من حديث النفس

علي الطنطاوي

علي الطنطاوي من حديث النفس طبعة جديدة راجعها وصحّحها وعلّق عليها حفيد المؤلف مجاهد مأمون ديرانية دار المنار للنشر والتوزيع

حقوق الطبع محفوظة يُمنَع نقل أو تخزين أو إعادة إنتاج أي جزء من هذا الكتاب بأي شكل أو بأية وسيلة: تصويرية أو تسجيلية أو إلكترونية أو غير ذلك إلا بإذن خطي مسبق من الناشر الطبعة الثامنة 2011 دار المنار للنشر والتوزيع ص ب 1250 جدة 21431 المملكة العربية السعودية هاتف 6603652 فاكس 6603238 المستودع 6675864 البريد الإلكتروني: [email protected]

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

مقدّمة أرجو من القارئ ألاّ ينظر في فصل من فصول هذا الكتاب حتى يرى تاريخ كتابته؛ فليس كل ما فيه لـ «علي الطنطاوي» الذي يكتب هذه المقدمة، بل إن كل فصل فيه لـ «علي الطنطاوي» الذي كان في ذلك التاريخ. وليس المؤلف إذن واحداً، ولكن جماعة في واحد، وكذلك الشأن في كل إنسان. ولكلٍّ من هؤلاء «المؤلفين ...» آراؤه وعواطفه، وأنا أحسُّ -إذ أعرض فصول هذا الكتاب قبل دفعها إلى المطبعة- أن كثيراً من هذه الآراء وهذه العواطف مما أنكره الآن وآباه (¬1). ولا عجب أن يبدل الإنسان في السنة الواحدة رأياً برأي، وعاطفة بعاطفة، فكيف لا تتبدل آرائي وعواطفي وأنا أكتب في الصحف والمجلات منذ اثنتين وثلاثين سنة بلا انقطاع؟ ¬

_ (¬1) ولكني تركت كل شيء على حاله، ما بدلت فيه ولا عدلت.

على أن لديّ أشياء ما بدّلتها قط ولن أبدّلها إن شاء الله؛ هي أني حاربت الاستعمار وأهله وأعوانه وعبيده دائماً، ومجّدت العربية وسلائقها وأمجادها وبيانها دائماً، وكنت مع الإسلام وقواعده وأخلاقه وآدابه دائماً. وقد بلغ ما طُبع من كلامي أكثر من عشرة آلاف صفحة، لو نخلتَها نخلاً ما وجدتَ فيها -بحمد الله- سطراً فيه تزلف للظالمين، ولا سطراً فيه إزراء على العربية، ولا سطراً فيه خروج على الإسلام. وشيء آخر؛ هو أني ما كنت أبداً في حزب ولا جماعة ولا هيئة، وما كان قلمي لهيئة ولا جماعة ولا حزب. ولقد كنت أكتب في الصحف أيام الفرنسيين، فكنت أقول ما لا يجرؤ على أكثر منه قائل من الوطنيين. وليست هذه دعوى بلا دليل، بل هي حقيقة دليلها موجود في صحف تلك الأيام، في «فتى العرب» و «المقتبس» و «القبس» و «ألف باء» و «الأيام» و «اليوم» و «النصر» و «الناقد» و «الجزيرة». ولقد كنت أدعو إلى وحدة أقطار العرب يوم كان في دمشق دولة، وفي حلب دولة، وفي السويداء دولة، وفي اللاذقية دولة، وكان لكل دولة حدود ولها حكومة ولها رئيس! * * * وبعد، فلقد كنت أريد أن أجعل هذه المقدمة ترجمة لي، على عادة المصنّفين قديماً وحديثاً في الترجمة لأنفسهم، لا سيما وموضوع هذا الكتاب «أنا»، ثم آثرت أن أجعل ذلك موضوعَ كتاب

أكتبه قريباً -إن وفّق الله- عنوانه «ذكريات نصف قرن»، ليكون مجال القول فيه أوسع، ويكون أمتع وأنفع. وأسأل الله أن يوفقني إليه وأن يُقدرني عليه، وألاّ يحرمني حظاً من الثواب عليه وعلى كل ما أكتب، وأن يجعله من العلم النافع. والثوابُ هو وحده الذي يبقى، على حين يفنى الإعجاب وتذهب الأموال، ويعود إلى التراب كل ما خرج من التراب. ولَدعوةٌ واحدة لي بعد موتي، من قارئ حاضر القلب مع الله، أجدى عليّ من مئة مقالة في رثائي ومئة حفلة في تأبيني، لأن هذه الدعوة لي أنا والمقالات والحفلات لكتابها وخطبائها، وليس للميت فيها شيء. وأستغفر الله وأتوب إليه. علي الطنطاوي دمشق: 21 جمادى الآخرة 1379 22 كانون الأول 1959 * * *

أنا

أنا نشرت سنة 1937 -1 - قال لي أهلي: لقد جئتَ إلى هذه الدنيا عارياً بلا أسنان، لا تحسن النطق ولا تعرف شيئاً. فضحكت ولم أصدق، فأعادوا ذلك عليّ، وألقوه كأنه قضية مسلَّمة وأمر واضح لا يحتمل الشك، وعجبوا مني حين أكذّبه وأرده. ولكني بقيت على رأيي الأول، لم أستطع مطلقاً أن أصدّق ما يقولون لأني أعرَفُ بنفسي منهم، ولأني أذكر ماضيّ كله: أذكر أني فتحت عينيّ ذات يوم فجأة ونظرت ... فوجدت نفسي، ورأيت أن لي أسناناً وعليّ ثياباً، وأن بي قدرة على المشي والنطق، ورأيتني شخصاً مستقلاً عن أبي أمي وسائر أهلي، أحب أشياء لا يحبها أحد منهم وأكره أشياء لا يكرهونها، ولا يميزني منهم إلا أني كالطبعة المختصَرة من الكتاب، فيها الأبواب كلها والفصول بيد أنها موجزة و ... بالقطع الصغير! أفيُعقل أن أكون موجوداً قبل ذلك، وأنا لا أعرف نفسي؟ مستحيل!

واستقرّ في ذهني -من يومئذ- أني وُلدت وأنا في الرابعة من عمري! -2 - وصرت أرى هذا الطفل دائماً؛ أبصر صورته في المرآة وأسمع صوته بأذني، وأصغي إلى حديث أمي عنه بشغف وسرور، فكنت أشعر بميل غريب إليه، حتى إني لأعترف الآن بأنه كان أحب إليّ من أمي، التي لم أكن أعدل بها أحداً ولا أقبل كنوز الأرض بدلاً من امتصاص ثديها والنوم على صدرها. ذلك الطفل الباسم، ذو العينين السوداوين والشعر ... يا للأسف! إني لا أستطيع أن أتخيل شعره. لقد مُحيت صورته من ذاكرتي، لقد اختفى من الدنيا منذ ربع قرن، لقد ذهب إلى حيث لا أدري. فهل كنت أنا ذلك الطفل؟ هل تجيء يده الصغيرة الغضة في يدي الخشنة التي أخط بها هذا المقال؟ فأين ذهب إذن؟ ومن أين جئت أنا؟ ... إنني لست ذلك الطفل ولست غيره ... فكيف يعقل هذا؟ هذا يحيرني دائماً ولا أعرف له حلاً، بل إن مجرد التفكير فيه يدفعني إلى الجنون. -3 - ونظرت يوماً من الأيام، فإذا في مكان ذلك الطفل اللاهي اللاعب، العابث بكل شيء، الذي يحطم كل ما يصل إليه،

ويقبض على الجمرة المشتعلة بيده كما يقبض على البرتقالة الحمراء، ويعبث بلحية القاضي إذا هو بلغها كما يعبث بشعر الهرة ... إذا في مكانه تلميذ يقرأ مُكرَهاً، ويكتب مضطراً، ويحمل همّ المدرسة التي يذهب إليها كل يوم كالذي يُساق إلى الموت، لا يعرف لوجوده فيها معنى، ولا يدري فيمَ يدَعُ عطفَ أمه والأنسَ بإخوته، ولِمَ يترك بيته وما فيه من الدفء في الشتاء والظل في الصيف، ليذهب إلى هذه الدار التي يُحشَد فيها الأطفال الأبرياء المساكين لتحشى أدمغتهم بمسائل لا يدركون معناها، وشروح لا يعرفون مغزاها، وتنال من أبشارهم وظهورهم عصا المعلم الغليظة، وتقذى عيونهم برؤية طلعته البغيضة، لا المعلم يبسم لهم ويدعوهم إلى حبه، ولا أهلوهم يستمعون شكواهم وينصفونهم ... لقد كان في هذه المدرسة كالمحكوم عليه بالسجن ظلماً! يا لهذا التلميذ البائس الذي لم يكد يفتح عينيه على الدنيا حتى أبصر الشقاء والألم. لقد مات كمداً ومضى مسرعاً في طريق الفناء ... مسكين! إنه لم يكن إلاّ أنا، أنا الذي وُلدت ومتُّ مئة مرة، حتى صرت الآن ... «أنا». -4 - وكان يوم آخر، فإذا (الفِلم) ينكشف هذه المرة عن منظر جديد: اختفى التلميذ الجميل، ذو السراويل القصيرة والقميص الأحمر والحقيبة الزرقاء الصغيرة، وذهب بجسمه ونفسه وميوله وأفكاره، وظهر الشاب الحليق الوجه، ذو (الربطة) الطويلة

والحقيبة السوداء الواسعة ... ظهر في الثانوية طالباً متحمساً كأنما رُكِّبت أعصابه من الديناميت وصُنع فمه على مثال فوهات الرشّاشات، فلا يكاد يقع في المدرسة حادث أو تقوم في البلدة ضجة إلا انفجر الديناميت وانطلق الرشاش، وقام في الطلاب خطيباً ثائراً مثيراً، فحطموا الباب وخرجوا ... كان ينتقم بهياجه وثورته لذلك التلميذ الهادئ الحييّ المظلوم، ولكن الامتحان لم يلبث أن كشّر له عن أنيابه وجاء ينتقم منه! هذه هي البكالوريا، فتهيأ لها؛ إن مستقبلك معلق عليها. ولم يكن قد فكر في المستقبل أو حسب له حساباً، فلما سمع به وقف وتردد وكبح من جماح نفسه. يجب أن يضمن المستقبل ليصل إلى آماله، آماله الكبار التي كانت تملأ نفسه ولا يشك في بلوغها. وكان قد بدأ ينشر في جرائد البلد فهو يجب أن يكون كاتباً كبيراً منتجاً يخدم بقلمه وطنَه، ويدافع به عن الحق والفضيلة، ويقاتل به خصومها وأعداءها، ويساهم في تحرير وطنه، ويكون له في «الإصلاح الشعبي» أثر يذكر. فليسعَ -إذن- لنيل الشهادة، فإنها تبلغه كل أمل وتوصله إلى أبعد غاية. إن الدنيا كلها ترقب نجاحه في «البكالوريا» (¬1)، فإذا نجح ¬

_ (¬1) شهادة الثانوية العامة كما هو اسمها في الشام، لا يزال كذلك إلى اليوم (مجاهد).

فتحت له الأرض كنوزَها وحمله الناس على أعناقهم إلى سدة المجد، وقاموا بين يديه قيام الخدم بين أيدي الملوك. تلك كانت أحلام الصبا ... فيا رحمة الله على عهد الصبا! -5 - حرّم الشاب على نفسه كل متعة من متع الدنيا؛ فلا نزهة ولا راحة، ولا حظّ له في النوم العميق ولا الطعام الهنيء، ولا شغل إلاّ شغل المدرسة. حبس نفسه بين كتبه ودفاتره يقرأ آناء الليل وأطراف النهار، ينتقل من هذيان الأدباء إلى طلسمات الرياضيين والعلماء، وحساب الجيب والمماس إلى شعوذات الطبيعيين وأصحاب الكيمياء، ودرس الملح والحامض والضياء والكهرباء إلى خرافات الفلكيين وجغرافية السماء ... يدس هذا الهراء كله في دماغه ليصبه يوم الامتحان في ورقة الفحص، ثم يلقيه في مكانه ويخرج من المدرسة فارغ الرأس كما دخلها أول مرة! كان يخشى أن يثأر منه المدرّسون الذين جرّعهم الصّابَ وسقاهم الحنظل باعتراضاته ومناقشاته وثوراته فيسقطوه في الامتحان، فجدّ كل الجد، ولم يدع في كتب المدرسة حاشية إلاّ حشاها في رأسه، ولا تعليقة إلاّ علقها في ذاكرته، ثم دخل الامتحان بعقل من سطوح وأجسام، وخطوط وأرقام، وخرافات وأوهام، فنجح أعظم نجاح! وهل ينجح في الامتحان إلاّ من حفظ ولم يفهم؟ وهل تدل

هذه الامتحانات إلا على قوة الذاكرة، وشدة الحفظ، وإتقان المنهج المقرر؟ * * * نجح، فوثب فرحاً، وتهيأ لخوض معركة الحياة، فقالوا له: مهلاً! قال: ماذا؟ قالوا: لا بدّ من شهادة عالية؛ إن المستقبل لا يُضمن إلاّ بشهادة عالية. قال: ويحكم! وهل يُبنى المستقبل على «الورق»؟ وانطلق يلعن هذا المستقبل الذي حرَمه عبث الطفولة ومتعة الشباب، ونغّص عليه حياته ولم يتركه يستريح إلى حاضره يوماً واحداً. كان -أبداً- يدفعه إلى الأمام، فيعدو كالفرس المحموم، فيتعب من العدو ولا يصل إلى منزل! -6 - راح الشاب يدرس الحقوق لينال الشهادة ويضمن المستقبل، ويشتغل بالأدب ليستجيب للرغبة ويحظى بالمتعة، ويعمل في الجريدة ليضمن العيش ويعول الأسرة ... واستمر على ذلك حتى نال «الليسانس». فربح بقربه من الأدب البعدَ عن الناس والجهلَ بالحياة، وكسب بميله الأدبي وطبعه المستوحش وجهله بالحياة خصومةَ الحكام ومضادّةَ الكبراء وعداوة المال!

-7 - نزل الشاب إلى ميدان الحياة برأس مترع بالعلوم والمبادئ السامية، ويد مثقلة بالشهادة الابتدائية والثانوية والعالية، وجيب خاوٍ خالٍ. فلم تكن إلا جولةٌ واحدةٌ حتى ولّى منهزماً! * * * ذلك لأن سلاحه من «طراز قديم» لم يعد يصلح اليوم في معركة الحياة! ولقد خدعته المدرسة وكذبت عليه، وصورت له الحياة على غير حقيقتها. قالت له المدرسة: «العلم خير من المال؛ العلم يحرسك وأنت تحرس المال». فرأى أن المال في الحياة خير من العلم، العلم لا يُنال إلاّ بالمال، فلو أن شاباً كان أذكى الناس وأنبهَ الناس، وكان مفلساً لا يملك أجور المدرسة وأثمان الكتب والثياب، لما قُبل في جامعة ولا حصّل علماً. والعلم لا يثمر إلاّ بالمال، فلو أن أعلم أهل الأرض كان مفلساً، يفكر في خبزه من أين يأتي به وبيته كيف يستأجره، لما بقي له عقل يفكر وذكاء ينتج. ورأى أن أصحاب الأموال الجاهلين تُبيحهم الحياةُ أجملَ ما تملك من متع ولذائذ ومجد وجاه، والعلماء الفقراء محرومون من كل شيء. نعم؛ إن المدرسة كانت تكذب عليه!

وقالت له المدرسة: «الأخلاق أساس النجاح»، وضرب له المعلم مثلاً سيئاً طلاباً لا أخلاق لهم ولا عفاف، وضرب له مثلاً عالياً طلاباً كانوا نموذج الطهر والاستقامة والشرف. فرأى أن الأولين قد بلغوا أعلى المراتب وأسمى المناصب والآخرين تحت تحت ... على العتبة! فعلم أن المدرسة كانت تكذب عليه! وقالت له المدرسة: «إن الحق فوق القوة. القوة للحق وليس الحق للقوة». فآمن بذلك وصدّقه وتسلح بسلاح الحق، فما راعه إلاّ اللص يضع مسدسه في صدغه يطلب ماله وثيابه، فألقى عليه محاضرة في الحق جمع فيها كل ما تعلمه من أساتيذه وأضاف إليه ما انشقّ عنه ذهنُه، فردّ عليها اللص بقهقهة مروّعة، وذهب بأمواله وثيابه ورجع هو عارياً؛ لم يبقَ له إلاّ فكرة سخيفة لا تسمن ولا تغني من جوع ولا تنجي من برد! ورفع شكواه إلى القاضي، فلم يرَ عند القاضي حقاً يقهر القوة، ولكن وجد عنده قوة تصنع الحق؛ وجد قوة الجنود. فأين يبقى الحق إذا ثار اللصوص على الجند أو فتكوا بهم؟ هذه هي سنة الحياة. وليس على الحياة ذنب، فهي سافرة لم تستتر ولم تخدع أحداً عن نفسها، ولكن الذنب على الأدباء والمدرّسين الذين وضعوا عيونهم في أوراقهم وحبسوا أنفسهم في مكاتبهم، وأرادوا أن يدرسوا الحياة فلم يفهموا منها شيئاً.

-8 - وجلس الشاب (الليسانسيه في الحقوق) يدوّن آراءه تلك في كتاب، فلما انتهى منه حمله إلى الناشر وكله زهو وإعجاب بنفسه، فقلّبه الناشر العامي وصفحه (¬1)، فلما رأى اسم صاحبنا عليه لوى شفتيه وقوّس حاجبيه، وقال له: إن الناس لا يقرؤون الآن ما تكتب، ومتى صرت (في المستقبل) كاتباً مشهوراً ننشر لك آثارك. فخرج متعثراً بأذيال الخيبة، يلعن المستقبل لعناً. * * * ما هو هذا المستقبل؟ وهل اقتربتُ منه شبراً واحداً وأنا أركض وراءه منذ سبعة وعشرين عاماً؟ فمتى أصل إليه؟ وأين هو؟ أهو في العام الآتي؟ أهو فيما بعد خمس سنين؟ وهل يبقى مستقبلاً إذا أنا بلغته أم يصبح حاضراً ويكون عليّ أن أبلغ مستقبلاً آخر؟ ... أيكون مستقبلي القبر؟ لقد طوّفت في الآفاق وشرّقت وغربت وأنجدت وأعرقت ... فما رجعت إلاّ بالخيبة والتعب والإفلاس. فأين أجد الهدوء والراحة من هموم العيش حتى أنصرف إلى ما خُلقت له من الدرس والمطالعة والكتابة والتأليف؟ * * * ¬

_ (¬1) علّق الشيخ على هذه الكلمة في غير هذا الموضع من كتبه فقال إن الصواب صَفَحَ لا تصفّح. وفي المعجم: صَفَحَ ورقَ الكتاب: عرضه ورقة ورقة (مجاهد).

وذهب الشاب (الليسانسيه في الحقوق) يفتّش عن الخبز فلم يجده عند ناشر الكتاب، ولا في إدارة الجريدة، ولا في مكتب المحامي، ولم يجده إلاّ في مدرسة القرية، فصار «معلم صبيان» فيها يُقرئهم ألف باء، ثم ارتقت به الحال قليلاً فصار يدرّس سير الأدباء وأشعار الشعراء ... يكدّ ويتعب في الليل والنهار، يحمل آلام الغربة وعناء العمل، ثم لا ينتج أثراً أدبياً ولا يفيد علماً ولا يحفظ في جيبه درهماً واحداً. إنه يشتغل من أجل المستقبل! -9 - أين ذلك الطفل الذي كان يكره المدرسة ويُبغض المعلم القاسي مِن هذا المعلم الفظّ، الذي يرهق الأطفال ويهز عصاه في وجوههم ويقرع بها جنوبهم؟ من يستطيع أن يتصور أن هذا هو ذاك؟ وأيُّ شبَه بينهما؟ إنهما مختلفان في الجسم والشكل والطبائع والميول، فلن يكونا شخصاً واحداً! أين ذلك الطالب المتحمس الذي كان يقود الطلاب إلى المظاهرات ويخطب في المساجد والمجامع والأسواق مِن هذا المدرس الخامل الذي يلقي دروس الأدب على هؤلاء الطلاب، ويبدو فيهم كشيخ هِمّ (¬1) في الثمانين؟ هل هما شخص واحد؟ ¬

_ (¬1) الهِمّ (بكسر الهاء) هو الشيخ الكبير الفاني، والجمع أهمام (مجاهد).

إن ذلك الطالب لو رأى هذا المدرس لأبغضه وكرهه ولما تردد في البطش به! وأين ذلك الشاب الذي تفيض نفسه بالآمال الكبار من هذا اليائس القانط الذي لم يعد يأمل في شيء، لأنه جرّب فلم يصل إلى شيء؟ -10 - وبعد، فلِمَ أفكرُ في هذا؟ إنني لا أدري من أنا ولا أعرف كيف وجدت، ولا أعلم ما هي صلتي بذلك الطفل الذي نسيت حتى صورة وجهه، وذلك التلميذ الذي لم أعد أعرفه إلاّ بالتخيل، وذلك الطالب الذي أحبه وأتشوق إليه، وذلك المعلم الذي أرثي له وأشفق عليه؟ هل أنا كل هؤلاء؟ وماذا بعد؟ يا لله! إني أحسُّ كأني جُننت حقاً! * * *

أنا والنجوم

أنا والنجوم نشرت سنة 1937 ما من كلمة هي أثقل على أذن السامع وأبغض إليه من كلمة «أنا»، وما حديث أكره إلى الناس من حديث المرء عن نفسه. بيد أني متحدث الليلة عن نفسي وقائل «أنا» وجاعلها عنوان مقالتي، لأني منفرد بنفسي لا أجد معي من أتحدث عنه إلاّ «أنا». أنا حين أتحدث عن نفسي أتحدث عن كل نفس، وحين أصف شعور واحد وعواطفه أصف شعور الناس كلهم وعواطفهم؛ كصاحب التشريح لا يشق الصدور جميعاً ليعرف مكان القلب وصفته، ولكنه يشق الصدر والصدرين، ثم يقعّد القاعدة ويؤصّل الأصل فلا يشذّ عنه إنسان ... سنةَ الله في الخلق وقانونه المحكم، ونظامه العجيب الذي جعل الناس مختلفين وهم متشابهون، ومتشابهين وهم مختلفون، وبَرَأهم على الوحدة في الحقيقة والتنوّع في الجمال، فخلق العيون كلها خلقاً واحداً، كل عين ككل عين في تركيبها ووضعها وصفتها، وما عينٌ مثلُ عينٍ في شكلها ومعناها وجمالها. تلك حكمة الحكيم الخبير، وهذه صنعة المبدع القدير. * * *

أنا منفرد على سطح دار في «الزُّبَير» (¬1) في هذه الليلة الساكنة المتلألئة النجوم، وأمامي الصحراء التي تمتد إلى عُمان واليمن ونجد والحجاز، وورائي السواد الذي يصل إلى أرض فارس، وهي قريبة، حتى إني لأرى لهيب النفط المشتعل في عبادان وأنا في مكاني ... أتأمل هذه الصحراء المجيدة المباركة التي كُتب على رمالها أروع سطور المجد وأجمل صحائف التاريخ، ونبت في رمالها دَوح الحضارة الذي أوَت إليه الإنسانية وتفيأت ظلاله يوم لا ظلّ في الأرض إلاّ ظله. وأفكر فيطول بي التفكير، ويطل بي الفكر على آفاق واسعة ودنياوات عظيمة، وتنبلج في نفسي أصباح منيرة، فأجد في رأسي مئات من الأفكار الجديدة الكبيرة، وفي نفسي مئات من الصور الرائعة المبتكرة، ولكني لا أكاد أمسك واحدة منها لأقيدها بالألفاظ وأغلّها بالكَلِم حتى تفلت مني وتعدو في طريقها منحدرة إلى أغوار عقلي الباطن، فلا أنا استمتعت بها استمتاع الناس بأفكارهم ولا أنا سجلتها في مقالة وصنعت منها تحفة أدبية. ولو أني قدرت أن أكتب معشار ما أتصور لكنت شيئاً عظيماً، ولكني لا أقدر ... ولا أصب في مقالاتي إلاّ حثالة أفكاري! ¬

_ (¬1) الزبير: بلدة صغيرة على سِيف البادية، غربي البصرة، تبعد عنها سبعة أميال، فيها قبر بطل الإسلام الزبير بن العوام أحد العشرة المبشرين بالجنة. وعلى مقربة منها أطلال عليها نقوش ظاهرة، المشهور هنا أنها أطلال مسجد البصرة الجامع. وأهلها يبلغون اثني عشر ألفاً، كلهم مسلمون سنيون يميلون إلى السلفية ويحبون العلم، وفيها مساجد كثيرة كلها تقام فيه الجمعة، ومدرسة أميرية راقية، ومدرسة أهلية إسلامية أسسها الشيخ الشنقيطي رحمة الله عليه. والراجح أنها هي البصرة القديمة والله أعلم، فليس هنا من يعلم.

تنبت الأفكار في نفسي وتزهر وتثمر، ثم تذوي وتجف فآخذ الهشيم فأضعه في مقالتي! ويتفجر الينبوع في نفسي ويتدفق ويسيل، ثم ينضب وينقطع فآخذ الوحل فأضعه في مقالتي! وينبثق الفجر في نفسي ويقوى ويشتدّ، ويكون الضحى والزوال، ثم يعود الليل، فآخذ قبضة من ظلام الليل لأكتب منها مقالة عنوانها: «ضياء الفجر»! من أجل ذلك أكره أن أنظر في كل ما كتبت وأستحي أن أعود إليه، وأحب كل جديد لم يُنشَر، وأرى أن الذي يمدحني بمقالاتي يحقرني لأنه لا يعلم أنها درهم من خزائن نفسي المفعمة بالذهب، فهو يقول لي: إن الدرهم كبير منك لأنك فقير. ولكن الذي ينقد مقالاتي ويتنقّصها يقول لي: إنك غني فالدرهم قليل منك، إن هذه المقالة حقيرة لأنك أنت عظيم. لقد تعلمت هذه المسألة من عهد قريب فصرت أحب النقد، وكنت أجهلها من قبل فأميل إلى الثناء والتقريظ. * * * لبثت أعرض هذه المواكب من الأفكار حتى تعبت ومللت، فألقيتها كلها في الصحراء وجلست أفكر في الصحراء وحدها. نظرت إليها وهي متمددة على سرير الجزيرة الواسعة، نائمة، فامتلأت إكباراً لها وإعظاماً. ثم فكرت أن لو فتحت الصحراء عينها، أكانت تبصرني وتحس بوجودي؟ أأشعر أنا بوجود رملة حملتها الريح فطارت بها، فمست وجهي وهي طائرة ثم مضت

في سبيلها؟ ما أنا في وجود الصحراء إلاّ رملة، وما حياتي إلاّ لحظة من حياتها، ولو تثاءبت الصحراء أو حكّت أنفها لتصرّمَ قرنٌ كامل قبل أن تنتهي من تثاؤبها وحكّها أنفَها ... فما أعظم الصحراء وما أطول عمرها! - بل ما أقلّ الصحراء وما أقصر عمرها! ما الصحراء؟ بل ما الأرض كلها؟ وما هذا المليار من القرون الذي عاشته؟ إنه يوم من حياتي، إنها نقطة من بحري. إني نمت يوماً، فلما أفقت وجدت نقطة صغيرة هناك، فقلت: ما هذا؟ قالوا: مخلوق صغير يُدعى «الشمس» ... فعجبت من صغرها، ثم لم أحفل بها. فما أرضك هذه يا ... يا ... يا أيها العدم! هذا ما قاله لي كوكب قريب كان ينظر إليّ باسماً، فذكرت ما قاله علماء الفلك عن الكواكب وعظمتها، فسكتُّ ولم أنطق. وإذا بكوكب آخر يطل من هناك يقهقه ضاحكاً يصرخ في وجه الأول: اسكت، اسكت أيها النملة الحقيرة، من أنت؟ إن آلافاً مثلك لا تملأ وادياً واحداً من أوديتي، إنني أحمل مئة مثلك بين أصبعين من أصابعي! وكان وراءه كوكب خافت لا يقول شيئاً، لأنه لم يعلم بوجود هذا كله ... لا يراه لبعده وصغره. وكان وراءه ستمئة مليون من الكواكب كل واحد أكبر من الذي قبله، وأصغرها من هذا الكوكب كالفيل من البعوضة. فجلست أحدق في هذه الكواكب ذاهلاً مشدوهاً، وانقطعت أفكاري عن الجريان وأحسست بضآلتي، حتى لقد خلتني عدماً.

ثم صَغُرت هذه الكواكب في نظري لمّا رأيت شيئاً أعظم منها، صغرت لما رأيت السماء «سقفاً مرفوعاً» حتى غدت كلها «مصابيح تزين السماء الدنيا»، ورأيت السماوات تطيف بها كلها، تحيط بهذا الفضاء «سبعاً طباقاً»، ورأيت الجنة من وراء ذلك «عرضها السماوات والأرض»، ورأيت العرش والكرسي وتلك الكائنات العظيمة، فأحسست أن عقلي ينهدم وينحطم حين يحاول التفكير فيها وهي مخلوقة، فكيف به حين يحاول التفكير في الخالق؟ وذهبت أقابل بين هذه العظمة الهائلة التي لا يدنو من تصورها العقل، وتلك الدقة الهائلة: دقة الجراثيم التي يمر الألف منها من ثقب إبرة، دقة الكهارب (¬1) التي يكون منها في الذرة الواحدة مئات من الكواكب الصغيرة، يدور بعضها على بعض كما تدور كواكب المجموعة الشمسية ... ذهبت أقابل بين هذا وذاك فعجزت، وأنكرت نفسي وجحدتها، وامتلأتُ إيماناً بالخالق الأعظم، فصحت من أعماق قلبي: لا إله إلا الله. * * * أنكرت نفسي، ولم أعد أراها شيئاً. ونسيت يدي ورجلي، حتى لقد حسبتهما جزءاً من الكرسي أو السرير الذي أجلس عليه، وأضعت ميولي كلها وشهواتي، حتى لم يبقَ لي «أنا» وإنما صرت أنا الكون كله (¬2)، الكون الذي ردد معي قولي: «لا إله إلا الله»، ¬

_ (¬1) أي الإلكترونات (مجاهد). (¬2) أي الكون المخلوق لا الخالق، وأعوذ بالله من أن أقول بـ «وحدة الوجود» التي قال بها أقوام فضلّوا وأضلّوا.

فأحسست حينما أنكرت نفسي بلذة الوجدان التي لا توصف: لا يعرف العشقَ إلاّ من يكابِدُه ولا الصّبَابةَ إلاّ من يعانيها وبدأت أفهم ما كنت قرأته من أقوال أهل التصوف، وتعلمت أن الإنسان لا يحس بعظمة الله إلاّ إذا نسي نفسه وعظمته. هنالك يجد هذا «الجرم الصغير» الذي هو رملة في الصحراء وعدمٌ في وجود الكواكب، والذي لا يمتد عمره أكثر من لحظة في عمر السماء ... يجده أكبرَ من الكواكب وأخلدَ من السماوات، لأنه عرف الله وأدرك حلاوة الإيمان. وقمت بعد ذلك أصلي، فلما قلت: «الله أكبر»، مُحي الكون كله من وجودي، ولم يبقَ إلاّ أنا العبد المؤمن الضعيف، والله الإله العظيم الجبار. ليس في الدنيا شيء أجلَّ ولا أجملَ من الصلاة! * * *

جواب على كتاب

جواب على كتاب نشرت سنة 1959 يحمل إليّ البريد كل أسبوع نحواً من ثلاثين رسالة، يبعث بها إليّ سامعو أحاديثي في الإذاعة وقرّاء مقالاتي في الصحف، ولكني لم أجد فيها كلها مثل الرسالة التي تلقيتها أمس. رسالة من أم، جاءتني في «يوم الأم»، ليس فيها من فصاحة اللفظ شيء ولكنها في البلاغة آية من الآيات، وهل البلاغة إلاّ أن تقول ما يصل بك إلى الغاية ويبلغ بك القصد؟ تقول هذه الأم إنها سمعت بعيد الأم ولكنها لم ترَه، وعرفت شقاء الأم بالولد ولكنها لم تعرف بر الولد بالوالدة. وهي لا تشكو عقوق ولديها، فهما صغيران ما بلغا سن العقوق، ولكنها تشكو ضيق ذات اليد وفقد المُسعد والمعين، وأنها تصبّر النفسَ حيناً ويتصرّم أحياناً صبرُها، وتسألني: أتطلق الولدين من إسار المدرسة وتبعث بهما يتكسبان دُريهمات تعينها على العيش؟ وتسأل ماذا تجني منهما إن درَسا وهي لا تملك ثمن كساء المدرسة ولا نفقاتها؟ فكيف يستطيعان أن يكملا الدرس ويتمّا التحصيل وهما بالثوب البالي والجيب الخالي؟

وما تمنيت أن أكون غنياً إلاّ اليوم، لأستطيع أن أواسيها باليد والمال لا بالقلم واللسان، ولكني أديب، والأديب لا يملك إلاّ قلبه ولسانه. وهاتان كلمتان من القلب: كلمة لها هي، وكلمة للقراء. أما الكلمة التي هي لك، فأحسب أنها تبدو للناس غريبة لأن الأدباء ما تعوّدوا أن يقولوا مثلها، لأنهم لا يجرؤون أن يعرضوا على الناس حقائق صورهم ليراها الناس كما هم، بل يعرضون صوراً محرَّرة مزوَّقة، قد بدّلها (رتوش) المصور وفنه. وقد تكون أحلى وأجمل ولكنها ليست صورهم، إنهم لا يكشفون للقراء قلوبهم لكن يعرضون عقولهم. وإن كان هذا الذي سأقوله اليوم سنّة عند أدباء الإفرنج من سنن الأدب المسلوكة، لا بدعة من البدع المتروكة. إنها قصة ولكن لم يخترعها خيال كاتب ولم يؤلفها قلم أديب، بل ألفت فصولَها الحياةُ وجئت أرويها كما كانت. أرويها لتعلمي وتعلم كل أم بائسة وكل ولد نشأ في الفقر أن المجد والعلاء رهن بأمرين: بتوفيق الله أولاً، واللهُ يوفق كل عامل مخلص، وبالعلم والجِد ثانياً. واسمعي الآن القصة: كان في دمشق -من نحو أربعين سنة- عالِم جليل القدر، كريم اليد، موفور الرزق، داره مفتوحة للأقرباء والضيوف وطلَبة العلم، وموائدُه ممدودة، لمّا أضاق الناسُ في الحرب العامة الأولى وسّع الله بفضله عليه فلم يعرف الضيق، وكان من ذوي المناصب الكبار والمكانة في الناس.

ونشأ أولاده في هذا البيت، لا يعرفون ذلّ الحاجة ولا لذعة الفقر. ولكنهم أصبحوا يوماً (من أيام سنة 1925)، الولد الكبير البالغ من عمره ستَّ عشرة سنة وإخوة له تتراوح أعمارهم بين عشر وبين شهر، فإذا بالوالد قد تُوفّي. وارتفع السّتر، فإذا التركة ديون للناس؛ فباعوا أثاث الدار كله ليوفوا الدَّين، ثم تركوا الدار الفسيحة في الصالحية ونزلوا تحت الرصاص (وكانت أيام الثورة) يفتّشون عن دار يستأجرونها، فوجدوا داراً ... أعني كوخاً، زريبةَ بهائم، مخزنَ تبن ... في حارة الديمجيّة. هل سمعتِ بها؟ في آخر العُقَيْبة، قرب المكان الذي يسميه الناس من التوائه وضيقه «محلّ مَا ضيَّع القردُ ابنَه». هذا هو اسمه، صدّقيني! في غرفتين من اللبِن والطين، في ظل دار عالية لأحد موسري الحارة تحجب عن الغرفتين الشمسَ والضياء، فلا تراهما -قط- الشمسُ ولا يستطيع أن يدخلهما الضوءُ، ليس فيهما ماء إلاّ ماء ساقية وسخة عرضها شبران وعمقها أصبعان، تمشي مكشوفةً من «تورا» في الصالحية إلى هذه الحارة، تتلقّى في هذا الطريق الطويل كلّ ما يُلقى فيها من الخيرات الحسان! وليس فيها نور إلا نور مصباح كاز، نمرة ثلاثة ... يضيء تارة و «يشحّر» (¬1) تارات ... والسقف من خشب عليه طين، إن مشت عليه هرة ارتجّ واضطرب، وإن نزلت عليه قطرة مطر وَكَفَ و «سرَّبَ». ¬

_ (¬1) أي ينفث «الشَّحّار»، وهو -في عامية أهل الشام- السُّخَام؛ أو السّواد الذي ينتج من احتراق فتيلة المصباح (مجاهد).

هنالك على أربعة فرش مبسوطات على الأرض متجاورات، ما تحتهنّ سرير، تغطيهن البسط والجلود، كان ينام هؤلاء الأولاد الذين رُبّوا في النعيم وغُذّوا بلبان الدلال، تسهر عليهم أم -مثلكِ- حملت ما لم تحمله أم، تدرأ عنهم سيل البقّ الذي يغطي الجدران، وأسراب البعوض التي تملأ الغرفة، والماء الذي ينزل من السقف. تظل الليلَ كله ساهرةً تطفئ بدمع العين حرق القلب، تذكر ما كانت فيه وما صارت إليه، والأقرباء الموسرين الذين لم يكونوا يخرجون من دار الوالد، كيف تخلوا عن الأولاد وأنكروهم، حتى جاؤوا يوماً يزورون جار الدار الموسِر يهنئونه بالعيد ولم يطرقوا -والله- عليهم الباب؟ ولم يُعِنْها أحد، ولم يسعفها إلاّ أخ لها في مصر (¬1) أمدّها بجنيهات مصرية قليلة لم يكن يطيق أكثر منها. في هذا الجو يا سيدتي ... وماذا تظنين هذا الجو؟ فيه أقبل الولد وإخوته على الدرس والتحصيل. وكانت أطراف البلد للثوار، ليس للفرنسيين إلاّ وسط المدينة. فكانوا يمرون على الموت في طريقهم إلى المدرسة كل يوم، يخترقون جبهة الحرب (الاستحكامات) القائمة أمام جامع التوبة، وصبروا ووثقوا بالله، وأعانهم الله ووفّقهم، حتى صاروا ... ماذا تقدّرين أنهم صاروا الآن؟ صار الولد الثاني قاضياً، وصار أديباً شاعراً مصنّفاً، والثالث أستاذاً كبيراً في الجامعة وأولَ من حمل لقب دكتور في الرياضيات ¬

_ (¬1) هو الأستاذ محب الدين الخطيب، الكاتب الكبير المعروف.

في سورية، والرابع مدرّساً موفقاً وداعية وأديباً (¬1). أما الولد الأكبر فلا أقول عنه شيئاً لأن شهادتي فيه مردودة؛ فهو صديقي الذي لا أفارقه أبداً، والذي أكون معه ليلي ونهاري وأراه كلما نظرت في المرآة، وهو فوق ذلك يحمل اسماً مثل اسمي! وما قصصت هذه القصة إلاّ تسلية لك وتهويناً عليك، ولتوقني أنه ربما كان ينتظر ولديك هذين اللذين لا يجدان الغذاء والكساء، ينتظرهما مستقبل يحسدهما عليه أبناء الأغنياء. فقولي لولديك ألاّ يخجلا إن لم يجدا الثوب الأنيق أو الكتاب الجديد أو المال الفائض؛ فإن أكثر النابغين كانوا من أبناء الفقراء. وكاتب هذه السطور (وإن لم يكن من النابغين الذين تُضرَب بهم الأمثال) كان يجيء إلى المدرسة الثانوية بالبذلة التي فصلتها له أمه من جبة أبيه، وقد عجز عن أداء رسم شهادة الحقوق فساعده عليه بعض المحسنين. وأنا أعرف -والله- في أعلام البلد اليوم من نشؤوا في أشد الفقر، ثم نالوا بالعلم أوسع الغنى وأعلى المناصب، ولو كنت أعلم الرضا منهم بذكر أسمائهم لسميت لكِ خمسة أسماء كلها على طرف لساني الآن. وأنا أعرف محكمة صار ابن آذنها قاضيَها، وابن رئيسها «شيئاً» كالآذن فيها! * * * ¬

_ (¬1) ناجي الطنطاوي وعبد الغني الطنطاوي ومحمد سعيد الطنطاوي، وكلهم من أصحاب الفضل والعلم والأدب (مجاهد).

أما الكلمة التي هي للقراء، الذين كانوا الليلة البارحة -عندما أرعدت السماء وأبرقت ونزلت على الأرض- كانوا على المقاعد المريحة في الغرف الدافئة فلم يعرفوا ما حال الفقراء في تلك الليلة. إني أقول لهم: إن في البلد، في حيِّكم، بين جيرانكم، كثيرات من أمثال السيدة التي كتبت إليّ. وإن في البلد من يرتجف هذه الليلة من البرد في البيوت التي ثلّجها الشتاءُ، لا يلقى جمرة مشتعلة، وإن هنالك تلميذات وتلاميذ، يقرؤون بعيون تزيغ من الجوع والقرّ ويكتبون بأصابع محمرة من البرد. وإن في هؤلاء من لو أُمِدّ بالطعام واللباس وأُعينَ على الدراسة، لكان عبقرياً تعتز بمثله الأوطان وتسمو الأمم. واذكروا أن بين أُجَراء الخبّازين وصِبية المحامين مَن خُلق ليكون من كبار العلماء وأفراد النابغين، ولكن الفقر عطل مواهبه وسدّ أمامه طريق النبوغ، فلم يجد ذكاؤه مسرباً يسرب منه إلا الإجرام. إن أكثر المجرمين الذين يسكنون السجون كانوا صبية أذكياء، ولكن المجتمع قال لهم: حرام عليكم الدرس والتحصيل لتكونوا من أفذاذ المثقفين، فكونوا -إذن- من أذكياء المجرمين! إن الذي ينفقه الأغنياء على الترف والسرف، يكفي لتعليم كل ولد في البلدة، وإطعام كل جائع، وإسعاف كل فقير. إن عرساً واحداً من أعراس الموسرين الكبار تكفي نفقاته لإطعام عشر عائلات شهراً كاملاً، وما ينفَق على أكاليل الزهر في الجنائز وطاقات الورد

في الأفراح يفتح كل سنة مستشفى مجانياً للفقراء، وأثمان علب الملبَّس في الموالد تنشئ كل سنة مدرسة تتسع لخمسمئة تلميذ، وما تُشترى به هذه الثريات الفخمة وهذه التماثيل، وما يُنفَق في الولائم والحفلات وما يُصرَف في الملاهي والموبقات يكفي لسد حاجة كل محتاج. وأنا لا أقول: دعوا هذا كله؛ فإنكم لن تفعلوا، ولكن اجعلوا من أموالكم نصيباً لهؤلاء المعذَّبين في الأرض ... زكّوا عن أموالكم فإنكم لا تدرون هل تدوم لكم أو تذهب عنكم. وهل أخذ أحدٌ على الدهر عهداً أن لا تحول عنه الحال، وأن لا يذهب من يده المال؟ ومَن الذي جعل لولد الغني الحق في أن يبقى أبداً سيداً، يُعطى ما يطلب وينال ما يريد، وكتب على ولد الفقير الفقرَ والشقاء أبداً؟ ومَن يثق بأنّ ولده لن يحتاج غداً إلى ولد الفقير، يسأله ويرجو رِفده؟ وإذا وثقتم ببقاء المال، فهل تثقون ببقاء الصحة؟ أتأمنون الأمراض والنوازل والنكبات؟ فاستنزِلوا رحمة الله بالبذل، وادفعوا عنكم المصائب بالصدقات. وأنا لا أخاطب أرباب الآلاف المؤلفة فقط، بل أخاطب القرّاء جميعاً. إن الناس درجات؛ أمَا تفرح إن أعطاك صاحب الملايين ألف ليرة؟ فأعطِ أنت المُعدَم عشرَ ليرات. إن الليرات العشر له كالألف لك، والألف عند «المليونير» كالعشر عندك.

