ - الرِّيَاءُ، وَهُوَ أَقْبَحُ مَقَامٍ قَامَهُ الإِنْسَانُ، وَقَعَدَ بِهِمْ الْكَسَلُ عَمَّا أُمِرُوا بِهِ مِنْ أَوَامِرِ الرَّحْمَنِ، فَأَصْبَحَ الإِخْلاُص عَلَيْهِمْ لِذَلِكَ ثَقِيلاً {وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً} . أَحَدُهْم كَالشَّاةِ الْعَائِرَة بَيْنَ الْغَنمَينِ، تَيْعَرُ إِلى هَذِهِ مَرَّةً وَإِلى هَذِهِ مَرَّةً وَلا تَسْتَقِرُّ مَعَ إِحْدَى الْفِئَتَيْنِ، فَهُمْ وَاقِفُونَ بَيْنَ الْجَمْعَين، يَنْظُرُونَ أَيُّهُمْ أَقْوَى وَأَعَزُّ قَبِيلاً {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} . يَتَرَبَّصُونَ الدَّوَائِرَ بِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْقُرْآنِ. فَإِنْ كَانَ لَهُمْ فَتْحٌ مِنْ اللهِ قَالُوا: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ وَأَقْسَمُوا عَلَى ذَلِكَ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ، وَإِنْ كَانَ لأَعْدَاءِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ النُّصْرَةِ نَصِيبٌ، قَالُوا: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ عَقْدَ الإِخَاءِ بَيْنَنَا مُحْكَمٌ، وَأَنَّ النَّسَبَ بَيْنَنَا قَرِيبٌ؟ فَيَا مَنْ يُرِيدُ مَعْرِفَتَهُمْ، خُذْ صِفَاتِهِمْ

مِنْ كَلامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فلا تَحْتَاجُ بَعْدَهُ دَلِيلاً: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} . يُعْجبُ السَّامِعَ قَوْلُ أَحَدِهِمْ لِحَلاوَتِهِ وَلِيْنِه، وَيُشْهِدُ اللهُ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ كَذبِهِ وَمَيْنِه، فَتَرَاهُ عِنْدَ الْحَقِّ نَائِمًا، وَفِي الْبَاطِل عَلَى الأَقْدَامِ فَخُذْ وَصْفَهُمْ مِنْ قَوْلِ الْقُدُّوسِ السَّلامِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} . أَوَامِرُهُم الَّتِي يَأْمُرونَ بِهَا أَتْبَاعَهُم مُتَضَمِّنَةٌ لِفَسَادِ الْبِلادِ والْعِبَادِ، وَنَوَاهِيهم عَمَّا فِيهِ صَلاحُهم فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَأَحَدُهُمْ تَلْقَاهُ بَيْنَ جَمَاعَةِ أَهْلِ الإِيمَانِ فِي الصَّلاةِ وَالذِّكْرِ وَالزُّهْدِ وَالاجْتِهَادِ {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} . فَهُم جِنْسُ بَعْضُه يُشْبِهُ بَعْضَا، يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ بَعْدَ أَنْ يَفْعَلُوه، وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ بَعْدَ أَنْ يَتْرُكُوه، وَيَبْخَلُون بِالْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَرْضَاتِهِ أَنْ يُنْفِقُوهُ، كَمْ ذَكَّرَهُمْ اللهُ بِنِعمِهِ فَأَعْرَضُوا عَنْ ذِكْرِهِ وَنَسُوهُ؟ وَكَمْ كَشَفَ حَالَهُم لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَجْتَنِبُوه؟ فَاسْمَعُوا أَيُّهَا الْمُؤمِنِينَ: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . إِنْ حَاكَمْتَهُم إِلى صَرِيحِ الْوَحْي وَجَدْتَهُم عَنْهُ نَافِرِينَ، وَإِنْ دَعَوْتَهُمْ إِلى حُكْمِ كِتَابِ اللهِ وَسُنّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم رَأَيْتَهُمْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَلَوْ شَهِدْتَ حَقَائِقَهُم لَرَأَيْتَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْهُدَى أَمَدًا بَعِيدًا، وَرَأَيْتَهَا مُعْرِضَةً عَنْ

الْوَحْي إِعْرَاضًا شَدِيدًا {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} . فَكَيْفَ لَهُمْ بِالْفَلاحِ وَالْهُدَى! بَعْدَ مَا أُصِيبُوا فِي عُقُولِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ وَأَنَّى لَهُمْ التَّخَلُّصُ مِنْ الضَّلالِ وَالرَّدَى؟ وَقَدْ اشْتَرَوا الْكُفْرَ بِإيمَانِهِم؟ فَمَا أَخْسَرَ تِجَارَتَهِمْ الْبَائِرَةِ! وَقَدْ اسْتَبْدَلُوا بِالرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ حَرِيقًا {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} . نَشَبَ زَقُّومُ الشُّبَهِ وَالشُّكُوكِ فِي قُلُوبِهِمْ. فَلا يُجِيدُونَ لَهُ مَسِيغَا {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} . تَبًّا لَهُمْ، مَا أَبْعَدَهُمْ عَنْ حَقِيقَةِ الإِيمَانِ! وَمَا أَكْذَبَ دَعْوَاهُمْ لِلتَّحْقِيقِ وَالْعُرْفَانِ، فَالْقَوْمُ فِي شَأْنٍ وَإِتِّبَاعِ الرَّسُولِ فِي شَأْنٍ. وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ. فَصْلٌ لَقَدْ أَقْسَمِ اللهُ جَلَّ جَلالُهُ فِي كِتَابِهِ بِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ قَسَمًا عَظِيمًا يَعْرِفُ مَضْمُونَه أُولُوا الْبَصَائِر، فَقُلُوبُهم مِنْهُ عَلَى حَذَرٍ إِجْلالاً لَهُ وَتَعْظِيمًا، فَقَالَ تَعَالى تَحْذِيرًا لأَوْلِيَائِهِ وَتَنْبِيهًا عَلَى حَالِ هَؤُلاءِ وَتَفْهِيمًا: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} . تَسْبِقُ يَمِينُ أَحَدِهم كَلامَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْتَرَضَ عَلَيْهِ، لِعِلْمِهِ أَنَّ قُلُوبَ أَهْلِ الإِيمَانِ لا تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ، فَيَتَبَرَّأَ بِيَمِينِهِ مِنْ سُوءِ الظَّنَّ بِهِ وَكَشْفِ مَا لَدَيْهِ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الرِّيبَةِ يَكْذِبُونَ، وَيَحْلِفُونَ لِيَحْسَبَ السَّامِعُ أَنَّهُمُ صَادِقُونَ قَدْ {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .

قَالَ الشَّاعِر: أَمْسَى النِّفَاقُ دُرُوعًا يَسْتَجِنُّ بِهَا ... عَنِ الأَذَى وَيُقَوِّي سَرْدَهَا الْحَلِفُ تَبًّا لَهُمْ بَرَزُوا إِلى الْبَيْدَاءِ مَعَ رَكْبِ الإِيمَانِ، فَلَمَّا رَأَوْا طُولَ الطَّرِيقِ وَبُعْدَ الشُّقَّةِ نَكَصُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ وَرَجَعُوا، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ يَتَمَتَّعُونَ بِطَيِّبِ الْعَيْشِ وَلَذَّةِ الْمَنَامِ فِي دِيَارِهِمْ، فَمَا مَتَّعُوا بِهِ وَلا بِتِلْكَ الْهَجْعَةِ انْتَفَعُوا، فَمَا هُو إِلا أَنْ صَاحَ بِهِمْ الصَّائِحُ فَقَامُوا عَنْ مَوَائِدِ أَطْعِمَتِهِمْ وَالْقَوْمُ جِيَاعٌ مَا شَبِعُوا، فَكَيْفَ حَالُهم عِنْدَ اللِّقَاءِ؟ وَقَدْ عَرَفُوا ثُمَّ أَنْكَرُوا، وَعَمُوا بَعْدَ مَا عَايَنُوا الْحَقَّ وَأَبْصَرُوا {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} . أَحْسَنُ النَّاسِ أَجْسَامًا وَأَخْلَبُهم لِسَانًا وَأَلْطَفَهُمْ بَيَانًا وَأَخْبَثَهُمْ قُلُوبًا وَأَضْعَفَهُمْ جَنَانًا، فَهُمْ كَالْخَشَبِ الْمُسَنَّدَةِ الَّتِي لا ثَمَرَ لَهَا، قَدْ قُلِعَتْ مِنْ مَغَارِسِهَا فَتَسَانَدَتْ إِلى حَائِطٍ يُقِيمُهَا لِئلا يَطَأهَا السَّالِكُونَ {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} ! يُؤخِّرُونَ الصَّلاةَ عَنْ وَقْتِهَا الأَوَّلِ إِلى شَرْقِ الْمَوْتَى، فَالصُّبْحُ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَالْعَصْرُ عِنْدَ الْغُرُوبِ، وَيَنْقُرونَهَا نَقْرَ الْغُرَابِ، إِذْ هِيَ صَلاةُ الأَبْدَانِ لا صَلاةُ الْقُلُوبِ، وَيَلْتَفِتُونَ فِيهَا الْتِفَاتَةِ الثَّعْلَبِ، إِذْ يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ مَطْرُودٌ مَطْلُوبٌ، وَلا يَشْهَدُونَ الْجَمَاعَةِ، بَلْ إِنْ صَلَّى أَحَدهُم فَفِي الْبَيْتِ أَوْ الدُّكَّانِ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ، هَذِهِ مُعَامَلَتُهُمْ لِلْخَلْقِ، وَتِلْكَ مُعَامَلَتُهم لِلْخَالِق، فَخُذْ وَصْفَهُم مِنْ أَوَّلِ (الْمُطَفِّفِينَ) وَآخِر (وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ)

فَلا يُنَبِّئُكَ عَنْ أَوْصَافِهِمْ مِثْلُ خَبِيرٍ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . فَمَا أَكْثَرَهُمْ! وَهُمْ الأَقَلُّونَ، وَمَا أَجْبَرَهُم! وَهُمْ الأَذَلُّونَ، وَمَا أَجَهَلهُم! وَهُمْ الْمُتَعَالِمُونَ، وَمَا أَغَرَّهُمْ بِاللهِ! إِذْ هُمْ بِعَظَمَتِهِ جَاهِلُونَ {وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ، وَمَا هُم مِّنكُمْ، وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} . إِنْ أَصَابَ أَهْلُ الْكِتَاب والسُّنَّةِ عَافِيَةٌ وَنَصْرٌ وَظُهُورٌ سَاءَهُمْ ذَلِكَ وَغَمَّهُمْ وَإِنْ أَصَابَهُمْ ابْتِلاءٌ مِنْ اللهِ وَامْتِحَانُ يُمَحِّصُ بِهِ ذُنُوبَهُمْ وَيُكَفِّرُ بِهِ عِنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ أَفْرَحَهُمْ بِذَلِكَ وَسَرَّهُمْ وَهَذَا يُحَقِّقُ إِرْثَهُمْ وَإِرْثَ مَنْ عَدَاهُمْ، وَلا يَسْتَوِي مَنْ مَوْرُوثُه الرَّسُولُ وَمَنْ مَوْرُوثهُم الْمُنَافِقُونَ {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ، وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ، وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ * قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا، هُوَ مَوْلاَنَا، وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} وَقَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ السَّلَفَيْن الْمُخْتَلِفَيْنِ، وَالْحَقُّ لا يَنْدَفِعُ بِمُكَابَرَةِ أَهْلِ الزَّيْغِ وَالتَّخْلِيطِ: {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} . كَرِهَ اللهُ طَاعَاتِهِم لِخُبْثِ قُلُوبِهِمْ وَفَسَادِ نِيَّاتِهِمْ، فَثَبَّطَهُمْ عَنْهَا وَأَقْعَدَهُمْ، وَأَبْغَضَ قُرْبِهِمْ مِنْهُ وَجَوَارَهُ، لِمَيْلِهِمْ إِلى أَعْدَائِهِ، فَطَرَدَهُمْ عَنْهُ وَأَبْعَدَهُمْ، وَأَعْرَضُوا عَنْ وَحْيِهِ فَأَعْرَضَ عَنْهُمْ، وَأَشْقَاهُمْ وَمَا أَسْعَدَهُمْ، وَحَكمَ عَلَيْهِمْ بِحُكْمِ عَدْلٍ لا مَطْمَعَ لَهُمْ فِي الْفَلاحِ بَعْدِهِ إِلا أَنْ يَكُونُوا مِنْ التَّائِبِينَ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} . ثُمَّ ذَكَرَ حِكْمَتَهُ فِي تَثْبِيطِهم

وَإِقْعَادِهِمْ، وَطَرْدِهم عَنْ بَابِهِ وَإِبْعَادِهِمْ، وَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ لُطْفِهِ بِأَوْلِيَائِهِ وَإِسْعَادِهِمْ، فَقَالَ وُهَوُ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} . ثَقُلَتْ عَلَيْهِمْ النُّصُوصُ فَكَرِهُوهَا، وَأَعْيَاهُمْ حَمْلُهَا فَأَلْقُوهَا عَنْ أَكْتَافِهِمْ وَوَضَعُوهَا، وَتَفَلَتَتْ مِنْهُمْ السُّنَنُ أَنْ يَحْفَظُوهَا فَأَهْمَلُوهَا، وَصَالَتْ عَلَيْهِمْ نُصُوصُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةِ فَوَضَعُوا لَهَا قَوَانِينَ رَدُّوهَا بِهَا وَدَفَعُوهَا، وَلَقَدْ هَتَكَ اللهُ أَسْتَارَهُم، وَكَشَفَ أَسْرَارَهُم، وَضَرَبَ لِعَبَادِهِ أَمْثَالَهُمْ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ كُلَّمَا انْقَرَضَ مِنْهُمْ طَوَائِفُ خَلفَهم أَمْثَالُهُمْ، فَذَكَرَ أَوْصَافِهمْ لأَوْلِيَائِهِ لِيَكُونُوا مِنْهَا عَلَى حَذَرِ، وَبَيْنَهَا لَهُمْ فَقَالَ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} (وَاللهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّم) . فَصْلٌ: هَذَا شَأْنُ مَنْ ثَقُلَتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ، فَرَآهَا حَائِلَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بِدْعَتِهِ وَهَوَاهُ، فَهِيَ فِي وَجْهِهِ. كَالْبُنْيَانِ الْمَرْصُوصِ، فَبَاعَهَا بِمُحَصَّل مِنْ الْكَلامِ الْبَاطِلِ، وَاسْتَبْدَلَ مِنْهَا بِالْفُصُوصِ فَأَعْقَبَهم ذَلِكَ أَنْ أَفْسَدَ عَلَيْهِمْ إِعْلانَهُمْ وَإِسْرَارَهُمْ {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} . أَسَرُّوا سَرَائِرَ النِّفَاقِ، فَأَظْهَرَهَا اللهُ عَلَى صَفَحَاتِ الْوُجُوه مِنْهُمْ وَفَلَتَاتِ اللِّسَانِ، وَوَسَمَهُمْ لأَجْلِهَا بِسِيْمَاءِ لا يَخْفَوْنَ بِهَا عَلَى أَهْلَ الْبَصَائِرَ وَالإِيمَانِ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِذْ كَتَمُوا كُفْرَهُمْ وَأَظْهَرُوا إِيمَانَهم رَاجُوا عَلَى الصَّيَارِفِ وَالنُّقَادِ،

كَيْفَ؟ وَالنَّاقِدُ الْبَصِيرُ قَدْ كَشَفَهَا لَكُمْ {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} . فَكَيْفَ إِذَا جُمِعُوا لِيَوْمِ التَّلاقِ، وَتَجَلَّى اللهُ - جَلَّ جَلالهُ - لِلْعِبَادِ وَقَدْ كَشَفَ عَنْ سَاقٍ؟ وَدُعُوا إِلى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} . أَمْ كَيْفَ بِهِمْ إِذَا حُشِرُوا إِلى جِسْرِ جَهَنَّمَ؟ وَهُوَ أَدَقُّ مِنْ الشَّعْرَةِ، وَأَحَدُّ مِنْ الْحُسَامِ، وَهُوَ دَحْضٌ مَزَلَّةٌ، مُظْلِمٌ، لا يَقْطَعُه أَحَدٌ إِلا بِنُورٍ يُبْصِرُ بِهِ مَوَاطِئ الأَقْدَامِ، فَقُسِّمَتْ بَيْنَ النَّاسِ الأَنْوَارُ، وَهُمْ عَلَى قَدْرِ تَفَاوُتِهَا فِي الْمُرُورِ وَالذِّهَابِ، وَأَعْطُوا نُورًا ظَاهِرًا مَعْ أَهْلِ الإِسْلامِ، كَمَا كَانُوا بَيْنَهُمْ فِي هَذِهِ الدَّارُ يَأْتُونَ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحِجِّ وَالصِّيَامِ، فَلَمَّا تَوَسَّطُوا الْجَسْرَ عَصَفَتْ عَلَى أَنْوَارِهِمْ أَهْوِيَةُ النِّفَاقِ. فَأَطْفَأَتْ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ الْمَصَابِيح فَوَقَفُوا حَيَارَى لا يَسْتَطِيعُونَ الْمُرُورَ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنُ أَهْلِ الإِيمَانِ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ، وَلَكِنْ قَدْ حِيلَ بَيْنَ الْقَوْم وَبَيْنَ الْمَفَاتِيحِ، بَاطِنُه - الذِي يَلِي الْمُؤْمِنِينَ فِيهِ الرَّحْمَةِ -، وَمَا يَلِيهِمْ مِنْ قَبْلِهِمْ الْعَذَابِ وَالنَّقِمَةُ، يُنَادُونَ مِنْ تَقَدَّمَهُمْ مِنْ وَفْدِ الإِيمَانِ، وَمَشَاعِلُ الرَّكْبِ تَلُوحُ عَلَى بُعْدٍ كَالنُّجُومِ تَبْدُو لِنَاظِر الإِنْسَانِ {انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} لِنَتَمَكَّنَ فِي هَذَا الْمَضِيقِ مِنْ الْعُبُورِ، فَقَدْ طَفَشَتْ أَنْوَارُنَا، وَلا جَوَاز الْيَوْمَ إِلا بِمِصْبَاح مِنْ النُّورِ {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً} حَيْثُ قُسِّمَتْ الأَنْوَارِ، فَهَيْهَاتَ الْوُقُوفُ لأَحَدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمِضْمَارِ! كَيْفَ نَلْتَمِسُ الْوُقُوفَ فِي هَذَا الْمُضِيقِ؟ فَهَلْ يَلْوِي الْيَوْمِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ فِي هَذَا الطَّرِيقِ؟ وَهَلْ يَلْتَفِتُ الْيَوْمَ رَفِيقٌ إِلى رَفِيقٍ؟ فَذَكَّرُوهُم

بِاجْتِمَاعِهِمْ مَعَهُمْ وَصُحْبَتِهِمْ لَهُمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ، كَمَا يُذَكِّرُ الْغَريبُ صَاحِبَ الْوَطَنِ بِصُحْبَتِهِ فِي الأَسْفَارِ {أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} ؟ نَصُومُ كَمَا تَصُومُونَ، وَنُصَلِّي كَمَا تُصَلُّونَ، وَنَقْرَأُ كَمَا تَقْرَءُونَ، وَنَتَصَدَّقُ كَمَا تُصَدِّقُونَ، وَنَحُجُّ كَمَا تَحُجُّونَ؟ فَمَا الذِي فَرَّقَ بَيْنَنَا الْيَوْمَ حَتَّى انْفَرَدْتُمْ دُونَنَا بِالْمُرُورِ؟ {قَالُوا بَلَى} وَلَكِنَّكُمْ كَانَتْ ظَوَاهِرُكُمْ مَعَنَا وَبَوَاطِنُكم مَعَ كُلِّ مُلْحِدٍ، وَكُلِّ ظَلُومٍ كَفُورٍ {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . لا تَسْتَطِلْ أَوْصَافَ الْقَوْم، فَالْمَتْرُوكُ - وَاللهِ - أَكْثَرُ مِنْ الْمَذْكُورِ كَادَ الْقُرْآنُ أَنْ يَكُونَ كُلَّهُ فِي شَأْنِهِمْ، لِكَثْرَتِهِمْ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ وَفِي أَجْوَافِ الْقُبُورِ، فَلا خَلَتْ بِقَاعُ الأَرْضِ مِنْهُمْ لِئَلا يَسْتَوْحِشَ الْمُؤْمِنُونَ فِي الطُّرَقاتِ، وَتَتَعَطَّلَ بِهِمْ أَسْبَابُ الْمَعَايِشِ، وَتَخَطَّفُهمْ الْوُحُوشُ وَالسِّبَاعُ فِي الْفَلَوَاتِ، سَمَعَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رَجُلاً يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَهْلِكْ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ: (يَا ابن أَخِي، لَوْ هَلَكَ الْمُنَافِقِونُ لاسْتَوْحَشْتُم فِي طُرُقَاتِكُمْ مِنْ قِلَّةِ السَّالِكِ) . تَاللهِ لَقَدْ قَطَعَ خَوْفُ النِّفَاقِ قُلُوبَ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ لَعِلْمِهم بِدِقِّهِ وَجُلِّه، وَتَفَاصِيلِهِ وَجُمَلِهِ، سَاءَتْ ظُنُونُهُم بِنُفُوسِهِمْ، حَتَّى خَشُوا أَنْ يَكُونُوا مِنْ جُمْلَةِ الْمُنَافِقِينَ، قَالَ عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ لِحُذَيْفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (يَا حُذَيْفَةِ، نَشَدْتُكَ بِاللهِ، هَلْ سَمَّانِي لَكَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: لا، وَلا أُزَكِّي بَعْدَكَ أَحَدًا، وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَدْرَكْتُ ثَلاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقُ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّ إِيمَانَهُ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ) . ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ، وَذَكَرَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيّ (مَا أَمِنَهُ إِلا مُنَافِقٌ، وَمَا خَافَهُ إِلا

مُؤْمِنٌ) وَلَقَدْ ذُكِرَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ خُشُوعِ النِّفَاقِ، قِيلَ: وَمَا خُشُوعِ النِّفَاقِ؟ قَالَ: أَنْ يُرَى الْبَدَنُ خَاشِعًا وَالْقَلْبُ لَيْسَ بِخَاشِعٍ) . تَاللهِ لَقَدْ مُلِئَتْ قُلُوبُ الْقَوْمِ إِيمَانًا وَيَقِينًا، وَخَوْفُهُمْ مِنْ النِّفَاقِ شَدِيدٌ وَهَمُّهُمْ لِذَلِكَ ثَقِيلٌ، وَسِوَاهُمْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ لا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، وَهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ إِيمَانَهُمْ كَإِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلِ. زَرْعُ النِّفَاقِ يَنْبُت عَلَى سَاقِيَتَيْنِ: سَاقِيَةُ الْكَذِبِ، وَسَاقِيَةُ الرِّيَاءِ وَمَخْرَجُهمَا مِنْ عَيْنَيْن: عَيْن ضَعْف الْبَصِيرَةِ، وَعَيْنَ ضَعْفِ الْعَزِيمَةِ، فَإِذَا تَمَّتْ هَذِهِ الأَرْكَانُ الأَرْبَعُ، اسْتَحْكَمَ نَبَاتُ النِّفَاقُ وَبُنْيَانُه، وَلَكِنَّه بِمَدَارِجِ السُّيُولِ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، فَإِذَا شَاهَدُوا سَيْلَ الْحَقَائِق يَوْم تُبْلَى السَّرَائِرُ، وَكُشِفَ المَسْتُورُ وُبُعْثِرَ مَا فِي القُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ تَبَيَّنَ حِينَئِذٍ لِمَنْ كَانَتْ بِضَاعَتُهُ النِّفَاقُ، أَنَّ حَوَاصِلُه الَّتِي حَصَّلَهَا كَانَتْ كَالسَّرَابِ {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} . قُلُوبُهُمْ عَنْ الْخَيْرَاتِ لاهِيَةٌ، وَأَجْسَادُهُمْ إِلَيْهَا سَاعِيَةٌ، وَالْفَاحِشَةُ فِي فَجَاجِهِمْ فَاشِيَةٌ، وَإِذَا سَمِعُوا الْحَقِّ كَانَتْ قُلُوبُهُمْ عَنْ سَمَاعِهِ قَاسِيَةٌ. وَإِذَا حَضَرُوا الْبَاطِلَ وَشَهدُوا الزُّورَ، انْفَتَحَتْ أَبْصَارُ قُلُوبِهِمْ، وَكَانَتْ آذَانُهُمْ وَاعِيَةً. فَهَذِهِ - وَاللهِ - أَمَارَاتُ النِّفَاقِ، فَاحْذَرْهَا أَيَّهَا الرَّجُلُ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ بِكَ الْقَاضِيَةُ، إِذَا عَاهَدُوا لَمْ يَفُوا، وَإِنْ وَعَدُوا أَخْلَفُوا وَإِنْ قَالُوا لَمْ يُنْصِفُوا، وَإِنْ دُعُوا إِلى الطَّاعَةِ وَقَفُوا، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ

غزوة الأحزاب

صَدَفُوا، وَإِذَا دَعَتَهُمْ أَهْوَاؤُهم إِلى أَغْرَاضِهم أَسْرَعُوا إِلَيْهَا وَانْصَرَفُوا فَذَرْهُمْ وَمَا اخْتَارُوا لأَنْفُسِهِمْ مِنْ الْهَوَانِ، وَالْخِزْيِ وَالْخُسْرَانِ، فَلا تَثِقُ بعُهُودِهِمْ، وَلا تَطْمَئِنَّ إِلى وُعُودِهِمْ، فَإِنَّهُمْ فِيهَا كَاذِبُونَ، وَهُمْ لِمَا سِوَاهَا مُخَالِفُونَ {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} . اللَّهُمَّ امْنُنْ عَلَيْنَا بِإِصْلاحِ عُيُوبِنَا وَسَتْرِ زَلاتِنَا وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الْمُهْتَدِينَ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. غزوة الأحزاب وكانت قريش تستعد لهجوم جديد على المدينة لما كان النبي ? مُهْتمًّا في إخماد ثَوراتِ القبائل، قبل أن يَتَطورَ أمرُها فيصبح حربًا عوانًا عليه، وتحالف يهود خيبر مع قريش، وقد نجحوا في إثارة القبائل العربية القاطنة بضواحي مكة، فانضمت إلى المناهضين للإسلام. وبذلك اتفق اليهود وقريش وسائر قبائل العرب على توجيه الضربة للإسلام، فجمعوا جيشًا عدته عشرة آلاف مقاتل، وكان ذلك في السنة الخامسة للهجرة. ونكثت القبائل اليهودية القاطنة في داخل المدينة عهدها في اللحظة الأخيرة وانضمت إلى أعداء الإسلام، فأصبح مركز المسلمين حرجًا وبات أملهم في النجاة ضعيف. ثم تَرَامتِ الأنباءُ إلى النبي ? بخبر هذا الجمع الحاشد الذي لم يسبق له مثيل فدعا أصحابه واستشارهم فيما ينبغي عمله. لقد كانت المدينة محصنة

من جهة تحصينًا طبيعيًا بالصخور، وكانت تحميها أسوار المنازل الحجرية من جهة أخرى، وهذه الأسوار ممتدة فكانت حصنًا متينًا بطبيعتها، فلم يبق إلا جهة واحدة مفتوحة لهجوم العدو، فاقترح سلمان الفارسي، حفر خندق عميق في هذه الجهة، فشرع في حفر الخندق فورًا وقسم المؤمنون إلى فرق، تتكون كل فرقة من عشرة، وعمل النبي ? معهم فكان يضرب الأرض ويحمل التراب ويقول: ((اللَّهُمَّ إن العيش عيش الآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَة)) . فيردد المسلمون خلفه: نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا شخصية كبيرة سيطرت على شعب عظيم روحيًا وسياسيًا ثم تقوم بما يقوم به الرجل العادي في ساعات الحرج، عندما يتعرض الوطن للخطر، إنه عمل فريد في التاريخ، وإنها لناحية ممتازة في شخصية النبي ?، إنه ليبهر البصر بأعماله، فما قام بعمل إلا أداه بطريقة مُشَرِّفة، وتواضعٍ كريم نبيل، كان أقرب الزعماء قربًا من الرجل العادي، وكان أرفعهم مكانة، وأعزهم نفرًا. بينما كانوا يحفرون الخندق صادفوا كُدْيَةً شديدة استعصت عليهم فجاءوا النبي فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، واستأذنوه في تغيير مجرى الخندق، فقال: ((أنا نازل)) ، وتناول معوله، وأخذ يضربها حتى صارت رملاً لا يتماسك وكان كلما ضربها ضربة تطايرت شرارة فيصوت النبي ?: ((الله أكبر)) . وقال: إنه رأى في الشرارة الأولى أنه أعطى مفاتيح سورية، وأنه رأى في الشرارة الثانية أنه أعطى مفاتيح فارس، وفي الشرارة الثالثة، أنه أعطى مقاليد

اليمن، وشرح لهم كيف شاهد قصور القياصرة، وقصر كسرى وصنعاء، وبشرهم بأنهم سيسيطرون على هذه الممالك جميعها. فَيَا لَهَا مِن ظَاهِرَةٍ عجيبة! يرى النبي ? من خلال السحب القائمة وجيوش الأعداء تحيط به من كل جانب، عازمة على إبادتهم، مستقبلاً سعيدًا عزيزًا للإسلام! أليس هذا بعجيب، فوق ما يتصور البشر، ومن غير الله علام الغيوب، يستطيع أن يكشف للنبي ? عن المستقبل، وما يدخره لهم من عزة وسلطان، في مثل هذه اللحظة العسيرة، التي يهدد الأعداء فيها الإسلام بالانقراض والدمار؟! كانت ساعة رهيبة، تلك الساعة التي إنقضت فيها جموع الأحزاب على المدينة، ارتجت المدينة، وقد وصف في القرآن ما انتاب أهلها من قلق وفزع: {إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} . وعلى الرغم من مَنَاظِر الْفَزَعِ والْهَلَع، فإن المسلمين كانوا مطمئنين إلى تحقيق ما وعدهم الله ورسوله، وقد وصف القرآن شعورهم: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} . وفطن المسلمون إلى أن هذه المحاولة هي محاولة يائسة لعدو متهالك، على الرغم من البلايا التي حاقت بهم، ونزلت بساحتهم، وأحسوا أن هذه هي المحاولة الأخيرة، وستختضد شوكة الأعداء بها إلى الأبد، وأنها بداية عهد عز الإسلام، ونشره وانتصاره. احتاط المسلمون للأمر، فقد كانوا يخشون خيانة اليهود أو هجوم العدو

المفاجئ، فوضعوا نساءهم وأطفالهم في مكان أمين، واستمر الحصار شهرًا ذاق المسلمون خلاله ألوان العذاب والحرمان. وقد شاركهم النبي ? في مصيرهم، فجاعت بطونهم، وكادوا يهلكون، وعصبوا بطونهم بالحجارة، ولكن روحهم المعنوية لم تهن ولم تتزعزع. ولو أن غطفان أخذت ثلث الثمار لما انضمت إلى الأعداء، ولنقصت قوات الأعداء كثيرًا. ولكن الأنصار رفضوا على الرغم من جوعهم الشديد الذي بلغ حد الهلاك، فقد أبوا أن يقبلوا عملاً يعتبرونه ماسًا لكرامتهم، فكيف يدفعون خراجًا لغطفان بعد أن شرفهم الله بالإسلام، وما كانوا يدفعون له شيئًا أيام الجاهلية، فليكن ما يكون، وليذودوا عن أنفسهم حتى آخر رجل، وإنهم لصابرون حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً. كان اليهود والمنافقون ينتظرون هجوم الأعداء من الخارج، ليثيروا الشغب في الداخل، وابتدأت منازعات فردية داخلية، انتصر فيها المسلمون، وَقَتَلَ عَلِيّ بن أبي طالب عمرو بن عبد ود، الذي كان يزعم أنه كفء لمنازلة ألف رجل والانتصار عليهم، وهجمت قريش بكل قواها ولكنها لم تستطع اجتياز الخندق. ونزل على المسلمين وابل من السهام والحجارة، ولولا ثباتهم الرائع الذي أمدهم الله به، وإيمانهم العميق الذي ثبته الله، لتمكنت قريش منهم. وأخيرًا جاء الفرج من السماء، وجوزوا على ثباتهم خير جزاء، فبعد أن أخفق جيش الأعداء العظيم في اقتحام الخندق، وبعد أن قلت المئونة، وسئموا الحصار، أرسل الله عليهم ريحًا صرصرًا عاتية، قلبت قدورهم، واقتلعت خيامهم، فوقع الاضطراب في صفوفهم.

منظومة للشيخ عبد الرحمن الناصر السعدي في السير إلى الله والدار الآخرة وفائدة جليلة في المصطفين الذين أورثهم الله الكتاب له أيضا

وقد أشار القرآن إلى هذا: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} ونجحت ريح الله بإذن الله فيما عجزت عنه أسلحة المسلمين، فلما رأت الأحزاب أن الطبيعة نفسها التي خلقها الله ودبرها وأجراها قد تألبت عليهم، تطيروا، فدب القنوط في قلوبهم، وملئوا رعبًا. فقفلوا راجعين عن المدينة في نفس الليلة، فلما لاح الصباح، كان سرور المسلمين عظيمًا، فقد رحل الأعداء جميعًا، وما بقي منهم أحد، فهل يتسرب إلى أحد أدنى شك في هذا النصر من عند الله، وأن يد الله العليا هي التي حالت دون أن يتمكن هذا الجيش المتفوق تفوقًا ظاهرًا، من أن ينال من تلك الفئة القليلة ويسحقها، لقد تآمر المنافقون واليهود على الإسلام، وانضموا إلى أعدائه، ولكن الله نصره، وهكذا انتهت أقوى حملة وجهت إلى الإسلام بالخيبة والفشل والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين. لشيخنا عبد الرحمن الناصر السعدي رحمه الله سَعِدَ الذِينَ تَجَنَّبُوا سُبُلَ الرَّدَى وَتَيَمَّمُوا لِمَنَازِلِ الرِّضْوَانِ فَهُم الذِين قَدْ أَخْلَصُوا فِي مَشِيهِمْ مُتَشَرِّعِينَ بِشَرْعَةِ الإِيمَانِ وَهُمْ الذِينَ بَنُوا مَنَازِلَ سَيْرِهِمْ بَيْنَ الرَّجَا وَالْخَوْفِ لِلدِّيَانِ وَهُمْ الذِينَ مَلا الإِلَهُ قُلُوبَهُمْ بِوِدَادِهِ وَمَحَبَّةِ الرَّحْمَنِ

وَهُمْ الذِينَ قَدْ أَكْثَرُوا مِنْ ذِكْرِهِ فِي السِّرِّ وَالإِعْلانِ وَالأَحْيَانِ يَتَقَرَّبُونَ إِلى الْمَلِيكِ بِفِعْلِهِمْ طَاعَاتِهِ وَالتَّرْكِ لِلْعِصْيَانِ فَعْلُ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ دَأْبُهُمْ مَعْ رُؤْيَةِ التَّقْصِيرِ وَالنُّقْصَانِ صَبَّرُوا النُّفُوسَ عَلَى الْمَكَارِهِ كُلِّهَا شَوْقًا إِلى مَا فِيهِ مِنْ إِحْسَانِ نَزَلُوا بِمَنْزِلَةِ الرِّضَى فَهُمُوا بِهَا قَدْ أَصْبَحُوا فِي جُنَّةِِ وَأَمَانِ شَكَرُوا الذِي أَوْلَى الْخَلائِقَ فَضْلَهُ بِالْقَلْب وَالأَقْوَالِ وَالأَرْكَانِ صَحِبُوا التَّوَكُّلَ فِي جَمِيعِ أَمُورِهِمْ مَعْ بَذْلِ جُهْدٍ فِي رِضَى الرَّحْمَانِ عَبَدُوا الإِلهَ عَلَى اعْتِقَادِ حُضُورِهِ فَتَبَوَّءوُا فِي مَنْزِلِ الإِحْسَانِ نَصَحُوا الْخَلِيقَةَ فِي رِضَى مَحْبُوبِهِمْ بِالْعِلْمِ وَالإِرْشَادِ وَالإِحْسَانِ صَحِبُوا الْخَلائِقَ بِالْجُسُومِ وَإِنَّمَا أَرْوَاحُهُمْ فِي مَنْزِلٍ فَوْقَانِي

عَزَفُوا الْقُلُوبَ عَنِ الشَّوَاغِلِ كُلِّهَا قَدْ فَرَّغُوهَا مِنْ سِوَى الرَّحْمَانِ حَرَكَاتُهُمْ وَهُمُومُهُمْ وَعُزُومُهُمْ للهِ لا لِلْخَلْقِ وَالشَّيْطَانِ نِعْمَ الرَّفِيقُ لِطَالِبِ السُّبُلِ الَّتِي تَقْضِي إِلى الْخَيْرَاتِ وَالإِحْسَانِ اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ نَسْأَلُكَ أَنْ تُوَفِّقَنَا لِمَا فِيهِ صَلاحُ دِينَنَا وَدُنْيَانَا وَأَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا وَأَكْرِمْ مَثْوَانَا، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: قَوْلُهُ تَعَالى فِي الْمُصْطَفينَ الذِينَ أَوْرَثُهم اللهُ الْكِتَابَ: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} اشْتَرَكَ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةِ فِي أَصْلِ الإِيمَانِ وَفِي اخْتِيَارِ اللهِ لَهُمْ مِنْ بَيْنِ الْخَلِيقَةِ وَفِي أَنَّهُ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِالْكِتَابِ وَفِي دُخُولِ الْجَنَّةِ وَافْتَرَقُوا فِي تَكْمِيلِ مَرَاتِبِ الإِيمَانِ وَفِي مِقْدَارِ الاصْطِفَاءِ مِن اللهِ وَمِيرَاثِ الْكِتَابِ وَفِي مَنَازِل الْجَنَّةِ وَدَرَجَاتِهَا بِحَسَبِ أَوْصَافِهِمْ. أَمَّا الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ فَهُو الْمُؤْمِنُ الذِي خَلَطَ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا، وَتَرَكَ مِنْ وَاجِبَاتِ الإِيمَانِ مَا لا يَزُولُ مَعَهُ الإِيمَانُ بِالْكُلِّيَةِ وَهَذَا الْقِسْمُ يَنْقَسِمُ إِلى قِسْمَيْنِ. أَحَدُهُمَا: مَنْ يَرِدُ الْقِيَامَةَ وَقَدْ كُفِّرَ عَنْهُ السِّيئَاتِ كُلُّهَا إِمَّا بِدُعَاءٍ أَوْ شَفَاعَةٍ أَوْ آثَارٍ خَيْرِيَّةٍ يُنْتَفَعُ بِهَا فِي الدُّنْيَا أَوْ عَذَابٍ فِي الْبَرْزَخِ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِ، ثُمَّ رُفِعَ عَنْهُ الْعِقَابُ، وَعَمِلَ الثَّوابُ عَمَلَهُ. فَهَذَا مِنْ أَعْلَى هَذَا الْقِسْمَ وَهُوَ الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: مَنْ وَرَدَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهِ سَيِّئَاتٌ فَهَذَا تُوزَنُ حَسَنَاتِهِ وَسَيِّئَاتِهِ ثُمَّ هُمْ بَعْدَ هَذَا ثَلاثَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا مَنْ تَرْجَحُ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ. فَهَذَا لا يَدْخُلُ النَّارَ بَلْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَةِ اللهِ وَبِحَسَنَاتِهِ وَهِيَ مِنْ رَحْمَةِ الله. ثَانِيهِمَا: مَنْ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّاَتُهُمْ فَهَؤُلاءِ هُمْ أَصْحَابُ الأَعْرَافِ وَهِيَ مَوْضِعٌ مُرْتَفَعٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ يَكُونُونَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةِ كَمَا وُصِفَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآن. ثَالِثُهَا: مَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ فَهَذَا قَدِ اسْتَحَقَّ دُخُولُ النَّارِ إلا أَنْ يَمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ شَفَاعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ أَوْ شَفَاعَةِ أَحَدٍ مِنْ أَقَارِبِه أَوْ مَعَارِفِهِ مِمَّنْ جَعَلَ اللهُ لَهُمْ فِي الْقِيَامَةِ شَفَاعَةً لِعُلُوِّ مَقَامَاتِهِمْ عِنْدَ اللهِ وَكَرَامَتِِهم عَلَيْهِ، أَوْ تُدْرِكُهُ رَحْمَةُ اللهِ الْمَحْضَةِ بِلا وَاسِطَةٍ وَإِلا فَلا بُدَّ لَهُ مِنْ دُخُولِ النَّارِ يُعَذَّبُ فِيهَا بِقَدْرِ ذُنُوبِهِ. ثُمَّ مَآلُهُ إِلى الْجَنَّةِ وَلا يَبْقَى فِي النَّارِ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِثْقَالِ حَبَّةِ خَرْدِلٍ مِنْ إِيمَانٍ كَمَا تَوَاتَرَتْ بِذَلِكَ الأَحَادِيثُ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الأَمَّةِ وَأَئمَّتُهَا. وَأَمَّا الْمُقْتَصِدُ فَهُوَ الذِي أَدَّى الْوَاجِبَاتَ وَتَرَكَ الْمُحَرَّمَاتَ وَلَمْ يُكْثِرْ مِنْ نَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ وَإِذَا صَدَرَ مِنْهُ بَعْضُ الْهَفَوَاتِ بَادَرَ إِلى التَّوْبَةِ فَعَادَ إِلى مَرْتَبَتِهِ فَهَؤُلاءِ أَهْلُ الْيَمِينِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ {فَسَلَامٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} فَهَؤُلاءِ سَلِمُوا مِنْ عَذَابِ البَرْزَخِ وَعَذَابِ النَّارِ وَسَلَّمَ اللهُ لَهُمْ إِيمَانِهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ فَأَدْخَلَهُمْ بِهَا الْجَنَّةِ كُلٌّ عَلَى حَسَبِ مَرْتَبَتِهِ. وَأَمَّا السَّابِقُ إِلى الْخَيْرَاتِ فَهُوَ الذِي كَمَّلَ مَرَاتِبَ الإِسْلامِ وَقَامَ بِمَرْتَبَةِ

الإِحْسَانِ فَعَبَدَ الله كَأَنَّهُ يَرَاهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَرَاُه فَإِنَّهُ يَرَاهُ، وَبَذَلَ مَا اسْتَطَاعَ مِن النَّفْعِ لِعِِبَادِ اللهِ فَكَانَ قَلْبُهُ مَلآنًا مِنْ مَحَبَّةِ اللهِ وَالنُّصْحِ لِعِبَادِ اللهِ فَأَدَّى الْوَاجِبَات وَالْمُسْتَحَبَّاتَ وَتَرَكَ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ وَفُضُولَ الْمُبَاحَاتِ الْمُنَقِّصَةِ لِدَرَجَتِهِ فَهُؤُلاءِ هَمْ صَفْوةُ الصَّفْوَةِ، وَهُمْ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ إِلى اللهِ وَهُمْ أَهْلُ الْفَرْدَوْسِ الأَعْلَى فَإِن اللهَ كَمَا أَنَّهُ رَحِيمٌ وَاسِعُ الرَّحْمَةِ فَإِنَّهُ حَكِيمُ يُنَزِّلُ الأُمُورَ مَنَازِلَهَا وَيُعْطِي كُلُّ أَحَدٍ بَحَسَبِ حَالِهِ وَمَقَامِهِ فَكَمَا كَانُوا هُمُ السَّابِقِينَ فِي الدُّنْيَا إِلى كُلِّ خَيْرٍ كَانُوا فِي الآخِرَةِ فِي أَعْلَى الْمَنَازِلِ وَكَمَا تَخَيَّرُوا مِنْ الأَعْمَالِ أَحْسنَهَا جَعَلَ اللهُ لَهُمْ مِن الثَّوَابِ أَحْسَنَهُ وَلِهَذَا كَانَتْ عَيْنُ التَّسْنِيمِ أَعْلَى أَشْرِبَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّتِي لا نَقْصَ فِيهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ. كَمَا قَالَ تَعَالى: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} وَهَكَذَا بَقِيَّةِ أَلْوَانِ وَأَصْنَافِ نَعِيمِ الْجَنَّةِ لِهَؤُلاءِ السَّابِقِينَ مِنْهُ أَعْلاهُ وَأَكْمَلُهُ وَأَنْفَسُهُ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ فِي نَعِيمِ الْجَنَّةِ دَنِي وَلا نَقْصٌ وَلا كَدَرٌ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ بَلْ كَانَ مَنْ تَنَعَّمَ بِأَي نَعِيمٍ مِنْ نَعِيمِهَا لَمْ يَكُنْ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ أَعْلَى مِنْهُ. فَإِنَّ اللهَ أَعْطَاهُمْ وَأَرْضَاهُمْ وَخِيَارَ هُؤَلاءِ الأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِم الصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى مَرَاتِبهم ثُمَّ الصِّدِيقُونَ عَلَى مَرَاتِبِهم وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا فَسُبْحَانَ مَنْ فَاوَتْ بَيْنَ عِبَادِهِ هَذَا التَّفَاوُتَ الْعَظِيم وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. انْتَهَى. اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا بِتَذْكِيرِكَ مُنْتَفِعِينَ وَلِكِتَابِكَ وَرسولك متبعين وعلى طاعَتِكَ مُجْتَمِعِينَ وَتَوَفَّنَا يَا رَبَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا. اللَّهُمَّ ارْحَمْ عِبَادًا غَرَّهُمْ طُولُ إِمْهَالِكَ وَأَطْمَعَهُمْ دَوَامُ إِفْضَالِكَ وَمَدُّوا أَيْدِيَهُمْ إِلى كَرَمِ نَوَالِكَ وَتَيَقَّنُوا أَنَّ لا غِنَى لَهُمْ عَنْ سُؤَالِكَ، وَجُدْ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ بِرَحْمَتِكَ الْوَاسِعَةِ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ يَا رَبَّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

قصة لعمير بن سعد الأنصاري

قصة عمير بن سعد الأنصاري وَمِمَّا يَحْسُنُ سِيَاقُه وَيَحْلُو ذِكْرُه قِصَّةُ عُمَيْرٍ بن سَعْدٍ الأَنْصَارِيّ، كَانَ عُمَيْرُ بنُ سَعْدٍ يَتِيمًا مَاتَ أَبُوهُ وَلَمْ يَتْرُكْ لَهُ مَالاً وَلا مُعِيلاً لَكِنَّ أُمَّهُ لَمْ تَلْبَثْ إِلا مُدَّةً يَسِيرَةً ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِالْجُلاسِ بن سُوَيْدٍ فَكَفَلَ ابْنَهَا عُمَيْرًا وَضَمَّهُ إِلَيْهِ. وَقَدْ لَقِيَ عُمَيْرٌ مِنْ بِرِّ الْجُلاسِ وَرِعَايَتِه وَجَمِيل عَطْفَهِ بِهِ مَا جَعَلَهُ يَنْسَى أَنَّهُ يَتَيمٌ فَأَحَبَّ عُمَيْرٌ الْجُلاسَ حُبَّ الابْنِ لأَبِيهِ وَكَذَلِكَ الْجُلاسُ وَلِعَ بِعُمَيْرٍ وَأَحَبَّهُ حُبَّ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُ. وَكَانَ كُلَّمَا شَبَّ عُمَيْرٌ ازْدَادَ الْجُلاسُ لَهُ حَبًّا وَازْدَادَ بِهِ إِعْجَابًا لِمَا يَتَخَيَّلُ فِيهِ مِنْ أَمَارَاتِ الْفِطْنَةِ وَالنَّجَابَةِ الَّتِي تَبْدُو فِي كُلِّ عَملٍ مِنْ أَعْمَالِهِ وَتَبْدُو فِي شَمَائِلهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ. وَقَدْ أَسْلَمُ عُمَيْرُ بِنُ سَعْدٍ وَهُوَ صَغِيرٌ لَمْ يُجَاوِزِ الْعَاشِرَةَ مِنْ عُمْرِهِ إِلا قَلِيلاً فَوَجَدَ الإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ الْغَضِّ مَكَانًا خَالِيًا فَتَمَكنَ مِنْهُ وَأَلْفَى الإِسْلامُ فِي نَفْسِ عُمَيْرٍ الصَّافِيَةِ تُرْبَةً خَصْبَة فَتَغَلْغَلَ فِيهَا. فَكَانَ عَلَى صِغَر سِنِّهِ لا يَتَأَخَّرُ عَنْ الصَّلاةِ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ أُمُّهُ تُسَرُّ وَتَغْمُرُهَا الْفَرْحَةُ إِذَا رَأَتْهُ ذَاهِبًا إِلى الْمَسْجِد أَوْ رَاجِعًا مِنْهُ. وَسَارَتْ حَيَاتُه عَلَى هَذَا النَّحْوِ هَانِئَةً هَادِئَةً وَادِعَةً لا يُعَكِّرُ صَفْوهَا مُعَكِّرٌ إِلى أَنْ قَدَرَ اللهُ عَلَى عُمَيْرٍ مِحْنَة مِنْ أَشَدِّ الْمِحَنِ قَلَّماَ مَرَّتْ عَلَى فَتَىً مِثْلِهِ فِي السِّنِّ.

فَفِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ لِمَا رَأَى بَذْلَ الْمُسْلِمِينَ أَمْوَالَهُمْ عِنْدَمَا حَثَّهُمْ صَلَواتُ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلامُه عَلَى الْجِهَادِ وَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ وَحَثَّهُمْ عَلَى النَّفَقَةِ وَرَغِبَ أَهْلُ الثَّرْوَةِ بِالْخَيْرِ وَحَثَّ الْمُوسِرِينَ عَلَى تَجْهِيزِ الْمُعْسِرِينَ، وَأَبْصَرَ أَبَا بَكْرٍ يَجِيءُ بِمَا عِنْدَهُ، وَعُمَرَ يَأْتِي بِنِصْفِ مَالِهِ، وَعُثْمَانَ يَأْتِي بِجِرَابٍ فِيهِ أَلْفَ دِينَارٍ ذَهَبًا وَيُقَدِّمُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ يَحْمِلُ عَلَى عَاتِقِهِ مَائَتَي أَوْقِيَّةٍ مِنْ الذَّهَبِ وَيُلْقِيهَا بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَنِسَاءُ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ يَنْزِعْنَ حُلِيِّهِنَّ وَيُلْقِينَهُ بَيْنَ يَدِيْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُجَهِّزَ بِثَمَنِهِ الْجَيْشَ الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللهِ، بَلْ رَأَى رَجُلاً يَعْرِضُ فِرَاشَه لِلْبَيْعِ لِيَشْتَرِي بِثَمَنِهِ سَيْفًا يُجَاهِدُ بِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ. فَتَعَجَّبَ عُمَيْرٌ مِنْ تَأَخُّر الْجُلاسِ وَتَبَاطِئِهِ عَنْ الاسْتِعْدَادِ لِلرَّحِيلِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَأَخُّرِهِ عَنْ الْبَذْلِ فِي سَبِيلِ اللهِ عَلَى الرَّغْمْ مِنْ قُدْرَتِهِ وَغِنَاهُ. وَأَرَادَ عُمَيْرٌ أَنْ يَسْتَثِيرَ هِمَّةَ الْجُلاسِ وَيَبْعَثَ الْحَمِيَّةَ وَالْمُرُوءَةِ فِي نَفْسِهِ فَشَرَعَ يَقُصُّ عَلَى الْجُلاسِ أَخْبَارَ مَا رَأَى وَمَا سَمِعَ وَخَاصَّةً الْبَكَّائِينَ الذِينَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأَلُوهُ أَنْ يَحْملِهُم وَاعْتَذَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ لا يَجِدُ مَا يَحْملِهُم فَتَوَلَّوْا وَأَعْينُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزْنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُبَلِّغُهُم أُمْنِيَّتَهُمْ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ. لَكِنَّ الْجُلاسَ مَا كَادَ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ عُمَيْرٍ مَا سَمِعَ حَتَّى تَكَلَّمَ

بِكَلِمَةٍ أَطَارَتْ عَقْلَ الْفَتَى عُمَيْرِ مِنْ كِبَرِهَا إِذَا سَمِعَهُ يَقُولُ وَالْعِيَاذُ بِهِ: (إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا فِيمَا يَدَّعِيهِ مِنْ النُّبُوَّةِ فَنَحْنُ شَرٌّ مِنْ الْحَمِيرِ) لَقَدْ انْدَهَشَ عُمَيْرٌ مِمَّا سَمِعَ فَمَا كَانَ يَظُنُّ أَنَّ رَجُلاً عَاقِلاً كَبِيرَ السِّنِّ يَنْطِقُ بِمِثْل هَذِهِ الْكَلِمَةِ الَّتِي تُخْرِجُ قَائِلَهَا عَنْ الإِيمَانِ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَتُدْخِلُهُ فِي الْكُفْرِ. ذَهَبَ عُمَيْرُ بنُ سَعَدٍ يُفَكّرُ فِي تِجَاهِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ الْفَظِيعَةِ الْمُوبقَةِ فَرَأى أَنَّ السُّكُوتَ عَنْ الْجُلاسِ وَالسَّتْرَ عَلَيْهِ خِيَانَةٌ للهِ وَرَسُولِهِ وَإِضْرَارًا بِالإِسْلامِ الذِي يَكِيدُ لَهُ الْمُنَافِقُونَ. وَرَأَى أَنَّ فِي إِخْبَارِهِ فِيمَا سَمِعَ مِنْ الْجُلاسِ عُقُوقًا بِالرَّجُلِ الذِي يُنْزِلُه مِنْ نَفْسِهِ مَنْزِلَةَ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ فَالْجُلاسُ هُوَ الذِي كَفَلَهُ يَتِيمًا وَرَبَّاهُ وَعَوَّضَهُ عَنْ فَقْدِ أَبِيهِ. فَاخْتَارَ النَّصِيحَةَ للهِ وَلِرَسُولِهِ وَالْتَفَتَ إِلى الْجُلاسِ: وَقَالَ وَاللهِ يَا جُلاسُ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدٌ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْكَ، فَأَنْتَ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيَّ وَأَجَلُّهُمْ إِلَيَّ يَدَا وَأَعْظَمُهم نِعْمَة عَلَيَّ. وَلَقَدْ قُلْتَ مَقَالَةً إِنْ ذَكَرْتُهَا فَضَحْتُكَ، وَإِنْ أَخْفَيْتُهَا خُنْتَ أَمَانَتِي وَأَهْلَكْتُ نَفْسِي وَدِينِي وَقَدْ عَزَمْتُ عَلَى أَنْ أَمْضِي إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُخْبِرَه بِمَا قُلْتَ فَكُنْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ أَمْرِكَ. ثُمَّ مَضَى عُمَيْرُ بنُ سَعْدٍ إِلى الْمَسْجِدِ وَأَخْبَرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا سَمِعَ مِنْ الْجُلاسِ بنِ سُوَيْدٍ فَأَقْعَدَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهُ وَأَرْسَلَ أَحَدَ أَصْحَابِهِ إِلى الْجُلاسِ يَدْعُوه أَنْ يَأْتِي.

وَمَا هُوَ إِلا قَلِيلٌ حَتَّى جَاءَ الْجُلاسُ فَحَيَّا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا مَقَالَةُ سَمِعَهَا مِنْكَ عُمَيْرُ بنُ سَعْدٍ)) وَذَكَرَ لَهُ مَا قَالَهُ فَقَالَ: كَذِبَ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ وَافْتَرَى فَمَا تَفَوَّهْتُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَجَعَلَ الصَّحَابَةُ يُدِيرُونَ أَبْصَارَهُم فِي الْجُلاسِ وَعُمَيْرِ بنِ سَعْدٍ كَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَقْرَءُوا عَلَى صَحِيفَتَيْ وَجْهَيْهِمَا مَا يُكُنِّهُ صَدْرَاهُمَا وَجَعَلُوا يَتَهَامَسُونَ فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْ الذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: فَتَىً عَاقٌّ أَبَى إِلا أَنْ يُسِيءَ لِمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ إِنَّهُ غُلامٌ نَشَأَ فِي طَاعَةِ اللهِ وَإِنَّ مَلامِحَ وَجْهِهِ لَتَنْطِقُ بِصِدْقِهِ، وَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عُمَيْرٍ فَرَأى وَجْهَهُ قَدْ احْتَقَنَ بِالدَّمِ وَالدُّمُوعُ تَنْحَدِرُ مِدْرَارًا مِنْ عَيْنَيْهِ فَتَتَسَاقَطُ عَلَى خَدَّيْهِ وَصَدْرِهِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَى نَبِيِّكَ بَيَانَ مَا تَكَلَّمْتُ بِهِ يُكِرِّرُهَا فَانْبَرَى الْجُلاسُ وَقَالَ: إِنَّ مَا ذَكَرْتُه لَكَ يَا رَسُولَ اللهِ هُوَ الْحَقُّ وَإِنْ شِئْتَ تَحَالَفْنَا بَيْنَ يَدَيْكَ وَإِنِّي أَحْلِفُ بِاللهِ أَنِّي مَا قُلْتَ شَيْئًا مِمَّا نَقَلَهُ لَكَ عُمَيْرٌ فَمَا أَنِ انْتَهَى مِنْ حَلِفِه وَأَخَذَتْ عُيُونَ النَّاسِ تَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلى عُمَيرِ بن سَعْدٍ حَتَّى غَشِيَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّكِينَةُ. فَعَرَفَ الصَّحَابَةُ أَنَّهُ الْوَحْي فَلَزِمُوا أَمَاكِنَهُمْ وَسَكَنَتْ جَوَارِحُهم وَلاذُوا بِالصَّمْتِ وَتَعَلَّقَتْ أَبْصَارُهمْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَا ظَهَرَ الْخَوْفُ وَالْوَجَلُ عَلَى الْجُلاسِ وَبَدَا التَّلَهُّفُ وَالتَّشَوُّقُ عَلَى عُمَيْرٍ ثُمَّ سُرَّى عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَلا قَوْلَ اللهِ تَعَالى: {يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ}

قصة أخرى له أيضا

إِلى قَوْلِهِ: {فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} . فَارْتَعَدَ الْجُلاسُ مِنْ هَوْلِ مَا سَمِعَ وَكَادَ يَنْعَقِدُ لِسَانَهُ مِنْ الْجَزَعِ وَالرَّوْعَةِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: بَلْ أَتُوبُ يَا رَسُولَ اللهِ بَلْ أَتُوبُ، صَدَقَ عُمَيْرٌ يَا رَسُولَ اللهِ وَكُنْتُ مِنْ الْكَاذِبِينَ، أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَقْبَلَ تَوْبَتِي جُعِلْتَ فِدَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ. وَهُنَا تَوَجَّهَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلى عُمَيْرِ بنِ سَعْدٍ فَمَدَّ يَدَهُ الشَّرِيفَةُ إِلى أُذُنِهِ وَأَمْسَكَهَا بِرِفْقٍ وَقَالَ: ((وَفَّتْ أُذُنُكَ يَا غُلامُ مَا سَمِعَتْ، وَصَدَّقَكَ رَبُّكَ)) . لَيْسَ السَّفِيهُ مَنْ انْتَهَى أَبَوَاهُ مِنْ ... هَمِ الْحَيَاةِ وَخَلَّفَاهُ ذَلِيلاَ فَأَصَابَ تَوْفِيقًا وَحُسْنَ رِعَايَةٍ ... مِنْ رَبِّهِ يَا حُسْنَ هَذَا بَدِيلاَ إِنَّ السَّفِيهَ هُوَ الذِي أَوْقَاتُهُ ... عِنْدَ الْمَلاهِي قُتِّلَتْ تَقْتِيلاَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. فَصْلٌ قِصَّةً لِعُمَيْر: كَانَ أَهْلُ حَمْصٍ شَدِيدِي التَّذَمُّرِ مِنْ وُلاتِهمْ كَثِيرِي الشَّكْوَى مِنْهُمْ، فَمَا جَاءَ مِنْ وَالٍ إِلا ذَكَرُوا لَهُ عُيوبًا وَأَحْصُوا لَهُ ذُنُوبًا وَرَفَعُوا أَمْرَهُ إِلى خَلِيفَةِ الْمُسْلِمِينَ وَطَلَبُوا مِنْهُ بَدَلَهُ خَيْرًا مِنْهُ. فَعَزَمَ عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ بِوَالٍ لا يَجِدُونَ فِيهِ مطْعَنًا وَلا يَرَوْنَ فِي سِيرَتِهِ مَغْمَزًا فَاخْتَارَ عُمَيْرَ بنَ سَعْدٍ وَعَهِدَ إِلَيْهِ بِوِلايَةِ حِمْصٍ وَأَمْرَهُ بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهَا فَقَبِلَ الأَمْرَ عَلَى إِغْمَاضٍ مِنْهُ لأَنَّهُ كَانَ لا يُؤْثِرُ شَيْئًا عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ.

وَلَمَّا بَلَغَ عُمَيْرٌ حِمْصًا جَمَعَ النَّاسَ وَخَطَبَهُمْ وَبَعْدَ أَنْ حَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الإِسْلامَ حِصْنٌ مَنِيعٌ وَبَابٌ وَثِيقٌ وَحِصْنُ الإِسْلامِ الْعَدْلُ، وَبَابُه الْحَقُّ فَإِذَا دُكَّ الْحِصْنُ وَحُطِّمَ الْبَابُ اسْتُبِيحَ حِمَى الدِّينِ. وَإِنَّ الإِسْلامَ مَا يَزَالُ مَنِيعًا مَا اشْتَدَّ السُّلْطَانُ وَلَيْسَتْ شِدَّةُ السُّلْطَانِ ضَرْبًا بِالسَّوْطِ وَلا قَتْلاً بِالسَّيْفِ، وَلَكِنْ قَضَاءٌ بِالْعَدْلِ وَأَخْذًا بِالْحَقِّ. ثُمَّ انْصَرَفَ إِلى عَمَلِهِ لِيُنَفذَ مَا اخْتَطَّهُ لَهُمْ. قَضَى عُمَيْرُ بنُ سَعْدٍ حَوْلاً كَامِلاً فِي حِمْصَ لَمْ يَكْتُبْ لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ كِتَابًا وَلَمْ يَبْعَثْ إِلى بَيْتِ الْمَالِ مِنْ الْفِيءِ وَلا دِرْهَمًا وَلا دِينَارًا. فَقَالَ عُمَرُ لِكَاتِبِهِ: اكْتُبْ لِعُمَيْرٍ وَقُلْ: إِذَا جَاءَكَ كِتَابُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَأَقْبِلْ وَاتْرُكْ حِمْصَ وَأَقْبِلْ عَلَيْهِ وَاحْمِلْ مَعَكَ مَا جَبَيْتَ مِنْ فِيءِ الْمُسْلِمِينَ. وَلَمَّا وَصَلَ كِتَابُ عُمَر إِلى عُمَيْر أَخَذَ جِرَابَ زَادِهِ وَحَمَلَهُ عَلَى عَاتِقِهِ وَحَمَلَ قَصْعَتَهُ وَوِعَاءَ وُضُوئِهِ وَانْطَلَقَ يَمْشِي إِلى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا وَصَلَ الْمَدِينَةِ وَإِذَا لَوْنُهُ مُتَغَيرٌ وبَدَنُهُ مُتَضَعْضِعٌ قَدْ هَزُلَ جِسْمُه وَطَالَ شَعْرُهُ وَظَهَرَتْ عَلَيْهِ وَعْثَاءُ السَّفَرِ وَكَآبَةُ الْمَنْظَر. وَلَمَّا دَخَلَ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ دَهَشَ وَتَأَلَّمَ مِنْ حَالَتِهِ وَقَالَ: مَا بِكَ يَا عُمَيْرُ؟ فَقَالَ: مَا بِي شَيْءٌ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَنَا صَحِيحٌ بِحَمْدِ اللهِ أَحْمِلُ مَعِي الدُّنْيَا كُلَّهَا وَأَجُرُّهَا.

فَقَالَ: وَمَا مَعَكَ مِنْ الدُّنْيَا؟ (وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّ مَعَهُ مَالاً يَحْمِلُه لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ) فَقَالَ: مَعِي جِرَابِي وَقَدْ وَضَعْتُ فِيهِ زَادِي وَمَعِي قَصْعَتِي آكُلُ فِيهَا وَأَغْسِلُ عَلَيْهَا ثِيَابِي وَمَعِي قِرْبَةٌ لِوُضُوئِي وَشَرَابِي. ثُمَّ إِنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ تَبَعٌ لِهَذَا الْمَتَاع لا حَاجَةَ لِي فِيهَا غَيْرَ هَذَا. فَقَالَ عُمَرُ: وَهَلْ أَتَيْتَ مَاشِيًا؟ قَالَ: نَعَمُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: أَمَا أُعْطَيْتَ مِنْ الإِمَارَةِ دَابَّةً تَرْكَبَهَا؟ فَقَالَ: هُمْ لَمْ يَعْطُونِي وَأَنَا لَمْ أَطْلُبْ مِنْهُمْ. فَقَالَ: وَأَيْنَ مَا أَتَيْتَ بِهِ لِبَيْتِ الْمَالِ؟ فَقَالَ: لَمْ آتِ بِشَيْءٍ. فَقَالَ عُمَرُ: وَلِمَ لَمْ تَأْتِ بِشَيْءٍ. فَقَالَ: لِمَّا وَصَلْتُ إِلى حَمْص جَمَعْتُ صُلَحَاءَ أَهْلِهَا وَوَلَّيْتُهُم جَمِيعَ فَيئِهم وَكَانُوا كُلَّمَا جَمَعُوا شَيْئًا اسْتَشَرْتُهُمْ فِي أَمْرِهِ وَوَضَعْتُهُ فِي مَوَاضِعِهِ وَأَنْفَقْتُه عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ مِنْهُمْ. فَقَالَ عُمَرُ لِكَاتِبِهِ: جَدِّدْ عَهْدًا لِعُمَيْرٍ عَلَى وَلايَةِ حِمْص. فَقَالَ عُمَيْرَ: هَيْهَاتَ فَإِنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ لا أُرِيدُهْ وَلَنْ أَعْمَلَ لَكَ وَلا لأَحَدٍ بَعْدَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ اسْتَأْذَنَهُ بِالذِّهَابِ إِلى قَرْيَةٍ فِي ضَوَاحِي الْمَدِينَةِ يُقِيمُ بِهَا أَهْلُهُ فَأَذِنَ لَهُ، لَمْ يَمْضِ عَلَى عُمَيْرٍ إِلا مُدَّةً يَسِيرَةً بَعْدَ ذِهَابِهِ لِلْقَرْيَةِ حَتَّى أَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَخْتَبِرَهُ فَقَالَ لِوَاحِدٍ مِنْ ثِقَاتِهِ يُقَالَ لَهُ الْحَارِثُ: انْطَلِقْ إِلى عُمَيْرٍ بن سَعْدٍ وَأَنْزِلْ عِنْدَهُ كَأَنَّكَ ضَيْفٌ فَإِنْ رَأَيْتَ عَلَيِهِ آثَارَ نِعْمَةٍ فَعُدَ كَمَا أَتَيْتَ، وَإِنْ وَجَدْتَ حَالاً شَدِيدَةً فَأَعْطِهِ هَذِه ِالدَّنَانِيرِ وَنَاوَلَهُ صُرَّةً فِيهَا مَائِةُ دِينَارٍ.

انْطَلَقَ الْحَارِثُ حَتَّى بَلَغَ الْقَرْيَةَ الَّتِي فِيهَا عُمَيْرُ بنُ سَعْدٍ فَسَأَلَ عَنْهُ فَدُلَّ عَلَيْهِ فَلَمَّا لَقِيَهُ سَلَّمَ عَلَيْهِ فَرَّدَ عَلَيْهِ السَّلامَ، وَسَأَلَهُ مِنْ أَيْنَ قَدِمَ فَقَالَ الْحَارِثُ: مِنْ الْمَدِينَةِ. فَقَالَ: كَيْفَ تَرَكْتَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: بِخَيْرٍ. فَقَالَ: كَيْفَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: صَحِيحٌ صَالِحٌ. فَقَالَ: أَلَيْسَ يُقِيمُ الْحُدُودَ؟ قَالَ: بَلَى فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَعِنْ عُمَرَ فَإِنِّي لا أَعْلَمُهُ إِلا شَدِيدَ الْحُبِّ لَكَ. أَقَامَ الْحَارِثُ فِي ضِيَافَةِ عُمَيْرٍ ثَلاثَ لَيَالٍ فَكَانَ يُخْرِجُ لَهُ كُلَّ لَيْلَةِ قُرْصًا مِنْ الشَّعِيرِ فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ لِلْحَارِثُ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمَِ: لَقَدْ أَجْهَدْتَ عُمَيْرًا وَأَهْلَهُ فَلَيْسَ لَهُمْ إِلا هَذَا الْقُرْصُ مِنْ الشَّعِيرِ الذِي يُؤْثِرُونَكَ بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَقَدْ أَضَرَّ بِهِمْ الْجُوعُ وَالْجُهْدُ فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَرْحَلَ عَنْهُمْ فَافْعَلْ. عِنْدَ ذَلِكَ أَخْرَجَ الْحَارِثُ الدَّنَانِيرَ وَدَفَعَهَا إِلى عُمَيْر فَقَالَ: مَا هَذِهِ؟ فَقَالَ الْحَارِثُ: بَعَثَ بِهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْكَ فَقَالَ: رُدَّهَا إِلَيْهِ وَقُلْ لا حَاجَةَ لِعُمَيْرٍ بِهَا. فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: خُذْهَا يَا عُمَيْرُ فَإِنْ احْتَجْتَ إِلَيْهَا أَنْفَقْتَهَا وَإِلا وَضَعْتَهَا فِي مَوَاضِعِهَا فَالْمُحْتَاجُونَ هُنَا كَثِيرٌ فَلَمَّا سَمِعَ الْحَارِثُ قَوْلَهَا أَلْقَى الدَّنَانِيرَ بَيْنَ يَدَيْ عُمَيْرٍ. وَانْصَرَفَ. فَأَخَذَهَا عُمَيْرُ وَجَعَلَهَا فِي صُرَرٍ صَغِيرَةٍ وَلَمْ يَبِتْ تَلْكَ اللَّيْلَةِ إِلا وَقَدْ فَرَّقَهَا عَلَى الْفُقََرَاءِ وَخَصَّ مِنْهُمْ أَبْنَاءَ الشُّهَدَاءِ، وَلَمَا عَادَ الْحَارِثَ إِلى الْمَدِينَةِ وَوَاجَهَ عُمَرُ قَالَ لَهُ: مَا رَأَيْتَ يَا حَارِثُ؟ فَقَالَ: حَالاً شَدِيدَةً يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: أَدَفَعْتَ إِلَيْهِ الدَّنَانِيرَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ عُمَرُ: وَمَا صَنَعَ بِهَا عُمَيْرُ؟ فَقَالَ: لا أَدْرِي وَمَا أَظُنُّه يُبْقِي لِنَفْسِهِ مِنْهَا شَيْئًا مِنْهَا وَلا دِرْهَمًا.

قصيدة زهدية وعظية

فَكَتَبَ عُمَرُ إِلى عُمَيْرِ يَقُولُ: إِذَا جَاءَكَ كِتَابِي فَلا تَضَعَهُ مَنْ يَدِكَ حَتَّى تُقْبِلَ عَلَيَّ. فَتَوَجَّهَ عُمَيْرُ بنُ سَعْدٍ إِلى الْمَدِينَةِ وَدَخَلَ عَلَى عُمَرَ فَحَيَّاهُ وَرَحَّبَ بِهِ وَأَدْنَى مَجْلِسَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا صَنَعْتَ بِالدَّنَانِيرَ يَا عُمَيْرُ؟ فَقَالَ: وَمَا عَلَيْكَ مِنْهَا يَا عُمَرُ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجْتَهَا لِي عَنْكَ. فَقَالَ: عَزِمْتُ عَلَيْكَ أَنْ تُخْبِرَنِي بِمَا صَنَعْتَ بِهَا؟ فَقَالَ: ادَّخَرْتُهَا لِنَفْسِي لانْتَفِعُ بِهَا يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٍ وَلا بَنُونَ. فَدَمِعَتْ عَيْنَا عُمَرَ وَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ مِنَ الذِينَ يُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسْهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ. ثُمَّ أَمَرَ بِوِسَقٍ مِنْ طَعَامٍ وَثَوْبَيْنِ، فَقَالَ: أَمَّا الطَّعَامُ فَلا حَاجَةَ لَنَا بِهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ تَرَكْتُ عِنْدَ أَهْلِي صَاعَيْنِ مِنْ شَعِيرٍ وَإِذَا أَكَلْنَاهُمَا يَأْتِي اللهُ لَنَا بِرِزْقٍ، وَأَمَّا الثَّوْبَيْنِ فَآخُذُهُمَا لأُمِّ فُلانِ يُرِيدُ زَوْجَتَه فَقَدْ بَلِيَ وَخلقَ ثَوْبُهَا وَكَادَتْ تَعْرَى. فَمَضَى عُمَيْرٌ بَعْدَ ذَلِكَ فِي طَرِيقِ الآخِرَةِ وَادِعَ النَّفْسِ وَاثِقَ الْخَطْوِ لا يُثْقِلُه شَيْءٌ مِنْ أَحْمَالِ الدُّنْيَا وَأَمْتِعَتِهَا، وَلَمَّا بَلَغَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَفَاةَ عُمَيْرٍ حَزِنَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَدِدْتُ أَنَّ لِي رِجَالاً مِثْلَ عُمَيْرِ أَسْتَعِينُ بِهِمْ فِي أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ. انْتَهَى مِنْ صُوَرٍ مِنْ حَيَاةِ الصَّحَابَةِ بِتَصَرُّفٍ. اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. شِعْرًا: إِذَا شِئْتَ أَنْ تَحْيَا سَعِيدًا مَدَى الْعُمْرِ وَتَسْكُنَ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي رَوْضَةِ الْقَبْرِ وَتُبْعَثَ عِنْدَ النَّفْخِ فِي الصُّورِ آمِنًا مِنَ الْخَوْفِ وَالتَّهْدِيدِ وَالطَّردِ وَالْخُسْرِ

وَتُعْرَضَ مَرْفُوعًا كَرِيمًا مُبَجَّلاً تُبَشِّرُكَ الأَمْلاكُ بِالْفَوزِ وَالأَجْرِ وَتَرْجَحَ عِنْدَ الْوَزنِ أَعْمَالَكَ الَّتِي تُسَرُّ بِهَا فِي مَوْقِفِ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَتَمْضِيَ عَلَى مَتْنِ الصِّرَاطِ كَبَارِقٍ وَتَشْرَبَ مِنْ حَوْضِ النَبِيِّ الْمُصْطَفَى الطُّهْرِ وَتَخْلُدَ فِي أَعْلَى الْجِنَانِ مُنَعَّمًا حَظِيًا بِقُرْبِ الْوَاحِدِ الأَحَدِ الْوَترِ عَلَيْكَ بِتَوْحِيدِ الإِلهِ فَإِنَّهُ إِذَا تَمَّ فَازَ الْعَبْدُ بِالْقُرْبِ وَالأَجْرِ وَخُذْ مِنْ عُلُومِ الدِّينِ حَظًّا مُوَفِّرًا فَبِالْعِلْمِ تَسْمُو فِي الْحَيَاةِ وَفِي الْحَشرِ وَوَاظِبْ عَلَى دَرْسِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ فِي تِلاوَتِهِ الأَرْبَاحُ وَالشَّرْحُ لِلصَّدْرِ أَلا إِنَّهُ الْبَحْرُ الْمُحِيطُ وَغَيْرَهُ مِنَ الْكُتُبِ أَنْهَارٌ تَمَدُّ مِنَ الْبَحْرِ تَدَبَّرْ مَعَانِيهِ وَرَتِّلْهُ خَاشِعًا تَفُوزُ مِنَ الأَسْرَارِ بِالْكَنْزِ وَالذُّخْرِ وَكُنْ رَاهِبًا عِنْدَ الْوَعِيدِ وَرَاغِبًا إِذَا مَا تَلَوَّتَ الْوَعْدُ فِي غَايَةِ الْبِشْرِ

بَعِيدًا عَنِ الْمَنهِيِّ مُجْتَنِبًا لَهُ حَرِيصًا عَلَى الْمَأْمُورِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَإِنْ رُمْتَ أَنْ تَحْظَى بِقَلْبٍ مُنَوَّرٍ نَقِيٍّ مِنَ الأَغْيَارِ فَاعْكُفْ عَلَيَّ الذِّكْرِ وَوَاظِبْ عَلَيْهِ فِي الظَّلامِ وَفِي الضِّيَا وَفِي كُلِّ حَالٍ بِاللِّسَانِ وَبِالسِّرِّ وَصَفِّ مِنْ الأَكْدَارِ سِرَّكَ إِنَّهُ إِذَا مَا صَفَا أَوْلاكَ مَعْنَى مِنَ الْفِكْرِ وَبِالْجِدِّ وَالصَّبْرِ الْجَمِيلِ تَحِلُّ فِي فَسِيحِ الْعُلى فَاِسْتَوْصِ بِالْجِدِّ وَالصَّبْرِ وَكُنْ شَاكِرًا للهِ قَلْبًا وَقالِبًا عَلَى فَضْلِهِ إِنَّ الْمَزِيدَ مَعَ الشُّكْرِ تَوَكَلَّ عَلَى مَوْلاكَ وَاِرْضَ بِحُكْمِهِ وَكُنْ مُخْلِصًا للهِ فِي السِّرِّ وَالْجَهْرِ قَنُوعًا بِمَا أَعْطَاكَ مُسْتَغْنِيًا بِهِ لَهُ حَامِدًا فِي حَالِيْ الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَكُنْ بَاذِلاً لِلْفَضْلِ سَمْحًا وَلا تَخَفْ مِنَ اللهِ إِقْتَارًا وَلا تَخْشَ مِنْ فَقْرِ وَإِيَّاكَ وَالدُّنْيَا فَإنَّ حَلالَهَا حِسَابٌ وَفِي مَحْظُورِهَا الْهَتْكُ لِلسِّرِّ

وَلا تَكُ عَيّابًا وَلا تَكُ حَاسِدًا وَلا تَكُ ذَا غِشّ وَلا تَكُ ذَا غَدْرِ وَلا تَطْلُبَنَّ الْجَاهَ يَا صَاحِ إِنَّهُ شَهِيٌّ وَفِيهِ السُّمُّ مِنْ حَيْثُ لا تَدْرِي وَإِيَّاكَ وَالأَطْمَاعَ إِنَّ قَرِينَهَا ذَلِيلٌ خَسِيسُ الْقَصْدِ مُتَّضِعُ الْقَدْرِ وَإِنْ رُمْتَ أَمْرًا فَأسْأَلِ اللهَ إِنَّهُ هُوَ الْمُفْضَلُ الْوَهّابُ لِلْخَيْرِ وَالْوَفرِ وَأُوصِيكَ بِالْخَمْسِ الَّتِي هِنَّ يَا أَخِي عِمَادٌ لِدِينِ اللهِ وَاسِطَةُ الأَمْرِ وَحَافِظْ عَلَيْهَا بِالْجَمَاعَةِ دَائِمًا وَوَاظِبْ عَلَيْهَا فِي الْعِشَاءِ وَفِي الْفَجْرِ وَقُمْ فِي ظَلامِ اللَّيْلِ للهِ قَانِتًا وَصَلِّ لَهُ وَاِخْتِمْ صَلاتَكَ بِالْوِتْرِ وَكُنْ تَائِبًا مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ أَتَيْتَهُ وَمُسْتَغْفِرًا فِي كُلَّ حَيْنٍ مِنَ الْوِزْرِ عَسَى الْمُفَضِلُ الْمَوْلَى الْكَرِيمُ بِمَنِّهِ يَجُودُ عَلَى ذَنْبِ الْمُسِيئِينَ بِالْغُفْرِ فَإِحْسَانُهُ عَمَّ الأَنَامَ وَجُودُهُ عَلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ وَإِفْضَالُهُ يَجْرِي وَصَلِّ عَلَى خَيْرِ الْبَرِيَّةِ كُلَّهَا

نبذة عن حياة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه

.. مُحَمَّدُ الْمَبْعُوثِ بِالْبِشْرِ وَالنُّذْرِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا مَا قَطَعَ قُلُوبَنَا عَنْ ذِكْرك، وَاعْفُ عَنْ تَقْصِيرنَا فِي طَاعَتِكَ وَشُكْرِكَ وَأَدِمْ لَنَا لُزُومَ الطَّرِيقِ إِلَيْكَ وَهَبْ لَنَا نُورًا نَهْتِدِي بِهِ إِلَيْكَ وَاسْلُكْ بِنَا سَبِيلَ أَهْلِ مَرْضَاتِكَ وَاقْطَعْ عنًّا كُلَّ مَا يُبْعِدُنَا عَنْ سَبِيلِكَ، ويَسِّرْ لَنَا مَا يَسَّرْتَهُ لأَهْلِ مَحَبَّتِكَ وَأَيْقِظْنَا مِنْ غَفَلاتِنَا وَأَلْهِمْنَا رُشْدَنَا وَحَقِّقْ بِكَرَمِكَ قَصْدَنَا. اللَّهُمَّ قَنِّعْنَا مِنْ الدُّنْيَا بِالْيَسِيرِ وَسَهِّلْ عَلَيْنَا كُلَّ أَمْرٍ عَسِيرٍ، وَوَفِّقْنَا لِمَا تُحِبُّهُ وَتَرْضَاهُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير ن وَأَسْكِنَّا دَارَ كَرَامَتِكَ يَا مَنْ هُوَ مَلْجَؤُنَا وَمَلاذُنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ، وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَمِنْ كُلِّ ضَيْقٍ مَخْرَجًا، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. عبد الرحمن بن عوف هُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةَ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ اسْمُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَبْدُ عَمْرو فَلَمَّا أَسْلَمَ دَعَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ. أَسْلَمَ بَعْدَ إِسْلامِ أَبِي بَكْر الصِّدِّيقُ بِيَوْمَيْنِ فَقَطْ وَلَقِيَ مِنْ التَّعْذِيبِ فِي سَبِيلِ اللهِ مَا لَقِيَهُ الْمُسْلِمُونَ الأوَّلُونَ فَصَبَرَ كَمَا صَبَرُوا وَثَبَتَ كَمَا ثَبَتُوا وَصَدَقَ كَمَا صَدَقُوا وَفَرَّ بِدِينِهِ إِلى الْحَبَشَةِ كَمَا فَرَّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِدِينِهِ مِنْهُمْ. وَلَمَّا أُذِنَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ بِالْهِجْرَةِ إِلى الْمَدِينَةِ كَانَ فِي طَلِيعَةِ الْمُهَاجِرِينَ الذِينَ هَاجَرُوا إِلى الْمَدِينَةِ وَلَمَّا آخَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ آخَى بَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ وَسَعْدِ بن الرَّبِيعِ الأَنْصَارِي فَقَالَ سَعْدُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ: أَيْ أَخِي أَنَا أَكْثَرُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ مَالاً وَعِنْدِي بُسْتَانَانِ وَلِي امْرَأَتَانِ فَانْظُرْ أَيْ بُسْتَانَيَّ أَحَبُّ إِلَيْكَ وَأَيَّ امْرَأَتِيَّ أَرْضَى عِنْدكَ أُطَلِّقْهَا لَكَ.

فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِي مَالِكَ وَأَهْلِكَ وَلَكِنْ دُلَّنِي عَلَى السُّوقِ فَدَلَّهُ عَلَيْهِ فَجَعَلَ يَتَّجِرُ وَبَعْدَ مُدَّة اجْتَمَعَ لَدَيْهِ مَالٌ فَتَزَوَّجَ وَجَاءَ إِلى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ أَثَرُ الطِّيْبِ فَقَالَ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَهْيَمْ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ» . (وَهِيَ كَلِمَةٌ يَمَانِيَّةٌ تُفِيدُ التَّعَجُّبَ) فَقَالَ: تَزَوَّجْتُ. فَقَالَ: ((وَمَا أَعْطَيْتَ زَوْجَتَكَ مِنْ الْمَهْرِ)) . قَالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ: ((أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ بَارَكَ اللهُ لَكَ فِي مَالِكَ)) . قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَأَقْبَلَتْ الدُّنْيَا عَلَيَّ حَتَّى رَأَيْتُنِي لَوْ رَفَعْتُ حَجَرًا لِتَوَقَّعْتُ أَنْ أَجِدَ تَحْتَهُ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً وَقَدْ جَاهَدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ يَوْمَ بَدْرٍ وَفِي يَوْمِ أُحُدٍ ثَبَتَ حَتَّى زُلْزِلَتْ أَقْدَامُ الْمُشْرِكِينَ وَصَمَدَ حِينَ فَرَّ الْمُنْهَزِمُونَ وَخَرَجَ مِنْ الْمَعْرَكَةِ وَفِيهِ بِضْعَةٌ وَعِشْرُونَ جُرْحًا. وَلَكِنَّ جِهَادَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِنَفْسِهِ قَلِيلٌ إِذَا قِيسَ بِجِهَادِهِ بِمَالِهِ، فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجَهِّزَ سَرِيَّةً وَقَالَ: «تَصَدَّقُوا فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَ بَعْثًا» . فَبَادَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَانْطَلَقَ إِلى مَنْزِلِهِ وَعَادَ مُسْرِعًا وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ عِنْدِي أَرْبَعَةُ آلافٍ أَلْفَانِ مِنْهُمَا أَقْرَضْتُهَا رَبِّي وَأَلْفَانِ تَرَكْتُهُمَا لِعِيَالِي فَقَالَ لََهُ رَسُول اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَبَارَكَ لَكَ فِيمَا أَبْقَيْتَ)) . وَلَمَا عَزَمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى غَزْوَةِ تَبُوكٍ كَانَتْ الْحَاجَةُ إِلى الْمَالِ لا تَقِلُّ عَنْ الْحَاجَةِ إِلى الرِّجَالِ فَجَيْشُ الرُّومِ وَافِرُ الْعَدَدِ كَثِيرُ الْعُدَدِ وَالسَّنَةُ فِي الْمَدِينَةِ سَنَةُ جَدْبٍ وَالسَّفَرُ طَوِيلٌ وَالْمُؤْنَةُ قَلِيلَةٌ وَالرَّوَاحِلُ أَقَلُّ. حَتَّى إِنَّ نَفَرًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ جَاءُوا إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَهُ فِي حُرْقَةٍ أَنْ يَأْخذَهُمْ مَعَهُ فَرَدَّهُمْ لأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ مَا يُحْمِلهُمْ عَلَيْهِ

وَهُمْ الْبَكَّاءُونَ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزْنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ. وَأُطْلِقَ عَلَى الْجَيْشِ جَيْشَ الْعُسْرَةِ عِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ بِالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَاحْتِسَابِ ذَلِكَ عِنْدَ اللهِ. فَهَبَّ الْمُسْلِمُونَ يَسْتَجِيبُونَ لِدَعْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ فِي طَلِيعَةِ الْمُتَصَدِّقينَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ فَتَصَدَّقَ بِمَائتي أَوْقِيَّةٍ ذَهَبًا فَقَالَ عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ لِلنَّبِيِّ صَلَّىَ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي لا أَرَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عَوْفِ إِلا مُرْتَكِبًا إِثْمًا فَمَا تَرَكَ لأَهْلِهِ شَيْئًا. فَقَالَ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: ((هَلْ تَرَكْتَ لأَهْلِكَ شَيْئًا)) ؟ فَقَالَ: نَعَمْ تَرَكْتُ لَهُمْ أَكْثَرُ مِمَّا أَنْفَقْتُ وَأَطْيَبُ. قَالَ: ((كَمْ)) ؟ قَالَ: مَا وَعَدَ اللهُ وَرَسُولَهُ مِنْ الرِّزْقِ وَالْخَيْرِ وَالأَجْرِ. وَمَضَى الْجَيْشُ إِلى تَبُوكَ وَهَنَاكَ أَكْرَمَ اللهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ فَقَدْ دَخَلَ وَقْتُ الصَّلاةِ وَرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَائِبٌ فَأَمَّ الْمُسْلِمِينَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ وَمَا كَادَتْ تَتِمُّ الرَّكْعَةُ الأُولَى حَتَّى لَحِقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بِالْمُصَلِّينَ وَاقْتَدَى بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ وَصَلَّى خَلْفَهُ. وَلَمَّا لَحِقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرَّفِيقِ الأَعْلَى جَعَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ يَقُومُ بِمَصَالِحِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَكَانَ يَنْهَضُ مَعَهُنَّ وَيَخْرُجُ لِحَاجَتِهِنَّ إِذَا خَرَجْنَ وَيَحُجُّ مَعَهُنَّ إِذَا حَجَجْنَ وَيَجْعَلُ عَلَى هَوَادِجِهِنَّ الطَّيَالِسَةُ وَيَنْزِلُ بِهِنَّ فِي الأَمَاكِنِ الَّتِي تَسُرُّهُنَّ. وَتِلْكَ مَنْقَبَةٌ مِنْ مَنَاقِبِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ وَلَقَدْ بَلَغَ مِنْ بَرِّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ بِالْمُسْلِمِينَ وَأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ بَاعَ أَرْضًا بَأَرْبَعِينَ أَلْفِ

دِينَارٍ فَقَسَمَهَا كُلَّهَا فِي بَنِي زُهْرَةَ وَفُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ وَأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا بَعَثَ إِلى أَمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَنْ بَعَثَ هَذَا الْمَالَ؟ فَقِيلَ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ. فَقَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا يَحْنُوا عَلَيْكُنَّ مِنْ بَعْدِي إِلا الصَّابِرُونَ)) . بَقِيتْ دَعْوةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْفٍ بَأَنْ يُبَارِكَ اللهُ لَهُ حَتَّى صَارَ أَغْنَى الصَّحَابَةِ فَقَدْ أَخَذَتْ تِجَارَتهُ تَنْمُو وَتَزْدَادُ وَصَارَتْ قَوَافِلُه تَتَرَدَّدُ ذَاهِبَةً مِنْ الْمَدِينَةِ أَوْ رَاجِعَةً إِلَيْهَا تَحْمِلُ الْبُرَّ وَالدَّقِيقَ وَالدُّهْنَ وَالثِّيَابَ وَالآنِيَةَ وَالطِّيْبَ وَكُلَّ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ. وَلا غَرَابَةَ فَقَدْ دَعَا لَهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَأَنْ يُبَارَكَ لَهُ فِي مَالِهِ، لَكِنَّ ذَلِكَ الْمَالَ لَمْ يَفتِنْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَلَمْ يُغَيِّرهُ فَكَانَ النَّاسُ إِذَا رَأَوهُ بَيْنَ مَمَالِيكِه لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ وَفِي يَوْمٍ مَا أُتِيَ بِطَعَامٍ وَهُوَ صَائِمٌ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: لَقَدْ قُتِلَ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرِ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي فَمَا وَجَدْنَا لَهُ إِلا كَفنًا إِنْ غَطَّى رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلاهُ وَإِنْ غَطَّى رِجْلِيهِ بَدَا رَأْسُهُ ثُمَّ بَسَطَ اللهُ لَنَا مِنْ الدُّنْيَا مَا بَسَطَ وَإِنِّي لأَخْشَى أَنْ يَكُونَ ثَوَابُنَا قَدْ عُجِّلَ لَنَا ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي وَيَنْشَجُ حَتَّى عَافَ الطَّعَامَ طُوبَى لِعَبْدِ الرَّحْمَن بن عَوْفٍ وَأَلْفُ غِبْطَةٍ. فَقَدْ بَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ وَحَمَل جَنَازَتَه خَالُ رَسُولِ اللهِ سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ. وَصَلَّى عَلَيْهِ ذُو النُّورَيْنِ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانٍ وَشَيَّعَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِّي بنْ أَبِي طَالِبٍ وَهُوَ يَقُولُ: لَقَدْ أَدْرَكْتَ صَفْوَهَا وَسَبَقْتَ زَيْفَهَا يَرْحَمُكَ اللهُ. انْتَهَى. اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا مَنْ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ مَكِّنْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا

قصيدة زهدية وعظية ويليها موعظة

وَقَوِّهَا وألْهِمْنَا ذِكرَكَ وَشُكْرَكَ وَأَعِنَّا عَلَى الْقِيَامِ بِطَاعَتِكَ وَالاِنْتِهَاءِ عَنْ مَعْصِيَتِكَ اللَّهُمَّ افْتَحْ لِدُعَائِنَا بَابَ الْقُبُولِ وَالإِجَابَةِ فَإِنَّا نَدْعُوكَ دُعَاءَ مَنْ كَثُرَتْ ذُنُوبُهُ وَتَصَرَّمَتْ آمَالِهِ وَبَقِيَتْ آثَامُهِ وَانْسَبَلَتْ دِمْعَتُه وَانْقَطَعَتْ مُدَّتُهُ دُعَاءَ مَنْ لا يَرْجُو لِذَنْبِهِ غَافِرًا غَيْرَكَ وَلا لِمَا يُؤْمِّلُهُ مِنْ الْخَيْرَاتِ مُعْطِيًا سِوَاكَ، وَلا لِكَسْرِهِ جَابِرًا إِلا أَنْتَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. الْمَوْتُ يَفْجَعُ بَعْدَ الْعَيْنِ بِالأَثْرِ ... فَمَا الْبُكَاءُ عَلَى الأَشْبَاحِ وَالصُّورِ أَنْهَاكَ أَنْهَاكَ لا آلُوكَ مَوْعِظَةً ... عَنْ نَوْمَةٍ نَابَ اللَّيْثِ وَالظُّفُرِ فَالْعُمُر يَفْنِى وَإِنْ طَالَتْ مُسَالَمَةً ... وَالْبَيْضُ وَالسُّودُ مِثْلَ الْبِيضِ وَالسَّمُرِ وَلا هَوَادَةَ بَيْنَ الرَّأْسِ تَأْخُذُهُ ... يَدُ الضِّرَابِ وَبَيْنِ الصَّارِمِ الذَّكْرِ فَلا تَغُرَّنْكَ مِنْ دُنْيَاكَ نَوْمَتُهَا ... فَمَا صِنَاعَةُ عَيْنَيِهَا سِوَى السَّهَرِ مَا لِلَّيالِي أَقَالَ اللهُ عَثْرَتَنا ... مِنَ اللَّيَالِي وَغَالَتْهَا يَدُ الْغِيَرِ فِي كُلِّ حِينٍ لَهَا فِي كُلِّ جَارِحَةٍ ... مِنَّا جِرَاحٌ وَإِنْ زَاغَتْ عَنِ النَّظَرِ تَسُرُّ بِالشَّيْءِ لَكِنْ كَيْ تَغُرَّ بِهِ ... كَالأَيْمِ ثَارَ إِلى الْجَانِي مِنَ الزَّهْرِ كَمْ دَوْلَةٍ وُلِّيَتْ بِالنَّصْرِ خَدْمَتُهَا ... لَمْ تَبْقَ مِنْهَا وَسَلْ دُنْيَاكَ عَنْ خَبَرِ هَوَتْ بِدَارًا وَفَلَّْت غَرْبَ قَاتِلِهِ ... وَكَانَ غَصْبًا عَلَى الأَمْلاكِ ذَا أَثَرِ وَاِسْتَرْجَعَتَ مِنْ بَنِي سَاسَانَ مَا وَهَبَتْ ... وَلَمْ تَدَعْ لِبَنِي يُونَانَ مِنْ أَثَرِ وَأَلْحَقَتْ أُخْتَهَا طَمْسًا وَعَادَ عَلَى ... عَادٍ وَجُرْهُمْ مِنْهَا نَاقِضُ الْمِرَرِ وَمَا أَقَالَتْ ذََوِي الْهَيْئَاتِ مِنْ يَمَنٍ ... وَلا أَجَارَتْ ذَوِي الْغَايَاتِ مِنْ مُضَرِ وَمَزَّقَتْ سَبَأً فِي كُلِّ قَاصِيَةٍ ... فَمَا الْتَقَى رَائِحٌ مِنْهُمْ بِمُبتَكِرِ وَأَنْفَذَتْ فِي كُلَيْبٍ حَكَمَهَا وَرَمَتْ ... مُهَلْهِلاً بَيْنَ سَمْعِ الأَرْضِ وَالْبَصَرِ وَلَمْ تَرُدَّ عَلَى الضَّلِيلِ صِحَّتَهُ ... وَلا ثَنَتْ أَسَدًا عَنْ رَبِّهَا حَجَرِ وَدَوَّخَتْ آلَ ذُبيانٍ وَإِخْوَاتَهُمْ ... عَبْسًا وَغَصَّتْ بَنِي بَدْرٍ عَلَى النَّهْرِ

.. وَأَلْحَقَتْ بِعَدِيٍّ بِالْعِرَاقِ عَلَى ... يَدِ ابْنِهِ أَحْمَرَ الْعَينَيْنِ وَالشَّعْرِ وَأَهْلَكَتْ إِبْرَوِيزًا بِابْنِهِ وَرَمَتْ ... بِيَزْدَجِرْدٍ إِلى مَروٍ فَلَمْ يُحُرِ وَبَلَّغتْ يَزْدَجِرْدَ الصِّينَ وَاِخْتَزَلَتْ ... عَنْهُ سِوَى الْفُرْسِ جَمْعَ التُّرْكِ وَالْخَزَرِ وَلَمْ تَرُدَّ مَوَاضِي رُسْتُمٍ وَقَنَا ... ذِي حَاجِبٍ عَنْهُ سَعْدًا فِي ابْنَهِ الْغَيْرِ يَوْمَ الْقَلِيبِ بَنُو بَدْرٍ فَنُوا وَسَعَى ... قَلِيبُ بَدْرٍ بِمَنْ فِيهِ إِلى سَقَرِ وَأَخْفَرَتْ فِي الأَمِينِ الْعَهْدِ وَاِنْتَدَبَتْ ... لِجَعْفََرٍ بِابْنِهِ وَالأَغْبُدِ الْغُدُرِ وَمَا وَفَتْ بِعُهُودِ الْمُسْتَعِينِ وَلا ... بِمَا تَأَكَّدَ لِلْمُعتَزِّ مِنْ مِرَرِ وَأَوْثَقَتْ فِي عُرَاهَا كُلَّ مُعْتَمَدٍ ... وَأَشْرَقَتْ بِقَذَاهَا كُلَّ مُقْتَدِرِ وَرَوَّعَتْ كُلَّ مَأْمُونٍ وَمُؤْتَمَنٍ ... بِذَيلِ زَبَّاءَ لَمْ تَنْفِِْر مِنَ الذُّعْرِ وَأَعثَرَت آلَ عَبَّادٍ لَعالَهُمُ ... وَأَسْلَمَتْ كُلَّ مَنْصُورٍ وَمُنْتَصِرِ بَنِي الْمُظَفَّرِ وَالأَيّامُ - لا نَزَلَتْ ... مَرَاحِلٌ وَالْوَرَى مِنْهَا عَلَى سَفََرِ سُحْقًا لِيَوَمِْكُمُ يَوْمًا وَلا حَمَلَتْ ... بِمِثْلِهِ لَيْلَةٌ فِي غَابِرِ الْعُمُرِ مَنْ لِلأَسِرَّةِ أَوْ مَنْ لِلأَعِنَّةِ أَوْ ... مَنْ لِلأَسِنَّةِ يُهْدِيهَا إِلى الثُّغَرِ مَنْ لِلظِّبَا وَعَوَالِي الْخَطِ قَدْ عُقِدَتْ ... أَطْرَافُ أَلْسُنِهَا بِالْعِيِّ وَالْحَصَرِ وَطَوَّقَتْ بِالْمَنَايَا السُّودِ بِيضَهُمُ ... فَأعْجَبْ لِذَاكَ وَمَا مِنْهَا سِوَى الذِّكْرِ مَنْ لِلْيَرَاعَةِ أَوْ مَنْ لِلْبَرَاعَةِ أَوْ ... مَنْ لِلسَّمَاحَةِ أَوْ لِلنَّفْعِ وَالضَّرَرِ أَوْ دَفْعِ كَارِثَةٍ أَوْ رَدْعِ آزِفَةٍ ... أَوْ قَمْعِ حَادِثَةٍ تَعْيِي عَلَى الْبَشَرِ وَيبْ السَّمَاحِ وَوَيْبَ الْبَأَ لَوْ سَلِمَا ... وَحَسْرَةُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا عَلَى عُمَرِ سَقَتْ ثَرَى الْفَضْلِ وَالْعَبَّاسِ هَامِيَةٌ ... تُعْزَى إِلَيْهِمْ سَمَاحًا لا إِلى الْمَطَرِ ثَلاثَةٌ مَا رَأَى السَّعْدَانُ مِثْلَهُمُ ... وَأَخْبَرَ وَلَوْ عَزَّزا فِي الْحُوتِ بِالْقَمَرِ ثَلاثَةٌ كَذَوَاتِ الدَّهْرِ مُنْذُ نَأَوْا ... عَنِّي مَضَى الدَّهْرُ لَمْ يَرْبَعْ وَلَمْ يَحِرِ

.. وَمَرَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فِيهِ أَطْيَبُهُ ... حَتَّى التَّمَتُّعُ بِالآصَالِ وَالْبُكَرِ أَيْنَ الْجَلالُ الَّذِي غَضّتْ مَهابَتُهُ ... قُوُبَنَا وَعُيُونُ الأَنْجُمِ الزُّهُرِ أَيْنَ الإِبَاءُ الَّذِي أَرْسُوا قَوَاعِدَهُ ... عَلَى دَعَائِمَ مَنْ عِزٍّ وَمِنْ ظَفَرِ؟ أَيْنَ الْوَفاءُ الَّذِي أَصْفَوا شَرَائِعِهُ ... فَلَمْ يَرِدْ أَحَدٌ مِنْهَا عَلى كَدَرِ كَانُوا رَوَاسِيَ أَرْضِ اللهِ مُنْذُ مَضُوا ... عَنْهَا اِسْتَطَارَتْ بِِمَنْ فِيهَا وَلَمْ تَقِرِ كَانُوا مَصَابِيحَهَا دَهْرًا فَمُنْذُ خَبَوْا ... صَارَ الْخَلِيقَةُ يَاللهِ فِي مَرَرِ مَنْ لِي مَنْ بِهِمْ إِنْ أَظْلَمَتْ نُوبٌ ... وَلَمْ يَكُنَ لَيلُهَا يُفْضِي إِلى سَحَرِ مَنْ لِي وَلا مَنْ بِهِمْ إِنْ أَطْبَقَتْ مِحَنٌ ... وَلَمْ يَكُنْ وِزْرُهَا يَدْعُو إِلى صَدَرِ عَلَى الْفَضَائِلِ إِلا الصَّبْرُ بَعْدَهُمْ ... سَلامُ مُرْتَقِبٍ لِلأَجْرِ مُنْتَظِرِ يَرْجُو عَسَى وَلَهُ فِي أُخْتِهَا أَمَلٌ ... وَالدَّهْرُ ذُو عَتَبٍ شَتَّى وَذُو غِيَرِ رَرَّطْتُ آذَانَ مَنْ فِيهَا بِفَاضِحَةٍ ... عَلَى الْحَِسانِ حَصَى الْيَاقُوتِ وَالدُّرَرِ سَيَّارَةٌ فِي أَقَاصِي الأَرْضِ قَاطِعَةً ... شَقَاشِقاً هَدَرَتْ فِي الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ مُطَاعَةُ الأَمْرِ فِي الأَلْبَابِ قَاضِيَةٌ ... مِنَ الْمَسَامِعِ مَا لَمْ يُقْضَ مِنْ وَطَرِ اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْألُكَ نَفْسًا مُطْمَئِنَّةً، تُؤْمِنُ بِلِقَائِكَ وَتَرْضَى بِقَضَائِكَ، وَتَقْنَعُ بِعَطَائِكَ، يَا أَرْأَفَ الرَّائِفِينَ، وَأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ. موعظة: عن معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنهما، أنه قال: سَمِعْتُ رسول الله ? يَقُولُ فِي خُطبة في أحد العيدين: «الدُّنْيَا دَارُ بَلاءٍ ومنزل قَلقٍ وعَناءٍ، وقد نَزَعَتْ عنها نفوسُ السُّعداء، وانتُزعت بالكُرْهِ مِنْ أَيْدي الأَشْقياء، فَأسْعَدُ النَّاس بها أَرْغَبُهُم عنها، وأشقاهُم بها أرغَبُهم فيها، هي الغاشَّةُ لمن انْتَصَحَها، وَالْمُغْوية لِمَنْ أَطَاعَهَا، وَالْخَاتِرَة لمن انقادَ لها. فالفائِز مَنْ أَعْرَضَ عنها، والهالكُ مَنْ رَاغِبٌ فِيهَا. طُوبى لِعَبْدٍ اتَّقى فيها رَبَّه، وناصَحَ نَفْسَه، وقدَّم توبَتَه، وَأَخَّرَ شَهْوَتَه مِنْ قبَل أَنْ تَلْفِظَه الدُّنْيَا إِلى الآخرة، فَيُصْبحَ فِي بَطْنِ مُوحِشَةٍ غَبراء، مُدْلَهِمَّةٍ ظلماء لا يستطيعُ

أن يَزِيدَ في حَسَنَة، وَلا يَنْقُصَ مِنْ سَيِّئَة، ثُمَّ يُنْشَرُ فَيُحْشَرُ إِمَّا إلى جَنَّةٍ يَدُومُ نَعِيمها، وَإِمَّا إِلى نَارٍ لا يَنْفَدُ عَذَابُها. وعن ابن عمر رضي الله عنه أَنَّهُ قال: سَمِعْتُ رسولَ الله يقول في خطبته: «يا أَيُّهَا النَّاس إِنَّ هَذِهِ الدَّارَ دَارُ التواء لا دَارُ استواء، ومَنزل تَرَح، لا منزل فَرَح. مَنْ عَرَفَهَا لَمْ يَفْرَحِ لِرَخَاءٍ، وَلَمْ يحزَن لشقاء أَلا وَإِنَّ الله عَزَّ وجل خلَقَ َالدُّنْيَا دَارَ بَلْوَى، والآخرةَ دَارِ عُقْبَى فجعلَ بَلْوَى الدُّنْيَا لِثوابِ الآخرةِ سَبَبًا وَثَوَابَ الآخرة مِنْ بَلْوَى الدُّنْيَا عِوَضًا، فيأخذ لِيُعْطي، وَيُبْتَلى لِيَجْزي. إِنَّهَا لَسَرِيعَةُ الذَّهَابِ، وَشِيكَةُ الانْقِلاب، فاحْذَرُوا حَلاوَةَ رِضَاعِهَا لِمَرَارَةِ فِطَامِهَا، وَاهْجُرُوا لَذِيذَ عَاجِلِها لِكَرِيهِ آجِلِهَا وَلا تَسْعَوا فِي عُمْرَانِ دَارٍ قَدْ قَضَى الله خَرَابَها وَلا تُوَاصِلُوهَا، وَقَدْ أَرَادَ الله مِنْكُمْ اجْتِنَابِهَا، فَتَكُونُوا لِسُخْطِهِ مُتَعَرِّضِينَ، وَلِعُقُوبَتِه مُسْتَحِقِّينَ. هُوَ الْمَوْتُ مَا مِنْهُ مَفَرٌّ لِهَارِبٍ وَهَلْ هَرَبي يَوْمًا مِنْ اللَّيْلِ يَنْفَعُ وَأَيُّ اجْتِمَاعِ لا يُبَدَّدُ شَمْلُهُ وَأَيُّ فُؤَادٍ بِالرَّدَى لا يُرَوَّعُ حَيَاتُكَ كَالأَضْغَاثِ وَالْحِلْم مُزْعِجٌ وَيَعْقِبُهُ الْمَوْتُ الذِي لَيْسَ يُدْفَعُ لَقَدْ جِئْتَ مُضْطرًا وَتَرْجَعُ كَارِهًا وَلَمْ يَخْتَلِفْ شَأْنًا مَجِيءٌ وَمَرْجِعُ إِذَا اتَّسَخَ السِّربَالُ أَوْرَثَّ نَسْجُهُ فَلا بُدَّ لِلسِّرْبَالِ بِالنَّزْعِ يُخْلَعُ أَرَى الرُّوحَ تَأْوِي الْجِسْمَ مَا دَامَ عَامِرًا وَتُخْلِيهِ مِنْ بَعْدِ إِنْهِيَارٍ وَتُقْلِعُ إِذَا طَالَ عُمْرُ الْمَرْءِ طَالَ عَنَاؤُهُ

قصة لثابت بن قيس الأنصاري

.. وَأَشْقَاهُ مِنْ أَحْبَابِهِ مَنْ يُوَدِّعُ وَعَاثَتْ تَصَارِيفُ الزَّمَانِ بِجِسْمِهِ فَفِي كُلِّ يَوْمٍ جَانِبٌ يَتَضَعْضَعُ تَسَاقَطُ أَسْنَانٌ وَيَضْعَفُ نَاظِرٌ وَتَقْصُرُ خُطْوَاتٌ وَيَثْقُلُ مَسْمَعُ أَرَى الْوَقْتُ وَالدَّاءِ الْعُظَال يَلُوكُنَا لِتَبْلَعَنَا الأَرْضُ الَّتِي لَيْسَ تَشْبَعُ نَوَائِبُهُ الأَنْيَابُ تَفْرِي قُلُوبَنَا وَفِيهَا أَمَانِينَا سَرَابٌ مُشَعْشِعُ وَمَاذَا يُرْجِي الْحَيُّ إِنْ جُذَّ أَصْلُهُ وَشُذِّبَ عَنْهُ فَرْعُهُ الْمُتَفَرِّعُ وَمَا عُذْرُ مَنْ تُؤْدِي اللَّيَالِي بِبَعْضِهِ إِذَا كَانَ بِالدُّنْيَا يُغَزُّ وَيُخْدَعُ وَلَمْ أَرَى كَالدُّنْيَا وَلَمْ أَرَى كَلْبَهَا تَجُورُ عَلَيْهِ وَهُوَ بِالأم مُولَعُ إِذَا عَرَفَ الدُّنْيَا لَبِيبٌ أَهَانَهَا وَيَحْيَى حَيَاةَ الزَّاهِدِينَ وَيَقْنَعُ تَوَالَتْ مَلايينُ الْمَلايينِ قَبْلَنَا عَلَى سُنَنِ الأَجْيَالِ تَقْفُوا وَتَتْبَعُ قَوَافِلُ يَحْدُوهَا الزَّمَانُ بِلَحْنِهِ وَمَا لَحْنُهُ إِلا الأَنِينُ الْمُرَجَّعُ

.. أَرَى الْمَوْتَ لا يَثْنِيهِ نُبْلٌ وَسُؤْدَدُ وَلا مَحْتَدٌ زَاكٍ وَشَأْن مُرفعُ وَلا خُلُقٌ زَاكٍ وَلا عَبْقَرِيَّةٌ وَهَلْ خَلْقٌ عِنْدَ الْمَنِيَّةِ يَشْفَعُ وَمَا الْمَوْتُ إِلا قُوَّةٌ تَنْحَنِي لَهَا ظُهُورُ جَمِيعُ الأَقْوِيَاءِ وَتَرْكَعُ وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. قِصَّةٌ لثابت بن قيس الأنصاري هَوُ أَحَدُ السَّابِقِينَ إِلى الإِسْلامِ فِي يَثْرِبَ إِذْ مَا كَادَ يَسْتَمِعُ إِلى آيِ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ يُرَتِّلها الدَّاعِيَةُ الْمَكَّيُّ الشَّابُّ مُصْعَبُ بن عُمَيْرٍ بِصَوْتِهِ الشَّجِيِّ وَجَرْسِهِ النَّدِيَّ حَتَّى أَسَرَ الْقُرْآنُ سَمْعَه بِحَلاوَةَ وَقْعِه، وَمَلَكَ قَلْبَهُ بَرَائِع بَيَانِهِ، وَخَلَبَ لُبَّهُ بِمَا حَفَلَ بِهِ مِنْ هَدْيٍ وَتَشْرِيع. فَشَرَحَ اللهُ صَدْرَه للإِيمَانِ وَأَعْلَى قَدْرَهُ وَرَفَعَ ذِكْرَهُ بِالإِنْضِوَاءِ تَحْتَ لِوَاءِ نَبِيِّ الإِسْلامِ. وَلَمَّا قَدِمَ الرَّسُولُ صَلَوَاتُ الله وَسَلامُه عَلَيْهِ إِلى الْمَدِينَةِ مُهَاجِرًا اسْتَقْبَلَهُ ثَابِتُ بن قَيْسٍ فِي كَوْكَبَةٍ كَبِيرَةٍ مِنْ فُرْسَانِ قَوْمِهِ أَكْرَمَ اسْتِقْبَالٍ، وَرَحَّبَ بِهِ وَبِصَاحِبِهِ الصِّدِّيقْ أَجْمَلَ تَرْحِيبٍ وَخَطَبَ بَيْنَ يَدَيْهِ خُطْبَةً بَلِيغَةً افْتَتَحَهَا بِحَمْدِ اللهِ جَلَّ وَعَزَّ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالصَّلاةِ وَالسَّلامِ عَلَى نَبِيِّه ... وَاخْتَتَمَهَا بِقَوْلِهِ: (وَإِنَّا نُعَاهِدُكَ - يَا رَسُولُ اللهِ - عَلَى أَنْ نَمْنَعَكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَنْفُسَنَا وَأَوْلادَنَا وَنِسَاءَنَا فَمَا لَنَا لِقَاءَ ذَلِكَ) ؟ . فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلام: ((الْجَنَّةِ)) ...

فَمَا كَادَتْ كَلِمَةُ «الْجَنَّةِ» تُصَافِحُ آذَانَ الْقَوْم حَتَّى أَشْرَقَتْ وجُوهُهم بِالْفَرْحَةِ وَزَهِتْ قَسَمَاتُهُمْ بِالْبَهْجَةِ، وَقَالُوا: رَضِينَا يَا رَسُولَ اللهِ ... رَضِينَا يَا رَسُولَ اللهِ ... وَمُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ جَعَلَ الرَّسُولُ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِ ثَابِتَ بن قَيْسٍ خَطِيبَهُ، كَمَا كَانَ حَسَّانُ بِنْ ثَابِتٍ شَاعِرَه. فَصَارَ إِذَا جَاءَتْهُ وُفُودُ الْعَرَبَ لِتَفَاخِرَهُ أَوْ تُنَاظِرَهُ بِأَلْسِنَةِ الْفُصَحَاءِ الْمَقَاوِل مِنْ خُطَبَائِهَا وَشعرائِها نَدَبَ لَهُمْ ثَابِتَ بنَ قَيْسٍ لِمُصَاوَلَةِ الْخُطَبَاءِ وَحَسَّانَ بن ثَابِتٍ لِمُفَاخَرَةِ الشُّعَرَاءِ. وَلَقَدْ كَانَ ثَابِتُ بن قَيْسٍ مُؤْمِنًا عَمِيقَ الإِيمَانِ تَقِيًّا صَادِقَ التَّقْوَى، شَدِيدَ الْخَشْيَةِ مِنْ رَبِّهِ، عَظِيمَ الْحَذَرِ مِنْ كُلِّ مَا يُغْضِبُ اللهَ جَلَّ وَعَزَّ. فلقد رآه رسولُ الله ? ذاتَ يومٍ هَلِعًا جَزِعًا ترتعِدَ فرائصُهُ خوفًا وخشية. فقال: ((ما بكَ يا أبا محمد)) ؟! فقال: أخْشَى أنْ أكونَ قَدْ هَلكتُ يا رسول الله ... قال: ((وَلِمَ)) ؟! قال: لقد نهانا الله جَلَّ وَعَزَّ عن أَنْ نُحِبَّ أَنْ نُحْمَدَ بِمَا لَمْ نَفْعَلْ، وَأَجِدُني أحبُّ الْحَمْدَ ... ونهانا عن الْخُيلاءِ وأجِدُني أحبُّ الزَّهْوَ. فَمَا زَالَ الرَّسُولُ صَلَواتُ الله وَسَلامُه عَلَيْهُ يُهدِّئ مِنْ رَوْعِه حَتَّى قَالَ: ((يَا ثَابِتُ، أَلا تَرْضَى أَنْ تَعِيشَ حَمِيدًا ... وَتُقْتَلَ شَهِيدًا ... وَتَدْخُلَ الْجَنَّة)) ... ؟ فَأَشْرَقَ وَجْهُ ثَابِتٍ بِهَذِهِ الْبُشْرَى وَقَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ الله ... بَلَى يَا رَسُولَ الله. فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((إِنَّ لَكَ ذَلِكَ)) .

وَلَمَّا نَزَل قَوْلُهُ جَلَّ شَأْنُه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} . تَجَنَّبَ ثَابِتُ بن قَيْسٍ مَجَالِسَ رَسُولِ الله ? - على الرَّغْمِ مِنْ شِدَّةِ حُبِّهِ لَهُ، وَفَرْطِ تَعَلُّقِهِ بِهِ -. وَلَزِمَ بَيْتَه حَتَّى لا يَكَادُ يَبْرَحه إِلا لأَدَاءِ الْمَكْتُوبَةِ. فَافْتَقَدَه النَّبِيُّ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ وَقَالَ: ((مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِهِ)) ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِن الأَنْصَارِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ. وَذَهَبَ إِلَيْهِ فَوَجَدَهُ فِي مَنْزِلِه مَحْزُونًا مُنْكِّسًا رَأْسَهُ فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ؟ . قَالَ: شَرٌّ. قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟! قَالَ: إِنَّكَ تَعْرِفُ أَنِّي رَجُلٌ جَهِيرُ الصَّوْتِ، وَأَنَّ صَوْتِي كَثِيرًا مَا يَعْلُو عَلَى صَوْتِ رَسُولِ اللهِ ? وَقَدْ نَزَلِ مِنْ الْقُرْآنِ مَا تَعْلَمُ، وَمَا أَحْسَبُنِي إِلا قَدْ حَبِطَ عَمَلِي وَأَنَّنِي مِنْ أَهْلِ النَّارِ. فَرَجَعَ الرَّجُلُ إِلى الرَّسُولِ صَلَوَاتُ الله وَسَلامُهُ عَلَيْهِ، وَأَخْبرَهُ بِمَا رَأَى وَمَا سَمِعَ فَقَالَ: ((اذْهَبْ إِلَيْهِ وَقُلْ لَهُ: لَسْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَلَكِنَّكَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)) . فَكَانَتْ هَذِهِ بِشَارَةً عُظْمَى لِثَابِتٍ ظَلَّ يَرْجُو خَيْرَهَا طُوَالَ حَيَاتِه. وَقَدْ شَهِدَ ثَابِتُ بنُ قَيْسٍ مَعَ رَسُولِ اللهِ ? الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا سِوَى بَدْرٍ، وَأَقْحَمَ نَفْسَهُ فِي غِمَارِ الْمَعَارِكِ طَلِبًا لِلشَّهَادَةِ الَّتِي بِشَّرَهُ بِهَا النَّبِيِّ، فَكَانَ يخطِئُها فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَهِيَ قَابَ قَوْسَيْنَ مِنْهُ أَوْ أَدْنَى ... إِلى أَنْ وَقَعَتْ حُرُوبُ الرِّدَّةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَمُسَيْلَمَةَ الْكَذَّابِ عَلَى عَهْدِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَلَقَدْ كَانْ ثَابِتُ بنُ قَيْسٍ إِذْ ذَاكَ أَمِيرًا لِجُنْدِ الأَنْصَارِ، وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ أَمِيرًا لِجُنْدِ الْمُهَاجِرِينَ، وَخَالِدُ بنُ الْوَلِيدِ قَائِدًا لِلْجَيْشِ كُلِّه: أَنْصَارِهِ وَمُهَاجِرِيه وَمَنْ فِيهِ مِنْ أَبْنَاءِ الْبَوَادِي.

وَلَقَدْ كَانَتْ الرِّيحُ وَالدَّوْلَةُ فِي جُلِّ الْمَعَارِكِ لِمُسَيْلَمَةَ وَرِجَالِهِ عَلَى جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى بَلَغَ بِهِمْ الأَمْرُ أَن اقْتَحَمُوا فُسْطَاطَ خَالِد بن الْوَلِيدِ، وَهَمُّوا بِقَتْلِ زَوْجَتِهِ أُمُّ تَمِيمٍ، وَقَطَعُوا حِبَالَ الْفِسْطَاطِ وَمَزَّقُوه شَرَّ مُمَزِّقٍ. فَرَأَى ثَابِتُ بنُ قَيْسٍ يَوْمَذَاكَ مَنْ تَضَعْضُعِ الْمُسْلِمِينَ مَا شَحَنَ قَلْبَهُ أَسَىً وَكَمَدًا وَسَمِعَ مِنْ تَنَابُزِهِمْ مَا مَلأَ صَدْرَهُ هَمًّا وَغَمًّا ... فَأَبْنَاءُ الْمُدُنِ يَرْمُونَ أَهْلَ الْبَوَادِي بِالْجُبْنِ، وَأَهْلِ الْبَوَادِي يَصفُونَ أَبْنَاءَ الْمُدُنِ بِأَنَّهُمْ لا يُحْسِنُونَ الْقِتَالَ وَلا يَدْرون مَا الْحَرْبُ ... عِنْدَ ذَلِكَ تَحنَّط ثَابِتٌ وتكفَّنَ وَوَقَفَ عَلَى رؤوسِ الأَشْهَادِ. وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، مَا هَكَذَا كُنَّا نُقَاتِلُ مَعَ رَسُولِ الله ?. بِئْسَ مَا عَوَّدَتم أَعْدَاءَكُم مِنْ الْجُرْأَةِ عَلَيْكُمْ ... وَبِئْسَ مَا عَوَّدْتُمْ أَنْفُسَكُمْ مِنْ الانْخِذَالِ لَهُم ... ثُمَّ رَفَعَ طَرْفَهُ إِلى السَّمَاءِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأَ إِلَيْكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ هُؤَلاءِ مِن الشِّرْكِ (يَعْنِي مُسَيْلَمَةَ وَقَوْمَه) . وَأَبْرَأَ إِلَيْكَ مِمَّا يَصْنَعُ هَؤُلاءِ (يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ) . ثُمَّ هَبَّ هَبَّة الأَسَدِ الضَّارِي كَتِفًا لِكَتِفٍ مَع الْغُرِّ الميامين: الْبراءِ بن مَالِكٌ الأَنْصَارِي، وَزَيْدِ بن الْخَطَّابِ أَخِي أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذََيْفَة، وَغَيْرِهم وَغَيْرِهم مِنْ الْمُؤْمِنِينَ السَّابِقِين ... وَأَبْلَى بَلاءً عَظِيمًا مَلأَ قُلُوبَ الْمُسْلِمِينَ حَمِيَّةً وَعَزْمًا، وَشحَنَ أَفْئِدَةِ الْمُشْرِكِينَ وَهْنًا وَرُعْبًا. وَمَا زَال يُجَالِدُ فِي كُلِّ اتِّجَاهٍ وَيُضَارِبُ بِكُلِّ سِلاحٍ حَتَّى أَثْخَنَتْه الْجِرَاحَ فَخَرَّ صَرِيعًا عَلَى أَرْضِ الْمَعْرَكَةِ قَرِيرَ الْعَيْنِ بِمَا كَتَبَ الله لَهُ مِنْ الشَّهَادَةِ الَّتِي بَشَّرَ بِهَا حَبِيبُه رَسُولُ اللهِ ?، مَثْلُوجَ الصَّدْرِ بِمَا حَقَّقَ الله على يَدَيْهِ

لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ النَّصْرِ ... وَكَانَتْ عَلَى ثَابِتٍ دِرْعٌ نَفِيسَةٌ فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِين فَنَزَعَهَا عَنْهُ وَأَخَذَهَا لِنَفْسِهِ. وَفِي اللَّيْلَةِ التَّالِيَةِ لاسْتِشْهَادِهِ رَآهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي مَنَامِهِ فَقَالَ لِلرَّجُلُ: أنَاَ ثَابِتٍ بنُ قَيْسٍ، فَهَلْ عَرَفْتَنِي؟ فَقَالَ: إِنِّي أُوصِيكَ بِوَصِيَّةِ، فَإِيَّاكَ أَنْ تَقُولَ هَذَا حُلُمٌ فَتُضَيِّعَهَا ... إِنِّي لَمَا قُتِلْتُ أَمْسٍ مَرَّ بِي رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ صِفَتُه كَذَا وَكَذَا، فَأَخَذَ دِرْعِي وَمَضَى بِهَا نَحْوَ خِبَائِهِ فِي أَقْصَى الْمُعَسْكَرِ مِنْ الْجِهَةِ الْفُلانِيَّةِ، وَوَضَعَهَا تَحْتَ قِدْرٍ لَهُ، وَوَضَعَ فَوْقَ الْقِدْرِ رَحْلاً فَائْتِ خَالِدَ بن الْوَلِيدَ وَقُلْ لَهُ: أَنْ يَبْعَثَ إِلى الرَّجُلِ مَنْ يَأْخُذُ الدِّرْعَ مِنْهُ فَهِيَ مَا تَزَالُ فِي مَكَانِهَا. وأوصيكَ بِأُخْرَى، فَإِيَّاكَ أَنْ تَقُولَ هَذَا حُلُمُ نَائِمٍ فَتُضَيِّعَهَا ... قُلْ لِخَالِدٍ: إِذَا قَدِمْتَ عَلَى خَلِيفَة رَسُولِ اللهِ ? فِي الْمَدِينَةِ فَقُلْ لَهُ: إِنَّ عَلَى ثَابِتِ بن قَيْسٍ مِنْ الدَّيْنِ كَذَا وَكَذَا ... وَإِنَّ فُلانًا وَفُلانًا مِنْ رَقِيقِهِ عَتِيقَان، فَلْيَقْضِ دِينِي وَلْيُحَرِّرْ غُلامَيَّ ... فَاسْتَيْقَظَ الرَّجُلُ، فَأَتَى خَالِدَ بن الْوَلِيدِ فَأَخْبَرَهُ بِمَا سَمِعَ وَمَا رَأَى ... فَبَعَثَ خَالِدٌ من يُحْضِرُ الدِّرْعَ مِنْ عِنْدِ آخِذِهَا فَوَجَدَهَا فِي مَكَانِهَا وَجَاءَ بِهَا كَمَا هِيَ. وَلَمَّا عَادَ خَالِدٌ إِلى الْمَدِينَةِ حَدَّثَ أَبَا بَكْر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِخَبَرِ ثَابِتِ بنِ قَيْسِ وَوَصِيَّتِهِ فَأَجَازَ الصِّدِّيقُ وَصيَّتَهُ وَمَا عُرِفَ أَحَدٌ قَبْلَهُ وَلا بَعْده أُجِيزَتْ وَصِيَّتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ سِوَاه.

قصة للنعمان بن مقرون ويليها قصدية (وداع راحل)

اللَّهُمَّ انْهَجْ بِنَا مَنَاهِجَ الْمُفْلِحِينَ وَأَلْبِسْنَا خِلَعَ الإِيمَانِ وَالْيَقِينَ وَخُصَّنَا مِنْكَ بِالتَّوْفِيقِ الْمُبِين وَوَفِّقْنَا لِقَوْلِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ وَخَلِّصْنَا مِنْ الْبَاطِلِ وَابْتِدَاعِهِ وَكُنْ لَنَا مُؤَيِّدَا وَلا تَجْعَلْ لِفَاجِرٍ عَلَيْنَا يَدًا وَاجْعَلْ لَنَا عَيْشًا رَغَدًا وَلا تُشْمِتْ بِنَا عَدُوًا وَلا حَاسِدًا وَارْزُقْنَا عَلْمًا نَافِعًا وَعَمَلاً مُتَقَبَّلاً، وَفَهْمًا ذَكِيًا وَطَبْعًا صَفِيًا، وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. قصة للنْعمان بنُ مقرِّنٍ الْمَزَنِيّ كانت قبيلةُ مُزَينَةَ تَتَخِذوا منازلَها قَرِيبًا مِنْ يَثْرِبْ عَلَى الطَّرِيقِ الممتدة بين المدينةِ ومكة. وكان الرسولُ صلواتُ الله وسلامُه عليه قد هاجرَ إلى المدينةِ، وَجَعَلَتْ أخبارُه تَصِلُ تِبَاعًا إِلى مُزَيْنَةَ مع الْغَادِينَ وَالرَّائِحينَ فَلا تسمعُ عَنْهُ إِلا خَيْرًا. وفي ذاتِ عَشِيَّةٍ، جَلَسَ سِيِّدُ الْقَوْمِ، النعمانُ بن مقرِّنٍ الْمَزَنيُّ فِي ناديه مع إخوتِهِ وَمَشْيَخَةِ قَبِيلَتِهِ فَقَالَ لَهُمْ: يا قوم والله ما عَلِمْنا عن محمدٍ إِلا خيرًا، ولا سمعنا من دَعْوَتِهِ إِلا مَرْحَمَةً وَإِحْسَانًا وَعَدلاً، فَمَا بَالُنَا نُبْطئُ عنه والناسُ إليه يُسْرِعُون؟! ثم أَتْبَعَ يقول: أَمَّا أَنَا فقد عَزَمْتُ عَلَى أَن أَغْدُو عَلَيْهِ، إِذَا أَصْبَحْتُ، فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ مَعِي فَلْيَتَجَهَّزْ. وَكَأَنَّمَا مَسَّتْ كلماتُ النُّعْمَانِ وَتِرًا مُرْهَفًا في نفوسِ القوم، فما إن طَلَع الصباحُ حَتَّى وَجَدَ إِخْوَتَهُ الْعَشْرَةَ، وأربعمائة فارسٍ من فرسان مُزَيْنَةَ قَدْ جَهَّزوا أَنْفُسَهُمْ لِلْمُضِيِّ معه إلى يَثْرِبَ لِلِقَاءِ النَّبِيِّ صلواتُ الله وسلامهُ عليه، والدُّخُولِ في دينِ الله.

بَيْدَ أَنَّ النَّعْمَانَ اسْتَحْيَا أَنْ يَفِدَ مَعَ هَذَا الْجَمعِ الْحَاشِدِ عَلَى النَّبِيِّ ? دُونَ أَنْ يَحْمِلَ لَهُ وَللمسلمين شيئًا في يده. لَكِنَّ السَّنَةَ الشَّهْبَاءَ الْمُجْدِبَةِ الَّتِي مَرَّتْ بِهَا مُزَيْنَةُ لَمْ تَتْرُكْ لَهَا ضَرْعًا ولا زَرْعًا. فطاف النُّعْمَانُ بِبَيْتِهِ وَبُيُوتِ إِخْوَتِهِ وَجَمَعَ كُلَّ مَا أَبْقَاهُ لَهُمْ الْقَحْطُ مِنْ غُنِيمَاتٍ وَسَاقَهَا أَمَامَهُ وَقَدِمَ بِهَا عَلَى رَسُولِ الله ?، وَأَعْلَنَ هُوَ وَمَنْ معه إسلامَهم بينَ يَدَيْهِ. اهتَزَّتْ يثربُ من أقصاها إلى أقصاها فَرَحًا بالنُّعْمَانِ بن مُقَرِّنٍ وَصَحْبِهِ، إِذْ لَمْ يَسْبِقْ لِبَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ الْعَرَبِ أَنْ أَسْلَمَ مِنْهُ أَحَدَ عَشَرَ أَخًا مِنْ أَبٍ وَاحِدٍ ومعهم أربعُمائةِ فارس. وَسُرَّ الرَّسُولُ الْكَرِيمُ بِإسْلامِ النَّعْمَانِ أبلغَ السُّرورِ. انْضَوَى النَّعْمَانُ بنُ مُقَرِّنٍ تَحْتَ رَايِةِ رَسُولِ اللهِ ?، وَشَهِدَ مَعَهُ غَزَوَاتِهِ كُلِّهَا غَيْرَ وَانٍ وَلا مُقَصِّرٍ. وَلَمَّا أَلَتِ الْخِلافَةُ إِلى الصِّدِّيقَ وَقَفَ مَعَهُ هُوَ وَقَوْمُهُ مِنْ بَنِي مُزَيْنَةَ وَقْفَةً حَازِمَةً كَانَ لَهَا أَثَرٌ كَبِيرٌ فِي الْقَضَاءِ عَلَى فِتْنَةِ الرِّدَّةِ. وَلَمَّا صَارَتِ الْخِلافَةُ إِلى الْفَارُوقِ كَانَ لِلنعمانِ بن مقرِّنٍ في عَهْدِهِ شَأْنٌ مَا يَزَالُ التَّارِيخُ يَذْكُرُهُ بِلِسَانٍ نَدِيٍّ بِالْحَمْدِ رَطِيبٍ بِالثَّنَاءِ. فَقُبَيْلَ الْقَادِسِيَّةِ أَرْسَلَ سَعْدُ بن أَبِي وَقَّاصٍ قَائِدُ جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ وَفْدًا إِلى كِسْرَى يَزْدَجُرْدَ بِرِئَاسَةِ النُّعْمَانِ بن مُقَرِّنٍ لِيَدْعُوهُ إِلى الإِسْلامِ.

ولما بلغوا عاصمةَ كِسْرَى في المدائن استأذنوا بالدُّخولِ عليه فأَذِنَ لهم، ثم دَعا التَّرْجُمَانَ فَقَالَ لَهُ: سَلْهُمْ ما الذي جاءَ بِكم إِلى دِيَارِنَا وَأَغْرَاكُمْ بِغَزْوِنَا؟! لَعَلَّكُمْ طَمِعْتُمْ بِنَا وَاجْتَرَأْتُمْ عَلَيْنَا لأَنَّنَا تَشَاغَلْنَا عنكم، ولم نَشَأْ أَنْ نَبْطِشَ بِكُمْ. فالْتَفَتَ النَّعْمَانُ بنُ مُقَرِّنٍ إِلى مَنْ مَعَهُ وَقَالَ: إِنْ شِئْتُمْ أَجَبْتُهُ عَنْكُمْ، وَإِنْ شَاءَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَتَكَلَّمَ آثَرْتُهُ بِالْكلام. فَقَالُوا: بَلْ تَكَلَّمْ، ثم الْتَفَتُوا إِلى كِسْرَى وَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الرَّجُل يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِنَا فَاسْتَمِعْ إِلى مَا يَقُول. فَحَمِدَ النُّعْمَانُ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَصَلَّى عَلَى نَبِيِّهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الله رَحِمَنَا فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولاً يَدُلُّنَا عَلَى الْخَيْرِ وَيَأْمرُنَا بِهِ، وَيُعَرِّفُنَا الشَّرَّ وَيَنْهَانَا عَنْهُ. وَوَعَدَنَا - إِنْ أَجَبْنَاهُ إِلى مَا دَعَانَا إِلَيْهِ - أَنْ يُعْطِينَا الله خَيْرِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. فَمَا هُوَ إِلا قَلِيلٌ حَتَّى بَدَّلَ الله ضِيقَنَا سِعَةً، وَذِلَّتَنَا عِزَّةً، وَعَدَاوَاتِنَا إِخَاءً وَمَرْحَمَةً. وَقَدْ أَمَرَنَا أَنْ نَدْعُوَ النَّاسَ إِلى مَا فِيهِ خَيْرُهُمْ وَأَنْ نَبْدَأَ بِمَنْ يُجَاوِرُنَا. فَنَحْنُ نَدْعُوكُم إِلى الدُّخُولِ فِي دِينَنَا وَهُوَ دِينٌ حَسَّنَ الْحَسَنَ كُلَّهُ وَحَضَّ عَلَيْهِ، وَقَبَّح الْقَبِيحَ كُلَّهُ وَحَذَّرَ مِنْهُ، يَنْقُلُ مُعْتَنِقِيهِ مِنْ ظَلامِ الْكُفْرِ وَجُورِه إِلى نُورِ الإِيمَانِ وَعَدْلِهِ. فَإِنْ أَجْبُتُمونا إلى الإِسْلامِ خَلَّفَنَا فِيكُمْ كِتَابَ الله وَأَقَمْنَاكُمْ عَلَيْهِ، عَلَى أَنْ تَحْكُموا بِأَحْكَامِهِ، وَرَجَعْنَا عَنْكُمْ وَتَرَكْنَاكُمْ وَشَأْنَكم. فَإِنْ أَبَيْتُمُ الدُّخُولَ فِي دِينِ اللهِ أَخَذْنَا مِنْكُمْ الْجِزْيَةَ وَحَمَيْنَاكُمْ، فَإِنْ أَبَيْتُمْ إِعْطَاءَ الْجِزْيَةِ حَارَبْنَاكُمْ.

فَاسْتَشَاطَ يَزْدَجُرْدُ غَضَبًا وَغَيْظًا مِمَّا سَمِعَ، وَقَالَ: إِنِّي لا أَعْلَمُ أُمَّةً فِي الأَرْضَ كَانَتْ أَشْقَى مِنْكُمْ وَلا أَقَلَّ عَدَدًا، وَلا أَشَدَّ فُرْقَةً، وَلا أَسْوَأُ حَالاً. وَقَدْ كُنَّا نَكِلُ أَمْرَكُمْ إِلى وُلاةِ الضَّوَاحِي فَيَأْخُذُونَ لَنَا الطَّاعَةَ منكم ... ثُمَّ خَفَّفَ شَيْئًا مِنْ حِدَّتِهِ وَقَالَ: فَإِنْ كَانَتْ الْحَاجَةُ هِي الَّتِي دَفَعَتْكُمْ إِلى الْمَجِيءِ إِلَيْنَا أمَرْنَا لَكُمْ بِقُوتٍ إِلى أَنْ تُخْصِبَ دِيَارُكم، وَكَسَوْنَا سَادَتَكُمْ وَوُجوهَ قَوْمِكم، وَمَلَّكْنَا عَلَيْكُمْ مَلْكًا مِنْ قِبَلِنَا يَرْفِقُ بِكِمْ. فَرَدَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْوَفْدِ رَدًّا أَشْعَلَ نَارَ غَضَبِهِ مِنْ جديدٍ فَقَالَ: لَوْلا أَنَّ الرُّسُلَ لا تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكُمْ. قُومُوا فَلَيْسَ لَكُمْ شَيْءٌ عِنْدِي، وَأَخْبِرُوا قَائِدَكُمْ أَنِّي مُرْسِلٌ إِلَيْهِ (رُسْتُمَ) حَتَّى يَدْفِنَهُ وَيَدْفِنَكُمْ مَعَهُ فِي خَنْدَقِ الْقَادِسِيَّةِ. ثُمَّ أَمَرَ فَأُتِيَ لَهُ بِحِمْلِ تُرَابٍ وَقَالَ لِرِجَالِهِ: حَمِّلُوهُ عَلَى أَشْرَفِ هَؤُلاءِ وَسُوقُوهُ أَمَامَكم عَلَى مَرأىً مِنَ النَّاسِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ أَبْوَابِ عَاصِمَةِ مُلْكِنَا. فَقَالُوا لِلْوَفْدِ: مَنْ أَشْرَفُكُمْ؟ فَبَادَرَ إِلَيْهِمْ عَاصِمُ بنُ عُمَرَ وَقَالَ: أَنَا فَحَمَّلُوهُ عَلَيْهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ الْمَدَائِن، ثُمَّ حَمَّلَهُ عَلَى نَاقَتِهِ وَأَخَذَهُ مَعَهُ لِسَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَبَشَّرَهُ بَأَنَّ الله سَيَفْتَحُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ دِيَارَ الْفُرْسِ وَيُمَلِّكُهُمْ تُرَابَ أَرضِهِم. ثُمَّ وَقَعَتْ مَعْرَكَةُ الْقَادُسِيَّةِ، وَاكْتَظَّ خَنْدَقُهَا بِجُثَثِ آلافِ الْقَتْلَى، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا كَانُوا مِنْ جُنُودِ كِسْرَى. لَمْ يَسْتَكِنِ الْفُرْسُ لِهَزِيمَةِ الْقَادِسِيَّةِ، فَجَمَعُوا جُمُوعَهُمْ وَجَيَّشُوا جُيُوشَهمْ.

حَتَّى اكْتَمَلَ لَهُمْ مَائَةٌ وَخَمْسُونَ أَلْفًا مِنْ أَشِدَّاءِ الْمُقَاتِلِينَ. فَلَمَّا وَقَفَ الْفَارُوقُ عَلَى أَخْبَارِ هَذَا الْحَشْدِ الْعَظِيمِ، عَزَمَ عَلَى أَنْ يَمْضِي إِلى مُوَاجَهِةِ هَذَا الْخَطَرِ الْكَبِيرِ بِنَفْسِهِ. وَلِكِنَّ وُجُوهَ الْمُسْلِمِينَ ثَنوْهُ عَنْ ذَلِكَ، وَأَشَارُوا عَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَ قَائِدًا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ هَذَا الأَمْرِ الْجَلِيل. فَقَالَ عمرُ: أَشِيرُوا عَلَيَّ بِرَجُلٍ أُوَلِّيهِ ذَلِكَ الثَّغْرَ. فَقَالُوا: أَنْتَ أَعْلَمُ بِجُنْدِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: وَاللهِ لأُوَلِّيَنَّ عَلَى جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ رَجُلاً يَكُونُ - إِذَا الْتَقَى الْجَمْعَانِ - أَسْبَقَ مِنْ الأَسِنَّةِ، وَهُوَ النُّعْمَانُ بنُ مُقَرِّنٍ الْمُزَنِيُّ. فَقَالُوا: هُوَ لَهَا. فَكَتَبَ إِلَيْهِ يَقُول: مِنْ عَبْدِ الله عمَر بنِ الْخَطَّابِ إِلى النُّعْمَانِ بنِ مُقَرِّن. أَمَّا بَعْد، فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ جُمُوعًا مِن الأَعَاجِمِ، كَثِيرَةً قَدْ جَمَعوا لَكُمْ بِمَدِينَةِ (نَهَاوَنْد) فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي هَذَا فَسِرْ بَأَمْرِ اللهِ، وَبِعَوْنِ اللهِ، وَبِنَصْرِ اللهِ بِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلا تُوطِئْهُمْ وَعْرًا فَتُؤْذِيهِمْ ... فَإِنَّ رَجُلاً وَاحِدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مَائَةِ أَلْفِ دِينَارٍ، وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ. هَبَّ النُّعْمَانِ بن مُقَرِّنٍ بِجَيْشِهِ لِلِقَاءِ الْعَدِوِّ، وَأَرْسَلَ أَمَامَهُ طَلائِعَ مِنْ فُرْسَانِهِ لِتَكْشِفَ لَهُ الطَّرِيقَ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ الْفُرْسَانُ مِنْ (نَهَاوَنْدَ) تَوَقَّفَتْ خُيُولَهُمْ، فَدَفَعُوهَا فَلَمْ تَنْدَفِعْ، فَنَزَلُوا عَنْ ظُهُورِهَا لِيعَرِفُوا الْخَبَرَ فَوَجَدُوا فِي حَوَافِرِ الْخَيْلِ شَظَايَا مِنْ الْحَدِيدِ تُشْبِهُ رُؤوسَ الْمَسَامِيرِ فَنَظَرُوا فِي الأَرْضِ فَإِذَا الْعَجَمُ قَدْ نَثَرُوا فِي الدُّرُوبِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلى (نَهَاوَنْدَ) حَسَكَ الْحَدِيدِ، لِيَعوقوا الْفُرْسَانَ وَالْمُشَاةَ عَنْ الْوُصُولِ إِلَيْهَا.

أَخْبَرَ الْفُرْسَانُ النُّعْمَانَ بِمَا رَأَوْا، وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَمُدَّهُمْ بِرَأْيِهِ، فَأَمَرَهُمْ بَأَنْ يَقِفُوا فِي أَمَاكِنِهِمْ، وَأَنْ يُوقِدُوا النِّيرَانَ فِي اللَّيْلِ لِيَرَاهُمُ الْعَدُوُّ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَظَاهُرُونَ بِالْخَوْفِ مِنْهُ وَالْهَزِيمَةِ أَمَامَه لِيُغْرُوهُ بِاللِّحَاقِ بِهِمْ وَإِزَالَةِ مَا زَرَعَهُ مِنْ حَسَكِ الْحَدِيدِ. وَجَازَتْ الْحِيلَةُ عَلَى الْفُرْسِ، فَمَا إِنْ رَأَوْا طَلِيعةَ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ تَمْضِي مُنْهَزِمَةً أَمَامَهُمْ حَتَّى أَرْسَلُوا عُمَّالَهُمْ فَكَنَسُوا الطُّرُيَق مِنَ الْحَسَكِ فَكَرَّ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ وَاحْتَلُّوا تِلْكَ الدُّرُوبَ. عَسْكَرَ النُّعْمَانُ بنُ مُقَرِّنٍ بِحَيْشِهِ عَلَى مَشَارِفِ (نهاوند) وَعَزَمَ عَلَى أَنْ يُبَاغِتَ عَدُوَّهُ بِالْهُجُومِ، فَقَالَ لِجُنُودِهِ: إِنِّي مُكَبَّرٌ ثَلاثًا، فَإِذَا كَبَّرْتُ الأُولَى فَلْيَتَهَيَّأْ مَنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ تَهَيَّأ، وَإِذَا كَبَّرْتَ الثَّانِيَةَ فَلْيَشْدُدْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ سِلاحَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِذَا كَبَّرْتَ الثَّالِثَةَ، فَإِنِّي حَامِلٌ عَلَى أَعْدَاءِ اللهِ فاحْمِلُوا مَعِي. كَبَّرَ النُّعْمَانُ بن مُقَرِّنٍ تَكْبِيرَاتِهِ الثَّلاثِ، وَانْدَفَعَ فِي صِفُوفِ الْعَدُوِّ كَأَنَّهُ الليثُ عَادِيًا، وَتَدَفَّقَ وَرَاءَهُ جُنُودُ الْمُسْلِمِينَ تَدَفُّقَ السَّيْلِ وَدَارَتْ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ رَحَى مَعْرَكَةٍ ضَرُوسِ قَلَّمَا شَهِدَ تَارِيخُ الْحُرُوبِ لَهَا نَظِيرًا. فَتَمَزَّقَ جَيْشُ الْفُرْسِ شَرَّ مُمَزَّقٍ وَمَلأَتْ قَتْلاهُ السَّهْلَ وَالْجَبَلَ وَسَالَتْ دِمَاؤُهُ فِي الْمَمَرَّاتِ وَالدُّروبِ فَزَلِقَ جوادُ النُّعْمَانِ بن مُقَرِّنٍ بِالدِّمَاءِ فَصُرِعَ وَأُصِيبَ النُّعْمَانُ نَفْسُه إِصَابَةً قَاتِلَةً، فَأَخَذَ أَخُوهُ اللواءَ مِنْ يَدِهِ، وَسَجَّاهُ بِبُرْدَةِ كَانَتْ مَعَهُ وَكَتَمَ أَمْرَ مَصْرَعِهِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ. وَلَمَّا تَمَّ النَّصْرُ الْكَبِيرُ الذِي سَمَّاهُ الْمُسْلِمُونَ (فَتْحَ الْفُتُوح) ... سَأَلَ الْجُنُودُ الْمُنْتَصِرُونَ عَنْ قَائِدِهِمْ الْبَاسِلِ النَّعْمَانِ بنِ مُقَرِّنٍ، فَرَفَعَ أَخُوهُ الْبُرْدَةَ عَنْهُ وَقَالَ: هَذَا أَمِيرُكُمْ، قَدْ أَقَرَّ اللهُ عَيْنَهُ بِالْفَتْحِ، وَخَتَمَ لَهُ بِالشَّهَادَةِ. اللَّهُمَّ طَهِّرْ قُلُوبَنَا مِنَ النِّفَاقِ وَعَمَلَنا مِن الرِّيَاءِ وَأَلْسِنَتَنَا مِنَ الْكَذِبِ وَأَعْيُنَنَا مِنْ الْخِيَانَةِ وَآذَانَنَا عَنْ الاسْتِمَاعِ إِلى مَا لا يُرْضِيكَ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ

وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (وداع راحل) أَهَاجَكَ الوجد أَمْ شَاقَتْكَ آثَارُ ... كَانَتْ مَغَانِي نِعْمَ الأَهْلُ وَالدَّارُ وَمَا لِعَيْنِكَ تَبْكِي حُرْقَةً وَأَسَى ... وَمَا لِقَلِبْكَ قَدْ ضَجَّتْ بِهِ النَّارُ؟ عَلَى الأَحِبَّةِ تَبْكِي أَمْ عَلَى طَلَلٍ ... لَمْ يَبْقَ فِيهِ أَحِبَّاءٌ وَسُمَّارُ؟ وَهَلْ مِن الدَّهْرِ تَشْكُو سُوءَ عِشْرَتِهِ ... لَمْ يُوفِ عَهْدًا وَلَمْ يَهْدَأْ لَهُ ثَارُ؟ هَيْهَاتَ يَا صَاحِبِي آسَىَ عَلَى زَمَنٍ ... سَادَ الْعَبِيدُ بِهِ وَاقْتِيدَ أَحْرَارُ أَوْ أَذْرِفُ الدَّمْعَ فِي حُبِّ يُفَارُقِنِي ... أَوْ فِي اللَّذَائِذِ وَالآمَالُ تَنْهَارُ فَمَا سَبَتْنِيَ قَبْلَ الْيَوْمِ غَانِيَةٌ ... وَلا دَعَانِي إِلى الْفَحْشَاءِ فُجَّارُ أَمَتُّ فِي اللهِ نَفْسًا لا تُطَاوِعُنِي ... فِي الْمَكْرُمَاتِ لَهَا فِي الشَّرِّ إِضْرَارُ وَبِعْتُ فِي اللهِ دُنْيًا لا يَسُودُ بِهَا ... حَقٌّ وَلا قَادَهَا فِي الْحُكْمِ أَبْرَارُ وَإِنَّمَا حُزْنِي فِي صِبْيَةٍ دَرَجُوا ... غُفْلٍ عَنْ الشَّرِّ لَمْ يُوقَدْ لَهُمْ نَارُ قَدْ كُنْتُ أَرْجُو زَمَانًا أَنْ أَقُودَهُمُ ... لِلْمَكْرُمَاتِ فَلا ظُلْمٌ وَلا عَارُ وَالآنَ قَدْ سَارَعَتْ دَرْبِي إِلى كَفَنٍ ... يَوْمًا سَيَلْبَسُهُ بَرَّ وَجَبَّارُ بِاللهِ يَا صِبْيَتِي لا تَهْلِكُوا جَزَعًا ... عَلَى أَبِيكُمْ طَرِيقُ الْمَوْتِ أَقْدَرُ تَرَكْتُكُمْ فِي حِمَى الرَّحْمَنِ يَكْلَؤُكم ... مَنْ يَهْدِهِ اللهُ لا يُوبِقُهُ أَوْزَارُ وَأَنْتُم يَا أُهَيْلَ الْحَيِّ صِبْيَتُكُمْ ... أَمَانَةُ عِنْدَكُمْ هَلْ يُهْمَلُ الْجَارُ؟ أَفْدِي بِنَفْسِيَ أُمًا لا يُفَارِقُهَا ... هُمُّ وَتَنْهَارُ حُزْنًا حِينَ أَنْهَارُ فَكَيْفَ تَسْكُنُ بَعْدَ الْيَوْمِ مِنْ شَجَنٍ ... يَا لَوْعَةَ الثُّكْلِ مَا فِي الدَّارِ دَيَّارُ وَزَوْجَةً مَنَحَتْنِي كُلَّ مَا مَلَكَتْ ... مِنْ صَادِقِ الْوِدِّ: تَحْنَانٌ وَإِيثَارً عِشْنَا زَمَانًا هَنِيًّا مِنْ تَوَاصُلُنَا ... فَكَمْ يُؤَرّقُ بَعْدَ الْعِزِّ إِدْبَارُ

قصة لصهيب الرومي

.. وَإِخْوَةً جَعَلُونِي بَعْدَ فَقْدِ أَبِي ... أَبًا لآمَالِهِمْ رَوْضٌ وَأَزْهَارُ أَسْتَوْدِعُ اللهَ صَحْبًا كُنْتَ أَذْخَرُهُمْ ... لِلنَائِبَاتِ لَنَا أُنْسٌ وَأَسْمَارُ الْمُلْتَقَى فِي جِنَا الْخُلْدِ إِنْ قُبِلَتْ ... مِنَّا صَلاةٌ وَطَاعَاةٌ وَأَذْكَارُ وَفَّقَنَا اللهُ وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ لِلتَّمَسُّكِ بِكِتَابِهِ، وَالْمُسَارَعَةِ إِلى امْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَهْيهِ، وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حَدَّهِ، وَالْفَكُرِ فِي أَمْثَالِهِ وَمُعْجِزهِ، وَالتَّبَصَّرُ فِي نُورِ حِكَمِهِ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. قِصَّةٌ لِصُهَيْبُ الرُّومِي لانْتِسَابِ صُهَيْبٍ إِلى الرُّومِ قِصَّةٌ مَا تَزَالُ تَعِيهَا ذَاكِرَةُ التَّارِيخِ، وَتَرْوِيهَا أَسْفَارُه. فَقَبْلَ الْبِعْثَةِ بِحَوَالِي عَقْدَيْنِ مِن الزَّمَانِ كَانَ يَتَوَلَّى مُلْكَ (الأَبُلَّةِ) سَنَّانُ بن مَالِكٍ النُّمَيْرِيُّ، مِنْ قَبْلِ كِسْرَى مَلِكَ الْفُرْسِ. وَكَانَ أَحَبَّ أَوْلادِهِ إِلَيْهِ طِفْلٌ لَمْ يُجَاوِزِ الْخَامِسَةِ مِنْ عُمُرِه، دَعَاهُ صُهَيْبًا. كَانَ صُهَيْبٌ أَزْهَرَ الْوَجْهِ، أَحْمَرَ الشَّعْرِ، مُتَدَفِّقَ النَّشَاطِ ذَا عَيْنَيْنِ تَتَّقِدَانِ فِطْنَةً وَنَجَابَةً. وَكَانَ إِلى ذَلِكَ مِمْرَاحًا، عَذْبَ الرُّوحَ، يُدْخِلُ السُّرُورَ عَلَى قَلْبِ أَبِيهِ وَيَنْتَزِعُ مِنْهُ هُمُومَ الْمُلْكِ انْتِزَاعًا. مَضَتْ أُمُّ صُهَيْبٍ مَع ابْنِهَا الصَّغِير وَطَائِفَةٍ مِنْ حَشَمِهَا وَخَدَمِهَا إِلى قَرْيَةِ (الثَّنِيِّ) مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ طَلَبًا لِلرَّاحَةِ وَالاسْتجمام، فأغارت على القريةِ سَرِيَّةٌ مِنْ سَرَايَا جَيْشِ الرُّومِ، فَقَتَلَتْ حُرَّاسَها، وَنَهَبَتْ أَمْوَالَهَا، وَأَسَرَتْ ذَرَارِيَّهَا. فَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنْ أَسَرَتْهُمْ صُهَيْبٌ. بِيعَ صُهَيْبٌ فِي أَسْوَاقِ الرَّقِيقِ بِبِلادِ الرُّومِ، وَجَعَلَتْ تَتَدَاوَلُهُ الأَيْدِي فَيَنْتَقِلُ

مِنْ خِدْمَةِ سَيِّدٍ إِلى آخَرَ شَأْنُهُ فِي ذَلِكَ كَشَأْنِ الآلافِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنْ الأَرِقَّاءِ الذِينَ كَانُوا يَمْلأُونَ قُصُورَ بِلادِ الرُّومِ. وَقَدْ أَتَاحَ ذَلِكَ لِصُهَيْبٍ أَنْ يَنْفُذَ إِلى أَعْمَاق الْمُجْتَمَعِ الرُّوِمِيِّ، وَأَنْ يَقِفَ عَلَيْهِ مِنْ دَاخِلِه، فَرَأَى بِعَيْنَيْهِ مَا يُعَشِّشُ فِي قُصُورِهِ مِنَ الرَّذَائِلِ وَالْمُوبقات وَسَمِعَ بِأُذُنَيْهِ مَا يُرْتَكَبُ فِيهَا مِنْ الْمَظَالِمِ وَالْمَآثِمِ. فَكَرِهَ ذَلِكَ الْمُجْتَمَعِ وَازْدَرَاه. وَكَانَ يَقُولُ فِي نَفْسِهِ: إِنَّ مُجْتَمَعًا كَهَذَا لا يُطَهِّرُهُ إِلا الطُّوفَانُ. وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ صُهَيْبًا قَدْ نَشَأَ فِي بِلادِ الرُّومِ وَشَبَّ عَلَى أَرْضِهَا وَبَيْنَ أَهْلِيهَا. وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّهُ نَسِيَ الْعَرَبِيَّةَ أَوْ كَادَ يَنْسَاهَا فَإِنَّهُ لَمْ يَغِبْ عَنْ بَالِهِ قَطُّ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ مِنْ أَبْنَاءِ الصَّحْرَاءِ، وَلَمْ تَفْتُرْ أَشْوَاقُهُ لَحْظَةً إِلى الْيَوْمِ الذِي يَتَحَرَّرُ فِيهِ مِنْ عُبُودِيَّتِهِ، وَيَلْحَقُ بِبَنِي قَوْمِهِ. وَقَدْ زَادَهُ حَنِينًا إِلى بِلادِ الْعَرَبِ فَوْقَ حَنِينِهِ، أَنَّهُ سَمِعَ كَاهِنًا مِنْ كَهَنَةِ النَّصَارَى يَقُولُ لِسَيِّدٍ مِنْ أَسْيَادِهِ: لَقَدْ أَطَلَّ زَمَانٌ يَخْرُجُ فِيهِ مِنْ مَكَّةَ فِي جَزِيزَةِ الْعَرَبِ نَبِيٌّ يُصَدِّقُ رِسَالَةَ عِيسَى بن مَرْيَمَ، وَيُخْرِجُ النَّاسِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلى النُّورِ. ثُمَّ أُتِيحَتِ الْفُرْصَةُ لِصُهَيْبٍ فَوَلَّى هَارِبًا مِنْ رِقِّ أَسْيَادِهِ، وَيَمَّمَ وَجْهَهُ شَطْرَ مَكَّةَ أُمِّ الْقُرَى وَمَوْئِلِ الْعَرَبِ، وَمَبْعَثِ النَّبِيِّ الْمُرْتَقِبَ. وَلَمَّا أَلْقَى عَصَاهُ فِيهَا أَطْلَقَ النَّاسُ عَلَيْهِ اسْمَ صُهَيْبٍ الرُّومِيِّ لِلُكْنَةِ لِسَانِهِ وَحُمْرَةِ شَعْرِهِ.

وقد حالَفَ صُهَيْبٌ سَيِّدًا مِنْ سَادَاتِ مَكَّةَ هُوَ عَبْدُ الله بنُ جُدْعَانٍ وَطَفِقَ يَعْمَلُ فِي التِّجَارَةِ، فَدَرَّتْ عَلَيْهِ الْخَيْرَ الْوَفِيرَ وَالْمَالَ الْكَثِيرَ. غَيْرَ أَنَّ صُهَيْبًا لَمْ تُنْسِهِ تجارَتُهُ وَمَكَاسِبُهُ حَدِيثَ الْكَاهِنِ النَّصْرَانِي فَكَانَ كُلَّمَا مَرَّ كلامُه بِخَاطِرِهِ يُسَائِلُ نَفْسَهُ فِي لَهْفَةٍ: مَتَّى يَكُونُ ذَلِكَ؟! وَمَا هُوَ إِلا قَلِيلٌ حَتَّى جاءَهُ الجوابُ. فَفِي ذَاتِ يَوْمٍ عَادَ صُهَيْبٌ إِلى مَكَّةَ مِنْ إِحْدَى رَحَلاتِهِ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ مُحَمَّدَ بن عَبْدِ الله قَدْ بُعِثَ وَقَامَ يَدْعُو النَّاسَ إِلى الإِيمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ، وَيَحُضَّهُمْ عَلَى الْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ. فَقَالَ: أَلَيْسَ هُوَ الذِي يُلَقِّبُونَهُ بِالأَمِين؟! فَقِيلَ لَهُ: بَلَى. فَقَالَ: وَأَيْنَ مَكَانَهُ. فَقِيلَ لَهُ: فِي دَارِ الأَرْقَمِ بن أَبِي الأَرْقَمِ عِنْدَ الصَّفَا ... وَلَكِنْ حَذَارِ مَنْ أَنْ يَرَاكَ أَحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ، فَإِنْ رَأَوْكَ فَعَلُوا بِكَ ... وَفَعَلُوَا، وَأَنْتَ رَجُلٌ غَرِيبٌ لا عَصَبِيَّةَ لَهُ تَحْمِيهِ، وَلا عَشِيرَةَ عِنْدَهُ تَنْصُرُه. مَضَى صُهَيْبٌ إِلى دَارِ الأَرْقَمِ حِذَرًا يَتَلَّفَتُ، فَلَمَّا بَلَغَهَا وَجَدَ عِنْدَ الْبَابِ عَمَّارَ بن يَاسِرٍ، وَكَانَ يَعْرِفُهُ مِنْ قَبْلَ، فَتَرَدَّدَ لَحْظَةً ثُمَّ دَنَا مِنْهُ وَقَالَ: مَا تُرِيدُ يَا عَمَّار؟ فَقَالَ عَمَّارٌ: بَلْ مَا تُرِيدُ أَنْتَ؟ فَقَالَ صُهَيْبٌ: أَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ، فَأَسْمَعَ مِنْهُ مَا يَقُولُ. فَقَالَ عَمَّارٌ: وَأَنَا أُرِيدُ ذَلِكَ أَيْضًا. فَقَال صُهَيْبٌ: إِذَنْ نَدْخُلُ مَعًا عَلَى بَرَكَةِ اللهِ.

دَخَلَ صُهَيْبُ بن سَنَّانٍ الرُّومِيُّ وَعَمَّارُ بنُ يَاسِرٍ عَلَى رَسُولِ الله ? وَاسْتَمَعا إِلى مَا يَقُولُ، فَأَشْرَقَ نُورُ الإِيمَانِ فِي صَدْرَيْهِمَا، وَتَسَابَقَا فِي مَدِّ أَيْدِيهِمَا إِلَيْهِ، وَشَهِدَا أَنْ لا إِلهَ إِلا الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورسولُهُ، وَأَمْضَيَا سَحَابَةَ يَوْمِهِمَا عِنْدَهُ، يَنْهَلانِ مِنْ هَدْيِهِ وَيَنْعُمَانِ بِصُحْبَتِهِ. ولما أَقْبَلَ اللَّيْلُ، وَهَدَأَتَ الْحَرَكَةُ، خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ تَحْتَ جُنْحِ الظَّلامِ، وَقَدْ حَمَلَ كُلٌّ مِنْهُمَا مِن النُّورِ فِي صَدْرِهِ مَا يَكْفِي لإِضَاءَةِ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا. تحمَّلَ صُهَيْبٌ نَصِيبَهُ مِنْ أَذَى قُرَيْشٍ مَعَ بِلالٍ وَعَمَّارٍ وَسُمَّيَةَ وَخَبَّابٍ وَغَيْرِهم مِنْ عَشَرَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَاسَى مِنْ نَكَالِ قُرَيْشٍ مَا لَوْ نَزَلَ بِجَبَلِ لِهَدَّه، فَتَحَمَّلَ ذَلِكَ كُلَّهُ بِنَفْسٍ مُطْمَئِنَّةٍ صَابِرَةٍ، لأَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ طَرِيقَ الْجَنَّةِ مَحْفُوفٌ بِالْمَكَارِه. ولما أَذِنَ الرسولُ لأَصْحَابِهِ بِالْهِجْرَةِ إِلى الْمَدِينَةِ، عَزَمَ صُهَيْبٌ عَلَى أَنْ يَمْضِيَ فِي صُحْبَةِ الرَّسُولِ وَأَبِي بَكْر، وَلَكِنَّ قُرَيْشًا شَعَرَتْ بِعَزْمِهِ عَلَى الْهِجْرَةِ فَصَدَّتْهُ عَنْ غَايَتِه، وَأَقَامَتْ عَلَيْهِ الرُّقَبَاءِ حَتَّى لا يَفْلِتَ مِنْ أَيْدِيهم، وَيَحْمِلَ مَعَهُ مَا دَرَّتْهُ عَلَيْهِ التِّجَارَةُ مِنْ فِضَّةٍ وَذَهَبٍ. ظَلَّ صُهَيْبٌ بَعْدَ هِجْرَةِ الرَّسُولِ وَصَاحِبِه يَتحَيَّنُ الْفُرَصَ لِلَّحَاقِ بِهِمَا فَلَمْ يُفْلِحْ إِذْ كَانَتْ أَعْيُنُ الرُّقَبَاءِ سَاهِرَةً عَلَيْهِ مُتَيَقِّظَةً لَهُ، فَلَمْ يَجِدْ سَبِيلاً غَيْرَ اللُّجُوءِ إِلى الْحِيلَةِ. فَفِي ذَاتِ لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ أَكْثَرَ صُهَيْبٌ مِنْ الْخُرُوجِ إِلى الْخَلاءِ كَأَنَّهُ يَقْضِي الْحَاجَةَ، فَكَانَ لا يَرْجِعُ مِنْ قَضَاءَ حَاجَتِهِ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهَا. فَقَالَ بَعْضُ رُقَبَائِهِ لِبَعْضٍ: طَيِّبُوا نَفْسًا فَإِنَّ اللاتَ وَالْعُزَّى شَغَلاهُ بِبَطْنِهِ، ثُمَّ أَوَوْا إِلى مَضَاجِعِهِمْ وَأَسْلَمُوا عُيُونَهم إِلى الْكَرَى.

فَتَسَلَّلَ صُهَيْبٌ مِنْ بَيْنِهِمْ وَيَمَّمَ وَجْهَهُ شَطْرَ الْمَدِينَةِ. لَمْ يَمْضِ غَيْرُ قَلِيلٍ عَلَى رَحِيلِ صُهَيْبٍ حَتَّى فَطِنَ لَهُ رُقَبَاؤُهُ، فَهَبُّوا مِنْ نَوْمِهِمْ مَذْعُورِين، وَامْتَطَوْا خُيُولَهُمْ السَّوَابِقَ، وَأَطْلَقُوا أَعِنَّتَهَا خَلْفَهُ حَتَّى أَدْرَكُوه. فَلَمَّا أَحْسَّ بِهِمْ، وَقَفَ عَلَى مَكَانٍ عَالٍ وَأَخْرَجَ سِهَامِهِ مِنْ كِنَانَتِهِ وَوَتَرَ قَوْسَهُ وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، لَقَدْ عَلِمْتُمْ - وَاللهِ - أَنِّي مَنْ أَرْمَى النَّاسِ وَأَحْكَمِهِمْ إِصَابَةً. وَوَاللهِ لا تَصِلُونَ إِلَيَّ حَتَّى أَقْتُلَ بِكُلِّ سَهْمٍ مَعِيَ رَجُلاً مِنْكُمْ. ثُمَّ أَضْرِبُكُمْ بِسَيْفِي مَا بَقِيَ فِي يَدِيِ شَيْءٌ مِنْهُ. فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: وَاللهَ لا نَدَعُكَ تَفُوزُ مِنَّا بِنَفْسِكَ وَبِمَالِكَ ... لَقَدْ أَتَيْتَ مَكَّةَ صُعْلُوكًا فَقِيرًا فَاغْتَنَيْتَ وَبَلَغْتَ مَا بَلَغْتَ. فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ تَرَكْتُ لَكُمْ مَالِي، أَتُخَلُّونَ سَبِيلِي؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَدَلَّهم عَلَى مَوْضِعِ مَالِهِ فَأَخْذُوهُ مِنْهُ، ثُمَّ أَطْلَقُوا سَرَاحَهُ. أَخَذَ صُهَيْبٌ يُعِدُّ السَّيْرَ نَحْوَ الْمَدِينَةِ فَارًّا بِدِينِهِ إِلى الله. غَيْرَ آسِفٍ عَلَى الْمَالِ الذِي أَنْفَقَ فِي جَنْيِهِ زَهْرَةَ الْعُمْر. وَكَانَ كُلَّمَا أَدْرَكَهُ الْوَنَى وَأَصَابَهُ التَّعَبُ اسْتَفَزَّهُ الشَّوْقُ إِلى رَسُولِ اللهِ ? فَيَعُودُ إِلَيْهِ نَشَاطُه، وَيُوَاصِلُ سَيْرَهُ.

موعظة ويليها قصيدة في التحذير من الدنيا

فَلَمَّا بَلَغَ قُبَاءَ رَآه الرَّسُولُ صَلَواتُ الله عليه وسلامُه مُقْبلاً فَهَشَّ لَهُ وَبَشَّ وَقَالَ: «رَبِحَ الْبَيْعُ يَا أَبَا يَحْيَى رَبِحَ الْبَيْعُ» . وَكَرَّرَهَا ثَلاثًا. فَعَلَتِ الْفَرْحَةُ وَجْهَ صُهَيْبٍ وَقَالَ: وَاللهِ مَا سَبَقَنِي إِلَيْكَ أَحَدٌ يَا رَسُولَ الله. وَمَا أَخْبَرَكَ بِهِ إِلا جِبْرِيلٌ. حَقًّا لَقَدْ رَبِحَ الْبَيْعُ ... وَصَدَّقَ ذَلِكَ وَحْيُ السَّمَاء ... وَشَهِدَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ ... حَيْثُ نَزَلَ فِي صُهَيْبٍ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَزَّ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} فَطُوبَى لِصُهَيْبِ بن سنَّانٍ الرُّومِيِّ، وَحُسْنُ مَآبٍ. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا قَبْلَ أَنْ تَشْهَدَ عَلَيْنَا الْجَوَارِحَ وَنَبِّهْنَا مِنْ رَقَدَاتِ الْغَفَلاتِ فَأَنْتَ الْحَلِيمُ الْمُسَامِحُ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. مَوْعِظَةٌ: عِبَادَ اللهِ إِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَانَتْ بِفِرَاق فَيَا وَيْحَ مَنْ كَانَ بِهَا جُلَّ اشْتِغَالِهِ، كَيْفَ يَطْمَئِنُّ الْعَاقِلُ إِلَيْهَا مَعَ تَحقَّقِهِ بِدُنُوِّ ارْتِحَالِهِ. كَيْفَ يَنْخَدِعُ الْيَوْمَ بِبَوَارِقَهَا مَنْ هُوَ غَدًا مُرْتَهِنٌ بَأَعْمَالِهِ كَيْفَ يَغْتَرُّ فِيهَا بِإِمْهَالِهِ وَإِمْهَاله لَمْ يَنْشَأْ إِلا عَنْ إِهْمَالِهِ. كَيْفَ يَبِيتُ آمِنًا فِي تَوَسَّعِ آمَالِهِ. وَهُوَ لا يَدْرِي مَا يَطْرُقُ مِنْ بَغْتَةِ آجَالِهِ أَفَمَا تَرَوْنَ طَيْفَ الشَّبِيبَةَ قَدْ رَحَلَ؟ وَكَثِيرًا مَا حَلَّ بِالشَّبَابِ الْمَنُونِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: مَوْعِظَة: الْعُمْرُ أَمَانَةٌ أَتْلَفَتَ شَبَابَهِ فِي الْخِيَانَةِ، وَكُهُولَتَهُ فِي الْبَطَالةِ، وَفِي الشَّيْخُوخَةِ تَبْكِي وَتَقُولُ: عُمْرِي قَدْ ضَاعَ، مَتَى أَفْلَحَ الْخَائِنُ فِيمَا اشْتَرَى أَوْ

بَاعَ، أَنْتَ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا صَحِيحَ الْجِسْمِ، وَفِي طَلَبِ الآخِرَةِ بِكَ أَوْجَاعِ كَمْ تُعُرِّجْ عَنْ سُبُل التَّقْوَى يَا أَعْرَجَ الْهِمَّةِ، يَا مَنْ يَبْقَى فِي الْقَاعِ، يَا مَنْ عَلَى عُمْرِهِ لَيْلُ الْغَفْلَةِ طَلَعَ فَجْرُ الْمَشِيبِ. أَمَا تَرَوْنَ الشَّيْبَ قَدْ نَزَلَ وَقَبِيحٌ مَعَ الشَّيْبِ الْمُجُونُ. أَمَا تَرَوْنَ سَيْفَ الأَجَلِ قَدْ قَطَعَ الأَمَلَ فَإِلى مَتَى تُؤَمَّلُونَ فِي الْبَقَاءِ وَتَطْمَعُونَ. أَمَا تَرَوْنَ رِيَاحَ الرَّحِيلَ تَهُبُّ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ وَسَبِيلٍ فَلِمَ لا تَرْكَبُونَ سُفنَ التَّوْبَةِ وَتُقْلِعُونَ. أَمَا تَرَوْنَ أَشْرَاطَ السَّاعَةِ فِي كُلِّ حَال تُنَادِي بِفَصِيحِ الْمَقَالِ: يَا أَهْلَ الدُّنْيَا لا مَقَامَ لَكُمْ فَإِلى مَتَى لا تَرْجِعُونَ. هَلْ الأَعْمَارُ فِي الاعْتِبَارِ إِلا أَعْوَامٌ. وَهَلْ الأَعْوَامُ إِلا أَيَّامٌ. وَهَلْ الأَيَّامُ إِلا سَاعَاتٌ كَالسُّفُُنُ يُنَادِي لِسَانُ سَيْرَهَا: يَا أَهْلَ الدُّنْيَا لا مَقَامَ. وَهَلِ السَّاعَةُ إِلا أَنْفَاسٌ تُحْصِيهَا الْحَفَظَةُ بِأَمْرِ الْمَلِكِ الْعَلام. فَمَنْ كَانَ هَذَا أَسَاسَهُ كَيْفَ يَفْرَحُ بِدَار عَمَارُهَا فِي الْحَقِيقَةِ خَرَابٌ. فَالسَّعِيدُ مَنْ أَضْمَرَ نُفْسَهُ مِنَ الْمَحْوِ وَأَخَفَّ ظَهْرَهُ مِنَ الأَوْزَارِ وَالتَّبِعَاتِ وَاعْتَبَرَ بِمَنْ مَضَى مِنَ الأُمَمِ الْمَاضِيَةِ أُوْلى النَّجْدَةِ وَالْهِمَمِ الْعَالِيَةَ. نُثِرَ: وَالله سِلْكُهمْ بَعْدَ انْتِظَامِهِ. وَتَفَرَّقَ شَمْلُهُمْ بَعْدَ إِلْتِئَامِهِ وَعَادُوا كَمَنْ مَضَى مِنَ الأَقْرَانِ كَأَنَّمَا يَقْظَتُهُمْ كَانَتْ مَنَام. هَكَذَا الدُّنْيَا {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} . فَرَحِمَ اللهُ عَبْدًا أَقْبَلَ عَلَى الْبَاقِي وَأَعْرَضَ عَن الْفَانِي مِنَ الْحُطَامِ. وَجَعَلَ لِشَارِدِ النَّفْسِ مِنَ التَّقْوَى أَقْوَى زِمَام. وَاجْتَنَبَ الظُّلْم فَإِنَّ الظُّلْمَ يُخْرُجُ مِنَ النُّورِ إِلى الظَّلامِ. فَنَسْأَلُكَ اللَّهُمَّ تَوْفِيقًا يُقَرِّبُنَا مِنَ الْحَلالِ وَيُبْعِدُنَا عَن الْحَرَامِ. وَطَرِيقًا إِلى الْخَيْرَاتِ لِنَتَمَسَّكَ بِالزَّمَامِ. وَأَمْنًا يَوْمَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ يُبَلِّغُنَا غَايَةَ الْمُنَى. قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلا: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} .

اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ سِرَّنَا وَعَلانِيَّتِنَا وَتَسْمَعُ كَلامَنَا وَتَرَى مَكَانَنَا لا يَخْفَى عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِنَا نَحْنُ الْبُؤَسَاءُ الْفُقَرَاءُ إِلَيْكَ الْمُسْتَغِيثُونَ الْمُسْتَجِيرُونَ بِكَ نَسْأَلُكَ أَنْ تُقَيِّضَ لِدِينِكَ مَنْ يَنْصُرُهُ وَيُزُيلُ مَا حَدَثَ مِنَ الْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَيُقِيمُ عَلَمَ الْجِهَادِ وَيَقْمَعُ أَهْلَ الزَّيْغِ وَالْكُفْرِ وَالْعِنَادِ، وَنَسْأَلُكَ أَنْ تَغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين. شِعْرًا: ... فِيمَ الرُّكُونُ إِلى دَارِ حَقِيقَتُهَا كَالطَّيْفِ فِي سِنَةٍ وَالظِّلِّ مِنْ مُزَنِ دَارِ الْغُرُورِ وَمَأْوَى كُلِّ مُرْزِيَةٍ وَمَعْدِنِ الْبُؤْسِ وَاللَّوَاءِ وَالْمِحَنِ الزُّورُ ظَاهِرُهَا وَالْغَدرُ حَاضِرُهَا وَالْمَوْتُ آخِرُها وَالْكَوْنُ في الشَّطَّنِ تُبِيدُ مَا جَمَعَتْ تُهِينُ مَنْ رَفَعْتَ تَضرُّ مَنْ نَفَعَتْ فِي سَالِفِ الزَّمَنِ النَّفْسُ تَعْشِقُهَا وَالْعَيْنُ تَرْمُقَها لِكَوْنِ ظَاهِرهَا فِي صُورَةِ الْحَسَنِ سَحَّارةٌ تُحْكِمُ التَّخْيِيلَ حَتَّى يُرَى كَأَنَّهُ الْحَقُّ إِذْ كَانَتْ مِنْ الْفِتَنِ إِنَّ الإِله بَرَاهَا كَيْ يُمَيْزُ بِهَا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ أَهْلَ الْحُمْقِ وَالْفِطَنِ فَذُو الْحَمَاقَةِ مَنْ قَدْ ظَلَّ يَجْمَعُهَا يُعَانِيَ السَّعْيَ مِنْ شَامٍ إِلى يَمَنِ

مُشَمِّرًا يَرْكَبُ الأَخْطَارَ مُجْتَهِدًا لأَجْلِهَا يَسْتَلِينُ الْمَرْكَبَ الْخَشِنِ وَذُو الْحِجَا يَقْلِهَا زُهْدًا وَيَنْبُذُهَا وَرَاءَه نَبْذَةَ الأَقْذَارِ فِي الدِّمَنِ يَرْمِي بِقَلْبٍ بَصِيرٍ فِي مَصَائِرِهَا فَلا يُصَادِفُ غَيْرَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ يَجُولُ بِالْفِكْرِ فِي تَذْكَارِ مَنْ صَرَعَتْ مِنْ مُؤْثِرِيهَا بِسَعْيِ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ مِمَّنْ أَشَادَ مَبَانِيهَا وَأَحْكَمَهَا لِيَسْتَجِنَّ مِنْ الأَقْدَارِ بِالْجُنَنِ نَالُوا مَكَارِمَهَا أَحْيَوا مَعَالِمَهَا سَلُّوا صَوَارِمَهَا لِلْبَغْيِ وَالظَّغَنِ رَقَوْا مَنَابِرَهَا قَادُوا عَسَاكِرَهَا بِقُوَّةٍ وَابْتَنَوا الأَمْصَارَ وَالْمُدُنِ وَعَبَّدُوا النَّاسَ حَتَّى أَصْبَحُوا ذُلُلاً لأَمْرِهِمْ بَيْنَ مَغْلُوبٍ وَمُمْتَهَنِ وَجَمَعُوا الْمَالَ وَاسْتَصْفَوا نَفَائِسَهُ لِمُتْعَةِ النَّفْسِ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَنِ حَتَّى إِذَا امْتَلَئُوا بِشْرًا بِمَا ظَفِرُوا وَمُكَّنُوا مِنْ عُلاهَا أَبْلَغَ الْمِكَنِ نَادَاهُمُوا هَادِمُ اللذَّاتِ فَاقتَحَمُوا

.. سُبْلَ الْمَمَاتِ فَأَضْحَوا عِبْرَةَ الْفِطَنِ تِلْكَ الْقُبُورُ وَقَدْ صَارُوا بِهَا رِمَمًا بَعْدَ الضَّخَامَةِ في الأَجْسَامِ وَالسِّمَنِ بَعْدَ التَّشَهِّي وَأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ غَدَا يَأْكُلْهُمْ الدُّودُ تَحْتَ التُّرْبِ وَاللَّبِنِ تَغَيَّرَتْ مِنْهُمْ الأَلْوَانُ وَانْمَحَقَتْ مَحَاسِنُ الْوَجْهِ وَالْعَيْنَيْنِ وَالْوُجَنِ خَلَتْ مَسَاكِنَهُمْ عَنْهُمْ وَأَسْلَمَهُمْ مَنْ كَانَ يَنْصُرُهُمْ في السِّرِّ وَالْعَلَنِ وَعَافَهُم كُلُّ مَنْ قَدْ كَانَ يَأْلَفُهم مِنْ الأَقَارِبِ وَالأَهْلِينَ وَالْخِدَنِ مَا كَانَ حَظُّهُمْ مِنْ عَرْضِ مَا اكْتَسَبُوا غَيْرَ الْحَنُوطِ وَغَيْرَ الْقُطْنِ وَالْكَفَنِ تِلْكَ الْقُصُورُ وَتِلْكَ الدُّورُ خَاوِيَةٌ يَصِيحُ فِيهَا غُرَابُ الْبَيْنِ بِالْوَهَنِ فَلَوْ مَرَرْتَ بِهَا وَالْبُومُ يَنْدُبُهَا فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ لَمْ تَلْتَذَّ بِالْوَسَنِ وَلا تَجَمَّلْتَ بِالأَرْيَاشِ مُفْتَخِرًا وَلا افْتَتَنْتَ بِحُبِّ الأَهْلِ وَالسَّكَنِ وَلا تَلَذَّذْتَ بِالْمَطعُومِ مُنْهَمِكَا وَلا سَعِيت لِدُنْيَا سَعَيَ مُفْتَتَنِ

نبذة عن زيد بن حارثة وبعدها موعظة

.. وَلا اعْتَبَرْتَ إِذَا شَاهَدْتَ مُعْتَبَرًا تَرَاهُ بِالْعَيْنِ أَوْ تَسْمَعْهُ بِالأُذُنِ إِنَّ الْمَوَاعِظَ لا تُغْنِي أَسِيرَ هَوَى مُقْفَّلَ الْقَلْبِ فِي حَيْدٍ عَنْ السُّنَنِ مُسْتَكْبِرًا يَبْطُرُ الْحَقَّ الصَّرِيحَ إِذَا يُلْقَى إِلَيْهِ لِفَرْطِ الْجَهْلِ وَالشَّنَنِ يُمَنِّيُ النَّفْسَ أَمْرًا لَيْسَ يُدْرِكُه إِنَّ الأَمَانِيَّ مِقْطَاعٌ عَنْ الْمِنَنِ يَكْفِي اللَّبِيبَ كِتَابُ اللهِ مَوْعِظَةً كَمَا أَتَى فِي حَدِيثِ السَّيِّدِ الْحَسَنِ مُحَمَّدٍ خَيْرِ خَلْقِ اللهِ قُدْوَتِنَا مُطَهِّرِ الْجَيْبِ عَنْ عَيْبٍ وَعَنْ دَرَنِ عَلَيْهِ مِنَّا صَلاةُ اللهِ دَائِمَةً مَا سَارَتْ الرِّيحُ بِالأَمْطَارِ وَالسُّفُنِ وَالآلِ وَالصَّحْبِ مَا غَنَّتْ مُطَوَّقَةٌ وَمَا بَكَتْ عَيْنُ مُشْتَاقٍ إِلى وَطَنِ قِصَّة لِزَيْدِ بن حَارِثَةْ مَضَتْ سُعْدَى بِنْتُ ثَعْلَبَةَ تَبْتَغِي زِيَارَةَ قَوْمِهَا بَنِي مَعْنٍ، وَكَانَتْ تَصْحَبُ مَعَهَا غُلامَهَا زَيْدَ بنَ حَارِثَةَ الْكَعْبِيَّ. فَمَا كَادَتْ تَحُلُّ فِي دِيَارِ قَوْمِهَا حَتَّى أَغَارَتْ عَلَيْهِمْ خَيْلٌ لِبَنِي الْقَيْنِ فَأَخَذُوا الْمَالَ وَاسْتَاقُوا الإِبْلِ، وَسَبَوْا الذَّرَارِي، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَنِ احْتَمَلُوهُ مَعَهُمْ وَلَدُهَا زَيْدُ بنُ حَارِثَةَ.

وَكَانَ زَيْدٌ - إِذْ ذَاكَ - غُلامًا صَغِيرًا يَدْرُجُ نَحْوَ الثَّامِنَةِ مِنْ عُمْرِهِ، فَأَتَوْا بِهِ سَوْقَ عُكَاظٍ وَعَرَضُوهُ لِلْبَيْعِ فَاشْتَرَاهُ ثَرِيٌّ مِنْ سَادَةِ قُرَيْشٍ هُوَ حَكِيمُ بن حِزَامِ بن خُوَيْلِدٍ بَأَرْبِعِمَائَةِ دِرْهَمٍ. وَاشْتَرَى مَعَهُ طَائِفَةً مِنْ الْغُلْمَانِ، وَعَادَ بِهِمْ إِلى مَكَّةَ. فَلَمَّا عَرَفَتْ عَمَّتُهُ خَدِيجَةُ بنتُ خُوَيْلِدٍ بِمَقْدِمِه، زَارَتْهُ مُسَلِّمَةً عَلَيْهِ، مُرَحِّبَةً بِهِ، فَقَالَ لَهَا: يَا عَمَّة، لَقَدْ ابْتَعْتُ مِنْ سُوقِ عُكاظ طائفةً من الغِلمان فاخْتَارِي أَيًّا منهم تَشَائينَهُ، فهو هَدِيَّةٌ لَكِ. فَتَفَرَّسَتِ السَّيِّدَةُ خَدِيجَةُ وُجُوهَ الْغُلْمَانِ ... وَاخْتَارَتْ زَيْدَ بن حَارِثَةَ، لِمَا بَدَا لَهَا مِنْ عَلامَاتِ نَجَابَتِهِ، وَمَضَتْ بِهِ. وَمَا هُوَ إِلا قَلِيلٌ حَتَّى تَزَوَّجَتْ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلَدٍ مِنْ مُحَمَّدِ بن عَبْدِ الله، فَأَرَادَتْ أَنْ تُطْرِفَهُ وَتُهْدِي لَهُ، فلمْ تَجِدْ خيرًا من غلامِها الأثيرِ زيدِ بن حارِثَةَ، فَأَهْدَتْهُ إِلَيْهِ. وَفِيمَا كَانَ الغلامُ الْمَحْظُوظُ يَتَقَلَّبُ في رِعَايَةِ محمدِ بنِ عَبْدِ الله، وَيَحْظَى بِكَرِيمِ صُحْبَتِهِ، وَيَنْعُمُ بِجَمِيلِ خِلالهِ. كانت أُمُّهُ المفجوعةُ بفَقْدِهِ لا تَرْفَأْ لَهَا عَبْرَةٌ وَلا تَهْدَأْ لها لَوْعَةٌ وَلا يَطْمَئِنُّ لها جَنْبٌ. وَكَانَ يُزِيدُهُا أسىً على أساها أنها لا تَعْرِفُ أَحَيٌّ هو فَتَرْجُوهُ أَمْ مَيْتٌ فَتَيْأَسُ مِنْهُ. أما أبوه فأخذ يَتَحَرَّاهُ في كلِّ أَرْضٍ، وَيُسَائِلُ عنه كلَّ رَكْبٍ ويَصُوغُ حنينَه إليه شِعْرًا حَزِينًا تَتَفَطَّرُ له الأكباد حيث يقول:

بكَيْتُ عَلَى زَيْدٍ وَلَمْ أَدْرِ مَا فَعَلْ أَحَيٌّ فَيُرَجَّى أَمْ أَتَى دُونَه الأَجَلْ؟ فَوَ اللهِ مَا أَدْرِي وَإِنِّي لَسَائِلٌ أَغَالَكَ بَعْدِي السَّهْلُ أَمْ غَالَكَ الْجَبَلْ تُذْكِّرُنِيهِ الشَّمْسُ عِنْدَ طُلُوعِهَا وَتُعْرِضُ ذِاكْرَاهُ إِذَا غَرْبُهَا أفَلْ سَأُعْمِلُ نَصَّ الْعِيسِ في الأَرْضِ جَاهِدًا وَلا أَسْأَمَ التَّطْوَافَ أَوْ تَسْأَمَ الإِبِلْ حَيَاتِي أَوْ تَأتِي عَلَيَّ مَنِيَّتِي فَكُلُّ امْرِئٍ فَانٍ وَإِنْ غَرَّهُ الأَمَلْ وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ. فَصْلٌ: وَفِي مُوسِمٍ مِنْ مَوَاسِمِ الْحِجِّ قَصَدَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ نَفَرٌ مِنْ قَوْمِ زَيْدٍ وَفِيمَا كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ، إِذَا هُمْ بِزَيْدٍ وِجْهًا لِوَجْهٍ، فَعَرَفُوهُ وَعَادُوا إِلى دِيَارِهِمْ أَخْبَرُوا حَارِثَةَ بِمَا رَأَوْا وَحَدَّثُوهُ بِمَا سَمِعُوا. فَمَا أَسْرَعَ أَنْ أَعَدَّ حَارِثَةُ رَاحِلَتَهُ، وَحَمَلَ مِنَ الْمَالِ مَا يَفْدِي بِهِ فَلَذَةَ الْكَبِدِ، وَقُرَّةَ الْعَيْنِ، وَصَحَبَ مَعَهُ أَخَاهُ كَعْبًا، وَانْطَلَقَا مَعًا يُغِذَّانِ السَّيْرَ نَحْوَ مَكَّةَ. فَلَمَّا بَلَغَاهَا دَخَلا عَلَى مُحَمَّدِ بن عَبْدِ اللهِ وَقَالا لَهُ: يَا ابنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنْتُمْ جِيرَانُ الله، تَفُكُّونَ الْعَانِيَ، وَتُطْعِمُونَ الْجَائِعَ، وَتُغِيثُونَ الْمَلْهُوفَ. وَقَدْ جِئْنَاكَ فِي ابْنِنَا الذِي عِنْدَكَ وَحَمَلْنَا إِلَيْكَ مِنْ الْمَالِ مَا يَفِي بِهِ. فَامْنُنْ عَلَيْنَا وَفَادِهِ لَنَا بِمَا تَشَاءُ. فَقَالَ مُحَمَّد: ((وَمَنْ ابْنُكُمَا الذِي تَعْنِيَانِ)) ؟

فَقَالَ: غُلامُكَ زَيْدُ بنُ حَارِثَة. فَقَالَ: ((وَهَلْ لَكُمَا فِيمَا هُوَ خَيْرٌ مِنَ الْفِدَاءِ)) ؟ فَقَالا: وَمَا هُوَ؟! فَقَالَ: ((أَدْعُوهُ لَكُمْ، فَخَيَّرُوهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، فَإِنْ اخْتَارَكُمْ فَهُوَ لَكُمْ بِغَيْرِ مَالٍ وَإِنْ اخْتَارَنِي فَمَا أَنَا - والله - بِالذِي يَرْغَبُ عَمَّنْ يَخْتَارُه)) . فَقَالا: لَقَدْ أَنْصَفْتَ وَبَالَغْتَ فِي الإِنْصَافِ. فَدَعَا مُحَمَّدٌ زَيْدًا وَقَالَ: ((مَنْ هَذَانِ)) ؟ قَالَ: هَذَا أَبِي حَارِثَةُ بنُ شُرَاحِيلَ، وَهَذَا عَمِّي كَعْبٌ. فَقَالَ: ((قَدْ خَيَّرْتُكَ: إِنْ شِئْتَ مَضَيْتَ مَعَهُمَا، وَإِنْ شِئْتَ أَقَمْتَ مَعِي)) . فَقَالَ - فِي غَيْرِ إِبْطَاءٍ وَلا تَرَدُّدٍ -: بَلْ أُقِيمَ مَعَكَ. فَقَالَ أَبُوهُ: وَيْحَكَ يَا زَيْدُ، أَتَخْتَارُ الْعُبُودِيَّةَ عَلَى أَبِيكَ وَأُمِّكَ؟! فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ شَيْئًا، وَمَا أَنَا بِالذِي يُفَارِقُهُ أَبَدًا. فَلَمَّا رَأَى مُحَمَّدٌ مِنْ زَيْدٍ مَا رَأَى، أَخَذَ بِيَدِهِ وَأَخْرَجَهُ إِلى الْبَيْتَ الْحَرَامِ وَوَقَفَ بِهِ بِالْحِجْرِ عَلَى مَلاءٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَقَالَ: ((يَا مَعْشَرَ قُرَيْش اشْهَدُوا أَنَّ هَذَا ابْنِي يَرِثُنِي وَأَرِثُه)) ... فَطَابَتْ نَفْسُ أَبِيهِ وَعَمِّهِ، وَخَلَّفَاهُ عِنْدَ مُحَمَّدِ بن عَبْدِ اللهِ، وَعَادَ إِلى قَوْمِهِمَا مُطْمَئِنِّي النَّفْسَ مُرْتَاحِي الْبَالِ. وَمُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَصْبَحَ زَيْدُ بنُ حَارِثَهَ يُدْعَى بِزَيْدِ بن مُحَمَّدٍ، وَظَلَّ يُدْعَى كَذَلِكَ حَتَّى بُعِثَ الرَّسُولُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ وَأَبْطَلَ الإِسْلامَ التَّبَنِّي حَيْثُ نَزَلَ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَزَّ: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} فَأَصْبَحَ يُدْعَى: زَيْدَ بنَ حَارِثَةَ.

وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ زَيْدٌ - حِينَ اخْتَارَ مُحَمَّدًا عَلَى أُمِّهِ وَأَبِيهِ - أَيَّ غُنْمٍ غَنِمَهُ. وَلَمْ يَكُنْ يَدْرِي أَنَّ سَيِّدَهُ الذِي آثَرَهُ عَلَى أَهْلِهِ وَعَشِيرَتِهِ هُوَ سَيِّدُ الأَوَّلِينَ وَالآخَرِينَ، وَرَسُولُ الله إلى خَلْقِهِ أَجْمَعِينَ. وَمَا خَطَرَ لَهُ بِبَالٍ أَنَّ دَوْلَةً لِلسَّمَاءِ سَتَقُومُ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ فَتَمْلأُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِق وَالْمَغْرِبِ بِرًّا وَعَدْلاً، وَأَنَّهُ هُوَ نَفْسَهُ سَيَكُونُ اللَّبِنَةَ الأُولى فِي بِنَاءِ هَذِهِ الدَّوْلَة العظمى ... لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يَدُورُ فِي خَلَدِ زَيْدٍ ... وَإِنَّمَا هُوَ فَضْلُ اللهُ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ... وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَمْضِ عَلَى حَادِثَةِ التَّخْيِيرِ هَذِهِ إِلا بِضْعُ سِنِينَ حَتَّى بَعَثَ الله نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا بِدِينِ الْهُدَى وَالْحَقِّ، فَكَانَ زَيْدُ بنُ حَارِثَةَ أَوَّلَ مَنْ آمَنَ بِهِ من الرِّجَال. وَهَلْ فَوْقَ هَذِهِ الأَوَّلِيَّةِ أَوَّلِيَّةٌ يَتَنَافَسَ فِيهَا الْمُتَنَافِسُون؟! لَقَدْ أَصْبَحَ زَيْدُ بن حَارِثَةَ أَمِينًا لِسِرِّ رَسُولِ اللهِ، وَقَائِدًا لِبُعُوثِهِ وَسَرَايَاهُ وَأَحَدَ خُلَفَائِهِ عَلَى الْمَدِينَةَ إِذَا غَادَرَهَا النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ. وَكَمَا أَحَبَّ زَيْدٌ النَّبِيَّ وَآثَرَهُ عَلَى أُمِّهِ وَأَبِيهِ، فَقَدْ أَحَبَّهُ الرَّسُولُ الْكَرِيمِ صَلَوَاتُ اللهُ عَلَيْهِ وَخَلَطَهُ بِأَهْلِهِ وَبَنِيهِ، فَكَانَ يَشْتَاقُ إِلَيْهِ إِذَا غَابَ عَنْهُ، وَيَفْرَحُ بِقُدُومِهِ إِذَا عَادَ إِلَيْهِ، وَيَلْقَاهُ لِقَاءٌ لا يَحْظَى بِمِثْلِهِ أَحَدٌ سِوَاهُ. فَهَا هي ذي عائِشَةُ رِضْوَانُ الله عليها تُصَوِّرُ لنا مَشْهَدًا من مَشَاهِدِ فَرْحَةِ رَسُولِ الله ? بِلِقَاءِ زَيْدٍ فَتَقُولُ: (قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمَدِينَةَ وَرَسُولُ اللهِ

فِي بَيْتِي فَقَرَعَ الْبَابَ، فَقَامَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ عُرْيَانًا - لَيْسَ عَلَيْهِ إِلا مَا يَسْتُرُ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ - وَمَضَى إِلى الْبَابِ يَجُرُّ ثَوْبَهُ، فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ. وَاللهِ مَا رَأَيْتُ رَسُولُ اللهِ عُرْيَانًا قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ. وَقَدْ شَاعَ أَمْرُ حُبِّ النَّبِيِّ لِزَيْدٍ بَيْن الْمُسْلِمِينَ وَاسْتَفَاضَ، فَدَعَوْهُ (بَزِيدِ الْحُبِّ) وَأَطْلَقُوا عَلَيْهِ لَقبِ (حِبِّ) رَسُولِ الله، وَلَقَّبُوا ابْنَهُ أُسَامَةَ مِنْ بَعْدِهِ بِحِبِّ رَسُولِ اللهِ وَابْنِ حِبِّه. وفي السنة الثامنة من الهجرة شاء الله - تَبَارَكَتْ حِكْمَتُه - أن يَمْتَحِنَ الحبيبَ بفراقِ حبيبِه. ذلك أنَّ الرسولَ صلواتُ الله وسلامُه عليه، بَعَثَ الحارِثَ بن عُمَيْرٍ الأزْدِيَّ بِكِتَابٍ إِلى مَلِكِ بُصْرَى يدعوه فيه إلى الإِسْلامِ، فَلَمَّا بلغَ الحارثُ (مُؤْتَةَ) بشرقي الأردن، عَرَضَ له أحدُ أمراءِ الغساسِنَةِ شُرْحَبِيلُ بنُ عمرو فأخَذَه، وشدَّ عليه وثاقه، ثم قَدَّمَهَ فَضَرَبُ عُنُقَه. فاشتدَّ ذلك على النبيِّ صَلواتُ اللهِ وسلامُه عليه إذ لم يُقْتَلْ له رسولٌ غَيْرُه. وَجهَّزَ جَيْشًا مِنْ ثَلاثةِ آلافِ مُقَاتِلٍ لِغَزْوِ مُؤْتَةَ وَوَلَّى على الجيشِ حبيبَه زَيدَ بنَ حارِثَةَ، وَقَالَ: إِنْ أُصِيبَ زيدٌ فَتَكُونُ الْقِيَادَةُ لِجَعْفَرِ بنِ أبي طالب، فَإِنْ أُصِيبَ جَعْفَرُ كَانتْ إلى عبدِ الله بنِ رَوَاحَةَ، فَإِنْ أُصِيبَ عَبْدُ الله فَلَيَخْتَرَ المسلمون لأنفسهم رجلاً منهم. مضى الجيشُ حتى وصَلَ إلى (معان) بشرقي الأُرْدُن.

فَهَبَّ هِرْقَلُ ملكُ الرومِ على رأسِ مائةِ ألفِ مُقَاتِلٍ للدفاعِ عَنْ الْغَسَاسِنَة وَانضمَّ إليه مَائةُ أَلْفٍ مِنْ مُشْرِكي العرب، وَنَزَلَ هذا الجيشُ الْجَرَّارُ غَيْرَ بَعِيدٍ مِنْ مواقع المسلمين. باتَ المسلمون في (معان) ليلتين يتشاورون فيما يصنعون. فقال قائلٌ: نَكْتُبُ إلى رسولِ الله وَنُخْبِرُهُ بِعَدَدِ عَدُوِّنا وَنَنْتَظِرُ أَمْرَه. وقال آخر: والله - يا قوم - إِنَّنَا لا نُقَاتِلُ بَعَدَدٍ وَلا قُوَّةٍ وَلا كُثْرَةٍ وَإِنَّمَا نُقَاتِلُ بِهَذَا الدِّينِ. فَانْطَلِقُوا إِلى مَا خَرَجْتُمْ لَهُ. وقد ضَمِنَ الله لَكُمْ الْفَوْزَ بِإِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ: إِمَّا الظَّفَرُ وَإِمَّا الشَّهَادة. ثُمَّ الْتَقَى الجمعان على أرضِ مُؤتَةَ، فقاتَلَ المسلمون قِتَالاً أَذْهَلَ الرُّومَ وَمَلأَ قُلُوبَهُمْ هَيْبَةً لِهَذِهِ الآلافِ الثلاثةِ التي تَصَدَّتْ لِجَيْشِهِمْ الْبَالِغِ مائتي ألفٍ. وجالَدَ زيدَ بن حارِثَةَ عن رَايَةِ رسولِ الله ? جِلادًا لم يَعْرِفْ له تاريخُ الْبُطُولاتِ مَثِيلاً حَتَّى خَرَّقَتْ جَسَدَهُ مِئَاتُ الرِّمَاحِ فَخَرَّ صَرِيعًا يَسْبَحُ فِي دِمَائِهِ. فَتَنَاوَلَ مِنْهُ الرَّايَةَ جَعْفَرُ بنُ أَبِي طالبٍ وَطَفِقَ يَذُودَ عنها أَكْرَمَ الذَّوْدِ حَتى لَحِقَ بصاحبه. فتناول منه الرايةَ عبدُ الله بنُ رَوَاحَةَ فَنَاضَلَ عنها أَبْسَلَ النِّضَالِ حَتَّى انْتَهَى إلى ما انْتَهَى إليه صاحباه. فأَمَّرَ النَّاسُ عليهم خالدَ بنَ الْوَلِيدِ - وكان حَدِيثَ إِسْلامٍ - فانْحَازَ بالجيش، وأنقذه من الفناءِ الْمُحَتَّمِ.

بلغت رسولَ الله ? أنباءُ مُؤْتَةَ، وَمَصْرَعُ قَادَتِهِ الثَّلاثَةِ فَحَزِنَ عَلَيْهِمْ حُزْنًا لَمْ يَحْزَنْ مِثْلَهُ قَطُّ. وَمَضَى إِلى أهليهم يُعَزِّيهِمْ بِهِمْ. فلما بَلَغَ بَيْتَ زَيْدِ بنِ حارِثَةَ لاذَتْ بِهِ ابْنَتُهُ الصَّغِيرَةُ وَهِيَ مُجْهِشَةٌ بِالْبُكَاءِ فَبَكَى رَسُولُ اللهِ ? حَتَّى انْتَحَب. فَقَالَ لَهُ سَعْدُ بنُ عُبَادَة: مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ؟! فَقَالَ عليه الصلاةُ والسلام: ((هذا بُكاءُ الحبِيبِ على حبيبِه)) . اللَّهُمَّ ثَبَّتْ مَحَبَّتِكَ في قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَارْزُقْنَا الْقِيَامَ بِطَاعَتِكَ وَجَنِّبْنَا مَا يُسْخِطُكَ وَأَصْلِحْ نِيَّاتِنَا وَذُرِّيَاتِنَا وَأَعِذْنَا مِنْ شَرِّ نُفُوسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا وَأَعِذْنَا مِنْ عَدُوِّكَ وَاجْعَلْ هَوَانَا تَبَعًا لِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. مَوْعِظَةٌ عِبَادَ اللهِ إِنَّ طَاعَةَ اللهِ صَلاحٌ في الأَرْضِ لِهَذَا أَمَرَ عَزَّ وَجَلَّ بِالطَّاعَاتِ، وَهَذِهِ الطَّاعَاتِ تُرْضِي اللهَ سُبْحَانَهُ لأَنَّهَا شُكْرٌ لَهُ عَلَى نِعَمِهِ الْمُتَوَالِيَاتِ، فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَحُثَّ عَلَيْهَا وَأَنْ نَأْمُرَ مَنْ تَرَكَ الطَّاعَةَ أضنْ يَعُودَ إِلَيْهَا إِذَا كَانَتْ مِنْ فَرَائِضِ الدِّينِ كَالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ، وَأَنْ نَنْكِرَ عَلَى مَنْ رَأَيْنَاهُ يَقْتَرِفُ مَعْصِيَةَ مِنْ الْمَعَاصِي، لأَنَّ الْمَعَاصِي بِكُلِّ أَنْوَاعِهَا شُرُورٌ وَأَضْرَارٌ

وَفَسَادٌ وَلَهَا شُؤْمٌ قَدْ يَعُمُّ الدُّنْيَا وَيَفْعَلُ الأَفَاعِيلَ الْعِظَامِ فِي بَنِي الإِنْسَانِ وَمِنْ آثَارِهَا الْمُضرَّةِ بِالْقَلْبِ وَالْبَدَنِ: أَنَّهَا إِفْسَادٌ لِلْعَقْلِ فَإِنَّ الْعَقْلَ نُورٌ وَالْمَعْصِيَةُ تُطْفِئُ نُورَ الْعَقْلِ وَمِنْهَا أَنَّ الْمَعَاصِي مَدَدٌ مِنْ الإِنْسَانِ يَمُدُّ بِهَا عَدُوَّهُ عَلَيْهِ وَجَيْشٌ يُقَوِّيهِ بِهِ عَلَى حَرْبِهِ وَمِنْهَا أَنَّهَا تُوهِنُ الْقَلْبَ وَالْبَدَنَ وَمِنْهَا أَنَّهَا تَزْرَعُ أَمْثَالهَا مِنْ الْمَعَاصِيَ وَمِنْهَا أَنَّهَا تَمْحَقُ بَرَكَةَ الْعُمْرِ وَمِنْهَا أَنَّهَا تُسَبِّبُ شَمَاتَةَ الأَعْدَاءِ وَمِنْهَا أَنَّهَا تُعَسِّرُ عَلَى الإِنْسَانِ أُمُورَهُ، وَمِنْهَا أَنَّهَا تُسَبِّبُ الْوَحْشَة بَيْنَ الْعَاصِي وَبَيْنَ أَهْلَ الْخَيْرِ وَمِنْهَا أَنَّهَا تُذْهِبُ الْحَيَاءَ وَمِنْهَا أَنْ تَسْتَدْعِي نِسْيَانَ اللهِ لِعَبْدِهِ وَتَرْكِهِ، وَمِنْهَا أَنَّهَا تُطْفِئُ مِنْ الْقَلْبَ نَارَ الْغَيرَةِ وَمِنْهَا أَنَّهَا تُضْعِفُ فِي الْقَلْبِ تَعْظِيمَ الرَّبِّ وَمِنْهَا أَنَّهَا تُعْمِي بَصِيرَةَ الْقَلْبِ وَتَطْمِسُ نُورَهُ وَمِنْهَا أَنَّهَا تُسْقِطُ الْجَاهَ وَالْمَنْزِلَةَ عِنْدَ اللهِ إِلى مَالا نِهَايَةَ لَهُ مِنْ الأَضْرَارِ لِهَذَا يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَنْهَي عَنِ الْمَعَاصِي لاسِيَّمَا إِذَا كَانَتْ مِنْ كِبَارِ الْمَعَاصِي، وَلا تَنْسَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَعَنَهُمْ اللهُ لَمَّا فَقَدُوا الْغَيرَةَ عَلَى انْتِهَاكِ الْحُرمَاتِ وَلا تَنَاهَوْ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَتَأَمَّل أَحْوَالَ الأُمَم وَمَا حَلَّ بِهَا مِنْ الْعُقُوبَاتِ بِأَسْبَابِ الذُّنُوبِ قاَلَ تَعَالى: {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} . وَذَكَرَ ابنُ كَثِيرٍ أَنَّ فِي سَنَةِ سَبْع وَتِسْعِينَ وَخَمْسُمائة 597 اشْتَدَّ الْغَلاءُ بَأَرْضِ مَصْرَ فَهَلَكَ خَلْقٌ كَثِيرٌ جِدّاً مِنْ الْفُقَرَاءِ وَالأَغْنِيَاءِ ثُمَّ أَعْقَبَهُ فَنَاءٌ عَظِيمٌ حَتَّى حَكَى الشَّيْخُ أَبُو شَامَةَ فِي الذَّيْلِ أَنَّ الْعَادِلَ كَفَّنَ مِنْ مَالِهِ فِي مُدَّةِ شَهْرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ نَحْواً مِنْ مَائَتَيْ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفِ مَيِّتٍ (220000) وَأُكِلَتِ الْكِلابُ وَالْمَيْتَاتُ فِيهَا بِمَصْرَ وَأُكِلَ مِنْ الصِّغَارِ وَالأَطْفَالِ خَلْقٌ كَثِيرٌ يَشْوِي الصَّغِيرَ وَالِدَاهُ وَيَأْكُلانِهِ وَكَثُرَ فِي النَّاسَ هَذَا جِدّاً حَتَّى صَارَ لا يُنْكَرُ بَيْنَهُمْ،

فَلَمَّا فَرَغَتِ الأَطْفَالُ وَالْمَيْتَاتُ غَلَبَ الْقَوِيُّ الضَّعِيفَ فَذَبَحَهُ وَأَكَلَهُ وَكَانَ الرَّجُلُ يَحْتَالُ عَلَى الْفَقِيرِ فَيَأْتِي بِهِ لِيُطْعِمَهُ أَو لِيُعْطِيَهُ شَيْئاً ثُمَّ يَذْبَحَهُ وَيَأْكُلهُ وَكَانَ أَحَدُهُمْ يَذْبَحُ امْرَأَتَهُ وَيَأْكُلُهَا وَشَاعَ هَذَا بَيْنَهُمْ بِلا إِنْكَارٍ وَلا شَكْوَى بَلْ عَذَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً وَوُجِدَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أَرْبَعُمِائَةِ رَأْسٍ وَهَلَكَ كَثِيرٌ مِنَ الأَطِبَّاءِ الذِينَ يُسْتَدْعَونَ إِلى الْمَرْضَى فَكَانُوا يُذْبَحُونَ وَيُؤْكَلُونَ كَانَ الرَّجُلُ يَسْتَدِعي الطَّبِيبَ ثُمَّ يَذْبَحُه وَيَأْكُلُه. وَقَدْ اسْتَدْعَى رَجُلٌ طَبِيباً حَاذِقاً وَكَانَ الرَّجُلُ مُوسِراً مِنْ أَهْلِ الْمَالِ فَذَهَبَ الطَّبِيبُ مَعَهُ عَلَى وَجَلٍ وَخَوْفٍ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَتَصَدَّقُ عَلَى مَنْ لَقِيَهُ فِي الطَّرِيقِ وَيَذْكُرَ اللهَ وَيُسَبِّحُه وَيُكْثِرُ مِنْ ذَلِكَ فَارْتَابَ بِهِ الطَّبِيبُ وَتَخَيَّلَ مِنْهُ وَمَعَ هَذَا حَمَلَهُ الطَّمَعُ عَلَى الاسْتِمْرَارِ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ دَارَهُ فَإِذَا هِيَ خَرِبَةٌ فَارْتَابَ الطَّبِيبُ أَيْضاً فَخَرَجَ صَاحِبُه فَقَالَ لَهُ: وَمَعَ الْبُطْءِ جِئْتَ لَنَا بِصَيْدٍ فَلَمَّا سَمِعَهَا الطَّبِيبُ هَرَبَ فَخَرَجَا خَلْفَهُ سِرَاعاً فَمَا خَلَصَ إِلا بَعْدَ جَهْدٍ وَشَرٍّ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ سَنَةَ 597 وَقَعَ وَبَاءٌ شَدِيدٌ بِبِلادِ عَنْزَةَ بَيْنَ الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَكَانُوا عِشْرِينَ قَرْيَةً فَبَادَتْ مِنْهَا ثَمَانِيَة عَشَرَ لَمْ يَبْقَ دَيَّارٌ وَلا نَافِخُ نَارٍ وَبَقِيَتْ أَنْعَامُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ لا قَانِيَ لَهَا. وَلا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَسْكُنَ تِلْكَ الْقُرَى وَلا يُدْخِلَهَا. بَلْ كَانَ مَنْ اقْتَرَبَ إِلى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْقُرَى هَلَكَ مِنْ سَاعَتِه. نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ بَأْسِهِ وَعَذَابِهِ وَغَضَبِهِ وَعِقَابِهِ أَمَّا الْقَرْيَتَانِ الْبَاقِيَتَانِ فَلَمْ يَمُتْ مِنْهَا أَحَدٌ وَلا عِنْدَهُمْ شُعُورٌ بِمَا جَرَى عَلَى مَنْ حَوْلَهُمْ بَلْ هُمْ عَلَى حَالِهِمْ لَمْ يُفْتَقَدْ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَسُبْحَانَ الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ. انْتَهَى كَلامُه. وذكر السيوطي رحمه الله في تاريخ الخلفاء أن في سنة 524 ارتفع سحابٌ

قصيدة رثى أهل الذريعة بعدما هدمها الظالم الطاغية وجنوده إبراهيم باشا

أَمْطَرَ بَلَدَ الْمَوْصِلِ نَاراً أَحْرَقَتْ من الْبَلَد مَوَاضِعَ كَثِيرَةً وَدُوراً كَثِيرَةً وَظَهَرَ فِيهَا بِبَغْدَاد عِقَابٌ طَيَّارة لَهَا شَوْكَتَانَ وَخَافَ النَّاسُ مِنْهَا وَقَدْ قَتَلَتْ جَمَاعَةَ أَطْفَالٍ. هَذَا كُلَّهُ مِنْ آثَارِ الْمَعَاصِي قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلا: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} وَمَنْ نَظَرَ إِلى الْحَالَةِ الْيَوْمَ وَمَا ظَهَرَ وَانْتَشَرَ مِنَ الْمَعَاصِي انْتَشَارَ الْوَبَاءِ وَرَأَى النِّعَمَ فِي الْمَزَابِلِ وَرَأَى الْكُتُبَ الدِّينِيَّةِ تُطْرَحُ كَذَلِكَ مَعَ الْقُمَامَةِ وَفِي الشَّوَارِع تُدَاسُ وَلا آمِرَ وَلا نَاهِي مَلأَ الْخَوْفُ مِنْ الْعُقُوبَةِ صَدْرَهُ وَإِنْ كَانَ قَوِيَّ الدِّينِ وَعِنْدَهُ غَيْرَةٌ لِدِينِهِ مَرَضَ مِمَّا رَأَى وَسَمِعَ نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَخُصَّ بِالْعُقُوبَةِ مَنْ فَعَلَهَا وَمَنْ رَضَى بِهَا وَمَنْ عَلِمَ بِهَا وَقَدِرَ عَلَى إِزَالَتِهَا وَلَمْ يَفْعَلْ. اللَّهُمَّ ابْرِمْ لِهَذِهِ الأُمَّةِ أَمْرَ رُشْدٍ يُعَزُّ فِيهِ أَهْلُ طَاعَتِكَ وَيُذَلُّ فِيهِ أَهْلَ مَعْصِيَتِكَ وَيُؤْمَرُ فِيهِ بِالْمَعْرُوفِ وَيُنْهَى فِيهِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُزَالُ فِيهِ مَا حَدَثَ مِنْ بِدَعِ وَمُنْكَرَاتٍ وَمَعَاصِي وَيُحْيَا بِهِ بَدَلُهَا مَا أُمِيتَ مِنْ سُنَّةٍ وَغيرَةٍ وَشِيمَةٍ كَرِيمَةٍ وَمُرُوءَةٍ جَمِيلَةٍ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرِ وَبِالإِجَابَةِ جَدِيرٌ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. وقال الشيخ عبد العزيز بن حمد بن ناصر بن مُعَمَّر يَرْثِي أَهْلَ الدَّرْعِيَّةِ بَعْدَ مَا هَدَمَهَا الظَّالِمُ الطَّاغِيَةُ وَجُنُودُهُ إِبْرَاهِيمُ بَاشَا جَازَاهُ اللهُ بِمَا يَسْتَحِقُّ هُوَ وَأَعْوَانَهُ. إِلَيْكَ إِلَهَ الْعَرْشِ أَشْكُو تَضَرُّعَا وَأَدْعُوكَ فِي الضَّرَّاءِ رَبِّي لِتَسْمَعَا فَكَمْ قَتَلُوا مِنْ فِتْيَةِ الْحَقِّ عُصْبَةً هُدَاةً وَضَاةًَ سَاجِدِينَ وَرُكَّعَا

وَكَمْ دَمَّرُوا مِنْ مَرْبَع كَانَ آهِلاً وَقَدْ تَرَكُوا الدَّارَ الأَنِيسَةَ بَلْقَعَا فَأَصْبَحَتْ الأَمْوَالُ فِيهِمْ نَهَائِباً وَأَصْبَحَتْ الأَيْتَامُ غَرْثىً وَجُوَّعَا وَفَرَّ عَنْ الأَوْطَانِ مِنْ كَانَ قَاطِناً وَفُرِّقَ إِلْفٌ كَانَ مُجْتَمِعاً مَعَا مَضَوْا وَانْقَضَتْ أَيَّامُهُمْ حِينَ أَوْرَدُوا ثَنَاءً وَذِكْراً طِيبُه قَدْ تَضَوَّعَا فَجَازَاهُمْ اللهُ الْكَرِيمُ بِفَضْلِهِ جِنَاناً وَرِضْوَاناً مِنْ اللهِ رَافِعَا فَإِنْ كَانَتْ الأَشْبَاحُ مِنَّا تَبَاعَدَتْ فَإِنَّ لأَرْوَاحِ الْمُحِبِّينَ مَجْمَعَا عَسَى وَعَسَى أَنْ يَنْصُرَ اللهُ دِينَهُ وَيَجْبرَ مِنَّا مَأْمَناً قَدْ تَصَدَّعَا وَيُظْهِرَ نُورَ الْحَقِّ يَعْلُو ضِيَاؤُه فَيُضْحِي ظَلامُ الشِّرْكِ وَالشَّكِّ مُقْشِعَا إِلَهِي فَحَقِّقْ ذَا الرَّجَاءَ وَكُنْ بِنَا رَؤُفاً رَحِيماً مُسْتَجِيباً لَنَا الدُّعَا أَلا أَيُّهَا الإِخْوَانِ صَبْراً فَإِنَّنِي أَرَى الصَّبْرَ لِلْمَقْدُورِ خَيْراً وَأَنْفَعَا

فَلا تَيْأَسُوا مِنْ كَشْفِ ثَابَ إِنَّهُ إِذَا شَاءَ رَبِّي كَشَفَ كَرْبٍ تَمَزَّعَا وَمَا قُلْتُ إِذَا أَشْكُو إِلى الْخَلْقِ نَكْبَةً وَلا جَزَعاً مِمَّا أَصَابَ فَأَوْجَعَا فَمَا كَانَ هَذَا الأَمْرُ إِلا بِهَا قَهَرَ اللهُ الْخَلائِقَ أَجْمَعَا وَذَلِكَ عَنْ ذَنْبٍ وَعِصْيَانِ خَالِقٍ أُخِذْنَا بِهِ حَيْناً فَحِينَا لِنَرْجِعَا وَقَدْ آنَ أَنْ نَرْجُو رِضَاهُ وَعَفْوَهُ وَأَنْ نَعْرِفَ التَّقْصِيرَ مِنَّا فَنُقْلِعَا فَيَا مُحْسِناً قَدْ كُنْتَ تُحْسِنُ دَائِماً وَيَا وَاسِعاً قَدْ كَانَ عَفْوُكَ أَوْسَعَا نَعُوذُ بِكَ اللَّهُمَّ مِنْ سُوءِ صُنْعِنَا فَإِنَّ لَنَا فِي الْعَفْوِ مِنْكَ لَمَطْمَعَا أَغِثْنَا أَغِثْنَا وَارْفَعْ الشِّدَّةَ الَّتِي أَصَابَتْ وَصَابَتْ وَاكْشِفِ الضُّرَّ وَارْفَعَا وَجُدْ وَتَفَضَّلْ بِالذِي أَنْتَ أَهْلُهُ مِنْ الْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ يَا خَيْرَ مَنْ دَعَا اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ حِزْبِكَ الْمُفْلِحِينَ، وَعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ الذِينَ أَهَّلْتَهُمْ لِخِدْمَتِكَ وَجَعَلْتَهُمْ آمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ فَاعِلِينَ لَهُ، وَنَاهِينَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَمُجْتَنِبِينَ لَهُ.

نبذة من حياة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه

اللَّهُمَّ مَكِّنْ حُبَّكَ فِي قُلُوبِنَا وَأَلْهِمْنَا ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَوَفِّقْنَا لامْتِثَالِ طَاعَتِكَ وَأَمْرِكَ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. نُبْذَةٌ مِنْ حَيَاةِ جَعْفَرَ بنِ أَبِي طَالِبٍ جَعْفَرُ بنُ أَبِي طَالِبٍ هُوَ أَخُو عَلِيِّ بن أَبِي طَالِبٍ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ سُمُوِّ شَرَفِهِ فِي قُرَيْشٍ وَعُلوَ مَنْزِلَتِهِ فِي قَوْمِهِ رَقِيقُ الْحَالِ كَثِيرُ الْعِيَالِ وَقَدْ ازْدَادَتْ حَالُهُ سُوءاً بِسَبَبِ تِلْكَ السَّنَةِ الْمُجْدِبَةِ الَّتِي نَزَلَتِ بِقُرَيْش فَأَهْلَكَتْ الزَّرْعَ وَأَيْبَسَتْ الضَّرْعَ وَأَكَلَ بَعْضُ النَّاسِ الْعِظَامَ الْبَالِيَةَ. وَلَمْ يَكُنْ فِي بَنِي هَاشِمٍ يَوْمَئِذٍ أَيْسَرُ مِنْ مُحَمَّدِ بن عَبْدِ اللهِ وَمِنْ عَمِّهِ الْعَبَّاسِ فَقَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ: ((يَا عَمُّ إِنَّ أَخَاكَ أَبَا طَالِب كَثِيرُ الْعِيَالِ وَقَدْ أَصَابَ النَّاسَ مَا تَرَى مِنْ شِدَّةِ الْقَحْطِ وَمَضَضِ الْجُوعِ فَانْطَلَقْ بِنَا إِلَيْهِ حَتَّى نَحْمِلَ عَنْهُ بَعْضَ عِيَالِهِ فآخُذُ أَنَا فَتَىً مِنْ بَنِيهِ وَتَأْخُذُ أَنْتَ فَتَىً آخرَ فَنَكْفِيهَماَ عَنْهُ)) . فَقَالَ الْعَبَّاسُ: لَقَدْ دَعَوْتَ إِلى خَيْر وَحَضَضْتَ عَلَى بِرٍّ ثُمَّ انْطَلَقَا حَتَّى أَتَيَا أَبَا طَالِبٍ فَقَالا لَهُ: إِنَّا نُرِيدُ أَنْ نُخَفِّفَ عَنْكَ بَعْضَ مَا تَحْمِلُه مِنْ عِبْءِ عَيَالِكَ حَتَّى يَنْكَشِفَ هَذَا الضُّرُّ الذِي مَسَّ النَّاسِ فَقَالَ لَهُمَا: إِذَا تَرَكْتُمَا عَقِيلا فَاصْنَعَا مَا شِئْتُمَا. فَأَخَذَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِياً وَضَمَّهُ إِلَيْهِ وَأَخَذَ الْعَبَّاسُ جَعْفراً وَجَعَلَهُ فِي عِيَالِهِ فَلَمْ يَزَلْ عَلَيَّ مَعَ مَحْمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَعَثَهُ اللهُ بِدِينِ الْحَقِّ وَالْهُدَى فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ آمَنِ بِهِ مِنْ الْفِتْيَانِ. وَبَقِيَ جَعْفَرُ مَعَ عَمِّهِ الْعَبَّاسِ حَتَّى شَبَّ وَأَسْلَمَ وَاسْتَغْنَى عَنْهُ، انْضَمَّ جَعْفَرُ إِلى رَكبِ النُّورِ هُو وَزَوْجَتُهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُنْذُ أَوَّلَ الطَّرِيقِ فَقَدْ أَسْلَمَا عَلى يَدَيْ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعَنْهُمَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَارَ الأَرْقَم وَلَقِيَ جَعْفَرُ وَزَوْجَتُهُ مِنْ أَذَي قُرَيْشٍ وَنَكَالِهَا مَا لَقِيَهُ

الْمُسْلِمُونَ الأَوَّلُونَ فَصَبَرا عَلَى الأَذَى لأَنَّهُمَا كَانَ يَعْلَمَانِ أَنَّ طَرِيقَ الْجَنَّةِ مَفْرُوشٌ بِالأَشْوَاكِ مَحْفُوفٌ بِالْمَكَارِهِ. وَلَكِنْ الذِي كَانَ يَنْغِّصُهُمَا وَيُنَغِّصُ عَلَى إِخْوَانِهِمَا فِي اللهِ أَنَّ قُرَيْشاً كَانَتْ تَحُولُ دُونَهُمْ وَدُونَ شَعَائِرِ الإسْلامِ وَتَحْرِمُهم مِنْ أَنْ يَتَذَوَّقُوا لَذَّة الْعِبَادَةِ فَقَدْ كَانَتْ تَقِفُ لَهُمْ فِي كُلِّ مَرْصَدٍ. عِنْدَ ذَلِكَ اسْتَأْذَنَ جَعْفَرُ بن أَبِي طَالِبٍ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَأَنْ يُهَاجِرَ مَعَ زَوْجَتِهِ وَنَفَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ إِلى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَأَذِنَ لَهُمْ وَهُوَ حَزِينٌ فَقَدْ كَانَ يَعِزُّ عَلَيْهِ أَنْ يُرْغَمَ هَؤُلاءِ الأَطْهَارِ عَلَى مُفَارَقَةِ دِيَارِهِمْ وَمُبَارَحَةِ مَرَاتِعِ طَفَولِتِهِمْ وَدِيَارِهِمْ دُونَ ذَنْبٍ جَنُوهُ إِلا أَنَّهُمْ قَالُوا: رَبُّنَا اللهُ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ يَمْلِكْ مِنْ الْقُوَّةُ مَا يَدْفَعُ بِهِ أَذَى قُرَيْشٍ. مَضَى رَكْبُ الْمُهَاجِرِينَ إِلى أَرْضِ الْحَبَشِةِ وَعَلى رَأْسِهِمْ جَعْفَرُ بن أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَاسْتَقَرُّوا عِنْدَ النَّجَاشِيّ الْمَلِكِ الصَّالِحِ فَتَذَوَّقُوا مِنْذُ أَسْلَمُوا طَعْمَ الأَمْنِ وَاسْتَمْتَعُوا بِحَلاوَةِ الْعِبَادَةِ دُونَ أَنْ يُكَدِّرَ عَلَيْهِمْ مُكَدِّرٌ. لَكِنْ قُرَيْشٌ مَا كَادَتْ تَعْلَمُ بِرَحِيلِ هَذَا النَّفَرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إِلى أَرْضِ الْحَبَشِة وَتَقَف عَلَى مَا نَالُوهُ فِي حِمَى مَلِيكِهَا مِنْ الطَّمَأْنِينَةِ عَلَى دِينِهِمْ، وَالأَمْنِ عَلَى عَقِيدَتِهِمْ، حَتَّى جَعَلَتْ تَأْتَمِرُ بِهِمْ. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: لَمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ لَقِينَا فِيهَا خَيْرَ جِوَارٍ فَأمِنَّا عَلَى دِينَنَا وَعَبَدْنَا اللهَ تَعَالى مِنْ غَيْرِ أَنْ نُؤْذَى. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشٌ ائْتَمَرَتْ بِنَا فَأَرْسَلَتْ إِلى النَّجَاشِيّ رَجُلَيْنِ جَلْدَيْنِ منْ رِجَالِهَا أَحَدُهُمَا عَمْرُو بنِ الْعَاص وَالثَّانِي عَبْدُ اللهِ بن أَبِي رَبِيعَةَ وَبَعَثَتْ

قُرَيْشٌ مَعَهُمَا بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ لِلنَّجَاشِيِّ وَلِبَطَارِقَتِهِ - الْبِطْرِيقُ رَجُلُ الدِّينِ عِنْدَ النَّصَارَى - ثُمَّ أَوْصَتْهُمَا بِأَنْ يَدْفَعَا لِكُلٍّ بِطْرِيقٍ هَدِيَّةً قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَا مَلِكَ الْحَبَشِةِ فِي أَمْرِ الْمُهَاجِرِينَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَمْرُو وَعَبْدُ اللهِ عَلَى الْحَبَشَةِ لَقِيَا بَطَارِقَةَ النَّجَاشِيّ وَدَفَعَا إِلى كلٍ بِطْرِيقٍ هِدِيَّتَهُ. وَقَالا: إِنَّهُ قَدْ حَلَّ فِي أَرْضِ الْمَلِكِ غِلْمَانٌ مِنْ سُفَهَائِنَا صَبَؤُا عَنْ دِينِ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمْ وَفَرَّقُوا كَلِمَةَ قَوْمَهُمْ فَإِذَا كَلَّمْنَا الْمَلِكَ فِي أَمْرِهِمْ فَأَشِيرُوا عَلَيْهِ بَأَنْ يُسَلِّمهُمْ إِلَيْنَا دُونَ أَنْ يَسْأَلَهُمْ عَنْ دِيِنِهِمْ فَإِنَّ أَشْرَافَ قَوْمِهِمْ أَبْصَرُبِهِمْ وَأَعْلَمُ بِمَا يَعْتَقِدُونَ. فَقَالَ الْبَطَارِقَةُ لَهُمَا: نَعَمْ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَيْءٌ أَكْرَهُ لِعَمْرٍو وَصَاحِبِه مَنْ أَنْ يَسْتَدْعِي أَحَداً مِنَّا وَيَسْمَعَ كَلامَهُ ثُمَّ أَتَيَا النَّجَاشِيّ وَقَدَمَا إِلَيْهِ الْهَدَايَا فَاسْتَحْسَنَهَا وَأُعْجِبَ بِهَا. ثُمَّ كَلَّمَاهُ فَقَالا: أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّهُ قَدْ جَاءَ إِلى مَمْلَكَتِكَ طَائِفَةٌ مِنْ شِرَارِ غِلْمَانِنَا قَدْ جَاؤُا بِدِينٍ لا نَعْرِفَهُ نَحْنُ وَلا أَنْتُمْ فَفَارَقُوا دِينَنَا وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكُمْ وَقَدْ بَعَثْنَا إِلَيْكَ أَشْرَافَ قَوْمِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَعْمَامِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ لِتَرُدَّهُمْ إِلَيْهِمْ وَهُمْ أَعْلَمُ النَّاسَ بِمَا أَحْدَثُوهُ مِنْ فِتْنَةٍ. فَنَظَرَ النَّجَاشِيّ إِلى بَطَارِقَتِهِ فَقَالَ الْبَطَارِقَةُ: صَدَقَا أَيُّهَا الْمَلِكُ فَإِنَّ قَوْمَهُمْ أَبْصَرُ بِهِمْ وَأَعْلَمُ بِمَا صَنَعُوا فَرَدَّهُمْ إِلَيْهِمْ لِيَرَوا رَأَيْهَمْ فِيهِمْ فَغَضَبَ النَّجَاشِيّ غَضَباً شَدِيداً مِنْ كَلامِ بَطَارِقَتِهِ. وَقَالَ: لا وَالله لا أُسَلِّمَهُمْ لأَحَدٍ حَتَّى أَدْعُوهُمْ وَأَسْأَلَهُمْ عَمَّا نُسِبَ إِلَيْهِمْ

فَإِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولُ هَذَانِ الرَّجُلانِ أَسْلَمْتُهُم لَهُمَا وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ حَمَيْتُهُمْ وَأَحْسَنْتُ جِوَارَهُمْ مَا جَاوَرُونِي. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: فَأَرْسَلَ النَّجَاشِيُّ إِلَيْنَا يَدْعُونَا لِلِقَائِهِ فَاجْتَمَعْنَا قَبْلَ الذِّهَابِ إِلَيْهِ وَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْض: إِنَّ الْمَلِكَ سَيَسْأَلُكُمْ عَنْ دِينِكُمْ فَاصْدَعُوا بِمَا تُؤْمِنُونَ بِهِ وَلِيَتَكَلَّمَ عَنْكُمْ جَعْفَرُ بن أَبِي طَالِبٍ وَلا يَتَكَلَّمَ أَحَدٌ غَيْرُه. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: ثُمَّ ذَهَبْنَا إِلى النَّجَاشِيّ فَوَجَدْنَاهُ قَدْ دَعَا بَطَارِقَتَهُ فَجَلَسُوا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَقَدْ لَبِسُوا طَيَالِسَتَهُمْ وَاعْتَمَرُوا قَلانِسَهُمْ وَنَشَرُوا كُتُبَهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَوَجَدْنَا عَمْرَو بن الْعَاصِ وَعَبْدَ اللهِ بن رَبِيعَةَ. فَلَمَّا اسْتَقَرَّ بِنَا الْمَجْلِسُ الْتَفَتَ إِلَيْنَا النَّجَاشِيّ وَقَالَ: مَا هَذَا الدِّينُ الذِي اسْتَحْدَثْتُمُوهُ لأَنْفُسِكُمْ وَفَارَقْتُم بِسَبَبِهِ دِينَ قَوْمِكُمْ وَلَمْ تَدْخُلُوا فِي دِينِي؟ فَتَقَدَّمَ مِنْهُ جَعْفَرُ بنُ أَبِي طَالِبٍ وَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْماً أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ وَنُسِيءُ الْجِوَارَ وَيَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ وَبَقِينَا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللهُ إِلَيْنَا رَسُولاً مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ. فَلَمَّا دَعَانَا إِلى اللهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَع مَا كُنَّا نَعْبُدُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ. وَقَدْ أَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَحَقْنِ الدِّمَاءِ - أَيْ حِفْظِهَا وَعَدَم سَفْكِهَا. نَهَانَا عَنْ الْفَوَاحِش وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ

وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَأَنْ نُقِيمَ الصَّلاةِ وَنُؤْتِيَ الزَّكَاةِ وَنَصُومَ رَمَضَانَ. فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَحَلَّلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا فَمَا كَانَ مِنْ قَوْمِنَا أَيُّهَا الْمَلِكُ إِلا أَنْ عَدَوْا عَلَيْنَا فَعَذَّبُونَا أَشَدَّ الْعَذَابِ لِيَفْتِنُونَنَا عَنْ دِينِنَا وَيَرَدُّونَا إِلى عِبَادَةِ الأَوْثَانِ. فَلَمَا ظَلَمُونَا وَقَهَرُونَا وَضَيَّقُوا عَلَيْنَا وَحَالُوا بَيْنَ دِينِنَا خَرَجْنَا إِلى بِلادِكَ وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ وَرَجَوْنَا أَنْ لا نُظْلَمَ عِنْدَكَ. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: فَالْتَفَتَ النَّجَاشِيِّ إِلى جَعْفَرِ بن أَبِي طَالِبٍ وَقَالَ: هَلْ مَعَكَ مِنْ شَيْءٍ مِمَّا جَاءَ بِهِ نَبِيُّكُمْ عَنْ اللهِ؟ قَالَ: نَعَمْ فَقَرَأْ عَلَيْهِ {كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} حَتَّى أَتَمَّ صَدْراً مِنَ السُّورَةِ. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: فَبَكَى النَّجَاشِي حَتَّى أَخْضَلَ لِحَيْتَهُ بِالدُّمُوعِ - أَيْ تَبَلَّلْتَ - وَبَكَى أَسَاقِفَتُهُ حَتَّى بَلَّلُوا كُتُبَهُمْ لِمَا سَمِعُوا مِنْ كَلامِ اللهِ وَهَنَا قَالَ النَّجَاشِيّ: إِنَّ هَذَا الذِي جَاءَ بِهِ نَبِيَّكُمْ وَالذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ الْتَفَتَ النَّجَاشِيّ إِلى عَمْرو وَصَاحِبهِ وَقَالَ لَهُمَا: انْطَلِقَا فَلا وَاللهِ لا أُسَلِّمُهُمْ إِلَيْكُمَا أَبداً، قَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدَ النَّجَاشِيّ تَوَعَّدَنَا عَمْرو بن الْعَاصِ وَقَالَ لِصَاحِبِهِ: وَاللهِ لآتِيَنَّ الْمَلِكَ غَداً وَلأَذْكُرَنَّ لَهُ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا يَمْلأُ صَدْرَهُ غَيْظاً مِنْهُمْ وَيَشْحَن فُؤَادَهُ كُرْهاً لَهُمْ وَلأَحْمِلَنَّه عَلَى أَنْ يَسْتَأْصِلَهُم مِنْ جُذُورِهِمْ. فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بن رَبِيعَةَ: لا تَفْعَلْ يَا عَمْرو فَإِنَّهُمْ مِنْ ذَوِي قُرْبَانَا وَإِنْ كَانُوا قَدْ خَالَفُونَا فَقَالَ لَهُ عَمْرُو: دَعْ عَنْكَ هَذَا وَاللهِ لأَخْبِرَنَّهُ بِمَا يُزَلْزِلُ أَقْدَامَهم وَاللهِ

لأَقُولَنَّ لَهُ إِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عِيسَى بن مَرْيمَ عَبْدٌ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ دَخَلَ عَمْرُو عَلَى النَّجَاشِيّ وَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّ هَؤُلاءِ الذِينَ آوَيْتَهُمْ وَحَمْيَتَهُمْ يَقُولُونَ فِي عِيسَى بن مَرْيَمَ قَوْلاً عَظِيماً فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَسَلْهُمْ عَمَّا يَقُولُونَهُ فِيهِ. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: فَلَّما عَرفنَا ذَلِكَ نَزَلَ بِنَا مِنْ الْهَمِّ وَالْغَمِّ مَا لَمْ نَتَعَرَّضْ لِمِثْلِهِ وَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ: مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابن مَرْيَم إِذَا سَأَلَكُمْ عَنْهُ. فَقُلْنَا: وَاللهِ لا نَقُولُ فِيهِ إِلا مَا قَالَ اللهُ وَلا نَخْرُجُ فِي أَمْرِهْ قَيْدَ أَنْمُلةٍ عَمَّا جَاءَنَا بِهِ نَبِيُّنَا وَلْيَكُنْ بِسَبَبِ ذَلِكَ مَا يَكُونُ. ثُمَّ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنْ يَتَوَلى الْكَلامَ عَنَّا جَعْفَرُ بنُ أَبِي طَالِب فَلَمَّا دَعَانَا النَّجَاشِيّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ فَوَجَدْنَا عِنْدَهُ بَطَارِقَتَه عَلَى الْهَيْئةِ الِّتِي رَأَيْنَاهُمْ عَلَيْهَا مِنْ قَبْلُ. وَوَجَدْنَا عِنْدَهُ عَمْرَو بنَ الْعَاصِ وَصَاحِبَهُ فَلَمَّا صِرْنَا بَيْنَ يَدَيْهِ بَادَرَنَا بِقَوْلِهِ: مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى بن مَرْيَمَ؟ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرُ بن أَبي طَالِبٍ: إِنَّمَا نَقُولُ مَا جَاءِ بِهِ نَبِينا فَقَالَ النَّجَاشِيّ: وَمَا الذِي يَقُولُ فِيهِ؟ فَأَجَابَهُ جَعْفَرُ يَقُولُ عَنْهُ: «إِنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولِهِ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ الَّتِي أَلْقَاهَا إِلى مَرْيَمْ الْعَذْرَاءَ الْبَتُولَ» . فَلَمَّا سَمِعَ النَّجَاشِيّ قَوْلَ جَعْفَرٍ ضَرَبَ بِيَدِهِ الأَرْضَ وَقَالَ: وَالله مَا خَرَجَ عِيسَى بن مَرْيَمَ عَمَّا جَاءَ بِهِ نَبِيَّكُمْ مِقْدَارَ شَعْرَةٍ. فَتَنَاخَرَتْ الْبَطَارِقَةُ مِنْ حَوْلِ النَّجَاشِيّ اسْتِنْكَاراً لِمَا سَمِعُوا مِنْهُ فَقَالَ: وَإِنْ نَخَرْتُمْ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا وَقَال: اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ آمِنُونَ، مَنْ سَبَّكُمْ غَرِمَ وَمَنْ تَعَرَّضَ لَكُمْ عُوقِبَ وَوَاللهِ مَا أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لِي جَبَلٌ مِنْ ذَهَبٍ وَأَنْ يُصَابَ أَحَدٌ مِنْكُمْ.

ثُمَّ نَظَرَ إِلى عَمْرو وَصَاحِبِهِ وَقَالَ: رُدُّوا عَلَى هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ هَدَايَاهُمَا فَلا حَاجَةَ لِي بِهَا. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: فَخَرَجَ عَمْرُو وَصَاحِبُه مَكْسُورِينَ مَقْهُورِينَ يَجُرَّانِ أَذْيَالَ الْخَيْبَةِ، أَمَّا نَحْنُ فَقَدْ أَقَمْنَا عِنْدَ النَّجَاشِيّ بِخَيْرِ دَارٍ مَعْ أَكْرَمِ جَارٍ. أَمضَى جعْفَرُ بن أبي طَالِبٍ هُوَ وَزَوْجَتُهُ فِي رِحَابِ النَّجَاشِي عَشْرَ سَنَوَاتٍ آمِنِينَ مُطْمَئِنِّينَ وَفِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ لِلْهِجْرَةِ غَادَرُوا بِلادَ الْحَبَشَةِ مَعَ نَفَرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إِلى الْمَدِينَةِ فَلَمَّا بَلَغُوهَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِداً مِنْ خَيْبَر بَعْد أَنْ فَتَحَهَا اللهُ لَهُ فَفَرِحَ بِلِقَاءِ جَعْفَرَ فَرَحاً شَدِيداً حَتَّى قَالَ: «مَا أَدْرِي بَأَيُّهَمَا أَنَا أَشَدُّ فَرَحاً أَبِفَتْحِ خَيْبَرَ أَمْ بِقُدُومِ جَعْفَرٍ» . وَلَمْ تَكُنْ فَرْحَةُ الْمُسْلِمِينَ وَالْفُقَرَاءِ خَاصَةً بِعَوْدَةِ جَعْفَرٍ بَأَقَلَّ مِنْ فَرْحَةِ الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ فَقَدْ كَانَ جَعْفَرُ شَدِيدَ الْحَدْبِ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَالْمَسَاكِينِ كَثِيرَ الْبِرِّ بِهِمْ حَتَّى كَانَ يُلْقَّبُ بَأَبِي الْمَسَاكِينِ. أَخْبَرَ عَنْهُ أَبُو هُرَيْرَةَ فَقَالَ: كَانَ خَيْرَ النَّاسِ لَنَا مَعْشَرَ الْمَسَاكِينِ جَعْفَرُ بنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَدْ كَانَ يَمْضِي بِنَا إِلى بَيْتِهِ فَيُطْعِمُنَا مَا يَكُونُ عِنْدَهُ حَتَّى نَفَدَ طَعَامُهُ أَخْرَجَ لَنَا الْعُكَّةَ الَّتِي يُوضَعُ فِيهَا السَّمْنُ وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ فَنَشُّفُهَا وَنَلْعَقُ مَا عَلِقَ بِدَاخِلِهَا. وَفِي أَوَائِلِ السَّنَةِ الثَّامِنَةِ لِلْهِجْرَةِ جَهَّزَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشاً لِمُنَازَلَةِ الرُّومِ فِي بِلادِ الشَّامِ وَأَمَّرَ عَلَى الْجَيْشِ زَيْدَ بنَ حَارِثة وَقَالَ: «إِنْ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ فَإِنْ قُتِلَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللهِ ابن رَوَاحَةَ فَإِنْ قُتِلَ عَبْدُ اللهِ بن رَوَاحَةِ فَلَيْخَتَرْ الْمُسْلِمُونَ لأَنْفُسِهِمْ أَمِيراً مِنْهُمْ» .

فَلَمَّا وَصَلَ إِلى مُؤْتَةَ وَهِيَ قَرْيَةٌ وَاقِعَةٌ عَلَى مَشَارِفِ الشَّامِ فِي الأُرْدَن وَجَدُوا أَنَّ الرُّومَ قَدْ أَعَدُّوا لَهُمْ مائَةَ أَلْفٍ تُعَاونُهم مَائةُ أَلْفٍ أُخْرَى مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ مِنْ قَبَائِلِ لَخْمٍ وَجُذَامٍ وَقُضَاعَة وَغَيْرِهَا. أَمَّا جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ ثَلاثَةَ آلافٍ وَمَا أَنْ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَدَارَتْ رَحى الْحَرْبِ حَتَّى خَرَّ زَيْدُ بنُ حَارِثَةَ صَرِيعاً مُقْبِلاً غَيْرَ مُدْبِرٍ. فَمَا أَسْرَعَ أَنْ وَثَبَ جَعْفَرُ بنُ أَبِي طَالِبٍ عَنْ ظَهْرِ فَرَسِهِ ثُمَّ عَقَرَهَا حَتَّى لا يَنْتَفِعَ بِهَا الأَعْدَاءُ بَعْدهُ ثُمَّ حَمَلَ الرَّايَةِ وَدَخَلَ فِي صُفُوفِ الرُّومِ وَهُوَ يَنْشِدُ: يَا حَبَّذَا الْجَنَّةُ وَاقْتِرَابُهَا طَيِّبَةٌ وَبَارِدٌ شَرَابُهَا وَالرُّومُ رُومٌ قَدْدَنَا عَذَابُهَا كَافِرَةٌ بَعِيدَةٌ أَنْسَابُهَا عَلَيَّ إِذْ لاقَيْتُهَا ضرَابُهَا وَظَلَّ يَجُولُ بِسَيْفِهِ فِي صُفُوفِهِمْ وَيَصُولُ حَتَّى أَصَابَتْهُ ضَرْبَةٌ قَطَّعَتْ يَمِينَهُ فَأَخَذَ الرَّايةَ بِشِمَالِهِ فَمَا لَبِثَ أَنْ أَصَابَتْهُ ضَرْبَةٌ أُخْرَى قَطَعَتْ شِمَالَهُ فَأَخَذَ الرَّايَةَ بِصَدْرِهِ وَعَضُدَيْهِ فَمَا لَبِثَ أَنْ أَصَابَتْهُ ضَرْبَةٌ ثَالِثَةٌ قَسَمَتْهُ نِصْفَيْنِ. فَأَخَذَ الرَّايَةُ عَبْدُ اللهِ بنُ رَوَاحَةَ فَمَا زَالَ يُقَاتِلُ حَتَّى لَحِقَ بِصَاحِبَيْهِ. بَلَغَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَصْرَعَ قُوَّادِهِ الثَّلاثَةِ فَحزِنَ عَلَيْهِمْ أَشَدَّ الْحُزْنِ وَأَمَضَّهُ وَانْطَلَقَ إِلى بَيْتِ ابن عَمِّهِ جَعْفَرِ بن أَبِي طَالِبٍ فَوَجَدَ زَوْجَتَهُ أَسْمَاءَ تَتَأَهَّبُ لاسْتِقْبَالِ زَوْجِهَا الْغَائِبِ قَدْ عَجَنَتْ عَجِينَهَا وغسلتْ بَنِيهَا وَدَهَنَتْهُمْ وَأَلْبَسَتْهُمْ.

قصة لأسيد بن الحضير رضي الله عنه

قَالَتْ أَسْمَاءُ: فَلَمَّا أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَيْتُ غُلالَةً مِنْ الْحُزْنِ تُوَشِّحُ وَجْهَهُ الْكَرِيمَ. فَسَرَتْ الْمَخَاوِفُ فِي نَفْسِي غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَشَأْ أَنْ أَسْأَلَهُ عَنْ جَعْفَرَ مَخَافَةَ أَنْ أَسْمَعَ مِنْهُ مَا أَكْرَهُ فَدَعَوْتُهُمْ لَهُ فَهَبُّوا نَحْوَهُ فَرِحِينَ وَأَخَذُوا يَتَزَاحَمُونَ عَلَيْهِ كُلٌّ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَأْثِرَ بِهِ. فَأَكَبَّ عَلَيْهِمْ وَجَعَلَ يَشُمُّهُم وَعَيْنَاهُ تَذْرَفَانِ مِن الدَّمْعِ فَقُلْتَ: يَا رَسُولُ بَأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي مَا يُبْكِيكَ أَبَلَغَكَ عَنْ جَعْفَرٍ وَصَاحِبَيْه شَيْءٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ لَقَدْ اسْتَشْهَدُوا هَذَا الْيَوْمَ» . عِنْدَ ذَلِكَ غَاضَتْ الْبَسْمَةُ مِنْ وُجُوهِ الصِّغَارِ لَمَّا رَأَوْا وَسَمِعُوا أُمَّهُمْ تَبْكِي وَتَنْشَجُ وَجَمَدُوا أَمَاكِنَهُمْ كَأَنَّ عَلَى رُؤْسِهِمْ الطَّيْرَ. أَمَّا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَضَى وَهُوَ يُكَفْكفُ عَبَرَاتِهِ وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ اخْلِفْ جَعْفَراً فِي وَلَدِه اللَّهُمَّ اخْلِفْ جَعْفَراً فِي أَهْلِهِ» . ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ رَأَيْتُ جَعْفَراً فِي الْجَنَّةِ لَهُ جَنَاحَانِ مُضَرَّجَانِ بِالدِّمَاءِ» . اللَّهُمَّ ارْحَمْ غُرْبَتَنَا فِي الْقُبُورِ وَآمِنَّا يَوْمَ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. انْتَهَى مِنْ صُوَرٍ مِنْ حَيَاةِ الصَّحَابَةِ بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ قصة أسيد بن الحضير قَدِم الْفَتَى الْمَكِّيّ مُصْعَبُ بنُ عَمَيْرٍ إِلى يَثْرِبَ فَنَزَلَ عَلَى أَسْعَدِ بن زُرَارَةَ أَحَدِ أَشْرَافِ الْخَزْرَج وَاتَّخَذَ دَارَهُ مَقَاماً لِنَفْسِهِ وَمُنْطَلِقاً لِبَثِّ دَعْوَتِه إِلى اللهِ

وَالتَّبْشِيرِ بِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَخَذَ أَبْنَاءُ يَثْربَ يُقْبَلُونَ عَلَى مَجَالِس الدَّاعِيَةِ مُصْعَبِ بن عُمَيْرٍ إِقْبَالاً كَبِيراً وَكَانَ يُرَغِّبَهُمْ فِيهِ عُذوبةُ حَدِيثِهِ ووُضُوحُ حُجَّتِه وَرِقَّةُ شَمَائِلِه وَوَضَأةُ الإِيمَان الَّتِي تُشْرَقْ فِي وَجْهِهِ. وَكَانَ يَجْذِبُهم إِلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ فَوْقَ ذَلِكَ كُلِّهِ هُوَ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الذِي كَانَ يَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ السَّاعَةِ بَعْدَ السَّاعَةِ بَعْضاً مِنْ آيَاتِهِ الْبَيِّنَاتِ بِصَوْتِهِ الْحَسَنِ الْجَمِيلِ الرَّخِيمِ وَنَبَرَاتِهِ الْحُلْوَةِ الآسِرَةِ فَيَسْتَلِينُ بِهَا الْقُلُوبَ الْقَاسِيَةَ وَيَسْتَدِرَّ بِهَا الدَّمُوعَ الْعَاصِيَةَ فَلا يَنْفَضُّ الْمَجْلِسُ مِنْ مَجَالِسِهِ إِلا عَنْ أُنَاسٍ أَسْلَمُوا وَانْضَمُّوا إِلى كَتَائِبِ الإِيمَانِ. وَفِي ذَاتِ يَوْمٍ خَرَجَ سَعْدُ بنُ زُرَارَة بِمُصْعَبِ بنِ عُمَيْر لِيَلْقَى جَمَاعَة مِنْ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَل وَيَعْرُضَ عَلَيْهِمْ الإِسْلامَ فَدَخَلا بُسْتَاناً مِنْ بَسَاتِينَ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلَ وَجَلَسَا عِنْدَ بِئْرِهَا الْعَذْبِةِ فِي ظِلالِ النَّخِيلِ فَاجْتَمَع عَلَى مُصْعَبٍ جَمَاعَةٌ قَدْ أَسْلَمُوا وَآخَرُون يُرِيدُونَ أَنْ يَسْمَعُوا فَانْطَلَقَ يَدْعُو وَيُبَشِّرُ وَالنَّاسُ إِلَيْهِ مُنْصِتُونَ. فَجَاءَ مَنْ أَخْبَرَ أُسَيْدَ بنَ الْحَضَيْر وَسَعْدَ بنَ مُعَاذٍ وَكَانَا سَيِّدَا الأَوْسِ بَأَنَّ الدَّاعِيَةَ الْمَكِّيَّ قَدْ نَزَلَ قَرِيباً مِنْ دِيَارِهِمَا وَأَنَّ الذِي جَرَّأَهُ عَلَى ذَلِكَ أَسْعَدُ بنُ زُرَارَةَ مُسْتَغِلاً قَرَابَتَهُ مِنْ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ إِذْ كَانَ ابْنَ خَالَتِه. فَقَالَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ لأُسَيْدِ بنِ الْحُضَيْرِ: لا أَبَا لَكَ يَا أُسَيْدُ انْطَلِقْ إِلى هَذَا الْفَتَى الْمَكِّيّ الذِي جَاءَ إِلى بُيُوتِنَا لِيُغْرِيَ ضُعَفَاءَنَا وَيُسَفِّه آلِهَتَنَا وَازْجُرْهُ وَحَذِّرْهُ مِنْ أَنْ يَطَأْ دِيَارِنَا بَعْدَ الْيَوْم. ثُمَّ أَرْدَفَ يَقُولُ: وَلَوْلا أَنَّهُ فِي ضِيَافَةِ ابنِ خَالِي أَسْعَدِ بنِ زُرَارَةَ لَكَفَيْتُكَ

ذَلِكَ وَأَخَذَ أُسَيْدٌ حَرْبَتَه وَمَضَى نَحْوَ الْبُسْتَانِ فَلَمَّا رَآهُ سَعْدُ بنُ زُرَارَةٍ قَالَ لِمُصْعَبٍ: وَيْحَكَ يَا مُصْعَبُ هَذَا سَيِّدُ قَوْمِهِ وَأَرْجَحُهُمْ عَقْلاً وَأَكْمَلُهُمْ كَمَالاً أُسَيْدُ بنُ الْحُضَيْرِ فَإِنْ يُسْلِمْ يَتْبَعْه فِي إِسْلامِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ فَأَصْدَقِ اللهِ فِيهِ وَأَحْسِنْ التَّأَتِي لَهُ - أَيْ عَرْضَ الأَمْرِ عَلَيْهِ -. وَقَفَ أُسَيْدُ بنُ الْحُضَيْر عَلَى الْجَمْعِ وَالْتَفَتَ إِلى مُصْعَبٍ وَصَاحِبِه وَقَالَ: مَا جَاءَ بِكُمَا إِلى دِيَارِنَا وَأَغْرَاكُمَا بِضُعَفَائِنَا اعْتَزِلا هَذَا الْحَيَّ إِنْ كَانَتْ لَكُمَا حَاجَةٌ بِنَفْسَيْكُمَا. فَالْتَفَتْ مُصْعَبُ إِلى أُسَيْدٍ بَوَجْهِهِ الْمُشْرِقِ بِنُورِ الإِيمَانِ وَخَاطَبَهُ بِلَهْجَتِهِ الصَّادِقَةِ وَقَالَ لَهُ: يَا سَيَّدَ قَوْمِه هَلْ لَكَ فِي خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْلِسُ إِلَيْنَا فَتَسْمَعَ مِنَّا فَإِنْ رَضِيتَ مَا قُلْنَاهُ قَبلْتَهُ وَإِنْ لَمْ تَرْضَهُ تَحَوَّلَنَا عَنْكُمْ وَلَمْ نَعُدْ إِلَيْكُمْ فَقَالَ أُسَيْدٌ: لَقَدْ أَنْصَفْتَ وَرَكزَ رُمْحَهُ فِي الأَرْضِ وَجَلَسَ. فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ مُصْعَبٌ يَذْكُرُ لَهُ حَقِيقَةَ الإِسْلامِ وَيَقْرَأُ عَلَيْهِ شَيْئاً مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ فَأَشْرَقَتْ أَسَارِيرُهُ وَأَشْرَقَ وَجْهُه وَقَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا الذِي تَقُولُ وَمَا أَجْمَلَ الذِي تَتْلُو كَيْفَ تَصْنَعُونَ إِذَا أَرَدْتُمْ الدُّخُولَ فِي الإِسْلام. فَقَالَ مُصْعَبُ: تَغْتَسِلُ وَتُطَهِّرُ ثِيَابَكَ وَتَشْهَدُ أَنْ لا إِله إِلا اللهَ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولَ اللهِ وَتُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَقَامَ إِلى الْبِئْرِ فَتَطَهَّرَ بِمَائِهَا وَشَهِدَ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولَ اللهِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فَانْضَمَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلى كَتَائِبِ الإِسْلامِ. وَكَانَ فَارِساً قَارِئاً كَاتِباً فِي مُجْتَمَع نَدَرَ فِيهِ مَنْ يَقْرَأْ أَوْ يَكْتُبُ وَكَانَ إِسْلامُه سَبَباً فِي إِسْلامِ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ وَكَانَ إِسْلامُهُمَا سَبَباً فِي أَنْ تُسْلِمَ جمُوعٌ كَثِيرَةٌ مِنْ الأَوْسِ وَأَنْ تُصْبِحَ الْمَدِينَةِ مُهَاجِراً لأَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَوْئِلاً وَقَاعِدَةً لِدَوْلَةِ الإِسْلامِ الْعُظْمَى.

وَقَدْ أُولِعَ أُسَيْدُ بنُ الْحُضَيْر بِالْقُرْآنِ مُنْذُ سَمَعَهُ مِنْ مُصْعَبِ بن عُمَيْرٍ وَلَعَ الْمُحِبِّ بِحَبِيبِهِ وَأَقَبْلَ عَلَيْهِ إِقْبَالَ الظَّامِئ عَلَى الْمَوْرِدِ الْعَذْبِ فِي الْيَوْمِ الْقَائِض وَجَعَلَهُ شُغْلَهُ الشَّاغِلَ فَكَانَ لا يُرَى إِلا مُجَاهِداً غَازِياً فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ عَاكِفاً يَتْلُو كِتَابَ اللهِ. وَكَانَتْ تَطِيبُ لَهُ الْقِرَاءَةُ أَكْثَرَ مَا تَطِيبُ إِذَا سَكَنَ اللَّيْلُ وَنَامَت الْعُيُونُ وَصَفَت النُّفُوسُ وَكَانَ الصَّحَابَةُ يَتَحَيَّنُونَ أَوْقَاتَ قِرَاءَتِهِ وَيَتَسَابَقُونَ إِلى سَمَاعِ تِلاوَتِه وَقَدْ اسْتَعْذَبَ أَهْلُ السَّمَاءِ قِرَاءَتَهُ كَمَا اسْتَعْذَبَهَا أَهْلُ الأَرْضِ. فَفِي جَوْفِ لَيْلَةٍ مِنْ اللَّيَالِي كَانَ أُسَيْدُ بن الْحُضَيْرِ جَالِساً فِي مِربَدِه وَابْنُه يَحْيَى نَائِمٌ جَانِبه وَفَرَسُهُ قَدْ أَعَدَّهَا لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ مُرْتَبَطَة غَيْرَ بَعِيدَةٍ عَنْهُ وَكَانَ اللَّيْلُ سَاجِياً فَتَاقَتْ نَفْسُ أُسَيْدِ بن الْحُضَيْرِ لِلْقِرَاءَةِ. فَشَرَعَ يَقْرَأُ: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} . فَإِذَا بِهِ يَسْمَعُ فَرَسَهُ وَقَدْ جَالَتْ جَوْلَةً كَادَتْ تُقَطِّعُ بِسَبَبِهَا رِبَاطَهَا فَسَكَتَ فَسَكَنَتْ الْفَرَسُ وَقَرَّتْ فَعَادَ يَقْرَأْ: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدىً مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} فَجَالَتْ جَوْلَةً أَشَدَّ مِنْ الَّتِي قَبْلَهَا فَسَكَتَ فَسَكَنَتْ فَخَافَ عَلَى ابْنِهِ يَحْيَى أَنْ تَطَأَهُ. فَمَضَى إِلَيْهِ لِيُوُقِظَهُ وَهُنَا حَانَتْ مِنْهُ الْتِفَاتَةٌ نَحْوَ السَّمَاءِ فَرَأى غَمَامَةً كَالْمِظَّلةِ لَمْ تَرَ الْعَيْنُ أَرْوَعَ وَلا أَبْهَى مِنْهَا قَطُّ وَقَدْ عُلِّقَ بِهَا أَمْثَالُ الْمَصَابِيحِ فَمَلأَت الآفَاقَ ضِيَاءً وَسَنَاءً وَهِيَ تَصْعَدُ إِلى السَّمَاءِ حَتَّى غَابَتْ عَنْ عَيْنَيْهِ. فَلَمَّا أَصْبَحَ مَضَى إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَصَّ عَلَيْهِ خَبَرَ

مَا رَأَىَ فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تِلْكَ الْمَلائِكَةَ تَسْتَمِعُ لَكَ يَا أُسَيْدُ وَلَوْ أَنَّكَ مَضَيْتَ فِي قِرَاءَتِكَ لَرَآهَا النَّاسُ)) . وَكَانَ يُحِبُّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُبّاً شَدِيداً وَكَانَ كَثِيراً مَا يَتَمَنَّى أَنْ يَمَسَّ جَسَدُهُ جَسَدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ أُتِيحَ لَهُ ذَلِكَ مَرَّةً فَفِي ذَاتَ يَوْمٍ كَانَ أُسَيْدُ يُطْرِفُ النَّاسَ بِمُلَحِهِ فَغَمَزَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَاصِرَتِهِ بِيَدِهِ كَأَنَّهُ يَسْتَحْسِنُ مَا يَقُولُ فَقَالَ أُسَيْدٌ: أَوْجَعْتَنِي يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((اقْتَصَّ مِنِّي)) . فَقَالَ أُسَيْدٌ: إِنَّ عَلَيْكَ قَمِيصاً وَلَمْ يَكُنْ عَلَيَّ قَمِيصٌ حِينَ غَمَزْتَنِي. فَرَفَعَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَمِيصَهُ عَنْهُ فَاحْتَضَنَهُ أُسَيْدٌ وَجَعَلَ يُقَبِّلُ مَا بَيْنَ إبطِهِ وَخَاصِرَتِهِ وَهُوَ يَقُولُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهَا لَبُغْيَتِي أَتَمَنَّاهَا مُنْذُ عَرِفْتُكَ وَقَدْ بَلَغْتُهَا الآنَ. وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَادِلُ أُسْيَداً حُبّاً بِحُبٍّ وَيَحْفَظُ لَهُ سَابِقَتَه فِي الإِسْلامِ وَذَوْدَهُ عَنْهُ يَوْمَ أُحُدٍ حَتَّى إِنَّهُ طُعِنَ سَبْعَ طَعَنَاتٍ مُمِيتَاتٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِفُ لَهُ قَدْرَهُ وَمَنْزِلَتَه فِي قَوْمِهِ فَإِذَا شَفَعَ فِي أَحَدٍ مِنْهُمْ شَفَّعَهُ فِيهِ حَدَّثَ أُسَيْدٌ قَالَ: جِئْتُ إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ لَهُ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ الأَنْصَارِ فِيهِمْ حَاجَة وَجُلُّ ذَاكَ الْبَيْتِ نِسْوَةٌ. فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ لَقَدْ جِئْتَنَا يَا أُسَيْدُ بَعْدَ أَنْ أَنْفَقْنَا مَا بَأَيْدِينَا فَإِذَا سَمِعْتَ بِشَيْءٍ قَدْ جَاءَنَا فَاذْكُرْ لَنَا أَهْلَ ذَلِكَ الْبَيْتِ.

أبيات للشيخ عبد الرحمن الناصري السعدي في الحث على ذكر الله ويليها قصة لأبي الدرداء

فَجَاءَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَالٌ مِنْ خَيْبَر فَقَسَّمَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَعْطَى الأَنْصَارَ وَأَجْزَلَ وَأَعْطَى أَهْلَ ذَلِكَ الْبَيْتِ وَأَجْزَلَ فَقُلْتُ لَهُ: جَزَاكَ اللهُ عَنْهُمْ خَيراً يَا نَبِيَّ اللهِ فَقَالَ: ((وَأَنْتُمْ مَعْشَر الأَنْصَارِ جَزَاكُمْ اللهُ أَطْيَبَ الْجَزَاءِ فَإِنَّكُمْ مَا عَلِمْتُ أَعِفَّةٌ صُبَّرٌ وَإِنَّكُمْ سَتَلقَونْ أَثَرَةً بَعْدِي فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي وَمَوْعِدُكم الْحَوْضُ)) . قَالَ أُسَيْدُ فَلَمَّا آلَت الْخِلافَةُ إِلى عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَسَّمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَالاً وَمَتَاعاً فَبَعَثْ إِلى بِحُلَّةٍ فَاسْتَصْغَرْتُهَا فَبَيْنَمَا أَنَا فِي الْمَسْجِدِ إِذْ مَرَّ بِي شَابٌّ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَيْهِ حُلةٌ سَابِغَةٌ مِنْ تِلْكَ الْحُلَلِ الَّتِي أَرْسَلَهَا إِلى عُمَرَ وَهُوَ يَجُرُّهَا عَلَى الأَرْضِ جَرَّا. فَذَكَرْتُ لِمَنْ مَعِي قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّكُمْ سَتَلقَونْ أَثَرَةً مِنْ بَعْدِي)) . وَقُلْتُ: صَدَقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلَقَ رَجُلٌ إِلى عُمرَ وَأَخْبَرَهُ بِمَا قُلْتُ فَجَاءَنِي مُسْرِعاً وَأَنَا أُصَلِّي فَقَالَ: صَلِّ يَا أُسَيْدُ فَلَمَّا قَضَيْتُ صَلاتِي أَقْبَلَ عَلَيَّ وَقَالَ: مَاذَا قُلْتَ؟ . فَأَخْبَرْتُه بِمَا رَأَيْتُ وَبِمَا قُلْتُ فَقَالَ: عَفَا اللهُ عَنْكَ تِلْكَ حُلَّةٌ بَعَثْتُ بِهَا إِلى فُلانٍ وَهُوَ أَنْصَارِي عَقبيّ بَدْرِيّ أُحُدِيّ فَشَرَاهَا مِنْهُ هَذَا الْفَتَى الْقُرَشِيّ وَلَبِسَهَا فَقَالَ أُسَيْدُ بنُ الْحُضَيْرِ: وَاللهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَقَدْ ظَنَنْتُ أَنَّ ذَلِكَ لا يَكُونُ فِي زَمَانِكَ وَلَمْ يَعِشْ أُسَيْدٌ بَعْدَ ذَلِكَ طَوِيلاً فَقَدْ اخْتَارَهُ اللهُ إلى جِوَارِهِ فِي عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا. وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ. ولشيخنا عبد الرحمن الناصر السعدي رحمه الله وَكُنْ ذَاكِراً للهِ فِي كُلِّ حَالِةٍ فَلَيْسَ لِذِكْرِ اللهِ وَقْتٌ مُقَيَّدُ فَذِكْرُ إِلَهِ الْعَرْشِ سِرّاً وَمُعْلِناً يُزِيلُ الشَّقَا وَالْهَمَّ عَنْكَ وَيَطْرُدُ وَيَجْلِبُ لِلْخَيْرَاتِ دُنْياً وَآجِلاً

.. وَإِنْ يَأْتِكَ الْوَسْوَاسُ يَوْماً يُشَرِّدُ فَقَدْ أَخْبَرَ الْمُخْتَارُ يَوْماً لِصَحْبِهِ بَأَنَّ كَثِيرَ الذِّكْرِ فِي السَّبْقِ مُفْرَدُ وَوَصَّى مُعَاذاً يَسْتَعِينُ إِلهَهُ عَلَى ذِكْرِهِ وَالشُّكْرِ بِالْحُسْنِ يَعْبَدُ وَأَوْصَى لِشَخْصٍ قَدْ أَتَى لِنَصِيحَةٍ وَقَدْ كَانَ فِي حَمْلِ الشَّرَائِعِ يَجْهَدُ بَأَنْ لا يَزَلْ رَطْْباً لِسَانُكَ هَذِهِ تُعِينُ عَلَى كُلِّ الأُمُورِ وَتُسْعِدُ وَأَخْبَرَ أَنَّ الذِّكْرَ غَرْسٌ لأَهْلِهِ بِجَنَّاتِ عَدْنٍ وَالْمَسَاكِنُ تُمْهَدُ وَأَخْبَرَ أَنَّ اللهَ يَذْكُرُ عَبْدَهُ وَمَعْهُ عَلَى كُلِّ الأُمُورِ يُسَدِّدُ وَأَخْبَرَ أَنَّ الذِّكْرَ يَبْقَى بِجَنَّةٍ وَيَنْقَطِعُ التَّكْلِيفُ حِينَ يُخَلَّدُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي ذِكْرِهِ غَيْرُ أَنَّهُ طَرِيقٌ إِلى حُبِّ الإِلهِ وَمُرْشِدُ وَيَنْهَى الْفَتَى عَنْ غِيْبَةٍ وَنَمِيمَةٍ وَعَنْ كُلِّ قَوْلٍ لِلدِّيَانَةِ مُفْسِدُ

لَكَانَ لَنَا حَظٌّ عَظِيمٌ وَرَغْبَةٌ بِكَثْرَةِ ذِكْرِ اللهِ نِعْمَ الْمُوَحَّدِ وَلَكِنَّنَا مِنْ جَهْلِنَا قَلَّ ذِكْرُنَا كَمَا قَلَّ مِنَّا لِلإلهِ التَّعَبُّدُ اللَّهُمَّ أَذِقْنَا عَفْوَكَ وَغُفْرَانَكَ وَاسْلُكْ بِنَا طَرِيقَ مَرْضَاتِكَ، وَعَامِلَنَا بِلُطْفِكَ وَإِحْسَانِكَ وَاقْطَعْ عَنَّا مَا يُبْعِدُ عَنْ طَاعَتِكَ، اللَّهُمَّ وَثَبِّتْ مَحَبَّتِكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوّهَا وَيَسِّرْ لَنَا مَا يَسَّرْتَهُ لأَوْلِيَائِكَ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. قصة أبي الدرداء أَبُو الدَّرْدَاءِ كُنْيَةُ عُوَيْمِر بن مَالِك الْخَزْرَجِيّ وَمِن قصته أنه كان له صَنَمٌ نَصَبَهُ في أَشْرَفِ مَكَانٍ مِن بَيْتِهِ فَنَهَضَ إليه يَوْماً فَحَيَّاهُ وَضَمَّخَهُ بَأَنْفس مَا حَوَاهُ مَتْجَرُه الْكَبِيرُ مِنْ الطَّيْبِ ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِ ثَوْباً جَدِيداً مِنْ فَاخِرِ الْحَرِيرِ. وَلَمَّا ارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ غَادَرَ أَبُو الدَّرْدَاءِ مَنْزِلَهُ يُرِيدُ الذَّهَابَ إِلى مَحَلِّ تَجَارَتِه فَإِذَا شَوَارِعُ الْمَدِينَةِ وَطُرُقَاتُهَا تَضِيقُ بِأَتْبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ عَائِدُونَ مِنْ بَدْرٍ وَأَمَامَهم أَفْوَاجُ الأُسَرَاءِ مِنْ قُرَيْشٍ. فَأَعْرَضَ أَبُو الدَّرْدَاءَ عَنْهُمْ وَأَقْبَلَ عَلَى فَتَىً مِنْهُمْ وَسَأَلَهُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بن رَوَاحَةَ فَطَمَّنَهُ الْفَتَى عَلَيْهِ لَمِا كَانَ يَعْلَمُه مِنْ الصَّدَاقَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ.

فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلامُ بَادَرَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللهِ بنُ رَوَاحَةَ وَظَلَّ أَبُو الدَّرْدَاءِ عَلَى شِرْكِهِ وَلَمْ يَقْطَعْ ابنُ رَوَاحَةَ الصِّلَةَ الَّتِي بَيْنَهُمَا بَلْ ظَلَّ يَتَعَهَّدَهُ بِالزِّيَارَةِ وَيَدْعُوهُ إِلى الإِسْلامِ وَيَحَثُّهُ عَلَيْهِ وَيُرَغِّبُهُ فِيهِ. وَعِنْدَمَا وَصَلَ أَبُو الدَّرْدَاءِ إِلى مَتْجَرِهِ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي اتَّجَهَ عَبْدُ اللهِ بن رَوَاحَةَ إِلى مَنْزِلِ أَبِي الدَّرْدَاءِ فَلَمَّا وَصَلَهُ رَأَى أُمَّ الدَّرْدَاءِ فِي الْفِنَاءِ - أَيْ سَاحَةِ الْبَيْتِ - فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكِ يَا أَمَةَ اللهِ فَقَالَتْ: وَعَلَيْكَ السَّلامُ يَا أَخَا أَبي الدَّرْدَاءِ. فَقَالَ: أَيْنَ أَبُو الدَّرْدَاءِ؟ فَقَالَتْ: ذَهَبَ إِلى مَتْجَرِهِ فَقَالَ: أَتَأَذَنِينَ؟ فَقَالَتْ: عَلَى الرَّحْبِ وَالسَّعَةِ وَأَفْسَحَتْ لَهُ الطَّرِيقَ وَمَضَتْ إِلى حُجْرَتِهَا وَانْشَغَلَتْ عَنْهُ بِإِصْلاحِ شَأْنِ بَيْتِهَا وَرِعَايَةِ أَطْفَالِهَا. دَخَلَ عَبْدُ اللهِ بنُ رَوَاحَةَ إِلى الْحُجُرَةِ الَّتِي وَضَعَ فِيهَا أَبُو الدَّرْدَاءِ صَنَمَهُ وَأَخْرَجَ قَدُّوماً أَحْضَرَهُ مَعَهُ وَمَالَ إِلى الصَّنَمِ وَقَطَّعَهُ بِهِ وَكَسَّرَهُ وَهُوَ يَقُولُ: أَلا كُلُّ مَا يُدْعَى مَعَ اللهِ بَاطِلُ. ثُمَّ غَادَرَ الْبَيْتَ ثُمَّ دَخَلَتْ أُمَّ الدَّرْدَاءِ إِلى الْحُجُرَةِ الَّتِي فِيهَا الصَّنَمُ فَرَأَتْهُ مُكَسّراً عَلَى الأَرْضِ فَقَالَتْ: أَهْلَكْتَنِي يَا ابْنَ رَوَاحَةَ. وَلَمَّا عَادَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَأَى امْرَأَتَهُ جَالِسَةً عِنْدَ بَابِ الْحُجُرَةِ الَّتِي فِيهَا الصَّنَمُ وَهِيَ تَبْكِي خَائِفَةً مِنْهُ فَقَالَ: مَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: أَخُوكَ عَبْدُ اللهِ بنُ رَوَاحَةَ جَاءَنَا فِي غَيْبَتِكَ وَكَسَرَ الصَّنَمَ. فَنَظَرَ إِلى الصَّنَم فَوَجَدَهُ حُطَاماً فَغَضِبَ وَهَمَّ أَنْ يَسْتَنْصِرَ لَهُ لَكِنَّهُ مَا لَبِثَ إِلا قَلِيلاً حَتَّى سَكَتَ غَضَبَهُ ثُمَّ قَالَ: لَوْ كَانَ فِي الصَّنَمِ خَيْرٌ لَدَفَعَ عَنْهُ الأَذَى.

ثُمَّ انْطَلَقَ فَوْراً إلى ابن رَوَاحَةَ وَمَضَيَا إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعْلَنَ دُخُولَهُ فِي الإِسْلامِ وَنَدِمَ كَبِيراً عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْ خَيْرٍ وَأَدْرَكَ إدْرَاكاً عَمِيقاً مَا سَبَقَهُ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ مِنْ فِقْهٍ لِدِينِ اللهِ وَحِفْظٍ لِكِتَابِ اللهِ وَعِبَادَةٍ ادَّخَرُوهَا لأَنْفُسِهِمْ عِنْدَ اللهِ. فَعَزَمَ عَلَى أَنْ يَسْتَدْرِكَ مَا فَاتَهُ بِالْجُهْدِ الْجَاهِدِ وَأَنْ يُوَاصِلَ كَلالَ اللَّيْلِ بِكَلالِ النَّهَارِ حَتَّى يَلْحَقَ بِالرَّكْبِ فَانْصَرَفَ إِلى الْعِبَادَةِ انْصِرَافَ مُتَبَتِّل - أَيْ مُنْقَطِعٌ عَنْ الدُّنْيَا - وَأَقْبَلَ عَلَى الْعِلْمِ إِقْبَالَ الظَّمْآنِ وَأَقْبَلَ عَلَى كِتَابِ اللهِ يَحْفَظُ كَلِمَاتِهِ وَيَتَعَمَّقَ فِي فِهْمِ آيَاتِهِ. وَلَمَّا رَأَى التِّجَارَةَ تُنَغِّصُ عَلَيْهِ لَذَّةَ الْعِبَادَةِ وَتُفَوِّتُ عَلَيْهِ مَجَالِسَ الْعِلْمِ تَرَكَهَا غَيْرَ مُتَرَدِّدٍ وَلا آسِفٍ وَقَدْ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ سَائِلٌ فَأَجَابَ لَقَدْ كُنْتَ تَاجِراً قَبْلَ عَهْدِي بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَسْلَمْتُ وَدِدْتُ أَنْ أَجْمَعَ بَيْنَ التِّجَارَةِ وَالْعِبَادَةِ فَلَمْ يَسْتَقِمْ لي مَا أَرَدْتَ فَتَرَكْتُ التِّجَارَةَ وَأَقْبَلْتُ عَلَى الْعِبَادَةِ. ثُمَّ الْتِفَتَ إِلى سَائِلهِ وَقَالَ: إِنِّي لا أَقُولُ إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ حَرَّمَ الْبَيْعَ وَلَكِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ مِنَ الذِينَ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَلَمْ يَتْرُكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ التِّجَارَةَ فَحَسْبُ وَإِنَّمَا تَرَكَ الدُّنْيَا وَأَعْرَضَ عَنْ زِينَتِهَا وَزُخْرُفِهَا وَاكْتَفَى مِنْهَا بِلُقْمَةٍ خَشِنَةٍ تُقِيمُ صُلْبَهُ وَثَوْبٍ صَفِيقٍ يَسْتَرُ بِهِ جَسَدَهُ. وَفِي يَوْمٍ مَا نَزَلَ عَلَيْهِ جَمَاعَة فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ طَعَاماً سَاخِناً وَلَمْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ لُحُفاً فَلَمَّا أَرَادُوا النَّوْمَ جَعَلُوا يَتَشَاوَرُونَ فِي أَمْرِ طَلَبِ اللَّحْفِ لَهُمْ فَقَالَ وَاحِدٌ: أَنَا أَذْهَبُ إِلَيْهِ وَأُكَلِّمُهُ.

فَقَالَ لَهُ آخَرُ: دَعْهُ فَأَبَى حَتَّى وَقَفَ عَلَى بَابِ الْحُجُرَةِ فَرَآهُ قَدْ اضْطَجَعَ وَامْرَأتُه جَالِسَة قَرِيباً مِنْهُ لَيْسَ عَلَيْهَا وَلا عَلَيْهِ إِلا ثَوْبٌ خَفِيفٌ لا يَقِي مِنْ حَرٍّ وَلا يَدْفَعُ الْبَرْدَ. فَقَالَ لأَبِي الدَّرْدَاءِ: مَا أَرَاكَ إِلا كَمَا بِتْنَا أَيْنَ مَتَاعُكُمْ؟ فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: لَنَا دَارٌ هُنَاك نُرْسِلُ إِلَيْهَا تِبَاعاً كُلَّ مَا نَحْصُلُ عَلَيْهِ مِنْ مَتَاعٍ وَلَوْ كُنَّا اسْتَبْقَيْنَا فِي هَذِهِ الدَّارِ شَيْئاً لَبَعَثْنَا بِهِ إِلَيْكُمْ. ثُمَّ إِنَّ فِي طَرِيقِنَا الذِي نَسْلُكُه إِلى تِلْكَ الدَّارِ عَقَبَةٌ كَؤُودٌ الْمُخِفُّ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمثقِل فَأَرَدْنَا أَنْ نُخَفِّفَ مِنْ أَثْقَالِنَا لَعَلَّنَا نَجْتَازُ، ثُمَّ قَالَ: أَفَهِمْتَ فَقَالَ: نَعَمْ فَهِمْتُ وَجُزِيتَ خَيْراً. وَفِي خِلافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَرَادَ مِنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنْ يَلِيَ لَهُ عَمَلاً فِي الشَّام فَأَبَى فَأَصَرَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: إِذَا رَضِيتَ مِنِّي أَنْ أَذْهَبَ إِلَيْهِمْ لأَعَلِّمَهُمْ كِتَابَ رَبِّهِمْ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِمْ وَأُصَلِّي بِهِمْ ذَهَبْتُ. فَرَضَى منْهُ عُمَرُ بِذَلِكَ وَمَضِىَ هُوَ إِلى دِمَشْقَ فَلَمَّا بَلَغَهَا وَجَدَ النَّاسَ قَدْ أُولِعُوا بِالتَّرَفِ وَانْغَمَسُوا فِي النَّعِيمِ فَهَالَهُ ذَلِكَ وَدَعَا النَّاسَ إِلى الْمَسْجِدِ فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ فَوَقَفَ فِيهِمْ. وَقَالَ: يَا أَهْلَ دِمَشْقَ أَنْتُمْ الإِخْوَانُ فِي الدِّينِ وَالْجِيرَانُ فِي الدَّار ِوَالأَنْصَارُ عَلَى الأَعْدَاءِ يَا أَهْلَ دِمَشْقَ مَا الذِي يَمْنَعُكم مِنْ مَوَدَّتِي وَاسْتِجَابَة لِنَصِيحَتِي وَأَنَا لا أَبْتَغِي مِنْكُمْ شَيْئاً فَنَصِيحَتِي لَكُمْ وَمَؤُنَتِي عَلَى غَيْرِكُمْ. مَالِي أَرَى عُلَمَاءَكُمْ يَذْهَبُونَ وَجُهَّالَكُمْ لا يَتَعَلَّمُونَ وَأَرَاكُمْ قَدْ أَقْبَلْتُمْ عَلَى مَا تَكَفَّلَ اللهُ لَكُمْ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَرَكْتُمْ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ مَالِي

أَرَاكُمْ تَجْمَعُونَ مَالاً تَأْكُلُونَ وَتُبْنُونَ مَالا تَسْكُنُونَ وَتُؤْمَّلُونَ مَالا تَبْلُغُونَ. لَقَدْ جَمَعَتِ الأَقْوَامُ الَّتِي قَبْلَكُمْ وَأَمَّلَتْ فَمَا هُوَ إِلا قَلِيلٌ حَتَّى أَصْبَحَ جَمْعُهم بُوراً وَأَمْلُهُمْ غُرُوراً وَبُيُوتُهم قُبُوراً هَذِهِ عَادٌ يَا أَهْلَ دِمَشْق قَدْ مَلأَتْ الأَرْضَ مَالاً وَوَلَداً فَمَنْ يَشْتَرِي مِنِّي تِركةَ عَادٍ بِدِرْهَمَيْنِ. فَجَعَلَ النَّاسُ يَبْكُونَ حَتَّى سُمِعَ نَشِيجُهم مِنْ خَارِجِ الْمَسْجِدِ. وَمُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ طَفِقَ أَبُو الدَّرْدَاءِ يَؤُمُّ مَجَالِسَ الْقَوْمِ فِي دِمَشْقَ وَيُطُوفُ أَسْوَاقَهُمْ فَيُجِيبُ السَّائِلَ وَيُعَلِّمُ الْجَاهِلَ وَيُنَبّهُ الْغَافِلَ مُغْتَنِماً كُلَّ فُرْصَةٍ مُسْتَفِيداً مِنْ كُلِّ مُنَاسَبَةٍ. وَمَرَّ ذَاتَ يَوْمٍ بِجَمَاعَةٍ قَدْ تَجَمْهَرُوا عَلَى رَجُل وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ وَيَشْتِمُونَهُ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: مَا الْخَبَرُ؟ قَالُوا: رَجُلٌ وَقَعَ فِي ذَنْبٍ كَبِيرٍ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَقَعَ فِي بِئْرٍ أَفَلا تَكُونُوا تَسْتَخرجُونَه مِنْهُ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: لا تَسُبُّوهُ ولا تَضْرِبُوهُ وِإِنَّمَا عِظُوهُ وَبَصِّرُوهُ وَاحْمِدُوا اللهِ الذِي عَافَاكُمْ مِنْ الْوُقُوعِ فِي ذَنْبِهِ، قَالُوا: أَفَلا تُبْغِضُهُ؟ قَالَ: إِنَّمَا أُبْغِضُ فِعْلَهُ فَإِذَا تَرَكَهُ فَهُوَ أَخِي فَأَخَذَ الرَّجُلُ يَنْتَحِبُ وَيُعْلِنُ تَوْبَتَهُ. وَجَاءَ شَابٌّ إِلى أَبِي الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ أَوْصِنِي فَيَقُولُ لَهُ: يَا بُنَيَّ اذْكُرِ اللهَ فِي السَّرَّاءِ يَذْكُرْكَ فِي الضَّرَّاءِ يَا بُنِيَّ كُنْ عَالِماً أَوْ مُتَعَلِّماً أَوْ مُسْتَمِعاً وَلا تَكُنْ الرَّابعَ فَتَهْلَكَ. يَا بُنَيَّ لِيَكُنْ الْمَسْجَدُ بَيْتُكَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الْمَسَاجِدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِيّ وَقَدْ ضَمِنَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ

لِمَنْ كَانَتْ الْمَسَاجِدُ بُيُوتُهُمْ الرَّوْحَ وَالرَّحْمَةَ وَالْجَوَازَ - أي الْمُرُورَ - عَلَى الصِّرَاطِ إِلى رِضْوَانِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَفِي أَثْنَاءِ إِقَامَةِ أَبِي الدَّرْدَاءِ بِدِمَشْق بَعثَ إِلَيْهِ وَإِلَيْهَا مُعَاوِيَةُ بنُ أَبِي سُفْيَانَ يَخْطُبُ ابْنَتَهُ الدَّرْدَاءَ لابْنِهِ يَزْيدَ فَأَبَى أَنْ يُزَوِّجَهَا لَهُ وَأَعْطَاهَا لِشَابٍّ مِنْ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ رَضِيَ دِينَه وَخَلَقَهُ. فَسَارَ ذَلِكَ فِي النَّاسِ وَجَعَلُوا يَقُولُونَ: خَطَبَ يَزِيدُ بنُ مُعَاوِيَةَ بِنْتَ أَبِي الدَّرْدَاءِ فَرَدَّهُ وَزَوَّجَهَا لِرَجُلٍ مِنْ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ. فَسَأَلَ أَبَا الدَّرْدَاءِ سَائِلٌ عَنْ سَبَبٍ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّمَا تَحَرَّيْتُ فِيمَا صَنَعْتُهُ صَلاحَ أَمْرِ الدَّرْدَاءِ فَقَالَ السَّائِلُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: مَا ظَنُّكُمْ بِالدَّرْدَاءِ إِذَا قَامَ بَيْنَ يَدَيْهَا الْعَبِيدُ يَخْدِمُونَهَا وَوَجَدَتْ نَفْسَها فِي قُصُورٍ يَخْطِفُ لألأؤُهَا الْبَصَرَ أَيْنَ يُصْبِحُ دِينُهَا يَوْمَئِذٍ. وَفِي خَلالِ وُجُودِ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي بِلادِ الشَّامِ قَدِمَ عَلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِِنينَ عُمَرُ بنُ الْخَطَّاب مُتَفَقّداً أَحْوَالَهَا فَزَارَ صَاحِبَهُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فِي مَنْزِلِهِ لَيْلاً فَدَفَعَ الْبَابَ فَإِذَا لَيْسَ غَلَقٌ فَدَخَل فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ لا ضَوْءَ فِيهِ. فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو الدَّرْدَاءِ حِسَّهُ قَامَ إِلَيْهِ وَرَحَّبَ بِهِ وَأَجْلَسَهُ وَأَخَذَ الرَّجُلانِ يَتَفَاوَضَانِ الأَحَادِيثَ وَالظَّلامُ يَحْجِبُ كُلاً مِنْهُمَا عَنْ عَيْنَيْ صَاحِبِهِ. فَجَسَّ عُمَرُ وِسَادَةَ أَبِي الدَّرْدَاءِ فَإِذَا هِيَ بَرْذَعَةٌ - كِسَاءٌ يُلْقَى عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ - وَجَسَّ فِرَاشَهُ فَإِذَا هُوَ حَصَى وَجَسَّ دِثَارَهُ - غِطَاءَهُ - فَإِذَا هُوَ كِسَاء رَقِيقٌ لا يَقِي شَيْئاً فِي الْبَرْدِ فِي دِمَشْقَ.

فَقَالَ لَهُ: رَحِمَكَ اللهُ أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ أَلَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ فَقَالَ لَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ: أَتَذْكُرْ يَا عُمَرُ حَدِيثاً حَدّثَنَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَيُّ حَدِيثٍ؟ قَالَ: أَلَمْ يَقُلْ: ((لِيَكُنْ بَلاغُ أَحَدِكُمْ مِنْ الدُّنْيَا كَزَادِ الرَّاكِبِ)) . قَالَ: بَلَى قَالَ: فَمَاذَا فَعَلْنَا بَعْدَهُ يَا عُمَرُ فَبَكَى عُمَرُ وَبَكَى أَبُو الدَّرْدَاءِ وَمَا زَالا يَتَجَاوَبَانِ بِالْبُكَاءِ حَتَّى طَلَعَ عَلَيْهِمَا الصُّبْحُ. ظَلَّ أَبُو الدَّرْدَاءِ فِي دِمَشْقَ يَعِظُ أَهْلَهَا وَيُذَكِّرُهُمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ حَتَّى أَتَاهُ الْيَقِينُ. وَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ دَخَلَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ فَقَالُوا: مَا تَشْتَكِي؟ قَالَ: ذُنُوبِي قَالُوا: وَمَا تَشْتَهِي؟ قَالَ: عَفْوَ رَبِّي ثُمَّ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: لَقِّنُونِي لا إِلهَ إِلا اللهُ مُحَمَّد رَسُولُ اللهِ فَمَا زَالَ يُرَدِّدُهَا حَتَّى فَارَقَ الْحَيَاةَ. وَلَمَّا لَحِقَ أَبُو الدَّرْدَاءِ بِجِوَارِ رَبِّهِ رَأَى عَوْفُ بنُ مَالِكٍ الأَشْجَعِيّ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ مَرْجاً أَخْضَرَ. فَسِيحَ الأَرْجَاءِ وَارِفَ الأَفْيَاءِ فِيهِ قُبّةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ أَدَمٍ - أَيّ جِلْدٍ - حَوْلَهَا غَنَمٌ رَابِضَةٌ لَمْ تَر الْعَيْنُ مِثْلَهَا قَطُّ. فَقَالَ: لِمَنْ هَذِهِ؟ فَقِيلَ: لِعَبْدِ الرَّحْمَن بنِ عَوْفٍ فَطَلَعَ عَلَيْهِ عَبْدُ الرَّحْمَن بنُ عَوْفٍ مِنَ الْقُبَّةِ وَقَالَ لَهُ: يَا ابنَ مَالِك هَذَا مَا أَعْطَانَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْقُرْآنِ وَلَوْ أَشْرَفْتَ عَلَى هَذِهِ الثَّنِيَّةِ رَأَيْتَ مَا لَمْ تَرَ عَيْنُكَ وَسَمِعْتَ مَا لَمْ تَسْمَعْ أُذُنُكَ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِكَ فَقَالَ ابنُ مَالِكٍ: وَلِمَنْ ذَلِكَ كُلَّهُ يَا أَبَا مُحَمَّدِ؟ فَقَالَ: أَعَدَّهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لأَبِي الدَّرْدَاءِ لأَنَّهُ كَانَ يَدْفَعُ عَنْهُ الدُّنْيَا بِالَّراحَتَيْنِ وَالصَّدْرِ. انْتَهَى مِنْ صُوَرٍ مِنْ حَيَاةِ الصَّحَابَةِ بِتَصَرُّفٍ يَسِيرٍ. اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا لِكِتَابِكَ مِن التَّالِينَ وَلَكَ بِهِ مِن الْعَامِلِينَ وَبِمَا صَرَّفْتَ فِيهِ مِنْ الآيَاتِ مُنْتَفِعِينَ، وَإِلى لَذِيذِ خِطَابِهِ مُسْتَمِعِينَ، وَلأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ خَاضِعِينَ

نظم بعضهم ما ذكره ابن القيم رحمه الله من مفاتيح الخير والشر

وَبِالأَعْمَالِ مُخْلِصِينَ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحياء منهم والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. قَالَ بَعْضُهُمْ نَاظِماً لِمَا ذَكر ابنُ الْقَيِّمِ مِنْ مَفَاتِيح الْخَيْرِ وَالشَّرِّ: حَمِدْتُ الذِي يُولِي الْجَمِيلَ وَيُنْعِمُ لَهُ الْفَضْلُ يُؤْتِي مَنْ يَشَاءُ وَيُكْرِمُ وَأَزْكَى صَلاةِ اللهِ ثُمَّ سَلامُهُ عَلَى خَيْرِ مَخْلُوقٍ عَلَيْهُ يُسَلِّمُ مُحَمَّدٍ الْهَادِي وَأَصْحَابِهِ الأَلى بِحُسْنِ اجْتِهَادٍ عَلَّمُوا وَتَعَلَّمُوا وَبَعْدُ فَقَدْ عَنَّ الْوَفَاءُ لِسَائِلِ بِوَعْدِيَ إِيَّاهُ بِأَنِّي أَنْظِمُ مَفَاتِيحَ كَانَتْ لِلشُّرُورِ وَضِدِّهَا فَقَدْ فَازَ مَنْ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ يَعْلَمُ وَأَضْحَى بِمَا يَدْرِي مِنْ الْحَقِّ عَامِلا فَكُنْ عَامِلاً بِالْعِلْمِ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ وَقَدْ جَعَلَ الْمَوْلَى لَهُنَّ مَفَاتِحاً تَنَالُ بِهَا وَاللهُ بِالْحَقِّ أَعْلَمُ فَمِفْتَاحُ شَرْعِيّ الصَّلاةِ طَهُورُنَا وَيَفْتَحُ حَجّاً مُحْرِمٌ حِينَ يُحْرِمُ وَبِالصِّدْقِ فَتْحُ الْبِرِّ وَالْعِلْمُ فَتْحُهُ بِحُسْنِ سُؤَالٍ عَنْ فَتَىً يَتَعَلَّمُ

وَمُسْتَحْسِنُ الإِصْغَاءِ وَالنَّصْرُ فَتْحُه مَعَ الظَّفِرَ الْمَحْمُودِ بِالصَّبْرِ فَاعْلَمُوا وَتَوْحِيدُنَا للهِ مِفْتَاحُ جَنَّةِ النَّـ نَعِيمِ فَبِالتَّوْحِيدِ دِينُوا تُنَعمُّوا وَبِالشُّكْرِ لِلنَّعْمَاءِ فَتْحُ زِيَادَةً وَيَحْصُلُ حُبٌّ وَالْوِلايَةَ تُغْنَمُ بِمِفْتَاحِهِ الذِّكْرِ الشَّرِيفِ وَذُو التَّقَى يَنَالُ بِتَقْوَاهُ الْفَلاحَ وَيُكْرَمُ وَمِفْتَاحُ تَوْفِيقِ الْفَتَى صِدْقُ رَغْبَةٍ وَرَهْبَتِهِ ثُمَّ الدُّعَاءُ الْمُكَرَّمُ لَدَى اللهِ مِفْتَاحُ الإِجَابَةِ وَاعْلَمَنْ بَأَنَّ جَمِيلَ الزُّهْدِ لِلْعَبْدِ مَغْنَمُ وَيُفْتَحُ لِلْعَبْدِ التَّجَلِّي بِرَغْبَةٍ بِدَارِ الْبَقَاءِ فَازْهَدْ لَعَلَّكَ تَغْنَمُ وَمِفْتَاحُ إِيمَانِ الْعِبَادِ تَفَكّرٌ بِمَا كَانَ رَبُّ الْعَالَمِينَ دَعَاهُمْ إِلى نَظَرٍ فِيهِ وَأَنْ يَتَفَكَّرُوا بِهِ وَدُخُولُ الْعَبْدِ ذَاكَ الْمُفَخَّمُ عَلَى رَبِّهِ مِفْتَاحُ ذَاكَ سَلامَةٌ وَإِسْلامُ قَلْبٍ لِلإِلهِ فَأَسْلِمُوا وَمَعْ ذَاكَ إِخْلاصٌ بِحُبِّ وَبُغْضِهِ

.. وَفِعْلٌ وَتَرْكٌ كُلُّ ذَلِكَ يَلْزَمُ وَيُحْيِ قُلُوبَ الْعَارِفِينَ تَضَرُّعٌ بَأَوْقَاتِ أَسْحَارٍ فَكُنْ أَنْتَ مِنْهُمْ كَذَا الْوَحْيُ إِذْ يُتْلَى بِحُسْنِ تَدَبُّر وَتَرْكُ الذُّنُوبِ فَهِيَ لِلْقَلْبِ تُؤْلِمُ وَإِحْسَانُ عَبْدٍ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ وَنَفْعُ الْعِبَادِ وَالْقِيَامُ عَلَيْهِمُ لإِصْلاحِهِمْ مِفْتَاحُ تَحْصِيلِ رَحْمَةِ الْـ إِلهِ فَلازِمْ ذَا لَعَلَّكَ تُرْحَمُ وَمِفْتَاحُ رِزْقِ الْعَبْدِ سَعْيٌ مَعَ التُّقَى وَكَثْرَةُ الاسْتِغْفَارِ إِذْ هُوَ مُجْرِمُ وِمِفْتَاحُ عِزِّ الْعَبْدِ طَاعَةُ رَبِّهِ وَطَاعَةُ خَيْرِ الْمُرْسَلِينَ فَعَظِّمُوا وَمِفْتَاحُ الاسْتِعْدَادِ مِنْكَ لِمَا لَهُ تَصِيرُ مِنْ الدَّارِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ هُوَ الْقَصْرُ لِلآمَالِ وَالْخَيْرُ كُلُّه مِفْتَاحُهُ رَغْبٌ مِنْ الْعَبْدِ يُعْلَمُ بِمَوْلاهُ وَالدَّارِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ وَمِفْتَاحُ كُلِّ الشَّرِّ إِنْ كُنْتَ تَفْهَمُ إِطَالَتْكُ الآمَالُ فَاحْذَرْ غُرُورَهَا وَحُبُّكَ لِلدُّنْيَا الَّتِي تَتَصَرَّمُ

.. وَمِفْتَاحُ نَارِ الْخُلْدِ شِرْكٌ بِرَبِّنَا وَكِبْرُ الْفَتَى فَالْكِبْرُ حُوبٌ مُعَظَّمُ وَإِعْرَاضُهُ عَمَّا عَنْ اللهِ قَدْ أَتَى بِهِ الْمُصْطَفَى الْهَادِي النَّبِيُّ الْمُكَرَّمُ وَغَفْلَتُه عَنْ ذِكْرِهِ وَقِيَامِهِ بِحَقٍّ لِذِي الْعَرْشِ الْمَلِيكِ يُحَتِّمُ وَمِفْتَاحُ إِثْمٍ يُوبِقُ الْعَبْدَ مُسْكِرٌ مِنْ الْخَمْرِ فَاحْذَرْهَا لَعَلَّكَ تَسْلَمُ وَمِفْتَاحُ ذِي الْمَقْتِ الزَّنَا سِيِّءُ الْغِنَا وَذَلِكَ قُرْآنُ اللَّعِينِ وَمَأْثَمُ وَإِطْلاقُ طَرْفِ الشَّخْصِ مِفْتَاحُ عِشْقِهِ لِمُسْتَحْسَنِ الأَشْبَاحِ فَهُوَ مُحَرَّمُ وَبِالْكَسَلِ الْمَذْمُومِ مَعْ رَاحَةِ الْفَتَى يَخِيبُ وَكُلُّ الْخَيْرِ لا شَكَّ يُحْرَمُ وَمِفْتَاحُ كُفْرَانِ الْفَتَى وَبَرِيدُهُ مَعَاصِيهِ وَالْعَاصِي قَرِيباً سَيَنْدَمُ وَبَابُ نِفَاقِ الْعَبْدِ يَفْتَحُهُ إِذَا يَكُونُ كَذُوباً وَالْكَذُوبُ مُذَمَّمُ وشُحُّ الْفَتَى وَالْحِرْصُ مِفْتَاحُ بُخْلِهِ وَمِفْتَاحُ أَخْذِ الْمَالِ مِنْ حَيْثُ يَعْلَمُ بَأَنْ لَيْسَ حِلاً مَعْ قَطِيعَةِ رَحْمِهِ

صور من حياة الرسول ع في مقدمة غزوة الفتح

.. وَكُلُّ ابْتِدَاعٍ فِي الْخَلِيقَةِ يُعْلَمُ فَمِفْتَاحُهُ الأَعْرَاضُ عَمَّا أَتَى بِهِ نَبِيُّ الْهُدَى مِنْ سُنَّةٍ نَتَعَلَّمُ وَأَخْتِمْ قَوْلِي فِي الْقَرِيضِ بَأَنَّنِي أُصُلِّي عَلَى خَيْرِ الْوَرَى وَأُسَلِّمُ وَآلٍ مَعَ الصَّحْبِ الْكِرَامِ الذِينَ هُمْ لِمُقْتَبِسٍ عِلْمَ الشَّرِيعَةِ أَنْجُمُ وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمِ. صُوَر مِنْ حَيَاةِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي صُورٍ مِنْ حَيَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا ذَكَرَ فَتْحَ مَكَّةَ كَانَتْ أَمُّ الْقُرَى مَعْقِلَ الْوَثِنِيَّةِ فِي جِزِيرَةِ الْعَرَبِ كُلِّهَا وَكَانَتْ مَجْمَعَ الأَصْنَام وَقِبْلَةَ الأَنْضَارِ وَمَطْمَعَ آمَالِ الْقَبَائِل قَرِيبَهَا وَبَعِيدَهَا وَكَانَتْ قُرَيْشٌ حَارِسَةَ الْكَعْبَةِ وَسَادِنةَ الْبَيْتِ وَإِلَيْهَا الرِّيَاسَةُ وَالْقِيَادَةُ. وَكَانَتْ مَنْزِلَةُ الْقَبَائِل مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ هَذِهِ النَّاحِيَةِ مَنْزِلَةُ الْمَسُودِ مِنْ السَّيْدِ وَالتَّابِعِ مِنْ الْمَتْبُوعِ وَمِنْ هُنَا كَانَتْ الْقَبَائِلُ مِنْ الْعَرَبِ تَنْظُرُ إِلى الْمَعْرَكَةِ الدَّائِرَةِ بَيْنَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُرَيْشٍ نَظْرَةَ الْجِدِّ وَالاهْتِمَامِ وَتُتَابِعُ حَرَكَاتِهَا وَخُطُوَاتِهَا مُتَابَعةً دَقِيقَةً. وَكَانَتْ كُلُّ حَرَكَةٍ مِنْ هَذِهِ الْحَرَكَاتِ وَخُطْوَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخُطَى تَتْرُكُ فِي اتِّجَاهَاتِ الْقَبَائِلِ أَثَراً بَارِزاً مِنْ حَيْثُ إِقْبَالِهَا عَلَى الإِسْلام أَوْ إِعْرَاضِهَا عَنْهُ وَمِنْ حَيْثُ اجْتِمَاعِهَا لَهُ أَوْ اجْتِمَاعِهَا عَلَيْهِ. وَمَعَ أَنَّ الْحَوَادِثَ وَالْمَعَارِكَ الَّتِي وَقَعَتْ فِي الْجَزِيرَةِ بَيْنَ

الْمُسْلِمِينَ وَقُرَيْش وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودَ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّومِ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَبَائِلَ الْعَرَبِ فِي نَوَاحِي الْجَزِيرَةِ كَانَتْ ذَاتَ أَثَرٍ فِي ظُهُورِ الإِسْلامِ وَانْتِشَارِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْقَبَائِلِ. فَإِنَّ بَقَاءَ مَكَّةَ عَلَى شِرْكِهَا وَهِيَ أَمُّ الْقُرَى وَمَعْقلُ الْوَثَنِيَّةِ ظَلَّ سَدّاً حَائِلاً دُونَ خلُوصِ الْجَزِيرَةِ الْعَرِبِيَّةِ لِلإِسْلامِ وَحْدَهُ وَظَلَّتْ هِيَ الْعَقَبَةُ الْكَؤُودُ فِي طَرِيقِهِ. وَكَانَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ فِي أَوَاخِرِ السَّنَةِ السَّادِسَةِ أَوَّل مَفَاتِيحِ هَذَا الْمَعْقِلِ الْعَتِيدِ فَقَدْ اعْتَرَفَتْ قَرَيْشٌ فِي ذَلِكَ الصُّلْح بَأَنَّ مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَاحِبُ مَذْهَبٍ جَدِيدٍ وَأَنَّهُ لا بَأْسَ مِنْ أَنْ تُقِيمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا عَهْداً يَسْتَقِرُّ بِهِ السَّلْمُ فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ بَعْدَ مَا عَجَزَتْ كُلَّ الْعَجْزِ وَفَشَلَتْ عَنْ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ وَعَلَى مَذْهَبِهِ لَقَدْ ظَلَّتْ قُرَيْشٌ دَهْراً طَوِيلاً لا تَعْتَرِفُ بِمُحَمَّدٍ وَلا بِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الدِّينِ الْقَوِيمِ الذِي خَالَفَ بِهِ دِينَهَا وَعَقَائِدَهَا وَخَرَجَ بِهِ عَلَى تَقَالِيدِهَا وَتَقَالِيدِ آبَائِهَا وَقَلَبَ بِهِ أَوْضَاعِهَا رَأْساً عَلَى عَقِبٍ وَظَلَّتْ قُرَيْشٌ فِي كِبْرِيَائِهَا وَتَعَاظُمِهَا تَفْتَرِي عَلَيْهِ الأَكَاذِيبَ وَتَصِفُهُ بِمَا تَشَاءُ مِنْ الأَوْصَافِ الَّتِي تُشَوِّهُ سُمْعَتَهُ وَدَعْوَتَهُ بَيْنَ الْعَرَبِ فَلَمَّا عَجَزَتْ وَانْقَطَعَتْ بِكُلِّ وَسَائِلِهَا أَنْ تَقْضِي عَلَيْهِ وَعَلَى دَعْوَتِهِ اضْطَرَّتْ أَنْ تُنْزِلَهُ مِنْهُمْ مَنْزِلَةَ النِّدِّ مِنْ النِّدِّ وَأَنْ تُصَالِحَه وَلَو إلى حِينٍ لِتَتَّقِي خَطَرَهُ وَتَأْمَنَ جَانِبَهُ فَكَانَ هَذَا الصُّلْحُ أَوَّلَ مِفْتَاحٍ فَكَّ اللهُ بِهِ إِغْلاقَ مَكَّةَ. ثُمَّ كَانَتْ عُمْرَةُ الْقَضَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ بِعَامٍ هِيَ الْمِفْتَاحُ الثَّانِي مِنْ

مَفَاتِيحِ ذَلِكَ الْحِصْنِ فَقَدْ كَانَ مَظْهَرُ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْعُمْرَةِ وَهُمْ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَفِي ائْتِلافِهِمْ وَتَضَامُنِهم وَفِي حُسْنِ انْقِيَادِهِمْ وَدِقَّةِ نِظَامِهِمْ وَفِي صِدْقِ مَحَبَّتِهِمْ وَإِخْلاصِهِمْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عَظِيمِ حَمَاسَتِهِمْ لِدِينِهم وَشِدَّةِ تَمَسُّكِهِمْ بِآدَابِهِ وَفِي بَالِغِ تَقْدِيسِهِمْ لِلْبَيْتِ وَتَعْظِيمِ حُرُمَاتِهِ وَفِي كُلِّ مَا كَانُوا يُؤدُّونهُ مِنْ شَعَائِرِ هَذِهِ الْعُمْرَةِ وَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَمَاسَةِ وَهَذِهِ الأَلْفَةِ وَهَذَا النِّظَامِ وَهَذَا التَّرَفُّع عَنْ كُلِّ مَا يَشِينُ أَخْلاقَ الرِّجَالِ كَانَ مَظْهَرُ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ هَذَا مَظْهَراً هَزَّ نُفُوسَ أَهْلِ مَكَّةِ هَزّاً عَنِيفاً وَلَمَسَ مَكَانَ الْعَقِيدَةِ مِنْ قُلُوبِهِمْ فَزَلْزَلَهَا زِلْزَالاً شَدِيداً فَأَخَذُوا يَنْظُرُونَ إِلى الْمُسْلِمِينَ نَظْرَةَ الإِعْجَابِ وَالإِكْبَارِ وَالإِعْظَامِ وَيَنْظُرُونَ إِلى الإِسْلامِ نَظْرَةَ التَّفْكِيرِ وَالتَّأَمُّلِ وَالتَّدَبُّرِ وَالتَّفَهُّمْ وَجَعَلُوا يُقَارِنُونَ بَيْنَ هَذَا الدِّينِ الْقَوِيمِ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ دِين وَعَقِيدَةٍ وَمِنْ تَقَالِيدَ لا يَقْبَلُهَا عَقْلٌ سَلِيمٌ ولا يُقِرُّهَا مَنْطِقٌ وَيُوَازِنُونَ بَيْنَ هَذِهِ الشَّعَائِر الَّتِي يُؤَدِّيهَا الْمُسْلِمُونَ فِي خُشُوعٍ وَانْسِجَامٍ وَخُضُوعٍ وَاطْمِئْنَانٍ وَبَيْنَ مَا يَفْعَلُونَ هُمْ فِي عِبَادَتِهِمْ مِنْ لَغْوٍ وَلَهْوٍ وَلَعِبٍ وَبَاطِلٍ وَمَا يَقُومُونَ بِهِ عِنْدَ بَيْتِ اللهِ مِنْ مُكَاءٍ وَتَصْدِيَةٍ - أَي صَفِيرٍ وَتَصْفِيقٍ -. نَعَمْ أَخَذُوا يَنْظُرُونَ وَيَتَفَكَّرُونَ فَوَجَدُوا فَرْقاً شَاسِعاً، وَبَوْناً بَعِيداً بَيْنَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الضَّلالِ وَمَا عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ وَأَتْبَاعُهُ مِنْ النُّورِ فَلانَتْ قُلُوبُهُمْ لِلإِسْلامِ. وَصَغَتْ إِلَيْهِ أَفْئِدَتُهم فَأَسْلَمَ مِنْهُمْ مَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَجْهَرَ بِإسْلامِهِ. وَأَسَرَّ الإِسْلامَ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِظْهَارِه، وَتَهَيَّأَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ لأَنْ يُسْلِمُوا لَوْلا بَعْضُ الْمَوَانِع الَّتِي قَدَّرَهَا اللهُ فَكَانَتْ هَذِهِ الزَّلْزَلَةُ الَّتِي أُصِيبَتْ

كلام لابن القيم في مقدمة غزوة فتح مكة شرفها الله

بِهَا عَقِيدَةُ أَهْلِ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ مِفْتَاحاً آخَرَ فَكَّ اللهُ بِهِ أَغْلاقَ مَكَّةَ، ثُمَّ أَرَادَ اللهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَفُكَّ كُلَّ مَا بَقِيَ مِنْ أَغْلاقِ هَذَا الْحِصْن، فَكَانَ مَا كَانَ فِي السَّنَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ مِنْ نَقْضِ قُرَيْشٍ لِعَهْدِ الْحُدَيْبِيَةِ، ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ قَبِيلَتِي بَكْرٍ وَخُزَاعَةَ دَماً وَتِرَاتاً فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا كَانَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ وَدَخَلَتْ خُزَاعَةُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَخَلَتْ بَكْرٌ فِي عَهْدِ قُرَيْش هَدَأَتْ الْحَرْبُ بَيْنَ الْقَبِيلَتَيْنِ، وَأَمِنَ كُلُّ فَرِيقٍ جَانِبَ عَدُوَّهِ. انْتَهَى. وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابنُ الْقَيِّمِ: فَلَمَّا اسْتَمَرَّتْ الْهُدْنَةُ اغْتَنَمَهَا بَنُو بَكْرٍ مِنْ خُزَاعَةَ وَأَرَادُوا أَنْ يُصِيبُوا مِنْهُمْ الثَّأْرَ الْقَدِيمَ فَخَرَجَ نَوْفَلُ بنُ مُعَاوِيَةَ الدَّيْلِي فِي جَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي بَكْر فَبَيَّتَ خُزَاعَةَ وَهُمْ عَلَى الْوَتِيرِ فَأَصَابُوا مِنْهُمْ رِجَالاً وَتَنَاوَشُوا وَاقْتَتَلُوا وَأَعَانَتْ قُرَيْشٌ بَني بَكْرٍ بِالسِّلاحِ وَقَاتَلَ مَعَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ قَاتلَ مُسْتَخْفِياً. فَلَجَأَتْ خُزَاعَةُ إِلى الْحَرَمِ لِتَحْتَمِي بِهِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْ رِجَالَ بَكْرٍ مِنْ مُتَابَعَتِهَا حَتَّى قَتَلُوا مِنْهُمْ عِشْرِينَ رَجُلاً فَلَمَّا دَخَلَتْ خُزَاعَة مَكَّةَ لَجَؤُوا إِلى دَارِ بُدَيلِ ِبْن وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيّ وَمُوْلَى لَهُمْ يُقَالُ لَهُ: رَافِعُ وَخَرَجَ عَمْرُو بن سَالِمٍ الْخَزَاعِي حَتَّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلى الْمَدِينَةِ فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ بَيْنَ ظَهْرَانِي أَصْحَابِهِ. فَقَالَ: يَا رَبِّ إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّداً حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الأَتْلَدَا

قَدْ كُنْتُمُوا وِلْداً وَكُنَّا وَالِدَا ثُمَّ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنَزَعْ يَدَ فَانْصُرْ هَدَاكَ اللهُ نَصْراً أَيَّداً وَادْعُ عِبَادَ اللهِ يَأْتُوا مَدَدَا فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ قَدْ تَجَرَّدَا أَبْيَضُ مِثْلُ الْبَدْرِ يَسْمُو صُعُدَا إِن سِيمَ خَسْفاً وَجْهُه تَرَبَّدَا فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدَا إِنَّ قُرَيْشاً أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُؤَكَّدَا وَجَعَلُوا لِي فِي كَدَاءَ رَصَدَا وَزَعَمُوا أَنَّ لَسْتُ أَدْعُو أَحَدَا وَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدَا هم بَيَّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجَّدَا وَقَتَّلُونَا رُكَّعاً سُجَّدَاً فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نُصِرْتَ يَا عَمْرَو بنَ سَالِم» . ثُمَّ عَرَضَتْ سَحَابَةٌ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّ هَذِهِ السَّحَابَةَ لَتَسْتَهِلّ بِنَصْرِ بَنِي كَعْبٍ)) . ثُمَّ خَرَجَ بَدِيلُ بن وَرْقَاءَ فِي نَفَرٍ مِنْ خُزَاعَ حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ بِمَا أُصِيبَ فِيهِمْ وَبِمَظَاهِرِ قُرَيْشٍ لِبَنِي بَكْر ثُمَّ رَجَعُوا إِلى مَكَّةَ فَقَالَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَأَنَّكُمْ بَأَبِي سُفْيَانَ قَدْ جَاءَكُمْ

لِيَشُدَّ فِي الْعَقْدِ وَيَزِيدَ فِي الْمُدَّةِ» . وَوَقَعَ طِبْقَ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذِهِ مُعْجِزَةٌ وَقَدْ أَحَسَّتْ قُرَيْشٌ بِمَا وَرَاءَ غَدْرِهَا ذَاكَ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ فَأَوْفَدَتْ إِلى الْمَدِينَةِ زَعِيمَهَا أَبَا سُفْيَانَ بن حَرْبٍ لَعَلَّهُ يَتَلاقَى هَذِهِ الْغَلْطَةَ وَنَتَائِجَهَا وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ يَحِسُّ خَطَرَ هَذَا الأَمْرِ الذِي هُوَ مُقْدِمٌ عَلَيْهِ فَلَمْ يَشَأْ الذِّهَابَ إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَّأَ، بَلْ لابُدَّ مِنْ تَمْهِيدِ الطَّرِيقِ لِلِقَائِهِ. فَدَخَلَ عَلَى ابْنَتِهِ أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَشْفِعُ بِهَا إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَوَتْهُ عَنْهُ أُمِّ حَبِيبَةَ. فَعَجِبَ أَبُو سُفْيَانَ لِمَا رَأَى مِنْ فِعْلِ ابْنَتِهِ وَقَالَ لَهَا: بُنَيَّةُ مَا أَدْرِي أَرَغِبْتِ بِي عَنْ هَذَا الْفِرَاشِ أَمْ رَغِبْتِ بِهِ عَنِّي فَجَابَهَتْهُ ابْنَتُه فِي صَرَاحَةٍ تَقُولُ: بَلْ فِرَاشُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْتَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ نَجَسٌ فَلَمْ أُحِبَّ أَنْ تَجْلِسَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ هَذِهِ صَدْمَة شَدِيدَة الْوَقْعِ عَلَى نَفْسِ أَبِي سُفْيَانَ لَمْ يَكُنْ يَتَوَقَّعُهَا مِنْ أَقْرَبِ النَّاسِ إِلَيْهِ. فَلَمْ يَمْلِكْ أَنْ قَالَ لابْنَتِهِ مُعَبِّراً عَمَّا نَالَهُ مِنْ الإهَانَةِ: وَاللهِ لَقَدْ أَصَابَكَ بَعْدِي يَا بُنَيَّة شَرٌّ ثُمَّ خَرَجَ خَجِلاً مُضَعْضَعَ النَّفْسِ مَكْلُومَ الْفُؤادِ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئاً فَكَانَتْ هَذِهِ الصَّدْمَةُ أنَكْىَ مِنْ الأَوْلَى. اللَّهُمَّ يَا مَنَّ عَمَّ الْبَرِيَّةِ جُودُهُ وَإِنْعَامُه نَسْأَلُكَ أَنْ تَتَفَضَّلَ عَلَيْنَا بِعَفْوِكَ وَغُفْرَانك، وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فَصْلٌ) فَخَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ أَشَدَّ مَا يَكُونُ خَجَلاً وَإنْكِسَاراً وَذَهَبَ يَسْتَشْفِعُ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَهَبَ إِلى أَبِي بَكْرٍ فَكَلَّمَهُ أَنْ يُكَلِّمَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ وَذَهَبَ إِلى عُمَرَ فَأَغْلَظَ لَهُ الْقَوْلَ وَرَدَّ عَلَيْهِ فِي جَفَاءٍ وَغِلْظَةٍ. فَقَالَ: أَنَا أَشْفَعُ لَكُمْ إِلى رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَاللهِ لَوْ لَمْ أَجِدْ إِلا الذََّّر لَجَاهَدْتكم بِهِ وَهِذِهِ صَدْمَةٌ عَظِيمَةٌ حَطَّمَتْهُ زِيَادَةً، ثُمَّ ذَهَبَ إِلى عَلِيِّ بن أَبِي طَالِبٍ وَعِنْدَهُ فَاطِمَةُ وَحَسَنٌ غُلامٌ يَدِبُّ بَيْنَ يَدَيْهِمَا فَقَالَ: يَا عَلِيَّ إِنَّكَ أَمَسَّ الْقَوْمِ بِي رَحِمَاً وَإِنِّي قَدْ جِئْتُ فِي حَاجَةٍ فَلا أَرْجِعَنَّ كَمَا جِئْتُ خَائِبَا اشْفَعْ لِي إِلى مُحَمَّدٍ فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ وَاللهِ لَقَدْ عَزَمَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَمْرٍ مَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُكَلِّمَهُ فِيهِ. فَالْتَفَتْ إِلى فَاطِمَةَ فَقَالَ: هَلْ لَكَ أَنْ تَأْمُرِي ابْنَكِ هَذَا فَيُجِيرُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَكُونُ سَيِّدَ الْعَرَبِ إِلى آخِرِ الدَّهْرِ؟ . قَالَتْ: (وَاللهِ مَا يَبْلُغ ابْنِي ذَاكَ أَنْ يُجِيرَ بَيْنَ النَّاسِ، وَمَا يُجِيرُ أَحَدٌ عَلَى رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: يَا أَبَا الْحَسَنِ، إِنِّي أَرَى الأُمُورَ قَدْ اشْتَدَّتْ عَلَيَّ، فَانْصَحْنِي، قَالَ: (وَاللهِ مَا أَعْلَمُ لَكَ شَيْئاً يُغْنِي عَنْكَ، وَلِكِنَّكَ سَيِّدُ بَنِي كِنَانَةَ، فَقُمْ فَأَجْرِ بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ الْحَقْ بَأَرْضِكَ) . قَالَ: أَوَ تَرَى ذَلِكَ مُغْنِياً عَنِّي شَيْئاً؟ قَالَ: (لا، وَاللهِ مَا أَظُنُّه، وَلَكِنِّي مَا أَجِدُ لَكَ غَيْرَ ذَلِكَ) فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي

قَدْ أَجَرْتُ بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ رَكِبَ بَعِيرَهُ، فَانْطَلَقَ. فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى قُرَيْشٍ قَالُوا: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: جِئْتُ مُحَمَّداً فَكَلَّمْتُه، فَوَاللهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ شَيْئاً ثُمَّ جِئْتُ ابنَ أَبِي قُحَافَةَ فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ خَيْراً، ثُمَّ جِئْتُ عُمَرَ بنَ الْخَطَّابِ فَوَجَدتُه أَوْفَى الْعَدُو، ثُمَّ جِئْتُ عَلِيّاً فَوَجَدْتُه أَلْيَنَ الْقَوْمِ. قَدْ أَشَارَ عَلَيّ بِشَيْءٍ صَنَعْتُه، فَوَاللهِ مَا أَدْرِي: هَلْ يُغْنِي عَنِّي شَيْئاً، أَمْ لا؟ . قَالُوا: وَبِمَ أَمَرَكَ؟ قَالَ: أَمَرَنِي أَنْ أُجِيرَ بَيْنَ النَّاسِ، فَفَعَلْتُ، فَقَالُوا: فَهَلْ أَجَازَ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ؟ قَالَ: لا، قَالُوا: وَيْلَكَ، وَاللهِ إِنْ زَادَ الرَّجُلُ عَلَى أَنْ لَعِبَ بِكَ، قَالَ: لا وَاللهِ مَا وَجَدْتُ غَيْرَ ذَلِكَ. وَأَمَرَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ بِالْجِهَاز، وَأَمَرَ أَهْلَهُ أَنْ يُجَهِّزُوهُ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى ابْنَتِهِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، وَهِيَ تُحَرِّكُ بَعْضَ جِهَازِ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّةُ، أَمَرَكُنَّ رَسُولُ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَجْهِيزِهِ؟ . قَالَتْ: نَعَمْ، فَتَجَهَّزَ، قَالَ: فَأَيْنَ تَرَيْنَهُ يُرِيدُ؟ قَالَتْ: لا وَاللهِ، مَا أَدْرِي. ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَ النَّاسَ أَنَّهُ سَائِرٌ إِلى مَكَّة، فَأَمَرَهُمْ بِالْجِدِّ وَالتَّجَهُّزِ، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ خُذْ الْعُيُونَ وَالأَخْبَارَ عَنْ قُرَيْشٍ، حَتَّى نَبْغَتَهَا فِي بِلادِهَا» . فَتَجَهَّزَ النَّاسُ، فَكَتَبَ حَاطِبُ بنُ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلى قُرَيْشٍ كِتَاباً يُخْبِرُهُمْ فِيهِ بِمَسِيرِ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ أَعْطَاهُ امْرَأَةً، وَجَعَل لَهَا جُعْلاً عَلَى أَنْ تبَلِّغَهُ قُرَيْشاً، فَجَعَلَتْهُ فِي قُرُونِ رَأْسِهَا، ثُمَّ خَرَجَتْ بِهِ. وَأَتَى

رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرُ مِنْ السَّمَاءِ بِمَا صَنَعَ حَاطِبٌ فَبَعَثَ عَلِيّاً وَالزُّبَيْر. وَغَيْرُ ابنِ إِسْحَاق يَقُولُ: بَعَثَ عَلِيّاً وَالْمِقْدَادَ - فَقَالَ: «انْطَلِقَا حَتَّى تَأْتِيَا رَوْضَةَ خَاخ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ إِلى قُرَيْشٍ، فَانْطَلَقَا تَعَادَى بِهِمَا خَيْلُهَمَا، حَتَّى وَجَدَا الْمَرْأَةَ بِذَلِكَ الْمَكَانَ، فَاسْتَنْزَلاهَا، وَقَالا: مَعَكِ كِتَابٌ؟ فَقَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ، فَفَتَّشَا رَحْلَهَا فَلَمْ يَجِدَا شَيْئاً، فَقَالَ لَهَا عَلِيٌّ: أَحْلِفُ بِاللهِ، مَا كَذَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا كَذِبْنَا، وَاللهِ لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُجَرَّدَنَّكِ، فَلَمَّا رَأَتْ الْجِدّ مِنْهُ. قَالَتْ: أَعْرِضْ. فَأَعْرَضَ. فَحَلَّتْ قُرُونَ رَأْسِهَا، فَاسْتَخْرَجَتِ الْكِتَابَ مِنْهَا، فَدَفَعَتْهُ إِلَيْهِمَا، فَأَتَيَا بِهِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا فِيهِ (مِنْ حَاطِب بنِ أَبِي بَلْتَعَة إِلى قُرَيْشٍ، يُخْبِرُهم بِمَسِيرِ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ) . فَدَعَا رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حاطباً، فَقَالَ: ((مَا هَذَا يَا حَاطِب)) ؟ فَقَالَ: لا تَعْجَلْ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ، وَاللهِ إِنِّي لَمُؤْمِنٌ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَمَا ارْتَدَدْتُ وَلا بَدَّلْتُ، وَلَكِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقاً فِي قُرَيْشٍ لَسْتُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلِي فِيهِمْ أَهْلٌ وَعَشِيرَةٌ وَوَلَدٌ، وَلَيْسَ لِي فِيهِمْ قُرَابَةٌ يَحْمُونَهُمْ، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ لَهُمْ قُرَابَاتٌ يَحْمُونَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ: أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَداً يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي. فَقَالَ عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ، فَإِنَّهُ

قَدْ خَانَ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَقَدْ نَافَقَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْراً، وَمَا يُدْرِيكَ يَا عُمَرُ؟ لَعَلَّ الله قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» . فَذَرَفَتْ عَيْنَا عُمَرَ، وَقَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمْ. ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ صَائِمٌ وَالنَّاسُ صَائِمُونَ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْكُدَيْدِ - وَهُوَ الذِي يُسَمِّيهِ النَّاسُ الْيَوْمَ قُدَيْداً - أَفْطَرَ وَأَفْطَرَ النَّاسُ مَعَهُ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى نَزَلَ مَرَّ الظَّهْرَانِ، وَهُوَ بَطْنُ مَرٍّ، وَمَعَهُ عَشَرَةُ آلافٍ، وَعَمَّى اللهُ الأَخْبَارَ عَنْ قُرَيْشٍ، فَهُمْ عَلَى وَجَلٍ وَارْتِقَابٍ. وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ يَخْرُجُ يَتَجَسَّسُ الأَخْبَارَ، فَخَرَجَ هُوَ وَحَكِيمُ بن حزَامٍ وَبُدَيْلُ بنُ وَرْقَاءَ يَتَجَسَّسُونَ الأَخْبَارَ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ قَدْ خَرَجَ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَهْلِهِ وَعِيَالِهِ مُسْلِماً مُهَاجِراً، فَلَقِيَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجُحْفَةِ - وَقِيلَ: فَوْقَ ذَلِكَ - وَكَانَ مِمَّنْ لَقِيَهُ فِي الطَّرِيقِ ابنُ عَمِّهِ أَبُو سُفْيَانَ بنُ الْحَرْثِ، وَعَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي أُمَيَّةَ، لَقِيَاهُ بِالأَبْوَاءِ، وَهُمَا ابنُ عَمِّهِ وَابنُ عَمَّتِهِ، فَأَعْرَضَ عَنْهُمَا لِمَا كَانَ يَلْقَاهُ مِنْهُمَا مِنْ شِدَّةِ الأَذَى وَالْهَجْوِ. فَقَالَتْ لَهُ أُمُّ سَلَمَةَ: (لا يَكُنْ ابنُ عَمِّكَ وَابْنُ عَمَّتِكَ أَشْقَى النَّاسِ بِكَ) وَقَالَ عَلِيٌّ لأَبِي سُفْيَانَ - فِيمَا حَكَاهُ أَبُو عُمَرَ بنُ عَبْدِ الْبَرِّ – (إئْتِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، فَقَلْ لَهُ مَا قَالَ إِخْوَةُ يُوسَفَ لِيُوسُفَ (12: 91) : {تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ} فَإِنَّهُ لا يَرْضَى أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ أَحْسَنُ مِنْهُ قَوْلاً، فَفَعَلَ ذَلِكَ أَبُو

سُفْيَانَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} فَأَنْشَدَهُ أَبُو سُفْيَانَ بنُ الْحَرْثِ أَبْيَاتاً، مِنْهَا: لَعَمْرُكَ إِنِّي حِينَ أَحْمِلُ رَايَةً لِتَغْلِبَ خَيْلُ اللاتِ خَيْلَ مُحَمَّدِ لَكَ الْمُدْلِجِ الْحَيْرَانَ أَظْلَمَ لَيْلُهُ فَهَذَا أَوَانِي حِينَ أَهْدِي فَأَهْتَدِي هَدَانِي هَادٍ غَيْرَ نَفْسِي وَدَلَّنِي عَلَى اللهِ مَنْ طَرَّدْتَهُ كُلَّ مَطْرَدِ فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدْرَهُ، وَقَالَ: «أَنْتَ طَرَدْتَنِي كُلَّ مَطْرَدِ» ؟ وَحَسُنَ إِسْلامُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَيُقَالَ: إِنَّهُ مَا رَفَعَ رَأْسَهُ إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ أَسْلَمَ، حَيَاءً مِنْهُ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّهُ وَشَهِدَ لَهُ بِالْجَنَّةِ، وَقَالَ: «أَرْجُو أَنْ يَكُونَ خَلَفاً مِنْ حَمْزَةَ» وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ: (لا تَبْكُوا عَلَيَّ فَوَاللهِ مَا نَطَقْتُ بِخَطِيئَةٍ مُنْذُ أَسْلَمْتُ) . (فَصْلٌ) عَادَ الْحَدِيثُ: فَلَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ الظَّهْرَانِ نَزَلَهُ عِشَاءً فَأَمَرَ الْجَيْشَ فَأَوْقَدُوا النِّيرَانَ فَأوْقِدَتْ عَشَرَةُ آلافِ نَارٍ، وَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحَرَسِ عُمَرَ بنَ الْخَطَّابِ، وَرَكِبَ الْعَبَّاسُ بَغْلَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْضَاءَ، وَخَرَجَ يَلْتَمِسُ، لَعَلَّهُ يَجِدُ بَعْضَ الْحَطَّابَةِ، أَوْ أَحَداً يُخْبِرُ قُرَيْشاً لِيَخْرُجُوا يَسْتَأْمِنُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا عَنْوَةً.

قَالَ: (وَاللهِ إِنِّي لأَسِيرُ عَلَيْهَا إِذْ سَمِعْتُ كَلامَ أَبِي سُفْيَانَ بن حَرْبٍ وبديل بن وَرْقَاءَ، وَهُمَا يَتَرَاجَعَان، وَأَبُو سُفْيَانَ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ كَاللَّيْلَةِ نِيرَاناً قَطْ وَلا عَسْكَراً. قَالَ: يَقُول بُدَيْلُ: هَذِهِ وَاللهِ خُزَاعَةُ خَمَشَتْهَا الْحَرْبُ، فَيَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ: خُزَاعَةُ أَقَل وَأَذَلُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ نِيرَانها وَعَسْكَرُهَا. قَالَ: فَعَرَفْتُ صَوْتَهَ فَقُلْتُ: أَبَا حَنْظَلَةَ؟ فَعَرَفَ صَوْتِي، فَقَالَ: أَبَا الْفَضْلِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: مَالَكَ؟ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، قَالَ: قُلْتَ: هَذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاسِ، وَاصبَاحَ قُرَيْشٍ وَاللهِ، قَالَ: فَمَا الْحِيَلَةُ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي؟ قُلْتُ: وَاللهِ لَئِنْ ظَفَرَ بِكَ لَيَضْرِبَنَّ عُنَقَكَ، فَارْكَبْ فِي عَجُز هَذِهِ الْبَغْلَةِ، حَتَّى آتِي بِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْتَأْمِنْهُ لِكَ، فَرَكَبَ خَلْفِي وَرَجَعَ صَاحِبَاهُ. قَالَ: فَجِئْتُ بِهِ فَكُلَّمَا مَرَرْتُ بِهِ عَلَى نَارٍ مِنْ نِيرَانِ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: مَنْ هَذَا؟ فَإِذَا رَأَوا بَغْلَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا عَلَيْهَا، قَالُوا: عَمُّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَتِهِ، حَتَّى مَرِرْتُ بِنَارِ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ وَقَامَ إِلَيَّ. فَلَمَّا رَأَى أَبَا سُفْيَانَ عَلَى عَجُزِ الدَّابَّةِ قَالَ: أَبُو سُفْيَانَ عَدُّوُ اللهِ، الْحَمْدُ للهِ الذِي أَمْكَنَ مِنْكَ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلا عَهْدٍ، ثُمَّ خَرَجَ يَشْتَدُّ نَحْوَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَكَضْتُ الْبَغْلَةَ، فَسَبَقْتُ فَاقْتَحَمْتُ عَنِ الْبَغْلَةِ، فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولُ اللهِ، هَذَا أَبُو سُفْيَانَ، فَدَعْنِي أَضْرِبُ عُنَقَهُ. قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي قَدْ أَجَرْتُهُ، ثُمَّ

جَلَسْتُ إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذْتُ بِرَأْسِهِ، فَقُلْتُ: وَاللهِ لا يُنَاجِيهِ اللَّيْلَةَ أَحَدٌ دُونِي. فَلَمَّا أَكْثَرَ عُمَرُ فِي شَأْنِهِ، قُلْتُ: مَهْلاً يَا عُمَرُ، فَوَاللهِ لَوْ كَانَ مِنْ رِجَالِ بَنِي عُدي بن كَعْبٍ مَا عَمِلْتَ مِثْلَ هَذَا، قَالَ: مَهْلاً يَا عَبَّاسُ، فَوَاللهِ لإِسْلامُكَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ إِسْلامِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْهَبْ بِهِ يَا عَبَّاسُ إِلى رَحْلِكَ، فَإِذَا أَصْبَحْتَ فَأْتِنِي بِهِ» . فَذَهَبْتُ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ غَدَوْتُ بِهِ إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ لا إِلَهَ إِلا اللهُ» ؟ قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، مَا أَحْلَمَكَ وَأَكْرَمَكَ وَأَوْصَلَكَ! ! لَقَدْ ظَنَنْتُ أَنْ لَوْ كَانَ مَعَ اللهِ إِلَهٌ غَيْرُهُ لَقَدْ أَغْنَى عَنِّي شَيْئاً بَعْدُ. قَالَ: «وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ» ؟ قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، مَا أَحْلَمَكَ وَأَكْرَمَكَ وَأَوْصَلَكَ! ! أَمَّا هَذِهِ: فَإِنَّ فِي النَّفْسِ حَتَّى الآن مِنْهَا شَيْءٌ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: أَسْلِمْ وَاشْهَدْ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عُنُقُكَ، فَأَسْلَمَ وَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ. فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبُّ الْفَخْرَ، فَاجْعَلْ لَهُ شَيْئاً، قَالَ: «نَعَمْ، مَنْ دَخَل دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُو آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَهُوَ آمِنٌ» . وَأَمَرَ الْعَبَّاسَ أَنْ يَحْبِسَ أَبَا سُفْيَانَ بِمَضِيقِ الْوَادِي عِنْدَ خَطْمِ الْجَبَلِ، حَتَّى تَمُرَّ بِهِ جُنُودُ اللهِ فَيَرَاهَا، فَفَعَلَ فَمَرَّتْ الْقَبَائِلُ عَلَى رَايَاتِهَا، كُلَّمَا مَرَّتْ

بِهِ قَبِيلَةٌ قَالَ أَبُو سُفْيَان: يَا عَبَّاسُ، مَنْ هَذِهِ؟ فَأَقُولُ: سُلَيْمٌ. قَالَ: فَيَقُولُ مَالِي وَلِسُلَيْمٍ، ثُمَّ تَمُر بِهِ الْقَبِيلَةُ فَيَقُولُ: يَا عَبَّاسُ، مَنْ هَؤُلاءِ؟ فَأَقُولُ: مُزَيْنَةُ، فَيَقُولُ: مَالِي وَلِمُزَيْنَةَ، حَتَّى نَفَذَتْ الْقَبَائِلُ، مَا تَمُرُّ بِهِ قَبِيلَةٌ إِلا سَأَلَنِي عَنْهَا، فَإِذَا أَخْبَرْتُهُ بِهِمْ قَالَ: مَالِي وَلِبَنِي فُلانٍ، حَتَّى مَرَّ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَتِيبَتِهِ الْخَضْرَاءِ، فِيهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ، لا يُرَى مِنْهُمْ إِلا الْحَدَقُ مِنْ الْحَدِيدِ، قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ! يَا عَبَّاسُ، مَنْ هَؤُلاءِ؟ قَالَ: قُلْتُ: هَذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ. قَالَ: مَا لأَحَدٍ بِهَوُلاءِ قِبَلٌ وَلا طَاقَةٌ ثُمَّ قَالَ: وَاللهِ يَا أَبَا الْفَضْلِ لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابنِ أَخِيكَ الْيَوْمَ عَظِيماً. قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَا سُفْيَان، إِنَّهَا النُّبُوَّةُ، قَالَ: فَنِعَمْ إِذاً. قَالَ: قُلْتُ: النَّجَاء إِلى قَوْمِكَ، وَكَانَتْ رَايَةُ الأَنْصَارِ مَعَ سَعْدِ بن عُبَادَةَ فَلَمَّا مَرَّ بَأَبِي سُفْيَانَ قَالَ لَهُ: الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمَ تُسْتَحَلُّ الْحَرْمَةُ، الْيَوْمَ أَذَلَّ اللهُ قُرَيْشاً. فَلَمَّا حَاذَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا سُفْيَان قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ سَعْدٌ؟ قَالَ: «وَمَا قَالَ)) ؟ قَالَ: كَذَا وَكَذَا فَقَالَ عُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا نَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي قُرَيْشٍ صَوْلَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ الْيَوْمَ يَوْمٌ تُعَظَّمُ فِيهِ الْكَعْبَةُ، الْيَوْمَ يَوْمٌ أَعَزَّ اللهُ فِيهِ قُرَيْشاً» . ثُمَّ أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلى سَعْدٍ، فَنَزَعَ مِنْهُ اللِّوَاءَ وَدَفَعَهَ إِلى قَيْسِ ابْنِهِ وَرَأَى أَنَّ اللِّوَاءَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ سَعْدٍ، إِذْ صَارَ إِلى ابْنِهِ،

قَالَ أَبُو عُمَر: وَرُوِي (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَعَ مِنْهُ الرَّايَةَ دَفَعَهَا إِلى الزُّبَيْرِ) . وَمَضَى أَبُو سُفْيَانَ، حَتَّى إِذَا جَاءَ قُرَيْشاً صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، هَذَا مُحَمَّدٌ قَدْ جَاءَكُمْ فِيمَا لا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ، فَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، فَقَامَتْ إِلَيْهِ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ فَأَخَذَتْ بِشَارِبِهِ فَقَالَتْ: اقْتُلُوا الْحُمَيْتَ الدَّسِمَ الأَحْمَشَ السَّاقَيْنِ، قُبِّحَ مِنْ طَلِيعَةِ قَوْمٍ. قَالَ: وَيْلَكُمْ، لا تَغُرَّنَكُمْ هَذِهِ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَكُمْ بِمَا لا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ، مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، فَقَالُوا: قَاتَلَكَ اللهُ، وَمَا تُغْنِي عَنَّا دَارُكَ؟ قَالَ: وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُو آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامِ فَهُوَ آمِنٌ. فَتَفَرَّقَ النَّاسُ إِلى دُورِهِمْ، وَإِلى الْمَسْجِدِ، وَسَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ مَكَّة مِنْ أَعْلاها، وَضُرِبَتْ لَهُ هُنَالِكَ قُبَّةٌ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بنَ الْوَلِيد أَنْ يَدْخُلَهَا مِنْ أَسْفَلِهَا. وَكَانَ عَلَى الْمَجْنَبَةِ الْيُمْنَى وَفِيهَا أَسْلَمُ وَسُلَيْمٌ وَغِفَارٌ وَمُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ، وَقَبَائِلُ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى الرِّجَالَةِ وَالْحُسَّرِ، وَهُمْ الذِينَ لا سِلاحَ مَعَهُمْ، وَقَالَ لِخَالِدِ وَمَنْ مَعَهُ: (إِنْ عَرَضَ لَكُمْ أَحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَاحْصُدُوهُمْ حَصْداً، حَتَّى تُوَافُونِي عَلَى الصَّفَا) فَمَا عَرَضَ لَهُمْ أَحَدٌ إِلا أَنَامُوهُ. وَتَجَمَّعَتْ سُفَهَاءُ قُرَيْش وَأَخفَّاؤُهَا مَعَ عِكْرِمَةَ بنِ أَبِي جَهْلٍ، وَصَفْوَانِ بن أُمَيَّةَ، وَسُهَيْلِ بن عَمْروٍ بِالْخَنْدَمَةِ لِيُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ. اللَّهُمَّ ثَبَّتْ مَحَبَّتكَ في قُلُوبِنَا ثُبُوتَ الْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ وَجَنِّبْنَا الْخَطَايَا وَالذُّنُوبَ الْمُوبِقَاتِ وَوَفِّقْنَا لِلْعَمَلِ بِالْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ وَأَلْهِمْنَا ذِكْركَ فِي

جَمِيع الأَوْقَاتِ وَزَحْزِحْنَا عَنْ النَّارِ وَأَدْخِلْنَا فَسِيحَ الْجَنَّاتِ يَا رَفِيعَ الدَّرَجَاتِ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَمَ تَسْلِيْماً كَثِيْرَاً. (فَصْلٌ) : وَكَانَ حَمَاسُ بنُ قَيْسِ بن خَالِدٍ أَخُو بَنِي بَكْرٍ يُعِدُّ سِلاحاً قَبْلَ دُخُولِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: لِمَاذَا تُعِدُّ مَا أَرَى؟ قَالَ: لِمُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، قَالَتْ: وَاللهِ مَا يَقُومُ لِمُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ شَيْئاً، قَالَ: إِنِّي وَاللهِ لأَرْجُو أَنِّي أُخْدِمُكَ بَعْضَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ يَقْبَلُوا الْيَوْمَ فَمَالِي عِلَّهْ هَذَا سِلاحٌ كَامِلٌ وَإِلَّهْ وَذُو غِرَارَيْنِ سَرِيعَ السَّلهَ ثُمَّ شَهِدَ الْخَندَمَةَ مَعَ صَفْوَانَ وَعِكْرِمَةَ وَسُهَيْلِ بن عَمْرو، فَلََمَّا لَقِيَهُمْ الْمُسْلِمُونَ نَاوَشُوهُمْ شَيْئاً مِنْ قِتَالٍ، فَقُتِلَ كُرْزُ بنُ جَابِرٍ الْفِهْرِي، وَخُنَيْسُ بنُ خَالِدِ بنِ رَبِيعَةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَا فِي خَيْلِ خَالِدِ بنِ الْوَلِيدِ، فَشَذَّا عَنْهُ، فَسَلَكَا طَرِيقاً غَيْرَ طَرِيقِهِ فَقُتِلا جَمِيعاً فَأُصِيبَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ نَحْو اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً، ثُمَّ انْهَزَمُوا، وَانْهَزَمَ حَمَّاسٌ صَاحِبُ السِّلاحِ، حَتَّى دَخَلَ بَيْتَهُ فَقَالَ لامْرَأَتِهِ: أَغْلِقِي عَلَيَّ بَابِي، فَقَالَتْ: وَأَيْنَ مَا كُنْتَ تَقُولُ؟ فَقَالَ: إِنَّكِ لَوْ شَهِدْتِ يَوْمَ الْخَنْدَمَةْ إِذْ فَرَّ صَفْوَانُ وَفَرَّ عِكْرِمَةْ وَأَبُو يَزِيدٍ قَائِمٌ كَالْمُؤْتَمَهْ وَاسْتَقْبَلَتْنَا بِالسُّيُوفِ الْمُسْلِمَهْ يَقْطَعْنَ كُلَّ سَاعِدٍ وَجُمْجُمَهْ ضَرْباً، فَلا يُسْمَعُ إِلا غَمْغَمَهْ

لَهُمْ نَهِيتٌ حَوْلَنَا وَهَمْهَمَهْ لَمْ تَنْطَقِي فِي اللَّوْمِ أَدْنَى كَلِمَهْ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ مَكَّةَ، فَبَعَثَ الزُّبَيْرَ عَلَى إِحْدَى الْمَجْنَبَتَيْنِ، وَبَعَثَ خَالِدَ بن الْوَلِيدِ عَلَى الْمَجْنَبَةِ الأُخْرَى، وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بن الْجَرَّاحِ عَلَى الْحُسَّرِ، وَأَخَذُوا بَطْنَ الْوَادِي، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَتِيبَتِهِ. قَالَ: وَقَدْ وَبَّشَتْ قُرَيْشٌ أَوْبَاشاً لَهَا، فَقَالُوا: نُقَدِّمُ هَؤُلاءِ، فَإِنْ كَانَ لِقُرَيْشٍ شَيْءٌ كُنَّا مَعَهُمْ، وَإِنْ أُصِيبُوا أَعْطَيْنَا الذِي سُئِلْنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَا أَبَا هُرَيْرَةَ)) . فَقُلْتُ: لَبَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَسَعْدَيْكَ، فَقَالَ: ((اهْتِفْ لِي بِالأَنْصَارِ، وَلا يَأْتِينِي إِلا أَنْصَارِيٌ)) . فَهَتَفَ بِهِمْ، فَجَاءُوا فَأَطَافُوا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ((أَتَرَوْنَ إِلى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ وَأَتْبَاعِهِمْ)) ؟ ثُمَّ قَالَ بِيَدِيهِ - إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى احْصُدُوهُمْ حَصْداً حَتَّى تُوَافُونِي بِالصَّفَا، فَانْطَلَقْنَا، فَمَا يَشَاءُ أَحَدٌ مِنَّا أَنْ يَقْْتُلَ مِنْهُمِ إِلا شَاءَ، وَمَا أَحَدٌ مِنْهُمْ وَجَّهَ إِلَيْنَا شَيْئاً وَرَكَزْتُ رَايَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُجُونِ عِنْدَ مَسْجِدِ الْفَتْحِ. ثُمَّ نَهَضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَخَلْفَهُ وَحَوْلَهُ، حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَأَقْبَلَ إِلى الْحَجَرِ الأَسْوَدِ، فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ، وَفِي يَدِهِ قَوْسٌ وَحَوْلَ الْبَيْتِ وَعَلَيْهِ ثَلاثُمَائَةُ وَسِتُّونَ صَنَمَا، فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِالْقُوسِ، وَيَقُولُ: {جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} جَاءَ الْحَقُّ، وَمَا

يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدْ، وَالأَصْنَامُ تَتَسَاقَطُ عَلَى وُجُوهِهَا. وَكَانَ طِوَافُهُ عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ مُحْرِمَاً يَؤْمَئِذٍ، فَاقْتَصَرَ عَلَى الطَّوَافِ، فَلَمَّا أَكْمَلَهُ دَعَا عُثْمَانَ بن طَلْحَة، فَأَخَذْ مِنْهُ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ، فَأَمَرَ بِهَا فَفُتِحَتْ، فَدَخَلَهَا بِالأَزْلامِ، فَقَالَ: «قَاتَلَهُمْ اللهُ، وَاللهِ إِنْ اسْتَقْسَمَا بِهَا قَطُ» . وَرَأَى فِي الْكَعْبَةِ حَمَامَةً مِنْ عِيدَانٍ، فَكَسَّرَهَا بِيَدِهِ وَأَمَرَ بِالصُّوَرِ فَمُحِيَتْ، ثُمَّ أَغْلَقَ عَلَيْهِ الْبَابَ، وَعَلى أُسَامَةَ وَبِلالٍ فَاسْتَقْبَلَ الْجِدَارَ الذِي يُقَابِلُ الْبَابَ، حَتَّى إِذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَدْرُ ثَلاثَةِ أَذْرُعٍ وَقَفَ وَصَلَّى هُنَاكَ، ثُمَّ دَارَ فِي الْبَيْتِ وَكَبَّرَ فِي نَوَاحِيهِ، وَوَحَّدَ اللهَ، ثُمَّ فَتَحَ الْبَابَ وَقُرَيْشٌ قَدْ مَلأَتِ الْمَسْجِدَ صُفُوفاً، يَنْتَظِرُونَ مَاذَا يَصْنَعُ، فَأَخَذَ بعِضَادَتَى الْبَابِ، وَهُمْ تَحْتَهُ، فَقَالَ: «لا إِلَهَ إِلا اللهَ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ ألا كلُ مَأْثَرَةٍ أَوْ مَالٍ أَوْ دَمٍ: فَهُوَ تَحْتَ قَدَمِيَّ هَاتَيْنِ، إِلا سِدَانَةَ الْبَيْتِ وَسِقَايَةَ الْحَاجّ، أَلا وَقَتْلُ الْخَطَأ شِبْهُ الْعَمْدِ: السَّوْطُ وَالْعَصَا، فَفِيهِ الدِّيَّةُ مُغْلَّظَةٌ (مَائَةٌ مِنْ الإِبِلِ) أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بُطُونِهَا أَوْلادُهَا. يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّ اللهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ نِخْوَةَ الْجَاهِلَيَّةِ وَتَعْظُمَهَا بِالآبَاءِ، النَّاسُ مِنْ آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ تَلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مَا تَرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ)) ؟ قَالُوا: خَيْراً أَخٌ كَرِيمٌ، وَابنُ أَخٍ كَرِيم. قَالَ: ((فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ كَمَا قَالَ يُوسفُ لإِخْوَتِهِ (12: 92) : {لاَ

تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} اذْهَبُوا، فَأَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ)) . ثُمَّ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ. فَقَامَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ وِمِفْتَاحُ الْكَعْبَةِ فِي يَدِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، اجْمَعْ لَنَا الْحِجَابَةَ مَعَ السِّقَايَةَ صَلَّى اللهُ عَلَيْكَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَيْنَ عُثْمَانُ بنُ طَلْحَةَ)) ؟ فَدُعِي لَهُ، فَقَالَ لَهُ: «هَاكَ مِفْتَاحَكَ يَا عُثْمَانُ، الْيَوْمُ يَوْمُ بِرٍّ وَوَفَاء» . وَذَكَر ابنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ عَنْ عُثْمَانَ بن طَلْحَةَ قَالَ: (كُنَّا نَفْتَحُ الْكَعْبَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَوْمَ الإِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ، فَأَقْبَلَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْماً يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ الْكَعْبَةَ مَعَ النَّاسِ، فَأَغْلَظْتُ لَهُ، فَنِلْتُ مِنْهُ، فَحَلُمَ عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: ((يَا عُثْمَانُ لَعَلَّكَ سَتَرى هَذَا الْمفْتَاحَ يَوْماً بِيَدِي، أَضَعُهُ حَيْثُ شِئْتُ)) . فَقُلْتُ: لَقَدْ هَلَكَتْ قُرَيْشٌ يَوْمَئِذٍ وذَلَّتْ، فَقَالَ: ((بَلْ عَمَرَتْ وَعَزَّتْ يَوْمَئِذٍ)) . وَدَخَلَ الْكَعْبَةَ، فَوَقَعَتْ كَلِمَتُهُ مِنِّي مَوْقعاً، ظَنَنْتُ يَوْمَئِذٍ أَنَّ الأَمْرَ سَيَصِيرُ إِلى مَا قَالَ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الْفَتْحِ قَالَ: ((يَا عُثْمَانُ، ائْتِنِي بِالْمِفْتَاحِ)) . فَأَتَيْتُهُ بِهِ، فَأَخَذَهُ مِنِّي، ثُمَّ دَفَعَهُ إِلِيَّ، وَقَالَ: «خذوهَا خَالِدَةً تَالِدَةً، لا يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إِلا ظَالِمٌ، يَا عُثْمَانُ، إِنَّ اللهَ اسْتَأْمَنَكُمْ عَلَى بَيْتِهِ، فَكَلُوا مِمَّا يَصِلُ إِلَيْكُمْ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ بِالْمَعْرُوفِ)) . قَالَ: فَلَمَّا وَلَّيْتُ نَادَانِي، فَرَجِعْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: «أَلَمْ يَكُنْ الذِي قُلْتُ لَكَ)) ؟ قَالَ: فَذَكَرْتُ قَوْلَهُ لِي بِمَكَّةَ قَبِيلَ الْهِجْرَةِ: «لَعَلَّكَ سَتَرَى هَذَا الْمِفْتَاحَ بِيَدِي أَضَعُهُ حَيْثُ شِئْتُ» . فَقُلْتُ: بَلَى، أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ. وَذَكَرَ سَعِيدُ بنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ الْعَبَّاسَ تَطَاوَلَ يَوْمَئِذٍ لأَخْذِ الْمِفْتَاحِ فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، فَرَدَّهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلى

عُثْمَانَ بن طَلْحَةَ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلالاً: أَنْ يَصْعَدَ فَيُؤَذِّنَ عَلَى الْكَعْبَةِ، وَأَبُو سُفْيَانَ ابنُ حَرْبٍ وَعَتَّابُ بنُ أُسَيْدٍ، وَالْحَارِثُ ابنُ هِشَامٍ، وَأَشْرَافٌ جُلُوسٌ بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ عَتَّابٌ: لَقَدْ أَكْرَمَ اللهُ أُسَيَّداً أَنْ لا يَكُونَ سَمِعَ هَذَا، فَيَسْمَعَ مِنْهُ مَا يُغِيظُهُ، فَقَالَ الْحَارِثُ: أَمَا وَاللهِ، لَوْ أَعْلَمُ أَنَّهُ حَقٌّ لاتَّبَعْتُهُ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَمَا وَاللهِ، لا أَقُولُ شَيْئاً، لَوْ تَكَلَّمْتُ لأَخْبَرَت عَنِّي الْحَصَبَاءُ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُمْ: ((قَدْ عَلِمْتُ الذِي قُلْتُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمْ)) . فَقَالَ الْحَرْثُ وَعَتَّابٌ: نَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، وَاللهِ مَا اطَّلعَ عَلَى هَذَا أَحَدٌ كَانَ مَعَنَا، فَنَقُولُ: أَخْبَرَكَ وَهِذِهِ مُعْجِزَةٌ حَيْثُ أَخْبَرَهُمْ بِمَا قَالُوا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. اللَّهُمَّ وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ يَأْخُذَ الْكِتَابِ بِالْيَمِينِ، وَاجْعَلْنَا يَوْمَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ آمِنِينَ، وَأَوْصِلْنَا بِرَحْمَتِكَ وَكَرَمِكَ إِلى جَنَّاتِ النَّعِيمِ. (فَصْلٌ) ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَارَ أُمّ هَانِئ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ، فَاغْتَسَلَ، وَصَلَّى ثَمَانِ رَكَعَاتٍ فِي بَيْتِهَا وَكَانَ ضُحَى، فَظَنَّها مَنْ ظَنَّهَا صَلاةَ الضُّحَى، وَإِنَّمَا هَذِهِ صَلاةُ الْفَتْحِ، وَكَانَ أُمَرَاءُ الإِسْلامِ إِذَا فَتَحُوا حِصْناً أَوْ بَلَداً صَلُّوا عَقِيبَ الْفَتْحِ هَذِهِ الصَّلاةَ اقْتِدَاءً برَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي الْقِصَّةِ: مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بِسَبَبِ الْفَتْحِ، شُكْراً للهِ عَلَيْهِ فَإِنَّ أُمَّ هَانِئٍ قَالَتْ: (مَا رَأَيْتُهُ صَلاهَا قَبْلَهَا وَلا بَعْدَهَا) وَأَجَازَتْ أُمُّ هَانِئٍ حَمْوَيْنِ لَهَا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ أُجِرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ» .

(فَصْلٌ) وَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْفَتْحُ أَمَّنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ كُلَّهُمْ، إِلا تِسْعَةَ نَفَرٍ، فَإِنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ، وَإِنْ وُجِدُوا تَحْتَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَهُمْ: عَبْدُ اللهِ بنُ سَعْدِ أَبِي سَرْحٍ، وَعِكْرِمَةُ ابنُ أَبِي جَهْلٍ، وَعَبْدُ الْعَزَّى بنُ خَطَلٍ، وَالْحَارِثُ بنُ نُفَيْلٍ بنُ وَهْبٍ، وَمَقْيَسُ بنُ صُبَابَةَ، وَهَبَّارُ بنُ الأَسْوَدِ، وَقَيْنَتَانِ لابنِ خَطَلٍ، كَانَتَا تُغَنِّيَانِ بِهِجَاءِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَارَةُ مَوْلاةٌ لِبَعْضِ بَنِي عَبْدُ الْمُطَّلِبِ. فَأَمَّا ابنُ أَبِي سَرْحٍ، فَأَسْلَمَ فَجَاءَ بِهِ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ، فَاسْتَأْمَنَ لَهُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَبِلَ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ أَمْسَكَ عَنْهُ رَجَاءَ أَنْ يَقُومَ إِلَيْهِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ فَيَقْتُلََهُ. وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ قَبْلَ ذَلِكَ وَهَاجَرَ، ثُمَّ ارْتَدَّ وَرَجَع إِلى مَكَّةَ، وَأَمَّا عِكْرِمَةُ بنُ أَبِي جَهْلٍ، فَاسْتَأْمَنَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ بَعْدَ أَنْ فَرَّ فَأَمَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدِمَ وَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلامُهُ وَأَمَّا ابنُ خَطَلٍ وَالْحَارِثُ وَمِقْيَسُ وَإِحْدَى الْقَيْنَتَيْنِ، فَقُتِلُوا وَكَانَ مَقِيسُ قَدْ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ وَقَتَلَ وَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينِ، وَأَمَّا هَبَّارُ بنُ الأَسْوَدِ فَهُوَ الذِي عَرَضَ لِزَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ هَاجَرَتْ، فَنَخَسَ بَطْنَهَا حَتَّى سَقَطَتْ عَلَى صَخْرَةٍ وَأَسْقَطَتْ جَنِينَهَا فَفَرَّ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلامُهُ. وَاسْتُؤمِنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَارَةَ وَلإِحْدَى الْقَيْنَتَيْنِ فَأَمَّنَهُمَا فَأَسْلَمَتَا.

فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ قَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيباً، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَمَجَّدَهُ بِمَا هُوَ أَهْلُه ثُمَّ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلا يَحِلُّ لامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخرِ أَنْ يَسْفِكَ فِيهَا دَماً أَوْ يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُولُوا: إِنَّ اللهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكَ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ، فَلْيُبَلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ)) . وَلَمَّا فَتَحَ اللهُ مَكَّةَ عَلَى رَسُولِهِ - وَهِيَ بَلَدُهُ وَوَطَنُهُ وَمَوْلِدُهُ - قَالَ الأَنْصَارُ فِيمَا بَيْنَهُمْ: أَتَرَوْنَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ أَرْضَهُ وَبَلَدَهُ، يُحِبُّ أَنْ يُقِيمَ بِهَا وَهُوَ يَدْعُو عَلَى الصَّفَا، رَافِعًا يَدَيْهِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ دُعَائِهِ قَالَ: «مَاذَا قُلْتُمْ)) ؟ قَالُوا: لا شَيْء يَا رَسُول اللهِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتَّى اخْبَرُوه فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَعَاذَ اللهِ، الْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ وَالْمَمَاتُ مِمَاتُكُمْ» . شِعْرًا: ... إِذَا كُنْتَ في دَارٍ وَضَامَكَ أَهْلُهَا ... وَقَلْبُكَ مَشْغُوفٌ بِهَا فَتَغَرَّبِ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ لَمْ يَسْتَقِمْ لَهُ ... بِمَكَّةَ أَمْرٌ فَاسْتَقَامَ بِيَثْرِبِ وَقَالَ آخر مُتَذَكِّراً وَطَنَهُ وَمَسْقطَ رَأْسِهِ في الْقَصِيم في عُنَيْزَةَ: وَأَذْكُرُ أَيَّامَ الْقَصِيمِ فَأَنْثَنِي ... عَلَى كَبَدِي مِنْ خَشْيِةَ أَنْ تَصَدَّعَا بَكَتْ عَيْنِي الْيُمْنَى فَلَمَّا نَهَيْتُهَا ... عَنِ الْجَهْلَ بَعْدَ الْحِلْم أَسْبَلَتَا مَعَا فَلَيْتَ عَشِيَّاتِ الْقَصِيمِ رَوَاجِعٌ ... عَلَيَّ وَلَكِنْ خَلِّ عَيْنَيْكَ تَدْمَعَا وَلا سِسَّمَا دَاراً تُسَمَّى عُنَيْزَةً ... قَضَيْتَ بَهَا عَشْراً وَأَرْبَعَا آخر: ... إِذَا خِفْتَ مِنْ دَارٍ هَوَاناً فَوَلِّهَا ... سِوَاكَ وَعَنْ دَارِ الأَذَى فَتَحَوَّلِ

وَهُمَّ فَضَالَةُ بنُ عُمَيْرِ بنِ الْمُلَوِّحِ أَنْ يَقْتُلَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَفَضَالَةَ)) ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَضَالَةَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: ((مَاذَا كُنْتَ تُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَكَ)) ؟ قَالَ: لا شَيْءَ كُنْتُ أَذْكُرُ اللهَ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: ((اسْتَغْفِر اللهِ)) . ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ، فَسَكَنَ قَلْبُهُ. وَكَانَ فَضَالَةُ يَقُولُ: (وَاللهِ مَا رَفَعَ يَدَهُ عَنْ صَدْرِي حَتَّى مَا خَلَقَ اللهُ شَيْئاً أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهُ) قَالَ فَضَالَةُ: فَرَجَعْتُ إِلى أَهْلِي، فَمَرَرْتُ بِامْرَأَةٍ كُنْتُ أَتَحَدَّثُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ: هَلُمَّ إِلى الْحَدِيث، فَقُلْتُ: لا، وَانْبَعَثَ فضالة يقولُ: قَالَتْ: هَلُمَّ إِلى الْحَدِيثِ، فَقُلْت: لا يَأْبَى عَلَيْكِ اللهُ وَالإِسْلامُ لَوْ قَدْ رَأَيْتِ مُحَمَّداً وَقَبِيلَهُ بِالْفَتْحِ يَوْمَ تَكُسَّرُ الأَصْنَامُ لَرَأَيْتِ دِينَ اللهِ أَضْحَى بَيِّناً وَالشِّرْكَ يَغْشَى وَجْهَهُ الإِظْلامُ وَفَرَّ يَوْمَئِذٍ صَفْوَانُ بنُ أُمَيَّةَ، وَعِكْرِمَةُ بنُ أَبِي جَهْلٍ، فَأَمَّا صَفْوَانُ، فَاسْتَأْمَنَ لَهُ عُمَيْرُ بنُ وَهْبٍ الْجُمَحِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّنَهُ، وَأَعْطَاهُ عِمَامَتَهُ الَّتِي دَخَلَ بِهَا مَكَّةَ، فَلَحِقَهُ عُمَيْرٌ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَرْكَبَ الْبَحْرَ، فَرَدَّهُ فَقَالَ: اجْعَلْنِي بِالْخِيَارِ شَهْرَيْنِ، فَقَالَ: أَنْتَ باِلْخِيَارِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرْ. وَكَانَتْ أُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ الْحَارِثِ بنِ هَشَامٍ تَحْتَ عِكْرَمَةَ بنِ أَبِي جَهْلٍ

فَأَسْلَمَتْ، وَاسْتَأْمَنَتْ لَهُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّنَهُ، فَلَحِقَتْهُ بِالْيَمَن، فَأَمَّنَتْهُ فَرَدَّتْهُ، وَأَقَرَّهَمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَصَفْوَانُ عَلَى نِكَاحِهَا الأَوَّل. ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمِيمَ بنَ أُسَيْدٍ الْخُزَاعِيَّ فَجَدَّدَ أَنْصَابَ الْحَرَم. وَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرَايَاهُ إِلى الأَوْثَانِ الَّتِي كَانَتْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، فَكُسِّرَتْ كُلُّهَا مِنْهَا اللاتُ، وَالْعُزَّى وَمَنَاةُ الثَّالِثَةُ الأُخْرَى، وَنَادَى مُنَادِيه بِمَكَّةَ (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يَدَعْ فِي بَيْتِهِ صَنَماً إِلا كَسَرَهُ) . وَبَعَثَ خَالِدَ بنَ الْوَلِيدِ إِلى الْعُزَّى لِخَمْسِ لَيَالٍ بِقَيْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ لِيَهْدِمَهَا، فَخَرَجَ إِلَيْهَا فِي ثَلاثِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ، حَتَّى انْتَهُوا إِلَيْهَا فَهَدَمَهَا ثُمَّ رَجَعَ إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: «هَلْ رَأَيْتُ شَيْئاً)) ؟ قَالَ: لا قَالَ: ((فَإِنَّكَ لَمْ تَهْدِمْهَا، فَارْجِعْ إِلَيْهَا فَاهْدِمْهَا)) . فَرَجَعَ خَالِدُ - وَهُوَ مُتَغَيِّظٌ - فَجَرَّدَ سَيْفَهُ، فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ عُرْيَانَةٌ سَوْدَاءُ نَاشِرَةٌ الرَّأْسَ، فَجَعَلَ السَّادِنُ يَصِيحُ بِهَا فَضَرَبَهَا خَالِدُ، فَجَزَلَهَا بِاثْنَتيْنِ، وَرَجَعَ إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: ((نَعَمَ، تِلْكَ الْعُزَّى، وَقَدْ أَيَسَتْ أَنْ تُعْبَدَ فِي بِلادِكُمْ أَبَداً» . وَكَانَتْ بِنَخْلَة، وَكَانَتْ لِقُرَيْشٍ وَجَمِيعِ بَنِي كِنَانَةَ، وَكَانَتْ أَعْظَمَ أَصْنَامِهِمْ، وَكَانْ سَدَنَتُهَا مِنْ بَنِي شَيْبَانَ. فَفِي هَذِهِ مُعْجِزَةٌ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ بَعَثَ عَمْرَو بنَ الْعَاصِ إِلى سُوَاعٍ - وَهُوَ صَنَمٌ لِهَذِيلٍ - لِيَهْدِمَهُ، قَالَ عَمْرٌو: (فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ، وَعِنْدَهُ السَّادِنُ، فَقَالَ: مَا تُرِيدُ؟ قُلْتُ: أَمَرَنِي

قصيدة في الحث على تدبر كتاب الله وتفهمه والعمل به

رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُهْدِمَهُ، فَقَالَ: لا تَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ قُلْتُ: لِمَ؟ قَالَ: تُمْنَعُ، قُلْتُ حَتَّى الآنَ أَنْتَ عَلَى الْبَاطِلِ؟ وَيْحَكَ، فَهَلْ يَسْمَعَ أَوْ يُبْصِرُ؟ قَالَ: فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَكَسَّرْتُهُ، وَأَمَرْتُ أَصْحَابِي فَهَدَمُوا بَيْتَ خَزَّانَةَ، فَلَمْ يَجِدُوا فِيهِ شَيْئاً، ثُمَّ قُلْتُ لِلسَّادِنْ: كَيْفَ رَأَيْت؟ قَالَ: أَسْلَمْتُ للهِ. ثُمَّ بَعَثَ سَعْدَ بنَ زَيْدٍ الأَشْهَلِي إِلى مَنَاة وَكَانَتْ بِالْمُشَلَّلِ، عِنْدَ قُدَيْدٍ لِلأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَغَسَّانَ وَغَيْرِهِمْ، فَخَرَجَ فِي عِشْرِينَ فَارِس، حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهَا، وَعِنْدَهَا سَادِنٌ، فَقَالَ السَّادِنُ: مَا تُرِيدُ؟ قُلْتُ: أَهْدِمُ مَنَاةَ، قَالَ: أَنْتَ وَذَاكَ، فَأَقْبَلَ سَعْدٌ يَمْشِي إِلَيْهَا، وَتَخْرُجُ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ عِرْيَانَةٌ سَوْدَاءُ، ثَائرَةٌ الرَّأْسَ، تَدْعُو بِالْوَيْلِ، وَتَضْرِبُ صَدْرَهَا، فَقَالَ لَهَا السَّادن: مَنَاةُ، دُونَكَ بَعْضُ عَصَاتِكَ، فَضَرَبَهَا سَعْدٌ فَقَتَلَهَا وَأَقْبَلَ إِلى الصَّنَمِ فَهَدَمَهُ وَكَسَّرَهُ وَلَمْ يَجِدُوا فِي خِزَانَتِهِ شَيْئاً. شِعْراً فِي الْحَثِّ عَلَى كِتَابِ اللهِ وَتَدَبُّرِهِ وَتَفَهَّمِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ: وَبِالتَّدْبُرِ وَالتَّرْتِيلِ فَاتْلُ كِتَا ب اللهِ لاسِيَّمَا فِي حِنْدِسِ الظُّلْمِ حَكِّمْ بَرَاهِينَهُ وَاعْمَلْ بِمُحْكَمِهِ حِلاً وَحَظْراً وَمَا قَدْ حَدَّهُ أَقِمِ وَاطْلُبْ مَعَانِيهِ بِالنَّقْلِ الصَّرِيحِ وَلا تَخُضْ بِرَأَيْكَ وَاحْذَرْ بَطْشَ مُنْتَقِمِ فِيمَا عَلِمْتَ بِمَحْضِ النَّقْلِ مِنْهُ فَقُلْ وَكِلْ إِلى اللهِ مَعْنَى كُلِّ مُنْبَهِمِ

ثُمَّ الْمِرَا فِيهِ كُفْرٌ فَاحْذَرَنْهُ وَلا يَسْتَهْوِيَنَّكَ أَقْوَامٌ بِزَيْغِهِمِ وَعَنْ مَنَاهِيهِ كُنْ يَا صَاحِ مُنْزِجِراً وَالأَمْرَ مِنْهُ بِلا تَرْدَادَ فَالْتَزِمِ وَمَا تَشَابَهَ فَوِّضْ لِلإلَهِ وَلا تَخُضْ فَخَوْضُكَ فِيهِ مُوْجِبُ النَّقَمِ وَلا تُطِعْ قَوْلَ ذِي زَيْغٍ يُزَخْرِفُهُ مِنْ كُلَّ مُبْتَدِعٍ فِي الدِّينِ مُتَّهَمِ جَيرَانَ ضَلَّ عَنْ الْحَقِّ الْمُبِينِ فَلا يَنْفَكُّ مُنْحَرِفاً مُعَوّجَ لَمْ يَقُمِ هُوَ الْكِتَابُ الذِي مَنْ قَامَ يَقْرَؤُهُ كَأَنَّمَا خَاطَبَ الرَّحْمَنَ بِالْكَلِمِ هُوَ الصِّرَاطُ هُوَ الْحَبْلُ الْمَتِينُ هُوَ الْـ مِيزَانُ وَالْعُرْوَةُ الْوُثْقَى لِمُعْتَصِمِ هُوَ الْبَيَانُ هُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ هُوَ التَّـ تَفْصِيلُ فَاقَنَعْ بِهِ فِي كُلِّ مُنْبَهِمِ هُوَ الْبَصَائِرُ وَالذِّكْرَى لِمُدَكِّرٍ هُوَ الْمَوَاعِظُ وَالْبُشْرَى لِغَيْر عَمِي هُوَ الْمُنَزَّلُ نُوراً بَيِّناً وَهُدَى وَهُوَ الشِّفَاءُ لِمَا في الْقَلْبِ مِنْ سَقَمِ لَكِنَّهُ لأُولِي الإِيمَانِ إِذْ عَمِلُوا

.. بِمَا أَتَى فِيهِ مِنْ عِلْمٍ وَمِنْ حِكَمِ أَمَّا عَلَى مَنْ تَوَلَّى عَنْهُ فَهُوَ عَمَى لِكَوْنِهِ عَنْ هُدَاهُ الْمُسْتَنِيرُ عَمِي فَمَنْ يُقِمْهُ يَكُنْ يَوْمَ الْمَعَادِ لَهُ خَيْرُ الإِمَامِ إِلى الْفِرْدَوْسِ وَالنِّعَمِ كَمَا يَسُوقُ أُولِي الأَعْرَاضِ عَنْهُ إِلى دَارِ الْمَقَامِعِ وَالأَنْكَالِ وَالأَلَمِ وَقَدْ أَتَى النَّصُّ فِي الطُّوْلَيْنِ أَنَّهُمَا ظِلاً لِتَالِيْهِمَا فِي مَوْقِفِ الْغَمَمِ وَأَنَّهُ فِي غَدٍ يَأْتِي لِصَاحِبِهِ مُبَشِّراً وَحَجِيجاً عَنْهُ إِنْ يُقِمِ وَالْمُلْكَ وَالْخُلْدَ يُعْطِيهِ وَيُلْبِسُه تَاجَ الْوَقارِ الإِلهُ الْحَقُّ ذُو الْكَرَمِ يُقَالُ اقْرَأْ وَرَتِّلْ وَارْقَ فِي غرَفِ الْـ جَنَّاتِ كَيْ تَنْتَهِي لِلْمَنْزِلِ النَّعِمِ وَحُلَّتَانِ مِنْ الْفِرْدَوْسِ قَدْ كُسِيتْ لِوَالِدَيْهِ لَهَا الأَكْوَانُ لَمْ تَقُمْ قَالا بِمَاذَا كَسَيْنَاهَا فَقِيلَ بِمَا أَقْرَأْتُمَا ابْنَكُمَا فَاشْكُرْ لِذِي النِّعَمِ كَفَى وَحَسْبُكَ بِالْقُرْآنِ مُعْجِزةً دَامَتْ لَدَيْنَا دَوَاماً غَيْرَ مُنْصَرِمِ

.. لَمْ يَعْترِهْ قَطُّ تَبْدِيلٌ وَلا غِيْرٌ وَجَلَّ فِي كَثْرَةِ التَّرْدَادِ عَنْ سَأْمِ مُهَيْمِناً عَرِبِياً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ مُصَدِّقاً جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ فِي الْقِدَمِ فِيهِ التَّفَاصِيلُ لِلأَحْكَامِ مَعْ نَبَأٍ عَمَّا سَيَأْتِي وَعَنْ مَاضٍ مِنْ الأُمَمِ فَأنْظُرْ قَوَارِعَ آيَاتِ الْمَعَادِ بِهِ وَانْظُرْ لِمَا قَصَّ عَنْ عَادَ وَعَنْ إِرْمِ وَانْظُرْ بِهِ شَرْحَ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ هَلْ تَرَى بِهَا مِنْ عَوِيصٍ غَيْرِ مُنْفَصِمِ أَمْ مِن صَلاحٍ وَلَمْ يَهْدِ الأَنَامَ لَهُ أَمْ بَابِ هُلْكٍ وَلَمْ يَزْجُرْ وَلَمْ يَلُمِ أَمْ كَانَ يُغْنِي نَقِيراً عَنْ هِدَايَتِهِ جَمِيعُ مَا عِنْدَ أَهْلِِ الأَرْضِ مِنْ نُظُمِ أَخْبَارُهُ عِظَةٌ أَمْثَالُهُ عِبَرٌ وَكُلُّهُ عَجَبٌ سُحْقاً لِذِي صَمِمِ لَمْ تَلْبِثِ الْجِنُّ إِذْ أَصْغَتْ لِتسْمَعَهُ أَنْ بَادَرُوا نُذْراً مِنْهُمْ لِقَوْمِهِمِ اللهُ أَكْبَرُ مَا قَدْ حَازَ مِنْ عِبَرٍ وَمِنْ بَيَانٍ وَإِعْجَازٍ وَمِنْ حِكَمِ وَاللهُ أَكْبَرُ إِذْ أَعْيتْ بَلاغَتُهُ

.. وَحُسْنُ تَرْكِيبِهِ لِلْعُرْبِ وَالْعَجَمِ كَمْ مُلْحِدٍ رَامَ أَنْ يُبْدِي مُعَارَضَةً فَعَادَ بِالذُّلِّ وَالْخُسْرَانِ وَالرَّغَمِ هَيْهَاتَ بُعْداً لِمَا رَامُوا وَمَا قَصَدُوا وَمَا تَمَنَّوْا لَقَدْ بَاؤُوا بِذُلِّهِمِ خَابَتْ أَمَانِيهُمُ شَاهَتْ وُجُوهُهُمْ زَاغَتْ قُلُوبُهُمُ عَنْ هَدِيهِ الْقَيمِ كَمْ قَدْ تَحَدَّى قُرَيْشاً فِي الْقدِيمِ وَهُمْ أَهْلُ الْبَلاغَةِ بَيْنَ الْخَلْقِ كُلِّهِمِ بِمِثْلِهِ وَبِعَشْرٍ ثُمَّ وَاحِدَةٍ فَلَمْ يَرُومُوهُ إِذْ ذَا الإِمْرَ لَمْ يُرَمِ الْجِنُّ وَالإِنْسُ لَمْ يَأْتُوا لَوْ اجْتَمَعُوا بِمِثْلِهِ وَلَوْ انْضَمُّوا لِمِثْلِهِمِ أَنَّى وَكَيْفَ وَرَبُّ الْعَرْشِ قَائِلُهُ سُبْحَانَهُ جَلَّ عَنْ شِبْهٍ لَهُ وَسَمِي مَا كَانَ خَلْقاً وَلا فَيْضاً تَصَوَّرَهُ نَبِيُّنَا لا وَلا تَعْبِيرَ ذِي نَسَمِ بَلْ قَالَهُ رَبُّنَا قَوْلاً وَأَنْزَلَهُ وَحْياً عَلَى قَلْبِهِ الْمُسْتَيْقِظِ الْفَهِمِ وَاللهُ يَشْهَدُ وَالأَمْلاكُ شَاهِدَةٌ وَالرُّسْلُ مَعْ مُؤْمِنِي الْعُرْبَانِ وَالْعَجَمِ

قصة لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه

اللَّهُمَّ ارزقْنَا عِلْماً نَافِعاً وَعَمَلاً مُتَقبَّلاً وَرِزْقًا وَاسِعاً نَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى طَاعَتِكَ وَقَلْباً خَاشِعاً وَلِسَاناً ذَاكِراً وَإيمَاناً خَالِصاً وَهَبْ لَنَا إِنَابَةَ الْمُخْلِِصِينَ وَخُشُوعَ الْمُخْبِتِينَ وَأَعْمَالَ الصَّالِحِينَ وَيَقِينَ الصَّادِقِينَ وَسَعادَةَ الْمُتَّقِين وَدَرَجَاتِ الْفَائِزِينَ يَا أَفْضَلَ مَنْ رُجِي وَقُصِدَ وَأَكْرَمَ مَنْ سُئِلَ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. قصة عبد الله بن مسعود كَانَ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٌ فَتَىً لَمْ يُجَاوِز الْحُلُمَ وَكَانَ يَسْرَحُ فِي شِعَابِ مَكَّةَ بَعِيداً عَنِ النَّاسِ وَمَعَهُ غَنَمٌ يَرْعَاهَا لِعُقْبَةَ بنِ مُعَيْطٍ وَكَانَ النَّاسُ يُنَادُونَهُ (ابنَ أُمَّ عَبْدٍ) . أَمَّا اسْمُهُ فَهُو عَبْدُ اللهِ وَأَمَّا اسْمُ أَبِيهِ فَمَسْعُودٌ كَانَ الْغُلامُ يَسْمَعُ بِأَخْبَارِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلا يَأْبَهُ لَهَا لِصِغَرِ سِنِّهِ مِنْ جِهَةٍ وَلِبُعْدِهِ عَنْ الْمُجْتَمَعِ الْمَكِّي مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَقَدْ دَأَبَ عَلَى أَنْ يَخْرُجَ بِغَنَمِ عُقْبَةَ مُبَكِّراً ثُمَّ لا يَعُودُ بِهَا إِلا إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ. وَفِي ذَاتِ يَوْمٍ أَبْصَرَ عَبَدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ كَهْلَيْنِ عَلَيْهِمَا الْوَقَارُ يَتَّجِهَانِ نَحْوَهُ مِنْ بَعِيدٍ وَقَدْ أَخَذَ الْجُهْدُ مِنْهُمَا كُلَّ مَأْخَذٍ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمَا الظَّمَأُ حَتَّى جَفَّتْ مِنْهُمَا الشِّفَاهُ وَالْحُلُوقُ. فَلَمَّا وَقَفَا عَلَيْهِ سَلَّمَا وَقَالا: يَا غُلامُ احْلِبْ لَنَا مِنْ هَذِهِ الشِّيَاهِ مَا نُطْفِئُ بِهِ ظَمَأَنَا وَنَبُلُّ بِهِ عُرُوقَنَا فَقَالَ: لا أَفْعَلُ فَالْغَنَمُ ليَسْتَ لِي وَأَنَا عَلَيْهَا مُؤْتَمَنٌ فَلَمْ يُنْكِرَ الرَّجُلانِ عَلَيْهِ قَوْلَهُ وَبَدَا عَلَى وَجْهَيْهِمَا الرِّضَاءُ عَنْهُ. ثُمَّ قَالَ لَهُ أَحَدُهُمَا: دُلَّنِي عَلَى شَاةٍ لَمْ يَنْزُو عَلَيْهَا فَحْلٌ فَأَشَارَ عَبْدُ اللهِ بن مَسْعُودٍ إِلى شَاةٍ صَغِيرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْهُ فَتَقَدَّمَ إِلَيْهَا الرَّجُلُ وَاعْتَقَلَهَا وَجَعَلَ يَمْسَحُ

ضَرْعَهَا بِيَدِهِ وَهُوَ يَذْكُرُ عَلَيْهَا اسْمَ اللهِ فَنَظَرَ عَبْدُ اللهِ فِي دَهْشَةٍ قَائِلاً فِي نَفْسِهِ: وَمَتَى كَانَتْ الشَّاةُ الصَّغِيرَةُ الَّتِي لَمْ تَنْزُو عَلَيْهَا الْفُحُولُ تُدِرُّ لِبَناً. لِكِنَّ ضَرْعَ الشَّاة لَمْ يَلْبَثْ أَنْ انْتَفَخَ مِنْ اللَّبَنِ وَطَفِقَ اللَّبَنُ يَنْبَثِقُ مِنْهُ ثَراً غَزِيراً. فَأَخَذَ الرَّجُلُ الآخَرُ حَجَراً مُجَوَّفاً مِنْ الأَرْضِ وَمَلأَهُ بِاللَّبَنِ وَشَرِبَ مِنْهُ هُوَ وَصَاحِبُهُ ثُمَّ سَقَيَانِي مَعَهُمَا وَأَنَا لا أَكَادُ أُصَدِّقُ مَا أَرَى، فَلَمَّا ارْتَوَيْنَا قَالَ الرَّجُلُ الْمُبَارِكُ لِضَرْعِ الشَّاةِ: انْقَبِضْ فَمَا زَالَ يَنْقَبِضُ حَتَّى عَادَ إِلى مَا كَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ ذَلِكَ قُلْتُ لِلرَّجُلُ الْمُبَارِكْ: عَلِّمْنِي مِنْ هَذَا الْقَوْلِ الذِي قُلْتَهُ فَقَالَ لِي: إِنَّكَ غُلامٌ مُعَلَّمٌ. كَانَتْ هَذِهِ بِدَايَةُ قِصَّةِ عَبْدِ اللهِ بن مَسْعُودٍ مَعَ الإِسْلام وَأَمَّا الرَّجُلُ الْمُبَارَكَ فَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا الذِي مَعَهُ فَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَدْ نَفََرَا فِي ذَلِكَ إِلى شِعَابِ مَكَّةَ لِفَرْطِ مَا أَرْهَقَتْهُمَا قُرَيْشٌ وَلِشِدَّةِ مَا أُنْزِلَتْ بِهِمَا مِنْ الْبَلاءِ. وَكَمَا أَحَبَّ الْغُلامُ الذِي هُوَ عَبْدُ اللهِ بن مَسْعُودٍ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبَهُ وَتَعَلَّقَ بِهِمَا فَقَدْ أَعْجَبَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَاحِبُهُ بَعَبْدِ اللهِ بن مَسْعُودٍ وَأَكْبَرَا أَمَانَتَهُ وَحَزْمَهُ وَتَوَسَّمَا فِيهِ الْخَيْرَ وَلَمْ يَمْضِ إِلا مُدَّةٌ يَسِيرَةٌ حَتَّى أَسْلَمَ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ وَعَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَخْدِمَهُ فَقَبِلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَضَعَهُ فِي خِدْمَتِهِ. وَلَزِمَ عَبْدُ الله بنُ مَسْعُودٍ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ يُرَافِقُهُ فِي حِلِّهِ وَتِرْحَالِهِ يُوقِظُهُ إِذَا نَامَ وَيَسْتُرُهُ عِنْدَ الْغُسْل وَيُلْبِسُهُ نَعْلَيْهِ إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ وَيَخْلَعَهُا مِنْ قَدَمَيْهِ إِذَا أَرَادَ الدُّخُولَ وَيَحْمِلُ لَهُ عَصَاهُ وَسِوَاكَهُ وَيَلِجُ الْحَجَرَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ إِذَا آوَى إِلى حُجْرَتِهِ. اللَّهُمَّ اهْدِنَا بِهُدَاكَ إِلى صِرَاطِكَ الْمُسْتَقِيمِ وَوَفِّقْنَا لِلْقِيَامِ بِحَقِّكَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ يَا كَرِيمِ وَاجْعَلْنَا يَا مَوْلانَا مِمَّنْ أَتَاكَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا

وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. فَتَرَبَّى عَبْدُ اللهِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللهِِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاهْتَدَى بِهَدْيِهِ وَتَخَلَّقَ بِشَمَائِلِهِ وَتَابَعَهُ فِي كُلِّ خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِهِ وَتَعَلَّمَ ابنُ مَسْعُودٍ فِي مَدْرَسَةِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ مِنْ أَقْرَأِ الصَّحَابَةِ لِلْقُرْآنِ وَأَفْقَهِهِمْ لِمَعَانِيهِ وَمِنْ أَعْلَمِهِمْ بِشَرْعِ اللهِ. وَلا أَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ حِكَايَةِ ذَلِكَ الرَّجُلُ الذِي أَقْبَلَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهُوَ وَاقفٌ بِعَرَفَةَ فَقَالَ لَهُ: جِئْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْكُوفَةِ - وَتَرَكْتُ بِهَا رَجُلاً يُمْلِي الْمَصَاحِفَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ فَغَضَبَ عُمَرُ غَضَباً شَدِيداً وَقَالَ: مَنْ هُوَ وَيْحَكَ؟ قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُود فَمَا زَالَ عُمَرُ يَنْطَفِي غَضَبُهُ وَيُسَرَّى عَنْهُ حَتَّى عَادَ إِلى حَالِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ وَاللهِ مَا أَعْلَمُ أَنَّهُ بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ أَحَقُّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنْهُ وَسَأْحَدِّثُكَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمُرُ ذَاتَ لَيْلَةٍ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ - أي يَتَحَدَّثَان وَيَتَفَاوَضَانِ فِي أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ وَكُنْتُ مَعَهُمَا ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجْنَا مَعَهُ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ يُصَلِّي بِالْمَسْجِدِ لَمْ نَتَبَيَّنْهُ فَوَقَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمَعُ إِلَيْهِ. ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا وَقَالَ: ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ رَطْباً كَمَا نَزَلَ فَلْيَقْرَأ عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ)) . ثُمَّ جَلَسَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُو فَجَعَلَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهُ: ((سَلْ تُعْطَهْ سَلْ تُعْطَهْ)) . قَالَ عُمَرُ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي وَاللهِ لأَغْدُوَنَّ عَلَى عَبْدِ اللهِ بن مَسْعُودٍ لأُبَشِّرَّنَهُ بِتَأْمِين رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى دُعَائِهِ فَغَدَوْتَ عَلَيْهِ فَبَشَّرْتُهُ فَوَجَدْتُ أَبَا بَكْرٍ قَدْ سَبَقِنِي إِلَيْهِ فَبَشَّرَهُ. لا وَاللهِ مَا سَابَقْتُ أَبَا بَكْرٍ إِلى خَيْرٍ قَطُ إِلا سَبَقَنِي إِلَيْهِ وَلَقَدْ بَلَغَ مِنْ عِلْمِ عَبْدِ اللهِ بن مَسْعُودٍ بِكِتَابِ اللهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: وَاللهِ الذِي لا آلهَ غَيْرُهُ مَا نَزَلَتْ آيَةٌ

مِنْ كِتَابِ اللهِ إِلا وَأَنَا أَعْلمُ أَيْنَ نَزَلَتْ وَأَعْلَمُ فِيمَا نَزَلَتْ وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّ أَحَداً أَعْلَمُ مِنِّي بِكِتَابِ اللهِ تَنَالُهُ الْمَطِيُّ لأَتَيْتُهُ. وَلَمْ يَكُنْ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ مُبَالِغاً فِيمَا قَالَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَهَذَا عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَلْقَى رَكْباً فِي سَفَرٍ مِنْ أَسْفَارِهِ وَاللَّيْلُ مُخَيِّمٌ يَحْجِبُ الرَّكْبَ بِظَلامِهِ وَكَانَ فِي الرَّكْبِ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ فَأَمَرَ عُمَرُ رَجُلاً أَنْ يُنَادِيهِمْ مَنْ أَيْنَ الْقَوْمِ فَأَجَابَهُ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ: مِنْ الْفَجِّ الْعَمِيقِ. فَقَالَ عُمَرُ: أَيْنَ تُرِيدُونَ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ فِيهِمْ عَالِماً وَأَمَرَ رَجُلاً فَنَادَاهُمْ أَيُّ الْقُرْآنِِ أَعْظَمُ فَأَجَابَهُ عَبْدُ اللهِ بِنُ مَسْعُودٍ {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} الآيةَ قَالَ: نَادِهِمْ أَيُّ الْقُرْآنِ أَحْكَمُ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى} . فَقَالَ: نَادِهِمْ أَيُّ الْقُرْآنِ أَجْمَعُ فَقَالَ عَبْدُ الله: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} فَقَالَ عُمَرُ: نَادِهِمْ أَيُّ الْقُرْآنِ أَخْوَفُ فَقَالَ عَبْدُ الله: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} الآية. فَقَالَ عُمَرُ: نَادِهِمْ أَيُّ الْقُرْآنِ أَرْجِي فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} فَقَالَ: نَادِهِمْ أَفِيكُمْ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. وَلَمْ يَكُنْ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ قَارِئاً عَالِماً عَابِداً زَاهِداً فَحَسْبِ وَإِنَّمَا كَانَ مَعَ ذَلِكَ قَوِيّاً حَازِماً مُجَاهِداً مِقْدَاماً شُجَاعاً إِذَا جَدَّ الْجِدُّ فَحَسْبُهُ أَنَّهُ أَوَّلُ مُسْلِمٍ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ جَهَرَ بِالْقُرْآنِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فَقَدْ اجْتَمَعَ يَوْماً أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَكَّة وَكَانُوا قِلَّةً مُسْتَضْعَفِينَ فَقَالُوا: وَالله مَا سَمِعَتْ قُرَيْشٌ هَذَا الْقُرْآنَ يُجْهَرُ بِهِ قَطْ فَمَنْ رَجُلٌ منْكُمْ يُسْمِعُهُمْ إِيَّاهُ فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ: أَنَا أَسْمِعُهُمْ إِيَّاهُ فَقَالُوا: إِنَّا نَخْشَاهُمْ عَلَيْكَ إِنَّمَا نُرِيدُ رَجُلاً لَهُ عَشِيرَةٌ تَحْمِيه وَتَمْنَعِهُ مِنْهُمْ إِذَا أَرَادُوهُ بِشَرٍ. فَقَالَ: دَعُونِي فَإِنَّ اللهَ سَيَمْنَعُنِي وَيَحْمِينِي ثُمَّ غَدَا إِلى الْمَسْجِدِ حَتَّى أَتَى مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ فِي الضُّحَى وَقُرَيْشٌ جُلُوسٌ فَوَقَفَ عِنْدَ الْمَقَامِ وَقَرَأَ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رَافِعاً صَوْتَهُ {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} . وَمَضَى يَقْرَؤُهَا فَتَأَمَّلَتْهُ قُرَيْشٌ وَقَالَتْ: مَاذَا قَالَ ابنُ أُمَّ عَبْدٍ تَبّاً لَهُ ... إِنَّهُ يَتْلُو بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ وَقَامُوا إِلَيْهِ وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ وَجْهَهُ وَهُوَ يَقْرَأُ حَتَّى بَلَغَ مِنْهَا مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَبْلُغَ. ثُمَّ انْصَرَفَ إِلى أَصْحَابِهِ وَالدَّمُّ يَسِيلُ مِنْهُ فَقَالُوا لَهُ: هَذَا الذِي خَشَيْنَا عَلَيْكَ فَقَالَ: وَاللهِ مَا كَانَ أَعْدَاءُ اللهِ أَهْوَنَ فِي عَيْنِي مِنْهُمْ الآنَ وَإِنْ شِئْتُمْ لأُغَادِيَنَّهُمْ بِمِثْلِهَا غَداً قَالُوا: لا حَسْبُكَ لَقَدْ أَسْمَعْتَهُمْ مَا يَكْرَهُونَ. وَمِنْ كَلامِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَدْخُلُ عَلَى السُّلْطَانِ وَمَعَهُ دِينِهِ فَيَخْرُجُ وَلا دِينَ مَعَهُ لأَنَّهُ مُعَرَّضٌ أَنْ يَعْصِي اللهَ تَعَالى إِمَّا بِفِعْلِهِ وَإِمَّا بِسُكُوتِهِ وَإِمَّا بِاعْتِقَادِهِ. وَكَانَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ رَجُلاً قَامَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ يَعْبُدُ اللهَ تَعَالى سَبْعِينَ سَنَةً وَهُوَ يُحِبُّ ظَالِماً لَبَعَثَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ مَنْ يُحِبُّ وَسَمِعَ رَجُلاً يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ وَلا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَصْحَاب

الْيَمِينَ فَقَالَ ابنُ مَسْعُودٍ: هَا هُنَا رَجُلٌ يَوَدُّ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ لا يُبْعَثُ يَعْنِي نَفسَه رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَخَرَجَ مَرَّة مَعَهُ نَاسٌ يُشَيِّعُونَهُ فَقَالَ لَهُمْ: أَلَكُمْ حَاجَةٌ؟ قَالُوا: لا. فَقَالَ: ارْجَعُوا فَإِنَّهُ ذُلٌّ لِتَابِعٍ وَفِتْنَه لِلْمَتْبُوعِ وَكَانَ يَقُولُ: لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرِةِ الرِّوَايَةِ إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالْخَشْيَةِ. وَكَانَ يَقُولُ ذَهَبَ صَفْوُ الدُّنْيَا وَبَقِيَ كَدْرُهَا وَالْمَوْتُ الْيَوْمَ تُحْفَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ وَمِنْ كَلامِهِ إِنِّي لا أَبْغَضُ الرَّجُلَ أَنْ أَرَاهُ فَارِغاً لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ عَمَلِ الدُّنْيَا وَلا عَمَلِ الآخِرَةِ. مَنْ لَمْ تَأْمُرْهُ الصَّلاةُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَهُ عَنِ الْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ بِهَا مِن اللهِ إِلا بُعْدَاً، إِنَّكُمْ تَرَوْنَ الْكَافِرَ مِنْ أَصَحِّ النَّاسِ جِسْماً وَأَمْرَاضِهِمْ قَلْباً وَتَلْقَوْنَ الْمُؤْمِنَ مِنْ أَصَحِّ النَّاسِ قَلْباً وَأَمْرَضِهِمْ جِسْماً وَأَيْمُ اللهِ لَوْ مَرِضَتْ قُلُوبُكُمْ وَصَحَّتْ أَبْدَانُكُمْ لَكُنْتُمْ أَهْوَنَ عَلَى اللهِ مِن الْجُعْلانِ. يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَقْوَامٌ أَفْضَلُ أَعْمَالِهِمْ التَّلاوُمُ بَيْنَهُمْ يُسَمَّوْنَ الأَنْتَانَ. عَاشَ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ إِلى زَمَنِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَلَمَّا مَرَِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ جَاءَهُ عُثْمَانُ عَائِداً فَقَالَ لَهُ: مَا تَشْتَكِي؟ قَالَ: ذُنُوبِي. قَالَ: فَمَا تَشْتَهِي؟ قَالَ: رَحْمَةُ رَبِّي. قَالَ: أَلا آمُرُ لَكَ بِعَطَائِكَ الذِي امْتَنَعْتَ عَنْ أَخْذِهِ مُنْذُ سِنِينَ. فَقَالَ: لا حَاجَة لِي بِهِ. فَقَالَ: يَكُونُ لِبَنَاتِكَ مِنْ بَعْدِكَ فَقَالَ: أَتَخْشَى عَلَى بَنَاتِي الْفَقْرَ إِنِّي أَمَرْتَهُنَّ أَنْ يَقْرَأْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ سُورَةَ الْوَاقِعَةِ وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((مَنْ قَرَأَ الْوَاقِعَةَ كُلَّ لَيْلَةٍ لَمْ تُصِبْهُ فَاقَةٌ أَبَداً)) . وَلَمَّا أَقْبَلَ اللَّيْلُ تُوِفِِّي عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَلِسَانُهُ رَطْبٌ

قصيدة فيما جرى على الإسلام وأهله من الظلمة والطغاة والمجرمين

بِذِكْرِ اللهِ نَدِيّ بِآيَاتِهِ مَاتَ فِي الْمَدِينَةِ وَدُفِنَ فِي الْبَقِيعِ وَصَلَّى عَلَيْهِ عُثْمَانُ وَلَهُ ثَلاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِسُلوكِ سَبِيلِ أَهْلِ الطَّاعَةِ وَارْزُقْنَا الثَّبَاتَ عَلَيْهِ وَالاسْتِقَامَةَ وَعَافِنَا مِنْ مُوجِبَاتِ الْحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ وَأَمِّنَّا مِنْ فَزَعِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. شِعْراً: فِيمَا جَرَى عَلَى الإِسْلامِ وَأَهْلِهِ مِنْ الظُّلْمَةِ وَالطُّغَاة وَالْمُجْرِمِينَ: جَازَاهمُ اللهُ بِمَا يَسْتَحِقُّونَ: وَدَارَتْ عَلَى الإِسْلامِ أَكْبَرُ فِتْنَةٍ وَسُلَّتْ سُيُوفُ الْبَغْيِ مِنْ كُلِّ غَادِرِ وَذُلَّتْ رِقَابُ مِنْ رِجَالٍ أَعِزَّةٍ وَكَانُوا عَلَى الإِسْلامِ أَهْلََ تَنَاصُرِ وَأَضْحَى بَنُو الإِسْلامِ فِي كُلِّ مَأْزِقٍ تَزُورُهُمُوا غَرْثَى السِّبَاعِ الضَّوَامِرِ وَهُتِّكَ سِتْرٌ لِلْحَرَائِرِ جَهْرَةً بَأَيْدِي غُوَاتٍ مِنْ بَوَادٍ وَحَاضِرِ وَجَاءُوا مِنْ الْفَحْشَاءِ مَا لا يَعُدُّهُ لَبِيبٌ وَلا يُحْصِيهِ نَظْمٌ لِشَاعِرِ وَبَاتَ الأَيَامَى فِي الشِّتَاءِ سَوَاغِباً يَبْكِينَ أَزْوَاجاً وَخَيْرَ الْعَشَائِرِ وَجَاءَتْ غِوَاشٍ يَشْهَدُ النَّصُّ أَنَّهَا بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي الْغُوَاةِ الْغَوَادِرِ

وَجَرَّ زَعِيمُ الْقَوْمِ لِلتُّرْكِ دَوْلَةً عَلَى مِلَّةِ الإِسْلامِ فِعْلَ الْمُكَابِرِ وَوَازَرَهُ فِي رَأْيِهِ كُلُّ جَاهِل يَرُوحُ وَيَغْدُو آثِماً غَيْرَ شَاكِرِ وَآخَر يَبْتَاعُ الضَّلالةَ بِالْهُدَى وَيَخْتَالُ فِي ثَوْبٍ مِنْ الْكِبْرِ وَافِرِ وَثَالِثُهُمْ لا يَعْبُؤُ الدَّهْرِ بِالَّتِي تَبِيدُ مِنْ الإِسْلامِ عَزْمَ الْمَذَاكِرِ وَلَكِنَّهُ يَهْوَى وَيَعْمَلُ لِلْهَوَى وَيُصْبِحُ فِي بَحْرٍ مِنْ الرَّيْبِ عَامِرِ وَقَدْ جَاءَكُمْ فِيمَا مَضَى خَيْرُ نَاصِحٍ إِمَامُ هُدىً يَبْنِي رَفِيعَ الْمَفَاخِرِ وَيُنْقِذُهُمْ مِنْ قَعْرِ ظَلْمَا مُضِّلِّةٍ لِسَالِكِهَا أَوْ مِنْ لَظَى وَالْمَسَاعِرِ وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّ السَّلامَةَ فِي الَّتِي عَلَيْهَاَ خِيَارُ الصَّحْبِ مِنْ كُلِّ شَاكِرِ فَلَمَّا أَتَاهُمْ نَصْرُ ذِي الْعَرْشِ وَاحْتَوَى أَكَابِرُهُمْ كَنْزَ اللُّهَى وَالذَّخَائِرِ سَعَوْا جُهْدَهُمْ فِي هَدْمِ مَا قَدْ بَنَى لَهُمْ مَشَائِخُهُمْ وَاسْتَنْصَرُوا كُلَّ دَاغر

وَسَارُوا لأَهْلِ الشِّرْكِ وَاسْتَسْلَمُوا لَهُمْ وَجَاؤُا بِهِمْ مِنْ كُلِّ إِفْكٍ وَسَاحِرٍ وَمُذْ أَرْسَلُوهَا أَرْسَلُوهَا ذَمِيمَةً تُهَدِّمُ مِنْ رَبْعِ الْهُدَى كُلَّ عَامِرِ وَبَاؤُا مِنْ الْخُسْرَانِ بِالصَّفَقَةِ الَّتِي يَبُوءُ بِهَا مِنْ دَهْرِهِ كُلَّ خَاسِرِ وَصَارَ لأَهْلِ الرُّفْضِ وَالشِّرْكِ صَوْلَةٌ وَقَامَ بِهِمْ سُوقُ الرَّدَى وَالْمَنَاكِرِ وَعَادَ لَدَيْهِمْ لِلَّوَاطِ وَلِلْخَنَا مَعَاهِدُ يَغْدُو نَحْوَهَا كُلَّ فَاجِرِ وَشُتِّتَ شَمْلُ الدِّينِ وَانْبِتَّ حَبْلُهُ وَصَارَ مُضَاعاً بَيْنَ شَرِّ الْعَسَاكِرِ وَأُذَّنَ بِالنَّاقُوسِ وَالطَّبْلِ أَهْلُهَا وَلَمْ يَرْضَ بِالتَّوْحِيدِ حِزْبُ الْمَزَامِرِ وَأَصْبَحَ أَهْلُ الْحَقِّ بَيْنَ مُعَاقَبٍ وَبَيْنَ طَرِيدٍ فِي الْقَبَائِلِ صَائِرِ فَقَلْ لِلْغَوِّي الْمُسْتَجِيرِ بِظُلْمِهِمْ سَتُحْشَرُ يَوْمَ الدِّينِ بَيْنَ الأَصَاغِرِ وَيَكْشَفُ لِلْمُرْتَابِ أَيَّ بِضَاعَةٍ أَضَاعِ وَهَلْ يَنْجُو مُجِيرُ أُمِّ عَامِرِ

.. وَيَعْلَمُ يَوْمَ الْجَمْعِ أَيَّ جِنَايَةٍ جَنَاهَا وَمَا يَلْقَاهُ مِنْ مَكْرِ مَاكِرِ فَيَا أُمَّةً ضَلَّتْ سَبِيلَ نَبِيَّهَا وَآثَارَهُ يَوْمَ اقْتِحَامِ الْكَبَائِرِ يَعِزُّ بِكُمْ دِينُ الصَّلِيبِ وَأَهْلِهِ وَأَنْتُمْ بِهِمْ مَا بَيْنَ رَاضٍ وَآمِرِ وَتُهْجَرُ آيَاتُ الْهُدَى وَمَصَاحَفٌ وَيُحْكَمُ بِالْقَانُونِ وَسْطَ الدَّسَاكِرِ هَوَتْ بِكُمُ نَحْوُ الْجَحِيمِ هَوَادَةٌ وَلَذَّاتُ عَيْشٍ نَاعِمٍ غَيْرَ شَاكِرِ سَيَبْدُوا لَكُمْ مِنْ مَالِكِ الْمُلْكِ غَيْرُ مَا تَظَنُّونَهُ بَعْدَ الثَّوَى فِي الْمَقَابِرِ يَقُولُ لَكُمْ مَاذَا فَعَلْتُمْ بِأُمَّةٍ عَلَى نَاهِجٍ مِثْلَ النُّجُومِ الزَّوَاهِرِ سَلَلْتُمْ سَيُوفَ الْبَغْي فِيهِمْ وَعُطِّلَتْ مَسَاجِدُهُمْ مِنْ كُلِّ دَاعٍ وَذَاكِرِ وَوَالَيْتُمُ أَهْلَ الْجَحِيمِ سَفَاهَةً وَكُنْتُمِ بِدِينِ اللهِ أَوَّلَ كَافِرِ نَسِيتُمْ لَنَا عَهْداً أَتَاكُمْ رَسُولُنَا بِهِ صَارِخاً فَوْقَ الذُّرَى وَالْمَنَابِرِ فَسَلْ سَاكِنَ الأَحْسَاءِ هَلْ أَنْتَ مُؤْمِنٌ

.. بِهِذَا وَمَا يَجْرِي صَحِيحُ الدَّفَاتِرِ وَهَلْ نَافِعٌ لِلْمُجْرِمِينَ اعْتِذَارُهُمْ إِذَا دَارَ يَوْمَ الْجَمْعِ سُوءُ الدَّوَائِرِ وَقَالَ الشَّقِيُّ الْمُفْتَرِي كُنْتُ كَارِهاً ضَعِيفاً مُضَاعاً بَيْنَ تِلْكَ الْعَسَاكِرِ أَمَانِيَّ تَلْقَاهَا لِكُلِّ مُتَبَّرٍ حَقِيقَتُهَا نَبْذُ الْهُدَى وَالشَّعَائِرِ تَعُودُ سَرَاباً بَعْدَ مَا كَانَ لامِعاً لِكُلِّ جَهُولٍ فِي الْمَهَامهِ حَائِرِ فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُحَضْى بِكُلِّ فَضِيلَةٍ وَتَظْهَرَ فِي ثَوْبٍ مِنْ الْمَجْدِ بَاهِرِ وَتَدْنُوا مِنْ الْجَبَّارِ جَلَّ جَلالُهُ إِلى غَايَةٍ فَوْقَ الْعُلَى وَالْمَظَاهِرِ فَهَاجِرْ إِلى رَبِّ الْبَرِيَّةِ طَالِباً رِضَاهُ وَرَاغِمْ بِالْهُدَى كُلَّ جَائِرِ وَجَانِبِ سَبِيلَ الْعَادِلِينَ بِرَبِّهِمْ ذَوِي الشِّرْكِ وَالتَّعْطِيلِ مَعَ كُلِّ غَادِرِ وَبَادِرْ إِلى رَفْعِ الشِّكَايَةِ ضَارِعاً إِلى كَاشِفِ الْبَلْوَى عَلِيمِ السَّرَائِرِ وَكَابِدْ إِلى أنْ تَبَلُغَ النَّفْسُ عُذْرَهَا وَتُرْفَعَ فِي ثَوْب مِن الْعَفْوِ سَاتِرِ

قصة لعبد الله بن عباس رضي الله عنه

.. وَلا تَيْأَسَنْ مِنْ صُنْع رَبِّكَ إِنَّهُ مُجِيبٌ وَإِنَّ اللهَ أَقْرَبُ نَاصِرِ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُبْدِي بِلُطْفِهِ وَيُعَقِّبُ بَعْدَ الْعُسْرِ يُسْراً لِصَابِرِ وَأَنَّ الدِّيَارَ الْهَامِدَاتِ يَمُدُّهَا بِوَبْلٍ مِنْ الْوَسْمِي هَامٍ وَمَاطِرِ فَتُصْبِحُ فِي رَغْدٍ مِنْ الْعَيْشِ نَاعِمٍ وَتَهْتَزُ فِي ثَوْبٍ مِنْ الْحُسْنِ فَاخِرِ اللَّهُمَّ يَا مَنْ فَتَحَ بَابَهُ لِلطَّالِبِينَ وَأَظَهْرَ غِنَاءَهُ لِلرَّاغِبِينَ أَلْهِمْنَا مَا أَلْهَمْتَ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ وَأَيْقِظْنَا مِنْ رَقْدَةِ الْغَافِلِينَ إِنَّكَ أَكْرَمُ مُنْعِمٍ وَأَعَزُّ مُعِين وَاغْفِرْ لَنَا اللَّهُمَّ وَوَفِّقْنَا لِصَالِحِ الأَعْمَالِ، وَنَجِّنَا مِنْ جَمِيعِ الأَهْوَالِ، وَأَمِّنَّا مِنْ الْفَزَعِ الأَكْبَر يَوْمَ الرَّحْفِ وَالزَّلْزَلالْ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. قصة عبد الله بن عباس عَبْدُ اللهِ بنُ عَبَّاسِ بنُ عَمِّ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجْتَمَعَ لَهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَجْدُ الصُّحْبَةِ وَمَجْدُ الْقَرَابَةِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَجْدُ الْعِلْمِ وَمَجْدُ التُّقَى، فَقَدْ كَانَ صَوَّاماً بِالنَّهَارِ قَوَّاماً بِاللَّيْلِ بَكَاء مِنَ خَشْيَةِ اللهِ حَتَّى قِيلَ إِنَّ الدَّمْعَ حَفَرَ خَدَّيْهِ أَعْلَمُ الأُمَّةِ بِكِتَابِ اللهِ وَأَفْقَهُهَا بِتَأْوِيلِهِ وَأَقْدَرُهَا عَلَى النُّفُوذِ إِلى أَغْوَارِهِ وَإِدْرَاكِ مَرَامِيهِ وَأَسْرَارِهِ. وُلِدَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلاثِ سَنَوَاتٍ وَلَمَّا تُوِفِّي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ ثَلاثَ عَشْرَة سَنَةَ فَقَطْ وَمَعْ ذَلِكَ فَقَدْ حَفِظَ لِلْمُسْلِمِينَ عَنْ نَبِيِّهِمْ أَلْفاً وَسِتِّمَائَةً وَسِتِّينَ حَدِيثاً أَثْبَتَهَا الْبُخَارِيُ وَمُسْلِمُ فِي صَحِيحِهِمَا.

وَلَمَّا وَضَعَتْهُ أُمُّهُ حَمَلَتْهُ إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَنَّكَهُ بِرِيقِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ أَوَّلَ مَا دَخَلَ جَوْفَهُ رِيقُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُلازَمَةَ الْعَيْنِ لأُخْتِهَا. فَكَانَ يُعِدُّ لَهُ مَاءَ وُضُوئِهِ إِذَا هَمَّ أَنْ يَتَوَضَأَ وَيُصَلِّي خَلْفَهُ إِذَا وَقَفَ لِلصَّلاةَ وَيَكُونُ رَدِيفَه إِذَا عَزَمَ عَلَى سَفَرٍ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَحْمِلُ بَيْنَ جَنْبَيْهِ قَلْباً وَذِهْناً صَافِياً. حَدَّثَ عَنْ نَفْسِهِ قَالَ: هَمَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوُضَوءِ ذَاتَ مَرَّةٍ فَمَا أَسْرَع أَنْ أَعْدَدْتُ لَهُ الْمَاءَ فَسُرَّ بِمَا صَنَعْتُ وَلَمَّا هَمَّ بِالصَّلاةِ أَشَارَ إِلى أَنْ أَقِفَ بَازَائِهِ فَوَقَفْتُ خَلْفَهُ. فَلَمَّا انْتَهَتِ الصَّلاةُ مَالَ عَلَيَّ وَقَالَ: ((مَا مَنَعَكَ أَنْ تَكُونَ بَازِائِي ياَ عَبْدَ اللهِ)) . فَقُلْتُ: أَنْتَ أَجَلُ فِي عَيْنِي وَأَعَزُّ مِنْ أُوَارِيكَ يَا رَسُولَ الله. فَرَفَعَ يَدَيْهِ إِلى السَّمَاءِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ آتِهِ الْحِكْمَةَ» . وَقَدْ اسْتَجَابَ اللهُ دَعْوَةَ نَبِيِّهِ فَآتَاهُ مِنْ الْحِكْمَةِ مَا فَاقَ بِهِ أَسَاطِينَ الْحُكَمَاءِ. مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا اعْتَزَلَ بَعْضُ أَصْحَابِ عَلِيّ بن أَبِي طَالِبٍ وَخَذَلُوهُ فِي نِزَاعِهِ مَعَ مُعَاوَيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ عَبْدُ اللهِ بن عَبَّاسٍ لِعَلِّي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ائْذَنْ لِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ آتِي الْقَوْمَ وَأَكَلِمَهُمْ فَقَالَ: إِنِّي أَتَخَوَّفَ عَلَيْكَ مِنْهُمْ فَقَالَ: كَلا إِنْ شَاءَ اللهُ. ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَرَ قَوْماً أَشَدَّ اجْتِهَاداً مِنْهُمْ فِي الْعِبَادَةِ فَقَالُوا: مَرْحَباً بِكَ يَا ابنَ عَبَّاسٍ مَا جَاءَ بِكَ فَقَالَ: جِئْتُ أُحَدِّثُكُمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا تُحَدِّثُوهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نَسْمَعُ مِنْكَ.

فَقَالَ أَخْبِرُونِي مَا تَنْقِمُونَ عَلَى ابنِ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَوْجِ ابْنَتِهِ وَأَوَّلِ مَنْ آمَنَ بِهِ قَالُوا: نَنْقِمُ عَلَيْهِ ثَلاثَةَ أُمُورٍ أَوَّلُهَا أَنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ وَثَانِيهَا أَنَّهُ قَاتَلَ عَائِشَةَ وَمُعَاوِيَةَ وَلَمْ يَأْخُذْ غَنَائِمَ وَلا سَبَايَا وَثَالِثُهَا أَنَّهُ مَحَا عَنْ نَفْسِهِ لَقبَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ بَايَعُوهُ وَأَمَّرُوهُ. فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ، إِنْ أَسْمَعْتُكُمْ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَحَدَّثْتُكُمْ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ مَالا تُنْكِرُونَهُ أَفَتَرْجُعُونَ عَمَّا أَنْتُمْ فِيهِ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: أَمَّا قَوْلُكُمْ أَنَّهُ حَكَمَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللهِ فَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} . أَنْشُدُكُمْ اللَه أَفَحُكْمَ الرِّجَالِ فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَصَلاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ أَحَقُّ أَمْ فِي أَرْنَب ثَمَنُهَا رُبْعُ دِرْهَمٍ؟ فَقَالُوا: بَلْ فِي حَقْنِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَصَلاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ. فَقَالَ: أَخَرَجْنَا مِنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ إِنَّ عَلِيّاً قَاتَلَ وَلَمْ يَسْبِ - أَيْ لَمْ يَأْخُذْ سَبَايَا كَمَا سَبَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفَكُنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْبُوا أُمَّكُمْ عَائِشَةَ كَمَا تُسْتَحَلُّ السَّبَايَا فَإِنْ قُلْتُمْ: نَعَمْ كَفَرْتُمْ وَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِأَمِّكُمْ كَفَرْتُمْ أَيْضاً فَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى يَقُولُ: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} فَاخْتَارُوا لأَنْفُسِكُمْ مَا شِئْتُمْ ثُمَّ قَالَ: أَخَرَجْنَا مِنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ إِنَّ عَلِيّاً مَحَا عَنْ نَفْسِهِ لَقَبَ إمْرَةَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ طَلَبَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَنْ يَكْتُبُوا فِي الصُّلْحِ الذِي عَقَدَهُ مَعَهُمْ هَذَا مَا قَاضَى

عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، قَالُوا: لَوْ كُنَّا نُؤْمِنْ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنْ الْبَيْتِ وَلا قَاتَلْنَاكَ وَلَكِنْ أُكْتُبْ مُحَمَّدُ بن عَبْدِ اللهِ فَنَزَلَ عِنْدَ طَلَبِهِمْ وَهُوَ يَقُولُ: «وَاللهِ إِنِّي لِرَسُولُ اللهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي فَهَلْ خَرَجْنَا مِنْ هَذِهِ» ؟ فَقَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. وَكَانَ مِنْ ثَمَرَةِ هَذَا اللَّقَاءِ وَمَا وَفَّقَ اللهُ فِيهِ عَبْدَ اللهِ بنَ عَبَّاسٍ مِنْ حِكْمَةٍ وَحُجَّةٍ أَنْ عَادَ مِنْهُمْ عِشْرُونَ أَلْفاً إِلى صُفُوفِ عَلِي وَأَصَرَّ أَرْبَعَةُ آلافٍ عَلَى خُصُومَتِهِمْ لِعَلي، وَلَمَّا لَحِقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجِوَارِ رَبِّهِ اتَّجَه عَبْدُ اللهِ بن عَبَّاسٍ إِلى الْبَقِيَّةِ الْبَاقِيَةِ مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ يَأْخُذُ عَنْهُمْ الْعِلْمَ وَيَتَلَقَّى عَنْهُمْ. وَحَدَّثَ ابنُ عَبَّاسٍ عَنْ نَفْسِهِ فَقَالَ: كَانَ إِذَا بَلَغَنِي الْحَدِيثَ عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ صَحَابَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَيْتُ بَابَ بَيْتِهِ فِي وَقْتِ قَيْلُولَتِهِ وَتَوَسَّدْتُ رِدَائِي عِنْدَ عُتْبَةِ دَارِهِ فَتَسْفِي عَليَّ الرِّيحُ مِنْ التُّرَابِ مَا تَسْفِي وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَسْتَأَذِنَ عَلَيْهُ لأَذِنَ لِي. وَإِنَّمَا كُنْتُ أَفْعَلُ ذَلِكَ لأُطَيِّبَ نَفْسَهُ فَإِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ رَآنِي عَلَى هَذِهِ الْحَالَ وَقَالَ: «يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا جَاءَ بِكَ هَلا أَرْسَلْتَ إِلَيَّ فَآتِيكَ فَأَقُولُ أَنَا أَحَقُّ بِالْمَجِيءِ إِلَيْكَ فَالْعِلْمُ يُؤْتَى وَلا يَأْتِي ثُمَّ أَسْأَلُهَ عَنْ الْحَدِيثِ» . وَكَمَا كَانَ ابنُ عَبَّاسِ يُذِلُ نَفْسَهُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَقَدْ كَانَ يُعْلِى مِنْ قَدرِ الْعُلَمَاءِ فَهَا هُوَ ذَا زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ كَاتِبُ الْوَحِي وَرَأْسُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي الْقَضَاءِ وَالْفِقْهِ وَالْقِرَاءَةِ وَالْفَرَائِضِ يَهَمُّ بِرِكُوبِ دَابَّتِهِ فَقَالَ: «دَعْ عَنْكَ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . فَقَالَ ابنْ ُعَبَّاس: هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِعُلَمَائِنَا.

اللَّهُمَّ يَا عَالَم الخَفياتِ وَيَا سَامِعَ الأَصْوَاتِ وَيَا بَاعِثَ الأَمْواتِ وَيَا مُجِيبَ الدَّعَوَاتِ وَيَا قَاضِي الحَاجَاتِ يَا خَالَق الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ أَنْتَ اللهُ الأحدُ الصمدُ الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَد، الوَهَّابُ الذي لا يَبْخَلُ وَالحِليمُ الذي لا يَعْجَلُ، لا رَادَّ لأمْركَ وَلا مُعَقِّبَ لِحُكَمِكَ، نَسْأَلَكَ أَنْ تَغفرَ ذُنوبَنَا وَتُنَورَ قلوبنَا وَتُثَبِّتَ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَتُسْكِنَنَا دَارَ كَرَامَتِكَ إِنك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وَقَدْ اجْتَهد ابْنُ عَبَّاسٍ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ حَتَّى بَلَغَ فِيهِ مَبْلَغاً وَأَدْهَشَ الْفُحُولَ فَقَالَ فِيهِ مَسْرُوقُ بنُ الأَجْدَعِ أَحَدُ التَّابِعِينَ: كُنْتُ إِذَا رَأَيْتَ ابْنَ عَبَّاسٍ قُلْتُ: أَجْمَلُ النَّاسِ فَإِذَا نَطَقَ قُلْتُ: أَفْصَحُ النَّاسَ فَإِذَا تَحَدَّثَ قُلْتُ: أَعْلَمُ النَّاسِ. وَلَمْ يَكُنْ ابنُ عَبَّاسٍ مِنْ الذِينَ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ وَيَنْهَوْنَ وَلا يَنْتَهُون وَإِنَّمَا كَانَ صَوَّاماً بِالنَّهَارِ قَوَّاماً بِاللَّيْلِ. أَخْبَرَ عَنْهُ عُبْدُ اللهِ بنُ مُلَيْكَةَ قَالَ: صَحِبْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا مِنْ مَكَّةَ إِلى الْمَدِينَةِ فَكُنَّا إِذَا نَزَلْنَا مَنْزلاً قَامَ شَطْرَ اللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ مِنْ شِدَّةَ التَّعَبِ وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ ذَاتَ لَيْلَةٍِ يَقْرَأ: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} فَظَلَّ يُكَرِّرُهَا وَيَنْشُجُ حَتَّى طَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ. وَحَسْبُنَا بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ نَعْلَمْ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بن عَبَّاسٍ كَانَ مِنْ أَجْمَلِ النَّاسِ وَجْهاً فَمَا زَالَ يَبْكِي فِي جَوْفِ اللَّيْلِ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ حَتَّى أَحْدَثَ الدَّمْعُ عَلَى خَدَّيْهِ مَجْرَيَيْنِ شَبَّهَهُمَا بَعْضُهُمْ بِشَرَاكِي النَّعْلِ. وَقَدْ بَلَغَ ابنُ عَبَّاسٍ مِنْ مَجْدِ الْعِلْمِ غَايَتَه ذَلِكَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بن أَبِي سُفْيَانَ خَرَجَ ذَاتَ سَنَةٍ حَاجّاً وَخَرَجَ عَبْدُ اللهِ بنُ عَبَّاسٍ حَاجّاً أَيْضاً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ صَوْلَةٌ وَلا أَمَارَةٌ فَكَانَ لِمُعَاوِيَةَ مَوْكِبٌ مِنْ رِجَالِ دَوْلِتِه وَكَانَ لِعَبْدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ مَوْكِبٌ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ يَفُوقُ مَوْكِبَ مُعَاوِيَةَ.

رَوَى بَعْضُ أَصْحَابِ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَجْلِساً لَوْ أَنَّ جَمِيعَ قَرَيْشٍ افْتَخَرَتْ بِهِ لَكَانَ لَهَا مَفْخَرَةٌ فَلَقَدْ رَأَيْتُ النَّاسَ اجْتَمَعُوا فِي الطَّرُقِ الْمُؤَدِيَةِ إِلى بَيْتِهِ حَتَّى ضَاقَتْ بِهِمْ وَسَدُّوهَا فِي وَجُوهِ النَّاسِ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَأَخْبَرْتُهُ بِاحْتِشَادِ النَّاسِ عَلَى بَابِهِ. فَقَالَ: ضَعْ لِي وُضُوءاً فَتَوَضَأَ وَجَلَسَ وَقَالَ: أَُخْرُجْ وَقُلْ لَهُمْ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الْقُرْآنِ وَحُرُوفهِ فَلْيَدْخَلْ فَخَرَجْتُ فَقُلْتُ لَهُمْ فَدَخَلُوا حَتَّى مَلَؤُا الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ فَمَا سَأَلُوا عَنْ شَيْءٍ إِلا أَخْبَرَهُمْ بِهِ وَزَادَهُمْ مِثْلَ مَا سَأَلُوا عَنْهُ وَأَكْثَرَ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: افْسَحُوا الطَّرِيقَ لإِخْوَانِكِمْ فَخَرَجُوا. ثُمَّ قَالَ: أَُخْرُجْ فَقُلْ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ تَفْسِيرِ الْقُرَآنِ وَتَأْوِيلِهِ فَلَيْدْخُلْ فَقُلْتُ لَهُمْ: فَدَخَلُوا حَتَّى مَلَؤُا الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ فَمَا سَأَلُوا عَنْ شَيْءٍ إِلا أَخْبَرَهُمْ بِهِ وَزَادَهُمْ مِثْلَ مَا سَأَلُوا عَنْهُ وَأَكْثَرَ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: افْسَحُوا الطَّرِيقَ لإِخْوَانِكِمْ فَخَرَجُوا. ثُمَّ قَالَ: أَُخْرُجْ فَقُلْ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الْفَرَائِضَ وَمَا أَشْبَهَهَا فَلَيْدَخُلْ فَخَرَجْتُ فَقُلْتُ لَهُمْ فَدَخَلُوا حَتَّى مَلَؤُا الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ فَمَا سَأَلُوا عَنْ شَيْءٍ إِلا أَخْبَرَهُمْ بِهِ وَزَادَهُمْ مِثْلَ مَا سَأَلُوا عَنْهُ وَأَكْثَرَ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: افْسَحُوا الطَّرِيقَ لإِخْوَانِكِمْ فَخَرَجُوا.

ثُمَّ قَالَ: أَُخْرُجْ فَقُلْ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الْعَرَبِيَّةِ وَالشِّعْرِ وَغَرِيبِ كَلامِ الْعَرَبِ فَلَيْدَخُلْ فَدَخَلُوا حَتَّى مَلَؤُا الْبَيْتَ وَالْحُجْرَةَ فَمَا سَأَلُوا عَنْ شَيْءٍ إِلا أَخْبَرَهُمْ بِهِ وَزَادَهُمْ مِثْلَهُ رَاوِي الْخَبَرِ: فَلَوْ أَنَّ قُرَيْشاً كُلَّهَا فَخَرَتْ بِذَلِكَ لَكَانَ ذَلِكَ لَهَا فَخْراً. وَكَانَ ابنُ عَبَّاسٍ رَأَى أَنْ يُوَزِّعَ الْعُلُومَ عَلَى الأَيَّامِ حَتَّى لا يَحْدُثَ عَلَى بَابِهِ مِثْلُ ذَلِكَ الزَّحَامِ فَصَارَ يَجْلِسُ فِي الأُسْبُوع يَوْماً لا يَذْكُرُ فِيهِ إِلا التَّفْسِيرَ وَيَوْماً لا يَذْكُرُ فِيهِ إِلا الْفِقْهَ وَيَوْماً لا يَذْكُرُ فِيهِ إِلا الْمَغَارِي وَيَوْماً لا يَذْكُرُ فِيهِ إِلا أَيَّامَ الْعَرَبِ. وَقَدْ غَدَا ابْنُ عَبَّاسٍ بِفَضْلِ مَا وَهَبَهُ اللهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْفِقهِ مُسْتَشَاراً لِلْخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ حَدَاثَةِ سِنِهِ فَكَانَ إِذَا عَرَضَ لِعُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ أَمْرٌ وَوَاجَهَتْهُ مُعْضِلَةٌ دَعَا جِلَّةَ الصَّحَابَةِ وَدَعَا مَعَهُمْ عَبْدَ اللهِ بن عَبَّاسٍ فَإِذَا حَضَرَ رَفَعَ مَنْزِلَتَهُ وَأَدْنَى مَجِلِسَهُ وَقَالَ لَهُ: لَقَدْ أَعْضَلَ عَلَيْنَا أَمْرٌ أَنْتَ لَهُ وَلأَمْثَالِهِ. وَقَدْ عُوتِبَ عُمَرُ مَرَّةً فِي تَقْدِيمِهِ لابْنِ عَبَّاسٍ وَجَعَلِهِ مَعَ الشُّيُوخِ وَهُوَ مَا زَالَ فَتَىً فَقَالَ: إِنَّهُ فَتَىَ الْكُهُولِ لَهُ لِسَانٌ وَقَلْبٍ عَقُول أ. هـ. قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فَأَذِنَ لَهُمْ يَوْماً وَأَذِنَ لِي مَعَهُمْ فَسَأَلَهُمْ عَنْ هَذِهِ السُّورَةِ {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فَقَالُوا: أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ وَأَنْ يَتُوبَ إِلَيْهِ. فَقَالَ: مَا تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقُلْتُ: لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَكِنَّهُ أَخْبَرَ نَبِيَّهُ بِحُضُورِ أَجَلِهِ فَقَالَ: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فَتْحُ مَكَّةَ وَرَأَيْتَ النَّاسَ

يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً} أَيْ فَعِنْدَ ذَلِكَ عَلامَةُ مَوْتِكَ {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} . فَقَالَ لَهُمْ: كَيْفَ تَلُومُونَنِي عَلَيْهِ بَعْدَ مَا تَرَوْنَهُ وَقِيلَ لابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّى أَصَبْتَ هَذَا الْعِلْمِ؟ قَالَ: بِلِسَانٍ سَؤوْلٍ وَقَلْبٍ عَقُولٍ وَقَالَ ابنُ مَسْعُودٍ: نِعْمَ تَرْجُمَانُ الْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَالَ مُجَاهِدُ كَانَ ابِنُ عَبَّاسٍ يُسَمَّى الْبَحْرَ لِكَثْرَةِ عِلْمِهِ. عَلَى أَنَّ ابنَ عَبَّاسٍ حِينَ انْصَرَفَ إِلى الْخَاصَّةِ لِيُعَلِّمَهُمْ وَيُفَقِّهَهُمْ لَمْ يَنْسَ حَقَّ الْعَامَّةِ فَكَانَ يَعْقِدُ لَهُمْ مَجَالِسَ الْوَعْظِ وَالإِرْشَادِ وَالتَّذْكِيرِ. فَمِنْ مَوَاعِظِهِ قَوْلُهُ مُخَاطِباً أَصْحَابَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي: يَا صَاحِبَ الذَّنْبِ لا تَأْمَنَ عَاقِبَةَ ذَنْبِكَ وَأَعْلَمْ أَنَّ مَا يَتْبَعُ الذَّنْبَ أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ نَفْسِهِ فَإِنَّ عَدَمَ اسْتِحْيَائِكَ مِمَّنْ عَلَى يَمِينِكَ وَعَلَى شِمَالِكَ وَأَنْتَ تَقْتَرِفُ الذَّنْبِ لا يَقِلُّ عَنْ الذَّنْبِ. وَإِنْ ضِحْكَكَ عَنْدَ الذَّنْبِ وَأَنْتَ لا تَدْرِي مَا اللهُ صَانِعٌ بِكَ أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ وَإِنَّ حُزْنَكَ عَلَى الذَّنْبَ إِذَا فَاتَكَ أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبَ وَإِنَّ خَوْفَكَ مِنْ الرِّيحِ إِذَا حَرَّكَتْ سِتْرَكَ وَأَنْتَ تَرْتَكِبُ الذَّنْبِ مَعَ كَوْنِكَ لا يَضْطَرِبُ فُؤَادُكَ مِنْ نَظَرِ اللهِ إِلَيْكَ أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ. يَا صَاحِبَ الذَّنْبِ مَا كَانَ ذَنْبُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَابْتَلاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِجَسَدِهِ وَمَالِهِ إِنَّمَا كَانَ ذَنْبُهَ أَنَّهُ اسْتَعَانَ بِهِ مِسْكِينٌ لِيَدْفَعَ عَنْهُ الظُّلْمَ فَلَمْ يُعِنْهُ. وَكَانَ يَقُولُ: أَعُولُ أَهْلَ بَيْتٍ مِن الْمُسْلِمِينَ شَهْراً أَوْ جُمْعَةً أَوْ مَا شَاءَ اللهُ أَحِبُّ إِِلَيَّ مِنْ حَجَّةٍ بَعْدَ حَجَّةٍ وَلَطَبَقٌ بِدَانِقٍ أَهْدِيهِ إِلى أَخٍ لِي فِي اللهِ أَحَبَّ إِلِيَّ مِنْ دِينَارٍ أُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ.

قصة لسلمان الفارسي رضي الله عنه

وَكَانَ يَقُولُ آخِرُ: شِدَّةً يَلْقَاهَا الْمُؤْمِنُ الْمَوْتَ وَيَقُولُ: خُذْ الْحِكْمَةَ مِمَّنْ سَمِعْتَ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَتَكَلَّمُ بِالْحِكْمَةِ وَلَيْسَ بِحَكِيمٍ فَتَكُونُ كَالرَّمِيَةِ خَرَجَتْ مِنْ غَيْرِ رَامِي، عُمِّرَ ابنُ عَبَّاسٍ إِحْدَى وَسَبْعِينَ سَنَةً مَلأ فِيهَا الدُّنْيَا عِلْماً وَفِهْماً وَحِكْمَةً وَزُهْداً وَتُقَىً. وَلَمَّا سَقَطَ فِي عَيْنَيْهِ الْمَاءُ وَذَهَبَ بَصَرُهُ قِيلَ لَهُ: خَلِّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَيْنَيْكَ نُسِيلُ مَاءَهُمَا وَلَكِنَّكَ تُمْسِكْ خَمْسَةَ أَيَّامٍ لا تَسْجُدُ فَقَالَ: لا وَاللهِ وَلا رَكْعَةً وَاحِدَةً إِنِّي حُدِّثْتُ أَنَّهُ مَنْ تَرَكَ صَلاةً وَاحِدَةً مُتَعَمِّداً لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ. قَالَ مَيْمُونُ بِنُ مِهْرَانَ: شَهِدْتُ جَنَازَةَ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ بِالطَّائِفِ فَلَمَّا وُضِعَ ليُصَلَّى عَلَيْهِ جَاءَ طَائِرٌ أَبْيَضُ حَتَّى دَخَلَ فِي أَكْفَانِهِ فَالْتُمِسَ فَلَمْ يُوجَدْ فَلَمَّا سُوِيَ عَلَيْهِ التُّرَابُ سَمِعْنَا صَوْتاً وَلا نَرَى شَخْصاً {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} . أ. هـ. بِتَصَرُّف بِزِيَادَة وَنَقْص. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. قِصَّةُ سَلْمَان الْفَارِسِي قَالَ سَلْمَانُ: كُنْتُ رَجُلاً فَارِسِيّاًًً مِنْ أَهْلِ أَصْبهَانِ مِنْ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا جَيَّانِ، وَكَانَ أَبِي دَهْقَانُ الْقَرْيَةِ وَأَغْنَى أَهْلِهَا وَأَعْلاهُمْ مَنْزِلَةً، وَكُنْتُ أَحَبُّ خَلْقِ اللهِ إِلَيْهِ مُنْذُ وَلِدْتُ ثُمَّ مَا زَالَ حُبُّه لِي يَشْتَدُّ وَيَزْدَادُ حَتَّى حَبَسَنِي فِي الْبَيْتِ خَشْيَةً عَلَيَّ كَمَا تُحْبَسُ الْفَتَيَاتُ. قَالَ سَلْمَانُ: وَقَدْ اجْتَهَدْتُ فِي الْمَجُوسِيَّةِ حَتَّى غَدَوْتُ قِيَمَ النَّارِ الَّتِي كُنَّا نَعْبُدُهَا قَالَ سَلْمَانُ: وَأَنِيطَ بِي أَمْرُ إِضْرَامِهَا حَتَّى لا تَخْبُو سَاعَةً في

لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ وَكَانَ لأَبِي ضَيْعَةٌ عَظِيمَةٌ - الأَرْضُ الْمُغِلَّةُ - تُدِرُّ عَلَيْنَا غَلَّةً كَبِيرَةً وَكَانَ أَبِي يَقُومُ عَلَيْهَا وَيَجْنِي غَلَّتَهَا. وَفِي ذَات مَرَّةٍ شَغَلَهُ عَنْ الذَّهَابِ إِلى الْقَرَيْةِ شَاغِلٌ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إِنِّي قَدْ شُغِلْتُ عَنْ الضَّيْعَةِ بِمَا تَرَى فَاذْهَبْ إِلَيْهَا وَتَوَلَّى الْيَوْمَ عَنِّي شَأْنَهَا فَخَرَجْتُ أَقْصُدُ ضَيْعَتَنَا. وَبَيْنَمَا أَنَا فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ مَرَرْتُ بِكَنِيسَةٍ مِنْ كَنَائِسِ النَّصَارَى فَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ فِيهَا وَهُمْ يُصَلُّونَ فَلَفَتَ ذَلِكَ انْتِبَاهِي وَذَلِكَ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَعْرَفُ شَيْئاً مِنْ أَمْرِ النَّصَارَى وَلا أَمْرَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ الأَدْيَانِ لِطُولِ مَا حَجَبَنِي أَبِي عَنْ النَّاسِ فِي بَيْتِنَا. فَلَمَّا سَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ دَخَلْتُ عَلَيْهِمْ لأَنْظُرَ مَا يَصْنَعُونَ، فَلَمَّا تَأَمَّلْتُهُمْ أَعَجَبَتْنِي صَلاتُهُمْ وَرَغِبْتُ فِي دِينِهِمْ وَقُلْتُ: وَاللهِ هَذَا خَيْرٌ مِن الذِي نَحْنُ عَلَيْهِ، فَوَاللهِ مَا تَرَكْتُهُمْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَلَمْ أَذْهَبْ إِلى ضَيْعَةِ أَبِي ثُمَّ سَأَلْتُهُمْ: أَيْنَ أَصْلُ هَذَا الدِّينِ؟ قَالُوا: فِي بِلادِ الشَّامِ. وَلَمَّا أَقْبَلَ اللَّيْلُ عُدْتُ إِلى بَيْتِنَا فَتَلَقَّانِي أَبِي يَسْأَلُنِي عَمَّا صَنَعْتُ فَقْلُتْ: يَا أَبَتِ إِنِّي مَرَرْتُ بأُنَاسٍ يُصَلُّونَ فِي كَنِيسَةٍ فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْ دِينِهِمْ وَمَا زِلْتُ عِنْدَهُمْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ فَذُعِرَ أَبِي مِمَّا صَنَعْتٌ. وَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ لَيْسَ فِي ذَلِكَ الدِّينِ خَيْرٌ دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ خَيْرٌ مِنْهُ، قُلْتُ: كَلا - وَاللهِ - إِنَّ دِينَهُمْ لِخَيْرٌ مِنْ دِينَنَا، فَخَافَ أَبِي مِمَّا أَقُولُ وَخَشِيَ أَنْ أَرْتَدَّ عَنْ دِينِي وَحَبَسَنِي بِالْبَيْتِ وَوَضَعَ قَيْداً فِي رِجْلِي. وَلَمَّا أُتِيحَتْ لِي الْفُرْصَةُ بَعَثْتُ إِلى النَّصَارَى أَقُولُ لَهُمْ إِذَا قَدِمَ عَلَيْكُمْ رَكْبٌ يُرِيدُ الذَّهَابَ إِلى بِلادِ الشَّامِ فَأَعْلِمُونِي فَمَا هُوَ إِلا قَلِيلٌ

حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِمْ رَكْبٌ مُتَّجِهَةٌ إِلى الشَّامِ فَأَخْبَرُونِي بِهِ فَاحْتَلْتُ عَلَى قَيْدِيْ حَتَّى حَلَلْتُهُ وَخَرَجْتُ مَعَهُمْ مُتَخَفِّياً حَتَّى بَلَغْنَا بِلادَ الشَّامِ. فَلَمَّا نَزَلْنَا فِيهَا قُلْتُ: مَنْ أَفْضَلُ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ هَذَا الدِّينِ قَالُوا الأَسْقُفْ - مَرْتَبَةٌ فَوْقَ الْقِسِيسِ عِنْدَ النَّصَارَى - رَاعِي الْكَنِيسَةِ فَجِئْتُهُ فَقُلْتُ: إِنِّي رَغِبْتُ فِي النَّصْرَانِيَّةِ وَأَحْبَبْتُ أَنْ أَلْزَمَكَ وَأَخْدِمَكَ وَأَتَعَلَّمَ مِنْكَ، وَأُصَلِّي مَعَكَ، فَقَالَ: أُدْخُلْ فَدَخَلْتُ عِنْدَهُ وَجَعَلْتُ أَخْدِمُهُ. ثُمَّ مَا لَبِثْتُ أَنْ عَرَفْتُ أَنَّ الرَّجُلَ رَجُلُ سُوءٍ فَقَدْ كَانَ يَأْمُرُ أَتْبَاعَهُ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُهُمْ بِثَوَابِهَا فَإِذَا أَعْطُوهُ مِنْهَا شَيْئاً لِيُنْفِقَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ اكْتَنَزَهُ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِ الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ مِنْهُ شَيْئاً، حَتَّى جَمَعَ سَبْعَ قِلالٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَأَبْغَضْتُهُ بُغْضاً شَدِيداً لِمَا رَأَيْتُهُ مِنْهُ. ثُمَّ مَا لَبِثَ أَنْ مَاتَ فَاجْتَمَعَتْ النَّصَارَى لِدَفْنِهِ فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنْ صَاحِبَكُمْ كَانَ رَجُلَ سُوءٍ يَأْمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُكُمْ فِيهَا فَإِذَا جِئْتُمُوهُ بِهَا اكْتَنَزَهَا لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَعْطِ الْمَسَاكِينَ مِنْهَا شَيْئاً، قَالُوا: مِنْ أَيْنَ عَرَفْتَ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: أَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْزِهِ. قَالُوا: نَعَمْ دُلَّنَا عَلَيْهِ فَأَرَيْتُهُمْ مَوْضِعَهُ فَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ سَبْعَ قِلالٍ مَمْلُوءَةً ذَهَباً وَفِضَّةً فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا: وَاللهِ لا نَدْفُنُهُ ثُمَّ صَلَبُوهُ وَرَمُوهُ بِالْحِجَارِةِ ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَمْضِ غَيْرُ قَلِيلٍ حَتَّى نَصَّبُوا رَجُلاً آخِرَ مَكَانَهُ، فَلَزِمْتُهُ فَمَا رَأَيْتُ رَجُلاً أَزْهَدَ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَلا أَرْغَبَ مِنْهُ فِي الآخِرَةِ وَلا أَدْأَبَ مِنْهُ عَلَى الْعِبَادَةِ لَيْلاً وَلا نَهَاراً فَأَحْبَبْتُهُ حُبّاً جَمّاً وَأَقَمْتُ مَعَهُ زَمَاناً. فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قُلْتُ لَهُ: إِلى مَنْ تُوصِي بِي وَمَعَ مَنْ تَنْصَحُنِي أَنْ أَكُونَ مِنْ بَعْدِكَ؟ فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ لا أَعْلَمُ أَحَداً عَلَى مَا كُنْتُ

عَلَيْهِ إِلا رَجُلاً بِالْمُوصِلِ هُوَ فُلانٌ لَمْ يُحَرِّفْ وَلَمْ يُبَدِّلْ فَألحَقْ بِهِ فَلَمَّا مَاتَ صَاحِبِي لَحَقْتُ فِي الْمُوصِلِ فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَيْهِ قَصَصْتُ عَلَيْهِ خَبَرِي وَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ فُلاناً أَوْصَانِي عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ أَلْحَقُ بِكَ وَأَخْبَرَنِي أَنَّكَ مُتَمَسِّكٌ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْحَقِّ فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ فَوَجَدْتُهُ عَلَى خَيْرِ حَالٍ. ثُمَّ إِنَّهُ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلانُ لَقَدْ جَاءَكَ مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا تَرَى وَأَنْتَ تَعْلَمُ مِنْ أَمْرِي مَا تَعْلَمُ فَإِلى مَنْ تُوصِي فَإِلى بِي وَمَنْ تَأْمُرُنِي بِاللِّحَاقِ بِهِ فَقَالَ: أَيْ بُنَيّ وَاللهِ مَا أَعْلَمُ أَنَّ رَجُلاً عَلَى مِثْلِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ إِلا رَجُلاً بِنَصِيبِينَ وَهُوَ فُلانٌ فَأَلْحَقْ بِهِ فَلَمَّا غيبَ الرَّجُلُ فِي لَحْدِهِ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ نَصِيبِينَ وَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي وَمَا أَمَرَنِي بِهِ صَاحِبِي فَقَالَ لِي: أَقِمْ عِنْدَنَا فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ فَوَجَدْتُهُ عَلَى مَا كَانَ صَاحِبَاهُ مِنْ الْخَيْرِ. فَوَاللهِ مَا لَبِثَ أَنْ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قُلْتُ لَهُ: لَقَدْ عَرَفَتْ مِنْ أَمْرِي مَا عَرَفْتَ فَإِلى مَنْ تُوصِي بِي؟ فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ وَاللهِ إِنِّي مَا أَعْلَمُ أَحَداً بَقِيَ عَلَى أَمْرِنَا إِلا رَجُلاً بِعَمُورِيَّةَ هُوَ فُلانٌ فَألْحَقْ بِهِ فَلَحِقْتُ بِهِ وَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي فَأَقَمْتُ عِنْدَ رَجُلٍ كَانَ - وَاللهِ - عَلَى هَدْيِ أَصْحَابِهِ وَقَدْ اكْتَسَبْتُ وَأَنَا عِنْدَهُ بَقَرَاتٍ وَغَنِيمَةً. ثُمَّ مَا لَبِثَ أَنْ نَزَلَ بِهِ مَا نَزَلَ بَأصْحَابِهِ مِنْ أَمْرُ اللهِ فَلَمَّا حَضَرَتْهُ قُلْتُ لَهُ: إِنِّكَ تَعْلَمْ مِنْ أَمْرِي مَا تَعْلَمْ فَإِلَى مَنْ تُوصِى بِي؟ وَمَا تَأْمُرُنِي أَنْ أَفْعَلَ؟ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ وَاللهِ - مَا أَعْلَمُ أن هُناكَ أَحَداً مِنَ النَّاسِ بَقِيَ عَلى ظَهْرِ الأرْض مًسْتَمْسِكًا بِمَا كَنَّا عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ قَدْ أَظَلَّ زَمَانٌ يَخْرُجُ فِيهِ بِأَرْضِ الْعَرَبِ نَبِيٌّ يبْعَثُ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ ثُمَّ يُهَاجِرُ مِنْ أَرْضِهِ إِلَى أَرْضٍ

ذَات نَخْلٍ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ وَلَهُ عَلامَاتٌ لاَ تَخْفَى فَهُو يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ وَلاَ يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ وَبَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ الْبِلادِ فَافْعَلْ. ثُمَّ وَافَاهُ الأَجَلُ فَمَكَثْتُ بِعَمُّورِيَّةَ زَمَناً إِلَى أَنْ مَرَّ بِي نَفَرٌ مِنْ تُجَّار الْعَرَبِ مِنْ قَبِيلَةِ كَلْبٍ فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنْ حَمَلْتُمُونِي مَعَكُمْ إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ أَعْطِيتُكُمْ بَقَرَاتِي هَذِهِ وَغُنَيْمَتِي فَقَالُوا: نَعَمْ نَحْمِلُكَ فَأَعْطَيْتُهُم إِيَّاهَا وَحَمَلُونِي مَعَهُمْ حَتَّى إِذَا بَلَغْنَا وَادي الْقُرَى غَدَرُوا بِي وَبَاعُونِي لِرَجُلٍ مِنْ الْيَهُودَ فالْتَحَقْتُ بِخِدْمَتِهِ. ثُمَّ مَا لَبِثَ أَنْ زَارَهُ ابْنُ عَمٍّ لَهُ مِنَ بَنِي قُرَيْظَةَ فاشْتَرَانِي مِنْهُ وَنَقَلنِي مَعَهُ إلَى يَثْرِبَ فَرَأيتُ النَّخْلَ الذي ذَكَرَهُ لِي صَاحِبِي بِعَمُّورِيَّةَ وَعَرَفْتُ الْمَدِيَنةَ بالْوَصْفِ الذي نَعَتَهُا بِهِ فَأَقَمْتُ بِهَا مَعَهُ وَكَانَ النَّبِيُّ حِينَئِذٍ يَدْعُو قَوْمَهُ بِمَكَّةَ لَكَنِّ لَمْ أَسْمَعُ لَهُ بِذِكْرٍ لانْشِغَالِي بِمَا يُوجِبُهُ عَلَيَّ الرِّقِّ. ثُمَّ مَا لَبِثَ أَنْ هَاجَرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَثْرِبَ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَفِي رَأْسِ نَخْلَةٍ لِسَيِّدِي أَعْمَلُ فِيهَا بَعْضَ الْعَمَلِ وَسَيِّدِي جَالِسٌ تَحْتَهَا إِذْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ ابْنُ عَمٍّ لَهُ وَقَالَ لَهُ: قَاتَلَ اللَّهُ بَنِي قَيْلَةَ وَاللَّهِ إِنَّهُمُ الآنَ لَمُجْتَمِعُونَ بِقُبَاءَ عَلَى رَجُلٍ قَدِمَ عَلَيْهِمْ الْيَومَ مِنْ مَكَّةَ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ. فَمَا إِنْ سَمِعْتُ مَقَالَتَهُ حتَّى مَسَّنِي مَا يُشْبِهُ الْحُمَّى واضْطَرَبْتُ اضْطِرَاباً شَدِيداً حَتَّى خَشِيتُ أَنْ أَسْقُطَ عَلَى سَيِّدِي وَبَادَرْتُ إِلَى النُّزُولِ عَنِ النَّخْلَةِ وَجَعَلْتُ أَقُولُ للرَّجَل: مَاذَا تَقُولُ؟ أَعِدْ عَلَيَّ الْخَبَرَ فَغَضِبَ

سَيِّدِي وَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً وَقَالَ لِي: مَالَكَ وَلِهَذَا؟ عُدْ إِلَى مَا كُنْتَ فِيهِ مِنْ عَمَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ أَخَذْتُ شَيْئاً مِنْ تَمَراتٍ كُنْتُ جَمَعْتُهُ وَتَوَجَّهْت إِلَى حَيْثُ يَنْزِلُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ وَمَعَكَ أَصْحَابٌ لَكَ غُرَبَاءُ ذَوُو حَاجَةٍ وَهَذَا كَانَ عِنْدِي لِلصَّدَقَةِ فَرَأَيْتُكُمْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِكُمْ ثُمَّ قَرَّبْتُهُ إِليهِ. فَقَالَ لأَصْحَابِهِ: «كُلُوا» . وَأَمْسَكَ يَدَهُ فَلَمْ يَأْكُلْ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذِهِ وَاحِدَةٌ ثُمَّ انْصَرَفْتُ وَأَخذْتُ أَجْمَعُ بَعْضَ التَّمْرِ فَلَّمَا تَحَوَّلَ الرَّسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ جِئْتُه فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي رَأَيْتُكَ لاَ تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أَكْرَمْتُكَ بِهَا فأَكَلَ مِنْهَا وأَمَر أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا مَعَهُ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذِهِ الثَّانِيَةُ. ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ حَيْثُ كَانَ يُوارِي أَحَدَ أَصْحَابِهِ فَرَأيْتُهُ جَالِساً وَعَلَيْهِ شَمْلَتَانِ فَسَلَّمْتُ عَليهِ ثُمَّ اسْتَدَرْتُ أَنْظُرُ إِلَى ظَهْرِهِ هَلْ أَرَى الْخَاتَمَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي فِي عَمُّورِيَّةَ. فَلَمَّا رَآنِي أَنْظُرُ إلى ظَهْرِهِ عَرَفَ غَرَضِي فألْقَى رِدَاءَهُ عَنْ ظَهْرِهِ فَنَظَرْتُ إِلَى الْخَاتَمِ فَعَرَفْتُهُ فَانْكَبَبْتُ عَلَيْهِ أُقَبِّلُهُ وَأَبْكِى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا خَبَرُكَ» ؟ فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ قَصَّتِي فَأَعْجَبَ بِهَا وَسُرُّوا بِهَا أَنْ يَسْمَعْهَا أَصْحَابُهُ فأَسْمَعْتُهُمْ إِيَّاهَا فَعَجِبُوا مِنْهَا أَشَّدَ الْعَجَبِ وسُرُّوا بِهَا أَعْظَمَ السُّرور. أ. هـ. بِتَصَرِّفَ يَسِير. اللَّهُمَّ يا مَنْ لا تَضُرَّهُ الْمَعْصِيةُ ولا تَنْفَعَهُ الطَّاعَةِ أَيْقِظْنَا مِنْ نَوْمِ الغَفْلَةِ وَنَبَّهْنَا لاغْتِنَامِ أَوْقَاتِ الْمُهْلَةِ وَوِفِّقْنَا لِمَصَالِحْنَا وَاعْصِمْنَا مِنْ قَبَائِحْنَا وَلا تُؤاخِذْنَا بِمَا انْطَوَتَ عَلَيْهِ ضَمَائِرُنَا وَأَكَنَّتْهُ سَرائِرُنَا مِنْ أَنْوَاعِ القَبَائِحِ والْمَعَائِبِ التي تَعْلَمُهَا

مِنَّا، وامنُنْ عَلَيْنَا يَا مَوْلانَا بِتَوْبَةٍ تَمْحُو بِهَا عَنَّا كُلَّ ذَنْبٍ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْياءِ مِنهُم وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) ثُمَّ شَغَلَ سَلْمَانَ الرِّقُّ حَتَّى فَاتَهُ بَدْرٌ وَأُحُدٌ ثُمَّ قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَاتِبْ يَا سَلْمَانُ» . فَكَاتَبْتُ صَاحِبِي عَلَى ثَلاَثِمِائَةِ نَخْلَةٍ أُحْيِيهَا لَهُ بِالْفَقَرِ وَبِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَصْحَابِهِ: «أَعِينُوا أَخَاكُمْ» . فَأَعَانُونِي حَتَّى اجْتَمَعَتْ لِي ثَلاثُمَائَةٌ. قالَ سَلْمَان: فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْهَبْ فَفَقِّرْ لَهَا فَإِذَا فَرَغْتَ فَأْتِنِي أَكُونُ أَنَا أَضَعُهَا بِيَدَيَّ» . قال: فَفَقَّرْتُ لَهَا وَأَعَانَنِي أَصْحَابِي فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهَا فَجَعَلْنَا نُقَرِّبُ لَهُ الْوَدِيَّ وَيَضَعُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، فَوَالَّذِى نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ مَا مَاتَ مِنْهَا وَدِيَّةٌ وَاحِدَةٌ فَبَقِيَ عَلَىَّ الْمَالُ. فَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مُعْجِزَةٌ عَظِيمَةٌ حَيْثُ لَمْ يَمُتْ مِمَّا غَرَسَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا وَاحِدَةٌ قَالَ سَلْمَانُ فَأُتِيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ بَيْضَةِ الدَّجَاجَةِ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ: «مَا فَعَلَ سَلْمَانُ الْفَارِسيُّ الْمُكَاتَبُ» ؟ فَدُعِيتُ لَهُ فَقَالَ: «هَذِهِ أَدِّبِهَا مَا عَلَيْكَ» . قُلْتُ: وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِمَّا عَلَىَّ؟ قَالَ: «خُذْهَا فَإِنَّ اللَّهَ سَيُؤَدِّي بِهَا عَنْكَ» . فَأَخَذْتُهَا فَوَزَنْتُ لَهُمْ مِنْهَا وَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً وَعُتِقْتُ فَشَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَنْدَقَ ثُمَّ لَمْ يَفُتْنِي مَعَهُ مَشْهَدٌ واحدٌ وَهَذِه أيضاً مُعْجِزَةٌ عَظِيمَةٌ. وَكَانَ سَلْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَرِعاً زَاهِداً قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ عَطَاءُ سَلْمَانَ خَمْسَةُ آلافٍ وَكَانَ أَمِيراً عَلَى زُهَاء ثَلاثِينَ أَلْفاً مِنْ الْمُسْلِمِينَ

وَكَانَ يَخْطُبُ النَّاسَ فِي عَبَاءَةٍ يَفْتَرِشُ بَعْضَهَا وَيَلْبَسُ بَعْضَهَا فَإِذَا خَرَجَ عَطَاؤُهُ أَمْضَاهُ - يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ يَتَصَدَّقُ بِوَصِيفَتِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَيَأْكُلُ مِنْ سَفِيفِ يَدَيْهِ أَيْ يَسِفُ الْخُوْصَ وَيَأْكُلُ مِنْ قِيمَتِهِ إِذَا بَاعَهُ. وَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: اشْتَرِي خُوصاً بِدِرْهَمٍ فَأَعْمَلُهُ فَأَبِيعُهُ بِثَلاثَةِ دَرَاهِمَ فَأُعِيدُ دِرْهَماً فِيهِ وَأُنْفِقُ دِرْهَماً عَلَى عِيَالِي وَأَتَصَدَّقُ بِدِرْهَمٍ وَكَانَ سَلْمَانُ أَمِيراً عَلَى الْمَدَائِنِ فَجَاءَ رَجُلٌ مَعَهُ حِمْلُ تِبْنٌ وَعَلَى سَلْمَان عَبَاءَةٌ فَقَالَ لَهُ: تَعَالَ احْمِلْ وَهُوَ لا يَعْرِفُهُ فَحَمَلَ فَرَآهُ النَّاسُ فَقَالُوا: هَذَا الأَمِيرُ فَقَالَ الرَّجُلُ لِسَلْمَانَ: لَمْ أَعْرِفْكَ؟ فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ إِنِّي قَدْ نَوَيْتُ فِيهِ نِيَّةً فَلَنْ أَضَعَهُ حَتَّى أَبْلُغَ بَيْتَهُ، هَذِهِ نُبْذَةٌ يَسِيرَةٌ مِنْ سِيرَةِ سَلْمَانَ الْفَارِسِي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. كَمْ ذَا أُؤمِّلُ عَفْواً لَسْتُ أَكْسَبُهُ ... وَيْلٌ لِجِلْدِيَ يَوْمَ النَّارِ مِنْ أَمَلِي قَوْلٌ جَمِيلٌ وَأَفْعَالٌ مُقَبَّحَةٌ ... يَا بُعدَ ذَا الْقَوْلِ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْعَمَلِ يَا بُؤْسَ لِلْعَيْشِ غُرَّ الْعَالِمُونَ بِهِ ... وَالْجَاهِلُونَ مَعاً فِي الأَعْصُرِ الأُوَلِ مَضَوْا جَمِيعاً فَلا عَيْنٌ وَلا أَثَرٌ ... حَانُوا وَحَالُوا وَهَذَا الدَّهْرُ لَمْ يَحُلِ كَأَنَّهَمْ بَعْدَ مَا اسْتَمْطَوْا جَنَائِزَهُمْ ... لَمْ يَمْتَطُوا صَهَوَاتِ الْخَيْلِ وَالإِبْلِ قَالُوا فَرَغْتَ مِنْ الأَشْغَالِ قُلْتُ لَهُمْ ... لَوْ لَمْ أَكُنْ باِنْتِظَارِ الْمَوْتِ فِي شُغُلِ إِنِّي لأَعْلَمُ عِلْماً لا يُخَالِجُه ... شَكٌّ فَأَطْمَعُ لِلدُّنْيَا وَيُطْمَعُ لِي بَأَنَّه لا مَحِيصٌ عَنْ مَدَى سَفَرِي ... وَلا دَوَاءٌ لِمَا أَشْكُوهُ مِنْ عِلَلِي وَأَنَّنِي سَوْفَ أَلْقَى مَا يُطِيحُ بِهِ ... كَيْدِي وَتَذْهَبُ عَنْهُ ضُلَّلاً حِيَلي وَكَيْفَ يُطْبِقُ جَفْناً بِالْكَرَى رَجَلٌ ... وَرَاءَهُ لِلرَّدَى حَادٍ مِنْ الأَجَلِ؟ أَمْ كََيْفَ يُصْبِحُ جَذْلاناً وَلَيْسَ لَهُ ... عِلْمُ الإلهِ بِعُقْبَى ذَلِكَ الْجَذَلِ؟ يَا رَاقِداً وَنِدَاءُ الله يُوقظُهُ ... ألا تَزَوَّدتَ فِينَا زَادَ مُرْتَحِلِ؟ اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِكَ تَهْدِي بِهَا قُلُوبَنَا، وَتَجْمَعُ بِهَا شَمْلَنَا،

قصة لطاووس

وَتَلُمُّ بِهَا شَعْثَنَا، وَتَرْفَعُ بِهَا شَاهِدَنَا، وَتَحْفَظُ بِهَا غِائِبَنَا، وَتُزكِّي بِهَا أَعْمَالِنَا، وَتُلْهِمْنَا بِهَا رُشْدَنَا، وَتَعْصِمْنَا بِهَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين. اللَّهُمَّ قَوِ إِيمَانَنَا بِكَ وبملائكتِكَ وَبِكُتُبِكَ وَبِرُسُلِكَ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَبِالْقَدْرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَثَبِّتْنَا عَلى قَولِكَ الثَّابِتِ في الحَياةِ الدُّنيا وَفي الآخِرَة وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَجَمِيعِ الْمُسْلمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. قصة: كَانَ طَاوُوسُ بنُ كَيْسَانَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ وَكَانَتْ الْوِلايَةُ فِي الْيَمَنِ إِذْ ذَاكَ لِمُحَمَّدِ بن يُوسُفَ الثَّقَفِي أَخِي الْحَجَّاجِ بن يُوسُفُ أَرْسَلَهُ الْحَجَّاجُ وَالِياً عَلَيْهَا بَعْدَ أَنْ عَظُمَ أَمْرُه ... وَقَوِيَتْ شَوْكَتهُ ... وَاشْتَدَّتْ هَيْبَتُهُ إِثْرَ قَضَائِهِ عَلَى حَرَكَةِ عَبْدِ اللهِ بنِ الزُّبَيْرِ. وَكَانَ مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ يَجْمَعُ فِي ذَاتِهِ كَثِيراً مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ الْحَجَّاجِ وَلَكِنَّهُ مَا يَتَحَلَّى بِشَيْءٍ مِنْ حَسَنَاتِهِ. وَفِي غَدَاةِ يَوْمٍ بَارِدٍ مِنْ أَيَّامِ الشِّتَاءِ دَخَلَ عَلَيْهِ طَاوُوسُ بنُ كَيْسَانَ وَمَعَهُ وَهْبُ بنُ مُنَبِّه. فَلَمَّا أَخَذَا مَجْلَسَيْهِمَا عِنْدَهُ طَفِقَ طَاوُوسٌ يََعِظُهُ وَيُرَغِّبُهُ وَيُرَهِّبُهُ. وَالنَّاسُ جُلُوسٌ بَيْنَ يَدَيْهِ. فَقَالَ الْوَالِي لأَحَدِ حُجَّابه: يَا غُلامُ أَحْضِرْ طَيْلَسَاناً وَأَلْقِهِ عَلَى كَتِفَيْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ. فَعَمَدَ الْحَاجِبُ إِلى طَيْلَسَانٍ ثَمِينٍ وَأَلْقَاهُ عَلَى كَتِفَي طَاوُوس فَظَلَّ طَاوُوسٌ مُتَدَفِّقاً فِي مَوْعِظَتِهِ. وَجَعَلَ يُحَرِّكُ كَتِفَيْهِ فِي تُؤَدَةٍ حَتَّى أَلْقَى الطَّيْلَسَانَ عَنْ عَاتِقِهِ، وَهَبَّ وَاقِفاً وَانْصَرَف ...

فَغَضِبَ مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ غَضَباً ظَهَرَ فِي احْمِرَارِ عَيْنَيْهِ وَاحْتِقَانِ وَجْهِهِ.. غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ شَيْئاً. فَلَمَّا صَارَ طَاوُوسٌ وَصَاحِبُهُ خَارِجَ الْمَجْلِس قَالَ وَهْبٌ لِطَاوُوس: وَاللهُ لَقَدْ كُنَّا فِي غِنَى عَنْ إِثَارَةِ غَضَبِهِ عَلَيْنَا فَمَاذَا كَانَ يُضِيُركَ لَوْ أَخَذْتَ الطَّيْلَسَانَ مِنْهُ ثُمَّ بِعْتَهُ وَتَصَدَّقْتَ بِثِمَنِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِين؟! فَقَالَ طَاوُوسٌ: هُوَ مَا تَقُولُ. لَوْلا أَنّنِي خَشِيتُ أَنْ يَقُولُ الْعُلَمَاءُ مِنْ بَعْدِي: نَأْخُذُ كَمَا أَخَذَ طَاوُوسٌ ... ثُمَّ لا يَصْنَعُونَ فِيمَا أَخَذُوه مَا تَقُولُ. وَكَأَنَّمَا أَرَادَ مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ أَنْ يَرُدَّ لِطَاوُوسٍ الْحَجَرَ مِنْ حَيْثُ جَاءَ ... فَنَصَبَ لَهُ شَرَكاً مِنْ شِرَاكِهِ حَيْثُ أَعَدَّ صُرَّةً فِيهَا سُبْعُمَائَةِ دِينَارٍ ذَهَباً. وَاخْتَارَ رَجُلاً حَاذِقاً مِنْ رِجَالِ حَاشِيَتِهِ وَقَالَ لَهُ: امْضِ بِهَذِهِ الصُّرَّةِ إِلى طَاوُوسِ بنِ كَيْسَانَ وَاحْتَلْ عَلَيْهِ فِي أَخْذِهَا فَإِنْ أَخَذَهَا مِنْكَ أَجْزَلْتُ عَطِيَّتَكَ وَكَسَوْتُكَ وَقَرَّبْتُكَ. فَخَرَجَ الرَّجُلُ بِالصُّرَّةِ حَتَّى أَتَى طَاوُوساً فِي قَرْيَةٍ كَانَ يُقِيمُ بِهَا بِالْقُرْبِ مِنْ صَنْعَاءَ يُقَالُ لَهَا: (الْجَنَد) فَلَمَّا ثَارَ عِنْدَهُ حَيَّاهُ وَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، هَذِهِ نَفَقَةُ بَعْثَ بِهَا الأَمِيرُ إِلَيْكَ فَقَالَ: مَا لِي بِهَا مِنْ حَاجَةٍ. فَاحْتَالَ عَلَيْهِ بِكُلَّ طَرِيقٍ لِيَقْبَلَهَا فَأَبَى ... وَأَدْلَى لَهُ بِكُلِّ حُجَّةٍ فَرَفَضَ. فَمَا كَانَ مِنْهُ إِلا أَنْ اغْتَنَمَ غَفْلَةً مِنْ طَاوُوسِ وَرَمَى بِالصُّرَّةِ فِي كُوَّةٍ كَانَتْ بِجِدَارِ الْبَيْتِ وَعَادَ رَاجِعاً إِلى الأَمِيرِ وَقَالَ: لَقَدْ أَخَذَ طَاوُوسٌ الصُّرَّةَ أَيَّهُا الأَمِيرُ فَسُرَّ لِذَلِكَ مُحَّمَدُ بنُ يُوسُفَ وَسَكَتَ عَلَيْهِ.

فَلَمَّا مَضَتْ عَلَى ذَلِكَ أَيَّامٌ عِدَّةٌ أَرْسَلَ اثْنَيْنِ مِنْ أَعْوَانِهِ، وَمَعَهُمَا الرَّجُلُ الذِي حَمَلَ إِلَيْهِ الصُّرَّةِ ... وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَقُولا لَهُ: إِنَّ رَسُولَ الأَمْيَرِ قَدْ أَخْطَأَ فَدَفَعَ إِلَيْكَ الْمَالَ، وَهُوَ مُرْسَلٌ لِغَيْرِكَ، وَقَدْ أَتَيْنَا لِنَسْتَرِدَّهُ مِنْكَ وَنَحْمِلَهُ إِلى صَاحِبِهِ. فَقَال َطاَوُوسٌ: مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِ الأَمِيرِ شَيْئاً حَتَّى أَرُدَّهُ إِلَيْهِ. فَقَالَ: بَلْ أَخَذْتَهُ. فَالْتَفَتَ إِلى الرَّجُلِ الذِي حَمَلَ إِلَيْهِ الصُّرَّةِ وَقَالَ لَهُ: هَلْ أَخَذْتَ مِنْكَ شَيْئاً؟! فَأَصَابَ الرَّجُلُ ذُعْرٌ وَقَالَ: كَلا، وَإِنَّمَا وَضَعْتُ الْمَالَ فِي هَذِهِ الْكُوَّةِ فِي غَفْلَةٍ مِنْكَ. فَقَالَ طَاوُوسٌ: دُونَكُمَا الْكُوَّةَ فَانْظُرَا فِيهَا: فَنَظَرَا فِي الْكَوَّةِ، فَوَجَدَا فِيهَا الصُّرَّةَ كَمَا هِيَ وَقَدْ ضَرَبَ عَلَيْهَا الْعَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهِ فَأَخَذَاهَا وَعَادَا بِهَا إِلى الأَمِيرُ. حَدَّثَ طَاوُوسُ بنُ كَيْسَانَ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا فِي مَكَّةَ حَاجّاً بَعَثَ إِلَيَّ الْحَجَّاجُ بِنِ يُوسُفَ الثَّقَفِيُّ فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَيْهِ رَحَّبَ بِي وَأَدْنَى مَجْلِسِي مِنْهُ ... وَطَرَحَ لِي وِسَادَةً وَدَعَانِي لأَنْ أتَّكِئُ عَلَيْهَا ... ثُمَّ رَاحَ يَسْأَلُنِي عَمَّا أَشْكَلَ عَلَيْهِ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَغَيْرِهَا. وَفِيمَا نَحْنُ كَذَلِكَ سَمِعَ الْحَجَّاجُ مُلَبِّياً يُلَبِّي حَوْلَ الْبَيْتِ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ وَلَهُ نَبْرَةٌ تَهُزُّ الْقُلُوبَ هَزّاً. فَقَالَ: عَلَيَّ بِهَذَا الْمُلَبِّي. فَأُتِيَ لَهُ بِهِ فَقَالَ لَهُ: مِمَّنْ الرَّجُلُ؟ فَقَالَ: مِنَ الْمُسْلِمِينَ.

فَقَالَ: لَمْ أَسْأَلَكَ عَنْ هَذَا، وَإِنَّمَا سَأَلْتُكَ عَنْ الْبَلَدِ؟ فَقَالَ: مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ. فَقَالَ: كَيْفَ تَرَكْتَ أَمِيرَكُمْ (يَعْنِي أَخَاهُ) ؟ فَقَالَ: تَرَكْتُهُ عَظِيماً، جَسِيماً ... لَبَّاساً، رَكَّاباً ... خَرَّاجاً، وَلاجاً ... فَقَالَ: لَيْسَ عَنْ ذَا سَأَلْتُكَ؟ فَقَالَ: عَمَّ سَأَلْتَنِي إِذَنْ؟ فَقَالَ: سَأَلْتُكَ عَنْ سِيرَتِهِ فِيكُمْ؟ فَقَالَ: تَرَكْتُهُ ظَلُوماً غَشُوماً ... مُطِيعاً لِلْمَخْلُوقِ عَاصِياً لِلْخَالِقِ. فَاحْمَرَّ وَجْهُ الْحَجَّاجِ خَجَلاً مِنْ جُلَسَائِهِ وَقَالَ لِلرَّجُلُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تَقُولَ فِيهِ مَا قُلْتَهُ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَكَانَهُ مِنِّي؟! فَقَالَ: أَتَرَاهُ بِمَكَانِهِ مِنْكَ أَعَزَّ مِنِّي بِمَكَانِي مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ وَأَنَا وَافِدُ بَيْتِهِ ... وَمُصَدِّقُ نَبِيِّهِ ... وَقَاضِي دِينِهِ ... فَسَكَتَ الْحَجَّاجُ وَلَمْ يُحِرْ جَوَاباً. قَالَ طَاوُوسٌ: ثُمَّ مَا لَبِثَ الرَّجُلُ أَنْ قَامَ، وَانْصَرَفَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَأْذِنَ أَوْ يُؤْذَنَ لَهُ. فَقُمْتُ فِي إِثْرِهِ وَقُلْتُ فِي نَفْسِي: إِنَّ الرَّجُلَ صَالِحٌ فَاتْبَعْهُ وَاظْفَرْ بِهِ قَبْلَ أَنْ تُغَيِّبَه عَنْ عَيْنَيْكَ جُمُوعُ النَّاسِ. فَتَبِعْتُهُ فَوَجَدْتُه قَدْ أَتَى الْبَيْتَ وَتَعَلَّقَ بِأَسْتَارِهِ وَوَضَعَ خَدَّهُ عَلَى جِدَارِهِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ بِكَ أَعُوذُ ... وَبِجَنَابِكَ أَلُوذُ ... اللَّهُمَّ اجْعَلْ لِي فِي الاطْمِئْنَانِ إِلى جُودِكَ وَالرِّضَا بِضَمَانِكَ مَنْدُوحَةً عَنْ مَنْعِ الْبَاخِلِينَ وَغِنَىً عَمَّا فِي أَيْدِي الْمُسْتَأْثِرِينَ ... اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فَرَجَكَ الْقَرِيب ... وَمَعْرُوفَكَ الْقَدِيم وَعَادَتَكَ الْحَسَنَة يَا رَبَّ الْعَالَمِين.

قصة أخرى لطاووس

ثُمَّ ذَهَبَتْ بِهِ مَوْجَةٌ مِنَ النَّاسِ وَأَخْفَتْهُ عَنْ عَيْنِي فَأَيْقَنْتُ أَنَّهُ لا سَبِيلَ إِلى لِقَائِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. فَلَمَّا كَانَتْ عَشِيَّةُ عَرَفَة رَأَيْتُهُ وَقَدْ أَفَاضَ مَعَ النَّاسِ فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَإِذَا هُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ لَمْ تَقْبَلْ حِجِّي، وَتَعَبِي، وَنَصَبِي، فَلا تُحْرِمْنِي الأَجْرَ عَلَى مُصِيبَتِي، بِتَرْكِكَ الْقَبُولَ مِنِّي ثُمَّ ذَهَبَ فِي النَّاسِ، وَسَتَرَهُ الظَّلامُ عَنِّي فَلَمَّا يَئِسْتُ مِنْ لِقَائِهِ قُلْتُ: اللَّهُمَّ اقْبَلْ دُعَائِي وَدُعَاءَهُ وَاسْتَجِبْ رَجَائِي وَرَجَاءَهُ وَثَبِّتْ قَدَمِيَّ وَقَدَمَيْهِ يَوْمَ تَزلُّ الأَقْدَامِ، وَاجْمَعْنِي مَعَهُ عَلَى حَوْضِ الْكَوْثَرِ يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ. اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (قِصَّة لِطَاوُوس) . قِصَّة لِطَاوُوس مَا كَادَ خَلِيفَةُ الْمُسْلِمِينَ سُلَيْمَانُ بنُ عَبْدِ الْمَلِكَ يُلْقِي رِحَالَهُ فِي أَكْنَافِ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ... وَيُقِلُّ أَشْوَاقَهُ إِلى الْكَعْبَةِ الْمُعَظَّمَةِ حَتَّى الْتَفَتَ إِلَى حَاجِبِهِ وَقَالَ: ابْتَغْ لَنَا عَالِماً يُفَقِّهُنَا فِي الدِّينِ وَيُذَكِّرُنَا فِي هَذَا الْيَوْمِ الأَغَرِّ مِنْ أَيَّامِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَمَضَى الْحَاجِبُ إِلى وُجُوهِ أَهْلِ الْمُوسِمِ وَطَفَقَ يَسْأَلُهُمْ عَنْ بُغْيَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَقِيلَ لَهُ: هَذَا طَاوُوسُ بنُ كَيْسَانَ سَيِّدُ فُقَهَاءِ عَصْرِهِ ... وَأَصْدَقُهُمْ لَهْجَةً فِي الدَّعْوَةِ إِلى اللهِ ... فَعَلَيْكَ بِهِ.

فَأَقْبَلْ الْحَاجِبُ علَىَ طَاوُوسِ وَقَالَ: أَجِبْ دَعْوَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَيُّهَا الشَّيْخُ فَاسْتَجَابَ طَاوُوسٌ لَهُ مِنْ غَيْرِ إِبْطَاء. ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يُؤْمِنُ بَأَنَّ عَلَى الدُّعَاةِ إِلى الله تَعَالى أَلا تَعْرِضَ لَهُمْ فُرْصَةٌ إِلا اغْتَنَمُوهَا ... وَأَلا تَسَنْحَ لَهُمْ بَادِرَةٌ إِلا ابْتَدَرُوهَا. وَكَانَ يُوقِنُ أَنَّ أَفْضَلَ كَلِمَةٍ تُقَالُ هِيَ كَلَمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا تَقْوِيمُ اعْوِجَاجِ ذَوِي السُّلْطَانِ ... وَتَجْنيبُهُمْ الْحَيْفَ وَالْجُور ... وَتَقَرِيبُهُمْ مِنْ الله تعالى ... مَضَى طَاوُوسٌ مَعَ الْحَاجِبِ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ حَيَّاهُ فَرَدَّ الْخَلِيفَةُ التَّحِيَّةَ بِأَحْسَنَ مِنْهَا ... وَأَكْرَمَ اسْتِقْبَالَ زَائِرِه، وَأَدْنَى مَجْلِسَهُ ثُمَّ أَخَذَ عَمَّا أَشْكَلَ عَلَيْهِ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، وَيَنْصِتُ إِلَيْه فِي تَوْقِيرٍ وَإِجْلال. قَالَ طَاوُوس: فَلَمَّا شَعَرْتُ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ بَلَغَ بُغَيْتَهِ وَلَمْ يَبْقَ لَدَيْهِ مَا يَسْأَلُ عَنْهُ قُلْتُ فِي نَفْسِي: إِنَّ هَذَا الْمُجْلِسَ لِمَجْلِسٌ يَسْأَلُكَ اللهَ عَنْهُ يَا طَاوُوس.. ثُمَّ تَوَجَّهْتُ إِلَيْهِ وَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ صَخْرَةً كَانَتْ عَلَى شَفِيرِ بِئْرٍ فِي قَعْرِ جَهَنَّم ... وَقَدْ ظَلَّتْ تَهْوِي فِي هَذِهِ الْبِئْرِ سَبْعِينَ خَرِيفاً حَتَّى بَلَغَتْ قَرَارَهَا. أَتَدْرِي لِمَنْ أَعَدَّ الله هَذِهِ الْبِئْرَ مِنْ آبَارِ جَهَنَّمَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمَنِينَ؟ فَقَالَ: مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ: لا. ثُمَّ عَادَ إِلى نَفْسِهِ وَقَالَ: وَيْلَكَ لِمَنْ أَعَدَّهَا؟! فَقَالَ: أَعَدَّهَا اللهَ جَلَّ وَعَزَّ لِمَنْ أَشْرَكَهُ فِي حُكْمِهِ فَجَارَ ...

فَأَخَذَتْ سُلَيْمَانَ لِذَلِكَ رَعْدَةٌ ظَنَنْتُ مَعَهَا أَنَّ رُوحَهُ سَتَصْعَدُ مِنْ بَيْنِ جَنْبِيهِ. وَجَعَلَ يَبْكِي، وَلِبُكَائِهِ نَشِيجٌ يُقَطِّعُ نِيَاطَ الْقُلُوبَ ... فَتَرَكْتُهُ وَانْصَرَفْتُ ... وَهُوَ يَجْزِينِي خَيْراً. وَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْخِلافَةَ بَعَثَ إِلى طَاوُوسِ بنِ كَيْسَانَ يَقُولُ: أَوْصِنِي يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ طَاوُوسٌ رِسَالَةً فِي سَطْرٍ وَاحِدٍ قَالَ فِيهَا: (إِذَا أَرَدْتَ أَنْ يَكُونَ عَمَلُكَ خَيْراً كُلَّهُ فَاسْتَعْمِلْ أَهْلَ الْخَيْرِ، وَالسَّلام) . فَلَمَّا قَرَأَ عُمَرُ الرِّسَالَةَ قَالَ: كَفَى بِهَا مَوْعِظَةً كَفَى ... بِهَا مَوْعِظَةً. وَلَمَّا آلَتِ الْخِلافَةُ إِلى هِشَامِ بنِ عَبْدِ الْمَلِكِ كَانَتْ لِطَاوُوسِ بنِ كَيْسَانَ مَعَهُ مَوَاقِفُ مَشْهُورَةٌ مَأْثُورَة ... مِنْ ذَلِكَ أَنَّ هِشَاماً قَدِمَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ حَاجّاً فَلَمَّا صَارَ فِي الْحَرَمِ قَالَ لِخَاصَّتِهِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ: الْتَمِسُوا لَنَا رَجُلاً مِنْ صَحَابَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلام. فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ الصَّحَابَةَ - يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ - قَدْ تَلاحَقُوا بِرِبِّهِمْ وَاحِداً إِثْرَ آخَرَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَد. فَقَالَ: إِذَنْ فَمِنَ التَّابِعِينَ. فَأُتِيَ بِطَاوُوسِ بنِ كَيْسَانَ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ خَلَعَ نَعْلَيْهِ بِحَاشِيَةِ بِسَاطِهِ ... وَسَلَّمَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْعُوهُ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ... وَخَاطَبَهُ بِاسْمِهِ دُونَ أَنْ يُكَنِّيهِ ... وَجَلَسَ قَبْلَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ بِالْجُلُوسِ ... فَاسْتَشَاطَ هِشَامٌ غَضَباً حَتَّى بَدَا الْغَيْظُ فِي عَيْنَيْهِ.

ذَلِكَ أَنَّهُ رَأَى فِي تَصَرُّفَاتِهِ تِلْكَ اجْتِرَاءً عَلَيْهِ، وَنَيْلاً مِنْ هَيْبَتِهِ أَمَامَ جُلَسَائِهِ، وَرِجَالِ حَاشِيَتِهِ ... بَيْدَ أَنَّهُ مَا لَبِثَ أَنْ تَذَكَّرَ أَنَّهُ فِي حَرَمِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَرَجَعَ إِلى نَفْسِهِ وَقَالَ لِطَاوُوس: مَا حَمَلَكَ يَا طَاوُوسُ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟! فَقَالَ: وَمَا الذِي صَنَعْتُهُ؟! خَلَعْتَ نَعْلَيْكَ بِحَاشِيَةِ بِسَاطِي ... وَلَمْ تُسَلِّمْ عَلَيَّ بِإمْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ ... وَسَمَّيْتَنِي بِاسْمِي وَلَمْ تُكَنِّنِي ... ثُمَّ جَلَسْتُ مِنْ غَيْرِ إِذْنِي. فَقَالَ طَاوُوسٌ بِهُدُوء: أَمَّا خَلْعُ نَعْلِي بِحَاشِيَةِ بِسَاطِكَ فَأَنَا أَخْلَعُهُمَا بَيْنَ يَدَيْ رِبِّ الْعِزَّةِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّات ... وَأَمَّا قَوْلُكَ إِنِّي لَمْ أُسَلِّمْ عَلَيْكَ بِإمْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ ... فَلأَنَّ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسُوا رَاضِينَ بِإمْرَتِكَ ... وَقَدْ خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ كَاذِباً إِذَا دَعَوْتُكَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَمَّا مَا أَخَذْتَهُ عَلَيَّ مِنْ أَنِّي نَادَيْتُكَ بِاسْمِكَ وَلَمْ أُكَنِّكَ ... فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ نَادَى أَنْبِيَاءَهُ بِأَسْمَائِهِمْ فَقَالَ: يَا دَاوُود ... يَا يَحْيَى ... يَا عِيسَى ... وَكَنَّى أَعْدَاءَهُ فَقَالَ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} . وَأَمَّا قَوْلُكَ إِنِّي جَلَسْتُ قَبْلَ أَنْ تَأْذَنَ لِي فَإِنِّي سَمِعْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بنِ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ: (إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَنْظُرَ إِلى رَجُلِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَانْظُرْ إِلى رَجُلٍ جَالِسٍ، وَحَوْلَهُ قَوْمٌ قِيَامٌ بَيْنَ يَدَيْهِ) . فَكَرِهْتُ أَنْ تَكُونَ ذَلِكَ الرَّجُلُ الذِي عُدَّ مِنْ أَهْلِ النَّارِ.

فَأَطْرَقَ هِشَامٌ إِلى الأَرْضِ خَجَلاً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ: عِظْنِي يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ. فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ عَلِيَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: (إِنَّ فِي جَهَنَّمَ حَيَّاتٍ كَالْقَلال ... وَعَقَارِبَ كَالْبِغَال ... تَلْدَغُ كُلَّ رَاعٍ لا يَعْدِلُ فِي رَعِيَّتِهِ) . ثُمَّ قَامَ وَانْصَرَفَ. وَكَمَا كَانَ طَاوُوسٌ يُقْبِلُ عَلَى بَعْضِ أُوِلي الأَمْرِ تَذْكِيراً لَهُمْ وَتَوْجِيهاً ... فَقَدْ كَانَ يُعْرِضُ عَنْ بَعْضِهِمْ الآخَرَ تَبْكِيتاً وَتَأْنِيباً. حَدَّثَ ابْنُهُ قَالَ: خَرَجَّنَا ذَاتَ سَنَةٍ مَعَ أَبِي حُجَّاجاً مِنْ الْيَمَنِ فَنَزَلْنَا فِي بَعْضَ الْمُدُنِ وَعَلَيْهَا عَامِلٌ يُقَالُ لَهُ: ابنُ نَجِيح وَكَانَ مِنْ أَخْبَثِ الْعُمَّالِ، وَأَكْثَرِهِمْ جُرْأَةٌ عَلَى الْحَقِّ، وَأَشَدِّهِمْ إِيغَالاً فِي الْبَاطِلِ. فَأَتَيْنَا مَسْجِدَ الْبَلَدِ نُرِيدُ أَدَاءَ الْمَكْتُوبَةِ، فَإِذَا ابْنُ نَجِيحٍ قَدْ عَلِمَ بِقُدُومِ أَبِي فَجَاءَ إِلى الْمَسْجِدِ وَقَعَدَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِ. فَلَمْ يُجِبْهُ أَبِي، وَأَدَارَ لَهُ ظَهْرَه ... فَأَتَاهُ عَنْ يَمِينِهِ وَكَلَّمَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَعَدَلَ إِلى يَسَارِهِ وَكَلَّمَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ أَيْضاً فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ قُمْتُ إِلَيْهِ، وَمَدَدْتُ يَدِي نَحْوَه وَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ أَبِي لَمْ يَعْرِفْكَ. فَقَالَ: بَلْ إِنَّ أَبَاكَ يَعْرِفُنِي ... وَإِنَّ مَعْرِفَتَهُ بِي هِيَ الِّتِي جَعَلَتْهُ يَصْنَعُ مَا رَأَيْتُ ... ثُمَّ مَضَى وَهُوَ سَاكِتٌ لا يَقُولُ شَيْئاً فَلَمَّا عُدْنَا إِلى الْمَنْزِلِ الْتَفَتَ إِلِيَّ أَبِي وَقَالَ: يَا لُكَع ... تَسْلِقُ هَؤُلاءِ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ فِي غَيْبَتِهِمْ ... فَإِذَا حَضَرُوا خَضَعْتَ لَهُمْ بِالْقَوْلِ، وَهَلْ النِّفَاقُ غَيْرُ هَذَا؟!

لَمْ يَخُصَّ طَاوُوسُ بنُ كَيْسَانَ الْخُلَفَاءَ وَالْوُلاةَ بِمَوَاعِظِهِ وَِإِنَّمَا بِذَلَهَا لِكُلِّ مِنْ أنسَ بِهِ حَاجَةً إِلَيْهَا أَوْ رَغْبَةً فِيهَا. مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ عَطَاءُ بنُ رَبَاحٍ قَالَ: رَآنِي طَاوُوسُ بنُ كَيْسَانَ فِي مَوْقِفٍ لَمْ يَرْتَحْ لَهُ فَقَالَ: يَا عَطَاءُ إِيَّاكَ أَنْ تَرْفَعَ حَوَائِجَكَ إِلى مَنْ أَغْلَقَ فِي وَجْهِكَ بَابَه ... وَأَقَامَ دُونَكَ حُجَّابه وَإِنَّمَا أَطْلُبُهَا مِمَّنْ أَشْرَعَ لَكَ أَبْوَابَهُ ... وَطَالَبَكَ أَنْ تَدْعُوهُ ... وَوَعَدَكَ بِالإِجَابَة. وَكَانَ يَقُولُ لابْنِهِ: يَا بُنَيَّ صَاحِبِ الْعُقَلاءَ تُنْسَبْ إِلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْهُمْ ... وَلا تُصَاحِبِ الْجُهَّالَ فَإِنَّكَ إِنْ صَحِبْتَهُمْ نُسِبْتَ إِلِيْهَمْ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْهُمْ ... وَاعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ غَايَة وَأَنَّ غَايَةَ الْمَرْءِ تَمَامُ دِينِهِ وَكَمَالُ خُلُقِهِ. وَقَدْ نَشَأ ابْنُهُ عَبْدُ الله عَلَى مَا رَبَّاهُ عَلَيْهِ وَتَخَلَّقَ بِأَخْلاقِهِ، وَسَارَ بِسَيرتَه. مِنْ ذَلَكِ أَنْ الْخَلِيفَةَ الْعَبَّاسِيَّ أَبَا جَعْفَرٍ الْمَنْصُورَ اسْتَدْعَى وَلَدَهُ عَبْدَ الله، وَمَالِكَ بنَ أَنَسٍ لِزيَارَتِهِ فَلَمَّا دَخَلا عَلَيْهِ وَأَخَذَا مَجْلِسَيْهِمَا عِنْدَهُ الْتَفْتَ إِلى عَبْدِ الله بن طَاوُوسِ وَقَالَ: ارْوِ لِي شَيْئاً مِمَّا كَانَ يُحَدِّثُكَ بِهِ أَبُوكَ. فَقَالَ: (حَدَّثِنِي أَبِي أَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَاباً يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ أَشْرَكَهُ الله عَزَّ وَجَلَّ فِي سُلْطَانِهِ فَأَدْخَلَ الْجَوْرَ فِي حُكْمِهِ) . قَالَ مَالِكُ بنُ أَنَسِ: فَلَمَّا سَمِعْتَ مَقَالَتَهُ هَذِهِ ضَمَمْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي خَوْفاً مِنْ أَنْ يُصِيبَنِي شَيْءٌ مِنْ دَمِهِ.

بَيْدَ أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ أَمْسَكَ سَاعَةً لا يَتَكَلَّم ... ثُمَّ صَرَفَنَا بِسَلام. وَقَدِ امْتَدَّتِ الْحَيَاةُ بِطَاوُوسِ بنِ كَيْسَانَ حَتَّى بَلَغَ الْمَائَةَ أَوْ جَاوَزَهَا قَلِيلاً غَيْرَ أَنَّ الْكِبَرَ وَالشَّيْخُوخَةَ لَمْ يَنَالاَ شَيْئاً مِنْ صَفَاءِ ذِهْنِهِ وَحِدَّةِ خَاطِرِهِ وَسُرْعَةِ بَدِيهَتِهِ. حَدَّثَ عَبْدُ الله الشَّامِيُّ قَالَ: أَتَيْتُ طَاوُوساً فِي بَيْتِهِ لآخُذَ عَنْهُ، وَأَنَا لا أَعْرِفُهُ فَلَمَّا طَرَقْتُ الْبَابَ خَرَجَ إِنِّي شَيْخٌ كَبِيرٌ فَحَيَّيْتُهُ وَقُلْتُ: أَأَنْتَ طَاوُوسُ بنُ كَيْسَان؟ فَقَالَ: بَلْ أَنَا ابْنُهُ ... فَقُلْتُ: إِنْ كُنْتُ ابْنُهُ فَلا آمَنُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْخُ قَدْ هَرِمَ وَخَرِفَ وَإِنِّي قَصَدْتُهُ مِنْ أَمَاكِنَ بِعِيدَةٍ لأفِيدَ مِنْ عِلْمِهِ. فَقَالَ: وَيْحَكَ ... إِنَّ َحَمَلَةَ كِتَابِ الله لا يَخْرَفُون. أُدْخُلْ عَلَيْهِ. فَدَخَلْتُ وَسَلَّمْتُ، وَقُلْتُ: لَقَدْ أَتَيْتُكَ طَالِباً عِلْمَكَ رَاغِباً فِي نُصْحِكَ. فَقَالَ: سَلْ وَأَوْجِزْ. فَقُلْتُ: سَأَوجِزُ مَا وَسِعَنِي الإِيجَاز إِنْ شَاءَ الله. فَقَالَ: أَتُرِيدُ أَنْ أَجْمَعَ لَكَ صَفْوَةَ مَا فِي التَّوْرَاةِ، وَالزَّبُورِ، وَالإِنْجِيلِ، وَالْقُرْآن؟ فَقُلْتُ: نَعَم. فَقَالَ: خِفِ الله تَعَالى خَوْفاً بِحَيْثُ لا يَكُونُ شَيْءٌ أَخْوَفَ لَكَ مِنْهُ ...

وَارْجُهُ رَجَاءً أَشَدَّ مِنْ خَوْفِكَ إِيَّاهُ ... وَأحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ. وَفِي لَيْلَةِ الْعَاشِرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سِتٍّ وَمائَة أَفَاضَ الشَّيْخُ الْمُعَمَّرُ طَاوُوسُ بنُ كَيْسَانَ مَعَ الْحَجِيجِ مِنْ عَرَفَاتٍ إِلى الْمُزْدَلِفَةِ لِلْمَرَّةِ الأَرْبَعِينَ فَلَمَّا حَطَّ رِحَالَهُ فِي رِحَابِهَا الطَّاهِرَةِ، وَأَدَّى الْمَغْرِبَ مَعَ الْعِشَاءِ، وَأَسْلَمَ جَنْبَيْهِ إِلى الأَرْضِ يَلْتَمِسُ شَيْئاً مِنْ الرَّاحَةِ، أَتَاهُ الْيَقِينُ، فَلَمَّا طَلَعَ عَلَيْهِ الصُّبْحُ وَأَرَادُوا دَفْنَهُ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ إِخْرَاجِ جَنَازَتِهِ لِكَثْرَةِ مَا ازْدَحَمَ عَلَيْهَا مِنَ النَّاسِ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِمْ أَمِيرُ مَكَّةَ حَرَساً لِيَذُودوا النَّاسَ عَنِ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُتَاحَ لَهُمْ دَفْنُهَا. وَقَدْ صَلَّى عَلَيْهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ لا يحْصِي عَدَدَهُمْ إِلا الله، وَكَانَ فِي جُمْلَةِ الْمُصَلِّينَ خَلِيفَةُ الْمُسْلِمِينَ هِشَامُ بن عَبْدِ الْمَلِكِ. اللَّهُمَّ اعْصِمْنَا عَنِ الْمخالفةِ وَالْعِصْيَانِ وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ يَا كَرِيمُ يَا مَنَّان وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (غَزْوَةُ تَبُوك) أَوِ الْعُسْرَةِ تَبُوكُ مَوْضِعُ بَيْنَ وَادِي الْقُرَى وَالشَّامِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ مِنْ جِهَةِ الشَّامِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَرْحَلَة وَبَيْنَ دِمَشْقٍ إِحْدَى عَشْرَةَ مَرْحَلَةً وَهِيَ غَزْوَةُ الْعُسْرَةِ أَخَذاً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالى: {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} . وَكَانَتْ فِي رَجَبَ سَنَةَ 9 هـ مِنْ الْهِجْرَةِ وَهِيَ آخِرُ غَزَوَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ الَّتِي افْتَضَحَ الْمُنَافِقُونَ فِيهَا وَكَانَ الْوَقْتُ حِينَ خُرُوجِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرّاً شَدِيداً وَقَحْطاً شَدِيداً وَكَانُوا مِنْ

غزوة تبوك أو العسرة

شِدَّةِ الْعَطَشِ وَالْحَرِّ يَنْحُرُونَ الْبَعِيرَ فَيَعْصِرُونَ فَرْثَهُ الذِي فِي الْكِرْشِ وَيَشْرَبُونَهُ فَلِذَا سُمِّيَتْ غَزْوَةَ الْعُسْرَةِ أَيْ الشَّدَّةِ وَالضَّيْقِ. وَسَبَبُهَا أَنَّ الرُّومَ قَدْ جَمَعَتْ جُمُوعاً كَثِيرَةً بِالشَّامِ وَأَنَّ هِرَقْلَ قَدْ رَزَقَ أَصْحَابَهُ لِسَنَةٍ وَأَجْلَبَتْ مَعَهُ لَخْمٌ وَجُذَامٌ وَعَامِلَةُ وَغَسَّانُ وَزَحَفُوا وَقَدَّمُوا مُقَدِّمَاتِهِمْ إِلى الْبَلْقَاءِ وَعَسْكَرُوا بِهَا. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَدَبَ النَّاسَ إِلى الْخُرُوجِ وَأَظْهَرَ لَهُمْ الأَمْرَ لِيَتَأَهَّبُوا لِذَلِكَ أُهْبَتَهُمْ وَأَخْبَرَهَمُ بِالْوَجْهَ الذِي يُرِيدُ وَبَعَثَ إِلى الْقَبَائِلِ مَكَّةَ يَسْتَنْفِرُهُمْ إِلى عَدُّوِهِمْ وَخَطَبَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ فِي النَّاسِ فَحَضَّ عَلَى الْجِهَادُ وَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ وَحَثَّهُمْ عَلَى النَّفَقَةِ وَرَغَّبَ أَهْلَ الثَّرْوَةِ بِالْخَيْرِ وَالْمَعْرُوفِ وَحَثَّ الْمُوسِرِينَ عَلَى تَجْهِيزِ الْمُعْسِرِينَ. فَتَبَادَرَ الْمُسْلِمُونَ وَجَاءُوا بِصَدَقَاتٍ كَثِيرَةٍ وَتَنَافَسُوا فِي تَجْهِيز جَيْشِهِمْ فَكَانَ أَوَّل مَنْ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ جَاءَ بِمَالِهِ كُلِّهِ أَرْبَعَةُ آلافِ دِرْهَمٍ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((هَلْ أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ شَيْئاً)) ؟ قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمْ اللهَ وَرَسُولَهُ. وَجَاءَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِنِصْفِ مَالِهِ فَسَأَلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((هَلْ أَبْقَيْتَ لأَهْلِكَ شَيْئاً)) ؟ قَالَ: نَعَمْ نِصْفَ مَالِي. وَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَن بنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِمَائَةِ أَوْقِيَة فِضَّةً. وَجَاءَ الْعَبَّاسُ بِمَالٍ كَثِيرٍ وَجَاءَ طَلْحَةُ بِمَالٍ وَجَهَزَّ عُثْمَانُ بن عَفَّانَ ثُلُث الْجَيْشِ وَجَاءَ سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ بِمَالٍ وَجَاءَ مُحَمَّد بنُ مَسْلَمَةَ بِمَالٍ وَجَاءَ عَاصِمُ بنُ عُدِيٍ بِتِسْعِينَ وَسقَا مِنْ تَمْرٍ وَبَعَثَ النِّسَاءُ كُلَّ مَا قَدِرْنَ عَلَيْهِ مِنْ مِسْكٍ وَحُلِيٍ مَعَاضِدَ وَخَلاخِلَ وَأَقْرَاطٍ وَخَوَاِتَم.

قَالَ ابنُ إِسْحَاقَ فَذَكَرَ لَنَا الزُّهْرِيُّ وَيَزِيدُ بنُ رُومَانَ وَعَبْدُ اللهِ بنُ أَبِي بَكْرٍ وَعَاصِمُ بنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِنَا وَبَعْضُ الْقَوْمِ يُحَدِّثُ مَا يُحَدَّثُ بَعْضٌ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتَّهَيُّؤِ لِغَزْوِ الرُّومِ وَذَلِكَ فِي زَمَنِ عُسْرَةٍ مِنَ النَّاسِ وَشِدَّةٍ مِنْ الْحَرِّ وَجُدْبٍ مِنْ الْبِلادِ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالنَّاسُ يُحِبُّونَ الْمَقَامَ وَيَكْرَهُونَ الشُّخُوصَ عَلَى حَالٍ مَنَ الزَّمَانِ الذِي هُمْ عَلَيْهِ. وَكَانَ رَسُولٌُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلَّ مَا يَخْرُجُ فِي غَزْوَةٍ إِلا كَفَا عَنْهَا وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ غَيْرَ الْوَجْهِ الذِي يَعْمِدُ إِلَيْهِ إِلا مَا كَانَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَإِنَّهُ بَيَّنَهَا لِلنَّاسِ لِبُعْدِ الْمَشَقَّةِ وَشِدَّةِ الزَّمَانِ وَكَثْرَةِ الْعَدُوِّ الذِي يَعْمِدُ لَهُ لِيَتَأَهَّبَ النَّاسُ لِذَلِكَ أُهْبَتَهُ. فَأَمَرَ النَّاسِ بِالْجِهَازِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُرِيدُ الرُّومَ فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ فِي جَهَازِهِ ذَلِكَ لِلْجَدِ بنِ قَيْسٍ أَحَدِ بَنِي سَلَمَةَ: ((يَا جَدُّ هَلْ لَكَ الْعَامَ فِي جَلادِ بَنِي الأَصْفَرِ)) . فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوَ تَأْذَنُ لِي وَلا تَفْتِنِي، فَوَاللهِ لَقَدْ عَرَفَ قَوْمِي أَنَّهُ مَا مِنْ رَجُلٍ أَشَدَّ عُجْباً بِالنِّسَاءِ مِنِّي وَإِنِّي أَخْشَى إِنْ رَأَيْتُ نِسَاءَ بَنِي الأَصْفَر أَنِّي لا أَصْبِرُ. فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: ((قَدْ أَذَنْتُ لَكَ)) . فَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} . وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ. زَهَادَةً فِي الْجِهَادِ وَشَكّاً فِي الْحَقِّ وَارْجَافاً بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} .

ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَدَّ فِي سَفَرِهِ وَعَجِزَ نَفَرٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ تَجْهِيزِ أَنْفُسِهِمْ وَهُمْ الْبَكَّاؤُونَ وَهُمْ سَبْعَةُ نَفَرٍ مِن الأَنْصَارِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ بَنِي عَمْرو بن عَوْفٍ وَسَالِم بْنُ عُمَيْرٍ، وَعُلَيَّة بن زَيْدٍ، أَحَد بَنِي حَارِثَةَ، وَأَبُي لَيْلَى عَبْد الرَّحْمَن أَخُي بَنِي مَازِنْ بنِ النَّجَّارِ، وَعَمْرُو بن الْحُمَامِ، وَعَبْد اللهِ بن مُغَفَّلٍ الْمَازِنِي وَبَعْض النَّاسِ يَقُولُ عَبْدُ اللهِ بنُ عَمْروٍ الْمَازِنِي وَهِرْمِيُ بنُ عَبْدُ اللهِ وَعِرْبَاضُ بنُ سَارِيَةَ. فَاسْتَحْمَلُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانُوا أَهْلَ حَاجَةٍ فَقَالَ: ((لا أَجِدُ مَا أُحَمِّلُكُمْ عَلَيْهِ)) . فَتَوَلَوُا يَبْكُونَ وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حُزْناً أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ. وَقَامَ عُلَيَّةُ بنُ يَزِيد فَصَلَّى مِنْ اللَّيْلِ وَبَكَى وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ قَدْ أَمَرْتَ بِالْجِهَادِ وَرَغَبَّتْ فِيهِ ثُمَّ لَمَ تَجْعَلْ عِنْدِي مَا أَتَقَّوَى بِهِ مَعَ رَسُولِكَ وَلَمْ تَجْعَلْ فِي يَدِ رَسُولِكَ مَا يَحْمِلُنِي عَلَيْهِ وَإِنِّي أَتَصَدَّقُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بِكُلِّ مَظْلَمَةٍ أَصَابَنِي فِيهَا مِنْ مَالٍ أَوْ جَسَدٍ أَوْ عِرْضٍ. ثُمَّ أَصْبَحَ مَعَ النَّاسِ فَقَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَيْنَ الْمُتَصَدِّقُ هَذِهِ اللَّيْلَةِ)) ؟ فَلَمْ يَقُمْ إِلَيْهِ أَحَدٌ قَالَ: ((أَيْنَ الْمُتَصَدِّقُ فَلْيَقُمْ)) . فَقَامَ إِلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَبْشِرْ فَوَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ كُتِبَتْ فِي الزَّكَاةِ الْمُتَقَبَّلَةِ)) . فَفِي هَذَا مُعْجِزَةٌ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ بِإِخْبَارِهِ الْمُتَصَدِّق. فَلَقَيَ اثْنَانِ مِنْهُمَا يَامِينَ بن عُمَيْرِ بنِ كَعْبِ النَّفَرِي فَقَالَ: مَا يُبْكِيكمَا؟ قَالا: جِئْنَا إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَحْمِلَنَا فَلَمْ نَجِدْ عِنْدَهُ مَا يَحْمِلُنَا عَلَيْهِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الْخُرُوجِ وَنَحْنُ نَكْرَهُ أَنْ تَفُوتَنَا غَزْوَةٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمَا نَاضِحاً لَهُ،

الْبَعِيرَ الذِي يَحْمِلُ عَلَيْهِ الْمَاءَ فَارْتَحَلاهَ وَزَوَّدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ وَحَمَلَ الْعَبَّاسُ بنُ عَبْدِ الْمُطَّلب رَجُلَيْنِ وَحَمَلَ عُثْمَانُ بنُ عَفَّانَ مِنْهُمْ ثَلاثَةً. أَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَقَدْ أَخَذُوا يَتَعَلَّلُونَ وَيَنْتَحِلُونَ الأَعْذَارَ لِيَتَخَلَّفُوا عَنْ الرَّكْبِ وَكَانُوا مِنْ الأَغْنِيَاءِ الْقَادِرِينَ عَلَى تَجْهِيزِ أَنْفُسِهِمْ وَغَيْرِهِمْ وَلَكِنَّ النِّفَاقَ ضَرَبَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَجَأوُا إِلى الْحِيلَةِ يَعْتَذِرُونَ وَجَعَلُوا يَسْتَأْذَنُونَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُعُودِ فَيَأْذَنُ لَهُمْ وَيُعْرِضْ عَنْهُمْ. وَلَمْ يَقْتَصِرِ الْمُنَافِقُونَ عَلَى تَخَلُّفِهِمْ وَقُعُودِهِمْ بَلْ بَثُّوا شُرُورَهُمْ وَجَعَلُوا يُثَبِّطُونَ النَّاسَ وَيُخَوِّفُونَهُمْ لِقَاءَ الرُّومِ وَيُرْجِفُونَ برَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُونَ فِيمَا يَقُولُونَ: يَغْزُو مُحَمَّدٌ بَنِي الأَصْفَرِ مَعَ جُهْدِ الْحَالِ وَالْحَرِّ وَالْبَلَدِ الْبَعِيدِ أَيَحْسَبُ مُحَمَّدٌ أَنَّ قِتَالَ بَنِي الأَصْفَرِ بَسِيطٌ كَقِتَالِ الْعَرَبِ بَعْضِهِمْ بَعْضَا وَاللهِ لَكَأَنَّكُمُ بِأَصْحَابِهِ غَداً مُقَرَّنِينَ فِي الْحِبَالِ. وَكَانَ الْعَرَبُ يَنْظُرُونَ إِلى دَوْلَةِ الرُّومِ حِينَذَاكَ كَنَظَر كَثِيرٍ مِن النَّاسِ الْيَوْمَ إِلى دُوَلِ الْكُفْرِ دُوَلَ أُورُبَّا وَأَمْرِيكَا وَرُوسِيَا، قَالَ اللهُ تَعَالى: {وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ} وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يُعِدُّوا لِلْخُرُوجِ عُدَّتَهُ. وَتَتَابَعَ النَّاسُ يَتَوَافَدُونَ عَلَى الْمَدِينَةِ مِنْ كُلِّ صَوْبٍ حَتَّى زَادَ عَدَدُهُمْ عَلَى ثَلاثِينَ أَلْفاً وَضَرَبَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَسْكَرَهُ عَلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهِ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ مُحَمَّدَ بنَ مَسْلَمَةْ. اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَهَا، وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الْمُفْلِحِينَ الذِينَ نَوَّرْتَ قُلُوبَهُمْ بِمَعْرِفَتِكَ، وَأَهَّلْتَهُمْ لِخِدْمَتِكَ، وَحَرَسْتَهُمْ مِنْ عَدُوِّكَ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ

يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وَخَلَّفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِهِ عَليَّ بنَ أَبِي طَالِب وَأَمَرَهُ بِالإِقَامَةِ فِيهِمْ فَأُرْجِفَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا: مَا خَلَّفَهُ إِلا اسْتِشْقَالاً لَهُ وَتَخَفُفاً مِنْهُ فَلَمَّا قَالَ الْمُنَافِقُونَ ذَلِكَ أَخَذَ عَلِيٌّ سِلاحَهُ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجُرْفِ مَوْضِعٌ عَلَى ثَلاثَةِ أَمْيَالٍ مِنْ الْمَدِينَةِ. فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ زَعَمَ الْمُنَافِقُونَ أَنَّكَ إِنَّمَا خَلَّفْتَنِي أَنَّكَ اسْتَثْقَلْتَنِي وَتَخففْتَ مِنِّي فَقَالَ: ((كَذِبُوا وَلَكِنِّي إِنَّمَا خَلَّفْتُكَ لِمَا وَرَائِي فَارْجِعْ فَاخْلُفْنِي فِي أَهْلِي وَأَهْلِكَ أَفَلا تَرْضَي يَا عَلِيّ أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلا أَنَّهُ لا نَبِيَّ بَعْدِي)) . فَرَجَعَ عَلِيٌّ. وَعَقَدَ الأَلْوِيَةَ وَالرَّايَاتِ فَدَفَعَ لِوَاءَهُ إِلى أَبِي بَكْرٍ وَدَفَعَ رَايَتَهُ إِلى الزُّبَيْرِ وَدَفَعَ رَايَةَ الأَوْسِ إِلى أُسَيْدِ بنِ خُضَيْرٍ وَرَايَةَ الْخَزْرَجِ إِلى الْحَبَّاب بن الْمُنْذِرِ وَأَمَرَ كُلَّ بَطْنٍ مِنْ الأَنْصَارِ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ أَنْ يَتَّخِذُوا لِوَاءً أَوْ رَايَةً. وَخَرَجَ فِي شَهْرِ رَجَبٍ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ قَاصِداً نَاحِيَةَ الشَّامِ فِي ثَلاثِينَ أَلْفاً مِنْ النَّاسِ وَالْخَيْلُ عَشْرَةُ آلافِ فَرَسٍ وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ رَئِيسَ الْمُنَافِقِينَ خَرَجَ فِي حُلَفَائِهِ مِنْ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ فَعَسْكَرَ بِهِمْ إِزَاءَ عَسْكَرِ رَسُولِ ِاللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّيْرِ تَخَلَّفَ عَنْهُ عَبْدُ اللهِ بِنُ أُبَيّ وَمن كَانَ مَعَهُ كَمَا تَخَلَّفَ عَنْهُ فِي غَزْوَة أُحُدٍ وَلَمْ يَكُنْ الطَّرِيقُ سَهْلاً وَلا السَّفَرُ قَرِيباً وَلا الْوَقْتُ مُلائِماً لِلسَّيْرِ إِنَّمَا كَانَ كَمَا تَقَدَّمَ زَمَانُ عُسْرَةٍ وَشِدَّةِ حَرٍّ وَجُدْبٍ وَحِينَ طَابَتِ الثَّمَارُ وَالظِّلالَ فَالنَّاسُ يُحِبُّونَ الْمَقَامَ فِي ثِمَارِهِمْ وَظِلالِهِمْ.

وَلَكِنَّ الْجِهَادَ لِدَفْعِ عَدُوِّ مُهَاجِمٍ وَرَدِّ خَطَرٍ جَاثِمٍ عَلَى الأَبْوَابِ فَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ أَهْلُ الدَّعْوَةِ وَحُمَاتُهَا لِيَنْكُلُوا عَنْ الْجِهَادِ مَهْمَا تَكُنِ الأَسْبَابُ غَيْرَ مُوَاتِيَةٍ وَمَهْمَا تَكُنِ الظُّرُوفُ غَيْرُ مُلائِمَةِ قَالَ تَعَالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} . وَقَدْ قَاسَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فِي هَذِهِ السَّفْرَةِ مَشَقَّةً عَظِيمَةً وَعَنْتاً وَنَصْباً كَثِيراً قَالَ قَتَادَةٌ: خَرَجُوا إِلى الشَّامِ عَامَ تَبُوكَ فِي لَهَبَانِ الْحَرِّ عَلَى مَا يَعْلمُ اللهُ مِنْ الْجُهْدِ فَأَصَابَهُمْ فِيهَا جُهْدٌ شَدِيدٌ حَتَّى لَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الرَّجُلَيْنِ كَانَا يَشُقَّانِ التَّمْرَةِ بَيْنَهُمَا وَكَانَ النَّفَرُ يَتَدَاوَلُونَ التَّمْرَةِ بَيْنَهُمْ يَمُصُهَا هَذَا ثُمَّ يَشْرَبُ عَلَيْهَا ثُمَّ يَمُصُهَا هَذَا ثُمَّ يَشْرَبُ عَلَيْهَا. وَرُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِعُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حَدِّثْنَا عَنْ شَأْنِ سَاعَةِ الْعُسْرَةِ فَقَالَ عُمَرُ: خَرَجْنَا إِلى تَبُوكَ فِي قَيْضٍ شَدِيدٍ فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً وَأَصَابَنَا فِيهِ عَطَشٌ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّ رِقَابَنَا سَتَنْقَطِعُ وَحَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْحَرُ بَعِيرَهُ فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ فَيَشْرَبَهُ ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ عَلَى كَبِدِهِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ اللهَ قَدْ عَوَّدَكَ فِي الدُّعَاءِ خَيْراً فَادْعُ اللهَ لَنَا فَقَالَ: ((أَوَ تُحِبُّ ذَلِكَ)) ؟ قَالَ: نَعَمْ فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ إِلى السَّمَاءِ فَلَمْ يُرْجِعْهُمَا حَتَّى قَالَتْ السَّمَاءُ - أَيْ

موعظة

آذنَتْ بِمَطَرٍ فَأطَلَّلتْ ثُمَّ سَكَبَتْ فَمَلَؤُا مَا مَعَهُمْ ثُمَّ ذَهَبْنَا نَنْظُرُ فَلَمْ نَرَهَا جَاوَزَتْ الْعَسْكَرَ. وَهَذِهِ مُعْجِزَةٌ أَيْضاً وَلَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَشَقَّةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي عَانَاهَا الْمُسْلِمُونَ فِي السَّيْرِ إِلى تَبُوكَ امْتِحَاناً مِن اللهِ لَهُمْ أَرَادَ بِهِ تَمْحِيصَ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِخْلاصَهُمْ وَإِعْدَادَهُمْ لاحْمِاَلِ مَشَاقِّ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ وليَنْظِرُ مَبْلَغَ صَبْرَ الصَّابِرِينَ وَصِدْق الصَّادِقِينَ فِي سَبِيلِ الذَّبَ عَنْ دِينِهِمْ. فَكَانَ لا يَحْتَمِلُ هَذِهِ الْمَشَقَّاتُ إِلا الذِينَ لَهُمْ إِيمَانٌ عَمِيقٌ رَاسِخَةٌ عَقِيدَتُهُمْ أَمَا الذِينَ نَافَقُوا وَتَظَاهَرُوا بِالإِيمَانِ فَقَدْ تَضَعْضَعُوا وَضَعُفُوا وَخَارَتْ عَزَائِمُهُمْ فَكَانُوا يَتَسَلَّلُونَ مِنْ وَرَاءِ الصُّفُوف رَاجِعِينَ. وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَمَ مَوْعِظَة: عِبَادَ اللهِ إِنَّ الْحَيَاءَ كَمَا عَلِمْتُمْ لا يَأْتِي إِلا بِخَيْرٍ وَإِنَّهُ خُلُقُ الإِسْلامِ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَجُرُّ إِلى الْكَمَالاتِ وَالْفَضَائِلِ وَهُوَ خُلُقُ الْكِرَامِ وَسِمَةُ أَهْلِ الْمُرُوءَةِ وَعُنْوَانُ الْفَضْل وَالنُّبْل. وَالْحَيَاءُ بَاعِثُهُ إِحْسَاسٌ رَقِيقٌ وَشُعُورٌ دَقِيقٌ يَبْدُو فِي الْعَيْنِ مَظْهَرُهُ وَعَلَى الْوَجْهِ أَثَرُهُ وَمَنْ حُرِمَهُ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ وَمَنْ تَحَلَّى بِهِ ظَفِرَ بِالْعِزِّ وَالْكَرَامَةِ وَنَالَ الْخَيْرَ أَجْمَع. وَلَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ هُمْ أَهْلُ الْحَيَاءِ فَعَلَيْنَا أَنْ نَفْتَدِيَ بِهِمْ فِي ذَلِكَ الْخُلُقِ الْجَمِيل وَلَقَدْ كَانَتْ نِسَاؤُهُمْ مِنْ شِدَّةِ حَيَائِهِنَّ إِذَا خَرَجْنَ لِحَاجَةٍ أَوْ ضَرُورَةٍ لا يُرَى مِنْهَا شَيْئاً أَبَداً وَتَبْتَعِدُ عَن الرِّجَالِ لاصِقَةً بِالْجِدَارِ مُرْخِيَةً ثَوْبَهَا شِبْراً أَوْ ذِرَاعاً فِي ثَوْبِ رَثٍّ خَلِقٍ وَعَبَاءَةٍ كَذَلِكَ.

مَضَى عَلَى هَذَا مُدَّةٌ من الزَّمَنِ ثُمَّ لَمَا غَشَوْنَا الأَجَانِبُ وَكَثِرُوا عِنْدَنَا وَهُمْ لا يَرَوْنَ فِي التَّبَرُّجِ وَالسُّفُورِ بَأْساً ضَعُفَ دَاعِي الْحَيَاءِ وَأَثَّرُوا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النِّسَاءِ. وَلا شَكَّ أَنَّ التَّبَرُّجَ وَإِبْدَاءَ الزِّينَةِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِبْدَاءَهَا مِنْ الْمُنْكَرَاتِ الَّتِي يَجِبُ إِنْكَارُهَا وَمَنْعُهَا لِمَا يَنْشَأُ عَنْهَا مِنْ الْفَوَاحِشِ وَالْمَعَاصِي وَإِفْسَادِ الأَخْلاقِ وَإِلَيْكَ الأَدِلَّةُ الدَّالَةُ عَلَى تَحْرِيم السُّفُورِ وَالتَّبَرُّجِ. قَالَ اللهُ تَعَالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} فَهَذِهِ الآيَةُ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى النِّسَاءِ الاحْتِجَابُ عَن الرِّجَالِ. وَقَالَ جَلَّ وَعَلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} . وَقَالَ تَعَالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ} الآيةَ، فَدَلَّتِ الآيَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ لَهَا تَشَوُّقٌ إِلى النِّكَاحِ بَأَنْ كَانَتْ تَرْجُوهُ عَلَيْهَا جُنَاحٌ وَهُوَ الإِثْمُ إِنْ وَضَعَتْ ثِيَابَهَا وَرَآهَا الأَجَانِبُ مِنْهَا فَالشَّابَاتُ مِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَحْرَى لا يَجُوزُ لَهُنَّ وَضْعُ ثِيَابِهِنَّ لأنَّ الْفِتْنَةَ بِهِنَّ أَشَدُّ وَإِثْمُهُنَّ أَعْظَمُ فَتَأَمَّلْ. وَقَالَ تَعَالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ} الآيَةَ. وَأَعْظُمُ مَا تَبْدُو بِهِ الزِّينَةُ الْوَجْهُ.

وَقَالَ تَعَالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} وَوَجْهُ الدَّلالَةِ عَلَى الاحْتِجَابِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ قَدْ نُهِيَ عَنْ أَنْ تَضْرِبَ بِرِجْلِهَا إِذَا مَشَتْ لِيُسْمَعَ صَوْتُ خِلْخَالِهَا مِنْ يَسْمَعُهُ مِنْ الرِّجَالِ فَتَتَحَرَّكَ الشَّهْوَةُ فَكَيْفَ بِإبْدَاءِ الْوَجْهِ الذِي فِتْنَتُهُ أَعْظَمُ وَتَحْرِيكُهُ لِلشَّهْوَةِ أَشَدُّ وَهُوَ الذِي إِذَا نَظَرَ إِلَيْهِ الإِنْسَانُ أَقْدَم أَوْ أَحْجَمَ. وَقَالَ تَعَالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} . قَالَ فِي فَتْح الْقَدِير: وَفِي هَذِهِ دَلِيل عَلَى تَحْرِيمِ النَّظَرِ إِلى غَيْرِ مَنْ يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ. أهـ. وَمِنْ الأَدِلَّةِ قَوْلُهُ تَعَالى نَاهِياً لأَزْوَاجِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} . هَذَا النَّهْيُ وَهَذَا التَّحْذِيرُ فِي عَهْدِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَهْدِ الصَّفْوَةِ الْمُخْتَارَةِ مِنْ الْبَشَرِ لِصُحْبَةِ رَسُولِهِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ بِهَذَا الْمُجْتَمَعِ الذِي نَعِيشُ فِيهِ الْيَوْمَ فِي عَصْرِنَا الْمَرِيضِ الدَّنِسِ الْهَابِطِ الذِي تَهِيجُ فِيهِ الْفِتَنُ وَتَثُورُ فِيهِ الشَّهَوَاتِ وَتَرِفُ فِيهِ الأَطمَاعُ نَسْأَلَ الله أَنْ يُفِيضَ لِدِينِهِ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير وَبِالإِجَابَةِ جَدِير. ثُمَّ مِنْ الأَدِلَّةِ الدَّالَةِ عَلَى وُجُوبِ الْحِجَابِ وَالسَّتْرِ عَنْ الأَجَانِبِ مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ أَوْ حُمَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمْ إِمْرَأَةً فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ مِنْهَا إِذَا كَانَ إِنَّمَا يَنْظُر إِلَيْهَا لِخُطْبَةٍ وَإِنْ كَانَتْ لا تَعْلَمْ)) . رَوَاهُ أَحْمَدُ. اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِطَاعَتِكَ وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَارْزُقْنَا الإِنَابَةَ إِلَيْكَ وَحُسْنَ التَّوَكُّلِ عَلَيْكَ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ

وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) : وَوَجْهُ الدَّلالَةِ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَى الْجُنَاحَ وَهُوَ الإِثْمُ عَنْ الْخَاطِبِ إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا إِذَا كَانَ إِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا لِلْخُطْبَةِ فَدَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ النَّاظِرَ لِغَيْرِ الْخُطْبَةِ إِثْمُ. وَمِنْ الأَدِلَّةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَكَيْفَ يَصْنَعُ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ؟ قَالَ: «يُرْخِينَهُ شِبْراً» . قَالَتْ: إِذاً تَنَكَشِفْ أَقْدَامُهُنَّ قَالَ: «يُرْخِينَ ذِرَاعاً لا يَزِدْنَ عَلَيْهِ» . وَوَجْهُ دَلالَتِهِ عَلَى وُجُوبِ التَّسَتُّر عَنْ الأَجَانِبِ أَنْ الْقَدَمَ وَهُوَ أَقَلُّ فِتْنَةٍ مِنْ الْوَجْهِ يَجِبُ سَتْرُهُ فَيَكُونُ وُجُوبُ سَتْرِ الْوَجْهِ مِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَمِنْ الأَدِلَّةِ عَلَى وُجُوبِ التَّسَتُّرِ مَا وَرَدَ عَنْ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْرِمَاتٌ فَإِذَا حَاذَوْا بِنَا سَدَلَتْ إِحْدَانَا جِلْبَابَهَا مِنْ رَأْسِهَا إِلَى وَجْهِهَا فَإِذَا جَاوَزُونَا كَشَفْنَاهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاودَ وابن مَاجة. فَالْحَدِيثُ يَدُلُّ دَلالَةً وَاضِحَةً عَلَى وُجُوبِ تَغْطِيَةِ الْوَجْهِ عَنْ الأَجَانِبِ إِذَا فَهِمَتْ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَّقِي اللهَ وَيَأْخُذَ عَلَى أَيْدِي نِسَائِهِ وَيَمْنَعَهُنَّ مِمَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِنَّ مِنْ السُّفُورِ وَالتَّبَرُّجِ. وَلا عِبْرَةَ بِالأَجَانِبِ الذِينَ تَرَبُّوا عَلَى السُّفُورِ وَنَشَؤُا عَلَيهِ وَقَلَّدُوا فِيهِ أَعْدَاءَ الإِسْلامِ وَصَارُوا لا يُبَالُونَ بِهِ وَبِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ مِنْ الْمَعَاصِي وَالْعِيَاذُ بِاللهِ مِنْ تَرْكِ صَلاةِ الْجَمَاعَةِ وَحُضُورِ مُنْكَرَاتٍ وَرُكُوبِ النِّسَاءِ بِلا مَحْرَمٍ وَخَلْوَةٍ بِالرِّجَالِ الأَجَانِبِ وَمُبَاشَرَتِهِمْ وَنَحْوَ ذَلِكَ. شِعْرًا: ... إِذَا كَانَ الدَّبُورِ عَلَى أُنَاس ... أُتِيحَ لَهُمْ أَكَابِرَ مُعْتَدِينَا

قصيدة في الحث على الأخذ بالحديث وتقديمه على الآراء

ذَوِي كِبْرٍ وَمَجْهَلَةٍ وَجُبْنٍ ... وَإِهْمَالٍ لِمَا يَتَوَقَّعُونَا وَإِنْ يُرِدِ الإِلَهُ صَلاحَ قَوْمٍ ... أَتَاحَ لَهُمْ أَكَابِرَ مُصْلِحِينَا ذَوِي رَأْيٍ وَمَعْرِفَةٍ وَفَهمٍ ... وَإِعْدَادٍ لِمَا قَدْ يَحْذُرُونَا وَلِذَالِكَ تَجِدْ أَهْل نَجْدٍ الَّذِينَ تَرَبَّوا فِي مَقَرِّ الدَّعْوَةِ يَسْتَنْكِرُونَ ذَلِكَ أَشَدَّ الإِنْكَارِ عَلَى مَنْ أَتَى مِنْ بِلادِ الْكُفَّارِ فَأَهْلُ نَجْدٍ إِذَا تَأَمَّلْتَ أَكْثَرَهُمْ وَجَدْتَ عِنْدَهُمْ مَحَبَّةً لِلدِّينِ وَأَهْلِهِ وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ قَالَ بَعْضُهُمْ: (دِيَار نَجْدٍ هِيَ لِلدُّنْيَا وَسَاكِنُهَا ... هُمُ الأَنَامُ فَقَابِلْهَا بِتَفْضِيلِ) (يَا مَنْ يُبَاهِي بِبُلْدَانٍ وَيَمْدَحُهَا ... نَجْدٌ مُقَدَّمَةٌ وَاسْمَعْ لِتَعْلِيلِ) (لأَنَّ فِيهَا حُدُودِ الشَّرْعِ نَافِذَةٌ ... وَغَيْرُهَا فِي قَوَانِينٍ وَتَضْلِيلِ) نَظْمٌ فِي الْحَثِّ عَلَى الأَخْذِ بِالْحَدِيثِ وَتَقْدِيمِهِ عَلَى الآرَاءِ. وَقَدِّمْ أَحَادِيثَ الرَّسُولِ وَنَصَّهُ عَلَى كُلِّ قَوْلٍ قَدْ أَتَى بِإِزَائِهِ فَإِنْ جَاءَ رَأْيٌ لِلْحَدِيثِ مُعَارِضٌ فَلِلرَّأْي فَاِطْرَح وَاِسْتَرِحْ مِنْ عَنَائِهِ فَهَلْ مَعَ وُجُودِ الْبَحَرِ يَكْفِي تَيَمُّمٌ لِمَنْ لَيْسَ مَعْذُوراً لَدَى فُقَهَائِهِ وَهَلْ يُوقِدُ النَّاسُ الْمَصَابِيح لِلضِّيَا إِذَا مَا أَتَى رَدْؤُ الضُّحَى بِضِيَائِهِ سَلامِي عَلَى أَهْلِ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُمْ مَصَابِيحُ عِلْمٍ بَلْ نُجُومُ سَمَائِهِ بِهِمْ يَهْتَدِي مَنْ يَقْتَدِي بِعُلُومِهِمْ وَيَرْقَى بِهِمْ ذُو الدَّاءِ عِلَّةَ دَائِهِ

.. وَيَحْيَا بِهِمْ مَنْ مَاتَ بِالْجَهْلِ قَلبُهُ فَهُمْ كَالْحَيَا تَحْيَ الْبِقَاعُ بِمَائِهِ لَهُمْ حُلَلٌ قَدْ زَيَّنَتَهُمْ مِنَ الْهُدَى ٍ إِذَا مَا تَرَدَّى ذُو الرَّدَا بِرِدَائِهِ وَمَنْ يَكُنِ الْوَحْيُ الْمُطَهَّرُ عِلْمُهُ فَلا رَيْبََ فِي تَوْفِيقِهِ وَاِهْتِدَائِهِ وَمَا يَسْتَوِي تَالِي الْحَدِيثِ وَمَنْ تَلا زَخَارِفَ مِنْ أَهْوَائِهِ وَهُذَائِهِ وَكُنْ رَاغِباً فِي الْوَحْي لا عَنْهُ رَاغِباً كَخَابِطِ لَيْلٍ تَائِهٍ فِي دُجَائِهِ إِذَا شَامَ بَرْقاً فِي سَحَابٍ مَشَى بِهِ وَإِلا بَقِي فِي شَكِّهِ وَاِمْتِرَائِهِ وَمَنْ قَالَ ذَا حِلٌّ وَهَذَا مُحَرَّمٌ بِغَيْرِ دَلِيْلٍ فَهْوَ مَحْضُ افْتِرَائِهِ وَكُلُّ فَقِيهٍ فِي الْحَقِيقَةِ مُدَّعٍ وَيَثْبُتُ بِالْوَحْيَيْنِ صِدْقُ ادِّعَائِهِ هُمَا شَاهِدَا عَدْلٍ وَلَكِنْ كِلاهُمَا لَدَى الْحُكْمِ قَاضٍ عَادِلٍ فِي قَضَائِهِ فَوَاحَرَّ قَلْبِي مِنْ جَهُولٍ مُسَوَّدٍ بهِ يُقْتَدَى فِي جَهْلِهِ لِشَقَائِهِ إِذَا قُلْتُ قَوْلَ الْمُصْطَفَى هُوَ مَذْهَبِيْ

فصل

.. مَتَى صَحَّ عِنْدِي لَمْ أَقُلْ بِسَوائِهِ يَرَى أَنَّهَا دَعْوَى اجْتِهَادٍ صَحِيحَةٌ فَوَا عَجَباً مِنْ جَهْلِهِ وَجَفَائِهِ فَسَلْهُ أَقُولُ اللهِ مَاذَا أَجَبْتُمُ؟ لِمَنْ هُوَ يَوْمُ الْحَشْرِ عِنْدَ نَدَائِهِ أَيَسْأَلَهُمْ مَاذَا أَجَبْتُمْ مُلُوكَكُمْ وَمَا عَظَّمَ الإِنْسَانُ مِنْ رُؤَسَائِهِ أَمِ اللهُ يَوْمَ الْحَشْرِ يَمْتَحِنُ الْوَرَى بِمَاذَا أَجَابُوا الرُّسْلَ مِنْ أَنْبِيَائِهِ وَهَلْ يَسْأَلُ الإِنْسَانُ عَنِ غَيْرِ أَحْمَدٍ إِذَا مَا ثَوَى فِي الرَّمْسِ تَحْتَ ثَرَائِهِ وَهَلْ قَوْلُهُ يَا رَبُّ قَلَّدْتُ غَيْرَهُ لَدَى اللهِ عُذْرٌ يَوْمَ فَصْلٍ قَضَائِهِ اللَّهُمَّ قَنِعْنَا مِنْ الدُّنْيَا بِالْيَسِيرِ وَسهل عَلَيْنَا كُلَّ أَمْرٍ عَسِير وَوَفِّقْنَا لِمَا تُحِبَّهُ وَتَرْضَاهُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير وَأَسْكِنَّا دَارَ كَرَامَتِكَ يَا مَنْ هُوَ مَلْجَؤُنَا وَمَلاذُنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِير وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجاً وَمِنْ كُلِّ ضَيْقٍ مَخْرَجاً وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وَضَلَّلتْ نَاقَةُ رَسُولِ اللهِ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَخَرَجَ أَصْحَابُهُ فِي طَلَبِهَا وَعِنْدَ رَسُولِ اللهِ رَجُلٌ مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ يُقَالُ لَهُ عِمَارَةُ بنُ حَزْمٍ الأَنْصَارِي.

وَكَانَ فِي رَحْلِهِ زَيْدُ بنُ لُصَيْتٍ الْقَيْنُقَاعِي وَكَانَ مُنَافِقاً فَقَالَ زَيْدُ بن لُصَيْتُ وَهُوَ فِي رَحْلِ عُمَارَةَ وعمَارَةُ عِنْدَ رَسول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَيْسَ يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ يُخْبِرُكُمْ مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ وَهُوَ لا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُمَارَةُ عِنْدَهُ: «إِنَّ رَجُلاً قَالَ: إِنَّ مُحَمَّداً يُخْبِرُكُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ يخْبِرُكمُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ وَهُوَ لا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ وَإِنِّي وَاللهِ مَا أَعْلَمُ إِلا مَا أَعْلمِنِي اللهُ وَقَدْ دَلَّنِي اللهُ عَلَيْهَا وَهِيَ فِي الْوَادِي فِي شِعْب كَذَا وَكَذَا قَدْ حَبَسَتْهَا شَجَرَةٌ بِزِمَامِهَا فَانْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا بِهَا» . فَذَهَبُوا فَجَاؤُا بِهَا وَقَدْ وَجَدَهَا الْحَارِثُ بنُ خزمَةَ الأَشْهَلِي كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ زَيْدٌ: لَكَأَنِّي لَمْ أُسْلِمْ إِلا الْيَوْمَ فَقَدْ كُنْتُ شَاكاً فِي مُحَمَّدٍ وَقَدْ أَصْبَحْتُ وَأَنَا فِيهِ ذُو بَصِيرَةٍ أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ فَفِي هَذِهِ الْقِصَّة مُعْجِزَة وَاضِحَة. ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَائِراً فَجَعَلَ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ الرَّجُلُ فَيَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللهِ تَخَلَّفَ فُلانٌ فَيَقُولُ: «دَعُوهُ فَإِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللهُ بِكُمْ وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُم اللهُ مِنْهُ» . حَتَّى قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ تَخَلَّفَ أَبُو ذَرٍ وَأَبْطَأَ بِهِ بَعِيرِه فَقَالَ: «دَعُوهُ فَإِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللهُ بِكُمْ وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُم اللهُ مِنْهُ» . وَتَلَوَّمَ أَبُو ذَرٍّ عَلَى بَعِيرِهِ فَلَمَّا أَبْطَأَ عَلَيْهِ بَعِيرُهُ - أَيْ انْقَطَعَ - أَخَذَ الْمَتَاعَ مِنْ عَلَيْهِ فَحَمَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ ثُمَّ خَرَجَ يَتْبَعُ أَثْرَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاشِياً وَنَزَلَ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَازِلَهُ

فَنَظَرَ نَاظِرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: يَا رسُولَ اللهِ إِنَّ هَذَا رَجُلٌ يَمْشِي عَلَى الطَّرِيقِ وَحْدَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُنْ أَبَا ذَرٍّ» . فَلَمَّا تَأَمَّلَهُ الْقَوْمُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ هُوَ - وَاللهِ أَبُو ذَرٍّ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَحَمَ اللهُ أَبَا ذَرٍّ يَمْشِي وَحْدَهُ وَيَمُوتُ وَحْدَهُ وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ» . وَقَدْ تَحَقَّقَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمَّا نَفَى أَبَا ذَرٍّ نَزَلَ أَبُو ذَرٍّ الرَّبْذَةَ فَأَصَابَهُ بِهَا قَدَرُهُ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتُهُ وَغُلامُهُ فَأَوْصَاهُمَا أَنْ غَسِّلانِي وَكَفَّنَانِي. ثُمَّ ضَعَانِي عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَأَوَّلُ مَرْكَبٍ يَمُرُّ بِكُمْ فَقُولُوا لَهُ: هَذَا أَبُو ذَرٍّ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعِينُونَا عَلَى دَفْنِهِ فَلَمَّا مَاتَ فَعَلا ذَلِكَ بِهِ ثُمَّ وَضَعَاهُ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ. فَأَقْبَلَ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَرَهْطٌ مَعَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ عَمَّاراً فَلَمْ يَرُعْهُمْ إِلا جَنَازَةٌ عَلَى الطَّرِيقِ قَدْ كَادَتْ الإِبْلُ تَطَؤُهَا وَقَامَ الْغُلامُ فَقَالَ: هَذَا أَبُو ذَرٍّ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعِينُونَا عَلَى دَفْنِهِ. فَاسْتَهَلَّ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ يَبْكِي وَيَقُولُ: صَدَقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمْشِي وَحْدَكَ وَتَمُوتُ وَحْدَكَ وَتُبْعَثُ وَحْدَكَ. ثُمَّ نَزَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَوَارَوهُ ثُمَّ حَدَّثَهُمْ ابْنُ مَسْعُودٍ حَدِيثَهُ وَمَا قَالَهُ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرِهِ إِلى تَبُوكَ وَاسْمُ أَبِي ذَرٍّ (جُنْدُبُ بنُ جُنَادَةَ) وَمَاتَ فِي سَنَة 32 هـ. اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ حِزْبِكَ الْمُفْلِحِينَ، وَعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ الذِينَ أَهَّلْتَهُم لِخِدْمَتِكَ وَجَعَلْتَهُمْ آمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ فَاعِلِينَ لَهُ، وَنَاهِينَ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَمُجْتَنِبِينَ لَهُ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ

مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) : وَذَكَرَ أَبُو حَاتِمٍ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرُهُ فِي قِصَّةِ وَفَاتِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بن الأَشْتَرِ عَنْ أَبِيهِ: عَنْ أُمِّ ذَرٍّ قَالَتْ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا ذَرٍّ الْوَفَاةُ بَكَيْتُ فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ؟ فَقُلْتُ: مَا لِي لا أَبْكِي وَأَنْتَ تَمُوتُ بِفَلاةٍ مِنْ الأَرْضِ وَلَيْسِ عِنْدِي ثَوْبٌ يَسَعُكَ كَفَناً وَلا يَدَانِ لِي فِي تَغْيِيبِكَ. قَالَ: أَبْشِرِي وَلا تَبْكِي فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِنَفَرٍ أَنَا فِيهِمْ: «لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ بِفَلاةٍ مِنْ الأَرْضِ يَشْهَدُهُ عِصَابَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» . وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أُولَئِكَ النَّفَرِ إِلا وَقَدْ مَاتَ فِي قَرْيَةٍ وَجَمَاعَةٍ فَأَنَا ذَلِكَ الرَّجُلُ فَوَاللهِ مَا كَذَبْتُ وَلا كُذِبْتُ فَأَبْصِرِي الطَّرِيقَ فَقُلْتُ: أَنَّى وَقَدْ ذَهَبَ الْحَاجُ وَتَقَطَّعَتِ الطُّرُقُ. فَقَالَ: اذْهَبِي فَتَبَصَّرِي قَالَتْ: فَكُنْتُ أَشْتَدُّ إِلى الْكَثِيبِ أَتَبَصَّرُ ثُمَّ أَرْجِعُ فَأَمَرِّضَهُ فَبَيْنَا أَنَا وَهُوَ كَذَلِكَ إِذَا أَنَا بِرِجَالٍ عَلَى رِحَالِهِمْ كَأَنَّهُمْ الرَّخْمُ تَخِبُّ بِهِمْ رَوَاحِلُهُمْ قَالَتْ: فَأَشَرْتُ إِلَيْهِمْ فَأَسْرَعُوا إِلَيَّ حَتَّى وَقَفُوا عَلَيَّ. فَقَالُوا: يَا أَمَةَ اللهِ مَا لَكِ؟ قُلْتُ: امْرُؤٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَمُوتُ قَالُوا: وَمَنْ هُوَ؟ قُلْتُ: أَبُو ذَرٍّ. قَالُوا: صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَفَدَّوْهُ بِآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ وَأَسْرَعُوا إِلَيْهِ حَتَّى دَخَلُوا عَلَيْهِ. فَقَالَ لَهُمْ: أَبْشِرُوا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِنَفَرٍ أَنَا فِيهِمْ: «لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ بِفَلاةٍ مِنْ الأَرْضِ يَشْهَدُهُ عِصَابَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» . وَلَيْسَ مِنْ أُولَئِكَ النَّفَر رَجُلٌ إِلا وَقَدْ هَلَكَ فِي جَمَاعَةٍ. وَاللهِ مَا كَذَبْتُ وَلا كُذِبْتُ وَإِنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدِي ثَوْبٌ يَسَعُنِي كَفَناً لِي أَوْ لامْرَأَتِي لَمْ أُكَفَّنْ إِلا فِي ثَوْبٍ هُوَ لِي أَوْ لَهَا وَإِنِّي أنْشُدُكُمْ اللهَ أَنْ لا

يُكَفِّنَنِي رَجُلٌ مِنْكُمْ كَانَ أَمِيراً أَوْ عَرِيفاً أَوْ بَرِيداً أَوْ نَقِيباً وَلَيْسَ أَحَدٌ إِلا وَقَدْ قَارَفَ بَعْضَ مَا قَالَ إِلا فَتَىً مِنَ الأَنْصَارِ. قَالَ: أَنَا أَكفِنُكَ يَا عَمَّ أُكَفِّنُكَ فِي رِدَائِي هَذَا وَفِي ثَوْبَيْنِ فِي عَيْبَتِي مِنْ غَزْلِ أُمِّي قَالَ: فَأَنْتَ تُكَفِّينُنِي فَكَفَّنَهُ الأَنْصَارِيُّ وَقَامُوا عَلَيْهِ وَدَفَّنُوهُ فِي نَفَرٍ كُلُّهُمْ إِيمَان. وَفِي هَذِهِ القصة أيضاً مُعْجِزَةٌ حيثُ وَقَعَ طِبْقَ مَا أَخْبَرَ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَأَمَّلْ. قال ابن إسحاق: ثم إن أَبَا خَيْثَمَةَ رَجَعَ - بَعْدَ مَا سَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّاماً إِلى أَهْلِهِ فِي يَوْمٍ حَارٍ فَوَجَدَ امْرَأَتَيْنِ لَهُ فِي عَرِيشٍ لَهُمَا فِي حَائِطِهِ قَدْ رَشَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَرِيشَهَا وَبَرَّدَتْ لَهُ فِيهِ مَاءً وَهَيَأتْ لَهُ فِيهِ طَعَاماً. فَلَمَّا دَخَلَ قَامَ عَلَى بَابِ الْعَرِيشِ فَنَظَرَ إِلى امْرَأَتَيْهِ وَمَا صَنَعَتَا لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي الضَّحِّ - لَهَبُ الشَّمْسِ وَحَرَارَتُهَا - وَالرِّيحِ وَالْحَرِّ وَأَبُو خَيْثَمَةَ فِي ظِلِّ بَارِدٍ وَطَعَامٍ مُهَيَّأٍ وَامْرَأةٍ حَسْنَاء فِي مَآلِهِ مُقِيمٌ مَا هَذَا بِالنَّصَفِ وَالْعَدْلِ. ثُمَّ قَالَ: وَاللهِ لا أَدخُلَ عَرِيشَ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا حَتَّى أَلْحَقَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهيئا لِي زَاداً فَفَعَلَتَا ثُمَّ قَدَّمَ نَاضِحَهُ فَارْتَحَلَهُ - أَيْ أَحْضَرَ جَمَلَهُ فَوَضَعَ عَلَيْهِ الرَّحْلَ وَأَعَدَّهُ لِلسَّفَرِ -. ثُمَّ خَرَجَ فِي طَلَبِ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَدْرَكَهُ حِينَ نَزَلَ تَبُوكَ وَكَانَ عِنْدَمَا أَقْبَلَ قَالَ النَّاسُ: هَذَا رَاكِبٌ عَلَى الطَّرِيقِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ» . فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ

هُوَ وَاللهِ أَبُو خَيْثَمَةَ فَلَمَّا أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ أَقْبَلَ فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ فَقَال لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْراً وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ» . وَفِي هَذِهِ مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ حَيْثَ وَقَعَ طِبْقَ مَا أَخْبَرَ. وَقَدْ كَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ وَدِيعَةُ بنُ ثَابِتٍ وَمِنْهُمْ مَخْشِيٌّ بنُ حِمْيَرَ قَالَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: أَتَحْسَبُونَ جِلادَ بَنِي الأَصْفَرِ كَقِتَالِ الْعَرَبِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً وَاللهِ لَكَأَنَّكُمْ غَداً مُقَرَّنِينَ فِي الْحِبَالِ إِرْجَافاً وَإِرْهَاباً لِلْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: مَخْشِيُ وَاللهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقَاضَى عَلَى أَنْ يُضْرَبَ كُلُّ مِنَّا مَائِةَ جَلْدَةً وَأَنَّا نَنْقَلِبُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ فِينَا قُرْانٌ لِمَقَالَتِكُمْ هَذِهِ وَقَالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمَّارِ بن يَاسِرٍ: «أَدْرَكَ الْقَوْمَ فَإِنَّهُمْ قَدْ احْتَرَقُوا فَسَلْهُمْ عَمَّا قَالُوا فَإِنْ أَنْكَرُوا فَقُلْ بَلَى قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا» . فَانْطَلَقَ إِلَيْهِمْ عَمَّارُ فَقَالَ ذَلِكَ لَهُمْ. فَأَتَوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ فَقَالَ وَدِيعَةُ بنُ ثَابِتٍ: كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} . فَقَالَ مَخْشِيُ بنُ حِمْيَرَ: يَا رَسُولَ اللهِ قَعَدَ بِي اسْمِي وَاسْمُ أَبِي فَكَانَ الذِي عَفَا عَنْهُ فِي هَذِهِ الآيةِ وَتَسَمَّى عَبْدَ الرَّحْمَنِ وسأل اللهَ أَنْ يُقْتَلَ شَهِيداً لا يُعْلَمُ بِمَكَانِهِ فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ أَثَرٌ، فَفِي هَذِهِ الْقِصَّةَ مُعْجِزَةٌ أَيْضاً وَهِيَ إِخْبَارُهُ بِمَا قَالُوا. قَالَ ابْنُ الْقَيِّم رَحِمَهُ اللهُ: وَذَكَرَ ابْنُ عَائِذٍ فِي مَغَازِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ تَبُوكَ فِي زَمَانٍ قَلَّ مَاؤُهَا فِيهِ فَاغْتَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ غُرْفَةً بِيَدِهِ مِنْ مَاءٍ فَمَضْمَضَ بِهَا فَاهُ ثُمَّ بَصَقَهُ فِيهَا فَفَارَتْ عَيْنُهَا حَتَّى امْتَلأَتْ فَهِيَ كَذَلِكَ حَتَّى السَّاعَةَ. قُلْتُ: فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: أَنَّهُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهَا قَالَ «إِنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَداً إِنْ شَاءَ اللهُ تَعالَى - عَيْنَ تَبُوكَ وَإِنَّكُمْ لَنْ تَأْتُوهَا حَتَّى يُضْحِىَ النَّهَارُ فَمَنْ جَاءَهَا فَلاَ يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئاً حَتَّى آتِىَ» . قَالَ: فَجِئْنَاهَا وَقَدْ سَبَقَنَا إِلَيْهَا رَجُلاَنِ وَالْعَيْنُ مِثْلُ الشِّرَاكِ تَبِضُّ بِشَيْْءٍ مِنْ مَائِهَا فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «هَلْ مَسَسْتُمَا مِنْ مَائِهَا شَيْئاً» ؟ قَالاَ: نَعَمْ. فَسَبَّهُمَا وَقَالَ لَهُمََا مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ ثُمَّ غَرَفُوا مِنَ الْعَيْنِ قَلِيلاً قَلِيلاً حَتَّى اجْتَمَعَ فِي شَيْْءٍ ثُمَّ غَسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ثُمَّ أَعَادَهُ فِيهَا فَجَرَتِ الْعَيْنُ بِمَاءٍ كَثِيْرٍ فاسْتَقَى النَّاسُ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُوشِكُ يَا مُعَاذُ إِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ أَنْ تَرَى مَا هَا هُنَا قَدْ مُلِئَ جِنَاناٌ» . وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ قُمْتُ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ وَأَنَا مَعَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَرَأَيْتُ شُعْلَةً مِنْ نَارٍ فِي نَاحِيَةِ الْعَسْكَرِ فَاتَّبَعْتُهَا أَنْظُرُ إِلَيْهَا فَإِذَا رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْر وَعُمَرُ وَإِذَا عَبْدُ اللهِ ذُو الْبِجَادَيْنِ وَالْبِجَادُ الْكِسَاءُ الأَسْوَدُ الْغَلِيظُ - الْمُزَنِيُّ قَدْ مَاتَ. وَإِذَا هُمْ قَدْ حَفَرُوا لَهُ وَرَسُولُ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُفْرِتِهِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يُدْلِيَانِهِ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: ((أَدْنِيَا إِلَيَّ أَخَاكُمَا)) . فَدَلَيَّاهُ إِلَيْهِ

فَلَمَّا هَيأَهُ لِشَقِّةِ قَالَ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ أَمْسَيْتُ رَاضِياً عَنْهُ فَارْضَ عَنْهُ)) . قَالَ: يَقُول عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ صَاحِبَ الْحُفْرَةِ. وَلَمَّا وَصَلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلى تَبُوكَ وَصَارَ عَلَى حُدُودِ دَوْلَةِ الرُّومِ لَمْ يَجِدْ أَحَداً مِنْ الْعَدُوِّ وَمِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنْ يَكُونَ الرُّوم آثرُوا الإنْسِحَابَ إِلى دَاخِلِ بِلادِ الشَّامِ لِيَتَحَصَّنُوا بِحُصُونِهَا حِينَ بَلَغَهُمْ أَمْرَ هَذَا الْجَيْشِ وَقُوَّتَهُ. وَأَيُّمَا كَانَ الْوَاقِعُ فَقَدْ وَقَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ تَبُوكَ لَمْ يُجَاوِزْهَا وَبَعَثَ سَرَايَاهُ إِلى مَنْ حَوْلَ تَبُوكَ فَأَتَاهُ صَاحِبُ إيْلة فَصَالَحَهُ وَأَعْطَاهُ الْجِزْيَةَ وَأَتَاهُ أَهْلَ جِرْبَاءَ وَأَذْرُحْ فَأَعْطُوهُ الْجِزْيَةَ وَكَتَبَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَاباً فَهُوَ عِنْدَهُمْ. وَكَتَبَ لِصَاحِبِ إِيلَةَ «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. هَذَا أَمَنَةٌ مِنْ اللهِ وَمُحَمَّدِ النَّبِي رَسُولِ اللهِ لِيُوحِنَةَ بن ذُؤْبَةَ وَأَهْل إِيلةَ لِسُفْنِهِمْ وَلِسَيَّارَاتِهِمْ وَلِبَحْرِهِمْ وَلِبَرِّهِمْ ذِمَّةُ اللهِ وَذِمَّةُ مُحَمَّدٍ النَّبِي وَلِمَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِنْ كُلِّ مَارٍ مِنَ النَّاسِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَأَهْلِ الْيَمَنِ وَأَهْلِ الْبَحْرِ. فَمَنْ أَحْدَثَ مِنْهُمْ حَدَثاً فَإِنَّهُ لا يَحُولُ مَالُهُ دُون نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لِمَنْ أَخَذَهُ مِن النَّاسِ وَإِنَّهُ لا يَحِلُّ أَنْ يُمْنَعُوا مَاءً يَردُونَهُ وَلا طَرِيقاً يَرِدُونَهَا مِنْ بَرٍ وَبَحْرٍ هَذَا كِتَابُ جُهَيْمٍ بن الصَّلْتِ. أ.هـ. اللَّهُمَّ قَوِّ إِيمَانَنَا بِكَ وَبِمَلائِكَتِكَ وَبِكُتُبِكَ وَبِرُسُلِكَ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَبِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا. اللَّهُمَّ اسْلُكْ بِنَا سَبِيلَ عِبَادِكَ الأَبْرَارِ وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارَ وَامْنُنْ عَلَيْنَا بِالْعَفْوِ وَالْعِتْقِ مِن النَّارِ وَاحْفَظْنَا مِنْ الْمَعَاصِي فِيمَا بَقِيَ مِنْ الأَعْمَارِ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ

فصل

بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ. فَجَاءَهُ الْمُخَلَّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ، وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلاً. فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلاَنِيَتَهُمْ، وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَوَكِلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللهِ. وَجَاءَه كَعْبُ بنُ مَالِكٍ فَلَمَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ ثُمَّ قَالَ له: «تَعَالَ» . قَالَ: فَجِئْتُ أَمْشِى حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لِيْ: «مَا خَلَّفَكَ؟ أَلَمْ تَكُنِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟» . فَقُلْتُ: بَلَى وَاللهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنْ سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلاً وَلَكِنْي وَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّى لَيُوشِكَنَّ اللهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَىَّ. وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ، تَجِدُ عَلَىَّ فِيهِ، إِنِّى لأَرْجُو عَفْوَ اللهِ لاَ وَاللهِ مَا كَانَ لِى مِنْ عُذْرٌ وَاللهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلاَ أَيْسَرَ مِنِّى حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ. فقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ فقُمْ حَتَّى يَقْضِىَ اللهُ فِيكَ» . فَقُمْتُ. وَسَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِى سَلِمَةَ، فاتَّبَعُوْنِيْ يُؤنِبُوْنَنِيْ، فَقَالُوا لِيْ: وَاللهِ مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذَنْباً قَبْلَ هَذَا ولقدْ عَجَزْتَ أَنْ لاَ تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ الْمُخَلَّفُونَ، فَقَدْ كَانَ كَافَِيكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَ.

قَالَ: فَوَاللهِ، مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونِى حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ فَأُكَذِّبَ نَفْسِي، ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لَقِىَ هَذَا مَعِى أَحَدٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ رَجُلاَنِ قَالاَ مِثْلَ مَا قُلْتَ، فقِيلَ لَهُمَا مِثْلَ الذِيْ قِيلَ لَكَ. فَقُلْتُ: مَنْ هُمَا؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعَمْرِىُّ وَهِلاَلُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيْ، فَذَكَرُوا لِى رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ شَهِدَا بَدْراً فِيهِمَا أُسْوَةٌ. فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي. وَنَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلاَمِنَا أَيُّهَا الثَّلاَثَةُ - مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ. فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ، وَتَغَيَّرُوا لَنَا حَتَّى تَنَكَّرَتْ فِى نَفْسِي الأَرْضُ، فَمَا هِيَ الَّتِي أَعْرِفُ، فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً. فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا، وَقَعَدَا فِى بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ الْقَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ، فَكُنْتُ أَخْرُجُ وأَشْهَدُ الصَّلاَةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَطُوفُ فِي الأَسْوَاقِ، وَلاَيُكَلِّمُنِى أَحَدٌ وَآتِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسَلِّمُ عَلَيْه، وَهُوَ فِى مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلاَةِ فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلاَمِ عَلَىَّ أَمْ لاَ. ثُمَّ أُصَلِّى قَريْباً مِنْهُ، فَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ. فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلاَتِي أَقْبَلَ إِلَيَّ، وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا طَالَ عَلَىَّ ذَلِكَ مِنْ جَفْوَةِ الْمُسْلِمِينَ: مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ - وَهُوَ ابْنُ عَمِّي، وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ - فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ. فَوَاللهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلاَمَ. فَقُلْتُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ، أَنْشُدُكَ اللهَ، هَلْ تَعْلَمُنِي أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ؟ فَسَكَتَ. فَعُدْتُ لَهُ، فَنَشَدْتُهُ، فَسَكَتَ. فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ.

فَقَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَفَاضَتْ عَيْنَاىَ، وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ. فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِى بِسُوقِ الْمَدِينَةِ إِذَا نَبَطِيُّ مِنْ أَنْبَاطِ الشَّامِ مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ، يَقُولُ مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؟ فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ، حَتَّى إِذَا جَاءَنِي دَفَعَ إِلَيَّ كِتَاباً مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ، فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ، وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلاَ مَضْيَعَةٍ، فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِيكَ. فَقُلْتُ لَمَّا قَرَأْتُهَا: وَهَذَا أَيْضاً مِنَ الْبَلاَءِ، فَتَيَمَّمْتُ بِهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهُا حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً مِنَ الْخَمْسِينَ إِذَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِيْنِيْ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ. فَقُلْتُ: أُطَلِّقْهَا؟ أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ بِهَا؟ قَالَ: لاَ ولكِنْ اعْتَزِلْهَا فَلاَ تَقْرَبَنَّهَا. وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ بِمِثْلِ ذَلِكَ. فَقُلْتُ لاِمْرَأَتِي: الْحَقِى بِأَهْلِكِ، فَكُونِي عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ هَذَا الأَمْرَ. فَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلاَلِ بْنِ أُمَيَّةَ، فَقَالَت: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ هِلاَلَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ، لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ، فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدُمَهُ؟ . قَالَ: «لاَ وَلَكِنْ لاَ يَقْرَبَنَّكِ» . قَالَتْ: إِنَّهُ وَاللهِ مَا بِهِ حَرَكَةٌ إِلَى شَيْءٍ وَالله مَا زَالَ يَبْكِي مُنذْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَوْمِه هَذَا. قَالَ كَعْبُ: فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي: لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللهِ فِي امْرَأَتِكَ كَمَا أَذِنَ لإمْرَأةِ ِهِلاَلِ بْنِ أُمَيَّةَ أنْ تَخْدُمُهُ؟ فَقُلْتُ: وَاللهِ لاَ أَسْتَأْذِنُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِينِي مَا يَقُولُ لِي رَسُولُ اللَّهِ إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ فِيهَا، وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌ

قَالَ: فَلَبِثْتُ بَعْدَ ذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ، حَتَّى كَمُلَتْ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ عَنْ كَلاَمِنَا. فَلَمَّا صَلَّيْتُ صَلاَةَ الْفَجْرَ صُبْحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، وَأَنَا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَاَلَى، قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي، وَضَاقَتْ عَلَيَّ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ بأعْلَى صَوْتِهِ: يَا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ. فَخَرَرْتُ سَاجِداً، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فَرَجُ مِنْ الله وَأَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلاَةَ الْفَجْرِ. فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونِنا وَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ، وَرَكَضَ رَجُلٌ إِلَىَّ فَرَساً وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ، فَأَوْفَى عَلَى ذِرْوَةِ الْجَبَلِ وَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ إِلَىَّ مِنَ الْفَرَسِ. فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي نَزَعَتُ لَهُ ثَوَبِيَّ فَكَسَوْتُهُ إِيَّاهُما بِبُشْرَاهُ، وَوَاللَّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا. وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا. فَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجاً فَوْجاً يُهَنِّئُونِي بِالتَّوْبَةِ، يَقُولُونَ: لِيَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ قَالَ كَعْبُ: حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فإذا رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ حَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ،حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي، والله مَا قَامَ إِلَيَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ وَلاَ أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ. فلمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولُ اللَّهِ قَالَ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ: «أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُذْ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ» . قُلْتُ: أَمِنْ عِنْدِكَ يَا

رَسُولَ اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: «لاَ، بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)) . وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ، حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ وَكَنَّا نَعْرَفُ ذَلِكَ مِنْهُ. فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ فَقالَ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» . قُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَر َ. وقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا نَجَّانِي بِالصِّدْقِ وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لاَ أُحَدِّثَ إِلاَّ صِدْقاً مَا بَقِيتُ. فَوَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَداً مِنَ الْمُسْلِمِينَ ابْتَلاَهُ اللَّهُ فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ مُنذْ ذَكَرَتُ ذَلِكَ لرَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِي هذَا ِمَّا ابْلاَنِي. والله مَا تَعَمَّدْتُ بعد ذَلِكَ إِلَى يَوْمِي هَذَا كَذِباً وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللَّهُ فِيمَا بَقِيتَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ (19: 117 - 119) {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} إلى قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} . فَوَاللَّهِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَىَّ نِعْمَةٍ قط بَعْدَ أَنْ هَدَانِي لِلإِسْلاَمِ - أَعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لاَ أَكُونَ كَذَبْتُهُ فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوا فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوهُ حِينَ نَزَلَ الْوَحْي شَرَّ مَا قَالَ لأَحَدٍ قَالَ: (9: 95، 96) {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ إلى قوله – فَإِنَّ اللهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} . قَالَ كَعْبٌ: وَكُنَّا تَخَلَّفْنَا أَيُّهَا الثَّلاَثَةُ عَنْ أَمْرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ حِينَ حَلَفُوا لَهُ فَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَأَرْجَأَ أَمْرَنَا حَتَّى قَضَى

اللَّهُ فِيهِ فَبِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} وَلَيْسَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ مِمَّا خَلَّفَنَا عَنِ الْغَزْوِ وَإِنَّمَا هُوَ تَخْلِيفُهُ إِيَّانَا وَإِرْجَاؤُهُ أَمْرَنَا عمَّنْ حَلَفَ لَهُ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَبِلَ مِنْهُ. وَقَالَ عُثْمَانُ بنُ سَعِيدِ الدَّارِمِي: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بنُ صَالِحٍ حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بنُ صَالِحٍ عَنْ عَلِيّ بن أَبِي طَلْحَة عَنْ ابْن عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ (9: 102) : {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً} قَالَ: (كَانُوا عَشْرَ رَهْطٍ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ. فَلَمَّا حَضَرَ رُجُوعُ رَسُولِ اللهِ أَوْثَقَ سَبْعَةٌ مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِسَوَارِي الْمَسْجِدِ. وَكَانَ مَمَرُّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَجَعَ فِي الْمَسْجِدِ عَلَيْهِمْ فَلَمَّا رَآهُمْ قَالَ: «مَنْ هَؤُلاءِ الْمُوثِقُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالسَّوَارِي» ؟ قَالُوا: هَذَا أَبُو لُبَابَة وَأَصْحَابٌ لَهُ تَخَلَّفُوا عَنْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، أَوْثَقُوا أَنْفُسَهُمْ وَحَلَفُوا أَنَّهُمْ لا يَطْلِقُهُمْ أَحَدٌ حَتَّى يُطْلِقَهُمُ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَعْذُرَهُمْ. فَقَالَ: «وَأَنَا أُقْسِمُ بِاللهِ لا أُطْلِقُهُمْ وَلا أَعْذُرُهُمْ حَتَّى يَكُونَ اللهُ هُوَ الذِي يُطْلِقُهُمْ رَغِبُوا عَنِّي، وَتَخَلَّفُوا عَنْ الْغَزْو مَعَ الْمُسْلِمِينَ» . فَلَمَّا بَلَغَهُمْ ذَلِكَ قَالُوا: وَنَحْنُ نُقْسِمُ بِاللهِ لا نَطْلِقُ أَنْفُسَنَا حَتَّى يَكُونَ اللهُ هُوَ الذِي يُطَلِّقُنَا فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} وَعَسَى مِن اللهِ وَاجِبٌ {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . فَلَمَّا نَزَلَتْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَطْلَقَهُمْ، وَعَذَرَهُمْ فَجَاءُوا بِأَمْوَالِهِمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ هَذِهِ أَمْوَالُنَا فَتَصَدَّقْ بِهَا

قصة هرقل ملك الروم

عَنَّا وَاسْتَغْفِرْ لَنَا، قَالَ: «مَا أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ أَمْوَالَكُمْ» . فَأَنْزَلَ اللهُ (9: 103) : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} يَقُولُ: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ {إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} فَأَخَذَ مِنْهُمْ الصَّدَقَةَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ. وَكَانَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ لَمْ يُوثِقُوا أَنْفُسَهُمْ بِالسَّوَارِي فَأَرْجِئُوا لا يَدْرُون أيعذبُون أَم يتاب عليهم فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالى: {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} إِلى قَوْلِهِ: {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ} إِلى قَوْلِهِ: {إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَنَا رَغَداً وَلا تُشَمِّتْ بِنَا أَحَداً وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. قصَّة هرقل مَلِك الرُّوم حينَما جَاءَه كتاب رسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما: أنَّ أبا سفيان أخبره من فيه إلى فيه قال: انطلقت في المدّة التي كانت بيني وبين رسول الله قال: فبينما أنا بالشام إذ جيء بكتابٍ من رسول الله إلى هرقل، يعني عظيم الرُّوم قال: وكان دِحيةُ الكلبيّ جاء به فدفعه إلى عظيم بصرى فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل. فقال هرقل: هل ها هنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنّه نبيّ؟ قالوا: نعم. قال: فدُعيت في نفرٍ من قريش فدخلنا على هرقل فأجلسنا بين يديه. فقال: أيكم أقرب نسباً من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبيّ؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا.

فأجلسوني بين يديه وأجلسوا أصحابي خلفي ثم دعا بترجمانه. فقال له: قل لهم إني سائل هذا عن الرجل الذي يزعم أنه نبي فإن كذبني فكذبوه. قال: فقال أبو سفيان: وأيم الله لولا مخافة أن يؤثر علي الكذب لكذبت ثم قال لترجمانه: سله كيف حسبه فيكم؟ قال: قلت: هو فينا ذو حسب. قال: فهل كان من آبائه ملك؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: ومن يتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قال: قلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قال: قلت: لا بل يزيدون. قال: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ قال: قلت: لا. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قال: قلت: تكون الحرب بيننا وبينه سجالاً، يصيب منا ونصيب منه. قال: فهل يغدِر؟ قلت: لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها. قال: فوالله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه.

قال: فهل قال هذا القول أحد قبله؟ قلت: لا. قال لترجمانه: قل له: إنِّي سألتك عن حسبه فزعمت أنه فيكم ذو حسب، وكذلك الرسل تُبْعَثُ في أحساب قومها. وسألتك هل كان في آبائه ملك؟ فزعمت: أن لا، فقلت: لو كان من آبائِهِ ملك قلت: رجل يطلب ملك آبائه. وسألتك عن أتباعه أضعفاؤهم أم أشرافهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم، وهم أتباع الرسل. وسألتك: هل كنتم تتَّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت: أن لا. فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم يذهب فيكذب على الله. وسألتك: هل يرتدّ أحد منهم عن دينه بعد أن يدخله سخطة له فزعمن أن لا وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب. وسألتك هل يزيدون أو ينقصون؟ فزعمت أنهم يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم. وسألتك: هل قاتلتموه؟ فزعمت أنكم قد قاتلتموه فتكون الحرب بينكم وبينه سجالاً ينال منكم وتنالون منه وكذلك الرسل تُبتلى ثُمّ تكون لهم العاقبة. وسألتك هل يغدر؟ فزعمت أنّه لا يغدر، وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك: هل قال هذا القول أحد قبله؟ فزعمت أن لا فقلت: لو قال هذا القول أحد قبله، قلت: رجل ائتمَّ بقولٍ قيل قبله.

قال: ثُمَّ قال: بمِ يأمركم؟ قلت: يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف. قال: إن يكن ما تقول فيه حقّاً فإنه نبي وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنه منكم ولو أني أخلص إليه لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، ولَيَبْلُغَنَّ ملكُه ما تحت قدميّ. قال: ثُمَّ دعا بكتاب رسول الله ? فقرأه فإذا فيه: ((بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أَمَّا بعد فإنِّي أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تَسْلَم وأسلم يؤتِك الله أجرك مرّتين وإن تولَّيت فإنّ عليك إثم الأريسيّين و {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} )) . فلمَّا فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده وكثر اللغط وأمر بنا فأُخرجنا. قال: فقلت لأصحابي حين خرجنا: لقد أمِرَ أمْرُ ابن أبي كبشة إنَّه ليخافه ملك بني الأصفر! . قال: فما زلت موقناً بأمر رسول الله أنَّه سيظهر حتى أدخل عليّ الإسلام. شِعْرًا: ... عَلَيْكَ بِمَا يُفِيدُكَ فِي الْمَعَادِ ... وَمَا تَنْجُو بِهِ يَوْمَ التَّنَادِ فَمَالَكَ لَيْسَ يَنْفَعُ فِيكَ وَعْظٌ ... وَلا زَجْرٌ كَأَنَّكَ مِنْ جَمَادِ سَتَنْدَمُ إِنْ رَحَلْتَ بَغِيْرِ زَادٍ ... وَتَشْقَى إِذْ يُنَادِيكَ الْمُنَادِي فَلا تَفْرَح بِمَالٍ تَفْتَنِيهِ ... فَإِنَّكَ فِيهِ مَعْكُوسُ الْمُرَادِ وَتُبْ مِمَّا جَنَيْتَ وَأَنْتَ حَيٌّ ... وَكُنْ مُتَنَبِّهاً مِنْ ذَا الرُّقَادِ اللَّهُمَّ اجْعَلْ قُلُوبَنَا مَمْلُؤةً بِحُبِّكَ وَأَلْسِنَتِنَا رَطْبَةً بِذِكْرِكَ وَنُفُوسَنَا مُطِيعَةً لأَمْرِكَ وَأَمِّنَّا مِنْ سَطْوَتِكَ وَمَكْرِكْ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي دِينَنَا

قصة أصحاب الأخدود

وَدُنْيَانَا وَأُخْرَانَا وَأَهْلِنَا وَمَا لَنَا اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا وَأَمِّنْ رَوَعَاتِنَا وَاحْفَظْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِينَا وَمِنْ خَلْفِنَا وَعَنْ أَيْمَانِنَا وَعَنْ شَمَائِلِنَا وَمِنْ فَوْقِنَا وَنَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ نُغْتَالَ مِنْ تَحْتِنَا وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. قِصَّة الْغُلام الْمُؤْمِن وَالْمَلِك (أصحاب الأخدود) عَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: «كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ: إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَىَّ غُلاَماً أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلاَماً يُعَلِّمُهُ وَكَانَ فِي طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلاَمَهُ فَأَعْجَبَهُ وَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ. فَقَالَ: إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي. وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ. فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ. فَقَالَ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ السَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ؟ فَأَخَذَ حَجَراً فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِىَ النَّاسُ. فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ. فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّى. قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلاَ تَدُلَّ عَلَىَّ. وَكَانَ الْغُلاَمُ يُبْرِئُ الأَكْمَهَ، وَالأَبْرَصَ، وَيُدَاوِى النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الأَدْوَاءِ.

فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِىَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ فَقَالَ: مَا هَا هُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي. فَقَالَ إِنِّي لاَ أَشْفِى أَحَداً إِنَّمَا يَشْفِى اللَّهُ تَعالى فَإِنْ آمَنْتَ بِاللَّهِ تَعالى دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ. فَآمَنَ بِاللَّهِ تعالى فَشَفَاهُ اللَّهُ تعَالى فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ. فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟ قَالَ: رَبِّي. قَالَ: أَوَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟ قَالَ: رَبِّى وَرَبُّكَ اللَّهُ. فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلاَمِ فَجِيءَ بِالْغُلاَمِ. فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: أَيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الأَكْمَهَ، وَالأَبْرَصَ، وَمَا تَفْعَلُ وَتَفْعَلُ! فَقَالَ: إِنِّي لاَ أَشْفِي أَحَداً إِنَّمَا يَشْفِى اللَّهُ تَعَالى. فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى. فَدَعَا بِالْمِنْشَارِ فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ. فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى. فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلاَمِ. فَقِيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى.

فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلاَّ فَاطْرَحُوهُ فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِينِهِمْ بِمَا شِئْتَ. فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ. فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ تَعَالى. فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ وَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلاَّ فَاقْذِفُوهُ. فَذَهَبُوا بِهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِينِهِمْ بِمَا شِئْتَ. فَانْكَفَأَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا وَجَاءَ يَمْشِى إِلَى الْمَلِكِ. فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قَالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ تَعَالى. فَقَالَ لِلْمَلِكِ: إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ. قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ خُذْ سَهْماً مِنْ كِنَانَتِي ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قُلْ: بِسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ، ثُمَّ ارْمِنِي فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي. فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ أَخَذَ سَهْماً مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ. ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فَمَاتَ.

قصة أصحاب الغار

فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ. فَأُتِىَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ قَدْ آمَنَ النَّاسُ. فَأَمَرَ بِالأُخْدُودِ بأَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَقحْمُوهُ فِيهَا، أَوْ قِيلَ لَهُ اقْتَحِمْ، فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِىٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا. فَقَالَ لَهَا الْغُلاَمُ: يَا أُمَّه اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ» . (رواه مسلم) . قِصَّةِ الثَّلاثَةِ أَصْحَاب الْغَار عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُمَرَ بن الْخَطَّاب رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ? يَقُولُ: «انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى آوَاهُمُ الْمَبِيتُ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْغَارَ فَقَالُوا: إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلاَّ أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ تَعَالى بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ. قَالَ رَجُلٌ مِنْهُمُ: اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَكُنْتُ لاَ أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلاً وَلاَ مَالاً، فَنَأَى بِي فِي طَلَبِ الشَّجَرِ يَوْماً، فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ فَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلاً أَوْ مَالاً، فَلَبِثْتُ - وَالْقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ - أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ والصِّبِيَّةِ يَتَضاغَون عِنْدَ قَدَمِي، فَاسْتَيْقَظَا فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا. اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ، فَانْفَرَجَتْ شَيْئاً لاَ يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهُ» . قَالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ كَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ. (وفي

قصة الثلاثة الذين ابتلاهم الله

رواية: كنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، فَأَرَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَامْتَنَعَتْ مِنِّي حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ، فَجَاءَتْنِي فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُخَلِّىَ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا، وفي رواية: (فلما قعدت بين رجليها) قَالَتْ: اتق الله ولا تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلاَّ بِحَقِّهِ. فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وَهْىَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَىَّ وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أَعْطَيْتُهَا. اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ. فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، غَيْرَ أَنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهَا. وَقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ وَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الأَمْوَالُ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَدِّ إِلَيَّ أَجْرِي. فَقُلْتُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ مِنَ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ. فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ لاَ تَسْتَهْزِئْ بِي! فَقُلْتُ: إِنِّي لاَ أَسْتَهْزِئُ بِكَ. فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فَاسْتَاقَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئاً. اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ. فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ فَخَرَجُوا يَمْشُونَ» . (متفق عليه) . قصة الثلاثة الذين ابتلاهم الله عَنَّ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ? يَقُولُ: «إِنَّ ثَلاَثَةً من بَنِي إِسْرَائِيلَ أَبْرَصَ، وَأَقْرَعَ، وَأَعْمَى، أراد الِلَّهِ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكاً، فَأَتَى الأَبْرَصَ. فَقَالَ أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ، وَجِلْدٌ حَسَنٌ، ويذهب عنّي قَدْ قَذِرَنِى النَّاسُ.

