من روائع القرآن

رمضان البوطي

مقدمة

مقدّمة بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله بجميع محامده ما علمت منها وما لم أعلم، على جميع نعمه وآلائه، ما علمت منها وما لم أعلم. والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبيّ الأميّ المبعوث رحمة إلى العالمين. وبعد، فهذه طبعة جديدة لكتاب روائع القرآن، أقدمها إلى طلاب العربية وهواة الأدب العربي وكل من يعنى بدراسة القرآن. ولقد تمنيت أن يتاح لي من الوقت ما يسمح لي بالتوسع في بحوثه والتعمّق في دراساته، بالقدر الذي يتفق مع روعة القرآن وعمق مراميه ودقة بيانه. ولكني على يقين بأن الزمن كله أضيق من أن يتّسع لشرح يتكافأ مع عظمته، والطاقات كلها أقل من أن تنهض باستيعاب دقائقه، والحياة كلها جزء يسير من مدّه الزاخر وإشراقه السامي ومعانيه التي لا تنقضي! ... قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (الكهف: 109). ولقد شرّفني الله بتدريس القرآن وبلاغته بقسم اللغة العربية في جامعة دمشق ثم في جامعة اللاذقية، فما رأيت ذا رشد في فكره، وذوق في نفسه، يتاح له أن يعلم علما عن هذا الكتاب وأن ينصت إلى شيء من

بيانه، إلا وتهتز منه الجوانح طربا لرائع قوله وسمو إشراقه، ثم يقف مستسلما مشدوها تحت مظلة إعجازه! ... لا يحول دون استعلانه بذلك فكر عرف به أو هوى يميل إليه أو عصبية تسيطر عليه. هذا، على الرغم مما انحدرت إليه الدراسات العربية من الضحالة والسطحية والضعف، ومع كل ما انتهى إليه طلابها من فساد الذوق وعجمة اللسان وفهاهة البيان. وأشهد لو أن العربية كانت تعيش على ألسنة العرب اليوم أيام شبابها، إذا لكان للقرآن أثر فريد في حياتهم الفكرية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية. ولكن عدوا شرسا لهذه الأمة عرف كيف يسدد الطعنة إليها، وأدرك السبيل إلى تجفيف روافد العز في حياتها، فانحطّ في أسباب الكيد لثقافتها العربية وذاتيتها الإسلامية، عن طريق إبعادها عن سلطان هذا الكتاب وحجبها عن أسباب التأثّر به. وإن التاريخ ليرصد السعي إلى هذه المكيدة بإحصاء دقيق، وإن ذهل عنه كثير من السادرين والسكارى من أهله، وإنه ليذكر ولا ينسى يوم وقف وزير المستعمرات البريطاني «غلادستون» بين زملائه في مجلس الوزراء يقول، وقد أمسك بيده قرآنا يلوّح إليهم به: لن تحقّق بريطانيا شيئا من غاياتها في العرب والمسلمين إلا إذا سلبتهم سلطان هذا الكتاب أولا. أخرجوا سرّ هذا الكتاب مما بينهم تتحطم أمامكم جميع السدود (¬1)! ... وبعد، فإن الإحاطة بأسرار هذا الكتاب وجوانب إعجازه، أمر ¬

_ (¬1) كان هذا التصريح عام 1895.

عسير بل مستحيل تقف دونه قدرات البشر جميعا. غير أن ما لا يدرك كله لا يترك كله؛ ولقد ساعدني التوفيق الإلهي على توسيع دائرة البحث في إعجاز القرآن من هذا الكتاب، بالقدر الذي سمح به الوقت وامتدّ إليه الجهد. وكلّ ما زدته أو توسعت فيه من هذا البحث، ليس إلا بمثابة إصبع تشير من على الشاطئ إلى المحيط المتلاطم الذي لا يستبين له حدود. وإنما المهم من دراسة الإعجاز القرآني أن يصل منها القارئ إلى ما يدرك معه أن صياغة هذا الكتاب ليست مما من شأنه أن يخضع للطاقة الإنسانية، وأن معانيه ليست مما قد يأتي بمثله الفكر الإنساني. وأحسب أنني قد أتيت من الحديث عن إعجاز القرآن (على إيجازه) بما يعطي القارئ هذا اليقين ويسلّمه إلى هذه الحقيقة. أما سائر البحوث الأخرى فقد زدت في كثير منها بالقدر الذي أسعفني الوقت، كما غيّرت في بعض منها بالمقدار الذي يقتضيه التنقيح أو الإصلاح. وإنني إذ أتقدم بهذه الطبعة الجديدة من كتابي هذا إلى طلابي قسم اللغة العربية، وسائر الإخوة القرّاء، آمل أن يجعله الله في أيديهم مفتاح عناية شاملة بالقرآن، وعكوف جادّ على دراسته واتقان تلاوته، وخضوع جديد تحت حكمه وسلطانه. والله المستعان في كل هداية وتوفيق. محمّد سعيد رمضان البوطي دمشق في 15 شوال سنة 1395 20 تشرين أول سنة 1975

مقدمة الطبعة الثالثة

مقدّمة الطبعة الثّالثة الحمد لله وليّ كل نعمة، يمنّ بالتوفيق ثم يثيب عليه، ويلهم الحمد ثم يجزي به! .. وأشهد أن لا إله إلّا الله تفرّد بالربوبية المطلقة فلا ربّ ولا معبود ولا حاكم سواه. ظهر في آثاره وبديع مخلوقاته، فلو رأته العين لم يزدد برؤيتها له ظهورا، وخفي في كنهه وحقيقته، فمهما تأمله العقل وانساح وراء تصوره الخيال لم يبلغ العقل ولا الخيال منه شيئا. والصلاة والسلام الأتمّان الأكملان على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وأسأله سبحانه وتعالى أن يمتّعني بتوفيق من لدنه، وأن يهبني من نعمة الإخلاص لوجهه الكريم ما يقيني من حظوظ نفسي ويعتقني من سلطان كل مادح أو قادح. وبعد: فقد شاء الله تعالى- وهو المتفضّل الكريم- أن أقدّم إلى القرّاء طبعة ثالثة من هذا الكتاب، بعد أن وفّقني سبحانه وتعالى، فأدخلت عليه تهذيبا تناول متفرقات كثيرة من جمله وألفاظه، وألهمني فزدت فيه بحثا من أهم ما يتعلق بآداب القرآن وعلومه، وهو: الأمثال في القرآن. ولئن كان في ذلك ما يدلّ على أن الكتاب قد سار خطوة أخرى نحو الكمال، فإنه لدليل في الوقت ذاته على أنه كان ولا يزال يتّسم بالنقصان. وإنه لمن أجلى مظاهر الضعف والقصور في الإنسان أن يشعر

بالنقص في كل شئونه مع تصوره الكمال المطلق بعقله، فيشتدّ بها نحو غاية الكمال. وكلما ارتقى بها إلى درجة من درجاته اكتشف مزيدا من البعد بينه وبين غايته، فهو لا يزال يفرّ من النقصان لأن حبّ الكمال مغروس في كيانه، ولا يزال الكمال من فوقه لأنه من خصائص الخالق وهو مخلوق، ولأنه من صفات الربّ جلّ جلاله وهو عبد ضعيف!. فلئن وجدت أيّها القارئ في الكتاب- بعد هذا التهذيب الذي ذكرت- بقايا من مظاهر القصور والنقص- ولعلّك تجد منها الكثير- فذلك لأني لم أستطع أن أتحرر عن سمة النقص في ذاتي، وما دان لي ذلك، وليس لي من مطمع فيه. ولئن عثرت فيه على مظاهر التقدّم نحو الكمال، فذلك من فضل الله عليّ وتوفيقه. ولقد رأيت أن العبد كلما ازداد بصيرة بضعفه وركونا إلى عبوديته زاده الله جلّ جلاله قربا إليه وتفضلا وإحسانا، وكلما ازداد نسيانا لضعفه وتعاظما في نفسه، زاده الله تعالى بعدا عنه ووكله إلى نفسه وشأنه فلم يأت منهما بطائل. وإني إذ أشكر الله تعالى على أن ستر نقصي بتوفيقه، فإني لأشكر سائر الإخوة القرّاء الذين كانوا ولا يزالون يمنّون عليّ بملاحظاتهم واستدراكاتهم، ومن لم يشكر النّاس الذين ألهمهم الله تعالى تذكيره، لم يشكر الله الذي وفّقه للاستفادة من ذلك التذكير! .. وليس العيب أن يعترف العبد بقصوره فيتلقّى بيد الشكر نصيحة الناصحين، وإنما العيب كل العيب ما قد يتلبس به أحد رجلين: رجل يستكبر عن قبول الحق فهو يتباهى بين الناس بالباطل الذي ألصقه فيه كبره، وآخر يلتقط مظاهر النقص في الآخرين فيشهرها بين الناس على رماح من ضغينته وحقده. ينبش السيئة من القبر الذي دفنت فيه وإن محاها ألف حسنة وراءها، ويدسّ الحسنات في التراب مهما كان للناس خير في تجليتها وظهورها! ..

فأنا أضرع إلى الله عزّ وجلّ أن لا يجعلني واحدا من هذين الرجلين، وأن يحشرني إليه بقلب سليم قد أخلص لله في دينه، وأخلص مع الناس في أخوّته لهم وصدقه معهم. وأسأله سبحانه أن يمتّعني بمرضاته والإخلاص لوجهه، وأن يختم لي بصالح الأعمال إنه أرحم الراحمين وإنه وليّ كل فضل وتوفيق. محمّد سعيد رمضان البوطي

تمهيد أول تعريف بهذا الكتاب وأهم ابحاثه

تمهيد أوّل تعريف بهذا الكتاب وأهمّ ابحاثه هذه تأملات علمية وأدبية سريعة في كتاب الله تعالى، أردت أن أوضح من ورائها بعض ما ينطوي عليه هذا الكتاب من روعة البيان وإعجازه، ومدى تأثيره في مختلف العلوم التي تزخر بها المكتبة العربية اليوم، مما لا بدّ للأديب ودارس العربية من الوقوف عليه. وهي كما قلت، لا تزيد على أن تكون تأملات .. فلم أقصد منها استقصاء لبحث، ولا تحقيقا جامعا لفن، ولو قصدت إلى ذلك لضاقت بي السّبل واستعصى عليّ البحث، ولاحتاج الأمر إلى مجلدات واسعة عظيمة، وأنى لمثلي أن يأتي بتحقيق جامع لفنون هذا الكتاب المبين، أو أن يستقصي البحث في آدابه وبلاغته وعلومه؟! وإنما الذي قصدت إليه، هو أن أنال رشفة من بحر هذا البيان الإلهي، وقبضة من كنز علومه، أمتّع بهما الخاطر والنفس، وأسعد بهما الفكر والخيال. وحسبي، وحسب القارئ، أن نقف من وراء ذلك وقفة المتأمل الخاشع عند شاطئ هذا اليم. نمتّع البصر فيما يعجز عن إدراك كنهه العقل، ونرهف السمع لهذا الذي سجد لبيانه البيان. وكم من جمال تذوب تأثرا به النفس، ولا يحدّه الفكر والعقل. وكم من حقيقة جاثمة وراء حدود دلالة النطق والكلام، فلا يعبّر عنها إلا الحيرة الخاشعة ولا يتبيّنها سوى صادق الإحساس.

ثم إن هذا الكتاب الإلهي العظيم، ينطوي على علوم مختلفة هامة، تتعلق بمضمونه وتاريخ نزوله، كما ينطوي على صور رائعة من الجمال في تعبيره وأسلوبه وإنما يتعلق الغرض هنا بعرض سريع موجز لكلا الجانبين. إذ لا معنى لدراسة الأدب العربي بدون أيّ دراسة لينبوع هذا الأدب كله، وهو القرآن. ولا قيمة لدراسة فنون العربية وعلومها بدون الرجوع إلى ميزان هذه العلوم ومعتمدها الأول ولا اعتبار لأدب أديب يترطن في تلاوة القرآن ولا يكاد يبين. وهذا يعني أن الغرض إنما يتناول من ذلك كله، القدر الذي يخصّ العربية وعلومها وآدابها، أما ما يمتد من وراء ذلك إلى علوم الفقه وأصوله أو التفسير وعلم الكلام، فلا شأن لنا به في هذا المقام. وهذه الحاجة المحدودة بهذا الشكل والقدر، هي التي ألجأتني إلى الكتابة في هذا الفن، رغم كثرة الشواغل والصوارف المختلفة. فقد رجعت إلى كل ما وقع تحت يدي من كتب هذا البحث مما ألّف قديما وحديثا، فما وجدت فيه شيئا يفي بحاجة من يقبل على دراسة الأدب العربي، وإن كان كلّ منها يقع موقعا من حاجته ويسدّ مسدّا فيها. فالبعض منها يتناول زاوية صغيرة محدودة من مجموع ما يتعلق به الغرض في هذا المقام، والبعض منها يطنب ويتوسع في أبحاث علوم القرآن حتى يتجاوز الأمر بالقارئ حدود العربية وآدابها إلى الإسلاميات وعلومها. ولقد انتهى الضعف بطلاب العربية وعلومها في عصرنا إلى حدّ لا يكادون يستطيعون التعرّف فيه على شيء من هذه الكتب أو الأمّهات القديمة، ولا يكادون يملكون صبرا على قراءتها أو تصفحها، ويبدو أننا (ويا للأسف) لم ندرك بعد سرّ هذه الغاشية ولا علاجها. فمن أجل كل ذلك اضطررت إلى أن أكتب بضع صفحات في هذا الفن، أتيمم فيها حاجة الأدب العربي وكفايته، واستهدف من ورائها أن يتذوق طلاب العربية هذا السموّ الرائع في البيان القرآني، تذوقا جيدا. فإنهم إذا تذوقوه طربوا له، وإذا طربوا له أقبلوا إليه قراءة وفهما، وإذا أقبلوا إليه بهذا

الشكل، استقامت ألسنتهم وتخلصت من عوج العاميّة ورطانتها وتذوقوا الأدب العربي في كل فروعه وجوانبه. وتحقيقا لهذا الهدف، قسمت هذا الكتاب بعد المقدمة والتمهيد إلى ثلاثة أقسام: (القسم الأول) ويتناول خلاصة لتاريخ القرآن وعلومه وهي تشمل: 1 - القرآن: تعريفه وحقيقته. 2 - نزول القرآن منجّما والحكمة من ذلك .. 3 - أسباب النزول .. 4 - كيفية جمع القرآن وكتابته. 5 - رسم القرآن. 6 - الأحرف السبعة: خلاصة جامعة عنها. 7 - القراءات والقرّاء: لمحة دراسية عنها. 8 - المكّي والمدني. 9 - التفسير: نشأته وتطوره ومذاهبه. 10 - المبهم والمتشابه في القرآن. (القسم الثاني) ويتناول دراسة موجزة لمنهجه وأسلوبه، وتشمل هذه الدراسة الأبحاث التالية: 1"- أسلوب القرآن: نظرة عامة فيه، ثم دراسة لخصائصه. 2"- إعجاز القرآن: بيانه ودليله ووجوهه. 3"- موضوعات القرآن وطريقة عرضه لها: دراسة مختصرة سريعة. 4"- التصوير في القرآن: مظهره ووسائله. 5"- الأمثال في القرآن. 6"- القصة في القرآن: أغراضها ومنهجها. 7"- المنهج التربوي في القرآن. 8"- النزعة الإنسانية في القرآن.

9"- فلسفة القرآن عن الكون والإنسان والحياة. 10"- هل من الممكن ترجمة القرآن. (القسم الثالث) ويتناول نماذج من النصوص القرآنية في بعض موضوعاته نتبعها بشرح أدبي مركّز، يكون تطبيقا للدراسات النظرية التي تناولها أبحاث القسم الثاني، ومثالا يحتذيه القارئ في شرح بقية آي الكتاب الكريم، مستعينا على ذلك بالرجوع إلى مختلف تفاسير الكتاب الكريم. وأسأل الله ربّ العالمين، أن يوفّقنا لأن نجعل دراستنا للعربية خدمة لكتابه، ولا يتركنا ندرس كتابه خدمة للعربية، وأن يبصّر عقولنا بالحق، ويجبّب إلى قلوبنا اتّباعه والتمسك به. وحسبي الله ونعم الوكيل.

تمهيد ثان بتعريف أهمية القرآن في الأدب العربي ووجوه ذلك

تمهيد ثان بتعريف أهمّيّة القرآن في الأدب العربيّ ووجوه ذلك لعلّ البعض يتساءل عن وجه الحاجة إلى دراسة القرآن، في الأدب العربي، ولعلّه يحسب أن في ذلك خلطا بين الآداب والإسلاميات، لا وجه له ولا ضرورة إليه. والجواب، أن لهذا الكتاب العظيم أهمية بالغة من جوانب مختلفة متعددة. فإن له جانبا تشريعيا هاما، لا ينفكّ عن الحاجة إلى دراسته كل متطلّع إلى دراسة الفقه والتشريع. وإن له مع ذلك جانبا متعلقا بالعقيدة والفلسفة والأخلاقيات، لا ينفكّ عن الحاجة إلى دراسته كل مقبل إلى دراسة العقائد أو الفلسفة أو الأخلاق، كما أن له مع ذلك جانبا أدبيّا أصيلا بعيد الجذور في تاريخ الأدب العربي، عظيم الأثر في توجيهه وتطويره وتقويمه، فمن أجل ذلك كان لا بدّ لمن أراد العكوف على دراسة العربية وآدابها من أن يعكف على دراسة القرآن وعلومه، وكلما ابتغى مزيدا من التوسع في العلوم العربية وثقافتها، احتاج إلى مزيد من التوسّع في دراساته القرآنية المختلفة. وإليك ملخصا من وجوه هذه الحاجة وأسبابها: السبب الأول- أن هذا الكتاب العربي المبين، هو أول كتاب ظهر في تاريخ اللغة العربية (¬1) وإنما نشأت حركات التدوين والتأليف بعد ذلك على ¬

_ (¬1) مضمون هذا الكتاب، كلام الله الأزلي القديم، وهو من هذا الجانب لا يبدأ من تاريخ وليس له ميلاد ظهور أو تدوين، ولكننا نقصد بالكتاب في هذا المجال هذه الكلمات والأحرف والصفحات التي تضبطه وتحدّه والتي ظهرت ودوّنت في حقبة معينة من الزمن.

السبب الثاني -

ضوؤه وسارت بإشراقه، وتأثرت بوحيه وأسلوبه. ومن أجل ذلك، كان مظهرا هامّا للحياة العقلية والفكرية والأدبية التي عاشها العرب فيما بعد. فكيف يتأتى أن يكون هذا الكتاب مع ذلك بمعزل عن العربية وعلومها وآدابها؟! السبب الثاني- أن اللغة العربية إنما استقام أمرها على منهج سليم موحد. بسر هذا الكتاب وتأثيره، وهي إنما ضمن لها البقاء والحفظ بسبب ذلك وحده. فقد كانت اللغة العربية من قبل عصر القرآن أمشاجا من اللهجات المختلفة المتباعدة، وكان كلما امتد الزمن، ازدادت هذه اللهجات نكارة وبعدا عن بعضها. وحسبك أن تعلم أنّ: المعينية، والسبئية، والقتبانية، واللحيانية والثمودية والصفوية والحضرمية، كلها كانت أسماء للهجات عربية مختلفة، ولم يكن اختلاف الواحدة منها عن الأخرى محصورا في طريقة النطق بالكلمة، من ترقيق أو تفخيم أو إمالة أو نحو ذلك، بل ازداد التخالف واشتد إلى أن انتهى إلى الاختلاف في تركيب الكلمة ذاتها وفي الحروف المركبة منها، وفي الإبدال والإعلال والبناء والإعراب. فقضاعة مثلا كانت تقلب الياء جيما إذا كانت ياء مشددة أو جاءت بعد العين، وكانت العرب تسمي ذلك: عجعجة قضاعة. ومن ذلك قول شاعرهم: خالي عويف وأبو علجّ ... المطعمان اللحم بالعشجّ وبالغداة قطع البرنج ... يؤكل باللحم وبالصيصجّ وحمير كانت تنطق ب «أم» بدلا من «أل» المعرفة في صدر الكلمة، وكانت العرب تسمي ذلك طمطمانية حمير، ومن ذلك قول أحدهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسأله: أمن امبر امصيام في امسفر؟ يريد أن يقول: هل من البرّ الصيام في السفر؟ وهذيل كانت تقلب الحاء في كثير من الكلمات عينا، فكانوا يقولون

السبب الثالث:

أعل الله العلال بدلا من أحلّ الله الحلال .. وهكذا دواليك .. فقد كانت كل قبيلة تختلف في النطق عن الأخرى بوجوه من الاختلافات كثيرة، حتى باعد ذلك بين ألسنة العرب وأوشك أن يحوّل اللغة الواحدة إلى لغات عدّة متجافية لا يتفاهم أهلها ولا يتقارب أصلها. ولقد بلغ من تخالف هذه اللهجات وتباعدها، أن كثيرا من وفود هذه القبائل التي أخذت تفد في صدر الإسلام إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانوا يلقون كلمات وخطبا لا يكاد يفهمها القرشيون من أصحابه عليه الصلاة والسلام ولقد قال عليّ رضي الله عنه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد سمعه يخاطب بني نهد: يا رسول الله، نحن بنو أب واحد، ونراك تكلم وفود العرب بما لم نفهم أكثره! .. فقال عليه الصلاة والسلام: أدّبني ربي فأحسن تأديبي (¬1). فلما نزل القرآن، وتسامعت به العرب، وائتلفت عليه قلوبهم، أخذت هذه اللهجات بالتقارب، وبدأ مظاهر ما بينها من خلاف تضمحل وتذوب، حتى تلاقت تلك اللهجات كلها في لهجة عربية واحدة، هي اللهجة القرشية التي نزل بها القرآن وأخذت ألسنة العرب على اختلافهم وتباعد قبائلهم تنطبع بطابع هذه اللغة القرآنية الجديدة. فكان ذلك سرّ هذا الشريان السحري العجيب الذي امتدّ في أجلها، فاستصلبت بعد ميعة، وقويت بعد تفكك، واتحدت بعد تناثر، ثم مرّت على مصرع أعظم لغة عالمية شاملة هي «اللاتينية» بينما تغلي هي حيوية وقوة وإشراقا. فكيف تمكن مع ذلك دراسة شيء من أدب هذه اللغة دون دراسة روحها التي تعيش بها وشريانها الذي يمتدّ فيها وينسأ من أجلها؟ السبب الثالث: أن البلاغة والبيان وجمال الكلمة والتعبير- كل ذلك كان ¬

_ (¬1) هذا الحديث مروي بطرق مختلفة كلها تدور على السدي عن ابن عمارة الجواني عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وصحّحه أبو الفضل بن ناصر، وقال عنه ابن حجر غريب، وقال عنه السخاوي سنده ضعيف ولكن معناه صحيح. وانظر المقاصد الحسنة للسخاوي: 29 وفيض القدير على الجامع الصغير: 1/ 235.

السبب الرابع:

عصر القرآن أسماء لا تكاد تنحطّ على معنى واضح متفق عليه. وإنما بلاغة كل جماعة أو قبيلة ما تستسيغه وتتذوقه، ولذلك كانت المنافسات البلاغية تقوم فيما بينهم وتشتد ثم تهدأ وتتبدد، دون أن تنتهي بهم إلى نتيجة، إذ لم يكن أمامهم مثل أعلى يطمحون إليه ولا صراط واحد يجتمعون عليه، ولم يكن للبلاغة العربية معنى إلا هذا الذي يصدرون هم عنه من كلام في الشعر والنثر، وهم إنما يذهبون في ذلك طرائق قددا، ويتفرقون منه في أودية متباعدة يهيمون فيها. وهيهات، لو استمر الأمر على ذلك، أن توجد للبلاغة والبيان العربي حقيقة تدرك أو قواعد تدرس، أو قوالب أدبية تهذب العربية وتحافظ عليها. فلما تنزل القرآن، والتفتوا إليه فدهشوا لبيانه، وسجدوا لبلاغته وسموّ تعبيره، وأجمعوا على اختلاف أذواقهم ومسالكهم ولهجاتهم أن هذا هو البيان الذي لا يجارى ولا يرقى إليه النقد- كان ذلك إيذانا بميلاد مثلهم الأعلى فيما ظلوا يختلفون فيه ويتفرقون عليه، وأصبحت بلاغة هذا الكتاب العزيز بعد ذلك هي الوحدة القياسية التي تقاس إليها بلاغة كل نص وجمال كل تعبير، ثم تعاقبت الدراسات عليه من أرباب هذا الشأن وعلمائه، فاستخرجوا منه قواعد البلاغة ومقوّمات البيان ومسالك الإعجاز فكانت هذه العلوم البلاغية التي امتلأت بها المكتبة العربية، وأصبحت فنا مستقلا بذاته. ولولا القرآن لما عرف هذا الفن ولا استقامت تلك الأصول والقواعد، ولتبدّد المثل البلاغي الأعلى في أخيلة فصحاء العرب وشعرائهم ... فكيف يستقيم مع ذلك، أن يدرس هذا الفن وأصوله بمنأى عن مثله الأعلى ومصدره العظيم الأول؟ السبب الرابع: أن متن هذه اللغة، كان مليئا قبل عصر القرآن بالكلمات الحوشية الثقلية على السمع المتجافية عن الطبع. ولو ذهبت تتأمل فيما وصل إلينا من قطع النثر أو الشعر الجاهلي، لرأيت الكثير منها محشوّا بهذه الكلمات التي وصفت وإن كنت لا تجد ذلك إلا نادرا في لغة قريش. وإليك هذه القطعة النثرية نموذجا لكلامهم في الجاهلية، أو لكلام الأعراب الذين أدركوا الإسلام ولكن ألسنتهم ظلت على ما انطبعت عليه في نشأة الجاهلية، وهي كلمات قالها أعرابي وقف بين الناس يستجدي مالا.

(أما بعد فإني امرؤ من الملطاط الشرقي المواصي أسياف تهامة، عكفت علينا سنون محش، فاجتبّت الذرى وهمشت العرى وجمشت النجم وأعجّت البهم، وهمّت الشحم، والتحبت اللحم، وأحجنت العظم، وغادرت التراب مورا، والماء غورا، والناس أوزاعا والضّهل جراعا، والمقام جعجاعا، فخرجت لا أتلفّع بوصيدة، ولا أتقوّت بمهيدة، فالبخصات وقعة والركبات زلعة، والجسم مسلهم، والنظر مدرهم، فهل من آمر بمير أو داع بخير) (¬1). فلما تنزل القرآن، وأقبلت إليه الآذان، أخذت هذه الكلمات الجافية تختفي عن ألسنة العرب رويدا رويدا، وأصبح متن اللغة العربية كله مطبوعا بالطابع القرآني، ونما ذوق عربي في نفوس العرب أنبته لديهم القرآن وأسلوبه. ومردّ ذلك إلى أن كلمات هذا الكتاب المبين، رغم أنها كانت عربية لم تتجاوز حدود هذه اللغة وقاموسها، تمتاز، في صياغتها وموقع كلّ منها مما قبلها وبعدها بجرس مطرب في الآذن لم يكن للعرب عهد به من قبل، هذا إلى أن كثيرا من الاشتقاقات والصيغ الواردة فيه، تكاد تكون جديدة في النطق العربي، وهي مع ذلك توحي بمعناها إلى الفطرة والطبع، قبل أن يهتدي السمع إليها بالمعرفة والدرس. وسنسهب في إيضاح هذا إن شاء الله عند حديثنا عن إعجاز القرآن. ¬

_ (¬1) الملطاط، حرف من أعلى الجبل أو جانب منه. والمواصي، أي المتصل. وأسياف جمع سيف يقال لساحل البحر. ومحش بمعنى محرق أي أحرقت الزرع والكلأ. وفاجتبت بمعنى قطعت. والعرى جمع عروة وهي القطعة من الشجر وجشت بمعنى حلقت، والنجم النبات الذي لا يستقيم على ساق، وأعجت البهم أي جعلتها عجايا وهي جمع عجي وهو ما فقد أمه من الإبل، وهمت الشحم: أذابته، والتحبت اللحم أي قشرته عن العظم أي عوجته فصيّرته كالمحجن. وغادرت التراب مورا أي يمور مورا بمعنى يجيء ويذهب، والغور: الغائر، والأوزاع: الأقسام المشتتة، والضهل: الماء القليل، وجراعا جمع جرع وهو ما لا يروي من الماء، والجعجاع: المكان الذي لا يطمئن من قعد فيه. لا أتلفع: لا أشتمل، بوصيدة: أي بأي شيء منسوج، والمهيدة: حب الحنظل، والبخصات جمع بخص: لحم باطن القدم، ووقعه من قولهم وقع الرجل إذا اشتكى لحم باطن قدمه، والزلعة جراحة فاسدة تكون من تشقق اللحم في القدم أو الركبة. ومسلهم: ضامر متغير. ومدرهم من ضعف بصره بسبب جوع أو نحوه، والمير: العطية من الطعام. هذا وراجع المزهر للسيوطي لتقف على نماذج كثيرة من هذا القبيل.

فكان من أثر ذلك أن انصرفت الأذواق إلى الاستفادة من كلماته والجديد من صياغته، وهجرت تدريجا ما استثقل وغلظ من الألفاظ والتراكيب. وإنك لتدرك هذا جيدا حينما نعرض للمقارنة نصّا أدبيا من العصر الجاهلي وآخر من العصر الإسلامي. فستجد أن الأول يمتاز بتضاريس من الجمل والكلمات الثقيلة الخشنة وأن الثاني قد صقلته البلاغة القرآنية في كلّ من الأسلوب والجمل والكلمات. فهذه خلاصة عن وجوه أهمية دراسة هذا الكتاب العظيم وأثرها في دراسة الأدب العربي. وإذا كنت تؤمن اليوم بهذا الذي ذكرناه من الناحية النظرية والعقلية المجردة؛ فلسوف تؤمن بذلك على أساس من البرهان التجريبي والتطبيقي عند ما تمارس هذا الكتاب الإلهي تلاوة مستمرة ودراسة دقيقة وتأملا هادئا.

القسم الأول تاريخ القرآن وعلومه

القسم الأول تاريخ القرآن وعلومه

تاريخ القرآن القرآن تعريفه، وحقيقته القرآن هو: اللفظ العربي المعجز الموحى به إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم المتعبّد بتلاوته والواصل إلينا عن طريق التواتر. إذا تأملت في هذا التعريف، وجدت فيه قيودا أربعة، هي: المعجز، الموحى به، المتعبد بتلاوته، المتواتر. فلنشرح كلّ واحد منها على حدة، لنتبين حقيقة القرآن الكريم من وراء هذا التعريف، ونقف على ضبطه وحدوده. أولا- المعجز: ويقصد منه ما اتصف به القرآن من البلاغة والبيان اللذين أعجزا بلغاء العرب كافّة عن الإتيان بأقصر سورة من مثله، رغم التحدي المتكرر، ورغم التطلّع الشديد لدى الكثير منهم إلى معارضته والتفوق على بيانه. وللقرآن وجوه غير هذا الوجه في إعجازه، ولكن الوجه المقصود منها عند التعريف هو هذا. ولن نطيل هنا في شرح معنى الإعجاز القرآني وتحليله، فإن لذلك موضعا خاصا به في هذا الكتاب إن شاء الله. ثانيا- الموحى به: ومعناه المنزّل عليه من الله عزّ وجلّ بواسطة جبريل، وهذا أهم قيد في تعريف القرآن وتحديد ماهيته. وإذا كان «الوحي» عنصرا هاما في حقيقة القرآن وتعريفه، فلا بدّ من دراسة وافية- وإن كانت موجزة- لهذه الكلمة، وتحليل صادق لحقيقتها. ومن أهم أسباب هذه الضرورة أن دراسات مختلفة حديثة حامت حولها، لا قصدا

لتفهمها، بل بغية مدّ غاشية من الغموض عليها، ثم الوصول بها إلى المعنى الذي يراد ربطها به، وإن لم تكن منه في شيء. فلنتنبه بفكر موضوعي مجرد وعقل علمي متحرّر، ولنتساءل مع المتسائلين: ما هو هذا الوحي الذي جاء بهذا القرآن فوضعه بين يدي محمد عليه الصلاة والسلام؟ أهو نوع من الإلهام النفسي أم هو حركة فكرية داخلية؟ أم هو إشراق روحي جاءه عن طريق الكشف التدريجي؟ أم هو ضرب من الصرع والجنون كان ينتابه كما قد قيل؟ أم هو استقبال لحقيقة ذاتية مستقلة عن كيانه يتلقاها من خارج فكره وشعوره؟ ونحن لا نملك سبيلا علمية صحيحة للإجابة على هذه الأسئلة إلّا بالرجوع إلى حقائق التاريخ الثابتة الواصلة إلينا عن طريق النقل الصحيح. وإذا رجعنا نسأل حقائق التاريخ فإنها تضعنا أمام حديث قصة بدء الوحي الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما. والحديث طويل، وحسبنا أن نجتزئ منه في هذا المقام ما يكشف لنا سبيلا صحيحة للإجابة على هذه الأسئلة. ففي الحديث أن ملكا فاجأه في غار حراء يتعبد، فقال له: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، فأخذه الملك فغطّه حتى بلغ منه الجهد ثم أرسله فقال: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، وتكرر هذا من الملك والرسول عليه الصلاة والسلام ثلاث مرات، وفي المرة الثالثة قال الملك: (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم) فكان ذلك أول ما نزل من القرآن. وفي الحديث أيضا أنه عليه الصلاة والسلام نزل عقب ذلك من الغار

عائدا إلى البيت وإن فؤاده ليرتجف خوفا. وفي الحديث أيضا أن خديجة ذهبت به إلى ورقة بن نوفل، وكان شخا كبيرا قد تنصّر في الجاهلية فأخبره بالأمر، فقال له ورقة: إن هذا هو الناموس (أي الوحي) الذي نزل على موسى، وطمأنه أنه ليس شرّا. وفي الحديث أيضا أن الوحي قد انقطع بعد ذلك مدة طويلة من الزمن، وأن الضيق والألم قد استبدا به صلّى الله عليه وسلّم من ذلك، خوفا من أن يكون قد أساء فتحول عنه الوحي لذلك. ثم إنه رأى ذلك الملك مرة أخرى، وقد ملأ مظهره ما بين السماء والأرض، قال: فرعبت منه ورجعت فقلت: زملوني زملوني .. فنزل عليه قوله تعالى يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ إلى قوله وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ثم تتابع الوحي بعد ذلك. هذه الحقائق الواردة في هذا الحديث لا يمكن أن نتجاهلها أو نردّها بشكل ما، لسبين: أولهما- أن ظاهرة الوحي التي يتحدث الكاتبون عن حقيقتها إنما وصلت إلينا عن طريق هذا الحديث ونحوه، فإذا ضربت صفحا عن هذه الكلمة نفسها، إذ لا معنى للبحث في شيء غير موجود ولا واقع من أساسه. ثانيهما- أن الحديث ليس من قبيل هذه الاستنتاجات النظرية أو التاريخية التي يجنح إليها كثير من باحثي هذا العصر ويبنون عليها أحمالا وأثقالا من الأحكام الخطيرة الهامة، بل هو خبر نقل بواسطة سند متصل من الرواة، خلا أصحابه- بعد الدراسة لتراجمهم وأحوالهم- عن أي تهمة تبعث الشك في كلامهم. وإذا فرضنا أن يكون الوحي ليس إلا شعورا نفسيا أو إشراقا روحيا أو إلهاما داخليا، ثم عدنا إلى هذا الحديث، وجدناه يناقض هذا الفرض مناقضة صريحة صارخة، لأسباب كثيرة نذكر منها ما يلي: 1 - إن شيئا من حالات الإلهام أو حديث النفس أو الإشراق الروحي، لا يستدعي الخوف والرعب واصفرار اللون، وليس ثمة أي انسجام بين

التدرّج في التفكير والتأمّل من ناحية، ومفاجأة الخوف والرعب من ناحية أخرى؛ وإلا لاقتضى ذلك أن يعيش عامّة المفكرين والمتأملين والملهمين نهبا لدفعات من الرعب والخوف المفاجئة المتلاحقة! وأنت خبير أن الخوف والرعب ورجفان الجسم وتغيّر اللون- كل ذلك من الانفعالات القسرية التي لا سبيل إلى اصطناعها والتمثيل بها، حتى لو فرضنا إمكان صدور المخادعة والتمثيل منه عليه الصلاة والسلام، وفرضنا المستحيل من انقلاب طباعه المعروفة قبل البعثة إلى عكسها تماما. إن صاحب الإلهام والإشراق النفسي والروحي، ليس من شأنه أن تتجسد إلهاماته أمام عينيه فجأة فيرتعد منها ثم يحسبها أتيّا من الجنّ. ولقد فوجئ عليه الصلاة والسلام بالملك يخاطبه ويكلّمه، ولقد ارتجف خوفا منه وذهب في محاولة معرفته كل مذهب، حتى ظن أنه قد يكون من الجان، وذلك معنى قوله لخديجة (لقد خشيت على نفسي). 2"- لقد قضت الحكمة الإلهية أن يحتجب عنه الملك الذي رآه لأول مرة في غار حراء، مدة طويلة؛ ولقد استبدّ به القلق والضجر من أجل ذلك، ثم تحول القلق لديه إلى خوف في نفسه من أن يكون الله عزّ وجلّ قد قلاه، بعد أن أراد أن يشرّفه بالوحي والرسالة لسوء قد صدر منه، حتى لقد ضاقت الدنيا عليه، وراحت تحدّثه نفسه كلما وصل إلى ذروة جبل أن يلقي بنفسه منها .. إلى أن رأى بنفسه الملك الذي رآه في حراء وقد ملأ شكله ما بين السماء والأرض: يقول: يا محمد أنت رسول الله إلى الناس. إن هذه الحالة التي مرّ بها محمد عليه الصلاة والسلام، تجعل مجرد التفكير في كون الوحي إلهاما نفسيا ضربا من الهوس والجنون. إذ من البداهة بمكان أن صاحب الإلهامات النفسية والتأملات الفكرية لا يمكن أن يمرّ إلهامه أو تأملاته بشيء من هذه الأحوال. وأنت إذا تأملت في هذا الذي ذكرناه، اتضحت أمامك الحكمة الإلهية العليا في أن يولد الوحي وتسير النبوّة في حياة محمد صلّى الله عليه وسلّم بهذا الشكل الذي ورد به الحديث.

فقد كان الله عزّ وجلّ قادرا على أن يربط على قلب رسوله، ويطمئن نفسه بأن هذا الذي كلّمه ليس إلا جبريل: ملك من ملائكة الله جاء ليخبره أنه رسول الله إلى الناس؛ ولكن الحكمة الإلهية الباهرة تريد إظهار الانفصال التام بين شخصية محمد صلّى الله عليه وسلّم قبل البعثة، وشخصيته بعدها، وبيان أن شيئا مما قد نزل إليه من هذا الكتاب لم يطبخ في ذهنه مسبقا، ولم يتصور الدعوة إلى شيء منه سلفا. غير أن هذا وحده لا يكفي جوابا على كل شيء في الموضوع. فقد يسأل سائل: فلماذا كان ينزل عليه صلّى الله عليه وسلّم الوحي بعد ذلك، وهو بين الكثير من أصحابه، فلا يرى الملك أحد منهم سواه؟ والجواب أنه ليس شرط وجود الموجودات أن ترى بالأبصار، إذ إن قوة الإبصار فينا محدودة بحدّ معين، وإلا لاقتضى ذلك أن يكون الشيء معدوما إذا ابتعد عن البصر بعدا يمنع من رؤيته. على أن من اليسير على الله عزّ وجلّ- وهو الخالق لهذه العيون المبصرة- أن يزيد في قوة ما شاء منها فيرى ما لا تراه العيون الأخرى. ولعلك تعلم أن هنا لك ألوانا لا تراها كل العيون، وهنالك أيضا- كما يقول مالك بن نبي- مجموعة من الإشعاعات الضوئية دون الضوء الأحمر وفوق البنفسجي لا تراها أعيننا، ولا شيء يثبت علميا أنها كذلك بالنسبة لجميع العيون. فلقد توجد عيون أقل أو أكثر حساسية (¬1). ثم إنك لو ذهبت تحلّل الوحي بأنه ظاهرة نفسية داخلية، لامتزج القرآن بالحديث، ولما أمكن أن يكون ثمة أي فرق بينهما، مع أن الفرق بينهما ظاهر واضح، يتمثل في أسلوب كلّ منهما ويتمثل في علاقته صلّى الله عليه وسلّم بكلّ منهما. فقد كان يرسل ألفاظ الحديث إرسالا، مكتفيا بأن يستودعه ذاكرة أصحابه، على حين يأمر بتسجيل كل ما يوحى إليه من آي القرآن ويظل يكرره ويعيده خوفا من أن ينساه فلا يذكره. وكان صلّى الله عليه وسلّم يسأل عن كثير من الأمور فلا يجيب عليها، وربما مرّ على ¬

_ (¬1) انظر الظاهرة القرآنية لمالك بن نبي.

إمساكه عنها زمن طويل، حتى إذا نزلت آية من القرآن في شأن ذلك السؤال، طلب السائل وتلا عليه ما نزل من القرآن في شأنه، وربما تصرف هو نفسه في بعض الأمور على نحو معيّن، فنزلت آيات من القرآن تصرفه عن ذلك الوجه بل ربما انطوت على شيء واضح من العتب واللوم. ثم إنه عليه الصلاة والسلام كان يعلن في كل مرة أن القرآن كلام الله، وأنه ليس إلا أمينا على نقله وتبليغه، وأنه يتلقاه من جبريل عليه السّلام. ولقد ظل عليه الصلاة والسلام صادقا أربعين سنة مع قومه، حتى كان بينهم مثال الصدق والأمانة. وبدهي أن مثل هذا الإنسان لا بدّ أن يكون قبل كل ذلك صادقا مع نفسه، يتحرى الدقة في كل مشاعره وأقواله وإحساساته. وبعد ذلك كله، فقد كان- على ما أجمع عليه المؤرخون- أميّا لم يقرأ كتابا ولا خطّه بيمينه، ولم يدرس تشريعا ولا تاريخا ولا شيئا من قصص الرسل والأنبياء السابقين، فمن أيّ نافذة طبيعية يمكن لهذه الإلهامات كلها أن تتنزل عليه، وكيف لها بأن تنبع هكذا من داخل قلبه وعقله؟ لا جرم أن الوحي القرآني إذا، إنما هو استقبال منه صلّى الله عليه وسلّم لحقيقة ذاتية مستقلة خارجة عن كيانه وشعوره الداخلي؛ وبعيدة عن كسبه أو سلوكه الفكري أو العملي. أما قول بعض المستشرقين بأنه لم يكن إلا نوعا من الصرع ينتابه بين الحين والآخر، فليس من النظريات العلمية الموضوعية في شيء حتى نضعه تحت مجهر البحث والنقاش، ونضيّع وقتا قصيرا أو طويلا في الكلام عنه. ونعود بعد هذا إلى شرح القيود المأخوذة في تعريف القرآن الكريم: ثالثا- التعبّد بتلاوته. والمقصود به أن من خصائص هذا الكتاب الكريم أن مجرد قراءته تكسب القارئ أجرا ومثوبة عند الله، وأن ذلك يعتبر نوعا من العبادة المشروعة، وأن الصلاة لا تصح إلا بقراءة شيء منه ولا يغني عنه غيره من الأذكار أو الأدعية أو الأحاديث. رابعا- وصوله عن طريق التواتر. ومعناه أن قرآنية آية من القرآن لا

تثبت حتى تصل إلينا بطريق جموع غفيرة لا يمكن اتفاقها على الكذب، ترويها عن جموع مثلها إلى الناقل الأول لها بعد أن تنزلت عليه وحيا من الله عزّ وجلّ، وهو سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام. فإذا تأملت هذه القيود الأربعة في التعريف تصورت حقيقة القرآن خالية عن شوب أي ليس بالحديث النبوي أو القراءات الشاذّة أو الحديث القدسي أو الترجمة الحرفية أو غير الحرفية للقرآن. إذ الحديث ليس بمعجز والقراءات الشاذّة غير متواترة، والحديث القدسي غير معجز، ذلك لأن اللفظ فيه من الرسول عليه الصلاة والسلام، والترجمة ليست هي اللفظ المنزّل.

نزول القرآن منجما والحكمة في ذلك

نزول القرآن منجّما والحكمة في ذلك يقول الله تعالى في كتابه: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا. ويقول أيضا: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً، كَذلِكَ، لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا. نعلم من دلالة هاتين الآيتين، ومما ثبت ثبوتا قاطعا في السنّة والتاريخ عن طريق السند الصحيح، أن القرآن لم ينزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جملة واحدة كما نزلت التوراة على سيدنا موسى، بل كان نزوله متدرجا، فتارة تنزل عليه الآية أو الآيتان أو ثلاث آيات، وتارة تنزل عليه سورة بجملتها، كالفاتحة، والمدّثر، وهذا معنى أنه كان ينزل منجّما، وقد ظلت آيات هذا الكتاب المبين تتتابع على مهل وتدرّج، حتى نزلت آخر آية منها قبل وفاته صلّى الله عليه وسلّم بتسع ليال. وهو قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (¬1). وذلك على ما رجحه كثير من العلماء (¬2). ¬

_ (¬1) البقرة: 281. (¬2) أخرجه البخاري بسنده عن ابن عباس وأخرجه النسائي من طريق عكرمة عن ابن عباس أيضا. ورواه أبو بكر بن عياش عن محمد بن السائب عن أبي السائب عن ابن عباس .. وقد خطأ أبو بكر بن عياش أبا إسحاق في روايته عن البراء بأن آخر ما نزل من القرآن يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ

حكمة نزول القرآن منجما:

حكمة نزول القرآن منجّما: هنالك حكم هامة وكثيرة تتعلق بنزول القرآن منجما، نذكر منها ما يلي: أولا- لقد قضت سنّة الله تعالى في عباده أن يلاقي النبي عليه الصلاة والسلام أذى كبيرا من قومه من أجل نهوضه بينهم بتبليغ رسالة ربه، وقد لاقى من ذلك أنواع الشدائد التي جعلته بينهم مدة طويلة غريبا لا ناصر له. ولقد كان لاتصال الوحي به إذ ذاك وتتابع نزول الآيات عليه تشدّ من أزره، وتحمله على الصبر والمصابرة، وتعده بالنصر والتأييد في النهاية- كان لذلك أبلغ الأثر في مواساته وتخفيف تلك الشدة عنه وإزاحة معاني الغربة والضعف عن نفسه. فمن هذه الآيات مثلا قوله تعالى: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (ق: 29، 49). ومن ذلك قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ، الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (الحجر: 94 - 99). فلو أن القرآن نزل كله عليه جملة واحدة، لكان لانقطاع الوحي عنه بعد ذلك أثر كبير في استشعاره الوحشة والغربة. ومهما يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أوتي من العزيمة والصبر، فإن لبشريته أيضا أثرا بيّنا في حياته ما دام أنه بشر. وقد كان لديه صلّى الله عليه وسلّم من قوة الإيمان بالله ما يكفي لأن يحمله على تبليغ دعوة ربه والجهاد في سبيلها؛ ولكنه على ذلك لم يكن به غناء عن المواساة والمعونة والتصبير إذ يأتيه كل ذلك من ربه المرة تلو المرة يعيده إلى الأمن والانشراح والأنس والرضى. ¬

_ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ مرجحا رواية ابن عباس التي رويت بطرق عدة. وانظر البرهان للزركشي 1/ 209 والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/ 60.

وهذا المعنى هو ما عبّر عنه القرآن بالتثبيت في قوله تعالى: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ. ثانيا- كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أميّا لا يقرأ ولا يكتب، فليس لديه من الوسائل الكسبية ما يضبط ويحفظ به كل ما ينزل عليه إلا وسيلة التكرار والحفظ. فكان لا بدّ من نزول الآيات بتدرّج وخلال فترات متقطعة من الزمن حتى يكون السبيل إلى حفظه ووعيه أيسر. وعلى الرغم من ذلك فقد كان من عادته عليه الصلاة والسلام إذا نزلت عليه الآية من القرآن أن يأخذ في تكرارها ويستعجل في محاولة حفظها ويظل يحرّك لسانه بها خشية أن تتفلت من حفظه إلى أن نزل عليه قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. ثالثا- احتوى القرآن على متن الفقه الإسلامي كله، أي على عامة أحكامه في الجملة سواء ما يتعلق بالعبادات أو المعاملات المدنية أو الأحوال الشخصية أو العقوبات أو النظم الدستورية والمالية. وكان العرب قبل الإسلام متفلتين عن كل قيد، لا يخضعون لقانون ولا يرتبطون بأي تنظيم، فكان من العسير عليهم أن ينتقلوا من تلك الحالة في طفرة مفاجأة، إلى التقيد بعامّة أحكام الإسلام ونظمه وقوانينه. فمن أجل ذلك أخذهم القرآن في ذلك بالوسيلة التربوية التي لا بدّ منها، وهي وسيلة التدرّج في نقلهم من حياة الفوضى والتفلت، إلى حياة النظام والتقيد بالمعايير التي لا بدّ منها في المجتمع الصالح. فنزلت أولا الآيات المتعلقة بالعقيدة ودلائلها، حتى إذا آمن الناس وثابوا إلى عقيدة التوحيد، نزلت آيات الحلال والحرام وعامة الأحكام في مهل وتدرّج. وفي ذلك يروي الإمام البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إنما نزل أول ما نزل من القرآن سور من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا لا ندع الزنا.

رابعا- اقتضت حكمة الله تعالى أن تكون عامة أحكامه التي تضمنها كتابه المبين، جوابا عن أسئلة أو حلّا لمشكلات واقعة، حتى تكون أوقع في النفس وألصق بالحياة. وتلك وسيلة تربوية ظاهرة لا تحتاج إلى مزيد بيان لها. وإنما سبيل ذلك أن تتدرج هذه الأحكام وآياتها في النزول تنتظر مناسباتها وظروفها. ولذلك نجد أن الكثير من آي القرآن إنما نزل جوابا عن سؤال أو حلّا لإشكال، فمن الأول قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى، قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ، وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ ... وقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً، فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ ... وقوله جلّ جلاله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ، قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ .. ومن الثاني قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ، وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ. وقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً. فقد نزل كلّ منها حلّا لمشكلة حدثت، ويطول بنا الحديث لو سردنا لك قصة كلّ منها. خامسا- اقتضى التدرّج بالناس في التشريع أن يوجد ثمة ناسخ ومنسوخ، إذ ربّ حكم كانت المصلحة والرحمة بالناس تقتضي أخذهم به على مراحل، كتحريم الخمر مثلا، فقد اكتفى القرآن في أول الأمر ببيان أن أضراره أكثر من فائدته، وذلك في قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما، حتى إذا استقرّ في النفوس

ذلك، نزلت آية تنهى الناس عن السكر في أوقات الصلاة، وذلك في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ .. وهو كما ترى تحريم جزئي في فترات متقطعة من الزمن. فلما أخذ الناس أنفسهم بذلك واعتادوا الامتناع عن الخمر في تلك الأوقات، نزلت آية قاطعة تحرمه تحريما كليا. وذلك هو قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. (المائدة: 90). وأنت خبير أن كل مرحلة من هذه المراحل السابقة إنما هي نسخ لما قبلها، وتصعيد بالناس إلى طور جديد نحو تكامل التشريع واستقراره. وهذا لا يتم- كما تعلم- إلا بنزول القرآن منجّما على فترة طويلة من الزمن. وثمة حكم أخرى جليلة لهذه الظاهرة في نزول القرآن، نمسك عن سردها والإطناب فيها، استغناء بما ذكرنا، واكتفاء بالنماذج عن الاستقصاء.

أسباب النزول

أسباب النّزول تبيّن لك مما ذكرناه من نزول القرآن منجّما وأسباب ذلك، أن كثيرا من آيات القرآن كان ينزل بمناسبات ولأسباب. والواقع أن آيات القرآن تنقسم إلى طائفتين بالنظر لأسباب النزول، فأما الطائفة منها- وهي التي تتعلق بالتشريع والأحكام والأخلاق- فمعظمها كان نزوله مرتبطا بأسباب ووقائع، وأما الطائفة الأخرى- وهي التي تتحدث عن الأمم الغابرة وما حلّ بها أو عن وصف الجنة والنار والقيامة- ففيها الكثير مما نزل ابتداء بدون سبب أو واقعة معينة. وسنتحدث أولا عن حكمة هذا الأمر، ثم عن أمثلة ونماذج لذلك، ثم عن أهمية معرفة أسباب النزول للتمكّن من تفسير الآيات على وجهها الصحيح، ثم عن أهمية «أسباب النزول» من حيث إنه علم مستقل من علوم القرآن وعن اهتمام العلماء بالكتابة عنه وإفراد التآليف فيه. أولا- حكمة ارتباط الآيات بأسباب النزول: ولقد علمت أن في القرآن الكثير مما نزل ابتداء بدون سبب. وإذ تأملت، وجدت أن معظم ما نزل ابتداء إنما هو من نوع الوصف والإخبار، وأن معظم ما نزل بسبب إنما هو من نوع الأوامر والنواهي والتوجيه والإرشاد. وهذه الظاهرة تدلك على الحكمة في هذا الأمر. فهذا النوع الثاني من الآيات، إنما شأنه تحويل حياة الناس إلى الأفضل

ثانيا - أمثلة لأسباب النزول.

وصدّهم عن السيئ والقبيح، وهدايتهم إلى الأقوم. وأنت خبير أن الأفكار التوجيهية والأحكام التشريعية تكون نظرية بمقدار بعدها عن ظروفها وعن ارتباطها بأسبابها العملية. ولن تجد وسيلة إلى ترسيخ حكم من الأحكام في الأذهان وتنبيه الأفكار إلى مدى صلاحه وقيمته، خيرا من أن تعرضه على الناس في مجال تطبيقه وتقدمه عند الحاجة إليه. وإنها لطريقة تربوية معروفة لا تحتمل البحث والمراء. فمن أجل ذلك قدّم القرآن الكريم إلى الناس أحكامه التشريعية ومعظم توجيهاته الأخلاقية منثورة ومقسمة على الوقائع والأحداث، أو الأسئلة والاستشكالات، حتى تمتزج هذه الأحكام مع الوقائع وتغرس في تربة التطبيق فور ظهورها وولادتها، فيكون ذلك أدعى لحفظها وأبين لقيمتها وصلاحيتها. أما النوع الأول، وهو ما يتعلق بوصف القيامة والجنة والنار، وذكر القصص، فليس الشأن في ذلك متوقفا على ما ذكرناه، فسيّان في تبليغها للناس وإخبارهم عنها أن تنزل آياتها ابتداء أو لمناسبة وسبب. ثانيا- أمثلة لأسباب النزول. 1 - روى مقاتل والكلبي أن رجلا من غطفان كان عنده مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ اليتيم طلب المال، فمنعه عمّه، فترافعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت الآية: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ، وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ، وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (النساء (¬1): 2). 2 - روى البخاري بسنده عن جابر رضي الله عنه قال: عادني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر في بني سلمة يمشيان، فوجداني لا أعقل، فدعا بماء فتوضأ ثم رشّ عليّ منه فأفقت، فقلت كيف أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزل قوله تعالى (¬2): ¬

_ (¬1) انظر أسباب النزول للواحدي: ص 81. (¬2) البخاري كتاب التفسير: ج 8/ 168 مع شرحه فتح الباري.

يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ .. (النساء الآية: 11). 3 - ذكر علماء التفسير أن أبيّ ابن خلف وعقبة بن أبي معيط كانا متحالفين فصنع عقبة طعاما دعا الناس إليه ودعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيضا، فلما قرب قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما أنا بآكل طعامك حتى تشهد أن لا إله إلّا الله وأني رسول الله، فقال عقبة: أشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول الله، فأكل من طعامه، وكان أبي بن خلف غائبا، فلما أخبر بقصته قال: صبأت يا عقبة؟! فقال عقبة: والله ما صبأت ولكن دخل عليّ الرجل فأبى أن يطعم من طعامي إلا أن أشهد له، فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم، فقال أبي: ما أنا بالذي يرضى منك أبدا حتى تأتيه فتبصق في وجهه وتردّ عليه دينه. ففعل ذلك، وقال الضحاك، لما بصق في وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عاد بصاقه في وجهه فتشعب شعبتين، فأحرق خديه وكان أثر ذلك فيه حتى الموت (¬1). ففي ذلك نزل قوله تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا، يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا (الفرقان: 27). 4 - أخرج الحاكم والترمذي عن عائشة رضي الله عنها، أنه جاء عبد الله بن أم مكتوم- وهو ضرير- فقال: يا رسول الله أرشدني وعند النبي صلّى الله عليه وسلّم بعض عظماء المشركين، فجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم يعرض عنه ويقبل على الآخرين، فنزل قوله تعالى (¬2): عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى، وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى .. الآيات. ¬

_ (¬1) أسباب النزول للواحدي- ص 191. (¬2) انظر فتح الباري على صحيح البخاري ب 8/ 489.

ثالثا - أهمية معرفة أسباب النزول:

ثالثا- أهمية معرفة أسباب النزول: لمعرفة أسباب نزول الآيات، أهمية كبرى في تجلية معانيها، والوقوف على حقيقة تفسيرها، إذ ربّ آية من القرآن يعطي ظاهرها دلالات غير مقصودة منها، فإذا وقفت على مناسبها وسبب نزولها انحسر عنها سبب اللبس وظهرت فيها حقيقة المعنى ومدى شموله واتساعه. فمن ذلك قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (البقرة: 115). فالمتبادر من ظاهرها أن الاتجاه في الصلاة إلى كل الجهات سواء، فللمصلي أن يتجه إلى حيث يشاء في صلاته. ولكنك إذا وقفت على سبب نزول هذه الآية رأيت أنها لا تحمل هذه الدلالة المطلقة، وسببها على ما رواه الواحدي في كتابه أسباب النزول، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث سرية فأصابتهم ظلمة، فلم يعرفوا القبلة، فاتجه كلّ منهم ناحية حسب ظنه واجتهاده، فلما قفلوا عائدين سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك فسكت، فأنزل الله تعالى، ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثمّ وجه الله (¬1). ولولا معرفة سبب النزول لتمسك الواهمون بمثل قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما دليلا على عدم حرمتها لما فيها من المنافع. فمن أجل ذلك يقول الواحدي في مقدمة كتابه أسباب النزول ( .. إذ هي- أي أسباب النزول- أوفى ما يجب الوقوف عليه وأولى ما تصرف العناية إليه، لامتناع معرفة تفسير الآية وقصد سبيلها دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها) (¬2). رابعا- اهتمام العلماء بالكتابة في «أسباب النزول». ونظرا لهذه الأهمية التي ذكرناها لمعرفة أسباب نزول الآيات ومناسباتها، ¬

_ (¬1) أسباب النزول ص 20. (¬2) المرجع السابق: 4.

اهتم الأئمة رحمهم الله بالكتابة فيها وتجميع الروايات والأخبار المتعلقة بها، بل أخذ العلماء يفردون المؤلفات في هذا الموضوع حتى غدا «أسباب النزول» اسم علم مستقل برأسه من علوم القرآن. فأقدم من كتب في هذا الفن المحدّث علي بن المديني شيخ الإمام البخاري، المتوفى عام (234). وممّن ألّف فيه، أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري المتوفى عام. (468 هـ)، ومنهم الحافظ بن حجر العسقلاني المتوفى عام (852 هـ)، ومنهم الإمام السيوطي المتوفى عام (911 هـ) (¬1). وبما أوضحناه لك من تدرّج القرآن في النزول، ونزول الكثير منه لأسباب ومناسبات، تعلم أن القرآن لم تنزل آياته على الرسول صلّى الله عليه وسلّم طبق هذا الترتيب الذي تراه وهو الترتيب الذي كان في مكنون علم الله تعالى، وتنزّل به جملة واحدة إلى السماء الدنيا. وإنما كان ينزل من ذلك ما تدعو إليه الحاجة ويتناسب مع تدرّج التشريع، حتى تكامل كله. ¬

_ (¬1) انظر الاتقان في علوم القرآن للسيوطي 1/ 47.

كيفية جمع القرآن وكتابته والأدوار التي مرت على ذلك

كيفيّة جمع القرآن وكتابته والأدوار الّتي مرّت على ذلك أولا- ترتيب القرآن وكتابته في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. استغرق نزول القرآن من الزمن ثلاثة وعشرين عاما، هي جملة العمر الذي تكامل فيه هذا الكتاب العظيم نزولا وترتيبا بين سوره وآياته: روى البخاري عن عائشة وابن عباس أنهما قالا: لبث النبي صلّى الله عليه وسلّم بمكة عشر سنين ينزل عليه القرآن وبالمدينة عشرا (¬1). فكيف تم ترتيبه وتنسيقه بهذا الشكل، وهل كان ثمة من يكتب كل ما ينزل منه في عهده صلّى الله عليه وسلّم؟ أما الترتيب والتنسيق فإن الأحاديث الواردة في هذا الشأن تتفق على أن ترتيب الآيات إلى جانب بعضها، حسبما عليه المصحف الآن، إنما هو ترتيب توقيفي، لم يجتهد فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا أحد من الصحابة في عهده أو من بعده وإنما كان يتلقى ترتيبها إلى جانب بعضها وحيا من عند الله تعالى بواسطة جبريل عليه السلام. روى أحمد بإسناده عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت جالسا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إذ شخص ببصره ثم صوبه قال: «أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى الآية. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري: 6/ 96. ويلاحظ أن عائشة رضي الله عنها أسقطت المدة التي فتر فيها الوحي، وهي في بعض الأقوال ثلاث سنوات، ويقصده هذا الحديث.

وروى القرطبي بسنده عن ابن عباس قال: آخر ما نزل من القرآن: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. فقال جبريل يا محمد، ضعها في رأس ثمانين ومائتين من البقرة» (¬1). وروى البخاري بسنده عن ابن الزبير، قال قلت لعثمان: هذه الآية التي في البقرة وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً- إلى قوله غَيْرَ إِخْراجٍ قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها؟ فقال: يا ابن أخي، لا أغير شيئا من مكانه. وبناء على ذلك فقد تم إجماع العلماء ومختلف المؤرخين والباحثين على أن ترتيب آيات القرآن عمل توقيفي من قبل الله عزّ وجلّ. وما يقال عن ترتيب الآيات، هو الذي يقال أيضا في ترتيب السور ووضع البسملة في الأوائل. قال القاضي أبو بكر بن الطيب، رواية عن مكّي رحمه الله في تفسير سورة «براءة»: إن ترتيب الآيات في السور ووضع البسملة في الأوائل هو توقيف من النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولما لم يؤمر بذلك في أول سورة براءة تركت بلا بسملة. وروى القرطبي عن ابن وهب قال: سمعت سليمان بن بلال يقول سمعت ربيعة يسأل: لم قدمت البقرة وآل عمران، وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة، وإنما نزلتا في المدينة؟ فقال ربيعة: قد قدّمتا وألّف القرآن على علم ممّن ألّفه (¬2). إلّا أنه وقع بحث بين علماء هذا الشأن في حكم من أحبّ أن يرتب سور القرآن طبقا لتاريخ نزولها لا لترتيبها الأخير الذي بأمر به الرسول صلّى الله عليه وسلّم، هل هو عمل جائز أم لا؟ وليس لنا في هذا المجال غرض يتعلق بهذا البحث. وأما كتابته فأنت تعلم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان أميّا لا يقرأ ولا يكتب؛ أجمع ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي 1 - 61 وانظر صحيح البخاري ج: 5 كتاب التفسير ص: 165. (¬2) انظر تفسير القرطبي: 1 - 59 و 8 - 61.

على ذلك عامّة المؤرخين والباحثين. قال الله عزّ وجلّ: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ، إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ. إلّا أنه كان يعهد بكتابة ما يتنزل عليه من القرآن إلى أشخاص من الصحابة بأعيانهم، كان يطلق عليهم اسم كتّاب الوحي، وأشهرهم الخلفاء الأربعة، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان، والمغيرة بن شعبة، والزبير بن العوّام، وشرحبيل بن حسنة، وعبد الله بن رواحة (¬1). وقد كانوا يكتبون القرآن فيما تيسر لهم من العظام والسعف وألواح الحجارة الرقيقة. وقد كانوا يضعون هذا الذي يكتبونه في بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم يكتبون منه لأنفسهم صورا أخرى يحفظونها لديهم (¬2) فعمل كتاب الوحي في عهده صلّى الله عليه وسلّم لم يكن جمعا لكتاب الله تعالى بين دفتين وإنما كان مجرد تسجيل كتابي له على متفرقات العظام والحجارة والأوراق وغيرها، مع ترتيب سوره وآياته حسب ما يوحى به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ولقد كان في الصحابة من يتتبع آيات القرآن وترتيبها فيحفظها عن ظهر قلب، حتى حفظوا بذلك القرآن كله، فمن مشاهيرهم: عبد الله بن مسعود، وسالم بن معقل، ومعاذ بن جبل، وأبيّ بن كعب وزيد بن ثابت. وكان سائر الصحابة يشتركون بحفظ مقادير كبيرة من القرآن، حسب ما يكون كتب منه لنفسه أو حسب ما يتيسر له. وظل الصحابة يعكفون على حفظ القرآن غيبا حتى ارتفعت نسبة الحفّاظ منهم إلى عدد لا يحصى، يدلك على ذلك ما يذكره الرواة من أن موقعة اليمامة التي وقعت في زمن أبي بكر رضي الله عنه قد قتل فيها سبعون صحابيا من حفظة القرآن، وروى القرطبي أنهم سبعمائة، وهي رواية ضعيفة ولا شك (¬3)، إلا أنك تستطيع أن تفهم من ذلك نسبة الصحابة الذين يحفظون القرآن في صدورهم. ¬

_ (¬1) انظر فتح الباري: 9 - 18. (¬2) التحقيق أن كتّاب الوحي كانوا يضعون ما يكتبونه من القرآن في بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال ذلك المحاسبي في كتاب «فهم السنن» وانظر البرهان للزركشي 1 - 238 والإتقان للسيوطي 1 - 58. (¬3) انظر تفسير القرطبي: 1 - 50.

ثانيا - ما جد من ذلك في عهد أبي بكر:

ويتضح لك من هذا الذي ذكرناه أن القرآن وعاه الصدر الأول من الصحابة وبلغوه إلى من بعدهم بطريقتين: إحداهما: الكتابة التي كانت تتم بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام لأشخاص بأعيانهم وكل إليهم هذا الأمر. الثانية: حفظه في الصدور عن طريق التلقّي من كبار قرّاء الصحابة وحفّاظهم الذين تلقّوه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ وأقرّهم على كيفية النطق والأداء. كما يتضح لك أن القرآن رغم ذلك لم يجمع في مصحف على عهده صلّى الله عليه وسلّم؛ والسبب هو ضيق الوقت بين آخر آية نزلت منه وبين وفاته عليه الصلاة والسلام؛ فقد علمت مما ذكرناه أن الفترة بينهما لم تزد على تسع ليال في أكثر الروايات وأقربها إلى الاعتماد. ثانيا- ما جدّ من ذلك في عهد أبي بكر: قلنا إن القرآن كتب كله في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولكن متفرقا دون أن يجمع في مصحف واحد بين دفتين كما هو اليوم. فلما توفي النبي صلّى الله عليه وسلّم وتولى الخلافة من بعده أبو بكر رضي الله عنه، ووقعت معركة اليمامة التي قتل فيها كما قلنا عدد كبير من حفظة القرآن أشار عمر بن الخطاب على أبي بكر رضي الله عنهما بجمع القرآن وحفظه بين دفتين مخافة أن يموت أشياخ القرّاء كأبيّ وابن مسعود فيختلف الناس في قراءته إذ لا يكون عندهم إمام يجمعون عليه. ولننقل لك نص ما رواه البخاري في ذلك. روى البخاري عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة (أي عند ما قتل أهل اليمامة) فإذا عمر بن الخطاب عنده قال أبو بكر رضي الله عنه، إن عمر أتاني فقال إن القتل قد استحرّ يوم اليمامة بقرّاء القرآن وإني أخشى أن يستحرّ القتل بالقرّاء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال عمر: هذا

والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأي عمر قال زيد: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتتبّع القرآن فاجمعه. فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال، ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن .. فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره: «لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم». فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهما (¬1). فالجديد الذي أمر به أبو بكر رضي الله عنه، هو جمع ما تفرق من الرقاع والعسب وغيرها، ثم استنساخها منها إلى صفحات مرتبة مجتمعات، تكون محفوظة في دار الخلافة ومرجعا للمسلمين في كيفية القراءة والأداء. ولم يكن عبارة عن مجرد جمع تلك القطع المتناثرة إلى بعضها بخيط، كما قد يتصور بعض الناس ويفهمه من كلمة «جمع القرآن» وقول أبي بكر لزيد «فتتبّع القرآن فاجمعه». وإنما كانت مهمة زيد التي وكلت إليه هي جمع هذه المتفرقات ثم الكتابة على منوالها من جديد. يدلّ على ذلك ما رواه ابن أشتة في المصاحف عن الليث بن سعد قال: أول من جمع القرآن أبو بكر وكتبه زيد. وأكد ذلك الحارث المحاسبي في كتابه فهم السنن. ويؤكد ذلك ما رواه ابن أبي داود من طريق هشام بن عروة عن أبيه أن أبا بكر قال لعمر ولزيد: اقعد على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله، فاكتباه. قال ابن حجر في الفتح: ورجاله ثقات (¬2). وإذا وقفت على النهج الذي كان يسير عليه زيد رضي الله عنه في الاستيثاق من الآية عند كتابتها، أدركت مدى الدقة العظيمة التي امتدت مع المراحل التاريخية المختلفة لكتابة القرآن وجمعه. فقد كان لا يكتب من القرآن ¬

_ (¬1) البخاري: 6 - 98. (¬2) انظر الإتقان: 1/ 58 وفتح الباري: 9/ 11.

