من روائع أبى الحسن الندوى في الدعوة إلى الله

محمد علي محمد إمام

من روائع أبى الحسن الندوي فى الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى إعداد محمد على محمد إمام

دار الكتب والوثائق القومية إمام / محمد علي محمد من روائع أبى الحسن الندوى في الدعوة إلى الله إعداد / محمد علي محمد إمام ... الدقهلية الطبعة الأولي 2005 م عدد الصفحات (55) المقاس (12 سم × 16 سم) الدعوة إلى الله. رقم الإيداع 1535 تاريخ الإيداع سنة 2005 م حقوق الطبع محفوظة للمؤلف

المقدمة

المقدمة الحمدُ لله الذى لا ينبغى الحمدُ إلا له وأسأله سبحانه وتعالى أن يصلى ويسلم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وآله وبعد .. إخوانى وأحبائى فى الله عز وجل يسعدنى أن أقدم لكم هذه الرسالة العظيمة التى ألقاها شيخنا أبو الحسن الندوى فى إحدى اجتماعات التبليغ والدعوة وهى رسالة عظمية النفع قد تكلم فيها عن الدعوة إلى الله ... عز وجل منذ بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وولادة الأمة المحمدية وبعثتها، وبين فيها كيف كان حال الصحابة رضى الله عنهم وهم نواة هذه الأمة حيث كانوا ميداناً عملياً لتطبيق هذا الدين .. ؟ وكيف شغلوا أنفسهم بنصرة هذا الدين العظيم .. ؟! وكيف عملوا على ازدهار الإسلام وانتشاره .. ؟! وكيف كانت نصرة الله عز وجل معهم .. ؟! ولما تركت الأمة حياة العبودية والدعوة إليها صار حالها إلى ما وصلت إليه حتى

قيض الله عز وجل أحد علماء الهند وهو الشيخ إلياس رحمه الله حيث قام بإحياء جهد الدعوة إلى الله وأخذ يرسل الجماعات شرقاً وغرباً .. وقد قام العجم بهذا الجهد خير قيام .. وهم يتحفون العالم بهذه الدعوة المباركة وخاصة العرب وهم أحفاد الصحابة رضى الله عنهم ويقولون لهم هذه بضاعتكم ردت إليكم، والحمد لله لاقت هذه الدعوة ... – المباركة – القبول فى كثير من دول العالم وبخاصة الدول العربية .. وهذا ما نقرأه فى هذه الرسالة المباركة التى نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بها والعمل بما فيها .. وقد كنت أودعتها كتابى (كلمات مضيئة فى الدعوة إلى الله عز وجل) ولقد أشار إلىَّ بعض المحبين أن أفردها فى رسالة مستقلة حتى يعم بها النفع للجميع فاستجبت لذلك .. أخوكم محمد على محمد إمام

الدعوة إلى الله من البداية إلى النهاية

الدعوة إلى الله من البداية إلى النهاية .. أيها السادة المسلمون أنتم شامة بين الناس لا لأنكم تمتازون عن زملائكم في الشارة واللباس، بل لأنكم تمثلون تلك الأمة العظمية التى كانت ولا تزال شامة بين الأمم. * حال العالم قبل ظهور الأمة المحمدية: كان العالم قبل ثلاثة عشر قرناً سائراً سيره الطبيعى ... لا ينكر من أمره شئ، فكانت القرى والمدن عامرة بالسكان، وكانت العواصم الكبرى زاخرة العمران، شامخة البنيان، وكانت الحرف البشرية ووجوه المعاش فى ازدهار وانتشار، كانت الزراعة، وكانت التجارة، وكانت الصناعة، فبينما كانت سكة الفلاح فى شغل ونشاط، كانت القوافل التجارية غادية رائحة بين الشرق والغرب، وكانت الأسواق مشحونة بالمتاجر والبضائع وكان الصانعون مكبين على أعمالهم، وكانت الحكومات والإمارات والدول غنية بأموالها ورجالها لكل وظيفة رجل كفؤ بل رجال أكفاء وكان على وجه الأرض

ظهور الأمة المحمدية

من كل نوع من البشر وكل لون من الحياة وكل مظهر من مظاهر المدنية، لا يرى فى الحياة الإنسانية المادية عوزاً وفراغ ولم تكن فى المدنية وظيفة شاغرة يترشح لها مترشح جديد، وكانت كأس الحياة مترعة فائضة لا تطلب المزيد. * ظهور الأمة المحمدية:- فى هذه الحال ظهرت أمة فى جزيرة العرب ووجد نوع جديد من البشر، وكأنى بالأمم المعاصرة وهى تتساءل: أى داع إلى ظهور أمة جديدة والأمم على وجه الأرض كثيرة منتشرة وما شغل هذه الأمة الحديثة وما مهمتها فى ... العالم .. ؟! * هل بعثت الأمة للزراعة؟ إذا كانت هذه الأمة إنما بعثت للزراعة وعمارة الأرض فقد كان فى فلاحى الطائف وأكارى مدينة يثرب، وزراع وادى الفرات والنيل وربوع كنكا وجمنا غنى عن أمة زراعية جديدة فقد أصبحت أراضى هؤلاء الفلاحين وبلادهم جنة تدر لبناً وعسلا، وإذا كان المسلمون إنما بعثوا ليشتغلوا بالزراعة فقط فلماذا لم يبعثوا فى العراق والشام وفى مصر

وهل بعثت الأمة للتجارة

والهند مثلاً وهى بلاد مخصبة زراعية ولماذا كان مبعثهم فى وادٍ غير ذى زرعٍ؟ * وهل بعثت الأمة للتجارة؟ وإذا كانت هذه الأمة إنما بعثت للتجارة فقد كان فى يهود يثرب وفى أنباط الشام وفى أقباط مصر وتجار السند كفاية، فقد أحكموا فن التجارة وانتشروا فى العالم، وإذا كانوا قد بعثوا ليشتغلوا بالتجارة حقاً، فلماذا لم يبعثوا على طريق القوافل التجارية وبالقرب من أسواق التجارة الكبرى؟ * وهل بعثت الأمة للصناعة؟ وإذا كانت هذه الأمة إنما بعثت للصناعة وأعمال اليد فقد كان فى قيون البلاد المتمدنة وأصحاب الصنائع والحرف ... - وإنهم لكثير - غنى وكفاية .. !! * وهل بعثت الأمة لتنضم إلى الحكومات؟ وإذا كانت هذه الأمة بعثت لتنضم إلى الحكومات الرومية والإيرانية وتشغل أفرادها وظائف هذه الحكومات ومناصبها، فقد كان فى أهل الشام وفارس غنى وكفاية فى الإدارة ويزاحمون الأجانب بالمناكب ويدفعونهم بالراح.