فَمَسَحَهُ، فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ، أُعْطِىَ لَوْناً حَسَناً. فَقَالَ: أَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الإِبِلُ - أَوْ قَالَ الْبَقَرُ -. فَأُعْطِىَ نَاقَةً عُشَرَاءَ. فَقَالَ يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا. وَفأَتَى الأَقْرَعَ: فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: شَعَرٌ حَسَنٌ، وَيَذْهَبُ عَنِّى هَذَا، الذي قَذِرَنِى النَّاسُ. فَمَسَحَهُ، فَذَهَبَ عنه، وَأُعْطِىَ شَعَراً حَسَناً. قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْبَقَرُ. فَأَعْطَاهُ بَقَرَةً حَامِلاً. قَالَ: بَارَكُ الله لَكَ فِيهَا. فأَتَى الأَعْمَى فَقَالَ: أَيُّ شَىْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: يَرُدُّ اللَّهُ بَصَرِى، فَأُبْصِرُ النَّاسَ. فَمَسَحَهُ، فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ. قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْغَنَمُ. فَأَعْطَيُ شَاةً وَالِداً. فَأُنْتِجَ هَذَانِ، وَوَلَّدَ هَذَا، فَكَانَ لِهَذَا وَادٍ مِنْ إِبِلٍ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ بَقَرٍ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْغَنَمِ.

ثُمَّ إِنَّهُ أَتَى الأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ، قد تَقَطَّعَتْ بِه الْحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلاَ بَلاَغَ لي إِلاَّ بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ، وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ، وَالْمَالَ بَعِيراً أَتَبَلَّغُ فِي سَفَرِي. فَقَالَ: كَأَنِّى أَعْرِفُكَ، أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ، فَقِيراً فَأَعْطَاكَ اللَّهُ؟ ! فَقَالَ إنَّما وَرِثْتُ هذا المال كَابِرٍ عَنْ كَابِرٍ. فقَالَ إِنْ كُنْتَ كَاذِباً فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ. وَأَتَى الأَقْرَعَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِهَذَا، وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ هَذَا فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِباً فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ. وَأَتَى الأَعْمَى فِى صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ. فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ، وَابْنُ سَبِيلٍ، اَتَقَطَّعَتْ بِه الْحِبَالُ فِي سَفَرِي، فَلاَ بَلاَغَ لي الْيَوْمَ إِلاَّ بِاللَّهِ، ثُمَّ بِكَ أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي؟ فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ بَصَرِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ، ودع مَا شِئْتَ فَوَ اللَّهِ لاَ أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ بِشَيءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ عز وجل. فَقَالَ: أَمْسِكْ مَالَكَ، فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ، فَقَدْ رَضِي اللَّهُ عَنْكَ وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ» متفق عليه. قِيلَ إِنَّ مَلِكاً مِن الْمُلُوكِ كَانَ كَافِراً عَاتِياً مُتَكَبِّراً مُعْجَباً بِنَفْسِهِ حَدِيث السِّنِ مُسْتَحْكِمَ الْغَيْرَةِ وَكَانَ إِذَا رَكَبَ لَمْ يَرْفَعَ أَحَدُ صَوْتَهُ إِلا بِمَدْحِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ. وَكَانَ لَهُ وَزِيرٌ مُؤْمِنُ بِاللهِ جَلَّ وَعَلا قَدْ أَدْرَكَ حَوَارِيَّ الْمَسِيح وَهُوَ يَكْتُم إِيمَانَهُ وَيَتَحَيّنُ وَقْتاً يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ دَعْوَةِ الْمَلِكِ إِلى اللهِ جَلَّ وَعَلا.

فَرَكَبَ الْمَلِكُ يَوْماً فَسَمِعَ شَيْخاً) أَيْ قَدْ شَابَ رَافِعاً صَوْتَهُ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ فَقَالَ لِبَعْضِ أَعْوَانِهِ: خُذُوهُ فَلَمَّا أَخَذُ ذَلِكَ الشَّائِب الذي رَفَعَ صَوْتَهُ قَالَ: إِنَّ رَبِّي الله. فَقَالَ الْوَزِيرُ خَلُّوا عَنْهُ فَخُلِّيَ عَنْهُ فَغَضِبَ الْمَلِكُ عَلَى الْوَزِير وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يُمْكَنُه الإِنْكَارُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ بِحَضْرَةِ النَّاسِ فَسَكَتَ الْمَلِكُ لِيُوهِمَ النَّاسَ أَنَّ فِعْلَ الْوَزِيرَ كَانَ بَأَمْرِهِ. فَلَمَّا عَادَ الْمَلِكُ إِلى قَصْرِهِ أَحْضَرَ الْوَزِيرَ وَقَالَ لَهُ: مَا الذِي دَعَاكَ إِلى مُنَاقَضَةِ أَمْرِي بِمَشْهَدٍ مِنْ عَبِيدِي. فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ: إِنْ لمِ يَعْجَل الْمَلكُ عَلَيَّ أَرَيْتُهُ وَجْهَ نُصْحِي لَهُ وَشَفَقَتِي عَلَيْهِ فِيمَا أَتَيْتُهُ فَقَالَ الْمَلِكُ: أَرِنِي ذَلِكَ فَإِنِّي لا أَعْجَلُ عَلَيْكَ. فَقَالَ الْوَزِيرُ أَسْاَلُ الْمَلكَ أَنْ يَخْتَبِئ فِي مَجْلِسه هَذَا خَلْفَ حِجَاب بِحَيْثُ أَنَّهُ لا يَرَى وَيَسْمَع مَا يَكُونُ مِنِّي فَقَعَدَ الْمَلِكُ لِذَلِكَ. ثُمَّ إِنَّ الْوَزِيرَ أَحْضَرَ قَوْساً جَيِّدَةً صَنَعَهَا لِلْمَلِكِ بَعْضُ خَدَمِِهِ وَكَتَبَ الصَّانِعُ اسْمَهُ عَلَيْهَا فَأَعْطَى الْقُوسَ غُلاماً لَهُ. وَقَالَ لَهُ: إِنِّي سَأَحْضِرُ صَانِعَ هَذِهِ الْقَوْسِ فَإِذَا حَضَرَ وَحَادَثْتُهُ فَاقْرَأ أَنْتَ اسْمَ صَاحِبِهَا جَهْراً حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ سَمِعَكَ ثُمَّ اكْسُرْهَا وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْكَ. فَحَضَّرَ الْقَوْسَ وَفَعَلَ الْغُلامُ مَا أُمَرَهُ بِهِ الْوَزِيرُ فَلَمَّا كَسَرَ الْقَوْسَ لَمْ يَتَمَالَكْ صَانِعُ الْقَوْسِ أَنْ ضَرَبَ الْغُلامَ فَشَجَّهُ. فَقَالَ الْوَزِيرُ أَتَضْرِبُ غُلامِي بِحَضْرَتِي؟ قَالَ: نَعَمْ لأَنَّهُ كَسَرَ الْقَوْسَ الَّتِي هِيَ صَنْعَتِي وَعَمَلِي وَهِيَ فِي نِهَايَةِ الْجَوْدَة وَالْحُسْنِ فَلأَيّ شَيْءٍ كَسَرَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا صَنْعَتِي.

فَقَالَ لَهُ الْوَزِيرُ: فَلَعَلَّهُ مَا يَعْلَمْ أَنَّها صَنْعَتَكَ؟ قَالَ: بَلَى إِنَّ الْقَوْسَ قَدْ أَخْبَرْتُهُ أَنَّهَا صَنْعَتِي. قَالَ الْوَزِيرُ: أَرَأَيْتَ قَوْساً تُخْبِرُ قَالَ: نَعَمْ إِنَّ اسْمِي مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا وَقَدْ قَرَأَهُ وَأَنَا أَسْمَعُ ثُمَّ إِنَّ الْوَزِيرَ صَرَفَ الصَّانِعَ وَالْغُلام. ثُمَّ قَالَ لِلْمَلِكِ: قَدْ أَوْضَحْتُ نُصْحِي وَإِشْفَاقِي عَلَيْكَ وَذَلِكَ أَنَّكَ لَمَّا رَأَيْتَ الْبَطْشَ بالشَّيْخِ أَخْبَركَ أَنَّ الله رَبَّهُ فَخِفْتُ عَلَيْكَ مِنْ رَبِّهَ أَنْ يَغْضَبَ لَهُ كَمَا غَضِبَ هَذَا الْقَوَّاسُ لِقَوْسِهِ. فَقَالَ الْمَلِكُ: وَهَلْ لِلشَّيْخ رَبٌّ غَيْرِي. قَالَ الْوَزِيرُ: أَلَمْ يَرَهْ الْمَلِكُ شَيْخاً وَالْمَلِكُ شَابٌّ فَهَلْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُولَد الْمَلَكُ لا رَبَّ؟ فَقَالَ الْمَلِكُ إِنَّ أَبِي كَانَ رَبَّهُ. قَالَ الْوَزِيرُ: فَمَا بَالُ الرَّبِّ هَلَكَ وَالْمَرْبُوبُ بَقِيَ فَسَكَتَ الْمَلِكُ سَاعَةً ثُمَّ قَالََ: الآنَ عَلِمْتُ أَنَّ لِلْمَلِكِ وَالْمَمْلُوكِ رَبّاً لا يَزُولُ فَهَلْ تَعْرِفُهُ؟ قَالَ الْوَزِيرُ: نَعَمْ أَعْرِفُهُ. قَالَ: صِفْهُ لِي وَدُلَّنِي عَلَيْهِ فَشَرَعَ الْوَزِيرُ يَشْرَحُ لَهُ صِفَاتِ الْخَالِقِ وَأَوْضَحَ لَهُ الدَّلالَةَ عَلَى ذَلِكَ فَانْشَرَحَ صَدْرُ الْمَلِكِ للإِيمَانِ فَآمَنَ بِاللهِ تَعَالى. فَلَمَّا رَسَخَ التَّوْحِيدُ فِي قَلْبِهِ قَالَ: أَمَّا لِرَبِّنَا خَدْمَةُ نَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِهَا؟ قَالَ: إِنَّ اللهَ غَنِيُّ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ قَالَ: فَهَلْ أَمَرَنَا بِشَيْءٍ إِذَا فَعَلْنَاهُ حُظِينَا عِنْدَهُ؟ قَالَ: بَلَى إِنَّ لَهُ عَلَيْنَا وَضَائِفَ أَمَرَنَا بِهَا وَرَضِيَ لَنَا فِعْلَهَا وَوَعَدَنَا رِضْوَانَهُ وَالْقُرْبَ مِنْهُ فَسَأَلَهُ عَنْهَا فَذَكَرَ لَهُ الصَّلاةَ وَالصِّيَامَ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الشَّرَائِعَ فَعَرَفَهَا الْمَلِكُ وَرَاضَ نَفْسَهُ بِهَا حَتَّى رَسَخَ فِي عِلْمِهَا وَتَمَرَّنَ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا. ثُمَّ قَالَ يَوْماً لِلْوَزِير: مَالَكَ لا تَدْعُوا النَّاس إلى الله تعالى كَمَا دَعَوْتَنِي؟ فَقَالَ: لأَنَّ الأَمَّةَ ذَاتَ قُلُوبٍ قَاسِيَةٍ وَفِهُومٍ قَصِيَّةٍ وَنُفُوسٍ عَصِيَّةٍ وَلَسْتَ آمَنُهُم عَلَى نَفْسِي.

قصيدة في التحذير من الدنيا والحث على الإقبال على الآخرة

فَقَالَ الْمَلِكُ: أَنَا أَفْعَلُه إِنْ تَفْعَلْهُ أَنْتَ، فَقَالَ الْوَزِيرُ: لِيَعْلَمَ الْمَلِكُ أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ تَرُدَّهُمْ هَيْبَتُهُ عَنِّي لَمْ تَرُدَّهُمْ عَنْهُ وَسَأقِيهِ بِنَفْسِي أَيِساً مِنَ النَّجَاةِ فَلْيَجْذَرهم الْمَلِكُ عَلَى نَفْسِهِ إِنْ اجْتَرَؤُا بِالْقَتْلِ. ثُمَّ إِنَّ الْوَزِيرَ أَحْضَرَ وَجُوهَ أَهْلِ تِلْكَ الْمَمْلَكَةِ وَوُلاة أَحْكَام رَعَايَاهُ وَأَفَاضِلَهَا فَلَمَّا اجْتَمَعُوا فِي مَنْزِلِهِ قَامَ فِيهِمْ خَطِيباً ثُمَّ بِالدَّعْوَةِ إِلى التَّوْحِيدِ فَوَثَبُوا عَلَيْهِ فَقَتَلُوه. ثُمَّ أَتوا إِلى الْمَلِكِ فَأَخْبَرُوه بِمَا كَانَ مِنْ وَزِيرِهِ فَأَظْهَرَ لَهُمْ الرِّضَا بِقَتْلِهِ فَانْقَلَبُوا عَنْهُ رَاضِينَ ثُمَّ إِنَّ الْمَلِكَ ضَاقَ صَدْرُهُ عَلَى وَزِيرِهِ. فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ لبِسَ مُسْحَ الشَّعَر وَالتَحَقَ بالرُّهْبَانِ وَنَبَذَ مَا كَانَ مِنَ الْمَلِكِ وَلَمْ يَزَلْ يَعْبُدِ الله حَتَّى قَضَى نَحْبَهُ. مَوْعِظَةِ: إِخْوَانِي أُبْسطُوا الأَيْدِيَ إِلى الْمَوْلَى الْكَرِيم بِالذُّلَلِ وَالضَّرَاعَةَ وَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِ بِالذُّلِ وَالانْكِسَارِ فِي هَذِهِ السَّاعَة وَنَادُوا اللَّطِيف الْخَبِيرَ: يَا مَنْ لا تَضُرُّهُ الْمَعْصِيَةُ وَلا تَنْفَعُهُ الطَّاعَةُ، نَسْأَلُكَ أَنْ تُبَدِلَ مِنَّا الْفَسَادَ بِالصَّلاحِ، وَالْخُسْرَانَ بالأَرْبَاحِ وَأَنْ تُعَامِلَنَا بِالْعَفْوِ وَالسَّمَاحِ يَا مَنْ مَثْلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحْ، وَنَسْأَلُكَ أَنْ تَرْحَمَنَا وَإِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ الْوَاسِعَةِ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. وقال بعضهم: وَمَالِي وَلِلدُّنْيَا وَلَيْسَتْ بِبُغْيَتِي وَلا مُنْتَهَى قَصْدِي وَلَسْتُ أَنَالَهَا وَلَسْتُ بِمَيَّالٍ إِلَيْهَا وَلا إِلى رِيَاسَتِهَا تَباً وَقُبْحاً لِحَالِهَا

هِيَ الدَّارُ دَارُ الْهَمِّ وَالْغَمِّ وَالْعَنَا سَرِيعٌ تَقْضِيهَا وَشِيكٌ زَوَالُهَا مَيَاسِرُهَا عُسْرٌ وَحُزْنٌ سُرُورُهَا وَأَرْبَاحُهَا خُسْرٌ وَنَقْصٌ كَمَالُهَا إِذَا أَضْحَكَتْ أَبْكَتْ وَإِنْ رَامَ وَصْلَهَا غَبِيٌ فَيَا سِرْعَ انْقِطَاع وِصَالِهَا فَأَسْئَلُ رَبِّي أَنْ يَحُولَ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ بَيْنَ وَبَيْنَ اغْتِيَالِهَا فَيَا طَالِبَ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ جَاهِداً أَلا أَطْلُبْ سِوَاهَا إِنَّهَا لا وَفَالَهَا فَكَمْ قَدْ رَأَيْنَا مِنْ حَرِيصٍ وَمُشْفِقٍ عَلَيْهَا فَلَمْ يَظْفُر بِهَا أَنْ يَنَالَهَا لَقَدْ جَاءَ فِي آيِ الْحَدِيدِ وَيُونُسٍ وَفِي الْكَهْفِ إِيضَاحٌ بِضَرْبِ مِثَالِهَا وَفِي آلِ عمْرَانَ وَسُورَةِ فَاطِرٍ وَفِي غَافِرٍ قَدْ جَاءَ تِبْيَانُ حَالِهَا وَفِي سُورَةِ الأَحْقَافِ أَعْظَمُ وَاعِظٍ وَكَمْ مِنْ حَدِيثٍ مَوْجِبٍ لإِعْتِزَالِهَا لَقَدْ نَظَرَ أَقْوَامٌ بِعَيْنٍ بَصِيرَةٍ إِلَيْهَا فَلَمْ تَغْرُرْ همُوا بِاخْتِيَالِهَا أُولَئِكَ أَهْلُ اللهِ حَقّاً وَحِزْبُهُ

.. لَهُمْ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ إِرْثاً فِيَا لَهَا وَمَالَ إِلَيْهَا آخَرُونَ بِجَهْلِهِمْ فَلَمَّا اطْمَأَنُوا أَرْشَقَتْهُمْ نِبَالَهَا أُولَئِكَ قَوْمٌ آثَرُوهَا فَأَعْقِبُوا بِهَا الْخِزْيَ فِي الأخْرَى فَذَاقُوا وَبَالَهَا فَقُلْ لِلذِينَ اسْتَعْذَبُوهَا رُوَيْدَكُمْ سَيَنْقَلِبُ السُّمُ النَّقِيعُ زِلالَهَا لِيَلْهُوا وَيَغْتَرُّوا بِهَا مَا بَدَا لَهُمْ مَتَى تَبْلُغُ الْحُلْقُومَ تَصْرِمْ حِبَالِهَا وَيَوْمَ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ بِكَسْبِهَا تَوَدُّ فِدَاءُ لَوْ بَنِيهَا وَمَالَهَا وَتَأْخُذُ إِمَّا بِالْيَمِينِ كِتَابِهَا إِذَا أَحْسَنَتْ أَوْ ضِدَّ ذَا بِشِمَالِهَا وَيَبْدُو لَدَيْهَا مَا أَسَرَّتْ وَأَعْلَنَتْ وَمَا قَدَّمَتْ مِنْ قَوْلِهَا وَفِعَالِهَا بَأَيْدِي الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ مُسَطَّرٌ فَلَمْ يُغَنْ عَنْهَا عُذْرَةٌ وَجِدَالُهَا هُنَاكِ َتَدْرِي رِبْحَهَا وَخَسَارَهَا وَإِذْ ذاَكَ تَلْقَى مَا عَلَيْهَا وَمَالَهَا فَإِنْ تَكُ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَالتُّقَى فَإِنَّ لَهَا الْحُسْنَى بِحُسْنِ فِعَالِهَا

.. تَفُوُز بِجَنَّاتِ النَّعِيمِ وَحُورِهَا وَتُحْبَرُ فِي رَوْضَاتِهَا وَظِلالِهَا وَتُرْزَقُ مِمَّا يَشْتَهِي مِنْ نَعِيمِهَا وَتَشْرَبُ مِنْ تَسْنِيمِهَا وَزِلالِهَا فَإِنَّ لَهُمْ يَوْمَ الْمَزِيدِ لَمَوْعِداً زِيَارَةُ زُلْفَى غَيْرُهُمْ لا يَنَالَهَا وَجُوهٌ إِلى وَجْهِ الإِلَهِ نَوَاظِرٌ لَقَدْ طَالَ بِالدَّمْعِ الْغَزِيرِ ابْتِلالُهَا تَجَلَّى لَهُمْ رَبُّ رَحِيمٌ مُسْلِماً فَيَزْدَادُ مِنْ ذَاكَ التَّجَلِي جَمَالُهَا بِمَقْعَدِ صِدْقٍ حَبْذَا الْجَارُ رَبُّهُمْ وَدَارُ خُلُود لَمْ يَخَافُوا زَوَالَهَا فَوَاكِهُهَا مِمَّا تَلَذُّ عُيوَنُهمْ وَتَطَّرُد الأَنْهَارُ بَيْنَ خِلالِهَا عَلَى سُرِرٍ مَوْضُونَةً ثُمَّ فُرْشُهُمْ كَمَا قَالَ فِيهَا رَبُّنَا وَاصِفاً لَهَا بَطَائِنُ مِنْ إِسْتَبْرَقٍ كَيْفَ ظَنُّكُمْ ظَوَاهِرَهَا لا مُنْتَهَى لِجَمَالِهَا وَإِنْ تَكُنْ الأُخْرَى فَوَيْلٌ وَحَسْرَةٌ وَنَارُ جَحِيمٍ مَا أَشَدَّ نَكَالِهَا لَهُمْ تَحْتَهُمْ مِنْهَا مِهَادٌ وَفَوْقَهُمْ

من محاسن الدين الإسلامي

.. غَوَاشِي وَمِنْ يَحْمُومِ سَاءَ ظِلالُهَا طَعَامُهُمُ الْغِسْلِينُ فِيهَا وَإِنْ سُقُوا حَمِيماً بِهِ الأَمْعَاءُ كَانَ انْحِلالُهَا أَمَانِيهُمُوا فِيهَا الْخُرُوجُ وَمَالَهُمْ خُرُوجٌ وَلا مَوْتٌ كَمَا لا فَنَى لَهَا مَحَلَّيْنِ قُلْ لِلنَّفْسِ لَيْسَ سِوَاهُمَا لِتَكْتَسِبَنْ أَوْ تَكْتَسِبْ مَا بَدَا لَهَا فَطُوبَى لِنَفْسٍ جَوَّزَتْ فَتَخَفَّفَتْ فَتَنْبَحُوا كَفَافاً لا عَلَيْهَا وَلا لَهَا اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ جُهْدِ الْبَلاءِ وَدَرَكِ الشَّقَاءِ وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ اللَّهُمَّ حَبِبْ إِلَيْنَا الإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا. اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَارْزُقْنَا الاسْتَقَامَةِ طَوْعَ أَمْرِكَ وَتَفَضَّلْ عَلَيْنَا بِعَافِيَتِكَ وَجَزِيلِ عَفْوِكَ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) فِي ذِكْرِ بَعْضِ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِي نَصَرَهُ اللهُ عِبَادَ اللهِ قَالَ اللهُ تَعَالَى - وَهُوَ أَصْدَقُ الْقَائِلِينَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} أَكْمَلَ الدِّينَ، بِالنَّصْرِ، وَالإِظْهَارِ عَلَى الأَدْيَانِ كُلِّهَا، فَنَصَرَ عَبْدَهُ وَرَسُولَهُ، وَخَذَلَ أَهْلَ الشِّرْكِ انْخِذَالاً عَظِيماً، بَعْدَ مَا كَانُوا حَرِيصِينَ عَلَى صَدِّ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ دِينِهِمْ، طَامِعِينَ فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَوْا عِزَّ الإِسْلامِ وَانْتِصَارِهِ يَئِسُوا كُلَّ الْيَأْسِ

مِن الْمُؤْمِنِينَ، أَنْ يَرْجِعُوا إِلى دِينِهِمْ، وَصَارُوا يَخَافُونَ مِنْهُمْ وَيَخْشَوْن: وَأَتَمَّ جَلَّ وَعَلا عَلَى عِبَادِهِ نِعْمَتَه بِالْهِدَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ، وَالْعزِ ِّواَلتَّأَيِيدِ، وَرَضِيَ الإسْلامَ لَنَا دِيناً، أخْتَارَهُ لَنَا مِنْ بَيْنِ الأَدْيَانِ، فَهُوَ الدِّينُ عِنْدَ اللهِ لا غَيْر، قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} عِبَادَ اللهِ نَظَرَ أَصْحَابُ الأَفْكَارِ الْبَرِيئَةِ السَّلِيمَةِ فِي أَحْكَامِ الإِسْلام ِ، فَاعْتَنَقُوهُ، وَتَأَمَّلُوا فِي حُكْمِهِ الْجَلِيلَةِ فَأَحَبُّوهُ وَمَلَكَتْ قُُلُوبَهُم مَبَادِئُهُ الْحَكِيمَةُ فَعَظَّمُوه، وَكُلَّمَا كَانَ الْمَرْءُ سَلِيمَ الْعَقْلِ، نَيِّرَ الْبَصِيرَةِ، مُسْتَقِيمَ الْفِكْرِ، اشْتَدَّ تَعَلُقُه بِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ جَمِيلِ الْمَحَاسِن، وَجَلِيلِ الْفَضَائِلِ، جَاءَ الدِّينُ الإِسْلامِيُ بِعَقَائِدِ التَّوْحِيدِ، الَّتِي يَرْتَاحُ لَهَا الْعَقْلُ السَّلِيمُ وَيُقرُهَا الطَّبْعُ الْمُسْتَقِيمُ، يَدْعُوا إِلى اعْتِقَادِ أَنَّ لِلْعَالَم إِلَهاً وَاحِداً لا شَرِيكَ لَهُ، أَوَّلاً لا ابْتِدَاءَ لَهُ، وَآخِراً لا انْتِهَاءَ لَهُ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} لَهُ الْقُدْرَةُ التَّامَةُ، وَالإِرَادَةُ الْمُطْلَقَةُ، وَالْعِلْمُ الْمُحِيطُ، يَلْزِمُ الْخَلْقَ الْخُضُوعِ لَهُ وَالانْقِيَادُ، وَالْعَمَلَ عَلَى مَرْضَاتِهِ، بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ سُبْحَانَهُ، عَلَى النَّظرِ وَالاسْتِدلالِ، لِتَصلَ بِالْبُرْهَان إلى مَعْرِفَتِهِ وَتَعْظِيمِهِ، وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ، فَتَرَاهُ تَارَةً يَلْفِتُ نَظَرَكَ إِلى أَنَّهُ لا يُمْكنُ أَنْ توجِدَ نَفْسَكَ، وَلا أَن تُوجدَ مِنْ دُونِ مُوجِدٍ {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} أَمَّا كَوْنُ الإنْسَانِ مَوْجِداً لِنَفْسِهِ فَهَذَا أَمْرٌ مَا ادَّعَاهُ الْخَلْقُ، وَأَمَّا وُجُودُ الإِنْسَانِ هَكَذَا مِنْ غَيْرِ مُوجِدٍ، فَأَمْرٌ يُنْكرُهُ مَنْطِقُ الْفِطْرَةِ ابْتِدَاءً وَلا يَحْتَاجُ إِلى جَدَلٍ كَثِيرٍ أَوْ قَلِيلٍ، وَإِذَا كَانَ هَذَانِ الْفَرْضَانِ بَاطِلِين، فَإِنَّهُ لا يَبْقَى إِلا الْحَقِيقَةُ، الَّتِي يَقُولُهَا الْقُرْآنُ، وَهِيَ أَنَّ الْخَلْقَ خَلَقَهُ اللهُ الْوَاحِدُ الأَحَدُ الْفَرْدُ الصَّمَدُ الذِي {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} ، وَتَارَةً يَلْفُتُ النَّظَرَ إِلى

السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، فَهَلْ هُمْ خَلَقُوهَا، فَإِنَّها لَمْ تَخْلُقْ نَفْسَهَا كَمَا أَنَّهُمْ لَمْ يَخْلَقُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَارَةً يَفْتَحُ أَمَامَ الْعَقْلِ وَالْبَصَرِ صَحِيفَةَ السَّمَاءِ وَمَا حَوَتْ مِن شَمْسٍ مُشْرِقَةٍ، وَقَمَرٍ مُنِيرٍ، وَنَجْمٍ مُضِيء فَيَقُولُ: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً} وَفِي الآيَةِ الأُخْرَى يَقُولُ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} وَيَقُولُ: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} وَيَقُولُ: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} وَيَقُولُ: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِن شَيْءٍ} وَيَقُولُ: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} وَمَرَّةً يَلْفُتُ النَّظَرَ إِلى الأَرْضِ وَمَا فِيهَا مِنْ أَشْجَارٍ مُتَنَوِّعَةٍ {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ} فَتُشَاهِدُ شَجَرَ الْعِنَبِ بِجِوَارِ شَجَرِ الْحَنْظَلِ فِي قِطْعَةٍ وَاحِدَةٍ تُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ جَعَلَ لَكُلِّ شَجَرِةٍ جُذُوراً، تَمْتَصُّ بِهَا مِنْ الأَرْضِ مَا يُنَاسِبُهَا مِنْ الْغِذَاء الذِي بِهِ قِوَامُهَا وَحَيَاتُهَا وَتَنْفَتِحُ كُلَّ وَاحِدَةٍ عَنْ ثَمَرَةٍ تُخَالِفَ الأُخْرَى فِي اللَّوْنِ وَالطَّعْمِ وَالرَّائِحَةِ، وَكَذَلِكَ بَاقِي الأَشْجَارِ الْمُتَجَاوِرَةِ الَّتِي أَرْضُهَا وَاحِدَةٌ وَمَاؤُهَا وَاحِدٌ، أَلا يَدُلُّ هَذَا عَلَى وُجُودِ صَانِعٍ حَكِيمٍ قَادِرٍ (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةِ) وَمَرَّةً يَلْفِتُ النَّظَرَ إِلى مَا يُنَزِّلُه مِنَ السَّمَاءِ، مِنَ الْمَاءِ الذِي بِهِ قِوَامُ الْحَيَاةِ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ أَجَاجاً لا نَفْعَ فِيهِ، وَمَرَّةً يَتَحَدَّثُ عَنْ وَحْدَانِيَتِهِ وَانْفِرَادِهِ بِالْمُلْكِ وَالتَّدْبِيرِ {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ}

الآية وَفِي الآيةِ الأُخْرَى يَقُولُ فِي جَزَالَةِ لَفْظٍ وَفَخَامَةِ مَعْنَى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} إِلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الأَدِلَّةِ وَشَرَعَ لِعِبَادِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ مَا يُهَذِّبُ النُّفُوسَ ويُصَفِيهَا وَيُنَظِّمُ الْعِلاقَاتِ ويُقَوِّيهَا وَيَجْمَعُ الْقُلُوب ويُزكِّيهَا وَهَذا الذِي جَاءَ بِه الإِسْلام اتَّقَقَتْ فِي الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ كُلُّ الرُّسُلِ قَالَ تَعَالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} . اللَّهُمَّ نَوَّر قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وأعِذْنا مِن شَرِ نُفُوسِنَا والشيطان وَوَفَّقْنَا لِطَاعَتِك اللهُمَّ أَنْظِمْنَا فِي سِلْكِ عِبادِكَ الْمُفِلحينَ واحْشَرْنَا مَعَ الذينَ أنْعَمْتَ عليهم مِن النَّبِيين والصَّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصَّالِحينَ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فصل) : فَقَدِ اعْتَرَفَ الْمُحَقِّقُونَ الْمُنْصِِفُونَ: أَنْ كُلَّ عِلْمٍ نَافِعٍ دِينِي أَوْ دُنْيَوِي أو سِيَاسِي قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ دَلالةً لا شَكَ فيها فَلَيْسَ فِي شَرِيعَةِ الإِسْلام ما تُحِيلهُ العقُولُ وإنما فيه ما تشهدُ العُقولُ السَّلِيمَةُ الزَّكِيَّةُ بصِدْقِهِ وَنَفْعِهِ وَصَلاحِهِ وَكَذَلِكَ أَوَامِرُهُ كَلُّهَا عَدْلٌ، لا حَيْفَ فِيهَا وَلا ظُلْمَ فَمَا أَمَرَ بِشَيْءٍ إِلا وَهُوَ خَيْرٌ خَالصٌ أَوْ رَاجِحٌ، وَمَا نَهَى عَنْ شِيْءٍ إِلا وَهُو شِرٌ خَالِصٌ، أَوْ مَا تَزِيدُ مَفْسِدَتُهَ عَلى مَصْلَحَتِهِ، وَكُلَّمَا تَدَبَرَ الْعَاقلُ اللَّبِيبُ أَحكامَ الإِسْلامِ قَويَ إِيمَانُه وإخْلاصُهُ، وَعِنْدَمَا يَتَأَمَّلُ مَا يَدْعُو إِليهِ هَذَا الدِّينُ الْقويمُ يَجِدُه يَدْعُو إِلى مَكَارِمِ الأخْلاقِ يَدْعُو إلى الصِّدْقِ والْعَفَافِ والْعَدْلِ، وَحِفْظِ

الْعُهُودِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَاتِ، وَالإِحْسَانِ إِلى الْيَتِيمِ وَالْمِسْكِين، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَإِكْرَامِ الضَّيْفِ، وَالتَّحَلِّي بِمَكَارِمِ الأَخْلاقِ، يَدْعُو إِلى تَحْصِيلِ التَّمَتُّعِ بِلَذَائِذِ الْحَيَاةِ فِي قَصْدٍ وَاعْتِدَالٍ يَدْعُو إِلى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَالإِثْمِ وَالْعِدْوَانِ، لا يَأْمِرُ إِلا بِمَا يَعُودُ عَلَى الْعَالَم بِالسَّعَادَةِ وَالْفَلاحِ، وَلا يَنْهَى إِلا عَمَّا يَجْلِبُ الشَّقَاءِ وَالْمَضَرَّةِ لِلْعِبَادِ. وَتَأَمَّلَ مَحَاسِنَ شَرَائِع الإِسْلامِ الْكِبَارِ الَّتِي هِيَ إِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانِ، وَحَجُّ الْبَيْتِ، فَعَنْدَمَا تتَأَمْلَ الَّصلاةَ الَّتِي هِيَ صِلَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ، تَجِدْ فِيهَا الإِخْلاصَ للهِ، وَالإِقْبَالُ عَلَيْهِ، وَالأَدَبَ، وَالاحْتِرَامِ، وَالثَّنَاءَ، وَالدُّعَاءَ، وَالْخُضُوعَ لَهُ، وَمَظْهَرُ الإِجْلالِ مِنَ الْعَبْدِ بَيْنَ يَدِيْ سِيِّدِهِ يَقِفُ الْمَرْءُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ فَيَبْتَدِئُ بِالاعْتِرَافِ للهِ بَأَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْء، وَأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لأَنْ يُعَظَّمَ وَيُجَلَّ وَيُقَدَّرْ (اللهُ أَكْبَرُ) ثُمَّ يَأْخُذُ فِي الثَّنَاءِ عَلَى اللهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وَيَخُصُه بِالْعِبَادَةِ، وَطَلَبِ الْمَعُونَةِ ضَارِعاً إِلَيْهِ بَأَنْ يَهْدِيهُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِالتَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ وَأَنْ يُجَنَّبَهُ عَنْ طَرِيقِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ لانْحِرَافِهِمْ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ بَعْدَ أَنْ عَرَفُوا وَأَنْ يُبْعِدَه عَنْ طَرِيقِ الضَّالِينَ الْمُنْحَرِفِينَ الذِينَ عَبَدُوا أَهْوَاءَهُمْ وَشَيَاطِينَهُمْ. وَعِنْدَئِذٍ تَمْتَلِئُ النَّفْسُ مِنْ عَظَمَةِ اللهِ وَهِيبَتِهِ وَجَلالِهِ فَيَخُر الْمَرْءُ سَاجِداً للهِ عَلَى أَشْرَفِ أَعْضَائِهِ، مُظْهِراً لِلذَّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ إِلى مَنْ بِيَدِهِ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَمَزَايَا الصَّلاةِ مِنْ نَاحِيةِ الدِّينِ خُضُوعٌ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَخُشُوعٌ وَاعْتِرَافٌ بِعَظَمَةِ الْقَاهِرِ الْقَادِرِ، وَمَتَى اسْتَشْعَرَ الْقَلْبُ ذَلِكَ. وَامْتَلأت النَّفْسُ مِنْ هَيْبَةِ اللهِ، كَفَّ عَنِ الْمُحَّرمَاتِ، وَلا عَجَبَ مِنْ

ذَلِكَ فَإِنَّ اللهَ يَقُولُ عَنِ الصَّلاةِ: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} وَهِيَ أَكْبَرُ عَوْنٌ لِلْعَبْدِ عَلَى مَصَالِحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ قَالَ اللهُ تَعَالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} . أَمَا عونُها على مصالِح دِينِهِ فَلأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا دَاوَمَ عَلَى الصَّلاةِ وَحَافَظَ عَلَيْهَا قَويَتْ رَغْبَتُه فِي الْخَيْرِ، وَسَهُلَتْ عَلَيْهِ الطَّاعَاتِ وَبَذْلُ الإِحْسَانِ بِطَمَأْنِينَةِ نَفْسَ، وَاحْتِسَابِ، وَرَجَاءٍ لِلثَّوَابِ، وَأَمَّا عَوْنُهَا عَلَى مَصَالِحِ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا تُهَوِّنُ الْمَشَاقَ وَتُسَلِّي عَن الْمَصَائِبِ وَاللهُ سُبْحَانه لا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً فَيُجَازِيِهِ بِتَيْسِيرِ أُمُورِهِ وَيُبَارِكْ فِي مَالِهِ وَأَعْمَالِهِ. وَفِي تَأْدِيتِهَا جَمَاعَةً يَحْصُلُ التَّعَارِفُ وَالتَّوَاصِلُ وَالتَّوَاددُ وَالتَّعَاطَفُ وَالتَّرَاحُمْ وَيَسُودُ الْوَقَارُ وَالْمَحَبَّةُ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَيَحْصُلُ بِذَلِكَ تَعْلِيمُ فِعْلِيٌّ لِصِفَةِ الصَّلاةِ. وَانْظرْ إِلى مَا أَوْجَبَهُ اللهَ مِن الزَّكَاةِ تَرَى مَحَاسِنَ جَمَّةً مِنْهَا إِصْلاحُ حَالِ الْفُقَرَاءِ وَسَدِّ حَاجَةِ الْمِسْكِين، وَقَضَاءِ دَيْنِ الْمَدِينِ، وَمِنْهَا التَّخَلُقُ بَأَخْلاقِ الْكِرَامِ، مِنَ السَّخَاءِ وَالجْوُد ِوَالْبُعْدِ عَنْ أَخْلاقِ اللِّئَامِ وَمِنْهَا أَنَّهَا تُطَهِّرُ الْقَلْبَ مِنْ حُبِّ الدُّنْيَا بِبَذْلِ الْيَسِيرِ وَمِنْهَا حِفْظِ الْمَالِ مِنْ الْمُكَدِّرَاتِ وَالْمُنَغِصَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ وَمِنْهَا الاسْتِعَانَةِ بِهَا عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ. وَالْمَصَالِحِ الْكُلِّيَةِ الَّتِي لا يَسْتَغْنِي عَنْهَا الْمُسْلِمُونَ وَمِنْهَا دَفْعُ صَوْلَةِ الْفُقَرَاءِ وَمِنْهَا أَنَّهَا دَوَاءٌ لِلْمُجْتَمَعِ وَطِبٌ لِلنُّفُوسِ بِهَا يَطْهُرُ الْمَرْءُ مِنْ رَذِيلَةِ الشُّحِ قَالَ تَعَالى: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وَمِنْهَا أَنَّهُ لَوْ أَخْرَجَهَا الأَغْنِيَاءُ لانْقَطَعَ دَابِرُ الاشْتِرَاكِيَّةِ الْمُتَطَرِفَةِ وَالشُّيُوعِيَّةِ الْمُسْرِفَةِ، وَمِنْهَا أَنَّها لَوْ أُدِيتَ تَمَاماً لَحَصَلَ بِذَلِكَ رَاحَةُ الْحُكَّامِ وَصَرْفُ مَجْهُودَاتِهِمْ إِلى مَا يَعُودُ عَلَى الأُمَم بِالْفَلاحِ وَرَغَدِ الْعَيْشِ.

قَصِيدَةٌ تَتَضَمَّنُ التَّضَرعَ للهِ جَلَّ وَعَلا: يَا فَاطِرَ الْخَلْقِ الْبَدِيعِ وَكَافِلاً أَرْزَاقَ مَنْ هُوَ صَامِتٌ أَوْ سَائِلُ أَوْسَعْتَهُم جُوداً فِيَا مَنْ عِنْدَهُ رِزْقُ الْجَمِيعِ سَحَابُ جُودِكَ هَاطِلُ يَا مُسْبِغَ الْبَرِّ الْجَزِيلِ وَمُسْبِلَ الْعَفْوِ الْعَظِيمِ عَظِيمُ فَضْلِكَ وَابِلُ يَا صَاحِبَ الإِحْسَانِ يَا مُرْخٍ لَنَا السِّتْرِ الْجَمِيلَ عَمِيمُ طَوْلِكَ طَائِلُ يَا عَالِمَ السِّر الْخَفِيّ وَمُنْجِزَ الْـ مِيعَادِ صِدْقٌ قَدْ حَكَاهُ الْفَاصِلُ يَا مَنْ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى يَا صَادِقَ الْـ وَعْدِ الْوَفِي قَضَاءُ حُكْمِكَ عَادِلُ عَظُمَتْ صِفَاتُكَ يَا عَظِيمُ فَجَلَّ أَنْ يَأْتِي الْمُشَبُّهُ ظَالِماً وَيُشَاكِلُ جَلَّتْ فَضَائِلُكَ الْعِظَامُ فَلَمْ نَجِدْ يُحْصى الثَّنَاءَ عَلَيْكَ فِيهَا قَائِلُ الذَّنْبُ أَنْتَ لَهُ بِمَنِّكَ غَافِرٌ مَا لَمْ يَكُنْ شِرْكاً فَفَضْلُكَ حَاصِلُ يَعْصِيكَ جَمٌّ ثُمَّ تَصْفَحُ عَنْهُمْ وَلِتَوْبَةِ الْعَاصِي بِحِلْمِكَ قَابِلُ

.. رَبٌّ يُرَبِّي الْعَالَمِينَ بِبِرَّهِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَيُوَاصِلُ يُعْطِيهمُوا مَا أَمَّلُوا مِنْ جُودِهِ وَنَوَالِهِ أَبَداً إِلَيْهِمْ وَاصِلُ تَعصِيهِ وَهُوَ يَسُوقُ نَحْوَكَ دَائِماً نِعَماً وَعَنْ شُكْرٍ لَهَا أَنْتَ غَافِلُ سَتَرَ الذُّنُوبَ وَزَادَ فِي بَذْلِ الْعَطَا مَا لا تَكُونُ لِبَعْضِهِ تَسْتَاهِلُ مُتَفَضِّلٌ أَبَداً وَأَنْتَ لِجُودِهِ تَنْسَى وَتَغْفَلُ هَلْ تَعِي يَا غَافِلُ يَدْنُوا وَتُبْعِدُ ثُمَّ أَنْتَ لِفَضْلِهِ بِقَبَائِحِ الْعِصْيَانِ مِنْكَ تُقَابِلُ وَإِذَا دَجَى لَيْلُ الْخُطُوبِ وَأَظْلَمَتْ طُرُقُ السَّلامَةِ بَلْ قَلاكَ النَّازِلُ وَعَلِمْتَ أَنْ لا مَنْجِي ثُمَّ تَلاحَمَتْ سُبُلُ الْخَلاصِ وَخَابَ فِيهَا الآمِلُ وَأَيِسَتْ مِنْ وَجْهِ النَّجَاةِ فَمَالَهَا طُرُقُ وَقَدْ عَظُمَ الْبَلا الْمُتَنَازِلُ وَقَنِطْتَ مِنْ ضُعْفِ الْيَقِينِ وَلَمْ يَكُنْ سَبَبٌ وَلا يَدْنُو لَهَا مُتَنَاوِلُ يَأْتِيكَ مِنْ الْطَافِهِ الْفَرَجُ الذِي

.. فِيهِ نَجَاتُكَ لَيْسَ يَشْغَلُ شَاغِلُ فِي لَحْظَةٍ يَأْتِيكَ لُطْفٌ فَارِجٌ لَمْ تَحْتَسِبه وَأَنْتَ عَنْهُ غَافلُ يَا مُوجِدَ الأَشْيَاءِ مَنْ أَلْقَى إِلى أَحَدٍ سِوَاكَ فَإِنَّ ذَلِكَ بَاقِلُ يَا طَيِّبَ الأَسْمَاءِ مَنْ يَقْصُدْ إِلى أَبْوَابِ غَيْرِكَ فَهُوَ غِرٌّ جَاهِلُ وَمَنِ اسْتَرَاحَ بِغَيْرِ ذِكْرِكَ أَوْ رَجَا مِن غَيْرِكُمْ فَضْلاً فَذَاكَ الْمَائِلُ وَمَنِ اسْتَظَلَّ بِغَيْرِ ظِلَّكَ رَاجِياً أَحَداً سِوَاكَ فَذَاكَ ظِلٌّ زَائِلُ وَمَن اسْتَعَاذَ إِذَا عَرَّتْهُ مُلِمَّةٌ بِجَلالِكُمْ ذَا الرَّئْيُ رَائْيٌ بَاسِلُ وَالرَّائْيُ فِي عَكْسِ الذِي حَبَّرْتُهُ بِسِوَى جَنَابِكَ فَهُوَ رَائْيٌ مَائِلُ عَمَلٌ أُرِيدَ بِهِ سِوَاكَ فَإِنَّهُ عَمَلٌ يُرِدُّ عَلَى الذِي هُوَ عَامِلُ لَوْ صَلَّى ذَاكَ وَصَامَ حَجَّ فَإِنَّ ذَا عَمَلٌ وَإِنْ زَعُمَ الْمُرَائِيَ بَاطِلُ وَإِذَا رَضِيتَ فَكُلُّ شَيْءٍ هَيِّنٌ حَسْبِي رِضَاكَ فَكُلُّ شَيْءٍ زَائِلُ

.. أَنْتَ الْمُنَى وَرِضَاكَ سُؤْلِي فِي الدُّجَى وَإِذَا حَصَلْتَ فَكُلُّ شَيْءٍ حَاصِلُ أَنَا عَبْدُ سُوءٍ آبِقٌ كُلٌّ عَلَى مَعْبُودِهِ يَا بِئْسَ مَا أَنَا فَاعِلُ وَلَقَدْ أَتَى الْعَبْدُ الْمُسِيءُ مُيَمِّماً مَوْلاهُ أَوْزَار الْكَبَائِرِ حَامِلُ قَدْ أَثْقَلْت ظَهْرِي الذُّنُوبُ وَسَوَّدَتْ وَجْهِي الْمَعَاصِي ثُمَّ ذَا أَنَا سَائِلُ مَا لِي سِوَاكَ وَلَسْتُ أَرْجُو غَافِراً صُحُفَ الْعُيُوِب وَسِتْرُ عَفْوِكَ شَامِلُ هَا قَدْ أَتَيْتَ وَحُسْنُ ظَنِّي شَافِعِي إِذْ لَمْ يَكُنْ عَمَلٌ لَدَيَّ يُقَابِلُ وَلَبِسْتُ ثَوْبَ الْخَوْفِ مِنْكَ مَعَ الرَّجَى وَوَسَائِلِي نَدَمٌ وَدَمْعٌ سَائِلُ فَاغْفِرْ لِعَبْدِكَ مَا مَضَى وَارْزُقْهُ تَوْ بَةَ مُقْلِعٍ فِيهَا الشُّرُوطُ كَوَامِلُ وَارْزُقْهُ عِلْماً نَافِعاً وَارْزُقْهُ تَوْ فِيقاً لِمَا تَرْضَى فَفَضْلُكَ كَامِلُ وَافْعَلْ بِهِ مَا أَنْتَ أَهْلُ جَمِيلِهِ يَا مَنْ لَهُ اسْماً حِسَانُ فَوَاضِلُ فَإِذَا فَعَلْتَ فَحُسْنُ ظَنِّي صَائِبٌ

.. وَالظَّنُّ كُلَّ الظَّنِّ أَنَّكَ فَاعِلُ اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا شَاكِرِينَ وَاجْعَلْنَا لَكَ مِن الذَّاكِرِينَ وَاجْعَلْنَا مِنَ عِبَادِكَ الصَّابِرِينَ الْمُحْسِنِينَ الْمُتَّقِينَ الذِينَ أَهَّلْتُهُمْ لِخِدْمَتِكَ وَوَفَّقْتُهُمْ لِمَحَبَّتِكَ وَطَاعَتِكَ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. اللَّهُمَّ يَا عَظِيمَ الْعَفْوِ، يَا وَاسِعَ الْمَغْفِرَةِ، يَا قَرِيبِ الرِّحْمَةِ، يَا ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ، هَبْ لَنَا الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. اللَّهُمَّ يَا حَيُّ وَيَا قَيُّومُ فَرِّغْنَا لِمَا خَلَقْتَنَا لَهُ، وَلا تُشْغِلْنَا بِمَا تَكَفَّلْتَ لَنَا بِهِ، وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِلِقَائِكَ، وَيَرْضَى بِقَضَائِكَ، وَيَقْنَعُ بِعَطَائِكَ، وَيَخْشَاكَ حَقَّ خَشْيَتِكَ. اللَّهُمَّ اكْتُبْ فِي قُلُوبِنَا الإِيمَانَ وَأَيِّدْنَا بِنُورٍ مِنْكَ يَا نُورَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، اللَّهُمَّ وَافْتَحْ لِدُعَائِنَا بَابَ الْقَبُولِ وَالإِجَابَةِ وَاْغِفرْ لَنَا وَارْحَمْنَا بِرَحْمَتِكَ الْوَاسِعَة إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وَتَأَمَّلَ الصِّيَامَ وَمَا فِيهِ مِنَ الْمَحَاسِنِ الَّتِي مِنْهَا أَنَّهُ يُبْعَثُ فِي الإِنْسَانِ فَضِيلَةَ الرَّحْمَةِ بِالْفُقَرَاءِ، وَالْعَطْفِ عَلَى الْبَائِسِينَ فَإِنْ الإِنْسَانَ إِذَا جَاعَ تَذَكَّرَ الْفَقِيرِ الْجَائِعِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ بِامْتِنَاعِهِ عَنِ الأَكْلِ يَعْرفُ فَضْلَ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ فَيَشْكُرَهَا، وَمِنْهَا أَنَّ الصِّيَامَ يَقُوِّيِ النَّفْسَ عَلَى الصَّبْرِ وَالْحُلُمِ، وَهُمَا تَجَنُّبُ كُلَّ مَا مِنْ شَأْنِهِ إِثَارَةُ الْغَضَبِ، لأَنَّ الصَّوْمَ نِصْفُ الصَّبْرِ، وَالصَّبْرُ نِصْفُ الإِيمَانِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يَنْفِي الْجِسْمُ مِنْ الأَخْلاطِ الرَّدِيئَةِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ مُهَذَّبٌ لِلنُّفُوسِ، وَمُصَفَى لِلأَرْوَاحِ، وَمُطَهِّر للأَجْسَام، فَلَهُ الأَثَرُ الْعَجِيبُ فِي حِفْظِ الْقُوَى الْبَاطِنَةِ، وَحِمَايَتِهَا مِمَّا يَضُرُّهَا ثُمَّ هُوَ عِبَادَةٌ وَامْتِثَالٌ لأَمْرِ اللهِ سُبْحَانَهُ، وَالْمَشَقَّةُ الْحَاصِلَةُ مِنَ الصَّوْمِ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ فِي جَانِبِ رِضَى اللهِ، طَمَعاً في الثَّوَابِ، وَالزُّلْفي وَالأَجْرِ الْعَظِيمِ، إِلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَحَاسِنِ. وَتَأَمَّلْ مَا فِي حَجِّ بَيْتِ اللهِ مِنْ الْمَحَاسِنِ، الَّتِي مِنْهَا أَنَّهُ مُجْمَعٌ لِسُرَاةِ الْمُسْلِمِينَ، يَجْتَمِعُونَ فِيهِ مِنْ مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يَعْبُدُونَ إِلَهاً وَاحِداً! قُلُوبُهم مُتَّحِدَةٌ، وَأَرْوَاحُهُمْ مُؤْتَلِفَة فِي الْحَجِّ، يَتَذَكَّرُ الْمُسْلِمُونَ الرَّابِطَةَ الدِّينِيَّةِ، وَقُوَّةَ الْوِحْدَةِ

الإِسْلامِيَّةِ، وَفِي الْحَجِّ تَذَكُّرٌ لِحَالِ الأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَمَقَامَاتِ الأَصْفِيَاءِ الْمُخْلَصِينِ، كَمَا قَالَ تَعَالى: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى} وَتَذْكِيرٌ بِحَالِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَإِمَامهم، وَمَقَامَاتِه فِي الْحِجِّ الَّتِي هِيَ أَجَلُّ الْمَقَامَاتِ، وَهَذَا التَّذْكِيرُ أَعْلَى أَنْوَاعِ التَّذْكِيرَاتِ، فَإِنَّهُ تَذْكِيرٌ بِأَحْوَالِ عُظُمَاءِ الرُّسُلِ، إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَآثِرَهُمْ الْجَلِيلَةِ، وَتَعَبُّدَاتِهِمْ الْجَمِيلَةِ وَالْمُتَذَكِّرُ بِذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِالُّرُسِل، مُعَظِّمٌ لَهُمْ، مُتَأَثِّرٌ بِمَقَامَاتِهِمْ السَّامِيَةِ، مُقْتَدٍ بِهِمْ، وَبَآثَارِهِمْ الْحَمِيدَةِ، ذَاكِرٌ لِمَنَاقِبِهم وَفَضَائِلِهِمْ، فَيَزْدَادُ بِهِ الْعَبْدُ إِيمَاناً وَيَقِيناً. وَمِنْ مَحَاسِنِ الْحَجِّ تَصْفِيَةُ النَّفْس، وَتَعْوِيدُهَا الْبَذْلَ وَالإِنْفَاقَ، وَتَحَمُّلَ الْمَشَاقِ، وَتَرْكَ الزِّينَةِ وَالْخُيَلاءِ، وَمِنْهَا شُعُورُ الْمَرْءِ بِمُسَاوَاتِهِ لِغَيْرِهِ، فَلا مَلِكَ وَلا مَمْلُوكَ، وَلا غَنِيٌّ وَلا فَقِيرٌ، بَلْ الْكُلُّ هُنَاكَ سَوَاءٌ، وَمِنْ مَحَاسِنِ الْحَجِّ التَّنَقُل في الْبِلادِ لِمَعْرِفَةِ أَحْوَالِهَا، وَعَادَاتِ سُكَّانِهَا، وَزِيَارَةِ مَهْبَطِ الْوَحْي، وَالرُّسُلِ الْكِرَامِ، وَمِنْ مَحَاسِنِ الْحَجِّ تَذَكِّرُ الْمَجْمَعِ الْعَظِيمِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يُسْمِعُهُمْ الدَّاعِي، وَيَنْفِذُهُمْ الْبَصَرُ، وَذَلِكَ فِي الْمَحْشَرِ {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} حُفَاةً عُرَاةً غُرّاً، وَمِنْ مَحَاسِنِهِ تَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى فِرَاقِ الأَهْلِ وَالْوَلَدِ، إِذْ لا بُدَّ مِنْ مُفَارَقَتِهِمْ، فَلَوْ فَارَقَهُمْ فَجْأَةً حَصَلَ صَدْمَةٌ عَظِيمَةٌ عِنْدَ الْفِرَاقِ، وَمِنْ مَحَاِسِن الْحَجِّ أَنَّهُ مَتَى قَصَدَهُ يَتَزَوَّدُ لِسَفَرِهِ بِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، مُدَّةَ ذِهَابِهِ وَإِيَابِهِ، فَيَتَزَوَّدَ لِلْعُقْبَى، وَهِيَ السَّفَرَةُ الطَّوِيلَةُ، الَّتِي لا رُجُوعَ بَعْدَهَا، حَتَّى يَبْعَثَ اللهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ. وَفِي سَفَرِ الْحِجِّ قَدْ يَجِدُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ وَلا يَجِدُ فِي الْعُقْبَى مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ لِلدَّارِ الآخِرَةِ، إِلا إِذَا تَزَوَّدَهُ فِي الدُّنْيَا، قَالَ تَعَالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} . وَمِنْ مَحَاسِنِهِ أَنَّ الإِنْسَانَ يَعْتَادُ التَّوَكُلَ عَلَى اللهِ، لأَنَّهُ لا يُمْكِنُه أَنْ يَحْمِلَ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي سَفَرِهِ لِلْحَجِّ، فَلابُدَّ مِنَ التَّوَكُلِ عَلَى اللهِ تَعَالى فِيمَا حَمَلَهُ، وَفِيمَا لَمْ يَحْمِلْهُ مَعَ نَفْسِهِ، فَيَعْتَادُ تَوَكُّلَهُ إِلى كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، وَمِنْ مَحَاسِنِهِ أَنَّهُ إِذَا أَحْرَمَ نَزَعَ الْمَخِيطَ الذِي هُوَ لِبَاسُ الأَحْيَاءِ، وَيَلْبِسُ غَيْرَهُ مِمَّا هُوَ أَشْبَهُ بِلِبَاسِ الأَمْوَاتِ، فَيَجِدُّ وَيَجْتَهِدُ فِي الاسْتِعْدَادِ لِمَا أَمَامَهُ إِلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَحَاسِنِ الَّتِي يَصْعُبُ حَصْرُهَا.

اللَّهُمَّ اجْعَلْ الإِيمَانِ هَادِماً لِلسَّيِّئَاتِ، كَمَا جَعَلْتَ الْكُفْرَ هَادِماً لِلْحِسَابِ وَوَفِّقْنَا لِلأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ تَوَكَّلَ عَلَيْكَ فَكَفَيْتَهُ وَاسْتَهْدَاكَ فَهَدَيْتُهُ وَدَعَاكَ فَأَجَبْتُهُ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) ثُمَّ تَأَمَّلْ مَحَاسِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِذْ فِيهِ قَمْعُ أَعْدَاءِ اللهِ، وَنَصْرُ أَوْلِيَائِهِ، وَإِعْلاءُ كَلَمَةِ الإِسْلامِ، وَحَمْلُ الْكَافِرِ عَلَى تَرْكِ الْكُفْرِ الذِي هُوَ أَقْبَحُ الأَشْيَاءِ، وَالإِقْبَالُ عَلَى مَا هُوَ أَحْسَنُ الأَشْيَاءِ، وَفِيهِ إِخْرَاجُ الْبَشَرِ عَنْ دَرَجَةِ الأَنْعَامِ، قَالَ تَعَالى - فِي حَقِّ الْكَفَرَةِ {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} وَمِنْ مَحَاسِنِهِ اكْتِسَابُ حَيَاةِ الأَبَدِ، فَإِنَّهُ إِنْ قَتَلَ فَقَدْ أَعْلَى دِينَ اللهِ، وَإِنْ قُتِلَ فَقَدْ أَحْيَا نَفْسَهُ، قَالَ تَعَالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} . وَمِنْهَا مَا يَحْصُلُ لِلْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ مِن الثَّوَابِ الْجَزِيلِ وَمِنْهَا تَكْثِيرُ الْمُسْلِمِينَ، وَتَقْلِيلُ الْكَفَرَةِ، وَمِنْهَا وَهُوَ أَعْلاهَا امْتِثَالُ أَمْرِ الله حَيْثُ يَقُولُ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} وَقَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ} . وَمِنْ مَحَاسِنِ الْجِهَادِ أَنَّهُمْ فِي الانْتِصَارِ يَغْنَمُونَ وَيَشْكُرُونَ وَيَقْتَوُوْن وَإِن أدِيلَ عَلَيْهِمْ الْكُفَّارُ عَرَفُوا أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ مَعْصِيَتِهِمْ وَذُنُوبِهِمْ، وَفَشَلِهِمْ وَتَنَازُعِهِمْ، فَيَلْجَؤا إِلى اللهِ مُتَضَرِّعِينَ تَائِبِينَ، وَمِنْ مَحَاسِنِهِ أَنَّ تَرْكَ الْجِهَادِ سَبَبٍّ لِلذُّلّ، لِمَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ بأَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاود، وَمِنْ مَحَاسِنِ الْجِهَادِ السَّلامَةِ مِنَ النِّفَاقِ، لِحَدِيثِ: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ به مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ» . رواه أبو داود والنسائي، وفي الحديث الآخرِ: «مَنْ

لَقِيَ اللهَ بِغَيْرُ أَثَرِ جِهَادٍ لَقِيَ اللهَ وَفِيهِ ثَلْمَةٌ)) . وفي الحديث الآخر: ((مَا تَرَكَ قَوْمٌ الْجِهَادَ إِلا عَمَّهُمُ اللهُ بِالْعَذَابِ)) . وَمِنْ مَحَاسِنِهِ اسْتِخْرَاجُ عُبُودِيَّةِ أَوْلِيَاءِ اللهِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَفِيمَا يُحِبُّونَ وَيَكْرَهُونَ إِلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَدِلَّةِ الدَّالَة عَلَى مَحاسِنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ لإِعْلاءِ كَلِمَةِ اللهِ. ثُمَّ تَأَمَّلْ مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنَ الْمُعَامَلاتِ فَمِنْ مَحَاسِنِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وُصُولُ الإِنْسَانِ إِلى مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ مَأْكَلٍ وَمَشْرَبٍ وَمَلْبَسٍ وَمَسْكَنٍ وَمِنْ مَحَاسِنِهِ قَطْعُ مَسَافَةِ الطَّلَبِ، فَإِنَّ مَنْ طَلَبَ الشَّيْءَ مِنْ مَعْدَنِهِ يَحْتَاجُ إِلى الأَسْفَارِ، وَرُكُوبِ الْمَرْكُوبِ، وَتَحملِ الأَخْطَارِ، وَمَتَى وَجَدَهُ بِالْبَيْعِ سَلِمَ من الأخطار وَسَقَطَ عَنْهُ مَؤْنَةُ الأَسْفَارِ، فَانْظُرْ إِلى الْعُودِ وَالْمِسْكِ، وَالسَّيَّارَاتِ وَالْمَكَائِنِ وَالأَقْمِشَةِ وَالْهِيلَ وَالسُّكَّرِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، مَعَادِنُهَا بَعِيدَةٌ، فَمِنْ لُطْفِ اللهِ بِعِبَادِهِ أَنْ سَخَّرَ بَعْضَ النَّاسِ لِبَعْضٍ، وَجَاءَتْ الشَّرِيعَةُ الْكَامِلَةُ بِحَلِّ أَنْوَاعِ الْمُعَامَلاتِ كَالإِجَارَاتِ وَالشَّرِكَاتِ، إِلا مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهِ مِمَّا فِيهِ ضَرَرٌ أَوْ ظُلْمٌ أَوْ جَهَالَةٌ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَمَنْ تَأَمَّلَ الْمُعَامَلاتِ الشَّرْعِيَّةَ، رَأَى ارْتِبَاطَهَا بِصَلاحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَشَهِدَ للهِ بِسَعَةِ رَحْمَتِهِ وَلُطْفِهِ بِعِبَادِهِ، وَحِكْمَتِهِ حَيْثُ أَبَاحَ لِعِبَادِهِ جَمِيعَ الطَّيِّبَاتِ. وَلَمْ يَمْنَع مِنْ ذَلِكَ إِلا كُلَّ خَبِيثٍ ضَارٍ عَلَى الدِّينِ أَوِ الْعَقْلِ أَوِ الْبَدَنِ أَوِ الْمَالِ. فَمِنْ مَحَاسِنِ الإِجَارَةِ دَفْعُ حَاجَاتِ الْعِبَادِ بِقَلِيلِ مِن الإِبْدَالِ وَيَسِيرٍ مِنَ الأَمْوَالِ فَلا كُلُ أَحَدٍ يَمْلِكُ دَاراً يَسْكُنُهَا، وَلا سَيَّارَةً يَرْكَبُهَا، وَلا طَائِرَةً يَرْكَبُهَا، وَلا طَاحُونَةً يَطْحَنُ فِيهَا، وَلا مَخْزَناً لأَمْوَالِهِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ تَعْدَادُهُ فَجُوِّزَتِ الإِجَارَةُ وَلا حَاجَةَ إِلى ذِكْرِ مَحَاسِن الصُّلْحِ فَهُوَ كِمَا ذَكَرَهُ الله خير قال الله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} الآية. وَأَمَّا الْوَكَالَةُ والكفالةُ ففيهما مِنَ الإِحْسَانِ مَا لا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ مِمَّنْ اعْتَقَدَ الشَّرْعَ وَمَنْ لَمْ يَعْتَقِد، وَعَقَلَ الشَّرَائِعَ، أَوْ لَمْ يَعْقَلِ، احْتَاجَ إِلى

الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ فَإِنَّ اللهُ تَعَالى خَلَقَ الْخَلائِقَ، وَجَعَلَهُمْ مُخْتَلِفِينَ فِي الْقَصْدِ وَالْهِمَمِ فَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَرْغَبُ أَنْ يُبَاشِرَ الأَعْمَالَ بِنَفْسِهِ وَلا كُلٌّ يَهْتَدِي إِلى الْمُعَامَلات فَمَنْ لُطْفِ اللهِ بِخَلْقِهِ إِبَاحَتُهَا، فَلا يَلِيقُ بِأَصْحَابِ الْمُرُوآتِ وَأَوْلِيَاءِ الأُمُورِ مُبَاشَرَةُ الْبِيَاعاتِ كُلِّهَا بِأَنْفسِهِمْ فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاشَرَ بَعْضَ الأُمُورِ إِلى غَيْرِهِ، وَبَاشَرَ ذَبْحَ الأَضْحِيَةِ بِنَفْسِهِ، وَفَوَّضَ إِلى عَلِيِّ ذَبحَ قِسْمٍ مِنْ هَديهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا الْحُسْنُ فِي الْكِفَالَةِ فَإِنَّ فِيهَا إِظْهَارُ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ وَمُرَاعَاةُ الأَخُوَّةِ يَبْذُلُ الذَّمةَ لِيَضُمَّهَا إلى الذِّمةِ فَيَنْفَسِحَ وَجْهُ الْمُطَالَبَةِ، وَيَسْكُنُ قَلْبُ الْمَطَالِبِ بِسَبَبِ السَّعَة قَالَ اللهُ تَعَالى: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} إِلى أَنْ جَعَلَ كَافِلَها زَكَرِيَّا كَمَا قَالَ تَعَالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} وَإِذَا عَلِمْتَ مَحَاسِنَ الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ، فَالْحَوَالةُ وَاضِحَةٌ مَحَاسِنُهَا فَفِي الْحَوَالةِ كَفَالَةٌ وَوَكَالَةٌ وَزِيَادَةُُ فَرَاغِ ذِمةِ الأَصِيلِ عَنْ الْحُزْنِ الطَّوِيلِ فَإِذَا قُبِلْتَ حَوَالَتَهُ أدْخَلْتَ عَلَى قَلْبِ أَخِيكَ - بِفَرَاغِ ذِمَّتِهِ - سُرُوراً، وَلا يَخْفَى مَا فِي إِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى الْمُسْلِمِ مِنَ الأَجْرِ. وَمِنْ مَحَاسِنِ الشُّفْعَةِ أَنْ الْجَارَ رُبَّمَا يَكُون فِي حَاجَةٍ إِلى هَذِهِ الْحِصَّةِ الْمَبِيعَةِ كَأَنْ يَكُونَ بَيْتُه ضَيِّقاً، وَيُرِيدُ اتِّسَاعَهُ، أَوْ تَكُونَ الأَرْضَ الْمُشْتَرَكَةُ بِجِوَارِ مَزَارِعِهِ، وَيَحْتَاجُ إِلَيْهَا، وَمِنْ مَحَاسِنِهَا التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ حَقِّ الْجَارِ وَالشَّرِيكِ حَيْثُ أَنَّ لَهُ الْحَقُّ فِي التَّقدُّم على غَيْرِهِ فِي الشِّرَاءِ إِلا إِذَا أَسْقَطَ حَقَّه بامْتِنَاعِهِ عَنْ الشِّرَاءِ وَمِنْهَا دَفْعُ ضَرَرِ الْجَارِ، وَهُوَ مَادَةُ الضَّرَرِ. وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ " فِي الإِسْلامِ)) . وَلا شَكَّ عِنْدَ أَحَدٍ فِي حُسْنِ دَفْعِ ضَرَرِ التَّأَذِّي بِسَبَبِ الْمُجَاوَرَةِ عَلَى الدَّوَامِ مِنْ إِيقَادِ

نِيرَانٍ، وَإِعْلاءِ جِدَارٍ، وَإِثَارَةِ غُبَارٍ وَدُخَّانٍ، وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ سَمَاعُ التَّلفِزْيُون وَالمذياع وَإِحْدَاثُ أَشْيَاءَ تَضُّر بِمُلْكِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الضَّرَرِ. وَأَمَّا الْوَدِيعَةُ فَمَحَاسِنُهَا ظَاهِرَةٌ، إِذْ فِيهَا إِعَانَةُ عِبَادِ اللهِ فِي حِفْظِ أَمْوَالِهِمْ، وَوَفَاءِ الأَمَانَةِ، وَهُوَ مِنْ أَشْرَفِ الْخِصَالِ عَقْلاً وَشَرْعاً، وَمِنْ مَحَاسِنِهَا أَنَّهَا إِحْسَانٌ إِلى عِبَادِ اللهِ، وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَمِنْهَا أَنَّهَا سَبَبٌ لِلتَّآلُفِ وَالتَّآخِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَسَبَبٌ لِمحبةِ بَعْضِهم لِبَعْضٍ. 13- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ النَّهْيُّ عَنْ سُوءِ مُعَامَلَةِ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ وَأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُقَارِنَ بَيْنَ الْمَحَاسِنِ وَالْمَسَاوِئ، فَإِذَا كَانَ مُنْصِفاً غَضَّ بَصَرَهُ عَنْ الْمَسَاوِئ إِذَا كَانَتْ مَحَاسِنُهَا تَغْمُرهَا لاضْمِحْلالِهَا فِيهَا، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يَفْرُكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خلُقاً رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَأَمَّا الْفَرَائِضُ وَتَوْزِيعُ الْمَالِ عَلَى الْوَرَثَةِ فَقَدْ وَضَعَهُ اللهُ بِنَفْسِهِ بِحَسَب مَا يَعْلَمُه مِنْ قُرْبٍ وَبُعْدٍ وَنَفْع، وَمَا هُو أَوْلَى بِبِرِّ الْعَبْدِ وَرَتَّبَهُ تَرْتِيباً تَشْهَدْ لَهُ الْعُقُولُ الصَّحِيحَةُ بِالْحُسْنِ وَأَنَّهُ لَوْ وُكِّلَ الأَمْرُ إِلى آرَاءِ النَّاسِ وَأَهْوَائِهِمْ وَإِرَادَاتِهِمْ لَحَصَل بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنْ الْخَلَلِ وَالاخْتِلالِ، وَزَوَالِ الانْتِظَامِ، وَسُوءِ الاخْتِيَارِ فَوْضَى، وَمِنْ جُمْلَةِ الْمَحَاسِنِ أَنَّ أَلْحَقَ السَّبَبَ بِالنَّسَبِ فَالسَّبَبُ الْمُنَاكَحَةُ وَالْوَلاءُ وَلَمَّا جَعَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ عَقْد النِّكَاحِ ذَرِيعَةَ الْمَحَبَّةِ وَالأُلْفَةِ، وَالازْدِوَاجِ، وَالاسْتِئْنَاسِ بَيْنَ النَّاسِ فَلا يُحْسُنُ أَنْ يَلْحَقَها عِنْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا مَضَاضَةُ أَلَمِ الْفِرَاقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْتَفِقَ أَحَدُهُمَا بِمَا فَضُلَ عَنْهُ نَوْعَ ارْتِفَاقٍ، ثُمَّ جَعَلَ لِلزوْجِ ضِعْفَ مَا لِلْمَرْأَةِ مِن الزَّوْج. وَمِنْ جُمْلَةِ الْمَحَاسِنِ أَنَّهُ لَمْ يُوَرِّث عِنْدَ اخْتِلافِ الدِّينِ، إِذَا مَاتَ الْمُسْلِمُ فَالْكَافِرُ لا يُورَّثُ مِنْهُ لأَنَّ الْكَافِرَ وَإِنْ كَانَ قَرِيباً نَسَباً، فَهُوَ بَعِيدٌ دِيناً، لأَنَّ

الْكَافِرُ مَيْتٌ لا يَرِثُ الْمَيِّتَ قَالَ اللهُ تَعَالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} الآية، وقَالَ تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَرِثُ الْكَافرَ لاستواء حَالَيْهِمَا وَمَالَيْهِمَا. 15- وَأَمَّا الْهِبَةُ فَمُسْتَحَبَّةٌ إِذَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللهِ، وَالأَصْلُ فِيهَا قَبْلَ الإِجْمَاعِ قَوْلُهُ تَعَالى: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} قَوْلُهُ: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} وَاللهُ سُبْحَانَهُ كَرِيمٌ جَوَّادُ وَهَّاب، وَمِنْ مَحَاسِنِهَا أَنَّهَا سَبَبٌ لِلتَّحَابِّ وَالتَّوَادِّ كَمَا فِي الْحَدِيث: «تَهَادُوا تَحَابُّوا» . وَمِنْ مَحَاسِنِهَا أَنَّهَا تَسُلُ السَّخِيمَةَ. وَفِي الْحَدِيث: «تَهَادُوا فَإِنَّ الْهِدِيَّةَ تَسُلُ السَّخِيمَةَ» . وَقَدْ أَهْدَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّجَاشِي حُلَّةً وَأَوَاقِي مِنْ مِسْكٍ وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا، وَمِنْ مَحَاسِنِهَا أَنَّهَا تُقَوِّي الصِّلَةَ وَمَتَى قَوِيَتْ الصِّلَةُ سَارَتْ الأُمَّةُ بِقَدَمٍ ثَابِتٍ فَحُسْنُ الصِّلَةِ بَيْنَ أَفْرَادِ الأُمَّةِ سِرُّ نَجَاحِهَا وَمِنْ مَحَاسِنِهَا وَفْرَةُ الثِّقَةُ بَيْنَ الْمُتَهَادِينَ إِلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَحَاسِن. 16- وَأَمَّا النِّكَاحُ فَمُسْتَحَبٌّ، وَمَحَاسِنَهُ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا تَحْصِينُ الْفَرْجِ، وَمِنْهَا تَحْصِينُ الزَّوْجَةِ، وَمِنْهُ حِفْظُهَا وَالْقِيَامُ بِهَا، وَمِنْ مَحَاسِنِه أَنَّهُ طَرِيقَةُ الرُّسُلِ، وَمِنْ مَحَاسِنِه تَكْثِيرُ الأُمَّةِ، وَتَكْثِيرُ النَّسْلِ، وَمِنْهَا تَحْقِيقُ مُبَاهَاةِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهَا قَضَاءُ حَوَائِجهِ مِنْ طَبْخٍ وَنَحْوِهِ، وَمِنْهَا حِفْظُ بَيْتِهِ وَأَوْلادِهِ وَمِنْهَا سُكُونُهُ وَطُمَأْنِينَتُه إِلَيْهَا، وَاسْتِئْنَاسُهُ بِهَا، وَمُعَاشَرَتُهَا وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ الَّتِي لا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَقَامُ لِعَدِّهَا. 17- وَأَمَّا الطَّلاقُ فَمِنْ مَحَاسِنِهِ أَنْ جَعَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مُلْكَ الطَلاقِ إِلى الزَّوْجِ وَمِنْ مَحَاسِنِهِ أَنْ حَكَمَ بِالْحُرْمَةِ الْغَلِيظَةِ بَعْدَ الطَّلقاتِ الثَّلاثِ، لأَنَّ

الظَّاهِرَ أَنَّ مَنْ طَلَّقَ ثَلاثاً رَأَى الصَّلاحَ فِي الْفِرَاقِ وَعَلَّقَ الشَّرْعُ حِلَّ الْمُطَلَقةِ ثَلاثاً بِالتَّزْوِيجِ بِزَوْجٍ آخَرَ وَالدُّخُولِ بِهَا لِيَصِيرَ هَذَا الشَّرْطُ مَانِعاً لَهُ مِنْ الْعَوْدِ إِلَيْهَا وَيَثْبُتَ عَلَى رَأَيٍ مِنْ الصَّلاحِ فِي مُفَارَقَتِهَا، وَمِنْ الْمَحَاسِنِ أَنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ بِحُرْمَتِهَا عَلَى وَجْهٍ لا رُجُوعَ فِيهِ أَصْلاً، فَإِنَّهُ رُبَّمَا لا يَصْبِرُ عَنْهَا فَيَهْلِكُ فِي ذَلِكَ فَالشَّرْعُ جَعَلَ لِلْوُصُولِ إِلَيْهِ سَبِيلاً لَكِن بَعْدَمَا يَذُوقُ الآخَرُ عُسَيْلَتَهَا، وَتَذُوقُ عُسَيْلَتَهُ، وَلا يَجُوزُ عَنْ طَرِيقِ التَّحْلِيلِ لِحَدِيثِ: «لَعَنَ اللهُ الْمُحَلِلَ وَالْمُحَلَلَ لَهُ» . وَمِنْ مَحَاسِنِ الطَّلاقِ أَنْ يَكُونَ فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ هَذَا هُوَ السُّنةُ، فَإِنَّهُ إِذَا قَضَى وَطَرُهُ مِنْهَا انْتَقَصَ مَيْلُه إِلَيْهَا طَبْعاً فَيُبَادِرُ إِلى مُفَارَقَتِهَا بِقَلِيلِ دَاعِيَةٍ وَيَسِير أَذِيَّةٍ فَإِنَّ الْمَرْءَ إِذَا شَبَعَ مِنْ شَيْءٍ سَقَطَ مِنْ عَيْنِهِ، وَهَانَ عَلَيْهِ، وَإِذَا جَاعَ قَوِيَ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ فَلا يَحْصُلُ الطَّلاقُ عَنْ رَوِيَّةٍ، وَرُبَّمَا يَنْدَمُ عَلَى ذَلِكَ فَيَحْتَاجُ إِلى نَقْضِ الطَّلاقِ، فَكَانَ الطَّلاقُ الْحَسَنُ الْمَسنُونُ، أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْحَالُ حَالَةُ كَمَالِ الرَّغْبَةِ وَتَمَامِ الْمَيْلِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لا يُقْدِمُ عَلَى الطَّلاقِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِلا لِحَاجَةٍ دَاعِيَةٍ فَرُخِّصَ لَهُ فِي الطَّلاقِ. 18- وَمِنْ مَحَاسِنِهِ أَنْ جَعَلَ هَزْلَهُ جِدّاً قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلاثٌ جِدُّهنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهنَّ جِدٌّ، الطَّلاقُ، وَالْعِتَاقُ، وَالنِّكَاحُ)) . فَإِذَا عَرَفَ الإنْسَانُ أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ تَلَفُظِهِ بِهِ، وَلَوْ مَازِحاً يَقَعُ، امْتَنَعَ بإِذْنِ اللهِ إِذَا كَانَ عَاقِلاً. 19- وَمِنْ مَحَاسِنِ الْقِصَاصِ، وَفَرْضِ الْعُقُوبَاتِ، زَجْرُ النُّفُوسِ الْبَاغِيَةِ، وَرَدْعُ الْقُلُوبِ الْقَاسِيَةِ، الْخَالِيَةِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ وَمِنْ مَحَاسِنِه تَأْدِيبُ الْجَمَاعَاتِ الطَّاغِيَةِ فَحَكَمَ بِقَتْلِ الْقَاتِلِ، وَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ، لِيَحْقِنَ الدِّمَاءَ قَالَ تَعَالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} الآيَةُ، وَالْقَطْعُ

لِحِفْظِ الأَمْوَالِ، فَيَعِيشُ النَّاسُ آمِنِينَ مُطْمَئِنِّينَ قَالَ تَعَالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وَحَرَّمَ الزِّنَا وَمُقَدِّمَاتِهِ، كَالنَّظَرِ إِلى الأَجْنَبِيَّةِ، وَالْخُلْوَةِ بِهَا، وَالْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ وَأَمَرَ بِرَجْمِ الزَّانِي وَقَتْلِ اللُّوطِيّ عَلَى رُؤوسِ الأَشْهَادِ وَحَكَمَ بِجَلْدِ الزَّانِي الْبِكْرِ، مَائَةَ جَلْدَةً وَالتَّغْرِيبِ كُلُّ ذَلِكَ مُحَافَظَةً عَلَى الأَنْسَابِ، وَالأَعْرَاضِ، وَحِمَاَيةً لِلأَخْلاقِ، وَصِيَانَةً لِلأُمَّةِ مِنَ الْفَنَاءِ، وَالْفَسَادِ، وَحَرَّمَ الْخَمْرَ، وَعَدَّهَا أَمَّ الْخَبَائِثِ، وَحَكَمَ عَلَى مُتَعَاطِيهَا بِالْجِلْدِ لارْتِكَابِهِ النَّقَائِصَ وَالْخَسَائِسَ، كُلُّ ذَلِكَ لِيَبْقَى الْعَقْلُ سَلِيماً، وَيَظَلَّ الْمَالُ مَصُوناً، وَيَدُومَ الشَّرَفُ وَالْخُلُقُ طَاهِراً نَقِيّاً. شِعْراً: لَقَدْ أَيْقَظَ الإِسْلامُ لِلْمَجدِ وَالْعُلَى بَصَائِرَ أَقْوَامٍ عَنْ الْمَجْدِ نُوَّمِ فَأَشْرَقَ نُورُ الْعِلْمِ مِنْ حُجُرَاتِهِ عَلَى وَجْهِ عَصْرٍ بِالْجَهَالَةِ مُظْلِمِ وَدَكَّ حُصُونَ الْجَاهِلِيَّةِ بِالْهُدَى وَقَوَّضَ أَطْنَابَ الضَّلالِ الْمُخَيِّمِ وَأَنْشَطَ بِالْعِلْمِ الْعَزَائِمَ وَابْتَنَى لأَهْلِيْهِ مَجْداً لَيْسَ بِالْمُتَهَدِّمِ وَأَطْلَقَ أَذْهَانَ الْوَرَى مِنْ قُيُودِهَا فَطَارَتْ بأَفْكَارٍ عَلَى الْمَجْدِ حُوَّمِ وَفَكَّ أُسَارَ الْقَوْمِ حَتَّى تَحَفَّزُوا نُهوضاً إِلى الْعَلْيَاءِ مِنْ كُلِّ مجْثِمِ

وَعَمَّا قَلِيلٍ طَبَّقَ الأَرْضَ حُكْمُهُمْ بِأَسْرَعَ مِنْ رَفْعِ الْيَدَيْنِ إِلى الْفَمِ اللَّهُمَّ رَبَّ قُلُوبُنَا عَلَى مَحَبَّتِكَ وَطَاعَتِكَ وَثَبِّتْنَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) 20- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ الْحَثُّ عَلى الْمَشُورَةِ وَالأَخْذِ بِهَا مَتَى كَانَتْ صَائِبَةً مُتَّفقةً مَعَ الْعَقْلِ وَالْمَنْطِقِ وَالتَّجْرِبَةِ قَالَ تَعَالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} . 21- وَمِنْ مَحَاسِنِه أَنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ أَكْثَرُهُمْ صَلاحاً وَتَقْوَى كَمَا قَالَ تَعَالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} . 22-وَمِنْ مَحَاسِنِه الْحَثُّ عَلَى الْعِتْقِ، وَتَحْرِير الأَرِقَّاءِ، وَالإِحْسَانِ إِلى الْمَمْلوُكِ. 23- وَمِنْ مَحَاسِنِه الْحَثُّ عَلَى الإِحْسَانِ إِلى الْجَارِ وَالضَّيْفِ وَالْمِسْكِينِ وَالْيَتِيمِ. 24- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ أَنَّهُ يَدْعُو إِلى تَبَادُلِ الإِلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالتَّصَافِي وَالتَّعَاونِ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنُ كَالْبُنْيَان يَشُدُّ بَعْضُه بَعْضاً» .

25- وَمِنْ مَحَاسِنِه أَنَّهُ يَذم النِّزَاعَ وَالْكَرَاهِيَةَ وَالتَّفْرِقَةَ، قَالَ تَعَالى {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ} وَقَالَ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً» . 26- وَمِنْ مَحَاسِنِهِ النَّهْيُ عَنْ النَّمِيمَةِ وَالْغِيْبَةِ، وَالْحَسَدِ وَالتَّجَسُّسِ، وَالْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ، وَالآيَاتُ وَالأَحَادِيثُ الدَّالَةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدّاً، فَتَذَكَّرْ لَهَا تَجِدْهَا. 27- وَمِنْ مَحَاسِنِهِ النَّهْيُ عَنِ الظُلْمِ، وَالأَمْرِ بِالْعَدْلِ، مَعَ الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، قَالَ تَعاَلى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ} وَقَالَ: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} . 28- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ الْحَثُّ عَلَى الْعَفْوِ عَنْ الْمُعْتَدِي، قَالَ تَعَالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} وقَالَ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وَقَالَ: {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} . 29- وَمِنْ مَحَاسِنِهِ الدَّعْوَةُ إِلى الصُّلْحِ بَيْنَ الأَخَوَيْنِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْهُجْرَانِ، قَالَ تَعَالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} وَقَالَ: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} . 30- وَمِنْ مَحَاسِنِهِ النَّهْيُ عَنْ التَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ، وَالتَّبَاغُضِ وَالتَّحَاسُدِ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ تَقَاطَعُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا» . الْحَدِيث. 31- وَمِنْ مَحَاسِنِهِ النَّهْيُ عَنْ الاسْتِهْزَاءِ بِالنَّاسِ، وَذِكْرِ عُيُوبِهِمْ قَالَ تَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ} والآية. شِعْرًا: ... إِذَا مَا ذَكَرَتَ النَّاسَ فَاتْرك عُيُوبَهُمْ ... فَلا عَيْبَ إِلا دُونَ مَا مِنْكَ يُذْكَرُ فَإِنْ عِبْتَ قَوْماً بِالذِي هُوَ فِيهِمُ ... فَذَلِكَ عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ مُنْكَرُ

32- وَمِنْ مَحَاسِنِهِ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الإِنْسَانِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَالْخِطْبَةِ عَلَى خِطْبَتِهِ، إِلا أَنْ يَأْذَنُ أَوْ يُرَدَّ، لِمَا يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ الْعَدَاوَةِ وَالتَّقَاطُعِ. 33- وَمِنْ مَحَاسِنِهِ مَشْرُوعِيَّةُ السَّلامِ عَلَى الْمُسْلِمِ، عَرَفَهُ أَوْ لَمْ يَعْرِفَهُ وَمِنْ مَحَاسِنِهِ الأَمْرُ بِرَدِّ التَّحِيَّةِ بِأَحْسَن مِنْهَا أَوْ رَدِّهَا قَالَ تَعَالى: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} الآية. 34- وَمِنْ مَحَاسِنِهِ الأَمْرُ بِالتَّثْبِت ِفِيمَا نَسْمَعُه، قَالَ تَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} وَقَالَ: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} الآية. 35- وَمِنْ مَحَاسِنِهِ النَّهْيُ عَنْ الْبُولِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِد، وَفِي ذَلِكَ الْعِنَايَةُ بِالنَّاحِيَةِ الصِّحِيَّةِ، وَالْوِقَايَةُ مِنْ النَّجَاسَةِ وَالأَمْرَاضِ بِإِذْنِ اللهِ. 36- وَمِنْ مَحَاسِنِهِ النَّهْيُ عَنْ إِيذَاء الْمُؤْمِنِين وَالإضْرَار بِهِمْ، قَالَ تَعَالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَكَلَ الثُّومَ أَوِ الْبَصَلَ وَالْكُرَّاثَ، فَلاَ يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ» . 37- وَمِنْ مَحَاسِنِهِ النَّهْيُ عَنْ الأَكْلِ بِالشِّمَالِ، وَالشَّرُبِ بِهَا، لأَنَّهَا لإِزَالَةِ مَا يَسْتَقْذَرُ، وَلأَنَّ الشَّيْطانَ يَأْكُل بِشِمَالِهِ، كَمَا فِي الْحَدِيث. 38- وَمِنْ مَحَاسِنِهِ الأَمْرُ بِاتِّبَاعِ جَنَازَة الْمُسْلِم لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الدُّعَاءِ وَالتَّرَحُمِ عَلَيْهِ، وَالصَّلاةِ عَلَيْهِ، وَجَبْرِ خَوَاطِرِ أَهْلِهِ الْمُؤْمِنِين. 39- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ، وَإبْرَارُ الْمُقْسِمِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّآلُفِ وَالتَّآخِي، وَالدُّعَاءِ لأَخِيكَ بِالرَّحْمَةِ، وَلِمَا فِي إِبْرَارِ الْقَسَمِ مِنْ جَبْرِ خَاطِرِهِ، وَإِجَابَةِ طَلَبِهِ، مَا لَمْ يَكُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ.

40- وَمِنْ مَحَاسِنِهِ إِجَابَةُ دَعْوَتِهِ، وَلا سِيَّمَا إِذَا كَانَ لِعُرْسٍ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا مَا يُخَالِفُ الشَّرِيعَةَ، أَوْ يَخِلُّ بِالْمُرُوءَةِ وَالإِنْسَانِيَّةِ كَمَا تَرَاهُ الْيَوْمَ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ مِنْ الْمَلاهِي وَالْمُنْكَرَاتِ، لأَنَّ فِي حُضُورِهِ وَالْحَالََةُ هَذِهِ تَشْجِيعٌ لِلْفَسَقَةِ وَأَهْلِ الْمَجُونِ، وَإِعَانَةٌ عَلَى نَشْرِ الْمَعَاصِي، وَعَدَمِ الْمُبَالاةِ فِيهَا فَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ كَإِزَالَةِ التلفزيون ونحوه حَضَرَ وَأَزَالَه وَإِلا أَمْتَنَعَ. 41- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِ تَرْوِيعَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، إِمَّا بِإِخْبَارِهِ بِخَبَرٍ يُفْزِعُهُ، أَوْ يُشِيرُ إِلَيْهِ بِسِلاحٍ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. 42- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ أَنَّهُ نَهَى عَنْ تَشَبِّهِ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَبِالْعَكْسِ بَأَن تَتَشَبَّهَ النِّسَاءُ بِالرِّجَالِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ، الَّتِي مِنْهَا التَّخْنِثُ فِيمَنْ يَتَشَبَّه بِهِنَّ، فِي مَلابِسِهِنَّ وَحَركَاتِهِنَّ وَكَلامِهِنَّ، كَمَا هُوَ مَوْجُودٌ عِنْدَ بَعْضِ الْمُنْحَلِّينَ، الْمَغْرُورِينَ أَصْحَاب الْخَنَافِس وَالتَّوَالِيتَات مَحْلُوقِي اللِّحَا. 43- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلام اتِّقَاءُ مَوَاضِع التُّهَمِ وَالرِّيَبِ، كَيْ يَصُونَ أَلْسِنَةَ النَّاسِ وَقُلُوبَهُمْ عَنْ سُوءِ الظَّنِّ بِهِ، وَوَرَدَ أَنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَتْ تَزُورُهُ وَهُوَ مُعْتِكَفِِ فَقَامَ مَعَهَا مُوَدِّعاً، حَتَّى بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ، فََرَآهُ رَجُلاَنِِ مِنَ الأَنْصَارِ، فَسَلَّمَا عَلَيْهِ فَقَالَ: «عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِىَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ» . فَقَالاَ: سُبْحَانَ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وَإِنِّى خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِى قُلُوبِكُمَا شَيْئاً» . فَهَذَا أَشْرَفُ الْخَلْقِ وَأَزْكَاهُمْ، وَأَبْعَدَ التُّهْمةَ وَالشَّكَ عَنْ نَفْسِهِ. وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَنْ أَقَامَ نَفْسَهُ مَقَامَ التُّهَم فَلا يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ بِهِ الظَّنِ، وَمَرَّ عُمَرُ بِرَجُلٍ يُكَلِّمُ إِمْرَأَتَه عَلَى ظَهْرِ

الطَّرِيقِ، فَعَلاهُ وَضَرَبَهُ بِالدُّرَةِ، فقَالَ الرَّجُلُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهَا امْرَأَتِي فَقَالَ عُمَرُ: هَلا كَلَّمْتَهَا حَيْثُ لا يَرَاكَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ. فالإِسْلام مِنْ مَحَاسِنِه الابْتِعَادُ عَنْ مَوَاضِع التهم والشُّبُهاتِ، فَكَيْفَ لَوْ رَأَى مَنْ تَدَخَّلَ عَلَى الْخَيَّاطِ، يُفَصِّلُ عَلَى بَدَنِهَا وَحْدَهُ، خَالِياً بِهَا، أَوْ رَأَى مِنْ تَدْخُلُ عَلَى الْمُصَوِّرِ وَحْدَها، أَوْ رَأَى مَنْ تَرْكَبْ مَعْ مَنْ لَيْسَ مَحْرَماً لَهَا أَوْ سَافَرَتْ مُسْلِمَةٌ إِلى بِلادِ الْكُفْرِ بِدُونِ مَحْرَمٍ، أَوْ دَخَلَتْ عَلَى الدُّكْتُورِ وَحْدَهَا بِاسْمِ الْكَشْفِ الطِّبِّي، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، مِمَّا حَدَثَ فِي زَمَنِنَا الذِي كَثُرَتْ فِيهِ الْفِتَنْ، وَقَلَّ فِيهِ الأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَرَدْعُ أَهْلِ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ الذِينَ قَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ، وَسَانَدَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً عَكْسَ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْخَيْرِ وَالصَّلاحِ، مِنَ التَّفَكُّك وَالتَّخَاذُلِ وَالْمُصَانَعَاتِ، فالله المستعان. أَيَا عُلَمَاءُ الدِّينِ مَالِي أَرَاكُمْ تَغَاضَيْتُم عَنْ مُنْكَرَاتِ الأَوَامِرِ أَمَا الأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ فَرْضُكُمْ فَأَعْرَضْتُمُ عَنْ ذَاكَ إِعْرَاضَ هَاجِرِ أَمَّا أَخْذَ الْمِيثَاقَ رَبِّي عَلَيْكُمْ بَأَنْ تَنْصَحُوا بِالْحَقِّ أَهْلَ الْمَنَاكِرِ فَإِنْ هُمُ عَصَوْكُمُ فَاهْجُرُوهُمْ وَهَاجِرُوا تَنَالُوا بِنَصْرِ الدِّينِ أَجْرَ الْمُهَاجِرِ إِذَا كَانَ هَذَا حَالُ قَاضٍ وَعَالِمٍ وَحَالُ وَزِيرٍ أَوْ أَمِيرٍ مُظَاهِرِ

وَلَمْ تَنْهَوُا عَنْ غَيِّكُمْ فَتَرَقَّبُوا صَوَاعِقَ قَهَّارٍ وَسَطْوَةَ قَاهِرِ فَمَا اللهُ عَمَّا تَعْمَلُونَ بِغَافِلٍ وَلَكِنَّهُ يُمْلِي لِطَاغٍ وَفَاجِرِ وَقَدْ أَرْسَلَ الآيَاتِ مِنْهُ مُخَوِّفاً وَلَكِنْ غَفَلْتُمْ عَنْ سَمَاعِ الزَّوَاجِرِ أَجِيبُوا عِبَادَ اللهِ صَوْتَ مُنَاصِحٍ دَعَاكُمْ بِصَوْتٍ مَالَهُ مِنْ مُنَاصِرِ وَقُومُوا سِرَاعاً نَحْوَ نَصْرَةِ دِينكُمْ إِذَا رُمْتُمُ فِي الْحَشْرِ غُفْرَانَ غَافِرِ وَحُسْنُ خِتَامِ النَّظْمِ أَزْكَى صَلاتِنَا عَلَى الْمُصْطَفَى وَالآلِ أَهْلِ الْمَفَاخِرِ اللَّهُمَّ بَارِكْ فِي أَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَنَوِّرْ قُلُوبَنَا وَأَصْلِح ذَاتَ بَيْنِنَا وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبَنَا وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلامِ وَنَجِّنَا مِنْ الظُّلَُمَاتِ إِلى النُّورِ وَجَنِّبْنَا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ َ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) 44- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ أَنَّ الإِنْسَانَ إِذَا ابْتُلِيَ بِشَرِّيرٍ مِنَ الأَشْرَارِ، أَوْ فَاجِرٍ مِنَ الْفُجَّارِ، أَوْ مُحِبٍّ لِلإِجْرَامِ، يَنْبَغِي أَنْ يَحْذَرَهُ وَيَبْتَعِدَ عَنْ شَرِّهِ، وَيُدَارِيهِ وَيَتَجَنَّبَه مَا أَمْكَنَ، قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إِنَّا لَنَبَشُّ فِي وُجُوهِ قَوْمٍ، وَإِنَّ

قُلُوبَنَا لِتَلْعَنَهُمْ، وَمَعْنَى هَذَا مُدَارَاةُ الأَشْرَارِ الذِينَ لا تَقْدِرُ عَلَى رَدْعِهِمْ وَالإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ، لِخَوْفِكَ مِنْ شَرِّهِمْ وَأَذِيَّتِهِمْ، وَإِجْرَامِهِمْ، وَتُنْكِرُ بِقَلْبِكَ. 45- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ الأَمْرُ بِإِصْلاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَالأَدِلَّةُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَةِ كَثِيرَةٌ مُتَظَاهِرَة. 46- وَمِنْ مَحَاسِنِهِ الأَمْرُ ِبسَتْرِ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَعُيوبِهِمْ وَنَقَائِصهم قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللهُ» . وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِى قَلْبِهِ لاَ تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ» . الْحَدِيثُ وَتَقَدَّم. 47- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى قَلْبِ الْمُسْلِمِ، وَمُسَاعَدَةِ الْمُحْتَاجِ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يُؤْمِنْ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» وَقَالَ: «وَمَنْ كَانَ فِى حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِى حَاجَتِهِ» . 48- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ تَوْقِيرُ الْمُسْلِمِ، وَلاسِيَّمَا ذِي الشَّيْبَةِ، وَرَحْمَةُ الصِّبْيَان، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرُ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا» . وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ إِجْلاَلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِكْرَامَ ذِى الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ» . الْحَدِيث. 49- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ النَّهْيُ عَنْ الْفُحْشِ، وَبَذَاءَةِ اللِّسَانِ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلاَ اللَّعَّانِ، وَلاَ الْفَاحِشِ، وَلاَ الْبَذِىءِ» . 50- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ النَّهْيُ عَنْ التَّكَلُّمِ سِرّاً بَيْنَ اثْنَيْنِ، مَعَ وُجُودِ ثَالِثٍ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُ الثَّاِلَث، فَيَظُنُّ أَنَّهُمْ يَتَنَاجَوْنَ بِهِ، فَهَذَا يُنَافِي الأَدَبِ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ مِن الأَدَبِ أَنْ تَتَحَدَّثَ بِلُغَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ، إِذَا كَانَ هُنَاكَ مَنْ لا

يَعْرِفُهَا، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كُنْتُمْ ثَلاَثَةً فَلاَ يَتَنَاجَ اثْنَانِ دُونَ الآخَرِ، حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ، مِنْ أَجْلَ أَنْ ذلك يُحْزِنَهُ» . 51- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ أَنْ يَتَدَخَّلَ الإِنْسَانُ فِيمَا لا يَعْنِيهِ، وَهَذِهِ مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ» . أَخَذَهُ بَعْضُهُمْ وَصَاغَهُ بِعِبَارَةِ: (ابْحَثْ عَنْ عَمَلِكَ الْخَاصِّ) . وَلَوْ تَتَبَعَّ الْمُسْلِمُونَ إِرْشَادَاتِ نَبِيِّهِمْ، وَنَصَاِئِحِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لاسْتَرَاحُوا وَأَرَاحُوا غَيْرَهُمْ، وَلَوْ تَتَبَّعْت أَكْثَرَ الْمَشَاكِلَ، وَالْمُنَازَعَاتِ وَالْمُخَاصَمَاتِ وَالْمُجَادَلاتِ، لَوجَدْتَ سَبَبَها الْوَحِيدَ التَّدَخُلُ فِيمَا لا يَعْنِي. 52- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ النَّهْيُ وَالتَّحْذِيرُ عَنْ الْجُلُوسِ فِي الطُّرُقَاتِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّعَرُّضِ لِمَا لا يَنْبَغِي، وَلِمَا يَلْزَمُ الإِنْسَانَ الْقِيَامُ بِهِ وَرُبَّمَا لَمْ يَقُمْ بِهِ مِنَ الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَرَدْعِ الظَّالِمِ، وَذَلِكَ نَصْرُهُ، وَإِعَانَةِ الْمُسْلِمِ، وَغَضِّ الْبَصَرِ وَرَدِّ السَّلامِ، وَكَفِّ الأَذَى. 53- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ أَنَّ مَن استعاذَنَا بِاللهِ عَلَيْنَا أَنْ نُعِيذَهُ وَأَنَّ مَنْ سَأَلَنَا بِاللهِ نُعْطِيهُ، وَنُكَافِئَ مَنْ صَنَعَ إِلَيْنَا مَعْرُوفاً إِنْ اسْتَطَعْنَا، فَإِنْ لَمْ نَسْتَطِع نَدْعُو لَهُ أَنْ يَجْزِيَه اللهَ جَزَاءً حَسَناً، عَلَى مَا أَسْدَاهُ إِلَيْنَا مِنَ الْمَعْرُوفِ، عَمَلاً بِالْحَدِيثِ «مَنِْ اسْتَعَاذَكُمْ بِاللهِ فَأَعِيذُوهُ» . الْحَدِيث. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ الأَعْظَمِ الأَعَزِّ الأَجَل الأَكْرَمِ الذِي إِذَا دُعِيتَ بِهِ أَجَبْتَ، وَإِذَا سُئِلْتَ بِهِ أَعْطَيْتَ، وَنَسْأَلُكَ بِوَجْهِكَ الْكَرِيم أَكْرَمَ الْوُجُوه وَأَعَزَّ الْوُجُوه، يَا مَنْ عَنَتْ لَهُ الْوُجُوهُ وَخَضَعَتْ لَهُ الرِّقَابُ،

وَخَشَعَتْ لَهُ الأَصْوَاتُ، يَا ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ، يَا حَيُّ يَا قَيُّوم يَا مَالِكَ الْمُلْكِ يَا مَنْ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير، وَبِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم، وَبِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيط، يَا مَنْ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَر إِلا فِي كِتَابٍ مُبِين، نَسْأَلُكَ أَنْ تَغْفِر سَيِّئَآتِنَا وَتُبَدِّلَهَا بِحَسَنات يَا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ وَأَجْوَدَ الأَجْوَدِين وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) 54- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ أَنْ تُنْصِفَ مِنْ نَفْسِكَ، وَأَنْ تُحِبَّ للنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَتَضَعَ نَفْسَكَ مَوْضِعَ إِخْوَانِكَ الْمُسْلِمِينَ، وَتُعَامِلَهُمْ الْمُعَامَلَةَ الَّتِي تُحِبُّ أَنْ يُعَامِلُوكَ بِهَا، وَتُؤَدِّيَ حُقُوقَهُمْ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا يَسْتَكْمِلُ الْعَبْدُ الإِيمَانَ حَتَّى يَكُونَ فِيهِ ثَلاَثُ خِصَالٍ، الإِنْفَاقُ مِنْ الإِقْتَارِ، وَالإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِهِ، وَبَذْلُ السَّلامِ» . وَقَالَ تَعَالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طَعَامُ الاِثْنَيْنِ كَافِي الثَّلاَثَة» . إِلى آخِرِ الْحَدِيثِ. وَفِي الْحَدِيثِ الآخر: «وَمَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلٌ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لاَ ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلٌ مَنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مِنْ لاَ زَادَ لَهُ» . فَذَكَرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ مَا ذَكَرَ، قَالَ أَبُو سَعِيد: حَتَّى رَأَيْنَا أَنَّهُ لاَ حَقَّ لأَحَدٍ مِنَّا فِى فَضْلٍ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. 55- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلام، وَأَخْلاقِهِ السَّامِيَةِ، أَنْ يَصُونَ الإِنْسَانُ ِعْرَض أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَنَفْسَه وَمَالَه، مِنْ ظُلْمٍ أَصَابَهُ بِقَدْرِ اسْتِطَاعَتِه، وَيَرُدَّ عَنْهُ الظُّلْمِ وَالْعِدْوَانَ، وَيُدَافِعَ وَيُنَاضِلَ عَنْهُ حَسَبَ قُدْرَتِهِ، فَرَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاًٌ نَالَ مِنْ رَجُلٍ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فَرَدَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ كَانَ لَهُ حِجَاباً مِنَ النَّارِ» . وَوَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. 56- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ الأَمْرُ بِالتَّوَسُطِ بَيْنَ الْبُخْلِ وَالإِسْرَافِ، قَالَ تَعَالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً} وَقَالَ: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} بَيْنَ تَبْذِيرٍ وَبُخْلٍ رُتْبَةٌ وَكِلا هَاذَيْنِ إِنْ زَادَ قَتَلْ. 57- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ الْحَثُّ عَلَى الصَّبْرِ بِأَنْوَاعِهِ الثَّلاثَةِ الصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ حَتَّى يُؤَدِّيهَا، وَالصَّبْرُ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ حَتَّى يَتْرُكَهَا، وَالصَّبْرِ عَلَى أَقْدَارِ اللهِ الْمُؤْلِمَةِ. 58- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ الْعَطْفُ عَلَى الضُّعَفَاءِ، وَالشَّفَقَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، وَالرَّأْفَةِ بِالْيَتَامَى، وَالْخَدَمِ وَالْعَبِيدِ وَالإِمَاءِ، وَالإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَدَفعِ الأَذَى عَنْهُمْ، وَحُسْنِ مُعَامَلَتِهِمْ، وَالتَّوَاضُعِ مَعَهُمْ، وَمُلاطَفَتِهِمْ وَخَفَضْ الْجَنَاحِ لَهُمْ، وَلِيْنِ الْجَانِبِ مَعَهُمْ، قَالَ تَعَالى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} ، وَقَالَ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} وَقَالَ: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} وَقَالَ: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} وَقَالَ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} وَقَالَ: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} الآية. 59- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ الرَّأْفَةُ، وَالرَّحْمَةُ، وَالشَّفْقَةُ، لا الْقَسْوَةُ

وَالْغِلْظَةُ وَالتَّعْذِيبُ، حَتَّى فِي حَقِّ الْحَيَوَانَاتِ الْبَهِيمَيَّةِ عَنْ ابنِ عُمَرَ رَضِىَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِى هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا وَلاَ هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا مَرْفُوعاً: «أَنَّ رَجُلاً دَنَا مِنْ بِئْرٍ فَنَزَلَ وَشَرِبَ مِنْهَا، وَعَلَى الْبِئْرِ كَلْبٌ يَلْهَثُ مِنَ الْعَطَشِ، فَرَحِمَهُ فَنَزَعَ أَحَدَ خُفَّيْهِ فَسَقَاهُ فَشَكَرَ اللهُ لَهُ ذَلِكَ فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ» . وَرَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى حِمَارٍ قَدْ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ: «لَعَنَ اللهُ الذِي وَسَمَهُ» . شِعْراً: أَنَا الْعَبْدُ الذِي كَسَبَ الذُّنُوبَا وَصَدَّتْهُ الأَمَانِي أَنْ يَتُوبَا أَنَا الْعَبْدُ الذِي أَضْحَى حَزِيناً عَلَى زَلاتِهِ قَلِقاً كَئِيبَا أَنَا الْعَبْدُ الذِي سُطِرَتْ عَلَيْهِ صَحَائِفُ لَمْ يَخَفْ فِيهَا الرَّقِيبَا أَنَا الْعَبْدُ الْمُسِيءُ عَصَيْتُ سِرّاً فَمَا لِي الآنَ لا أُبْدِي النَّحِيبَا أَنَا الْعَبْدُ الْمُفَرِّطُ ضَاعَ عُمْرِي فَلَمْ أَرْعَ الشَّبِيبَةَ وَالْمَشِيبَا

أَنَا الْعَبْدُ الْغَرِيقُ بِلُجِّ بَحْرٍ أَصِيحُ لَرُبَّمَا أَلْقَى مُجِيبَا أَنَا الْعَبْدُ السَّقِيمُ مِنَ الْخَطَايَا وَقَدْ أَقْبَلْتُ التَمِسُ الطِّبِيبَا أَنَا الْعَبْدُ الْمُخَلَّفُ عَنْ أُنَاسٍ حَوَوْا مِنْ كُلِّ مَعْرُوفٍ نَصِيبَا أَنَا الْعَبْدُ الشَّرِيدُ ظَلَمْتُ نَفْسِي وَقَدْ وَافَيْتُ بَابَكُمْ مُنِيبَا أَنَا الْعَبْدُ الْفَقِيرُ مَدَدْتُ كَفِّي إِلَيْكُمْ فَادْفَعُوا عَنِّي الْخُطُوبَا أَنَا الْغَدَّارُ كَمْ عَاهَدْتُ عَهْداً وَكُنْتَ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ كَذُوبَا أَنَا الْمَقْطُوعُ فَارْحَمْنِي وَصِلْنِي وَيَسِّر مِنْكَ لِي فَرَجاً قَرِيبَا أَنَا الْمُضْطَرُّ أَرْجُو مِنْكَ عَفْواً وَمَنْ يَرْجُو رِضَاكَ فَلَنْ يَخِيبَا فَيَا أَسَفِي عَلَى عُمْرٍ تَقْضِّي وَلَمْ أَكْسِبْ بِهِ إِلا الذُّنُوبَا وَأَحْذَرُ أَنْ يُعَاجِلُنِي مَمَاتٌ يُحَيِّرُ هَوْلُ مَصْرَعِهِ اللَّبِيبَا

وَيَا حُزْنَاهُ مِنْ حَشْرِي وَنَشْرِي بِيَوْمٍ يَجْعَلِ الْوِلْدَانَ شِيبَا تَفَطَّرَتْ السَّمَاءُ بِهِ وَمَارَتْ وَأَصْبَحَتِ الْجِبَالُ بِهِ كَثِيبَا إِذَا مَا قُمْتُ حَيْرَاناً ظَمِيئاً حَسِيرَ الطَّرْفِ عُرْيَاناً سَلِيبَا وَيَا خَجْلاهُ مِنْ قُبْحِ اكْتِسَابِي إِذَا مَا أَبْدَتْ الصُّحُفُ الْعُيُوبَا وَذِلَّةُ مَوْقِفٍ وَحِسَابِ عَدْلٍ أَكُونُ بِهِ عَلَى نَفْسِي حَسِيبَا وَيَا حَذْرَاهُ مِنْ نَارِ تَلَظَّى إِذَا زَفَرَتْ وَأَقْلَقَتِ الْقُلُوبَا تَكَادُ إِذَا بَدَتْ تَنْشَقُّ غَيْظاً عَلَى مَنْ كَانَ ظَلاماً مُرِيبَا فَيَا مَنْ مَدَّ فِي كَسْبِ الْخَطَايَا خُطَاهُ أَمَا يَأْنِي لَكَ أَنْ تَتُوبَا أَلا فَاقْلِعْ وَتُبْ وَاجْهَدْ فَإِنَّا رَأَيْنَا كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبَا وَأَقْبِلْ صَادِقاً فِي الْعَزْمِ وَاقْصُدْ جَنَاباً لِلْمُنِيبِ لَهُ رَحِيبَا وَكُنْ لِلصَّالِحِينَ أَخاً وَخِلا

.. وَكُنْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا غَرِيبَا وَكُنْ عَنْ كُلِّ فَاحِشَةٍ جَبَاناً وَكُنْ فِي الْخَيْرِ مِقْدَاماً نَجِيبَا وَلاحِظْ زِينَة الدُّنْيَا بِبُغْضٍ تَكُنْ عَبْداً إِلى الْمَوْلَى حَبِيبَا فَمَنْ يَخْبُرْ زَخَارِفَهَا يَجِدْهَا مُخَالِبَةً لِطَالِبِهَا خَلُوبَا وَغُضَّ عَنِ الْمَحَارِمِ مِنْكَ طَرْفاً طَمُوحاً يَفْتِنُ الرَّجُلَ الأَرِيبَا فَخَائِنَةُ الْعُيُونِ كَأُسْدِ غَابٍ إِذَا مَا أَهْمَلْتَ وَثَبْتَ وَثُوبَا وَمَنْ يَغْضُضْ فُضُولَ الطَّرَفِ عَنْهَا يَجِدْ فِي قَلْبِهِ رُوحاً وَطِيبَا وَلا تُطْلِقْ لِسَانَكَ فِي كَلامٍ يَجُرُّ عَلَيْكَ أَحْقَاداً وَحُوبَا وَلا يَبْرَحْ لِسَانُكَ كُلَّ وَقْتٍ بِذِكْرِ اللهِ رَيَّاناً رَطِيبَا وَصَلِّ إِذَا الدُّجَى أَرْخَى سُدُولاً وَلا تَضْجَرْ بِهِ وَتَكُنْ هَيُوبَا تَجِدْ أُنْساً إِذَا أُودِعْتَ قَبْراً وَفَارَقْتَ الْمَعَاشِرُ وَالنَّسِيبَا

.. وَصُمْ مَا تَسْتَطِيعُ تَجِدْهُ رِيّاً إِذَا مَا قُمْتَ ظَمْآناً سَغِيبَا وَكُنْ مُتَصَدِّقاً سِرّاً وَجَهْراً وَلا تَبْخَلْ وَكُنْ سَمْحاً وَهُوبَا تَجِدْ مَا قَدَّمَتْهُ يَدَاكَ ظِلا إِذَا مَا اشْتَدَّ بِالنَّاسِ الْكُرُوبَا وَكُنْ حَسَنِ السَّجَايَا وَذَا حَيَاءٍ طَلِيقَ الْوَجْهِ لاشَكْساً غَضُوبَا اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا تَوْفِيقاً يَقِيناً عَنْ مَعَاصِيكَ، وَأَرْشِدْنَا بِرُشْدِكَ إِلى السَّعْي فِيمَا يُرْضِيكَ وَأَجِرْنَا يَا مَوْلانَا مِنْ خِزْيكَ وَعَذَابِكَ، وَهَبْ لَنَا مَا وَهَبْتَهُ لأَوْلِيَائِكَ وَأَحْبَابِكَ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) 60- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلام مراعاةُ الْحِكْمَةِ، وَذَلِكَ أَنْ نَضَعَ كُلَّ إِنْسَانٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَنْزِلَتِهِ، وَنُرَاعِي كَرَامَتَهُ وَشُعُورَهُ وَنَجْعَلَهُ فِي الْمَكَانِ الذِي يَلِيقُ بِهِ. عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا كَانَتْ مُسَافِرَةً فَنَزَلَتْ مَنْزِلاً تَسْتَرِيحُ فِيهِ وَتَتَنَاوَلُ طَعَامَهَا فَجَاءَ سَائِلٌ فَقِيرٌ

فَقَالَتْ: نَاوِلُوا هَذَا الْمِسْكِينَ قُرْصاً، ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ يَرْكَبُ فَرَساً، فَقَالَتْ: ادْعُوهُ إِلى الطَّعَامِ. فَقِيلَ لَهَا: لِمَاذَا تَعْطِينَ الْمِسْكِينَ قُرْصاً، وَتَدْعِينَ هَذَا الْغَنِيَّ إِلى الطَّعَام، فَأَجَابَتْ إِنَّ اللهَ تَعَالى أَنْزَلَ النَّاسَ مَنَازِلَ لا بُدَّ لَنَا أَنْ نُنْزِلَهُمْ تِلْكَ الْمَنَازِلَ، هَذَا الْمِسْكِينُ يَرْضَى بِقُرْصٍ، وَقِبيِحٌ بِنَا أَنْ نُعْطِي هَذَا الْغَنِيَّ - وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ - قُرْصاً. فَرَحِمَهَا اللهُ مَا أَحْسَنَ هَذَا مِنْ جَوَابِ رَدٍّ دَلَّ عَلَى الْحِكْمَةِ، وَحُسنِ الذُّوقِ، وَنَُبْلِ الْخُلُقِ، وَكَرَمِ الْمُعَامَلَةِ، وَالإِقْتِدَاءَ التَّامِ بِإِرْشَادَاتِ اللهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ بَيْتاً مِنْ بُيُوتِهِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ حَتَّى امْتَلأَ الْمَجْلِسُ، فَجَاءَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيُّ، فَلَمْ يَجِدْ مَكَاناً فَقَعَدَ عَلَى الْبَابِ فَلَفَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِدَاءَهُ وَقَدَّمَهُ إِلَيْهِ لِيَجْلِسَ عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: «اجْلِسْ عَلَى هَذَا» . فَأَخَذَ جَرِيرٌ الرِّدَاءَ، وَوَضَعَهُ عَلَى وَجْهِهِ، وَجَعَلَ يُقَبِّلُه وَيَبْكِي، مُتَأَثِّراً مِنْ إِكْرَامِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ، ثُمَّ لَفَّهُ وَرَدَّه إِلى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاكِراً مُقَدِّراً، وَقَالَ: مَا كُنْتُ لأَجْلِسَ عَلَى ثَوْبِكَ يَا رَسُولَ اللهِ أَكْرَمَكَ اللهُ يَا رَسُولَ اللهِ كَمَا أَكْرَمْتَنِي، فَنَظَر الْمُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمِيناً وَشِمَالاً ثُمَّ قَالَ: «إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوه» . فَانْظُرْ إِلى هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ الْجَمِيلَةِ، تَجِدِ الْمَثَلَ الْكَاملَ فِي مُعَامَلَةِ الرَّسُولِ لَهُ، حَيْثُ رَاعَى شُعُورَ جَرِيرٍ وَأَكْرَمَهُ، وَكَيْفَ تَأَثَّرَ جَرِيرٌ بِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ الْكَرِيمَةِ النَّبِيلَةِ اللَّطِيفَةِ. 61- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلاَمِ أَنَّهُ أَثْبَتَ لِلزَّوْجَاتِ عَلَى الأَزْوَاجِ حُقُوقاً مِثْلُ

الْحُقُوقِ الَّتِي لِلرِّجَالِ بِالْمَعْرُوفِ، وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ، وَتَرْكِ الإِضْرَارِ، وَجَعل {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} أَيْ فِي الْفَضِيلَةِ فِي الْخُلُقِ وَالْمَنْزِلَةِ، وَطَاعَةِ الأَمْرِ، وَالإِنْفَاقِ، وَأَدَاءِ الْمَهْرِ، وَالْقِيَامِ بِالْمَصَالِحِ، وَالْفَضْلِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. 62- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلاَمِ أنَّ الْمَرْأَةَ عِنْدَ بَعْضِ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُعَدُّ جُزْأً مِنْ ثَرْوَةِ أَبِيهَا أَوْ زَوْجِهَا، وَكَانَ ابنُ الرجلِ يَرِثُ أَرْمَلَةَ أَبِيهِ بَعْدَ وَفَاتِهَا، وَكَانَ الْعَرَبُ قَبْلَ الإِسْلامِ يَرِثُونَ النِّسَاءَ كُرْهاً، بَأَنْ يَأْتِي الْوَارِثُ وَيُلْقِي ثَوْبَه عَلَى زَوْجَةِ أَبِيهِ، ثُمَّ يَقُولُ: وَرِثْتُهَا كَمَا وَرِثْتُ مَالَ أَبِي، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا تَزَوَّجَهَا بِدُونِ مَهْرٍ، أَوْ زَوَّجَهَا لأَحَدٍ مِنْ عِنْدَهُ وَتَسلَّمَ مَهْرَهَا مِمَّنْ يَتَزَوَّجَهَا، أَوْ حَرَّمَ عَلَيْهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ كَيْ يَرِثَهَا، فَمَنَعَتِ الشَّرِيعَةُ الإِسْلامِيَّة هَذَا الظُّلْمِ وَهَذَا الإِرْثَ قَالَ تَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهاً} وَكَانَ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَمْنَعُونَ النِّسَاءَ مِنَ الزَّوَاجِ، فَالابْنُ الْوَارِثُ كَانَ يَمْنَعُ زَوْجَةَ أَبِيهِ مِنَ التَّزوْجِ، كَيْ تُعْطِيَه مَا أَخَذَتْهُ مِنْ مِيرَاثِ أَبِيهِ، وَالأَبُ يَمْنَعُ ابْنَتَهُ مِنْ التَّزوُجِ حَتَّى تَتْرُكَ لَهُ مَا تَمْلِكُه، وَالرَّجُلُ يُطَلِّقُ زَوْجَتَهُ وَيَمْنَعُهَا مِنَ الزَّوَاجِ، حَتَّى يَأْخُذَ مِنْهَا مَا يَشَاءُ. وَالزَّوْجُ الْمُبْغِضُ لِزَوْجَتِهِ يُسِيءُ عِشْرَتَهَا، وَيُمَلِّلُهَا، وَلا يُطَلِّقُهَا حَتَّى تَرُدَّ إِلَيْهِ مَهْرَهَا، فَالْعَرَبُ قَبْلَ الإِسْلام يَظْلِمُونَ الْمَرْأَةَ وَيَتَحَكَّمُونَ فِيهَا، قَالَ تَعَالى: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} وَكَانُوا لا يَعْدِلُونَ بَيْنَ النِّسَاءِ فِي النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ، فَأَمَرَ الإِسْلامُ بِالْعَدَالَةِ بَيْنَهُنَّ قَالَ تَعَالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} الآية، وَقَالَ: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً} ، وَقَالَ: {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} وَقَالَ فِي نَاحِيَةِ الدِّينِ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}

وَفِي نَاحِيَةِ الأَهْلِيَّةِ وَالْمُلْكِ قَالَ تَعَالى: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً} ، وَقَالَ: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ} . وَحَسبُ الإِسْلامِ مَا كَفَلَ لِلْمَرْأَةِ مِنْ مُسَاوَاةٍ دِينِيَّةٍ، وَمِنْ مُسَاوَاةٍ فِي التَّمَلُكِ وَالْكَسْبِ، وَمَا حَقَّقَ لَهَا مِنْ ضَمَانَاتٍ فِي الزَّوَاجِ بِإِذْنِهَا وَرِضَاهَا دُونَ إِكْرَاهٍ وَلا إِهْمَالٍ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تُنْكَحُ الثَّيبُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنْ، وَإِذْنُهَا الصُّمُوت» . وَفِي مَهْرِهَا قَالَ: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} . 63- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلاَمِ أَنَّ الْعَرَبَ قَبْلَ الإِسْلامِ يَئدُونَ الْبَنَاتِ، وَيَدْفِنُونَهُنَّ وَهُنَّ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ خَوْفاً مِنَ الْعَارِ، يُهِلُ عَلَى ابْنَتِهِ التُّرَابَ حَتَّى تَمُوتَ، فَجَاءَ الإِسْلامُ وَحَرَّمَ وَأْدَهُنَّ وَقَتْلُهنَّ تَحْرِيماً قَاطِعاً، وَمَنَحَهُنَّ الْحَقَّ فِي الْحَيَاةِ، وَبِهَذَا أَنْصَفَ الإِسْلامُ الْمَرْأَةَ كُلَّ الإِنْصَافِ وَحَافَظَ عَلَى حَيَاتِهَا وَحُقُوقِهَا الإِنْسَانِيَّةِ. اللَّهُمَّ أَعِذْنَا مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَغَلَبَةِ الدِّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ وَشَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ، وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ. اللَّهُمَّ أَحْيِ قُلُوبَنَا وَنَوِّرْهَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَزَيِّنْهَا بِمَحَبَّتِكَ وَجَمِّل أَلْسِنَتَنَا بِذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحَسِّنْ أَعْمَالَنَا وَوَفِّقْنَا لِحِفْظِ أَوْقَاتِنَا وَأَحْيينَا حَيَاةً طَيِّبَةً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ. فَصْلٌ 64- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلاَمِ إِبْطَالُ الْكِهَانَةِ وَتَحْرِيمُهَا، وَتَحْرِيمُ زَجْرِ الطَّيْرِ،

وَتَحْرِيمُ الْمَيْسِرِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْقِمَارِ، وَمِنْهَا الأَزَلامُ وَالْبَحِيرَةُ وَالسَّائِبَةُ وَالْوَصِيلَةُ وَالْحَامِي. 65- وَمِنْهَا رَمْيُ الْبَعْرَةِ، كَانَتْ الْمَرْأَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا مَاتَ زَوْجُهَا دَخَلَتْ حُشِفاً وَلَبَسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا، وَلَمْ تَمَسَّ طَيْباً حَتَّى تَمْضِي عَلَيْهَا سَنَة، ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَةٍ حِمَارٍٍ أَوْ طَيْرٍ أَوْ شَاةٍ فَتَفْتَضُّ بِهِ فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشَيْءٍ إِلا مَاتَ، ثُمَّ تَخْرُجُ بَعْدَ ذَلِكَ فَتُعْطَى بَعْرَةً فَتَرْمِي بِهَا ثُمَّ تُرَاجِعُ مَا شَاءَتْ. 66- وَمِنْهَا قَتْلُ الأَوْلادِ خَشْيَةَ الْفَقْرِ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَقْتُلُ وَلَدَهُ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَهُ إِلى أَنْ نَهَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءاً كَبِيراً} . 67- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ أَنَّهُ حَوَّلَ الْوَثِنِّيينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارَ إِلى مُؤْمِنِينَ صَالِحِينَ، أَتْقِيَاءَ زُهَّاداً وَرِعِينَ يَخَافُونَ اللهَ، وَيَعْبُدُونه وَحْدَه لا شَرِيكَ لَهُ، وَيَقِفُونَ بِجَانِبِ الْحَقِّ، لا تَأْخُذُهُمْ فِي اللهِ لَوْمَةُ لائم {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} . 68- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلاَمِ تَحْرِيمُ الْغَدْرِ، قَالَ تَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالى: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} ؟ وَوَرَدَ عَنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لِكلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فلانُ» . وَقَالَ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ خَالِصاً» وَعَدَّ مِنْهَا: «وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرْ» . وَقَالَ: «يَقُولُ اللهُ ثَلاثةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ» . الْحَدِيث رَوَاهُ الْبُخَارِي. 69- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ الْحَثُّ عَلَى الْعَمَلِ، وَكَسْبِ الرِّزْقِ، وَتَرْكُ الْكَسَلِ، وَسُؤَالَ النَّاسِ إِلا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، فَالإِسْلامُ دِينُ سَعْيٍ

وَعَمَلٍ وَاجْتِهَادٍ، لا دِينُ كَسَلٍ وَعَجْزٍ وَتَوَانٍ، دِينٌ يُحَافِظُ عَلَى الْعِزَّةِ الإِنْسَانِيَّةِ، وَالْكَرَامَةِ الشَّخْصِيَّةِ، قَالَ تَعَالى: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} ، وَقَالَ: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} وَيَحثُّ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْعَمَلِ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَيَقُولُ جَلَّ وَعَلا: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ، وَيَقُول: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ} . 70- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلاَمِ الْقَصْدُ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، قَالَ اللهُ جَلَّ وَعَلا: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} وَعَنْ الْمِقْدَادِ بن مَعْدِي كَرْبِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مَلأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرّاً مِنْ بَطْنِهِ، بِحَسْبِ ابنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٍ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لا مَحَالَةَ فَاعِلاً فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفْسِهِ» . أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَة. 71- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلاَمِ النَّهْيُ عَنْ الْمُمَاطَلَةِ فِي الْحُقُوقِ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أتْبعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» . رَوَاهُ الْبُخَارِي، وَمُسْلِم. 72- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ الأَمْرُ بِإِنْظَارِ الْمُعْسِرِ، قَالَ تَعَالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَ تَاجِرٌ يُدَاينُ النَّاسِ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِراً، قَالَ لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ لَعَلَّ اللهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا، فَتَجَاوَزَ اللهُ عَنْهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِي. وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلُهُ صَدَقَةٌ» . 73- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلاَمِ النَّهْيُ عَن الرِّشْوَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ

عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ اللهُ الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِيَ فِي الْحُكْمِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَوَرَدَ: «لَعَنَ اللهُ الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِيَ، وَالرَّائِشُ الذِي يَمْشِي بَيْنَهُمَا» . 74- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ الْحَثُّ عَلَى إِقَالَةِ النَّادِمِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الإِحْسَانِ وَالْمَعْرُوفِ وَجَبْرِ خَاطِرِهِ، فَفِي الْحَدِيث: «مَنْ أَقَالَ مُسْلِماً أَقَالَ اللهُ عثْرُتَه» . وَفِي رِوَايَةِ: «مِنْ أَقَالَ نَادِماً أَقَالَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَصَلَّى. اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِصَالِحِ الأَعْمَالِ، وَنَجِّنَا مِنْ جَمِيعِ الأَهْوَالِ، وَأَمَنّا مِنَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ يَوْمَ الرَّجْفِ وَالزلْزَال، وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. (فَصْلٌ) 75- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ بَذْلُ النَّصِيحَةُ للهِ، وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ، وَلِلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ. فَالنَّصِيَحَةُ للهِ الإِيمَانُ بِهِ، وَنَفْي الشَّرِيكِ عَنْهُ، وَتَرْكِ الإِلْحَادِ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَوَصْفِهِ بِأَوْصَافِ الْكَمَالِ، وَتَنْزِيهِه عَنْ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ، وَطَاعَةِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيهِ، وَمُوَالاةِ مَنْ أَطَاعَهُ، وَمُعَادَاةِ مَنْ عَصَاهُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ لَهُ، وَأَمَّا النَّصِيحَةُ لِكِتَابِ اللهِ، فَالإِيمَانُ بِأَنَّهُ كَلامُ اللهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَتَحْلِيلُ مَا حَلَّلَهُ، وَتَحْرِيمُ مَا حَرَّمَهُ، وَالإِهْتِدَاءُ بِهَدْيِهِ وَالتَّدَبُّرُ لِمَعَانِيهِ، وَالْقِيَامُ بِحُقُوقِهِ، وَالإِتِّعَاظُ بِمَوَاعِظِهِ، وَالاِعْتِبَارُ بِزَوَاجِرِهِ، وَأَمَّا النَّصِيحَةُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَصْدِيقُهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ وَمَحَبَّتُهُ، وَتَقْدِيمُهُ فِيهَا عَلَى النَّفْسِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ، وَتَوْقِيرُهُ حَياً وَمَيِّتاً، وَمَعْرِفَةُ سُنَّتِهِ وَنَشْرُهَا وَالْعَمَلُ بِهَا، وَتَقْدِيمُ قَوْلِهِ عَلَى قَوْلِ كُلِّ أَحَدٍ كَائِناً مَا كَانَ، وَأَمَّا النَّصِيحَةُ لأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَهِيَ إِعَانَتُهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَطَاعَتُهُمْ فِيهِ، وَأَمْرُهُمْ بِهِ، وَتَذْكِيرُهم بِحِوَائِجِ الْعِبَادِ وَنُصْحُهم بِرِفْقٍ وَلِينٍ وَعَدْلٍ وَاعْتِقَادُ ولايَتِهِمْ وَالسَّمِعُ وَالطَّاعَةُ لَهُمْ فِي غَيْرِ

مَعْصِيَةِ اللهِ، وَحثُّ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ، وَبَذْلُ مَا تَسْتَطِيعُهُ مِنْ إِرْشَادِهِمْ وَتَنْبِيهِهُمْ إِلى مَا يَنْفَعُهم، وَيَنْفَعُ النَّاسَ وَالْقِيَامُ بِوَاجِبِهِم، وَأَمَّا النَّصِيحَةُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَهِيَ إِرْشَادُهُمْ لِمَصَالِحِهم فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ وَكَفُّ الأَذَى عَنْهُم، وَتَعْلِيمُهُم مَا جَهِلُوا مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ وَأَمْرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُهُم عَنِ الْمُنْكَرِ وَأَنْ يُحِبَّ لَهُمْ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَيَكْرَهُ لَهُمْ مَا يَكْرَهُ لِنَفْسِهِ، وَيَسْعَى فِي ذَلِكَ حَسَبَ الإِمْكَان. 76- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ النَّهْيُ عَنْ قَطِيعَةِ الرَّحَمِ، قَالَ اللهُ تَعَالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} ، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الرَّحِمُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَقُولُ: مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللهُ» . رَوَاهُ الْبُخَارِي، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي أَوْفَى عَنِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْمَلائِكَةَ لا تَنْزِلُ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ قَاطِعُ رَحِمٍ» . 77- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ النَّهْيُ عَنِ التَّشَدُّدِ فِي الدِّينِ، وَعَنْ الزُّهْدِ فِي الطِّيبَاتِ، لأَنَّ الإِسْلامَ دِينُ الْيُسْرِ وَالسُّهُولَةِ وَالاعْتِدَالِ، فَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَنَا فَأصَلِّي اللَّيْلَ أَبَداً، وَقَالَ الآخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ، وَقَالَ الآخَرُ: وَأَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلا أَتَزَوَّجُ أَبَداً. فَجَاءَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَنْتُمْ الذِينَ قُلْتُمْ كَذَا، وَكَذَا؟ أَمَّا وَاللهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمُ للهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، وَلَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» . رَوَاهُ الشَّيْخَانُ.

قصيدة في غربة الإسلام: أَقُولُ وَأَوْلَى مَا يُرَى فِي الدَّفَاتُرِ وَأَحْسَنُ فَيْضاً مِنْ عُيُونِ الْمَحَابِرِ هُوَ الْحَمْدُ لِلْمَعْبُودِ وَالشُّكْرُ وَالثَّنَاء تَقَدَّسَ عَنْ قَوْلِ الْغُوَاةِ الْغَوَادِرِ وَجَلَّ عَنْ الأَنْدَادِ لا رَبَّ غَيْرُهُ وَعَنْ شَافِعٍ فِي الابْتِدَا أَوْ مُوَازِرِ وَصَلَّى عَلَى مَنْ قَامَ للهِ دَاعِياً وَشَيَّدَ أَعْلامَ الْهُدَى وَالشَّعَائِرِ وَأَوْضَحَ دِينَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا سَفَتْ عَلَيْهِ السَّوَافِي فِي الْقُرَى وَالْجَزَائِرِ وَعَادَا وَوَالَى فِي رِضَى اللهِ قَوْمَهُ وَلَمْ يَثْنِه عَنْ ذَاكَ صَوْلَةُ قَاهِرِ مُحَمَّدٌ الْمُبْعُوثُ لِلنَّاسِ رَحْمةً نِذَارَتُهُ مَقْرونَةٌ بِالْبَشَائِرِ وَبَعْدُ فَإِنْ تَعْجَب لِخَطْبٍ تَبَلْبَلَتْ لِفَادِحِهِ أَهْلُ النُّهَى وَالْبَصَائِرِ فَلا عَجَبًا يَوْمٌ مِنَ الدَّهْرِ مِثْلَ مَا أَنَاخَ بِنَا مِنْ كُلِّ بَادٍ وَحَاضِرِ وَمَا ذَاكَ إِلا غُرْبَةُ الدِّينِ يَا لَهَا مُصِيبَةُ قَوْمٍ مِنْ عِظَامِ الْفَوَاقِرِ

تَرَى أَهْلَهُ مُسْتَضْعَفِينَ أَذِلَّةً فَمَا بَيْنَ طَعَّانٍ عَلَيْهِمْ وَنَافِرِ وَمُسْتَهْزِءٍ مِنْهُمْ فَيُنْغِضُ رَأْسَهُ وَيَرْمُونَهُمْ شَزْرَ الْعُيُونِ النَّوَاضِرِ وَعَادَاهُمُ مَنْ يَدَّعِي الْعِلْمَ وَالْحِجَى وُكَلُّ خَلِيلٍ أَوْ قَرِيبٍ مُصَاهِرِ فَمَا شِئْتَ مِنْ شَتْمٍ وَقَذْفٍ وَغِيبَةٍ وَتَنْقِيصُهِم فِي كُلِّ نَادٍ لِفَاجِرِ وَأَعْيُنُهُمْ فِي فِعْلِ ذَاكَ قَرِيرَةٌ فَمِنْ صَامِتٍ فِي فِعْلِهِ أَوْ مُجَاهِرِ وَمَنْ قَامَ بِالإِنْكَارِ فَهُوَ مُشَدِّدٌ يَكَادُونَ أَنْ يُبْدُوهُ فَوْقَ الْمَنَابِرِ فَإِنْ يَحْكُموا بِالسَّوْطِ ضَرْباً فَإِنْ يَكُنْ رُجُوعٌ وَإِلا بِالضُّبَا وَالْخَنَاجِرِ وَأَصْبَحَ ذُو الإِيمَانِ فِيهِمْ كَقَابِضٍ عَلَى الْجَمْرِ أَوْ فِي الْجَنْبِ صَلي الْمَجَامِرِ وَإِخْوَانُه النُّزَّاعُ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ لَدَى أَهْلِهَا فِي ذُلِّهِمْ كَالأَصَاغِرِ وَمَا زَادَهُمْ إِلا ثَبَاتاً مَعَ الرِّضَى بِقَلْبٍ سَلِيمٍ لِلْمُهَيْمِنِ شَاكِرِ فَأَكْرِمْ بِهِمْ مِنْ عُصْبَةِ الْحَقِّ إِنَّهُمْ

.. لِحِفْظِ نُصُوصِ الدِّينِ أَهْلُ تَنَاصِرِ إِذَا مَا بَدَا نَصَّ الْكِتَابِ وَسُنَّةٍ تَنَادَوا عِبَادَ اللهِ هَلْ مِنْ مُثَابِرِ وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ فَاهْتَدُوا وَمَا رَغِبُوا عَنْهَا لِخِرْصِ الْخَوَاطِرِ عَلَيْكَ بِهَاتَيْكَ الصِّفَاتِ مُنَافِساً فَللهِ مَا أَسْنَا سَنَاهَا لِسَائِرِ هُمْ الْقَوْمُ لا يَثْنِيهُمْ عَنْ مُرَادِهِمْ مَلامَةُ لُوَّامٍ وَخُذْلانُ نَاصِرِ بِنَفْسِي فَتَى مَا زَالَ يَدْأَبُ دَائِماً إِلى رَبِّهِ أَكْرِمْ بِهِ مِنْ مُهَاجِرِ مُكِبّاً عَلَى أَيِ الْكِتَابِ وَدَرْسِهِ بِقَلْبٍ حَزِينٍ عِنْدَ تِلْكَ الزَّوَاجِرِ فَيَا لَيْتَنِي أَلْقَاهُ يَوْماً لَعَلَّهُ يُخَبِّرُنِي عَمَّا حَوَى فِي الضَّمَائِرِ وَنَرْفَعُ أَيْدِينَا إِلى اللهِ بِالدُّعَا لِيَنْصُرَ دِينَ الْمُصْطَفَى ذِيِ الْمَفَاخِرِ وَيَنْصُرَ أَحْزَابَ الشَّرِيعَةِ وَالْهُدَى وَيَقْمَعَ أَهْلَ الزَّيْغِ مِنْ كُلِّ فَاجِرِ فَآهٍ عَلَى تَفْرِيقِ شَمْلٍ فَهَلْ لِمَا مَضَى عَوْدَةٌ نَحْوَ السِّنِينِ الْغَوَابِرِ

.. عَسَى نَصْرَةٌ لِلدِّينِ تَجْمَعُ شَمْلَنَا تَقرُّ بِهَا مِمَّا تَرَى عَيْنُ نَاظِرِ فَيَرْتَاحُ أَهْلُ الدِّينِ فِيهَا أَعِزَّةً وَأَعْدَاؤُهُ تَحْتَ الْقَنَا وَالْحَوَافِرِ وَأَخْتِمُ نَظْمِي بِالصَّلاةِ مُسَلِّماً مَدَى الدَّهْرِ مَا نَاضَتْ بُرُوقُ الْمَوَاطِرِ عَلَى أَحْمَدٍ وَالآلِ وَالصَّحْبِ الذِي لَهُمْ تَابِعٌ يَسْعَى بِفِعْلِ الأَوَامِرِ اللَّهُمَّ لا تَجْعَل الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلا مَبْلَغَ عِلْمِنَا وَلا إِلى النَّارِ مَصِيرَنَا وَلا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا بِذُنُوبِنَا مَنْ لا يَخَافُكَ وَلا يَرْحَمُنَا وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ. اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ في قُلُوبِنَا وَقوِّهَا وَوَفِّقْنَا لِشُكْرِكَ وَذِكْرِكَ وَارْزُقْنَا التَّأَهُّبَ وَالاسْتِعْدَادَ لِلِقَائِكَ وَاجْعَلْ خِتَامَ صَحَائِفِنَا كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ، وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. (فَصْلٌ) 78- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ التَّرْغِيبُ فِي الدَّعْوَةِ إِلى الْخَيْرِ، وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ دَعَا إِلى هُدَى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ، لا يَنْقُص ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً، وَمَنْ دَعَا إِلى ضَلالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الإِثُمَّ مِثْلُ آثَامِ مَنِ اتَّبَعَهُ، لا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئاً» . رَوَاهُ مُسْلِم، وَأَبُو دَاودَ، وَالتِّرْمِذِيُّ.

79- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ حَثُّ الْمَرْءِ عَلَى انْتِهَازِ فُرْصَةِ الْحَيَاةِ لِعَمَلِ مَا يَنْفَعُهُ فِي الآخِرَةِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ، صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِم. وَقَالَ اللهُ تَعَالى: {وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} . 80- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ الْحَثُّ عَلَى وُجُوبِ الاعْتِمَادِ عَلَى اللهِ، ثُمَّ عَلَى إِيمَانِهِ وَعَمَلِهِ الصَّالِح، لا عَلَى مَالِهِ مِنْ صِلَةٍ بِالْمُقَرَّبِينَ إِلى اللهِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْزَلَ اللهُ: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً، يَا عَبَّاسُ بنُ عَبْدِ الْمُطَّلِب لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً، وَيَا صَفِيَّةُ عمةُ رَسُولِ اللهِ لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئاً، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مِنْ مَالِي، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئاً» . رَوَاهُ الشَّيْخَانِ، وَالتِّرْمِذِيُّ. 81- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلاَمِ الأَمْرُ بِتَعَهُّدِ النَّفْسِ بِالإِصْلاحِ فَيُلْزِمُهَا بِأَدَاءِ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ، وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَالآيَاتُ فِي الْحَثِّ عَلَى التَّقْوَى كَثِيرَةٌ. 82- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلاَمِ أَنَّهُ يَجْعَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صِلَةٍ دَائِمَةٍ بِرَبِّهِ، حِينَ تَفِدُ عَلَيْهِ النِّعْمَةُ، وَحِينَ تَنْزِلُ بِهِ الشِّدَّةُ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَجَباً لأَمْرِ الْمُؤْمِن إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِم. شِعْرًا: ... أَيَا ابْنَ آدمَ لا تَغْرُرْكَ عَافِيَةٌ ... عَلَيْكَ شَامَلةٌ فَالْعُمْرُ مَعْدُودُ مَا أَنْتَ إِلا كَزَرْعٍ عِنْدَ خُضْرَتِهِ ... بِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الأَوْقَاتِ مَقْصُودُ ِ فَإِنْ سَلِمْتَ مِن الآفَاتِ أَجْمَعِهَا ... فَأَنْتَ عِنْدَ كَمَالِ الأَمْرِ مَحْصُودُ

83- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلاَمِ أَنَّهُ يَحُثُّ الْخَلْقَ، وَيُوَجِّههم إِلى إِصْلاحِ أَنْفُسِهِمْ وَمُجْتَمَعِهِمْ وَيُرْشِدُهُمْ وَيُبَيِّن لَهُمْ كَيْفَ يُحَرِّرُونَ عُقُولَهم، وَيَسْمُونَ بِهَا عَنْ مَهَاوِي الضَّلالِ، إِلى أَنْ يَخُصُوا اللهَ جَلَّ وَعَلا بِالْعِبَادَةِ، وَيُوَضِّحُ لَهُمْ كَيْفَ يَصْقُلُونَ نُفُوسَهُمْ، وَيُغذُّونَ أَرْوَاحَهُمْ بِالصَّلاةِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَيُوَضِّحَ لَهُمْ كَيْفَ يُطَهِّرُونَ أَمْوَالَهُمْ بِأَدَاءِ حَقِّ اللهِ، وَكَيْفَ يَبْنُونَ الأُسْرَةَ الْمُسْلِمَةَ الَّتِي هِيَ نَوَاةُ الْمُجْتَمَعِ عَلَى أُسُسِ سَلِيمَةٍ قَوِيَّةٍ وَذَلِكَ بِتَوَاصُلِهم، وَمَعْرِفَتِهِمْ لِحَقِّ قَرَابَتِهِمْ، وَالآيَاتُ وَالأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، فَقَالَ الْقَوْمُ: مَالَهُ؟ فقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرَبٌ مَالَهُ تَعْبِدُ اللهِ لا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ» . الْحَدِيث رَوَاهُ الشَّيْخَان. 84- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ تَحْرِيمُ الْخُصُومَةِ بِالْبَاطِلِ لِمَنْ يَعْلَمُ، وَتَحْرِيمُ الشَّفَاعَةِ الَّتِي تُعَطِّلُ إِقَامَةَ الْحُدُودِ الَّتِي شَرَعَهَا اللهُ وَتَحْرِيمُ الْقَوْلِ عَلَى الْمُؤْمِنِ بِمَا لَيْسَ فِيهِ فَمِنَ الْغَايَاتِ الَّتِي حَرَصَ الإِسْلامُ عَلَى تَحْقِيقِهَا أَنْ يُقِيمَ الْمُجْتَمَعَ الإِنْسَانِي عَلَى أُسُسٍ قَوِيَّةٍ مِنَ الْعَدَالَةِ وَالتَّرَاحُمِ، وَأَنْ تَسُودَ أَعْضَاءَهُ رُوحُ الْمَوَدَّةِ وَالتَّعَاونِ الْمُثْمِرِ، وَيَسْلَمُ مِنْ عَوَامِلِ الضَّعْفِ. فَعَنْ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: «مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ فَقَدْ ضَادَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ خَاصَمَ فِي الْبَاطِلِ وَهُوَ يَعْلَمُ لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللهِ حَتَّى يَنْزَعَ، وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ أَسْكَنَهُ اللهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ» . أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ. اللَّهُمَّ يَا عَالَم الخَفياتِ، وَيَا رَفِيعَ الدَّرَجَاتِ يَا غَافِرَ الذَّنْبِ وَقَابِلَ التَّوْبِ شَدِيدَ الْعَقَابِ ذِا الطَّوْلِ لا إِله إِلا أَنْتَ إِلَيْكَ الْمَصِير.

نَسْأَلُكَ أَنْ تُذِيقَنَا برْدَ عَفْوِكَ، وَحَلاوَة رَحْمَتِكَ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَأَرْأَفَ الرَّائِفِينَ وَأَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ. اللَّهُمَّ طَيِّبْنَا لِلقَائِكَ، وأهلنَا لِوَلائِكَ وَأَدْخِلْنَا مَعَ الْمَرْحُومِينَ مِن أَوْلِيَائِكَ، وَتَوفّنَا مُسْلِمِين وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ. (فَصْلٌ) 85- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ تَحْرِيمُ شِهَادَةِ الزُّورِ، وَقَوْلِ الزُّورِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الأَضْرَارِ وَالْمَفَاسِدِ الَّتِي مِنْهَا بَيْعُهُ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ، وَمِنْهَا إِسَاءَتُه إِلى مَنْ شَهِدَ لَهُ بِإِعَانَتِهِ عَلَى ظُلْمِهِ، وَمِنْهَا إِسَاءَتَهُ إِلى مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ بِإِضَاعَةِ حَقِّهِ، وَمِنْهَا إِسَاءَتُهُ إِلى الْقَاضِي بِإِضْلالِهِ عَنِ الْمَحَجَّةِ، وَمِنْهَا إِسَاءَتُهُ إِلى الأُمَّةِ بِزَلْزَلَةِ الْحُقُوقِ فِيهَا، وَعَدَمِ الاطْمِئْنَانِ عَلَيْهَا. 86- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ إِبْطَالُ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَحْرِيمُهُ، وَهُمَا الطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ لِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ» . 87- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ النَّهْيُ عَنْ لَطْمِ الْخُدُودِ، وَشَقِّ الْجُيُوبِ فِي الْمُصِيبَاتِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابن مَسْعُود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعاَ بِدَعْوَى الْجَاهِليَّةِ» . 88- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ النَّهْيُ عَنْ الإِسْتِيلاءِ عَلَى الْمَاءِ الذِي لا يَخْتَصُّ بِأَحَدٍ، وَمَنْعِهِ ابنَ السَّبِيلِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمْ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلا يُزَكِّيهم وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِفَلاةٍ يَمْنَعُه ابنَ السَّبِيلِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ وَقَالَ فِيهِ: «وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ،

فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي، كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ» . اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ واجْعَلْنَا هُدَاة مُهْتَدينَ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ الذِينَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ اجْعَلْ الإِيمَانَ هَادِماً لِلسَّيِّئَاتِ كَمَا جَعَلْتَ الكُفْرَ هَادِماً لِلْحَسَنَاتِ وَوَفِّقْنَا للأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ تَوَكَّلَ عَلْيَكَ فَكَفيتَهُ، واسْتَهْدَاكَ فَهَدَيْتَهُ وَدَعَاكَ فَأجَبْتَهُ، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) 89- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ أَنَّهُ يُحَرِّمُ الاعْتِدَاءِ أَوْ النَّيْلَ مِنَ النَّفْسِ أَوْ الْمَالِ أَوْ الْعِرْضِ أَوْ الْعقلِ، وَكُلَّ جَرِيمَةٍ مِنْ جَرَائِمِ الاعْتِدَاءِ عَلَيْهَا عُقُوبةٌ مِنْ قِصَاصٍ أَوْ حَدٍّ، وَالأَخْلاقُ الإِسْلامِيَّةُ مِنْ الصِّدْقِ وَالأَمَانَةِ وَالْوَفَاءِ وَالْعِفَّةِ وَغَيْرِهَا، لَيْسَتْ أُمُوراً كَمَالِيَّةً فِي نَظَرِ الإِسْلامِ، كَمَا يَتَوَهَّمَهُ بَعْضُ النَّاسِ، بَلْ هِيَ وَاجِبَاتٌ يَحْرِصُ عَلَيْهَا وَمُعَرَّضٌ كُلُّ مَنْ يَخْرُجُ عَنْ دَائِرَتِهَا بِأَنَّهُ سَيَقْتَصُّ مِنْهُ فِي الآخِرَةِ إِنْ لَمْ يَتُبْ وَيَتَدَارَكْ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مِنَ الْمُفْلِسُ)) ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاع. فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسِ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَل مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَىَ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ)) . رَوَاهُ مُسْلِم. 90- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ أَنَّهُ يُرْشِدُ مُعْتَنِقَهُ إِلى أَنَّ صَلاحَ حَيَاتِهِ يَتَطَلَّبُ مِنْهُ أَنْ يَكُوَن عَفّاً فِي كَلامِهِ، فَلا يَغْتَابُ، وَلا يُنِمُّ، وَلا يَسُبُّ، وَلا يُقْذِفُ مُسْلِماً، وَلا يَلْعَنُهُ، وَلا يَسْتَهْزِئُ بِهِ، وَلا يَفْتَرِي، وَلا يَكْذِبُ، عَنْ

أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَصْمُتْ» . وَقَالَ: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» . 91- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ أَنَّهُ يَحُثُّ الْمُؤْمِنَ عَلَى أَدَاءِ وَاجِبِه، وَأَنْ لا يَدَّخِرَ جُهْداً فِي تَوْجِيهِ أَهْلِهِ وَإِخْوَانِهِ، وَأَقْرِبَائِهِ وَجِيرَانِهِ، وَكُلِّ مَنْ تَرْبُطُهُمْ بِهِ صِلَةٌ وَثِيقَةٌ إِلى الْخَيْرِ، وَوَسِيلَتُهُ إِلى هَذَا التَّوْجِيهِ هِيَ التَّوَاصِي بِالْحَقِّ، وَالتَّوَاصِي بِالصَّبْرِ، وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَن الْمُنْكَرِ. 92- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ الأَمْرُ بِالْحَيَاءِ الذِي هُوَ أَصْلُ كُلُّ فَضِيلَةٍ، وَعِصْمةٌ مِنْ كُلِّ شَرٍّ، لِمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بن مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اسْتَحْيُوا مِن اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ» . قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا نَسْتَحِي وَالْحَمْدُ للهِ. قَالَ: «لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنْ الاسْتِحْيَاءُ مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكر الْمَوْتَ وَالْبَلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ بِسَنَد صَحِيح. 93- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ النَّهْيُ عَنِ اتِّخَاذِ شَيْءٍ فِيهِ رُوحٌ غَرَضاً يُرْمَى إِلَيْهِ، لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ مَرَّ بِفِتْيَانٍ مِنْ قُرَيْشٍ، قَدْ نَصَبُوا طَيْراً وَهُمْ يَرْمُونَهُ، فَلَمَّا رَأَوْا ابنَ عُمَر تَفَرَّقُوا، فَقَالَ ابنُ عُمَرَ: مَنْ فَعَل هَذَا؟ لَعَنَ اللهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا لَعَنَ اللهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ مَنِ اتَّخَذَ شَيْئاً فِيهِ الرُّوحُ غَرَضاً. 94- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ النَّهْيُ عَنْ بِيعِ الْحُرِّ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ اللهُ تَعَالى ثَلاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ

غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرّاً ثُمَّ أَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيراً فَاسْتَوْفَى مِنْهُ الْعَمَلَ وَلَمْ يُوفِّهِ أَجْرَهُ» . 95- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ عَلَى مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيراً وَاسْتَوْفَى مِنْهُ الْعَمَل، وَلَمْ يُوَفِّهِ أَجْرَهُ. للحديث المتقدم. 96- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ تَحْرِيمُ السِّحْرِ، وَتَحْرِيمُ تَصْدِيقِ الْكَاهِنِ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطِيِّر لَهُ، أَوْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكِهَّنَ لَهُ، أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ، وَمَنْ أَتَى كَاهِناً فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . 97- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ تَحْرِيمُ الْقِيَادَةِ وَالْعِيَاذُ بِاللهِ، وَهِيَ الْجَمْعُ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّة سَوَاءً كَانَ الْجَامِعُ رَجُلاً أَوْ امْرَأَةٌ. 98- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ تَحْرِيمُ السِّعَايَةِ عِنْدَ السُّلْطَانِ بِمَضَرَّةِ مُسْلِمٍ. 99- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ تَحْرِيمُ غَصْبِ الْمَالِ، لأَنَّهُ نُوعٌ مِنَ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ. 100- وَمِنْ مَحَاسِنِ الإِسْلامِ تَحْرِيمُ غَصْبِ الْمَالِ، لأَنَّهُ نُوعٌ مِنَ الظُّلْمِ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. 101- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ الْحَثُّ عَلَى الاسْتِقَامَةِ، الَّتِي هَيِ الاعْتِدَالُ فِي جَمِيعِ الأُمُورِ، مِنَ الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى جَمِيعِ الأَحْوَالِ، الَّتِي تَكُونُ بِهَا النَّفُسُ عَلَى أَفْضَلِ حَالَةٍ وَأَكْمَلِهَا، فَلا يَظْهَر مِنْهَا قَبِيح، وَلا يَتَوَجَّه إِلَيْهَا ذَمٌّ، وَلا لَومٌ وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الشَّرْعِ الشَّرِيفِ، وَالتَّمَسُّكِ بِالدِّينِ الْقَوِيم، وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِهِ مَعَ التَّخَلُّقِ بِالأَخْلاقِ الْفَاضِلَةِ، وَالصِّفَاتِ الْكَامِلَةِ، قَالَ اللهُ تَعَالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا

اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} ، وَقَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسُفْيَانَ بنِ عَبْدِ اللهِ: «قُلْ آمَنْتُ بِاللهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ» . 102- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ أَنَّهُ مَا حَرَّمَ شَيْئاً عَلَيْهِمْ إِلا عَوَّضَهُمْ خَيْراً مِنْهُ مِمَّا يَسُدُّ مَسَدَّهُ وَيُغْنِي عَنْهُ، كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ ابنُ الْقَيِّم رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الاسْتِقْسَامَ بِالأزْلامِ، وَعَوَّضَهُمْ مِنْهُ دُعَاءَ الاسْتِخَارَةِ. 103- وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ الرِّبَا، وَعَوَّضَهُمْ التِّجَارَةَ الرَّابِحَةَ. 104- وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ الْقِمَارَ، وَأَعَاضَهُمْ مِنْهُ أَكْلَ الْمَالِ بِالْمُسَابَقَةِ بِالْخَيْلِ وَالإِبْلِ وَالسِّهَامِ. 105- وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ الْحَرِيرَ، وَأَعَاضَهُمْ مِنْهُ أَنْوَاعَ الْمَلابِسِ الْفَاخِرَةِ مِن الصُّوفِ وَالْكِتَّانِ وَالْقِطْنِ. 106- وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ شُرْبَ الْمُسْكِراتِ، وَأَعَاضَهُمْ عَنْهُ بِالأَشْرِبَةِ اللَّذِيذَةِ، النَّافِعَةِ لِلرِّوْحِ وَالْبَدَنِ. 107- وَحَرَّمَ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ مِن الْمَطْعُومَاتِ، وَأَعَاضَهُمْ عَنَّهَا بِالْمَطَاعِمِ الطَّيباتِ، وَهَكَذَا إِذَا تَتَبَّعْنَا تَعَالِيمَ الإِسْلامِ كُلَّهَا، وَجَدْنَا أَنَّهُ جَلَّ وَعَلا لَمْ يُضَيِّقْ عَلَى عِبَادِهِ فِي جَانِبٍ، إِلا وَسَّعَ عَلَيْهِمْ فِي جَانِبٍ آخَرَ مِنْ جِنْسِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ. اللَّهُمَّ أَحْيِنَا فِي الدُّنْيَا مُؤْمِنِينَ طَائِعِينَ وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ تَائِبِينَ وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. (فَصْلٌ) 108- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ أَنَّهُ يُقَدِّرُ الْبَوَاعِثَ الْكَرِيمَةَ وَالْقَصْدَ الشَّرِيفَ وَالنِّيَةَ الطِّيبةَ، في تَشْرِيعَاتِهِ وَتَوْجِيهَاتِهِ كُلِّهَا، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» . وَبِالنِّيَةِ الطَّيِّبَةِ تَنْقَلِبُ الْمُبَاحَاتُ وَالْعَادَاتُ إِلى طَاعَاتٍ وَقُرُبَاتٍ إِلى اللهِ، فَمَنْ تَنَاوَلَ غَذَاءَهُ بِنِيَّةِ حِفْظِ حَيَاتِهِ وَتَقْوِيَةِ جَسَدِهِ لِيَسْتَطِيعَ الْقِيَامَ بِمَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِ رَبِّهِ مِنْ حُقُوقٍ وَتَكَالِيفَ لأَهْلِهِ وَأَوْلادِهِ، كَانَ طَعَامُه وَشَرَابُه مَعَ النِّيَةِ الصَّالِحَةِ عِبَادَةً وَمَنْ أَتَى شَهْوَتَهُ مَعَ مَا أَحَلَّهُ اللهُ لَهُ مِنْ زَوْجَةٍ أَوْ مَمْلُوكَةٍ لَهُ يَقْصِدُ إِعْفَافَ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَابْتِغَاءَ ذُرِيَّةً صَالِحَةً، كَانَ ذَلِكَ عِبَادَةً تَسْتَحِقُّ الْمَثُوبَةَ وَالأَجْرَ مِنَ اللهِ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ» . قَالُوا: يَا رَسُولُ اللهِ أَيَأْتِي أَحَدُنا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: «أَلَيْسَ إِنْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ، فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَها فِي حَلالٍ كَانَ لَهُ أَجْرٌ» . 109- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِ شِرَاءَ مَا غُصِبَ أَوْ سُرِقَ أَوْ أُخِذَ مِنْ صَاحِبِهِ بِغَيْرِ حَقِّ لأَنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ يَكُونُ مُعِيناً لِلْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ وَالآخِذِ، وَهَذَا إِذَا عَلِمَ أَنَّهَا سِرْقَةٌ، وَلَوْ طَالَ زَمَنُ غَصْبِهِ أَوْ سِرْقَتِهِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ أَوِ السَّارِقِ أَوِ النَّاهِبِ، فَإِنَّ طُولَ الزَّمَنِ فِي الشَّرِيعَةِ الإِسْلامِيَّةِ، لا يَجْعَلُ الْحَرَامَ حَلالاً، وَلا يُسْقِطُ حَقَّ الْمَالِكِ الأصلي بالتَّقَدُّم. وَهَذَا أَيْضاً مِنْ مَحَاسِنِهِ. 110- وَمِنْ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِيّ تَحْرِيمُ الرِّبَا، لأَنَّ الرِّبَا يَقْتَضِي أَخْذَ مَالِ الإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ عِوَض، لأَنَّ مَنْ يَبِيعُ دِرْهَماً بِدِرْهَمَيْنِ يَحْصُلُ لَهُ زِيَادَةُ دِرْهَمٍ مِنْ غَيْرِ عِوَض، وَمَالُ الإِنْسَانِ مُتَعَلِّقُ حَاجَتِهِ، وَلَهُ حُرْمَةٌ عَظِيمَةٌ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. ثَانِياً: اسْتِعمَالُ الرِّبَا يُفْضِي إلى انْقِطَاعِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ النَّاسِ مِنَ الْقَرْضِ. ثَالِثاً: يَمْنَعُ مِنْ تَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ تِجَاهَ الاكْتِسَابِ، فَلا يَكَادُ يَتَحَمَّلُ مَشَقَّةَ الْكَسْبِ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلى انْقِطَاعِ مِنَافِعِ الْخَلْقِ،

وَتَكْسِيلِهِمْ عَنِ الْجِدِّ وَالاجْتِهَادِ فِي الطَّلَبِ، وَقَدْ لَعَنَ اللهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَه وَكَاتِبَه وَشَاهِدَيْه. مَوْعِظَة: عِبَادَ اللهِ إِنَّ مَا سَمِعْتُمْ مِنْ الْمَحَاسِنِ نُقْطَةٌ مِنْ بَحْرِ مَحَاسِنِ الدِّينِ الإِسْلامِي الذِي جَمَعَ اللهُ بِهِ فِرْقَةَ الْعَرَبِ وَشَتَاتَهُمْ وَوَحَّد بِهِ قُلُوبَهُمْ وَصُفوفَهم، وَهَذَّبَ طِبَاعَهُم وَأَخْلاقَهُم، حَتَّى أَوْجَدَ مِنْهُمْ أمةً شَدِيدَةَ الْبَأْسِ، وَاسِعَةَ السُّلْطَانِ، مَلَكَتْ نَاصِيَةَ الأَرْضِ، وَنَشَرَتْ عَلَّمَ الإِسْلامِ فِي نَوَاحِيهَا، قَالَ اللهُ تَعَالى: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} ، وَقَالَ: {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ} . دِينٌ نَشَرَهُ اللهُ فِي أَرْجَاءِ الْمَعْمُورَةِ كَالشَّمْسِ الضَّاحِيَةِ، لا يُحْجَبُ شَعَاعُهَا، وَكَالْقَمَرِ الزَّاهِرِ، لا يَخْفَى ضَوْءُهُ، وَلا يَخْسُفُ نُورُه. دِينٌ تَرَى أَعْدَاءَهُ مُبْغِضِيهِ يَقْتَرِبُونَ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ حَيْثُ يَشْعُرُونَ وَمِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونُ، لأَنَّهُمْ بِمُخْتَرَعَاتِهِمْ وَعُلُومِهِمْ لَمْ يَزِيدُوا عَلَى أَنَّهُمْ بِهِ يَشْهَدُونَ، قَالَ تَعَالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} دِينٌ يَكِيدُ لَهُ أَعْدَاؤُهُ وَحُسَّادُهُ مِنْ يَوْمِ أُنْزِلَ، وَهُوَ كَمَا تَرَى لَمْ يُطْفَأْ لَهُ نُورٌ، وَلَمْ يَضْعُفْ لَهُ بُرْهَانٌ قَالَ تَعَالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} . أَيُّهَا الْمُسْلِمُ حَسْبُكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ الدِّينَ الإِسْلامِي يَحْتَوِي عَلَى خَيْري الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَنَعِيمِ الَْاجِلَةِ وَالآجِلَةِ، فَمَا مِنْ فَضِيلَةٍ إِلا حَثَّ عَلَيْهَا، وَمَا مِنْ رَذِيلَةٍ إِلا نَفَرَ مِنْهَا، فَإِذَا اعْتَصَمْتَ بِحَبْلِهِ الْمَتِينِ، وَحَرِصْتَ عَلَى الْعَمَلِ

بِأَحْكَامِهِ، وَالتَّحَلِّي بِآدَابِهِ، عِشْتَ سَعِيداً، وَمُتَّ سَعِيداً حَمِيداً. وَقَالَ ابن الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى: هَذَا وَنَصْرُ الدِّينِ فَرْضٌ لازِمٌ لا لِلْكِفَايَةِ بَلْ عَلَى الأَعْيَانِ بِيَدٍ وَأَمَّا بِاللِّسَانِ فَإِنْ عَجَزْ تَ فَبِالتَّوَجُّهِ وَالدُّعَا بِجِنَانِ مَا بَعْدَ ذَا وَاللهِ للإِيمَانِ حَبَّـ ـةُ خَرْدَلٍ يَا نَاصِرَ الإِيمَانِ بِحَيَاةِ وَجْهِكَ خَيْرَ مَسْؤُولٍ بِهِ وَبِنُورِ وَجْهِكَ يَا عَظِيمَ الشَّانِ وَبِحَقِّ نَعْمَتِكَ الَّتِي أَوْلَيْتَهَا مِنْ غَيْر مَا عِوَضٍ وَلا أَثْمَانِ وَبِحَقِّ رَحْمَتِكَ الَّتِي وَسِعَتْ جَمِيـ ـعَ الْخَلْقِ مُحْسِنَهُمْ كَذَاكَ الْجَانِي وَبِحَقِّ أَسْمَاءٍ لَكَ الْحُسْنَى مَعاً فِيهَا نُعُوتُ الْمَدْحِ لِلرَّحْمَنِ وَبِحَقِّ حَمْدِكَ وَهُوَ حَمْدٌ وَاسِعُ الْـ أَكْوَانِ بِلْ أَضْعَافُ ذِي الأَكْوَانِ وَبِأَنَّكَ اللهُ الإِلَهُ الْحَقُّ مَعْـ ـبُودُ الْوَرَى مُتَقَدِّسٌ عَنْ ثَانِ بَلْ كُلُّ مَعْبُودٍ سِوَاكَ فَبَاطِلٌ مِنْ دُونِ عَرْشِكَ لِلثَّرَى التَّحْتَانِي

.. وَبِكَ الْمُعَاذُ وَلا مَلاذَ سِوَاكَ أَنْـ ـتَ غِيَاثُ كُلِّ مُلَدَّدٍ لَهْفَانِ مَنْ ذَاكَ لِلْمُضْطَرِ يَسْمَعُهُ سِوَا كَ يُجِيبُ دَعْوَتَهُ مَعَ الْعِصْيَانِ إِنَّا تَوَجَّهْنَا إِلَيْكَ لِحَاجَةٍ تُرْضِيكَ طَالِبُهَا أَحَقَّ مُعَانِ فَاجْعَلْ قَضَاهَا بَعْضَ أَنْعُمِكَ الَّتِي سَبَغَتْ عَلَيْنَا مِنْكَ كُلَّ زَمَانِ انْصُرْ كِتَابَكَ وَالرَّسُولَ وَدِينَكَ الْـ ـعَالِي الذِي أَنْزَلْتَ بِالْبُرْهَانِ وَاخْتَرْتَهُ دِيناً لِنَفْسِكَ وَاصْطَفَيْـ ـتَ مُقِيمَهُ مِنْ أمَّةِ الإِنْسَانِ وَرَضِيتَهُ دِيناً لِمَنْ تَرْضَاهُ مِنْ هَذَا الْوَرَى هُوَ قَيِّمُ الأَدْيَانِ وَأَقِرَّ عَيْنَ رَسُولِكَ الْمَبْعُوثِ بِالدِّ ينِ الْحَنِيفِ بِنَصْرِهِ الْمُتَدَانِ وَانْصُرْهُ بِالنَّصْرِ الْعَزِيزِ كَمِثْلِ مَا قُدْ كُنْتَ تَنْصُرُهُ بِكُلِّ زَمَانِ يَا رَبُّ وَانْصُرْ خَيْرَ حِزْبَيْنَا عَلَى حِزْبِ الضَّلالِ وَعَسْكَرِ الشَّيْطَانِ يَا رَبُّ وَاجْعَلْ شَرَّ حِزْبَيْنَا فِداً

.. لِخِيَارِهِمْ وَلِعَسْكَرِ الْقُرْآنِ يَا رَبُّ وَاجْعَلْ حِزْبَكَ الْمَنْصُورَ أَهْـ ـلَ تَرَاحُمٍ وَتَوَاصُلٍ وَتَدَانِ يَا رَبُّ وَارْحَمْهُمُ مِن الْبِدَعِ الَّتِي قَدْ أُحْدِثَتْ فِي الدِّينِ كُلَّ زَمَانِ يَا رَبُّ جَنِّبْهُمْ طَرَائِقَهَا الَّتِي تُفْضِي بِسَالِكِهَا إِلى النِّيرَانِ يَا رَبُّ وَاهْدِهِمْ بِنُورِ الْوَحْيِ كَيْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَيَظُفَرُوا بِجِنَانِ يَا رَبُّ كُنْ لَهُمْ وَلِيّاً نَاصِراً وَاحْفَظْهُمُ مِنْ فِتْنَةِ الْفَتَّانِ وَانْصُرْهُمْ يَا رَبُّ بِالْحَقِّ الذِي أَنْزَلْتَه يَا مُنْزِلَ الْقُرْآنِ يَا رَبُّ إِنَّهُمُ الْغُرَبَاءُ قَدْ لَجَؤُا إِلَيْكَ وَأَنْتَ ذُو الإِحْسَانِ يَا رَبُّ قَدْ عَادُوا لأَجْلِكَ كُلَّ هَـ ـذَا الْخَلْقِ إِلا صَادِقَ الإِيمَانِ قَدْ فَارَقُوهُمْ فِيكَ أَحْوَجَ مَا هُمُ دُنْياً إِلَيْهِمْ فِي رِضَى الرَّحْمَنِ وَرَضُوا وَلايَتَكَ الَّتِي مِنْ نَالَهَا نَالَ الأَمَانَ وَنَالَ كُلَّ أَمَانِ

.. وَرَضُوا بِوَحْيِكَ مِنْ سِوَاهُ وَمَا ارْتَضَوْا بِسوَاهُ مِنْ آرَاءِ ذِي الْهَذَيَانِ يَا رَبُّ ثَبِّتْهُمْ عَلَى الإِيمَانِ وَاجْـ ـعَلْهُمُ هُدَاةَ التَّائِهِ الْحَيْرَانِ وَانْصُرْ عَلَى حِزْبِ النَّفَاةِ عَسَاكِرَ الْـ إِثْبَاتِ أَهْلَ الْحَقِّ وَالْعِرْفَانِ وَأَقِمْ لأَهْلِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ الـ أَنْصَارَ وَانْصُرْهُمُ بِكُلِّ زَمَانِ وَاجْعَلْهُمُ لِلْمُتَّقِينَ أَئِمَّةً وَارْزُقْهُمُ صَبْراً مَعِ الإِيقَانِ تَهْدِي بِأَمْرِكَ لا بِمَا قَدْ أَحْدَثُوا وَدَعَوْا إِلَيْهِ النَّاسَ بِالْعُدْوَانِ وَأَعِزَّهُمْ بِالْحَقِّ وَانْصُرْهُمْ بِهِ نَصْراً عَزِيزاً أَنْتَ ذُو السُّلْطَانِ وَاغْفِرْ ذُنُوبَهُمُ وَأَصْلِحْ شَأْنَهُمْ فَلأَنْتَ أَهْلُ الْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ وَلَكَ الْمَحَامِدُ كُلَّهَا حَمْداً كَمَا يُرْضِيكَ لا يَفْنَى عَلَى الأَزْمَانِ مِمَّا تَشَاءُ وَرَاءَ ذَلِكَ كُلِّهِ حَمْداً بِغَيْرِ نِهَايَةٍ بِزَمَانِ وَعَلَى رَسُولِكَ أَفْضَلُ الصَّلَوَاتِ وَالتَّـ

.. ـسْلِيمِ مِنْكَ وَأَكْمَلِ الرِّضْوَانِ وَعَلَى صَحَابَتِهِ جَمِيعاً وَالأَلى تَبَعُوُهمُ ُمِنْ بَعْدُ بِالإِحْسَانِ وختاماً فإليك كلمة موجزة قالها أحد العلماء أَرْسِلْ طَرْفَكَ إِلى نَشْأَةِ الأُمَّةِ وَتَبَيَّنْ أَسْبَابَ نُهُوضِهَا الأَوَّلَ فَتَرَى أَنَّ مَا جَمَعَ كَلِمَتَهَا وَأَنْهَضَ هِمَمَ آحَادِهَا وَلَحَّمَ بَيْنَ أَفْرَادِهَا وَصَعَدَ بِهَا إِلى مَكَانَةٍ تُشْرِفُ مِنْهَا عَلَى رُؤُوسِ الأُمَمِ وَتَسْوسُهُمْ وَهِيَ فِي مَقَامِهَا بِدَقِيقِ حِكْمَتِهَا إِنَّمَا هُوَ (دِينٌ) قَوِيمُ الأُصُولِ مُحْكِمُ الْقَوَاعِدِ شَامِلٌ لأَنْوَاعِ الْحكْمِ بَاعِثٌ عَلَى الألفَةِ دَاعٍ إِلى الْمَحَبَّةِ مُزَكٍّ لِلنُّفُوسِ مُطَهِّرٌ لِلْقُلُوبِ مِنْ أَدْرَانِ الْخَسَائِسِ مُنُوِّرٌ لِلْعُقُولِ بِإِشْرَاقِ الْحَقِّ مِنْ مَطَالِعِ قَضَايَاهُ كَافِلٌ لِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الإِنْسَانُ مِنْ مَبَانِي الاجْتِمَاعَاتِ الْبَشَرِيَّةِ وَحَافِظٌ وُجُودَهَا وَيُنَادِي بِمُعْتَقَدِيهِ إِلى جَمِيعِ فُرُوعِ الْمَدِينَةِ الصَّحِيحَةِ، انْظُرْ إِلى التَّارِيخِ قَبْلَ بِعْثَةِ الدِّينِ وَمَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْهَمَجِيَّةِ وَالشَّتَاتِ وَإِتْيَانِ الدَّنَايَا وَالْمُنْكَرَاتِ حَتَّى إِذَا جَاءَهَا الدِّينُ وَحَّدَهَا وَقَوَّاهَا وَهَذَّبَهَا وَنَوَّرَ عُقُولَهَا وَقَوَّمَ أَخْلاقَهَا وَسَدَّدَ أَحْكَامَهَا فَسَادَتْ عَلَى الْعَالَمِ وَسَاسَتْ مَنْ تَوَلَّتْهُ بِالْعَدْلِ وَالإِنْصَافِ. أهـ. اللَّهُمَّ عَافِنَا مِنْ مَكْرِكَ وَزَيِّنَّا بِذِكْرَكَ وَاسْتَعْمِلْنَا بَأَمْرِكَ وَلا تَهْتِكَ عَلَيْنَا جَمِيلَ سِتْرِكَ وَامْنُن عَلَيْنَا بِلُطْفِكَ وَبِرِّكَ وَأَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ، اللَّهُمَّ سَلَّمْنَا مِنْ عَذَابِكَ وَآمِنَّا مِنْ عَقَابِكَ. اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِلاسْتِقَامَةِ وَالْعَدْلِ فِيمَا وَلَيْتَنَا عَلَيْهِ اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ دُنْيَا تَمْنَعُ خَيْرَ الآخِرَة وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ حَيَاةٍ تَمْنَعُ خَيْرَ الْمَمَاتْ وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ أَمَلٍ يَمْنَعُ خَيْرَ الْعَمَلْ وَنَسْأَلَكَ أَنْ تَنَوِّرَ قُلُوبَنَا وَتُثَبِّتَنَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَأَنْ تَغْفِرَ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.

من معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي أثنائها قصيدة وعظية

(فَصْلٌ) في ذكر بعض معجزات النبي صلى الله عليه وسلم عِبَادَ اللهِ لَما كَانَتْ مُعْجِزَاتُ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْوَارٌ تُشْرِقُ عَلَى الْقُلُوبِ الطَّافِحَةِ بِالإِيمَانِ وَتَزِيدُهَا قُوَّةً وَثَبَاتاً وَاسْتِقَامَةً أَحْبَبْتُ أَنْ أَذْكُرَ مَا تَيَسَّرَ مِنْهَا وَاللهُ الْمَسْؤُولُ أَنْ يَجْعَلَ عَمَلَنَا خَالِصاً لِوَجْهِهِ الْكَرِيم. وَاعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ أَنّ اللهَ قَدْ جَمَعَ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْمُعْجِزَاتِ وَالْخَوَارِقِ. أَمَّا الْعِلْمُ وَالأَخْبَارُ الْغَيْبِيَّةُ وَالسَّمَاعُ وَالرُّؤْيَةُ. 1- فمثل إِخْبَارِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينْ وَأُمَمِهِمْ. 2- وَمُخَاطَبَتِهِ لَهُمْ وَأَحْوَالِهِ مَعَهُمْ. 3- وَكَذَلِكَ إِخْبَارِه عَنْ أُمُورِ الرَّبوية وَالْمَلائِكَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ بِمَا يُوَافِقُ الأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّمٍ مِنْهُمْ، وَيُعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ مُوَافِقٌ لِنَقُول الأَنْبِيَاءِ تَارَةً بِمَا فِي أَيدِيهِمْ مِن الْكُتُبِ الظَّاهِرَةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ. 4- وَتَارَةً بِمَا يَعْلَمُهُ الْخَاصَّةُ مِن عُلَمَائِهِمْ. 5- فَإِخْبَارُهُ عَن الأُمُورِ الْغَائِبَةِ مَاضِيهَا وَحَاضِرِهَا هُوَ مِنْ بَابِ الْعِلْمِ الْخَارِقِ لِلْعَادَةِ. 6- وَكَذَلِكَ إِخْبَارُهُ عَنِ الأُمُورِ الْمثسْتَقْبَلَةِ. 7- مِثْلَ مَمْلَكَةِ أُمَّتِهِ. 8- وَزَوَالِ مَمْلَكَةِ فَارِسَ. 9- وَالرُّومِ.

10- وَقِتَالِ التُّرْكِ وَأُلُوف مُؤلَّفَةٍ مِنَ الأَخْبَارِ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا. وَأَمَّا الْقُدْرَةُ وَالتَّأْثِيرْ. 11- فَانْشِقَاقُ الْقَمَرِ. 12- وَكَذَا مِعْرَاجُهُ إِلى السَّمَاوَاتِ. 13- وَكِثْرَةُ الرَّمْي بِالنُّجُومِ عِنْدَ ظُهُورِهِ. 14- وَكَذَا إِسْرَاؤُهُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى. 15- وَتَكْثِيرُ الْمَاءِ فِي عَيْنِ تَبُوكَ. 16- وَعَيْنِ الْحُدَيْبِيَةِ. 17- وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. 18- وَكَذَا تَكْثِيرُ الطَّعَامِ. وَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللهُ بَعْضُهَا مُوَضَّحاً مُفَصَّلاً قَرِيباً. 19- وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: (سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلْنَا وَادِياً أَفْيَحَ فَذَهَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْضِي حَاجَتَهُ فَاتَّبَعْتُهُ بِإِدَاوَةٍ مِنْ مَاءٍ فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرَ شَيْئاً يَسْتَتِرُ بِهِ فَإِذَا شَجَرَتَانِ بِشَاطِئِ الْوَادِي فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى إِحْدَاهُمَا فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا فَقَالَ: «انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللهِ» . فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَالْبَعِيرِ الْمَخْشُومِ الَّذِي يُصَانِعُ قَائِدَهُ حَتَّى أَتَى الشَّجَرَةَ الأُخْرَى فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا فَقَالَ: «انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللهِ» . فَانْقَادَتْ كَذَلِكَ

حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْمَنْتَصَف فِيمَا بَيْنَهُمَا فلآمَ بَيْنَهُمَا حَتَّى جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: «الْتَئِمَا عَلَيَّ بِإِذْنِ اللهِ» . فَالْتَأَمَتَا عَلَيْهِ. فَخَرَجْتُ أُحْضِرُ مَخَافَةَ أَنْ يُحِسَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُرْبِي فَتَبَاعَدَتْ فَجَلَسْتُ أُحَدِّثُ نَفْسِي فَحَانَتْ مِنِّي لَفْتَةٌ فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقْبِلاً وَإِذَا الشَّجَرَتَانِ قَدْ افْتَرَقَتَا فَقَامَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى سَاقٍ) . وَذَكَرَ الْحَدِيث. 20- وَمِنْهَا أَنَّهَا انْكَسَرَتْ رِجْلُ عَبْدِ اللهِ بنِ عُتَيْك رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بَعْدَمَا قَتَلَ أَبَا رَافِعٍ الذِي يُؤْذِي النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَانْتَهَيْتُ إِلى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثْتُهُ فقَالَ لِي: «ابْسِطْ رِجْلَكَ» . فَبَسَطْتُ رِجْلِي فَمَسَحَهَا فَكَأَنَّهَا لَمْ أَشْتَكِهَا قَطُ. 21- وَقِصَّةُ أمِّ مَعْبَدٍ مَشْهُورَةٌ مِنْ حَدِيثِهَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ مَرَّ بِهَا طَلَبَ لَبَناً أَوْ لَحْماً يَشْتَرُونَهُ وَكَانُوا مُرْمِلِينَ مُسْنِتِينَ فَلَمْ يَجِدُوا عِنْدَهَا شَيْئاً قَطُ فَنَظَرَ إِلى شَاةٍ فِي كِسْرِ الْخِيمَةِ خَلَّفَهَا الْجُهْدُ عَن الْغَنَمِ، فَسَأَلَهَا: «هَلْ بِهَا مِنْ لَبَنٍ» ؟ فَقَالَتْ: هِيَ أَجْهَدُ مِنْ ذَلِكَ، فقَالَ: «أَتَأْذَنِينَ لِي أَنْ أَحْلِبَهَا» ! فَقَالَتْ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي إِنْ رَأَيْتَ بِهَا حَلْباً. فَدَعَا بِالشَّاةِ فَاعْتَقَلَهَا وَمَسَحَ ضَرْعَهَا فَدَرَّتْ وَاجْتَرَّتْ وَدَعَا بِإِنَاءٍ يُشْبِعُ الرَّهْطَ فَحَلَبَ حَتَّى مَلأَهُ وَسَقَى الْقَوْمَ حَتَّى زَوَوْا ثُمَّ شَرِبَ آخِرُهُمْ ثُمَّ حَلَبَ فِيهِ مَرَّةً أُخْرَى عَللاً بَعْدَ نهلٍ ثُمَّ غَادَرَهُ عِنْدَهَا وَذَهَبُوا فَجَاءَ أَبُو مَعْبَدٍ فَلَمَّا رَأَى اللَّبَنَ قَالَ: مَا هَذَا يَا أُمَّ مَعْبَدٍ؟ أَنَّى لَكِ هَذَا وَالشَّاةُ عَازِبٌ حِيَالٌ وَلا حَلُوبَةَ بِالْبَيْتِ فَقَالَتْ: لا وَاللهِ إِلا أَنَّهُ مَرَّ بِنَا رَجُلٌ مُبَارَكٌ فقَالَ: صِفِيهِ فَوَصَفَتْهُ لَهُ، وَذَلِكَ فِي طَرِيقِ هِجْرَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الْمَدِينَةِ.

وَقَدْ قِيلَ فِي ذَلِكَ الأَبْيَاتُ الْمَشْهُورَةُ قَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: فَلَمَّا سَمِعْنَا قَوْلَهُ عَرِفْنَا حَيْثُ وَجَّه رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُشِيرُ إِلى مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ الْجِنِّ مِنْ أَسَفْلِ مَكَّةَ يَتَغَنَّى بِأَبْيَاتٍ مِنْ شِعْرٍ غِنَاءَ الْعَرَبِ وَأَنَّ النَّاسَ لَيَتْبَعُونَهُ يَسْمَعُونَ صَوْتَه وَمَا يَرَوْنَهُ حَتَّى خَرَجَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ وَهُوَ يَقُول: جَزَى اللهُ رَبُّ النَّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ رَفِيقَيْنِ حَلا خَيْمَتِي أُمِّ مَعْبَدِ هُمَا نَزلا بالْبِرِّ ثُمَّ تَرَوَّحَا فَأَفْلَحَ مِنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمَّدِ لِيَهْنِ بَنِي كَعْبٍ مَكَانَ فَتَاتِهِمْ وَمَقْعَدُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِمِرْصَدِ سَلُو أُخْتَكُمْ عَنْ شَاتِهَا وَإِنَائِهَا فَإِنَّكُمُوا إِنْ تَسْأَلُوا الشَّاةَ تَشْهَدِ دَعَاهَا بِشَاةٍ حَائِلٍ فَتَحَلَّبَتْ لَهُ بِصَرِيحِ ضَرَّةِ الشَّاةِ مُزْبِدِ فَغَادَرَهُ رَهْناً لَدَيْهَا لِحَالِبٍ يُدِرُّ لَهَا فِي مَصْدَرِ ثُمَّ مَوْرِدِ فَلَمَّا سَمِعَ حَسَّانُ بنُ ثَابت أَنْشَأَ يَقُولُ مُجِيباً لِلْهَاتِفِ: لَقَدْ خَابَ قَوْمٌ زَالَ عَنْهُمْ نَبِيُّهُم وَقُدِّسَ مَنْ يَسْرِي إِلَيْهِمْ وَيَغْتَدِي

تَرَحَّلَ عَنْ قَوْمٍ فَظَلَّتْ عُقُولُهُمْ وَحَلَّ عَلَى قَوْمٍ بِنُورٍ مُجَدَّدِ هَدَاهُمْ بِهِ بَعْدَ الضَّلالَةِ رَبُّهُمْ وَأَرْشَدَهُمْ مَن يَتْبَعِ الْحَقَّ يَرْشُدِ وَقَدْ نَزَلَتْ مِنْهُ عَلَى أَهْل يَثْرِب رِكَابُ هُدىً حَلّتْ عَلَيْهِمْ بِأَسْعَدِِ نَبِيُّ يَرَى ما لا يَرَى النَّاسُ حَوْلَهُ وَيَتْلُو كِتَابَ اللهِ فِي كُلِّ مَسْجِدِ وَإِنْ قَالَ فِي يَوْمٍ مَقَالَةَ غَائِبٍ فَتَصْدِيقَهَا فِي الْيَوْمِ أَوْ فِي ضُحَى الْغَدِ لِيَهْنِ أَبَا بَكْرٍ سَعَادَةُ جِدِّه بِصُحْبَته مَنْ يُسْعِدِ اللهُ يَسْعَدِ 22- وفي الترمذي عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: (كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ فَخَرَجْنَا فِي بَعْضِ نَوَاحِيهَا فَمَا اسْتَقْبَلَهُ شَجَرٌ وَلا جَبَلٌ إِلا وَهُوَ يَقُولُ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ) . رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحه. 23- وَجاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقَالَ: بِمَ أَعْرَفُ أَنَّكَ نَبِي؟ قَالَ: «إِنْ دَعَوْتُ هَذَا الْعِذْقَ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولَ اللهِ» ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَدَعَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ يَنْزِلُ مِن النَّخْلَةِ حَتَّى سَقَطَ إِلى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: «ارْجِعْ» . فَعَادَ فَأَسْلَم الأَعْرَابِيُّ.

شِعْرًا: ... تَأَمَّلْ فِي نَبَاتِ الأَرْضِ وَانْظُرْ ... إِلى آثَارِ مَا صَنَعَ الْمَلِيكُ آخر: ... عُيُونٌ مِنْ لُجَيْنَ شَاخِصَاتٌ ... بأَحْدَاقٍ هِيَ الذَّهِبُ السَّبِيكُ عَلَى قُضُبِ الزَّبَرْجَدِ شَاهِدَاتٌ ... بِأَنَّ اللهَ لَيْسَ لَهُ شَرِيكُ وَأَنَّ مُحَمَّداً خَيْرُ الْبَرَايَا ... إِلى الثَّقَلَيْنِ أَرْسَلَهُ الْمَلِيكُ اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَارْزُقْنَا الْقِيَامَ بِطَاعَتِكَ وَجَنِّبْنَا مَا يُسْخِطُكَ وَأصْلِحْ نَيَّاتِنَا وَذُرَّيَاتِنَا وَأَعِذْنَا مِنْ شَرِّ نُفُوسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا وَأَعِذْنَا مِنْ عَدُوِّكَ وَاجْعَلْ هَوَانَا تَبَعاً لِمَا جَاءَ بِهِ رَسُولُكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. (فَصْلٌ) 24- وَلَمَّا بَعَثَتْ قُرَيْشٌ فِي فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ بَدْرٍ فَفَدَى كُلُّ قَوْمٍ أَسِيرَهُمْ بِمَا رَضُوا وَكَانَ الْعَبَّاسُ أَسِيراً قَالَ يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ كُنْتُ مُسْلِماً فقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهُ أَعْلَمُ بِإِسْلامِكَ فَإِنْ يَكُنْ كَمَا تَقُولُ فَإِنَّ اللهَ يَجْزِيكَ وَأَمَّا ظَاهِرُكَ فَقَدْ كَانَ عَلَيْنَا فَافْتَدِ نَفْسَكَ وَابْنِي أَخَوَيْكَ» . قَالَ الْعَبَّاسُ: مَا ذَاك عِنْدِي. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَيْنَ الْمَالُ الذِي دَفَنْتَهُ أَنْتَ وَأَمُّ الْفَضْلِ فَقُلْتَ لَهَا: إِنْ أُصِبْتُ فِي سَفَرِي هَذَا فَهَذَا الْمَالُ الذِي دَفَنْتُهُ لِبَنِي الْفَضْلِ وَعَبْدِ اللهِ وَقُثَمّ» . قَالَ: وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ لأَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ مَا عَلِمَهُ أَحَدٌ غَيْرِي وَغَيْرُ أُمِّ الْفَضْلِ.. إلخ.