ثالثا - ما جد من ذلك في خلافة عثمان:

آية إلا بشاهدين يجتمعان عليها من حيث اللفظ والأداء وهما الحفظ والكتابة، رغم أنه كان هو نفسه في مقدمة حفّاظ القرآن غيبا، فكان في غنىّ عن أن يحمّل نفسه هذا الجهد، ولكن الورع في الدين والحيطة في النقل حمّلاه على أن يضع نفسه- من أجل أنه هو الذي تولى الكتابة- في الموضع الأخير بعد عامّة الصحابة. وهذا المنهج الشديد الذي اتّبعه زيد، هو الذي يفسر لك معنى قوله أنه لم يجد الآيات الأخيرة من سورة التوبة إلا مع أبي خزيمة الأنصاري. فليس معنى كلامه هذا أنه اعتمد في كتابتها على خبر الواحد فقط وهو أبو خزيمة، وإنما هو مزيد في الحيطة منه، فهو لا يكتفي بحفظه وحفظ بقية الصحابة لها باللسان، بل لا يكتفي مما كتب أيضا إلا بالذي كان داخلا منه تحت إشرافه عليه الصلاة والسلام وتولى كتابته أحد كتّاب الوحي أنفسهم. فمن أجل ذلك ظلّ متوقفا عن تسجيل هذه الآيات رغم حفظه لها ورغم وجودها في صدور عامّة الصحابة إلى أن عثر لها على الشاهد الثاني أيضا وهو الكتابة الموثوقة الصحيحة. قال أبو شامة: وكان غرضهم أن لا يكتب إلا من عين ما كتب بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم، لا من مجرد الحفظ، قال ولذلك قال في آخر سورة التوبة لم أجدها مع غيره- أي غير أبي خزيمة الأنصاري- أي لم أجدها مكتوبة مع غيره. لأنه كان لا يكتفي بالحفظ دون الكتابة (¬1). ثالثا- ما جدّ من ذلك في خلافة عثمان: وقد ظلّ الأمر على ما قام به أبو بكر رضي الله عنه، مدة خلافته، ثم مدة خلافة عمر رضي الله عنه، وفي صدر من خلافة عثمان رضي الله عنه. إلا أنه حدث بعد ذلك أمر نبّه المسلمين إلى ضرورة وجود نسخ متعددة من هذا المصحف الإمام الذي اعتمده الخلفاء، لتوزيعها في الأمصار وجمع الناس عليها، كي لا يكون للعجمة واللهجات المختلفة سبيل إلى اختلاف الناس في القراءة أو إلى تحريف شيء من القرآن لفظا أو أداء. ¬

_ (¬1) انظر الإتقان: 1/ 58، وفتح الباري: 9/ 12.

ولننقل لك مرة أخرى ما رواه البخاري بسنده في ذلك: (عن ابن شهاب أن أنس بن مالك حدّثه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردّها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن حارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم. ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، ردّ عثمان الصحف إلى حفصة، فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق) (¬1). وإنك لتدرك من هذا النص أن هنالك فرقا من ثلاثة وجوه بين ما فعله عثمان رضي الله عنه وما كان قد فعله من قبله أبو بكر رضي الله عنه. الأول: أن السبب فيما فعله عثمان إنما هو ما رآه من اختلاف بعض المسلمين في قراءة القرآن، من أثر اتساع الفتوحات ودخول قدر كبير من الأعاجم في الإسلام، يدلك على ذلك ما قاله حذيفة بن اليمان وقد أفزعه ما رآه من بادرة الاختلاف في قراءة القرآن، وهذا ما حمله رضي الله عنه على أن يتشدد في المسألة فيأمر بإحراق كل ما يوجد من صحف ومصاحف أخرى في أيدي الناس، حصرا للاعتماد وحيطة في الضبط، وإنما كان ذلك منه بعد أن جمع المهاجرين والأنصار وجلّة أهل الإسلام وشاورهم في الأمر، فاتفقت كلمتهم على استنساخ المصاحف المتعددة من الأصل المعتمد واطراح ما سواها. روى القرطبي عن عمير بن سعيد قال علي رضي الله عنه: لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت في المصاحف مثل الذي فعل عثمان (¬2). ¬

_ (¬1) صحيح البخاري: 6 - 99. (¬2) انظر تفسير القرطبي: 1 - 52، و 5، والبرهان: 1 - 230.

أما ما فعله أبو بكر فإنما كان ذلك بسبب مصرع كثير من حفّاظ القرآن، كما قد رأيت. الثاني: اعتمد عثمان رضي الله عنه في كتابة المصاحف على لجنة مكونة من أربعة أشخاص من كبار القرّاء والحفّاظ، من بينهم زيد بن ثابت. أما الجمع الأول فقد اعتمد فيه أبو بكر كما قد رأيت على زيد بن ثابت فقط، ولعلّ سبب هذا الفرق مضاعفة الجهد هنا بسبب كتابة النسخ المتعددة. الثالث: الصحف التي جمعت في المرة الأولى، إنما كان المراد منها أن تبقى في دار الخلافة معتمدا ومرجعا للدولة، إذ لم يكن في البال ما تسرب إلى بعض الألسنة أخيرا من الاختلاف في قراءة القرآن بسبب شيوع العجمة واتساع الرقعة الإسلامية. أما هذه الكتابة الثانية فإنما أريد منها اعتمادها ثم توزيعها في الأمصار لتتوحد القراءة على أساسها. إلا أن الباحثين اختلفوا في عدد المصاحف التي استنسخها، والراجح الذي عليه أكثرهم أنها سبعة مصاحب، استبقى واحدا منها عنده وهو الذي سمي بالمصحف الإمام ووزع سائرها على الكوفة والبصرة والشام واليمن ومكة والبحرين (¬1). ثم إنك إذا تأملت في قصة هذا الجمع الثاني وقفت على حقيقتين لا بدّ من إدراكهما: الأولى: ترتيب مصاحف عثمان ورسمها إنما كان على نسق ما كتبه زيد بن ثابت في الجمع الأول، إذ إن الصحف التي اعتمد عليها إنما كانت كما علمت من كتابة زيد، بعد أن أمره كلّ من أبي بكر وعمر بذلك، وزيد بن ثابت هذا هو من أشهر الصحابة ضبطا للقرآن وحفظه، وهو صاحب العرضة الأخيرة للقرآن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبيل وفاته، فأقرّه الرسول عليه الصلاة والسلام، وأمر الناس بأخذ القرآن عنه، ومن هنا قطع كافة العلماء والباحثين ¬

_ (¬1) البرهان: 2 - 240.

بأن هذه المصاحف التي وزّعها عثمان في الأقطار هي الصورة المحققة الدقيقة للقرآن الذي نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والذي كان يتلى به. الثانية: أن القرآن إنما نزل بلهجة قريش فينبغي أن يكتب أيضا برسمهم وطريقة كتابتهم، تفهم ذلك من قول عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن- أي إملاء ولهجة- فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم. وقد تم هذا العمل العظيم الذي قام به عثمان بن عفان رضي الله عنه في عام 25 للهجرة. أما ما قام به أبو بكر رضي الله عنه فقد كان بعد موقعة اليمامة في العام الثاني عشر للهجرة. ثم إن الصحف التي أعادها عثمان رضي الله عنه إلى حفصة، بقيت عندها إلى وفاتها. ومن هنا تعلم أن هذه الصحف لم تكن من بين الصحف أو المصاحف التي أحرقت. قالوا وقد حاول مروان بن الحكم في عام 65 أن يأخذها منها ليحرقها، فأبت، حتى إذا توفيت أخذ مروان الصحف وأحرقها، وقال مدافعا عن وجهة نظره: إنما فعلت هذا لأن ما فيها قد كتب وحفظ بالمصحف الإمام، فخشيت إن طال بالناس زمان أن يرتاب في شأن هذه الصحف مرتاب (¬1). وما هو إلا أن توزعت هذه المصاحف في البلدان الإسلامية حتى أحرق كل امرئ ما كان عنده من قبل. وأقبلوا يعكفون على استنساخ المصاحف من هذه الأصول الوثيقة المعتمدة، إلى جانب دراستها وتلقّيها مشافهة من كبار القرّاء الذين كان يبعثهم عثمان رضي الله عنه إلى الأمصار ليتلقى الناس منهم كتاب الله عزّ وجلّ. هذا ونستطيع أن نقطع بأن واحدا من المصاحف العثمانية كان باقيا في دمشق بمسجد بني أمية الكبير حتى القرن الثامن الهجري، حيث يقول ابن كثير ¬

_ (¬1) مباحث علوم القرآن للدكتور صبحي الصالح نقلا عن كتاب المصاحف لابن أبي داود ص: 74.

في كتابه فضائل القرآن: (أما المصاحف العثمانية الأئمة فأشهرها اليوم الذي في الشام بجامع دمشق عند الركن شرقي المقصورة المعمورة بذكر الله) (¬1). أما بعد ذلك، فالحديث عن تحقيق هذه النسخ ونقلها بين المكتبات والمتاحف والبلدان، أمر يطول ولسنا بصدد هذا البحث. فإذا تأملت في هذه الخلاصة التي سردناها من تاريخ هذا الكتاب العظيم، منذ نزوله على قلب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم إلى وصوله إلينا اليوم من حيث الأدوار التي تدرج فيها كتابة وجمعا، وتلقيا ودرسا- تصورت أنك من هذا الكتاب المبين أمام شمس واضحة مشرقة تسير أمام عينيك في قبة السماء الصافية، ليس حولها مزقة سحاب تغشي عليها وليس بينك وبينها أي زوبعة أو ضباب يحجبها عنك. سلسلة متصلة من التدوين الكتابي الدقيق، والتلقّي الشفهي السليم، يسيران جنبا إلى جنب في مطابقة واتفاق، منذ بزوغ فجر هذا التنزيل إلى هذه الساعة من يومنا هذا، لا ترى فيها حلقة مفقودة أو ثغرة ينفذ منها الشك أو اختلافا يبعث على الريبة. فأي خبر أو كتاب سار خلال القرون في مثل هذا النفق المحكم العجيب من الحفظ والوقاية؟ اللهمّ إن العقل لا يفهم من ذلك إلا أنه تصديق الدهر والقرون لقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ وقوله تعالى: كتاب لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ. ¬

_ (¬1) انظر المرجع السابق: 90.

رسم القرآن والمراحل التحسينية التي ندرج فيها

رسم القرآن والمراحل التحسينية الّتي ندرّج فيها مما لا شك فيك، أن الصحف التي كانت قد كتبت على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، والمصاحف العثمانية التي وزعت على الأمصار، كانت كلها خالية عن الشكل والنقط. وكان العرب إذ ذاك يهتدون إلى النطق السليم بوسيلتين: إحداهما: السليقة العربية الأصيلة التي كانوا يتمتعون بها، والأصالة اللغوية التي كانت فطرتهم مطبوعة عليها، فلم يكن لما عرف بعد ذلك باسم اللحن أي سبيل إلى ألسنتهم، وليس لديهم أي فقر في فهم المعنى الصحيح للفظ من الألفاظ العربية أو في الشكل السليم للنطق بها. الثانية: التلقي والمشافهة، وقد قلنا إن القرآن كان يضبط ويحفط، بكلّ من وسيلتي الكتاب والتلقّي، فلا الكتابة وحدها كانت معتمدا كافيا لهم، ولا التلقي وحده كان أساسا معتمدا عندهم، بل الأمر إنما يعتمد على كلا الوسيلتين. فكان التلقي يزيد من وضوح الكتابة، ويزيل ما قد يتصور من اللبس في النطق ببعض الكلمات، كتلك التي تحتمل عددا من وجوه الأداء والقراءة، بسبب عدم توفر النقط فيها. على أن رخصة النطق بالأحرف السبعة في أول عهد العرب بالقرآن ساهمت باعتبارها وسيلة ثالثة في تسهيل ضبط القرآن دراسة وحفظا، وأورثت طمأنينة بعدم الوقوع في أي لبس أو وهم، عند النطق بهذه الكلمات المحتملة. ومما لا ريب فيه أيضا، أن رسم المصاحف العثمانية التي نسخت على

فأما الظاهرة الأولى:

هدي الصحف الأولى، يقوم على إملاء خاص به في ذلك العصر وفيما بعده أيضا. وإنك لتجد في إملائه من أنواع الزيادات والحذف للحروف والمدود وطريقة الرسم، ما لم يكن معهودا حتى عند كثير من القبائل العربية إذ ذاك. إلا أنه كان يتفق في جملته مع الرسم القرشي في ذلك الوقت، ومن هنا قال عثمان رضي الله عنه للكاتبين: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في كلمة من كلمات القرآن، فاكتبوها بلسان قريش، فإن القرآن أنزل بلسانهم (¬1). ولقد ظهر تطبيق هذه الوصية، عند ما اختلف الكتّاب الأربعة في كيفية رسم «التابوت» في قوله تعالى: وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ... (البقرة: 248)، فقد قال زيد «التابوة» وقال القرشيون «التابوت» وترافعوا إلى عثمان فقال: اكتبوا «التابوت» فإنما أنزل القرآن على لسان قريش (¬2). فقد علمت إذا، أن في الرسم القرآن في عهده الأول، ظاهرتين: الظاهرة الأولى: أن له إملاء خاصا به من حيث كيفية كتابة الهمزة مثلا، أو الأحرف اليائية والواوية ومن حيث الزيادة والنقص وما شابه ذلك. الظاهرة الثانية: أنه كان مجردا عن الشكل الذي يوضّح إعرابه، وعن النقط الذي يميز الأحرف المعجمة عن المهملة. فأما الظاهرة الأولى: فقد استمرت فيما بعد، ولم يطرأ عليها تغيير أو تحوير يذكر، فقد أخذ الناس يعتبرون الرسم القرآني رسما معينا خاصّا به ولم يجدوا ما يدعوا إلى مدّ يد التغيير إليه، بعد أن وصل إليهم بهذا الشكل صورة طبق الأصل للكتابة المعتمدة الأولى، بل لقد رأى العلماء أن الحيطة في حفظ القرآن تدعوا إلى وجوب إبقائه على شكله الأول، وتحريم أو تكريه أي تطوير كتابي فيه، تطبيقا للقاعدة الشرعية الكبرى: سدّ الذرائع. ¬

_ (¬1) صحيح البخاري: 6 - 98. (¬2) البرهان: 1 - 376، والإتقان: 1 - 98.

أما الظاهرة الثانية:

روى أبو عمرو الداني عن أشهب، قال: سئل مالك رحمه الله: هل بكتب المصحف على ما أخذته الناس من الهجاء؟ فقال: لا، إلا على الكتبة الأولى، وسئل مالك مرة أخرى عن الحروف في القرآن مثل الواو والألف: أترى أن تغير من المصحف إذا وجدوا فيه ذلك؟ فقال: لا: وذهب أحمد بن حنبل رحمه الله إلى أنه تحرم مخالفة خط مصحف عثمان في ياء أو واو أو ألف أو غير ذلك (¬1). وليس يعنينا هنا، أن نعرض لتحقيق الحكم الشرعي في هذا الأمر، خصوصا في مجالات التعليم والتدريس، إنما الذي نقصد إليه هو أن نتأمل في مدى الحيطة والشدّة العجيبتين اللتين صين بهما القرآن خلال تاريخ وصوله إلينا. أما الظاهرة الثانية: فقد دخلها التطوير. والتحسين فيما بعد، كما نجد أثر ذلك في رسم المصاحف في عصرنا هذا. وأصحّ ما قيل عن تاريخ أول طور تحسيني دخل رسم القرآن، أنه كان في عهد التابعين في منتصف القرن الأول للهجرة، وأصحّ ما قيل فيمن باشر ذلك أنه أبو الأسود الدؤلي الذي توفي عام تسع وستين. فقد أجمعت روايات الثقات- كما يقول المرحوم مصطفى صادق الرافعي- على أن أبا الأسود الدؤلي هو أول من وضع النحو بإشارة من علي ابن أبي طالب رضي الله عنه. ولعلك تقول: فما علاقة وضع النحو بتحسين رسم القرآن، وهل يلزم من أن أبا الأسود الدؤلي هو الواضع للنحو أن يكون هو أول مباشر لتحسين الرسم القرآني؟ والجواب: إن عامّة روايات هؤلاء الثقات تتفق على أن سبب وضعه النحو هو ما رآه أو قيل له من شيوع اللحن في قراءة القرآن، كما تتفق معظم هذه الروايات- ومنها رواية أبي الطيب اللغوي وابن النديم وابن عساكر- على ¬

_ (¬1) انظر البرهان: 1 - 279.

أن وضعه للنحو كان مصحوبا بتنقيط المصحف (¬1) ولعلّ الرواية التي ساقها ابن خلكان تجمع القدر المشترك بين مختلف تلك الروايات، وإليك ما يقوله في ذلك: كان أبو الأسود الدؤلي لا يخرج شيئا أخذه من علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى أحد (يقصد به الرقعة التي كان قد أعطاه إياها وفيها قواعد أولية للنحو) حتى بعث إليه زياد بن أبيه- والي العراق يومئذ- أن اعمل شيئا يكون إماما ويعرف به كتاب الله عزّ وجلّ، فاستعفاه من ذلك، حتى سمع أبو الأسود قارئا يقرأ: (إن الله بريء من المشركين ورسوله بالكسر) فقال: ما ظننت أن أمر الناس آل إلى هذا، ورجع إلى زياد فقال: أفعل ما أمر به الأمير؛ فليبغني كاتبا لقنا يفعل ما أقول له، فأتي بكاتب من عبد القيس فلم يرضه، فأتي بآخر، فقال له أبو الأسود إذا رأيتني قد فتحت فيّ بالحرف، فانقط نقطة فوقه، وإن ضممت فمي فانقط بين يدي الحرف، وإن كسرت فاجعل النقطة من تحت، ففعل ذلك (¬2). فإذا تأملت في هذا الخبر- وهو كما قلت لك قدر مشترك للروايات التي ساقها ابن عساكر وابن النديم وأبو الطيب اللغوي- علمت أن الذي بدأ بتحسين رسم القرآن هو أبو الأسود الدؤلي، وعلمت أن هذا التحسين هو وضع النقط للقرآن؛ وأنه لم يكن يقصد به تمييز الحروف المهملة عن المعجمة كما هي وظيفة النقط فيما نعلم، وإنما كان يراد به الشكل الذي يقوم مقام الفتح والكسر والضم منعا عن اللحن في القراءة وعلمت أيضا أنه إنما وضع النحو من حيث نقّط القرآن وأن الذي دفعه إلى وضع النحو وتقعيد قواعده وإبراز الرقعة التي كان قد أعطاه إيّاها علي بن أبي طالب، هو ما أفزعه من سماع اللحن في تلاوة القرآن. ولعلك تسمع بعد هذا، عن روايات تقول بأن يحيى بن يعمر ¬

_ (¬1) انظر وفيات الأعيان: 1 - 240، وانظر كتاب «النحو العربي» للأستاذ الدكتور مازن المبارك ص 100 - 29 فقد عرض فيه لتحقيق واسع فيما روي من خبر أول واضع للنحو، وقارن بين مختلف الروايات في ذلك. (¬2) وفيات الأعيان: 22 - 40.

(ت: 129) هو أول من نقط القرآن، أو أن الذي بدأ بذلك هو نصر بن عاصم الليثي (ت 89). وهي في الحقيقة لا تنافي ما نقلناه، فقد كان كلّ من يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم تلميذين لأبي الأسود الدؤلي، وقد كان يحيى بن يعمر قاضيا بمرو، فلعله عمد فنقط مصحفه على نحو ما فعل أستاذه، قبل أن يفعل ذلك هناك أحد غيره، وأما عمل نصر بن عاصم فهو في أغلب الظن إنما يعتبر طورا آخر من التحسين بعد العمل الذي قام به أبو الأسود، تدلّ على ذلك الرواية التي ساقها ابن خلكان، إذ يقول (ثم كثر التصحيف وانتشر بالعراق؛ ففزع الحجاج بن يوسف إلى كتّابه، فسألهم أن يضعوا لهذه الحروف المشتبهة علامات، فيقال إن نصر بن عاصم قام بذلك) (¬1). فأنت ترى أن الحجاج إنما أمر كتّابه أن يعملوا شيئا تتميز به الحروف المشتبهة في القرآن، والحروف المشتبهة إنما هي المهملة والمعجمة كالحاء والجيم والعين والغين. فيكون عمل نصر ابن عاصم إن صحّت الرواية تنقيطا، لتمييز المتشابه من الحروف لا لضبط الشكل والإعراب كما فعل أبو الأسود. ثم إن هذا التحسين الذي ذكرناه، دخل طورا ثانيا، بل أخذ يتدرّج في أطوار متلاحقة، لا يمكننا أن نضبط كلّا منها بتاريخ دقيق صحيح، وأن ننسبه إلى شخص معين في رواية موثوقة. ولكن مما لا شك فيه أن للحجاج عملا عظيما في ذلك بقطع النظر عن تفاصيل ما قام أو أمر به كما يقول الدكتور صبحي الصالح (¬2). ومما لا شك فيه أيضا أن النقط والشكل تكامل وجودهما في القرآن على عهد الخليل بن أحمد (المتوفى: 170) عند ما ألّف كتابه في النقط والشكل (¬3). وظلت الخطوات التحسينية في رسم القرآن مطّردة إلى يومنا هذا، ابتغاء تحقيق المزيد من ضبطه وتسهيل قراءته. إلا أن الظاهرة الأولى المتعلقة بإملائه ¬

_ (¬1) انظر المرجع السابق: 1 - 135. (¬2) انظر كتاب مباحث في علوم القرآن للدكتور صبحي الصالح: 97. (¬3) وفيات الأعيان: 1 - 172.

ظلت- كما ترى- على الشكل الذي كتبت به الصحف الأولى والمصاحف العثمانية. ومن هذا الذي ذكرناه يتضح لك أن علم النحو لم يقعد ويدوّن إلا خدمة لضبط القرآن، كما قد رأيت، وستجد فيما بعد أن معظم العلوم العربية الأخرى إنما قامت لخدمة القرآن أو نبعت من مضمونه. أما عن تاريخ طباعة القرآن، فيقول الدكتور صبحي الصالح: قد ظهر القرآن مطبوعا للمرة الأولى في البندقية في حدود سنة 1530، ولكن السلطات الكنسية أصدرت أمرا بإعدامه حال ظهوره. ثم ظهرت أول طباعة إسلامية خالصة للقرآن في سانت بترسبورغ، بروسيا سنة 1787. ثم عنيت الآستانة ابتداء من سنة 1877 بهذا الأمر العظيم (¬1). ¬

_ (¬1) مباحث في علوم القرآن: 103.

الأحرف السبعة

الأحرف السّبعة وهذا أيضا بحث من أهم ما يتعلق بتاريخ القرآن وكيفية نزوله. ولنبدأ بما ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: روى مسلم عن أبيّ بن كعب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان عند أضاة بني غفار (غدير صغير، بموضع قرب مكة) فأتاه جبريل عليه السلام فقال له: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك. ثم أتاه ثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك. ثم جاءه الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف: فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيّما حرف قرءوه عليه فقد أصابوا. وروى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها. وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقرأنيها، فكدت أعجل عليه، ثم أمهلته حتى انصرف، ثم لبيته بردائه فجئت به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت يا رسول الله: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرسله ثم قال (اقرأ يا هشام) فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «هكذا أنزلت» ثم قال لي اقرأ، فقرأتها، فقال «هكذا أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما يتيسر منه».

وروى الترمذي بسند صحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه صلّى الله عليه وسلّم لقي جبريل فقال: يا جبريل إني بعثت إلى أمة أمية منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لا يقرأ كتابا قطّ، فقال لي يا محمد إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف. هذا بعض ما ورد من الأحاديث الصحيحة في موضوع الأحرف السبعة. فما هي الأحرف السبعة: وما معنى أن القرآن أنزل على سبعة أحرف؟.: هي في الصحيح الذي ذهب إليه الجمهور كمكي بن طالب، وابن عبد البرّ، وابن قتيبة وابن شريح وغيرهم: لغات متفرقة في القرآن مختلفة في السمع، متفقة في المعنى أو مختلفة في السمع وفي المعنى، وزيادة كلمة ونقص أخرى، وزيادة حرف ونقص آخر، وتغيير حركات في موضع حركات أخرى، وتقديم وتأخير، ومدّ وقصر، وشبه ذلك مما يتعلق بجوهر الكلمة أو كيفية أدائها. وقد يكون هذا الاختلاف مما يخضع لرسم واحد، وقد يكون مما يختلف به الرسم. فكل وجه من هذه الأوجه المختلفة يسمى حرفا، وأطلق على مجموعها الأحرف السبعة، لأنها- فيما ذكره مكي بن طالب وجمهور من أهل العلم- ترجع إلى أربعة أوجه: الأول: أن يختلف في مدّ الكلمة وقصرها أو في إعرابها أو في حركات بنائها بما لا يغير معناها، كالبخل والبخل، وميسرة وميسرة. الثاني: أن يكون الاختلاف في إعراب الكلمة أو في حركات بنائها بما يغير معناها على غير التضاد ولا يزيلها عن صورتها في الخط، كقوله: «ربنا باعد بين أسفارنا» و «ربنا بعّد بين أسفارنا». الثالث: أن يكون الاختلاف في تبديل حرف الكلمة دون إعرابها، بما يغيّر المعنى ولا يخرج عن القصد ولا يغيّر صورة الخط نحو: ننشرها، ننشزها.

الرابع: أن يكون الاختلاف في الكلمة بما يغيّر صورتها في الكتاب ولا يغيّر معناها نحو «إن كانت إلا صيحة واحدة» و «إن كانت إلا زقية واحدة». الخامس: أن يكون الاختلاف بما يزيل صورة الكلمة في الخط ويزيل معناها، دون أن يكون بينهما تضاد نحو: الم تنزيل الكتاب، في موضع: الم ذلك الكتاب. السادس: أن يكون الاختلاف بالتقديم والتأخير كقوله «وجاءت سكرة الحق بالموت» بدلا من «وجاءت سكرة الموت بالحق». السابع: أن يكون الاختلاف بالزيادة أو النقص في الحروف والكلم، شريطة أن لا يحدث ذلك حكما لم يقبله أحد نحو «تجري تحتها» بدلا من «تجري من تحتها» (¬1). إذا عرفت المعنى المراد بالأحرف السبعة، فلتتساءل عن معنى كون القرآن قد نزل بها. والجواب أن الله قد أذن لرسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يقرئ أمته القرآن على هذه الأوجه المختلفة بالحدود والضوابط التي أجملنا بيانها، وأن لمن شاء من أمته أن يقرأ بما شاء من هذه الأوجه، بعد أن يكون قد سمعها تلقيا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وبذلك تعلم أن اختلاف القراءة من وجه إلى آخر لم يقع ولا يجوز أن يقع بالتشهي، بأن يغيّر كل قارئ الكلمة إلى مرادفها أو إلى وجه آخر من كيفية النطق بها. بل ذلك- كما قال الزرقاني على الموطأ- مقصور على السماع منه صلّى الله عليه وسلّم، كما يشير إليه قول كلّ من عمر وهشام، في الحديث السابق ذكره: أقرأني النبي صلّى الله عليه وسلّم (¬2). وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: الصحيح أن هذه الأحرف السبعة ¬

_ (¬1) انظر الإبانة لمكي بن طالب ص 37 - 42. (¬2) انظر الزرقاني على الموطأ 1 - 363.

ظهرت واستفاضت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وضبطها عنه الأمة (¬1). ونتساءل بعد هذا عن الحكمة من نزول القرآن على سبعة أحرف، وهل كان ذلك رخصة منوطة بسبب عارض أم هو عزيمة باقية؟ يتضح لك من الأحاديث التي ذكرناها في أول البحث، أن الحكمة من نزول القرآن على سبعة أحرف، هي التخفيف على العباد وتسهيل سبيل قراءة القرآن عليهم، إذ فيهم كما قال عليه الصلاة والسلام العجوز والشيخ الكبير والرجل الذي لا يقرأ كتابا. واستنادا إلى هذا الدليل، ذهب كثير من أهل العلم إلى أن ذلك إنما كان رخصة اقتضاها حال العرب في صدر الإسلام من تفرقهم واختلافهم إلى قبائل شتى يتخالفون ويتفاوتون في كيفية القراءة والنطق. والرخصة هي تحوّل الحكم الشرعي إلى الأسهل لعذر مع قيام السبب للحكم الأصلي (¬2). يدل على ذلك إلى جانب دلالة الأحاديث السابقة، أن هذا الإذن من الله عزّ وجلّ في القراءة بالأحرف السبعة إنما اقتصر على القراءة فقط، أما كتابة القرآن فإنما كانت بحرف واحد هو حرف قريش، وهو الحرف الذي أشار إليه جبريل بقوله في أول الحديث الذي رواه مسلم عن أبي بن كعب: إن الله يأمرك أن تقرئ القرآن على حرف. قال مكّي بن طالب: «وكان المصحف قد كتب على لغة قريش، على حرف واحد، ليقلّ الاختلاف بين المسلمين في القراءة ... » (¬3). وهكذا، فقد كانت كتابة المصحف بحرفه الأصلي الواحد ضمانة لبقائه والرجوع إليه بعد انتهاء العذر الذي اقتضى التخفيف، كما كانت ضمانة لعدم ضياعه وتميّعه في غمار تلك الأحرف الأخرى التي أذن الله عزّ وجلّ أن تقرأ بها قبائل العرب تخفيفا وتيسيرا. ¬

_ (¬1) انظر شرح النووي صحيح مسلم 6 - 100. (¬2) انظر جمع الجوامع وشرحه 1 - 67. (¬3) الإبانة ص 3.

ولنتساءل إذا: ما هو مصير الأحرف السبعة اليوم؟ والجواب أن مصيرها مصير كل رخصة زال العذر المسبّب لها. وقد علمت أن جواز القراءة بالأحرف الستة الأخرى غير التي كان يكتب بها القرآن، إنما كان رخصة اقتضاها حال العرب في صدر الإسلام لما قد رأيت من اختلاف اللهجات وشيوع الأمية. فلما صهرهم الدين وجمعهم القرآن وتقلصت الأمية، انتهت الرخصة وانحسرت الحاجة إليها، وعاد الحكم فانحصر بالحرف الذي كان يكتب؛ وهو حرف قريش. فاجتمع الناس كلهم على النطق به معتمدين في ذلك على ما وجدوه مكتوبا عندهم من الرسم الصحيح المعتمد للقرآن. روى القرطبي عن الطحاوي: «إنما كانت السعة للناس في الحروف لعجزهم عن أخذ القرآن على غير لغاتهم، لأنهم كانوا أميين لا يكتب إلا لقليل منهم، فلما كان يشقّ على كلّ ذي لغة أن يتحول إلى غيرها من اللغات، ولو رام ذلك لم يتهيأ إلّا بمشقة عظيمة، فوسّع لهم في اختلاف الألفاظ إذا كان المعنى متفقا. فكانوا كذلك حتى كثر منهم من يكتب وعادت لغاتهم إلى لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقدروا بذلك على تحفّظ ألفاظه، فلم يسعهم حينئذ أن يقرءوا بخلافها (¬1). وذكر النووي مثل هذا في شرحه على صحيح مسلم (¬2). وعزا الزرقاني على الموطأ ذلك إلى أكثر أهل العلم كابن عيينة وابن وهب والطبري وابن عبد البرّ والطحاوي (¬3). ولكن كيف سقط العمل بما يخالف خط المصحف، حتى لم تجز القراءة بالأحرف الأخرى وهل كان ذلك على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبأمره أم في عهد عثمان وبتوجيهه؟ ¬

_ (¬1) الجامع لأحكام القرآن: 1 - 42، 43. (¬2) انظر شرح النووي على مسلم: 6 - 11. (¬3) الزرقاني على الموطأ: 1 - 263.

اختلف العلماء في ذلك، ونقل الزرقاني أن أكثرهم على أن ذلك إنما كان في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبأمره، فقد قال: «وهل استقرّ ذلك في الزمن النبوي أم بعده؟ الأكثر على الأول واختاره الباقلاني وابن عبد البرّ وابن العربي وغيرهم، لأن ضرورة اختلاف اللغات ومشقة نطقهم بغير لغتهم اقتضت التوسعة عليهم في أول الأمر ... حتى انضبط الأمر وتدربت الألسن وتمكن الناس من الاقتصار على لغة واحدة، فعارض جبريل النبي صلّى الله عليه وسلّم القرآن مرتين في السنة الأخيرة واستقر الأمر على ما هو عليه الآن فنسخ الله تلك القراءة المأذون فيها، بما أوجبه من الاقتصار على هذه القراءة التي تلقاها الناس (¬1). وعلى هذا، فقد كان إقدام عثمان رضي الله عنه على جمع الناس على حرف قريش ومنع القراءة بكل حرف آخر سواه مما يخالف خط المصحف المعتمد، وتحريق المصاحف الأخرى المخالفة له- كان كل ذلك منه باستناد إلى هذا الذي رواه الزرقاني عن أكثر أهل العلم من استقرار القرآن كتابة وقراءة، في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على جزء من الأحرف السبعة، وهو الذي كانت كتابة القرآن به. وما أجمع الصحابة ومن بعدهم مع عثمان على صنيعه، إلا استنادا إلى أن الأمر كان قد استقر على ذلك في آخر عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبأمر منه. ويبقى بعد ذلك السؤال التالي: ولكن جمع عثمان الناس على حرف واحد لم يوحّد القراءات توحيدا تاما، بل بقي الناس مع ذلك يختلفون في القراءة بأوجه من النطق والأداء ضمن ما يتحمله الحرف الواحد المعتمد كتابة، منذ عهد الرسول، والذي أصبح معتمدا في الكتابة والقراءة معا في عهد عثمان! ... والجواب أن هذه القراءات المختلفة التي ظل الناس يقرءون بها حتى بعد عهد عثمان، إنما هي جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، وإنما سوغ القراءة بها أنها موافقة لخط عثمان الذي أجمع الصحابة فمن بعدهم عليه (¬2). ¬

_ (¬1) الزرقاني على الموطأ: 1 - 363. (¬2) الإبانة لمكّي بن طالب ص 3.

وبيان ذلك أن الأحرف السبعة تتفاوت في درجة تخالفها وتباعدها عن بعضها، كما مرّ بيانه. فمنها ما يتعلق بكيفية النطق والأداء من قصر ومد ونحوهما دون أن تتغير به صورة الخط، ومنها ما يتغير به صورة الخط والرسم كإبدال كلمة بأخرى ... فلما جمع عثمان الصحابة على خط واحد، وهو حرف قريش، ومنع المسلمين من القراءة بما خالفه، وقد كان خط المصحف خاليا- إذ ذاك من النقط والشكل- بقيت الأوجه الخاضعة لذلك الحرف الباقي، معتمدة في القراءة والتعبّد بها، طالما ثبتت روايتها عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالتواتر. إذ الذي بطلت القراءة به من مجموع الأحرف السبعة، سواء قلنا إن ذلك كان في آخر عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو في عهد عثمان، إنما هو كل ما خالف حرف قريش ولم يقبله التأويل بحال، فبقي ما كان مندرجا ضمنه على أصله من الاعتماد وصحة القراءة به. وهذا القدر المتفق مع الخط المعتمد للمصحف، من مجموع الأحرف السبعة، هو الذي سمي فيما بعد بالقراءات.

علوم القرآن

علوم القرآن تمهيد 1 - ما هي علوم القرآن؟ 2 - (علوم القرآن) اصطلاح خاص. 3 - متى ظهر هذا الاصطلاح؟ ما هي علوم القرآن؟ علوم القرآن كثيرة، وحسبك أن تعلم أن المكتبة العربية كلها بعلومها المختلفة الكثيرة، إنما انبثقت عن القرآن وتفرعت عنه، فعلم العربية بفروعها من أدب وبلاغة وقواعد ولغة، من علوم القرآن. والشريعة الإسلامية بفروعها من الفقه والأصول، والتفسير والحديث والتوحيد، من علوم القرآن. والتاريخ وكثير من مسائل الكونيات وأصول البحث من علوم القرآن. قال الزركشي: وكل علم من العلوم منتزع من القرآن وإلا فليس له برهان (¬1). وروى البيهقي في المدخل عن ابن مسعود أنه قال: من أراد العلم فليثوّر القرآن (أي ليفكر في معانيه وتفسيره وقراءته) فإن فيه علم الأولين والآخرين قال: وإنما أراد به أصول العلم (¬2). وقبل أن تستعظم هذا الكلام، وتردّه إلى المبالغة والتزيد، نقول لك: إنما يصدق هذا، على أساس الوجهين التاليين: الوجه الأول: أن القرآن يشتمل على كل تلك العلوم اشتمالا مختلفا ¬

_ (¬1) البرهان: 1 - 7. (¬2) المرجع السابق: 1 - 8.

ومتفاوتا. فمنها ما يشتمل عليه القرآن بمعناه الحقيقي دون أي تأويل أو مبالغة كعلوم الفقه والأصول والتفسير والبلاغة والقواعد واللغة. ومنها ما يشتمل القرآن على أصوله ومفاتيحه، بمعنى أنه ينبّه القارئ إليه ويرشده إلى كثير من كلياته وأصوله، ككثير من العلوم الكونية والفلكية، وعلم الطب والأبدان. الوجه الثاني: أن القرآن هو الذي نبّه العرب والمسلمين إلى ضرورة الإقبال على هذه العلوم والأبحاث، بل هو المنطلق الأول لشيء اسمه «التدوين» في التاريخ العربي. فالقرآن، كما قد رأيت فيما مضى، هو الذي أشعر الناس بضرورة وضع قواعد في النحو والإعراب، وهو الذي أشعرهم بالحاجة إلى وضع موازين وضوابط للبلاغة العربية ووجوهها، وهو الذي دعاهم إلى وضع الموسوعات اللغوية المختلفة، وهو الذي اضطرهم إلى تدوين شيء اسمه (علم الكلام) بما يشتمل عليه هذا العلم من قواعد البحث والمنطق لتعزيز الأدلة النقلية بالبراهين العقلية ثم لولا القرآن وما أدى إليه تدوينه والإقبال عليه، لما أقبلوا بعد ذلك إلى شيء من العلوم الكونية والتشريح والطب. وآية ذلك أن الذين نبغوا من العرب في هذه العلوم، إنما نفذوا إليها من دراساتهم القرآنية قبل ذلك، فأنت لا تكاد تقع على ترجمة واحد منهم إلا وتجده مفسّرا فقيها ذا باع طويل في القرآن وعلومه، كابن النفيس مثلا الطبيب العظيم وصاحب اكتشاف الدورة الدموية، فقد كان من قبل فقيها عظيما ألّف في الفقه والسيرة النبوية، وترجم له السبكي في طبقات فقهاء الشافعية (¬1). والخلاصة إن بنية الحضارة العربية بما اشتملت عليه من علوم وفنون وفكر وابتكار، إنما قامت بتأثير القرآن وعلى ضوئه، ولا ينافي ذلك ما نعلمه جميعا من كيفية تسلسل الأحداث وارتباط الأمور ببضعها. إنما المهم أن تعلم أنه لولا القرآن لما كانت هذه المكتبة العربية التي نرفع الرأس بها اليوم عاليا. وذلك معنى قولنا: القرآن يحتوي على علوم كثيرة جدا وهو معنى قول الزركشي السابق: كل علم من العلوم منتزع من القرآن. ¬

_ (¬1) انظر طبقات السبكي: 5 - 129.

(علوم القرآن) اصطلاح خاص:

(علوم القرآن) اصطلاح خاص: ثم إن هذه الكلمة أصبحت تطلق على طائفة معينة من الأبحاث الهامة المتعلقة بالقرآن تعلقا مباشرا وقريبا. كتفسيره، وناسخه ومنسوخه، ومكيه ومدنيه ومحكمه ومتشابهه، وقراءاته. وذلك، لأن كلّا من هذه الأبحاث، قد دار حوله كلام كثير، واستلزم فهمه معرفة دقيقة لضبطه وتحديده، وألّفت فيه الكتب المستقلة، فتحولت المعرفة بذلك إلى علم، كما يقول ابن خلدون (¬1). فالتفسير إذا فن مستقل برأسه، يقوم على أسس ومقوّمات وشروط، والناسخ والمنسوخ في القرآن أيضا فن خاص يقوم على دراسة معينة وأهمية خاصة، والمحكم والمتشابه كذلك ... وهلمّ جرا. ثم لما كثرت تآليف العلماء في هذه القرون، وأطلقوا على جملتها اسم (علوم القرآن) وتكرر هذا الاسم وتداوله الباحثون والكاتبون، أصبح هذا الإطلاق علما على هذه الطائفة من علوم القرآن وأبحاثه. وأصبحت هذه الطائفة من الأبحاث علما مستقلا برأسه. متى ظهر هذا الاصطلاح: ثم إنك تعلم أن عصر الصحابة كان عصر تلقّ للقرآن والسنّة، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يدركون معاني الألفاظ وما وراءها بفطرتهم العربية الأصيلة، فإذا أشكل عليهم شيء من وراء ذلك أيضا سألوا عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم كانت رقعة حياتهم ضيقة لا تزخر أو تتزاحم فيها التقاليد والأفكار والمشكلات الطارئة فكانت معارفهم في أذهانهم، وكان مرجعهم فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم كبار الصحابة من بعده، فلم يكن عندهم شيء مما أطلق عليه فيما بعد اسم «علوم القرآن». ثم لما كان عصر التابعين، أقبل التابعون على مشاهير الصحابة يعلمون منهم كتاب الله تعالى وتفسيره، وربما أخذ البعض يدوّن من ذلك الكثير مما ¬

_ (¬1) مقدمة ابن خلدون: 214 طبعة بولاق.

يحرص عليه. وقد اشتهر من التابعين في دراسة القرآن وتفسيره: مجاهد بن جبر وسعيد بن جبير وعكرمة مولى ابن عباس وعطاء ابن أبي رباح والحسن البصري. روى ابن كثير عن ابن أبي مليكة قال: رأيت مجاهدا سأل ابن عباس عن تفسير القرآن، ومعه ألواحه، قال: فيقول له ابن عباس اكتب، حتى سأله عن التفسير كله (¬1). وهكذا تكوّن وظهر في عصر التابعين «علم تفسير القرآن» في مقدمة علومه وأبحاثه الأخرى، إذ هو أساسها وإليه مردّها؛ ظهر علما بدأ تدوينه وجمعه، بعد أن كان معارف في الأذهان والصدور. ثم تفرع عن علم التفسير علومه الأخرى، عند ما تكاثر أرباب الاختصاص في الدراسات العربية والإسلامية. فالفقهاء والأصوليون عنوا منها بعلم الناسخ والمنسوخ، وعلماء التفسير والكلام اهتموا من ذلك بعلم المحكم والمتشابه والقراءات، وعلماء العربية انصرفوا إلى مباحث الإعجاز والأسلوب وعلم إعراب القرآن ... وهلم جرا. ولا شك أن هذه الفنون لم تظهر في حقبة واحدة من الزمن، وإنما ظهرت متتابعة، إلا أنها تكاملت علوما خلال القرنين: الثاني والثالث. أما إطلاق لفظ (علوم القرآن) اصطلاحا على هذه العلوم القرآنية فإن البعض يحسب أن الإمام الشافعي هو أول من سيّر هذا الاصطلاح وذلك أنه حينما جيء به إلى الرشيد- عند ما اتهم بالتشيّع- سأله الرشيد: كيف علمك يا شافعي بكتاب الله؟ فقال الشافعي: عن أيّ كتاب من كتب الله تسألني يا أمير المؤمنين؟ فإن الله أنزل كتبا كثيرة، قال الرشيد: قد أحسنت، لكن إنما سألت عن كتاب الله المنزّل على محمد صلّى الله عليه وسلّم، فقال الشافعي إن للقرآن علوما ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير 1 - 4.

كثيرة، فهل تسألني عن محكمه ومتشابهه، أو عن تقديمه وتأخيره أو ناسخه ومنسوخه؟ وأغلب الظن أن الكلمة إنما أصبحت اصطلاحا، بتداول المؤلفين لها، وجعلها اسما على مباحثهم المتعلقة بالقرآن. وأيّا كان الأمر فإن الخطب في ذلك يسير وهو ما لا يتعلق لنا به غرض كبير.

التفسير حقيقته، نشأته وتطوره، مذاهبه وشروطه

التّفسير حقيقته، نشأته وتطوّره، مذاهبه وشروطه حقيقته: قال في البرهان: التفسير علم يعرف به فهم كتاب الله المنزّل على نبيّه محمد صلّى الله عليه وسلّم، وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحكمه؛ واستمداد ذلك من علم اللغة والنحو والصرف وعلم البيان وأصول الفقه والقراءات (¬1). وثمة كلمة أخرى كثيرا ما تستعمل في مكان التفسير، وهي: التأويل. إلا أنها ليست مرادفة للتفسير بمعناه الدقيق، بل هي في الأصل تختلف عنه اختلافا ما، ولكن كثرة استعمالها في مكان «التفسير» جعلها تؤدي معناها وتقوم مقامها. قال في تهذيب الأسماء واللغات في بيان الفرق بينهما: أما التأويل فقال العلماء هو صرف الكلام عن ظاهره إلى وجه يحتمله، أوجبه برهان قطعي في القطعيات وظني في الظنيات، وقيل هو التصرّف في اللفظ بما يكشف عن مقصوده. وأما التفسير فهو بيان معنى اللفظة القريبة أو الخفية (¬2). أقول: ولعلّ هذا التفريق أصحّ ما قد قيل في ذلك. ولكن هذا الفرق ناظر إلى معنى كلّ من الكلمتين من حيث دلالتها ¬

_ (¬1) البرهان للزركشي 2 - 13. (¬2) تهذيب الأسماء واللغات للنووي 3 - 15، وانظر البرهان 2 - 149.

اللغوية. أما عند ما تصبح «التفسير» إطلاقا على علم معين كما ذكرنا، فهي تتسع حينئذ لمعنى التفسير والتأويل، إذ الكل يدخل تحت مدلول هذا العلم. وتبقى العلاقة حينئذ بين الكلمتين، العموم والخصوص المطلق، فكل تأويل تفسير وليس كل تفسير تأويلا. ولعلك تسأل فتقول: فإذا كان القرآن كتابا مبينا، وقد نزل إلى الناس ليقرءوه فيفهموه، فينبغي أن يكون غنيا عن التفسير والمفسرين؛ وينبغي أن يكون مفهوما بذاته لأن الله تعالى إنما يخاطب عباده بما يفهمونه، ففيم احتيج إلى تفسيره؟ فالجواب: الحاجة إلى تفسير القرآن ليست بسبب أنه كتاب مبهم يحتاج إلى مفتاح له ومترجم عنه وإنما الحاجة إليه من وجوه أخرى نجملها فيما يلي: الوجه الأول: أن القرآن جار على أسلوب يصلح أن يخاطب به طبقات الناس كلهم على اختلاف مداركهم وثقافاتهم (كما سنشرح ذلك فيما بعد) فهو يعطي كلّا، من معانيه وأحكامه قدر طاقته وما يتسع له فكره؛ فإذا أراد القارئ أن يستشف منه ما وراء ذلك وينتهي في سبر أغواره إلى أكثر مما فهمه منه بطبيعته وفكره، فإن سبيله إلى ذلك الرجوع إلى فهم من هم أوسع منه علما وأغزر ثقافة وفهما ليبصروه بما وراء الذي انتهى عنده علمه من دلائله ومعانيه. فهذا وجه من وجوه الحاجة إلى التفسير. الوجه الثاني: أن القرآن- كما قال الزركشي- كلام متكلم لم يصل الناس إلى مراده بالسماع منه، ولا إمكان للوصول إليه، بخلاف الأمثال والأشعار، فإن الإنسان يمكن علمه بمراد المتكلم بأن يسمع منه أو ممّن سمع منه (¬1). ومن هنا تجد القرآن محاطا بسور من الرهبة والجلال يمنع قارئه أن يسرع فيقتحم إليه بالشرح والتفسير كما يشرح الكتب الأخرى. وإنما الشأن أن يتوسط إلى ذلك بما قد أثر من تفسير النبي صلّى الله عليه وسلّم له أو أثر من تفسيرات الصحابة رضوان الله عليهم، فهو الذي أوحي إليه القرآن مباشرة، وهو الذي أمره الله عزّ وجلّ بأن يبيّن ¬

_ (¬1) البرهان: 1 - 16

نشأته وتطوره:

للناس ما نزل إليهم. فهذا وجه ثان في الحاجة إلى تفسيره والاطمئنان إلى حقيقة معانيه المرادة منه. الوجه الثالث: إن القرآن كتاب يحوي ببين دفتيه مبادئ العقيدة والتوحيد، كما يحوي مبادئ الشريعة وأحكام الحلال والحرام، ويشمل التوجيهات الأخلاقية ومبادئ التنظيمات الاجتماعية، إلى جانب ما فيه من عبر الأمم الماضية والإخبار عن المغيبات ووجوه النقاش والحجاج. فلا جرم أنه إنما يتناول كل ذلك ويعالجه بأسلوب من التركيز والاختصار يضمن للقارئ الفهم الموجز الكلي من ناحية، ويحمله على البحث والدرس والوقوف على تفصيلات ذلك من ناحية أخرى. فكانت الحاجة إلى تفسير القرآن من هذه الجهة استجابة للغرض المتعلق بتفصيل موجزاته وشرح كلياته. الوجه الرابع: أن المعنى الذي يراد بتفسير القرآن بعد كل هذا الذي ذكرناه- ليس متوقفا على شرح الكلمة وترجمتها، وإنما هو يتعدى ذلك إلى وجوه وأنواع من الاستنباطات المتعلقة بدقائق المباحث والعلوم، تختلف حسب اختلاف وجهة المفسّر واختصاصه من عربية وأصول فقه وتوحيد وكونيات. والقرآن «كما قد علمت وستعلم» ذو دلالات متسلسلة لا تكاد تتناهى. وإنما سبيل الكشف عنها أو عن بعضها، بعكوف أرباب الاختصاصات عليه بالدرس والبحث والتفسير. فهذه هي خلاصة الأسباب الداعية إلى تفسير القرآن وشرحه. وهي كما رأيت، أسباب لا تتنافى مع كونه كتابا عربيا غير ذي عوج، ولا تتعارض مع ما هو مقرر ثابت من أن الله إنما يخاطب عباده بما يفهمون. نشأته وتطوره: نشأ علم التفسير في صدر الإسلام، في عصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإن لم يكن يسمى حينئذ علما. وذلك هو الشأن في سائر العلوم الإسلامية (تقريبا) نشأت حقائقها في صدر الإسلام، وتكونت أغلفتها فيما بعد. ومعلوم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو أول من مارس التفسير وعلمه للناس، إذ

الطائفة الأولى: وهم أصحاب عبد الله بن عباس، من علماء مكة المكرمة

كان هو المصدر الأول لفهم الكتاب وتبيينه. ولا بدّ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بيّن لأصحابه سائر معاني الكتاب كما بيّن لهم ألفاظه وطريقة تلاوته (¬1). أما الصحابة، فهم الطبقة الأولى في تاريخ علماء التفسير، وهم الأساس والأصل اللذان قامت عليهما نشأة علم التفسير. غير أن الصحابة ليسوا كلهم في مستوى واحد من العلم بكتاب الله تعالى والوقوف على تفسيره، وإنما هناك نخبة امتازت واشتهرت من بين سائر الصحابة بهذا العلم. منهم الخلفاء الراشدون وابن مسعود، وابن عباس، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير، وأنس بن مالك، وأبو هريرة، وجابر، وعبد الله بن عمرو بن العاص رضوان الله تعالى عليهم أجمعين (¬2). ولقد كان أكثر هؤلاء رواية للتفسير، أكثرهم تعميرا وأطولهم حياة، فمن أجل ذلك كان ابن عباس رضي الله عنه المتوفى سنة 68 في مقدمة من اشتهر من الصحابة بالتفسير، وقد روي عنه في التفسير ما لا يكاد يحصى كثرة وقد سمّاه ابن مسعود: ترجمان القرآن. ومن أجل ذلك تجد الخلفاء الثلاث: أبا بكر وعمر وعثمان أقل الذين ذكرناهم رواية له بسبب تقدم وفاتهم، ولعله بسبب أعباء الخلافة أيضا (¬3). وأنت تعلم أن التفسير إنما كان عند هذه الطبقة رواية وأداء بالنطق والمشافهة فقط، ولم يكن شيء منه يكتب على عهدهم، كما لم يكتب أيّ علم آخر اللهمّ إلا القرآن والحديث. ثم تأتي (الطبقة الثانية) من علماء التفسير، وهي طبقة التابعين. وقد نبغ منهم في التفسير ثلاث طوائف: الطائفة الأولى: وهم أصحاب عبد الله بن عباس، من علماء مكة المكرمة ¬

_ (¬1) انظر الإتقان للسيوطي وما يرويه في هذا البحث عن ابن تيمية: 2 - 178. (¬2) انظر كشف الظنون: 1 - 178. (¬3) انظر كشف الظنون: 1 - 298، والإتقان: 2 - 187، وتفسير ابن كثير: 1 - 4.

الطائفة الثانية: وهم أصحاب عبد الله بن مسعود، من علماء الكوفة

أشهرهم مجاهد بن جبر (ت: 103) وسعيد بن جبير (ت: 94) وعكرمة مولى ابن عباس (ت: 105) وطاوس بن كيسان (ت: 106) وعطاء بن أبي رباح (ت: 114). وهذه الطائفة تعدّ من أعلم الناس بالتفسير في عصر التابعين، وفي مقدمتهم مجاهد بن جبر، نقل النووي عنه أنه قال: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة، وقال: كان أعلمهم بالتفسير مجاهد (¬1). الطائفة الثانية: وهم أصحاب عبد الله بن مسعود، من علماء الكوفة فمنهم علقمة بن قيس (ت: 102) والأسود بن يزيد (ت: 75) وإبراهيم النخعي (ت: 95) والشعبي (ت: 105). الطائفة الثالثة: وهم أصحاب أنس بن مالك وغيره فمنهم زيد بن أسلم (ت: 136) وقتادة بن دعامة السدوسي (ت: 117) والحسن البصري (ت: 110) وعطاء بن أبي سلمة (ت: 135) ومحمد بن كعب القرظي (ت: 117). فهذه الطوائف الثلاث، هي التي تكوّن الطبقة الثانية من علماء التفسير. وإنما كان علم التفسير عند هؤلاء، الرواية عن الصحابة. فكانوا يروون عنهم التفسير إلى جانب ما يروونه من الحديث والفقه، ولكنهم اشتهروا بمزيد من العناية بتفسير كتاب الله، لا سيما بعضا منهم مثل مجاهد وسعيد بن جبير والحسن البصري. غير أن عمل هذه الطبقة يمتاز عن عمل الصحابة بظهور الكتابة والتدوين عند بعضهم، وقد كان في مقدمة من قام بذلك مجاهد بن جبر من أصحاب ابن عباس رضي الله عنه. روى ابن جرير عن أبي مليكة قال: رأيت مجاهدا سأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه. قال: فيقول له ابن عباس: اكتب، حتى سأله عن التفسير كله (¬2). ¬

_ (¬1) تهذيب الأسماء واللغات: 2 - 83، وانظر الإتقان: 2 - 189، وكشف الظنون: 1 - 299. (¬2) تفسير ابن جرير: 1 - 30.

وهي وإن كانت كتابة جزئية لم تبلغ درجة التأليف بمعناه المألوف إلا أنها مهدت ذلك لأرباب الطبقة الثالثة الذين عكفوا على تصنيف كتب التفاسير. (أما الطبقة الثالثة)، فقد قام علماؤها بتأليف تفاسير واسعة تجمع ما انتهى إليهم من أقوال الصحابة والتابعين (كتفسير سفيان بن عيينة (ت: 198) ووكيع بن الجراح (ت: 197) وشعبة بن الحجاج (ت: 160) وغيرهم؛ وهم كثير. ثم جاء في أعقابهم محمد بن جرير الطبري (ت: 310) فجمع أشتات هذه التفاسير وقرّب منها البعيد، وفعل مثله عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (ت: 271) وابن عطية وغيرهما. وكلهم كما يقول الزركشي متقن مأجور (¬1)، ولكن الذي وصل إلينا منها تفسير ابن جرير، وهو تفسير عظيم جمع فيه المأثور بالسند وميّز بين الصحيح منه وغيره، وأصبح مستندا هامّا لسائر المفسرين من بعده. ولقد امتاز عمل هذه الطبقة من المفسرين بما يلي: أولا- جمع ما انتهى إليهم من أقوال الصحابة والتابعين في تفسير آيات القرآن، في مؤلفات منسقة ينتظم فيها تفسير جميع آي القرآن بترتيبها المعروف، وبذلك تم ظهور هذا الفن العظيم في مؤلفات ومصنفاته جامعة. ثانيا- ضبط الرواية عن الصحابة. فقد بحثوا في حال التابعين الذين نقلوا إليهم أقوال الصحابة في القرآن، فاعتمدوا منهم من توفرت لديهم شروط الرواية وأمارات الثقة وأهملوا الآخرين، وذلك لما اندسّ في صفوفهم من الدخلاء المتسترين بلباس العلم والإسلام. فمن عملهم في ذلك أنهم اعتمدوا طرقا معدودة في الرواية عن ابن عباس، أفضلها طريق علي بن أبي طلحة الهاشمي (ت: 143) واعتمد عليها البخاري في صحيحه، وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر في تفاسيرهم، وأهملوا طريقة محمد بن السائب الكلبي (ت: 146) عن ابن صالح ¬

_ (¬1) انظر البرهان: 2 - 159.

(ت: 223) عن ابن عباس، قالوا: فإن انضم إليهما محمد بن مروان السدي (ت: 186) فهي سلسلة الكذب (¬1). ثالثا- أنهم أضافوا إلى ما نقلوه عن الصحابة والتابعين زيادات واستنباطات توسعوا فيها، فمنها ما يتعلق بالعربية ومنها ما يتعلق بالقراءات، ومنها ما يتعلق بالفقه وأحكام الحلال والحرام، ملتزمين في ذلك قواعد التفسير وشروطه التي سنتحدث عنها فيما بعد إن شاء الله. ولعلّ أهم هذه الأعمال الثلاثة، هو ضبط الأسانيد والروايات ونخلها بذاك المنخل العلمي العظيم الذي لا ولن يملك مثله لدى البحث العلمي غير المسلمين، وأنّى للآخرين أن يرتقوا فيما يزعمونه من البحث العلمي إلى هذا المستوى، وإنما بحوثهم العلمية كلها تقوم على أساس (الاستنتاج) ويا له من أساس علمي متين؛ ذاك الذي يقتنص حقائق العلم وسط دخان الأهواء وفي سبحات الخيال!! ولقد كان علم التفسير خلال هذه المراحل الثلاث يضم كل ما يتعلق بفهم القرآن وكشف أسراره وغوامضه، من قراءات وأسباب نزول، وناسخ ومنسوخ، ومتشابه، إذ كان الحديث عن ذلك كله داخلا في تفسير القرآن. فلما توسعت الاختصاصات العلمية، وظهر العلماء الذين اختصّوا- بعد كفايتهم العلمية- بالفقه، والذين اختصّوا بعلم الكلام، والذين انصرفوا إلى علم القراءات وهلمّ جرّا- أخذ كلّ من أرباب الاختصاص يتناول من تفسير القرآن ما يتعلق باختصاصه فيفرده بالبحث والتأليف. وهكذا انفصل بحث القراءات من علم التفسير، لمّا أفرد القراء التآليف فيه، فأصبح علما مشتقا من التفسير؛ وانفصل عنه مبحث أسباب النزول والناسخ والمنسوخ، لمّا أفرد فيه علماء الفقه والأصول البحث والتأليف؛ وانفصل عنه مباحث إعراب القرآن لما عني النحاة بإفراد التصانيف في ذلك. ¬

_ (¬1) انظر الإتقان للسيوطي: 2 - 178، وكشف الظنون: 1 - 299.

مذاهبه وشروطه:

ولم تكن هذه الظاهرة وحدها ثمرة ظهور الاختصاصات العلمية، بل ثمة ثمرة أخرى. فلقد أخذت كتب التفسير تتجه فيما بعد- من حيث العناية والاهتمام- وجهة اختصاص المؤلف. فقد ألّف علماء العربية في تفسير القرآن، ليخدموا بذلك فنهم، فكان عملهم يتركز على إبراز بلاغته العربية وإعجازه اللغوي، من ذلك تفسير أبي حيّان الأندلسي وتفسير الكشاف للزمخشري وتفسير أبي السعود. وألّف علماء الفقه فيه أيضا؛ ليستجلوا منه أحكام الحلال والحرام، فكان عملهم منصبّا منه على هذا الجانب أكثر من غيره، كالجامع لأحكام القرآن للقرطبي (ت: 671) وأحكام القرآن لأبي بكر ابن العربي (ت: 543). وألّف فيه علماء التوحيد والكلام، ليستخرجوا منه دلائل التوحيد وفروعه ومتعلقاته، فلم يعنوا منه العناية التامة إلا بهذا الجانب دفاعا عن العقيدة الإسلامية وتجلية لأمرها، كالإمام فخر الدين الرازي (ت: 606) في تفسيره: مفاتيح الغيب. فهذه خلاصة كافية عن نشأة علم التفسير وتطوره. مذاهبه وشروطه: اتخذت مناهج المفسرين في تفسير كلام الله عزّ وجلّ أحد مذهبين: الأول: التزام الوارد في تفسير الآية عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أو عن الصحابة أو التابعين، دون سوق أي زيادة على ذلك، اللهمّ إلا أن تكون شرحا لغويا لكلمة أو كشفا عن إعراب جملة أو نحو ذلك وقد أطلق على هذا المسلك فيما بعد اسم «التفسير بالمأثور». الثاني: عدم التزام الاقتصار على ذلك، بأن يتجاوز المفسر حدود الوارد والمأثور في تفسير الآية، إلى استنباطاته الخاصة من دلائل الصيغة أو قواعد العلوم، إذا كان اللفظ قابلا لحمل المعنى المستنبط، وقد تكون هذه المعاني المستنبطة مباحث من علوم وفنون مختلفة غير التي تدل عليها الآية من قريب.

وقد أطلق على هذا المسلك فيما بعد اسم «التفسير بالرأي». ويعدّ تفسير الإمام فخر الدين الرازي (مفاتيح الغيب) نموذجا بارزا للتفسير بالرأي، ويليه في ذلك تفسير الإمام البيضاوي (أنوار التنزيل وأسرار التأويل) وتفسير أبي السعود (إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم). ولا يذهبن بك الوهم إلى أن أصحاب التفسير بالرأي يستبدلون بالرواية والأحاديث الثابتة في تفسير الآية رأيا أو حكما من عند أنفسهم، فهذا مما لا يقدم عليه مسلم وهو عمل محرم بالاتفاق. بل الحقيقة أن ثمة قدرا مشتركا بين أصحاب التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي، وهو الأخذ بما صحّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو عن الصحابة (على الصحيح الذي يعتبر قول الصحابي في التفسير في حكم المرفوع) في تفسير الآية. ثم يفترقان بعد ذلك: فصاحب التفسير بالمأثور لا يزيد على ذلك إلا أن يعزز النقل بنقول أخرى مثلها أو مخالفة لها ليجمع بينهما، وصاحب التفسير بالرأي يجيز لنفسه أن يزيد على ذلك من اجتهاداته واستنباطاته المختلفة بقدر ما تسمح به دلالة اللفظ. وعلى كلّ فإن الذي يجمع بين طريقتي التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي شروط أربعة لا بدّ من مراعاتها لكل من حاول أن يفسر شيئا من كتاب الله تعالى أيّا كان مسلكه ومنهجه في ذلك. (الشرط الأول) التزام القول بما ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك إذا كان فيه حديث ثابت صحيح؛ قالوا: ولكن ينبغي الحذر من الوقوع في الضعيف والموضوع أيضا، وقد بيّن العلماء ذلك وميّزوه. وقال ابن جرير ما خلاصته: ومصدر هذا الوجوب أننا نقطع أن في القرآن ما لا ندرك معناه إلا ببيان الرسول، بدليل قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، مثال ذلك جميع الآيات المتعلقة بالأوامر والنواهي والإرشاد، مما يتوقف فهمه على معرفة نوع النهي والأمر فيه، ومبالغ فرائضه وقدرها وحدودها وشروطها وقيودها. وهذا وجه لا يجوز لأحد القول

فيه إلا ببيان رسول الله أو إقراره لأحد من أصحابه (¬1). وعلى هذا المعنى ينزّل ما ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من قوله: من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار رواه الترمذي وأبو داود. وما روى عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال (أي أرض تقلّني وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن ما لا أعلم؟). (الشرط الثاني) التزام الأخذ بقول الصحابة إذا كان قد أثر عنهم في ذلك قول. وهذا ما ذهب إليه الأكثر من أن تفسير الصحابة للقرآن يعتبر في حكم المرفوع إلى النبي، وذلك لأنه ليس من قبيل الرأي وإنما هو في الحقيقة من قبيل الرواية. (الشرط الثالث) التزام قواعد اللغة العربية وضوابطها ومقاييسها في التفسير. فإن القرآن نزل بلسان عربي مبين، وإنما تفسره الدلالات اللغوية والقواعد العربية. فمن لم يكن ذا بصيرة سليمة في فهم العربية فليس له أن يفسر شيئا من كتاب الله عزّ وجلّ. روى البيهقي في شعب الإيمان عن مالك بن أنس قال: لا أوتى برجل غير عالم بلغات العرب، يفسر كتاب الله تعالى، إلا جعلته نكالا. (الشرط الرابع) التزام المقتضى الذي يدل عليه العلم بكتاب الله تعالى، والتزام أصول الشرع وقواعده في الفهم والاستنباط والاجتهاد كالمفهوم والفحوى ودلالة العام والخاص والمطلق والمقيد، وهي في مجموعها إنما تعتبر ملكة علمية تؤهل صاحبها لاستنباط المعاني والأحكام من كتاب الله عزّ وجلّ. فليس من ضير (بعد أن يلتزم المفسّر الشروط الثلاثة الأولى) في أن يستنبط مزيدا من التفسير للآية بدلالة المقتضى والقواعد العلمية التي ترسّخ في معرفتها وتذوقها. واستنباط المعنى من الآية بهذه الوسيلة، هو الذي دعا به النبي لابن عباس حينما قال: (اللهمّ فقّهه في الدين وعلّمه التأويل) وهو المقصود بما قاله ¬

_ (¬1) تفسير جرير: 1 - 25.

علي رضي الله عنه عند ما سئل: هل خصّكم رسول الله بشيء؟ فقال: ما عندنا غير ما في هذه الصحيفة أو فهم يؤتاه الرجل (رواه البخاري). ولكن لا يجوز تفسير القرآن- على كل حال- بمجرد الرأي والاجتهاد من غير أصل يستند إليه، فهو أشبه بحال من لم تكن عنده أي بصيرة فقهية وهو يزعم أنه يجتهد في استنباط أحكام الفقه. ففي حق مثل هذا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار) وقال: (من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ) رواه أبو داود والترمذي والنسائي. قال البيهقي في شعب الإيمان: هذا إن صحّ، فإنما أراد- والله أعلم- الرأي الذي يغلب من غير دليل قام عليه، فمثل هذا لا يجوز تفسير القرآن (¬1). فهذه الشروط لا بدّ من التزامها سواء بالنسبة لمن يفسر القرآن بالمأثور ولمن يفسره بالرأي. وبذلك تعلم أنه لا خلاف بين هذين المنهجين في التفسير من حيث نقد أصحاب أحدهما على الآخرين، وإنما هو مجرد اختيار للطريقة، وما دامت الشروط متوافرة فلا ضير. ونختم حديثنا عن التفسير ببيان أن ما يسلكه بعض الناس اليوم من تفسير الآيات الكونية في كتاب الله تعالى طبق نظريات وآراء علمية، لا دلالة في الآية عليها بميزانها اللغوي وحسب القواعد العلمية للتفسير، هو من قبيل التفسير الفاسد الذي يتّبع فيه المفسر رأيه المجرد. ومثله ما يسمى بالتفسير الإشاري أو الباطني الذي ينتهجه بعض الفرق الباطنية أو المنحرفون من المتصوفة؛ ويسير وراءهم في ذلك طائفة أخرى من الناس، هان عليهم القرآن وفرغت قلوبهم من الشعور بجلاله وهيبته، فاقتحموا إليه بالتفسير والتأويل، ¬

_ (¬1) هذه الشروط ذكرها الزركشي في البرهان: 1 - 156 والصفحات التي تليه، ونقلها السيوطي في كتابه الإتقان: 2 - 178. وقد عرضناها بألفاظ مختلفة، قصدا لزيادة الإيضاح.