والثوب القديم الذي تطرحه قد يكون ثوبَ العيد عند ناس آخرين، فلماذا لا تسرهم بشيء لا يضرك ولا تحس بفقده؟ ولو أن كل امرئ يعطي من هو أفقر منه لما بقي في الدنيا محتاج. فيا أيها القراء، أسألكم بالله: لا تدَعوا كلمتي تذهب في الهواء، فإني والله ما أردت إلا الخير لكم. ويا أيتها الأم التي كتبت إليّ، ثقي بالله، فإن الله لا يضيع أحداً أبداً. * * *

من دموع القلب

من دموع القلب نشرت سنة 1938 [هل تذكر -يا صديقي (¬1) - يوم جزنا بمقبرة الدحداح ونحن طفلان يتيمان في طريقنا إلى المنزلين الصغيرين المتجاورين في «السمّانة»، فوقفنا ساعة على القبرين المتدانيين نزور أبوينا ... ثم ذهبنا مسرعَين لنودعَ آلامنا صدر الأم؟ أتذكر ما قلتَ لي يومئذ عن حبك أمك وتعلقك بها، وما قلتُ لك؟ أتذكر أننا اتفقنا على أن الحياة مستحيلة علينا بعد الأمهات، وأننا سنبقى معهن أبداً وشملنا جميع وعقدنا متصل؟ لقد كان ما ظنناه مستحيلاً. لقد ماتت أمي وأمك واحتواهما ذلك القبر الذي حوى أبوينا من قبل. وعشنا بعدهما ... لم نعد نملك منهما إلاّ دموعاً حرّى في العين وحسرات لاذعات في القلب ... لقد غابتا إلى الأبد! «علي»] لست أدري ما الذي يحملني على ذكر الماضي ونبش عظامه النخرة؟ وما الذي يغريني بأن أتلمّس مكان أحلامي من الواقع، وأنا أعلم أن الماضي قد ذهب بمسراته وأحزانه ولم يبقَ في يدي ¬

_ (¬1) هو أنور العطار، صديق طفولة علي الطنطاوي وصباه. انظر مقالة «عيدي الذي فقدته» ومقالة «مقدمة ديوان» في هذا الكتاب (مجاهد).

منه إلاّ هذه الذكريات، التي طالما حاولت أن ألقي بها في الزاوية المظلمة من نفسي لتنام فيها إلى الأبد، فكانت تستفيق كلما أردت نسيانها فتسوّد صفحةَ الحياة في ناظري حتى لا أرى فيها جميلاً ولا بهيّاً ... وأنا أعلم أن أحلامي التي بنيتها بقطع قلبي وأنقاض أيامي، وروّيتُ رياضَها بدمع عيني، قد جفّ زهرها وصوّح نبتها، وانهارت أمام عيني دفعة واحدة كما ينهار بيت من ورق اللعب ضربَته كفُّ إنسان ... فأيست منها وذهبت أعيش بقلب محطوم وكبد مكلومة، فأضحك وأمزح حتى ليظنني الناسُ أسعدَ الناس، وأنا أشقاهم وأخيبهم أملاً وأشدهم ألماً! فلماذا أعود الليلة إلى الماضي التي ماتت أيامه، وماتت أحلامه، ومات ناسه؟ * * * كنت أطل من شرفتي في الفندق على شارع الرشيد في بغداد، الذي يمثل الحياة ويفسرها ويصور حقيقتها أكثر من تصوير الأدباء وتفسير الفلاسفة. بل إن ساعة واحدة تشرف فيها على شارع الرشيد أجدى عليك -في فهم الحياة- من دراسة عشر سنين في هذه الكتب. وماذا في الكتب إلاّ الحيرة والضلال؟ ومَنْذا الذي تبلغ به الحماقة وتفيض على نفسه حتى يدّعي أنه فهم الحياة من الكتب؟ أنا أحد صرعى هذه الكتب وضحاياها، فسلوني عن خيبتي وخسارتي؟ قالت الكتب: «إن المستقيم أقصر الخطوط فاسلكه تصل،

واستقم تبلغ غايتك». فسرت قُدماً فاصطدمت بأول جدار لقيته فشج رأسي وقعدت مكاني، واستدار غيري والتوى كما تستدير طرق الحياة وتلتوي فوصل. قالت الكتب: «كن فاضلاً واحرص على مكارم الأخلاق فهي السبيل». فوجدت أهل الرذيلة هم الذين يصلون، ورأيت أسفل الناس أخلاقاً صار أستاذاً للأخلاق في أكبر مدرسة، فعجبت من سخر (¬1) الحياة! وقالت الكتب: «الحق»، وقالت الحياة: «القوة» ... وقالت الكتب: «الفضائل»، وقالت الحياة: «الشهوات». وقالت الكتب ... ولكن لم يكن إلاّ ما قالت الحياة! ونظرت إلى شارع الرشيد فإذا السيارات من كل جنس ولون، والعربات من كل شكل ونوع، والدراجات والعجلات، كلها يعدو يريد أن يصل أولاً، وكلها يزأر ويصيح ويهدد، ولكنها إذا بلغت الغاية رأت أنها لم تصل إلى شيء فعادت أدراجها تزاحم وتعدو وتصيح! فقلت: كذلك الحياة؛ سباق وتزاحم، ولكن ما هي الغاية؟ لا شيء! * * * ¬

_ (¬1) ليست مضبوطة في الأصل، ويمكن أن تكون «سُخْراً» أو «سَخْراً» أو «سَخَراً»، وكلها من مصادر الفعل «سخِر»، ومثلها «السُّخريَة» (مجاهد).

ودخلت الغرفة وأغلقت عليّ بابي، وأردت أن أفيء إلى عزلة أسكن فيها نفسي وأجد فيها راحتي، ولكن الباب قُرع وجاء السيد حيدر الجوادي، الرجل الذي ملك على الدكتور زكي مبارك أمره وأطربه وأعجبه، حتى غدا لا يصبر عن سماعه حيثما رآه، وحتى اضطره إلى الغناء في المكتبة العامة، وقال له: غنِّ ها هنا، فوالله ليتحدثن بها الناس، وليقولُنّ إن زكي مبارك ابتدع الغناء في المكتبات ... جاءني فغنّاني «أبوذِيّةً» من «أبوذيّات العراق»، التي ما أظن أن إنسِياً أو جِنّياً عرف نغمة أشجى منها وأسرع إلى القلب وصولاً وأشدَّ للألم تصويراً. هي قطرات من الدمع صُوّرت نغماً، هي خفقات القلب صيغت نشيداً، هي ... هي خلاصة الفن العبقري الذي يصور الألم العبقري. فهزّ نفسي هزاً عنيفاً، فتح صفحاتها جميعاً، ووصل ماضيها بحاضرها، وأسلمها إلى ذهلة عميقة، لَذّة (¬1) ممتعة، ولكنها أليمة موجعة. ذكرت «العتابا»، تلك الأغنية التي ترنُّ بها أبداً أودية لبنان وتنحدر أصداؤها على سفوحه وحدوره، ولا يدري أحدٌ من هو الذي وضعها ونظم مطلعها وألف لحنها، «العتابا» الخالدة التي يشترك في تأليفها العصر الجديد والعصر الغابر، ويزيد فيها كل جيل أدواراً، فيكون منها الصورة الصادقة لعواطف الشعب وهواجسه وأمانيه وذكرياته، تلك التي تعيش في ترنيمة السواقي المتكسرة على الشعاف والصخور لتبلغ قرارة الوادي، وفي نشيد الرياح في الأودية البعيدة، وفي همس الأوراق في غابات الصنوبر ¬

_ (¬1) في أكثر من موضع في كتابات الشيخ المنشورة أشار في الحاشية إلى أن لَذّة صفة بمعنى لذيذة (مجاهد).

الضاحكة، وفي عطر كل زهرة وصمت كل صخرة، وأشعة الشمس المطلة من وراء الذّرى للسلام، والمشرفة من آخر الأفق للوداع، وفي نور القمر الذي يغمر لبنان بفيض من الشعر والحب والسحر، وتعيش في كل ذروة من لبنان. * * * رَجَعتني هذه «الأبوذية» إلى سالفات أيامي، فذهبت أعراض صور حياتي فيها وهي تمر بي متتالية متعاقبة كمناظر السينما، ملتفّةً بضباب الماضي، فأرى مآسيها المغسولة بالدموع وفواجعها الدامية، ولكني لا أرى البهجة والسرور. فهل أرى البهجة والسرور بعد أن أشرفت على الثلاثين؟ كنت أفكر دائباً في المستقبل، وأنتظر المستقبل، فها هو ذا المستقبل قد صار حاضراً، فهل وجدت فيه إلاّ الخيبة والألم؟ لقد جربت الصناعات والفنون، وطوّفت في البلدان، فما أفدت من ذلك كله إلاّ أني تركت في كل بلد قبراً لأمل من آمالي. لقد أضعت الحب والمال، وأضعت المجد الأدبي، حتى هذه الألحان التي تدور في نفسي ضاعت مني؛ فلم أستطع أن أُسمِعَها الناسَ أغانيَ وأصواتاً. ما سمع الناسُ إلاّ أقصرَ أغانيَّ وأقبحَها، تلك هي مقالاتي التي نشرتها، فمتى يسمعون أجمل ألحاني وأطولها؟ في المستقبل!

يا ويح نفسي! هل بقي لي مستقبلٌ إلاّ الموت، الذي غدوت أحبه وأناديه لو كان يسمع النداء؟! * * * لقد وجدت المستقبل عدماً، فهل عليّ من لوم إذا عدتُ إلى ماضيّ أعيش فيه؟ في هذا الماضي دفنت أمي، وفيه دفنت أبي، وفيه دفنت أحلامي. لقد أحببت كثيراً وتألمت أكثر مما أحببت، ولكن الحب الحقيقي الواحد الذي انطوى عليه قلبي، والألم الفرد الصادق الذي عرفه، هو حبي أمي وألمي لموتها، وكل ما عداهما حب كاذب وألم عارض. إني لأنسى البلاد كلها حتى منازل حبي وربوع هواي، ولكني لا أنسى أبداً ذلك الزقاق الضيق الذي يمتد من العُقَيبة في دمشق إلى رحبة الدَّحْداح، لأن سعادتي وُلدت في أول هذا الزقاق، وماتت في آخره حين مات أبي وأمي. فيا رب ارحمني بالنسيان. وأين مني النسيان؟ إني لأنظر إليها الآن وهي مريضة على فراشها، كأنما كان ذلك منذ ساعة، فيبكي قلبي ولا أستطيع أن أكتب عنها حرفاً. لا أحب أن أنشر أحزاني حتى لا تلوكها ألسنة الناس، فليبقَ الألم في صدري أحمله وحدي. أنا لا أصدّق أن هذه السنين السبع قد مرت على ذلك

الحادث. أأنا أعيش سبع سنين لا أرى فيها أمي، وقد كنت آلم إن غبت عنها يوماً؟ أأعيش وهي نازحة لا تعود بعد عام ولا عشرة، لا تعود قبل يوم القيامة؟ اللهم صبراً، فإني والله ما أطيق الصبر. يقولون إن المصيبة تبدأ صغيرة ثم تكبر، ولكن مصيبتي بأمي تنمو في نفسي كل يوم! لم أعد أجد في الحياة ما يغريني بها ويرغّبني فيها. وماذا في الحياة؟ كل لذة فيها مغشّاة بألم؛ فيها الربيع الجميل، ولكن فيه بذور الصيف المحرق والشتاء القاسي. وفيها الصحة والشباب، ولكنهما يحملان الهرم والمرض. وفيها الغنى، ولكني ما عرفته وما أحسبني سأعرفه أبداً. لقد كرهت الحياة، وزادها كراهة إليّ هؤلاء الناس؛ فلم يفهمني أحد ولم أفهم أحداً. إن حزنت فأعرضت عنهم مشتغلاً بأحزاني قالوا: متكبر. وإن غضبت للحق فنازعت فيه قالوا: شرس. وإن وصفت الحب الذي أشعر به كما يشعرون قالوا: فاسق. وإن قلت كلمة الدين قالوا: جامد. وإن نطقت بمنطق العقل قالوا: زنديق. فما العمل؟ إليك يا رب المشتكى، فما لي في الدنيا بعد أمي صديق! تلك هي التي كانت تقبَلني على علاّتي، والناس لا يقبلون إلاّ محاسني. تلك التي كانت تحبني أنا، والناس يحبون أنفسهم فيّ.

تلك هي الحبيبة الوفية التي لا تهجر ولا تخون. تلك هي دنياي، فواأسفي؛ إن دنياي قد احتواها التراب! لم يبقَ من آثار هذا العالَم الحافل بالإخلاص والحب إلاّ قبر منعزل وساقية صغيرة تميل عليها شجرة صفصاف، وهذا كل شيء. إني لأستطيب ذكرى هذه الشجرة وأحِنُّ إليها. إن حركات غصونها لتحرك في نفسي عالَماً كاملاً ولكنها لا تبالي ذكرياتي ولا تحفلها. إنها قائمة تحنو على اللص الفاتك كما تحنو على المحب الثاكل، وتؤوي المجرم الهارب كما تؤوي الشاعر المتغزّل. فما أضيعَ ذكريات المحبّين عند الطبيعة، وما أضيعها عند الناس! * * * لقد انصرف عني السيد حيدر الجوادي، ونام عني أصحابي وتركوني أتجرع غصص آلامي وحيداً. فمن الذي يعطف عليّ ويشاركني حمل الآلام؟ لقد أيست من الطبيعة ومن الأصحاب، فهل تسعدني أنت يا أيها المحسن المجهول الذي لا أعرفه أبداً؟ أنت يا من يجوز مع الشمس بمقبرة الدحداح يزور حبيباً له طواه الرَّمس، هل تمنّ على غريب متألم فتحيي عنه هذه البقعة وتعطف على ذكريات له فيها، هي أعز عليه من الحياة لأنها كانت جمال الحياة؟ هل تترفق في سيرك وتتئد وتعلم أن في هذه الرمال التي تطؤها أطلالَ قلب كان من قبل عامراً سليماً؟ ترفقْ فإنك لو ملكت حاسة تدرك بها الذكريات لرأيت في هذه البقعة -ما بين رمالها

وترابها- بقايا قلب محطوم، بقايا دامية حزينة شاكية، ولسمعت نشيجها. ما تصدّع هذا القلب من هجر الحبيب ولا هدّته أحداث الغرام، ولكن عصفت به عاصفة من موت الأم فهدّت أركانه، فاسكبْ على بقاياه قطرةً من الدمع تَحْيَ بها ساعة، أو قل كلمة تسعد بها روحه الحزينة. ثم توجه إلى القبر المحبوب، إلى قبر أمي وأبي أيها الصديق المجهول، فاسأل الله لساكنَيه الرحمة والغفران، فما بقي لي بعدهم أحباء ولا بعدهم دنيا. لقد تركت تحت أقدامك قلبي وحبي يا أيها المحسن المجهول، فارفق بهما. أسعِدْ هذا اليتيم الضعيف، وإن كان الناس يدعونه شيخاً. ربِّ، رحمة لهذا اليتيم الضعيف، ابن الثلاثين! «ربِّ اغفرْ لي ولوالديَّ، ربِّ ارحمهما كما ربّياني صغيراً» (¬1). * * * ¬

_ (¬1) لم يذكر جدي أمه يوماً إلا وفاضت عيناه حزناً عليها واشتياقاً إليها؛ رأيته كذلك مرات ومرات وقد مضى على وفاتها أربعون سنة وخمسون وستون! ولسوف ترونه يذكرها -في هذا الكتاب- في مقالة هنا ومقالة هناك، فلا يذكرها إلا بالدمع والأسى. أما قصة رحيلها فواحدة من «لوحات» علي الطنطاوي الأدبية العظيمة التي امتزجت فيها بالأدب الرفيع العاطفةُ النبيلة والمشاعرُ الصادقة، فلا يملك أن يقرأها قارئٌ إلا ويشاركه وجيبَ القلب ودمعَ العين. انظر: «ذكريات علي الطنطاوي» الجزء الثاني، صفحة 130 وما بعدها (مجاهد).

في الكتاب

في الكُتّاب أذيعت سنة 1959 نويت أن أجعل هذا الحديث ليوم الطفل، فصحّت النية ولكن لم يتم المراد. أردت أن أتكلم فيه عن مشكلات الطفولة اليوم، فكان عن ذكريات طفولتي أنا أمس، وأردته موعظة وعبرة، فجاء قصة وذكرى. والقلم قد يجمح بيد الكاتب أحياناً كما يجمح الفرس بالفارس، فيمشي حيث يريد هو لا حيث يريد صاحبه. وذلك أنني قعدت لأكتب هذا الحديث وأنا لم أعدَّ عدّته، لأن الوقت ضاق بي وأعجلني الموعد، فشرعت وما ركزت أسس الفكرة ولا بيّنت مسالك القول، وأخذت القلم أنتظر ما يُفتح به عليّ. فما فُتح عليّ باب القول ولكن فُتح باب الغرفة، ودخل مؤمن الصغير (¬1)، ابن بنتي، وهو محمرّ العينين، سائل الدمع على ¬

_ (¬1) وهو اليوم طبيب في مستشفى الملك فهد في جدة. قلت: هذه الحاشية أضافها الشيخ بخطّه إلى الكتاب، وذلك حين نشر المقالة في صحيفة «الشرق الأوسط» في سلسلة «صور وخواطر» التي بدأ بنشرها في آخر عام 1987. وشاء الله أن يبقى مؤمن طبيباً في مستشفى الملك فهد بجدة حتى توفي جدي رحمه الله فيه وهو قائم على رأسه، ثم =

الخدّين، ينشج نشيجاً مؤلماً. فظننت أن قد أصابه شيء ووثبت أسأله: ما لك؟ هل وقعت؟ فهزّ رأسه. قلت: هل ضربوك؟ فهزّ رأسه. قلت: ما لك؟ فأجاب بصوت مختنق بالبكاء، تقطعه الزفرات، قال: إدّوا (أي: جدّو)! قلت: نعم؟ قال: لوح ... قلت: لوح؟ لوح شوكلاطة؟ قال: لأ، لوح دَسِهْ، أمان. فلم أفهم، فجاءت خالته الصغيرة (يمان) (¬1) تترجم عنه، قالت بلسانها الناقص: بدُّو لوح أدَّسة، مع أمان. ¬

_ = انتقل من هذا المستشفى فعمل في غير واحد من المستشفيات التخصصية في مكة والطائف. وقد استهواه ابتكار العصر، الكمبيوتر، فبرع في شؤونه، حتى صنع للشيخ موقعاً على الشبكة العالمية نشره على الناس فيما كنت أعد هذا الكتاب للنشر [www.alitantawi.com] (مجاهد). (¬1) تخرجت في جامعة الملك عبد العزيز وهي أم لأربعة أولاد، وأختها أمان درَست في جامعة دمشق وهي أم لستة. قلت: وهذه الحاشية أضافها جدي إلى الكتاب عام 1987 كسابقتها. وأضيف أنا إليها الآن أن يمان قد حصلت على درجة الماجستير بامتياز في الفقه من جامعة أم القرى وأنا أُعِدّ هذا الكتاب للنشر. وكنا ثلاثتنا، خالتي يمان ومؤمن وأنا، رفاقَ طفولة؛ يصغرها مؤمن بشهور وأنا بسنتين (مجاهد).

قلت: للمدرسة مع أمان؟ فأشرق وجهه وسكت، وقال: لوح دسه أمان. قلت: وتبكي من أجل المدرسة؟! اقعد هنا أحسن، بلا مدرسة. فلما سمع ذلك صرخ من كلمتي صرخةَ مَن قرصته نحلة، وعاد يبكي ويعول. فهدأته ووعدته حتى سكت، وجعلت أعجب منه إذ يبكي شوقاً إلى المدرسة، وأذكر كيف كنا نبكي نحن خوفاً منها وكرهاً لها. * * * وكرّت بي الذكرى إلى سنة 1914، إلى أول خَطب من خطوب الدهر نزل بي. لا أعني الحرب العامة فلم تكن الحرب قد أعلنت، وما كنت يومئذ لأفقه معنى الحرب أو أبالي بها، ولكن أعني ما هو أشدّ وأفظع، أشدّ عليّ أنا؛ ذلك هو أول دخولي المدرسة. لقد كان يوماً أسود لا تُمحى من نفسي ذكراه، ولا أزال إلى اليوم -كلما ذكرته- أتصوّر روعه وشدّته. لقد كرّهَ إليّ المدرسة وترك في نفسي من بغضها ذخيرة لا تنفد، ولقد صرت من بعد معلّماً في الابتدائية ومدرّساً في الثانوية وأستاذاً في الجامعة، وعلّمت الكبار والصغار، والبنين والبنات، وما ذهب من نفسي الضيق بالمدرسة والفرح بالخلاص منها، والأنس بيوم الخميس واستثقال يوم السبت، وما ذهبتُ إلى المدرسة مرّةً إلاّ تمنيت أن أجدها مغلقة أو أجد فيها إضراباً يعطل الدروس!

لقد أخذني جدّي معه ذلك اليوم إلى جامع التوبة (¬1) فصلّى الصبح ولبث حيناً، ثم أدخلني باباً يقابل الجامع. وكنت في ضياء الصباح وسنا الشمس، فلبثت في ذلك المكان دقائقَ وأنا لا أبصر ما فيه، ولكنّ أنفي لمس رائحته العفنة المنتنة ونشق هواءه الآسن. ثم أبصرت المكان، فإذا هو غرفة فسيحة فيها عشرات من الأولاد قاعدون على الأرض، يهتزون ويتمايلون، يحملون في أيديهم كتباً ينظرون فيها، ويصوّتون أصواتاً متنافرة كأنها دويّ النحل منقولاً من مكبر للصوت، وتحتهم دكة واطية من الخشب تنتهي قريباً من الباب، وأمامها أرض مكشوفة موحِلة قد صُفّت إلى جوانبها القباقيب، والى اليسار عجوز (¬2) مخيف على كرسيّ عال، بيده عصا طويلة يضرب بها الأولاد ينال بها من كان في آخر المكان. هنالك تركني جدي؛ فما أغلق البابَ وراءه وذهب حتى أحسست كأن قلبي قد ذهب معه، وكأنْ قد أُغلق عليّ قبر، وعراني من الوحشة والفزع ما لا أزال أرتجف إلى الآن كلما ذكرته! هذه هي المدرسة التي كانت في أيامنا. ¬

_ (¬1) لهذا المسجد قصة؛ هي أنه كان خاناً يُدعى «خان الزنجاري» تُرتكَب فيه أنواع الموبقات والمعاصي، فبلغ ذلك الملك الأشرف فاشتراه وهدمه وأقام مكانه هذا المسجد الذي يسمى «جامع التوبة»، وهو من المساجد الكبيرة في دمشق. (¬2) في أكثر من موضع من كتبه المنشورة أشار جدي رحمه الله إلى أن كلمة «عجوز» تُطلق -في الأصل- على المرأة، لكنها عمّت في الاستعمال فلا بأس فيها. قلت: والأصل أن المرأة إذا تقدمت بها السن عجوز والرجل شيخ (مجاهد).

كان على التلاميذ أن يكونوا فيها بُعَيْد مطلع الشمس وأن يبقوا فيها إلى قُبيل الغروب، لا يتحركون ولا يتكلمون ولا يكفّون عن القراءة والتمايل، يحملون أكلهم معهم فيأكلون وهم قاعدون، وإذا عطشوا قاموا إلى البركة فوضعوا أفواههم في مائها الملوَّث وعبّوا مثل الجمال، وإذا كانت لهم حاجة ذهبوا إلى مراحيض المسجد. والمكان مغلق دائماً، لا يُفتح له باب ولا نافذة ولا يُجدَّدُ له هواء، ولا يمضي على الولد فيه يوم لا تصيبه فيه من الشيخ بليَّة: خفقة بالعصا على رأسه من بعيد، أو ضربات على رجليه بالفلق (¬1) من قريب، أو (مونولوج) كامل من أبدع الهجاء يقرع أذنيه ... ولقد كان من المناظر المألوفة كل صباح منظر الولد «العَصْيان» (¬2)، وأهله يجرُّونه والمارة وأولاد الطريق يعاونونهم عليه، وهو يتمسك بكل شيء يجده ويلتبط بالأرض ويتمرغ بالوحل، وبكاؤه يقرّح عينيه وصياحه يجرّح حنجرته، والضربات تنزل على رأسه، يُساق كأنه مجرم عات، يرى نفسه مظلوماً ويرى الناسَ كلهم عليه حتى أبويه ... فتصوروا أثر ذلك في نفسه، وعمله في مستقبل حياته! * * * وما عجب أن تبكوا -يا أولادي- رغبة في المدرسة وقد ¬

_ (¬1) الكلمة عربية فصيحة. (¬2) بوزن فَعْلان (مثل كسلان ونعسان): تعبير من عامية أهل الشام، يصفون به الولد الذي يستعصي على تنفيذ الأمر ويتشبث بالرفض فيثبّت نفسه ويأبى التحرك من مكانه (مجاهد).

صارت لكم جنات، وما عجب أن نبكي منها وقد كانت علينا جحيماً. هي لكم مائدة، عليها الطعام اللَّذّ الخفيف في أجمل الأواني، وحولها الزهر والورد ومن ورائها الموسيقى، وقد كانت لنا طعاماً دسماً ثقيلاً، في أوسخ آنية وأقبح منظر. ولكن من استطاع منا أن يأكل أكثر، وأن يهضم ما أكل، وأن ينتفع به؟ أنتم على كل هذه المشهّيات، أم نحن على كل تلك المنفّرات؟! أنتم تلبسون للمدرسة أبهى الثياب، ونحن كنا نذهب والله بثوب النوم (السركس) الذي لا يصل لأكثر من نصف الساق، وفوقه رداء (جاكيت) الأب الذي رثّ فحوّلته الأم وصيّرته لنا، وفي الأرجل القبقاب أو الكندرة المصنوعة في المناخلية. ولقد صرت في الثانوية وما عرفت دكان الخياط، إنما ألبس ما تخيط أمي رحمها الله. وما كان فينا من اتخذ عقدة (كرافتة) حتى بلغنا البكالوريا، فأين هذه العناية التي تلقونها مما كنا فيه؟ ويراجع التلميذ اليوم درسه في داره على الكهرباء، وقد يكون لأولاد الأغنياء مكتب خاص يكتبون عليه، ونحن كنا نقرأ على ضوء الكاز (نمرة 3)، وربما هبّت عليه نسمة هواء فتحرك فرسم على الجدار تهاويل كأنها صور الجن، وربما «شحَّرَ» وربما انقلب وسال زيته فأفسد الأوراق والكتب ... لم تكن هذه الكهرباء إلاّ في الطرق وفي قليل من البيوت، ولقد كانت أسرتنا من أسبق الناس إلى الاستضاءة بها، إذ مُدَّ إلى دارنا شريط من دار الجيران سنة 1916، وعرفت ضوء الكهرباء واستمتعت بها، ولكنها سبّبت

لي (فلقة) حامية؛ ذلك أني ذهبت إلى المدرسة أحدّث التلاميذَ أن في دارنا ضوءاً يشعل بلا كبريت وينطفئ بلا نفخ، ووصفته لهم، فعارضني أحدهم وكذّبني، فشتمته فشتمني، فضربته، فحكم عليّ الأستاذ بفلقة لا أزال أذكر طعمها! ويمرض الأولاد اليوم فيجدون الطبيب الحاضر والدواء الموجود، المسهل قطعة شُكلاطة أو كأس (ليموناضة) والعلاج حبة صغيرة أو جرعة لذيذة، ونحن كنا نمرض فلا يكون الدواء إلاّ الحقنة والسنامكّي وزيت الخَرْوَع، ولا يأتي الطبيب إلاّ إذا أتى الخطر، وما كان للطبيب كبير أثر، لأن نصف الطب الذي نستمتع به اليوم وثلاثة أرباع الأدوية التي نشفى بها إنما عُرفت بعد التاريخ الذي كنا فيه أطفالاً، فكانت طفولتنا محرومة من الوقاية ومن العلاج. وأنتم تعيشون في دمشق الجديدة ذات الشوارع الفِساح والحدائق الكثيرة، وعندكم في المدرسة السينمات والمسليات وعندكم في الصيف المصايف والجبال، ونحن كنا نعيش في تلك الأزقّة الضيقة، نخوض الشتاء في الوحل، ما كان في دمشق شارع واحد، وأول شارع شُقَّ فيها (شارع جمال باشا) شُقّ أمامنا، وما كنا نعرف من المصايف إلا أياماً نقضيها في بيوت الفلاحين في الجُدَيدة وبَسّيمة، وقلَّ مَن يذهب إليهما. أما السينمات فأنا أحلف أني حملت البكالوريا وذهبت إلى مصر للدراسة العالية سنة 1928 وما عرفت ما هي السينما. * * *

فإذا بكى هذا الصغير وبكى أترابه شوقاً إلى المدرسة، وإذا تزاحم الآباء عليها، فلا عجب. ولا عجب إذا كنا نبكي نحن خوفاً من المدرسة، وإذا كنت -وأنا معلم في القرى- أنفّذ قانون التعليم الإجباري لإجبار الآباء على إرسال أبنائهم إليها. ولكن عندي كلمة لكم يا أولاد، أرجو أن تسمعوها وتفهموها، وإذا لم تستطيعوا فهمها فلتتلطف الأم أو فليتكرم الأب بترجمتها لكم: إنكم تنعمون بخيرات كنا نحن محرومين منها، وتستمتعون بمُتَع ما كنا نسمع بها، وما هذا الذي عددت لكم إلاّ الأقل الأقل منها، ولكنا -على ذلك كله- كنا خيراً منكم. كان آباؤنا يضربوننا، على حين نجد الآباء اليوم يدللون أولادهم ويلينون لهم. وكنا نرى طاعة والدينا واحترامَ معلمينا فرضاً علينا، فما كان منا من يجرؤ على مخالفة أمر أبيه، ولا كان في الآباء من يرضى لنفسه أن يخالف ابنُه أمرَه، وكان للأب سطوة وسلطان، لا حكم في الدار إلاّ حكمه، ولا كلام في الأسرة مع كلامه، وكنا نقبّل يده في الذهاب والإياب والقَوْمَة والقَعْدَة، ونجلس في مجلسه خاشعين ساكتين لا نتكلم حتى يأذن لنا، وكان الواحد منا يبلغ مبلغ الرجال ثم لا يتأخر في العودة إلى الدار عن المغرب، ولا ينكر على أبيه أن يشتمه علانية أو يضربه في الملأ، وكنا نبرّ أمهاتنا ونعلم أن حقهن من حق الله وأن برّهن من برّه. أما الأستاذ فما كان منا من يفكر في إزعاجه أو التهاون بأمره.

فهل يعرف أبناء اليوم لآبائهم وأمهاتهم، وهل يعرف تلاميذ اليوم لمعلميهم وأساتذتهم مثل هذا الحق؟ وكانت دروسنا أصعب وبرامجُنا أحفلَ وأملأ، وكنا مع ذلك أكثر منكم إقبالاً عليها، واشتغالاً بها، ونجاحاً فيها، وكنا نقرأ فوقها كثيراً من كتب العلم. ولقد قرأت عشرات من كتب الأدب واللغة والدين وأنا لا أزال في الثانوية. وكنا نؤم مجالس العلماء في المساجد وفي البيوت، فنجمع إلى علم المدرسة علوم الدين وعلوم اللسان، ونحفظ من بليغ القول ونروي من طريف الأخبار الشيء الكثير؛ كنا إذا أردنا التسلية قرأنا قصة عنتر والملك سيف وحمزة البهلوان، وهي كتب أدب وفروسية وبطولة، لا نعرف هذه المجلات ولا هذه القصص ولا هذه الأفلام، ولم يكن في أيامنا بحمد الله شيء من ذلك، ما كان إلا المجلات الدسمة النافعة كالمقتطف والهلال (القديمة)، وما كان في دمشق إلا داران للسينما تُعرض فيهما الأفلام الصامتة السخيفة، ولم يكن في الدنيا سينما ناطقة ولم يكن يدخلها أحد من أهل المروءات. لقد كان في دمشق ثانوية واحدة، هي مكتب عنبر، ولكن هذه الثانوية الواحدة أخرجت أكثر رجالات الأمة، ولم تكن تمضي سنة لا تقدم فيها كاتباً أو شاعراً أو نابغاً في الطبيعة أو في الرياضيات أو موسيقياً أو مصوّراً أو رياضياً قوي الجسم ... وعندنا اليوم في دمشق أكثر من عشر ثانويات رسمية للطلاب، فأين الأدباء والعلماء ورجال الفن الذين خرجوا منها؟ * * *

وبعد، فهل تروني كتبت شيئاً يصلح ليوم الطفل؟ لست أدري، ولكنّ الذي أدريه أني قلت حقاً، وأنه إذا كان يوم الإثنين القادم يوم الطفل العالمي، وكانت الحكومة قد احتشدت له واستعدت وعملت، فإن كل يوم للأب هو «يوم الطفل»، عليه أن يوليه فيه من نفسه ومن ماله ما يجعل من طفل اليوم اللاعب اللاهي رجلَ الغد الذي ينفع نفسَه والناس، ينفع بعلمه وبخلقه، وأن يمهد له بحسن التربية طريق السعادة في الدارين والنجاة في الحياتين. والسلام. * * *

في معهد الحقوق

في معهد الحقوق (¬1) نشرت سنة 1932 أمس ... قبل أن تبدأ الدروس. كان الصف الثالث هادئاً (¬2)، والطلاب الذين جاؤوا إلى المعهد في مثل هذه الساعة المبكرة من شهر الصيام (وقليل ما هم) يحفّون بالمدفأة على نظام غريب؛ واحد على كرسي الأستاذ وقد ألقى برأسه بين دفّتي مجلة، وآخر جالس بجانب المجلة على منبر الصف العريض، يقرع برجليه جانبه فيصيح به جاره الذي جذب كرسي المعيد فوضعه حيال المدفأة وجلس عليه ماداً رجليه إلى وجه آخر جالس على المقعد: حاجِه (¬3) بقى! ¬

_ (¬1) هذه المقالة منشورة في كتاب «قصص من الحياة». وقد تساءلت: أَضمَّها الشيخُ إلى ذلك الكتاب لأنها أشبه بالقصة وإلى هذا لأنها جزء من ذكريات الدراسة، أم أن النشر تكرر بسبب السهو والنسيان؟ فإن كانت الثانية أفلم يتنبّه لها من بعد أبداً؟ فغلب على ظني أن الأمر مقصود فأبقيت كل شيء على حاله وفي نفسي منه شيء. إنها ليست إلا واحدة أخرى من المرات الكثيرة التي تمنيت لو كان حياً أمامي أسأله فيجيبني وأنا أعد كتبه للنشر رحمه الله (مجاهد). (¬2) كانت دراسة الحقوق في ثلاث سنوات فقط. (¬3) يلفظونها بكسر الجيم وسكون الهاء المتطرفة (حاجِهْ)؛ أي: يكفي. وهو تعبير عامي دارج في الشام لا أعرف أصله (مجاهد).

وتمر دقيقة يتبادلان فيها «الشتائم الودّية» المعروفة، ثم يعود الهدوء كما كان حتى لا تُسمع في قاعة الصف الواسعة إلا صلصلة حديد الملقط في المدفأة، أو قرقعة جريدة «الأحرار» في يد طالب، أو سعال آخر في نغمة مزعجة يكون قرارَها صوتُ أحد الطلاب هاتفاً به: وآخرتها؟! واستمرت الحال على ذلك ربع ساعة، جاء فيها بعض الطلاب فجلسوا حول النار صامتين بعد أن ألقوا على الحاضرين تحية الصباح. * * * ثم ظهر فجأة دويّ حديث في زاوية الصف، لم يلبث أن استحال إلى ضجة هائلة اختلطت فيها الأصوات وتباينت فيها اللهجات، فأسرع الحاضرون من هنا وهناك يسألون: الطالب الشامي: شو، شو الحكاية؟ الطالب الحلبي: أشو خبر خيُّو؟ الطالب العراقي: شنو هي الكصّة (القصة)؟ الطالب المصري: طَبْ ... ما تقولوا إيه الحكاية؟ وبعد لأي ما، استطعنا أن نطفئ لسان النار، وبدأ الحديث بيننا بهدوء واتّساق، فقال السيد «خ»: أرجوكم أيها الإخوان ... لنتكلم بهدوء. هل تريدون أن تسمعوا؟ - ماذا؟

- إن أربعين ورقة (¬1) ندفعها في هذه الأزمة الخانقة رسماً للشهادة أمرٌ لا يُطاق، فيجب أن نتوسل بالطرق المشروعة. - لإلغاء الرسم؟ - كلا؛ لا تتعجل أرجوك. إن إلغاءه غير ممكن، ولكن نطلب إنقاصه. - كلام فارغ! آخر: وماذا يهمك أنت؟ دعه يتكلم. آخر: صَهْ؛ إن السيد «خ» معه الحق. خ: والطريقة المشروعة هي أن ... - أن نرفع عريضة ... أقترح ذلك. آخر: كلا. إن اقتراحك في غير محله. يجب أن نرسل وفداً. - العريضة أحسن من الوفد. آخر: وإذا لم تنجح العريضة؟ - إذا لم تنجح؟ ... يجب أن تنجح. - منطق!! - إذا لم تنجح نمتنع كلنا عن دخول الامتحان. ¬

_ (¬1) كان راتبي -وأنا معلم ابتدائي يومئذ- 36 ليرة في الشهر، وكان كيلو الخبز بنصف فرنك.

- موافق. آخر: بالعكس؛ غير موافق. فكرة سخيفة جداً. - حافظ على أدبك ... أرجوك. - أنا محافظ على أدبي، ولكن أنت اسحب كلامك. خ: أنا أسحبه عنه، لنرجع إلى صلب الموضوع. - إننا متفقون على الغاية، وسنتفق على الطريق التي نصل بها إليها. وأرى أن تؤجلوا ذلك إلى حين اجتماع الطلاب، وتسمعوا من الآن القصة. - لا؛ لا نسمعها، لا نريد أن نسمع قصصاً. - ولا أساطير (ضحك). خ: إنها قصة واقعة وليست أسطورة، ثم إنها تتعلق بالموضوع. - من كان لا يريد سماعها فليسُدّ أذنيه. تفضل قل القصة. سنتسلّى بها على الأقل، شهر رمضان تُطلب فيه التسلية البريئة. خ: هي قصة طالب في المعهد، كان منذ عامين. أظن أن بينكم مَن يعرفه، هو السيد سليمان الفالح. - أنا أعرفها جيداً ... رحمه الله. - وهل مات؟! خ: اسمعوا، سأتلو عليكم قصته. كان من أذكى طلاب

المعهد وأعمقهم ثقافة. اجتاز فحوص السنتين الأولى والثانية بتفوّق عظيم، وكان محلّ إعجاب الأساتذة والتلاميذ وتقديرهم، حتى إن المحاضرة التي ألقاها في ردهة المعهد تناقلتها ثلاثٌ من جرائد المدينة ولخّصتها مجلة «المقتطف» في مصر بعد أن أثنت على صاحبها وتنبأت له بمستقبل باهر. - وكيف مات إذن؟ - كان من أولئك الذين قال عنهم الفيلسوف: "وسَكَتَ يفكر". - اتركه ... مين ما كان. وبعد؟ - الفقراء جيوباً، الأغنياء نفوساً. أجل، لقد كان فقيراً، لا يملك من نشب الدنيا وثرواتها إلا هذه الثروة المعنوية التي جاد بها عليه الله، فلما أكمل الصف الثالث عُرض عليه رسم الشهادة، ولم يكن له إلى جمعه من سبيل ... فامتنع من دخول الفحص. - باختصار ... جاء الأستاذ. - وبالاختصار، فقد شعر أنه ضيّع مستقبله وأنه قد انهار صرح آماله، فأطلق على نفسه الرصاص في ساعة هياج وانفعال. - مسكين. - مسكين؟ إنه مجنون. - بل أنت المجنون.

ولما وصل «خ» من حديثه إلى هذا الحد كان الأستاذ قد دخل الصف، فأسرع كلٌّ إلى مكانه وعهدوا إليّ أن أكتب مقالة لتكون الخطوة الأولى في سبيل المطالبة بتخفيض «هذا الرسم ... الباهظ». وقد فعلت. * * *

شهادة ليسانس للبيع

شهادة ليسانس للبيع نشرت سنة 1933 أنا -يا سادتي القراء الكرام- ليسانسيه في الحقوق من أربعة أيام فقط، وقد اتخذت لهذه الشهادة الجميلة الكبيرة المزينة بعشرة أختام وتوقيعات لأصحاب الفخامة والدولة والمعالي وما لست أدري ماذا: رئيسَي الجمهورية والوزارة ومندوب العميد ورئيسَي الجامعة والمعهد ... والداعي، الفقير إليه تعالى حامل الشهادة! اتخذت لها إطاراً جميلاً ثميناً حصلت عليه بوسيلة من الوسائل لا أحب أن أكشف سرها للقراء، ولكن لهم أن يثقوا أني لم أنفق فيها قرشاً واحداً، وعلقتها في داري في الغرفة التي كان يجب أن تكون غرفة استقبال وأن تكون منظمة مرتبة لا كما هي الآن: يضلّ الداخل إليها بين آكام الكتب المنتشرة فيها، والتي تدور أبداً كما تدور تلال الصحراء الكبرى وينقلب عاليها سافلها كلما فتشت عن كتاب، علّقتها هناك إلى جانب أخواتها البكالوريا والكفاءة (¬1) والابتدائية ... ووقفت سبعاً وسبعين دقيقة خاضعاً أمامها خاشعاً، ¬

_ (¬1) «الكفاءة» لا معنى لها هنا، فسمّوها شهادة «الكفاية» إن لم يكن بد من هذا اللفظ.