25- وَقِصَّةُ ارْتِجَافِ أُحُدٍ وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَعَدَ أُحُداً وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ فَرَجَفَ بِهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَثْبتْ أُحُدٌ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَان)) . 26- وَقِصَّةُ مَاءِ الرَّكْوَةِ وَهِيَ مَا وَرَدَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ رِكْوَةٌ يتَوَضَّأَ فَجَهِشَ النَّاسُ نَحْوَهُ فَقَالَ: «مَا لَكُمْ» ؟ قَالُوا: لَيْسَ عِنْدَنَا مَاءٌ نَتَوَضَّأُ وَلَا نَشْرَبُ إِلَّا مَا بَيْنَ يَدَيْكَ. قَالَ جَابِرِ: فَوَضَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فِي الرِّكْوَةِ فَجَعَلَ الْمَاءُ يَثُورُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ كَأَمْثَالِ الْعُيُونِ فَشَرِبْنَا وَتَوَضَّأْنَا قَالَ سالِم: قُلْتُ لِجَابِرِ كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً (1500) . 27- وَقِصَّةُ مَوْتِ النَّجَاشِيِّ وَهِيَ مَا وَرَدَ عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ رَبِيْبَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: لَمَّا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَ لَهَا: «إِنِّي قَدْ أَهْدَيْتُ لِلنَّجَاشِيِّ أَوَاقِيَّ مِنْ مِسْكٍ وَحُلَّةً وَإِنِّي لَا أَرَاه إِلَّا قَدْ مَاتَ وَلَا أَرَى إِلَّا الهَدِيَّة إِلا سَتُرَدُّ إليَّ، فَإِذا رُدَّتْ إِليَّ فَهِيَ لَكِ» . فكَانَ كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَاتَ اِلنَّجَاشِيّ ِوَرُدَّتْ إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّتُهُ فَأَعْطَى كُلَّ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ أُوقِيَّةً مِنْ ذَلِكَ المِسْكِ وَأَعْطَى سَائِرَهُ أُمَّ سَلَمَةَ. 28-وَقِصَّةُ عُكَّاشَةَ بنِ مِحْصَن بنِ حَرْثَانِ الأَسَدِيِّ حِينَمَا انْدَفَعَ يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ وَيحَصْدُ ُفِيهِمْ حَصْداً حَتَّى انْكَسَرَ سَيْفُهُ فَلَمْ يَثْنِهِ ذَلِكَ عَنْ خَوْضِ الْمَعْرَكَةِ وَلَمْ يَتَّخِذْ مِنْ كَسْرِ سَيْفِهِ مَعْذِرَةً عَن الْقِتَالِ فَجَاءَ إِلى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُهُ بِكَسْرِ سَيْفِهِ وَإِرَادَةِ غَيْرِهِ

فَدَفَعَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ جَذْلاً مِنْ حَطَبٍ فقَالَ لَهُ: ((قَاتِلْ بِهَذَا يَا عُكَّاشَةُ)) . فَلَمَّا أَخَذَهُ عُكَّاشَةُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَزَّهُ فَعَادَ فِي يَدِهِ سَيْفاً صَارِمَ القَامَةِ شَدِيدَ الْمَتْنِ أَبْيَضَ الْحَدِيدَةِ فَقَاتَلَ بِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حَتَّى فَتَحَ اللهُ تَعَالى عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ ذَلِكَ السَّيْفُ يَشْهَدُ بِهِ الْمَشَاهِدَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى اسْتُشْهِدَ فِي قِتَالِ الرِّدَةِ فِي خِلافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. 29- وَقِصَّةُ عُمَيْرِ بنِ وَهْبٍ الْجُمَحِي وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مَعَ صَفْوَانَ بنِ أُمَيَّةَ بَعْدَ مُصَابِ أَهْلِ بَدْرٍ وَكَانَ عُمَيْرٌ شَيْطَاناً مِنْ شَيَاطِينِ قُرَيْشٍ وَمِمَّنْ كَانَ يُؤْذِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ وَيَلْقُون مِنْهُ عِنَاءً وَهُوَ بِمَكَّةَ وَكَانَ ابْنُهُ وَهْبُ بنُ عُمَيْرٍ فِي أُسَارَى بَدْرٍ قَالَ: فَذَكَرَ عُمَيْرٌ أَصْحَابَ الْقَلِيبِ وَمُصَابَهُمْ فَقََالَ صَفْوَانُ: وَاللهِ مَا فِي الْعَيْشِ بَعْدَهُمْ خَيْرٌ. قَالَ عُمَيْرٌ: صَدَقْتَ وَاللهِ أَما وَاللهِ لَوْلا دَينٌ عَلَيَّ لَيْسَ لَهُ عِنْدِي قَضَاءٌ وَعِيَالٌ أَخْشَى عَلَيْهِمْ الضَّيْعَة بَعْدِي لَرَكِبْتُ إِلى مُحَمَّدٍ حَتَّى أَقْتُلَهُ فَإِنْ لِي قِبَلَهُمْ عِلَّةٌ ابْنِي أَسِيرٌ فِي أَيْدِيهِمْ قَالَ: فَاغْتَنَمَهَا صَفْوَانُ وَقَالَ: عَلَيَّ دَيْنُكَ أَنَا أَقْضِيهِ عَنْكَ وَعِيَالُكَ مَعَ عِيَالِي أُوَاسِيهِمْ مَا بَقُوا لا يَسَعُنِي شَيْءٌ يَعْجَزُ عَنْهُمْ. فقَالَ عُمَيْرٌ: فَاكْتُمْ شَأْنِي وَشَأْنَكَ قَالَ: أَفْعَلُ ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَبَيْنَمَا عُمَرُ بنُ الْخَطَّابِ فِي نَفَرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ يَوْمِ

بَدْرٍ وَمَا أَكْرَمَهُمْ اللهُ بِهِ وَمَا أَرَاهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ إِذ نَظَرَ عُمَرُ إِلى عُمَيْرٍ بنُ وَهْبٍ حِينَ أَنَاخَ رَاحِلَتَه عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، مُتَوَشِّحاً السَّيْفَ، فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا الْكَلْبُ عَدُوُ اللهِ وَاللهِ مَا جَاءَ إِلا لِشَر. ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ هَذَا عَدُوُ اللهِ عُمَيْرُ ابنُ وَهْبٍ، قَدْ جَاءَ مُتَوَشِّحاً سَيْفَهُ. قَالَ: ((فَأَدْخِلْْهُ عَلَيَّ)) . فَأَقْبَلَ عُمَرُ حَتَّى أَخَذَ بِحَمَالَةِ سَيْفِهِ فِي عُنُقِهِ فَلَبَّبَهُ بِهَا. وَقَالَ لِرَجَالٍ مِنَ الأَنْصَارِ: ادْخُلُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاجْلِسُوه عِنْدَهُ وَاحْذَرُوا عَلَيْهِ مِنْ هَذَ الْخَبِيثِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَأْمُونٍ ثُمَّ دَخَلَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((أَرْسِلْهُ)) . فَدَنَا عُمَيْرٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَمَا جَاءَ بِكَ يَا عُمَيْرُ» ؟ قَالَ: جِئْتُ لِهَذَا الأَسِيرِ الذِي فِي أَيْدِيكُمْ فَأَحْسِنُوا فِيهِ يَعْنِي وَلَدَهُ قَالَ: ((فَمَا بَالُ السَّيْفِ فِي عُنِقِكَ)) ؟ قَالَ: قَبَّحَهَا اللهُ مِنْ سُيُوفٍ وَهَلْ أَغَنَتْ عَنَّا شَيْئاً قَالَ: «أُصْدُقْنِي مَا الذِي جَاءَ بِكَ» ؟ قَالَ: مَا جِئْتُ إِلا لِذَلِكَ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ قَعَدْتَ أَنْتَ وَصَفْوَانُ بنُ أُمَيَّةَ فِي الْحِجْرِ فَذَكَرْتُمَا أَصْحَابَ الْقَلِيبِ مِنْ قُرَيْشٍ ثُمَّ قُلْتَ: لَوْلا دِينٌ عَلَيَّ وَعِيَالٌ عِنْدِي لَخَرَجْتُ حَتَّى أَقْتُلَ مُحَمَّداً فَتَحَمَّل لَكَ صَفْوَانُ بِدَيْنِكَ وِعِيَالِكَ عَلَى أَنْ تَقْتُلَنِي لَهُ، وَاللهُ حَائِلٌ بِيَنْكَ وَبَيْنَ ذَلِكَ» . فَقَالَ عُمَيْرٌ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ قَدْ كُنَّا يَا رَسُولَ اللهِ نُكَذِّبُكَ بِمَا كُنْتَ تَأْتِينَا بِهِ مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ وَمَا يَنْزِلُ عَلَيْكَ مِنْ الْوَحْيِ وَهَذَا أَمْرٌ لَمْ

يَحْضُرْهُ إِلا أَنَا وَصَفْوَانُ فَوَاللهِ إِنِّي لأَعْلَمُ مَا أَتَاكَ بِهِ إِلا اللهُ فَالْحَمْدُ للهِ الذِي هَدَانِي لِلإِسْلامِ وَسَاقَنِي هَذَا الْمَسَاقَ. ثُمَّ شَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقِّ فقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَقِّهُوا أَخَاكُمْ فِي دِينِهِ وَاقْرِئُوهُ الْقُرْآنَ وَأَطْلِقُوا لَهُ أَسِيرَهُ» . فَفَعَلُوا الخ. وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ. شِعْراً: فُؤادٌ مَا يَقِرُّ لَهُ قَرَارٌ وَأَجْفَانٌ مَدَامِعُهَا غِزَارُ وَلَيْلٌ طَالَ بالأَنْكَادِ حَتَّى ظَننتُ اللَّيْلَ لَيْسَ لَهُ نَهَارُ وَلِمَ لا والتُّقَى حَلَّتْ عُرَاهُ وَبَانَ عَلَى بَنِيهِ الإنْكِسَارُ لِيَبْكِ مَعِي عَلى الدِّيْنِ الْبَوَاكِي فَقَدْ أَضْحَتْ مَوَاطِنُه قِفَارُ وَقَدْ هُدَّتْ قَوَاعِدُهُ اعْتِدَاءً وَزَالَ بِذَاكُمُوا عَنْهُ الْوَقَارُ وأَصْبَحَ لا تُقَامُ لَهُ حُدُودٌ وَأَمْسَى لا يُبَنَّ لَهُ شِعَارُ وَعَادَ كَمَا بَدَا فِينَا غَرِيباً هُنَالِكَ مَالَهُ فِي الْخَلْقِ جَارُ فَقَدْ نَقَضُوا عُهُودَهُمُوا جِهَاراً وَأَسْرَفُوا فِي الْعَدَاوَةِ ثُمَّ سَارُوا

اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ سِرَّنَا وَعَلانِيَّتَنَا وَتَسْمَعُ كَلامَنَا وَتَرَى مَكَانَنَا لا يَخْفَى عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِنَا نَحْنُ الْبُؤَسَاءُ الْفُقَرَاءُ إِلَيْكَ الْمُسْتَغِيثُونَ الْمُسْتَجِيرُونَ بِكَ نَسْأَلُكَ أَنْ تُقَيِّضَ لِدِينِكَ مَنْ يَنْصُرَهُ وَيُزِيلَ مَا حَدَثَ مِن الْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَيَقِيمَ عَلَمَ الْجِهَادِ وَيَقْمَعَ أَهْلَ الزَّيْغِ وَالْكُفْرِ وَالْعِنَادِ وَنَسْأَلُكَ أَنْ تَغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) 30- وَقِصَّةُ حَنِينِ الْجَذْعِ مَا وَرَدَ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ قَالَتْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلا أَجْعَلُ لَكَ شَيْئاً تَقْعُدُ عَلَيْهِ فَإِنَّ لِي غُلاماً نَجَّاراً قَالَ: ((إِنْ شِئْتِ)) . قَالَ: فَعَمِلَتْ لَهُ الْمِنْبَرَ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْجُمْعَةِ قَعَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرَ الذِي صُنِعَ فَصَاحَتِ النَّخْلَةُ الَّتِي كَانَ يَخْطِبُ عِنْدَهَا حَتَّى كَادَتْ أَنْ تَنْشَقَّ فَنَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَخَذَهَا فَضَمَّهَا إِلَيْهِ فَجَعَلَتْ تَئِنُ أَنِينَ الصَّبِيِّ الذِي يَسْكُتْ. 31- وَقِصَّةُ عُكَّةِ أُمِّ سُلَيِم لِمَا وَرَدَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أُمِّهِ قَالَ: كَانَتْ لَنَا شَاةٌ جَمَعت مِنْ سَمْنِهَا فِي عُكَّةٍ فَمَلأَتِ الْعُكَّةِ ثُمَّ بَعَثَتَ بِهَا مَعَ رَبِيبَةٍ فَقَالَتْ: يَا رَبِيبَةُ فَبَلِّغِي هَذِهِ الْعُكَّةَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتَدِمْ بِهَا فَانْطَلَقَتْ بِهَا الرَّبِيبَةُ حَتَّى أَتَتْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ هَذِهِ عُكَّةُ سَمْنٍ بَعَثَتْ بِهَا إِلَيْكَ أُمُّ سُلَيْم فَقَالَ: ((أَفْرِغُوا لَهَا عُكَّّتَهَا)) . فَفُرِّغَتْ الْعُكَّةُ فَدُفِعَتْ إِلَيْهَا فَأَنْطَلَقَتْ بِهَا.

وَجَاءَتْ وَأُمُّ سُلَيْم لَيْسَتْ فِي الْبَيْتِ فَعَلَّقَتْ الْعُكَّةَ عَلَى وَتَدٍ فَجَاءَتْ أُمُّ سَلَيْمٍ فَرَأَتْ الْعُكَّةَ مُمْتَلِئَةً تَقْطُرُ فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْم: يَا رَبِيبَةُ أَلَيْسَ أَمَرْتُكِ أَنْ تَنْطَلِقِي بِهَا إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَتْ: قَدْ فَعَلْتُ فَإِنْ لَمْ تُصَدِّقِينِي فَسَلِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَانْطَلَقَتْ وَمَعَهَا الرَّبِيبَةُ. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي قَدْ بَعَثْتُ مَعَهَا إِلَيْكَ بِعُكَّةٍ فِيهَا سَمْنٌ قَالَ: ((قَدْ فَعَلَتْ قَدْ جَاءَتْ)) . قَالَتْ: وَالذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ وَدِينِ الْحَقِّ إِنَّهَا لَمُمْتَلِئَةٍ تَقْطُرُ سَمْناً قَالَ: فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أُمَّ سُلَيْمٍ أَتَعْجَبِينَ إِنْ كَانَ اللهُ أَطْعَمَكِ كَمَا أَطْعَمَ نَبِيَّهُ كُلِي وَأَطْعِمِي» . قَالَتْ: فَجِئْتُ إِلى الْبَيْتِ فَقَسَمْتُ فِي قُعْبٍ لَنَا كَذَا وَكَذَا وَتَرَكْتُ فِيهَا مَا ائْتَدَمْنَا بِهِ شَهْرَيْنِ. 32- وَقِصَّةُ طِيْبِ عُتْبَةَ صَاحِبِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: أُمُّ عَاصِمٍ امْرَأَةُ عُتْبَةَ بن فَرْقَد كُنَّا عِنْدَ عُتْبَةَ ثَلاثَ نِسْوَةٍ مَا مِنَّا وَاحِدَةٌ إِلا وَهِيَ تَجْتَهِدُ فِي الطِّيبِ لِتَكُونَ أَطْيَبَ مِنْ صَاحِبَتِهَا وَمَا يَمَسَّ عُتْبَةُ بنُ فَرْقَدٍ طِيباً إِلا أَنْ يَلْتَمِسَ دُهْناً وَكَانَ أَطْيَبَ رِيحاً مِنَّا فَقُلْتُ لَهُ ذَلِكَ. فَقَالَ أَصَابَنِي الشَّرَى (حَكَّةٌ فِي الْجِلْدِ) عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْعَدَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَتَجَرَّدْتُ وَأَلْقَيْتُ ثِيَابِي عَلَى عَوْرَتِي فَنَفَثَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَفِّهِ ثُمَّ دَلَّكَ بِهَا الأُخْرَى ثُمَّ أَمَرَهُمَا عَلَى ظَهْرِي فَعَبَقَ بِهَا مَا تَرَوْنَ.

33- وَقِصَّةُ قَتَادَةَ بنِ النُّعْمَانِ فَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدَرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ لِصَلاةِ الْعِشَاءِ وَهَاجَتْ الظُّلْمَاءُ مِنْ السَّمَاءِ وَبَرَقَتْ بَرْقَةٌ فَرَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَادَةَ بنَ النُّعْمَانِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((قَتَادَةُ)) ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ عَلِمْتُ إِنَّ شَاهِدَ الصَّلاةِ اللَّيلةِ قَلِيلٌ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَشْهَدَهَا. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا انْصَرَفْتَ فَأْتِنِي)) . فَلَمَّا انْصَرَفَ أَعْطَاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِرْجُوناً وَقَالَ: «خُذْهُ فَسَيُضِيءُ أَمَامَكَ عَشْراً وَخَلْفَكَ عَشْراً» . 34- وَقِصَّةُ أَبِي جَابِرٍ وَهِيَ مَا وَرَدَ عَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: تُوفِّيَ أَبِي شَهِيداً فِي أُحُدٍ وَعَلَيْهِ دِيْنٌ فَاسْتَعَنْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى غُرَمَائِهِ فَلَمْ يَفْعَلُوا فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اذْهَبْ فَصَنِّفْ تَمْرَكَ أَصْنَافاً الْعَجْوَةَ عَلَى حِدَة وَعِذْقَ زَيْدٍ عَلَى حِدَةٍ» . (أَنْوَاعُ التَّمْرِ) . «ثُمَّ أَرْسِلْ إِليَّ» . قَالَ جَابِرُ: فَفَعَلْتُ ثُمَّ أَرْسَلْتُ إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ عَلَى أَعْلاهُ أَوْ فِي وَسَطِهِ ثُمَّ قَالَ: ((كِلْ لِلْقَوْمِ)) . قَالَ جَابِرٌ: فَكِلْتُهُمْ حَتَّى أَوْفَيْتُهُمْ الذِي لَهُمْ وَبَقِيَ تَمْرِي كَأَنْ لَمْ يَنْقَصْ مِنْهُ شَيْءٌ. 35- وَقِصَّةُ حَاطِبِ بنِ أَبِي بَلْتَعَةَ وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا أَعْلَمَ النَّاسَ أَنَّهُ سَائِرٌ إِلى مَكَّةَ وَأَمَرَهُمْ بِالْجَدِّ وَالتَّهَيؤُ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ خُذِ الْعُيُونَ وَالأَخْبَارَ عَنْ قُرَيْشٍ، حَتَّى نَبْغَتَهَا فِي بِلادِهَا» .

فَلَمَّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَسِيرِ، كَتَبَ حَاطِبٌ كِتَاباً إِلى قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ بِالذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الأَمْرِ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ. ثُمَّ أَعْطَاه امْرَأةً وَجَعَلَ لَهَا عَطَاءً عَلَى أَنْ تُبَلِّغَهُ قُرَيْشاً فَجَعَلَتْهُ فِي رَأْسِهَا ثُمَّ فَتَلَتْ عَلَيْهِ قُرُونَهَا (جَدَائِلَهَا) . وأتى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علي بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما فقَالَ: ((أَدْرِكَا امْرَأَةً قَدْ كَتَبَ مَعَهَا حَاطِبُ بنُ أَبِي بَلْتَعَةَ بِكِتَابٍ إِلى قُرَيْشٍ يُحَذِّرُهُمْ مَا أَجْمَعْنَا عَلَيْهِ فِي أَمْرِهِمْ)) . فَخَرَجَا حَتَّى أَدْرَكَاهَا بِالْخَلِيقَةِ (اسْمُ مَوْضِعٍ) فَاسْتَنْزَلاهَا فَالْتَمَسَا فِي رَحْلِهَا فَلَمْ يَجِدَا شَيْئاً فَقَالَ لَهَا عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ: إِنِّي أَحْلِفُ بِاللهِ مَا كَذَبَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا كَذَبْنَا وَلَتُخْرِجِنَّ لَنَا هَذَا الْكِتَابَ أَوْ لَنَكْشِفَنَّكِ. فَلَمَّا رَأَتِ الْجِدَّ مِنْهُمَا قَالَتْ: أَعْرِضْ فَأَعْرَضَ فَحَلَّتْ قُرُونَ رَأْسِهَا فَاسْتَخْرَجَتِ الْكِتَابَ مِنْهَا فَدَفَعَتْهُ إِلَيْهِ فَأَتَى بِهِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاطِباً فَقَالَ: ((يَا حَاطِبُ مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا)) . فَقَالَ: يا رَسُولَ اللهِ أَمَا وَاللهِ إِنِّي لَمُؤْمِنٌ بِاللهِ وَرَسُولِهِ مَا غَيَّرتُ

وَلا بَدَّلْتُ وَلَكِنِّي امْرُؤٌ لَيْسَ لي في الْقَوْمِ مِنْ أَصْلٍ وَلا عَشِيرَةٍ وَكَانَ لِي بَيْنَ أَظْهرِهِمْ وَلَدٌ وَأَهْلٌ فَصَانَعْتُهم عَلَيْهِمْ. فَقَالَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اللهِ دَعْنِي فَلأَضْرِبُ عُنَقَهُ فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ نَافَقَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا يُدْرِيكَ يَا عُمَرُ لَعَلَّ اللهَ قَدْ اطَّلَعَ إِلى أَصْحَابِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» . فَأَنْزَلَ اللهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء} الآية. اللَّهُمَّ نُوِّرْ قُلُوبَنَا وَاشْرَحْ صُدُورَنَا وَيَسِّرْ أُمُورَنَا وَثَبِّتْنَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَارْفَعْ مَنَازِلَنَا فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. 36- وَقِصَّةُ لَبَنِ أَهْلِ الصُّفَةِ وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَعَدَ يَوْماً عَلَى الطَّرِيقِ فَمَرَّ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآهُ وَعَرَفَ مَا فِي نَفْسِهِ وَمَا فِي وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ» . قَالَ: قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: ((إِلْحِقْ)) . وَمَضَى فَتَبِعْتُهُ فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لِي فَدَخَلَ فَوَجَدَ لَبَناً فِي قَدَحٍ فَقَالَ: ((مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ)) ؟ قَالُوا: مِنْ فُلانٍ أَوْ فُلانَةٍ. قَالَ: ((أَبَا هِرّ)) . قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: ((إِلْحِقْ إِلى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهمْ لِي)) . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَسَاءَنِي ذَلِكَ فَقُلْتُ: وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ كُنْتُ أَحَقُّ أَنَا أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا فَإِذَا جَاؤُوا أَمَرَنِي فَكُنْتُ أَنَا أُعْطِيهِمْ وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِي مِنْ هَذَا اللَّبَنِ. قَالَ: فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ فَأَقْبَلُوا فَاسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لَهُمْ وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنَ الْبَيْتِ فَقَالَ: ((يَا أَبَا هُرَيْرَةَ)) . قُلْتُ: لَبْيَكَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: ((خُذْ فَأَعْطِهِمْ)) .

قَالَ: فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ فَجَعَلْتُ أَعْطِي الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ. حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رَوَى الْقومُ كُلُّهُمْ. فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ فَنَظَرَ إِلَيَّ فَتَبَسَّمَ فَقَالَ: ((أَبَا هِرّ)) . قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: ((بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ)) . قُلْتُ صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: ((أَقْعُدْ فَاشْرَبْ)) . فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ فَقَالَ: ((اشْرَبْ)) . فَشَرِبْتُ فَمَا زَالَ يَقُولُ: ((اشْرَبْ)) . حَتَّى قُلْتُ: وَالذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكاً. قَالَ: ((فَأَرِنِي)) . فَأَعْطَيْتُه الْقَدَحَ فَحَمِدَ اللهَ وَسَمَّى وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 37- وَقِصَّةُ طَعَامِ جَابِرٍ وَذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا حُفِرَ الْخُنْدَقُ رَأَيْتُ بِالنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْصاً شَدِيداً فَانْكَفَأْتُ إِلى امْرَأَتِي فَقُلْتُ: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ فَإِنِّي برَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْصاً شَدِيداً. فَأَخْرَجَتِ إِلَيَّ جِرَاباً فِيهِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ وَلَنَا بُهَيْمَةٌ دَاجِنْ فَذَبَحْنَاهَا وَطَحَنَتْ الشَّعِيرَ فَفَرَغَتْ إِلى فَرَاغِي وَقَطَّعَتْهَا فِي بُرْمَتِهَا ثُمَّ وَلَّيْتُ إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقَالَتْ: لا تَفْضَحْنِي بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجِئْتُهُ فَسَارَرْتُهُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا وَطَحَنَا صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ كَانَ عِنْدَنَا فَتَعَالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ مَعَكَ. فَصَاحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ إِنَّ جَابِراً قَدْ صَنَعَ سُؤْراً فَحَيَّ هَلا بِكُمْ)) . فَقَالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا

تَنْزِلَنَّ بِرْمَتَكُمْ وَلا تَخْبِزُنَّ عَجِينَكُم حَتَّى أَجيءَ)) . وَجَاءَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَقَدَّمَ النَّاسَ حَتَّى جِئْتُ امْرَأَتِي فَقَالَتْ: بِكَ وَبِكَ فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلَ الذِي قُلْتِ فَأَخْرَجَتْ لَهُ عَجِيناً فَبَصَقَ فِيهِ وَبَارَكَ ثُمَّ عَمَدَ إِلى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ وَبَارَكَ. ثُمَّ قَالَ: ((ادْعِي خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعَكِ وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُمْ وَلا تُنْزِلُوهَا)) . وَهُمْ أَلْفٌ فَأَقْسِمُ بِاللهِ لَقَدْ أَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ. 38- وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ شَاكِياً فَمَرَّ بِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَجَلِي قَدْ حَضَرَ فَأَرِحْنِي وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّراً فَارْفَعْنِي وَإِنْ كَانَ بَلاءً فَصَبِّرْنِي. فقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كَيْفَ قُلْتَ)) ؟ فَأَعَادَ عَلَيْهِ مَا قَالَ فَضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ وقَالَ: ((اللَّهُمَّ عَافِهِ)) أَوْ اشْفِهِ شَكَّ شُعْبَةُ قَالَ: فَمَا اشْتَكَيْتُ وَجَعِي بَعْدَ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيث حَسَن صَحِيح. 39- وَمِنْ ذَلِكَ رَدُّ عَيْنِ قَتَادَةَ بنِ النُّعْمَانِ فَقَدْ أُصِيبَتْ عَيْنُهُ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ حَتَّى وَقَعَتْ عَلَى وَجْنَتِه فَرَدَّهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ أَحْسَنَ عَيْنَيْه وَأَحَدَهُمَا نَظَراً وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ ابْنُهُ: أَنَا ابْنُ الذِي سَالَتْ عَلَى الْخَدِّ عَيْنُهُ فَرُدَّتْ بِكَفِّ الْمُصْطَفَى أَحْسَنَ الرَّدِ اللَّهُمَّ اجْعَلْ قُلُوبَنَا مَمْلُؤةً بِحُبِّكَ وَأَلْسِنَتَنَا رَطْبَةً بِذِكْرِكَ وَنُفُوسَنَا مُطِيعَةً لأَمْرِكَ وَأَمِّنَّا مِنْ سَطْوَتِكَ وَمَكْرِكْ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي دِينِنَا وَدُنْيَانَا وَأُخْرَانَا وَأَهْلِنَا وَمَا لَنَا اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوَراتِنَا وَأَمِّنْ رَوْعَاتِنَا وَاحْفَظْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِينَا وَمِنْ خَلْفَنَا وَعَنْ أَيْمَانِنَا وَعَنْ شَمَائِلَنَا وَمِنْ فَوْقِنَا وَنَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ

أَنْ نُغْتَالَ مِنْ تَحْتَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. وَمِنْ قَوْلِ أَبِي طَالِبٍ يَمْدَحْ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلأَرَامِلِ وَهُوَ مِنْ قَصِيدَةٍ لأَبِي طَالِبٍ قَالَهَا تَمَالأَتْ عَلَيْهِ قُرَيْشُ وَنَفَرُوا عَنْهُ وَأَوُّلُهَا: وَلَمَّا رَأَيْتُ الْقَوْمَ لا وِدَّ عِنْدَهُمْ وَقَدْ قَطَّعُوا كُلَّ الْعُرَى وَالْوَسَائِلِ وَقَدْ جَاهَرُونَا بِالْعَدَاوَةِ وَالأَذَى وَقَدْ طَاوَعُوا أَمْرَ الْعَدُّوِ الْمُزَائِلِ صَبَرْتُ لَهُمْ نَفْسِي بِسَمْرَاءَ سَمْحَةٍ وَأَبْيَضَ غَضْبٍ مِنْ تُرَاثِ الْمَقَاوِلِ وَأَحْضَرْتُ عِنْدَ الْبَيْتِ رَهْطِي وَإِخْوَتِي وَأَمْسَكْتُ مِنْ أَثْوَابِهِ بِالْوَصَائِلِ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مِنْ كُلِّ طَاعِنٍ عَلَيْنَا بِسُوءٍ أَوْ مُلِحٍّ بِبَاطِلِ لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ ابْنَنَا لا مُكَذَّبٌ لَدَيْنَا وَلا يَعْنَى بِقَوْلِ الأَبَاطِلِ كَذِبْتُمْ وَرَبِّ الْعَرْشِ نَبْزِي مُحَمَّداً وَلَمَّا نُطَاعِنْ عِنْدَهُ وَنُنَاضِلِ وَنُسْلِمُهُ حَتَّى نُصَرَّعَ دُونَهُ وَنَذْهَلَ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالْحَلائِلِ

.. وَيَنْهَضُ قَوْمٌ بِالْحَدِيدِ إِلَيْكُمْ نُهُوضَ الرَّوَايَا تَحْتَ ذَاتِ الصَّلاصِلِ وَيَنْهَضُ قَوْمٌ نَحْوَكُمْ غَيْرَ عُزَّلٍ بِبِيضٍ حَدِيثٍ عَهْدُهَا بالصَّيَاقِلِ وَمَا تَركُ قَوْمٍ لا أَبَالَكَ سَيِّداً يَحُوطُ الذَِّمَارَ غَيْرَ ذَرْبٍ مُوَاكِلِ وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلأَرَامِلِ يَلُوذُ بِهِ الْهَلاكُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ فَهُمْ عِنْدَهُ فِي رَحْمَةٍ وَفَوَاصِلِ لَعُمْرِي لَقَدْ كُلِّفْتُ وَجْداً بِأَحْمَدٍ وَإِخْوَتِهِ دَأَبَ الْمُحِبِّ الْمُوَاصِلِ فَمَنْ مِثْلُهُ فِي النَّاسِ أَيُّ مُؤَمَّلٍ إِذَا قَاسَهُ الْحُكَّامُ عِنْدَ التَّفَاضُلِ حَلِيمٌ رَشِيدٌ عَادِلٌ غَيْرُ طَائِشٍ يُوَالِي إِلَهاً لَيْسَ عَنْهُ بِغَافِلِ وَمِيزَانُ حَقٍّ مَا يَعُولُ شَعِيرَةً وَوَزَّانُ حَقٍّ وَزْنُهُ غَيْرُ عَائِلِ فَوَاللهِ لَوْلا أَنْ أَجِيءَ بِسُبَّةٍ تَجُرُّ عَلَى أَشْيَاخِنَا فِي الْمَحَافِلِ

لَكِنَّا اتَّبَعْنَاهُ عَلَى كُلِّ حَالَةٍ مِنَ الدَّهْرِ جِداً غَيْرَ قَوْلِ التَّهَازُلِ فَأَصْبَحَ فِينَا أَحْمَدٌ ذُو أَرُومَةٍ تُقَصِّرُ عَنْهَا سُورَةُ الْمُتَطَاوِلِ حَدَبتُ بِنَفْسِي دُونَهُ وَحَمَيْتُهُ وَدَافَعْتُ عَنْهُ بِالذُّرَى وَالْكَلاكِلِ فَأَيَّدَهُ رَبُّ الْعِبَادِ بِنَصْرِهِ وَأَظْهَرَ ُديِناً حَقَّهُ غَيْرُ بَاطِلِ 41- وَمِنْ ذَلِكَ مَا فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ إِلى عَلِيَّ وَهُوَ أَرْمَدَ فَبَصَقَ فِي عَيْنَيهِ فَبَرِئَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ. 42- وَرَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ جَالِسٌ حَزِينٌ قَدْ خُضِّبَ بِالدِّمَاءِ، ضَرَبَهُ بَعْضُ أَهْلِ مَكَّةَ فَقَالَ: مَالَكَ؟ قَالَ: ((فَعَلَ هَؤُلاءِ وَفَعَلُوا)) . قَالَ: فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: أَتُحِبُّ أَنْ أُرِيَكَ آيَةً؟ قَالَ: ((نَعَمْ)) . فَنَظَرَ إِلَى شَجَرَةٍ مِنْ وَرَاءِ الْوَادِي فَقَالَ: ادْعُ تِلْكَ الشَّجَرَةَ فَدَعَاهَا فَجَاءَتْ تَمْشِي حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: مُرْهَا فَلْتَرْجِعْ إِلَى مَكَانِهَا فَقَالَ لَها: ((ارْجِعِيْ)) . فَرَجَعَتْ حَتَّى عادَتْ إِلَى مَكَانِهَا فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((حَسْبِي)) . وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ. اللَّهُمَّ نَوِّرْ قُلُوبَنَا بِنُورِ الإِيمَانِ وَثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ فِيهَا وَقَوِّهَا وَأَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَشُكْرَكَ وَارْزُقْنَا حُبَّ أَوْلِيَائِكَ وَبُغْضَ أَعْدِائِكَ وَآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ. اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ سِرَّنَا وَعَلانِيَّتِنَا وَتَسْمَعُ كَلامَنَا وَتَرَى مَكَانَنَا لا يَخْفَى

عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِنَا نَحْنُ الْبُؤَسَاءُ الْفُقَرَاءُ إِلَيْكَ الْمُسْتَغِيثُونَ الْمُسْتَجِيرُونَ بِكَ نَسْأَلُكَ أَنْ تُقَيِّظَ لِدِينِكَ مَنْ يَنْصُرُهُ وَيُزيلُ مَا حَدَثَ مِنَ الْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَيُقِيمَ عَلَمَ الْجِهَادِ وَيَقْمَعُ أَهْلَ الزَّيْغِ وَالْكُفْرِ وَالْعِنَادِ وَنَسْأَلُكَ أَنْ تَغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. (فَصْلٌ) 43- وَمِنْهَا إِطْعَامُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ يَحْفِرُونَ الْخُنْدَقَ مِنْ أَصْحَابِهِ بِتَمَرَاتٍ قَلِيلَةٍ، فَفِي كُتُبِ السِّير وَغَيْرِهَا أَنَّ ابْنَةً لِبَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ أُخْتَ النّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، قَالَتْ: دَعَتْنِي أُمّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ، فَأَعْطَتْنِي حَفْنَةً مِنْ تَمْرٍ فِي ثَوْبِي، ثُمَّ قَالَتْ: أَيْ بُنَيّةُ اذْهَبِي إلَى أَبِيك وَخَالِك عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ بِغَدَائِهِمَا. قَالَتْ: فَأَخَذْتهَا، فَانْطَلَقْت بِهَا، فَمَرَرْت بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَلْتَمِسُ أَبِي وَخَالِي، فَقَالَ: «تَعَالَيْ يَا بُنَيّةُ، مَا هَذَا مَعَك» ؟ قَالَتْ: قُلْت يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا تَمْرٌ بَعَثَتْنِي بِهِ أُمّي إلَى أَبِي بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ وَخَالِي عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ يَتَغَدّيَانِهِ. قَالَ: «هَاتِيهِ» . قَالَتْ: فَصَبَبْته فِي كَفّي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا مَلأْتهمَا. ثُمَّ أَمَرَ بِثَوْبِ فَبُسِطَ لَهُ، ثُمَّ دَحَا بِالتّمْرِ عَلَيْهِ فَتَبَدّدَ فَوْقَ الثّوْبِ ثُمَّ قَالَ لإِنْسَانِ عِنْدَهُ: «أُصْرُخْ فِي أَهْلِ الْخَنْدَقِ، أَنْ هَلُمّ إلَى الْغَدَاءِ» . فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ عَلَيْهِ فَجَعَلُوا يَأْكُلُونَ مَنه، وَجَعَلَ يَزِيدُ، حَتّى صَدَرَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ عَنْهُ، وَإِنّهُ لَيَسْقُطُ مِنْ أَطْرَافِ الثّوْبِ. 44- وَمِنْهَا إِخْبَارُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ قَبْلَ مَسِيرِهِمْ إِلى فَتْحِ مَكَّةَ وَهُمْ يَتَجَهَّزُونَ لِلْمَسِيرِ أَنَّهُ يَصِيرُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ دَمَاءٌ قَلِيلَةٌ، فَكَانَ الأَمْرُ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ

وَقَعَ بَيْنَ بَعْضِ كَتَائِبِهِ حِينَ دُخُولِهم مَكَّةَ وَبَيْنَ قَوْمٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَعَدُوا بِالْخَنْدَمَة، لِيَردُّوا النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَعْمِهِمْ عَنْ دُخُولِ مَكَّةَ مُنَاوَشَةٌ قَلِيلَةٌ. وَقُتِلَ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ، وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ، وَقَدْ مَلَكَهُمُ الرُّعْبُ وَالذُّعْرُ وَجَلَّلَهُمْ الْخَوْفُ، وَحَدِيثُهُمْ فِي خَبَرِ الْفَتْحِ مَشْرُوحٌ. 45- وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَصْحَابِهِ لَمَّا رَجَعَ الأَحْزَابُ خَائِبِينَ: «الآنَ نَغْزُوهُمْ وَلا يَغْزُونَنَا» . فَكَانَ الأَمْرُ كَمَا قَالَ، فَإِنَّ قُرَيْشاً بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَرْجَعُوا إِلى غَزْوِ الْمَدِينَةِ، وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَجَّه إِلى مَكَّة عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَصَالَحُوه وَهَادَنُوهُ، ثُمَّ دَخَلَ مِنْ قَابِلْ مَعَ أَصْحَابِهِ آمِنِينَ، ثُمَّ فَتَحَهَا بَعْدَ ذَلِكَ. 46- وَمِنْهَا إِخْبَارُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ ابْنَتَهُ فَاطِمَةَ أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِهِ لُحُوقاً بِهِ، فَكَانَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهَا تُوُفِّيَتْ بَعْدَهُ بِأَرْبَعِينَ يَوْماً، أَوْ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ يَوْماً، أَوْ سِتَّةِ أَشْهُر، عَلَى اخْتِلافِ الرِّوَايَاتِ، وَلَمْ يُتَوَفِّ قَبْلَهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ. 47- وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ عَامِرَ بنَ الطُّفَيْلِ، وَأَرْبَدَ بنَ قَيْسٍ، وَهُوَ أَخُو لُبَيْدِ بنِ رَبِيعَةِ، وَفَدَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْمِهِمَا مِنْ بَنِي عَامِر فَقَالَ عَامِرٌ لأَرْبَدَ: إِذَا قَدِمْنَا عَلَى مُحَمَّدٍ، فَإِنِّي شَاغِلٌ عَنْكَ وَجْهَهُ، فَاعْلُهُ أَنْتَ بِالسَّيْفِ، حَتَّى تَقْتُلَهُ، قَالَ أَرْبَدُ: أَفْعَلُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَامِرٌ يَمْشِي، وَكَانَ رَجُلاً جَمِيلاً، حَتَّى قَامَ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،

فَقَالَ: يَا مُحَمَّدٌ، مَا لِي إِنْ أَسْلَمْتَ، فَقَالَ: ((لَكَ مَا لِلإِسْلامِ وَعَلَيْكَ مَا عَلَى الإِسْلامِ)) . قَالَ: أَلا تَجْعَلْنِي الْوَالِي مِنْ بَعْدِكَ. قَالَ: ((لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ وَلا لِقَوْمِكَ وَلَكِنْ لَكَ أَعِنَّةُ الْخَيْلِ تَغْزُو بِهَا)) . قَالَ: أَوَ لَيْسَتْ لِي الْيَوْمُ، وَلَكِن اجْعلْ لِي وَلَكَ الْمَدَدَ، قَالَ: ((لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ)) . فَقَالَ: قُمْ يَا مُحَمَّدُ، إِلى هَا هُنَا فَقَامَ إِلَيْهِ، فَوَضَعَ عَامِرٌ يَدَهُ بَيْنَ منكبَيْه، ثُمَّ أَوْمَأَ إِلى أَرْبَدَ أَنِ أَضْرِبْ، فَسَلَّ أَرْبِدُ سَيْفَهُ قَرِيباً مِنْ ذِرَاعٍ، ثُمَّ أَمْسَكَ اللهُ يَدَهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَسُلَّه، وَلا يُغْمِدَهُ. فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلى أَرْبَدَ، فَرَآهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، فقَالَ: ((اللَّهُمَّ اكْفِينِهِمَا بِمَا شِئْتَ اللَّهُمَّ اهْدِ بَنِي عَامِر، وَاغْنِ الدِّينَ عَنْ عَامِر)) . فَانْطَلَقَا وَعَامِرٌ يَقُولُ: وَاللهِ لأَمْلأَنَّهَا عَلَيْكَ خَيْلاً دُهْماً وَوِرْداً. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَأْبَى اللهُ ذَلِكَ وَأَبْنَاءُ قَيْلَةَ)) . يَعْنِي الأَنْصَارُ، ثُمَّ قَالَ عَامِرٌ لأَرْبَدَ: وَيْلَكَ لِمَاذَا أَمْسَكْتَ عَنْهُ؟ فَقَالَ: وَاللهِ مَا هَمِمْتُ بِهِ مَرَّةً، إِلا رَأَيْتُكَ وَلا أَرَى غَيْرَكَ أَفَاَضْرِبُكَ بِالسَّيْفِ. وَسَارَ عَامِرٌ فَطَرَحَ اللهُ عَلَيْهِ الطَّاعُونَ فِي عُنُقِهِ، فَقَتَلَهُ فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي سَلُولٍ، وَجَعَلَ يَقُولُ يَا آلَ عَامِرٍ، غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ، وَمَوْتُ فِي بَيْتِ سَلُولِيَّةٍ. وَانْتَهَتْ حَيَاتُهُ لَعَنَهُ اللهُ وَأَمَّا أَرْبَدُ فَقَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ، فَقَالُوا: مَا وَرَاءَكَ يَا أَرْبَدُ. فَقَالَ: وَاللهِ لَقَدْ دَعَانَا مُحَمَّدٌ إِلى عِبَادَةِ شَيْءٍ، لَوَدِدْتُ أَنَّهُ عِنْدِي الآنَ فَأَرْمِيهِ بَنَبْلِي هَذَا حَتَّى أَقْتُلَهُ.

ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ مَقَالَتِهِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ وَمَعَهُ جِمَالٌ لَهُ تَتْبَعُه فَأَرسَلَ اللهُ عَلَيْهِ صَاعِقَةً فَأَحْرَقَتْهُ، وَقِيلَ نَزَلَ فِي صَاعِقَتِهِ {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً} إِلى قَوْلِهِ {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ} . 48- وَمِنْهَا إِطْعَامُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي الْمُطَّلِب بِذِرَاعِ جَزُورٍ وَعُسٍّ مِنْ لَبَنٍ، فَقَدْ ذَكَرَ أَهْلُ النَّقْلِ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ عَلَى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وأنذر عشيرتك الأقربين} أَمَرَ عَلِيّاً فَقَالَ: «يَا عَلِيُّ إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أَنْذِرْ عَشِيرَتِي الأَقْرَبِينَ فَضِقْتُ بِذَلِكَ ذَرْعاً وَعَرِفْتُ أَنِّي مَتَى أُبَادِيهِمْ بِهَذَا الأَمْرِ أَرَى مِنْهُمْ مَا أَكْرَهُ فَصَمَّتُ علَيَهْاَ حَتَّى جَاءَنِي جِبْرِيلُ فقَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ إِلا تَفْعَل مَا تُؤْمَرُ بِهِ يُعَذِّبكَ رَبُّكَ. فَاصْنَعْ لَنَا صَاعاً مِنْ طَعَامٍ، وَاجْعَلْ عَلَيْهَا رِجْلُ شَاةٍ، وَامْلأَ لَنَا عُساً مِنْ لَبَنٍ. ثُمَّ اجْمَعْ لِي بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ حَتَّى أُبَلِّغَهُمْ مَا أُمِرْتُ بِهِ)) . فَفَعَلْتُ مَا أَمَرَنِي بِهِ، ثُمَّ دَعَوْتُهُمْ لَهُ وَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعُونَ رَجُلاً يَزِيدُونَ رَجُلاً أَوْ يَنْقُصُونَهُ فِيهِمْ أَعْمَامُهُ أَبُو طَالِب وَحَمْزَةُ وَالْعَبَّاسُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وَأَبُو لَهَبٍ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، دَعَانِي بِالطَّعَامِ الذِي صَنَعْتُهُ فَجِئْتُ بِهِ. فَلَمَّا وَضَعْتُه تَنَاوَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَذْبَةً مِنَ اللَّحْمِ فَشَقَّهَا بِأَسْنَانِهِ، ثُمَّ أَلْقَاهَا فِي نَوَاحِي الصَّحْفَةِ ثُمَّ قَالَ: ((خُذُوا بِاسْمِ اللهِ)) . فَأَكَلَ الْقَوْمُ حَتَّى مَا لَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ حَاجَةٍ، وَايْمُ اللهِ

إِن كَانَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَيَأْكُلُ مِثْلَ مَا قَدَّمْتُ لِجَمِيعِهِمْ. ثُمَّ قَالَ: ((اسْقِ الْقَوْمَ)) . فَجِئْتُهُمْ بِذَلِكَ الْعُسِّ فَشَرِبُوا حَتَّى رَوَوْا جَمِيعاً وَايْمُ اللهِ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَيَشْرَبُ مِثْلَهُ. فَلَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ، بَدَرَهُ أَبُو لَهَب فَقَالَ: سَحَرَكُمْ صَاحِبُكُمْ. فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ وَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقَالَ الْغَدِ: «يَا عَلِيٌّ إِنَّ هَذَا الرَّجُلِ قَدْ سَبَقَنِي إِلى مَا سَمِعْتَ فَتَفَرَّقَ الْقَوْمُ قَبْلَ أَنْ أُكَلِّمَهُمْ فَعُدَّ لَنَا مِنَ الطَّعَامِ مِثْلَ مَا صَنَعْتَ ثُمَّ اجْمَعْهُمْ» . فَفَعَلْتُ ثُمَّ جَمَعْتُهُمْ فَدَعَانِي بِالطَّعَامِ فَقَرَّبْتُهُ فَفَعَلَ كَمَا فَعَلَ بِالأَمْسِ. فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا. ثُمَّ تَكَلَّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ((يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِب إِنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِخَيْري الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَقَدْ أَمَرَنِي اللهُ أَنْ أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ)) . وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ مُؤآزَرَتَه عَلَى ذَلِكَ فَلَمْ يُجِبْهُ إِلا عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَهَذَا مِنْ الأُمُورِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ أَظْهَرَهُ اللهُ عَلَى يَدَيْ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَصْدِيقاً لَهُ. 49- وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ فِي أَعْلامِ النُّبُوَّةِ أَنَّ مَعْمَرَ بنَ يَزِيد وَكَانَ أَشْجَعَ قَوْمِهِ اسْتَغَاثَتْ بِهِ قُرَيْشٌ وَشَكُوا إِلَيْهِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ بَنُو كِنَانَة تَصْدُرُ عَنْ رَأْيِهِ وَتُطِيعُ

أَمْرَهُ فَلَمَّا شَكَوْا إِلَيْهِ قَالَ لَهُمْ: إِنِّي قَادِمٌ إِلى ثَلاثٍ وَأُرِيحُكُمْ مِنْهُ وَعِنْدِي عِشْرُونَ أَلْفِ مُدَجَّجٍ فَلا أَرَى هَذَا الْحَيِّ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ يَقْدِرُ عَلَى حَرْبِي. وَإِنْ سَأَلُونِي الدِّيَّةَ أَعْطَيْتُهُمْ عَشْرَ دِيَاتٍ فَفِي مَالِي سِعَةٌ وَهُو مَشْهُورٌ بِالشَّجَاعَةِ وَالْبَأْسِ فَلَبِسَ يَوْمَ وَعْدِهِ قُرَيْشاً سِلاحَهُ وَظَاهَرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ فَوَافَقَهُمْ بِالْحَطِيمِ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحِجْرِ يُصَلِّي وَقَدْ عَرَفَ ذَلِكَ فَمَا الْتَفَتَ وَلا تَزَعْزَعَ وَلا قَصَّرَ فِي صَلاةٍ. فَقِيلَ: هَذاَ مُحَمَّدٌ سَاجِدٌ فَأَهْوَى إِلَيْهِ وَقَدْ سَلَّ سَيْفَهُ وَأَقْبَلَ نَحْوَهُ فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ رَمَى بِسَيْفِهِ وَعَادَ فَلَمَّا صَارَ إِلى بَابِ الصَّفَا عَثَرَ فِي دِرْعِهِ فَسَقَطَ فَقَامَ وَقَدْ أَدْمَى وَجْهَهُ بِالْحِجَارَةِ يَعْدُو كَأَشَدِّ الْعَدْوِ حَتَّى بَلَغَ الْبَطْحَاءَ مَا يَلْتَفِتُ إِلى خَلْفٍ فَاجْتَمَعُوا وَغَسَّلُوا عَنْ وَجْهِهِ الدَّمَ وَقَالُوا: مَاذَا أَصَابَكَ. قَالَ: وَيْحَكُمْ الْمَغْرُورُ مَنْ غَرَرْتُمُوهُ. قَالُوا: مَا شَأْنَكَ. قَالَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ دَعُونِي تَرْجِعُ إِليَّ نَفْسِي. فَتَرَكُوهُ سَاعَةً وَقَالُوا: مَا أَصَابَكَ يَا أَبَا اللَّيْثِ. قَالَ: إِنِّي لَمَّا دَنَوْت مِنْ مُحَمَّدٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَهْوِي بِسَيْفِي إِلَيْهِ أَهْوَى إِلَيَّ مِنْ عِنْدِ رَأْسِهِ شُجَاعَانِ أَقْرَعَانِ يَنْفُخَانِ النِّيرَانِ تَلْمَعُ مِنْ أَبْصَارِهِمَا فَعَدَوْتُ فَمَا كُنْتُ لأَعُودَ فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَاءَةِ مُحَمَّدٍ. 50- قَالَ: وَمِنْ أَعْلامِهِ:

أَنَّ كِلْدَةَ بنَ أَسَدٍ أَبَا الأَشَدِّ وَكَانَ مِنَ الْقُوَّةِ بِمَكَانٍ خَاطَرَ قُرَيْشاً يَوْماً فِي قَتْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْظَمُوا لَهُ الْخَطَرَ إِنْ هُوَ كَفَاهُمْ فَرَأَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الطَّرِيقِ يُرِيدُ الْمَسْجِدَ مَا بَيْنَ دَارِ عَقِيلٍ وَعِقَالَ فَجَاءَ كِلْدَةُ وَمَعَهُ الْمِزْرَاقُ فَرَجَعَ الْمِزْرَاقُ فِي صَدْرِهِ فَرَجَعَ فَزِعاً فقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ: مَا لَكَ يَا أَبَا الأَشَدِّ. فَقَالَ: وَيْحَكُمْ مَا تَرَوْنَ الْفَحْلَ خَلْفِي؟ قَالُوا: لا مَا نَرَى شَيْئاً. قَالَ: وَيْحَكُمْ فَإِنِّي أَرَاهُ. فَلَمْ يَزَلْ يَعْدُو حَتَّى بَلَغَ الطَّائِفَ فَاسْتَهْزَأَتْ بِهِ ثَقِيفٌ فَقَالَ: أَنَا أَعْدُرُكم لَوْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ لَهَلَكْتُمْ. القصيدة الوعظية لَيْسَ الْمَقَامُ بِدَارِ الذُّلِّ مِنْ شِيَمِي ... وَلا مُعَاشَرَةُ الأَوْبَاشِ مِنْ هَمِّي وَلا مُخَالَطَةُ الأَرْذَالِ تَصْلُحُ لِي ... كَذَلِكَ الْبَازُ لا يَأْوِي إِلى الرَّخَمِ يَا سَائِلِي عَنْ عُلُومٍ لَيْسَ يَفْهَمُهَا ... اسْمَعْ كَلامَاً كَنَظْمِ الدُّرِّ مُحْتَكِمِ إِنْ الْوُعَيْظِي لَهُ فِي الشِّعْرِ نَافِلَةٌ ... يَحَارُ فِيهَا ذَوُو الأَلْبَابِ وَالْفُهُمِ خَيْرُ الصَّنَائِعَ تَقْوَى اللهِ فَاتَّقِهِ ... يَكْفِيكَ فِي الْحَشْرِ مَا تَخْشَى مِنَ النَّدَمِ وَالْوَالِدَيْنِ فَلا تَنْهَرْهُمَا أَبَداً ... قَدْ رَبَّيَاكَ صَغِيراً غَيْرَ مُنْفَطِمِ قَدْ طَالَ مَا سَهرَتْ بِاللَّيْلِ أَعْيُنُهُمْ ... خَوْفاً عَلَيْكَ وَعَيْنُ اللهِ لَمْ تَنَمِ ثُمَّ الصَّلاةُ الَّتِي بَيْنَ الْفَتَى صِلَةٌ ... وَبَيْنَ خَالِقِهِ تَنْهَى عَنِ الإِثْمِ أَدِّ الزَّكَاةَ عَنِ الأَمْوَالِ تَغْسِلُهَا ... كَالثَّوْبِ يُغْسَلُ أَوْ يُنْفَى مِنَ الدَّسَمِ وَالصَّوْمُ فَرْضَ مِنَ الرَّحْمَنِ أَوْجَبَهُ ... عَلَى الْعِبَادِ فَمَنْ أَدْرَكَهُ فَلْيَصُمِ وَالْحجُّ فَرْض عَلَى الإِسْلامِ كُلِّهِمْ ... مَنْ لَمْ يَحُجَّ كَمَنْ صَلَّى وَلَمْ يَصُمِ

مَنِ اسْتَطَاعَ عَلَى زَادٍ وَرَاحِلَةٍ ... وَمَسْلَكٍ آمِنٍ مِنْ سَائِرِ الأُمَمِ فَإِنَّ حَجَجْتَ احْفَظْنَهَا كَيْ تَفُوزَ بِهَا ... وَاذْكُرْ مَسِيرَكَ مِنْ طَامٍ إِلَى أَكُمِ وَلا تُضَيِّعْهَا تَصْلَى لَهِيبَ لَظَى ... وَتُحْرَمُ الشُّرْبَ مِنْ حَوْضٍ لِكُلِّ ظُمِ وَكَمْ أَصَابَكَ مِنْ جُوعٍ وَمِنْ عَطَشٍ ... وَكَمْ تَعِبْتَ وَكَمْ جَاوَزْتَ مِنْ إِضَمِ وَفِي الْجِهَادِ ثَوَابٌ إِنَّ صَاحِبَهَا ... فِي الْخَيْرِ وَالْحُورِ مَقْصُور مَعَ الْخِيَمِ وَإِنْ ظَفَرْتَ فَمَشْكُورٌ وَمُفْتَخِرٌ ... وَإِنْ قُتِلْتَ جَزَاكَ اللهُ بِالنِّعَمِ فَأَبْشِرْ بِجَنَّاتِ عَدْنِ غَيْرَ فَانِيَةٍ ... إِنْ أَنْتَ مُتَّ شَهِيدًا غَيْرَ مُنْهَزِمِ وَالْعِلْمُ أَفْضَلُ مَطْلُوبٍ فَطَالِبُهُ ... يَنَالُ دُنْيَا وَدِينَا غَيْرَ مُتَّهَمِ قَدْ شَرَّفَ اللهُ أَهْلَ الْعِلْمِ وَافْتَخَرُوا ... بِأَنَّهُمُ أُمَنَاءُ اللهِ فِي الأُمَمِ وَالْكَيْلَ أَوْفِهِ وَلِلْمِيزَانِ أَرْجِحُهُ ... كَمْ أَهْلَكَ اللهُ فِي هَذَيْنِ مِنْ أُمَمِ وَأمر بِأَهْلِكَ يَا هَذَا وَحُضُّهُمْ ... عَلَى الصَّلاةِ فَفِيهَا كُلُّ مُغْتَنَمِ وَاجْهَرْ بِخَيْرٍ إِذَا مَا مَعْشَرٌ حَضَرُوا ... وَانْطِقْ بِخَيْرٍ تَنَالَ حُسْنَ خَيْرِهِمْ مَنْ طَابَ مَوْلِدُهُ طَابَتْ مَحَاضِرُهُ ... كَذَاكَ قَدْ قِيلَ فِي بَيْتٍ مِنَ الْقِدَمِ وَلِلْبَنِينَ حُقُوقٌ لا تُضَيِّعُهَا ... حَالٌ كَرِيمٌ وَاسْمٌ غَيْرَ مُنْعَجِمِ وَخُصُّهُمْ بِأَدِيبٍ فَاضِلٍ فَهِمٍ ... فَأَفْضَلُ الْخَلْقِ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْكَرَمِ وَأَقْرأْهُمُ النَّحْوَ وَالشِّعْرَ الْفَصِيحَ فَفِي ... ذَاكَ فَضِلَةٌ لَيْس الْفَضْلُ لِلْعَجَمِ وَالضَّيْف أَكْرِمَهُ إِنَّ الضَّيْفَ مُرْتَحَلٌ ... يُثْنِي عَلَيْكَ بِمَا أُوِتيتَ مِنْ كَرَمِ لَيْسَ الْكَرَامَةُ فِي طِيبِ الطَّعَامِ لَهُ ... وَلا تَكَلُّفَ مِنْ لَحْمٍ وَمِنْ أَدُمِ بَلِ الْكَرَامَةُ أَنْ تَلْقَاهُ مُبْتَسِمًا ... لا خَيْرَ عِنْدَ مَضِيفٍ غَيْرَ مُبْتَسِمِ أُوصِيكَ بِالرُّمْحِ وَالسَّيْفِ الصَّقِيلِ فَفِي ... هَذَيْنِ عِزٌّ وَمّجْدٌ غَيْرَ مُنْهَمِ

.. وَسَابِقْ الْخَيْلِ أَكْرِمْهَا مُحَافَظَةً ... فَإِنَّهَا عِدَّةٌ لِلْمَاجِدِ الْفَهِمِ وَلا تُوَاكِلْ إِمَارَةً تَقُومُ بِهَا ... عَنْدَ الْعَلِيقِ وَلا وَغْدًا مِنَ الْخَدَمِ وَإِنْ مَلَكْتَ فَكُنْ بِالْعَدِلِ مُتَزِرًا ... وَاحْذَرْ سِهَامَ الدُّجَى فِي حَنْدَسِ الظُّلَمِ فَرُبَّ دَعْوَةِ مَظْلُومٍ تُصَادِفُهَا ... إِجَابَةٌ بِزَوالِ الْمُلْكِ وَالنِّعَمِ وَاحْفَظْ نَصِيحَةَ مَنْ تَنْفَعْ نَصِيحَتُهُ ... وَالْبَدْلَ جَازِيهِ بِالتَّأْدِيبِ وَالْكَرَمِ وَإِنْ دَنَوْتَ مِنْ السُّلْطَانِ وَارْتَفَعَتْ ... بِكَ الْمَرَاتِبُ لا تَأْمَنْ مِنَ النِّقَمِ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا حَبَوْكَ وَاجْتَهَدُوا ... هُمْ يُتْبِعُوكَ لَهُمْ فِي سَائِرِ الْخَدَمِ وَإِنْ جَفَوْتَ سَقُوكَ السُّمَّ وَاحْتَقَرُوا ... مَا كُنْتَ تَصْنَعُ مِنْ خَيْرٍ وَمِنْ كَلِمِ وَاحْذَرْ مِنْ الْبَغْيِ إِنَّ الْبَغْيَ مَنْقَصَةٌ ... عَوَاقِبُ الْبَغْيَ لا تُبْقِي وَلا تَدُمِ وَإِنْ نَبَا مَنْزِلٌ يَوْمًا فَفَارِقُهُ ... لا خَيْرَ فِي الْمَنْزِلِ الْمُسْتَوْبِلِ الْوَخَمِ أَرْضٌ بِأَرْضٍ وَإِخْوَانٍ بِمِثْلِهِمِ ... وَالرِّزْقُ يَأَتِي لَمَنْ يَسْعَى وَمَنْ يَقُمِ وَانْهَضْ فَإِنَّ بِلادَ اللهِ وَاسِعَةٌ ... طٌولاً وَعَرْضًا وَمَا ضَاقَتْ لِمُقْتَحِمِ وَإِنْ تَغَيَّرَ يَوْمًا مَنْ تُصَاحِبُهُ ... عَنْ وِدِّهِ وَبَدَا بِالصَّدِّ وَالصَّمَمِ فَلا تُعَاتِبُهُ يَوْمًا بَلْ فَفَارِقُه ... لَيْسَتْ مُعَاشَرَةِ الأَرْذَالِ بِاللَّزَمِ لا خَيْرَ فِي صَاحِبٍ تَبْدُو قَبَائِحُهُ ... بَعْدَ الْجَمِيلِ بِوَجْهٍ عَابِسٍ وَخِمِ وَاعْلَمْ بِأَنَّ الرِّبَا فِي الْمَالِ يَمْحَقُهُ ... وَالرِّبْحُ مِنْ وَجْهِ حِلٍّ غَيْر مُتَّهَم وَلا تُعَامِل لِمَخْلُوقٍ مُعَامَلَةٍ ... إِلا بِخَط شُهُودٍ يُقْتَدَى بِهِمُ وَلِلدَّرَاهِيمِ فِي الْحَاجَاتِ مَنْفَعَةٌ ... نِعْمَ الصَّدِيقُ وَلا يُخْشَى مِنْ الْعَدَمِ وَإِنْ تَدَايَنْتَ دَيْنًا لا تَكُنْ مَطِلاً ... فَإِنَّ حُسْنَ الْوَفَا مَقْرُونٌ بِالكَّرَمِ أَتَأْخُذُ الدَّينَ حُلْوًا عِنْدَ حَاجَتِهِ ... وَعِنْدَ وَقْتِ الْقَضَاةَ فيه بِالْكَظِمِ لا تَحْمِدَنَّ امْرِأ حَتَّى تُجِرِّبه ... وَلا تَذُمَّنهُ فِي الْعُسْرِ وَالْعَدَمِ

.. وَابْنُ عَمِّكَ لا تَقْطَعْ مَوَدَّتُهُ ... وَصَلْ قَرَابَتُهُ فِي اللهِ وَالرَّحِمِ وَإِنْ أَتَاكَ إِذَا نَابَتْكَ ناَئِبَةٌ ... مَطْلَعِ الرَّأْسِ عَارِ مٌحْتَشِمِ فَذَاكَ أَفْضَلُ مِنْ أَخٍ وَمِنْ وَلَدٍ ... تَعْزُو بِهِ النَّفْس وَالأَمْوَال وَالْهِمَمِ وَالْمَجْدُ لا يَنْبَغِي إِلا بِأَرْبَعَةٍ ... بِالسَّيْفِ وَالرُّمْحِ وَالأَمْوَالِ وَالْفِهْمِ وَإِنْ تَقَدَّمْتَ يَا هَذَا عَلَى نَفَرٍ ... فَكُنْ عَلَيْهُمْ كَمِثْلِ الْوَالِدِ الرَّحِمِ وَاطْلُبْ رِضَاهُمْ إِذَا طَاعُوكَ وَاجْتَهَدُوا ... وَإِنْ عَصَوْكَ فَفَارِقْهُمْ وَلا تُقِمِ وَاقْبَلْ مَعَاذِيرِ مَنْ أَتَاكَ مُعْتَذِرًا ... فَالْعُذْرِ يُقْبَلُ عِنْدَ السَّيِّدِ الْحُثَمِ مَا كُلُّ مَنْ وَلَدَتْهُ الأُمِ قِيلَ أَخٌ ... وَلَوْ أَفَادَكَ بِالدِّيَاتِ وَالْخَدَمِ أَخُوك فِي النَّاسِ مَنْ وَافَاكَ فَاحْفَظْهُ ... وَمَنْ يُوَاسِيكَ عِنْدَ الْعُسْرِ وَالْعَدَمِ وَإِنْ مَدَحْتَ فَلا تَهْدِ الْقَرِيضَ إِلَى ... بَخِيلِ قَوْمٍ وَضِيعٍ غَيْرِ مُحْتَشِمِ إِنْ جِئْتَ تَقْصُدُهُ أَرْخَى مَشَافِرَهُ ... كَأَنَّ شِدْقَيْهُ مَنْفُوذَيْنَ بِالْوَرَمِ اقْصُدْ بِمَدْحِكَ ذَا فَضْلٍ وَذَا كَرَمٍ ... يَلْقَاكَ والْوَجْهِ بَسَّامٍ بِلا قَتَمِ يَكْفِيكَ مِنْهُ الْقَلِيل أَنْتَ قَابِلَهُ ... مَعَ الْبَشَاشَةِ وَالأَرْزَاقِ بِالْقَسَمِ وَإِنْ وَعَدْتَ فَاوَفْ مَا وَعَدْتَ بِهِ ... فَالْوَعْدُ دِينٌ عَلَى ذِي نَخْوَةِ لَزِمِ واصْدُقْ فَإِنَّ حَدِيثَ الصِّدْقِ مَكْرَمَةٌ ... فاَلصِّدْقِ يُنَجِّيكَ عِنْدَ الله ِوَالأُمَمِ وَلِلْكَذُوبِ عُيُوبٌ إِنَّ صَاحِبَهَا ... وَإِنْ تَحَدَّثَ صِدْقًا بِالتُّهَمِ وَلا تَفَرِّطُ فِي جَارٍ وَلا نَسَبٍ ... واَعْلَمْ أَنَّهُمَا فِي أَكْبَرِ الأُمَمِ وَالسَّيْفُ وَالرُّمْحُ مَقْرُونَانِ فِي قَرْنٍ ... وَالسَّيْفُ أَصْدَقُ أَنباءِ مِنَ الْحِكَمِ وَإِنْ خَشِيتَ مِنَ السُّلْطَانِ نَائِبَةً ... فَالْبُعْدُ أَسْلَمُ لِلأَعْنَاقِ وَالْهِمَمِ فَالنَّارُ تُحْرَقُ مَنْ يَدْنُو بِجَانِبِهَا ... وَإِنْ تَبَاعَدَ عَنْهَا فَازَ بِالسَّلَمِ وَإِنْ تَزَوَجْتَ يَا هَذَا فَكُنْ حَفِظًا ... وَكُنْ غَيُورًا وَلا تُفْسِحْ لَهَا قِدَمِ

.. وَلا تُمَكِّنُهَا مِنْ بَيْتِ جَارَتِهَا ... وَلا الْخُرُوجُ مَعَ الدِّيَّاتِ وَالْخَدَمِ وَإِنْ ظَنَنْتَ بِهَا سُوءً فَطَلِّقْهَا ... وَخُذْ سِوَاهَا وَلا تَعْتَادَ بِالنَّدَمِ فَالْمَرْأَةُ السُّوءِ كَالضِّرْسِ الْعَلِيلِ فَإِنْ ... أَزَلْتَهُ زَالَ عَنْكَ الْبَأَسَ وَالأَلَمِ وَاحْذَرْ عَجُوزًا تُوَلِّيهَا عَلَى حُرَمٍ ... فاَلذِّئْبُ لَيْسَ بِمَأْمُونٍ عَلَى الْغَنَمِ وَلا تُخَادِعَنَّكَ الأُنْثَى فَتَأْمَنُهَا ... يَوْمًا وَحَاذِرْ ذَوَاتَ الْمَكْرِ وَالتُّهَمِ هُنَّ الْكَوَاذِيبُ لا قَوْلَ لَهُنَّ وَلا ... يَحْفَظْنَ عَهْدًا وَلا يُوفِينَ بِالذِّمَمِ مَا فِي الرِّجَالِ عَلَى النِّسْوَانِ مِنْ ثِقَةٍ ... وَلا أَمِين فَلا تَصْغُوا لِكَيْدِهِمْ يَا مَنْ يُخَالِطُ فِي أُنْثَى وَفِي ذَكَرٍ ... إِذَا خَلا بِهَمَا إِبْلِيس فِي الظُّلَمِ هَلْ تَأْمَنُ النَّار إِنْ أَوْدَعْتَهَا حَطَبًا ... كَمْ هَبَّتِ الرِّيحُ في طَلْحَ مِنَ الرَّتْمِ وَاعْلَمْ بِأَنَّ النِّسَا أَصْحَابُ مَيْسَرَةٍ ... لا يَسْتَحِينَ وَلا يَصْبِرْنّ لِلْعَدَمِ إِذَا دَعَتْهُنَّ أَغْرَاضٌ لَهُنَّ فَلا ... يَفْرِقْنَ بَيْنَ كَرِيمِ الْجَدِّ وَاللَّمَمِ وَاعْلَمْ بِأَنَّ الزِّنَا عَارٌّ وَمَنْقَصَةٌ ... فِي الدِّينِ وَالْمَالِ وَالأَهْلِينَ وَالْحَرَمِ وَفِي الْحَلالِ مِنَ الرَّحْمَنِ مَغْفِرَةٌ ... يَصُونُ عِرْضِكَ مِنْ لَوْمٍ وَمِنْ إِثْمٍ لا تَقْتُلْ النَّفْسَ وَالرَّحْمَنُ حَرَّمَهَا ... كَمِثْلِ تَحْرِيمِهِ لِلْبَيْتِ وَالْحَرَمِ وَاعْلَمْ بِأَنَّ إِلَهَ الْعَرْشِ مُطَّلَعٌ ... عَلَيْكَ وَاحْذَرْ مِنَ الْجَبَارِ وَاحْتَثِمِ لا يَرْجِعُ السَّهْمُ يَوْمًا إِنْ رَمَيْتَ بِهِ ... كَالدَّرِّ لَيْسَ بِمَرْدُودٍ إِلَى الْحُلُمِ وَإِنْ بَدَأْتَ بِخَيْرٍ لا تَمُنَّ بِهِ ... وَكُنْ بِخَيْرِكَ بَيْنَ النَّاسِ مُحْتَثِمِ فَالْمَنُّ يُفْسِدُ مَا تُبْدِيهِ مِنْ كَرَمٍ ... إِنَّ الْعَطَا وَالسَّخَا مِنْ أَفْضَلِ الشِّيَمِ وَمَنْ بَدَا لَكَ مَعْرُوفًا فَعَارِضُهُ ... شُكْرًا كَشُكْرِ نَبَاتِ الأَرْضِ لِلدِّيَمِ وَاعْلَمْ بِأَنَّ جَمِيعَ الْمَالِ عَارِيَةٌ ... وَقْتًا يَكُونُ وَوَقْتَا عَنْكَ مُنْهَزِمِ وَلِلْوَدِيعَةِ حَقٌّ لا تُضَيِّعُهَا ... إِنَّ الْوَفَى حَسَنُ فِي سَائِرِ الأُمَمِ

.. هِيَ الأَمَانَةُ أَعْطِيهَا لِصَاحِبِهَا ... تَنَالُ دِينًا وَتَنْجُو مِنْ أَذَى التُّهَمِ وَإِنْ شَهِدتَ بِشَيْءٍ لا تُضَيِّعُهُ ... وَاصْدُقْ بِقَوْلِكَ بَيْنَ الْخَصْمِ وَالْحِكَمِ إِنَّ الشَّهَادَةَ فَرْض لَيْسَ يَكْتُمَهَا ... إِلا لَئِيمٌ قَلِيلُ الدِّينِ ذُو تُهَمِ وَلا تُصَاهِرْ بَخِيلاً فِي عَشِيرَتِهِ ... وَلَوْ أَتَاكَ بِمَالِ الْفَارِسِ السَّلَمِ وَإِنْ خَطَبْتَ فَلا تَخْطُبْ وَإِنْ حَسُنَتْ ... إِلا كَبِيرَةَ بَيْتٍ غَيْرِ مُتْهَمِ إِيَّاكَ تَشْتُمْ وَلا تَبْدُو بِفَاحِشَةٍ ... لِوَالِدَيْكَ وَابْذُلْ طَيِّبَ الْكَلِمِ لا تَرْكَنَنَّ إِلَى بَيْت الزُّنَاةِ وَلَوْ ... جَاءَتْ بِمَالِ جَزِيلٍ وَاحْذَرْ قَطْعَتَ الرَّحِمِ وَلا تَغُرَّنَّكَ سَوْدَاء فَتُودِعُهَا ... جَوَاهِرَ الصُّلْبِ لَيْسَ النُّورُ كَالظُّلَمِ وَإِنْ جَمِعْتَ نِسَاءَ لا تُضَارِرُهُنْ ... فَإِنَّهُنْ وَدِيعَاتٌ لِذِي كَرَمِ فَمَنْ تُطِيعُكَ أَكْرِمْهَا وَاحْفَظَهَا ... وَمَنْ عَصَتْكَ فَفَارِقْهَا وَلا تُقِمِ إِيَّاكَ إِيّاكَ قَذْفَ الْمُحْصِنَاتِ بِلا ... ذَنْبٍ فَتُصْبِحَ فِي بَحْرٍ مِنَ الإِثْمِ وَلا تَجَرَّ عَلَى الْمَمْلُوكِ تَضْرِبُهُ ... وَأَحْسِنْ إِذَا كُنْتَ ذَا حُسْنٍ وَذَا كَرَمِ وَاسْتَغْفِر الله مِنْ ذَنْبِ خَلَوْتَ بِهِ ... فَاللهُ يَنْظُرُهُ فِي حِنْدِسِ الظُّلَمِ وَاحْفَظْ وَصِيَّةَ مَنْ وَصَّاكَ مُجْتَهِدًا ... وَخُذْ قَصِيدًا كَنَظْمِ الدُّرِّ مُحْتَكِمِ وَإِنْ هَمَمْتَ بِقَوْمٍ أَنْ تُجَاوِرَهُمْ ... قَسَلْ عَنِ الْفَاضِلِ الْمَعْرُوفِ بِالْكَرَمِ مَعْرُوفَ بِالْخَيْرِ مَأْمُونًا عَوَاقِبُهُ ... لا يُنْكِرُ الْجَارَ إِلا مَعْشَرُ الْؤُمِ لا خَيْرَ فِي الْجَارِ إِلا أَنْ يَكُونَ تَقِي ... عَنِ الْعَزِيزَيْنِ مِنْ مَال وَمِنْ خَدَمِ مَا أَقْبَحَ الْجَارَ إِذْ يَزْنِي بِجَارَتِهِ ... فِي جُنْحِ لَيْلِ وَلَوْ كَانَتْ مِنَ الْخَدَمِ وَاكْتُمْ أَحَادِيثَ سِرٍّ أَنْ تُبَرِّزَهَا ... فَكَاتِمُ السِّرِّ مَأْمُونٌ مِنَ النَّدَمِ وَالصَّمْتُ أَجْمَلُ ثَوْبٍ أَنْتَ لابِسُهُ ... كَمْ هَامَةٍ قُطَعِتْ مِنْ عَثْرَةٍ بِفَمِ وَالْحُرٌ أَوْلَى بِسِرِّ النَّاسِ يَكْتُمُهُ ... بَعْدَ الثَّلاثَةِ مَا سِرٌ بِمُكَتِتمِ

.. وَإِنْ كَسَاكَ كَرِيمٌ مِنْ صَنَائِعِهِ ... ثَوْبًا فَأَنْشِرَهُ فِي سَائِرِ الأُمَمِ وَإِنْ حَظِيتَ بِجَاهِ لا تَشُحَّ بِهِ ... يَوْمًا عَلى عُرُبٍ لا لا وَلا عَجَمِ وَافْعَلْ جَمِيلاً إِذَا مَا كُنْتَ مُقْتَدِرًا ... فَالْمَالُ يَفْنَى وَلا خَيْرُ بِمُنْصَرِمِ وَلا تُشَاوِرْ وَإِنْ نَابَتْكَ نَائِبَةٌ ... إِلا نَصُوحًا شَفِيقًا غَيْرَ مُتَّهَمِ لا تَنْتَهِرَنَّ يَتِيمًا مَاتَ وَالدُهُ ... إِنَّ الْيَتِيمَ ضَعِيفُ الْقَلْبِ ذُو أَلَمِ وَإِنْ أَتَى سَائِلاً يَوْمًا فَأَطْعِمُهُ ... مِمَّا رُزِقْتَ بِوَجْه غَيْرَ مُنْفَطِمِ إِيَّاكَ لا تَنْهَرُهُ إِن لَجَّ فِي طَلَبِ ... ادْفَعْ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَيْلاً بِلا نَدَمِ إِنَّ الْغَرِيبَ ذَلِيلٌ أَيْنَمَا سَلَكَتْ ... بِهِ الرِّكَابُ غَزِيرُ الدَّمْعِ مُنْسَجِمِ إِنَّ مَاتَ يَوْمًا فَلا تُبْكِيهِ بَاكِيَةُ ... وَلا تُعَلِّلِهُ الأَوْصَافُ مِنْ سَقَمِ وَإِنْ دُعِيتَ إِلَى قَوْمٍ لِتُصْلِحَهُمْ ... فَانْهَضْ فَإِنَّكَ مَأْجُورٌ بِصُلْحِهِمِ وَإِنْ دَعَا بِكَ مَظْلُومٌ فَأَنْصِرُه ... بِقَوْلِكَ الْحَقْ أَوْ بِالصَّارِمِ الْحَكَمِ وَإِنْ أَتَاكَ مَخِيفُ الْقَلْبِ أَمِّنَهُ ... فَالْخَوْفُ مُمْتَزجِ فِي لَحْمِهِ وَالدَّمِ وَلا تَكُنْ شَرِهًا فِي الأَكْلِ كَمْ شَرِهِ ... كَانَتْ مَنِيَّتُهُ مُمْتَزِجِ فِي أَصْغَرِ اللُّقَمِ وَكُثْرَةُ الأَكْلِ تُؤْذِي جِسْمَ صَاحِبَهَا ... حَتَّى يُصَبَّحَ مَضْرُورًا مِنَ الْبَثَمِ وَغَسْلُ قَبْلِ صَعَامِ الأَكْلِ فِيهِ غِنَى ... وَالْعَسَلُ مِنْ بَعْدِهِ حِرْزٌ مِنَ اللَّمَمِ وَكَثْرَةُ الْمَزْحَ مَذْمُومُ عَوَاقِبُهَا ... كَمْ مُزَاحِ دَعَا لِلشَّرَّ وَالشَّتَمِ وَاحْذَرْ عَدُوَّكَ لا تَرْكَنْ لَهُ أَبَدًا ... وَلا يُخَادِعْكَ بِالأَيْمَانِ وَالْقَسَمِ وَكُلَّمَا زَادَ إِحْسَانًا فَأَبْعِدُهُ ... وَانْظُرْ بِقَلْبِكَ إِنَّ الْقَلْبَ غَيْرُ عَمِ كَمْ مِنْ عَدُوَّ رَمَى بِالإِفْكِ صَاحِبَهُ ... فَبَاتَ مُرْتَهِنًا فِي لَحْفِ مُنْتَقِمِ وَإِنْ حَذَرْتَ عَدُوَّا مِنْكَ وَاحِدَةً ... فَاحْذَرْ صَدِيقَكَ أَلْفًا لا تَكُنْ دَهِمِ فَرُبَّمَا انْقَلَبَتْ يَوْمًا صَدَاقَتُهُ ... فَصَارَ يَخْبِرُ بِالأَسْرَارِ لِلنَّقَمِ

.. وَلا تُصَادِقْ صَدِيقًا لَمْ تُجَرِّبَهُ ... فِي النَّائِبَاتِ وَكُنْ بِاللهِ مُعْتَصِمِ فَمَا صَدِيقُ الرَّخَا وَالنَّائِبَات سِوَى ... وَلا يُقَاسُ قَوِيُّ الْقَلْبِ بِالْهَرَمِ كَمْ مِنْ صَدِيقٍ ضَحُّوكِ السِّنِّ مُبْتَسِمٍ ... وَفِي الشَّدَائِدِ يَأْتِي غَيْرَ مُبْتَسِمِ كَمْ مِنْ صَدِيقٍ مَنْ عَادَى أَبَاكَ وَلا ... يَغُرَّكَ الدَّهْرُ فِي أَعْدَائِكَ الْقِدَمِ لا يَنْجَلِي صَارِمٌ فِي جَنْبِهِ حُرَبٌ ... لا بُدَّ مِنَ أَثَرِ بِالسَّيْفِ كَالْقَلَمِ وَلا تَخَالِفُ قَوْمًا إِنَّهُمْ عُرِفُوا ... بِالْعَدْلِ وَاقْطَعْ جَمَالَ الْحِلفِ وَانْصَرِمِ لا تَجْرَأَنَّ أَنَّ عَلَى الأَيْمَانِ كَاذِبَةَ ... وَلا يَغُرَّنَّكَ الشَّيْطَانُ فِي الْقَسَمِ وَأَعْلَمْ بِأَنَّ دِيَارَ الْحَالِفِينَ تُرَى ... بَلاقِعًا مَسْكَنًا لِلْبُومِ وَالرَّخَمِ وَحْفَظْ وَصِيَّةَ مَنْ أَوْصَاكَ مُجْتَهِدًا ... وَخُذْ قَصِيدًا كَنَظْمِ الدُّرِّ مُحْبَكِمِ قَوْلُ الْهُمَامِ الْوُعَيْظِي الَّذِي شُهِرَتْ ... أَشْعَارُهُ فِي بِلادِ الْعُرْبِ وَالْعَجَمِ إِنَّ الْقَصَائِدَ جَلَّتْ فِي مَفَاخِرِهَا ... أُرِيتَ شِعْرِي مُنِيفَ الْجَدِّ كَالْعِلْمِ مَا قَالَ مِثْلَ قَصِيدِي شَاعِرٌ أَبَدًا ... وَلا يُؤَلِّفُهَا أَوْ يَنْطِقُ الصَّمِمِ أَلْفَتْ جَوَاهِرُهَا كَالدَّرِّ مُحْتَكِمًا ... بَانَتْ مَحَاسِنُهَا بِالْوَعْظِ وَالْحِكَمِ مَا قَالَ شَاعِرُ قَوْمٍ مِثْلَهَا أَبَدًا ... أَوْ يَنْطِقُ الْحَجَرُ الْمَنْعُوتُ بِالصَّمَمِ وَدِيعَتِي لِلْمَنَايَا سَوْفَ يَطْرُقُهَا ... وَالْمَوْتُ حَتْمٌ وَعِنْدَ الله مُحْتَكَمِي يَا رَبَّ يَا رَبَّ يَا رَحْمَنُ فَارْحَمُنَا ... بِصَبْوَةِ شَابَ مِنْهَا الرَّأْسُ وَاللَّمَمِ وَاغْفِرْ ذُنُوبَ الْوَعيظِي إِنَّهُ رَجُلٌ ... عَاصِ وَمُعْتَرِفٌ بِالذَّنْبِ مُجْتَرِمِ قَصَدْتُ بَابَكَ يَا رَحْمَنُ فَارْحَمُنَا ... وَاصْفَحْ بِعَفْوِكَ عَنْ ذَنْبِي وَعَنْ جُرْمِي رَبِّي قَدِيرُ رَحِيمٌ وَاحِدٌ أَحَدٌ ... مُهَيْمِنٌ قَاهِرٌ بِالْبَطْشِ وَالنَّقَمِ وَوَارِثُ الأَرْضَ لانِدٌ يُعَانِدُهُ ... وَلا شَرِيكٌ لَهُ بَلْ جَلَّ فِي الْعِظَمِ مُحْيِ الْقُلُوبَ وَمُنْشِئُمْ وَرَازِقهُمْ ... حَتَّى الْمَمَاتِ وَمُحْيِ دَارِس الرُّمَمِ

.. وَبَاعِثُ الْخَلْقِ لِلْمِيقَاتِ أَجْمَعِهِمْ ... وَالْعَدْلُ يَنْشُرُهُ فِي سَائِرِ الأُمَمِ وَجِيءَ بِالْجَنَّةِ الْعُلْيَا مُزْخَرْفَةً ... قَدْ خَصَّهَا اللهُ بِالأَمْلاكِ وَالنِّعَمِ وَلِلصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ إِذْ نُصِبَا ... كَرْبٌ وَكُلُّ الْوَرَى لِلْكَرْبِ مُلْتَزِمِ وَلِلصَّحَائِفِ أَهْوَالٌ إِذَا نُشِرَتْ ... وَالنَّاسُ قَدْ شَخَصُوا مِنْ خَوْفِ رَبِّهِمِ يَا لَيْتَ شِعْرِي وَلَيْسَ الدَّهْرُ يُخْبِرُنِي ... أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ يَنْجُو يَوْمَ مُحْتَكَمِ لَكِنَّ ظَنِّي بِرَبِّي أَنَّهُ مَلِكٌ ... يَعْفُو بِرَحْمَتِهِ عَنْ كُلِّ مُجْتَرِمِ مَوْلايَ مَوْلايَ لا رَبٌّ سِوَاكَ فَعْفُ ... ذَنْبِي فَإِنَّكَ ذُو عَفْوٍ وَذُو كَرَمِ ثُمَّ الصَّلاةُ عَلَى الْمُخْتَارِ سِيِّدِنَا ... مُحَمَّدِ الْمُصْطَفَى لِلْعُرْبِ وَالْعَجَمِ (فَصْلٌ) 51- ومنها إرسال الريح الشديدة على الأحزاب وهم قريش ومن معهم يوم الخندق أرسلها الله عليهم ليلاً قال عكرمة: قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب انطلقي ننصر رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت الشمال: إن الحرة لا تسري بليل، وكانت الريح التي أرسلها الله عليهم الصبا، ففروا لشدتها عن بعض أثقالهم وأمتعتهم، ولو أقاموا إلى الصباح لهلكوا جميعاً. وهو المدلول عليه بقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} . ففي خبر القصة أن رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رأى من أصحابه الجزع لطول الحصار، صعد إلى الجبل فدعا الله وكان فيما دعاه أن قَالَ ((واصرف عنا شر هؤلاء القوم بقوتك وحولك وقدرتك)) . فنزل جبريل يخبره عن الله بأنه استجاب له وأمر الله الريح والملائكة أن يهزموا قريشاً والأحزاب تلك الليلة، فأمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حذيفة بن اليمان أن يدخل معسكرهم أي قريش، ويأتي بأخبارهم، قَالَ له إن الله عز وجل قد أخبرني أنه أرسل على قريش الريح، وهزمهم. قَالَ: فدخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قدراً ولا ناراً، ولا بناء، فقطعت أصناب الفسطاط، وقلعت الأوتاد، وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها في بعض، وكثر تكبير الملائكة في جوانب المعسكر.

قَالَ: وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنَّكُمْ وَاللَّهِ مَا أَصْبَحْتُمْ بِدَارِ مُقَامٍ، لَقَدْ هَلَكَ الْكُرَاعُ وَالخفّ وَلَقِينَا مِنْ شِدَّةِ الرِّيحِ مَا تَرَوْنَ، مَا تَطْمَئِنُّ لَنَا قِدْرٌ وَلَا تَقُومُ لَنَا نَارٌ وَلَا يَسْتَمْسِكُ لَنَا بِنَاءٌ فَارْتَحِلُوا فَإِنِّي مُرْتَحِلٌ فَرُدُوْا بِغَيْظِهِمْ {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} . فالباري جل وعلا أرسل الريح على أولئك المشركين، نصراً لنبيه مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتصديقاً لدعوته، واستجابة لدعائه، لعلمه تعالى أن أصحاب مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك اليوم لا يقومون بقتال أولئك ففي هذه معجزة عظيمة فتأمل. 52- وَمِنْ ذَلِكَ ما رواه أَبو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ فَقَالَ ((اجْمَعُوا ِلَيَّ مَنْ كَانَ هُنَا مِنْ يَهُودَ)) فَجُمِعُوا، فَقَالَ لَهُم ((إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْهُ)) ؟ قَالُوا نَعَمْ، يَا أبًا القَاسِم، فَقَالَ لَهُمْ ((مَنْ أَبُوكُمْ)) ؟ قَالُوا: فُلَانٌ، قَالَ: ((كَذَبْتُمْ، أَبُوكُمْ فُلَانٌ)) قَالُوا صَدَقْتَ، وَبَرَرْتَ، قَالَ ((فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكمْ عَنْهُ)) ؟ قَالُوا: نَعَمْ، وَإِنْ كَذَبْنَاكَ عَرَفْتَ، كَمَا عَرَفْتَهُ فِي أَبِينَا، قَالَ لَهُمْ ((مَنْ أَهْلُ النَّارِ)) ؟ قَالُوا نَكُونُ فِيهَا يَسِيراً ثُمَّ تَخْلُفُونَا فِيهَا. قَالَ ((اخْسَئُوا فِيهَا، وَاللَّهِ لَا نَخْلُفُكُمْ فِيهَا أَبَداً)) قَالَ ((هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ)) ؟ قَالُوا نَعَمْ قَالَ ((هَلْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ الشَّاةِ سُمَّاً؟)) قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ ((مَا حَمَلَكُمْ

عَلَى ذَلِكَ)) ؟ قَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَاذِباً نَسْتَرِيحُ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ صَادِقاً لَمْ يَضُرَّكَ، رواه البخاري. 53- وَمِنْ ذَلِكَ ما ورد عن صفوان بن عسال: مسند أحمد - (ج 37 / ص 56) عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ بَعْض الْيَهُودِ لِصَاحِبه، اذْهَبْ بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِيِّ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ، لاَ تَقُلْ نَبِيٌّ لَوْ سَمِعَهَا كَانَ لَهُ أَرْبَعُةُ أَعْيُنٍ، فَأَتَيَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلاَهُ عَنْ تِسْعِ آياتٍ بَيَّنَاتٍ. فَقَالَ ((لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئاً، وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلَا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ ولا تَسْحَرُوا وَلَا تَأْكُلُوا الرِّبَا وَلَا تَقْذِفُوا مُحْصَنَةً وَلَا تُوَلُوا الأدْبَارَ يَوْمَ الزَّحْفِ وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةً اليَهُودُ أَنْ تَعْدُوا يَومَ السَّبْتِ)) فَقَبلا يدَهُ، ورجْلَهُ، وَقَالا: نَشْهَدُ إِنَّكَ نَيِيّ. فَقَالَ ((مَا يَمْنَعُكُمْا أَنْ تَتَّبِعُونِي؟ قَالاَ إِنَّ دَاوُدَ دَعَا رَبَّهُ أَنْ لَا يَزَالَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ، وَإِنَّا نَخَافُ إِنْ اتَّبَعْنَاكَ، تَقْتُلَنَا يَهُودُ. للترمذي والنسائي. 54- عَنْ جَابِرِ قَالَ غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةً قِبَلَ نَجْدٍ، فَأَدْرَكَنَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي القَائِلةِ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ، فَنَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ، فَعَلَّقَ سَيْفَهُ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا. وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْوَادِي يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ رَجُلًا أَتَانِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَأَخَذَ السَّيْفَ، فَاسْتَيْقَظْتُ، وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِي، وَالسَّيْفُ صَلْتاً فِي يَدِهِ، فَقَالَ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي قُلْتُ اللَّهُ، فَشَامَ السَّيْفَ فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ)) ثُمَّ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ وَكَان مَلِكَ قَوْمِهِ، فانْصَرَفَ حِيْنَ عَفى عَنْهُ، فَقَالَ لا أَكُوْنُ فيِ قَوْمٍ هُمْ حَرْبٌ لَكَ، متفق عليه. 55- ومنها إخْبَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الْأَرَضَةَ أَكَلَتْ مِنْ صَحِيْفَةِ قريشٍ ما فيه ظُلْمُ، وَقَطِيْعَةُ رَحِمٍ. وأبْقَتْ ما فِيْهَا مِنْ أسْمَاءِ الله تعالى. ومن حديثها أن قريشاً كتبوا فيما بينهم صحيفة بأن لا يبيعوا بني هاشم، ولا يبتاعوا منهم، ولا يناكحوهم، ولا يكلموهم، أو يدفعوا إليهم محمداً ليقتلوه، ودفنوها في الكعبة، فَقَامَ أبو طالب ومن معه بحماية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبقوا محصورين في الشعب سنتين أو ثلاثاً. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي طَالِبٍ: يَا عَمّ، إنّ اللهَ قَدْ سَلّطَ الْأَرَضَةَ عَلَى صَحِيفَةِ قُرَيْشٍ، فَلَمْ تَدَعْ فِيهَا اسْماً هُوَ لِلّهِ إلّا أَثْبَتَتْهُ فِيهَا، وَنَفَتْ مِنْهُ الظّلْمَ وَالْقَطِيعَةَ وَالْبُهْتَانَ، فَقَالَ أَرَبِكَ أَخْبَرَك بِهَذَا، قَالَ نَعَمْ، قَالَ فَوَاَللهِ مَا يَدْخُلُ عَلَيْكَ أَحَدٌ. ثُمّ خَرَجَ إلَى قُرَيْشٍ، فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنّ ابْنَ أَخِي أَخْبَرَنِي بِكَذَا وَكَذَا، فَهَلُمّ صَحِيفَتُكُمْ، فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ ابْنُ أَخِي فَانْتَهُوا عَنْ

قَطِيعَتِنَا، وَانْزِلُوا عَمّا فِيهَا، وَإِنْ يَكُنْ كَاذِباً، دَفَعْت إلَيْكُمْ ابْنَ أَخِي، فَقَالَ الْقَوْمُ رَضِينَا، فَتَعَاقَدُوا عَلَى ذَلِكَ ثُمّ نَظَرُوا، فَإِذَا هِيَ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَزَادَهُمْ ذَلِكَ شَرّاً. فَعِنْدَ ذَلِك صَنَعَ الرّهْطُ مِنْ قُرَيْشٍ فِي نَقْضِ الصّحِيفَةِ مَا صَنَعُوا. 56- ومنها ما روي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّه قَالَ لِعَليَّ يَوْمَ أحُد بعد انجلاء الهيجاء، إن قريشاً لن يصيبوا منا مثلها بعد هذا، حتَّى يفتح الله علينا مكة، فكان الأمر كما قَالَ، فإنه لم تصب قريش من أصحاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أحد ما أصابت منهم يوم أحد وما زال أمر النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلو عليهم حتَّى غزاهم في عقر دارهم، ومحل قرارهم، ولم يستطيعوا دفعه، بل استأسروا له راغمين، فمن عليهم فاطلقهم من حبالة القتل، واعتقهم من رق الأسر وناداهم وهم مرعوبون ((اخرجوا فأنتم الطلقاء)) وبذلك يوم فتح مكة بالسنة الثامنة من الهجرة. 57- وَمِنْ ذَلِكَ ما وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ، قَالَ ((لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُهُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ، وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، وَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ عليه السلامُ، فَنَادَانِي، فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ، لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ

فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّد إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبِكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أُطْبِقَتُ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ)) فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((بَلْ أَرْجُو، أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً)) متفق عليه. 58- وَمِنْ ذَلِكَ ما وَرَدَ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ صَعِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِرَاءً، فَتَحَرَّكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْكُنْ حِرَاءُ، ومَعَه َأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وعبدُ الرحمن بنُ عوف، وَالزُّبَيْرُ، وَطَلْحَةُ، وسعيد فَتَحَرَّكَ الجبلُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْكُنْ حِرَاءُ، فَلَيسَ عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ، أَوْ صِدِّيقٌ، أَوْ شَهِيدٌ، فَسَكَنَ الجَبَلُ. 59- ومن أعلام نبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه بعث خالد بن الوليد من تبوك، في أربع مائة وعشرين فارساً إلى أكيدر دومة الجندل، من كندة فَقَالَ خالد يَا رَسُولَ اللهِ، كيف لي به وسط بلاد كلب، وإنما أنا في عدد يسير، فَقَالَ ستجده يصيد البقر، فتأخذه فخرج خالد حتَّى إذا كان من حصنه بمنظر العين، في ليلة مقمرة صافية، وهو على سطح له، من شدة الحر، مع امرأته، فأقبلت البقر، تحك بقرونها باب الحصن، فَقَالَ أكيدر دومة: والله ما رأيت بقراً جاءتنا ليلاً غير هذه الليلة، لقد كنت أضمر لها الخيل، إذا أردتها شهراً أو أكثر، ثم نزل فركب بالرجال، والآلة، فلما فصلوا من الحصن، وخيل خالد تنظر إليهم، لا يصهل منها فرس، ولا يتحرك، فساعة فصل، أخذته الخيل، فاستؤسر أكيدر دومة. اللَّهُمَّ ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وأرزقنا صيانة أوقاتنا وحفظها عن المعاصي ووفقنا لشغلها بالباقيات الصالحات

وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. قَالَ ابن القيم رحمه الله تعالى: يَا قَوْمُ فَرْضُ الْهِجْرَتَيْنِ بِحَالِهِ واللهِ لَمْ يُنْسَخْ إِلَى ذَا الآنِ فَالْهِجْرَةُ الأُولَى إِلَى الرَّحْمَنِ بِالْ إِخْلاصِ فِي سِرٍّ وَفِي إِعْلانِ حَتَّى يَكُونَ الْقَصْدُ وَجْهُ اللهِ بِالْ أَقْوَالِ وَالأَعْمَالِ وَالإِيمَانِ وَيَكُونُ كُلُّ الدِّينِ لِلرَّحْمَنِ مَا لِسِوَاهُ شَيْءٌ فِيهِ مِنْ إِنْسَانِ وَالْحُبُّ وَالْبُغْضُ اللَّذَيْنِ هُمَا لِكُلِّ م وَلايَةٍ وَعَدَاوَةٍ أَصْلانِ للهِ أَيْضًا هَكَذَا الإِعْطَاءُ وَالـ ـمَنْعُ اللَّذَانِ عَلَيْهِمَا يَقِفَانِ وَاللهِ هَذَا شَطْرُ دِينِ اللهِ وَالتَّـ ـحْكِيمِ لِلْمُخْتَارِ شَطْرٌ ثَانِ وَالْهِجْرَةُ الأُخْرَى إِلَى الْمَبْعُوثِ بِالْ إِسْلامِ وَالإِيمَانِ وَالإِحْسَانِ أَتَرَوْنَ هَذي هِجْرَةَ الأَبْدَانِ لا وَاللهِ بَلْ هِيَ هِجْرَةٌ الإِيمَانِ قَطْعُ الْمَسَافَةِ بِالْقُلُوبِ إِلَيْهِ فِي

.. دَرْكِ الأُصُولِ مَعَ الْفُرُوعِ وَذَانِ أَبَدًا إِلَيْهِ حُكْمَهَا لا غَيْرُهُ فَالْحُكْمُ مَا حَكَمَتْ بِهِ النَّصَانِ يَا هِجْرَةً طَالَتْ مَسَافَتُهَا عَلَى مَنْ خَصَّ بِالْحُرْمَانِ وَالْخُذْلانِ يَا هِجْرَةً طَالَتْ مَسَافَتُهَا عَلَى كَسْلان مَنْخُوبِ الْفُؤَادِ جَبَانِ يَا هِجْرَةً وَالْعَبْدُ فَوْقَ فِرَاشِهِ سَبَقَ السُّعَاةَ لِمَنْزِلِ الرِّضْوَانِ سَارُوا أَحَثَّ السَّيْرِ وَهُوَ فَسَيْرُهُ سَيْرُ الدَّلالِ وَلَيْسَ بِالذَّمِلانِ هَذَا وَتَنْظُرُه أَمَامَ الرَّكْبِ كَالْـ ـعِلْمِ الْعَظِيمِ يُشَافُ فِي الْقِيعَانِ رُفِعَتْ لَهُ أَعْلامُ هَاتِيكَ النُّصُو صِ رُؤُوسُهَا شَابَتْ مِنَ النِّيرَانِ نَارٌ هِيَ النُّورُ الْمُبِينُ وَلَمْ يَكُنْ لِيَرَاهُ إِلا مَنْ لَهُ عَيْنَانِ مَكْحُولَتَانِ بِمِرْوَدِ الْوَحْيَيْنِ لا بِمَرَاوُدِ الآرَاءِ وَالْهَذَياَنِ فَلِذَاكِ شَمَّرَ نَحْوَهَا لَمْ يَلْتَفِتْ لا عَنْ شَمَائِلِهِ وَلا أَيْمَانِ

.. يَا قَوْمُ لَوْ هَاجَرْتُمُوا لَرَأَيْتُمُ أَعْلامَ طَيْبَةَ رُؤْيَةً بِعِيَانِ وَرَأَيْتُمُ ذَاكَ اللِّوَاءَ وَتَحْتَهُ الرُّ سْلُ الْكِرَامُ وَعَسْكَرُ الْقُرْآنِ أَصْحَابَ بَدْرٍ وَالأُولَى قَدْ بَايَعُوا أَزْكَى الْبَرِيَّةِ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ وَكَذَا الْمُهَاجِرَةُ الأُولَى سَبَقُوا كَذَا الْ أَنْصَارُ أَهْلُ الدَّارِ وَالإِيمَانِ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَسَا لِكُ هَدْيِهِمْ أَبَدًا بِكُلِّ زَمَانِ لَكِنْ رَضِيتُمْ بِالأَمَانِي وَابْتُلِيتُمْ بِالْحُظُوظِ وَنَصْرَةِ الإِخْوَانِ بَلْ غَرَّكَمْ ذَاكَ الْغُرُورُ وَسَوَّلَتْ لَكُمْ النُّفُوسُ وَسَائِسَ الشَّيْطَانِ وَنَبَذْتُمْ غِلَّ النُّصُوصِ وَرَاءَكُمْ وَقَنِعْتُمُ بِقَطَارَةِ الأَذْهَانِ وَتَرَكْتُمُ الْوَحْيَيْنَ زُهْدًا فِيهِمَا وَرَغِبْتُمُ فِي رَأْيِ كُلِّ فُلانِ وَعَزَلْتُمُ النَّصَّيْنِ عَمَّا وُلِّيَّا لِلْحُكْمِ فِيهِ عَزْلَ ذِي عُدْوَانِ وَزَعَمْتُمُ أَنَّ لَيْسَ يَحْكُم بَيْنَنَا

.. إِلا الْعُقُولُ وَمَنْطِقُ الْيَوْنَانِ حَتَّى إِذَا انْكَشَفَ الْغِطَاءُ وَحُصِّلَتْ أَعْمَالُ هَذَا الْخَلْقِ بِالْمِيزَانِ وَإِذَا انْجَلَى هَذَا الْغُبَارُ وَصَارَ مَيْـ ـدَانُ السِّبَاقِ تَنَالُهُ الْعَيْنَانِ وَبَدَتْ عَلَى تِلْكَ الْوُجُوهُ سِمَاتُهَا وَسْم الْمَلِيكِ الْقَادِرِ الدَّيَّانِ مُبْيَضَّةً مِثْلَ الرِّيَاضِ بِجَنَّةٍ وَالسُّودُ مِثْلَ الْفَحْمِ لِلنِّيرَانِ فَهُنَاكَ يَعْلَمُ رَاكِبٌ مَا تَحْتَهُ وَهُنَاكَ يُقْرَعُ نَاجِذُ النَّدْمَانِ وَهُنَاكَ تَعْلَم كُلُّ نَفْسٍ مَا الَّذِي مَعَهَا مِن الأَرْبَاحِ وَالْخُسْرَانِ وَهُنَاكَ يَعْلَمُ مُؤْثِرُ الآرَاءِ وَالشَّـ ـطَحَاتِ وَالْهَذَيَانِ وَالْبُطْلانِ أَيَّ الْبَضَائِعِ قَدْ أَضَاعَ وَمَا الَّذِي مِنْهَا تَعَوَّضَ فِي الزَّمَانِ الْفَانِ سُبْحَانَ رَبِّ الْخَلْقِ قَاسمِ فَضْلِهِ وَالْعَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ بِالْمِيزَانِ لَوْ شَاءَ كَانَ النَّاسُ شَيْئًا وَاحِدًا مَا فِيهِمْ مِنْ تَائِهٍ حَيْرَانِ

.. لَكِنَّهُ سُبْحَانَه يَخْتَصُّ بِالْـ ـفَضْلِ الْعَظِيمِ خُلاصَة الإِنْسَانِ وَسِوَاهُمُ لا يَصْلَحُونَ لِصَالِحٍ كَالشَّوْكِ فَهُوَ عِمَارَةُ النِّيرَانِ وَعِمَارَةُ الْجَنَّاتِ هُمْ أَهْلُ الْهُدَى اللهُ أَكْبَرُ لَيْسَ يَسْتَوِيَانِ فَسَلِ الْهِدَايَةَ مَنْ أَزَمَّه أَمْرِنَا بِيَدَيْهِ مَسْأَلَةَ الذَّلِيلِ الْعَانِ وَسَلِ الْعِيَاذِ مِن اثْنَتَيْنِ هُمَّا اللَّتَا نِ بِهُلْكِ هَذَا الْخَلْقِ كَافِلَتَانِ شَرِّ النُّفُوسِ وَسَيِّءِ الأَعْمَالِ مَا وَاللهِ أَعْظَمُ مِنْهُمَا شَرَّانِ وَلَقَدْ أَتَى هَذَا التَّعَوُّذُ مِنْهُمَا فِي خُطْبَةِ الْمَبْعُوثِ بِالْقُرْآنِ لَوْ كَانَ يَدْرِي الْعَبْدُ أَنَّ مُصَابَهُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا هُوَ الشَّرَّانِ جَعَلَ التَّعَوُّذُ مِنْهُمَا دَيْدَانَهُ حَتَّى نَرَاهُ دَاخِلَ الأَكْفَانِ اللَّهُمَّ ثبت محبتك في قلوبنا وقوها ووفقنا لشكرك وذكرك وارزقنا التأهب والاستعداد للقائك واجعل ختام صحائفنا كلمة التوحيد وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.

(فَصْلٌ) 60- ومنها أخذ الله المشركين المستهزئين بالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما شغلهم عنه وأزال منعهم إياه عن تبليغ الرسالة، وهو المشار إليه بقوله تعالى {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} . وهم خمسة نفر من رؤساء قريش، الوليد بن المغيرة المخزومي، وكان رأسهم، والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن عبد المطلب بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن زمعة. وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد دعا عليه، فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ أعْمِ بصره واثْكله بولده)) والأسود بن عبد يغوث بن وهب، والحارث بن قيس بن الطُّلاطلة. فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، والمستهزئون يطوفون بالبيت. فَقَامَ جبريل إلى جنبه، فمرَّ به الوليد بن المغيرة، فَقَالَ جبريل: يا مُحَمَّد كيف تجد هذا، فَقَالَ: بئس عَبْدُ الله، فَقَالَ: قد كُفِيْتَه، وأومأ إلى ساق الوليد، فمر برجل من خزاعة نبَّال يريش نباله، وعليه بُرْد يمان، وهو يجرُّ إزاره، فتعلقت شظية من نَبْلٍ بإزاره، فمنعه الكبر أن "يطاطئ رأسه فينزعها، وجعلت تضرب ساقه، فخدشته، فمرض منها فمات. ومرَّ به العاص بن وائل، فَقَالَ جبريل: كيف تجد هذا يا مُحَمَّد، قال: بئس عبد الله، فأشار جبريل إلى أخمص رجليه، وَقَالَ: قد كفيته، فخرج على راحلته ومعه ابنان له يتنزه، فنزل شعباً من تلك الشعاب، فوطئ على شبرقةٍ، فدخلت منها شوكة في أخمص رجله، فَقَالَ: لدغت لدغت، فطلبوا فلم يجدوا شيئاً، وانتفخت رجله حتَّى صارت مثل عنق البعير، فمات مكانه. فمرَّ به الأسود بن المطلب، فَقَالَ جبريل: كيف تجد هذا يا مُحَمَّد، قَالَ بئس عبد الله، فأشار بَيّدِهِ إلى عينيه، وَقَالَ: قد كفيته، فعمي. قال ابن عباس رماه جبريل بورقة خضراء، فعمي فذهب بصره ووجعت عيناه، فجعل يضرب برأسه الجدار حتَّى هلك.

ومرَّ به الأسود بن عبد يغوث، فَقَالَ جبريل: كيف تجد هذا يا محمد، قَالَ: بئس عبد الله على أنه ابن خالي)) فَقَالَ: قد كفيته، وأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه فمات ومرَّ به الحارث بن قيس فَقَالَ جبريل: كيف تجد هذا يا مُحَمَّد؛ فَقَالَ: عبد سوء فأومأ إلى رأسه وَقَالَ: قد كفيته، فامتخط قيحاً فقتله. وقِيلَ أكل حوتاً مالحاً فلم يزل يشرب عليه من الماء حتَّى انقد بطنه. 61- ومن أعلام نبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما روي أن الحطم واسمه شريح بن صبيعة البكري - أتى المدينة، وخلف خيله خارج المدينة، ودخل وحده، على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إلام تدعو الناس فَقَالَ: ((إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة)) . فَقَالَ: حسن، ولكن أنظرني، فلي من أشاوره، فلا أقطع أمراً دونهم، ولعلي أسلم، وآتي بهم، وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قَالَ لأصحابه: يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان، ثم خرج شريح من عنده، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لقد دخل بوجه كافر، وخرج بقفا غادر، وما الرجل بمسلم، فمر بسرح المدينة، فاستاقه، وانطلق، فاتبعوه فلم يُدركوه. فلما كان العام القابل، خرج حاجاً، في حجاج بكر بن وائل، من اليمامة، ومعه تجارة عظيمة، وقد قلد الهدي، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هذا الحطم قد خرج حاجاً، فخلِّ بيننا وبينه. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: إنه قد قلد الهدي، فقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، هذا شيء كنا نفعله في الجاهلية، فأبى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ َلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ} الآية.

62- ومن أعلام نبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قوله في ليلة الإسراء، حين أصبح ((إن من آية ما أقول لكم، أني مررت بعير لكم بمكان كذا وكذا، قد أضلوا بعيراً لهم، فجمعه لهم فلان، وإن مسيرهم ينزلون بكذا ثم بكذا، ويأتونكم يوم كذا وكذا، يقدمهم جمل آدم، عليه مسح أسود وغرارتان سوداوان)) فلما كان ذلك اليوم أشرف الناس ينظرون حتَّى كان قريب من نصف النهار حتَّى أقبلت العير يقدمهم ذلك الجمل الَّذِي وصفه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان كما أخبر. 63- وَمِنْ ذَلِكَ دعاؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أفراد من المشركين أصحاب القليب، فعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌه، جُلُوسٌ وَقَدْ نُحِرَتْ جَزُورٌ بِالْأَمْسِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ، أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى سَلَاجَزُورِ بَنِي فُلَانٍ، فَيَضَعُهُ بَيْنَ كَتِفَيْ مُحَمَّد إِذَا سَجَدَ، فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ، فَأَخَذَهُ. فَلَمَّا سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَاسْتَضْحَكُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَمِيلُ عَلَى بَعْضٍ، وَأَنَا قَائِمٌ أَنْظُرُ، لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَةٌ طَرَحْتُهُ عَنْ ظَهْرِه، والنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاجِدٌ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ حتَّى انْطَلَقَ إِنْسَانٌ إلى فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عنْهَا. فَجَاءَتْ وهِيَ جُوَيْرِيَةٌ، فَطَرَحَتْهُ عَنْهُ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَشْتِمُهُمْ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَفَعَ صَوْتَهُ ثُمَّ دَعَا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ إِذَا دَعَا، دَعَا ثَلَاثَ مَراتٍ وَإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلَاثًا فَقَالَ اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتَهُ، ذَهَبَ عَنْهُمْ الضِّحْكُ، وَخَافُوا دَعْوَتَهُ.

ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَذَكَرَ السَّابِعَ، وَلَمْ أَحْفَظْهُ، فَوَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ سَمَّى صَرْعَى يَوْمَ بَدْرٍ. ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ (قَلِيبِ بَدْرٍ) أخرجه الشيخان والنسائي تيسير الوصول ج 4 ص 216. 64- وَمِنْ ذَلِكَ ما في صحيح البخاري، عن يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ: رَأَيْتُ أَثَرَ ضَرْبَةٍ فِي سَاقِ سَلَمَةَ فَقُلْتُ: يَا أَبَا مُسْلِمٍ مَا هَذِهِ الضَّرْبَةُ، فَقَالَ هَذِهِ ضَرْبَةٌ أَصَابَتْنِي يَوْمَ خَيْبَرَ فَقَالَ النَّاسُ: أُصِيبَ سَلَمَةُ فَأَتَيْتُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَفَثَ فِيهِ ثَلَاثَ نَفَثَاتٍ فَمَا اشْتَكَيْتُهَا حتَّى السَّاعَةِ. 65- وَمِنْ ذَلِكَ أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أَرَادَ الهجرة خرج من مكة، ومعه أبو بكر، فدخل غاراً في جبل ثور، ليستخفي من قريش، وقد طلبته، وبذلت لمن جاء به مائة ناقة، فأعانه الله بإخفاء أثره، ونسجت العنكبوت على باب الغار. ولما خرج، لحقه سراقة بن مالك بن خعشم، وهو من جملة من توجه لطلبه، فَقَالَ أبو بكر هذا سراقة قد قرب، فَقَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((اللَّهُمَّ أكفنا سراقة)) فأخذت الأرض قوائم فرسه إلى إبطها، فَقَالَ سراقة يا مُحَمَّد ادع الله أن يطلقني، ولك على أن أرد من جاء يطلبكَ ولا أعين عَلَيْكَ أبداً، فَقَالَ ((اللَّهُمَّ إن كان صادقاً فأطلق عن فرسه)) فأطلق الله عنه، ثم أسلم سراقة، وحسن إسلامه. شِعْرًا: ... أَشْكُو إِلَيْكَ ذُنُوبًا لَسْتُ أُنْكِرُهَا ... وَقَدْ رَجَوْتُكَ يَا ذَا الْمَنِّ تَغْفِرُهَا مِنْ قَبْلِ سُؤْلِك لِي فِي الْحَشْرِ يَا أَمَلِي ... يَوْمَ الْجَزَاءِ عَلَى الأَهْوَالِ تَذْكُرُهَا أَرْجُوكَ تَغْفِرُهَا فِي الْحَشْرِ يَا أَمَلِي ... إِذْ أَنْتَ سُؤْلِي كَمَا فِي الأَرْضِ تَسْتُرُهَا

آخر: ... مَوْلايَ إِنِّي عَبْدٌ ضَعِيفْ ... أَتَيْتُكَ أَرْغَبُ فِيمَا لَدَيْكْ أَتَيْتُكَ أَشْكُو مَصَابَ الذُّنُوبْ ... وَهَلْ يُشْتَكَى الضُّرُّ إِلا إِلَيْكْ فَمُنَّ بِعَفْوِكَ يَا سَيِّدِي ... فَلَيْسَ اعْتِمَادِي إِلا عَلَيْكْ 66- وَمِنْ ذَلِكَ ما ذكره الماوردي في أعلام النبوة، من أن أبا لهب، خرج يوماً، وقد اجتمعت قريش، فقَالُوا له يا أبا عتبة، إنك سيدنا، وأنت أولى بمُحَمَّد منا، وإن أبا طالب، هو الحائل بيننا وبينه، ولو قتلته لم ينكره أبو طالب، ولا حمزة، منك شيئاً، وأنت برئ من دمه، نؤدي نحن الدية، وتسود قومك، فَقَالَ فإني أكفيكم، ففرحوا بذلك ومدحته خطباؤهم. فلما كان في تلك الليلة، وكان مشرفاً عليه، نزل أبو لهب وهو يصلي وتسلقت امرأة أبي لهب، وأم جميل الحائط، حتَّى وقف على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو ساجد فصاح به، أبو لهب، فلم يلتفت إليه، وهما كانا لا ينقلان أقدامهما، ولا يقدران على شيء، حتَّى تفجر الصبح، وفرغ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ له أبو لهب يا مُحَمَّد، أطلق عنا، فَقَالَ: ((ما كنت لأطلق عنكما، أو تضمنا إنكما لا تؤذياني)) قالا: قد فعلنا، فدعا ربه فرجعا. 67- وَمِنْ ذَلِكَ أن الناس لما انهزموا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين، وهو معتزل عنهم، رآه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، فَقَالَ اليوم أدرك ثأري من مُحَمَّد، فأقتله، لأن أبا شيبة قتل يوم أحد في جماعة إخوته وأعمامه، قَالَ شيبة فلما أردت قتله، أقبل شيء حتَّى تغشى فؤادي فلم أطق ذلك فعلمت أنه ممنوع. شِعْرًا: ... لا تَرْكَنَنَّ إِلَى الدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا ... فَأَنْتَ مِنْ عَاجِل الدُّنْيَا سَتَنْتَقِلُ أَصْبَحْتَ تَرْجُو غَدًا يَأْتِي وَبَعْدَ غَدٍ ... وَرُبَّ ذِي أَمَلٍ قَدْ خَانَهُ الأَمَلُ

شِعْرًا: ... هَذَا شَبَابُك قَدْ وَلَّتْ بَشَاشَتُهُ ... مَا بَعْدَ شَيْبِكَ لا لَهْوٌ وَلا جَدَلُ مَاذَا التَّعَلُّلُ بِالدُّنْيَا وَقَدْ نَشَرَتْ ... لأَهْلِهَا صِحَّةً فِي طِيِّهَا عِلَلُ اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك ووفقنا للقيام بحقك، وخلصنا من حقوق خلقك، وبارك لنا في الحلال من رزقك، ولا تفضحنا بين خلقك. اللَّهُمَّ وفقنا لصالح الأعمال وأكفنا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك إنك علي كل شيء قدير ولله أعلم وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَسَلَّمَ. (فَصْلٌ) 68- وَمِنْ ذَلِكَ قصة أبي جهل وحجره ففي السيرة النبوية أن أَبُا جَهْلٍ قَالَ يَوْماً يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنّ مُحَمّداً قَدْ أَبَى إلّا مَا تَرَوْنَ مِنْ عَيْبِ دِينِنَا، وَشَتْمِ آبَائِنَا، وَتَسْفِيهِ أَحْلَامِنَا، وَشَتْمِ آلْهِتَتَا، وَإِنّي أُعَاهِدُ اللهَ لَأَجْلِسَنّ لَهُ غَداً بِحَجَرٍ مَا أُطِيقُ حَمْلَهُ فَإِذَا سَجَدَ فِي صَلَاتِهِ فَضَخْتُ بِهِ رَأْسَهُ فَأَسْلِمُونِي عِنْدَ ذَلِكَ أَوْ امْنَعُونِي، فَلْيَصْنَعْ بَعْدَ ذَلِكَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ مَا بَدَا لَهُمْ قَالُوا: وَاَللهِ لَا نُسْلِمُك لِشَيْءِ أَبَداً، فَامْضِ لِمَا تُرِيدُ. فلما أصبح أبو جهل، أخذ حجراً كما وصف، ثم جلس لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينتظره. وغدا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما كان يغدو، فَقَامَ يصلى، وقد غدت قريش، فجلسوا في أنديتهم ينتظرون، ما أبو جهل فاعل، فلما سجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احتمل أبو جهل الحجر، ثم أقبل نحوه، حتَّى إذا دنا منه، رجع منهزماً منتقعاً لونه مرعوباً، قد يبست يداه على حجره، حتَّى قذف الحجر من يده.

وقام إليه رجال من قريش فقَالُوا له: ما لك يا أبا الحكم، قَالَ: قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لى دونه، فحل من الابل، لا والله ما رأيت مثل هامته، ولا قصرته ولا أنيابه، لفحل قط، فهم أن يأكلني، وروي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذلك جبريل لو دنا لأخذه. 69- ومنها قصة أخرى مع أبي جهل فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ أَبُو جَهْلٍ هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّد وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، قَالَ نَعَمْ، فَقَالَ وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يُصَلَّي كذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ، وَلَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يُصَلِّي لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ، قَالَ فَمَا فَجِأهُمْ مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ. قَالَ فَقِيلَ لَهُ مَا لَكَ، فَقَالَ إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ خَنْدَقاً مِنْ نَارٍ، وَهَوْلاً وَأَجْنِحَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْواً عُضْواً)) قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ لَا أدْرِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَمْ لا {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} إلى آخر السورة. 70- ومن أعلام نبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما يلي: قَالَ مُحَمَّد بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ، حُدّثْت أَنّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، كَانَ سَيّداً حَلِيْماً، قَالَ يَوْماً وَهُوَ جَالِسٌ فِي نَادِي قُرَيْشٍ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ وَحْدَهُ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَلَا أَقُومُ إلَى مُحَمَّد وَأُكَلّمَهُ، وَأَعْرِضَ عَلَيْهِ أُمُوراً لَعَلّهُ يَقْبَلُ منا بَعْضَهَا فَنُعْطِيهِ وَيَكُفّ عَنّا، وَذَلِكَ حِينَ أَسْلَمَ حَمْزَةُ، وَرَأَوْا أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزِيدُونَ، وَيَكْثُرُونَ. فَقَالُوا: بَلَى يَا أَبَا الْوَلِيدِ فقُمْ إلَيْهِ فَكَلّمْهُ، فَقَامَ عُتْبَةُ حتَّى جَلَسَ

إلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا ابْنَ أَخِي، إنّك مِنّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ، مِنْ البسّطَةِ فِي الْعَشِيرَةِ وَالْمَكَانِ فِي النّسَبِ وَإِنّك قَدْ أَتَيْت قَوْمَك بِأَمْرِ عَظِيمٍ، فَرّقْت بِهِ جَمَاعَتَهُمْ وَسَفّهْت أَحْلَامَهُمْ، وَعِبْت آلِهَتَهُمْ، وَكَفّرْت مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِهِمْ، فَاسْمَعْ مِنّي، أَعْرِضْ عَلَيْكَ أُمُوراً تَنْظُرُ فِيهَا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ) فَقَالَ يَا ابْنَ أَخِي، إنْ كُنْت تُرِيدُ شَرَفاً سَوّدْنَاك عَلَيْنَا، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ مَالاً بِمَا جِئْتَ بِهِ جَمَعْنَا لَك مِنْ أَمْوَالِنَا، وإن كَانَ الَّذِي بِكَ رَئِيَّاً، لا نَسْتَطِيعُ رَدَّه، طَلَبْنَا لَك الطّبّ وَلَعَلَّ هَذَا شِعْرٌ جَاشَ بَصَدْرِكَ، فإنكمُ لَعمْرِي، بَنِي المطَّلِب، تَقْدُرُوْنَ من ذلكَ مَا لاَ يَقْدِرٌ عليه غَيرُكُمْ، حتَّى إذَا فَرَغَ مَا عَنْدَه، مِن سَائِر الأمُوْرِ التي يَزْعُمُ أنَّها تَرُدهُ عَمَّا يّقُولُ،، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَمِعُ ((أَوَ قَدْ فَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ)) ؟ قَالَ نَعَمْ. قَالَ ((فَاسْمَعْ مِنّي)) قَالَ فَافْعَلُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ {حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ كِتَابٌ فُصّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} ثُمّ مَضَى يَقْرَأ، فَلَمّا سَمِعَهَا عُتْبَةُ أَنْصَتَ لَهَ، وَأَلْقَى يَدَيْهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ، مُعْتَمِداً عَلَيْهِمَا يَسْمَعُ مِنْهُ، حتَّى انْتَهَى رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى السّجْدَةِ فَسَجَدَ ثُمّ قَالَ ((قَدْ سَمِعْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ مَا سَمِعْتَ فَأَنْت وَذَاكَ)) فَقَامَ عُتْبَةُ إلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ نَحْلِفُ بِاَللهِ، لَقَدْ جَاءَكُمْ أَبُو الْوَلِيدِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ. فَلَمّا جَلَسَ فِيْهِم، قَالُوا: مَا وَرَاءَك، يَا أَبَا الْوَلِيدِ، فَقَالَ وَرَائِي أَنّي سَمِعْتُ قَوْلاً، وَاَللهِ مَا سَمِعْت بمِثْلَهُ قَطّ، مَا هُوَ بِالشّعْرِ وَلَا بِالسّحْرِ وَلَا بِالْكِهَانَةِ! يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَطِيعُونِي، وَخَلّوا بَيْنَ هَذَا

الرّجُلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِيهِ، وَاعْتَزِلُوهُ، فَوَاَللهِ لَيَكُونَنّ لِقَوْلِهِ الَّذِي سَمِعْتُ نَبَأٌ، فَإِنْ تُصِبْهُ الْعَرَبُ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ، وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَرَبِ فَمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ، وَعِزّهُ عِزّكُمْ، وَكُنْتُمْ أَسْعَدَ النّاسِ بِهِ، فقَالُوا: سَحَرَك وَاَللهِ يَا أَبَا الْوَلِيدِ بِلِسَانِهِ قفَالَ هَذَا رَأْيِي لكُم فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ. 71- ومنها ما روي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أن ابن ابنته فاطمة الحسين بن علي يقتل بالعراق فكان الأمر كما أخبر فقتل الحسين رضي الله عنه في كربلاء سنة إحدى وستين وله أربع وخمسون سنة وستة أشهر ونصف الشهر. 72- ومنها دُعَاؤُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَنَسٌ بنِ مَالِكٍ واسْتِجَابَةُ الله لدٌعَائِه، فَعَن أَنَسٍ رَضِيَ الله عنه، قَالَ جَاءَتْ بِي أُمِّي أُمُّ أَنَسٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ أَزَّرَتْنِي بِنِصْفِ خِمَارِهَا، وَرَدَّتْنِي بِنِصْفِهِ، فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا أُنَيسٌ ابْنِي أَتَيْتُكَ بِهِ يَخْدُمُكَ، فَادْعُ اللَّهَ لَهُ، فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ)) . قَالَ أَنَسٌ فَوَاللَّهِ إِنَّ مَالِي كَثِيرٌ، وَإِنَّ وَلَدِي وَوَلَدَ وَلَدِي لَيَتَعَادُّونَ عَلَى نَحْوِ الْمِائَةِ الْيَوْمَ أخرجه مسلم، وعن أبي خَلْدةَ خَالِدِ بن دِيْنَار، قَالَ قُلْتُ لأبي العالية، سَمِعَ أَنَسٌ مِن رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ خَدَمَةُ عَشْرَ سِنِيْنَ، وَدَعَا لَهُ، وكان لَهُ بُسْتَانٌ يَحْمِلُ في السَّنَةِ الفَاكِهَةَ مَرَّتَيْن، وَكَانَ فِيْهِ رَيْحَانٌ، يَجِيء مِنْهُ رِيْحُ المسْكِ، أخرجه الترمذي. 73- وَمِنْ ذَلِكَ إخْبَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن مَقْتَل القُرَاءِ فَعَن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ جَاءَ نَاسٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا ابْعَثْ مَعَنَا رِجَالاً يُعَلِّمُونَا الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ سَبْعِينَ رَجُلاً مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُمْ الْقُرَّاءُ فِيهِمْ خَالِي حَرَامٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَيَتَدَارَسُونَ بِاللَّيْلِ يَتَعَلَّمُونَ. وَكَانُوا بِالنَّهَارِ يَجِيئُونَ بِالْمَاءِ، فَيَضَعُونَهُ فِي الْمَسْجِدِ وَيَحْتَطِبُونَ فَيَبِيعُونَهُ وَيَشْتَرُونَ بِهِ الطَّعَامَ لِأَهْلِ الصُّفَّةِ وَلِلْفُقَرَاءِ فَبَعَثَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَعَرَضُوا لَهُمْ فَقَتَلُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغُوا الْمَكَانَ فَقَالُوا اللَّهُمَّ بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنَا، أَنَّا قَدْ لَقِينَاكَ فَرَضِينَا عَنْكَ وَرَضِيتَ عَنَّا. قَالَ: وَأَتَى رَجُلٌ حَرَاماً خَالَ أَنَسٍ، مِنْ خَلْفِهِ فَطَعَنَهُ بِرُمْحٍ حتَّى أَنْفَذَهُ، فَقَالَ حَرَامٌ، فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ ((إِنَّ إِخْوَانَكُمْ قَدْ قُتِلُوا وَإِنَّهُمْ قَالُوا اللَّهُمَّ بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّنَا أَنَّا قَدْ لَقِينَاكَ فَرَضِينَا عَنْكَ وَرَضِيتَ عَنَّا. 74- وَمِنْ ذَلِكَ ما رُويَ َالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما تلا {والنجم إذا هوي} أن عتبة بن أبي لهب، كفرت بالَّذِي دنى فتدلى، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اللَّهُمَّ سلط عليه كلباً من كلابك)) يعني الأسد فخرج عتبة مع أصحابه، في عير إلى الشام، حتَّى إذا كانوا في طريقهم، زأر الأسد، فجعلت فرائض عتبة ترتعد، فَقَالَ أصحابه من أي شيء ترتعد، فوالله ما نحن وأنت إلا سواء، فَقَالَ إن محمداً دعا علي، وما ترد له دعوه، ولا أصدق منه لهجة. فوضعوا العشاء، فلم يدخل يده فيه، وحاط القوم أنفسهم بمتاعهم، وجعلوا عتبة وسطهم، وناموا، فجاء الأسد يشَمّ رؤوسهم رجلاً رجلاً، حتَّى انتهى إلى عتبة، فهشمه هشمةً أوصلته إلى آخر رمق، فَقَالَ وهو بآخر رمق، ألم أقل لكم إن محمداً أصدق الناس لهجةً.

75- وَمِنْ ذَلِكَ قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابن عباس، وهو يومئذ غلام: ((اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ)) فخرج أفقه الناس في الدين، وأعلمهم بالتاويل، حتَّى سمي البحر، لسعة علمه، رضي الله عنه. 76- ومنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده من أن عَائِشَةَ لَمَّا أَقْبَلَتْ بَلَغَتْ مِيَاهَ بَنِي عَامِرٍ لَيْلاً، نَبَحَتْ الْكِلَابُ، فقَالَتْ أَيُّ مَاءٍ هَذَا، قَالُوا مَاءُ الْحَوْأَبِ، قَالَتْ مَا أَظُنُّنِي إِلَّا أَنِّي رَاجِعَةٌ، قَالَ بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَهَا بَلْ تَقْدَمِينَ، فَيَرَاكِ الْمُسْلِمُونَ فَيُصْلِحُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَاتَ بَيْنِهِمْ، قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَنَا ذَاتَ يَوْمٍ ((كَيْفَ بِإِحْدَاكُنَّ، تَنْبَحُ عَلَيْهَا كِلَابُ الْحَوْأَبِ)) وفي حديث ابن عباس قَالَ: قَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (0 ليت شعري، أيتكن صاحبة الجمل المدبب، تخرج فينبحها كلاب الحواب، يقتل عن يمينها وعن يسارها قتلى كثير، ثم تنجو بعدما كادت)) رواه البزار ورجاله ثقات كل ذلك يقع طبق ما أخبر الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه اللَّهُمَّ يا حي يا قيوم يا من لا تأخده سنة ولا نوم يا ذا الجلال والإكرام يا واحد أحد يا فرد صمد يا بديع السموات والأرض نسألك أن تنصر الإسلام والمسلمين وأن تعلى كلمة الحق والدين وأن تشمل بعنايتك وتوفيقك كل من نصر الدين وأن تملأ قلوبنا بمحبتك ومحبة رسلك وأوليائك وأن تلمهنا ذكرك وشكرك وحمدك. اللَّهُمَّ وفقنا لصالح الأعمال وآتنا في الدنيا حسنة وفي الأخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.

(فَصْلٌ) 77- ومنها إخباره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ حَرَامٍ عن غَزْوِهَا في البَحْرِ وعُلوِ مَكَانَتِها فَفِي صحيح البخاري عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَهَبَ إِلَى قُبَاءٍ يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ فَتُطْعِمُهُ وَكَانَتْ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ. فَدَخَلَ يَوْماً فَأَطْعَمَتْهُ، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ يَضْحَكُ قَالَتْ فَقُلْتُ مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ ((نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ، مُلُوكاً عَلَى الْأَسِرَّةِ، أَوْ قَالَ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ)) شَكَّ إِسْحَاقُ قُلْتُ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَدَعَا لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ! فَنَامَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، وهُوَ يَضْحَكُ، قُالَتْ مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: ((نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) كَمَا قَالَ في الأوْلَى، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: ((أَنْتِ مِنْ الْأَوَّلِينَ)) فَرَكِبَتْ الْبَحْرَ زَمَانَ مُعَاوِيَةَ، فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنْ الْبَحْرِ فَهَلَكَتْ، فَوَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 78- ومنها إخباره عن أول زوجاته لحوقاً بِهِ بَعْدَ وفَاتِه، فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ بَعْضَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْنَ رَسُولُ الله أَيُّنَا أَسْرَعُ بِكَ لُحُوقاً، قَالَ أَطْوَلُكُنَّ يَداً، فَأَخَذُوا قَصَبَةً

يَذْرَ عَنَهَا فَكَانَتْ سَوْدَةُ أَطْوَلَهُنَّ يَداً، فَعَلِمْنَا بَعْدُ أَنَّمَا كَانَ طُولَ يَدِهَا الصَّدَقَةُ، وَكَانَتْ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ، وَكَانَتْ أَسْرَعَنَا لُحُوقاً بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أخرجه الشيخان. 79- وَمِنْ ذَلِكَ إخباره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامِلَ كِسْرَى مَلِكِ الفُرْس على اليَمَنِ أن الله وعده أن تقتل كسرى في يوم كذا وكذا من شهر كذا وكذا ومن حديثه أن كسرى كتب إلى عامله على اليمن باذان: إنه بلغني أن رجلاً من قريش خرج بمكة يزعم أنه نبى، فسر إليه فاستتبه، فإن تاب وإلا فابعث إلى برأسه. فبعث باذان بكتاب كسرى إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكتب إليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((إن الله قد وعدني أن يقتل كسرى في يوم كذا وكذا من شهر كذا وكذا)) فلما أتى باذان كتاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توقف لينتظر، وَقَالَ: إن كان نبياً فسيكون ما قَالَ، فقتل كسرى في اليوم الذى قَالَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قتل على يدى ابنه شيرويه. فلما بلغ ذلك باذان بعث بإسلامه، وإسلام من معه، ومن الفرس إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت الرسل من الفرس، إلى من نحن يَا رَسُولَ اللهِ ((أنتم منا وإلينا أهل البيت)) . 80- وَمِنْ ذَلِكَ ما رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: عَدَا الذِّئْبُ عَلَى شَاةٍ فَأَخَذَهَا فَطَلَبَهُ الرَّاعِي فَانْتَزَعَهَا مِنْهُ، فَأَقْعَى الذِّئْبُ عَلَى ذَنَبِهِ، فَقَالَ أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ تَنْزِعُ مِنِّي رِزْقاً سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَقَالَ يَا

عَجَبِي ذِئْبٌ يُكَلِّمُنِي كَلَامَ الْإِنْسِ، فَقَالَ الذِّئْبُ أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ، مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَثْرِبَ، يُخْبِرُ النَّاسَ بِأَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ، قَالَ فَأَقْبَلَ الرَّاعِي يَسُوقُ غَنَمَهُ، حتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ، فَزَوَاهَا إِلَى زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهَا. ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُودِيَ الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ لِلرَّاعِي أَخْبِرْهُمْ، فَأَخْبَرَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((صَدَقَ وَالَّذِي نَفْسِي بَيّدِهِ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يُكَلِّمَ السِّبَاعُ الْإِنْسَ حتَّى يُكَلِّمَ الرَّجُلَ عَذَبَةُ سَوْطِهِ، وَشِرَاكُ نَعْلِهِ، وَيُخْبِرَهُ فَخِذُهُ، بِمَا أَحْدَثَ أَهْلُهُ بَعْدَهُ. قَالَ ابن كثير وهذا إسناد على شرط مسلم، وقد صححه البيهقي، ولم يروه إلا الترمذي من قوله: والَّذِي نفسي بَيّدِهِ لا تقوم الساعة حتَّى يكلم السباع الأنس إلى آخره. 81- وَمِنْ ذَلِكَ توقيته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مواقيت الحج المكانية وذلك أنه عينها من قبل فتح بلدانها قَالَ الناظم: وَإِحْرَامُ حِجٍّ مِنْ مَوَاقِيتٍ خَمْسَةٍ لِطَيْبَةَ وَقْت ذَا الْحُلَيْفَةِ واقْصِدِ وَلِلشَّامِ والْمِصْرِ والْغَرْبِ جُحْفَةً وَلِلْيَمَنِ التَّالِي يَلْمَلَمُّ فَارْصِدِ وَخُذْ ذَاتَ عِرْقٍ لِلْعِرَاقِ وَوَفْدِهِ وَقَرْنًا لِوَفْدٍ طَائِفِيٍ وَمُنْجِدِ

وَتَعْيِينُهَا مِنْ مُعْجِزَاتِ نَبِيِّنَا لِتَعْيِينِهِ مِنْ قَبْلِ فَتْحِ الْمُعَدَّدِ 82- ومن ذَلِكَ إنْذَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرِيْح شَدِيْدَةٍ في تَبُوكَ، وَطَلَبَ مِن أصْحَابِهِ أَنْ يَأُخُذُوْا حِذْرَهُم، ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوَةَ تَبُوكَ فَأَتَيْنَا وَادِيَ الْقُرَى، عَلَى حَدِيقَةٍ لِامْرَأَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْرُصُوهَا، فَخَرَصْنَاهَا، وَخَرَصَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ، وَقَالَ: أَحْصِيهَا، حتَّى نَرْجِعَ إِلَيْكِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَانْطَلَقْنَا حتَّى قَدِمْنَا تَبُوكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((سَتَهُبُّ رِيحٌ شَدِيدَةٌ)) فَقَامَ رَجُلٌ فَحَمَلَتْهُ الرِّيحُ حتَّى أَلْقَتْهُ بِجَبَلَيْ طَيِّئٍ، وَجَاءَ رَسُولُ صَاحِبِ أَيْلَةَ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ، وَأَهْدَى لَهُ بَغْلَةً بَيْضَاءَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَهْدَى لَهُ بُرْداً، ثُمَّ أَقْبَلْنَا، حتَّى قَدِمْنَا وَادِيَ الْقُرَى، فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَرْأَةَ، عَنْ حَدِيقَتِهَا كَمْ بَلَغَ ثَمَرُهَا فَقَالَتْ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ، تماماً كَمَا أخْبَرَ: 83 وَهَذِهِ أيْضَاً مُعْجزَة. 85- وَمِنْ ذَلِكَ إخْباره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سيأتي زمان ترتحل فيه الظعينة من الحيرة إلى الكعبة، لا تخاف إلا الله ووقع طبق ما أخبر. ففي صحيح البخاري عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ، فَشَكَا إِلَيْهِ الْفَاقَةَ، ثُمَّ أَتَاهُ آخَرُ فَشَكَا قَطْعَ السَّبِيلِ، فَقَالَ: ((يَا عَدِيُّ هَلْ رَأَيْتَ الْحِيرَةَ؟ قُلْتُ: لَمْ أَرَهَا، وَقَدْ

أُنْبِئْتُ عَنْهَا. قَالَ ((فَإِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ، لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنْ الْحِيرَةِ حتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ، لَا تَخَافُ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ)) قُلْتُ: فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِي فَأَيْنَ دُعَّارُ طَيِّئٍ – أَيْ قُطَّاعُ الطَّريْقِ - الَّذِينَ سَعَّرُوا الْبِلَادَ - - ((وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ، لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى)) قُلْتُ كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ، قَالَ: ((كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ، وَلَئِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ، لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ يَطْلُبُ مَنْ يَقْبَلُهُ مِنْهُ فَلَا يَجِدُ أَحَداً يقبلهُ مِنْهُ. وَلَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ يَلْقَاهُ، وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ فَلَيَقُولَنَّ: لَهُ أَلَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ رَسُولاً فَيُبَلِّغَكَ، فَيَقُولُ بَلَى: فَيَقُولُ أَلَمْ أُعْطِكَ مَالاً، فَيَقُولُ بَلَى، فَيَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ، فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ، وَيَنْظُرُ عَنْ يَسَارِهِ، فَلَا يَرَى إِلَّا جَهَنَّمَ)) قَالَ عَدِيٌّ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ((اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقَّةِ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ شِقَّةَ تَمْرَةٍ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ)) . قَالَ عَدِيٌّ فَرَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنْ الْحِيرَةِ حتَّى تَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ لَا تَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، وَكُنْتُ فِيمَنْ فْتَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ، وَلَئِنْ طَالَتْ بِكُمْ حَيَاةٌ، لَتَرَوُنَّ مَا قَالَ النَّبِيُّ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ)) . 85- وَمِنْ ذَلِكَ دعاؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للنابغة الجعدي، بقوله له ((لا يفضفض الله فاك)) فعمر، وكان أحسن الناس ثغراً، كلما سقطت له سن، نبتت له أخرى. 86- وَمِنْ ذَلِكَ سقوط الأصنام، بإشارة من قضيب، كان في

يده فإنه كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، أرجلها مثبتة بالرصاص، في الحجارة، تثبيتاً محكماً، فلما دخل عام الفتح إلى المسجد الحرام، جعل يشير بقضيب في يده إلى تلك الأصنام فوقعت لوجوهها، وظهورها، حسب إشارته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 87- وَمِنْ ذَلِكَ ما روي أن العباس بن عبد المطلب، بعث ابنه عبد الله، إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حاجة، فوجد عنده رجلاً، فرجع ولم يكلمه، من أجل مكان الرجل، فلقيَ العباسُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبره بذلك، فَقَالَ ((روآه؟)) قَالَ نعم ((قَالَ أَتَدْرِي مَن ذاك الرجل؟)) ذَاكَ جِبْرِيِلُ، ولن يموت حتَّى يذهب بصره، ويؤتى علماً)) وقد مات ابن عباس، سنة ثمان وستين، بعد ما عمي بصره، رضي الله عنه وصار بحراً زاخراً في العلم. 88- وَمِنْ ذَلِكَ ما رواه للبيهقي عن خمارة عن أنيسة بنت زيد بن أرقم، عن أبيها: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل على زيد يعوده من مرض كان به، قَالَ: «ليس عَلَيْكَ من مرضك بأس، ولكن كيف بِكَ إذا عمرت بعدي فعميت؟» قَالَ: إذاً أحتسب وأصبر، قَالَ: «إذاً تدخل الجنة بغير حساب» . قَالَ فعمي بعد ما مات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم رد الله عليه بصره، ثم مات. 89- ومن –ذلك إخباره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن محنة عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ففي صحيح البخاري عَن أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

قَالَ كَنَت مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ، فَجَاءَ رَجُلٌ فاسْتَفْتِحُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ)) فَفَتَحْتُ فَإِذَا هُوَ أَبُو بَكْرٍ، فبَشَّرْتُهُ بمَا قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ الله. ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ فاسْتَفْتِحُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ)) فَفَتَحْتُ، فَإِذَا هُوَ عُمَرُ فَأَخْبَرَتُهُ بما قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ اسْتَفْتَحَ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ لِيْ ((افْتَحْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ)) فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ فَأَخْبَرَتُهُ بما قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَمِدَ الله، ثُمَّ قَالَ اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. 90- وَمِنْ ذَلِكَ ما ورد عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثِينَ وَمِائَةً فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ مَعَ أَحَدٍ مِنْكُمْ طَعَامٌ، فَإِذَا مَعَ رَجُلٍ صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ، أَوْ نَحْوُهُ، فَعُجِنَ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مُشْعَانٌّ طَوِيلٌ بِغَنَمٍ يَسُوقُهَا، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((َبَيْعٌ أَمْ هِبَةٌ؟ قَالَ بَلْ بَيْعٌ، فَاشْتَرَى مِنْهُ شَاةً، فَصُنِعَتْ، فأَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَوَادِ الْبَطْنِ أَنْ يُشْوَى، وَأيْمُ اللَّهِ، مَا في الثَّلَاثِينَ وَالمِائَةِ، رَجُلٌ إِلَّا قَدْ حَزَّ لَهُ حُزَّةً مِنْ سَوَادِ بَطْنِهَا إِنْ كَانَ شَاهِداً أَعْطَاهُ إيَّاهُ،وَإِنْ كَانَ غَائِباً خَبَّأَ لَهُ، فجَعَلَ مِنْهُمَا قَصْعَتَيْنِ، فَأَكَلْوا أَجْمَعُونَ، وَشَبِعْنَا وفَضَلَت الْقَصْعَتَانِ فَحَمَلتا عَلَى الْبَعِيرِ رَوَاهُ الشَّيْخَان. 91- وَمِنْ ذَلِكَ ما ورد عَنْ سَمُرَةَ قَالَ كُنَّا مَعَ َالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَتَدَاوَلُ فِي قَصْعَةٍ، مِنْ غَدْوَةٍ حتَّى اللَّيْلِ، يَقُومُ عَشَرَةٌ، وَيَقْعُدُ عَشَرَةٌ فقُلْنَا فَمِمَّا كَانَتْ تُمَدُّ، قَالَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَعْجَبُ، مَا كَانَتْ تُمَدُّ إِلَّا مِنْ هَاهُنَا وَأَشَارَ بَيّدِهِ إِلَى السَّمَاءِ. رواه الترمذي

=92- وَمِنْ ذَلِكَ ما ورد عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُ رَجُلًا يَسْتَطْعِمُهُ، فَأَطْعَمَهُ شَطْرَ وَسْقِ شَعِيرٍ، فَمَا زَالَ الرَّجُلُ يَأْكُلُ مِنْهُ وَامْرَأَتُهُ، وَضَيْفُهُمَا، حتَّى كَالَهُ، فَفَنِيَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ((لَوْ لَمْ تَكِلْهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ، وَلَقَامَ لَكُمْ)) . رواه مسلم 93- وَمِنْ ذَلِكَ دعاؤه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على مضر، وأمساك القطر عنهم، فإنهم لما كذبوه، وآذوه، في نفسه، وأصحابه، دعا عليهم، فَقَالَ ((اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَر، وَابْعَثْ عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسَنِيِّ يُوسُفَ)) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمْسك عنهم القطر، حتَّى جف النبات والشجر، وماتت الماشية، وحتَّى اشتتووا القِدَّ، وأكلوا العَلهَرَ، وتفرقوا في البلاد، لشدة الحال. فوفد حاجب بن زرارة، إلى كسرى فشكا إليه ما نالهم، وسأله أن يأذن له في الرعي، بالسواد ورهنه قوسه. والقصة مشهورة، يسوقها أهل التفسير، عند قول الله تعالى {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} . اللَّهُمَّ أنا نعوذ بِكَ من جهد البلاء ودرك الشقاء وشماتة الأعداد وسوء المنظر في الأهل والمال والولد اللَّهُمَّ حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا. اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا الاستقامة طوع أمرك وتفضل علينا بعافيتك وجزيل عفوك وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. قَالَ ابن القيم رحمه الله: يَا قَاعِدًا سَارَتْ بِهِ أنْفَاسُهُ سَيْرَ الْبَرِيدِ وَلَيْسَ بِالذَّمَلاَنِ

حَتَّى مَتَى هَذَا الرُّقَادُ وَقَدْ سَرَى وَفْدُ الْمَحَبَّةِ مَعْ أُولِي الإِحْسَانِ وَحَدَتْ بِهِمْ عَزَمَاتُهُمْ نَحْوَ الْعُلَى لاَ حَادِيَ الرُّكْبَانِ وَالأَضْعَانِ رَكِبُوا الْعَزَائِمَ وَاعْتَلَوا بِظُهُورِهَا وَسَرَوْا فَمَا حَنُّوا إلَى نُعْمَانِ سَارُوا رُوَيدًا ثُمَّ جاؤُوا أوَّلاً سَيْرَ الدَّلِيلِ يَؤُمُّ بِالرُّكْبَانِ سَارُوا بإثبَاتِ الصِّفَاتِ إلَيْهِ لاَ التَّـ عْطِيلِ وَالتَّحْرِيفِ وَالنُّكرَانِ عَرَفُوهُ بِالأَوْصَافِ فَامتَلأتْ قُلُو بُهُمُ لَهُ بِالْحُبِّ وَالإِيمَانِ فَتَطَايَرَت تِلْكَ الْقُلُوبُ إلَيهِ بِال أَشْوَاقِ إذْ مُلِئَتْ مِنَ العِرفَانِ وَأشَدُّهُمْ حُبًّا لَهُ أدرَاهُمُوا بِصِفَاتِهِ وَحَقَائِقِ القُرْآنِ فَالْحُبُّ يَتْبَعُ لِلشُّعُورِ بِحَسْبِهِ يَقْوَى وَيَضْعُفُ ذَاكَ ذُو تِبْيَانِ وَلِذَاكَ كَانَ الْعَارِفُونَ صِفَاتِهِ أحْبَابَهُ هُمْ أَهْلُ هَذَا الشَّانِ وَلِذَاكَ كَانَ الْعَالِمُونَ بِرَبِّهِمْ

.. أحْبَابَهُ وَبِشِرْعَةِ الإِيمَانِ وَلِذَاكَ كَانَ الْمُنْكِرُونَ لَهَا هُمُ ال أَعْدَاءُ حَقًّا هُمْ أُولُو الشَّنَآنِ وَلِذَاكَ كَانَ الْجَاهِلُونَ بِذَا وَذَا بُغَضَاؤهُ حَقًّا ذَوِي شَنَآنِ وَحَيَاةُ قَلْبِ الْمَرْءِ فِي شَيْئَيْنِ مَنْ يُرْزَقْهُمَا يَحْيَى مَدَى الأزْمَانِ فِي هَذِهِ الدُّنيَا وَفِي الأخْرَى يَكُو نُ الْحَيَّ ذَا الرِّضْوَانِ وَالإِحْسَانِ ذِكْرُ الإِلَهِِ وَحُبِّهِ مِنْ غَيْرِ إِشْ رَاكٍ بِهِ وَهُمَا فَمُمْتَنِعَانِ مِنْ صَاحِبِ التَّعْطِيلِ حَقًّا كَامْتِنَا عِ الطَّائِرِ الْمَقْصُوصِ مِن طَيَْرَانِ أَيُحِبُّهُ مَنْ كَانَ يُنْكِرُ وَصْفَهُ وَعُلُوَّهُ وَكَلاَمَهُ بِقُرْآنِ لاَ وَالَّذِي حَقًّا عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى مُتَكَلِّمًا بِالْوَحْيِ وَالْفُرْقَانِ اللهُ أَكْبَرُ ذَاكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْ تِيهِ لِمَنْ يَرْضَى بِلاَ حُسْبَانِ وَتَرَى الْمُخَلَّفَ فِي الدِّيَارِ تَقُولُ ذَا إِحْدَى الأَثَافِي خُصَّ بِالْحِرْمَانِ

.. اللهُ أَكْبَرُ ذَاكَ عَدْلُ اللهِ يَقْـ ضِيهِ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْ إِنْسَانِ وَلَهُ عَلَى هَذَا وَهَذَا الْحَمْدُ فِي الْ أُولَى وَفِي الأخْرَى هُمَا حَمْدَانِ حَمْدٌ لِذَاتِ الرَّبِّ جَلَّ جَلاَلُهُ وَكَذَاكَ حَمْدُ الْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَيرَوْنَ خُسْرَانًا مُبِينًا بَيْعَهَا فِي إِثْرِ كُلِّ قَبِيحَةٍ وَمُهَانِ وَيَرَوْنَ مَيْدَانَ التَّسَابُقِ بَارِزًا فَيُتَارِكُونَ تَقَحُّمَ الْمَيْدَانِ وَيَرَونَ أَنْفَاسَ الْعِبَادِ عَلَيْهِمُ قَدْ أُحْصِيَتْ بِالْعَدِّ وَالْحُسْبَانِ وَيَرَوْنَ أنَّ أمَامَهُمْ يَوْمَ اللِّقَا للهِ مَسْأَلَتَانِ شَامِلَتَانِ مَاذَا عَبَدْتُمْ ثُمَّ مَاذَا قَدْ أَجَبْـ ـتُمْ مَنْ أَتَى بِالْحَقِّ وَالْبُرْهَانِ هَاتُوا جَوَابًا لِلسُّؤَالِ وَهَيِّئُوا أَيْضًا صَوَابًا لِلْجَوَابِ يُدَانِ

وَتَيَقَّنُوا أَنْ لَيْسَ يُنْجِيكُمْ سِوَى تَجْرِيدِكُمْ بِحَقَائِقِ الإِيمَانِ تَجْرِيدُكُمْ تَوْحِيدَهُ سُبْحَانَهُ عَنْ شِرْكَةِ الشَّيْطَانِ وَالأَوْثَانِ وَكَذَاكَ تَجْرِيدُ إتِّبَاعِ رَسُولِهِ عَنْ هَذِهِ الآرَاءِ وَالْهَذَيَانِ وَاللهِ مَا يُنْجِي الْفَتَى مِنْ رَبِّهِ شَيْءٌ سِوَى هَذَا بِلاَ رَوَغَانِ يَا رَبِّ جَرِّدْ عَبْدَكَ الْمِسْكِينَ رَا جِي الْفَضْلِ مِنْكَ أَضْعَفَ الْعُبْدَانِ لَمْ تَنْسَهُ وَذَكَرْتَهُ فَاجْعَلهُ لاَ يَنْسَاكَ أَنْتَ بَدَأْتَ بِالإِحْسَانِ وَبِهِ خَتَمْتَ فَكُنْتَ أَوْلَى بِالْجَمِيـ لِ وَبِالثَّنَاءِ مِنَ الْجَهُولِ الْجَانِي فَالْعَبْدُ لَيْسَ يَضِيعُ بَيْنَ خَوَاتِمٍ وَفَوَاتِحٍ مِنْ فَضْلِ ذِي الْعِرْفَانِ أَنْتَ الْعَلِيمُ بِهِ وَقَدْ أَنْشَأتَهُ مِنْ تُرْبَةٍ هِيَ أَضْعَفُ الأَرْكَانِ وَالضَّعْفُ مُسْتَوْلٍ عَلَيْنَا مِنْ جَمِيـ عِ جِهَاتِنَا سِيمَا مِنَ الإِيمَانِ

يَا رَبُّ مَعْذِرَةٌ إِلَيْكَ فَلَمْ يَكُنْ قَصْدُ الْعِبَادِ رُكُوبَ ذَا الْعِصْيَانِ لَكِنْ نُفُوسٌ سَوَّلَتْهَا وَغَرَّهَا هَذَا الْعَدُوُّ لَهَا غُرُورَ أَمَانِ فَتَيَقَّنَتْ يَا رَبُّ أَنَّكَ وَاسِعُ الـ ـغُفْرَانِ ذُو فَضْلٍ وَذُو إِحْسَانِ وَسَعَت إلَى الأبَوَايْنِ رَحْمَتُكَ الَّتِي وَسِعَتْهُمَا فَعَلاَ بِكَ الأبَوَانِ هَذَا وَنَحْنُ بَنُوهُمَا وَحُلُومُنَا فِي جَنْبِ حِلْمِهَا لَدَى الْمِيزَانِ جُزْءٌ يَسِيرٌ وَالْعَدُوُّ فَوَاحِدٌ لَهُمَا وَأَعْدَانَا بِلاَ حُسْبَانِ وَمَقَالُنَا مَا قَالهُ الأَبَوَانِ قَبْـ لَ مَقَالَةِ الْعَبْدِ الظَّلُومِ الْجَانِ نَحْنُ الأُولَى ظَلَمُوا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ الـ ـذَّنْبَ الْعَظِيمَ فَنَحْنُ ذُو خُسْرَانِ يَا رَبُّ فَانْصُرْنَا عَلَى الشَّيْطَانِ لِيـ سَ لَنَا بِهِ لَوْلاَ حِمَاكَ يَدَانِ اللَّهُمَّ ثبت وقوي إيماننا بِكَ وبملائكتك وبكتبِكَ وبرسلك وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره اللَّهُمَّ عاملنا بعفوك وغفرانك وتمنن علينا بفضلك وإحسانك ونجنا من النار وعافنا من دار الخزي والبوار وأدخلنا بفضلك

وكرمك وجودك الجنة دار القرار واجعلنا مع عبادك الَّذِينَ أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في دار رضوانك وصلى الله على سيدنا محمد اللَّهُمَّ ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا صيانة أوقاتنا وحفظها عن المعاصي ووفقنا لشغلها بالباقيات الصالحات وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. (فَصْلٌ) 94- ومن إخباره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن محنة المسلمين وتداعي الأمم عليهم ففي سنن أبي داود،ِ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا)) فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ: ((بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ)) فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ ((حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ)) وأخرجه أيضاً أحمد في مسنده. 95- وَمِنْ ذَلِكَ إخباره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باتساع ملك المسلمين وفوزهم بكنوز كسرى وقيصر واضطراب أمر المسلمين في النهاية. ففي صحيح مسلم عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ لي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوّاً مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ وَإِنَّ الله قَالَ لِيْ: يَا مُحَمَّد إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ وَإِنِّي

أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوّاً مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا، أَوْ قَالَ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا، حتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضاً، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضاً. 96-وَمِنْ ذَلِكَ ما في صحيح البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ رَجُلٌ نَصْرَانِيّاً فَأَسْلَمَ وَقَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ فَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَادَ نَصْرَانِيّاً، فَكَانَ يَقُولُ: مَا يَدْرِي مُحَمَّد إِلَّا مَا كَتَبْتُ لَهُ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ فَدَفَنُوهُ فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ، فَقَالُوا هَذَا فِعْلُ مُحَمَّد وَأَصْحَابِهِ، لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا، فَأَلْقَوْهُ، فَحَفَرُوا لَهُ فَأَعْمَقُوا، فَأَصْبَحَ قَدْ لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ. 97- وَمِنْ ذَلِكَ ما روي عَنْ عَلِيٍّ بنِ أبِي طَالِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ تَبْعَثَنِي وَأَنَا حَدِيثُ السِّنِّ وَلَا عِلْمَ لِي بِالْقَضَاءِ قَالَ: انْطَلِقْ فإن اللَّهَ تَعَالَى سَيَهْدِي قَلْبِكَ وَيُثَبِّتُ لِسَانَكَ)) قَالَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَمَا شَكَكْتُ فِي قَضَاءٍ بَيْن اثنين ولذلك قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((أَقْضَاكُمْ عَلي)) . 98- وَمِنْ ذَلِكَ ما ورد عن قيس بن أبي حازم عن أبي شهم وكان رجلاً بطالاً فمرت به جارية فأهوى بيدِهِ إلى خاصرتها قَالَ فأتيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الغد وهو يبايع الناس فقبض يده وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أصاحب الجبدة أمس؟)) قَالَ فقلت لا أعود يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((فنعم إذاً)) الحديث أخرجه النسائي. 99- وَمِنْ ذَلِكَ ما رواه ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُما، قَالَ كُنْتُ جالساً مَعَ

النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مسجد فأتاه رجل من الأنصار، ورجل من ثقيف، فسلما، ثم قالا، يَا رَسُولَ اللهِ جئنا نسألك، فَقَالَ «إن شئتما أخبرتكما بما جئتما تسألاني عنه فعلت، وإن شئتما أن أمسك وتسألاني فعلت» فَقَالَ أخبرنا يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ الثقفي للأنصار، سل، فَقَالَ أخبرني يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ «جئت تسألني عن مخرجك من بيتك تؤم البيت الحرام، وما لك فيه، وعن ركعتيك بعد الطواف، وما لك فيها، وعن طوافك بين الصفا والمروة، وما لك فيه، وعن وقوفك عشية عرفة، وما لك فيه، وعن رميك الجمار، ومالك فيه، وعن نحرك، وما لك فيه، مع الإفاضة)) فَقَالَ: والَّذِي بعثك بالحق لعن هذا جئت أسالك. قَالَ ((فإنك إذا خرجت من بيتك تؤم البيت الحرام، لا تضع ناقتك خفاً، ولا ترفعه، إلا كتب الله به حسنة، ومحا عنك خطيئة، وأما ركعتاك بعد الطواف، كعتق رقبة من بني إسماعيل عليه السلام، وأما طوافك بالصفا والمروة، كعتق سبعين رقبة، وأما وقوفك عشية عرفة، فإن الله يهبط إلى السماء الدنيا، فيباهي بكم الملائكة يقول عبادي جاؤني شعثاً، من كل فج عميق، يرجون جنتي، فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل، أو كقطر المطر، أو كزبد البحر، لغفرتها، أفيضوا عبادي، مغفوراً لكم وعمَّن شفعتم له. وأما رميك الجمار، فلك بكل حصاة رميتها، تكفير كبيرة من الموبقات، وأما نحرك فمدخور لك عند ربِكَ، وأما حلاقك رأسك، فلك

بكل شعره حلقتها حسنة، ويمحى عنك بها خطيئة، وأما طوافك بالبيت بعد ذلك، فإنك تطوف ولا ذنب لك، يأتي ملك يضع يده بين كتفيك فيقول اعمل فيما تستقبل فقد غفر لك ما مضى)) رواه الطبراني في الكبير والبزار واللفظ له ورواه ابن حبان في صحيحه. 100- ومنها إخباره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مقتل علي بن أبي طالب، وأن قاتله يخضب لحية علي من دم رأسه، فعن فضالة بن أبي فضالة الأنصاري – وكان ابن فضالة من أهل بدر – قَالَ: خرجت مع أبي عائداً لعلي بن أبي طالب، من مرض أصابه ثقل منه، قَالَ فَقَالَ له أبي ما يقيمك بمنزلك هذا لو أصاب أجلك إلا أعراب جهينة، تحمل إلى المدينة فإن أصابَكَ أجلك وليك أصحابُكَ، وصلوا عَلَيْكَ. فَقَالَ عليٌّ إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عهد إلىَّ أن لا أموت حتَّى أؤمَّرَ، ثم تخضب هذه، - يعني لحيته من دم هذه – يعني هامته، وعن عثمان بن صهيب عن أبيه، قَالَ قال علي قَالَ لي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((من أشقي الأولين؟)) قلت: لا علم لي يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ ((الَّذِي يضربِكَ على هذه – وأشار علي إلى يافوخه بيدِهِ – فيخصب هذه من هذه)) يعني ليحته من دم رأسه، قَالَ: فكان يقول وددت أنه قد انبعث أشقاكم. وقتل رضي الله عنه ليلة الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان سنة 40 هـ عندما خرج يوقظ الناس لصلاة الفجر، فضربه ابن ملجم بالسيف على قرنه، فسال دمه على لحيته، رضي الله عنه وأرضاه فوقع طبق ما أخبره به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

101- وَمِنْهَا إجَابَةُ دُعَائِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبِي هُريرةَ في تَحْبِيبهِ إلى الناس وأمِهِ، فَقَدْ وَرَدَ عَن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه قَالَ وَاللَّهِ مَا خَلَقَ اللَّهُ مُؤْمِناً يَسْمَعُ بِي أوَ يَرَانِي إِلَّا أَحَبَّنِي قَالَ إِنَّ أُمِّي كَانَتْ امْرَأَةً مُشْرِكَةً، وَإِنِّي كُنْتُ أَدْعُوهَا إِلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانَتْ تَأْبَى عَلَيَّ فَدَعَوْتُهَا يَوْماً، فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَكْرَهُ. فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَبْكِي، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ، فَكَانَتْ تَأْبَى عَلَيَّ وَإِنِّي دَعَوْتُهَا الْيَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ)) فَخَرَجْتُ أَعْدُو أُبَشِّرُهَا بِدُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا أَتَيْتُ الْبَابَ إِذَا هُوَ مُجَافٍ، وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةً (خَشْخَشَةَّ) وَسَمِعْتُ خَشْفَ رِجْلٍ - يَعْنِي وَقْعَهَا، فَقَالَتْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كَمَا أَنْتَ، ثُمَّ فَتَحَتْ الْبَابَ وَقَدْ لَبِسَتْ دِرْعَهَا وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا أَنْ تَلْبَسَهُ، وَقَالَتْ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْكِي مِنْ الْفَرَحِ كَمَا بَكَيْتُ مِنْ الْحُزْنِ. فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَبْشِرْ، فَقَدْ اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَكَ، وَقَدْ هَدَى الله أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي أَنَا وَأُمِّي إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ ((اللَّهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ وَحَبِّبْهُمْ

إِلَيْهِمَا)) قَالَ أبُو هرَيْرة، فَمَا خَلَقَ اللَّهُ مُؤْمِناً يَسْمَعُ بِي وَلَا يَرَانِي أَوْ يَرَى أُمِّي إِلا وَهُوَ يُحِبُّنِي. 102- وَمنهَا قِصَّةٌ أخرى، مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ وهِي مَا وَرَدَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثاً كَثِيراً فَأَنْسَاهُ فَقَالَ ((ابْسُطْ رِدَاءَكَ)) فَبَسَطْتُهُ، ثُمَّ قَالَ ضُمَّهُ فَضَمَمْتُهُ، فَمَا نَسِيتُ حَدَّثَنَا بَعْدَهُ، رواه البخاري. وَقَالَ الإمام أحمد حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ، قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ إِنِّني كُنْتُ امْرَأً مِسْكِيناً، أصْحَبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِلْءِ بَطْنِي، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَشْغَلُهُمْ الصَّفْقُ في الْأَسْوَاقِ، وَكَانَتْ الْأَنْصَارُ يَشْغَلُهُمْ الْقِيَامُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، فَحَضَرْتُ مِنْ رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْماً مَجْلِساً، فَقَالَ ((مَنْ يَبْسُطْ رِدَاءَهُ حتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي ثُمَّ يَقْبِضْهُ إِلَيْهِ فَلَنْ يَنْسَى شَيْئاً سَمِعَهُ مِنِّي)) فَبَسَطْتُ بُرْدَةً عَلَيَّ حتَّى قَضَى مَقَالَتَهُ، ثُمَّ قَبَضْتُهَا إِلَيَّ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بيدِهِ، مَا نَسِيتُ شَيْئاً سَمِعْتُهُ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِك. اللَّهُمَّ ثبت محبتك في قلوبنا وقوها ونور قلوبنا بنور الإيمان واجعلنا هداةً مهتدين وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين واغفر لنا ولوالدينا اللَّهُمَّ وفقنا لما وفقت إليه القوم وأيقظنا من سنة الغفلة والنوم وارزقنا الاستعداد لذلك اليوم الَّذِي يربح فيه المتقون اللَّهُمَّ وعاملنا بإحسانك وجُدْ علينا بفضلك وامتنانك واجعلنا من عبادك الَّذِينَ لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، اللَّهُمَّ ارحم ذلنا بين يديك واجعل رغبتنا فيما لديك، ولا تحرمنا بذنوبنا، ولا تطردنا بعيوبنا، وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ

مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحّمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ. (فَصْلٌ) 103- وَمِنْهَا إِخْبَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ اِلْحَسَنَ بْنِ عَلِيٍّ وهُوَ ابنُ فاطِمَةَ يُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ، فَتّمَ ذَلِك بِمُصَالَحَةِ الحَسَن لِمُعَاوِيَةَ بنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاةِ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلاثِينَ سَنَةٍ. 104- وَمِنْهَا إِخْبَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَأَنَّ عَمَّارَ بنَ يَاسِرٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ، وَهُمْ يَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ، وَيَكُونُ آخِرُ زَادِهِ ضِيَاحًا مِنْ لَبَنٍ، فَقَتَلَهُ أَصْحَابُ مُعَاوِيَةَ بِصِفِّين، وَهُوَ مَعَ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ آخِرَ زَادِهِ مِنْ الدُّنْيَا ضِيَاحًا مِنْ لَبَنْ (وَالضِّيَاحُ) اللَّبَنُ الْخَاثِرُ يُصِبُّ فِيهِ الْمَاءَ ثُمَّ يُخْبَط. 105- وَمِنْهَا إِخْبَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَه، وَهُمْ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ بِأَنَّ اللهَ يَفْتَحُ عَلَيْهِ الْيَمَنَ وَالشَّامَ وَالْمَغْرِبَ وَالْمَشْرِقَ، فَفِي السَّيْرِ وَالتَّفَاسِير عَنْ سَلمَانَ الْفَارِسي قَالَ: ضَرَبْتُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ الْخَنْدَقِ، فَغَلُظَتْ عَلَيَّ صَخْرَةٌ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرِيبٌ مِنِّي. فَلَمَّا رَآنِي أَضْرِبُ، وَرَأَى شِدَّةَ الْمَكَانِ عَلَيَّ، نَزَلَ فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ مِنْ يَدِي، فَضَرَبَ ضَرْبَةً لَمَعَتْ تَحْتَ الْمَعْوَلِ بَرْقَة، قَالَ ثُمَّ ضَرَبَ بِهِ ضَرْبَةً أُخْرَى، فَلَمَعَتْ تَحْتَهُ بَرْقَةً أُخْرَى، قَالَ: ثُمَّ ضَرَبَ بِهِ الثَّالِثَةَ، فَلَمَعَتْ تَحْتَهُ بَرْقَةٌ أُخْرَى، قَالَ: قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ، مَا هَذَا الذِى رَأَيْتُ لَمَعَ تَحْتَ الْمَعْوَلِ وَأَنْتَ تَضْرِبُ قَالَ: ((أَوَقَدْ رَأَيْتَ ذَلِكَ يَا سَلْمَانُ)) ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَم.

قَالَ: " أَمَّا الأُولَى فَإِنَّ اللهَ فَتَحَ عَلَيَّ بِهَا الْيَمَن، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَإِنَّ الله فَتَحَ عَلَيَّ بِهَا الشَّامَ وَالْمَغْرِبَ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَإِنَّ اللهَ فَتَحَ عَلَيَّ بِهَا الْمَشْرِقَ "". فَكَانَ الأَمْرُ كَمَا أَخْبَرَ عَلَى التَّفْصِيلِ فَإِنَّ أَوَّلَ مَا فُتِحَ مِنْ الْبُلْدَانِ الْمَذْكُورَةِ الْيَمَنُ، فُتِحَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفُتِحَتْ بَعْدَهَا الشَّامُ وَالْمَغْرِبُ، وَفَتِحَ بَعْدَ الشَّامِ الْمَشْرِقُ، فِي مُدَّةٍ قَلِيلَةٍ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 106- وَمِنْهَا قِصَّةُ جَمَلِ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ، فَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ قَدْ أَعْيَا فَأَرَادَ أَنْ يُسَيِّبَه قَالَ: فَلَحِقَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا لِي وَضَرَبَهُ، فَسَارَ سَيْرًا لَمْ يَسِرْ مِثْلََهُ، فَقَالَ: ((بِعْنِيهِ بِأَوْقِيَّةٍ)) . قُلْتُ: لا. ثُمَّ قَالَ: ((بِعْنِيهِ)) . فَبِعْتُهُ بِأَوْقِيَّةٍ وَاشْتَرَطْتُ حُمْلانَهُ إِلى أَهْلِي، فَلَمَّا بَلَغَتُ أَتَيْتُهُ بِالْجَمَلِ، فَنَقَدَنِي ثَمَنَهُ، ثُمَّ رَجَعْتُ فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِي، فَقَالَ: ((أَتَرَانِي مَاكَسْتُكَ لآخُذَ جَمَلَكَ، خُذْ جَمَلَكَ وَدَرَاهِمَكَ فَهُوَ لَكَ)) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. 107- وَمِنْ ذَلِكَ إِخْبَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ عَمَّا وَقَعَ لِخُبَيْبِ بنِ عَدِي فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَعَثَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةً عَيْنًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ، جَدَّ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، حتَّى إِذَا كَانُوا بِالْهَدَةِ، بَيْنَ عَسْفَانَ وَمَكَّةَ، ذُكِرُوا لِحَيٍّ مِنْ هُذَيْلٍ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو لِحْيَانَ. فَنَفَرُوا لَهُمْ بِقَرِيبٍ مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ رَامٍ، فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ حتَّى وَجَدُوا مَأْكَلَهُمْ التَّمْرَ فِي مَنْزِلٍ نَزَلُوهُ فَقَالُوا: تَمْرُ يَثْرِبَ فَاتَّبَعُوا آثَارَهُمْ، فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِمْ عَاصِمٌ وَأَصْحَابُهُ، لَجَئُوا إِلَى مَوْضِعٍ، فَأَحَاطَ بِهِمْ

الْقَوْمُ، فَقَالُوا لَهُمْ: انْزِلُوا فَأَعْطُوا بِأَيْدِيكُمْ وَلَكُمْ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ أَنْ لا نَقْتُلَ مِنْكُمْ أَحَدًا، فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ: أَيُّهَا الْقَوْمُ أَمَّا أَنَا فَلَا أَنْزِلُ فِي ذِمَّةِ كَافِرٍ. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ، وَسَلَّمَ فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ، فَقَتَلُوا عَاصِمًا، وَنَزَلَ إِلَيْهِمْ ثَلاثَةُ نَفَرٍ، عَلَى الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ، مِنْهُمْ خُبَيْبٌ، وَزَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ، وَرَجُلٌ آخَرُ، فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ، أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ، فَرَبَطُوهُمْ بِهَا، قَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ: هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ، وَاللهِ لا أَصْحَبُكُمْ، إِنَّ لِي بِهَؤُلاءِ أُسْوَةً، يُرِيدُ الْقَتْلَى، فَجَرَّرُوهُ، وَعَالَجُوهُ، فَأَبَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ. فَانْطُلِقوا بخُبَيْبٍ وَزَيْدِ بْنِ الدَّثِنَةِ، حتَّى بَاعُوهُمَا بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَابْتَاعَ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ خُبَيْبًا، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الْحَارِثَ بْنَ عَامِرٍ يَوْمَ بَدْرٍ فَلَبِثَ خُبَيْبٌ عِنْدَهُمْ أَسِيرًا، حتَّى أَجْمَعُوا قَتْلَهُ، فَاسْتَعَارَ مِنْ بَعْضِ بَنَاتِ الْحَارِثِ مُوسًى، يَسْتَحِدُّ بِهَا فَأَعَارَتْهُ، فدرجَ بُنَيٌّ لَهَا وَهِيَ غَافِلَةٌ حتَّى أَتَاهُ، فوجَدَتْهُ مُجْلِسَهُ عَلَى فَخِذِهِ وَالْمُوسَى بَيّدِهِ. قالت: فَفَزِعْتُ فَزْعَةً عَرَفَهَا خُبَيْبٌ فَقَالَ: أَتَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ مَا كُنْتُ لأَفْعَلَ ذَلِكَ، قَالَتْ: وَاللهِ مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خُبَيْبٍ، وَاللهِ لَقَدْ وَجَدْتُهُ يَوْمًا يَأْكُلُ قِطْفًا مِنْ عِنَبٍ فِي يَدِهِ، وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ بِالْحَدِيدِ وَمَا بِمَكَّةَ مِنْ ثَمَرَةٍ وَكَانَتْ تَقُولُ: إِنَّهُ لَرِزْقٌ رَزَقَهُ اللهُ خُبَيْبًا. فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ فِي الْحِلِّ، قَالَ لَهُمْ خُبَيْبٌ: دَعُونِي أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، فَتَرَكُوهُ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَ: لَوْلا أَنْ تَحْسِبُوا أَنَّ مَا بِي جَزَعٌ لَزِدْتُ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا، وَاقْتُلْهُمْ بَدَدًا وَلَا تُبْقِ

مِنْهُمْ أَحَدًا ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ: فَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ للهِ مَصْرَعِي وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ آخر: ... (ولا غُروَ بِالأَشْرَافِ إِنْ ظَفِرَتْ بِهِمْ كِلابُ الأَعَادِي مِنْ فَصِيحٍ وَأَعْجَمِ) (فَحَرْبَةُ وَحْشِي سَقَتْ حَمْزَةَ الرَّدَى وَمَوْتَ عَلِيٍّ مِنْ حُسَامِ ابنِ مُلْجِمِ) ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ أَبُو سِرْوَعَةَ، عُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ سَنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ قُتِلَ صَبْرًا الصَّلاةَ، وَأَخْبَرَ َالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ يَوْمَ أُصِيبُوا خَبَرَهُمْ، وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى عَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ، حِينَ حُدِّثُوا أَنَّهُ قُتِلَ، أَنْ يُؤْتَوْا بِشَيْءٍ مِنْهُ، يُعْرَفُ، وَكَانَ قَتَلَ رَجُلاً عَظِيمًا مِنْ عُظَمَائِهِمْ، فَبَعَثَ اللهُ لِعَاصِمٍ مِثَالَ الظُّلَّةِ مِنْ الدَّبْرِ فَحَمَتْهُ مِنْ رُسُلِهِمْ فَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَقْطَعُوا مِنْهُ شَيْئًا، وَالشَّاهِدُ فِي إِخْبَارِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ يَوْمَ أُصِيبُوا. 108- وَمِنْ ذَلِكَ إِخْبَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَأَنَّ عَلِيَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ يَفْتَحُ اللهُ عَلَى يديه خَيْبَرَ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَهْلٌ بْنَ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ: ((لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلاً يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ يُفْتَحُ الله عَلَى يَدَيْهِ)) . فَبَاتَ النَّاسُ يَدوِكُونَ لَيْلَتَهُمْ، أَيُّهُمْ يُعْطَى فَقَالَ: ((أَيْنَ عَلِيٌّ بنُ أَبِي طَالِبٍ)) ؟ فَقِيلَ: هُوَ يَشْتَكِي

عَيْنَيْهِ فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ فَأُتِيَ بِهِ فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ، فَأَعْطَاهُ الراية فَقَالَ: ((انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلَامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللهِ تَعَالى فِيهِ فَوَاللهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرُ النَّعَمِ)) . فَفَتَحَ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ فَكَانَ كَمَا قَالَ. 109- وَمِنْ ذَلِكَ نَعْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدًا، وَجَعْفَرًا وَابْنَ رَوَاحَةَ، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِي عَنْ أَنَسٍ بنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَى زَيْدًا وَجَعْفَرًا وَابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ، قَبْلَ أَنْ يَأْتِي خَبَرُهُمْ فَقَالَ: ((أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَها جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَها ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ، وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ، حتَّى أَخَذَ الراية سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ)) . يَعْنِي خَالِدَ بنَ الْوَلِيدِ، حتَّى فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِمْ. شِعْرًا: ... تَشَاغَلَ قَوْمُ بِدُنْيَا هُمُوا ... وَقَوْمُ تَخَلَّوْا لِمَوْلاهُمُوا فَالْزَمَهُمْ بَابَ مَرْضَاتِهِ ... وَعَنْ سَائِرِ الْخَلْقِ أَغْنَاهُمُوا إِذَا ذُكِّرُوا بِالَّذِي أَسْلَفُوا ... أَذَابَ الْقُلُوبَ وَأَبْكَاهُمُوا فَمَا يَعْرفُون سوى حُبِّهِ ... فَوَالَوْا الإِلهَ وَوَالاهُمُوا يَصُفُّونَ بِاللَّيْلِ أَقْدَمَهُمْ ... وَعَيْنُ الْمُهَيْمِنِ تَرْعَاهُمُوا فَطُوبَى لَهُمْ ثُمَّ طُوبَى لَهُمْ ... إِذَا بِالتَّحِيَّةِ حَيَاهُمُوا اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِقَوْلِ الْحَقِّ وَاتِّبَاعِهِ وَخَلِّصْنَا مِنْ وَسَاوِسِ قُلُوبَنَا الْحَامِلَةِ عَلَى التَّورُّطِ فِي هُوَّةِ الْبَاطِلِ وَإِبْتِدَاعِهِ وَاجْعَلْ إِيمَانَنَا إِيمَانًا خَالِصًا صَادِقًا قَوِيًّا وَكُنْ لَنَا مُؤَيَّدًا وَلا تَجْعَلْ لِفَاجِرٍ عَلَيْنَا يَدًا وَاجْعَلْ عَيْشَنَا عَيْشًا رَغَدًا. وَلا تُشْمِتْ بِنَا عَدُوًّا وَلا حَاسِدًا وَارْزُقْنَا فِي مَحَبَّتِكَ عِلْمًا نَافِعًا وَرِزْقًا وَاسِعًا وَعَمَلاً مُتَقَبِّلاً وَحِفْظًا كَامِلاً وَفَهْمًا ذَكِيًّا

وَطَبْعًا صَفِيًا وَأَدَبًا مَرْضِيًا وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحّمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. (فَصْلٌ) 110- وَمِنْهَا مَا وَرَدَ عَنْ رِفَاعَةَ بنِ رَافعٍ، قَالَ: رُمِيتُ بِسَهْمٍ يَوْمَ بَدْرٍ فَفُقِئَتْ عَيْنِي، فَبَصَقَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَعَا لِي، فَمَا آذَانِي مِنْهَا شَيْءٌ بَعْدُ. 111- وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْقَى مَرَّةً، فَقَامَ أَبُو لُبَابَةُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ التَّمْرَ فِي الْمَرَابِدِ. فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ اسْقِنَا حتَّى يَقُومَ أَبُو لُبَابَةَ عِرْيَانًا فَيَشُدُّ مِرْبَدَهُ بِإِزَارِهِ)) . فَأَمْطَرَتْ فاجْتَمَعُوا: إِلى أَبِي لُبَابَةَ فَقَالُوا: إِنَّهَا لَنْ تُقْلِعَ حتَّى تَقُومَ عُرْيَانًا فَتَشُدَّ ثَعْلَبَ مِرْبَدِكَ بِإِزَارِكَ فَفَعَلَ فَأَقْلَعتِ السَّمَاءُ. 112- وَمِنْهَا قِتَالُ الْمَلائِكَةِ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَعْدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَمَعَهُ رَجُلانِ يُقَاتِلانِ عَنْهُ، عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ، كَأَشَّدِّ الْقِتَالِ، مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلا بَعْدُ. 113- وَمِنْهَا مَا وَرَدَ عَنْ نَافِعِ بنِ جَبِير قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلاً مِنَ الْمُهَاجِرِينَ يَقُولُ: شَهِدْتُ أُحُدًا، فَنَظَرْتُ إِلى النَّبْلِ يَأْتِي مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسطها كل ذلك يصرف عنه. 114- وَمِنْهَا دُعَاؤُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَبِي طَلْحَةَ وَأُمّ سَلَمَة وَاسْتِجَابَةُ اللهِ لِدَعْوَتِهِ، فَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ لأَبِي طلحة

ابنٌ يَشْتَكِي فَخَرَجَ أَبُو طَلْحَةُ فَقُبِضَ الصَّبِيُّ، فَلَمَّا رَجَعَ أَبُو طَلْحَةَ قَالَ: مَا فَعَلَ الصَّبِيُّ؟ قَالَتْ: أُمُّ سُلَيْمٍ وَهِيَ أُمُّ الصَّبِي: هُوَ أَسْكَنُ مَا كَانَ فَقَرَّبَتْ لَهُ الْعَشَاءَ فَتَعَشَّى ثُمَّ أَصَابَ مِنْهَا، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَتْ: وَارُوا الصَّبِيَّ. فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبُو طَلْحَةَ أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: ((أَعْرَسْتُمْ اللَّيْلَةَ)) ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: ((اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمَا)) . فَوَلَدَتْ غُلامًا، فَقَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: احْمِلْهُ حتَّى تَأْتِي بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَعَثَ مَعَهُ بِتَمَرَاتٍ، فَقَالَ: ((أَمَعَهُ شَيْءٌ)) ؟ قَالَ: نَعَمْ تَمَرَاتٌ. فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَضَغَهَا ثُمَّ أَخَذَهَا مِنْ فِيهِ فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ الصَّبِي، ثُمَّ حَنَّكَهُ وَسَمَّاهُ عَبْدُ اللهِ. وَفِي رواية لِلبخاري قَالَ ابنُ عُيَيْنَةَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: فَرَأَيْتُ تِسْعَةَ أَوْلادٍ كُلُّهُمْ قَدْ قرؤوا الْقُرْآنَ يَعْنِي مِنْ أَوْلادِ عَبْدِ اللهِ الْمَوْلُودِ. 115- وَمِنْ ذَلِكَ الْكُدْيَةُ وَهِيَ الصَّخْرَةُ الصَّلْبَةُ الَّتِي لا تَعْمَلُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ فَشَكَوْهَا إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ فَتَفَلَ فِيهِ ثُمَّ دَعَا بِمَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَدْعُو بِهِ ثُمَّ نَضَحَ الْمَاءَ عَلَى تِلْكَ الْكُدْيَةِ فَيَقُولُ مَنْ حَضَرَهَا: فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ نَبِيًّا لانْهَالَتْ حتَّى عَادَتْ كَالْكَثِيبِ، لا تَرَدُّ فَأْسًا، وَلا مِسْحَاةً. 116- وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ جَابِرٍ بنْ عَبْدِ اللهِ أَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَلَمَّا كَانَ قُرْبَ الْمَدِينَةِ هَاجَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ تَكَادُ أَنْ تَدْفِنَ الرَّاكِبَ فَزَعَمَ أَنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((بُعِثَتْ هَذِهِ الرِّيحُ لِمَوْتِ مُنَافِقٍ)) . فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ إِذَا عَظِيمٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ قَدْ مَاتَ.

117- وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللهُ الْخُزَاعِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: دَعَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرَادَ أَنْ يَبْعَثَنِي بِمَالٍ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ بِمَكَّةَ لِيَقْسِمُهُ فِي قُرَيْشٍ بَعْدَ الْفَتْحِ فَقَالَ: ((الْتَمِسْ صَاحِبًا)) . فَجَاءَنِي عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ الْخُرُوجَ إِلى مَكَّةَ فَتَلْتَمِسُ صَاحِبًا، قُلْتُ: أَجَلْ. قَالَ: فَأَنَا لَكَ صَاحِبٌ. فَجِئْتُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: قَدْ وَجَدْتُ صَاحِبًا قَالَ: ((مَنْ)) ؟ قُلْتُ: عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ، قَالَ: ((إِذَا هَبِطْتَ بِلادَ قَوْمِهِ فَاحْذَرْهُ فَإِنَّهُ قَدْ قَالَ الْقَائِلُ أَخُوكَ الْبَكْرِيُّ لا تَأْمَنْهُ)) . فَخَرَجْنَا حتَّى إِذَا كُنَّا بالأَبْوَاءَ قَالَ: إِنِّي أُرِيدُ حَاجَةً إِلَى قَوْمِي وَوَدِدْتُ أَنْ تَلَبَّثْ لِي قَلِيلاً، فَقُلْتُ: انْصَرِفْ رَاشِدًا فَلَمَّا وَلَّى ذَكَرْتُ قَوْلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَدَدْتُ عَلَى بَعِيرِي فَخَرَجْتُ أُوضِعُهُ حتَّى إِذَا كُنْتُ بَالأَصَافِرِ إِذَا هُوَ يُعَارِضُنِي فِي رَهْطٍ فَأَوْضَعْتُ فَسَبَقْتُهُ فَلَمَّا رَآنِي جَاءَنِي فَقَالَ: قَدْ كَانَتْ لِي إِلَى قَوْمِي حَاجَةٌ، قُلْتُ: أَجَلْ وَمَضَيْنَا حتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ فَدَفَعْتُ الْمَالَ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ. 118- وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِي وَمُسْلِمٌ أَنَّ ابنَ مَسْعُودٍ سُئِلَ مَنْ آذَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِنِّ لَيْلَةَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ فَقَالَ: آذَنَتْ بِهِمْ شَجَرَةٌ. 119- وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ أَبُو رَجَاءَ قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَائِطًا لِبَعْضِ الأَنْصَارِ فَقَالَ لَهُ: ((مَا تَجْعَلُ لِي إِنْ أروَيْتُ حَائِطَكَ هَذَا)) ؟ قَالَ لَهُ: إِنِّي أَجْهَدُ أَرْوِيهُ فََلا أُطِيقُ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تَجْعَلُ لِي مِائَةَ تَمْرَةٍ اخْتَارُهَا مِنْ تَمْرِكَ)) ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَخَذَ

الْغَرْبَ فَمَا لَبِثَ أَنْ أرْوَاهُ حتَّى قَالَ الرَّجُلُ: غَرِقَتْ عَلَيَّ حَائِطِي، فَاخْتَارَ مِائَةَ تَمْرَةٍ فَأَكَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ حتَّى شَبِعُوا. ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ مِائَةَ تَمْرَةٍ كَمَا أَخَذَهَا. رَوَاهُ الطَّبَرَانِي فِي الْكَبِيرِ. اللَّهُمَّ أَحْسِنْ عَاقِبَتِنَا فِي الأُمُورِ كُلِّهَا وَأَجِرْنَا مِنْ خِزْي الدُّنْيَا وَعَذَابِ الآخِرَةِ وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحّمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. (فَصْلٌ) 120- وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ مِنْ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ تَبَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَجَلَسَ قَالَ: فَجَلَسْتُ عِنْدَهُ، فَقَالَ: ((يَا أَبَا ذَرّ: مَا جَاءَ بِكَ)) ؟ قُلْتُ الله وَرَسُوله، فَجَاءَ أَبُو بَكْرِ فَسَلَّمَ وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: ((مَا جَاءَ بِكَ يَا أَبَا بَكْر)) ؟ قَالَ: الله ورسوله، فَجَاءَ عُمَرُ، فَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: ((يَا عُمَرُ مَا جَاءَ بِكَ)) ؟ قَالَ: الله ورسوله، ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ، فَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ عُمَرُ، فَقَالَ: ((يَا عُثْمَانُ مَا جَاءَ بِكَ)) ؟ قَالَ: الله ورسوله، فَتَنَاوَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ حَصَيَاتٍ، أَوْ تِسْعَ حَصَيَاتٍ، فَسَبَّحْنَ فِي يَدِهِ، حتَّى سَمِعْتُ لَهُنَّ حَنِينًا كَحَنِينِ النَّحْلِ. ثُمَّ وَضَعَهُنَّ فَخَرَسْنَ، ثُمَّ وَضَعَهُنَّ فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ فَسَبَّحْنَ فِي يَدِهِ حتَّى سَمِعْتُ لَهُنَّ حَنِينًا كَحَنِينِ النَّحْلِ، ثُمَّ وَضَعَهُنَّ فَخَرَسْنَ ثُمَّ تَنَاوَلَهُنَّ فَوَضَعَهُنَّ فِي يَدِ عُمرَ فَسَبَحَّنَ فِي يَدِهِ، حتَّى سَمِعْتُ لَهُنَّ حَنِينًا كَحَنِينِ النَّحْلِ، ثُمَّ وَضَعَهُنَّ فَخَرَسْنَ ثُمَّ تَنَاوَلَهُنَّ فَوَضَعَهُنَّ فِي يَدِ عُثْمَانَ، فَسَبَحَّنَ فِي يَدِهِ، حتَّى سَمِعْتُ لَهُنَّ حَنِينًا كَحَنِينِ النَّحْلِ، ثُمَّ وَضَعَهُنَّ فَخَرَسْنَ، وَقَالَ الزُّهري يَعْنِي الْخِلافَة.

121- وَمِنْهَا قِصَّة الْمَزَادَتَيْنِ أَوْ السَّطِيحَتَيْنِ فَعَنْ عِمَرانُ بْنُ حُصَيْنٍ أَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسَفَارِهِِ وشَكَى إِلَيْهِ النَّاسُ الْعَطَشَ فَدَعَا فُلانُ وَدَعَا عَلِيًّا فَقَالَ: ((اذْهَبَا فَابْغِيَا الْمَاءَ)) . فَانْطَلَقَا فَلَقِيَا امْرَأَةً بَيْنَ مَزَادَتَيْنِ أَوْ سَطِيحَتَيْنِ مِنْ مَاءٍ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا. فَقَالا لَهَا: أَيْنَ الْمَاءَ، فَقَالَتْ: عَهْدِي بِالْمَاءِ أَمْسِ هَذِهِ السَّاعَةُ وَنَفَرُنَا خُلُوفٌ، قَالا: انْطَلِقِي إِذًا. قَالَتْ: إِلَى أَيْنَ؟ قَالا: إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: الَّذِي يُقَالُ لَهُ الصَّابِئُ؟ قَالا: هُوَ الَّذِي تَعْنِينَ فَانْطَلِقِي فَجَاءَا بِهَا إِلَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَدَّثَاهُ الْحَدِيثَ، فَاسْتَنْزَلُوهَا عَنْ بَعِيرِهَا، وَدَعَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِنَاءٍ فَأَفْرَغَ فِيهِ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَزَادَتَيْنِ أَوْ السَّطِيحَتَيْنِ، وَأَوْكَأَ أَفْوَاهَهُمَا، واَطْلَقَ الْعَزَالِي، فَنُودِيَ فِي النَّاسِ اسْقُوا، وَاسْتَقُوا، فَسَقَى مَنْ شَاءَ، وَاسْتَقَى مَنْ شَاءَ وَكَانَ آخِرُ ذَلِكَ أَنْ أَعْطَى رَجُلاً أَصَابَتْهُ جَنَابَةُ إِنَاءً مِنْ مَاءٍ فَقَالَ: ((اذْهَبْ فَأَفْرِغْهُ عَلَيْكَ)) . وَهِيَ قَائِمَةٌ تَنْظُرُ مَا يُفْعَلُ بِمَائِهَا. وَأيْمُ اللهِ لَقَدْ أَقْلَعَ عَنْهَا وَإِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْنَا أَنَّهَا أَشَدُّ مِلأَةً مِنْهَا حِينَ ابْتَدَأَ فِيهَا. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اجْمَعُوا لَهَا)) . فَجَمَعَوا لَهَا مِنْ بَيْنِ عَجْوَةٍ وَدَقِيقَةٍ وَسُوَيْقَةٍ، حتَّى جَمَعُوا لَهَا طَعَامًا، فجَعَلُوهُ فِي ثَوْبٍ، وَحَمَلُوهَا عَلَى بَعِيرِهَا وَوَضَعُوا الثَّوْبَ بَيْنَ يَدَيْهَا، وَقَالَ لَهَا: ((تَعْلَمِينَ مَا رَزَأْنَا مِنْ مَائِكِ شَيْئًا. وَلَكِنَّ اللهَ هُوَ الَّذِي أَسْقَانَا)) . فَأَتَتْ أَهْلَهَا وَقَدْ احْتَبَسَتْ عَنْهُمْ، وَقَالُوا: مَا حَبَسَكِ يَا فُلانَةُ؟ قَالَتْ: الْعَجَبُ، لَقِيَنِي رَجُلانِ فَذَهَبَا بِي إِلَى

هَذَا الصَّابِئُ، فَفَعَلَ كَذَا وَكَذَا، فَوَاللهِ إِنَّهُ لأَسْحَرُ الناس مَنْ بَيْنَ هَذِهِ وَهَذِهِ، تَعْنِي السَّمَاءِ إِلَى وَالأَرْضَ أَوْ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللهِ حَقًّا، فكَانَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدُ يُغِيرُونَ عَلَى مَا حَوْلَهَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَلا يُصِيبُونَ الْقَوْمَ الَّذِي هِيَ مِنْه. فَقَالَتْ: يَوْمًا لِقَوْمِهَا، مَا أَرَى إلا أَنَّ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ يَدَعُونَكُمْ عَمْدًا فَهَلْ لَكُمْ فِي الإِسْلامِ، فَأَطَاعُوهَا فَدَخَلُوا فِي الإِسْلامِ. وَفِي رِوَايَة قَالَتْ: لَهُمَا هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لا مَاءَ لَكُمْ، وَفِيهِ فَأَخْبَرَتْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّها مُؤْتَمَّةٌ فَأَمَرَ بِرَاوِيَتِهَا، فَأُنِيخَتْ، فَمَجَّ فِي الْعَزَلاوَيْنِ الْعُلْيَاوَيْن. ثُمَّ بَعَثَ بِرَاويَتِهَا فَشَرِبْنَا، وَنَحْنُ أَرْبَعُونَ رَجُلاً، عِطَاشًا، حتَّى رَوينا وَمَلأْنَا كُلَّ قِرْبَةٍ مَعَنَا، وَإِدَاوَةٍ وَغَسَّلْنَا صَاحِبَنَا، غَيْرَ أَنَّا لَمْ نَسْقِ بَعِيرًا، وَهِيَ تَكَادُ تَتَضَرَّج بِالْمَاءِ، يَعْنِي الْمَزَادتين. رَوَاهُ الشَّيْخَان مطولاً. 122- وَمِنْ ذَلِكَ قِصَّةُ سَلَمَةَ بْنُ الأَكْوَعِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ، فَأَصَابَنَا جَهْدٌ حتَّى هَمَمْنَا أَنْ نَنْحَرَ بَعْضَ ظَهْرِنَا، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَمَعْنَا أَزَاوِدَنَا، وبَسَطْ لَنَا نِطَعًا، فَاجْتَمَعَ زَادُ الْقَوْمِ عَلَى النِّطَعِ، فَتَطَاوَلْتُ لأَحْزُرَهُ كَمْ هُوَ، فإذَا هُوَ كَرَبْضَةِ الْعَنْزِ، وَنَحْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً (1400) فَأَكَلْنَا حتَّى شَبِعْنَا جَمِيعًا، ثُمَّ حَشَوْنَا جُرُبَنَا، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَهَلْ مِنْ وَضُوءٍ)) ؟ فَجَاءَ رَجُلٌ بِإِدَاوَةٍ فِيهَا نُطْفَةٌ من مَاءٍ، فَأَفْرَغَهَا فِي قَدَحٍ، فَتَوَضَّأْنَا كُلُّنَا، نُدَغْفِقُهُ دَغْفَقَةً. رَوَاهُ الشَّيْخَان.

123- وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الترمذيُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا بِتَمَرَاتٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ فِيهِنَّ بِالْبَرَكَةِ فَضَمَّهُنَّ، ثُمَّ دَعَا لِي فِيهِنَ، ثُمَّ قَالَ: ((خُذْهُنَّ فَاجْعَلْهُنَّ فِي مِزْوَدِكَ هَذَا أَوْ فِي الْمِزْوَدِ، فكُلَّمَا أَرَدْتَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا أَدْخِلْ يَدَكَ فِيهِ، وَخُذْ وَلَا تَنْثُرْهُ نَثْرًا)) . فَفَعَلْتُ فَلقَدْ حَمَلْتُ مِنْ ذَلِكَ التَّمْرِ كَذَا وَكَذَا مِنْ وَسْقٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَكُنَّا نَأْكُلُ مِنْهُ وَنُطْعِمُ، وَكَانَ لَا يُفَارِقُ حِقْوِي، حتَّى كَانَ يَوْمُ قَتْلِ عُثْمَانَ انْقَطَعَ. وَاللهُ أعلم. اللَّهُمَّ انْظِمْنَا فِي سِلْكِ عِبَادِكَ الْمُفْلِحِينَ وَنَجِّنَا مِنْ لَفَحَاتِ الْجَحِيم، وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحّمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. (فَصْلٌ) 124- وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَان عن السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ قَالَ: ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ ابْنَ أُخْتِي وَجِعٌ: فَمَسَحَ رَأْسِي، وَدَعَا لِي بِالْبَرَكَةِ: فتَوَضَّأَ فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ، ثُمَّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ، فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلَ زِرِّ الْحَجَلَةِ، وَقَالَ الْجُعَيْدُ: رَأَيْتُ السَّائِبَ بنَ يَزِيدَ، ابنَ أربع وَتِسْعِين، جَلْدًا مُعْتَدِلاً: فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتُ مَا مُتِعتْ بِهِ سَمْعِي وَبَصَرِي إِلا بِدُعَاءِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 125- وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِي، قَالَ أَبُو زَيْدِ بْنُ أَخْطَبَ: مَسَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيّدِهِ عَلَى وَجْهِي، وَدَعَا لِي، قَالَ عَزْرَةُ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدَمَا عَاشَ عِشْرِينَ وَمائَةَ سَنَةً، وَلَيْسَ فِي لِحْيَتِهِ إِلا شَعَرَاتٌ تُعدُّ بِيضٌ. 126- وَمِنْهُ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِي عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ بَلَغَ

عَبْدَ اللهِ بْنَ سَلامٍ، مَقْدَمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَأَتَاهُ وَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلاثٍ، لا يَعْلَمُهُنَّ إِلا نَبِيٌّ، مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، وَمَا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ يَنْزِعُ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ، وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ يَنْزِعُ إِلَى أَخْوَالِهِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أخَبَّرَنِي بِهِنَّ آنِفًا جِبْرِيلُ)) . قَالَ عَبْدُ اللهِ: ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنْ الْمَلائِكَةِ. ((أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنْ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ، فَزِيَادَةُ كَبِدِ الْحُوتِ، وَأَمَّا الشَّبَهُ فِي الْوَلَدِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَشِيَ الْمَرْأَةَ فَسَبَقَهَا مَاؤُهُ، كَانَ الشَّبَهُ لَهُ وَإِذَا سَبَقَت كَانَ الشَّبَهُ لَهَا)) . قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ. الْحَدِيث. 127- وَمِنْ ذَلِكَ إِخْبَارُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ أُمَّتُه تَحْذُو حَذْوَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَحَذْوَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنْ الأُمَمِ، حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقَذَّةِ وَالنَّعْلِ بِالنَّعْلِ. وَكَانَ الأَمْرُ حَذَتْ حَذْوَهُم فِي الاخْتِلافِ، وَالتَّفَرُّقِ، وَارْتِكَابِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَالإِحْدَاثِ فِي الدِّين، وَالْكَذِب، عَلَى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَذْوَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. 128- وَمِنْ ذَلِكَ إِخْبَارُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ هَوَازِنَ بِقَتْلِ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ حُرْقُوصِ بنِ زَهُيَرْ السَّعْدِي، وَأَصْحَابِهِ مَارِقِينَ مِن الدِّينِ، خَارِجِينَ عَلَى حِينِ فِرْقَةٍ مِنْ النَّاس. وَحَدِيثُهم مَذْكُورٌ فِي بَعْضِ السِّيْرِ وَكُتُبِ الْحَدِيثِ، وَمَضْمُونُه أَنَّ

ذَا الْخُوَيْصرَةِ قَامَ إِلى النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْسِمُ غَنَائِمَ هَوَازَنَ، فَقَالَ: اعْدِلْ يَا مُحَمَّدُ، فَإِنَّكَ لَمْ تَعْدِلُ. فَقَالَ لَهُ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تَرِبَتْ يَدَاكَ فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ أنا)) . فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إنه نافق فمرني أَضْرِبْ عُنُقَهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاتَهُ عِنْدَ صَلاتِهِمْ وَقِرَاءَتَه عِنْدَ قِرَاءَتَهُم، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فِرْقَةٍ من الناس، يَقْتُلُهُم أُولَى الطَّائِفَتِين بِالْحَقِّ، آيَتُهُمْ الْمُخَدَّجُ)) . يَعْنِي ذَا الثُّدَيَّةِ، فَكَانَ الأَمْرَ كَمَا أَخْبَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الرَّجُلَ الْمَذْكُورَ وَأَصْحَابَهُ خَرَجُوا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ بن أبي طالبٍ بَعْدَ حَرْبِ صِفِّينِ. فَقَتَلَهُم عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي النَّهْرَوَانِ، وَاسْتَخْرَجَ الْمُخَدَّجَ ذَا الثُّدَيَّة، مِنْ الْمَاءِ مَقْتُولاً، حَتَّى نَظَرَ إِلَيْهِ النَّاسُ مِنْ عَسْكَرِه وَكَانُوا مَا يَقْرُبُ مِنْ سِتِّينَ أَلْفًا، فَكَبَّرَ عَلِيٌّ حِينَ وَجَدَهُ، وَسَجَدَ سَجْدَةَ شُكْرٍ، وَكَبَّر الْعَسْكَرُ الَّذِي مَعَهُ فَرَحًا وَسُرُورًا بِمَا شَاهَدُوهُ مِنْ خَبَرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي وَقَع طِبْقَ مَا قَالَ. 129- وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ مَأْخُوذُ مِنْ الْقُرْآنِ، قَالَ تَعَالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} . فَأَخْبَرَ أَنَّ عَمَّهُ أَبَا لَهَبٍ سَيَدْخُلُ النَّارَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ، وَعَاشَا مُدَّةً،

وَقَدَّرَ اللهُ أَنَّهُمَا مَاتَا عَلَى شِرْكِهِمَا وَلَمْ يُسْلِمَا حَتَّى وَلا ظَاهِرًا وَهَذَا مِنْ دَلائِل النُّبُوَةِ الْبَاهِرَةِ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَتَى بِهِ فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} وَتَحَدَّاهُمْ بِعَشْرِ سُوَرٍ وَبِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ أَبَدًا، وَلَمْ يَقَعَ، وَلَنْ يَقَعَ صَدَقَ اللهُ الْعَظِيم فَهَذَا مِنْ الْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَة. 130- وَقَالَ تَعَالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} وَهَكَذَا وَقَعَ سَوَاءً بِسَوَاءٍ مَكَّنَ اللهُ هَذَا الدِّينَ وَأَظْهَرَهُ وَأَعْلاهُ وَنَشَرَهُ فِي الآفَاقِ وَأَنْفَذَهُ وَأَمْضَاهُ. 131- وَقَالَ تَعَالى: {قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} قِيلَ: إِنَّهُمْ فَارِسُ، وَقِيلَ: الرُّومُ، وَقِيلَ: هَوَازِنُ، وَثَقِيفُ، وَغَطَفَانُ، يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَقِيلَ: بَنُو حَنِيفَةَ، قَوْمُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّاب، وَالْمُهِمُّ أَنَّهُ وَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ اللهُ. 132- وَقَالَ تَعَالى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ} إِلى قَوْلِهِ: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} وَسَوَاءٌ كَانَ هَذَا خَيْبَرَ، أَوْ مَكَّةَ، فَقَدْ فُتِحَتْ وَأخِذَتْ كَمَا وَقَعَ بِهِ الْوَعْدُ سَوَاءً بِسَوَاءٍ.

133- وَقَالَ تَعَالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} فَوَقَعَ إِنْجَازُ هَذَا الْوَعْدِ فِي سَنَةِ سَبْعٍ عَامَ عُمْرَةِ الْقَضَاء. 134- وَقَالَ تَعَالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} فَوَقَعَ طِبْقَ مَا أَخْبَرَ اللهُ. 135- وَقَالَ تَعَالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وَهَكَذَا وَقَعَ فَإِنَّ اللهَ عَوَّضَ مَن أَسْلَمَ مِنْهُمْ بِخَيْرَي الدُّنْيَا وَالآخِرَة. 136- وَقَالَ تَعَالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وَهَكَذَا وَقَعَ عَوَضَهُم اللهُ عَمَّا كَانَ يَغْدُو إِلَيْهِمْ مَعَ حُجَاجِ الْمُشْرِكِينَ بِمَا شَرَعَهُ لَهُمْ مِنْ قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَضَربِ الجزية عليهم، وَسَلْبِ أَمْوَالِ مَن قُتِلَ مِنْهُمْ عَلَى كُفْرِهِ، كَمَا وَقَعَ بِكُفَّارِ أَهْلِ الشَّامِ مِن الرُّومِ، وَمَجُوسِ الْفُرْسِ بِالْعِرَاقِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْبُلْدَانِ الَّتِي انْتَشَرَ الإِسْلامُ عَلَى أَرْجَائِهَا. 137- وَقَالَ تَعَالى: {سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ} الآية. وهكذا وَقَعَ لَمَّا رَجَع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ كَانَ قَدْ تَخَلَّفَ عَنْهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ فَجَعَلُوا يَحْلِفُونَ بِاللهِ، لَقَدْ كَانُوا مَعْذُورِينَ فِي تَخَلُّفِهِمْ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ كَاذِبُونَ،

فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَجْرِيَ أَحْوَالَهُمْ عَلَى ظَوَاهِرِهَا، وَلا يَفْضَحُهُمْ عَنْدَ النَّاسِ. 138- وَقَالَ تَعَالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً} وَهَكَذَا وَقَعَ لِمَا اشْتَوَرُوا عَلَيْهِ لِيُثْبِتُوهُ أَوْ يَقْتُلُوهُ أَوْ يُخْرِجُوهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ الْمُهم أَنَّهُ وَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ سوَاَءً بِسَوَاءٍ. اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِمَحَبَّتِكَ وَمَحَبَّةِ رَسُلِكَ وَأَوْلِيَائِكَ وَعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحّمَّدٍ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. موعظة: عِبَادَ اللهِ لَقَدْ تَغَيَّرَ النَّاسُ الْيَوْمَ فِي أَحْوَالِهِمْ الدِّينِيَّةِ تَغَيِّرًا يُدْهِشُ النَّاظِرِينَ هَذِهِ الصَّلاةُ الَّتِي هِيَ ثَانِي أَرْكَانِ الإِسْلامِ وَهِيَ عَمُودُهُ أَعْرَضَ النَّاسُ عَنْهَا غَيْرَ مُبَالِينَ وَلا نَادِمِينَ جَهِلُوا مَا هِيَ الصَّلاةُ وَأَيُّ قِيمَةٍ قِيمَتُهَا وَمَا مَنْزِلَتُهَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الطَّاعَاتِ وَمَا عَلِمُوا أَنَّهَا الصِّلَةُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ فَهِيَ خَيْر مَوْضُوع وُضِعَ لِلتَّقَرُّبِ إِلى الرَّحْمَن ِوَلِذَلِكَ هِيَ تُطَهِّرُ الْمُصَلِّي الْمُقِيمِ لَهَا مِنْ ذُنُوبِهِ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ فعَلَيْكَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُ أَنْ تَحْرِصْ عَلَيْهَا كُلَّ الْحِرْصِ وَأَنْ تَعْتَنِيَ بِهَا كُلَّ الاعْتِنَاءِ وَلا تُضَيّعْ هَذَا الْوَاجِبَ الْعَظِيمَ الَّذِي بِأَدَائِهِ تَكُونُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمَوْعُودِينَ بِالْفَوْزِ بِالْمَطْلُوبِ وَالنَّجَاةِ مِنْ الْمَرْهُوبِ. وَبِتَرْكِ هَذَا الْوَاجِبِ تَكُونُ مِنْ الْكَافِرِينَ الْمَوْعُودِينَ فِي الْجَحِيمِ أَبَدَ الآبِدِينَ فَإِذَا حَانَ وَقْتُهَا فَاهْتَمُوا بِهَا وَتَهَيَّئُوا لِمُنَاجَاةِ خَالِقِكم الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ وَخُذُوا زِينَتكُمْ مُمْتَثِلينَ قَوْلُهُ تَعَالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وَاعْتَنُوا أَوْلاً بِالطَّهَارَةِ الَّتِي هِيَ مِفْتَاحُهَا ثُمَّ أَدُّوهَا بِخُضُوعٍ وَخُشُوعٍ وَاطْمِئْنَانٍ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ يُصَلُّونَ بِأَجْسَامِهِمْ وَيُحَرِّكُونَ أَلْسِنَتهُمْ وَشِفَاهَهُمْ وَيَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ مُكَبِّرِينَ وَيَحْنُون

ظُهُورَهُمْ رَاكِعِينَ وَسَاجِدِينَ وَلَكِنَّ قُلُوبَهُمْ لَمْ تَتَحَرَّكْ إِلى اسْتِحْضَارِ عَظَمَةِ مَوْلاهُمْ وَلَمْ تَتَدَبَّرْ مَعَانِي مَا تَلْفُظُ بِهِ أَلْسِنَتُهُمْ لأنَّهَا فِي أَوْدِيَةِ الدُّنْيَا سَارِحَةٌ تُفَكِّرُ فِي الْعِقَارَاتِ وَالْمُدَايَانَاتِ وَالْفُلَلِ وَالْعَمَائِرِ الَّتِي عَنْ قَرِيب سَيُخَلِّفُونَهَا رَغْمَ أُنُوفِهِمْ إِذَا نَظَرْتَ إِلى أَحَدِهِمْ وَهُوَ يُصَلِّي لاهِيًا فِي تَفْكِيرِهِ يَعْبَثُ فِي ثَوْبِهِ تَارَةً وَفِي سَاعَتِهِ تَارَةً وَفِي أَنْفِهِ تَارَةً وَيُنَقِّشُ سِنَّهُ تَارَةً وَبَعْضُهُمْ يَلْمَسُ مَكَانَ لِحْيَتِهِ أَوْ يُصَلِّحُ مَيَازِيبَ غُتْرَتِهِ أَوْ يُقَلِّمُ أَظَفَارَهُ بِأَسْنَانِهِ. وَهَكَذَا حَتَّى يَخْرُج مِنْهَا صِفْرًا مَا مَعَهُ مِنْهَا اللهُ أَعْلَمُ إِلا الْعُشْرِ وَلِهَذَا لَوْ تَأَمَّلْتَ الْمُؤَدِي لَهَا هَكَذَا رَأَيْتَ أَنْ الصَّلاةَ هَذِهِ لَمْ تُؤَثِرْ عَلَيْهِ لا فِي تَتْمِيمِ الْوَاجِبَاتِ وَلا فِي تَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ بَلْ وَلا فِي تَخْفِيفِهَا لأَنَّ الصَّلاةَ الصَّحِيحَةَ الَّتِي أَقَامَهَا صَاحِبُهَا مِنْ شَأْنِهَا أَنَّهَا تُهَذِّبُ النَّفْسَ وَتُرَقِّقُ الْخُلُقَ وَتَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ. فَإِذَا رَأَيْنَا إِنْسَانًا يُصَلِّي لَكِنَّهُ يَأْكُلُ الرِّبَا وَيَحْضُرُ الْمَلاهِي وَالْمُنْكَرَاتِ أَوْ يَبِيعَهَا أَوْ يَشْتَرِيهَا أَوْ رَأَيْنَاهُ مَعَ السُّفَلِ الَّذِينَ يُلاحِقُونَ النِّسَاءَ فِي الأَسْوَاقِ أَوْ رَأَيْنَاهُ يُجَاهِرُ بِالْمَعَاصِي مِنْ شُرْبِ دُخَّانٍ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ يَحْلِقُ لِحَيَتَهُ أَوْ يَحْلِقُ لِحَاءَ النَّاسِ أَوْ يَجْعَلُ خَنَافِسَ أَوْ يَرْتَشِي أَوْ يَحْمِلُ النِّسَاءَ بِدُونِ مَحْرَمٍ أَوْ يَخْلُو بِهِنَّ بِدُونِ مَحْرَمٍ أَوْ يُصَوِّرْ لِذَوَاتِ الأَرْوَاحِ، أَوْ يَبِيعَ الصُّوَرَ أَوْ يَسْخَرُ بِالْمُسْلِمِينَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ عَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الصَّلاةِ الَّتِي يُصَلِّي أَنَّهَا لَمْ تَنْهَهُ صَلاتُهُ عَنْ الْفَحْشَاءِ والْمُنْكَرِ فَلَمْ يَزْدَدْ مِنْ اللهِ إِلا بُعْدًا، وَرُبَّمَا كَانَ الْمُتَّصِفُ بِشَيْءٍ مِن الصِّفَاتِ السَّابِقَةِ مَعَ صَلاتِهِ أَنَّهُ يَكِيدُ بِهَا النَّاسَ وَيَتَّخِذُهَا أُحْبُولة يَتَصَيَّدُ بِهَا ثَنَاءَ النَّاسِ عَلَيْهِ أَوْ لِلْحُصُولِ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا. قَالَ بَعْضُهُمْ فِي مُصَلٍّ يَتَصَيَّدُ بِصَلاتِهِ الدُّنْيَا:

ذِئْبٌ رَأَيْتُ مُصَلِّياً فَإِذَا مَرَرْتُ بِهِ رَكَعْ يَدْعُو وَجُلُّ دَعَائِهِ مَا لِلْفَرِيسَةِ لا تَقَعْ عَجِّلْ بِهَا عَجِّلْ بِهَا إِنَّ الْفُؤَادَ قَدِ انْصَدَعْ ويقول الآخر: إِذَا رَامَ كَيْداً بِالصَّلاةِ مُقِيمُهَا فَتَارِكُهَا سَهْواً إِلى اللهِ أَقْرَبُ آخر: ... مَوَاعِظُ الْوَاعِظِ لَنْ تُقْبَلا ... حَتَّى يَعِيَهَا قَلْبُهُ أَوَّلاً يَا قَوم لا أَظْلَمَ مِنْ وَاعِظٍ ... خَالَفَ مَا قَدْ قَالَهُ فِي الْمَلا أَظْهَرَ لِلنَّاسِ إِحْسَانَهُ ... وَبَارَزَ الرَّحْمَنَ لَمَّا خَلا آخر: ... أَظْهَرُوا لِلنَّاسِ زُهْداً ... وَعَلَى الدِّينَارِ دَارُوا لَوْ يُرَى فَوْقَ الثُّرَيَّا ... وَلَهُمْ رِيشٌ لَطَارُوا 139- وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ قَوْلِ اللهِ تَعَالى: لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} إلى آخر السورةِ هُوَ أَنَّ رَهْطاً مِنْ قُرَيْشٍ مِنْهُمْ الْحَارِثُ بنُ قَيْسٍ السَّهْمِيّ، وَالْعَاصُ بنُ وَائِلٍ، وَالْوَلِيدُ بنُ الْمُغِيرَة، وَالأَسْوَدُ بنُ عَبْدِ يَغُوثَ، وَالأَسْوَدُ بِنُ الْمُطَّلِبِ بن أُسد، وَأُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ، قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ هَلُّمَ فَاتّبِعْ دِينَنَا وَنَتَّبِعُ دِينَكَ وَنُشْرِككَ فِي أَمْرِنَا كُلِّهِ تَعْبُدُ آلِهَتَنَا سُنَّةً وَنَعْبُدُ إِلَهَكَ سَنَةً، فَإِنْ كَانَ الَّذِي

جِئْتَ بِهِ خَيْراً كُنَّا قَدْ شَرَكْنَاكَ فِيهِ وَأَخذنا حَظَّنَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي بِأَيْدِينَا خَيْراً كُنْت قَدْ شَرَكْتَنَا فِيهِ، وَأَخَذْتَ بِحَظِّكَ مِنْهُ. فَقَالَ: ((مَعَاذَ اللهِ أَنْ أُشْرِكَ بِهِ غَيْرَهُ)) . قَالُوا: فَاسْتَلِمْ بَعْضَ آلِهَتِنَا نُصَدِّقكَ وَنَعْبُد إِلَهَكَ. فَقَالَ: ((لا حَتَّى أَنْظُرْ مَا يَأْتِينِي مِنْ عِنْدِ رَبِّي)) . فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} إِلى آخر السورةِ فَكَانَ كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَتْبَعْهُمْ وَلَمْ يَتْعَبُوهُ فِي عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ. 140- وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَعَدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ أَصْحَابَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ فِي حَالِ ضَعْفِهِمْ، مِنْ أَنَّ اللهَ سَيَنْصُرُهُمْ وَيُمَكِّنُهُمْ وَيُقَوِّيهِمْ، وَيُظْهِرُهُمْ، فَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ، وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، وَيَأْمُرونَ بِالْمَعْرُوفَ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَكُونُ الْعُقْبَى لَهُمْ، وَتَلا بِذَلِكَ الْقُرْآنَ. فَقَالَ عَزَّ مَنْ قَائِلٍ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} إِلى قَوْلِهِ: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} فَتَمَكَّنَ أَصْحَابُهُ وَخُلَفَاؤُهُ، وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتوا الزَّكَاةَ، وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَكَانَتْ الْعُقْبَى لَهُمْ، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُه عَلَيْهِ. 141- وَمِنْ ذَلِكَ إِلْقَاءُ النُّعَاسِ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَماناً أَمَّنَهُمْ اللهُ بِهِ مِنْ خَوْفِهِمْ الَّذِي حَصَلَ لَهُمْ مِنْ

كثْرَةِ عَدُوِّهِمْ، وَقِلَّةِ عَدَدَهِمْ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِهِمْ يَوْمَ أُحُدٍ قَالَ تَعَالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً منْهُ} والآية الأخرى. وَمِنْ ذَلِكَ تَقْلِيلُ الْمُجَاهِدِينَ مَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَعْيُن الْمُشْرِكِينَ وَتَقْلِيلِ الْمُشْرِكِينَ فِي أَعْيُنِ الْمُؤْمِنِينَ لِيُقْدِمَ الْمُؤْمِنُونَ وَيَتَجَرُّؤُا وَيَطْعَمُوا فِيهِمْ ولئلا يَهْرَبَ الْمُشْرِكُونَ قَالَ تَعَالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} . 142- وَمِنْ ذَلِكَ إِنْزَالُ الْمَطَرِ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ مَعَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَطْفَأَ الْغُبَارَ وَتَلَبَّدَتْ بِهِ الأَرْضُ، حَتَّى ثَبَتَتْ الأَقْدَام، وَتَوَضَؤُا مِنْهُ وَسَقَوا الرِّكَابَ، وَمَلَؤُا الأَسْقِيَةَ وَزَالَتْ عَنْهُمْ وَسَوَسَةُ الشَّيْطَانِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ نَزَلُوا يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى كَثِيبٍ أَعْفَرَ تَسِيخُ فِيهِ الأَقْدَامُ، وَحَوَافِرُ الدَّوَابِ، وَقَدْ سَبَقَهُمْ الْكُفَّارُ إِلى مَاءِ بَدْرٍ، وَأَصْبَحَ الْمُسْلِمُونَ بَعْضُهُمْ مُحْدِثِينَ، وَبَعْضُهُمْ مُجْنِبِينَ، وَأَصَابَهُمْ الظَّمَأُ، وَوَسْوَسَ إِلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، وَقَالَ: تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ عَلَى الْحَقِّ، وَفِيكُمْ نَبِيُّ اللهِ، وَأَنَّكُم أَوْلِيَاءُ اللهِ، وَقَدْ غَلَبَكُمْ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمَاءِ، وَأَنْتُمْ تُصَلُّونَ مُجْنِبِينَ وَمُحْدِثِينَ فَكَيْفَ تَرْجُونَ أَنْ تَظْهَرُوا عَلَيْهِمْ وَأَصَابَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ ذَلِكَ الْمَطَرِ مَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَرْحَلُوا مَعَهُ. 143- وَمِنْ ذَلِكَ مَا نَزَلَ فِي رِجَالٍ بِأَعْيَانِهِمْ، مِنْ أَنَّهُمْ يُصِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ إِلى أَنْ يَمُوتُوا مِنْ ذَلِكَ مَا نَزَلَ فِي أَبِي جَهْلٍ {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَتُوْعِدُنِي يَا مُحَمَّدُ وَاللهِ مَا تَسْتَطِيعُ أَنْتَ وَلا رَبُّكَ أَنْ تَفْعَلَ شَيْئاً وَإِنِّي لأَعَزُّ مَنْ مَشَي بَيْنَ

جَبَلَيْهَا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ صَرَعَهُ اللهُ شَرَّ مَصرَعٍ، وَقَتَلَهُ أَسْوَأَ قَتْلَةٍ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((لِكُلِّ أُمَّةٍ فِرْعَوْناً وَإِنَّ فِرْعَوْنَ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو جَهْلٍ)) . وَنَزَلَ فِي أَبِي جَهْلٍ قَوْلُهُ تَعَالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} ذَكَرَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِن الْمُفَسِّرِينَ. 144- وَمِنْهَا قِصَّةُ الْبَكَّاؤُونَ الَّذِينَ اسْتَحْمَلُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانُوا أَهْلَ حَاجَةٍ فَقَالَ: ((لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ)) . فَتَوَلَّوْا يَبْكُونَ وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِن الدَّمْعِ حَزَناً أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ. وَقَامَ عُلَيَّةُ بنُ يَزِيدٍ فَصَلَّى مِنَ اللَّيْلِ وَبَكَى، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَمَرْتَ بِالْجِهَادِ وَرَغَّبْتَ فِيهِ ثُمَّ لَمْ تَجْعَلْ عِنْدِي مَا أَتَقَوَّى بِهِ مَعَ رَسُولِكَ وَلَمْ تَجْعَلْ فِي يَدِ رَسُولِكَ مَا يُحْمِلُنِي عَلَيْهِ وَإِنِّي أَتَصَدَّقُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بِكُلِّ مَظْلَمَةٍ أَصَابَنِي فِيهَا مِنْ مَالٍ أَوْ جَسَدٍ أَوْ عِرْضٍ. ثُمَّ أَصْبَحَ مَع النَّاسِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَيْنَ الْمُتَصَدِّقُ هَذِهِ اللَّيْلةَ)) ؟ فَلَمْ يَقُمْ إِلَيْهِ أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَ: ((أَيْنَ الْمُتَصَدِّقُ فَلْيَقُمْ)) . فَقَامَ إِلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَبْشِرْ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بَيّدِهِ لَقَدْ كُتِبَتْ فِي الزَّكَاةِ الْمُتَقَبَّلَةِ)) . فَفِي هَذَا مُعْجِزَةٌ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَنَّ هَذَا غَيْبٌ أَعْلَمَ اللهُ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 145- وَمِنْهَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِعُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: حَدِّثْنَا عَنْ شَأْنِ سَاعَةِ الْعُسْرَةِ، فَقَالَ عُمَرُ: خَرَجْنَا إِلى تَبُوكَ فِي قَيْضٍ شَدِيدٍ فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً وَأَصَابَنَا فِيهِ عَطَشٌ حَتَّى ظَنَنَّا أَنْ رِقَابَنَا سَتَنْقَطِعُ، وَحَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْحَرُ بَعِيرَهُ فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ فَيَشْرَبَهُ، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ عَلَى كَبَدِهِ.

فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِيقُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ اللهِ قَدْ عَوَّدَكَ فِي الدُّعَاءِ خَيْراً فَادْعُ اللهَ لَنَا، فَقَالَ: ((أَوَ تُحِبُّ ذَلِكَ)) ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ إِلى السَّمَاءِ فَلَمْ يُرْجِعْهُمَا حَتَّى قَالَتَ السَّمَاءُ - أَيْ آذَنَتْ بِمَطَرٍ - فَأَطللَّتْ ثُمَّ سَكَبَتْ فَمَلَؤُا مَا مَعَهُمْ ثُمَّ ذَهَبْنَا نَنْظُرُ فَلَمْ نَرَهَا جَاوَزَتْ الْعَسْكَرَ. 146- وَمِنْهَا حِينَمَا ظَلَّتْ نَاقَةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ فَخَرَجَ أَصْحَابُهُ فِي طَلَبِهَا، وَعِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ يُقَالُ لَهُ عَمَارَةُ بنُ حَزْمِ الأنصاري. وَكَانَ فِي رَحْلِهِ زَيْدُ بنُ لُصَيْتٍ الْقَيْنُقَاعِي وَكَانَ مُنَافِقاً، فَقَالَ زَيْدُ بنُ لُصَيْتٍ وَهُوَ فِي رَحْلِ عَمَارَةَ وَعَمَارَةُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَيْسَ يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أَنْ يُخْبِرَكُمْ مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ وَهُوَ لا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِمَارَةُ عِنْدَهُ: ((إِنَّ رَجُلاً قَالَ: إِنَّّ مُحَمَّداً يُخْبِرُكُمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنْ يُخْبِرَكُمْ بِخَبَرِ السَّمَاءِ وَهُوَ لا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ، وَإِنِّي وَاللهِ مَا أَعْلَمُ إِلا مَا أَعْلَمَنِي اللهُ وَقَدْ دَلَّنِي اللهُ عَلَيْهَا وَهِيَ فِي الْوَادِي فِي شِعْبِ كَذَا وَكَذَا قَدْ حَبَسْتَهَا شَجَرةٌ بِزِمَامِهَا فَانْطَلَقُوا حَتَّى تَأْتُوا بِهَا)) . فَذَهَبُوا فَجَاءُوا بِهَا وَقَدْ وَجَدَهَا الْحَارِثُ بنُ خَزْمَةَ الأَشْهَلِي كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ زَيْدٌ لَكَأَنِي لَمْ أُسْلِمْ إِلا الْيَوْمَ فَقَدْ كُنْتُ شَاكاً فِي مُحَمَّدٍ وَقَدْ أَصْبَحْتُ وَأَنَا فِيهِ ذُو بَصِيرَةٍ، أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ. اللَّهُمَّ ثَبِّتْ مَحَبَّتَكَ فِي قُلُوبِنَا وَقَوِّهَا وَثَبِّتْنَا عَلَى قَوْلِكَ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ، وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ.

(فَصْلٌ) 147- وَمِنْهَا أَنَّهُ مَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَائِراً فَجَعَلَ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ الرَّجُلُ فَيَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللهِ تَخَلَّفَ فُلانٌ فَيَقُولُ: «دَعُوهُ فَإِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللهُ بِكُمْ وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُم اللهُ مِنْهُ» . حَتَّى قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ تَخَلَّفَ أَبُو ذَرٍ وَأَبْطَأَ بِهِ بَعِيرِه فَقَالَ: «دَعُوهُ فَإِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللهُ بِكُمْ وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُم اللهُ مِنْهُ» . وَتَلَوَّمَ أَبُو ذَرٍّ عَلَى بَعِيرِهِ فَلَمَّا أَبْطَأَ عَلَيْهِ بَعِيرُهُ - أَيْ انْقَطَعَ - أَخَذَ الْمَتَاعَ مِنْ عَلَيْهِ فَحَمَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ ثُمَّ خَرَجَ يَتْبَعُ أَثْرَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاشِياً وَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنَازِلَهُ فَنَظَرَ نَاظِرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: يَا رسُولَ اللهِ إِنَّ هَذَا رَجُلٌ يَمْشِي عَلَى الطَّرِيقِ وَحْدَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُنْ أَبَا ذَرٍّ» . فَلَمَّا تَأَمَّلَهُ الْقَوْمُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ هُوَ - وَاللهِ أَبُو ذَرٍّ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَحَمَ اللهُ أَبَا ذَرٍّ يَمْشِي وَحْدَهُ وَيَمُوتُ وَحْدَهُ وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ» . وَقَدْ تَحَقَّقَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمَّا نَفَى أَبَا ذَرٍّ نَزَلَ أَبُو ذَرٍّ الرَّبْذَةَ فَأَصَابَهُ بِهَا قَدَرُهُ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتُهُ وَغُلامُهُ فَأَوْصَاهُمَا أَنْ غَسِّلانِي وَكَفَّنَانِي. ثُمَّ ضَعَانِي عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَأَوَّلُ رَكْبٍ يَمُرُّ بِكُمْ فَقُولُوا لَهُ: هَذَا أَبُو ذَرٍّ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعِينُونَا عَلَى دَفْنِهِ فَلَمَّا مَاتَ فَعَلا ذَلِكَ بِهِ ثُمَّ وَضَعَاهُ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ. فَأَقْبَلَ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَرَهْطٌ مَعَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ عُمَّاراً فَلَمْ يَرُعْهُمْ إِلا جَنَازَةٌ عَلَى الطَّرِيقِ قَدْ كَادَتْ الإِبْلُ تَطَؤُهَا

وَقَامَ الْغُلامُ فَقَالَ: هَذَا أَبُو ذَرٍّ صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعِينُونَا عَلَى دَفْنِهِ. فَاسْتَهَلَّ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ يَبْكِي وَيَقُولُ: صَدَقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمْشِي وَحْدَكَ وَتَمُوتُ وَحْدَكَ وَتُبْعَثُ وَحْدَكَ. ثُمَّ نَزَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَوَارَوهُ ثُمَّ حَدَّثَهُمْ ابْنُ مَسْعُودٍ حَدِيثَهُ وَمَا قَالَهُ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرِهِ إِلى تَبُوكَ وَاسْمُ أَبِي ذَرٍّ (جُنْدُبُ بنُ جُنَادَةَ) وَمَاتَ فِي سَنَة 32 هـ. وَذَكَرَ أَبُو حَاتِمٍ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرُهُ فِي قِصَّةِ وَفَاتِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بن الأَشْتَرِ عَنْ أَبِيهِ: عَنْ أُمِّ ذَرٍّ قَالَتْ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا ذَرٍّ الْوَفَاةُ بَكَيْتُ فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ؟ فَقُلْتُ: مَا لِي لا أَبْكِي وَأَنْتَ تَمُوتُ بِفَلاةٍ مِنْ الأَرْضِ وَلَيْسِ عِنْدِي ثَوْبٌ يَسَعُكَ كَفَناً وَلا يَدَانِ لِي فِي تَغْيِيبِكَ. قَالَ: أَبْشِرِي وَلا تَبْكِي فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِنَفَرٍ أَنَا فِيهِمْ: «لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ بِفَلاةٍ مِنْ الأَرْضِ يَشْهَدُهُ عِصَابَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» . وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أُولَئِكَ النَّفَرِ إِلا وَقَدْ مَاتَ فِي قَرْيَةٍ وَجَمَاعَةٍ فَأَنَا ذَلِكَ الرَّجُلُ فَوَاللهِ مَا كَذَبْتُ وَلا كُذِبْتُ فَأَبْصِرِي الطَّرِيقَ فَقُلْتُ: أَنَّى وَقَدْ ذَهَبَ الْحَاجُ وَتَقَطَّعَتِ الطُّرُقُ. فَقَالَ: اذْهَبِي فَتَبَصَّرِي قَالَتْ: فَكُنْتُ أَشْتَدُّ إِلى الْكَثِيبِ أَتَبَصَّرُ ثُمَّ أَرْجِعُ فَأَمَرِّضَهُ فَبَيْنَا أَنَا وَهُوَ كَذَلِكَ إِذَا أَنَا بِرِجَالٍ عَلَى رِحَالِهِمْ كَأَنَّهُمْ الرَّخْمُ تَخِبُّ بِهِمْ رَوَاحِلُهُمْ قَالَتْ: فَأَشَرْتُ إِلَيْهِمْ فَأَسْرَعُوا إِلَيَّ حَتَّى وَقَفُوا عَلَيَّ.

فَقَالُوا: يَا أَمَةَ اللهِ مَا لَكِ؟ قُلْتُ: امْرُؤٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَمُوتُ قَالُوا: وَمَنْ هُوَ؟ قُلْتُ: أَبُو ذَرٍّ. قَالُوا: صَاحِبُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَفَدَّوْهُ بِآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ وَأَسْرَعُوا إِلَيْهِ حَتَّى دَخَلُوا عَلَيْهِ. فَقَالَ لَهُمْ: أَبْشِرُوا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِنَفَرٍ أَنَا فِيهِمْ: «لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ بِفَلاةٍ مِنْ الأَرْضِ يَشْهَدُهُ عِصَابَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» . وَلَيْسَ مِنْ أُولَئِكَ النَّفَر رَجُلٌ إِلا وَقَدْ هَلَكَ فِي جَمَاعَةٍ. وَاللهِ مَا كَذَبْتُ وَلا كُذِبْتُ وَإِنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدِي ثَوْبٌ يَسَعُنِي كَفَناً لِي أَوْ لامْرَأَتِي لَمْ أُكَفَّنْ إِلا فِي ثَوْبٍ هُوَ لِي أَوْ لَهَا وَإِنِّي أنْشُدُكُمْ اللهَ أَنْ لا يُكَفِّنَنِي رَجُلٌ مِنْكُمْ كَانَ أَمِيراً أَوْ عَرِيفاً أَوْ بَرِيداً أَوْ نَقِيباً وَلَيْسَ أَحَدٌ إِلا وَقَدْ قَارَفَ بَعْضَ مَا قَالَ إِلا فَتَىً مِنَ الأَنْصَارِ. قَالَ: أَنَا أَكفِنُكَ يَا عَمَّ أُكَفِّنُكَ فِي رِدَائِي هَذَا وَفِي ثَوْبَيْنِ فِي عَيْبَتِي مِنْ غَزْلِ أُمِّي قَالَ: فَأَنْتَ تُكَفِّينُنِي فَكَفَّنَهُ الأَنْصَارِيُّ وَقَامُوا عَلَيْهِ وَدَفَّنُوهُ فِي نَفَرٍ كُلُّهُمْ يَمَان فَفِي هَذِهِ مُعْجِزَةٌ. 148- وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ مِن أَنَّ أَبَا خَيْثَمَةَ رَجَعَ - بَعْدَ مَا سَارَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّاماً إِلى أَهْلِهِ فِي يَوْمٍ حَارٍ فَوَجَدَ امْرَأَتَيْنِ لَهُ فِي عَرِيشٍ لَهُمَا فِي حَائِطِهِ قَدْ رَشَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَرِيشَهَا وَبَرَّدَتْ لَهُ فِيهِ مَاءً وَهَيَأتْ لَهُ فِيهِ طَعَاماً. فَلَمَّا دَخَلَ قَامَ عَلَى بَابِ الْعَرِيشِ فَنَظَرَ إِلى امْرَأَتَيْهِ وَمَا صَنَعَتَا لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي الضَّحِّ - لَهَبُ الشَّمْسِ وَحَرَارَتُهَا - وَالرِّيحِ وَالْحَرِّ وَأَبُو خَيْثَمَةَ فِي ظِلِّ بَارِدٍ وَطَعَامٍ مُهَيَّأٍ وَامْرَأةٍ

حَسْنَاء فِي مَآلِهِ مُقِيمٌ مَا هَذَا بِالنَّصَفِ وَالْعَدْلِ. ثُمَّ قَالَ: وَاللهِ لا أَدخُلَ عَرِيشَ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا حَتَّى أَلْحَقَ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهيئا لِي زَاداً فَفَعَلَتَا ثُمَّ قَدَّمَ نَاضِحَهُ فَارْتَحَلَهُ - أَيْ أَحْضَرَ جَمَلَهُ فَوَضَعَ عَلَيْهِ الرَّحْلَ وَأَعَدَّهُ لِلسَّفَرِ -. ثُمَّ خَرَجَ فِي طَلَبِ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَدْرَكَهُ حِينَ نَزَلَ تَبُوكَ وَكَانَ عِنْدَمَا أَقْبَلَ قَالَ النَّاسُ: هَذَا رَاكِبٌ عَلَى الطَّرِيقِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ» . فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ هُوَ وَاللهِ أَبُو خَيْثَمَةَ فَلَمَّا أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ أَقْبَلَ فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ فَقَال لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْراً وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ» . وَفِي هَذِهِ مُعْجِزَة. 149- وَمِنْهَا مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ وَدِيعَةُ بنُ ثَابِتٍ وَمِنْهُمْ مَخْشِيٌّ بنُ حِمْيَرَ قَالَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: أَتَحْسَبُونَ جِلادَ بَنِي الأَصْفَرِ كَقِتَالِ الْعَرَبِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً وَاللهِ لَكَأَنَّكُمْ غَداً مُقَرَّنِينَ فِي الْحِبَالِ إِرْجَافاً وَإِرْهَاباً لِلْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: مَخْشِيُ وَاللهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقَاضَى عَلَى أَنْ يُضْرَبَ كُلُّ مِنَّا مَائِةَ جَلْدَةً وَأَنَّا نَنْقَلِبُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ فِينَا قُرْانٌ لِمَقَالَتِكُمْ هَذِهِ وَقَالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمَّارِ بن يَاسِرٍ: «أَدْرِكِ الْقَوْمَ فَإِنَّهُمْ قَدْ احْتَرَقُوا فَسَلْهُمْ عَمَّا قَالُوا فَإِنْ أَنْكَرُوا فَقُلْ بَلَى قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا» . فَانْطَلَقَ إِلَيْهِمْ عَمَّارٌ فَقَالَ ذَلِكَ لَهُمْ.

فَأَتَوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ فَقَالَ وَدِيعَةُ بنُ ثَابِتٍ: كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} . فَقَالَ مَخْشِيُ ابنُ حِمْيَر: يَا رَسُولَ اللهِ قَعَدَ بِي اسْمِي وَاسْمُ أَبِي فَكَانَ الذِي عَفَا عَنْهُ فِي هَذِهِ الآيةِ وَتَسَمَّى عَبْدَ الرَّحْمَنِ وسأل اللهَ أَنْ يُقْتَلَ شَهِيداً لا يُعْلَمُ بِمَكَانِهِ فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ أَثَرٌ، فَفِي هَذِهِ الْقِصَّةَ مُعْجِزَةٌ أَيْضاً. 150- وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَائِذٍ فِي مَغَازِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ تَبُوكَ فِي زَمَانٍ قَلَّ مَاؤُهَا فِيهِ فَاغْتَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَرْفَةً بَيّدِهِ مِنْ مَاءٍ فَمَضْمَضَ بِهَا فَاهُ ثُمَّ بَصَقَهُ فِيهَا فَفَارَتْ عَيْنُهَا حَتَّى امْتَلأَتْ فَهِيَ كَذَلِكَ حَتَّى السَّاعَةَ. قُلْتُ: فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: أَنَّهُ قَبْلَ وُصُولِهِ إِلَيْهَا قَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَداً إِنْ شَاءَ اللهُ تَعالَى - عَيْنَ تَبُوكَ وَإِنَّكُمْ لَنْ تَأْتُوهَا حَتَّى يُضْحِىَ النَّهَارُ فَمَنْ جَاءَهَا فَلاَ يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئاً حَتَّى آتِىَ» . قَالَ: فَجِئْنَاهَا وَقَدْ سَبَقَنَا إِلَيْهَا رَجُلاَنِ وَالْعَيْنُ مِثْلُ الشِّرَاكِ تَبِضُّ بِشَيءٍ مِنْ مَائِهَا فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «هَلْ مَسَسْتُمَا مِنْ مَائِهَا شَيْئاً» ؟ قَالاَ: نَعَمْ. فَسَبَّهُمَا وَقَالَ لَهُمََا مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ ثُمَّ غَرَفُوا مِنَ الْعَيْنِ قَلِيلاً قَلِيلاً حَتَّى اجْتَمَعَ فِي شَيءٍ ثُمَّ غَسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ثُمَّ أَعَادَهُ فِيهَا فَجَرَتِ الْعَيْنُ بِمَاءٍ كَثِيْرٍ فاسْتَقَى النَّاسُ. فَفِي هَذِهِ مُعْجِزَةٌ واضحة. اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَحُبَّ الْعَمَلِ الَّذِي يُقَرِّبُنَا إِلى حُبِّكَ اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لِشُكْرِكَ وَاحْفَظْنَا مِن الاغْتِرَارِ بِالدُّنْيَا وَالْهَوَى وَالنَّفْس وَعَدُوِّكَ وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ

الرَّاحِمِينَ إِنَّكَ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. (فَصْلٌ) 151- وَمِنْهَا قِصَّةُ أَبِي رِغَالٍ لِمَا رَوَى أَبُو دَاوُدَ أَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((هَذَا قَبْرُ أَبِي رِغَالٍ وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَعَهُ غُصْناً مِنْ ذَهَبٍ إِنْ رَأَيْتُمْ نَبَشْتُمْ عَنْهُ أَصَبْتُمُوهُ مَعَهُ)) . فَابْتَدَرَهُ النَّاسُ فَاسْتَخْرَجُوا الْغُصْنَ. وَهَذِهِ مُعْجِزَةٌ أَيْضاً. 152- وَمِنْ ذَلِكَ الْوَعْدُ بِارْجَاعِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مَكَّةَ قَالَ اللهُ تَعَالى {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِلى مَكَّةَ وَوَقَعَ طِبْقَ مَا أَخْبَرَ فَيَكُونُ عَلَماً عَلَى نُبُوتهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 153- وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالى: {َقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ إلى قوله وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} . 154- فَفِي هَذِهِ الآيَاتِ إِخْبَارٌ عَنْ غُيُوبٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا تَزْكِيَةُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُبَايِعِينَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَإِعْلانُ الرِّضَا عَنْهُمْ وَهُمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ. وَلا شَكَّ أَنَّ الأَمْرَ كَمَا قَالَ إِذْ لَوْ كَانَ فِي إِيمَانِ أَحدهم دَخَلٌ لَشَكَّ وَارْتَابَ وَأَعْلَنَ ارْتِدَادَهُ وَكُفْرَهُ وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ مِنْ مُحَمَّدٍ لَمْ يُقْدِمْ عَلَى هَذَا الإِعْلانِ الْخَطِيرِ إِذْ لا يَعْلَم مَا فِي بُوَاطِنِهِمْ إِلا اللهُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الإِخْبَار وَأَنَّهَا أَعلام على نبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 155- وَمِنْ ذَلِكَ الإِخْبَارُ بِحَوَادِثَ خَاصَّةٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} فَفِي هَذَا عَلَم عَلَى نُبُوتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَنَّ هَذِهِ

أُمُورٌ غَيْبِيَّةٌ أَطْلَعَ اللهُ نَبِيَّهُ عَلَيْهَا. 156- وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي مَجْهُودٌ فَأَرْسَلَ إِلى بَعْضِ نِسَائِهِ فَقَالَتْ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إِلا مَاءٌ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلى أُخْرَى فَقَالَتْ مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى قُلْنَ كُلُّهُنَّ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ يُضِيفُ هَذَا اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللهُ)) . فَقَامَ رَجُلٌ مِن الأَنْصَارِ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ فَانْطَلَقَ بِهِ إِلى رَحْلِِهِ فَقَالَ لامْرَأَتِهِ: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ قَالَتْ: لا إِلا قُوتُ صِبْيَانِي قَالَ: فَعَلِّلِيهِم بِشَيْءٍ فَإِذَا دَخَلَ ضَيْفُنَا فَأَطْفِئي السِّرَاجَ وَأَرِيهِ أَنَّا نَأْكُلُ قَالَ: فَقَعَدُوا وَأَكَلَ الضَّيْفُ. فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ((قَدْ عَجِبَ اللهُ مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ)) . فَهَذَا غَيْبٌ مِن الْغُيُوبِ أَعْلَمَ الله نَبِيَّهُ بِهِ فَهُوَ مُعْجِزَةٌ وَاضِحَةٌ. 157- وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً إلى قوله تعالى وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} . أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَابنُ الْمُنْذِر وَابْنُ أَبِي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ أَهْلُ بَيْتٍ مِنَّا يُقَالُ لَهُمْ بَنُو أُبَيْرِقٍ بِشْرٌ وَبُشَيْرٌ وَمُبَشِّرٌ، وَكَانَ بُشَيْرٌ رَجُلاً مُنَافِقاً يَقُولُ الشِّعْرَ

يَهْجُو بِهِ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَنْحَلُهُ لِبَعْضِ الْعَرَبِ ثُمَّ يَقُولُ قَالَ فُلانٌ كَذَا وَكَذا فَإِذَا أسَمعَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: وَاللهِ مَا يَقُولُ هَذَا الشِّعْرَ إِلا هَذَا الرَّجُلُ الْخَبِيثُ أَوْ كَمَا قَالَ الرَّجُلُ وَقَالُوا ابْنُ الأُبَيْرِقِ قَالَهَا قَالَ: وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ حَاجَةٍ وَفَاقَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالإِسْلَامِ. وَكَانَ النَّاسُ إِنَّمَا طَعَامُهُمْ بِالْمَدِينَةِ التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا كَانَ لَهُ يَسَارٌ فَقَدِمَتْ ضَافِطَةٌ مِنْ الشَّامِ مِنْ الدَّرْمَكِ ابْتَاعَ الرَّجُلُ مِنْهَا فَخَصَّ بِهَا نَفْسَهُ وَأَمَّا الْعِيَالُ فَإِنَّمَا طَعَامُهُمْ التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ. فَقَدِمَتْ ضَافِطَةٌ مِنْ الشَّامِ فَابْتَاعَ عَمِّي رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ حِمْلاً مِنْ الدَّرْمَكِ فَجَعَلَهُ فِي مَشْرَبَةٍ لَهُ وَفِي الْمَشْرَبَةِ سِلاحٌ وَدِرْعٌ وَسَيْفٌ فَعُدِيَ عَلَيْهِ مِنْ تَحْتِ الْبَيْتِ فَنُقِبَتْ الْمَشْرَبَةُ وَأُخِذَ الطَّعَامُ وَالسِّلاحُ. فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَانِي عَمِّي رِفَاعَةُ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي إِنَّهُ قَدْ عُدِيَ عَلَيْنَا فِي لَيْلَتِنَا هَذِهِ فَنُقِبَتْ مَشْرَبَتُنَا َفذُهِبَ بِطَعَامِنَا وَسِلَاحِنَا قَالَ: فَتَحَسَّسْنَا فِي الدَّارِ وَسَأَلْنَا فَقِيلَ لَنَا: قَدْ رَأَيْنَا بَنِي أُبَيْرِقٍ اسْتَوْقَدُوا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَلا نَرَى فِيمَا نَرَى إِلا عَلَى بَعْضِ طَعَامِكُمْ. قَالَ: وَكَانَ بَنُو أُبَيْرِقٍ قَالُوا: وَنَحْنُ نَسْأَلُ فِي الدَّارِ وَاللهِ مَا نُرَى صَاحِبَكُمْ إِلا لَبِيدُ بْنُ سَهْلٍ رَجُلٌ مِنَّا لَهُ صَلاحٌ وَإِسْلامٌ. فَلَمَّا سَمِعَ لَبِيدٌ اخْتَرَطَ سَيْفَهُ. وَقَالَ: أَنَا أَسْرِقُ وَاللهِ لَيُخَالِطَنَّكُمْ هَذَا السَّيْفُ أَوْ لَتُبَيِّنُنَّ هَذِهِ السَّرِقَةَ

قَالُوا: إِلَيْكَ عَنَّا أَيُّهَا الرَّجُلُ فَمَا أَنْتَ بِصَاحِبِهَا فَسَأَلْنَا فِي الدَّارِ حتَّى لَمْ نَشُكَّ أَنَّهُمْ أَصْحَابُهَا فَقَالَ لِي عَمِّي: يَا ابْنَ أَخِي لَوْ أَتَيْتَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتَ ذَلِكَ لَهُ. قَالَ قَتَادَةُ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: إِنَّ أَهْلَ بَيْتٍ أَهْلُ جَفَاءٍ عَمَدُوا إِلَى عَمِّي رِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ فَنَقَبُوا مَشْرَبَةً لَهُ وَأَخَذُوا سِلاحَهُ وَطَعَامَهُ فَلْيَرُدُّوا عَلَيْنَا سِلاحَنَا، فَأَمَّا الطَّعَامُ فَلا حَاجَةَ لَنَا فِيهِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((سَآمُرُ فِي ذَلِكَ)) . فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ بَنُو الأُبَيْرِقِ أَتَوْا رَجُلاً مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أُسَيْدُ بْنُ عُرْوَةَ فَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ فَاجْتَمَعَ فِي ذَلِكَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ وَعَمَّهُ عَمَدَا إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ مِنَّا أَهْلِ إِسْلامٍ وَصَلاحٍ يَرْمُونَهُمْ بِالسَّرِقَةِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلا ثِبْتٍ. فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمْتُهُ فَقَالَ: ((عَمَدْتَ إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ ذُكِرَ مِنْهُمْ إِسْلامٌ وَصَلاحٌ تَرْمِهِمْ بِالسَّرِقَةِ عَلَى غَيْرِ ثَبَتٍ وَلا بَيِّنَةٍ)) . قَالَ: فَرَجَعْتُ وَلَوَدِدْتُ أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ بَعْضِ مَالِي وَلَمْ أُكَلِّمْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ فَأَتَانِي عَمِّي رِفَاعَةُ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي مَا صَنَعْتَ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اللهُ الْمُسْتَعَانُ. فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} يَعْنِي بَنِي أُبَيْرِقٍ {وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ} مِمَّا قُلْتَ لِقَتَادَةَ ... فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صَلّى

اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالسِّلاحِ فَرَدَّهُ إِلى رِفَاعَةَ. 158- وَمِنْ ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي تَبْرِئَةِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا مِن الإِفْكِ قَالَ تَعَالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} . الآية. عَشْرُ آيَاتٍ كُلُّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْن عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا حِينَ رَمَاهَا الإِفْكُ وَالْبُهْتَانُ مِنِ الْمُنَافِقِينَ بِمَا قَالُوا مِنْ الْكَذِبِ الْبَحْتِ وَالْفِرْيَةِ الَّتِي غَارَ اللهُ لَهَا وَلِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى بَرَاءَتَهَا صِيَانَةً لِعِرْضِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَا بَقِيَتْ الأَلْسِنَةُ لا يُوحَى إِلَيْهِ كَمَا جَاءَ فِي صَحِيحَيْ الْبُخَارِي وَمُسْلِم - وَهُوَ حَائِرٌ مُتَرَدِّدٌ فِي أَمْرِ عَائِشَةَ يَسْأَلُ وَيَسْتَشِير. وَالْمُنَافِقُونَ يُشِيعُونَ الْفَاحِشَةَ حَتَّى وَقَعَ فِيهَا مَنْ وَقَعَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ جَاءَهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ أَهْلِهَا ثُمَّ قَالَ: ((يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبْرِئُكِ اللهُ وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِري اللهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ فَإِنْ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ)) . فَوَاللهِ مَا رَامَ مَجْلِسَهُ وَلا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى أَنْزَلَ عَلَيْهِ فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِن الْبُرَحَاءِ حَتَّى أَنَّهُ لِيَتَحَدُّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنْ

الْعَرَقِ فِي يَوْمِ شَاتٍ. فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَضْحَكُ فَكَانَ أَوَّلُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ لِي: ((يَا عَائِشَةُ احْمِدِي اللهَ فَقَدْ بَرَّأَكِ اللهُ)) . فَقَالَتْ لِي أُمِّي قُومِي إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: لا وَاللهِ لا أَقُومُ إِلَيْهِ وَلا أَحْمَدُ إِلا اللهَ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ} الآيَاتِ فَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَمٌ مِنْ أَعْلامِ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ وَتَفَهَّمَهُ فَقَدْ كَانَ مَوْقِفُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَائِشَةَ بَعْدَ إشَاعَةِ الْفِرْيَةِ وَالْبُهْتَانِ مَوْقِفَ التَّرَدُدِ وَالْحَيْرَةِ. ثُمَّ تَحَوَّلَ بَعْدَ الْوَحْي فُجْاءَةً إِلى مَوْقِفِ الثِّقَةِ وَالاطْمِئْنَانِ وَهَذَا التَّحَوُلُ لا يُمْكِنُهُ أَنْ يَكُونَ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَاثِقاً بِبَرَائَتِهَا بِإِخْبَارٍ مِن الْعَلِيمِ الْخَبِيرِ جَلَّ وَعَلا وَتَنَزَهَ وَتَقَدَّسَ. 159- وَمِنْ ذَلِكَ تَحَدِّي الْيَهُودَ فِي تَمَنِّي الْمَوْتَ مَرَّتَيْن فَقَالَ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} . وَوَجْهُ الدَّلالةِ أَنَّهُ طَلَبَ مِن الْيَهُودِ أَنْ يَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً فَمَا تَمَنَّاهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَعَ حِرْصِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُعَارَضَتِهِمْ لَهُ وَكَيْدِهِمْ لَهُ فَقَامَ ذَلِكَ دَلِيلاً صَادِقاً عَلَى نِبُوَّتِهِ وَمُعْجِزَة عَظِيمَة. اللَّهُمَّ اعْصِمْنَا وَارْحَمْنَا عَنِ الرُّكُونِ إِلى عِدَاكَ وَارْزُقْنَا بُغْضَهُمْ وَأَعْوَانَهُمْ وَوَفِّقْنَا لِمَحَبَّتِكَ وَمَحَبَّةِ رُسُلِكَ وَأَوْلِيَائِكَ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ

وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. (فَصْلٌ) : قَالَ شَيْخُ الإِسْلامِ: فَأَخْبَرَ عَن الْيَهُودِ أَنَّهُمْ لَنْ يَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ أَبَدَاً وَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ فَلا يَتَمَنَّى الْيَهُودُ الْمَوْتَ أَبَدَاً وَهَذَا دَلِيلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ مِنْ جِهَةِ إِخْبَارِهِ بَأَنْ لا يَكُونَ أَبَدَاً وَمِنْ جِهَةِ صَرْفِ اللهِ لِدَوَاعِي الْيَهُودِ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتَ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مَقْدُورٌ لَهُمْ وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ الأُمُورِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ وَهُمْ مَعَ حِرْصِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِ لَمْ تَنْبَعِثْ دَوَاعِيهِمْ لإِظْهَارِ تَكْذِيبِهِ بِإِظْهَارِ تَمَنِيَّ الْمَوْتَ. أ. هـ. 160- وَمِنْ ذَلِكَ الْوَعْدُ بِحِفْظِ الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وَهَذَا الإِخْبَارُ إِنَّمَا هُوَ مِن الْغَيْبِ وَوَقَعَ كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ فَحُفِظَ وَتَمَّ وَعْدُ اللهِ بِذَلِكَ. وَلَمْ يَأْتِهِ تَغْيِيرٌ يَعُمُّ جَمِيعَ الْمَصَاحِفِ الْمَوْجُودَةِ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ قَالَ تَعَالى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} . 161- وَمِنْ ذَلِكَ الْوَعْدُ بِعِصْمَةِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن النَّاسِ قَالَ تَعَالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} وَقَدْ حَقَّقَ اللهُ وَعْدَهُ فَحَفِظَ نَبِيَّهُ وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ عَلَى قَتْلِهِ مَعَ كَثْرَةِ الْمُحَاوَلاتِ مِنْ أَعْدَائِهِ فَفِي ذَلِكَ عِلْمٌ مِنْ أَعْلامِ نُبوته معجزة واضحة. 162- وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} قَالَ الْبَغَوِيُّ: أَيْ يَكْفِيكَ شَرَّ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَقَدْ كَفَى بِإِجْلاءِ بَنِي النَّضيرِ وَقَتْلِ بَنِي قُرَيْظَةَ وَضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. أ. هـ.

وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنِ الْغَيْبِ فَيَكُونُ مُعْجِزاً دَالاً عَلَى صِدْقِهِ حَيْثُ وَقَعَ طِبْقَ مَا أَخْبَرَ. 163- وَمِنْ ذَلِكَ الْمُبَاهَلَةُ قَالَ اللهُ تَعَالى: {الْحَقُّ مِن رَّبِكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} . قِيلَ: إِنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ هُوَ أَنَّ الْعَاقِبَ وَالسَّيِّدَ صَاحِبَيْ نَجْرَانَ جَاءَا إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَادَلاهُ فِي أَمْرِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامِ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالى آيَةَ الْمُبَاهَلَةِ وَالْمُبَاهَلَةُ دُعَاءُ اللهِ وَالابْتِهَالُ إِلَيْهِ أَنْ يُنْزِلَ لَعْنَتَهُ عَلَى الْكَاذِبِينَ فَوَاعَدَاهُ عَلَى أَنْ يُلاعِنَاهُ الْغَدَاةَ. فَغَدَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنَ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمَا فَأَبَيَا أَنْ يُجِيبَاهُ وَأَقَرَا لَهُ بِالْخَرَاجِ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ لَوْ قَالا لأَمْطَرَ عَلَيْهِمْ الْوَادِي نَاراً فَفِي هَذَا عِلْمٌ مِنْ أَعْلامِ نُبُوَّتِهِ فَلَوْلا أَنَّهُمْ عَرَفُوا مِنْ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيل مَا يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ لِمَا أَحْجَمُوا عَنِ الْمُبَاهَلَةِ ثَانِياً وَثُوقُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ. 164- وَمِنْ ذَلِكَ مَا قِيلَ أَنَّهُ نَزَلَ فِي الأَخْنَسِ بن شَرِيقٍ {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * َيحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * َلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ} فَمَاتَ عَلَى كُفْرِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بنِ الْمُغِيرَةِ كَانَ يَغْتَابُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَطْعَنُ عَلَيْهِ فِي وَجْهِهِ وَنَزَلَ فِيهِ.

آخر: يُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا: قَطّعْتُ مِنْكَ حَبَائِل الآمَالِ ... وَحَطَطْتُ عَنْ ظَهَرِ الْمَطي رِحَالي وَيَئسِتُ أَنْ أَبْقَى لِشَيْءٍ نِلْتُ مِمَّا ... فِيكَ يَا دُنْيَا وَأَنْ يَبْقَى لِي فَوَجَدْتُ بَرْدَ الْيَأْسِ بَيْنَ جَوَانِحِي ... وَأَرَحْتُ مِنْ حَلَى وَمِنْ تَرْحَالي وَلَئِنْ يَئِسْتُ لَرُبّ بَرْقَةِ خُلّبِ ... بَرَقَتْ لِذِي طَمَعٍ وَبَرَقْةِ آلِ مَا كَانَ أَشَامَ إِذْ رَجَاؤكِ قَاتِلِي ... وَبَنَاتُ وَعْدِكِ يَعْتَلِجْنَ بِبَالِي فَالآن يَا دُنْيَا عَرَفَتُكِ فَاذْهَبِي ... يَا دَارَ كُلِّ تَشَتتٍ وَزَوَالِ وَالآنَ صَارَ لِي الزَّمَانُ مُؤدِّباً ... فَغَدَا عَلَيَّ وَرَاحَ بِالأَمْثَالِ وَالآنَ أَبْصَرْتُ السَّبِيلَ إِلى الْهُدَى ... وَتَفَرّغَتْ هَمِمِي عَنِ الأَشْغَالِ وَلَقْدَ أَقَامَ لِي الْمَشِيبُ نُعَاتَهُ ... يُفْضِي إِلَيّ بِمِفْرِقٍ وَقَذَالِ وَلَقْدَ رَأَيْتُ الْمَوْتَ يُبْرِقُ سَيْفَهُ ... بِيَدِ الْمَنِيَّةِ حَيْثُ كُنتُ حِيالِي وَلَقْدَ رَأَيْتُ عُرَى الْحَيَاةِ تَخَرَّمَتْ ... وَلَقَدْ تَصَدَّى الْوَارِثُونَ لِمَالِي وَلَقْدَ رَأَيْتُ عَلَى الْفَنَاءِ أَدِلَّةً ... فِيمَا تَنَكَّرَ مِنْ تَصَرَّفِ حَالِي وَإِذَا اعْتَبَرْتُ رَأَيْتُ خَطْبَ حَوَادِثٍ ... يَجْرِينَ بِالأَرْزَاقِ وَالآجَالِ وَإِذَا تَنَاسبتِ الرِّجَالِ فَمَا أَرَى ... نَسَباً يُقَاسُ بِصَالِحِ الأَعْمَالِ وَإِذَا بَحَثْتُ عَنِ التَّقِيّ وَجَدْتُهُ ... رَجُلاً يُصَدِّقُ قَوْلَهُ بِفَعَالِ وَإِذَا اتَّقَى اللهَ امْرُؤٌ وَأَطَاعَهُ ... فَيَدَاهُ بَيْنَ مَكَارِمٍ وَمَعَالِ وَعَلَى التَّقِيِّ إِذَا تَرَسَّخَ فِي التُّقَى ... تَاجَانِ تَاجُ سَكِينَةٍ وَجَلالِ وَاللَّيْلُ يَذْهَبُ وَالنَّهَارُ تَعَاوُراً ... بِالْخَلْقِ فِي الإِدْبَارِ وَالإِقْبَالِ وَبِحَسْبِ مَنْ تُنْعَى إِلَيْهِ نَفْسُهُ ... مِنْهُ بِأَيَّامٍ خَلَتْ وَلَيَالِ اضْرِبْ بِطَرْفِكَ حَيْثُ شِئْتَ فَأَنْتَ فِي ... عِبَرٍ لَهُنَّ تَدَارُكٌ وَتَوَالِ

.. يَبْكِي الْجَدِيدُ وَأَنْتَ فِي تَجْدِيدِهِ ... وَجَمِيعُ مَا جَدَّدْتَ مِنْهُ فَبَالِ يَا أَيُّهَا الْبَطِرُ الَّذِي هُوَ فِي غَدٍ ... فِي قَبْرِهِ مُتَفَرَقُ الأَوْصَالِ حَذَفَ الْمُنَىَ عَنْهُ الْمُشَمِّرُ فِي الْهُدَى ... وَأَرَى مُنَاكَ طَوِيلَةَ الأَذْيَالِ وَلَقَلَّ مَا تَلْقَى أَغَرَّ لِنَفْسِهِ ... مِنْ لاعِبٍ مَرَحٍ بِهَا مُخْتَالِ يَا تَاجِرَ الْغَيِّ الْمُضِرَّ بِرُشْدِهِ ... حَتَّى مَتَى بِالْغَيّ أَنْتَ تُغَالِي الْحَمْدُ للهِ الْحَمِيدِ بِمِنِّهِ ... خَسِرَتْ وَلَمْ يَرْبَحْ يَدُ الْبَطَّالِ للهِ يَوْمٌ تَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ ... وَتَشِيبُ مِنْهُ ذَوَائِبُ الأَطْفَالِ يَوَمُ النَّوَازِلِ وَالزَّلازِلِ، وَالْحَوا ... مِلِ فِيهِ إِذْ يَقذِفْنَ بِالأَحْمَالِ يَوْمٌ يَنَادَى فِيهِ كُلُّ مَضَلِّلٍ ... بِمُقَطِّعَاتِ النَّارِ وَالأَغْلالِ لِلْمُتَّقِينَ هُنَاكَ نَزْلُ كَرَامَةٍ ... عَلَتِ الْوُجُوهَ بِنَضْرَةٍ وَجَمَالِ زُمَرٌ أَضَاءَتْ لِلْحِسَابِ وُجُوهُهَا ... فَلَهَا بَرِيقٌ عِنْدَهَا وَتَلالِي وَسَوَابِقٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ جَرَتْ ... خُمْصَ الْبُطُونِ خَفِيفَةَ الأَثْقَالِ مِنْ كُلِّ أَشْعَثَ كَانَ أَغْبَرَ نَاحِلاً ... خَلِقَ الرِّدَاءِ مُرَقَّعَ السِّرْبَالِ حِيَلُ ابنِ آدَمَ فِي الأُمُورِ كَثِيرَةٌ ... وَالْمَوْتُ يَقْطَعُ حِيلَةَ الْمُحْتَالِ نَزَلُوا بِأَكْرَمِ سَيِّدٍ فَأَظَلّهُمْ ... فِي دَارِ مُلْكِ جَلالَةٍ وَظِلالِ وَمِنَ النَّعَاةِ إِلى ابْنِ آدَمَ نَفْسَهُ ... حَرَكُ الْخُطَى وَطُلُوعُ كُلِّ هِلالِ مَا لِي أَرَاكَ لِحُرّ وَجْهِكَ مُخْلِقاً ... أَخْلَقْتِ يَا دُنْيَا وُجُوهَ رِجَالِ قِسْتَ السُّؤَالَ فَكَانَ أَعْظَمَ قِيمَةً ... مِنْ كُلِّ عَارِفَةٍ جَرَتْ بِسُؤُالِ كُنْ بِالسُّؤَالِ أَشَدَّ عَقْدِ ضَنَانَةٍ ... مِمَّنْ يَضِنُّ عَلَيْكَ بِالأَمْوَالِ وَصُنِ الْمَحَامِدَ مَا اسْتَطَعْتَ فَإِنَّهَا ... فِي الْوَزْنِ تَرْجُحُ بَذْلَ كُلِّ نَوَالِ وَلَقَدْ عَجِبْتُ مِنَ الْمُثْمِّرِ مَالَهُ ... نَسِيَ الْمُثَمِّرُ زِينَةَ الإِقْلالِ

.. وَإِذَا امْرُؤٌ لَبِسَ الشُّكُوكَ بِعَزْمِهِ ... سَلَكَ الطَّرِيقَ عَلَى عُقُودِ ضَلالِ وَإِذَا ادَّعَتْ خُدَعُ الْحَوَادِث قَسْوَةً ... شَهِدَتْ لَهُنَّ مَصَارِعُ الأَبْطَالِ وَإِذَا ابْتُلِيتَ بِبَذْلِ وَجْهِكَ سَائِلاً ... فَابْذُلْهُ لِلْمُتَكَرِّمِ الْمِفْضَالِ وَإِذَا خَشِيتَ تَعَذُّراً فِي بَلْدَةٍ ... فَاشْدُدْ يَدَيْكَ بِعَاجِلِ التِّرْحَالِ وَأَصْبِرْ عَلَى غَيْرِ الزَّمَانِ فَإِنَّمَا ... فَرَجُ الشَّدَائِدِ مِثْلُ حَلِّ عِقَالِ انْتَهَى. 165- قَوْلُهُ تَعَالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} إِلى قَوْلِهِ تَعَالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} فَلَمْ يَزدْهُ اللهُ مَالاً وَلا وَلَداً بَعْدَ هَذَا كَمَا أَخْبَرَ، وَصَارَ فِي نُقْصَانٍ مِنْ مَالِهِ وَوَلَدِهِ إِلى أَنْ مَاتَ كَافِراً، وَقَدْ كَانَ عِنْدَ نُزُولِ ذَلِكَ حَيّاً سَلِيماً. 166- وَمِنْهُمْ النَّضْرُ بنُ الْحَارِثِ بنِ كِلْدَةَ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَكَانَ شَدِيدَ الرَّدِّ عَلَى اللهِ وَعَلَى رَسُولِهِ، شَدِيدَ الْعَدَاوَةِ، وَالإرْصَادِ، وَقَدْ كَانَ رَحَلَ فِي عَدَاوَةِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إِلى فَارِسَ، وَطَلَبَ مَا يَكِيدُ بِهِ الإِسْلامَ، فَاشْتَرَى أَخْبَارَ الْعَجَمِ، وَقَدِمَ بِهَا مَكَّةَ يُحَدِّثُ بِهَا قُرَيْشاً وَيَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّداً يُحَدِّثُكُمْ بِحَدِيثِ عَادٍ وَثَمُودَ وَأَنَا أُحَدِثُكُمْ بِحَدِيثِ رُسْتُمْ وَاسْفِنْدِيَار، وَأَخْبَارِ الأَكَاسِرَةِ. فَيَسْتَمْلِحُونَ حَدِيثَهُ، وَيَتْرُكُونَ اسْتِمَاعَ كَلامَ اللهِ. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيةَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} قَالَهُ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ. وَقِيلَ: نَزَلَ فِيهِ أَيْضاً غَيْرُهَا وقِيلَ: إِنَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ ذَهَبَتْ بِقُحْفِ رَأْسِهِ وَحَلَ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَأْسُورِينَ وَقَالَ: لا أَذُوقُ طَعَاماً وَلا شَرَاباً مَا دُمْتُ فِي أَيْدِيهِمْ فَمَاتَ مِن الضَّرْبَةِ وَصَارَ إِلى

النَّارِ بَعْدَ أَنْ أَذَاقَهُ اللهُ الْعَذَابَ الْمُهِينَ فِي الدُّنْيَا كَمَا قَالَ وَكَمَا أَخْبَرَ عَزَّ وَجَلَّ. اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِلِزُومِ الطَّرِيقِ الَّذِي يُقَرِّبُنَا إِلَيْكَ وَهَبْ لَنَا نُوراً نَهْتَدِي بِهِ إِلَيْكَ وَيَسِّرْ لأَهْلِ مَحَبَّتِكَ وَأَيْقِظْنَا مِنْ غَفَلاتِنَا وَأَلْهِمْنَا رُشْدَنَا وَاسْتُرْنَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ عِبَادِكَ الْمُتَّقِينِ وَأَلْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. (فَصْلٌ) 167- وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالى: {آلَم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَاتُ حِينَ غَلَبَ سَابُورُ مَلِكُ الْفُرْسِ عَلَى بِلادِ الشَّامِ، وَمَا وَالاهَا مِنْ بِلادِ الْجَزِيرَةِ، وَأَقَاصِي بِلادِ الرُّومِ، حَتَّى ألْجَأَهُ إِلى الْقَسْطِنْطِينِيَّةِ، وَحَاصَرَهُ مُدَّةً طَوِيلَةً، ثُمَّ عَادَتِ الدَّوْلَةُ إِلى هِرَقَل، كَمَا بَشَّرَ الْقُرْآنُ قَبْلَ سَبْعِ سَنَوَاتٍ، مِنْ انْتِصَارِهِ عَلَى الْفُرْسِ فَوَقَعَ طِبْقَ مَا أَخْبَرَ. فَهَذِهِ مُعْجِزَةٌ مِن الْقُرْآنِ عَلَى رِسَالَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. 168- وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُهُ مَا جَاءَ

عَنْ آدم ونشأته، وما وسوس به إليه إبليس، وما وقع له من الهبوط إلى الأرض، بعد أن كان في الجنة. 169- وحدثنا عن نوح أول المرسلين وما لقيه من قومه، من أذى وسخرية، ومدة لبثه فيهم، وما أرشده الله إليه من صنع الفلك وركوبه، وانجائه، ومن مع نوح وهم أصحاب السفينة، ودعوته لابنه، وعصيان ابنه له، وجواب الله له حين ما قَالَ {إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي} وانهمار السماء بالماء، وتفجر الأرض عيوناً، وإغراق الكافرين، ونجاة المؤمنين. 170- وأخبر القرآن عن موسى عليه السلام وما تم له عند ولادته، وما وقع له في مصر، وما حدث له في مدين، وما رآه في جبل الطور، وما كلف به من أعباء الرسالة، وما دار بينه وبين فرعون من حوار، وما جرى من السحرة، وما انتهى إليه أمر فرعون، وملائه وموسى وقومه. 171- وأخبر القرآن عن عيسى. 172- وأمه عليهما السلام، وما وقع لهما من الخوارق، وما صنعه لهما بنوا إسرائيل من مكائد. 173- وأخبر عن داود. 174- وسليمان عليهما السلام وذكر الإحسان إليهما وما آتاهما من العلم والفهم قَالَ الله تعالى: {وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} فأنعم الله على

دواد بتسخير الجبال والطير للتسبيح معه وأخبر أنه جل وعلا علمه صنعة الدروع وأخبر أنه أنعم على سليمان بتسخير الريح العاصفة التي تجري بأمره وتسخير الشياطين تغوص في البحار وتعمل له أعمالاً أخرى. 175- وأخبر عن إبراهيم خليل الرحمن، ومحاجته للملك الجبار، وهو نمرود، البابلي، المعطل، المنكر، لرب العالمين، إلى أن وقف، وانقطعت حجته، واضمحلت شبهته، وأخبر عن طلبه لربه، أن يريه كيف يحيي الموتى، وإجابة الله دعوته، وتلبية طلبته، وعن ما ابتلاه به من ذبح ابنه إسماعيل وأخبر عن ما من عليه به من العلم، والدعوة، والصبر وما أكرمه به من الذرية الصالحة، والنسل الطيب، وأنه جعل صفوة الخلق من نسله. 176- وأخبر عن يوسف عليه السلام، وما جرى له مع أخوته ومقدار لبثه في السجن، ومراودة امرأة العزيز له، وظهور براءته، وبيان صدقه، وايثار الله له على إخوته، وما جرى لأبيه يعقوب. 177- وأخبر عن لوط، وما قاله لقومه، توبيخاً لهم، وجوابهم السخيف له جزاء نصحه، وانجاء الله له، وأهل بيته إلا امرأته، وأخبر عن مجيء الرسل إليه، وأنه ساءه مجيئهم، وذلك لما يتوقعه من اعتداء قومه عليهم وفعلاً جاؤا يهرولون إليه، وأخبر عن ما أوقعه الله بهم من العقوبة العظيمة، جزاء فعلتهم الشنيعة، التي لم يسبقهم بها أحد 178- وأخبر عن زكريا، وندائه لربه، وآثاره الصالحة ومناقبه

الجميلة، وتبشير الله له بغلام اسمه يحيى، وطلبه من ربه أن يجعل له آية، يطمئن بها قلبه، وليس شكاً في خبر الله، وإنما هو كما قَالَ الخليل {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} وإجابة الله إلى طلبته، ومنعه من الكلام، ثلث ليالٍ سوياً. 179- وأخبر عن يحيى عليه السلام وأن الله جعله براً بوالديه، ولا يتعالى عن قبول الحق، ووصفه بصفات كلها مناهج للخير، ووسائل الطاعة، أولها قوله تعالى {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} إلى أن ذكر سبحانه جزاءه، على ما قدم من عمل صالح، وأسلف من طاعة ربه. 180- وأخبر عما أخبر الله به جل وعلا عن مريم ابنه عمران وأنه أنجب منها ولداً من غير أب، ويتقدم الكلام حولها وولدها عليهما السلام، وما لقيا من الابتلاء والامتحان، وما قابلا به ذلك. 181- وأخبر عن يونس عليه السلام، وإباقه إلى الفلك ومساهمته لأهل الفلك، والتقام الحوت له، وإنه كان من االمسبحين، الَّذِينَ يذكرون الله كثيراً، وعن نبذه في مكان خال لا نبات فيه، وأخبر عن لطفه به ورعايته له، وعنايته به، بانبات شجرة اليقطين، وأنه أرسله {إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} وأنهم آمنوا، ومتعهم الله إلى حين. اللَّهُمَّ عاملنا بلطفك وإحسانك، ووفقنا لطاعتك ومرضاتك وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. عباد الله للعلم الديني آثار جليلة كم جل بها رجل حقير وكلما كان الرجل أعلم بالعلم الديني كان عند الله وعند العقلاء جليل مضى

السلف الصالح الَّذِينَ يطيب المجلس بذكرهم لقدرهم المنقطع النظير كأنوار رجالاً مثلنا ولكن ببركات ما وهبهم مولاهم من العلم الديني وآثاره الجليلة كانوا خير الناس بعد النبيين كانوا أغنى العالم لأنهم رضوا بقسمة مولانا الحكيم الخبير وكانوا أشجع الناس لأنهم علموا أن الأجل لا يطيله الجبن الذميم فكم من قتلة قرنت بالجبن كما قِيلَ: كَمْ مَخْلَصٍ وَعُلاً فِي خَوْضِ مَهْلَكَةٍ وَقَتْلَةٍ قُرِنَتْ بِالذَّمِّ فِي الْجُبُنِ وكانوا في الحلم والعقل كالجبال الرواسي وكانوا محط رحال الجود والكرم لأنهم يعلمون أن البخيل بعيد من الله بعيد من الناس وإن الَّذِي يرضي بالبخل ويحث عليه إبليس لعنه الله وكانوا يستقبلون البلايا مهما قست بالصبر الجميل لعلمهم أنها تصرف الحكيم الخبير وكانوا يستقبلون النعم بالحمد والشكر لجزمهم أنها لله ومن الله وأنه يزيد الشاكرين ويرضي عن الحامدين وكانوا أبعد الناس عن الشر ولا يحبون أهله لعلمهم أن ذلك يغضب الله وكانوا يحبون الخير لإخوانهم المسلمين وكانوا لا يضمرون حسداً ولا شراً لأحد من إخوانهم المؤمنين لعلمهم أن الله يحيط علماً بما يسرون وما يعلنون وكانوا إذا قَالُوا أو فعلوا يتحرون ما يرضي الله تعالى فيما يقولونه ويفعلونه وكانوا لا يشهدون المنكر والزور بل ينكرون على من يحضرون وكانوا يحنون إلى مجالس الذكر حنين الإلف فارقه الإلف وهكذا كانوا إذا أرادوا أن يتحركوا أو يسكنوا باستشارة العلم الديني يتحركون ويسكنون لهذا كانوا لليوم موضع إعجاب الشرق والغرب ونالوا فوق هذا رضي رب العالمين هكذا كانوا ببركات ما وهبهم الله من العلم الديني أما نحن فقد كنا موضع إعجاب من ناحية أن هدفنا

في التعليم هو الحطام الفاني لا غير لهذا كان الواحد منا إذا رسب يكاد ينتحر ويقول فات علي سنة محصول رواتبها لا يقل عن خمسة آلاف ولو كان قصده العلم بما جهله وتوجيه عباد الله عندما ينجح كان عنده يتساوى السرعة والبطء لأجل أن يمهر في المعلومات لهذا القصد ماتت الفضائل وانتزعت بركة العلم وفقدت هيبة العالم عند كل أحد وصار كل يفتي وكل يرشح نفسه للفتيا فوراً ولكن الناس الورعين لا يطمئنون إلا إلى النوادر ممن يوثق بدينهم وأمانتهم ويتركون المرائين والمحبين للظهور والشهرة الَّذِينَ ضاعوا وضيعوا عباد الله. وختاماً فلو أننا أحيينا طريقة سلفنا في العلم المطابق للعمل لأصبحنا وقد أحيينا عزهم وشرفهم الدفين رحمه الله على تلك الأرواح العاملة بما علمت. شِعْرًا: إِذَا أَنْتَ لَمْ تَبْكِ الْعُلُومَ وَأَهْلَهَا وَقَدْ غَيَّبْتَهَا فِي التُّرَابِ لُحُودُ فَأَنْتَ بَهِيمِيُّ الطِّبَاعِ وَإِنَّمَا قُصَارَاكَ ثَوْبٌ نَاعِمٌ وَثَرِيدُ سَتَبْكِي الْعُلا قَوْمًا تَسَامَوْا لِنَيْلِهَا كَأَنَّ لَهُمْ دَمْعَ الْعُيُونِ هُجُودُ يُعِيدُونَ مِنْهَا مَا تَعَفَّتْ رُسُومُهُ فَتُضْحِي عَلَيْهَا لِلْفِخَارِ بُرُودُ كَفَى غُرْبَةً لِلدِّينِ هَذَا الَّذِي نَرَى فَلَيْسَ عَلَى ذَا الاغْتِرَابِ مَزِيدُ أَلَمْ تَبْقَ فِي أَهْلِ الدِّيَانَةِ هِمَّةٌ ... أَلَمْ يَبْقَ شَخْصٌ لِلطَّغَاةِ يَذُودُ

اللَّهُمَّ رضنا بفضائك وأعنا على الدنيا بالعفة والزهد والقناعة وعلى الدين بالسمع والطاعة وطهر ألسنتنا من الكذب وقلوبنا من النفاق وأعمالنا من الرياء واحفظ أبصارنا من الخيانة فأنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور اللَّهُمَّ ثبتنا على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ووفقنا لما وفقت له عبادك الصالحين من امتثال أو امرك واجتناب نواهيك وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. (فَصْلٌ) 182- وأخبر عن صالح عليه السلام، وإرساله إلى ثمود القبيلة المعروفة، الَّذِينَ يسكنون الحجر، وما حوله، وأنه دعاهم إلى التوحيد، ونهاهم عن الشرك وأنه جاءهم بآية، خارقة من خوارق العادات وهي ناقة شريفة، فاضلة. وأخبر أنه بوأهم في الأرض ومكن لهم فيها وسهل لهم الأسباب الموصلة إلى ما يريدون وأمدهم بالقوة وأنهم قابلوا إخلاص صالح ونصحه بعقر الناقة، والتحدي بالعذاب، وآخر الأمر {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * َأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} ‘ {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} . 183- وأخبر عن هود عليه السلام وإرساله إلى عاد الأولى في أرض اليمن يدعوهم إلى التوحيد، وينهاهم عن الشرك، وأنهم قابلوا دعوته برميه بالسفاهة، والكذب، واستنكروا التوحيد، واحتجوا عليه بما لا يصلح عقلاً ولا شرعاً أن يكون حجة من تقليد الآباء والأجداد وتحدوه

بإتيانه بالوعيد، وأجابهم هود علة مقالتهم، وآخر الأمر أنجى الله هوداً والَّذِينَ آمنوا معه، وقطع دابر المكذبين بآيات الله. 184- وأخبر عن شعيب عليه السلام وإرساله إلى مدين وأن لا يبخسوا الناس أشيائهم وأن لا يعثوا في الأرض مفسدين وأن أشرافهم والكبراء منهم قابلوا ذلك بالتهديد باستعمال القوة السبعية ولم يراعوا ديناً، ور ذمةً، ولا حقّاً، بل لتبعوا عقولهم السخيفة، وآخر الأمر أخذتهم الزلزلة الشديدة فأصبحوا في دارهم جاثمين. 185- وأخبر عن أصحاب الكهف، وأنهم فتية آمنوا بربهم، وأن الله لطف بهم حيث وقفهم للإيمان، وأنهم اعتزلوا قومهم، وآووا إلى الكهف، وبين حالهم بعد أن آووا إلى الكهف وهو أن الشمس تميل عن كهفهم جهة اليمين، وعند الغروب تقرضهم ذات الشمال، فلا تصيبهم الشمس في طلوعها، ولا غروبها، وبين أن هدايتهم، كانت بعناية الله إلى آخر قصتهم. 186- وأخبر عن أيوب عليه السلام ما أصابه الشيطان به، ونداءه لربه واستجابة الله له، وكشف ما به من ضر، وإعطائه أهله، ومثلهم معهم. 187- وأخبر عن إسماعيل عليه السلام، وأنه كان صادق الوعد وأنه من وفائه بالوعد لما وعد من نفسه الصبر على ذبح أبيه له، قَالَ ستجدني إن شاء الله صابراً وفي بذلك، ومكن أباه من الذبح، الَّذِي هو أعظم مصيبة تصيب الإنسان، وأنه كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة الخ.

188- وأخبر عن إدريس عليه السلام وأن الله وصفه بصفات الكمال حيث جمع له بين الصديقية وبين اصطفائه لوحيه وأنه رفعه مكاناً عالياً. 189- وأخبر عن إسحاق عليه السلام، وأنه ممن اختارهم الله واصطفاهم، وشرفهم بطاعته، وقواهم على العمل لما يرضيه، وآتاهم البصيرة في الدين قَالَ الله تعالى {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} . 190- وأخبر عن ذي القرنين، وأنه بلغ المشارق والمغارب، وأن الله أعطاه من كل شيء سببا، وأخبر أنه لما بلغ بين السدين، وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفهمون كلام أتباعه ولا كلام غيرهم، وأنهم أخبروه، عن إفساد يأجوج ومأجوج، وأنهم أرادوا أن يجمعوا له ويجعلوا له خرجاً على أن يسد بينهم وبين يأجوج ومأجوج وأنه قَالَ ما أنا فيه خير مِمَّا تبذلونه وأجابهم إلى طلبهم وهو السد على يأجوج ومأجوج بأن يجعل ردماً. بينهم وبين يأجوج وماجوج. 191- وأخبر عن لقمان وأن الله آتاه الحكمة، وأخبر عن موعظته لابنه، المتضمنة للتحذير من الشرك، والأمر بالإخلاص لله وحده وذكر جل وعلا أمره له بالشكر، وأن شكر الشاكر يعود نفعه عليه، وإن من كفر فالله غني حميد فلا يضر الكفر إلا صاحبه، وأن من وصايا لقمان لابنه الأمر بإقامة الصلاة، والأمر بالمعروف، والصبر على ما يصيبه، وأن تلك

الوصايا من الأمور المهمة التي يعزم عليها، ويتحتم على العباد فعلها، ولا محيص منها، ثم حذره من أشياء أخر أولها الكبر إلخ 192- وأخبر عن الخضر، وما اختص به من العلم، وما جرى بينه وبين موسى، عندما اتصل به، وما جرى لموسى وفتاه، في سفره إلى الخضر، وما تزوداه في السفر، إلى آخر القصة. اللَّهُمَّ يا هادي المضلين ويا راحم المذنبين، ومقِيلَ عثرات العاثرين، نسالك أن تلحقنا بعبادك الصالحين الَّذِينَ أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يا رب العالمين وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. (فَصْلٌ) 193- وأخبر عن أهل القرية، إذ جاءها المرسلون، وما جرى من أهل القرية، من التكذيب للرسل، وما قاله الرسل، وأن أهل القرية حينما توعدوا الرسل وهموا بقتلهم جاء رجل يسعى من أطراف المدينة، لينصح قومه، ويحضهم على اتباع الرسل، ويذب عن الرسل، وأنه أبان لهم أنه ما اختار لهم إلا ما اختار لنفسه، وهذا يشبه مؤمن آل فرعون الَّذِي دافع عن موسى عليه السلام، وأخبر عن ما حل بأهل القرية، من النكال والعقوبة. 194- وأخبر عن سبأ، وما أمدهم به من البساتين، والمياه العظيمة والثمار التي بها يتنعمون، ويحصل لهم بها الغبطة، والسرور، وأنهم ظلموا أنفسهم، وكفروا بالله، وبنعمته، فأرسل الله عليهم سيل العرم، وذهب بالبساتين، وأهلك الحرث والنسل، وبدلوا بتلك الجنان، والبساتين الحسنة، بستانين ليس فيهما إلا أشجار تافهة، لا يؤبه لها وَمَا ظْلِمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.

195- وأخبر عن قارون وما أوتيه من كنوز، وأن مفاتحه تنوء بالعصبة أولى القوة، وأنه بغى على موسى وقومه، وأن قومه نصحوه، بعدة نصائح، وأنه قابلها بالإباء، وكفران النعمة، وأنه خرج مرة على قومه في زينته، وأخبر عن ما قَالَ له مريدوا الحياة الدنيا، وما قَالَ لهم أولو العلم وذكر مال بطره وأشره، وما حل به من الوبال، والنكال، وهو الخسف به وبداره. وَقَالَ الله تعالى لنبيه ورَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} وَقَالَ {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} وَقَالَ {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} وَقَالَ تعالى {تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} . وَقَالَ تعالى {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ} الآية. وَقَالَ تعالى {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} وَقَالَ {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} . فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعلمها عن مشاهدة ولكن أعلمه إياها الَّذِي أحاط بكل شيء علماً الَّذِي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء وَقَالَ تعالى: {َلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ} وأخبر النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمور غيبية غير ما ذكرنا أعلمه الله بها وفي بعض ما

كلام شيخ الإسلام حول سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -

ذكرنا كفاية تامة لمن أحب أن يقرأها ويتأملها ليقوى إيمانه بالله ورسله وبما أخبروا به صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. اللَّهُمَّ بارك في أعمارنا وأصلح أعمالنا ونياتنا وذرياتنا وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وَقَالَ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وسيرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من آياته وأخلاقه وأقواله وأفعاله وشريعته من آياته وأمته من آياته وكرامات صالحي أمته من آياته. وذلك يظهر بتدبر سيرته من ولد إلى أن بعث ومن حين بعث إلى أن مات وبتدبر نسبه وبلده وأصله وفصله فإنه كان من أشرف أهل الأرض نسباً من صميم سلالة إبراهيم الَّذِي جعل الله في ذرته النبوة والكتاب. فلم يأت نبي من بعد إبراهيم إلا من ذريته وجعل له ابنين إسماعيل وإسحاق وذكر في التوراة هذا وهذا وبشر في التوراة بما يكون من ولد إسماعيل. ولم يكن في ولد إسماعيل من ظهر فيما بشرت به النبوات غيره ودعا إبراهيم لذرية إسماعيل بأن يبعث فيهم رسولاً منهم ثم هو من قريش صفوة بني إبراهيم من بني هاشم صفوة قريش. ومن مكة أم القرى وبلده البيت الذب بناه إبراهيم ودعا الناس إلى حجه ولم يزل محجوجاً من عهد إبراهيم مذكوراً في كتب الأنبياء بأحسن وصف وكان من أكمل الناس تربية ونشأة لم يزل معروفاً بالصدق والبر والعدل ومكارم الأخلاق وترك الفواحش والظلم وكل وصف مذموم.

مشهوداً له بذلك عند جميع من يعرفه قبل النبوة وممن آمن به وكفر بعد النبوة لا يعرف له شيء يعاب به لا في أقواله ولا في أفعاله ولا في أخلاقه ولا جربت عليه كذبة قط ولا ظلم ولا فاحشة. وكان خلقه وصورته من أكمل الصور وأتمها وأجمعها للمحاسن الدالة على كماله وكان أمياً من قوم أميين لا يعرف لا هو ولا هم ما يعرفه أهل الكتاب (التوراة والإنجيل) . ولم يقرأ شيئاً من علوم الناس ولا جالس أهلها ولم يدع بنبوة إلى أن أكمل الله له أربعين سنة فأتى بأمر هو أعجب الأمور وأعظمها وبكلام لم يسمع الأولون والآخرون بنظيره. وأخبر بأمر لم يكن في بلده ولا في قومه من يعرف مثله ولم يعرف قبله ولا بعده لا في مصر من الأمصار ولا في عصر من الأعصار من أتى بمثل ما أتى بمثل ما أتى به ولا من ظهر كظهوره. ولا من أتى من العجائب والآيات بمثل ما أتى به ولا من دعا إلى شريعة أكمل من شريعته، ولا من ظهر دينه على الأديان كلها بالعلم والحجة وباليد والقوة كظهوره. ثم إنه اتبعه الأنبياء وهم الضعفاء من الناس وكذبه أهل الرئاسة وعادوه وسعوا في هلاكه من تبعه بكل طريق كما كان الكفار يفعلون مع الأنبياء وأتباعهم. والَّذِينَ اتبعوه لم يتبعوه لرغبة ولا لرهبة، فإنه لم يكن عنده مال يعطيهم

ولا جهات يوليهم إياها ولا كان له سيف بل كان السيف والجاه والمال مع أعدائه وقد آذوا أبتاعه بأنواع الأذى وهم صابرون محتسبون لا يرتدون عن دينهم لما خالط قلوبهم حلاوة الإيمان والمعروفة. وكانت مكة يحجها العرب من عهد إبراهيم فتجتمع في الموسم قبائل العرب فيخرج إليهم يبلغهم الرسالة ويدعوهم إلى الله صابراً على ما يلقاه من تكذيب المكذب وجفاء الجافي وإعراض المعرض إلى أن اجتمع بأهل يثرب وكانوا جيران اليهود قد سمعوا أخباره منهم وعرفوه. فلما دعاهم علموا أنه النبي المنتظر الَّذِي تخبرهم به اليهود وكانوا قد سمعوا من أخباره ما عروا به مكانته فإن أمره كان قد انتشر وظهر في بضع عشرة سنة فآمنوا به وبايعوه على هجرته وهجرة أصحابه إلى بلدهم وعلى الجهاد معه فهاجر هو ومن اتبعه إلى المدينة وبها المهاجرون والأنصار ليس فيهم من آمن برغبة دنيوية ولا برهبة إلا قليلاً من الأنصار أسلموا في الظاهر ثم حسن إسلام بعضهم ثم أذن له في الجهاد ثم أمر به. ولم يزل قائماً بأمر الله على أكمل طريقة وأتمها من الصدق والعدل والوفاء لا يحفظ عليه كذبة واحدة ولا ظلم لأحد ولا غدر بأحد، بل كان أصدق الناس وأعدلهم وأبرهم وأوفاهم بالعهد مع اختلاف الأحوال عليه من حرب وسلم وأمن وخوف وغنى وفقر وقلة وكثرة وظهوره على العدو تارة وظهور العدو عليه تارة. وهو على ذلك كله ملازم لأكمل الطرق وأتمها حتَّى ظهرت الدعوة في جميع أرض العرب التي كانت مملوءة من عبادة الأوثان ومن أخبار الكهان

وطاعة المخلوق في الكفر بالخالق وسفك الدماء المحرمة وقطعة الأرحام لا يعرفون آخرة ولا معاذاً. فصار أعلم أهل الأرض وأدينهم وأعدلهم وأفضلهم وهذه آثار علمهم وعملهم في الأرض وآثار غيرهم يعرف العقلاء فرق مابين الأمرين وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع ظهور أمره وطاعة الخلق له وتقديمهم له على الأنفس والأموال مات ولم يخلف درهماً ولا ديناراً ولا متاعاً ولا دابة إلا بغلته وسلاحه ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وَسقاً من شعير ابتاعها لأهله. وكان بيدِهِ عقار ينفق منه على أهله والباقي يصرفه في مصالح المسلمين فحكم بأنه لا يورث ولا يأخذ ورثته منه شيئاً وهو في كل وقت يظهر على يديه من الآيات وفنون الكرامات ما يطول وصفه. ويخبرهم بما كان وما يكون ويأمرهم بالمعروف ويناهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويشرع الشريعة شيئاً بعد شيء. أكمل الله دينه الَّذِي بعث به وجاءت شريعته أكمل شريعة لم يبق معروف تعرف العقول أنه معروف إلا أمر به ولا منكر تعرف العقول أنه منكر إلا نهى عنه. لم يأمر بشي فقِيلَ ليته لم يأمر به ولا نهى عن شيء فقِيلَ ليته لم ينه عنه وأحل الطيبات لم يحرم شيئاً منها كما حرم في شرع غيره وحرم الخبائث لم يحل منها شيئاً كما استحله غيره. وجمع محاسن ما عليه الأمم فلا يذكر في التوراة والإنجيل والزبور

نوع من الخبر عن الله وعن ملائكته وعن اليوم الآخر إلا وقد جاء به على أكمل وجه وأخبر بأشياء ليست في هذه الكتب. وأمته أكمل الأمم في كل فضيلة فإذا قيس علمهم بعلم سائر الأمم ظهر فضل علمهم وإن قيس دينهم وعبادتهم وطاعتهم لله بغيرهم ظهر أنهم أدين من غيرهم وإذا قيس شجاعتهم وجهادهم وصبرهم على المكاره في ذات الله ظهر أنهم أعظم جهاداً وأشجع قلوباً وهذه الفضائل به نالوها ومنه تعلموها وهو الَّذِي أمرهم بها والله أعلم وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وسلم «فصل» وَقَالَ آخر: غير شيخ الإسلام اعلم أن من شاهد أحواله وَصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصغى إلى سماع أخباره المشتملة على أخلاقه وأفعاله وأحواله وعاداته وسجاياه وسياسته لأصناف الخلق وهدايته إلى ضبطهم وتألفه أصناف الخلق وقوده إياهم إلى طاعته. مع ما يحكي من عجائب أجوبته في مضائق الأسئلة وبدائع تدبيراته في مصالح الخلق ومحاسن إشاراته في تفصيل ظاهر الشرع التي يعجز الفقهاء عن إدراك أوائل دقائقها في طول أعمارهم لم يبق له ريب ولا شك في أن ذلك لم يكن مكتسبا بحيلة تقوم بها القوة البشرية. بل لا يتصور ذلك إلا بالاستمداد من تأييد سماوي وقوة إلهية وأن ذلك كله لا يتصور لكذاب ولا ملبس بل كانت شمائله وأحواله شواهد قاطعة بصدقه حتَّى إن العربي القُحَّ كان يراه فيقول: والله ما هذا وجه كذاب. فكان يشهد له بالصدق بمجرد رؤيته لشمائله فكيف من شاهد أخلاقه ومارس أحواله في جميع مصادره وموارده أهـ. لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ آيَاتٌ مُبَيِّنَةٌ ... كَانَتْ بَدِيهَتُهُ تَأْتِيكَ بِالْخَبَرِ

قصيدة زهدية

اللَّهُمَّ يا من خلق الإنسان ويناه واللسان وآجراه، يا من لا يخيب من دعاه، هب لكل منا ما رجاه، وبلغه من الدارين مناه، اللَّهُمَّ اغفر لنا جميع الزلات، واستر علينا كل الخطيئات وسامحنا يوم السؤال والمناقشات، وانفعنا وجميع المسلمين بما أنزلته من الكلمات يا أرحم الرحمين اللَّهُمَّ ألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا حبِكَ وسهل علينا طاعتك وفرغنا للتفكر في مخلوقاتك واجعل لنا رضاك موئلا وعاقبة وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. إِلَى اللهِ نَشْكُوا قَسْوَةً وَتَوَحّدَا وَنَرْجُوهُ غُفْرَانًا فَرَبُّكَ أَوْحَدُ وَدُونَكَ مِنِّي النُّصْحَ يَا ذَا الْمُوَحَّدُ قُمِ اللَّيْلَ يَا هَذَا لَعَلَّكَ تَرْشُدُ إِلَى كَمْ تَنَامُ اللَّيْلَ وَالْعُمْرُ يَنْفَدُ تَيَقَّظْ وَتُبْ فَاللهُ لِلْخَلْقِ رَاحِمٌ وَإِنِّي لِنَفْسِي نَاصِحٌ وَمُلازِمُ فَقُمْ لا تَنَمْ فَالشَّهْمُ بِاللَّيْلِ قَائِمٌ أَرَاكَ بِطُولِ اللَّيْلِ وَيْحَكَ نَائِمُ وَغَيْرُكَ فِي مِحْرَابِهِ يَتَهَجَّدُ لَقَدْ فَازَ أَقْوَامٌ وَنَحْنُ نُشَاهِدُ أَمَا تَسْتَحِي أَوْ تَرْعَوِي أَوْ تُجَاهِدُ فَلَيْسَ سَوَاءٌ قَائِمٌ ذَا وَرَاقِدُ وَلَوْ عَلِمَ الْبَطَّالُ مَا نَالَ رَاهدُ

مِنَ الأَجْرِ وَالإِحْسَانِ مَا كَانَ يَرْقُدُ فَكَمْ قَدْ أَكَلْنَا وَالتَّقِيُّونَ صُوَّمُ وَنُمْنَا وَهُمْ بِاللَّيْلِ يَبْكُونَ قُوَّمُ وَلَوْ مُفْلِسٌ يَدْرِي وَهَلْ أَيْنَ خَيَّمُوا لَصَامَ وَقَامَ اللَّيْلَ وَالنَّاسُ نُوَّمُ إِذَا مَا دَنَى مِنْ عَبْدِهِ الْمُتَفَرِّدُ وَأَسْبَلَ فِي الدَّاجِي دُمُوعًا بِعَبْرَةٍ وَتَابَ وَأَبْدَى الْخَوْفَ مِنْ كُلِّ هَيْبَةٍ وَقَامَ وَصَلَّى خَائِفًا فِي مَحَبَّةٍ بِحَزْمٍ وَعَزْمٍ وَاجْتِهَادٍ وَرَغْبَةٍ وَيَعْلَمُ أَنَّ اللهَ ذُو الْعَرْشِ يُعْبَدُ فَحَاذِرْ مِن الدُّنْيَا وَمِنْ لَدْغِ صِلِّهَا فَلَيْسَ لَهَا عَهْدٌ يَفِي لَوْ لِخِلِّهَا فَسَافِرْ وَطَلِّقَهَا ثَلاثًا وَخَلِّهَا وَلَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَدُومُ لأَهْلِهَا لَكَانَ رَسُولُ اللهِ فِيهَا مُخَلَّدُ أَلَمْ يَأْنِ أَنْ نَخْشَعْ وَأَيْنَ التَّهَجُّدُ أَفِي سِنَةٍ كُنَّا أَمِ الْقَلْبُ جَلْمَدُ تَيَقَّظْ أَخِي وَاحْذَرْ وَإِيَّاكَ تَرْفُدُ أَتَرْقُدُ يَا مَغْرُورُ وَالنَّارُ تُوقَدُ

فَلا حَرُّهَا يَطْفَى وَلا الْجَمْرُ يَخْمُدُ أَمَا لَوْ عَلِمْنَاهَا نَهَضْنَا إِذَا شَظَى نَعُجُّ وَبَعْضُ الْقَوْمِ لِلْبَعْضِ أَيْقَظَا وَلَمْ تَغْتَمِضْ عَيْنًا بِتِذْكَارِنَا اللَّظَى أَلا إِنَّهَا نَارٌ يُقَالُ لَهَا لَظَى فَتَخْمُدُ أَحْيَانًا وَأَحْيَان تُوقَدُ عَلَى الْخَمْسِ تَوْدِيعًا بِجِدٍّ فَصَلِّهَا وَحَافِظْ عَلَى تِلْكَ النَّوَافِلِ كُلِّهَا وَتُبْ عَنْ ذُنُوبٍ لا تَذِلُّ بِذُلِّهَا فَيَا رَاكِبَ الْعِصْيَانِ وَيْحَكَ خَلِّهَا سَتُحْشَرُ عَطْشَانًا وَوَجْهَكَ أَسْوَدُ أَلا إِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ فِي عِلْمِ غَيْبِهِ لَهُمْ كُلُّ خَيْرٍ مِنْ إِلَهِي بِقُرْبِهِ سَمَوْ بِالْهُدَى وَالنَّاسُ مِنْ فَوْقِ تُرْبِهِ فَكَمْ بَيْنَ مَسْرُورٍ بِطَاعَةِ رَبِّهِ وَآخَرُ بِالذَّنْبِ الثَّقِيلِ مُقَيَّدُ إِذَا كُوِّرَتْ شَمْسُ الْعِبَادِ وَأَنْجُم وَقُرِبَتِ النَّارُ الْعَظِيمَةُ تُضْرَمُ وَكُبْكِبَ هَذَا ثُمَّ هَذَا مُسَلَّمٌ فَهَذَا سَعِيد فِي الْجِنَانِ مُنَعَّمُ وَهَذَا شَقِيٌّ فِي الْجَحِيمِ مُخَلَّدُ

ذكر خصائص الرسول - صلى الله عليه وسلم - للماوردي

وَقَدْ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ مِنْ رَبِّنَا مَضَى وَلا بُدَّ هَذَا الْحُكْمُ فِي الْحَشْرِ يُمْتَضَى إِلَهِي أَنِلْنِي الْعَفْوَ مِنْكَ مَعَ الرِّضَى إِذَا نُصِبَ الْمِيزَانُ لِلْفَصْلِ وَالْقَضَى وَقَدْ قَامَ خَيْرُ الْعَالَمِينَ مُحَمَّدُ نَبِيَّ الْهُدَى الْمَعْصُوم عَنْ كُلِّ زَلَّةِ شَفِيعَ الْوَرَى أكْرم بِهَا مِنْ فَضِيلَة وَمِلَّتَهُ يَا صَاحِبِي خَيْرُ مِلَّةٍ عَلَيْهِ صَلاةُ اللهِ فِي كُلِّ لَيْلَة مَعِ الآلِ وَالأَصْحَابِ مَا دَارَ فرقد اللَّهُمَّ ثبت قلوبنا على دينك وألهمنا ذكرك وشكرك واختم لنا بخاتمة السعادة وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وَقَالَ الماوردي رحمه الله في ذكر خصائص الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفضائله وشرف أخلاقه وشمائله المؤيدة لنبوته والمبرهنة على عموم رسالته: فالكمال المعتبر في البشر يكون من أربعة أوجه: كمال الخلق وكمال الخلق وفضائل الأقوال وفضائل الأعمال. فأما الوجه في كمال خلقه بعد اعتدال صورته فيكون بأربعة أوصاف أحدها: السكينة الباعثة على الهيبة والتعظيم الداعية إلى التقديم والتسليم.

وكان أعظم مهيب في النفوس حتَّى ارتاعت رسل كسرى من هيبته حين أتوه مع ارتياعهم بصولة الأكاسرة ومكاثرة الملوك الجبابرة. فكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نفوسهم أهيب وفي أعينهم أعظم وإن لم يتعاظم بأهبة ولم يتطاول بسطوة بل كان بالتواضع موصوفاً وبالوطأة – أي السهولة – معروفاً. والثاني: في الطلاقة الموجبة للإخلاص والمحبة الباعثة على المصافاة والمودة. وقد كان صلوات الله عليه محبوباً استحكمت محبة طلاقته في النفوس حتَّى لم يقله مصاحب ولم يتباعد منه مقارب وكان أحب إلى أصحابه من الآباء والأبناء وشرب الماء البارد على الظمأ. والثالث " حسن القبول الجالب لممايلة القلوب حتَّى تسرع إلى طاعته وتذعن بموافقته وقد كان قبول منظره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مستولياً على القلوب ولذلك استحكمت مصاحبته في النفوس حتَّى لم ينفر منه معاندٌ ولا استوحش منه مباعد إلا من ساقه الحسد إلى شقوته وقاده الحرمان إلى مخالفته. والرابع: ميل النفوس إلى متابعته وانقيادها لموفقته وثباته على شدائده ومصابرته، فما شذ عنه معها من أخلص ولا ند عنه فيها من تخصص. وهذه الأربعة من دواعي السعادة وقوانين الرسالة وقد تكاملت فيه فكمل لما يوازيها واستحق ما يقتضيها.

وأما الوجه الثاني في كمال أخلاقه فيكون بست خصال: (إحداهن) : رجاحة عقله وصحة وهمه وصد فراسته وقد دل على وفور ذلك فيه صحة رأيه وصواب تدبيره وحسن تألفه. وأنه ما استغفل في مكيدة ولا استعجز في شديدة بل كان يلحظ الأعجاز في المبادئ فيكشف عيوبها ويحل خطوبها وهذا لا ينتظم إلا بأصدق وهم وأوضح جزم. والخصلة الثانية: ثباته في الشدائد وهو مطلوب وصبره على البأساء والضراء وهو مكروب ومحروب ونفسه في اختلاف الأحوال ساكنة لا يخور في شديدة ولا يستكين لعظيمة وقد لقي بمكة من قريش ما يشيب النواصي ويهد الصياصي وهو مع الضعف يصابر صبر المستعلي ويثبت ثبات المستولي. والخصلة الثالثة: زهده في الدنيا وإعراضه عنها وقناعته بالبلاغ منها فلم يمل إلى غضارتها ولم يله لحلاوتها وقد ملك من أقصى الحجاز إلى عذار العراق ومن أقصى اليمن إلى شحر عمان. وهو أزهد الناس فيما يفتني ويدخر وأعرضهم عما يستفاد ويحتكر لم يخلف عيناً ولا ديناً ولا حفر نهراً ولا شيد قصراً ولم يورث ولده وأهله متاعاً ولا مالاً ليصرفهم عن الرغبة في الدنيا كما صرف نفسه عنها فيكونوا على مثل حاله في الزهد فيها. وحقيق بمن كان في الدنيا بهذه الزهادة حتَّى اجتذب أصحابه إليها أن لا يتهم بطلبها ويكذب على الله تعالى في ادعاء الآخرة ويقنع في العاجل

وقد سلب الآجل بالميسور النزر ورضي بالعيش الكدر. والخصلة الرابعة: تواضعه للناس وهم أتباع وخفض جناحه لهم وهو مطاع يمشي في الأسواق ويجلس على التراب ويمتزج بأصحابه وجلسائه فلا يتميز عنهم إلا بإطراقه وحيائه، فصار بالتواضع متميزاً، وبالتذلل متغززاً. ولقد دخل عليه بعض الأعراب فارتاع من هيبته فَقَالَ خفض عَلَيْكَ فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة وهذا من شرف أخلاقه وكريم شيمه فهي غريزة فطر عليها وجبلة طبع بها لم تنذر فتعد ولم تحصر فتجد. والخصلة الخامسة: حلمه ووقاره عن طيش يهزه أو خرق يستفزه فقد كان أحلم في النفار من كل حليم وأسلم في الخصام من كل سليم. وقد مني بجفوة الأعراب فلم يوجد منه نادرة ولم يحفظ عليه بادرة ولا حليم غيره إلا ذو عثرة ولا وقور سواه إلا ذو هفوة فإن الله تعالى عصمه من نزع الهوى وطيش القدرة لهفوة أو عثرة ليكون بأمته رؤوفاً وعلى الخلق عطوفا قد تناولته قريش بكل كبيرة وقصدته بكل جريرة وهو صبور عليهم ومعرض عنهم. وما تفرد بذلك سفهاؤهم عن حلمائهم ولا أراذلهم دون عظمائهم بل تمالا عليه الجلة والدون، فكلما كانوا عليه من الأمر – ألح كان عنهم أعرض وأصفح حتَّى قهر فعفا، وقدر فغفر. (وَقَالَ لهم) حين ظفر بهم عام الفتح وقد اجتمعوا إليه ما ظنكم بي قَالُوا ابن عم كريم فإن تعف فذاك الظن بِكَ وإن تنقم فقد أسأنا فَقَالَ بل أقول كما قَالَ يوسف لإخوته {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} .

وَقَالَ اللَّهُمَّ قد أذقت أول قريش نكالاً فأذق آخرهم توالاً وأتته هند بنت عتبة وقد بقرت بطن عمه حمزة ولاكت كبده فصفح عنها وأعطاها يده لبيعتها. فإن قِيلَ فقد ضرب رقاب بني قريظة صبراً في يوم واحد وهم نحو سبعمائة فأين موضع العفو والصفح قيل إنما فعل ذلك في حقوق الله تعالى. وقد كانت بنو قريظة رضوا بتحكيم سعد بن معاذ عليهم فحكم أن من جرت عليه الموسى قتل ومن لم تجر عليه استرق فَقَالَ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هذا حكم الله من فوق سبعة أرقعة، فلم يجز أن يعفو عن حق وجبَ لله تعالى وإنما يختص عفوه بحق نفسه. والخصلة السادسة: حفظه للعهد ووفاؤه بالوعد فإنه ما نقض لمحافظ عهداً ولا أخلف لمراقب وعداً يرى الغدر من كبائر الذنوب والإخلاف من مساويء الشيم فيلتزم فيها الأغلظ ويرتكب فيهما الأصعب حفظاً لعهده ووفاء بوعده حتَّى يبتدئ معاهدوه بنقضه فيجعل الله تعالى له مخرجاً كفعل اليهود من بني قريظة وبني النضير وكفعل قريش بصلح الحديبية فيجعل الله تعالى له في نكثهم الخيرة. فهذه ست خصال تكاملت في خلقه، فضله الله تعالى على جميع خلقه والله أعلم وَصَلَّى اللهُ عَلَى نِبِيّنا مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. (فَصْلٌ) وأما الوجه الثالث في فضائل أقواله فمعتبر بثمان خصال: (إحداهن) : ما أوتي من الحكمة البالغة، وأعطى من العلوم الجمة

الباهرة، وهو أمي من أمه أمية لم يقرأ كتاباً ولا درس علماً ولا صحب عالماً ولا معلماً فأتى بما بهر العقول وأذهل الفطن من إتقان ما أبان وإحكام ما أظهر فلم يعثر فيه بزلل في قول أو عمل. وقد شرع من تقدم من حكماء الفلاسفة سنناً حملوا الناس على التدين بها حين علموا أنه «لا صلاح للعالم إلا بدين ينقادون له ويعملون به» فما راق لها أثر ولا فاق لها خبر. والخصلة الثانية: حفظه لما أطلعه الله تعالى عليه من قصص الأنبياء مع الأمم وأخبار العالم في الزمن الأقدم حتَّى لم يعزب عنه منها صغير ولا كبير ولا شذ عنه منها قليل ولا كثير. وهو لا يضبطها بكتاب يدرسه ولا يحفظها بعين تحرسه وما ذاك إلا من ذهن صحيح وصدر فسيح وقلب شريح وهذه الثلاثة آلة ما أستودع من الرسالة وحمل من أعباء النبوة فجدير أن يكون بها مبعوثاً وعلى القيام بها محثوثاً والخصلة الثالثة: إحكامه لما شرع بأظهر دليل وبيانه بأوضح تعليل حتَّى لم يخرج منه ما يوجبه معقول ولا دخل فيه ما تدفعه العقول. ولذلك قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أوتيت جوامع الكلم واختصرت لي الحكمة اختصاراً» لأنه نبه بالقليل على الكثير فكف عن الإطالة وكشف عن الجهالة وما تيسر ذلك إلا وهو عليه معان وإليه مقاد. والخصلة الرابعة: ما أمر به من محاسن الأخلاق ودعا إليه من مستحسن الآداب وحث عليه من صلة الأرحام وندب إليه من التعطف على الضعفاء والأيتام.

ثم ما نهى عنه من التباغض والتحاسد وكف عنه من التقاطع والتباعد لتكون الفضائل فيهم أكثر ومحاسن الأخلاق بينهم أنشر، ومستحسن الآداب عليهم أظهر وتكون إلى الخير أسرع ومن الشر أمنع. فيتحقق فيهم قول الله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} فلزموا أمره واتقوا زواجره فتكامل بهم صلاح دينهم ودنياهم عز بهم الإسلام بعد ضعفه وذل بهم الشرك بعد عزه فصاروا أئمة أبراراً وقادة أخباراً. والخصلة الخامسة: وضوح جوابه إذا سئل وظهور حجاجه إذا جادل لا يحصره عي ولا يقطعه عجز ولا يعارضه خصم في جدال إلا كان جوابه أوضح وحجابه أرجح. والخصلة السادسة: أنه محفوظ اللسان من تحريف في قول واسترسال في خير يكون إلى الكذب منسوبا وللصديق مجانبا فإنه لم يزل مشهوراً بالصدق في خبره فاشياً وكثيراً حتَّى صار بالصدق مرقوماً والأمانة مرسوماً. وكانت قريش بأسرها تتيقن صدقه قبل الإسلام فجهروا بتكذيبه في استدعائهم إليه فمنهم من كذبه حسداً ومنهم من كذَّبه عناداً ومنهم من كذبه استبعاداً أن يكون نبياً أو رسولاً. ولو حفظوا عليه كذبة نادرة في غير الرسالة لجعلوها دليلاً على تكذيبه في الرسالة، ومن لزم الصدق في صغره كان له في الكبر ألزم ومن عصم منه في حق نفسه كان في حقوق الله تعالى أعصم وحسبِكَ بهذا دفعاً لجاحد ورداً لمعاند اللَّهُمَّ قابل سيئاتنا بإحسانك، واستر خطيئتنا بغفرانك وأذهب ظلمة ظلمنا بنور رضوانك، واقهر عدونا بعز سلطانك، فما تعودنا منك

إلا الجميل، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فصل) والخصلة السابعة: تحرير كلامه في التوخي به إبان حاجته والاقتصار منه على قدر كفايته فلا يسترسل فيه هذرًا ولا يحجم عنه حصراً وهو فيما عدا حالتي الحاجة والكفاية أجمل الناس صمتًا وأحسنهم سمتاً. ولذلك حفظ كلامه حتَّى لم يختل وظهر رونقه حتَّى لم يعتل واستعذبته الأفواه حتَّى بقي محفوظاً في القلوب مدوناً في الكتب فلن يسلم الإكثار من الزلل ولا الهذر من الملل. والخصلة الثامنة: أنه أفصح الناس لساناً وأوضحهم بياناً وأوجزهم كلاماً وأجزلهم ألفاظاً وأصحهم معاني لا يظهر فيه هجنة التكلف ولا يتخلله فيهقة التعسف. وقد دون كثير من جوامع كلمه ومن كلامه الَّذِي لا يشاكل في فصاحته وبلاغته ومع ذلك ف يأتي عليه إحصاء ولا يبلغه استقصاء. ولو مزج كلامه بغيره لتميز بأسلوبه ولظهر فيه آثار التنافر فلم يلتبس حقه من باطله ولبان صدقه من كذبه هذا ولم يكن متعاطياً للبلاغة ولا مخالطاً لأهلها من خطباء أو شعراء أو فصحاء وإنما هو من غرائر طبعه وبداية جبلته وما ذاك إلا لغاية تراد وحادثة تشاد. وأما الوجه الرابع في فضائل أفعاله فمختبر بثمان خصال: (أحداهن) حسن سيراته وصحة سياسته في دين نقل به الأمة عن مألوف وصرفهم به عن معروف أغلى غير معروف فأذعنت به النفوس طوعاً وانقادت خوفاً وطمعاً وشديد عادة منتزعة إلا لمن كان مع التأبيد الإلهي معاناً بحزم صائب وعزم ثاقب.

وحسبِكَ بما استقرت قواعده على الأبد حتَّى انتقل عن سلف إلى خلف يزداد فيهم حلاوته ويشتد فيهم جدته ويرونه نظاماً لإعصار تنقلب صروفها ويختلف مألوفها أن يكون لمن قام به برهاناً ولمن ارتاب به بياناً. والخصلة الثانية: أن جمع بين رغبة من استمال ورهبة من استطاع حتَّى اجتمع الفريقان على نصرته وقاموا بحقوق دعوته رغباً في عاجل وآجل ورهباً من زائل ونازل، لاختلاف الشيم والطباع في الانقياد الَّذِي لا ينتظم بأحدهما ولا يستديم إلا فلذلك صار الدين بهما مستقراً والصلاح بهما مستمراً. والخصلة الثالثة: أنه عدل فيما شرعه من الدين عن الغلو والتقصير إلة التوسط وخير الأمور أوساطها وليس لما جاوز العدل حظ من رشد ولا نصيب من سداد. والخصلة الرابعة: أنه لم يمل بأصحابه إلى الدنيا ولا إلى رفضها وأمدهم فيها بالاعتداك، وَقَالَ: «خيركم من لم يترك دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه ولكن خيركم من أخذ من هذه وهذه» وهذا صحيح لأن الانقطاع على أحدهما اختلال والجمع بينهما اعتدال. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نعم المطية الدنيا فارتحلوها تبلغكم الآخرة» وإنما كان كذلك لأن منها يتزود لآخرته. ويستكثر فيها من طاعته وأنه لا يخلو تاركها من أن يكون محروماً مضاعاً أو مرحوماً مراعى وهو في الأول كل وفي مستدل. اللَّهُمَّ اجعل خير أعمالنا خواتمها وخير أيامنا يوم لقائك، اللَّهُمَّ ثبتنا على قولك الثابت وأيدنا بنصرك وارزقنا من فضلك ونجنا من عذابِكَ يوم تبعث عبادك وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(فصل) والخصلة الخامسة: تصديه لمعالم الدين ونوازل الأحكام حتَّى أوضح للأمة ما كلفوه من العبادات وبين لهم ما يحل وما يحرم من مباحاث ومخظورات وفصل لهم ما يجوز ويمتنع من عقود ومناكح ومعاملات. حتَّى احتاج أهل الكتاب في كثير من معاملاتهم ومواريثهم لشرعه ولم يحتج شرعه إلى شرع غيره ثم مهد لشرعته أصولا تدل على الحوادث المغفلة ويستنبط لها الأحكام المعللة فأغنى عن نص ارتفاعه وعن التباس بعد إغفاله ثم أمر الشاهد أن يبلغ الغائب ليعلم بإنذاره ويحتج بإظهاره فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «بلغوا عني ولا تكذبوا علي فرب مبلغ أوعى من سامع ورب حامل فقه إلى منه هو أفقه منه» . فأحكم ما شرع من نص أو تنبيه وعم بما أمر من حاضر وبعيد حتَّى صار لما تحمله من الشرع مؤدياً ولما تقلده من حقوق الأمة موفيًا لئلاً يكون في حقوق الله زلل وذلك في برهه من زمانه لم يستوف تطاول الاستيعاب حتَّى أوجز وأنجز وما ذاك إلا بديع معجز. والخصلة السادسة: انتصابه لجهاد الأعداد وقد أحاطوا بجهاته وأحدقوا بجنباته وهو في قطب مهجور، وعدد محقور فزاد به من قل وعز به من ذل وصار بإثخانه في الأعداء محذورًا وبالرعب منه منصوراً فجمع بين التصدي لشرع الدين حتَّى ظهر وانتشر وبين الانتصاب لجهاد العدو حتَّى قهر وانتصر والجمع بينهما معوز إلا لمن أمده الله بمعونته وأيده بلطفه والمعوز معجز. والخصلة السابعة: ما خُصَّ به من الشجاعة في حروبه والنجدة في

مصابرة عدوة فإنه لم يشهد حرباً في فزاع إلا صابر حتَّى انجلت عن ظفر أو دفاع وهو في موقفه لم يزل عنه هرباً ولا حاز فيه رغباً. بل ثبت بقلب آمن وجأش ساكن قد ولى عنه أصحابه يوم حنين حتَّى بقي بازاء جمع كثير وجم غفير في تسعةٍ من أهل بيته وأصحابه على بغلة مسبوقة إن طلبت غير مستعدة لهرب ولا طلب وهو ينادي أصحابه ويظهر نفسه ويقول إلى عباد الله «أنا النبي لا كذب أنا بن عبد المطلب» فعادوا أشدادا وأرسالا وهوازن تراه وتحجم عنه فما هاب حرب من كاثرة ولا انكفأ عن مصاولة من صابره والله أعلم وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وسَلّم. (فصل) وقد عضده الله تعالى بأنجاد وأنجاد فانحازوا وصبر حتَّى أمده الله بنصره وما لهذه الشجاعة من عديل ولقد طرق المدينة فزع فانطلق الناس فتلقوه نحو الصوت فوجدوا رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد سبقهم إليه فتلقوه عائداً على فرس عري لأبي طلحة الأنصاري وعليه السيف فجعل يقول أيها الناس لم تراعوا لم تراعوا ثم قَالَ لأبي طلحة إنا وجدنا بحراً وكان الفرس يبطئ فما فرس بعد ذلك. وما ذاك إلا عن ثقة من أن الله تعالى سينصره وأن دينه سيظهره تحقيقاً لقوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} وتصديقاً لقول رَسُولِه اللهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها» وكفى بهذا قياماً بحفه وشاهداً على صدقه. والخصلة الثامنة: ما منح من السخاء والجود حتَّى جاد بكل موجودٍ

وآثر بكل مطلوب ومحبوب ومات ودرعه مرهونة عند يهودي على آصع من شعير لطعام أهله. وقد ملك جزيرة العرب فيها ملوك وأفيال لهم خزائن وأموال يقتنونها ذخراً ويتباهون بها فخراً ويستمتعون بها أشراً وبطراً وقد حاز ملك جميعهم فما اقتنى ديناراً ولا درهماً لا يأكل إلا الخشن ولا يلبس إلا الخشن. ويعطي الجزل الخطير ويصل الجم الغفير ويتجرع مرارة الإقلال ويصبر على سغب الاختلال وكان يقول «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن ترك ديناً أو ضياعاً فعليَّ ومن ترك مالاً ترك فلورثته» فهل مثل هذا الكرم والجود كرم وجود أم هل هذا لمثل هذا الإعراض والزهادة إعراض وزهد هيهات. هل يدرك شأو من هذه شذور من فضائله ويسير من محاسنه التي لا يحصى لها عدداً ولا يدرك لها أمداً لم تكمل في غيره فيساويه ولا كذب بها ضد يناويه ولقد جهد كل منافق ومعاند وكل زنديق وملحدٍ أن يزري عليه في قول أو فعل. أو يظفر بهفوة في جد أو هزل فلم يجد إليه سبيلاً ود جهد جهده وجمع كيده. فأي فضل أعظم من فضل شاهده الحسدة والأعداء فلم يجدوا فيه مغمزاً لثالب أو قادح ولا مطعناً لجارح أو فاضح فهو كما قَالَ الشاعر: شَهِدَ الأَنَامُ بِفَضْلِهِ حَتَّى الْعِدَا ... وَالْفَضْلُ مَا شَهِدَتْ الأَعْدَاءُ وقول لآخر: مَحَاسِنُ أَصْنَافِ النَّبِيِّينِ جَمَّةُ ... وَمَا قَصَبَاتُ السَّبْقِ إِلا لأَحْمَدِ

وبالجملة فآية أخلاقه صلوات الله عليه آية كبرى وعلم من أعلام نبوته العظمى وقد أجملها بعضهم بقوله وآية أخرى لا يعرفها إلا الخاصة ومتى ذكرت الخاصة فالعامة في ذلك مثل الخاصة. وهي الأخلاق والأفعال التي لم تجمتع لبشر قط قبله ولا تجتمع لبشر بعده وذلك أنا لم نر ولم نسمع لأحد قط كصبره ولا كحلمه ولا كوفائه ولا كزهده ولا كجوده ولا كنجدته ولا كصدق لهجته ولا ككرم عشرته ولا كتواضعه ولا كحفظه ولا كصمته إذا صمت ولا كقوله إذا قَالَ ولا كعجيب منشئه ولا كعفوه ولا كدوام طريقته وقله امتنانه. ولم تجد شجاعاً قط إلا وقد جال جولة وَفَرَّ فَرَّةً وانحاز مرة ولا يستطيع منافق ولا زنديق ولا دهري أن يحدث أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جال جولة قط ولا فَرَّ فَرَّةً قَطُ وَلا حَامَ عن غزوة ولا هاب حرباً من مكاثرة. وذلك من أعجب ما آتاه الله نبياً قط مع سائر ما جاء به من الآيات ومن ضروب البرهانات إذ أعداؤه جم غفير وجمعهم كثير فخصمهم حين جادلوه وصابرهم حين عاندوه وكابد من الشدائد ما لم يثبت عليها إلا كل معصوم ولم يسلم منها إلا منصور إلى أن علت كلمته وظهرت دعوته. وكل هذه آيات تنذر بالحق وتلائم الصدق، لأن الله لا يهدي كيد الخائنين ولا يصلح عمل المفسدين، انتهى كلامه. اللَّهُمَّ اسلك بنا مناهج السلامة وعافنا من موجبات الحسرة والندامة ووفقنا للاستعداد لما وعدتنا وأدم لنا إحسانك ولطفك كما عودتنا وأتمم علينا اللَّهُمَّ توفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين الَّذِينَ لا خوف عليهم ولاهم يحزنون وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ،

قصيدة في غربة الإسلام

اللَّهُمَّ ألحقنا بعبادك الأبرار وآتنا في الدنيا حسنه وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (قصيدة في غربة الإسلام وإهمال نصره) (ممن ينتسب إليه) لَهْفِي عَلَى الإِسْلامِ مِنْ أَشْيَاعِهِ لَهْفِي عَلَى الْقُرْآنِ وَالإِيمَانِ لَهْفِي عَلَيْهِ تَنَكَّرَتْ أَعْلامُهُ إِلا عَلَى الْخِرِّيتِ فِي ذَا الشَّانِ لَهْفِي عَلَيْهِ أَصْبَحَتْ أَنْوَارُهُ مَحْجُوبَةً عَنْ سَالِكٍ حَيْرَانِ لَهْفِي عَلَيْهِ أَصْبَحَتْ أَنْصَارُهُ فِي قِلَّةٍ فِي هَذِهِ الأَزْمَانِ لَهْفِي عَلَيْهِ أَهْلُهُ فِي غُرْبَةٍ أَضْحَوْا وَهُمْ فِي الأَهْلِ وَالأَوْطَانِ لَهْفِي عَلَيْهِمْ أَصْبَحُوا فِي ضَيْعَةٍ أَنْوَارُهُمْ تَخْفَى عَلَى الْعُمْيَانِ لَهْفِي عَلَيْهِمْ كَمْ لَنَا قَدْ أَخْلَصُوا فِي النُّصْحِ لَوْ كَانَتْ لَنَا أُذُنَانِ لَهْفِي عَلَى مَنْ يَجْلِبُونَ عَلَيْهِمُوا بِالنُّصْحِ كُلِّ أَذَىً وَكُلَّ هَوَانِ

لَهْفِي عَلَى مَنْ هُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى مَا بَيْنَنَا لَوْ تُبْصِرُ الْعَيْنَانِ لَهْفِي عَلَيْهِمْ أُوجِدُوا فِي أُمَّةٍ قَنِعَتْ مِن الإِسْلامِ بِالْعُنْوَانِ لا يُعْرَفُ الْمَعْرُوفُ فِيمَا بَيْنَنَا وَالنَّكْرُ مَأْلُوفٌ بِلا نُكْرَانِ خَذَلَتْ ذَوِي النُّصْحِ الصَّحِيحِ وَأَصْبَحَتْ عَوْنًا لِكُلِّ مُضَلَّلٍ فَتَّانِ يَا وَيْحَ قَوْمٍ لا يُمَيِّزُ جُلُّهُمْ ذَا الْحَقِّ مِنْ ذِي دَعْوَةِ الْبُطْلانِ فَتَصَدَّرَ الْجُهَّالُ وَالضَّلالُ فِيـ ـهِمْ بِادِّعَاءِ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ مِنْ كُلِّ مَنْ يَخْتَالُ فِي فَضَاضِهِ فَدْمٌ ثَقِيلٌ وَاسِعُ الأَرْدَانِ مُتَقَمِّشٌ مِنْ هَذِهِ الأَوْضَاعِ وَالْـ أَرَاءِ إِمَّعَةٌ بِلا فُرْقَانِ يُبْدِي التَّمَشْدُقَ فِي الْمَحَافِلِ كَيْ يُرَى للنَّاسِ ذَا عِلْمٍ وَذَا إِتْقَانِ تَبًّا لَهُ مِنْ جَاهِلٍ مُتَعَالِمٍ مُتَسَلِّطٍ بِوِلايَةِ السُّلْطَانِ رَفَعَتْ خَسِيسَتَهُ الْمَنَاصِبُ فَازْدَرَى

.. أَهْلَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ وَالإِيمَانِ لَيْسَ التَّرَفُّعُ بِالْمَنَاصِبِ رِفْعَةً بِالْعِلْمِ وَالتَّقْوَى عُلُّو الشَّانِ تَرَكَ الْمَنَابِرَ مَنْ يَقُومُ بِحَقِّهَا مِنْ كُلِّ ذِي لَسْنٍ وَذِي عِرْفَانِ وَنَزَا عَلَيْهَا سَفْلَةٌ يَا لَيْتَهُمْ قَدْ أُدْرِجُوا مِنْ قَبْلُ فِي الأَكْفَانِ خَطَبُوا التَّفَرُّقَ فَوْقَهَا وَلَطَالمَا خُطِبَتْ عَلَيْهَا إِلْفَةُ الإِخْوَانِ كَمْ يَأْمُرُونَ بِمُحْدَثاتٍ فَوْقَهَا تَقْضِي عَلَى سُنَنٍ سُنِنَّ حِسَانِ تَبْكِي الْمَنَابِرُ مِنْهُمُوا وَتَوَدُّ لَوْ تَنْدَكُّ تَحْتَهُمُوا إِلَى الأَرْكَانِ مَا عِنْدَهُمْ بِالأَمْرِ الأَوَّلِ خِبْرَةُ بَلْ نَقْلُ آرَاءٍ أَوْ اسْتِحْسَانِ ثَكِلَتْهُمْ الآبَاءُ إِنَّ حَيَاتَهُمْ مَوْتٌ لِسُنَّةِ خَاتَمِ الأَدْيَانِ جَهِلُوا كِتَابَ اللهِ وَهُوَ نَجَاتُهُمْ وَهُدَى النَّبِي مُبَيِّنِ الْقُرْآنِ وَجَفَوْا مَنَاهِجَ خَيْرِ أَسْلافٍ لَهُمْ فِي التَّعْلِمِ وَالتَّقْوَى وَفِي الإِتْقَانِ

.. لا يَرْجِعُونَ لآيَةٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ سِيرَةِ الْمَاضِينَ بِالإِحْسَانِ بَلْ يَرْجِعُونَ لِرَأْيِ مَنْ أَلْقَوْا لَهُمْ بِأَزِمَّةِ التَّقْلِيدِ وَالأَرْسَانِ وَكَذَاكَ يَرْجِعُ مَنْ تَصَوَّفَ فِيهِمُوا لذَّوْقِ أَوْ لِتَخَيُّلٍ شَيْطَانِي فَالأَوَّلُونَ أَتَوْا بِأَحْكَامٍ لَنَا فِيهَا مُخَالِفُ سُنَّةٍ وَقُرْآنِ وَالآخَرُونَ أَتُوا لَنَا بِطَرَائِقٍ غَيْرَ الطَّرِيقِ الأَقْوَمِ الْقُرْآنِي وَمُحَصَّلُ الطُّرُقِ الَّتِي جَاءُوا بِهَا أَوْضَاعُ سُوءٍ رَدَّهَا الْوَحْيَانِ وَكَذا رُؤُوسُهُمُ الطُّغَاةُ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَرْفَعُوا رَأْسًا بِذَا الْفُرْقَانِ مَا حَكَّمُوا فِيهِمْ شَرَائِعَ دِينِهِمْ وَالْعَدْلُ فِيهَا قَائِمُ الأَرْكَانِ بَلْ حَكَّمُوا فِي النَّاسِ آراءً لَهُمْ مِنْ وَحْيِ شَيْطَانٍ أَخِي طُغْيَانِ وَيْحَ الشَّرِيعَةِ مِنْ مَشَايِخِ جُبَّةٍ وَاللابِسِينَ لَنَا مُسُوكَ الضَّانِ غَزَوا الْوَرَى بِالزِّيِ وَالسَّمْتِ الَّذِي

.. يُخْفِي مَخَازِي الْجَهْلِ وَالْعِصْيَانِ وَرُؤُوسُ سُوءٍ لا اهْتِمَامَ بِهِمْ بِدِيـ نٍ قَامَ أَوْ قَدْ خَرَّ لِلأَذْقَانِ وَلَرُبَّمَا أَبْدَوْا عِنَايَتَهُمْ بِهِ بِسِيَاسَةٍ تَخْفَى عَلَى الإِنْسَانِ تَعْسًا لِمَنْ أَضْحَى يُتَابِعُ قَوْلَ مَنْ بَخَسَ الْهُدَى وَمَزِيَّةَ الأَذْهَانِ تَرَكُوا هِدَايَةِ رَبِّهِمْ وَرَسُولِهِمْ هَذَا وَرَبِّكَ غَايَةَ الْخُذْلانِ حُرِمُوا هِدَايَةَ دِينِهِمْ وَعُقُولِهِمْ هَذَا وَرَبِّكَ غَايَةَ الْخُسْرَانِ تَرَكُوا هِدَايَةَ رَبِّهِمْ فَإِذَا بِهِمْ غَرْقَى مِن الآرَاءِ فِي طُوفَانِ وَتَفَرَّقُوا شِيَعًا بِهَا عَنْ نَهْجِهِ مِنْ أَجْلِهَا صَارُوا إِلَى شَنْآنِ كُلٌّ يَرَى رَأْيًا وَيَنْصُرُ قَوْلَهُ وَلَهُ يُعَادِي سَائِرَ الإِخْوَانِ وَلَوْ أَنَّهُمْ عِنْدَ التَّنَازُعِ وُفِقُوا لَتَحَاكَمُوا للهِ دُونَ تَوَانِ وَلأَصْبَحُوا بَعْدَ الْخِصَامِ أَحِبَّةً غَيْظَ الْعِدَا وَمَذَلَّةَ الشَّيْطَانِ

.. لَكِنَّهُمْ إِذْ آثَرُوا وَادِي تَخَيَّـ ـيَبَ أَصْبَحُوا أَعْدَاءَ هَذَا الشَّانِ فَالْمُقْتَدِي بِالْوَحْيِ فِي أَعْمَالِهِ يَلْقَى الأَذَى مِنْهُمْ وَكُلَّ هَوَانِ لِعُدُولِهِ عَنْ أَخْذِهِ بِمَذَاهِبِ فِي الرَّأْيِ مَا قَامَتْ عَلَى بُرْهَانِ جَعَلُوا مَذَاهِبَهُمْ مُسَيْطَرَةً عَلَى فَهْمِ الْحَدِيثِ وَمَنْزِلِ الْقُرْآنِ ذَادُوا ذَوِي الأَلْبَابِ عَنْ فِقْهِ الْكِتا بِ وَفِقْهِ سُنَّةِ صَاحِبِ التِّبْيَانِ وَغَدَتْ شَرِيعَتُنَا بِمُوجَبِ قَوْلِهِمْ مَنْسُوخَةٌ فِي هَذِهِ الأَزْمَانِ حَجَبُوا مَحَاسِنَهَا بِتَأْوِيلاتِهِمْ فَغَدَتْ مِن الآرَاءِ فِي خُلْقَانِ وَلَوْ أَنَّهَا بَرَزَتْ مُجَرَّدَةً لَهَا مَ الأَذْكِيَاءُ بِحُسْنِهَا الْفَتَّانِ لَكِنَّهُمْ قَامُوا حَوَائِلَ دُونَهَا كَالأَوْصِيَاءِ لِقَاصِرِ الصِّبْيَانِ مَا عِنْدَهُمْ عِنْدَ التَّنَاظُرِ حُجَّةٌ أَنَّى بِهَا لِمُقَلِّدِ حَيْرَانِ لا يَفْزَعُونَ إِلَى الدَّلِيلِ وَإِنَّمَا

.. فِي الْعَجْزِ مَفْزَعُهُمْ إِلَى السُّلْطَانِ لا عُجْبَ إِذْ ضَلُّوا هِدَايَةَ دِينِهِمْ أَنْ يَرْجِعُوا لِلْجَهْلِ وَالْعِصْيَانِ هَا قَدْ غَلَوْا فِي الأَوْلِيَاءِ وَقُبُورُهُمْ أَضْحَتْ يُحَجُّ لَهَا مِن الْبُلْدَانِ وَبَنَوْا عَلَى تِلْكَ الْقُبُورِ مَسَاجِدًا وَالنَّصُّ جَاءَ لَهُمْ بِلَعْنِ الْبَانِي وَكَذَاكَ قَدْ صَنَعُوا لَهَا الأَقْفَاصَ تُو ضَعُ فَوْقَهَا فِي غَايَةِ الإِتْقَانِ يَكْسُونَهَا بِمَطَارِفٍ مَنْقُوشَةٍ قَدْ كَلَّفَتْهُمْ بَاهِظَ الأَثْمَانِ بَلْ عِنْدَ رَأْسِ الْقَبْرِ تَلْقَى نُصْبَهُ قَدْ عَمَّمُوهَا عِمَّةَ الشَّيْخَانِ وَلَسَوْفَ إِنْ طَالَ الزَّمَانُ بِهِمْ تَرَى وَلَهَا يَدَانِ تَلِيهِمَا الرِّجْلانِ وَدَعَوْهُمُوا شُفَعَاءَهُمْ أَيْضًا كَمَا قَدْ كَانَ يَزْعُمُ عَابِدُو الأَوْثَانِ وَتَقَرَّبُوا لَهُمُوا بِتَسْيِيبِ السِّوَا ثِبِ وَالنُّذُورِ وَسَائِرِ الْقُرْبَانِ وَتَمَسَّحُوا بِقُبُورِهِمْ وَسُتُورِهِمْ وَكَذَاكَ بِالأَقْفَاصِ وَالْجُدْرَانِ

.. وَإِذَا رَأَيْتَهُمُوا هُنَاكَ تَرَاهُمُوا مُتَخَشِّعِينَ كَأَخْبَثِ الْعُبْدَانِ مَا عِنْدَهُمْ هَذَا الْخُشُوعُ إِذَا هُمُوا صَلَّوْا لِرَبِّهِمْ الْعَظِيمِ الشَّانِ وَاسْتَنْجَدُوا بِهِمُوا لِمَا قَدْ نَابَهُمْ نَاسِينَ فَاطِرَ هَذِهِ الأَكْوَانِ وَدَعَوْهُمُوا بَرًّا وَبَحْرًا لا كَمَنْ خَصُّوا الدُّعَاءَ بِرَبِّهِمْ فِي الثَّانِي فَهُمُوا بِهَذَا الْوَجْهِ قَدْ زَادُوا عَلَى مَنْ أَشْرَكُوا فِي غَابِرِ الأَزْمَانِ تَرَكُوا دُعَاءَ الْحَيِّ جَلَّ جَلالُهُ لِدُعَاءِ أَمْوَاتٍ بِلا حُسْبَانِ وَإِلَيْهِمُوا جَعَلُوا التَّصَرُّفَ فِي الْوَرَى فَهُمُوا مُغِيثُ السَّائِلِ الْحَيْرَانِ فَكَأَنَّهُمْ أَرْجَى لَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمُوا أَحْنَى مِنَ الرَّحْمَنِ وَكَأَنَّهُمْ وُكَلاؤُهُ فِي خَلْقِهِ سُبْحَانَهُ عَنْ إِفْكِ ذِي بُهْتَانِ وَكَأَنَّهُمْ حُجَّابُ رَحْمَةِ رَبِّهِمْ هُمْ قَاسِمُوهَا بَيْنَهُمْ بِوِزَانِ يَا قَوْمُ لا غَوْثٌ يَكُونُ مُغِيثُكُمْ

.. إِنَّ الْمُغِيثَ اللهُ لِلإِنْسَانِ يَا قَوْمُ فَأدْعُو اللهَ لا تَدْعُوا الْوَرَى أَنْتُمْ وَهُمْ بِالْفَقْرِ مَوْسُومَانِ مَا بَالُكُمْ لَمْ تُخْلِصُوا تَوْحِيدَكُمْ تَوْحِيدُكُمْ وَالشِّرْكُ مُقْتَرَنَانِ هَا أَنْتُمُوا أَشْبَهْتُمُوا مَنْ قَبْلَكُمْ فِي شِرْكِهِمْ بِعِبَادَةِ الدَّيَّانِ إِنْ كَانَ هَذَا الْفِعْلُ لا يُسْمَوْنَهُ بِعِبَادَةِ فَهِيَ اسْمُهُ الْقُرْآنِي مَعْنَى الْعِبَادَةِ ثَابِتٌ مُتَحَقَّقٌ فِي فِعْلِكُمْ شَرْعًا وَعُرْفِ لِسَانِ إِنَّ الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ بَلْ مُخُّهَا قَدْ قَالَ ذَا مَنْ جَاءَ بِالْفُرْقَانِ فَإِذَا زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ شُفَعَاؤُكُمْ تَتَوَسَّلُونَ بِهِمْ إِلَى الرَّحْمَنِ فَالْجَاهِلِيَّةُ كَانَ هَذَا زَعْمُهُمْ أَيْضًا وَقَدْ نُسِبُوا إِلَى الْكُفْرَانِ مَا كَانَ أَهْلُ الشِّرْكِ يَعْتَقِدُونَهُمْ خَلَقُوا هُمُوا يَا جَاهِلَ الْقُرْآنِ وَاللهُ مَا شَرَعَ التَّوَسَّلَ لِلْوَرَى إِلا بِطَاعَتِهِ مَعَ الإِيمَانِ

.. وَالْفِعْلِ لَيْسَ بِطَاعَةٍ حَتَّى يَجِي أَمْرٌ بِهِ شَرْعًا إِلَى الإِنْسَانِ وَالْعَامِلُونَ عَلَى وِفَاقِ الأَمْرِ لا يَعْدُونَهُ بِالزَّيْدِ وَالنُّقْصَانِ وَالْعَامِلُونَ بِمُقْتَضَى أَهْوَائِهِمْ هُمْ مُؤْثِرُونَ لِطَاعَةِ الشَّيْطَانِ هَلْ مَا فَعَلْتُمْ جَاءَكُمْ أَمْرٌ بِهِ مِنْ رَبِّكُمْ عَنْ صَاحِبِ التِّبْيَانِ أَوْ هَلْ أَتَى مِنْ قُدْوَةٍ فِي الدِّينِ مِنْ صَحْبِ النَّبِي وَتَابِعِ الإِحْسَانِ وَهُنَا لَكُمْ عِنْدِي نَصِيحَةُ مُخْلِصٍ لا يَمْتَرِي فِيمَا يَقُولُ اثْنَانِ أَنْ تَأْخُذُوا بِالاحْتِيَاطِ لأَمْرِكُمْ قَبْلَ الْخُلُودِ بِمَوْقِدِ النِّيرَانِ إِنْ كَانَ مَا تَأْتُونَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَالشِّرْكُ مَخْشِيٌّ لَدَى الإتْيَانِ فَالابْتِعَادُ عَنْ الْمَخُوفِ مُقَدَّمٌ عَقْلاً عَلَى الأَقْدَامِ لِلإِنْسَانِ خاتمة ونداء للعلماء يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ لَبُّوا دَعْوَةً تُعْلِي مَقَامَكُوا عَلَى كِيوَانِ

.. يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ هُبُّوا هَبَّةً قَدْ طَالَ نَوْمَكُو إِلَى ذَا الآنِ يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ قُومُوا قَوْمَةً للهِ تُعْلِي كِلْمَةَ الإِيمَانِ يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ عَزْمَةَ صَادِقٍ مُتَجَرِّدٍ للهِ غَيْرَ جَبَانِ يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ أَنْتُمْ مُلْتَجَا لِلدِّينِ عِنْدَ تَفَاقُمِ الْحَدَثَانِ يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ كُونُوا قُدْوَةً لِلنَّاسِ فِي الإِسْلامِ وَالإِحْسَانِ يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ أَنْتُمْ حُجَّةٌ لِلنَّاسِ فَادْعُوهُمْ إِلَى الْقُرْآنِ يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ إِنَّ سُكُوتَكُمْ مِنْ حُجَّةِ الْجُهَّالِ كُلَّ زَمَانِ يَا مَعْشَرَ الْعُلَمَاءِ لا تَتَخَاذَلُوا وَتَعَاوَنُوا فِي الْحَقِّ لا الْعُدْوَانِ وَتَجَرَّدُوا للهِ مِنْ أَهْوَائِكُمْ وَدَعُوا التَّنَافُسَ فِي الْحُطَامِ الْفَانِي وَتَعَاقَدُوا وَتَعَاهَدُوا أَنْ تَنْصُرُوا مُتَعَاضِدِينَ شَرِيعَةَ الرَّحْمَنِ كُونُوا بِحَيْثُ يَكُونُ نَصْبَ عُيُونِكُمْ

.. نَصْرُ الْكِتَابِ وَسُنَّةُ الإِيمَانِ قَدْ فَرَّقَتْنَا كَثْرَةُ الآرَاءِ إِذْ صِرْنَا نُشَايِعُهَا بِلا بُرْهَانِ وَمِنْ أَجْلِهَا صِرْنَا يُعَادِي بَعْضُنَا بَعْضًا بِلا حَقٍّ وَلا مِيزَانِ وَغَدَتْ أُخُوَّةُ دِينِنَا مَقْطُوعَةً وَالظُّلْمُ مَعْرُوفٌ عَنِ الإِنْسَانِ وَاللهُ أَلَّفَ بَيْنَنَا فِي دِينِهِ وَعَلَى التَّفَرُّقِ عَابَ فِي الْقُرْآنِ عُودُوا بِنَا لِسَمَاحَةِ الدِّينِ الَّذِي كُنَّا بِهِ فِي عِزَّةٍ وَصِيَانِ عُودُوا لِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْهُدَى أَسْلافُكُمْ فِي سَالِفِ الأَزْمَانِ فَإِلَيْكُمُوا تَتَطَلَّعُ الأَنْظَارُ فِي تَوْحِيدِ كِلْمَتِنَا عَلَى الإِيمَانِ فَاللهُ يَنْصُرُ مَنْ يَقُومُ بِنَصْرِهِ وَاللهُ يَخْذُلُ نَاصِرَ الشَّيْطَانِ اللَّهُمَّ وفقنا لسلوك مناهج المتقين، وخصنا بالتوفيق المبين واجعلنا بفضلك من المقربين الَّذِينَ لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ اللَّهُمَّ ارزقنا حبِكَ وحب من يحبِكَ وحب العمل الَّذِي يقربنا إلى حبِكَ وألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا للقيام بحقك وخلصنا من حقوق خلقك ورضنا باليسير من رزقك يا خير من دعاه داع وأفضل من رجاه

ما قاله ابن حزم حول سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -

راج، يا قاضي الحاجات ومجيب الدعوات هب لنا ماسألناه وحقق رجاءنا فيما تمنيناه يا من يملك حوائج السائلين ويعلم ما في صدور الصامتين أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) وَقَالَ الإمام ابن حزم: رهان ضروري لمن تدبره حسي لا محيد عنه وهو أن النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتى إلى قوم لقاح لا يطيعون لأحد ولا ينقادون لرئيس نشأ هذا آباؤهم وأجدادهم وأسلافهم منذ ألوف منذ ألوف من الأعوام قد سرى الفخر والعز والنخوة والكبر والظلم والأنفة في طباعهم وهم أعداد عظيمة ملأوا جزيرة العرب وهي نحو شهرين في شهرين قد صارت طباعهم طباع السباع وهم ألوف الألوف قبائل وعشائر يتعصب بعضهم لبعض أبداً فدعاهم بلا مالٍ ولا أتباع – بل خذله قومه إلى أن ينحطوا من ذلك العز إلى غرم الزكاة. ومن الحرية والظلم إلى جزي الأحكام عليهم ومن طول الأيدي يقتل من أحبوا وأخذ مال من أحبوا إلى القصاص من النفس ومن قطع الأعظاء ومن اللطمة من أجل من فيهم لأقل علج فغريب دخل فيهم وإلى إسقاط الأنفة والفخر إلى ضرب الظهور بالسياط وبالنعال إن شربوا خمراً أو قذفوا إنساناً. وإلى الضرب بالسوط والرجم بالحجارة إلى أن يموتوا إن زنوا فانقاد أكثرهم لكل ذلك طوعًا بلا طمع ولا غليبة ولا خوف ما منهم أحد أخذ بغلبة إلا مكة وخيبر فقط وما غزا قط غزوة يقاتل فيها إلا تسع غزوات بعضها له. فصح ضرورة أنهم إنما آمنوا طوعاً لا كرهاً.

وتبدلت طبائعهم بقدرة الله تعالى من الظلم إلى العدل ومن الجهل إلى العلم ومن الفسق والقسوة إلى العدل العظيم الَّذِي لم يبلغه أكابر الفلاسفة وأسقطوا كلهم أولهم عن آخرهم طلب الثأر وصحب الرجل منهم قاتلَ ابنه وأبيه وأعدى الناس له صحبة الأخوة المتحابين دون خوف يجمعهم ولا رياسة ينفردون بها دون من أسلم من غيرهم ولا مال يتعجلونه فقد علم الناس كيف كانت سيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وكيف كانت طاعة العرب لهما بلا رزق ولا عطاء ولا غلبة. فهل هذا إلا بغلبة من الله تعالى نفوسهم كما قَالَ {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} ثم بقي عليه الصلاة والسلام كذلك بين أظهرهم بلا حارس ولا ديوان جند ولا بيت مال محروساً معصوماً. وَقَالَ ابن حزم رحمه الله أيضاً قبل ذلك: كانت العرب بلا خلاف قوماً لقاحاً لا يملكهم أحد كمضر وربيعة وإياد وقضاعة أو ملوكاً في بلادهم يتوارثون الملك كابراً عن كابر كملوك اليمن وعمان وشهر بن آرام ملك صنعا والمنذر بن ساوي ملك البحرين والنجاشي ملك الحبشة وجيفر وعياذ ابني الجلندي وملكي عمان فانقادوا كلهم لظهور الحق وبهوره وآمنوا به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طوعاً وهم آلاف آلاف وصاروا إخوة كبني أب وأم وانحل كل من أمكنه الانحلال عن ملكه منهم إلى رسله طوعاً بلا خوف غزو ولا إعطاء مالٍ ولا طمع في عز بل كلهم أقوى جيشاً من جيشه وأكثر مالاً وسلاحاً منه وأوسع بلداً من بلده كذي الكلاع وكان ملكاً ابن ملوك متوجين تسجد له جميع رعيته يركب أمامه

ألف عبد من عبيدِهِ سوى بني عمه من حمير وذي ظليم وذي زود وذي مران وذي عمرو وغيرهم كلهم ملوك متوجون في بلادهم. هذا كله أمر لا يجهله أحد من حملة الأخبار بل هو منقول كنقل كون بلادهم في مواضعها وهكذا كان إسلام جميع العرب أولاهم كالأوس والخزرج ثم سائرهم قبيلة إنما ثبت عندهم من آياته وبهرهم من معجزاته وما اتبعه الأوس والخزرج إلا وهو فريد نابذه قومه حسداً له. إذ كان فقيراً يتيماً أمياً لا يقرأ ولا يكتب نشأ في بلاد الجهل والجاهلية يرعى غنم يتقوت بها فعلمه الله تعالى الحكمة دون معلم وعصمه من كل أراده بلا حرس وبلا حاجب ولا بواب ولا قصر يمتنع فيه على كثرة من أَرَادَ قتله من شجعان العرب وفتاكهم كعامر بن الطفيل وأربد بن جزء وغورث بن الحارث وغيرهم مع أقرار أعدائه بنبوته كمسيلمة وسجاح وطليحة والأسود وهو مكذب لهم فهل بعد هذا برهان أو أنذر الأنصار بالأثرة عليهم بعده وتابعوه على الصبر على ذلك. قام له أصحابه على قدم فمنعهم وأنكر ذلك عليهم وأعلمهم أن القيام لله تعالى لا لخلقه ورضوا بالسجود له فاستعظم ذلك وأنكره إلا لله وحده. ولا شك في أن هذه ليست صفة طالب دنيا قط أصلاً ولا صفة راغب في غلبة ولا بعد صوت بل هذه حقيقة النبوة الخالصة لمن كان له أدني فهم.

ثم قَالَ الإمام ابن حزم وأيضاً فإن سيرة مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن تدبرها تقتضي تصديقه ضرورة وتشهد له بأنَّهُ رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حقاً فلو لم تكن له معجزة غير سيرته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكفى وذلك أنه عليه الصلاة والسلام نشأ كما قلنا في بلاد الجهل لا يقرأ ولا يكتب ولا خرج عن تلك البلاد قط إلا خرجتين. إحداهما إلى الشام وهو صبي مع عمه إلى أول أرض الشام ورجع والأخر أيضاً إلى أول الشام ولم يطل بها البقاء ولا فارق قومه قط ثم أوطأه الله تعالى رقاب العرب كلها فلم تتغير نفسه ولا حالت سيرته إلى أن مات ودرعه مرهونة في شعير لقوت أهله. أصواع ليست بالكثيرة ولم يبت قط في ملكه دينار ولا درهم وكان يأكل على الأرض ما وجد ويخصف نعله بيدِهِ ويرفع ثوبه ويؤثر على نفسه وقتل رجل من أفاضل أصحابه مثل فقده يهد عسكراً قتل بين أظهر أعدائه من اليهود فلم يتسبب إلى دمائهم ولا إلى دم واحد منهم ولا إلى أموالهم بل فداه من عند نفسه بمائة ناقة. وهو في تلك الحال محتاج إلى بعير واحد يتقوى به وهذا أمر لا تسمح به نفس ملك من ملوك الأرض وأهل الدنيا من أصحاب بيوت الأموال بوجه من الوجوه ولا يقتضي هذا أيضاًَ ظاهر السيرة والسياسة فصح يقيناً بلا شك أنه إنما كان متبعاً ما أمر به ربه عز وجل سواء كان ذلك مضراً به في دنياه غاية الإضرار أو كان غير مضر به وهذا عجيب لمن تدبره.

قصائد تتضمن معجزات للرسول - صلى الله عليه وسلم -

ثم حضرته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المنية وأيقن بالموت وله عم أخو أبيه هو أحب الناس إليه وابن عم هو من أخص الناس به وهو أيضاً زوج ابنته وكلاهما عنده من الفضل والدين والسياسة في الدنيا والبأس والحلم وخلال الخير ما كان كل واحد منهما حقيقاً بسياسة العالم كله فلم يحابهما وهما من أشد الناس محبة فيه وهو من أحب الناس فيهما. إذ كان غيرهما متقدماً لهما في الفضل قاصداً أتباع ما أمر به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولم يورث ورثته ابنته ونساءه وعمه فلساً فما فوقه وهم كلهم أحب الناس إليه وأطوعهم له، وهذه أمور لمن تأملها كافية مغنية في أنه إنما تصرف بأمر الله تعالى له لا بسياسة ولا بهوى فوضح بما ذكرنا ولله الحمد كثيراً أن نبوة مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق وأن شريعته التي أتى بها هي التي وضحت براهينها واضطرت دلائلها إلى تصديقها والقطع على أنها الحق الَّذِي لا حق سواه وأنها دين الله تعالى الَّذِي لا دين له في العالم غيره انتهى كلامه رحمه الله تعالى. هذه قصيدة جميلة أزلنا ما فيها من الغلو وعوضنا عنه ما بين الأقواس: كَأَنَّ نُجُومًا أَوْ مَضَتْ فِي الْغَيَاهِبِ عُيُونُ الأَفَاعِي أَوْ رُؤُوسُ الْعَقَارِبِ إِذَا كَانَ قَلْبُ الْمَرْءِ فِي الأَمْرِ حَائِرًا فَأَضْيَقُ مِنْ تِسْعِينَ رَحْبُ السَّبَاسِبِ وَتَشْغَلُنِي عَنِّي وَعَنْ كُلِّ رَاحَتِي مَصَائِبُ تَقْفُوا مِثْلَهَا فِي الْمَصَائِبِ إِذَا مَا أَتَتْنِي أَزْمَةٌ مُدْلَهِمَّةٌ تُحِيطُ بِنَفْسِي مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ تَطَلَّبَْتُ هَلْ مِنْ نَاصِرٍ أَوْ مُسَاعِدٍ أَلُوذُ بِهِ مِنْ خَوْفِ سُوءِ الْعَوَاقِبِ

.. (فَلَسْتُ أَرَى إِلا الَّذِي فَلَق النَّوَى هُوَ الْوَاحِدُ الْمُعْطِي كَثِيرُ الْمَوَاهِبِ) (وَمُعْتَصَمُ الْمكْرُوبِ فِي كُلِّ غَمْرَةٍ وَمُنْتَجَعُ الْغُفْرَانِ مِنْ كُلِّ هَائِبِ) (مُجِيبُ دُعَا الْمُضْطَّرِ عِنْدَ دُعَائِهِ وَمُنْقِذُهُ مِنْ مُعْضِلاتِ النَّوَائِبِ) (مُعِيدُ الْوَرَى فِي زَجْرَةٍ بَعْدَ مَوْتِهِمْ لِفَصْلِ حُقُوقٍ بَيْنَهُمْ وَمَطَالِبِ) فَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَصِيبِ تَرَى الْوَرَى سُكَارَى وَلا سُكْرٌ بِهِمْ مِنْ مَشَارِبِ حُفَاةً عُرَاةً خَاشِعِينَ لِرَبِّهِمْ فَيَا وَيْحَ ذِي ظُلْمٍ رَهِينَ الْمَطَالِبِ فَيَأْتُوا لِنُوحٍ وَالْخَلِيلِ وَآدَمٍ وَمُوسَى وَعِيسَى عِنْدَ تِلْكَ الْمَتَاعِبِ لَعَلَّهُمُ أَنْ يَشْفَعُوا عِنْدَ رَبِّهِمْ لَتَخْلِيصِهِمْ مِنْ مُعْضِلاتِ الْمَصَاعِبِ فَمَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمُوا عِنْدَ هَذِهِ نَبِيٌّ وَلَمْ يُظْفِرْهُمُ بِالْمَآرِبِ هنَاكَ رَسُولُ اللهِ يَأْتِي لِرَبِّهِ لِيَشْفَعْ لِتَخْلِيصِ الْوَرَى مِنْ مَتَاعِبِ

فَيَرْجِعُ مَسْرُورًا بِنَيْلِ طِلابِهِ أَصَابَ مِنَ الرَّحْمَنِ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ سُلالَةُ إِسْمَاعِيلِ وَالْعِرْقُ نَازِعُ وَأَشْرَفُ بَيْتٍ من لُؤي بن غَالِبِ بَشَارَةُ عِيسَى وَالَّذِي عَنْهُ عَبَّرُوا بِشِدَّةِ بَأْسٍ بِالضَّحُوكِ الْمُحَارِبِ وَمَنْ أَخْبَرُوا عَنْهُ بِأَنْ لَيْسَ خُلْقُهُ بِفَظٍّ وَفِي الأَسْوَاقِ لَيْسَ بِصَاخِبِ وَدَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ عِنْدَ بِنَائِهِ بِمَكَّةَ بَيْتًا فِيهِ نَيْلُ الرَّغَائِبِ جَمِيلُ الْمَحْيَا أَبْيَضُ الْوَجْهِ رَبْعَةً جَلِيلُ كَرَادِيسِ أَزَجُ الْحَوَاجِبِ صَبِيحٌ مَلِيحٌ أَدْعَجُ الْعَيْنِ أَشْكَلٌ فَصِيحٌ لَهُ الإِعْجَام لَيْسَ بِشَائِبِ وَأَحْسَنُ خَلْقِ اللهِ خَلْقًا وَخِلْقَةً وَأَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ عِنْدَ النَّوَائِبِ وَأَجْوَدُ خَلْقِ اللهِ صَدْرًا وَنَائِلاً وَأَبْسَطُهُمْ كَفًّا عَلَى كُلِّ طَالِبِ وَأَعْظَمُ حُرٍّ لِلْمَعَالِي نُهُوضُهُ إِلَى الْمَجْدِ سَامٍ لِلْعَظَائِمِ خَاطِبٍ تَرَى أَشْجَعَ الْفُرْسَانِ لاذَ بِظَهْرِهِ

.. إِذَا احْمَرَّ بَأْسٌ فِي بَئِيسِ الْمَوَاجِبِ وَآذَاهُ قَوْمٌ مِنْ سَفَاهَةِ عَقْلِهِمْ وَلَمْ يَذْهَبُوا مِنْ دِينِهِ بِمَذَاهِبِ فَمَا زَالَ يَدْعُو رَبَّهُ لِهُدَاهُمُ وَإِنْ كَانَ قَدْ قَاسَى أَشَدَّ الْمَتَاعِبِ وَمَا زَالَ يَعْفُو قَادِرًا مِنْ مُسِيئهِمْ كَمَا كَانَ مِنْهُ عِنْدَ جَبْذَةَ جَاذِبِ وَمَا زَالَ طُولَ الْعُمْرِ للهِ مُعْرِضًا عَن الْبَسْطِ فِي الدُّنْيَا وَعَيْشِ الْمَزَارِبِ بَدِيعُ كَمَالٍ فِي الْمَعَالِي فَلا امْرؤٌ يَكُونُ لَهُ مِثْلاً وَلا بِمُقَارِبِ أَتَانَا مُقِيمَ الدِّينِ مِنْ بَعْدِ فَتْرَةٍ وَتَحْرِيفِ أَدْيَانٍ وَطُولِ مَشَاغِبِ فَيَا وَيْلَ قَوْمٍ يُشْرِكُونَ بِرَبِّهِمْ وَفِيهِمْ صُنُوفٌ مِنْ وَخِيمِ الْمَثَالِبِ وَدِينُهُمْ مَا يَفْتَرُونَ بِرَأْيِهِمْ كَتَحْرِيمِ حَامٍ وَاخْتِرَاعِ السَّوَائِبِ وَيَا وَيْلَ قَوْمٍ حَرَّفُوا دِينَ رَبِّهِمْ وَأَفْتَوْا بِمَصْنُوعٍ لِحِفْظِ الْمَنَاصِبِ وَيَا وَيْلَ مَنْ أَطْرَى بِوَصْفِ نَبِيِّهِ فَسَمَّاهُ رَبَّ الْخَلْقِ إِطْرَاءَ خَائِبِ

.. وَيَا وَيْلَ قَوْمٍ قَدْ أَبَارَ نُفُوسَهُمْ تَكَلُّفُ تَزْوِيقٍ وَحُبُّ الْمَلاعِبِ وَيَا وَيْلَ قَوْمٍ قَدْ أَخَفَّ عُقُولَهُمْ تَجَبُّرُ كِسْرَى وَاصْطِلامُ الضَّرَائِبِ فَأَدْرَكَهُمْ فِي ذَاكَ رَحْمَةُ رَبِّنَا وَقَدْ أَوْجَبُوا مِنْهُ أَشَدَّ الْمَعَائِبِ فَأَرْسَلَ مِنْ عَلْيَا قُرَيْشٍ نَبِيَّهُ وَلَمْ يَكُ فِيمَا قَدْ بَلَوْهُ بِكَاذِبِ وَمِنْ قَبْلَ هَذَا لَمْ يُخَالِطْ مَدَاس الْ يَهُودِ وَلَمْ يَقْرَأَ لَهُمْ خَطَّ كَاتِبِ فَأَوْضَحَ مِنْهَاجَ الْهُدَى لِمَنْ اهْتَدَى وَمَنَّ بِتَعْلِيمٍ عَلَى كُلِ رَاغِبِ وَأَخْبَرَ عَنْ بَدْءِ السَّمَاءِ لَهُمْ وَعَنْ مَقَامٍ مَخُوفٍ بَيْنَ أَيْدِي الْمُحَاسِبِ وَعَنْ حُكْمِ رَبِّ الْعَرْشِ فِيمَا يُعِينُهُمْ وَعَنْ حِكَمٍ تُرْوَى بِحُكْمِ التَّجَارُبِ وَأَبْطَلَ أَصْنَافَ الْخَنَى وَأَبَادَهَا وَأَصْنَافَ بَغْيِ لِلْعُقُوبَةِ جَالِبِ وَبَشَّرَ مَنْ أَعْطَى الرَّسُولَ قِيَادَةً بِجَنَّةِ تَنْعِيمٍ وَحُورٍ كَوَاعِبِ وَأَوْعَدَ مَنْ يَأْبَى عِبَادَةَ رَبِّهِ

.. عُقُوبَةَ مِيزَانٍ وَعِيشَةَ قَاطِبِ فَأَنْجَى بِهِ مَنْ شَاءَ رَبِّي نَجَاتَهُ وَمَنْ خَابَ فَلْتَنْدِبْهُ شَرُّ النَّوَادِبِ فَأَشْهَدُ أَنَّ اللهَ أَرْسَلَ عَبْدَهُ بِحَقٍّ وَلا شَيْءٍ هُنَاكَ بِرَائِبِ وَقَدْ كَانَ نُورُ اللهِ فِينَا لِمُهْتَدٍ وِصِمْصَالمُ تَدْمِيرٍ عَلَى كُلِّ نَاكِبِ وَأَقْوَى دَلِيلٍ عِنْدَ مَنْ تَمَّ عَقْلُهُ عَلَى أَنَّ شُرْبَ الشَّرْعِ أَصْفَى الْمَشَارِبِ تَوَاطُئ عُقُولٍ فِي سَلامَةِ فِكْرِهِ عَلَى كُلِّ مَا يَأْتِي بِهِ مِنْ مَطَالِبِ سَمَاحَةُ شَرْعٍ فِي رَزَانَةِ شِرْعَةٍ وَتَحْقِيقِ حَقٍّ فِي إِشَارَةِ حَاجِبِ مَكَارِمُ أَخْلاقٍ وَإِتْمَامُ نِعْمَةٍ نُبُوة تَأْلِيفٍ وَسُلْطَانُ غَالِبِ نُصَدِّقُ دِينَ الْمُصْطَفَى بِقُلُوبِنَا عَلَى بَيِّنَاتٍ فَهْمُهَا مِنْ غَرَائِبِ بَرَاهِينُ حَقٍّ أَوْضَحَتُ صِدْقَ قَوْلِهِ رَوَاهَا وَيَرْوِي كُلُّ شَبٍ وَشَائِبِ وَمِنْ ذَاكَ كَمْ أَعْطَى الطَّعَامَ لِجَائِعٍ وَكَمْ مَرَّةٍ أَسْقَى الشَّرَابَ لِشَارِبِ

.. وَكَمْ مِنْ مَرِيضٍ قَدْ شُفِي مِنْ دُعَائِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَشْفَى لِوَجْبَةِ وَاجِبِ وَدَرَّتْ لَهُ شَاةٌ لَدَى أُمِّ مَعْبَدٍ حَلِيبًا وَلا تَسْطَاعُ حَلْبَةَ حَالِبِ وَقَدْ سَاخَ فِي أَرْضِ حِصَانُ سُرَاقَةٍ وَفِيهِ حَدِيثٌ عَنْ بَرَاءِ بنِ عَازِبِ وَقَدْ فَاحَ طِيبًا كَفُّ مِنْ مَسَّ كَفَّهُ وَمَاحَلَ رَأْسًا حَبْسُ شِيبِ الذَّوَائِبِ وَأَلْقَى شَقِيُّ الْقَوْمِ فَرْثَ جَزُورِهِمْ عَلَى ظَهْرِهِ وَالله لَيْسَ بِعَازِبِ فَأَلْقُوا بِبَدْرٍ فِي قَلِيبٍ مُخَبَّثٍ وَعَمَّ جَمِيعَ الْقَوْمِ شُؤْمُ الْمَدَاعِبِ وَأَخْبَرَ أَنْ أَعْطَاهُ مَوْلاهُ نُصْرَةً وَرُعْبًا إِلَى شَهْرٍ مَسِيرَةَ سَارِبِ فَأَوْفَاهُ وَعْدَ الرُّعْبِ وَالنَّصْرِ عَاجِلاً وَأَعْطَى لَهُ فَتْحَ التَّبُوكِ وَمَارِبِ وَأَخْبَرَ عَنْهُ أَنْ سَيَبْلُغُ مُلْكُهُ إِلَى مَا رَأى مِنْ مَشْرِقٍ وَمَغَارِبِ فَأَسْبَلَ رَبُّ الأَرْضِ بَعْدَ نَبِيِّهِ فُتُوحًا تُوَارَى مَالَهَا مِنْ مَنَاكِبِ وَكَلَّمَهُ الأَحْجَارُ وَالْعُجْمُ وَالْحَصَى

.. وَتَكْلِيمُ هَذَا النُّوعِ لَيْسَ بِرَائِبِ وَحَنَّ لَهُ الْجِذْعُ الْقَدِيمُ تَحَزُّنًا فَإِنَّ فِرَاقَ الْحُبِّ أَدْهَى الْمَصَائِبِ وَأَعْجَبُ تِلْكَ الْبَدْرُ يَنْشَقُ عِنْدَهُ وَمَا هُوَ فِي إِعْجَازِهِ مِنْ عَجَائِبِ وَشَقَّ لَهُ جِبْرِيلُ بَاطِنَ صَدْرِهِ لِغَسْلِ سَوَادٍ بِالسُّوَيْدَاءِ لازِبِ وَأَسْرَى عَلَى مَتْنِ الْبُرَاقِ إِلَى السَّمَا فَيَا خَيْرَ مَرْكُوبٍ وَيَا خَيْرَ رَاكِبِ وَرَاعَتْ بَلِيغُ الآيِ كُلَّ مُجَادِلٍ خَصِيمٍ تَمَادَى فِي مِرَاءِ الْمَطَالِبِ بَرَاعَةُ أُسْلُوبٍ وَعَجْزُ مُعَارِضٍ بَلاغَةُ أَقْوَالِ وَأَخْبَارُ غَائِبِ وَسَمَّاهُ رَبُّ الْخَلْقِ أَسْمَاءَ مِدْحَةٍ تُبَيِّنُ مَا أَعْطَى لَهُ مِنْ مَنَاقِبِ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ أَحْمَدٌ وَمُحَمَّدٌ مُقَفَى وَمِفْضَالٌ يُسَمَّى بِعَاقِبِ إِذَا مَا أَثاَرُوا فِتْنَةً جَاهِلِيَّةً يَقُودُ بِبَحْرٍ زَاخِرٍ مِنْ كَتَائِبِ يَقُومُ لِدَفْعِ الْبَأْسَ أَسْرَعَ قَوْمِهِ بِجَيْشٍ مِن الأَبْطَالِ غُرِّ السَّلاهِبِ

.. أَشِدَّاءُ لِدَفْعِ الْبَأْسِ مِنْ كُلِّ بَاسِلٍ وَمِنْ كُلَّ قَرْمٍ بِالأَسِنَّةِ لاعِبِ تَوَارُثُ إِقْدَامًا وَنُبْلاً وَجُرْأَةً نُفُوسُهُمْ مِنْ أُمَّهَاتٍ نَجَائِبِ جَزَى اللهُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ جَمِيعًا كَمَا كَانُوا لَهُ خَيْرَ صَاحِبِ وَآلُ رَسُولِ اللهِ لا زَالَ أَمْرُهُمْ قَوِيمًا عَلَى إِرْغَامِ أَنْفِ النَّوَاصِبِ ثَلاثُ خِصَالٍ منْ تَعَاجِيبِ رَبِّنَا نَجَابَةُ أَعْقَابٍ لِوَالِدِ طَالِبِ خِلافَةُ عَبَّاسٍ وَدِينِ نَبِيِّنَا تَزَايدَ فِي الأَقْطَارِ مِنْ كُلِّ جَانِبِ يُؤيِّدُ دِينَ اللهِ فِي كُلِّ دَوْرَةٍ عَصَائِبُ تَتْلُو مِثْلَهَا مِنْ عَصَائِبِ فَمِنْهُمْ رِجَالٌ يَدْفَعُونَ عَدُوَّهُمْ بِسُمْرِ الْقَنَا وَالْمُرْهَفَاتِ الْقَوَاضِبِ وَمِنْهُمْ رِجَالٌ يَغْلِبُونَ عَدُوَّهُمْ بِأَقْوَى دَلِيلٍ مُفْحِمٍ لِلْمُغَاضِبِ وَمِنْهُمْ رِجَالٌ بَيَّنُوا شَرْعَ رَبِّنَا وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ وَوَاجِبِ وَمِنْهُمْ رِجَالٌ يَدْرُسُونَ كِتَابَهُ

كلام صاحب البرهان القاطع ويليه ما قاله في كتاب الأربعين في أصول الدين

.. بِتَجْوِيدِ تَرْتِيلِ وَحِفْظِ مَرَاتِبِ وَمِنْهُمْ رِجَالٌ فَسَّرُوهُ بِعِلْمِهِمْ وَهُمْ عَلَّمُونَا مَا بِهِ مِنْ غَرَائِبِ وَمِنْهُمْ رِجَالٌ بِالْحَدِيثِ تَوَلَّعُوا وَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ صَحِيحٍ وَذَاهِبِ وَمِنْهُمْ رِجَالٌ مُخْلِصُونَ لِرَبِّهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ خُصْبُ الْبِلادِ الأَجَادِبِ وَمِنْهُمْ رِجَالٌ يُهْتَدَى بِعِظَاتِهِمْ قِيَامٌ إِلَى دِينِ مِنَ اللهِ وَاصِبِ عَلَى اللهِ رَبِّ النَّاسِ حُسْنُ جَزَاءِهِمْ بِمَا لا يُوَافِي عَدُّهُ ذِهْنَ حَاسِبِ فَمَنْ شَاءَ فَلْيَذْكُرْ جَمَالَ بُثَيْنَةٍ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَغْزِلْ بِحُبِّ الرَّبَائِبِ سَأَذْكُرُ حُبِّي لِلْحَبِيبِ مُحَمَّدٍ إِذَا وَصَفُ الْعُشَّاقِ حُبَّ الْحَبَائِبِ وَيَبْدُو مُحَيَّاهُ لِعَيْنِي فِي الْكَرَى بِنَفْسِي أَفْدِيهِ إِذَا وَالأَقَارِبِ وَتُدْرِكُنِي فِي ذِكْرِهِ قَشْعَرِيرَةٌ مِنَ الْوِجْدِ لا يَحْوِيهِ عِلْمُ الأَجَانِبِ وَأُلْفِي لِرُوحِي عِنْدَ ذَلِكَ هَزَّةً وَأُنْسًا وَرَوْحًا فِيهِ وَثْبَةُ وَاثِبِ

.. وَإِنَّكَ أَعْلَى الْمُرْسَلِينَ مَكَانَةً وَأَنْتَ لَهُمْ شَمْسُ وَهُمْ كَالثَّوَاقِبِ وَصَلِّ إِلَهِي كَلَّمَا ذَرَّ شَارِقٌ عَلَى خَاتِمِ الرُّسُلِ الْكِرَامِ الأَطَايِبِ اللَّهُمَّ يا من خلق الإنسان في أحسن تقويم وبقدرته التي لا يعجزها شيء يحيي العظام وهي رميم. نسألك أن تهدينا إلى صراطك المستقيم صراط الَّذِينَ أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وأن تغفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) ومن الأدلة والبراهين والقرائن الدالة على صدق الرسل كلهم ما ذكره صاحب البرهان القاطع رحمه الله. فأولها أنهم من أعدل الناس طريقة وأصدقهم لهجة وأكثرهم وقاراً وأقلهم طيشاً. وأزهدهم في المال والجاه وأرفضهم لحب الدعة والراحة. قد خبروا على طول الزمن، واشتدت عليهم المحن، واعتورت أحوالهم طوارق الفتن، وتفاقم في الكناية لهم كيد ذوي الإحن. فما لينت الشدائد منهم صلباً لا فترت المكايد لهم عزماً بل كانوا كسبيكة الذهب وفلذة الياقوت. كلما إزدادت النار لها أكلا إزدادت على طول السبِكَ حسناً، لا حافوا في حكم على عدو ولا شهدوا بغير الحق لصديق. قام نوح عليه ألف سنة إلا خمسين عاماً بين ظهراني قومه وعشيرته وحماته من العدو وملاذه فنابذهم وجانبهم وضللهم وكفرهم، حتَّى كانوا يضربونه ويهينونه ويؤذنه بأنواع الأذى ويمقتونه، ولا يحصل له بذلك غرض دنيوي ولا مقصد عاجل، ولا له في ذلك هوى ولا شهوة. وهذا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ آلِهِ وَسَلَّمَ عرضت عليه قريش المال والزوجة والجاه والرياسة ويترك ما يدعيه من تسفيه حلوم آبائه، وتعنيف الأَحْيَاءِ وَالْمَيِّتِينَ من عشيرته. فلم يرفع إلى كلامهم رأساً، ولم يلتفت إلى مقالتهم أصلاً وما أحسن البيت المشهور:

.. وَرَاوَدَتْهُ الْجِبَالُ الشُّمُّ مِنْ ذَهَبٍ ... عَنْ نَفْسِهِ فَأَرَاهَا أَيَّمَا شَمَمِ وكم عسى أن نذكر من فضائل لا تحصى، ومحاسن لا تستقى. وثانيها: معاداتهم لقراباتهم، وأرحامهم الَّذِينَ جبلت الطباع على محبتهم، وعلى رجاء الاستنصار لهم بحيث تركوا مناهج آبائهم التي ولع الطبع بإتباعها وعادوا عشيرتهم التي يتقى من كل عدو بمحاماتها ولقوا في الصبر عنهم الحتوف ووقعوا في الدنيا لذلك في أعظم مخوف. هذا نوح عليه السلام ترك ابنه وفلذة كبده وماء سواد عينه وريحانة فؤاده مع الغرقى وأستغفر من دعائه أن لا يهلك مع الهلكى، وهذا إبراهيم عليه السلام تبرأ من أبيه لما تبين له أنه عدو لله وعزم على ذبح ولده الَّذِي هو قرة عينه ومزنة غيثه وأحب الناس إليه، وأعزهم عليه. وهذا مُحَمَّد الَّذِي شهد العدو والصديق بأنه أبر الخلق بعامة أمته دع عنك خاصة رحامته، حتَّى إن الله عاتبه على كثرة رحمته فَقَالَ {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} ترك الثناء على أمه وأبيه والذكر لهما والترحم عليهما، وولع بذكر النجاشي وصلى عليه وأثنى علي سلمان الفارسي وأهدى ثمرات الجميل إليه وأمثالهما ممن لم يلتصق عرقه بعرقه، ولم يلتحم نجره بنجره. وقد أجمع الأصدقاء والأعداء والكفرة والبررة على أن الأنبياء عليهم السلام كانوا أعقل الناس، وأوقر الخلق، أما الْمُسْلِمُونَ فعقائدهم فيها ظاهرة، وأما الكفار فيقولون إنهم بحسن تدبيرهم ولطف دهائهم شرعوا شرائع وإستمالوا خلائق، ودان لهم من الناس عوالم. فكيف ترى هؤلاء العقلاء الحذاق يعادون أرحامهم ويصادقون من لم تتصل وشيجة نسب بينه وبينهم ويتركون ما في موالاة العشيرة من الأنتصار عند الهضم والسلامة من الظلم، ويتحملون مضار عداوتهم، عوضاً من منافع ولا يتهم، لغير غرض يعود عليهم، ولا فائدة ترجع إليهم. وثالثها: إنهم فقراء مساكين تقتحمهم العيون وتزدريهم القلوب ولا يغلب في ظن عاقل ولا فراس حاذق، أن من الفقر صفته والنزاع لجميع من في العالم طلبته يساعد على إثارة الفتن وتهييج الحروب بين البشر، ولا يبلغ إلى أمل، ولا يزكو له عمل.

كموسى وهرون حين أتيا فرعون لابسين لعباء الصوف ومرقعات المسوح منتقلين من مراعي الغنم إلى معارضات الملوك، مظهرين لمخاشنتهم، مفصحين بالترقع عليهم بغير عدة ولا مال، ولا قوة ولا رجال. فأتياه على هذه الحال التي لا يؤبه لصاحبها ولا تمتلئ عين من النظر إلى من جاء عليها، وجواهر التيجان تلمع على جبينه وأنطاع ضرب الأعناق معدة لمن أغضبه عن شماله ويمينه فأتياه بأعظم ما يوجب ضرب أعناقهما وأكبر ما يجرؤه على قتلهما لا ترتعد لهما فريصة، ولا يخافان من الدنيا نقيصة. وهذا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ آلِهِ وَسَلَّمَ جاء إلى قريش، وقام في جاهلية العرب، وأنوفهم تعط بالكبر وألْسِنَتُهُمْ لا تَنْطِقُ إلاَّ بالفخر يرون أن يبيد أولهم وآخرهم ويفنى أصاغرهم وأكابرهم على أيسر عار يلم بساحاتهم، وأهون نقص يدنو من أنسابهم فجاء وحيداً من الناصر فقيراً من المال يسب ألهتهم، ويلهب أفئدتهم ويسفه أحلامهم. يتيم قد مات أبواه وأسترضع في غير قومه وكفله من شدة فقر أبيه عمه فبينما هو يتيم مكفول في حجر من هب فخره مهب الجنوب والقبول إذ قام يعيب على كافله دينه ويسفه رأيه، ولا يستريب من شجعان العرب المشاهير أن عارضهم جميعاً، وأنفرد بعداوتهم وحيدًا. ورابعها: حصول أغراضهم كما قَالَ تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} وكما ثبت في البخاري من حديث ابن عباس {ثُمَّ تَكُونُ لَهم الْعَاقِبَةُ} وكذلك وقع ولله الحمد. فإن أحداً ممن طلب الدنيا والراحة والملك والرياسة من الفلاسفة والمنجمين والمشعوذين والمرجمين بل من أهل الأموال والعشائر، وأرباب الخدم والعساكر من ملوك حمير والتبابعة والقياصرة والأكاسرة ما بلغ مِمَّا بلغ منه مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ آلِهِ وَسَلَّمَ المعشار، ولا استدام له بعد موته، ما استدام لمُحَمَّد ?.