طبقا لما تهواه أنفسهم وتستدعيه عصبياتهم وأخيلتهم، وهم عن الشروط والضوابط التي ذكرناها، معرضون وغافلون. فالقرآن عند هؤلاء الناس ليس أكثر من خادم لتأييد آرائهم ومذاهبهم وأخيلتهم! ... لهم أن يختاروا ما يشاءون من المذاهب والآراء والتصورات في حق أنفسهم ومصيرهم والكون الذي من حولهم، وعلى القرآن أن يكون طوع آرائهم والخادم الأمين لتصوراتهم وأفكارهم، ولا ضير أن يجرّ القرآن إلى ذلك جرّا، خارج حدود اللغة وضوابطها والحقيقة ومجازها!! ... فإذا كانت تصوراتهم وقناعاتهم النفسية تقضي بأن عذاب الكافرين يوم القيامة مجرد شعور معنوي مبعثه الشعور بالندامة والخزي، فما أيسر عليهم أن يشطبوا على كل الآيات القرآنية الصريحة ذات الدلالة القاطعة المؤكدة بأنه عذاب جسدي ومعنوي معا، وأن لهذا العذاب أدوات ووسائل مادية محسوسة. فإن المهم ما توحي به تصوراتهم وأوهامهم لا ما يقرره كتاب ربهم. قلت لواحد من هؤلاء: إنكم تزعمون أن الشعور بالخزي هو مصدر عذاب الكافرين يوم القيامة، ولكن القرآن يقول صراحة نقيض ما تزعمون، إذ هو يقرر أن الخزي فرع عن دخولهم النار. ألا ترى إلى قوله عزّ وجلّ وهو يعلّمنا كيف ندعوه ونلجأ إليه: (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار) ثم ما علاقة الشعور بالخزي المعنوي بالجلود التي تنضح من شدة العذاب فيبدلها الله جلودا أخرى ليستمر العذاب ... وهو ما يقرره القرآن بعبارة صريحة وقاطعة؟! ... ورأيت الرجل يذهب في الاعتداد برأيه وتصوراته، مذهبا يجعله غير مبال بكل ما يقوله القرآن خلافا لتصوراته! ... ونحن لا نشك أن هؤلاء إنما يعبدون أفكارهم وقناعاتهم، تلك هي الحقيقة مهما جاءت مغلفة ومقنعة. والمهم أن تكون أيها القارئ على حذر من أن تسري إليك عدوى تأليه الأفكار والقناعات الذاتية، فتكون بذلك ممّن قال الله عنهم: أفمن اتخذ إلهه هواه ...

واجعل عونك في هذا الحذر تذكّر الشروط والضوابط التي تحدّثنا عنها لتفسير القرآن. ثم اجعل قدوتك في ذلك أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والتابعين الذين جاءوا على أثرهم. وتأمل كيف كانوا في غاية الأدب مع كتاب الله والتوقير له، وكيف كانوا يجعلون نصوص القرآن حاكمة على آرائهم وتصوّراتهم، على نقيض ما يفعله هؤلاء الذين خلفوا من بعدهم. نسأل الله عزّ وجلّ أن يحررنا من أهوائنا ورعوناتنا. ويجعلنا عبيدا صادقين له، لا نروغ عن أمره ولا نتلاعب ببياناته وأحكامه.

المكي والمدني تعريف كل منهما، خصائص كل منهما، الفائدة من معرفة ذلك

المكّيّ والمدنيّ تعريف كلّ منهما، خصائص كلّ منهما، الفائدة من معرفة ذلك تمهيد: ينقسم القرآن في مجموعه إلى مكّي ومدني. وقد عني العلماء والرواة عناية كبرى بتمييز هذين القسمين عن بعضهما واستخراج خصائص كلّ منهما، لما يترتب على ذلك من الفوائد التشريعية والتاريخية التي ستعلمها فيما بعد بل لقد عني الرواة والباحثون بتصنيف القرآن إلى ما نزل منه في النهار وما نزل منه في الليل، وإلى ما نزل منه في الأسفار. ونحن لن نتناول في هذه العجالة حديث الليلي والنهاري أو الحضري والسفري من القرآن، لأنّا نرى أن فائدة ذلك- في هذا المقام- فائدة جزئية ضعيفة، وإن كان البحث فيه ينبّهنا إلى مدى اهتمام العلماء والرواة بالقرآن وإلى مدى خدمتهم ودراستهم له من شتى الجوانب المختلفة. تعريف المكّي والمدني: للعلماء ثلاثة اصطلاحات في تعريف كلّ من المكّي والمدني. أحدها: أن المكّي هو كل ما نزل بمكة والمدني ما نزل بالمدينة، سواء كان ذلك من قبل الهجرة أو بعدها. فالاعتبار على هذا الاصطلاح للمكان وحده. والثاني: أن المكّي ما وقع خطابا لأهل مكة، والمدني ما وقع خطابا لأهل المدينة، فالاعتبار على هذا للموضوع وحده. والثالث: أن المكّي ما نزل من قبل الهجرة والمدني ما نزل من بعد

الهجرة، دون النظر إلى مكان النزول بالذات. والاعتبار على هذا للزمان وحده. وهذا الاصطلاح الثالث هو أشهر وأصح ما قيل في هذا الموضوع. وبناء على ذلك فإن كل ما نزل من القرآن من قبل هجرته صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة يسمى مكيّا سواء نزل في مكة أو في الطائف أو في أي جهة أخرى. وكل ما نزل بعد الهجرة فهو مدني سواء نزل بالمدينة أو في الأسفار والغزوات أو في مكة في عام الفتح. وقد تجد في القرآن سورا نزلت كلها من قبل الهجرة كسورة «ق» و «هود» و «يوسف». وقد تجد فيه سورا نزلت كلها بعد الهجرة كسورة «البقرة» و «آل عمران». وقد تجد فيه سورا كلها مكيّة إلا بضع آيات منها، نزلت بعد الهجرة كسورة الأنعام: كلها مكّي إلا ست آيات منها فهي مدنية نزلت بعد الهجرة، وقد تجد سورا كل آياتها مدنية إلا بعض آيات منها فهي مكية كسورة الأنفال والتوبة. ولعلك تسأل: فكيف تسنى للعلماء أن يعرفوا تفصيل هذا الأمر، وكيف أمكنهم أن يعلموا أن هذه الآية نزلت في مكة والأخرى بالمدينة، وأن هذه نزلت في الليل وتلك نزلت في النهار؟ والجواب أن سبيل معرفة ذلك إنما هي الرواية الصحيحة الصادقة، وهي السبيل ذاتها التي وقف بها العلماء على تفسير القرآن بالمأثور، كما مرّ بيانه. ومما سهّل للعلماء ذلك أن الصحابة رضوان الله عليهم عنوا بالقرآن عناية فائقة عجيبة، فكانوا يؤرخون كل آية بوقت نزولها ومكانها، وربما اتخذوا من الأماكن والجبال والمفاوز التي يعلمونها، أماكن ذكرى، بسبب آية أو آيات من القرآن قد نزلت فيها على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (¬1). روى البخاري بسنده عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: والذي لا إله غيره، ما نزلت آية من كتاب الله تعالى إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولا أنزلت ¬

_ (¬1) راجع البرهان: 1 - 187 والاتقان: 1 - 9.

خصائص كل منهما:

آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم أنزلت، ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه (¬1). وذكر في الإتقان نقلا عن كتاب الحلية بالسند أن رجلا سأل عكرمة رضي الله عنه عن آية من القرآن فقال: نزلت في سفح ذلك الجبل، وأشار إلى سلع (¬2). وأنت خبير أنّا لا نقصد بما نقول جميع الصحابة، بل إن فيهم من لم يتوفر على ذلك، ولكنا نقصد منهم أولئك الذي اشتهروا بقراءة القرآن وحفظه ونقله من فم الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهم كثيرون. فكانوا يحفظون مع نطق الآية وتلقيها وكتابتها- تاريخ نزولها. فاشتغل التابعون ومن بعدهم برواية هذا كله ونقله، بالطرق العلمية، وحسب قواعد المصطلح. وبذلك وجد العلماء بين أيديهم ما أطلق عليه فيما بعد اسم (علم المكّي والمدني). خصائص كلّ منهما: علمت مما قلناه أن الآيات المكيّة من القرآن، هي التي نزلت في صدر الإسلام وهي الفترة التي يحدّها من الزمن ثلاثة عشر عاما، أمضاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مكة معذبا مضطهدا، يقابل الإيذاء والاضطهاد بالمسالمة، مع المضي في الدعوة إلى الحق الذي أوحي إليه. وعلمت أن الآيات المدنية، هي التي نزلت من بعد الهجرة، وهي الفترة التي يحدّها من الزمن عشرة أعوام، بنى فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الدولة الإسلامية حيث تكاملت مقوّماتها الإدارية والدستورية والقانونية. وعلى هذا، فإنك تجد خصائص كلّ من القسمين، مستمدة من طبيعة هاتين المرحلتين التي عاشها النبي صلّى الله عليه وسلّم قائما بأمر الدعوة. ¬

_ (¬1) صحيحب البخاري: 6 - 102. (¬2) انظر الإتقان للسيوطي: 1 - 9.

فأنت تجد أن الآيات المكيّة تمتاز بواحد مما يلي: 1"- ذكر قصص الأنبياء والأمم الخالية ودعوة الناس إلى الاعتبار بهم إلا ما يتعلق بالحديث عن مريم وعيسى عليه الصلاة والسلام وقصة ولادته، فقد نزل بعض ذلك في المدينة حجاجا لأهل الكتاب. 2"- المناقشة والحجاج وعرض الأدلة على وجود الله تعالى ووحدانيته وعلى بعث الأجساد مع أرواحها من بعد الموت للحساب. 3"- تثبيت فؤاد الرسول ودعوته إلى الصبر على الأذى تأسيا بمن سبقه من الأنبياء والمرسلين الذي بعثوا لدعوة الناس إلى هذا الدين ذاته. 4"- يغلب على الآيات المكيّة أن تكون قصيرة ذات وقع معين في الأذن والنفس، تبعث على الرهبة والخشية وتشعر بمعنى الجلال والجبروت، كمعظم السور التي تقرأها في جزء تبارك وعمّ يتساءلون. فهذه الخصائص تجدها في الآيات المكية وهي من طبيعة المرحلة التي كانت تمر بها الدعوة الإسلامية. أما خصائص الآيات المدنية فهي ما يلي: 1"- البحث في الأحكام والتشريعات المتعلقة بالعبادة والمعاملات والحدود وغيرها. 2"- الأمر بالجهاد والقتال والتعليق على الغزوات وما يتعلق بها من شأن الغنائم والأسرى والمنافقين. 3"- البحث في شئون الحكم والشورى وضرورة الرجوع فيهما إلى الكتاب والسنّة. 4"- يغلب على الآيات المدنية أن تكون طويلة فيها اللين والهدوء، ووعد المسلمين بالفوز والنصر (¬1). فتلك هى خصائص الآيات المدنية وهي من طبيعة المرحلة الثانية التي ¬

_ (¬1) البرهان للزركشي: 1 - 189، بتصرّف وزيادة.

الفائدة من معرفة هذا العلم:

مرّت بها الدعوة الإسلامية. وبهذا تستطيع أن تميز بين السور المكيّة والمدنية من غير الرجوع إلى روايات العلماء والمفسرين في ذلك. فحسبك أن تقرأ سورة البقرة وتطّلع على ما تجمع فيها من أحكام الصيام والحج والوصية والقصاص والنكاح والرضاع والطلاق وغيرها لتعلم أنها سور مدنية. وحسبك أن تقرأ سورة مثل سورة ق وتقف على ما فيها من الحجاج والنقاش مع المشركين وما فيها من الأدلة على وجود الله، وما ينبعث من جرسها وفواصلها وإيقاع آياتها من معاني الشدة والتهديد والجبروت، لتعلم أنها سورة مكية. الفائدة من معرفة هذا العلم: تتوقف فوائد علمية كثيرة على معرفة المكّي والمدني من القرآن. فمن أهمها معرفة ما قد يوجد في القرآن من ناسخ ومنسوخ، ليصار إلى الأخذ بالناسخ واطراح المنسوخ (في مجال الأحكام والتشريع) وإنما تتوقف معرفة ذلك على معرفة تاريخ نزول الآيات. واعلم أن وجود (الناسخ والمنسوخ) في القرآن، اقتضته ضرورة أخذ الناس بالتدرج في الأحكام الشرعية؛ كالآيات التي نزلت متدرجة في تحريم الخمر، وكالآيات التي نزلت في عقوبة الزنى. وليس معنى نسخ الحكم في آيات القرآن أن قرآنيتها قد سقطت بذلك، بل هي تظل قرآنا يتلى ويتعبد به وهي من كلام الله عزّ وجلّ، ولكن يبطل العمل بها لمكان الآية التي نسختها. وفائدة ذلك لنا نحن، التبصّر بالمراحل التدريجية التي سار فيها التشريع والاطّلاع على الطريقة الحكيمة المثلى التي أخذ الله بها عباده فيما سنّ لهم من أحكام. ثم إن (الناسخ والمنسوخ) علم خاص من علوم القرآن، بحث وكتب فيه علماء التشريع. ولكنّا نكتفي منه هنا بالذي أوضحناه لك، والزيادة عليه شيء يتعلق بالفقه والتشريع أكثر من تعلقه بالعربية وآدابها.

ومن فوائد ذلك أيضا تتّبع مراحل الدعوة الإسلامية، والاطّلاع على كيفية تكامل بنية الفكر والتصور الإسلامي، وهو مما يهم الباحثين في تاريخ التشريع وأطواره. ومن فوائده أنه يبصّر القارئ والمفسر بمعنى الآية ويحجزه عن الخطأ في تفسيرها. ذلك أن من قرأ سورة قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ولم يعلم زمن نزولها وهل هي مكية أم مدنية، فإنه يحار في معناها، وقد يستخرج منها أن المسلمين لا يكلفون بالجهاد في أيّ الأحوال، وإنما عليهم أن يقولوا للآخرين: لكم دينكم ولي ديني. فإذا علم أن هذه السورة إنما نزلت في مكة، عند ما قال بعض صناديد الشرك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تعال يا محمد نعبد إلهك يوما وتعبد إلهنا يوما- إذا علم هذا، أدرك أن هذه السورة إنما هي علاج لتلك المرحلة ذاتها، وليست دليلا على عدم مشروعية الجهاد الذي نزلت فيه آيات كثيرة أخرى في المدينة.

المبهم والمتشابه في القرآن

المبهم والمتشابه في القرآن تمهيد: اعلم أن عامّة جمل القرآن وألفاظه لا تخرج عن أن تكون من قبيل المحكم أو المتشابه أو المبهم. فأما المحكم، فهو ما عرف تأويله وفهم معناه وتفسيره (¬1) وأما المبهم فهو ما قد يعرف ظاهره ولكن العقل يتوقف في تصوره وتفصيله وإدراك حقيقته، وأما المتشابه فهو ما احتمل وجهين أو وجوها من المعنى دون وجود ما يعين واحدا منها تعيينا ظاهرا أو قاطعا. وقد ذهب بعض الكاتبين إلى إدخال «المبهم» في المتشابه وجعل القسمة ثنائية، ولكن مذهب من ميّز بين المبهم والمتشابه أدق وأوجه، إذ إنه إذا صحّ إدخال بعض أنواع المبهم- مثل فواتح السور- في المتشابه فهنالك أنواع أخرى منه لا تدخل فيه ولا يمكن أن تعتبر منه، كتلك الأنواع التي سنتحدث عنها. هذا، وإن عامّة آيات القرآن مما يتعلق بالأوامر والنواهي والإرشاد والوعد والوعيد، من قبيل المحكم، ولذلك أطلق الله تعالى عليها اسم: «أمّ الكتاب» إذ قال: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أي أساسه وجوهره الذي يقع به الخطاب ويتم به التكليف. وما فيه من المتشابه والمبهم، قليل بالنسبة ¬

_ (¬1) لعلّ هذا أصحّ ما عرف به المحكم، وهو تفسير جابر بن عبد الله رضي الله عن وغيره من الصحابة، وانظر تفسير القرطبي: 4 - 9.

المبهم: أنواعه، أمثلة له، الحكمة منه:

للمحكم، وجد لحكمة باهرة سنذكر طرفا منها فيما بعد. ولقد أطال الباحثون عن الحديث في محكم القرآن ومبهمه ومتشابهه، لا سيما في القسمين الأخيرين منه، وأفرد السهيلي وابن عساكر والقاضي بدر الدين بن جماعة تآليف في مبهم القرآن وبيان حكمه، كما أفرد ابن أبي الأصبع تأليفا في فواتح السور (¬1)، وهو نوع من مبهم القرآن. ونحن لن نذكر في هذه العجالة إلّا ما لا بدّ منه لدارس اللغة العربية وآدابها. وعلى من أراد التوسّع في ذلك أن يرجع إلى ما كتبه علماء الكلام والتفسير وإلى المؤلفات الخاصة بالبحث في علوم القرآن. المبهم: أنواعه، أمثلة له، الحكمة منه: مبهمات القرآن كلها، تنحصر في نوعين، وذلك حسب شدة الإبهام وضعفه: النوع الأول: الأحرف المقطعة التي افتتح بها بعض السور ، كقوله تعالى: الم، حم، كهيعص فهي ألفاظ مبهمة، بمعنى أن القارئ لا يفهم منها شيئا وراء ظاهر حروفها وما ينطق به منها. ولقد انقسم العلماء في تأويل هذه الفواتح إلى مذهبين: أحدهما: أن لهذه الفواتح علما مستورا وسرّا محجوبا استأثر الله بعلمه، وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقد قال فيما روي عنه: في كل كتاب سر، وسرّه في القرآن في أوائل السور (¬2). ثانيهما: أن لهذه الفواتح مرادا معلوما ومعنى يمكن الوصول إليه بالنظر والبحث، وإلى هذا ذهب جمهور الباحثين من علماء الكلام: «العقيدة» والعربية وغيرهم. وهو المروي عن ابن عباس وعلي بن أبي طالب وجمع كبير من الصحابة (¬3). ¬

_ (¬1) انظر الإتقان للسيوطي: 2 - 105 و 145. (¬2) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 1 - 154، والبرهان للزركشي: 1 - 172. (¬3) الجامع لأحكام القرآن: 1 - 155، وانظر مشكل القرآن لابن قتيبة: 63، 64.

النوع الثاني: جمل وألفاظ

ولأصحاب هذا المذهب الثاني تأويلات وتحليلات مختلفة، لا نستبعد أن تكون كلها مقصودة كما قال ابن فارس وغيره (¬1)، إذ هو الشأن الغالب على معظم ألفاظ القرآن: تحتمل اللفظة معاني مختلفة كلها يصلح أن يكون مرادا، إذ كلها مصداق للحقيقة التي تعبّر عنها الآية. وهذا من أبرز مظاهر الإعجاز في القرآن، كما سيأتي بيانه إن شاء الله. غير أنّا نذكر من هذه التأويلات أقربها إلى النظر وأسرعها إلى الذهن وأكثرها شيعة وأنصارا، فقد ذهب قطرب والفرّاء والمبرّد وعامّة علماء العربية وجمع عظيم من المحققين إلى أن هذه الأحرف المقطعة إنما افتتحت بها السور، لتدل على أن القرآن ليس إلّا كتابا ألّف من هذه الأحرف الهجائية: أ. ب. ت. ث .. إلخ، هي تلك التي تبنون كلامكم وأشعاركم منها، ومع ذلك فلن تستطيعوا أن تؤلفوا من هذه الأحرف كلاما مثله (¬2). ويدلّ على سلامة هذا التفسير ووضوحه أن الكلمة التي تلي هذه الفواتح تحمل معنى الكتاب وتقع في معظم الأحيان موقع الخبر منها كقوله تعالى في سورة البقرة: الم، ذلِكَ الْكِتابُ وفي سورة الأعراف: المص، كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وفي سورة يونس: الر، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ وفي سورة هود: الر، كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ وفي سورة النمل: طس، تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ. ولا يبعد أن تكون هذه الأحرف المقطعة تحمل إلى جانب هذه الدلالة أسرارا معينة، وأن تكون قد سيقت مساق القسم بها، وأن يكون موقعها في صدر السورة موقع التنبيه للأسماع والأذهان إلى الكلام الذي يعقبها. النوع الثاني: جمل وألفاظ ، هي من حيث تركيبها وظاهر دلالتها أمر واضح ومعلوم؛ ولكن فيها إبهاما من حيث الزمن المتعلق بها، أو من حيث تعيين أسماء المشار إليهم فيها، أو من حيث نكارة وغرابة المتحدّث عنه فيها، ¬

_ (¬1) انظر البرهان: 1 - 180. (¬2) انظر تفسير القرطبي: 1 - 67، وتفسير الفخر الرازي: 1 - 230، والجامع لأحكام القرآن: 1. 105، والبرهان. 1 - 185.

فهذه ثلاثة أصناف للإبهام في نوعه الثاني، نذكر لكل صنف منها مثالا: مثال الصنف الأول، الآيات المتعلقة بقيام الساعة، من مثل قوله تعالى: ... إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها الآية، فالجمل التركيبية في هذه الآية واضحة المعنى ولكن فيها إبهاما تتطلع إلى كشفه النفس، وذلك من حيث تحديد الزمن الذي ستقوم فيه الساعة أي يوم القيامة، ولا شك أنه أمر مبهم ستره الله حتى عن علم الأنبياء والمقرّبين إليه. ومثال الصنف الثاني، قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ، قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (المائدة: 27). فالجمل والكلمات في هذه الآية واضحة الدلالة والمعنى، ولكن فيها إبهاما من حيث تعيين المقصود بولدي آدم فمن هما ولدا آدم اللذان كان من شأنهما ما أخبر به عنهما؟ وهو إبهام كشفت عنه السنة وما وصلنا من تفسير الصحابة رضوان الله عليهم، فالمقصود بولدي آدم في الآية: قابيل، وهابيل، وهما ولدا آدم لصلبه. ومثال الصنف الثالث، قوله تعالى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا، يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (¬1). فمن هم يأجوج ومأجوج ومتى يحين وقت ظهورهم وما هو شأنهم وعملهم؟ ذلك أيضا من المبهم الذي لم تكشف عنه الآية بأكثر من الإخبار عنه وأنه من الغيب الذي سيقع في حينه المقدّر له في علم الله. ومثاله أيضا قوله تعالى: وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (النمل: 82). فما هي هذه الدابة التي ستخرج إلى الناس تكلمهم وتحدّثهم؟ لا تزيد الآية على ¬

_ (¬1) الأنبياء: 96 و 97.

الإخبار بهذا الغيب الذي سيقع، وتفصيل الأمر فيه من المبهم الذي لا يكشف عنه إلا الواقع الذي يأتي في حينه. فهذه أمثلة لأصناف المبهم الذي وقع في القرآن، وإذا تأملت فيها علمت أن منها ما أمكن تفسيره وكشفه عن طريق الوقوف على تفسير السنّة له، ومنها ما ظل مبهما مكنونا في غيب الله عزّ وجلّ، لا يكشفه إلا الواقع الذي أخبرت عنه الآيات. بقي أن تعلم الحكمة من وجود مثل هذه المبهمات في كتاب الله عزّ وجلّ. فأما الإبهام المتعلق بفواتح بعض السور، فقد علمت مما ذكرناه، أن مذهب جمهور العلماء والباحثين أن لهذه الفواتح معنى يمكن الوصول إليه بالنظر والبحث، فالإبهام فيها إنما هو بمعنى الغموض والخفاء اللذين يمكن إزالتهما والوصول إلى ما وراءهما، وليس بمعنى انغلاق اللفظ على المعنى واستحالة وصول القارئ أو المتدبر إلى المقصود. غير أنك قد تسأل: ففيم هذا الغموض والخفاء وإنما هو كتاب أنزل للقراءة والفهم؟. فالجواب: أن القرآن- كما يقول ابن قتيبة- إنما نزل بألفاظ العرب ومعانيها ومذاهبها في الإيجاز والاختصار، والإطالة، والتوكيد، والإشارة إلى الشيء، وإغماض بعض المعاني حتى لا يظهر عليه إلا اللقن (سريع الفهم) وإظهار بعضها وضرب الأمثال لما خفي. ولو كان القرآن كله ظاهرا مكشوفا حتى يستوي في معرفته العالم والجاهل لبطل التفاضل بين الناس وسقطت المحنة وماتت الخواطر (¬1). ولا شك إن من فوائد ما تلبّست به هذه الفواتح من الإبهام، ما تراه من الأبحاث المختلفة الجليلة، التي أقامها العلماء على هذه الفواتح سواء منها ما ¬

_ (¬1) انظر تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة: 62.

يتعلق بطبائع هذه الحروف ووجه اتّساقها مع بعضها، وما يتعلق بالعلوم المستخرجة منها والدلالات المشيرة إليها، حتى غدت هذه الفواتح مصدر علم قائم برأسه من علوم القرآن. وإنما اندفع العلماء الباحثون إلى استخراج كل ذلك والبحث فيه بسبب ما يكتنفها من الغرابة والغموض الحاملين على النظر والفكر. وإنما يأتي الكشف والإبداع من وراء الحاجة وضيقها. وإنما يقع الخمول والبلادة من الشعور بالاستغناء والكفاية. والإعجاز القرآني في جملته، قائم على البحث والنظر في أمور منها الخفي والجليّ، ومنها الدقيق والأدق، واللطيف والألطف، وإلا فكيف تنبع المعاني للجملة الواحدة من وراء بعضها، وكيف تأتي الدهشة لها إذا كان جميعها من الظهور بحيث تنكشف لكل قارئ وناظر مهما تفاوتت درجة العلم ورتبة الفهم؟ واعلم أننا إنما نصدر في هذا الذي نقول، عن المذهب الذي تمسك به جمهور الباحثين من أن ما قد يوجد في القرآن من المبهم أو المتشابه يمكن للراسخين في العلم أن يفهموا منه فهما صحيحا ويقعوا منه على علم، حاشا المغيبات التي أشار القرآن إليها أو تحدّث عن طرف منها وأبهم منها طرفا آخر. ونقول في هذا ما قاله ابن قتيبة في كتابه، تأويل مشكل القرآن: [ولسنا ممّن يزعم أن المتشابه في القرآن لا يعلمه الراسخون في العلم. وهذا غلط من متأوليه على اللغة والمعنى. ولم ينزل الله شيئا من القرآن إلا لينفع به عباده ويدلّ به على معنى أراده. فلو كان المتشابه لا يعلمه غيره، للزمنا للطاعن مقال وتعلق علينا بعلّة. وهل يجوز لأحد أن يقول: رسول الله لم يكن يعرف المتشابه وإذا جاز أن يعرفه مع قول الله تعالى وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ جاز أن يعرفه الربانيون من الصحابة، فقد علم عليّا التفسير ودعا لابن عباس فقال: اللهمّ علّمه التأويل وفقهه في الدين].

ثم قال ابن قتيبة: [وبعد فإنّا لم نر المفسرين توقفوا عن شيء من القرآن فقالوا: هذا لا يعلمه إلا الله، بل أمرّوه كله على التفسير، حتى فسروا الحروف المقطعة في أوائل السور مثل: الر، وحم، وطه، وأشباه ذلك. فإن قال قائل: كيف يجوز في اللغة أن يعلمه الراسخون في العلم والله تعالى يقول: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ وأنت إذا أشركت الراسخين في العم انقطعوا عن يَقُولُونَ وليس هاهنا واو نسق توجب للراسخين فعلين، وهذا مذهب كثير من النحويين في هذه الآية، ومن جهته غلط قوم من المتأولين- قلنا له: إن يَقُولُونَ هاهنا بمعنى الحال، كأنه قال: والراسخون في العلم قائلين: آمنّا به. ومثله في الكلام: لا يأتيك إلا عبد الله وزيد يقول: أنا مسرور بزيارتك، يريد لا يأتيك إلا عبد الله وزيد قائلا أنا مسرور بزيارتك] (¬1). وأما الإبهام في النوع الثاني: وهو الجمل المفهومة من حيث ظاهر دلالتها وتركيبها، ولكن فيها إبهاما من حيث تعيين الزمن أو تعيين الأسماء أو نكارة المتحدّث عنه وغرابته- فمردّ ذلك إلى أحد أسباب ثلاثة: السبب الأول: عدم تعلق أي غرض بتفصيله والكشف عنه كالذي يكون في مساق ذكر بعض القصص والأحداث، من إبهام أسماء الأشخاص وعدم تعيين الأمكنة أو الأزمنة المتعلقة بها. فهذه القصص والأحداث إنما تساق للاتعاظ بها وأخذ العبرة منها. وتحقيق ذلك يتوقف على عرض الجانب الذي يحمل معنى العظة والعبرة، دون غيره، مما يشتت الذهن عن المطلوب ويبعد المتأمل عن القصد. ولذلك لم يتعلق الغرض القرآني بالكشف عن اسم ولدي آدم وهويتهما في الآية المذكورة، ومن أجل ذلك أيضا يقوم أسلوب القصة في القرآن على توجيه القارئ إلى مكان العبرة منها وتحويل ذهنه عن اللحاق بجزئياتها وهوامشها التاريخية المجردة. وسنفصّل القول في ذلك إن شاء الله عند الحديث عن القصة في القرآن. ¬

_ (¬1) تأويل مشكل القرآن: 73 و 74.

المتشابه: المقصود به، حكمه

السبب الثاني: أن يكون هذا الأمر المبهم من الغيوب التي استأثر الله تعالى بعلم أزمنتها وآجالها. وأنت تعلم أن حكمة الله تعالى اقتضت أن يخفي عن عباده- لمصلحة عظيمة باهرة- كثيرا من الحقائق المتعلقة بالغيب الذي لم يقع بعد. وأهمها أجل الإنسان الذي تنتهي عنده حياته وأجل الدنيا الذي تقوم عنده الساعة، وما سيجنيه من ربح أو خسران وسعادة أو شقاء. فكل الآيات التي تتعلق بمثل هذه الأمور، يظل فيها هذا الجانب مبهما، لأن الغرض الديني قد تعلق ببقائه كذلك، ولأن حقيقة العبودية لله عزّ وجلّ تقتضي ذلك. فمن هذا القبيل قوله تعالى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، وقوله تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ. وهكذا، فالحقيقة الدينية في مجموعها قائمة على هذا النوع من الإبهام: إبهام الأمور الغيبية من حيث عدم كشف أزمنتها وتعيين كيفيتها وآجالها. وذلك ليتلبس الإنسان بحقيقة «الإيمان بالغيب» الذي تعبده الله عزّ وجلّ به. السبب الثالث: كون الأمر المتحدّث عنه لم يقع بعد. ومن شأن الخبر المتحدّث عنه مما لم يقع بعد، ولم يقع له نظير أو مثيل فيما مضى، أن يظل جانب كبير فيه مبهما، لا يكشفه إلا الواقع والحقيقة. وقد أخبرنا الله عزّ وجلّ عن أمور غريبة ستقع في المستقبل، وهي مما لم يقع له نظير فيما مضى، كالإخبار عن دابة الأرض ويأجوج ومأجوج في الآيات السابق ذكرها، فمما لا ريب فيه أن الصورة الجليّة لمثل هذه الأمور في الذهن لا تتوفر بمجرد الوصف والإخبار، وإنما تأتي لدى المشاهدة والعيان. فالإيهام في هذه الحالة أمر طبيعي لا إشكال فيه، اقتضاه عدم وقوع المخبر عنه بعد. المتشابه: المقصود به، حكمه وإنما نقصد بالمتشابه تلك الجمل التي تنازعها أكثر من معنى واحد، إذ كان اللفظ أو التركيب صالحا للدلالة على كلّ منها دون أن يكون صالحا للدلالة عليها كلها بآن واحد. فيحار المفسّر في المعنى المراد منها، لأن كلها شبيه بها

وقريب. ولقد قيل بعد ذلك لكل ما غمض ودقّ: متشابه، وإن لم تقع الحيرة فيه من جهة شبهه بمعنيين. ولكن الطريقة التي سلكناها من التفريق بين المبهم والمتشابه تقتضينا أن نقصر اسم «المتشابه» على معناه الأساسي الأول في هذا المقام. والآيات المتشابهة بالمعنى الذي ذكرناه، إنما وقع فيها ذلك من جهة المجاز واستعماله. فبسببه قد يقع الغلط ويكثر التأويل وتختلف المذاهب والأقاويل. غير أنه ينقسم إلى نوعين: فأما النوع الأول منه فالخطب فيه يسير وأمر التأويل فيه واضح، ووجه المجاز فيه غير خفي. وهذا النوع ينطبق على عامّة الآيات التي تتجلى فيها البلاغة القرآنية عن طريق التصوير وتجسيم المجردات من المعاني. فلا يكاد يقع في أمرها اشتباه إلا بالنسبة لمن كانت بضاعته في العربية ناقصة وضعيفة. مثال ذلك قوله تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (¬1) وقوله: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (¬2) وقوله: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (¬3) وقوله عن بعض الكافرين الذين أهلكوا: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (¬4). فلا يشك العربي أن المقصود بالآية الأولى: سنقصد إليكم بعد طول الترك والإهمال، وأن المقصود بالآية الثانية: الكناية عن مدى سعتها، مع عدم أي مانع من أن يكون الأمر على الحقيقة فيسأل الله النار وينطقها بالجواب، تهويلا للأمر وكشفا عن جليل قدرته وتنبيها إلى عدم وجود أي قيمة حقيقية لمعنى الأسباب والمسببات الكونية؛ وأن المقصود بالآية الثالثة: بيان شدة الأمر على الناس إذ ذاك، وأن المقصود بالآية الرابعة: أنه لم يبك عليهم باك ولم يجزع لفقدهم جازع. ¬

_ (¬1) الرحمن: 31. (¬2) ق: 30. (¬3) القلم: 42. (¬4) الدخان: 29.

وأما النوع الثاني فهو الذي وقع بصدده الكلام والبحث واختلفت حوله آراء العلماء فيما يبدو. وينطبق هذا النوع على بعض آيات الصفات الإلهية، من مثل قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (¬1) وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ، يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ (¬2) وقوله: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (¬3) ومحل الشبهة في مثل هذه الآيات أن ظاهرها يثبت لله تعالى جوارح ومكانا، وهو مخالف لصريح قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (¬4). وموقف العلماء والمفسرين من مثل هذه الآيات ينبثق عن سلوك مرحلتين اثنتين: الأولى منهما يمثل منطلقا متفقا عليه لم يقع بينهم في ذلك خلاف، وهو تفسير المتشابه على ضوء المحكم من الآيات القرآنية. وقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وقوله: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ من المحكم الذي لا شبهة في معناه. فاتفقوا على أن الله تعالى لا يشبهه شيء من المخلوقات وصفاتهم وأحوالهم. الثانية منهما محل خلاف في الظاهر، وهو تأويل آيات الصفات إلى المجاز أو تفسيرها على الحقيقة. فالسلف الأول من العلماء والمفسرين آثروا إبقاء اللفظ على الحقيقة مع الإيمان بأن الله تعالى لا مثيل له، وبأنه منزّه عن صفات النقص، ووكلوا تحليل الأمر في ذلك وشرحه إلى الله عزّ وجلّ. ذكر السيوطي عن أمّ سلمة رضي الله عنها أنها سئلت عن قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى فقالت: الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإقرار به من الإيمان والجحود به كفر. وسئل مالك رضي الله عنه عن هذه الآية فقال: الكيف غير معقول والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة. ¬

_ (¬1) طه: 5. (¬2) الفتح: 10. (¬3) طه: 39. (¬4) الشورى: 11.

وأما الخلف منهم، وهم الذين جاءوا في عصر ازدهار التدوين والعلوم، واتساع حلقات البحث والمناقشات العلمية، فقد آثروا أن يحملوا ألفاظ هذه الآيات على محمل يليق بذات الله تعالى مع التزام الدلالة اللغوية والخضوع لقواعد الأخذ بالحقيقة والمجاز وعدم الخروج عليها أو التكلّف في معالجتها؛ ففسروا الاستواء بتسلط القوة والسلطان، وفسروا اليد بالقدرة، والعين بالعناية والرعاية. وهو تفسير تدل عليه طبيعة الاستعمال اللغوي وجملة الأسلوب القرآني. وإنما قلنا إن الخلاف في الأمر الثاني خلاف في الظاهر فقط، لأن المآل فيما ذهب إليه كلّ من السلف والخلف واحد، ما دام الجزء الأول من التفسير محل اتفاق وهو أنه عزّ وجلّ لا يشبهه شيء من مخلوقاته وأنه منزّه عن جميع صفات النقص. والخلاف شكلي، ينحصر في طريقة تفسير هذه الألفاظ التي تدور بين تركها على حقيقتها مع تنزيه الله تعالى عن الكيف والنقص، وتأويلها على المجاز لتتفق لغويا مع تنزيه الله تعالى عن الكيف والنقص. ولقد شنّع ابن تيمية رحمه الله كثيرا على طريقة الخلف هذه، وعدّها جانحة جنوحا حقيقيا عن مذهب السلف. وأنكر على سائر علماء الخلف (وهم الذين جاءوا بعد القرن الثالث) استعمال هذه الألفاظ القرآنية في غير حقيقتها، لا سيما المتعلقة بذات الله تعالى وصفاته. ولكنّا نجزم بأن الخطب في ذلك يسير، والخلاف أهون من أن يكون جنوحا لهؤلاء الأعلام، عن مبادئ العقيدة الإسلامية وأصول التفسير. والعجيب أن ابن تيمية بعد كل هذا التشنيع يتأول (الوجه) في قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ بالجهة، ويقول: إن معنى الآية كل شيء هالك إلا ما أريد به جهة الله تعالى! ... (¬1) فلماذا أخرج الكلمة من حقيقتها إلى المجاز؟ ولماذا يحرّم على علماء الخلف ما يراه مباحا له؟ وليته إذ تأول على خلاف مبدئه ومذهبه، فسّرها بالذات كما فعل جمهور المفسرين بل أصرّ على أن يتأولها بالجهة والمكان!! ... ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى ابن تيمية: 2/ 437 وما بعدها.

هذا وليس لنا شأن، بتلك الطوائف التي ضلّت وشذّت، ممّن يقال عنهم المعطلة والمجسمة، إذ لا يقام لهم أيّ حساب فيما يتعلق بكتاب الله تعالى وتفسيره، وليسوا من كتاب الله تعالى: محكمه أو متشابهه في شيء، وإنما هم تصوروا الذات الإلهية كما صوّرته أخيلتهم المجردة، ثم استنهضوا آيات من كتاب الله تعالى إلى تلك الأخيلة لتصدقها وتؤمن لهم بها، وأنّى لآيات الله الباهرة أن تدلّ إلا على الحق الواضح المنير. فعادوا يعكفون على أصنام لهم أقاموها في رءوسهم بدلا من أن ينصبوها أمام أعينهم. ويكفي في هذا المقام هذا القدر من الحديث عن مبهم القرآن ومتشابهه والله أعلم.

القراءات والقراء لمحة دراسية سريعة في ذلك

القراءات والقرّاء لمحة دراسيّة سريعة في ذلك منشأ القراءات: اعلم أن «القرآن» و «القراءات» حقيقتان متغايرتان، كما قال الزركشي في كتابه البرهان (¬1). أما القرآن فهو هذا اللفظ الموحى به إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم للبيان والإعجاز، وأما القراءات فهي ما قد يعتور اللفظ المذكور من أوجه النطق والأداء كالمدّ والقصر والتخفيف والتثقيل وغيرها مما قرأ به الرسول صلّى الله عليه وسلّم ونقل عنه بالسند الصحيح المتواتر. وبيان ذلك، أنه لما كتب عثمان المصاحف ووجّهها إلى الأمصار وحملهم على ما فيها، وأمرهم بترك ما خالفها من الأحرف الأخرى التي لا تتفق معها- ترك الناس من قراءاتهم التي كانوا يقرءون بها كل ما خلاف خط المصحف، واستمروا يقرءون بسائرها مما لا يخالف الخط وثبتت روايته بالسند المتواتر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فهذه الأوجه التي استمر الصحابة والتابعون على القراءة بها، بهذا الضابط الذي ذكرنا، هو الجزء الذي بقي من الأحرف السبعة، وهو الذي يسمى بالقراءات (¬2). ¬

_ (¬1) البرهان: 1 - 318. (¬2) انظر الإبانة لمكّي بن طالب. ص 18 وارجع إلى ص 59 من هذا الكتاب.

الحكمة من مشروعيتها:

الحكمة من مشروعيتها: هي تسهيل واتساع في تلاوة القرآن، اقتضتهما حكمة باهرة أطال في بيانها علماء هذا الشأن، ومردّ ذلك إلى أمرين اثنين: الأول: التسهيل على القبائل العربية المختلفة أن تجد الوسيلة إلى قراءة القرآن قراءة صحيحة كما أنزل دون أيّ تحريف أو تأثم. الثاني: أن تقف عامّة قبائل العرب وفئاتهم على المعجزة القرآنية من الوجوه المختلفة التي يعرفونها ويمارسون لغتهم بها، وأن ينتصب معنى التحدي أمامهم من هذه الوجوه كلها، فعلى أيّ الأشكال وبأيّ وجوه النطق والأداء أمكنهم أن ينهضوا لمعارضته والإتيان بمثله فلينهضوا ويقدموا ... وبذلك يكون القرآن حجة على أخلاط العرب وفئاتهم كلهم، ويكون معنى التحدّي به قد لزمهم جميعهم. ما معنى تحديدها بالسبعة ومتى حددت بهذا العدد: ولم تكن وجوه القراءات التي يقرأ بها النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويتلقاها منه أصحابه، محصورة في سبع أو عشر قراءات، بل ربما بلغت أوجه القراءات في مجموعها أكثر من ذلك. وما كان يخطر في بال أحد من الصحابة أن يحصر هذه الوجوه ويجمعها ليحصيها ويقرأ بها كلها ولتكون بذلك فنّا من فنون القرآن وعلما مستقلا من علومه. ولكن الصحابة- وخاصة من اشتهروا بالقراءة منهم- كانوا يتلقون القرآن من فم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالأوجه والطرق التي يؤدي بها، فيأخذون عنه ذلك، ثم يقرأ كلّ منهم بما تيسر له أو اختاره من هذه الوجوه، كما دلّت على ذلك الأحاديث الثابتة الصحيحة. وقد اشتهر بالقراءة والأقراء من الصحابة عدد كبير، في مقدمتهم: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود، وأبو الدرداء، وأبو موسى الأشعري، فعنهم أخذ كثير من الصحابة والتابعين في الأمصار، وقد اشتهر كل واحد منهم بوجه من أوجه القراءة اختاره ولازمه وأقرأه الناس، فكان يقال: هذه قراءة عبد الله، وهذه

قراءة أبيّ، وهذه قراءة زيد ... إلخ، والكلّ موقن أن سائر الوجوه الأخرى مما! يأخذ نفسه به ثابت ومنقول عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (¬1). وقد ظلّ الأمر هكذا إلى أواسط عهد التابعين: يتلقى الناس القرآن بطريقي الكتابة والمشافهة معا، ويتلقون من الصحابة الأوجه المختلفة من القراءات الثابتة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيقرأ كلّ بالقراءة التي يريدها مما تلقاه بالطريق الثابت الصحيح. وفي أواخر عهد التابعين، انتبه كثير من علماء القرآن إلى ما أخذ يتسلل إلى الناس من اضطراب السلائق ومظاهر العجمة وبوادر اللحن، كما أوضحنا فيما سبق، فتجرد قوم منهم ونهضوا بأمر القراءات يضبطونها ويحصرونها ويعنون بأسانيدها، كما فعلوا مثل ذلك بالحديث وعلم التفسير. وقد اشتهر ممّن نهض بذلك أئمة سبعة حازوا ثقة العلماء والقرّاء في مختلف الأمصار، وإليهم تنسب القراءات السبع اليوم. وهم: أبو عمرو بن العلاء (ت: 154) وعبد الله بن كثير (ت: 120) وعبد الله بن عامر اليحصبي (ت: 118) وعاصم بن بهدلة الأسدي (ت: 128) وحمزة بن حبيب الزيات (ت: 156) ونافع بن نعيم (ت: 169) وعلي بن حمزة الكسائي (ت: 189). وليس انحصار الأئمة الذين اعتمدوا إذ ذاك في ضبط القراءات في السبع، دليلا على أن القراءات المتعددة فيما تعددت القراءة فيه من ألفاظ القرآن- لا تزيد على سبع قراءات. بل القراءات والأوجه التي قرأ بها النبي عليه الصلاة والسلام وتابعه فيها الصحابة ليست محصورة في سبع ولا في عشر كما قد علمت. ولكن سبب اشتهار هؤلاء السبعة دون غيرهم- كما يقول أبو محمد مكّي وغيره- أن عثمان رضي الله عنه، كتب المصاحف ووجّهها إلى الأمصار، وكان ¬

_ (¬1) انظر الإتقان للسيوطي: 1 - 83، والبرهان للزركشي: 1! 320.

الضابط العلمي لاعتماد القراءات:

القرّاء في العصر الثاني والثالث كثيري العدد، فأراد الناس ان يقتصروا في العصر الرابع على ما وافق المصحف، فنظروا إلى إمام مشهور بالفقه والأمانة في النقل وحسن الدين وكمال العلم، قد طال عمره واشتهر أمره وأجمع أهل مصر على عدالته، فأفردوا من كل مصر وجّه إليه عثمان مصحفا، إماما هذه صفة قراءته على مصحف ذلك المصر، فكان أبو عمرو من أهل البصرة، وحمزة وعاصم من أهل الكوفة وسوادها، والكسائي من أهل العراق، وابن كثير من أهل مكة، وابن عامر من أهل الشام، ونافع من أهل المدينة، كلهم ممّن اشتهرت إمامتهم وطال عمرهم في الإقراء وارتحل الناس إليهم من البلدان (¬1). الضابط العلمي لاعتماد القراءات: وإنما اعتمد العلماء قراءات هؤلاء الأئمة السبعة، بناء على ضابط علمي كان هو الأساس في قبولهم لها واعتمادهم إيّاها، من أين جاءت وإلى من نسبت. والضابط هو أن كل قراءة صحّ سندها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ووافقت خط المصحف العثماني ولو احتمالا، ووافقت العربية بوجه من الوجوه المعتبرة، فتلك هي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردّها ولا يحلّ إنكارها سواء نقلت عن الأئمة السبعة أو غيرهم. وما لم تجتمع فيه هذه الشروط الثلاثة فهي شاذة مردودة لا يقرأ بها أيّا كان الإمام الذي نقلت عنه. والمقصود بموافقة القراءة لخط المصحف العثماني ولو احتمالا، أن تكون أصول الكتابة والرسم التي كتب بها المصحف العثماني مما يحتمل القراءة ويقبلها بوجه من الوجوه ولو تقديرا، كقوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ففي مالِكِ قراءتان: القصر «ملك» والمدّ «مالك» ورسم المصحف العثماني (ملك) موافق لقراءة القصر تحقيقا، وموافق لقراءة المدّ تقديرا، إذ المدود وحذفها مما تتحمله أصول الرسم. ومثل ذلك يخادعون ويخدعون في قوله تعالى: يخادعون الله وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون فقد قرئ بالمدّ ¬

_ (¬1) البرهان: 1 - 829 و 330.

الفرق بين القراءات المتواترة والشاذة:

والقصر. ومثل ذلك السين والصاد من الصِّراطَ فقد قرئ بهما، وكتابة المصحف بالصاد إلا أن الرسم يحتمله: إذ السين والصاد وما بينهما من الإشمام خاضع لرسم واحد تحقيقا أو تقديرا ذلك لأن هذه الأشكال من النطق بالحرف من فصيلة واحدة (¬1). وبناء على تمسك العلماء جميعا بهذا الضابط في قبول القراءة أو رفضها اعتمد العلماء ثلاثة آخرين من أئمة القراءة صحّت قراءاتهم وخضعت لهذا الضابط الذي ذكرناه. وهم: يزيد بن القعقاع أبو جعفر المدني (ت: 132) ويعقوب بن إسحاق الحضرمي (ت: 185) وخلف بن هشام (ت: 229). فهذه عشر قراءات جميعها صحيح ثابت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنقل العدول الثقات. ولا يذهبن بك الوهم إلى أن كل إمام من هؤلاء الأئمة العشرة إنما كان يؤمن بقراءة نفسه فقط، ويدعو إليها من دون القراءات الأخرى بل كان كلّ منهم يعلم ثبوت سائر القراءات الأخرى كما يعلم ثبوت قراءته ولكنه كان قد أخذ بها وحدها وعكف على خدمتها وتخريج المزيد من أسانيدها. الفرق بين القراءات المتواترة والشاذة: ثم اعلم أن أقل ما تمتاز به هذه القراءات العشر عن القراءات الشاذة التي تأتي من ورائها، هو التواتر والشهرة. فهذه القراءات السبع ثم الثلاث الأخرى توفر فيها إلى جانب الضابط الذي ذكرنا، التواتر أو الشهرة، وهو أقل ما تفقده القراءات الأخرى. هذا ولا بدّ أن يكون أصل القراءة الثابتة متواترا في السند عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأما كيفيتها ومقاييسها التطبيقية، فقد تقصر عن درجة التواتر، وإن توفرت لها الصحة وأسبابها. وذلك كاختلاف القراءات في تقديرات بعض ¬

_ (¬1) الإتقان: 1 - 75، وغيث النفع للصفاقسي: 7.

حكم القراءات الشاذة:

المدود، فمنهم من أطالها ومنهم من قصرها ومنهم من بالغ في القصر (¬1). وعلى كلّ فقد قلنا في صدر هذا البحث إن هنا لك فرقا بين القرآن والقراءات وأوضحنا الفرق إذ ذاك. فأما القرآن فكله متواتر منقول بواسطة سلسلة متصلة من الجموع التي يؤمن تواطؤها على الكذب، عن طريق كلّ من الكتابة والمشافهة. وأما القراءات، فما كان منها منضبطا بالشروط الثلاثة التي ذكرناها فهو ثابت ثبوتا قاطعا يقرأ على أنه قرآن، وهو بين أن يكون متواترا ومشهورا، بالإضافة إلى صحته من حيث السند والرواية. وينطبق بذلك على القراءات العشر. حكم القراءات الشاذة: وما لم ينضبط من ذلك بالشروط المذكورة، فهو مردود شاذ مهما كان مصدر نقله ومهما كانت كيفية سنده. فلا يقرأ القرآن بشيء من ذلك، في صلاة أو نسك أو تلاوة. أما العمل بمضمون هذه القراءات الشاذة، فينظر في ذلك إلى سندها فإن توفّر فيه ما يجب توفره في الحديث الآحاد من شروط الصحة، اعتبر بمثابة الحديث وجاز أخذ الأحكام منه. وسبب ذلك أن مصدر كثير من القراءات الشاذة أن بعض الصحابة كانوا يهمّشون مصاحفهم الخاصة، بكلمات تفسيرية لبعض الألفاظ الغامضة إذ كانوا لا يخشون من التباسها بالقرآن بسبب أن عامّتهم كانوا يحفظون القرآن ويضبطونه ضبطا تامّا، من ذلك تقييد عبد الله بن مسعود آية فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ بكلمة متتابعات، وتقييد عبد الله بن عباس آية لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ بكلمة: في موسم الحج (¬2). ¬

_ (¬1) البرهان: 1 - 319، والإتقان: 1 - 78. (¬2) انظر الإتقان: 1 - 77.

ثم جاء من بعدهم من نظر في مصاحفهم هذه، ورأى هذه الكلمات التفسيرية فظنها من القراءات الثابتة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخذ يرويها على أساس ذلك ويتخذ من هذه المصاحف شاهدا له. وإنما هي ألفاظ تفسيرية كما قطع بذلك ابن الأنباري وغيره، أثبتوها مخافة النسيان. فمثل هذه الألفاظ، وإن كانت ساقطة من حيث اعتبارها قراءة صحيحة، ثابتة من حيث هي تفسير لبعض آي القرآن، فهي تقبل من هذا الوجه، كما يقبل حديث مروي عن ابن عباس بسند صحيح في تفسير آية في القرآن أو استنباط حكم من أحكامه.

القسم الثّاني منهجه وأسلوبه

القسم الثاني منهجه وأسلوبه

أسلوب القرآن دراسة عامة لخصائصه سنلخص في هذا الفصل معظم ما سنأتي على تفصيل البحث فيه إن شاء الله. إذ الحديث عن إعجاز القرآن وتصويره وفن القصة فيه وطرائقه التربوية وغير ذلك من فنون هذا الكتاب العظيم، إنما هو في الحقيقة بسط لمنهجه وخصائص أسلوبه. غير أن علينا- قبل الخوض في كل جانب من هذه الجوانب على انفراد- أن نتصور الأسلوب القرآني في جملته، وأن نستعرض هذا الأسلوب استعراضا سريعا يجلّي في أذهاننا روعته وحدود الفرق بينه وبين أيّ نظم أو كتاب آخر، حتى إذا وقفنا على ذلك، عدنا إليه بالتفصيل وشرح كل جانب منه على حدة. الخاصّة الأولى (جريانه على نسق بديع خارج عن المألوف): وأول ما يطالعك من مظاهر أسلوب القرآن لدى النظر فيه، أنه يجري على نسق بديع خارج عن المعروف من نظام جميع كلام العرب، ويقوم في طريقته التعبيرية على أساس مباين للمألوف من طرائقهم، وله أسلوب خاص به لا تجد منه عند أيّ فن من الفنون العربية المعهودة. ذلك أن جميع الفنون التعبيرية عند العرب لا تعدو أن تكون نظما أو نثرا؛ وللنظم أعاريض وأوزان محددة معروفة، وللنثر طرائق من السجع والإرسال وغيرهما مبيّنة ومعروفة. والقرآن ليس على أعاريض الشعر في رجزه ولا في قصيده، وليس على سنن النثر المعروف في إرساله ولا في تسجيعه، إذ هو لا يلتزم الموازين المعهودة في هذا ولا ذاك، ولكنك مع ذلك تقرأ بضع آيات

منه فتشعر بإيقاع موزون من تتابع آياته، بل يسري في صياغته وتآلف كلماته، وتجد في تركيب حروفه تناسقا عجيبا، بين الرخو منها والشديد، والمجهور والمهموس، والممدود والمقطوع، بحيث يؤلف اجتماعها إلى بعضها لحنا مطربا يفرض نفسه على صوت القارئ العربي كيفما قرأ، إذا كانت قراءته صحيحة. ومهما طفت بنظرك في جوانب كتاب الله تعالى ومختلف سوره، وجدته مطبوعا على هذا النسق العجيب. غير أنه إذا كان لا بدّ من مثال نعرضه لاستجلاء هذه الحقيقة فيه، فلنعرض لك تلك الآيات التي تلاها النبي صلّى الله عليه وسلّم على عتبة بن أبي ربيعة، يوم جاءه رسولا من قبل قريش يعرضون عليه الملك والمال والزعامة على أن يتخلى عن دعوتهم إلى توحيد الله: بسم الله الرحمن الرحيم. حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ. وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ. قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. فحسبك أن تتأمل في صياغة هذه الآيات وكلماتها لتجد فيها مصداق ما ذكرنا، على أنك واجد ذلك في جميع آي القرآن وسوره. فمن أجل ذلك تحيّر العرب في أمره، إذ عرضوه على موازين الشعر فوجدوه غير خاضع لأحكامه، وقارنوه بفنون النثر فوجدوه غير لاحق بالمعهود من طرائقه، فكان أن انتهى الجاحدون منه إلى أنه السحر واستيقن المنصفون منهم بأنه تنزيل من ربّ العالمين. ولك أن تسأل هنا: فكيف تقول إن القرآن يختلف عن جميع طرائق النثر المعهودة؛ مع أن فيه كثيرا من السجع، وهو منهج من مناهج النثر العربي؟ والجواب أن السجع ليس مجرد تقفية للجملة أو المقطع من الكلام بقافية

الخاصة الثانية (جريانه على مستوى رفيع واحد على الرغم من تنوع المعاني والموضوعات):

واحدة من الحروف والوزن، بل هو- كما قال علماء هذا الشأن- موالاة الكلام على وزن واحد. فإذا تفاوتت أوزانه واختلفت طرقه بأن كان أحد مصاريعه كلمتين وبعضهما أربع كلمات، كان من قبيح الكلام. فللسجع منهج مرتب محفوظ وطريق معين مضبوط متى أخلّ به المتكلم نسب ذلك منه إلى الخروج عن الفصاحة، ومثاله عند العرب قول أبي طالب لسيف بن ذي يزن: «منبتك منبت طابت أرومته، وعزّت جرثومته، وثبت أصله، وبسق فرعه، ونبت زرعه، في أكرم موطن وأطيب معدن». وأنت لا تجد هذا النسق في كتاب الله تعالى لا في كثير منه ولا قليل. بل هو مرسل عن كل القيود التي ذكرنا، أما اتفاق فواصل بعض الآيات في الوزن والحروف فهو لا يسمى بذلك القدر سجعا، ولعلّك تعثر فيه على مقاطع يتوالى فيها الكلام على وزن واحد مع اتفاق الفاصلة، غير أنه مما يعترض في الكلام اتفاقا ولا يسمى سجعا مقصودا إليه، وإنما يقع مغمورا في الخطاب، كما يقول الإمام الباقلاني. ألا ترى أنك قد تعثر في بعض آيات القرآن على وزن سليم لمصراع من الشعر، وقد تظفر ببيت كامل فيه، كما قد تظفر بمثل ذلك في غير القرآن من سائر أنواع النثر، غير أن أحدا من الناس لا يسمي ذلك شعرا، ولقد قال العلماء إن البيت الواحد وما كان على وزنه لا يكون شعرا، وإنما أقل الشعر بيتان فصاعدا، فمثل ذلك يقال عن السجع أيضا (¬1). الخاصّة الثانية (جريانه على مستوى رفيع واحد على الرغم من تنوع المعاني والموضوعات): فإذا تجاوزنا هذه الخاصّة من خصائص الأسلوب القرآني، وقفنا على خاصّة أخرى هي من الأهمية بمكان، وهي من أجلّ مظاهر الإعجاز في القرآن. وهي أن التعبير القرآني يظلّ جاريا على نسق رفيع واحد من السموّ في جمال اللفظ ورقة الصياغة وروعة التعبير، رغم تنقله بين موضوعات مختلفة من ¬

_ (¬1) راجع للوقوف على تفصيل هذا المبحث كتاب إعجاز القرآن للباقلاني: ص 57.

الخاصة الثالثة (صلاحية صياغته لمخاطبة الناس عامة على اختلاف ثقافاتهم وعصورهم):

التشريع والقصص والمواعظ والحجاج والوعد والوعيد، وتلك حقيقة شاقّة بل لقد ظلّت مستحيلة على الزمن لدى جميع من عرفنا وسمعنا بهم من فحول علماء العربية والبيان. وبيان ذلك، أن المعنى الذي يراد عرضه، كلما كان أكثر عموما وأغنى أمثلة وخصائص، كان التعبير عنه أيسر وكانت الألفاظ إليه أسرع، وكلما ضاق المعنى وتحدد ودقّ وتعمق، كان التعبير عنه أشق وكانت الألفاظ من حوله أقل. ولذا كان أكثر الميادين الفكرية التي يتسابق فيها أرباب الفصاحة والبيان هي ميادين الفخر والحماسة والموعظة والمدح والهجاء، وكان أقل هذه الميادين اهتماما منهم وحركة بهم ميادين الفلسفة والتشريع ومختلف العلوم، وذلك هو السر في أنك قلّما تجد الشعر يقتحم شيئا من هذه الميادين الخالية الأخرى. ومهما رأيت بليغا كامل البلاغة والبيان، فإنه لا يمكن أن يتصرف بين مختلف الموضوعات والمعاني على مستوى واحد من البيان الرفيع الذي يملكه، بل يختلف كلامه حسب اختلاف الموضوعات التي يطرقها، فربما جاء بالغاية من البراعة في معنى من المعاني، فإذا انصرف إلى غيره انخذل عن تلك الغاية ووقف دونها. غير أنك لا تجد هذا التفاوت في كتاب الله تعالى، فأنت تقرأ آيات منه في الوصف، ثم تنتقل إلى آيات أخرى في القصة، وتقرأ بعد ذلك مقطعا في التشريع وأحكام الحلال والحرام، فلا تجد الصياغة خلال ذلك إلا في أوج رفيع عجيب من الإشراق والبيان. وتنظر فتجد المعاني كلها لاحقة بها شامخة إليها. ودونك فاقرأ ما شئت من هذا الكتاب المبين متنقلا بين مختلف معانيه وموضوعاته لتتأكد من صدق ما أقول ولتلمس برهانه عن تجربة ونظر. الخاصّة الثالثة (صلاحية صياغته لمخاطبة الناس عامة على اختلاف ثقافاتهم وعصورهم): وثمة خاصّة ثالثة، لا تستطيع أن تجدها في غير هذا الكتاب العزيز. وهي أن معانيه مصوغة بحيث يصلح أن يخاطب بها الناس كلهم على

اختلاف مداركهم وثقافتهم وعلى تباعد أزمنتهم وبلدانهم، ومع تطور علومهم واكتشافاتهم. خذ آية من كتاب الله مما يتعلق بمعنى تتفاوت في مدى فهمه العقول، ثم اقرأها على مسامع خليط من الناس متفاوت في المدارك والثقافة، فستجد أن الآية تعطي كلّا منهم من معناها بقدر ما يفهم، وأن كلّا منهم يستفيد منها معنى وراء الذي انتهى عنده علمه. ولسنا نقصد أن الآية تحتمل بذلك وجهين متناقضين أو فهمين متعارضين، بل هو معنى واحد على كل حال، ولكن له سطحا وعمقا وجذورا يتضمنها جميعا أسلوب الآية. فالعاميّ من الناس يفهم منه السطح القريب، والمثقف منهم يفهم مدى معينا من عمقه أيضا والباحث المتخصص يفهم منها جذور المعنى كله. وخذ إن شئت آية أخرى من كتاب الله مما يتعلق بمعنى يتطور مع امتداد الزمن، ثم اعرضها على مسامع الصدر الأول من المسلمين، فإنهم يفهمون منها المعنى المراد كما هو في طورهم وعصرهم، ثم اعرضها على مسامع من بعدهم فإنهم يفهمون معناها كما تطور في زمنهم، على أن كلا الفهمين من المدلولات القريبة للآية، وليس من قبيل التكلّف أو تحميل اللفظ ما لا يحمل، ولكن الفهم الثاني كان مطويا عن السابقين لعدم وجود ما ينبههم إليه إذ ذاك. وفي القرآن الكثير من هذا وذاك، فلنعرض أمثلة منه: من القبيل الأول قوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً، فهذه الآية تصف كلّا من الشمس والقمر بمعنيين لهما سطح قريب يفهمه الناس كلهم، ولهما عمق يصل إليه المتأملون والعلماء، ولهما جذور بعيدة يفهمها الباحثون المتخصصون والآية تحمل بصياغتها هذه الدرجات الثلاث للمعنى، فتعطي كلّا حسب طاقته وفهمه دون أن يكون أيّ تعارض بينهما. فالعاميّ من العرب يفهم منها أن كلّا من الشمس والقمر يبعثان بالضياء

إلى الأرض، وإنما غاير في التعبير بالنسبة لكلّ منهما، تنويعا للفظ. وهو معنى صحيح تدل عليه الآية. والمتأمل من علماء العربية يدرك من وراء ذلك أن الآية تدلّ على أن الشمس تجمع إلى النور الحرارة فلذلك سمّاها سراجا، والقمر يبعث بضياء لا حرارة فيه؛ وهو أيضا معنى صحيح تدل عليه الآية دلالة لغوية واضحة. أما الباحث المتخصص في شئون الفلك فيفهم من الآية إثبات أن القمر جرم مظلم وإنما يضيء بما ينعكس عليه من ضياء الشمس التي شبّهها بالسراج بالنسبة له؛ وهو أيضا معنى صحيح تدل الآية عليه بلغتها وصياغتها، فأنت تقول: غرفة منيرة إذا انعكس عليها الضوء من سراج في وسطها، ولا تقول قبس منير، إذ ينبعث النور من حقيقته وداخله، بل تقول قبس مضيء. فالآية تتضمن هذه الدلالات الثلاث جملة واحدة، ولكنها- بأسلوبها العجيب- لا تخاطب الناس إلا بما يدركونه منها، كلّا حسب استعداده وطاقته الفكرية، وبذلك تكون الآية خطابا مفيدا لأضراب الناس كلهم. ومن هذا القبيل أيضا قوله تعالى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها، أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها، يقرأ هذه الآية العربي الذي لا يعلم عن الأرض وهيئتها إلا الشكل الذي يراه وهو الامتداد والانبساط، فيفهم من قوله «دحاها» معنى الانبساط والامتداد، وهو فهم صحيح تدل عليه الكلمة بمعناها اللغوي القريب. ثم يقرؤها عالم الفلك أو المثقف العادي في هذا العصر، فيفهم من قوله: دَحاها معنى الاستدارة والتكوير، وهو أيضا فهم صحيح للكلمة، إذ هي تحمل في آن واحد كلّا من معنى الاستدارة والانبساط، وهو أدق ما توصف به الأرض. ولقد استعملت هذه الكلمة بكلا معنييها في هذه الأبيات لابن الرومي: إن أنس لم أنس خبازا مررت به ... يدحو الرقاقة وشك اللمح بالبصر ما بين رؤيتها في كفّه كرة ... وبين رؤيتها قوراء كالقمر إلا بمقدار ما تنداح دائرة ... في صفحة الماء يلقى فيه بالحجر (¬1) ¬

_ (¬1) تشترك مادة داح ودحا في الدلالة على الاتساع والعظم والانبساط والاستدارة قال في شرح

الخاصة الرابعة (ظاهرة التكرار للألفاظ والمعاني):

ومن القبيل الثاني قوله تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ لقد كان يقرأ هذه الآية أسلافنا، فلا يعنيهم من فهمها إلا قوله: والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة، إذ كان ذلك القدر هو المنطبق على واقع حياتهم فيما تقصد إليه الآية من الحديث عن وسائل ركوب الإنسان وما في ذلك من نعمة الله عليه. فإذا قرءوا الجملة التي تليها وهي: ويخلق ما لا تعلمون، تاهوا بين تآويل وتفسيرات مختلفة. ويقرؤها إنسان هذا العصر فلا يشك في أن المراد بها هذه الوسائل الحديثة الأخرى التي أضيفت إلى الوسائل السابقة. وهكذا تجد الآية خطابا لأهل العصور المتتالية كلها، وليست خاصّة بقوم دون قوم أو جيل دون جيل آخر. فإذا تأملت في هذه الخاصّة بعد تينك السابقتين، رأيت نفسك أمام الدليل القاطع على أن هذا الكتاب إنما هو كلام ربّ العالمين إلى الناس كلهم. وهيهات أن يقوى الطوق البشري على صياغة كلام يكون على قدر أفهام الناس المتفاوتة وعلومهم المختلفة، بحيث يشعر كل فريق أن الكلام إنما هو على قدر حاجته وفهمه. الخاصّة الرابعة (ظاهرة التكرار للألفاظ والمعاني): وقد كانت هذه الخاصة ولا تزال مجال بحث ودرس، وما أكثر ما ظنها بعض المستشرقين الأعاجم ثلمة يمكن التركيز عليها في نقد القرآن وإلحاق النقيصة به. وفي القرآن من هذه الظاهرة نوعان: أما أحدهما فتكرار بعض الألفاظ أو الجمل وأما الثاني فتكرار بعض المعاني كالأقاصيص والأخبار. فالنوع الأول منه: يأتي على وجه التأكيد، ثم هو ينطوي بعد ذلك على نكت بلاغية أخرى كالتهويل، والإنذار، والتجسيم، والتصوير. وللتكرار أثر ¬

_ القاموس: وانداح بطنه عظم واسترسل، كانداح واندحى ودحى، وبطن منداح: خارج مدور. وذكر في اللسان نحو ذلك. ويشبه أن تكون الكلمتان في أصلهما من مادة واحدة.

