من قضايا التربية الدينية في المجتمع الإسلامي

كمال الدين عبد الغني المرسي

مقدمة

مقدمة ... تطبيق المنهج الإسلامي في التربية؟ والسؤال الخامس: ما الجهات المسئولة عن تطبيق هذا المنهج؟ ومع جملة عرض القضايا والمناقشات في سائر الفصول, لم يغفل البحث إلقاء الضوء على واقع التربية الإسلامي في حياتنا الحاضرة, والإشارة إلى المعوقات التي تعترض سبيلها، والشبهات التي يجب دحضها, وكشف اللثام عنها. وفي نهاية البحث تأتي الخاتمة التي تضم النتائج التي توصَّلَ إليها الباحث من خلال عرضه لقضايا التربية الدينية الإسلامية, وأهمها أن التربية الدينية طريق السيادة في الدنيا, وسبيل السعادة في الآخرة.

الفصل الأول: مفهوم التربية الدينية في الإسلام

الفصل الأول: مفهوم التربية الدينية في الإسلام معنى التربية: التربية لفظ مشتق من الفعل رَببَ. وربَّ الولدَ: ربَّاه وليهُ وتعهده بما يغذيه وينميه، فهو رابٍّ، والولدُ مربوب، وربيب. وتَربيه ورباه تربيةً بمعنى أحسن القيام عليه وَوَليهُ حتى يفارق الطفولية، كان ابنه أو لم يكن1, والربُّ: الإله المعبود, والمالك والسيد, والقيِّمُ والمدبِّر2. والربَّاني: الكامل في العلم والعبادة, وقيل: هو من الربِّ بمعنى التربية، وكانوا يربون المتعلمين بصغار العلوم قبل كبارها3. قال الإمام فخر الدين الرازي4: "والمربي على قسمين؛ إحداهما: أن يربي شيئًَا ليربح على المربي, والثاني: أن يربيه ليربح المربَّى. وتربية كل الخلق على القِسم الأول؛ لأنهم يربون غيرهم ليربحوا

_ 1 انظر لسان العرب لابن منظور, ص1547, مادة: ربب. 2 انظر، معجم الوجيز ص250, مادة: ربب، طبعه دار المعارف، مادة: ربب. 3 انظر ابن منظور، لسان العرب, مادة: ربب, ص1548, طبعة دار المعارف. 4 انظر، فخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب، المجلد الأول، العدد3, ص282، الناشر، دار الغد العربي، سنة 1991القاهرة.

عليه إما ثوابًا أوثناءً، والقسم الثاني: هو الحق -سبحانه وتعالى, كما قال: "خلقتكم لتربحوا عليّ لا أربح عليكم" فهو تعالى يربي ويحسن، وهو خلاف سائر المربين, وبخلاف سائر المحسنين. فالتربية هي عملية التنشئة والرعاية والتوجيه من جانب الكبير تجاه الصغير, والعالم حيال المتعلم. ولقد تناول الإسلامي كل شئون الفرد بالتوجيه والإرشاد والتهذيب والتعليم, فلم يدع في حياته شيئًا إلّا وقد أفاده فيه بما يصلحه، كذلك بالنسبة لحياة المجتمع لم يدع فيها أمرًا إلّا وجعل له نظامًا وهديًا؛ بحيث يضمن للناس السعادة دائمًا, والأمان في حاضر أيامهم ومستقبلها. ولما كان الدين من عند الله من لدن آدم حتى رسولنا الكريم -صلى الله عليه سلم, فقد وضع للناس الموازين القسط التي تلائم عصورهم وطبائعهم، ولما كان الدين الإسلاميّ هو الدين الخاتم؛ لأنه لا نبي بعد محمد -صلى الله عليه سلم, فقد جعله الله مهيمنًا على كل الأديان قبله, وجعل القرآن مهيمنًا على كل الكتب قبله, ووصفه بأنه دائمًا يهدي إلى الحق وإلى سبيل الرشاد؛ فقالك -عزَّ وعَلَا: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} 1. وإن كتابًا هذا شأنه, يجب أن يُقْبِل كل إنسان على تدبر ما فيه وفهم مراميه؛ لأنه دائمًا يهدي للتي هي أقوم, فهو يضم كل أصول التربية، وكانت حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد البعثة شرحًا لهذا القرآن, وتفصيلًا له, وتبيينًا لأحكامه، ولذلك كان على اكلبشرية أن توجِّه الشكر كل الشكر إلى العناية الإلهية التي لم تخلقهم عبثًا، ولهذا نجد أن المولى -عزَّ وعلَا في سورة الفاتحة, بدأ بالحمد لذاته, ثم بلفظ الربوبية بعده, فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} , وكما نعلم أن من معاني الربّ: السيد، المالك، الصاحب، المربي".

_ 1 سورة الإسراء الآية 9.

تربية الله لعباده

تربية الله لعباده 1: وتربية الله تعالى مخالفة لتربية غيره, وبيان ذلك من وجوه: الأول: أنه يربي عبيده لا لغرض نفسه بل لغرضهم, وغيره يربون لغرض غيرهم. الثاني: أن غيره إذا ربَّى فبقدر تلك التربية يظهرالنقصان في خزائنه وفي ماله, وهو تعالى متعالٍ عن النقصان والضرر، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} 2. الثالث: أن غيره من المحسنين إذا ألح الفقير عليهم أبغضه وحرمه ومنعه، والحق تعالى بخلاف ذلك، كما قال -عليه الصلاة والسلام: "إن الله تعالى يحب الملحين في الدعاء". الرابع: أن غيره من المحسنين مالم يطلب منه الإحسان لم يعط، أما الحق تعالى فإنه يعطي قبل السؤال، ترى أنه رباك حال ما كنت جنينًا في رحم الأم، ورحال ما كنت جاهلًا غير عاقل، لا تحس أن تسأل، ووقاك وأحسن إليك مع أنك ما سألته, وما كان لك عقل ولا هداية.

_ 1 انظر فخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب, العدد3, ص282. 2 سورة الحجر الآية:21.

الخامس: أن غيره من المحسنين ينقطع إحسانه إما بسبب الفقر أو الغيبة أو الموت، والحق تعالى لا ينقطع إحسانه البتة. السادس: أن غيره من المحسنين يختص إحسانه بقوم دون قوم, ولا يمكنه التعميم, أما الحق تعالى فقد وصل تربيته وإحسانه إلى الكلِّ, كما قال: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} 1 فثبت أنه تعالى رب العالمين, ومحسن إلى الخلائق أجمعين، فلهذا قال تعالى في حق نفسه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 2. ثم إن الذي يحمد ويمدح ويعظم في الدنيا إنما يكون كذلك لأحد وجوه أربعة: إما لكونه كاملًا "في ذاته وفي صفاته, منزهًا عن جميع النقائص والآفات, وإن لم يكن منه إحسان إليك، وإما لكونه محسنًا إليك ومنعمًا عليك، وإما لأنك ترجو وصول إحسانه إليك في المستقبل من الزمان، وإما لأجل أنك تكون خائفًا من قهره وقدرته وكمال سطوته، فهذه الحالات هي الجهات الموجبة للتعظيم، فكأنه -سبحانه وتعالى- يقول: إن كنتم ممن يعظِّمون الكمال الذاتي فاحمدني فإني إله العالمين، وهو المراد من قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} , وإن كنتم ممن تعظِّمون الإحسان فأنا رب العالمين، وإن كنتم تعظِّمون للطمع في المستقبل فأنا الرحمن الرحيم، وإن كنتم تعظمون الخوف فأنا مالك يوم الدين"3.

_ 1 سورة الأعراف: الآية 156. 2 مفاتيح الغيب, ج3, ص283. 3 المصدر السابق نفسه.

ووجوه تربية الله للعبد كثيرة غير متناهية، ونحن نذكر منها أمثلة: المثال الأول: لما وقعت قطرة النطفة من صلب الأب إلى رحم الأم, فانظر كيف أنها صارت علقة أولًا، ثم مضغة ثانيًا، ثم تولَّدت منها أعضاء مختلفة؛ مثل: العظام والغضاريف والرباطات الأوتار والأوردة والشرايين، ثم اتصل البعض بالبعض، ثم حصل في كل واحد منها نوعٌ خاصٌّ من أنواع القوى، فحصلت القوة الباصرة في العين، والسامعة في الأذن، والناطقة في اللسان، فسبحان من أسمع بعظم، وبصَّرَ بشحم، وأنطق بلحم، وكل ذلك يدل على تربية الله تعالى للعبد"1. المثال الثاني: أن الحبة الواحدة إذا وقعت في الأرض فإذا وصلت نداوة الأرض إليها انتفخت لا تشق من شيء من الجوانب إلّا من أعلاها وأسفلها، مع أن الانتفاخ حاصل من جميع الجوانب؛ أما الشق الأعلى فيخرج منه الجزء الصاعد من الشجرة؛ وأما الشق الأسفل فيخرج منه الجزء الغائض في الأرض، وهو عروق الشجرة، فأما الجزء الصاعد فبعد صعوده يحصل له ساق، ثم ينفصل من ذلك الساق أغصان كثيرة, ثم يظهر على تلك الأغصان الأنوار أولًا، ثم الثمار ثانيًا، ويحصل لتلك الثمار أجزاء مختلفة بالكثافة واللطافة وهي القشور اللبوب ثم الأدهان، وأما الجزء الغائص من الشجرة فإن تلك العروق تنتهي إلى أطرافها؛ وتلك الأطراف تكون في اللطافة كأنها مياه منعقدة، مع غاية لطافتها فإنها تغوص في الأرض الصلبة الخشنة2.

_ 1 المصدر السابق, ص284. 2 المصدر السابق نفسه.

"وأودع الله فيها قوى جاذبة تجذب الأجزاء اللطيفة من الطين إلى نفسها1, والحكمة في كل هذه التدبيرات تحصيل ما يحتاج العبيد إليه من الغذاء والإدام والفواكه والأشربة والأدوية، كما قال تعالى: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا} [عبس: 25، 26] 2. المثال الثالث: أنه وضع الأفلاك والكواكب بحيث صارت أسبابًا لحصول مصالح العباد، فخلق الليل ليكون سببًا للراحة والسكون، وخلق النهار ليكون سببًا للمعاش والحركة {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} [يونس: 5] {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 97] واقرأ قوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا، وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} إلى آخر آيات [النبأ: 6، 7] , واعلم أنك إذا تأملت في عجائب أحوال المعادن والنبات والحيوان، وآثار حكمة الرحمن في خلق الإنسان, قضى صريح عقلك بأن أسباب تربية الله كثيرة، ودلائل رحمته لائحة ظاهرة، وعند ذلك يظهر لك قطرة من بحار أسرار قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 3. ولقد أضاف الله سبحانه الحمد إلى نفسه, فقال تعالى: {الحمد لله} , ثم أضاف نفسه إلى العالمين, والتقدير: "إني أحب الحمد فنسبته إلى

_ 1 وهو ما يسمى بالخاصة الشعرية. 2 فخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب، العدد3 ص284. 3 فخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب، التفسير الكبير، ج1/ 3/ 284.

نفسي بكونه ملكًا, ثم لما ذكرت نفسي عرفت نفسي بكوني ربًّا للعالمين، ومن عرف ذاتًا بصفة فإنه يحاول ذكر أحسن الصفات وأكملها، وذلك يدل على أنه كونه ربًّا للعالمين أكمل الصفات، والأمر كذلك؛ لأن أكمل المراتب أن يكون تامًّا، وفوق التمام، فقولنا الله, يدل على كونه واجب الوجود لذاته في ذاته وبذاته, وهو التمام، وقوله: رب العالمين, معناه أن وجود كل ما سواه فائض عن تربيته وإحسانه وجوده, وهو المراد من قولنا: إنه فوق التمام. والله سبحانه يملك عبادًا غيرك, كما قال: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31] , وأنت ليس لك ربٌّ سواه، ثم إنه يربيك كأنه ليس له عبد سواك, وأنت تخدمه كأن لك ربًّا غيره، فما أحسن هذه التربية، أليس أنه يحفظ في النهار عن الآفات من غير عوض، وبالليل عن المخافات من غير عوض؟ واعلم أن الحراس يحرسون الملك كل ليلة، فهل يحرسونه عن لدغ الحشرات؟ وهل يحرسونه عن أن تنزل به البليات؟ أما الحق تعالى فإنه يحرسه من الآفات، ويصونه من المخافات؛ بعد أن كان قد زج أول الليل في أنواع المحظورات وأقسام المحرمات والمنكرات، فما أكبر هذه التربية وما أحسنها، أليس من التربية أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "الآدمي بنيان الرب، ملعون من هدم بنيان الرب", فلهذا المعنى قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} [الأنبياء: 42] , ما ذاك إلّا الملك الجبار، والواحد القهار، ومقلب القلوب والأبصار, والمطلع على الضمائر والأسرار"1.

_ 1 المرجع السابق، ج1 العدد 3/ 285.

ولقد شرَّف الله -سبحانه وتعالى- الإنسان وأكرمه بأن خلق له العقل كي يميز به بين الأشياء, ويدرك به النافع من الضار؛ فهو الوسيلة التي يستعان به على قبول التربية والانتفاع بها, وهو وسيلة السعادة في الدنيا والآخرة. من تربية الله للناس أنه خلقهم على الفطرة: وروي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أول ما خلق الله العقل, فقال له أقبل فأقبل, ثم قال له أدبر فأدبر, ثم قال الله -عز وجل: "وعزتي وجلالي, ما خلقت خلقًا أكرم عليّ منك، بك آخذ, وبك أعطي وبك أثبت, وبك أعاقب"1. والدين يحتاج إلى عقل وبصيرة؛ إذ لا يمكن تقبل المسائل أو رفضها إلّا عن طريقه, ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس إن لكلِّ شيء مطية, ومطية المرء العقل, وأحسنكم دلالة ومعرفة بالحجة أفضلكم عقلًا"2. كما جعل القلب مستودع العلوم كلها؛ إذ هو مصدر الإلهام ومنبع الكشف، وفي الحديث أنه -صلى عليه وسلم- قال: "استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك وأفتوك"3. والدين الذي هو التربية يحتاج إلى كلا العقل والقلب، وقد فطرهما الله كليهما على الحق. قال -سبحانه وتعالى:

_ 1 الغزالي, إحياء علوم الدين, ج1/ 89, طبعة مصطفى البابي الحلبي, سنة 1368هـ- 1939م. 2 المصدر السابق والصفحة. 3 المصدر السابق: ج1/ 77.

{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} سورة الروم 30-32. قال ابن كثير في التفسير: "فسدد وجهك واستمرّ على الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية ملة إبراهيم, الذي هداك الله لها, وكملها لك غاية الكمال, وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها, فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده, وأنه لا إله غيره كما تَقَدَّم عند قوله تعالى: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} 1. وفي الحديث القدسي: "َإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ "، حيث طرأ على بعضهم الأديان الفاسدة كاليهودية والنصرانية والمجوسية، وكقوله تعالى: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} 2, قال بعضهم: معناه لا تبدلوا خلق الله فتغيروا الناس عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها فيكون خبرًا بمعنى الطلب، وقال آخرون: هو خبر, ومعناه أنه تعالى ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة على الجبلة المستقيمة, لا يولد أحد إلّا على ذلك, ولا تفاوت بين الناس في ذلك, ولهذا قال ابن عباس وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك وابن زيد في قوله: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} أي: لدين الله، وقال البخاري في قوله: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} لدين الله, خلق الأولين, دين الأولين، الدين والفطرة الإسلام"3.

_ 1 الأعراف: 172. 2- الروم: 30. 3 ابن كثير، تفسير القرآن العظيم, ج3/ 432, من تفسير سورة الروم بتصرف. نشر مكتبة الدعوة الإسلامية. شباب الأزهر 1400هـ / 1980م.

وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه" , ثم يقول: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} " رواه مسلم1. قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل, حدثنا يونس, عن الحسن, عن الأسود بن سريع قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وغزوت معه, فأصبت ظفرًا, فقاتل الناس يومئذ حتى قتلوا الولدان, فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فقال رجل: يا رسول الله, أما هم أبناء المشركين؟ فقال: "لا, إنما خياركم أبناء المشركين -ثم قال: لا تقتلوا ذرية, لا تقتلوا ذرية, وقال: "كل نسمة تولد على الفطرة, حتى يعرب عنها لسانها, فأبواها يهودانه أو ينصرانها" , رواه النسائي في كتاب السير. وعن جابر, عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فإذا عبر عنه لسانه إما شاكرًا وإما كفورًا". وعن ابن عباس -رضي الله عنهما, أن رسول الله -صلى الله عليه سلم- سئل عن أولاد المشركين فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين إذ خلقهم"، أخرجاه في الصحيحين عن ابن عباس مرفوعًا بذلك، وقد قال الإمام أحمد أيضًا: حدثنا عفّان, حدثنا حماد -يعني: ابن سلمة, أنبأنا عمار بن أبي عمار, عن ابن عباس قال: أتى عليَّ زمان وأنا أقول: أولاد المسلمين مع المسلمين, وأولاد المشركين مع المشركين, حتى حدثنى فلان عن فلان أن رسول الله

_ 1 مسلم بن الحجاج القشيري، صحيح مسلم، كتاب القدر, ج2, ص458, طبعة عيسى الحلبي, دار إحياء الكتب العربية.

الله -صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ عن أولاد المشركين فقال: "ألله أعلم بما كانوا عاملين"، قال: فلقيت الرجل فأخبرني, فأمسكت عن قولي. وعن قتادة, عن مطرف, عن عياض بن حمار, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطب ذات يوم فقال في خطبته: "إن ربي عز وجل أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا: كل ما نحلته عبادي حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم, وحرّمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي مالم أنزل به سلطانا" 1. ويقول ابن كثير في أثناء تفسير سورة الروم، وقوله تعالى: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} , أي: التمسك بالشريعة والفطرة السليمة هو الدين القيم المستقيم, {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} 2, وقوله تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْه} , قال ابن زيد وابن جريح, أي: راجعين إليه {وَاتَّقُوهُ} , أي: خافوه وراقبوه, {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} , وهي الطاعة العظيمة, {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3 أي: بل كونوا من الموحدين المخلصين له العبادة لا يريدن بها سواه، وعن يزيد بن أبي مريم قال: مرَّ عمر -رضي الله عنه- بمعاذ بن جبل فقالك عمر: ما قوام هذه الأمة؟ قال معاذ: ثلاث؛ وهن المنجيات: الإخلاص؛ وهي الفطرة, فطرة الله التي فطر الناس عليها، والصلاة؛ وهي الملة والطاعة, وهي العصمة, فقال عمر:

_ 1 راجع، ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، في تفسير سورة الروم، ج3, ص432. 2 سورة الروم:30. 3 سورة الروم الآية:31.

صدقت، وقوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} 1 أي: لا تكونوا من المشركين الذين قد فرقوا دينهم, أي: بدَّلُوه وغيَّروه, وآمنوا ببعضٍ وكفروا ببعض، وقرأ بعضهم: فارقوا دينهم, أي: تركوه وراء ظهورهم, وهؤلاء كاليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان وسائر أهل الأديان الباطلة مما عدا أهل الإسلام, كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} 2 الآية. فأهل الأديان هنا اختلفوا فيما بينهم على آراء ومثل باطلة. وكلة فرقة منهم تزعم أنهم على شيء, وهذه الأمة أيضًا اختلفوا فيما بينهم على نِحَلٍ كلها ضلالة إلّا واحدةً؛ هم أهل السنة والجماعة المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم, وبما كان عليه الصدر الأول من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين من قديم الدهر وحديثه, كما رواه الحاكم في مستدركه أنه سُئِلَ -صلى الله عليه وسلم- عن الفرقة الناجية منهم فقال: "من كان على ما أنا عليه اليوم وأصحابي" 3.

_ 1 سورة الروم الآية 32. 2 الأنعام 159. 3 ابن كثير، تفسير القرآن العظيم ج3/ 433.

علم التربية والتعليم علم بدأه رسول الله صلى الله عليه وسلم

علم التربية والتعليم علم بدأه رسول الله صلى الله عليه وسلم ... علم التربية والتعليم علمٌ بدأه رسول الله -صلى الله عليه سلم: التربية لفظ يقترن بالتعليم؛ لأنه مشتمل عليه؛ فالتربية والتعليم معنيان متلازمان لا يكادان ينفصلان، كما أنهما ينطبقان على عالم الإنسان وعالم الحيوان، فالطيور تربي صغارها, وتكلأ أولادها منذ ولادتهم حتى إذا قويت أعضاؤهم علَّمَتها الطيران, وكيف تقتات لنفسها, فاستغنت بعد ذلك عن الأبوين، وكذلك الوحوش تكلأ أولادها منذ ولادتها, وتعتني بها, وتجلب لها الطعام, حتى إذا قويت أعضاؤها خرجت بها إلى رحابة الحياة تعلمها كيف تقتات وتحصل على فرائسها, فتستغني بذلك عن رعاية الأبوين. أما التربية والتعليم في عالم الإنسان فشيء عظيم، له قواعد معينة, وأصول مرعية، تنبثق من طبيعة المجتمع وعقيدته ووثقافته. والمجتمع الإسلامي يُعَدُّ أرقى المجتمعات الإنسانية في مجال التربية والتعليم، وللمسلمين -كما نعلم- فضل كبير في نشر العلوم إلى مختلف بقاع العالم أيام الفتوحات الإسلامية, وكان لهم قصب السبق في طرق التربية والتعليم، وفي المنهج العلمي في التفكير, وذلك في الاقتصاد والاجتماع والفلك والطبيعة والكيماء والرياضة والطب والتشريح, حتى في التفكير والطيران، ومؤلفاتهم تشهد بذلك. والتربية والتعليم كعلمٍ نشأ مع بزوغ فجر الإسلام, وصارت له مدرسة في مدينة الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم، هذه المدرسة التي أنشأها الرسول الكريم للتربية والتعليم, كان كتابها القرآن، وهو الوحي المتلو، وبيانها ما جاء به عن النبي من قولٍ أو فعلٍ أو تقرير، فكل حركاته -صلى الله عليه وسلم وسكناته, إنما هي بيانٌ عمليٌّ لهذا الكتاب المقرر على المسلمين, وقد شرحه لهم عمليًّا رسول الله -صلى الله عليه وسلم. ونستطيع أن نقول: إن التربية والتعليم علمٌ بدأه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المدينة, مصداقًا لقوله -عزَّ وعَلَا: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ

وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} سورة الجمعة آية 2. فكان -صلى الله عليه وسلم- يربيهم على القرآن, يشرح لهم معنى الآية, ويجيبهم عن كل ما يصعب عليهم فهمه. سأله بعض صحابته قال: يا رسول الله, أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: "كان في عماءٍ ما تحته هواء, وما فوقه هواء, وخلق عرشه على الماء" 1. قال يزيد بن هارون: العماء, أي: ليس معه شيء. وكان اليهود يسألونه عن أشياء في كتبهم وهم يعلمونها, ولكنهم كانوا بها يختبرون النبي -صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: أقبلت يهود إلى النبي -صلى الله عليه وسلم: فقالوا: يا أبا القاسم, أخبرنا عن الرعد ما هو؟ قال: "ملك من الملائكة, موكَّلٌ بالسحاب, معه مخاريق -آلة تضرب بها الملائكة السحاب- من نار, يسوق بها السحاب حيث شاء الله" فقالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟! قال: "زجره السحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر". قالو: صدقت, فأخبرنا عما حرَّم إسرائيل على نفسه؟ قال: "اشتكى عرق النسا, فلم يجد شيئًا يلائمه إلّا لحوم الإبل وألبانها, فلذلك حرّمها".

_ 1 الترمذي، الجامع الصحيح, ج5/ 288, طبعة الحلبي، الطبعة الثانية 1395هـ/ 1975م, بتحقيق إبراهيم عطوة عوض.

قالوا: صدقت1 ... وكان القرآن ينزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- يعالج أمور المسلمين ويوجههم ويحملهم إلى الهداية والرشاد. ورى ابن عباس أنه كانت امرأ تصلي خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حسناء من أحسن الناس، فكان بعض القوم يتقدَّم حتى يكون في الصف الأول لئلَّا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر, فإذا ركع نظر من تحت إبطيه، فأنزل الله {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ} 2 وروي عن زيد بن أرقم -رضي الله عنه- أنه قال: "كنت مع عمي فسمعت عبد الله بن أُبَيِّ سلول يقول لأصحابه: "لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا" و"لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل" فذكرت ذلك لعمي، فذكر ذلك عمي للنبي -صلى الله عليه وسلم، فدعاني النبي -صلى الله عليه وسلم- فحدثته، فأرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عبد الله بن أبي وأصحابه، فحلفوا ما قالوا، فكذبني -صلى الله عليه وسلم- وصدقه، فأصابني شيء لم يصبني قط مثله، فجلست في البيت، فقال عمي: ما أردت إلّا أن كذبك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومقتك، فأنزل الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُون} فبعث إليَّ رسول الله ثم قال: "إنا الله صدقك"3.

_ 1 الترمذي, الجامع الصحيح, ج5/ 296, والآية من سورة الحجر برقم 24. 2 الترمذي، الجامع الصحيح ج5/ 294 طبعة الحلبي، والآية من سورة الحجر برقم 24. 3 رواه الترمذي في الجامع الصحيح ج5 ص415، كتاب تفسير القرآن.

علم التربية والتعليم في المدرسة المحمدية

علم التربية والتعليم في المدرسة المحمدية 1: هكذا كانت التربية والتعليم علمًا نما مع تربية الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه, ونضج معه وبه، واهتمَّ به القرآن الكريم اهتمامًا بالغًا في قصصه، ثم ترعرع وأخذ قالب تنظيم وترتيب أكثر في عهد التابعين ومن بعدهم، ثم ألّّف فيه العلماء بشكلٍ مستفيضٍ في نهاية القرن الثاني الهجري, فقد أشار القرآن الكريم إلى طريق الامتحان والاختبار في قصة آدم -عليه السلام؛ حيث أجرى امتحانًا بينه وبين الملائكة, فقال تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} 2. وقد أشار هذه الآيات أيضًا إلى أن من سُئِلَ ولم يعلم جوابه بقوله: لا أدري, والله أعلم، قال القرطبي: من سُئِلَ عن شيء لم يعمله, فالواجب عليه أن يقول: الله أعلم، لا أدري, اقتداءً بالملائكة والأنبياء، والفضلاء من العلماء، قال مالك بن أنس: سمعت ابن هرمز يقول: ينبغي للعالم أن يورث جلساءه من بعده "لا أدري", حتى يكون أصلًا في أيديهم، فإذا سُئِلَ أحدهم عَمَّا لا يدري قال: لا أدري، وذكر الهيثم بن جميل قال: شهدت مالك بن أنس سُئِلَ عن ثمانِ وأربعين

_ 1 من هنا إلى آخر ص28 من هذا البحث، منقول من كلام الأستاذ علي محيي الدين على القره داغي, من مقالةٍ له في التعريف برسالة "أيها الولد" لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي, من ص27-31, نشر دار الاعتصام سنة 1983. 2 سورة البقرة الآية 31، 32، وراجع تفسير القرطبي "1/ 279", طبعة دار الكتاب المصرية, عام 1986م.

مسألة, فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري1. كذلك أشار القرآن الكريم إلى أدب المتعلِّم مع المعلِّم؛ من التسليم والصمت والصبر, في قصة موسى وخضر -عليهما السلام, فقد رحل موسى -وهو نبي من أنبياء الله -عليهم السلام- في طلب العلم إلى شاطئ البحر تاركًا قومه، في سبيل التعلُّم من عبدٍ من عباد الله تعالى, ثم لما رآه استأذنه في أن يصاحبه للعلم، غير أن خضر -عليه السلام- اشترط عليه شروطًا وقبلها موسى -عليه السلام؛ حيث يقول القرآن الكريم حاكيًا كلام خضر لموسى ... {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} , ثم كان مشفقًا عليه فبيَّنَ أن عدم استطاعته يعود إلى عدم إحاطته بعلم هذه الأشياء فقال: {كَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} , فقال موسى: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} , فقد استجاب موسى لكلامه وزاد أدبًا آخر, وهو أنه لا يعصيه في أمره, بل يستجيب إليه بكل ما أوتي من وسائل، ثم عاد خضر ليبين له الطريق الأسلم والأنجح في التعليم وهو الاقتناع الكامل بمنهج المعلِّم وسلامته, والتسليم الكامل إليه, والصمت الحقيقي حتى ينتهي الأستاذ من أعماله, ثم يقوم بشرحها له, فقال خضر: {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} , ثم مضيا على ساحل البحر بعد أن اتفقا على هذه الآداب, حتى إذا ركبا سفينةً فقام خضر بخرق السفينة وتعييبها, وهنا عارضه موسى -عليه السلام- فقال: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} ، أي: منكرًا, فقد كان مع سيدنا

_ 1 تفسير القرطبي ط: دار الكتب المصرية سنة 1986م "1/ 285-286".

موسى كلَّ الحق في معارضته, مع أنه التزم بأن لا يعترض عليه؛ لأن وظيفته -وهو نبي- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية خالق، وأن كل شرط أحلَّ حرامًا, أو حَرَّمَ حلالًا فهو باطل، وسيدنا موسى لم يعلم بعد بالسر الذي وراء عملية الخرق, ولَمَّا عَلِمَ بحقيقة الأمر اقتنع, وهكذا إلى آخر القصة في سورة الكهف "الآيات 60-82". وكذلك لو فتشنا عن آداب المتعلم والعالم في القرآن الكريم، لوجدناه مليئًا بها من خلال قصص الأنبياء -عليهم السلام- مع أقوامهم. وأما مدرسة سيدنا ورسولنا محمد -صلى الله عليه سلم- فهي أعجوبة الزمن ومعجزة العالم في التربية والتزكية والتعليم والسمو, حتى شهد الله تعالى بنجاح مدرسته فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 1. وقد بيَّنَ القرآن الكريم أسباب نجاحه وهي الرحمة والرأفة والعزم والتشاور واللين وبشاشة الوجه, فقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} 2. فقد وضع الرسول -صلى الله عليه وسلم- الأسس العامة للتعليم, وهو استعمال

_ 1 سورة آل عمران, الآية 110. 2 سورة آل عمران, الآية 159.

الرحمة والرفق والتيسير والتبشير, فقد قال لأبي موسى ومعاذٍ لما بعثهما إلى اليمن: "يسَّرَا ولا تعسِّرَا، وعلِّمَا ولا تنفِّرَا" 1, وقال -صلى الله عليه وسلم: "علموا ولا تعنفوا, فإن المعلِّمَ خيرٌ من المعنِّفِ"2. ويكفي أن نلفت نظر القارئ الكريم إلى كتب الصحاح والسنن, حيث تجدها مليئة بطرق التربية والتزكية، فقد خصص جميعهم كتبًا أو أبوابًا خاصّةً للعلم وفضائله، وفضل تعلمه وتعليمه, وأدب ذلك3. وبالإضافة إلى ذلك, فإن بعض الأحاديث والآثار تشير إلى أنه كان في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين, كتاتيب منظمة يتعلم فيها أبناء المسلمين الفقراء والأغنياء على السواء، وأن هناك من اتخذ التعليم مهنةً وصناعةً لها أصولها ومناهجها وآدابها, فكان يقوم بها رجال أكفاء متخصصون في طرائق التعليم, وفي تهذيب الأخلاق, والعناية بتنشئة أطفال المسلمين4. وأكثر من ذلك, فقد أثبت لنا الإمام محمد بن سحنون روايات عن

_ 1 رواه البخاري في صحيحه, كتاب الأدب - مع فتح الباري "10/ 524". 2 رواه الطيالسي في مسنده. انظر: المقاصد الحسنة, ص"289". 3- راجع: صحيح البخاري, كتاب العلم مع فتح الباري "1/ 140-232", وصحيح مسلم, كتاب العلم "4/ 2053-2060"، وسنن أبي داود -مع العون- كتاب العلم "10/ 72-103", والترمذي -مع التحفة- كتاب العلم "7/ 404- 459", وغيرها. 4 الدكتور محمود عبد المولى, في القسم الدراسي لكتاب آداب المعلمين, لمحمد بن سحنون ص "62".

أنس تثبت أزهار مدارس التعليم "الكتاتيب" في عهد الخلفاء الراشدين منها, أنه قيل لأنس بن مالك: كيف كان المؤدبون على عهد الأئمة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم, قال أنس: كان المؤدِّبُ له إجالة -إي إناء- وكل صبيٍّ يأتي كلَّ يومٍ بنوبته ماء طاهرًا فيصبونه فيها, فيمحون به ألواحهم, قال أنس: "ثم يحفرون حفرة في الأرض, فيصبون ذلك الماء فينشف"1. فهذه النصوص وغيرها تدل دلالةً واضحةً على أنه بدأت الكتاتيب المنظمة "المدارس" لتحفيظ القرآن وتعليم العلوم في وقتٍ مبكرٍ جدًّا, فقد كان في المدينة دار تُسَمَّى "دار القرآن", وإن بعض القراء كانوا يسكنونها ليحفظوا آي كتاب الله تعالى ويجوّدوا قراءته، ويقصدهم الناس إليها فيفيدون مما عندهم من علم الكتاب, وما حفظوا من حروفه وتلاوته2. وقال المستشرق "ديبس" في دائرة المعارف الإسلامية: "ويظهر أنه قد وُجِدَتْ منذ فجر الإسلام أمكنة كانوا يجتمعون فيها لاستظهار القرآن وتدراسه, ولا شكَّ في أن هذه المواضع كانت كالمدارس الأولية, يتعلمون فيها مبادئ القراءة وأصول الكتابة العربية، كما يحدثنا الواحدي, ويذكر أن عبد الله بن أم مكتوم كان يسكن دار القراءة بالمدينة"3.

_ 1 آدب المعلمين لمحمد بن سحنون, ص74. 2 المصدر السابق, والتربية والتعليم في الإسلام, للدكتور محمد أسعد طلس, ط: دار العلم للملايين- بيروت سنة 1957م. 3 دائرة المعارف الإسلامية بالفرنسية "2/ 401", نقلًا عن القسم الدارسي للدكتور محمود عبد المولى, ص:62", في مقدمة كتاب آداب المعلمين.

ولما بدأت الفتوحات الإسلامية وانتشرت رقعة الإسلام, جَدَّ الصحابة والتابعون في ترسيخ الإسلام عقيدةً وشريعةً في نفوس الناس, فبرزت الكتاتيب بصورةٍ واضحة, وتعددت مدارس التعليم في البصرة، والكوفة، والفسطاط, والقيروان, حتى انتهت إلى القمة في القرنين الثالث والرابع الهجريين, فقد رُوِيَ عن غياث بن أبي غياث أنه لما كان طفلًا كان في الكُتَّابِ, فكان الصحابي سفيان بن رحب يزور كتّابهم, ويلاطف الأطفال, ويدعو لهم بالفتوح والبركة1. وقد ظهرت كتب خاصة بآداب المعلِّمِ والمتعلِّم, وأول ما وصلنا من هذه الكتب: كتاب آداب المعلمين لمحمد بن سحنون "ت256"2, الذي يعتبر رائدًا في هذا الميدان؛ حيث تناول فيه أبوابًا كثيرة, وأهمها هو ما يتعلق بتعليم القرآن العزيز, وما جاء في العدل بين الصبيان, وكيفية محو الصبيان خطوط القرآن من ألواحهم, وما جاء بالأدب بالكلام أو بالضرب, وما يجب على المعلِّم من لزوم الصبيان، وما جاء في إجازة

_ 1 مقدمة كتاب آداب المعلمين ص "63". 2 هو محمد بن سحنون: عبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي, ولقب أبوه بالسنحون لحدة ذكائه، فقد كان إمامًا ثقة عالمًا بالمذهب المالكيّ وبالآثار، جمع فنون العلم, وألَّفَ في جميع العلوم وفي المغازي والسير, وُلِدَ بالقيروان سنة "202هـ" وتأدَّب بأبيه", وتفقَّه عليه, ثم رحل لأجل العلم حتى جمع فأوعى, ثم ألَّفَ مؤلفات كثيرة في كثير من العلوم, وتوفي سنة "256هـ" ودفن بالقيروان. انظر ترجمته في: الديباج المذهب في معرفة أعيان لمذهب ط: القاهرة سنة "1351 هـ" ص "161-166" والمدارك للقاضي عياض, ط: الجامعة التونسية سنة 1968م، ص"171".

المعلم ومتى تجب؟ ما جاء في إجازة المصحف وكتب الفقه وما شابهها, ص "93", فقد قال الدكتور طلس: "وقد أزاح -أي: محمد بن سحنون- لنا الستار عن معلوماتٍ كنَّا نعتقد أنه لا بُدَّ كانت موجودة لدى المسلمين, ولكننا نجهل تفصيلها, فإذا بابن سحنون يرويها لنا عن أبيه عن شيخنا الإمام مالك إمام المدينة, وعن غيره من الأئمة الأعلام، والشيوخ الأكابر الذين عاصروا الصحابة, فعرفوا عن كثبٍ طريقة التربية العربية الإسلامية", ثم توالت التآليف بعده في هذا الحقل, فألف الآجري المتوفى سنة "360هـ", والخوارزمي المتوفى سنة 377هـ", ثم جاء ابن جزار القيراوني, المتوفي سنة "395هـ", فألف كتابه باسم "سياسية الصبيان وتدبيرهم", وجاء أبو الحسن عليّ بن خلف القابيني, المتوفى سنة "403هـ", فألف كتابًا جمع فيه وأوعى في أحوال المعلمين, وأحكام المعلمين والمتعلمين", ثم ألف في الحقل أيضًا أبو عمر أحمد بن محمد بن عفيفي, المتوفي سنة "420هـ", وسماه: "آداب المعلمين" في خمسة أجزاء1. ثم جاء الغزالي, فجمع ما بين طرق التعليم والتربية, وطرق التزكية والتصفية, فأبدع فيه وابتكر, ذلك من خلال رسالة الغزالي إلى تلميذه بعنوان: "أيها الولد", وكتابه "إحياء علوم الدين", ثم تبعهم المؤلفون فأكثروا ولخصوا فاختصروا2.

_ 1الفكر التربوي عند الغزالي, للدكتور عبد الغني عبود, ص"35". 2 المصدر السابق والصفحة.

وبذلك عرفنا أن المسلمين بسبب محركِهم الأساسي: القرآن والسنة, لم يهملوا هذا الجانب الهام في حياة الأمة, وهو الاهتمام بطرائق تربية الأطفال, والبحث عن أنجح الطرق والمناهج انطلاقًا من أنه لا حضارة بغير علم, ولا علم بغير تعليم, ولا تعليم بغير نظام معيِّنٍ ينظِّمُ الصلة بين المتعلِّم والمعلِّم, ولذلك انتشر الإسلام لا بالسيف وإنما بالعلم واستعمال الحكمة في كيفية إيصاله إلى الناس؛ فقد تفجَّر هذا الينبوع في وادٍ غير ذي زرع عند بيت الله الحرام, الذي كانت قلوب الناس تهوي إليه, فلم يلبث أن أصبح فيضًا غَمَرَ الجزيرة العربية, وغيثًا جاوزها في سرعة عجيبة خارقة ليعمَّ أقطارًا كثيرة في آسيا وإفريقية وأوروبا, "والمؤرخون يعلمون بأن انتشار الإسلام بهذه السرعة ظاهرةٌ فريدةٌ في التأريخ البشري كله، وبعضهم لا يكاد يجد لها تعليلًا يقبله الفكر في سهولة ويسر"1. فقد كان شغل الفاتحين المسلمين الشاغل هو الإسلام, فظهرت على أيدي الصحابة الكرام وتابيعهم مدارس العلم في العالم الإسلامي أجمع. فما أحوجنا اليوم إلى العودة إلى هذا التراث الضخم، وما أحوجنا اليوم إلى الأخذ بطرق السلف في التربية والتعليم, والتزكية والتصفية، وإنه ليوم قريب -إن شاء الله تعالى"2.

_ 1 أطلس التأريخ الإسلام ط, مكتبة النهضة المصرية سنة 1954م, مقدمة الجزء الثاني عشر، وراجع: مقدمة الدكتور محمود عبد المولى لكتاب آداب المعلمين, ص "22". 2 إلى هنا ينتهي كلام الأستاذ علي محيي الدين على القره داغي, من مقاله في التعريف برسالة "أيها الولد" لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي, ص32, نشر دار الاعتصام سنة 1983م، بتصر طفيف.

الفصل الثاني: مصادر التربية الإسلامية

الفصل الثاني: مصادر التربية الإسلامية مدخل ... الفصل الثاني: مصادر التربية الإسلامية تستمد التربية الإسلامية أصولها من أطهر وأعظم المصادر التي تملأ النفس البشرية دائمًا بالأخلاق السامية؛ حيث جعل الإسلام مصادر التربية في: أ- القرآن الكريم: وهو كلام الله -سبحانه وتعالى، وهو الوحي المتلو بواسطة جبريل -عليه السلام- إلى محمد -صلى الله عليه وسلم، والذي يضمُّه المصحف الشريف بين دفتيه. ب- السنة النبوية: وهي أقوال وأفعال وتقريرات وصفات النبي -صلى الله عليه وسلم, عملًا بقول الله -تبارك وتعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} . ج- هدي الصحابة: الذين تعلموا من النبي -صلى الله عليه وسلم, وعاصروه وآزروه رجالًا ونساءً؛ إذ كل ما أُثِرَ عنهم من كلامٍ وأفعالٍ نحن مطالبون به. د- هدي التابعين: والتابعون هم الذين أخذوا العلم من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وهم هداة مهديون, وعلماء أجلّاء مخلصون لله, حملوا العلم عن صحابة الرسول -صلى الله عليه وسلم, وأبلغوه مَنْ بعدهم كما وصلهم, وما بدَّلُوا تبديلًَا.

أولا: التربية في القرآن الكريم

أولًا: التربية في القرآن الكريم قال الله -عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] . فلم يدع القرآن شيئًا من أمور الناس في دنياهم إلّا وله فيه ذكر، كما بيَّنَ الله في هذا القرآن ما يقيم أمر الإنسان ويضمن له سعادته في الدنيا, ويضمن له أيضًا فوزه في الآخرة. ولقد وضع القرآن للإنسان دستور حياته، وهو دستورٌ كاملٌ للإنسانية يشتمل على العقائد والعبادات والمعاملات والآداب الفردية والاجتماعي بأسلوب واضح وحجة قوية؛ بحيث يصلح لكلِّ الأجناس ولكل زمان ومكان؛ فمنهجه من صنع الخبير العليم, الذي أحكم كل شيء صنعه، وهو منهج تتضاءل بجانبه قوى العقول البشرية، وتتقاصر دونه كل الجهود البشرية. السور التي تختص بأمور التربية في القرآن: ولقد أرسى القرآن العظيم في عمومه قواعد الأخلاق الكريمة، لكن هناك سورًا منه اختصت بالتربية وعنيت بالأمر بمكارم الأخلاق, واشتملت على النهي عن القبائح والمنكرات مع الأمر بالمعروف، وتضمنت الآداب العامة التي ينبغي لكل مسلم أن يتحلَّى بها, نجد ذلك في سورة النساء، وسورة النور، وسورة لقمان، وسورة الأحزاب، وسورة الحجرات, وسورة الطلاق، وفيما يلي بيان موجز لما اشتملت عليه كل سورة من هذه السور في مجال التربية الإسلامية. "سورة النساء" سورة النساء إحدى السور المدنية الطويلة، وهي سورة مليئة بالأحكام الشرعية، التي تنظِّمُ الشئون الداخلية والخارجية للمسلمين، وهي تُعْنَى بجانب التشريع, كما هو الحال في السور المدينة، وقد تحدثت السورة الكريمة عن أمور هامَّةٍ تتعلق بالمرأة، والبيت، والأسرة، والدول، والمجتمع، ولكن معظم الأحكام التي وردت فيها, كانت تبحث حول موضوع النساء, ولهذا سُمَّيَتْ "سورة النساء"!!

تحدثت السورة الكريمة عن حقوق النساء والأيتام -وبخاصة اليتيمات- في حجور الأولياء والأوصياء، فقررت حقوقهن في الميراث والكسب والزواج، واستنقذتهن من عسف الجاهلية وتقاليدها الظالمة المهينة. - وتعرضت لموضع المرأة فصانت كرامتها، وحفظت كيانها، ودعت إلى إنصافها بإعطائها حقوقها التي فرضها الله تعالى لها؛ كالمهر، والميراث، وإحسان العشرة. - كما تعرضت بالتفصيل إلى "أحكام المواريث" على الوجه الدقيق العادل، الذي يكفل العدالة ويحقق المساواة, وتحدثت عن المحرمات من النساء "بالنسب، والرضاع، والمصاهرة". - وتناولت السورة الكريمة تنظيم العلاقات الزوجية, وبينت أنها ليست علاقة جسد, وإنما علاقة إنسانية، وأن المهر ليس أجرًا ولا ثمنًا، وإنما هو عطاءٌ يوثق المحبة، ويديم العشر، ويربط القلوب. - ثم تناولت حق الزوج على زوجته، وحق الزوجة على زوجها، وأرشدت إلى الخطوات التي ينبغي أن يسلكها الرجل لإصلاح الحياة الزوجية، عندما يبدأ الشقاق والخلاف بين الزوجين، وبيَّنَتْ معنى "قوامة الرجل", وأنها ليست قوامة استعباد وتسخير، وإنما هي قوامة نصح وتأديب؛ كالتي تكون بين الراعي ورعيته. - ثم انتقلت من دائرة الأسرة إلى دائرة المجتمع, فأمرت بالإحسان في كل شيء، بيَّنَتْ أن أساس الإحسان التكافل والتراحم، والتناصح والتسامح، والأمانة والعدل، حتَّى يكون المجتمع راسخ1.

_ 1 الصابوني، صفوة التفاسير، ج1/ 257 مكتبة الإيمان المنصورة, سنة 1977.

البنيان قوي الأركان. - ومن الإصلاح الداخلي انتقلت الآيات إلى الاستعداد للأمن الخارجي, الذي يحفظ على الأمة استقرارها وهدوءها، فأمرت بأخذ العدة لمكافحة الأعداء. - ثم وضعت بعض قواعد المعاملات الدولية بين المسلمين والدول الأخرى المحايدة أو المعادية. - واستتبع الأمر بالجهاد حملةً ضخمة على المنافقين، فهم نابتة السوء, وجرثومة الشر التي ينبغي الحذر منها، وقد تحدثت السورة الكريمة عن مكايدهم وخطرهم. - كما نبهت إلى خطر أهل الكتاب, وبخاصة اليهود, وموقفهم من رسل الله الكرام. - ثم ختمت السورة الكريمة ببيان ضلالات النصارى في أمر المسيح عيسى بن مريم؛ حيث غالوا فيه حتى عبدوه, ثم صلبوه1 مع اعتقادهم بألوهيته، واخترعوا فكرة التثليث, فأصحبوا كالمشركين الوثنيين، وقد دعتهم الآيات إلى الرجوع عن تلك الضلالات إلى العقيدة السمحة الصافية "عقيدة التوحيد", وصدق الله حيث يقول: {وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 1.

_ 1 المرجع السابق, ص258.

"سورة النور" - سورة النور من السور المدنية، التي تتناول الأحكام الشرعية, وتُعْنَى بأمور التشريع، والتوجيه والأخلاق، وتهتم بالقضايا العامة والخاصة, التي ينبغي أن يُرَبَّى عليها المسلمون أفرادًا وجماعات, وقد اشتملت هذه السورة على أحكام هامة, وتوجيهات عامة تتعلق بالأسرة، التي هي النواة الأولى لبناء المجتمع الأكبر. - وضَّحَتْ السورة الآداب الاجتماعية التي يجب أن يتمسك بها المؤمنون في حياتهم الخاصة والعامة؛ كالاستئذان عند دخول البيوت، وغَضِّ الأبصار، وحفظ الفروج، وحرمة اختلاط الرجال بالنساء الأجنبيات، وما ينبغي أن تكون عليه الأسرة المسلمة والبيت المسلم, من العفاف والستر، والنزاهة والطهر، والاستقامة على شريعة الله، صيانةً لحرمتها، وحفاظًا عليها من عوامل التفكك الداخلي، والانهيار الخلقي، الذي يهدم الأمم والشعوب. - وقد ذُكِرَ في هذه السورة الكريمة بعضُ الحدود الشرعية التي فرضها الله؛ كحد الزنى، وحد القذف، وحد اللعان، وكل هذه الحدود إنما شُرِّعَتْ تطهيرًا للمجتمع من الفساد والفوضى، واختلاط الأنساب، والانحلال الخلقي، وحفظًا للأمة من عوامل التردي في بؤرة الإباحية والفساد، التي تسبب ضياع الأنساب، وذهاب العِرْضِ والشرف. - وباختصار, فإن هذه السورة الكريمة عالجت ناحيةً من أخطر النواحي الاجتماعية, هي "مسألة الأسرة", وما يحفُّها من مخاطر، وما يعترض طريقها من عقباتٍ ومشاكل، تؤدي بها إلى الانهيار, ثم الدمار، هذا عدا ما فيها من آداب سامية، وحكم عالية، وتوجيهات رشيدة1.

_ 1 الصابوني، صفوة التفاسير ج2/ 325.

إلى أسس الحياة الفاضلة الكريمة، ولهذا كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أهل الكوفة يقول لهم: "علموا نساءكم سورة النور". "سورة لقمان" وقد سُمِّيَتْ سورة لقمان لاشتمالها على قصة "لقمان الحكيم", التي تضمَّنَتْ فضيلة الحكمة وسرّ معرفة الله تعالى وصفاته، وذمّ الشرك، والأمر بمكارم الأخلاق، والنهي عن القبائح والمنكرات, وما تضمنته كذلك من الوصايا الثمينة التي أنطقه الله بها، وكانت من الحكمة والرشاد بمكان! "سورة الأحزاب" أما سورة الأحزاب فهي من السور المدنية، التي تتناول الجانب التشريعيّ لحياة الأمة الإسلامية، شأن سائر السور المدنية، وقد تناولت حياة المسلمين الخاصة والعامة، وبالأخص أمر الأسرة, فشرَّعَتْ الأحكام بما يكفل للمجتمع السعادة والهناء, وأبطلت بعض التقاليد والعادات المورثوة؛ مثل: التبني, والظهار، واعتقاد وجود قلبين لإنسان, وطهَّرت الناس من رواسب المجتمع الجاهلي، ومن تلك الخرافات والأساطير الموهومة التي كانت متفشيةً في ذلك الزمان، وتجد في هذه السورة من الموضوعات التربوية ما يلي: أولًا: التوجيهات والآداب الإسلامية. ثانيًا: الأحكام والتشريعات الإلهية1.

_ 1 الصابوني، صفوة التفاسير, ج2/ 487.

أما الأولى: فقد جاء الحديث عن بعض الآداب الاجتماعية؛ كآداب الوليمة، وآدب الستر والحجاب, وعدم التبرج، وآداب معاملة الرسول -صلى الله عليه وسلم- واحترامه, إلى آخر ما هنالك من آداب اجتماعية. وأما الثانية: فقد جاء الحديث عنها في بعض الأحكام التشريعية؛ مثل: حكم الظهار, والتبني، والإرث، وزواج مطلقة الابن من التبني، وتعدد زوجات الرسول الطاهرات والحكمة منه، وحكم الصلاة على الرسول -صلى الله عليه وسلم, وحكم الحجاب الشرعيّ، والأحكام المتعلقة بأمور الدعوة إلى الوليمة, إلى غير ما هنالك من أحكام تشريعية. "سورة الحجرات" هذه السورة الكريمة مدنية، وهي على وجازتها سورة جليلة ضخمة، تتضمَّن حقائق التربية الخالدة، وأسس المدنية الفاضلة، حتى سمَّاها بعض المفسرين "سورة الأخلاق". - ابتدأت السورة الكريمة بالأدب الرفيع الذي أدَّبَ الله به المؤمنين، تجاه شريعة الله وأمر رسوله، وهو ألَّا يبرموا أمرًا، أو يبدوا رأيًا، أو يقضوا حكمًا في حضرة الرسول -صلى الله عليه وسلم، حتى يستشيروه ويستمسكوا بإرشاداته الحكيمة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . - ثم انتلقت إلى أدبٍ آخر, هو خفض الصوت إذا تحدثوا مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- تعظيمًا لقدره الشريف، واحترامًا لمقامه السامي، فإنه ليس كعامة الناس, بل هو رسول الله، ومن واجب المؤمنين أن يتأدبوا معه في الخطاب, مع التوقير التعظيم والإجلال1 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا

_ 1 الصابوني، صفوة التفاسير، ج2/ 507.

أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} . - ومن الأدب الخاصِّ إلى الأدب العام, تنتقل السورة لتقرير دعائم المجتمع الفاضل، فتأمر المؤمنين بعدم السماع للإشاعات، وتأمر بالتثبت من الأنباء والأخبار، لا سيما إن كان الخبر صادرًا عن شخصٍ غير عدلٍ, أو شخص مُتَّهَمٍ، فكم من كلمة نقلها فاجر فاسق سبَّبَتْ كارثةً من الكوارث، وكم من خبر لم يتثبت منه سامعه جَرَّ وبالًا، وأحدث انقسامًا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} . - ودعت السورة إلى الإصلاح بين المتخاصمين، ودفع عدوان الباغين: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} الآيات. - وحذَّرَتْ السورة من السخرية والهمز واللمز، ونفَّرَتْ من الغيبة والتجسس والظن السيئ بالمؤمنين، ودعت إلى مكارم الأخلاق، والفضائل الاجتماعية، وحين حذَّرَتْ من الغيبة جاء النهي في تعبير رائع عجيب، أبدعه القرآن غاية الإبداع، صورة رجل يجلس إلى جنب أخٍ له ميت ينهش منه ويأكل لحمه {وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} الآية. ويا له من تنفيرٍ عجيب!! - وختمت السورة بالحديث عن الأعراب الذين ظنوا الإيمان كلمةً تُقَالُ باللسان، وجاءوا يمنُّون على الرسول إيمانهم، فتبين حقيقة الإيمان, وحقيقة الإسلام، وشرط المؤمن الكامل, وهو الذي جمع الإيمان والإخلاص والجهاد والعمل الصالح {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} . إلى آخر السورة الكريمة1.

_ 1 الصابوني، صفوة التفاسير، ج3/ 230-231.