وهل بعثت الأمة للتوسع في الشهوات والملذات

* وهل بعثت الأمة للتوسع في الشهوات والملذات؟ وإذا كانت هذه الأمة إنما بعثت لعيش هنيئ، ومطعم شهى، ومشرب مرئ، وملبس رضى ومسكن بهي لا لشئ آخر، وإنما مناها وهمها أن تلقى لبوساً ومطعماً لم تكن بدعاً من الأمم، وكانت منافسة لنا فحق لنا أن نقاتلها ونذودها عن مناهلنا وقد ضاقت بنا مواردنا فكيف تسع أمة جديدة؟ * وهل تريد ملكا؟ وإذا كانت هذه الأمة إنما تحاول ملكاً أو تريد أن تؤسس دولة فيجب أن تصرح بذلك ولا تتظاهر بالدين وتتخذ لذلك طريق الملوك والفاتحين. وإن الطريق إلى كل ذلك .. من زراعة وتجارة وصناعة ووظيفة وحياة بذخ وترف وملك وشرف غير الطريق التى سلكتها هذه الأمة الجديدة التى سفهت أحلامنا وعابت آلهتنا ونعت علي عقائدنا وأخلاقنا وأعمالنا ودعت إلى دين جديد وسارت فى سبيل ذلك فى شوكة وقتاد وجاهدت فى غير

جهاد، فقد كان الطريق إلى كل ذلك مسلوكة معبدة قد سلكتها الأمم من قبل. هذا يا سادتى ما أظنه قد تناجى به ضمير الإنسان الحى فى فجر الإسلام، ولا ألومه، ولا أستغرب هذا السؤال، فإن هذا السؤال طبيعى ينبغى أن يهجس فى قلب الإنسان وينطق به اللسان عند كل ناشئة، فلماذا لا ينشأ هذا السؤال عند ظهور أمة بأسرها .. ؟ ما هو الجواب .. ؟ إذا كان الجواب فى الإثبات وإذا كان مبعث هذه الأمة فى الحقيقة لشئ مما ذكرنا، ولم تكن لهذه الأمة مهمة جديدة فى العالم ورسالة خاصة إلى الأمم كانت هذه الأمة حقاً من فضول الأمم ومن المتطفلين على مائدة العالم .. !! ولكن لم يكن مبعثها لهذا ولا ذاك، والأمم والأشخاص لا يبعثون لشئ من هذا وإنما هى من طبائع البشر لا تحتاج إلى نبوة النبى وبعثة أمة وجهاد طويل وزلزال عالمى لم يسبق فى التاريخ، زلزال فى المعتقد والأخلاق والمجتمع والميول والنزعات وفى نظام الفكر ومنهاج الحياة.

لقد بعثت الأمة لغرض سام جدا

* لقد بعثت الأمة لغرض سام جداً. لقد كان مبعثها لغرض سامٍ جداً، لمهمة غريبة طال عهد الإنسانية بها وتشاغلت أمم الأنبياء عنها حتى نسيتها وذلك ما خاطب به الله - سبحانه وتعالى - هذه الأمة {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (¬1) فنبه على أن هذه الأمة ليست نابتة نبتت فى الأرض كأشجار برية أو حشائش شيطانية بل أنها أمة أخرجت ولأمر ما أخرجت، وإنما لم تظهر لمصلحتها فقط كسائر الأمم بل أنها أخرجت للناس، وذلك ما تمتاز به هذه الأمة فى التاريخ فما من أمة إلا وهى تسعى لأغراضها كأنما خلقت لها، وهى خير أمة أخرجت للناس وذلك يرجع إلى شغلها ومهمتها وهى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والإيمان بالله. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران - الآية 110.

في أي مكان ظهرت هذه الأمة

* في أي مكان ظهرت هذه الأمة؟ ظهرت نواة هذه الأمة فى مكة فى قلب جزيرة العرب. * مجابهه قريش لها: فقام العقلاء من قريش وهم الآخذون بزمام الحياة فى البلاد - ونثروا كنانتهم وقاسوا الناشئة الجديدة بمقاييسهم التى عرفوها وألفوها ووزنوها فى ميزان الإنسان الذي طالما وزنوا فيه أصحاب الطموح فوجدهم خفيفة الوزن طائشة الكفة وذهبوا إلى إمام الدعوة الإسلامية وأول المسلمين فى العالم - صلى الله عليه وسلم - فقال قائلهم " إنك قد أتيت قومك بأمرٍ عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم فاسمع منى أعرض عليك أموراً تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها. قال فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قل يا أبا الوليد أسمع. قال يا ابن أخى إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا.

استمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكل ذلك فى هدوء وتأنٍ، ثم رفضه فى غير شك ولا تأخير، ولم يكن هذا العرض من قريش على شخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل كان على هذه الأمة التى كان يمثلها ويقودها، ولم يكن رفض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما عرضت قريش رفضاً عن نفسه الكريمة فقط بل كان رفضاً عن أمته إلى آخر الأبد. اقتنعت قريش بهذه المحاورة ويئست من مساومة هذه الأمة ولم تعد تعرض على الرسول - صلى الله عليه وسلم - مباشرة وعلى هذه الأمة بواسطة ما عرضت من قبل وقطعت منها أملها. وكان بعد ذلك صراع مستمر ونزاع طويل ولم يكن نزاعاً فى أغراض المادة، وشهوات البطن والاستئثار بموارد الرزق والتغلب على الأسواق بل كان نزاعاً بين الإسلام والجاهلية بمعنى الكلمتين نزاعاً بين حياة العبودية والانقياد لله - سبحانه وتعالى - ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وبين الحياة الحرة المطلقة التى لا تعرف قيداً ولا تخشى معاداً ولا حساباً.

غزوة بدر وبيان مهمة الأمة

* غزوة بدر وبيان مهمة الأمة: وكان فى نتيجة ذلك معركة بدر الحاسمة، وقد قاد النبى الكريم - صلى الله عليه وسلم - إلى ساحة القتال جيشاً لا يزيد عدد المقاتلين فيه على ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً والجيش المنافس فيه ألف، وكان النبى - صلى الله عليه وسلم - يعلم يقيناً أن لو وكل المسلمون إلى أنفسهم وقوتهم المادية لكانت النتيجة معلومة واضحة، نتيجة كل قليل ضعيف أمام قوى كثير العدد. فزع الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - إلى الله - عز وجل - فى إنابة نبى وإلحاح عبد ودعاء مضطر وشفع لهذه العصابة فى كلمات صريحة واضحة نيرة خالدة هى خير تعريف لهذه الأمة وبيان لمهمتها وغرضها الذى خلقت له. لم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو هلكت هذه العصابة وكانت فريسة للعدو أقفرت المدينة وأوحشت أسواقها وكسدت التجارة، وبطلت الزراعة أو تعطل شغل من أشغال الحياة ... أو وقفت إدارة الحكومات، لم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً من

شرط بقاء الأمة

ذلك لأن شيئاً منها لم يتوقف على المسلمين ولم يقم بهم بل كان قبل وجود المسلمين ولا يزال فى غنى عنهم. ولكن الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - ذكر شيئاً بعث المسلمون لأجله وقام بالمسلمين وحدهم فقال " اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد .. " * شرط بقاء الأمة: أجاب الله - عز وجل - دعاء النبى الكريم - صلى الله عليه وسلم - وقضى بانتصار المسلمين على عدوهم وبقائهم، فكأنما كان بقاء المسلمين مشروطاً بقيام حياة العبودية بهم وقيامهم بها، فلو انقطعت الصلة بينهم وبين العبادة ورواجها وازدهارها فى العالم انقطعت الصلة بينهم وبين الحياة ولم يبق على الله لهم حق وذمة، وأصبحوا كسائر الأمم خاضعين لنواميس الحياة وسنن الكون بل كانوا أشد جريمة وأقل قيمة من الأمم الأخرى إذ لم يشترط لبقائها وحياتها مثل ما اشترط لهم

ربعي بن عامر رضي الله عنه يبين لرستم قائد الفرس مقصد بعثة الأمة

وكان كما أخبر الله - عز وجل - {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} (¬1). وقد حافظ المسلمون على هذا الشرط وبروا بهذا العهد وتذكروا أنهم إنما نُصروا على عدوهم، وقد كاد يأتى عليهم ويستأصلهم فى ساحة بدر، وتركوا على ظهر الأرض لأن عبادة الله - سبحانه وتعالى - منوطة بهم على أرض الله - عز وجل -. بهذه الرسالة انبثوا فى العالم وحملوها إلى الملوك والسوقة والأمم، وفى سبيل ذلك هاجروا وجاهدوا ولأجل ذلك حاربوا وعاهدوا، ولم يزالوا يعتقدون أنهم مبعوثون من الله وحاملوا راية الإسلام فى العالم. * ربعي بن عامر رضي الله عنه يبين لرستم قائد الفرس مقصد بعثة الأمة: أرسل سعد قبل القادسية ربعى بن عامر إلى رستم قائد الجيوش الفارسية وأميرهم فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق المذهبة والزرابى الحرير وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة، والزينة العظيمة وعليه تاجه وغير ذلك من الأمتعة الثمينة وقد جلس على سرير من ذهب ودخل ربعى بثياب ¬

_ (¬1) سورة الفرقان - الآية 77.