وذكرت تلك الأعوام الستة عشر التي أنفقتها في تحصيلها، وكان خيراً لي أن أقضيها في حانوت حلاق أجيراً أتمتع بالجمال والمال، أو ممثلاً في جوقة أعيش عيش النعيم والتعظيم، أو عاملاً في مطبعة يدور عليّ الزمان فإذا أنا «صاحب جريدة كبرى» ... أو لو قضيتها في تلاوة الروايات والأقاصيص أنال منها لذة ومتعة (إذا لم أنَلْ فائدة ونفعاً). وتأملت فيها معظِّماً مبجِّلاً، وتجرأت فلمستها (أي الشهادة) بيدي في ابتسامة بلهاء، كما يلمس الإنسان تحفة ثمينة ليزيد إحساسه بها، أو أثراً مقدساً ليتبرك به (¬1). وجلست بعد ذلك أفكر: ماذا أصنع بها بعد أن زالت من نفسي رغبة النجاح ونشوة الظفر؟ وأغلقت الأبواب، وأطفأت الأنوار، وأشعلت البخور ... وتلوت أسماء الجن واستصرخت الملك الأحمر والأخضر، ثم أحرقت الشهادة فخرج من لهيبها مارد طويل وقام أمامي في خضوع. فقلت له: ما اسمك أيها المارد؟ - ليسانس يا سيدي. - ماذا تقدر أن تصنع؟ - كل شيء يا سيدي؛ أزحزح لك أصحاب الكراسي الجهال عن كراسيهم لتجلس يا صاحب الليسانس عليها. - أتثق من قدرتك على ذلك؟ ¬

_ (¬1) ليس في الأشياء ما هو مقدس في نظر المسلم يتبرك به للنفع أو للضرر، حتى الحجر الأسود لا يضر ولا ينفع، وإنما يُقبَّل اتباعاً وتعبداً.

- نعم يا سيدي، على أن تمنع عني عدوي الألد. - وَمنْ هو عدوك أيها المارد؟ - شيطان قوي مرعب لا يغلبه أحد، يُقال له «الالتماس». - لا أقدر أن أمنعه عنك، فماذا تستطيع غير ذلك؟ - آتيك بالأموال التي كدسها المحتالون والكذابون في خزائنهم، وأسلمها إليك وإلى أصحابك «أصحاب» الليسانس. - بارك الله ... هيا اذهب، هاتها. - ولكني أخاف. - مَن تخاف أيها المارد؟ - شيطاناً قوياً فاجراً، أعمى له أيد من نار، حيثما ضرب بها انفتحت ثغرة إلى الجحيم، ومن رضي عنه هذا الشيطان ملّكه ما يريد ويشتهي. - وما اسم هذا بين الأبالسة؟ - الحظ يا سيدي. - وماذا تستطيع غير ذلك أيها المارد؟ - أمنحك يا سيدي الزعامة وأنتزعها لك من هؤلاء الجاهلين. - عالْ عالْ، أسرع.

- ولكن أخشى صديق الزعماء، وهو شيطان بأربعة وأربعين رِجلاً يمشي إلى الجهات كلها في وقت معاً ويصيح في الأنحاء كلها: يعيش يعيش! - أعوذ بالله، هذا شرّ الأبالسة ... ما اسمه؟ - التدجيل يا سيدي. - إذن ما جاء بك يا أيها الليسانس الضعيف العاجز؟ اذهب من وجهي. * * * وبعد، فماذا نصنع يا أيّها الناس بهذه الشهادة؟ لقد عرضت على أحد المحامين -لما لي عليه من الجرأة بأنه أستاذي في المعهد- ليقبلني عنده متمرّناً، فـ ... أبى! وقالوا: إن هناك من يقبل المتمرنين، ولكنه لا يعطيهم شيئاً؛ يعني أن المتمرنين يشتغلون على أرواح أمهاتهم وينفقون ماء حياتهم ويكسرون رؤوسهم وأقدامهم -ولا مؤاخذة- في أشغال المكتب الذي يشتغلون فيه، ليأخذ الأساتذة ثمرة أتعابهم ... لماذا بالله؟ لأنهم أساتذة؟ تشرّفنا! وإن ذهبنا نطلب وظيفة قضائية وجدنا كل وظيفة مشغولة، وكل شاغل وظيفة يخشى أن تنزو نزوة في رأس رئيس له فيلقيه كما تُلقى النواة نُزع عنها «حلوها».

وإن تركنا هذا البلد ويممنا شطر بلد آخر أنكروا شهادتنا ومعهدنا، ولم تغنِ عنا منهم شيئاً هذه التوقيعات وهذه الأختام. وإن رَغِمت أنوفُنا وعملنا في هذه المكاتب (بلا شيء) ولوجه الله، على أن نعمل عملاً آخر في ذنَب النهار نشتري به خبزنا، قالوا: لا يجوز ... أي إنهم لا يرحموننا ولا يتركوننا إلى رحمة الله؛ يحسبون أن المحامي المتمرن يشبع ويمتلئ بطنه ويكسى ويجد الراحة والدفء إذا أكل المحامي الأستاذ عشرة ألوان واتخذ عشر حلل! * * * فيا أيها القراء الكرام، إني أعرض شهادتي ولقبي الكريم للبيع برأس المال (الرسوم والأقساط)، أما فوسفور دماغي وأيام عمري فلا أريد لشيء منه بديلاً، وأجري على الله. فمَن يشتري؟ ... المراجعة في جريدة «ألف باء» الغراء. شهادة بيضاء ناصعة كبيرة، خطها جميل، ذات إطار بديع ... جديدة (طازة)! من يشتري؟ * * *

مشروع مقال

مشروع مقال نشرت سنة 1935 إنّ من دأبي إذا كان العيد أني أغلق عليّ بابي، ثم لا أفتحه لداخل إلى الدار أو خارج منها حتى ينتهي العيد، إلاّ أن تكون صلاة لا خِيرَةَ فيها أو صديق لا بدّ من لقائه. وأغْنَم هذه الأيام في الرجوع إلى نفسي، والأنس بأهلي، والإقبال على كتبي ودفاتري. فلما نَدَبني الأستاذ وحيد أيبش إلى الكتابة في «الشعلة» أجبته ووعدته بفصل أكتبه في أيام العيد وأنا متعزِّل متفرِّد، وأحبّره له تحبيراً. ولكن الشيطان أنساني الاستثناء وأمسك بلساني أن أقول: «إن شاء الله»، وما لم يشأ الله لم يكن؛ فلما جلست لأكتب سُدَّت في وجهي الأبواب، وضلّت عنّي الموضوعات، ونفر مني الكلام، فعدت وكأنني امرؤ يحاول أن يبدأ الكتابة ولمّا يمارسها من قبل، وعهدي بنفسي أني إذا أردت الكتابة تناولت القلم فأجريته على القرطاس، فإذا هو يجري قُدُماً حتى أكون أنا الذي أرفعه لأقرأ الفصل وأضع التوقيع! وطال بي التفكير وأنا لا أزداد إلا إبْعاطاً وخُرْقاً (¬1)، فألقيت ¬

_ (¬1) الإبعاط المباعَدة، والخُرق العجز عن العمل (مجاهد).

القلم وعلمت أن قد أُرْتِجَ عليّ. والنفس كالسماء؛ تُفتَّح أبوابُها ويهمي غيثها حتى يحيي الله به البلد المَيْت، ويروي به الأرض العطشى فتهتزّ وتربو وتُنبت من كل زوج بهيج، وقد يغلقها الله فتشحّ وتضِنّ بالقطرة الواحدة من الماء! وعمدت إلى شيء ألهو به، فسألت أخي ناجي عن درسه الذي يقرؤه وقلت: لعلي أجد فيه موضوعاً أكتب فيه، فطَفِق يلقي عليّ كلاماً ثقيلاً على السمع بغيضاً إلى النفس، ضاق منه صدري وخثرت نفسي، ولم أفهم منه شيئاً، ولكني ذكرت أنني سمعته من قبل، واتضحت الذكرى فعلمت أن قد كان ذلك في صف «البكالوريا الثانية»، وأنني استودعته قلبي حتى اجتزت الامتحان وأُعطيت الشهادة، ثم نسيته كما نسيت تلك الأشياء الأخرى التي كنا نَهْذي بها في دروس الكيمياء والحكمة (¬1) والمثلثات والجغرافيا ... فتركت أخي يُطَنْطِن بهذا الهَذَر الذي يُعلَّمهُ في المدرسة وأقبلت أفكر فيّ: ما الذي أبقته لي الأيام من هذا البرنامج الطويل العريض الذي أنفقنا فيه من أعمارنا سبع سنين، هي زهرة العمر وهي سنّ القوة والنشاط، سنّ الشباب الغريض والنفس السامية؟ ما الذي أفدناه من دروس التجهيز والدراسة العالية؟ نظرت فإذا أنا قد نسيت كل شيء من الرياضيات، إلاّ أنها علم الكميات، وأن هذه الكميات متصلة تبحث فيها الهندسة أو منفصلة يبحث فيها الحساب، وأن من الحساب ما تكون أرقامه حروفاً تدل على أكثر من قيمة محددة، وهو الجبر، وأن من الهندسة هندسة سطحية وهندسية فراغية وهندسة نسبية، وأن منها شيئاً لم يفهمه ¬

_ (¬1) الفيزياء باصطلاح تلك الأيام (مجاهد).

قط بشر، وهو المثلثات! وأن الذي أُحسنه من هذا كله هو الأعمال الأربعة التي يعرفها السمّان (¬1) والعطّار وكسّار الحطب ... أما سائر تلك النظريات والدعاوى فشيء عالٍ سامٍ لا يمكث في النفس، وليس من شأنه أن يمكث فيها، وإنما سبيله أن «يطير»! وإذا أنا قد نسيت كل شيء من الكيمياء إلا شيئاً لا طائل تحته، ونسيت قوانين الحكمة ومسائل الجغرافيا، وما إلى ذلك مما درسناه وحفظناه و «شُهِدَ» لنا بأنّا قد أحسناه وأتقنّاه! وكل ما أعرفه اليوم هو شيءٌ من اللغة والأدب والتاريخ قرأته بنفسي وزاولته بعد خروجي من المدرسة، أما المدرسة فلم تعلمني إلاّ أسماء العلوم وأوصافها العامة، ولم أخرج منها إلاّ بالروح التي صبَّها فيّ شيوخنا ومعلمونا (¬2). إن المدرسة لا تعلّم التلميذ شيئاً ولكنها تدله على الطريق وترسم له الخُطّة، أفلا يجب إذن على المعلمين أن يدلّوا التلميذ على الطريق السويّ والخطة المستقيمة؟ أفلا يجب عليهم -قبل أن يعلّموه قوانين الحكمة ومعادلات الكيمياء ونظريات الهندسة التي سينساها ويجهلها- أن يعلّموه من هم أجداده وما هي حضارتهم، وأن يصبّوا في نفسه أخلاق العروبة وآداب الإسلام، وأن يحبّبوا إليه العلم حتى يُقبل عليه بلذة وشغف؛ لا لنيل الشهادة والنجاة من الامتحان، بل ليستفيد منه في ترقية حياته وحياة أمته وخدمة بلاده وقومه ... وأن يُفهموه «حقائق الحياة» ويعرضوها عليه عارية لا يسترها شيء؟ * * * ¬

_ (¬1) البقّال بلغة أهل الشام (مجاهد). (¬2) وقد كانوا رحمهم الله مسلمين شرقيين لم تفتنهم أوربة عن دينهم وعاداتهم!

هذا هو الموضوع الذي كنتُ أنشده وَجَدتُه، ولكنْ حين لم يبقَ بدٌّ من ختم هذا الفصل. فليبق -إذن- بلا موضوع وبلا عنوان! * * *

قصة معلم

قصة معلم نشرت سنة 1935 قلت لصديق لي أديب: إني لأقرأ لك منذ عشر سنوات، فما رأيتك أسففتَ إسفافك في هذه الأيام، وإني لأشك: أأنت تكتب ما تكتبه أم يجري به قلمك وأنت نائم، فتأخذه فتضع عليه اسمك؟ فماذا عراك أيها الصديق فأضاع بلاغتك ومحا آيتك؟ قال: دعني يا فلان، دعني؛ فإن سراج حياتي يخبو وشمعتي تذوب، وما إخالني إلاّ ميتاً عما قريب أو دائراً في الأسواق مجنوناً. إنني انتهيت، بعت رأسي وقلبي برغيف من الخبز. قلت: أربع عليك أيها الرجل وأخبرني ما بك، فلقد والله أرعبتني. قال: وماذا بي إلاّ أني معلم. إني معلم في مدرسة ابتدائية، نهاري نهار المجانين وليلي ليل القتلى، فمتى أفكر ومتى أكتب؟ وأنا أروح العشية إلى بيتي مهدود الجسم، مصدوع الرأس، جاف الحلق، فلا أستطيع أن أنام حتى أقرأ مئة حماقة، وأصحح مئة كراسة، فأعمي عيني بقراءتها والإشارة إلى خطئها، وبيان صوابها وتقدير درجاتها، فإذا انتهيت من هذا كله (ولا يقرأ تلميذ من كل

هذا شيئاً ولا ينظر فيه) عمدت إلى دفتر تحضير الدروس (وهو الموت الأحمر والبلاء الأزرق الذي صُبَّ علينا هذا العام صباً) فكتبت فيه ماذا أنا فاعل غداً في الفصل، دقيقة دقيقة ولحظة لحظة ... وماذا أنا قائل من كلمة، أو مقرر من قاعدة، أو ضارب من مَثَل. حتى إذا بلغت آخر كلمة فيه استنفدت آخر قطرة من ماء حياتي، فسقطت في مكاني قتيلاً فحُملت إلى السرير حملاً ... فنمت نوماً مضطرباً ملؤه الأحلام المزعجة والصور المرعبة، فأحسُّ كأن أمامي ركام الدفاتر التي سأصححها غداً، فلا أنجو منها حتى أبصر المفتش يتكلم من فوق المآذن، فلا يدع قاعدة من قواعد التربية ولا نظرية من نظريات التعليم ظهرت في فرنسا أو إنكلترا إلاّ أرادني على تطبيقها، في فصل فيه سبعون تلميذاً قد حُشيت بهم المقاعد حشواً وصُفّوا على الشبابيك ووُضعوا على الرفوف، مما لا يرضى عنه منهج من مناهج التربية ولا قانون من قوانين الصحة. فإذا انمحت هذه الصورة رأيتُ كأني أُفهم تلميذاً وهو يصغي إليّ ولا يفهم، فأكرر وأعيد فلا يفهم، فأقوم إليه أنظر ما يصنع، فإذا هو منصرف إلى دُبَيرة (¬1) يربط رجلها بخيط. فإذا شتمته أو أخرجته من الفصل ذهب يستنجد القانون، فينجده القانون الذي حرّمَ العقوبات كلها، وكفّ يد المعلم وشدّ لسانه بنسعة ... ولا أزال في هذه الأحلام، تنوء بي فأتقلب من جنب إلى جنب، أحس كأن رأسي من الصداع بثقل أُحُد، حتى يصبح الله بالصباح، فأفيق مذعوراً أخشى أن يسبقني الوقت، فلا أدري كم ركعت وكم سجدت، ولا كيف أكلت ولبست، وأهرول ¬

_ (¬1) زُلقطة.

إلى المدرسة، لا أستطيع التأخر عنها ولو طحنتني الأوجاع أو أحرقتني الحمّى، لأن المعلم لا يسمح له القانون أن يمرض في أيام المدرسة وعنده أربعة أشهر «عطلة الصيف» يستطيع أن يمرض فيها، فإذا خالف ومرض حُرم الراتب ومُنع العطاء (¬1)! أغدو إلى المدرسة فأدخل على تلاميذ السنة الثالثة الأولية، وهؤلاء هم تلاميذي لم يجدوني أهلاً لأكبر منهم ... فلا أنفكّ أقطع من عقلي لأكمل عقولهم، وأمزّق نفسي لأرقّع نفوسهم، ثم لا أُفلح في تعليمهم ولا أنجح في تفهيمهم ولا أدري من أين السبيل إلى مداركهم، فأنفق ساعة كاملة أقلّب أوجهَ القول وأستقري عبارات اللغة، لأفهمهم كيف يكون «الاسم هو الكلمة التي تدل على معنى مستقل في الفهم وليس الزمن جزءاً منه»، فلا يفهمون من ذلك شيئاً، ولا أقدر أن أطرح هذا التعريف السخيف أو أستبدل به، فأهذي ساعة ثم أقول: مَن فهم؟ فيرفع ولد أصبعه، فأحمد الله على أن واحداً قد فهم، وأقول: قم يا بني بارك الله فيك، فأخبرني عن معنى هذا التعريف. فيقول: يا أستاذ! هذا داس قدمي. فأصيح به: ويحك أيها الخبيث! إني أسألك عن تعريف الاسم، فلماذا تضع فيه قدمك؟ ألم أقل لكم إن هذه الشكاوى ممنوعة أثناء الدرس؟ فيقول: ولماذا يدوس هو على رجلي؟! ¬

_ (¬1) كان هذا قانون تلك الأيام.

فأصيح بالآخر: لِمَ دست على رجله يا شيطان؟ فيقول: والله لقد كذب، ما دست على رجله ولكن هو الذي عضّني في أذني. فأغضب وأصرخ في وجهه: وكيف يعضّك وأنا قاعد هنا؟ فيقول: ليس الآن، ولكنه عَضّني أمس. ويتطوع العفاريت الصغار للشهادة للمدّعي وللمدّعَى عليه، ويزلزل الفصل، فأضرب المنصة بالعصا وأسكتهم جميعاً مهدّداً مَن يتكلم بأقسى العقوبات (ولا أدري أنا ما أقسى العقوبات هذه؟)، فيخنسون ويُبْلسون، فأعود إلى الدرس فإذا هو قد طار من رؤوسهم، على أنه ما استقر فيها قط! ويُنفَخ في الصور، فتقوم القيامة ويخرج الأولاد إلى الفرصة، ثم نرجع إلى درس القرآن. فأقول: من يحفظ سورة الفاتحة؟ فيتصايحون: أنا ... أنا ... أنا. - سكوت! واحد فقط ... اقرأ أنت. - الحمد لله رب العالمين. إياك نعبِد ... فأقول: إياك نعبُد. فيقول: نعبِد. - ويحك؛ نَعْ بُ د. فيقول: نَعْ بِ د.

- انتبه يا بني: نَعْ بود. فيقولها. - حسن، قل: نعبُد. فيقول: نعْبِد. فلا نزال في «نعبُد» و «نعبِد» حتى ينتهي الدرس، ولا يلفظونها إلاّ بالكسر لأنهم حفظوها من السنة الأولى خطأ. * * * ولا أزال في هذا البلاء بياضَ نهاري، ولا يأتي المساء وفيّ بقية من عقل أو أثر من قوة. ثم لا أنا أرضيت الوزارة، ولا أنا نفعت أبناء المسلمين، ولا أنا انصرفت إلى مطالعاتي وكتابتي. وهذه مكتبتي لم أدخلها منذ أول العام المدرسيّ، وهذه مشروعات المقالات والبحوث التي أكتبها، وهذه مسوَّدات الكتاب الجديد الذي أؤلفه مبثوثة في جوانب الغرفة، ضائعة مهملة. أفتلومني -بعد- على أني لا أجوِّد في هذه الأيام؟ قلت: هذه والله حالي فلست ألومك، فرَّجَ الله عني وعنك (¬1)! * * * ¬

_ (¬1) في هذا الحوار الخيالي وصَفَ علي الطنطاوي نفسه؛ فهو السائل وهو المسؤول، وذلك في زفرة من زفرات تلك الأيام التي حُكم عليه فيها بأن يكون معلم صبيان! انظر أخبارها في الجزء الثاني والجزء الثالث من «ذكريات علي الطنطاوي» (مجاهد).

إلى حلبون

إلى حلبون نشرت سنة 1931 سألتَني أن أحدثك عن رحلتي إلى حلبون، وتالله ما عجبت لسؤالك عجبي من تسميتك مثل هذه الزّورة القصيرة رحلة. إنما يرحل الناس يا صاحبي إلى باريز أو لوندره (¬1) لا إلى حلبون! وإنما يدوِّن الناس قصة فيها لذة أو فائدة، وما في قصتي شيء من ذلك، وما هي بالتي تستحق التدوين. ولكنك أصررت عليّ فكتبتها لك، وما أدري ماذا تريد أن تصنع بها؟ وأخاف أن تتلوها على الناس أو تنشرها بينهم فتفضحني بها، وما كتبتها لتُنشر أو تُتلى بل لتقرأها أنت وكفى. * * * أنشأت الحكومة في حلبون مدرسة ابتدائية كانت في نظر «الحلابنة» أعظم من جامعة السوربون في رأي الباريزيين، واختارت لها أستاذاً من أصدقائنا الشباب، فدعانا لنراها معه فلبينا الدعوة شاكرين مهرولين. ¬

_ (¬1) باريس ولندن، كذلك كانتا تُسميان في تلك الأيام (مجاهد).

كنا -يا صاحبي- ثلاثة: الأستاذ، أعني أستاذ الجامعة الحلبونية (¬1) وهو شاب في الثامنة عشرة من عمره، لطيف المعشر، فكه الحديث، تجلس إليه ساعات طويلة فلا تشعر بملل ولا تحس إلاّ الحديث الطلي المفيد. وأنا ... والثالث صديق لنا شاعر، وهو بيت القصيد من قصتنا. وأحسبك تفهم من كلمة «شاعر» كثيراً من صفاته وأطواره؛ فهو يرى العالَم كله فكرة بديعة، أو خيالة بارعة، أو صورة فاتنة، ولا يني يحدّثك عن الحب والجمال، والذكرى والأسى ... يأتيك بصُوَر لهوغو ولامارتين الفرنسيَّين، وفِكَر لملتون وبيرون الإنكليزيَّين، وأحاديث لشيلر وكوته الألمانيَّين، وآراء لدانتي ولومبروزو الإيطاليَّين، وحكمٍ لتولستوي الروسي، وفلسفات لطاغور الهندي ... ليس عند واحد من كل هؤلاء علم بها، وما هي إلاّ بنت ساعتها أخرجها رأس الشاعر الشاب! * * * كان موعدنا للرحيل دار الشاعر نلتقي فيها في الساعة الثامنة، فأتيناها على الميعاد، فإذا صاحبنا ينظم قصيدة. حثثناه على الإسراع وألححنا عليه، فأجابنا وأسرع، ولكنه لبس ثيابه في نصف ساعة، وقرأ لنا القصيدة مرتّلاً منغّماً في ساعة، ¬

_ (¬1) وقد حقق الله ذلك، فصار اليوم الدكتور حكمة هاشم مدير الجامعة.

ووصف لنا رواية شهدها في ساعتين. فخرجنا من البيت الظهر، فقال لنا الشاعر: إلى أين تذهبون؟ قلنا: إلى السيارة. قال: هيهات؛ إنني لم أشترِ حوائجي بعد. إنني أريد خبزاً ولحماً وبصلاً وفجلاً. قلت: وأنا أريد فراشاً ولحافاً ووسادة وسريراً. قال: ولِمَ؟ قلت: لأنام، فإذا انتهيتَ أيقظتني! وفارقته على أن نلتقي بعد ساعة. عدت بعد ساعة فإذا هو جالس في زاوية البيت، وإذا هو صامت حزين، فقلت في نفسي: ما له؟ أخسر أمواله؟ أضاعت أشعاره؟ أهدمت آماله؟ وسألته: هل اشتريت الحوائج؟ فقال: لا ... ولكن أمراً محزناً وقع لي. - وما هو؟ - دجاجة مسكينة سقطت من السطح فكسرت رجلها، فأنا جالس أنظم فيها مرثية. فقلت: يا ضلالة من يتبع شاعراً! أبهذا أضعت ساعتك؟ قم، قم ... فاشترِ الحوائج. * * *

أسرعنا إلى السيارة فإذا هي من سيارات النقل، وإذا السيارة الصالحة قد سافرت، فلم نجد بداً من ركوبها، وليس فينا من يقدر على استئجار سيارة خاصة. أنا أفلس خلق الله ولا فخر، والأستاذ ليس من الموسرين، والشاعر مشغول عن عد دراهمه والتفكير فيها بالبكاء على الفقيدة الغالية: رجل الدجاجة! كانت السيارة معدة لركوب تسعة نفر، ولكنهم أركبوا فيها خمسة عشر وخروفاً سميناً وفراشين وأربعين غرسة مشمش! وسدّوا شبابيكها جميعاً خشية البرد، فدُفنّا فيها أحياء. أما مولانا الشاعر فعزم علينا أن نؤثره على أنفسنا بالمكان الأجود (جانب السائق) حتى لا يشغله الازدحام عن إتمام معلقته. ولقد نسيت أن أقول لك إن مع كل راكب سلة أو سلتين وضعوها في الأحضان وبين الأرجل! ثم سارت السيارة وهي تقوم بنا وتقعد، فإذا قامت وصلت مِعَدنا إلى حلوقنا وضربت رؤوسنا السقف، وإن قعدت آذتنا في مقاعدنا أجلّك الله ... وإذا دارت أو تلفتت ترنحنا ذات اليمين وذات الشمال؛ فلا ترى إلا قائماً وقاعداً، ورائحة الخروف وعطر البصل والثوم يملأ هذا المجلس المبارك ... وفوق هذا كله فتح السائقُ فمَه والخروفُ حلقَه، وراح ذاك يغني وهذا (يجعِّر) (¬1). وأخيراً وصلنا بالسلامة (أو شئت بالموت الأحمر!) إلى التل. ثم حملتنا السيارة -وقد قذفت بمن فيها هناك- إلى منين، دار الشاعر الكريم، فدخلت منزله واستلقيت على الأرض، ¬

_ (¬1) كلمة عامية شامية يصفون بها الذي يتحدث صراخاً بصوت قبيح، لم أجد لها أصلاً بهذا المعنى في كتب اللغة (مجاهد).

أستعيد ما زهق من روحي وأتنشق الهواء النقي بعد أن لبثت ساعة أتنشق زمهرير جهنم. ولولا هذا، ولولا كأس من شراب الليمون أمر لي بها صديقنا الشاعر، لمتُّ لا محالة. صحوت فرحت أتمثل بقول الأول: فألقَتْ عصاها واستقرّ بها النَّوى كما قرَّ عيناً بالإيابِ المُسافرُ وإذا بالشاعر يصيح بي: أيُّ عين هذه؟ سخنت عينك! لقد قطعتَ شق الطريق السهل وبقي شقه الصعب! فصحت: ولكني لا أقطعه في سيارة ... لا أقطعه في سيارة. أفهمت؟ أبداً، أبداً ... لا أركب السيارة. فقال: أَرْبِع عليك وهوِّنْ على نفسك؛ إنك ستقطعه راكباً على جحش أو بغل. فقلت: الحمد لله؛ والله لَلْحمارُ خيرٌ من هذه السيارة! وأسرع الأستاذ إلى الهاتف فهتف بأهل حلبون أن ابعثوا إلينا ثلاث دواب؛ للأستاذ ولضيفيه. واقترب الشاعر من الهاتف، فقال: ولتكن خيولاً عربية كريمة مطهّمة حسنة السروج، والوحَى الوحَى ... السرعةَ السرعةَ ... العَجَلَ العَجَلَ (¬1). ولكنهم أغلقوا في وجهه الطريق لأنهم حسبوا ما يقول من رُقى الجن، فغضب وصاح: ألو، ألو، ألو يا أولاد الكلب يا حمقى، ألو ... ¬

_ (¬1) كلمات تقال في الاستعجال، كلها بمعنى واحد (مجاهد).

فلم يردّوا عليه، فعزم على الانتقام منهم إذا وصل حلبون. أما أنا فأزمعت على تملّقهم والتزلف إليهم، ليحملوا جثتي إلى أهلي إذا رمح بي البغل أو (عنفظ) فكسر رأسي أو دقّ عنقي. ثم عدنا إلى منزل الشاعر في منين. عمَّ أحدثك؟ إنك اشترطت عليّ أن أوجز، ومثل هذا الحديث من حقه أن يُتبسَّط به ويُسهَب ... ولكن ماذا أصنع بشرطك؟ لبثنا ساعة في منين، رشفنا فيها من راح الجمال ما أنسانا شقاء السيارة وغرائب الشعراء، جلسنا على سطح المنزل مجلساً نشرف منه على ذلك الوادي الفاتن، وكانت أشجاره عارية تبدو من فُرَج أغصانها عينُ منين وهي تجري في الوادي، تتلوى وتميل تتدفق أمواجها فيعلوها الزبَد، ثم تلامسها أشعة الشمس فترى منها -إذ تنعكس على تلك الخمائل الخضراء- منظراً عجباً، نِثَار الذهب على بساط من سندس، والجبال الشمّاء تحيط به كأنما هي أم رؤوم تحدب على طفلها. وكأنما هذه الجبال تطل علينا تحدّثنا عن الماضي، وتصف لنا آثار الروم في بطاحها وقصورَ الغساسنة البلق المنتثرة على سفوحها، ثم تخبرنا عن المأمون إذ يجر هذا الماء إلى قاسيون فيبلغ به قمته (¬1)، وتفيض علينا من هذه الأخبار، فنحس كأن أرواحنا تخرج من قيود الزمن، ثم تتخطى أعناق القرون وتتغلغل في أودية الماضي السحيق، فتستغرق في هذا الحلم ولا تكاد تفيق ¬

_ (¬1) قول مشهور لم أتثبّت صحته، والغالب أنه لا أصل له.

منه، لولا أنها سمعت هذه الجبال تقهقه ساخرة من الإنسان هازئة من غروره، يرى نفسه شيئاً مذكوراً ويحاول أن يتكلم بعقله عن كل شيء وما هو بقادر على فهم نفسه، وما عمره في هذه الدهور (التي مرت من قبله كأنمّا لا أول لها، وتمر من بعده كأنمّا لا آخر لها) إلاّ كحبة من الرمل في صحراء جدباء أو هو أصغر من ذلك! وما لي ولهذه الأفكار أتعبك بها؟ إني راجع إلى حديثي: جاءنا الشاعر بطعام لذيذ كنّا أحوجَ ما نكون إلى مثله، فحملنا عليه حملة صادقة وحدَدنا أسناننا وشمرنا عن سواعدنا وهجمنا، فلم يثبت منه شيء أمامنا. ثم قمنا نجول في منين، نمشي في الشارع الفرد الذي يمتد على سفح الجبل حتى يصل إلى العين، فيمر فوق منبعها على جسر رفيع الجنَبات متين الدعائم، تنظر إليها منه فترى صفحةً من الماء الزلال كأنها مرآة أزلية أقامها الإله جل جلاله لتنعكس فيها العواطف والتأملات ويبدو فيها خيال الحب وطيف الذكرى ... ثم ملنا إلى الغرب فوقفنا عند مفترق الطرق نراقب طريق حلبون، ننظر هذه الخيول المطهمة وهذه السروج المحلاة بالذهب التي تفضل بطلبها مولانا الشاعر. وراح الشاعر يحدثنا عن حلبة السباق التي ستقام عند وصوله، ويصف لنا المجلّي والمصلّي (¬1)، ويعِدنا أنه سيعدو ¬

_ (¬1) المُجَلّي هو الأول في السباق والمُصَلّي هو الذي يأتي ثانياً، وهما مفردتان تُطلَقان على الفَرَس في السباق (مجاهد).

بفرسه عدْواً لا يدع معه مجالاً لسابق ولا شأواً للاحق، وأنه وأنه ... وهو لم يركب فرساً قط! أما أنا فقد علمت عجزي، ورحت أتمثل مصرعي تحت سنابك فرس الشاعر الفارس وأن الأمة ستخسر بموتي فرداً منها ويربح الأدب قصيدة في الرثاء جديدة، أحسب صاحبي الشاعر لا يضنُّ عليّ بها وقد منحها الدجاجة. وقفنا على مفترق الطرق ننظر، وكلما هبَّ غبارٌ قلنا هذا غبار الموكب الذي جاء لاستقبالنا، ولكن الانتظار طال ولم نبصر إلاّ راكباً على دابة عجفاء قد ارتفع لنا في الأفق. فرقبناه حتى إذا ما اقترب منا سألناه: هل أبصرتَ موكباً طويلاً عريضاً فيه خيول مطهَّمة وسروج حسنة وحلية مذهّبة؟ فقال: والله ما أفقه حديثكم، وما أريد إلاّ أن تدلّوني على أستاذنا الجديد. قلنا: ومن أنت حفظك الله وأكرمك؟ فقال: أنا حارس حلبون. فقلنا: تشرفنا بك يا حضرة حارس حلبون، هذا هو الأستاذ ونحن ... فولاّنا ظهره، قصم الله ظهره! ولم يرد أن يعرف مَن نحن، ولكن الشاعر لحقه يقول له: أنا ... أنا ... نعم، أنا الشاعر. وخجل الأستاذ منا، وحار في أمرنا، فعزمنا على الذهاب مشياً. وكنت قد أقسمت على الشاعر أن يصحبنا، ليسلينا أحياء ويرثينا أمواتاً.

سألت حارس حلبون عن الطريق، فقال: أما السهل البعيد فهذا، وأما الحَزْن (¬1) القريب فهذا. يدور الطويل مع الوادي ويرقى القصير الجبل. قلت: نحن ممّن يحب الارتقاء. قال: إنه مخيف. قلت: نحن شجعان. قال: إنكم تملُّون. قلت: معنا شاعر! وركبت رأسي عناداً وأبيت إلاّ سلوك طريق الجبل، فأجابني القوم إلى ذلك ... ورضي الحارس، لا أدري أرضي اقتناعاً بحجتي أم ضجراً من كلامي؟! * * * أركبنا الشاعر الكريم وسرنا في ركابه، وكان الليل قد علا في الأفق والظلام قد تسرب إلى الكون. وذهبنا نصعد الجبل ... وكلما قلت هذه هي القمة بدت لي من ورائها قمم، حتى كدنا نلامس السماء. وتلفتُّ إلى الوراء، فإذا منين كلها بقدر الدرهم، وإذا هي كأنها في قعر البحر، وإذا أمامنا وعن أيماننا وشمائلنا جبالٌ وبِطاحٌ لا حدَّ لها، وإذا نحن نبلغ موضعاً نشرف منه على غوطة ¬

_ (¬1) بسكون الزاي: ضد السهل؛ فهو من الأرض ما شقَّ المشي فيه، ومن الدواب ما صَعُبت رياضته، ومن الناس من خَشُنت معاملته (مجاهد).

دمشق وقرية منين ووادي بردى في آن، ونرى فيه قاسيون كأنه أكمة تحتنا. ثم ملأ الظلامُ الكونَ فلم نعد نبصر مواضع أقدامنا، ثم توعّر الطريق فأصبح شِعباً ضيقاً على يمينه جبل عال كأنه جدار، وعلى شماله واد لا يبلغ النظر قراره، كأنما هو وادي النسيان الذي يبتلع كل شيء. نزل الشاعر عن الدابة وراحت تسير خالية، وتضاءل كلٌّ في عين نفسه، حتى لقد رأيتنا أضعف من الديك في يد الأسد. إنك تقرأ هذا الوصف -وأنت في بيتك- آمناً مطمئناً، فلا تكاد تقدر على تصوره، ولو ألقى بك الدهر في مثله مرة واحدة لعلمت ما هو أثره في النفس؛ لم يبقَ فينا من يقدر على النطق، وكلما رأينا صخرة أو نبتة من نبت الجبال يتراءى لنا في هذا الظلام حسبناه واحداً من هذه الضواري التي نسمع أصواتها ... دِبَبَة حلبون، وما أدراك ما دبَبة حلبون؟ وربما تلفّتْنا إلى الوراء نبصر: هل يتبعنا من شيطان أو وحش؟ فتغوص أقدامنا في الثلج المنتشر من هذه الجبال كلها. هنالك يؤمن بالله الملحدون، ويعلمون أنه لا شيء إلا الله يُتوجَّه إليه أو يُرجى منه السلامة. قطعنا هذه الجبال الوعرة في ثلاث ساعات، لا أذكر في حياتي ما هو أشد عليّ منها. ولقد عرضنا فيها على الموت ورأينا عزرائيل يهم بنا مراراً، ولم نبصر أضواء حلبون حتى تقطعت أباطين قلوبنا من الخوف، وأخماص أقدامنا من السير. هنالك رأينا منظراً أنسانا الشقاء والآلام، ذلك هو منظر الاستقبال. إنه كان -في الحق- استقبالاً عظيماً لم يَحظَ به من

قبلنا أحد؛ لقد خرجوا للقائنا إلى مقبرة القرية، وبلغت أصوات هتافهم لنا قلب الصحراء التي أفلتنا منها ووثبوا للسلام علينا فرحاً بقدومنا. ولكن أتدري مَن هؤلاء؟ إنها يا صاحبي كلاب المقبرة، رأتنا فعوتنا ووثبت إلينا لتقطع ثيابنا وتنهشنا. فعرفنا أننا قد بلغنا حلبون (¬1). * * * ¬

_ (¬1) في الحلقة الرابعة والستين من «ذكريات علي الطنطاوي» ذكر جدي هذه الرحلة ثم قال: "كنت قد كتبت مقالة أصف فيها الجانب المسلي منها ووضعتها في كتابي «من حديث النفس»، ولكني واصفٌ اليوم الجانب الآخر. وإذا كان فيما نُشر من قبل شيء من تهاويل الخيال، فإن الذي أقوله اليوم هو الواقع أرويه كما وقع. كان ذلك سنة 1931، وكان أخي أنور العطار معلّماً في مدرسة منين خَلَفاً لأخي سعيد الأفغاني، فعين صديقنا حكمة هاشم معلماً في مدرسة حلبون. وكان شاباً في الثامنة عشرة، فضمنّا (أنا وأنور) لأبيه أن نذهب معه إليها"، إلى أن يقول: "وليست القصة عن بلوغنا حلبون ولكن عن الرجوع منها ... "، وبقية القصة ممتعة مشوقة فاقرؤوها في آخر الجزء الثاني من الذكريات (مجاهد).

عيدي الذي فقدته

عيدي الذي فقدته أذيعت سنة 1946 يا آنسين بالعيد، يا فَرِحين به: هل تسمعون حديث رجل أضاع عيده، وقد كانت له أعياد، أم يؤذيكم طيف الشجى إذ يمر بأحلام أفراحكم الضاحكة؟ إذا كنتم تصغون إلى حديثي فلكم شكري، وإن أنتم أعرضتم عني فما يضرّني إعراضكم، وإن من نِعَم «المِذياع» أنه لا يدري المتكلم فيه مَنْ ينصت له ومن يَشْغب عليه، ولا يسمع مدحاً ولا قدحاً، وما يرى إلا «العلبة» يكلمها، وما ترد علبةٌ على متكلم جواباً. ولا تقولوا إذا سمعتم حديثي: هذا رجل لا يتكلم إلاّ عن نفسه. فكذلك الأدباء كلهم؛ لا يتكلمون إلاّ عن أنفسهم، ولكنهم إذ يصفون أحلامها وآلامها يصفون أحلام الناس كلهم وآلامهم، فهم تراجمة العواطف، وألسنة القلوب، وصدى الخواطر، حتى ليقول القارئ إذ تمرُّ به آثارهم: ما هذا؟ إن في هذا التعبيرَ عما أحسّ به، إنه وصفٌ لي أنا وحدي ... وما هو له وحده، إنه وصف لكل نفس بشرية. ألا ما أعظم فضل الأدباء على الناس! ولكن الناس لا يشكرون.

يا سادة: إنه كان لي في حياتي عيد واحد، ولكن طمَسَ القِدَمُ صورتَه في نفسي فلا أرى منها إلاّ ملامح. لقد وجدت عيدي في (صُرْماية) (¬1) حمراء أصبحتُ يوماً فلقيتها إلى جانب الفراش. وكنا نبسط الفرش وننام على الأرض، لم تكن قد انتشرت هذه الأسِرَّة وعمّت، لم تكن إلاّ للأكابر، ولقيت معها (قمبازاً) من (الألاّجة) (¬2)، له خطوط حمر على أديم أخضر كأنه حقل قمح قد نبتت فيه سطور من شقائق النعمان، وعقالاً «مقصَّباً» كأنما قد نُسج بخيوط الذهب، يبرق كأنه تاج ملك جديد، وعباءة رقيقة فيها مناطق حمر وأُخَر بيض وحواشٍ من القصب اللمّاع، لها طُرَر مختلفات الألوان تخطف ببريقها النظر. فلم أصدق أن ذلك كله لي أنا، وسألت متحققاً. فقالوا: إنه لك، إنه لباس العيد. قلت: وما العيد؟ قالوا: العيد؟! ألا تعرف العيد؟ فلم أعرفه، ولكني قنعت بما وجدت من نعمائه، وتخيلته ضيفاً جميلاً نزل البلد. وذهبنا نبصر العيد، ومشينا في الطرقات، وإذا الوجوه باسمات الثغور منبسطات القسمات، فكأن أصحابها قد لبسوا مع الثياب البراقة الزاهية حلّة من اللطف والظرف، ولم نرَ -نحن الصغار- مَن يزجرنا ذلك اليوم عن حماقة نأتيها أو ذنب نذنبه، بل وجدت كل من أسلم عليه من أقربائي وأصحاب أبي يعطيني نقوداً «نحاسات» صفراً لامعات كالدنانير، و «مَتاليك» جدداً (ولم ¬

_ (¬1) الصرماية: كلمة شامية معناها «الخف». (¬2) نسيج شامي هو الذي تُصنع منه قفاطين مشايخ مصر.

تكن قد عُرفت هذه القروش الورقية القذرة الممزقة التي يأنف المرء من مسّها)، فاجتمع لديّ مبلغ من المال هو بالنسبة إلى طفل مثلي ثروة كثروة بعض مَن عرفنا من المحتكِرين، ولكني أخذته حلالاً بطيب نفس وأخذوا هم ما أخذوه حراماً، انتزعوه من فم الأرملة واليتيم، فكان برداً على قلوبهم وسلاماً في لهب هذه الحرب (¬1)، ولكنه سيكون من بعد ناراً آكلة في أكبادهم، وسمّاً هارياً في أمعائهم، وغصة خانقة في حلوقهم، ولعنة متسلسلة في ذراريهم، وجحيماً متسعّراً يوم المآب. فارتقبوا -أثرياءَ الحرب- إنّا معكم من المرتقبين! * * * وكانت دارنا في العُقَيْبة، فكان أول ما لقيت من العيد «جامع التوبة»، هذا الجامع المأنوس الذي يملأ جوَّه دائماً خشوعٌ وأنس. ولم أكن أدري يومئذ ما الخشوع وما أنس الروح، ولكني أحسست فيه فرحة شاملة ملأت نفسي. وذهبنا إلى الأموي، وكان صوت التكبير ينبعث منه قوياً مجلجلاً كأنه هدير بردى عند شلال التكيّة، فشعرت بحال لم أعهدها في نفسي من قبل ولم أعلم ما هي، شعرت بالحماسة التي تغلي منها دماء المسلم حينما يسمع هذا النشيد السماوي الذي لم تسمع أذنا الأرض نشيداً بشرياً أروع منه روعة أو أشد أو أقوى؛ هذا النشيد الذي علمتُ -بعدُ- أن أجدادنا كانوا يهدرون به في أشداقهم فتتداعى أمامهم الحصون، ¬

_ (¬1) يريد الحرب العالمية الثانية كما هو ظاهر من تاريخ إذاعة هذا الحديث (مجاهد).