وأما النوع الثاني منه:

بالغ في تحقيق هذه الوجوه البلاغية في الكلام. غير أنه لا ينبغي أن يذهب بك الوهم إلى أن أيّ تكرار للكلمة أو الجملة يفي بهذا الغرض، وأنها وسيلة قريبة المنال لكل قادر على الكلام. فالتكرار الذي من شأنه أن يرفع بقيمة الكلام إلى الفصاحة والسمو في التعبير، له قيود وحالات معينة لا ينبغي أن يتجاوزها، وليس أي تكرير في الكلام يبعث فيه التهويل أو التجسيم؛ ولو ذهبنا نشرح الصور المحمودة لتكرار الكلام وقيود ذلك- ولو شرحا يسيرا- لطال بنا البحث وخرجنا عمّا نحن بصدده، فارجع إليه إن شئت في مظانه وأماكنه (¬1). وإذا سألت عن وجه العلاقة بين التكرار وهذه الصور البلاغية، فإن خير جواب على ذلك أن أضع فكرك وذوقك العربي أمام نماذج لهذا النوع من التكرار في هذا الكتاب المبين. فمن ذلك قوله تعالى: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ، وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ، كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ ومنه قوله تعالى: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ، وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ، لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ ومنه قوله تعالى: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ومن ذلك تكرار كلمة أُولئِكَ في قوله جلّ جلاله: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ، وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ وتكرار ما أَنْتَ في قوله: وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ. وكلّ ما في القرآن من تكرار الكلمة أو الجملة من هذا القبيل وعلى مثل هذا الإشراق، وما أحسبك سائلي بعد ذلك عن وجه الجمال أو التهويل أو التصوير في هذا التكرار إن كنت على شيء من السليقة العربية وذوقها. وأما النوع الثاني منه: وهو تكرار المعنى، كتكرار بعض القصص والأخبار، فهو أيضا ظاهرة بارزة في كتاب الله تعالى؛ ومردّ ذلك إلى غرضين هامين: الغرض الأول إنهاء حقائق الدين ومعاني الوعد والوعيد إلى النفوس بالطريقة التي تألفها وهي تكرار هذه الحقائق في صور وأشكال مختلفة من التعبير ¬

_ (¬1) انظر في ذلك مثلا مشكل القرآن لابن قتيبة، وإعجاز القرآن للباقلاني، والبرهان للزركشي.

والأسلوب. وفي بيان هذه الحكمة يقول الله عزّ وجلّ: وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (طه: 113). قال الزركشي: وحقيقته- أي وحقيقة التصريف- إعادة اللفظ أو مرادفه لتقرير معنى، خشية تناسي الأول لطول العهد به (¬1). وهي من الطرائق التربوية التي سلكها هذا الكتاب المبين، ولنا إلى الحديث عنها عودة- إن شاء الله- عند الحديث عن خصائصه التربوية. أما الغرض الثاني فهو إخراج المعنى الواحد في قوالب مختلفة من الألفاظ والعبارة، وبأساليب مختلفة تفصيلا وإجمالا، وتصريف الكلام في ذلك، حتى يتجلى إعجازه ويستبين قصور الطاقة البشرية عن تقليده أو اللحاق بشأوه. وأنت تعلم أن هذا الكتاب إنما تنزّل لتحقيق أمرين: أولهما إقناع العقلاء من الناس بأنه ليس كلام بشر، ثانيهما إلزامهم بالشريعة التي فيها. فلا بدّ فيه من الوسائل التي تفي بتحقيق السبيل إلى كلا الأمرين. ومن هنا، كان من المحال أن تعثر في القرآن كله على معنى يتكرر في أسلوب واحد من اللفظ ويدور ضمن قالب واحد من التعبير، بل لا بدّ أن تجده في كل مرة يلبس ثوبا جديدا من الأسلوب وطريقة التصوير والعرض، بل لا بدّ أن تجد التركيز في كل مرة منها على جانب معين من جوانب المعنى أو القصة. ولنضرب لك مثالا على هذا الذي نقول: اقرأ قصة نوح في سورة هود، وهي ما بين قوله تعالى: ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إنّي لكم نذير مبين- وقوله جلّ جلاله: تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ... الآية، وهي في جملتها اثنتان وعشرون آية، ثم ارجع فاقرأ القصة نفسها في سورة القمر من الآية 9 إلى الآية 15 ثم اقرأها في سورة نوح، ثم تأمل في النصوص الثلاثة وقارن بين أسلوب كلّ منها وطريقته في العرض والتصوير والجانب المعنوي الذي يرتكز عليه التعبير في كلّ منها، فإنك إن تأملت في ذلك جيدا تخيلت أنك إنما تقرأ في ¬

_ (¬1) انظر البرهان: 3 - 10.

الخاصة الخامسة (تداخل بحوثه وموضوعاته):

كل مرة خبرا جديدا يشوقك أمره وتفجئك أحداثه، وشعرت أن النفس بحاجة إلى أن يعرض عليها هذا الخبر من كلا الجانبين وبكلا الأسلوبين. على أن هذا الغرض يعود إلى يعود إلى ما ذكرناه من كون القرآن خطابا للناس كلهم، ذلك أن في الناس من لا يكفيه الموجز من القول والخلاصة في الحديث، حتى ينصت إلى الأمر مفصلا مطنبا، وفي الناس من تكفيه الخلاصة ويقنعه الإيجاز، فاقتضى الأمر أن تتصرف المعاني القرآنية في طرائق مختلفة من التعبير والبيان. وقد اهتم الجاحظ بهذه الحكمة في التكرار القرآني أكثر من غيرها (¬1). الخاصّة الخامسة (تداخل بحوثه وموضوعاته): فأنت لا تجد فيه ما تجده في عامّة المؤلفات والكتب الأخرى من التنسيق والتبويب حسب الموضوعات، وتصنيف البحوث مستقلة عن بعضها. وإنما تجد عامّة موضوعاته وأبحاثه لاحقة ببعضها دونما فاصل بينها، وقد تجدها متمازجة متداخلة في بعضها في كثير من السور والآيات. وقد حسب بعض محترفي الغزو الفكري أن هذه الخاصّة القرآنية ثلمة يمكن الدخول منها إلى اصطناع نقد أو محاولة تهديم أو بثّ تشكيك، فأخذوا يتساءلون عن موجب هذا التداخل والتمازج في معاني القرآن، ثم راحوا يجيبون عن تساؤلهم هذا بأنها البدائية والبساطة في منهج البحث ... وفيه إلماح- كما ترى- إلى أنه لا يعدو كونه مجموعة أفكار منتثرة أنتجها فكر إنسان! ... والحقيقة، أن هذه الخاصّة في القرآن، إنما هي مظهر من مظاهر تفرده واستقلاله عن كل ما هو مألوف ومعروف من طرائق البحث والتأليف ... وواضح لكل ذي عينين أن هذا الكتاب- وهو كتاب عربي مبين- نسق غير معهود في منهجه وأسلوبه وتعبيره؛ ويدلّك على ذلك كل هذه الخصائص الذي ذكرناها وشرحنا طرفا منها. ¬

_ (¬1) انظر البرهان للزركشي: 3 - 12، وإعجاز القرآن للرافعي: 221، وإعجاز القرآن للباقلاني: ص 106 و 107.

هذا شيء ... وشيء آخر، هو أن من الخطأ في أصل النقد والبحث أن نحاكم القرآن في منهجه وأسلوبه، إلى ما تواضع عليه الناس اليوم، أو قبل هذا اليوم، أو إلى ما سيتواضعون عليه مع تطور الزمن- من طرائق البحث والتأليف وتنسيق المعايير. فهذا الذي يتوافق عليه الكاتبون من تقسيم كتبهم إلى أبواب وفصول، ثم تضمين كل فصل منها لجملة معينة من الأبحاث والمعاني، ليس مردّه إلى أمر إلزامي أو مثل أعلى يفرض عليهم ذلك، وإنما الأمر فيه تابع للأغراض المتعلقة به، وهو في جملته عرف يعتادونه وطور يمرون عليه ويجتازونه بعد حين إلى غيره. فما هي الحقيقة الثابتة التي تلزم كتاب الله تعالى بأن يسير في منهجه على طور من أطوار هؤلاء العباد وأن يتبع تنسيقهم الذي يضعون، أو أن تصنّف أبحاثه ومعانيه حسب المنهج الذي يشاءون؟!. هذا إلى أن المناهج- كما قلنا- تتناسخ والأساليب تتطور. على أن الخاصّة تابع لحكمة عليا يدور معها المعنى القرآني كله، ذلك أن جملة ما في القرآن من مختلف المواضيع والمعاني الجزئية، إنما يدور جميعه على معنى كلّي واحد، هو دعوة الناس إلى أن يكونوا عبيد الله بالفكر والاختيار كما خلقهم عبيدا له بالجبر والاضطرار، وأن يدركوا أن أمامهم حياة ثانية بعد حياتهم هذه، وأن يستيقنوا ضالة هذه الحياة بالنسبة لتلك، في كلّ من خيرها وشرّها وسعادتها وشقائها. فالقرآن شأنه أن يبثّ هذا المعنى الكلي الخطير من خلال جميع ما يعرضه من الأبحاث والموضوعات المختلفة من تشريع ووعد ووعيد وقصة وأمثلة ووصف؛ وإنما يتحقق ذلك بهذا النسق الذي جرى عليه من التداخل والتمازج في المعاني. فهو حينما يبدأ بعرض قصة، لا يدعك تنسى- ولو في مرحلة من مراحلها- ذلك المعنى الكلّي الذي ذكرناه، فهو يمزجها بما ليس منها من تهديد أو وعد ووعيد أو نصيحة ووعظ، تحقيقا للغرض الذي من أجله تساق القصة،

وحفظا للفكر أن يتشتت مع أجوائها وأحداثها فينسى مساقها الأصلي. وهو حينما يشرح لك أحكاما في العبادات أو المعاملات أو غيرها، يسلك بك أيضا المنهج ذاته، فهو يحاذر أن تستغرق في التأمل بهذه الأحكام من حيث هي علم أو فن برأسه، كما قد يحصل مع من ينكبّ على دراسة هذه الأحكام في الكتب العلمية الخاصّة بها، فيوصلها بآيات ليست منها، فيها وعد أو وعيد أو حديث عن الآخرة أو دليل على وجود الله وعظمته، ليتنبّه الفكر، ويظلل مستيقظا للحقيقة الكلية الكبرى التي تطوف بها جميع المعاني الأبحاث. ولو أن القرآن اتبع في عرض معانيه، هذا الذي يسلكه الناس في تآليفهم وبحوثهم، فأفرد فصولا خاصة لعرض الأحكام والتشريع، ثم ميّز فصلا آخر للقصص، وجاء بفصل ثالث في وصف المغيبات كالجنة والنار، وهكذا ... - نقول: لو درج القرآن على ذلك لفات تحقيق هذا الغرض الذي ذكرناه، ولما أمكن أن تكون هذه الفصول المتناثرة انعكاسا لمعنى كلي واحد تشترك كلها في بثّه والتوجيه إليه. ولئن أمكن أن يتذكر القارئ ذلك في تمهيد أو فصل من الفصول، فلسرعان ما ينساه عند ما يستغرق في قراءة أو دراسة الفصول الأخرى. وإن هذا الذي نقول، ليس من الحقائق المستعصية أو الخافية على من يصدق التأمل والنظر في كتاب الله تعالى، ولكن في الناس من يقود عقله وراء غرض ما ... فيمضي يصطنع مشكلة، وهو بعقله الحرّ يعلم أنها ليست بمشكلة، ولكن الغرض الذي يسعى إليه لا يدعه يحرّر عقله من الأسر فيمضي متوكلا على الشيطان ليزعم أن الأبيض أسود، والموجود معدوم والشمس مظلمة. هؤلاء الناس هم محترفو الغزو الفكري من المبشرين والمستشرقين أولا، ثم هم أذنابهم وذيولهم الذين ينعقون بما لا يفقهون ثانيا. وبعد، فهذه جملة خصائص الأسلوب القرآني، عرضناها عرضا سريعا، ابتغاء تصورها في إطار عام شامل. ولنا عود- إن شاء الله- بالتفصيل إلى كثير مما قد أجملناه خلال البحوث التالية.

إعجاز القرآن تعريفه، وجوهه، دليله، مظاهره

إعجاز القرآن تعريفه، وجوهه، دليله، مظاهره تمهيد لا بدّ منه: الحديث عن إعجاز القرآن من أهم البحوث المتعلقة بالقرآن وآدابه وعلومه، وهو لبّها وجوهرها وأساسها وعمدتها. ومع ذلك، فإنني أعلم أن كثيرا ممّن سيقرأ ما أكتبه في هذا البحث، لا يملكون إلا أن يحفظوا ما أقوله بعقولهم، دون أن يتذوقوه بقلوبهم، ويستيقنوه بأفكارهم. والسبب أنهم عاشوا غرباء عن القرآن، لم تتهيأ لهم أسباب قراءته ولم يتوفروا على شيء من دراسته؛ إن في هؤلاء- ويا للأسف- من لم يسمع بالقرآن إلا في أحاديث الناس وما تقوله الكتب، ومن لم ينصت إلى شيء من آياته إلا في أمسيات التعازي أو عند افتتاح حفل أو لدى مصادفة عند فتح إذاعة. وإنما يفقه الحديث عن إعجاز القرآن ويتذوقه، من درس القرآن قبل ذلك، فأتقن قراءته، تماما كما كان يتقنها أطفال «الكتّاب» في بلادنا قبل اليوم. فهو الذي يكون قد تصور حقيقة القرآن، وتهيأ لفهم الحديث عن إعجازه. أما من لم يتوفر على تصوره إلا في أصوات «المقرئين» وفي أمسيات التعازي، ومن إذا أراد أن يقرأ بضع آيات منه تلعثم وترطّن وثقلت كلماتها العربية على لسانه، فهيهات أن يفقه شيئا عن إعجاز القرآن ومظاهره ودلائله، إلا أن يحفظ ذلك حفظا ويبصمه بصما. ذلك لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فمن لم يتصور الشيء على حقيقته عجز عن إسناد أي حكم إليه.

ولقد قامت «ويا للأسف» حواجز كادت أن تصبح حصينة بين كثير من أفراد نشئنا المثقف وهذا الكتاب العظيم. ولم يعد سرّا خافيا أن هذا الحاجز إنما تكثف واستقرّ وتطاول، بفعل التخطيط الذي كانت ولا تزال تقوم به دوائر أجنبية، قصدا إلى إضعاف اللغة العربية في ألسنة أصحابها العرب وصدورهم، تحت شعارات وأهداف مزوّقة خادعة، كالدعوة إلى تبسيط قواعد العربية تارة، وترويج فكرة الجمع بين العربية والعاميّة أخرى، والدعوة إلى كسر عمود الشعر لإحلال ما يسمى ب «الشعر المنثور» مكانه تارة ثالثة. والقصد البعيد من ذلك كله، هو إقامة هذا الحاجز بين الجيل وكتاب الله عزّ وجلّ، فإنه إذا حجز عنه، لم يعد يقدر على معرفته وإدراكه، وإذا لم يعد قادرا على معرفته، فأحر به أن لا يقدر على فهم شيء مما يقال حول إعجازه. وإن هذه النتيجة لتنطوي على ربح عظيم لأولئك الذين يرقبون الأمر من بعيد، بمقدار ما تنطوي عليه من الخسارة الفادحة لهذا الجيل الذي نسي الكثيرون منه كل شيء إلا أنهم: عرب (¬1). وعلى كلّ، فلا بدّ من الحديث عن إعجاز القرآن، وعلى من لم يتصور حقيقة القرآن بعد، أن يسرع فيتدارك ما فاته، وسيهون الأمر عليه إذا ما تصور أن أول زاد الأديب ومعلّم العربية إنما هو هذا الكتاب، فهو- من دون معرفته وإتقان تلاوته- لا يملك أن يقول شيئا في باب الأدب أو القواعد أو البيان، وما أخزى وأسوأ منظر ذاك الذي يقف ليلقي درسا في العربية، فإذا ما صادفته آية من القرآن، وجدت لسانه لا يدور بها إلا كما يدور لسان الأعجمي إذا أراد أن يبين بالعربية ويتفصح!! .. ولست أتحدث- في هذا المقام- عن أي غاية لضرورة دراسة هذا الكتاب وإتقان تلاوته، غير الغاية التي نحن بصددها. إن المهم أن عالم العربية ليس عالما بشيء منها طالما ظل غريبا عن ينبوع العربية ومصدر سائر علومها. ¬

_ (¬1) اقرأ لتطلع على بسط الدلائل في هذا المعنى كتاب «حصوننا مهددة من داخلها» للدكتور محمد محمد حسين إن عثرت عليه. واقرأ كتاب تجربة التربية الإسلامية في ميزان البحث لمؤلف هذا الكتاب.

تعريف إعجاز القرآن:

وحسب هذه الضرورة دافعا لكل عربي أن يقبل على هذا الكتاب في دراسة واعية عميقة. تعريف إعجاز القرآن: أجمع عامّة الباحثين من علماء العربية والتشريع والفلسفة والفرق المختلفة أن القرآن معجز. فما معنى أنه معجز؟ لدينا في الجواب على هذا السؤال تعريفان للإعجاز، أحدهما هو المعتمد لدى جمهور العلماء والباحثين، والثاني تفرد به أبو إسحاق إبراهيم النظام (ت: 231) اللغوي والمعتزلي المعروف، ثم تبعه في ذلك بعض الناس من فرقته وجماعته. فأما التعريف الأول، فهو أن القرآن قد سما في علوّه إلى شأو بعيد بحيث تعجز القدرة البشرية عن الإتيان بمثله؛ سواء كان هذا العلو في بلاغته أو تشريعه أو مغيباته. وأما التعريف الثاني فهو أن الله قد صرف قدرات عباده وسلب همّتهم وحبس ألسنتهم عن الإتيان بمثله. والفرق بين التعريفين، أن مصدر الإعجاز في التعريف الأول علوّ منزلة القرآن عن مستوى الطوق البشري، أما مصدره في التعريف الثاني فهو حبس القدرات وصرف الهمم عن معارضته وتقليده، أي فهو قد يكون، والحالة هذه، غير بعيد في منزلته البلاغية عن طاقة البشر، ولكن الله، تصديقا لنبيّه ولطفا به، صرف الناس عن تقليده ومحاكاته. وأنت إذا تأملت في كلا التعريفين وفي الذي هو أقرب إلى العقل والفهم منهما، أدركت أن تعريف النظّام ومن شايعه فيه، لا معتمد من المنطق أو العقل له. وقد سخر كثير من الباحثين، ومنهم الجاحظ، بهذا التفسير للإعجاز؛ وتكاثرت الردود عليه من كل صوب. ولننقل لك منها كلام الإمام الباقلاني في كتابه، إعجاز القرآن يقول:

( ... لو لم يكن القرآن معجزا على ما وصفناه من جهة نظمه الممتنع، لكان مهما حطّ من رتبة البلاغة فيه، ووضع من مقدار الفصاحة في نظمه، كان أبلغ في الأعجوبة إذا صرفوا عن الإتيان بمثله، ومنعوا عن معارضته وعدلت دواعيهم عنه، فكان يستغني عن إنزاله على النظم البديع وإخراجه في المعرض الفصيح العجيب. على أنهم لو كانوا صرفوا على ما ادّعاه- أي القائل بهذا التعريف- لم يكن من قبلهم من أهل الجاهلية مصروفين عمّا كان يعدل به في الفصاحة والبلاغة وحسن النظم وعجيب الرصف، لأنه لم يتحدّوا إليه، ولم تلزمهم حجته. فلما لم يوجد في كلام من قبله مثله، علم أن ما ادّعاه القائل بالصرفة ظاهر البطلان). ثم يقول بعد ذلك: (ومما يبطل ما ذكروه من القول بالصرفة، أنه لو كانت المعارضة ممكنة- وإنما منع منها الصرفة- لم يكن الكلام معجزا، وإنما يكون المنع هو المعجز، فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره في نفسه، وليس هذا بأعجب مما لو قيل: إن الكل قادرون على الإتيان بمثله، وإنما يتأخرون عنه لعدم العلم بوجه ترتيب لو تعلموه لوصلوا إليه بعد) (¬1). أقول: وإن أيسر ما يوضح فساد تفسير إعجاز القرآن بالصرفة، أن الواقع قد خالف ذلك، فلم يصرف الناس في الحقيقة عن الإقبال إلى تقليده ومجاراته، بل قام في التاريخ- كما ستعلم- من حاول أن يعارض، وعارض وأتى بكلام زعم أنه قد حاكى به كلام الله عزّ وجلّ، ولكنه جاء مرذولا سمجا لا قيمة له. وأيضا ففيم سجد العرب من مشركين ومسلمين إذا لبلاغته حتى زعم بعضهم أنه السحر، وفيم كان المشركون يتواصون بعدم الذهاب إلى الكعبة في جنح الليل لسماع القرآن من محمد عليه الصلاة والسلام حتى لا يفتن بذلك جنح الليل لسماع القرآن من محمد عليه الصلاة والسلام حتى لا يفتن بذلك الدهماء عن دين أجدادهم، ثم ما هو إلا أن يتوارد هؤلاء المتواصون مع الليل، يختبئون خلف جدران الكعبة ليترنموا بسماع آيات القرآن؟ ... لو كان القرآن في ¬

_ (¬1) إعجاز القرآن لأبي بكر الباقلاني: 29 و 30.

الدليل على ثبوت الإعجاز في كتاب الله في الجملة:

حقيقته كالكلام الذي يحسنه البشر، ولكن الله صرفهم عن مجاراته ومحاكاته، لما وقع كل ذلك ولا شيء منه. ومع ذلك فإن تفسير إعجاز القرآن، كما يراه النظّام، هو في الحقيقة أقعد في باب الإعجاز وأدعى إلى معرفة أنه كلام الله عزّ وجلّ، إذ العجز عن الإتيان بالشيء المستطاع أعجب من العجز عن الإتيان بالأمر الرفيع الذي لا يدرك ولا يستطاع. ولكن المنطق هو الذي يتجافى عن رأيه وتحليله. الدليل على ثبوت الإعجاز في كتاب الله في الجملة: ونقصد بكلمة «في الجملة» قطع النظر عن أنواع الإعجاز القرآني، والأدلة التفصيلية الخاصة بكلّ منها. وإنما المراد هنا الوقوف على دليل علمي يصلح أن يكون برهانا على ثبوت المعنى الكلّي للإعجاز في القرآن، والشامل إجمالا للأنواع التي سنتحدث عن كلّ منها بشيء من التفصيل فيما بعد. واعلم أنك مهما حاولت أن تكشف عن براهين الإعجاز، في القرآن، فلن تقع على برهان أبين وألزم من برهان التجربة والمشاهدة. وهو الذي عناه الخطابي في كتابه «بيان إعجاز القرآن» عند ما قال: « ... والأمر في ذلك أبين من أن نحتاج إلى أن ندل عليه بأكثر من الوجود القائم المستمر على وجه الدهر، من لدن عصر نزوله إلى الزمان الراهن الذي نحن فيه» (¬1). وبيان ذلك أن العرب بدءوا فسألوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يأتيهم بآية تدل على صدق دعوته ورسالته. فأخبرهم الله تعالى بأن القرآن أعظم آية تدل على ما يريدون، وذلك في قوله جلّ جلاله: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ. قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (العنكبوت: 50 و 51). ¬

_ (¬1) ثلاث رسائل في إعجاز القرآن ص 21، طبع دار المعارف.

ولكن الكافرين أنكروا أن يكون في شيء من آي القرآن ما يدلّ على صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم في دعوته، وادّعوا أنه كتاب كغيره ليس فيه ما يعجز عن الإتيان بمثله، وأعرضوا عنه قائلين ما نقله الله عن لسانهم: ... قَدْ سَمِعْنا، لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا، إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (الأنفال: 31)، وحينئذ تحدّاهم الله- أو قل تحدّاهم القرآن إن شئت- أن يأتوا بسورة من مثله. وأفرغ هذا التحدي في قوالب مختلفة من اللفظ والأسلوب، وأنهضهم إلى الإتيان بمثله أو بمثل أقصر سورة منه، بالتقريع والتحميس ومختلف أشكال التّحدي فقال لهم مرة: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا- وَلَنْ تَفْعَلُوا- فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (البقرة: 23 و 24). وقال لهم مرة أخرى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (الإسراء: 88). وقال لهم مهيجا ومقرعا: أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ، بَلْ لا يُؤْمِنُونَ. فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (الطور: 23 و 24). وقد كان من مقتضى قولهم: لو نشاء لقلنا مثل هذا، وما سمعوه من هذا التقريع والتحدي وما كان يعتلج في صدورهم من الحقد والكراهية لهذا الذي جاءهم، النبي صلّى الله عليه وسلّم، وما كانوا منصرفين إليه من البحث الدائب عن أيّ وسيلة يمكن الاعتماد عليها، لإفساد أمره عليه ومنع دعوته من السير في طريق النجاح- نقول: كان من مقتضى ذلك كله أن ينهضوا لمعارضته ومجاراته بفصول من كلامهم البليغ، ليقطعوا بذلك خطره عنهم وليعلنوا بذلك لمن قد يتحدث بهذا الذي يأتيهم به من القرآن، أنهم قد جاءوا بمثله وخير منه. ولكنهم- على الرغم من كل هذا- لم يفعلوا شيئا، ولم يستجيبوا لتحدي القرآن الكريم في محاولة ما، غير أنهم تحولوا عن قولهم السابق: لو نشاء لقلنا

مثل هذا، إلى زعم أن محمدا إنما يأتيهم بسحر ... أو كهانة ... أو شعر فريد في بابه، كما قال الله تعالى عنهم: وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (الزخرف: 30). ثم إن آيات التحدي هذه ظلت مسجلة في كتاب الله تعالى تقرع آذان العلماء والأدباء والشعراء والبلغاء على اختلاف نحلهم ومذاهبهم في كل عصر وقرن. فما استطاع واحد فيهم أن يسجّل إلى جانب هذا التحدي عملا ما يصلح أن يقال إنه قد عارض به القرآن فأتى بشيء حسن. فهذا الواقع، من أجلى أدلة التجربة والمشاهدة على ثبوت صنعة الإعجاز للقرآن. إذ هو دلالة الواقع نفسه خلال التاريخ والقرون. على أننا ندعم هذا البرهان بميزان الاستقراء التام الدّال على أن القرآن لا يمكن أن يكون كلام غير الله عزّ وجلّ فنقول: إن عجز العرب كلهم عن الإتيان بمثل القرآن، دليل جليّ على أنه لا يمكن أن يكون من تأليف أحد منهم كورقة بن نوفل، وبحيرا الراهب، أو غيرهما ... إذ إن الاحتمال مخالف لبرهان العجز الذي دلّت عليه التجربة المشاهدة، على أن القرآن فيه تعليق على أحداث وقعت بعد موت ورقة وبحيرة، فكيف يكون مع ذلك من إيحائهما أو تأليفهما. ونمضي في الاستقراء والبحث، فنفرض أنه موحى به إليه صلّى الله عليه وسلّم من قبل الجن ما دام أن الدليل قام على أنه ليس من كلام البشر. غير أن هذا الفرض أيضا يستلزم نتائج باطلة تكشف عن بطلانه. فالجان الذي يفرض أنه أوحى إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم بهذه الألفاظ، لا يوحي بها إليه إلا وهي مما يقدر الجن على إيجاد مثله. وليس ممكنا أبدا أن لا يقوم في وجه هذا المخلوق الجنّي أحد من أمثاله، يوحي بقرآن مثله حلال هذه القرون كلها إلى واحد من هؤلاء الناس الذين يشتهون أن يؤلفوا مثله، فلا يستطيعون هذا مع العلم بأن الله تعالى، كما تحدى بالقرآن الإنس، تحدى به الجن أيضا، فقال عزّ وجلّ:

وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ، وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ، إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (الشعراء: 212). وكما يوجد في الإنس من يحقدون على الحق مع العلم بأنه الحق، فيتمنّون لو أمكنهم إفساد صفة الإعجاز في القرآن بأيّ وسيلة ممكنة، كذلك يوجد في الجن من يحقدون مثل هذا الحقد، ويتمنّون مثل هذا التمنّي. فلما لم نر إنسانا أوحى إليه من قبل أحد الجان بمثل القرآن، أو بمثل بعض منه، علمنا بدليل الواقع المشاهد أنه ليس من تأليف الجان ولا من إيحائهم. وهكذا يتكامل دليل الاستقراء التام على أن هذا القرآن الذي تنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم، ليس من تأليف أحد من الناس الذين كانوا في عصره، وليس من تأليف جني نفثه في روعه أو ألقى به إليه. فانحصر العقل عند ضرورة الإيمان بما يقوله ويقرره هذا القرآن نفسه، من أنه ليس إلا كلام الله عزّ وجلّ نزل به الروح الأمين على محمد صلّى الله عليه وسلّم ليكون خاتمة المنذرين إلى العالم كله وهو ما يؤكده البيان الإلهي بقوله عزّ وجلّ: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (هود: 14). ثم إن من أهم ما يزيد هذا البرهان التجريبي المحسوس والمشاهد، جلاء ويقينا، ما قد تعلمه من أن قلة من الناس حاولوا فعلا أن يأتوا بشيء من مثل القرآن في بلاغته ومضمونه، فقد كانوا يأنسون في أنفسهم من القدرة ما يجعلهم أهلا لهذه المغامرة. لكنهم ما إن أقدموا على ذلك حتى نزلوا عن المستوى الذي كانوا يقدرون عليه، وجاءوا بكلام بارد مضحك يسخر بعضه من بعض. فمنهم مسيلمة بن حبيب الكذاب الذي تنبأ باليمامة في أواخر حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم فقد زعم أن له قرآنا آخر يوحى به إليه. وقد نقلوا له من قرآنه هذا كلاما سخيفا في كلّ من مبناه ومعناه.

وقد كان مسيلمة من فصحاء العرب، وكان إذا تكلم على سجيته جاء بكلام جيد، لا يوزن بشيء من السخف الذي انحطّ إليه عند ما حاول تقليد القرآن ومعارضته. ومنهم آخرون، جاءوا مع فترات متقطعة من التاريخ، توفر لديهم حبّ المغامرة، وآنسوا في ملكاتهم القدرة على معارضة القرآن. ولكنهم حذروا الفضيحة والسخرية- على ما يبدو- وخافوا أن ينتهي أمرهم إلى مثل ما انتهى إليه أمر مسيلمة. فأخذوا يعارضون بعضا من سور القرآن على تكتم وفي نجوة من الناس، ثم إنهم لما عادوا إليه بالنظر والتأمل، فوجدوه غثاء لا قيمة له، وكلاما لا طعم فيه رأوا أن يخرجوا به على الناس بعد أن يلصقوه بمن خطر في بالهم من مشاهير الأدباء والكاتبين. من هذا القبيل ما نسب إلى ابن المقفع من أنه اشتغل بمعارضة القرآن مدة ثم أقصر عن ذلك وتركه. وأغلب الظن أن الأمر إنما ألصق به إلصاقا على النحو الذي ذكرت. ويقول الرافعي رحمه الله، معللا اختيار هؤلاء المجهولين لابن المقفع دون غيره: «وإنما نسبت المعارضة لابن المقفع دون غيره من بلغاء الناس، لأن فتنة الفرق الملحدة إنما كانت من بعده وكان البلغاء كافة لا يمترون في إعجاز القرآن وإن اختلفوا في وجه إعجازه، ثم كان ابن المقفع متهما عند الناس في دينه، فدفع بعض ذلك إلى بعض وتهيأت النسبة من الجملة» (¬1). ومن هذا القبيل أيضا كلمات نسبت إلى أبي العلاء المعري، قيل إنه عارض بها القرآن. ونسبوا إليه من ذلك فيما نسبوا قوله: (أقسم بخالق الخيل، والريح الهابّة بليل، إن الكافر لطويل الويل، وإن العمر لمكفوف الذيل، تعدّ مدارج السيل، وطالع التوبة من قبيل، تنج وما إخالك بناج). ¬

_ (¬1) تاريخ آداب العرب لمصطفى صادق الرافعي 2/ 183.

قالوا: ولما أن قيل له: إن كلامك هذا لا يبدو فيه شيء من رواء القرآن وإشراقه، أجابهم: دعوه تصقله الألسن في المحاريب أربعمائة سنة، ثم انظروا كيف يكون. وما من باحث، بل ما من متأمل عاقل، إلا ويدرك براءة المعري من هذا الهراء، ومن هذه الطريقة الغبية في الدفاع عن هذا الكلام، لأسباب من أهمها: أولا: إن المعري لم يكن من الجهل بالواقع والتاريخ إلى حيث جعله يتوهم بأن الذين سجدوا لبلاغة القرآن، من العرب المشركين والمسلمين، لم يفعلوا ذلك إلا بعد أن صقلت تلك الآيات أسماعهم أربعمائة سنة ... ثانيا: إن الرجل عرض في كتابه، رسالة الغفران، لسخف جاء به ابن الراوندي في كتاب له سمّاه «التاج» وهو سخف يشبه هذا الذي ألصقوه بأبي العلاء مما نحن في معرض حديثه، فتناول تاجه هذا، ومزقه بلسانه وقلمه شرّ ممزّق ثم تحدّث عن القرن حديث العاقل الذي يكرم نفسه من حيث يوقفها عند حدّها. ويؤكد أن لا مطمع لأي معارضة أو تقليد لهذا الكتاب، لأي إنسان مهما سما في قدراته وطاقاته العلمية والبلاغية. وهذا كلامه عن ذلك في رسالة الغفران: ( .. وأما ابن الراوندي، فلم يكن إلى المصلحة بمهدي، وأما «تاجه» فلا يصلح أن يكون نعلا، ولم يجد من عذاب وعلا (أي ملجأ) .. ويجوز أن ينظم تاجه عقارب، فما كان المحسن ولا المقارب .. وهل تاجه إلا كما قالت الكاهنة: أف وتف، وجورب وخوف. قيل وما جورب وخف؟؟ .. قالت: واديان في جهنم) إلى أن قال: (وأجمع ملحد ومهتد وناكب عن المحجة ومقتد، أن هذا الكتاب الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم كتاب بهر بالإعجاز، ولقي عدوه بالإرجاز، ما حذي على مقال، ولا أشبه غريب الأمثال، ما هو من القصيد الموزون ولا الرجز

من سهل وحزون، ولا شاكل خطابة العرب، ولا سجع الكهنة دوي الإرب، وجاء كالشمس اللائحة نورا للمسرّة البائحة وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ. وإن الآية منه أو بعض الآية لتعترض في أفصح كلم يقدر عليه المخلوقون، فتكون فيه كالشهاب المتلألئ في جنح غسق، والزهرة البادية في جدوب ذات نسق فتبارك الله أحسن الخالقين» (¬1). أفيمكن، فيما قد يتصوره عقل عاقل، أن يجرد المعري هذه السياط الملهبة على ظهر ابن الراوندي، ثم يعمد فيضع هو أيضا ظهره تحت لهيبها؟ لا شك أن الأمر في حقيقته كما قلنا، أن مجهولين غامروا، فخابت جهودهم، فألصقوا خيبتهم بمن قد أحبّوا أن يلصقوها به من مشاهير العلماء أو الأدباء. فهذا هو الدليل المادي الملموس على أن هذا القرآن قد أعجز البشر أن يأتوا بمثله .. إذ قد تبين أن الناس- منذ نزول القرآن إلى هذا اليوم- فريقان اثنان: فريق أعلن عجزه عن إمكان الإتيان بمثله أو بما يدانيه، دون سابق تجربة ومحاولة وفريق جرّب وحاول، وبذل كل ما يملك من جهد، فلم يأت من عمله بشيء. ومن خلال موقف كلا هذين الفريقين اللذين انقسم إليهما جميع الناس إلى هذا اليوم، يتكامل الدليل العملي على ثبوت صفة الإعجاز في القرآن. وإنما يعرف الدليل على إعجازه من هذا الوجه فقط، سواء عرفت وجوهه وأسبابه أو لم تعرف. إلا أننا سنحاول الآن ترسيخ هذا الدليل، عن طريق تحليل هذه الظاهرة ¬

_ (¬1) رسالة الغفران: 479 و 480.

وجوه الإعجاز القرآني

الإعجازية التي تتجلى في هذا الكتاب العظيم. وعن طريق الكشف عن وجوه هذا الإعجاز وأسبابه. وفي يقيني أن العلماء يملكون مزيدا من وسائل الكشف عن هذه الوجوه وأسباب تجليتها، كلما تطاول الزمن، وازداد عمر القرآن طولا بين الناس، إذ إن ذلك هو شأن المعجزة المستمرة والباقية مدى الدهر. وجوه الإعجاز القرآني لن نطيل القول في بيان الخلاف الذي جرى بين علماء القرآن، حول حقيقة الأعجاز الثابتة في كتاب الله تعالى، بعد أن تكامل إجماعهم واتفقت كلمتهم على أن سمة الإعجاز حقيقة ثابتة في هذا الكتاب، بقطع النظر عن جوانبه ومظاهره. فإن فيما سنعرضه من بيان هذه الوجوه والجوانب، وتحليل كلّ منها وإبراز الأدلة والبراهين عليها، بالقدر الذي يتّسع له مجال مثل هذا البحث، ما يقضي على أسباب ذلك الخلاف، ويجلي لنا معظم هذه الوجوه، على نحو لا تلحقه المرية ولا يطوله الشك. ونقول: يجلي لنا معظم هذه الوجوه. ولا نقول: يجلي كلها. لأنّا لا نعلم ما الذي تحمله قوادم الأيام والعصور، ومستجدات الأفكار والعلوم، من أضواء على مزيد من وجوه الإعجاز في كتاب الله عزّ وجلّ، كيف لا وهو الكتاب الذي ضمنه الله تعالى معجزته الساطعة الباقية على مرّ الأجيال والدهور. بل كيف وهو القائل في محكم هذا التبيين: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (فصّلت: 53). ولنشرع الآن ببيان وجوه الإعجاز في القرآن، مع شرح مفصّل لكلّ منها، بحيث تظهر من خلاله الحجة على أن القرآن معجز فعلا من ذلك الوجه:

أولا: الإعجاز اللفظي أو البلاغي:

أولا: الإعجاز اللفظي أو البلاغي: وإنما نقصد بهذا الوجه بديع نظمه، وعجيب تأليفه (¬1) وسمّوه في البلاغة إلى الحد الذي يعجز الطوق البشري عن الإتيان بمثله. وأنت تعلم أن البلاغة إنما تعني مطابقة الكلام لمقتضى الحال ودقة اللفظ في انطباقه على المعنى المراد. والإنسان مهما أوتي من القدرة البيانية لا يستطيع أن يسمو إلى ذروة هذه الغاية للأسباب والعوائق التي سنتحدث عنها إن شاء الله. واعلم أن إعجاز القرآن من هذا الوجه حجة- بشكل مباشر- على العرب وحدهم، لأنهم هم الذين يدركون هذا المعنى فيه. إلا أن العرب حجة، بدورهم، على سائر الناس، لأنهم إذا رأوا أن أرباب هذه اللغة وأدباءها قد قصر بهم الطوق عن إنشاء مثله، أدركوا أنه معجز وأنه ليس مما يقدر عليه البشر (¬2). مصدر الإعجاز البلاغي في القرآن: وقبل أن نتحدث عن مظاهر الإعجاز البلاغي في القرآن، يجدر بنا أن نبين في كلمة جامعة أساس الإعجاز البلاغي ومصدره، في هذا الكتاب العظيم. فإن لهذه المظاهر التي سنتحدث عنها جذورا تنتهي إلى أساس واحد، إليه يردّ علم كل فرع وجانب تفصيلي. ولعلّ أقصر طريق يمكن أن ينفذ منه الباحث إلى هذا المصدر أو الأساس الواحد، أن نتأمل فيما يملكه الإنسان- بمعناه الكلي- من الطاقة التعبيرية عن الأفكار والمعاني، وأن نبين من وراء ذلك الثغرات والنقائص التي تتلبس بطاقته هذه وتمنعه عن القدرة على التعبير عن كل ما يريد بالشكل الذي يريد .. فإذا تبينت لنا هذه النقائص والثغرات، أدركنا عندئذ أن أساس الإعجاز البلاغي في القرآن، إنما هو كونه مبرءا من تلك النقائض والثغرات. ¬

_ (¬1) نقصد بالتأليف هنا تآلف ألفاظه وجمله وتناسقها مع بعضها، على الوجه الذي سنشرحه فيما بعد إن شاء الله. (¬2) انظر ما كتبه في هذا الإمام الباقلاني في إعجاز القرآن ص: 259 والإمام السيوطي في الإتقان 2/ 119.

ولقد قلنا إن مردّ البلاغة الكلامية إلى الدقة في مطابقة اللفظ للمعنى. وإنما سبيل ذلك أن يتسارع إلى الذهن جميع ألفاظ هذه اللغة وما يسمى بمترادفاتها لينتقي منها ألصقها بالمعنى المراد والصورة المتخيلة. فبمقدار ما يتم التوافق الدقيق بين المعنى القائم في الذهن واللفظ الدّال عليه والمصوّر له، يتسامى الكلام في درجات البلاغة والبيان. ولكن هل يتسنى للإنسان أن يحقق هذا التوافق بمعناه الكلي الدقيق؟ لن يتسنى للإنسان أيّا كان، تحقيق هذا الهدف مهما بذل من تحايل أو جهد، وذلك لسببين اثنين: أولهما: أن المعاني والتصورات أغزر من الألفاظ وقوالب التعبير. ذلك لأن المعاني والأفكار والتصورات إنما تنبعث من داخل النفس الإنسانية، وهي منبع ثرّ لا يكاد ينضب لمختلف المعاني والتصورات والمشاعر. أما الألفاظ والتعابير فإنما تقبل إلى الإنسان من الخارج، وهي بالإضافة إلى ذلك محصورة ومتناهية. لذا كان من المتفق عليه أن اللغة- مهما كان نوعها- لا تغطي إلا جزءا يسيرا من المعاني والمشاعر. ألا ترى أن كلمة (الألم) تستعمل للدلالة على أنواع شتى من المشاعر والأحاسيس والمعاني، دون أن تنجدك اللغة بأي دلالات لفظية يمكن أن تستعمل للتفريق بين تلك الأنواع، وإنما أنت منها أمام هذه الكلمة أو ما قد يشبهها: (الألم)؟ وإن أحدنا ليستعمل كلمة (الجمال) عن عالم واسع من المشاعر والصور والمعاني، وهو يعلم أنها صور ومعان متنوعة متخالفة، وإن من الجدير أن يلقى الإنسان لكلّ منها تعبيرا مستقلا. ولكن أحدنا لا يملك مع ذلك أن يعبّر عن هذه الصور والمعاني المتخالفة بأكثر من كلمة (الجمال) ومشتقاتها. وكذلك شأن أكثر كلمات اللغة، ما من واحدة منها إلا

وتستعمل لطائفة من المعاني المتغايرة وإنما القاسم المشترك بينهما علاقات سطحية تصل ما بينها. فأنت لا تملك من اللغة إلا ما يعبّر عن هذه المعاني السطحية القريبة، بحيث إذا أردت الغوص على دقائق المعاني المتشعبة تخلفت عنك طاقة التعبير وبقيت مع مشاعرك الصامتة (¬1). ثانيهما: أننا نقف من اللغة العربية أمام بحر عظيم من الكلمات والألفاظ- على ما فيها من القصور الذي ذكرناه-. ومعظم هذه الألفاظ مما يسمى بالمترادف. ومهما كان الكاتب أو المتكلم بليغا، ومهما كان يحفظ في ذهنه من متن اللغة وألفاظها ومترادفاتها، فلا يمكن أن تنتصب هذه المترادفات جميعها مكشوفة واضحة أمام خياله، كما تنتصب مضارب الأحرف من الآلة الكاتبة أمام ضاربها، لكي يلتقط من مجموعها ما هو أقرب إلى المعنى الذي يبغيه والشعور الذي يجول في صدره وإنما هو- عند التعبير- إنما يلقي حبال تفكيره إلى هذا اليم المتلاطم من الكلمات، ليلتقط منه ما قد يتسارع إليه ويسهل على لسانه. وفي اللغة من المترادفات الكثيرة ما ينجده لغرضه ويقوم بعضه مقام بعض في التعبير العام عن مقصوده. بيد أن هذه الألفاظ إنما تعدّ مترادفة، إذا ما أريدت منها الدلالة الإجمالية على المعنى، وهي التي يقتنع بها العامة من المتكلمين، وهم الذين لا يطمعون في أكثر من إيصال خلاصة إحساساتهم وأفكارهم إلى الآخرين. أما عند من يسبر أغوار هذه الكلمات ويستخرج ما يمتاز به كلّ منها من الخصائص والفروق، فهي ليست من المترادفات في شيء. بل لكلّ منها دلالته الخاصة وإشارته المتميزة وإيحاؤه الذي لا يشترك فيه غيره، وتصويره الذي ينفرد به عن سائر نظائره. فقد تحسب مثلا أن كلّا من مضى، وذهب، وانطلق، يؤدي معنى ¬

_ (¬1) انظر ما قاله السيوطي في المزهر حول هذا المعنى: 1/ 164 ط الممينية.

واحدا، وأن كلّا من: قعد، وجلس، شيء واحد في الدلالة، وأن كلّا من: نام، ورقد، وهجع، متّحد في المقصود ولكن الحقيقة ليست كذلك. ففي كل كلمة من هذه المترادفات وصف تستقل بالدلالة عليه، وإن كان جميعها متفقا في الدلالة على أصل المعنى، بقطع النظر عن خصائص الفروق والأوصاف، كما يقول الإمام أحمد بن يحيى المعروف بثعلب. وقد كان جمع من أهل اللغة في مجلس عند سيف الدولة، وفيهم أبو علي الفارسي، وابن خالويه. فقال ابن خالويه: أحفظ للسيف خمسين اسما. فتبسم أبو علي وقال: أما أنا فلا أحفظ له إلا اسما واحدا وهو السيف. قال ابن خالويه: فأين المهنّد والصارم وكذا وكذا .. فقال أبو علي: هذه صفات، وكأن الشيخ لا يفرّق بين الاسم والصفة. فمن هنا تضيق السبل على من ينشد الدقة في التعبير والصدق في تصوير المعاني والمشاعر. إذ تسقط فائدة المترادفات من حسابه، لما يختصّ به كلّ منها من دلالة وصفة معينة، ولا يمكن أن يتمثل متن هذه اللغة كلها أمام عينيه، ليلتقط منها ما يأتي مفصّلا على قدر مشاعره وأفكاره. وإنما هو يأخذ منها- كما قلنا- ما تبادر إلى ذاكرته وقرب إلى لسانه. وعندئذ إما أن يقع في تطويل لا فائدة منه، وإما أن يجنح إلى اختصار مفسد مخلّ، وإما أن يقع في كلامه على ألفاظ وتعابير تفسد عليه تصوره وتشوش على السامع مقصوده. وإذا اتسعت أمامه السبل في التعبير عن بعض معانيه وأفكاره، ضاقت عليه السبل لدى محاولة التعبير بدقة عن المعاني الأخرى. وما كاتب من الكتاب أو بليغ من البلغاء، ممّن سمعت بهم قديما أو حديثا، إلا وفيه هذه النقائص أو واحدة منها. فمن أجل هذين السببين، يعاني الإنسان- مهما سمت درجته البلاغية وطاقته التعبيرية- من العجز، تجاه محاولته التعبير عن المعاني والمشاعر التي يريد التعبير عنها بدقة. ولا ريب أنه عجز متفاوت تبعا لتفاوت القدرات البلاغية والتعبيرية، عند الناس. إلا أن العجز سمة ثابتة للجميع بمعناه الإجمالي.

المظهر الأول (الكلمة القرآنية):

فإذا تجلّت لك هذه الحقيقة، فلتعلم أن الإعجاز البلاغي في القرآن، ليس شيئا أكثر من كونه متحررا عن هاتين الظاهرتين اللتين يتجسد فيهما عجز الإنسان. اقرأ ما شئت من سور القرآن وآياته، تجد أن كلّا من جانبي اللفظ والمعنى فيه متوافقان متطابقان أتمّ ما يكون الوفاق والتطابق. لا تشعر أن حرفا واحدا يفيض في جانب اللفظ عن المعنى ولا تشعر أن أيّ جانب في المعنى- مهما دقّ ولطف- قد تقاصر اللفظ أو التعبير عن الدلالة عليه. فهذا هو مصدر الإعجاز البلاغي في كتاب الله تعالى. ولكن ما الدليل على أن القرآن قد تسامى على هاتين الظاهرتين اللتين يتجسد فيهما عجز الإنسان لدى محاولة تعبيره عن المعاني والأفكار؟ يتجلى الدليل على ذلك من خلال شرح (ولو يسير) لمظاهر الإعجاز البلاغي، وهذا ما سنبدأ به الآن: المظهر الأول (الكلمة القرآنية): إن للكلمة القرآنية مزية لا تجدها في الكلمات التي يتكون منها كلام الناس وتعابيرهم مهما سمت في مدارج البلاغة والبيان. فهي أولا: تتناول من المعنى سطحه وأعماقه وسائر صوره وخصائصه. ولا تقف عند العموميات التي تقف عند حدودها تعبيراتنا البشرية التي تعاني من العجز الذي أوضحناه. وهي ثانيا: تمتاز عن سائر مرادفاتها اللغوية بتطابق أتم مع المعنى المراد. فمهما استبدلت بها غيرها، لم يسدّ مسدّها ولم يغن غناءها، ولم يؤد الصورة التي تؤديها (¬1). ¬

_ (¬1) إنما يتجلى الإعجاز في الكلمة القرآنية، عند ما تكون مستقرة في مكانها من الجملة القرآنية فلا ينطبق شيء مما سنقوله في هذا الصدد على الكلمات القرآنية إذا التقطتها خارج منازلها القرآنية كقواميس اللغة أو كلام الناس مثلا.

ولك أن تسأل: ولكنك أوضحت آنفا عجز اللغة عن التعبير عن جميع المعاني والمشاعر، فكيف يتأتى للقرآن أن يسخر كلماته لما وراء الحدود التي تقف عندها طاقة اللغة ذاتها، وهو إنما يستعمل في تعبيراته اللغة ليس إلا؟؟ والجواب: أن القرآن يتناول- كما سترى- من الكلمات المترادفة أدقها دلالة، وأتمها تصويرا بالنسبة إلى نظائرها. فإذا استنفدت اللغة طاقتها ولا تزال بقية من المعنى أو الصورة شاردة وراء حدود اللغة، اتسعت لها الكلمة القرآنية وشملتها عن طريق ما تتسم به من جرس ووزن وإيقاع. ولن تعثر مهما حاولت، على أي ضابط لهذا الجرس والوزن والإيقاع، مؤملا أن تطبقه في كلامك وتعبيرك. إنما هو الإحساس الذي يفيض به شعور القارئ عند تلاوته لهذه الكلمات أو سماعه لها مسبوكة مع بعضها، قائمة ضمن هيكلها القرآني الفريد. فأغطش مثلا في قوله تعالى: أَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها مساو من حيث الدلالة اللغوية لأظلم. ولكن «أغطش» تمتاز بدلالة أخرى من وراء حدود اللغة يستقل بها الوزن وجرس الأحرف متآلفة مع بعضها. فالكلمة بهذه الدلالة تعبّر عن ظلام انتشر فيه الصمت وعمّ فيه الركود وتجلّت في أنحائه مظاهر الوحشة. ولست بحاجة- لفهم هذه الصورة من الكلمة- إلى وساطة لغة أو مراجعة قاموس وإنما هو إحساس ينبعث في نفسك من طبيعة الكلمة ووقع حروفها. وكذلك «سكنا» من قوله تعالى: فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً فهي من حيث الدلالة اللغوية مثل قولك: هدوءا، طمأنينة .. ولكن المعنى الذي تبثه في شعورك الكلمة القرآنية، لا تجد شيئا منه في غيرها مهما تساوى معها في أصل الدلالة اللغوية. إن طبيعة الأحرف التي تتكون منها كلمة «سكنا» مع توالي الفتحات على حروفها، تشعرك بذلك الهدوء الذي يبعث الطمأنينة وينشر الأمن والراحة في أنحاء النفس. دون أن تحتاج في ذلك إلى معرفة أي دلالة لغوية.

ثم حاول أن تحذف كلمة واحدة من كلمات هذه الآية، وأن تستبدل بها غيرها، مما يؤدي المعنى ذاته، مستعينا باللغة وقواميسها، فلسوف ترى أن اللغة كلها أعجز من أن تأتي بألفاظ مثلها أو خير منها في الدلالة على المعنى وتصوير الأحاسيس المطلوب تصويرها. ومهما غيّرت في الآية أفسدت من بهائها ونقصت من روعتها وإشراقها. ابحث عن أيّ كلمة تقوم مقام «فالق» في أداء المعنى وتصوير المراد وتجسيم الفكرة، أو ابحث عن أي كلمة أخرى تضعها موضع «الإصباح» في دلالتها على الحركة والانبثاق وبثّ الصورة المطلوبة، أو حاول أن تأتي بكلمة أخرى مكان «سكنا» أو بكلمة أخرى أدلّ وأخصر وأجمع من هذه الكلمة العجيبة «حسبانا» فإنك لن تملك من ذلك كله إلا إفساد الآية، وتشويه دلالتها. وربما عجزت اللغة عن اللحاق بالصورة المحلقة التي يريد المتكلم أو الكاتب أن يبثّها في خيال السامع، فاضطر أن ينزل عن بساط خياله المحلّق، لحاقا بكلمة تقف دون الصورة التي يريدها، لا يجد في اللغة سواها، فيفسد بها الصورة كلها. غير أن القرآن لا يعجزه أن تكون الكلمة دائما في مستوى المعنى المراد، على أدق وجه، فهو يصعد باللغة إلى المعنى أو الصورة المطلوبة، ولا ينزل بالمعنى أو الصورة إليها في حال من الأحوال. انظر حينما يصف البيان الإلهي دعوة امرأة العزيز للنسوة اللاتي يتحدثن، منتقدات، عن مراودتها ليوسف عن نفسه، إلى جلسة رائعة مترفة في بيتها، لتطلعهنّ فيها على يوسف، فيعذرنها فيما أقدمت عليه ... لقد قدّمت لهنّ في ذلك المجلس طعاما ولا ريب. ولقد أوضح القرآن هذا، ولكنه لم يعبّر عن ذلك بالطعام، وهو اللفظ الذي لا بدّ أن يعبّر به أو بنظيره أيّ واحد من الناس مهما امتلك ناصية البلاغة والبيان، لم يعبّر البيان الإلهي بهذه الكلمة لأنها إنما تصوّر شهوة الجائعين من حوله، وتنقل الفكر والخيال إلى (المطبخ) بكل ما فيه من ألوان الطعام وروائحه وأسبابه. فبماذا عبّر القرآن إذن؟ ... وأين في اللغة الكلمة التي تؤدي معنى الطعام

ولا تمسّ الصورة بأي تعكير أو تشويه؟ لقد أبدع القرآن لذلك تعبيرا عجيبا رائعا ... فانظر ماذا قال: فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً ... (يوسف: 31). مُتَّكَأً كلمة قرآنية، تصور لك من الطعام ذلك النوع الذي لا يقدّم إلا ترفا وتفكها وتجميلا للمجلس وتوفيرا لمظاهر المتعة فيه، حتى إن الشأن فيه أن يكون الإقبال إليه على حالة من الراحة والاتكاء. والكلمة من الألفاظ الكثيرة التي أبدع القرآن صياغتها واشتقاقاتها فتعلق العرب بها من بعد، ولولا ذلك لما اهتدوا إليها ولخانتهم اللغة في هذا الباب عن تصوير ما يريدون. ونظرا إلى أن القرآن إنما تنزل خطابا للناس جميعهم، على تفاوت ثقافاتهم، واختلاف عصورهم فإن الكلمة القرآنية تنطوي على دلالات متعددة، تستجيب للظروف كلها ولأحوال الناس كلهم، إذا كانت تلك الكلمة تتعلق بمعنى يختلف من عصر إلى آخر أو يتفاوت فهم الناس له، حسب تفاوت ثقافاتهم وعلومهم. ومكان الغرابة والعجب، في هذه الكلمات، أن دلالاتها لا تتناقض على الرغم من اختلافها، ولا يشرد شيء منها عن قواعد اللغة ومقتضياتها، فهي تحتضن في وقت واحد هذه الدلالات، لتقدم إلى كل عصر أو فئة من الناس ما هو أقرب إلى مألوف ذلك العصر أو ثقافة أولئك الناس. وجميعها دلالات صادقة صحيحة لا تنسخ واحدة منها الأخرى. وأنت لو حاولت أن تلتقط من اللغة كلمات مرنة غنية بهذا الشكل، لرأيت أن الأمر يحتاج إلى جهد عظيم لا يمكن أن ترقى إليه طاقة البشر. مهما أوتي من قوة الحفظ وسموّ البيان. من الأمثلة على ذلك أن القرآن حدّثنا عن مظاهر نعم الله على عباده، ومن جملتها النار. فنبّهنا إلى مختلف فوائدها لحياتنا، وأوضح أنها متاع يحتاج إليه في حالات السفر واجتياز القفار، ولتحضير الطعام، ولما وراء ذلك من أسباب

المتعة والرفاهية ... فكم هي الكلمات أو الجمل التي تتصور أنها وفّت بالتعبير عن هذه الفوائد كلها؟ إنها ليست أكثر من كلمة واحدة! ... واسمع في ذلك قول الله عزّ وجلّ: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ، نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (الواقعة: 72 و 73). المقوين! ... هذه هي الكلمة التي تحمل المعاني كلها. فالمقوين جمع مقو، أي نازل في القواء (وهو المكان القفر) أو مجتاز بها، وعليه قول النابغة: يا دار مية بالعلياء فالسّند ... أقوت وطال عليها سالف الأمد والمقوين أيضا من القوى وهو الجوع، وعليه قول حاتم الطائي: وإني لأختار القوى طاوي الحشا ... محاذرة من أن يقال لئيم والمقوين أيضا جمع مقو، بمعنى مستمتع، كما قال مجاهد (¬1) وعموم الاستمتاع في هذا المعنى الثالث، إنما يفسره الزمن وتطور الأحوال وتقدّم أسباب الحياة والعيش. فهل يطيق بشر، كائنا من كان، أن يخضع اللغة لمقاصده هذا الإخضاع العجيب، فيحشد مثل هذه المعاني المتباعدة في كلمة واحدة، تأتي طوع قصده ومراده، بدون أي تمحّل أو تكلف أو تقعر؟! ... إن العقل لا يرتاب في أنها صنعة رب العالمين وكلامه. ويتصل بهذا الذي نقول ما ذكرناه في الخاصة الثالثة من خصائص الأسلوب القرآني، وقد عرضنا في بيان ذلك لأمثلة كثيرة من القرآن، فارجع إليه إن شئت (¬2). ¬

_ (¬1) راجع مادة قوى في لسان العرب والقاموس المحيط. وانظر تفسير القرطبي: 17/ 221. (¬2) انظر ص 110 من هذا الكتاب.

المظهر الثاني: الجملة القرآنية:

المظهر الثاني: الجملة القرآنية: ويتلخص مظهر الإعجاز في الجملة القرآنية في الأمور الثلاثة التالية: 1 - الاتساق اللفظي والإيقاع الداخلي. 2 - دلالتها بأقصر عبارة على أوسع معنى. 3 - إخراجها المعنى المجرد في مظهر الأمر المحسوس. فلنتناول كلّا من هذه الأمور الثلاثة ببيان موجز يتلاءم مع طبيعة هذا البحث. أولا: الاتساق اللفظي والإيقاع الداخلي: لا بدّ أن تجد الجملة القرآنية مؤلفة من كلمات وحروف ذات أصوات يستريح لتآلفها السمع والصوت والنطق، ويتكون من اجتماعها على الشكل الذي رتبت عليه، نسق جميل ينطوي على إيقاع خفي رائع، ما كان ليتم لو نقصت الجملة كلمة أو حرفا أو اختلف ترتيب ما بينها بشكل من الأشكال. والقرآن كله مثال على هذه الحقيقة الجليّة. ولكن إذا كان لا بدّ من أمثلة ونماذج نعرضها فإليك هذه الأمثلة، واعلم أن الجمل القرآنية كلها جارية على منوالها: اقرأ مثلا قول الله تعالى: وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (¬1). واقرأ قول الله تعالى: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ، وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (¬2) وتأمل تناسق الكلمات في كل جملة منها. ثم دقّق نظرك، وتأمل تآلف الحروف الرخوة مع الشديدة ومع المهموسة والمجهورة وغيرها. ثم أمعن في تآلف الحركات والسكنات والمدود وتعاطفها مع بعضها. فإنك إذا تأملت في ذلك علمت أن هذه الجمل القرآنية إنما صبّت من الكلمات والحروف ¬

_ (¬1) القمر: 36. (¬2) القمر: 11 و 12 و 13 و 14.

ثانيا: دلالتها بأقصر عبارة على أوسع معنى:

والحركات في مقدار، وأن ذلك إنما قدّر تقديرا بعلم اللطيف الخبير، وهيهات للمقاييس البشرية أن تقرى على ضبط الكلام بهذه القوالب الدقيقة. وعلى الرغم من أن القرآن لا ينضبط بشيء من أعاريض النظم وأوزانه المعروفة، إلا أنك تشعر مع ذلك بتوقيع موزون من تتابع كلماته، بحيث يؤلّف اجتماعها إلى بعضها لحنا مطربا يفرض نفسه على صوت القارئ العربي كيفما قرأ، إذا كانت قراءته صحيحة. كما تلاحظ لدى قراءتك لهذه الآيات. ولعلّ من أبرز آثار هذه الظاهرة، أن حفظ القرآن غيبا أيسر على الإنسان من حفظ سائر أنواع النثر. ذلك لأنه منضبط بأوزان وإيقاعات خاصّة به، فيسهل بذلك حفظه والتنبّه إلى الخطأ الذي قد يقع القارئ فيه عند ما يقرؤه غيبا. بل المعروف لدى من مارس حفظ القرآن أن الخطأ قلّما يقع في حفظه وضبطه إلا من وجه واحد، هو ما قد يكون بين الآيات من تشابه، فيأتي الخطأ من خلط آية بأخرى والوقوع في اللبس بينهما. ثانيا: دلالتها بأقصر عبارة على أوسع معنى: وهذه ظاهرة جليّة تستطيع أن تتبينها في طريقة التعبير القرآني، مهما اختلفت بحوثه وموضوعاته لا تجد في الجملة القرآنية كلمة زائدة يصلح المعنى مع الاستغناء عنها، ولا تستطيع أن تترجم معناها بألفاظ عربية من عندك إلا في عدد من الجمل مهما حاولت الإيجاز والاختصار. ولنستعرض طائفة من الأمثلة على ذلك، والقرآن كله، كما قلنا، مثال على هذه الحقيقة. حدّثنا القرآن عن الضمانات التي أعطاها لآدم بعد خلقه، مما يحتاجه الإنسان في حياته من كل ما يدخل في مقوّمات بقائه وعيشه. لقد وضع البيان الإلهي هذه الاحتياجات كلها في جملتين فقط وهما قوله عزّ وجلّ خطابا لآدم: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (طه: 118 و 119)، فتأمل في هاتين الجملتين، وألفاظهما وكيفية صياغتهما وكيف أنهما جمعتا أصول معايش الإنسان كلها من طعام وشراب وملبس

ومأوى. وانظر كيف عبّر عن تأمين حاجته إلى المسكن والمأوى بقوله: ولا تضحى ... أي لك أن لا تصيبك شمس الضحى أو يؤذيك لفحها بما نهيئه لك من المسكن الذي يؤويك (¬1). وانظر إلى هذه الآية وقد تضمنت حكما من الأحكام الشرعية المهمة. وهي قوله تعالى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (الأنفال: 58). تأمل صياغة هذه الآية وطريقة دلالتها على المعنى الذي تعبّر عنه، تجد نفسك أمام أسلوب فريد ليس من دأب الإنسان أن يتأتى له التعبير بمثله. وإليك ما يقوله ابن قتيبة وهو يحاول التعبير عن معنى هذه الآية بألفاظ عربية من عنده: (ألا ترى أنك لو أردت أن تنقل قوله تعالى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ ... الآية، لم تستطيع أن تأتي بهذه الألفاظ مؤدية عن المعنى الذي أودعته حتى تبسط مجموعها، وتصل مقطوعها، وتظهر مستورها فتقول: إن كان بينك وبين قوم هدنة وعهد فخفت منهم خيانة ونقضا فأعلمهم أنك قد نقضت ما شرطت عليهم وآذانهم بالحرب، لتكون أنت وهم في العلم بالنقض على استواء) (¬2). وحسبك أن تعلم أن الآيات المتضمنة لأحكام التشريع، قد لا تزيد على ثلاثمائة آية، إلا شيئا يسيرا وهي لا تبلغ معشار النصوص الفقهية التي دوّنها الفقهاء فيما بعد، ولكن قد ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن من أبرز مظاهر الإعجاز في هذه الآيات أن الطريقة الفريدة في صياغة وتراكب جملها، تجعلها متسعة للدلالة على ذخر من المعاني الكثيرة التي لا يمكن التعبير عنها بطريقتنا المألوفة، إلا بواسطة مجلدات ... خذ على سبيل المثال هذه الآية: ¬

_ (¬1) هذا إن اعتبرنا أنه كانت في الجنة شمس حينما أسكن الله آدم فيها، أما إن قلنا لم يكن ثمة شمس ولا ظل إذ ذاك، فقوله: ولا تضحى مجرد بيان بأنه لن يصيبه أذى من حرّ لافح. (¬2) تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة: 16.

ثالثا: إخراج المعنى المجرد في مظهر الأمر المحسوس:

وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها، لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ، وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ. فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما. وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (البقرة: 223). فهذه آية واحدة صيغت من ستة أسطر قرآنية، أي مما لا يزيد على ستين كلمة، وقد تضمنت ثلاثة وعشرين حكما مما يتعلق بنظام الأسرة، لم يستخرج واحد منها تمحلا ولا تكلفا. بل هو بين أن تكون الآية دلّت عليه بصريح المنطوق أو بجلي المفهوم أو بمقتضى النص. وأنت لو رحت تحاول التعبير عن هذه الأحكام بصياغة جليّة دون اختصار مخلّ أو إطالة من غير لزوم، لاقتضى ذلك منك ما لا يقل عن خمسة وعشرين سطرا من الكلام أي خمسة أضعاف النص القرآني. وانظر إلى أحكام الميراث في كتاب الله عزّ وجلّ، وتأمل كيف صيغت فيما لا يزيد عن ثلاثة عشر سطرا من أسطر القرآن، موزعة في آيتين. فلقد حوت هاتان الآيتان- في غير إخلال ولا تمحّل- أحوال الوارثين ونصيب كلّ منهم في كل حال من الأحوال. ولقد انبثق من هاتين الآيتين فن مستقل برأسه يمثّل شطرا كبيرا من أحكام الشريعة الإسلامية. وهو ما يسمى بعلم الميراث، وقد كتبت فيه مؤلفات مستقلة. وإنك لتعجب كيف اتّسع مضمون آيتين من القرآن لمدلولات كتاب برأسه ... ولكن انظر، وتأمل وقارن، فستجد أن هذا الذي تعجب منه حقيقة ثابتة. ثالثا: إخراج المعنى المجرد في مظهر الأمر المحسوس: ولكي يتجلى لك معنى الإعجاز في هذه المزية الثالثة التي تمتاز بها الجملة القرآنية، ينبغي أن نمهد لذلك بما يلي: إن الذي أوتي ملكة في الآداب والبلاغة العربية، لا يعدم أن يجد وسيلة

ثانيا: الإعجاز بالغيبيات:

إلى تجسيد المعاني المجردة في كلامه وإخراجها في مظهر الأمر المحسوس. إلا أن هذه الوسيلة محصورة في استعمال الاستعارات والمجازات والتشبيهات. ولكل ذلك طرق محدودة لا مجال للخروج عليها. فهو يستطيع أن يصل بهذه الوسيلة إلى غايته التصويرية بمقدار وضمن حدود. أما أن يجعل أحدنا من صياغة الجملة ذاتها ومن تآلف كلماتها مع بعض، مرآة يتجسد فيها المعنى المطلوب ويبرز محسوسا ومصورا أمام خيال القارئ، فذلك ما لا سبيل للإنسان إليه. وتلك هي الطريقة الغالبة لتصوير المعاني وتجسيدها أمام المخيلة في كتاب الله عزّ وجلّ. فحتى عند ما تجد الجملة القرآنية بعيدة عن استعمال المجاز والاستعارة والكنايات، ترى هذه الظاهرة بارزة متجلية في جمل القرآن وآياته. ولن نطيل القول هنا في هذا الجانب الثالث فسنتناوله إن شاء الله بالتفصيل وذكر الأمثلة في مبحث التصوير في القرآن. ثانيا: الإعجاز بالغيبيات: ونقصد بالغيبيات تلك الإخبارات المتعلقة بأحداث مقبلة، والتي لم يظهرها بعد أيّ شاهد من العقل أو الحس أو الدلائل التي تعوّد الإنسان على الاعتماد عليها. سواء تعلقت هذه الأخبار بأحداث عامة، أو تعلقت بأناس أو فئات بأعيانهم، أو تعلقت بنواميس كونية. ففي القرآن آيات كثيرة أخبرت عن أحداث ستقع في زمن مقبل، وفيه آيات تحدّثت عن مصائر أشخاص بأعيانهم، وفيه نصوص تقرر قوانين ثابتة بالنسبة لكثير من المظاهر الكونية المحيطة بنا. وقد جاء الزمن فيما بعد بمصداق هذه الأخبار كلها، دون أن يكون عليها أيّ شاهد من قبل، من حس أو عقل أو أيّ بيّنة من البيّنات. فمن النوع الأول قول الله عزّ وجلّ: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ (الروم: 1 و 2).