عتاب الله لمن تلكأ عن المهمة

صفيقة وسيف وترس وفرس قصيرة ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضه على رأسه فقالوا له ضع سلاحك، فقال إنى لم آتكم وإنما جئتكم حين دعوتمونى، فإن تركتمونى هكذا وإلا رجعت، فقال رستم ائذنوا له فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق، فخرق عامتها فقالوا له ما جاء بكم؟ فقال الله إبتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله .. ومن ضيق الدنيا إلى سعتها .. ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نفضى إلى موعود الله - عز وجل -، قالوا: وما موعود الله؟ قال الجنة لمن مات على قتال من أبى والظفر لمن بقى .. !! (¬1). * عتاب الله لمن تلكأ عن المهمة: أباح الله - عز وجل - للمسلمين الطيبات وفسح لهم فى طرق الكسب ووجوه المعاش ولم يضيق عليهم فى ذلك فقال {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ¬

_ (¬1) البداية والنهاية - ابن كثير.

قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (¬1) وقال - عز وجل - {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (¬2) ولكن الله - عز وجل - لم يبعثهم لذلك أمة، ولم يرضه لهم غاية ومهمة بل خلقهم للسعى للآخرة وخلق أسباب الحياة لهم قال النبى الكريم - صلى الله عليه وسلم - " إن الدنيا خلقت لكم وإنكم خلقتم للآخرة " وجعل الحياة وأسبابها خاضعة لمهمتهم التى بعثوا لأجلها فإذا زاحمتهم فى سبيل مهمتهم أو غلبتهم عليها رفضوها وإذا تلكأ المسلمون فى ذلك عاتبهم الله - عز وجل - عتاباً شديداً وقال {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا ¬

_ (¬1) سورة الأعراف - الآية 32. (¬2) سورة الجمعة - الآية 10.

حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ ... الْفَاسِقِينَ} (¬1). أراد الأنصار - رضي الله عنهم - أن يفرغوا لإصلاح أموالهم لأيام اكتفاء بأنصار الإسلام فعاتبهم الله - عز وجل - على ذلك وأنزل {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (¬2). قال سيدنا أبو أيوب الأنصارى - رضي الله عنه - .. إنما نزلت فينا معشر الأنصار، إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصروه قلنا فيما بيننا لو أقبلنا على أموالنا فأصلحناها فأنزل الله هذه الآية (¬3) ولكن مع الأسف الشديد قد تشاغل المسلمون اليوم بالدنيا كالأمم الجاهلية وسعوا ورائها وعقدوا حياتهم بها، فإذا أشرفتم على مدنهم وبلادهم من مرقب عالٍ لم تميزوا بينهم وبين أفراد أمة جاهلية، سعى وراء المادة فى غير اقتصاد، واكتساب من غير احتساب، سهر فى غير طاعة، وعمل ¬

_ (¬1) سورة التوبة - الآية 24. (¬2) سورة البقرة - الآية 195. (¬3) واه أبو داود، انظر حياة الصحابة - 1/ 454.

حال الأمة اليوم

فى غير نية، تجارة فى لهو عن ذكر الله وحرفة فى جهل عن دين الله - عز وجل -، ووظيفة فى الإخلاص لغير الله وحكومة فى مشاقة حكم الله، شغل فى ضلالة، وقعود فى بطالة .. !! * حال الأمة اليوم: هل إذا أطلعتم يا سادتى على بلاد إسلامية ورأيتم هذه الأمة فى غدواتها وروحاتها إلى الأسواق والإدارات ومصالح الحكومة عرفتم أنها أمة خلقت لشيء آخر، وبُعثت لغرض آخر أسمى من هذه الأغراض التى يسعى لها الكافر والمؤمن؟ * حجة ظاهرة علي المسلمين: إن هذا الأسلوب من الحياة لحجة ظاهرة لأهل الجاهلية على المسلمين فلو نطقوا لقالوا ما ذنبنا أيها المسلمون إذ عرضنا على نبيكم المال والسيادة والملك فأبى ورفض كل ذلك ألا نراكم تسعون وراء الذى رفضه نبيكم كأنما خلقتم لأجله، أما آذيتم نبيكم بقبول ما رفضه عنه وعنكم؟! وإذا كنتم تسعون لمال أو جاه أو شرف أو حكم على قطعة أرض فلماذا تظاهرتم بالدين وأقمتم وأقعدتم الدنيا لأجله

لماذا كتب الله لنا الخلود والظهور

وكدرتم علينا صفو العيش، لقد كنتم وكنا فى غنى عن هذه الحروب الطويلة التى أيتمت البنين وأيئمت النساء وأجلت الناس عن الأوطان! أعيدوا إلينا إذاً تلك الدماء التى أريقت فى ساحة بدر وأحد وحنين وخيبر واليرموك والقادسية، وأعيدوا إلينا تلك النفوس التى قتلت فى سبيل الدين! وماذا يكون جوابنا لو تعرض لنا أحد من أخلافهم الأحياء وقال ما غنائكم أيها المسلمون لقد سهمتمونا فى أسباب الحياة وخلفتم لنا فوق ذلك مشاكل كثيرة فى الحياة السياسية والاجتماعية، ولا نراكم تسدون عوزاً وتصلحون خللاً أو تلمون شعثاً أو تقيمون زيغاً فى الحياة .. !! عفواً أيها السادة وسماحاً أيها الكرام فقد طال العتاب وقديماً قال الشاعر العربى " وفى العتاب حياة بين أقوام ". * لماذا كتب الله لنا الخلود والظهور؟ إن حياة الأمم أيها السادة الكرام بالرسالة والدعوة وأن الأمة التى لا تحمل رسالة ولا تستصحب دعوة حياتها مصطنعة غير طبيعية، وأنها كورقة انفصلت من شجرتها

تخلف الأمة عن الأمم المعاصرة

فلا يمكن أن تحيا بسقى ورى {فأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} (¬1). إننا أيها السادة أمة الحاضر وأمة المستقبل قد كتب لنا الخلود والنصر لأننا أصحاب دعوة ورسالة نبوية وهى الرسالة الأبدية التى قضى الله بخلودها وظهورها، فلسنا تحت سيطرة المادة وحكم الزمان المنقلب بشرط أن نقوم بدعوتنا ونستقل برسالتنا ونعود أمة دعوة نبوية كما بدأنا دعوة فيما بيننا معشر المسلمين ودعوة فى غيرنا من الأجانب فى الدين. * تخلف الأمة عن الأمم المعاصرة: لقد تخلفنا عن الأمم المعاصرة فى العلوم الطبيعية والأسباب الحربية وفى الأخذ بأسباب الرقى المادى بعدة قرون، وقد كانت المسابقة بيننا وبينهم كمسابقة الأرنب والسلحفاة إلا أن الأرنب كان ساهراً مع خفته وسرعته والسلحفاة نائمة رغم بطئها وثقلها، ولو جارينا هذه الأمم اليوم لاستغرق ذلك قروناً ثم كانت المقارنة بحساب دقيق، ¬

_ (¬1) سورة الرعد - الآية 17.