وهذا نوح عليه السلام الفقير القليل الناصر الَّذِي كان ضرب ويشتم ويهان فلا يجد ملجأ ولا معاذاً ولا منقذاً ولا مجيراً من الخلق نبعت له الأرضون عيوناً والسموات غيوثاً حتَّى كان من عجيب غرق قومه ما كان. ولم يستطيع دفع ما جاء به إنس ولا جان. ومن أدل ذلك على الله الخسف بأهل السبت من اليهود قردة وذلك مِمَّا يحصل به العلم الضروري لمن شاهده أو تواتر له، لأن تحول الصورة إلى صورة أخرى لا يكون بالطبع، ولا تدخل فيه شبهة لأهل الكفر. وخامسها: زهدهم في الدنيا وإطراحهم للأهوى وقلقهم من هول المعاد الأخروي. وتقطع نياط قلوبهم من الخوف للعذاب السرمدي. وهو شيء علم منهم أنه جد لا مزاح فيه ولا هزل وحق لا تصنع فيه ولا تكلف. وكيف والتكلف لا تخفي آثاره. ولا تستمر أحواله. زفراتهم كانت متصعدة، ونيار خوفهم لم تزل متوقدة، ومدامع عيونهم لم تبرح مترقرقة، وعلى وجنات خدودهم متدفقة، وعيونهم غائرة وعزماتهم باترة، وأجسادهم ناحلة، ونفوسهم عن الدنيا مائلة، وشفاههم من ظمأ الهواجر ذابلة، وألسنة أحوالهم في خطاب مولاهم قائلة: وَقَدْ صُمْتُ عَنْ لَذَّاتِ نَفْسِي كُلِّهَا ... وَيَوْمَ لِقَاكُمْ ذَاكَ فِطْرُ صِيَامِي كان عيسى عليه السلام دابته رجلاه وسراجه القمر، وفراشه المدر ومتاعه الشجر داره الأرض، ترى خضرة الشجر من شفيف بطنه. لا تنقص الشدائد عقدة عمه عزمه. وكان مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ آلِهِ وَسَلَّمَ يصلي حتَّى تورمت دماه ويسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل فقِيلَ له: أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبِكَ وما تأخر فَقَالَ: {أَفَلَا أَكُونَ عبدَاً شَكوراً} . ولما أخطأ داود عليه السلام كان يبكي وينوح حتَّى نبت العشب من دمعه المسفوح، ونقش خطيئته على كفه وحزن حزن الثكلى على ذنبه. فليت شعري أي غرض يقدر أنه يحصل لهم ويظن أنه أربهم حتَّى قطعوا أعمارهم على هذه الطريقة وأداموا تحملهم لهذه

الأعباء الثقيله، أطلب العيش في الدنيا ورجاء الظفر بالأهواء، فقد عاش سقط الناس بأيسر من ذلك ونيلت بأهون سعي ملاذ المعايش وقد ملكوها على ما يأتي بيانه فلم يلتفتوا إليها، ورغبوا عنها ولم يرغبوا فيها. وتنزهت عنها شرائف أحوالهم. وأنشد لسان حالهم: تَجَرَّدْ عَنِ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ إِنَّمَا ... خَرَجْتَ إِلَى الدُّنْيَا وَأَنْتَ مُجَرَّدُ وسادسها: إن جمعاً منهم تمكنوا من الدنيا واستولوا على ما يحب الناس منها فلم تتغير لهم طريقة، ولم تتحول لهم سجية. ملك سليمان عليه السلام ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده فخدمته الطير وحشرت له، وحملته الريح على متن الهواء وسخرت له، ودانت له ملوك الإنس. وخضعت له عفاريت الجن، وكان البساط يحمله في أرجاء الأجواء مستقراً على متن الريح الخفاقة والهواء. وكانت الطير تظلة، وكانت الأرض في يده وكانت أو امره مطاعة، والخلائق له طائعة. ومع ذلك كان يأكل من كد يده ويتواضع على عظيم ملكه حتَّى إختار من الحرف أهضمها للنفس وأقمعها لجامع الهوى وهو الخوض أي الحصر الَّذِي يرتفع عنه أكثر السوقة ولا يرتضيه من له أدني عزة. فما تراه يريد بهذا وإلى أي شيء من الدنيا يتوصل به. وسابعها: قوة يقينهم بمواعيد الله وتسليمهم نفوسهم لما أمر الله وإن كان في ظاهره كالجناية على النفس، والإلقاء بها إلى التهلكة كقول نوح وحده لقومه مع كثرتهم وقوتهم «ثم اقضوا إلى ولا تنظرون» ونحو ذلك قَالَ هود وَمِنْ ذَلِكَ إلقاء أم موسى له في البحر وهو طفل. ومنه نهي رَسُولِ اللهُ لأصحابه عن حراسته بعد قوله تعالى: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} . وثامنها: أنها ظهرت عليهم خوارق العادات وبواهر المعجزات من غير ممارسة لشيء من علوم الطبائعيين والمرتاضين، والمتفلسفين والمنجمين والمتكهنين المصاحبين للجن والشياطين

وأخبروا عن الغيوب ووصلوا في خرق العادات إلى مرتبة قصر عنها أهل الدراية في فنون هذه العلوم. هذا الكليم فعل مع السحرة ما فعل حتَّى كانوا هم المقرين له والشاهدين بأن الحق معه، وهم ألوف يحص بخبرهم العلم، ويستحيل تواطؤهم على الكذب وكيف وسيف فرعون على أعناقهم مسلول، ودفع كيده بسوى الله غير مأمول. وهذا عيسى عليه السلام أحيا الموتى وأبرأ الأكمة والأبرص وهذا مُحَمَّد جاء بنوع من الإعجاز لا يتصور فيه السحر ولا تعقل فيه التعمية قرآن بلى فشيب الدهر وإعجازه جديد، وهرم شباب الزمان ورنقه إلى مزيد فأسكت به مصاقعة العرب العرباء والمفلقين من البلغاء والفصحاء والشعراء والخطباء قد مضى الآن إحدى وثمان مائة سنة «قلت وهذا بالنظر إلى زمن صاحب الأدلة والبراهين وأما الآن فقد مضي أربعة عشر قرناً» ولم يأت له فيها معارض على أن هذه المدة الطويلة منذ هاجر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مرت على سحرة الكتابة والخطباء ونقضت عن مهرة البرعة أساة أساليب الكلام إذا أعتل وبناة أساسات البيان إذا أختل: يَرْمُونَ بِالْخَطْبِ الطِّوَالِ وَتَارَةً ... وَحْيَ الْمَلاحِظِ خِيفَةَ الرُّقَبَاءِ فانظر كيف تقضت السني والأعوام وتصرمت الليالي والأيام. ولم يأت أحد من هؤلاء البلغاء بمثل هذا القرآن ولا بسورة من مثله. تصديقاً لما جاء به مُحَمَّد من قوله عز سلطانه {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} أ.هـ. اللَّهُمَّ اسلك بنا سبيل النجاة، وبلغ كلامنا ما أمله ورجاه واجعل لنا عندك أعظم قدر وجاه، ولا تحرمنا من فضلك العظيم يا أكرم الأكرمين. (فَصْلٌ) وَقَالَ في كتاب الأربعين في أصول الدين: واعلم أن الرسل كانت له معجزات كثيرة سوى القرآن والعلماء أو ردوا في ذكرها كتباً وضبط القول فيها أن نقول معجزاته عليه السلام قسمان حسية وعقلية. أما الحسية فثلاثة أقسام: أحدها أمور خارجة عن ذاته، وثانيها أمور في ذاته، وثالثها أمور في صفاته:

أما القسم الأول: وهو الأشياء الخارجة عن ذاته فهو كانشقاق القمر واجتذاب الشجر إليه، وتسليم الحجر عليه، ونبوع الماء من بين أصابعه، وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل، وحنين الخشب، وشكاية الناقة وشهادة الشاة المشوية، وإظلال السحاب قبل بعثته، وما كان من حال أبي جهل وصخرته حين أَرَادَ أن يضربها على رأسه وما كان من شاة أم معبد حين مسح يده على ضرعها. وأما القسم الثاني: وهو الأحوال العائدة إلى ذاته فهو مثل النور الَّذِي كان ينتقل من أب فأب إلى أن خرج إلى الدنيا، وما كان من الخاتم، وما شوهد من خلقته وصورته التي يحكم علم الفراسة بأنها دالة على نبوته. وأما القسم الثالث: وهو ما يتعلق بصفاته فهي كثيرة ونحن نشير إلى بعضها. فالأول: أن أحداً ما سمع منه لا في مهمات الدين ولا في مهمات الدنيا كذبا البتة ولو صدر عنه الكذب مرة واحدة لاجتهد أعداؤه في تشهيره وإظهاره. الثاني: أنه ما أقدم على فعل قبيح لا قبل النبوة ولا بعدها وإن عظم الخوف مثل يوم أحد ويوم الأحزاب. وهذا يدل على أنه كان قوي القلب بمواعيد الله حيث قَالَ تعالى: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} وَقَالَ تعالى {حَسْبُكَ اللهُ} وَقَالَ تعالى {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ} . الرابع: أنه كان عظيم الشفقة والرحمة على أمته قَالَ تعالى: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} وَقَالَ تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} وَقَالَ تعالى: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} وَقَالَ تعالى: {عزيز عليه ما عنِتمُ} . الخامس: إنه عليه السلام كان في عظم الدرجات في السخاوة. السادس: أنه ما كان للدنيا في قلبه وقع وأن قريشاً عرضوا عليه المال والزوجة والرياسة حتَّى يترك هذه الدعوى فلم يلتفت إليهم. السابع: أنه كان في غاية الفصاحة، كما قَالَ «أوتيت جوامع الكلم» . الثامن: أنه مضى على طريقته المرضية في أول عمره إلى آخره والكذاب المزور لا يمكنه ذلك وإليه الإشارة بقوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} .

التاسع: أنه كان َصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ آلِهِ وَسَلَّمَ مع أهل الدنيا والثروة في غاية الترفع ومع الفقراء والمساكين وأهل الدين في غاية التواضع. العاشر: إنه َصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ آلِهِ وَسَلَّمَ كان في كل واحدة من هذه الصفات والأخلاق في الغاية القصوى من الكمال كان مستجمعاً لها بأسرها ولم يتفق ذلك لأخذ من الخلق فكان اجتماعهما في ذاته من أعظم المعجزات. وأما المعجزات العقلية فهي ستة أنواع: النوع الأول: إنه َصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ آلِهِ وَسَلَّمَ إنما ظهر من قبيلة ما كانوا من أهل العلم بل كان بلدة ما كان فيها أحد من العلماء، بل كانت الجهالة غالبة عليهم، ولم ينفق له سفر من تلك البلدة إلا مرتين إلى الشام وكانت مدة تلك المسافرة قليلة ولن يذهب أحد من العلماء والحكماء إلى تلك البلدة حتَّى يقال إنه تعلم من ذلك الحكيم. وإذا خرج من مثل هذه البلدة ومثل هذه القبيلة إنسان من غير أن يمارس شيئاً من العلوم ولا تتلمذ لأحد من العلماء البتة ثم بلغ في معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله وأحكامه هذا المبلغ العظيم الَّذِي عجز جميع الأذكياء من العقلاء عن القرب منه بل أقر الكل بأنه لا يمكن أن يزاد في تقرير الدلائل على ما ورد في القرآن. ثم ذكر قصص الأولين وتواريخ المتقدمين بحيث لم يتمكن أحد من الأعداء أن يقول إنه أخطأ في شيء منها، بل بلغ كلامه في البعد عن الريب والشك إلى أن قَالَ عند مجادلهم إياه {فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} وَقَالَ تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ} . ولم يقدر أحد أن يقول إنه طالع كتاباً ولا تتلمذ لأستاذ وكانت هذه الأحوال ظاهرة معلومة للأصدقاء والأعداء على ما قَالَ: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} وَقَالَ: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} وَقَالَ: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}

وكل من له عقل سليم وطبع مستقيم علم أن هذه الأحوال لا تتيسر إلا بالتعليم الإلهي الرباني. النوع الثاني: أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ آلِهِ وَسَلَّمَ كان قبل إظهار دعواه الرسالة والنبوة ما كان يشرع في هذه المسائل الآلهية وما كان يبحث عنها وما جرى على لسانه قط حديث النبوة والرسالة. والَّذِي يدل على صحة قولنا أنه لو اتفق له شروع في هذه الطالب والمباحث قبل إظهار إدعاء النبوة لقال الكفار له إنك أفنيت عمرك في التدبر والتأمل وتحصيل الكلمات حتَّى قدرت الآن على إظهارها. ولما لم يذكر هذا الكلام أحد من الأعداء مع شدة حرصهم على الطعن فيه وفي نبوته علمنا أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ آلِهِ وَسَلَّمَ ما كان شارعاً قبل إظهار النبوة في شيء من هذه العلوم. ومعلوم أن من أنقضي من عمره أربعون سنة ولم يخص في شيء من هذه المطالب العلمية ثم إنه خاض فيها واحدة وأتى بكلام عجز الأولون والآخرون عن معارضته بل أنقضي الآن قريب من ستمائة سنة قلت وهذا بالنظر إلى زمن صاحب كتاب الأربعين في أصول الدين وأما الآن فقد مضى أربعة عشر قرناً وما أحد يمكنه إقامة المعارضة، فصريح العقل بأن هذا لا يكون إلا عللا سبيل الوحي والتننزيل أهـ. شِعْرًا: ... تُغَازِلُنِي الْمَنيَّةُ مِنْ قَرِيبِ ... وَتَلْحَظُنِي مُلاحَظَةَ الرَّقِيبِ وَتَنْشُرُ لِي كِتَابًا فِيهِ طَيِّي ... بِخَطِّ الدَّهْرِ أَسْطُرُهُ مَشِيبِي كِتَابٌ فِي مَعَانِيهِ غُمُوضٌ ... يَلُوحُ لِكُلِّ أَوَّابٍ مُنِيبِ أَرَى الأَعْصَارَ تَعْصِرُ مَاءَ عُودِي ... وَقِدْمًا كُنْتُ رَيَّانَ الْقَضِيبِ أَدَالَ الشَّيْبُ يَا صَاحِ شَبابِي ... فَعُوِّضْتُ الْبَغِيضَ مِنَ الْحَبِيبِ

فوائد متنوعة ومواعظ نافعة

وَبَدَّلْتُ التَّثَاقُلَ مِنْ نَشَاطِي ... وَمِنْ حُسْنِ النَّضَارَةِ بِالشُّحُوبِ كَذَاكَ الشَّمْسُ يَعْلُوهَا اصْفِرَارٌ ... إِذَا جَنَحَتْ وَمَالَتْ لِلْغُرُوبِ تُحَارِبُنَا جُنُودٌ لا تُجَاري ... وَلا تُلْقَى بِآسَادِ الْحُرُوبِ هِيَ الأَقْدَارُ وَالآجَالُ تَأْتِي ... فَتَنْزِلُ بِالْمُطَبَّبِ وَالطَّبِيبِ تُفَوِّقُ أَسْهُمًا عَنْ قَوْسِ غَيْبٍ ... وَمَا أَغْرَاضُهَا غَيْرُ الْقُلُوبِ فَأَنّى بِاحْتِرَاسٍ مِنْ جُنُودٍ ... مُؤَيَّدَةٍ تُمَدُّ مِنَ الْغُيُوبِ وَمَا آسَى عَلَى الدُّنْيَا وَلَكِنْ ... عَلَى مَا قَدْ رَكِبْتُ مِنَ الذُّنُوبِ فَيَا لَهْفِي عَلَى طُولِ اغْتِرَارِي ... وَيَا وَيْحِي مِنَ الْيَوْمِ الْعَصِيبِ إِذَا أَنَا لَمْ أَنُحْ نَفْسِي وَأَبْكِي ... عَلَى حَوْبِي بِتَهْتَانٍ سَكُوبِ فَمَنْ هَذا الَّذِي بَعْدِي سَيَبْكِي ... عَلَيْهَا مِنْ بَعِيدٍ أَوْ قَرِيبِ؟ اللَّهُمَّ طهر قلوبنا بالتوبة النصوح من الفساد واجمع قلوبنا على محبتك وخشيتك وأهدنا إلى أقرب الطريق إليك والله أعلم وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد. «فَصْلٌ» (فوائد متنوعة ومواعظ نافعة) قَالَ في الفنون من عجيب ما نقدت من أحوال الناس كثرة ما ناحوا على خراب الديار وموت الأقارب والأسلاف والتحسر على الأرزاق بذم الزمان وأهله وذكر نكد العيش فيه. وقد رأوا من انهدام الإسلام وشعث الأديان وموت السنن وظهور البدع وارتكاب المعاصي وتقضي العمر في الفارغ الَّذِي لا يجدي والقبيح الَّذِي يوبق ويؤذي فلا أجد منهم من ناح على دينه ولا بكى على فارط عمره ولا آسى على فائت دهره. وما أرى لذلك سبباً إلا قلة مبالاتهم بالأديان وعظم الدنيا في عيونهم ضد ما كان عليه السلف الصالح يرضون بالبلاغ وينوحون على الدين، قلت فكيف لو

رأى أهل هذا الزمن الَّذِي كثرت فيه المعاصي والملاهي وانفتحت فيه الدنيا على كثير من الناس فلا حول ولا قوة إلا بالله. ومن عجيب ما رأيت أنا أن أحدنا إذا ناداه أمير أو وزير أو مساعد أو مدير يبادر ويقوم بسرعة لداعي الدنيا ولا يتأخر ويسمع داعي الله يدعوه إلى الصلاة التي هي الصلة بينه وبين ربه جل وعلا وتقدس فيتثاقل ولا يهتم لها وإن قام بعد التريث فكأنه مكره يدفع إليها دفعا عكس ما عليه السلف الصالح من المبادرة والمرابطة وترك الأعمال فوراً عند ما يسمعون (حي على الصلاة حي على الفلاح) وكثير من المساجد عندهم تجد الصف الأول يتم قبل الأذان وقد ازداد الطين بلة بما حدث عندنا من المنكرات قتالة الأوقات، مفرقة النفوس والأبدان، ومشتت القلوب، وذلك كالتلفزيون والمذياع والفيديو والجرائد والمجلات ومخالطة المنحرفين والفاسقين والمنافقين والكافرين والمجرمين أبعدهم الله. سَيْرُ الْمَنَايَا إِلَى أَعْمَارِنَا خَبَبُ ... فَمَا تَبِينُ وَلا يَعْتَاقُهَا نَصَبُ كَيْفَ النَّجَاءُ وَأَيْدِيهَات مُصَمِّمَتٌ ... بِذَبْحِنَا بِمُدِيَّ لَيْسَتَ لَهَا نَصَبُ وَهَلْ يُؤَمِّلُ نَيْلَ الشَّمْلِ مُلْتَئِمًا ... سَفَرٌ لَهُمْ كُلَّ يَوْمٍ رِحْلَةٍ عَجَبُ وَمَا إِقَامَتُنَا فِي مَنْزِلٍ هَتَفَتْ ... فِيهِ بِنَا مُذْ سَكَنَّا رَبْعَهُ نُوَبُ وَآذَنْتَنَا وَقَدْ تَمَّتْ عِمَارَتُهُ ... بِأَنَّهُ عَنْ قَرِيبٍ دَاثِرٌ خَرِبُ أَزْرَتْ بِنَا هَذِهِ الدُّنْيَا فَمَا أَمَلٌ ... إِلا لِرَيْبِ الْمَنَايَا عِنْدَهُ أَرَبُ هَذَا وَلَيْسَتْ سِهَامُ الْمَوْتِ طَائِشَةٌ ... وَهَلْ تَطِيشُ سِهَامٌ كُلَّهُ نَصَبُ وَنَحْنُ أَغْرَاضُ أَنْوَاعِ الْبَلأ بِهَا ... قَبْلَ الْمَمَاتِ فَمَرْمِيٌ وَمُرْتَقِبُ أَيْنَ الَّذِينَ تَنَاهَوْا فِي إِبْتِنَائِهِمُوا ... صَاحَتْ بِهِمْ نَائِبَاتُ الدَّهْرِ فَانْقَلَبُوا قَالَ ابن القيم رحمه الله كل آفة تدخل على العبد فسببها ضياع القلب

وفساد القلب يعود بضياع حقه من الله تعالى ونقصان درجته ومنزلته عنده. ولهذا أوصى بعض الشيوخ فَقَالَ احذروا مخالطة من تضيع مخالطته الوقت وتفسد القلب فإن ضاع الوقت وفسد القلب انفرطت على العبد أموره كلها وكان ممن قَالَ الله فيه {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} . ومن تأمل حال هذا الخلق وجدهم كلهم إلا أقل القليل ممن غفلت قلوبهم عن ذكر الله تعالى الَّذِي به تحيا القلوب وتطمئن واتبعوا أهواءهم وصارت أمورهم ومصالحهم فرطا أي فرطوا فيما ينفعهم ويعود عليهم بمصالحهم، واشتغلوا بما لا ينفعهم بل بما يعود بضررهم عاجلاً وآجلاً. وهؤلاء قد أمر الله سبحانه رسوله ألا يطيعهم فطاعة الرسول لا تتم إلا بعدم طاعة هؤلاء لأنهم إنما يدعون إلى ما يشاكلهم من أتباع الهوى والغفلة عن ذكر الله. والغفلة عن ذكر الله والدار الآخرة متى تزوجت بأتباع الهوى تولد بينهما كل شر وكثيراً ما يقترن أحدهما بالآخر ولا يفارقه. ومن تأمل فساد أحوال العالم عموماً وخصوصاً وجده ناشئاً عن هذين الأصلين فالغفلة تحول بين العبد وبين تصور الحق ومعرفته والعلم به فيكون بذلك من الضالين، وأتباع الهوى يصده عن قصد الحق وإرادته وأتباعه، فيكون من المغضوب عليهم. وأما المنعم عليهم فهم الَّذِينَ من الله تعالى عليهم بمعرفة الحق علماً وبالانقياد إليه وإيثاره عما سواه عملاً وهؤلاء هم الَّذِينَ على سبيل النجاة ومن سواهم على سبيل الهلاك. ولهذا أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نقول كل يوم وليلة عدة مرات {اهدِنَا

الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} . فإن العبد مضطر إلى أن يكون عارفاً بما ينفعه في معاشه ومعاده وأن يكون مؤثراً مريداً لما ينفعه مجتنباً لما يضره فبمجموع هذين قد هدى إلى الصراط المستقيم فإن معرفه ذلك سلك سبيل الضالين. وإن فاته قصده وأتباعه سلك سبيل المغضوب عليهم وبهذا تعرف قدر هذا الدعاء العظيم وشدت الحاجة إليه سعادة الدنيا والآخرة عليه. وَقَالَ آخر حافظ على الأوقات فإن الوقت رأس المال ولا تضيعها بالفراغ وأملأها بالإفادة أو الاستفادة أو بهما جميعاً واعرف ما يذهب به ليلك ونهارُك وجدد توبتك في كل وقت. وقسم وقتك ثلاثة قسم لطلب العلم وقسم للعمل الَّذِي تستعين به على مصالح دنياك وآخرتك وقسم لحقوق نفسك وما يلزمك واعتبر بمن مضى وتفكر في منصرف الفريقين بين يدي الله جل وعلا وتقدس فريق في الجنة وفريق في السعير. واستحضر قرب الله منك كما في الحديث فإن لم تكن تراه فإنه يراك وأكرم الكتبة الحافظين فقد أوصى رسول الله بالجار من الناس الَّذِي بينك وبينه جدار وأحجار فكيف بالجار الكريم الَّذِينَ قَالَ الله فيهم {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} وَقَالَ جل وعلا وتقدس {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} . فرعاية جواره أحق وإكرام قربه أوجب لأنه أسبق وألصق وليس بينك وبينه جدار ولا أحجار ولا حائل ومع الأسف الشديد أن الأذية لهما لا تفتر على مر الساعات ولكن مقل ومكثر. شِعْرًا: ... وَوَكَّلَ الله مِنَ الْكِرَامِ ... اثْنَيْنِ حَافِظِينَ لِلأَنَامِ فَيَكْتُبَانِ كُلَّ أَفْعَالِ الْوَرَى ... كَمَا أَنِّي بِالنَّصِّ مِنْ غَيْرِ امْتِرَا

قال بعضهم: تَنَكَّر مَنْ كُنَّا نُسَر بِقُرْ بِهِ ... وَصَارَ زُعَافًا بَعْدَ مَا كَان سَلْسَلا وَحُقَّ لِجَارٍ لَمْ يُوَافِقْهُ جَارَهُ ... وَلا لا أَمَتْهُ الدّرُ أنْ يتحَوَّلا آخر: ... كُنْ لَيِّنًا لِلْجَارِ وَأحْفَظْ حَقَّهُ ... كَرَمًا ولا تَكُ لِلْمُجَاوِرِ عَقْرَبا وَأحْفَظْ أَمَانَتَهُ وكُنْ عِزًا لَهُ ... أَبَدًا وَعَمَّا سَاءهُ فَتَجَنَّبَا علامة صحة الإرادة أن يكون همُّ المريد رضاءَ ربه واستعداده للقائه وحزنه على وقت في غير مرضاة ربه وأسفه على قربه والأنس به وجماع ذلك أن يصبح ويمسي وليس له هم غيره. وَقَالَ: أعظم الإضاعات هما أصل كل إضاعة القلب وإضاعة الوقت، فإضاعة القلب من إيثار الدنيا على الآخرة وإضاعة الوقت من طويل الأمل. فاجتمع الفساد كله في أتباع الهوى وطول الأمل والصلاح كله في أتباع الهدى والاستعداد للقاء الله والله المستعان. الناس منذ خلقوا لم يزالوا مسافرين وليس لهم حظٌ عن رحالهم إلا في الجنة أو النار والعاقل يعلم أن السفر مبني على المشقة وركوب الأخطار. ومن المحال عادة أن يطلب فيها نعيم ولذة وراحة إنما ذلك بعد انتهاء السفر ومن المعلوم أن كل وطأة قدم أو كل آن من آنات السفر غير واقفة ولا المكلف واقف. وقد ثبت أنه مسافر على الحال التي يجب أن يكون المسافر عليها من تهيئة الزاد الموصل وإذا نزل أو نام أو استراح فعلى قدم الاستعداد للسير. حُكْمُ الْمَنِيَّةِ فِي الْبَرِيَّةِ جَارِ ... مَا هَذِهِ الدُّنَيا بِدَارِ قَرَارِ جُبلَتْ عَلَى كَدَرٍ وَأَنَتَ تُرِيْدُهَا ... صَفْوًا مِنْ الأقْذَارِ والأكْدَارِ فاقْضُوا مَآرِبَكُمْ عِجَالاً إِنَّمَا ... أَعْمَارُكُمْ سَفَرٌ مِنْ الأسْفَارِ

قال بعض العلماء: يا إخواني اجتهدوا في العمل فإن يكن الأمر كما نرجوا من رحمة الله وعفوه كانت لنا درجات في الجنة وإن يكن الأمر شديداً كما نخاف ونحاذر لم نقل {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} نقول قد عملنا فلم ينفعنا. وَقَالَ رجل لمُحَمَّد بن المنكدر الجد الْجد والحذر الحذر فإن يكن الأمر على ما ترجون كان ما قدمتم فضلاً وإن يكن الأمر على غير ذلك لم تلوموا أنفسكم. وَقَالَ بعضهم لبعض الفقراء مرة وقد رأى عليه أثر الجوع والضر: لم لا تسأل ليعطوك، قَالَ أخاف أن أسالهم فيمنعوني فلا يفلحوا، وقد بلغني عن النبي أنه قَالَ: «لو صدق السائل ما أفلح من منعه» . المراحل التي يمر بها الخلق ستة: السفر الأول سفر السلالة من الطين. السفر الثاني سفر النطفة من الظهر إلى الباطن. السفر الثالث من البطن إلى الدنيا. السفر الرابع من الدنيا إلى القبور. السفر الخامس من القبور إلى العرض للحساب. السفر السادس من العرض إلى منزل الإقامة. وقد قطعنا نصف السفر نسأل الله الإعانة والسداد والله أعلم وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وآلِهِ وصحبه وَسَلَّمَ شِعْرًا: حَيَاتُكَ فِي الدُّنْيَا قَلِيلٌ بَقَاؤُهَا وَدُنْيَاكَ يَا هَذَا شَدِيدٌ عَنَاؤُهَا ولا خَيْرَ فِيهَا غَيْرَ زَادٍ مِنَ التُّقَى يُنَال بِهِ جَنَّاتُ عَدْنٍ وَمَاؤُهَا

قصيدة زهدية

بَلَى إنَّهَا لِلْمُؤْمِنِينَ مَطِيِّةٌ عَلَيْهَا بُلُوغُ الْخَيْرِ والشَّرُ دَاؤُهَا وَمَنْ يَزْرَع التَّقْوَى بِهَا سَوْف يَجْتَنِي ثِمَارًا مِنَ الفِرْدَوْسِ طَابَ جَنَاؤُهَا نُؤَمِلُ أنْ نَبْقَى بِهَا غَيْرَ أنَّنَا عَلَى ثِقةٍ أنَّ الْمَمَاتَ انْتِهَاؤُهَا فَكُنْ أيُهَا الإنْسَانُ في الْخيْرِ رَاغِبًا يَلُوحُ مِنَ الطَّاعَاتِ فِيكَ بَهَاؤْهَا وَجَانِبْ سَبِيلَ الْغَيَ واتْرُكْ مَعَاصِيًا يُذِيبُكَ مِنَ نَارِ الْجَحِيمِ لَظَاؤُهَا فَلا بُدَّ يَوْمًا أنْ تَمُوتَ بِمَشْهَدٍ يُسَاعِدُ مِنْ نَاحَتْ عَلَيْكَ بُكَاؤُهَا وَتَنْزِلُ قَبْرًا لا أَبَالَكَ مُوحِشًا تَكُونُ ثَرَى أُمٍ عَلَيْكَ ثَرَاؤُهَا وَتَبْقَى بِهِ ثَاوٍ إلَى الْحَشْرِ والْجَزَاء وَنَفْسُكَ يَبْدُو في الْحِسَابِ جَزَاؤُهَا فَإمَا تَكُونَ النَّفْسُ ثَمَّ سَعِيْدَةٌ فَطُوبَى وإلا فالضَّرِيعُ غِذَاؤُهَا يُسَاقُ جَمِيعُ النَّاسِ في مَوْقِفْ القَضَا وَتُنْشَرُ أَعْمَالٌ يَبِينُ وَبَاؤُهَا هُنَالِكَ تَبْدُو لِلْعْبَادِ صَحَائِفٌ

فصل يحتوي على حكم وفوائد

.. فَتُوضَعُ في الْمِيزَانِ والذَّنْبُ دَاؤُهَا وَكَمْ مِنْ ذَلِيلٍ آخِذٍ بِشِمَالِهِ صَحِيْفَتَهُ السَّوْدَا الشَّدِيدُ بَلاؤُهَا وآخِرُ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةَ أَخِذٌ صَحِيفَتَهُ الْبَيْضَاءَ طَابَ لِقَاؤُهَا اللَّهُمَّ يا حي يا ذا الجلال والإكرام يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه، أجمع بيننا وبين الصدق والنية الصالحة، والإخلاص والخشوع والمراقبة، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فصل) وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما خمس من كن فيه سعد في الدنيا والآخرة، أولها أن يذكر لا إله إلا الله محمداً رسول الله وقتاً بعد وقت. وإذا أبتلى ببلية قَالَ إنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وإذا أعطي نعمةً قَالَ الحمد لله رب العالمين شكراً للنعمة. وعن سفيان الثوري أنه قَالَ اختار الفقراء خمساً واختار الأغنياء خمساً اختار الفقراء راحة النفس، وفراغ القلب، وعبودية الرب، وخفة الحساب والدرجة العليا، وإذا ابتدأ في شيء قَالَ بسم الله الرحمن الرحيم وإذا أفرط منه ذبناً قَالَ استغفر الله العظيم وأتوب إليه. واختار الأغنياء تعب النفس وشغل القلب وعبودية الدنيا وشدة الحساب والدرجة السفلي شِعْرًا: ... يَا سَاكِنَ الدُّنْيَا تَأَهَّبْ ... وانْتَظِرْ يَوْمَ الْفِرَاقْ وأعِدَّ زَادًا لِلْرَّحِيلِ ... فَسَوفَ يُحْدَى بالرِّفَاقْ وابِكَ الذُّنُوبَ بِأَدْمُعِ ... تَنْهَلُ مِن سُحْبِ الْمَآقْ يا مَنْ أضَاعَ زَمَانَهُ ... أرَضِيتَ مَا يَفْنَي بِبَاقْ آخر: ... ألَيْسَ إلَى الآجَالِ نَهْوىَ وَخَلْفَنَا ... مِن الْمَوتِ حَادٍ لا يُغِبُّ عَجُوْلُ

.. وَمَنْ نَظَرَ الدُّنْيَا بِعَينٍ حَقِيْقَةً ... تَيَقَنَ أنَّ الْعَسْشَ سَوْفَ يَزُوْلُ وَمَا هَذِهِ الأيَّامُ إِلا فَوَارِسٌ ... تُطَارِدُنَا وَالنَّائِبَاتُ خُيُولُ وَقَالَ بعضهم العجلة تحسن في تجهيز الميت، وتزويج البنت إذا بلغت، وقطف الثمرة إذا استوت، وقضاء الدين إذا وجب، والتوبة من الذنب إذا فرط، وإطعام الضيف إذا نزل. وَقَالَ عثمان رضي الله عنه إن المؤمن في ستة أنواع من الخوف، أحدها من قبل الله تعالى أن يأخذ منه الإيمان، والثاني من قبل الحفظة أن يكتبوا عليه ما يفتضح به يوم القيامة. والثالث من قبل الشيطان أن يبطل عمله، والرابع من قبل ملك الموت أن يأخذه في غفلة بغتة، والخامس من قبل الدنيا أن يغتر بها وتشغله عن الآخرة، والسادس من قبل الأهل والعيال أن يشتغل بهم فيشغلونه عن ذكر الله تعالى. وَقَالَ أيضاً أضيع الأشياء عشرة عالم لا يسأل عنه، وعلم لا يعمل به، ورأي صواب لا يقبل، وسلاح لا يستعمل ومسجد لا يصلى فيه، ومصحف لا يقرأ فيه، ومال لا ينفق منه وخيل لا تركب، وعلم الزهد في بطن من يريد الدنيا، وعمر طويل لا يتزود صاحبه فيه لسفره. وَقَالَ إبراهيم بن أدهم حين سألوه عن قول الله تعالى {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وأنا ندعوه فلم يَسْتجِبْ لنا فَقَالَ ماتت قلوبكم من عشرة أشياء، أولها إنكم عرفتم الله ولم تؤدوه حقه، وقرأتم كتاب الله ولم تعملوا به، وادعيتم عداوة إبليس وواليتموه. وادعيتم حب الرسول وتركتم أثره وسنته، وادعيتم حب الجنة ولم تعملوا لها، وادعيتم خوف النار ولم تنتهوا عن الذنوب، وادعيتم أن الموت حق ولم تستعدوا له، واشتغلتم بعيوب غيركم وتركتم عيوب أنفسكم ‘ وأكلتم رزق الله ولا تشكرونه. شِعْرًا: ... قَدْ قَلْتُ لِلْنَفْسِ وَبَالَغْتُ ... وَزِدْتُ في الْعُتْبِ وَأَكْثَرْتُ يا نَفْسُ قَدْ َقَصَّرتِ ما قَدْ كَفَى ... تَيَّقِظي قدْ قَرُبَ الْوَقْتُ جُدِّي عَسَى أنْ تُدْرِكي مَا مَضَى ... قدْ سَبَقَ النَّاسُ وخُلِّفْتُ

موعظة

.. أَنَا الَّذِي قدْ قُلْتُ دَهْرًا غَدًا ... أَتُوبُ مِنْ ذَنْبِي فَمَا تُبْتُ لَوْ كُنْتُ ذَا عَقْلٍ لَمَا حَلَّ بِي ... نُحْتُ عَلَى نَفْسِي مَا عِشْتُ وَاحَسْرَتِي يَوْمَ حِسَابِي إِذَا ... وَقَفْتُ لِلْعَرْضِ وَحُوسِبْتُ وَاخَجْلَتِي إِنْ قِيلَ لِي قَدْ مَضَى ... وَقْتُكَ تَفْرِيطًا وَوُبِّخْتُ اللَّهُمَّ تَوَفْنَا مُسْلِمينَ وَألْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الصَّالِحْيِنَ وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (موعظة) قَالَ بعضهم: يا أيها الناس اعملوا على مهل وكونوا من الله على وجل ولا تغتروا بالأمل ونسيان الأجل ولا تركنوا إلى الدنيا فإنها غدَّارة خدَّاعة، قد تزخرفت لكم بغرورها، وفتنتكم بأمانيها، وتزينت لخطابها فأصبحت كالعروس المجلية، العيون إليها ناظرة، والقلوب عليها كاكفة، والنفوس لها عاشقة، فكم من عاشق لها قتلت. ولو كانت الدنيا عروساً وجدتها ... بما قتلت أولادها لا تزوج وكم مطمئن إليها خذلت فانظر إليها بعين الحقيقة فإنها دار كثير بوائقها وذمها خالقها دار نفاد لا دار إخلاد ودار عبور لا دار حبور ودار فناء لا بقاء ودار انصرام لا دار دوام جديدها يبلى وملكها يفنى وعزيزها يذل وكثيرها يقل ودها يموت وخيرها يفوت. وقد تطابق على ما ذكر دلالات قواطع النقول وصحاح العقول والطعام وقضى به الحس والعيان حتَّى لم يقبل لوضوحه إلى زيادة في العرفان. وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهارُ إلى دليل ولما كانت الدنيا بهاذه الحال التي ذكرت والعظة التي تقدمت جاء في القرآن الكريم من التحذير عن الاغترار بها والركون إليها والاعتماد عليها ما هو أعرف من أن يذكر وأشهر من أن يشهر. شِعْرًا: ... يَا مُحِبَّ الدُّنْيَا الْغُرُورِ اغْتِرَارَ ... رَاكِبًا فِي طَلابِهَا الأَخْطَارَا يَبْتَغِي وَصْلَهَا فَتَأْبَى عَلَيْهِ ... وَتَرَى أَنْسَهُ فَتُبْدِي نِفَارَا

خَابَ مَنْ يَبْتَغِي الْوِصَال لَدَيْهَا ... جَارَةٌ لَمْ تَزَلْ تُسِيءُ الْجِوَارَا كَمْ مُحِبٍّ أَرَتْهُ أُنْسًا فَلَمَّا ... حَاوَلَ الزَّوْر صَيَّرَتْهُ ازْوِرَارَا وكذلك جاءت الأحاديث النبوية والآثار الحكيمة فلهذا كان الأيقاظ من أهلها العلماء العقلاء الزهاد. العاملون بعلمهم الَّذِينَ لا تأخذهم في الله لومة لائم لم يركنوا إلى الدنيا بل اتخذوها مطية إلى الآخرة. شِعْرًا: ... إِذَا بَكَيْتُ مَا مَضَى مِنْ زَمَنٍ ... فَحُقِّ لِي أَبْكِي وَمَنْ لِي بِالْبُكَا مَنْ أَبْصَرَ الدُّنْيَا بِعَيْنِ عَقْلِهِ ... أَدْرَكَ أَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَت لِلْبَقَا ِ مَطِيَّةٌ وَارِدَةٌ إِلَى الرَّدَى ... وَإِنْ تَرَاخَى الْعُمْرُ وَامْتَدَّ الْمَدَى إِنْ هِيَ أَعْطِيَتْ كَانَتْ هَمًّا حَاضِرًا ... أَوْ مُنِعَتْ كَانَ عَذَابًا وَأَذَى وَالْمَرْءُ رَهْنُ أَمَلٍ مَا يَنْتَهِي ... حَتَّى يُوَافِي أَجَلاً قَدْ انْتَهَى بخلاف علماء الألسن الَّذِينَ يلبسون للناس جلود الظأن من اللين وقلوبهم قلوب الذئاب الَّذِينَ يتخللون بألسنتهم كما تتخلل البقرة بلسانها. قَالَ بعضهم وأجاد في وصف الدنيا. أَلا إِنَّمَا الدُّنْيَا كَجِيفَةِ مَيْتَةٍ ... وَطُلابُهَا مِثْلُ الْكِلابِ الْهَوَامِسِ وَأَعْظَمُهُمْ ذَمًّا لَهَا وَأَشَدُّهُمْ ... بِهَا شَغَفًا قَوْمٌ طِوَال الْقَلانُسِ وختاماً فاستيقظوا رحمكم الله من غفلتكم وانتبهوا من رقدتكم فبل أن يقال فلان مريضٌ أو ثقِيلٌ أو مدنفٌ ثقِيل فهل من دليل يدل على الدواء لهذا العليل أو هل إلى الطبيب من سبيل. فتنقل إلى المستشفى وتدعى لك الأطباء ولا يرجى لك الشفاء ثم يقال فلان أوصى ولماله أحصى ثم يقال قد ثقل لسانه وما يقدر على أن يكلم إخوانه. وها هو في سكرات الموت لا يعرف من عنده من أولاده وإخوانه وجيرانه

قصيدة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم

وعرق عند ذلك جبينك وتتالع أنينك وثبت يقينك وارتفعت جفونك وصدقت ظنونك. وتلجلج وتحير لسانك وبكى أولادك وإخوانك وقِيلَ لك هذا ابنك فلان وهذا أخوك فلان وهذه أمك وهذا أبوك وبصرك شاخص وعيونك غرقى من الدمع ولا تقدر على الكلام. فتصور نفسك يا مسكين ملقى على الأرض التي خلقت منها جثة تتصاعد روحك والناس من حولك يبكون ولكن دون جدوى لأن قضاء الله وقدره لا بد أن ينزل بِكَ. ثم ختم على لسانك فلا ينطق ثم حل بِكَ القضاء وانتزعت نفسك من الأعضاء ثم عرج بها إلى السماء فاجتمع عند ذلك أولادك وإخوانك وأحضرت أكفانك وجيء بالنعش والمغسل. فجردك من الثياب وغسلك وجيء بالكفن فكفنوك وحنطوك فانقطع عوادك واستراح حسادك وانصرف أهلك إلى مالك وبقيت مرتهنًا بأعمالك فيا لها من رحلة ويا له من قدوم. شِعْرًا: ... فَمَا تَزَوَّدَ مِمَّا كَانَ يَجْمَعُهُ ... سِوَى حَنُوطٍ غَدَاةَ الْبِين فِي خَرَقِ وَغَيْرَ نَفْحَةِ أَعْوَادٍ تُشَبُّ لَهُ ... وَقَلَّ ذَلِكَ مِنْ زَادٍ لِمُنْطَلِقِ هذه قصيدة في مدح النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أزلنا ما فيها من الغلو الَّذِي ما تنبه له وتركنا أيضاً التثبيب الَّذِي في أولها. أَحْمَدُ الْهَادِي إِلَى سُبُلِ الْهُدَى ... كَمْ بَدَى مِنْهُ لآهْلِ الأَرْضِ نُصْحْ هَاشِمِيٌّ قُرَشِيٌّ طَاهِرٌ ... حَسنَ الأَخْلاقِ زَاكِي الأَصْلِ سَمْحْ ِ جَاءَ بِالدِّينِ الْحَنيفِيِّ وَقَدْ ... طَبَّقَ الأَرْضُ مِنَ الإِشْرَاكِ جُنْحْ فَأَرَى النَّاسَ الْهَادِي بَعْدَ الرَّدى ... فَإِذَا الْحَقُّ تَجَلَّى مِنْهُ صُبْحْ فَآبى مِنْهُمْ كِلابُ كَيْدُهُمْ ... حِينَ خَافُوا أُسْدَ الإِسْلامِ نَبْحْ ِ ثُمَّ لَمَّا رَامَ تَمْزِيقَ الدُّجَا ... جَاءَهُ مِنْ فَجْرِ نُورِ اللهِ رُمْحْ فَاِنْجَلَى الشِّرْكُ وَوَلَّى دُبْرَهُ ... وَعَلَتْ لِلَّذينِ آطَامُ وَصُرْحْ

وَبَدَتْ أَعْلامُ إِسْلامٍ بِهَا ... صَارَ لِلأَصْنَامِ تَكْسِيرٌ وَطَرْحْ وَبِهِ الرَّحْمَنُ قَدْ أَنْقَذَنا ... مِنْ لَظَى نَارٍ لأَهْلِ الْكُفرِ تَلْحْ هُوَ خَيْرُ الْخَلْقِ طُرًّا وَبِهِ ... لِلنَّبِيِّينَ جَرَى خَتْمٌ وَفَتْحْ فَاقَ فِي حِلْمٍ وَحُكْمٍ وَحِجِيِّ ... زَانَهُ صِدْقُ وَصَبْرُ ثُمَّ صَفْحْ عَزْمُهُ مَاضٍِ وَأَمَّا عِلْمِهِ ... فَهُوَ كَالْبَحْرِ فَلا يُزْرِيهِ نَزْحْ فَهُوَ فِي يَوْم الْوَغى لَيْثُ عِدِيِّ ... وَهُوَ فِي يَوْمَ النَّدَى غَيْثٌ يَسِحْ كَفُّهُ عَارِضُ جُودٍ هَاطِلُ ... جَادَ بِالِجُودِ فَلا يَعْرُوهُ شُحْ وَإِذَا مَا ثَارَ نَفْعُ وَعَدَتْ ... عَادِيَاتُ وَبَدَا مِنْهُنَّ ضَبْحْ وَلْتَقَى الْبِيضُ وَأَطْرَافُ الْقَنَا ... فِي مَجَالٍ وَحَمَى لِلْبَلِّ نَضْحْ لَمْ يَكُنْ كَيْدُ الْعِدَى هَائِلُهُ ... أَيَهُولُ الضَّيْغَمَ الْمِقْدَامَ سَرْحْ كَمْ لَهُ مِنْ مَوْطِنٍ فِيهِ ارْتَوَى ... مِنْ دِمَا أَعْدَائِهِ سَيْفٌ وَرَمْحْ كُلّ مَنْ حَارَبَهُ دَانَ لَهُ ... بَعْدَ أَنْ يُثْخِنَهُ قَتْلٌ وَجَرْحْ حَرْبُهُ نَارٌ عَلَى أَعْدَائِهِ ... فَنَجَا مَنْ هُوَ لِلْمُخْتَارِ صُلْحْ جَاءَهُ الْكُفَّارُ فِي أَحْزَابِهِمْ ... لِيُزِيلُوا شِرْعَةَ الْحَقِّ وَيَمْحْ فَتَوَلَّوْا هَرَبًا بَلْ خُيَّبَا ... مَا شَفُوا غَيْظًا وَمَا لِلزِّنْدِ قَدحْ غَنَمٌ بِالنَّطْحِ صَالَتْ وَأَبَى ... جَبَلُ الإِسْلامِ أَنْ يُوهيهِ نَطْحْ وَلَهُ صَحْبٌ لُيُوثٌ هَمَّهُمْ ... لِدَمِ الْكُفَّارِ فِي الْهَيْجَاءِ سَفْحْ لَمْ يُلاقُوا أَحَدًا إِلا انْثَنَى ... وَتَوَلَّى وَلَهُ فِي الْعَدْوِ جَمْحْ فَهُمُ الشُّجَعَانُ إِنْ جَاءَ الضِّيَا ... وَهُمْ الرُّهْبَانُ مَهْمَا جَنَّ جُنْحْ وَهُمُ الْقَوْمِ إِذَا مَا عَبَسَتْ ... وَاكْفَهَرَّتْ أَوْجُهٌ لِلْحَرْبِ كَلْحْ لا تَرَى فَخْرًا إِذَا نَالُوا وَلا هُمْ ... جَزعًا إِنْ نَالَهُمْ فِي الْحَرْبِ قَرْحْ

موعظة

.. كَمْ سَقُوا حِزْب الْعِدَى كَأْسَ الرَّدَى ... وَهُوَ فِي الذُّوقِ مِنْ الْعَلْقَمِ صَرْحْ فَهُمُ الأَنْصَارُ لِلدِّينِ لَهُمْ ... أَبَدًا فِي نُصْرَةِ الإِسْلامِ كَدْحْ بَذَلُوا الأَنْفُسَ وَالأَنْفُسُ مِنْ ... مَا لَهُمْ للهِ مَا ظَنُّوا وَشَحُّوا حَسْبُهُمْ مِنْ مَالِهِمْ سَابِغَة ... وَجَوَاد ثُمَّ صَمْصَامٌ وَسَمْحْ فَاغْفِرْ اللَّهُمَّ ذَنْبِي كُلَّهُ ... وَاسْتُرْ الْعَيْبَ فَلا يُبْدِيهِ فَضْحْ وَأَجِبْ رَبِّي دُعَائِي إِنَّهُ ... لِقَضَاءِ الْحَاجِ مِفْتَاحٌ وَنَجْحْ وَأَتِمَّ الْحَمْدَ للهِ عَلَى ... فَضْلِهِ وَالْفَضْلُ مِنْ ذِي الْعَرْشِ مَنْحْ وَصَلَوَاتُ اللهِ مَعْ تَسْلِيمِهِ ... مَا جَرَى فَلْكٌ لَهُ فِي الْبَحْرِ سَبْحْ أَبَدًا يَهْدِي إِلَى خَيْرِ الْوَرَى ... مَنْ لَهُ فِي كُتُبِ الرَّحْمَنِ مَدْحْ أَحْمَدُ وَالآلُ وَالصَّحْبُ وَمَنْ ... لَهُمْ يَقْفُوا عَلَى الأَثْرِ وَيَنْحُوا مَا حَدَى بِالْعِيسِ حَادِيهَا وَمَا ... أَطْرَبَ السَّمْعَ مِنَ السَّاجِعِ صَدْحْ اللَّهُمَّ وقفنا للاستعداد لما أمامنا وأهدنا سبيل الرشاد ووفقنا للعمل صدح ليوم المعاد وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (موعظة) قَالَ الله جل ذكره {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} وَقَالَ جل وعلا {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى} وَقَالَ عز من قائل {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} وَقَالَ تبارك وتعالى {فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ} . وَقَالَ تعالى {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} وَقَالَ جل وعلا {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ} وَقَالَ جل وعلا وتقدس {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً} . وكان النَّبِيُّ يتخول أصحابه بالموعظة فالوعظ والتذكير فريضتان واجبتان ماضيتان على أهلهما بكتاب الله وسنة رسوله. وقد أمر الله الموعظين بالاستماع والإصغاء للموعظة لما فيها من المنافع العظيمة.

فعلى كل إنسان مهما جل قدره وعظم خطره أن يحرص ويجتهد على استماع الموعظة وقبول النصيحة لأنه إذا فعل ذلك فاز بقسطه الأوفر وحظه الأجزل واستحق من الله البشرى في العاجل والثواب في الآجل ومن عقلاء خلقه الثناء الحسن والمدح والإكرام والدعاء. فإن الله جل ذكره يقول {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} ثم قَالَ {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} . وقد شبه الله الكفرة المعرضين عن القرآن الَّذِي هو مشتمل على التذكرة الكبري والموعظة العظمي بالحمر قَالَ تعالى {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} فليحذر المسلم أن يتشبه بهم ويعرض عن الموعظة. وقد جعل الله جل ذكره الخير في الاعتبار والاعتبار بالتفكير وحث عليه في عدة مواضع من كتابه قَالَ تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} وَقَالَ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ} . وَقَالَ جلا وعلا {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى} وَقَالَ جل وعلا وتقدس {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} . وَقَالَ عز من قائل {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} وَقَالَ جل وعلا {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} . فمن قريب ما يجب أن يفكر فيه اللبيب ويتدبره أن يتذكر أحوال الأمم والقرون الماضية والملوك الأولين الَّذِينَ كانوا من أشد خلق الله وأكثر جمعا وأبين آثاراً وأطول أعماراً بنوا المدائن وجمعوا الخزائن وحفروا الأنهار وعمروا الديار وشيدوا القصور. ودبروا الأمور وجمعوا الجموع وقادوا الجيوش وساقوا الخيول ودوخوا البلاد وأذلوا العباد ومشوا في الأرض مرحاً واختالوا بما أوتوا فرحاً فأخذهم الله بما كانوا يكسبون لله.

فأصبحوا بعد العز والمنعة والملك والرفعة والصوت والسطوة والذكر والصولة عظامًا رميمًا ورفاتًا هشيمًا وأصبحت منازلهم خاوية وقصورهم خالية وأجسادهم بالية وأصواتهم هادئة. تخبرك آثارهم معاينة وتقرع سمعك أخبارهم مجاهرة فلم يصحبهم من الدنيا ما جمعوا ولم يدفع عنهم الردى ما كسبوا ولعلهم ندموا حيث لم تنفعهم الندامة وتلهفوا حيث لا يغني عنهم التلهف شيئاً. وإن الباقي عما قليل كالفاني والغابر عما قليل كالماضي وما بينهما إلا أنفاس معلومة وأيام معدودة سريعة الانقضاء قريبة الانتهاء. فليحذر المغتر بملكه والمتمتع بعزة هذه الصرعة وليستعد لهذه الوجبة والينته لهذه الموعظة فإن الله جعلها في أوائل مواعظه. وكررها في مواضع من كتابه حيث جل وعلا وتقدس يقول {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} . وَقَالَ تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} . وَقَالَ جل وعلا وتقدس {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} . وعد جل وعلا كثيراً منهم في كتابه ووصفهم وسماهم في خطابه حيث يقول {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبِكَ بِعَادٍ* إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ* الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ* وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبِكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبِكَ لَبِالْمِرْصَادِ *} .

موعظة

وَقَالَ: {وَعَاداً وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً} . هذا خبر أصدق القائلين وهذا قول حق وقد جعل الله بكل ما شوهد في أيامه وعوين في زمانه ممن رفعوا ثم وضعوا وعلوا ثم صرعوا ودارت عليهم الدوائر ونابتهم النوائب ما في بعضه مقنع لمعتبر وبلاغ لمدكر. قَالُوا وأشرف أبو الدرداء صاحب رَسُولِ اللهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أهل حمص فَقَالَ يا أهل حمص أتبنون ما لا تسكنون وتأملون ما لا تدركون وتجمعون ما لا تأكلون. إن من كان قبلكم بنوا شديدا وأملوا بعيدا وجمعوا كثيرا فأصبحت اليوم مساكنهم قبورا وأملهم غزورا وجمعهم بورا. وقد قَالَ أحد فصحاء الملوك في خطبته: ألم تروا مصارع من كان قبلكم كيف استدرجتهم الدنيا بزخارفها ونفتهم ثم تركتهم وقد تخلت عنهم فهم في حيرة وظلمة مدلهمة تركوا الآهلين والأولاد والعيال والأموال. مساكنم القبور وقد خلت منهم الدور وتقطعت منهم الأوصال والصدور وصاروا ترابا باليا وكان الله لهم ناهيا قَالَ تعالى {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} . (موعظة) عباد الله سرور المؤمنين يعتبرون القناطر ويأمنون العواثر فذلك يوم عيدهم ومادوا في دار الغرور فلا غبطة ولا سرور. وأي سرور لمن الموت معقود بناصيته والذنوب راسخة في آنيته والنفس تقوده إلى هواها والدنيا تتزين في عينه بمشتهاها. والشيطان مستبطن فقار ظهره لا يفتر عن الوسوسة في صدره ونفسه وماله بعرضه للحوادث ولا يدرى في كل نفس ما عليه حادث. شِعْرًا: ... فِعَالِي قَبِيحٌ وَظَنِّي حَسَنٌ ... وَرَبِّي غَفُورٌ كَثِيرُ الْمِنَنْ

فصل يحتوي على وصايا نافعة

.. تُبَارِزْ مَوْلاكَ يَا مَنْ عَصَى ... وَتَخْشَى مِنْ الْجَارِ لَمَّا فَطِنْ رَكِبْتُ الْمَعَاصِي وَشِيبِي مَعِي ... فَوَاللهِ يَا نَفْسُ مَاذَا حَسَنْ فَقُومِي الدَّيَاجِي لَهُ وَارْغَبِي ... وَقُولِي لَهُ يَا عَظِيمَ الْمَنَنْ وَقُولِي لَهُ يَا عَظِيمَ الرَّجَا ... إِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْفُ عَنِّي فَمَنْ آخر: ... إِنِّي بُلِيتُ بِأَرْبَعٍ مَا سُلِّطُوا ... إِلا لأَجْلِ شَقَاوَتِي وَعَنَائِي إِبلَيْسَ وَالدُّنْيَا وَنَفْسِي وَالْهَوَى ... كَيْفَ الْخَلاصُ وَكُلُّهُمْ أَعْدَائِي ومن ورائه المغير ومسألة منكر ونكير ويتوسد التراب إلى يوم النشور {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} يوم لا يبلغ وصف أهواله ولا شرح أحواله ما لا يسع المؤمن به أن يستقر له قرار ولا يخلد إلى هذه الدار ولا يكون له هم في هذه الدنيا إلا التقرب بأنواع القرب واجتناب الفواحش والريب وإقامة الدين الَّذِي في إقامته النجاة وفي تضييعه العطب العظيم. يَوْمُ الْقِيَامَةِ لَوْ عَلِمْتَ بِهَوْلِهِ ... لَفَرَرْتَ مِنْ أَهْلٍ وَمِنْ أَوْطَانِ يَوْمٌ تَشَقَّقَتِ السَّمَاءُ لِهَوْلِهِ ... وَتَشِيبُ مِنْهُ مَفَارِقُ الْوِلْدَانِ يَوْمٌ عَبُوسٌ قَمْطَرِيرٌ شَرُّهُ ... فِي الْخَلْقِ مُنْتَشِرٌ عَظِيمُ الشَّانِ يَوْمٌ يَجِيءُ الْمُتَّقُونَ لِرَبِّهِمِ ... وَفْدًا عَلَى نُجُبٍ مِنَ الْعِقيَاتِ وَيََجِيءُ فِيهِ الْمُجْرِمُونَ إِلَى لَظَى ... يَتَلَمَّظُونَ تَلَمُّظَ الْعَطْشَانِ وَالْجَنَّةُ الْعُلْيَا وَنَارُ جَهَنَّمِ ... دَارَانِ لِلْخَصْمَيْنِ دَائِمَتَانِ اللَّهُمَّ أتمم علينا نعمتك الوافية وارزقنا الإخلاص في أعمالنا والصدق في أقوالنا وعد علينا بإصلاح قلوبنا وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فصل)

كتب بعضهم إلى أخ له فَقَالَ له: أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله سبحانه والعمل بما علمك الله تعالى والمراقبة حيث لا يراك إلا الله عز وجل والاستعداد لما ليس لأحد فيه حيلة ولا ينتفع بالندم عند نزوله. شِعْرًا: ... تَفُوزُ بِنَا الْمَنُونَ وَتَسْتَبِدُّ ... وَيَأْخُذُنَا الزَّمَانُ وَلا يَرُدُّ وَأَنْظُرُ مَاضِيًا فِي عَقْبِ مَاضٍ ... لَقَدْ أَيْقَنْتُ أَنَّ الأَمْرَ جِدُّ رُوَيدًا بِالْفِرَارِ مِنَ الْمَنَايَا ... فَلَيْسَ يَفُوتُهَا السَّارِي الْمُجِدُّ فاحسر عن رأسك قناع الغافلين وانتبه من رقدة الموتى وشمر للسباق غداً فإن الدنيا ميدان المسابقين ولا تغتر بمن أظهر النسك وتشاغل بالوصف وترك العمل بالموصوف. واعلم يا أخي أنه لابد لي ولك من المقام بين يدي الله عز وجل يسألنا عن الدقيق الخفي والجليل الخافي ولست آمن أن يسألني وإياك عن وسوسة الصدور ولحظات العيون والإصغاء للاستماع. واعلم أنه لا يجزي من العمل القول ولا من البذل العدة ولا من التوقي التلاوم. قَالَ نافع خرجت مع ابن عمر في بعض نواحي المدينة ومعه أصحابه فوضعوا سفرة لهم فمر بهم راعي فَقَالَ عبد الله بن عمر يا راعي هلم فأصب من هذه السفرة. فَقَالَ إني صائم فَقَالَ عبد الله في مثل هذا اليوم الشديد حره وأنت بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم وبين هذه الجبال ترعى هذه الغنم وأنت صائم. فَقَالَ الراعي أبادر أيامي فعجب ابن عم وَقَالَ هل لك أن تبيعنا شاة من غنمك نجتزرها نطعمك من لحمها ما تفطر عليه ونعطيك ثمنها. قَالَ إنها ليست لي إنها لمولاي قَالَ فما عسيت أن يقول مولاك إن قلت أكلها الذئب. فمضى الراعي وهو رافع إصبعه إلى السماء وهو يقول فأين الله قَالَ فلم يزل ابن عمر يقول الراعي فأين الله فما عدا أن قدم المدينة فبعث إلى سيد الراعي فاشترى منه الراعي والغنم فأعتق الراعي ووهب له الغنم. ودعا قوم رجلاً إلى طعامٍ في يوم قائظ حره فَقَالَ إني صائم فقَالُوا أوفي مثل هذا اليوم قَالَ أفاغبن أيامي.

ونزل روح بن زنباع منزلاً بين مكة والمدينة في يوم صائف وقرب غداءه راع من جبل فَقَالَ يا راع هلم إلى الغداء قَالَ إني صائم. قَالَ له روح بن زنباع أو تصوم في هذا الحر الشديد قَالَ الراعي أفأدع أيامي تذهب باطلاً فأنشأ روح يقول: لَقَدْ ضَنَنْتَ بِأَيَّامِكَ يَا رَاعِي ... إِذْ جَادَ بِهَا رَوْحُ بنُ زِنْبَاعِ ودعا قوم رجلاً إلى طعام فَقَالَ إني صائم فقَالُوا أفطر وصم غداً قال ومن لي بأن أعيش إلى غد. وري أن الحسن رأى رجلاً متعبداًً فَقَالَ يا عبد الله ما يمنعك من مجالسة الناس قَالَ شغلني عن الناس قَالَ فما منعك أن تأتي الحسن فَقَالَ ما أشغلني عن الحسن قَالَ فما الَّذِي أشغلك عن الحسن. قَالَ إني أمسي وأصبح بين ذنب ونعمة فرأيت أن أشغل نفسي بالاستغفار للذنب والشكر لله تعالى على النعمة فَقَالَ أنت عندي أفقه من الحسن. وَقَالَ بعض العلماء حاثاً على شكر الله جل وعلا فَقَالَ إخواني اشكروا الله على ما أنعم عليكم به من الألسن بكثرة التلاوة لكتاب الله وذكره. فإن فرطتم في ذلك فاستحيوا من الله أن تخوضوا بالألسن في فنون الآثام فقد ورد عن النبي ? أنه قَالَ: «هل يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم» . فالرجل العاقل المستقيم لا يستخدم لسانه إلا في الحق والخير من ذكر الله والثناء عليه وتلاوة كتابه الكريم والنصح لله ولرسوله وللمؤمنين ولأئمة المسلمين وعامتهم ويجتنب الكذب والافتراء والغيبة والنميمة ويجتنب القبيح وتقبيح الحسن والتملق والنفاق والرياء قَالَ ?: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ كل هذه منِ آفاتِ الِلّسَان» . ألا واشكروا الله على ما أنعم به عليكم من الأنصار بالنظر إلى الحق بالاعتبار شكراً الله على له فإن رغبتم عن ذلك فراقبوا الله أن تنظروا بالأبصار إلى الحرام

فتغضبوا الله بنعمه كفعل الكثير من الناس فاتقوا الله عباد الله. إلا فراقبوه واشكروه على ما أنعم به عليكم من السمع بالاستماع إلى القرآن الكريم وكلام سيد المرسلين والمواعظ الحسنة. فإن ضيعتم ذلك وفرطتم فيه فاستحيوا من الله أن تنصتوا بأسماعكم إلى الهوى والملاهي والأغاني وجميع المنكرات فإنكم عن جميع ذلك مسؤولون. واشكروا الله على ما أنعم به عليكم من الأيدي ببسطها إلى الخيرات فإن قصرتم عن ذلك فاستحيوا أن تبسطوها إلى الظلم والأذى كفعل كثير من الناس فإن الظلم ظلمات يوم القيامة قَالَ الله جل وعلا وتقدس {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} ألا فاتقوا الله عباد الله واشكروه على ما أنعم به عليكم من الأرجل بالسعي بها إلى الطاعات فإن قصرتم في ذلك فراقبوا الله ولا تسعوا بها إلى الآثام. فالرجل المستقيم لا يستخدم سمعه وبصره وجميع حواسه ومشاعره إلا فيما أحل الله له وقد جمع الله كثيراً من صفات المؤمنين المستقيمين وعدهم مفلحين مستحقين للخلود في جنات النعيم في قوله عز وجل {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} إلى قوله {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} قَالَ الله جل وعلا {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فكيف بِكَ والأكبال في الأقدام والأغلال في الأعناق، قَالَ الله جل وعلا {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} . إلا فاتقوا الله عباد الله واشكروه على ما أنعم به عليكم من الأقوات فلا تتقووا بها على معاصي الله ألا يا عباد الله فاتقوا الله على ما أنعم به عليكم من اللباس وذلك بأن تبلوه في رضى الله فإن قصرتم عن ذلك فاستحيوا أن تبلوا لباسكم في ما يكره الله. شِعْرًا: ... عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللهِ فِي كُلِّ حَالَةٍ ... تَجِدْ نَفْعَهَا يَوْمَ الْحِسَابِ الْمُطَوَّلِ إلاَ إنَّ تَقْوَى اللهِ خَيْرُ بِضَاعَةٍ ... وَأَفْضَلُ زَادِ الضَّاعِنِ الْمُتَحَّمِلِ

موعظة ويليها فصل حث على الاستعداد ليوم المعاد ويليها فصل يحتوي على مواعظ

.. وَلاَ خَيْرَ فِي طُولِ الْحَيَاةِ وعَيْشِهَا ... إذَا أنْتَ مِنْهَا بالتُّقى لَمْ تَزَوَّدِ ألا فاتقوا الله عباد الله واشكروه على ما وهبكم من الأموال وذلك بأن تبلوها في سبيل الله فإن بخلتم عن ذلك فاستحيوا من الله أن تنفقوا ما وهبكم من المال في معاصيه. واشكروا الله على نعمته العظمى وهو ما أنعم به عليكم من الإيمان به وبكتبه وملائكته ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. واشكروه على ما أنعم به عليكم من العقل بالتفكير والتدبر واعتقاد حسن النية والاعتبار وشدة الخوف والحزن وسلامة الصدر للعامة. واشكروا الله على ما أنعم به عليكم من العقل بأن تعظموا الله عز وجل وتجلوه وتستحيوا منه وتهابوه وتتقوه وتطيعوه على حسب ما عقلتم من عظمته وكبريائه وعظيم قدره سبحانه وتعالى. فإن قصرتم في ذلك فراقبوا الله تعالى ولا تكونوا كالَّذِينَ لا يعظمونه ولا يجلونه ولا يهابونه ويستحيون منه ولا يتقونه ولا يطيعونه ولا يقدرونه حق قدره بل يستهينون بكثير من أمره. فاتقوا الله عباد الله أن تعودوا بعد العلم جهالاً وبعد المعرفة والفهم ظلالاً ويعود العقل والعلم عليكم وبالا. وهب الله لنا ولكم القيام بطاعته ووفقنا وإياكم شكر نعمه وحسن عبادته إنه جواد كريم رؤوف رحيم وصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (موعظة) إن العجب كل العجب من إنسان عاقل أخبر أنه سيسلك طريقاً شائكاً وعراً مليئاً بالمخاوف والمزعجات والمهالك وإن عليه أن يتصور هذه المخاوف والمخاطر والمهالك ويتصور آثارها على مستقبله الأبدي والَّذِي أخبره أصدق القائلين وأوفى الواعدين الَّذِي أحاط بكل شيء علماً. شِعْرًا: ... أَمَا وَاللهِ لَوْ عَرَفَ الأَنَامُ ... لِمَا خُلِقُوا لَمَا غَفَلُوا وَنَامُوا

لَقَدْ خُلِقُوا لِمَا لَوْ أَبْصَرَتْهُ ... عُيُونُ قُلُوبِهِمْ سَاحُوا وَهَامُوا مَمَاتٌ ثُمَّ قَبْرٌ ثُمَّ حَشْرٌ ... وَتَوْبِيخٌ وَأَهْوَالٌ عِظَامُ لِيَوْمِ الْحَشْرِ قَدْ خُلِّقَتْ رِجَالٌ ... فَصَلُّوا مِنْ مَخَافَتِهِ وَصَامُوا وَنَحْنُ إِذَا أُمِرْنَا أَوْ نُهِينَا ... كَأَهْلِ الْكَهْفِ أَيْقَاظُ نِيَامُ ومع ذلك تراه غافلاً لا اهتمام له بذلك منصرفاً عن الابتعاد عن هذه المهالك والمزلات الفظيعة ومشتغلاً بالدنايا والأمور التافهة من شؤون الدنيا الملعونة الملعون ما فيها إلا ذكر الله وما ولاه. وما أصيب الإنسان بمرض أشد من الغفلة الَّذِي ربما تحول إلى جمود وقسوة ثم إلى لجاج وعناد ثم إلى كفر وجحود نسأل الله تعالى العافية. ومن أكبر الأدلة على حمق الإنسان وغباوته وجهله أنه يكد ويشقى من أجل مستقبل مهما طال فلن يجاوز الثمانين غالباً وإن تجاوزها فهو كالمعدوم , ومع هذا فيهمل إهمالاً كلياً أو جزئياً العمل من أجل مستقبل لا نهاية له مستقبل الأبد الخلود فيا لها من خسارة لا عوض لها ولا جبر منها ولا أمل في تلافيها. فيا الغافل انتبه واستعد لما أمامك وتصوره تصوراً صحيحاً يظهر أثره في جدك واجتهادك فيما يقربِكَ إلى الله لا يفاجئك الأمر وأنت غافل فيفوتك زمن الإمكان وتندم وتتحسر قَالَ تعالى وتقدس {أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} . وَقَالَ الله جل وعلا {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ} وَقَالَ تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} وَقَالَ تعالى: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ} وَقَالَ تعالى: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} الآيات. إن الَّذِينَ غمر الإيمان قلوبهم واستحوذت معرفتهم على مشاعرهم ووجدانهم هم الَّذِينَ أيقنوا بلقاء ربهم وسماع الحكم منه في مصائرهم، هؤلاء

هم الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفًا وطمعًا ومما رزقهم الله ينفقون. الذين قال الله تعالى مخبرًا عنهم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} {الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ} إلى قوله: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} . {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ} الآية {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} الآيتين. {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} الآيات. هؤلاء هم الذين رعوا للدين حرمته واحترموا آدميتهم وكرامتهم ووفقهم الله جل وعلا فبنو لأنفسهم صروح المجد الخالد والعز الباقي والسعادة الأبدية. ولا يبعد أن يكون من هؤلاء المذكورين الموصوفين بالصفات الحميدة القائل: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدون عليه بالسيوف. ومنهم الباكي حين حضرته الوفاة القائل: إني لم أبكي جزعًا من الموت حرصًا على الدنيا ولكن أبكي على عدم قضاء وطري من طاعة ربي وقيام الليل أيام الشتاء. ومنهم الباكي عند ما تفوته تكبيرة الإحرام مع الجماعة ومنهم الذي يمرض إذا فاتته الصلاة مع الجماعة. ومنهم القائل: لم أصل الفريضة منفردًا إلا مرتين وكأني لم أصلهما. مع أنه قارب التسعين سنة. ومنهم من لم تفته صلاة الجماعة أربعين سنة إلا مرة واحدة حين ماتت والدته اشتغل بتجهيزها. والقائل حين ما قال له رجل: أراك تكثر من حمد الله وشكره مع أنه ابتلاك ببلاءٍ ما ابتلا أحدًا بمثله الجذام في أطرافك وتمزقت الثياب على جسدك ولا زوجة لك ولا ولد لك ولا دار ولا أهل فما شأنك؟ فقال المبتلي:

شِعْرًا: ... حَمِدْتُ اللهَ رَبِّي إِذْ هَدَانِي ... إِلَى الإِسْلامِ وَالدِّينِ الْحَنِيفِي فَيَذْكُرُهُ لِسَانِي كُلَّ وَقْتٍ ... وَيَعْرَفُهُ فُؤَادِي بِاللَّطِيفِ بينما أبو شريح العابد يمشي جلس فتنع بكسائه وجعل يبكي، فقِيلَ ما يبكيك قَالَ تفكرت في ذهاب عمري وقلة عملي واقتراب أجلي. وكان بعض الموفقين المحاسبين لأنفسهم يكتل الصلوات الخمس في قرطاس ويدع بين كل صلاتين بياضاً. وكلما ارتكب خطيئة من كلمة غيبة أو استهزاء أو كذب كذبة أو تكلم فيما لا يعنيه أو نظر إلى ما لايحل نظره إليه أو استمع إلى ما لا يحل الاستماع إليه أو أكل مشتبها أو مشي إلى ما لا يحل أو مد يده إلى ما لا يجوز مدها إليه. ذكره في هذا البياض ليعتبر ذنوبه ويحصيها حسب قدرته لتضيق المحاسبة مجارى الشيطان والنفس الأمارة بالسوء. ومقام محاسبة النفس يقلل الكلام فيما لا يعني ويحمل الإنسان على تقليل الذنوب وعلى الإكثار من الطاعات لمقابلة ما صدر منه ولكن هذا الطراز يعز وجوده في زماننا هذا. نقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قَالَ: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا للعرض الأكبر على الله {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} . فالمحاسبة تكون بضبط الحواس ورعاية الأوقات وإيثار المهمات وحفظ الأنفاس والحرص على أداء العبادات كاملة وبالأخص الصلاة فيكملها بشروطها المذكورة وأركانها وواجباتها وسننها بخشوع وخضوع وطمأنينة وسكون. والعبد يحتاج إلى السنن الرواتب لتكميل الفرائض ويحتاج إلى النوافل

لتكمل السنن ويحتاج إلى الآداب لتكمل النوافل ومن الآداب ترك ما يشغل عن الآخرة. ومن الآداب الإكثار من زاد الآخرة من ذكر الله وما والاه. شِعْرًا: ... عَلَيْكَ بِذِكْرِ اللهِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ ... فَمَا خَابَ عَبْدٌ لِلْمُهَيْمَنِ يَذْكُرُ قَالَ بعضهم إن الرجل ليشيل عارضاه في الإسلام وما أكمل لله صلاه قِيلَ وكيف ذاك، قَالَ لا يتم خشوعها وتواضعها وإقباله علي الله فيها. روي عن بعض أهل العلم في قول الله جل جلاله {وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ} قَالَ القنوت الخشوع في الركوع والسجود وغض البصر وخفض الجناح من رهبة الله عز وجل. وكان العلماء إذا قام أحدهم للصلاة هاب أن يلتفت أو يعبث أو يحدث نفسه بشيء من شئون الدنيا إلا ناسياً. وبلغنا عن بعض أهل العلم أنه قَالَ: ركعتان خفيفتان مقتصدتان في تفكر وتدبر وتفهم لما يقوله ويفعله خير من قيام ليلة والقلب ساه في أودية الدنيا. فالواجب على الإنسان إذا كان في الصلاة أن يجعلها همه ويقبل عليها مفرغاً قلبه وفكره من كل ما يشتته ليؤديها كاملة مكملة. فإنه ليس له منها إلا ما عقل منها من معاني الفاتحة وما يقرأ من القرآن ومعاني الركوع والسجود والقيام بين يدي الله ومعاني العبودية والمناجاة ومعاني التحيات والتكبيرات. فكم بين رجلين أحدهما قد أشعر قلبه عظمة خالقه الَّذِي هو واقف بين يديه فامتلأ قلبه من هيبته وذلت له عنقه واستحى من ربه أن يقبل على غيره أو يلتفت عنه. وآخر قد انصرف قلبه إلى الدنيا يفكر فيها ملتفتاً يميناً وشمالاً ولا يفهم ما يخاطب به لأن قلبه ليس حاضراً معه فبين صلاتيهما كما قَالَ بعض أهل العلم.

إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحد وإن ما بينهما في الفصل كما بين السماء والأرض وذلك أن أحدهما مقبل على الله عز وجل بقلبه والآخر ساه غافل يفكر في البيوع والخصومات والأماني والخسارات قد ذهب قلبه كل مذهب في أودية الدنيا. وروي أن بعض الصحابة رضي الله عنهم كان يصلي في نخل له فشغل بالنظر إلى النخل فسها في صلاته فاستعظم ذلك وَقَالَ أصابني في مالي فتنة فجعل النخيل في الأرض صدقة في سبيل الله فبلغ ثمن النخيل خمسين ألفاً. فلو أن الواحد منا إذا فاتته الصلاة مع الجماعة تصدق في عشرة فقط لما فاتتنا الصلاة مع الجماعة وهذا علاج من أحسن العلاجات. وينبغي استعماله عند ما يصدر كذب أو غيبة أو نظر محرم أو سماع محرم أو نحو ذلك مِمَّا يقوله الإنسان أو يفعله عمداً أو سهواً ليتأدب ويستقيم ويقتدي به والله الموفق. وَحَصِّنْ عَنْ الْفَحْشَا الْجَوَارِحَ كُلَّهَا ... تَكُنْ لَكَ فِي يَوْمِ الْجَزَا خَيْرَ شُهَّدِ وَخَالِطْ إِذَا خَالَطْتَ كُلَّ مُوَفَّق ... مِنَ الْعُلَمَا أَهْلُ التُّقَى وَالتَّعَبُّدِ يُفِيدُكَ مِنْ عِلْمٍ وَيَنْهَاكَ عَنْ هَوَى ... فَصَاحِبُهُ تُهْدَى مِنْ هُدَاهُ وَتَرْشُدِ نصيحة: يسمو قدر الإنسان وتعلو درجته ومنزلته عند الله جل وعلا وعند خلقه بقدر ما يكون له من استقامة وطهارة قلب وسلامة صدر وحب للخير لجميع المسلمين وبعد عن الشر والأذى وتضحية بالنفس والمال في سبيل الله وما يقرب إلى الله وقد امتدح الله إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام على ما وهبه له من سلامة قلب وعزة نفس وصدق عزيمة وقوة إيمان. قَالَ تعالى لما ذكر نوحاً عليه السلام وأثني عليه أعقبه بذكر الخليل فَقَالَ {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} . ومن دعاء إبراهيم عليه السلام {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} .

اللَّهُمَّ مكن محبة القرآن في قلوبنا ووفقنا لتلاوته آناء الليل والنهار اللَّهُمَّ وارزقنا العمل به والدعوة إليه واجعله حجة لنا وقائداً لنا إلى جنتك وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. فَصْلٌ: وسلامة القلب خلوصه من الشرك وقِيلَ هو القلب الصحيح وهو قلب المؤمن لأن قلب الكافر والمنافق مريض وقِيلَ هو القلب السالم من البدعة المطمئن إلى السنة انتهى. قلت والَّذِي أرى أن السلامة الكاملة للقلب هي خلوصه من الشرك والشك والنفاق والرياء وخلوه من الكبر والحقد والحسد والعجب والمكر السيئ والغل والخيلاء. ونقاؤه من الأمراض التي تكدر الصفو وتشتت الشمل وتخل بالأمن وتقطع الروابط والصلات بين المسلمين وتورث الضغائن والأحقاد وتولد العداوة والبغضاء بين المؤمنين. وكان ? يقول في دعائه «اللَّهُمَّ إني أسألك قلباً سليماً» فالقلب السليم هو السالم من الآفات والمكروهات كلها وهو القلب الَّذِي ليس فيه سوى محبة الله وخشيته وخشية ما يباعد عنه. وقد اكتفى إبراهيم عليه الصلاة والسلام بذكر سلامة القلب لأن القلب إذا صلح صلح الجسد كله كما في الحديث و‘إذا فسد فسد الجسد كله. ولأن القلوب إذا سلمت سلمت الجوارح اليد واللسان من الأذى والشرور وسلمت أموال الناس وأرواحهم وأعراضهم وقلت الشرور والجرائم والآثام. وقِيلَ إن لقمان كان عبداً حبشياً فدفع إليه سيده شاة وَقَالَ اذبحها وائتني بأطيب مضغتين منها فأتاه بالقلب واللسان ثم بعد أيام أتاه بشاة أخرى. وَقَالَ له اذبحها وائتني بأخبث مضغتين منها فأتاه بالقلب واللسان فسأله سيده عن ذلك فَقَالَ هما أطيب شئ إذا طابا وأخبث شئ إذا خبثا. وذكر العلماء أن صلاح القلب:

(1) في قراءة القرآن بالتدبر والتفكر فيه وفيما صح عن النبي (2) في تقليل الأكل. (3) قيام الليل وإحياؤه بالعبادة. (4) التضرع عند السحر. (5) مجالسة الصالحين. (6) الصمت عما لا يعني. (7) العزلة عن أهل الجهل والسفه ومن فرطت أعمار. (8) ترك الخوض مع الناس فيما لا يعني. (9) أكل الحلال وهو رأسها فإنه ينور القلب ويصلحه فتزكوا بذلك الجوارح وتدرأ المفاسد وتكثر المصالح فأكل الحرام والمشتبه يصدي القلب ويظلمه ويقسيه وهو من موانع قبول الدعاء. وقد قِيلَ يخاف على أكل الحرام والشبهةِ أن لا يقبل له عمل ولا يرفع دعاء لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} روى عن بعض أهل العلم أن الشيطان يقول خصلة من ابن آدم أريدها ثم أخلي بينه وبين ما يريد من العبادة أجعل كسبه من غير حل إن تزوج تزوج من حرام وإن أفطر أفطر على حرام، وإن حج حج من حرام أهـ. فالحذر الحذر من الحرام في طلب القوت، فقد ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ?: «إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّباً، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} وَقَالَ: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} . ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ ويقول: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذلك.

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قَالَ: تليت هذه الآية عند رسول الله ?: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً} . فَقَامَ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فَقَالَ النَّبِيُّ ?: «يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والَّذِي نفس مُحَمَّد بَيّدِهِ إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه عمل أربعين يوماً، وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به» . رواه الطبراني في الصغير. وروي عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: مَنِ اشْتَرَى ثَوْباً بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَفِيهِ دِرْهَمٌ حَرَامٌ، لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ عز وجل لَهُ صَلاةً مَادَامَ عَلَيْهِ، قَالَ: ثُمَّ أَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: صُمَّتَا إِنْ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ ? سَمِعْتُهُ يَقُولُهُ رواه أحمد. شِعْرًا: ... فَإِيَّاكَ إِيَّاكَ الرِّبَا فَلَدِرْهَمُ ... أَشَدُّ عِقَابًا مِنْ زِنَاكَ بِنُهَّدِ وَتُمْحَقُ أَمْوَالُ الرِّبَاءِ وَإِنْ نَمَتْ ... وَيَرْبُو قَلِيلُ الْحِلِّ فِي صِدْق مَوْعِدِ وصلى الله على محمد وآله وسلم (فَصْلٌ) قَالَ الله جل وعلا وتقدس {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} . وَقَالَ عز من قائل {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . وَقَالَ جل وعلا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ} وَقَالَ تبارك وتعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} . وَقَالَ جل وعلا {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} . شِعْرًا: ... يَا نَفْسُ مَا الْوَقْتُ إِلا مَا عَلِمْتِ فَكَمْ ... أَلَسْتَ حَدَّثَتْنِي أَنِّي أَتُوبُ فَلَمْ

إِيَّاكِ إيَّاكِ مِنْ سَوْفَ فَكَمْ خَدَعَتْ ... وَأَهْلَكَتْ أُمَمَّا مِنْ قَبْلِهَا وَأُمَمُ تُوبِي يَكُنْ لَكِ عِنْدَ اللهِ جَاهَ تُقَى ... وَقَدِّمِي مِنْ فِعَالِ الصَّالِحِينَ قَدَمُ يَا رَاقِدٌ لِلْبَلَى حَثّ الْمَشِيبُ بِهِ ... أَلا فَكُنْ خَائِفًا لا تَقْعُدَنْ وَقُمْ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ ? فيما يَرْوِيه عَنْ رَبِّهِ جل وعلا، أَنَّهُ قَالَ: «وَعِزَّتِي وَجَلالِي لا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَأَمْنَيْنِ: إِذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ في الآخرة» رواه ابن حبان في صحيحه. وَقَالَ إذا قشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت عنه خطاياه كما يتحات عن الشجرة البالية ورقُها. وَقَالَ الحسن رضي الله عنه إن الرجل ليذنب فما ينساه ولا يزال متخوفاً حتَّى يدخل الجنة وَقَالَ ابن جبير الخشية هي أن تخشى الله حتَّى تحول خشيته بيتك وبين معاصيه. وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ? قَالَ «لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ مَا طَمَعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ رَحْمَتِهِ» . رواه مسلم. وعنه قَالَ: قرأ رسول الله ?: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} ثم قَالَ " «أتدرون ما أخبارها» . قَالُوا: الله ورسوله أعلم قَالَ: «فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها تقول: عملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا فهذه أخبارها» . رواه الترمذي وَقَالَ: حديث حسن. عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ?: «يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْراً قَطُّ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ فَيَقُولُ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ. وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْساً فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ

فَيُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْساً قَطُّ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ فَيَقُولُ: وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤُسٌ قَطُّ وَلاَ رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ» . وَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ ? خُطْبَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ، فَقَالَ: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيراً» . قَالَ: فَغَطَّى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ? وُجُوهَهُمْ ولَهُمْ خَنِينٌ. رواه البخاري ومسلم. عَنْ أبِي يَعْلَى شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ? قَالَ: «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الأَمَانِي» . رواه الترمذي. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله ?: «قاربوا وسددوا واعلموا أنه لن ينجوا أحد منكم بعمله» . قَالُوا: ولا أنت يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة وفضل» . رواه مسلم. فيا عباد الله من خاف الله جل وعلا في دنياه أمنه الله في أخراه ولو آمن الإنسان حقّاً بالله الواحد الأحد الفرد الصمد وجزم بما بعد الحياة من الجنة والنار وما أعد الله لأهلهما إجمالاً وتفصيلاً. ولو خاف وعيد الله كما يخاف وعيد أحر الأشرار لما اجترأ يوماً أن يتخطى شريعة الله أو ينتهك محارم الله التي حذره من تخطيها بقوله عز وجل: {وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} . وقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} . فاتق الله أيها المسلم وعظ نفسك في كل وقت بما بعده من الشدائد

والكروب والعقبات وحاسب نفسك على ما تقترفه وتفعله من السيئات واتخذ من تقوى الله ستراً يقيك من غضب الله وعذابه. فما أسعد من جعل التقوى رأس ماله وما أرشد من راقب الله في جميع أحواله فيا ويح من نسي الآخرة وأجهد نفسه في طلب الدنيا وكان بها جل اشتغاله. أما وعظه من رحل من أعمامه وأخواله فالعجب ممن أفصحت له العبر وليس عنده سمع ولا بصر أيبكي فاقد الإلف وينسى نفسه أين مضى رفقاؤنا أين ذهب معارفنا وأصدقاؤنا هذه دورهم فيها سواهم وهذا محبهم فقد نسيهم وجفاهم. فتفكروا إخواني في الراحلين واعتبروا بالسالفين وتأملوا في البصائر حال الدفين وتأهبوا فأنتم في أثر الماضين. فيا مطلقاً اذكر قيودهم ويا متحركاً قد عرفت همودهم فخلص نفسك من أسر الذنوب وتأهب لخلاصك فإنك مطلوب وتذكر بقلبِكَ يوم تقلب القلوب. واحذر حسرات الموت عند انقضاء المدة واحذر تسويف الَّذِينَ ذهبوا وما تأهبوا. فكأني بِكَ أيها الغافل في لهوه ولعبه الرافل في أثواب غيه وطربه السعي في معصية ربه وغضبه فلم يشعر إلا وقد نزل به من الموت أسباب عطبه. فدبت الأمراض في جسده وأبدل من لذيذ العيش بمر السقم ونكده وانتزعه المنون من ماله وأهله وولده. فزود من ماله كفنا واعتاظ عن القصور محلة الأموات وطنا يتمنى الرجعة إلى الدنيا ليجتهد في الأعمال الصالحات فيقال له: هَيْهَاتَ هيهات حيل بينك وبين الأعمال النافعات. ألم يأتك خبر هذا المصير ألم تسمع قول أصدق القائلين: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ} فاحذر أن تكون ممن يمتنون الرجعة فلا يقدرون ولا يجابون.

أنشد رجل من أهل الزهد هذه الأبيات: وَيَوْمَ تَرَى الشَّمْسَ قَدْ كُوِّرَتْ ... وَفِيهِ تَرَى الأَرْضَ قَدْ زُلْزِلَتْ وَفِيهِ تَرَى كُلُّ نَفْسٍ غَدًا ... إِذَا حُشِرَ النَّاسُ مَا قَدَّمَتْ أَتَرْقُدُ عَيْنَاكَ يَا مُذْنِبًا ... وَأَعْمَالُكَ السُّوءُ قَدْ دُوِّنَتْ فَإِمَّا سَعِيدٌ إِلَى جَنَّةٍ ... وَكَفَّاهُ بِالنُّورِ قَدْ خُضِّبَتْ وَإِمَّا شَقِيٌّ كُسِيَ وَجْهَهُ ... سَوَادًا وَكَفَّاهُ قَدْ غُلِّلَتْ آخر: صَرَفْتُ إِلَى رَبِّ الأَنَامِ مَطَالِبِي ... وَوَجْهَتُ وَجْهِي نَحْوَهُ وَمَآرَبِّي إِلَى الْمَلِكِ الأَعْلَى الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهْ ... مَلِيكٌ يُرَجَّى سَيْبُهُ فِي الْمَتَاعِبِ إِلَى الصَّمَدِ الْبَرِّ الَّذِي فَاضَ جُودُهُ ... وَعَمَّ الْوَرَى طُرًا بِجَزْلِ الْمَوَاهِبِ مُقِيْلي إِذَا زَلَّتْ بِي النَّعْلُ عَاثِرًا ... وَاسْمَحْ غِفَارٍ وَأَكْرمَ وَاهِبِ فَمَا زَالَ يُولِينِي الْجَمِيلَ تَلَطُّفًا ... وَيَدْفَعُ عَنِّي فِي صُدُورِ النَّوَائِبِ وَيَرْزُقُنِي طِفْلاً وَكَهْلاً وَقَبْلَهَا ... جَنِينًا وَيَحْمِينِي وَبِيَّ الْمَكَاسِبِ إِذَا أَغْلَقَ الأَمْلاكَ دُونِي قُصُورَهُمْ ... وَنَهْنَهَ عَنْ غِشْيَانِهِمْ زَجْرُ حَاجِبِ فَزِعْتُ إِلَى بَابِ الْمُهَيْمِنِ طَارِقًا ... مُدِلاً أُنَادِي بِاسْمِهِ غَيْرَ هَائِبِ فَلَمْ أَلْفِ حُجَّابًا وَلَمْ أَخْشَ مِنْعَةً ... وَلَوْ كَانَ سُؤْلِي فَوْقَ هَامِ الْكَوَاكِبِ كَرِيمٌ يُلَبِّي عَبْدَهُ كُلَّمَا دَعَا ... نَهَارًا وَلَيْلاً فِي الدُّجَى وَالْغَيَاهِبِ سَأَسْأَلُهُ مَا شِئْتُ إِنَّ يَمِينَهُ ... تَسِحُّ دِفَاقًا بِاللُّهَى وَالرَّغَائِبِ فَحَسْبِي رَبَّي فِي الْهَزَاهِزِ مَلْجَأً ... وَحِرْزًا إِذَا خِيفَتْ سِهَام النَّوَائِبِ اللَّهُمَّ هب لنا ما وهبته لعبادك الأخيار وأنظمنا في سلك المقربين والأبرار وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا اللَّهُمَّ يا حي يا قيوم يا من لا تأخذه سنة ولا نوم مكن محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وأعنا على القيام

بطاعتك والانتهاء عن معصيتك اللَّهُمَّ افتح لدعائنا باب القبول والإجابة فإنا ندعوك دعاء من كثرت ذنوبه وتصرمت آماله وبقيت آثامه وانسلبت دمعته وانقطعت مدته دعاء من ما لكسره جابراً إلا أنت يا أرحم الراحمين وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين. (فَصْلٌ) : عن إبراهيم التيمي قَالَ: ينبغي لمن لا يحزن أن يخاف أن يكون من أهل النار لأن أهل الجنة قَالُوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} وينبغي لمن لم يشفق أن يخاف أن يكون من أهل الجنة لأنهم قَالُوا: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} . وعن الفضيل بن عياض قَالَ: قِيلَ لسليمان التيمي أنت وأنت أي يثنون عليه قَالَ: لا تقولوا هكذا فإني لا أدري ما يبدو لي من ربي عز وجل سمعت الله عز وجل يقول: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} وإني أخشى أن يبدو لي من الله ما أكن أحتسب. وعن عكرمة عن مُحَمَّد بن المنكدر أنه جزع عند الموت فقِيلَ له: لم تجزع فَقَالَ: أخشى آية من كتاب الله عز وجل قَالَ الله تعالى: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} وإني أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أكن أحتسب. قلت: وفيه آيات أخرى ينبغي أن تكون نصب عيني العاقل اللبيب وذلك قوله تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} ، قوله تعالى: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ} وقوله: {ن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} . وَقَالَ عبد الأعلى التيمي: شيئان قطعا عني لذة الدنيا ذكر الموت والوقوف بين يدي الله عز وجل. وعن أبي إسحاق قَالَ: أوى أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل إلى فراشه فَقَالَ: يا ليت أمي لم تلدني فقالت له امرأته: أبا ميسرة أليس الله قد أحسن إليك هداك للإسلام وفعل بِكَ كذا قَالَ: بلى ولكن الله أخبرنا أنا واردون على النار ولم يبين لنا أنا صادرون عنها.

شِعْرًا: ... هَلِ الْوَقْتُ إِلا مَا عَرَفْنَا وَأَدْرَكَنَا ... فَجَائِعُهُ تَبْقَى وَلَذَّاتُهُ تَفْنَى إِذَا أَمْكَنَتْ فِيهِ مَسَرَّةُ سَاعَةٍ ... تَوَلَّتْ كَمَرِّ الطَّرْفِ وَاسْتَخْلَفَتْ حُزْنَا إِلَى تُبَعَاتٍ فِي الْمَعَادِ وَمَوْقِفٌ ... نَوَدُّ لَدَيْهِ أَنَّنَا لَمْ نَكُنْ كُنَّا حَصَلْنَا عَلَى هَمٍّ وَإِثْمٍ وَحَسْرَةٍ ... وَفَاتَ الَّذِي كُنَّا فَلَذَّ بِهِ عَنَّا كَأَنَّ الَّذِي كُنَّا نُسَرُّ بِكَوْنِهِ ... إِذَا حَقَّقَتْهُ النَّفْسُ لَفْظٌ بِلا مَعْنَى وَقَالَ الحسن: إن المؤمن يصبح حزيناً وينقلب باليقين في الحزن ويكفيه ما يكفى العنيزة الكف من التمر والشربة من الماء. وَقَالَ حبيب بن أبي ثابت ما استرقت من أحد شيئاً أحب إلى من نفسي أقول لها أمهلي حتَّى يجيء من حيث أحب. شِعْرًا: ... إِذَا رُمْتَ أَنْ تَسْتَقْرِضَ الْمَالَ مُنْفِقًا ... عَلَى شَهَوَاتِ النَّفْسِ فِي زَمَنِ الْعُسْرِ فَسَلْ نَفْسَكَ الإِنْفَاقَ مِنْ كِنْزِ صَبْرِهَا ... عَلَيْكَ وَإِنْضَارًا إِلَى زَمَنِ الْيُسْرِ فَإِنْ فَعَلْتَ كُنْتَ الْغَنِيَّ وَإِنْ أَبَتْ ... فَكُلُّ مَنُوعُ بَعْدَهَا وَاسِعُ الْعُذْرِ وَقَالَ الثوري: ما ضرهم ما أصابهم في الدنيا جبر الله لهم كل مصيبة بالجنة. وسأل رجل سفيان الثوري فلم يكن معه ما يعطيه فبكى سفيان فَقَالَ له مسعر بن كدام: ما يبكيك قَالَ: وأي مصيبة أعظم من أن يؤمل فيك رجل خيراً فلا يصيبه عندك. وبكى ثابت حتَّى كادت عينه تذهب فجاؤا برجل يعالجها فَقَالَ الرجل: أعالجها على أن تعطيني قَالَ: وأي شيء. قَالَ: على أن لا تبكي قَالَ: فما خيرهما إن لم تبكيا وأبى أن يعالجها. وكان شقيق بن سلمة إذا صلى في بيته ينشج نشيجاً - أي يخشع ويبكي - ولو جعلت له الدنيا على أن يفعله وأحد يسمعه أو يراه ما فعله – أي يخشى من الرياء. والله أعلم وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم. وَقَالَ بعضهم يخاطب نفسه ويوبخها على تفريطها وإهمالها:

قصيدة زهدية

يَا نَفْسُ هَذَا الَّذِي تَأْتِينَهُ عَجَبٌ عِلْمٌ وَعَقْلٌ وَلا نُسْكٌ وَلا أَدَبُ وَصَفُ النِّفَاقِ كَمَا فِي النَّصِّ نَسْمَعُهُ عِلْمُ اللِّسَانِ وَجَهْلُ الْقَلْبِ وَالسَّبَبُ حُبُّ الْمَتَاعِ وَحُبُّ الْجَاهِ فَانْتَبِهِي مِنْ قَبْلُ تُطْوَى عَلَيْكَ الصُّحُفُ وَالْكُتُبُ وَتَصْبَحِينَ بِقَبْرٍ لا أَنِيسَ بِهِ الأَهْلُ وَالصَّحْبُ لَمَّا أَلْحَدُوا ذَهَبُوا وَخَلَّفُوكِ وَمَا أَسْلَفْتِ مِنْ عَمَلٍ الْمَالُ مُسْتَأْخِرٌ وَالْكَسْبُ مُصْطَحَبُ وَاسْتَيْقِنِي أَنَّ بَعْدَ الْمَوْتِ مُجْتَمِعًا لِلْعَالَمِينَ فَتَأْتِي الْعُجْمُ وَالْعَرَبُ وَالْخَلْقُ طُرًا وَيَجْزِيهِمْ بِمَا عَمِلُوا فِي يَوْمِ لا يَنْفَعُ الأَمْوَالُ وَالْحَسَبُ وَأَخْشَى رُجُوعًا إِلَى عَدْلٍ تَوَعَدَ مَِنْ لا يَتَّقِيهِ بِنَارٍ حَشْوُهَا الْغَضَبُ وَقُودُهَا النَّاسُ وَالأَحْجَارُ حَامِيَةٌ لا تَنْطَفِي أَبَدَ الآبَادِ تَلْتَهِبُ وَالْبُعْدِ عَنْ جَنَّةِ الْخُلْدِ الَّتِي حُشَيَتْ بِالطَّيِّبَاتِ وَلا مَوْتٌ وَلا نَصَبُ فِيهَا الْفَوَاكِهُ وَالأَنْهَارُ جَارِيَةٌ

.. وَالنُّورُ وَالْحُورُ وَالْوِلْدَانُ وَالْقُبَبُ وَهَذِهِ الدَّارُ دَارٌ لا بَقَاءَ لَهَا لا يَفْتِنَنَّكِ مِنْهَا الْوَرَقُ وَالذَّهَبُ وَالأَهْلُ وَالْمَالُ وَالْمَرْكُوبُ تَرْكَبُهُ وَالثَّوْبُ تَلْبَسُهُ فَالْكُلُّ يَنْقَلِبُ لا بَارَكَ اللهُ فِي الدُّنْيَا سِوَى عَوَضٍ مِنْهَا يُعَدُّ إِذَا مَا عُدَّتِ الْقُرُبُ يُرِيدُ صَاحِبُهُ وَجْهَ الإِلَهِ بِهِ دُونَ الرِّيَا إِنَّهُ التَّلْبِيسُ وَالْكَذِبُ لا يَقْبَلُ اللهُ أَعْمَالاً يُرِيدُ بِهَا عُمَّالُهَا غَيْرَ وَجْهِ اللهِ فَاجْتَنِبُوا تَمَّتْ وَصَلُّوا عَلَى الْمُخْتَارِ سَيِّدِنَا وَالآلُ وَالصَّحْبُ قَوْمٌ حُبُّهُمْ يَجِبُ ومِمَّا أشير فيه إلى بعض المعجزات التي وردت في القرآن ما يلي: هُوَ اللهُ مَنْ أَعْطَى هُدَاهُ وَصَحَّ مِنْ هَوَاهُ أَرَاهُ الْخَارِقَاتِ بِحِكْمَةِ بِذَاكَ عَلَى الطُّوفَانِ نُوحٌ وَقَدْ نَجَا بِهِ مَنْ نَجَا فِي قَوْمِهِ فِي السَّفِينَةِ وَغَاضَ لَهُ مَا فَاضَ عَنْهُ اسْتِجَابَةٌ وَجَدَّ إِلَى الْجُودِي بِهَا وَاسْتَقَرَّتِ وَسَارَ وَمَتْنُ الرِّيحِ تَحْتَ بِسَاطِهِ

.. سُلَيْمَانُ بِالْجَيْشَيْنِ فَوْقَ البَسْطَةِ وَقَبْلَ ارْتِدَادِ الطَّرْفِ أُحْضِرَ مِنْ سَبَا لَهُ عَرْشُ بِلْقِيسٍ بِغَيْرِ مَشَّقَةِ وَأَخْمَدَ لإِبْرَاهِيمَ نَارَ عَدُوِّهِ وَفِي لُطْفِهِ عَادَتْ لَهُ رَوْضَ جَنَّةِ وَلَمَّا دَعَا الأَطْيَارَ فِي رَأْسِ شَاهِقٍ وَقَدْ قُطِّعَتْ جَاءَتْهُ غَيْرَ عَصِيَّةِ وَفِي يَدِهِ مُوسَى عَصَاهُ تَلَقَّفَتْ مِنَ السِّحْرِ أَهْوَالاً عَلَى النَّفْسِ شَقَّةِ وَمِنْ حَجَرٍ أَجْرَى عُيُونًا بِضَرْبَة بِهَا دَائِمًا سَقَّتْ وَلِلْبَحْرِ شَقَّتِ وَيُوسُفُ إِذْ أَلْقَى الْبَشِيرُ قَمِيصَهُ عَلَى وَجْهِ يَعْقُوبٍ عَلَيْهِ بِأَوْبَةِ رَآهُ بِعَيْنٍ قَبْلَ مَقْدَمِهِ بَكَى عَلَيْهِ بِهَا شَوْقًا إِلَيْهِ فَكَفَّتِ وَفِي آلِ إِسْرَائِيلَ مَائِدَةُ السَّمَا لِعِيسَى بنِ مَرْيَمْ أُنْزِلَتْ ثُمَّ مُدَّتِ وَمِنْ أَلَمٍ أَبْرَى وَمِنْ وَضَحٍ غَدَا شَفَى وَأَعَادَ الطَّيْرَ طَيْرًا بِنَفْخَةِ وَصَحَّ بِأَخْبَارِ التَّوَاتُرِ أَنَّهُ أَمَاتَ وَأَحْيَا بِالدُّعَا رَبَّ مَيِّتِ

قصائد تحتوي على بعض معجزات الرسول

.. وَأَبْعَدُ مِنْ هَذَا عَنْ السِّحْرِ أَنَّهُ رَضِيعٌ يُنَادِي بِاللِّسَانِ الْفَصِيحَةِ يُنَزِّهُ عَنْ رَيْبِ الظُّنُونِ عَفِيفَةً مُبَرَّأَةً مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَرِيبَةِ وَقَالَ لأَهْلِ السَّبْتِ كُونُوا إِلَهُنَا قُرُودًا فَكَانُوا عِبْرَةً أَيَّ عِبْرَةِ وَصَرَّعَ أَهْلَ الْفِيلِ مِنْ دُونِ بَيْتِهِ بِطَيْرِ أَبَابِيلٍ صِغَارٍ ضَعِيفَةِ وَأَحْرَقَ رَوْضَ الْجَنَّتَيْنُ عُقُوبَةً بِكَافٍ وَنُونٍ عِبْرَةً لِلْبَرِيَّةِ وَقَالَ يوسف بن مُحَمَّد الصرصري رحمه الله: مُحَمَّدٌ الْمَبْعُوثُ لِلْخَلْقِ رَحْمَةً يُشَيِّدُ مَا أَوْهَى الضَّلالُ وَيُصْلِحُ لَئِنْ سَبَّحَتْ صُمُّ الْجِبَالِ مُجِيبَةً لِدَاوُدَ أَوْ لانَ الْحَدِيدُ الْمُصَفَّحُ فَإِنَّ الصُّخُورَ الصُّمَّ لانَتْ بِكَفِّهِ وَإِنَّ الْحَصَى فِي كَفِّهِ لَيُسَبِّحُ وَإِنْ كَانَ مُوسَى أَنْبَعَ الْمَاءَ مِنَ الْحَصَى فَمِنْ كَفِّهِ قَدْ أَصْبَحَ الْمَاءُ يَطْفَحُ وَإِنْ كَانَتْ الرِّيحُ الرُّخَاءُ مُطِيعَةً سُلَيْمَانَ لا تَأْلُو تَرُوحُ وَتَسْرَحُ

.. فَإِنَّ الصَّبَا كَانَتْ لِنَصْرِ نَبِيِّنَا بِرُعْبٍ عَلَى شَهْرٍ بِهِ الْخَصْمُ يَكْلَحُ أُوتِيَ الْمُلْكَ الْعَظِيمَ وَسُخِّرَتْ لَهُ الْجِنُّ تَشْفِي مَا رِضِيهِ وَتَلْدَحُ فَإِنَّ مَفَاتِيحَ الْكُنُوزِ بِأَسْرِهَا أَتَتْهُ فَرَدَّ الزَّاهِدُ الْمُتَرَجِّحُ وَإِنْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ أُعْطِيَ خُلَّةً وَمُوسَى بِتَكْلِيمٍ عَلَى الطُّورِ يُمْنَحُ فَهَذَا حَبِيبٌ بَلْ خَلِيلٌ مُكَلَّمٌ وَخُصِّصَ بِالرُّؤْيَا وَبِالْحَقِّ أَشْرَحُ وَخُصِّصَ بِالْحُوضِ الْعَظِيمِ وَباللِّوَا وَيَشْفَعُ لِلْعَاصِينَ وَالنَّارُ تَلْفَحُ وَبِالْمَقْعَدِ الأَعْلَى الْمُقَرَّبِ عِنْدَهُ عَطَاءٌ بِبُشْرَاهُ أُقِرُّ وَأَفْرَحُ وَبِالرُّتْبَةِ الْعُلْيَا الْوَسِيلَةِ دُونَهَا مَرَاتِبُ أَرْبَابِ الْمَوَاهِبُ تَلْمَحُ وَفِي جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ أَوَّلُ دَاخِلٍ لَهُ سَائِرُ الأَبْوَابِ بِالْخَيْرِ تُفْتَحُ اللَّهُمَّ وفقنا لأتباع الهدى وجنبنا أسباب الهلاك والشقا وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

(قصص رائعة) عن بِلاَلُ بن رباح قَالَ: مَا كَانَ لرَسُولِ اللهُ ? شَيْءٌ إلا أَنَا الَّذِي كُنْتُ ألِي ذَلِكَ مِنْهُ مُنْذُ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَنْ تُوُفِّيَ، فَكَانَ إِذَا أَتَاهُ الإِنْسَانُ الْمُسْلِمُ فَرَآهُ عَائلاً يَأْمُرُنِي فَأَنْطَلِقُ فَأَسْتَقْرِضُ فَأَشْتَرِي الْبُرْدَةَ وَالشَّيْءَ فَأَكْسُوهُ وَأُطْعِمُهُ، حتَّى اعْتَرَضَنِي رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: يَا بِلاَلُ إِنَّ نَدِي عِنْدِي سَعَةً فَلاَ تَسْتَقْرِضْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ مِنِّى فَفَعَلْتُ. فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ تَوَضَّأتُ ثُمَّ قُمْتُ لأُؤَذِّنَ بِالصَّلاَةِ فَإِذَا الْمُشْرِكُ فِي عِصَابَةٍ مِنَ التُّجَّارِ، فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: يَا حَبَشِي،ُّ قُلْتُ: يَا لَبَّيْهُ؛ فَتَجَهَّمَنِي، وَقَالَ قَوْلاً غَلِيظاً - أَو غَلِيظاً قَالَ: أَتَدْرِى كَمْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الشَّهْرِ؟ قُلْتُ: قَرِيبٌ. قَالَ: إِنَّمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَرْبَعُ لَيَالٍ، فَآخُذُكَ بِالَّذِي لِي عَلَيْكَ، فَإِنِّي لَمْ أُعْطِكَ الَّذِي أَعْطَيْتُكَ مِنْ كَرَامَتِكَ وَلاَ مِنْ كَرَامَةِ صَاحِبِكَ، وإنما أَعْطَيْتُكَ لِتَصيَر َ لِي عَبْداً فَأَرُدُّكَ تَرْعَى في الْغَنَمَ كَمَا كُنْتَ قَبْلَ ذَلِكَ فَأَخَذَني فِي نَفْسِي مَا يَأْخُذُ فِي أَنْفُسِ النَّاسِ، فَانْطَلَقْتُ فناَديْتُ بِالصَّلاَةِ، حتَّى إِذَا صَلَّيْتُ الْعَتَمَةَ، رَجَعَ رَسُولِ اللهُ ? إِلَى أَهْلِهِ، فَاسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ فَأَذِنَ لِي. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي إِنَّ الْمُشْرِكَ الَّذِي ذَكَرْتُ لَكَ أَنِّي كُنْتُ أَتَدَيَّنُ مِنْهُ قَدْ قَالَ كَذَا وَكَذَا، وَلَيْسَ عِنْدَكَ مَا تَقْضِى عَنِّي وَلاَ عِنْدِي وَهُوَ فَاضِحِي، فَأْذَنْ لِي أَنْ آتِيَ إِلَى بَعْضِ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ قَدْ أَسْلَمُوا حتَّى يَرْزُقَ اللَّهُ رَسُولَهِ ? مَا يَقْضِي عَنِّى. فَخَرَجْتُ حتَّى أَتَيْتُ مَنْزِلِي فَجَعَلْتُ سَيْفِي وَجِرَابِي وَرُمْحِي وَنَعْلِي عِنْدَ رَأْسِي، فَاسْتَقْبَلْتُ بِوَجْهِيََ الأُفُقَ فَكُلَّمَا نِمْتُ انْتَبَهْتُ، فَإِذَا رَأَيْتُ عَلَيَّ لَيْلاً نِمْتُ حتَّى انْشَقَّ عَمُودُ الصُّبْحِ الأَوَّلِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَنْطَلِقَ. فَإِذَا إِنْسَانٌ يَدْعُو: يَا بِلاَلُ أَجِبْ رَسُولَ اللَّهِ ? فَانْطَلَقْتُ حتَّى آتِيهِ، فَإِذَا أَرْبَعُ رَكَائِبَ عَلَيْهِنَّ أَحْمَالُهُنَّ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ فَاسْتَأْذَنْتُ فَقَالَ لِي رَسُولَ اللَّهِ ?: «أَبْشِرْ، فَقَدْ جَاءَكَ اللَّهُ بِقَضَاءِ دينكَ» . فَحَمِدْتُ اللَّهَ. وَقَالَ: «أَلَمْ تَمُرَّ عَلَى الرَّكَائِبِ الْمُنَاخَاتِ الأَرْبَعِ؟» قُلْتُ: بَلَى قَالَ: «فَإِنَّ لَكَ رِقَابَهُنَّ وَمَا عَلَيْهِنَّ» . فإِذَا عَلَيْهِنَّ كِسْوَةٌ وَطَعَامٌ أَهْدَاهُنَّ لَهُ عَظِيمُ فَدَكَ - «فَاقْبِضْهُنَّ إِلَيْكَ

، ثُمَّ اقْضِ دَيْنَكَ» . فَفَعَلْتُ فَحَطَطْتُ عَنْهُنَّ أَحْمَالَهُنَّ ثُمَّ عَقَلْتُهُنَّ، ثُمَّ عَمَدْتُ إِلَى تَأْذِينِ صَلاَةِ الصُّبْحِ، حتَّى إِذَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ? خَرَجْتُ إِلَى الْبَقِيعِ، فَجَعَلْتُ إِصْبَعَيَّ فِي أُذُنَيَّ فقُلْتُ: مَنْ كَانَ يَطْلُبُ رَسُولَ اللَّهِ ? دَيْناً فَلْيَحْضُرْ. فَمَا زِلْتُ أَبِيعُ وَأَقْضِي وَأُعَرِّضُ حتَّى لَمْ يَبْقَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ? دَيْنٌ فِي الأَرْضِ حتَّى فَضَلَ عِنْدِي أُوقِيَّتَاْنِ أَوْ أُوقِيَّةٌ وَنِصْفٌ، ثُمَّ انْطَلَقْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَقَدْ ذَهَبَ عَامَّةُ النَّهَارِ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ ? قَاعِدٌ فِي الْمَسْجِدِ وَحْدَهُ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ. فَقَالَ لِي: «مَا فَعَلَ مَا قِبَلَكَ؟» قُلْتُ: قَدْ قَضَى اللَّهُ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ? فَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ قَالَ: «فَضَلَ شَيْءٌ؟» قُلْتُ: نَعَمْ دِينَارَانِ، قَالَ: «انْظُرْ أَنْ تُرِيحَنِي مِنْهَما، فَلَسْتُ بِدَاخِلٍ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِي حتَّى تُرِيحَنِي مِنْهمَا» . فَلَمْ يَأْتِنَا أحَدُ، فَبَاتَ فِي الْمَسْجِدِ حتَّى أَصْبَحَ، وَظَلَّ فِي الْمَسْجِدِ الْيَوْمَ الثَّانِيَ حتَّى كَانَ فِي آخِرِ النَّهَارِ جَاءَ رَاكِبَانِ، فَانْطَلَقْتُ بِهِمَا فَكَسَوْتُهُمَا وَأَطْعَمْتُهُمَا، حتَّى إِذَا صَلَّى الْعَتَمَةَ دَعَانِي، فَقَالَ: «مَا فَعَلَ الَّذِي قِبَلَكَ؟» . قُلْتُ: قَدْ أَرَاحَكَ اللَّهُ مِنْهُ، فَكَبَّرَ وَحَمِدَ اللَّهَ شَفَقاً مِنْ أَنْ يُدْرِكَهُ الْمَوْتُ وَعِنْدَهُ ذَلِكَ ثُمَّ اتَّبَعْتُهُ حتَّى جَاءَ أَزْوَاجَهُ فَسَلَّمَ عَلَى امْرَأَةٍ امْرَأَةٍ حتَّى أَتَى فِي مَبِيتَهُ. اللَّهُمَّ طهر قلوبنا من النفاق وعملنا من الرياء وألسننا من الكذب وأعيننا من الخيانة وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) عن عبد الله بن عمر قَالَ: بعثت رَسُولِ اللهُ ? جيشاً فيهم رجل يقال له «حدير» ، وكانت تلك السنة قد أصابتهم سنة من قلة الطعام؛ فزودهم رَسُولِ اللهُ ? ونسي أن يزود حديراً. فخرج حدير صابراً وهو في آخر الركب يقول: لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ويقول: نعم الزاد هو يا رب؛ فهو يرددها، وهو في آخر الركب.

فجاء جبريل إلى النبي ? فَقَالَ له: إن ربي أرسلني إليك يخبرك أنك زودت أصحابَكَ ونسيت أن تزود حديراً، وهو في آخر الركب يقول: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ويقول: نعم الزاد هو يا رب؛ فكلامه ذلك له نور يوم القيامة ما بين السماء والأرض، فابعث إليه بزاد، فدعا النبي ? رجلاً، فدفع إليه زاد وأمره إذا انتهى إليه حفظ عليه ما يقول، وإذا دفع إليه الزاد حفظ عليه ما يقول. ويقول له: إن رَسُولَ اللهِ ? يقرئك السلام ورحمة الله، ويخبرك أنه كان نسي أن يزودك، وأن ربي تبارك وتعالى أرسل إلى جبريل يذكرني بِكَ، فذكره جبريل وأعلمه مكانك. فانتهى إليه وهو يقول: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ويقول: نعم الزاد هذا يا رب؛فدنا منه، ثم قَالَ له: إن رَسُولَ الله ? يقرئك السلام ورحمة الله. وقد أرسلني أليك بزادٍ معي، ويقول: إني إنما نسيتك، فأرسل إلى جبريل من السماء يذكرني بِكَ؛ فحمد الله، وأثنى عليه، وصلى على النبي ? ثم قَالَ: الحمد لله رب العامين، ذكرني ربي من فوق سبع سموات، ومن فوق عرشه، ورحم جوعي وضعفي. يا رب كما لم تنس حديراً فاجعل حديراً لا ينساك؛ فحفظ ما قَالَ، ورجع إلى النبي ? فأخبره بما سمع منه حين أتاه، وبما قَالَ حين أخبره، فَقَالَ رَسُولِ اللهُ: أما أنك لو رفعت رأسك إلى السماء لرأيت لكلامه ذلك نوراً ساطعاً ما بين السماء والأرض. والله أعلم وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد آلِهِ وَسَلَّمَ. اللَّهُمَّ يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا وذنوبنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح

والمعائب التي تعلمها منا وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) عن محمود بن لبيد قَالَ: أصيب أكحل سعد يوم الخندق فثقل ‘ حولوه عند امرأة يقال لها رفيدة، وكانت تداوي الجرحى، فكان النبي ? إذا مر به يقول: كيف أمسيت؟ وإذا أصبح قَالَ: كيف أصبحت؟ فيخبره. حتَّى كانت الليلة التي نقله قومه فيها؛ فاحتملوه إلى بني الأشهل، إلى منازلهم، وجاء رَسُولِ اللهُ ? كما كان يسأل عنه، وقَالُوا: قد انطلقوا به. فخرج رَسُولُ اللهُ ? وخرجنا معه، فأسرع المشي حتَّى تقطعت شسوع نعالنا، وسقطت أرديتنا عن أعناقنا، قشكا ذلك إليه أصحابه: يَا رَسُولَ اللهِ، أتعبتنا في المشي. فَقَالَ: أني أخاف أن تسبقنا الملائكة إليه فتغسله كما غسلت حنظلة فانتهى رَسُولُ اللهُ ? إلى البيت وهو يغسل وأمه تبكيه، وهي تقول: وَيْلَ أُمِّ سَعْدٍ سَعْدًا ... حَزَامَةً وَجِدَّا فَقَالَ رَسُولُ اللهُ ?: كل نائحة تكذب إلا أم سعد. ثم خرج به، فَقَالَ له القوم – أو من شاء الله منهم – يَا رَسُولَ اللهِ، ما حملنا ميتاً أخف علينا من سعد. فَقَالَ: ما يمنعكم من أن يخف عليكم، وقد هبط من الملائكة كذا وكذا، قد سمى عدة كثيرة لم أحفظها، لم يهبطوا قط قبل يومهم، قد حملوه معكم. عن الحجاج بن علاط قَالَ قلت لرَسُولِ الله: يَا رَسُولَ اللهِ، إن لي بمكة مالاً عند صاحبتي أم شيبة بنت أبي طلحة ... ومالاً متفرقاً في تجار أهل مكة، فأذن يَا رَسُولَ اللهِ؛ (فأذن لي) ، قلت إنه لا بد لي يَا رَسُولَ اللهِ من أن أقول، قَالَ: قل.

فخرجت حتَّى إذا قدمت مكة وجدت بثنية البيضاء رجالاً من قريش يتسمعون الأخبار، ويسألون عن أمر رَسُولِ اللهُ ? وقد بلغهم أنه قد سار إلى خيبر، وقد عرفوا أنها قرية الحجاز، ريفاً ومنعة ورجالاً، فهم يتحسسون الأخبار، ويسألون الركبان. فلما رأوني قَالُوا: الحجاج بن علاط - ولم يكونوا علموا بإسلامي - عنده والله الخبر، أخبرنا يا أبا مُحَمَّد، فإنه قد بلغنا أن القاطع قد سار إلى خيبر، وهي يهود وريف الحجاز. قلت: قد بلغني ذلك، وعندي من الخبر ما يسركم، فالتبطوا بجنبي ناقتي يقولون: إيه يا حجاج! قلت: هزم هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط، وقتل أصحابه قتلاً لم تسمعوا بمثله قط، وأسر مُحَمَّد أسراً. وقَالُوا: لا نقتله حتَّى نبعث به إل أهل مكة، فيقتلوه بين أظهرهم بمن كان أصاب من رجالهم؛ فقاموا وصاحوا بمكة، وقَالُوا: قد جاءكم الخبر، وهذا مُحَمَّد، إنما تنظرون أن يقدم به عليكم، فيقتل بين أظهركم. قلت: أعينوني على جمع مالي بمكة وعلى غرمائي،فإني أريد أن أقدم خيبر، فأصيب مَن فَلَّ مُحَمَّدٌ وأصحابه قبل أن يسبقني التجار إلى ما هنالك؛ فقاموا، فجمعوا لي مالي كأحث جمع سمعت به. وجئت صاحبتي فقلت: ما لي، وقد كان لي عندها مال موضوع لعلي الحق بخيبر، فأصيب من فرص البيع قبل أن يسبقني التجار. فلما سمع العباس بن عبد المطلب الخبر، وجاءه عني، أقبل حتَّى وقف إلى جنبي وأنا في خيمة من خيام التجار. فَقَالَ: يا حجاج، ما هذا الخبر الَّذِي جئت به؟ فقلت: وهل عندك حفظ لما وضعت عندك؟ قَالَ: نعم قلت: فاستأجر عني حتَّى ألقاك على خلاء، فإني في جمع مالي كما ترى، فانصرف عني حتَّى أفرغ.

حتَّى إذا فرغت من جمع كل شيء كان لي بمكة، وأجمعت الخروج لقيت العباس، فقلت: أحفظ علي حديثي يا أبا الفضل – فإني أخشى الطلب – ثلاثاً ثم قل ما شئت، قَالَ: أفعل قلت: فإني والله لقد تركت ابن أخيك عروساً على بنت ملكهم. ولقد افتتح خيبر وانتثلَ ما فيها، وصارت له ولأصحابه، فَقَالَ: ما تقول يا حجاج؟ قلت: إي والله، فاكتم عني، ولقد أسلمت وما جئت إلا لآخذ مالي، فرقاً من أن أغلب عليه. فإذا مضت ثلاث فأظهر أمرك، فهو والله ما تحب. حتَّى إذا كان اليوم الثالث لبس العباس حلة له، وتخلق وأخذ عصاه ثم خرج حتَّى أتي الكعبة، فطاف بها. فلما رأوه قَالُوا: يا أبا الفضل، هذا والله التجلد لحر المصيبة، قَالَ: كلا، والله الَّذِي خلفتم به، لقد افتتح مُحَمَّد خيبر وترك عروساً على بنت ملكهم، وأحرز أموالهم وما فيها فأصبحت له ولأصحابه. قَالُوا: من جاءك بهذا الخبر؟ قَالَ: الَّذِي جاءكم به، ولقد دخل عليكم مسلماً، فأخذ ماله، فانطلق ليلحق بمُحَمَّد وأصحابه، فيكون معه، قَالُوا: يا لعباد الله! انفلت عدو الله، أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن؛ ولم ينشبوا أن جاءهم الخبر بذلك. والله أعلم وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) عن أنس بن مالك قَالَ: أعرس رسول الله ?، ببعض نسائه فصنعت أم سليم حيساً ثم حطته في تور، فقالت: اذهب إلى رسول الله ? وأخبره أن هذا منا له قليل. والناس يومئذ في جهد فجئت به فقلت: يَا رَسُولَ اللهِ بعثت بهذا أم سليم إليك وهي تقرئك

السلام وتقول: إن هذا منا له قليل، فنظر إليه ثم قَالَ: ضعه فوضعته في ناحية البيت، ثم قَالَ: اذهب فادع لي فلاناً وفلاناً فسمى رجالاً كثيراً. قَالَ: ومن لقيت من المسلمين فدعوت من قَالَ لي، ومن لقيت من المسلمين فجئت والبيت والصفة والحجرة ملاء من الناس فَقَالَ لي رسول الله ? جيء به؛ فجئت به إليه فوضع يده عليه ودعا وَقَالَ: ما شاء الله. ثم قَالَ: ليتحلق عشرة ويسموا وليأكل كل إنسان مِمَّا يليه، فجعلوا يسمون ويأكلون حتَّى أكلوا كلهم، فَقَالَ لي رسول الله ? ارفعه فجئت فأخذت التور، فنظرت فيه فلا أدري أهو حين وضعت أكثر أم حين رفعته! وتخلف رجال يتحدثون في بيت رسول الله ? وزوج رسول الله ? التي دخل بها معهم مولية وجهها إلى الحائط، فأطالوا الحديث فشقوا على رسول الله ? وكان أشد الناس حياء، ولو أعلموا كان ذلك عليهم عزيزاً، فَقَامَ رسول الله ? فسلم على حجره وعلى نسائه، فلما رأوه قد جاء ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه ابتدروا الباب، فخرجوا. وجاء رسول الله ? حتَّى أرخى الستر، ودخل البيت وأنا في الحجرة، فمكث رسول الله ? في بيته يسيراً وأنزل الله عليه القرآن فخرج وهو يقرأ هذا الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً إِن تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} فقرأهن علي قبل الناس وأنا أحدث الناس بهن عهداً اللَّهُمَّ مكن محبتك في قلوبنا وقوها ونور قلوبنا بنور الإيمان وثبتنا

على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة وزحزحنا عن النار وأدخلنا الجنة دار القرار ومتعنا بالنظر إلى وجهك يا أكرم الأكرمين وأرحم الرحمين وصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) عن عبد الله بن عباس قَالَ: خرج أبو بكر بالهاجرة، فسمع بذلك عمر فخرج فإذا هو بأبي بكر، فَقَالَ يا أبا بكر، ما أخرجك هذه الساعة؟ فَقَالَ: أخرجني والله ما أجد في بطوننا من حاق الجوع. فَقَالَ: وأنا والله ما أخرجني غيره، فبينما هما كذلك إذ خرج عليهما رسول الله ? فَقَالَ: ما أخرجكما هذه الساعة؟ فقالا: أخرجنا ما نجد في بطوننا من حاق الجوع. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وأنا والَّذِي نفسي بَيّدِهِ ما أخرجني غيره فقاموا فانطلقوا حتَّى أتوا باب أبي أيوب الأنصاري وكان أبو أيوب ذكر لرسول الله ? طعاما أو لبنا فأبطأ يومئذ فلم يأت لحينه فأطعمه أهله، وانطلق إلى نخله يعمل فيه. فلما أتوا باب أبي أيوب خرجت امرأته فقالت: مرحبا برسول الله ? وبمن معه فَقَالَ لها رسول الله ? فأين أبو أيوب؟ فقالت: يأتيك يا نبي الله الساعة. فرجع رسول الله ? فبصر به أبو أيوب - وهو يعمل في نخل له - فجاء يشتد حتَّى أدرك رسول الله ? فَقَالَ: مرحبا بنبي الله وبمن معه. فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ، ليس بالحين الَّذِي كنت تجيئني فيه، فرده، فجاء إلى عذق النخل فقطعه، فَقَالَ له رسول الله ?: ما أردت إلى هذا؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أحببت أن تأكل من رطبه وبسره وثمره وتذنوبه، ولأذبحن لك مع هذا. فَقَالَ: إن ذبحت، فلا تذبحن ذات در، فأخذ عناقاً له، أو جدياً؛

فذبحه، وَقَالَ لامرأته: اختبزي وأطبخ أنا، فأنت أعلم بالخبز فعمد إلى نصف الجدي فطبخه، وشوى نصفه. فلما أدرك بالطعام وضع بين يدي رسول الله ? وأصحابه، فأخذ رسول الله ? من الجدي فوضعه على رغيف، ثم قَالَ: يا أبا أيوب أبلغ بهذا فاطمة فإنها لم تصب مثل هذا منذ أيام. فلما أكلوا وشبعوا قَالَ النبي ? خبز ولحم وبسر وتمر ورطب، ودمعت عيناه، ثم قَالَ: هذا من النعيم الَّذِي تسألون عنه يوم القيامة، فكبر ذلك على أصحابه، فَقَالَ رسول الله ? إذا أصبتم مثل هذا، وضربتم بأيديكم فقولوا: بسم الله وبركة الله، فإذا شبعتم فقولوا: الحمد لله الَّذِي أشبعنا وأروانا، وأنعم وأفضل، فإن هذا كفاف بهذا. وكان رسول الله ? لا يأتي إليه أحد معروفاً إلا أحب أن يجازيه؛ فَقَالَ لأبي أيوب: ائتنا غداً فلم يسمع، فَقَالَ له عمر إن رسول الله ? يأمرك أن تأتيه، فلما أتاه أعطاه وليدة، فَقَالَ: يا أبا أيوب، استوص بهذه خيراً فإنا لم نر إلا خيراً ما دامت عندنا؛ فلما جاء بها أبو أيوب قَالَ: ما أجد لوصية رسول الله ? شيئاً خيراً من أن أعتقها؛ فأعتقها. والله أعلم وصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وسلم. فَهَا سُنَّةُ الْمَعْصُومِ خَيْرَةِ خَلْقِهِ ... شَكَتْ بِلِسَانِ الْحَالِ طُولَ جِفَاهَا فَنَسْأَلُ رَبُّ الْعَرْشِ تَيِسِيرَ مُخْلِص ... يُزِيلُ ظَلامًا قَدْ طَمَا وَعَلاهَا فَتَى قَدْ جَنَى مِنْ كُلِّ فَنٍ ثِمَارَهُ ... وَأَمَّ إِلَى هَامِ الْعُلَى فَعَلاهَا قَرِيبٌ إِلَى أَهْلِ الشَّرِيعَةِ وَالتُّقَى ... وَيَبْعُد عَمَّنْ يَرْتَضِي بِسِوَاهَا عَفِيفٌ عَن الأَمْوَالِ إِلا بِحَقِّهَا ... وَعَنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا يُطِيلُ جِفَاهَا يُوَالِي وَيُدْنِي أَهْلَ سُنَّةَ أَحْمَدِ ... بَعِيدٌ لِمَنْ يَهْدِي بِغَيْرِ هُدَاهَا يَحُفُّ بِهِ قَوْمٌ عَلَى كُلِّ سَابِحٍ ... مُنَاهُمْ مُنَاوَاةُ الْعِدَى وَلِقَاهَا

يَقُودُ أُسُودًا فِي الْحَرْبِ ضَيَاغِمًا ... تَعُدُّ الْمَنَايَا فِي الْحُرُوبِ مُنَاهَا وَيَعْرُوهُمُوا عِنْدَ الْمُلاقَاتِ هِزِّةً ... وَيُسْكِرُهُمْ دَمْعُ الْعِدَا وَدِمَاهَا وَيَطْرِبُهُمْ هَزُّ الْقَنَا بِأَكُفِّهِمْ ... وَوَقْعُ الْعَوَالِي فِي صُدُورِ عِدَاهَا وَلا جَمَعُوا مَالاً وَلا كَسَبُوا لَهُمْ ... مَسَاكِنَ لا يَرْضَى الإِلَهُ بَنَاهَا وَمَا قَصَدُوا مِنْ سَفْكِهِمْ لِدَمِ الْعِدَى ... وَضَرْبِ طَلاهَا بِالطِّلا لِرَدَهَا سِوَى أَنَّهُمْ يُحْيُونَ شِرْعَةِ أَحْمَدٍ ... وَيُعْلُونَ مِنْهَا مَا وَهَى لِعُلاهَا وَلا هَمَّهُمْ جَمْعُ الْحُطَامِ فَزَخْرَفُوا ... قُصُورًا وَلا بَاهَوْا بِرَفْعِ بِنَاهَا وَلا قَصْدَهُمْ مِمَّنْ أَبَادُوهُ بِالْقَنَا ... وَتَطْوِيقِهِمْ بِالسَّيْفِ بيضَ طَلاهَا سِوَى رَفْعُ أَعْلامِ الشَّرِيعَةِ فِي الْوَرَى ... وَيَنْفُونَ عَنْهَا بَاطِلاً بِدَوَاهَا سَيَنْجَابُ عَنْهَا بِالصَّوَارِمِ مَا دَجَا ... فَيُشْرِقُ فِي الآفَاقِ نُورُ سَنَاهَا وَتَنْفُذُ فِي الطَّاغِي سِهَامُ قَسِيِّهِمْ ... فَتَظْهَرُ أَحْكَامُ الْهُدَى بِهُدَاهَا فَيَا مَنْ لَهُمْ فِي الدِّينِ أَقْصَرُ هِمَّةٍ ... إِلَى كَمْ تُمَنُّوَن النُّفُوسَ مُنَاهَا نَرَى كُلَّ يَوْمٍ مُنْكَرَاتٍ فَظِيعَةً ... وَلا نَتَحَامَى عَارَهَا وَعَرَاهَا وَمَا حَصَلَ الإِنْصَافُ مِنْ كُلِّ ظَالِمٍ ... فَحَيَّ هَلا يَا مَنْ يُرِيدُ حِمَاهَا تَعَالَوْا بِنَا نُحْيِي رِيَاضًا مِنَ الْعُلَى ... وَنَرْفَعُ أَعْلامَ الْهُدَى وَذُرَاهَا وَفُكُّوا عَنِ الأَفْكَارِ أَقْيَادَ شُغْلِهَا ... لِتَنْظُرَ فِي عُقْبَى مَآلِ عُلاهَا فَمَا اللهُ عَمَّا تَعْمَلُونَ بِغَافِلٍ ... سَيَجْزِي الْعِدَى يَوْمَ الْجَزَا بِجَزَاهَا فَفِي الذِّكْرِ أَخْبَارٌ بِسُوءِ مَآلِهِمْ ... إِذَا رَامَهَا مَنْ شَاءَهَا سَيَرَاهَا بِرَبِّكُمُوا رُدُّوا سَلامِي عَلَى أَمْرِي ... عَنْ السُّنَّةِ الْغَرَا أَمَاطَ قَذَاهَا خَلِيلَيَّ هَلْ مِنْ سَامِعٍ لِشَكِّيَّتِي ... إِذَا بُحْتُ بِالشَّكْوَى يَبُلُّ صَدَاهَا فَإِنْ تَجِدَاهُ فَاكْشِفَا عَنْ نِقَابِهَا ... وَإِلا فَبِالْكُفْءِ الْكَرِيمِ عِدَاهَا

أَلَمْ تَسْمَعُوا تَجْرِيفَ سُنَّةِ أَحْمَدٍ ... وَسَومِ الأَعَادِي فِي مُرُوجِ حِمَاهَا إِذَا قِيلَ قَالَ اللهُ وَرَسُولُهُ ... يَقُولُونَ قَالَ الأَكْثَرُونَ سِوَاهَا بِلادٌ جَبِينَاهَا وَسُسْنَا أُمُورَهَا ... فَنَحْنُ كَمَنْ قَدْ سَاسَهَا وَجَبَاهَا وَإِنْ قِيلَ مَا شَأْنُ الْمَزَامِيرِ وَالْغِنَا ... بَلِ الظُّلْمُ قَالُوا كَيْ نُخِيفَ عِدَاهَا وَآذَانُهُمْ صُمُّ عَنِ الْحَقِّ وَالْهُدَى ... وَأَبْصَارُهُمْ قَدْ طَالَ عَنْهُ عَمَاهَا فَصَدُّوا وَمَا رَدُّوا شَرِيدًا وَهَدَّمُوا ... قَوَاعِدَ خَيْرُ الْمُرْسَلِينَ بَنَاهَا فَتَبًّا لَهَا تَبًّا وَسُحْقًا لِفِرْقَةٍ ... جَمِيعُ الضَّلالاتِ اشْتَرَتْ بِهُدَاهَا وَبُعْدًا لَهَا بُعْدًا وَتَبًّا لَهَا وَمَنْ ... يُحَاوِلُ مِنْهَا فِي الْجَهَالَةِ جَاهَا فَغَوْثَاهُ وَاغَوْثَاهُ هَلْ مِنْ مُثَابِرٍ ... يُزِيلُ قَذَاهَا سَيْفُهُ وَشَجَاهَا إذَا سُلَّ مِنْ نُورِ الشَّرِيعَةِ صَارِمًا ... عَلَى ظُلْمَةٍ لِلْظَّالِمِينَ جَلاهَا فَيَا لِلْعُقُولِ السَّامِيَاتِ إلَى الْعُلا ... وَيَا مَنْ مَنَحْتُمْ أنْفُسًا وَهُدَاهَا ألَسْنَا نَرَى في كُلِّ يَوْمٍ مَنَاكِرًا ... فَنُعْرِضُ لا نَنْهَى وَلا نَتَنَاهَا وَمَا كَانَ مِنَّا صَادِمٌ لِمُشَاغِبْ ... أَدَارَ مِنْ الْحَرْبِ الضَّرُوسِ رَحَاهَا فَحيِّ هَلا نُحْيِي مِنَ الْوَحْيِ سُنَّةً ... وَقَدْ سَنْحَتْ عَيْنٌ تُطِيلُ كَرَاهَا وَهُبُّوْا فَقَدْ طَالَ الْمَنامُ وَشَمِّرُوْا ... لِنَسْبَحْ في غَمْرَاتِها وَحَلاهَا فَقَدْ وَعَدَ الرَّحْمَنُ نُصْرَةَ دِيْنِهِ ... وَلَكِنْ قَضَى أنْ لِلأُمُورِ مَدَاهَا وَأَنْزَلَ في التَّنْزِيلِ أَخْبَارَ مَنْ طَغَى ... وَكَمْ ضُمِّنَتْ (طَسْ) مِنْه وَ (طَاهَا) فَيَالَ عِبَادِ اللهِ هَلْ مِنْ مُحَقِّقٍ ... عَلَى شِرْعَةِ الْمُخْتَارِ رَدَّ رُوَاهَا خَلِيلِي هَلا قَدْ وَجَدْتُمْ مُهَذَّبًا ... إِذَا بَُثَّتِ الشَّكْوَى إِلَيهِ وَعَاهَا فَإِنْ تَجِدَاهُ فَالْمَرَامُ وَجَدْتُمَا ... وَإِلا فَصُونَا وَجْهَهَا وَقَفَاهَا فَوَا حَزَنًا مِنْ هَجْرِ سُنَّةِ أَحْمَدٍ ... بِغَيْرِ تَحَاشٍ وَانْتِهَاكِ حِمَاهَا

.. إِذَا قِيلَ مَا هَذِي الْمَقَايِسُ وَالْهَوَى ... يَقُولُونَ عَادَاتٌ وَنَحْنُ نَرَاهَا وَمُلْكٌ وَأَرَاض قَدْ جَبَيْنَا خَرَاجَهَا ... كَمَا سَاسَهَا مِنْ قَبْلَنَا وَجَبَاهَا وَإِنْ قِيلَ مَا شَأْنُ الْمَظَالِمِ جَهْرَةً ... يَقُولُونَ إِرْهَابُ فَقُلْتُ بَلاهَا قُلُوبٌ لَهُمْ لا تَعْقِلُ الْحَقَّ بَلْ وَلا ... تَلِينُ لِذِكْرِ اللهِ عِنْدَ قَسَاهَا اللهُمَّ أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر إنك سميع الدعاء. اللهُمَّ مكن محبتك في قلوبنا وقوها ونور قلوبنا بنور الإيمان وألهمنا ذكرك وشكرك بحضور قلب واجعلنا هداة مهتدين وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. عن عبد الله بن وابصة العبسي عن أبيه عن جده قَالَ: جاءنا رسول الله ? في منازلنا بمنى، ونحن نازلون بإزاء الجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف، وهو على راحلته مردفاً خلفه زيد بن حارثة. فدعانا؛ فوقف ما استجبنا له ولا خير لنا، وقد كنا سمعنا به وبدعائه في المواسم، فوقف علينا يدعونا فلم نستجب له، وكان معنا ميسرة بن مسروق العبسي. فَقَالَ لنا: أحلف بالله لو قد صدقنا هذا الرجل وحملناه حتَّى نحل به وسط بلادنا لكان الرأي، فأحلف بالله ليظهرن أمره حتى يبلغ كل مبلغ. فَقَالَ القوم: دعنا منك لا تعرضنا لما لا قبل لنا به. وطمع رسول الله ? في ميسرة، فكلمه؛ فَقَالَ ميسرة: ما أحسن كلامك وأنوره ولكن قومي يخالفونني وإنما الرجل بقومه، فإذا لم يعضدوه، فالعدى أبعد. فانصرف رَسُولِ اللهُ ? وخرج القوم صادرين إل أهليهم؛ فَقَالَ لهم ميسرة: ميلوا نأتي فدك؛ فإن بها يهوداً نسائلهم عن هذا الرجل؛ فمالوا إلى يهود، فأخرجوا سفراً لهم فوضعوه. ثم درسوا ذكر رَسُولِ اللهُ ? النبي الأمي العربي، يركب الحمار، ويجتزي بالكسرة، ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بالجعد، ولا بالبسط، في عينيه حمرة، مشرق

اللون، فإن كان هو الَّذِي دعاكم، فأجيبوه، وادخلوا في دينه فإنا نحسده ولا نتبعه وإنا منه في مواطن بلاء عظيم، ولا يبقى أحد من العرب إلا اتبعه، وإلا قاتله فكونوا ممن يتبعه. فَقَالَ ميسرة: يا قوم ألا إن هذا الأمر بين، فَقَالَ القوم: نرجع إلى الموسم ونلقاه، فرجعوا إلى بلادهم، وأبى ذلك عليهم رجالهم، فلم يتبعه أحد منهم، فلما قدم رَسُولِ اللهُ ? المدينة مهاجراً وحج حجة الوداع لقيه ميسرة فعرفه. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ما زلت حريصاً على إتباعك من يوم أنخت بنا، حتَّى كان ما كان، وأبى الله إلا ما ترى من تأخر إسلامي، وقد مات عامة النفر الَّذِينَ كانوا معي، فأين مدخلهم يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهُ ? كل من مات على غير دين الإسلام فهو في النار. فَقَالَ: الحمد لله الَّذِي أنقذني؛ فأسلم وحسن إسلامه، وكان له عند أبي بكر مكان. اللهُمَّ وفقنا لسلوك مناهج المتقين وخصنا بالتوفيق المبين واجعلنا بفضلك من عبادك المخلصين الَّذِينَ لا خوف عليهم ولا هم يخزنون وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. عَنْ أَبِى مُوسَى الأشْعَري قَالَ: أَرْسَلَنِي أَصْحَابِي إِلَى رَسُولِ اللهِ ? أَسْأَلُهُ لَهُمُ الْحُمْلاَنَ، إِذْ هُمْ مَعَهُ فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنَّ أَصْحَابِي أَرْسَلُونِي إِلَيْكَ لِتَحْمِلَهُمْ فَقَالَ: «وَاللهِ لاَ أَحْمِلُكُمْ عَلَى شَيْءٍ» . وَوَافَقْتُهُ، وَهْوَ غَضْبَانُ وَلاَ أَشْعُرُ. فَرَجَعْتُ حَزِيناً مِنْ مَنْعِ رَسُولِ اللهِ ? وَمِنْ مَخَافَةِ أَنْ يَكُونَ رَسُولِ اللهِ ? قَدْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ عَلَيَّ، فَرَجَعْتُ إِلَى أَصْحَابِي فَأَخْبَرْتُهُمُ الَّذِي قَالَ رَسُولِ اللهِ ?، فَلَمْ أَلْبَثْ إِلاَّ سُوَيْعَةً إِذْ سَمِعْتُ بِلاَلاً يُنَادِى أَيْ عَبْدَ اللهِ بْنَ قَيْسٍ. فَأَجَبْتُهُ.

فَقَالَ: أَجِبْ رَسُولَ اللهِ ? يَدْعُوكَ، فَلَمَّا أَتَيْت رَسُولَ اللهِ ?، قَالَ: «خُذْ هَذَيْنِ الْقَرِينَيْنِ وَهَذَيْنِ الْقَرِينَيْنِ وَهَذَيْنِ الْقَرِينَيْنِ - لِسِتَّةِ أَبْعِرَةٍ ابْتَاعَهُنَّ حِينَئِذٍ مِنْ سَعْدٍ - فَانْطَلِقْ بِهِنَّ إِلَى أَصْحَابِكَ. فَقُلْ: إِنَّ اللهَ يَحْمِلُكُمْ عَلَى هَؤُلاَءِ فَارْكَبُوهُنَّ» . فَانْطَلَقْتُ إِلى أصْحابي بِهِنَّ، فَقُلْتُ: إِنَّ رسول الله ? يَحْمِلُكُمْ عَلَى هَؤُلاَءِ. وَلَكِنِّي وَاللهِ لاَ أَدَعُكُمْ حتَّى يَنْطَلِقَ مَعِي بَعْضُكُمْ إِلَى مَنْ سَمِعَ مَقَالَةَ رَسُولِ اللهِ ? حينَ سَألْتُهُ لكُمْ، ومَنْعَهُ في أوَّلِ مَرَّةٍ ثُمَّ إعْطاءَهُ إَّيايَ بَعْدَ ذَلِكَ، لاَ تَظُنُّوا أَنِّي حَدَّثْتُكُمْ شَيْئاً لَمْ يَقُلْهُ. فَقَالُوا لِي: والله إِنَّكَ عِنْدَنَا لَمُصَدَّقٌ، وَلَنَفْعَلَنَّ مَا أَحْبَبْتَ؛ فَانْطَلَقَ أَبُو مُوسَى بِنَفَرٍ مِنْهُمْ حتَّى أَتَوُا الَّذِينَ سَمِعُوا قَوْلَ رَسُولِ اللهِ ? مَنْعَهُ إِيَّاهُمْ، ثُمَّ إِعْطَاءَهُمْ بَعْدُ، فَحَدَّثُوهُمْ بِمِثْلِ مَا حَدَّثَهُمْ بِهِ أَبُو مُوسَى. وعن كعب بن مالك قَالَ: خرجنا في حجاج قومنا من المشركين وقد صلينا وفُقِّهْنا ومعنا البراء بن معرور سيدنا وكبيرنا فلما توجهنا لسفرنا وخرجنا من المدينة. قَالَ البراء لنا: يا هؤلاء إني قد رأيت رأياً، فوالله ما أدري أتوافقونني عليه، أم لا؟ قلنا: وما ذاك؟ قَالَ: قد رأيت أن لا أدع هذه البنية مني بظهر - يعني الكعبة - وأن أصلي إليها. فقلنا: والله ما بلغنا أن نبيناً ? يصلي إلا إلى الشام، وما نريد أن نخالفه، فَقَالَ: إني لمصل إليها فقلنا له: لكنا لا نفعل، فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام وصلى إلى الكعبة، حتَّى قدمنا مكة. وقد كنا قد عتبنا عليه ما صنع، وأبى إلا الإقامة على ذلك فلما قدمنا مكة قال لي: يا ابن أخي، انطلق بنا إلى رسول الله ? حتَّى نسأله عما صنعت في سفري هذا، فإنه والله لقد وقع فِي نَفْسِي منه شيء، لما رأيت من خلافكم إياي فيه.

فخرجنا نسأل عن رسول الله ? وكنا لا نعرفه لم نره قبل ذلك، فلقينا رجلاً من أهل مكة، فسألناه عن رسول الله ? فَقَالَ: هل تعرفانه؟ قلنا: لا. قَالَ: فهل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه؟ قلنا: نعم - وقد كنا نعرف العباس، كان لا يزال يقدم علينا تاجراً - قَالَ: فإذ دخلتما المسجد؛ فهو الرجل الجالس مع العباس. قَالَ: فدخلنا المسجد، فإذا العباس جالس، ورسول الله ? جالس معه، فسلمنا، ثم جلسنا إليه. فَقَالَ رسول الله ? للعباس: ((هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل» ؟ قَالَ: نعم، هذا البراء بن معرور، سيد قومه، وهذا كعب بن مالك؛ فوالله ما أنسى قول رسول الله ?: ((الشاعر)) ؟ قَالَ: نعم. فَقَالَ له البراء بن معرور: يا نبي الله، إني خرجت في سفري هذا، وقد هداني الله للإسلام، فرأيت أن لا أجعل هذه البنية مني بظهر فصليت إليها، وقد خالفني أصحابي في ذلك، حتَّى وقع فِي نَفْسِي من ذلك شيء؛ فما ترى يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: قد كنت على قبلة لو صبرت عليها؛ فرجع البراء إلى قبلة رسول الله ? وصلى معنا. إلى الشام وأهله يزعمون أنه صلى إلى الكعبة حتَّى مات، وليس ذلك كما قَالُوا، نحن أعلم به منهم. والله أعلم وصلى الله على مُحَمَّد اللهُمَّ اسلك بنا سبيل الأبرار، واجعلنا من عبادك المصطفين الأخبار، وامنن علينا بالعفو والعتق من النار، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. فَصْلٌ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ ? فِي سَاعَةٍ لاَ يَخْرُجُ فِيهَا، وَلاَ يَلْقَاهُ فِيهَا أَحَدٌ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: «مَا جَاءَ بِكَ يَا أَبَا بَكْرٍ» ؟ فَقَالَ: خَرَجْتُ أَلْقَى رَسُولَ اللهِ ? وَأَنْظُرُ فِي وَجْهِهِ وَالتَّسْلِيمَ عَلَيْهِ.

فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ عُمَرُ؛ فَقَالَ: «مَا جَاءَ بِكَ يَا عُمَرُ» ؟ قَالَ: الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللهِ! فَقَالَ النَّبِيُّ ?: «وَأَنَا قَدْ وَجَدْتُ بَعْضَ ذَلِكَ» . فَانْطَلَقُوا إِلَى مَنْزِلِ أَبِى الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيِّهَانِ الأَنْصَارِىِّ - وَكَانَ رَجُلاً كَثِيرَ النَّخْلِ والشَّجَرِ وَالشَّاءِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ خَدَمٌ - فَلَمْ يَجِدُوهُ. فَقَالُوا لاِمْرَأَتِهِ أَيْنَ صَاحِبُكِ؟ فَقَالَتِ: انْطَلَقَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا الْمَاءَ، فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ جَاءَ أَبُو الْهَيْثَمِ بِقِرْبَةٍ يَزْعَبُهَا، فَوَضَعَهَا ثُمَّ جَاءَ يَلْتَزِمُ النَّبِيَّ ? وَيُفَدِّيهِ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ. ثُمَّ انْطَلَقَ بِهِمْ إِلَى حَدِيقَتِهِ، فَبَسَطَ لَهُمْ بِسَاطاً، ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى نَخْلَةٍ فَجَاءَ بِقِنْوٍ، فَوَضَعَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ?: «أَفَلاَ تَنَقيْتَ لَنَا مِنْ رُطَبِهِ» . فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أَرَدْتُ أَنْ تَخْتَارُوا - أَوْ قَالَ تَخَيَّرُوا - مِنْ رُطَبِهِ وَبُسْرِهِ. فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ?: «وَالَّذِي نَفْسِي بَيّدِهِ مِنَ هَذا النَّعِيمِ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: ظِلٌّ بَارِدٌ طَيِّبٌ، وَمَاءٌ بَارِدٌ» . فَانْطَلَقَ أَبُو الْهَيْثَمِ ِيَصْنَعَ لَهُمْ طَعَاماً فَقَالَ النَّبيُّ ?: «لاَ تَذْبَحَنَّ لنا ذَاتَ دَرٍّ» . فَذَبَحَ لَهُمْ عَنَاقاً - أَوْ جَدْياً - فَأَتَاهُمْ بِهَا فَأَكَلُوا. فَقَالَ النَّبِيُّ ? «هَلْ لَكَ خَادِمٌ؟» . قَالَ: لاَ، قَالَ: «فَإِذَا أَتَانَا سَبْيٌ فَائْتِنَا» . فَأُتِيَ النَّبِيُّ ? بِرَأْسَيْنِ لَيْسَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ، فَأَتَاهُ أَبُو الْهَيْثَمِ، فَقَالَ النَّبيُّ ?: «اخْتَرْ مِنْهُمَا» . فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ اخْتَرْ لِي. فَقَالَ النَّبِيُّ ?: «إِنَّ الْمُسْتَشَارَ مُؤْتَمَنٌ، خُذْ هَذَا، فَإِنِّي رَأَيْتُهُ يُصَلِّى، وَاسْتَوْصِ بِهِ مَعْرُوفاً» . فَانْطَلَقَ أَبُو الْهَيْثَمِ إِلَى امْرَأَتِهِ: فَأَخْبَرَهَا بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ ?. فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: مَا أَنْتَ بِبَالِغٍ مَا قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ ? إِلاَّ أَنْ تَعْتِقَهُ، قَالَ: فَهُوَ عَتِيقٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ ?: «إِنَّ اللهَ تعالى لَمْ يَبْعَثْ نَبِيّاً وَلاَ خَلِيفَةً إِلا وَلَهُ بِطَانَتَانِ بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَاهُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَبِطَانَةٌ لاَ تَأْلُوهُ خَبَالاً وَمَنْ يُوقَ بِطَانَةَ السُّوءِ فَقَدْ وُقِيَ» . والله أعلم وصلى الله على مُحَمَّد وأله وسلم. اللهُمَّ إنا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا،

وتلم بها شعثنا، وترفع بها شاهدنا، وتحفظ بها غائبنا، وتزكى بها أعمالنا، وتلهمنا بها رشدنا، وتعصمنا بها كل سوء يا أرحم الراحمين. اللهُمَّ ارزقنا من فضلك، وأكفنا شر خلقك، وأحفظ علينا ديننا وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللهِ ? خَيْبَرَ قَالَ الْحَجَّاجُ بْنُ عِلاَطٍ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لِي بِمَكَّةَ مَالاً وَإِنَّ لِي بِهَا أَهْلاً وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ آتِيَهُمْ أفَأَنَا فِي حِلٍّ إِنْ أَنَا نِلْتُ مِنْكَ أو قُلتُ شَيْئاً. فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ? أَنْ يَقُولَ مَا شَاءَ، فَأَتَى امْرَأَتَهُ حِينَ قَدِمَ فَقَالَ: اجْمَعِي لِي مَا كَانَ عِنْدَكِ، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَشْتَرِىَ مِنْ غَنَائِمِ مُحَمَّد وَأَصْحَابِهِ، فَإِنَّهُمْ قَدِ اسْتُبِيحُوا وَأُصِيبَتْ أَمْوَالُهُمْ. وَفَشَى ذَلِكَ بِمَكَّةَ فَانْقَمَعَ الْمُسْلِمُونَ وَأَظْهَرَ الْمُشْرِكُونَ فَرَحاً وَسُرُوراً. وَبَلَغَ الْخَبَرُ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَعَقِرَ وَجَعَلَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُومَ ... فَأَخَذَ ابْناً لَهُ يُقَالَ لَهُ قُثَمٌ وَاسْتَلْقَي، وَوَضَعَهُ عَلَى صَدْرِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: حِبِّي قُثَمْ شَبِيهُ ذِي الأَنْفِ الأَشَمْ ... نَبِيِّ ذِي النِّعَمْ يَزْعُم مَنْ زَعَمْ ثُمَّ أَرْسَلَ غُلاَماً لَهُ إِلَى الْحَجَّاجِ بْنِ عِلاَطٍ، فَقَالَ وَيْلَكَ جِئْتَ بِهِ! وَمَاذَا تَقُولُ؟ فَمَا وَعَدَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا جِئْتَ بِهِ فَقَالَ الْحَجَّاجُ بْنُ عِلاَطٍ: اقْرَأْ عَلَى أَبِي الْفَضْلِ السَّلاَمَ، وَقُلْ لَهُ فَلْيَخْلُ لِي فِي بَعْضِ بُيُوتِهِ لآتِيَهُ فَإِنَّ الْخَبَرَ عَلَى مَا يَسُرُّهُ. فَجَاءَ غُلاَمُهُ، فَلَمَّا بَلَغَ بَابَ الدَّارِ قَالَ: أَبْشِرْ يَا أَبَا الْفَضْلِ، فَوَثَبَ الْعَبَّاسُ فَرَحاً حتَّى قَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَأَخْبَرَهُ مَا قَالَ الْحَجَّاجُ فَأَعْتَقَهُ. ثُمَّ جَاءَهُ الْحَجَّاجُ فَأَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ? قَدِ افْتَتَحَ خَيْبَرَ وَغَنِمَ أَمْوَالَهُمْ، وَجَرَتْ سِهَامُ اللهِ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَاصْطَفَى رَسُولُ اللهِ ? صَفِيَّةَ بِنْتَ

حُيَىٍّ وَاتَّخَذَهَا لِنَفْسِهِ، وَخَيَّرَهَا أَنْ يُعْتِقَهَا وَتَكُونَ زَوْجَتَهُ، أَوْ تَلْحَقَ بِأَهْلِهَا، فَاخْتَارَتْ أَنْ يُعْتِقَهَا وَتَكُونَ زَوْجَتَهُ. وَلَكِنِّى جِئْتُ لِمَالٍ كَانَ هَا هُنَا أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَهُ فَأَذْهَبَ بِهِ، فَاسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللهِ ? فَأَذِنَ لِي أَنْ أَقُولَ مَا شِئْتُ فَأخْفِ عَنِّى ثَلاَثاً، ثُمَّ اذْكُرْ مَا بَدَا لَكَ فَجَمَعَتِ امْرَأَتُهُ مَا كَانَ عِنْدَهَا مِنْ حُلِىٍّ أَوْ مَتَاعٍ فَجَمَعْتهُ ودَفَعَتْهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ انْشَمَرَ بِهِ. فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلاَث أَتَى الْعَبَّاسُ امْرَأَةَ الْحَجَّاجِ فَقَالَ: مَا فَعَلَ زَوْجُكِ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَتْ: لاَ يَحْزُنْكَ اللهُ يَا أَبَا الْفَضْلِ لَقَدْ شَقَّ عَلَيْنَا الَّذِي بَلَغَكَ، قَالَ: أَجَلْ فَلاَ يُحْزِنُنِي اللهُ ولَمْ يَكُنْ بِحَمْدِ اللهِ إِلا مَا أَحْبَبْنَا، فَتَحَ اللهُ خَيْبَرَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ? وَجَرَتْ فِيهَا سِهَامُ اللهِ وَاصْطَفَى رَسُولُ اللهِ ? صَفِيَّةَ لِنَفْسِهِ. فَإِنْ كَانَت لَكِ حَاجَةً فِي زَوْجِكِ فَالْحَقِي بِهِ، قَالَتْ: أَظُنُّكَ وَاللهِ صَادِقاً؟ قَالَ: فَإِنِّي لصَادِقٌ، وَالأَمْرُ عَلَى مَا أُخْبِرُتكِ، ثُمَّ ذَهَبَ حتَّى أَتَى مَجْلِسَ قُرَيْشٍ، وَهُمْ يَقُولُونَ إِذَا مَرَّ بِهِمْ: لاَ يُصِيبِكَ إِلا خَيْرٌ يَا أَبَا الْفَضْلِ. قَالَ: لَمْ يُصِبْنِي إِلاَّ خَيْرٌ بِحَمْدِ اللهِ، أَخْبَرَنِي الْحَجَّاجُ بْنُ عِلاَطٍ أَنَّ خَيْبَرَ فَتَحَهَا اللهُ عَلَى رَسُولِهِ ? وَجَرَتْ فِيهَا سِهَامُ اللهِ، وَاصْطَفَى صَفِيَّةَ لِنَفْسِهِ، وَقَدْ سَأَلَنِي أَنْ أُخْفِىَ عَنهُ ثَلاَثاً، وَإِنَّمَا جَاءَ لِيَأْخُذَ مَالَهُ، وَمَا كَانَ لَهُ مِنْ شَيْءٍ هَا هُنَا ثُمَّ يَذْهَبُ. فَرَدَّ اللهُ الْكَآبَةَ الَّتِي كَانَتْ بالْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ مَنْ كَانَ دَخَلَ بَيْتَهُ مُكْتَئِباً حتَّى أَتَى الْعَبَّاسَ فَأَخْبَرَهُمْ الخبر، فَسُرَّ الْمُسْلِمُونَ، وَرَدَّ مَا كَانَ مَنْ كآبةٍ أو غَيْظٍ وَحُزْنٍ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. والله أعلم اللهُمَّ اسلك بنا سبيل عبادك الأبرار ووفقنا للتوبة والاستغفار واحطط عنا ثقل الأوزار يا عزيز يا غفار وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ

يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) عن جرير بن عبد الله البجلي قَالَ: رجل مع أبي موسى الأشعري، وكان صوت ونكاية في العدو، فغنموا مغنماً فأعطاه أبو موسى بعض سهمه، فأبى أن يقبله إلا جميعاً، فجلده أبو موسى عشرين سوطاً، وحلقه، فجمع الرجل شعره، ثم ترحل إلى عمر بن الخطاب، حتَّى قدم عليه. فدخل على عمر بن الخطاب، وكنت أقرب الناس من عمر، فأدخل على عمر شعره، ثم ضرب به صدر عمر بن الخطاب، ثم قَالَ: أما والله لولا النار؛ فَقَالَ عمر: صدق والله لولا النار. فَقَالَ: يا أمير المؤمنين، إني كنت ذا صوت ونكاية، فأخبره بأمره، وَقَالَ: ضربني أبو موسى عشرين سوطاً، وحلق رأسي، وهو يرى أنه لا يقتص منه. فَقَالَ عمر – رضوان الله عليه -: لأن يكون الناس كلهم على صرامة هذا أحب لي من جميع ما أفاء الله علينا. فكتب عمر إلى أبي موسى: سلام عَلَيْكَ، أما بعد؛ فإن فلاناً أخبرني بكذا وكذا، فإن كنت فعلت ذاك في ملأ من الناس، فعزمت عَلَيْكَ لما قعدت له في ملأ من الناس حتَّى يقتص منك. فقدم الرجل، فَقَالَ له الناس: اعف عنه، فَقَالَ: لا والله لا أدعه لأحد من الناس، فلما قعد أبو موسى ليقتص منه رفع الرجل رأسه إلى السماء ثم قَالَ: اللهُمَّ إني قد عفوت عنه. والله أعلم وصَلَّى اللهُ وَعَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وسلم. (فَصْلٌ) عَنْ ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى الشَّامِ حتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أَهْلُ الأَجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ، فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ.

فَقَالَ عُمَرُ: ادْعُ لِيَ الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ. فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ خَرَجْتَ لأَمْرٍ وَلاَ نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ? وَلاَ نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ. فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي. ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِيَ الأَنْصَارَ؛ فَدَعَوْتُهُمْ لَهُ فَاسْتَشَارَهُمْ فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلاَفِهِمْ. فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي. ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ. فَدَعَوْتُهُمْ فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ رَجُلاَنِ فَقَالُوا: نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلاَ تُقْدِمْهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ. فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ: إِنِّي مُصْبِحٌ عَلَى ظَهْرٍ فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ. فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ ابْنُ الْجَرَّاحِ: أَفِرَاراً مِنْ قَدَرِ اللهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ - وَكَانَ عُمَرُ يَكْرَهُ خِلاَفَهُ - نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللهِ إِلَى قَدَرِ اللهِ. أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَتْ لَكَ إِبِلٌ فَهَبَطْتَ وَادِياً لَهُ عِدْوَتَانِ؛ إِحْدَاهُمَا: خَصْبَةٌ، وَالأُخْرَى: جَدْبَةٌ أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللهِ وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللهِ. فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَكَانَ مُتَغَيِّباً فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْماً؛ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ? يَقُولُ: «إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَاراً مِنْهُ» . فَحَمِدَ اللهَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ثُمَّ انْصَرَفَ. والله أعلم وصَلَّى اللهُ وَعَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وسلم. اللهُمَّ حبب إلينا الإيمانَ وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ اللهُمَّ انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، ووفقنا للعمل بما فهمتنا، اللهُمَّ إن كنا مقصرين في حفظ حقك، والوفاء بعهدك، فأنت

تعلم صدقنا في رجاء رفدك، وخالص ودك، اللهُمَّ أنت أعلم بنا منا، فبكمال جودك تجاوز عنا، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) عن أنس بن مالك: كنا عند عمر بن الخطاب - رضوان الله عليه - إذ جاءه رجل من أهل مصر، فَقَالَ: يا أمير المؤمنين، هذا مقام العائذ بِكَ، قَالَ: وما لك؟ قَالَ: أجرى عمرو بن العاص بمصر الخيل فأقبلت فرسي، فلما رآها الناس قام مُحَمَّد بن عمرو فَقَالَ: فرسي ورب الكعبة؛ فلما دنا مني عرفته، فقلت: فرسي ورب الكعبة فَقَامَ إلي فضربني بالسوط، ويقول: خذها وأنا ابن الأكرمين. فوالله ما زاده عمر على أن قَالَ له: اجلس، ثم كتب إلى عمرو إذا جاءك كتابي هذا فأقبل، وأقبل معك بابنك مُحَمَّد؛ فدعا عمرو ابنه فَقَالَ: أأحدثت حدثاً؟ أجنيت جناية؟ قَالَ: لا، قَالَ: فما بال عمر يكتب فيك. فقدم على عمر؛ فو الله إنا عند عمر حتَّى إذا نحن بعمرو وقد أقبل في إزار ورداء، فجعل عمر يلتفت هل يرى ابنه، فإذا هو خلف أبيه، فَقَالَ: أين المصري؟ فَقَالَ: ها أنا ذا،قَالَ: دونك الدرة فاضرب ابن الأكرمين، اضرب ابن الأكرمين، فضربه حتَّى أثخنه. ثم قَالَ: أحلها على صلعة عمرو! فو الله ما ضربكَ إلا بفضل سلطانه فَقَالَ: يا أمير المؤمنين قد ضربت من ضربني، قَالَ: أما والله لو ضربته ما حلنا بينك وبينه حتَّى تكون أنت الَّذِي تدعه، أيا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهم أحراراً ثم التفت إلى المصري، فَقَالَ: أنصرف راشداً، فإن رابكَ ريب فاكتب إلى. كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص – عام الرمادة -: (بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر أمير المؤمنين، إلى العاصي ابن العاصي،

سلام عَلَيْكَ، أما بعد: أفتراني هالكاً ومن قبلي وتعيش أنت ومن قبلك؟ فيا غوثاه -) . فكتب إليه عمرو بن العاص: (بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عمر أمير المؤمنين، من عمرو بن العاص، سلام عَلَيْكَ؛ فإني أحمد إليك الله الَّذِي لا إله إلا هو، أما بعد: (فقد) أتاك الغوث فلبث، لأبعثن إليك بعيراً أولها عندك وآخرها عندي) . فلما قدم أول الطعام كلم عمر بن الخطاب الزبير بن العوام فَقَالَ له: تعترض للعير فتميلها إلى أهل البادية فتقسمها بينهم؛ فو الله لعلك لا تكون أصبت بعد صحبتك رسول الله شيئاً أفضل منه؛ فأبي الزبير واعتل. وأقبل رجل من أصحاب النبي ? فَقَالَ عمر: لكن هذا لا يأبي؛ فكلمه عمر ففعل وخرج، فَقَالَ له عمر: أما لقيت من الطعام فمل به إلى أهل البادية. فأما الظروف فاجعلها لحُفاً يلبسونها، وأما الإبل فأنحرها لهم يأكلون من لحومها، ويحملون من ودكها، ولا تنتظر أن يقولوا ننتظر بها الحيا، وأما الدقيق فيصطنعون ويحرزون حتَّى أمر الله لهم بالفرج. وكان عمر يصنع الطعام وينادي مناديه: من أحب أن يحضر طعاماً فيأكل فليفعل، ومن أحب أن يأخذ ما يكفيه وأهله فليأت، فليأخذه. اللهُمَّ توفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) عن عبد الله بن عمر قَالَ: قدمت رفقة من التجار، فنزلوا المصلى فَقَالَ عمر لعبد الرحمن بن عوف: هل لك أن نحرسهم الليلة من السرق؟ (قَالَ: نعم) ، فباتا يحرسانهم ويصليان ما كتب الله لهما، فسمع عمر بكاء

صبي فتوجه نحوه فَقَالَ لأمه: اتقي الله وأحسني إلى صبيك. ثم عاد مكانه، فسمع بكاءه فأتى أمه فَقَالَ (لها مثل ذلك، ثم عاد إلى مكانه، فلما كان آخر الليل سمع بكاء الصبي فأتي إلى أمه فَقَالَ لها:) ويحك، إني لأراك أم سوء، مالي أرى ابنك لا يقر منذ الليلة (من البكاء) ؟ قالت: يا عبد الله قد أبرمتني منذ الليلة، إني أريغه عن الفطام فيأبي، قَالَ: ولم؟ قالت: لأن عمر لا يفرض إلا للفطم، قَالَ: وكم له؟ قالت: كذا وكذا شهراً، قَالَ ويحك لا تعجليه (عن الفطام) . فصلى الفجر وما يستبين الناس قراءته من غلبة البكاء، فلما سلم قَالَ: يا بؤساً لعمر، كم قتل من أولاد المسلمين! ثم أمر منادياً؛ فنادى: ألا، لا تعجلوا صبيانكم عن الفطام، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام، وكتب بذلك إلى الآفاق، إنا نفرض لكل مولود في الإسلام. وعن أسلم العدوي مولى عمر قَالَ: بينما أنا مع عمر بن الخطاب وهو يعس بالمدينة إذا أعيا فاتكا على جانب جدار في جوف الليل، وإذا امرأة تقول لابنتها: يا بنتاه قومي إلى ذلك فامذقيه بالماء. قَالَ لها: يا بنية قومي إلى اللبن فامذقية بالماء فإنه بموضع لا يراك عمر، ولا منادي عمر، فقالت الصبية لأمها: يا أمتاه، الله ما كنت لأطيعه في الملأ، وأعصيه في الخلاء، وعمر يسمع ذلك كله، فَقَالَ: يا أسلم علم الباب، واعرف الموضع، ثم مضى في عسسه. فلما أصبح قَالَ: يا أسلم امض إلى الموضع فانظر من القائلة ومن المقول لها، وهل لهم من بعل، فأتيت الموضع فنظرت فإذا الجارية أيم لا

بعل لها، وأذا تيكَ أمها ليس لها بعل. فأتيت عمر وأخبرته، فدعي عمر ولده فجمعهم، فَقَالَ: هل فيكم من يحتاج إلى امرأة فأزوجه، لو كان بأبيكم حركة إلى النساء ما سبقه منكم أحد إلى هذه الجارية. فَقَالَ عبد الله: لي زوجة، وَقَالَ عبد الرحمن: لي زوجة، وَقَالَ عاصم: يا أبتاه، لا زوجة لي، فزوجني، فبعث إلى الجارية، فزوجها من عاصم؛ فولدت له بنتاً، وولدت البنت عمرَ بن عبد العزيز – رحمه الله – والله أعلم اللهُمَّ وفقنا لمحبتك ومحبة رسلك وأوليائك وعبادك الصالحين وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِىَ اللهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حَدِيثَهُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ? فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ. قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللهِ ? فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَطُّ إِلاَّ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ غَيْرَ أَنِّى تَخَلَّفْتُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَلَمْ يُعَاتِبِ أَحَداً تَخَلَّفَ عَنْهَا إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ? وَالْمُسْلِمُونَ يُرِيدُون عِيرَ قُرَيْشٍ جَمَعَ اللهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ. وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ? لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا على الإسْلاَمِ وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا. وكَانَ مِنْ خَبَرِي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ? فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى، وَلاَ أَيْسَرَ مِنِّى حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ، وَاللهِ مَا اجْتَمَعَتْ قَبْلَهَا رَاحِلَتَينِ قَطُّ حتَّى جَمَعْتُهُمَا تِلْكَ الْغَزْوَةَ. وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ ? يُرِيدُ غَزْوَةَ إِلاَّ وَرَّي بِغَيْرِهَا حتَّى كَانَتْ تِلْك

الْغَزْوَةُ غَزَاهَا رَسُولُ اللهِ ? فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفَراً بَعِيداً وَمَفَازاً، وأسْتَقْبَلَ عَدُوّاً كَثِيراً فَجَلاَّ لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهَمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزُوِّهِمْ، وَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِم الَّذِي يُرِيدُ. وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ? كَثِيرٌ لاَ يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ، يُرِيدُ بذلك الدِّيوَانَ، قَالَ كَعْبٌ: فَقل رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ إِلاَّ ظَنَّ أَنْ ذلِك سَيَخْفَى لَهُ مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْىٌّ مِنَ اللهِ عزَ وجَلَّ وَغَزَا رَسُولُ اللهِ ? تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلاَلُ فَأنا إلَيْهَا أصْعَرُ فَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللهِ ? وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ، فَأرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئاً، وَأَقُولُ فِي نَفْسِي: أنَا قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ إِذَا أَرَدْتُ، وَلَمْ يَزَلْ يَتَمَادَى بِي حتَّى اسْتَمَرَّ بِالنَّاسِ الْجِدُّ. فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ ? وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جَهَازِي شَيْئاً، ثُمَّ غَدَوْتُ فرَجَعْتُ، وَلَمْ أَقْضِ شَيْئاً فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِي حتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ فَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ. فياَلَيْتَنِي فَعَلْتُ، ثم َلَمْ يُقَدَّرْ لِي ذَلِكَ وَطَفِقْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللهِ ? يَحْزَنَنِي أَنِّى لاَ أَرَى لي أسْوَةً إِلاَّ رَجُلاً مَغْمُوصاً عَلَيْهِ فيَ النِّفَاقِ أَوْ رَجُلاً مِمَّنْ عَذَرَ اللهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ. وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللهِ ? حتَّى بَلَغَ تَبُوكَ، فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ: «مَا فَعَلَ كَعْبٌ بْنُ مَالِك؟» . فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ يَا رَسُولَ اللهِ حَبَسَهُ بُرْدَاهُ والَنْظُرُ فِي عِطْفَيْهِ، فَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَمَا قُلْتَ، وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا عَلِمْنَا إِلاَّ خَيْراً، فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ ? فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ، فَرَأىِ رَجُلاً مُبَيَّضَّاً يَزُولُ بِهِ السَّرَابُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ?: كُنْ أبا خَيْثَمَةَ، فَإذَا هُوَ أبُو خَيْثَمَةَ الأنْصَارِيُّ، وَهُوَ الَّذِي تَصَدَّقَ بِصَاعِ التَّمْرِ حِينَ لَمَزَهُ المُنافقُونَ.

قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ ? قَدْ تَوَجَّهَ قَافِلاً مِنْ تَبُوكَ حَضَرَنِي بَثَّي فطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ وَأَقُولُ بِمَا أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَداً وَأَسْتَعِينُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأْىٍ مِنْ أَهْلِي. فَلَمَّا قِيلَ إِنَّ رَسُولَ اللهِ ? قَدْ َظَلَّ قَادِماً رَاحَ عَنِّى الْبَاطِلُ حتَّى عَرَفْتُ أَنِّي لاَ أنْجُوَ مِنْهُ بِشَيْءٍ أَبَداً فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ وَأصْبَحَ رَسُولُ اللهِ ? قَادِماً، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ. فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَ الْمُخَلَّفُونَ، فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ، وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلاً، فَقَبِلَ مِنْهُمْ عَلاَنِيَتَهُمْ وَبَايَعَهُمْ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَوَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ جِئْتُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ، ثُمَّ قَالَ: «تَعَالَ» . فَجِئْتُ أَمْشِى حتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لي: «مَا خَلَّفَكَ؟ أَلَمْ تَكُنِ قِد ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ: إِنِّي وَاللهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنيْ سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلاً. وَلَكِنْ وَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي لَيُوشِكَنَّ اللهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَىَّ وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَىَّ فِيهِ إِنِّي لأَرْجُو فيه عُقْبَي الله عز وجل. وفي رواية: عَفْوَ اللهِ. وَاللهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٌ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلاَ أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ. قَالَ: رَسُولُ اللهِ ?: «أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حتَّى يَقْضِىَ اللهُ فِيكَ» . فَقُمْتُ وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ، فَاتَّبَعُونِي. فَقَالُوا: وَاللهِ مَا عَلِمْنَاكَ أَذْنَبْتَ ذَنْباً قَبْلَ هَذَا، لَقَدْ عَجَزْتَ في أَنْ لاَ تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ? بِمَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ الْمُخَلَّفُونَ، فَقَدْ كَانَ كَافَِيكَ ذَنْبِكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللهِ ? لَكَ، فَوَ اللهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونِي حتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ? فَأُكَذِّبَ نَفْسِي.

قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ لَهُم: هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي أَحَدٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ لَقِيَهُ مَعَكَ رَجُلاَنِ قَالاَ مِثْلَ مَا قُلْتَ، وَقِيلَ لَهُمَا مَا قِيلَ لَكَ. قُلْتُ: مَنْ هُمَا؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعَامْرِىُّ، وَهِلاَلُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُُّ قَالَ: فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْراً فِيهِمَا أُسْوَةٌ، قَالَ فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي قَالَ: وَنَهَى رَسُولُ اللهِ ? المُسْلمِينَ عَنْ كَلاَمِنَا أَيُّهَا الثَّلاَثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ. قَالَ: فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ، أوْ قَالَ: تَغَيَّرُوا لَنَا حتَّى تَنَكَّرَتْ لي فِي نَفْسِي الأَرْضُ، فَمَا هِي بِالأرْضَِ الَّتِي أَعْرِفُ فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، فَأَمَّا صَاحِبَاىَ، فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ. وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ الْقَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ، فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلاَةَ، وَأَطُوفُ فِي الأَسْوَاقِ فَلا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ، وَآتِى رَسُولَ اللهِ ? وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلاَةِ، فَأُسَلِّمُ فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلاَمِ أَمْ لاَ؟ . ثُمَّ أُصَلِّى قَرِيباً مِنْهُ فَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ، فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلاَتِي نَظَرَ إِلَىَّ، فَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي حتَّى إِذَا طَالَ عَلَىَّ ذَلِكَ مِنْ جَفْوَةِ الْمُسْلِمِينَ مَشَيْتُ حتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِى قَتَادَةَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَىَّ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَوَ اللهِ مَا رَدَّ عَلَىَّ السَّلاَمَ. فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ أَنْشُدُكَ اللهَ هَلْ تَعْلَمُنِ أنَّي أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ؟ قَالَ: فَسَكَتَ، فَسَكَتَ، فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ فَقَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَفَاضَتْ عَيْنَاي،َ وَتَوَلَّيْتُ حتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ. فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِى في سُوقِ الْمَدِينَةِ إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ أَنْبَاطِ الشَّامِ مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؟ فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إلى حتَّى جَاءَنِي، فدَفَعَ إِلَىَّ كِتَاباً مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ، وَكُنْتُ

كَاتِباً فَقَرَأتُهُ، فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ بَلَغَنِا أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ، وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلاَ مَضْيَعَةٍ، فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِيكَ. قَالَ: فَقُلْتُ حِينَ قَرَأْتُهَا: وَهَذَه أَيْضاً مِنَ الْبَلاَءِ فَتَيَمَّمْتُ بِهِ التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهُا حتَّى إِذَا مَضَتْ لَنَا أَرْبَعُونَ لَيْلَةً مِنَ الْخَمْسِينَ، وَاسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ، وَإِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللهِ ? يَأتِينِي، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ ? يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ. قَالَ: فَقُلْتُ: أُطَلِّقْهَا؟ أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ؟ قَالَ: لاَ بَلِ اعْتَزِلْهَا فَلاَ تَقْرَبْهَا، وَأَرْسَلَ إِلَى صَاحِبَيَّ بِمِثْلِ ذَلِكَ. فَقُلْتُ لاِمْرَأَتِي: الْحَقِي بِأَهْلِكِ فَكُونِي عِنْدَهُمْ حتَّى يَقْضِىَ اللهُ هَذَا الأَمْرَ. قَالَ: فَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلاَلِ بْنِ أُمَيَّةَ رَسُولَ اللهِ ? فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ هِلاَلَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ، فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدُمَهُ؟ قَالَ: «لاَ وَلَكِنْ لاَ يَقْرَبَنَّكِ» . قَالَتْ: إِنَّهُ وَاللهِ مَا بِهِ حَرَكَةٌ إِلَى شَيْءٍ، وَوَالله مَا زَالَ يَبْكِى مُنذْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَوْمِه هَذَا. قَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي: لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللهِ ? فِقد إذن لأمْرَأَة هِلاَلِ بْنِ أُمَيَّةَ تَخْدُمُهُ. قَالَ: فَقُلْتُ: وَاللهِ لاَ أَسْتَأْذِنُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ ? وَمَا يُدْرِينِي مَا يَقُولُ رَسُولُ اللهِ ? إِذا اسْتَأْذَنْتُهُ فِيهَا؟ وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ. قَالَ: فَلَبِثْتُ ذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ، فكَمُلَ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينِ نَهَى عَنْ كَلاَمِنَا. قَالَ: ثُمَّ صَلَّيْتُ صَلاَةَ الصبَّحِ صَباحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا. فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِة الَّتِي ذَكَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَّا قَدْ ضَاقَتْ عَلَىَّ نَفْسِي وَضَاقَتْ عَلَىَّ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَى سَلْعٍ يَقُولُ بِأعْلَى صَوْتِهِ: يَا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ! أَبْشِرْ.

قَالَ فَخَرَرْتُ سَاجِداً، وَعَلِمْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجُ، قَالَ: وَأَذِنَ رَسُولُ اللهِ ? النَّاس بِتَوْبَةِ اللهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلاَةَ الْفَجْرِ، فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونِنَا، فَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ، وَرَكَضَ رَجُلٌ إِلَىَّ فَرَساً، وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ مِنْ قِبَلِي، وَأَوْفَى عَلَى الْجَبَلِ وَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنَ الْفَرَسِ. فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي نَزَعَتُ لَهُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُمَا إِيَّاهُ بِبُشارَته وَاللهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ، وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا، وَانْطَلَقْتُ أيَمَّمُ رَسُولَ اللهِ ?. فَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجاً فَوْجاً يُهَنِّئُونِي بِالتَّوْبَةِ، يَقُولُونَ: وَلِتَهْنِكَ تَوْبَةُ اللهِ عَلَيْكَ حتَّى دَخَلْنا الْمَسْجِدَ فَإذَا رَسُولِ اللهِ ? حَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ يُهَرْوِلُ حتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي، والله مَا قَامَ إِلَىَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ. فَكَانَ كَعْبٌ لاَيَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ. قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولُ اللهِ ?، قَالَ: وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ، قَالَ: «أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنذْ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ» . قَالَ فقُلْتُ: أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللهِ، أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّه ِ؟ قَالَ: «بَلْ مِنْ عِنْدِ اللهِ،» . وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ? إِذَا سُرَّ اسْتَنَار وَجْهُهُ حتَّى كَأَنَّ وَجْهُهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ. قَالَ: وَكَنَّا نَعْرَفُ ذَلِكَ. قَالَ: فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولِه؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» . قَالَ: فَقُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ. قَالَ وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّمَا نَجَّانِي الله بِالصِّدْقِ، وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لاَ أُحَدِّثَ إِلاَّ صِدْقاً مَا بَقِيتُ، فَوَاللهِ مَا أَعْلَمْتُ أَحَداً أبْلاَهُ اللهُ فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ مُنذْ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لرَسُولَ اللهِ ? إِلَى يَوْمِي هَذَا، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللهُ فِيمَا بَقِىَ.