ومن المعلوم كما رواه الترمذي وغيره، وكما هو ثابت في التاريخ أن الفرس انتصروا في معركة بقيادة «شربزان» على الروم، وذلك أيام كسرى. وكان المشركون يحبّون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإيّاهم أهل أوثان. وكان المسلمون يحبّون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب. فلما أنزل الله هذه الآية، وفيها إخبار كما ترى بأن الروم سيعودون فينتصرون على الفرس في بضع سنين، أي في أقل من عشر سنين، خرج أبو بكر يصيح بها في نواحي مكة. فقال له: أناس من قريش، فذلك بيننا وبينكم، أفلا نراهنك على ذلك؟ قال: بلى ... وذلك قبل تحريم الرهان. فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان. وقالوا لأبي بكر: كم تجعل البضع؟ ثلاث سنين أو تسع سنين؟ فسمّوا بينهم ست سنين، فمضت السنوات الست قبل أن يظهر الروم، فأخذ المشركون رهن أبي بكر، فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس قال: وأسلم عند ذلك كثيرون ... وفي رواية أخرى أنه لما مرّت السنوات الست ولم يظهر الروم. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر: ارجع فزدهم في الرهان واستردهم في الأجل، ففعل أبو بكر: فغلبت الروم في أثناء الأجل. ومنه قوله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ، لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ (الفتح: 27). ومعلوم أن هذه الآية نزلت في حالة لم يكن المسلمون يتوقعون أن يدخلوا فيها مكة لطواف أو غيره، فقد رأوا من المشركين صدّا وعسفا وإيذاء، ولكن العام الذي تلا تلك الحالة جاء فصدّق هذه الآية ولاحت للناس الحكمة من الصدّ والصلح، وتبين أن كل ذلك جاء مقدمة دقيقة وعجيبة بين يدي فتح مكة سلما كما شاءه الله عزّ وجلّ. وهو ما أخبر الله عنه في آخر هذه الآية بقوله: فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً. ولو وضعت الأمر في ميزان التقديرات الفكرية والمنطقية، عند ما أنجز صلح الحديبية، لما رأيت أي دليل يمكن الاعتماد عليه، على أن ثمرة هذه الصلح سيكون فتح مكة عمّا قريب، وأيّ فتح؟ فتح سلمي لا تتناوش فيه السيوف، ولا يقع فيه قتال يذكر.

ومن النوع الثاني: آيات تحدّثت عن أشخاص بأعيانهم، أنبأت عن مصائرهم، وكشفت عن حكم الله المبرم في حقهم. من ذلك قول الله تعالى عن أبي لهب عبد العزّى بن عبد المطلب عم الرسول صلّى الله عليه وسلّم: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ. سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ إنك إذا تأملت هذه الآيات وما قد تضمنته من إخبار عن مستقبل هذا الرجل وما سيئول إليه حاله، علمت أن أحدا من الناس لا يملك أن يطلق هذا الوعيد ويسجله في عنق الزمن وعلى صفحة الدهر. فما الذي يدري هذا الإنسان أن أبا لهب سيثبت على كفره إلى الموت، وما هي ضمانات أنه لن يؤمن كما آمن الكثير ممّن هم أشد منه كفرا وأقسى عنادا؟ بل ما الذي يطمئن هذا الإنسان إلى أن أبا لهب لن ينهض به دافع التحدّي عند ما يسمع هذا الوعيد المسجل في حقه إلى أن يعلن إيمانه بالله ورسوله على الملأ، ليثبت بذلك أنه قد محا أسباب شقوته، وأن إخبار القرآن عن مصيره مخالف للواقع الذي تم. إن بشرا من الناس لن يستوثق من تقلبات الزمن، وما قد يطرأ من الأحوال والأفكار الجديدة على أبي لهب وأمثاله، ونظرا لذلك فلن يجد من الجرأة ما يعتمد عليه في إطلاق مثل هذا الخبر الغيبي المخبوء في تلافيف المستقبل. ومثله قول الله عزّ وجلّ في حق الوليد بن المغيرة المخزومي: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً، وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً، وَبَنِينَ شُهُوداً، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ، كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً إلى قوله: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ، لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ .... إن هذا الإخبار الغيبي: سأرهقه صعودا ... سأصليه سقر ... ليس مما يتجرأ إنسان عليه لأن الإنسان يفرض الاحتمالات المختلفة للزمن، والأطوار المفاجئة العجيبة للإنسان، وهو ليس مطّلعا على ما قد يأتي به الغد أو ما قد يفاجأ به فكر الإنسان. ولكنه إخبار غيبي يصدر عمّن بيده مصير الزمن والمكان، وعمّن يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وما ينتهي إليه حال أيّ إنسان.

وتدخل في هذا النوع تلك الآيات التي أخبرت عن اليهود وما قضى الله بشأنهم إلى قيام الساعة كقوله تعالى: وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً (المائدة: 64). وكقوله: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ (الأعراف: 167). وكقوله عزّ وجلّ: وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ ... (الأعراف: 168). وأنت إذا نظرت إلى تاريخ اليهود في العالم، وإذا تأملت ظاهرة انتشارهم وتفرقهم بين الأمم والشعوب، وكيف يختبئون خلف كل فتنة يهيجونها، ووراء كل نار يوقدونها، وكيف يبعث الله عليهم بين الحين والآخر من يسومهم سوء العذاب، وكيف أنهم- على الرغم من مراسهم لأسباب الفتن والحروب وسيطرتهم على الكثير من أسواق العالم وتجاراته- لم يأتوا من جهدهم بطائل، ولم تقم لهم قائمة يطمئنون إليها، بل ظلوا مقطعين في الأرض. أقول: إذا تأملت في ذلك كله أدركت أن إخبارات القرآن عنهم وقعت كما أخبر، وأن الزمن ماض في تحقيق المزيد منها. إنك لتلاحظ تناقضا عجيبا في واقع اليهود وشأنهم الذي يتقلبون فيه. فهم الذين يملكون ينابيع كثير من الثروات في العالم، وهم الذين كانوا ولا يزالون يلعبون بالذهب في أسواق العالم خفضا له ورفعا، وهم الذين يختبئون خلف الكثير من سياسات العالم وقياداته يوجهون وينذرون ويغرون ... ولكنك تلاحظ أنهم- على الرغم من هذا كله- لم يستطيعوا أن ينشئوا لأنفسهم دولة مستقرة أو كيانا مطمئنا، وإن الأمم التي أنشأت كياناتها واستقرت في أوطانها، وصلت إلى ما ابتغته من ذلك منذ عصور بعيدة، باليسير مما يملكه اليهود ويسيطرون عليه. فما تحليل هذا التناقض؟ ... تحليله الوحيد أن الأمر في جملته تصديق أمين لحكم الله فيهم ووعيد الله لهم، إنه قرار الله عزّ وجلّ: وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً يلاحقهم في كل حين وعلى كل حال. وأنه حكم الله عزّ وجلّ: وَإِذْ

تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ يهيمن عليهم في حالة العسر واليسر، وفي تقلبات البأس والضعف. ومن النوع الثالث: آيات كثيرة تعلن، في بيانات حاسمة عن نواميس كونية، وتخبر أنها ستظل قوانين نافذة حاكمة على الناس كلهم وعلى الطاقة العلمية كلها، مهما تنوعت وتقدمت صعدا. فهي تستعصي على كل محاولات التغيير والتطوير، وإليك بعضا من هذه الآيات: - وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (يس: 68). - أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ (النساء: 78). - وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (المؤمنون: 18). - وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (الإسراء: 85). - نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ، لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا (الزخرف: 32). تأمل في هذه التقارير القاطعة في أسلوبها، المطلقة عن قيود الزمان والمكان، المرسلة في قوة وإصرار إلى أعماق غيوب المستقبل، المتجاهلة بل المترفعة عن محاولات التطوير والعلم، أيمكن أن ينطق بها بشر؟ ... وهل الإنسان نفسه إلّا ذرّة من جزئيات الكون، فهو لا يدري ما الذي يأتي به الغد أو يتطور إليه العلم، أو تمتد إليه الطاقة؟ إن أعظم العلماء شأنا اليوم، يرى الحقيقة العلمية بعينيه، ثم يتحفظ مع ذلك في التعبير عنها، متوقعا أن يفاجأ في كل يوم بقيود أو حدود جديدة لها. فأيّ رجل هذا الذي يستطيع أن ينهض من وراء القرون الغابرة، فيبعث إلى الدنيا كلها بتقرير علمي جازم يفصّل فيه أمر النواميس الكونية الراسخة، ويرفعها فوق هام البشرية مؤكدا أن أي طاقة، مهما كانت، لن تمتد إليها بأي تغيير؟

ثالثا: الإعجاز بالتشريع:

إنها معجزة الإخبار اللغوي، يقرره البيان الإلهي، صادرا عن الخالق ذاته، صاحب هذه النواميس ومبدعها، متحديا قدرات التطوير ووسائل البحث والتغيير. وتلك هي الدنيا وأجيالها، وطموح العلم والبحث فيها، كل ذلك خاضع خضوعه المطلق لهذه القوانين والنواميس. ولعلّ هذه النماذج كافية لبيان ظاهرة الإعجاز الغيبي في القرآن. ولعلك تلاحظ أن ما يسمى عند بعضهم بالإعجاز العلمي يندرج تحت الإعجاز الغيبي، لأن الآيات التي تتضمن حقائق علمية صدقت عليها موازين العلوم والاكتشافات الحديثة، تتضمن حقائق غيبية في الوقت ذاته. ثالثا: الإعجاز بالتشريع: تحدّث كثير من الكاتبين عن الإعجاز التشريعي في القرآن، بطريقة لا أظن أنها تكشف حقيقة عن جانب جديد من الإعجاز القرآني، ينبع من أحكامه التشريعية. وقصارى ما ينتهي إليه ذهن القارئ أو المتتبع لهذه الطريقة، إن في القرآن تشريعا أصيلا وأحكاما مهمة وضرورية لمصالح الناس وإن علماء الشرائع والقانون لا غنى لهم، على مرّ العصور، عن الإفادة منها والرجوع إليها. أما أنا تشكل مظهرا من مظاهر الإعجاز في القرآن، فذلك شيء آخر قد يخفى على من يدرس الإعجاز التشريعي في القرآن بتلك الطريقة. على أن الإعجاز التشريعي في القرآن، حقيقة بارزة لا تقبل ريبا ولا يكتنفها غموض، ولكن الأمر يحتاج إلى فهم حيثية الإعجاز التشريعي فيه، وهو ما فات التنبّه له، أو التنبيه إليه، لدى كثير من الباحثين. ولا شك أن التنبّه إلى هذه الحيثية التي هي مكمن الإعجاز التشريعي في القرآن يحتاج إلى مقدمة، نوجزها فيما يلي: من المعلوم فيما أجمع عليه علماء القانون والاجتماع، أن آخر ما يتوج به تقدم أيّ جماعة أو أمة في نهضتها المدنية والحضارية، هو تكامل البنية القانونية والتشريعية في حياتها. أي إن ظهور صياغة قانونية متكاملة في الأمة يعدّ الثمرة العليا لتقدمها الحضاري.

ولا يمكن أن تنعكس هذه الظاهرة بحال من الأحوال، أي فلم تصادف أن تجد جماعة من الناس بدأت سيرها في طريق الرقي والحضارة بإرساء بناء قانوني متكامل لحياتها، بحيث جعلت منه منطلقها إلى الثقافة والرقي الاجتماعي والاقتصادي والعلمي. ذلك لأن الأمة التي لم تتقدم حضاريا بعد، والتي لا تزال تعيش في عهد البداوة وفي ظل الأعراف القبلية، ليس في حياتها الاجتماعية من التعقيد ما يشعرها بالحاجة إلى سن قانون ووضع تشريع. غير أنها تزداد شعورا بذلك، تدريجا كلما تقدمت حضاريا وازداد تركيبها تعقيدا. غير أن الذي ظهر في الجزيرة العربية، قبل أربعة عشر قرنا، عكس هذا الذي أجمع عليه علماء القانون والاجتماع، وعرفه الناس من تجارب الأمم ووقائع التاريخ ... فلقد ظهر فجأة بين تلك الجماعات الأميّة من أهل الجزيرة العربية، قانون متكامل يتناول الحقوق المدنية، والأحوال الشخصية ويرسم العلاقات الدولية ويضع نظام السلم والحرب ويضبط آثارهما ... كل ذلك، ولما تتعلم تلك الجماعات بعد شيئا عن معنى المجتمع الذي يحتاج إلى قانون، ولما تأخذ بنصيب من العلم أو الحضارة والثقافة مما يعدّ خطوات أساسية لا بدّ من اجتيازها في طريق الوصول إلى المستوى الذي يوجد الشعور بالحاجة إلى وضع تشريع وقانون. ففكّر ما طاب لك التفكير، هل تجد من حلّ لهذا اللغز العجيب، إلا في اليقين بأن الكتاب الذي حوى هذا التشريع. إنما أنزل وحيا من عند الله ولم يؤلّف من قبل أيّ بشر على وجه الأرض ... وإلا فأين المفر من أعجوبة لا يقبلها عقل أيّ مفكر: أن تؤلف قبائل تظلها حياة البداوة البدائية البسيطة قانون توثيق العقود، ونظام توزيع التركات والمواريث، وضوابط السلم والحرب ثم تمر الأجيال وتتطور الظروف والأحوال دون أن يشعر أي باحث منصف بأيّ موجب حقيقي لتغيير شيء من هذه النظم والأحكام، بل تعقد لدراسته المؤتمرات العالمية بعد مرور أربعة عشر قرنا من وجوده، وتطبيق المسلمين له، ويجمع أساطين الفقه والقانون على أعقاب هذه المؤتمرات- على اختلاف مللهم ومذاهبهم- على الأهمية البالغة لهذا

التشريع وعلى ضرورة دراسته والإفادة منه في الدراسات المختلفة ... أفيكون هذا التشريع الذي اتّسم بهذا الخلود من وضع جماعات من العرب والأعراب الأميين الذي يحكمهم نظام البادية وأعراف القبيلة؟ ... أي مجنون هذا الذي يصدّق مثل هذا الخلط والهراء؟ ... من أجل هذا اللغز الذي لا يحلّ إلا باليقين بأن هذا القرآن كلام الله، ذهب الباحثون المستشرقون ومن لفّ لفّهم يمينا ويسارا، في البحث عن تحليل مقبول لقصة هذا التشريع الذي ظهر فجأة في الجزيرة العربية، فمرّة فرضوا أنه مقتبس عن القانون الروماني، ولما رأوا أنه لا توجد أيّ جسور واصلة ما بين هذه الفرضية وواقع الجزيرة العربية آنذاك، تحولوا عن هذا القول إلى فرض أنه مقتبس عن الشرائع اليهودية ... ولما أعوزهم الدليل على هذا الزعم العجيب، قالوا فلعلّه مقتبس عن شريعة حمورابي. كل هذا، فرارا من لغز عجيب يلزمهم- إن هم لم يقبلوا وجها من هذه الوجوه- بالقول بأن هذا التشريع ظهر هكذا في جو الجزيرة العربية، دون أن ينبع من أرضها لأنه غير معقول أو أن ينزل من سمائها، لأنهم لا يريدون أن يعترفوا بنبوّة محمد عليه الصلاة والسلام. ونحن نقول: أما أنه لا يمكن أن يكون قد نبع من أرضها، فهو صحيح، لأن فاقد الشيء لا يعطيه بل لا يستشعر الحاجة إليه. وأما أنه لا يمكن أن يكون قد نزل من سمائها، فهذا ما نخالف فيه إن أردنا أن نحلّ اللغز حلّا يقبله المنطق والعقل. بل نقول إنه لا يمكن إلا أن يكون شرعا منزّلا من السماء أي من لدن ربّ العالمين، نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلّى الله عليه وسلّم ليكون من المبلغين له بلسان عربي مبين. فإن لم نحلّ اللغز عن طريق اليقين بهذه الحقيقة، فلنعلم أن اللغز سيظل قائما. وسيظل كل عاقل في حيرة من أمر هذا التشريع ومصدره، ولن يحلّ شيئا من الأشكال تلك الافتراضات العشوائية التي لا تعتمد على أيّ بينة أو برهان أو حتى إشارة يستأنس بها. فهذه هي خلاصة القول عن الإعجاز التشريعي في القرآن. أما القول

رابعا: مظهر جلال الربوبية:

عن دقة هذا التشريع وسعته ومقوّمات خلوده وصلاحيته، فحدّث عن ذلك ولا حرج، والكلام في ذلك متشعب، وطويل الذيل. إلا أن الحديث في ذلك خارج في جملته عن حقيقة الإعجاز الذي نتكلم عنه. وإنما مكمن الإعجاز التشريعي هو ما قد أوضحناه بشكل موجز. رابعا: مظهر جلال الربوبية: لم أجد من فصل القول في هذا الجانب من الإعجاز القرآني، على الرغم من أنه من أبرز ما يظهر حقيقة الإعجاز القرآني، فهو الجانب الذي لا يمكن أن يخفى حتى على العامّة الذين لا يتمتعون بدراية واسعة للبلاغة العربية أو الثقافة العامّة. إذا كانوا ممّن يقرءون القرآن بتأمل وتدبّر. ومما لا ريب فيه أن أكثر الناس الذين يقرءون كتاب الله تعالى، وقد وقر في أنفسهم أن هذا الكلام لا يمكن أن ينطق به بشر من الناس، دون أن يعلموا البرهان الواضح على يقينهم هذا، إنما يستشعرون في الحقيقة، هذا النوع الذي نحن بصدد شرحه وتحليله، وهو ما أسميناه: مظهر جلال الربوبية في القرآن، إلا أن من الطبيعي أن القارئ الذي لا يتمتع بثقافة أو دراية علمية واسعة لا يمكن أن يعبّر عن مصدر شعوره أو يقينه الذي تأثر به. ولكي نحلّل هذا الجانب المهم من الإعجاز القرآني، يجب أن ننبّه إلى حقيقة علمية ونفسية لا يقع فيها ريب ولا مراء. فما هي؟ من المعلوم أن الكلام مرآة دقيقة لطبيعة المتكلم. فما تتجلى الأغوار النفسية لشخص على شيء كما تتجلى على ما قد يكتبه أو يقوله. وكلما تبسط الإنسان وزاد من حديثه الذي يكتبه أو يقوله، ازدادت خصائصه النفسية جلاء ووضوحا. لذا لم يكن من اليسير أن يقلّد كاتب كاتبا آخر في أسلوبه إذا كتب. فلا يستطيع الرجل أن يتقمص نفسية المرأة في كتابته، ولا يستطيع كاتب معاصر- مهما بلغ في السيطرة على أسلوبه وقلمه- أن يقلّد كاتبا عاش قبل هذا العصر. ولقد حاول كثيرون أن يقلدوا أسلوب الجاحظ وغيره فما استطاعوا إلى ذلك

سبيلا. ذلك لأن الأسلوب ليس طريقة معينة في صوغ العبارة فقط، بل هو قبل ذلك مرآة لنفسية صاحب الأسلوب. فلئن استطاع الكاتب أن يقلّد الآخر في صوغ العبارات، فهيهات أن يستطيع تقليده في إبراز نفسية كنفسيته. فمن هنا يأتي العجز عن أن يتقمص أي كاتب أسلوب غيره. وليزداد الأمر وضوحا لك، افرض أن العقاد رحمه الله أحبّ أن يقلّد- وهو الكاتب القدير- أسلوب المازني رحمه الله في مرحه ودعابته، أفيستطيع أن يفعل ذلك بنجاح؟ من البداهة بمكان أنه لا يقدر لأن ما طبع عليه العقاد من الجدّ والغوص إلى أعماق المعاني، يحول دون إمكان ظهوره بمظهر إنسان مرح يتناول الأحداث والمعاني من جوانبها السطحية المضيئة ... ولو أن المازني أراد هو الآخر أن يقلّد أسلوب العقاد. لوقع في براثن العجز ذاته، لأنه لا يستطيع أن يتجرد عن طبعه ويرتدي طبعا آخر لم يفطر عليه ... فإذا اتضح لنا أن الفوارق النفسية والطبيعية تحول دون إمكان تقليد كلّ منّا للآخر في أسلوب الكتابة والقول، على الرغم من وجود الإنسانية العامّة قاسما مشتركا بين الجميع، فأحرى- في باب البداهة والوضوح- أن لا يستطيع إنسان من الناس أيّا كان، أن يتجرد عن بشريته وطبيعته، ثم يجعل من نفسه إلها يتصف بكل ما لا بدّ أن يتّصف به الإله من الصفات الربانية المضادة للطبيعة البشرية، وينطق بكلام تبرز فيه هذه الألوهية بكل ما فيها من خصائص وصفات، وكل ما تمتاز به من تجرد عن مظاهر البشرية والضعف الإنساني. ولكي نرى تطبيق هذه الحقيقة على كتاب الله تعالى، يجب أن نلاحظ أن الآيات القرآنية، تنقسم إلى طائفتين: أما طائفة منها فيتحدث فيها الله عزّ وجلّ على ألسنة أنبياء أو أشخاص آخرين، وذلك في نطاق القصص أو الإخبار عن أقوالهم. ولا كلام لنا في هذا الصدد عن هذه الطائفة من الآيات. الطائفة الثانية آيات ذاتية، أي يتكلم فيها الله عزّ وجلّ عن ذاته آمرا أو ناهيا أو مخبرا، فإذا تأملت في هذه الآيات، رأيتها تتسم بجلال الربوبية وصفات الألوهية، ولم تجد فيها أي معنى من المعاني البشرية والصفات

الإنسانية، كما ستجد الآن من خلال الأمثلة التي سنذكرها. فإذا كان الإنسان عاجزا عن تقليد أسلوب أخيه الإنسان: بسبب حواجز الطبائع المتخالفة، أفيكون قادرا على صياغة كلام بعيد عن شوائب البشرية، تشعّ منه رهبة الربوبية وينشر من حوله جبروت الألوهية، أي: أفيقدر الإنسان أن يجعل من نفسه ربّا للعالمين وينطق باسمه محليا نفسه بصفاته بعد أن عجز أن يجعل من نفسه زيدا من الناس من أمثاله وأن ينطق بأسلوبه ويرتدي صفاته؟ ... إن هذا مستحيل بلا شك ... ذلك لأن الطبيعة البشرية لا يمكن أن تتخلى عن الإنسان لحظة من لحظات حياته، ومن ثم فهي لا بدّ أن تعوقه عن القدرة على هذا الأمر. وإذا حاول أن يجرّب عن طريق الصنعة والتمثيل، فإنه لن يأتي إلا بكلام متنافر متهافت في وحيه ودلالته، لا يدل إلّا على ما أقامه في نفسه من ازدواج متكلف كاذب في الطبع والشعور. وإليك بعض الأمثلة القرآنية التي يشعّ فيها جلال الربوبية وصفات الألوهية من خلق وإعدام وقدرة وإحاطة ... إلخ، تأملها جيدا، وتساءل مع نفسك: أفيمكن أن تكون هذه الآيات مما قد نطق به بشر مثلنا من الناس: فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ، وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا، ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا، ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا، وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها، كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا مريم: 68 - 72. إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ، لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي، وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي، إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى، فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (طه: 14 - 17). وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ، وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا، وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا، إِذاً لَأَذَقْناكَ

ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً، وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها، وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا، سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا (الإسراء: 71 - 77). إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ، يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً، ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ، نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ، وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (ق: 41 - 44). فتأمل في هذه الآيات التي يتجلى فيها جلال الربوبية، ثم قل لي: أفتجد أن مثل هذا الكلام مما يمكن لبشر من الناس أن يصطنعه اصطناعا وأن ينطق به تمثيلا أو أن يتحلى به تزويرا؟ أمّا إنّ الطبع لغلّاب، وليقم أي فرعون من الفراعنة المتألهين أو المتجبرين، ثم ليجرب أن ينطق بمثل هذا الكلام الذي يتنزل من عرش الربوبية ويغمر النفس بالرهبة والجلال، فإن لسانه سيدور في فمه على غير هدى، وإذا تكلم فسيأتي بكلام يكشف بعضه بعضا فيه محاولة التمثيل وليست فيه صنعته إذ هو مما لا يسلس القياد فيه لتصنّع ولا لتمثيل. إن بشرية الإنسان وضعفه يمنعانه- أيّا كان مسلما أو كافرا- من أن يقول: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ أو يقول: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أو أن يقول: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ. وإن هو حاول أن يقول شيئا من هذا فسيلتوي عليه لسانه ويتعثر بضعفه ومخلوقيته ثم لن ينجح في النطق بمثل هذا الكلام. وانظر، فقد صوّر الله لنا بمحكم بيانه المعجز ألوهية فرعون الزائفة، وكلامه الذي حاول أن يبثّ فيه دعوى ألوهيته وربوبيته، وصوّر لنا من خلال ذلك كيف أن كلامه جاء تكذيبا لطموحه وربوبيته الزائفة. وذلك عند ما قال عنه: وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (القصص: 38).

إنّه يدّعي الربوبية، ويزعم أن لا إله لهم غيره، ثم يطلب من هامان أن يوقد على الطين، فيجعل له منه برجا عاليا يصعد عليه ليبحث من هناك عن إله موسى! ... فانظر كيف صوّر القرآن بشرية فرعون التي فرضت نفسها على كلامه لتكذبه فيما يزعم ولتسخر من عظم دعواه أمام ضآلة ذاته، صوّر ذلك في قوله: فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ ... يدّعي الربوبية ويريد الصعود إلى أجواء السماء ثم لا يرى سبيلا إلى ذلك إلا أن يستعين بالطين وأسباب الطين ... إن الذي يضطر إلى الاستعانة بالطين، فيما يسعى إلى تحقيقه، لا يمكن إلا أن يكون ذلك المخلوق الضعيف الذي خلق من طين. ثم إنه يقول: لعلّي أطلع إلى إله موسى، ولعلّ أداة رجاء. والرجاء من أبرز دلائل الضعف وتقاصر القدرة. ذلك لأن الذي يرجو شيئا، إنما يظهر تعلق قلبه وانصراف نفسه إليه دون أن يستيقن أنه قادر على بلوغ فعله. إذ كانت رغبته فيه أقوى من قدرته عليه، فهو يعلّل نفسه بالأمل. إنّ الرب الحقيقى أجلّ من أن يكون على هذه الحال، ولكنها الفطرة البشرية تأبى إلّا أن تفرض نفسها على لسان صاحبها، سواء أكان مؤمنا أم كافرا، متجبرا كان أم متألها. فهذا الجانب من الإعجاز القرآني، لا يتوقف إدراكه أو الشعور به على سعة علم أو ثقافة أو بلاغة. بل لا بدّ أن يتنبه إليه كل متدبر لتلاوة القرآن متأمل فيما يقرأ، مهما كانت ثقافته ودرايته. غير أنه قد لا يحسن التعبير عمّا يشعر به، ولا يقدر على تحليله وشرح أسبابه. وإذا رأيت من إذا تلا القرآن تأثر به قائلا: إن هذا الكلام لا يمكن أن يصدر عن بشر، فاعلم أنه متفاعل مع هذا الوجه الأخير الذي فرغنا من شرحه وتحليله.

الذين كتبوا في إعجاز القرآن

غير أن كل هذا الذي أوضحناه من الوجوه المختلفة للإعجاز في هذا الكتاب الربّاني لا يتجلّى شيء منه إلا لقلب لم تخنقه أغشية الكبر والعناد، فأقبل إلى القرآن يتأمله متجردا عن أي عناد أو أسبقية إلى ضلالة عاهد نفسه أن لا يتحول عنها. فأما من قد ران على قلبه الكبر والعصيان، ومرّ بالقرآن على هذه الحال. فقد لا يتنبه إلى شيء مما ذكرنا ولا يتأثر به، وإن نبهه المنبهون واستثاره الناصحون، كيف وهو الذي يقول القرآن في حقه وحق أمثاله: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً (الإسراء: 82). ويقول أيضا: وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ... (فصّلت: 44). نسأل الله تعالى أن يلهمنا الحق والرشد، وأن لا يصدّنا بفعل شهواتنا وأهوائنا عن الحق الذي أنزله على رسله وأنبيائه، إنه على كل شيء قدير. الذين كتبوا في إعجاز القرآن والكاتبون في إعجاز القرآن من العلماء وأئمة البيان كثير، وأول من كتب في ذلك الجاحظ رحمه الله (ت: 255) فقد ألّف في ذلك كتابا سمّاه (نظم القرآن) ثم ألّف أبو عبد الله محمد بن يزيد الواسطي (ت: 306) كتابه إعجاز القرآن وجاء من بعده عبد القاهر الجرجاني (ت: 471) فشرحه شرحا مستفيضا سمّاه: المعتضد. كما ألّف كتابه المشهور (دلائل الإعجاز). ثم جاء أبو عيسى الرماني (ت: 385) فألّف هو الآخر كتابا في إعجاز القرآن، وظهر من بعده كتاب القاضي أبو بكر الباقلاني (ت: 403) واسمه أيضا: إعجاز القرآن، وهو كتاب جليل سلك فيه مؤلفه أقرب الوسائل إلى كشف جوانب الإعجاز القرآني وتذوقه. وكتب بعدهم كثيرون في هذا الباب، كالإمام الخطابي وفخر الدين الرازي وابن أبي الأصبع. أما في عصرنا فأحسب أن خير من كتب في هذا الموضوع

المرحوم مصطفى صادق الرافعي صاحب كتاب إعجاز القرآن. أما سيد قطب رحمه الله فقد عالج نواحي خاصة من إعجاز القرآن. فأبدع فيها وأجاد، ومن خير آثاره في ذلك، التصوير الفني في القرآن، ومشاهد يوم القيامة في القرآن. هذا إلى جانب تفسيره العظيم. في ظلال القرآن، فقد نهج فيه نهجا جديدا قد يكون بعيدا عن تحقيق المسائل والقضايا العلمية، ولكنه لامس حاجة في نفوس كثيرين من الناس وهي التطلّع إلى الكشف عن وجدانيات القرآن وأسراره وتبسيطها وتقريبها للأفهام بعيدا عن التأملات العلمية والفكرية العويصة.

موضوعات القرآن وطريقة عرضه لها

موضوعات القرآن وطريقة عرضه لها تدور بحوث القرآن كلها على غرض رئيسي واحد، هو دعوة الناس كلهم إلى أن يكونوا عبيدا لله عزّ وجلّ بالفكر والاختيار كما خلقهم عبيدا له بالجبر والاضطرار (¬1). وتلك هي خلاصة ما ينطوي عليه الدين الحق الذي ألزم الله به عباده منذ أن خلق آدم عليه الصلاة والسلام إلى أن بعث خاتم الأنبياء محمدا صلّى الله عليه وسلّم. وكلّ ما في القرآن من موضوعات، متفرع عن هذا المقصد الرئيسي الأسمى. إذ كان لا بدّ، لكي يدين الناس بالعبودية لله وحده من أن يطّلعوا على دلائل وجوده ووحدانيته وأن يستيقنوا قيام الناس لرب العالمين من بعد الموت، وأن الذي ينتظرهم إذ ذاك إما سعادة عظيمة في جنات الخلد أو شقاء وبيل في نار تتلظى. فكان لا بدّ من أن يعرض القرآن لموضوع العقيدة وكلياتها، وضرورة إيمان كل إنسان عاقل لها. فهذا هو الموضوع الأول، وطريقة عرض القرآن له تقرير كليات العقيدة التي لا بدّ من الاعتقاد بها، من وحدانية الله عزّ وجلّ وبعث الناس بأرواحهم وأجسادهم يوم القيامة، والحساب والصراط والجنة والنار وما إلى ذلك، ثم عرض الأدلة على هذه الكليات، وأهمها وجود الله ووحدانيته بأسلوب يشترك في ¬

_ (¬1) انظر ص 120 من هذا الكتاب.

فهمه سائر أصناف الناس وطبقاتهم، ولذلك تراه ينبّه الناس إلى أدلة الكون وما يشيع فيه من دقة النظام وروعة الخلق وجمال التنسيق، دون أن يعرض لشيء من الأدلة المنطقية الفلسفية أو العلمية التي تختصّ بفهمها فئات معينة من الناس، اللهمّ إلا أن تدل الآية على شيء من ذلك من وراء دلالتها على القدر المشترك الذي يفهمه الناس كلهم، ففي القرآن من ذلك كثير وقد مرّ بيانه فيما مضى. وإذا تأملت في معالجة القرآن لموضوع العقيدة، فإنك قلّما تجده يعرض للدليل على أصل وجود الله عزّ وجلّ، وإنما هو يقرر وحدانيته وينبّه العقول إلى الأدلة المختلفة على ذلك. والسبب هو أن وجود الله عزّ وجلّ أمر مفروغ منه لا نزاع ولا حاجة إلى البحث فيه، وإنكار وجوده أو الشك فيه شيء لا يتصوره عقل عاقل. فهذا ما أراد القرآن أن يوحي به عند ما لم يعرض للاستدلال على أصل وجود الخالق عزّ وجلّ إلا في آيات قليلة. والحقيقة أن نزعة الحديث عن وجود الله والشك فيه أو فرض عدم وجوده، شيء لم يعرف إلا في القرون الأخيرة، أما فيما مضى فقد كان الإيمان بوجود الخالق جلّ جلاله أمرا مفروغا منه، أما مظاهر الضلال فإنما كانت تحوم حول تفسير هذا الخالق أو توهم تعدده ووجود شركاء له، أو توهم حلوله في الأفلاك العشرة أو العقول العشرة كما كان يتخيل بعض فلاسفة اليونان. ثم كان لا بدّ من عرض العبر والآيات المختلفة التي مرّت مع التاريخ كي يستنير بها العقل في مجال اعتباره واستدلاله، وكي تتجلى مظاهر عظمة الله عزّ وجلّ وقدرته فيما سجله الزمن من واقع وأحداث. فمن أجل ذلك عرض القرآن لموضوع آخر هو: القصص، قصص الأمم الخالية وما آل إليه أمرها من الهلاك والدمار، وقصص كثير من الأنبياء الذي تعاقبوا على الدعوة إلى دين واحد، وكرروا إبلاغ الناس حقيقة واحدة لم يختلفوا عليها ولم يتفرعوا عنها في طرائق متعددة أو متباينة. ولا نطيل الحديث عن القصة وكيفية عرض القرآن لها، فإن لذلك فصلا خاصا به سيأتي إن شاء الله. ثم كان لا بدّ أن تقوم حياة الناس في دنياهم على نظام معين يضمن لهم

مصالحهم وأسباب عيشهم، ويجمعهم على صراط من التحابب والتعاون، فكان من مقتضى ذلك أن يعرض لموضوع ثالث، هو: التشريع، وقد أوضح القرآن في عرضه لهذا الموضوع الأحكام المتعلقة بسائر المعاملات المدنية المختلفة، حيث قرر الأحكام المتعلقة بالبيوع والإيجار والشركات وعامة العقود المالية وغيرها، وقرر الأحكام المتعلقة بمختلف الأحوال الشخصية من زواج وطلاق وميراث وسائر ما يتعلق بذلك من أحكام الأسرة، وتحدّث عن الجنايات والجرائم المختلفة وعقوباتها، وعمّا ينبغي أن تكون عليه علاقة المسلمين، كدولة، بالدول والجماعات الأخرى. والحاصل أن القرآن قد عرض لعامة ما يسمى اليوم بالقوانين المدنية الجنائية، والنظم الدستورية والإدارية، والقانون الدولي. غير أن طريقة عرض القرآن لهذه النظم والأحكام، اختلفت إلى ثلاث طرق وذلك حسب اختلاف متعلقات تلك الأحكام. فمنها ما نصّ القرآن على حكمه بعبارات حاسمة واضحة منفصلة لا تعليق فيها ولا إبهام أو إجمال، وذلك مثل فريضة الميراث وحقوق كلّ من الورثة في مال الموروث، ومثل عقوبات بعض الجرائم كالزنا والسرقة والقذف وجريمة القتل وقطع الطرق؛ ومثل كثير من مسائل الأحوال الشخصية. ومنها ما اكتفى ببيان حكمه من وجوب أو حرمة أو إباحة ... وعرّف بها إجمالا، ثم وكل إيضاح الشروط والصفات وكيفية التطبيق إلى بيان الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وذلك مثل عامّة العبادات من صلاة وصيام وحج وزكاة، ومثل كثير من أحكام المعاملات. ومنها ما وضع فيه المبادئ الأساسية وقرر بحقه الأحكام الكلية ثم أناط تعيين الاحتمالات ووجوه التطبيق فيه بأعراف الناس وتطورات الزمن والأحوال. ثم كان لا بدّ، لتقوم حياة الناس على مبدأ قويم ونظام صالح، ولتتوفر ضمانات تطبيق ما وضعه أمامهم من الأحكام التشريعية- من أن يحيا القلب الإنساني بمراقبة الله عزّ وجلّ في كل الظروف والأحوال وأن تقوم بين الناس

وشائج من الأخلاق الفاضلة والمحبة والإيثار وما إلى ذلك. فمن أجل ذلك عرض القرآن لموضوع رابع وهو: الأخلاقيات، فعني به عناية كبرى، وجعله من الثمرات الأولى للإيمان بالله عزّ وجلّ، وأوضح أن هناك تلازما شديدا بين عبودية الإنسان لله عزّ وجلّ والسلوك الأخلاقي الفاضل في المجتمع. والطريقة القرآنية لعرض هذا الموضوع، أنه يربط بين مبادئ العقيدة والإيمان بالله عزّ وجلّ، والمبادئ السلوكية في الحياة، ويكشف عن التلازم الذي بينهما، وأن الثانية دائما نتيجة وثمرة للأولى. فهو يوضح لك الرابطة المتينة بين اعتقادك بأنك عبد لله عزّ وجلّ، والتواضع ولين الجانب لإخوانك من الناس، ويأمرك بالثاني من حيث أمرك وألزمك بالأول فهو يقول مثلا: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (¬1). وهو يوضح لك التلازم بين اعتقادك بأن الرزق إنما يأتي من عند الله عزّ وجلّ وبتقديره، وبأن المال هو مال الله جعل الناس خلفاء فيه، وبين ما ينبغي أن تلتزمه بصدد الإنفاق، من القصد في ذلك وعدم الإقتار ولا الإسراف، ويوضح لك أن الثاني نتيجة للأول دائما. فهو يقول: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (¬2) ثم يوضح أساس هذا الأمر قائلا: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (¬3). أي فالقرآن يقوّم المعايير الأخلاقية تقويما دينيا، ويجعل وجه ضرورة الالتزام بها الإيمان بالله عزّ وجلّ بكل ما يستلزمه من توابع ومتممات، بل إنه ليهدد أولئك الذين يفضلون العثوّ والفساد في الأرض بأخلاقهم السيئة، بأن أفئدتهم وعقولهم لن تتفتح لفهم الحقائق وأنها ستظل منصرفة عن أن تعي شيئا ¬

_ (¬1) الفرقان: 63. (¬2) الإسراء: 29. (¬3) الإسراء: 30.

من دلائل الإيمان بالله، فهو يقول مثلا: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها ... (¬1). فهذه جملة الموضوعات التي يتناولها القرآن بالبحث وتلك هي طريقة عرضه لها ذكرناها بسرعة واختصار، وهي كما قلت لك فروع عن المقصد الأول الذي خاطب القرآن من أجله البشر، ألا وهو أن يدخل الناس في العبودية لله بالإيمان والعبادة طوعا كما أدخلهم فيها بالفطرة والطبع كرها. ¬

_ (¬1) الأعراف: 146.

التصوير في القرآن مظهره ورسائله

التّصوير في القرآن مظهره ورسائله تمهيد: يقول علماء العربية والبيان: الكلام ينقسم إلى خبر وإنشاء. والخبر هو- كما تعلم- الحديث عن معنى قد وقع، على سبيل الاطلاع عليه لمن كان جاهلا، أو التذكير به لمن كان ناسيا؛ والإنشاء هو تحصيل معنى عن طريق استفهام أو طلب. فشأن الكلام- على كل حال- مرتبط بالمعنى، إخبارا به أو استفهاما عنه أو طلبا له، وليس له شأن بما وراء ذلك. وما هو المعنى؟ ... إنه عبارة عن كل ما يدركه العقل، فكل ما علمه العقل فهو معنى. ومن هنا، كانت صلة الكلام بالعقل دائما؛ والمتكلم إنما يخاطب في الناس عقولهم؛ فإذا أدرك العقل واستوعب، حمل إلى مكامن الإحساس والوجدان من ذلك المعنى ما يلائمه من التأثيرات المختلفة. فتفاعل الإحساس بها وتأثر. غير أن لكلام القرآن طريقة أخرى في الخطاب. إنه لا يخاطب العقل وحده، على نحو ما نعلم من طبيعة سائر أنواع الكلام. ولكنه يخاطب كلّا من العقل والخيال والشعور معا؛ أو قل إنه يحمل إلى العقل معنى يخاطبه به وينهاه إليه، وينفث في المشاعر والخيال إحساسا

بصورة ذلك وينبههما إلى ما فيه من حركة وحياة. وكلام القرآن، لا يعثر على هذا السبيل في الخطاب اتفاقا؛ أو بأن يتهيأ له سبيل إلى تشبيه أو استعارة أو مجاز، حتى إذا تجاوز ذلك عاد إلى النسق المألوف والكلام المعتاد. بل هو في القرآن نسق مطّرد، وطريقة متبعة، وسبيل عرفت به وعرف بها؛ سواء كان يأمر وينهى، أو يخبر ويقصّ، أو يعلّم ويشرّع، أو يتحدث عن غيب أو يحذر من عذاب. وسرّ العجب والإعجاز في ذلك، كلّ من حقيقتين اثنتين: الأولى: أن المعاني، في حقيقتها، ليست إلا مجردات اعتبارية، يهضمها ويدركها العقل وحده. فتحوّلها إلى صورة مما تألفه العين ويدركه الشعور والخيال، مما لا يقدر عليه الإنسان إلا في حدود ضيقة وبالنسبة لمعان معينة. الثانية: أن الألفاظ، ليست إلا حروفا صوتية جامدة، فتحولها إلى ريشة تنبع من رأسها الأصباغ والألوان المختلفة المطلوبة لتحيل المعنى إلى صورة في لوحة يتأملها الخيال، بل تكاد أن تدركها العين قبل أن يستوعبها العقل- أمر لا يقوى عليه شيء مما نسمّيه المجاز أو البلاغة والبيان. ومع ذلك فإن لكلّ من المعنى واللفظ في القرآن شأنا آخر! ... فليست المعاني في القرآن مجردات اعتبارية لا يدركها إلا العقل، وإنما هي صورة حيّة تمرّ بخيال القارئ، ويلمسها إحساسه، وتكاد أن تراها عينه. وليست الألفاظ في القرآن تلك الحروف التي لا تدل إلّا على المعنى، بل هي ينبوع يفيض بالصور والأحاسيس والألوان. وآية هذا الذي نقول- قبل أن نعرض للدليل التطبيقي- أن تتذكر انطباعاتك النفسية والشعورية تجاه القرآن عند ما كنت تتلوه أو تنصت إليه في زمان طفولتك (إن كنت ممّن أتيح لهم أن يمارسوا تلاوة القرآن في عهد الطفولة)؛ فستتذكر أنه قد كانت لخيالك جولة كبرى ونشاط غريب في آفاق واسعة بعيدة أثناء تلاوته أو الإنصات إليه؛ وستردّك ذاكرتك إلى صور وأشكال وأخيلة غريبة منطبعة في خلدك، كلما قرأت شيئا من آياته.

وإن في خزانة فكري اليوم لنماذج كثيرة من هذه الأخيلة والصور التي انطبعت فيها مما كانت ترسمه الآيات في ذهني أيام كنت منكبّا على دراسة القرآن وتعلمه، وأنا طفل، والكثير منها غريب ومضحك! .. ولقد كنت أحسب فيما مضى أن مردّ ذلك إلى حالة خاصة بي هي الجهل أو نحوه، ولكن لدى دراسة معاني القرآن وما تيسر من آدابه، علمت أن ذلك هو شأن القرآن وعمله في الأخيلة كلها، ورأيت الكاتب والإنسان الكبير: سيد قطب رحمه الله يذكر هذا المعنى ويصف الصورة التي كانت ترسمها هذه الآية في خياله إذ هو طفل: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ، فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ، خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (¬1). وأهمية الطفولة بالذات، لكشف هذا الجانب من أسلوب القرآن ومنهجه هي أن الطفل بمقدار ما يكون استعداده لتلقي المعاني المجردة ضعيفا، يكون استعداده لتصور الرسوم والتقاط الأشكال قويا؛ فللطفل خيال مشبوب، ومرآة صافية سرعان ما يلتقط بهما صور الأشياء. ومن هنا كانت لهذه الظاهرة قيمة كبرى في كشف معنى «التصوير القرآني» والبرهنة عليه. فلا يهمنا إذا، أن تثبت هذه الصور في ذهن الطفل مشوّهة أو ناقصة أو غير ذات دلالة، لأن ذلك هو شأن تخيّل الصورة دون إدراك المعنى، ولكن المهم أنه يجد في هذا الكتاب ما يخاطب خياله، وإن لم يجد فيه إلا القليل مما يخاطب عقله، على حين أن ذلك لا يتفق له بالنسبة للكتب الأخرى اللهمّ إلا تلك التي صيغت خصيصا من أجله. ثم إن التصوير القرآني يتدرج في مظاهر متعددة بوسائل مختلفة، وكثيرا ما تجد هذه المظاهر كلها مجتمعة في نصّ واحد، وقد تجد بعضها متفرقا في نصوص متعددة. ¬

_ (¬1) الحج: 11، وانظر مقدمة كتاب التصوير الفني في القرآن لسيد قطب، وهو مرجع ذو أهمية بالغة في هذا الباب.

فأول مظهر للتصوير، هو إخراج مدلول اللفظ من دائرة المعنى المجرد إلى الصورة المحسوسة والتخيلة. المظهر الثاني: تحويل الصور من شكل صامت إلى منظر متحرك حيّ. المظهر الثالث: تضخيم المنظر وتجسيمه حينما يكون الجو والمشهد يقتضيان ذلك. والوسيلة القريبة إلى تحقيق هذه المظاهر، لا تعدو أن تكون استعارة، أو مجازا مرسلا، أو تشبيها وتمثيلا. وهذه الوسائل التي وضع عليها علم البيان إنما هي قواعد استخلصت واستنبطت من التصوير الذي انطوى عليه أسلوب القرآن الكريم؛ فالقرآن هو الأساس لهذه القواعد وليس العكس كما قد يتوهم. أما الوسيلة البعيدة، فلسنا نملك منها إلا الوصف التقريبي؛ إذ هي سر إعجازه وهي الغاية التي تقف دونها طاقة أئمة البيان. وكل ما نستطيع أن نقول عنها أنها الكيفية اللطيفة الدقيقة التي تتألف الكلمات على وفقها وتتناسق الحروف والحركات وما يتبعها من مدود وشدّات على أساسها، فتخرج الكلمة والجملة في قالب من اللفظ وطريقة الأداء يبث في الإحساس والخيال صورة مجسّمة حيّة للمعنى! .. ولو ذهبت تفكر، لتقف على القاعدة التي بها يتم تصوير اللفظ للمعنى، كي تتخذ منها دستورا لصياغة الكلام، على نحو ما فعل العلماء في استنباط قواعد الاستعارة والمجاز وغيرهما- لما انتهيت إلى شيء! ... كل ما يمكن للفكر أن يعلمه، وكل ما يمكن للحس أن يشعر به، هو أن هذه الألفاظ القرآنية تلصق صورة المعنى وشكله بإحساسك، وإن لتناسق حروفها المعينة وتوالي حركاتها المتنوعة مدخلا وأثرا كبيرا في هذا التصوير. ثم إنك قد تجد الجملة كلها تحمل إلى خيالك صورة المعنى وتبث فيه الحركة والحياة، وقد تجد كلمة واحدة تؤدي هذه المهمة كلها. وما أظنك إلا مستعجلا في الانتقال إلى عرض نماذج وأمثلة لكل هذا الذي نقول، فلنكتف بما ذكرناه من التقرير والتعريف النظري، ولنبدأ بذكر

بعض الأمثلة. ونقول، قبل عرض الأمثلة، كما قال المرحوم سيد قطب: إن الأمثلة على هذا الذي نقول هي القرآن كله حيثما تعرض لغرض من الأغراض، وحيثما شاء أن يعبّر عن معنى مجرد أو حالة نفسية، أو صفة معنوية، أو نموذج إنساني، أو حادثة واقعة أو قصة ماضية، أو مشهد من مشاهد يوم القيامة، أو حال من حالات النعيم والعذاب (¬1). وإليك الآن هذه النماذج: 1 - أوضح الله لرسوله أنه لا جدوى من أن يضيق صدره بكفر الكافرين، وإلا فليجهد جهده وليعمل كل ما بوسعه في تقديم آية لهم، إن كان قادرا، يبرهن بها على صدقه ويدخل بها الإيمان في قلوبهم. فالتعبير عن هذا المعنى بمثل هذه الألفاظ أو نحوها مما هو مألوف ومقدور عليه، وهو معنى يخاطب به العقل والفكر مباشرة، ولكن انظر إلى التعبير القرآني: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى، فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (¬2). فقد صوّر أولا التألم من إعراضهم، في صورة شيء قد كبر وضخم حجمه ينوء الرسول صلّى الله عليه وسلّم تحت ثقله ويضيق ذرعا به. ثم صوّر الجهد الذي لن يأتي منه بطائل إن هو أجهد نفسه به، بصورة من يريد أن يتخلص من كل الثقل العالق به، فهو ينبعث، في قلق وبحث دائبين، نحو كل الجهات، وخلف كل حجاب وستر، ليعثر على ما قد ينشط به من هذا العقال المتشبث به. فأنت ترى الآية قد أخرجت هذا المعنى الفكري في مظهر شيء محسوس، ثم بثّ فيه الحركة والحياة كما قد رأيت، ثم جسّمت الفكرة نفسها في هذه الصورة الحيّة المتحركة وخاطبت بذلك كله الخيال قبل أن تخاطب مجرد الفكر والذهن. ¬

_ (¬1) التصوير الفني: 30. (¬2) الأنعام: 35.

2 - أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم إن هو التقى بجموع الكافرين الذين أصرّوا على عنادهم، أن يشتد في قتالهم حتى تحقيق بهم الهزيمة ويدخل في قلوبهم الرعب. فانظر إلى الأداة التي استعملها في التعبير عن هذا المعنى: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ، فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ، لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (¬1). فقد أخرج معنى التلاقي الذي يكون بين المسلمين وأعدائهم، في صورة من ظل يتربص بشيء حتى ظفر به ووقع عليه وعبّر عن ذلك بقوله: تَثْقَفَنَّهُمْ بمجموع ما تحمله هذه الكلمة من الدلالة ومن الصياغة اللفظية، ومن تناسق السكنات والحركات والتشديد البارز بينها. ثم أخرج معنى إلحاق الهزيمة، في صورة فريدة عجيبة، هي صورة جند أقوياء أشدّاء انقضوا في هجوم صاعق على طلائع أعدائهم أو الصفوف الأولى منهم؛ فأخذ الرعب والفزع منهم كل مأخذ حتى سرى ذلك منهم إلى من خلفهم من بقية الجموع فتبعثروا في كل جهة قبل أن يصل إليهم السوء ويلامسهم. لا ريب أنك إنما تتسمع إلى هذا الوصف بخيالك وإحساسك، ولا ريب أنك تتصوره الآن منظرا حيّا في فلاة واسعة، أو على مسرح يعجّ بالحركة الصاخبة. وقد استنفد بيان هذه الصورة بضعة أسطر كما رأيت. فتأمل كيف صاغها بيان التنزيل في أقل من سطر واحد! .. 3 - وصف الله المنافقين بالجبن وبيّن أن ما يتظاهرون به من الشجاعة كذب، وأن الرعب سرعان ما يستولي على قلوبهم فينهزمون، لا يلوون على شيء. فانظر كيف عبّر عن هذا المعنى: لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا، لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (¬2). فتأمل كيف بسط معنى الهزيمة والجبن على هذه اللوحة التصويرية الرائعة، وأخرج هذا المعنى الفكري في صورة جماعات من الناس تائهة زائغة العين لما سيطر عليها من الرعب، فهي تنقذف هنا وهناك بحثا عن المأمن والمهرب في حركات عجيبة غريبة. وقد يحسب صاحب النظرة ¬

_ (¬1) الأنفال: 57. (¬2) التوبة: 57.

العجلى أن هذه الكلمات الثلاث: ملجأ، مغارات، مدّخل، مترادفة المعنى. ولكنها في الحقيقة ليست كذلك، بل كلّ منها تصوّر في الذهن شكلا معينا للملاذ الذي يبحث عنه المنهزم والخائف، بدءا من الشكل الطبيعي المألوف وهو الملجأ العادي من دار أو غرفة أو جماعة من الناس، إلى الشكل الذي لا يألفه ويرضيه إلا من اشتد خوفه وهو المغارة في باطن الأرض أو بطن الجبل، إلى الشكل الذي هو أبعد في القبول والإلف من كليهما وهو: المدّخل، أي المكان الضيق الذي لا يستطيع هذا الخائف أن يقتحمه إلا بجهد ولا يكاد أن يستقر فيه إلا تضاؤلا والتصاقا. وانظر كيف تؤدي كلمة «مدّخلا» هذه الصورة وتجسمها في الحسّ بوزنها وجرسها وشدة الدال فيها، ثم تأمل فيما تصوره في خيالك كلمة: لَوَلَّوْا إِلَيْهِ. ثم فيما تتركه كلمة: يَجْمَحُونَ من الصورة الضاحكة الساخرة، ثم تأمل في صورة هاتين الكلمتين، فمهما شرحت وفصّلت، فلن أبين أكثر مما يبينه خيالك وشعورك وأنت تتأمل جرسهما ووقعهما. ثم ارجع النظر مرة أخرى إلى الجملة كلها لتبصر الريشة الإلهية العجيبة وهي تصوّر الهزيمة والجبن والقلق النفسي هذا التصوير المتحرك الساخر، وكيف تتجسد الصورة في خيالك حتى لتكاد العين الباصرة تراها واليد اللامسة تتقراها. 4 - أخبر الله رسوله أن مسئولية كل عمل متلبسة بصاحبه خيرا كان أم شرّا؛ فلا يسأل إنسان عمّا لم يعلم، ولا ينبعث الشر من مصدر طيرة أو شؤم، وإنما ينبعث من فاعله الذي فعله. فتأمل كيف عبّر عن هذا المعنى: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ، وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (¬1). إذا تأملت في هذا التعبير، بعد أن علمت أن العرب في الجاهلية كانوا يرون في مظاهر بعض الأنواء والحيوانات والطيور سببا وباعثا للمصائب والشرور، تخيلت صورة إنسان قد تجمعت كل أسباب الشؤم والطيرة المختلفة فالتصقت به وتعلقت بعنقه، ليدل بذلك على أن الذي ¬

_ (¬1) الإسراء: 23.

يقوده إلى الشر إنما هو ذاته نفسها، وإذا كان لا بدّ أن هناك مصدر طيرة وشؤم، فإنه على كل حال مصدر متعلق به ولا ينفك عنه. وإنما أخرج المعنى بهذا المظهر الحسيّ الملموس، ليكون أوقع في النفس وأدلّ على المقصود وليحمل التعبير معنى السخرية بأوهام الجاهلية وسخافتها. 5 - أخبر الله تعالى أنه جعل من الليل والنهار دليلين على وجود الخالق العظيم ووحدانيته، وأنه جعل الليل لتهدأ فيه الرجل ويستريح الإنسان، وجعل النهار مضيئا ليتهيأ فيه السعي والعمل، ولكنه لم يعبّر عن هذا المعنى بهذه الطريقة وإنما قال: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ (¬1) وإذا قرأت هذه الآية، أسرع خيالك فتصور حيوانين أو شبحين عظيمين أحدهما يظل مطبقا عينيه لا يفتحهما على النور، والآخر يظل فاتحا عينيه لا يطبقهما على ظلام. فأما الأول فيتجسد فيه ظلام الليل وانطواؤه وهدوؤه، والآخر يتجسد فيه ضياء النهار وحركته والتماعه. 6 - أخبر الله تعالى عن كراهية أهل الجاهلية للأنثى إذ تولد في دار أحدهم وبيّن أن الكرب يأخذ من أحدهم كل مأخذ إذا ما أخبر بأنثى قد ولدت له، وأنه يراوده فكرة أن يدفنها في التراب حيّة، ولكنه عبّر عن هذا الشعور النفسي بأسلوب تصويري تسجد له البلاغة في أسمى مظاهرها وألوانها. يقول الله عزّ وجلّ: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ، أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (¬2). فقد صوّر تهكم من حوله به بكلمة بُشِّرَ ثم صوّر شدة الكرب الذي انتابه بقوله: ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، ثم صوّر وقع النبأ ¬

_ (¬1) الإسراء: 12. (¬2) النحل: 58.

الذي حمله إليه القوم مبشرين- أي متهكمين ومشفقين- بقوله: يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ، ثم صوّر الحيرة التي تراوده ويطوف بخاطره بقوله: أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ . وردّد النظر والفكر في هذه الكلمة: يدسّه، لتبصر كيف أنها تشفّ عن الغيظ والعصبية والشدة وقد تلبست بها حالة الرجل وأعضاؤه، وكيف تصور لك الدفع المغتاظ للرحمة في مظهرها الضعيف المتألم المسالم! .. 7 - أخبر الله الناس أنه ما من خبر من الغيبيات التي أخبر الله بها إلا وسيأتي يوم يتضح فيه صدقه ووقوعه كما أخبر به. فانظر إلى التعبير القرآني عن ذلك: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (¬1)، وأنا فما أذكر أنني قرأت هذه الآية مرة إلا وتخيلت أن في جو السماء شبحا يسبح في أنحائه لا يدري الناس ما هو، والكل رافع رأسه محدق بنظره يتأمله وكلّ منهم يتوهمه حسبما يخيل إليه؛ والجميع ينتظرون ساعة هبوطه واستقراره في الأرض ليعلموا حقيقته وليتخلصوا من أوهامهم وتخيلاتهم فيه. إن الله عزّ وجلّ يصوّر الإخبار عن قيام الساعة وما يلوذ بها من الغيبيات، بصورة هذا الشيء الذي ظاف حوله لغو كثير من القول، وأبى كثير من الناس أن يؤمنوا بحقيقته تبعا لما جاء من كلاب رب العالمين، ليقول لهم إن لهذا الشيء مكانا وزمانا يستقر فيهما عيانا أمام أبصاركم، ولسوف تعلمون حينئذ، دون أن يفيدكم العلم. وتصوّر مثل هذا التصوير كلمة مُرْساها في قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها، قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ... (¬2) فالساعة في تعبير الآية كالسفينة محجوبة عن الأعيان في غمار بحر عظيم متلاطم، والمنكرون يستعجلون في طلب إرسائها عند الشاطئ ليشاهدوا حقيقتها بأعينهم. 8 - بيّن الله عزّ وجلّ أن الأموات سوف يبعثون من قبورهم وتعود إليهم الحياة ¬

_ (¬1) الأنعام: 67. (¬2) الأعراف: 187.

ليواجهوا جزاءهم، وأن ذلك يسير على الله عزّ وجلّ، فجاء التعبير القرآني عن ذلك بهذا الشكل: يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً، ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (¬1). ولا ريب أنك إذا قرأت هذه الآية تصورت أمامك أرضا واسعة المدى تتشقق عن أشخاص هنا وهناك يخرجون منها ليسرعوا إلى حيث لا يدرون. أجل، فالآية تترك في ذهن القارئ هذه الصورة الحيّة المتحركة، ليتصور الأمر البعيد واقعا يشاهده أمام عينيه في بساطة ويسر. 9 - قرّر الله عزّ وجلّ أن من سنّته في الكون أن يعرض الأمم للمصائب والمحن، فإن لم يتنبهوا بذلك للخضوع والتوبة والتضرّع إلى الله، غمسهم الله تعالى في أصناف الملذات، حتى إذا فرحوا بذلك واستغرقوا في لهوهم وانشغالهم عن الله أهلكهم الله على حين غرّة، فقال في ذلك: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً، فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (¬2). فانظر إلى قوله: فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ لكأن أسباب النعيم والترف واللذائذ ممتلئة في مخازن من وراء أبواب، فما هو إلا أن فتحت هذه الأبواب حتى اندلقت عليهم من كل جانب ومن كل نوع .. ثم تأمل في قوله: فَأَخَذْناهُمْ وأي تصوير لضئلة شأنهم ونسيانهم أنفسهم أبلغ وأروع من هذه الكلمة: أخذناهم. ثم انظر كيف يتقارب الزمن الطويل متحركا متنقلا من مشهد إلى آخر في هذه الآية، وذلك بوحي وتصوير تتابع هذه الأحرف والكلمات: فَلَمَّا ... حَتَّى إِذا ... بَغْتَةً ... فَإِذا هُمْ ... مشهد من وراء آخر، ومرحلة تلي ما قبلها، قد تكون الفترة بينهما طويلة، ولكن التعبير القرآني يقارب ما بين هذه المراحل في بضع كلمات، ويصوّرها في ذهن القارئ، وكأنها تاريخ سريع يمرّ من أمامه. ¬

_ (¬1) ق: 44. (¬2) الأنعام: 44.

10 - ومن التصوير الرائع البديع الذي تنفرد به كلمة واحدة قوله تعالى: ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ (¬1). والمقصود الأصلي هو استنكار تكاسل بعض المسلمين أمام داعي الجهاد في سبيل الله. ولكن انظر إلى الأداة التعبيرية عن ذلك اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ. لقد أخرج معنى الكسل الذي هو من مدركات العقل في صورة جرم ثقيل كلما حاولت أن ترتفع به إلى الأعلى انحطّ بك إلى الأرض، وهو من الثقل بحيث لا ينفك عالقا وملتصقا بكل ما هو دون، من أرض وغيرها. وكما يقول سيد قطب: لو أنك حذفت الشدة من الكلمة فقلت «تثاقلتم» لخفّ الجرس وضاع الأثر المنشود ولتوارت الصورة المطلوبة التي رسمها اللفظ واستقلّ برسمها (¬2). 11 - أنبأنا الله تعالى عن دخول هذا الكون كله تحت سلطانه وأنه ليس إلا شيئا ضئيلا بالنسبة لملكه وعظيم قدرته، ولكنه وضع هذا المعنى في صورة مخيّلة محسوسة يمتلئ بها الخيال والحس، ويذوب فيها الشعور. يقول الله عزّ وجلّ: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ... (¬3). فأنت لست من هذه الآية أمام كلمات الملك والسلطان والعظمة ونحوها مما هو من مفهومات الفكر المتأمل ... ولكنك أمام الهول العجيب الذي يذهب له الحس وتخشع له المشاعر: الأرض جميعا شيء صغير في قبضة الله والسموات كلها بأجرامها العظيمة قد طويت كما يطوى البساط أو الصفيحة، فهي ليست إلا جرما صغيرا لا تكاد تدركه العين مخبوءة في يمين الله عزّ وجلّ. وليس هناك من يمين، ولا قبضة، ولا طي بالمعنى الحسي المعروف، ولكنه التخييل والتجسيم للمعنى الذهني، كي يفيض الشعور والخيال إحساسا به. ¬

_ (¬1) التوبة: 48. (¬2) انظر التصوير الفني وما ذكره سيد قطب في تحليل هذه الآية: ص 87. (¬3) الزمر: 67.

12 - وربما اقتضى المشهد في بعض الأحيان أن تمثل الصورة أمام الخيال شاخصة صامتة لا حراك فيها، وذلك كما في قوله تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (¬1) والمعنى المقصود لفت النظر إلى الأمم التي جاءت ومضت وتركت آثارها من ورائها. ولكنه أقام من هذه اللوحة التصويرية في الآية تعبيرا مجسما له. وهي صورة صامتة شاخصة، تبصر فيها بيوتا خالية قد سقط بعضها على بعض ... وتبصر في جانب منها بئرا متروكة معطلة، وقصرا لا تزال فيه جدران باقية قائمة ... ولا والله، ما تلوت هذه الآية مرة إلا ورأيتني أمام لوحة فنية رائعة صوّرتها كلمات هذه الآية في رسم معبّر نادر، يجلله صمت رهيب، تلوح عليه آثار القرون والسنين!! ... وبعد، فهذه أمثلة قليلة، قس كلام القرآن كله عليها. ولن نستطيع أن نفيض في بيان الأمثلة والنماذج؛ فقد التزمنا في هذا الكتاب القصد في البحث، كي يتسع المجال لعرض المسائل والبحوث الأخرى، ولو أردنا أن نستقصي الكلام في تصوير القرآن ومقوّماته ومظاهره، لجفّ المداد ونفد الورق دون أن نوفي البحث حقه: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً. فإن كنت قد ألقيت السمع إلى ما قلنا وأنت شهيد بعقلك الصافي المتحرر، وقفت على الحق في كل الذي ذكرنا، وأدركت أن نظيره مثله مما لم نقل، وأيقنت أن هذه المعجزة التي تصورت كلاما يتلى ليست مما يصوغه بشر، ولا ينبغي أن تكون مادة كذب كذب بها محمد صلّى الله عليه وسلّم على الله، بعد أن عاش أربعين عاما يتوقّى الكذب فيها على الناس. ¬

_ (¬1) الحج: 45.

أما إن كنت تتسمع إلى ما أقول بأذن يجثم من ورائها عناد متحكم، أو غيظ متغلب، أو غرض مستعبد، أو هوى لا قبل لك به، فليس للمنطق أيّ حيلة مع مثل هذه الأذن وإن بدت أنها صاغية. ولقد جسّد الله عزّ وجلّ هذا الغيظ والغرض والهوى، في صورة محسوسة منظورة، إذ قال: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (¬1). ¬

_ (¬1) الحجر: 14 و 15، هذا وإن شئت أن تقف على مزيد من الأمثلة للتصوير الفني في القرآن فارجع إلى كتاب التصوير الفني لسيد قطب، ففيه فيض كبير من الأمثلة. هذا وقد حرصت أن تكون غالب الأمثلة التي أتيت بها مما لم يذكره سيد قطب، وذلك حتى لا يتوهم متوهم أن مدار التصوير في القرآن على طائفة من الآيات المعينة لا مزيد عليها. بل هي كما قلنا الطريقة المتبعة في التعبير القرآني دائما.