ما الذي يقهر المادة

فإذا فاق العدو وسبقنا بشعرة فى القوة المادية والعدد الحربية رجحت كفته لأن المادة عمياء وهى من القساوة والحياد التام بمكان لا تفرق فيه بين المحق والمبطل والشريف والوضيع. * ما الذي يقهر المادة؟ ولكن الدعوة والرسالة- وهى الروح التى تقهر المادة وتسخر الأسباب وتستنزل النصر - تأتى بخوارق ومعجزات وطالما قهرت القاهر وفتحت الفاتح، وطالما خضعت الحكومات القاهرة ودانت الملوك الجبابرة بقوة الدعوة والرسالة للمماليك والصعاليك وقد جربت ذلك هذه الأمة مرتين بوضاحة فى التاريخ. مرة لما خرج العرب من جزيرتهم إلى البلاد الرومية والفارسية فى ثياب صفيقة مرقعة وفى نعال وضيعة مخصوفة يحملون سيوفاً بالية الأجفان رثة المحامل على خيل قصيرة متقطعة الغرز وسرعان ما قهرت دعوتهم ورسالتهم حللاً فاخرة وأعواداً أسندت إلى الجدار لحرمانها من رسالة وقعودها عن دعوة، وكان الانتصار فى الأخيرة

العالم بأسره ينتظر رسل المسلمين

للرسالة على النظام وللروح على المادة وللمعنى على الظاهر. ومرة ثانية لما قهر التتار - ذلك الجراد المنتشر - العالم الإسلامى من أقصاه إلى أقصاه وخضدوا شوكة المسلمين فلم تقم لهم قائمة ولم يقف فى وجههم واقف وكاد المسلمون يصبحون أثراً بعد عين واستولى اليأس على قلوبهم حتى كان من الأمثال السائرة " إذا قيل لك أن التتار هُزموا فلا تصدق " هناك فعلت الدعوة الإسلامية فعلها ونفذت فيهم فإذا القاهر يصبح مقهوراً وإذا الفاتح مفتوح لدين المفتوحين وإذا التَتَر يلفظون بكلمة الإسلام ويدينون برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ويصبحون أمة إسلامية. * العالم بأسرة ينتظر رسل المسلمين: وأن الرسالة الإسلامية لتأتى بالمعجزات اليوم وتقهر الأمم - طوعاً لا كرهاً بسلطانها الروحى ونفوذها العجيب. إن آبائكم أيها السادة المسلمون قد انتشروا فى عواصم الجاهلية الأولى ومراكزها الكبرى يقولون " الله إبتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا

انحراف المسلمين عن المثل الكامل

إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام " وخلصوا الأمة الرومية من عبادة المسيح والصليب والأحبار والرهبان والملوك وخلصوا الأمة الفارسية من عبادة النار وعبودية البيت الكيانى، والأمة الطورانية من عبادة الذئب الأبيض والأمة الهندية من عبادة البقر إلى عبادة الله وحده وأخرجوها فعلاً من ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، والعيون تنتظر منذ زمان رسل المسلمين ينتشرون فى عواصم الجاهلية الثانية يهتفون الله إبتعثنا لنخرج العباد من عبادة المادة والبطن إلى عبادة الله وحده ومن ضيق عالم التنافس والأثرة وجشع المادة إلى سعة عالم القناعة والإيثار والزهد ونعيم الروح وطمأنينة القلب، ومن جور النظم السياسية والاجتماعية إلى عدل الإسلام. * انحراف المسلمين عن المثل الكامل: لقد انحرفت حياة المسلمين - أيها السادة - ومدنيتهم عن مركزها ومثلها الكامل ولم تزل الشقة تطول بينهما والخرق يتسع حتى أصبحت حياة مدنية لا تشبه أصلها ... إلا ببعض شعائر الإسلام الظاهرة فى بلاد المسلمين، وصعب

ماذا كان يفعل الصحابة إذا أسفر النهار

على المسلم اليوم أن يتمثل تلك الحياة الماضية فسافروا معى أيها السادة على صفحات التاريخ فى المسافة الزمنية وارجعوا إلى عهد الرسالة المحمدية على صاحبها السلام والتحية وقفوا بنا فى مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ساعة نشاهد حياتها وتصورها لأبناء هذا العصر لعلهم يدركون ما فاتهم. هذه هى المستعمرة الإسلامية الأولى وهى مدينة بمعانى الكلمة ليست بزاوية من زوايا الشيوخ أو مدرسة من مدارس العلم أو مسجد فحسب ولكنها مدينة جامعة قد تمثلت فيها الحياة الإنسانية بجميع معانيها ونواحيها، ففيها الأسواق وفيها المزارع وفيها البساتين وفيها الأسر والبيوت وفيها التاجر وفيها الفلاح وفيها الملاك وفيها من يأكل بعرق جبينه وكد يمينه. * ماذا كان يفعل الصحابة إذا أسفر النهار؟ وهاهو ذا قد أسفر النهار والناس راجعون من المسجد النبوى فى سكينة ووقار ولكن فى خفة ونشاط، وهنا دكان يفتح فى السوق، وهنالك سكة تمشى فى الحقل وهذا بستان من نخيل يسقى وذلك أجير يشتغل فى حائط على أجرة يأخذها فى المساء قد اندفعوا إلى أشغالهم بما سمعوا من

وماذا إذا أذن المؤذن

فضيلة كسب الحلال وعول العيال ولبَّوا مرضاة الله بالمال، قفوا منهم بجنب وارقبوهم عن كثب ترونهم خفاف الأيدى فى العمل ذلل اللسان بذكر الله - عز وجل -، عامرى القلوب بالحسبة، وطلب الأجر يحتسبون فى أشغالهم مالا يحتسب المصلى اليوم فى صلاته مقبلين بقلوبهم إلى الله وبقالبهم إلى شغلهم. * وماذا إذا أذن المؤذن؟ وها هو ذا قد أذن المؤذن فإذا بهم ينفضون أيديهم مما كانوا فيه كأن لم يكن لهم به عهد وكأنما نشطوا من عقال وخف إلى المسجد {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (¬1). فإذا قد قضوا صلاتهم انتشروا فى الأرض يبتغون من فضل الله ويذكرون الله وقد مالت الشمس إلى الغروب، فرجعوا إلى بيوتهم وقابلوا أهلهم وجلسوا إليهم يتحدثون معهم ويلاطفونهم ويؤنسونهم لما سمعوا بالأمس من فضائله وثوابه، وناموا بعد صلاة العشاء وإذا بهم قائمون أمام ¬

_ (¬1) سورة النور - الآية 37.

مجالس الذكر والعلم

ربهم فى الأسحار لهم دوى كدوى النحل وفى صدورهم أزيز كأزيز المرجل، وينصرفون بعد صلاة الصبح إلى أشغالهم فى نشاط الجندى وقوته كأن لم يتعبوا فى النهار ولم يسهروا فى الليل. أليست المدينة إذاً يا سادتى مسجداً واسعاً فهل رأيتم فيها غير عبادة ودين؟ أو ليسوا عاكفين فى هذا المسجد الواسع طول النهار وطول الليل؟ وهل دار الفلك على زاوية أعمر من هذه الزاوية - إن كان لابد من هذا المصطلح - وأكثر منها منقطعين إلى الله .. ؟!! * مجالس الذكر والعلم: وانظروا إلى مجالس الذكر والعلم فى المسجد وقد ضمت صنوفاً وأنواعاً من الناس فهذا هو الفلاح الذى رأيناه فى النهار على حافة حقله، وهذا هو الأجير الذى رأيناه ينزع الدلاء ويسقى النخيل فى بستان يهودى، هذا هو التاجر الذى رأيناه فى سوق المدينة يبيع، وهذا هو الصانع الذى وجدناه مشتغلاً بصناعته وليسوا الآن إلا طلبة علم، وقد هجروا راحتهم - وهم فى حاجة إليها بعد شغل النهار - وتركوا أهلهم وهم فى حنين إليهم، لأنهم سمعوا أن

الملائكة تضع أجنحتها لطالب العالم رضا بما يصنع (¬1)، ولأنهم سمعوا أن من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة (¬2) ولأنهم سمعوا " ما اجتمع قوم فى بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم ... إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله في ملأ عنده (¬3) وتراهم ساكتين كأن علي رؤوسهم الطير خاشعين كأن الوحي ينزل {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (¬4) يتسابق العلم والخشوع فلا يدرى أيهما أسبق وتبتدر المعاني الى القلوب والكلمات إلى الأذان فلا يدرى أيها أسرع. ومن تفقدونه فى هذا المسجد ممن عرفتموه فى النهار فلأنه قد اتفق مع جاره على التناوب فيحضر يوما ويغيب ¬

_ (¬1) رواه أبو داود والترمذى، انظر رياض الصالحين - باب العلم. (¬2) رواه مسلم - المرجع السابق. (¬3) رواه مسلم، المرجع السابق - باب استحباب الاجتماع على القراءة. (¬4) سورة سبأ - الآية 23.