قَالَ: فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} حتَّى بلغ {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} حتَّى بلغ {اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ لله} . قَالَ كَعْبٌ: وَاللهِ مَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَىَّ مِنْ نِعْمَةٍ قط بَعْدَ إذْ هَدَانِي لِلإِسْلاَمِ أَعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي لرَسُولَ اللهِ ? أَنْ لاَ أَكُونَ كَذَبْتُهُ فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوهُ، إِنَّ اللهَ عز وجل قَالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوا حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ شَرَّ مَا قَالَ لأَحَدٍ فَقَالَ: {سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} . قَالَ كَعْبٌ: كُنَّا خَلفْنَا أَيُّهَا الثَّلاَثَةُ عَنْ أَمْرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللهِ ? حِينَ حَلَفُوا لَهُ فَبَايَعَهُمْ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَأَرْجَأَ رَسُولُ اللهِ ? أَمْرَنَا حتَّى قَضَى اللهُ تعالى فِيهِ بِذَلِكَ. قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} وَلَيْسَ الَّذِي ذَكَرَه مَا خَلفَنَا عَنِ الْغَزْوِ وَإِنَّمَا هُوَ تَخْلِيفُهُ إِيَّانَا، وَإِرْجَاؤُهُ أَمْرَنَا عمَّنْ حَلَفَ لَهُ وَاعْتَذَرَ إلَيْه فَقَبِلَ مِنْهُ. رواه البخاري ومسلم، واللفظ له، ورواه أبو داود والنسائي بنحوه مفرّقاً مختصراً، وروى الترمذي قطعة من أوله، ثم قَالَ وذكر الحديث. اللهُمَّ وفقنا لما وفقت إليه القوم وأيقظنا من سنة الغفلة والنوم وارزقنا الاستعداد لذلك اليوم الَّذِي يربح فيه المتقون اللهُمَّ وعاملنا بإحسانك وجد علينا بفضلك وامتنانك واجعلنا من عبادك الَّذِينَ لا خوف عليهم ولا هم يحزنون اللهُمَّ ارحم ذلنا بين يديك واجعل رغبتنا فيما لديك، ولا تحرمنا بذنوبنا، ولا تطردنا بعيوبنا، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

قصيدة وعظية فيها حكم

قال بعضهم: إِنَّ أُولِي الْعِلْمِ بِمَا فِي الْفِتَنْ ... تَهَيَّبُوهَا مِنْ قَدِيْمِ الزَّمَنْ فَاسْتَعْصَمُوا الله وَكَانَ التُّقَى ... أَوْفَى لَهُم فِيْهَا مِنْ أوفى الْجُنَنْ وَاِجتَمَعوا في حُسنِ تَوفيقِهِ ... وَاِفتَرَقوا في كُلِّ سَعيٍ حَسَنْ فَعالِمٌ مُستَجِدٌ عامِلٌ ... يَسْلُكُ بِالنَّاسِ سَواءَ السُّنَنْ يَْنثُرُ مِنْ فِيهِ لَهُمْ جَوهَرًا ... مِنْ عِلْمِهِ لَيْسَ لَهُ مِنْ ثَمَنْ يَقْسِمُهُ طُلابُهُ بَيْنَهُمْ ... قِسْمَةَ تَعْدِيلٍ بِقَدْرِ الْفِطَنْ وَبُهْمَةٌ مُخْتَرِطٌ سَيْفَهُ ... يُغْمِدُهُ فِي هَامِ أَهْلِ الْوَثَنْ يَلْبَسُ مِنْ إِيمَانِهِ لأمْةً ... فَضْفَاضَةً يَغْنَى بِهَا عَنْ مِجَّنْ وَحَابِسٌ فِي بَيْتِهِ نَفْسَهُ ... مُعْتَزِلٌ مُسْتَمْسِكٌ بِالسُّنَنْ يَأْخُذُ مِنْ دُنْيَاهُ قُوتًا لَهُ ... مُقْتَنِعًا مِثْلَ عِذَارِ الرَّسَنْ قَدْ جَعَلَ الْبَيْتَ كَقَبْرٍ لَهُ ... وَبُرْدُهُ فِيهِ لَهُ كَالْمَفَنْ فَهُوَ خَفِيفُ الظَّهْرِ لَكِنَّهُ ... أَثْقَلُ فِي مِيزَانِهِ مِنْ حَضَنْ وَهَارِبٌ شُحًّا عَلَى دِينِهِ ... إِلَى الْبَرَارِي وَرُؤوسِ الْقُنَنْ يَأْنَسُ بِالْوِحْدَةِ فِي بِيدِهَا ... أَكْثَرَ مِنْ تَأْنِيسِهِ بِالسَّكَنْ لا يَرْهَبُ الأُسَدَ وَمَنْ لَمْ يَخُنْ ... سَيِّدَهُ فِي عَهْدِهِ لَمْ يُخَنْ وَتَائِبٌ مِنْ ذَنْبِهِ مُشْفِقٌ ... يَبْكِي بُكَاءَ الْوَاكِفَاتِ الْهُتُنْ تَخَالُهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ ... فِي ظُلَمِ اللَّيْلِ كَمِثْلِ الْغُصُنْ إِنْ مَهَّدَ النَّاسُ لِدُنْيَاهُمُ ... شَمَّرَ فِي تَمْهِيدِهِ لِلْجَنَنْ كَأَنَّمَا الأَرْضُ لَهُ أَيْكَةٌ ... وَهُوَ بِهَا قُمْرِيَّةٌ فِي فَنَنْ وَصَامِتٌ فِي قَلْبِهِ مِقْوَلٌ ... بِالذِّكْرِ للهِ طَوِيلٌ لَسِنْ

.. تَرَاهُ كَالأَبْلَهِ فِي ظَاهِرٍ ... وَهُوَ مِنْ أذْكَى النَّاسِ فِيمَا يَظُنْ قَدْ نَوَّرَ اللهُ لَهُ قَلْبَهُ ... بِالذِّكْرِ فِي السِّرِّ لَهُ وَالْعَلَنْ فَإِنْ يَبِنْ بِالْفِكْرِ عَنْ صَحْبِهِ ... فَجِسْمُهُ بَيْنَهُمُ لَمْ يَبِنْ وَإِنْ لَغَوا جَلِيسٌ لَهُمْ ... لَمْ يَلِجِ اللَّغْوُ لَهُ فِي أُذُنْ فِي مَلَكُوتِ اللهِ سُبْحَانَهُ ... تَجُولُ أَلْبَابُ لُبَابِ الْفِطَنْ فَهُمْ خُصُوصُ اللهِ فِي أَرْضِهِ ... حَقًّا بِهِمْ تُدْرَأُ عَنَّا الْمِحَنْ سَمَوا بِفَضْلِ اللهِ نَحْوَ الَّتِي ... مَنْ حَلَّ فِي جِيرَتِهَا قَدْ أَمِنْ وَنَزَّهُوا الأَنْفُسَ عَنْ مَنْزِلٍ ... نَازِلُهُ مُسْتَوْفِزٌ لِلظَّعَنْ وَسَمَّروا الْخَيْلَ لِيَوْمٍ بِهِ ... يُنْكَبَ مَنْ يَرْكَبُ فَوْقَ الْهُجُنْ فَلَيْتَنِي كُنْتُ لَهُمْ خَادِمًا ... وَلَيْتَنِي إِذْ لَمْ أَكُنْ لَمْ أَكُنْ وَمَنْ سِوَاهُمْ فَرِجَالٌ رَجَوا ... أَنْ يَعْبُرُوا الْبَحْرَ بِغَيْرِ السُّفُنْ وَإِنَّمَا قَصَّرَ بِي عَنْهُمُ ... حُبِّي لِدَارٍ مُلِئَتْ بِالْفِتَنْ لا غَارَتِ الدُّنْيَا وَلا أَنْجَدَتْ ... فَالْعَاقِلُ الْحُرُّ بِهَا مُمْتَحَنْ تَمِيلُ لِلأَحْمَقِ مِنْ أَهْلِهَا ... وَهِيَ عَلَى عَاقِلِهِمْ تَضْطَغِنْ يَا عَجَبًا مِنْ غَفْلَتِي بَعْدَ أَنْ ... نَادَانِيَ الشَّيْبُ أَلا فَارْحَلَنْ! وَأَدْرِكِ الْفَائِتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ ... يَفْجَأَكَ الْمَوْتُ فَلا تُنْظَرَنْ أَقْبَحُ مَنْ تَرْمُقُهُ مُقْلَةٌ ... مُبْصِرَةٌ شَيْخٌ خَليِعُ الرَّسَنْ تَقْتَادُهُ الدَّهْرَ دَوَاعِي الْهَوَى ... إِلَى الصِّبَا مِثْلَ اقْتِيَادِ الْبُدُنْ يَأْمُلُ آمَالَ فَتَىً يَافِعٍ ... كَأَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْخٍ يَفَنْ لَيْسَ جَمَالُ الشَّيْخِ إلا التَّقَى ... وَالْمََحْوُ لِلْسُّوءِ بِفِعْلٍ حَسَنْ شُغِلْتُ بِالْوَصْفِ وَلَوْ أَنَّنِيْ ... أُشْغَلُ بِالْمَوْصُوْفِ كُنْتُ الفَطِنْ

منظومة الآداب

.. وَلَمْ أَبِعْ رُشْدًا بِغَيٍّ وَلَمْ ... أَرْضَ بِعَقْلِي مِثْلَ هَذا الغَبَنْ إِنّا إِلَى اللهِ لَقَدْ حَاقَ بِي ... مَا يُورِثُ الْخِزْيَ غَدًا وَالْحَزَنْ وَالْحَمْدُ للهِ فَفِي كَفِّهِ ... مَنْحٌ لِمَنْ شَاءَ وَفِيهَا الْمِنَنْ وَهْوَ الَّذِي أَرْجُو فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ... عِنْدَ رَجَائِي فِيهِ طَوْلاً فَمَنْ؟ اللهُمَّ احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين، اللهُمَّ قو إيماننا بفهم آياتك، وارزقنا العمل بها، وزدنا علماً ينفعنا، وأصلح نياتنا، ووفقنا لذكرك وشكرك، وارزقنا حبِكَ، وحب من يحبِكَ، وحب العمل الَّذِي يقربنا إلى حبِكَ، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. وبعد فقد رأيت أنه من المناسب أن أختم هذا الكتاب على كثير من الأحكام والآداب الشرعية وأسأل الله الحي القيوم العلي العظيم القوي العزيز الحكيم ذا الجلال والإكرام الواحد الأحَد الفرد الصَّمَد الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ أن ينفع بها نفعاً عاماً من قرأها ومن سمعها ومن حضرها وأن يفتح لنا ولإخواننا المسلمين باب القبول والإجابة اللهُمَّ صَلَّى اللهُ وَعَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ آمين يا رب العالمين. من منظومة الآداب لابن عبد القوي رحمه الله: بِحَمْدِكَ ذِي الإكْرَامِ مَا رُمْتُ أبْتَدِي كَثِيرًا كََمَا تَرْضَى بِغَيْرِ تَحَدُّدِ وَصَلِّ عَلَى خَيْرِ الأَنَامِ وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ مِنْ كُلِّ هَادٍ وَمُهْتَدِي

وَبَعْدُ فَإِنِّي سَوْفَ أُنْظِمُ جُمْلَةٌ مِن الأَدَبِ الْمَأْثُورِ عَنْ خَيْرِ مُرْشِدِ مِن السُّنَّةِ الْغَرَّاءِ أَوْ مِنْ كِتَابِ مَنْ تَقَدَّسَ عَنْ قَوْلِ الْغُواةِ وَجُحَّدِ ومِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ عُلَمَائِنَا أَئِمَّةِ أَهْلِ السِّلْمِ مِنْ كُلِّ أَمْجَدِ لَعَلَّ إِلَهَ الْعَرْشِ يَنْفَعُنَا بِهِ وَيُنْزِلُنَا فِي الْحَشْرِ فِي خَيْرِ مَقْعَدِ الأمن لَهُ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ رَغْبَةٌ لِيُصْغِ بِقَلْبٍ حَاضِرٍ مُتَرَصِّدِ وَيَقْبَلَ نُصْحًا مِنْ شَفِيقٍ عَلَى الْوَرَى حَرِيصٍ عَلَى زَجْرِ الأَنَامِ عَنِ الرَّدِيِ فَعِنْدِيَ مِن عِلْمِ الْحَدِيثِ أَمَانَةٌ سَأَبْذُلُهَا جُهْدِي فَأَهْدِي وَأَهْتَدِي أَلا كُلُّ مَنْ رَامَ السَّلامَةَ فَلْيَصُنْ جَوَارِحَهُ عَنْ مَا نَهَى اللهُ يَهْتَدِي يَكُبُ الْفَتَى فِي النَّارِ حَصْدُ لِسَانِهِ وَإِرْسَالُ طَرْفِ الْمَرْءِ أنْكَى فَقَيِّدِ وَطَرْفُ الْفَتَى يَا صَاحِ رَائِدُ فَرْجِهِ وَمُتْعِبُهُ فَاغْضُضْهُ ما اسْطَعْتَ تَهْتَدِي وَيَحْرُمُ بُهْتٌ واغْتِيَابٌ نَمِيْمَةٌ

.. وإِفْشَاءُ سِرٍ ثُمَّ لَعْنُ مُقَيَّدِ وَفُحْشٌ وَمَكْر وَالْبِذَا وَخَدِيعَةٌ وسُخْرِيًّةٌ والهُزْؤُ وَالْكِذْبَ قَيِّدِ بِغَيْرِ خِدَاعِ الْكَافِرِينَ بِحَرْبِهِم وَللعرْس أَوْ إِصْلاحِ أَهْلِ التَّنَكُّدِ وَيَحْرُمُ مِزْمَارٌ وَشُبَّابَةٌ وَمَا يُضَاهِيهِمَا مِنْ آلَةِ اللَّهْوِ والرَّدي وَلَوْ لَمْ يُقَارِنْهَا غِنَاءٌ جَمِيعُهَا فَمنْهَا ذَوُو الأَوْتَارِ دُونَ تَقَيُّدِ وَلا بَأْسَ بالشِّعْرِ الْمُبَاحَِ وَحِفْظِهِ وَصَنْعَتِهِ مَنْ رَدَّ ذَلِكَ يَعْتَدِي فَقَدْ سَمَعَ الْمُخْتَارُ شِعْر َصَحَابَةٍ وَتَشْبِيبِهُمِ مِن غَيْرِ تَعِيِينِ خُرَّدِ وَحَظْرَ الْهِجَا والْمَدْحِ بالزُّورِ وَالْخَنَا وَتَشْبِيبِهِ بِالأَجْنَبِيَّاتِ أَكِّدِ وَوَصْفِ الزِّنَا وَالْخَمْرِ وَالْمُرْدِ وَالنِّسَا الْـ ـفَتِيَّاتِ أَوْ نَوْحِ التَّسَخُّطِ مُورَدِ وَأَوْجِبْ عَن الْمَحْضُورِ كَفَّ جَوَارِحٍ وَنَدْبٌ عَنِ الْمَكْرُوهِ غَيْرَ مُشَدِّدِ وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ يَا فَتَى عَنِ الْمُنْكَرِ اجْعَلْ فَرْضَ عَيْنٍ تُسَدَّدِ

.. عَلَى عَالِمٍ بِالْحَظْرِ وَالْفِعْلِ لَمْ يَقُمْ سِوَاهُ بِهِ مَعْ أَمْنِ عُدْوَانِ مُعْتَدِي وَلَوْ كَانَ ذَا فِسْقٍ وَجَهْلٍ وَفِي سِوَى الْـ لَذِي قِيلَ فَرْضٌ بِالْكِفَايَةِ فَاحْدُدِ وَبِالْعُلَمَا يَخْتَصُّ مَا اخْتَصَّ عِلْمُهُ بِهِمْ وَبِمَنْ يَسْتَنْصِرُونَ بِهِ قَدِ وَأَضْعَفُهُ بِالْقَلْبِ ثُمَّ لِسَانِهِ وَأَقْوَاهُ إِنْكَارُ الْفَتَى الْجَلْدِ بِالْيَدِ وَأَنْكِرْ عَلَى الصِّبيَانِ كُلَّ مُحْرَّمٍ لِتَأْدِيْبِهِمْ وَالْعِلْمِ فِي الشَّرْعِ بالرَّدِي وَبِالأَسْهَلِ ابْدَأْ ثُمَّ زِدْ قَدْرَ حَاجَةٍ فَإِنَ لَمْ يَزُلْ بِالنَّافِذِ الأَمْرَ فَاصْدُدِ إِذَا لَمْ يَخَفْ فِي ذَلِكَ الأَمْرَ حَيْفُهُ إِذَا كَانَ ذَا الإِنْكَارِ حَتْمَ التَّأَكُّدِ وَلا غُرْمَ فِي دَفِّ الصَّنُوجِ كَسَرْتَهُ وَلاَ صُوَرٍ أَيْضًا وَلاَ آلَةِ الدُّدِ وَآلَةِ تَنْجِيمٍ وَسِحْرٍ وَنَحْوِهِ وَكُتُبٍ حَوَتْ هَذَا وَأَشْبَاهَهُ أَقْدُدِ (وَقُلْتُ كَذَاكَ السِّينَمَاءُ وَمِثْلُهُ بِلا رَيْبَ مِذْيَاعٌ وَتِلْفَازُ مُعْتَدِي) (وَأَوْرَاقُ أَلْعَابٍ بِهَا ضَاعَ عُمْرُهُمْ

.. وَكُورَاتِهِمْ مَزِّقْ هُدِيتَ وَقَدِّدِ) (كَذَا بَكَمَاتٌ وَالصَّلِيبُ وَمِزْمَرٌ وَآلَةُ تَصْويرٍ بِهَا الشَّرُ مُرْتَدِي) (كَذَلِكَ دُخَّانٌ وشِيشَةُ شُرْبِهِ وَآلَةُ تَطْفَاةٍ لَهُ اكْسِرْ وَبَدِّدِ) (وَمَنْ بَعْدِ ذَا فَاسْمَعْ كَلامًا لِنَاظِمٍ يَسُوقُ لِكَ الآدَابَ عَنْ خَيْرِ مُرْشِدِ) وَبِيضٍ وَجَوْزِ لِلْقِمَارِ بِقَدْرِ مَا يُزِيلُ عَنْ الْمَنْكُورِ مَقْصَدِ مُفْسِدِ وَلا شَقِّ زِقِّ الْخَمْرِ أَوْ كَسْرِ دِنّهِ إِذَا عَجََز الإِنْكَارُ دُونَ التَّقَدُّدِ وَإِنْ يَتَأَتَّى دُونَهُ دَفْعُ مُنْكِرٍ ضَمِنْتَ الَّذِي يَنْقَى بِتَغْسِيلِهِ قَدِ وَهِجْرَانُ مَنْ أَبْدَى الْمَعَاصِي سُنَّةٌ وَقَدْ قِيلَ إِنْ يَرْدَعْهُ أَوْجِبْ وَأَكِّدِ وَقِيلَ عَلَى الإِطْلاقِ مَا دَامَ مُعْلِنًا وَلاقِهِ بِوَجْهٍ مُكْفَهِرٍ مُعَرْبَدِ وَيَحْرُمُ تَجْسِيسٌ عَلَى مُتَسَتِّرٍ بِفِسْقٍ وَمَاضِي الْفِسْقِ إِنْ لَمْ يُجَدِّدِ وَهِجْرَانُ مَنْ يَدْعُو لأَمْرٍ مُضِلٍّ أَوْ مُفَسِّقٍ أَحْتِمْهُ بِغَيْرِ تَرَدُّدِ

.. عَلَى غَيْرِ مَنْ يَقْوَى عَلَى دَحْضِ قَوْلِهِ وَيَدْفَعُ إِضْرَارَ الْمُضِلِّ بِمِذْوَدِ وَيَقْضِي أُمُورَ النَّاسِ فِي أَتَيَانِهِ وَلا هَجْرَ مَعْ تَسْلِيمِهِ الْمُتَعَوِّدِ وَحَظْرُ انْتِفَا التَّسْلِيمِ فَوْقَ ثَلاثَةٍ عَلَى غَيْرِ مَنْ قُلْنَا بِهَجْرٍ فَأَكِّدِ وَكُنْ عَالِمًا إِنَّ السَّلامَ لِسُنَّةٌ وَرَدُّكَ فَرْضٌ لَيْسَ نَدْبٌ بِأَوْطَدِ وَيُجْزِئُ تَسْلِيمُ امْرِئٍ مِنْ جَمَاعَةٍ وَرَدُّ فَتَىً مِنْهُمْ عَلَى الْكُلِّ يَا عَدِي وَتَسْلِيمُ نَزْرٍ وَالصَّغِيرِ وَعَابِرِ سَبِيلِ وَرُكْبَانٍ عَلَى الضِّدِّ أَيِّدِ وَإِنْ سَلَّمَ الْمَأْمُورُ بِالرَّدِ مِنْهُمْ فَقَدْ حَصَلَ الْمَسْنُونُ إِذْ هُوَ مُبْتَدِي وَسَلَّمْ إِذَا مَا قُمْتَ عَنْ حَضْرَةِ امْرِئٍ وَسَلِّمْ إِذَا مَا جِئْتَ بَيْتَكَ تَهْتَدِي وَإِفْشَاؤُكَ التَّسْلِيمَ يُوجِبْ مَحَبَّةً مِنَ النَّاسِ مَجْهُولاً وَمَعْرُوفًا أَقْصُدِ وَتَعْرِيفُهُ لَفْظُ السَّلامِ مُجَوَّزٌ وَتَنْكِيرُهُ أَيْضًا عَلَى نَصِّ أَحْمَدِ وَقَدْ قِيلَ نَكِّرْهُ وَقِيلَ تَحِيَّةً

.. كَلِلْمَيِّتِ وَالتَّوْدِيعِ عَرِّفْ كَرَدِّدِ وَسُنَّةٌ اسْتِئْذَانُهُ لِدُخُولِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أقْرَبِينَ وَبُعَّدِ ثَلاثًا وَمَكْرُوهٌ دُخُولٌ لِهَاجِمٍ وَلاسِيَّمَا مِنْ سَفْرَةٍ وَتَبَعُّدِ وَوَقْفَتُهُ تِلْقَاءَ بَابٍ وَكُوَّةٍ فَإِنْ لَمْ يُجَبْ يَمْضِي وَإِنْ يَخْفَ يَزْدَدِ وَتَحْرِيكُ نَعْلِيهِ وَإِظْهَارُ حِسِّهِ لِدَخْلَتِهِ حَتَّى لِمَنْزِلِهِ اشْهَدِ وَكُلُّ قِيَامٍ لا لِوَالٍ وَعَالِمٍ وَوَالِدِهِ أَوْ سَيِّدٍ كُرْهَهُ امْهَدِ وَصَافِحْ لِمَنْ تَلْقَاهُ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ تَنَاثَرْ خَطَايَاكُمْ كَمَا فِي الْمُسَنَّدِ وَلَيْسَ لِغَيْرِ اللهِ الانْحِنَاءُ مُسَلِّمًا وَتَقْبِيلُ رَأْسِ الْمَرْءِ حَلَّ وَفِي الْيَدِ وَحَلَّ عِنَاقٌ لِلْمُلاقِي تَدَيُّنًا وَيُكْرَهُ تَقْبِيلُ الْفَمِّ أَفْهَمْ وَقَيِّدِ وَنَزْعُ يَدٍ مِمَّنْ يُصَافِحُ عَاجِلاً وَأَنْ يَتَنَاجَى الْجَمْعُ مِنْ دُونِ مُفْرَدِ وَأَنْ يَجْلِسَ الإِنْسَانُ عِنْدَ مُحَدِّثٍ بِسِرٍّ وَقِيلَ احْضِرْ وَإِنْ يَأْذَنِ اقْعُدِ

.. وَمَرْأَى عَجُوزٍ لَمْ تُرِدْ وَصِفَاحُهَا وَخُلْوَتُهَا اكْرَهُ لا تَحِيتُهَا أَشْهَدِ وَتَشْمِيتُهَا وَاكْرَهْ كِلا الْخِصْلَتَيْنِ لِلشَّبَابِ مِنَ الصَّنْفَيْنِ بُعْدَى وَأَبْعَدِي وَيَحْرُمُ رَأْيُ الْمُرْدِ مَعْ شَهْوَةٍ فَقَطْ وَقِيلَ وَمَعْ خَوْفٍ لِلْكُرْهِ جَوِّدِ وَكُنْ وَاصِلَ الأَرْحَامِ حَتَّى لِكَاشِحٍ تُوَفَّرَ فِي عُمْرٍ وَرِزْقٍ وَتَسْعَدِ وَيَحْسُن تَحْسِينٌ لِخُلْقٍ وَصُحْبَةٍ وَلاسِيَّمَا لِلْوَالِدِ الْمُتَأَكِّدِ وَلَوْ كَانَ ذَا كُفْرٍ وَأَوْجَبَ طَوْعَهُ سِوَى فِي حَرَامٍ أَوْ لأَمْرٍ مُؤَكَّدِ كَتَطْلابِ عِلْمٍ لا يَضُرُّهُمَا بِهِ وَتَطْلِيقِ زَوْجَاتٍ بِرَأْيٍ مُجَرَّدِ وَأَحْسِنْ إِلَى أَصْحَابِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَهَذَا بَقَايَا بِرِّهِ الْمُتَعَوِّدِ وَيُكْرَهُ فِي الْحَمَّامِ كُلَّ قِرَاءَةٍ وَذِكْرِ لِسَانٍ وَالسَّلامُ لِمُبْتَدِي وَغَيِّرْ بِغَيْرِ الأَسْوَدِ الشَّيْبَ وَأَبْقِهِ وَلِلْقَزَعِ اكْرَهْ ثُمَّ تَدْ لَيْسَ نُهَّدِ وَيُشْرَعُ إِيكَاءُ السِّقَا وَغِطَا الإِنَا

.. وَايجَافُ أَبْوَابٍ وَطَفْءٌ لِمُوْقَدِ وَتَقْلِيمُ أَظْفَارٍ وَنَتْفٌ لإِبْطِهِ وَحَلْقًا وَلِلتَّنْوِيرِ لِلْعَانَةِ أَقْصُدِ وَيَحْسُنُ خَفْضُ الصَّوْتِ مِنْ عَاطِسٍ وَأَنْ يُغَطِّي وَجْهًا لاسْتِتَارٍ مِنَ الرَّدِي وَيَحْمَدُ جَهْرًا وَلْيُشَمِّتْهُ سَامِعٌ لِتَحْمِيدِهِ وَالْيُبْدِ رَدَّ الْمُعَوَّدِ وَقُلْ لِلْفَتَى عُوفِيتَ بَعْدَ ثَلاثَةٍ وَلِلطِّفْلِ بُورِكْ فِيكَ وَأْمُرْهُ يَحْمَدِ وَغَطِّ فَمًّا وَاكْظُمْ فِي تَثَاؤُبٍ فَذَلِكَ مَسْنُونٌ لأَمْرِ الْمُرَشِّدِ وَلا بَأْسَ شَرْعًا أَنْ يَطِبَّكَ مُسْلِمٌ وَشَكْوَى الَّذِي تَلْقَى وَبِالْحَمْدِ فَابْتَدِي وَتَرْكُ الدَّوَا أَوْلَى وَفِعْلُكَ جَائِزٌ وَلَمْ تَتَيَقَّنْ فِيهِ حُرْمَةَ مُفْرَدِ وَرَجِّحْ عَلَى الْخَوْفِ الرَّجَا عِنْدَ يَأْسِهِ وَلاقِ بِحُسْنِ الظَّنِّ رَبَّكَ تَسْعَدِ وَيُشْرَعُ لِلْمُرْضَى الْعِيَادَةُ فَأَتِهِمْ تَخُضْ رَحْمَهً تَغْمُرْ مَجَالِسَ عُوَّدِ فَسَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ مَلائِكَةِ الرِّضَا تُصَلِّي عَلَى مَنْ عَادَ مُمْسِي إِلَى الْغَدِ

.. وَإِنْ عَادَهُ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ وَاصَلْتَ عَلَيْهِ إِلَى اللَّيْلِ الصَّلاةِ فَأَسْنِدِ فَمِنْهُمْ مُغِبًا عُدْهُ خَفِّفْ وَمِنْهُمْ الْـ لَذِي يُورِثُ التَّطْوِيلَ مِنْ مُتَوَرِّدِ وَفَكِّرْ وَرَاعِ فِي الْعِيَادَةِ حَالَ مَنْ تَعُودُ وَلا تُكْثِرْ سُؤَالاً تُنَكَّدِ وَمَكْرُوهٌ اسْتِأْمَانُنَا أَهْلَ ذِمَّةٍ لإِحْرَازِ مَالٍ أَوْ لِقِسْمَتِهِ اشْهَدِ وَمَكْرُوهٌ اسْتِطْبَابُهُمْ لا ضَرُورَةً وَمَا رَكَّبُوهُ مِنْ دَوَاءٍ مُوَصِّدِ وَإِنْ مَرِضَتْ أُنْثَى وَلَمْ يَجِدُوا لَهَا طَبِيبًا سِوَى فَحْلٍ أَجِزْهُ وَمَهِّدِ وَيَكْرَهُ حَقْنُ الْمَرْءِ إِلا ضَرُورَةً وَيَنْظُرُ مَا يَحْتَاجُهُ حَاقِنٌ قَدِ كَقَابِلَةٍ حِلٌّ لَهَا نَظَرٌ إِلَى مَكَانِ وَلادَاتِ النِّسَا فِي التَّوَلُّدِ وَيَكْرَهُ إِنْ لَمْ يَسْرِ قَطْعُ بَوَاسِرٍ وَبَطِّ الأَذَى حِلٌّ كَقَطْعٍ مُجَوِّدِ لآكِلَةٍ تَسْرِي بِعِضْوٍ أبِنْهُ إِنْ تَخَافَنَّ عُقْبَاهُ ولا تَتَرَدَّدِ وَقَبْلَ الأَذَى لا بَعْدَهُ الْكَيَّ فَاكْرَهَنْ

.. وَعَنْهُ عَلَى الإِطْلاقِ غَيْرَ مُقَيَّدِ وَفِيهَا عَدَا الأَغْنَامِ قَدْ كَرِهُوا الْخِصَا لِتَعْذِيبِهِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِمُسْنَدِ وَقَطْعُ قُرونٍ وَالآذَنِ وَشَقُّهَا بِلا ضَرَرٍ تَغْيِيرُ خَلْقٍ مُعَوَّدِ وَيَحْسُنُ فِي الإِحْرَامِ وَالْحِلِّ قَتْلُ مَا يَضُرُّ بِلا نَفْعٍ كَنِمْرٍ وَمَرْثَدِ وَغِرْبَانِ غَيْرِ الزَّرْعِ أَيْضًا وَشِبْهُهَا كَذَا حَشَرَاتُ الأَرْضِ دُونَ تَقَيُّدِ كَبِقٍ وَبُرْغُوثٍ وَفَأْرٍ وَعَقْرَبٍ وَدَبْرو حَيَّاتٍ وَشِبْهِ الْمُعَدَّدِ وَيُكْرَهُ قَتْلُ النَّمْلِ إِلا مَعَ الأَذَى بِهِ وَاكْرَهَنْ بِالنَّارِ إِحْرَاقَ مُفْسَدِ وَلَوْ قِيلَ بِالتَّحْرِيمِ ثُمَّ أُجِيزَ مَعْ أَذَىً لَمْ يَزُلْ إِلا بِهِ لَمْ أُبَعِّدِ وَقَدْ جَوَّزَ الأَصْحَابُ تَشْمِيسَ قَزِّهِمْ وَتَدْخِينَ زُنْبُورٍ وَشَيًا بِمَوْقِدِ وَيُكْرَه لِنَهْي الشَّرْعِ عَنْ قَتْلِ ضِفْدعٍ وَصِرْدَانِ طَيْرٍ قَتْلُ ذَيْنٍ وَهُدْهُدِ وَيُكْرَهُ قَتْلُ الْهِرِّ إِلا مَعَ الأَذَى وَإِنْ مُلِّكَتْ فَاحْظَرْ إِذَا غَيْرَ مُفْسِدِ

.. وَقَتْلُكَ حَيَّاتِ الْبُيُوتِ وَلَمْ تَقُلْ ثَلاثًا لَهُ اذْهَبْ سَالِمًا غَيْرَ مُعْتَدِ وَذَا الطُّفْيَتَيْنِ أَقْتُلْ وَابْتَرَ حَيَّةٍ وَمَا بَعْدَ إِيذَانِ تُرَى أَوْ بِفَدْفَدِ وَمَا فِيهِ لَمْ يَكُنْ مُلْكًا فَأَنْتَ مُخَيَّرٌ وَإِنْ مُلِكَتْ فَاحْظَرْ وَإِنْ تُؤْذِ فَاقْدُدِ وَيُكْرَهُ نَفْخُ فِي الْغَدَا وَتَنَفُّسٌ وَجَوْلانُ أَيْدٍ فِي طَعَام مُوَحَّدِ فَإِنْ كَانَ أَنْوَاعًا فَلا بَأْسَ فَالَّذِي نُهِي فِي اتِّحَادٍ قَدْ عُفِي فِي التَّعَدُّدِ وَأَخْذٌ وَإِعْطَاءٌ وَأَكْلٌ وَشُرْبُهُ بِيُسْرَاهُ فَاكْرَهْهُ وَمُتَّكِئًا ذُدِ وَأَكْلُكَ بِالثِّنْتَيْنِ وَالأَصْبُعِ اكْرَهَنْ وَمَعْ أَكْلِ شَيْنِ الْعُرْفِ إِتْيَانَ مَسْجِدِ وَيُكْرَهُ بِالْيُمْنَى مُبَاشَرَةُ الأَذَى وَأَوْسَاخِهِ مَعْ نَثْرِ مَا أَنْفِهِ الرَّدِي كَذَا خَلْعُ نَعْلَيْهِ بِهَا وَاتِّكَاءُهُ عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى وَرَا ظَهْرِهِ أَشْهَدِ وَيُكْرَهُ فِي التَّمْرِ الْقِرَانُ وَنَحْوُهُ وَقِيلَ مَعَ التَّشْرِيكِ لا فِي التَّفَرُّدِ وَكُنْ جَالِسًا فَوْقَ الْيَسَارِ وَنَاصِبْ الْـ

.. يَمِينِ وَبَسْمِلْ ثُمَّ فِي الانْتِهَا أَحْمَدِ وَيُكْرَهُ سَبْقُ الْقَوْمِ لِلأَكْلِ نَهْمَةً وَلَكِنْ رَبَّ الْبَيْتِ إِنْ شَاءَ يَبْتَدِي وَلا بَأْسَ عِنْدَ الأَكْلِ مِنْ شِبَعِ الْفَتَى وَمَكْرُوهٌ الإِسْرَافُ وَالثُّلْثُ أَكِّدِ وَيَحْسُنُ تَصْغِيرُ الْفَتَى لُقْمَةَ الْغَدَا وَبَعْدَ ابْتِلاعِ ثَنِّ وَالْمَضْغَ جَوِّدِ وَيَحْسُنُ قَبْلَ الْمَسْحِ لَعْقُ أَصَابِعٍ وَأَكْلُ فُتَاتِ سَاقِطٍ بِتَثَرُّدِ وَتَخْلِيلُ مَا بَيْنَ الْمَوَاضِعِ بَعْدَهُ وَأَلْقِ وَجَانِبْ مَا نَهَى اللهُ تَهْتَدِي وَغَسْلُ يَدٍ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ وَيُكْرَهُ بِالْمَطْعُومِ غَيْرَ مُقَيَّدِ وَكُلْ طَيِّبًا أَوْ ضِدَّهُ وَأَلْبَس الَّذِي تُلاقِيهِ مِنْ حِلٍّ وَلا تَتَقَيَّدِ وَمَا عِفْتَهُ فَاتْرُكْهُ غَيْرَ مُعَنِّفٍ وَلا عَائِبٍ رِزْقًا وَبِالشَّارِعْ اقْتَدِي وَلا تَشْرَبَنْ مِنْ فِي السِّقَاءِ وَثُلْمَةِ الْـ إِنَّا وَانْظُرْنَ فِيهِ وَمُصًّا تَزْرَّدِ وَنَحِّ الانَا عَنْ فِيْكَ وَاشْرَبْ ثَلاثَةً هُوَ أَهْنَا وَأَمْرَا ثُمَّ أَرْوَى لِمَنْ صُدِي

.. وَلا تَكْرَهَنَّ الشُّرْبَ مِنْ قَائِمٍ وَلا إِنْ تِعَالُ الْفَتَى فِي الأَظْهَرِ الْمُتَأَكِّدِ وَتَكْرَهَنَّ لُبْسٌ فِيهِ شُهْرَةُ لابِسٍ وَوَاصِفُ جِلْدٍ لا لِزَوْجٍ وَسَيِّدِ وَأَنْ كَانَ يُبْدِي عَوْرَةُ لِسِوَاهُمَا فَذَلِكَ مَحْظُورٌ بِغَيْرِ تَرَدُّدِ وَخَيْرُ خِلالِ الْمَرْءِ جَمْعًا تَوَسُطُ الْـ أُمُورِ وَحَالٌ بَيْنَ أَرْدَى وَأَجْوَدِ وَلُبْس مِثَالِ الْحَيِّ فَاحْضِرْ بِأَجْوَدِ وَمَا لَمْ يُدَسْ مِنْهَا لِوَهْنٍ فَشَدِّدِ وَأَحْسنُ مَلْبُوسٍ بَيَاضُ لِمَيِّتٍ وَحَيٍّ فَبَيِّضْ مُطْلَقًا لا تُسَوِّدِ وَلا بَأْسَ بِالْمَصْبُوغِ مِنْ قَبْلِ غَسْلِهِ مَعَ الْجَهْلِ فِي أَصْبَاغِ أَهْلِ التَّهَوُّدِ وَقِيلَ اكْرَهَنْهُ مِثْلَ مُسْتَعْمَلِ الانَا وَإِنْ تَعْلَمِ التَّنْجِيسَ فَاغْسِلْهُ تَهْتَدِي وَأَحْمَرَ قَانٍ وَالْمُعَصْفَرَ فَاكْرَهَنْ لِلُبْسِ رِجَالٍ حَسْبُ فِي نَصِّ أَحْمَدِ وَلا تَكْرَهَنْ فِي نَصِّ مَا قَدْ صَبَغَتَهُ مِن الزَّعْفَرَانِ الْبَحْتِ لَوْنَ الْمُوَرَّدِ وَلَيْسَ بِلُبْسِ الصُّوفِ بَأْسٌ وَلا الْقَبَا

.. وَلا لِلنَّسَا وَالْبُرْنُسِ افْهَمْهُ وَاقْتَدِي وَلُبْسُ الْحَرِيرِ احْظِرْ عَلَى كُلِّ بَالِغٍ سِوَى لِضَنَىً أَوْ قَتْلٍ أَوْ حَرْبٍ جُحَّدِ وَيَحْرُمُ بَيْعٌ لِلرِّجَالِ لِلِبْسِهِمْ وَتَخْيِيطُهُ وَالنَّسْجُ فِي نَصِّ أَحْمَدِ وَيَحْرُمُ لُبْسٌ مِن لُجَيْنٍ وَعَسْجَدٍ سِوَى مَا قَدْ اسْتَثْنَيْتُهُ فِي الَّذِي ابْتُدِي وَيَحْرُمُ سَتْرٌ أَوْ لِبَاسُ الْفَتَى الَّذِي حَوَى صُورَةً لِلْحَيِّ فِي نَصِّ أَحْمَدِ وَفِي السِّتْرِ أَوْ مَا هُوَ مَطِنَّةٌ بِذْلِةٍ لِيُكْرَه كَكَتْبٍ لِلْقُرْآنِ الْمُمَجَّدِ وَلَيْسَ بِمَكْرُوهٍ كِتَابَةُ غَيْرِهِ مِنَ الذِّكْرِ فِيمَا لَمْ يُدَسْ وَيُمَهَّدِ وَحَلَّ لِمَنْ يَسْتَأْجِرُ الْبَيْتَ حَكُهُ التَّـ صَاوِيرَ كَالْحَمَّامِ لِلدَّاخِلِ اشْهَدِ وَفِي نَصِّهِ اكْرَهْ لِلرِّجَالِ وَلِلنِّسَا الرَّ قِيقَ سِوَى لِلزَّوْجِ يَخْلُو وَسَيِّدِ وَيَكْرَهُ تَقْصِيرِ اللِّبَاسِ وَطُولُهُ بِلا حَاجَةِ كِبْرًا وَتَرْكُ الْمُعَوَّدِ وَأَطْوَلُ ذِيلِ الْمَرْءِ لِلْكَعْبِ وَالنِّسَا بِلا الأَزْرِ شِبْرًا أَوْ ذِرَاعًا لِتَزْدَدِ

.. وَأَشْرَفُ مَلْبُوسٍ إِلَى نِصْفِ سَاقِهِ وَمَا تَحْتَ كَعْبٍ فَاكْرَهَنْهُ وَصَعِّدِ وَلِلرُّصْغِ كُمُّ الْمُصْطَفَى فَإِنْ ارْتَخَى تَنَاهَى إِلَى أَقْصَى أَصَابِعِهِ قِدِ وَلا بَأْسَ فِي لُبْسِ السَّرَاوِيلِ سِتْرَةً أَتَمَّ مِن التَّأْزِيرِ فَالْبَسْهُ وَاقْتَدِ بِسُنَّةِ إِبْرَاهِيمَ فِيهِ وَأَحْمَدٍ وَأَصْحَابِهِ وَالأُزْرُ أَشْهَرُ أَكِّدِ وَيَحْسُنُ تَنْظِيفُ الثِّيَابِ وَطِيُّهَا وَيُكْرَهُ مَعْ طُولِ الْغِنَا لُبْسُكَ الرَّدِي وَلا بَأْسَ فِي لُبْسِ الْفِرَاءِ وَاشْتِرَائِهَا جُلُودَ حَلالٍ مَوْتُهُ لَمْ يُوَطَّدِ وَكَاللَّحْمِ الأولَى احْظِرَنْ جِلْدَ ثَعْلَبٍ وَعَنْهُ لِيُلْبَسْ وَالصَّلاةَ بِهِ اصْدُدِ وَمَنْ يَرْتَضِي أَدْنَى اللِّبَاسِ تَوَاضَعًا سَيُكْسَى الثِّيَابَ الْعَبْقَرِيَّاتِ فِي غَدِ وَيَحْسُنُ حَمْدُ اللهِ فِي كُلِّ حَالَةٍ وَلاسِيَّمَا فِي لُبْسِ ثَوْبٍ مُجَدَّدِ وَكُنْ شَاكِرًا للهِ وَارْضَ بِقَسْمِهِ تُثَبْ وَتُزَدْ رِزْقًا وَازْغَامَ حُسَّدِ وَقُلْ لأَخٍ ابْلِ وَأَخْلِقِ وَيُخْلِفُ الْـ

.. إِلهُ كَذَا قُلََّ عِشْ حَمِيدًا تُسَدَّدِ وَلا بَأْسَ فِي الْخَاتَامِ مِنْ فِضَّةٍ وَمِنْ عَقِيقٍ وَبَلُورٍ وَشِبْهِ الْمُعَدَّدِ وَيُكْرَهُ مِنْ صُفْرٍ رَصَاصِ حَدِيدِهِمْ وَيَحْرُمُ لِلذُّكْرَانِ خَاتِمُ عَسْجَدِ وَيَحْسُنُ فِي الْيُسْرَى كَأَحْمَدٌ وَصَحْبِهِ وَيُكْرَهُ فِي الْوُسْطَى وَسَبَابَةِ الْيَدِ وَمَنْ لَمْ يَضَعْهُ فِي الدُّخُولِ إِلَى الْخَلا فَعَنْ كُتب قُرْآنٍ وَذِكْرٍ بِهِ أَصْدُدِ وَيَحْسُنْ فِي الْيُمْنَى ابْتِدَاءُ انْتِعَالِهِ وَفِي الْخَلْعِ عَكْسٌ وَاكْرَهِ الْعَكْسَ تَرْشُدِ وَيُكْرَهُ مَشْيَ الْمَرْءِ فِي فَرْدِ نَعْلِهِ اخْتِيَارًا أَصِخْ حَتَّى لإِصْلاحِ مُفْسِدِ وَلا بَأْسَ فِي نَعْلٍ يُصَلِّي بِهِ بِلا أَذَى وَافْتَقِدْهَا عِنْدَ أَبْوَابِ مَسْجِدِ وَيَحْسُنُ الاسْتِرْجَاعُ فِي قَطْعِ نَعْلِهِ وَتَخْصِيصُ حَافٍ بِالطَّرِيقِ الْمُمَهَّدِ وَقَدْ لَبِسَ السِّبْتِيَّ وَهُوَ الَّذِي خَلا مِن الشَّعْرِ مَعْ أَصْحَابِهِ بِهِمْ اقْتَدِي وَيُكْرَهُ سِنْدِي النِّعَالِ لِعُجْبِهِ بِصَرَّارِهَا زِيَّ الْيَهُودِ فَأَبْعِدِ

.. وَسِرْ حَافِيًا أَوْ حَاذِيًا وَامْشِ وَارْكَبَنْ تَمَعْدَدْ وَاخْشَوْشَنْ وَلا تَتَعَوَّدِ وَيُكْرَهُ فِي الْمَشْيِ الْمُطَيْطَا وَنَحْوُهَا مَظِنَّةَ كِبْرٍ غَيْرَ فِي حَرْبِ جُحَّدِ وَيُكْرَهُ لُبْسُ الْخُفِّ وَالأُزْرِ قَائِمًا كَذَاكَ الْتِصَاقُ اثْنَيْنِ عُرْيًا بِمَرْقَدِ وَثَنْتَيْنِ وَافْرُقْ فِي الْمَضَاجِعِ بَيْنَهُمْ وَلَوْ إِخْوَةً مِنْ بَعْدِ عَشْرٍ تُسَدَّدِ وَيُكْرَهُ نَوْمُ الْمَرْءِ مِنْ قَبْلِ غَسْلِهِ مِنَ الدُّهْنِ وَالأَلْبَانِ لِلْفَمِّ وَالْيَدِ وَنَوْمُكَ بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ أَوْ عَلَى قَفَاكَ وَرَفْعُ الرِّجْلِ فَوْقَ أُخْتِهَا امْدُدْ وَيُكْرَهُ نَوْمٌ فَوْقَ سَطْحٍ وَلَمْ يُحَطْ عَلَيْهِ بِتَحْجِيرٍ لِخَوْفِ مِن الرَّدِي وَيُكْرَهُ بَيْنَ الظِّلِّ وَالشَّمْسِ جَلْسَةٌ وَنَوْمُ عَلَى وَجْهِ الْفَتَى الْمُتَمَدِّدِ وَقُلْ فِي انْتِبَاهٍ وَالصَّبَاحِ وَفِي الْمَسَا وَنَوْمٍ مِن الْمَرْوِيّ مَا شِئْتَ تَرْشُدِ وَيَحْسُنُ عِنْدَ النَّوْمِ نَفْضُ فِرَاشِهِ وَنَوْمُ عَلَى الْيُمْنَى وَكُحْلٌ بِأَثْمُدِ وَخُذْ لَكَ مِنْ نُصْحِي أَخِي نَصِيحَةً

.. وَكُنْ حَازِمًا وَاحْضِرْ بِقَلْبٍ مُؤَيَّدِ وَلا تَنْكِحَنْ إِنْ كُنْتَ شَيْخًا فُتَيَّةً تَعِشْ فِي ضَرَارِ الْعَيْشِ أَوْ تَرْضَ بِالرَّدِي وَلا تَنْكَحَنْ مَنْ تَسْمُ فَوْقَكَ رُتْبَةً تَكُنْ أَبَدًا فِي حُكْمِهَا فِي تَنَكُدِ وَلا تَرْغَبَنْ فِي مَالِهَا وَأَثَاثِهَا إِذَا كُنْتَ ذَا فَقْرٍ تُذَلَّ وَتُضْهَدِ وَلا تَسْكُنَنْ فِي دَارِهَا عِنْدَ أَهْلِهَا تَسَمَّعْ إِذَنْ أَنْوَاعَ مَنْ مُتَعَدِّدِ فَلا خَيْرَ فِيمَنْ كَانَ فِي فَضْلِ عُرْسِهِ يَرُوحُ عَلَى هُونٍ إِلَيْهَا وَيَغْتَدِي وَلا تُنْكِرَنْ بِذْلَ الْيَسِيرِ تَنَكُدًا وَسَامِحْ تَنَلْ أَجْرًا وَحُسْنَ التَّوَدُّدِ وَلا تَسْأَلَنْ عَنْ مَا عَهِدْتَ وَغُضَّ عَنْ عَوَارٍ إِذَا لَمْ يَذْمُمِ الشَّرْعَ تَرْشُدِ وَكُنْ حَافِظًا إِنَّ النِّسَاءُ وَدَائِعٌ عوانٍ لَدَيْنَا احْفَظْ وَصِيَّةَ مُرْشِدِ وَلا تُكْثِرْ الإِنْكَارَ تُرْمَى بِتُهْمَةٍ وَلا تَرْفَعَنَّ السَّوْطَ عَنْ كُلِّ مُعْتَدِ وَلا تَطْمَعَنْ فِي أَنْ تُقِيمَ اعْوِجَاجِهَا فَمَا هِيَ إِلا مِثْلُ ضِلْعٍ مُرَدَّدِ

.. وَسُكْنَى الْفَتَى فِي غُرْفَةٍ فَوْقَ سِكَّةٍ تَؤُلُ إِلَى تُهْمَى الْبَرِيءِ الْمُشَدِّدِ وَإِيَّاكَ يَا هَذَا وَرَوْضَةَ دِمْنَةٍ سَتَرْجِعُ عَنْ قُرْبِ إِلَى أَصْلِهَا الرَّدِي وَلا تَنْكِحَنْ فِي الْفَقْرِ إِلا ضَرُورَة وَلُذْ بِوِجَاءِ الصَّوْمِ تُهْدَى وَتَهْتَدِي وَكُنْ عَالِمًا إِنَّ النِّسَا لُعبٌ لَنَا فَحَسِّنْ إِذَنْ مَهْمَا اسْتَطَعْتَ وَجَوِّدِ وَخَيْرُ النِّسَا مَنْ سَرَّتِ الزَّوْجَ مَنْظِرًا وَمَنْ حَفِظَتْهُ فِي مَغِيبٍ وَمَشْهَدِ قَصِيرَةُ أَلْفَاظٍ قَصِيرَةُ بَيْتِهَا قَصِيرَةِ طَرْفِ الْعَيْنِ عَنْ كُلِّ أَبْعَدِ عَلَيْكَ بِذَاتِ الدِّينِ تَظْفَرْ بِالْمُنَى الْـ وَدُودِ الْوَلُودِ الأَصْلِ ذَاتِ التَّعَبُّدِ حَسِيبَةُ أَصْلٍ مِنْ كِرَامٍ تَفُزْ إِذَنْ بِوِلْدٍ كِرَامٍ وَالْبَكَارَةِ فَاقْصِدِ وَوَاحِدَةُ أَدْنَى إِلَى الْعَدْلِ فَاقْتَنِعْ وَإِنْ شِئْتَ فَابْلُغْ أَرْبعًا لا تَزِيدِ وَمَنْ عَفَّ تَقْوَىً عَنْ مَحَارِمِ غَيْرِهِ يُعَفْ أَهْلُهُ حَقًّا وَإِنْ يَزْنِ يَفْسُدِ فَكَابِدَ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ النَّفْسُ عُذْرُهَا

.. وَكُنْ فِي اقْتِبَاسِ الْعِلْمِ طَلاعَ انْجُدِ وَلا يَذْهَبَنَّ الْعُمُرُ مِنْكَ سَبَهْللا وَلا تُغْبَنَنْ بِالنَّعْمَتَيْنِ بَلْ اجْهِدِ فَمَنْ هَجَرَ اللَّذَاتَ نَالَ الْمُنَى وَمَنْ أَكَبَّ عَلَى اللَّذَاتِ عَضَّ عَلَى الْيَدِ وَفِي قَمْعِ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ اعْتِزَازُهَا وَفِي نَيْلِهَا مَا تَشْتَهِي ذِلُ سَرْمَدِ فَلا تَشْتَغِلْ إِلا بِمَا يُكْسِبُ الْعُلا وَلا تَرْضَ لِلنَّفْسِ النَّفِيسَةِ بِالرَّدِي وَفِي خُلْوَةِ الإِنْسَانِ بِالْعِلْمِ أُنْسُهُ وَيَسْلُمْ دِينَ الْمَرْءِ عِنْدَ التَّوَحُّدِ وَيَسْلَمُ مِنْ قِيلٍ وَقَالَ وَمِنْ أَذَى جَلِيسٍ وَمِنْ وَاشٍ بِغِيضٍ وَحُسَّدِ وَكُنْ حِلْسَ بَيْتٍ فَهُوَ سَتْرٌ لِعَوْرَةٍ وَحِرْزٌ الْفَتَى عَنْ كُلِّ غَاوٍ وَمُفْسِدِ وَخَيْرُ جَلِيسِ الْمَرْءِ كتبٌ تُفِيدُهُ عُلُومًا وَآدَابًا كَعَقْلٍ مُؤَيَّدِ وَخَالِطْ إِذَا خَالَطَتَ كُلَّ مُوَفَّقٍ ٍ مِنَ الْعُلَمَا أَهْلِ التُّقَى وَالتَّعَبُّدِ يُفِيدُكَ مِنْ عِلْمٍ وَيَنْهَاكَ عَنْ هَوَى فَصَاحِبْه تُهْدَى مِنْ هُدَاهُ وَتَرْشُدِ

.. وَإِيَّاكَ وَالْهَمَّازَ إِنْ قُمْتَ عَنْهُ وَالْـ بَذِيَّ فَإِنَّ الْمَرْءَ بِالْمَرْءِ يَقْتَدِي وَلا تَصْحَبِ الْحَمْقَى فَذُو الْجَهْلِ إِنْ يَرُمْ صَلاحًا لأَمْرٍ يَا أَخَا الْحَزْمِ يُفْسِدِ وَخَيْرُ مَقَامٍ قُمْتُ فِيهِ وَخِصْلَةٍٍ تَحَلَّيْتَهَا ذِكْرُ الإِلَهِ بِمَسْجِدِ وَكُفَّ عَنْ الْعَوَرَا لِسَانَكَ وَالْيَكُنْ دَوَامًا بِذِكْرِ اللهِ يَا صَاحِبِي نَدِي وَحَصِّنْ عَنْ الْفَحْشَا الْجَوَارِحَ كُلِّهَا تَكُنْ لَكَ فِي يَوْمِ الْجَزَا خَيْرَ شُهَّدِ وَحَافِظْ عَلَى فِعْلِ الْفُرُوضِ بِوَقْتِهَا وَخُذْ بِنَصِيبٍ فِي الدُّجَا مِنْ تَهَجُّدِ وَنَادِ إِذَا مَا قُمْتَ بِاللَّيْلِ سَامِعًا قَرِيبًا مُجِيبًا بِالْفَوَاضِلِ يَبْتَدِي وَمُدَّ إِلَيْهِ كَفَّ فَقْرِكَ ضَارِعًا بِقَلْبٍ مُنِيبٍ وَادْعُ تُعْطَ وَتَسْعَدِ وَلا تَسْأَ مَنَّ الْعِلْمِ وَاسْهَرْ لِنَيْلِهِ بِلا ضَجَرٍ تَحْمِدْ سُرَى اللَّيْلِ فِي غَدِ وَلا تَطْلُبَنَّ الْعِلْمَ لِلْمَالِ وَالرِّيَا فَإِنَّ مِلاكَ الأَمْرِ فِي حُسْنِ مَقْصَدِ وَكُنْ عَامِلاً بِالْعِلْمِ فِيمَا اسْتَطَعْتَهُ

.. لِيُهْدَى بِكَ الْمَرْءُ الَّذِي بِكَ يَقْتَدِي حَرِيصًا عَلَى نَفْعِ الْوَرَى وَهُدَاهُمْ تَنَلْ كُلَّ خَيْرٍ فِي نَعِيمٍ مُؤَبَّدِ وَكُنْ صَابِرًا بِالْفَقْرِ وَادَّرِعِ الرِّضَا بِمَا قَدَّرَ الرَّحْمَنُ وَاشْكُرْهُ تُحْمَدِ فَمَا الْعِزَّ إِلا فِي الْقَنَاعَةِ وَالرِّضَا بِأَدْنَى كِفَافٍ حَاصِلٍ وَالتَّزَهُّدِ فَمَنْ لَمْ يُقْنِّعْهُ الْكَفَافُ فَمَا إِلَى رِضَاهُ سَبِيلٌ فَاقْتَنِعْ وَتَقَصَّدِ فَمَنْ يَتَغَنَّى يُغْنِهِ اللهُ وَالْغِنَى غِنَى النَّفْسُ لا عَنْ كَثْرَةِ الْمُتَعَدِّدِ وَإِيَّاكَ وَالإِعْجَابَ وَالْكِبْرَ تُحْظَ بِالسَّـ عَادَةِ فِي الدَّارَيْنِ فَارْشُدْ وَأَرْشِدِ وَهَا قَدْ بَذَلْتُ النُّصْحَ جُهْدِي وَإِنَّنِي مُقِرٌّ بِتَقْصِيرِي وَبِاللهِ أَهْتَدِي تَقَضَّتْ بِحَمْدِ اللهِ لَيْسَتْ ذَمِيمَةً وَلَكِنَّهَا كَالدُّرِّ فِي عِقْدِ خُرَّدِ يَحَارُ لَهُ قَلْبُ اللَّبِيبُ وَعَارِف كَرِيمَانِ إِنْ جَالا بِفِكْرٍ مُنَضَّدِ فَمَا رَوْضَةٌ خُفَتْ بِنُورِ رَبِيعِهَا بِسَلْسَالِهَا الْعَذْبُ الزُّلالِ الْمُبَرَّدِ

قصص رائعة ويليها فصول

.. بِأَحْسَنَ مِنْ أَبْيَاتِهَا وَمَسَائِلٍ أَحَاطَتْ بِهَا يَوْمًا بَغَيْرِ تَرَدُّدِ فَخُذْهَا بِدَرْسٍ لَيْسَ بِالنَّوْمِ تُدْرِكَنْ لأَهْلِ النُّهَى وَالْفَضْل فِي كُلِّ مَشْهَدِ وَقَدْ كَمُلَتْ وَالْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ دَائِمًا لَمْ يُصَدِّدِ اللهُمَّ يا حي يا قيوم يا ذا الجلال ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا يا مولانا ذكرك وشكرك وأمنا من عذابِكَ يوم تبعث عبادك وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ. اللهُمَّ إليك بدعائنا توجهنا. وبفنائك أنخنا وإياك أملنا ولما عندك من الكرم والجود والإحسان طلبنا ومن عذابِكَ أشفقنا ولغفرانك تعرضنا وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ. اللهُمَّ انهج بنا مناهج المفلحين وألبسنا خلع الإيمان واليقين وخصنا منك بالتوفيق المبين ووفقنا لقول الحق وإتباعه وخلصنا من الباطل وابتداعه وكن لنا مؤيداً ولا تجعل لفاجر علينا يداً واجعل لنا عيشاً رغداً ولا تشمت بنا عدواً ولا حاسداً وارزقنا علماً نافعاً وعملاً متقبلاً وفهماً ذكياً وطبعاً صفياً وشفاءً من كل داء وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. [قصص ومواعظ رائعة ومطالب عالية] عَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ أَنَّ عَمَّهُ حَدَّثَهُ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ? أَنَّ النَّبِيَّ ? ابْتَاعَ فَرَساً مِنْ أَعْرَابِىٍّ فَاسْتَتْبَعَهُ النَّبِيُّ ? لِيَقْضِيَهُ ثَمَنَ فَرَسِهِ.

فَأَسْرَعَ النَّبِيِّ ? الْمَشْيَ وَأَبْطَأَ الأَعْرَابِيُّ. فَطَفِقَ رِجَالٌ يَعْتَرِضُونَ الأَعْرَابِيَّ فَيُسَاوِمُونَهُ بِالْفَرَسِ وَلاَ يَشْعُرُونَ أَنَّ النَّبِيَّ ? ابْتَاعَهُ. حتَّى زًاد بَعْضُهم الأَعْرابِيَّ في السّومِ على ثَمِنَ الفَرسِ الَّذِي ابْتَاعَهُ به النَّبِيَّ ?. فَنَادَي الأَعْرَابِيُّ النَّبِيَّ ? فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ مُبْتَاعاً هَذَا الْفَرَسَ فابِعْتُهُ وإلا بِعْتُه. فقامَ النَّبِيَّ ? حِينَ سَمِعَ نِدَاءَ الأَعْرَابِيِّ فَقَالَ: «أَوَلَيْسَ قَدِ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ» . قَالَ الأَعْرَابِيُّ: لاَ وَاللهِ مَا بِعْتُكَ. فَقَالَ النبيُّ ?: «بَلَى قَدِ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ» . فَطَفِقَ الناسُ يَلُوذُون بالنَّبِيَّ ? والأَعْرَابِيُّ وهَما يَتَراجَعَان فَطَفِقَ الأَعْرَابِيُّ يَقُولُ: هَلُمَّ شَهِيداً يَشْهَدُ أنَي بايَعْتكَ. فَمَنْ جَاَء من المسَلِمِيْن قَالَ للأَعْرَابِيِّ: وَيْلَكَ إنَّ النَّبِيَّ ? لم يَكُنْ لِيَقُولَ إلا حَقاً. حتَّى جَاء خُزَيْمَةُ فاسْتَمَعَ لمُراجَعَة النَّبِيَّ ? ومُرَاجَعَةِ الأَعْرَابِيِّ وَطَفِقَ الأَعْرَابِيُّ يَقُولُ: هَلُمَّ شَهِيداً أنَي بايَعْتكَ. فَقَالَ خُزَيْمَةُ أَنَا أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَايَعْتَهُ. فَأَقْبَلَ النَّبِيَّ ? عَلَى خُزَيْمَةَ فَقَالَ: «بِمَ تَشْهَدُ؟» . قَالَ: بِتَصْدِيقِكَ يَا رَسُولَ اللهِ. فَجَعَلَ النَّبِيَّ ? شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ. وقد روي في بعض طرق هذا الحديث أن النَّبِيَّ ? قَالَ لخُِزَيْمَةُ: بِمَ تَشْهَدُ ولم تَكْنَ مَعَنا؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أنا أُصَدِقُكَ بخَبرِ السماء أفَلاَ أصَدَّقُكَ بما تَقُولُ؟ قَالَ الخطابي: ووجه هذا الحديث أن النَّبِيَّ ? حكم على الأَعْرَابِيِّ بعِلْمِهِ إذ كان النَّبِيَّ ? صادقاً باراً وجرت شهادة خُزَيْمَةَ في ذلك مجرى التوكيد لقوله ? والاستظهار بها على خصمه. فصارت في التقدير مع قول رَسُولِ اللهِ كشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ في سائر القضايا. رحمه الله والله أعلم وصَلَّى اللهُ وَعَلَى مُحَمَّد وآلِهِ وسلم. (فَصْلٌ) قَالَ الواقدي عن أشياخ له: إن شيبة بن عثمان كان يحدث عن إسلامه فيقول: ما رأيت أعجب مِمَّا كنا فيه من لزوم ما مضى عليه آباؤنا من الضلالات. فلما كان عام الفتح ودخل النبي ? عنوة قلت: أسير مع قريش إلى هوازن بحنين فعسى إن اختلطوا أن أصيب من مُحَمَّد غرة فأثار منه فأكون أنا الَّذِي قمت بثأر قريش كلها،

وأقول: ولو لم يبق من العرب والعجم أحد إلا اتبع محمداً ما اتبعته أبداً. فلما اختلط الناس اقتحم رَسُولُ اللهِ ? عن بغلته وأصلت السيف فدنوت أريد ما أريد منه ورفعت سيفي، فَرُفِعَ لي شواظ من نار كالبرق حتَّى كاد يمحشني فوضعت يدي على بصري خوفاً عليه، فَالْتَفَتَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ ? وَنَادَانِي: يَا شيبةُ ادْنُ مِنِّي. فدنوت منه فمسح صدري وَقَالَ: «اللهُمَّ أعذه من الشيطان» . فو الله لهو كان ساعتئذٍ أحب إلى من سمعي وبصري ونفسي وأذهب الله عز وجل ما كان بي ثم قَالَ: ادن فقاتل. فتقدمت أمامه أضرب بسيفي، الله يعلم أني أحب أن أقيه بنفسي كل شيء، ولو لقيت تلك الساعة أبي لو كان حياً لأوقعت به السيف. فلما تراجع الْمُسْلِمُونَ وكروا كرة رجل واحد قربت بغلة رَسُولِ اللهِ ? فاستوى عليها فخرج في أثرهم حتَّى تفرقوا في كل وجه، ورجع إلى معسكر فدخل خباءه، فدخلت عليه فَقَالَ: يا شيبةُ، الَّذِي أَرَادَ الله بِكَ خير مِمَّا أردت بنفسك. ثم حَدَّثَنِي بكل ما أضمرت فِي نَفْسِي مِمَّا لم أكن أذكره لأحد قط. فقلت: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رَسُولُ اللهُ. ثم قلت: استغفر لي يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: غفر الله لك. (فَصْلٌ) وعن أنس بن مالك قَالَ: قَالَ رسول الله ? «كم من ضعيف متضعف ذي طمرين لو أقسم على الله لأبر قسمه لأبره منهم البراء بن مالك» . وأن البراء لقي زحفاً من المشركين قد أوجع المشركون في المسلمين. فقَالُوا له: يا براء إن رسول الله ? قَالَ: إنك لو أقسمت على الله لأبرك فأقسم على الله فَقَالَ: أقسمت عَلَيْكَ يا رب لما منحتنا أكتافهم فمنحوا أكتافهم. ثم التقوا على قنطرة السوس فأوجعوا في المسلمين فقَالُوا: أقسم على ربِكَ، فَقَالَ: أقسمت عَلَيْكَ يا رب لما منحتنا أكتافهم وألحقني بنبيك ? فمنحوا أكتافهم وقتل البراء شهيداً. (فَصْلٌ) أرسل عمر إِلَى الْكُوفَةِ من يَسْأَلُ عَن سَعْدٍ فكان الناس يُثْنُونَ خيراً حتَّى سئل عنه رجل من بَنِي عَبْسٍ.

فَقَالَ: أَمَّا إِذْ أنَشَدْتَمونَا، عن سَعْدٍ فَإِنَّه كَانَ لاَ يَخرج في السَّرِيَّةِ، وَلاَ يَعْدِلُ بالرعية وَلاَ يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ. فَقَالَ سَعْدٌ: اللهُمَّ إِنْ كَانَ كَاذِباً، قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَأَطِلْ عُمْرَهُ وَعظم فَقْرَهُ وَعَرِّضْهُ بِالْفِتَنِ. فَكَانَ يرى وهو شَيْخٌ كَبِيرٌ قد تدلى حَاجِبَاهُ من الكبر َتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِى يَغْمِزُهُنَّ فِي الطُّرُقِات يَقُولُ: أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ. وكذا سعيد بن زيد كان مجاب الدعوة فقد روى أن أروى بنت أوس استعدت مروان على سعيد وقالت: سرق من أرضي وأدخله في أرضه. فَقَالَ سعيد: اللهُمَّ إن كانت كاذبة فأذهب بصرها وأقتلها في أرضها فذهب بصرها وماتت في أرضها. (فَصْلٌ) قَالَ إبراهيم بن أدهم: مرض بعض العباد فدخلنا عليه نعوده، فجعل يتنفس ويتأسف، فقلت له: على ماذا تتأسف؟ قَالَ: على ليلة نمتها، ويوم أفطرته، وساعة غفلت فيها عن ذكر الله عز وجل. وبكى بعض العباد عند موته، فقِيلَ له ما يبكيك؟ فَقَالَ أن يصوم الصائمون ولست فيهم، ويذكر الذاكرون ولست فيهم، ويصلي المصلون ولست فيهم. تأمل يا أخي هذه الأماني لله دره. عن ابن أبي مليكة قَالَ: لما كان يوم الفتح ركب عكرمة بن أبي جهل البحر هارباً فخب بهم البحر، فجعلت الصراري (أي الملاحون) يدعون الله ويوحدونه. فَقَالَ: ما هذا؟ قَالُوا: هذا مكان لا ينفع فيه إلا الله.

قال: هذا إله مُحَمَّد الَّذِي يدعونا إليه، فارجعوا بنا فرجع فأسلم. وَعَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِى جَهْلٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ? يَوْمَ جِئْتُهُ: «مَرْحَباً بِالرَّاكِبِ الْمُهَاجِرِ مَرْحَباً بِالرَّاكِبِ الْمُهَاجِرِ» ، قلت: يَا رَسُولَ اللهِ لا أدع نفقة أنفقتها عَلَيْكَ إلا أنفقت مثلها في سبيل الله. وعن عبد الله بن أبي مليكة أن عكرمة بن أبي جهل كان إذا اجتهد في اليمن قَالَ: لا والَّذِي نجاني يوم بدر وكان يضع المصحف على وجهه ويقول: كتاب ربي كتاب ربي. استشهد عكرمة يوم اليرموك في خلافة أبي بكر، فوجدوا فيه بضعاً وسبعين من بين ضربة وطعنة ورمية. (فَصْلٌ) قَالَ الزبير: وحَدَّثَنِي عمي مصعب بن عبد الله قَالَ: جاء الإسلام ودار بيد حكيم بن حزام فباعها بعد من معاوية بن أبي سفيان بمائة ألف درهم. فَقَالَ له عبد الله بن الزبير: بعت مكرمة قريش؟ فَقَالَ حكيم: ذهبت المكارم ‘ لا التقوى، يا ابن أخي إني اشتريت بها داراً في الجنة أشهدك إني قد جعلتها في سبيل الله. وعن أبي بكر ابن سليمان قَالَ: حج حكيم بن حزام معه مائة قد أهداها وجللها الحبرة وكفها عن أعجازها ووقف مائة وصيف يوم عرفة في أعناقهم أطوقة. الفضة قد نقش في رؤوسها «عتقاء الله [عز وجل] عن حكيم بن حزام» . وأعتقهم وأهدى ألف شاة. وعن مُحَمَّد بن سعد يرفعه: أن حكيم بن حزام بكى يوماً،

فَقَالَ له ابنه: ما يبكيك؟ قَالَ: خصال كلها أبكاني: أما أولها فبطؤ إسلامي حتَّى سبقت في مواطن كلها صالحة، ونجوت يوم بدر واحد فقلت: لا أخرج أبداً من مكة ولا أوضع مع قريش ما بقيت. فأقمت بمكة ويأبي الله [عز وجل] إن يشرح صدري للإسلام وذلك إني أنظر إلى بقايا من قريش لهم أسنان متمسكين بما هم عليه من أمر الجاهلية فأقتدي بهم، ويا ليت أني لم أقتد بهم فما أهلكنا إلا الاقتداء بآبإنا وكبرائنا. فلما غزا النبي ? مكة جعلت أفكر، فخرجت أنا وأبو سفيان نستروح الخبر فلقي العباس أبا سفيان فذهب به النبي ورجعت فدخلت بيتي، فأغلقته علي ودخل النبي ? مكة فآمن الناس، فجئته فأسلمت وخرجت معه إلى حنين. وعن عروة أن حكيم بن حزام أعتق في الجاهلية مائة رقبة، وفي الإسلام مائة رقبة وحمل على مائة بعير. قَالَ ابن سعد: قَالَ مُحَمَّد بن عمر: قدم حكيم بن حزام المدينة ونزلها وبني بها داراً، ومات بها سنة أربع وخمسين وهو ابن مائة وعشرين سنة رحمه الله والله أعلم وصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَسلم. (فَصْلٌ) عن أبي برزة الأسلمي «أن جليبيباً كان امرءاً من الأنصار، وكان أصحاب النبي ? إذا كان لأحدهم أيم (أي لا زوج لها) لم يزوجها حتَّى يعلم النبي ? هل له فيها حاجة أم لا؟ فَقَالَ رسول الله ? ذات يوم لرجل من الأنصار: «يا فلان زوجني ابنتك» . قَالَ: نعم ونعمة عين قَالَ: «إني لست لنفسي

أريدها» قَالَ: لمن؟ قَالَ: «لجليبيب)) . قَالَ: يا رسول ? حتَّى استأمر (أي أشاورها) وأمها. فأتاها فَقَالَ: إن رسول الله ? يخطب ابنتك. قالت: نعم ونعمة عين، زوج رسول الله ?. قَالَ: إنه ليس يريدها لنفسه قالت: فلمن؟ قَالَ: يريدها لجليبيب. قالت: حلقى ألجليبيب؟ لا لعمر الله لا. أزوج جليبيباً. فلما قام أبوها ليأتي النبي ? قالت الفتاة من خدرها لأبويها: من خطبني إليكما؟ قالا: رسول الله ? قالت: أفتردون على رسول الله ? أمره ادفعوني إلى رسول الله فإنه لن يضيعني. فذهب أبوها إلى النبي ? فَقَالَ: شأنك بها. فزوجها جليبيباً قَالَ إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة لثابت: أتدري ما دعا لها به النبي ?؟ قَالَ: وما دعا به النبي عليه السلام؟ قَالَ: «اللهُمَّ صب عليها الخير صباً ولا تجعل عيشهما كَداً كداً» . قَالَ ثابت: فزوجها إياه فبينا رسول الله ? في مغزى له قَالَ: «هل تفقدون من أحد» ؟ قَالُوا: نفقد فلاناً ونفقد فلاناً ونفقد فلاناً ثم قَالَ: «هل تفقدون من أحد» ؟ قَالُوا: نفقد فلاناً ونفقد فلاناً ثم قَالَ: «هل تفقدون من أحد)) ؟ قَالُوا: لا، قَالَ: «لكني أفقد جليبيباً)) فطلب في القتلى فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه، فينبغي للإنسان تفقدَ أصحابه قَالَ بعضهم:

مَا كَانَ عَيْبًا لَوْ تَفَقَّدَتْنِي ... وَقُلْتَ هَلْ أَتْهَمَ أَوْ أَنْجدَا فَعَادَةُ السَّادَةِ مِنْ قَبْلِنَا ... تَفَقُّدُ الأَتْبَاعِ وَالأَعْبُدَا هَذَا سُلَيْمَانُ عَلَى مُلْكِهِ ... وَهُوَ بِأَخْبَارٍ لَهُ يُقْتَدِي تَفَقَّدَ الطَّيْرَ وَأَجْنَاسِهَا ... فَقَالَ مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهَدَا وَالْمُصْطَفَى أَيْضًا كَمَا سَمِعْتُمْ بِهِ ... فِي قِصَّةِ الْقَتْلَى كَمَا قَدْ أَتَى فَقَالَ رسول الله ?: ((هذا مني وأنا منه أقتل سبعة ثم قتلوه، هذا مني وأنا منه أقتل سبعة ثم قتلوه هذا مني وأنا منه)) . فوضعه رسول الله ? على ساعديه ثم حتَّى حفروا له ما له سرير إلا ساعدي رسول ? حتَّى وضعه في قبره. لله در هذه الأنفس فما أعزها وهذه الهمم فما أرفعها! . وَلَمَّا رَأَوا بَعْضَ الْحَيَاةِ مُذلَّةً ... عَلَيْهِمْ وَعِزَّ الْمَوْتِ غَيْرَ مُحَرَّمِ أَبَوْا أَنْ يَذُوقُوا الْعَيْشَ وَالذَّمُّ وَاقِعٌ ... عَلَيْهِ وَمَاتُوا مَيْتَةً لَمْ تُذَمَّمِ وَلا عَجَبٌ لِلأَسَدِ إِنْ ظَفِرَتْ بِهَا ... كِلابُ الأَعَادِي مِنْ فَصِيحٍ وَأَعْجَمٍ فَحَرْبَةُ وَحْشِيٍّ سَقَتْ حَمْزَةَ الرَّدَى ... وَحَتْفُ عَلِيٍّ فِي حُسَامِ ابنِ مُلْجَمِ (فَصْلٌ) روى مسلم في أفراده من حديث أنس بن مالك قَالَ انْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ ? وَأَصْحَابُهُ إِلَى بَدْرٍ حتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ?: «قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ» . قَالَ: عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ؟! قَالَ: «نَعَمْ» . قَالَ: بَخٍ بَخٍ. يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ: «مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟» . قَالَ [لاَ] وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ إِلاَّ رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا. قَالَ «فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا» . قَالَ: فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرْنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُهن ثُمَّ قَالَ: إنْ

أَنَا حَيِيتُ حتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ. ثُمَّ قَاتَلَ حتَّى قُتِلَ. اللهُمَّ افتح لدعائنا باب القبول والإجابة وارزقنا الإقبال على طاعتك والإنابة وبارك في أعمالنا وأجزل لنا الأجر والإثابة وآتنا في الدنيا حسنة وفي الأخرة حسنة وقنا عذاب النار وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ. (فَصْلٌ) قال الواقدي: لما أَرَادَ عمرو بن الجموح الخروج إلى أحد منعه بنوه وقَالُوا: قد عذرك الله. فجاء إلى النبي ? فَقَالَ: إن بني يريدون حبسي عن الخروج معك وأنى لأرجو أن أطأ بعرجتي [هذه] في الجنة، فَقَالَ: «أما أنت فقد عذرك الله» ثم قَالَ لبنيه لا عليكم أن تنعوه لعل الله عز وجل يرزقه الشهادة فخلوا سبيله. قالت امرأته هند بنت عمرو بن خزام: كأني أنظر إليه مولياً، قد أخذ درقته وهو يقول: اللهُمَّ لا تردني إلى خربي وهو منازل بني سلمة. قَالَ أبو طلحة: فنظرت إليه حين انكشف الْمُسْلِمُونَ ثم ثابوا، وهو في الرعيل الأول، لكأني أنظر إلى ظلع في رجله وهو يقول: إنا والله مشتاق إلى الجنة! ثم أنظر إلى ابنه خلاد [وهو] يعدو [معه] في إثره حتَّى قتلا جميعاً. وفي الحديث أنه دفن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمر وأبو جابر في قبر واحد، فخرب السيل قبورهم، فحفر عنهم بعد ست وأربعين سنة فوجدوا لم يتغيروا كأنهم ماتوا بالأمس.

(فَصْلٌ) عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: ? فَقَالَ: يَطْلُعُ الآنَ عَلَيْكُمُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وَضُوئِهِ قَدْ عَلَّقَ نَعْلَيهِ بيدِهِ الشِّمَالِ. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ، قَالَ النَّبِيُّ ? مِثْلَ ذَلِكَ: فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ المَرَّةِ الأُولَى. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ، قَالَ النَّبِيُّ ? مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضاً: فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الأُولَى، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ ?، تَبِعَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالَ: إِنِّي لاحَيْتُ أَبِي، فَأَقْسَمْتُ أَلا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلاثاً، فَإِنْ رَأَيْتَ أنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حتَّى تَمضِيَ، فَعَلْتَ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ أَنَسٌ: فَكَانَ عَبْدُ اللهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تلك الثَلاثَ اللَيَالي، فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ شَيْئاً، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا تَعَارَّ عَلَى فِرَاشِهِ، ذَكَرَ اللهَ عز وجل، وَكَبَّرَ حتَّى لِصَلاةِ الْفَجْرِ. قَالَ عبد الله: غَيْرَ أَنَّي لم أسمعه يَقُولُ إِلا خَيْراً: فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلاثُ اللَيَالي، وَكِدْتُ أَحْتَقِرُ عَمَلَهُ. قُلْتُ: يَا عَبْدَ اللهِ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أبي غَضَبٌ، وَلا هَجْرٌ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ?، يَقُولُ لك ثَلاثَ مَرَّاتٍ: يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلاثَ مَرَّاتٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ. فأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ، فأقتدي بِكَ، فَلَمْ أَرَكَ عْمَلُتَ كَبيرَ عَمَلٍ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ?؟ قَالَ: مَا هُوَ إِلا مَا رَأَيْتَ، فَلَمَّا وَلَّيْتُ، دَعَانِي، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلا مَا رَأَيْتَ غَيْرَ أَنِّي لا أَجِدُ فِي نَفْسِي لأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشّاً، وَلا أَحْسُدُهُ أحداً عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ.

فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، رواه أحمد بإسناد على شروط البخاري ومسلم والنسائي والله أعلم وصَلَّى اللهُ وَعَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ. (فَصْلٌ) عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله ? «بعث جيشاً فيهم رجل يقال له: حدير، وكانت تلك السنة قد أصابتهم سنة من قلة الطعام، فزودهم رسول الله ? ونسي أن يزود حديراً. فخرج حدير صابراً محتسباً وهو في آخر الركب يقول: لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ويقول: نعم الزاد هو يا رب فهو يرددها وهو في آخر الركب قال فجاء جبريل إلى النبي ? فَقَالَ له: إن ربي أرسلني إليك يخبرك أنك زودت أصحابَكَ ونسيت إن تزود حديراً، وهو في آخر الركب يقول لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله فدعا النبي ? رجلاً، فدفع إليه زاد حدير وأمره إذا انتهى إليه حفظ عليه ما يقول، وإذا دفع إليه الزاد حفظ عليه ما يقول، ويقول له: إن رَسُولَ اللهِ ? يقرئك السلام ورحمة الله، ويخبرك أنه كان نسي أن يزودك، وأن ربي تبارك وتعالى أرسل إلى جبريل يذكرني بِكَ، فذكره جبريل وأعلمه مكانك. فانتهى إليه وهو يقول: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ويقول: نعم الزاد هذا يا رب؛ فدنا منه، ثم قَالَ له: إن رَسُولَ الله ? يقرئك السلام ورحمة الله، وقد أرسلني أليك بزادٍ معي، ويقول: إني إنما نسيتك، فأرسل إلى جبريل من السماء يذكرني بِكَ؛ فحمد الله، وأثنى عليه، وصلى على النبي ?.

ثم قَالَ: الحمد لله رب العالمين، ذكرني ربي من فوق سبع سموات، ومن فوق عرشه، ورحم جوعي وضعفي. يا رب كما لم تنس حديراً فاجعل حديراً لا ينساك. قَالَ: فحفظ ما قَالَ، ورجع إلى النبي ? فأخبره بما سمع منه حين أتاه، وبما قَالَ حين أخبره، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: أما أنك لو رفعت رأسك إلى السماء لرأيت لكلامه ذلك نوراً ساطعاً ما بين السماء والأرض. عن مُحَمَّد بن سعد قَالَ: كان ذو البجادين يتيماً لا مال له. فمات أبوه ولم يورثه شيئاً، وكفله عمه حتَّى أيسر. فلما قدم النبي المدينة جعلت نفسه تتوق إلى الإسلام ولا يقدر عليه من عمه حتَّى مضت السنون والمشاهد. فَقَالَ لعمه: يا عم إني قد انتظرت إسلامك فلا أراك تريد محمداً، فأذن لي في الإسلام. فَقَالَ: والله لئن اتبعت محمداً لاأترك بيدك شيئاً كنت أعطيتكه إلا نزعته منك، حتَّى ثوبيك. قَالَ: فإنا والله متبع محمداً وتارك عبادة الحجر، وهذا ما بيدي فخذه ما أعطاه حتَّى جرده من إزاره. فأتى أمه فقطعت له بجاداً لها باثنتين فاتزر بواحد وارتدى بالآخر ثم أقبل إلى المدينة وكان بورقان فاضطجع في المسجد في السحر. وكان رسول الله ? يتصفح الناس إذا انصرف من الصبح، فنظر إليه فَقَالَ: «من أنت؟» فانتسب له وكان اسمه عبد العزي، فَقَالَ: «بل أنت عبد الله ذو البجادين» .

ثم قَالَ: انزل مني قريباً فكان يكون في أضيافه حتَّى قرأ قرآناً كثيراً. فلما خرج النبي ? إلى تبوك قَالَ: ادع لي بالشهادة. فربط النبي ? على عضده لحي سمرة قَالَ: اللهُمَّ إني أحرم دمه على الكفار. فَقَالَ: ليس هذا أردت. قَالَ النبي ? إنك إذا خرجت غازياً فأخذتك الحمى فقتلتك فأنت شهيد، أو وقصتكَ دابتك فأنت شهيد , فأقاموا بتبوك أياماً ثم توفي. قَالَ بلال بن الحارث: حضرت رسول الله ? ومع بلال المؤذن شعلة من نار عند القبر واقفا بها. وإذا رسول الله يقول: «أدنيا إلىَّ أخاكما. فلما هيأه لشقه في اللحد قَالَ: «اللهُمَّ إني أمسيت عنه راض فارض عنه» . فَقَالَ ابن مسعود: ليتني كنت صاحب اللحد وعن أبي وائل، عن عبد الله قَالَ: والله لكأني أري رسول الله ? في غزوة تبوك وهو في قبر عبد الله ذي البجادين، وأبو بكر وعمر يقول: أدنيا إليَّ أخاكما. وأخذه من القبلة حتَّى أسكنه في لحده ثم خرج النبي ? وولياهما العمل. فلما فرغ من دفنه استقبل القبلة رافعاً يديه يقول: «اللهُمَّ إني أمسيت عنه راض فارض عنه» . وكان ذلك ليلاً فوالله لوددت إني مكانه، ولقد أسلمت قبله بخمس عشر سنة والله أعلم وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد آلِهِ وَسَلَّمَ.

(فَصْلٌ) عن مُحَمَّد بن سعد قَالَ: أتى واثلة رَسُولَ اللهِ ? فصلى معه الصبح. وكان رَسُولُ اللهِ إذا صلى وانصرف تصفح أصحابه. فلما دنا من واثلة قَالَ: من أنت؟ فأخبره. فَقَالَ: ما جاء بِكَ؟ قَالَ: جئت أبايع. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ?: فيما أحببت وكرهت؟ قَالَ: نعم. قَالَ فيما أطقت؟ قَالَ: نعم. فأسلم وبايعه وكان رَسُولُ اللهِ ? يتجهز يومئذ إلى تبوك فخرج واثلة إلى أهله فلقي أباه الأسقع فلما رأى حاله قَالَ: قد فعلتها؟ قَالَ: نعم. قَالَ أبوه: والله لا أكلمك أبداً. فأتى عمه فسلم عليه فَقَالَ: قد فعلتها؟ قَالَ: نعم قَالَ: فلامه أيسر من ملامة أبيه وَقَالَ: لم يكن ينبغي لك أن تسبقنا بأمر. فسمعت أخت واثلة كلامه فخرجت إليه وسلمت عليه بتحية الإسلام. فَقَالَ واثلة: أني لك هذا يا أخيه؟ قالت: سمعت كلامك وكلام عمك فأسلمت. فَقَالَ: جهزي أخاك جهاز غاز فإن رَسُولَ اللهِ ? جناح سفر. جهزي فلحق برَسُولِ اللهِ ? قد تحمل إلى تبوك وبقي غبرات من الناس وهم على الشخوص. فجعل ينادي بسوق بني قينقاع: من يحملني وله سهمي؟ قَالَ: كنت رجلاً لا رحلة بي. قَالَ: فدعاني كعب بن عجرة فَقَالَ: أنا أحملك عقبة بالليل وعقبة بالنهار ويدك أسوة يدي وسهمك لي. قَالَ واثلة نعم.

قَالَ واثلة: جزاه الله خيراً لقد كان يملني ويزيدني وآكل معه ويرفع لي حتَّى إذا بعث رَسُولُ اللهِ ? خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل. (فَصْلٌ) خرج كعب في جيش خالد وخرجت معه فأصبنا فيئاً كثيراً فقسمه خالد بيننا فأصابني ست قلائص فأقبلت أسوقها حتَّى جئت بها خيمة كعب بن عجرة فقلت: اخرج رحمك الله فانظر إلى قلائصك فاقبضها. فخرج وهو يبتسم ويقول: بارك الله فيها ما حملتك وأنا أريد أن آخذ منك شيئاً. عن بشر بن عبد الله عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قَالَ: كنا أصحاب الصفة في مسجد رَسُولِ اللهِ ? وما فينا رجل له ثوب. ولقد اتخذ العرق في جلودنا طرقاً من الغبار، إذ خرج علينا رَسُولُ اللهِ ? فَقَالَ: «لبشر فقراء المهاجرين» ثلاثاً. (فَصْلٌ) عن نعيم بن ربيعة بن كعب قَالَ: كنت أخدم رَسُولَ اللهِ ? وأقوم له في حوائجه نهاري أجمع، حتَّى يصلي رَسُولُ اللهِ ? العشاء الآخرة. فأجلس على بابه إذا دخل بيته، أقول: لعلها أن تحدث لرَسُولِ اللهِ ? حاجة. فما أزال أسمعه سبحان الله، سبحان الله وبحمده حتَّى أمل فأرجع أو تغلبني عيني فأرقد. فَقَالَ لي يوما لما رأى من حفتي (أي العناية والخدمة) له وخدمتي إياه، يا ربيعة سلني أعطك. قَالَ: فقلت: أنظر في أمري يَا رَسُولَ اللهِ ثم أعلمك ذلك. فَقَالَ: ففكرت فِي نَفْسِي فعلمت أن الدنيا منقطعة وزائلة

وأن لي فيها رزقاً سأتيني، قَالَ: فقلت أسال رَسُولَ اللهِ ? لآخرتي فإنه من الله عز وجل بالمنزل الَّذِي هو به. فجئته فَقَالَ: ما فعلت يا ربيعة؟ فقلت: أسالك يَا رَسُولَ اللهِ أن تشفع لي إلى ربِكَ فيعتقني من النار. فَقَالَ: من أمرك بهذا يا ربيعة؟ فقلت: لا والَّذِي بعثك بالحق ما أمرني به أحد ولكنك لما قلت سلني أعطك وكنت من الله بالمنزل الَّذِي أنت به نظرت في أمري فعرفت أن الدنيا منقطعة وزائلة وأن لي فيها رزقاً سيأتيني. فقلت أسال رَسُولَ اللهِ ? لآخرتي. قَالَ: فصمت رَسُولُ اللهِ ? طويلاً ثم قَالَ لي: إني فاعل فأعني على نفسك بكثرة السجود. (فَصْلٌ) وأخرجا في الصحيحين، من حديث قَيْسِ بْنِ عبادٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِساً فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ فِي نَاسٍ فِيهِمْ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ?. فَجَاءَ رَجُلٌ فِي وَجْهِهِ أَثَرٌ خُشُوعٍ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ يَتَجَوَّزُ فِيهِمَا: ثُمَّ خَرَجَ فَاتَّبَعْتُهُ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ فَدَخَلْتُ فأخْبَرتُه. فَقَالَ لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ مَا لاَ يَعْلَمُ، وَسَأُحَدِّثُكَ لِمَ ذَاكَ؟ رَأَيْتُ رُؤْيَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهُ ? فَقَصَصْتُهَا عَلَيْهِ. رَأَيْتُني فِي رَوْضَةٍ، وَسْطَهَا عَمُودٌ مِنْ حَدِيدٍ، أَسْفَلُهُ فِي الأَرْضِ وَأَعْلاَهُ فِي السَّمَاءِ، فِي أَعْلاَهُ عُرْوَةٌ. فَقِيلَ لَهُ ارْقَهْ. فقُلْتُ: لاَ أَسْتَطِيعُ. فَجاءنِي مِنْصَفٌ، يعني خادماً فَقَالَ بثِيَابِي مِنْ خَلْفِي، فَأَخَذْتُ بِالْعُرْوَةِ. فَقَصَصْتُهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ ? فَقَالَ: «تِلْكَ الرَّوْضَةُ الإِسْلاَمُ، وَذَلِكَ الْعَمُودُ عَمُودُ الإِسْلاَمِ، وَتِلْكَ الْعُرْوَةُ العُرْوَةُ

الْوُثْقَى، وَأَنْتَ عَلَى الإِسْلاَمِ حتَّى تَمُوتَ» . وَالرَّجُلُ عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلامٍ. وعن أبي بردة ابن أبي موسى قَالَ: قدمت المدينة فأتيت عبد الله بن سلام، فإذا رجل متخشع، فجلس إليه فَقَالَ: يا ابن أخي إنك جلست إلينا وقد حان قيامنا، أفتأذن؟ والله أعلم وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد آلِهِ وَسَلَّمَ. (فَصْلٌ) بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمير بن سعد عاملاً على حمص فمكث حولاً لا يأتيه خبر فَقَالَ عمر لكاتبه: أكتب إلى عمير: فو الله ما أراه إلا قد خاننا إذا جاءك كتابي هذا فأقبل وأقبل بما جبيت من فيء المسلمين حين تنظر في كتابي هذا قَالَ: فأخذ عمير جرابه فوضع فيه زاده وقصعته وعلق أدواته وأخذ عنزته ثم أقبل يمشي من حمص حتَّى قدم المدينة. قَالَ: فقدم وقد شحب لونه واغبر وجهه وطالت شعرته فدخل على عمر فَقَالَ: السلام عَلَيْكَ يا أمير المؤمنين ورحمة الله. قَالَ عمر: ما شأنك؟ قَالَ ما ترى شأني ألست تراني صحيح البدن ظاهر الدم، معي الدنيا أجرها بقرونها؟ قَالَ عمر: وما معك؟ وظن عمر أنه قد جاء هـ بمال. قَالَ معي جرابي اجعل فيه زادي، وقصعتي آكل فيها. وأدواتي أحمل فيها وضوئي وشرابي وعنزتي أتوكأ عليها وأجاهد بها عدواً إن عرض لي، فوالله ما الدنيا إلا تبع لمتاعي. قَالَ عمر: فجئت تمشي؟ قَالَ: نعم قَالَ: أما كان لك أحد يتبرع لك بداية لك تركبها؟ قَالَ: ما فعلوا وما سألتهم ذلك. فَقَالَ عمر: بئس الْمُسْلِمُونَ خرجت من عندهم.

فَقَالَ عمير: اتق الله يا عمر قد نهاك الله عن الغيبة وقد رأيتهم يصلون صلاة الغداة. قَالَ عمر: فأين نصيبِكَ وأي شيء صنعت؟ قَالَ وما سؤالك يا أمير المؤمنين؟ قَالَ عمر: سبحان الله. فَقَالَ عمير: أما أني لولا أني أخشى أن أغمك ما أخبرتك بعثتني حتَّى أتيت البلد فجمعت صلحاء أهلها فوليتهم جباية فيئهم حتَّى إذا جمعوا مواضعه ولو نالك منه شيء لأتيتك به. قَالَ: فما جئتنا بشيء؟ قَالَ لا. قَالَ: جددوا لعمير عهداً. قَالَ إن ذلك شيء لا عمله لك ولا لأحد بعدك، والله ما سلمت بل لم أسلم، لقد قلت لنصراني أخزاك الله فهذا ما عرضني له يا عمر، وإن أشقى أيامي يوم خلفت معك ثم استأذنه فأذن له فرجع إلى منزله وبينه وبين المدينة أميال. فَقَالَ عمر حين انصرف عمير: ما أراه إلا قد خاننا. فبعث رجلاً يقال له الحارث وأعطاه مائة دينار وقال: انطلق إلى عمير حتَّى تنزل به كأنك ضيف فإن رأيت أثر شيء فأقبل. وإن رأيت حالاً شديدةً فادفع إليه هذه المائة دينارا. فانطلق الحارث فإذا هو بعمير جالس يفلي قميصه إلى جنب الحائط فَقَالَ له عمير: انزل رحمك الله. فنزل ثم سأله فَقَالَ: من أين جئت؟ فَقَالَ: من المدينة. فَقَالَ كيف تركت أمير المؤمنين؟ فَقَالَ صالحاً. قَالَ: فكيف تركت المسلمين؟ قَالَ: صالحين قَالَ أليس يقيم الحدود؟ قَالَ بلى ضرب ابناً له على فاحشة فمات من ضربه. فَقَالَ عمير: اللهُمَّ أعن عمر فاني لا أعلمه إلا شديداً حبه لك.

قَالَ فنزل ثلاثة أيام وليس لهم إلا قرصة من شعير كانوا يخصونه بها ويطوون حتَّى أتاهم الجهد. فَقَالَ له عمير إنك قد أجعتنا فان رأيت أن تتحول عنا فافعل. قَالَ: فأخرج الدنانير فدفعها إليه فَقَالَ: بعث بها أمير المؤمنين فاستعن بها قَالَ: فصاح وَقَالَ: لا حاجة لي فيها فردها. فقالت له امرأته إن احتجت إليها وإلا فضعها في مواضعها. فَقَالَ عمير: والله مالي شيء أجعلها فيه. فشقت امرأته أسفل درعها فأعطته خرقة فجعلها فيها ثم خرج فقسمها على بين أبناء الشهداء والفقراء. ثم رجع والرسول يظن أنه يعطيه منها شيئاً فَقَالَ له عمير أقرئ مني لأمير المؤمنين السلام. فرجع الحارث إلى عمر فَقَالَ ما رأيت؟ فَقَالَ رأيت يا أمير المؤمنين حالاً شديداً. قَالَ: فما صنع بالدنانير؟ قَالَ: لا أدري قَالَ: فكتب إليه عمر: إذا جاءك كتابي هذا فلا تضعه من يدك حتَّى تقبل. فأقبل إلى عمر فدخل عليه فَقَالَ له عمر: ما صنعت بالدنانير؟ قَالَ صنعت ما صنعت وما سؤالك عنها؟ قَالَ أنشد عَلَيْكَ لتخبرني ما صنعت بها قَالَ: قدمتها لنفسي. قَالَ رحمك الله. فأمر له بوسقٍ من طعام وثوبين. فَقَالَ: أما الطعام فلا حاجة لي فيه قد تركت في المنزل صاعين من شعير إلى أن آكل ذلك قد جاء الله بالرزق ولم يأخذ الطعام. وأما

الثوبان فإن أم فلان عارية. فأخذهما ورجع إلى منزله. فلم يلبث أن هلك رحمه الله فبلغ عمر ذلك فشق عليه وترحم عليه وخرج يمشي ومعه المشاؤون إلى بقيع الغرقد. فَقَالَ لأصحابه: ليتمن كل رجل منكم أمنية. فَقَالَ رجل: يا أمير المؤمنين وددت أن عندي مالاً فأعتق لوجه الله كذا وكذا. وَقَالَ آخر: وددت أن لي قوة فأميح بدلو زمزم لحجاج بيت الله. قَالَ عمر بن الخطاب: وددت أن لي رجلاً مثل عمير بن سعدٍ استعين به في أعمال المسلمين. رحمه الله ورضي الله عنه. والله أعلم وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد آلِهِ وَسَلَّمَ. [فصل يحتوي على قصصٍ مفيدة] عن ابن قمادين قَالَ: لم يكن أحد من كبراء قريش، الَّذِينَ تأخر إسلامهم فأسلموا يوم فتح مكة، أكثر صلاة ولا صوماً ولا صدقة. ولا أقبل على ما يعنيه من أمر الآخرة، من سهيل بن عمرو حتَّى إن كان لقد شحب لونه. وكان كثير البكاء رقيقاً عند قراءة القرآن. لقد رئي يختلف إلى معاذ بن جبل حتَّى يقرئه القرآن وهو بمكة، حتَّى خرج معاذ من مكة. فَقَالَ له ضرار بن الخطاب: يا أبا يزيد، تختلف إلى هذا الخزرجي يقرئك القرآن؟ ألا يكون اختلافك إلى رجل من قومك من قريش؟

فَقَالَ: يا ضرار هذا الَّذِي صنع بنا ما صنع (يشير إلى الكبر والعجب) حتَّى سبقنا كل السبق. أي لعمري أختلف [إليه] لقد وضع الإسلام أمر الجاهلية ورفع الله بالإسلام قوماً كانوا لا يذكرون في الجاهلية فليتنا كنا مع أولئك فتقدمنا. وعن الحسن قَالَ: حضر باب عمر بن الخطاب رضي الله عنه سهيل بن عمرو، والحارث وبلال، وتلك الموالي الَّذِينَ شهدوا بدراً. فخرج آذن عمر فأذن لهم، وترك هؤلاء. فَقَالَ أبو سفيان: لم أر كاليوم قط، يأذن لهؤلاء العبيد ونحن على بابه لا يلتفت إلينا؟ فَقَالَ سهيل بن عمرو: وكان رجلاً عاقلاً: أيها القوم إني والله لقد أرى الَّذِي في وجوهكم، إن كنتم غضاباً فاغضبوا على أنفسكم. دعي القوم ودعيتم فأسرعوا وأبطأتم، فكيف بكم إذا دعوا يوم القيامة وتركتم؟ أما والله لما سبقوكم إليه من الفضل مِمَّا لا ترون أشد عليكم فوتاً من بابكم هذا الَّذِي كنتم تنافسونهم عليه. قَالَ: ونفض ثوبه وانطلق. قَالَ الحسن: وصدق والله سهيل، لا يجعل الله عبداً أسرع إليه كعبد أبطأ عنه» . وعن أبي قدامة السرخسي قَالَ: قام العمري للخليفة على الطريق فَقَالَ له: فعلت وفعلت. فَقَالَ له: ماذا تريد؟ قَالَ: تعمل بكذا وتعمل بكذا. فَقَالَ له هارون: نعم يا عم، نعم يا عم.

وعن سعيد بن سليمان قَالَ: كنت بمكة في زقاق الشطوى وإلى جنبي عبد الله بن عبد العزيز العمري وقد حج هارون الرشيد. فَقَالَ له إنسان: يا أبا عبد الرحمن هو ذا أمير المؤمنين يسعى قد أخلى له المسعى. قَالَ العمري للرجل: لا جزاك الله عني خيراً، كلفتني أمراً كنت عنه غنياً. ثم تعلق نعليه (أي لبسهما) . وقام فتبعته وأقبل هارون الرشيد من المروة يريد الصفا فصاح به: يا هارون! فلما نظر إليه قَالَ: لبيك يا عم. قَالَ ارق الصفا: فلما رقيه. قَالَ: ارم بطرفك إلى البيت. قَالَ: قد فعلت. قَالَ: كم هم؟ قَالَ: ومن يحصيهم؟ قَالَ: فكم في الناس مثلهم؟ قَالَ: خلق لا يحصيهم إلا الله. قَالَ: اعلم أيها الرجل أن كل واحد منهم يسأل عن خاصة نفسه وأنت وحدك تسأل عنهم كلهم فانظر كيف تكون؟ قَالَ: فبكى هارون وجلس وجعلوا يعطونه منديلاً منديلاً للدموع. قَالَ العمري: وأخرى أقولها. قَالَ: قل يا عم. قَالَ والله إن الرجل ليسرف في ماله فيسحق الحجر عليه، فكيف بمن يسرف في مال المسلمين؟ ثم مضى وهارون يبكي» . قَالَ مُحَمَّد بن خلف: سمعت مُحَمَّد بن عبد الرحمن يقول: بلغني أن هارون قَالَ: إني لأحب أن أحج كل سنة ما يمنعني إلا رجل من ولد عمر ثم يسمعني ما أكره. وقد روى لنا من طريق آخر أنه لقيه في المسعى فأخذ بلجام دابته فأهوت إليه الأجناد فكفهم عنه الرشيد فكلمه فإذا دموع الرشيد تسيل على معرفة دابته.

ثم انصرف. وأنه لقيه مرة فَقَالَ: يا هارون فعلت وفعلت. فجعل يسمع منه ويقول: مقبول منك يا عم، على الرأس والعين. فَقَالَ: يا أمير المؤمنين من حال الناس كيت وكيت فَقَالَ: عن غير علمي وأمري وخرج العمري إلى الرشيد مرة ليعظه فلما نزل الكوفة زحف العسكر حتَّى لو كان نزل بهم مائة ألف من العدو ما زادوا على هيبته. ثم رجع ولم يصل إليه. وعن أبي يحيى الزهري قَالَ: قَالَ عبد الله بن عبد العزيز العمري عند موته: بنعمة ربي أحدث أني لم أصبح أملك إلا سبعة دراهم من لحاء شجر فتلته بيدي، وبنعمة ربي أحدث: لو أن الدنيا أصبحت تحت قدمي ما يمنعني أخذها إلا أن أزيل قدمي عنها؛ ما أزلتها. استسقى موسى بن نضير في الناس في سنة 93 حين أقحطوا بإفريقية فأمرهم بصيام ثلاثة أيام ثم خرج بهم وميز أهل الذمة عن المسلمين وفرق بين البهائم وأولادها ثم أمر بالبكاء وارتفاع الضجيج وهو يدعو الله تعالى حتَّى انتصف النهار ثم نزل فقِيلَ له إلا دعوت لأمير المؤمنين؟ فَقَالَ: هذا موطن لا يذكر فيه إلا الله عز وجل فسقاهم الله عز وجل لما قَالَ ذلك. كتب زر بن حبيش إلى عبد الملك بن مروان كتاباً يعظه فيه فكان في آخر: ولا يطمعك يا أمير المؤمنين في طول الحياة ما يظهر من صحة بدنك فأنت أعلم بنفسك واذكر ما تكلم به الأولون. إِذَا الرِّجَالُ وَلَدَتْ أَوْلادُهَا ... وَبليت مِنْ كِبَرِ أَجْسَادُهَا وَجَعَلَتْ أَسْقَامُهَا تَعْتَادُهَا ... فَذِي زُوعٌ قَدْ دَنَا حَصَادُهَا فلما قرأ عبد الملك الكتب بكى حتَّى بل طرف ثوبه بدموعه ثم قَالَ: صدق زر ولو كتب إلينا بغير هذا كان أرفق بنا

آخر: ... إِذَا رَأَيْتَ بُرُوقُ الشَّيْبِ قَدْ بَسَمَتْ ... بِمَفْرِقٍ فَمُحَيَّا الْعَيْشِ قَدْ كَلَحَا يَلْقَى الْمَشِيبَ بِإِجْلالٍ وَتَكْرِمِةٍ ... مِنْ قَدْ أَعَدَّ مِن الأَعْمَالِ مَا صَلِحَا اللهُمَّ يا من عم العباد فضلُهُ ونعماؤه، ووسع البرية جوده وعطاؤه نسأل منك الجود والإحسان، والعفو والغفران، والصفح والأمان. والعتق من النيران، وتوبة تجلو أنوارها ظلمات الإساءة والعصيان، يا كريم يا منان، وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. (فَصْلٌ) وعن الفضل بن الربيع قَالَ: حج أمير المؤمنين الرشيد: فأتاني فخرجت مسرعاً فقلت: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك. فَقَالَ: ويحك قد حاك فِي نَفْسِي شيء فانظر لي رجلاً أسأله. فقلت: ها هنا سفيان بن عيينة. فَقَالَ: امض بنا إليه فأتيناه فقرعت عليه الباب فَقَالَ: من ذا؟ فقلت: أجب أمير المؤمنين. فخرج مسرعاً فَقَالَ: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك. فَقَالَ له: خذ لما جئناك له رحمك الله. فحدثه ساعة ثم قَالَ له: عَلَيْكَ دين؟ قَالَ: نعم فَقَالَ: أبا عباس اقض دينه فلما خرجنا قَالَ: ما أغنى عني صاحبُكَ شيئاً انظر لي رجلاً أسأله. فقلت له: ههنا عبد الرزاق بن همام قَالَ: امض بنا إليه فأتيناه فقرعت الباب فَقَالَ من هذا؟ قلت: أجب أمير المؤمنين. فخرج مسرعاً فَقَالَ: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك. قَالَ: خذ لما جئناك له. فحادثه ساعة ثم قَالَ له: عَلَيْكَ دين؟ قَالَ: نعم قَالَ:

أيا عباس اقض دينه. فلما خرجنا قَالَ: ما أغنى عني صاحبُكَ شيئاً انظر لي رجلا أسأله» . قلت: ههنا فضيل بن عياض قَالَ: امض بنا إليه فأتيناه فإذا هو قائم يصلي يتلو آية من القرآن يرددها. فقال: اقرع الباب فقرعت فَقَالَ: من هذا؟ فقلت: أجب أمير المؤمنين. فَقَالَ: ما لي ولأمير المؤمنين؟ فقلت: سبحان الله أو ما عَلَيْكَ طاعة؟ أليس قد روى النبي ? أنه قَالَ «ليس لمؤمن أن يذل نفسه» فنزل ففتح الباب ثم ارتقى إلى الغرفة فأطفأ المصباح ثم التجأ إلى زاوية من زوايا البيت. فدخلنا نجول عليه بأيدينا فسبقت كف هارون قبلي إليه. فَقَالَ: يا لها من كف ما ألينها إن نجت غداً من عذاب الله عز وجل. فقلت فِي نَفْسِي: ليكلمنه الليلة بكلام نقي من قلب تقي. فَقَالَ له: خذ لما جئناك له رحمك الله. فَقَالَ: إن عمر بن عبد العزيز لما ولى الخلافة دعا سالم بن عبد الله، ومُحَمَّد بن كعب القرظي ورجاء بن حيوة فَقَالَ لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا على. فعد الخلافة بلاء وعددتها أنت وأصحابُكَ نعمة. فَقَالَ له سالم بن عبد الله: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله فصم عن الدنيا وليكن إفطارك من الموت. وَقَالَ له مُحَمَّد بن كعب القرظي: إن أردت النجاة من عذاب الله، فليكن كبير المسلمين عندك أباً وأوسطهم أخاً وأصغرهم عندك ولداً فوقر أباك وأكرم أخاك وتحنن على ولدك.

وَقَالَ له رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله عز وجل فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك واكره لهم ما تكره لنفسك ثم مت إذا شئت. وإني أقول لك إني أخاف عَلَيْكَ أشد الخوف يوم تزل فيه الأقدام فهل معك رحمك الله من يشير عَلَيْكَ بمثل هذا؟ فبكى هارون بكاءً شديداً حتَّى غشي عليه فقلت له: أرفق بأمير المؤمنين. فَقَالَ: يا ابن أم الربيع تقتله أنت وأصحابُكَ وأرفق به أنا ثم أفاق فَقَالَ له: زدني رحمك الله. فَقَالَ: يا أمير المؤمنين بلغني أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز شكا إليه: فكتب إليه عمر: يا أخي أذكرك طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد وإياك أن ينصرف بِكَ من عند الله فيكون آخر العهد وانقطاع الرجاء. قَالَ: فلما قرأ الكتاب طوي البلاد حتَّى قدم على عمر بن عبد العزيز فَقَالَ له: ما أقدمك؟ قَالَ: خلعت قلبي بكتابِكَ لا أعود إلى ولاية أبداً حتَّى ألقى الله عز وجل. قَالَ: فبكى هارون بكاءً شديداً ثم قَالَ له: زدني رحمك الله. فَقَالَ: يا أمير المؤمنين إن العباس عم المصطفى ? جاء النبي ? فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أمِّرني على إمارة فَقَالَ له النبي ?: «إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة فإن استطعت أن لا تكون أميراً فافعل» . فبكى هارون بكاءً شديداً وَقَالَ له: زدني رحمك الله فَقَالَ: يا حسن الوجه أنت الَّذِي يسألك الله عز وجل عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقى هذا الوجه من النار فافعل، وإياك

أن تصبح وتمسى وفي قلبِكَ غش لأحد من رعيتك فإن النبي ? قَالَ: «من أصبح لهم غاشاً لم يرح رائحة الجنة» . فبكي هارون وَقَالَ له: عَلَيْكَ دين؟ قَالَ: نعم دين لربي يحاسبني عليه، فالويل لي إن سألني، والويل لي إن ناقشني والويل لي إن لم ألهم حجتي قَالَ: إنما أعني دين العباد. قَالَ: إن ربي لم يأمرني بهذا، أمر ربي أن أوحده وأطيع أمره، فَقَالَ عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} . فَقَالَ له: هذه ألف دينار خذها فأنفقها على عيالك وتقوَّ بها على عبادتك. فَقَالَ: سبحان الله أنا أدلك على طريق النجاة وأنت تكافئني بمثل هذا؟ سلمك الله ووفقك. ثم صمت فلم يكلمنا فخرجنا من عنده فلما صرنا على الباب قَالَ هارون: أبا عباس إذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا، وهذا سيد المسلمين. فدخلت عليه امرأة من نسائه فَقَالَ: يا هذا قد ترى ما نحن فيه من ضيق الحال فلو قبلت هذا المال فتفرجنا به. فَقَالَ لها: مثلي ومثلكم كمثل قوم كان لهم بعير يأكلون من كسبه فلما كبر نحروه فأكلوا لحمه. فلما سمع هارون هذا الكلام قَالَ: ندخل فعسى أن يقبل المال فلما علم الفضل خرج فجلس في السطح على باب الغرفة، فجاء هارون فجلس إلى جنبه فجعل يكلمه فلا يجبيبه فبينا نحن كذلك إذ خرجت جارية سوداء فقالت يا هذا قد أتعبت الشيخ منذ الليلة فانصرف رحمك الله فانصرف. تأمل يا أخي هل يوجد في

زمننا من يرد حطام الدنيا إذ عرض عليه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. والله أعلم وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد آلِهِ وَسَلَّمَ. اللهُمَّ اختم بالأعمال الصالحات أعمارنا وحقق بفضلك آمالنا وسهل لبلوغ رضاك سبلنا وحسن في جميع الأحوال أعمالنا يا منقذ الغرقي ويا منجي الهلكى ويا دائم الإحسان أذقنا برد عفوك وأنلنا من كرمك وجودك ما تقر به عيوننا من رؤيتك في جنات النعيم وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (فَصْلٌ) دخل سليمان بن عبد الملك المدينة فأقام بها ثلاثاً فَقَالَ: أما هاهنا رجل ممن أدرك أصحاب رسول الله ? يحدثنا؟ فقِيلَ له ها هنا رجل يقال له أبو حازم. فبعث إليه فجاء فَقَالَ سليمان: يا أبا حازم ما هذا الجفاء؟ فَقَالَ له أبو حازم: وأي جفاء رأيت مني؟ فَقَالَ له: أتاني وجوه المدنية كلهم ولم تأتني. فَقَالَ: ما جرى بيني وبينك معرفة أتيك عليها، قَالَ: صدق الشيخ يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟ قَالَ: لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم آخرتكم فأنتم تكرهون أن تنقلوا من العمران إلى الخراب، قَالَ: صدقت. يا أبا حازم فكيف القدوم على الله تعالى؟ قَالَ: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله فرحاً مسروراً، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه خائفاً محزوناً. فبكى سليمان وَقَالَ: ليت شعري ما لنا عند الله يا أبا حازم فَقَالَ أبو حازم: إعراض نفسك على كتاب الله فإنك تعلم ما لك عند الله.

قَالَ: يا أبا حازم وأني أصيب تلك المعرفة من كتاب الله قَالَ عند قوله تعالى {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} . قَالَ: يا أبا حازم فأين رحمة الله، قَالَ: قريب من المحسين. قَالَ: يا أبا حازم من أعقل الناس؟ قَالَ: من تعلم الحكمة وعلمها الناس. قَالَ: فمن أحمق الناس؟ قَالَ: من حط نفسه في هوى رجل وهو ظالم فباع آخرته بدنيا غيره. قَالَ: فما أسمع الدعاء؟ قَالَ: دعاء المخبتين. قَالَ: فما أزكا الصدقة؟ قَالَ: جهد المقل. قَالَ: يا أبا حازم ما تقول فيما نحن فيه. قَالَ: أعفني من هذا. قَالَ سليمان: نصيحة تلقيها. قَالَ أبو حازم: إن ناساً أخذوا هذا الأمر عنوة من غير مشاورة المسلمين ولا إجماع من رأيهم فسفكوا فيها الدماء على طلب الدنيا ثم ارتحلوا عنها فليت شعري ما قَالُوا وما قِيلَ لهم. فَقَالَ بعض جلسائهم: بئس ما قلت يا شيخ. فَقَالَ أبو حازم: كذبت إن الله أخذ الميثاق على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه. قَالَ سليمان: يا أبا حازم اصحبنا تصب منا ونصب منك قَالَ: أعوذ بالله من ذلك. قَالَ: ولم. قَالَ: أخاف أن أركن إليكم شيئاً قليلاً فيذيقني ضعف الحياة وضعف الممات.

قَالَ: فأشر علي. قَالَ: اتق الله أن يراك حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك. قَالَ: يا أبا حازم ادع لنا بخير فَقَالَ: اللهُمَّ إن كان سليمان وليك فيسره للخير وإن كان غير ذلك فخذ إلى الخير بناصيته. فَقَالَ: يا غلام هات مائة دينار ثم قَالَ: خذ هذا يا أبا حازم، قَالَ لا حاجة لي بها لي ولغيري في هذا المال أسوة فإن واسيت بيننا وإلا فلا حاجة لي فيها إني أخاف أن يكون لما سمعت من كلامي أي ثمن له. فكأن سليمان أعجب بأبي حازم فَقَالَ الزهري: إنه لجاري منذ ثلاثين سنة ما كلمته قط. فَقَالَ أبو حازم: إنك نسيت الله فنسيتني، قَالَ الزهري: أتشتمني؟ قَالَ سليمان: بل أنت شتمت نفسك أما علمت أن للجار على الجار حقاً. قَالَ أبو حازم: إن بني إسرائيل لما كانوا على الصواب كانت الأمراء تحتاج إلى العلماء وكانت العلماء تفر بدينها من الأمراء. فلما رأى قوم من أراذل الناس تعلموا العلم وأتوا به الأمراء استغنت الأمراء عن العلماء واجتمع القوم على المعصية فسقطوا وهلكوا. ولو كان علماؤنا هؤلاء يصونون علمهم لكانت الأمراء تهابهم وتعظمهم. فَقَالَ الزهري: كأنك إياي تريد وبي تعرض، وَقَالَ: هو ما تسمع» .أ. هـ.

أحضر الرشيد رجلاً ليوليه القضاء فَقَالَ له: أني لا أحسن القضاء ولست بفقيه. قَالَ الرشيد: فيك ثلاث خلال: لك شرف والشرف يمنع صاحبه من الدناءة. وفيك حلم يمنعك من العجلة ومن لم يعجل قل خطؤه. وأنت تشاور في أمرك ومن شاور كثر صوابه، وأما الفقه فنظم إليك من تتفقه عليه فولاه فما وجد فيه مطعناً» . دخل يزيد الرقاشي على عمر بن عبد العزيز فَقَالَ له: عظني يا يزيد. قَالَ: يا أمير المؤمنين ليس بينك وبين آدم إلا أب ميت فبكى عمر وَقَالَ: زدني يا يزيد قَالَ: يا أمير المؤمنين ليس بين الجنة والنار منزلة فسقط عمر مغشياً عليه رحمه الله» . وَقَالَ الرشيد لابن السماك: عظني وكان في يد الرشيد شربة من ماء فَقَالَ: يا أمير المؤمنين أرأيت لو حبست عنك هذه الشربة أكنت تفديها بملكك؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فلو حبس عنك خروجها أكنت تفديها بملكك؟ قَالَ: نعم. قَالَ: لا خير في ملك لا يساوي شربة ماء ولا بولة فبكى الرشيد. وَقَالَ علي رضي الله عنه لأسقف قد أسلم: عظني فَقَالَ: يا أمير المؤمنين قَالَ: إن كان الله معك فمن تخاف. قَالَ: أحسنت زدني

قَالَ: هب إن الله غفر ذنوب المسيئين أليس قد فاتهم ثواب المحسنين. قَالَ: حسبي حسبي. وَقَالَ سليمان بن عبد الملك لحميد الطويل: عظني. قَالَ: يا أمير المؤمنين إن كنت إذا عصيت الله تعالى ظننت أنه يراك فقد اجترأت على رب عظيم وإن كنت تظن أنه لا يراك فقد كفرت برب كريم. والله أعلم وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد آلِهِ وَسَلَّمَ. (فَصْلٌ) عن أبي هريرة عن النبي ? أنه قَالَ: «كل عين باكية يوم القيامة إلا عين غضت عن محارم الله وعين سهرت في سبيل الله وعين يخرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله» يعني دمعة مثل رأس الذباب. قَالَ ابن مسعود رضي الله عنه: أفرس الناس ثلاثة: عزيز مصر حين قَالَ لامرأته (أكرمي مثواه) ، والمرأة التي قالت لأبيها عن موسى {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} ، وأَبُو بَكْرٍ الصِّدِيقِ حين استخلف عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. قَالَ شقيق البلخي لحاتم الأصم: قد صحبتني مدة فماذا تعلمت مني؟ قَالَ: ثمان مسائل. الأولى: نظرت إلى الخلق فإذا كان لشخص محبوب، عندما يصل إلى القبر يفارقه، فجعلت محبوبي حسناتي لتكون معي في القبر. والثانية: نظرت إلى قول الله تعالى {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} فاجتهدت في دفع الهوى حتَّى استقرت على طاعة الله تعالى.

وأما الثالثة: فإني رأيت كل من معه شيء له قيمة عنده يحفظه، فنظرت في قوله تعالى: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللهِ بَاقٍ} فكلما وقع معي شيء له قيمة وجهته إليه ليبقى عنده. وأما الرابعة: فإني رأيت الناس يرجعون إلى المال والحسب والشرف، فنظرت إلى قول الله تعالى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} فعملت بالتقوى لأكون عنده كريماً. وأما الخامسة: فإني رأيت الناس يتحاسدون فنظرت في قول الله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ} فتركت الحسد. وأما السادسة: فإني رأيتهم يتعادون فنظرت في قول الله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} فتركت عداوتهم واتخذت الشيطان عدواً. والسابعة: رأيتهم يذلون أنفسهم في طلب الرزق فنظرت في قول الله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} فاشتغلت بما له علي وتركت ما لي عنده. وأما الثامنة: فإني رأيتهم متوكلين على تجارتهم وصنائعهم وصحة أبدانهم فتوكلت على الله تعالى. [فائدة] اعلم أن ذكر الله تارة يكون لعظمته فيتولد منه الهيبة فالإجلال، وتارة يكون لقدرته فيتولد منه الخوف والحزن، وتارة لنعمته فيتولد منه الحمد والشكر ولذلك قِيلَ ذكر النعمة شكرها وتارة لأفعاله الباهرة فيتولد منه العِبَر، فحق على المؤمن أن لا ينفك أبداً من ذكره على أحد هذه الأوجه. سأل بعضهم وكيعاً عن مقدمه هو وابن إدريس وحفص على هارون الرشيد فَقَالَ: كان أول من دعا به أنا.

فَقَالَ لي هارون: يا وكيع إن أهل بلدك طلبوا مني قاضياً وسموك لي فيمن سموا وقد رأيت أن أشركك في أمانتي. فقلت: يا أمير المؤمنين أنا شيخ كبير وإحدى عيني ذاهبة والأخرى ضعيفة. فَقَالَ هارون: اللهُمَّ غفراً خذ عهدك أيها الرجل وامض. فقلت: يا أمير المؤمنين والله لئن كنت صادقاً إنه لينبغي أن لا يقبل مني ولئن كاذباً فما ينبغي أن تولي القضاء كذاباً فَقَالَ: أخرج فخرجت. ودخل ابن إدريس فسمعنا وقع ركبتيه على الأرض حين برك وما سمعناه يسلم إلا سلاماً خفياً. فَقَالَ له هارون: أتدري لما دعوتك؟ قَالَ لا. قَالَ: إن أهل بلدك طلبوا مني قاضياً وإنهم سموك لي فيمن سموا. وقد رأيت أن أشركك في أمانتي وأدخلك في صالح ما أدخل فيه من أمر هذه الأمة فخذ عهدك وامض. فَقَالَ له ابن إدريس: وأنا وددت أني لم أكن رأيتك فخرج. ثم دخل حفص فقبل عهده فأتى خادم معه ثلاثة أكياس في كل كيس خمسة آلاف. فَقَالَ إن أمير المؤمنين يقرؤك السلام ويقول لكم قد لزمتكم في شخوصكم مؤنة فاستعينوا بهذه في سفركم. قَالَ وكيع فقلت: أقرئ أمير المؤمنين السلام وقل له قد وقعت مني بحيث يحب أمير المؤمنين وأنا مستغن عنها. وأما ابن إدريس فصاح به مُرَّ من هاهنا أي ردها وقبلها حفص. وخرجت الرقعة إلى ابن إدريس من بيننا عافانا الله وإياك

سألناك لآن تدخل في أعمالنا فلم تفعل ووصلناك من أموالنا فلم تقبل. فإذا جاءك ابني المأمون فحدثه إن شاء الله. فَقَالَ للرسول: إذا جاءنا مع الجماعة حدثناه إن شاء الله» . قام صالح بن عبد الجليل بين يدي المهدي، فَقَالَ: إنه لما سهل علينا ما توعر على غيرنا من الوصول إليك، قمنا مقام الأداء عنهم، وعن رَسُولِ اللهِ ?. بإظهار ما في أعناقنا من فريضة الأمر والنهي، عند انقطاع عذر الكتمان، ولا سيما حين اتسمت بميسم التواضع ووعدت الله وحملة كتابه بإيثار الحق على ما سواه فجمعنا وإياك مشهد من مشاهد التمحيص، ليتم مؤدينا على موعود الأداء وقابلنا على موعود القبول، أو يزيدنا تمحيص الله إيانا في اختلاف السر والعلانية ويحلينا حلية الكذابين. وقد كان أصحاب رَسُولِ اللهِ ? يقولون من حجب الله عنه العلم عذبه الله على الجهل وأشد منه من أقبل عليه العلم وأدبر عنه، ومن أهدى الله إليه علماً فلم يعمل به، فقد رغب عن هدية الله وقصر بها. فاقبل ما أهدى الله إليك من ألسنتنا قبول تحقيق وعمل، لا قبول سمعة ورياء، فإنه لا يعدمك منا إعلام لما تجهل أو مواطئة على ما تعمل أو تذكير من غفلة. فقد وطن الله عز وجل نبيه ? على نزولها تعزيةً عما فات وتمحيصاً من التمادي ودلالة من المخرج فَقَالَ جل وعلا: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ} . اللهُمَّ اجعلنا بتذكيرك منتفعين ولكتابِكَ ورسولك متبعين وعلى طاعتك

مجتمعين وتوفنا ربنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. (نظم الكبائر لابن عبد القوي) وَكُنْ عَالِمًا إِنَّ الذُّنُوبَ جَمِيعَهَا ... بِكُبْرَى وَصُغْرَى قُسِّمَتْ في الْمُجَوَّدِ فَمَا فِيهِ حَدٌّ فِي الدُّنَا أَوْ تَوَعُّدُ بِأُخْرَى فَسِمْ كُبْرَى عَلَى نَصِّ أَحْمَدِ وَزَادَ حَفِيدُ الْمَجْدِ أَوْ جَا وَعِيدُهُ بِنَفْيٍ لإِيمَانٍ وَلَعْنٍ لِمُبْعَدِ كَشِرْكٍ وَقَتْلِ النَّفْسِ إِلا بِحَقِّهَا وَأَكْلِ الرِّبَا وَالسِّحْرِ مَعْ قَذْفِ نُهَّدِ وَأَكْلُكَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى بِبَاطِلٍ تَوَلِيكَ يَوْمَ الزَّحْفِ فِي حَرْبِ جُحَّدِ كَذَاكَ الزِّنَا ثُمَّ اللَّوَاطُ وَشُرْبُهُمْ خُمُورًا وَقَطْعٌ لِلطَّرِيقِ الْمُمَهَّدِ وَسِرْقَةُ مَالِ الْغَيْرِ أَوْ أَكْلُ مَالِهِ بِبَاطِلِ صُنْع الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْيَدِ شَهَادَةُ زُورٍ ثُمَّ عَقٌّ لِوَالِدٍ وَغَيْبَةُ مُغْتَابٍ نَمِيمَةُ مُفْسِدِ يَمِينٌ غُمُوسٌ تَارِكٌ لِصَلاتِهِ مُصَلٍّ بِلا طُهْرٍ لَهُ بِتَعَمُّدِ مُصَلٍّ بِغَيْرِ الْوَقْتِ أَوْ غَيْرِ قِبْلَةٍ

.. مُصَلِّ بِلا قُرْآنِهِ الْمُتَأَكِّدِ قُنُوطُ الْفَتَى مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ثُمَّ قُلْ إِسَاءَةً ظَنِّ بِالإِلَهِ الْمُوَحَّدِ وَأَمْنٌ لِمَكْرِ اللهِ ثُمَّ قَطِيعَةٌ لِذِي رَحِمٍ وَالْكِبْرُ وَالْخُيَلا اعْدُدِ كَذَا كَذِبٌ إِنْ كَانَ يَرْمِي بِفِتْنَةٍ أَوْ الْمُفْتَرِي يَوْمًا عَلَى الْمُصْطَفَى أَحْمَدِ قِيَادَةُ دَيُّوثٍ نِكَاحٌ مُحَلِّلٍ وَهِجْرَةُ عَدْلٍ مُسْلِمٍ وَمُوَحِّدِ وَتَرْكُ لِحَجٍ مُسْتَطِيعًا وَمَنْعُهُ زَكَاةً وَحُكْمُ الْحَاكِمِ الْمُتَقَلِّدِ بِحَقِّ لِخَلْقِ وَارْتِشَاهُ وَفِطْرُهُ بِلا عُذْرِهِ فِي صَوْمِ شَهْرِ التَّعَبُّدِ وَقَوْلٌ بِلا عِلْمٍ عَلَى اللهِ رَبِّنَا وَسَبٌّ لأَصْحَابِ النَّبِي مُحَمَّدِ مُصِرٌّ عَلَى الْعِصْيَانِ تَرْكُ تَنَزُّهٍ مِنَ الْبُولِ فِي نَصِّ الْحَدِيثِ الْمُسَدَّدِ وَإِتْيَانُ مَنْ حَاضَتْ بِفَرْجٍ وَنَشْزُهَا عَلَى زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مُهَمَّدِ وَإِلْحَاقُهَا بِالزَّوْجِ مَنْ حَمَلَتْهُ مِنْ سِوَاهُ وَكِتْمَانُ الْعُلُومِ لِمُجْتَدِ

.. وَتَصْوِيرُ ذِي رُوحٍ وَإِتْيَانُ كَاهِنٍ وَإِتْيَانُ عَرَّافٍ وَتَصْدِيقُهُمْ زِدِ سُجُودٌ لِغَيْرِ اللهِ دَعْوَةٌ مَنْ دَعَا إِلَى بِدْعَةٍ أَوْ لِلضَّلالَةِ مَا هُدِي غُلُولٌ وَنَوْحٌ وَالتَّطيُّرُ بَعْدَهُ وَأَكْلٌ وَشُرْبٌ فِي لُجَيْنٍ وَعَسْجَدِ وَجَوْرٌ لِمُوصٍ فِي الْوَصَايَا وَمَنْعُهُ لِمِيرَاثِ وُرَّاثٍ إِبَاقٍ لأَعْبُدِ وَإِتْيَانِهَا فِي الدُّبُر بَيْعٌ لِحُرَّةٍ وَمَنْ يَسْتَحِلُّ الْبَيْتَ قِبْلَةَ مَسْجِدِ وَمِنْهَا اكْتِسَابُ لِلرِّبَا وَشَهَادَةُ عَلَيْهِ وَذُو الْوَجْهَيْنِ قَلَّ لِلتَّوَعُّدِ وَمَنْ يَدَّعِي أَصْلاً وَلَيْسَ بِأَصْلِهِ يَقُولُ أَنَا ابنُ الْفَاضِلِ الْمُتَمَجِّدِ فَيَرْغَبُ عَنْ آبَائِهِ وَجُدُودِهِ وَلاسِيَّمَا أَنْ يَنْتَسِبْ لِمُحَمَّدِ وَغِشُّ إِمَامٍ لِلرَّعِيَّةِ بَعْدَهُ وُقُوعٌ عَلَى الْعَجْمَا الْبَهِيمَةِ يُفْسِدِ وَتَرْكٌ لِتَجْمِيعٍ إِسَاءَةً مَالِكٍ إِلَى الْقَنِّ ذَا طَبْعٍ لَهُ فِي الْمُعَبَّدِ (موعظة) إخواني إنكم في دار هي محل العبر والآفات وأنتم على سفر والطريق

كثيرة المخافات، فتزودوا من دنياكم قبل الممات، وتدار هفواتكم قبل الفوات، وحاسبوا أنفسكم وراقبوا الله في الخلوات، وتفكروا فيما أراكم من الآيات، وبادروا بالأعمال الصالحات، واستكثروا في أعماركم القصيرة من الحسنات، قبل أن ينادي بكم مناد الشتات، قبل أن يفاجئكم هادم اللذات، قبل أن يتصاعد منكم الأنين والزفرات قبل أن تنقطع قلوبكم عند فراقكم حسرات قبل أن يغشاكم من غم الموت الغمرات، قبل أن تزعجوا من هذه الحياة قبل أن تتمنوا رجوعكم إلى الدنيا وهيهات. شِعْرًا: ... مَا دَارُ دُنْيًا لِلْمُقِيمِ بِدَارِ ... وَبِهَا النُّفُوسُ فَرِيسَةُ الأَقْدَارِ مَا بَيْنَ لَيْلٍ عَاكِفٍ وَنَهَارِهِ ... نَفْسَانِ مُرْتَشِفَانِ لِلأَعْمَارِ طُولُ الْحَيَاةِ إِذَا مَضَى كَقَصِيرِهَا ... وَالْيُسْرُ لِلإِنْسَانِ كَالإِعْسَارِ وَالْعَيْشُ يَعْقِبُ بِالْمَرَارَةِ حُلْوَهُ ... وَالصَّفْوُ فِيهِ مُخَلَّفُ الأَكْدَارِ وَكَأَنَّمَا تَقْضِي بُنِيَّاتُ الرَّدَى ... لِفَنَائِنَا وَطَرًا مِنْ الأَوْطَارِ وَالْمَرْءُ كَالطَّيْفِ الْمُطِيفِ وَعُمْرُهُ ... كَالنُّومِ بَيْنَ الْفَجْرِ وَالأَسْحَارِ خَطْبٌ تَضَاءَلَتَ الْخُطُوبُ لِهَوْلِهِ ... أَخْطَارُهُ تَعْلُو عَلَى الأَخْطَارِ نُلْقِي الصَّوَارِمَ وَالرِّمَاحَ لِهَوْلِهِ ... وَنَلَوْذُ مِنْ حَرْبٍ إِلَى اسْتِشْعَارِ إِنَّ الَّذِينَ بَنُو مَشِيدًا وَانْثَنَوْا ... يَسْعَوْنَ سَعْيَ الْفَاتِكِ الْجَبَّارِ سُلُبوا النَّضَارَةَ وَالنَّعِيمَ فَأَصْبَحُوا ... مُتَوَسِّدِينَ وَسَائِدَ الأَحْجَارِ تَرَكُوا دِيَارَهُمُ عَلَى أَعْدَاهِم ... وَتَوَسَّدُوا مَدَرًا بِغَيْرِ دِثَارِ خَلَطَ الْحِمَامُ قَويَّهُمْ بِضَعِيفِهِمْ ... وَغَنِيَّهمُ سَاوَى بِذِي الإِقْتَارِ وَالْخَوْفُ يُعْجِلُنَا عَلَى آثَارِهِمْ ... لا بُدَّ مِنْ صُبْحٍ الْمُجِدِّ السَّارِي وَتَعَاقُبُ الْمَلَوَيْن فِينَا نَاثِرٌ ... بَأَكَرِّ مَا نَظَمَا مِنْ الأَعْمَارِ ثم اعلم يا أخي أن الدنيا لا تذم لذاتها وكيف يذم ما منَّ الله به على عباده وما هو ضرورة في بقاء الآدمي وسبب في إعانته على تحصيل العلم والعبادة من مطعم ومشرب

وملبس ومسجد يصلي فيه وإنما المذموم أخذ الشيء من غير حِلِّهِ أو تناوله على وجه السرف لا على مقدار الحاجة ويصرف النفس فيه بمقتضى رعوناتها لا بإذن الشرع فالعاقل يجعلها مطية للآخرة فينفقها في سبيل الله في المشاريع الدينية من طباعة مصاحف وكتب دينية وعمارة مساجد وبذل للفقراء الَّذِينَ لا موارد لهم ونفقات على طلبة العلم الشرعي. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سمع رجلاً يسب الدنيا فَقَالَ له: إنها لدار صدق لمن صدقها، ودار عافيه لمن فهم عنها، ودار غني لمن تزود منها. مسجد أحباب الله، ومهبط وحيه ومصلى ملائكته ومتجر أوليائه. اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة، فمن ذا يذم الدنيا وقد آذنت بفراقها، ونادت بعيبها، ونعت نفسها وأهلها، فمثلت ببلائها وشوقت بسرورها إلى أهل السرور. فذمها قوم الندامة ومدحها آخرون، وحدثتهم فصدقوا وذكرتهم فذكروا. فيا أيها المعتز بالدنيا المغتر بغرورها، متى استلأمت إليك الدنيا، بل متى غرتك أبمضاجع آبائك تحت الثرى، أم بمصارع أمهاتك من البلى. كم قلبت بكفيك ومرضت بيدك تطلب له الشفاء وتسأل له الأطباء فلم تظفر بحاجتك ولم تسعف بطلبتك قد مثلت لك الدنيا بمصرعه مصرعك غداً ولا يغني عنك بكاءك ولا ينفعك أحبابك. وَقَالَ ابن رجب رحمه الله على كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فبين أمير المؤمنين رضي الله عنه أن الدنيا لا تذم مطلقاً وأنها تحمد بالنسبة إلى من تزود منها الأعمال الصالحة وأن فيها مساجد ومهبط الوحي. وهي دار التجارة للمؤمنين اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا بها الجنة فهي نعم الدار لمن كانت هذه صفته. وأما ما ذكر من أنه تغر وتخدع فإنها تنادي بمواعظها وتنصح بعبرها وتبدي عيوبها بما ترى من أهلها من مصارع الهلكى. وتقلب الأحوال من الصحة إلى السقم ومن الشبيبة إلى الهرم ومن الغنى إلى الفقر ومن العز إلى الذل ولكن محبها قد أعماه وأصمه حبها. انتهى أهـ.

موعظة عباد الله لا شيء أغلى عليكم من أعماركم وأنتم تضيعونها فيما لا فائدة فيه. ولا عدو أعدى لكم من إبليس وأنتم تطيعونه، ولا أضر عليكم من موافقة النفس الأمارة بالسوء، وأنتم تصادقونها لقد مضى من أعماركم الأطايب، فما بقي بعد شيب الذوائب. يا حاضر الجسم والقلب غائب، اجتماع العيب مع الشيب من أعظم المصائب، يمضي زمن الصبا في لعب وسهو وغفلة، يا لها من مصائب، كفى زاجراً واعظاً تشيب منه الذوائب، يا غافلاً فاته الأرباح وأفضل المناقب، أين البكاء والحزن والقلق لخوف العظيم الطالب أين الزمان الَّذِي فرطت فيه ولم تخش العواقب، أين البكاء دماً على أوقات قتلت عند التلفزيون والمذياع والكرة والسينما والفيديو والخمر والدخان والملاعب. كم في يوم الحسرة والندامة من دمع ساكب على ذنوب قد حواها كتاب الكاتب، من لك يوم ينكشف عنك غطاؤك في موقف المحاسب، إذا قِيلَ لك ما صنعت في كل واجب، كيف ترجو النجاة وأنت تلهو بأسر الملاعب، لقد ضيعتك الأماني بالظن الكاذب، أما علمت أن الموت صعب شديد المشارب، يلقي شره بكأس صدور من النوائب فقد بنيت كنسج العنكبوت بيتاً أين الَّذِينَ علوا فوق السفن والمراكب أين الَّذِينَ علو على متون النجائب، هجمت عليهم المنايا فأصبحوا تحت النصائب وأنت في أثرهم عن قريب عاطب، فانظر وتفكر واعتبر وتدبر قبل هجوم من لا يمنع عنه حرس ولا باب ولا يفوته هربُ هارب. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

موعظة إخواني إن في مواعظ الأيام والليالي لعبرة لذوي البصائر ركائب أموات تزعج عن مقصورات القصور ثم تحمل إلى مضائق القبور، فكم قد شاهدتم من شخصيات في الأرض، قد وضعت، وكم قد عانيتم من أبدان ناعمة في الأكفان قد لفت وإلى مضيق الإلحاد قد زفت فيا لها من غاية يستبق إليها العباد ويا له من مضمار يتناوبه جواد بعد جواد ويا له من هول شديد يعقبه أهوال شداد فتنة قبور وحشر في موقف مهيل موقف فيه تنقطع الأنساب وتخضع فيه الرقاب وتنسكب فيه العبرات وتتصاعد فيه الزفرات ذلك موقف تنشر فيه الدواوين، وتنصب فيه الموازين، ويمد فيه الصراط، وحينئذ يقع الامتياز فناج مسلم ومكردس في النار. شِعْرًا: ... مَا لِي أَرَاكَ عَلَى الذُّنُوبِ مُوَاظِبًا ... أَأَخَذْتَ مِنْ سُوءِ الْحِسَابِ أَمَانَا لا تَغْفَلَنَّ كَأَنَّ يَوْمَكَ قَدْ أَتَى ... وَلَعَلَّ عُمْرَكَ قَدْ دَنَا أَوْ حَانَا وَمَضَى الحَبِيبُ لِحَفْرِ قَبْرِكَ مُسْرِعًا ... وَأَتَى الصَّدِيقُ فَأَنْذَرَ الْجِيرَانَا وَأَتوا بِغَسَّال وَجَاءُوا نَحْوَهُ ... وَبَدَا بِغُسْلِكَ مَيِّتًا عُرْيَانَا فَغُسِّلْتَ ثُمَّ كُسِيتَ ثَوْبًا لِلْبَلَى ... وَدَعَوا لِحَمْلِ سَرِيرَكَ الإِخْوَانَا وَأَتَاكَ أَهْلُكَ لِلْوَدَاعِ فَوَدَّعُوا ... وَجَرَتْ عَلَيْكَ دُمُوعهُمْ غُدْرَانَا فَخَفِ الإِلَهِ فَإِنَّهُ مِنْ خَافَه ... سَكَنَ الْجِنَانَ مُجَاوِرًا رِضْوَانَا جَنَّاتِ عَدْنٍ لا يَبْدُ نَعِيمُهَا ... أَبَدًا يُخَالَطُ رُوحَهُ رَيْحَانَا وَلِمَنْ عَصَى نَارًا يُقَالُ لَهَا لَظَى ... تَشْوِي الْوُجُوهُ وَتَحْرِقُ الأَبْدَانَا نَبْكِي وَحَقّ لَنَا الْبُكَى يَا قَوْمَنَا ... كَيْ لا يُؤَاخِذُنَا بِمَا قَدْ كَانَا موعظة عباد الله مضى رجال من هذه الأمة كانوا يخشون ربهم خشية العارفين

الموقنين لذلك كانت أقوالهم وأفعالهم موزونة بما للشرع من موازين كانوا يزنون كلامهم قبل أن يلفظوا به لأنهم يوقنون أن خالقهم سمعها وشهد عليها وهو تعالى خير شاهد. كانوا إذا أظلم الليل يقفون في محاريبهم باكين متضرعين لهم أنين كأنين المرضى ولهم حنين كحنين الثكلى وكانوا ربما مروا بالآية من كتاب الله فجعلوا يرددونها بقلب حزين فأثرت عليهم ومرضوا بعدها مات أولئك السلف الصالح الَّذِينَ تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً. وماتت تلك الخشية وأعقبها قسوة أذهلت العباد عن طاعة الله فصاروا يأتون ويذرون دون سؤال عن سخط الله ورضاه. وغدت جوارحهم مطلقة في كل ما يغضب الله وصارت أفعالهم فوضى ليس لها ضوابط ولا قيود العين تجول في المناظر المحرمة من نساء سافرات إلى سينما إلى تلفزيون إلى الفيديو معلم الفساد إلى كوره إلى مجلات في طيها الشرور إلى صورة مجسدة وغير مجسدة إلى كتب هدامة للأخلاق إلى غير ذلك من المحرمات التي تجرح القلوب. والفرج يسرح كما شاء إلى الفواحش الدين ضعيف والخلق فاسد والأذن لا تشبع من سماع ما يسخط ربها والبطن يستزيد من سحت الأقوات. وأما اليد فحدث ولا حرج في تعدي الحدود وأما اللسان فليله ونهاره يتحرك ويتقلب في منكر القول وزوره ولا كأن ربه السميع البصير العليم موجود وتراه يطعن في أعراض الغوافل ويمزق جلودهم في السب والغيبة والبهت والكذب ولا ولا يعف عن عرض أي بشر. ويحلف بالله العلي العظيم كل يوم مرات ولا يهمه أبر في يمينه أم فجر وأما وعوده وعهوده وعقوده فتهمل ولا كأنه مكلف باحترامها فهذا وأمثاله قد

انهمكوا في المعاصي وتوغلوا فيها فصارت عندهم عادات وشيء طَبَعِي مألوف لهم. ولذلك إذا مررت بهم أو مررت حول بيوتهم استوحشت من سماع الأغاني والرقص والمطربين والسبب واللعن والقذف والاستهزاء بالدين وأخذت في العجب بين هؤلاء وأولئك الَّذِينَ في أوقات الجليات في حنادس الظلم يناجون ربهم راغبين في رضوان العزيز الجبار خائفين من سخط المنتقم القهار متفكرين في سرعة حلول المنايا التي تسارع الأيام والليالي في اقترابها وموقنين بأنهم محاسبون على الفتيل والنقير والقطمير عالمين بأنهم مكلفون بواجبات عبودية ما قاموا بالقليل منها وهم عنها مسؤلون وعلى ما قدموه من خير وشر قادمون. وهل حال هؤلاء السعداء في جانب أولئك التعساء الأشقياء الإكحال المصاب بالجنود في جانب أوفر الناس عقلاً وأكملهم وقاراً فأكثر يا أخي من قولك الحمد لله الَّذِي عافانا مِمَّا ابتلاهم الله يعافيهم ولا يبلانا قَالَ تعالى {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} . وَكُل كَسْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَجْبُرُهُ وَمَا لِكَسْرِ قَنَاةِ الدِّينِ جُبْرَانُ فتنبه أيها المؤمن واعلم أنك مسؤل عن كل ما تعمل لا مهمل كالأنعام فانهج الاستقامة وراقب ربَّكَ في مصادرك ومواردك لتقف عند الحدود قَالَ بعض المرشدين إلى معالم الرشد ضارباً لذلك مثلاً. واعلم أن الإنسان في تقلبه في أطوار حياته كمثل غريب ألقت به المقادير إلى قوم استقبلوه بترحاب وتكريم وكان ذلك النازل فاقد القوى غير عالم بما عليه القوم من الشؤن ولا يدري من أين أتي ولا إلى أين يذهب.

فَقَامَ القوم بواجبات خدمته وإكرامه حتَّى قويت حواسه وجوارحه ومداركه وأخذ يعمل كما يعمل القوم فجاء رجل من عقلائهم قائلاً يا هذا إن هذه الدار توطنها مكرموك ما هي دار إقامة ولا هي مملوكة لأحد من الخلق ولكنهم أمثالك نزلاء من كانوا يعمرون هذه الدار قبلهم ثم رحلوا وتركوها وما كان رحيلهم إلى مكان بعيد ولكنه كان إلى سجن ضيق ومكان مظلم لو أرسلت ببصرك لرأيته وقد فقدوا تلك القوى وتناسوا ذلك النعيم. ثم أخذ بيدِهِ إلى مكان قفر وأعني المقبرة وَقَالَ له هذا مراح القوم ومسقط رؤسهم وإن الطريق التي توصلك إلى هؤلاء القوم هي الطريق التي سلكها مكرموك وإنها لطريق ذات عقبات مهلكة ولها أوحال من تورطها هلك ولا مخلص من تلك الأوحال إلا بتجنب تلك العقبات أو تجاوزها عدواً. فإن رمت السلامة فسر فريداً متحفظاً من تخاصم القوم وتنازعهم ومن ملاهيهم وألعابهم ولا تصغ لمن يناديك من خلفك فإن الَّذِي يناديك من خلفك في طريق النجاة هو أجهل منك بها ولا تخالف من ناداك من الأمام فإنهم أدرى منك بمفاوز الطريق. وإياك أن تشتبه عَلَيْكَ الطريق وأصوات المنادين فإن طريق السلامة لها أعلام ومصابيح نيرة على رأس كل مرحلة من مراحلها وأما باقي الطريق فإنها مظلمة موحشة مهلكة وما هي إلا طريق واحدة ولكنها ذات شعب ومسارب كثيرة. فاحذر إن تتهاون بنفسك كما تهاون القوم بنفوسهم فهلكوا وهم لا يشعرون فإن كان النازل الغريب على استعداد لتعقل النصائح وذا قابلية تقبل

الإرشاد وقف على أفواه الطريق وفتح عينيه واستعمل فكره وتبصر في أمره وتدبر عواقب ما عليه القوم وأخذ لنفسه بأحوط الأحوال وأقربها إلى السلامة وجعل عينه متجهة للنظر إلى منازل الراحلين التي لا أنيس بها ولا جليس. وتأمل سرعة الرحيل وقصر أوقات الإقامة وتجنب الألعاب والملاهي وسلك سبيل المهتدين وإن كان ضيق الحضيرة قاصر النظر ضعيف الهمة ضائع العقل سيئ التصور فاقد الفكر خبيث الاستعداد لئيم الطبع لا يجد بداً من منازعة اللاعبين ومسابقة اللاهين وتغافل عن عاقبة أمره وسوء مصيره وتباعد عن صياح الناصحين وأصغى إلى مداهنة الغاوين أصبح من النادمين. وما ضربنا لك هذا المثل إلا لتعلم أنك أنت الغريب الَّذِي نزلت يوم ولدتك أمك بقومك وأنت ضعيف القوى لا تعلم شيئاً كما قَالَ تعالى: {وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ففرح بِكَ قومك وأكرموك إلى أن قويت الآت أعمالك وصرت تحسن الرحيل وحدك. ونريد بالرحيل هنا سلوك إحدى الطريقين إما طريق الكمالات وأما طريق النقائص لأنهما مسارب المكلفين الَّذِينَ لابد لهم من السير فيها للوصول إلى أحد الغايتين فإنه ما من طريق إلا ولها غاية ينتهي إليها مسير سالكها. وما نريد بالرجل العاقل المرشد إلا صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام أو النائب عنه في تبليغها وما نريد بناديك من الأمام إلا السلف

الصالح الَّذِينَ سبقونا بالإيمان وبينوا لنا طريق النجاة أو الأتقياء المقتفون لآثارهم الَّذِينَ ثبتت استقامتهم. وما نريد بالَّذِينَ ينادونك من خلفك إلا الَّذِينَ لا قدم لهم في طريق النبوة فلم يسلكوا سبيل المهتدين بل اعتمدوا في إرشادهم على مقال لا حال معه ولا عمل وهذا لا تصلح متابعته لأنهم أجهل الناس بطريق الاستقامة. وما أهل الاستقامة إلا الَّذِينَ راقبوا قلوبهم وأمسكوا ألسنتهم وطهروا أقلامهم فلا عزم لهم إلا على أعمال البر والمواساة ولا يقولون إلا الحق المنجي ولا يكتبون إلا ما لو سئلوا عنه يوم القيامة لأحسنوا الإجابة والَّذِينَ يذكرون الله كثيراً وإذا ذكر الله وجلت قلوبهم والبكاؤون من خشية الله المقتفون لآثاره ? المخلصون لله في جميع أعمالهم. شِعْرً: ... لَعُمْرِي إِنَّ الْمَجْدَ وَالْفَخْرَ وَالْعُلا ... وَنَيْلَ الأَمَانِي وَاكْتِسَابَ الْفَضَائِلِ لِمَنْ يُخْلِصُ الأَعْمَالَ للهِ وَحْدَهُ ... وَيَدْعُو إِلَيْهِ بِالضُّحَى وَالأَصَائِلِ اللهُمَّ اجعلنا من عبادك المحبتين، والغر المحجلين الوفد المتقبلين. اللهُمَّ إنا نسألك حياة طيبة، ونفساً تقية، وعيشة نقية، وميتة سوية، ومرداً غيرَ مخزٍ ولا فاضح. اللهُمَّ اجعلنا من أهل الصلاح والنجاح والفلاح، ومن المؤيدين بنصرك وتأييدك ورضاك يا رب العالمين. اللهُمَّ افتح لدعائنا باب القبول والإجابة وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. موعظة عباد الله يجب عليكم أن تعلموا أنكم ما دمتم في هذه الدار فأنتم في دار

المعاملات، وأن لكم دار أخرى أبدية، فيها تستوفون ما لكم على هذه المعاملات من جزاءات، فإن أحسنتم هنا أو أسأتم، كان جزاؤكم هناك إحساناً أو إساءات، هكذا وعدكم ربكم، وهو عليم بكل الأعمال، وعلى جزائكم عليها قدير، قَالَ الله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ} وَقَالَ: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} وَقَالَ: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} من هذا قطعاً تعلم أن شأن هذه المعاملات عظيم، عظماً لا يعرف قدره إلا الرجل العاقل، البعيد النظر الحكيم، فإن عليها يترتب غضب الله، وعقابه أو رضاه، والنعيم المقيم، وشيء هذا قدره لا يتوقف ولا يتردد في بذل العناية به رجل بصير، وهذه المعاملات تارة تكون بينكم وبين الله، وتارة تكون مع عباد الله، فأما المعاملة مع الله جل وعلا فبأن تسمع وتطيع فيما أمر ونهى، وأما معاملتك مع عباد الله المؤمنين، فبأن تحب لهم ما تحب لنفسك، وذلك بأن تجعل نفسك ميزاناً في معاملة كبيرهم وصغيرهم، أنت تكره إساءتهم لك وتحب إحسانهم، فاحذر إساءتهم، وعاملهم بالإحسان، وكما تكره أن يمسوا ما بسوء، فلتكن أموالهم منك في أمان، وكما تكره أن يتعرضوا لأولادك وأهلك وشخصك بشر فكن لهم خير حفيظ ونصر، وكما تحب أن يريحوك إذا جاوروك فأرحهم عند مجاورتك لهم، وكما تحب أن ينصحوك ويصدقوك في وعودهم وعقودهم وأخبارهم، فاسبقهم أنت إلى ذلك، وكما تحب أن يفرحوا لفرحك، ويحزنوا لحزنك، فكن أنت كذلك معهم، وكما تحب أن لا يتكلموا فيك إلا بخير، فلا تكن أنت معهم بضد ذلك، وقس على ذلك ما يتعلق بالموضوع وأما معاملتك مع نفسك فهي أن تعودها دائماً على الخير بلا ضجر.

شِعْرًا: يَا أَيُّهَا الَّذِي قَدْ غَرَّهُ الأَمَلُ ... وَدُونَ مَا يَا مَل التَّنْغِيصُ وَالأَجَلُ أَلا تَرَى إِنَّمَا الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا ... كَمَنْزِلِ الرَّكْبِ حَلَّّّّّّوْا ثُمَتَ ارْتَحَلُوا حُتُوفُهَا رَصْدٌ وَعَيْشُهَا نَكَدُ ... وَصَفْوُهَا كَدَرٌ وَمُلْكُهَا دُوَلُ تَظَلُّ تُفْزِعُ بِالرُّوعَاتِ سَاكِنَهَا ... فَمَا يَلَذُ لَهُ عَيْشٌ وَلا جَذَلُ كَأَنَّهُ لِلْمَنَايَا وَالرَّدَى غَرَضٌ ... تَظَلُّ فِيهِ سِهَام الْوَقْتِ تَنْتَظِلُ وَالنَّفْسُ هَارِبَةٌ وَالْمَوْتُ يَتَبَعُهَا ... وَكُل عَثْرَةِ رِجْلٍ عِنْدَهَا جَلَلُ وَالْمَرْءُ يَسْعَى بِمَا يَسْعَى لِوَارِثِهِ ... وَالْقَبْرُ وَارِثُ مَا يَسْعَى لَهُ الرَّجُلُ اللهُمَّ إِنَّكَ تعلم سرنا وعلانيتنا وتسمع كلامنا وترى مكاننا لا يخفى عَلَيْكَ شيء من أمرنا نحن البؤساء الفقراء إليك المستغيثون المستجيرون بِكَ نسألك أن تقيض لدينك من ينصره ويزيل ما حدث من البدع والمنكرات ويقيم علم الجهاد ويقمع أهل الزيغ والكفر والعناد ونسألك أن تَغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. [نختم هذا الكتاب بنبذة من زهده ?] كان رسول الله ? أزهد الناس، ويكفيك في تعريف ذلك أن فقره ? كان فقراً اختيارياً لا فقراً اضطرارياً. لأنه ? فُتِحَتْ عليه الفتوحُ وجُلِبَتْ إليه الأموالُ، ومات ودِرْعُهُ مَرهونةٌ عند يهودي في نفقة عياله، وهو يدعو: اللهُمَّ اجعل رزق آل مُحَمَّد قوتاً. وقالت عائشة رضي الله عنها: ما شبعَ رسول الله ? ثلاثة أيام تِباعاً مِن خُبز حتَّى مَضى لِسَبِيلِه، ولو شاء لأعطاهُ الله ما لا يخطر ببالٍ.

وعنها قالت: ما ترك رسول الله ? دِيناراً ولا شاة ولا درهماً ولا بعيراً ولقد مات وما في بيتي شيء يأكله ذُو كبدٍ إلا شطر شعير في رَفٍّ لي. وَقَالَ لي: إني عَرَضَ عَليَّ ربي أن يجعل لي بطحاء مكة ذهباً، فقلتُ: لا يا رب أجُوعُ يوماً وأشبعُ يوماً، فأما اليومُ الَّذِي أجُوع فيه فأتضرع إليك وأدعوك، وأما اليوم الَّذِي أشبعُ فيه فأحْمِدُكَ وأثْنِي عَلَيْكَ. وعنها قالت: إنْ كُنَّا آلُ مُحَمَّد لنمْكُثُ شهراً ما نَسْتَوقِدُ ناراً، إن هو إلا التمرُ والماء. وعنها قالت: لم يمتل جَوفُ النبي ? شِبَعاً قط، ولم يَبُث إلى أحدٍ شكوى. وكانت الفاقة أحَبَّ إليه من الغِنَى، وإنْ كان لَيَظَلُ جائعاً يَلْتَوِي طُولَ لَيلته مِن الجوع، فلا يَمْنَعُه مِن صِيام يوم ولو شاء لَسَألَ ربه جَميعَ كُنُوزِ الأرضِ وثِمارِهَا ورغد عيشها. ولقد كنتُ أبكي له رحمة مِمَّا أرى به وأمسح بيدي على بطنه مِمَّا به من الجوع، وأقول: نفسي لك الفداء، لو تبلغت من الدنيا بما يقوتك. فيقول: «يا عائشة ما لي وللدنيا إخواني أولو العزم من الرسل صبروا على ما هو أشد من هذا فمضوا على حالهم فقدموا على ربهم وأكرم مآبهم وأجزل ثوابهم. وأجدني استحي إن ترفهت في معيشتي أن يقصرني غداً دونهم. وما من شيء أحب إلي من اللحوق بإخواني وأخلائي» . قالت: فما أقام بعد إلا شهراً ثم توفى ?. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رفع رسول الله ? قط غداء لعشاء ولا عشاء قط لغداء.

ولا اتخذ من شيء زوجين لا قميصين ولا ردائين ولا إزارين، ومن النعال ولا رئي قط فارغاً في بيته إما يخصف نعلاً لرجل مسكين أو يخيط ثوباً لأرملة. وعن أنس بن مالك أن فاطمة عليها السلام جاءت بكسرة خبز إلى النبي ? فَقَالَ: «ما هذه الكسرة يا فاطمة» ؟ قالت: قرص خبزته فلم تطلب نفسي حتَّى أتيك بهذه الكسرة فَقَالَ: «أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام» . وروى مسلم عن النعمان قَالَ: ذكر عمر ما أصاب الناس من الدنيا فَقَالَ: لقد رأيت رسول الله يظل يلتوي ما يجد من الدقل ما يملأ بطنه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: إن كان ليمر بآل رسول الله ? الأهلة ما يسرج في بيت أحد منهم سراج ولا يوقد فيه نار إن وجدوا زيتاً ادهنوا به وإن وجدوا ودكاً أكلوه. رواه أبو يعلى ورواته ثقاتٌ. عن عبد الله بن مسعود قَالَ: نام رسول الله ? على حصير فَقَامَ وقد أثر في جنبه، قلنا: يَا رَسُولَ اللهِ لو اتخذنا لك وطاء. فَقَالَ: «مالي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها» . رواه ابن ماجة والترمذي وحسنه. قَالَ عمر بن الخطاب: دخلت على رسول الله ? وهو على حصير فجلست فإذا عليه إزاره وليس عليه غيره وإذا الحصير قد أثر في جنبه. وإذا أنا بقبضةٍ من شعير نحو الصاع وقرظ في ناحية الغرفة وإذا إهاب معلق (الإهاب: الجلد) فابتدرت عيناي. فَقَالَ: «ما يبكيك يا ابن الخطاب» ؟ فقلت: يا نبي الله وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبِكَ، وهذه خزانتك لا أرى إلا ما أرى.

وذاك كسرى وقيصر في الثمار والأنهار وأنت نبي الله وصفوته وهذه خزانتك. قَالَ: «يا ابن الخطاب أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا» . رواه ابن ماجة بإسناد صحيح والحاكم وَقَالَ: على شرط مسلم. روى مسلم في صحيحه عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ ? وَمَا فِي رَفِّي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ إِلا شَطْرُ شَعِيرٍ فِي رَفٍّ لِي فَأَكَلْتُ مِنْهُ حتَّى طَالَ عَلَيَّ فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ. عن ابن عباس أن النبي ? كان يبيت الليالي المتتابعة طاوياً وأهله لا يجدون عشاءً، وكان عامة خبزهم الشعير. عن أبي هريرة أن رسول الله ? كان يشد صلبه بالحجر من الغرث أي الجوع. بينما عائشة رضي الله عنها تحدث ذات يوم إذ بكت قِيلَ لها: ما يبكيك يا أم المؤمنين؟ قالت: ما ملأت بطني من طعام، فشئت أبكي إلا بكيت أذكر رسول الله ? وما كان فيه من الجهد. وعنها أيضاً أن رسول الله ? كانت تأتي عليه أربعة أشهر ما يشبع من خبز برٍّ. وعنها أيضاً قالت: ما شبع آل مُحَمَّد ثلاثاً من خبز برٍّ حتَّى قبض، وما رفع عن مائدته كسرة فضلاً حتَّى قبض. عن الحسن (البصري) قَالَ: خطب رسول الله ? فَقَالَ: «والله ما أمسى في آل مُحَمَّد صاعٌ من طعام وإنها لتسعة أبيات» . (بيوت زوجاته) . والله ما قالها استقلالاً لرزق الله، ولكن أَرَادَ أن تتأسى به أمته.

عن ابن عباس قَالَ: والله لقد كان يأتي على آل مُحَمَّد ? الليالي ما يجدون فيها عشاء. عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما شبع رسول الله ? في يوم مرتين حتَّى لحق بالله، ولا عرفنا له فضل طعام عن شبع حتَّى لحق بالله، إلا أن نرفعه لغائب فقِيلَ لها: ما كانت معيشتكم؟ قالت: الأسودان: الماء والتمر. وقالت: وكان لنا جيران من الأنصار لهم ربائب يسقوننا من لبنها، جزاهم الله خيراً. عن أنس بن مالك أن النبي ? لم يجمع غداء ولا عشاء من خبز ولحم إلا على ضفف. عن أنس بن مالك قَالَ: شهدت للنبي ? وليمة ما فيها خبز ولا لحم. عن أنس بن مالك قَالَ: ما أعلم رسول الله ? رأى رغيفاً مرقّقاً بعينه حتَّى لحق بربه، ولا شاة سميطاً قط. عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما اجتمع في بطن النبي ? طعامان في يوم قط، إن أكل لحماً لم يزد عليه، وإن كان تمراً لم يزد عليه، وإن أكل خبزاً لم يزد عليه. وكان رجلاً مسقاماً، وكانت العرب تنعت له فيتدواى بما تنعت له العرب، وكانت العجم تنعت له فيتداوى. عن أبي نضر قَالَ: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: إني لجالسة مع رسول الله ? في البيت فأهدى لنا أبو بكر رجل شاة فإني لأقطعها مع رسول الله ? في ظلمة البيت. فَقَالَ لها قائل: أما كان لكم سراج؟ فقالت: لو كان لنا ما يسرج به أكلناه. عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: لقد مات رسول الله ? وما شبع من خبز وزيت في يوم مرتين.

عن عائشة قالت: بلغني أن الرجل منكم يأكل من ألوان الطعام حتَّى يلتمس لذلك دواءً يمرئه. فذكرت نبيكم ? فذاك الَّذِي أبكاني خرج من الدنيا ولم يملأ بطنه في يوم من طعامين كان إذا شبع من التمر لم يشبع من الخبز وإذ اشبع من الخبز لم يشبع من التمر. عن أنس بن مالك قَالَ: ما يرفع بين يدي رسول الله ? شيء قط، ولا حملت معه طِنفسة يجلس عليها. أخبرني الأعرج عن أبي هريرة أن النبي ? كان يجوع. قلت لأبي هريرة: وكيف ذلك الجوع؟ قَالَ: لكثرة من يغشاه وأضيافه، وقوم يلزمونه لذلك، فلا يأكل طعاماً أبداً إلا ومعه أصحابه، وأهل الحاجة يتبعونه من المسجد. فلما فتح الله خيبر اتسع الناس بعض الاتساع وفي الأمر بعد ضيق والمعاش شديد. هي بلاد ظلف لا زرع فيها وإنما طعام أهلها التمر وعلى ذلك قاموا. وروي عن جابر رضي الله عنه قَالَ: حضرنا عرس علي وفاطمة فما كان عرساً كان أحسن منه حشونا الفراش يعني من الليف. وأوتينا بتمر وزيت فأكلنا وكان فراشها ليلة عرسها إهاب كبش. رواه البزار. الإهاب: الجلد. عن عامر الشعبي قَالَ: قَالَ علي رضي الله عنه: لقد تزوجت فاطمة وما لها ولي فراش غير جلد كبش ننام عليه بالليل ونعلف عليه الناضح بالنهار، وما لي ولها خادم غيرها. وعن علي رضي الله عنه أن رسول الله ? لما زوجه فاطمة بعث معها بخميلة ووسادة أدم حشوها ليف روحيين وسقاء وجرتين. فَقَالَ علي لفاطمة ذات يوم: والله سنوت حتَّى اشتكيت صدري

(المعنى تعبت من إخراج الماء من البئر) وقد جاء الله بسبي فاذهبي فاستخدميه (أي اطلبي منه خادماً) . فقالت: وأنا والله لقد طحنت حتَّى مجلت يدي من العمل فأتت النبي ? فَقَالَ: «ما جاء بِكَ وما حاجتك أي بنية» . قالت: جئت لأسلم عَلَيْكَ واستحيت أن تسأله فرجعت. فَقَالَ علي: ما فعلت؟ قالت: استحيت أن أسأله فأتياه جميعاً فَقَالَ علي: يَا رَسُولَ اللهِ والله لقد سنوت حتَّى اشتكيت صدري. وقالت فاطمة: لقد طحنت حتَّى مجلت يداي، وقد جاءك الله عز وجل بسبي وسعة فأخدمنا. فَقَالَ: «والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم لا أجد ما أنفق عليهم، ولكني أبيعهم وأنفق عليهم» . فرجعا وأتاهما النبي ?، وقد دخلا في قطيفتهما إذا غطيا رؤوسهما تكشفت أقدامهما، وإذا غطيا أقدامهما تكشفت رؤوسهما فثارا فَقَالَ: «مكانكما» . ثم قَالَ: «ألا أخبركم بخير مِمَّا سألتماني» ؟ قالا: بلى. قَالَ: «كلمات علمنيهن جبريل تسبحان في دبر كل صلاة عشراً، وتحمدان عشراً، وتكبران عشراً. وإذا أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين واحمدا ثلاثاً وثلاثين وكبرا أربعاً وثلاثين» . قَالَ: فوالله ما تركتهن منذ علمنيهن رسول الله ?. عن بريدة قَالَ: سمع النبي ? رجلاً يقول: اللهُمَّ إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الَّذِي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.

فَقَالَ رسول الله ?: «والَّذِي نفسي بيدِهِ لقد سأل الله باسمه الأعظم الَّذِي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى» . أخرجه أبو داود والترمذي. وعن أنس رضي الله عنه قَالَ: دعا رجل فَقَالَ: اللهُمَّ إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت الحنان المنان بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام يا حي يا قيوم. فَقَالَ النَّبِيُّ ?: «أتدرون بما دعا» ؟ قَالُوا: الله ورسوله أعلم قَالَ: «والَّذِي نفسي بيدِهِ لقد دعا الله باسمه الأعظم الَّذِي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى» . أخرجه أصحاب السنن. عن سعد بن أبي وقاص قَالَ: قَالَ رسول الله ?: «دعوة ذي النون إذ دعى وهو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب له» . رواه الترمذي والنسائي والحاكم وَقَالَ: صحيح الإسناد. وعن معاوية بن أبي سفيان قَالَ: سمعت رسول الله ? يقول: «من دعا بهؤلاء الكلمات الخمس لم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه لا إله إلا الله والله أكبر لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله» . رواه الطبراني بإسناد حسن. وعن معاذ بن جبل قَالَ: سمع رسول الله ? رجلاً وهو يقول: يا ذا الجلال والإكرام فَقَالَ: «قد استجيب لك فسل» . رواه الترمذي.

اللهُمَّ اجعلنا مكثرين لذكرك مؤدين لحقك حافظين لأجرك راجين لوعدك راضين في جميع حالاتنا عنك. راغبين في كل أمورنا إليك مؤملين لفضلك شاكرين لنعمك. يا من يحب العفو والإحسان، ويأمر بهما أعف عنا، وأحسن إلينا. فإنك بالَّذِي أنت له أهل من عفوك أحق منا بالَّذِي نحن له أهل من عقوبتك. اللهُمَّ ثبت رجاءك في قلوبنا، واقطعه عمن سواك، حتَّى لا نرجوا غيرك ولا نستعين إلا إياك، يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين. اللهُمَّ هب لنا اليقين والعافية، وإخلاص التوكل عَلَيْكَ، والاستغناء عن خلقك. واجعل خير أعمالنا ما قارب آجالنا. اللهُمَّ أعنا بما وفقتنا له من العلم، وزينا بالحلم وأكرمنا بالتقوى وجملنا بالعافية. اللهُمَّ افتح مسامع قلوبنا لذكرك وارزقنا طاعتك وطاعة رسولك ووفقنا للعمل بكتابِكَ وسنة رسولك. اللهُمَّ إنا نسألك الهدى، والتقى والعافية والغنى، ونعوذ بِكَ من درك الشقاء، ومن جهد البلاء ومن سوء القضاء ومن شماتة الأعداء. اللهُمَّ لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله وعلانيته وسره، أهل الحمد والثناء أنت، لا إله إلا أنت سبحانك إنك على كل شيء قدير.

اللهُمَّ اغفر لنا جميع ما سلف منا من الذنوب، واعصمنا فيما بقى من أعمارنا، ووفقنا لعمل صالح ترضى به عنا. اللهُمَّ سامع كل صوت، ويا بارئ النفوس بعد الموت، يا من لا تشبه عليه الأصوات، يا عظيم الشأن، يا واضح البرهان، يا من هو كل يوم في شأن، اغفر ذنوبنا إنك أنت الغفور الرحيم. اللهُمَّ يا عظيم العفو، يا واسع المغفرة، يا قريب الرحمة، يا ذا الجلال والإكرام، هب لنا العافية في الدنيا والآخرة. اللهُمَّ يا حي ويا قيوم فرغنا لما خلقتنا له، ولا تشغلنا بما تكلفت لنا به، واجعلنا ممن يؤمنن بلقائك، ويرضى بقضائك، ويقنع بعطائك، ويخشاك حق خشيتك. اللهُمَّ اجعل رزقنا رغداً، ولا تشمت بنا أحداً. اللهُمَّ رغبنا فيما يبقى، وزهدنا فيما يفنى، وهب لنا اليقين الَّذِي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يعول في الدين إلا عليه. اللهُمَّ إنا نسألك بعزك الَّذِي لا يرام وملكك الَّذِي لا يضام وبنورك الَّذِي ملأ أركان عرشك أن تكفينا شر ما أهملنا وما لا نهتم به وأن تعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. اللهُمَّ يا عليم يا حليم يا قوي يا عزيز يا ذا المن والعطا والعز والكبرياء يا من تعنوا له الوجوه وتخشع له الأصوات. وفقنا لصالح الأعمال وأكفنا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك إنك على كل شيء قدير. اللهُمَّ إنا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها

شملنا، وتلم بها شعثنا، وترفع بها شاهدنا، وتحفظ بها غائبنا، وتزكى بها أعمالنا، وتلهمنا بها رشدنا، وتعصمنا بها من كل سوء يا أرحم الراحمين. اللهُمَّ ارزقنا من فضلك، واكفنا شر خلقك، واحفظ علينا ديننا وصحة أبداننا. اللهُمَّ يا هادي المضلين ويا راحم المذنبين، ومقِيلَ عثرات العاثرين، نسألك أن تلحقنا بعبادك الصالحين الَّذِينَ أنعمت عليهم من النبيين والصديقين الَّذِينَ أنعمت عليهم من النبين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يا رب العالمين. اللهُمَّ يا عالم الخفيات، ويا رفيع الدرجات، يا غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا أنت إليك المصير. نسألك أن تذيقنا برد عفوك، وحلاوة مغفرتك، يا أرحم الراحمين وأرأف الرائفين وأكرم الأكرمين. اللهُمَّ اعتقنا من رق الذنوب، وخلصنا من أشر النفوس، وأذهب عنا وحشة الإساءة، وطهرنا من دنس الذنوب، وباعد بيننا وبين الخطايا وأجرنا من الشيطان الرجيم. اللهُمَّ طبِّعنا للقائك، وأهلنا لولائك وأدخلنا مع المرحومين من أوليائك، وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين. اللهُمَّ أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وتلاوة كتابِكَ، واجعلنا من حزبِكَ المفلحين، وأيدنا بجندك المنصورين، وارزقنا مرافقة الَّذِينَ أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. اللهُمَّ يا فالق الحب والنوى، يا منشئ الأجساد بعد البلى يا مؤي المنقطعين إليه، يا كافي المتوكلين عليه، انقطع الرجاء إلا منك، وخابت

الظنون إلا فيك، وضعف الاعتماد إلا عَلَيْكَ نسألك أن تمطر محل قلوبنا من سحائب يرك وإحسانك وأن توفقنا لموجبات رحمتك وعزائم مغفرتك إنك جواد كريم رؤوف غفور رحيم. اللهُمَّ نسألك قلباً سليماً ولساناً صادقاً، وعملاً متقبلاً، ونسألك بركة الحياة وخير الحياة، ونعوذ بِكَ من شر الحياة، وشر الوفاة. اللهُمَّ إنا نسألك نفساً مطمئنةً، وتؤمن بلقائك وترضى بقضائك وتقنع بعطائك، يا أرأف الرائفين، وأرحم الراحمين. اللهُمَّ إنا نسألك التوفيق لما تحبه من الأعمال، ونسألك صدق التوكيل عَلَيْكَ، وحسن الظن بِكَ يا رب العالمين. اللهُمَّ اجعلنا من عبادك المخبتين، الغر المحجلين الوفد المتقبلين. اللهُمَّ إنا نسألك حياة طيبة، ونفساً تقية، وعيشة نقية، وميتة سوية ومرداً غير مخزٍ ولا فاضح. اللهُمَّ اجعلنا من أهل الصلاح والنجاح والفلاح، ومن المؤيدين بنصرك وتأييدك ورضاك. موعظة قَالَ ابن الجوزي رحمة الله: الحذر الْحذر من المعاصي فإنها سيئة العواقب، والحذر الحذر من الذنوب خصوصاً ذنوب الخلوات، فإن المبارزة لله تعالى تسقط العبد من عينه سبحانه ولا ينال لذة المعاصي إلا دائم الغفلة، فأما المؤمن اليقظان فإنه لا يلتذ بها، لأنه عند التذاذهِ يقف بإزائه علمه بتحريمها وحذره من عقوبتها، فإن قويت معرفته رأى بعين علمه الناهي وهو الله فيتنغص عيشه في حال التذاذه فإن غلبه

سكر الهوى كان القلب متنغضاً بهذه المراقبات وإن كان الطبع في شهوته فما هي إلا لحظة ثم خزي دائم وندم ملازم وبكاء متواصل وأسف على ما كان مع طول الزمان حتَّى إنه لو تيقن العفو وقف بإزائه حذار العتاب فأف للذنوب ما أقيح آثارها وأسوء أخبارها انتهى. فيا أيها الْمُسْلِمُونَ اتقوا الله ربكم وحافظوا على صلاتكم وقوموا لله خاضعين خاشعين لتفوزوا برضوان الله وتكونوا من المفلحين. اللهُمَّ قوى إيماننا بِكَ وبملائكتك وبكتبِكَ وبرسلك وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره. اللهُمَّ ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا صيانة أوقاتنا وحفظها عن المعاصي ووفقنا بالباقيات الصالحات وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. اعْلَمْ وَفَّقَنا اللهُ وَإيَّاكَ وَجَمِيْعَ المُسْلِميْنَ أنَّهُ لَم يُؤْثَرْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الصَّحَابَةِ وتَابِعْيِهْم بإِحْسَانٍ تَعْظِيْمُ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ البِدَعِ وَالمُوَالِيْنَ لأَهْلِ البِدَعِ وَالمُنَادِيْنَ بِمُوَالاتِهمْ، لأَنّ أَهْلِ البِدَعِ مَرْضَى قُلُوب، وَيُخْشَى عَلَىَ مَنْ خَالطَهُمْ أَو اتَّصَلَ بِهِمْ أَنْ يَصِلَ إِلِيْهِ مِنْ مَا بِهِِِمْ مِنَ هَذَا الدَّاءِ العُضَال، لأِنّ المَرِيْضَ يُعْدِي الصَّحَيْحَ وَلاَ عَكسْ، فَالْحَذَرَ الحذرَ مِنْ جَمِيعِ أهْلِ البدَعِ، وَمِنْ أهْلِ البِدَعِ الَّذِينَ يَجِبُ البُعْدُ عَنْهُمْ وَهِجَرانُهُمْ: الجَهْمِيَّةُ، والرَّافضَةُ، وَالْمُْعَتِزلَةُ، والْمَاتُرِيْدِيَّةُ، وَالخَوَارُِج، والصُّوْفِيَّةُ، والأَشَاعَرة، وَمَنْ عَلَىَ طَريْقَتِهمْ مِنَ الطَّوَائِف المُنْحَرِفَةِ عن طريقة السَّلَفْ، فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أنْ يَحْذّرَهُمْ وَيُحَذِرَّ عَنْهُمَ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وسلم. عبد العزيز بن مُحَمَّد بن سلمان

فائدة عظيمة النفع قَالَ أحد العلماء رحمه الله تعالى عَلَيْكَ يا أخي بمحاربة الشيطان وقهره، وذلك لخصلتين أحدهما أنه عدو مظل مبين، لا مطمع فيه بمصالحة واتقاء شره أبداً، لأنه لا يرضيه ويقنعه إلا هلاكك أصلاً فلا وجه إذا للأمن من هذا العدو والغفلة عنه، قَالَ الله جل وعلا: {لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} وَقَالَ تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} والخصلة الثانية أنه مجبول على عداوتك ومنتصب لمحاربتك، في الليل والنهار يرميك بسهامه، وأنت غافل عنه، ثم هو له مع جميع المؤمنين عداوة عامة، ومع المجتهد في العبادة والعلم عداوة خاصة، ومعه عَلَيْكَ أعوان نفسك الأمارة بالسوء، والهوى، والدنيا وهو فارغ وأنت مشغول، وهو يراك وأنت لا تراه، وأنت تنساه وهو لا ينساك، فإذاً لابد من محاربته، وقهره، وإلا فلا تأمن الفساد والهلاك والدمار، ومحاربته بالاستعاذة بالله والإكثار من ذكره. شِعْرًا: ... مَا لِي أَرَاكَ عَلَى الذُّنُوبِ مُوَاظِبًا ... أَأَخَذْتَ مِنْ سُوءِ الْحِسَابِ أَمَانَا لا تَغْفَلَنَّ كَأَنَّ يَوْمَكَ قَدْ أَتَى ... وَلَعَلَّ عُمْرَكَ قَدْ دَنَا أَوْ حَانَا وَمَضَى الحَبِيبُ لِحَفْرِ قَبْرِكَ مُسْرِعًا ... وَأَتَى الصَّدِيقُ فَأَنْذَرَ الْجِيرَانَا وَأَتوا بِغَسَّال وَجَاءُوا نَحْوَهُ ... وَبَدَا بِغُسْلِكَ مَيِّتًا عُرْيَانَا فَغُسِّلْتَ ثُمَّ كُسِيتَ ثَوْبًا لِلْبَلَى ... وَدَعَوا لِحَمْلِ سَرِيرَكَ الإِخْوَانَا وَأَتَاكَ أَهْلُكَ لِلْوَدَاعِ فَوَدَّعُوا ... وَجَرَتْ عَلَيْكَ دُمُوعهُمْ غُدْرَانَا فَخَفِ الإِلَهِ فَإِنَّهُ مِنْ خَافَه ... سَكَنَ الْجِنَانَ مُجَاوِرًا رِضْوَانَا جَنَّاتِ عَدْنٍ لا يَبْدُ نَعِيمُهَا ... أَبَدًا يُخَالَطُ رُوحَهُ رَيْحَانَا وَلِمَنْ عَصَى نَارًا يُقَالُ لَهَا لَظَى ... تَشْوِي الْوُجُوهُ وَتَحْرِقُ الأَبْدَانَا نَبْكِي وَحَقّ لَنَا الْبُكَى يَا قَوْمَنَا ... كَيْ لا يُؤَاخِذُنَا بِمَا قَدْ كَانَا

موعظة عباد الله إن طاعة الله صلاح في الأرض لهذا أمر عز وجل بالطاعات، وهذه الطاعات ترضي الله سبحانه لأنها شكر له على نعمه المتواليات، فينبغي لنا أن نحث عليها وأن نأمر من ترك الطاعة أن يعود إليها إذا كانت من فرائض الدين كالصلاة والزكاة والصيام والحج، وأن ننكر على من رأيناه يقترف معصية من المعاصي، لأن المعاصي بكل أنواعها شرور وأضرار وفساد ولها شؤم قد يعم الدنيا ويفعل الأفاعيل العظام في بني الإنسان ومن آثارها المضرة بالقلب والبدن: أنها إفساد للعقل فإن العقل نور والمعصية تطفئ نور العقل ومنها أن المعاصي مدد من الإنسان يمد بها عدوه عليه وجيش يقويه به على حربه ومنها أنها توهن القلب والبدن ومنها أنها تزرع أمثالها من المعاصي ومنها أنها تمحق بركة العمر ومنها أنها تسبب شماتة الأعداء، ومنها أنها تعسر على الإنسان أموره، ومنها أنها تسبب الوحشة بين العاصي وبين أهل الخير ومنها أنها تذهب الحياء ومنها أن تستدعي نسيان الله لعبده وتركه، ومنها أنها تطفئ من القلب نار الغيرة ومنها أنها تضعف في القلب تعظيم الرب ومنها أنها تعمي بصيرة القلب وتطمس نوره ومنها أنها تسقط الجاه والمنزلة عند الله إلا مالا نهاية له من الأضرار لهذا يجب علينا أن ننهي عن المعاصي لاسيما إذا كانت من كبار المعاصي، ولا تنس أن بني إسرائيل لعنهم الله لما فقدوا الغيرة على انتهاك الحرمات ولا تناهو عن المنكر وتأمل أحوال الأمم وما حل بها من العقوبات بأسباب الذنوب قَالَ تعالى: {فكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .

موعظة عباد الله سرور المؤمنين يوم يعبرون القناطر ويأمنون العوائر فذلك يوم عيدهم وما داموا في دار الغرور فلا غبطة ولا سرور. وأي سرور لمن الموت معقود بناصيته والذنوب راسخة في آنيته والنفس تقوده إلى هواها والدنيا تتزين في عينه بمشتهاها. والشيطان مستبطن فقار ظهره لا يفتر عن الوسوسة في صدره ونفسه وماله بعرضه للحوادث ولا يدري في كل نفس ما عليه حادث. قَالَ بعضهم: إِنِّي بُلِيتُ بِأَرْبَعٍ مَا سُلِّطُوا ... إِلا لأَجْلِ شَقَاوَتِي وَعَنَائِي إِبْلَيْسَ وَالدُّنْيَا وَنَفْسِي وَالْهَوَى ... كَيْفَ الْخَلاصُ وَكُلُّهُمْ أَعْدَائِي ومن ورائه المغير ومسأله منكر ونكير ويتوسد التراب إلى يوم النشور {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} يوم لا يبلغ وصف أهواله ولا شرح أحواله ما لا يسع المؤمن به أن يستقر له قرار ولا يخلد إلى هذه الدار ولا يكون له في هذه الدنيا إلا التقرب بأنواع القرب واجتناب الفواحش والريب وإقامة الدين الَّذِي في إقامته النجاة وفي تضييعه العطب العظيم. يَوْمُ الْقِيَامَةِ لَوْ عَلِمْتَ بِهَوْلِهِ ... لَفَرَرْتَ مِنْ أَهْلٍ وَمِنْ أَوْطَانِ يَوْمٌ تَشَقَّقَتِ السَّمَاءُ لِهَوْلِهِ ... وَتَشِيبُ فِيهِ مَفَارِقُ الْوِلْدَانِ يَوْمٌ عَبُوسٌ قَمْطَرِيرٌ شَرُّهُ ... فِي الْخَلْقِ مُنْتَشِرٌ عَظِيمُ الشَّأنِ يَوْمٌ يَجِيءُ الْمُتَّقُونَ لِرَبِّهِمْ ... وَفْدًا عَلَى نُجُبٍ مِنَ الْعِقْيَاتِ وَيَجِيءُ فِيهِ الْمُجْرِمُونَ إِلَى لَظى ... يَتَلَمَّظُونَ تَلَمُّظَ الْعَطْشَانِ وَالْجَنَّةُ الْعُلْيَا وَنَارُ جَهَنَّمِ ... دَارَانِ لِلْخَصْمَيْنِ دَائِمَتانِ اللهُمَّ اختم بالأعمال الصالحات أعمارنا وحقق بفضلك آمالنا وسهل لبلوغ رضاك سبلنا وحسن في جميع الأحوال أعمالنا يا منقذ الغرقى ويا منجي

الهلكى ويا دائم الإحسان أذقنا برد عفوك من كرمك وجودك ما تقر به عيوننا من رؤيتك في جنات النعيم وَاْغِفرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. موعظة عباد الله طلب الرزق الحلال فريضة على كل مسلم فالتمس الرزق أيها المسلم من حله وإياك وما نهاك الله عنه وحرمه فمتاع الدنيا قليل؛ أيها المسلم إن جمعك للمال من حله عبادة إذا كنت تريد به إعفاف نفسك، والقيام بما أوجبه الله عَلَيْكَ من الحقوق، واحذر من ترك العمل، وافعل الأسباب التي بها يحصل الرزق بإذن الله، واعلم أن من ترك العمل وغلب عليه الكسل حتَّى صار كلا على الخلق يعده أهله ثقلاً ويراه صاحبه بغيضاً ولا يلقاه أحد إلا وكره لقياه قَالَ تعالى حاثاً على طلب الرزق {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ} وَقَالَ تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ} والمؤمن المحترف الكسوب الَّذِي يأكل من عمل يده مكرم محبوب محترم عند أهله، والأولاد، وكان نوح وداود يحترفان التجارة ومُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رعى الغنم، وموسى كان أجيراً عند صاحب مدين وكان إدريس خياطاً، وما أبعد هذه الأعمال الشريفة عن الكسل والبطالة وكان السلف رضي الله عنهم عمالاً مكتسبين فكلهم ما بين غني شريف وفقير شريف عفيف، لا تشغلهم الدنيا عن الآخرة ولا يمنهم الدين عن طلب الكسب والقيام بالواجبات وهم مع هذا من أقوى الناس توكلاً على الله ورضىً بما قدر الله وقضاه ولله در القائل:

وَكُنْ بِالَّذِي قَدْ خَطَّ بِاللَّوْحِ رَاضِيًا ... فَلا مَهْرَبٌ مِمَّا قَضَاهُ وَخَطَّهُ وَإِنَّ مَعَ الرِّزْقِ اشْتِرَاطُ الْتِمَاسِهِ ... وَقَدْ يَتَعَدَّى إِنْ تَعَدَّيْتَ شَرْطَهُ فَلَوْ شَاءَ أَلْقَى فِي فَمِ الطَّيْرِ قُوتَهُ ... وَلَكِنَّه أَوْحَى إِلَى الطَّيْرِ لَقْطَهُ موعظة: إخواني تفكروا في مصارع الَّذِينَ سبقوا، وتدبروا مصيرهم أين انطلقوا؟ واعلموا أن القوم انقسموا وافترقوا، قوم منهم سعدوا ومنهم قوم شقوا. إخواني: إلى كم هذه الغفلة وأنتم مطالبون بغير مهلة فبالله عليكم تعاهدوا أيامكم بتحصيل العدد وأصلحوا من أعمالكم ما فسد، وكونوا من آجالكم على رصدٍ فقد آذنتكم الدنيا بالذهاب، وأنتم تلعبون بالآجل وبين أيديكم يوم الحساب. شِعْرًا: وَالْمَرْءُ مِثْلُ هِلالَ عِنْدَ طَلْعَتِهِ ... يَبْدُو ضَئِيلاً لَطِيفًا ثُمَّ يَتَّسِقُ يَزْدَادُ حَتَّى إِذَا مَا تَمَّ أَعْقَبَهُ ... كِرُّ الْجَدِيدَيْنِ نَقْصًا ثُمَّ يَنْمَحِقُ كَانَ الشَّبَابُ رِدَاءً قَدْ بُهْجَتَ بِهِ ... فَقَدْ تَطَايَرَ مِنْهُ لِلْبَلَى خِرَقُ وَبَاتَ مُنْشَمِرًا يَحْدُو الْمَشِيبُ بِهِ ... كَاللَّيْلِ يَنْهَضُ فِي أَعْجَازِهِ الْفَلَقُ عَجِبْتُ وَالدَّهْرُ لا تَفْنَى عَجَائِبُهُ ... لِلرَّاكِنِينَ إِلَى الدُّنْيَا وَقَدْ صَدَقُوا وَطَالَ مَا نُغِّصُوا بِالْفَجْعِ ضَاحِيَةٍ ... وَطَالَ بِالْفَجْعِ وَالتَّنْغِيصِ مَا طُرِقُوا دَارٌ تَغُرُّ بِهَا الآمَالُ مُهْلِكَةٌ ... وَذُو التَّجَارُبِ فِيهَا خَائِفٌ فَرِقُ يَا لِرِّجَّالِ لِمَخْدُوعٍ بِزُخْرُفِهَا ... بَعْدَ الْبَيَانِ وَمَغْرُورٌ بِهَا يَثِقُ أَقُولُ وَالنَّفْسُ تَدْعُونِي لِبَاطِلِهَا ... أَيْنَ الْمُلُوكُ مُلُوكُ النَّاس وَالسَّوْقُ أَيْنَ الَّذِينَ إِلَى لَذَّاتِهَا رَكَنُوا ... قَدْ كَانَ فِيهَا لَهُمْ عَيْشٌ وَمُرْتَفَقُ أَمْسَتْ مَسَاكِنُهُمْ قَفْرًا مُعَطَّلَةً ... كَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا قَبْلَهَا خُلِقُوا

يَا أَهْلَ لَذَّاتِ دَارٍ لا بَقَاءَ لَهَا ... إِنْ اغْتِرَارًا بِظِلِّ زَائِلٍ حُمُقٌ اللهُمَّ اغفر لنا ولا تعذبنا ووفقنا ولا تخذلنا ولا تسلب الإيمان منا لا ملجأ لنا إلا إليك ولا معول لنا إلا عَلَيْكَ يا أرحم الراحمين. اللهُمَّ يا من فتح بابه للطالبين، وأظهر غناه للراغبين نسألك أن تسلك بنا سبيل عبادك الصادقين، وأن تلحقنا بعبادك الصالحين، اللهُمَّ أحْي قُلُوباً أَمَاتَهَا البُعْدُ عَنْ بَابِكَ، وَلا تَعذِّبْهَا بَأَلِيمٍ عِقَابِكَ، يَا كَرِيمُ يَا مَنَّانُ، يَا مَنْ جَادَ عَلَى عِبَادِهِ بالأنْعَامِ وَالأفضَالِ، اللهُمَّ أَيْقِظْنَا مِنْ غَفْلَتِنَا بُلُطْفِكَ وَإِحْسَانِكَ وَتَجَاوَزْ عَنْ جَرَائِمْنَا بِعَفْوِكَ وَغُفْرَانِكَ، وَارْزُقْنَا مَا رَزَقْتَ أَوْلِيَاءِكَ، مِنْ نَعِيم قُرْبِكَ، وَلَذَّةِ مُنَاجَاتِكَ، وَصِدْقِ حُبِكَ، وَاغْفِرْ لَنَا ولِوالديْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ. خاتمة، وصية، نصيحة اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه الله ويرضاه أن مِمَّا يجب الاعتناء به حفظاً وعملاً كلام الله جل وعلا وكلام رسوله ?. وأنه ينبغي لمن وفقه الله تعالى أن يحث أولاده على حفظ القرآن وما تيسر من أحاديث النبي ? المتفق على صحتها عنه كالبخاري ومسلم. ومن الفقه مختصر المقنع ليتيسر له استخراج المسائل ويجعل لأولاده ما يحثهم على ذلك. فمثلاً بجعل لمن يحفظ القرآن على صدره حفظاً صحيحاً عشرة آلاف أو أزيد أو أقل حسب حاله في الغنى. ومن الأحاديث عقود اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الإمامان البخاري ومسلم، يجعل لمن يحفظ ذلك ستة آلاف (6000) .

فإن عجزوا عن حفظها فالعمدة في الحديث يجعل لمن حفظها ثلاثة آلاف (3000) أو الأربعين النووية ويجعل لمن يحفظها ألفاً (1000) . ويجعل لمن يحفظ مختصر المقنع في الفقه ألفين (2000) من الريالات فالغيب سبب لحفظ المسائل وسبب لسرعة استخراج ما أريد من ذلك وما أشكل معناه أو يدخلهم في مدارس تحفيظ القرآن في بيوت الله أو البيوت المعدة لذلك فمدارس تعليم القرآن والسنة هي مدارس التعليم العالي الممتاز الباقي النافع في الدنيا والآخرة أو يدخلهم في حلقات تحفيظ القرآن الكريم الموجودة في المساجد. فمن وفقه الله لذلك وعمل أولاده بذلك كان سبباً لحصول الأجر من الله وسبباً لبرهم به ودعائهم له إذا ذكروا ذلك منه ولعله أن يكون سبباً مباركاً يعمل به أولاده مع أولادهم فيزيد الأجر له ولهم. نسأل الله أن يوفق الجميع لحسن النية. وَلَمْ أَرَى لِلْخَلائِقِ مِنْ مُرَبٍّ ... كَعْلْمِ الشَّرْعِ يُؤخَذُ عَنْ ثِقَاتِ بِبَيْتِ اللهَ مَدْرَسَةِ الأَوَالَي ... لِمَنْ يَهْوَى العُلُومُ الرَّاقِيَاتَ آخر: أَيْقِظْ جُفُونَكَ يَا مِسْكِينُ مِنْ سِنَةٍ ... وَانْظُرْ بِعَقْلِكَ مَا فِي الأَرْضِ مِنْ عِبَرِ بِالأَمْسِ كُنْتُ مَعَ الصِّبْيَانِ في لَعِبٍ ... غَضِّ الشَّيَابِ قَلِيلِ الْهَمِّ وَالْفِكَرِ وَقَدْ كَبِرْتَ وَحَانَ الشَّيْبُ مِنْكَ وَلا ... أَرَاكَ تَنْظُرُ يَا مَغْرُورُ فِي الْكِبَرِ تَبِعْتَ وَيْحَكَ دُنْيَا لا بَقَاءَ لَهَا ... تُمْسِي وَتُصْبِحُ مَسْرُورًا عَلَى النُّكُرِ أَمَا اعْتَبَرْتَ بِمَا شَيَّعْتَ مِنْ سَلَفٍ ... إِلَى الْقُبُورِ مِنَ الأَشْيَاخِ وَالصِّغَرِ وَأَنْتَ فِي كُلِّ يَوْمٍ زَائِدًا أَمَلاً ... وَالدَّهْرُ يَهْدِمُ مِنْكَ الْعُمْرَ فَابْتَدِرِ يَا مَنْ مَضَى عُمْرُهُ الْمَكْنُونُ في سَفَه ... وَفِي الْمَحَالِ وَفِي اللَّذَاتِ وَالْبَطَرِ أَيْنَ الشَّبَابُ الَّذِي قَدْ كُنْتَ تَحْمِدُهُ ... مَضَى سَرِيعًا كَمِثْلِ اللَّمْحِ فِي الْبَصَرِ وَقَدْ أَتَى لَكَ شَيْبٌ لا زَوَالَ لَهُ ... إِلا بِمَوْتِكَ يَا مَغْرُورُ فَانْتَظِرِ

.. إِنَّ الرَّحِيلَ حَقِيقٌ فَاسْتَعِدَّ لَهُ ... وَقَدْ أَتَاكَ نَذِيرُ الشَّيْبِ فَازْدَجِرْ بَادِرْ مَتَابَكَ يَا مِسْكِينُ فِي عَجَلِ ... قَبْلَ الْمَنُونِ وَبَادِرْ فُسْحَةَ الْعُمُرِ حَافِظْ عَلَى الْخَمْسِ في الأَوْقَاتِ إِنَّ لَهَا ... فَضْلاً وَقُلْ يَا إِلَهِي نَجِّ مِنْ سَقَرِ طُوبَى لِعَبْدٍ تَقِيٍّ خَائِفٍ وَجِلٍ ... خَافَ الذُّنُوبَ وَبَاعَ النَّوْمَ بِالسَّهَرِ وَقَامَ بِاللَّيْلِ لِلرَّحْمَنِ مُبْتَهِلاً ... يَتْلُو الْكِتَابَ وَدَمْعُ الْعَيْنِ كَالْمَطَرِ إِنْ كُنْتَ تَبْغِي جِنَانَ الْخُلْدِ تَسْكُنُهَا ... مَعَ الْحِسَانِ ذَوَاتِ الْغُنْجِ وَالْحَورِ تُسْقَى بِهَا سَلْسَبِيلاً طَابَ شَارِبُهَا ... مِنْ كَفٍّ غَانِيَةٍ أَضْوَى مِنَ الْقَمَرِ فِي قُبَّةٍ مِنْ لُجَيْنٍ جَلَّ صَانِعُهَا ... قَدْ خَصَّهَا بِاخْتِلالِ النَّخْلِ وَالنَّهْرِ وَالطَّيْرُ فِيهَا عَلَى الأَغْصَانِ عَاكِفَةٌ ... أَصْوَاتُهَا كَحَنِينِ الْعُودُ وَالْوَتَرِ وَالْحُورُ يَمْشِينَ فِي حُلْي وَفِي حُلَلٍ ... كَمَا أَتَى فِي بَيَانِ الذِّكْرِ وَالسُّورِ وَأعْكِفْ عَلَى سُنَّةِ الْهَادِي وَتَابِعِهِ ... وَاتْبَعْ طَرِيقَتَهُمْ تَقْفُوا عَلَى الأَثَرِ وَاعْلَمْ بِأَنَّكَ عَنْ أَهْلِيكَ مُرْتَحِلٌ ... عَمَّا قَلِيلٍ لِبَيْتِ الدُّودِ وَالْمَدَرِ لا تَأَمَنَّنَ مِن الدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا ... لأَنَّهَا كَسِرَاجٍ لاحَ لِلْبَصَرِ أَيْنَ الأَحِبَّةُ وَالْجِيرَانُ مَا صَنَعُوا ... صَارُوا لَنَا خَبَرًا مِنْ أَعْظَمِ الْخَبَرِ أَيْنَ الْمُلُوكُ الَّذِي عَاشَرْتَهُمْ زَمَنًا ... صَارُوا جَمِيعًا إِلَى الأَجْدَاثِ وَالْحُفَرِ أَيْنَ الْقُصُورُ الَّتِي كَانَتْ مُعَمَّرَةً ... حُصُونُهَا مُلِئَتْ بِالْبُسْطِ وَالسُّرُرِ أَيْنَ الْوُجُوهُ الَّتِي كَانَتْ مُنَعَّمَةً ... أَيْنَ الْخُدُودُ الَّتِي تَسْبِي أولي النَّظَرِ صَارُوا جَمِيعًا إِلَى ضِيقِ الْقُبُورِ وَقَدْ ... صَارَتْ مَحَاسِنُهُمْ مِنْ أَقْبَحِ الصُّوَرِ وَنَحْنُ عَمَّا قَلِيلٍ لاحِقُونَ بِهِمْ ... فَانْظُرْ لِنَفْسِكَ وَاحْذَرْ غَايَةَ الْحَذَرِ آخر: ... يَا مُحِبَّ الدُّنْيَا الْغَرُورِ اغْتِرَارًا ... رَاكِبًا فِي طِلابِهَا الأَخْطَارَا يَبْتَغِي وَصْلَهَا فَتَأْبَى عَلَيْهِ ... وَتَرَى أُنُسْهُ فَتُبْدِي نِفَارَا ... خَابَ مَنْ يَبْتَغِي الْوِصَالَ لَدَيْهَا ... جَارَةٌ تَزَلْ تُسِيءُ الْجِوَارَا

كَمْ مُحِبٍّ أَزَتْهُ أُنْسًا فَلَمَّا ... حَاوَلَ الزَّوْرَ صَيَّرَتْهُ ازْوِرَارَا شِيبَ حُلْوُ اللَّذَاتِ مِنْهَا بِمُرٍّ ... إِنْ حَلَتْ مَرَّةً أَمَرَّتْ مِرَارَا فِي اكْتِسَابِ الْحَلالِ مِنْهَا حِسَابٌ ... وَاكْتِسَابُ الْحَرَامِ يُصْلِي النَّارَا وَلِبَاغِي الأَوْطَارِ مِنْهَا عَنَاءٌ ... سَوْفَ يَقْضِي وَمَا قَضَى الأَوْطَارَا كُلُّ لَذَّاتِهَا مُنَغَّصَةُ الْعَيْشِ ... وَأَرْبَاحُهَا تَعُودُ خَسَارَا وَلَيَالِي الْهُمُوم فِيهَا طِوَالٌ ... وَلَيَالِي السُّرُورِ تَمْضِي قِصَارَا وَكَفَى أَنَّهَا تَظُنُّ وَإِنْ جَادَتْ ... بِتَرْرٍ أَفْتَتْ بِهِ الأَعْمَارَا وَإِذَا مَا سَقَا خُمُورَ الأَمَانِي ... صَبَّرَتْ بَعْدَهَا الْمَنَايَا خِمَارَا كَمْ مَلِيكٍ مُسَلَّطٍ ذَلَّلَتْهُ ... بَعْدَ عِزٍّ فَمَا أَطَاقَ انْتِصَارَا وَنَعِيمٍ قَدْ أَعْقَبَتْهُ بِبُؤْسٍ ... وَمَغَانٍ قَدْ غَادَرَتْهَا قِفَارَا أَيُّهَا الْمُسْتَعِيرُ مِنْهَا مَتَاعًا ... عَنْ قَلِيلٍ تَسْتَرْجِعُ الْمُسْتَعَارَا عَدِّ عَنْ وَصْلِ مَنْ يُعِيرُكَ مَا ... يَفْنَى وَيَبْقَى إِثْمًا وَيَكْسِبُ عَارَا قَدْ أَرَتْكَ الأَمْثَالَ فِي سَالِفِ الدَّ ... هْرِ وَمَا قُدْرَاتُكَ فِيكَ اعْتِبَارَا وَجَدِيرٌ بِالْعُذْرِ مَنْ قَدَّمَ الأَ ... عْذَارَ فِيمَا جَنَاهُ وَالإِنْذَارَا فَتَعَرَّضْ مِنْهَا بِخُلَّةِ صِدْقٍ ... وَالْتَمِسْ غَيْرَ هَذِهِ الدَّارِ دَارَا وَالْبِدَارَ الْبِدَارَ بِالْعَمَلِ الصَّا ... لِحِ مَا دُمْتَ تَسْتَطِيعُ الْبِدَارَا اللهُمَّ نور قلوبنا بنور الإيمان وثبتها على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة واجعلنا هداة مهتدين وتوفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين يا أكرم الأكرمين وَيَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينْ.

§1/1