الأمثال في القرآن

الأمثال في القرآن ضرب المثل في غضون الكلام، يعتبر لونا متميزا من ألوان التشبيه ويعتبر أحيانا لونا خاصّا من ألوان الاستعارة، فإن كان الممثل له مذكورا في الكلام كان تشبيها، وإن كان محذوفا فهو استعارة. وبين المثل الذي يضرب والقصة التي تورد، فارق كبير، وإن كان يجمعهما قدر مشترك من تنبيه الذهن إلى أخذ العبرة وقياس الحال على الحال. فالأمثال لا يشترط صحتها على أنها واقعة تاريخية ثابتة: وإنما يشترط فقط إمكان صحتها أي وقوعها، حتى يتسنى للذهن تصورها كما لو أنها وقعت فعلا، فمن أجل ذلك يمكن الربط بين المثال والمعنى الممثل له، حيث يلبس نسيجا ماديا محسوسا يتصوره الذهن ويألفه الخيال. ولكن الأمثال لا يشترط أيضا عدم صحتها في نطاق الواقع التاريخي فربما ضرب المثل بقصة واقعة. وفي القرآن من ذلك كثير. وإنما تسمى القصة عندئذ تمثيلا، لأنها سيقت مساق التمثيل بها، ولم تورد على أساس الإخبار عنها. وفي القرآن نافذة عريضة كبرى على هذه الأمثلة. بل قلّما يخلو معنى من المعاني التي يعرضها القرآن، من الارتباط بمثال مقرّب يكسوه ثوبا يحسّ به ويتجسد فيه. ولسنا الآن بصدد تحليل القيمة البلاغية لضرب الأمثال، وبيان كيفية استعمالها والاستفادة منها في أنواع الحديث وأصول المخاطبات. وإنما الذي

يهمنا في هذا الصدد أن نتلمس أبرز الخصائص التي تظهر في أمثلة القرآن، وعلاقة ذلك ببلاغته وإعجازه. ونستطيع أن نوجز هذه الخصائص في الأمور التالية: أولا- تعتبر أمثلة القرآن على اختلافها، لوحات فنية رائعة لتصوير مشاهد الطبيعة بأشكالها وأنواعها المختلفة، وفي هذه اللوحات مشاهد ألفتها العرب وعرفتها في حياتها النوعية الخاصة، وفيها ما لم تعرفه ولا رأته ولا سمعت به مما قد يعرفه بعض الأمم والشعوب الأخرى. فالقرآن إذ يضرب الأمثلة بهذه المشاهد المنتزعة من مظاهر الكون وصوره، يؤلّف بين القيم والمبادئ المجردة التي تنزل من أجلها، والمشاهد الطبيعية التي يعيش الإنسان في أكنافها؛ وفي ذلك من إبراز وحدة الحقائق الكونية وترابطها الكلي ببعضها ما يطول شرحه ويعظم خطره، وليس لنا في هذه العجالة سبيل إلى بسط القول في ذلك. ثانيا- تأخذ الأمثلة في أغلب الأحيان طابع القصة في عرض الجزئيات وتفصيل صفاتها، وذلك على خلاف المألوف عند العرب من تكثيف المثال وعرضه في أقل قدر ممكن من الكلمات. فالعرب قد يضربون المثل للشيء الخادع بالسراب، دون تعريج على أيّ تفصيل في المثال أو بسط لصورته، ولكن القرآن عند ما يضرب به المثل يبسط منه صورة حيّة يتراءى فيها كيف ينخدع الظمآن به، ثم يسعى وراءه، حتى إذا جاءه فوجئ بأنه ليس شيئا، ووجد بدلا عنه ثمرة انخداعه من الجهد الضائع والانقطاع عن الرفقة والطريق: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً، حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (النور: 39). ثالثا- كثيرا ما تأتي أمثلة القرآن كلاما كاملا مستقلا بذاته، أي دون ذكر للمعنى الممثل له على غرار ما هو معروف في مألوف اللغة العربية وأسلوبها. وإنما يكون المعنى الممثّل له في هذه الحال مطويا، يشار إليه في تضاعيف المثال ذاته، بحيث لا يجهل السامع أو القارئ المعنى الكلي الذي سيق له

المثال، وذلك على غرار الاستعارة وكيفية دلالتها على المعنى الأصلي المقصود. ولا ريب أن سوق المثال بهذا الأسلوب يأتي أبلغ وألصق بالمعنى المراد، إذا لم يكن في سياق الكلام ما يدعو إلى التصريح به. فمن هذا القبيل قوله عزّ وجلّ: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ، هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ (¬1) فقد ضرب الله مثال البحرين للمؤمن والكافر، والحديث عن المؤمن والكافر مطوي في تضاعيف المثال، يدلّ عليه السياق. ومنه أيضا قوله عزّ وجلّ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ، هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا (¬2) فهو مثال للفرق بين من لم يتخذ مع الله شريكا فهو لا يبغي الخير ولا يتقي الضرّ إلّا من قبله، ومن ثم فهو لا يسعى لإرضاء غيره، ومن اتخذ مع الله شركاء له فقلبه أوزاع بينهم، وهم فيما بينهم متشاكسون متنافسون على مكاسب الألوهية ومقتضياتها، فهو لا يدري بأيّهم يربط قلبه ولأيّهم يعطي ولاءه! ... ولكن هذا المعنى المقصود مطوي في المثال الذي ضربه الله تعالى، وهو مثال رجلين أحدهما يتعلق به شركاء متشاكسون متنافسون كلّ يدّعي انفراده بالسلطان الكامل عليه، والآخر موصول الولاء بشخص واحد فهو سلّم له ومسئول تجاهه. ومنه أيضا قوله عزّ وجلّ: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (الأعراف: 58). وإنما هو مثال للقلوب، فقلب سليم يقبل الموعظة والذكرى، وقلب فاسق قاس ينبو عن ذلك. هذه أبرز خصائص الأمثال في كتاب الله تعالى. ولنعرض الآن نماذج مختلفة لهذه الأمثلة، نتلمس من خلالها القيمة ¬

_ (¬1) فاطر: 13. (¬2) الزمر: 29.

البلاغة التي فيها، وسمة الإعجاز التي تتميز بها، والأسلوب القرآني في تقريب البعيد، وتجسيد المجردات، وتهويل ما ينبغي تهويله من معاني التهديد والوعيد: 1 - يقول الله تعالى في تمثيل حال المنافقين: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً، فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ، يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. فهما مثالان، يدل كلّ منهما في الجملة على أن شأن المنافق أن يتحلّى بظاهر من الدين ليكسب منه غنائمه ويتقي مغارمه، ولكنه يبوء بنهاية تنقلب غنائمه فيها وبالا عليه، فلا تكسبه خيرا ولا تحرز له نفعا. وانظر كيف يعبّر عن ذلك المثال الأول: إن حالهم أشبه بحال من أشعل نارا ليستضيء بها، ولكنها ما كادت تضيء ما حوله وما كاد يطمئن إلى إمكان الاستفادة منها، حتى انطفأت وعاد ما حولها إلى ظلام وبقي صاحبها يتيه بين الوحشة والحسرة. وهذا هو معنى المثال الثاني: أو إن حالهم كحال أصحاب مطر غزيرة في ليلة ظلماء مليئة بوميض البرق وزمجرة الرعد، إذا أومض عليهم البرق كاد أن يتخطف منهم أبصارهم وإذا داهمهم قصف الرعد جعلوا أصابعهم في آذانهم من مخافته واتقائه. وهم أثناء ذلك يحاولون أن يستفيدوا من ومضات النور الذي يلمع لهم بين الحين والآخر، فيسيرون في ضيائه كلما أومض، ويتربصون بأنفسهم كلما أظلم. أي إنهم متلبسون في ظاهرهم بالإسلام الذي هو كصيّب من المطر، ولكنهم في قلق شديد من تبعاته ووظائفه وأحكامه، وعلى طمع من التعلّق بمنافعه وخيراته الدنيوية، فهم لا يزالون كذلك: يسرعون للاستفادة من

ثماره كلما لاحت لهم، وينكمشون أو يتوارون من تبعاته ووظائفه وزواجره كلما أقبلت تواجههم! .. والتمثيل هنا مسوق في تفصيل صوره وأجزائه مساق وصف قصصي كما ترى، وهو من خصائص أمثلة القرآن كما قد ذكرنا آنفا. ثم هو مبني على تشبيه مجموع حالة بمجموع حالة أخرى دون النظر إلى مقارنة أو تشبيه أجزاء الحالين ببعضهما. قال الزمخشري في شرح هذين التمثيلين: [والصحيح الذي عليه علماء البيان لا يتخطونه، أن التمثيلين جميعا من جملة التمثيلات المركبة دون المفرقة، لا يتكلف لواحد واحد شيء يقدر شبهه به، وهو القول الفحل والمذهب الجزل. بيانه أن العرب تأخذ أشياء فرادى معزولا بعضها عن بعض، لم يأخذ هذا بحجزة ذاك، فتشبهها بنظائرها ... وتشبه كيفية حاصلة من مجموع أشياء قد تضامّت وتلاصقت حتى عادت شيئا واحدا بأخرى مثلها ... ] (¬1). 2 - يقول الله عزّ وجلّ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً، حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً، وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ. أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ، ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (النور: 39، 40). يشبه الله تعالى ما قد يبدو أنه مبرور من أعمال الكفار، في عدم فائدته وانقطاع الجدوى منه- إذ كان مؤسسا على باطل من الكفر بالله عزّ وجلّ- بمثالين اثنين، أحدهما سراب (¬2) يراه الناظر بالفلاة، وقد غلبه العطش فيحسبه ماء، حتى إذا أضنى نفسه في المجيء إلى مكانه ضاع عنه ¬

_ (¬1) الكشاف: 1/ 212 و 213. (¬2) السراب: ما يرى في الفلاة من ضوء الشمس وقت الظهيرة يسرب على وجه الأرض كأنه ماء يجري. والقيعة والقاع المنبسط المستوى من الأرض.

ولم يجده شيئا. ويمزج البيان الإلهي في آخر هذا التمثيل بين المشبّه والمشبه به، أو قل إنه يؤلف بينهما في الربط بنهاية واحدة، وذلك عند ما يقول: ووجد الله عنده فوفّاه حسابه. فقد كان الحديث إلى ما قبل هذه الجملة عن ظمئان اغترّ بسراب، وفي نهاية المثل اتضح أن الظمآن لم يكن غير هذا الكافر الذي اغترّ بظاهر أعماله الإنسانية، وراح ينتظر ثمراتها وآثارها الخيّرة، حتى إذا جاء يوم الحساب وحانت ساعة القطاف، راعه أنه لم يجد لأعماله الصالحة أثرا، بل وجد بدلا منها إله الذي لم يكن يتوقع أن يراه، ووفّاه حسابه على الحقائق التي كان يبطنها في قلبه لا على المظهر الزائف الذي كان يتجلى به بين قومه وأصحابه. أما المثال الثاني فهو بحر هائل بعيد الغور تكاثفت فوقه ظلمات متراكمة تألفت من ظلمة البحر ذاته وظلمة أمواجه العاتية وظلمة السحب الداكنة من فوقه؛ فهي ظلمات ثلاث تراكمت بعضها فوق بعضها إلى أن غشيت جو السماء وكاد الرجل أن يضلّ فيها حتى عن ذاته. وإنما الظلام في المعنى الممثّل له ظلام الكفر بالله عزّ وجلّ؛ وإنما القصد أن الكفر إذا حاق بالقلب اصطبغت الأعمال كلها بلونه وتأثرت بظلامه ولم يعد في شيء منها بصيص ضياء، فهي لا تزيد صاحبها إلا ضلالا ولا تكسبه إلا مزيدا من الغواية والخذلان! ... والمثل- كما تعلم- لا يعرفه إلا من يعبر المحيطات من البحارة وأمثالهم، فهناك يتكاثف مثل هذا الظلام تبعا لحالات وظروف معينة فهو شيء لا يعرفه سكان الجزيرة العربية ولا ما حولها. فالتمثيل به ينطوي على دليل من أهم أدلة الإعجاز، ويؤكد ما ينبغي أن يعلمه كل مسلم من أن هذا الكتاب إنما هو كلام الله عزّ وجلّ، لم يتدخل في صياغة شيء منه أي بشر من الناس كائنا من كان. 3 - قال الله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها، فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ، وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ

وَاتَّبَعَ هَواهُ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ، ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (¬1). ضرب الله تعالى هذا النبأ مثلا لكفار بني إسرائيل، إذا علموا نبوّة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم حتى إنهم كانوا يستفتحون به على المشركين، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به. والنبأ في الآية، نبأ واحد من علماء بني إسرائيل وقيل من الكنعانيين اسمه بلعام بن باعوراء، أوتي علم بعض كتب الله تعالى، ولكنه انسلخ منها وركب متن الضلالة، إذ أخلد إلى متاع الدنيا وفضّل الركون إلى أهوائها وشهواتها. فلم ينفعه إذ ذاك علمه. وغدا في تعلقه بالدنيا كالكلب يلهث في كل حال إن جاع أو شبع، إن اهتاج أو ترك، وهو من أبرز الحيوانات التي تعرف بهذا الشأن. أي فغدا الرجل يلهث وراء الدنيا ومغانمها في كل حال لا يقعده عن ذلك شبع ولا غنى. فمثل هؤلاء اليهود في ضلالتهم عن الحق الذي لم يجهلوه، بسبب ميلهم إلى المغانم الدنيوية، كمثل ذلك الرجل الذي لم ينفعه علمه لما أخلد إلى الدنيا وأهوائها، بل لم يعد يغنيه امتلاؤه وشبعه عن مواصلة السعي وراءها والانحطاط في شهواتها. وهذا المثل- كما ترى- منتزع من قصة واقعة، وليس مجرد فرضية مؤلفة. فهو مثال وقصة بآن واحد، وإنما عدّدناها في الأمثال لا في القصص لأنها سيقت مساق المثل، إذ جردت من تفاصيلها القصصية واعتصرت منها معالم العبرة مكثفة موجزة، ولأن الله سمّاه مثلا إذ قال في نهاية الآية: ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا. ومن هذا القبيل قوله عزّ وجلّ: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (¬2) إلى آخر ¬

_ (¬1) الأعراف: 175 - 176. (¬2) الكهف: 31 - 42.

قوله تعالى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ... الآية. فهي قصة ذات تفصيل وأحداث ومراحل، ولكنها سيقت مساق المثل فكانت مثالا من أمثلة القرآن، وكانت في الوقت نفسه قصة واقعة يجب التصديق بها. ومنه أيضا قوله عزّ وجلّ: إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ ... (¬1) إلى آخر الآيات. فهي أيضا قصة واقعة ولكنها سيقت مساق المثل ولم تورد على أساس مجرد الإخبار عنها. ولقد اشتهى بعض الكاتبين أن يصطنع اللبس بين المثل الفرضي الذي يورده القرآن والقصة الواقعية التي يخبر عنها، ثم حلّ المشكلة المصطنعة بأن اعتبر قصص القرآن كلها مجرد أمثال سيقت للبيان والتقريب، ولم تذكر للحمل على التصديق بما في مضمونها! .. والحقيقة أنه لا يوجد أي لبس بين المثال الفرضي والقصة الحقيقة، وما رأينا عالما ولا مفسرا ممّن مضى قبلنا أحسّ بشيء من هذا اللّبس أو تكلم عنه. فما من عاقل إلا وهو يدرك أن قصة يوسف، وموسى، ونوح، ومريم، وعاد، وثمود، ومدين، أخبار ثابتة لا يلحقها الريب ولا يطولها التأويل، وما من قصة منها إلا ويوجد بين يديها أو من خلفها ما ينبّه القارئ إلى واقعيتها وصدقها وإلى أنها ليست فرضية من فرضيات الوهم والخيال، وكقوله تعالى: نحن نقصّ عليك نبأهم بالحق (¬2). وكقوله: نحن نقصّ عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن (¬3). وكقوله عزّ وجلّ: ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون (¬4). وكقوله: تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين (¬5). ¬

_ (¬1) ن: 17 - 32. (¬2) الكهف: 13. (¬3) يوسف: 3. (¬4) يوسف: 102. (¬5) هود: 49.

ولكن الكاتب الذي فعل هذا، شاقه أن يخلد سخافة صاحب «في الشعر الجاهلي» عسى أن يطبّل الناس له، كما قد طبّلوا لذاك، سواء جاء ذلك التطبيل ضربا على القفا أو صفعا من الأمام، ما دام أنه تطبيل يذهب بالصيت ويشهره بين عامة الناس. وبعد، فأحسب أنني لست بحاجة إلى أن أطيل في عرض النماذج من أمثلة القرآن. فالاستقصاء عسير، والنموذج يكتفي فيه بأقلّ مما أوردناه. والغرض أن تدرك من وراء هذا الذي ذكرناه مدى أهمية الأمثلة في كتاب الله تعالى، وقد أفردها بالتأليف الإمام أبو الحسن الماوردي (364 - 450) وأن تتنبه إلى أن جانبا كبيرا من الإعجاز القرآني إنما يطلّ من هذه الأمثال من ناحيتي الأسلوب والمضمون، وأن تعلم بأن المعنى مهما ألبس ثوبا مطرزا من البيان والإشراق، فإنه يظل بعيدا عن مرأى العين والخيال حتى يتجسد في مثال مما يمسّه الحسّ والشعور. ولأضع أمامك تحقيقا لهذا الحق وخاتمة لهذا البحث، وهو خلاصة ما قاله الشيخ عبد القاهر الجرجاني في هذا المقام: [واعلم أن ما اتفق العقلاء عليه أن التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني أو أبرزت هي باختصار في معرضه، ونقلت عن صورها الأصلية إلى صورته، كساها أبّهة، وكسبها منقبة، ورفع من أقدارها وشبّ من نارها ... فإن كان مدحا كان أبهى وأفخم ... وإن كان اعتذارا كان إلى القبول أقرب وللقلوب أخلب، وإن كان وعظا كان أشفى للصدر وأدعى إلى الفكر ... وإن أردت أن تعرف ذلك، فانظر إلى قول البحتري: دان على أيدي العفاة وشاسع ... عن كل يد في الندى وضريب كالبدر أفرط في العلو وضوؤه ... للعصبة السارين جدّ قريب وفكّر في حالك وحال المعنى معك، وأنت في البيت الأول لم تنته إلى الثاني ولم تتدبر نصرته إياه وتمثيله له فيما يملي على الإنسان عيناه ويؤدي إليه

ناظراه، ثم قسهما على الحال وقد وقفت عليه وتأملت طرفيه، فإنك تعلم بعد ما بين حالتيك، وشدّة تفاوتهما في تمكّن المعنى لديك، وتحبّبه إليك، ونبله في نفسك؛ وتوفيره لأنسك، وتحكم لي بالصدق فيما قلت، وبالحق فيما ادّعيت] (¬1). ¬

_ (¬1) من أسرار البلاغة للشيخ عبد القاهر الجرجاني باختصار: ص 101 و 102.

القصة في القرآن أغراضها، خصائصها

القصّة في القرآن أغراضها، خصائصها موضوع القصة في القرآن، يشترك مع موضوعات القرآن الأخرى، في القصد إلى تحقيق الغرض الكلّي الذي تنزل القرآن من أجله. فللقصة في القرآن إذا غرض أساسي، هو تحقيق المعنى الكلي الذي جاء به القرآن إلى الناس. ولكنّ لها، إلى جانب ذلك، أغراضا فرعية، لا تخرج في هدفها الأول عن ذلك الغرض الأساسي. ونحن نلخص هذه الأغراض في ثلاثة أمور: الأمر الأول: إثبات الوحي الإلهي والرسالة النبوية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقد كان عليه الصلاة والسلام، كما علمت، أميّا. وقد علم التاريخ ورجاله أنه لم يقصد إلى أحد من علماء اليهودية أو النصرانية يسمع منهم أخبار عيسى وموسى وغيرهما من الأنبياء السابقين عليهم صلوات الله وسلامه. ولو فعل ذلك، لما كتمه عن الناس ولا موّه عليهم، كيف وقد عرف بين قومه طوال أربعين سنة من العمر بالأمانة والصدق والوفاء مع الناس. فلما جاء القرآن بقصص الأنبياء السابقين والأمم الغابرة، على نحو يتفق جملة وتفصيلا مع ما أثبته التوراة والإنجيل من عرض تلك الأخبار والقصص، كان ذلك دليلا لا يقبل الشك بأن هذا القرآن ما كان حديثا يفترى، ولكنه وحي من الله عزّ وجلّ (¬1). ¬

_ (¬1) انظر مبحث تاريخ الوحدانية في كتاب الظاهرة القرآنية لمالك بن نبي ص: 194 وما بعد.

الأمر الثاني: العبرة والموعظة

ولتنبيه الناس إلى هذه الدلالة، يعقب الله عزّ وجلّ على كل قصة ينتهي من عرضها بما يثير الانتباه إلى أن هذه المعلومات لا يمكن أن تكون قد أتت إلى محمد عليه الصلاة والسلام إلّا من نافذة الوحي المجرد فهو يقول بعد الانتهاء من ذكر قصة مريم وولادتها وكفالة زكريا لها: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ، وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (¬1) ويقول بعد عرض قصة يوسف بتفصيلها الواسع المعروف ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ، وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (¬2). ويقول، بعد ذكر قصة موسى وفرعون وما يتعلق بهما من أخبار: كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (¬3) ويسرد علينا قصة موسى نفسها بتفصيل أوسع، وأسلوب مختلف في سورة القصص، حتى إذا انتهى من بيانها وتصويرها، عاد يخاطب محمدا عليه الصلاة والسلام بهذه الآيات: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ، وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ. وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ، وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا، وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (¬4). الأمر الثاني: العبرة والموعظة ، وتأتي في أحد مظهرين: الأول: بيان مدى قدرة الله تعالى وبالغ جبروته وسطوته، والكشف عمّا حاق بالأمم الماضية من فنون العذاب والهلاك، لتجبّرها وعنادها واستكبارها ¬

_ (¬1) آل عمران: 45. (¬2) يوسف: 102. (¬3) طه: 99. (¬4) القصص: 44 و 45 و 46.

على الحق. للتنبيه على أن مثل ذلك يوشك أن يقع بمن أبى إلا أن يمشي على دربهم متّبعا خطاهم. ومن الأمثلة على ذلك، تلك القصص المتتالية السريعة التي تقرأها في سورة: القمر. فقد سيقت على هذا المساق، وهو الكشف عن جبروت الله وبالغ قدرته، وأن أخذه للظالمين أليم شديد. ولذلك تجده عند ما ينتهي من عرضها، الواحدة إثر الأخرى، ومن بيان ما حاق بكل أمة من الأمم الباغية من أنواع الدمار المختلفة، يتجه بالخطاب إلى الناس قائلا: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ؟ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ؟ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (¬1). ومن ذلك ما تقرأه من قصص الأمم الغابرة في سورة هود، فقد أريد منها التنبيه إلى ضرورة عدم الاغترار بشيء مما يتخيله الإنسان في نفسه قوة أو علما أو سلطانا، وإلى أن الله تعالى إنما يمهل ... فإذا شاء أخذ. وإذا أخذ لم يفلت. ولذلك ختم البيان القرآني تلك القصص بهذه الآيات: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ، مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ. وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (¬2). المظهر الثاني: التنبيه إلى أن الدين السماوي الذي بعث به الأنبياء واحد، وأن رسالات الرسل والأنبياء واحدة لا تعارض فيها ولا اختلاف. ومن أمثلة ذلك، ما تقرؤه في سورة مريم من قصة عيسى عليه الصلاة والسلام وكيفية ولادته، فهو يقول في آخرها: ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ، ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (¬3). ¬

_ (¬1) القمر: 53 و 44. (¬2) هود: 100 و 101 و 102. (¬3) مريم: 34 و 35.

الأمر الثالث: تثبيت فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم في مجال الدعوة

ومن ذلك ما تقرأه في سورة الأعراف، من قصة عاد وثمود وأهل مدين، فهو يبدأ قصة كلّ من هذه الأمم ببيان أنه سبحانه وتعالى أرسل إليها رسولا يخبرها بوجود الله تعالى وأنه واحد لا شريك له. فهو يقول: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (¬1). ثم يقول: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ .... وإنما ذلك، ليتبين أن بعثة هؤلاء الرسل إنما كانت لتأكيد حقيقة واحدة لا خلاف حولها؛ بل إنه لا يجوز اختلافهم حولها، ما دام جميعهم أنبياء ورسلا صادقين. الأمر الثالث: تثبيت فؤاد الرسول صلّى الله عليه وسلّم في مجال الدعوة ، وحمله على الصبر على ما قد يراه من أذى قومه له، وبيان أن الله عزّ وجلّ ينصر رسله مهما نزل بهم من العذاب وطاف حولهم من البلاء. ولا شك أن في ذكر أخبار الأنبياء من قبله وما كابدوه من إيذاء قومهم، ثم نصر الله عزّ وجلّ لهم، ما يدعوه إلى التحمّل والصبر ويبثّ في قلبه روحا من الطمأنينة والنشاط. تقرأ من الأمثلة على ذلك قوله تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ... (¬2). وقوله تعالى: اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ، إِنَّهُ أَوَّابٌ (¬3). وليس معنى هذا الذي ذكرناه من أغراض القصة القرآنية، أن هذه ¬

_ (¬1) الأعراف: من 65 إلى 93. (¬2) الأحقاف: 35. (¬3) ص: 17.

منهج القصة في القرآن:

الأغراض موزّعة على النصوص القصصية في القرآن بحيث ينفرد كل نص منها بغرض، بل المراد هو اجتماع هذه الأغراض، أو الحكم، التي ذكرناها معا في مختلف النصوص القصصية في كتاب الله تعالى. فهذا القدر الذي ذكرناه، يكفي في بيان أهداف القصة في القرآن. منهج القصة في القرآن: للقصة في القرآن منهج فريد، لا يشبه أي أسلوب من الأساليب المعهودة للقصة. وهي تتبع في ذلك الأغراض التي سيقت من أجلها، مما عرضنا له آنفا باختصار، فقد تبين لك أن القصة في القرآن ليست عملا فنيا مقصودا لذاته، وإنما هي مسوقة لغرض ديني مهما تنوعت أقسامه وتفرعت أشكاله. غير أنك قد علمت أن القرآن يتخذ من الجمال الفني أداة لتحقيق هذا الغرض، وما الإعجاز في مجموع مظاهره وأنواعه إلا أداة أيضا لتحقيق المقصد الديني. فإن المتأمل إذا أدرك إعجازه آمن بأنه من عند الله، وإذا آمن بذلك اعتصم به وتمسك بما جاء فيه. وهكذا، فإن المنهج الذي تسير عليه القصة في القرآن أثر من آثار الغرض الذي سيقت من أجله؛ وهو منهج يقوم- في الوقت نفسه- على أروع مظاهر الجمال الفني والإشراق البياني. ويمكن أن نلخصها في المظاهر التالية: المظهر الأول: التكرار. فأنت تجد أن القصة الواحدة قد تكررت في القرآن مرات عديدة، كقصة موسى وفرعون، وكقصة نوح، وقصة خلق آدم. غير أن هذا ليس تعبيرا دقيقا عن هذه الظاهرة. فالذي يحدث، عند تكرار القصة أكثر من مرة في القرآن، ليس هو التكرار بمعناه المعروف. إنما الذي يحدث هو أن القرآن يتناول من القصة الواحدة في كل مرة جانبا معينا

فيها، وهو الجانب الذي تستدعيه المناسبة. وقد يحدث أن يتكرر عرض القصة نفسها أو عرض الجانب الواحد منها، بحسب الظاهر؛ ولكن تلك القصة أو ذلك الجانب منها ينطوي على عبر وعظات متعددة، فيقتضي الغرض الديني أن يعاد ذكرها عند ما تأتي مناسبة كل عبرة من عبرها، فتلبس القصة في كل مرة من الأسلوب والإخراج التصويري ما يناسب المعنى الذي سيقت بصدده، حتى لكأنّك منها أمام قصة جديدة لم تتكرر على مسامعك ولم تعرض أحداثها على خاطرك من قبل. وإذا أردت أن تقف على مثال لهذا فاقرأ سورة هود وأمعن فيما تجد فيها من قصص الأنبياء والأمم الغابرة ثم اقرأ سورة القمر، ففيها عود إلى تلك القصص نفسها، ولكنك تلاحظ من اختلاف الأسلوب والعرض وجرس الألفاظ ما يخيل إليك أنك أمام قصص وأخبار لم تكن تعلم بها، ثم إنك تجد فيها من المعاني والعظات ما لم تكن قد تنبّهت إليه في المرة الأولى. المظهر الثاني: الاقتصار من حوادث القصة على ما يتعلق به الغرض. ومن أجل هذا فإنك قلّما تجد القرآن يسرد حوادث القصة سردا تاريخيا، تبعا لسلسلة الوقائع والأحداث. لأن ذلك يبعد القصة عن مقصدها الذي أوضحناه. ولنعرض أمثلة لذلك، قصّ علينا القرآن في سورة (الكهف) قصة أصحاب الكهف، فبدأها بهذه الآيات. نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ، إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً، وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً، هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً، لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (¬1). فأنت ترى أنه بدأ فوصف أصحاب الكهف بأنهم فتية انفردوا عن أقوامهم بالإيمان بالله عزّ وجلّ ووحدانيته مخالفين ما عليه سائرهم من الشرك ¬

_ (¬1) الكهف: 13 و 14 و 15.

والكفر، وأنهم من أجل ذلك عزموا على أن يعتزلوهم ويخرجوا من بينهم. ثم تمضي القصة على هذا المنوال. فمن هم هؤلاء القوم؟ وفي أي بلدة كانوا يسكنون؟ وكم كان عدد هؤلاء الفتية؟ وما هي أسماؤهم؟ هذه أسئلة كان من مقتضى السرد التاريخي أن تجيب القصة عنها، ولكنها لو أوضحت ذلك وسارت في تتمتها على هذه الطريقة لما وفت بالغرض الديني الذي تستهدفه، ولانصرف فكر القارئ إلى تتبّع أحداث تاريخية يريد أن يعرفها، ولغفل بذلك عن العبرة والعظة التي سيقت القصة من أجلهما. وعند ما يقصّ علينا القرآن قصة خلق آدم، وسكناه في الجنة ثم نزوله إلى الأرض، لا يتحدث عن وصف نزوله إلى الأرض وحياته فيها بأكثر من قوله: قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ، فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (¬1). ففي أي مكان من الأرض نزل؟ وكيف كانت معيشته وسكناه إذ ذاك؟ إن الاجابة على مثل هذه الاستيضاحات، وإن كانت مما يتشوف إليه الفكر، من شأنها أن تقصي القارئ عن الانتباه إلى المقصود من سرد القصة. فحسبه، لكي لا يشتّ ذهنه وراء الأحداث التاريخية، أن يعلم من القصة ما يحمله على الانصياع للمقصد الديني الذي تنطوي عليه. ولكن ربما اقتضى الغرض في بعض الأحيان أن تسرد القصة من أولها إلى آخرها، وأن يسير البيان القرآني في عرضها بأسلوب يتتبع سلسلة الوقائع والأحداث مع التعرّض لبيان كثير من جزئيات القصة التي لا تكاد تنطوي في الظاهر على عبرة أو فائدة توجيهية. وذلك عند ما يكون الغرض الرئيسي هو إثبات الوحي الإلهي وتأكيد نبوّة الرسول عليه الصلاة والسلام، أو عند ما يكون الغرض تصحيح قصة أو حادثة تاريخية وقع فيها خلط أو لغو. فمن قبيل الأول، قصة يوسف عليه السلام، فقد عرضت عرضا ¬

_ (¬1) طه: 123.

تفصيليا تضمن حياة يوسف وتاريخها منذ طفولته إلى وفاته، وإنك لتجد في عرضها كثيرا من الصور الجزئية يتناولها القرآن بالكشف عنها، مما لا تكاد تجده في عرض القصص الأخرى. والمقصود من ذلك تنبيه الأذهان إلى الوحي الذي يؤيّد به الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فيطلعه على ما لم يكن يعرف من قبل. ومن قبيل الثاني قصة مريم في سورة آل عمران، وقصة ولادة عيسى عليه الصلاة والسلام في سورة مريم. ففي كلّ من السورتين سرد تفصيلي للقصة وسير طبيعي مع مراحلها الواقعية، وكشف لمختلف الجوانب المتعلقة بها، إذ الغرض من عرض القصتين تصحيح ما ادّعاه بعض أهل الكتاب من بنوّة عيسى بن مريم لله عزّ وجلّ، فاقتضى ذلك عرض حقيقة الواقعة عرضا مفصّلا شافيا يزيل الغموض والإشكال ويكشف بطلان ما توهمه بعض الناس. المظهر الثالث: إقحام النصائح والعظات في ثنايا القصة، وهو مظهر عام يشمل شتى الموضوعات القرآنية كما أوضحنا فيما مضى. فالقرآن لا يدع القارئ يندمج مع موضوع من مواضيعه وينصرف إليه بكل تفكيره، دون أن يفصل بين أجزائه بفواصل من العظات تنبهه إلى المقصود من كل هذه المباحث، وتربط على قلبه برباط من الخشية والمراقبة الإلهية عند قراءتها والتأمّل فيها. فمن أجل ذلك لم تكن في القرآن فصول خاصة في التشريع، وفصول خاصة في سرد المغيبات من جنة ونار وما يتعلق بهما. وقد أوضحنا هذا عند الحديث عن خصائص الأسلوب القرآني فارجع إليه إن شئت. ولنضع أمامك الآن بعض الأمثلة لدمج عبارات الموعظة والتذكير بخشية الله في ثنايا القصة وخلال سردها. يقول الله تعالى في سورة طه، أثناء عرضه لقصة موسى مع فرعون: قالَ فَمَنْ- رَبُّكُما يا مُوسى، قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى، قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى، قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ

السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى، كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى، مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (¬1). فقد تحولت الآيات هنا عن القصة وسردها إلى التذكير بعظمة الله ومظاهر ألوهيته ودلائل وجوده؛ حتى إن ضمير الخطاب فيها تحول عن خطاب موسى لفرعون إلى خطاب الله للناس كلهم كما تجد في سرد الآيات. وفي سورة الكهف، تتابع الآيات عرض قصة أصحاب الكهف، وفي أثناء ذلك تلتفت عن القصة لتخاطب الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين ببعض الأوامر والعظات: يقول الله تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ، وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ، قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ، فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً، وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (¬2). فأنت ترى كيف هيّأت الآيات أثناء عرض القصة مناسبة لتوجيه هذه العظات إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليسمعها المسلمون فيتعظوا ويتمسكوا بها، ثم ما هو إلا أن يعود السياق إلى تتميم القصة بعد ذلك. المظهر الرابع: العرض التصويري، فأسلوب القرآن عند ذكر قصة من القصص، لا يخبرك عنها إخبارا ولكنه يمرّ بشريط حيّ لها على مخيلتك وإحساسك، وقد تحدّثنا عن التصوير في القرآن وعرضنا أمثلة له، فإذا كان ذلك جليّا في عامة بحوث القرآن، فإنه ليزداد جلاء وقوة عند عرض قصة أو مشهد من خبر. ولا نطيل في إيضاح هذا الأمر بعد الذي ذكرناه في الفصل السابق، ولكن ما عليك إذا أردت أن تقف على التصوير القرآني في القصة إلا ¬

_ (¬1) طه: 49 - 54. (¬2) الكهف: 22 و 23 و 24.

أن تعود إلى ما كتبه المرحوم سيد قطب في ذلك في كتابه «التصوير الفني في القرآن». المظهر الخامس: التنويع في الاستهلال بالقصة ووضع المدخل إليها، وأنت تعلم أن أهم مظاهر التشويق في القصة ينبغي أن يكون متجمعا وبارزا في أولها، حتى يندفع القارئ بذلك إلى المضي في استطلاعها والتأمل في مختلف مراحلها. فالقصة في القرآن، تبدأ في كثير من الأحيان، بأغرب مشهد يلفت النظر فيها، حتى إذا أثار ذلك انتباه القارئ، انطلق البيان القرآني في عرض سائر مشاهدها المتلاحقة، وقد يكون هذا المشهد الذي أقيم في مدخل القصة، متأخرا من حيث سلسلة الوقائع والأحداث المتلاحقة فيها، فيعمد البيان القرآني العظيم إلى استدراك ما تركه من قبل، ويعرضه خلال القصة بمناسبة ما، وفي إطار يزيد من جمال العرض وروعته. ولنقرأ- مثالا لذلك- قصة موسى وفرعون في أول سورة طه. انظر إلى هذا المشهد الذي افتتح به مدخلا للقصة: وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (¬1). لا ريب أنه كما ترى، مشهد يلفت النظر ويبعث على الانتباه والتطلّع إلى ما وراءه. ولكن البداءة به فوّتت- كما ترى- على القارئ معرفة ما سبق ذلك من الأحداث؛ فيستدركها البيان القرآني في ثنايا العرض ويصوّرها للقارئ وكأنها قصة ضمن قصة. وانظر كيف حانت المناسبة، وكيف عادت القصة إلى عرض الأحداث من أولها بمناسبة معينة. فعند ما ذهب موسى إلى حيث رأى النار المشتعلة، سمع هناك نداء الله عزّ وجلّ يكلّمه ويضعه أمام مسئولية الرسالة التي سيكلف بها، ¬

_ (¬1) طه: 7.

فيقول موسى إنه وحده ضعيف عن تحمّل هذه المهمة الشاقة، فليكن أخوه هارون معينا له ومساعدا في ذلك. فيجيبه الله إلى ذلك ويذكره ممتنّا بنعمه التي أسبغها عليه منذ ولادته إلى اليوم، وهكذا تأتي المناسبة وتعود القصة من أولها بهذا الشكل: قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى. وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى، إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى. أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ، فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ، وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي، إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ، فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً، فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (¬1). ولعلّه لا يخفى عليك أن هذا الأسلوب في عرض القصة يعتبر من أحدث الأساليب الفنية في إخراج الروايات والقصص كتابة وتمثيلا. غير أن هذا الأسلوب لا يعتبر الطريقة المفضلة دائما، فقد يكون العمل الفني بالنسبة لبعض القصص يحتاج إلى طريقة أخرى في الاستهلال والعرض. فمن ذلك أن ينتزع أهم مظاهر العبرة من القصة، فتصاغ بشكل خلاصة لها، ثم يوضع تمهيدا ومدخلا إليها. وذلك كالطريقة التي ابتدأت بها قصة أهل الكهف. فقد مهّد لها أولا بهذه الخلاصة عنها: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً، إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً. ثم بدأ يعرض تفصيلها قائلا: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً ... (¬2) الآيات. ¬

_ (¬1) طه: 36 - 4. (¬2) الكهف: 9 - 13.

ومن ذلك أن يمهد لها بعبارات يكشف فيها عن حكمة أحداثها وسبب وقائعها، لتتجسد بذلك العبرة التي ينبغي أن تؤخذ منها، حتى إذا تنبّه فكر القارئ إلى ذلك بدأ يسرد عليه القصة وهو متيقظ لمراميها ومكان الهداية منها وذلك كالأسلوب الذي مهّد به لقصة موسى وفرعون في أول سورة القصص. فقد ذكر الله جلّ جلاله بين يدي القصة هذه الآيات الممهدة: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ، وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ، إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (¬1). المظهر السادس: العرض التمثيلي الذي يعتمد على إبراز المشاهد جليّة مشرقة أمام الناظر أو المتخيل، ويطوي ما بينها من الروابط البدهية اعتمادا على سير المخيلة وتصورها. وأنت تعلم أن القصة إذا ما أريد عرضها بأسلوب تمثيلي حيّ، فلا بدّ فيها من طيّ تلك الأحداث التي يقرضها الفكر والخيال بالبداهة، بل إن القيمة الفنية للقصة وحيويتها تقلّ كثيرا إذا ما شغل فكر الناظر أو السامع بالحديث عن تلك الروابط وتبيانها. والقصة القرآنية قائمة على هذه السمة والنهج دائما مهما كانت القصة أو كان موضوعها. انظر مثلا إلى قصة نوح التي وردت في سورة هود، وانتبه إلى قوله عزّ وجلّ فيها: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ، فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ. وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ... (¬2). فأنت تجد نفسك في أول هذه الآيات أمام الإخبار الإلهي الذي ينزل على ¬

_ (¬1) القصص: 3 و 4 و 5. (¬2) هود: 36 - 37 - 38.

نوح بشأن قومه وأمره إياه بأن ينصرف إلى إنشاء سفينة لينجو بها مع القلة من أصحابه المؤمنين فإن قومه مقدمون على هلاك بطوفان. ثم يسدل الستار على هذا المشهد ليبرز من ورائه مشهد آخر تبصر فيه نوحا عليه السلام وهو منهمك في صنع سفينة. ولا ريب أن بين المشهدين أحداثا طوتها القصة وهي عزم نوح على القيام بهذا الأمر، واستحضار المواد والوسائل لذلك؛ ولكنها أحداث جزئية يستقل بها الخيال فلا ينبغي أن يفسد بذكرها عرض القصة. وانظر مثلا إلى قصة موسى وفرعون في سورة طه، حينما يأمر الله موسى عليه الصلاة والسلام، وهو واقف في المكان الذي آنس منه النار ليلا، بأن يذهب إلى فرعون فيبلغه أمر الله عزّ وجلّ: قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى. قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى، قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (¬1). فأنت في أول الآيات، أمام مناجاة بين موسى وربه جلّ جلاله، يأمره الله فيها كما ترى بالذهاب مع أخيه هارون إلى فرعون لتذكيره وتبليغه أمر الله عزّ وجلّ، ويطمئنهما بأنه لن يصيبهما منه أي مكروه، ثم ينطوي هذا المشهد. ويبرز عقبه تماما مشهد آخر تجد فيه كلّا من موسى وفرعون وجها لوجه في مناقشة حول حقيقة الله عزّ وجلّ ودلائل وجوده؛ وهو المشهد الذي يبدأ بقوله جلّ جلاله: قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى. أمّا ما بين هذين المشهدين، من ذهاب موسى إلى مصر ووسائل ذلك ثم طريقة التوصل إلى فرعون، ثم عرض الدعوة إلى الإسلام عليه، فهو شيء معلوم يستقل بتصويره الحسّ والخيال، وليس من الدقة الفنية في شيء الاهتمام بعرض ذلك وسرده على السامع أو الناظر. وحسبنا هذا القدر من الحديث عن الخصائص الفنية للقصة في كتاب الله ¬

_ (¬1) طه: 46 و 47 و 48.

القيمة التاريخية لقصص القرآن:

عزّ وجلّ، وإن كان الحديث في ذلك يطول، ولكن كتابنا هذا مبني كما قلنا على إعطاء فكرة موجزة عن كل ما يتعلق بالقرآن. تلك هي المظاهر الفنية لمنهج القصة في القرآن. وهي كما رأيت وليد الغرض أو الهدف التربوي الذي تدور القصة القرآنية على محوره. أي فالعمل الفني في القرآن ليس هدفا ذاتيا، كما هي الصورة في أذهان كثير ممّن يتحدثون عن الفن أو يمارسونه بشكل أو بآخر ... وإنما القيمة الفنية في القرآن عموما وفي موضوع القصة خصوصا، خادم لتحقيق الهدف التربوي، وإدخال المضمون القرآني من أيسر طريق إلى مقر اليقين من العقل ومكمن الوجدان من القلب. ... القيمة التاريخية لقصص القرآن: هل يحتاج هذا العنوان إلى بحث؟ إنك لو علمت أن النظر في كل موضوع أو بحث، إنما يتم عن طريق المنطق والعقل المتجرد الحر، لأدركت أن هذا العنوان كلام غريب، وأن كتابة صحيفة أو صحيفتين تحته تضييع للوقت ومعابثة للبديهيات. ولكنك تعذرني في أن أكتب في البدهيات، حينما تعلم أن كثيرا من البدهيات أصبحت في عصرنا نظريات قابلة للجدل والبحث. إن العقل البشري لم يمرّ بمحنة كتلك التي يمرّ بها في هذا العصر، وحسبك مظهرا من مظاهرها أن تقام فرضيّة ما طبق غرض معين أو شهوة نفسية أو حقد مستحكم، ثم يساق إليها العقل سوقا، فيراد على تأييد الفرضية ودعمها ولو بزيف من الأدلة والبراهين، ثم يراد على تفنيد ما يخالفها ولو بزيف من الأدلة والبراهين أيضا. وكم من فرق بين أن ينطلق الإنسان من نقطة الصفر، ليسير من وراء ما يهديه إليه عقله المتجرد الحر، وبين أن يخطّ بغريزته السبيل التي يشتهيها ثم

يعمد فيقود عقله فيها، مكبّلا بالأغلال مسيّرا تحت لهيب السياط! ... ومع هذا، فلم أكن أتصور أني بحاجة إلى أن أبحث شيئا ما تحت عنوان: القيمة التاريخية لقصص القرآن، أو أن أنفق أيّ قدر من الوقت في البدهيات، إلى أن اطّلعت على كلام في منتهى الغرابة والعجب جاء في كتاب: الأدب العربي الحديث، من مقررات طلاب البكالوريا الأدبية (¬1). يقول الكاتب في صفحة: 302 تحت عنوان نماذج قصصية: (إن مكتبتنا العربية تتدفق بعباب زاخر من قصص وأحاديث ومحاورات وأسمار وخرافات يتجلّى بها وجه المجتمع العربي وتتوضح فيها سماته، وتختلج روحه وحيويته. فالقرآن الكريم أشار إلى كثير من القصص إشارات خاطفة ليبيّن مواضع العبرة منها. ولا شك أن إشارات القرآن الكريم إلى هذه القصص دليل على أنها كانت من القصص الشعبي السائر الذي يتداوله الناس في جزيرة العرب)!! .. دعك من الطريقة المقصودة إلى إيهام أن منبع القصص القرآني إنما هو ما كان يفيض به المجتمع العربي من خرافات ومحاورات وأسمار. ولكني أريد أن أعلم: في أيّ مصدر تاريخي أو أدبي أو ديني أو جغرافي أو فلسفي، ثبت أو أشير إلى أن ما جاء به القرآن من قصص عاد وثمود ونوح وفرعون ويوسف وأهل الكهف، إنما كان من القصص الشعبي السائر الذي كان الناس يتداولونه في أسمارهم ونواديهم ومحاوراتهم؟! .. بل حسبي أن أعلم اسم واحد فقط من العرب وقف أو جلس في ناد من نوادي العرب يتحدث بكلمة واحدة من أيّ قصة جاء بها القرآن من بعد ... حسبي ذلك لألمح بارقة لرائحة دليل علمي، لكي أسرع فأقول إن بالإمكان أن يكون هذا صحيحا!!. يا عجبا!! .. أيكون القرآن كاذبا من حيث صدق الكاتب؟!. القرآن يقول: ¬

_ (¬1) مما نحمد الله عليه أن هذا الكتاب ألغي أخيرا واستبدل به غيره، واختفى منه هذا الغشاء، إلا أنه لا يزال مغروسا في بعض الأذهان.

تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ، ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا، فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (¬1). أما الكاتب فيقول: لا شك أن إشارات القرآن إلى هذه القصص، دليل على أنها كانت من القصص الشعبي السائر الذي يتداوله الناس في نواديهم (¬2). أفكان في العرب من يسكت على قوله تعالى: ... ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ ... لو أنها كانت حقّا من القصص الشعبي الذي يتداوله العرب في أسمارهم؟ أو ما كانوا يتخذون من هذه الآية، إذا، راية يرفعونها ويتشبثون بها، ليعلنوا عن افتئات الرسول عليهم، وليشوهوا بها سمعته عند كل من يعرفه من الناس؟. فأين هم الذين أنكروا عليه هذه الآية؟. وأين هم الذين قالوا له: بل نحن نعرف هذه القصص قبل أن تحدّثنا عنها. وإنها من الأساطير التي تفيض بها مجالسنا ونوادينا؟. أين الذي قال هذا الكلام للرسول صلّى الله عليه وسلّم؟ وليكن واحدا فقط من جميع العرب، وليكن من خصومه الألدّاء، بل وليكن، إذا شاء هذا الكاتب، كاذبا مثله. فنحن نكتفي بأي كلمة، من أي عربي عاش في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم، تصلنا بأيّ سند صحيح أو ضعيف تكذّب النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذه الآية وتثبت عكسها من أن العرب كانوا يعلمون هذه القصص وأنها كانت من فكاهات أسمارهم ونواديهم. ¬

_ (¬1) هود: 40. (¬2) محل إنكارنا على هؤلاء، دعواهم أن العرب كانوا على علم بتفاصيل هذه القصص كما جاء بها القرآن. فلو قالوا: إنهم كانوا قد سمعوا من قبل بعناوينها أو بأبرز أحداثها على وجه الإجمال، كسماعهم باسم الطوفان، وعاد، وثمود، والفراعنة، لما كان في ذلك ما يستعظم ويدعونا إلى الإنكار.

وإلى أن يأتينا الكاتب بأيّ ثبت أو صورة ثبت من أي مصدر علمي يستر به سوأة كلمته العارية هذه، نقول له: لعلّك يا هذا نمت نومة ثقيلة صعد فيها إلى دماغك سحاب مركوم من أبخرة معدتك أو أحقاد نفسك، فحلمت أنك تسمر في مجلس المتنبي مسيلمة الكذاب وعن يمينه النبيّة الأخرى سجاح. وأخذت تسمع القرآن كلّ منهما، حتى استفزك الطرب وتملكتك النشوة من جمال ما تسمع، فصحوت وقد انطبع قرآنهما الكريم في خيالك! ... فعن ذلك القرآن جئت تقول هذا الذي تقول. ونعوذ بالله من أبخرة تستقر من الرأس في مكان العقل، فتجعل الرجل يفكر بالسمادير والأوهام بدلا من أن يفكر بالمنطق المشرق الصافي. ... وبعد، فما هي الوثائق التاريخية التي تعرف بها أحداث الجزيرة العربية وأوضاعها في صدر الإسلام؟ يجمع كل الباحثين على أن القرآن هو أول وثيقة في هذا الصدد. وما من باحث يدرس أحوال الجزيرة العربية في صدر الإسلام إلا ويضع القرآن أول مستند لدراسته وجمع معلوماته، مهما كانت عقيدة هذا الباحث في مصدر القرآن وجوهره. إذا ... كيف يجمّع الباحث المؤرّخ معلوماته عن الجزيرة على ضوء القرآن وأبحاثه وطابعه؛ حتى إذا وقف أمام أخباره عن الأمم الماضية وأحداثها ناقض نفسه قائلا: إن هذه الأخبار يعوزها السند التاريخي والميزان العلمي الصحيح؟!. سل جميع مؤرخي الشرق والغرب عن أول مصدر يعتمدون عليه في ما لهم من معلومات عن المسيح عليه الصلاة والسلام وعن موسى وخروجه من مصر واجتيازه (تيه سيناء) إلى فلسطين، يجيبوك إنه: الكتب المقدسة. أفتكون هذه الكتب مصدرا تاريخيا علميا نزيها، ثم لا يكون القرآن واحدا من هذه المصادر على الأقل؟! .. إن الأمر في هذا يعود إلى واحدة من اثنتين:

إمّا أن تؤمن بأن القرآن ليس أكذوبة سجّلها محمد صلّى الله عليه وسلّم على ربّه عزّ وجلّ وإنما هو كلام الله ووحيه إليه، بلّغه إلى الناس بصدق وأمانة. وعندئذ فإن التاريخ هو الذي يستمدّ من حديث القرآن وأخباره، وليس العكس، وليس لك من سبيل إلى الشك بأي حرف منه. وإما أنك لا تؤمن به كلاما من عند الله عزّ وجلّ، مهما قامت أمامك الأدلة والبراهين، وعندئذ نقول لك: لقد دلّ التاريخ بعمومه ودلّت السيرة النبوية بخصوصها، على أن ما جاء به القرآن من أخبار الأمم البائدة كان شيئا يجهله العرب جهلا تامّا، وإنما كان يعلم بعضا منه أهل الكتاب الذين درسوا التوراة والإنجيل. وقد كان اليهود هم الذين يساكنون العرب في جزيرتهم، وكانوا- كما هو معلوم- ضنينين بما عندهم من هذه المعلومات، ولم يكونوا يبوحون بها إلى غيرهم بأيّ شكل ولأي سبب. وهذه الحقيقة التي لا ينكرها أيّ مثقف منصف، هي التي كوّنت معنى الإعجاز في القصص القرآني، فقد كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم أميّا لم يقرأ كتابا ولا خطّه بيمينه ولم يدرس أو يتردد على واحد من أهل الكتاب، وكانوا كما قلت ضنينين بكل ما عندهم. وقد تجلى هذا الإعجاز أول ما تجلّى لهؤلاء الكتابيّين الذين عاصروا بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم، حيث رأوا فيه أبرز برهان على صدق نبوّته ورسالته. روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال: بعث قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة ليسألوهم عن محمد، فخرجا حتى أتيا المدينة، فسألا أحبارها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووصفا لهم أمره وبعض قوله. فقالوا لهما: سلوه عن ثلاث، فإن أخبركم بهنّ فهو نبي مرسل، وإلا فرجل متقوّل: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم فإنهم قد كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طوّال بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟ فرجعا إلى قريش وأخبراهم بقول الأحبار، فجاءوا يسألون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأسئلة الثلاثة فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أخبركم غدا عمّا سألتم، ولم يقل: إن شاء الله. فتلبث الوحي

خمسة عشر يوما، وأحزن ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم جاءه جبريل بسورة الكهف، وفيها عتاب له على حزنه وفيها يقول الله عزّ وجلّ: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وفيها قصّ الله خبر أصحاب الكهف، والرجل الطوّاف وهو ذو القرنين، وأنزل معها قوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (¬1). فهذا الخبر يدلك على أن ما تضمنه القرآن من قصص الأمم الغابرة، حقائق تاريخية تعتمد على وثائق ومستندات لا تقل أهمية عن تلك المستندات التي يعتمدها الكافرون بنبوّة محمد صلّى الله عليه وسلّم وأن المشركين لم يكونوا على علم بها. فإن كنت تجحد بكل بحث تاريخي يعود إلى عصر الجاهلية وصدر الإسلام وتكذّب كل مرجع أو مستند فيه فلك شأنك ولنقاش ذلك مجال آخر، أما إن كنت تجحد بالقرآن وحده، من حيث تعتمد على روايات الشعر الجاهلي وفحواه واستنتاجاته، فإن من العبث العجيب والتناقض المضحك أن تعتمد على دلائل استنتاجية لا تقوم إلا على محض الخيال والوهم، ثم تلوي الرأس متشككا فيما يحدّثك عنه القرآن ويخبرك به. ولا ينبغي أن تلتبس عليك حقيقة القصة القرآنية بالأمثلة التي يضربها على سبيل التقريب والتشبيه. فلكلّ منهما أسلوبه المتميز، وليس في الناس من يجهل الفرق بين مثل يضرب به، وقصة تروى وتنقل. نقول هذا ونحن نعلم أن في الناس من يتجاهلون الفرق ويغمضون أعينهم عمدا، ثم يذهبون يقررون أن القصة في القرآن ليست أكثر من أمثلة تضرب. وبدهي أن أيّ عاقل لا يمكن أن يصل به الغباء واللّبس إلى درجة أن يتوهم أن قصة مريم وعيسى وهود ونوح وقصة موسى وفرعون، وأصحاب الكهف كلّ ذلك أمثلة تضرب. والخلاصة، أن من آمن بأن القرآن وحي من عند الله، علم بذلك أن ¬

_ (¬1) انظر سيرة ابن هشام: 1/ 295، وتفسير ابن كثير وابن جرير الطبري في أول سورة الكهف.

القصة القرآنية هي في موضع القطع الذي لا يلحقه أيّ ريب. ومن لم يؤمن بذلك، أدرك هذه الحقيقة نفسها إذا ما تأمل في مصادر السيرة والتاريخ وعلاقة القرآن بالكتب السماوية السابقة. أما من اشتهى أن لا يدرك هذه الحقيقة، فليس أمامه إلى ذلك إلا سبيل واحد، هو أن يدّعي أن القرآن يكذب! ... وذلك لأن القرآن يقول عن كل ما رواه من الأخبار والقصص: ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى، وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (يوسف: 111). أما نحن فنقول: صدق ربّ العالمين.

المنهج التربوي في القرآن

المنهج التّربويّ في القرآن مرة أخرى أكرّر ما قلته من أن القرآن إنما جاء ليتدبره الناس، فيصبحوا عبيدا لله بالطوع والاختيار، كما خلقهم عبيدا له بالفطرة والإجبار. ومن أجل هذا، كان لا بدّ أن ينهج بالناس نهجا تربويا في كل ما يأتيهم به من أخبار وآيات وعظات وأحكام. ومن أجل هذا كان هذا الكتاب أعظم مصدر للتربية إلى جانب أنه أعظم كتاب يقدّم للإنسان حقائق الكون كله. فما هو منهجه التربوي، وما هو أسلوبه في ذلك! .. إن الإجابة على هذا السؤال، تستدعي أن يفرد لذلك كتاب خاص، لا فصل مستقل من كتاب ... ولكنّا، وفاء بالمنهج الذي التزمناه، نسرع فنمر على بعض المظاهر التربوية في القرآن، مكتفين بدراسة وجيزة لها. المظهر الأول: أنه صبغ كل المواضيع التي طرقها وعالجها، بصبغة الهدي والموعظة والإرشاد. فلم ينسّق هذه المواضيع والأبحاث على أساس وحدات منفصلة ومستقلة عن بعضها، كما هو شأن عامّة الكتب والمؤلفات المعهودة، إذ هي بذلك لا تؤدي عملها التربوي المقصود في نفس الإنسان، وإنما بثّ في جميعها شرايين التوجيه والنصح والهداية، فصيّرها بذلك وحدة كاملة متضامّة تعمل عملا واحدا وتسير بالإنسان نحو غاية لا تختلف. ولا داعي إلى أن نأتي لك بالأمثلة على ذلك، فقد ذكرنا هذا البحث فيما مضى عند كلامنا عن خصائص الأسلوب القرآني وعن القصة في القرآن. المظهر الثاني: ما ذكرناه من التدرّج في الأحكام وكيفية أخذ الناس بها،

فالقرآن كما قد علمت لم يصبّ أحكامه وفرائضه في حياة الناس دفعة واحدة، لكنه سعى بهم إليها على مراحل وفي خطوات رتّب بعضها على بعض ومهّدت السابقة منها للّاحقة. وذلك كما قد علمت من دعوته الناس إلى العقيدة الصحيحة أولا، ثم إلى الإصلاح النفسي والاجتماعي ثانيا، وكما قد علمت من تدرجه في تحويل الناس عن عوائدهم وفواحشهم التي تعودوا عليها. المظهر الثالث: السير بالناس، في كل ما يلزم به من الأحكام، نحو السهولة واليسر؛ وإقناعهم بأن كل ما قد يتصورونه قيودا، ليس إلا أسسا لا بدّ منها لسعادتهم ولصلاح معاشهم ومعادهم، فهو يقول مثلا: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ، وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (¬1) ويقول: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (¬2) ويلفت نظرهم إلى أن الشريعة الإسلامية إنما تحمل إليهم في طيّبها سرّ الحياة السعيدة للفرد والجماعة فيقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ (¬3) ويقول: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (¬4). المظهر الرابع: أنه يضع المتأمل في آياته في حالة وسطى بين الخوف من عذاب الله تعالى، ورجاء رحمته وعفوه؛ وذلك كى لا يسيطر عليه من الرهبة والخوف ما يجعله في يأس من سعة عفوه، فيمضي بذلك في الطريق التي يشتهيها لاعتقاده بعدم الجدوى من الحذر والاستقامة، ولكي لا يفيض قلبه أملا بمعاني الرحمة والمغفرة وحدها، فلا يجد بذلك ما يصدّه عن ارتكاب أيّ منكر والانحراف إلى أيّ زلل. والقرآن يربي النفس البشرية هذه التربية باتباع أسلوبين: الأول: أنه حينما يصف الكفرة والمشركين الذين استحقوا عذاب الله ¬

_ (¬1) المائدة: 6. (¬2) البقرة: 185. (¬3) الأنفال: 34. (¬4) النحل: 98.

ونكاله يصفهم بأسوإ أعمالهم وأحطّ ما انتهوا إليه من الخصال، حتى إذا تأملت في حالهم رجعت إلى نفسك فقلت: أحمد الله على أني لست منهم ولم أبلغ مبلغهم في السوء والانحراف. وحينما يصف المؤمنين الذين استحقوا ثواب الله ورضوانه، يصفهم أيضا باسمى خصالهم وأفضل أعمالهم حتى إذا تأملت في حالهم، عدت إلى نفسك تقول في تألم وأسف: أين عملي من أعمالهم وأين تقصيري من سموّ درجاتهم. وبذلك تجد ذاتك في حالة وسطى بين الرجاء في عفو الله والخوف من عذابه. ولنضرب مثلا لتجلية هذا المظهر التربوي في كتاب الله عزّ وجلّ. انظر إلى هذه الآيات وهي تصف الأسباب التي أدّت إلى شقاء صنف من الناس يوم القيامة: يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ، ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ؟ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (¬1) فأنت إذا سمعت هذه الأوصاف حمدت الله على أنك لست منهم مهما كنت مخطئا ومقصرا. ثم انظر إلى هذه الآيات الأخرى وهي تصف الأسباب التي بها يسعد الناس في حياة خالدة يوم القيامة: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً، وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً ... (¬2) أو إلى هذه الآيات التي يقول فيها الله عزّ وجلّ: إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ، تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (¬3) فأنت إذا تأملت هذه الأوصاف، تضاءلت نفسك أمامك، وتبدّت لك منها مظاهر التخلّف والتقصير. ¬

_ (¬1) المدثر: 1 - 46. (¬2) الفرقان: 63 و 64 و 65. (¬3) السجدة: 15 و 16 و 17.

ومن هاتين النظرتين يتولد الخوف والرجاء ويتمازجان في حياة الإنسان؛ ويتولد منهما معنى يدفعه في سبيل معتدل يجمع فيها بين الوفاء بحق نفسه وحق الله عزّ وجلّ. الثاني: أنك لا تجد آية في كتاب الله فيها الحديث عن الجنة ونعيمها وعن الصالحين وما أعدّ الله لهم من المثوبة، إلا وتجد من بعدها آية فيها الحديث عن النار وهولها وعن الكافرين وما أعدّ الله لهم من العقوبة. ولا تكاد تجد في القرآن آية أو آيات قد انفردت يوصف الشدّة أو الرخاء دون أن يكون إلى جانبها آية أو آيات فيها وصف الطرف الآخر. والحكمة من ذلك أن لا يرهب الإنسان رهبة تقذف به إلى اليأس، ولا يرغب رغبة تغريه بالعقود والكسل. ولنضرب بعض الأمثلة على هذا: 1 - يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ، هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (¬1). 2 - إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ، هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ، لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ، سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ. وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ، أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ... (¬2). 3 - نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (¬3). 4 - قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (¬4). ¬

_ (¬1) ق: 30 و 31. (¬2) يس: 55 و 56 و 57 و 58 و 59 و 60. (¬3) الحجر: 49 و 50. (¬4) الزمر: 53 و 54.

وقس على هذه الأمثلة كل ما في القرآن من آيات الوعد والوعيد ووصف الجنة والنار، لا بدّ أن تجد الحديث عن كلّ منهما معادلا ومقارنا للحديث عن الآخر، ولا يمكن أن تعثر على أيّ شذوذ في ذلك. وهذه الظاهرة، من أدق مظاهر المنهج التربوي وأهمها في كتاب الله عزّ وجلّ إذ هي التي تضع الإنسان في مستوى العبودية لله عزّ وجلّ، حيث تشدّه إليه رغبة ورهبة بآن واحد؛ وهي النهاية التي ينبغي أن ينتهي إليها العبد بالنسبة لربه جلّ جلاله. وقد نبّه إليها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، خلال وصيته العظيمة لعمر بن الخطاب أثناء مرض موته. ولعلّ من المناسب أن نختم هذا الفصل بمقاطع منها: ... ألم تر يا عمر أنما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الحق وثقله عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه غدا إلا حق أن يكون ثقيلا، ألم تر يا عمر إنما خفّت موازين من خفّت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل وخفته عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه غدا إلا باطل أن يكون خفيفا. ألم تر يا عمر إنما نزلت آية الرخاء مع آية الشدة، ونزلت آية الشدة مع آية الرخاء، ليكون المؤمن راغبا راهبا لا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له، ولا يرهب رهبة يلقي فيها بيديه. ألم تر يا عمر إنما ذكر الله أهل النار بأسوإ أعمالهم، فإذا ذكرتهم قلت إني لأرجو أن لا أكون منهم، وإنما ذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم، لأنه تجاوز لهم عمّا كان من سيّئ، فإذا ذكرتهم قلت أين عملي من أعمالهم. فإن حفظت وصيتي فلا يكن غائب أحبّ إليك من الموت، وهو آتيك. وإن ضيعت وصيتي فلا يكن غائب أبغض إليك من الموت ولست بمعجز الله) (¬1). ¬

_ (¬1) البيان والتبيين للحافظ 2/ 45 هذا وقد أفردنا الحديث عن المنهج التربوي في القرآن برسالة مستقلة أدرجناها في سلسلة أبحاث في القمة، وعنوانها: (منهج تربوى فريد في القرآن).

النزعة الإنسانية في القرآن

النّزعة الإنسانيّة في القرآن القرآن كتاب عربي، نزل بلغة العرب، وصيغ بلهجة أوسط القبائل العربية: قريش. وكتاب هذا شأنه، كان ينبغي- له أنه ظهر في الأرض ولم ينزل من السماء- أن يتأثر تأثرا ما، من حيث مبادئه وأفكاره، بنزعة البيئة أو الإقليم أو القوم الذين ظهر بينهم وجاء بلغتهم، كما هو الشأن لعامّة الكتب والمؤلفات الأخرى. ولكنك لا تبصر من ورائه إلا السمة الإنسانية المطلقة، فهو في كل ما يصدر عنه من عقيدة وأخلاق وتشريع وعظات، إنما يقدم من ذلك كله ثوبا قد فصّل على قدر الحقيقة الإنسانية كلها أينما وجدت وكيفما تنوعت. ومهما نظرت في هذا الثوب، فلن تجد فيه أيّ مظهر لطابع البيئة أو القبيلة، سواء في شكله أو جوهره. وهذا ما نعنيه عند ما نصف القرآن بأنه: إنساني النزعة في كلّ من موضوعه وأسلوبه. فلنشرح هذا الوصف بالقدر الذي يفي بغرضنا من هذا الكتاب. أولا- النزعة الإنسانية في القرآن من حيث الموضوع: تتجلى النزعة الإنسانية في عامة موضوعات القرآن، فلنتلمسها في كل موضوع على حدة:

أ- العقيدة: أوضح القرآن وحدانية الله جلّ جلاله ومالكيته للعالم كله، دون تمييز بين رقعة وأخرى منه، ودون أن يخصّ بخطابه في هذا البيان فئة معينة. فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وقال: فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (¬1). وأوضح بعثة رسوله محمد عليه الصلاة والسلام إلى البشر كلهم، في بقاع الأرض، وفي كل الأزمنة التالية، دون أي نظرة خاصة في ذلك إلى الذين بعث من بينهم أو البيئة التي ظهر فيها فقال: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً (¬2) وقال: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (¬3) وقال: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً (¬4). وقرر عبودية الإنسان لله عزّ وجلّ، لا فرق بين عرق وآخر أو بيئة وأخرى ولم يلحظ في ذلك أيّ خصوصية أو امتياز بين العرب الذين كان الرسول منهم وبين أيّ جماعة أخرى من الناس. فقال: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً، لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (¬5) وقال: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (¬6). ولفت أنظار الناس إلى أدلة وجود الله ووحدانيته، فلم يقدم أي دليل يخصّ بيئة معينة، أو يوجد لدى قوم بخصوصهم، أو تفهمه طبقة دون سواها. وإنما عرض من ذلك ما يفهمه ويألفه كل إنسان وفي كل زمان ومكان. والآيات التي تتضمن الأدلة المختلفة على وجود الله ووحدانيته كثيرة ومشهورة، لا داعي إلى الإطالة بذكرها. فتأملها تجدها متجهة إلى الفكر الإنساني العام المتمثل في سائر الفئات والجماعات. ¬

_ (¬1) الجائية: 36. (¬2) الأعراف: 108. (¬3) الفرقان: 1. (¬4) سبأ: 88. (¬5) مريم: 93 و 94. (¬6) الأنعام: 18.

ب- التشريع: إذا أمعنت النظر، وجدت قانون كل أمة أو دولة أو جماعة من الناس، إنما يعكس طبيعتها وأعرافها ويتجاوب مع ظروفها فشريعة كل أمة إذا تعبير عن حاجتها ومتطلباتها فقط دون أيّ نظر إلى ما وراء حدودها. غير أن التشريع القرآني لا تجد فيه أيّ منزع إلى عرق أو طائفة أو جماعة ... وإنما هو ينبثق عن أسس ومبادئ إنسانية مطلقة، بحيث تأتي عامّة فروعه متطابقة معها في دقة واطّراد. ولنضرب أمثلة لإيضاح هذه الحقيقة: سورة النساء، من السور التي تفيض بالأحكام التشريعية المتعلقة بتنظيم الأسرة وحقوق المرأة، ونظام الحكم، وتقويم العدالة وضبط حقيقتها. فانظر كيف بدأت هذه السورة بوضع الركيزة الأساسية لتلك الأحكام كلها، وكيف لفتت أنظار الذين سينصتون إلى هذه الأحكام التالية، إلى أن المنطلق إلى تقريرها ووجوب الأخذ بها إنما هو النظر إلى مصلحة الأسرة الإنسانية المطلقة دون أي التفات إلى الظروف المتنوعة والمختلفة للبيئات والجماعات. وهذه هي الركيزة الأساسية: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (¬1). فالمنطلق لتقرير كل الأحكام والتشريعات إنما هو الرحم الإنسانية العامة. ففي سبيلها ستتلى الأحكام التالية، وعلى ضوئها ينبغي أن تفهم حقيقة المقررات التشريعية التي تفيض بها السورة. وتمضي في قراءة السورة، فتجد سلطان هذا المنطلق الأول ممتدا إلى سلسلة الأحكام والتنظيمات التالية كلها: حقوق اليتامى، حقوق النساء، فرائض الميراث، أحكام النكاح ومقوّمات الأسرة، نظام الحكم وسلطان ¬

_ (¬1) النساء: 1.