"سورة الطلاق" - سورة الطلاق مدنية, وقد تناولت بعض الأحكام التشريعية المتعلقة بأحوال الزوجين؛ كبيان أحكام الطلاق من العدة، والنفقة، والسكنى، وأجر المرضع, إلى غير ما هنالك من أحكام. - وتناولت السورة الكريمة في البدء أحكام الطلاق -الطلاق السنِّي، والطلاق البدعي- فأمرت المؤمنين بسلوك أفضل الطرق عند تعذر استمرار الحياة الزوجية، ودعت إلى تطليق الزوجة في الوقت المناسب, وعلى الوجه المشروع، وهو أن يطلقها طاهرًا من غير جماع، ويتركها إلى انقضاء عدتها. - وفي هذا التوجيه الإلهي دعوة للرجال أن يتمهلوا ولا يسرعوا في فصل عرى الزوجية، فإن الطلاق أبغض الحلال إلى الله، ولولا الضرورات القسرية لما أبيح الطلاق؛ لأنه هدمٌ للأسرة. - ودعت السورة إلى إحصاء العدة لضبط انتهائها، لئلَّا تختلط الأنساب، ولئلَّا يطول الأمد على المطلقة فيلحقها الضرر، ودعت إلى الوقوف عند حدود الله، وعدم عصيان أوامره. - وتناولت السورة أحكام العدة، فبينت عِدَّةَ اليائس التي انقطع عنها دم الحيض لكبرٍ أو مرض، وكذلك عدة الصغيرة، وعدة الحامل؛ فبينته أوضح بيانٍ مع التوجيه والإرشاد. - وفي خلال تلك الأحكام التشريعية تكررت الدعوة إلى "تقوى الله" بالترغيب تارةً، وبالترهيب أخرى، لئلَّا يقع حيفٌ أو ظلمٌ من أحد الزوجين، كما أوضحت أحكام السكنى والنفقة1.

_ 1 الصابوني: صفوة التفاسير، ج3/ 397.

- وختمت السورة بالتحذير من تعدي حدود الله، وضربت الأمثلة بالأمم الباغية التي عتت عن أمر الله، وما ذاقت من الوبال والدمار، ثم أشارت إلى قدرة الله في خلق سبع سموات طباق، وخلق الأرضين، وكلها براهين على وحدانية رب العالمين. عالمية القرآن في التربية: تربية المولى -عزَّ وعَلَا- للناس بعامة: وجَّه المولى -سبحانه وتعالى- النداء في القرآن للناس جميعًا في كل البقاع والأصقاع؛ بقوله: يا أيها الناس, أو بقوله: يا بني آدم, أو بقوله: يا أيها الإنسان, أو بأمره لنبيه بأن يقول لهم ما أبلغه به جبريل عن الله -عز وجل- بقوله: "قل يا أيها الناس", فنجد في القرآن من مباشرة النداء آيات كثيرة تدعو الناس إلى عبادة الله وتوحيده؛ لأنه ربهم الذي خلقهم؛ كقوله عز من قائل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21، 21] . فتجد "ربكم" فيها تنبيه على أن الموجب للعبادة هي الربوبية، والآية تدل على أن الطريق إلى معرفة الله والعلم بوحدانيته واستحقاقه للعبادة: النظر في صنعه, والاستدلال بأفعاله، وأن العبد لا يستحق بعبادته ثوابًا, لكنه لما أداها فإنه كأجيرٍ أخذ الأجر قبل العمل. فالله المربِّي قد هيأ للناس الأرض, وصيرها متوسطة بين الصلابة واللطافة, حتى صارت صالحة لأن يقعدوا عليها, ويناموا عليها؛ كالفراش المبسوط, فهي مع اتساع جرمها, لا تأبى الافتراش عليها، كما جعل

السماء مبنية ينزل منها المطر الذي أودع الله فيه قوة فاعلة قادرة على أن تمتزج بقوة الأرض الفاعلة أيضًا, فيتولد منهما أنواع الثمار التي يكون منها زرق الإنسان، فلا يصحُّ للإنسان المرزوق بقدرة الله أن يجعل له أندادًا, مع علمه بأنه سبحانه لا نِدَّ له، ولا شريك له, وإذا كان ذلك كذلك, فإنه سبحانه أباح لهم بأن يأكلوا من طيبات الرزق فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 168] ، و"مما" للتبعيض؛ لأن كل ما في الأرض ليس بمأكولٍ؛ فمنه ما هو طيب طاهر من كل شبهة، ومنه ما هو غير ذلك، والشيطان يزين لهم الحرام ويدعوهم إليه, حتى يقعوا في المحظور؛ فيخالفوا أوامر الرب -عز وجل، ولذلك قال بعدها: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] ؛ ليبين لهم أنهم يجب عليهم الانتهاء عن الشيطان؛ لأنه يزيّن لهم أعمالهم, ويريد بذلك هلاكهم, فهو لا يأمرهم بخير أبدًا، ولكن يأمرهم بالسوء والفحشاء؛ قيل: إن السوء ما لا حَدَّ فيه, والفحشاء ما فيه حَدٌّ، ومن ذلك: القول على الله بما لا يعلمون, فيحلون ويحرمون من عند أنفسهم، وبتزيين الشيطان لهم يقولون: هذا حلال وهذا حرام، والله لا يرضى منهم هذه الادعاءات الباطلة, وكيف يطيعون أوامر الشيطان ولا يستجيبون لأوامر الرحمن؟! ويأتي النداء في سورة النساء في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} فيطالب الناس بتقواه؛ وهي عبادته وحده لا شريك له، فهم من خلقه, والدليل على ذلك خلقه إياهم من نفسٍ واحدة هي نفس آدم، حيث خلق من ضلعه الأيسر حواء, وذرأ منهما رجالًا كثيرًا ونساءً, ونشرهم في أقطار العالم على اختلاف أصنافهم وصفاتهم

وألوانهم ولغاتهم، وهو سبحانه مراقب لجميع أحوالهم وأعمالهم, وفي ذلك تذكير للناس بأصل الخلقة وقدرة الخالق مما يستوجب منهم عبادته وحده, وطاعة أوامره وحده. أما في سورة الأعراف فيأمر الله نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- بأن ينادي في الناس ويُعْلِمَهُمْ بأنه رسول الله إلى جميع الخلق, وأن عليهم أن يتبعوه إن أرادوا لأنفسهم رحمةً؛ حيث يقول عز من قائل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} آية 158. وهذه الآية تحمل عالمية الدعوة، فهي لعموم الناس؛ أبيضهم وأسودهم, وأحمرهم وأصفرهم, وعربيهم وعجميهم, يطلب منهم الإيمان بالله وبرسوله وبكلماته, وهي شاهدةٌ على جميع البشر بأن الله أخبرهم عن طريق الرسول والقرآن وأقوال علماء المسلمين في كل مكان وزمان, فلاحجة لأحدٍ منهم أن ينكر البلاغ1. ثم يأتي النداء في سورة يونس: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} آية 23. ليبيِّنَ لهم على أن ظلمهم إنما يعد في النهاية عليهم، وأن المآل والمرجع إلى الله؛ فيخبرهم به يجازيهم عليه. وفي سورة يونس أيضًا يكون النداء من العليّ القدير إلى الناس بالهداية والرحمة بمجيء القرآن والرسول -صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ

_ 1 ابن كثير الدمشقي، تفسير القرآن العظيم ج1/ 448.

مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} آية 57. أي قد جاءكم كتاب جامع لكلِّ الفوائد من موعظةٍ وتنبيهٍ على التوحيد, والموعظة التي تدعو إلى كل مرغوب, وتزجر عن كل مرهوب؛ إذ الأمر يقتضي حسن المأمورية فيكون مرغوبًا, وهو يقتضي النهي عن ضده وهو قبيح، وعلى هذا, ففي النهي شفاء لما في صدوركم من العقائد الفاسدة, وهدًى من الضلالة ورحمة للمؤمنين1. وفي السورة نفسها أمر من الله سبحانه إلى النبي -محمد صلى الله عليه وسلم- بأن يقول للناس: إن كنتم في شكٍّ من صحة ما جئتكم به من الدين الحنيف الذي أوحاه الله إليَّ, فأنا لا أعبد الذين تعبدون من دون الله, ولكن أعبد الله وحده لا شريك له, وهو الذي يتوفاكم كما أحياكم ثم إليه ترجعون {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 104] . ثم يكون النداء الأخير في سورة يونس لمحمد -صلى الله عليه وسلم- على الناس بأمرٍ من الله أن يخبرهم أن الذي جاءهم به من عند الله هو الحق الذي لا مِرْيَةَ فيه ولا شك, فمن اهتدى به واتبعه فإنما يعود نفع ذلك الاتباع على نفسه، قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [يونس: 108] . وتتكرر النداءات من الله -عز وجل- إلى الناس في القرآن الكريم, كما نجد مثلًا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ

_ 1 النسفي، تفسير النسفي، ج2/ 167, طبعة عيسى البابي الحلبي.

خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [فاطر آية 3] . وقوله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر آية: 5] . وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر آية: 15] . وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات آية: 13] . وفي مواضع أخرى يناديهم بقوله: يا بني آدم، وإن كانوا من أهل ملةٍ غير الإسلام قال: يا أيها الذين أوتوا الكتاب؛ ليذكِّرَهُم بالدين, وبأن الدنيا منقطعة وزائلة, وأن الحياة الحقيقية هي الآخرة، والآخرة إما أن تكون دار سعادة, وإما أن تكون دار شقاء, وأنه -عز وجل- أرسل إليهم آخر الأنبياء من لدنه ليربيهم على ملة الإسلام ملة أبي الأنبياء إبراهيم، وقد يوجه سبحانه النداء إلى الإنسان بمفرده, لعله يذكَّرُ أو يخشى, كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} 1 وفي قوله -عز من قائل: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} 2. فالله -سبحانه وتعالى- يخاطب الجنس البشريّ كله موضحًا للناس أنه خالقهم, وأنه الملك سبحانه, وأنه ملك يوم الدين، وأنه هيأ لهم الأرض ومهدها كي تصلح لخدمتهم ومتاعهم وإقامتهم عليها, وأنه صاحب النعم وصاحب الرزق, ودعاهم إلى عبادته وطاعته, وفي الوقت نفسه حذرهم من عدوهم اللدود, وهو الشيطان الذي أضلَّ من قبلُ خلقًا

_ 1 سورة الانفطار آية 6. 2 سورة الانشقاق آية 6.

كثيرًا, وقصته مع أبيهم آدم من قبل معروفة، فلا يصحُّ لهم أن يستجيبوا لما يُخَيَّلُ إليهم من الزينة حتى لا ينغص علهم معيشتهم في الحياة الدنيا, ويذيع بينهم العداوة والبغضاء, وأنه -سبحانه وتعالى- قد خلقهم ليعمر بهم الأرض, وينزل من لدنه رسله ليهدهم سواء السبيل, وليبلغوهم بما يحب الله ويرضى, وأنه جعل المفاضلة بينهم قائمة على ميزان التقوى، فأكرم الخلق عنده هو أكثرهم عبادةً وخشوعًا واستجابةً لأوامره ونواهيه. ويا حبذا لو أن هذه النداءات الموجهة من الله -عز وجل- إلى الناس بعامَّةٍ تترجم إلى اللغة الإنجليزية, وتبلغ للعالم أجمع؛ لأن من حقِّ هؤلاء الناس علينا أن نبلغهم ما أبلغنا القرآن, وما أبلغنا به سيد الخلق سيدنا -محمد صلى الله عليه وسلم, وليكن ذلك تحت عنوان: "God's Call To all" بمعنى "نداء الله للجميع", فتترجم للناس معاني الآيات التي تبدأ بقوله: "يا أيها الناس", وما جاء في معناها بلغةٍ سهلةٍ حتى يفهم الناس مراد الحق -تبارك وتعالى, فيدخلوا في دين الله حين يسمعون كلامه ويفهمونه. أما من رضي بالله تعالى ربًّا, وبإلإسلام دينًا, وبسيدنا محمد نبيًّا ورسولًا, فهؤلاء لهم نداء خاصٌّ بهم وهو قوله: "يا أيها الذين آمنوا"، وهذا النداء من الله تعالى للمؤمنين به, الموحدين له, يأتي بعده تشريع وتوحيد وتأديب من رب العالمين، وقد صدق عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه؛ إذ قال لرجل: "إذا سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا" فارعها سمعك, فإنه خير يأمر به, أو شر ينهى عنه"1. ولقد تكرر النداء في القرآن قرابة تسع وثمانين مرة, كلها آداب

_ 1 ابن كثير، تفسير القرآن العظيم ج1/ 148.

وتزكية وتشريع استحق بها المؤمنون من أمة محمد -صلى الله عليه سلم- أن يكونوا خير أمة أخرجت للناس؛ لأنهم عُرِفُوا بصفة هي من خواصِّ صفات الأنبياء, وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يحمل لنا التاريخ اسم أمة من الأمم الغابرة, أو جماعة من الجماعات حملت هذه الصفة التي وصف بها القرآن أمة محمد -صلى الله عليه وسلم؛ فهي الأمة الوحيدة التي فهمت عن الله كلامه، وفهمت عن نبيه كلامه وبلاغاته, فلا تزال تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. تربية القرآن للعرب: ولعل من أعظم ما أتى به القرآن الكريم في شأن التربية، تربية الكبار من قبائل العرب, وتليين قلوب الذين كان لديهم الاستعداد الدفين منهم لقبول هذه التربية الإسلامية والتأثر بها, والدخول في الدين الجديد المنزَّل إليهم من السماء؛ حيث نجد القرآن المكيّ بما فيه من الترغيب والترهيب يؤثر في نفوسهم ويجذبهم جذبًا من مهاوي الضلال إلى مدراج الهداية, فانقبلوا بنعمة الله وفضله من أشداء في الظلم والكبر, إلى أشداء في العدل والرحمة. فهذا عمر بن الخطاب صاحب القوة والجبرت قبل إسلامه, والذي كان يخشاه صناديد قريش, ويعملون له ألف حساب، يسمع الآيات من سورة طه فتنقشع عن قلبه سحابة الكفر, وتزول عن بصره غشاوة الظلم, فيذعن من فوره إلى النداء الرباني, ويذهب إلى محمد -صلى الله عليه سلم- معلنًا إسلامه وخضوعه إلى الله -عز وجل، ويكون بعد ذلك عمر العادل الرحيم بالمؤمنين, الذابّ عن الدين والحامي لعرين الإسلام. وكان أبو ذر قاطع طريق, وكان شجاعًا, فاتكأ يتفرد وحده بقطع

الطريق, ويهجم وحده على الجماعة في أول الصباح على ظهر فرسه, أو على قدميه كأنه السبع, فيطرق الحمى ويأخذ ما أخذ، والعجيب أننا نجد في أخباره أنه كان أيام جاهليته يتأله ويقول: لا إله إلّا الله، ولم يكن يعبد الأصنام، وقد مَرَّ عليه رجلٌ من أهل مكة فقال: أي أبا ذر, إن رجلًا بمكة يقول مثل ما تقول, ويزعم أنه نبيّ، فقال أبو ذر: ممن هو؟ قال: من قريش، فطلب أبو ذر من أخٍ له أن يذهب إلى مكة ليأتيه بخبر ذلك الرجل الذي هو من قريش, ويزعم أنه نبي, فلمّا عاد إليه أخوه، أخبره أنه رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويأمر بمكارم الأخلاق، فلم يلبث أبو ذر أن جمع نفسه وخرج إلى مكة ليسمع ويرى. وما أن التقى أبو ذر بالنبيّ وسمع منه حتى أعلن إسلامه, ثم قال للنبي -صلى الله عليه وسلم، يا نبيَّ الله! ما تأمرني؟ قال -صلى الله عليه سلم- ترجع إلى قومك حتى يبلغك أمري. فقال أبو ذر: والذي نفسي بيده لا أرجع حتى أصرخ بالإسلام في المسجد، ثم خرج من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدخل المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله, وأن محمدًا عبده ورسوله. فضربه كفار قريش حتى صرعوه, فحذَّرهم العباس عم النبي -صلى الله عليه سلم- قتله, وقال: أنتم تجار, وطريقكم على غِفَار، فتريدون أن يقطع الطريق؟ فأمسكوا عنه. وعلى يد أبي ذر أسلم أهله وعشيرته, وأسلم نصف قومه من بني غفارو وقال الباقون: إذا قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسلمنا, فلما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة أسلموا, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "غفار غفر الله

لها، وأسلم سالمها الله"1. وهذا الوليد بن الوليد بن المغيرة من بيت الكفر والضلال؛ فأبوه الوليد بن المغيرة عدو الله ورسوله, لم يزل على دين قومه، وخرج مع كفار قريش إلى بدرٍ ليحارب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وشاء الله له أن يقع في الأسر, فقد أسره عبد الله بن جحش، فقدم في فدائه أخواه خالد وهشام ابنا الوليد بن المغيرة, لكن الوليد كان قد سمع كلام القرآن وتأثر به, وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أبى أن يفدى الوليد إلّا بشكة أبيه, فرفض خالد وطاع هشام بن الوليد؛ لأن الوليد أخوه لأبيه وأمه، وكانت الشكة درعًا فضفاضةً وسيفًا وبيضةً، فطاعا به وسلماه، فلما قُبِضَ ذلك خرجا بالوليد حتى بلغا به "ذا الحليفة", فأفلت منهما, فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأسلم، فقال له خالد: هلّا كان ذلك قبل أن تفتدى, وتخرج مأثرة أبينا من بين أيدينا, فاتبعت محمدًا إذ كان هذا رأيك؟ 2. فقال: ما كنت لأسلم حتى اُفْتَدَى بمثل ما افْتُدِيَ به قومي، ولا تقول قريش: إنما اتبع محمد فرارًا من الفدي، ثم خرجا به إلى مكة وهو آمن لهما فحبساه، ثم هرب بعد ذلك فارًّا إلى المدينة, إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمات بها. وهناك أمثلة كثيرة تدل على أن القرآن بهديه الذي يَمَسُّ شغاف القلوب تأثر به كثير ممن كانوا عتاة في الكفر، وأن الذين دخلوا في الإسلام منهم كان لديهم الاستعداد الدفين كامنًا في قلوبهم, حتى إذا جاء الإسلام أزاح غشاوة الكفر التي كانت تحجبه فاستجابت قلوبهم

_ 1 محمد بن سعد كاتب الواقدي، الطبقات الكبرى ج4/ 163. 2 المصدر السابق ج4/ 97، 98.

لباريها, آمنوا بالله وبرسوله, واهتدوا بهديه، وتحولوا بعد الإيمان من رجالٍ جبَّارين إلى رجالٍ من نوع آخر، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، تلين قلوبهم إلى ذكر الله، ويتراحمون فيما بينهم، ويربط بينهم رباط الأخوة الإسلامية، فهم على اختلاف أشكالهم وألوانهم وهيئاتهم أخوة في الله, وهي أسمى معاني الأخوة. والقرآن بترغيبه وترهيبه فيه دعوةٌ إلى استخدام العقل وإعمال البصيرة، إذ هو يخاطب الإنسان الذي أنعم الله عليه بنعمة العقل والبصيرة، لذلك نجد الآيات التي تختم بقوله تعالى: أفلا يعقلون، أفلا يبصرون، نجد فيها الدعوة إلى استعمال العقل والانتفاع بالحواس، ووصف القرآن من لا يسترشد بعقله وبصيرته بأنه لا يفقه؛ حيث لم ينتفع بعقله {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا} [الأعراف: 179] . ويستخدم التعبير القرآن في أسلوب الاستدلال في تفهيم الناس، والعقل آلة الفهم والربط, وبه يستدل على الأشياء، ولذلك نجد القرآن يسرد الأشياء التي تراها العين مضفيًا عليها قبسًا من نور العلم الرباني, وكلامًا ووصفًا لم يعهده كفار مكة من قبل في كلام حكمائهم وكهانهم وبلغائهم، ويطلب من الناس بعد ذلك أن يصلوا بعقولهم إلى الحقيقة, حقيقة الخالق الواحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد. نقرأ مثلًا من القرآن المكي ما جاء في سورة الرعد قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ، وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ

يَتَفَكَّرُونَ، وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 2-4] . إنها دعوةٌ إلى التفكر, ودعوة لاستعمال العقل بالتدبر في ما يشاهدونه من آيات الله -سبحانه وتعالى- ودلائله في خلقه، فالله تعالى يخبر عن كمال قدرته وعظيم سلطانه, أنه الذي بإذنه وأمره رفع السماوات بغير عمد، رفعها بحيث لا تنال ولا يدرك مداها ... وسخر الشمس والقمر تسخيرًا أبديًّا؛ فهما يجريان بلا تعطيل ولا تأخير ولا اختلاف إلى انقطاعهما بقيام الساعة, والله يوضح للناس الآيات والدلالات على أنه هو الله الذي لا إله إلّا هو, وأن لقاءه حق. وبعد أن ذكر الله تعالى العالم العلوي, شرع في ذكر قدرته وحكمته وأحكامه للعالم السفلي, وهو الأرض المتسعة الراسية بجبالها الراسيات الشامخات, ثم أجرى في الأرض الأنهار والجداول والعيون ليُسْقَى بها الزروع التي تنتج الثمرات المختلفة الألوان والأشكال والطعوم, وجعل من كل شكلٍ صنفين، وهذه القدرة هي التي سخَّرت أيضًا الليل والنهار, وجعلت كلًّا منهما يطلب الآخر, فإذا ذهب هذا غشيه هذا.. كل ذلك يسوقه ويذكره لأجل أن يتفكر الإنسان في آلاء الله ودلائله. ثم يذكر بعد ذلك أن الأراضي يجاور بعضها بعضًا, وفيها الطيبة وفيها السبخة المالحة, ويذكر أن فيها البساتين والمروج التي يخرج منها الأعناب والزورع والنخيل, منها ما له أصول مجتمعة في منبت واحد كالرمان والتين وبعض النخيل, ومنها غير الصنوان وهو ما كان على أصلٍ واحدٍ كسائر الأشجار، ومع ذلك فكلها تسقى بماءٍ واحدٍ, مع هذا الاختلاف في الأشكال والطعوم، وفي ذلك آيات لمن كان واعيًا مدركًا لحقائق الأمور, فهو يعلم أن هذه الدلالات كلها تشير إلى أن الفاعل

المختار الذي بقدرته فاوت بين الأشياء هو الله -عز وجل. هكذا يمنحنا القرآن منهجًا كاملًا لمعرفة العوالم المحيطة بنا: عالم الطبيعة, وعالم الغيب، ويرسم لنا صورة كاملة عن نشأة الحياة, وعن سر خلقنا ودورنا في هذه الحياة، وعَمَّا بعد الموت, وما يتصل بالبعث ويوم القيامة والجزاء بما يرضي النفوس الحائرة، ويشفي الصدور القلقة, ويقيم الإنسان المسلم على الطريق المضيء الذي لا يحتاج معه إلى سؤال أو إلى تساؤل. كما منحنا القرآن فهم دورنا الحقيقي في هذه الحياة رسالة ومسئولية إرادة حرة، وكشف لنا عن الطريقين، ودعانا إلى الصراط المستقيم الذي هو صراط الله, وترك لنا حرية أعمالنا، وذلك على نحوٍ لم يتحقق لأي منهج تربوي بشري, فلم يجعلنا في حاجة إلى استيراد المناهج أو الأساليب بعد تحديد "الهدف" و"الغاية", وإتاحة الفرصة لنا على مدى العصور واختلاف البيئات في اتخاذ الأسلوب المناسب للعصر"1.

_ 1 الأستاذ/ أنور الجندي، عالمية الإسلام ص86, مجموعة اقرأ العدد 426, طبعة المعارف سنة 1977.

ثانيا: السنة النبوية

ثانيا: السنة النبوية مدخل ... ثانيًا: السنة النبوية إذا كان القرآن قد بيَّن للناس قواعد الأخلاق الفاضلة وأصول المعاملات الحسنة على الإجمال, فإن النبي -صلى الله عليه سلم- فصَّل ما أجمله القرآن, وطبَّقَ كلام الله تطبيقًا عمليًّا، فإذا قرأنا في القرآن مثلًا {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} , وجدنا تفصيلًا رحيبًا في أحاديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يقرب للناس كل معاني الأخوة, ويحببها إليهم في أسلوبٍ راقٍ بديعٍ يليق بتفسير كلام رب العالمين، روي عن أبي هريرة أنه قال؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: " لا تحاسدوا ولا تفاحشوا ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبيع أحدكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم, لا يظلمه, ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ها هنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات, بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم, كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه" 1. فالحديث يبين الخلق الإسلاميّ الرفيع, لما يجب أن يكون عليه المسلم تجاه أخيه المسلم في كلمات قليلة؛ حيث نبَّه فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- على كل أسباب الفرقة والخلاف والشقاق بين الناس, فنهاهم عنها حتى تحقق معنى الأخوة الصافي الذي يريده الله من عباده المؤمنين، كل هذا في كلمات قليلة. وبالحديث النبوي كما نرى يتضح معنى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} بشكلٍ جليّ؛ لأنه بين المجمل في الآية بالتفصيل.

_ 1 صحيح مسلم، كتاب البر والصدقة، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره.

الرسول نعمة أنعم الله بها على المؤمنين وعلى العالمين

الرسول نعمةٌ أنعم الله بها على المؤمنين وعلى العالمين: والرسول نعمة من النعم التي أنعم الله بها على المؤمنين بعامة والعرب خاصة، فقد نشأ فيهم؛ من نسبهم وجنسهم, فهو عربي مثلهم, كلامه مفهوم لهم, ثم إنه من أشرف قبائل العرب وبطونهم, وهم يعلمون عن يقينٍ أنه الصادق الأمين, فلهم أن يفخروا بأن النبوة ظهرت فيهم على يديه -صلى الله عليه وسلم, وأنهم يأتيهم خبر السماء عن طريقه؛ فهو يتلو عليهم آيات الله, ويفيدهم بعلومٍ لم يكن لهم بها علم إذ كانوا جهّالًا لم يسمعوا الوحي, وضلَّالًا لا يهتدون سبيلًا. وأما عامة المؤمنين فإنه يأتيهم الشرف من حيث إنهم أتباعه ومناصروه، وشرف الانتساب إلى محمدٍ الرسول يفوق شرف الأنساب؛ لأن الله سبحانه وصف الذين آمنوا به واتبعوه من مختلف الأجناس والألوان بأنهم خير أمة أخرجة للناس, ولم تقتصر هذه الصفة العظمى على جنس العرب؛ فأمة الإسلام هي خير أمة أخرجت للناس، واتِّبَاع الرسول -صلى الله عليه وسلم- في كل ما جاء به هو الطريق إلى الجنة، ومن هنا كان الرسول منّةً كبرى مَنَّ الله بها على المسلمين؛ لأنه عَرَّفَهم طريق الجنة عن طريق رسول -صلى الله عليه وسلم, قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} ، أي: ويعلمهم القرآن ويعلمهم السنة؛ فالكتاب هو القرآن, والحكمة هي السنة. كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [سورة النحل 44] , والبيان هو التبيلغ والإيضاح والشرح والإظهار، فالبيان هو السنة، وقد روي عن الأوزاعي عن حسان بن عطية إنه قال: كان جبريل ينزل على النبي -صلى الله عليه وسلم بالقرآن، والسنة تفسر القرآن1.

_ 1 الخطيب البغدادي، كتاب الكفاية في علم الرواية، دار الكتب الحديثة, ط1, 1979.

وكان -صلوات الله وسلامه عليه- فصيح اللسان، جزل العبارة مع فخامة المعنى ووضوح الغاية, ولا عجب, فقد أعطي جوامع الكلم, ثم هو لا ينطق عن هوًى أو غرضٍ في نفسه, ولكنه يقول ما أمر به أن يبلغه للناس كاملًا موفورًا من غير زيادة أو نقصان، كما كان -صلى الله عليه وسلم- في كل ما صدر عنه من حركاتٍ أو سكناتٍ أو تقريراتٍ ترجمةً للأخلاق الفاضلة التي دعا إليها القرآن1. ولقد حذَّر الرسول -صلى الله عليه سلم- من أن يقول الناس بعده: نأخذ ما جاء في القرآن نعمل به؛ فما وجدناه حلالًا حللناه, وما وجدناه حرامًا حرمناه, ثم يَدَعُونَ سنته -صلى الله عليه وسلم، بل إن ما جاء به -صلى الله عليه وسلم هو عين ما في كتاب الله -عز وجل، لذا نجد في الحديث المروي عن المقدام بن معد يكرب, عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا إني قد أوتيت القرآن ومثله، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي, ولا كل ذي نابٍ من السباع، ولا لقطة من مال معاهد، إلّا أن يستغني عنها صاحبها". وفي وراية أخرى عن المقدام بن معد يكرب الكندي يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه سلم- حرم أشياء, فذكر الحمر الإنسية، ثم قال: "يوشك رجل متكئ على أريكته يحدِّثُ بالحديث من حديثي فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدناه حلالًا أحللناه، وما وجدنا

_ 1 ابن كثير الدمشقي، تفسير سورة ن, ج4, ص402.

حرامًا حرَّمْنَاه، ألا وإن ما حرم رسول الله -صلى الله عليه سلم- مثل ما حرم الله -عز وجل" 1. قال الخطيب البغدادي في كتاب الكفاية ما نصه: "ومن يزعم أنه لا يأخذ بالسنة، ويكتفي بالقرآن، بأي مبرر استجاز ذلك لنفسه؟ لا يستطيع أن يأتي بدليلٍ من القرآن على ترك ما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وكان يجب عليه أن يأتي بنصٍّ صريح من القرآن، أن لا نتبع الرسول -صلى الله عليه وسلم, إلّا فيما جاء صريحًا في القرآن. وإن مَنْ يريد فَهْمَ القرآن لا يستطيع أن يفهمه كما ينبغي أن يُفْهَمَ، إلّا إذا أحاط بأسباب النزول، وفي الظروف والمناسبات التي نزل فيها، فإن القرآن الكريم نزل بالتوالي مدة ثلاث وعشرين سنة، في أحوال خاصة, ووقائع خاصة. فكيف نستطيع أن نعرف معنى قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ} 2، إن لم نعرف سبب نزولها. وكيف نعرف معنى قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} 3. وكيف نعرف معنى قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} 4.

_ 1 الخطيب البغدادي، الكفاية في علم الرواية، بمراجعة عبد الحليم محمد عبد الحليم وعبد الرحمن حسن محمود، طبعة دار الكتب الحديثة القاهرة سنة 1972. 2 سورة القيامة 17. 3 سورة المجادلة 1. 4 سورة النجم 14.

وكيف نعرف قصر الصلاة، وكيف نعرف معنى قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 1 وكيف نعرف معنى قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ} 2. كيف نفهم هذه الآيات وغيرها إذا لم نعرف أسباب النزول؟ لا سببيل لذلك إلّا بالرجوع إلى السنة. وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} 3. فهل حكَّم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الرسولَ فيما شجر بينهم واختلفوا فيه؟ وبماذا حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ وبماذا قضى؟ بآباءنا هو وأمهاتنا, وقد أمر الله -عز وجل- أن لا يجد أصحابه -صلى الله عليه وسلم- حرجًا مما قضى ويسلموا تسليمًا؛ فلا تردد في ضمائرهم، وإنما هو التسليم المطلق؛ لأن معناه حق"4. ويقول الخطيب البغدادي يرد على من زعم الأخذ بالقرآن فقط: وهذه النابتة في زماننا ألَا يجب عليهم أن يبحثوا عَمَّا قضى به رسول -صلى الله عليه وسلم- بين أصحابه، وأن لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضى, ويسلموا تسليمًا؟

_ 1 سورة الأحزاب 36. 2 سورة الأحزاب 37. 3 سورة النساء 68. 4 الخطيب البغدادي، والكفاية في علم الرواية ص 8، 9.

أما المؤمنون فسيبحثون؛ لأن قضاءه -صلى الله عليه وسلم- نبراس, وقضاء حق للأمة أولها وآخرها، ولا محيص من الرجوع إلى السنة في ذلك، فإن كان هؤلاء مؤمنين فيسيروا مع ركب الأمة، وإلّا فقد وسموا أنفسهم بالزيغ والخروج عن سبيل المؤمنين. قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} 1. من لم يأخذ بالسنة فقد كفر بالقرآن: قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 2. والبيان هو التبيلغ والإيضاح والشرح والإظهار، فهل بيَّنَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأطاع ربه في ذلك البيان"3. فإن قالوا لم يبيّن فقد كفروا, وإذًا فقد بيَّنَ بجميع وجوه البيان, فإن اعترفوا بذلك، فالبيان هو السنة، فلا يسعهم إلّا الرجوع إليها كما رجع إليها المؤمنون. روى الحاكم في المستدرك عن الحسن قال: "بينما عمران بنحصين يحدِّث عن سنة نبينا -صلى الله عليه وسلم، إذ قال له رجل: يا أبا نجيد! حدثنا بالقرآن، فقال له عمران: أنت وأصحابك تقرأون القرآن، أكنت محدثي عن الصلاة وما فيها وما حدودها؟ أكنت محدثي عن الزكاة في الذهب والإبل والغنم والبقر وأصناف المال؟ ولكن شهدت وغبت أنتم, ثم قال: فرض علينا رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في الزكاة كذا وكذا، فقال الرجل: أحييتني أحياك الله, قال الحسن:

_ 1 سورة النساء 115. 2 سورة النحل 44. 3 الخطيب البغدادي، كتاب الكفاية ص11.

فما مات ذلك الرجل حتى صار من فقهاء المسلمين" وراه الحاكم في المستدرك ج1, ص109, كتاب العلم, وصححه الحاكم, وأقره الذهبي. وقال رجل للتابعي الجليل مطرف بن عبد الله الشخير: لا تحدثونا إلّا بالقرآن، فقال له مطرف: والله ما نريد بالقرآن بدلًا، ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا، يريد رسول الله -صلى الله عليه وسلم1.

_ 1 الخطيب البغدادي: كتاب الكفاية في علم الرواية ص12.

سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم صريحة في القرآن

سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صريحة في القرآن: قال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} 1. يتلو عليكم آياتنا: القرآن. يزكيكم: يطهِّرُ نفوسكم من الجهل بالخالق المنعم، وبكماله سبحانه، وبما يجب له من التعظيم والطاعة، ويطهر قلوبكم من مساوئ الأخلاق، ويحليكم بمكارمها، ويسمو بنفوسكم فتزداد علمًا وتحليًّا بالفضائل، وقربًا من الحق -سبحانه وتعالى, قال تعالى لسيد الخلق: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} . ويعلمكم الكتاب: القرآن. والحكمة: قوله -صلى الله عليه وسلم- حكمة, وعمله -صلى الله عليه وسلم- حكمة، وتقريره -صلى الله عليه وسلم- حكمة. ويعلمكم مالم تكونوا تعلمون: ويعلمكم بواسطته -صلى الله عليه

_ 1سورة البقرة 151.

وسلم- مالم تكونوا تعلمون إلّا عن طريقه1. فهدايته -صلى الله عليه وسلم- هي الهداية, ودينه -صلى الله عليه وسلم- هو الظاهرعلى سائر الأديان؛ لأنه أكمل الأديان, شريعته هي أتمّ الشرائع، فتربيته من أحسن التربيات, ولا بُدَّ أن تظهر وتعم, لأن ما جاء به هو الإيمان الصحيح والعلم النافع، ولهذا يقول الله -عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] و [الصف: 9] وقال أيضًا: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28] , فالله يشهد -سبحانه وتعالى- على أن ما جاءنا به محمد -صلى الله عليه وسلم- هو الدين الحق الذي ارتضاه للخلق جميعًا.

_ 1 الخطيب البغدادي: كتاب الكفاية في علم الرواية ص12، ص13.

المثل الأعلى في التربية

المثل الأعلى في التربية: إن المثل الأعلى في التربية وحسن السلوك ورقيّ الأخلاق، هو رسول -صلى الله عليه وسلم، ذلك أنه رباه رب العالمين, وجعل منه الأسوة العليا, والأنموذج الأعظم للأخلاق، ومنحه في ذلك أعلى الشهادات, فقال عز من قائل: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ، وجعل ذلك منَّةً يمتنُّها على عباده المؤمنين, ونعمة يتحدث بفضلها عليهم؛ فقال -سبحانه وتعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} 1، وقال أيضًا: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} 2.

_ 1 آل عمران: 164. 2 البقرة: 151.

فالله -سبحانه وتعالى- يبين لنا في قرآنه أن سيدنا محمدًا قد بلغ من الشرف والأدب الرفيع ما لم يدرك شأوه بشر؛ إذ وصفه بهذه الصفات البليغة، وقد كان من خلقه -صلى الله عليه وسلم- العلم والحلم، وشدة الحياء، وكثرة العبادة والسخاء والصبر والشكر، والتواضع والزهد، والرحمة والشفقة، وحسن المعاشرة والأدب، إلى غير ذلك من الخلال العلية والأخلاق المرضية التي هي المثل الأعلى في جميع نواحيها، بحيث تتسع لتشمل كل الفضائل والكمالات التي تهدي البشرية, وتعلم الناس في كل زمان ومكان كل معاني الشفقة والطهارة والرحمة. وسيرة النبي المصطفى -صلى الله عليه وسلم- خير مثالٍ لكل من أراد أن يصل إلى درجة الكمال في الأخلاق والأعمال، والقرآن يبيّن لنا في وضوحٍ أن أصحابه الذين تربوا على منهاجه -صلى الله عليه وسلم- قد نالوا هذه الدرجة العليا من السموِّ الأخلاقي، وحازوا بها رضي الله عنهم, فجاء في صفتهم في محكم التنزيل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} 1. فكل من سار على نهجه واستضاء بنوره -صلى الله عليه وسلم, واتبع هديه, صار من خيرة الناس, وأدخله في رضوانه, وأثباه على عمله جنات تجري من تحتها الأنهار, مصداقًا لقوله -عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ، جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} 2.

_ 1 سورة الفتح آية رقم 29. 2 سورة البينة آية رقم 7، 8.

للرسول حقوق على كل من آمن به

للرسول حقوق على كل من آمن به ... للرسول حقوق كل من آمن به 1: إن الله -سبحانه وتعالى- أوجب لنبينا -صلى الله عليه وسلم- على القلب واللسان والجوارح حقوقًا زائدةً على مجرَّدِ التصديق بنبوته، كما أوجب سبحانه على خلقه من العبادات على القلب واللسان والجوارح أمورًا زائدة على مجرد التصديق به سبحانه، وحرَّمَ سبحانه لحرمة رسوله -مما يباح أن يفعل مع غيره- أمورًا زائدة على مجرد التكذيب بنبوته. فمن ذلك: أنه أمر بالصلاة عليه والتسليم, بعد أن أخبر أن الله وملائكته يصلون عليه2، والصلاة تتضمن ثناء الله عليه، ودعاء الخير له، وقربته منه، ورحمته له، والسلام عليه يتضمن سلامته من كل آفة؛ فقد جمعت الصلاة عليه والتسليم جميع الخيرات، ثم إنه يصلي سبحانه عشرًا على من يصلي عليه مرةً واحدةً حضًّا للناس على الصلاة عليه؛ ليسعدوا بذلك، وليرحهم الله بها. ومن ذلك: أنه أخبر أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن حقه أن يجب أن يؤثره العطشان بالماء، والجائع بالطعام، وأنه يجب أن يُوقَى بالأنفس والأموال, كما قال سبحانه: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} 3.

_ 1 سورة البينة آية رقم 7، 8. 2 من كتاب الصارم المسلول على شاتم الرسول, ص297. 3 وذلك في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] . 4 التوبة: 120.

فعلم أن رغبة الإنسان بنفسه أن يصيبه ما يصيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وقال تعالى مخاطبًا للمؤمنين فيما أصابهم من مشقَّات الحصر والجهاد: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} 1. ومن حقه: أن يكون أحب إلى المؤمن من نفسه وولده وجميع الخلق, كما دَلَّ على ذلك قوله سبحانه: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} إلى قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} 2 الآية، مع الأحاديث الصحيحة المشهورة, كما في الصحيح من قول عمر: يارسول الله! لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي, فقال: "لا يا عمر, حتى أكون أحب إليك من نفسك، قال: فأنت والله يا رسول الله أحب إليّ من نفسي، قال: الآن يا عمر 3 "، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" 4 متفق عليه. ومن ذلك: أن الله أمر بتعزيره وتوقيره فقال: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} 5, والتعزيز: اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه، والتوقير: اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام, وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار.

_ 1 الأحزاب: 21. 2 التوبة: 24. 3 رواه الإمام أحمد 3/ 177، والدرامي 2/ 307، ويروى: "لأحب إليه من نفسه"، "أحب إليه من ماله وأهله" النسائي 8/ 115، ابن ماجه 67. 4 الفتح: 9. 5 النور: 68.

ومن ذلك: أنه خصَّه في المخاطبة بما يليق به فقال: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} 1, فنهى أن يقولوا: يا محمد، ويا أحمد، أو يا أبا القاسم، ولكن يقولوا: يا رسول الله، يا نبي الله، وكيف لا يخاطبونه بذلك والله -سبحانه وتعالى- أكرمه في مخاطبته إياه بما لم يكرم به أحدًا من الأنبياء، فلم يدعه باسمه في القرآن قط، بل يقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} 2، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} 3، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} 4, {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} 5, {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} 6، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ} 7, {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} 8، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} 9، {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ} 10, {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ} 11، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} 12، مع أنه سبحانه قد قال: {وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ} 13, {يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} 14, {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} 15, {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} 16, {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} 17, {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} 18, {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ} 19.

_ 1 النور: 63. 2 الأحزاب: 28. 3 الأحزاب: 50. 4 الأحزاب: 1. 5 الأحزاب: 59. 6 الأحزاب: 45. 7 الطلاق: 1. 8 التحريم: 1، 2. 9 المائدة: 67. 10 المزمل: 1. 11 المدثر: 1، 2. 12 الأنفال: 64. 13 البقرة: 35. 14 البقرة: 33. 15 هود: 46. 16 هود: 76. 17 الأعراف: 144. 18 ص: 26. 19 المائدة: 110.

ومن ذلك: أنه حرَّم التقدم بين يديه بالكلام حتى يأذن، وحرَّم رفع الصوت فوق صوته، وأن يجهر له بالكلام كما يجهر الرجل للرجل، وأخبر أن ذلك سبب حبوط العمل1، فهذا يدل على أنه يقتضي الكفر؛ لأن العمل لا يحبط إلّا به، وأخبر أن الذين يغضون أصواتهم عنده هم الذين امتحنت قلوبهم للتقوى، وأن الله يغفر لهم ويرحمهم، وأخبر أن الذين ينادونه وهو في منزله لا يعقلون؛ لكونهم رفعوا أصواتهم عليه, ولكونهم لم يصبروا حتى يخرج، ولكن أزعجوه إلى الخروج2. ومن ذلك: أنه حرَّمَ على الأمة أن يؤذوه بما هو مباح أن يعامل به بعضهم بعضًا، تمييزًا له، مثل نكاح أزواجه من بعده، فقال تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} 3. وأوجب على الأمة لأجله احترام أزواجه، وجعلهن أمهات في التحريم والاحترام، فقال -سبحانه وتعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} 4. وأما ما أوجبه من طاعته والانقياد لأمره والتأسي بفعله, فهذا باب واسع، لكن ذلك قد يقال: هو من لوازم الرسالة، وإنما الغرض5 هنا

_ 1 وذلك في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 1-2] . 2 وذلك في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} إلى {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات 3-5] . 3 الأحزاب: 53. 4 الأحزاب: 6. 5 الصارم المسلول, ص300، ص301.

أن ننبِّه على بعض ما أوجبه الله له من الحقوق الواجبة والمحرمة مما يزيد على لوازم الرسالة، بحيث يجوز أن يبعث الله رسولًا ولا يوجب له هذه الحقوق. ومن ذلك: أن الله رفع له ذكره، فلا يذكر الله سبحانه إلّا ذُكِرَ معه، ولا تصح للأمة خطبة ولا تشهد حتى يشهدوا أنه عبده ورسوله، وأوجب ذكره في كل خطبة، وفي الشهادتين اللتين هما أساس الإسلام، وفي الأذان الذي هو شعار الإسلام، وفي الصلاة التي هي عماد الدين، إلى غير ذلك من المواضع. هذا، إلى خصائص له أُخَر يطول تعدادها. وهذه المعاني الجليلة يجدر بنا أن نعلمها أبناءنا حتى يشبوا على محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ويحفظوا له توقيره في نفوسهم وأعماق قلوبهم, وحتى يعلِّمُوا الأجيال من بعدهم هذه الأصول الثابتة في الدين, وتلك الخلال المرعية في التربية1.

_ 1 الصارم المسلول على شاتم الرسول, ص300.

ثالثا: هدى الصحابة

ثالثا: هدى الصحابة مدخل ... ثالثًا: هدي الصحابة: الصحابة هم أولئك الذين صحبوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ونهلوا من معين معارفه, وتخرجوا في مدرسته, وتأدبوا بآدابه، وتحققت فيهم كل معاني الخلافة في الأرض؛ لأنهم تربوا بآداب القرآن وبآداب المصطفى -صلى الله عليه وسلم_ قلبا وروحًا, وجسدًا وعقلًا، وخلقًا وسلوكًا، وإذا كانوا يشعرون أن عين الله تراقبهم, وأن سمع الله إليهم، وأن ما يلفظ أحد منهم من قول، بل ما ينوي من نية إلّا وقد تصبح مكشوفةً للناس يتنزل في شأنها قرآن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأسلموا صدورهم لله, وقلوبهم لله, وأحبوا الله ورسوله حبًّا لا يدانيه حب, واتصلوا جميعًا بالسماء ذكرانًا وإناثًا، وكان الواحد منهم إذا حزبه أمر أو واجهته معضلة دعا, ولدعائه تتفتح أبواب السماء, ويتنزل منها حلٌّ لمعضلته, أوفتوى في أمره, أو قضاء في شأنه. ورُوِيَ أن معقل بن يسار زوَّج أخته رجلًا من المسلمين على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فكانت عنده ما كانت, ثم طلقها تطليقةً لم يراجعها، حتى انقضت عدتها، فهويها وهويته، ثم خطبها مع الخطاب فقال معقل له: أكرمتك بها فطلقتها، والله لا ترجع إليك أبدًا, قال: فعلم الله -سبحانه وتعالى- حاجته إليها, وحاجتها إلى بعلها, فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} 1. فلما سمعها معقل قال: سمعًا لربي وطاعة، ثم دعاه فقال: أزوجك وأكرمك، فزوجه إياها2.

_ 1 البقرة: 232. 2 الترمذي، جامع الترمذي، ج5, ص216, الحديث رقم 2981, من كتاب تفسير القرآن.

تربية الله للصحابة

تربية الله للصحابة: كان القرآن يتنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليربي هذا الجيل العظيم جيل الصحابة, وليؤهلهم لحمل رسالة التبليغ، تبليغ الدين للبشرية كلها، ولتعليم الناس في أرجاء المعمورة كيف يعبدون الله -عز وجل- لا يشركون به شيئًا، ليبلغوهم بالدين الحنيف, وليطهروا الوجود من عبث الشياطين وطغيان الظالمين, وليوفروا الأمان للإنسان في كل مكان، ومع إخلاص العبادة يتصل الإنسان بالسماء، وباتصاله بالسماء ينصلح كل ما على الأرض، وتحققت تربية الله لهم على مدى عشر سنوات هي مدة القرآن المدني, حتى كان أحدهم يؤمن إيمانًا مطلقًا بأن الله -سبحانه وتعالى- معه يراقبه, ويحصي عليه حركاته وسكناته وأنفاسه، ووثِقَ كلٌّ منهم أن في مقدروه أن يستتر من الناس, لكن ليس بمقدروه أن يستتر من الله, وكيف يستتر من الله أو يخفي في نفسه أمرًا منه, والله تعالى يقول: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} 1، ويقول: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} 2. وكيف يخفي عن الله شيئًا مهما صغر في أي مكان, مهما خفي على الناس, وهو يعلم قول الله -عز وجل: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} 3. لما كان يوم فتح مكة أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلالًا حتى أذن على ظهر الكعبة، فقال عتاب بن أسيد بن أبي العيص: الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم، وقال الحارث بن هشام: أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنًا؟ وقال سهيل بن عمرو: إن يرد الله شيئًا

_ 1 سورة طه آية: 7. 2 سورة البقرة من آية: 284. 3 سورة سبأ آية 3.

يغيره، وقال أبو سفيان: إني لا أقول شيئًا, أخاف أن يخبر به رب السماء, فأتى جبريل -عليه السلام- النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخبره بما قالوا، فدعاهم وسألهم عما قالوا, فأقروا: فأنزل الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} , وزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقراء. وكان ثابت بن قيس بن شماس يحب أن يجلس إلى جنب رسول الله -صلى الله عليه سلم؛ لأنه كان في أذنه وقر, فكان إذا أتى أوسعوا له حتى يجلس إلى جنبه، فجاء يومًا وقد أخذ الناس مجالسهم, فجعل يتخطى الرقاب ويقول: تفسحوا تفسحوا، فقال له رجل: قد أصبت مجلسًا فأجلس، فجلس ثابت مغضبًا، فغمز الرجل فقال: من هذا؟ فقال: أنا فلان، فقال ثابت: ابن فلانة, وذكر أمًّا كانت له يعيَّرُ بها في الجاهلية، فنكَّس الرجل رأسه استحياءً، فأنزل الله -سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} 1 الآية, وقيل أيضًا: إن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 2. نزلت في ثابت بن قيس، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الذاكر فلانة؟ فقال ثابت: أنا يا رسول الله, فقال: انظر في وجوه القوم, فنظر فقال: ما رأيت يا ثابت؟ فقال: رأيت أبيض وأحمر وأسود، قال: فإنك لا تفضلهم إلّا في الدين والتقوى3. لقد كان كلام الله بالنسبة لهم المنهاج اليومي الذي يتلقونه ليعملوا به فورًا, فلا يتخلَّف أحدٌ منهم ولا يتباطأ منهم فرد, بل يسارعون إلى التنفيذ والتلبية.

_ 1 الحجرات: 11. 2 الحجرات: 13. 3 أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري: أسباب النزول, الطبعة الثانية "1378 هـ - 1986م" مكتبة ومطبعة مصطفى البابي بمصر.

وكانت المرأة في الجاهلية تمرُّ بين الرجال كاشفةً صدرها, لا يورايه شيء, وربما أظهرت عنقها، وذوائب شعرها وأقرطة أذنها, كانت تفعل ذلك لأن قانون الجماعة لا يحرمه، وعُرْف البيئة لا يمنعه، حتى جاء أمر الله -سبحانه وتعالى، ونزل توجيهه لتربية الأمة الإسلامية, قال تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} 1. فامتثل النساء لتوجيه الله وهديه، ولم تمتنع منهن واحدة عن الخضوع لأمر الله، وانقلب رجالهن يتلون عليهن ما أنزل الله، فيتلو الرجل على زوجته وابنته وأخته, وعلى كلِّ ذي قرابة, فما منهن امرأة إلّا قامت إلى مرطها فاعتجرت به تصديقًا وإيمانًا بما أنزل الله من كتابه, فأصبحن وراء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معتجرات2. عن أم عمارة الأنصارية أنها أتت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: ما أرى كل شيء إلّا الرجال, وما أرى النساء يذكرن بشيء؟ فنزلت هذه الآية: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} 3. يقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه: كنت صاحب خمر في الجاهلية، فقلت: لو أذهب إلى فلان الخمّار فأشرب، وظلّ عمر يشرب الخمر في الإسلام حتى نزل قول الله

_ 1 سورة النور: آية رقم 31. 2 الترمذي، جامع الترمذي, ج5, ص354, حديث رقم 3211. 3 الأحزاب: آية 35.

تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} 1. قال: اللهم بيِّن لنا بيانًا شافيًا في الخمر، واستمرَّ في الشرب، حتى نزلت {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} 3. قال عمر: انتهينا، انتهينا4. وهكذا حُرِّمَتْ الخمر؛ لأن القرآن يهدف إلى تربية جيل يكون دائمًا مرتبطًا بدينه, وثيق الصلة بربه، مراقبًا له في كل خطوة، في كل لحظة، في كل همسة, وكان يستهدف من وراء ذلك إيجاد اليقظة الدائمة، والصحوة المستمرة لهذا الجيل. يقظة مستمرة في عقله، وصحوة دائمة في وجدانه، حتى يستطيع أن يؤدي تكاليف الخلافة، التي كلفه الله بها، يؤدي تكاليفها تجاه نفسه، ويؤدي ما عليه تجاه الجماعة التي يعيش معها, يؤدي ما فرضه عليه ربه من فروض وواجبات، ولن يتم ذلك بالكامل ولن يستقيم

_ 1 سورة البقرة آية رقم 219. 2 سورة النساء آية رقم 43. 3 سورة المائدة آية رقم 90 و91. 4 رواه أبو داود، والترمذي والنسائي, ورواه أبو الحسن بن أحمد الواحدي في كتابه: أسباب نزول القرآن, ص118.

وهو دائمًا نصف يقظٍ ونصف مخمور. ولقد استجاب المسلمون لأمر ربهم، ولم يحتج الأمر إلى إصدار قانون أو عدة قوانين، أو صرف ملايين الجنيهات كما فعلت بعض الدول الكبرى في مجتمعنا المعاصر، ولم توفَّق إلى تحريم الخمر. لقد استجاب المسلمون لأمر ربهم في تحريم الخمر، واستجابوا له في الامتناع عما نهاهم عنه، وأصاخوا له في تكريم المرأة والرفق بها، التسليم الكامل في إعطائها حقوقها كاملة، وبذلوا أرواحهم رخيصة في سبيل الله, واعتبروا أن ما في أيديهم من مالٍ أوعقارٍ، هو عارية مردودة، وأن المال، مال الله، وأن الأرض يورثها من يشاء من عباده، فكانوا يتسابقون في الإنفاق. وجاءت آيات كثيرة في القرآن لتشجيع المسلمين على التبرع بالنفقة والصدقة, واشترط القرآن على أولئك المنفقين من أموالهم في سبيل الله، أن يكون ذلك من أحب الأموال إليهم ومن أجودها. ورباهم القرآن على أن المال، مال الله، وأن الرزق الذي في أيدي الواحد منهم هو رزق الله. وكان مجرد إحساس الفرد أن ما في يده عارية محددة بأمد، ثم يستردها صاحبها الذي أعارها في الأجل المرسوم. وكان مجرد استحضار هذه الحقائق كفيل وحده، أن يخفف من الشَّرَهِ والطمع في داخل النفس البشرية، ويبعدها عن الشح1 والحرص، ويجعلها تترك التكالب المسعور في جمع المال، وبالتالي يملأها بالقناعة والرضى بما يعطيها الله، ويكسبها السماحة والجود

_ 1 د/ عبد الرحمن عميرة: رجال أنزل الله فيهم قرآنًا, المقدمة ج1/ ص13، 14.