حال القراء في الليل والنهار

يوما وهذا دور جاره ولكنه على اتصال بما يدور فى هذا المسجد من حدث وخبر وحكم وآيه بواسطة جاره. * حال القراء في الليل والنهار: وهؤلاء هم القراء وقد انقطعوا إلى العلم فإذا جنهم الليل انطلقوا الى معلم لهم بالمدينة فيدرسون الليل حتى يصبحوا فإذا أصبحوا فمن كانت له قوة استعذب من الماء وأصاب من الحطب ومن كانت عنده سعة اجتمعوا فاشتروا الشاة وأصلحوها فيصبح ذلك معلقا بحجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). * المعرفة بالحلال والحرام: وما من أحد فى المدينة إلا ويعرف الحلال والحرام وما يتعلق بحياته وحرفته وصناعته وشغله من الأحكام ويحفظ من القرآن ما يقوم به فى صلواته، ثم هو مستمر فى طلب العلم يزداد كل يوم فقها فى الأحكام ورسوخا فى الدين وحرصاً على العمل وشوقاً إلى الآخرة ورغبة فى الثواب وهذا هو العلم الذى يمتازون به وعلمهم بالفضائل أكثر من علمهم بالمسائل، وبأصول الدين أكثر من علمهم بفروعه ¬

_ (¬1) مسند الإمام أحمد.

التبليغ

وبمحكماته أكثر منه بمتشابهاته، " أبر الناس قلوباً وأعمقهم علماً وأقلهم تكلفا " (¬1). * التبليغ: وإذا تعلم أحد منهم شيئا من الدين أسرع إلى إخوانه يعلمهم لأنه سمع " ألا فليبلغ الشاهد الغائب .. فرب مبلغ أوعى من سامع .. (¬2) وسمعوا نبيهم يقول " إنما بعثت معلما " (¬3) وسمعوه يقول " لا حسد إلا فى اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلطته على هلكته فى الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضى بها ويعلمها " (¬4) وسمعوه يقول " إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة فى جحرها وحتى الحوت يصلون على معلم الناس الخير " (¬5). ... وهكذا انقسم المسلمون فى المدينة بين طالب ومعلم فإما طالب وإما معلم بل كل واحد منهم طالب ومعلم فى وقت واحد يأخذ من مكان ويدفع إلى مكان. * الحب .. التضحية .. الإيثار: أفليست المدينة إذاً مدرسة واسعة عامرة بالطلبة والمعلمين وهل عرف التاريخ مدرسة أوسع وأعمر من هذه المدرسة ¬

_ (¬1) من كلام عبد الله بن عمر، انظر حياة الصحابة - 1/ 18. (¬2) متفق عليه. (¬3) رواه الدارمى، انظر مشكاة المصابيح - كتاب العلم - 1/ 86. (¬4) متفق عليه، رياض الصالحين - باب فضل العلم. (¬5) رواه الترمذى، المرجع السابق.

النبوية التى يتعلم فيها التاجر والفلاح والأجير والصانع والمحترف والمشغول والشاب الناهض والشيخ الفانى، يتعلمون فيها بجميع مشاعرهم، فالأذن تسمع والعين تبصر والقلب يشعر ويتأثر والعقل يفكر والجوارح تعمل، يشاهدون المعانى فى صورها وأمثالها، ولا يقرؤونها بلفظها فقط، فإذا عرفوا الإيثار على النفس مثلاً عرفوه فى ضيافة أبى طلحة لضيوف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد بات هو وأطفاله جياعاً، وفى قصة الجرحى الذى آثروا إخوانهم على أنفسهم فى الماء فماتوا عطاشاً، وإذا عرفوا حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرفوه فى قصة خبيب - رضي الله عنه - لما رفعوه على الخشبة نادوه يناشدونه أتحب أن محمداً مكانك؟ قال ... لا والله العظيم ما أحب أن يفدينى بشوكة يشاكها فى قدمه فضحكوا منه (¬1) فعرفوا من معانى الإيثار والحب مالا يعرفه أكبر لغوى وأديب وعالم علوم النفس. ¬

_ (¬1) حياة الصحابة - 1/ 510.

وضع كل شيء في محله

* وضع كل شيء في محله: عرفوا أحكام الاجتماع فى الاجتماع وأحكام الاختلاط فى الاختلاط وأحكام التجارة فى التجارة وأحكام المعاشرة فى المعاشرة، فقدروا أن يحافظوا على دينهم ونياتهم وخشوعهم وذكرهم فى المجامع والمجالس وفى صخب الأسواق وفتنة البيوت وفى مجامع الشياطين ومقاعدهم، فإذا خاضوا فى لجة الحياة واندفع بهم التيار لم يغلبوا على أمرهم، شأن الذى يتعلم السباحة فى بحر متلاطم ونهر فياض فكانوا فى المسجد إذا خرجوا من المسجد، وفى الصلاة إذا انصرفوا من الصلاة، بررة القلوب، صادقى الوعد، سديدى القول فى المساجد والأسواق معاً، وفى المعتكف والحانوت معاً، وفى الحضر والسفر معاً، ومع الصديق والعدو معاً. * ماذا لو نادي منادي الجهاد: حتى إذا نادى منادى الجهاد {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1) وهتف هاتف الجنة {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ¬

_ (¬1) سورة التوبة - الآية 41.

يسيحون في الأرض

السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (¬1) دارت حماليق وجوههم ورقصت قلوبهم فى صدورهم تحولت المدينة إلى ثكنة واسعة فما هى بالتى رأيتموها وأصبح أهلها جنوداً متطوعة فماهم بالذين عرفتموهم، أقفل التاجر دكانه، وترك الفلاح سكنه، ورمى الصانع آلاته وترك الأجير رشاء دلوه وخرجوا فى سبيل الله لا يلوون على شئ كأنهم كانوا من ذلك على ميعاد وفى ديارهم وأهلهم على مسامحة ورخصة. * يسيحون في الأرض: وترونهم يتجولون فى البلاد ويسيحون فى الأرض ويتغربون فى دين الله كأنهم خلقوا على ظهور الخيل وولدوا على متون الإبل يعدون غدوة أو روحة فى سبيل الله - عز وجل - أفضل من الدنيا وما فيها فيصلون النهار بالليل والشتاء بالصيف حتى يحتاج إمامهم إلى تحديد اغترابهم بأربعة ¬

_ (¬1) سورة آل عمران - الآية 133.