الحاكم، والعدالة الاجتماعية وميزانها. وليس في فرع من فروعها أو أيّ جانب من جوانبها انعكاس ما لنظرة إقليمية أو عرقية أو امتيازات طائفية، بحيث تضيق من النظرة الإنسانية الشاملة التي كانت المنطلق والأساس. ولنجسد هذه الحقيقة بمثال للميزان القرآني الذي وضع لمعنى العدالة، أساسا للتشريع: رجل من أهل المدينة اسمه: طعمة بن أبيرق، سرق درعا من جار له، يقال له قتادة بن النعمان، وكانت الدرع في كيس فيه دقيق فحبأها عند رجل من اليهود يقال له زيد بن السمين، وكان الدقيق ينتثر من الجراب في الطريق فاتهم قتادة طعمة بالسرقة، والتمس الدرع عنده فلم توجد، وحلف لهم: والله ما أخذها وما له بها من علم. ثم اتبعوا أثر الدقيق حتى انتهوا إلى اليهودي فأخذوه فقال لهم: لقد دفعها إليّ طعمة بن أبيرق، فلم يصدقه أحد. وجاء بنو ظفر- وهم قوم طعمة- إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسألونه أن يدافع عن صاحبهم تجاه اتهام اليهودي له بالسرقة واتهامه بأنه هو الذي أعطاه الدرع. وكان قوم طعمة قد تواطئوا مع صاحبهم أن يستميلوا النبي صلّى الله عليه وسلّم إليهم، كي لا يجد اليهودي أذنا صاغية له. واقتنع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معهم بذلك وهمّ بأن يدافع عنه ويحكم على اليهودي بالسرقة. فنزلت هذه الآيات المتتالية من سورة النساء، توضح للنبي الحقيقة وتفضح ما بيّته المنافقون فيما بينهم، وتكشف للنبي صلّى الله عليه وسلّم سبيل الحكم العادل المتجرد. إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ، وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً، وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً، وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً. يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ، إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ، وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً. ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا. وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً. وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً. وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً

مُبِيناً. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (¬1). فقد ذاب في ميزان العدالة في التشريع الإسلامي، العرق والقرابة والطائفية والتبعية، ولم يبق فيه إلا اعتبار واحد: هو الحقيقة الإنسانية المطلقة. ج- الأخلاق والمبادئ: ليس الخلق النبيل في القرآن، عبارة عن السلوك الذي ينسجم مع ما تواضعت عليه البيئة أو الجماعة المعينة من المعايير السلوكية والخليقة المستحسنة، كما هي النظرة لدى عامة الذين بحثوا من عند أنفسهم في مقوّمات الفضيلة والأخلاق. وإنما الأخلاق والفضيلة في القرآن، مجموعة الاعتبارات والمناهج السلوكية التي تتلاءم مع الفطرة الإنسانية الصافية من جانب وتساعد في إرساء قواعد السعادة الإنسانية للفرد والجماعة من جانب آخر. ومن ثم فأنت لا تجد في هذه المناهج السلوكية قابلية للاختلاف والتغيّر ما بين بيئة وأخرى، لأنها لم تنشأ من أعراف بيئة، ولكنها انبثقت عن الفطرة الإنسانية الشاملة. فمن المبادئ الخلقية في القرآن، اعتبار الناس كلهم، مهما اختلفت أعراقهم وأنسابهم وبيئاتهم، في مستوى واحد من الكرامة والحرية الإنسانية، ولا يتفاضلون بعد ذلك إلا بما يحرزه كلّ منهم من السبق بسعيه الخاص في ميدان الجهد الإنساني المفيد المشرف. يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ (¬2). ومن المبادئ الخلقية في القرآن، إلزام الأبناء بحسن معاملة الآباء وخفض جناح اللطف والرحمة لهم، مهما كان بين الطرفين من تباعد في الرأي أو اختلاف في المذهب. وهو مبدأ إنساني غير ناظر إلى طبيعة خاصة أو عرف معين، يقتضيه ضمان سلامة الأسرة الإنسانية التي تتدرج صعدا من الخلية ¬

_ (¬1) النساء: 106 - 113. (¬2) الحجرات: 13.

ثانيا - النزعة الإنسانية في القرآن من حيث الأسلوب:

الأولى في المجتمع وهي الأسرة. يقول الله عزّ وجلّ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ. وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما، وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (¬1). ومن المبادئ القرآنية العامة ما أثبته القرآن من أن الإنسان لا يلاحق أو يؤاخذ إلا بما اجترحه بنفسه، وأنه لا يؤخذ بعمل غيره أو بشيء من مظاهر الطبيعة وأحداثها فيقول: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (¬2) ويقول: مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (¬3). وتأمل في كل ما وصّى به القرآن من المبادئ الأخلاقية، تجد المعنى الإنساني وحده هو المتمثل فيها وهو الأساس في الدعوة إليها والأمر بها. ثانيا- النزعة الإنسانية في القرآن من حيث الأسلوب: يركّز الأسلوب القرآني، فيما يعبّر عنه من الموضوعات والمعاني، على السمة الإنسانية الشاملة؛ ويحاذر أن يأتي في خطابه للناس أو في شيء من تعليقاته على الأحداث، بما ينبّه فكر القارئ إلى خصوص بيئة أو عرق أو إقليم أو جماعة معينة من الناس. فأنت ترى الخطاب القرآني يتجه إلى المخاطبين، مستعملا كلمة: الناس، أو بني آدم أو المؤمنين. ولم ترد ولو مرة كلمة العرب أو قريش. أو أهل كذا، أو ما يشابه ذلك من صيغ الخطاب الخاصة بفئة معينة من الناس. وإليك نموذجا من النداءات القرآنية: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (¬4). ¬

_ (¬1) لقمان: 13 و 15. (¬2) الإسراء: 13. (¬3) الإسراء: 15. (¬4) الحج: 1.

يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ (¬1). أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (¬2). قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً (¬3). ثم إن القرآن، رغم نزوله كما علمت، متدرجا، ومع مناسبات الوقائع وجوابا على الأسئلة والمشكلات، فإنه لم يربط أحكامه وبياناته بشيء من تلك الوقائع والمشكلات، ولم يسجل أيّ اسم من أسماء أولئك الذين نزلت في حقهم آيات وأحكام، وإنما نزلت الآيات موضوعية عامة، دون أن تذكر اسم شخص أو تنزل إلى مستوى مشكلة بخصوصها. وذلك كي يبقى القرآن في كلّ من أسلوبه وموضوعه كتابا إنسانيا يضع المبادئ والمناهج للبشر كلهم، ويشرّع الأحكام والأنظمة للإنسانية جمعاء. ولقد مرّت بك في أسباب النزول نماذج كثيرة من الآيات التي نزلت بمناسبات معينة ذمّا أو مدحا لأشخاص بأعيانهم؛ ولكنها جاءت بصيغ العموم وبأسلوب موضوعي دون ذكر اسم لأحد. ومن أجل هذا كان من القواعد الفقهية المتفق عليها قولهم: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. أي إن خصوصية السبب لا تؤثر على عموم الصيغة ولا تضيق شيئا من عمومها لأن منهج القرآن أنه يبني على الوقائع الخاصة أحكاما ومبادئ عامة. ... ¬

_ (¬1) الأعراف: 26. (¬2) يس: 60. (¬3) الأعراف: 158.

فلسفة القرآن عن الكون والإنسان والحياة

فلسفة القرآن عن الكون والإنسان والحياة في الوقت الذي يعتبر فيه القرآن معجزة اللغة العربية وبيانها، وكتابا في التشريع والقانون، ومعلّما للفضيلة والأخلاق- فإنه يحمل إلى الناس أسس حضارة إنسانية شاملة، وذلك عن طريق المفهوم الذي يقدمه عن كلّ من الكون والإنسان والحياة ووجه التفاعل والتناسق بينها. ولن يتسع المجال في هذا المقام لشرح التقرير الذي يضعه القرآن عن كلّ من هذه العناصر الثلاثة للحضارة في كل زمان ومكان، فإن من شأن ذلك أن يبعدنا عن الغرض الذي نحن بصدده؛ ولكنا نتناول من هذا البحث القدر الذي يفي بحاجتنا للتعرّف على هذا الكتاب العظيم، ويكشف لنا أهم خصائصه ومحتوياته. نظرة القرآن إلى الكون: القرآن يبصّر الإنسان بالكون الذي حوله على أنه جملة من المظاهر المخلوقة أبدعها الله عزّ وجلّ في انتظام وتناسق لغرضين اثنين: الأول: أن يتأمل الإنسان فيه ويتنبه إلى مدى دقته وتناسق نواحيه وأجزائه، ليتوصل من ذلك إلى الإيمان بالخالق جلّ جلاله، ثم إلى إدراك ألوهيته وربوبيته المطلقة، ثم إلى إدراك أنه عبد لهذا الإله العظيم. وهو يقول في بيان هذا الأمر الأول: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ، وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ

وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (¬1). ويقول: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (¬2). الثاني: أن تكون هذه المظاهر الكونية كلها مسخرة لخدمة الإنسان ومصلحته وحاجاته فوق هذه الأرض، وأن يجد فيها- بمقدار ما يتسع له إدراكه وعلمه- دواء لمصائبه وحلّا لمشكلاته وفائدة لحياته. ومن ثم فإن على الإنسان أن يقبل على الكون تفهما له واستفادة منه. وفي ذلك يقول الله عزّ وجلّ في عبارة عامة شاملة: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً (¬3). ثم يقول في بيان مفصّل: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (¬4). وقال: وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (¬5). ومن ثم فإن القرآن يحذّر الإنسان من أن ينظر إلى شيء من مظاهر الكون وفوائده المختلفة على أنه مما يجب الصدود عنه وعدم اشغال الذهن أو الحياة به، رهبة أو تزهدا أو تعبدا، ويقول: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ (¬6). وإذا، فجملة ما يقرره القرآن عن الكون أنه خادم أمين مسخّر للإنسان، يستفيد منه الإنسان بمقدار ما يتأمل فيه ويستبطن ظواهره. وكلمة «التسخير» ¬

_ (¬1) البقرة: 164. (¬2) آل عمران: 190، 191. (¬3) البقرة: 29. (¬4) إبراهيم: 22 و 23. (¬5) الجاثيه: 12. (¬6) الأعراف: 32.

نظرة القرآن إلى الإنسان:

من أقوى التعابير في الدلالة على الخدمة المستقرة الدائبة؛ وعلى أن للإنسان أن يستفيد منه ويستخدمه لصالحه في المعاش الدنيوي والمعاد الأخروي. نظرة القرآن إلى الإنسان: الإنسان في القرآن مخلوق يحمل أخطر مميزات وصفات يحملها مخلوق على الإطلاق. هذه المميزات هي: جملة الصفات الإنسانية المركبة فيه، من العقل وما يتفرع عنه من العلم والإدراك والقدرة على تحليل الأشياء وسير أغوارها، والأنانية وما يتفرع عنها من النزوع إلى الأثرة والمنافسة والتملّك، والقوة وما يتفرع عنها من حبّ العظمة والنزوع إلى السيطرة والكبرياء. ونظرا لما لهذه الصفات من الخطورة والأهمية ونظرا لكونها أسلحة ذات حدّين: إن استعمل أحدهما جاء بالتنظيم العظيم للكون والخير الوفير للإنسان، وإن استعمل الآخر أو استعملا معا جاء بالشر الوبيل والفوضى الهائلة للحياة- نظرا لذلك أطلق القرآن على هذه الصفات اسم الأمانة فقال: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا (¬1). والذي اقتضاه حمل هذه الصفات كلها، أو حمل هذه الأمانة، أنه لم يكن يستطيع بغيرها تسخير شيء من مظاهر الكون. والإنسان في القرآن، خليفة الله عزّ وجلّ في الأرض، أي إنه جلّت قدرته شاء أن يكون الإنسان مظهرا لعدالته، وأن يكون هو لسان الكون الناطق بحمده وتسبيحه والإيمان به، وذلك عن طريق تنفيذ أوامره وتطبيق شرعه والاهتداء إلى ألوهيته ووحدانيته. وفي بيان هذا يقول الله وهو يقصّ علينا بدء خلق الإنسان: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (¬2). ويقول مخاطبا الإنسان: ¬

_ (¬1) الأحزاب: 82، هذا ويجدر بالقارئ أن يرجع إلى ما كتبته موسعا في كتابي «كبرى اليقينيات الكونية» تحت عنوان: ما الذي أحوج الإنسان إلى الدين والعقيدة الصحيحة عن الكون والإنسان والحياة. ففيه تحليل واف بهذا الموضوع الهام الذي أجملته هنا بهذه الأسطر القليلة. (¬2) البقرة: 20.

أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ (¬1). وهذه الآية الثانية وإن كانت تحتمل معنى آخر هو جعلناكم تتوارثون عمارة الأرض وسكناها، إلا أن كلا المعنيين صحيح ومراد كما قال المفسرون. والإنسان في القرآن، بعد هذا موصوف بصفتين: واحدة منهما لبيان أصله وحقيقته، كي لا يطغيه شيء من صفاته التي تحدّثنا عنها، ولا يتجاوز بها حدود عبوديته لله عزّ وجلّ، والثانية لبيان مركزه من هذا الكون كله ومستواه بين الخليفة أجمع. ففي صدد بيان الصفة الأولى، يقول الله عزّ وجلّ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (¬2) ويقول: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (¬3) ويقول: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (¬4). وفي صدد بيان الصفة الثانية يقول: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا (¬5). والإنسان في القرآن، أخيرا، عبد الله، خلق ليكون مظهرا لإلهية الله عزّ وجلّ. وما صفة الخلافة فيه وتكريمه على سائر المخلوقات وتسخير الكون له إلا وسيلة لأن يحقق عبوديته لله تعالى بالكسب والممارسة والاختيار كما خلقه عبدا له بالجبر والاضطرار. وفي بيان ذلك يقول: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (¬6). ¬

_ (¬1) النمل: 62. (¬2) الطارق: 5 و 7. (¬3) يس: 77. (¬4) النحل: 78. (¬5) الإسراء: 70. (¬6) الذاريات: 46 و 47.

نظرة القرآن إلى الحياة:

نظرة القرآن إلى الحياة: القرآن يتحدث عن الحياة الدنيا من جانبين: الجانب الأول من حيث قيمتها الحقيقة، وعلاقتها بما وراءها، ومركزها من قصة الوجود بأسره والحياة كلها. الجانب الثاني من حيث ما يجب أن تكون عليه حالة الإنسان تجاهها، ومدى ما ينبغي أن يستفيده منها. فالحياة الدنيا- من حيث قيمتها الحقيقة- حياة فانية، وظلّ زائل ومعبر إلى الحياة الباقية الأخرى. والقرآن يظل يلحّ على بيان هذه الحقيقة وتجسيدها وتنبيه الناس إليها. فيقول مثلا: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً (¬1) ويقول: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ (¬2). أما الحياة الدنيا- من حيث ما ينبغي أن تكون عليه علاقة الإنسان بها- فهي وسيلة إلى تقويم معاشه ومعاده، وسبب لا بدّ من مباشرته لإصلاح أمره وإسعاد نفسه وبني جنسه. ولذلك فالقرآن يأمر الإنسان بالاستفادة من الحياة، على أن لا تكون همّه الأول، وعلى أن يتخذ منها وسيلة للغاية الكبرى التي خلق من أجلها، وسببا يضمن لنفسه به السعادة الآخرة. فهو يقول في هذا الصدد: وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا (¬3) ويقول محذرا من معارضة الفطرة الإنسانية بالانقطاع عن متعة الحياة الدنيا وطيباتها: ¬

_ (¬1) الحديد: 20. (¬2) آل عمران: 175. (¬3) القصص: 77.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (¬1) ويقول: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ (¬2). وهكذا، يأمر القرآن الإنسان بالإقبال على الحياة الدنيا للتمتع بطيباتها والاستفادة من نعيمها، على أن يقف قبل ذلك على حقيقة هويتها، ويصحو من الاغترار بمظهرها؛ وذلك كي يكون هو المسيطر عليها والمسيّر لها إلى ما تقتضيه مصالحه وسعادته، ولكي لا تكون هي المسيطرة عليه أو المسكرة له فيغرق في نعيمها وينسى أيّ معنى للوجود من ورائها. فإذا تأملت في هذا التقويم القرآني، لكلّ من الكون والإنسان والحياة، أدركت أن محور المخلوقات كلها في الرتبة والأهمية إنما هو الإنسان، وأن الغاية التي خلق من أجلها أن يكون مظهرا لحكمة الله تعالى وعظمته وعدالته في الأرض بما يلتزمه من منهج العبودية له تعالى، وأن محور الوجود كله إنما هو الدار الآخرة فالدنيا بكل ما فيها والحياة بكل صورها وأشكالها مقدّمة بين يدي تلك الحياة الأبدية الأخرى، تلك الحياة التي لا تكاد تجد صحيفة من القرآن خالية عن التذكير بها والتحذير من جحودها. فتلك هي أسس الحضارة الإنسانية التي جاء بها القرآن، والتي أرادها للإنسانية دستورا ومنهجا في هذه الحياة (¬3). ¬

_ (¬1) المائدة: 87 و 88. (¬2) البقرة: 189. (¬3) وأخيرا وفّقني الله تعالى لإخراج هذا الفصل الوجيز المكثف، في كتاب شامل عنوانه (منهج الحضارة الإنسانية في القرآن).

هل من الممكن ترجمة القرآن؟

هل من الممكن ترجمة القرآن؟ تحدّث العلماء عن ترجمة القرآن من النواحي التالية: أولا: هل في المستطاع ترجمة القرآن إلى لغة أخرى؟ ثانيا: إذا كان ذلك مستطاعا فهل يجوز الإقدام على ترجمته شرعا؟ ثالثا: وإذا جازت شرعا فهل تقوم الترجمة مقام القرآن الأصلي، في التعبّد بتلاوتها وفي صحة الصلاة بها؟ فأما الحديث عنها من الناحيتين؛ الثانية والثالثة، فهو ما يهمّ الباحث في الشريعة الإسلامية وأحكامها، وليس كتابنا هذا- كما قد علمت- موضوعا لبيان الأحكام الشرعية المتعلقة بكتاب الله تعالى. ولكن الذي يتعلق بغرضنا في هذا الكتاب، هو التحقيق في الناحية الأولى من هذه المسألة وهي: هل في المستطاع أن يترجم القرآن إلى أيّ لغة أخرى؟ ولا ريب أن الإجابة على هذا السؤال إنما تعتمد على دراستنا السابقة للغة القرآن وأسلوبه وخصائصه التعبيرية والبلاغية. غير أنه ينبغي لنا قبل أن ندخل في الإجابة على هذا الموضوع، أن نعرّف الترجمة، ونوضح الفرق بينها وبين التفسير، فكثيرا ما يقع الوهم في معالجة هذا البحث بسبب التباس هاتين الكلمتين على الباحث وتداخل مفهومهما عنده.

والكلمتان- في الاصطلاح الذي نحن بصدده- مختلفتان في المفهوم والمدلول وبينهما فرق كبير في المعنى، وإن وقع التوسّع والتسمّح فيهما عند إرادة المعنى اللغوي العام (¬1). فأما الترجمة: فهي نقل الكلام من لغة إلى أخرى عن طريق التدرّج عن الكلمات الجزئية إلى الجمل والمعاني الكلية. أي إن الوسيلة التي تتبع في نقل المعنى العام عند الترجمة- هي نقل معنى كل كلمة على حدة، والتعبير عنه بكلمة مقابلة، ثم تركيب مجموع الكلمات وتأليفها حسب المعروف في اللغة المترجم إليها. أما التفسير: فهو نقل المعنى القريب أو البعيد المقصود من الألفاظ، إلى لغة أخرى مختلفة، أو إلى ألفاظ أخرى في نفس اللغة، دون النظر إلى الألفاظ الجزئية التي تألّف منها المعنى واتضح بها المقصود. وبذلك تعلم أن الترجمة تختلف عن التفسير، في نقطتين أساسيتين؛ أولاهما: الاهتمام بالكلمة والأداة التعبيرية في الترجمة دون التفسير. والثانية: أن الترجمة لا تكون إلا نقلا لمعنى الألفاظ من لغة إلى أخرى، في حين أن التفسير يكون كذلك ويكون تعبيرا عن المعنى بألفاظ أخرى في نفس اللغة. وهناك فروق ثانوية أخرى بين الكلمتين لا داعي إلى إطالة البحث بذكرها في هذا المقام (¬2). ... بعد بيان الفرق بين الترجمة والتفسير نعود فنقول: أمن الممكن أن يترجم القرآن إلى لغة أخرى؟ والجواب: أن ذلك مستحيل، وإذا وقع ما يسمى ترجمة من حيث ¬

_ (¬1) انظر مناهل العرفان: 2/ 6 وما بعدها. (¬2) انظر هذه الفروق في كتاب مناهل العرفان.

الصورة، فهو في الحقيقة ليس إلا تشويها لمعاني القرآن، وتلبيسا للمقصود بغيره وتمزيقا لأحكامه وحججه. وإنما أسرعنا الحكم بهذا الشكل، لأنه نتيجة بدهية لدراستنا السابقة عن أسلوب القرآن ومنهجه وخصائصه، وجدير بمن وقف على كل ما قد ذكرناه وأوضحناه أن يعلم بنفسه هذه النتيجة ويدركها. فقد تبين لك فيما مضى أن القرآن يتبع منهجا فريدا في التعبير عن المعاني، وهو منهج تجسيد المعاني وتصويرها أمام مخيلة القارئ، وهو كما قلنا منهج مطّرد في القرآن يظهر في كل بحوثه ومواضيعه. كما تبين لك أنه يعبّر عن المعاني المتعددة المختلفة بلفظة واحدة، وهي ظاهرة تتجلى في كثير من آيات القرآن وألفاظه، وقد مرّت بك أمثلة كثيرة لذلك عند حديثنا عن أسلوب القرآن وإعجازه. وبدهي أن منهجا تعبيريا بهذا الشكل، يستعصي على الترجمة. إذ الترجمة كما قلنا هي نقل المعنى العام من خلال نقل معاني الكلمات الجزئية، والكلمات الجزئية التي تتألف منها الجمل القرآنية، إنما تصور المعنى المقصود- على الغالب- بأسلوبها وليست تنقل المعنى المراد بدلالتها اللغوية الأصلية المجردة. فإن ذهبت تنقل معاني الكلمات، مع ذلك، كما هي، تألف لك منها معنى آخر غير مقصود ولا صحيح إطلاقا. وإن ذهبت تتجاهل الكلمات، وتهتم بالمعنى العام المقصود من ورائها عن طريق التجسيم والتخييل وما إلى ذلك، فقد تحولت عن الترجمة إلى التفسير. وهو بحث آخر. فالقرآن الكريم مثلا يقول: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ، فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (¬1) وأنت ترى أن الألفاظ هنا، ليس شيء منها يدل على المعنى المقصود بطريق الدلالة اللغوية الأصلية، وإنما هي ¬

_ (¬1) الإسراء: 29.

تكشف عن المعنى المراد بواسطة التصوير والتخييل، والأداة المستعملة لذلك جملة من المجازات والتشبيهات والاستعارات المختلفة. فكيف يمكنك أن تترجم هذه الآية ترجمة سليمة لا تفسد المعنى ولا يخرج عملك فيها من الترجمة إلى التفسير؟! ... والقرآن يقول: نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (¬1) وقد مرّ بك أن «مقوين» تحمل معنى: الجائعين، المقيمين في البيداء، المستمتعين. ويقول: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً (¬2) وقَراراً بيان لكل الأسباب التي بها أمكن أن يستقر الإنسان على الأرض، ويقول: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (¬3) ودحى بمعنى: وسع، وبسط، وكوّر، ودوّر، كما قد مرّ بيانه فيما مضى. وقال عن وصف الخمرة في الجنة: لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (¬4) وقد نفى بهاتين الكلمتين جميع عيوب الخمرة المعروفة من ذهاب بالعقل وإذهاب للمال، ونفاد للشراب، وتقزز من طعمه وحرقته. فكيف تتأتى ترجمة هذه الألفاظ إلى ألفاظ أخرى تحمل نفس المرونة في الدلالة، وتحمل نفس المعاني المختلفة المتنوعة التي لا بدّ من دلالة اللفظ عليها جميعها لتتم الترجمة، إذ إن هذه المعاني كلها مقصودة معا في البيان القرآني؛ مع العلم بأنك لو رحت تشرح دلالات كل لفظة في شرح مطوّل من الألفاظ والبيان، فأنت حينئذ مفسّر ولست بمترجم وإليك ما يقوله في بيان هذا المعنى ابن قتيبة رحمه الله: « ... وبكل هذه المذاهب نزل القرآن، ولذلك لا يقدر أحد من التراجم على أن ينقله إلى شيء من الألسنة كما نقل الإنجيل عن السريانية إلى الحبشية والرومية، وترجمت التوراة والزبور، وسائر كتب الله تعالى بالعربية، لأن العجم لم تتسع في المجاز اتساع العرب». ¬

_ (¬1) الواقعة: 73. (¬2) النحل: 61. (¬3) النازعات: 20. (¬4) الواقعة: 19.

«ألا ترى أنك لو أردت أن تنقل قوله تعالى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ (¬1) لم تستطع أن تأتي بهذه الألفاظ مؤدية عين المعنى الذي أودعته حتى تبسط مجموعها وتصل مقطوعها وتظهر مستورها، فتقول: إن كان بينك وبين قوم هدنة وعهد فخفت منهم خيانة ونقضا، فأعلمهم أنك قد نقضت ما شرطت لهم، وآذنهم بالحرب، لتكون أنت وهم في العلم بالنقض على استواء». «وكذلك قوله تعالى: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (¬2) إن أردت أن تنقله بلفظه لم يفهمه المنقول إليه، فإن قلت أنمناهم سنين عددا، لكنت مترجما للمعنى دون اللفظ». «وكذلك قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (¬3) إن ترجمته بمثل لفظه استغلق، وإن قلت: لم يتغافلوا، أدّيت المعنى بلفظ آخر» (¬4). فإذا أدركت أن ترجمة القرآن غير ممكنة بمعناها الصحيح، علمت الجواب عن الناحيتين الثانية والثالثة لهذه المسألة أيضا. ذلك أن الشيء الذي لا يستطاع إنجازه يعتبر باطلا من حيث وجوده. ويعتبر محرّما من حيث ممارسته لما فيه من الفساد والإفساد. وإذا كان الأمر فيه كذلك فلا شك أنه لا يصحّ التعبّد بالترجمة ولا تصحّ الصلاة بها، ولا داعي إلى أن نطيل في ذلك من النواحي الشرعية؛ بعد أن عرفت فساد الأمر من الناحية اللغوية ومن حيث الإمكان. بعد هذا نقول: إن المتأمل ليعجب، عند ما يرى- مع وضوح هذا الذي ذكرناه- دعوة ملحّة، لا تزال تنبع من هنا وهناك، تنادي بضرورة ترجمة القرآن ¬

_ (¬1) الأنفال: 58. (¬2) الكهف: 11. (¬3) الفرقان: 73. (¬4) تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة صفحة: 16.

إلى اللغات المختلفة، وتحتجّ لذلك بالضرورة الداعية إلى اطّلاع الأمم المختلفة على حقائق القرآن وأحكامه ومحتوياته. وهي دعوة بدأت تلحّ وتشتدّ وتجادل عن نفسها منذ أوائل عهد الاحتلال البريطاني لمصر (¬1) بزعم حاجة العالم الإصلاحية إلى ذلك! فإن كان المقصود، اطلاع العالم على حقيقة القرآن وعظمته. فإن القرآن ليس قرآنا إلا من حيث أنه كتاب عربي مبين، وقد علمت في أول هذا الكتاب أن القرآن هو: اللفظ المنزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واللفظ الأعجمي ليس هو الذي أنزل، فهو ليس بقرآن البتة. وأما عظمته وروعته، فإن شيئا من ذلك لا يبقى أو يظهر عند تقديمه مترجما إلى الناس، بل يظهر منه عند ذلك، معان سقيمة مشوهة وتعابير غريبة غير مفهومة. فلا القرآنية تبقى لدى الترجمة ولا عظمة القرآن تتجلى وتظهر بها. وإن كان المقصود، أن تطّلع الأمم المختلفة على ما تضمنه القرآن من مبادئ وشرعة وأحكام، فإن ذلك يمكن أن يتم بأجلى مظهر وبأيسر طريق، إذا ما فسّر القرآن تفسيرا وافيا واضحا باللغة المطلوبة فالتفسير هو الذي يفي بهذا الغرض لا الترجمة المزعومة. وهكذا، يتجلى للمتأمل ما تنطوي عليه هذا الدعوة العجيبة من الدخيلة والريب. وحسبك دليلا على ذلك أن تعلم أن الحاجة إلى ما يسمى ب (ترجمة القرآن) لم تظهر عند أيّ فئة من الناس ولم يدع إليها أيّ مفكّر أو باحث، خلال القرون المنصرمة كلها إلى هذا القرن الذي نحن فيه، مع أن الأسباب التي يتذرع بها اليوم كانت موجودة بأجلى المظاهر بالأمس. ¬

_ (¬1) يجدر بالقارئ أن يرجع إلى مجلة الأزهر «نور الإسلام» السنة الثامنة. العدد الثاني وما بعده، ففيها إثارة لموضوع ترجمة القرآن، أثاره الشيخ مصطفى المراغي شيخ الأزهر إذ ذاك، وناقشه في ذلك جمهور كبير من الكتّاب والباحثين. ومعلوم أن مصطفى المراغي نصّب شيخا للأزهر بعد «الإصلاح» الذي أدخل عليه بتخطيط من اللورد كرومر إذ ذاك. راجع كتاب الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر للدكتور محمد محمد حسين، ومقدمة كتاب تجربة التربية الإسلامية في ميزان البحث لمؤلف هذا الكتاب.

القسم الثالث دراسات تطبيقيّة

القسم الثالث دراسات تطبيقية

تمهيد الآن وقد انتهينا من عرض هذه البحوث النظرية المتعلقة بكلّ من تاريخ القرآن وعلومه، ومنهج القرآن وأسلوبه؛ نستعيد صورة ذلك كله في نماذج من النصوص القرآنية، نأخذها من مختلف الموضوعات والسور، ونشرحها شرحا يجلي لنا حقيقة كل ما ذكرناه. وعملنا الأخير هذا، هو المقصود من كل ما أسلفنا الحديث عنه، فليس يكفي أن تعي الذاكرة مسائل شتى من بحوث علوم القرآن وآدابه، مع البعد عن فهم النصوص القرآنية ذاتها، فضلا عن الترطن والتكسر في قراءتها. ومن هنا تعلم أن الذي هو أهم من معرفة معاني النصوص القرآنية، معرفة تلاوتها وإتقان أدائها. وليس في الأمور المستهجنة والمستقبحة شيء أهجن وأقبح من منظر إنسان يزعم أنه أديب يعلم العربية وآدابها، ومع ذلك فهو يدير بين فكّيه لسانا أعجميا لدى قراءة القرآن، لا يضبط أصله تلاوة ولا يتقن وصفه ترتيلا وأداء! ... وما رأيت شيئا أبعث للغثيان في النفس من مظهر ذاك الذي يقف من وراء المذياع فيصطنع الجلال والضخامة العربية في صوته، فإذا ما أراد أن يقرأ آية من القرآن، التوى عليه لسانه وراح يتعثر في تلاوتها العثرات المضحكة المتوالية! ... إنني أهيب بإخواني الذين يهتمون بدراسة العربية وآدابها، أن يبذلوا أقصى ما لديهم من جهود في سبيل التخلّص والانعتاق من الرطانة اللغوية

العالقة بالسنة كثيرين منهم، وهم أولئك الذين لم يتوفروا على الإكثار من تلاوة القرآن في عهد الصبا، حتى تصقل بذلك ألسنتهم وتنطبع بالطابع العربي نطقا وأداء. وإلا فإن كل جهودهم الأخرى تظل مشوهة ناقصة معيبة. وبعد فقد اخترنا خمسة نصوص من الكتاب المبين للدراسة التطبيقية، وأردنا أن يكون كلّ منها نموذجا لموضوع معين من الموضوعات القرآنية. فاخترنا نصّا في (الإلهيات) وآخر في (الوصف)، وثالثا في (المبادئ والإنسانيات) ورابعا في (القصص) وخامسا في (الحجاج والنقاش) وعليك أن تعكف بعد ذلك على مختلف كتب التفسير القديمة والحديثة لتواصل السير ولتتم دراستك التطبيقية لكتاب الله كله، والله من وراء القصد وهو نعم المولى ونعم النصير.

في الإلهيات (من سورة الرعد، من آية 8: إلى آية 14)

في الإلهيّات (من سورة الرعد، من آية 8: إلى آية 14) قال الله عزّ وجلّ: اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ. سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ. لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ. هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ. وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ. لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ. تعريف عام بالآيات: هذه الآيات تأتي بعد قوله تعالى متحدّثا عن الكافرين: وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ! فهي ردّ على تعجبهم من أن يبعثوا مرة أخرى إلى الحياة بعد أن تفتتت أجزاء جسومهم في طوايا التراب؛ والآيات تردّ على عجبهم وتستنكره من خلال عرض صفتين من أهم صفات الألوهية في ذاته سبحانه وتعالى. الصفة الأولى: إنه مطّلع على دقائق الأشياء كلها لا تخفى عليه منها خافية مهما صغرت وتضاءلت، ومهما اختفت من خلف الغياهب والحجب،

شرح الآيات:

ومنها ذرّات جسوم الناس بعد ضياعها في بطن الأرض أو في جوف البحار. الصفة الثانية: قدرته الباهرة وسطوته القاهرة، اللتان بهما دخل الكون كله تحت سلطانه، ففيم العجب من أن يعاد الناس إلى خلق جديد بعد موتهم، وقد أخبر بذلك من خلقهم أول مرة، ومن يعلم أين تذهب كل ذرّة من جسومهم ومن كان الكون كله داخلا تحت نطاق قدرته وسلطانه. شرح الآيات: * تبدأ الآية الأولى ببيان أن الله عزّ وجلّ لا تخفى عليه خافية، وأنه يرى ويعلم كل غيب مجهول وكل ضائع مستور. فيجسّد حقائق الغيب في أبرز نموذج له لا يزال الإنسان يرى فيه أول مثال للمجهول الذي لا ولن يطوله علم الإنسان واطّلاعه، وهو تخلق المولود في رحم الأنثى بدءا من أول مرحلة فيه إلى آخرها؛ ثم يثبت البيان القرآني أن الله وحده المطّلع على هذا الغيب بأمره وحقيقته. وذلك كناية عن أن الله عزّ وجلّ مطّلع على كل غيب وخافية. إذ كان غيب ما في الأرحام أبرز نموذج لهما. ولك في تقرير هذا المعنى أن تعتبر «ما» المتكررة في الآية موصولة ومصدرية؛ ولا ريب أن المصدرية أبلغ في الدلالة. والمهم أن تتأمل الشمول الذي يتجلى في قوله: كُلُّ أُنْثى: شمول بواسطة الأداة، وشمول في تنكير الأنثى، ثم أن تتأمل الصورة التي ترسمها في الذهن جملة وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ. والغيض هو النقصان، يأتي فعله لازما ومتعديا. تقول: غاض ماء البئر وغضت من مائه، فالله يعلم كل ما ينقصه الرحم أو يزيده في جثة المخلوق أو في مدة حمله له. وهو معنى واسع دلّت عليه الآية كما ترى بجملة صغيرة ذات دلالة تصويرية معينة. ولكن هل الأمر في هذا بالنسبة لله عزّ وجلّ مجرد علم واطّلاع؟ يجيب آخر الآية على هذا السؤال الذي يثيره أولها بقوله عزّ وجلّ: وكل شيء عنده بمقدار. فليس ما قد يتخلق في الرحم من شتى المخلوقات، وليس ما قد يعتريه من غيض أو فيض في الجثة أو الزمان- ليس شيء من ذلك مظهرا لمصادفة أو اضطراب أو تحوّل ذاتي كما يتفق له؛ بل كل ذلك إنما يتم وفق نظام شامل دقيق

وطبق إرادة إلهية جازمة. وانظر كيف عبّر البيان القرآني عن هذا بقانون إلهي شامل يعمّ شأن الخلق والكون كله، لكي تفهم أن تقلب حال المخلوق في الرحم ليس مردّه إلا إلى قانون تنظيمي للكون كله. * ثم تأتي الآية الثانية لتضع القاعدة العامة: عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال. غيب وشهادة: مبالغة عن غائب ومشاهد، فالأول منهما ما لا يقع تحت إدراك شيء من الحواس، والثاني ما يخضع لحاسّة منها. وإليهما تنقسم موجودات الكون كله. فمن أنبأك بأنه لا يؤمن إلا بما يقع تحت حسّه فاعلم أنه لا يؤمن إلا بشطر من الموجودات. غير أن الإنسان لانحباس كيانه ضمن سلطان حواس معينة محدودة لا يدرك مباشرة من الموجودات إلا ما تبصره به هذه الحواس. والله وحده هو الذي يستوي في علمه الغائب والمشاهد. وأنت تبصر كيف أن الآية جاءت خبرا لمبتدإ محذوف، اقتضى حذفة التهويل والتعظيم، إذ الآية الأولى من شأنها أن تملأ فكر القارئ المتدبر بعظمة الله تعالى ومظهر ربوبيته، فالمبتدأ ماثل في الذهن لم يغب عن الخاطر والبال، وتأتي الآية الثانية خبرا جديدا يؤكد ما استقر في الذهن من عظمة الإله جلّ جلاله. * أما الآية الثالثة، فتجسد كلّا من الغيب والشهادة في مثالين، وتكشف للمتأمل كيف أن المثالين والحالين مستويان في علم الله واطّلاعه: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ. فالمثالان الأولان، ما تسرّه من القول في نفسك وما تجهر به بلسانك؛ إن الأمرين والحالين سواء في علم الله عزّ وجلّ، إنه يسمع خلجات نفسك كما يسمع صوت كلامك. والمثالات الآخران: ذاك الذي أخفى نفسه في مكان مستور ضمن ستر آخر من ظلام الليل، وذاك الذي يسير بارزا في طريق مكشوف تحت وضح النهار، فليس بينهما من فرق إلا في حساب المخلوقات أما الله عزّ وجلّ فكلاهما في علمه سواء.

وتأمل في الطريقة التصويرية الدقيقة التي تعبّر بها الآية! مستخف بالليل، أدخل الهمزة والسين على اسم الفاعل ليصوّر لك شدة الطلب والبحث عن وسائل الاختباء والاختفاء المختلفة، فضلا عن أن الليل بطبيعته ساتر ثم: سارب بالنهار، كلمة تصور لك الشيء إذ يسرب على وجه الأرض بارزا، فأنت تقول: سرب الماء، أي سرى في سجيته على وجه الأرض متشعبا يبرق ويلمع. والكلمة، زيادة على ما فيها من جمال التعبير تصوّر لك شدة وضوح هذا الإنسان وظهوره مقابل شدة اختفاء ذلك الآخر واستتاره، تقريرا لتساويهما في إحاطة الله وعلمه. * أما الآية الرابعة فتأتي تأكيدا لما تضمنته الآية التي قبلها. فهي توضح أن الله عزّ وجلّ ليس مطّلعا فقط على الغيب والشهادة، بل إن له ملائكة حفظة يتعاقبون على هذا المختبئ في تلافيف الظلام والسارب في وضح النهار، من قبل الله عزّ وجلّ وبأمره، يحيطون به رعاية وحفظا ويحصون أفعاله وأقواله كتابة وتسجيلا. فهذا هو معنى قوله عزّ وجلّ: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ. فالضمير في له عائد إلى الله عزّ وجلّ، والمعقبات صفة للملائكة المحذوفة وهو جمع معقبة، ومعقبة جمع معقب، فالكلمة جمع الجمع، والضمير في يديه عائد إلى الإنسان المفهوم من الآية السابقة، والجار والمجرور في: من أمر الله متعلق بيحفظونه على أن من للسببية، أي يحفظونه بسبب أمر الله لهم بذلك. ومع سياق الحديث عن رعاية الله للإنسان وحفظه له في غدوّه ورواحه، تذكر الآية قاعدة جرت عليها سنّة الله في الكون: إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. أي إن الله عزّ وجلّ لا يغيّر ما تلبّس بقوم من النعمة وما قد حفّ بهم من الرعاية التي وصفها، حتى يغيروا ما قد استقر في نفوسهم من فطرة الاستقامة على الحق، التي فطر الله الناس عليها، فيجنحوا إلى نقائضها من الآثام والشرور. وإذا تأملت في صياغة هذه الجملة ودقة سبكها ووجيز ألفاظها مع شمول المعنى واتساعه رأيت من ذلك عجبا لا ينتهي إلا عند ما تتذكر أنه بيان الله وكلامه المعجز.

ولما كانت هذه القاعدة تحمل في طيّها الوعيد والإنذار إلى جانب ما تحمله من الوعد والتبشير، أعقب ذلك بما يؤكد هذه الحقيقة من بيان مدى قدرة الله تعالى التي لا تغلب ولا تقهر، فقال: وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ. أي إنهم إذا غيّروا ما بأنفسهم من الخير واستبدلوا به الانحراف والشر، فأراد الله عزّ وجلّ بهم سوءا من أجل ذلك، فلا رادّ لقضائه وحكمه وليس لهم غيره من مفرّ وملاذ. فليفرّوا إلى الله في عبودية وضراعة وليصلحوا ما أفسدوه من نفوسهم إن أرادوا أن يكشف عنهم السوء والبلاء. ومع إثبات هذه الحقيقة، تتهيأ المناسبة للانتقال من الحديث عن الصفة الأولى من صفتي الألوهية التي تعرضهما هذه الآيات، وهي صفة اطّلاعه على كل خافية وغيب إلى الحديث عن الصفة الثانية وهي عظيم قدرة الله تعالى وباهر سلطانه فتأتي الآيات التالية مشتملة على أمور فيها دلائل على قدرة الله تعالى وعظيم تدبيره، أمور فيها مظاهر من النعم والإحسان إلى جانب ما فيها من مظاهر القهر والتخويف. وهي واقعة موقع التأكيد لما تضمنه قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ من الوعد والإيعاد، والتخويف والإطماع. * وأول أمر من هذه الأمور الدّالة على قدرة الله تعالى، آيتان كونيتان لا تزالان تنبّهان إلى قدرة الله تعالى وباهر حكته، هما الرعد والبرق: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً، وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ. لم يعبّر بالاسم الظاهر، كي لا ينفصل الكلام عن سابقه، ولكي يستجمع الضمير: «هو» في الذهن جميع الصفات التي سبق ذكرها في الآيات الماضية، فيضيف إليها مظاهر أخرى من باهر القدرة وجليل التدبير. وقال: يريكم البرق؛ هكذا: يريكم .. لتصور لك الجملة بل الكلمة لمعة البرق الخاطف أمام عينيك، حتى إذا قامت الصورة في خيالك، أضافت الآية، منبّهة، أن ذلك إنما يكون تخويفا مما قد يعقبه من الصواعق المحرقة أو الأمطار المتلفة، وتطميعا لما قد يبشّر به من الغيث المفيد. فخوفا وطمعا منصوبان على أن كلّا منهما مفعول لأجله، إما على تقدير: إرادة الخوف والطمع، أو على تقدير: تخويفا وتطميعا،

ولعلّ هذا أقرب ما قد يقال من وجوه الإعراب في هاتين الكلمتين. وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ: يخلقه من لا شيء، فينسحب في الجوّ يتألف ويتراكم وقد أثقله ما يحمله إلى الأرض من المياه. وأنت تعلم أن ليس في أصل السحاب ثقل ولا خفّة وإنما هو إخراج للمعنى الاعتباري في مظهر متخيل محسوس. * أما الآية التي بعدها، فتتألف من عدة جمل، كلّ واحدة منها تحضر في الذهن صورة محسوسة مجسمة لجانب من مظاهر ألوهية الله تعالى في آفاق الكون: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ: جملة فعلية فعلها مضارع مصوغ للحال والاستمرار، بيانا للدوام واستحضارا للصورة في الذهن؛ وأسند التسبيح إلى الرعد، ليوضح أن زمجرة الرعد من خلال السحاب مهما ترجمت إلى لغة مفهومة فإنها إنما تعني تنزيه الله عمّا يلغو به الجاحدون المبطلون، وتعلن عن وجود الخالق العظيم قهّار السماوات والأرض. وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ: صوّر كيف أنه يتألف تسبيح الرعد المزمجر مع تسبيح الملائكة الخاشعين لعظمة الله وسلطانه، ليتجلّى فيما بينهما غرور الإنسان الجاهل إذ يظلم نفسه فيمشي مكبّا على وجهه بين سمع هذا الكون وبصره غافلا عن كل هذا الذي يحيط به. وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ: جملة فعلية ثالثة، أريد منها كما قلنا استحضار الصورة في الذهن. والصواعق جمع صاعقة، وهي تلك النار المحرقة التي تنقضّ في وقع وصوت شديدين. فإذا ما أرسلها الله عزّ وجلّ إلى الأرض أهلك الله بها من يشاء. وإنها لمظهر مخيف لعظمة الله تعالى وقوة سطوته مهما جمّعت حول هذه الظاهرة من التعليلات الطبيعية والعلمية، فإن كل مظاهر البطش والجبروت الأخرى خاضعة أيضا لسلسلة العلل والأسباب الجعلية المخلوقة. وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ: جملة أخرى صدّرت بواو الحال، فهي حال من

الكفرة الذين تضمنهم الخطاب في قوله: هو الذي يريكم ... والجملة تصور لك عجيب أمر هؤلاء الذين يرون آيات الله كلها ويبصرون دلائل وجوده ووحدانيته، فيظلّون مع ذلك يجادلون في شأن الله: وجوده ووحدانيته، وقضية البعث من بعد الموت!!. وإنما التفت الخطاب عنهم في هذه الجملة إلى الغيبة، بعد أن كان الكلام موجّها إليهم مع سائر الناس في الجمل السابقة- إيذانا بإسقاطهم عن درجة الخطاب وإعراضا عن لغوهم وباطلهم الذي يخوضون فيه. وأسند جدالهم إلى الذات الإلهية مع أن الجدال لا يكون في الشيء نفسه وإنما في حكم متعلق به، ليشمل كل ما يجادلون فيه وينكرونه مما تنزل في البيان الإلهي المبين. وجاءت الجملة الأخيرة: وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ، على وزن التي قبلها، فهي أيضا حال .. ولكنها حال من الله عزّ وجلّ، نزّلت من التي قبلها منزلة المقابلة، لتكون بذلك أقوى تعبير عن الإنذار والوعيد، لأولئك الذين لم تنفعهم الآيات والبراهين والدلائل الكونية المختلفة الناطقة بوجود الله تعالى ووحدانيته، فظلوا مع ذلك يجادلون عن غيّهم وباطلهم؛ فلئن كان حالهم، وهم يرون هذه الأدلة كلها، هي الجدال في الله، فإن حال الله عزّ وجلّ، مع كل ما بثّ في الكون من هذه الأدلة، أنه شديد المحال؛ أي شديد القوة، وشديد الأخذ في غفلة وعلى حين غرّة، وشديد القدرة على مكايدة الظالمين بإبطال كيدهم وأخذهم بباطلهم. * وآخر ما تعرضه الآيات من الصفات الدالّة على عظيم قدرة الله تعالى وألوهيته أنه وحده عزّ وجلّ، صاحب الدعوة الثابتة الواقعة في محلها المجابة عند وقوعها، أي إنه وحده الذي إذا دعي سمع وأجاب الدعوة. فإضافة الدعوة إلى الحق من إضافة الشيء إلا صفته أو جنسه كقولك: كلمة الحق. أما ما قد يدعى من دون الله عزّ وجلّ من سائر المخلوقات، أيّا كان، فإن دعاءهم باطل لا يتوقع من ورائه استجابة ولا فائدة. ولما كان الحكم على دعائهم بالبطلان وعدم الاستجابة معنى سلبيا اعتباريا لا يمكن أن تتجسد له صورة في الذهن، قلب البيان القرآني المعجز السلب إلى صورة إثبات مستعملا

لذلك أداة الاستثناء وصورته ليتجسد مظهر البطلان وعدم الاستجابة في صورة محسوسة متخيلة تتجسد فيها بلاهة أولئك المغرورين وضلالهم، فقال: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ فقد صوّر لك عدم استجابة الآلهة أو المخلوقات التي تدعى من دون الله مع استمرار أولئك المغرورين والمبطلين في التعلّق بها، بحالة ظمئان راح يبسط كفّيه نحو ماء بعيد يلمع في قاع بئر أو يبرق له في وسط مغارة ليستجيب لدعاء كفّيه ويأتي فيبلغ فاه، وأنّى له أن يبلغ؟!. وبذلك تعلم أنه ليس في الآية استثناء حقيقي ولكنه صورة متخيلة محسوسة يلمسها الشعور بل تكاد تراها العين. وتختم الآيات بهذه الجملة الأخيرة: وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ومعناها العام واضح كما ترى، ولكن انظر إلى صياغة الجملة وما أحدثه فيها حرف الجر: «في» من الصورة التي تمتد بالخيال في آفاق واسعة محسوسة. إنها تصوّر لك دعاءهم الباطل وكيف يذهب في دروب ضائعة خاسرة، إنه كما يقولون: صيحة في واد ونفخة في رماد، وأين هذا المعنى التصويري الرائع مما لو قال: وما دعاء الكافرين إلا ضلالا؟ .. والله سبحانه وتعالى أجلّ وأعلم. ***

في الوصف (من سورة غافر. من آية: 10 إلى آية: 20)

في الوصف (من سورة غافر. من آية: 10 إلى آية: 20) قال الله عزّ وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ. قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ، ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ. هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ. فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ، رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ. لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ، لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ. الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ. وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ. يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ. وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. تعريف عام بالآيات: في الآيات التي قبل هذه حديث عن المؤمنين وعن أن حملة العرش من الملائكة يظلون يستغفرون لهم ويدعون الله لهم بالرحمة وأن يدخلهم جنات عدن التي وعدهم بها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم. ومن عادة الأسلوب القرآني- كما بيّنا- أنه يضع آية الشدّة إلى جانب آية الرخاء. ويتبع الحديث عن إحدى طائفتي المؤمنين أو الكافرين بالحديث عن

شرح الآيات:

الطائفة الأخرى، للأسباب التربوية التي ذكرناها فيما مضى. فناسب أن يردف الحديث عن المؤمنين ودعاء الملائكة لهم، بالحديث عن الكافرين وما يقولون ويقال لهم يوم القيامة، وبعد أن تعرض الآيات لهذه الصورة من حال الكافرين يوم القيامة يتناول البيان القرآني وصف يوم القيامة بصورة عامة ومخيفة يتضاءل أمر الكافرين وشأنهم من خلال هولها. ونجد أنه أدخل ضمن هذا البيان آيات يتجه فيها الخطاب إلى الناس بالموعظة والتذكير وإعداد العدّة لهذا اليوم قبل فوات الأوان، وذلك حسب الطريقة القرآنية المتبعة من إقحام آيات الوعظ والإرشاد والتوجيه خلال الموضوعات والأبحاث الأخرى لأسباب ذكرناها فيما سبق. شرح الآيات: * تصف الآية الأولى، بأسلوب فريد، مدى كراهية الله للكافرين يوم القيامة، فتجعل المقياس الموضّح لذلك مدى كراهية الكافرين لأنفسهم إذ أودت بهم إلى هذا المصير الهائل الأليم، وإنها لكراهية شديدة إذ ذاك. إن مقت الله لهم في ذلك اليوم أكبر وأشدّ من مقتهم الشديد لأنفسهم ومن مقت بعضهم لبعض. ولئن كان سبب مقتهم أنفسهم أنها أودت بهم إلى هذا المصير، فإن سبب مقت الله لهم أنهم طالما دعوا في دنياهم إلى الإيمان وظلوا يجحدون ويكفرون. فهذا معنى قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ. أي لمقت الله إياكم اليوم أشدّ من مقتكم أنفسكم، وإِذْ تُدْعَوْنَ .. علة لمقت الله عزّ وجلّ. وأنت خبير أن مقت الله إياهم ليس خاصّا بذلك اليوم بل هو موجود في الدنيا أيضا، ولكن لما ظهر أثره يوم القيامة أسند إلى ذلك اليوم. على أنه يجوز عدم تخصيص المقت إياهم بذلك اليوم وحده، فتكون الآية بيانا لما استحقوه من المقت منذ أن كفروا في دار الدنيا. * وتصف الآية الثانية مدى ذلّهم وضراعتهم في ذلك الموقف حيث يقولون: رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا. أي أمتنا إماتتين اثنتين وأحييتنا إحياءتين اثنتين، والإماتتان هما الإماتة السابقة على الوجود في

الحياة الدنيا، والإماتة السابقة على الحشر يوم القيامة. والحياتان هما الحياة التي عاشوها في الدنيا والتي بعثهم الله إليها يوم الحشر. وعبّر عن العدم الأول بالإماتة مع أنه عدم أصلي غير مسبوق بوجود ليصوّر لك أن ذلك إنما هو أيضا بجعل الله وتقديره، كما تقول: سبحان من صغر البعوض وعظم الفيل، مع أن البعوض صغير من أصله. ويقولون بعد ذلك: فاعترفنا بذنوبنا، ليمسحوا بهذه الضراعة جحودهم السابق، وليجعلوا من ذلك تمهيدا وتوطئة لرجائهم الذي يتقدمون به: فهل إلى خروج من سبيل؟. وأنت إذا تأملت في هذه الجملة وجدتها تصوّر أبلغ حالات الضراعة والاسترحام والذل: فقد عبّروا عن رجائهم بهل وهي- كما تعلم- استفهام عرض ورجاء، ثم عبّر عن الرجوع إلى دار الدنيا بمطلق الخروج من هذا الموقف، ونكّر الكلمة بيانا لتعلقهم الشديد بأي خروج من هذه الورطة، ونكر السبيل وزاد من تنكيرها وتعميمها بتسليط «من» عليها، ليصبح المعنى هل إلى أيّ خروج من هذا المأزق سبيل ما من الممكن تصوره؟ .. وهو كما ترى كلام من غلب عليه القنوط واليأس وأسقط في يديه، فراح يتعلق بحبال واهية من الرجاء والضراعة والذل. * والآية بعدها معرضة- كما ترى- عن الجواب على استرحامهم هذا، تنبيها إلى استحالة ما يؤملونه وإلى وضوح ذلك بحيث لا حاجة إلى التحدّث فيه والإجابة عنه، ولكنها تكشف لهم عن علة هذه الاستحالة وسببها، إذ تقول: ذلكم الذي انتهيتم إليه من العذاب الذي لا مردّ له، إنما هو بسبب أنكم كنتم إذا دعيتم إلى الله في دار الدنيا بادرتم إلى الجحود والكفر، وإن لاحت لكم دعوة إلى باطل أو شرك سارعتم فيه وآمنتم به. وتأمل في دقة التعبير القرآني عن هذا المعنى: ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ، وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا عبّر عن حال الدعوة إلى الله بإذا الدّالة على التحقق والتكرار، وعن حال ظهور الشرك أمامهم بأن الدّالة على المصادفة في الوقوع وعدم التكرار، ونصّ على الدعوة في الحالة الأولى وأهمل ذكرها في الحالة الثانية، ليصوّر في الذهن مدى ما انتهى إليه حالهم من السوء، فهم لا

ينصتون إلى شيء من الحق مهما ذكروا به ودعو إليه، في حين أنهم يسرعون إلى الكفر والجحود مهما لاحت لهم أي صورة منه على البعد. فمن أجل ذلك، لا مردّ ولا رجوع؛ والحكم لله العليّ الكبير وحده. * ويلتفت السياق هنا، بعد أن تصور القارئ المتأمل رهبة الحشر والحساب يوم القيامة، وتصور حالة الندم التي يستغرق فيها الكافرون إذ ذاك دون أي فائدة؛ لينبّه الناس- وإن الوقت لم يفت بعد، وإن هذا الموقف لا يزال غيبا في علم الله- إلى أن يتداركوا فيصلحوا أحوالهم ويؤمنوا بالحق القائم جليّا أمام بصائرهم. فيقول الله عزّ وجلّ مخاطبا عباده في دار الدنيا: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ. فأما الآيات، فهي تلك الدلائل الجليّة على وجود الله ووحدانيته والتي بها تستقر العقيدة الصحيحة في القلب فتحقق مصلحة الدين للناس في الحياة. وأما الرزق الذي ينزل من السماء فهو كناية عن سببه وهو المطر الذي به تحيا الأرض وتوجد الأرزاق، والذي به تتحقق مصلحة الدنيا للناس في الحياة، فالآية تبيّن أن الله عزّ وجلّ قد أقام لعباده في الدنيا كلّا من أساسي مصلحة دينهم ومصلحة دنياهم. ولكن رغم ذلك كله، فإنه لا يتذكر هذه الحقيقة الواضحة ويستيقظ إليها إلا من تخلّص من شوائب أهوائه وأغراضه ورجع إلى عقله المتجرد الحرّ يستمع إلى حكمه ويأخذ بهديه. * فإذا كان الأمر كذلك، فاستقيموا أيّها المؤمنون على عبادة الله تعالى وأخلصوا الدين له، ولا تلتفتوا إلى ما يغيظ الكافرين من ذلك، فهم إنما يكرهون ذلك منكم وينكرونه بسائق من شهواتهم وأهوائهم النفسية، لا بوحي من عقولهم الحرّة الطليقة. ولما أمر الله المؤمنين بالاستقامة على عبادة الله، أتبع ذلك ببيان بعض ما يتصف به الله عز وجلّ من صفات الربوبية تأكيدا لما تضمنته الآية السابقة من الأمر بعبادة الله عزّ وجلّ فقال: رَفِيعُ الدَّرَجاتِ، ذُو الْعَرْشِ، يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ.

فأما: رفيع الدرجات، فهي بمعنى مرتفع الصفات فلا يلحق به فيها غيره ولعلّ هذا خير من القول بأن رفيع بمعنى رافع وأن راجع وأن المعنى: رافع درجات من شاء من عباده، ذلك أن الأشبه برفيع أن تكون صفة مشبهة لا اسم فاعل. وأما: ذو العرش، فمعناه مالكه وخالقه. وإنما أفرده بالذكر لأنه من أعظم مخلوقاته وأجلّها، والعرش من الغيب الذي أخبرنا الله عنه ولم يطلعنا عليه، فهو مما يجب الإيمان به غيبا. والصفتان خبران لمبتدإ محذوف تقديره: هو، حذف اكتفاء بما يدل عليه وتوجيها للفكر كله إلى التأمل في هذه الصفات. ويُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ ... خبر آخر، فهي صفة ثالثة، أي أنه يرسل الوحي الذي هو بمثابة الروح لحياة الإنسان، إذ إن مضمون الوحي الإلهي إنما هو روح للحياة الحقيقية التي يحتاجها الإنسان أشد من حاجته إلى الغذاء. وتأمل في التعبير ب يُلْقِي وانظر إلى الكلمة كيف تصور انطلاق الوحي من الله عزّ وجلّ إلى من شاء من عباده في إلقاء سريع، فلا يمكن أن يلحقه أي تبديل أو تحريف، وهو ما يؤكد مضمون قوله: من أمره، أي يلقي الروح ناشئا ومنطلقا من أمره، فمن للابتداء، والجار والمجرور متعلق بمحذوف منصوب على الحالية. وفي قوله: عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ دلالة على أن النبوّة لا تأتي بالكسب والترقي في مدارج الصلاح والتقوى، وإنما هي اختيار إلهي محض. أما الوظيفة التي يتضمنها الوحي ويكلف بها الرسول فهي أن ينذر يوم التلاق، أي يوم القيامة. ولم يذكر المفعول الأول لينذر، ليكون الإنذار عامّا للناس كلهم في مختلف الأعصار والأمصار، ولم تزد الآية على أن أطلقت على يوم القيامة اسم: يوم التلاق، دون أن تعين المقصود بالتلاقي الذي يكون فيه، ليشمل كل تلاق يكون في ذلك اليوم ... إذ فيه تتلاقى سلسلة أجيال البشر كلها على صعيد واحد بعد أن كانت مفرقة على عمر الدنيا كلها، وفيه يتلاقى الناس بالملائكة وأهل السموات بأهل الأرض، وفيه يتلاقى الناس مع ما قدّموه من أعمال ...

إنه حقيقة يوم التلاق ... التلاقي بمعناه الشامل العام وبكل ما في الكلمة من معنى، وإنه لتلاق عجيب ورهيب!!. ومع الحديث عن آخر هذه الصفات يعود السياق، كما ترى إلى أول البحث؛ وهو الحديث عن يوم القيامة وحال الكافرين فيه؛ فتصف الآيات التالية جوانب من مظاهر يوم التلاق: * يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ، لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ، لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ: ثلاث صفات من أهم صفات يوم الحشر، تصورها هذه الجمل الثلاث تصويرا يسيطر على المشاعر ويأخذ بالقلب. (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ): بدل من يوم التلاق، أي لينذروهم ذلك اليوم. يوم هم خارجون من قبورهم إلى ظاهر أرض مستوية لا يسترهم فيها شيء من جبل أو بناء أو واد أو أكمة. إذ هي كما قال عزّ وجلّ: (قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً). (لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ): استئناف فيه مزيد من التقرير لبروزهم ووضوحهم في ذلك الموقف، وفيه مزيد من نسخ ذلك الباطل الذي كان عالقا برءوس الكافرين منهم في الدنيا من أن الأرض إذا التقمتهم وأصبحوا ترابا فهيهات أن يحشروا مرة أخرى، فها هم اليوم بارزون ظاهرون يموجون تحت سلطان الله وفي قبضته وأمام نظره. (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ): صفة ثالثة جاءت بهذا الأسلوب التصويري المثير. فمن أجل ذلك حذف لفظ القول من جملتي السؤال والجواب معا، لأن المقصود ليس إخبارا عن كلام سيحصل، وإنما المقصود تصوير ذلك المشهد الرهيب في أخصّ مظاهره وأحواله. فالسؤال منبعث من وحي المشهد: لقد برز الناس جميعا من قبورهم إلى هذا الملتقى، ولقد تقطعت أسباب دنياهم وعلاقات ما بينهم وانسلخت عنهم مظاهر الملك والجاه والسلطان، وجاءوا لا يسوقون معهم إلا جسومهم العارية. فيرتسم السؤال من وحي الحالة وهول المشهد ومن ذكرى الغرور الدنيوي الذي

(طوي عهده: لمن الملك اليوم؟) ليرتسم من ورائه الجواب الذي يملأ سمع الزمان والمكان وينطبع في كل أذن وفكر: (لله الواحد القهّار). * الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ، لا ظُلْمَ الْيَوْمَ، إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ: ثلاث صفات أخرى ليوم القيامة توضح أهم خصائص ذلك اليوم، وهو الحساب الذي تلاقيه كل نفس على ما قدّمت. اليوم تجزى كل نفس بما كسبت تعطى جزاء كل ما قد فعلته من خير وشر، وفي تقديم الْيَوْمَ وتصدير الجملة بها إيحاء بأن الناس طالما أمهلوا من قبل حتى ظن كثير منهم أنه لا جزاء ولا حساب! .. (لا ظلم اليوم): سيبلغ اليوم كلّ حقّ مداه، وسينصف كل مظلوم ويقتصّ من كل ظالم، ولكن هل كان في دار الدنيا ظلم حتى يكون نفيه خاصا بهذا اليوم؟ إن الجملة صيغت بهذا الشكل ردّاء وتبكيتا لأولئك الذين طالما تساءلوا في دار الدنيا عن أسباب تفاوت الناس في مظاهر السعادة ووجود مظاهر البؤس والفقر إلى جانب مظاهر النعمة والترف ونسبوا إلى الله من أجل ذلك الظلم والجور، قصدا إلى الإلحاد في ذاته وادّعاء عدم وجوده؛ فالجملة تقول لهؤلاء الناس- على سبيل التبكيت والتأنيب-: تستطيعون أن تطمئنوا اليوم إلى أن مثقال ذرّة من العدالة لن يهدر وإلى أن أحدا من الناس لن يظلم؛ إن حياتكم التي مرّت لم تكن إلا فصلا صغيرا من قصة الوجود الإنساني كله، والحكم على القصة ما كان ينبغي أن يكون من خلال ما يتراءى من فصل واحد صغير فيها، وسترون من مجرى الحساب والجزاء، اليوم، أن عين العدالة لم تغفل عن الإنسان لحظة واحدة في دنياه التي خلت. فلما كانت هذه الحقيقة إنما تتجلى وتتكشف للناس يوم القيامة، أسند نفي الظلم إلى ذلك اليوم تصويرا لهذه الحقيقة كلها. (إن الله سريع الحساب): لن يعجزه شيء عن محاسبة هذه الخلائق المتجمعة كلها في آن واحد، فهو تعالى لا يشغله شأن عن شأن. ولئن كان وقت الحساب يطول أمده على الناس، فإنما هو لعظم الهول الذي يحبط به، وليس لعجز الله عن الإسراع في محاسبتهم! ...

* وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ، إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ، كاظِمِينَ، ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ عود إلى وصف يوم القيامة بأسلوب مختلف وبأنواع أخرى من الصفات الهائلة المخفية. والحديث هنا يتحول إلى مخاطبة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، قائلا: أنذر الناس يا محمد يوم القيامة، فيوم مفعول ثان لأنذر. ولقد سمى القيامة هنا بيوم الآزفة، بعد أن سمّاها في الآيات السابقة: يوم التلاق. وكلا الاسمين وصف صادق وهائل ليوم القيامة. وهي من أزف الأمر إذا دنا، وإضافة اليوم إليها من إضافة الشيء إلى صفته، أي اليوم الآزف وإنما سمّاه الله الْآزِفَةِ تنبيها إلى أن ذلك اليوم قريب وإن استبعد الناس مداه واستأخروا قدومه. ولقد وصف الله هذا اليوم بعكس ما هو متصور في أذهان الناس كي ينتبهوا إلى خطأ تصورهم هذا، ولكي يعلموا أن كل ما هو كائن فهو قريب. ولك أن تقول: ففيم أنّثت الآزفة، وهي كما تقول صفة لليوم؟ والجواب- كما قال القفال وغيره- أن سائر أسماء القيامة جارية على التأنيث كالطامة والحاقّة ونحوهما تضمينا لها معنى الداهية، أي فالتأنيث للتهويل. (إذ القلوب لدى الحناجر): استحضار لصورة الكرب الشديد العالق بنفوس الناس إذ ذاك، والكرب معنى اعتباري مجرد، ولكن الآية تبرزه في أروع صورة محسوسة مجسّمة، وصورة الكرب هنا هي تلك القلوب التي ارتفعت من أماكنها حتى التصقت بالحلوق، فلا هي تعود فيستروحوا ولا هي تخرج فيستريحوا. وانظر إلى الشمول الذي دلّت عليه «القلوب» و «الحناجر»! ... فهو لم يضف القلوب والحناجر إلى أناس بأعيانهم، بل قطعهما عن الإضافة والتخصيص، وعبّر بصيغة الجمع وأدخل «ال» عليها، لتفهم أنها غاشية عامة من الضيق والكرب تمتد إلى كل من يزدحم بهم ذلك الموقف المريع. (كاظمين): حال من أصحاب تلك القلوب، وهم وإن لم يذكروا في الآية ولكن صورتهم ماثلة في المخيلة. والكاظم هو المنحبس على حال من الغم والغيظ امتلأت بهما نفسه، وهي صورة أخرى للكرب الشديد في ذلك اليوم، ليس عنه أي متنفس ولا مهرب! ..

(ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع): كشف للحالة التي قد يتساءل عنها الفكر والذهن: أليس ثمة من ملجأ أو شافع أو معين؟ لا ... ليس للظالمين أي ملاذ، إنه الكرب الذي لا مفر منه ولا مخلّص، فليس ثمة قريب شفيق، ولا شفيع يطاع قوله أو ينظر في شفاعته. ونفي وجود القريب الشفيق إنما هو تصوير لعدم اهتمام المرء إذ ذاك إلا بنفسه. فالأقارب لا يزالون أقارب لبعضهم إذ ذاك ولكن أحدا منهم لا يتعرف على الآخر، فكأن الأنساب قد قطعت مما بينهم حينئذ فلا وجود لها كما يقول الله عزّ وجلّ: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ. * يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ أسلوب آخر في التعبير عن مجازاة الله ومحاسبته للناس إذ ذاك، وفي التعبير عن عدم تمكن الكافرين والجاحدين يومئذ من المكر أو الكذب أو إخفاء الحقائق. إن الله عزّ وجلّ مطّلع على كل ما قد يجترحه أو يكسبه الإنسان سواء كان ذلك بجوارحه الظاهرة أو بنفسه ووساوسه الخفية. وتأمل كيف عبّر البيان القرآني عن النوع الأول ب: خائنة الأعين وعن الثاني ب: ما تخفي الصدور. لقد كنى عن أعمال الجوارح بأدق مثال لها، وهو النظرة المريبة بالعين وعبّر عنها بخائنة الأعين، أي الأعين الخائنة، على أن الخائنة اسم فاعل، أو بمعنى: خيانة الأعين على أنها مصدر كالعافية والعاقبة، كأن العين تخون صاحبها فتنم عمّا أضمر في نفسه، أو تخون الحق والأمانة إذ تغمز وتسترق النظرة المحرمة. وكنى عن أعمال القلوب ووساوسها بما تخفي الصدور؛ والصدور هي مستكنّ الأسرار والخفيات. فكيف يستطيع الظالمون مع ذلك إخفاء الحقائق؛ أو الكذب على الواقع؟! أم كيف يعجز الخالق جلّ جلاله عن محاسبتهم على كل ما اجترحوه من صغير وكبير؟! * وتختم هذه الآيات الوصفية المتضمنة لطرف من أهوال يوم القيامة بتقرير الحقيقة التي يريد الله عزّ وجلّ من عباده أن ينتبهوا إليها قبل فوات

الأوان، وهي أن الله وحده الذي يقضي بالحق الذي يشاء على مخلوقاته كلها في الدنيا والآخرة، فهو وحده المؤثّر في خلق العالم وطبائع الأشياء، وهو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وإليه مردّ الناس كلهم ليقضي فيهم قضاءه المبرم الذي لا قضاء فوقه. وهيهات أن يكون لشيء من المخلوقات الأخرى التي يؤلهها الكافرون والجاحدون من الأصنام أو الناس أو طبائع الأشياء، أي صفة من هذا القبيل: وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. والله تعالى أعلم. ***

في المبادئ والإنسانيات (من سورة الإسراء من آية: 23 إلى آية 29)

في المبادئ والإنسانيّات (من سورة الإسراء من آية: 23 إلى آية 29) قال الله تعالى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما، وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً. رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً. وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً. إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً. وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً. وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً. إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً. وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً. وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا. وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً. وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا. وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا. وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا. وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا. كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً. ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً.