وتَسَّاقط الأسوار، وتُفتح لهم أبواب المجد حتى فتحوا به الدنيا، هذا النشيد الذي كان من بشائر الرجاء أن اتخذه جنود الإسلام اليوم شعاراً لهم ليصلوا به ما كان انقطع من قِلادة أمجادنا التي طوّقنا بها عنقَ الزمان، ولينشروه مرة ثانية في آفاق الأرض، فتردده معهم الجبال والأودية والمدن والقرى. دخلت فوجدت في المسجد متعة لم أجد مثلها في لهو كنت أتخذه أو متعة كنت أسرّ بها، وجدت -ولم أكن أدري- متعة الدين والدنيا إذا اجتمعا: الكثرة والألفة، والثياب البراقة والنظافة والنظام، والتقى والإخلاص، والغنى السمح الشاكر والفقر المتجمل الصابر، والمعاونة على الخير، والمواساة والإيثار ... وكان في المسجد نساء قد اجتمعن في «المشهد» (¬1) بالأُزُر البيض والمِلاءات الساترة، ما يظهر منهنّ عين ولا بنان ولا ساق، قد جئن للصلاة. كذلك كان بلدنا قبل أن تبلغه هذه «الحضارة» الجديدة، كذلك كان يوم كان أهله متأخرين جامدين، فيا ليته يعود كما كان، يا ليتنا بقينا متأخرين عن هوّة الفساد لم نَقْدم عليها، جامدين لم نعرف هذا المَيْع. إن الجامد يتماسك ويثبت، أما المائع فيسيل ويجري حتى ينصب في البَلُّوعة (¬2) ... أفعرفتم الآن مصيركم يا أيها «المائعون»؟! ¬

_ (¬1) المشهد في الأموي اسم لحرم صغير فيه جانبيّ، وفي المسجد أربعة مشاهد في أحدها رأس الحسين، هو فيه لا في مصر، والله أعلم. (¬2) البلّوعة والبالوعة من العامي الفصيح.

ثم أمَمنا مقبرة الدحداح، فإذا الحياة الضاحكة جاءت تزاحم الموت العابس على أرضه وتنتزع منه مثواه، وإذا المقبرة، دار الوحشة والعبرة، قد أحالها العيد منزل الفرح واللهو، ففيها «الدُّوَّيْخات» منصوبات، و «القلاَّبات» قائمات، والعربات الصغار مزيَّنات بالأعلام الملونات مشدودة في جوانبها الأجراس والجلاجل، والأطفال بثيابهم التي تحكي زهر الربيع، منها الأحمر والأصفر والأخضر والفضي والمقصَّب وذو الطرر وذو الحواشي، راكبون على أفراس «الدُّوّيْخة» تدور بهم، أو جالسون في سرر «القلاّبة» تصعد بهم وتنزل، أو متعلقون بالعربة، والنساء قاعدات عند النهر، والرجال مجتمعون عند التلّ، وعلى القبور الآس الأخضر معقود بشُرُط الحرير يخيل للرائي من كثرته أنه في جنة ملتفة الأفنان، وخلال الآس الخيام المنقوشات والسّرادقات، وباعة «القضامة» و «اللب» و «عِرْق السوس» يجولون بين الناس ينادون أعجب النداء، وبياع «الفول النابت» قد أوقد ناره ورفع قدره ونصب مائدته، وحفَّ به الصبيان والبنات، وصاحب «صندوق الدنيا» قد حطَّ صندوقه، وقعد حوله الأولاد ينظرون، فإذا هم يسيحون في البلاد ويرون عبلة وعنتر بن شداد، فلا يكادون يستمرئون الحلم ويستغرقون فيه حتى يرخى الستار فيهبطوا إلى أرض الواقع، فإذا الذي كانوا فيه قد مرَّ كما تمرّ الأحلام لم يخلّف إلاّ ذكرى مشوبة بألم الفقدان. كذلك كانت المقبرة أول ما عرفت العيد؛ إنها صورة المقبرة يوم نفخ إبليس في بوق الحرب العالمية الأولى سنة 1914. صبرَكم -يا أيها المستمعون- ودعوني أُطِل وقوفي على

هذه المقبرة، فإنكم لا تعلمون منزلتها في قلبي، ولا أستطيع أن أعلمكم، وكيف؟ أوَ تصدقون إذا قلت لكم إن لهذه المقبرة صوراً في نفسي أحلى من صور الرّوض، وذكريات أجمل من ذكريات الحب؟ وإن نهرها هذا الصغير القذر أعزُّ عليّ من بردى ودجلة والنيل، وأشجارها هذه المنحنية عليه أبهى عندي من صنوبر فالوغا ونخيل الأعظمية، وكراسيها هذه الواطية أفخم في عيني من أسرّة «أوريان بالاس» و «شبرد»؟ إن في هذه المقبرة بقايا من قلبي، إن لها تاريخاً في نفسي يعرف أكثره أخي أنور (¬1). فسلوا أنور متى يقوم بحق الوفاء لهذه الذكريات فيخلدها بقصائد بارعات من شعره العبقري؟ فما أُحسنُ أنا تخليدها، لا أطيق أن أفِيَ لها هذا الوفاء. سلوه أنَسِيَ ليالي نمشي فيها لنزور قبور الأحبة في ظلمة الليل: أبي وأمي وأمه وأبيه، ونبكي عليها والمقبرة ساكنة خالية، ما ترانا إلاّ عيون النجم وما تسمعنا إلاّ الشواهد الشواخص، ونحدق في سدفة الزمان نرقب أن نرى طلعة الأحباب الذين اشتد إليهم الشوق وطال الغياب، فلا نرى إلاّ ظلاماً متراكباً، ونعود فنحاول أن نخترق حجاب الآتي لنبصر طيف الأمل الحلو فلا نبصر إلا الظلام؟ ... ليالي كنا نعود وقد برّح بنا الألم وهدّنا الحزن، فأستمع من أنور بواكير أشعاره ويسمع مني بوادر رسائلي، تلك البواكير التي قرأها الناس فرأوها ندية بالدمع فياضة بالحزن، فقالوا: ما لهذا الشاب والألم، ما له ¬

_ (¬1) هو أنور العطار. انظر مقدمة مقالة «من دموع القلب» في هذا الكتاب (مجاهد).

لا ينظم إلا الشعر الباكي؟ ما دروا أن هذا الشعر قد نُظمت حبّاته على قبر الوالدين في ليالي اليتم الكوالح. مساكين الأدباء؛ يجبلون فلذات قلوبهم بدموع عيونهم ليقيموا منها تماثيل الأدب، فيأخذها الناس عابثين، وينظرون إليها لاهين، ويعيبونها ظالمين، ثم يملّونها كما يملُّ الصبي لعبته فيرمونها فيَحْطِمونها ويفتّشون عن لعبة جديدة! مساكين الأدباء! * * * يا سادة: لقد مشيت -بعدُ- في الزمان، وسحت في البلدان، فكبرت ورأيت أياماً قال (التقويم) إنها أيام عيد، رأيتها في دمشق بلدي، ورأيتها في الأعظمية في بغداد، ورأيتها في البصرة ذات الشط والنخيل، وفي الحرش من بيروت، وفي القاهرة أم الدنيا ... ولكني لم أعد أجد في ذلك كله تلك البهجةَ التي كانت للصّرماية الحمراء والعقال المقصَّب، والعربة ذات الشراع الأحمر والجلاجل، والثياب الملونة الزاهية التي تحكي زهر الربيع. أفتغيرت الدنيا أم قد أضعتُ عيدي؟ أتغيرت الدنيا يا ناس، أم الناس قد فقدوا فرحة العيش حينما تركوا تلك الحياة السمحة القانعة الطاهرة المبرّأة من أدران حضارة الغرب؟

تلفتوا أيها السادة حولكم، واسألوا من تلقون من الكهول عن ذلك الزمان ... تجدوا في عيونهم عَبْرة، وفي قلوبهم حسرة، وعلى ألسنتهم جواباً واحداً: رحم الله تلك الأيام، لقد كانت أيام انشراح ... كانوا لا يعرفون دسائس السياسة، ولا التزاحم على الرياسة، ولا شبه العلم، ولا رذائل الحضارة؛ لا يختلفون على مذهب اجتماعي، ولا يقتتلون لمصلحة حزب سياسي، ولا يقرعون أبواب الوظائف، إن تعلموا العلم تعلّموه لله لا للشهادات، وإن طلبوا المال طلبوه من التجارة لا من المضاربات والاحتكار والرشوات، وإن أرادوا تسلية ولهواً قصدوا الربوة أو الميزان أو الشاذِروان، ينصبون سَماوَرات الشاي وسماط الأكل وبساط الصلاة، لا يعرفون سينما ولا ملهى ولا ماخوراً ولا «نادي دمشق»! المساجد ممتلئة بهم، ومدارس العلم حافلة بأبنائهم، والعلماء هم الأمراء؛ طلبوا العلم للآخرة لا للدنيا فأعطاهم الله الدنيا والآخرة، والبيوت جِنان الأرض، والنساء حور تلك الجنان لا يعرفن التبرج ولا التكشف، ولا يراهنّ أحد في الطريق إلا خارجات لضرورة لا بدّ منها ومعهنّ الزوج أو الأب، يسبقهن وهنّ يتبعنه، لا يعرفن بيوت الفجور ولا أماكن العصيان ولا «دوحة الغضب»، ولا يخطر على بالهنّ أن الدنيا ستبلغ من الفساد أن سيكون فيها «فرق مضلاّت» ... ! كذلك كانوا فكانت أيامهم كلها أعياداً، فأين أعيادنا نحن؟ أرَبِحنا من هذه المدنية وهذا العلم ... أم خسرنا؟ سلوا هذه الحرب عما صنعته علومهم بسعادة البشر، وسلوا التاريخ عما صنعت بها علومنا وشريعتنا.

يا سادة: إننا صرنا اليوم نلبس «البذلة» بدل «القنباز»، وننام على السرير، ونأكل بالشوكة والسكين، ونقرأ أخبار أمريكا وأوروبا ونتكلم في الجغرافيا والكيمياء وفي السياسة، ونركب السيارة والطيارة، ونسمع الرادَّ ونبصر أفلام السينما ... هذا الذي ربحناه، ولكنّا خسرنا التقى والعفاف والاطمئنان. لقد كان أجدادنا أبعد عن حضارة أوربا، ولكنهم كانوا أرضى لله منا وأقرب إليه، وكانوا أقوم أخلاقاً، وأطهر قلوباً، وأصفى سرائر، وأصدق معاملة، وكانوا أسعد منا في الحياة ... لا يا سادة؛ إني لم أعد أجد للأعياد بهجة، فردوا إليّ ماضيّ، أرجعوني إلى عيد المقبرة والمسجد فإني لم ألقَ السعادة إلاّ فيه، أنقذوني من هذا العلم وهذه الحضارة، فأنا جامد، أنا رجعي، رجعي، رجعي!! والعفوَ يا سادة؛ لقد نغّصتُ عليكم بهذا الحديث القاتم المضطرب عيدكم. لقد نسيت قواعد الآداب الاجتماعية فكدرتكم يوم الصفاء، وكنت عندكم فاسد الذوق سيء الاختيار، فلا تؤاخذوني ... وأقبلوا على عيدكم وسروركم، ودعوني أبكي -يوم العيد- ماضيات أيامي. وكل عام وأنتم بخير. * * *

على أبواب الثلاثين

على أبواب الثلاثين نشرت أول سنة 1939 نظرت اليوم في سجل ميلادي فوجدتني على أبواب الثلاثين، فتركت عملي وجلست أفكر: ماذا بقي لي من هذه السنين الثلاثين يا أسفى؟ لم يبقَ إلاّ ذكريات واهية تحتويها بقية قلب تناثرت أشلاؤه على سفوح قاسيون في دمشق، ومسارب الأعظمية في بغداد، وغابات الصنوبر في لبنان ... أي والله، وعلى طريق الأهرام في مصر، وضفاف «الشط» في البصرة، وحوائط النخيل في يثرب ... أشلاء من قلبي وأشلاء. فماذا أفدت من عمري الضائع وشبابي الآفل؟ لا شيء! لا مجد ولا مال ولا بنين. لم أفد إلاّ اسماً مشى في البلاد فحمل قسطه من المدح والذم والتمجيد والشتم، ولكني كنت في معزل عن هذا كله فلم ينلني منه شيء. إن اسمي ليس مني؛ إنه مخلوق من حروف، ولكني إنسان من لحم ودم. فهل تشبعني الشهرة، أو يكسوني الثناء؟ ولم أملك إلاّ قلباً أحبَّ كثيراً وأخلص طويلاً، ولكنه سقط كَلِيماً على عتبات الحب والإخلاص، ورأساً حشوته بما وجدت من العلوم والمعارف، فأثقلته علومه عن التقدم فاحتلت مكانَه الرؤوسُ الخفيفة الفارغة!

فيا ليتني علمت من قبل أن الحياة مثل اللجة، يطفو فيها الفارغ ويرتفع، وينزل الممتلئ ويغوص! * * * أني لأتصور الآن كيف كنت أنظر في طفولتي إلى أبناء الثلاثين، أولئك الشباب الكُمَّل الذين بلغوا قمة الحياة وعرفوا الاطمئنان والاستقرار، فأجد بيني وبينهم بوناً شاسعاً وأرى أني لن أبلغ الثلاثين أبداً ... ذلك لأن كل ما أعلمه أني وُلدت وأنا ابن أربع سنين، فأُدخلت المدرسة، فكنت أعيش فيها سنة لأنجح في الامتحان وأرتقي من صف إلى صف وأستمتع بالعطلة. فلما أكملت دراستي العالية ولم يبقَ من مدرسة ولم يبقَ امتحان وقفت فلم أتقدم، وفقدت غايتي فلم أعد أحسُّ أني أعيش. ثم تلفتُّ إلى الماضي أعيش بذكراه، فأصبحت كلما انقضى عليّ عام رجعت فيه سنة إلى الوراء، فأنا أصغر كلما كبرت، وأدنو من الطفولة كلما نأيت عنها. فمتى أبلغ الثلاثين، وأين أحط رحالي بعد هذا المسعى؟ * * * وغشيت قلبي غاشيةٌ من غمّ، فأشعلت عوداً من الكبريت لأوقد المدفأة -وكنت في ذَهلة- فسرت النار في العود، ثم تأججت وتوقدت وأنا أنظر إلى اللهيب جامد العين محدقاً في عالم بعيد الغور، حتى أحسست بحرارة النار في يدي، فانتبهت وألقيت العود، فإذا هو قد استحال إلى فحمة سوداء ضعيفة تطير

مع النسيم ... فقلت: هذه هي الحياة؛ إن الألم الذي أحسسته يلذع نفسي هذه العشية كلذع النار إصبعي، سينتهي بي إلى مثل هذا المصير. سأمضي كما مضى هذا العود، ولكني لا أخلِّف ورائي شيئاً. لن أدع مالاً ولا جاهاً ولا عملاً، لأني اشتغلت -واحسرتى- بالأدب! ويا ليتني تفرغت -بعدُ- للأدب ولم يستغرق حياتي الكدحُ للعيش. إني لم أعمل شيئاً؛ إن في رأسي وقلبي شيئاً كثيراً، ولكنّ قلمي مكسور، ودواتي جافة، ولساني مشدود بنَسْعة، فأنا لا أستطيع أن أقول ... عندي ألحان كثيرة فأنا أحب أن أغني، ولكن الغناء يستحيل -من الضيق- إلى زفرات تخرج مقالات، فيحسبها الناس ألحاني كلها، إلاّ أن ألحاني لا تزال في صدري لم يسمعها بشر. وماذا ينفعني أن يسمعها الناس فيطربوا ويصفقوا وأتفرد أنا بالخيبة والألم؟ إن الناس لا يألفون إلاّ الأغاني الفارغة المدوية، فلتبق أغانيَّ العذبة في صدري، أسمعها وحدي من غير أن يتحرك بها لساني لأن لساني مشغول بإلقاء الدرس. كل ما أكتب زفرات متألم وإشارات أخرس، فهل يأتي اليوم الذي تنحسر فيه الزفرات عن الأغاني، والإشارات عن الألفاظ والمعاني؟ * * * على أن هذه الزفرات وهذه الإشارات عزاء نفسي، فكم لهذه

«الرسالة» من فضل عليّ، وكم من الفضل لهؤلاء الأدباء الذين يستطيعون أن ينقلوني من دنياي هذي الضيقة إلى دنيا واسعة تطير روحي في أجوائها حرة طليقة، أمثال الرافعي ومعروف والزيات! فهل يدري الزيات، أو هل يدري معروف الأرناؤوط، أني طالما أصرمت الليالي الطويلة في فرتر ورفائيل (¬1) وسيد قريش وعمر ابن الخطاب (¬2) وأني طالما لجأت إليها أقرع أبوابها وأتوارى وراء أسوارها في جنان سحرية، لا أستطيع أن أصفها بأكثر من إعلان العجز عن وصفها؟ فأيّ عالم في رأس معروف، وأيّ دنيا في صدره؟ وأيّ نبل وسمو في هذه اللغة، لغة معروف ولغة الزيات ولغة الرافعي، هذه التي تتيه بجواهرها ولآلئها، على حين تمشي لغات كتاب العصر بأسمالها البالية ومزقها المخرَّقة ... لغة فخمة تشعرك بالسيادة والعظمة، لا كهذه اللغات الهزيلة العارية. وكم من الفضل لهيكل عليّ، فلقد سلخت في قراءة كتابه «منزل الوحي» أياماً كنت أعيش فيها في عهد النبوة، ولقد مررت ¬

_ (¬1) «آلام فَرتر» لغوتة و «رُفائيل» للامارتين، ترجم كليهما عن الفرنسية أديبُ العربية وصاحب الرسالة: أحمد حسن الزيات. و «سيد قريش» في ثلاثة أجزاء و «عمر بن الخطاب» في جزأين لمعروف الأرناؤوط، ولجدّي وصف له في غاية الطرافة في الحلقة 35 في «الذكريات»، قال: "ولما شرع يؤلف «سيد قريش» لم يكن قد جدد دراسته للتاريخ، فكان مستشاره الحاج (فلان)، وهو رجل قرأ في زمانه التاريخ ونسيه، ثم نسي أنه نسيه ... "، إلى آخر المقالة. (انظر الذكريات: 2/ 5 وما بعدها) (مجاهد). (¬2) ثم رأيت ذلك كله عبثاً، وأن النافع ما نفعك في آخرتك.

بهذه البقاع التي يصفها وأثارت في نفسي عوالم من الذكريات والآمال والخواطر، فإذا أنا أجدها كلها وأجد أكثر منها في كتاب هيكل. * * * يا رحمة الله على تلك الأيام! أيام كنت أغلق فيها بابي عليّ، ثم أقبل على كتبي أجالس فيها العلماء والأدباء وأجد في حديثهم الصامت لذة ومتاعاً. كنت أقرأ لأني كنت أجهل الحياة، فلما عرفتها لم أعد أطيق قراءة ولا بحثاً. ولماذا أقرأ؟ ولماذا أتعلم؟ ولماذا أكون فاضلاً؟ والحياة حرب على أهل العلم والفضل، والناس كالحياة لأنهم أبناؤها وتلاميذها! ألا يحيا الكاذب المنافق سعيداً موقراً ويموت الصادق الشريف فقيراً محتقَراً؟ ألا يُصدّق الناس الشيخ المشعوذ لأنه يدخل إلى نفوسهم من باب الدين ويُكذّبون العالم الفاضل؟ أليس طريق الشعبذة (¬1) وادعاء الكرامات والمَخْرَقة على الناس بعلم أسرار الحروف واستحضار المردة واستخراج الجنّ من أجسام بني آدم، آثرَ عند عامة الناس من العلم الصحيح والأدب المحض؟ ألا يتمتع هذا اللص بالثقة التي لا يحلم بها عالِم متخصص أو باحث مدقق، وتنهال على يده الأموال وتزدحم على يده الشفاه؟ ألا يبلغ المنافق ذو الوجهين أعلى المراتب وأسماها ويبقى الصادق الشريف في الحضيض؟ ألا يركب الجاهل السيارة الفخمة ويسكن ¬

_ (¬1) الشعبذة والشعوذة بمعنى واحد في اللغة (مجاهد).

القصر العظيم ويحتل المرتبة العلمية العليا، ويمشي العالم إلى بيته الحقير لا يدري به أحد؟ أليست أسواق الرذيلة عامرة دائرة، وأسواق الفضيلة داثرة بائرة؟ ألا يظفر الكاذب المفتري بالبريء؟ ألا يغلب القوي الضعيف؟ ألا ينتصر المال على العلم؟ فلماذا أقرأ؟ ولماذا أتعلم؟ ولماذا أكون فاضلاً؟ * * * وقمت وقد صفَّيْتُ حسابي مع الحياة، فإذا أنا قد خسرت ثلاثين سنة هي زهرة عمري وربيع حياتي ولم أربح شيئاً! * * *

صورة المؤلف بقلمه

صورة المؤلف بقلمه نشرت سنة 1936، وقد ظنها أحد الشعراء صورته هو فأودعها صدر ديوانه! كان معروفاً بالشذوذ والخروج عن المألوف، لا يبالي -إذا اتجه له الرأي- ما يقول فيه الناس، ولا يحفل -إذا أزمع الأمر- نهْيَ ناه ولا نصيحةَ ناصح. وكان يعرف ذلك من نفسه ولا يُغضبه أن يوصف به، بل كثيراً ما سمعناه يتحدث به ويطيل الحديث، يجد في كشف دخيلته للناس لذة وارتياحاً، كأنما هو يلقي عن عاتقه حملاً ثقيلاً. يجمع في نفسه المتناقضات: فبينا هو منغمس في لج الحياة المضطربة المائجة يفزع من الوحدة، ويكره الهدوء، ويركب متن المغامرات في الأدب وفي السياسة، يخطب في المجامع ويناقش في الصحف، وبينما هو مطمئن إلى هذه الحياة مقبل عليها، إذا به قد استولت على نفسه «فكرة صوفية»، فغمرت الكآبة روحه، وفاض اليأس على قلبه، وأحس الحاجة إلى الفرار من الناس والرغبة في العزلة المنقطعة، وأصبح يكره أن يرى أمسَّ أصحابه به وأدناهم إلى قلبه، ويحب الحياة الساكنة الهادئة، ويجد الأنس في حديث قلبه ومناجاة ربه.

وهو أسرع الناس إلى المزاح والفكاهة، وأضيقهم بمجالس الجد، وأبعدهم عن تكلف الوقار واتباع «الرسميّات»؛ فلا يكون في مجلس إلاّ حرّكه بحديثه وإشاراته ونكاته، وأفاض عليه روح المرح والودَّ الخالص. ولكن موجة من الحزن المفاجئ قد تطغى على قلبه في أشد الساعات سروراً وأكثر المجالس طرباً، فإذا هو حزين كئيب، قد ضاق بالناس وتبرّم بمزاحهم وهزلهم، وغدا راغباً في الجِد محباً للوقار، متلبساً بالصرامة والحزم، منصرفاً عما كان فيه منذ لحظة واحدة؛ لا يعرف الناسُ (ولا يعرف هو) ماذا أصابه فنقله من حال إلى حال. تغلب عليه العاطفة حيناً فيمسي أرق الناس شعوراً وأرهفهم حساً، يرى المشهد الجميل من مشاهد الكون، أو يسمع النغمة العذبة الشجية، أو يقرأ البيت الغزلي الرقيق أو القصة العاطفية المحزنة، فتوقظ في نفسه عالَماً من الذكريات، فيخفق لها قلبه ويهفو لها فؤاده، ويحس بها تلذعه لذعاً، وتفيض على نفسه شعوراً طاغياً بحب مُبهم غامض لا يجد طريقاً ينبعث منه، فيزلزل كيانه زلزلة كما يزلزل البركانُ الأرضَ إن لم يجد فوّهة يندفع منها، ويدعه شخصاً متهافتاً، لا يقوم إلاّ على أعواد من العواطف الرقيقة المتداعية (¬1). ويسيطر عليه العقل أحياناً فيحتقر العاطفة ويدعو إلى أدب قوي نافذ، ويسخر من الحب ويهزأ بالعاشقين، ويزدري هذه القصص وهذه الأشعار التي كان يرقص لها قلبه وتفيض لها ¬

_ (¬1) هذا شيء قد كان وزال.

مدامعه ... ويقبل على العمل بهمة عجيبة ورغبة قوية، فيطالع ويكتب، ويعمل كآلة دائبة الحركة لا يأخذه ضعف ولا خور، ثم يشعر فجأة بكراهية العمل والنفور من المطالعة الجدية والعزوف عن الكتابة والتأليف، ويستولي عليه كسل عقلي عجيب لا يطيق معه عملاً من الأعمال! * * * كان يعمل في مدرسة ابتدائية، نزلوا به إليها، فلا يكلّفه العمل فيها جهداً ولا مشقّة ولا يشغل من تفكيره شيئاً؛ فكان يستمتع بوقته ونفسه كما يشاء، ويشتغل بالأدب للّذة والمتعة الفنّية، فيقرأ ما طابت له القراءة، ويكتب ما رغب في الكتابة، ويؤلف ما مال إلى التأليف. فكره هذه الحياة وَهوي الحياة العقلية المنظمة التي تضطره إلى نوع من الدرس بعينه، وتجبره على نوع من الكتابة بذاتها. كان يعيش في أسرة رفرف عليها الحبّ وسادها الإخلاص وأسبغ عليها ثوب السعادة، بين إخوة له ما رأى الراؤون مثلهم في ذكائهم واستقامتهم وطاعتهم إياه وحبّهم له وحرصهم على رضاه، وصحابة له ما فيهم إلاّ أريب طيب النفس صادق الودّ صافي السريرة حسن السيرة، وكان له في بلده منزلة يحسده عليها من هو أكبر منه سناً وجاهاً وأكثر علماً ومالاً، فملَّ هذه الحياة ومال إلى الهجرة وانتجاع أفق جديد، فأزمع السفر إلى بغداد، تاركاً عمله في وزارة معارف الشام، عاصياً الناصحين والناهين من الأهل والأصحاب.

وجاء إلى بغداد، فلم يكد يلقي فيها رَحلَه حتى عراه اكتئاب وملل لا يعرف له سبباً، وأحس الحنين يحز في قلبه والشوق يدمي فؤاده، وانتابته إحدى نوباته العاطفية فلم تدع في رأسه إلاّ فكرة واحدة، هي الرغبة في العودة، لا يبالي معها ماذا قيل عنه وماذا ضاع منه، ولكنه لم يكد يستجيب لها حتى أدركه مدَدٌ من عقله، فصحا من نوبته وتخلص من عاطفته، فآثر البقاء وأقبل على العمل، فلم يمضِ عليه يوم حتى سمع من ينشد: فيمَ الإقامةُ بالزوراء؟ لا سَكَني ... بها، ولا ناقتي فيها ولا جملي فنشطت عاطفته المكبوتة من عقالها، تصرخ في وجه العقل أن: فيمَ الإقامة بالزوراء؟ فغُلب العقل واستخذى وذهب يستعد لمعركة أخرى. ولقد وجد في بغداد من الإكبار فوق ما كان يرجو، ووجد اسمه قد سبقه إليها، وحفَّ به قرّاؤه والمعجبون به وأسرعوا للسلام عليه والاجتماع به، فلم يكن أبغضَ إليه وأشدَّ عليه من هذه الاجتماعات، فكان يُعرض عنهم ويرتكب في هذا الباب أشد الحماقات، حتى إنه ليدع الجماعة من علية القوم في ردهة الفندق ويفر منهم، وما جاؤوا إلاّ من أجله، فيقوم من غير استئذان ولا اعتذار ويذهب إلى غرفته فيعتصم بها. وإنه ليعلم ما في عمله من الجفاء، ولكنه يضطر إليه اضطراراً، فهو يشعر أن جو هذه المجالس ثقيل عليه حتى ليوشك أن يخنقه ويغدو فيه كمن سُدّ أنفه وفمه، ويلام فلا يدفع عن نفسه لوماً ولا يحاول إنكاراً، ويعترف بالضعف ويقر بالعجز.

إنه لا يستطيع أن يحمل اسمه، لا يقدر أن يتلقى بوجهه وجسمه هذا الإعجاب الذي يزعمون أنهم يوجّهونه إلى الشخص الآخر الذي ينشر في «الرسالة»، كأن له شخصيتين، فهذه التي يأكل بها ويشرب ويمشي ويضحك ويمزح غير تلك التي يفكر بها ويكتب ويؤلف، وليس بينهما من صلة ولا يربطهما سبب من الأسباب. والعجيب من أمره أنه يضيق بالكلام في مثل هذه المجالس ويتهيبه، وتظنه أول ما تلقاه حَييّاً عَييّاً لا يُفصح ولا يَبين، فإذا أنت اتصلت به وعلّقت حبالك بحباله رأيته مفوّهاً طَلْق اللسان شديد البيان، وإن أنت خالطته وعرفتَ دخيلته أبصرته لا يتهيب موقفاً خَطابياً مهما كان شأنه، ولا يخشاه ما يخشى الرد على ألفاظ المجاملة ويتهيب مجلس تعارف وانتساب. * * * كان يأمل أن يجد لذة في تدريس الأدب، ولكنه لم يكد يمارسه حتى اجتواه ومله، وعلم أن الاشتغال بالأدب للّذة لا يستقيم مع هذا العمل النظامي المستمر. إنه يصبح وفي رأسه فكرة يريد أن يكتب فيها فصلاً، فيدركه وقت المدرسة، فيذهب وتذهب الفكرة في طريقها. أو يصبح وهو يكره الكلام ويميل إلى الصمت، يحب أن يفكر فيطيل التفكير ويحلم فيغرق في الأحلام، فتراه ملزماً بالكلام خمس ساعات أو ستاً. وهو يحب الشاعر أو الكاتب ويميل إليه فيُكرهه المنهج على درس شاعر آخر لا يحبه ولا يفهم أدبه، ويضطره الطلاب إلى إطالة الحديث حين ينبغي له الإيجاز أو إيجازه حيث تُطلب الإطالة، أو لا يفهمونه ولا يسايرونه

فيهبط من سماء متعته الأدبية ليمشي مع أفهامهم وعقولهم ... * * * إنه رجل شاذ الطباع متناقض العواطف؛ يشتاق إلى بلده، فإن عاد ندم على العودة، وإن أقام هاجَه الشوقُ، وإن لجأ إلى عقله ثارت عاطفته، وإن اتّبع عاطفته أبى عقله ... لا يفهمه أحد، ولا يفهم هو نفسَه ... إنه أديب! * * *

زفرة مصدور

زفرة مصدور نشرت سنة 1940 إلى صديقي (فلان): أنا الآن في شرفتي أطلُّ على دمشق من فوق خمس جوادَّ (¬1) علوّها مئتا متر، فأراها كلها كصفحة الكف، وقد انتصف الليل وانصرف السامرون آنفاً بعدما أحيوا ليلة من الليالي التي تعرف مثيلاتها في دارنا، وسكن الكون وشمله الجلال، وأنا جالس ¬

_ (¬1) الجوادّ جمع جادّة (بتشديد الدال)، وهي -في الأصل- وسط الطريق أو الطريق الكبير الذي تجتمع فيه الطرق الصغيرة، أما في دمشق فهي عَلَم على هذه الطرق التي تمتد على قاسيون أفقياً واحداً فوق واحد، من سفحه إلى حيث تنتهي البيوت التي ارتقت الجبل إلى وسطه، فما كان منها أدنى إلى الطريق العام الذي يمشي بحذاء الجبل (ويسمّونه «السكّة») فهي الجادة الأولى، والتي بعدها أعلى منها هي الثانية، وهكذا إلى السادسة، وهذه الجادات الأفقية تخترقها شوارع عمودية تنطلق من «السكّة» إلى الجادة السادسة أو الخامسة، فتصنع كلها معاً شبكةً من الطرق تغطي صفحة قاسيون في قسمه المأهول. وقد سكن الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله- دهراً في الجادة الخامسة (وقبلها سنين في السادسة) فكان بيته يطل على دمشق كلها إلى وسط الغوطة (مجاهد).

وحدي أفكر؛ لا أفكر في دمشق التي حننتَ إليها وشاقتك ذكراها، دمشق التي باكرها الربيع فضحك في غوطتها الزهر وغمر جوَّها العطر، وماست في جناتها الحور الفاتنات من الحور والصفصاف ومن بنات أمنا حواء، لا أفكر فيها لأن قلبي لا يتفتح الآن لإدراك الجمال، وقريحتي لا تنشط لوصف الربيع، ومكان الشعر من نفسي مقفر خال. وما لي لا تخمل قريحتي ويذوي غصن الشعر في نفسي، وقد عدت إلى دمشق على طول شوقي إليها وازدياد حنيني، وتركت أهلاً في العراق كراماً، وبلداً طيباً، وأمة حية، تحمل اللواء وتهز العلَم، وتتقدم لتجمع الشمل الشتيت، شمل العرب المتفرق، وتوحّد الشعب وتُرجع المجد والجلال، وتؤلف بين أهل الضاد من حاضر وباد ... تركت ذلك كله وعدت إلى بلدي الأول (ويا ليت بغداد كانت هي بلدي الأول!) فلم أجد في دمشق إلاّ النكران والأذى، ولم أجد إلاّ ما يسوء ويؤلم. ولكن هل يشكو امرؤٌ بلدَه؟ هل يهدم بيده دارَه؟ إن تكلمت قال الحساد: بغى وظلم، وإن سكتّ قال الشامتون: رضي أو عجز! والقلب بالسكوت يتفطر، والصدر من الصمت يتمزق، والكلام ... هل يجوز لي الكلام؟ يا ليتني بقيت بعيداً أقنع من بلدي بهذه الصورة الحلوة التي تتراءى من خلال أحلام المشوق الولهان ويوحي بها الحنين الطاغي! يا ليتني ... وهل تنفع شيئاً «ليتني»؟ لقد عَمِيَ أولو الأمر والنهي عن أدبي وعلمي وعما نشرت في الكتب والمجلات والصحف، وهو شيء يملأ ثلاثة آلاف

صفحة على أقل تقدير (¬1)، هَبْ أن فيها كلاماً مرصوفاً لا معنى وراءه تجد أني حملت في كتابتها ورصفها عناء، فكيف وكلها ثمرة التأمل الطويل، ونتيجة كد الخاطر وعصر الدماغ، وما منها شيء سرقته من أديب من أدباء فرنسا ولا إنكلترا! عمي أولو الأمر عن هذا كله ولم يعدلوه بهذه الورقة السحرية التي جاء بها أولئك من ديار العجم يشهد لهم فيها مَن يسكن هناك بأنهم صاروا يفهمون العربية وغدوا أهلاً للتصدّر لتدريسها ... ولم يجدوني أهلاً لأكثر من «أستاذ معاون»! أفيكون ظلماً مني وعدواناً إذا أعلنت ما أصابني وشكوته إلى القراء، وهم أصدقائي، لم يبقَ لي من صديق غيرهم؟ لم يبق لي صديق في هذه الحياة ... إنك لتعلم ذلك، ولكني لا أشكو! إنهم يقولون إني عنيد، وإني مشاغب، وإني أثير المشاكل ... ولست أفهم لهذا كله إلا معنى واحداً، هو أني أؤثر الصدق وأعلنه ولا أفعل ولا أقول إلاّ ما أطمئنّ إلى أنه الحق. وهل كان ذنباً أني حَمِيت للفضيلة تُمتهَن وللأخلاق تُهان، فناضلت عنها وقاتلت، وقلت لتلاميذي: ناضلوا عنها وقاتلوا؟ وهل كان ذنباً أني غضبت لمحمد أن ينكر نبوّتَه ويَجحدَ رسالتَه جاهلٌ غرير، في حفلة أقيمت لتكريم محمد وتمجيد ذكراه؟ (¬2) ¬

_ (¬1) وقد بلغ المطبوع مما كتبت إلى اليوم عشرة آلاف صفحة، ونسوا أن يذكروني في المجلس الأعلى للآداب وفي لجانه! (¬2) هذا «الجاهل الغرير» هو ميشيل عفلق، والقصة التي يشير إليها الشيخ هنا مفصَّلة في ذكرياته. قال: "وكنت يومئذ ألتهبُ حماسة، فما كان=

وهل كان ذنباً أني لا أقول لسواد الليل: أنت أبيض مشرق، ولا أقول للأعور: ما أحلى عينيك!؟ هذه هي ذنوبي التي خسرت من أجلها صداقات الأصدقاء، وكسبت عداوات الرؤساء، وربحت خصومة الجاهلين، وعُددت بها من كبار المشاغبين. * * * لقد قارب الفجر وانطفأت أنوار المدينة. لقد مرّ عليّ ساعتان وأنا أفكر، وكل شيء من حولي ساكن ميت، وكذلك حياتي! إنها خالية منذ سنوات، ليس فيها شيء متحرك ... فأنا أعيش عيش الحالمين، أرقب أبداً الحادث الذي يهز حياتي الساكنة ويحرك مواهبي الخاملة ويدفعني إلى العمل، ولكن انتظاري قد طال حتى كدت أيأس من الانتظار. إنك تغريني بما حصلت من شهرة وما نلت من مكانة، ولعل في ذلك تسلية لي لو كنت أحسُّ به أو ألمسه، إنني لا أحس والله بهذه الشهرة، إنني كالمغني الأصم الأعمى، يطرب الناس

_ = مني إلا أن وضعت كفي على طرف المسرح الذي يخطبون عليه وقفزت فصرت فوقه، وأخذت بعنق ثوب الخطيب فجذبته ورميت به من فوق المسرح، فوقع على مَن في الصف الأول، على أستاذنا جودة الهاشمي وعلى إخوانه، واستلمت أنا مكبّر الصوت (الميكروفون) ورددت عليه ... "، انظر التفاصيل في الحلقة 111 من «ذكريات علي الطنطاوي» في الجزء الرابع. وفي آخرها: "وكانت عاقبة ما فعلت أنهم نقلوني -عقوبة- إلى دير الزور! " (مجاهد).

فيصفقون له ويهتفون ولكنه لا يسمع ولا يرى، فينصرف حزيناً يحسب أنه خاب وأساء! إن أهل بلدي ينكرون عليّ كل شيء حتى الأدب! لقد قرأت أمس مقالة سقطت إليّ عرضاً، فرأيت فيها مقالاً يخبط فيه صاحبه خبط عمياء، فيعدّ أدباء دمشق أو الذين يراهم هو أدباء، فيذكر فيهم كل موظف في وزارة المعارف وكل تلميذ يدرس في أوربة وكل مدرسي التاريخ والجغرافيا! ولكنه لا يذكر علي الطنطاوي ولا سعيد الأفغاني، أفسمعت أبلغ من هذا الجهل وهذا النكران؟ هذه حالنا في دمشق التي كنا نَحِنُّ إليها في مصر، ونحيي الليالي نفكر فيها، وتتراءى لنا صورتها حيال الأفق من عند قنطرة الزمالك أو من ذروة الهرم، ونساهر النجم نفكر فيها ونعد الأيام للوصول إليها ... دمشق صارت كالهرة تأكل -من حبّها- بنيها! لقد حمل إليّ البريد رسائل جمة ممن أعرف ومن لا أعرف يسألني أصحابها: لِمَ لا أكتب في الرسالة في هذه الأيام؟ فوجدت في هذه الرسائل عزاء، وشكرت لأصحابها، وتوهمت حين قرأتها أن في الدنيا من يفكر فيّ ويقرأ ما أكتب، ولكني لم أُجِبْ واحداً منهم. وبماذا أجيبهم؟ وكيف أقول لهم إن دمشق قد قتلت في نفسي روح الأدب؟ كيف أشكو دمشق التي أحبها؟ وكيف أذمّها بعملها؟ * * *

ثلاثون سنة ما خرجت منها إلا بشيء واحد، هو أني رأيت الحياة كمائدة القمار؛ فمن الناس مَن يخسر ماله ويخرج ينفض كفه، ومنهم مَن يخرج مثقلاً بأموال غيره التي ربحها، ومنهم مَن يقوم على الطريق يمسح الأحذية، ومَن يمد إليه حذاءه ليمسحه له، ومَن ينام على السرير، ومَن يسهر في الشارع يحرس النائم، ومَن يأخذ التسعة من غير عمل، ومَن يكدّ ويدأب فلا يبلغ الواحد، وعالِم يخضع لجاهل، وجاهل يترأس العلماء، ورأيت المال والعلم والخلق والشهادات قسماً وهبات؛ فرُبّ غني لا علم عنده، وعالِم لا مال لديه، وصاحب شهادات ليس بصاحب علم، وذي علم ليس بذي شهادات، ورُبّ مالك أخلاق لا يملك معها شيئاً، ومالك لكل شيء ولكن لا أخلاق له، ورأيت في مدرِّسي المدارس مَن هو أعلم من رئيس الجامعة، وبين موظفي الوزارة مَن هو أفضل من الوزير ... ولكنه الحظ الأعمى، أو هي حكمة الله لا يعلم سرّها إلا هو، ابتلانا بخفائها لينظر: أَنَرضى أم نسخط؟ ولكن ما أضيع أيامي في مدرسة الحياة إن كان هذا كل ما تعلمت منها في ثلاثين سنة! * * * لقد أذّنَ الفجر وأنا ساهر، وأضيئت منارات دمشق التي لا يحصيها عدّ، ورنّ صوت المؤذّنين في أرجاء الوجود صافياً عذباً: الله أكبر ... الله أكبر. الله أكبر من كل شيء، اللهم إني أرفع إليك شكاتي.