بالموجود"1. ومن هنا يطمئن القلب فلا يضطرب، ويقر الوجدان فلا يقلق، وتستريح النفس فلا تذهب حسرات على فائت أوضائع؛ لأن عمر الإنسان القصير المحدود لست نهاية الحياة، ولا نهاية المتاع, قال تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} 2. ولا يتحرّق القلب سعارًا على المرموق المطلوب, قال تعالى: {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} 3. ولا يتعالى صلفًا وغرورًا بما أعطي, قال تعالى: {وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ} 4. فإذا أعطى الواحد من ماله شيئًا, فإنما من مال الله أعطى، قال تعالى: {أَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} 5. وإذا قدَّمَ حسنةً فإنما هي قرض الله يضاعفه له أضعافًا كثيرة، يضاعفه له في الدنيا، ويضاعفه له في الآخرة، قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} 6. ولس المحروم الآخذ إلّا أداة وسببًا لينال المعطي الواهب أضعاف ما أعطى من مال الله, قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 7.

_ 1 المصدر السابق والصفحة. 2 سورة النساء آية رقم 77. 3 سورة الحديد آية رقم 23. 4 سورة الحديد آية رقم 23. 5 سورة الحديد آية 7. 6 سورة البقرة آية رقم 245. 7 سورة البقرة آية رقم 261.

تربية الرسول للصحابة

تربية الرسول للصحابة: نلاحظ أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد استوعب أصحابه وهم كثيرون بالتوجيه والتربية النموذجية, في فترة تعتبر قياسية على المستوى العالمي؛ بحيث لا يستطيع جهاز أمة من الأمم في قرون أن يستوعب نفس القدر من الصحابة, وبنفس المستوى الرفيع, فما هي الميزة التي اختصر بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- الطريق في التربية على هذه الصورة. يقول فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي: "لقد أجاد -صلى الله عليه وسلم- المنهج الإسلامي في التربية, وهو أن يحسن المرِبي -بكسر الباء- كيف يأخذ المربَّى -بتفح الباء, ومن اقتصر طريق إلى موقع الحق في أي قضية من القضايا. هذه القضية قد تكون صعبة, وللعقل فيها وقفة, ولكن لياقة المربي وحسن استعداده واتساع ثقافته, تتصبح كلها أدوات تعينه على أن يصل بالمربى إلى الحقيقة التي يريدها من أيسر طريق إلى الفهم, وبأقل وسيلة في الإقناع. وقد أخرج الإمام أحمد والبيهقي في الشعب, عن أبي أمامة -رضي الله عنه, أن فتًى شابًّا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال يا رسول الله، إن امرؤ أحب النساء, فائذن لي بالزنا, فأقبل القوم عليه فزجروه, فقال: "ادن" فدنا منه قريبًا, فقال: "اجلس" فجلس, فقال -صلى الله عليه سلم: "أتحبه لأمك"؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: "وكذلك الناس لا يحبه لأمهاتهم، أفتحبه لابنتك"؟ قال: لا والله يا رسول الله, جعلني الله فداءك؟ قال: "وكذلك الناس لا يحبونه لبناتهم, أفتحبه لأختك"؟ قال: لا والله يا سول الله, جعلني الله فداءك, قال: "وكذلك الناس

لا يحبونه لأخواتهم، أفتحبه لعمتك"؟ قال: لا والله يا رسول الله, جعلني الله فداءك, قال: "وكذلك الناس لا يحبونه لعماتهم, أفتحبه لخالتك"؟ قال: لا والله يا رسول الله, جعلني الله فداءك؟ قال: "وكذلك الناس لا يحبونه لخالاتهم". قال: فوضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يده عليه, وقال: "اللهم اغفر ذنبه, وطهر قلبه, وحصن فرجه". قال: فلم يكن بعد ذلك يلتفت إلى شيء, وقال: فوالله ما همتْ نفسي بمعصية من ذلك النوع إلّا ذكرت أن يفعل بأمي أو بزوجتي أو بابنتي فأمتنع. إذن فالرسول -صلى الله عليه وسلم- واجه بتشبيع المسألة من أقرب طريق يتصل به، وبكرامته، وبعواطفه، وبمكانته، وبمقامه, فإذا ما أراد أن يفعل ذلك تذكَّر ما يمكن أن يفعل به"1. وبهذا الأسلوب المقنع عالج الرسول -صلى الله عليه وسلم- كثيرًا من الرذائل التي تفشَّت في العرب, لا سيما القتل، إذ انتشرت بينهم جريمة القتل والاعتداء على النفس, وربما تتحول إلى وقوع الحروب بين القبائل لأتفه الأسباب, ولم يكن لهم قانون يقضي على هذه الجريمة, ويوقف هذا النزيف الدموي, حتى جاء الرسول الكريم فأوقف هذا النزيف بتربية القرآن لهم؛ حيث يقول الله -سبحانه وتعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الإسراء: 33] , وبتربيته لهم -صلى الله عليه وسلم؛ إذ بيَّن لهم الحق الذي تزهق به النفوس في قوله عن ابن مسعود -رضي الله عنه: "لا يحل دم امرئٍ مسلم إلّا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس

_ 1 جريدة الأهرام, ملحق الجمعة بتاريخ 2 يناير 1998, مقال بعنوان "هكذا يتكلم الشعراوي- المنهج التربوي في الإسلام- ص10.

بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة" رواه البخاري ومسلم, وما روي عنه -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه الترمذي بسنده, عن عبد الله بن عمرو, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لزوالُ الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم" 1. وهناك أحاديث كثيرة تبين لنا الآداب وفضائل الأعمال التي بثَّها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في نفوس الصحابة, وطهَّرَ بها قلوبهم, ومحا ما علق بها من آثار الجاهلية. هكذا سلك الرسول -صلى الله عليه وسلم- مسلكًا راقيًا في توجيه صحابته، وهذا المسلك يعتبر من أعظم المناهج في التربية؛ لأن قوامه الرأفة والرفق والموعظة الحسنة، استطاع به أن يحوّل كثيرًا من العرب إلى رجال صالحين ونساء صالحات, بصبره عليهم ورأفته بهم, فنقلهم من رعاة إبلٍ غلاظٍ يشعلون الحرب لأوهى الأسباب, إلى قادةٍ عظماء هداة مرشدين. ومن يقرأ كتب السنة يدرك مدى جهاده -صلى الله عليه وسلم- في تعليم العرب رجالًا ونساءً, وصبره عليهم، ولسوف يطَّلِعُ على أمورٍ في التعليم والتربية من أمتع وأعظم الأساليب في هذا المجال، ثم إنهم من بعده نهضوا بهذه التربية خير نهوض حين فتحوا البلاد شرقًا وغربًا، برًّا وبحرًا, فكانوا مشاعل هداية أوصلوا نور الإسلام إلى جميع البشرية.

_ 1 الترمذي، جامع الترمذي, باب ما جاء في تشديد قتل المؤمن, ج4/ 16, من طبعة مصطفى البابي الحلبي.

الصحابى إنسان عالمي

الصحابي إنسان عالمي: هكذا أدَّبَ الله صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وهكذا أدَّبهم رسول الله بسنته وموعظته حتى أصبحوا مجتمعًا له عقيدة تختلف عن كل العقائد التي توارثوها عن الآباء والأجداد, مجتمعًا يستمد عقيدته من السماء، مجتمعًا ربانيًّا ينبثق فيه التعامل مباشرة من الإيمان بالله تعالى والتحاكم إلى شرعه، وصار هناك مفهوم جديد لمن تربى بهذه التربية، هذا المفهوم يطرح القبلية والعصبية والعنصرية, ويقبل على الناس جميعهم بروح المساواة والعدالة: إنه الإنسان العالمي الذي يشعرنا بالانتماء إلى الأسرة الإنسانية كلها, من واقع ما عرفه من دين الله الذي يدعو إلى التعارف والتآلف, ويأمر بالعدل والإحسان وتقديم الخير للبشرية، ويحقق السعادة للناس جميعًا؛ أسودهم وأبيضهم, وأحمرهم وأصفرهم, فالكل يتساوى أمام نظرة هذا الإنسان الجديد الذي لا تميزه عنصرية, ولا يحجبه عن الناس شيء. ولقد كانت تربية الله لمجتمع الصحابة بكلامه وبإرشاد رسوله -صلى الله عليه وسلم- شاملة لجميع مناحي الحياة, في حالات السلم وحالات الحرب، فقد مروا باختبارات عملية تصهرهم بتجارب قاسية؛ لتخلق منهم الرجال الأشداء الأقوياء الذين لا يهابون شيئًا إلّا الله, وجعل الله منهم رجالًا مؤمنين ونساء مؤمنات, من طبقة عالية في الصدق والأمانة ودماثة الخلق, فصاروا أمةً من أرقى الأمم, لم يأت مثلهم في أمة سابقة, ولن يأتي مثلهم في أمة لاحقة, فكانوا بحقٍّ خير أمة أُخْرِجَتْ للناس، لهذا نجد علماء المسلمين الذين كانوا يقومون بجمع الحديث النبوي لا يسألون عن الصحابي، بسبب تعديل الله لصحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجمعين, وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد توفي عن

مائة ألف إنسانٍ من رجل أو امرأة, كلهم قد روى عنه سماعًا أو رؤية1. وهؤلاء الصحابة قد شهد الله لهم بصدق حديثهم وطهارتهم, فعدَّلهم في قرآنه, ووصفهم بأنهم خير أمة أخرجت للناس, ولهذا يقول أبو بكر الخطيب البغدادي في باب ما جاء في تعديل الله ورسوله للصحابة: "كل حديث اتصل إسناده بين من رواه وبين النبي -صلى الله عليه وسلم, لم يلزم العمل به إلّا بعد ثبوت عدالة رجاله، ويجب النظر في أحوالهم سوى الصحابي الذي رفعه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم، وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم في نص القرآن"2. فمن ذلك قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ، وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} . [البقرة: 143] . وهذا اللفظ وإن كان عامًّا فالمراد به الخاص، وقيل: هو وارد في الصحابة دون غيرهم3، وقوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} ، وقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} ، وقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} ، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، وقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ

_ 1 ابن حجر العسقلاني: الإصابة في تمييز الصحابة, ج1/ 3، دار الكتب العلمية، بيروت, نسخة طبق الأصل عن النسخة المطبوعة سنة 1853 في بلدة كلكتا. 2 الخطيب البغدادي: كتاب الكفاية في علوم الرواية, ص92. 3 المصدر السابق ص93.

دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} في آيات يكثر إيرادها، ويطول تعدادها، ووصف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصحابة مثل ذلك، وأطنب في تعظيمهم، وأحسن الثناء عليهم1. وروي، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن الله اختارني، واختار أصحابي، فجعلهم أصهاري، وجعلهم أنصاري، إنه يجيء في آخر الزمان قوم ينتقصونهم، ألا فلا تناكحوهم، ألا فلا تنحكوا إليهم، ألا فلا تصلوا معهم، ألا فلا تصلوا عليهم، عليهم حلت اللعنة"2. والأخبار في هذا المعنى تتسع، وكلها مطابقة لما رود في نص القرآن، وجميع ذلك يقتضي طهارة الصحابة، والقطع على تعديلهم ونزاهتهم، فلا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله لهم، المطلع على بواطنهم، إلى تعديل أحد من الخلق, فهم على هذه الصفة إلّا أن يثبت على أحد ارتكاب ما لا يحتمل إلا قصد المعصية والخرج من باب التأويل، فيحكم بسقوط العدالة, وقد بَرَّأَهم الله من ذلك, ورفع أقدارهم عنده، على أنه لو لم يرد من الله -عز وجل, ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه, لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة، والجهاد والنصرة، وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين، والقطع على عدالتهم، والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم

_ 1 المصدر السابق ص94. 2 المصدر السابق ص96.

افضل من جميع المعدلين والمزكين، الذين يجيئون من بعدهم أبد الآبدين1. هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقوله من الفقهاء. أخبرنا أبو منصور محمد بن عيسى الهمذاني، ثنا صالح بن أحمد الحافظ قال: سمعت أبا جعفر أحمد بن عبدل يقول: سمعت أحمد بن محمد بن سليمان التستري يقول: سمعت أبا زرعة يقول: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدّى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا، ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، هم زنادقة"1.

_ 1 المصدر السابق ص97.

رابعا: هدى التابعين

رابعا: هدى التابعين مدخل ... رابعًا: هدي التابعين التابعي هو من لقي الصحابي وأخذ عنه وتعلم منه ومات على الإسلام, وبالجملة فإن التابعين هم الذين تحمّلوا عن الصحابة العلم، علم القرآن وعلم السنة التي ترجمت القرآن إلى أسلوب عمل ومنهاج حياة. ولقد نقل لنا التاريخ سير هؤلاء التابعين, ونقل الرواة كثيرًا من اجتهاداتهم وعبادتهم وفتاواهم، ما يبين لنا في وضوحٍ مدى اقتدائهم بالجيل الأوّل في الأعمال الصالحة, والمحافظة على القيم الإسلامية الرفيعة التي بثها فيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم.

التابعون في القرآن

التابعون في القرآن 1: قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 2. قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} ، تشمل من تبع السابقين الأولين من الصحابة، وغيرهم ممن حمل علمهم, وعمل بعملهم. وقد تبع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أخذ عنهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وليس العهد ببعيد, فما بينهم وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلّا واسطة واحدة، هم أعلم الناس بكتاب الله وسنة رسول الله؛ لأنهم الذين عاشروا رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ورأوا هديه, واهتدوا به، ونظروا قضاءه وحكمه فيما اختلف الناس فيه، وشهدوا أخلاقه وآدابه وأحواله, وتصرفه في السلم والحرب والمعاهدات وأمور الدنيا والآخرة, واستقى كل بقدر استعداده من ينبوع الفيض الرباني, وانعكس نوره -صلى الله عليه سلم- على أرواحهم وقلوبهم النقية الطاهرة، فكانوا أبرَّ خلق الله وأفضل الأمم، وهم أولى الأمة بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 3. وهؤلاء التابعون الذين اختارهم الله -عز وجل- لإقامة دينه، وخصَّهم بحفظ فرائضه وحدوده وأمره ونهيه وأحكامه وسنن رسوله -صلى الله عليه سلم, وآثاره, فحفظوا عن صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما نشروه وبثوه من الأحكام والسنن والآثار، فأتقنوه وفقهوا فيه وعلّموه، فكانوا من الإسلام والدين ومراعاة أمر الله -عز وجل, ونهيه، كما وصفهم الله -عز وجل, ونصبهم له: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} 4.

_ 1 راجع الخطيب البغدادي: كتاب الكفاية, ص13، 14. 2 سورة التوبة: 100. 3 سورة آل عمران 110. 4 سورة التوبة 100.

التابعون في السنة

التابعون في السنة: إنه لما تفرقت الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين- في الأمصار التي فتحوها، بثَّ كل واحد منهم في ناحيته, وبالبلد الذي نزله, علمه الذي أخذه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فحكموا بحكم الله -عز وجل, وأمضوا الأمور على ما سنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وقد تعلَّم منهم وأخذ عنهم ناس كثيرون, حملوا عنهم جُلَ علومهم من الفرائض والأحكام والحلال والحرام والآداب, وذلك في كل بلد من البلدان، ومنهم خلق كثير اختصوا بالعلم وعُرِفُوا به, فهم الطبقة الثانية بعد أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وقد سماهم أهل العلم التابعين؛ لأنهم يندرجون فيمن تبع السابقين الأولين بإحسان. وهم الذين عناهم الرسول الكريم في الحديث المروي عن عمران بن حصين، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يخلف قوم تسبق أيمانهم شهادتهم، ثم يظهر فيهم السمن" 1. فهؤلاء الطبقة الذين أخذوا عن صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأحكام والسنن والآثار أتقنوا العلم وفقهوا فيه، فصاروا برضوان الله -عز وجل- وجميل ما أثنى عليهم, بالمنزلة التي نزههم الله بها, بعيدين عن أن يلحقهم مغمز, أو تدركهم وصمة؛ لتيقظهم وتثبتهم؛ ولأنهم البررة الأتقياء الذين ندبهم الله -عز وجل- لإثبات دينه, وإقامة سننه وسبله2.

_ 1 الخطيب البغدادي: كتاب الكافية في علم الرواية، ص95. 2 راجع، ابن أبي حاتم، الجرح والتعديل ج 1/ 9 المقدمة.

طبقات التابعين

طبقات التابعين: والتابعون ثلاث طبقات: كبرى ومتوسطة وصغرى, جمعيهم كانوا مشاعل هدايةٍ لأهل المناطق التي عاشوا فيها في بلاد الحجاز والعراق وخراسان والشام ومصر واليمن، فمن الطبقة الأولى: سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي "ت94", فقيه الفقهاء وأفضل التابعين, وكان من أحفظ الناس لأحكام عمر وأقضيته, حتى كان يسمى رواية عمر, وأيضًا أثبت التابعين في أبي هريرة, كان يُعَلِّمُ الناس بالمدينة1. وكان بالمدينة أيضًا عروة بن الزبير, وهو أحد الفقهاء السبعة، وهو أعلم الناس بحديث عائشة، وقيل: إن أعلم الناس بحديث عائشة ثلاثة: "القاسم بن محمد، عروة بن الزبير، وعمرة بنت عبد الرحمن"2. وفي الكوقة 2: وبها كان الفقهاء بعد أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم, من تلامذة عبد الله بن مسعود. - علقمة بن قيس النخعي "ت73"، وعبيدة السلماني "ت73". - وشريح القاضي, وكان قد ولي القضاء لعمر وعثمان وعلي ومعاوية ستين سنة, إلى أيام الحجاج فاستعفى, وله مائة وعشرون سنة.

_ 1 السيوطي: طبقات الحفاظ, بتحقيق علي محمد عمر, ص17، 18، نشر مكتبة وهبة, عابدين، القاهرة، الطبعة الأولى، 1393هـ، 1973م. 2 المصدر السابق، ص13، وما بعدها.

- ومسروق بن الأجدع الهمداني "ت63هـ". - عبد الرحمن بن أبي ليلى "ت83", وكان يدرس للناس, وفي حلقته نفر من الصحابة, منهم: البراء بن عازب. وبالبصرة 1: - أبو العالية رفيع بن مهران الرياحي "ت 93 أو 106 أو 100". وليس أحد بعد الصحابة أعلم بالقرآن منه, وبعده سعيد بن جبير, وبعده السدي, وبعده سفيان الثوري. - ومطْرَف بن عبد الله الشخير العامري "ت95", وهو من الفضلاء الثقات الورعين العقلاء الأدباء2. وبالشام: -عبد الرحمن بن غنم الأشعري "ت78هـ", وكان يُعْرَفُ بصاحب معاذ بن جبل, لملازمته له, وكان أفقه أهل الشام، وكثير بن مرة الحضرميّ، وجبير بن نفير بن مالك, وهو من أحسن التابعين روايةًَ عن الصحابة3. - أبو إدريس الخولاني "ت80هـ", وكان قاص أهل الشام وقاضيهم4. وغير أولئك كثير.

_ 1 السيوطي، طبقات الحفاظ، ص22. 2 المرجع السابق، ص24. 3 المرجع السابق، ص16. 4 المرجع السابق، ص18.

ثم يلي هؤلاء الطبقة الثالثة, وهي الوسطى من التابعين منهم: - الحسن بن أبي الحسن يسار البصري, الذي طبقت شهرته الآفاق "ت10". - وإبراهيم النخعيّ بن يزيد بن قيس, فقيه أهل الكوفة ومفتيها هو والشعبي في زمانهما "ت96". - ونافع مولى ابن عمر - أبو عبد الله المدني "ت116", وكان عمر بن عبد العزيز قد بعثه إلى مصر يعلمهم السنن1. - وعليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب "ت 95 أو 100". - وسعيد بن جبير الأسدي الكوفي "ت92هـ", قتله الحجاج, وما على ظهر الأرض أحدٌ إلّا وهو محتاج إلى علمه2. - ومحمد بن سيرين "ت110", ولم يكن بالبصرة أحد أعلم منه بالقضاء2, يعبر الرؤيا رأي ثلاثين من الصحابة. - وعامر بن شراحيل الشعبي, علَّامة التابعين "ت114", وقد أدرك خمسمائة من الصحابة, ومنهم: عمر بن عبد العزيز "101هـ-719م", وكان بالشام, لمع اسم عمر بن عبد العزيز كزاهد حتى كاد يخفى سيرة خلافته العادلة، ويبقى زهده وورعه، ولكن الحقّ أن سيرة الخليفة الذي يعده أهل السنة والجماعة من سلسلة الخلفاء الراشدين, هذه السيرة أبت إلّا أن تقرن عدله بزهده، وكأن خلافته دعمت نظرية الزهد وغذتها، فأثبت أنه في

_ 1 المرجع السابق، ص40. 2 المرجع السابق، ص31. 3 المرجع السابق، ص32.

الإمكان الجمع بين الخلافة والزهد, أعني بين الرياسة أو امتلاك ناصية الحكم والتصرف في شئون المسلمين، وبين الحياة الوجدانية وأعمال القلوب في إطارها الإسلاميّ الأصيل, الذي يُعَدُّ عمر بن عبد العزيز أحد الرواد الأوائل فيه، فأصبح من المألوف أن يعتبره أهل السنة والجماعة خامس الخلفاء الراشدين1. وكان له صلة أيضًا بزهاد البصرة -وعلى رأسهم الحسن البصري, وكذلك بالمدينة وإمامها حينئذ سعيد بن المسيب, فقد أصبح هذا المثلث المدعم بثلاثة من التابعين، سمة بارزة للحياة الوجدانية المحافظة على القيم الإسلامية المثالية حينذاك كلٌّ في مجاله2. وتبادل الخليفة عمر بن عبد العزيز مع هذين التابعين الرسائل المتعددة في مجال الاستمساك بهذه القيم، بل إن تأثيره تعداهما إلى عامّة الناس إبّان حكمه لتقليده في قراءة القرآن والصلاة والعبادة، فأصبح المسلمون يقلدونه "يلقى الرجل الرجل فيقول: كم وردك؟ كم تقرأ كل يوم؟ ماذا صليت البارحة؟ "3. وكان باليمن من التابعين وهب بن منبه "ت110هـ", وهو نموذج من هؤلاء الذين عرفوا كتب الأوائل, وله صلاح وعبادة، ويُرْوَى عنه أقوال حسنة وحكم ومواعظ, يحدثنا عن نفسه فيقول: "قرأت اثنين وتسعين كتابًا كلها أنزلت من السماء"4، فكان ينقل للمسلمين

_ 1 ألحقه سفيان الثوري بالخلفاء الراشدين، وعد الخلفاء الراشدين خمسة "ابن الأثير/ الكامل جـ5 ص26". 2 د. مصطفى حلمي: مع المسلمين الأوائل في نظرتهم للحياة والقيم، نشر دار الدعوة، الطبعة الثانية،1409هـ 1989م، ص96، 97. 3 ابن كثير: البداية والنهاية، جـ9، ص96 97. 4 ابن سعد: الطبقات الكبرى، جـ5, ص543.

القصص عن أخبار بني إسرائيل الذين حادوا عن الطريق القويم، وربما كان يقصد تحذير الزهاد بخاصة, والمسلمين بعامة من تقليدهم"1. وكان باليمن طاوس بن كيسان اليماني "110", أدرك خمسين صحابيًّا, وكان من عباد أهل اليمن وسادات التابعين2. وبمكة مجاهد بن جبر "مات سنة 100 أو 102 أو 103 أو 104", تلميذ ابن عباس الذي نقل عنه التفسير. وعكرمة مولى ابن عباس, وكان أعلم الناس بسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم. قال قتادة: أعلم التابعين أربعة: كان عطاء بن رباح أعلمهم بالمناسك، وكان سعيد بن جبير أعلمهم بالتفسير, وكان عكرمة أعلمهم بسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم، وكان الحسن أعلمهم بالحلال والحرام3. وغير أولئك كثير. أما طبقة صغار التابعين. فمنهم مكحول الدمشقي "112هـ", فقيه أهل الشام. والزهري محمد بن مسلم بن عبيد الله المدني "124هـ". وعمرو بن دينار المكي "125هـ", وأبو إسحاق السبعي "126هـ". وغيرهم كثير متفرقون في الأمصار, من شاء أن يرجع إليهم في كتب الرجال؛ مثل: كتاب تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني, أو

_ 1 د. / مصطفى حلمي: مع المسلمين الأوائل, ص170-171. 2 طبقات الحفاظ ص34. 3 المصدر السابق ص37.

كتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم الرازي, أو كتاب تذكرة الحفاظ للذهبي, وكتاب طبقات الحفاظ للإمام السيوطي, أو غيرها، فلسوف يجد من أخبارهم ما يرضيه, ومن يطَّلع على سيرهم العطرة سوف يلاحظ أنهم مختارون من قبل العناية الإلهية، وأن أخلاقهم من أخلاق الأنبياء, وأن كلامهم المأثور عنهم أشبه بكلامهم, وأن لنا فيهم حسن الأسوة في الأعمال والأحوال.

الفصل الثالث: منهج الإسلام في التربية

الفصل الثالث: منهج الإسلام في التربية مدخل ... الفصل الثالث: منهج التربية في الإسلام منهج رباني كامل متكامل: هذا المنهج الإسلامي في التربية منهج كامل متكامل, لا يعتريه نقص ولا يكتنفه غموض؛ لأنه منهج سماوي مُنَزَّل من لدن حكيم خبير، وهو منهج يتعهد الإنسان منذ ولادته حتى يلقى خالقه, ولذلك فهو متميز بالشمول لكل ما يسعد الإنسان في حياته في الدنيا وفي الآخرة، فهو يشمل النفس الإنسانية كلها في جميع حالاتها ومعاملاتها, ويحدد لها حقوقها وواجباتها, كما يبين للإنسان ما ينتظره بعد الحياة من حساب وثواب أو عقاب. ثم إن هذا المنهج حظي بالتطبيق الأمثل على يد سيد ولد آدم محمد -صلى الله عليه وسلم, وفي حياة صحابته, ومن بعده, ونقله الصحابة إلى التابعين من بعدهم, ففتحوا به البلاد, وأصلحوا به حال العباد, وضربوا للناس أمثلة عالية في الأخلاق والمعاملات, تخرَّج على أيديهم جمهرة عظيمة من العلماء من العرب وغير العرب, لا تزال أسماؤهم تلمع في سماء الفكر, والتاريخ ينقل إلينا ما خلفوه لنا من المصنفات والمؤلفات التي لا يحصى لها عدد جيلًا بعد جيل. مراحل هذا المنهج:

المرحلة الأولى: الزواج وتكوين الأسرة

المرحلة الأولى: الزواج وتكوين الأسرة العقيدة وحسن اختيار الزوج ... المرحلة الأولى: الزواج تكوين الأسرة العقيدة وحسن اختيار الزوج: يبدأ منهج الإسلام التربوي بالتوحيد، وبأن يعرف الرجل المسلم والمرأة المسلمة قبل الزواج حقيقة لا بُدَّ لهما من الإلمام بها, وهي أن الله هو الخالق وإليه تصير الأمور, وأن الدين عند الله الإسلام، وأن وظيفة الإنسان رجلًا كان أو امرأة هي العبادة؛ لقوله -عز من قائل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 1. وإن كثيرًا من الناس في هذه الأيام قد تغيب عن أذهانهم هذه الحقيقة؛ إذ ينسى كثير منهم أن المطلوب الأول في حياته العبادة، فيظن أن العمل أولى من العبادة، بل هو من العبادة؛ لأن الله أمرنا به فقال: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} , فلا تترك الفرائض بحجة أننا نعمل، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} . فليجعل المسلم شعاره دائمًا العبادة أولًا. ومن هذا المنطلق يكون هدف المسلم هو تعظيم شعائر الله -عز وجل، فإذا ما أقبل على الزواج يضع في اعتباره أنه يتزوج عبادةً لله، وهو في هذا الأمر يرغب في أن يهبه الله ذريةً تسبح بحمد الله وتعبده وحده لا تشرك به شيئًا, من أجل ذلك يبحث عن المرأة الصالحة ذات الدين؛ لأنها ستكون المنبت الصالح لأبنائها الذين تلدهم, وتقوم على تربيتهم ليكونوا مؤمنين صالحين, وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة -رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "تنكح النساء لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها, فاظفر بذات الدين تربت يداك" 2. وقال أيضًا: "تخيروا لنطفكم, فإن العرق دساس" رواه ابن ماجه. كما حذَّر -عليه السلام- من أن يزوج الرجل ابنته من ظالمٍ أو فاسقٍ أو مبتدعٍ أو شارب خمر، وبيَّن أن من فعل ذلك فقد جنى على دينه

_ 1 الذاريات: آية 56. 2 الخطابي: معالم السنن، 3/ 180, نشر المكتبة العلمية ببيروت, لبنان, طبعه "1401هـ-1981م".

وتعرَّض لسخط الله, فقال -صلى الله عليه وسلم: "من زوّج كريمته من فاسق فقد قطع رحمها". فإذا أراد الرجل أن يزوج ابنته فعليه أن يختار لها من عُرِفَ بالصلاح والتقوى, ونشأ في أسرة عرفت بالصلاح والتقوى, حتى يصون المرأة ويتقي الله فيها1. وهناك آداب سامية في شأن النكاح أثرت على النبي -صلى الله عليه وسلم, يجب التزود بها عند الرغبة في ذلك, كأن يجعل المسلم زواجه في المسجد, لما روي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أعلنوا هذا النكاح, واجعلوه في المسجد, واضربوا عليه بالدفوف" 2. وفي هذه المناسبة ينبغي تهنئة الزوجين والدعاء لهما, لما أثر عنه -صلى الله عليه سلم- أنه كان إذا رفأ الإنسان إذ تزوج قال: "بارك الله لك, وبارك عليك, وجمع بينكما في خير" 3. وعلى الزوج أن يحصِّن نفسه وزوجه وولده من الشيطان إذا دخل على زوجته وعاشرها, أن يعمل بنصيحة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي يقول فيها: "لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله, اللهم جنبنا الشيطان, وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإن قضى الله بينهما ولدًا لم يضره الشيطان" 4. ولقد رغَّبَ الرسول -صلى الله عليه وسلم في الزواج, وحض المسلمين عليه, لا سيما الشباب فقال:$ "النكاح سنتي فمن أحب فطرتي

_ 1 الغزالي: إحياء علوم الدين, ج2/ 43, آداب المعاشرة. 2 الترمذي: أبواب النكاح, حديث رقم 1095. 3 المصدر السابق, حديث رقم 1097. 4 المصدر السابق, حديث رقم 1098.

فليستن بستني"1، وقال أيضًا: "من استطاع منكم الباءة فليتزوج, فإنه أغض للبصر, وأحصن للفرج, ومن لم يستطع فعليه بالصوم, فإنه له وجاء" 2. وطلب الرسول من كل مسلم التيسير في أمر الزواج، وأن يسارع المسلمون بتزويج المؤمنين الصالحين, وقال -صلى الله عليه وسلم: "إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه, إلّا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير" 3. ومن هذا الحديث نعلم أن الزواج يجب أن ينهض على أساس الدين, حتى تنشأ الذرية المسبحة بحمد الله. والإسلام يرشدنا إلى أن الزوجين اللذين يؤسسان للبيت إنما هما نفس واحدة نبتت بجارها نفس منها، مماثلة لها، فهي لها وبها ومعها، وليس من طبيعتهما الخلاف والشقاق، بل من أصل طبيعتها التآلف والتراحم والوفاق، والقرآن الكريم يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} 4. ويقول الرسول -صلوات الله وسلامه عليه: "إنما النساء شقائق الرجال". وسعادة بيت الزوجية تتوقف على تحقق التوافق بين الزوجين في التفكير والتصرف والعمل والاعتقاد، ويختل نظام هذا البيت وتفسد فيه الحياة الزوجية إذا وقع الخلاف والشقاق بينهما، فإذا انحرفت المرأة

_ 1 الغزالي: إحياء علوم الدين, ج2/ 22, طبعة الحلبي, "1358هـ-1939م", وفي صحيح مسلم, في كتاب النكاح. 2 الغزالي: إحياء علوم الدين، ج2/ 23. 3 المصدر السابق نفسه. 4 سورة النساء، أية 1.

أو انحرف الرجل, تسرَّبَتْ عوامل الهدم إلى البيت، وهذا هو القرآن المجيد يقص علينا صورًا من هذا الخلاف الذي أدّى إلى شقاء الزوجات حينًا، وإلى شقاء الأزواج حينًا آخر، فيقول: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 1. توخي الحذر في هذه الأيام من نكاح غير المسلمات: ولهذه الأهمية نهى القرآن الكريم المؤمنين عن الزواج بالمشركات, أو تزويج المشركين للمؤمنات, بقوله -سبحانه وتعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} . والسبب الذي لأجله كان بينته الآية: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 221] . أما الزواج من الكتابيات -يهودية كانت أو نصرانية- فلأن لها كتابًا سماويًّا, فهي في الأصل مؤمنة قبل التحريف والتبديل الذي فعلته الأيدي الآثمة في كتب الله المنزلة، وكما أنه يرجى بالزواج منها أن تتعرف إلى الإسلام، وتسمع عقيدة التوحيد الصافية التي لم ولن يتطرق إليها يد البشر، وكان هذا الأمر بينًا واضحًا يوم أن كان للإسلام قوته وعزته، وصولته وجولته، أما وقد تبدلت الأيام, وضعف حال المسلمين، وتشتت أمرهم، وفقدوا عز دولتهم وسلطانهم، ولم يعد لكثير من

_ 1 سورة التحريم آية 11.

"الرجال من أمور نسائهم شيء, فإنني أرى أن لا يتردد أهل الفتوى بمنع أبناء المسلمين من الزواج من الكتابيات، وذلك لتغير الزمان وتبدله، حيث أصبحت النساء الكافرات من أهل الكتاب يعملن على صبغ أبنائهن بطابع حياتهن المنحرفة، والتي هي بعيدة كل البعد عن تعاليم الإسلام. أضف إلى ذلك أن قوانين البلاد الكافرة تلحق الأبناء بأمهاتهم، فإذا حدث طلاق أو وفاة بين الزوجين، عاد الأولاد إلى أمهاتهم، وفي هذا تكثير لسواد الكافرين, وزرع النطفة المسلمة في أرحام كافرات، لا يرجى فيهن خيرًا، وفي المسلمات غنًى عن الكافرات، مع ملاحظة أن أغلب نساء أهل الكتاب في هذا الزمان أصبحن ملحدات وثنيات في غالب الأحيان"1. و"تقوم الأسرة في نظام الإسلام الاجتماعي على اشتراك الرجل والمرأة في شركة مؤسسة على الرضا والقبول مع اشتراط التكافؤ. والزواج كمسألة شخصية شأنه شأن أيّ علاقة بين شخصين, يستند إلى تفاهمٍ يقوم بين طرفيه، وتكافؤ في الميزات الشخصية والخصائص النفسية والعقلية والجسمية؛ بحيث يتعذر أن يحكمه قانون عام أو إطار نمطي محدد، ولكن على الرغم من هذا, فإنه لا بُدَّ من قانون عام يحكم أمر هذه العلاقة، والإسلام كنظام عام يحيط بحياة البشر, لا يمكنه إلّا أن يضمن على الأقل الحدود العامة التي لا يجب تجاوزها, مع إفساح الفرصة لتدخل العوامل الشخصية الخاصة إلى جانبها"2.

_ 1 عمر محمد إبراهيم غانم: من حقوق الجنين في الإسلام، مقال في مجلة الوعي الإسلامي, العدد 385, رمضان 1413هـ- ديسمبر 1977م, ص77. 2 الدكتور/ النعمان عبد المجيد القاضين: الإسلام عقيدة وحياة، مجموعة دراسات في الإسلام, يصدرها المجلس الأعلى للشئون الإسلامية, القاهرة, العدد 175, ص51.

وما دامت هذه العلاقة لا تقوم في نظر الإسلام إلّا على أساسٍ من الاختيار الحر من الطرفين, فإن كلًّا منهما يكون مسئولًا عن النهوض بالتزاماته في الشركة استنادًا إلى هذه الرغبة الحرة التي دعته إلى إقامة العلاقة ابتداءً, واستنادًا إلى ما يجب توفره بينهما من محبة وألفة وودٍّ ومعرفةٍ للفضل وتقدير للعشرة، وقد شرع القرآن الزواج وسمَّى عقدته ميثاقًا غليظًا, فقال: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} , وجعل كل زوج منهما لباسًا للآخر فقال: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} 1, وقد رغبت تعاليم الإسلام في الزواج وحثَّ عليه القرآن فقال: {وأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 2, وهناك كثير من الأحاديث النبوية التي تحض على الزواج وتدعو إليه, وكثير من الأحاديث التي توضح مسئولية الزوجين عن رعاية النسل. ومن المسئوليات التربوية للأم تربية أبنائها على العقيدة الصحيحة، وقد أشار القرآن الكريم إلى دور الأم في هذا الصدد من خلال قصة ابن نوح الذي كفر وقال لأبيه وهو يدعوه للركوب في السفينة مع المؤمنين: {سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} ، ونحن نعرف أن هذا الابن مات كافرًا، وأن أثر الأم واضح في شخصيته, فامرأة نوح كافرة بنص القرآن الكريم، قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم: 10] . وقال في شأن امرأة لوط التي خانت زوجها وانحازت إلى قومها المنحرفين: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [النمل: 57] {قَالُوا

_ 1 سورة البقرة آية 187. 2 سورة النور آية 32.

يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} [هود: 81] . وقد روى القرآن الكريم قصة الابن العاق الذي دعاه والداه إلى التوحيد فأهانهما ورفض أن يدخل في دين الله الحق, فقال تعالى: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأحقاف: 17] . فهذه الآية تدل على تعاون الأم مع الأب في تنشئة أولادهما تنشئة دينية صحيحة"1. ولذا فإن اختيار الأم الصالحة والأب الصالح من ألزم حقوق الجنين على أبويه لتكوين الأسرة المسلمة. روي أن محمد بن عبد الرحمن الأوقص القاضي, كان قصيرًا دميمًا قبيحًا قال: فقالت لي أمي: يا بني إنك خلقت خلقة لا تصلح لمعاشرة الفتيان, فعليك بالدين, فإنه يتم النقيصة ويرفع الخسيسة، فنفعني الله بقولها, تعلمت الفقه فصرت قاضيًا2.

_ 1 د/ مصطفى رجب: المسئولية التربوية للأمهات، مقال في مجلة الوعي الإسلامي, العدد, 385, ص56. 2 أبو بكر الخطيب البغدادي: الفقيه والمتفقه، ص21, نشر زكريا علي يوسف, مطبعة الامتياز بالقاهرة, سنة 1977.

آداب المعاشرة

آداب المعاشرة: نجد في علوم الدين الإسلامي تراثًا ضخمًا من الأحاديث النبوية والشروح عليها, مما فيه كثير الهداية والسداد لشباب هذا الدين، ولا تجد مثل هذا التراث في دين آخر غيره، ومنها ما يتعلق بهذا الباب، حيث ينصح الشباب من الجنسين؛ فيقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم خلقًا" 1. ولقد كان من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع: "ألا واستوصوا بالنساء خيرًا، فإنما هن عوان عندكم، ليس تملكون شيئًا منهن غير ذلك، إلّا أن يأتين بفاحشة مبينة, فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربًا غير مبرح, فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلًا, ألَا إن لكم على نسائكم حقًّا ولنسائكم عليكم حقًّا, فأما حقكم على نسائكم: فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذَنَّ في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن". قال أبو عيسى الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح2. ولقد حصر الإمام الغزالي آداب المعاشرة الزوجية في عشرة أمور, نوجزها فيما يلي. الأدب الأول: الوليمة, وهي مستحبة لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعبد الرحمن بن عوف بعد زواجه: "أولم ولو بشاه" , كما قال -صلى الله عليه سلم: "طعام أول يوم حق, وطعام الثاني سنة, وطعام الثالث سمعة, ومن سمع سمَّع الله به". الأدب الثاني: حسن الخلق معهن واحتمال الأذى منهن ترحمًا عليهن لقصور عقلهن, قال تعالى: {ٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوف} ، وقال في تعظيم حقهن: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} ، ليس حسن الخلق معها كف الأذى عنها, بل احتمال الأذى منها، والحلم عند طيشها وغضبها اقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم, فقد كانت أزواجه تراجعنه الكلام, وتهجره الواحدة

_ 1 الترمذي، الجامع الصحيح, ج3/ 457, ح رقم 1162. 2 المصدر السابق، ج3/ 458, ح رقم 1163.

منهن يومًا إلى الليل، وراجعت امراة عمر -رضي الله عنه- عمر في الكلام, فقال: أتراجعيني يا لكعاء, فقالت: إن أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يراجعنه وهو خير منك، فقال عمر: خابت حفصة, خسرت إن راجعته, ثم قال لحفصة: لا تغتري بابنة أبي قحافة, فإنها حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وخوّفها من المراجعة. وجرى بينه صلى الله عليه وسلم وبين عائشة كلام حتى أدخلا بينهما أبا بكر -رضي الله عنه- حكمًا واستشهده، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: تكلمين أو أتكلم, فقالت: بل تكلم أنت ولا تقل إلّا حقًّا, فلطمها أبوها أبو بكر حتى دمي فوها, وقال: يا عدية نفسها, أَوَيَقُُول غير الحق؟ فاستجارت برسول الله -صلى الله عليه وسلم, وقعدت خلف ظهره، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "لم ندعك لهذا, ولا أردنا منك هذا". ويقال: إن أول حُبٍّ وقع في الإسلام حب النبي -صلى الله عليه وسلم- لعائشة -رضي الله عنها. وكان يقول لنسائه: "لا تؤذوني في عائشة, فوالله ما نزل عليّ الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها" 1. الأدب الثالث: أن يزيد على احتمال الأذى بالمداعبة والمزاح والملاعبة, فهي التي تطيب قلوب النساء, وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمزح معهن, وينزل إلى درجات عقولهن في الأعمال والأخلاق, حتى روي أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يسابق عائشة في العد, فسبقته يومًا وسبقها في بعض الأيام, فقال -عليه السلام:" هذه بتلك" 2. وفي الخبر أنه كان -صلى الله عليه وسلم- من أفكه الناس مع نسائه, وقالت عائشة -رضي الله عنها: "سمعت أصوات ناس من الحبشة وغيرهم وهم يلعبون

_ 1 البخاري, من حديث عائشة. 2 رواه ابن ماجه من حديث عائشة بسند صحيح، ورواه أبو داود والنسائي.

في يوم عاشوراء, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أتحبين أن تري لعبهم"؟ قالت: نعم، فأرسل إليهم فجاءوا, وقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين البابين, فوضع كفَّه على الباب ومد يده ووضعت ذقني على يده، وجعلوا يلعبون وأنظر, وجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم يقول: "حسبك" وأقول: اسكت, مرتين أو ثلاثًا, ثم قال: "يا عائشة حسبك" , فقلت: نعم, فأشار إليهم فانصرفوا"1. وقال عمر -رضي الله عنه- مع خشونته: ينبغي للرجل أن يكون في أهله مثل الصبي، فإذا التمسوا ما عنده وجد رجلًا2. الأدب الرابع: أن لا يتبسط في الدعابة وحسن الخلق والموافقة باتباع هواها, إلى حدٍّ يفسد خلقها ويسقط بالكلية هيبته عندها، بل يراعي الاعتدال فيه, فلا يدع الهيبة والانقباض مهما رأى منكرًا, ولا يفتح باب المساعدة على المنكرات البتة، بل مهما رأى ما يخالف الشرع والمروءة تنمر وامتعض؛ إذ حق الرجل أن يكون متبوعًا لا تابعًا، وقد سمَّى الله الرجال قوامين على النساء, وسمى الزوج سيدًا, فقال تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} سورة يوسف, فإذا انقلب السيد مسخرًا, فقد بدل نعمة الله كفرًا. قال -عليه السلام: "لا يفلح قوم تملكهم امرأة" 3. الأدب الخامس: الاعتدال في الغيرة: وهو أن لا يتغافل عن مبادئ الأمور التي تخشى غوائلها، ولا يبالغ في إساءة الظن والتعنت وتجسس البواطن, فقد نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن تتبع عورات النساء"4. وقال -صلى الله عليه وسلم: "إن من الغيرة يبغضها الله -عز وجل

_ 1 الحديث متفق عليه. 2 الغزالي: إحياء علوم الدين ج2/ 46, طبعة مصطفى البابي الحلبي "1358هـ-1939م". 3 رواه البخاري، من حديث أبي بكرة. 4 رواه البخاري في الأوسط من حديث جابر.

وهي غيرة الرجل على أهله من غير ريبة"1؛ لأن ذلك من سوء الظن الذي نهينا عنه, فإن بعض الظن إثم, وقال علي -رضي الله عنه: "لا تكثر الغيرة على أهلك فتُرْمَى بالسوء من أجلك، وأما الغيرة في محلها لا بُدُّ منها, وهي محمودة, قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى يغار، والمؤمن يغار, وغيرة الله تعالى أن يأتي الرجل ما حرَّم عليه" 2. وقد ورد في الأثر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "رأيت ليلة أسري بي في الجنة قصرًا وبفنائه جارية, فقلت لمن هذا القصر؟ فقيل: لعمر، فأردت أن أنظر إليها فذكرت غيرتك يا عمر, فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله" 3. الأدب السادس: الاعتدال في النفقة: فلا ينبغي أن يقتِّر عليهن في الإنفاق, ولا ينبغي أن يسرف، بل يقتصد, قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} وقال تعالى أيضًا: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} الإسراء: 29. وينبغي أن يأمرها بالتصدق ببقايا الطعام وما يفسد لو ترك, فهذا أقل درجات الخير، وللمرأة أن تفعل ذلك بحكم الحال من غير صريح إذن من الزوج، ولا ينبغي أن يستأثر عن أهله بمأكولٍ طيبٍ فلا يطعمهم منه, فإن ذلك مما يوغر الصدور، ويبعد عن المعاشرة بالمعروف. وإذا أكل فيقعد العيال كلهم على مائدته, فقد قال سفيان -رضي الله عنه: إن الله وملائكته يصلون على أهل بيت يأكلون جماعة، وأهم ما

_ 1 رواه أبو داود والنسائي وابن حبان من حديث جابر بن عتيك. 2 الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة. 3 الحديث متفق عليه من حديث جابر بن عبد الله, دون ذكر ليلة أسري بي, ولم يذكر الجارية، وذكر الجارية في حديث آخر متفق عليه من حديث أبي هريرة.

يجب عليه مراعاته في الإنفاق أن يطعمها من الحلال, ولا يدخل مداخل السوء لأجلها, فإن ذلك جناية عليها لا مراعاة لها. الأدب السابع: أن يتعلم المتزوج من علم الحيض وأحكامه ما يحترز به الاحتراز الواجب، ويعلّم زوجته أحكام الصلاة, وما يقضى منها في الحيض وما لا يقضى, فإنه أمر بأن يقيها من النار بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} , فعليه أن يلقنها اعتقاد أهل السنة, ويزيل عن قلبها كل بدعة, ويخوفها في الله إن تساهلت في أمر الدين, ويعلمها من أحكام الحيض والاستحاضة. الأدب الثامن: إذا كان له نسوة فينبغي أن يعدل بينهن ولا يميل إلى بعضهن، فإن خرج إلى سفر وأراد استصحاب واحدة أقرع بينهن, كذلك كان يفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم. الأدب التاسع: في النشوز, ومهما وقع بينهما خصام ولم يلتئم أمرهما, فإن كان من جانبهما جميعًا أو من الرجل فلا تسلط الزوجة على زوجها، ولا يقدر على إصلاحها, فلا بُدَّ من حكمين أحدهما من أهله والآخر من أهلها؛ لينظرا ما بينهما ويصلحا أمرهما {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} , وأما إذا كان النشوز من المرأة خاصة، فالرجال قوامون على النساء، فله أن يؤدبها ويحملها على الطاعة قهرًا, كذا إذا كانت تاركةً للصلاة, فلهو حملها على الصلاة قهرًا, ولكن ينبغي أن يتدرج في تأديبها, وهو أن يقدم أولًا الوعظ والتحذير والتخويف, فإن لم ينجح ولاها ظهرها في المضجع, أن انفرد عنها بالفراش وهجرها وهو في البيت معها من ليلة إلى ثلاث ليالٍ, فإن لم ينجح ضَرَبَهَا ضربًا غير مبرح؛ بحيث يؤلمها ولا يكسر لها عظمًا, ولا يدمي لها جسمًا، ولا يضرب وجهًا, فذلك منهيٌّ عنه؛ وقد قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما حق المرأة على الرجل, قال: يطعمها إذا طعم ,ويكسوها إذا اكتسى, ولا يقبح

الوجه ولايضرب إلا ضربًا غير مبرح, ولا يهجرها إلا في البيت"1 وله أن يغضب عليها ويهجرها في أمر من أمر الدين إلى عشر وعشرين وإلى شهر. الأدب العاشر: وهو أدب الجماع إذ يستحب أن يبدأ باسم الله تعالى, ويقرأ قل هو الله أحد أولًا, ويكبر ويهلل, ويقول: باسم الله العلي العظيم, اللهم اجعلها ذرية طيبة إن كنت قدَّرت أن تخرج ذلك من صلبي, ولا يستقبل القبلة بالوقاع إكرامًا للقبلة, وليغط نفسه وأهله بثوب، وليقدم التطلف بالكلام والتقبيل, ويكره له الجماع في ثلاث ليالٍ من الشهر؛ الأول والآخر والنصف، وروي كراهة ذلك عن علي ومعاوية وأبي هريرة -رضي الله عنهم، ومن العلماء من استحبَّ الجماع يوم الجمعة وليلته, تحقيقًا لأحد التأولين من قوله -صلى الله عليه وسلم: "رحم الله من غسل واغتسل"2.

_ 1 رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من رواية معاوية بن حيدة بسند جيد. 2 إحياء علوم الدين للغزال, ص52, آداب المعاشرة وما يجري في دوام النكاح.

التعاون بين الزوجين

التعاون بين الزوجين 1: إن السنة النبوية الطاهرة قد أوضحت لنا مكانة الحياة الزوجية, وبينت واجب الزوج، وواجب الزوجة، وها قد تلاقى الزوجان وتعارفا وأتلفا، وتزوجا باسم الله جلّ جلاله، وأنشأ بيت الزوجية المحفوف بالتكريم والتقير، حاول كل منهما أن يؤدي واجبه، فالزوج يستعين ربه ويبذل جهده، فيعد المسكن والأثاث، وينفق من سعته، ويؤدي الحقوق، ويحسن العشرة, وينهض بالتبعات، والزوجة تستعين ربها فتطيع زوجها فيما شرع الله، وتحفظه في ماله وعرضه، وتدبر شئون

_ 1 د/ أحمد الشرباصي: الدين والمجتمع، من ص137, حتى ص139 بدون.

بيته، وترعى ما ساق الله إليها من ذرية. وإنما يستقيم بناء الزوجية حين يتذكر الزوج أن الله قد جعل زوجته شريكة له، وخلقها من نفسه, وأعدها ليجد في رحابها الأمن والسكن، وجعل بينهما ألفةً ومودةً وتراحمًا ومحبةً {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ، ومن واجب الرجل أن يتدبر ذلك، ويفكر فيه, ويعمل بمقتضاه حتى يقدِّر هذه النعم, وينتفع بها على الوجه السليم القويم. ومن الخطأ الفاحش أن يظن الرجل أن زوجته ليست إلّا خادمة له يتصرف فيها كما يريد، بل يقول الرسول -صلوات الله وتسليماته عليه: "النساء شقائق الرجال" , ويقول القرآن: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} , فالزوج هو رجل البيت، وإليه ينسب الأولاد، وهو ولي الأسرة والناهض بتبعاتها، والمرأة هي شريكة حياته ومستودع سره وأم أبنائه، وراعية بيته وشئونه، فبينهما من الوشائج والذمم ما يجب أن يرعى ويصان. وهذا هو القرآن الكريم يذكر المرأة حين يذكر الرجل، ويندبها معه إلى صفات الكمال ومحامد الفعال، وحسبنا هنا هذه الآية الكريمة التي عددت الصفات المميزة للأمة المسلمة, فأطلقتها على الرجال والنساء: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} . [الأحزاب: 35] . والقرآن يصرِّحُ بأن للمرأة ذاتيتها المتميزة وشخصيتها المستقلة؛ فهي مأمورة بأن تعمل، وهي موعودة من الله أن تنال الجزاء على هذا

العمل، وهو يصرح بأن الرجل من المرأة، والمرأة من الرجل؛ لأنهما من أصل واحد؛ لأن بينهما وثيق اتصال واتحاد, يقول: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 195] . ولذلك كان من اللازم لسعادتها وسعادة من معهما أن يتعاونا معًا بصدق وإخلاص، ليحققا المعيشة الهانئة السعيدة، وليحفظا على الحياة الزوجية جلالها وجمالها، وعلى الأسرة كيانها واطمئنانها. وأول الأمور التي يقتضيها التعاون بين اثنين هو أن يخفف كلٌّ منهما من غلواء أنانيته وأثرته، وينهنه من استجابته لأهوائه ورغباته، فكيف إذا كان هذا التعاون بين زوجين ارتبطا برباط الزواج المقدس بعد تفاهم وتآلف، وأصبحا قلبين متجاوبين، يعمران دارًا واحدة، ويسعيان في وجهة واحدة؟ 1. من صدق التعاون بين الزوجين ألا يتطلع أحدهما إلى الاعتداء على حق الآخر واختصاصه أو ميدان عمله، ولقد رُوِيَ أن أم سلمة قالت للنبي -صلوات الله وسلامه عليه: ليت الله كتب علينا الجهاد كما كتبه على الرجال، فيكون لنا من الأجر مثل حالهم، فقرأ قول الله سبحانه: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء: 32] .