أشهر (¬1) وهم أينما رحلوا ونزلوا مدارس سيارة ومساجد متنقلة وهكذا نشروا الدين من أقصى الأرض إلى أقصاها ومن شرقها إلى غربها. هذه مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ساكنها ألف ألف سلام فى القرن الهجرى الأول، وهكذا كان يجب أن يكون العالم ¬

_ (¬1) إشارة إلى الخبر الذى أخرجه عبد الرازق فى مصنفه عن ... ابن جرير قال: أخبرنى من أصدق أن عمر – رضى الله عنه – بينما هو يطوف سمع امرأة تقول: ... = = تطاول هذا الليل واسود جانبه ... فلولا حذار الله لاشئ مثله ... وأرقنى أن لا حبيب ألاعبه ... لزعزع من هذا السرير جوانبه فقال عمر – رضى الله عنه -: مالك .. ؟ قالت: أغربت زوجى منذ أشهر وقد اشتقت إليه. قال: أردت سوء. قالت: معاذ الله! قال: فأملكى عليك نفسك، فإنما هو البريد إليه. فبعث إليه، ثم دخل على حفصة – رضى الله عنها – فقال: إنى سائلك عن أمرٍ قد أهمنى فأفرجيه عنى، فى كم تشتاق المرأة إلى زوجها؟ فخفضت رأسها واستحيت. قال: فإنى الله لا يستحى من الحق. فأشارت بيديها ثلاثة أشهر، وإلا فأربعة أشهر. فكتب عمر – رضى الله عنه – أن لا تحبس الجيوش فوق أربعة أشهر. كذا فى الكنز (انظر حياة الصحابة – 1/ 459).

كيف السبيل إلى عودة هذه الحياة

الإسلامى كله - إذا كان عالماً إسلامياً - فكما أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إمام المسلمين بأجمعهم والأسوة العامة لجميع المسلمين فى كل زمان ومكان كذلك مدينته إمام المدن الإسلامية والأسوة العامة فى كل زمان فإن النبى - صلى الله عليه وسلم - قد انتهج منهجاً للحياة وهذه الحياة قد تمثلت فى مدينته فى عهده ويجب أن تتمثل فى جميع البلدان الإسلامية فى كل زمان. * كيف السبيل إلى عودة هذه الحياة: ولكن كيف السبيل إلى ذلك وقد انحرفت حياة المسلمين عن مركزها وكأنها رحى لا تزال تدور ولكن ليس حول قطبها، فتسمع جعجعة ولا ترى طحناً، ولا يستقيم سيرها ولا ينتج عملها إلا إذا عادت إلى قطبها، وذلك القطب هو كلمة الشهادة التى يدين بها كل مسلم فينبغى أن تتوغل أصولها وعروقها فى أعماق القلب والذهن وفى أحشاء الحياة وتتمدد فروعها حتى تظل الحياة كلها فلا تخرج ناحية من نواحيها من سماوتها، وذلك بتجديد العهد بها والتفكر فى معانيها ومقتضياتها والتشبع بروحها وتحقيق مطالبها وأحكامها فى الحياة.

الكلمة وتغيير منهاج الحياة

* الكلمة وتغيير منهاج الحياة: والكلمة تقتضى بالطبع تغييراً جوهرياً فى مبدأ الحياة وفى منهاج الحياة، فأما فى مبدأ الحياة فهو معنى قوله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (¬1) وأما التغيير فى منهاج الحياة فهو نقلها من حياة المادة إلى حياة الإيمان والاحتساب أو بلفظ آخر نقلها من الحياة البشرية العامة إلى الحياة النبوية الخاصة. * وما الذي يساعد علي التغيير؟ - الصلاة: والذى يساعد فى هذا التغيير ويمهد له السبيل هو الصلاة التى هى الصورة المكبرة للكلمة والصورة المصغرة للحياة الإسلامية، حياة الخضوع والانقياد لله - سبحانه وتعالى - فهى تفصيل الكلمة وإيجاز الحياة، وكأنها جسر منصوب بين الاعتقاد والحياة بين القلب والجسم، لا يصل بغيرها الإنسان من العقيدة إلى العمل. - العلم: والذى يساعد فى تغيير منهاج الحياة وأساليبها ووضعها وينتقل بنا من الحياة المادية المحضة إلى حياة ¬

_ (¬1) سورة الذاريات - الآية 56.

الذكر

الإيمان والاحتساب ويحرض عليه هو العلم الذى يعرف به الإنسان الثواب والعقاب وفضائل الأعمال وصفة الجنة ... وما أعد الله لأهلها فيها من نعيم، وأخبار الصحابة وسلف هذه الأمة التى تبعث فى الإنسان عاطفة العمل وتنفخ فيه روح النشاط، وتهيج فيه الحنين إلى الجنة وذلك هو الروح الذى أتى بخوارق ومعجزات فى التاريخ البشرى وخليق بأن يعيدها فى هذا الزمان. - الذكر: والذى يبعث الاستقامة على هذا المنهاج ويذلل الصعاب هو ذكر الله - عز وجل - وهو عبارة عن طرد الغفلة ومن طرقه التسبيحات والأذكار المأثورة عن النبى - صلى الله عليه وسلم -، فالمحافظة عليها بإيمان واحتساب تطرد الغفلة وتنير القلب وتغذى الروح.

الدعوة والتبليغ

- الدعوة والتبليغ: ثم الانتقال من حياة اللزوم إلى حياة التعدية ومن الحياة الدينية الفردية إلى حياة الدعوة والرسالة الاجتماعية وهى الميزة التى تمتاز بها هذه الأمة بين الأمم كما قدمنا، وتمرين الدين عمليا في ميادين الجهل والغفلة ومجتمعات الضلالة بالتواصي بالحق والدعوة إلي الدين وليكن ذلك مع مراعاة دقيقة للآداب الدينية ومع محافظة شديدة على احترام شخص المسلم مهما كان جاهلا وبعيدا عن الدين وتقدير إيمانه المستور في حجب الجهل والغفلة ومعرفة حقه وفضلة وألا تنقلب هذه الحركة فتنة وهذا الإصلاح كفاحا ويكون ضرره أكبر من نفعه وكأنى هنا بقائل يقول الكلام كله حسن معقول لا يختلف فيه اثنان ولكن ما هو الطريق .. ؟ قد جربنا الإصلاح الدينى مراراً فلم نفلح، نشرنا فى ذلك الكتب ووزعنا المطبوعات، أسسنا لأجل ذلك جمعيات وألقينا فى هذا الموضوع محاضرات، فكان كل ذلك صيحة فى وادٍ ونفخة فى رماد، لأن المسلمين غائصون فى لجة الحياة إلى

الخروج في سبيل الله

آذانهم، وماداموا مأسورين لأشغالهم ومحيطهم فإنك تضرب فى الحديد البارد. - الخروج في سبيل الله: أقول نعم لا يمكن التغيير فى حياتهم إلا إذا أخرجناهم من هذه اللجة لوقت قليل وخلصناهم من سلطان الأشغال وسيطرة المحيط وتمكنت فيهم التعاليم الدينية، ثم لا بأس أن يرجعوا إلى لجة الحياة ويعودوا إلى أشغالهم فإنهم يؤمن عليهم الغرق. - مثلا عمليا لعودة الحياة بعد ذهابها: وأنا أضرب لكم أيها السادة لذلك مثلاً عملياً، رقعة ذات مساحة واسعة فى جنوب دهلى تقطنها أربعة ملايين من المسلمين وقد أسلموا فى زمن قديم ولكن كان إسلامهم سطحياً فلم يتأثروا بالإسلام كثيراً ولم تنقطع صلتهم بحياتهم الجاهلية الأولى وبقيت فيهم أو تسربت فيهم من جيرانهم الكفار شعائر الجاهلية، أسماء غير إسلامية، أعمال وثنية، أخلاق همجية، وعادات وتقاليد هندكية، يطوف كثير منهم حول الصنم ويقربون له القرابين ويقدسون روث البقر