اللهمّ إني قد نفضت يدي من الناس، وإني أسألك أمراً واحداً: ألاّ تقطعني عنك، وأن تدلني عليك، حتى أجد بمراقبتك أنس الدنيا وسعادة الآخرة. * * *

زفرة أخرى

زفرة أخرى نشرت سنة 1940 توالت عليّ الذكريات، فألقيت كتابي وأقبلت على ماضيّ، أفتش في حدائقه القاحلة عن وردةٍ أخطأَتها رياح الشتاء العاتية وثلوجه وأمطاره، فتوارت في كنف صخرة أو في حِمى جدار، تكون صورة من الربيع الغابر ... فلم أجد إلاّ رفات الأوراق التي كانت مخضرَّة زاهية، وهياكل الأشجار العارية التي كانت تلبس من حلل الربيع سندساً وحريراً، قد خيّمَ عليها الموت وشملها برده القارس. فحولت وجهي شطر المستقبل، فلم ألقَ إلاّ ظلاماً فوقه ظلام، ووجدت حاضري راكداً ركود الفناء، ساكناً سكون العدم؛ فضاق صدري وأغرقتني في بحرها الهموم، فجعلت أفتّش عن رفيق يأخذ بيدي، وصديق أبثّه همي وأشكو إليه بثي، فلم أجد لي صديقاً إلاّ القراء؛ أولئك هم أصدقائي الذين لا أعرفهم ولا أنتفع منهم بشيء، وما لي منهم إلاّ اعتقادي بأنهم يعطفون عليّ ولا يشاركون الحاسدين المؤذين حسدهم إيّاي وإيذاءهم لي، فكتبت إليهم أحدّثهم بشكاتي وأروي لهم ذكرياتي. ولعل هؤلاء القراء يضيقون بحديثي صدراً ويعرضون عنه ويستثقلونه، ولعلّ

اعتقادي بصداقتهم وَهمٌ من الأوهام، غير أني لا أحب أن أُرزأ هذا الوهم ولا أن أتيقن فساده، لأني أعيش به في دنيا الحقائق المرة. ومَن كان مثلي غريباً في بلدته التي يعرف نصف أهلها ويعرفه ثلثاهم، يمشي في المدينة الحافلة بالناس مستوحشاً منفرداً كأنه في صحراء، لا يلقى إلاّ رجالاً لا يثني تعدادُهم أصابعَ اليدين، يجول في هذه الحلقة المفرغة، لا منقذ له منها ولا مخرج، قد خلت حياته من الفرح والألم، وغدت كالماء الآسن لا تموج فيه موجة ولا تحركه ريح ... ومن كان يتمنى أن يجد ما يشغله ويحرك سواكن نفسه، وما يدفعه إلى الفكر والعمل، ولو كان البلاء النازل أو الحريق المشبوب، أو النفي أو السجن ... ومن كان يصبح فلا يدري ماذا يعمل في يومه وكيف يدفع هذا اليوم، ويمسي فلا يعرف ماذا يصنع في مسائه وكيف ينام ذلك الليل ... ومَن يحسُّ بثقل الأفكار على عاتقه ولكنه لا يجد إلى بثّها سبيلاً، ويرى الوقت طويلاً والقوة حاضرة ولكنه لا يعلم فيمَ ينفق وقته ويصرف قوّته ... ومن كان معتزلاً مثلي، لا زهداً في الحياة ولا هرباً من معاركها، ولكن يأساً من مقبل أيامها وقنوطاً من خيرها، فهو يخلو إلى ذكرياته يتعلل بها ويتمززها، ويحادثها ويناجيها، ويحيا في خيالات ماضيه حين عجز عن الحياة في حقيقة حاضره ... ومن كان مثلي لا يشكو الفقر في اليد ولا في النفس، ولكن الفقرَ في العمل ... ومن كان يجد -بحمد الله- من المال ما يكفيه في يومه ويفضل عن حاجته، ولكنه لا يدري ما يكون في غده ... ومَنْ كانت شكواه فرط الحس وحدّة الشعور وجحود الناس، وكان يشكو

دنيا يتقدم فيها الهجين ويتأخر الجواد الكريم، دنيا فسد فيها كل شيء حتى غدا عقلاؤها ينتظرون الساعة ... مَنْ كان كذلك أدرك حقيقة حالي وفهم مغزى مقالي، ولم يلمني مع اللائمين ولا كان عليّ مع العُداة الحاسدين. * * * وكم قائل لي: ألا تنسى هذا الماضي وتستريح من ذكراه؟ ألا تدع المستقبل وتطَّرِح التأميل فيه؟ ألا تعلم أن ما مضى فات والمؤمَّل غيب، ولك الساعة التي أنت فيها؟ فأقول: بلى؛ إنّي لأعلم ذلك، ولكن أين السبيل إلى النسيان؟ وإذا أنا نسيت كل شيء فكيف أنسى أياماً عشتها لم أكن فيها الطائرَ المقصوص الجناح، ولا الغصنَ الذي قصفته الرياح، بل كنت أواجه العاصفة أستند إلى الجذع المتين، جذع السنديانة الراسخة، وأطير فوقها بجناحين قويين ... فهاض الدهر جناحي وكسر جذعي، حين أفقدني أمي، وصيّرني عرضة للعواصف، وجعلني معها كالريشة لا تستقرُّ على حال من القلق والذعر والاضطراب! وكيف أنسى أنه لو عاش أبي، العالِم الوجيه ذو المرتّب الضخم، ولم تخترمه المنية شاباً، لاحتمينا به من كيد الحياة ولنشأنا في ظلّه كما ينشأ الفرع الليّن وسط الدوحة القوية الممتدة الأفنان، ولما اضطُررنا إلى مواجهة الدنيا والتمرس بنكباتها ومعرفة لؤم أهلها، ونحن فتية صغار أطهار القلوب، مبرؤون من الذنوب، ولا نلبث حتى نتلوث بأوضار الكيد والمكر، ونتلقف مبادئ

«علم الحياة» كما يتلقف الصبي المخطئ مبادئ «فن الجريمة» في السجن الأول، فلا يخرج منه حتى يحمل شهادة «البكالوريا» في الإجرام؟! وكيف أنسى ما نثرتُ من قِطَع قلبي وفلذات كبدي في أرض الله الواسعة، التي لا ترعى مهد العواطف ولا تحفظ عهد القلوب، في سفح قاسيون الحبيب، وفي الغوطة الغنّاء ... وفي حرش بيروت الذي يميس صنوبرُه مَيَسان الغيد الحِسان وقد خرجن متبرجات ينظرن إلى مياه البحر بعيون لها زرقةُ مائِه، ولأسرارها بُعدُ قرارِه ... ذلك الحرش؛ لي تحت كل شجرة منه ذكرى لا يدريها إلاّ الله وقلبي وذلك القلب الذي سلا وقلى ... وما سلوت ولا قليت، وما أذعت له سراً ولا أفشيت! وفي طريق صيدا، كم صببت من العواطف واستودعت من الذِّكَر؟ سلوا تلاميذي طلابَ الكلية الشرعية في بيروت: ألم يشهد لنا هذا الطريق أنّا كنا خير مَن مرّ به من إخوان متوادّين، قد جمعت صداقتُهم قلوبَهم فمزجتها كلها، ثم قسمتها، ثم أعادتها إليهم، فعاشوا جميعاً بقلب واحد والأصدقاء يعيشون بقلوب شتى. هؤلاء الإخوان الذي وفيت لهم فوفوا لي، وأحببتهم فأحبوني، ورأيت منهم -لمّا مرضت فيهم (¬1) - ما لو تخيله القصصي الأديب لاستُكثِر وعُدَّ مبالغة من المبالغات. ¬

_ (¬1) خبر هذا المرض في الحلقة 104 من «ذكريات علي الطنطاوي» (ج 4 ص 66 وما بعدها)، وانظر مقالة «بعد المرض» التي ستأتي في هذا الكتاب (مجاهد).

وفي العراق، كم خلّفت من حياتي؟ وما الحياة إلاّ خفقات القلوب، وتردد الأنفاس، ومظاهر العواطف! على طريق الأعظمية، وفي الكَرْخ الأقصى في حيّ الجعيفر، وعلى الجسر وفي الأعظمية، وفي البصرة، وفي كركوك ... بقع أعزة عليّ، وقوم أحبّة إليّ، لولا خوفي من ألاّ يصدّقوني لحلفت لهم أنه لم يَطِب لي بعدهم عيش. فهل يكتب الله عودة لتلك الليالي، فيجتمع الشمل، ويلتئم الصدع، وتلتقي الذكريات بالآمال؟ إني أسأل الله فنبّئوني: هل مدَّ يديه أديبُ بغداد الأستاذ الأثري، فقال: آمين؟ يقولون لي: انسَ، ولكن كيف السبيل إلى النسيان؟ وكيف أنسى أيامي في مصر؟ مصر التي محت صورَها السنون من نفسي فلم يبق منها (ويا أسفي!) إلاّ صورة ميدان باب الخلق، مَجازي في غدوّى ورواحي، وحديقة الاستئناف التي كنت أتأملها وأنا في «المطبعة السلفية» عند خالي، والتي استودعتُها من العواطف عددَ أوراقها وأزهارها وحبات ترابها، ودار الكتب التي كان بها الشاعر الكبير حافظ رحمه الله، وشارع محمد علي، والعتبة الخضراء (الضيّقة) التي لم تكن تخلو يوماً واحداً من ميت مدعوس، وصورة زقاق حوله أنقاض مهدَّمة ومنازل حقيرة بالية كنت أمر به كل يوم في ترام السيدة، في ذهابي إلى دار العلوم وعودتي منها، يسمى شارع الخليج، زعموا أنه صار اليوم شارعاً عظيماً وصار فيه بنيان ... وجسر الزمالك حيث كان يطيب لي الوقوف بإزائه كل مساء، أتبع ببصري الشمس الغاربة

علّي أرى فيها صورة بلدي دمشق، فلا أرى إلاّ بريق الشعاع الحادّ يتكسر خلال الدموع التي تملأ عيني، دموع ابن العشرين وقد هاج في نفسه الشوق الذي يسميه لامرتين «مرض السماء» ... لو كان في السماء أمراض! وصورة حديقة الجيزة التي كنت أقضي فيها الساعات الطوال، آنسُ بوحوشها وهوامِّها، وصورة بستان إلى جانبها فيه عمال يبنون. قالوا: وقد تمّ البناء وصار شيئاً عظيماً يُدعى جامعة فؤاد الأول، والله أعلم بصحة ما قالوا. صدّقوني إذا قلت لكم إني لم آسف على شيء -مما صنعت في حياتي أو تركت- أسفي على ترك مصر، ولا أطمع في شيء طمعي في العودة إليها والحياة فيها؛ فهي التي سدّدَت خطواتي في طريق الأدب، وهي التي علّمتني، وهي بلد أسرتي، وهي التي جعلتني -قبل اثنتي عشرة سنة- أكتب وأنشر الفصول في أكرم المجلات، حين كان هؤلاء المحترمون من تلاميذ «الشيخ مارسيه» على مقاعد المدرسة الابتدائية! أفليس عجيباً أنّي -على حبي لمصر- كنت في نظر بعض زملائنا المدرّسين المصريين في العراق عدوّ المصريين رقم (1)؟ سامح الله زملاءنا هؤلاء وغفر لهم ما كادوا لي ومكروا بي، وغفر لي ما آذيتهم بلساني السليط (¬1). ¬

_ (¬1) انظر مقالة «مما حدث لي» في هذا الكتاب. والقصة طويلة، وهي في الحلقة 101 من «الذكريات» فمن شاء قرأها هناك (4/ 31) (مجاهد).

وكيف أنسى ما أضعت على نفسي من خير، وما عرض لي من فرص فما افترصتها؟ إن من رفاقي في كلية الحقوق مَنْ هو اليوم من كبار المحامين الذين يشار إليهم، ومن ينال على وقفة واحدة في المحكمة مئة جنيه في دمشق الفقيرة، فلماذا أعرضت عن المحاماة لم أشتغل بها وأقبلت على مهنة آخذ فيها خمسة جنيهات على مئة درس ألقيها على أربعين طالباً، يحتاج إسكاتهم وضبطهم إلى شرطيين مسلحَين بالبنادق الرشاشة؟! وإن من رفاقي في الثانوية مَنْ هو اليوم ناظر ثانوية كبيرة، وأنا أستاذ معاون، فلماذا درست الحقوق إذا كانت الوزارة لا تعرف أقدار الرجال إلاّ بما يحملون من شهادات الاختصاص، وكان صاحب الليسانس في الحقوق لا يعد أديباً في نظرها ولو كان شوقي زمانه، أو رافعي أوانه، وترى صاحب الليسانس في الأدب أديباً ولو كان أعيا من باقل وأجهل من جاهل؟! وكيف أنسى أني كنت من عشر سنين أقود طلاب دمشق كلهم وأغامر بهم في ميادين السياسة، وأني لو شئت لكنت نائباً من زمن طويل؟ إن الناس لم ينسوا ذلك فكيف أنساه أنا؟ إنهم يعلمون أن في قميصي خطيباً ما يقوم له أحد في باب الارتجال والإثارة وإيقاظ الهمم وصب الحمم، ولكن من الناس من يعقل الحسد ألسنتهم عن شهادة الحق. أستغفر الله؛ فما أحب الفخر، ولكني اضطررت فقلت. وهل أسكت إذا سكت الناس عن بيان حقي؟

إن للمظلوم كلمة وهذه إحدى كلماتي، فإن كانت فخراً فقديماً كان الفخر من فنون الأدب العربي، وإلاّ فهي ذكرى وتأريخ لأخلاق الناس وأطوار المجتمع. وكيف أنسى أنّي بين ماض أضعت فرصه ونسيت ذكرياته وفقدت فيه ذخراً من العواطف الجياشة والشعور المضطرم ... وحاضرٍ بدّدتُ أيامه بالرجوع إلى الماضي، وصرفت بكره وعشاياه في نبش الذكريات والبحث في أطلالها عن الجواهر والكنوز، فما كان إلاّ أن دفنت فيها كنز حياتي وجوهر عمري ... ومستقبلٍ لم أعد أرجو منه شيئاً لأني يئست من أن يأتيني منه خير. ومن يصدّق أني أتمنى لو كنت غبياً جاهلاً عييّاً لأستريح وأهنأ، لأني وجدت الذكاء يدفع إليّ الألم ويؤدي إلى الشقاء، وأني لأهمل القراءة عمداً كي أنسى ما علمت، فأغدو جاهلاً فلا آلم إن تقدمني الجهال من أمثالي ولا ألوم الحياة على ظلمها إيّاي ... فلا أستطيع، وأراني مدفوعاً إلى الازدياد من هذا العلم، كأنّ القدر يسوقني بعصاه إلى الاستكثار من القراءة، فأزداد بالعلم ألماً حين أرى علمي وَبالاً عليّ وأرى الجهّال يسبقونني ويسرقون منزلتي! ولو أني استبدلت بإحياء الليالي في المطالعة والدرس وثني الركب بين أيدي العلماء رحلةً واحدة إلى (تلك) الديار أعود منها بعد شهرين بشهادة في اللغة العربية لم تكتب سطورها بالعربية لكان ذلك خيراً لي وأجدى عليّ من علوم الأرض كلها لو حصلتها. ولكني كرهت أن أتوكأ في سيري إلى غايتي على غير أدبي، ونزّهت نفسي عن أن أجعل عمادي ورقة صار يحملها الغبيّ

والعييّ والجاهل واللص الذي يسرق مباحث الناس ويسطو على آثارهم! إن عمادي هذا القلم، وإنه لغصن من أغصان الجنة لمن يستحقها، وإنه لحطبة مشتعلة من حطب جهنم لمن كان من أهل جهنم! ولكن ما الفائدة من هذا الكلام؟ ما الفائدة وقد ولّى ربيع حياتي، وأدبرت أيامي، واستبدل قلبي بالأصيل المذهب ليلاً حالك السواد؟ لقد شخت حقاً، وصرت كالعجوز الذي حَطَمه الدهر وفجعه في أولاده فسيّره في مواكب وداعهم الباكية. وما أولادي إلا أمانيّ، وما قبور الأماني إلاّ القلوب اليائسة! فيا رحمة الله على تلك الأماني! يا رحمة الله على الأيام التي كنت فيها غراً مغفلاً أصدق كل خدّاع كذّاب يزعم أن في الدنيا فضيلة وخلقاً وأن قيمة الإنسان بما يملكه منهما! لقد خدعني المعلمون والأدباء، فلماذا أخدع تلاميذي؟ لماذا لا أقول لهم: إن المكر والكذب والنفاق هي في شرع الحياة فضائل، فأعدّوا قواكم لإصلاح المعوجّ من شرائعها، أو فانزلوا على حكمها فخاطبوها بلسانها وادخلوا من بابها؟ إن المربين والمعلمين سينكرون ذلك ويكبرونه ويرونه إفساداً لعقول الناشئة، فليكن إذن ما يريد المربون والمعلمون! يا رحمة الله على تلك الأيام! ومن يعيدها إليّ؟ من يرجع

إليّ ثقتي بالحب واطمئناني إلى الكتب وسكوني إلى النّاس؟ كنت أرى الحب أساس الحياة؛ عليه قام الكون وبه استمر الوجود، وكنت أؤمن به، فغدوت لا أؤمن إلا بالبغض، وصرت أحب أن أبغض وأبغض أن أحب! فمن يدلني على مصنَّف في أساليب البغض حتى أتقنها وأفهمها، فأبغض الناس كلهم؟ أبلَغَ الجفاف في القرائح والجدب في العقول ألاّ يصنَّف كتاب واحد في «البغضاء»، وقد ألف السخفاء ألف ألف كتاب في الحب؟! لا، بل من يرشدني إلى الفرار من مهنة الأدب والتخلص من الحب والبغض والعواطف كلها؟ مَن يحسن إليّ فيدعو لي بظهر الغيب أن يصحّح الله عزيمتي على ترك الأدب، أو ينقص من شقائي به؟ لقد أُعطيت عدة الأديب، ولكنّ الناس آذوني حتى أهملت عدتي فأسلمتها إلى الصدأ، فأكلها، ففنيت غيرَ مأسوف عليها! لا يأسف الناس لأنهم هم الأُلى أفنوها، ولا آسف أنا لأني لم أنل منها خيراً. فلا يغضب القراء إذا أنا ودّعت الأدب بالتحدث عن نفسي؛ فإني أرثيها قبل موتها، أرثي مواهبي المعطلة! لقد متّ، فدعوني لا تؤذوني بالانتقاد البارد، اذكروا محاسن موتاكم، وإذا لم تكن لهم محاسن فعفّوا عن ذكر مساويهم. ولا تَنْفُسوا على أخيكم «زفرة» يزيح بها عن صدره هماً ثقيلاً! * * *

كتاب مفتوح إلى الأستاذ أحمد أمين

كتاب مفتوح إلى الأستاذ أحمد أمين نشرت سنة 1943 كان هنا شاعر لم يعرفه الناس حتى عرّفتهم به هدآتُ الأسحار؛ إذ كان يطوف فيها على مرابع حيّه، يغنيها على ربابه أعذب ألحانه وأشجى أغانيه، وكان ينادي الليلَ الراحل بأرقّ أسمائه فيلتفت الليل ويقف لحظة يصغي إليه، والفجرَ يستحثّه على الرحيل، وتنصت إليه قلوب العاشقين، فإن غنى بـ «يا ليل» هاج بها الشجن فأجابت من لوعتها بـ «آه ...»، ويعرفه القمر لأنه كان يسكب في نوره ألحانه، فتطفو على وجه النور، ثم تسيل من رقتها فيه وتمتزج به امتزاج الخمرة بالماء، فيشرب فيه أرباب القلوب خمرة نورانية تهيج في نفوسهم سكر الحب الطاهر والعاطفة الخيّرة .... وعرَّفتهم به الضمائر المؤمنة، إذ كان يهتف بها مع الفجر بالنشيد العلوي الذي يوقظ في نفس الإنسان الذي يسمعه «المَلَك»، فإذا استيقظ فيه المَلَك خنس «الشيطان» واستخذى «السبع»، فتعرف بنشيده لذة الإيمان، وما في الأرض لذة كلذة الإيمان ... شاعر لم يكن يعرف فضلاً (¬1) ¬

_ (¬1) الفضل: الزيادة.

من عروض الأوزان ولا سُلَّم الألحان، ولكنه يعرف كيف يعتصر قلبَه بيد الألم وكيف يُذيب نفسه بلهيب الذكريات، ثم يجعل من ذلك أشعاره التي يغنيها على ربابه، فتميل إليه القلوب وتحنو عليه، وتجد عنده الأنس والاطمئنان. غنّى للإيمان وللوطن وللحب، وأكثر الغناء. ولكن النغمة البارعة التي تجيش بها نفسه لم يتحرك بها لسانه، ولا جرَت بها يده على ربابه إلى اليوم. من أجل هذا كنت تراه -إذْ تراه- حائراً مضطرب الجوانح زائغ البصر، كأنما يفتّش في الفضاء عن شيء أضاعه، يفتّش وراء أفق الزمان عن الشيء الذي لم يجده فيه، فهو لا يفتأ ينظر إلى ماضيه يقلّبه ويجوس خلاله علّه يجد فيه ضالّته، فإذا افتقدها عاد إلى الآتي، يحاول أن يستشفّ بعين الأمل ما خَلْفَ بابه، فلا يشفّ البابُ عن شيء ... أما الحاضر فلا شأن له به ولا يعنيه أمره. أُعجب به الناس لما عرفوه وأحبوه، ثم ألفوه واطمأنّوا إليه، ثم تعودوا أن يروه ويسمعوه، فأضعفت العادة شعورهم به، فكانوا لا يدرون به إن حضر ولكنهم يفتقدونه إذا غاب ... ثم أصبحوا لا يعنيهم فقده ولا يعزّ عليهم غيابه! وطرَقَ الحيَّ «شعراءٌ» يضربون على الطبول الكبيرة ويصرخون بأغان فارغة مدوِّية كطبولهم، لا تدعو إلى فضيلة ولا تهزّ عاطفة ولا تمس من النفس موضع الإيمان، ولكنها تدعو إلى الشهوة وتثيرها في الأعصاب، لا تعرِفهم هدآتُ الأسحار ولا يدري بهم فُتونُ الفجر ولا شعاع القمر، ولكن تعرفهم أضواء الكهرباء الساطعة

في معابد الشيطان وهياكل الشهوة، وتعرفهم موائد الخمور في دور الفجور، فحفَّ الناس بهم وصفقوا لهم! عند ذلك كسر الشاعرُ ربابَه وانسلّ خارجاً من الحيّ بسكون، وأمَّ الجبل ليتخذ لنفسه من «الجادة السادسة» ملتجأ، يعصمه علوّه من أن يسمع قرع هذه الطبول، وعاد كالشيخ الذي صارت أيامُه الثلاثة يوماً واحداً، فطال أمسه حتى شمل يومه وامتدت ظلاله إلى غده، فلم يعد يعيش وإنما يعيش خيالُه في خيالات الماضي، كالشجرة التي عرَّتْها لفحاتُ كانون، فهي تعيش في ذكرى آذار المنصرم وزهره وتموز الماضي وثمره ... ومتى رجعت في كانون أزهار آذار (¬1)؟ أجل يا سيدي؛ لقد مات الشاعر ودُفن في جبة القاضي، ولو جاء أمرك إياه بالكتابة لـ «الثقافة» وفي عاطفته ذلك التوقد وفي أعصابه تلك النار، يوم كانت تنثال عليه المعاني وتجيش بالصور ¬

_ (¬1) هذه هي أسماء الشهور الشمسية التي عرفها العرب من قديم؛ من أيام جاهليتهم. لكن هذا الكتاب سيصل بلاداً من بلاد العرب لم يعد أهلها يعرفون -للأسف- ما هذه الأشهر! فأما كانون فيمكن أن يكون الأول (آخر أشهر السنة الذي يعرفونه في بعض البلدان باسمه الأعجمي، ديسمبر) أو كانون الثاني، أول شهور السنة (يناير)، وكلاهما من شهور الشتاء القاسية. وأما آذار فهو شهر الربيع (مارس) وتموز شهر قلب الصيف (يوليو). يا ليتكم -يا أيها العرب في كل بلد- تدَعون هذه الأسماء الأعجمية وتعودون إلى أسمائنا العربية؛ أما كفانا أن استباح أعداؤنا منّا الأرض والعرض والثروة والكرامة حتى يسلبونا أسماء الشهور؟! (مجاهد).

نفسُه ويتحرك بالبيان لسانه من غير أن يحركه، حتى لكأنه الجواد الكريم يتفلّت من الشّكال، وكأنّ قلمه إذ يجري على الطّرس يسابق اليد التي تجريه والفكر الذي يمده، لوجدته أسرع إلى طاعتك من السيل الدفّاع إلى مستقره، بل أسرع من الطرب إلى نفس الكريم والحب إلى قلب الأديب! يوم كان يعيش في دنيا الناس وكأن له دنيا وحده؛ يرى فيها ما لا يرون ويسمع ما لا يسمعون: يرى في كل مشهد جمالاً، وفي كل جمال حلماً فاتناً يستغرق فيه مسحوراً، ويدرك من لذاذاته ومتعه ما لا يعرفه إلاّ مَنْ سمع حديث الجمال ووعاه بأُذن قلبه، وأمضى لياليه حالماً سادراً في أحلامه، فإذا صحا لم يجد ما يترجم به عن نفسه إلاّ لغة ضيقة قاصرة خُلقت للتعبير عن حاجات الأرض لا لوصف أحلام السماء! وماذا تصنع لغة لا تعرف للجمال كله -على ما لَه من الصور التي لا تنتهي والمعاني التي لا تنفد- إلا كلمة واحدة هي كلمة «الجمال»؟ وأنّى لها أن تترجم عن عالَم كله حياة وقوة وسحر؟ وكيف تقنعه وللجمال في عينيه صحائف يقرأ منها كل يوم جديداً؛ فلكل وجه جمال لا يقاس به غيره ولا يشبهه سواه، ولكل مقلة جمال، ولكل بسمة ولفتة، ولكل رنة صوت ولكل ومضة ثغر، ولكل واد وجبل ولكل سهل ونهَر، ولكل مقطوعة من الشعر وكل صورة في المتحف وكل زهرة في الروض، ولكل رائحة وكل نغمة ... فجمال ريا الياسمين، وجمال أريج الورد، وجمال عبق الزنبق، وجمال رَوْح الفُلّ، وجمال البَيَات والرصْد والحجاز والصَّبا، والعود والقانون والناي والكمَان، وجمال القصة المؤثرة والحكمة المتخيَّرة، وما شئت وما لم تشأ من أنواع الجمال في الوجود ... كل أولئك ليس

له في هذه اللغات البشرية إلاّ لفظ واحد يدل عليه ويشير إليه ... يا ما أفقر لغات البشر! وكان تذوُّق الجمال يهيج في نفسه الأدب، والأدب هو البثُّ، فلا تتمّ له متعة ولا يحلو له نعيم حتى يُشرك الناس معه في نعيمه. وكذلك الأديب؛ يجود على الناس بأعزّ شيء عليه: بشعوره وعواطفه، فيفتح لهم نفسه ويكشف لهم عن سرائره ولا يستأثر دونهم بشيء، فهم معه في ألمه وسروره ويأسه وأمله، يتلو عليهم نبأ حبه وبغضه وحركاته وسكناته، فيشاركونه حياته، ثم يقولون: عجباً لهذا الغبيّ الثرثار الذي لا يفتأ يتحدث عن نفسه، ولا ينفك مزهوّاً بها زهو الديك بريشه، مالئاً الصحائف بأخبارها، كأنّ الناس لا همَّ لهم إلاّ أن يسمعوا خبرها! ما درى الظالمون أنهم يتهمون بالأثَرة رجلاً هو أول المُؤْثِرين! وكان ينقل ما يحس به من معاني الخلود إلى لغة الفناء، فلا يبقى منه إلاّ الأقل الأقل، ثم يعدُّه للنشر فيضيع أكثر جماله الباقي بين مراعاة آداب المجتمع وقوانين النشر وأذواق الناشرين ونزعات القارئين، ثم ينشر فإذا هو يرضي القراء، وإذا منه المعجِب المطرِب المقيم المقعِد، ولكنه لا يرضى عنه ولا يُعجب به، لعلمه بأن خير ما كتب ما (¬1) لم يعبّر عنه بلفظ ولم يجرِ به قلمٌ على قرطاس ... وما كان يا سيدي ليفخر أو ليزهى، وإنه لأعرف الناس بنفسه وعيوبها وأدبه ونقائصه، ولكنك فتحت عليه باباً للذكريات أعياه الليلة سدُّه، وقد كان قبل اليوم مسدوداً. ¬

_ (¬1) ما هنا اسم موصول وليست نافية (مجاهد).

وذو الشوقِ القديم وإنْ تسلّى ... مَشوقٌ حين يلقى العاشقينا وإنه لواحد ممّن وأَدَ هذا المجتمع ما كان لهم من ملكات ... كانت له «نفس» فماتت، أفما يُترَك ليرثي -يا قوم- نفسه؟ يذهب مال الرجل فيبكي ماله، ويُحرق بيته فيندب بيته، وتودي تجارته فيُعْوِل على تجارته، ويهجره حبيبه فيأسى على فقد حبيبه ... وتموت نفسه ويجِفُّ في حلقه لسانه فلا يُطلَق ليبكي نفسه وينوح على بيانه؟! * * * في أصيل يوم من أيام الخريف من سنة 1928 وقف حيال جسر الزمالك في القاهرة شاب شارف العشرين من عمره، كان في السنّ التي يعيش فيها المرء للهوى والأحلام، فنظر إلى النيل مرة وإلى الفضاء الأرحب مرة، فذكّره الأفق البعيد المتّشح بأنوار الغروب بحلّته المنسوجة من خيوط الشمس بلداً له حبيباً إلى نفسه، هو أضوأ في عينيه من الأفق الذي توارى وراءه، وأمّاً له وإخوة كانوا هم جمال هذا البلد، وملاعب الصبا، ولِدات الطفولة ... ذكر دمشق، وكان له في كل بقعة منها ذكرى هي قطعة من حياته، وما حياة المرء إلاّ الذكريات! ذكرَ سفحَ قاسيون الأنيس وصخوره الضاحكة ضحك الجبروت، والربوةَ منبت الحبّ ومثوى الأماني، والغوطةَ جنة الدنيا وبستان الأرض، والميزانَ والشاذروان، والمِزّة وكيوان ... فهاج نفسَه الشوقُ وأثارها الحنين، فنسي مقعده في دار العلوم العليا، ونسي المطبعة السلفية في شارع الاستئناف التي تشرف فيها بلقاء الأعلام من علماء العصر من

أصدقاء خاله الكريم محب الدين: تيمور باشا والرافعي وأحمد أمين وعزام والخضر التونسي والغمراوي، ونسي جمعية الشبان المسلمين عند دار النيابة، وولّى وجهه شطر المحطة، فلم تكن إلاّ ساعات حتى كان هذا الفتى يودع القاهرة التي دنت له فيها الأماني ويركب متن الشوق إلى البلد الحبيب، لم يدرِ أنه ودّع -يوم ودّع مصر- مستقبله الأدبي ومجده، ونبوغه واستعداده، وفارق الأرض الخصبة الريانة يحمل بذوره لينثرها على الصخر الصلد ويرجو لها النبات! وترك القاهرة ورجع إلى البلد الذي يموت فيه الأديب، وكان ذلك أولَ سطر في صفحة شقائه! هذا الشاب الذي كان يتدفق حياة، ويتوثب نشاطاً، والذي كان له في كل ميدان جولة وكان في كل معمعة فارسها المعلم، والذي عمل للأدب وللإصلاح، وللسياسة وللصحافة، وللتعليم وللتصنيف، والذي عرفته العراق وعرفها، وأحبها وأحبه تلاميذه فيها، وبقي فيهم من يفي له ويذكر عهده وبقي هو وفياً للعراق ذاكراً عهدها. وكان شأنه في لبنان كشأنه في العراق، والذي مشى إلى الحجاز، وكان له في كل بلد أثر في نفوس أصدقائه وفي قلوب الآلاف المؤلفة من تلاميذه، الذين ما انفكّ يوليهم من نفسه وقلبه حتى لم يبقَ له نفس ولا قلب ... هذا الفتى أعادته الأيام بعد هذا كله شيخاً ولم يبلغ الأربعين، ميتاً يمشي مكفَّناً في جبة، وضُيّقت رحاب نفسه حتى أحاطت بها مواد القانون، وحطمت قلمه فتعثر فهو لا يجري إلاّ في حيثيات القرارات وصيغ المخالفات، وصَغُرت دنياه حتى صارت تحدّها جدران المحكمة الأربعة ... فماذا -يا سيدي- يرجى منه بعد هذا؟

قضى عليه بلده الذي أحبه وفارق من حبه مصر بعدما بسم له فيها المستقبل عن ثنايا بوارق، ولو أنه بقي في مصر، ومصر (موطن أسرته الأول) تعرف للأدب حقه وللأدب منزلته، لكان منه اليوم «شيء»! على أن مصر -إن أردت الحق- لا تحب إلاّ أبناءها ولا تبسم إلاّ لهم، وترى واحد الأديب المصري مئة، ومئة غيره لا تساوي عندها واحداً. وإلاّ فخبّرني بالله: لمَ يحتفل نقّادها بأصغر كتاب يصدر فيها ويشتغلون بالكلام عنه الأيام الطوال، ولا يخطّون كلمة ثناء أو نقد للكتاب القيم يصدر في بر الشام أو في العراق؟ وما له يعتب على مصر، وهذا بلده طاشت فيه الموازين وانقطعت الأسلاك وتبلبل الرأي، واختلط الحابل بالنابل والمتحليات بالعواطل، حتى إن الصحف لتجمع على مدح الكتاب وتقريظه وتهلل للشعر الجديد وتصفق، وما ثَمّ إلاّ منكَر من القول قد صيّروه معروفاً، أو ثقيل بارد استحبّوه أو غثّ متهافِت رأوه قوياً بليغاً؛ كأن الأدب صار لهواً وعبثاً، وكأن العربية انحلّت عُقَدها ولم يبقَ لها هذا «الكتاب» تعتصم به، فيحفظ عليها وحدتها ويكون بين أولها وآخرها السببَ الموصول والحبل المتين، فقديمها به حديث أبداً نفهمه اليوم ونتذوقه، وحديثها به قديم لو نشر الله العرب الأولين لفهموه وتذوقوه ... وكأن الأديب هو من ينزع عن جسمه جلدَه ليلبس جلداً مصنوعاً في المعامل التي هي (هناك)، ومن يود لو خلع رأسه ليركّب له رأساً فيه عقل من (هناك)، والذي يفرق بالجهات بين الحق والباطل، فما جاء من حيث تشرق الشمس كان باطلاً كله ولو كان الدينَ والأخلاق والشرف، وما جاء من حيث تغيب فهو

حق كله ولو كان الكفر والفسوق والعصيان! وحتى إن هذا البلد لينكر الأديب الصريح الثابت النسب الموصول السبب، ويحفل بكل لصيق دعيّ ... ولكن هل يشكو امرؤ بلدَه وأهله؟ بلادي وإن جارَتْ عليّ عزيزةٌ ... وأهلي وإن ضنّوا عليّ كِرامُ فلا عليكِ يا دمشق ما صنعتِ بمَن لم يكد يحبك أحدٌ مثلما أحبك، ولم يصف من جمالك كاتبٌ مثلما وصف ولا أشاد بذكرك مثلما أشاد، وهذي صديقتنا «الرسالة» أخت «الثقافة» شاهدة على ما يقول؛ لا يمنُّ ويؤذي بالمن، ولكن يعاتب ويشكو. * * * ولئن كتب الله لهذا «الميت» ولادة أخرى (والمرء يولَد فيه كل يوم رجل جديد ويموت رجل قديم) وأعاده إلى الحياة، فليضربنّ إن شاء الله في سماء الأدب بجناحَين مبسوطين، وليطلعن على آفاق لم يرها من قبل، وليحدّثنّ قراء «الثقافة» حديثاً هو أحلى من مناجاة الحب وحديث القلب، وإلاّ يُكتَبْ له ذلك فعليه رحمة الله، وما ضر الناس بفقده (شيئاً)! وهذا اعتذار تضمنته شكوى، فانشره يا سيدي مشكوراً، أو فدَعْه غيرَ ملوم: ولا بُدّ مِن شكوى إلى ذي مروءةٍ ... يُواسيك أو يُسْليك أو يَتَوجّعُ والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. * * *

جواب الأستاذ أحمد أمين رحمه الله: أرسلت «الثقافة» إلى الأستاذ الأديب الدمشقي ترجوه الخروج عن صمته والعودة إلى تلحينه، وقد عرفت منه كاتباً قديراً وأديباً متفنناً، فبعث بهذا الكتاب وأباح لنا نشره. ولعل هذا يكون سبباً باعثاً للأستاذ أن ينفّس عن نفسه، ويستعيد قلمه ويمتع القراء بآثاره، ويتحرر من الدنيا الضيقة التي يعيش فيها بين القضايا وكتب القانون وحيثيات الأحكام إلى الدنيا الواسعة، دنيا العواطف ودنيا الناس ومنازعهم ومشاكلهم وإصلاحهم، فما خُلق الأديب وَقفاً على مثل هذه الدنيا الضيقة. والأستاذ يعتب على المجلات المصرية أنها تشيد بالتافه من نتاج مصر ولا تشير إلى الجيد من نتاج الأقطار الأخرى كالشام والعراق، وقد سمعنا هذه الشكوى مراراً، وقد يكون فيها شيء من الحق، ولكن أكبر الظن أنه إهمال غير مقصود، ولعلّ كتّاب الشام والعراق يحملون كثيراً من التبعة، فالكتب الشامية والعراقية تظهر بين أظهرهم وهم أعلم الناس بها وبملابساتها وبقيمتها، فلو كتبوا عنها ونقدوها نقداً قيماً وعرّفوا بها تعريفاً صحيحاً لما تأخرت المجلات المصرية عن نشر مقالاتهم ومشاركتهم في الإشادة بالآثار القيمة منها. و «الثقافة» على الأقل تلتزم هذا وتتعهد به، وتعتقد أنها بذلك تسد نقصاً واضحاً فيها وفي سائر المجلات، وهو عدم إيفاء باب النقد حقه، سواء أكان النتاج مصرياً أو عراقياً أو شامياً. وفي انتظار مقالات الأستاذ نحييه ونشكره. * * *

الشفاء

الشفاء نشرت سنة 1936 كان مصاباً بالسل، ولكنه سل غريب قاتل؛ لم يكن في الرئة ولا في الأمعاء، بل كان في النفس، في الفكر، فكان يعطل شعوره وتفكيره ويخنق حياته ويهد كيانه ... كان مصاباً بـ «داء الحب». خمدت جذوة قريحته، وتعطلت ملكاته كلها، وضاع ذكاؤه وبادت فطنته، وضاق كل شيء في نظره فأصبح يراه مقتضباً مختصراً: المسرات كلها اختُصرت في لقاء مَن يحب، والآلام في فراقه، والواجبات كلها في إرضائه، والمحرمات كلها في إغضابه، واختصر كتاب حياته وطمس اسمه وعنوانه، فكان حاشية صغيرة على هامش حياة التي يحبها، واختصرت الدنيا الطويلة العريضة المليئة بالفضائل والأمجاد، الفياضة بالجمال والحقيقة والخير، فكانت كلها هذه المرأة! وأقهَمَ عن الطعام واجتواه (¬1)، وأصبح خالفاً لا يشتهيه ¬

_ (¬1) اجتوى الطعام: كرهه، وأقهم عنه: لم يشتهه لعلة أو مرض (مجاهد).

ولا يميل إليه، وإذا اضطر أكَلَ أكْلَ من قزَّت نفسه واكتفى بلُقيمات ما يقمن صلبه، كأنّ هذا المرض لا يرضيه ما يفسد من النفس حتى يحطم الجسم! وأصابه الأرق، فأمسى يبيت ليله سهران مسهَداً، وإذا رنق النوم في عينيه (¬1) وغلبته حاجة جسمه خفق خفقة ثم أفاق فَزِعاً، يفكر في هذا الإنسان، يخاف أن يطير مع الأنفاس، أو يسيل مع الدمع، أو يغْرق في بحر عينيه! فهَزُلَ جسمه وخارت قواه وتراخت مفاصله، وشحب وجهه، وآض ساهماً رازماً، ضعيفاً مُخَبْخَباً (¬2)، ولم يعد يعيش إلاّ على المجاز؛ يعيش بذكرى أيامه الماضية قبل أن يصيبه هذا السل، أيام كان ذا جسم قوي وفكر ثاقب وقلب شاعر ... ولم يعد ينتفع بنفسه أو ينتفع بها الناس بشيء، لأنه أصبح لا لنفسه ولا للناس ولا للحياة، ولكن لإنسان واحد يحبه. وهكذا الحب أبداً: مرض في الجسم، وضيق في الفكر، وفرار من حومة الحياة! * * * وكان أمس، وكان يوماً من أيام الخريف في بغداد، هبت فيه الرياح خرقاء هوجاء مُعصِفة، تُذَعذع (¬3) الأشجار، وتثير الأوراق، ¬

_ (¬1) رنّقَ النومُ في عينيه: خالطهما ولم ينم (مجاهد). (¬2) نقول: رزمَ فلان إذا قام فلم يقدر على الحركة من الإعياء أو إذا كان قائماً فسقط من الإعياء والهزال، وتخبخب: هزل بعد سمن (مجاهد). (¬3) أي تميل.

وتكسر الأغصان، وتمتد إلى كل شيء في الطبيعة فتعيث فيه وتعبث به، وتدفعه من ههنا وههنا ... معتكرة تسفي التراب وتحمل هذا الغبار الناعم الدقيق (¬1) الذي يملأ الجو ويخالط كل ذرة من ذرات الهواء، وينتشر في السماء كمثل السحاب، يمنع الشمس ويحجب المرئيات، ولا يمنع منه شيء، فهو يدخل الغرف مهما أحكمت إغلاق الباب وضبطت النوافذ، وينفذ من خلال الثياب مهما كانت حصيفة محكمة، ويخش (¬2) في العيون والمناخر والآذان وفي أصول الشعر، ويمر إلى أجواف الصناديق وبطون الخزائن وقلوب الساعات ... بل إنه -لدقته وخفته وسرعته- ليكاد يدخل في نفسه! وكان على صاحبنا أن يغدو إلى عمله في بغداد، وكان ينزل ضاحية من ضواحيها، فتردد ثم لم يجد من الأمر بداً، فتحزّم وتدثّر وتعطّف بمعطفه الثخين، والْتَحَفَ فوقه بالمِمْطَر (المشمّع) يتقي به المطر، ولف شَملة على عنقه، ولبس قفازيه، وأخذ عصاه فتوكأ عليها، وسار الهوينى لا يطيق حراكاً؛ لكثرة ما يحمل من ثياب، ولطول الطريق وشدة الرياح، وما به من الضعف والإعياء. * * * وكان وحده في طريق (الصُّلَيْخ)، لم يجد سيارة يركبها ولا قوماً يصحبهم، فنزل ماشياً. وكان الطريق طويلاً على طرفيه النخيل تعبث به الرياح، فتميل بجذوعه وتحرك أغصانه فتفرقها ¬

_ (¬1) ويسمونه «الطوز»، واللفظة أصلها تركية. (¬2) قال في القاموس: خششت في المكان دخلت.