_ 1 المصدر السابق ص139.

المرحلة الثانية: الاستعداد لإستقبال المولود

المرحلة الثانية: الاستعداد لإستقبال المولود إعداد البنية الصالحة لنشأة الطفل قبل الميلاد ... المرحلة الثانية: الاستعداد لاستقبال المولود إعداد البيئة الصالحة لنشأة الطفل قبل الميلاد: وفيها يوجه الإسلام عنايته إلى الطفل قبل ولادته؛ حيث يتم إعداد البيئة الصالحة لنشأة الطفل, وذلك عن طريق الرجل والمرأة اللذين هما سبب النشأة، فيرشد كلًّا منهما إلى حسن اختيار الزوج, يبين للرجل كيفية اختيار الزوجة, ويبين للمرأة كيفية حسن اختيار الزوج, حتى يضمن السلامة لهذا المولود قبل أن يُولَدَ، كما يبين لكليهما علة الزواج, وهي أن الزواج الغرض منه عمارة الأرض, وعمارة الأرض إنما تكون بالنسل الصالح المؤهل للخلافة؛ بمعنى أن هذا المولود الناشئ يصلح لخلافة الله في أرضه, فيؤدي ما أمر الله به, وينتهي عما نهى الله عنه, وفي ذلك يقول الحق -تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ} وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} 1 وقال: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 2, قال ابن عباس: "المودة: حب الرجل امرأته، والرحمة: شفقته عليها أن يصيبها بسوء"3. وعلى أساس المودة والرحمة تنشأ الأجيال الصالحة من الرجال والنساء, ويتحقق معنى خلافة الإنسان لله في أرضه، ولا يتحقق هذا المعنى إلّا في الرجل المتدين الذي يمتثل لأوامر الدين. وفي ظل هذه المودة والرحمة يأتي دور الإنجاب والذرية؛ حيث يقول الله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} 4 أي: أن الكثرة

_ 1 النساء: 1. 2 الروم: 21. 3 الصابوني: صفوة التفاسير, ج2/ 476. 4 النحل: 72.

الناشئة عن الزوجية, هي كثرة متسلسلة في أجيال متعاقبة من الأولاد والأحفاد، فهم فروع الأسرة وفروع فروعها, وينظر الإسلام إلى هذا النموّ على أنه ليس نموًّا عدديًّا فقط, وإنما هو مع ذلك نمو في العلاقة بين أفراده, فمهَّدَ لها السبيل إلى الاطراد في جوٍّ من الاطمئنان والمودة والرحمة، ولهذا وجّه عنايته إلى الناشئة واهتم بها أيما اهتمام، ونلخص مظاهر هذا الاهتمام فيما يلي: قلنا: إن الرجل ينبغي أن يحسن اختيار من تشاركه حياته؛ لأنها سوف تتولى أجلَّ وظيفة وهي صناعة الرجال, فهي المدرسة الأولى التي يتعلم منها الطفل, كما قال حافظ إبراهيم: الأم مدرسة إذا أعددتها ... أعددت شعبًا طيب الأعراق وقال أيضًا: وإذا النساء نشأن في أمية ... رضع الرجال جهالة وخمولا ولقد دعا منهج الإسلام الرجل المسلم إلى تحصين ذريته من جميع الآفات, بأن يحسن اختيار زوجته أولًا؛ لأنه سوف يرث الأولاد عنها كثيرًا من المزايا والصفات، في أحضانها تنمو عواطف الطفل وتتربى ملكاته، فأوضحت السنة حسن اختيار ذات الدين, صاحبة الأصل الطيب, ولهذا حذّر الرسول -صلى الله عليه سلم- من زواج المرأة الجميلة التي ترعرعت في منابت السوء فقال: "إياكم وخضراء الدمن؟ قيل: يا رسول الله, وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء"1. كما قد نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الاغترار بالمال

_ 1- السيد سابق: فقه السنة، الطبعة الثانية "1411هـ-1990م", دار الفتح للإعلام العربي, ج2/ 134, "نقلًا عن الدارقطني".

والجمال عند الإقبال على الزواج, فقال: "لا تزوجوا النساء لحسنهن, فعسى حسنهن أن يرديهن، لا تزوجهن لأموالهن, فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين"1. وذلك أول تحصين لضمان سلامة الذرية من سوء الحضانة، أما ثاني التحصينات فتكون عند معاشرة الزوجة ومباشرتها عند الجماع، فإذا أتى الرجل امرأته يُسْتَحَبُّ أن يبدأ باسم الله تعالى, ويقرأ قل هو الله أحد أولًا, ثم يكبر ويهلل, ويقول: باسم الله العلي العظيم, اللهم اجعلها ذرية طيبة إن كنت قدرت أن تخرج ذلك من صلبي, فإذا أدّى ذلك الزوج فقد استبرأ لدينه وعرضه, وإذا رزقه الله مولودًا كان من الذرية الصالحة إن شاء الله تعالى. والإسلام لا يهيئ السبيل لمتعة الرجل وحده وراحته وسكينته، وإنما يرتب لأداء حقوق الطفل القادم، فإن الأم المرباة على خلق فاضلٍ ودين, هي الجديرة بإنبات أطفال أسوياء أصحاء النفس والملكات والقدرات، بل هي التي تشرف أبناءها وتضفي عليهم من كرامتها شرف عزتها، وقد ذكر الشاعر العربي مذكِّرًا أبناءه بفضله عليهم؛ إذ اختار لهم أمًّا صالحة عفيفة تشرفهم: وأول إحساني إليهم تخيري ... لماجدة الأحساب بادٍ عفافها وجاء رجل إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يشكو إليه عقوق ابنه، فأحضر عمر الولد وأنَّبَه على عقوقه لأبيه، ونسيانه لحقوقه عليه، فقال الولد: يا أمير المؤمنين, أليس للولد حقوق على أبيه؟ قال عمر: بلى, قال: فما هي يا أمير المؤمنين؟ قال عمر: أن

_ 1 ابن ماجه، سنن ابن ماجه ج1/ 597.

ينتقي أمه، ويحسن اسمه، ويعلمه الكتاب "القرآن", قال الولد: يا أمير المؤمنين؛ إن أبي لم يفعل شيئًا من ذلك، أما أمي فإنها زنجية كانت لمجوسي، وقد سماني جعلًا "أي: خنفساء", ولم يعلمني من الكتاب حرفًا واحدًا, فالتفت عمر إلى الرجل وقال له: جئت إليّ تشكو عقوق ابنك، قد عققته قبل أن يعقك، وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك". "صدق الشاعر في تشبيهه الولد أو الطفل بعامة بالنبت، ويشبه الأم الجاهلة الخالية من الدين والخلق بالصحراء التي لا ماء فيها، ومن ثَمَّ يكون النبت الناشئ بها شوكًا لا خير فيه، وفي المقابل يشبه الأم المؤدبة التي يزينها الخلق والدين، بالروضة الخصبة الغناء، فلا شك أن النبت بها سيكون نضرًا طريًّا يرجى خيره، فيقول: وليس النبت في جنان ... كمثل النبت ينبت في الفلاة وهل يرجى لأطفال كمال ... إذا ارتعضوا ثدي الناقصات1 وكما حرص الإسلام على توجيه نظر الشباب إلى اختيار زيجات قائمة على خلق فاضل ودين صحيح, فقد حرص كذلك على توجيه نظر الفتيات والنساء إلى اختيار وترجيح صاحب الخلق الفاضل، والدين الصحيح زوجًا لهن، وهذا هو الإمام الترمذي يروي لنا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا جاءكم من ترضون دينه خلقه فزوجوه, إلّا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض" ولا ريب أن الفتنة والفساد، يدخل فيهما توريث الأب الفاسد الخالي من الخلق والدين، ما عنده من ضعف وفساد لأبنائه، ولو على أقل تقدير، بالقدوة وضرب المثل، حيث إن من شأن الصغار تقليد الكبار والنقل عنهم، وعند ذلك سيكون نقلًا أسود غير مأمون العاقبة"2.

_ 1 على عيد: كيف احتفى الإسلام بالطفل, مقال في مجلة رسالة الإسلام, تصدر عن المركز العام لجمعيات الشبان المسلمين العالمية، العدد 14, رمضان 1417-يناير 1997, ص16. 2 المصدر السابق ص 17.

المرحلة الثالثة: مرحلة الطفولة والصبا

المرحلة الثالثة: مرحلة الطفولة والصبا آداب استقبال المولود: وجَّه الإسلام الآباء إلى استقبال ميلاد الطفل بتكبير الله وتوحيده، فيلقى في أذن المولود اليمنى ألفاظ الأذان بصوت منفخض, ويلقى في الأذن اليسرى ألفاظ الإقامة, ليكون ذلك عهدٌ بالإيمان, وليكون أول ما يقرع سمع المولود كلمات الأذان المتضمنة للتوحيد؛ لأن سماع هذه الكلمات من جانب المولود يضعف تأثير الشيطان عليه، وقد رتَّبَ الإمام الغزالي في آداب الولادة خمسة أمور: أولها: أن لا يكثر فرح الزوج بالذكر عن الأنثى, فإنه لا يدري الخيرة له في أيهما، فكم من صاحب ابن يتمنى أن لا يكون له، أو يتمنى أن لا يكون بنتًا، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: $"من كان له أمة فأحسن تأديبها, وغذاها فأحسن غذاءها, وأسبغ عليها من النعمة التي أسبغ الله عليه, كانت له ميمنة وميسرة من النار إلى الجنة"2. وروي عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كانت له ثلاث بنات أو أخوات فصبر على لأوائهن وضرائهن, أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهن، فقال رجل: وثنتان يا رسول الله؟ قال: ثنتان، فقال رجل: أو واحدة؟ فقال: وواحدة"3.

_ 1 المصدر السابق ص17. 2 الغزالي، إحياء علوم الدين, ج2/ 55. 3 المصدر السابق نفسه.

ثانيها: أن يؤذن في أذن المولود، فقد رى رافع عن أبيه قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أذن في أذن الحسين حين ولدته فاطمه -رضي الله عنها, ويستحب أن يلقنه أول انطلاق لسانه: لا إله إلّا الله؛ ليكون ذلك أول حديثه، ثم الختان في اليوم السابع. ثالثها: أن يسمي الوالد ابنه اسمًا حسنًا، فذلك من حق الوالد, وقال -صلى الله عليه وسلم: "إذا سميتم فعبدوا", وقال -صلى الله عليه وسلم: "أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن"، كما قال أيضًا: "تسمَّوا باسمي ولا تكنوا بكنيتي" , وقال أيضًا: "إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم"1. رابعها: أن يذبح له احتفاءً بمقدمه وتكريمًا لوفادته وشكرًا لله على هديته ومنِّه، فقد ورد في الخبر أن الرسول -صلى الله عليه وسلم عَقَّ عن الحسن بشاة, وروت عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم, أمر في الغلام أن يعق بشاتين مكافئتين وفي الجارية بشاة"2. ومن السنة أيضًا أن يتصدق بوزن شعره ذهبًا أو فضةً لما ورد في الخبر من أنه -عليه السلام- أمر فاطمة -رضي الله عنها- يوم سابع حسين أن تحلق شعره, وتتصدق بزنة شعره فضة"3. وليس من السنة ما نرى عليه الناس من عادة إقامة "السبوع"؛ حيث يوضع الطفل في غربال ويدق الهون عند أذنه مع رش الملح وتوزيع الحمص والحلوى, وما إلى ذلك من مظاهر ليست من الدين في شيء. خامسها: أن يحنكه بتمرة أو حلاوة، فقد روي عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: ولدت عبد الله بن الزبير بقباء، ثم أتيبت به رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فوضعه في حجره, ثم دعا بتمرة فمضغها, ثم تفل في فيه" فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ثم حنكه بتمرة, ثم دعا له وبرك عليه، وكان أول مولود ولد في الإسلام بالمدينة, ففرحوا به فرحًا شديدًا؛ لأنهم قيل لهم: إن اليهود قد سحرتكم فلا يُولَدُ لكم4.

_ 1، 2، 3 الغزالي: إحياء علوم الدين, ج2/ 56. 4 الغزالى، إحياء علوم الدين ج 2/ 57.

ختان المولود

ختان المولود: الختان شعار الإسلام وعنوان الشريعة, وبه يتميز المؤمن من الكافر، ولذلك يجب تختين المولود لما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي بسنده عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: قال النبي -صلى الله عليه وسلم: " إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل" 1, ولما جاء في الحديث الصحيح عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من الفطرة الختان" 2, ولما جاء في الحديث الصحيح أيضًا, عن عطية القرظي قال: كان بالمدينة خافضة يقال لها: "أم عطية", فقال لها رسول الله -صلى الله عليه سلم: " أشمي ولا تنهكي, فإنه أسرى للوجه، وأحظى للزوج" 3 وللختان حكم دينية عظيمة, وفوائد صحية لعل أهمها عدم الإصابة بالأمراض الفاتكة؛ كالسيلان والزهري والسرطان.

_ 1 الترمذي: الجامع الصحيح, طبعة مصطفى البابي الحلبي, ج1/ 180, ح رقم 108, أبواب الطهارة. 2، 3 ابن أبي الدنيا: كتاب العيال، ص130, حديث رقم 586.

العناية بالرضاع

العناية بالرضاع: ثم دعا القرآن الكريم إلى اعطاء الطفل حقه كاملًا من الرضاعة فقال سبحانه: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} , فقد أودع الخبير العليم الرءوف الرحيم في صدر الأم الغذاء المثالي الكامل لتغذية أطفالها دون ما نفقات أوأعباء, ونحن نستأنس بقول الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} إلى ندب الأمهات بإرضاع أولادهن بألبانهن التي خلقها الله في صدروهن, من أجل المحافظة على الصحة النفسية والعقلية والجسمية لأطفالهن, وإلى عدم اللجوء إلى التغذية بالألبان الصناعية كلما أمكن ذلك؛ حيث أثبت كبار أطباء العالم المتحضر أن الرضاعة بالألبان الصناعية تؤدي إلى تخلف الأطفال في نموهم, وبصفة خاصة النمو العقلي, إذا ما استمرت حتى الفطام؛ لأنها ألبان لم تخلق لتغذية أطفال بني الإنسان1. وإذا ما اختير للمولود مرضعة غير أمه وجب أن تكون سليمة العقل والجسم, وفي ذلك يقول الرسول الكريم -عليه أفضل الصلاة وأزكى التحية وأتم التسليم: "لا تسترضعوا الحمقاء ولا العمشاء, فإن اللبن يعدي" وأن تكون المرضع كذلك ذات تقى وخلق حسن, فإن من رضع لبن امرأة غلب عليه طبعها وخلقها2. ونحن إذا ما ذهبنا نتحدث عن حق الطفل في الإنفاق عليه, أو في رعايته دينيًّا وجسيمًّا وفكريًّا ونفسيًّا, أو في توجيهه وتزويده بالمعارف النافعة, إلى غير ذلك من حقوق كثيرة, لطال بنا المقام دون أن نستوفي الحقوق التي أوجبها الإسلام الذي سبق الدنيا الحديثة في وجوب رعاية الأطفال وحماية الطفولة بما أنزل الله -سبحانه وتعالى- من تشريعات, وبما ألزمنا به من واجبات قبل نابتة البلاد.

_ 1 محمد مصطفى ضبش: فقه الإسلام في رعاية الأطفال والشباب والمجتمع المسلم, ص17، 18، طبعة أولى "1414هـ-1994م" بدون. 2 المصدر السابق نفسه.

تأديب الولدان

تأديب الولدان ... تأديب الوالدان: ولقد أحكم الرسول الكريم -عليه أفضل الصلاة وأزكى التحية وأتم التسلم- بيان ذلك في أوجز عبارة فقال: "أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم" ابن ماجه عن أنس. وإكرام الأولاد يتحقق بأداء حقوقهم والقيام بما يجب لهم من غذاء وكساء وإيواء وهواء وصيانة وتعليم, على ألّا تحملنا الشفقة عليهم والحب لهم إلى الاكتفاء بأداء هذا الواجب الماديّ, مع إهمال تقويمهم وترك تأديبهم, لذا فقد قال رسول الله -صلى الله عليه سلم: "أحسنوا أدبهم", أي كفوا أنفهسم عن المعاصي والمحرمات وطهروها عما لا يليق من سيء العادات، وقبيح الألفاظ والعبارات, وعودهم على التزام مايحمد قولًا وعملًا مما شهدت الشريعة بحسنه, فإن من لَازَمَ الآداب الشرعية حسنت حركته وسكونه ونطقه وصمته وعادته وعباداته ومعاملاته, ويقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "كل ما صنعت إلى أهلك فهو صدقة عليهم" الطبراني في الكبير, عن عمرو بن أمية1. أي: كل معروف أديته إلى أهلك قصد الاحتساب, فإنك تثاب عليه ثواب الصدقة ولو كان عملًا واجبًا حتمًا عليك أداؤه. وهاء هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعونا إلى تشئة الصغار على القيم التي تبث التعاليم والفضائل الإسلامية في نفوسهم منذ الطفولة المبكرة, وتربيتهم على أداء العبادات والتمسك بالأداب منذ نعومة أظفارهم؛ ليشبوا ممارسين لها متمرنين على القيام بها, فيقول: "مروا أبنائكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين, واضربوهم عليها وهم أبناء عشر, وفرقوا بينهم في المضاجع" , أي: فرقوا بين البنين منهم والبنات في

_ 1 المصدر السابق نفسه ص19.

فراش المبيت, وكذا بينهم وبين آبائهم وأمهاتهم في أماكن النوم. وإذا بلغ الطفل أربع سنين عودناه ألا يدخل بيتًا, وألا يفتح بابًا حتى يستأذن, فإن أذن له دخل, وإلّا فليرجع, كما علينا أن نحفظهم قدرًا من سور القرآن الكريم لتصح بقراءتها صلواتهم, وتستقيم بتلاوتها ألسنتهم, وتسلم بالعمل بما فيه آخرتهم, وحتى تتفجر في قلوبهم ينابيع الإيمان واليقين -وترتاح نفوسهم إلى العمل بشريعة خاتم المرسلين, وتمتزج أرواحهم بهداية القرآن الكريم، فإن الصغير إذا بدأ في حفظ القرآن الكريم ومعرفة تعاليم الدين- اتطلت هذه التعاليم بشخصيته كلما نما وبلغ مبلغ الرجال, فتمتد البواعث الدينية في نفسه مع البواعث الشخصية على مدى الزمن. إننا في سباق مع الإلحاد, فإذا لم نحط أولادنا من الآن بسياجٍ من الإيمان والقرآن, فنحن إذن معشر الآباء أساس الداء, مصدر الوباء, ومبعث البلاء, ولا عذر لنا يوم البعث العظيم, يوم يقوم الناس لرب العالمين1.

_ 1 المصدر السابق ص33.

التلطف بالصبيان

التلطف بالصبيان: التلطف بالصبيان من عادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وكان إذا قدم من سفرٍ يتلقاه الصبيان, فيقف عليهم, ثم يأمر بهم فيرمغون إليه, فيرفع منهم بين يديه ومن خلفه, ويأمر أصحابه أن يحملوا بعضهم" فربما تفاخر الصبيان بعد ذلك فيقول بعضهم لبعض: حملني رسول الله -صلى الله عليه سلم- بين يديه وحملك أنت وراءه، ويقول بعضهم: أمر أصحابه أن يحملوك وراءهم، وكان يؤتى بالصبي الصغير ليدعو له بالبكرة وليسميه, فيأخذه فيضعه في حجره, فربما بال الصبي فيصيح به بعض من يراه فيقول: لا تزرموا الصبي بوله, فيدعه حتى يقضي بوله, ثم يفرغ من دعائه له

وتسميته, ويبلغ سرور أهله فيه لئلَّا يروا أنه تأذّى ببوله, فإذا انصرفوا غسل ثوبه بعده1. كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحمل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع, وأمها زينب بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي صبية فيصلي بها, وهي على عاتقه يضعها إذا ركع, ويعيدها إذا قام, حتى قضى صلاته بعد ذلك بها2. وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يلاطف الصغار ويداعبهم؛ ليدخل على نفوسهم البهجة, كما كان يشفق عليهم غاية الشفقة. رُوِيَ عن أنس بن مالك قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- ليخالطنا حتى يقول لاخٍ لي صغير: "يا أبا عمير: ما فعل النغير؟ " 3, وروي أيضًا عن أنس -رضي الله عنه, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سمع صوت صببي وهو في الصلاة, فظننا أنه خفَّفَ الصلاة رحمة للصبي من أجل أن أمه كانت في الصلاة4. ورأى الأقرع بن حابس النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يُقَبِّلُ ولده الحسن، فقال: "إن لي عشرةً من الولد ما قَبَّلْتُ واحدًا منهم، فقال -عليه الصلاة والسلام: "من لا يرحم لا يرحم" , وقالت عائشة -رضي الله عنها: قال صلي رسول الله -صلى الله عليه وسلم يومًا: "اغسلي وجه أسامة, فجعلت أغسله وأنا أنفة, فضرب يدي, ثم أخذه فغسل وجهه"5.

_ 1 الغزالي: إحياء علوم الدين, ج2/ 194. 2 النسائي: سنن النسائي، ج2/ 46, باب إدخال الصبيان المساجد, طبعة دار القلم, بيروت, لبنان. 3 البخاري: الأدب المفرد, ص83، مكتبة الآداب ومطبعتها بالجماميز, القاهرة 1979م. 4 ابن أبي الدنيا: كتاب العيال، بتحقيق مسعد عبد الحميد السعدني، مكتبة القرآن للطبع والنشر والتوزيع, القاهرة 1994, ص54. 5 الغزالي: إحياء علوم الدين, ج2/ 218, باب حقوق الوالدين والولد.

وتعثَّر الحسن والنبي -صلى الله عليه سلم- على منبره, فنزل فحمله, وقرأ قوله تعالى: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} 1. وقال عبد الله بن شداد: "بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي بالناس إذ جاءه الحسين فركب عنقه وهو ساجد، فأطال السجود بالناس حتى ظنوا أنه قد حدث أمر، فقال:"إن ابني قد ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته" 2. وفي ذلك معنًى عظيم للرفق بالولد وتعليم لأمته.

_ 1، 2 المصدر السابق نفسه, ص218.

مداعبة الأطفال واللعب معهم

مداعبة الأطفال واللعب معهم: إن من أهم أبواب التربية الإسلامية التلطف بالأولاد ومجاراتهم في لعبهم ومداعبتهم، لإدخال الفرحة والسرور على نفوس الأطفال، إذ اللعب يفيد في تنشئة الصبيّ على الثقة بنفسه, والتعبير عن ذاتيته, وإظهار مهارته، وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يشجع على هذا الأمر، فقد روي عن أبي هريرة أنه قال: كان الحسن والحسين يصطرعان، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "هي حسن هي حسن" فقالت فاطمة: لم تقول هي حسن؟ قال -صلى الله عليه سلم: إن جبريل يقول: "هي حسين"1. كما كان الحسن والحسين يركبان فوق ظهر النبي -صلى الله عليه وسلم- ويقولان: حَلْ حَلْ، ويقول النبي -صلى الله عليه سلم: " نِعْمَ البعير بعيركما"2 وأثر عن إبراهيم النخعي3 قوله: كانا يرخصون للصبيان في اللعب كله إلّا اللعب بالكلاب. كما أثر عن هشام بين يحيى الغساني عن أبيه أنه قال: لا تحزنوا بنيّ, إن الفرحة تشيب الصبي.

_ 1 ابن أبي الدنيا: كتاب الدنيا، حديث رقم 589، ص132. 2 المصدر السابق، حديث رقم 599، وربما كانت كلمة: حالو يا حالو, التي يقولها أطفالنا في العيد من كلمة حل التي تقال للإبل. 3 إبراهيم بن يزيد النخعي, عالم الكوفة ومفتيها هو والشعبي في زمانهما, ت96.

ويجب توزيع وقت الصبي بين الجد والترفيه واللعب حتى ينشأ الصبي في جوٍّ صحيٍّ ملائم, بعيد عن اليأس والملل, قريب من الطمأنينية والثقة بالنفس، ويجب أن يلاحظ ذلك الآباء والأمهات لما يصدر أحيانًا من الأولاد مما قد يثير غضبهم, أو يهيج انفعالاتهم ضد بنيهم, فيغتاظون منهم مما يتسبب في اتخاذ مواقف شديدة, ربما تترك في نفس الأولاد ضغائن وآثار سلبية سيئة لا تغادر أذهانهم, ولا تنمحي من ذاكرتهم في مستقبل أيامهم. ويجدر بالآباء أن يتحلوا بالصبر والأناة وكظم الغيظ, ومحاولة علاج الأمور بالملاينة في غير ضعف, وبالحزم في غير سخط، ولنا في سلفنا الصالح خير المثل, ولنستمع إلى ما قاله يزيد بن معاوية حين أغضب أباه معاوية, حتى لم يذق معاوية طعم النوم ليلته, فلما أصبح أرسل في طلب الأحنف بن قيس لعله يخفف غضبه على ابنه يزيد: قال يزيد بن معاوية: أرسل أبي إلى الأحنف بن قيس, فلما وصل إليه قال: يا أبا بحر, ما تقول في الولد؟ قال: يا أمير المؤمين, ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة, وسماء ظليلة، وبهم نصول على كل جليلة, فإن طلبوا أعطهم, وإن غضبوا فارضهم, يمنحوك ودهم ويحبوك جهدهم، ولا تكن عليهم ثقلًا ثقيلًَا، فيملوا حياتك، ويودوا فواتك, ويكرهوا قربك. فقال له معاوية: لله أنت يا أحنف لقد دخلت علي وأنا مملوء غضبًا وغيظًا على يزيد، فلما خرج الأحنف من عنده رضي عن يزيد, وبعث إليه بمائتي ألف درهم ومائتي ثوب، فأرسل يزيد إلى الأحنف بمائة ألف درهم ومائة ثوب, فقاسمه إياها على الشطر1.

_ 1 الغزالي: إحياء علوم الدين, 2/ 218.

ويروى أنه كان لشريح1 القاضي ابن يدع الكتاب ويذهب يلعب مع الصبيان والكلاب يهارش بها, فدعا شريح بداوة وصحيفة فكتب إلى مؤدبه: ترك الصلاة لأكلب يسعى لها ... نحو الهراش مع الغواة الرجس فإذا أتاك فخصَّه بملامة ... وعظه موعظة الأديب الأكيس وإذا هممت بضربه فبدرة ... إذا ضربت بها ثلاثًا فاحبس واعلم بأنك ما أتيت لنفسه ... مع ما يجرعني أعز الأنفس وروى أبو الحسن الشيباني عن شيخ من أهل الكوفة قال: رأيت ابنًا لمسعر بن كدام2 حدثًا وثب على مسعر، فعضَّ يده حتى تلوّى الشيخ من عضته، ثم رأيته من غدٍ متنكبًا فرسًا له مع شباب أهل الكوفة، فمرَّ بمسعر فقال مسعر: "لقد صنع بي بالأمس ما رأيتم، وما نفس أعز عليّ منه". ويروى عن الأشجعي قال: كنا مع سفيان الثوري3, فمر ابنه سعيد فقال: ترون هذا, ما جفوته قط، وربما دعاني وأنا في الصلاة غير مكتوبة فأقطعها له.

_ 1 القاضي شريح من علماء الكوفة, ولي القضاء لعمر بن الخطاب وعثمان وعلي ومعاوية, ستين سنة إلى أيام الحجاج بن يوسف الثقفي, مات وعمره مائة وعشرون سنة. 2 مسعد بن كدام الكوفي, من كبار أتباع التابعين, مات سنة153هـ. 3 سفيان الثوري، أحد الأئمة الأعلام, كان يلقب بأمير المؤمنين في الحديث, وقال شعبة: إن سفيان ساو الناس بالعلم والورع "انظر السيوطي طبقات الحفاظ ص88".

الإحسان إلى اليتيم

الإحسان إلى اليتيم: ولم يهمل الإسلام حق اليتيم في الرعاية والتعليم، وإنما نجد القرآن في آيات كثيرة يحض على الإحسان إلى اليتيم, ويوصي المسلمين بتعهده بالعناية وصيانة حقوقه حتى يشب ويكبر, ضمانًا لسلامة نوازعه, وحرصًا على طهارة نفسه من الحقد والضغينة والعقد النفسية الضارة, وقال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} . عن أنس -رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه سلم: "من أحسن إلى يتيم أو يتيمة كنت أنا وهو في الجنة كهاتين، وقرن بين إصبعيه" 1. قال الحكيم الترمذي: إنما فاق هذا سائر الأعمال؛ لأن اليتيم افتقد برّ أبيه ولطفه وتعاهده، والله تعالى وليّ ذلك كله، يجريها على الأسباب، فإذا قبض أبوه فهو الولي لذلك اليتيم في جميع أموره, يبتلي به عبيده لينظر أيهم يتولى ذلك. قال موسى -عليه السلام: "يا رب أيتمت أبَوَى الصبي ومن لا حيلة له وتدعه هكذا؟ قال يا موسى: أما ترضى بي كافلًا, فاليتيم كافله خالقه؛ لأنه قطع عنه من كان قيض له، وطوع عنه أسبابه، فمن عمد إلى كفالته فإنما ذلك عمل يعمله عن الله تعالى، لا عن نفسه، كما أن الرسل -عليهم السلام- يعملون عن الله تعالى، يؤدون عنه حججه إلى خلقه، وبيانه، وهدايته، والذي يكفل اليتيم يؤدي عن الله تعالى ما تكفل به, فلذلك صار بالقرب في الدرجة في ذلك الموقف، وليس في الجنة بقعة أروح ولا أطيب ولا أنور ولا آمن من البقعة التي يكون بها الرسل -عليهم السلام، فإذا نال كافل اليتيم القرب من تلك البقعة سعد جده، وأما سائر الأعمال سوى الجهاد، يعمله العمال عن أنفسهم، والجهاد فيه ذب عن الدين, وإعلاء كلمة الله, فهم على أثر الأنبياء -عليهم السلام- يومئذ بالقرب منهم"2.

_ 1 الحكيم الترمذي، نوادر الأصول ج2/ 581، 582. 2 المصدر السابق نفسه.

المرحلة الرابعة: مرحلة الشباب الباكر إلى الرجولة

المرحلة الرابعة: مرحلة الشباب الباكر إلى الرجولة الارتقاء في أسلوب التربية: بعد مرحلة الصبا تأتي مرحلة البلوغ والشباب الباكر، حيث تتغير الطباع وتنمو الغرائز وتظهر علامات الرجولة وعلامات الأنوثة, إذ لم يعد هو الطفل الذي كان بالأمس القريب غارقًا في أحلام طفولته، ولم يعد ليقبل من الآخرين معاملتهم السابقة له, إنما هو يريد أن يعامل على أنه إنسان كبير، يعامل على أنه رجل إذا كان رجلًا، وعلى أنها امرأة إذا كانت أنثى. إن الشخصية في تلك المرحلة تترسب في كيان الفتى كما تترسب في كيان الفتاة, إنها مرحلة المراهقة والنضوج والحمية والحماس، والنشاط والعنفوان، وعندها يجب أن يتغير أسلوب التدليل إلى أسلوب الملاطفة، وأسلوب البنوة إلى أسلوب الصداقة, وهنا تظهر الفائدة الكبرى لما سبق أن تعاطاه الشاب أو الفتاة من آيات القرآن الكريم, ومن الذي لقن من الحديث النبوي الشريف أيام الصغر, وبما يحفظ من الآداب التي تلقاها في أيام طفولته السابقة في مرحلة التأديب، فمهما كان التغيير الذي يطرأ على حياة الشباب من الأحوال الجسمية والعقلية, فإن السلك يكون راشدًا طالما أن مرحل الطفولة تَمَّ تأسيسها على القاعدة الصلبة التي هي العقيدة الإسلامية الراسخة, وعلى الأب أن يتخذ من ولده في هذه المرحلة صديقًا يرافقه في رحلاته, وينيبه عنه في بعض أعماله، وعلى الأم أن تعين زوجها على ذلك, فترشد ولدها إلى ما تراه مفيدًا، تنصحه بالبعد عن مصاحبة الأشرار ورفاق السوء، وبأن يصاحب كل ذي دين ومروءة, ولتذكره بقول الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم: "المرء على دين خليله, فينظر أحدكم من يخالل" فإن الأخذ بهذه التوجيهات الكريمة يصلح من حال الأولاد, وينصلح حال المجتمع بصلاحهم.

تعليمه حقوق الأخوة الإسلامية

تعليمه حقوق الأخوة الإسلامية: وفي هذه المملكة الصغيرة -أعني البيت المسلم- ينشأ ناشئ الفتيان, فيتعلم آدابًا ثريةً بالحكمة, غنية بالمروءة؛ فهو يتعلم أن الدين بالجماعة, وأن من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، فالمعرفة والإسلام يوجبان معنى الأخوة, وقد قال الحق -تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} 1. ثم يفصل الشرع له أمر الأخوة في الحقوق الواجبة على المسلم تجاه أخيه المسلم، فيعلم جملة ذلك مما يلي: - أن تسلم على أخيك المسلم إذا لقيته. - أن تجيبه إذا دعاك. - أن تشمته إذا عطس. - أن تعوده إذا مرض. - أن تشهد جنازته إذا مات. - أن تبرّ قسمه إذا أقسم عليك. - أن تنصح له إذا استنصحك. - أن تحفظه بظهر الغيب إذا غاب عنك. - أن تحب له ما تحب لنفسك.

_ 1 سورة الحجرات: آية10.

- أن تكره له ما تكره لنفسك. فهذه عشر خصال تضم حقوق المسلم على أخيه المسلم، وقد ورد في معناها كثير من الأحاديث النبوية توضح للمسلم في جلاء، وفي بلاغة، معنى الأخوة الإسلامية كما في قوله -صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائره بالحمى والسهر" 1 وهكذا ينشأ الفتى عارفًا بأصول الدين من خلال تعليمه تلك الآداب, ويشعر بأن الجميع أخوته وأحباؤه, فيحرص عليهم ويحرصون عليه.

_ 1 الغزالي ج2/ 191.

تعليمه حقوق الجوار

تعليمه حقوق الجوار: من أعظم الحقوق على المسلم حق الجار لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم: " خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره" 1, وقد أفرد الإمام أبو حامد الغزالي في الإحياء بابًا في حق المسلم والرحم والجوار, فكان من حقوق الجار قوله: حقوق الجوار: "اعلم أن الجوار يقتضي حقًّا وراء ما تقتضيه أخوة الإسلام, فيستحق الجار المسلم ما يستحقه كل مسلم وزيادة؛ إذ قال النبي -صلى الله عليه سلم: "الجيران ثلاثة: جار له حق واحد, وجار له حقان, وجار له ثلاثة حقوق، فالجار الذي له ثلاثة حقوق الجار المسلم ذو الرحم؛ فله حق الجوار وحق الإسلام وحق الرحم, وأما الذي له حقان فالجار المسلم؛ له حق الجوار وحق الإسلام، وأما الذي له حق واحد, الجار المشرك"2.

_ 2 رواه الترمذي في جامعه في كتاب البر والصلة، حديث رقم 1944, طبعه مصطفى البابي الحلبي. 3 الغزالي: إحياء علم الدين, ج2, ص212.

فانظر كيف أثبت للمشرك حقًّا بمجرد الجوار، وقد قال -صلى الله عليه سلم: "أحسن مجاورة من جاورك تكن مسلمًا" 1, وقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" 2, وقال -صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره" 3, وقال -صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن عبد حتى يأمن جاره بوائقه" 3, وقال -صلى الله عليه سلم: "أول خصمين يوم القيامة الجاران" 5, وقال -عليه الصلاة والسلام: "إذا أنت رميت جارك فقد آذيته", ويروى أن رجلًا جاء إلى ابن مسعود -رضي الله عنه- فقال له: إن لي جارًا يؤذني ويشتمني ويضيّق عليّ, فقال: اذهب فإن عصى الله فيك فأطع الله فيه، وقيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وتؤذي جيرانها, فقال -صلى الله عليه وسلم: "هي في النار" 7، وجاء رجل إليه -عليه السلام- يشكو جاره, فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: "اصبر" , ثم قال له في الثالثة أو الرابعة: "اطرح متاعك في الطريق" , قال: فجعل الناس يمرون به ويقول ما لك؟ فيقال: آذاه جاره, قال: فجعلوا يقولون لعنه الله, فجاءه جاره فقال له: رد متاعك فوالله لا أعود"8, وروى الزهري أن رجلًا أتى النبي -عليه السلام, فجعل يشكو جاره, فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ينادي على باب المسجد ألا إن أربعين دارًا جار"9, قال الزهري: أربعون هكذا, وأربعون هكذا, وأربعون هكذا, وأربعون هكذا, وأومأ إلى أربع جهات.

_ 1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 9 الغزالي: إحياء علوم الدين, ج2, ص212.

كما جاء في حقوق الأقارب والرحم عند الغزالى

كما جاء في حقوق الأقارب والرحم عند الغزالى ... كما جاء في حقوق الأرقارب والرحم عند الغزالي: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: أنا الرحمن, وهذه الرحم شققت لها اسمًا من اسمي, فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته" 1 وقال صلى الله عليه وسلم: "من سره أن ينسأ له في أثره ويوسع عليه في رزقه فليصل رحمه" 2، وفي رواية أخرى: "من سره أن يمد له في عمره ويوسع له في رزقه فليتق الله ليصل رحمه"، وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أفضل؟ قال: "أتقام لله أوصلهم لحرمه وآمرهم المعروف وأنهاهم عن المنكر" 3، وقال أبو ذر رضي الله عنه: "أوصاني خليلي عليه السلام بصلة الرحم وإن أدربت، وأمرني أن أقول الحق وإن كان مرا"4، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الرحم معلق بالعرش وليس الواصل المكافئ، ولكن الواصل الذي إذا انقطع رحمه وصلها" 5، وقال عليه السلام: "إن أعجل الطاعة ثوابا صلة الرحم، حتى إن أهل البيت ليكونون فجارا فتنمو أموالهم ويكثر عددهم إذا وصلوا أرحامهم" 6، وقال زيد بن أسلم: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة عرض له رجل فقال: إن كنت تريد النساء البيض والنوق الأدم فعليك ببني مدلج، فقال عليه السلام: "إن الله قد منعني من بني مدلج بصلتهم الرحم"7، وقالت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: قدمت عليَّ أمي فقلت: يا رسول الله إن أمي قدمت علي، وهي مشركة أفأصلها؟ 8، قال: "نعم"، وفي رواية: أفأعطيها؟ قال: "نعم صليها"، وقال عليه السلام: "الصدقة على المساكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان" 9، ولما أراد أبو طالحة أن يتصدق بحائط كان له يعجبه عملا بقوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} 10 قال: يا رسول الله هو في سبيل الله ولفقراء المساكين، فقال عليه السلام: "وجب أجرك على الله فاقسمه في أقاربك"، وقال عليه السلام: "أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح".

_ 1-10 الغزالي - إحياء علوم الدين ج2/ 225 طبعة الحلبي.

حقوق الوالدين والولد: لا يخفى أنه إذا تأكد حق القرابة والرحم، فاخص الأرحام وأمسها الولادة فيتضاعف تأكد الحق فيها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لن يجزئ ولد الده حتى يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه" 1، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "برالوالدين أفضل من الصلاة والصدقة والصوم والحج والعمرة الجهاد في سبيل الله" 2، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من أصبح مرضيا لأبويه أصبح له بابان مفتوحان إلى الجنة، ومن أمسى مثل ذلك، وإن كان واحد فواحدا وإن ظلما وإن ظلما، ومن أصبح مسخطا لأبويه أصبح له بابان مفتوحان إلى النار وأن أمسى مثل ذلك إن كان واحدًا فواحدًا وإن ظلما وإن ظلما إن ظلما" 4، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الجنة يوجد ريحها من مسيرة خمسمائة عام ولا يجد ريحها عاقٌّ، ولا قاطع رحم"5، وقال صلى الله عليه سلم: "بر أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك فأدناك" 6، ويروى أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام: "يا موسى إنه من بر والديه وعقني كتبته بارا، ومن برني عق والديه كتبته عاقا"، وقيل: لما دخل يعقوب على يوسف عليهما السلام لم يقم له، فأوحى الله إليه: أتتعاظم أن تقوم لأبيك؛ وعزتي وجلالي لا أخرجت من صلبك نبيا، وقال صلى الله عليه وسلم: "ما على أحد إذا أراد أن يتصدق بصدقة أن جعلها لوالديه إذا كانا مسلمين فيكون لوالديه أجرها ويكون له مثل أجورهما من غير أن ينقص من أجورهما شيء"7، وقال مالك بن ربيعة: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله هل بقي علي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد وفاتهما؟ قال: "نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ

_ من 1إلى 7 الغزالي، إحياء علوم الدين ص216-217.

عهدهما وإكرام صديقهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما"1. قال صلى الله عليه وسلم: "إن من أبر البر أن يصل الرجل آل ود أبيه بعد أن يولي الأب"2، وقال صلى الله عليه وسلم: "بر الوالدة على الولد ضعفان"3. وقال صلى الله عليه وسلم: "دعوة الوالدة أسرع إجابة"، قيل: يا رسول الله ولم ذلك؟ قال: "هي أرحم من الأب ودعوة الرحم لا تسقط"4. وسأله رجل فقال: يا رسول الله من أبر؟ فقال: "بر والديك" فقال: ليس لي والدان، فقال: بر ولدك كما أن لوالديك عليك حقا كذلك لولدك عليك حق"6، أي لم يحمله على العقوق بسوء علمه. وقال صلى الله عليه وسلم: "ساووا بين أولادكم في العطية"، وقد قيل: ولدك ريحانتك تشمها سبعا وخادمك سبعا ثم عدوك أو شريكك. وقال أنس رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه سلم: "الغلام يعق عنه يوم السابع ويسمى ويماط عنه الأذى فإذا بلغ ست سنين أدب، فإذا بلغ تسع سنين عزل فراشه، فإذا بلغ ثلاث عشرة سنة ضرب على الصلاة فإذا بلغ ست عشر سنة زوجه أبوه ثم أخذ بيده، قال: قد أدبتك وعلمتك وأنكحتك، أعوذ بالله من فتنتك في الدنيا وعذابك في الآخرة"7. ولم تغفل الملة الإسلامية حقوق الآخرين بل إن هذه الحقوق مذكورة في كتب السنة وفي الشروح التي ألفت لتفصيل ما أجمل فيها من الأحاديث النبوية فهي ثروة نبوية في الآداب الآخلاق لا تجدها في أي أمة من الأمم بهذا التفصيل؛ ولقد أفرد الإمام البخاري كتابا اسمه الأدب المفرد يضم الآداب التي يجب على المسلم أن يتحلى بها حتى يفي بحق نفسه حقوق الآخرين في مراتبهم. ومجمل القول : "إنها تربية تشمل المراحل الخطرة في حياة النشء. ففي الصبا تكون الملاعبة والمداعبة وحرارة الحضن الدافئ

_ من 1 إلى 7: الغزالي إحياء علوم الدين ص216-217.

والنزول إلى الطفل؛ لنعلب معه ونقدم له التحفة واللعبة، ونملأ الجو من حوله بالحب والحنان والرعاية من الأبوين والأسرة كلها، وتشمل هذه المرحلة السنين السبع الأولى من حياة الطفل. فإذا ما بلغ عمره سبع سنين بدأت مرحلة جديدة هي مرحلة فيها شيء من الأدب والتأديب والحزم والتوجيه والتربية حتى يتعلم، وترتسم في نفسه ووجدانه قيم التربية السلمية في توجيه صادق ومتابعة وحزم، وأخذ الناشئ بشيء من القسوة أحيانا؛ ليزدجر وينتهي عن السوء والفحش: ... .. ... ومن يك حازما ... فليقس أحيانا على من يرحم وفي هذه المرحلة يتدرب على الصلاة ثم الصوم، وكل ما في أسفار الأخلاق من مبادئ ومثل. فإذا بلغ الرابعة عشرة بدأت مرحلة جديدة، مرحلة فيها تغيير كامل في سماتها وخصائصها ومنهجها، إنه يكن قد بلغ مرحلة يصح أن يصاحبه أبوه في رحلاته، ويتخذه صديقا يقربه منه ويستدنيه، ويعلمه مسالك الحياة وطرائقها، يغرس فيه غير قليل من الثقة في الغد وحسن التعامل مع الناس، كما يعلمه فنون الإعاشة من تجارة وصناعة وصيد وعلوم ومعارف، إنها مرحلة النضج وهي في حاجة إلى صديق، والأب لا بد أن يكون صديقا، ويكون قريبا من نفس ابنه ووجدانه؛ ليبنيهما بناء متوازنًا. وإذا تعدى الناشئ هذه المرحلة آن لنا أن نثق فيه، وأن نتركه يشق طريقه في الحياة في اتزان وثقة، نراقبه من بعيد ونوجهه وننصحه إذا رجع إلينا، ونمده بالخبرة نجنبه المزالق إذا أراد وإذا رغب. لقد أصبح رجلا يستطيع أن يدرك أمور نفسه ويعيها ويتبصرها، ويعرف ما يضره وما ينفعه، ويمز تمييزا جيدا بين ما يستطيع أن يتوجه إليه وما يمتنع عنه وأن يتسلح بالثقة والشجاعة الإقدام والعزم"1.

_ 1- أ. د/ سعد ظلام، مقال بعنوان: كيف يربي الإسلام الإنسان على الاستقلال والإرادة من الطفولة ص17 من مجلة رسالة الإسلام العدد "41" سنة 1417هـ- 1997م.

الفصل الرابع: وسائل تطبيق المنهج الإسلامي في التربية

الفصل الرابع: وسائل تطبيق المنهج الإسلامي في التربية مدخل ... الفصل الرابع: وسائل تطبيق منهج الإسلام في التربية يحتاج منهج التربية الإسلامية إلى تطبيق عملي في حياة المرء المسلم حتى يكون خلقا معتادا وطبيعة تلقائية لا تكلف فيها، فهو في مراحل حياته الأولى من الطفولة إلى الصبا يكون تأثره بالأبوين في محيط الأسرة أقوى وألزم؛ لقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الملة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يشركانه"1. وهذا التأقلم بالأبوين يكون أقوى تأثيرًا وأعظم ترسيخا في نفس الولد في مراحل حياته الاولى، ولذلك كان لا بد في البداية من حسن الاختيار للزوجين اللذين يتناولان تربيته. ثم يأتي بعد ذلك دور المربي أو المؤدب في المدرسة، وهو لا يقل خطرا في تنشئة الأولاد في سن الإلزام، بل يكون للتربية في المدرسة أثر يمتد إلى البيت عن طريق الولد، كأن ينقل الولد بعض الأفكار والمسائل التي يتعلمها في المدرسة لم يجدها في بيته ولم يتعود عليها في محيط أسرته، ويحمل إلى البيت معلومات لم يسمع عنها من أبويه وعشيرته، ومثل هذا كثير. ولذا كان لا بد من تعاون الأسرة مع المدرسة في الوصول إلى أسلوب أمثل للتربية مع تطبيقه عمليا على حياة الولد ذكرًا كان أو أنثى، ومن هنا يبرز دور المعلم وتظهر خطورة دوره في التربية، وأول ما يطلب من أن يكون قدوة صالحة لأبنائه الطلاب الذين ينشدون فيه نور الهداية والرشاد، فما هي الوسائل التي يتبعها المربي أو المؤدب في سبيل الوصول إلى التأثير المباشر في سلوك الولد بما يتمشى مع منهج الإسلام في التربية؟ هناك أكثر من وسيلة تتبع في تربية الولد؛ لإعداده عقيديا وخلقيا وتكوينه نفسيا وعلميا اجتماعيا حتى يصير فتى أو تصير فتاة، ويبلغا الدرجة العليا في النضج والاتزان، نذكرها فيما يلي:

_ 1 رواه الترمذي في جامعه في أبواب القدر، حديث رقم 2138 وروى عن أبي هريرة نحوه بمعناه وقال: "يولد على الفطرة".

التربية بالتلقين والتعويد

التربية بالتلقين والتعويد مدخل ... أ- التربية بالتلقين والتعويد: والتلقين بمعنى التحفيظ، وهو من آكد الوسائل في التربية والتعليم، حيث يقوم المربي بتحفيظ الأولاد آيات القرآن الكريم بأن يتلو عليهم آيات القرآن المرة تلو الأخرى ثم هم يرددون وراءه التلاوة، وهكذا بالنسبة للحديث النبوي أو الشعر العربي المختار، ويا حبذا لو كان التلقين بالطريقة الجماعية، فإن صوت الجماعة له تأثير قوي في نفوس المتعلمين، وله صدى يملأ الاسماع والصدور، ويساعد على تنمية ملكة حفظ العلم، وكلما كان الطالب صغيرا كلما كان ذلك أجدى له، وهذ الطريقة الناجحة في التربية والتعليم هي التي خرجت الأعلام، فما من عَلَم مشهور في تاريخ الثقافة والفكر إلا وكان سبب تفوقه التلقين الذي تم تعويده عليه في صغره، أيام الكتاب وأيام المدراس القديمة التي انتهجت هذه الطريقة في تعلم الأولاد بحيث إذا قلبنا صفحات التاريخ وقرأنا تراجم الشخصيات الكبرى في ساحة الثقافة والفكر وجدنا أن تعليمهم كان بطريقة التلقين والتعويد، وبهذه الطريقة حفظوا القرآن والحديث والشعر والتاريخ والسير وقواعد اللغة، فلما صاروا كبارا كانت صدورهم كتبا محفوظة منقوشة في قلوبهم يستعيدونها وقتما شاءوا ويسترجعون منها ما أرادوا أن يستشدوا به في أمور حياتهم، ونذكر من هذه الشخصيات الإسلامية:

رفاعة بك رافع الطهطاوى

رفاعة بك رافع الطهطاوي: "هو الكاتب الأديب المترجم السيد رفاعة بك الحسيني الطهطاوي شيخ الترجمة وإمام النهضة الحديثة. ولد بطهطا من أسرة شريفة افتقرت بعد غنى، فتنقل به والده في بعض بلاد مديريته قنا بضع سنين تعلم في أثنائها القرآن الكريم، ودرس مبادئ العربية، وحفظ كثيرا من المتون على أخواله، ثم انتخب إماما لبعض فرق الجيش، ولم يلبث أن اختاره المرحوم محمد علي باشا إماما ومعلِّما لأول بعث علمي أرسل إلى فرنسا سنة 1241، فراقته علوم أوربه وعظمتها، فأكب بنفسه على تعلم الفرنسية حتى أجادها فهما وإنشاء وإن لم يجدها نطقا وارتجالا، وكتب في أثناء إقامته بباريس كتاب رحلته إلى أوربه، وترجم قلائد المفاخر، في غرائب الأوائل والآواخر، فسر بذلك محمد علي باشا فلما عاد إلى مصر سنة 1247هـ اختاره رئيسا للترجمة بمدرسة أبي زعبل، فترجم بها كثيرا من الكتب الدروس، واشترك هو وأستاذه الشيخ حسن العطار في اقتراح إنشاء الوقائع المصرية وتحريرها، ثم انتقل إلى مدرسة المدفعية "الطبجية" بطرة لترجمة الكتب الهندسية، ثم صار مديرا لمدرسة الألسن والترجمة، فبلغ عدد تلاميذها 250 تلميذًا، تم على أيديهم ترجمة أكثل ما نقل من علوم أوربه الحديثة إلى العربية زمن محمد علي باشا إسماعيل باشا، ولما ألغيت مدرسة الألسن زمن عباس باشا الأول، وتقلب في عدة مناصب، ثم بقي مدة بلا عمل إلى أن أعيد زمن إسماعيل باشا إلى نظارة قلم الترجمة، وانتخب عضوا بلجنة المدارس، وتولى إدارة مجلة روضة المجال، وعكف على الترجمة والتأليف حتى توفي سنة 1290هـ تاركا لمصر كتبا ورجالا هم أركان النهضة الحديثة"1.

_ 1 من كتاب الأدب الوسيط، ص331، 332.

عبد الله باشا فكرى

عبد الله باشا فكري: "هو الكاتب الشاعر الاديب أحد أركان النهضة الأدبية في الديار المصرية. كان أبوه محمد بليغ أفندي ضابطًا بالجيش المصري وهو ابن الشيخ عبد الله أحد علماء الأزهر. ولد سنة 1250 وتوفي والده وهو في سن الحادية عشرة، فكفله بعض أقاربه، فعلمه القرآن، وبعث به إلى الأزهر فأكب على تعلم علومه مشتغلا أيضا باللغة التركية واستخدم من أجلها مترجما للعربية والتركية في عدة مناصب آلت إلى نقله إلى حاشية سعيد باشا ثم إسماعيل باشا، فعهد إليه بتأديب بنيه الكرام وغيرهم من أمراء بيت الملك"1.

_ 1 المرجع السابق، ص334.