ويخشون آلهة القبائل ويحتفلون بأعياد المشركين، وقد نسى كثير منهم كلمة الإسلام وطال عهدهم بالصلاة حتى نسوا شكلها فإذا رأوا أحداً يصلى كادوا يكونون عليه لبدا ويرمونه بالجنون أو الخبل، والمساجد فى أرضهم نادرة جداً، وأما العلم الدينى فقد كان فى هذه القطعة كالكبريت الأحمر. وقد أصبحوا ببعدهم عن الدين وتعاليمه والانحطاط فى الخلق والإمعان فى الجهالة والأمية مثلاً فى الأدب الهندى لسوء الأخلاق ورمزاً للصوصية والإغارة وقد أتعبوا حكومة دهلى فى عهد دولة المماليك حتى ألجئوها إلى غزوهم فى بلادهم وكبح جماحهم وقطعت لذلك بعوثاً، وأخيراً أرسلت جيشاً كثيفاً أوغل فى بلادهم وخضد شوكتهم فاستراح أهل دهلى من غارتهم إلا أنهم لم يتركوا اللصوصية وقتل النفوس وسرقة السائمة. بقيت هذه الرقعة الواسعة من أرض الهند وهى من العاصمة الإسلامية والمركز الثقافى على طرف التمام وبقيت هذه الأمة الموهوبة النجيبة القوية مهجورة قروناً طوالاً ...

الشيخ إلياس وفكرة في الإصلاح

لا ترغب حكومة فى تعليمها وتثقيفها ولا يعتنى مصلح دينى بتقويم عوجهم حتى كان العقد الثانى من القرن العشرين المسيحى فاشرأب الارتداد فى الأمم التى انتقلت من الوثنية إلا الإسلام قبل قرون وخشى أهل النظر على أهل ميوات الارتداد أيضاً. * الشيخ إلياس وفكرة في الإصلاح: هنالك قيض الله - سبحانه وتعالى - للإسلام رجالاً من عبادة المخلصين والعلماء العاملين وهو مولانا محمد إلياس الكاندهلوى الدهلوى (¬1) (1303هـ - 1363هـ) فطاف فى هذه القطعة من أقصيها إلى أقصيها وأوغل فى أوديتها وسهولها وجبالها وتحمل فى ذلك مشاق السفر والجوع والسهر وتعرض للخطر إيماناً واحتساباً وجهاداً فى سبيل الدين وشاهد ما عليه الناس من جهالة وغفلة عن الدين فلم ير بداً من نشر الدين فى هذه الأمة الأمية وتأسيس المدارس والمكاتب لذلك. ¬

_ (¬1) الشيخ إلياس: محيي التبليغ والدعوة فى بعوث جماعية بالهند وينتهى نسبه إلى أسرة سيدنا أبوبكر الصديق رضى الله عنه.

تأسيس المدارس والكتاتيب

* تأسيس المدارس والكتاتيب: حث الشيخ أهل البلاد على تأسيس المدارس الدينية وكانت له معهم أواصر دينية قديمة لأن كثيراً منهم كانوا قد بايعوا (¬1) أباه الشيخ محمد إسماعيل (1315 هـ) وكثير منهم قد قرءوا على أخيه الشيخ محمد (1336هـ) وكثير منهم بايعوه، وألح عليهم فى ذلك فلم ير فيهم رغبة وإقبالاً عليه ورأى منهم إحجاماً وفراراً، ولم يزل يفتل فى غاربهم حتى تمكن من تأسيس عدة مكاتب بعد جهد طويل وسؤال ملح، وتولى نفقاتها وتكاليفها. تأسست المكاتب وجرت مجريها الطبيعى ولكن تأسف الشيخ جداً لما رأى أن أهل ميوات لا يتعاونون على ذلك، وحتى الناس لا يسمحون لأولادهم بالتعلم فيها ويعدون ذلك ¬

_ (¬1) كان النبى - صلى الله عليه وسلم - يبايع أصحابه فى الحرب على ألا يفروا وربما بايعهم على الموت وبايعهم على الجهاد كما بايعهم على الإسلام وبايعهم على الهجرة قبل الفتح وبايعهم على التوحيد والتزام طاعة الله ورسوله وبايع نفراً من أصحابه ألا يسألوا الناس شيئاً (زاد المعاد - 2/ 112)

ضياعاً للعمر، لأنهم لا يعرفون قيمة العلم والدين ... ولا يعدونهما حاجة من حاجاتهم، فأصبحت المدارس الدينية فى بلادهم كالقنصلية الأجنبية فى بلاد لا دخل لها فى حياة البلاد ولا رغبة للأمة فى شئونها وإنما تلجأ إليها فى بعض الأحوال. ورأى أن هذه المدارس كجزيرة فى بحر الظلمات يحيط بها الماء من أربعة جوانب، فالذين يتعلمون فيها ... لا يخرجون من سلطان البيئة ونفوذ المجتمع وإذا خرجوا منها ودخلوا فى معترك الحياة وهى ثائرة على الدين أضاعوا علمهم وضاعت فيهم تلك الجهود التى صرفت فى تعليمهم وتربيتهم الدينية وضاعت فيهم تلك الأموال التى أنفقت عليهم طول المدة. فعرف بعد هذا الاختبار أن الجهود التعليمية لا تثمر ... ولا تنتج مادام المحيط ثائراً عليها مزاحماً لها وأن المدارس والمكاتب والإصلاح لا يؤثر إذا لم تكن للأمة رغبة عامة والتماس للدين وشعور بنقصها الدينى وأن المتخرجين منها لا يؤثرون فى الحياة ولا يقدرون أن يحافظوا على دينهم

الفرق بين المعلمين والمرسلين

وخلقهم ماداموا فى الأمة وفى أسرهم ومجتمعهم كالأجانب والغرباء. ثم رأى أن الذين يتلقون العلم فى المدارس هم عدد قليل جداً يعدون على الأصابع وأن هذا العدد القليل لا يقتنع به فى إصلاح أمة. * الفرق بين المعلمين والمرسلين: وأن هذه المدارس إنما تنقل العلم إلى أفراد - والأمة على حالها - ولكن تحتاج إلى مشروع ينقل الأمة فضلاً عن الأفراد إلى الدين والعلم، وذلك هو الفرق بين المعلمين والمرسلين، فإن المعلمين إنما ينقلون العلم إلى الأفراد والأنبياء ينقلون الأمم إلى غايات العلم ولبابه، وأن المشاريع التعليمية تقسم العلم بين الأمة قسمة ضيزى، فتجتمع كميات كبيرة من العلم عند أفراد ويبقى سائر الناس كالهمج الرعاء فلو قسم هذا العلم على الأمة لوسعهم، وإنها كالربا يصبح به أفراد من الناس أصحاب ثروات كبيرة وسائر الناس لا يجدون كفافاً.

فراسة إيمانية

ثم رأى أن الذين قد خرجوا من سن الدراسة والتعليم وتقدم بهم العمر لا ينتفعون بهذه المدارس ولا يفسح وقتهم للتعلم فيها، فلابد إذاً من دعوة عامة إلى تعليم الدين بطريقة وجيزة سهلة طبيعية لا تشق عليهم ولا تطول وتشمل جميع طبقات الأمة. ولكن كيف السبيل إلى ذلك وقد استولت الحياة الدنيوية وتكاليفها على ابن القرن العشرين أخذت بمجامع القلوب وأسرت الروح وغلت الأيدى وصفدت الأقدام فأصبح الإنسان فى القرية والمدينة رهين بطنه، أسير شغله، جليس بيته أو حانوته أو وظيفته وماتت فى الناس العاطفة الدينية ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها. * فراسة إيمانية: اهتدى الشيخ بفراسته الإيمانية ونظره الثاقب وبمجاهدة فى سبيل الدين لقول الله - عز وجل - {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} (¬1) وبدراسته العميقة النادرة لأصول ¬

_ (¬1) سورة العنكبوت - الآية 69.