ثم تجمعها، فتبدو كأنما هي مراوح ضخمة تحركها يد لا تُرى فتُروِّح بها على وجه الدنيا، وكانت تظهر أوائلها وتغيب أواخرها في هذا السحاب الترابي الذي يغطي على كل شيء ويصل الأرض بالسماء، فترى الطريق كأنه صاعد إليها، أو تراها كأنها هابطة إليه! وكانت الرياح زَعْزَعاً (¬1) شديدة، تميل بالأشجار وتعصف بالغصون، ولم يكن ثابتاً وسط الرياح إلا صاحبنا بعصاه وضَعفه وأحماله ... ولَحَظَ ذلك من نفسه، وأعجبه أن يلحظه ويفكر فيه، وعراه شيء من الاعتداد بالنفس، وازداد حتى ملأه الشعور بقوّته، فجعل ينظر في عِطْفيه زهواً وتيهاً، وجعل يتأمل دخيلته ويفكر في نفسه: مَن هو؟ وما هذه الحياة التي يحياها؟ ... واشتدت الرياح وعزفت، ثم صفرت صفيراً، فلم يبالِ بها ولم يحفلها، لأنّ زوبعة أخرى أشد هولاً قد هبّت في نفسه ... تنطح هذا الجبل وتريد أن تنسفه. فوقف يفكر: لماذا يضيّق حياته بيده؟ لماذا يعطل فكره وملكاته؟ أكل ذلك لأنه وجد إنساناً جميلاً ظن أنه يحبه؟ لتكن جميلة أو قبيحة، ما شأنه هو بها؟ ومَن قال إنه لا يعيش إلاّ بها؟ ماذا كان يصنع قبل أن يعرفها؟ ألم يكن يعيش؟ ألم تكن حياته أجمل وأحفل بالعظائم وأملأَ بالفضائل؟ هل كان هذا الحب إلاّ مرضاً عُضالاً هدَّ جسمَه ومحا مواهبه وفلَّ عزيمته، وأقام بينه وبين الحياة سداً من لحم ودم؟ ¬

_ (¬1) الريح الزَّعْزَع هي الريح الشديدة، ومثلها الزّعازِع (بضم الزاي الأولى وفتحها) (مجاهد).

يا للسخف! أيحكم على نفسه بالألم الدائم والقلق المستمر، ليحظى ذلك الإنسان بالسرور والاطمئنان؟ أيوجب على نفسه الشحوب لأنها مورّدة الوجنتين؟ أيختار المرض والهزل لمجرد أنها صحيحة بضّة؟ ... يا للخجل! ألا يرى الدنيا إلاّ في عيني هذا الإنسان؟ أيقنع من السعادة والمجد والعلم والبطولة والدفء والنور والحياة بابتسامة واحدة؟ وبدا له الحب كأسخف شيء يكون! * * * وكانت الدنيا قد استُطير لبها وجُنَّ جنونها، وهطلت الأمطار سريعة قوية تضرب وجهه ... فأحس بالقوة والنشاط، وجعل ينشق ملء رئتيه وتبرق عيناه بريق العزم، ثم ألقى عصاه وشملته ونزع عنه هذه الأحمال من الثياب ... وانتفض وضرب الفضاء بقبضتيه، وصاح صيحة الفرح: قد شُفيت! ثم انطلق نحو الدنيا الواسعة ... لم تعد محرَّمة عليه، لأنه لم يعد يحب! * * *

الوحدة

الوَحدة [«... إن كل عناء في الحياة مصدره أننا نحيا منعزلين، وكل ما نبذل من جهودنا لا نريد به إلاّ الفرار من هذه العزلة». جي دوموباسان] نشرت سنة 1937 ما آلمني شيء في الحياة ما آلمتني الوَحدة. كنت أشعر -كلما انفردت- بفراغ هائل في نفسي، وأحس بأنها غريبة عني ثقيلة عليّ لا أطيق الانفراد بها، فإذا انفردت بها أحسست أن بيني وبين الحياة صحارى قاحلة وبِيداً ما لها من آخر، بل كنت أرى العالم في كثير من الأحيان وحشاً فاغراً فاه لابتلاعي، فأحاول الفرار، ولكن أين المفرُّ من نفسي التي بين جنبيّ ودنياي التي أعيش فيها؟ إن نفسي عميقة واسعة، أو لعلي أراها عميقة واسعة لطول ما أحدق فيها وأتأمل جوانبها، فتخيفني بسعتها وعمقها ويرمضني أنه لا يملؤها شيء مهما كان كبيراً ... وهذا العالم ضيق، أو لعلي أراه ضيقاً لاشتغالي عنه بنفسي وشعوري بسعتها، فأراه يخنقني بضيقه. إني أجمع العالم كله في فكرة واحدة أرميها في زاوية من

زوايا نفسي، في نقطة صغيرة من هذا الفضاء الرحيب، ثم أعيش في وحدة مرعبة أنظر ما يملأ هذا الفضاء. إني كلما انفردت بنفسي، فتجرأت على درسها والتغلغل في أعماقها، بدت لي أرحبَ وأعجب. فما هذا المخلوق الذي يحويه جسم صغير لا يشغل من الكون إلاّ فراغاً ضيقاً كالذي يشغله صندوق أو كرسي ... ويحوي هو «المكان» كله، ويشمل «الزمان»، وينتقل من الأزل إلى الأبد في أقل من لحظة، وينتظم «الوجود» كله بفكرة، وتكاد الحياة نفسها تضل في أغواره؟ من المستحيل أن نفهم هذا المخلوق الذي ندعوه «النفس»، لذلك نخاف الوحدة ونفرّ منها. إننا نخشى نفوسنا ولا نستطيع أن ننفرد بها، فنحب أن نشتغل عنها بصحبة صاحب أو حب حبيب أو عمل من الأعمال ... ونخشى الحياة، ونحب أن نقطعها بحديث تافه أو كتاب سخيف، أو غير ذلك مما نملأ به أيامنا الفارغة. وإذا نحن اضطررنا مرة إلى مواجهة الحياة ومقابلة الزمان خالياً من أُلهية نلهو بها -كما يكون في ساعة الانتظار- مللنا وتبرمنا بالحياة وأحسسنا بأن الفلك يدور على عواتقنا. أفليس هذا سراً عجيباً من أسرار الحياة: يكره المرء نفسه ويخشاها وهي أحب شيء إليه، ويفر منها ... ويضيق بحياته وهي أعز شيء عليه، ويسعى لتبديدها وإضاعتها؟! * * * عجزت عن احتمال هذه الوَحدة وثقل عليّ هذا الفراغ الذي أحسه في نفسي، فخالطت الناس واستكثرت من الصحابة. فوجدت في ذلك أنساً لنفسي واجتماعاً لشملي، فكنت أتحدث

وأمرح وأمزح وأُضحك وأَضحك، حتى ليظنني الرائي أسعد خلق الله وأطربهم، بَيد أني لم أكن أفارق أصحابي وأنفرد بنفسي حتى يعود هذا الفراغ الرهيب وترجع هذه الوحدة الموحشة. انغمست في الحياة لأملأ نفسي بمشاغل الحياة وأُغرق وحدتي في لجة المجتمع، واتصلت بالسياسة وخببت فيها ووضعت وكتبت وخطبت، فكنت أحسُّ وأنا على المنبر بأني لست منفرداً وإنما أنا مندمج في هذا الحشد الذي يصفق لي ويهتف ... ولكني لا أخرج من النديِّ ويرفضُّ الناس من حولي وأنفرد في غرفتي حتى يعود هذا الفراغ أهول مما كان، وترجع الوحدة أثقل؛ فكأنما ما نقصت هناك إلا لتزداد هنا، كالماء تسد مخرجه فينقطع، ولكنك لا ترفع يدك حتى يتدفق ما كان قد اجتمع فيه ... فماذا يفيدني أن أُذكر في مئة مجلس أو يمر اسمي على ألف لسان، وأن يتناقش فيّ الناس ويختصموا، إذا كنت أنا في تلك الساعة منفرداً مستوحشاً متألماً؟ وجدت الشهرة لا تفيد إلاّ اسمي، ولكن اسمي ليس مني ولا هو (أنا)، فأحببت أن أجد الأنس بالحب وأن أنجو به من وحدتي، فلم أجد الحب إلاّ اسماً لغير شيء، ليس له في الدنيا وجود، وإنما فيها تقارب أشباح: أُعانقُها والنفسُ بعدُ مَشوقَةٌ ... إليها، وهلْ بعدَ العِناقِ تَدَانِ؟ وألثُمُ فاها كي تزولَ صَبابَتي ... فيشتَدُّ ما أَلقى من الهَيَمانِ كأنّ فؤادي ليس يَشفي غليلَه ... سوى أن يرى الرّوحينِ تلتَقِيانِ ولكن أنى تلتقي الأرواح؟ وأين هذا الحب الجارف القوي

الخالص الذي يأكل الحبيبين كما تأكل النار المعدن ثم تخرجهما جوهراً واحداً مصفّى نقياً ما فيه «أنا» ولا «أنت»، ولكن فيه «نحن»؟ فنفضت يديّ من الحب، ويئست من أن أرى عند الناس الاجتماع المطلق، فعدت بطوعي أنشد الوحدة المطلقة. * * * صرت أكره أن ألتقي بالناس، وأنفر من المجتمعات، لأني لم أجد في كل ذلك إلاّ اجتماعاً مزيفاً: يتعانق الحبيبان، ولو كُشف لك عن نفسيهما لرأيت بينهما مثل ما بين الأزل والأبد، ويتناجى الصديقان ويتبادلان عبارات الود والإخاء، ولو ظهر لك باطنهما لرأيت كلاًّ منهما يلعن الآخر، وترى الجمعية الوطنية أو الحزب الشعبي، فلا تسمع إلاّ خطباً في التضحية والإخلاص ولا ترى إلاّ اجتماعاً واتفاقاً بين الأعضاء، ولو دخلت في قلوبهم لما وجدت إلاّ الإخلاص للذات وحب النفس وتضحية كل شيء في سبيل لذة شخصية أو منفعة! وجدتني غريباً بين الناس، فتركت الناس وانصرفت إلى نفسي أكشف عالمها وأجوب فيافيها وأقطع بحارها وأدرس نواميسها، وجعلت من أفكاري وعواطفي أصدقاء وأعداء، وعشت بحب الأصدقاء وحرب الأعداء! * * * إنّ مَن حاول معرفة نفسه عرضت له عقبات كَاداء ومشقات

جِسام، فإن هو صبر عليها بلغ الغاية. وما الغاية التي تطمئن معها النفس إلى الوحدة، وتأنس بالحياة، وتدرك اللذة الكبرى؟ ما الغاية إلاّ معرفة الله. وسيظل الناس تحت أثقال العزلة المخيفة حتى يتصلوا بالله ويفكروا دائماً في أنه معهم وأنه يراهم ويسمعهم؛ هنالك تصير الآلام في الله لذة، والجوع في الله شبعاً، والمرض صحة، والموت هو الحياة السرمدية الخالدة. هنالك لا يبالي الإنسان ألاّ يكون معه أحد، لأنه يكون مع الله. * * *

ذكريات

ذكريات نشرت سنة 1937 هما موقفان لا أزال أذكرهما، أو تغمض عيني كف الغاسل: أما الأول فعلى ضفاف بردى، في الثامن والعشرين من أيلول 1926. وأما الثاني فعلى شاطئ دجلة، في الخامس من أيار 1937. * * * كان بردى يخطو على مهل متهللاً منطلق الوجه، يردّ على الشمس الوليدة أولَ تحياتها وهي تغمره برشاش من عطر أشعتها الحمراء ... وكنت في السيارة الفخمة، أنظر إلى جموع المودّعين من الصحب والرفاق، الذين خرجوا من بيوتهم في هذا الصباح ليودّعوني قبل نزوحي إلى العراق، فأقلب النظر في وجوههم شاكراً لهم فضلهم حزيناً لفراقهم، ثم أتأمل بردى صديق الصبا وسمير الوحدة ونجيّ النفس، فأبصر في خلاله ظلال الحور والصفصاف تميس دلالاً وتيهاً، وأرى ظلال المآذن البعيدة السامقة تضطرب

في الماء فأبصر فيها ذكرياتي حية تطالعني وتحدّثني، وتعيد على مسمعي قصة حياتي وتتلو عليّ تاريخي، فأحس بلوعة الفراق وأشعر في تلك الساعة بأني أحب دمشق ... دمشق مثوى ذكرياتي، ودنياي من الدنيا، وغاية أملي في حياتي ... ثم يطوي المرج هذه الصور كلها ولا يدع حيال عيني إلاّ صور إخوتي، فأتأملها بعين دامعة وقلب واجف خائف من الفراق، ثم تجتمع كلها في وجه واحد، هو أحبُّ الوجوه إليّ وأدناها إلى قلبي ... وألمح في الماء مشهداً طال عليه العهد ونأى به الزمان، فأراه ينفض عنه غبار السنين العشر ويعود حياً جديداً. رأيتني في محطة الحجاز، آية الفن الحديث في دمشق، والمحطة مائجة بأهلها كما يموج البحر بمياهه؛ فمن مسافر عَجِل، ومن مودِّع باك، ومن بائع يصيح ... ومن آت وذاهب، وطالع ونازل. وكنت منزوياً في ركن من أركان القطار المسافر إلى حيفا وإلى جانبي أختي الصغيرة ... أنظر إلى بعيد، فأرى هناك، في أخريات الناس، امرأة تمسك بيديها طفلين، متلفعة بملاءة لا تبدي منها شيئاً، ولكن وراء هذا القناع الأسود عينين تفيضان بالدمع عالقتين بمكاننا من القطار، وخلال تلك الضلوع قلباً يخفق شوقاً ويسيل دمعاً، ووراء هذه الوقفة الساكنة الهادئة ناراً تضطرم في الجوف وزلزالاً شديداً يدك نفسها دكاً ... وصفر القطار الذي يحملنا إلى مصر، فازداد القلب خفقاناً واضطراباً، ثم قذف إلى الجو بدخانه كأنما هو حي قد أخذ بموقف الوداع، فزفر زفرة الحزن الدفين والألم الحبيس، ثم هدر وسار

وراحت المحطة تبتعد عنا وعيني عالقة بيد تلك المرأة التي تلوح لي بمنديل أبيض، حتى غاب عني كل شيء. هناك تلفتُّ فرأيتني وحيداً، ورأيت القطار يجدّ لينأى بي عن أهلي وبلدي، فهممت بإلقاء نفسي من نافذة القطار ... لولا أن تعلقت بي أختي التي كانت على صغرها أكبر مني، وعلى أنوثتها أقوى وأجلد! أردت أن ألقي بنفسي لأني لم أكن أتخيل أن في استطاعتي الحياة يوماً واحداً بعيداً عن أمي، التي كان تعلقها بنا وتعلقنا بها لا يشبه ما نرى من الأمهات والأبناء، وكان ... آه، ماذا تفيد «كان»، وقد كان ما كان؟ تلك هي أمي التي مرَّ على «غيابها» عني سنوات طوال، ولكني أحسُّ كأن الحادثة كانت أمس، فتحز في نفسي ولا أطيق أن أكتب عنها حرفاً. تلك هي أمي التي كانت لي أماً وأباً بعد أبي رحمهما الله، وكانت حبيبة، وكانت أستاذة، وكانت دنياي، وكانت آخرتي ... وكانت أمي. تلك هي أمي التي فوجئتْ كما تُفاجَأ الشجرة الغضة الفينانة في ربيعها الزاهر، حين تعصف بها العاصفة فتدعها جذعاً مقطوعاً جافاً. تلك هي أمي التي ما نسيتها -علِمَ الله- أبداً، ولم أذكرها أبداً! إنها تملأ نفسي ولكني لا أجري ذكرها على لساني. أراها

في أحلامي حية فأشعر كأني عدت حياً وأهم بعناقها، وأفتح عيني فأجد على وجهي حَرّ لطمة الدهر الساخر، ولكني أحمل اللطمة وأغضي على القذى، ولا أخبر إخوتي بشيء لئلا أذكّرهم ما هم ناسون أو أجدّد لهم بالمصيبة عهداً، فأهمل ذكرى أمي ويهملونه ... ولعلّ كل واحد منهم يحسُّ مثلما أحس ويكتم مثلما أكتم! ذكرت ذلك ساعة الوداع لأني كنت متألماً، وليس لآلامي كلها إلاّ معنى واحد هو أني أذكر وفاة أمي، ذلك هو الألم عندي لا ألم سواه. فلما صحوت نظرت في وجوه المودّعين فلمحت وجه أمي مرة ثانية، ولكني لمحته حياً ماثلاً في وجوه إخوتي الأحباء. فودّعته بدمعة من العين وابتسامة على الفم وإشارة بالكف، ثم سارت بنا السيارة تطوي الأرض وتستقبل الصحراء ... ذلك هو الموقف الأول! * * * أما الموقف الثاني فقد كان على شطّ دجلة في الهزيع الأول من الليل، وكانت محطة بغداد الغربية زاخرة بعشرات من خير شباب بغداد وزهرة فتيانها، تركوا دروسهم وامتحانهم القريب وخرجوا من دورهم في هذا الليل ليودّعوا صديقاً أحبهم وأحبوه وأخلصوا له الحب وأخلص لهم ... ذلك الصديق هو أنا، وأولئك هم تلاميذي، بل إخوتي، جاؤوا يودّعونني لا قياماً بواجب رسمي

ولا رغبة في ثواب ولا رهبة من عقاب، ولكن وفاء وحباً. والحب أجمل ما في الوجود والوفاء أقدس ما فيه بعد الإيمان ... وكنت مستنداً إلى نافذة القطار الذي سيحملني إلى البصرة، أصغي إلى خطبهم وأشعارهم التي صبوا فيها عواطفهم وكتبوها بمداد قلوبهم، أتأمل فلا أرى -والله- إلا بردى ودمشق وإخوتي. وغبت عني في شبه ذهول، فما انتبهت إلاّ وأنا وحيد في القطار. أضم إلى قلبي هذه الهدية التي قدمها إليَّ تلاميذي. وأطللت من النافذة فلم أجد إلاّ الظلام ... * * * لما دخلت عليهم الصف أول مرة كنت مشتاقاً إلى بلدي كارهاً لغربتي متألماً ملتاعاً، فلم أرَ في الصف إلاّ عيوناً جامدة وقلوباً معرضة وأفواهاً مغلقة، وكانوا عندي من العدم لأنه لم يكن لهم في ذاكرتي وجود. ولكن لم ألبث أن وضعت بين أيديهم قلبي فأحببتهم كما يحب الأخ أخاه (أحبهم في مجموعهم لا أحب واحداً منهم ...)، وأخلص لهم، وأحرص على رضاهم، وأحس الفرح يغمر نفسي إذا قدمت لواحد منهم خيراً أو درأت عنه شراً، ويتصدع فؤادي إن وجدت أحدهم متألماً، فلا أني (¬1) أخفف ألمه وأدفع عنه حزنه، وكنت أعيش بهم ولهم ومعهم. ووضعت بين أيديهم رأسي أطلعهم على كل ما اختزنته فيه هذه السنين الطوال؛ أستغل أضعف المناسبات لأطلعهم على ¬

_ (¬1) من وَنَى يَنِي.

جمال الأدب العربي، وعظمة التراث الإسلامي، وقيمة التفكير الحديث، واتجاه النقد الجديد. وأعلّمهم الاستقلال الفكري، وأحفزهم إلى المناقشة، ولا أستغل في إقناعهم سلطة المدرّس لأن ذلك ضعف، ولكن أستعملُ قوةَ المُحقِّ ولَسْنَ الجَدِل النظّار (¬1). وأعترف لهم بالحق إذا ظهر على لسانهم، وأقر بأني لا أدري ما لا أكون أدريه ... وأبعث فيهم ملكاتهم المهمَلة، وأشجعهم على الإنتاج والنشر. وكان زملاؤنا من المدرّسين يحذرونني عواقب هذه الطريقة لأن الطلاب (في رأيهم) لا يقدّرون قيمة الحرية واللطف ويحسبونها عجزاً وضعفاً ويتخذونها سبيلاً إلى الشغب، ولكني وجدتهم يقدرون قيمتها ويحترمون المدرس العادل العالِم اللطيف أكثر مما يحترمون المدرس الجبار العنيف، ووجدت هذه الطريقة قد أجدت جَدىً كبيراً، فأقبل الطلاب على الأدب وقد كانوا عنه منصرفين، وصار أحبَّ الدروس إليهم وقد كانوا يكرهونه، ونشأ فيهم كتّاب وشعراء ونقّاد يؤمل منهم بعث الحياة الأدبية في العراق في بضع سنين. وضعت بين أيديهم رأسي وقلبي، فلما أثمرت الثمرة، ولما تحركت هذه العيون بالإخلاص وأقبلت هذه القلوب بالحب وتفتحت هذه الأفواه عن أجمل أحاديث العلم والأدب والود ... ولما مُحيت تلك الفروق كلها وزال التكلف بين المدرس ¬

_ (¬1) النظّار هو الشديد النظر، والجَدِل الذي يحسن المجادلة، أما اللَّسْن فمن قولهم: لَسَنَ فلانٌ فلاناً إذا غلبه في الملاسنة وكان أجود منه لساناً (مجاهد).

والطلاب، ولم يبق إلاّ إخوة يعيش الواحد منهم للجميع ويعمل الجميع للواحد ... جاء الأمر بنقلي إلى البصرة! * * * وها أنذا الآن في البصرة في هذه الغرفة الصغيرة، أذكر مجالسنا على شاطئ دجلة فيخفق قلبي خفقاناً شديداً، وأتمثل أمامي صورة أخي الشاعر وهو ينشدنا أعذب أشعاره التي تشبه في رقتها نسيم الماء الرخيّ اللين، وفي انسيابها دجلةَ التي خلع عليها الغروب ثوباً منسوجاً من خيوط النور فيه مئة لون ... وأذكر «ليلة المطر»؛ ليلة جلسنا في هذه الحديقة التي تنبسط وراء المطار المدني في بغداد وأمامنا الفضاء الذي يمتد إلى ... دمشق، لا يحجبه شيء، وكان مصباح المطار الأحمر القوي يريق ضوءه على الحديقة ومَن فيها فيجعلها كأنها بقعة من عالم مسحور، لا يشبهه شيء، ولكنه جميل أخّاذ يملأ النفس نشوة وسكراً، وكانت الطبيعة تبدو أمامنا كأنها لوحة خَطّتها ريشة أبرع المصورين، فهذه الحمرة العجيبة، وزرقة السماء الصافية، وسواد الليل عند الأفق، والنساء بثيابهن الملونة المبرقشة، والنادلون بقُمُصهم البيض، يمشون على الحشائش لا يسمع لهم صوت، يتكلمون همساً ... وكان النسيم رخيّاً ناعشاً، تميل منه الأزهار فتفوح من أثوابها رائحة العطر فتطفو على هذا النسيم، والأضواء البعيدة كأنها تائهة في الظلام فهي ترتجف من الخوف، وقد جمعت الطبيعة في تلك الليلة سحرها كله: صفاء السماء، وسكون الليل، والربيع الذي

زخرف هذه الحديقة ورصعها بالورد والزهر ووضع فيها خلاصة فنه ونِتاج عبقريته. وكان كل شيء عاشقاً قد سكر بخمرة الجمال وراح يحلم؛ فالصحراء الواسعة قد سكرت وتغلغلت في الظلام منفردة تحلم بالظل والماء، والسهول المجاورة راحت تحلم بربيع دائم، وعاد الأمس حياً حالماً بالخلود، وأطلّ الغد نَشوان يحلم بليلة مثل هذه الليلة. وكنت أحلم ... فما راعني وهبط بي من سماء أحلامي إلاّ ضحكة عذبة رقيقة كأنها رنين الذهب، لم أسمعها بأذني ولكني رأيتها بعيني تتدحرج طافية على وجه النسيم الأحمر حتى غاصت في الظلام الساكن، وعاد الصمت ... وكانت ضحكة عاشقين قد نسيا الوجود وما فيه وغابا في حلم حي يقظان! فهاج ذلك صديقي الشاعر، فانحنى عليّ وألقى في أذني إحدى أغانيه (الجديدة): زرعت روض شفتي بالقبل فأزهر وأينع، ولكن لم يقطفه أحد فذوى وجف. وأعددت سرير الحب في قلبي وضمّخته بالعطر، ولكن لم يهجع عليه أحد فعلاه الغبار. كأن الناس لمّا خُلقوا قُسموا أنصافاً، ثم نثروا في الحياة، فمن وجد نصفه صار إنساناً، ومن وجد غيره كان مسخاً، ومن لم يجد بقي نصف إنسان. فأين أنت يا نصفي الآخر؟

لقد ضاع النصف الذي فيه قلبي، فمَن هي التي يخفق قلبي في صدرها؟ من هي التي تنظر بعيني، وتسمع بأذني؟ من هي التي لم أرَها أبداً، ولا أرى غيرها أبداً؟ شعرت بأن أغاني الشاعر قد سَمَتْ بي إلى عالَم كله خير وجمال، وشعرت بنشوة عجيبة، وعلمت أن ما أنا فيه غاية السعادة ونهاية السمو، وإذا أنا أسمع نغمة موسيقية فاتنة عادت تسمو بي، حتى رأيت ما كنت فيه أرضاً وهذي سماء، فذكرت كلمة فاجنر: «تبدأ الموسيقى حيث ينتهي الشعر». واختلط علينا الجمال، فصار طاقة واحدة قد اجتمع فيها همس الحب وألحان الموسيقى بعبق الزهر، وأريج العطر بخيوط الأشعة وروعة الألوان، فصرنا نسمع ما يُرى، ونشم ما يُسمع، وصارت الحواس كلها حاسة واحدة ... هي حاسة الجمال! * * * وها أنذا أذكر مئات من الذكريات، وأتمثل طلابي كلهم أمامي حتى إني لأمدُّ يدي أصافحهم فلا تقبض يدي إلاّ الهواء، فأرتدّ مذعوراً وأجلس يائساً. لقد غدا هؤلاء الفتيان جزءاً مني لأنهم عاشوا في نفسي ذكريات كما عشت في نفوسهم ذكرى، فنحن مجتمعون ولو نأت بنا الديار! وها أنذا آلفُ هذا البلد الذي كرهته واجتويته، وأصبر على شظف العيش فيه من أجل هؤلاء الطلاب الذين أحبوني

هم أيضاً، وأحببتهم وتعلقوا بي، فلا يأتون المدرسة إلاّ لسماع درسي، فإن لم يكن لي درس أقاموا في بيوتهم يجِدُّون ويستعدون للامتحان، ولا يدّخرون وسعاً في إسداء يد إليّ أو دفع الألم عني ... ويحرصون على راحتي أكثر من حرصهم على نجاحهم في امتحانهم، ويفضلون كلمة مني على كلمة يقولها القانون. أصبر من أجل هؤلاء الذين أغرس الآن حبهم في قلبي لأنتزعه منه غداً وأدعه جريحاً ... أفهذه حياة المعلم؟ ماذا يبقى من قلبٍ في كل مدرسة منه قطعة؟ هنيئاً لمعلم ليس له قلب ... ويا ويل المعلم إذا كان إنساناً! * * *

مما حدث لي

مما حدث لي أذيعت سنة 1945 أنا رجل يتصورني القراء من بعيد «شيئاً» أكبر من حقيقتي، فلماذا أفضح نفسي عندهم؟ وعمَّ أتحدث إليهم، والأحاديث كثيرة، وما حدث لي يملأ كتباً؟ ثم قلت: لماذا لا أتحدث عن هذا ... عن حقيقتي في نفسي وصورتي عند القراء؟ ولي في هذا الباب طرائف عجيبة. وأنا أكتب من أكثر من عشرين سنة في جرائد الشام ومجلات مصر ولبنان كتابة شيخ مكتهل، فكان القراء يحسبونني شيخاً أشيَب الشعر محنيّ الظهر يدبُّ دبيباً، وعلى وجهه من كتابة الأيام والتجارب سطور من «الأخاديد» فوق سطور. وما كنت أحب أن أذيع هذه الطرائف لأنها لا تنفع السامعين وإن كانت قد تلذّ لهم، ولكن المحطة أرادت أن أحدّث المستمعين عن بعض ما حدث لي، مضحِكاً كان أم غير مضحك. ولا بأس فالضحك ينفع الجسم ويدفع الدم ويزيد الشهية، أما المصيبة فأن تجيء النكتة باردة لا تضحك، أو أن أكون ثقيلاً يتخفف. والثقيل إذا تخفّف صار طاعوناً ... والعياذ بالله.

سيداتي وسادتي ... مما وقع لي: أن جاءني مرة (وكنت في عنفوان الشباب أكتب في أوائل كتابتي في الرسالة عام 1933) ثلاثة من الغرباء عن البلد، لم يعجبني شكلهم ولم يطربني قولهم، فوقفت على الباب أنظر إليهم فأرى الشكل يدل على أنهم غِلاظ (¬1)، وينظرون إليّ فيرون فيّ «ولداً». فقالوا: هذه دار فضيلة الشيخ الطنطاوي؟ قلت كارهاً: نعم. فقالوا: الوالد هنا؟ قلت: لا. قالوا: فأين نلقاه؟ قلت: في مقبرة الدحداح، على الطريق المحاذي للنهر من جهة الجنوب. قالوا: يزور أمواته؟ قلت: لا. قالوا: إذن؟ قلت: هو الذي يُزار ... فصرخ أحدهم في وجهي صرخة أرعبتني وقال: مات؟ كيف مات؟ قلت: جاء أجله فمات. قالوا: عظّم الله أجركم، إنّا لله وإنا إليه راجعون، يا خسارة الأدب! قلت: إن والدي كان من أجلّ أهل العلم ولكن لم يكن أديباً. قالوا: مسكين، أنت لا تعرف أباك! وانصرفوا وأغلقت الباب، وطفقت أضحك وحدي مثل المجانين. وحسبت المسألة قد انتهت، فما راعني العشية إلاّ الناس يتوافدون عليّ فأستقبلهم، فيجلسون صامتين إن كانوا لا يعرفون شخصي، ومَن عرفني ضحك وقال: ما هذه النكتة السخيفة؟ قلت: أيُّ نكتة؟ فأخرج أحدهم الجريدة وقال: هذه، هل تتجاهل؟ فأخذتها وإذا فيها: «نعي الكاتب الـ ... كذا وكذا، علي الطنطاوي»! هذه واحدة. ¬

_ (¬1) في الشام يستعملون كلمة «غليظ» وصفاً للثقيل السّمِج (مجاهد).

ومما حدث لي أنني: لما كنت في العراق سنة 1936 نُقلت مرة من بغداد إلى البصرة إثر خصومة بيني وبين مفتش دخل على الصف فسمع الدرس، فلما خرجنا «نافق» لي فقال إنه معجب بكتابتي وفضلي، «ونافقت» له فقلت إني مكبِر فضلَه وأدبه (وأنا لم أسمع اسمه من قبل). ثم شرع ينتقد درسي فقلت: ومَن أنت يا هذا؟ وقال لي وقلت له ... وكان مشهداً طريفاً أمام التلاميذ رأوا فيه مثلاً أعلى من «تفاهم» أخوين، وصورة من التهذيب والأخلاق. ثم كتبت عنه مقالة كسرتُ بها ظهره، فاستقال و «طار» إلى بلده ونُقلت أنا -عقوبةً- إلى البصرة. وصلت البصرة فدخلت المدرسة، فسألت عن صف «البكالوريا» بعد أن نظرت في لوحة البرنامج ورأيت أن الساعة لدرس الأدب، وتوجهت إلى الصف من غير أن أكلّم أحداً أو أعرفه بنفسي. فلما دنوت من باب الصف وجدت المدرس، وهو كهل بغدادي على أبواب التقاعد، يخطب التلاميذ يودّعهم، وسمعته يوصيهم (كرماً منه) بخَلَفه الأستاذ الطنطاوي ويقول هذا وهذا ويمدحني ... فقلت: إنها مناسبة طيبة لأمدحه أنا أيضاً وأثني عليه. ونسيت أني حاسر الرأس وأني -من الحر- أحمل معطفي على ساعدي وأمشي بالقميص وبالأكمام القصار، فقرعت الباب قرعاً خفيفاً وجئت أدخل. فالتفت إليّ وصاح بي: إيه زمال وين فايت؟ (والزمال الحمار في لغة البغداديين). فنظرت لنفسي: هل أذناي

طويلتان؟ هل لي ذيل؟ ... فقال: شنو؟ ما تفتهم (تفهم)؟ أمّا زمال صحيح. وانطلق بـ «منولوج» طويل فيه من ألوان الشتائم ما لا أعرفه وأنا أسمع مبتسماً. ثم قال: تعال لمّا نشوف تلاميذ آخر زمان، وقف إحكِ شو تعرف عن البحتري، حتى تعرف إنك زمال ولاَّ لأ؟ فوقفت وتكلمت كلاماً هادئاً متسلسلاً، بلهجة حلوة ولغة فصيحة. وبحثت وحللت وسردت الشواهد وشرحتها، وقابلت بينه وبين أبي تمام ... وبالاختصار، ألقيت درساً يلقيه مثلي ... والطلاب ينظرون مشدوهين، ممتدة أعناقهم محبوسة أنفاسهم، والمدرس المسكين قد نزل عن كرسيه وانتصب أمامي وعيناه تكادان تخرجان من محجريهما من الدهشة ولا يملك أن ينطق، ولا أنظر أنا إليه كأني لا أراه حتى قُرع الجرس. قال: مَن أنت؟ ما اسمك؟ قلت: علي الطنطاوي. وأدع للسامعين الكرام أن يتصوروا موقفه! والبصرة بندقية العرب، فيها مع كل شارع قناة. فأنت إن شئت انتقلت بحراً وإن شئت سرت براً، وفيها شط العرب، لا يعدل جمالَه وأنت تخطر فيه العشيةَ بهذه الزوارق الحلوة مكانٌ في الدنيا. والبصرة كانت دارَ الأدب ومثابة الشعر ومنبع العربية، وتاريخها تاريخ البيان العربي. ولكن أيامي في البصرة كانت شقاء دائماً، وكانت إزعاجاً مستمراً. ولي فيها أحاديث مضحكات وأحاديث

مبكيات، ولولا أن أجاوز هذه الدقائق التي منحتني إياها المحطة لعرضت لأحاديثها. ولكن لا، ولك أيتها الإذاعة الشكر على أن حدّدتِ الوقت، فتركتِني أتعلل بذكريات أمسي وحدي، وأن أعيش في ماضي على هواي، لا يرقبني المستمعون ولا يشاركني لذة الادّكار أحد. * * *

مقدمة ديوان

مقدّمة ديوان (¬1) [هذه مقدمة ديوان شاعر كان لي صديقاً وكان أخاً، أنشرها كما كتبت سنة 1948 لم أبدل فيها حرفاً، وإن كانت الدنيا تبدّل الأصدقاء وتودي بالصداقات.] لقد وعدت الأستاذ أنور العطار بهذه المقدمة منذ خمس وعشرين سنة، من يوم أسمعني أول مقطوعة له. قلت له: ستصير يا أنور شاعراً كبيراً، وسأصير أنا كاتباً وأكتب مقدمة ديوانك. ولقد صار أنور شاعراً كبيراً فهل صرت أنا كاتباً؟ إنني كتبت إلى اليوم أكثر من خمسة آلاف صفحة، أنشأتها إنشاء ولم أجمعها جمعاً، ونقلتها عن قلبي لم أنقلها عن الكتب، ولكني لم أصر كاتباً، لأنني أعجز الليلة عن إنشاء أحب الفصول إليّ وأوجبها عليّ: هذه المقدمة التي وعدت بها أنور من خمس وعشرين سنة! ¬

_ (¬1) ديوان «ظلال الأيام» لأنور العطار، وتاريخ كتابتها 25 أيلول من سنة 1948 كما هو مدون في آخرها (انظر «مقدّمات علي الطنطاوي» التي جمعها ورتبها مجد مكي، أخونا الأديب البحّاثة الذي لزم الشيخ في سنيه الأخيرة فكان باراً به وله مؤنساً، ووعدَنا بكتاب سيصدره يجمع فيه نتفاً من الأحاديث والفوائد التي كانت تحفل بها مجالس الشيخ، سمّاه «مطارحات مع علي الطنطاوي» أو شيئاً كهذا، وما زلنا بانتظار هذا الكتاب) (مجاهد).

لقد قعدت لأكتبها، فأحسست أنها قد عادت لي أيامي المواضي التي افتقدتها وأيقنت أنها لن تعود، ورُفع لي الستار عن عالم كله حبٌّ وطهر وجمال، عالم عشت فيه أنا وأنور أمداً، ثم أضعناه وضللنا طريقه. عالم كان حقيقة فصار (مع الأسف) ذكرى، وكان واقعاً فغدا خيالاً، وكنا فيه فصرنا غرباء عنه، لا نراه إلاّ بقلوبنا من خلال ضباب الماضي. فُتحت عليّ أبواب الذكريات، وكرَّ عليّ هذا الماضي كأنما هو (فِلْم) حافل بكل جميل ونبيل، (فِلم) طويل عُرض في لحظات وقد تصرّمَتْ في تأليفه وإخراجه ثلاثون سنة، (فِلم) كنّا نحن أبطاله وكنا نحن ممثليه، فصرنا نرى فصوله تعرض علينا من بعيد. رأيت الفصل الأول من هذا الفلم، وكان في المدرسة الثانوية الوحيدة في دمشق، «مكتب عنبر»، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، عندما أبصرت أنور العطار أول مرة. أبصرت تلميذاً رقيق العود، دقيق الملامح، أنيق المظهر من غير أن يبدو عليه أثر الغنى، شارد النظرات، يمر في ظلال الجدران خفيف الوطء حالم الخطى، كأنه طيف يمرُّ على خيال نائم، يعتزل التلاميذ لا يكاد يثب وثبهم ولا يلعب لعبهم، فسألت عنه من يعرفه، فقال: هذا تلميذ شاعر اسمه أنور العطار. وما كنت أؤمن يومئذ بغير شعراء الجاهلية والشعراء الإسلاميين، ولا أرضى لنفسي أن أقرأ شعر المتنبي ولا يرضى ذلك لي مشايخي لئلا تفسد (قالوا) مَلَكتي، ولم أسمع -بعد- باسم شوقي ولا باسم المنفلوطي، فما أبهت لهذا الشاعر الذي اسمه أنور العطار ولا طلبت صحبته، ولا ظننت

أنه سيكون بيني وبينه اتصال، حتى كانت تلك المصادفة المسعدة التي كان لها في حياتي وفي حياته أبلغ الأثر: كانت هذه المصادفة على باب «المدرسة البادرائية» في ليلة من ليالي رمضان، أيام كان رمضان يزور دمشق حقاً وكانت تدري دمشق بزيارته وتحتفل بلقياه، وكنت خارجاً منها فواجهت أنور داخلاً إليها، فوقف يحييني ووقفت أحييه، وكلمني وكلمته، واتصل الحديث ونحن قيام تحت مصباح الشارع حتى جاء ذكر شوقي، فأنشدني قصيدة له، قرأها بصوت عذب حالم حنون، فأحسست أنه كان يمسّ بكل كلمة من القصيدة حبة القلب مني، فأحببته. وأنت تلقى المرء أول مرة فتحسّ بأنك تحبه أو أنك تكرهه، لا تدري لحبك ولا لكرهك سبباً ... سرّ ركَّبَه الله في نفس الإنسان. وفهمت منه أنه يسكن في السمَّانة، وكنت أقيم في الديمجية، فاصطحبنا. وذكرت له موت والدي في تلك الأيام، فطفق يحدثني عن موت والده وهو صغير، واجتزنا سوق العمارة (والعمارة في دمشق كحي الحسين والأزهر في مصر، إن ضاع منك رمضان ببهائه وجماله وجدته في الحسين أو في العمارة، وإن خفيت عنك معالم حسنه في كل مكان وجدتها في العمارة أو في الحسين)، ولكني ما أدركت تلك الليلة شيئاً من هذا البهاء، لقد كان ما أسمع من أنور أبهى عندي مما أرى، وجعلنا طريقنا على «الدحداح»، وهنالك، على قبر أبيه وعلى قبر أبي، وُلدت هذه الصداقة التي أثمرت شعراً ونثراً وحباً وإخلاصاً، وكانت من أسعد الصداقات. وهنالك، في مدينة الأموات، عاشت هذه المودة التي لا يستطيع أن يعدو عليها الموت، لأن الأدب أكسبها الخلود.

وكرَّتْ فصول (الفِلم) تتتالى، فرأيتني غدوت صديقه وغدا صديقي، يبثّني شَكاته وأبثه شَكاتي، ويجد في حياتي مشابه من حياته وأجد في حياته مشابه من حياتي، قد ألّف بيننا الأدب وألّف بيننا اليتم، وأننا كنا مستورين، على حالة هي فوق الفقر ودون الغنى ... حتى كأنني هو وكأنه أنا. وصار يُسمعني شعره، فأجد بواكير شاعر متمكن لا محاولات طالب مبتدئ، وأجد في هذه «البواكير» قوة في التعبير وجِدَّة في التفكير، وأبياتاً سائرة وصوراً رائعة، فهو يقول في الدموع: عَجَبي من لغةٍ غامضة ... تُطرِبُ الناسَ على شتّى لُغاها وهو بيت نبيل في مبناه وفي معناه. ويقول في وصف العمر (عمر البائس): والعمرُ يَحكي مُستغيثاً عَلا ... أنينُه ثم تولّى صداه وطفق أنور يرسل قطع الشعر، شعر القلب، تتراً (¬1). يستقيه ¬

_ (¬1) ليس في كتابة هذه الكلمة خطأ؛ إذ هي تُكتب هكذا (بالألف الممدودة) و «تترى» بالمقصورة. ولطالما نبّه جدي -في أحاديثه وكتاباته- إلى أن هذه الكلمة اسم وليست فعلاً. والحقيقة أن الناس معذورون إذ يحسبونها فعلاً (وأنا كنت من هؤلاء دهراً) لشبهة الوزن، يحسبونها من وزن «تَفْعَلُ»، ولو علموا أنها من وزن «فَعْلى» لانتفى اللَّبْس وظهر المعنى؛ فقولنا: جاؤوا تَتْرى؛ أي: متواترين (متتابعين وبينهم فجوات وفترات)، أصلها «وَتْرَى»، واللغتان فيها صحيحتان: بالتنوين وبتركه، ففي قوله تعالى {ثُمّ أرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرَى} قرأ أبو عمرو وابن كثير: {تترىً} منوَّنة (ووقفاً بالألف) وقرأ سائر القرّاء:=

من معين صاف لا ينضب، فتتناقله الألسنة وتمشي به الصحف، وتستقبل فيه العربيةُ شاعراً جديداً ملهَماً، ويفتح له أستاذنا محمد كرد علي أبواب المَجمع، فيقيم له ولإخوانه الثلاثة (¬1) حفلة تكريمية ينشد فيها أنور قصيدة من الشعر الجيد عنوانها «الشاعر»، يحسن اختيار موضوعها وألفاظها ومعانيها، وتشق له هذه القصيدةُ الطريقَ إلى مجلة «الزهراء» التي كان يصدرها في مصر خالي محب الدين الخطيب، والتي كانت أرقى مجلة أدبية في تلك الأيام. وكنت أودُّ أن ينشرها الشاعر في هذا الديوان (الذي لم يضمَّ إلاّ الأقل من شعره)، ليعرف منها القراء كيف كان أنور ينظم الشعر قبل عشرين سنة، وكنت أودُّ -إذ لم تكن في الديوان- أن أرويها كلها، ولكنها طويلة تملأ صفحات من هذه المقدمة. وشعر أنور في تلك الفترة آهاتٌ أبدعها الفن صوراً، ودموعٌ صاغها البيان شعراً، ومقطعات حلوة، ما أدري ماذا زهّدَ الشاعرَ فيها فلم يثبت منها في هذا الديوان إلاّ مقطوعة «الحمامة». * * * ورأيت فصول (الفِلم) تتتالى ... فرأيت فيها كل دقيق وجليل من حياة أخي في الصغر وفي الكبر، ورفيقي في السفر وفي الحضر، وأنيسي في المسرة وفي الكدر: أنور. رأيت أيامنا في المدرسة ونحن تلاميذ، نعيش من الأدب في ¬

_ = {تترى} غيرَ منوَّنة. قال الفراء: وأكثر العرب على ترك تنوين تترى لأنها بمنزلة تقوى (انظر: «لسان العرب» مادة: «وَتَرَ»). (مجاهد). (¬1) جميل سلطان، وزكي المحاسني، وأبو سلمى عبد الكريم الكرمي.