على مبارك باشا

علي مبارك باشا: "هو أبو المعارف المصرية العالم المؤرخ المؤلف المترجم المربي العظيم علي بن مبارك بن سليمان بن إبراهيم، مصلح العلم والإدارة بالديار المصرية، ومؤسس دار العلوم ودار الكتب المصرية. ولد سنة 1239 بقرية برنبال الجديدة من مديرية الدقهلية وكان والده الشيخ مبارك من أهل الفقه والعلم ببلده، فضاق به العيش، فانتقل إلى مديرية الشرقية، وشغل بالمعاش عن تربيته بنفسه، فكان يرسله إلى معلم قاسٍ يتعلم عليه القرآن الكريم، فحفظه وهرب من المعلم؛ لقسوته وضربه، وأحذ يتعلم الكتابة على بعض كتاب المراكز والقرى، ويفر من قسوة هذا إلى ظلم ذاك، حتى عثر في بعض خرجاته بتلاميذ ذاهبين إلى مدرسة أبي زعبل فصحبهم ودخل المدرسة. ثم اختير في جملة من تلاميذها لمدرسة قصر العيني وسنه 12 سنة، ودرس الرياضة فبرع فيها، فانتخب طالبا بمدرسة الهندسة، فأكمل في خمس سنوات درس فن الهندسة، وأرسل إلى أوربه سنة 1260 ليتمم دراسته بها، فمكث نحو أربع سنوات درس فيها فن الهندسة والحرب، ثم عاد إلى مصر ضابطًا بالجيش، ثم قدم لعباس باشا الأول مشروعا

بنظام المدراس المصرية، فأعجبه فعهد إليه في رياسة ديوانها، وألف بعض الكتب الدراسية، فكان أول من نظم المدارس المصرية، وفي زمن سعيد باشا وُشي به إليه فساء حظه، وبعث إلى البلاد العثمانية في الحملة التي وجهت لمحاربة روسيا، فعاد منها بعد أهوال، وبقي يعتزل الخدمة طورًا ويخدم آخر، ويتجر أحيانا ويعلّم أخرى، حتى كان زمن إسماعيل باشا فألحقه بحاشيته وتلقد عدة مناصب هندسية جرى على يده فيها عظيم الأعمال. ثم عين سنة 1281 وكيلا لديوان المدراس وسافر إلى فرنسا لمهمة فأحسن أداءها وأنعم عليه برتبة الباشا "الميرميران"، وتزاحمت عليه المناصب فكان مديرا للسكك الحديدية، وناظرًا للمعارف وللأشغال للأوقاف والقاطر الخيرية فقام بذلك في آن واحد خير قيام. ومن أعماله العظيمة إنشاء دار الكتب، وإنشاء مدرسة العلوم؛ ليوفق بين طلبة العلم القديم وطلبة العلم الحديث، ويحسن تعليم العربية فجاءت هذه المدرسة بأحسن ما يطلب منها. ومنها تجديد مدينة القاهرة وأمهات مدن القطر بإنشاء شوارعها وميادينها العظيمة، وإنشاء كثير من الترع والجسور كترعة الإبراهيمية والإسماعيلية، وبقي يتقلب في النظارات ووكالتها حتى جاءت الثورة العرابية، فكان من شيعة توفيق باشا، ثم قلد نظارة المعارف وغيرها حتى اعتزل الأعمال قبيل وفاته سنة 1311. وله مؤلفات جليلة منها الخطط التوفيقية في عشرين جزءًا وكتاب علم الدين وكتاب نخبة الفكر في تبدبير نيل مصر، وكتاب الميزان في الأقيسة والأوزان، وكتاب الهجاء والمسامرات وغيرها"1.

_ 1 المرجع السابق، ص335، 336.

الشيخ محمد عبده

الشيخ محمد عبده: "هو المصلح الكبير، والمجتهد الخطير، والكاتب البليغ، والخطيب المصقع، الأستاذ الإمام الحكيم الشيخ محمد عبده أحد أركان النهضة العربية، ومؤسسي الحركة الفكرية. ولد بإحدى قرى مديرية الغربية نشأ بين أسرته بمحلة نصر من مديرية البحيرة وترك بلا تعليم حتى ناهزت سنه العاشرة ثم رغب في التعلم، فحفظ القرآن الكريم، وطلب العلم بالجامع الأحمدي، ثم انتقل إلى الأزهر ونبغ في علومه. ولما قدم مصر السيد جمال الدين الأفغاني سنة 1286، وأعاد إلى مصر دراسة الفلسفة وعلوم الحكمة والكلام بعد نضوب معينها عدة قرون لزمه هو وطائفة من نابغي الأزهر كانوا يعدون ألسنة الفصاحة وأئمة الحركة الفكرية، وكان الشيخ محمد عبده أنبغ تلاميذه، وأحرصهم على ملازمته والاستفادة منه، ونال درجة العالمية سنة 1294 واختير سنة 1295 مدرسا للأدب والتاريخ العربي بدار العلوم ومدرسة الألسن، ثم فصل منها ولزم بلده إلى أن أشير على رياض باشا باختيار المترجم لإصلاح لغة الوقائع المصرية ثم صار رئيس تحريرها، وفي هذه المدة جعله رياض باشا مراقبا على كتابة الجرائد وتحريرها. وحدثت عقب ذلك الثورة العرابية فاشترك فيها، ونفى من مصر فذهب إلى سورية، وتولى التدريس بمدراسها، ثم انتقل إلى أوربه فالتقى بالسيد جمال الدين بباريس فأنشأ جريدة العروة الوثقى، ثم عاد إلى مصر ورضي عنه الخديو توفيق باشا فجعل قاضيا بالمحاكم الأهلية، وبقي مدة طويلة مثلا للعدل إلى سنة 1317 فأسند إليه منصب إفتاء الديار المصرية، وتولى التدريس بالأزهر، وما زال كذلك حتى توفي سنة 1323. وكان رحمه الله من خير من ظهر في مصر من شيوخ العلم

منذ قرون ويعتبر باجتهاده في كثير من مسائل العلم من أئمة الدين، كما يتعبر بكتابته البليغة من فحول الكتاب. وله القدم الراسخة في كتابة الجدل والنقد، ولم يترك الشيخ كأستاذه كثيرًا من المؤلفات؛ لكثرة مشاغله بالمناصب العلمية والإدراية ولمناهضة الخصوم له أكثر حياته. ومن مؤلفاته: رسالة التوحيد، وشرح نهج البلاغة، وشرح مقامات بديع الزمان، وأملى تفسير سورة البقرة وآل عمران والنساء بطريقة لم يسلكها مفسر في انطباقها على مقاصد الإسلام، وكتب تفسير جزء عم وجزء تبارك"1. وهكذا كان كل الأعلام من أمثال محمود سامي الباروي، وحفني ناصف ومن بعدهما شوقي وحافظ إبراهيم والعقاد وطه حسين، وغيرهم من أعلام العصر الحديث كان أول تعليمهم القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم والشعر العربي ونحو اللغة وصرفها. وطريقة التلقين طريقة إسلامية بحتة، ولا تزال هذه الطريقة متبعة في مدارس الأزهر الشريف ومعاهده العلمية، ولذلك يعتبر الأزهر القلعة العلمية الحصينة؛ لأن علوم الدين محفوظة في قلوب أبنائه على مدى الزمان، ولعلنا نلمس ذلك في لجوء الناس إلى علماء الأزهر؛ ليسمعوا منهم العلم والفتوى إذا حزبهم امر أو أصابتهم فتنة استعصى عليهم مجابهتها. ومن أهم ما يلقن الصبي أيضا الدعاء؛ لأنه مخ العبادة؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء مخ العبادة"2، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم

_ 1 المرجع السابق ص337. 2 رواه الترمذي في أبواب الدعوات رقم 3431 طبعة المكتبة السلفية.

وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير كلم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم يضربا أعناقكم؟ "، قالوا: بلى، قال: "ذكر الله"1. وللدعاء فوائد جمة، إذا ما من أمر من أمور الدنيا إلا وقد خصص له رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء يجدر بالمسلم أن يقوله حتى يذهب الله عنه الضر إن كان في موطن الضر، أو يجلب لصاحبه النفع إن أراد لنفسه النفع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد يدعو بدعاء إلا أتاه الله ما سأل أو كف عنه من سوء مثله، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم"2. وللدعاء آداب ينبغي معرفتها وهي مذكورة في أبواب الدعوات في كتب الحديث، وليس بدعا من القول أن نقول: إنه سلاح ماضٍ من الأسلحة التي ينبغي للمسلم أن يتسلح بها، وهذا المعنى قد يخفى على كثير من الناس ينبغي للمسلم أن يتسلح بها، وهذا المعنى قد يخفى على كثير من الناس في هذه الأيام؛ لطغيان المادة على معظم البشر، وكيف بنا إذا علمنا أن رضى الله عز وجل إنما يكون بدعائه، فإن استغنى الإنسان عن الدعاء عرض نفسه؛ لهلاكها؛ لأن الرسول الكريم صلى الله عليه سلم يقول: "إنه من لم يسأل الله يغضب عليه"3.

_ 1 رواه الترمذي، في جامعه، في أبواب الدعوات رقم 3437 طبعة المكتبة السلفية. 2 رواه الترمذي، في جامعه، في أبواب الدعوات رقم 3441 طبعة المكتبة السلفية. 3 رواه الترمذي، في جامعه، في أبواب الدعوات رقم 3433 طبعة المكتبة السلفية.

التربية بالقدوة

ب- التربية بالقدوة: والقدوة الأولى لنا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو المثل الأعلى وهو خير خلق الله على الإطلاق، ونحن مأمورون بالاقتداء به والسير على نهجه بنص القرآن: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ودراسة سيرته مطلوبة لكل مؤمن، حتى يتخلق الإنسان بخلقه ويسير على نهجه، وفي تعلم أخباره وتفهم مواقفه كثير من الحكمة، وقد قال عز من قائل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} . وقد جعل الله عز وجل في شخص رسولنا الكريم الصورة الكاملة للمنهج الإسلامي في التربية والتعليم؛ ليكون للناس على مدار التاريخ القدوة الصالحة وللبشرية في كل مكان النور الهادي إلى سواء السبيل، ومنه تعلم الصحابة صغارا وكبارًا كل معاني العفة والطهارة والصدق والأمانة والشجاعة والطاعة والعبادة، واكتسبوا منه كل الأعمال الصالحة حتى كان منهم رجال أنزل الله فيهم قرآنا، وتحققت فيهم تربيته حتى وصف القرآن حال صحابته صلى الله عليه سلم بقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29] . امتدحهم الحق من فوق سبع سماوات بقوله: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17] ، وبقوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] . فيكفيهم بذلك فخرا وخلودا أن ذكرهم الله في كتابه الذي تعهد بحفظه على مدى الزمان. "هذا غيض من فيض مما نزل في كريم مآثرهم، وجميل محامدهم، وقد تحقق بهم فعلا إقامة المجتمع الفاضل الذي كان حلم المفكرين، وأمنية الفلاسفة منذ القدم ... وكيف لا؟! والقاضي يجلس بينهم سنتين ولا يتخاصم إليه إثنان؟ ولماذا يتخاصمون وبين أيديهم القرآن؟ ولماذا يختلفون وهم يحبون لإخوانهم ما يحبون لأنفسهم؟ ولماذا يتاغضون والرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم بالمحبة والإخاء،

وحضهم على التعاطف والإيثار؟ "1. "وإليكم ما قاله الصحابي الجليل "عبد الله بن مسعود" رضي الله عنه في تعداد محامدهم وفضائلهم، ووجوب التأسي بأفعالهم الحميدة، وأخلاقهم الكريمة: "من كان متأسيا فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، وأقومها هديا، وأحسنها حالا.. اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، وابتعوهم في آثارهم؛ فإنهم كانوا على الهدى المستقيم. وما زالت الأجيال المسلمة في كل زمان ومكان يرون من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة الصالحة في العبادة والأخلاق، الشجاعة الثبات، والعزم والمضاء والتعاطف والإيثار، والجهاد ونيل الشهادة.. وما زال شباب الإسلام في كل عصر يستقون من معين فضائلهم، ويستضيئون بنور مكارمهم، وينهجون في التربية نهجهم، ويسيرون في بناء المجد سيرهم؛ لكونهم خير القرون هديا، وأفضل العصور قدوة. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل فيما رواه البيهقي والديلمي: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم". من هذه القدوة الصالحة التي تجسدت في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من تابعيهم بإحسان.. انتشر الإسلام في كثير من الممالك النائية، والبلاد الواسعة البعيدة في شرق الدنيا وغربها. والتاريخ يسطر بملء الافتخار والإعجاب أن الإسلام وصل إلى جنوب الهند وسيلان، وجزر لكديف ومالاديف في المحيط الهندي،

_ 1- د. عبد الله ناصح علوان، تربية الأولاد في الإسلام، ج2/ 488، دار السلام للطباعة والنشر، الطبعة الثلاثون، 1996.

وإلى التيبت، وإلى سواحل الصين وإلى الفلبين، وجزر أندونسيا، وشبه جزيرة الملايو.. ووصل إلى أواسط أفريقيا في السنغال، ونيجيريا، والصومال، وتنزانيا، ومدغشقر، وزنجبار، وغيرها من البلاد، وصل الإسلام إلى كل هذه الأمم بواسطة تجار مسلمين، ودعاة صادقين أعطوا الصورة الصادقة عن الإسلام في سلوكهم وأمانتهم، وصدقهم ووفائهم ثم أعقب ذلك الكلمة الطبية، والموعظة الحسنة، فدخل الناس في دين الإسلام أفواجا6. ولقد تعلم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم التابعون، ونقلوا إلى الدنيا صورة القدوة العظيمة في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تأسوا بأسوته واهتدوا بهديه، وفي حسن اقتدائهم بالصحابة صاروا أمثلة عليا في عصورهم، وقدوة أيضا لمن جاء من بعدهم من أجيال أتباع التابعين، ولا تزال هذه السيرة العطرة تنتقل من جيل إلى جيل، وكلهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ملتمس، لذلك كان كل من يقتدي بمعلمه كأنما يرتشف من علم المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ فالقدوة تتمثل في كل مربٍّ سار على النهج القويم الذي كان عليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في كل عصر ومصر. ويرى الإمام أبو حامد الغزالي أن المتعلم لا يغنيه كثيرة ما حصل من علم بل إن عليه أن يقتدي بمعلم مربٍّ مرشد يستطيع أن يخرج الأخلاق السيئة من تلميذه بطريقة التربية، ويستبدل ذلك بالأخلاق الفاضلة، فقال لتلميذه بعد ان اطمأن لحفظه القرآن وتحصيل قدرٍ لا بأس به من علوم الشريعة: " ... اعلم أنه ينبغي للسالك "الطالب" شيخ مرشد مربٍّ؛ ليخرج الأخلاق السيئة منه بتربيته، ويجعل مكانها

_ 1 د. عبد الله ناصح علوان، المرجع السابق، ج2/ 489.

خلقًا حسنًا"1. ثم يوضح الغزالي له معنى التربية بقوله: "ومعنى التربية يشبه فعل الفلاح الذي يقلع الشوك، ويخرج النباتات الأجنبية من بين الزرع؛ ليحسن نباته، ويكمل ريعه2، ولا بد للسالك من شيخ يربيه ويرشده إلى سبيل الله تعالى؛ لأن الله أرسل للعباد رسولا للإرشاد إلى سبيله، فإذا ارتحل صلى الله عليه سلم فقد خلف الخلفاء في مكانه، حتى يرشدوا إلى الله تعالى"3. والتلميذ في مدارسنا يحتاج إلى نموذج عملي وقدة يراها متمثلة في شخص معلمه مربيه، ثم هو يأخ التقليد والمحاكاة أكثر مما يأخذ بالنصح والإرشاد، وعلى هذا فإن نجاح العملية التعليمية يتوقف إلى حد كبير على المعلم أو المربي الذي يقوم بالتعليم والتربية، والذي يحقق بسلوكه وممارساته التربوية الأسوة المطلوبة لتحقيق المنهج التربوي، وهذا المبدأ قد قرره القرآن، فقد أمر الله تعالى نبيه أن يقتدي بهدي من سبقه من الرسل قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] . كما أمر الله المؤمنين بالاقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ} [الأحزاب: 21] .

_ 1 الغزالي، أيها الولد، بتحقيق علي محيي الدين القره داغي، درا الاعتصام، 1983م ص112. 2 الريع: النماء والزيادة. 3 المصدر السابق، ص113.

التربية بشغل أوقات الفراغ وتنظيم الأوراد

التربية بشغل أوقات الفراغ وتنظيم الأوراد مدخل ... ج- التربية بشغل أوقات الفراغ وتنظيم الأوراد: ليس لدى المؤمن وقت فراغ؛ لأن الوقت عنده ثمين وهو محسوب عليه، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أي الناس خير؟ قال: "من طال عمره وحسن عمله"، وسئل: فأي الناس شر؟ قال: "من طال عمره وساء عمله" 1. وروى عن ابن عمر أنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض جسدي فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعُد نفسك من أهل القبور" 2. والمؤمن الحق هو الذي يشعر بأنه موصول دائما بالله، وأن الله معه في كل حين، وأن الله ناظر إليه أينما حل، وهذا المعنى دقيق، وقلما تجده متحققا في الناس في هذه الأيام؛ نظرا لما عليه حالة العصر من الزخام وتعقد المصالح وتعدد الأمور، وسطحية التربية في المنازل والمدراس، وكثرة موارد اللهو والغناء وانتشارها. ووقت الفراغ غير وارد في حياة المسلم إذا عاش هذا المعنى؛ أي إذا أحس أنه دائما موصول بالله؛ لأنه يكون مشغولا دائما بطهارة نفسه؛ عملا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استحيوا من الله حق الحياء" قلنا: يا رسول الله إنا نستحي والحمد لله، قال: "ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى ولتذكر الموت البلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء ... " 3.

_ 1 رواه الترمذي في جامعه في أبواب الزهد حديث رقم 2330 طبعة الحلبي. 2 رواه الترمذي في جامعه في أبواب الزهد حديث رقم 2333 طبعة الحلبي. 3 رواه الترمذي في جامعه في أبواب صفة القيامة حديث رقم 2458 طبعة الحلبي.

يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي "ت795": "جعل الله سبحانه وتعالى في كل يوم وليلة لعباده المؤمنين وظائف موظفة عليهم من وظائف طاعته فمنها ما هو فرض كالصلوات الخمس، ومنها ما يندبون إليه من غير افتراض كنوافل الصلاة والذكر وغير ذلك، وجعل في شهور الأهلة وظائف موظفة أيضا على عباده كالصيام والزكاة والحج ومنه فرض مفروض عليهم كصيام رمضان وحجة الإسلام منه ما هو مندوب كصيام شعبان وشوال والأشهر الحرم وجعل الله سبحانه لبعض الشهور فضلا على بعض كما قال تعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} ، وقال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} ، وقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ} ، كما جعل بعض الأيام والليالي أفضل من بعض، وجعل ليلة القدر خيرا من ألف شهر، وأقسم بالعشر وهو عشر ذي الحجة على الصحيح، وما من هذه المواسم الفاضلة موسم إلا ولله تعالى فيه وظيفة من وظائف طاعاته يُتقرب بها إليه، ولله فيها لطيفة من لطائف نفحاته يصيب بها من يشاء بفضله ورحمته عليه فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات، وقد خرَّج أبن أبي الدنيا والطبراني وغيرهما من حديث أبي هريرة مرفوعا: "اطلبوا الخير دهركم وتعرضوا لنفحات رحمة ربكم فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوا الله أن يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم"، وفي رواية للطبراني من حديث محمد بن مسلمة مرفوعا: "إن لله في أيام الدهر نفحات فتعرضوا لها؛ فلعل أحدكم أن تصيبه نفحة فلا يشقى بعدها أبدا". وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن

_ 1 ابن رجب الحنبلي، لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف، نشر دار الدعوة، ص6.

مجاهد قال؟: "ما من يوم إلا يقول: ابنَ آدم قد دخلت عليك اليوم ولن أرجع إليك بعد اليوم، فانظر ماذا تعمل في فإذا انقضى طواه ثم يختم عليه فلا يفك حتى يكون الله هو الذي يفض ذلك الخاتم يوم القيامة، ويقول اليوم حين ينقضي: الحمد لله الذي أراحني من الدنيا وأهلها. ولا ليلة تدخل على الناس إلا قالت كذلك"، وبإسناده عن مالك بن دينار قال: كان عيسى عليه السلام يقول: "إن هذا الليل والنهار خزانتان فنظروا ما تضعون فيهما"، وكان يقول: "اعملوا الليل لما خلق له، واعملوا النهار لما خلق له"1.

_ 1 المصدر السابق، ص7.

رياضة الباطن

رياضة الباطن: وعلى الإنسان المسلم أن يروض نفسه على الطاعات، ولا يحصل ذلك إلا بدوام الفكر في الله تعالى وفي صفاته، ويذكره سبحانه تعالى، ولن يتيسر دوام الذكر والفكر إلا بوداع الدنيا وشهواتها والاجتزاء منها بقدر الضرورة، والاكتفاء منها بقدر الحاجة، وكل ذلك لا يتم إلا باستغراق أوقات الليل والنهار في وظائف الأذكار، ولكن النفس لا تصبر على فن واحد لما جلبت عليه من السآمة والملال، بل إنها إذا ردت على نمط واحد أظهرت الملا والاستثقال، وأن الله تعالى لا يمل حتى يمل الإنسان، فلا بد للإنسان أن يتلطف بنفسه بأن يروح بها من فن إلى فن ومن نوع إلى نوع، فذلك نوع من الرياضة النفسية لتطهير نوازع النفس وتطهير الأبدان من كل ملال. وعلى قدر الاستطاعة يحاول أن يستغرق كل أوقاته التي يفرغ فيها من عمله وسعيه في تأدية العبادة المتنوعة بحسب الأوقات المختلفة، فالله سبحانه وتعالى يقول لرسول صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا، وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8] ، وقال: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ

السُّجُودِ} [ق: 40] ، وقال: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 49] ، وقال: {وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه: 130] ، وقال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] ، وللإمام الغزالي في كتاب إحياء علوم الدين باب في فضيلة الأوراد وترتيبها وأحكامها، رتب فيه للمسلم الراغب في رضى الله سبحانه وتعالى، والراغب في دخول جنته والبعد عن حر ناره الأوقات؛ أوقات النهار وأوقات الليل، ووزع له العبادات التي تتم في اليوم والليلة بحيث لا نجد وقتا خاليا من عبادة أو تبتل، وفي ذلك نفع عظيم للمسلمين؛ لأن ذكر الله دائما يستوجب رحمته ويدفع غضبه، وكيف يغضب المولى عز وجل على قوم يذكرونه آناء الليل وأطراف النهار؟! ومع ذلك فإن المسلم لا ينسى حظه من الدنيا فلا تمنعه أوراده عن العناية بجسمه والاهتمام بأمر نفسه فيزاول من رياضة الأبدان ما يتفق مع ميوله وكفاياته، فإن ذلك يعنيه على أمر العبادة.

رياضة البدن

رياضة البدن: إن العناية بجسم الإنسان وبصحته ومظهره من أهم الأمور التي عنى بها الإسلام؛ لأن الجسم أداة الاتصال بين العالم الروحي والعالم الأرضي، فالإسلام يهدف إلى بناء المسلم الصحيح القوى المعافى، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف" 1. ولذلك يضع الإسلام الأسس الفعالة لسلامة بدن الإنسان من الأسقام والأمراض وتنشيطه بالتربية الرياضية العمل والحفاظ عليه من كل ما يؤذيه أو يعرقل نموه.

_ 1 رواه مسلم في صحيحه، باب الأمر بالقوة وترك العجز.

إن صحة الأجسام وجمالها ونضرتها من الأمور التي وجه الإسلام إليها عناية فائقة، واعتبرها من صميم رسالته، ولن يكون الشخص راجحًا في ميزان الإسلام إلا إذا تعهد جسمه بالتنظيف والتهذيب، وكان في مطعمه ومشربه وهيئته الخاصة، بعيدًا عن الأدران، وليست صحة البدن وطهارته ماديًّا فقط، بل إن أثرها عميق في تزكية النفس، وتمكين الإنسان من النهوش بأعباء الحياة، وما أحوج أعباء الحياة إلى الجسم الجلد والبدن القوى الصبور"1. وإذا كانت الحواس المعروفة قنوات أساسية في المعرفة تعلما وتعليما تصبح صحتها وتدريبها سلامتها ورعايتها شرطا جوهريًّا لإمكان التعلم والتعليم كما أن حسن القيام بكثير من العبادات الإسلامية يتوقف على مدى ما يتمتع به الجسم من صحة وسلامة مثل الصيام والحج. وحرصا على البدن وسلامته، فإن التربية الإسلامية تعمل على أن تعلم الإنسان كيف يعتدل في إشباع حاجاته الجسمية، يقول الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31] ، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه: "ما ملأ ابن آدم وعاءًا شرًا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لامحالة فاعل فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه"2. وكي يكون سلوك الجسم صائبا وسليما لا بد أن يتعود الإنسان على ممارسة الرياضة في جميع صورها التي تقوي الجسم وترفع من شأنه وكفاءته3.

_ 1 محمد الغزالي، خلق المسلم، دار الكتب الحديثة، القاهرة، طبعة سنة 1974. 2 رواه ابن ماجه في سننه. 3 أحمد أبو الدهب محمود، الإسلام والتنمية البشرية، مجلة الوعي الإسلامي، العدد 385 ص54.

التربية بالقصة والعظة

التربية بالقصة والعظة مدخل ... د- التربية بالقصة والعظة: من أظهر الأساليب في التأثير في النفس، القصص الحكايات، ولذلك فإن القصة من أنجح الوسائل في التربية، والقرآن أتى بكثير من القصص والأمثال؛ لما فيها من الهداية والإيمان والعظة والتدبر، وينبغي للمؤدبين والمربين أن يحببوا إلى الناشئين والناشئات أسلوب الموعظة القصصية؛ لما في ذلك من فوائد جليلة في الاستفادة من هدي القرآن. وتمتاز قصص القرآن بسمو الغاية، وشريف المقاصد، ولها مسلك عظيم في التوجيه والإرشاد يدعو الناس إلى العظة والتدبر، فقد حوت كثيرا من تاريخ الرسل مع أقوامهم، والشعوب مع حكامهم، وبرزت فيها شخصيات عرفت بالخير والهداية، وشخصيات عرفت بالشر والضلال، وأقوام سلكوا طريقة النور، وأقوام تاهوا في دياجير الظلام. ونحن في هذه الأيام نجد الناس قد انصرفوا عن قصص القرآن وما فيها من العظات البالغات، إلى قصص المؤلفين من الكتاب والأدباء، والتي يمتزج فيها الحق بالباطل، وأقبلوا على ما يعرض من المسلسلات والمسرحيات على الشاشة الصغيرة، واتخذوا القرآن مهجورا، وغيره لا يربي ولا يفيد. وفي ذلك خطر على التربية كبير، وفساد لنفوس فتياننا وفتياتنا عظيم. والقرآن قد استخدم القصة في التربية والتوجيه والتعليم على أبدع ما يكون، نجد ذلك في قصة يوسف مع أخوته، وقصة أصحاب الكهف، وقصة صاحب الجنتين، وقصة موسى مع الخضر عليهما السلام، وقصة ذي القرنين مع يأجوج ومأجوج، وقصة صاحب ياسين، وكثير من القصص الأخرى التي تمدنا بأمثلة عالية في تحقيق الموعظة واكتساب الأخلاق الحميدة، وإلى ما في أنواع القصص المذكورة من فوائد تاريخية واجتماعية وعلمية.

ولعل من أمتع ما نجده في تفسير بعض الآيات التي وردت مجملة في القرآن، ذلك التفسير المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن صحابته أو عن التابعين ومما يثير في النفوس دوافع الإعجاب والتعجب في الوقت نفسه أن هذه الآيات أو تلك كانت معلومة لدى العارفين بالقرآن على نحو قصصي واقعي مفصل كما جاء مثلا في تفسير قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176] . فهذا الأمر من الله في الآية أن يقص النبي صلى الله عليه وسلم على الناس خبر ذلك الرجل الذي أضله الله على علم ولم ينفعه علمه فصار مثلا يضرب للناس، وكان عبرة لمن ذكب بآيات الله فما الذي تعلمه صحابة رسول الله من هذه القصة؟ يقول ابن عباس: هو رجل من المتقدمين في زمن بني إسرائيل يقال له: بلعام -وكان يعلم اسم الله الأكبر- ولما نزل موسى بالجبارين ومن معه، أتاه -يعني بلعام- بنو عمه فقالوا: يا بلعام، إن موسى رجل حديد ومعه جنود كثيرة وإنه إن يظهر علينا يهلكنا، فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه، قال: إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه ذهبت دنياي وآخرتي، فلم يزالوا به حتى دعا عليهم، فسلخه الله ما كان عليه. وروى ابن كثير بسنده عن سالم أبي النضر أنه حدث أن موسى عليه السلام لما نزل في أرض بني كنعان من أرض الشام أتى قوم بلعام إليه فقالوا له: هذا موسى بن عمران في بني إسرائيل قد جاء يخرجنا من

بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل وإنا قومك وليس لنا منزل، وأنت رجل مجاب الدعوة فاخرج فادع الله عليهم قال: ويلكم نبي الله معه الملائكة والمؤمنون كيف أذهب أدعو علهيم وأنا أعلم من الله ما أعلم؟ قالوا له: ما لنا من منزل، فلم يزالوا به يرفقونه يتضرعون إليه حتى فتنوه فافتتن فركب حمارة له متوجها إلى الجبل الذي يطلعه على عسكر بني إسرائيل وهو جبل حسبان، فلما سرا عليها غير كثير ربضت به فنزل عنها فضربها حتى إذا أزلقها قامت فركبها فلم تسر به كثيرا حتى ربضت به فضربها حتى إذا أزلقتها أذن لها، فكلمته حجة عليه، فقالت: ويحك يا بلعام أين تذهب؟ أما ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا؟ تذهب إلى نبي الله والمؤمنين؛ لتدعو عليهم؟ فلم ينزع عنها فضربها فخلى الله سبيلها حين فعل بها ذلك فانطلقت به حتى إذا أشرفت به على رأس حسبان على عسكر موسى وبني إسرائيل جعل يدعو عليهم ولا يدعو عليهم بشرٍّ إلا صرف الله لسانه إلى قومه: أتدري يا بلعم ما تصنع؟ إنما تدعو لهم وتدعو علينا قال: فهذا ما لا أملك، هذا شيء قد غلب الله عليه، قال: واندلع لسانه، فوقع على صدره، فقال لهم: قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة ولم يبق إلا المكر والحيلة فسأمكر لكم وأحتال، جملوا النساء وأعطوهن السلع، ثم أرسلوهن إلى المعسكر يبعنها فيه، ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها فإنهم إن زنى رجل منهم واحد كفيتموهم. ففعلوا فلما دخل النساء العسكر مرَّت امرأة من الكنعانيين اسمها كستبي -ابنة صور رأس أمته- برجل من عظماء بني إسرائيل، وهو زمرى بن شلوم رأس سبط بني شمعون بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، فلما رآها أعجبته، فقام، فأخذ بيدها، وأتى بها موسى وقال: إني أظنك ستقول: هذا حرام عليك لا تقربها؟ قال: أجل هي حرام عليك، قال: فوالله لا أطيعك في هذا فدخل بها قبته فوقع

عليها، وأرسل الله عز وجل الطاعون في بني إسرائيل، وكان فنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى وكان غائبا حين صنع زمرى بن شلوم ما صنع فجاء والطاعون يحوس فيهم، فأخبر الخبر، فأخذ حربته وكانت من حديد كلها ثم دخل القبة وهما متضاجعان فانتظمهما بحربته ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء والحربة قد أخذها بذراعه واعتمد بمرفقه على خاصرته، وأسند الحربة إلى لحيته وكان بكر العيزار، وجعل يقول: اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك، ورفع الطاعون فحسب من هلك من بني إسرائيل في الطاعون فيما بين أن أصاب زمرى المرأة إلى أن قتله فنحاص فوجدوه قد هلك منهم سبعون ألفا، والمقلل لهم يقول عشرون ألفا في ساعة من النهار، فمن هنالك تعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص من كل ذبيحة ذبحوها الرقبة والزراع واللحى والبكر من كل أموالهم وأنفسهم؛ لأنه كان بكر أبيه العيزار، ففي بلعام بن باعور أنزل الله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} ، إلى قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 1. وقصة بلعام تتضمن الكثير من الفوائد التي تنهض بمستوى التربية إلى أعلى درجة، وليس من ذلك شيء عند المناهج التربوية الحديثة فإنها لا تذكر مثل هذه القصص كما رواها لنا القرآن، ولعل الدرس النفيس الذي نجنيه من وراء هذه القصة هو أن العلم ليس بكثرة التحصيل، ولكن العلم إنما يكون بالعمل. وقد قال الإمام الشافعي في هذا المعنى: "ليس العلم ما حفظ، العلم ما نفع"2. يندرج تحت هذا المعنى فوائد عظمى، منها:

_ 1 تفسير الإمام الشافعي. 2 انظر ابن جماعة الكناني، تذكرة السامع المتكلم في أدب العالم والمتعلم، ص95، دار الكتب العلمية ببيروت.

- أن العلم ليس كما يظن كثير منا لناس الآن من حيث هو العلم الكوني، ولكن العلم الذي يصح أن يطلق عليه هذا اللفظ على الاطلاق هو العلم الديني. - أن العلم الديني يبلغنا الغاية وهو معرفة الحقيقة التي هي معرفة اسم الله الأعظم الذي يستطيع من يعرفه أن يحرك به الجبال وأن يكونبه عبدا ربانيا يقول للشيء كن فيكون. - أن الله يدافع عن الذين آمنوا فمهما حاول الكفار والمشركون هلاك المؤنين بعلومهم رد الله كيدهم في نحورهم. - أن في الطاعة البعد عن المعاصي حفظا وصيانة لمجتمع المؤمنين، فإن ظهرت فيهم المعصية ولم ينكروها يقضوا عليها فلاحفظ لهم ولا صيانة من الله تعالى. والمنهج الإسلامي يضع في الاعتبار أن النفوس تسأم كما تسأم الأجسام وأنه لا بد لها من الترويح عنها بتسليتها برواية القصص والأشعار؛ لما في ذلك من تجديد الهمم واستعادة النشاط، فنجد إلى جانب القصص القرآني قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم، والقصص التي رواها العرب وغير العرب عن الحوادث التي كانت تقع مع الصالحين والطالحين والملوك والسلاطين، ومنها ما حدث في الواقع، ومنها ما أضيف إليه شيء من التأليف، وهي في عمومها يلتمس منها العظة والدرس، نذكر منها على سبيل المثال:

قصة جريج العابد

قصة جريج العابد: عن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم: "كان جريح رجلا عابدا فاتخذ صومعة، فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلي فقالت: ياجريح، فقال: يا رب أمي وصلاتي. فأقبل على صلاته فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت: يا جريح، فقال: يا رب أمي وصلاتي، "أيهما أجيب وأيهما أفضل"1 فأقبل على صلاته فانصرفت فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريح. فقال: يا رب أمي وصلاتي فأقبل على صلاته. فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات. فتذاكر بنو إسرائيل جريحا وعبادته. وكانت امرأة بغي يتمثل بحسنها "جمالها" فقالت: إن شئتم لأفتننه. فتعرضت له فلم يلتفت إليها، فأتت راعيا كان يأوي إلى صومعته، فأمكنته من نفسها فوقع عليها فحملت فلما ولدت قالت: هو من جريح. فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته وجعلوا يضربونه فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيت بهذه البغي فولدت منك. قال: أين الصبي؟ فجاءوا به فقال: دعوني حتى أصلي، فصلى، فلما انصرف أتى الصبي فطعن في بطنه، وقال: يا غلام من أبوك؟ قال: فلان الراعي، فأقبلوا على جريح يقبلونه ويتمسحون به، وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب، قال: لا أعيدوها من طين كما كانت ففعلوا". "رواه البخاري ومسلم". ويؤخذ من هذه القصة: 1- أن حق الأم عظيم وأنها يستجاب لها في ولدها إذا تغير قلبها عليه، فجريح مع عبادته واعتزاله تغير قلب أمه إذ دعته لم يجبها؛ لأنه كان في صلاته فدعت عليه فاستجيب لها فما الظن بمن تدعو عليه لإهانتها. 2- إن الالتجاء إلى الله بصدق ينفع عند وقوع الشدائد كما التجأ جريح، وليس بينه وبين الموت إلا سويعات فأنطق الله له الرضيع: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} . 3- قوة الإيمان صدق التوكل تصدر عنهما العجائب كما أنطق الله الرضيع لهذا الرجل المبارك. 4- نهاية الكذب والزور الفشل والغيبة كما حصل لهذه المرأة2.

_ 1 الكلمات التي بين قوسين ليست من الحديث وإنما هي من إضافة المؤلف لتوضيح المعنى. 2 محمد أمين الجندي، مائة قصة وقصة في أنيس الصالحين وسمير المتقين، ص7، 8 الناشر مكتبة النجاح.

قصة التائب قاتل المائة

قصة التائب قاتل المائة: قال صلى الله عليه وسلم: " كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدُلَّ على راهب، فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة؟ فقال: لا. فقتله فكمل به مائة ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُل على رجل عالم فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم. ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسًا يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك؛ فإنها أرض سوء. فانطلق حتى إذا نصف الطريقَ أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرا قط. فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم حكما، فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسموا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة". "متفق عليه" وفي وراية في الصحيح: "فكان إلى القرية الصالحة أقرب بشبر فجعل من أهلها"، وفي رواية في الصحيح: "فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تباعدي وإلى هذه أن تقاربي، وقال: قيسوا ما بينهما فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له".

ويؤخذ من هذا الحديث: 1- أن العباد بغير علم يضر نفسه وغيره. 2- فيه قبول توبة القاتل عمدا، وهو مذهب جمهور العلماء فيه، وإن كان شرعًا لمن قبلنا فقد قرره شرعنا؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ} إلى قوله: {إِلاَّ مَنْ تَابَ} ، وأما قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} فمعناه أن جهنم جزاؤه وقد يجازى بها قد يجازي بغيرها وقد يعفى عنه. 3- وفيه مقاطعة إخوان السوء ما داموا على حالهم، ومخالطة أهل الخير ومن ينتفع بصحبته. 4- وفيه تحكيم الخصمين عند الخلاف من يفصل بينهما. 5- وفيه أن الذنوب وإن عظمت فعفو الله أعظم وإن صدقت توبته حقت رحمته"1.

_ 1 المصدر السابق ص23، 24.

شجاعة غلام

شجاعة غلام: 1 الحجاج بن يوسف الثقفي "وكان معروفا بالظلم والقسوة والقتل" بينما كان جالسا في منضرة له وعنده وجوه أهل العراق أتي بصبي من الخوارج عليه له من العمر نحو بضع عشرة سنة، فلما أدخل عليه لم يعبأ بالحجاج بن يوسف ولم يكترث به، وإنما صار ينظر إلى بناء المنظرة وما فيها من العجائب، ويلتفت يمينا وشمالا، ثم اندفع يقول: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} وكان الحجاج متكئا فاستوى في مقعده، وقال: يا غلام إني أرى لك عقلا وذهنا أحفظت القرآن؟ فقال الغلام: أو خفت عليه من الضياع حتى

_ 1 المصدر السابق، ص39.

أحفظه وقد حفظه الله تعالى! قال الحجاج: أفجمعت القرآن؟ قال: أوَكان مفرقا حتى أجمعه! قال الحجاج: أفأحكمت القرآن؟ قال الغلام: أليس الله أنزله محكمًا! قال الحجاج: أستظهرت القرآن: فقال الغلام: معاذ الله أجعل القرآن وراء ظهري! فقال الحجاج -وقد ثار غضبًا: ويلك قاتلك الله ماذا أقول؟ قال الغلام: الويل لك ولقومك، قل أوعيت القرآن في صدرك، فقال الحجاج: فاقرأ شيئا من القرآن، فاستفتح الغلام: "بسم الله الرحمن الرحيم إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس "يخرجون" من دين الله أفواجًا ... " فقال الحجاج: ويحك إنهم يدخلون! فرد عليه الغلام قائلا: كانوا يدخلون أما اليوم صاور يخرجون. فقال الحجاج: ولماذا؟ قال الغلام: لسوء فعلك بهم. قال الحجاج: يلك يا غلام! أتعرف من تخاطب؟ قال الغلام: نعم شيطان ثقيف الحجاج، فقال الحجاج: ويلك! من رباك؟ قال الغلام: الذي زرعني. قال الحجاج: فمن أمك؟ قال الغلام: التي ولدتني، قال الحجاج: فأين لدت؟ قال: في بعض الفلوات. قال الحجاج: أمجنون أنت فأعالجك؟ قال: لو كنت مجنونا لما وصلت إليك ووقفت بين يديك. وقال الحجاج: قال: فما تقول في أمير المؤمنين؟ قال الغلام: رحم الله أبا الحسن رضي الله عنه وأسكنه جنان خلده. قال الحجاج: ليس هذا ما عنيت إنما أعني عبد الملك بن مروان. قال الغلام: على الفاسق الفاجر لعنة الله. قال الحجاج: ويحك؟ بم استحق اللعنة أمير المؤمين؟ قال الغلام: أخطأ خطيئة ملأت ما بين السماء والأرض، قال الحجاج: ما هي؟ قال الغلام: استعماله إياك على رعيته تستبيح أموالهم وتستحل دماءهم ... 1. فالتفت الحجاج إلى جلسائه وقال: ما تشيرون في هذا الغلام؟ قالوا: اسفك دمه فقد خلع الطاعة وفارق الجماعة. فقال الغلام: يا حجاج

_ 1 المصدر السابق ص40.

جلساء أخيك فرعون خير من جلسائك؛ حيث قالوا لفرعون عن موسى وأخيه: {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} ، وهؤلاء يأمرون بقتلي إذن والله تقوم عليك الحجة بين يدي الله ملك الجبارين ومذل المستكبرين، فقال له الحجاج: هذب ألفاظك وقصر لسانك فإني أخاف عليك بادرة الأمر، وقد أمرت لك بأربعة آلاف درهم. فقال الغلام: لا حاجة لي بها، بيض الله وجهك وأعلى كعبك؟ فالتفت الحجاج إلى جلسائه وقال: هل علمتم ما أراد بقوله: بيض الله وجهك وأعلى كعبك؟ قالوا: الأمير أعلم. فقال الحجاج: أراد بقوله: بيض الله جهك العمى والبرص، وبقوله أعلى كعبك: التعليق والصلب. ثم التفت إلى الغلام وقال له: ما تقول فيما قلت؟ قال الغلام: قاتلك الله ما أفمهك. فامتزج الحجاج غضبًا وأمر بقتله، وكان الرقاشي حاضرًا فقال: أصلح الله الأمير هبه لي. قال: هو لك لا بارك الله لك فيه. فقال الغلام: والله لا أدري أيكما أحمق من صاحبه ألواهب أجلا قد حضر أم المستوحب أجلا لم يحضر؟ فقال الرقاشي: استنقذتك من القتل وتكافئني بهذا الكلام! فقال الغلام: هنيئا لي الشهادة إن أدركتني السعادة، والله إن القتل في سبيل الله أحب إلي من أن أرجع إلى أهلي صفر اليدين، فأمر له الحجاج بجائزة، وقال يا غلام: قد أمرنا لك بمائة ألف درهم وعفونا عنك؛ لحداثة سنك وصفاء ذهنك وحسن توكلك على الله، وإياك والجرأة على أرباب الأمر فتقع مع من لا يعفو عنك, فقال الغلام: العفو بيد الله لا بيدك، والشكر له لا لك، ولا جمع الله بيني وبينك، ثم هم بالخروج فابتدره الغلمان فقال لهم الحجاج: دعوه فوالله ما رأيت أشجع منه قلبا ولا أفصح منه لسانًا، ولعمري ما وجدت مثله أبدًا، وعسى هو لا يجد مثلي، فإن عاش هذا الغلام ليكونن أعجوبة عصره. "قيل إنه أمر بعض رجاله بأن يدس له السم فقتله"1. مثل هذه القصص تربي في النفس ملكة الفهم والفطنة وتثري الذهن بجليل الزكانة والحكمة، والتراث الإسلامي العريض فيه مالا يحصى من مثل هذه القصص التي حرم منها الاولاد في العصر الحديث وفيها كما ترى من العظة والتأمل والتدبر ما يرقى بالنفوس ويهذب من الخصال.

_ 1 المصدر السابق ص41.

التربية بالعقوبة

التربية بالعقوبة مراعاة طبيعة الطفل المخطئ في استعمال العقوبة ... التربية بالعقوبة: يأخذ الإسلام بمبدأ الثواب والعقاب في التربية بعد تقديم النصح الإرشاد بطريقة الترغيب والترهيبن فالثواب لكل من أحسن العمل والعقاب لمن أساء العمل. وعندما يخرج الولد عن المسار الصحيح للدين يأتي دور العقاب ليعيده إلى المسار الصحيح، وطريقة الإسلام في ذلك تنتهج الخطوات التالية. 1- مراعاة طبيع الطفل المخطئ في استعمال العقوبة: الأولاد يتفاوتون فيما بينهم ذكاء ومرونة واستجابة.. كما أن أمزجتهم تختلف على حسب الأشخاص، فمنهم صاحب المزاج الهادئ المسالم، ومنهم صاحب المزاج المتعدل. ومنهم صاحب المزاج العصبي الشديد.. وكل ذلك يعود إلى الوراثة، وإلى مؤثرات البيئة، وإلى عوامل النشأة والتربية. فبعض الأطفال ينفع معهم النظرة العابسة للجر والإصلاح، وقد يحتاج الطفل آخر إلى استعمال التوبيخ في عقوبته، وقد يلجأ المربي إلى استعمال العصا في حالة اليأس من نجاح الموعظة، واستعمال طريقة التوبيخ والتأنيب. وعند كثير من علماء التربية الإسلامية ومنهم ابن سينا والعبدري وابن خلدون -أنه لا يجوز للمربي أن يلجأ إلى العقوبة إلا عند الضرورة.

القصوى، وأن لا يلجأ إلى الضرب إلا بعد التهديد والوعيد وتوسط الشفعاء.. لإحداث الأثر المطلوب في إصلاح الطفل، وتكوينه خلقيًّا ونفسيا1. "ويحدثنا الغزالي عما يسميه علماء النفس بتدعيم السلوك الحسن أو أسلوب التدعيم والتعزيز من خلال مكافأة الأطفال وإثابتهم على السلوك الحسن، يقول الغزالي في ذلك: "ثم مهما ظهر من الصبي خلق جميل، وفعل محمود، فينبغي أن يكرم عليه ويجازى عليه بما يفرح به، ويمدح بين أظهر الناس، فإن خالف ذلك في بعض الأحوال مرة واحدة، فينبغي أن يتغافل عنه، ولا يهتك ستره، ولا يكاشفه ولا يظهر له أنه يتصور أن يتجاسر أحد على مثله، ولا سيما إذا ستره الصبي واجتهد في إخفائه، فإن إظهار ذلك عليه ربما يفيده جسارة حتى لا يبالي بالمكاشفة، فعند ذلك إن عاد ثانيا، فينبغي أن يعاتب سرًّا، ويعظم الأمر فيه، ويقال له: إياك أن تعود بعد ذلك لمثل هذا"2. وقد قرر ابن خلدون في مقدمته أن القسوة المتناهية مع الطفل تعوده الخور، والجبن، والهروب عن تكاليف الحياة، فمما قاله: "من كان مربَّاه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم، سطا به القهر، وضيق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، حمله على الكذب والخبث خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة، ولذلك صارت له هذه عادة وخلقًا وفسدت معاني الإنسانية له". وقد أسهب ابن خلدون في توضيح ما ينشأ من الأثر السيء، والنتائج الوخيمة، بسبب القهر واستعمال الشدة والعنف في الولد.

_ 1 د. عبد الله ناصح علوان، تربية الأولاد في الإسلام، ج2/ 564. 2 د. موسى محمود أبو حوسة، تصور الغزالي لعملية التنشئة الاجتماعية، مجلة دراسات، المجلد الثامن عشر "أ"، عمان، الأردن، ص223.

فقال: "إن من يعامل بالقهر يصبح حملا على غيره، إذ هو يصبح عاجزًا عن الذود عن شرفه وأسرته لخوله من الحماسة الحمية على حين يقعد عن اكتساب الفضائل الخلق الجميل.. وبذلك تنقلب النفس عن غايتها ومدى إنسانيتها". وهذا الذي ذكره ابن خلدون يتفق كل الاتفاق مع التوجيه النبوي الذي سبق ذكره في الملاطفة والرفق واللين، وينسجم تمامًا مع المعاملة الرقيقة الرحيمة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعامل عليها الأولاد جميعًا، ويتلاءم أيضا مع المعالجة الحكيمة التي كان عليه الصلاة والسلام يعالج بأسلوبها مشاكل الناس، وأبناء المجتمع على اختلاف أعمارهم، وتباين طبقاتهم.. بل كان رجال السلف وأصحاب المناصب العالية يأخذون أولادهم بالحكمة والرفق واللين.. ولا يلجؤون إلى العقوبة الشديدة إلا بعد اليأس من استعمال أسلوب الموعظة والتأنيب. ومما ترويه كتب التاريخ أن الخليفة الرشيد طلب إلى "الأحمر" مؤدب ولده ألا يدع ساعة تمر دون أن يغتنم فائدة تفيده من غير أن تحزنة فتميت ذهنه، وألا يمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه، ويقومه ما استطاع بالقرب والملاينة، فإن أباهما فعليه بالشدة والغلظة.. والأمثلة على ذلك كثيرة ومستفيضة. الذي نخلص إليه بعدما تقدم أن على المربي أن يكون حكيمًا في استعمال العقوبة الملائمة التي تتفق مع ذكاء الطفل وثقافته ومزاجه، كما عليه ألا يلجأ إلى العقوبة إلا في مرحلتها الأخيرة.

التدرج في المعالجة من الأخف إلى الأشد

التدرج في المعالجة من الأخف إلى الأشد ... 2- التدرج في المعالجة مع الأخف إلى الأشد 1: مما نوَّهنا عنه قبل قليل أن العقوبة التي يجريها المربي للولد يجب أن تكن في مرحلتها الأخيرة، ومعنى هذا أن هناك مراحل من المعالجة. والتأديب يجب أن يمر عليها المربي قبل اللجوء إلى التسرب؛ لعلها تؤدي إلى الغرض في تقويم اعوجاج الطفل، ولعلها تصلح من شأنه، وترفع من مستواه الأخلاقي والاجتماعي، وتجعله إنسانًا سويًّا!!.. لأن المربي كالطبيب -كما يقول الإمام الغزالي- كما أن الطبيب لا يجوز أن يعالج المرضى بعلاج واحد مخافة الضرر، كذلك المربي لا يجوز أن يعالج مشاكل الأولاد، ويقوِّم اعوجاجهم بعلاج التوبيخ وحده مثلا مخافة ازدياد الانحراف عند البعض، أو الشذوذ عند الآخرين، ومعنى هذا أن يعامل كل طفل المعاملة التي تلائمه، ويبحث عن الباعث الذي أدى إلى الخطأ، وعن عمر المخطئ وثقافته، والبيئة التي يكتسب منها.. كل ذلك مما يساعد المربي على فحص علة الانحراف في الولد، وتشخيص مرضه.. ليصف له العلاج الذي يناسبه. ومتى عرف المربي مكمن الداء، وشخص موضع العلة يستطيع أن يصف له العلاج الملائم، وسلك معه الأسلوب الأفضل.. حتى يصل بالولد في نهاية الشوط إلى روضة الأصحاء، وشاطئ المتقين. ولا شك أن المربي حين يعاقب الولد المسيء أمام إخوته أو أقرانه.. فإن هذه العقوبة تترك الأثر الأكبر في نفوس الأولاد جميعًا. ويحسبون ألف حساب لعقوبات تنالهم، أو إساءات يفعلونها!! وبهذا يعتبرون ويتعظون.. وهناك عقوبة قطع اليد للسارق وعقوبة الجلد لشارب الخمر أو القاذف وعقوبة النفي، أو القتل لقاطع الطريق وهكذا كما أوضحته الشريعة في أبواب الحدود للجنايات التي يرتكبها المسلم.

_ 1 عبد الله، ناصح علوان، المرجع السابق، ج2/ 565.

شبهة "حقوق الإنسان" التى تنادى بها منظمة اليونسكو

شبهة "حقوق الإنسان" التي تنادي بها منظمة اليونسكو: "يتحدث الناس اليوم عن حقوق الإنسان التي تتحدث عنها المنظمات السياسية العالمية على نحو يدعو إلى التصور بأنها أمر استحدثه الغرب وحقق به العدل والإخاء والمساواة، مع أن حقوق الإنسان عرفها الإسلام وقدمها للبشرية وطبقها قبل أربعة عشر قرنا، وقبل ما استحدثته بعض المنظمات العالمية في العقود الأخيرة. شهد بذلك علماء الغرب أنفسهم في عديد من مؤتمراتهم وكتبهم ومنهم على سبيل المثال: الدبلوماسي الألماني مراد هوفمان إذ قال: إن الشريعة الإسلامية قد تضمنت قوانين مختلفة تكفل توافر الحقوق، وبخاصة حق الحياة وسلامة الجسد والحرية والمساواة في المعاملة، وحق الملكية الخاصة والزواج وحرية الضمير، وبراءة المتهم حتى تثبت إدانته، وحق اللجوء، وكذلك عدم الحكم إلا بعد سماع أقوال الطرفين، وهذه الحقوق جميعها قد كفلها الإسلام منذ كان تشريعه"1. وإذا كان كلام الدبلوماسي الألماني هوفمان واضحا في أن شريعة الإسلام قد كفلت للإنسان جميع الحقوق التي تضمن له حق الحياة الآمنة الكريمة وهذه شهادة نعتز بها؛ لأنها وردت من جانب أجنبي تكلم من وجه الإنصاف بما قد علم من شرائع الدين الإسلامي الحنيف، هذه حقيقة يعلمها علماء الغرب والشرق على حد سواء، وكان من المفيد بعد هذا التصريح أن تترجم حقوق الإنسان التي تحدثت عنها الشريعة الإسلامية إلى جميع لغات العالم، وتوزع على الدول لمن شاء لكن المنظمات الدولية لا سيما تلك المنظمات التي نشأت في الدول

_ 1 السيد أحمد المخزنجي، دعامات إسلامية لحقوق الإنسان، مقال منشور بمجلة الأزهر، الجزء الثامن، السنة السبعون، شعبان 1418، ديسمبر 1997، ص1264.