الدين إلى مركز العلة فى جسم هذه الحياة وهو الاستغناء فى أمر الدين والإخلاد إلى الحياة فضرب على الوتر الحساس ودعا الناس فى ميوات (¬1) أولاً وفى المدن الهندية آخراً إلى تفريغ أوقاتهم أربعين يوماً أو أربعة أشهر مثلاً، للدين وانقطاع إلى تعلمه لمدة قصيرة فكانت دعوة غريبة طارئه ولكن الشيخ لم يفشل ولم ييئس واستمر فى دعوته ودعائه حتى لبى الناس دعوته وخرجت عصائب إلى مراكز العلم والدين وعليها أمير منهم يرأسهم ومعلم يعلمهم مبادئ الدين وأحكامه والقرآن وقصص الصحابة وأخبار جهادهم وجهدهم فى سبيل الدين وحبهم للرسول - صلى الله عليه وسلم -، واستهانتهم بهذه الحياة وحنينهم للآخرة وتوقهم إلى الجنة وإيثارهم على النفس وزهدهم فى الدنيا ومسارعتهم فى سبيل الخير وخشيتهم لله تعالى إلى غير ذلك مما يحرك الساكن من قلوبهم وينير ¬

_ (¬1) هى منطقة هندية وهى أول منطقة تم فيها إحياء الدعوة.

الكامن من عواطفهم ويذرف الجامد من عيونهم ويشعل فيهم الحياة الإسلامية. ثم يخرجون فى أوقات مناسبة فيطوفون فى القرى ويمرون على البيوت ويحادثون الناس فى أمكنتهم ويغشونهم فى أنديتهم فيجلسون إليهم ويحرضونهم على الإقبال على الدين ويفهمونهم الغرض الذى خلقوا لأجله والغاية التى بعثوا لها، وأنهم لم يخلقوا عبثاً ولم يتركوا سدى ويرهبونهم من النار ويشوقونهم إلى الجنة ويرغبونهم فى تعلم الدين والمبادرة إلى ذلك ويخوفونهم من التسويف والمماطلة ويدعونهم إلى مركزهم الذى قد أقاموا فيه ليكلموهم فى تفصيل ذلك كله فى لطف ورفق ولين واحترام لإيمان المخاطب وتقدير لإسلامه فى غير ازدراء ولا فظاظة وهم يغضون الطرف عن الحرام ويلهجون بالذكر أثناء الكلام. وهكذا يقضون أوقاتهم فى طلب العلم والدين وفى العبادة والجهد للدين وفى الاختلاط بجماهير الأمة والاتصال بها فى سبيل الدين تحت نظام محكم متقن لا يتسرب فيه

النتيجة والثمرة

الفساد ولا تتطرق إليه الفتن، لأن حول العاملين والمتطوعين حصناً حصيناً من الذكر والدعاء وحارساً من إكرام المسلمين والتذلل لهم كافة والتجنب عن كل مالا يعنيهم فى الدين والدنيا. * النتيجة والثمرة: وكان لذلك نفع ملموس قد تجلى فى ناحيتين: الأولى: أن المتطوعين الذين قضوا قسطاً صالحاً من أوقاتهم تغيروا فى أنفسهم، عرفوا مبادئ الدين وأحكامه الأولية واستيقظت فيهم العاطفة الدينية وهبت عليهم نفحة من نفحات الحياة الإسلامية. وقد رأينا طلائع هذه الحياة وآيات النهضة الدينية فى ميوات فرأينا تغيراً مشاهداً فى المعتقد والأعمال والأخلاق، رأينا مدارس تشيد ومساجد تبنى وتعمر وجنايات تقل وتندر، وفتناً تضمحل، وبدعاً تموت، وتقاليد جاهلية ترتفع، ودعوات دينية وتعليمية تثمر وتزدهر، ونفوساً جامحة تلين وقلوباً جانية ترق وعيوناً تذرف، وهمماً تعلوا فى سبيل الدين وإجلالاً لأهل العلم والدين وخضوعاً للحق مما لو جاهد

الإنسان الواحد منها بالاستقلال لاستغرق وقتاً طويلاً وجهداً كبيراً. ورأينا كذلك فى أوساط المتصلين بهذه الدعوة والحركة والمتطوعين لها من الناشئة الجديدة والطبقة المثقفة والموظفين والتجار آثار الانقلاب الدينى، رأينا وحشة عن الدين تزول وتتبدل بالأنس، وتنافراً بين طبقتى المتدينين والمتمدينين أو المتنورين – كما يسمون أنفسهم – يرتفع وإجلالاً لشعائر الإسلام وتعظيمها يحل محل الاستهزاء والسخرية منها، ورغبة فى تعلم الدين ومعرفة أحكامه تشتد وتلح إلى غير ذلك مما يمتازون به عن أقرانهم وأترابهم وزملائهم. الثانية: أن الجماهير من المسلمين لم يزالوا يبتعدون عن الدين بالتدريج حتى أصبحوا فى واد والدين فى وادٍ وتشاغل عنهم العلماء وأصحاب الإصلاح والتعليم حتى انفصلوا عنهم فى كل شئ وأصبح هؤلاء أمة وأولئك أمة، تختلف الأولى عن الثانية فى العادات واللباس ومظاهر الحياة واللغات واللهجات، وأصبح هؤلاء العامة بجهلهم فريسة لكل صائد

وأتباع كل ناعق تنهشهم سباع المادية وتغير عليهم لصوص الدين، وأخيراً فشت فيهم دعوة الشيوعية ووجدت أنصارها فى عامة المسلمين مرتعاً خصباً، ولكنا نتوقع أن هذه الدعوة الدينية والحركة الصحيحة والاتصال بالجماهير والطبقات المنحطة فى العلم والدين والمعاش مباشرة وبذل النصح لها يصد هذا التيار إن شاء الله - سبحانه وتعالى - ويكون سداً منيعاً فى وجه الحركات اللادينية. عرفنا كذلك أنه لا يزدهر مشروع إصلاحى أو تكميلى إلا بالدعوة الدينية الأولى عن طريق التحريض والدعاية ... لا على طريق النظام والسياسة فى البداية، فالحياة المدنية فى الإسلام مبنية دائماً على أساس الحياة المكية، وكل مؤسسة لا تقوم على أساس الدعوة والتحريض الدينى ... ولا تسبقها جهود فى تمهيد الأرض، إلى انهيار فى العاجل أو الآجل، اقتنعنا بهذه المبادئ وجربناها فى بلاد بعيدة عن مركز الإسلام، فى أرض وعرة قد أهملت منذ زمن طويل فرأينا الغراس يثمر والجهد القليل يأتى بحاصل كبير.

وختاما

* وختاما: وها نحن وقد تلقيناها منهم فليتلقوها اليوم من إخوانهم ويقولوا " بضاعتنا أولاء نتحف إخواننا المسلمين فى البلاد الإسلامية عامة وفى الأقطار العربية خاصة بهذه الدعوة الدينية ومبادئها ردت إلينا " (¬1) ويجربوها فى تربتهم الذكية الندية وفى أممهم النجيبة الذكية بجهودهم المتواصلة القوية ويشاهدوا سنة الله الأبدية فى نصر الأمة المحمدية وخوارق الدعوة الإسلامية (¬2). تم بحمد الله ¬

_ (¬1) أى أن العرب هم الذين حملوا بضاعة الإسلام إلى العجم ثم هاهم العجم المهتمون بالرسالة يردون الجميل إلى أحفاد العرب. (¬2) محاضرة ألقاها الشيخ أبو الحسن الندوى فى إحدى اجتماعات التبليغ والدعوة، عام 1366هـ.

§1/1