دنيا الخيال إذ أعجزتنا دنيا الواقع أن نجد فيها ما نصبو إليه ونتمناه، لا نصدق متى ينقضي النهار وننجو من هذيان جماعة الرياضيات وطلاسم أصحاب الكيمياء حتى نفر إلى كتب الأدب، نقرأ كل بارع من القول ونتدارس كل رائع من البيان. ورأيت أنور وقد بذَّ الأدباءَ جميعاً في «العلم ...» بالرياضيات، حتى لقد عرف قطر الدائرة وأضلاع المثلث، ولم يبقَ عليه ليبلغ نهاية العلم إلاّ أن يعرف القاسم المشترك الأعظم الذي لم يسمع به امرؤ القيس ... رأيته دائباً يكد ذهنه ويمسح عرقه، يحاول أن يفهم سر المعضلة الكبرى التي لا يُفهم لها سر، ويحل المشكلة التي لا يُعرف لها حل: الجذر التكعيبي. وأشهد أني جزت الأربعين من عمري، ورأيت أياماً سوداً ولقيت شدائد ثقالاً، وسلكت البوادي المقفرة، وركبت البحار الهائجة، وعلوت متون السحب، فما رأيت في البر ولا في البحر ولا في الجو شيئاً أشد ولا أصعب من هذا الجذر التكعيبي! ورأيتنا وقد فرقت بيننا الأيام أمداً، فاشتغلت أنا بالصحافة وغامرت في السياسة، وآثر أنور التعليم، فكان مدير المدرسة الأولية في منين، في هذه القرية النائمة في حجر القلمون الأدنى، ترى مواكب الأحلام بأجمل «عين» وأشدها سحراً وأكثرها فتوناً: عين منين. مَن لم يرَ عين منين ما عرف سحر العيون، ولا رأى جمال الينابيع، ولا رشف خمر الجمال على مائدة الطبيعة ... فكنت أزوره (¬1) فأقضي ليلة أو ليلتين في جنة قد جمعت فيها النعم، أسكر ¬

_ (¬1) انظر مقالة «إلى حلبون»، وقد مضت في هذا الكتاب (مجاهد).

فيها سكرين: سكر الجمال وسكر البيان، وأخضع فيه لسحرين: سحر الطبيعة وسحر الشعر، وأجمع فيها الماضي البهي ذكرى حلوة، والآتي الشهي أملاً مُرتجى، في حاضر ضاع في نشوة اللذة حتى لم يبقَ لنا منه حاضر نحسه وندركه، نقضي الأصباح نستمع إلى أشعار السواقي المتحدرة من الينبوع وأشعار أنور، ونقطع الأماسي عند الصخور التي أفضنا عليها من قلوبنا الحياة فصارت تحنو علينا وتولينا الحب، وأرقنا عليها البيان فأمست تحدثنا، تتلو علينا أحاديث الغابرين وتقص قصص الأسلاف من غسّان (¬1) أصحاب المجد المؤثل، فنحس كأنْ قد عاد الماضي ورجعت «القصور البلق» عامرة وبُعث المجد وعاش الحب، حتى لكأننا نسمع همس العشاق وآهات نشواتهم ووسوسة قبلاتهم، ونرى خيالات العناق من وراء الأستار! أيام سعدنا بها، وما سعدنا بالصخر ولا بالماء ولكن بأحلام الشباب. رحمة الله على شبابنا وعلى تلك الأيام. ورأيتنا وقد صرت أنا معلماً في الجبل من دمشق (في المهاجرين)، وصار هو معلماً في السفح (في الصالحية)، فكنا نرتقب المساء ارتقاباً، فإذا حل انحدرت أنا من هنا وانحدر هو من هناك، حتى نلتقي عند العَفيف (¬2)، نفرح بهذا اللقاء فرح حبيبين التقيا بعد طول الفراق. ¬

_ (¬1) غسّان الذي يُنسَب إليه الغساسنة ليس رجلاً، لكنه نبع ماء نزلوا عليه فنسبوا إليه، وموضعه في جبل الدروز. (¬2) حي وسط بين حي الصالحية وطرف حي المهاجرين في سفح قاسيون في دمشق (مجاهد).

ورأيت أيام العراق، زهرة أيامنا أنا وأنور وزينتها، أيام بغداد ... سلام المحبة والوفاء منا على بغداد، وسلام على أهليها، وسلام على الأثري والجوادي وروح الراوي وعلى إخواننا وعلى تلاميذنا (¬1) فيها. ويا ما كان أحلى أيام بغداد، ويا ما أبهى لياليها، ويا ما أطيب ما حملنا منها من ذكريات! على دجلتها سلام بردى، وعلى نخيلها سلام الحور، وعلى أبوذيّتها سلام العتابا، وعلى أعظميتها وكرّادتها ورستميتها سلام الربوة والمزة والشاذروان ... لقد كنّا فيها معاً أبداً؛ يدرّس أنور في صف وأنا في صف، وربما دخلت فدرّست مكانه وقعد فاستمع، وربما دخل فدرّس مكاني وقعدت فاستمعت. ونمشي على الجسر معاً، وما في الأرض مكان أحفل بذكريات المجد والشعر والغرام من جسر بغداد. ونتبع الشط، ونرتاد الرياض، نزور قصور الخلفاء ومواطن الشعراء وخلوات المحبين، نؤم الديارات والأطلال والمقابر، نتنسم عرف الأجداد ونستروح رائحة الماضي، نستنطق دجلة ونستخبر الآثار ونسأل النخيل، ونسمع من الأرض ومن الناس أخبار الماضي الفخم، وأحاديث الجدود العبقريين، وقصص المجد الذي لم ترَ عينُ الزمان ولم يحمل متنُ الأرض مجداً أجلّ ¬

_ (¬1) ومنهم عبد السلام عارف والحاج سري الشهيد وأخوه العقيد مدحة والعقيد نعمان والدكتور مصطفى كامل عميد كلية الحقوق سابقاً ومنهم وزراء ومحامون ومنهم الصديق الوفي العقيد جهاد عبد الوهاب والأديب نجدة فتحي صفوة وآخرون لا يحصيهم العد.

منه ولا أعظم ولا أرسخ أساساً ولا أعلى ذُرَى. ولم يكن يرانا الناس إلاّ معاً، ولا يقولون إلا أنور وعلي وعلي وأنور، وربما خلطوا فقالوا علي العطار وأنور الطنطاوي! لقد كانت أيام بغداد أجدى الأيام على أنور، ففيها اختزن في نفسه أجمل الصور، وفيها نظم أروع القصائد، وفيها ابتدأ في حياة الشاعر عهد جديد هو عهد الشعر القومي: شعر الحماسة الوطنية، فازدادت بذلك هذه القيثارة السحرية وتراً جديداً خرجت منه أطيب النغمات. رأيت هذا كله فأحسست أن الدنيا تدور بي، واختلطت عليّ الصور وتداخلت المشاهد، فلم أعد أستطيع أن أتبين شيئاً ولم أستطع أن أكتب شيئاً. * * * ورأيت فصول (الفِلم) تتتالى، فإذا نحن في سنة 1930 وقد بقيت بلا عمل (عقب عودتي من سفرتي الثانية من مصر)، فأخذني أنور إلى إدارة فتى العرب فقدمني إلى معروف الأرناؤوط لأعمل معه في الجريدة. وقد عملت معه شهوراً، وصارت الجريدة ملتقانا أنا وأنور، وصارت مدرستنا الثانية نأخذ فيها من نفس معروف ومن أدب معروف. وما رأينا في الأدباء مَن هو أحلى حديثاً وأظهر صفاء وأملأ بالأدب الحق من فرعه إلى قدمه من معروف، إذ كنتَ تشعر وأنت معه أنه يعلو بك عن المادة ويسمو عن المطامع، ويوصلك بحديثه وابتسامته وطفولته إلى عالم كله حب وعاطفة

وتجرد، وشيء آخر كنت أحسه ولا أملك التعبير عنه، شيء مثل الذي تحسه وأنت تقرأ في رواية معروف «عمر بن الخطاب»، ومثل الذي تحسه وأنت تسمع حديث أنور عندما يكون أنور في سبحاته الشعرية ... ورأيتنا ونحن في مطلع سنة 1933 وقد لقيت أنور، فقال لي: لك عندي مفاجأة تسرك، قلت: وما هي؟ قال: لا، إلا أن تتغذى معي في الدار. فذهبت معه، فإذا هي مفاجأة تسر حقاً: العدد الأول من مجلة «الرسالة». ومن ذلك اليوم دخل بيننا (نحن الاثنين) صديق ثالث أحببناه وأحبنا، وهو الزيات ورسالته، وصارت الرسالة مدار أحاديثنا وصارت مستقر أدبنا، وصار الزيات أخاً لنا كبيراً وصديقاً عزيزاً، وإن كنت لم أرَه إلاّ بعد ذلك بثلاث عشرة سنة ولم يره أنور إلى الآن. ورأيت أيام المعجزة التي ظهرت على يد الصديق منير العجلاني وكانت تُظن من باب المستحيلات؛ أيام المجمع الأدبي (¬1)، حين ألّفَ بين رجال ما كنا نتخيل أنها تؤلف بينهم الأيام، لاختلاف مذاهبهم في الأدب وتباعد مسالكهم في التفكير وتباين طرقهم في الحياة، وكانت أيام ألفة ونشاط وأمل، فأعقبها أيام افتراق ويأس وكسل ... فيا ليت منيراً الوزير يكمل ما بدأه منير المحامي! * * * ¬

_ (¬1) انظر أخباره في الذكريات، الحلقة 66 (3/ 15)، وانظر مقالة «من رسائل الصيف» التي ستأتي في هذا الكتاب (مجاهد).

رأيت هذا كله، فحرت ماذا أصف وعمَّ أتكلم. وكيف أستطيع أن أجمع في كلمات دنيا من العواطف وعالماً من الذكريات وآلافاً مؤلفة من المشاعر كانت أَثْبَتَ من الزمان لأنها بقيت وقد ذهب الزمان، وكانت أجمل من العمر لأنها هي جمال العمر؟ رأيت «هذا» كله، وما «هذا» إلاّ تلخيص لحياة أنور، الشاعر الذي عاش حياته كلها كما يعيش الشعراء الخلّص الملهَمون، شعراء القلب والروح واللسان لا شعراء الألفاظ وحدها والبيان، الشاعر في قلبه المتفتح أبداً للجمال المترع بالخير الممتلئ بالحب، وفي لسانه الذي يفيض أبداً بالبيان وينفث السحر الحلال. وفي هذا التلخيص تحليل شاعرية أنور؛ فإذا أخذتم عليه أنه كان حليف الحزن صديق الأسى، قد وقف شعره على تقديس الألم العبقري فبكى الأحلام الضائعة كما بكى الأوراق المتناثرة في «الخريف»، وخلّد مظاهر الأسى في النفس وفي الطبيعة، فاعلموا أنه لم يكن يستطيع غير ذلك، وأن الشاعر لا يطبع نفسه كما يشتهي ولكن يطبعه الله بطابع البيئة والزمان، ويكوِّن مشاعره في طفولته قبل أن يشعر هو ليكوِّن مشاعره كما يريد، ولو استطاع أن يصغر فمه أو يجمل أنفه لاستطاع أن يبدل قلبه ويحول عواطفه! وقد نشأ أنور مثلما نشأت أنا، وفتح عينيه على الدنيا والحرب العالمية قائمة (¬1)، ودمشق في أشد أيامها، ومظاهر البؤس والألم في كل مكان، فكان يرى الازدحام كل صباح على الفرن ¬

_ (¬1) الحرب العالمية الأولى (مجاهد).

(ولم يكن يفتح منه إلاّ كوّة صغيرة يبرز منها رأس الخباز ليعطي السعيد من الناس كتلة سوداء لا يعرف ما هي على التحقيق، وإن كان يعرف أن اسمها «الرغيف») والجياع ينبشون المزابل ويأكلون قشور البطيخ، والنساء يعملن من دون الرجال لأن رجال دمشق قد أكلتهم الحرب، والاسم المرعب، اسم جمال باشا، يملأ القلوب فزعاً. ثم رأى المشانق وشهد المآتم، فامتلأت نفسه بهذه الصور القاتمة حتى لم يبقَ فيها مكان لغيرها، وإذا هو رأى الأعراس والأفراح أيام الشريف فإن هذه الأيام لم تكد تبدأ حتى انتهت، ولم نكد نستمتع بفرحة الاستقلال في حفلة التتويج حتى ذقنا غصة الانتداب في مأساة ميسلون. فلا تلوموا أنور إن كان الحزن طابع شعره، وأن الفرح فيه مثل الفجر الأول لا يكاد يبدو بياضه في الأفق حتى تبتلعه بقايا الليل، فهذا هو السبب. ولا تلوموه إن تغزل فتكلم عن الرؤى والأحلام وترك الحقائق وعلا إلى سماء الخيال ولم ينزل إلى أرض الواقع، وأنه عمم وجَمْجَمَ فلم يخصص ولم يصرّح، فإن البيئة التقية التي نشأ فيها أنور لم تكن ترى في الحب إلاّ «ذنباً» على صاحبه أن يستغفر الله منه، وأنا أؤكد أن أنور كـ «نصيب» الشاعر الذي سمّى قوسه ليلى ليتغزل بها. إن أنور لم يتصل في حياته بفتاة على نحو ما يفعل شباب اليوم، وإنه كان أعف وأشرف من أن يفكر في هذا أو يحاوله، فمن هنا جاء الذي تلومونه عليه. ولا تأخذوا على أنور أنه حبس نفسه في هذه الدائرة الضيقة وقصر عليها شعره ولم يخرج إلى الفضاء الأرحب، ولم يعش في الدنيا الواسعة التي يعيش فيها أكثر الشعراء والناس، فإن أنور

أمضى صباه (كما أمضيت صباي) في عالم ضيق كانت حدوده تلك المسالك الملتوية الموصلة إلى مكتب عنبر، وتلك الساقية الصغيرة المطيفة بمقبرة الدحداح، وذلك الطريق الموحش الذي كان ينتهي عنده العمران ويبدأ منه عالم الظلام والفزع واللصوص، والذي كان اسمه «قفا الدور» فصار يسمى اليوم «شارع بغداد»، أفخم شوارع دمشق الجديدة. إن أنور يخشى اليوم أن يفارق عالمه الشعري الذي أحبه أو يتجاوز حدوده، كما كان يخشى من قبل أن يتجاوز قفا الدور أو يتخطى مكتب عنبر. ولكن عالم أنور الشعري عالم واسع على ضيقه لأنه عالم القلب، ولأنه متصل بالله؛ وقد تضيق على المرء الأرض كلها إن اقتصر عليها ولا يضيق عليه شبر واحد سما حتى اتصل بالسماء. وعاش أنور في عهد جِد ويقظة وإقبال على العلم والعمل، وحفظ أنور عشرات القصائد من جِياد أشعار العرب، فجاء أسلوبه كالماء الصافي، فيه عذوبة ولين وفيه -إن تدفق- قوة ومضاء، وكان في شعره أثر الجد ومؤهلات الخلود، لا كأشعار أصحاب المناسبات وطالبي إعجاب العوام. وكان نسجه كالحرير المتين المفوف المنقوش النقش البارع، لا كالنسج الرخيص الذي يتمزق من اللمس وتذهب ألوانه من رؤية الشمس! ما مشى أنور على الطريق الذي فتحه له مَن قبله، بل على طريق شقه هو لمن بعده، وكان أنور إمام جماعة الشباب ولم يكن مؤتمّاً تابعاً، ولولا نفَس من شعر شوقي في مثل «ليل الحزين»

من بواكيره وروح من الأدب الفرنسي في بعضها لقلت بأن أنور لم يقلّد في أسلوبه أحداً أبداً. وهل لشاعر مثل الذي لأنور في وصف الطبيعة وفي وصف البلدان وفي وصف الرؤى والأحلام، حتى يقلده أنور؟ * * * وبعد، فهذا ديوان الوفاء للعربية: نَخَلَ مفرداتها فاختار أطيبها، وعرض أساليبها فاصطفى أحلاها. وديوان الوفاء لأقطارها: جرى بردى منذ الأزل، وقام لبنان، فهل قال شاعر في بردى مثل الذي قال أنور؟ هل نظم في لبنان مثل ما نظم؟ وهل يعرف القارئ في الشعر الحديث قصيدة في وصف الطبيعة أعظم من «لبنان» التي اشتمل عليها هذا الديوان (¬1)؟ أنا لا أبالغ ولا أغالي، وهذا الشعر الحديث بين أيدي الناس، فمَن عرف أعظم منها فليقل ... ولكن «المعاصرة» حرمان، وأزهد الناس في العالم أهله وجيرانه، وستمحص السنون هذا الشعر وهذا النثر، وتميز الزجاج من الجوهر والنحاس من الذهب، وهنالك -بعد أن يذهب الرجال وتنقطع الصداقات والعداوات ولا يبقى إلاّ الأدب الذي يستحق الخلود- تُعرف قيمة «لبنان» وقيمة «بردى»، وهنالك -بعد أن ¬

_ (¬1) أحسب أن من هذه القصيدة الأبيات التي رواها علي الطنطاوي في آخر مقالة «إلى لبنان» في كتاب «مع الناس»، وأولها: والروابي توسّدت راحة السحب ... أقول هذا ظناً بلا جزم (مجاهد).

يعفي النسيان على أسماء كثيرة تملأ اليوم الأسماع وتشغل الناس- يحتل اسم أنور العطار مكانَه مع أسماء الشعراء الخالدين (¬1)! * * * ¬

_ (¬1) في عام 1985 نشر جدي مقالة عن أنور العطار في صحيفة الشرق الأوسط، ضمن سلسلة «صور وخواطر» التي دأب على نشرها فيها بعد الفراغ من الذكريات، ثم أودع تلك المقالة كتاب «رجال من التاريخ» في طبعته الجديدة. وفي تلك المقالة أعاد نشر جزء من هذه المقدمة، وفي آخرها، في هذا الموضع، قال: "هذا كلام قلته من أكثر من أربعين سنة، فإن لم يأتِ ذلك اليوم فلا بد أنه آت". (مجاهد).

أستاذنا الجندي

أستاذنا الجندي ألقيت في حفلة الأربعين سنة 1955 إن من أصعب الصعب أن أقوم لأؤبن رجلاً لا أعرف عنه شيئاً، وأصعب منه -يا سادتي- أن أؤبن رجلاً أعرف عنه كل شيء! أن أختصر ثلاثاً وثلاثين سنة في عشر دقائق، أن أجمع البحر في قطرة والروض في زهرة، وذكريات أستاذي سليم الجندي في كلمة تأبين. لقد اقتنيتها دقيقة دقيقة؛ أجمعها وأحصيها كل يوم كما يجمع الشحيح فلساً إلى فلس ويحفظها، حتى اجتمع لي في صحبته ثلث قرن، فهل تروني أفرط فيها؟ لقد كتمتها سراً في القلب ونجوى للنفس وزاداً لي في مفازات العمر، فهل أكشفها اليوم وأعلنها وأبيحها كل سامع؟ إنها ذكرياتي أنا، وما الحياة لولا الذكريات؟ وإن أنا فعلت فمن أين أبدأ؟ من أين؟ ... وما أعددت لهذا المقام كلاماً لأني ما كنت أتوقع أن أقوم يوماً فأؤبن الأستاذ سليم الجندي. كنت أظن أن حبلي منه لن ينقطع أبداً، الحبل الذي غُزلت خيوطه من مسالك اللحظات في مسارب الزمان. وكل حبل مودة إلى

انقطاع، وكل حي إلى ممات، ولكنها أماني النفوس ... حتى جاءني الزميل الكريم الأستاذ نورس الجندي من أربعين يوماً (لا كنتِ يا هذي الأربعون) فقال لي والوجه ملتاع وفي الصوت ارتجاف: عظّمَ الله أجرك بالأستاذ سليم! ومرَّ على خاطري كل سليم أعرفه إلاّ الأستاذ الجندي، وقلت له: من؟ قال: أستاذكم سليم الجندي. وشُدهت ولبثت دقيقة لا أفقه ما يقول، لأن هذه الكأس أكبر من أن تُساغ بجرعة، ورحت أتجرعها على مهل حتى فهمتها. فهمت أنه قد مضى الرجل الذي لم يبقَ تحت أديم السماء مَن هو أعلم منه بلسان العرب: لغة واشتقاقاً ونحواً وبلاغة وعَروضاً ورواية وضبطاً، ولا مَنْ هو أوفى لها وأغير عليها. وأنه لم يعد في ديار الشام مَنْ أستطيع أن أذهب إليه أنا والأفغاني والعطار (¬1) كلما دَهَمتنا عِظام المشكلات في العربية، نحملها إليه ليحل لنا عقدها. ولم يبقَ في الدنيا كلها من نقول له في العربية: «يا أستاذنا»، وأن علينا بعد اليوم أن نعتمد على أنفسنا كما يعتمد الضابط على نفسه حين يفتقد القائد العبقري وسط المعمعة الحمراء. وهيهات أن يسد أحد مكان قائد المعركة بين العربية والعجمة، حجة العرب، سليم الجندي (¬2)! ¬

_ (¬1) سعيد الأفغاني وأنور العطار، كانا وعلي الطنطاوي أصدقاء الطفولة والشباب. كان الأفغاني من علماء النحو الكبار في الشام وتوفي بمكة سنة 1996 ودُفن فيها، وأنور هو الشاعر الذي مرت بنا مقدمة ديوانه آنفاً، توفي سنة 1972 في دمشق (مجاهد). (¬2) في «الذكريات» تحدّث علي الطنطاوي عن أساتذته في مكتب عنبر، فذكر سليم الجندي وعبد القادر المبارك، ثم قال: "لقد ماتا وما أعرف تحت قبة الفلك أعلم منهما بالعربية" (1/ 118) (مجاهد).

ولم أعد أستطيع أن أقول لهؤلاء الإخوان، وللزركلي والجيرودي (¬1)، كلما رابنا ريب الحياة وشجانا زيف المودات وفقد المروءات: هلمّ إلى الجندي نجد عنده مثل الذي يجده الغريق حين ترفعه يد المنقذ إلى طلق الهواء. لقد تحققت أن سليم الجندي مات، فأحسست كأن قد زاغ بصري وزلزلت أعصابي ومرّ في أذنيّ نهرٌ هدّار. لا تظنوا أني أبالغ أو أتخيل خيال شاعر؛ لا، وما أنا بالشاعر وما صناعتي نسج التهاويل. ما أنا إلاّ مصوّر يحمل آلته يطوف بها، يصوّر مشاهد الحياة وخطرات النفس، مصور فطوغرافي مسكين ينقل صوره نقلاً، ولست المصور المبدع الفنان الذي يحمِّل لوحاته ما لم يكن ولا يكون ... مخلوق يدب على أرض الواقع على حين يضرب الشعراء أمواج الجو بأجنحة النسور. وليست هذه هي الصدمة الأولى؛ لقد عراني مثلها مرات من قبل. عرتني يوم مات أبي، وكان لي أباً وكان لي معلماً، كما كان للعشرات من أكبر رجال هذا البلد اليوم. وما أمدح أبي، وهل قمت هذا المقام للفخر؟ ولكني أقرر إحدى الحقائق. ويوم مات شيخ الشام وأستاذ كل متعلم فيها ممن هم اليوم فوق الأربعين، الشيخ عيد السفرجلاني. ويوم مات أذكى إنسان عرفته، لا أستثني ¬

_ (¬1) سليم الزركلي ومحمد الجيرودي، الأول شاعر والثاني محامٍ، وكلاهما من رفاق علي الطنطاوي في المدرسة ولهما أخبار في ذكرياته المنشورة (مجاهد).

أحداً أبداً، أستاذنا مسلّم عناية. ويوم مات الأستاذان الحبيبان عبد القادر المبارك وعبد الرحمن سلام (¬1). أولئك رجال بكيتهم كما بكيت الأستاذ الجندي بدموع قلبي. وهل تستكثرون عليّ أن أنضح بالدمع قبور رجال هم ملؤوا قلبي بالعاطفة التي ينبع منها الدمع؟ وهم غرسوا فيه دوحة الحب التي من ثمارها الوفاء؟ وهل كان أولادهم الذين خرجوا من أصلابهم أحق ببكائهم مني؟ لقد صرمت في صحبة الشيخ عبد القادر المبارك مدة أطول من كل ما عاشه في الدنيا نصف أبنائه، لقد عرفت من عبد الرحمن سلام ما لم يعرفه أهله وأولاده، لقد كنت لهؤلاء أكثر من تلميذ، بل (ودعوني أقلها) لقد كنت لهم أكثر من ولد. التلميذ تلميذ ما دام المعلم على منبره، فإن نزل المعلم عن المنبر وخرج التلميذ من المدرسة سار كل في طريق، فلم يعد بينهما إلا ذكرى أيام مرت ولن تعود. والولد يرى في أبيه العبقري مظاهر إنسانيته التي يشترك فيها الناس جميعاً، فتختلط بمظاهر العبقرية التي يمتاز بها عن الناس جميعاً، ومن هنا قالوا: أزهد الناس في العالم أهله وجيرانه، والمريد لا يرى منه إلا الجانب ¬

_ (¬1) لكل هؤلاء أخبار في «ذكريات علي الطنطاوي» تستحق أن تُقرأ، أكثرها في الجزء الأول (الحلقات 13 - 16) والثاني (الحلقات 52 - 55) ومواضع أخرى متفرقة كثيرة (مجاهد).

العلوي الخالد، لذلك تخلد صلته به أبداً وتعلو. والولد يشارك أباه طعامه وشرابه، والمريد يشاركه فكره وشعوره. والولد يرث عن أبيه ماله، والمريد يرث علمه. لا أعني أولاد الفقيد الجندي، فهم جميعاً من النابغين النابهين، ولكن هل يزعمون أنهم أحق باللوعة عليه مني؟ هل كانت الصلات بين شيخ الأدباء وبين أنجاله الأطباء أقوى من الصلات الفكرية بينه وبين تلميذه الأديب؟ وهل ما يمتّون به من صلة النسب أمتن في مقاييس الخلود مما أمُتُّ به من صلة الأدب؟ عفوَكم يا سادة، عفوَكم. لقد تركت طريق موضوعي لأني أبصرت رياض الذكريات تلوح لي عن يمين وشمال، فلم أتمالك أن تنكّبت طريقي لأقطف منها وردة أو زهرة أو أعود بشمّة من رياها وعطرها، وسأرجع إلى هذا الذنب مرات في هذا الخطاب! وهل لكلمتي هذه موضوع؟ إن موضوعها ذكريات، ومتى حصرت الذكريات أرقام الحاسب وأشكال المهندس؟ ذكريات، وهل في الحياة أمتع من التعلل بكأس الذكريات، والنشوة بخمرة الأماني؟ وأنا أعلم -يا سادة- أن أثقل الكلام في ميزان الأذواق كلمة «أنا»، ولكني مضطر الليلة إليها؛ لأن الذكريات لا بد فيها من ذاكر، فكيف أنشر المطويّ من ذكرياتي أن أغفلت ذاتي؟ فائذنوا لي أن أعود إلى مواضي أيامي، إلى عهد الدراسة الابتدائية، يوم كان يحكم دمشق الرجل المرعب جمال باشا وصحبه الاتحاديون الملحدون، وكنا نحفظ الأسماء التركية نسردها كل صباح سرداً بلا فهم ولا علم، وكنا نقرأ النحو العربي بالتركية على المعلّم التركي،

وكان التركي هو اللسان الرسمي للبلاد، به يخاطب الحاكمون وينشد أغانيه المنشدون. لقد حسب الاتحاديون أنهم بهذا يقضون على العربية ويرثون أمجادها ويدّعون لأنفسهم مكارمها. أرأيتم الصبي الهزيل يلبس ثوب العملاق؟ أأبصرتم الأحمق الذي يلصق بالصمغ ورقة على وجه أبي الهول عليها اسمه، ليصحح خطأ التاريخ ويثبت أنه هو الذي نحت أبا الهول؟! هذا هو مثال الاتحاديين الذين ظنوا أنهم -بلغة ملفقة محدثة، وبمئة قصيدة وقصة، وبالسيف المصلت على أعناق العباد- يستطيعون أن يقتلوا اللغة التي كانت معجزة العبقرية الإنسانية؛ لأنها لم تنشأ كاللغات، فالتاريخ يعرف طفولة كل لغة وشبابها ويعرف تدرّجها في طريق الكمال، أما العربية فلم يعرفها التاريخ إلاّ كاملة مكملة، لأنها أسنّ من التاريخ! ولكن مالي وما لهذه التفاصيل الآن؟ حسبكم أن تعرفوا أننا كنا في أواخر هذا الليل الذي خاضت حِنْدِسَه (¬1) العربيةُ، وكانت تتخبط فيه في مسراها على غير هدى لولا من حملوا لها المصابيح تحت طِباق الظلام، أولئك الأعلام من رواد هذه النهضة الجديدة. وعلى ضوء هذي المصابيح وَضَحَ للسارين الدرب، فسار الركب، وكان الفجر قد حل، ولكن سحابة الاتحاديين كانت تحجبه عن العيون (قلت الاتحاديين ولم أقل الأتراك)، فلما انزاحت السحابة ملأ الأفقَ نورُ الفجر. ونُشرت رسائل وكتب، وألقيت خطب ومحاضرات، وكان النادي العربي ... ومن عجب أن قام النادي العربي أمام «أوتيل فيكتوريا» حيث كان ينزل جمال ¬

_ (¬1) الحِنْدِس: الظلمة، أو الليل الشديد الظلمة (مجاهد).

السفاك! وعرفنا لأول مرة أن في الدنيا أدباً عربياً، وشعراً عربياً، وخطباء يخطبون في غير المساجد ومن غير ديوان ابن نباتة المرتَّب على الشهور والأسابيع، الذي كان يحفظه السامعون من المصلين مثلما كان يحفظه الخطيب! ومرت أيام، ودُفن الاستقلال الوليد في وادي ميسلون، ولكن النهضة بقيت عائشة، ولبثت تسير قدماً حتى أثمرت مجلة «الرابطة الأدبية» التي صدر العدد الأول منها في الأول من أيلول سنة 1921. وكان والدي من المشتركين فيها فكنت أقرؤها. ولئن قرأت قبلها كتباً من كتب الأدب القديم، ثقفت المعوجّ من بياني وقومت لساني، فإن أول ما قرأته من الأدب الجديد على الإطلاق هو مجلة الرابطة. ورأيت بين كتّابها كاتباً ظهر لي من بحثه، ظهر لي وأنا في تلك السن (صدّقوني) أنه من وزن آخر، وأنه أرجح وأوقر، وأنه كان يمسك هو بمفاتيح القاموس ويمتلك كنوز اللغة، فهو يعطي الألفاظ للأدباء يقولون وهو يهذّب مقالهم، ويكتبون وهو يصحح كتابهم، فتصورته كأستاذ بين تلاميذ بارعين. ثم رأيت صورته فصدق النظرَ التصور، لأني رأيتهم شباباً ورأيته كهلاً بينهم، بصلعته وهيبته ولحيته ... أو تخيلته كهلاً. وكانت هذه هي أول مرة سمعت فيها باسم الجندي. ومن مباحث الجندي في «باب تهذيب الألفاظ» في «الرابطة» تعلمت أن في الدنيا شيئاً اسمه علم اللغة والتحقيق اللغوي. وكانت المدرسة السلطانية الثانية التي كنا طلاباً فيها على عهد الشريف قد ألغيت، وذهبنا إلى مكتب عنبر، الثانوية الوحيدة في

دمشق، وهناك عرفنا الأستاذ سليم مدرّساً وقعدنا بين يديه تلاميذ. ولكن هل أقفز قفزاً إلى حديث الأستاذ؟ ألا أحدثكم عمن علَّمنا قبله؟ عن سلفه الشيخ عبد الرحمن سلام؟ وعن الشيخ عبد القادر المبارك؟ أيقف شعراء العرب على حفرة طمستها الرياح وحجارة سوَّدتها النار ويبكون على آثار الخيام، ولا أقف عند ذكرى الرجلين اللذين لولاهما ولولا الجندي ما عرفت، ولا عرف العطار والمبارك والمحاسني والكرمي والأفغاني والجيرودي وسلطان وجمال الفرا ووجيه السمان، كيف يكون تأليف الكلام؟ امنحوني دقائق أحيي فيها مَن منح هذه العربية حياته كلها، ومن أعطى الشام هؤلاء الذين تعتز بهم من شعراء وخطباء وكتّاب. لما دخلنا مكتب عنبر -يا سادة- وجدنا في درس العربية مفاجأتين: رجلين من نوادر الرجال. ولقد قلت مرة إن الرجل المهذب الاجتماعي كالنسخة المطبوعة من الكتاب، منها آلاف وآلاف، أما أمثال المبارك وسلام فكالنسخ المخطوطة؛ قد يكون فيها خرم أو غموض ولكنها أثمن من كل مطبوع لأنها مفردة ليس لها نظير. أما الشيخ عبد الرحمن سلام فما رأيت (وما أظن أنني سأرى) من هو أطلق منه لساناً وأحلى بياناً؛ لقد كان عجباً من العجب، إذا احتاج أن يتكلم في موضوع لم يكن عليه إلاّ أن يفتح فمه ويحرك لسانه، فإذا المعاني في ذهنه، والألفاظ على شفتيه، والسحر من حوله، والأنظار متعلقة به، والأسماع ملقاة إليه، والقلوب مربوطة بحركة يديه! وكان يرتجل الشعر كما يرتجل الخطب، وكان يرمي

الكتاب (كتاب النحو) لا يباليه، ويتكلم من أول الساعة إلى آخرها في اللغة وفي الأدب وفي كل شيء ... كان يريد أن يربينا على السليقة العربية بالمحاكاة والمِران وينفخ فينا من سحره ليجعلنا أدباء قبل الأوان. وأما المبارك فما رأيت (وما أظن أني سأرى) مدرّساً له مثل أسلوبه في الشرح والبيان، وفي امتلاك قلوب الطلاب، وفي نقش الحقائق في صفحات نفوسهم بهذه الضوابط المحكمة العجيبة التي تلخِّص في جملة واحدة بحثاً من البحوث. وكان يعلمنا الفقه ... ماذا قلت؟ الفقه؟ هذا هو اسم الدرس في عرف المدرسة، أما الدرس -في حقيقته- فكان فقهاً وتفسيراً وحديثاً ولغة وشعراً وأخباراً، وما شئتَ من كل نافع مفيد وكل طريف جديد. وكان الأول هو الذي جرّأني على امتطاء صهوات المنابر ومقارعة الفرسان في ميادين البيان، وكان الثاني هو الذي أخذ بيدي فأطلعني على كنوز الثقافة العربية وطبع نفسي بطابعه، حتى لأستغرق أحياناً في الدرس فإذا بي أتكلم بلسان المبارك ولهجته وأتحرك مثل حركته والطلاب ينظرون مدهوشين (¬1). ¬

_ (¬1) ممّا رواه جدي في «الذكريات»: "لما كنت أدرّس في بغداد أقيمت حفلة سمر في آخر سنة 1936، فسأل الطلابُ مدرّسيهم على عادة اعتادوها: هل يأذنون لهم أن يقلّدوهم؟ فكان منهم من أذن ومنهم من أبى، وكنت فيمن أذن. فقام طالب يقلدني بزعمه، فقلّد شيخنا المبارك. فقلت: ويحك، هذا شيخنا المبارك! وإذا بالطلاب يصيحون من الأركان الأربعة: بل هذا أنت، هذا أنت. وإذا أنا -لطول ما حاكيت الشيخ- قد صرت مثله! " (1/ 120) (مجاهد).

وفي يوم من أيام سنة 1923 دخل علينا الشيخ عبد الرحمن سلام، ولكن لا كما كان يدخل كل يوم، وألقى خطبة، ولكن لا كما كان يلقي؛ دخل حزيناً وألقى خطبة الوداع، وذهب وذهبت معه قلوبنا. وجاءنا مدرس جديد فقعد على الكرسي، وما كان الشيخ ليقعد عليه أبداً، وفتح كتابه يقرر الدرس بصوت خافت وكلام لا يكاد يُسمع. وكان الأفغاني إلى جنبي فقلت له: مَن هذا؟ قال آسفاً: هذا والد سيدنا ... وأشار إلى نجم الدين، قلت: الأستاذ سليم الجندي؟ قال: نعم. أهذا هو الأستاذ سليم الجندي؟ أهذا الذي أعجبت به لمّا قرأت له في مجلة الرابطة؟ يا ضيعة الأماني! ويا حسرتاه على أستاذنا الذي أضعنا، على الشيخ سلام! سلام على سلام. بل سلام على العربية؛ لقد زهدت فيها وعزفت عنها، وعزمت لأتوجهنَّ بالاهتمام إلى درس آخر من دروس المدرسة. ما لي وللعربية وهذا مدرّسها؟ مدرس لا يخطب ولا يرتجل الشعر ولا يتلاعب بمُهَج السامعين؟! ومرَّ بي الدَّوْر، فأخرجني الأستاذ فأقامني على اللوح وأملي عليّ بيتين للمعري، وقال: اقرأ وفسّر وأعرب. فانطلقت كما علمنا سلام، انطلقت أخطب في موضوع البيتين خطبة حماسية مجلجلة، فإذا بالأستاذ يبتسم ابتسامة أحسست كأنها سكين في قلبي، وكأنها دلو ماء أُلقي على جمرة حماستي، وقال: بعدُ بعدُ، فسّر أولاً معاني الكلمات الغريبة.

ووقفت كما وقف حمار الشيخ في العقبة! وسألني عن دقائق الإعراب، فوقفت وقفة أخرى. قال: أرأيت؟ أتَبني الدار قبل نحت الحجارة؟ ورأيتُني حقاً أبني الدار قبل نحت الحجارة ... أبني دوراً في الهواء! وصَغُرت عليّ نفسي بقدر ما كبر الأستاذ. وعدت أبدأ قراءة النحو والصرف من جديد. وكان الكتاب الذي نقرؤه «قواعد اللغة العربية» (الجزء الرابع من الدروس النحوية لحفني ناصيف وأصحابه)، وهو كتاب يغني المتأدب، بل الأديب، عن النظر في كتاب غيره، وهو أعجوبة في جمعه وترتيبه وإيجاز عبارته واختياره الصحيح من القواعد، وهو أصح وأوسع من شذور الذهب ومن ابن عقيل التي كنت أقرؤها على أستاذيَّ الجليلين الشيخ أبي الخير الميداني والشيخ صالح التونسي. وعكفنا عليه وملأنا حواشيه البيض، ثم ألحقنا بين صفحاته صحائفَ نملؤها بفوائد الأستاذ وشواهده وزياداته. وعرفنا -يوماً بعد يوم- مقدار النعمة التي أنعم الله بها علينا حين جعلَنا تلاميذ الأستاذ سليم الجندي. وكنا نفاخر إخواننا الذين يُقرئهم الشيخ الداودي، ونأتي بالمعضلات والصعاب نتصيدها من كتب الأدب وأفواه العلماء فنطرحها عليه، فنحظى بأجمع الجواب بلا مراجعة ولا كتاب ويرجعون هم بلا جواب. وما أنتقص الداودي رحمه الله، فلقد كان معلماً فاضلاً، وكانت له أخلاق أعطر من زنبق الحقل وأطهر من ثلج الجبل،

وله قلب من الذهب، ولكنه لم يكن من بابَةِ الجندي. إن الذهب ذهب، ولكن إن قابلته بالجوهرة المفردة وارى بريقَه حياءً. وأحببت الأستاذ الجندي حب الولد أباه وعرفت قدره، فكنت لا أكفّ عن سؤاله، أسأله في الصف وألحقه في الفرصة وأدخل معه غرفة المدرّسين، أشرب من معين علمه ولا أرتوي، أتزود من هذا المنهل العذب لسفري الطويل في صحراء الحياة، أسأله عن الغريب فلا تغيب عنه كلمة منه، كأنه قد وعى المعاجم وغيّبها في صدره، وأسأله عن التصريف والاشتقاق فيجيب على البديهة ما يُعيي العلماءَ جوابُه بعد البحث والتنقيب، وأسأله عن النحو فإذا هو إمامه وحجته، وألقي عليه بالبيت اليتيم وجدته في كتاب فإذا هو ينشد القصيدة التي ينمى إليها ويعرف بالشاعر الذي قالها. لقد كان مدرّساً للعربية، ولكنه كان أكثر من مدرس. وكان عالماً من علماء البلد، ولكنه كان أكثر من عالم، ورُبّ مدرّس لا يكون عالِماً، وربّ عالم لا يكون عالماً إلاّ في بلده وبين أقرانه، وربّ عالم لا يكون عالماً إلاّ بالنسبة إلى عصره وزمانه. أما الجندي فقد كان أعلمَ علماء العربية في هذا العصر، وكان واحداً من أعلام العربية الأولين، ولكنه ضل طريقه في بيداء الزمان فجاء في القرن الرابع عشر الهجري لا في القرن الرابع! أقرر هذا بعدما مشيت في البلاد وجالست العلماء، فما ثَمّ عالم مشهور في العربية في مصر والشام والعراق والحجاز والهند والملايو وأندونيسيا إلاّ عرفته. عرفت في مصر علماء الجامعة

المصرية وعلماء الجامع الأزهر والأدباء والكتاب، وأنا أؤكد لكم القول أني لم أجد فيهم من يفوق -في حفظه وضبطه وأمانته وملكته- الأستاذَ الجندي. وكشفت فيه -يوماً- بحرَ علم آخر لم أكن أعرفه من قبل؛ سألته عن مسألة من الدين فإذا هو فقيه أصولي يروي الحديث ويعرف المقالات. ومن هنا، من هنا يا سادة، جاء حفاظه على اللغة ومعرفته بقدرها وغيرته عليها. لقد كتبت مرة أن إنكليزي القرن العشرين يقرأ أدب إنكليز القرن السادس عشر فلا يفهمه إلاّ بترجمان، ونحن نقرأ شعراً عربياً من ألف وأربعمئة سنة فنفهمه كما نفهم شعر شعرائنا اليوم! فمن أين للعربية هذه المزية؟ وكيف ثبتت العربية برغم النكبات الثقال التي مرت بها؟ كيف عجزت الدول التركية والفارسية التي تعاقبت على بلاد العرب من أيام الواثق عن أن تقضي عليها؟ بل كيف استطاعت هي أن تقضي على عجمتهم وتدخلهم تحت لوائها؟ وما هو السر في قوة العربية وثباتها؟ إن السر في هذا الحصن المتين الذي حصّنها الله به: القرآن يا سادة، القرآن. وهذا هو سبب نبوغ الجندي، حتى كان إمام العربية وهو ابن عصر حاول الأتراك أن «يترِّكوا» فيه كل عربي. السبب معرفةُ الجندي أن «العربية لغة القرآن»، وأن من أراد أن يكون إماماً فيها فليكن خادماً للقرآن. ولست أنا الذي يقول عنه هذا، بل لقد قاله هو بلسانه؛ قال في العدد الأول من مجلة الرابطة الأدبية،

في مقدمة باب تهذيب الألفاظ: "مُنيت اللغة العربية بضروب من النكبات، لو أنزلت على جبل شامخ لتصدّع، ولو أصاب غيرها من اللغات معشارُ ما أصابها منها لعفت رسومها واندرست معالمها، ولكن الفضل في سلامة هذه اللغة الكريمة ونجاتها من براثن الفناء والموت يرجع إلى القرآن الكريم". وقال بعد قليل: "وغايتنا إرشاد الألسن والأقلام إلى مواقع الفصاحة والصواب، وصرفها عن مظانّ الغلط ووجوه الركاكة. ولسنا نزعم في كل ما نكتبه السلامة من الزلل والعثار لأن العصمة لله وحده". أسمعتم هذه الجمل الثلاث؟ لقد لخص فيها الجندي منهاجه كله؛ المنهاج الذي يشتمل الدين والعلم والخلق، لقننا مع العربية الدين وقصد التقرب إلى الله بخدمة لغة القرآن. وأخذَنا -من أول يوم- بالبعد عن الجرائد والمجلات وهذا الأدب الجديد، ولم يكن يملي علينا في الإعراب والاستظهار إلاّ الشعر الذي يُحتج بعربيته من الجاهلي والإسلامي، ويخرِّج لنا الألفاظ تخريج المحدّثين الأحاديث، فيميز لنا الصحيحَ من الدخيل والفصيحَ من الشاذ. وهو -على ذلك كله- متواضع حييٌّ، غاض الطرف والصوت، حاضر النكتة، صافي القلب، حسن المعشر، رضيّ الخلق، مستقيم لا تستطيع مغريات الدنيا أن تحوله عن طريقه. ولقد سار على هذا المنهج حياته كلها، ولكنه قاسى في هذا السير الأهوال. لم يكن يوضَع برنامج للعربية في المدارس ويبدَّل أو يؤلَّف كتاب أو يعدَّل إلاّ دعوا الجندي، فإذا جاء وجد أعداء

العربية وخَدَمة الاستعمار متربصين له، يريدون أن يجهّلوا أبناء العربية بالعربية حتى يبعدوهم عن القرآن فيسلبوهم أقوى سلاح يحاربون به الاستعمار، يسلكون لذلك أدق المسالك ويتخذون لذلك أخفى المكر، وكان عليه أن يحاربهم وحده، يدفع مكرهم بأخفى منه ويسلك لذلك أدق من مسالكهم، فينال ذلك من أعصابه ومن صحته، ولكنه يحتسبه جهاداً عند الله. وسيكون له -إن شاء الله- أجر المجاهدين. لقد كان الجندي جندياً يحمي حمى العربية أن يدخله لص من باب البرامج أو الكتب أو الامتحانات العامة، أو من باب اختيار الجَهَلة للتدريس، ما غفل يوماً ولا فارق مكانه، فلما سقط شهيداً صريع المعركة استُبيح الحمى ورتع اللصوص، ودخلوا من كل باب من هذه الأبواب. لقد بُدِّلت البرامج وغُيّرت الكتب وعيث في الأرض الفساد، وصار بعض مدرّسي العربية اليوم أضعف من بعض طلاب البكالوريا في تلك الأيام (¬1). لقد تساقط الحُماة واحداً إثر واحد، المبارك والبزم والجندي ... وخلا من أسوده العرينُ، أفليس في الشِّبال من يحمي الذمار؟ بلى يا أستاذي، بلى! ¬

_ (¬1) كان هذا من نصف قرن، فما حالنا اليوم؟ اللهمّ أدركنا برحمتك! (مجاهد).