المسماة بالدول المتقدمة لم تشأ أن تنسب حقوق الإنسان إلى شريعة الإسلام، بل أرادت أن تنبثق من التشريع الدولي حتى لا يذكر اسم الإسلام ولا تنسب إليه هذه الحقوق حتى تتقوى ظاهرة العلمنة وتكتسب صفة السبق إلى الدعوة لخير البشرية فأصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في العاشر من ديسمبر 1948 الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ومنذ هذا اليوم والاجتماعات تتوالى في اليونسكو لتنمية العمل نحو تقنين حقوق الإنسان وجعلها دعوة عالمية تنطلق منها القرارات والبنود المؤيدة والمشرعة لحقوق الإنسان على النحو الذي تراه هيئة اليونسكو لا كما تراه شريعة الإسلام. والتقنين الذي ترتضيه هيئة اليونسكو تفرضه على الدول الأعطاء فتكون هذه الدول ملزمة بتطبيق قرارات اليونسكو في هذا الشأن. وتلقف الباحثون التربويون هذا العنوان "حقوق الإنسان"، وصاروا يروجون له على نحو واسع كأنهم قد وجدوا متسعا عريضا لإظهار الهمة وإجراء البحوث التربوية، وحولوا ذلك إلى قضية كبرى جعلوا يروجون لها حتى الآن وصلت إلى أن طالبوا فهيا بوجوب تدريس مواد القانون العالمي لحقوق الإنسان في المدارس والمعاهد والجامعات، ورأوا أن في ذلك ضرورة تفوق كل الضرورات الاجتماعية، وكأن هذا القانون العالمي هو الذي سينقذ البشرية من الوهدة التي تردت فيها من الظلم الاجتماعي لدى شعوب العالم المختلفة. "ولقد دعا المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان الذي عقدته اليونسكو سنة 1978 إلى نشر برامج بث الوعي لدى التلاميذ منذ التحاقهم بالمدارس والمتعلقة بحقوق الإنسان وحرياته ونشر مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في كل مراحل التعليم"1.

_ 1 محمد توفيق سلام: دواعي تعليم حقوق الإنسان بمراحل التعليم قبل الجامعي. مقال منشور بمجلة التربية والتعليم، المجلد الخامس، العدد العاشر، 1977.

ومنذ ذلك الحين والتربويون عندنا في مصر وفي غيرها من البلاد العربية والإسلامية يتبارون في إنشاء البحوث وعقد الندوات والمؤتمرات للترويج للقانون العالمي الصادر من اليونسكو ويرون أن ذلك أمرا في منتهى الخطورة وعظم الشأن، وصل إلى درجة أن السيد الدكتور وزير التربية والتعليم طرح أمام المؤتمر العام لليونسكو المنعقد في 30/ 10/ 1993 بباريس أفكار رئيسية لتطوير التعليم وتجديد التربية منها: ضرورة الرؤية الشاملة للمستقبل واستراتيجية الإصلاح التربوي، وأن مصر تحرص على تحديث مناهج التعليم بإدخال التربية الدولية وتدريس مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان"1. التربية الدولية تصلح لنا حقوق الإنسان ويتم تدريسها في مدراسنا! وأين التربية الدينية؟! وأين شريعة الله؟ وأين آداب رسول العالمين؟ هل نتعلم حقوق الإنسان من الديقراطية؟ لله الأمر من قبل ومن بعد.. إن شريعة الإسلام كلها منصبة على تحقيق حقوق الإنسان التي أمر الله بها أوضحها لنا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.. أفنترك ما قال الله، وما قال الرسول إلى ما قال "دور كايم"، و"جان جاك روسو" وغيرهما؟! وسرعان ما ظهرت مواد القانون العالمي لحقوق الإنسان في كتب المدراس؛ ليتم تدريس شريعة اليونسكو في المواد الدراسية: كتب اللغة العربية، كتب التربية الدينية الإسلامية، والتربية الدينية المسيحية، والدراسات الاجتماعية، والتربية الوطنية، ووجد التربويون ضالتهم المنشودة في ترجمة الأبحاث المتعلقة بحقوق الإنسان في نشاط منقطع النظير.. وكلها في الحقيقة عبارت جوفاء ومعدلات وهمية، والأمر في النهاية يزيد التعليم تعقيدا وتجهيلا. ألم يكن من الأفضل

_ 1 محمد توفيق سلام، المرجع السابق، ص10.

تدريس كتاب الأدب المفرد للإمام البخاري على مراحل التعليم قبل الجامعي وفيه كل الحقوق الواجبة للمسلم وغير المسلم، وأفنترك الحقوق التي ذكرها الإمام أبو حامد الغزالي في كتاب إحياء علوم الدين ونضرب بها عرض الحائط وندرِّس لأبنائنا قرارات اليونسكو؟! إن هذه الشبهة كلمة حق أريد بها باطل". وإذا كان الله سبحانه وتعالى قال في محكم التنزيل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} ، وقال أيضا: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} . نترك كلام الله ونلجأ إلى تعاليم اليونسكو، وكلها جدل واهم وكلام من صنع البشر!!

خصائص منهج التربية الدينية الإسلامية تقود إلى السيادة

خصائص منهج التربية الدينية الإسلامية تقود إلى السيادة مدخل ... خصائص منهج التربية الدينية الإسلامية تقود إلى السيادة: إنه باستقراء المنهج الرباني المتكامل في التربية يتضح لنا في جلاء أنه يعمد إلى تقديم المواطن الصالح الذي بصلاحه يسعد المجتمع وأنه بسعادة المجتمعات تسعد البشرية، وليس هناك في الوجود ما يماثل هذا المنهج مهما اجتهد البشر في محاولة إيجاد مثيل له، ومن ثم نقول: إن المسلمين هم أصحاب هذا المنهج، وعليهم إعلانه وتبليغه لشتى الأمم في سائر الأرض؛ لأن مهمة تبليغ الإسلام إلى الناس اقتصرت على هذه الأمة دون غيرها، وعلينا أن نعلم أنه لا ينبغي لنا أن نتلمس طريق التقدم في غيره من المناهج الموضوعة بفعل البشر، ومن صنع أولئك المفكرين الذين يروج لهم الغرب أو الشرق على حد سواء، ولا يغرنا ما وصل إليه العلم الدنيوي في إتحافنا يوما بعد يوم بالجديد من الاختراعات في مجال الصناعة أو الزراعة أو الفكر البشري المستحدث؛ لأنه لا يأتي بجديد في الأخلاقيات بل ربما أفسد جانب الأخلاقيات. وكلنا نعلم علم اليقين أن الحضارة إنما تبنى على أساس الأخلاقيات، وقد علا نجم الدول

المسماة بالمتقدمة في سماء العلوم الدينوية، ولكنها قد خبا نجمها في سماء الأخلاقيات، والبقاء والخلود ولا يكون إلا للأخلاق، ولقد صدق شاعرنا المجيد شوقي أمير الشعراء في قوله: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا ومصير تلك الدول المتقدمة إلى الزوال لا محالة مهما طال الزمن؛ لافتقارها لعامل الأخلاق، والأخلاق لدينا في الدين، والدين باقٍ؛ لأن الله تكفل بحفظه، وطريق الدين يفضي إلى النصر وإلى السيادة، فمنهاجنا هو منهاج ما كان عليه الأنبياء، والأنبياء منصورون بنصر الله لهم، ولهذا ستبقى الحضارة الإسلامية وستنتصر بإذن الله ويعلو نجمها مرة أخرى في سماء الإنسانية، ونحن في منهج التربية الدينية نتمثل أخلاق نبينا صلى الله عليه وسلم وجميع الأنبياء والصالحين، لذلك فسبلينا سبيل الريادة والسيادة، والمنهج موجود لكنه يحتاج إلى بذل المجهود، مجهود الحكام والمحكومين، ومجهود الأمراء والعلماء، وهناك خصائص بعينها يختص بها المنهج الإسلامي في التربية يجب تذكُّرها دائمًا، ونحن نمضي نحو تطبيق منهج الله نوجزها فيما يلي:

الأصالة

أ- الأصالة: تتميز التربية الإسلامية بأصالتها الواقعية المستمدة من الكتاب والسنة وهدي الصحابة والتابعين، وتعبر عن هذه الأصالة الآية الكريمة: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] . والآية: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54] . وجملة ما في القرآن تتناوله السنة بالشرح والتوجيه إلى كل ما يصلح الإنسان في جميع أمور حياته. فإن المنهج الإسلامي في التربية يرتكز أساسا على توجيه الفطرة السليمة إلى إحكام تربية قدرات الإنسان الصالح، وإيجاد مكونات العمل الصالح، فالعمل الصالح هو مقياس الإنسان الصالح؛ لقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] . "وإن من أخطر الأخطار التي تواجه أمتنا الإسلامية فقدان الأصالة في المجتمع الإسلامي، وأن نتنازل عن الصفات المميزة لنا يومًا بعد يوم نتيجة غزو أسلوب العيش الغربي لنا، وسيطرة القيم والوافد على سلوكنا بعد سيطرتها على ثقافتنا"1.

_ 1 أنور الجندي: عالمية الإسلامي، دار المعارف المصرية، ص131، العدد 426، طبعة 1977.

الشمولية والتكامل

ب- الشمولية والتكامل: لقد كان من أكبر الأخطاء التي ارتكبها الفكر التربوي غير الإسلامي إيمانه بالجانب المادي من الإنساني والحياة دون أدنى تشوف إلى الجانب الروحي، إذا كان المنهج التربوي الغربي لا يقيم للعقيدة وزنا ولا للمثل والأخلاق اعتبارا، وهدفه الوحيد بناء الفرد والمجتمع على أساس المحسوسات والماديات حيث نتج عن ذلك سيطرة الغرائز وفقدان الوازع الديني الموجه الأساسي لكل سلوك بشري واضطراب مفهوم القيم والمثل العليا، فإن المنهج الإسلامي في التربية عكس ذلك؛ إنه ينظر إلى الدين والإنسان المجتمع نظرة كلية وشاملة؛ إذ إن الإسلام الذي تقوم على أساسه التربية الإسلامية شمولي في اهتماماته وفلسفة تفسيره للوجود والكون والحياة مؤكدا التصور الجامع بين الروح والمادة وبين النفس والجسم وبين الفرد والجماعة، وبالتالي بين الدنيا والآخرة. وإذا كانت التربية الحديثة بفضل تجاربها المتواصلة والمتعاقبة قد توصلت في بعض البلدان الغربية إلى ضرورة تأكيد نزعة الشمول التي تتعلق بتكوين شخصية الفرد في شتى الجوانب الإنسانية وهو منزع جاء به الإسلام كما هو معلوم منذ أربعة عشر قرنا، فإن نتائج تجربتها هذه لم تثمر الغاية المنشودة؛ لأن نسق الفكر الغربي مهما حال الالتفات -بصعوبة وعلى مضض- إلى الجانب الروحي في مجال التربية فإن عدم إيمانه بأن أساس كل ذلك ترسيخ عقيدة الإيمان بوجود الله ووحدانيته والعبودية له جعل كل محاولة في هذا الاتجاه تبوء بالفشل الذريع"1.

_ 1 حسن عزوزي: خصائص التربية الإسلامية. مجلة الوعي الإسلامي، العدد 374 شوال 1417، فبراير 1997، من ص74-75.

الأخلاقية

ج- الأخلاقية: إن الأخلاقية التي يدعو إليها الإسلام في السلوك التربوي تقوم على أساس أن المسلم يربي روحه ونفسه على الخلق الإسلامي الجميل موجها عقله إلى التدبر في سنن الله الكونية والتأمل في حقائق الوجود، أما المناهج التربوية غير الإسلامية فهي تقوم على تربية الفرد وفق سنن وقوانين الطبيعة كما يسمونها بمعزل تام عن الإيمان بالوحي والغيب والفضيلة، فما كان أنصار المؤسسات التربوية الحديثة تفرز إنسانا لا يتصف بأية ضوابط أخلاقية ولا مقاييس اجتماعية وهو -في أحسن أحواله- يكون محايدًا أخلاقيًّا؛ أي لا هو إلى جانب الأخلاق ولا هو ضدها، وإنما يتصرف طبقًا لما تمليه رغباته، ومصالحه المتلونة الموقوتة. إن من وسائل التربية الإسلامية في تنمية قدرات النشء الأخلاقية والاجتماعية توفير القدوة الصالحة والمثل الأعلى؛ لأنه بذلك يتم توفير المناخ المناسب لتقوية الوازع الديني الخلقي في جميع الأوساط التي يتفاعل معها النشء، والمثل الأعلى في منهاج التربية الإسلامية الذي يقابله في منهاج التربية الحديثة ما يعرف نظام القيم أي نموذج الحياة التي يراد للفرد المسلم أن يحياها، وقد قرر القرآن الكريم أن الله وحده هو

الخالق المصمم لصورة الإنسان الصالح المصلح، وأنه لا يمكن أن يشاركه أحد في تحديد المثل الأعلى. قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: 27] . ويتمثل الدور الذي تقوم به التربية الإسلامية في تنشئة الفرد المسلم على تعشق المثل الأعلى وتجسيده في حياته من خلال تثبيت أسس ودعائم فقه السير "أي سير الأنبياء وأبطال الإسلام والعلماء ورجالات الفكر"، وعلى رأس ذلك كله سيرة الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- لما في ذلك من بعث وإحياء للروح الخيرة في الناشئة والتي تجسد قيم معاني الاخلاق الفاضلة والمثل العليا المبادئ السامية مما يساعد على تطبيق السلوك الأخلاقي والاجتماعي والتربوي. ولعل في افتقاد القدوة المثالية والأسوة الحسنة في البيت والمجتمع ما جعل كثيرًا من شبابنا يلتجئون إلى التماس القدوة في رموز غربية وافدة زينها الغرب في نفس المسلمين، ففرضت فيها تأثيرا أقوى من تأثير الأقلام والخطب، وإذا كنا نطمح إلى إيجاد المثل الأعلى في الساحة التربوية الإسلامية، فيجب على المربين والمعلمين أن يتصفوا بالقيم الفاضلة والمثل الرفيعة والعمل الجاد مما يهيئ المجال لانتشار القدوة الحسنة والمثل الأعلى وبخاصة في واقع الحياة، وبذلك نستطيع ضمان طرح البديل الإسلامي لما يعاني منه الشباب المسلم من ضياع واستلاب فكري تربوي وافتقاد للقدوة الحسنة المتميزة. إن ربانية الفكر التربوية الإسلامي تجعل الأخلاقية من أهم خصائصه وركيزة أساسية في بناء شخصية الفرد المسلم الملتزم القادر على مواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية1.

_ 1 حسن عزوزي، المرجع السابق.

الواقعية وقابلية التطبيق

د- الواقعية وقابلية التطبيق: "لما كانت مبادئ التربية الإسلامية مستوحاة من الكتاب والسنة كان من المحتوم بُعدها عن الخيال والتخبط، وسلوكها منهجا عمليا واقعيا يناسب الفطرة الإنسانية، ويلائم الظروف والإمكانات المتاحة لكل من الفرد والمجتمع؛ فالله سبحانه وتعالى لما شرع للإنسان المسلم أسس دعائم المنهج التربوي في الإسلام أرساه على شكل قواعد متينة تحقق أهدافا واقعية ممكنة التطبيق في عموميتاتها في كل زمان ومكان. تعتبر مبادئ التربية الإسلامية الواقعية أبعد ما تكون عن مجرد شعارات ترفع وتردد كما هو الحال في كثير من الفلسفات التربوية الوضعية كما أنها أبعد ما تكون عن المثالية التي لا إمكانية لتطبيقها في واقع الحياة. فالتربية الإسلامية منهجا ومبادئ هي أقرب ما تكون قابلة للتطبيق في ظل ظروف المجتمع الفاضل الصالح المتماسك والقائم على أساس من الدين والأخلاق والذي يتحقق في أجوائه العدل والتعاون بين مختلف فئات المجتمع وأفراده. لعل في خاصية الواقعية التي تميز الفكر التربوي الإسلامي ما يجعل الأخلاق الإسلامية متمشية مع إمكانات الإنسان البشرية، ومسايرة ومطابقة تماما لفطرته السلمية، ومن مظاهر هذه الواقعية التوفيق بين مطالب الروح الجسد معا، وعدم تكليف الإنسان ما لا يطيق أو يفوق قدراته وإمكاناته"1.

_ 1 حسن عزوزي، المرجع السابق نفسه.

الثبات والخلود

هـ- الثبات والخلود: "مما لا شك فيه أن الله تعالى حينما رسم للإنسان طريق الفلاح والسعادة، وشرع له سبل وأسس التربية الناجحة قدر لها التوافر على عنصر لثبات حتى لا تكون خاضعة للتغيير والتبديل مع تقلبات الهوى كما كتب لها الخلود وصلاحية التطبيق في كل زمان ومكان ارتضى لها مسايرة التطور بمرونة ويسر. فإذا كانت حضارات قديمة وحديثة عدة قد تعارفت على آداب للسلوك ومفاهيم للتربية والأخلاق فإن أهم ما يؤخذ عليها أنها خضعت لمنطق البيئة، وتطورت مع تطور الحضارات حتى وصلت في عصر المدنية الحديثة إلى ما وصلت إليه من تنكر صارخ لكل القيم والمثل العليا والتحلل من كل نور الفضيلة والعفة والفطرة السليمة فأباحت الكذب والفسق والغدر، وجعلت غاية الحياة مبنية على المتعة واللذة بما يعتبر دعوة إلى الانحلال الخلقي والانفلات من آداب الفطرة والتربية الخلقية السليمة، ولقد كان في مقاطعة دول إسلامية ومعارضة أخرى بناء لكل تلك البنود التي تمس الأخلاق النبيلة والفضائل السامية مما يعزز خاصية الثبات والخلود في الفكر التربوي الإسلامي؛ إذا إنه على الرغم من موجات التحرر والانحلال الخلقي وإهدار القيم الأخلاقية مما تعاني منه المجتمعات غير الإسلامية فإن الموقف الإسلامي في شأن الأخلاق والتربية يبقى موحدًا وثابتًا، فقوانين الفطرة السليمة تلتزم تربية الإنسان على حياة الطهارة والعفة والشرف والفضيلة. ولا يمكن أن يفهم من خاصية الثبات جمود التربية الإسلامية في أهدافها ومناهجها وطرقها فذلك ما لا يقول به من له أدنى إحاطة بفلسفة الفكر التربوي الإسلامي؛ فالتجدد والتطور باستمرار وقابلية التغير هي من خصائص التربية الإسلامية أيضا، لكن في إطار الثوابت من أصول الإيمان والقواعد الكلية للدين، فاحتياجات الزمان والمكان لمقتضيات التطور والتغير الاجتماعيين ولمصالح الفرد والجماعة التي تقوم على مراعاتها الشريعة الإسلامية تفرض التجدد والتطور ومسايرة العصر دون افتقاد لأي من المقومات والدعائم الثابتة في إطار الشريعة الإسلامية"1.

_ 1 حسن عزوزي، المرجع السابق.

الفصل الخامس: الجهات المسئولة عن التربية

الفصل الخامس: الجهات المسئولة عن التربية مدخل ... الفصل الخامس: الجهات المسئولة عن تطبيق المنهج الإسلامي في التربية مسئولية التربية: تقع مسئولية التربية في الإسلام على جهات معينة منوطة بتطبيق ما جاء به الدين الحنيف من الآداب والأخلاق، وهي تنحصر في: الأسرة، المدرسة، المسجد، المجتمع. وتبدأ تربية الأولاد أول ما تبدأ في البيت، فالوالدان يهضان سويا بمسئوليات الأولاد ويعملان معا على تكوين الأسرة المسلمة التي هي في الحقيقة النواة الأولى لبناء المجتمع الفاضل. وقد حدد الإسلام مسئولية كل من الزوج والزوجة وبين كل منهما حقوقه واجباته، كما بين للأولاد حقوق الوالدين وحضهم على البر بهما، ورفع من منزلتهما إلى درجة سامية تكون بعد عبادة الله وتوحيده. وقد فطر الله سبحانه وتعالى قلب الوالد والوالدة على الرحمة بالأولاد والرأفة بهم، وكان رسول الله صلى الله عليه سلم مثال الرحمة والرأفة بولده وبأولاد المسلمين. وهذا الشعور النبيل بالعطف على الأبناء له في تربية الأولاد أثر عظيم. وشريعتنا الغراء قد رسخت في القلوب خلق الرحمة وحظت الكبار من آباء ومعلمين ومسئولين على التحلي بها والتخلق بآدابها. ولكن هذه الرحمة وهذا العطف الحنان نحو الأولاد ينبغي ألا تطغى عليه الجهاد في سبيل الله تبليغ الدعوة إلى الله؛ لأن مصلحة الإسلام في ذلك فوق كل اعتبار، يقول الحق تبارك وتعالى في محكم التنزيل: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} . وروى البخاري ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وولده والناس جميعا"، يجب أن تمتد جسور من التعاون بين الأسرة والمسجد والمدرسة والمجتمع حتى تحقق الثمرة المرجوة من التربية الدينية، ويطهر العالم الإسلامي من أدران الفتن وأمراض العصر التي تتزايد فيه يوما بعد يوم. على نحو ما سنناقشه في السطور التالية.

أولا: الأسرة

أولا: الأسرة تعويد الطفل على الخصال الحميدة ... أولا: الأسرة تقع المسئولية العظمة على الوالدين في تربية الولد أنهما معا يمثلان البنية الألى في تنشئة الطفل، ولذلك أولى الإسلام عناية كبيرة للزواج ووضع الضوابط لدقيقة والمعايير السليمة التي تحقق للناس أسرًا قوية متماسكة البنيان تبدأ بحسن الاختيار لكلا الزوجين أولا وقبل كل شيء، وتنتهي بتطبيق الآداب التي شرعها الإسلام للمعاشرة، وتحقيق ما قال الله والرسول في أمور حياتهما. تعويد الطفل على الخصال الحميدة: "الأسرة هي أول وحدة اجتماعية تحيط بالطفل منذ ولادته، وهي الوحدة التي يبدأ فيه الطفل تكوين ذاته وتكوين اتجاهاته الفكرية والخلقية والاجتماعية عن طريق التنشئة الاجتماعية وتعليمه نماذج السلوك وأوجه التصرف المقبولة لدى المجتمع. ولا شك أن الوالدين "الأم والأب" يتحملان المسئولية في عملية التنشئة هذه. ويؤكد الغزالي أن التنشئة الاجتماعية للطفل ليست عملية سهلة أو بسيطة، بل تتطلب1 كثيرًا

_ 1 د/ موسى محمود أبو حوسة -تصور الغزالي لعملية التنشئة الاجتماعية - مقال بمجلة دراسات -المجلد الثامن عشر العدد الرابع "1412هـ- 1991م" -ص222.

من الجهد والصبر والعناية. يقول الغزالي: "اعلم أن الطريق في رياضة الصبيان من أهم الأمور وأوكدها، والصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة، خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل نقش ومائل إلى كل ما يمال به إليه"، وما دام الطفل قابلا لكل ما يقال إليه من جهة الأبوين فهما المسؤولان عن تصرفاته وعن نمط شخصيته في لمستقبل، ولهذا فإن الغزالي يخاطب المربين وبخاصة الوالدين بقوله: "إن الطريق لتربية الأطفال وتهذيبهم وتحين أخلاقهم وتعويدهم الخصال الحميدة مسئولية كبرى تقع على عاتق الوالدين وكل من يوكل إليه أمر الطفل والاهتمام به وبتربيته؛ لأن الطفل أمانة في عنق والديه، فالأم والأب مسئولان إلى حد كبير عن حسن تربيته أو سوئها، وعن انحرافاته الخلقية والاجتماعية أو عن تعاونه ومحبته للآخرين أو عن انحرافه أو إصلاحه. والمتأمل في الفكر الاجتماعي التربوي المعاصر، يرى أن كثيرا من الأفكار الاجتماعية التربوية منسجمة إلى حد كبير مع أفكار المفكر العربي المسلم "أبو حامد الغزالي"؛ فهناك نفر من العلماء التربويين والاجتماعيين يرى أن تصرفات الأبناء تعكس إلى حد كبير شخصيات الآباء، وأن تصرفات الأبناء هي المفتاح لفهم شخصيات الآباء، ومن علماء الاجتماع المحدثين من يقول: "إن جعل الطفل كائنا اجتماعيا يعتمد بصورة متزايدة على نمط العلاقات الشخصية التي يخلقها الوالدان بطريقة غير مباشرة". وهذا يعني أن الوالدين في نظر الطفل2 هما مثله الأعلى الذي يقتدي به. فإذا كانا يتصرفان تصرفات سليمة صحيحة، فإنه سيتصرف تصرفات صحيحة وسليمة قياسًا لما يراه في أسرته، فهو يحاكي ويقلد أفعالهما وأعمالهما؛ لأنه يثق ويحسن الظن بهما.

_ 1 د/ موسى محمود أبو حوسة -بحث بعنوان: "تصور الغزالي لعملية التنشئة الاجتماعية: تحليل نظري". منشور بمجلة دراسات "سلسلة اللعلوم الإنسانية" المجلد الثامن عشر "أ" عمان -الأردن 1412هـ - 1991م - العدد الرابع ص217.

تجنيب الطفل العادات السيئة

تجنيب الطفل العادات السيئة: "ولا يكتفي الغزالي بالإشارة إلى العادات الحسنة الواجب إكسابها للطفل بل يتحدث أيضا عن العادات السيئة الواجب تجنيبه إياها، مثل كثرة النوم والأكل وحب الذهب والفضة، يقول في ذلك: "وينبغي أن يمنع من النوم نهارًا؛ فإنه يورث الكسل، ولا يمنع منه ليلًا، ولكن يمنع الفرش الوطيئة "اللينة" حتى تتصلب أعضاؤه، ولا يسمن بدنه، فلا يصبر عن التنعم، بل يعوَّد الخشونة في الفرش والملبس والمطعم". ويقبح الغزالي للصبيان حب الذهب والفضة والطمع فيهما، ويحذر منهما أكثر مما يحذر من الحيات والعقارب؛ "فإن آفة حب الذهب والفضة والطمع فيهما أضر من آفة المسموم على الصيان بل على الأكابر أيضا". هنا نلاحظ أن الغزالي يحذر من ظاهرة خطيرة متفشية الآن في مجتمعنا وربما كانت متفشية في عصر الغزالي، وهي ظاهرة حب المال، والاتجاه المادي عند الناس. ورأى أنه يجب أن لا يغرس في نفوس الأطفال حبهما أو الطمع فيهما؛ نظرا للأثر السيء الذي تتركه هذه التنشئة، على أهدافهم، وسلوكهم في المستقبل، وتنسجم هذه الأفكار التربوية مع الحديث النبوي الشريف الذي رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "حرم لبس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأحل لإناثهم". رواه الترمذي، وقال حديث حسن1.

_ 1 المصدر السابق نفسه.

حال الأسرة المسلمة في عصرنا الحاضر

حال الأسرة المسلمة في عصرنا الحاضر: تعرض حال الأسرة المسلمة في العصر الحاضر لهزات شديدة أمام تفوق الغرب المتغطرس على بلاد الإسلام في المجال الصناعي، ومع الصراع ضد التخلف والدعوة للخروج من هذه الأزمة المستحكمة ومجابهة التغلغل الفكري الغربي ضعفت قوة التماسك الأسري في البيت المسلم ... " وحينما ننظر إلى واقع الأسرة المسلمة الآن نجدها قد تعرضت لموجات من الفتن والمغريات العصرية التي هبت على ديار المسلمين ووفدت إلى مجتمعاتهم باسم المدنية في صورة ألوان من الخلاعة والابتذال والسفور وكلها عوامل تنذر بالانحلال والذوبان، وعليه فقد اندفع الغيورون على دينهم وأوطانهم على معالجة هذا القصور والتصدي لتيارات التغريب والعلمانية والحداثة لحماية الأسرة العربية والبيت المسلم من الدخول في متاهات النظم الغربية التي ينطلي زيفها على الناس، ولنا أن نقول: إن واقع النظام الأسري لدى غير المسلمين، يشير إلى أن نظرة تلك المجتمعات على اختلاف مللها ونحلها على مر العصور نظرة تتسم بالعنف والعسف والقسوة، كما أضحت الأسرة في المجتمعات الحديثة مفككة الأوصال؛ لأن الحرية تحولت فيها إلى استهتار بالقيم الإنسانية واستخفاف بالكرامة فانتشرت الفاحشة وعمت صور الطلاق والمخادنة وفوضى الإجهاض. أما عن واقع النظام الأسري لدى المسملين فنجد المرأة وقد تبوأت مكانة لم تحظ بمثلها في أي نظام اجتماعي آخر، حيث تمثل نصف المجتمع، فتح الإسلام أمامها أبواب المثل العليا والأخلاق الرفيعة ومن خلال العلاقة الزوجية كما أقرها الإسلام، فإن الإنسان ينعم بتكوين شخصيته تقوية روابط الأخوة وحماية المجتمع من التلوث وصيانة الأنساب وتحصيل الأجر من الله"1.

_ 1 د/ عبد الحكم عبد اللطيف الصعيدي: الأسرة المسلمة أسس ومبادئ، مجلة الوعي الإسلامي. العدد 385، 1481هـ-1998م ص70.

"وانشغال الأسرة علن تربية أبنائها وتنشئتهم التنشئة السليمة يؤدي إلى خواء البناء، فيصبح عرضة للتصدع وقابلا للانهيار من أول آفة تنهش فيه، وللأسف الشديد تعدد الآفات التي تستهدف النيل من أمن واستقرار المجتمع بقدر تزايد سخط الحاقدين على ما تنعم به مصر من أمان واستقرار ووحدة وطنية وانسجام بين جميع أبنائها، بل ما تضطلع به مصر من دور قيادي في الدفاع عن حقوق الأمة العربية ومملتكاتها وإصرارها على استعادة كل الأراضي العربية المحتلة بغير تنازل أو تفريط. والطريق إلى ذلك بداية هو الطريق الذي يبدأ أولا من الأسرة وتتلى الدور الأسري وكلما كانت الأسرة عمودها وقوامها الحب والتوافق كلما أفرزت عقولا مستنيرة وأبناء يتباهي بهم الوطن في الداخل والخارج، فالثورة الحقيقية للأم لا تعكسها ثروات الأرض أو البحر، إنما تتجسد من خلال عقول أبنائها ورصيدهم والتقدم القدرة على بناء الوطن والمحافظة على ازدهاره. وإذا كانت الأسرة هي الخلية الأولى لعملية التنشئة الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، فهل آن الأوان لأن نعطيها المزيد من الاهتمام لأنه من خلالها تنمو الثقافة العامة والخاصة للأفراد وتتحدد هويتهم تتشكل شخصيتهم"1.

_ 1 جريدة الأهرام 6/ 12/ 97 - مقال للأستاذ إبراهيم نافع رئيس التحرير.

ثانيا: المدرسة

ثانيا: المدرسة مدخل ... ثانيا: المدرسة يكمل المربون عادة ما يقوم به الوالدان من أدوار تعليمية وتبربوية، وهناك من يرى أن بعض المعلمين لهم تأثير كبير على الطفل يوازي تأثير الوالدين فعندما يذهب الطفل إلى المدرسة يكون قد تعلم من العائلة كيف يكافح التواترات والفشل. وبعد أن يذهب الطفل إلى المدرسة يصبح المعلم هو الصورة التي حاول الطفل أن يقلدها. ولذلك يكون هو المؤثر الفاعل على نمو شخصيته، وفي هذا المجال فإن المدرسة قد تتصارع مع الأسس التربوية التي وضعتها العائلة، وقد اهتم الغزالي بالدور الذي تلعبه المدرسة في عملية التربية الاجتماعية اهتماما كبيرًا. وقد رأى الغزالي أن هذا الدور قد لا يكون وظيفيًّا بشكل إيجابي إلا إذا راعى المربون في أدائهم مجموعة من الشروط، ومن بينها الشفقة على المتعلم والاقتداء بصاحب الشرع صلوات الله عليه وسلامه، وزجر المتعلم عن سوء الأخلاق عن طريق التلميح وليس التصريح، وعن طريق الرحمة وليس عن طريق التوبيخ. ومن بينها أيضا ألَّا يقبح المعلم في نفس المتعلم العلوم الأخرى التي لا يدرسها لتلميذه ألَّا يلقن التلميذ علمًا فوق مستواه، وأن يتدرج في العلوم من السهل إلى الصعب وألَّا يبدي تناقضا في القول السلوك. إن الغزالي يريد من المعلم أن يكون شفوقًا، عطوفًا على تلاميذه، ناصحًا لهم زاجرًا لسوء الأخلاق، واسع الأفق متفتحًا متسامحًا، مدركًا للفروق الفردية بين المتعلمين بحيث يخاطبهم على قدر عقولهم، وأن يكون قدوة حسنة صالحة لهم؛ ذلك بأن يقرن عمله بعلمه. ولم يفت الغزالي أن ينبه إلى اللعب وأهميته والوظيفية في مجال النمو الاجتماعي السليم للطفل، ومؤكدا أن اللعب لا يقل أهمية عن الدراسة، وأن الواجب يقضي أن تكون هنالك موازنة بينهما بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر. يقول الغزالي في ذلك: "وينبغي أن يؤذن له بعد الانصراف من الكتاب، أن يلعب لعبا جميلا، ويستريح إليه من تعب الكتب، بحيث لا يتعب في اللعب، فإن منع الصبي من1

_ 1 د/ موسى محمود أبو حوسة: تصور الغزالي لعملية التنشئة الاجتماعية. مجلة دراسات، المجلد الثامن عشر، ص225-226.

اللعب إرهاقه إلى التعليم دائمًا يميت قلبه، ويبطل ذكاءه، ينغص عليه العيش حتى يطلب الحيلة في الخلاص منه رأسًا". إن النص السابق الذي أوردناه يشير بما لا يدع مجالا للشك إلى أن الغزالي قد سبق علماء التربية المحدثين في إبراز أهمية الترفيه واللعب في العملية التعليمية؛ ذلك لأن اللعب أو الترفيه يحفز نشاط المتعلم ويزيد قدرته على التحصيل العلمي. وهي الحقيقة التي أشارت إليها النظريات التربوية الحديثة، فكثير من هذه النظريات تركز على أن عقل الطفل وبدنه يتطلبان قدرا كبيرًا من اللعب، وأنه بدون اللعب يعتبر الطفل مرهقًا عصبيًا لا يجد للحياة فرصة، وتتوالد في نفسه المخاوف والهموم، وأن تلقائية الفرد تجد طريقها في الحرية وروح اللعب1. والتعليم الأساسي من أخطر المراحل التعليمية؛ لأنه الأساس الذي تشكله التربية الأولى، وكما تكون البذرة تكون الثمرة، وتمثل المدرسة الابتدائية البيئة التي تنشأ فيها البذرة فإذا كانت هذه البيئة صالحة نشأت البذور نشأة طبيعية والعكس صحيح. وفي المدرسة يتلقى الطفل أول مراحل معاشرة المجتمع حيث الأطفال من أقرانه، وحيث المدرسون، وحيث المعاملة مع أناس آخرين عليه أن يتجاوب معهم.

_ 1 المصدر السابق نفسه.

المدرسة هى البيت الثاني للولد

المدرسة هي البيت الثاني للولد: المدرسة هي البيت الثاني للطالب حيث المعلمون والمربون يقومون بتربية الطفل حتى مرحلة النضوج العقلي، من التعليم الأساسي حتى الثانوي، ومرحلة التربية والتعليم من أهم المراحل التي تتولى تشكيل شخصية الولد والبنت من سن الطفولة إلى سن المراهقة حيث يتدرج الطالب في مراحل التعليم الابتدائي ثم الإعدادي ثم الثانوي، وتترسب في هذه المراحل عناصر شخصيته، ونظرًا لخطورة هذا التدرج فإنه يتعين على المسئولين عن التربية والتعليم تنسيق المناهج للمواد التعليمية التي تقدم للطالب بما يواكب أحوال العصر، ويتمشى مع حركة التطور العالمي، وفي الوقت نفسه يسير تيار التعليم في قنوات شرعية بتوجيه إسلامي.

ضعف المناهج

ضعف المناهج: ومعظم مناهج التعليم في المدارس التربوية لا تحقق هذا المعنى أي لا تحقق التوجيه الإسلامي في أثناء علمية التدريس بالقدر الكافي؛ لأن من يراجع مادة الدين الإسلامي على المستويات الثلاثة "الابتدائي، الإعدادي، الثانوي" سوف يلمس مدى الضعف في مناهج التربية الدينية المقررة في كل مستوى. وقد ترتب على هذا الضعف انصراف معظم الطلاب عن الغاية العظمى من التعليم، وربما كان منهم الكارهون للمدرسة، والذين يتجرعون مناهجها في غضاضة، ودليلنا على ذلك خلو ساحة الأدب والأدباء والشعراء من أمثال الرافعي وشوقي وحافظ والمازني والعقاد وطه حسين وتيمور ويحيى حقي وأحمد شاكر وغيرهم ممن كان يشار إليهم بالبنان؛ وما ذاك إلا لأن الطالب في هذه المراحل لم يحفظ القرآن ولم يحفظ الحديث النبوي، ولم يتلقَ اللغة العربية الأصيلة عن حب في جميع المراحل التعليمية، أضف إلى ذلك ضياع الخط العربي بأنواعه؛ لأهمال هذا الفن الأصيل، وعدم تدريسه كما كان سائدا في التعليم القديم.

مشكلة التعليم المعاصر

مشكلة التعليم المعاصر: ونحن في مصر نسمع ونقرأ عن ضعف مستوى التعليم في المدراس، وأن مسألة التعليم أصبحت مشكلة وأنه يجب العمل على النهوض بمستوى التعليم لمواجهة التقدم المذهل في العلوم في البلاد المتقدمة. وأن هوة التخلف في التعليم على المستوى الإسلامي تزداد اتساعا وعمقا بالمقارنة إلى ما حققته الدول المتقدمة في هذا المجال، ولم تفلح المساعي التي بذلت لتطوير التعليم والنهوض به، وما زال الأمر كما لو كان كارثة تتهدد مستقبل الوطن العربي الكبير والعالم الإسلامي العريض. على الرغم من أن الحل أمامنا واضح جلي، وأنه يمكن علاج هذه المشكلة والتغلب على ما بدا فيه من تخلف لا يليق بأبناء العرب والمسلمين إلا أنا لا نسعى إليه مخلصين، وما أشبه هذه الحال بما كنا عليه زمن النكسة. يوم أن احتل اليهود سيناء وأقاموا خط بارليف الحصين، ولم يجد خبراء العالم العسكريون حلا يقدموه لنا؛ لقوة التحصينات التي أعدها العدو الإسرائيلي؛ لردع أي تحرك من جانبنا؛ لاسترداد حقنا المشروع، وكانت مشكلة تتهدد أمن مصر والعالم العربي كله، ولما ضاقت علينا الدنيا بما رحبت جاء نصر الله وجاء الحل على يد أبناء مصر وجند مصر، فما فشل فيه العالم الأجانب نجح فيه الخبراء من أبنائنا العظماء، فكانت الخطة، وكان النصر من عند الله العزيز القدير، وعصف السلاح المصري بقوات العدو التي زعمت أنها لا تقهر، وكان منهجنا في الحرب من أعظم المنهاج التي تدرس الآن في الكليات العسكرية. كذلك مناهجنا في التعليم يجب أن تنبع من أصالتنا، ويجب أن نستند فيها إلى نصرة الله وتأييده، فإذا تعاملنا مع مشكلة التعليم بروح النصر في العاشر من رمضان السادس من أكتوبر سنة 1973 فسوف يكون النصر حليفنا والقيادة لنا، وعندها نقول وداعا للتخلف، فنخرج من طوق الكارثة. وهذا التعامل مع المسألة التعليمية في مدراسنا يحتاج إلى أن يدرك المسئولون ماهية العلم في الإسلام ومفهوم العلم في العقيدة؛ لأن كثيرا

من السادة القائمين على أمر التعليم يغضون الطرف عن هذا المعنى وطالما أنهم يغضون الطرف عن معنى العلم في الإسلام فلن يهتدوا إذًا أبدًا. "ويروي كثير من الباحثين والمتتبعين لمناهج الدراسات الإسلامية أن المؤسسات الإسلامية عامة والجامعات خاصة لم تصل بعد بمنهاجها إلى تكوين الشخصية الإسلامية التي تتفاعل مع عقيدتها وثقافتها، وتترجم قيم الإسلام ومثله واقعًا معاشًا يقتنع به الآخر، ولا يزال كثير من هذه المؤسسات هياكل مادية وإدارية تتعلق بالتراث، وترفع شعار الدعوة دون ترجمة لها ضمن حقائق الحياة وهموم المسلم العادي. والعاملون في مجال الدعوة يغفلون أو يتجاهلون التفرقة في نتاج الدعوة بين المردود الرسمي الوظيفي لعمل الدعاة، والتلقائي والحياتي لغيرهم، كما أن التفريق لازم بين ما نبذل ونقول، وما نجني ويقال عن جهودنا. إن إعادة النظر في قصور المناهج وضعفها وتدنيها يحتاج إلى تجرد وإخلاص وإلى شجاعة تنظر إلى المسئولية أمام الله قبل كل الاعتبارات التي أدت ولا تزال تؤدي إلى ضياع جهود مبذولة وسنوات ضائعة؛ لأن التغير المستمر في أساليب الحياة وكميات المعرفة الإنسانية تقتضي إعادة النظر دائما في المنهج وأساليب الدعوة. والقدرة على اكتساب المعارف المتطورة، والتذكر دائمًا بأن العالم الذي نعيش فيه ليست أقاليمنا ولا عالمنا العربي والإسلامي، وإنما هو عالم آخر يعطينا ويؤثر فينا، ونحن نستورد منه كل شيء حتى الكراسي التي نجلس عليها؛ لنحاضر عن الإسلام والمسلمين"1.

_ 1 د/ عباس محجوب، دراسة نقدية لجوانب القصور، مقال بمجلة الأمة - العدد الثامن والثلاثون- السنة الرباعة نوفمبر 1983 ص28.

معنى العلم في الإسلام

معنى العلم في الإسلام: العلم معناه معرفة الشيء على ما هو به1. والعلم الشرعي ثلاثة أقسام2: الأول: فرض العين وهو تعلم المكلف ما لا يتأدى الواجب الذي يتعين عليه فعله إلا به ككيفية الوضوء والصلاة ونحوها وكتعلم البيع والنكاح لمن أراد أن يتقدم عليهما وكذلك علم القلب عند الغزالي وهو معرفة أمراض القلب كالحسد والعجب ونحوهما حيث قال: "معرفة حدودها وأسبابها وطبها علاجها فرض عين"3. الثاني: فرض الكفاية وهو تحصيل ما لا بد للناس منه في إقامة دينهم من العلوم الشرعية كحفظ القرآن والأحاديث. والأصول، والفقه، والنحو، واللغة، والتصريف، ومعرفة رواة الحديث، والإجماع، والخلاف ونحو ذلك. وكذلك ما يحتاج إليه في قوام أمر الدنيا كالطب والحساب والهندسة والصناعة والخياطة والفلاحة ... ونحوها، فكل ذلك فرض كفاية عند المحققين من العلماء ومنهم الإمام الغزالي. الثالث: النقل وهو كالتبحر في أصول الأدلة والإمعان فيما وراء القدر الذي يحصل به فرض كفاية. وغير هذه الأبواب إما محرم كعلم السحر والشعوذة والتنجيم -إذا سميت بالعلوم- وإما مكروه كعلم الأشعار التي فيها الغزل المثير أو مباح وهو ما يستوى فيه نفعه وضرره.

_ 1 الغزالي، الإحياء ص35. 2 علي محيي الدين علي القرة داغي، مبحث عن آداب المتعلم والعالم، مقدمة لكتاب: "أيها الولد" للإمام الغزالي، دار الاعتصام ص35. 3 المصدر السابق 1/ 11 ص38.

حل مشكلة التعليم

حل مشكلة التعليم: وعلى هذا المفهوم الذي ساقه الإمام الغزالي في الإحياء لمعنى العلم في وضوح واستفاضة تأتي الخطة، ويكون المنهج، فأما الخطة فهي النظام الصالح لخلق المواطن الصالح، وتعتمد على ركنين: الركن الأول: التربية الدينية وتتمثل في وضع النظام الذي يرمي إلى تحصيل علوم الدين. الثاني: التربية العلمية وتتمثل في وضع النظام الذي يرمي إلى تحصيل العلوم الكونية. والعلم الديني ينحصر في القرآن والسنة والفقه، والعلم الكوني ينحصر في العلوم المكتسبة بمعرفة البشر كالطب والهندسة والحساب والصناعة والزراعة، وما شاكل ذلك من علوم العصر. وبناء على ما سبق يتم إعداد المناهج الملائمة لكل مرحلة تعليمية، فتوضع على أساسها المقررات الدراسية التي تنهض بالعلميين جميعا على نحو من تحقيق القدر الكافي المطلوب من كل منهما بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر، مع تبسيط الإجراءات الإدراية وتحرير الفرصة أمام الدراسين لمن شاء الحصول على المؤهل دون الانتظار لنظام سنوات، وجعل التعليم حرًّا لمن لديه القدرة في تخطي سنوات الانتظار كما هو متبع في سنوات النقل، وفي ذلك ميدان للتنافس في إظهار المواهب العلمية التي يعطلها نظام الانتظار في سنوات النقل. يضاف إلى ذلك ضرورة توفير المعلم النابه والمربي الفاضل الذي يقوم بعملية التدريس مع حشد كل الطاقات من لدن وزارة الثقافة ووزارة الإعلام، فليس الأمر قاصرًا على وزارة التعليم وحدها. نفهم من ذلك أن المسألة التعليمية لها جناحان؛ الأول: هو التعليم الديني

والجناح الثاني وهو التعليم الكوني "الدنيوي". والكارثة التي نحن فيها الآن هي أننا نحاول الطيران بجناح واحد هو التعليم الكوني. وأهملنا الجناح الأول وهو أقوى الجناحين، وينبغي ألا نتعامى عن حقيقة مترسبة في أعماق كل مسلم إزاء هذا التفوق الزائف الذي خرجت به علينا الدول التي نسميها "الدول المتقدمة" هذه الحقيقة هي عقدة نفسية متأصلة اسمها عقدة الانبهار؛ فنحن ننبهر لكل اختراع يأتينا من قِبل تلك الدل، ونشعر معه باليأس والإحباط والتخلف، وهذا عيب كبير يجب أن نتدراكه ونعمل على محوه. قال المولى عز وعلا: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} 1. فطالما أن الله قد جمع لنا في القرآن كل شيء، فلماذا ننخدع بهذا الزيف الذي هو من صنع الإنسان الذي وصفه الله بأنه أكثر شيء جدلا؟ لا ينبغي لنا أن ننظر بعين الإكبار للتقدم الزائف الذي تعمى به أبصارنا الدول المسماة بالمتقدمة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ القرآن ثم رأى أن أحدًا أوتي أفضل مما أوتي فقد استصغر ما عظم الله تعالى"2. وحاشا لله، أن نعظم علمًا غير علم القرآن، وهل هناك في هذه العلوم التي يطلع به علينا الغرب من يستطيع أن ينادي فيصل صوته إلى الآفاق كما نادى عمر بن الخطاب على جيش المسلمين الذي كان في فارس: يا ساريةُ الجبلَ، وهل هناك عالم يستطيع أن ينقل عرش "بلقيس" الذي نقله في أقل من طرفة عين الذي عنده علم من

_ 1 سورة الكهف آية رقم 54. 2 الغزالي: إحياء علوم الدين ج1/ 279، كتاب آداب تلاوة القرآن.

الكتاب؟ فالأمر يحتاج إذن لوقفة، يحتاج أن نراجع أنفسنا، فالعيب فينا، وما لزمناننا عيب سوانا. وبعد؛ "فإن المنهج النبوي في مجال التربية والتعليم واضح المعالم، محدد الملامح والقسيمات، مضمون النتيجة، ومن الميسور الأخذ به، والعمل وفق تعاليمه وإرشاداته، ومن الميسور أيضا أن يقنن هذا المنهج، وأن توضع الخطط التعليمية والتربوية على أساسه والأمر لا يتطلب أكثر من صدق النوايا والإخلاص للعمل. ولدينا والحمد لله الكثير من رجالات التربية والتعليم الصادقين في النوايا والإخلاص، القادرين على العكوف على دراسة هذا المنهج، والأخذ منه، والاقتداء به؛ لتشع حياتنا كلها بنور المعرفة القائمة على هدى الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم"1.

_ 1 فاروق منصور، مقال بعنوان: المنهج النبوي أساسيات التربية والتعليم. ص83، مجلة التربية.

ثالثا: المسجد

ثالثا: المسجد مدخل ... ثالثا: المسجد كان للمسجد في صدر الإسلام وظائف جليلة، لم تفارقه إلا حين فرط المسلمون في رسالته الحضارية، فقد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، منطلقًا للغزوات والسرايا وتبليغ دعوة الحق إلى الأمم، وإخراج البشر من عبادة الأوثان إلى عباة الله الواحد الديان. وكان المسجد مركزًا تربويًّا يربي فيه الناس على فضائل الأخلاق، وكريم الشمائل، ومعرفة حقوقهم وواجباتهم في المجتمع المسلم. وبقي المسجد على هذه الحال إلى أن ضعفت الأمة وتفرقت، وطغت عليها الأغراض الدنيوية، فانقلبت بعض حلقاته إلى موارد للزرق، ومعاقل للتعصب المذهبي الطائفي والشخصي1.

_ 1 مصطفى محمد حميداتو: عبد الحميد بن باديس وجهوده التربوية، كتاب الأمة، العدد 57 "1418هـ - 1979م". ص162.

رسالة المسجد في التعليم والتربية

رسالة المسجد في التعليم والتربية: يقول ابن باديس1 حول الرسالة الرائدة للمسجد في مجال التعليم: المسجد والتعليم صنوان في الإسلام، من يوم ظهر الإسلام، فما بنى النبي صلى الله عليه وسلم يوم استقر في دار الإسلام بيته حتى بنى المسجد، ولما بنى المسجد كان يقيم الصلاة فيه، ويجلس لتعليم أصحابه، فارتبط المسجد بالتعليم كارتباطه بالصلاة، فكما لا مسجد بدون صلاة، كذلك لا مسجد بدون تعليم، وحاجة الإسلام إليه كحاجته إلى الصلاة". وإذا كان التعليم في المدراس والكتاتيب من نصيب الصبيان والشباب، فإن للعامة نصيبًا وافرًا من التعليم في المساجد. ويبرز الشيخ ابن باديس الدور الإيجابي الذي تؤديه المساجد في تعليم وتثقيف العامة، فيقول: "إذا كانت المساجد معمورة بدورس العلم، فإن العامة التي تنتاب تلك المساجد تكون من العلم على حظ وافر، وتتكون منها طبقة مثقفة الفكر، صحيحة العقيدة، بصيرة بالدين، فتكمل هي في نفوسها، ولا تهمل -وقد عرفت العلم ذاقت حلاوته- تعليم أبنائها، وهكذا ينتشر التعليم في الأمة ويكثر طلابه من أبنائها ... أما إذا خلت المساجد من الدروس، كما هو حالنا اليوم في الغالب1، فإن العامة تعمى عن العلم والدين، وتنقطع علاقتها به، وتبرد حرارة شوقها إليه، وتمسي والدين فيها غريب".

_ 1 ابن باديس: داعية إسلامي كبير من الجزائر من أسرة كريمة، كان أبوه من أعيان مدينة قسنطينة وسراة أهلها، وعرف بالدفاع عن حقوق المسلمين بالجزائر، وكذلك نشأ ابنه عبد الحميد بن باديس، فقاوم الاستعمار الفرنسي في بلاده، وكان يؤمن إيمانا لا حدود له بدور القرآن الكريم في تكوين الجيل المنشود على غرار الجيل الذي حققه القرآن في العصور الأولى، وتوفي ابن باديس سنة 1954. 2 المصدر السابق نفسه.

والمتتبع لتاريخ أسلافنا -رحمهم الله- يدرك الأهمية التي أعطيت لهذا النوع من التعليم، فقد بذلوا الأموال وحبسوا الأحباس؛ لضمان استمرار المسجد في تأدية رسالته التعليمية والتربوية. وما انتهى المسلمون اليوم إلى ما هم عليه من انحراف في عقائدهم وسلوكهم، وجمود في فكرهم، إنما سببه هو انعدام التعليم الديني في المساجد، التي أصبحت مؤسسات رسمية خاضعة لتوجيهات الساسة.. ولن يرجى لهم شيء من السعادة الإسلامية، إلا إذا أقبلوا على التعليم الديني، فأقاموه في مساجدهم كما يقيمون الصلاة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل من إقامته بمسجده. لقد تضاءلت وظائف المسجد في عصرنا الحاضر إلى درجة أن أصبح أحادي الوظيفة؛ إذ تنحصر وظيفته في صلاة الجماعة في أوقات الفرائض، وتقلص دوره إلى إقامة شعائرها فحسب. "ولم يعرف الإسلام المسجد الوحيد الوظيفة إلا في عهد ضعفه.. في حين أن في عهود ازدهار الإسلام كان المسجد جامعا لعدة وظائف: كانت فيه وإلى جواره المدراس ومساكن الطلاب العلم والأساتذة والمستشفيات والرعاية الاجتماعية وسبل المياه ومكاتب حفظ القرآن الكريم، ولعل من أبرز النماذج بين أيدينا الجامع الأزهر، ومجموعة قلاوون، ومسجد السلطان حسن برقوق"1.

_ 1 د/ عبد العزيز كامل: الإسلام والعصر. اقرأ - دار المعارف بمصر ص181 طبعة سنة 1972م.

رابعا: المجتمع

رابعا: المجتمع عناية الإسلام بالتشريع الإجتماعي ... رابعًا: المجتمع للبيئة الاجتماعية أثر كبير في التربية واكتساب العادات والتقاليد والأخلاق، والصبيان يتطبعون بأخلاق خصال الآباء والأمهات والأخوة والأتراب والأصدقاء والجيران والمعلمين وجميع من يخالطونهم في البيت أو الحي أو المدرسة أو الجامعة أو في موقع العمل أو في النادي الثقافي أو النادي الرياضي ... إلخ. عناية الإسلام بالتشريع الاجتماعي: "ولقد عنى الإسلام بالتشريع الاجتماعي الذي يحدد العلاقة السوية بين البشر، وحرصا على تماسك المجتمع ترابطه ينشئ الإسلام أفراده على التعاون والتكافل في شتى المجالات، يقول تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 1. لذا فإن التربية الإسلامية تعمل على غرس شعور الولاء للجماعة على أساس من أخوة الإيمان التي تعلو فوق الجنس واللون. كما تبين للفرد حقوقه وواجباته باعتباره عضوا في مجتمع تربطه بأفراده مصالح مشتركة مبنية على أسس ومبادئ وقواعد من تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، وإذا كانت الأهداف السابقة أهدافا مهمة وضرورية للتربية من منظور إسلامي؛ فإن التحلي بالأخلاق الفاضلة يجب أن تشملها جميعا وتكون تطبيقا لها"2.

_ 1 المائدة - آية 2. 2 أحمد أبو الدهب مقال بعنوان الإسلام والتنمية البشرية، العدد 385 من مجلة الوعي الإسلامي "1418هـ - 1998م" ص54.