تعريف عام بالآيات:

تعريف عام بالآيات: تعرض هذه الآيات لبيان أحد عشر مبدأ من أهم المبادئ الإنسانية العامة. مبتدأة ومختتمة بمبدإ التوحيد والعبودية لله عزّ وجلّ. وتأتي هذه الآيات بعد آيات سابقة تتحدث عن أهمية القرآن في إصلاح حياة الإنسان ودلالته على النهج القويم، وعن حدود المسئوليات ونظامها وقيمة كلّ من الحياتين الدنيوية والأخروية. فهي تأتي بعد منبهات وحوافز تهيئ كلّا من النفس والذهن لقبول ما تتضمنه هذه الآيات من مبادئ الإنسانية بقبول حسن. شرح الآيات: * وقضى ربك ألّا تعبدوا إلا إياه. أي أمر ربك ألّا تعبدوا إلا إيّاه، وقد استهلّ الخطاب بجملة إخبارية للرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهي: وقضى ربك. ثم التفت بالخطاب إلى الناس حينما تحول من الإخبار إلى الإنشاء، فقال: ألّا تعبدوا إلا إياه. وذلك لأن الجملة الأولى حكاية فناسب أن يتجه الخطاب فيها إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وأما الثانية فأمر وتوجيه، فناسب أن يتجه الخطاب فيها إلى عامّة الذين يتجه هذا الأمر إليهم. فهذا أول مبدأ من المبادئ الأحد عشر، وهو أخطرها وأهمها. ثم أتبعه بالمبدإ الثاني قائلا: وبالوالدين إحسانا، أي وأن تحسنوا بالوالدين إحسانا، تقول. أحسنت به وأحسنت إليه. وإنما جعل رتبة برّ الوالدين إثر رتبة توحيد الله وعبادته، لأن الله هو المسبّب الحقيقي لوجود الإنسان وعيشه وارتزاقه، والوالدان هم السبب الجعلي والظاهري لكلّ من الوجود والعيش، فلئن كان المقتضي لعبادة الله أنه الخالق والمنعم الحقيقي، فإن المقتضي لبرّ الوالدين ما قضت به حكمة الله من أن يكون وجود الإنسان بهما ونشأته عن طريق رعايتهما. ثم شرح المقصود بالإحسان فقال: إمّا يبلغنّ عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفّ ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما. وأصل الجملة: إن يبلغ

عندك الكبر ... فركبت إن مع ما التي يسمّونها زائدة لتصوير المبالغة في استقصاء الظروف والأحوال، وأدخل نون التوكيد على الفعل لنفس الغرض أيضا، فأصبحت الجملة تقول لك بكلّ من جرسها ومضمونها: مهما وجدت الشيخوخة قد دبّت إلى أحد من أبويك فليكن موقفك منهما في كل الظروف والأحوال موقف الراحم الشفوق والخادم المحب. وكان من الممكن لسلامة أصل هذا المعنى أن تستغني الآية عن كلمة «عندك» بأن تقول: إما يبلغنّ الكبر أحدهما أو كلاهما ... لولا أن «عندك» هذه تثبت في إحساس المخاطب معنى هائلا يثير فيه النزوع إلى الشفقة والرقة والعطف. فالآية تصور بهذه الكلمة كيف أن الكبر والضعف قد وضع كلّا من الوالدين في كنف الابن وتحت رعايته بعد أن كان الابن هو الضعيف الذي يعيش في كنفهما وتحت رعايتهما. والقصد إلى تصوير هذا المعنى هو الذي اقتضى تقديم لفظ «الكبر»، وهو مفعول، على لفظ: أحدهما وهو فاعل، ولو اختلف نسق هذه الألفاظ وترتيبها اختلافا ما، لاختفت الصورة وبطل أن يكون في الآية شيء من هذا الإيحاء. ثم انظر كيف نهتك الآية عن أن تضيق ذرعا بهما في شعورك ونفسك كما نهتك عن إيذائهما في شيء من عملك ومعاملتك، ثم كنّت عن الأول بأقل مظهر له وهو التأفف، وكنّت عن الثاني بأدنى مظهر من مظاهره وهو القسوة أو الانتهار في القول، فنهت عن ذلك بدلالة النص، إذ النهي عن أدنى إفراد الشيء أبلغ نصّ في الدلالة على عموم النهي عن الجنس كله. * ثم زاد الأمر بالإحسان إلى الوالدين تأكيدا، فصوّر لك ما ينبغي أن تكون عليه حال الولد من والديه دائما، وأخرج معنى الرحمة بهما والإحسان إليهما والتواضع لهما في مظهر شيء متخيل محسوس مبالغة في الإلزام به والدعوة إليه، فقال: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ. فقد صوّر الذلّ المأمور به بطائر خرّ هاويا إلى الأرض ثم صوّر مبالغة وضوح الذلّ والتواضع بنشر هذا الطائر مع ذلك جناحيه يخفضهما نحو الأرض.

بيد أنه استدرك، كي لا تحسب أنه ذلّ الحطّة والصغار، وهو ما ينهى عنه الإسلام ولا يمكن أن يأمر به، فقال: من الرحمة، أي بسبب وبعامل الرحمة بهما، وهو شرف لك وليس بصغار عليك. ومع ذلك، فلا تقتصر على أن تعاملهما برحمة من عندك، بل ادع الله لهما أيضا على أن يشملهما برحمة من عنده. وقل ربّ ارحمهما كما ربياني صغيرا أي رحمة كرحمتهما بي إذ كنت صغيرا، أو في مقابل رحمتهما بي إذ ذاك. * ولما بالغ هذه المبالغة في الأمر ببرّ الوالدين، حتى إنه لم يرخص في أدنى كلمة قد تفلت من المتضجر، أعقب ذلك ببيان رفع الحرج عمّن أساء ثم أسرع فتاب، ولم يكن قلبه منطويا إلا؟؟ على الخير والبرّ والتزام أمر الله عزّ وجلّ، وتأمل في الأسلوب الذي أخرج به هذا المعنى إذ قال: ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوّابين غفورا. وفيه تقرير بأن التوبة الكاذبة باللسان لا تخدع الله عزّ وجلّ لاطّلاعه على ما استقرّ في النفوس، وفيه تأكيد بأن الله يقبل توبة الآئب إليه؟؟ النادم على ما قد كان منه. * وينتقل البيان القرآني إلى المبدأ الثالث، وهو الوفاء بحق القرابة والرحم خاصة وبحق عموم الفقراء والمساكين عامة؛ وهو مبدأ وثيق الصلة والمناسبة بالذي قبله وهو برّ الوالدين؟؟: وليس الأمر هنا بالإحسان و؟؟ الرفق، ولكنه أمر بإعطائهم الحق الذي لهم؟؟؟ عليه، حتى لا تتصور أن لك بذلك عليهم منّة وأنك تمنحهم من حقك الذي؟؟؟ هو لك ... وعن هذا المعنى تعبّر صياغة الآية: وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل. أما الأمر بالإحسان إلى الوالدين، فليس فيه مثار لهذا التصور، وذلك لأن الولد مهما بالغ في الإحسان إلى والديه فإنه لن يفي لهما بجزء من حقهما السابق عليه. ولما كان الوفاء للأقارب والمعوزين بحقوقهم يقتضي حجز المال عن تبديده في الجهات الباطلة نهى الله عن ذلك بقوله: ولا تبذر تبذيرا. والمفعول المطلق لبيان النهي عن التبذير الذي لا مسوغ؟؟ له إلا التبذير المجرد، وذلك لإخراج صور من الإنفاق قد تظهر في مظهر التبذير ولكنها ليست في الحقيقة كذلك إذ يقتضيها مصالح وأسباب مشروعة معينة.

وبالغ في النهي عن هذه العادة بقوله مخبرا: إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا. أي كانوا قرناء للشياطين، وفيه إلماح إلى أن عادة تبذير المال وتبديده إنما تتمكن بتغلب الوساوس الشيطانية لا أكثر، إذ ليس من ورائه أي غاية أن مصلحة يحتاجها الإنسان. * ولكن أرأيت لو لم يكن الإنسان موسرا بالمال الذي يعطي منه حق القرابة والمحتاجين فأعرض عنهم عجزا عن العون لا استكبارا عن أداء الحق؟ ... لقد عالج البيان الإلهي العظيم هذه الحالة بأسلوب بالغ الروعة إذ قال: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها، فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً: أي مهما اضطررت إلى الإعراض عنهم بسبب الفقر والعوز اللذين تتأمل بهما فرج الله ورحمته، فقل لهم في مكان ذلك كلاما سهلا ليّنا وعدهم وعدا جميلا، فالميسور هنا مفعول بمعنى الفاعل، أي يسر ضرّهم عليهم بكلامك الجميل لهم. ولما أمر الله عزّ وجلّ في الآيات التي ذكرناها بالوفاء بحق الأقارب والمحتاجين ونهى عن تبديد المال فيما لا حاجة إليه، حتى لا يفوت بذلك أداء هذا الحق والقيام به، ناسب أن ينتقل الحديث إلى تقرير مبدأ جديد يتعلق بتنظيم الإنفاق ويضع قانونا عادلا له. والمبدأ الإلهي الذي يخاطب به كافة العباد في ذلك، هو أن يكون الإنفاق قائما على العدل بين التقتير والبخل المعيب من جانب، والإسراف والتبذير المقيت من جانب آخر. ولكن الأسلوب القرآني لا يعبّر عن هذا المعنى بهذه الطريقة المألوفة، وإنما يخرجه في صورة محسوسة متخيلة فيقول: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا. فقد صوّر البخل في مظهر اليد المربوطة إلى العنق فهي لا تكاد تنفك عنه، ومعلوم أن اليد أبعد ما تكون عن الآخرين حينما تكون مقيدة بهذا الشكل الغريب، وصوّر الإسراف بتلك اليد التي تظل ممتدة ومبسوطة لا تكاد ترجع إلى صاحبها أو تنقبض على شيء، ثم هدد من يلتزم بذلك التفريط أو هذا الإفراط بأن سيأتيه يوم يعود من دأبه هذا ليقعد منقطعا عن أسباب العيش والرزق، يتلقى اللوم من الله والناس على ما أفرط أو فرّط.

* وتأتي الآية التي بعدها، واقعة موقع التعليل مما قبلها وهي: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ. إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً. أي فإذا كان مصدر رزقك هو الله عزّ وجلّ يبسطه إذا شاء ويضيقه عند ما يريد، فالتزم وصيته في آداب الإنفاق وكيفيته، إذ لا البخل هو الذي يحفظ مالك ويربّيه ولا التبذير والإسراف يمنعانك من أن يعاقبك الله بذلك فيقدر عليك رزقك الذي تتقلب وتمرح فيه. ثم يقول: إنه كان بعباده خبيرا بصيرا، إشعارا بأنه يراقبهم بصدد ما يأمرهم به من هذه المبادئ، هل ينفذونها أم يعرضون عنها؟. * وتتهيأ المناسبة- مع الحديث عن آداب الإنفاق وتقرير أن الرزاق للعباد هو الله وحده- لعرض مبدأ خامس، وثيق الصلة بكل ما قد مرّ. فيقول الله عزّ وجلّ: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً أي لا تقتلوهم مخافة فقر تتوهمونه، وأصل أملق بمعنى التصق بالملقات، وهي حجارة رقاق ملساء فكنّي به بعد ذلك عن الفقر والحاجة. ثم علّل النهي بتأكيد ما قد ذكره في الآية السابقة فقال: نحن نرزقهم وإياكم، أي لستم أنتم الذين ترزقون أولادكم حتى تحاروا في أمرهم فتندفعوا بذلك إلى قتلهم؛ بل نحن الذين نرزقهم وإيّاكم جميعا، وبالغ في إظهار هذا المعنى مع شيء من التأديب حينما قدّم ضمير الأطفال في الرزق على الآباء، إذ أشعرهم بذلك بأن رزق أطفالهم مقدّر مهيّأ لهم من قبل رزقهم هم، فلا يتوهموا أن لهم أيّ تأثير في رزقهم حتى ولا التأثير الشكلي الذي يتجلّى في مظهر كونهم وسطاء لهم في الرزق والرعاية. وحينما نهى الله في سورة الأنعام عن قتلهم أولادهم من أجل وقوع الفقر بهم فعلا قائلا: لا تقتلوا أولادكم من إملاق- لم يقدّم ضمير الأطفال كما فعل هنا، ذلك لأن خوف الآباء هناك إنما هو على أنفسهم وأولادهم معا، أو هو على أنفسهم قبل أولادهم فلا داعي إلى إشعارهم بهذا المعنى على ذلك التقدير. ومن أجل وضوح كل ذلك، فقد كان قتلهم خطئا كبيرا. وخطء بكسر الخاء مصدر خطئ يخطأ كأثم يأثم وزنا ومعنى، فهو أبلغ وأشد من الخطأ بفتح الخاء والطاء، إذ هو الإتيان بما لا ينبغي من غير قصد.

* ويجرّ الحديث عن الأولاد وحرمة قتلهم إلى الحديث عن أهم وأخطر مبدأ من المبادئ المتعلقة بالأسرة، وهو المبدأ السادس في سلسلة هذه المبادئ الإنسانية فيقول الله عزّ وجلّ: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا والمنهى عنه في الآية إنما هو الزنى، ولكن الآية لا تنهي عن مباشرة ارتكابه فقط كما في الآيات السابقة، وإنما هي تنهى هنا- كما ترى- عن مجرد قربه والدنو إليه؛ ففي الآية تقرير واضح للنهي عن مباشرة أسبابه وذرائعه ومقدماته، كاختلاط وخلوة وتبرج ونحوه، ذلك لأن القرب ليس إلا كناية عن ممارسة هذه الدوافع والأسباب. وفي الآية أيضا تقرير لخطورة هذه الفاحشة وأن عدم مفارقتها لا يكون إلا بالتباعد عن أسبابها وذرائعها القريبة والبعيدة، أما بعد اقتحام الأسباب والذرائع فإن الدوافع البشرية تجمح بصاحبها نحو الشر الذي تعرّض له وهيهات أن يقوى عندئذ على كبحها والتغلّب عليها. و «فاحشة» في الآية صفة لمحذوف أي كان فعلة فاحشة، وساء سبيلا، أي بئس طريقا طريقه، لما فيه من الخطر على الأسرة والمجتمع ولما فيه من مختلف الشرور الأخرى. * ومع النهي عن الزنى، تحين المناسبة للنهي عن القتل، فهما جريمتان متقاربتان ومتشابهتان في الخطورة والضرر على المجتمع، وكلّ منهما يشبه الآخر من بعض النواحي، وهو المبدأ السابع فيما توصي به هذه الآيات: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ولا تقتلوا النفس أيّ نفس كانت، ما دامت أنها نفس أي روح ... إلا أن يكون ذلك لحق يستوجبه ويقتضيه. وهكذا تلك صياغة الآية على أن الأصل في كل روح أن تكون مصونة عن الإزهاق، وما يخالف هذا الأصل إنما يأتي لعارض. وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً من قتل بدون مسوغ من الحق المذكور فقد جعلنا لمستحق دمه تسلّطا على القاتل في الإرادة والحكم، فإن شاء طالب بالقصاص وإن شاء بالدّية وإن شاء عفا. فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ، إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً عبّر بهذا النهي عن كل ما قد يقوم به وليّ المقتول من مظاهر الانتقام المختلفة، بأن يقتل في مكان الواحد

اثنين أو ثلاثة كما كانوا يفعلون، أو بأن يمثل بالقاتل أو يزيد إلى القتل سلبا ونهبا، أو بأن يقتل غير قاتله، أو غير ذلك مما يدخل في باب التشفّي ويتجاوز القصاص والحق. عبّر عن النهي عن كل ذلك بهذه الصيغة الجامعة: فلا يسرف في القتل. والآية لا تنهى وليّ المقتول عن هذا الإسراف إلا وهي تطمئنه إلى أنه واصل إلى حقه، وعبّرت عن ذلك بصيغة الماضي مصدّرة بإن المؤكدة: إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً تأكيدا للوقوع ومزيدا من التطمين لخاطر صاحب النفس الملتاعة المتأثرة. * وتنتقل الآيات إلى مبدأ ثامن، هو الرأفة باليتيم، والنظر في ماله بالحفظ والصيانة. وهو مبدأ يهتم به القرآن اهتماما كبيرا، لما له من آثار خطيرة في المجتمع سلبا وإيجابا، إذ التفريط من أسوأ مظاهر الظلم والخيانة. وفي ذلك يقول الله عزّ وجلّ: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ. وإنما اقتضت المبالغة في النهي هذا الأسلوب، لأن أكل مال اليتيم له هو الآخر، كالزنا، أسباب وذرائع، إذا تهاون وليّ اليتيم بالوقوع فيها يوشك أن يقع من ورائها في أصل المنهي عنه. واستثني من عموم النهي أن يعالج له ماله بالحفظ والاستثمار والتجارة التي لا مغامرة فيها، وعبّر عن مثل هذه المعالجات المحمودة بقوله: إلا بالتي هي أحسن من الابتعاد والترك. وختم هذا الأمر، بتذكير وليّ اليتيم بالعهد الذي قام بينه وبين والده، وبأن عليه الوفاء بالعهد الذي أخذه على نفسه. ويقول بعد ذلك: إن العهد كان مسئولا، أي إن العهد سيسأل عمّا قد فعل به من حفظ أو ضياع له. أخرج العهد في صورة إنسان تجسدت فيه الأمانة وكلمة الشرف ليوجّه إليه الخطاب والسؤال، وذلك تأكيدا للعدالة الإلهية التي تراقب أعمال الناس ومعاملاتهم لبعض، وتحسيدا لدقة محاسبة كلّ على ما قد فعل. وأسلوب الآية في هذا جار على غرار قوله عزّ وجلّ: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ.

* ومع الحديث عن الأمانة وضرورة الوفاء بالعهد يوصى الله عزّ وجلّ بمبدإ تاسع، هو من أهم ما يتعلق بالأمانة والعهد فيقول: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي أتموا الكيل ولا تخسروه، حينما تريدون أن تكيلوا للمشترين، فالخطاب هنا للبائعين، إذ هم الذين يكيلون، أما المشتري فإنما هو يكتال، أي يطلب أن يكال له. ومن أجل ذلك قيّد الأمر بالوفاء عند إرادة الكيل، إذ الكائل هو الذي تراوده نفسه بخسران الكيل. ثم أمر بنحو ذلك عند التعامل بالوزن، ولما كانت طريقة الوزن مختلفة عن طريقة الكيل خالف في التعبير عن الوفاء بكلّ منهما. وعلّل هذا الأمر بأنه أفضل للبائع، وبأنه أحسن عاقبة. وإنما قال ذلك ليزيل الوهم العالق بأذهان البعض من أن الظاهر المحسوس أن التلاعب بالكيل والوزن خير للبائع إذ هو يزيد في دخله وربحه. فكأنه يقول: إنه وإن خيّل إليكم ذلك في أول الأمر فإن العاقبة تأتي بعكس ما تتخيلون، إذ كل ذلك سرعان ما يتبدد وينمحق، عند ما يعلم شأن هذا المحتال وعادته بين الناس. * ويأتي المبدأ العاشر نهيا وتحذيرا عن اتّباع أو تبنّي ما لم تعلم حقيقته من الأمور. وهو مبدأ ذو علاقة كبرى بتربية الفرد والمجتمع، وإليه يعود الأمر في معالجة معظم المشاكل والقضايا التي يشكو منها الباحثون والمفكرون في كل عهد وظرف. ولكن انظر إلى الأسلوب الذي أخرج به البيان الإلهي هذا المعنى: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ. إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا وتقف بمعنى تتبع من قفا أثره أي اتّبعه. فهو يقول: (لا تكن في اتباعك لما لا تعلم حقيقته من عقيدة أو قول أو فعل مثل من يتبع سبيلا مجهولا لا يدري إلى م سيوصله. فهو يشبّه المجهول الذي يسارع فيه الإنسان دون علم حقيقي به، بالطريق التائهة التي لا يدري نهايتها إذ يقتحمها السالك ظانّا بمجرد وهمه أنه سيصل منه إلى بعض ما يبتغيه. ثم يعلّل هذا النهي الخطير، بأن كلّا من السمع والبصر والعقل إنما هو أمانة استودعتها أيّها الإنسان لتستعملها في درك الأمور والتحقّق منها قبل

الخوض فيها، ولا جرم أنك ستسأل عن هذه الأمانة وستحاسب على تضييعها وعدم استرشادك بها. ثم إن الجملة في دلالتها على هذا المعنى تحتمل أحد تأويلين: الأول: أن السمع والبصر والفؤاد كلّ أولئك كان مسئولا عن نفسه يوم القيامة، فاسم كان ضمير عائد إلى كلّ من السمع والبصر والفؤاد. والآية على هذا التأويل جارية على غرار ما قلناه في: إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا وإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ وقد علمت المعنى البلاغي فيه. الثاني: أن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا فاسم كان على هذا ضمير عائد على الإنسان، والمعنى فيه واضح. وقد نزّل الله عزّ وجلّ هذه الأعضاء الثلاثة منزلة العقلاء، بسبب أن قوام عقل الإنسان وفكره بها، فمن أجل ذلك أشار إليها بما يشار به إلى العاقل وهو: أولئك. * والمبدأ الأخير مبدأ أخلاقي ذو اتصال مباشر بالذي قبله، بل بينهما تلازم في السلب والإيجاب، وهو تحذير الإنسان من أن يسلم نفسه للغرور الذي ينسيه حقيقة ذاته فيتعاظم ويتكبر ... وكلّ ما حوله من الناس والمخلوقات مما لا موجب للتعاظم عليه. وانظر ما يقول الخطاب الإلهي في ذلك: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا والآية كما ترى تفيض بالصور المختلفة التي تسخر من هذا الذي يمشي متكبرا على الأرض. فمن ذلك أنه قيد المشي بالأرض، وهو شيء معلوم، إشعارا بأن هذا الذي يمشي على الأرض لا يليق بحاله أن يتكبر من فوقها. ومن ذلك أنه أخبر بما هو معلوم، وهو قوله: إنك لن تخرق الأرض. تنزيلا للمتكبّر المتجبّر منزلة من غابت عنه هذه الحقيقة الواضحة، فهو يحتاج إلى من ينبهه إليها! ومن ذلك هذه الصورة الساخرة التي تتركها الجملة في الذهن: إنك لن

تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا. إنها تصوّر لك ما يفعله المتعاظم في سيره إذ يضرب بقدمه الأرض كأنه يفاخرها ويشعرها بشأنه، ويرفع رأسه متطاولا كأنما يريد أن يطاول بهامته ذرى الجبال مع أنه هو هو، ذلك المخلوق الضعيف الذي لن يخرق أرضا ولن يطاول جبلا. وبعد أن انتهى الحديث عن تفصيل هذه المبادئ الهامة في حياة الإنسان، عاد الخطاب الإلهي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مشيرا إلى كل هذه المبادئ قائلا: ذلك ما أوحى إليك ربك من الحكمة، أي من معرفة الحق؛ فالحكمة، هي اكتشاف الحق الذي قد يخفى على غير ذي البصيرة. وكان الخطاب من قبل ذلك متجها إلى الإنسان عموما، فمرة يخاطبه بصيغة الجماعة كما في قوله: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، ومرة يخاطب فيه الفرد المتكرر كما في قوله: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ .. ثم يختم هذه المبادئ بما قد بدأ به، وهو مبدأ الإيمان بالله عزّ وجلّ ووحدانيته قائلا: ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا، إشعارا بأن ملاك هذه المبادئ كلها وضمان تطبيقها الوحيد هو الإيمان بالله عزّ وجلّ إيمانا صادقا. فما لم يوجد الإيمان به فإن هذه المبادئ لن تنفذ كما ينبغي مهما آمن الناس بأنها حق لا مرية فيه. إذ إن مجرد الإيمان بالفضيلة لا يكفي دافعا إلى التمسك بها وكم في الناس من يؤمن بأن الحق حق ومع ذلك فهو لا يقوى على تنفيذه، ويؤمن بأن الباطل باطل ومع ذلك لا يستطيع التخلّص من ظلّه: والله سبحانه أعلم. ***

في القصص (من سورة هود، من آية: 35 إلى آية: 49)

في القصص (من سورة هود، من آية: 35 إلى آية: 49) قال الله تعالى: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ. وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ. وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ. حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ. وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ. قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ. وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ. قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ. قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ. قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ. تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ

تعريف عام بالآيات:

نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ. ... تعريف عام بالآيات: هذه الآيات تمثل مشاهد من قصة نوح عليه السلام مع قومه، وإنما تركنا المشهد الأول منها فقط، وهو الذي يصوّر فيه البيان القرآني الحوار الذي كان بين نوح وقومه وأسلوبه في دعوتهم إلى الله عزّ وجلّ. وإذا تأملت هذه الآيات التي نقلناها لك وجدتها تتألف من خمسة مشاهد- والقصة القرآنية كما قد علمت تضع أمامك مشاهد من صورها، أكثر من أن تخبرك بمعان من أحداثها. تجد في المشهد الأول مظهر الغضب الإلهي على قوم نوح بعد أن طالت دعوتهم إلى الإيمان بالله دون جدوى كما تجد فيه أمر نوح بأن ينصرف إلى إعداد سفينة. وتجد في المشهد الثاني صورة من سخرية قومه به وهو عاكف على صنع السفينة. وتجد في المشهد الثالث صورة من أحداث الطوفان وكيف أخذت السفينة تمخر بالمؤمنين من عباد الله جبالا من الأمواج. وتبصر في المشهد الرابع سكون الغضب واختفاء الماء وهدوء الدنيا وعودة كل شيء إلى ما كان. أما المشهد الخامس والأخير فتبصر فيه مناجاة نوح لربه بشأن ابنه ثم هبوط الناس إلى دنيا أعمالهم وعيشهم مرة أخرى. هذا تعريف سريع بالآيات ومحتواها وموقعها مما قبلها. أما تفصيل ذلك ففيما يلي:

شرح الآيات:

شرح الآيات: * تضعنا الآيتان الأوليان أمام أول مشهد من الأحداث العظيمة في هذه القصة، وذلك بعد أن مرّ دهر طويل على نوح وهو يدعو قومه إلى الله ويناشدهم الانصياع إلى منطق العقل ووحي الضمير، دون جدوى: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ فقد أخبر الله إذا أنه لا مطمع في إسلام أحد من قومه بعد اليوم، فلينفض يده من الاهتمام بشأنهم، ولا يحزن عليهم بما يظلمون عاكفين عليه من غواية وضلال. وليس هذا فقط، بل إن عليه أن ينصرف عن دعوتهم بعد اليوم، وعليه أن يشرع في صنع سفينة! ... ولكن كيف يصنع السفينة وهو لم يمارس هذا العمل من قبل، وكيف يتأتى أن يفعل ذلك باطمئنان وفي سلام، وإن قومه الذين لم ينفكوا يؤذونه سيفسدون عليه عمله؟!. والجواب تراه في قوله عزّ وجلّ: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا أي اصنعه ولا تبال بسخرية قومك، فإنما ستصنعه متلبسا برعايتنا وحفظنا؛ ولا تؤرق الفكر في مشكلة جهلك بصنعه، فإنما ستصنعه من وراء وحينا وإلهامنا. ويختم الوحي الإلهي خطابه لنوح بقوله عزّ وجلّ: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ لا تكلمني في شأنهم باسترحام ودعاء بعد اليوم. فقد قضي الأمر بإغراقهم وسينفذ قضاء الله فيهم وشيكا. ولبيان ضرورة نفاذ هذا القضاء عبّر بصيغة الماضي: إنهم مغرقون. * وينطوي هذا المشهد، ليظهر من ورائه مشهد آخر، تبصر فيه نوحا عليه السلام وهو منهمك في صنع الفلك وإعدادها. وانظر كيف يصوّر البيان القرآني هذه الصورة في قوله عزّ وجلّ: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ ... هكذا، بصيغة المضارع الحاضر، إحياء للصورة في الذهن وتحضيرا للمشهد أمام المخيلة. ثم نبصر في هذا المشهد قوم نوح وهم يمرون، جماعة إثر أخرى،

يضجّون سخرية به وبعمله الجديد هذا. ولك أن تتصور ما شئت من مظاهر السخرية وأقاويلها، فالقرآن ترك تصوّر ذلك لخيالك، وتأمل في ذلك قوله عزّ وجلّ: وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ جملة حالية تصور لك الأمر مستمرا متكررا؛ ذلك أنهم رأوه في عمله هذا مادة جديدة هائلة للسخرية، خصوصا وإنه يقوم بهذا العمل في مكان لا حاجة ولا محل فيه للسفن إذ كانت القصة ما بين بلاد الشام والعراق؛ فهم كلما مرّوا به وقفوا عنده يسخرون منه. ولكنه لم يكن يزيد في جوابه لهم على أن يقول- وهو منكبّ على عمله-. إن تسخروا منّا فإنّا نسخر منكم كما تسخرون، أي سوف تجدون عاقبة سخريتكم هذه بلاء يتلبس بكم. ثم يقول: مؤكدا المعنى المقصود بقوله، فإنّا نسخر منكم: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ أي فسوف ينكشف لكم الحجاب عن الفريق الذي يفجؤه عذاب يخزيه في الدنيا ثم ينزل به عذاب لا ينفك عنه في الآخرة. ولك أن تعتبر «من» في الجملة موصولة في محل نصب مفعولا لتعلمون، ولك أن تعتبرها استفهاما سدّت مع خبرها الذي بعدها مسدّ مفعول تعلمون. * ويطوى هذا المشهد أيضا، وتمرّ أحداث لا تتكلم عنها الآيات ولا تعرّج عليها، اعتمادا على سير المخيلة والفكر؛ فقد انتهى صنع السفينة وفرغ نوح منها ولبث ينتظر الميعاد الذي لن يتخلف لحظة واحدة عن أجله المحتوم، حيث يظهر المشهد الرابع مع قوله تعالى: حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ... الآية. ف حَتَّى هذه، تشير كما ترى إلى الأحداث المطوية بين المشهدين، أي وظل نوح عاكفا على صنع السفينة ومرّ زمان على ذلك، حتى جاء الميقات المحدد في علم الله، وفار التنور. والتنور معروف، والماء لم ينبع من التنور وحده بل فاض من أنحاء الأرض كلها، ولكنه إنما اكتفى بالنص عليه وحده، إشعارا بالغاية ودلالة على

الماء إذا كان قد فار من منبع النار، وهو التنور فلأن يفور ويفيض من عامة الأماكن الأخرى أحرى وأجدر. فعند ما تفجرت الأرض بالمياه أوحى الله إلى نوح أن يحمل في السفينة من كل صنف من أصناف الحيوانات زوجين اثنين، أي ذكرا وأنثى، والعرب تسمي كل واحد من اثنين لا يستغنيان عن بعض زوجا يقولون: زوجا نعل وزوجا حمام. كما أوحى إليه أن يحمل فيها أفراد أهله، إلا من سبق في علم الله استمراره على الضلال منهم، وهو ابنه وامرأته، وأن يحمل فيها عامّة المؤمنين به، ويلتفت البيان القرآني هنا، عن سياق القصة ليخبر قائلا: وما آمن معه إلا قليل، وفي هذا الالتفات دلالة مؤثرة دقيقة يشعر بها الحسّ وتتأثر لها النفس ويحزن لها القلب! ... وأقبل نوح إلى أهله والمؤمنين من قومه يقول لهم: اركبوا فيها متّكلين على الله الذي آمنتم به، ولا يهمنّكم كيفية سوقها الذي ليس فيكم من يتقنه ولا سبيل اتجاهها ورسّوها الذي لا تعرفونه، فإن السائق والموجّه هو الله، بأمره تجري وبأمره سترسو. فاركبوا فيها، جملة مستقلة؛ وباسم الله مجريها، جملة مستقلة أخرى من مبتدأ متأخر وخبر مقدم. ولا شأن للبيان القرآني بوصف كيفية الركوب أو كيفية تلافي الحيوانات المختلفة، فمجرى القصة القرآنية كما يريده القرآن لا غرض له بشيء من ذلك. وعلى كلّ فقد تمّ ما أراده الله. وركب المؤمنون في السفينة وتلاقى فيها من كل صنف من الحيوانات المختلفة زوجان اثنان، وجرى الفلك يمخر عباب بحر لا عهد للبشرية به. ويصف البيان الإلهي هذا المشهد بقوله: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وتأمل كيف صوّر تلك الأمواج التي هي من العلو والضخامة كالجبال، في صورة طريق تجري فيه السفينة. وفي هذا بيان لمدى طغيان الماء

على الأرض وبيان لمدى تغلّب السفينة بحفظ الله من ذلك الطغيان الهائل!. ولنتأمل الآن في هذا المشهد المؤثر: نوح على ظهر السفينة، وابنه في خارجها بعيدا عنه، وقد اعتلجت رحمة الأبوّة في قلب الوالد الذي يريد لابنه الخير والنجاة، فناداه من بعيد: يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين. ويجيبه الابن من معزله البعيد غير مبال بتأثر الوالد وشفقته: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء أي سأعتصم من الطبيعة بالطبيعة، ومهما كان من طغيان الماء فإن في طبيعة الجبال أعظم معتصم منها! ... وذلك هو منطق الإلحاد، لا يبصّر صاحبه مما هو أمامه إلا وراء أرنبة أنفه. ويصور القرآن ردّ الوالد عليه في جملة فيها الأسى والحزن، وفيها منطق الإيمان يردّ على غرور الجحود والإلحاد: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم. لم يقل لا عاصم اليوم من الماء؛ على نحو ما قاله ابنه، إشعارا بأن المشكلة ليست مشكلة ماء. إنها مشكلة أمر الله عزّ وجلّ خالق كل شيء والمسيّر لكل شيء، فهيهات أن تجد معتصما من أمر الله في جبل أو أرض أو سماء، اللهمّ إلا من رحمه الله بهدايته، فمعتصمه هو رحمة الله فقط، فإلّا في قوله: إِلَّا مَنْ رَحِمَ بمعنى لكن، أي لكن من رحمه الله فهو معصوم برحمته. ويسدل البيان الإلهي ستارا على هذا الحوار بين منطق الإيمان وغرور الإلحاد، إذ يقول بعد ذلك: وحال بينهما الموج فكان من المغرقين. ولكأني أرى في هذه الجملة الرهيبة صواعق من مظهر الغضب الإلهي وهي تنقض على الجهل المتعالم والغرور المتطاول تسحقه فإذا هو أثر بعد عين. إن الجملة لتقول بأبين دلالة: ما كاد هذا المسكين يتم النطق بكلامه المغرور وما كاد يطرف ببصره بحثا عن الجبل الذي سيعتصم فيه، حتى أسرعت إليه موجة فالتقمته، وكأن لم يكن!. * وفي غمرة هذه الأحداث التي تصورها الآيات، وبين صخب الأمواج التي تنحسر وتمتد في بحر هي الأرض كلها- ينطوي هذا المشهد فجأة، لترى من ورائه مباشرة عودة الهدوء إلى الدنيا ورجوع كل شيء إلى نظامه السابق؛

فقد هدأت الزمجرة، وسكنت العاصفة وولدت الدنيا كما كانت من جديد. وتعال فلنتأمل في اللوحة الإلهية التي رسمت هذا المشهد: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي؛ وَغِيضَ الْماءُ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ، وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ، وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. إن هذه الجمل القرآنية العجيبة، تصور لك هذا الكون الهائل الفسيح من سماء وأرض وبحار وجبال في صورة أنموذج من القطع المركبة إلى بعضها مما يوضع بين يدي الأطفال، جاءت يد إنسان فنثرتها وفصلت أجزاءها، ثم ما هو إلا أن عاد فركّبها إلى بعضها كما كانت في أسرع وقت. وهي تصوّر لك معنى الإرادة الإلهية وسلطانها الرهيب المنبسط على الكون كله بل القابض عليه كله، وتتصرف به كما تشاء ليس في حسابها أي معنى لكبير وصغير أو لعظيم وحقير. ألا ترى كيف علّقت الآية رجوع كل شيء إلى ما كان عليه بعد أن التقت مياه السماء والأرض على طوفان هائل مخيف- على كلمة صغيرة هي: وَقِيلَ لتصوّر لك سهولة الأمر وأنه لا يحتاج إلا لهذا الأمر الإلهي الذي به قيام الدنيا وزوالها. ثم انظر إلى دقائق التعبير المصوّر: وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ أرأيت أنه لم يقل: جففي ماءك، مثلا، مع أنه هو التعبير المتفق مع طبيعة الأرض وشأنها، وإنما قال: ابلعي ماءك، ليصوّر لك بأن الأرض لما اتجهت إليها إرادة العزيز الخبير انقلبت مسامها وشقوقها إلى أفواه فاغرة تبتلع بها المياه ابتلاعا! فهي لم تنفّذ الأمر بالطبيعة المألوفة لها وإنما بالانقياد لأمر خالقها جلّ جلاله. وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وأنت إذا تأملت في كلمة اقلعي- وهي بمعنى كفّي وأمسكي- تصورت كم كانت منفتحة على مياه تنصبّ إلى الأرض وحسبك أن تتأمل الآية الأخرى في وصف ذلك: وفتحنا أبواب السماء بماء منهمر، لتتصور هول تلك المياه المنهمرة من أبواب السماء. ثم انظر كيف أسند الخطاب إلى كلّ من السماء والأرض مع أنهما مخلوقان

جامدان، ليصور لك سرعة استجابتهما لأمر الله عزّ وجلّ حتى كأنهما منقادتان بسماع الأمر وفهم الخطاب. وَغِيضَ الْماءُ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ، وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ. ثلاث جمل فيها مظهر الاستجابة السريعة لأمر الله، فقد غيض الماض أي فلم يبق إلا ما كان على وجهه من قبل. وقضي الأمر فهلك أولئك الكافرون والجاحدون ونفذ فيهم حكم الله عزّ وجلّ، وها هي السفينة قد رست على جبل الجودي (¬1). وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وهو قيل ينطق به حال الكون كله بعد انقشاع الغمّة وزوال المصيبة، فقد فتح الكون عينه ليرى كيف ذهب أولئك الظالمون في تلافيفها ومضوا مع مضيّها، فقال بلسان الحال: بعدا لقوم الظالمين، أي ليزدادوا ابتعادا وهلاكا، وما ظلمهم أحد ولكنهم كانوا هم الظالمين. * والتقط المؤمنون أنفاسهم بعد انقشاع البلاء، وأخذوا- وقد استقرت السفينة بهم هادئة فوق الجودي- يتأملون معتبرين، وتذكّر نوح ابنه، وتمنى لو كان فيمن سلمهم الله من هذه الطامّة، وتذكّر وعد الله إيّاه بإنجاء أهله فرفع رأسه يقول في ضراعة وأدب: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ. أسلوب في غاية الأدب، إنه يسأل ولكن سؤالا مطويا ضمن ما يقرره من وصف العدالة والحكمة الباهرة لله جلّ جلاله، أي فلماذا لم يكن من الناجين وقد وعدتني- ووعدك الحق- بأن يكون أهلي في المرحومين من ذلك البلاء؟ وجاءه الجواب وحيا من الله عزّ وجلّ: يا نوح إنه ليس من أهلك، إنه عمل غير صالح. أي إنه ليس داخلا في أهلك أصلا، لأن مدار إكرام قرابتك إنما هو على الإيمان الذي هو الأصل والسبب في إكرامهم، فإذا انتفى الإيمان الذي هو ¬

_ (¬1) هو جبل في شمالي العراق داخل في الحدود التركية.

الأصل لم يبق أثر للأهل الذي هو الفرع. أو يكون المعنى: إنه ليس داخلا في أهله الذين وعد الله بنجاتهم، إذ هو خارج عنهم باستثناء إلا من سبق عليه القول. ثم علّل نفي الأهلية عنه بجملة استثنائية ليكون فيها معنى التعليل والإخبار معا فقال: إنه عمل غير صالح، أي إنه ذو عمل غير صالح، وإنما أخبر عنه بالعمل نفسه، مبالغة في إلصاق السوء به ولبيان أن العمل السيئ لم يكن يفارقه. وإذ قد وقفت على جليّة الأمر فلا تسألن سؤال طلب ما ليس لك به علم، أي لا تطلب مني شيئا لا تعلم أن الحكمة متفقة معه أم لا، فليس كل ما يظهر لك هو وحده الحقيقة. إني أعظك أن تكون من الجاهلين، أي أنهاك عن مثل هذا وأحذرك لئلا تكون من الجاهلين، أو كراهية أن تكون من الجاهلين. وأمام جواب الله لنوح عليه السلام وقف متذللا لحكمه وقضائه ملتزما حدود العبودية والرضى قائلا: ربّ إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم، وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الجاهلين. وأنت ترى كأنه ذنب عظيم ذاك الذي فعله نوح بسؤاله فهو يستغفر ويتوب منه، وما هو بذنب في الحقيقة ولكنه رتبة المقرّبين تقتضيهم مزيدا من الرهبة والإجلال وهذا هو شأنهما في النفس. والآن ... وقد هيّئت الأرض مرة أخرى للعيش فوقها وعادت أسباب الرزق والكدح من فوقها كما كانت من قبل، فليهبط نوح ومن معه من الشاهق الذي أرستهم السفينة عليه إلى الأرض سالمين مطمئنين ينعمون بخيراتها وثمارها، يشترك في ذلك الصالح والطالح إلى أن يأتيهم ميقات يوم معلوم، ففيه يلاقي كلّ جزاءه وأجره. وانظر إلى البيان القرآني كيف يقرر هذا المعنى: قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ. وإنما قال: وعلى أمم ممّن معك ولم يقل: وعلى من معك، لأن الحديث

ليس عن الذين كانوا مع نوح وحدهم، وإنما الحديث عنهم وعن الذين سيتكاثرون من ذريّاتهم، وإن فيهم المؤمن وغيره، فخصّ السلام والبركة بالبعض وهم المؤمنون. وليس الذي يلقاه الكافرون أيضا من أسباب العيش والخير سلاما وبركة في الاصطلاح الإلهي، وإنما هو «تمتيع» أي ترك وإمهال مؤقت، حيث ستطوى الحياة عمّا قريب ويقبل الكل إلى الرحمن عبادا صاغرين، فهنالك يقام الحساب والميزان للجميع. ***

في الحجاج والنقاش (من سورة النمل من آية: 59 إلى آية: 66)

في الحجاج والنّقاش (من سورة النمل من آية: 59 إلى آية: 66) قال الله تعالى: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى، آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ* أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ* أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً، أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ* أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ، أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ، قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ* أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ، تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ* أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ، قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ. بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها، بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ. تعريف عام بالآيات: تأتي هذه الآيات بعد عرض مفصّل لقصص بعض الأمم السابقة مع أنبيائهم الذين بعثوا إليهم وكيفية إهلاك الله لتلك الأمم بسبب عتوّهم وطغيانهم في الأرض. ولما كان في هذه القصص عبرة لأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم وفيها الدليل على

شرح الآيات:

وحدانية الله تعالى ووجوده والرد على الباطل الذي يتمسك به الكافرون والجاحدون- عقب الله عليها بالالتفات إلى هؤلاء الكافرين يستنهض عقولهم للعبرة والتأمل، ويناقشهم في باطلهم الذي يحتضنونه، بمختلف البراهين والأدلة القاطعة التي يرونها من حولهم. والآيات تعرض أربعة أصناف من الأدلة تناقش الكافرين على أساسها: الصنف الأول: أدلة تتعلق بمجموع الكون بما فيه من سماوات وأرض. الثاني: أدلة تتعلق بكثير من خصائص الأرض وسماتها التي يبصرونها بأعينهم أو عقولهم. الثالث: أدلة هامة تتعلق بذواتهم وأنفسهم والنعم الحاصلة لهم. الرابع: دليل النشأة الأولى، وما يستلزمه من دليل الإعادة بعد الموت. وكما ترى، فإن أسلوب النقاش والاحتجاج على الكافرين بهذه الأدلة، قائم على أساس الاستفهام المتكرر وما يليه من أجوبة عنهم عليها، لما فيها من تقريع وتأنيب ودفع إلى التأمل. شرح الآيات: - تأتي الآية الأولى في هذا النص، فاصلة بين قصص الأنبياء السابقين التي ظلّت الآيات السابقة تعرضها من أول السورة، وما يليها من مواجهة الكافرين بالمناقشة والمحاجّة. والخطاب في هذه الآية الفاصلة موجّه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، يأمره فيها- وقد سمع ما أخبر به عن قصص تلك الأمم التي حاق بها الهلاك والدمار وأولئك الأنبياء الذي لاقوا من أقوامهم صنوف الإيذاء- أن يحمد الله عزّ وجلّ على أن خصّ أمته هذه بالرحمة واللطف فقضى أن لا يهلكها بمثل ما أهلك به أولئك الآخرين، رغم تشابه الإعراض والإيذاء في كثير من الحالات، وأن يسلّم على أولئك الذين اصطفاهم الله لتبليغ رسالته فعذبوا واضطهدوا ولم يمنعهم ذلك من القيام بأمر الله عزّ وجلّ.

ثم يأمره بعد هذا أن يتوجه إلى المشركين الذين من حوله سائلا: هل الإيمان بالإله الحقّ الذي فعل كل ما قد ذكر بالأمم السابقة أفضل أم الإيمان بما تؤلهونه من المخلوقات أيّا كانت؟ وهذا الاستفهام جار على قصد التقريع للمشركين وتسفيه آرائهم السقيمة، وإلا فمن الواضح أنه لا يوجد أيّ تلاق في جنس الخيرية بين الأوثان التي يؤمنون بها والإله الواحد جلّ جلاله، حتى يتصور معنى التفاضل والسؤال عن الأفضل منهما، فهو كما تقول لمن سلك مسالك الغواية والشقاء: ويحك هل الشقاء خير أم السعادة؟! ولما كانت هذه الخيرية، رغم وضوحها، خفية عن أذهان الكافرين، أو كالخفية بسبب تكبرهم وعنادهم في الباطل الذي لا يريدون التحوّل عنه، عقّب الله هذا الاستفهام بآيات تكشف عن مظاهر ألوهية الله عزّ وجلّ وتفرّده في الخلق والإبداع والتحكّم في مقاليد الكون، ليتّضح للمشركين أيّهما خير: الله عزّ وجلّ أم ما يؤلهونه من المخلوقات أيّا كانت؛- أمّن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها، أإله مع الله، بل هم قوم يعدلون. هذه أول آية من هذه الآيات التي سيقت مساق الكشف عن بعض مظاهر ألوهية الله جلّ جلاله، تأتي بأسلوب الاستفهام ليكون فيها معنى الاحتجاج والمناقشة والدفع إلى التأمل وإعمال الفكر. وأم التي في أولها، أم المنقطعة، بمعنى بل، وهي للإضراب الانتقالي عن الكلام السابق إلى سؤال آخر: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ ... الآية. والسماوات هنا كل هذه الأجرام العلوية بما فيها من كواكب وغيرها، والسماء في قوله: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً هو جهة العلو، إذ كل ما علاك فأظلّك فهو في اللغة سماء. وكان من مقتضى نسق الآية أن يقول: فأنبت به حدائق، فلماذا وقع الالتفات عن ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم؟

إن الذي اقتضى ذلك هو أن أحدا لا ينسب إلى نفسه خلق السماوات وإنزال الأمطار، فحسب السؤال عن خالقها ومنزّلها، بهذا الأسلوب، منبها إليه جلّ جلاله. أما إنبات الزرع والأشجار فكثيرا ما ينسبه صاحب البذر والسقي إلى نفسه فيقول: أنبت الزرع والبستان، فناسب الالتفات به إلى ضمير المتكلم تأكيدا لاختصاص الإنبات بذاته تعالى وإشعارا بأن ظهور النبات يشق باطن الأرض بألوانه الزاهية وطعومه المختلفة وخصائصه المتنوعة إنما هو من فعل الخالق جلّ جلاله، ومن أجل المزيد من تقرير هذه الحقيقة قال بعد ذلك: ما كان لكم أن تنبتوا شجرها. وجواب الاستفهام محذوف، دلّ عليه حكم العقل والكون، على أن الذين ينتظر منه الجواب هم المخاطبون. ولقد رتّب الله على هذا الجواب المعلوم استفهاما آخر متفرعا عنه ومرتبطا به: أءله مع الله، أي أءله آخر مع الله جلّ جلاله. ويتلفت الخطاب عنهم بعد ذلك، مضربا عن حديثه معهم وسؤاله إيّاهم، ليحكي صفتهم وحالهم العجيبة للآخرين قائلا: بل هم قوم يعدلون أي كأنه يقول ملتفتا: ولكن ما الجدوى من نقاشهم والبحث معهم؟ إنهم قوم يعدلون عن الحقّ، أو هم يعدلون بالله غيره من الأوثان والمخلوقات!. * أمّن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا، أإله مع الله، بل أكثرهم لا يعلمون. إضراب آخر، أريد به الانتقال إلى دليل كوني آخر متعلق بكثير من خصائص الأرض وسماتها الواضحة من حولهم وأمام أعينهم. أي لنترك أمر السماوات وحديث المطر والإنبات إلى حقيقة أخرى. من هذا الذي جعل لكم الأرض قرارا؟ وكلمة «قرارا» هذه تعني كل ما قد أودع الله الأرض من الخصائص التي تجعلها قارّة بنفسها وتجعل الناس متمكنين من القرار عليها، سواء فيما يتعلق بلينها وصلابتها وطبيعة الإنبات المودعة فيها وضبط ثقلها وخفّتها ومدى بعد الشمس عنها، ونظام الجاذبية التي فيها، وغير ذلك مما

لا يزال العلم يكتشفه وينتبه إليه، كلّ ذلك عبّر عنه البيان الإلهي بالكلمة الجامعة: قرارا. ومن جعل على وجه الأرض أنهارا تتخللها كتخلّل الشرابين في الجسد إذ تمدّه بالقوة والحياة؟ ومن أقام عليها جبالا ثوابت ثقالا تمنعها أن تميد بأهلها، وتتكون في باطنها كنوز المعادن وتحتفظ في جوفها بالينابيع الثرة من المياه، وعبّر عن الجبال بكل ما فيها من الصفات، بالرواسي وهي جمع راسية، أي مستقرة وثابتة، وأنت لا تطلق هذه الكلمة على كل ما يستقر إلا إذا كان ثقيلا جسيما، فلا تقول أرسيت الكأس مثلا، وإنما تقول أرسيت الصخرة أو البناء أو نحو ذلك. ومن جعل بين البحرين حاجزا؟ وتثنية البحرين من التغليب، أي البحار والأنهار، ومعلوم أن الحكمة الإلهية اقتضت أن تكون البحار أخفض من مستوى الأنهار حتى لا تنصبّ فيها مياه البحار فيفسد طعمها، وحينما تنصبّ مياه الأنهار في البحر فإنها تتخذ لنفسها في عرضه طريقا مستقلا يمتد أشواطا كثيرة دون أن يمتزج كلّ من الماءين بالآخر. والذي اقتضى ذلك اختلاف طبيعة الماءين التي قدّرت بخلق الله وحكمته حتى تؤدي كلّ من البحار والأنهار خدمات نوعية مستقلة لهذا الإنسان. وتقف الآية هنا أيضا عن الإجابة على هذا السؤال انتظارا لإجابة المخاطبين، وإتاحة للفكر المتأمل أن ينصت خاشعا إلى الجواب ينبعث من فم الكون كله: إنه الله وحده. ويأتي السؤال مرة أخرى مرتبا على هذا الجواب المعروف: أإله مع الله؟!. أبعد هذا كله يوجد أي إله آخر إلى جانب الله جلّ جلاله؟ ويلتفت الخطاب عنهم مرة أخرى ليحكي حالهم العجيبة للآخرين: بل أكثرهم لا يعلمون؛ ولما كانت المسائل المستفهم عنها يتوقف الفهم والتقدير التام لها على العلم، قال في حكاية حالهم المسبّبة لغرورهم وجحودهم: بل أكثرهم لا يعلمون. وفيه ما لا يخفى من حمل الناس على التأمل في دقائق الكون

ومعرفة ما يقوم عليه من النظام ودقة الخلق والصنع. * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ، أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ، قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ. وينتقل الحديث بإضراب ثالث إلى أدلة من نوع آخر، قائمة في كيانهم ومستقرة في نفوسهم. إنّ من خصائص الإنسان أنه إذا نزلت به شدة من الشدائد وحز به أمر من بلاء أو مصيبة، والتفت من حوله فافتقد الوسيلة المنقذة والصديق المساعد وضاق عليه الخناق، أخذ يرمق السماء بطرفه يسأل الله عزّ وجلّ في ضراعة وذل، ولعلّه كان لا يعرف الله في أوقات الصفو والرخاء. وهذه الطبيعة الكامنة في الإنسان من أعظم الأدلة على أنه مفطور في حقيقته على العبودية لله عزّ وجلّ والإيمان به، وأن كل انحرافاته التي تبعده عن هذه الفطرة إنما تأتي بسبب غاشية من الغفلة أو سكرة من الكبرياء الكاذب أو الشهوات المتأججة، وسرعان ما يرتدّ إلى فطرته الأصيلة إذ يهتز كيانه بسبب بلاء خانق أو كرب مطبق فيتساقط عنه كل ما قد تعلق به من غواشي الغفلة ومسكرات الشهوات والأهواء. فمن الذي يستجيب لهذا المضطر إذا دعاه متضرعا له آئبا إليه؟ والسؤال، فيه تذكير كما ترى بهذه الفطرة الإنسانية، وفيه بيان أن الإنسان إذا أصابه ضرّ شديد ضلّ عنه كل من يدعوه ويعتمد عليه إلا الله جلّ جلاله، و «أل» في المضطر للجنس لا للاستغراق، فلا يلزم أن تكون الاستجابة من الله عامّة لكل الداعين من المضطرين. ومن الذي يكشف السوء عنكم بكل أصنافه ومظاهره؟ ومن الذي يجعلكم خلفاء الأرض؟ أي تتوارثون سكناها والتصرّف فيها جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن؛ وكم في هذه المظاهر من دلائل العظمة الإلهية في تنظيم حياة هذه الخليقة على وجه الأرض!. دفعة من بني الإنسان تأتي إثر أخرى، هذه تأتي من باب الولادة، وتمضي الأخرى من باب الموت. ولو

تجمعت هذه الدفعات البشرية مع بعضها لضاقت بها الأرض وفسد نظام الحياة، وتخلّفت الحكمة الكبرى من الإيجاد والخلق. وانظر، فإن في هذه الجملة المختصرة المثيرة للفكر: ويجعلكم خلفاء الأرض، تعبيرا عن هذه الحقيقة كلها، فما أعجب البيان القرآني وما أروع! ... وتقف هذه الآية أيضا عن الجواب الذي تنطق به الفطرة الإنسانية في أوضح بيان ... ليكرر السؤال المترتب على الجواب المعرف: أإله مع الله؟ وهنا أيضا يحكي حالتهم التي تصدّهم عن الإيمان بالبدهيات، ولكنه لا يقول هذه المرة: بل أكثرهم لا يعلمون، كما ذكر في الآية السابقة، ذلك لأن هذه الدلائل القائمة في فطرة الإنسان وكيانه، لا تحتاج إلى علم مجهول، وإنما تحتاج إلى تذكّر شيء معلوم متلبس بالإنسان نفسه، ولذلك قال: قليلا ما تذكّرون، أي تذكرا قليلا ما تذكّرون: وهو تعبير خاص أريد به عدم التذكّر مطلقا. * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ، تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ. إضراب انتقالي إلى نوع آخر من الأدلة يحاجج بها الجاحدين ويناقشهم. من المعلوم أن الإنسان يتعرض لتيه من الضلال تتضاءل عنده حيلة الإنسان ويظهر فيه ضعفه في حالتين اثنتين: عند ما يغشيه الظلام المطبق بليل في فلاة، وعند ما يتيه في زرقة لا حدود لها من زرقة البحر والسماء، وما رؤي الإنسان أقرب إلى التعرّف لحقيقة الضعيفة وعبوديته لله عزّ وجلّ، منه في إحدى هاتين الحالتين. فمن الذي يهدي الإنسان في كلّ من هاتين الظلمتين. ولك أن تفهم من الظلمات معناها الحقيقي وذلك إذ يلتقي تيه كلّ من الفلاة والبحر بظلمة الليل البهيم، وأن تفهم منها معناها المجازي، إذ جعل مفاوز البرّ التائهة ولجج البحار الهائلة كأنها ظلمات مطبقة يضلّ فيها الإنسان ولا يقع على علم يتعلق به أو يهديه. ومن يرسل الرياح بشرا، أي مقدمة تبشّر بالخير، بين يدي رحمة الأمطار إذ يبعثها الله على الأرض لتخرج ما في بطنها ولتقدّم خيراتها لمن على ظهرها؟

والرياح تطلق على ما يأتي بالخير من المطر وغيره، فإذا قلت: ريح فهي ما يحمل في طواياه الشر على اختلاف درجاته وأشكاله ولقد كان من شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كلما رأى هبوب الهواء أن يقول: اللهمّ اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا. ويعيد البيان الإلهي نفس السؤال السابق: أإله مع الله؟ ويلتفت عن الخطاب لهم مرة أخرى، ليقرر تنزيه الذات الإلهية عن لغو الجاحدين وضلالهم قائلا: تعالى الله عمّا يشركون: * أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. نوع آخر من الاستدلال والتنبيه، تنطوي فيه قصة هذه الخليقة في بدئها ومستقرها، وفيه- مع اختتام ألوان الحجاج والنقاش- إلماح بالإنذار والتهديد وتأكيد ليوم البعث والحساب. والسؤال هنا عن ذاك الذي بدأ الخلق من العدم، والذي يعيده مرة أخرى إلى الوجود. فأما الشطر الأول من السؤال فواضح، والشأن فيه أن يكون معلوما لكل عاقل أنه الله عزّ وجلّ، أما الشطر الثاني، فيردّ عليه- في الظاهر- أن الجاحدين لا يؤمنون بالإعادة فكيف يتجه السؤال إليهم عن ذلك؟ غير أن التعبير القرآني يريد أن يوضح للأذهان المتأملة أن الإيمان بالخلق الأول يستلزم الإيمان بالإعادة، ذلك لأن الإعادة أهون من البدء فيما يقرره العقل، ولأن قصة هذه الحياة الدنيا تظل ناقصة، وتظل- بأحداثها ووقائعها- فصلا واحدا من قصة طويلة. إذ في هذه الحياة طغاة لم يجدوا القصاص العادل في حقهم، وفيها مستضعفون مظلومون لم يصلوا إلى ما ينصفهم من ظالميهم. ولا ريب أن الذي أبدع هذه الخليقة وتركها تتصرف كما تشاء في حرية وإرادة، سوف يعيدها إلى حياة أخرى يسود فيها الحق ويستقر فيها العدل. فمن أجل ذلك أظهرت الآية الرابطة المتمكنة بين الخلق الأول والإعادة الثانية.

ثم تسأل الآية: ومن يرزقكم من السماء والأرض، أي بأسباب سماوية وأرضية مرتبة على بعضها، وأنت تعلم أن إليهما مردّ كل الأرزاق التي يعيش بها الإنسان. أإله مع الله بعد كل ذلك؟ ويأتي الالتفات عنهم هنا ليختم هذه الحجاج والبراهين السابقة كلها بقوله مخاطبا الرسول صلّى الله عليه وسلّم: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ... أي هذه هي براهين وجود الله ووحدانيته وألوهيته يقرّها العقل ويدركها المنطق، فقدموا بدوركم براهينكم التي تعتمدونها في جحودكم وإنكاركم لهذه الحقائق. هذا، ولك أن تذهب في إعراب «أمّن» التي صدّرت بها الآيات السابقة، مذهبا آخر، فتعتبر من موصولة على الابتداء وتقدّر خبره على ضوء الجملة الأولى في أول الآيات: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ فيكون المعنى: بل أألذي جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا ... خير أم ما يشركون. وتحلّل سائر الآيات الأخرى على هذا التقدير. وقد ذهب معظم المفسرين هذا المذهب في إعراب الكلمة. غير أن الذي ألحظه من سياق الآيات، وأشعر به من ذوق المعنى ومقتضاه أن الطريقة التي اعتمدناها في إعراب الآيات من اعتبار «من» استفهامية، أقوى دلالة وأقرب استساغة وأبعد عن التكلّف. وإذا دارت الجملة بين التقدير وعدمه فعدم التقدير أولى، ومثله في القرآن قوله عزّ وجلّ في سورة الملك: أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ. * ولما ختم الحديث عن البراهين على وجود الله ووحدانيته بالحديث عن عود الناس إلى الحياة من بعد الموت، وكان في هذا ما ينهض الجاحدين إلى استبعاد الحشر والمطالبة ببيان الأدلة والعلامات التي توضح ميقات ذلك اليوم وأجله- قال جلّ جلاله مخاطبا نبيّه عليه الصلاة والسلام: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أي ليس لأحد مطمع في الاطّلاع على ما استأثر الله بعلمه من المغيبات، ومن أهمها الميقات

المحدد في علم الله لقيام الساعة، وليس الإيمان بها متوقفا عقلا على معرفة زمانها وميقاتها. * ثم تختم الآيات بهذه الآية الأخيرة التي فيها التحليل والوصف الدقيق للاضطراب الفكري الذي يطوف في أذهان الملحدين، وفيها التقريع العجيب لهم والسخرية بحالهم: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها، بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ. ففي الآية- كما ترى- إضراب عن كل ما قد سلف من النقاش، ليقول من ورائه بأسلوب الحكاية عنهم: إن هؤلاء قد تجمعت لديهم أقصى ما يمكن أن يفهموه عن الآخرة وأدرك بعضه بعضا، ووصلوا من ذلك إلى الغاية التي لا حاجة لهم عندها إلى علم جديد يلقّونه ويبصّرون به؛ وهذا تصوير لبعض الحالات التي تعتري الملحد من الاعتداد بفكره وفهمه حتى ليخيل إليه أن قد تداركت وتجمعت في ذهنه الحقائق العلمية كلها. ولكنه لا يلبث أن يضرب عن هذا الوصف، ليصفهم بحالة أخرى: بل هم في شكّ منها، أي إن الظنون والأوهام تأخذهم وتردّهم في أمرها فهم يتساءلون: ألعلّ ما يقوله المؤمنون هو الحق؟ لا ليس كذلك!. ولكن من المحتمل! .. وهو مظهر للاضطراب الفكري القلق الذي يبعث في النفس عذابا لا يتصور شدّته إلا من يعانيه. وهذا تصوير لحالة تنتاب الجاحد والملحد ... ثم ينتقل البيان إلى آخر وصف؛ هو الوصف الثابت الحق في شأنهم وهو مدار الحالات الأخرى التي تعتريهم: بل هم عنها عمّون؛ إنهم من الآخرة في عماهة مطلقة يتخيلون معها ذبذبات الظلام علما وفهما، ويتصورون معها أنهم حينما يشكّون ويضطربون إنما يبحثون ويتأملون وهيهات منهم ذلك. والله سبحانه أعلم. ***

كلمة أخيرة

كلمة أخيرة والآن، وقد انتهينا من هذه السياحة العجلى في رحاب هذا الكتاب العظيم، ووقفنا على خلاصة سريعة من خصائصه ومظاهره ودقائقه- أريدك يا أخي القارئ أن تمحّص الفكر والرويّة والتأمل الحر في قصة هذا الكتاب ومصدره. ألم تقف في كل ما قد مررت ووقفت عليه من خصائص، على ما يدلك أن هذا الكتاب ما ينبغي أن يكون من صنع بشر؟ ألم تدرك، فيما قد اطّلعت عليه من تاريخه وعلومه ومنهجه، أنه ما ينبغي أن يكون أكذوبة كذّب بها محمد صلّى الله عليه وسلّم على ربّه، بعد أن غبر من حياته أربعين عاما يتوقى فيها الكذب على الناس؟ ألم تستشعر في كل ما قد تأملته من نصوصه وآياته أنك من هذا الكلام أمام أحاسيس ومشاعر لا يمكن أن تأتي إلى النفس مما يتكلم به سائر البشر؟ ألم تدرك في أعماق وجدانك، حقيقة الإعجاز في هذا الكتاب؟ أسئلة، لا شك أن أيّ متأمل بفكر حر، لا يتردد في الجواب عليها بإيجاب قاطع. فإذا كان كذلك، أفليس ما يوجبه العقل، ويفرضه كلّ من المصلحة والمنطق أن تتدبر هذا الكتاب وتتهيأ لما قد وضعك في سبيله؟ أما إن هذه الحياة ستطوى عمّا قريب، وإن كل ما ترى من مغرياتها

وملاذها ليوشك أن ينتهي ويزول؛ وقسما بخالق العقل الذي تميز به الإنسان، إن من وراء ذلك لحياة أخرى ستتفتح لها العين ويمتلئ بها الشعور ويفيض بها الإحساس، وما كان القرآن ليكذب على الناس في تأكيد هذه الحقيقة بشتى الأساليب المؤكدة. أفترى أن شيئا من الأغراض أو الأهواء أو المقاصد المستكنّة في نفسك اليوم تغنيك إذ ذاك أو تفيدك فائدة ما؟! تخيل نفسك، وقد ولّى عنها الشباب، وولّت في أعقابها الكهولة، وجاءتك الحقيقة التي لا مردّ لها ولا سلطان في الأرض يستذلّها: حقيقة الموت وسكرته، وسائل نفسك التي بين جنبيك: ماذا عسى أن تجني إذ ذاك من كل هذا الذي تكبل اليوم عقلك به، أيّا كان مظهره وحقيقته ومرماه؟. إن من الخير لك أن تحتاط ... وإن من أسمى أغراضك ومصالحك التي يجب أن تأخذ نفسك بها أن تتأهب لذلك اليوم، وإن من أهم ما يجب عليك، أن تقف على هوية نفسك وحقيقة ذاتك القائمة في خضم الكون المائج، فكم من إنسان يمشي مكبّا على وجهه في الحياة، وهو يحسب أنه قد أبصر الحقيقة حيث ضلّ عنها الآخرون وهو إنما ضلّ عن نفسه فلم يقف على شيء من هويتها وحقيقتها، وسوف لا يستفيق إلى ذاته إلا بعد أن يتعثر ويكبو، وحينئذ ينظر بعين جديدة أخرى ويطّلع على حقيقة كانت غائبة عنه، ويتذكر الماضي الأليم، وأنّى له الذكرى؟ ثم فيم الابتعاد يا أخي القارئ عن الحق؟ أفتحسب أنه يحرمك سعادتك التي تحلم بها؟ .. إن ذلك هو الوهم العجيب الذي يظل عالقا برءوس بعض الناس. إن الله عزّ وجلّ لم يشرع لعباده هذا المنهج الحق إلا إصلاحا لشأنهم وتحقيقا لسعادتهم. ومما لا شك فيه أن الجاحدين والملحدين في الدنيا يشقون حتى بالنعيم ويختنقون حتى بأسباب السعادة، وانظر تجد مصداق ذلك ماثلا أمامك ومن حولك، وأن المؤمنين يظلون في نعيم السعادة حتى وإن تألبت عليهم الدنيا ونال منهم الضرّ والبلاء. واسمع قول ربّ العالمين: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.

إن خير ما أختم به كتابي هذا، أن أقدّم إليك- وأنت أخي الذي لا والله لا أريد له إلا ما أريده لنفسي- هذه العبرة والنصيحة، فإن قبلتها فذلك حظك من هذا الكتاب وهو حظي من كل ما قدّمت وإن لم تقبل فلا أملك إلا أن أتجه إلى الله العليّ القدير أستمنحه الرحمة لي ولك وأسأله لنا جميعا الهداية إلى الحق والتجافي عن الباطل. وحسبي الله ونعم الوكيل، وإليه المنقلب والمآب وهو وحده نعم المولى ونعم النصير. محمّد سعيد رمضان البوطي دمشق في 1 ذي الحجة 1387 هـ الموافق ل 4 كانون الأول 1968 م

§1/1