المجتمع المسلم ضرورة لازمة للتربية الإسلامية

المجتمع المسلم ضرورة لازمة للتربية الإسلامية: "إن تكوين المجتمع المسلم هو الهدف الأخير من التربية الإسلامية، ولكنه في الوقت ذاته الأداة الموصلة إلى تثبيت المفاهيم الإسلامية، وتنشئة الأفراد عليها منذ نعومة أظفارهم؛ حتى يتطبعوا بانطباعاتها، ويكونوا صدى ذاتيًّا للتفاعل معها والتشرب بها"1. وفي المجتمع المسلم الذي تقوم فيه العلاقات كلها مرتبطة بالله؛ يتعاون الناس على البر والتقوى ولا يتعاونون على الإثم والعدوان، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويتعاونون، على تهيئة الجو للناشئة أن تتربى في ظل العقيدة النظيفة من الأدران2. في هذا المجتمع توجد الحكومة المسلمة والشعب المسلم والاقتصاد المسلم والاجتماع المسلم والأسرة المسلمة والمدرسة والمسلمة والصحيفة المسلمة والإذاعة المسلمة والفن المسلم3. فالمفاهيم الإسلامية تحكم الجميع. والطفل حين يتعود على مخالطة الناس يتأثر بما هم عليه من العادات والتقاليد فعينه تسجل المناظر وأذنه تسجل الكلام والأصوات، وإنما تظهر الأخلاق في المناظر والهيئات، وفي الكلام والأصوت، فإذا كانت الأخلاق إسلامية سلمت المناظر من العيوب والأصوات من النشاز، وعين الطفل وأذنه يسجلان أحوال المجتمع من حواليه فإذا كانت النساء ملتزمات بتقاليد الإسلام، فإن ذلك يظهر لعين الطفل في الاحتشام في الملبس والحياء عند الكلام، وكذلك بالنسبة للرجال تسجل لهم عين الطفل الهيئات في الملبس والحركة والتصرف بينما تسجل أذنه لهم كلامهم إذا كان صدقا أو كذبًا، عبادة أو مجونا.. وهكذا ومن كل هذا وذاك تنمو شخصية الولد ويكون سلوكه وأخلاقه.

_ 1، 2، 3 محمد قطب: منهج التربية الإسلامية، دار الشروق، الطبعة الحادية عشرة 1408- 1988، ج1 ص217، ص220.

الفاقد في حياتنا الإجتماعية

الفاقد في حياتنا الاجتماعية: إن مجتمع المدينة الفاضلة التي كان يحلم بها الفلاسفة من أمثال أفلاطون تحقق وجوده في ربوع العالم الإسلامي بأفضل مما تصوره أيام النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء، وعصر عمر بن عبد العزيز؛ إنه المجتمع الإسلامي بكل صوره التي ترضي الله سبحانه وتعالى، فهل من سبيل إلى عودة هذا المجتمع الفاضل؟ إن مجتمعنا الإسلامي المعاصر طرأت عليه أمور شوهت صورته الجميلة، ومع ذلك فهو يخلو من الفضيلة ولم تنعدم فيه المروءة، وهو لا يزال من أفضل المجتمعات طرا، لكن الفاقد فيه كبير؛ هذا الفاقد يرجع سببه إلى التأثر بالتيارات الأجنبية الوافدة إليه سواء من الغرب أو من الشرق، والتي أدت إلى وجود فئة من الكتاب والأدباء والعلماء الدنيويين أتوا بكثير من البدع والمستحدثات تحت مسمى الحضارة الحديثة، أفسدت عقول شبابنا وأبنائنا، وأصبح من العسير علاجها دفعة واحدة، ولقد تعاملنا مع كل "الأيدلوجيات" والمذاهب السياسية الموجودة في العالم، ومع ذلك فهي لم تنفع لا في تنظيم الجماهير ولا في إصلاح الدولة ولا في تطوير الاقتصاد. ونحن لدينا كل المقومات في القرآن الكريم والسنة المطهرة وهدي الصحابة والتابعين والأمثلة الزاهية من العلماء والفقهاء على مختلف العصور، ولكن لا نتحرك لتعميم الإفادة من كل ذلك في مواجهة كوارث الواقع ومتغيراته، بل على العكس نحن نزداد بعدًا عن سبل الهداية في القرآن والسنة والتراث الصالحة لكل زمان ومكان، ونلجأ إلى تطبيق تجارب الأجانب التي تفضي في النهاية إلى الضياع.

صور الفاقد في المجتمع: وتتمثل صور الفاقد في المجتمع الإسلامي المعاصر في: 1- غياب القدوة الصالحة. 2- طغيان المادية. 3- عدم تطبيق الشريعة الإسلامية تطبيقا كاملًا. 4- تعطيل النصف الآخر من المجتمع وهو المرأة. 5- الانبهار بالعلوم الكونية وجعلها في درجة أعلى من العلوم القرآنية. 6- إفساد التعليم بالتنظير له على مناهج مستوردة. 7- القلق المتزايد إزاء ما يحدث حوالينا من مخترعات العلم الحديث. 8- عدم الإفادة من التراث الإسلامي العريض. 9- طغيان العامية على الفصحى وإهدار اللغة العربية. 10- انحراف وسائل الإعلام عن جادة الصواب في معظم أمور الحياة. كل ذلك أدى ألى خلو طبائع أغلب الناس من الروح، والإسلام روح ومادة، غيب وشهادة، كما أدى إلى طمس المعاني النبيلة للقيم. ونحن -كمسلمين- نتعامل مع الأخلاق والفضيلة والمروءة والمعاني والقيم السامية وما ينفع الناس، وغرضنا إرضاء الرب سبحانه وتعالى القائل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ، وفي ذات الوقت نحن لا نهمل جنب القوة والاستعداد: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} ، ونبتغي بذلك سعادة الدراين، الدنيا والآخرة. وباختصار نحن نتعامل مع العلم الديني النازل من السماء، العلم الرباني الذي يرفع من قيمة الإنسان ويعمل على صون كل البشر وهؤلاء الأجانب يتعاملون مع العلم الكوني، علم المادة المحسوسة وعلم الجمادات- يبتغون به الحياة الدنيا ويتمسكون بأهدابها، وكل هذا

زيف باطل ومصيره إلى الزوال ولعل أبرز الأمثلة على ذلك ضياع الاتحاد السيوفياتي وتفكك ولاياته واندثاره. فالتفوق في العلوم الإنسانية "الكونية" لا يدوم بل يزول، والذي يبقى هو العلم الرباني؛ لأنه ينفع الناس ويتحقق به عمارة الأرض: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} 1. ولذلك لن تزول حضارة الإسلام وإن ضعف أهله، ولكن حضارة أوربا وأمريكا وغيرهما سوف تزول وسوف تنمحي؛ لأنها لا تستند إلى تأييد السماء، ولا تحكمها شريعة الله الخالق البارئ المصور: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .

_ 1 الرعد: 17. 2 الروم: آية 4، 5.

خاتمة البحث

خاتمة البحث: تعرض البحث لمناقشة موضوع التربية الدينية تحت عنوان "من قضايا التربية الدينية في المجتمع الإسلامي" على مدى فصول خمسة مرتبة ترتيبًا منطقيًّا، مراعيًا في ذلك أن يفضي كل فصل منها إلى الذي يليه، ومتدرجًا في ربط القضايا؛ لتكون في هيئة حلقات يمسك بعضها بعناق بعض؛ ليصنع في النهاية إطارًا علميًّا يحدد موضوع التربية الدينية ويلم بجميع أطرافه في إيجاز غير مخل. ومع مناقشة الكليات والجزئيات لمفهوم التربية الدينية والمصادر التي تستمد منها والمنهج الذي تقوم عليه ووسائل تطبيقه والجهات المسئولة عن تطبيق هذا المنهج توصل البحث في النهاية إلى النتائج التالية:- أولا: أن التربية هي عملية التنشئة والرعاية والتوجيه من جانب الكبير تجاه الصغير والعالم حيال المتعلم وأن الإسلام تناول كل شئون الفرد بالتوجيه والإرشاد والتعليم فلم يدع في حياته شيئا إلَّا وقد أفاده فيه بما يصلحه، كذلك بالنسبة لحياة المجتمع لم يدع فيها أمرا إلا وجعل له نظاما وهديا بحيث يضمن للناس السعادة دائما والأمان في حاضر أيامهم ومستقبلها. وأن الله سبحانه وتعالى ربى عباده بأن خلقهم على الفطرة، وأرسل إليهم الرسل والأنبياء، ونزل إليهم الكتب والرسالات.

ثانيا: أن علم التربية والتعليم علم بدأه رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وصارت له مدرسة في المدينة المنورة كتابها القرآن، وبيانها ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول أو فعل أو تقرير، فذلك بيان عملي لهذا الكتاب المقرر على المسلمين، وقد شرحه لهم عمليًّا رسول الله صلى الله عليه وسلم إبان حياته؛ إذ كان يشرح لصحابته معنى الآية، ويجيبهم عن كل ما يصعب عليهم فهمه، فحمل عنه أصحابه هذا العلم، وطبقوه في حياتهم وأورثوه التابعين، وقد حمل عنهم التابعون هذا العلم، فنهضوا به خير نهض، وعلموه للأجيال من بعدهم، ونشروه في سائر الآفاق التي امتد إليها الفتح الإسلامي. ثالثا: أن مصادر التربية الدينية في الإسلام هي: 1- القرآن الكريم. 2- السنة النبوية المشرفة. 3- هدى الصحابة. 4- هدي التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. حيث لم يدع القرآن شيئا من أمور الناس في دنياهم إلا وله فيه ذكر، قد وضع للإنسان دستور حياته من عقائد وعبادات ومعاملات وآداب فردية واجتماعية فأرسى بذلك قواعد الأخلاق الكريمة، ومنه سور بعينها اختصت بالتربية، وعنيت بمكارم الأخلاق كسورة النساء والنور والأحزاب ولقمان والحجرات والطلاق، وأن القرآن اختص بأنه عالمي الدعوة؛ لما ورد فيه من الآيات الكثيرة التي تبدأ

بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} مما يوجب على العلماء المسلمين في هذه الأيام ترجمة هذه الآيات والنهوض بتبليغ فحواها إلى كل الناس تحت عنوان "GOD's call to all" بمعنى "نداء الله إلى جميع الخلق" فترجم معانيها إلى كل لغات العالم بلغة سهلة؛ حتى يفهم الناس عن رب العالمين مراده، وأن الله قد جعل للناس جميعًا أنموذجا عاليا في التربية تمثل في شخص النبي محمد صلى الله عليه وسلم فهو المثل الأعلى في التربية. رابعا: أن الله سبحانه وتعالى كما أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم أدب أيضا أصحابه، وأنزل فيهم قرآنا يشهد لهم بأنهم عدول، كما رضي الله -سبحانه وتعالى- عن التابعين لهم بإحسان كما تشهد على ذلك الآية المائة من سورة التوبة: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} ، فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} تشمل من تبع السابقين الأولين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم غيرهم ممن حمل علمهم وعمل بعملهم. خامسا: أن للتربية الدينية في الإسلام منهاجا كاملا وهو منهج سماوي من لدن حكيم خبير، ضمن جميع الحقوق التي تضمن أمن وسلامة الفرد والمجتمع، وبه تحققت الريادة والسيادة للمسلمين في العالم، وليس على ظهر الأرض منهج للتربية يدانيه. سادسًا: فند البحث شبهة ما تروج له منظمة اليونيسكو من وضع قانون عالمي لحقوق الإنساني وحرياته الأساية حتى لا يعتقد الناس

أن هذه المنظمة لها قصب السبق في تقديم حقوق الإنسان؛ لأن الإسلام هو أول من نادى بحقوق الإنسان في جميع الميادين والأحوال، كما حذر البحث من تسويق جماعة التربويين لهذا الفكرة كأنهم وجدوا فيها ضالتهم المنشودة فأظهروا حماسًا لعقد المؤتمرات والندوات؛ لأجل نشر هذه الدعوة باسم اليونيسكو، وبيَّن البحث أنها: "كلمة حق أريد به باطل". سابعا: حدد البحث الجهات المسئولة عن تربية الطفل في: الأسرة والمدرسة والمسجد والمجتمع، وأوضح مدى قصور كل جهة من هذه الجهات عن النهوض بمستوى التربية الدينية مبينا أسباب هذا القصور فكانت كما يلي: - بالنسبة للأسرة: تزعزعت أركانها؛ حيث تأثرت إلى حد كبير بموجات الفتن والمغريات العصرية التي هبت على ديار المسلمين، ووفدت إلى مجتمعاتهم تحت مسمى المدنية مما دفع كثيرًا من الغيورين إلى معالجة هذا القصور بالتصدي لتيارات التغريب الحداثة والعلمانية؛ لإنقاذ الأسرة المسلمة من التردي الذي وصلت إليه. وبالنسبة للمدرسة: فقد وصلت إلى حالة من الضعف الشديد الذي أدى إلى خلو الساحة من ظهور الأدباء المبدعين والشعراء المجيدين، والعلماء النابهين على نحو ما عهدناه لدى الجيل السابق من أمثال الرافعي وشوقي وحافظ والمازني والعقاد وطه حسين وغير أولئك كثير. كما تعرض البحث إلى مشكلة التعليم المعاصر، وأرجح أنها أصبحت مشكلة؛ لفقدان الغاية والمنهج، وأن المدرس والمؤسسات العلمية

جميعها صارت هياكل إدراية عجزت عن ترجمة قيم الإسلام عن جعلها واقعا معاشا يقتنع به الناس. وطالب بتطبيق المنهج النبوي والتقنين له ووضع الخطط التعليمية والتربوية على أساسه؛ حتى تشع حياتنا كلها بنور المعرفة القائم على هدي الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. - وأما بالنسبة للمسجد: فقد أوضح البحث أن المسجد صار دوره في زماننا ضئيلا هزيلا بعد أن أصبح من المؤسسات الخاضعة لتوجيهات الساسة، وتقلص دوره إلى إقامة الشعائر فحسب. - وأما بالنسبة للمجتمع: فقد طرأت عليه أمور شوهت صورته الإسلامية الجميلة، وحدد البحث صور الفاقد في المجتمع الإسلامي في عشرة أمور هي: غياب القدوة الصالحة، وطغيان المادية، وعدم تطبيق الشريعة الإسلامية تطبيقا كاملا، وتعطيل المرأة، وتعطيل التراث، والانبهار الزائف بعلوم الغرب وأمريكا، وفساد التعليم، وطغيان العامية على الفصحى، والقلق المتزايد إزاء مستحدثات العصر، وانحراف وسائل الإعلام عن جادة الصواب في معظم أمور الحياة. من أهم ما جسده البحث هو أن حضارة الإسلام حضارة خلقية روحية وأن حضارة الغرب حضارة مادية كونية، ولهذا سوف تبقى حضارة الإسلام وسوف تزول حضارة الغرب ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.

ملحق مضاف إلى البحث

ملحق مضاف إلى البحث فصل في الأخطار التى تتهدد المجتمع الإسلامي في الأخلاق والعادات والتقاليد تصدير المنكرات إلى بلاد المسلمين مدخل ... ملحق مضاف إلى البحث: فصل: في الأخطار التى تتهدد المجتمع الإسلامي في الأخلاق والعادات والتقاليد تصدير المنكرات إلى بلاد المسلمين: توطئة: اكتسحت بلاد المسلمين في عصرنا الحاضر موجة عاتية من المنكرات الوافدة علينا من الغرب الأوربي والأمريكي أصابت الأسر والبيوتات، ومعاهد العلم والجامعات، فما من أسرة مثقفة إلا نالت منها نصيبا موفورًا؛ سواء في ذلك الرجال والنساء، والأولاد والبنات، كما لم تسلم منها طوائف المجتمع وطبقاته إلا من عصمه الله. ولقد أحدثت تلك الموجة ريح السموم الآتية من الغرب الحاقد، وأثارها وهيجها شياطين الفكر الغربي الذين استغووا الناس بالفتن، وزينوا لهم المعصية، فتهوروا في ظلمها حتى صرفوهم عن الرشد وأسلموهم إلى مهاوي الضلال. ولا يعلم أحد إلا الله متى تهدأ ريح السموم كي تنحسر موجة المنكرات فتعود الأمور إلى طبيعتها والحياة إلى نضارتها. أول هبوب الريح السموم عندما جاءتنا الحملة الفرنسية؛ لتبث سمومها في المجتمع العربي المسلم، ولتنذر المسلمين بشر عظيم يأتيهم من حيث لا يعلمون، فكان أن جاء الاستعمار اللعين؛ ليعيث في الأرض الفساد، وفي النفوس الضلال والبهتان، ومكث زمنا حتى أجلاه الله عن البلاد، ولكنه ترك جراحا وبثور في جسم الأمة العربية لا زالت تنزف، وتفت من قواه. والآن تقذف إلينا ريح السموم التي تهب من الغرب الحاقد بتيارات من الكفر والإلحاد، وتحمل معها نغمات الوثنية وأصوات الفتنة لتستميل الآذان وتبهر عقول الفتيان، ثم ترمي إلينا بدعاة الفتنة في ثياب الأطباء

ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب. ولا تزال ريح السموم التي تهب من الغرب الحاقد ترمي بلاد الإسلام بألوان الزيف والبهتان كي تعمي الأبصار عن حقيقة الأشياء، فيتيه الغلمان والفتيان، بخداع بريق البهتان، ويضيع سبيل الحق. لكن بصيص النور الخافت -نور الإيمان- يتلألأ في بعض الاحيان؛ ليهدي إلى بَر الأمان، وكذلك صوت العلماء، وعلماء الدين يعلو في بعض الأحيان؛ ليدل الناس على سبيل الحق ويبعدهم عن مواطن الزلل ومهاوي الضياع. ونذكر من هذه المنكرات التي يصدرها الغرب إلينا ما يلي:

تصدير العقائد الزائغة وتأليه الدولة

1- تصدير العقائد الزائغة وتأليه الدولة: يموج العصر الحديث بمذاهب متعددة في كل مجالات الحياة، والسمة الغالبة على معظم هذه المذاهب هي المادية النفعية التي تظهر تحت أسماء مختلفة مثل: المذهب التجريبي، والوضعية المنطقية، والوجودية، والمادية الجدلية، ومذهب التطور أو النشوء والارتقاء، وغيرها من الأسماء التي تعرفها المحافل العلمية والفلسفية في علوم الطبيعة والنفس والاقتصاد وغيرها من العلم، ولكنها في النهاية تعكس لدى معتنقيها فكرًا غلابًا أساسه الإيمان بالمادة1. إن الهمجية الاستعمارية الأوربية التي تعرض لها الشرق الإسلامي في العصر الحديث كانت رغم أعلامها السياسية ورايتها العسكرية وأهدافها الاقتصادية ذات مضمون تبشيري فكري واضح؛ هدفه استبدال الفكر الغربي المادي بالفكر الإسلامي، وتصوير فكرنا لدى الأجيال الناشئة الحائرة بأنه سبب تخلفنا، مع الربط بين تقدمهم المادي والفكر الذي يروجون له في

_ 1 د/ عبد البديع عبد العزيز الخولي، مقال بعنوان: القضاء والقدر، من كتاب الدراسات الدينية للتأهيل التربوي، مقرر "101د" ص205، "بتصرف" إلى ص 215.

الشعوب الخاضعة لتأثيرهم. وساعد الاستعمار في هذا النهج ذلك الخواء الذي سيطر على الحياة العقلية للمسلمين في القرون المظلمة بتأثير عوامل الضعف والمقولات التي اجترها بعض السابقين بحثا على التقليد والخنوع ونفورا من الإبداع وإعمال العقل، وتبريرا لما في حياة المسلمين من سلبية وهوان. هذا فضلا عن ولع المغلوب بتقليد الغالب. ولهذا انبهر بعض شباب المسلمين بما عليه الآخرون انبهارا ملك علهيم أقطار أنفسهم، وأفقدهم النظرة الدقيقة الفاحصة التي لا تكتفي بالسطح، وإنما تغوص إلى الأعماق ناقدة كاشفة ما في التجربة الأوربية من سلبيات وإيجابيات؛ سبليات تتمثل في ترويج الإلحاد تحت دعاوى مختلفة، وخواء الروح والتمزق النفسي الذي يعانون من أوضاره، والتحلل من قيم إنسانية أصيلة كالعفة والسلام والمساواة بين البشر1. إن خطر الفكر المادي علينا كمسلمين يتمثل في محاربته العقيدة السماوية التي تؤمن بها، وما يمثله هذا من هدم لكل خير في حياة الإنسان، وتنتقل إلى مرتبة الحيوان الأعجم الذي لا هدف له غير إشباع مطالبه "البيولوجية" كما يتمثل هذا الخطر في محاولة القضاء على هويتنا كأمة تعنتق الدين الخاتم الذي يجعله الله منقذًا للبشرية من تعاستها ومادياتها، هذا فضلا عن الأخطار السياسية والاجتماعية التي تبدو مثلا في تحويلنا إلى شعوب تابعة مستهلكة حائرة بين سراب الترف المادي، وواقع الخطر الممسك بتلابيبها على أرضها، ضائعة بين مادية الشرق ومادية الغرب، مادية صنعوها للمسلمين ووجهوها إلى شبابهم، مادية أفروغها من المصانع المنتجة، والأراضي الخصبة واحترام الإنسان، وصواريخ الفضاء والاكتفاء

_ 1 المصدر السابق نفسه.

الذاتي في إنتاج الغذاء، وألبسوها زخارف خادعة هشة تبدو في إنكار الإله والتنكر للأنبياء، والسخرية من يوم الحساب، والتمسك بالقشور والطلاء، والتهكم بالمقدسات!! عليهم لعنة الله1. ثم ماذا قدمت إلينا حضارة الغرب؟ أو حضارة الشيوعية؟ إنهم قدموا لنا السيارة والقاطرة والباخرة والطائرة والأجهزة المتعددة؛ لخدمة أغراض الإنسان النفعية، كما قدموا لنا أسلحة الدمار الشامل؟ وهل هذه الحضارة المادية في علوم الجمادات يصح أن يطلق عليها اسم الحضارة بمفهومها الشامل؟ إنها حضارة ناقصة تفتقر إلى الأخلاق. وكما قال شاعرنا: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا لم تقدم لنا حضارة الغرب سمو الاخلاق الذي تحرص عليه حضارة الإسلام، وليس لأهل الغرب بحضارتهم الزائفة أي نصيب في هذا المضمار، ولن يكون لهم نصيب فيه في المستقبل وعلى مدى الأيام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؟؛ ذلك لأن علومهم علوم دينوية تسعى؛ لتحقيق رفاهية الإنسان وإشباع نزواته ورغباته فقط، والقرآن يبين لنا خطورة هذا الأمر على الإنسان؛ فإنه إن شبع من كل شيء طغى وبغى كما جاء في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى} ، وعند الاستغناء تموت الحواس، وتطغى النفس البشرية وينمو فيها عامل الغرور والفجور: {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} ، من ذلك يتبين لنا خطورة هذه الحضارة الغربية التي تتفاخر علينا بزيادة الإنتاج وإشباع الرغبات من كل شيء، ومآل ذلك إلى

_ 1 المصدر السابق نفسه.

إلى الطغيان والفساد في الأرض وسوء العاقبة. وهل تصدِّر لنا هذه الحضارة الغربية أو الشيوعية إلا الفساد؟ إنهم هناك يستخدمون علومهم في تصنيع المخدرات، وإلا فأين تصنع هذه المواد المميتة؟ إنهم يقدمون لنا العنف والإرهاب، ويشهد على ذلك أفلامهم السينمائية، إنهم يقدمون لنا الجنس والشذوذ في شكله البغيض، ويتاجرون في الأعراض حتى لا يكاد يعرف الإنسان منهم أباه، واختلطت عندهم الأنساب؛ لأن النسب لا قيمة له في عرفهم، حتى انتشرت فيهم الأمراض التي لاعلاج لها لا سيما الإيدز الذي يعانون منه، كفى به مصيبة تهدد الأرحام وتقتل النسل. ومن أسوأ ما تجرأوا عليه في علومهم أنهم اخترعوا ما يمسى بالهندسة الوراثية، ويبحثون في إمكانية أن الرجل يحمل ويلد بعد سبعة أشهر كما جاء في الخبر: "أكد البروفسير د. أدموند كونفينو أن العلم يستطيع الآن تحقيق رغبة الرجل في الحمل والولادة، وأن ذلك أصبح ممكنا بعد نجاح التجارب على الحيوانات. بأن يتم حقن الرجل بهرمون يمنع جسمه من إنتاج هرمون الذكورة، ثم يحقن بهرمون البروجسترون والاستروجين؛ لإيجاد مناخ مناسب لنمو الطفل ثم يزرع له جنين في تجويف البطن ويمكن توليده بعد 7 شهور بعملية قيصرية". ولكن من أين يأتي الجنين الذي سوف يزرع داخل التجويف البطني للرجل؟ يقول د. محسن حسني أستاذ أمراض النساء بطب الأزهر: "لقد أجرى العلماء كثيرا من التجارب في المملكة الحيوانية مستخدمين فيها الهندسة الوراثية الحديثة، وأمكن عمل الأنسجة التي يتكون منها الحيوان المنوي في جسم الأنثى كما أمكن تنشيطه، وبذلك أمكن إيجاد حمل في الحيوان بدون أن يتلقى الحيوان الذكر مع الأنثى، لذلك ليس هناك ما يمنع نظريا من افتراض عمل بويضة في جسم الذكر

وتنشيطها تقابل حيوانه المنوي لكي تصبح بويضة مخصبة. أفبعد ذلك تكون هذه حضارة؟ إنها الفتنة وإذن التي هي نتاج ذلك الانبهار بالتحصيل العلمي المادي الذي يكفر بالدين ويكفر بالله. والعجب كل العجب من هؤلاء الذين يقلدون أصحاب الحضارة المادية، ويطالبوننا بالأخذ من مناهجهم، ويرغبوننا في الاقتداء بهم؛ كي تسير على دربهم في كل شيء، ويعدون تفوقهم في العلوم والمخترعات غاية الأمل في الوصول إلى تحقيق سعادة البشرية ورخاء الإنسانية. ولا ينبغي لنا أن ننسى أن النفوذ الغربي وثقافة الغرب يسعيان كلاهما لتحيطم نظام التربية الإسلامية؛ حيث يحاول الغرب فرض مناهج الإرساليات الذي دمر أسلوب الثقافة الإسلامية. "حين أقام منهجه العلماني المادي الانشطاري أسلوبا للمعرفة في مجال الجامعات والصحافة". لن تكون الحضارة أو التقدم أو الحداثة على حساب الركائز الأساسية، أو القيم الأصيلة ولن يكون مفهوم التقدم سبيلا للقضاء على جذر واحد من جذور الأصالة. فنحن نفهم التقدم جامعا بين المعنوي منه والمادي وليس التقدم

_ 1 جريدة الأهرام ملحق الجمعة ص3 "14/ 1/ 1996".

المادي الخالص. نحن لا نرفض العصر ولا نتقوقع في الماضي، ولكنا نقيم أساسًا إسلاميًّا خالصا نواجه به التراث والفكر المعاصر على السواء. إن حاجتنا إلى الغرب تتلخص في حاجتنا إلى مفاتيح العلوم التجريبية والتكنولوجية؛ لننقلها إلى لغتنا العربية ومحيطنا الإسلامي. إن النظرية التي تحاول أن تربط بين العلوم التجريبية والفلسفات هي نظرية باطلة ولن نقبلها. نحن نرفض أن يكون منهج الفلسفة الغربية موازيا لمنهج العلم التجريبي. أما طريقة العيش الغربية فهي لا تناسبنا؛ ذلك لأن لنا منهجا إسلاميًّا خاصًّا في العيش والحياة. إن أكذب ما ينقل إلينا ونضلل به هو تلك الرابطة الوهمية بين العلم التجريبي وأسلوب العيش الغربي، إن كل ما ينقل إلينا لا يزيد عن أن يكون خامات نشكلها في إطار فكرنا ومعتقداتنا"1. يقول بعض علمائنا2: إن مشكلة الحضارة الغربية كمشكلة الحضارات السابقة في التردي إلى عبادة وثن من صنع المجتمع نفسه وهو "تأليه الدولة" السائد الآن بين 190 من سكان العالم. لقد أدى هذا التأليه إلى انهيار 14 أو 16 حضارة سابقة من عشرين حضارة، وتأليه اليوم أشد إرهابًا؛ لأنه تدعمه أيديولوجيات، وتمكن له التكنولوجيا الحديثة سواء في وسائل الإعلام أو غيرها.

_ 1 أنور الجندي: عالمية الإسلام، مجموعة اقرأ، ص132، 133 طبعة دار المعارف سنة 1977م. 2 هو الأستاذ الدكتور/ حسن عباس زكي، من مقال بعنوان "الإيمان يحقق التوازن المفقود في عالمنا المعاصر" بتصرف قليل ص11 من جريدة الأهرام ملحق الجمعة بتاريخ 18/ 1/ 1996.

تصدير التغريب والترويج لكلمة الرجعية

2- تصدير التغريب والترويج لكلمة الرجعية 1: فالتغريب هو محاولة "تغيير المفاهيم" في العالم العربي والإسلامي، والفصل بين هذه الأمة وبين ماضيها وقيمها والعمل على تحطيم هذه القيم والتشكيك فيها، وإثارة الشبهات حول الدين واللغة والتاريخ ومعالم الفكر ومفاهيم الآراء والمعتقدات جميعا. لقد صوَّر لورد كرومر منهج هذا العمل الذي اصطنعته فرنسا وإنجلترا وهولندا في العالم الإسلامي حين قال: "إن الشبان الذين يتلقون علومهم

_ 1 أنور الجندي تغريب أخطر التحديدات في وجه الإسلام صـ14 بتصرف. دار الاعتصام.

في انجلترا وأوربا يفقدون صلتهم الثقافية والروحية بوطنهم، ولا يستطيعون الانتماء في نفس الوقت إلى البلد الذي منحهم ثقافته، فيتأرجحون في الوسط ممزقين". وكان هذا بالطبع هو الهدف من الإرساليات المختلفة التي غزت بلادنا في صورة مدراس وجامعات، وفي البعثات الموجهة إلى أوروبا وإلى عواصم الدول المختلفة بالذات. وفي هذا، قال جبران: إن الشباب الذي تناول لقمة من العلم في مدرسة أمريكية قد تحول بالطبع إلى معتمد أمريكي، والشاب الذي تجرع رشفة من العلم يسوعية صار سفيرا لفرنسا، والشاب الذي لبس قيمصا من نسج مدرسة روسية أصبح ممثلا لروسيا، وكان هذا هو الحق إلى حد كبير، فقد غزا الغرب الشرق بجحافل من العلماء والمبشرين والمستشرقين والأثريين والصحفيين، وشيدت مؤسسات ضخمة في مختلف عواصم العالم الإسلامي؛ لفتح أبوابها لثقافة بلادها، وبدأ هذا النفوذ الفكري يعمل ويسيطر في مجالات المدرسة والجامعة والصحافة، والثقافة والتربية والطب والسينما والإذاعة. وهكذا كان "التغريب" عملا خطيرا دقيقا، قوامه الحرب المنظمة للقيم التي عاشت عليها أمتنا، في أسلوب مغلف بالضباب، يحاول أن يثير غمامة كثيفة من التشكيك والتحقير والاستهانة بكل ما لدينا من قيم باسم "القديم" البالي الموروث، ولم تمض سنوات قليلة حتى كان أبرز المسيطرين على "الصحافة" في العالم العربي والإسلامي من هؤلاء المتنكرين لقيمنا الذاهبين مع التغريب؛ فقد كانت الصحف التي تعمل للمبادئ تسقط واحدة بعد الأخرى، بينما ظلت الصحف التي تخدم التغريب تقوى وتتوسع، وفي مجال "الترجمة" كان الهدف هو إذاعة القصة المكشوفة والآراء المسمومة، وفي الأدب بث فكر جديدة قوامه

القصص، وفي مجال المدرسة كانت تقدم الكتب التي تنتقص من قدرنا، وتصم ترايخنا بالضعف وماضينا بالذلة، وسيطر على الجو الفكري كله تيار جديد هدام قوامه الاستهانة بكل القيم وفي مقدمتها الدين والمعنويات، كما فرضت الحضارة على بلادنا أسوأ ثمراتها، لم ترسل لنا إلا تجارة الرقيق الأبيض والكحول ومواد الزينة واللهو بغية تحطيم كيان المجتمع، وبدت في جو مجتمعنا ريح تدعو إلى الرخاوة والمتعة واللذة والتخلص من كل القيود. ولم تكن هذه الدعوة تهدف إلا إلى تدمير القيم الأساسية لهذا الأمة، قيم المقاومة والصلابة والتصميم وتحويل نظر الأمة عن الجهاد والتضحية والفداء في سبيل الحرية"1. الترويج لكلمة الرجعية: يرمي أهل أوربة والدول الاستعمارية الموصوفة بالدول المتقدمة المسلمين بالرجعية التي تعني التخلف والجمود، ويوهمون المسلمين دائما بأنهم يتمسكون بالماضي والدين، ولا يتطورون بتطور الحياة، ويقارنون بين تقدمهم في علوم الطبيعيات وعلوم الصناعات وبين تخلف دول العالم الإسلامي في هذا المضمار، فينسبون تخلف المسلمين إلى تمسكهم بالدين واعتقادهم المتين في منهجه، وتلك مقارنة ظالمة فيها إجحاف للمسلمين، واتهام لا يليق بالدين الإسلامي الحنيف الذي يحقق السعادة لكل البشر إذا ما اتبعوا تعاليمه وساروا على نهجه، هل تحققت السعادة للناس في أوربة بسبب هذا التقدم الحضاري المزعوم؟! إن ما يصفونه بالحضارة هو في الواقع ليس بحضارة؛ لأن غاية الحضارة تحقيق الأمان للفرد في مجتمعه حتى يعبد الله عز وجل وهو آمن في سربه، ولا نجد للأمان معنى عند هؤلاء.. وبالتالي لا تتحقق العبادة الخالصة لله،

_ 1 المصدر السابق ص15.

ولهذا تنتفي صفة الحضارة الحقيقية، ويشهد لذلك تخبط أهل تلك البلاد في أمور حياتهم، وظهور الفسوق في مجتماعتهم، وأنهم يأتون المنكر في نواديهم. إن الإسلام نظام تقدمي، ولا يعيبه أنه لم ينهض به أهله في الأزمان المتأخرة؛ لما أصابهم من أحوال الضعف والتفكك، ولِما أصابهم من عسف المستعمرين الذين دخلوا إلى أراضيه بالقوة والعنف، فعاثوا فيها الفساد ردحا طويلا من الزمن، ولو كان المستعمرون ذوي حضارة كما يزعمون لتركوا في البلاد التي احتلوها أثارة من الخير، ولكنهم كانوا كما وصفهم أمير الشعراء أحمد شوقي بقوله: وللمستعمرين وإن ألانوا ... قلوب كالحجارة لا ترق أما المسلمون فإنهم حين فتحوا البلاد التي دخلوها أيام عزتهم فقد تركوا من أسباب الخير لهذه البلاد ما يجل عن الوصف والتاريخ يشهد على ذلك. ولقد كتب بعض مفكري عصرنا يقول: "هناك عدة نقاط يسوقها أعداء الإسلام للتشكيك في صلاحيته كفلسفة شاملة في عصرنا الحديث. وأول ما يدعي من ذلك أن الإسلام الذي كان صالحا للبدو الحفاة قبل أربعة عشر قرنا لم يعد يصلح في عهد المدنية والحضارة والآلية عصر الصواريخ والذرة والتكنولوجيا، وأنه لا مناص من هذه حتى يمكننا أن نتحضر ظنا منهم أن الإسلام يحرم البشر من ثمرات الحضارة الحديثة والأخذ بوسائل المدنية وهي دعوى لا يقول بها إلا من لم يعرف تاريخ هذا الدين وحضارته. حقا نزل الإسلام في قوم من البدو بلغ من جفوتهم وغلظتهم أن قال الله تعالى في وصفهم: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ

مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 1. فكانت معجزته أن جعل من هؤلاء الأجلاف أمة متآخية من الآدميين بل أمة وسطا تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتهدي البشرية إلى ما اهتدت إليه من الخير، وفي هذا دليل على قدرة الإسلام على تحضير النفوس وتهذيبها، ولم يكتفِ الإسلام بهذا وإنما فسح صدره فضم إليه كل مظاهر الحضارات والمدنيات التي وجدها في الأقطار المفتوحة وتبناها؛ تنبى الحضارات التي وجدها في مصر وفارس وبلاد الروم ما دامت لا تخالف عقيدته في وحدانية الله، ولا تصرف الناس عن الخير الذي يدعو إليه، وتبنى الحركات العلمية التي كانت لليونان من طب وفلك ورياضيات وطبيعيات وفلسفة ومنطق، وظلَّ يضيف إليها ما أثبت تعمق المسلمين في البحث والدرس والاشتغال بالعلم حتى تجمع كل هذا في الأندلس وصقلية وهو ما قامت عليه نهضة أوربا الحديثة واكتشافاتها في العلم والابتكار، فكل من يعرف جهود المسلمين في مختلف ألوان الفكر والمعرفة والعلوم لا يستطيع أن يدعي أن الإسلام وقف مرة في وجه أية حضارة نافعة"2. بنفس النظرة فإن الإسلام لا يقف من آية حضارة معاصرة موقف العداء طالما كانت تدعو إلى ما يدعو إليه من الخير، بل إنه يتقبل منها ما تستطيع أن تقدمه من فائدة، ويرفض ما فيها من شرور، ومن ثم فإن الإسلام لا يدعو بصورة من الصور إلى الانعزال الفكري أو المادي ولا يعادي الحضارات الأخرى عداء شخصيا أو عنصريا أو دينيا؛ لإيمانه بوحدة البشرية، واتصال الأواصر بين البشر من جميع الأجناس والألوان التي لا يقيم لتباينها وزنا؛ نتيجة لإيمانه بواحدانية الله والتساوي بين خلق الله في الحقوق والواجبات والمسئولية والجزاء العادل المرتب عليها.

_ 1 سورة التوبة: آية 97. 2 د/ النعمان عبد المجيد القاضي: الإسلام عقيدة وحياة ص108 - مجموعة دراسات في الإسلام يصدرها المجلس الأعلى للشئون الإسلامية العدد 175 سنة 1395هـ 1975م.

وهكذا فإنه لا صحة للدعوى التي تزعم أن الإسلام يحول دون التمتع بثمار الحضارة الحديثة، فمنتجات الحضارة الحديثة لا يمكن أن يكون لها جنسية أو دين أو وطن، وإنما هي ملك للبشرية؛ لأنها إنتاج بشري عام، وإنما الهدف من استخدامها هو الذي يتأثر بهذه العوامل، فهذه الوسائل جميعا لا عنوان لها، ولكنها تكتسب عنوانها من استخدامها في هدف دون آخر، وبالتزامها بغايات سامية وتحقيقها لمثل وأهداف رفيعة سواء في ذلك السلاح العسكري أو الوسيلة الثقافية أو الفكرة الاجتماعية أو السياسية، فالإسلام لا يصادر على الأفكار الصالحة ولا يقف دون التفاعل معها؛ إذ كل تجربة إنسانية صالحة يمكن أن يتحاور معها، فيأخذ منها ما يتفق وغاياته، ويطرح ما دون ذلك. وأما إذا كانت الحضارة عند هؤلاء تعني التحلل من القيم وإهدار المثل والانسياق وراء التهتك والانحلال ومعاقرة الخمر والميسر والتقليد الأعمى للسلوك المنحرف والعبودية والخنوع للغزو الفكري الأجنبي، والاكتساء بقشرة الحضارة الغربية من أجل أن نبدو متحضرين وتقدميين؛ فإن الإسلام حينئذ؛ حفاظًا على شخصيتنا الحضارية ومقومات وجودنا- يقف في وجه هذا المنكر ويقيم نفسه حاجزًا بين أبنائه وبين التردي في تلك المهاوي1.

_ 1 المصدر السابق ص108، 109.

تصدير العلمانية

3- تصدير العلمانية: العلمانية اصطلاح حديث يقصد به ما ليس دينيا ولا كهنوتيًّا1. ولعله مشتق من لفظ العالَم، وجاء في بعض المعاجم: العَلْمَاني عند الغربيين المسيحيين: من يعنى بشئون الدنيا، نسبة إلى العَلْم بمعنى العالَم، وهو خلاف الكهنوتي"، ويمكن تلخيص مفهوم هذا المصطلح في أنه: "الإيمان العقلي المادي"2. ويرى الاستاذ فتحي رضوان أن أصول العلمانية ترجع إلى ردود الفعل لثورة مارتن لوثر في سنة 1520م على البابا وانتقاده العنيف إياه؛ لبيع صكوك الغفران للعصاة والخاطئين والمسيحيين مقابل مال كثير يدفع للبابا فيضمن لهم دخول الجنة، ولسخط لوثر على عبادة القديسين، ودعوته إلى العمل بالكتاب المقدس وحده، وقد ترتب على ذلك تجريد الدولة من كل نشاط ديني، وعدم تحميل ميزانية الدولة شيئا من نفقات الكنائس والأديرة وتحريم التعليم الديني في المدراس والمعاهد الحكومية3. والعلمانية باختصار شديد هي فلسفة جديدة في العالم الغربي "الأوربي والأمريكي" ترمي إلى تهميش الدين، وإلغاء الإيمان بالغيب وتنصيب الإنسان إلها جديدًا، مع الاعتراف فقط بالعقل والمادة والشيء المحسوس الملموس.

_ 1 فتحي رضوان: "الإسلام ومشكلات الفكر، ص184، مجموعة اقرأ، دار المعارف بمصر، العدد 377. 2 مجمعة اللغة العربية، معجم الوجيز، طبعة خاصة بوزارة التربية والتعليم سنة 1414هـ-1993م. 3 فتحي رضوان الإسلام ومشكلات الفكر ص185.

دول الغرب تتجرع مرارة الوثنية بسبب العلمانية: ولما كانت العلمانية ترمي إلى التقليل من شأن الدين، فإنها أثرت في نفوس ضعاف الإيمان وصار الاعتقاد الديني عند بعض أهل دول الغرب دقيقا يغشاه قترة من الشك، ويصحبه شيء من الاضطراب والحيرة حتى تمرد الشباب، وخرج معظمهم عن حدود المألوف حيث تبلبلت أفكارهم، وصار الدين بالنسبة لهم غريبا عنهم، ولم تعد تؤثر فيهم نصائح القديسين ومواعظ القسيسين، وأصبح الأدب في عرفهم ضربا من الجنون والفنون لونا من العبث، ولعلنا نلمس كل ذلك من قراءتنا للمقال الذي كتبه الأستاذ/ فهمي هويدي بجريدة الأهرام تحت عنوان: "الوثنية الجديدة" حيث كتب يقول1: الوثنية الجديدة: "بقلم فهمى هويدي" تهمنا للغاية تلك المناقشات المثيرة الدائرة الآن في بريطانيا حول "الوثنية الجديدة" ليس فقط لكي نتابع ما أصاب الاعتقاد الديني من تآكل وتخريب، ولكن أيضا لكي نستشرف مآلات ما يدعونا إليه البعض في بلادنا! لقد نشرت صحيفة الجارديان في الثاني عشر من الشهر الماضي تقريرا تحت عنوان "الوثنية الجديدة"، وذكرت فيه أن الدوائر الكنسية تبدي قلقا شديدا إزاء تفشي مظاهر الوثنية بين قطاعات متزايدة من الناس حيث انصرف هؤلاء بصورة تدريجية عن الديانة المسيحية، وراحوا يبحثون عن الإشباع الروحي في كائنات الفضاء وعالم الخرافة والتنجيم والخواص السحرية للكريستال وقراءة "الكوتشينة" والكف، وغير ذلك من المصادر المريبة والغامضة، الأمر الذي يعد من علامات "تفكك الإيمان" وانهيار مقوماته ومن ثم فإنه يعد أكبر تحدٍّ يواجه الكنيسة في العصر الحديث. ذكر التقرير أن الكنائس البريطانية المختلفة كلفت لجنة من خبرائها بدراسة الظاهرة بعد ما بدأت تستحفل في المجتمع الإنجليزي، وقد أمضت اللجنة أربع سنوات في رصدها للتحولات عن الإيمان المسيحي، وكان أبرز ما لاحظته أن 70% من أبناء الشعب البريطاني يعلنون أنهم يؤمنون بالله بينما 14% فقط منهم هم الذين يترددون

_ 1 جريدة الأهرام، ص11 بتاريخ 10 ديسمبر سنة 1996م.

على الكنيسة "النسبة في ألمانيا تهبط إلى 5%، وفي فرنسا ما بين 3 و4%، وهؤلاء الذين قطعوا صلتهم بالكنيسة يشبعون أشواقهم الدينية بعيدا عنها، حيث يختاون ما يشاءون من معتقدات وخرافات، خصوصا تلك القادمة من الشرق الآسيوي "مستودع الخرافات" الذي لا ينفد، ويخلطونها بعضا ببعض ثم "يؤمنون" بتلك الخزعبلات، ويعتبرونها دينا جديدًا"! "سوبر ماركت الروحانيات": حذر التقرير الذي عنوانه "البحث عن الإيمان" من أن هذا التفلت من الاعتقاد الديني، والتعامل مع الروحانيات بأسلوب الانتقاد من "السوبر ماركت" من شأنه أن يؤدي إلى "انهيار مجتمعنا وتقويض أركان حضارتنا". نقل تقرير الجارديان عن مطران ونشستر- اسمه ميخائيل نظير علي! قوله: إن تلك "الروحانية الانتقائية" هي نوع من الوثنية الجديدة، وإن المصطلح الذي شاع عنها في الأدبيات الغربية الحديثة. والذي يعتبرها بمثابة "معتقدات العصر الجديد" يثير الالتباس ويخفي حقيقتها؛ إذ هي تستبدل الإيمان المسيحي اليهودي بخزعبلات وخرافات تم تلفيقها طبقا لأهواء بعض الأشخاص. من الفقرات المهمة في التقدير تصريح على لسان واحدة ممن شاركوا في الإشراف على دراسة الكنائس البريطانية، قالت فيه: "إن تعاظم شأن الفردية في المجتمع الإنجليزي "والغربي بعامة" دفع كل واحد إلى اصطناع الدين الذي يستريح إليه فيمحنه الرضا عن النفس والتفاؤل بالمستقبل، وهو ما دفع أمثال هؤلاء إلى الانقطاع عن الكنسية وإدراة ظهورهم للإيمان الديني التقليدي، ومحاولة إشباع حاجاتهم الروحية بالطريقة التي تروق لهم"! هذه الطرائق التي اختارها الناس من "سوبر ماركت الروحانيات" توافقوا على تسميتها بديانات العصر الجديد، وهم لم يجهروا بها فحسب، إنما مضوا يرجون لها، ويستقطبون شرائح من الشباب الذي يعاني من الفراغ الروحي، ولا يزال يفتش في "السوبر ماركت" عن اعتقاد يتجاوب معه ويستريح إليه! وهذه الظواهر أزعجت قيادات الكنيسة الإنجليكانية بطبيعة الحال، فلم يكتفوا بمحاولة تحقيقها ودراستها، والبحث عن كيفية إعادة جذب الشباب إلى الكنيسة مرة أخرى، ولكنهم انتقدوا بشدة دعاة معتقدات العصر الجديد، وفي هذا السياق فإنهم حذروا من أن تلك المعتقدات تعد خطرا يهدد المجتمع، وتؤدي إلى انقسامه وإلى تدمير مقومات الإيمان الصحيح. وجدت في نشرة "حول العالم" الأسبوعية التي تصدرها من لندن وكالة "قدس

برس"، متابعة للموضوع فقط ذكرت في عددها الأخير "الصادر في 23-11" أن أتباع "الديانات الجديدة" لم يلتزموا الصمت إزاء تعريض الكنيسة بمعتقداتهم، فردوا على ناقديهم بقولهم: "إن مطارنة الكنيسة الإنجليكانية هم آخر من يحق لهم انتقاد غيرهم"، فإذا كانوا يتنقدوننا؛ لأننا نؤمن بأشياء غريبة وخرافات، فإنهم أول من باعوا لنا تلك الأشياء الغريبة والخرافات، والكثير مما يقولونه خارج عن العقل ولا يقبله المنطق، إذًا "فما الضير أن يؤمن الإنسان بظواهر غريبة، وإن يزداد الاعتماد على ما يسمى بالخرافات ورموز التطير والتشاؤم حسب تعبير المؤمنين"؟ أضافوا أنه "إذا كان آباء الكنيسة يطالبوننا بالاعتقاد في أشياء خارقة للطبيعة، فإن إيماننا بالخواص الخارقة لكرة الكريستال وعبادة ظواهر الطبيعة يغدو أمرًا سهلًا بالمقارنة". الشذوذ: تحدٍّ داخل الكنيسة أضاف تقرير القدس برس أن الكنيسة الإنجليكانية التي توصف عادة بأنها "كنيسة واسعة الصدر" تضم تحت لواءها طوائف وتيارات متعددة، يصل الاختلاف فيما بينها إلى درجة التناقض الكامل إلا أن مأزقها الآن صار مضاعفا فهي من ناحية تواجه تحدي معتقدات العصر الجديد الذي يأتيها من الخارج؛ إذ يشيع الوثنية والإلحاد المتمثل في عبادة مظاهر الطبيعة والإيمان بالسحر والشعوذة والأبراج وقراءة الحظ والطالع غير أنها تواجه تحديًا آخر لا يقل خطورة، يجيء هذه لمرة من داخل الكنيسة ذاتها، وهذا التحدي يتمثل في تنامي حركة "الشاذين والسحاقيات المسيحيين"! وإذا كانت الوثنية الجديدة تسحب البساط من تحت الكنيسة وتحاصر وجودها ثم تلغيه في نهاية المطاف فإن حركة الشاذين تبقى على الكنيسة لكنها تفرغها من مضمونها وتهتك قداسة تعاليهما الأخلاقية والاجتماعية. لقد عقدت الحركة احتفالا دينيا كبيرا يوم 23 نوفمبر الماضي في كاتدرائية "ساذان" البريطانية، وحضره أكثر من ألفي شخص من مختلف أنحاء البلاد. وكانت مناسبة الاحتفال الذي استمر يوما كاملا هي ذكرى مرور 20 سنة على تأسيسها! اللافت للنظر أن ثلاثة مطارنة للأبرشيات الإنجليزية حضروا الاحتفال. كما أن فكرته تحظى بتأييد قادة كنائس إنجليكانية العالم، منهم رئيس أساقفة جنوب إفريقيا ديزموند توتو، الحائز على جائزة نوبل للسلام، عن كفاحه ضد التمييز العنصري في بلاده. هذا الحديث أثار انقساما حادا في جسم الكنيسة الإنجليكانية، لا سيما في صفوف الطوائف الإصلاحية والجناح التقليدي لها؛ إذ قرر هؤلاء الرد على

"الاحتفال الشذوذي" بإقامة سلسلة من النشاطات الاحتجاجية، التي تراوحت بين الصلوات والنشاطات الدعائية، في هذا السياق قررت 50 كنيسة إنجليكانية إقامة صلوات قوية ضد ذلك الاحتفال. إزاء ذلك لم يعد خافيا على أحد أن الكنيسة تعاني من خلافات عميقة حول أمور عدة، منها موقفها من مسألة الشذوذ الجنسي. وعند التحقيق في الأمر تبين أن ثمة مواقف ثلاثة داخل الكنيسة أزاء هذا الموضوع. موقف تبناه المجمع الكنسي العام "السينود" في سنة 1987، وهو يرى أن العلاقات الجنسية بين أفراد الجنس الواحد مرفوضة، ويجب أن تقابل بالتوبة. الموقف الثاني يتمثل في تقرير صدر عن مجلس المطارنة عام 1991م جاء فيه: يسمح للمؤمنين غير المرسمين ككهنة بممارسة الشذوذ الجنسي في بعض الظروف، ولكن ذلك غير مسموح به للكهنة إطلاقا. أضاف تقرير قدس برس أن كلا الموقفين يتناقض مع الموقف غير الرسمي المعروف للكنيسة الإنجليكانية، والذي كان مجلس المطارنة يتبناه فعليا حتى وقت قريب، وهو ما تلخصه عبارة: "لا تفعله في الشارع؛ لتخيف الأحصنة المارة" ومعناه: "افعله في صمت وتكتم عليه ولا تثر ضجة من حوله". ثارت حفيظة المعارضين لاحتفال حركة الشاذين والسحاقيات، ذلك النفوذ المتزايد للجماعات الشاذة داخل الكنيسة الإنجليكانية حتى أن مطران "جلاسجو" الأسقف ديربك رد كلف ألَّف ترنيمةً خاصةً لاحتفال حركة الشاذين، الذي أقيم في كاتدرائية "ساذن". وقد ألَّف الأسقف رد كلف الترنيمة التي سماها "ترنيمة المعركة"؛ لتكون "صيحة الحرب" التي تحث الجماعات المسحيية الشاذة على مواصلة مسيرة كفاحها في سبل حقوقها "المشروعة" حسب وؤيته. تقول بعض مقطاع الترنيمة: "إلى الأمام أيها الشاذون المسيحيون سيروا بكل افتخار.. سيروا جنبا إلى جنب نحن نحن لسنا متفرقين.. كلنا جسد واحد شاذون وسحاقيات ومسيحيون.. من أجل المساواة! وواضح من هذه الكلمات أنها اقتباس استخدام مفردات ومعاني ترنيمة "إلى الأمام يا جند المسيح" الشهيرة التي كانت تزحف على أصدائها حملات الفرنجة "الصليبية" المتجه إلى بيت المقدس والشرق في القرنين الحادي عشر والثاني عشر". تداعيات لتهميش الدين: ما الذي جرى حتى تم تخريب الإيمان الديني وتدمير البنية الأخلاقية، والعلاقة بين الأمرين وثيقة وعميقة كما سنرى توًّا....

قبل أن أحاول الإجابة عن السؤال ألفت النظر إلى أمرين هما: - أن هذا التفسخ الحاصل داخل الكنيسة وخارجها لا شأن له بالديانة المسيحية وإنما هو نتاج المنظومات الفكرية السائدة في المجتمعات الغربية، التي تصادف أنها مجتمعات مسيحية. لو أن تلك المنظومات انتشرت في العالم الإسلامي وأخذت مداها الذي يدعو إليه البعض، لأصاب المجتمعات الإسلامية ما أصاب مجتمعات الغرب المسيحي من تصدعات أو انهيارات. - أن هذا التيار المدمر والفاسد يلقى مقاومة من جانب تيارات أخرى في الدول الغربية ذاتها، لا تزال تستميت في الدفاع عن العقيدة والفضيلة والأسرة الطبيعية. وقد رأينا أنه في مقابل احتفال الشاذين الذين أقيم في كنيسة "شاذن" فإن خمسين كنيسة أخرى أقامت صلوات توبة مناهضة لذلك الاحتفال، من ثم فإنه يتعذر الادعاء بأن الصورة التي قدمناها تعبر عن واقع المجتمع الغربي كله، وإنما هي تعكس أحد جوانب ذلك الواقع، التي سلطت عليها الأضواء مؤخرا، بعدما بدا أن مثل تلك الظواهر تتنامى وتتمدد في الفراغ الروحي السائد. نعود إلى سؤالنا: ما الذي جرى؟ رأيي أن ذلك كله من حصاد علمنة المجتمع بما تضمنته من تهميش للأديان وإقصاء مرجعيتها، وإطلاق فلسفة جديدة في العالم الغربي تلغي الغيب وتنصب الإنسان إلها جديدًا، وتعترف بالعقل والمادة والمحسوس، ولا شيء سواها. أدري أن مصطلح العلمانية في عالمنا العربي، موضع الالتباس الشديد، فهناك سذج يربطون بينها وبين العلم، وهناك أناس طيبيون يحصرونها فيما يسمى بالفصل بين الدين والسياسة، وهناك هواة متحذلقون يفصلونها حسب هواهم وما يتمنونه، فيربطون بينها وبين التقدم والحرية والإبداع، وغير ذلك هناك خبثاء يحتمون بالمصطلح لتصيفية حساباتهم الخاصة مع الإيمان والمؤمنين. العلمانية الشاملة غير هذا كله؛ وذلك إذ هي في أصلها وفي تطبيقاتها العلمية الملموسة في المجتمعات الغربية دعوة إلى الإيمان بالإنسان وعقله قبل الإيمان بالله والغيب. وفي مقام سابق قلت: إن كلمة "الدنيوية" هي أدق وأصوب في ترجمة مفهوم مصطلح Secularism وهو الأصل الإنجليزي للكلمة، التي ترجمت علمانية في العربية، والباكستانيون كانوا أصح منا عندما ترجموها في لغتهم الأردية إلى "الدنيوية"! تسعفنا موسوعة الدكتور عبد الوهاب المسيري حول "العلمانية الشاملة" 4 أجزاء وهي تحت الطبع الآن" بمادة غزيرة في الكشف عن حقيقة الدور الذي لعبته

العلمانية في المصير الذي تعاني منه المجتمعات الغربية عامة بما فيها المجتمع البريطاني الذي نتحدث عنه. هو ينطلق من أن العلمانية رؤية مادية للكون تهتك القداسة، ولا تعترف بالغيب، ويستعير عبارة الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي التي قال فيها: إن المشروع العلماني الغربي هو نموذج يقوم على نزع الألوهية في العالم، بحيث لا يعبد الإنسان شيئا، ولا حتى ذاته، ومن ثم فإنه لا يجد في الكون أي شيء مقدس ولا رباني، ولا نصف رباني؛ إذ بمقتضاه يظل الإنسان في عالمه المادي، لا يتجاوزه. العلمانية حين تجلت: في أحد مداخل الموسوعة يعتبر الدكتور المسيري النموذج العلماني الغربي مشروعا "تفكيكيا" ينكر الكليات والمطلق وكل أنواع التجاوز. ومن ثم فإنه يؤدي إلى تفكيك الواقع الموضوعي وتفكيك الإنسان. فالإيمان العقلاني المادي بالتقدم يضرب بالضرورة الثوابت والمطلقات، يجعل كل شيء نسبيا، وهو ما يجمع عليه فلاسفة العلمانية، ومنهم الإنجليزي جيريمي ينتام الذي ذهب مثلا إلى أنه لا يوجد مطلقات أخلاقية، وأن سلوكنا الأخلاقي يمكن تفسيره ماديًّا في إطار المنفعة واللذة. داروين وماركس وفرويد عبروا بصياغات متفاوتة عن ذات الفكرة: "رفض الثابت والمطلق والغيب". حين هيمنت هذه الثقافة على المجتمعات الغربية، سادت المرجعية المادية التي لا تعول على الغيب وتؤمن بعقل الإنسان وحده، لم يختلف إنسان العصر الحديث كثيرا عن الإنساني البدائي أو الوثني. وهذا التشابه تحدث عنه الفيلسوف الألماني ماكس فيبر، فقال: إن كليهما يفتقر إلى إطار مرجعي معرفي وأخلاقي متكامل ومتماسك يكتب تكامله في عقيدة دينية ثابتة وكل منهما يعيش في عالم يفتقد إلى المركز، ويتسم بتعدد العقائد والنظم العرفية والأخلاقية، لذلك فالإنسان الوثني البدائي الذي كان يعيش في عالم مخيف يتهدده من كل جانب، وجد نفسه محاطا بآلهة وشياطين متصارعة لصيقة بعالمه المادي، ولأن إدراكه الخاص أو عقيدته الدينية البسيطة التي تلبسته كانت عاجزة عن أن تجيب عن أية أسئلة كلية، باعتبار أنها لا تقدم رؤية كونية شاملة، فإن أقصى ما استطاعت عقيدته أن تفعله أنها كانت تهدئ من روعه قليلا وبشكل مؤقت، شريطة أن يذهب إلى الساحر لكي يزوده بالتعويذة اللازمة لهذه المناسبة، ثم يطالبه بتقديم القرابين والقيام ببعض الطقوس لإلهه الخاص أو إله القبيلة دون أن يكون هناك منطق واضح وراء هذه الأشياء. الإنسان الحديث يفعل نفس الشيء بعد أن تمت علمنته، فبعد أن عزف عن

الديانات الشاملة التي تؤمن بإله واحد للكون، فإنه راح يبحث عن ديانة تستهويه وتشبع أشواقه الروحية، ومن ثم فإنه اتجه إلى انتقاد التعاليم والطقوس التي تعجبه دون أن تحمله أية أعباء أخلاقية بكلام آخر فإنه حين تمت علمنته لم يعد يبحث عن الإله في السماء، ووجد نفسه يبحث عن آلهة أخرى في الوحل! هذا ما يفسر الوثنيات الجديدة التي ظهرت في بريطانيا وفي عدة دول أوروبية أخرى، التي وصفها أحد مثقفي الكنيسة الإنجيلية بأنها "ديانات العلمانية". الانفلات العقيدي استصحب ذلك الانفلات الأخلاقي الذي يعد الشذوذ الجنسي أحد أبرز تجلياته، وهذا وذلك من إفرازات العلمنة وتداعياتها الضرورية، وفي الموسوعة التي نتحدث عنها معالجة مستفيضة لمفرادات العلمنة وتعبيراتها المجازية، ومن عنواينها التي تعنينا في السياق الراهن ما يشير إلى الجسد والجنس كتعبيرات أساسية عن السلوك العلماني؛ إذ حين يصبح الإنسان هو المركز، ويصبح كل شيء كامنا فيه، فإن الإنسان يختزل إلى جسده، ويختزل جسده إلى نشاطه الجنسي، وهو ما أدركه واحد من أهم فلاسفة العلمانيين، آرثر شوبنهاور "القرن 19"، الذي أدرك في وقت مبكر أن الجسد والجنس هما التعبير المجازي عن العلمانية الأساسية، ففرويد عبر عن ذات الفكر حيث فسر السلوك الإنساني منطلقا من مركزيته معتبرا أنه جسد محض ودوافعه جسدية وجنسية. أيضا ينبه الدكتور المسيري في الموسوعة إلى ارتباط الحضارة العلمانية بالمنفعة المادية واللذة أدى إلى تعظيم دور الجسد والجنس، وفي رأيه أن الجسد هو التعبير المجازي عن عصر الحداثة، وأن الجنس هو التعبير المجازي عن عصر ما بعد الحداثة، وهو يعزز هذا الرأي باستشهادات من أقوال كبار الفلاسفة الغربيين مثل فوكو وليوتار وغيرهما.. هذه التداعيات تهمنا للغاية؛ لسبب جوهري هو أن بعض العلمانيين في بلادنا العربية اتجهوا خلال السنوات الأخيرة إلى محاولة هتك المقدس وتفكيك الإيمان الديني، من خلال العبث بالنصوص والزعم بأنها تاريخية "صلحت لمرحلة ولا تصلح لأخرى". فضلا عن أننا صرنا نطالع شعارات من قبيل "تجفيف الينابيع" تصب كلها في ذات اتجاه حصار الدين وتفكيك الإيمان. وهذه الدعوات تمثل لعبًا بالنار لا ريب وتقودنا إلى مآلات مدمرة للدنيا والدين معا. أما ما هي تلك المآلات، فإنك ستراها بوضوح تعرفها جيدًا، إذا قرأت المقال مرة أخرى.

تصدير عبارة "الدين أفيون الشعوب"

4- تصدير عبارة "الدين أفيون الشعوب" وحجب نور الإسلام عن أهل الغرب: قائل هذه العبارة هو كارل ماركس؛ فإن السبب الذي قال من أجله: "إن الدين أفيون الشعوب" يرجع إلى الظلم الذي كان يعانيه الفلاحون في روسيا وأوربة من الإقطاعيين حيث كان الألوف من الفلاحين يموتون جوعا كل عام ويموت الملايين من النساء بالسل وغيره من الأمراض بينما يعيش الإقطاعيون في ترف ويتمتعون بكل ألوان المتاع، وكانت روسيا في هذا الوقت مسيحية، وكان رجال الدين ينصحون الناس بالتذرع بالصبر ويقولون: "لا تقاوموا الشر.. بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضا، ومن أخذك رداءك فاترك له الثوب أيضا"1. وراحوا من ثم يصرفونهم عن إحساسهم بالألم ويمنونهم بنعيم الآخرة الذي أُعد للصابرين على الظلم والراضين عن الشقاء مرغبين ومرهبين فمن عصى سيده الإقطاعي فقد عصى الله والكنيسة، ولقد كانت الكنيسة لونا من ألوان الإقطاع ذاته؛ إذ كان لها ملايين الرقيق الذين تستعبدهم في أرضها لحسابها الخاص، ولهذا كان وقوف الكنيسة إلى جانب القيصر والأشراف ضد الشعب المكافح أمرا طبيعيا، فإن لم يفلح الترغيب ولا الترهيب كانت العقوبات توقع على المتمردين على نفوذ الكنيسة باسم الخروج عن الدين والإلحاد بآيات الله.. ولهذا قال كارل ماركس آنذاك بسبب هذه الملابسات الخاصة: "إن الدين أفيون الشعوب"؛ لأن الدين هناك كان عدوًّا حقيقيًّا للشعب ولحقوقه، وكانت قولته تلك صادقة في موضعها، ولكن ضفادع الشيوعية في الشرق الإسلامي تنق بها هنا وراءه أيضا ويسحبونها على الإسلام، وليس في هذا شيء من الصدق أو الحق، وحجتهم في سحب هذه المقولة على الإسلام أن

_ 1 إنجيل متى: الآيات من 38-41.

"رجال الدين" الإسلامي المحترفين كانوا يقومون بمثل هذا الدور في استرضاء ذوي السلطان على حساب الكادحين من الشعب وكانوا يمنونهم بالجنة التي أعدت للصابرين؛ ليرضوا عما هم فيه من ظلم وهوان ويدعونهم إلى طاعة أولي الأمر منهم مؤولين آيات القرآن الكريم؛ لتتفق وغايتهم. ثم يخلطون بهذه الحقيقة شبهة مؤادها أن الإسلام نفسه يأمر بهذا الفحش؛ إذ يقول: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} 1، أو حينما يقول: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} 2. ومن ثم فالإسلام عندهم شأنه شأن غيره من الأديان التي تدعم الأمة الإقطاعية والرأسمالية أفيون يخدر الكادحين3 بل وتعاليمه نفسها تأمر بهذا الغبن والاستغلال! {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} . ونحن لا ندافع هنا عن سلوك رجال الدين الذين أساءوا إلى الإسلام وإنما نفرق فحسب بين أن يكون سلوكهم هذا بإيحاء من الدين أو أنه فسوق منهم عن أمر الدين. فالذي لا شك فيه أنه فسوق منهم عن أوامر الدين متاجرة به، وهم لا يختلفون في ذلك عن كثير من الشعراء والكتاب والإعلاميين الذين عفروا جباههم بالتراب، ومرغوا الثقافة الفنون في الوحل من أجل متاع حرام، وإن كان "رجال الدين" أفدح جرما؛ لأن كتاب الله بين أيديهم وهم يشترون به وبآياته ثمنًا قليلًا. والذي نريد أن نؤكده أن ليس في الإسلام رجال دين ولا كهنوت، وأن ما يقوله من يسمون أنفسهم برجال

_ 1 سورة النساء: آية 32. 2 سورة طه: آية 131. 3 د/ النعمان عبد المجيد القاضي، الإسلام عقيدة حياة ص71.

الدين ليس بحجة على الإسلام وأن ما يرتكبه من فسوق لا يحسب عليه، أما عن أن الدين يأمر بمثل هذا التفاوت الذي يثبتونه من الآيتين السابقتين فهو نتيجة لسوء الفهم والقول في القرآن بغير علم، فإن المفسرين يقولون أن قوله تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} إنما نزل في امرأة قالت: لماذا يختص الرجال بالجهاد في سبيل الله وتحرم من ذلك النساء؟ فضلا عن أن المعنى المطلق للآية نهي عن التمني الفارغ مع القعود عن العمل، ويجدر أن نلتفت إلى استعمال الفعل "يتمنى" فهو يقال ويراد به ما لا سبيل إلى تحقيقه من الأمور المستحيلة أو العسيرة، وليس أكثر عسرًا من الاكتفاء بالحلم دون عمل، فهو إحساس منحرف يؤدي إلى الحسد والبغضاء، فالآية إذن دعوة عامة إلى الناس أن يعملوا ما ينالون به الفضل في إنتاج عملي يفيد منه المجموع، بدلا من التمني مع القعود. أما قوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} فهو نهي للناس عن أن تستبد بهم شهوات الأرض فتشغلهم عن مهمتهم في الجهاد في سبيل الله وإحقاق الحق ورفع الظلم وحماية المستضعفين وكل أنواع الجهاد هذه تَحْرِم من ينهض بأعبائها من كثير من المتاع الدنيوي، ولكن الله يجزيهم عنه في الآخرة ما هو أبقى وأفضل، وهي تفاسير قديمة من قبل الشيوعية وضفادعها بألف عام، ولم تستحدث من أجلهم. ومع ذلك فحتى لو افترضنا جدلا أن هذه الآيات وأشباهها تدعو المسلمين إلى الرضى بالواقع وعدم التطلع إلى ما بأيدي الآخرين فليس في هذه الدعوة بأس طالما كان الإسلام نفسه الذي يدعو إلى هذا يدعو في نفس الوقت الأغنياء ألا يستأثروا بأموالهم دون إنفاقها في سبيل الله، ويهددهم بما ينالهم من العقاب في الآخرة على هذه الأثرة البغيضة؛ لتتعادل كفتا الميزان؛ إنفاق من جانب لحق معلوم في أموال الأغنياء، واحتفاظ بالكرمة عن ذل

التطلع وبنظافة النفس من الحقد الأسود في جانب آخر؛ ليعيش المجتمع في سلام يتفق وتعاليم الإسلام، أما حين ينكل الأغنياء عن واجبهم في تحمل تكاليف فريضة المجموع فإن الإسلام يأمر بالكثير الذي يمكن عمله.. يأمر بعدم الرضوخ للظلم بل يرى الرضى به جريمة فظيعة سيئة المصير في الدنيا والآخرة {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا، إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا، فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} 1. ومما يأمر به الإسلام في هذا المقام ألا يكن المال "دولة بين الأغنياء"، كما يأمر بأن تكفل الدولة رعاياها بكل الطرق الممكنة كما مر بنا عن طريق إيجاد عمل يكفل له حياة كريمة أو ضمانات إعاشته إذا عجز عن العمل، فلو صح أن غاية الآيتين الكريمتين أن يقعد الناس عن مكافحة الظلم الاجتماعي لكانت النتيجة أن تتكدس الأموال في يد فئة خاصة من الناس يتداولونها حكرًا فيما بينهم يَحرمون منها المجموع كما يحدث في الإقطاع والرأسمالية، وذلك ينكره الإسلام؛ لأنه مخالف لقوله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ} 2. ولو تأملنا نظرة الإسلام لهؤلاء الذين يكدسون الأموال ويحبسونها عن المحتاجين أو يغرقون أنفسهم في الترف لرأيناها نظرة احتقار وتوعد؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} 3.

_ 1 سورة النساء: آية 97-99. 2 سورة الحشر: آية 7. 3 سورة التوبة: آية 34.

وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} 1. وقال: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} 2. وقال {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ، فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ، إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} 3. فالسكوت عن محاربة الظلم الاجتماعي يؤدي إلى منكر، والإسلام لا يدعو إلى منكر والله يقول عن بني إسرائيل إنهم ملعنون؛ لأنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه. والرسول يقول: "من رأى منكم منكرا فليغيره". وقد أمر الإسلام بتغيير المنكر باليد واللسان والقلب فمن حق الحاكم أن يصادر من الأموال ما يراه لازما لحاجة المجموع، وهو يرى الحاكم الذي يسكت عن مغالبة الظلم الاجتماعي وقهره أو ينتسبب في استمراره واستشرائه حاكما جائرا تجب مقاومته جهادا في سبيل الله، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أفضل الجهاد عند الله كلمة حق عند إمام جائر" 4. لقد قدم الإسلام للبشرية منهاجا متكاملا للفكر والحياة والمجتمع والحضارة وهو منهج تطبيقي عملي وليس منهاجا نظريا أو مثاليا، وهذا المنهج هو السنة، والسنة مستمدة من القرآن، وقد سئلت السيدة عائشة عن خلق النبي

_ 1 سورة سبأ: آية 34. 2 سورة الإسراء: آية 16. 3 سورة الواقعة: آية 41- 45. 4 د/ النعمان عبد المجيد القاضي: الإسلام عقيدة وحياة صـ74.

صلى الله عليه وسلم فقالت: "كان خلقه القرآن". والقرآن فيه كل ما يحتاجه البشر من الهداية؛ لأنه لم يختص بأمة العرب فحسب وإنما هو يشمل كل أمور الحياة للناس جميعا؛ لقوله عز من قائل: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} فليس الإسلام دين أمة العرب، ولا دين طبقة خاصة بذاتها ولكنه دين الإنسانية كلها. وعلى هذا فإن القرآن دعوة عالمية تعمل على جمع الناس على منهج واحد يتمثل في توحيد الله عز وجل وتنفيذ ما أمره به والكف عما نهى عنه، ولكن أعداء الله في كل مجتمع يحجبون هذه الحقيقة عن الناس ويشغلونهم عنها بالترويج لمعتقداتهم الفاسدة الصارفة عن التوحيد وعن معرفة الحلال والحرام في العلاقات الإنسانية والتصرفات الدينوية. ونستدل على حجب نور الإسلام عن الأوربيين من كلام المفكر الفرنسي موريس بوكاي الذي يقول فيه1: "ولا مفر من الاعتراف بأن هذه التعاليم الإسلامية مجهولة على العموم في بلادنا الغربية، وقد يعجب البعض من هذا، ولكن سرعان ما يزول ذلك إذا ذكرنا الطريقة التي لقن بها العديد من الأجيال قضايا الإنسانية الدينية، والجهالة التي تُركوا فيها تجاه كل ما يخص الإسلام. أليس هدف إطلاق التسميات "الدين المحمدي" و"المحمديين" حتى في أيامنا هذه غرس الاعتقاد الخاطئ في الأذهان بأنها تتعلق بعقائد منتشرة بفعل الإنسان، وليس لله فيها "في مفهوم المسيحيين" أي مكان. وأن كثيرا من مثقفينا المعاصرين يعنون بمقومات الإسلام الفلسفية والاجتماعية والسياسية ولا يتساءولون كما

_ 1 موريس بوكاي: التوارة والإنجيل والقرآن والعلم، ترجمة نخبة من الدعاة. دار الكندي. بيروت. الطبعة الأولى 1398هـ - 1987م "من المقدمة".

هو واحب عن ماهية الوحي الإسلامي؛ لأنهم يطرحون -كقاعدة ثابتة- استناد محمد علي ما سبقه؛ ليبعدوا بهذه الطريقة عن الذهن كل اتصال له بمسألة الوحي بالذات. وإلى جانب هذا، أي ازدراء لم يجابه به المسلمون في بعض الأوساط المسيحية؟ لقد لمست ذلك عندما حاولت عقد حوار للمقابلة بين نصوص توراتية ونصوص قرآنية تتناول موضوعا واحدًا، ولاحظت الرفض المبدئي لمجرد اعتبار ما يتضمنه القرآن في الموضوع المطروح، كما لو كان الاستشهاد بالقرآن بمثابة انتماء إلى الشيطان!. كما نستدل على تشويه صورة الإسلام في الغرب من الحوار الذي أجراه بعض الصحفيين مع الدكتور الألماني مراد هوفمان حين سأله عن هذا المعنى، وعن المضايقات التي يتعرض لها المسلمون اليوم في أوربا، قال هوفمان"1: "هناك بالفعل مضايقات تجاه المسلمين في أوروبا، وتشويه للإسلام؟؛ لأسباب بعضها تاريخية تمتد على فترة الحروب الصليبية وتبعاتها، والعلاقات بين الدولة العثمانية

_ 1 المفكر والسفير الألماني السابق د. مراد فوفمان: كرمته مصر خلال الاحتفال بالمولد النبوي الشريف في الأسبوع الماضي حيث منحه الرئيس حسني مبارك وساما؛ لجهوده المتميزة في خدمة الفكر الإسلامي الصحيح. وللدبلوماسي الألماني الذي عكف على دراسة الإسلام عدة سنوات رؤية ثاقبة حول حال الأمة الإسلامية اليوم والقضايا التي تواجهها.. وفي هذا الحور معه تتطرق إلى عدد من هذه القضايا، وبخاصة تشويه صورة الإسلام في الغرب، والمضايقات التي يتعرض لها المسلمون في أوروبا وآفاق الحوار والتعاون بين الأديان، خاصة أن أحدث دراسة صدرت له باللغة العربية كانت بعنوان "الإسلام عام 2000". والدكتور هوفمان ولد في ألمانيا عام 1931، حصل على الدكتوراه من جامعة ميونخ عام 1957، كما حصل على الماجستير في القانون من جامعة هارفارد عام 1960، والتحق

أوروبا وما سمي بالاستعمار التركي لبعض المناطق الأوربية. كما أن جزءا من أسباب المشكلة يرجع إلى المسلمين أنفسهم؛ فبعض الأئمة الذين ترسلهم الحكومات للعمل في المراكز الإسلامية بالغرب ليسوا على المستوى اللائق، وبعضهم يتحدث عن الإسلام بطريقة منفردة، فمثلا ذكر أحد هؤلاء الأئمة أن الإسلام والديقراطية لا يجتمعان! ولكن هذه المضايقات تتم أيضا تجاه الأجانب بصفة عامة، فالتيار ليس ضد الإسلام، وإنما ضد العناصر الأجنبية، والألمان على سبيل المثال لا يرضون بوجود أكثر من 15% من الأجانب وبعض الأوروبيين يخشون على ثقافتهم من تأثير الوجود الأجنبي، ففي فرنسا يشير البعض إلى أن أكثر اسم يطلق على الأطفال المولودين هو اسم "محمد" أي أن هناك قلقًا من جزء غير قليل من الناس ينتمون إلى هوية أخرى. ويؤكد أن ما يتعرض له الإسلام إنما يأتي في أحيان كثيرة من بعض الاتجاهات السياسية التي تتحدث بشكل غير عادل عن الإسلام، فعلى سبيل المثال تعرضت كاتبة ألمانية كبيرة هي الدكتورة شميل لهجوم عنيف في وسائل الإعلام الألمانية بسبب موقفها الرافض لرواية آيات شيطانية، وهذا الاضطهاد الذي تعرضت له كان لأسباب سياسية وليس لأسباب دينية. ويرى محدثنا أن العبء الأساسي في الدعوة إلى التسامح يقع على عاتق كل مسجد والكنيسة؛ لأن الاتجاهات العامة لدى بعض الناس قد تكون أميل إلى رفض الآخر، في حين أن التدين الحقيقي هو الذي يؤكد على قيمة التسامح، ويضيف: لقد وجدت في القرآن شيئا غير عادي لم أره في أي ديانة أخرى؛ وهو الإشارة إلى التعددية الدينية، والتعددية الحضارية: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} فالقرآن الكريم يعطي للديانات الأخرى ضمانا دستوريا، ومن ثم فليس الهدف هو تحويل العالم إلى عالم إسلامي وإنما إلى عام مؤمن بالله وحده لا شريك له. وحول رؤيته لمستقبل الإسلام يقول: إن كل المؤشرات تؤكد أن الإسلام في تقدم مستمر ولا يتوقع أحد أن يختفي الإسلام في المستقبل، وإنما يمتد بل وينفجر، فيضع جنرالات الناتو في حسبانهم أن أكثر الموجهات العسكرية المحتمل حدوثها في

المستقبل ستكون بين الشمال والجنوب على أساس أن الإسلام هو العدو المرتقب. ويؤكد أن الصراع في المستقبل لن يكون بين المسلمين والمسيحيين أو بين المسيحيين واليهود، إنما بين الأقلية التي تؤمن بالله، المسلمين لله بالمعنى الأصلي للكلمة، والأكثرية التي أصبحت لا تستريح لفكرة الله، أي الناس الذين تنحصر عندهم الحقيقة في حواسهم الخمسة، والذين يرون أن الدين خرافات أو خداع للنفس. وينبه إلى أن العالم الإسلامي إذا لم يرد أن يعيش في مثل هذه الثقافة الواحدة فعليه أن يبذل جهدا هائلا؛ ليحقق "إسلام القرن الـ21"؛ حيث تصبح كلمة الله قانونا وتزدهر ثانيا حضارة الإسلام لإيجاد عالم يستخدم في المسلمون التكنولوجيا بعد تهذيبها من اللإنسانية، عالم يصعد فيه المدح والثناء للواحد الأحد ولا يستبد فيه الاقتصاد والحصول على أقصى ربح. وإنما تتحكم فيه متطلبات البشرية المادية والعاطفية والروحية. هذا يتطلب إعادة تأسيس الفكرة الإسلامية لكي عود المسلمون بالميلاد مسلمين بالإيمان والفعل. وينبه إلى ضرورة تحقيق الإصلاح في العالم الإسلامي في عدة مجالات من أبرزها التعليم والتكنولوجيا على أساس أن مستقبل الأمة الإسلامية يصنع في هذين المجالين، وإزالة سوء الفهم عن وضع المرأة في الإسلام، وأيضا منحها الحقوق التي قررها لها الإسلام، وتوضيح حقوق الإنسان في الإسلام بأسلوب يفهمه الآخرون وتنقية العقيدة من الخرافات"1.

_ 1 الأهرام -ملحق الجمعة ص11 حوار أجراء محمد يونس- بتاريخ 16/8/1996م.

تصدير السفور واختلاط الجنسين

5- تصدير السفور واختلاط الجنسين: تعتمد تقاليد الغرب الحديثة على: 1- التسوية المطلقة بين الرجل والمرأة في المكانة الأدبية والمادية. 2- إقامة المجتمع على الاختلاط التام وترك المرأة تتقلب فيه حيث تشاء. 3- النظر إلى الناحية الجنسية على ضوء الاستقلال الجنسي والتصرف الطبيعي. ولهذه التقاليد الغربية عشاق يدعون إليها، وقد بدأ مجتمعنا ينساق نحوها، أو قل ينحدر إليها"1. وقد أدى ذلك إلى ظهور الانحلال الخلقي في المجتمع. ومن العوامل التي أدت إلى التحلل الخلقي، واستمرار هذا الانحلال الأدب المنحل، والسينما والمسرح بما يعرض فيهما من الفحش، وانتشار الفيديو، وأفلامه الخاصة، وكذلك التليفزيون في بعض برامجه حتى أن دولة كبرى تعرض فيها قناة خاصة تعمل 24 ساعة لطالبيها باشتراك خاص، وتقدم لهم ذاك المستوى الهابط الذي يراه المراء في بعض الحيوانات التي لا تعقل! ويضاف إلى ذلك ما أثارته نظرية التطور والنشوء والارتقاء لدراون، ونظرية الجنس لفرويد الذي يفسر كل حركة في الكون على أن مردها الجنس حتى رضاعة الطفل يفسرها كذلك!! وبهذا المنهج الذي أشيع في كثير من دول العالم حقر من شأن الإنسان ومن أصله الحيواني تارة، ومن دوافعه الجنسية، ووحله فيها تارة أخرى. لقد أدى هذا كله ثمرته الخبيثة، وحصاده المر، فضلا عن خروج المرأة

_ 1 الشيخ محمد الغزالي، من هنا نعلم ص142.

عارية أو شبه عارية وأقامة الأسواق "لجمالها" كأسواق النخاسة سواء بسواء!! وأصبحت المرأة التي كرمها الله -عز وجل- وسيلة إعلان ورواج للتجارة والمال، والبيع والشراء! فإذا أضيف إلى هذا وهن العقيدة وضعف الأخلاق، وفتور الحاسة الدينية وجفاف العطاء المتجدد لديانتهم وعدم تلبيتها ومواءمتها لحياتهم رأينا إلى أي حد هيجت الغريزة، وألهبت نيران الشهوة، وحطمت الأخلاق، وانهارت الأسرة، وانتشر الزنا، والخنا، وإدمان المخدارات1. أما الغيرة والنخوة فلا تكاد تذكر؛ يرى الرجل زوجته أو ابنته مع صديق لهما يخرجان باستئذانه، وقد يكون أمام محفل لأصدقائه فيأذن مرحِّبًا مشجِّعًا!! ويبدو أن تلك الهرمونات التي فرزها الخنزير -وهو الحيوان الذي لا يغار على أنثاه- تنتقل بدورها إلى آكليها؛ لتصيبهم بالبرود وعدم الغيرة أو الحمية على أهلهم وذويهم كما يقول علماء الطب1. إن واقع الحال يقول: إن المرأة الغربية في تعاسة وبؤس؛ لأن الفواحش قد طغت في المجتمع الغربي طغيانا لا حد له، طغيانا ضاعت فيه الأنساب، وكثرت فيه العقد والاضطرابات النفسية. "إن للانحلال الخلقي في المجتمعات غير الإسلامية عوامل عديدة أدت إليه، من بينها تلك الثورة الصناعية الكبيرة التي قلبت الموازين في عالم الناس،

_ 1 د/ عبد البديع عبد العزيز الخولي، مقال بعنوان: من الأخطار التي تهدد مجتمعات المسلمين الانحلال الخلقي في المجتمعات الأخرى، ومن كتاب: الدراسات الدينية الإسلامية برنامج تأهيل معلمي المرحلة الابتدئية للمستوى الجامعي "مقرر 202" ص249. 2 المصدرالسابق نفسه.

الأشياء، وهذه الدعوة المستمرة إلى المساواة "الكاملة" بين الرجل والمرأة التي أدت إلى إخراج المرأة من بيتها؛ ليكون لها وظيفتان في المجتمع، في الأسرة كشريكة ندا لند، وفي المجتمع كعضو عامل فيه، وكثيرا ما يطغى أحدهما على الآخر فيعضفه أو يغنيه، وقد كان لهذا الخروج والاختلاط بالرجال أثر كبير وفعال في الانحلال الخلقي، وبخاصة أنه واكب هذه الدعوات إلى المساواة والاختلاط دعوى أخرى إلى أن للمرأة الحرية المطلقة في جسدها تتصرف فيه كما تتصرف في رأيها ولون ثيابها سواء بسواء!! أنه كشربها لفنجان قهوة كما قالت إحدى نساء الشرق في مجلة نسائية. وقد كان لهذه الدعوات أثر كبير في تفكك الأسرة وتمزقها الذي أدى بدوره إلى مزيد من الإشباع الجنسي المحرم، وكان من أثر هذا العمل المزدوج للمرأة أنه تحولت العلاقات الأسرية في المنزل إلى مجرد علاقات بين عضوين في مؤسسة لا أكثر وأقل. ولقد حدث التباس وخلط نتيجة هذا الدور المزدوج في الأسرة والمجتمع، وقد زاد من تفكك الأسرة وانهيارها في الغرب العامل الاقتصادي الذي دفعها إلى التطلع إلى مستوى من الرفاهية وتحقيق الكماليات دون اعتبار للقيم أو الأخلاق أو المثل العليا اللهم إلا في بعض الأسر القليلة، وإنما تقاس الأسرة عندهم بما تملك من أجهزة وأثاث وأرصدة ودواب ميكانيكة"1. ونحن في بلادنا العربية والإسلامية يمنعنا ديننا الحنيف من امتهان المرأة، ويأمرنا بالمحافظة عليها على نضارتها وعلى طهارتها وعلى صيانتها من كل سوء، وهي في منهج هذا الدين من أهم أركان المجتمع؛ إذ يسند إليها أخطر

_ 1 المصدر السابق ص250.

الصناعات وأجلها، هي صناعة الرجال، وقد رسم الإسلام للمرأة علاقتها بالمجتمع وبين لها طريق الحلال والحرام عند إقامة هذه العلاقة، ولكن المفسدين الماديين يطمسون نور الحق بتدليسهم على النساء ويروجون الفوضى والفساد فيهونون من أمر الاحتشام والاحترام، ويسمحون لخروج المرأة على غير ما أمر الدين دعا إليه الشرع. ونجد في هذا العصر بعض الذين تأثروا بالثقافات الأجنبية ينادون بتبطيق الاختلاط بين المرأة والرجل والفتاة والشاب مدعين أن لهذا الاختلاط منافع كثيرة، منها حل لغز المرأة في حياة الرجل، وتحقيق حسن المعاشرة بين الجنسين وإثارة التنافس بينهما، والائتناس بينهما، وسكون كل منهما للآخر، وهم في ذلك إنما يدعون إلى المحرمات، فتكون نتيجة هذا الاختلاط الإفضاء الجنسي المحرم الذي يزين الفاحشة ويعزي بها، وتكون المرأة في النهاية هي الضحية. إنك تجد الدعوة لهذا الاختلاط تكفَّل بها أناس كثيرون من الكتاب والمفكرين والإذاعيين والإعلاميين ممن ثارت عقولهم ونفوسهم بالثقافات الأجنبية التي لا يحكمها دين ولا تنظمها شريعة، فالجرائد والمجلات والكتب تعرض أمام أعين الناس دعاوى أولئك المفسدين بالإضافة إلى الإذاعة والتلفيزيون اللذين يملآن أعين وآذان الناس بأصوات الفنانين والفنانات ومسلسلات الكذب والبهتان التي تدعو الناس إلى قبول الاختلاط كما تعمل على تهيئة النفوس لاعتباره شيئا طبيعا لا غبار عليه1. ولا تزال تأتينا من جانب الغرب رياح الفتن والضلال، فتهيج في بلادنا نفوس كثير من النساء اللاتي يطالبن بأشياء ليست من حقوق المرأة بل هي من عقوق المرأة، ويساند هؤلاء النسوة اللائي يطعمن في المزيد من الوظائف

_ 1 الشيخ محمد الغزالي، من هنا نعلم ص159.

والمطامع أسوة بالمرأة الأجنبية في أوربة وفي أمريكا رجال في مختلف مواقع المسئولية منهم الكتاب في الصحف وأعضاء المجالس النيابية ممن يسعون إلى الشهرة وركوب الموجة فيطالبون للنساء بوظائف جديدة علاوة على ما اكتسبه من مواقع العمل مزاحمة للرجال، والحقيقة أنهم يقودون المرأة إلى جاهلية حديثة. "إن الإسلام يقرن جريمة الزنا بالشرك ويعدها من أغلظ الآثام، ويغلق الأبواب المفضية إليها بعنف. وكما ينظف المجتمع من مظاهر الوثنية ينظفه من مظاهر الخلاع، فهو يحمي تقاليد الشرف كما يحمي عقيدة التوحيد، على عكس حضارة الغرب فإن بناءها قائم على الكفر والفسوق وقد سلطت اللذة البهيمية تشرِّح بدن المراة تشريحا منكرا، وتفتنُّ في الإغراء بها وسلخها من ثيابها وآدابها، وحشرت المرأة في أعمال مختلفة؛ لتيسر السطو عليها، واعتبرت المخادنة تصرفا عاديا، والمراقصة فعلا مشروعًا، وارتماء المرأة في أحضان أجنبي عنها شيئا لا غبار عليه بل إنها تلام إن نكصت عنه"1. وإلى جانب وسائل الإعلام نجد المدارس لا سيما المدراس الأجنبية التي تعمل على تعميق هذا المفهوم لدى الجنسين من الطلاب، وتبالغ في تأكيد معنى المساواة بين الذكر والأنثى الطالب والطالبة. ولعل من أهم مساوئ الاختلاط هدم كيان المرأة والتقليل من شأن الرجل، مما يكون له أبلغ الأثر في تكوين الأسرة في مجتمعنا الإسلامي المعاصر، وعلى أخلاقيات الناس من الجنسين. كما أن الدعوة إلى الاختلاط تمتد إلى الجانب الاقتصادي، فترفع من نسبة الاستهلاك للمواد الكمالية المتمثلة في مواد الزينة للنساء؛ لأن المرأة تريد

_ 1 المرجع السابق ص160.

أن تظهر زينتها في مجتمع الاختلاط، وتسرف في استعمال مواد الزينة المختلفة والثياب وغير ذلك من الأشياء التي تعمل على حسن المنظر وبهجة المظهرة، ومن ذلك أيضا ما ينفقه الرجل هو الآخر على أناقته وحسن مظهره، وطلب آخر صيحة في مجال الحلل وملابس الرجال، مما يرهق الأسر، ويرهق اقتصاد الدولة كله نتيجة هذا السرف والمبالغة في إبداء الزنية وحسن المظهر. إننا نجد في مجتمع الجامعة مثلا أن عدد الموظفات في إدارة الجامعة بالنسبة إلى عدد الموظفين ربما يزيد إلى الضعف، نجد المرأة فيه تزاحم الرجل والاختلاط في الجلوس على المكاتب من الأمور الطبيعية جدًّا، وقد تفوح روائح أصناف العطور المختلفة المنبعثة من النساء، وكأنهن لا يعملن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل عين زانية، والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا". "يعني زانية" 1. كما ورد في الخبر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما امرأة ستعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية، وكل عين زانية" 2. أما في مجال التعليم فنجد الاختلاط بين الجنسين في الجامعة كأنه صار سنة متبعة، وكان الاختلاط في بدء الأمر فيه احتشام وفيه احترام، لكن مع طول العهد ومرور الأعوام، ومع فعل المسلسلات الإذاعية والإعلام الفاسد تخلت الطالبات -في الأغلب- عن الاحتشام، وصرن يحرصن على لقاء الشباب، ولم يعد هناك غض للأبصار ولا احترام للمحرمات، وأصبح حرم الجامعة مباحا للقاء الجنسين، واستئناس كل منهما بالآخر، ولا نجد في ذلك غضاضة من

_ 1 الترمذي، الجامع الصحيح، ج5، ص106 الحديث رقم 2786. 2 النسائي، سنن النسائي ج8 ص153 طبعة دار القلم ببيروت.

أحد وإنه لشيء ينذر بالسوء ويؤذن بوقوع الكوارث والنكبات. وبسبب الاختلاط تشبهت البنات بالبنين، وتشبه الفتيان بالفتيات، حتى إنه يصعب على الرائي في بعض الأحيان أن يميز بين الذكر والأنثى في زحام الطلبة والطالبات؛ لتشابه الجنسين في الملبس، كما قد نجد أيضا التفنن في ارتداء الأزياء الصارخة في الإثارة، والتي كثيرا ما تبرز مفاتن البنت أو تصف ما تحتها. وقد حرم الإسلام على المرأة أن تلبس من الثياب ما يصفُ وما يشفُّ عما تحته من الجسد، ومثله ما يحدد أجزاء البدن، وبخاصة مواضع الفتنة منه، كالثديين والخصر والردف نحوها1. وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس -"إشارة إلى الحكام الظلمة أعداء الشعوب"- ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا" 2. وإنما جعلن "كاسيات" لأن الثياب عليهن، ومع هذا فهن "عاريات" لأن ثيابهم لا تؤدي وظيفة الستر؛ لرقتها وشفافيتها، فتصف ما تحتها، كأكثر ملابس النساء في هذا العصر. والبخت نوع من الإبل، عظام الأسنمة، شبه رؤوسهن بها؛ لما يرفعن من شعورهن على أوساط رءوسهن، وكأنه -صلى الله عليه وسلم- كان

_ 1 د/ يوسف القرضاوي" الحلال والحرام ص84. 2 رواه مسلم: باب النساء الكاسيات العاريات، ج6 ص186 طبعة دار الجيل ببيروت.

ينظر من وراء الغيب إلى هذا الزمان الذي أصبح فيه لتصفيف شعور النساء وتجميلها تنويع أشكالها محلات خاصة "كوافير" يشرف عليه غالبا الرجال يتقاضون على عملهم أبهظ الأجور، وليس ذلك فحسب، فكثير من النساء لا يكتفين بما وهبهن الله من شعر طبيعي، فيلجأن إلى شراء شعر صناعي تصله المرأة بشعرها؛ ليبدو أكثر نعومة، ولمعانًا، وجمالًا. ولتكون هي أكثر جاذبية وإغراء. والعجيب في أمر هذا الحديث أنه ربط بين الاستبداد السياسي والانحلال الخلقي، وهذا ما يصدقه الواقع، فإن المستبدين يشغلون الشعوب عادة بما يقوي الشهوات، ويلهي الناس بالمتاع الشخصي عن مراقبة القضايا العامة. تحريم تشبه المرأة بالرجل والرجل بالمرأة: وأعلن النبي صلى الله عليه وسلم أن من المحظور على المرأة أن تلبس لبسة الرجل، ومن المحظور على الرجل أن يلبس لبسة المرأة1، ولعن المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال2. ويدخل في ذلك التشبه في الكلام والحركة والمشية واللبس وغيرها. إن شر ما تصاب به الحياة، وتبتلى به الجماعة، هو الخروج على الفطرة، والفسوق عن أمر الطبيعة، والطبيعة فيها رجل وفيها أمرأة، ولكل منهما خصائصه، فإذا تخنث الرجل، واسترجلت المرأة، فذلك هو الاضطراب والانحلال. وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم ممن لُعنوا في الدنيا والآخرة

_ 1 أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. 2 رواه البخاري وغيره.

وأمنت الملائكة على لعنتهم: "ورجلًا جعله الله ذكرًا فأنث نفسه وتشبه بالنساء، وامرأة جعلها الله أنثى، فتذكرت، وتشبهت بالرجال". وشبابنا من الجنسين -في الأغلب والأعم- لا يعلمون الحلال والحرام في الملابس والمظهر أو أنهم يعلمون لكنهم لا يجدون من يقول لهم: هذا خطأ أو: هذا صواب، فضلا عن غياب القدوة سواء في المنزل أو في المدارس التي تعلموا فيها قبل أن يصلوا إلى رحاب الجامعة، بالإضافة إلى ما يعرضه "التلفاز" من برامج ومسلسلات وإعلانات تدعو إلى هذا الفسق؛ إما صراحة وإما ضمنا، ولهذا شاع أمر الفسوق على أنه عادة العصر والاختلاط على أنه من موجات التطور.

المصادر والمراجع

المصادر والمراجع: أولا: القرآن الكريم: ثانيا: الكتب المؤلفة: - ابن أبي الدنيا؛ عبد الله بن محمد بن عبيد القرشي الأموي "ت208". 2- كتاب العيال، بتحقيق مسعد عبد الحميد السعدني، مكتبة القرآن للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة، 1994. - ابن تيمية: 3- كتاب الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم، بتحقيق أ. د. حمزة النشرتي وآخرين، مكتبة الأهرام، طبعة 1997. - ابن رجب الحنبلي: 4- لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف، نشر دار الدعوة. - ابن سعد؛ محمد كاتب الواقدي: 6- الطبقات الكبرى، دار التحرير بالقاهرة، طبعة 1388هـ، 1986م. - ابن كثير الدمشقي؛ إسماعيل بن كثير القرشي: 7- تفسير القرآن العظيم، مكتبة الدعوة الإسلامية، شباب الأزهر. - أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري: 8- أسباب النزول، الطبعة الثانية، 1387هـ، 1968م، مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر. - أنور الجندي: 9- عالمية الإسلام، مجموعة اقرأ، العدد 426، طبعة دار المعارف، 1977. - البخاري، محمد بن إسماعيل "ت256": 11- الأدب المفرد، مكتبة الآداب بالجماميز، القاهرة، طبعة 1979. 12- صحيح البخاري، طبعة كتاب الشعب.

- الترمذي: 13- الجامع الصحيح، طبعة مصطفى البابي الحلبي، 1976. - الخطابي، أحمد بن محمد البستي "ت275": 14- معالم السنن، نشر المكتبة العلمية ببيروت، لبنا، ط بعة 1401هـ، 1981م. - الخطيب البغدادي، أحمد بن علي بن ثابت "ت463": 15- الكفاية في علم الرواية، بمراجعة عبد الحليم محمد عبد الحليم وعبد الرحمن حسن محمود، طبعة دار الكتب الحديثة، القاهرة، 1972. 16- الفقيه والمتفقه، مطبعة الامتياز بالدرب الأحمر بالقاهرة، طبعة 1977. - السيد سابق: 17- فقه السنة، الطبعة الثانية، 1411هـ، 1990م، دار الفتح للإعلام العربي. - الصابوني؛ محمد علي: 18- صفوة التفاسير، مكتبة الإيمان، المنصورة، 1977. - د. عبد الرحمن عميرة: 19- رجال أنزل الله فيهم قرآنا، المقدمة، دار اللواء للنشر بالرياض، الطبعة الخامسة، 1404هـ، 1984م. د- عبد العزيز كامل: 20- الإسلام والعصر. اقرأ، دار المعارف بمصر، طبعة 1972م. - د. عبد الله ناصح علوان: 21- تربية الأولاد في الإسلام، دار السلام للطباعة والنشر، الطبعة الثلاثون، 1996م. - الغزالي؛ أبو حامد محمد بن محمد "ت505": 22- إحياء علوم الدين، طبعة مصطفى البابي الحلبي، 1358هـ، 1939م. 23- أيها الولد، بتحقيق علي محيي الدين علي القره داغي، دار الاعتصام، طبعة 1983. -فخر الدين الرازي؛ محمد بن عمر بن الحسين "544-604":

24- مفاتيح الغيب، نشر دار الغد العربي، القاهرة، طبعة 1991م. - القرطبي، محمد بن أحمد الأنصاري: 25- تفسير القرطبي، طبعة دار الريان للتراث بالقاهرة، وطبعة دار الكتب المصرية، 1986. - محمد أسعد طلس: 26- التربية والتعليم في الإسلام، طبعة دار العلم للملايين، بيروت، 1975م. - محمد أمين الجندي: 27- مائة قصة وقصة في أنيس الصالحين وسمير المتقين، الناشر مكتبة النجاح. - محمد بن فرحون المالكي: 28- الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، دار الكتب العلمية ببيروت، لبنان. - محمد فريد حجاب: 29- التربية الإسلامية بين العقيدة والأخلاق، مطابع دار الهلال بالقاهرة. - محمد قطب: 30- منهج التربية الإسلامية، دار الشروق، الطبعة الحادية عشرة، 1408هـ 1988م. - محمد مصطفى ضبش: 31- فقه الإسلام في رعاية الأطفال والشباب والمجتمع المسلم، طبعة أولى، 1414هـ، 1994م. - مصطفى محمد حميداتو: 32- عبد الحميد بن باديس وجهوده التربوية، كتاب الأمة، 1418هـ 1979م. - مسلم بن حجاج القشيري: 33- صحيح مسلم، طبع بمطبعة عيسى البابي الحلبي بمصر. - د. مصطفى حلمي: 34- مع المسلمين الأوائل في نظرتهم للحياة والقيم، ونشر دار

الدعوة، الطبعة الثانية، 1049هـ، 1989م. - مصطفى عناني: 35- الوسيط في الأدب العربي وتاريخه، طبعة 1335هـ، 1916م. - النسائي: 36- سنن النسائي، بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي، طبعة دار القلم ببيروت، لبنان، 1415هـ، 1995م. - النسفي؛ عبد الله بن أحمد بن محمود: 37- تفسير النسفي، طبعة عيسى البابي الحلبي. - د. النعمان عبد المجيد القاضي: 38- الإسلام عقيدة وحياة، مجموعة دراسات في الإسلام يصدرها المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، العدد 175. ثالثا: اليوميات والدوريات - الأستاذ/ إبراهيم نافع: 39- مقال، جريدة الأهرام، 6/ 2/ 1997. - أحمد أبو الدهب محمود: 40- مقال بعنوان "الإسلام والتنمية البشرية"، العدد 385، مجلة الوعي الإسلامي، 1418هـ، 1998م. - حسن عزوزي: 41- خصائص التربية الإسلامية، مجلة الوعي الإسلامي، شوال 1417هـ، فبراير 1997م. - د. سعد ظلام: 42- دعامات إسلامية لحقوق الإنسان، مقال منشور بمجلة الأزهر، الجزء الثامن، السنة السبعون، شعبان 1418هـ، ديسمبر 1997م.

- د. عباس محجوب: 44- دراسة نقدية لجوانب القصور، مقال بمجلة الأمة، العدد الثامن والثلاثون، السنة الرابعة، نوفمبر 1983م. - د. عبد الحكم عبد اللطيف الصعيدي: 45- الأسرة المسلمة أسس ومبادئ، مجلة الوعي الإسلامي، 1418هـ، 1998م. - علي عيد: 46- كيف احتفى الإسلام بالطفل، مقال في مجلة رسالة الإسلام، 1417هـ، 1997م. - عمر محمد إبراهيم غانم: 47- من حقوق الجنين في الإسلام، مقال في مجلة الوعي الإسلامي العدد 385، رمضان 1418هـ، ديسمبر 1997م، ص77. - فاروق منصور: 48- مقال بعنوان "المنهج النبوي أساسيات التربية والتعليم"، مجلة التربية، تصدر عن اللجنة الوطنية للتربية والثقافة والعلوم، العدد 81، 1407هـ، 1987م. -محمد توفيق سلام: 49- دواعي تعليم حقوق الإنسان بمراحل التعليم قبل الجامعي، مقال منشور بمجلة التربية والتعليم، المجلد الخامس، العدد العاشر، سبتمبر 1977. - محمد صفوت نور الدين: 50- مجلة التوحيد، العدد التاسع، السنة السادسة والعشرون، 1418هـ. - محمد يونس: 51- جريدة الأهرام 19/ 1/ 1998، مقال بعنوان: "ما السبيل إلى ثقافة إسلامية". - د. موسى محمود أبو حوسة: 52- تصور الغزالي لعملية التنشئة الاجتماعية، مجلة الدراسات العلوم الإنسانية، عمان، الأردن، المجلد الثامن عشر، عدد أكتوبر 1991.

فهرس الموضوعات

فهرس الموضوعات: صفحة المقدمة أب. الفصل الأول: مفهوم التربية الدينية في الإسلام. 3 معنى التربية. 5 تربية الله لعباده. 14 علم التربية والتعليم بدأه رسول الله صلى الله عليه وسلم. 18 علم التربية والتعليم في المدرسة المحمدية. الفصل الثاني: مصادر التربية الإسلامية. 27 أولا: القرآن الكريم. 48 ثانيا: السنة النبوية. 61 ثالثا: هدي الصحابة. 75 رابعا: هدي التابعين ومن اتبعهم بإحسان. الفصل الثالث: منهج الإسلام في التربية. مراحل هذا المنهج. 85 المرحلة الأولى: مرحلة الزواج وتكوين الأسرة. 101 المرحلة الثانية: مرحلة الاستعداد لاستقبال المولود. 105 المرحلة الثالثة: مرحلة الطفولة والصبا. 116 المرحلة الرابعة: مرحلة الشباب الباكر إلى الرجولة. الفصل الرابع: وسائل تطبيق المنهج الإسلامي في التربية. 126 التربية بالتلقين والتعويد. 132 التربية بالقدوة. 137 التربية بشغل الأوقات وتنظيم الأوراد. 142 التربية بالقصة والعظة. 152 التربية بالعقوبة. 156 شبهة حقوق الإنسان التي تنادي بها منظمة اليونسكو. 159 خصائص منهج التربية الإسلامية تقود إلى السيادة وهي: 160 الأصالة. 161 الشمولية والتكامل. 162 الأخلاقية. 164 الواقعية والتطبيق. 164 الثبات والخلود.

صفحة الفصل الخامس: الجهات المسئولة عن التربية: 167 مسئولية التربية: 168 أولا: الأسرة. 168 تعويد الطفل الخصال الكريمة. 170 تجنيب الطفل العادات السيئة. 171 حال الأسرة المسلمة في عصرنا الحاضر. 172 ثانيا: المدرسة: 174 المدرسة هي البيت الثاني. 175 ضعف المناهج. 175 مشكلة التعليم المعاصر. 178 معنى العلم في الإسلام. 179 حل مشكلة التعليم. 181 ثالثا: المسجد: 182 رسالة المسجد في التربية والتعليم. 184 رابعا: المجتمع. 184 عناية الشريعة بالتشريع الاجتماعي. 184 المجتمع المسلم ضرورة لازمة للتربية. 187 صورة القاد في حياتنا الاجتماعية. 189 خاتمة البحث. ملحق مضاف إلى البحث: فصل في الاخطار التي تتهدد المجتمع الإسلامي في الأخلاق العادات والتقاليد. 196 تصدير المنرات إلى بلاد المسلمين: 196 1- تصدير العقائد الزائغةوتأليه الدولة. 197 2- تصدير التغريب، والترويج لكلمة الرجعية. 203 3- تصدير العلمانية. 217 4- تصدير عبارة "الدين أفيون الشعوب". 226 5- تصدير السفور واختلاط الجنسين. 235 المصادر والمراجع. 240 فهرس الموضوعات.

§1/1