هؤلاء هم تلاميذك، يقسمون على قبرك الطريّ أنهم ماشون على طريقك، حافظون لعهدك، محامون عن لغة القرآن التي صرمت حياتك كلها تحامي، وتربي المحامين، عنها. وما بحولنا وقوتنا، ولكن بحول الله وقوته وثقة بوعده: {إنّا نَحنُ نزّلْنا الذِّكْرَ، وإنّا لهُ لَحَافِظون}؛ فكلما فتحوا للشر باباً (من تسهيل قواعد العربية أو درس اللهجات العامية) كان هو الذي يسده، وكلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، والظفر للقرآن برغم ما هو خامد من نارهم وما هو «ساطع» (¬1). يا سادة، لقد صحبت الجندي تلميذاً وزميلاً في التجهيز وفي الكلية الشرعية، وسامرته ليالي طوالاً، وكنت معه في السفر والحضر، وفي نفسي عنه ذكريات ما كشفت لكم إلاّ طرف الطرف منها، ولو أردت أن أسردها كلها لأبقيتكم هنا إلى الصباح. لقد كانت له -على جلالة قدره- أوهام، وهل تعيش الأوهام إلاّ في القلوب الكبار؟ ومن أوهامه أنه لم يكن يطيق أن يزور مريضاً أو يعزّي بفقيد، مخافة أن يسمع باسم الموت. وهذا هو الموت قد نزل به! ¬

_ (¬1) يريد ساطع الحصري، إمام القومية العربية. والغريب في سيرة هذا الرجل أنه كان متترّكاً في أول أمره وأصدر مجلة بالتركية وكتب بها كتباً، ثم تعرّبَ بعد سقوط الأتراك في الحرب الأولى والتحق بحكومة الشريف حسين، ودعا إلى القومية العربية التي جعلها ديناً ضلّ فيه وأضلّ، وألف كتباً عنها نشرها بالعربية «كان أصدقاؤه يساعدونه في إصلاح لغتها قبل الطبع»! كما يروي صاحب الأعلام (مجاهد).

الموت، لو نجا منه أحد لكان أفضل الخلق محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم. الموت، ولكن هل مات الجندي؟ هل مات من مشى في موكب المؤرخين المحققين بكتابه «تاريخ المعرة»؟ ومن كان مع أئمة اللغويين بـ «إصلاح الفاسد»؟ ومع أعلام النحويين بـ «كتاب النحو»؟ ومع مؤرخي الأدب بـ «تاريخ أبي العلاء»؟ يا أستاذي، إن الموت حق، ولكنك ستحيا مرتين: مرة في هذه الدنيا باسمك وعلمك ما بقيت الدنيا، ومرة عند الله بإيمانك وخلقك ودفاعك عن لغة القرآن، وتلك هي الحياة الخالدة حقاً. اللهم إني لا أتَألّى عليك، ولكن نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ من ثلاث، صدقة جارية، وعلم نافع، وولد صالح يدعو له». اللهمّ وهذا علمه نافع أبداً، وهؤلاء أولاده، ونحن جميعاً أولاده، وما نحن بالصالحين ولكنا ندعو دعاء الصالحين: اللهمّ ارحمه واعفُ عنه وأدخله جنتك، اللهمّ عوّض هذه العربية منه، اللهمّ لا تحرمنا أجره ولا تفتِنّا بعده واغفر لنا وله، اللهمّ آمين. * * *

أول مقالة نشرتها وأول درس ألقيته

أول مقالة نشرتها وأوّل درسٍ ألقيته نشرت سنة 1941 إني لأخط عنوان هذا الفصل وأنا أسخر من نفسي، إذ أحدث الناس حديث مقالاتي، والناس في شغل عني وعن مقالاتي بهذا الهول الهائل، والبلاء النازل، والغلاء الشامل (¬1)، وبالله العوذ مما هو أشد وأعظم. ولعمر القراء ما أُكثر الحديث عن نفسي لزهوّ ولا لكبر ولا غرور، ولكنها صناعة الأدب يسوغ معها ما لا يسوغ مع غيرها. وإني -إذا أردتَ الجدّ- لمن أشد الأدباء زهادة في الأدب، وإخال أن الناس في أدبي لأزهد. ولولا كليمات أسمعهن أحياناً فيهن تعليق على ما أكتب أو ثناء عليه، أو رسائل في مثل ذلك قد تأتيني، أو فقرات قد أقرؤها في صحيفة فيها تنويه بي ... لولا ذلك (وما ذلك؟!) ما ظننت أن أحداً يقرأ مقالاتي! وما قصدت هذا الموضوع قصداً، ولكني نبشت أوراقي أفتّش عن ورقة أريدها، فخرج في يدي عدد من «المقتبَس» قديم، تاريخه سنة أربع وعشرين وتسعمئة وألف، ففتحته أنظر فيه ففُتحت لي دنيا من الذكريات اللذة، وقرأته فقرأت فيه تاريخ ¬

_ (¬1) وذلك في أيام الحرب العالمية الثانية (مجاهد).

نفسي: رأيتني في الصفوف الأوائل من الثانوية وحولي رفقة ما رأيت بعدهم مثلهم في إقبالهم على الدرس وجلدهم عليه، وفي رسوخ ملكاتهم الأدبية وقوة طبعهم في الأدب وسليقتهم في اللغة، وتسابقهم إلى مطالعة نفائس المصنفات ومعرفة المصادر والأمهات (¬1). ولم يكونوا كشباب اليوم الذين يحاولون الكتابة قبل القراءة، ويغترون بالنشر فيحسبون أنهم أنداد وأقران لكل من يكتب في الصحيفة التي تنشر لهم، ويعلن أحدهم عن كتابه الذي سيصدره قبل أن يكتب منه عشر صفحات، وينتقد الكاتب الكبير وهو لا يحسن أن يقيم لسانه في قراءة مقالة من مقالاته، ويخدع المجلة عن أدبه فتظنه شيئاً فتخدع به القراء، وما لم أذكر من صفاتهم آلم وأنكى. وكنت قد قرأت طائفة من الكتب أذكر أن منها «حياة الحيوان» للدميري، وهو أول ما طالعت من الكتب، وهو دائرة معارف (كما يسمونها اليوم) أو هو مُعْلَم (¬2) جامع فيه فقه ولغة وأدب وقصص وتاريخ وخرافات وعلم وحقائق، أفدت منه كثيراً. و «الصاحبي» لأحمد بن فارس، وقد ألقى في نفسي إجلال العربية والإيمان بسعتها وجلالها، وحبب إليّ جزالة الأسلوب وفحولة اللفظ، ولا أزال إلى اليوم أعجب برسالة ابن فارس هذا إلى من أنكر فضل الجديد لأنه جديد ومال إلى تقديس كل قديم لأنه قديم، ¬

_ (¬1) والأجود في مثل هذا الموضع «الأمَّات» وفي الوالدات الحقيقيات «الأمهات». (¬2) «مُعْلَم» على وزن مُعْجَم خيرٌ عندي من مَعْلَمة التي سمّوا بها الإنسكلوبديا.

وأعدّها من نفائس الآثار، وهي في مقدمة الكتاب. و «بلوغ الأرب» للألوسي، وقد أورثني التعصّب للعرب والمبالغة في ذلك، ثم علمت أنْ قد كان فيه زيف كثير كما كان فيه صحاح كثير، وما زلت أحفظ جملة صالحة من أخباره صحيحها وباطلها. و «الأغاني»، قرأته كله، أعني أخباره وقصصه دون ما فيه من أسانيد وأصوات وأشعار وأنساب، وهو رأس مالي في الأدب، وقرأت «الكشكول» و «المِخلاة»، و «مراقي الفلاح» في الفقه الحنفي، ألزمني والدي قراءته، أسبغ الله عليه رحمته. و «شرح رسالة ابن زيدون» المطبوع على هامش «الغيث المنسجم» ... وكانت طريقتي في المطالعة أني إذا فرغت من دروس المدرسة دخلت مكتبتنا فتخيرت كتاباً فأخذته فنظرت فيه، فإن أعجبني مضيت فيه لا أدعه حتى أتمه، وإلا أخذت غيره. لا أستعين على ذلك بمرشد ولا أستهدي بهاد، إلا ما كان شيخنا الأستاذ اللغوي الشيخ عبد القادر المبارك يسمّيه لنا من الكتب ويرشدنا إليه. وكنا نأخذ الأدب عن الأديب الضليع المتفنّن الأستاذ سليم الجندي، وكان يحذّرنا -جزاه الله خيراً- أن نقرأ الجرائد والمجلات وكتابات أهل العصر (على اعترافه أن فيهم من أطفأت شمسُه بدورَ البلغاء من الأوائل) خشية أن نسيء الاختيار فتصيبنا عدوى الركاكة، وهي شر من عدوى الكوليرا والجذام! فدخلت الجامعة وأنا لا أعرف من العصريين إلاّ المنفلوطي رحمه الله، وكنت أظنه أبلغ كتّاب العصر ولا أعدل بأسلوب «نظراته» شيئاً حتى وقع في يدي «رفائيل» للزيات، فوجدته كنزاً من أغلى كنوز النثر وصَغُرت معه «عبرات» المنفلوطي حتى صارت كلا

شيء. ثم عرفت الرافعي وقد أصدر كتابه «تحت راية القرآن» (رفع الله به درجاته في الجنة)، فعلمت أن الله قد خلق مَن هو أبلغ من المنفلوطي، إي والله، ومِن عبد الحميد وابن المقفع وابن العميد، ومَن كنا نراهم يومئذ أئمة البلاغة واللَّسَن. على أني لم أنسَ المنفلوطي وترجمت عن شكري له ولأستاذيّ الجندي والمبارك بإهداء الثلاثة كتابي «الهيثميات»، وهو أول كتاب ألفته سنة 1930، (وعلى أن رأيي في الرافعي قد بدّلته الأيام فلم أعد أستحسن من الأساليب إلا ما قارب الطبع وبَعُدَ عن الصنعة) (¬1). أقول: إني أحسست بعد قراءة ما ذكرت من الكتب بشيء تجيش به نفسي فنفست عنها بمحاولة الكتابة، فاستوى لي مقال نسيت اليوم موضوعه، قرأته على رفيقي أنور العطار (وكان يومئذ يجرب قول الشعر)، فأشار عليّ أن أنشره، فاستكبرت ذلك. فما فتئ يزيّنه لي حتى لنت له، وغدوت على إدارة المقتبس، وكانت في شارع السنجقدار العظيم الذي صار خرائب وأطلالاً. فسلمت على أبي بسام الأستاذ أحمد كرد علي رحمه الله ورحم جريدته ... ودفعت إليه المقال. ولم يكن من إخواننا من يعرف طريق صحيفة أو يجرؤ على النشر فيها. وكنا يومئذ متلبسين بجريمة الحياء التي أقلع عنها شباب اليوم والحمد لله الذي لا يحمد على المكروه سواه! فنظر في المقال فرأى كلاماً مكتهلاً ناضجاً، ونظر في وجهي فرأى فتى فطيراً، فعجب أن يكون ذاك من هذا، وكأنه لم يصدقه فاحتال عليّ ¬

_ (¬1) ما بين القوسين إضافة بخط الشيخ على المقالة لم تظهر في الطبعات السابقة من الكتاب (مجاهد).

حتى امتحنني بشيء أكتبه له زعم أن المطبعة تحتاج إليه فليس يصح تأخيره، فأنشأته له إنشاء من يسابق قلمه فكره، فازداد عجبه مني ووعدني بنشر المقال غداة الغد، فخرجت من حضرته وأنا أتلمس جانبَيّ أنظر هل نبتت لي أجنحة أطير بها لفرط ما استخفني السرور. ولو أني بويعت بإمارة المؤمنين ما فرحت أكثر من فرحي بهذا الوعد. وسرت بين الناس وكأني أمشي فوق رؤوسهم تعالياً وزهواً. وما أحسبني نمت تلك الليلة ساعة، بل لبثت أتقلب على الفراش أتصور أيَّ جنة من جنات عدن سوف أدخل في غداة الغد ... أيَّ كنز سأجد. وجعلت أترقب الصباح ولا ترقب عاشق متيم ينتظر وصلاً بعد طول الهجران، حتى إذا انبثق الصبح وأضحى النهار أخذت الجريدة، فإذا فيها المقال وبين يديه كلمة ثناء لو قيلت للجاحظ لرآها كبيرة عليه! * * * وعدت أنظر إلى الجريدة القديمة الصفراء وهي ماثلة بين أوراقي، وأفكر في هذا الأدب ماذا جني عليّ وماذا جنيت منه. لقد سرت بعد تلك المقالة أعدو في طريق النشر، فكتبت في جرائد الشام ووفدت على خالي الأستاذ محب الدين الخطيب في مصر، فأخذ بيدي وسدد خطواتي وكان لي أفضل مرشد ومعين، وأفدت من خلقه ومن علمه ومن ماله. ثم عدت إلى دمشق، ثم اتصلت بالرسالة، صديقة روحي وسميرة وحدتي، وكانت لي خير مدرسة، فيها الأستاذ الزيات خير مدرس. وكنت إذا نظرت في كتاب، أو أصغيت إلى حديث، أو ضمني مجلس، أو شملتني عزلة، أو اضطجعت لأنام، أو نهضت

من منام، أو ذكرت ماضياً، أو فكرت في آت، أو أغمضت عيني متأملاً، أو فتحتهما على مشهد من مشاهد السماء والأرض ... أجد في كل ذلك موضوعاً لمقالة أكتبها أو فصل أُنشئه، وأجد الهمة حاضرة والذهن نشيطاً. ثم كرّت أيام وغبر دهر، وأصبحت لا أستطيع أن أخط سطراً على قرطاس، وإذا كتبت لم أدر كيف أكتب ولا لماذا. وأبعث بالذي أكتبه إلى «الرسالة» مضطرب الأعصاب مزلزلها، فإن أخّرَتْه غضبت، وإن ألفَيتُ به تطبيعاً وخطئات لم ينتبه لها المصحح تألمت، وإن وجدته نسب إليّ ما لم أقل وجعل في المقالة أخطاء تدل على جهل الكاتب وما هي مني ولا أنا صاحبها عزمت على ترك الكتابة بالمرة وكَبُر عليّ الأمر. ثم إن جاءت المقالة منشورة قرأتها مرة لأطمئن عليها ومرة لأنقدها مجرّداً من نفسي ناقداً لها، ثم أرميها فلا أطيق النظر فيها، ولا أجد من يحدثني عنها كأني أكتب لصخور الجبل لا لبني آدم! فماذا أفدت من الأدب؟ أما إني لم أجد الأدب إلاّ عبثاً ولم أجد الأدباء إلاّ مجانين! يسعى الناس وراء المال ويسعون وراء سراب خادع يسمونه «المجد الأدبي»؛ كلما أقبلوا عليه نأى عنهم فما هم ببالغيه حتى يموتوا ... وما ينفع ميتاً ذكر في الناس ولا يغني عنه مجد، ما ينفعه إلاّ ما قدّم من عمل صالح. ولقد كان رفيقي سعيد الأفغاني أعقل مني، إذ كان يمد شفته ساخراً كلما حدثته عن آمالي في الحياة ورغبتي في أن أكون كاتباً يشار إليه بالأصابع، وكنا يومئذ في المدرسة الثانوية نتسابق إلى مطالعة الكتب ونتبارى في تلخيصها والملاحظة عليها. فما صنع الزمان بآمالي؟ لقد أراني أني كنت أسعى أطلب السراب فلا أصل إلى شيء، وما ثمة شيء حتى أبلغه!

هذه هي قصة ابتلائي بهذا الأدب الذي أنا تاركه اليوم، أو ظانٌّ أني تاركه، ومقبل على الفقه أجدّد العهد بما قرأت من كتبه وواهب له قوّتي ووقتي (¬1)، فليهنأ الذين يجدون فيّ سداً في وجوههم أن يبلغوا من الأدب ما يريدون، والذين يرون أني مزاحمهم على هذا المورد الآسن. ولقد كنت أهزل يوم كتبت أفضل الأدب على العلم، وأين من أين؟ وهل تستوي الحقائق والأوهام؟ وهل من علمٍ يوازي علمَ الفقه ويضارعه شرفاً، وبه يُعرف الحلال من الحرام، وبه تضمن الحقوق ويدرأ الخصام ويعم السلام ... ؟ ولئن فزع الشباب من زيِّ أهل الفقه وخافوا أن يوصَموا بالجمود والرجعية، فما يُفزع ذلك مَن سمِّي بالشيخ وارتضاه له اسماً، ولا تثقل عليه عمامته إن كوّرها ولا لحيته إن أطلقها ... وللثياب، لا جرم، عمل في تكوين طبائع المرء وتوجيه سيرته، فأنت حين تتخفف من الثياب أو تتخذ ثياب أهل الرياضة (السبور)، فتلبس السراويلات المناكير القصار أو التبّان، تشعر بالخفة وتميل إلى القفز والتوثب وتكره القرار على الأرض، فإن أطلت لبسه أوشك أن يكون ذلك لك عادة. وإن لبست الجبة ولبثت على هامتك العمامة ملت إلى التوقر والرزانة، ولم تستطع أن تأتي ما هو مناف لها، وتنزهت حتى عن قعود في ¬

_ (¬1) أراد الله بعلي الطنطاوي الخير ففتح له باب القضاء في السنة التي نُشرت فيها هذه المقالة، فانقلبت نيّته التي صرّح بها هنا واقعاً عاشه إلى آخر أيامه، وانصرف إلى الفقه والقضاء والفتوى. أسأل الله أن يجعل ذلك له في ميزان حسناته وأن يكون ما ترك منه من العمل الصالح الذي لا ينقطع أجر صاحبه بعد مماته (مجاهد).

قهوة أو ولوج سينمة، أو إسراع في مشية في طريق، أو مزحة نابية أو قهقهة مقرقعة في مجلس ... وتتطبع على ذلك حتى يعود لك طبعاً. وإن اتخذت (البرنيطة) جنحت بالضرورة إلى مصاحبة أهلها ومجالستهم، وملت عن المساجد ومجالس العبادة ولو كنت مصلياً متعبداً، ومن هنا جاء النهي عن التشبه بغير المسلمين، والأمثلة على ذلك كثيرة ... على أني إن تركت الأدب فما أنا بتارك الكتابة. وإنّ من الكتابة لعلماً، وإن منها لإصلاحاً، وإن منها لما ينفع الناس ويدلهم على طريق الخير ... كما أن من الكتابة ما هو ثرثرة جميلة وتسلية سخيفة ولغو من القول يذهب جفاء ... فلينظر ذوو الأقلام ما يأخذون منها وما يدَعون، ولينظر القراء ما يقرؤون منها وما يهملون! * * * أعتذر إلى القراء مرة ثانية من الحديث عن نفسي، فإنه أثقل الأحاديث على أذن السامع، ولكنها صناعة الأدب، قاتلها الله! ولقد أردت -حين شرعت في هذه المقالة- أن أقول أشياء كثيرة زورتها في نفسي وأعددتها، فلما بلغت الكلام عن أول درس ألقيته، وذكرت هذه المرحلة من حياتي التي قضيتها معلماً وتنقلت في الآفاق، ورأيت فيها من المتع والآلام ومن بيض الليالي وسود الأيام ما لا يعلم حقيقته إلا الله ... وما لم أصف في مقالاتي في «الرسالة» إلاّ الأقل الأقل منه ... لما بلغت ذلك اعتلج في نفسي من العواطف وثار فيها من الذّكَر ما عقل قلمي وحبسه عن المسير.

وكيف أجمع في مقالة واحدة ما تفرق من قلبي في جنّات دمشق وقد علّمت في كل مدرسة فيها، وفي «الحرش» الفتّان من بيروت حيث الكلية الشرعية، وعلى الشاطئ الوادع من دجلة حيث الثانوية المركزية، وفي طريق الأُبلّة إحدى متنزهات الدنيا الأربعة حيث الثانوية البصرية، وعلى سِيف الفضاء الأرحب من كركوك بلد الذهب الأسود الذي يشتعل أبداً، وعلى ضفة الفرات الجميل في دير الزور، البلد الكريم أهله ... وحيث أذكر ولا أذكر؟ إنها لتخطر على قلبي -الساعةَ- آلافٌ من الصور التي مرت من قبل على عينيّ، بل إني لأبصر الآن الآلاف من وجوه زملائي في التعليم وتلاميذي الذين أحببتهم، تنبعث من ظلام الذكريات ثم تطيف بي محيّية باسمة تتلو عليّ قصة نفسي، وتعيد إليّ ما مضى من عمري، فكيف إلى الاجتماع بهؤلاء الأصدقاء لأودعهم قبل أن يتجدد الفراق، ولأحدث بهم عهداً؟ كيف وقد تفرقوا تحت كل نجم؟! كيف وقد علا منهم مَن علا وهبط مَن هبط، وشغلتهم شواغل الحياة فلم يعودوا يذكرون معلّماً ولو لم ينسَهم ذلك المعلم! كيف ومنهم الوفي ومنهم الجاحد والناس معادن ... يا رحمة الله للمعلمين، لمن كان له منهم قلب! وسلام على أيامي التي صرّمتها معلماً ... وعلى كل من يقرأ هذا الفصل من زملائي وتلاميذي، ولهم مني أوفى حبي، وتحيات قلبي. * * *

وقفة على طلل

وقفة على طلل نشرت سنة 1945 [في حمى المسجد الأموي وفي ظلال سوره العالي، بين مثوى البطل الأجلّ الملك الناصر صلاح الدين والمدرسة الكلاّسية الأثرية، وبين المدرستين السميساطية والإخنائية، تقوم المدرسة الجَقْمَقية الخالية المائلة التي بناها سنجر الهلالي، وجدّدها الملك الناصر سنة 761 هـ، ثم احترقت فجددها الأمير سيف الدين جَقْمَق فنُسبت إليه.] ما مررت بهذه المدرسة الخربة المعطلة وذكرت ما أودعتها من عواطفي وما تركت فيها من حياتي إلاّ تلفت القلب، وصغى الفؤاد، واعتلجت في النفس خواطر وانبثقت للعين صور، أقر بالعجز عن صوغها ألفاظاً مقروءة وجملاً ووضعها في هذه القوالب الجامدة الضيقة وهي أشد انطلاقاً من النور وأوسع من الزمان ... ولا أجد -إذا أردت وصفها- إلا هذا الحديث المعاد وهذا القول المكرر المعار الذي لا يفتأ الشعراء من عهد امرئ القيس، الذي وقف واستوقف وبكى واستبكى، يعيدونه ويرددونه، وهو ما يزال جديداً في كل قلب سريعاً إلى كل لسان ... فأسائل هذه الجدران المائلة، وأخاطب ... هذه الغرف الخالية. وآه! لو تصف

هذه الجدران ما رأت وتنطق الأبواب، وآه! لو تعي المغاني وتحدّث المباني! وأنّى؟ وما وعت قلوب الناس ولا وفت حتى يفي الجماد! هذه نفسي أسائلها: هل تعرف النفوس الوفاء، وهي تدور مع الدهر الدوار كيفما دار، تلبس لكل حالة لبوسها وتتخذ لكل يوم ميزانه؛ فيهون عندها اليوم ما عزَّ بالأمس، ويرخص ما غلا ويغلو ما رخص، نرى الشخص فلا نباليه وقبلاً كان مناط حبنا، وكنا نقنع إن كان وصله حظنا من دنيانا أو كان موضع إكبارنا وكان رضاه نهاية متمنانا، ونمر بالمكان لا نلتفت إليه وفيه ذقنا حلو العيش ومره، وفيه أثر من أنفسنا وفيه بقايا من أعمارنا؟! لقد عشت دهراً لو قيل لي فيه إنه سيأتي عليك يوم تجوز فيه بهذه المدرسة فلا تقف عليها إلاّ وقفة التذكر والحنين، ثم تمضي لطيتك وتنساها بعد خطوات، لما صدقت! فكيف هانت عليّ هذا الهوان وقد كانت بالأمس نصف دنياي؟ وهل دنيا التلميذ إلاّ داره ومدرسته والطريق بينهما؟ وقد كانت أبداً في فكري وحسّي: في الصباح حين أتوجه إليها، وفي النهار حين أكون فيها، وفي المساء حين أعود منها؛ قد تجمعت فيها أفراحي كلها وأتراحي وأصدقائي جميعاً وأعدائي، وكانت بضعة مني. بل كيف أنكرت ذلك الطفل الذي كان في سنة 1918 تلميذاً فيها يحمل اسمي وملامح وجهي؟ كيف جوزت لنفسي أن أطّرح آراءه، وأهزأ بأفكاره، وأحقّر ما كان يعظمه؟ لقد ذهب المسكين ولا أدري أين ذهب، وجئت من بعده، ولكني لم أنسَ حوادثه. فهل الذاكرة هي الشيء الفرد الذي يبقى ثابتاً في الإنسان على حين تبدل العقول والأجسام؟

سلوا الفلاسفة إن كان عندهم علم، فما أنا بحمد الله من أهل الفلسفة! * * * سلوا الفلاسفة ودعوني أسترجع على باب هذه المدرسة أيامي التي ولّت. ولئن عاد أقوام إلى ماضيهم ليستريحوا إليه ويتسلوا بادِّكار أحداثه، فإنما أعود إلى الماضي لأحيا فيه، وأفرُّ إليه من حاضر أمقته وأجتويه. وأنا رجل كلما تقدمت به السنُّ ازداد إيغالاً في عزلته وهرباً من جماعته، فكأنه يقطع كل يوم خيطاً من هذا الحبل الذي يربط زورقه بآلاف الزوارق الصغيرة التي تمخر عباب الحياة مجتمعة، كما كانت تجتمع السفن إذ تجوز بحر الظلمات، فلا تخوض فيه ماء بل ناراً (¬1)، ناراً من تحتها لا تعلم متى تتفجر فتزلزل أرض البحر وتشعل جبال الموج، وأخرى من فوقها تحط عليها السماء رجوماً وتفتح عليها من جهنم أبواباً ... وإن عباب الحياة لأشد من ذلك شدة وأعظم هولاً. حتى غدوتُ وقد رثَّ حبلي وتصرّم إلاّ خيوطاً؛ طائفة من الأصحاب لا يبلغون عد أصابع اليدين، وأماكن هي أقل من ذلك، لا ألقى سواهم ولا أرتاد غيرها. ولم يبق لي في لياليّ الطوال مؤنس أو سمير إلاّ هذه الكتب التي مللتها وملّتني وصارت مودّتها تكلفاً وحديثها مملولاً، وهذا الماضي أزدادُ كل يوم تعلقاً به وحنيناً إليه، أما المستقبل فأخافه ولا أجرؤ على التفكير فيه. لذلك تراني إن لقيت رفيقاً من رفاق الصبا استوقفته وشممته ¬

_ (¬1) أي أثناء الحرب العامة الثانية، وبحر الظلمات هو البحر الأطلسي.

علّي أجد في ثيابه عبقاً من أزاهير الماضي الحلو الذي سَرَبْنا فيه جميعاً، يحملنا مرح الطفولة وعبثها اللذُّ، فجسنا خلال رياضِهِ وأوغلنا في دروبه المعشبة ومسالكه التي فتَّح على جانبيها الأقحوان وضحكت الشقائق، أحاول أن أستطلع من وراء هذا الشباب الذي نالت منه الليالي حتى أشرَفَ على الكهولة وهدّته مطالب العيش وأخذت منه رواءه وبهاءه، فبدا كالشجرة المنفردة القائمة على شفير الوادي عاجلها الخريف ببرده وعواصفه ... أحاول أن أرى من ورائه طلعة «ذلك» الصبيّ الفرح أبداً، الضاحك اللاهي، الذي كان رفيقي يوماً والذي أحببته وقاسمته مرحه ولهوه ... فإذا لم أرها أُبْتُ أجُرُّ رجلَ خائبٍ فُجِعَ في أعزّ آماله وفقد أحب أمانيه إلى قلبه، وإن وقفت على معهد من معاهد الصغر أو ملعب من ملاعب الطفولة فتّشت في زواياه وأركانه، وتحسست الحجارة من جدرانه، علّي أجد بينها ذكرى حلوة قد خبأتها يوماً ونسيتها. ولذلك وقفت اليوم على «الجقمقية»، ولكني لم أجد فيها ما أريد. لقد عدا سارقان على أحلى ذكرياتي فسرقاه في غلس الليل كما يسرق النبّاشون الذهب من قبور الفراعنة، ولم يدَعا لي إلاّ كل تافه حقير. فبماذا أتحف القراء بعد الذي صنعه معي هذان اللصان: الزمان والنسيان؟! * * * هذه هي المدرسة التي أودعتُها عهد الطفولة وذكرياته العذاب، لا تزال قائمة جدرانها ماثلاً بنيانها، وهذه هي الطرقات التي كنت أسلكها غادياً إليها من داري ورائحاً منها إليها، وهذا هو «الأموي» العظيم الذي كنا نعرّج عليه كل يوم بكرة وظهراً وعشياً،

وما بيننا وبينه إلاّ أن نخرج من باب المدرسة فندخل من بابه، نغافل «الحسكي» ونقفز فيلحقنا بعصاه ونحن نتضاحك ونروغ منه، نعدو في صحن الجامع الواسع النظيف حتى يكل المسكين ويتعب فيدعنا مكتفياً بما تسعده به قريحته من روائع فن الهجاء، فإذا انصرف عنا وذهب الحافز لنا على اللعب عقلنا ودخلنا نستمع إلى أصحاب الحلقات فيه. هذا هو الأموي لا يزال على عظمته وجلاله، لا يدانيه في وسعته وفخامته مسجد في دنيا الإسلام، غير أن صورته في ناظري قد تبدلت وامّحت روعتها وبطل سحرها. وماذا تصنع الجدران والسقوف إذا ذهبت الوجوه ومضى الساكنون وتغيرت الروح؟ لقد أضحى الأموي غيرَ الأموي؛ فلا دروسه تلك الدروس ولا علماؤه أولئك العلماء ولا جوّه ذلك الجو. إن المدن كالأشخاص؛ تُخلق كل يوم خلقاً جديداً. وقد ماتت دمشق التي نشأنا فيها، دمشق الإسلامية المرحة الفاضلة التي لم يكن فيها ماخور مشهور ولا ميسر ظاهر ولا عورات باديات ولا حانات ولا مُلهيات، وكانت فيها المرأة لبيتها والرجل لأهله، والعلماء عاملين بعلمهم مطاعين في أمتهم، والحي كالبيت الواحد في تعاون أهله وتعاطفهم، والمساجد عامرة والرجولة بادية، وأهل الدين لا يأكلون به الدنيا ولا يتخذونه تجارة ... فيا أسفي على دمشق التي ماتت! ويا رحمة الله على تلك الأيام: أيام لم نكن نعرف من الدنيا إلا المتع الفاضلة والفضائل الممتعة، نلهو ونلعب ولكن لا كلهو فتية اليوم ولا كلعبهم. كان أقصى ما نأتيه أن نركض في الأموي، أو ننقسم عند المساء قسمين فنقيم بيننا سوق حرب سلاحها المقالع والعصي. وقد نجرح أو نكسر، ولكننا نتعلم الرجولة والقوة، ثم نرجع متفقين. وأن نتلهى عن الدرس بقراءة

قصة عنتر وحمزة البهلوان، نتلقى منهما ما ينقصنا من علم الكر والفر والمبارزة والقتال وأن نمكر بالمدرسين، وإن أممنا لهواً وأردناه فشهود خيال الظل (كراكوز)، وهو سينما تلك الأيام، ولا يراه منا إلا مقدوح في خلقه. أما التأنق والتجمل والترقق فلم نكن ندري منه شيئاً، وكان من العيب في أيامنا لبس البذلات لما تصور من أعضاء الجسم، فكنا نجيء إلى المدرسة بالقنابيز (الجلابيب)، وكنا نتعجل الشباب فنتخذ دواء (كان معروفاً) يطول به الشارب وينمو به قبل الأوان. فأين أيامنا في هذه المدرسة، وهل تعود هذه الأيام؟ أين ذلك الشيخ الحبيب إلى كل نفس الجليل في كل عين، شيخ الشام ومعلمها ستين عاماً ... ستين عاماً وهو دائب على علمه العظيم يأخذ من هذه الأمة أطفالاً صغاراً فيردهم إليها شباباً متعلمين، يصب من عقله الذي يزيد على البذل في أدمغتهم، ومن إيمانه في صدورهم، فتعلم منه الولد وأبوه وجده. إي والله، هذه سجلات مدرسته فسلوها تنبئكم. ذلك هو الإمام الشيخ عيد السفرجلاني (¬1). * * * هذه هي المدرسة! هذا البنيان فأين السكان؟ أين رفاقي فيها؟ أين من كان يجمعهم مقعد واحد وكانوا سواء في كل شيء لا يَميز أحد منهم على أحد إلا بمقدار ما ينجح في درس أو ينال ثناء من أستاذ؟ وكان فلان الفقير عريف الصف والمقدَّم في التلاميذ، ¬

_ (¬1) انظر قصة «نهاية الشيخ» في كتاب «قصص من الحياة» لعلي الطنطاوي (مجاهد).

وكان الشيخ يتخذ منه مثلاً مضروباً لأبناء الأغنياء، ويبشره بالمجد والمال والرتب وبأنه سيمشي على الورد المفروش حين يمشي أولئك على الشوك. رحمك الله يا شيخنا، فلقد أصبت في كل ما كنت تقول إلاّ في هذا. تعال انظر ترَ الدهر قد ضرب بيننا، ففرق الإخوان وشتت الخلان، فتفرقوا في آفاق الأرض وانتثروا على سلم الحياة علاء وخفضاً، وسار الأكثرون على الأشواك فدميت أقدامهم الحافية، ومشى قوم على الورد والفل والياسمين وحازوا المال والمجد والرتب، ولن أسمّي لك أحداً كيلا أفجعك بآرائك وفضائلك! لا، لا أحب أن أعود إلى هذا الحاضر فدَعوني أستمتع بادِّكار ماضيّ كما يستمتع المنقطع في البادية بما بقي في سفرته من زاد المدينة التي خرج منها وأضاع طريق العودة إليها. إني أبصر كل ما حولي قد تغير فأُنكره وأحسّ كأني صرت غريباً في وطني، ولقد كنت أنا وأخي أنور العطار لا نزال نحِنّ إلى الوطن ونراه في صفحة البدر عند المطار، وفي صفحة دجلة على الجسر، فتسيل قلوبنا رقة وشوقاً ونحن في بغداد بلدنا وبلد إخوة لنا أعزة كرام، وطريق الشام مفتوح، فكيف بمن صار يحسّ أن وطنه قد طواه الزمان واختبأ وراء السنين ولم يبق إليه من سبيل؟ فيا أيتها المدرسة، خبّرينا: لماذا لا نستطيع أن نعود أدراجنا في طريق الزمان كما نملك أن نرجع في طريق الأرض؟ لماذا لا نقدر أن نقف في الفترة السعيدة من أعمارنا كما يقف المسافر في البقعة الجميلة إذا جاز بها؟

إذن لعدت أدراجي فلصرت العمر كله تلميذاً فيك، أستمتع بجوار ذلك الشيخ النوراني وأعيش في جو أنيس من نصائحه ومواعظه وقصصه، وأبقى أبداً ذلك الطفل الذي لا يدري ما الشرّ ... هذا ما تمنيت أن أكونه، وهيهات أن تتحقق الأماني الكواذب! * * * إني كلما رأيت هذه المدرسة خالية خاوية خربة لا يحفل بها أحد ولا يذكر شيخها إنسان، أيقنت أن الجحود سجية في هؤلاء الناس. أتنسى دمشق شيخها ومعلمها الذي أحسن إليها؟ إن هذا الشيخ لم يكن عالماً مؤلفاً ولا سياسياً حاكماً ولا فيلسوفاً مفكراً، ولكنه بنى في نهضة دمشق ركناً لم يبنِ أضخم منه عالمٌ ولا حاكم ولا فيلسوف. لقد كان معلم أولاد ولكن أولاده صاروا قادة هذا البلد، لقد أنشأ مدرسة منظمة يوم لم يكن في دمشق إلا الكتاتيب، لقد كان مربياً بالفطرة لم يقرأ بستالوسي ولا تعلم أصول التدريس، ولكنه كان أحسن مربّ رأيته (¬1). فيا أيها القراء، لا تقولوا: ومَن الشيخ عيد السفرجلاني؟ وما له يملأ صفحات الرسالة بأخبار نَكِرة في الرجال؟ فكم في ظلام النسيان من عظماء حقاً، وكم في ضياء الشهرة من أصنام قائمة نظنها ناساً وهي مبنية من جامد الصخر أو بارد النحاس! * * * ¬

_ (¬1) تحدث عنه جدي في مقالة «مع بعض مشايخي»، وهي في آخر كتاب «رجال من التاريخ» (مجاهد).

بعد المرض

بعد المرض نشرت سنة 1937 ... يقولون إن الإنسان يأكل ليعيش، ولكني أعيش في هذه الأيام لآكل. آكل بشراهة ونهم حتى أحسّ الامتلاء ولا يبقى في المعدة مكان لذرّة، فأدع الطعام آسفاً وأنظر إلى الأطباق وما فيها نظرة المودِّع الحزين، ثم أقوم إلى كتابي فأفتحه أو إلى شبّاكي أطلّ منه، أتلهّى بهذا أو بذاك حتى أحسّ (أو أتوهم أني أحسّ) جوعاً، فأدعو بالطعام، أو تمضي ثلاث ساعات، فآكل ولو لم أكن جائعاً ... ألم يقل لي الطبيب: كُلْ كلَّ ثلاث ساعات؟! ذلك لأني لبثت عشرين يوماً أشتهي قطعة الخبز فأطلبها وألح في طلبها فتمتنع عني، وأُحرمها فأراها في منامي، وأحلم بها في يقظتي تجسمها لي أمانيّ وأفكاري فأتخيل أني قد نلتها، فإذا أنا لم أنل إلا هذا اللبن (الحليب) الذي برمت به واجتويته، والذي يفضّل المريض رؤية عزرائيل على رؤيته يطالعه في الصباح وفي المساء، والذي كرهت لأجله كل أبيض ... حتى بياض الفجر وبياض النحر! والذي أصبح قذىً في عيني لا أطيق رؤيته وسمّاً في فِيّ لا أقدر على تذوقه ... ثم فرّجَ الله عني بعد الضيق وأنالني ما أشتهي من الأطعمة وأريد، فكيف لا أهجم عليها بشراهة ونهم،

وكيف تبلغ بي الحماقة أن أقوم عن المائدة وفي الأطباق بقية؟ * * * لا أكاد أشبع من الطعام ولا من القراءة ولا من النظر في هذا الفضاء الفسيح، وهذه الجنات المتسلسلة تبدو من شبّاكي يعانق بعضها بعضاً حتى يستلقي آخرها في أحضان قاسيون ... لا أكاد أشبع من شيء لأني خرجت من هذا المرض كمَن وُلد ولادة جديدة، فهو لا يعرف الدنيا قط، وهو ينظر إليها بعيني طفل ذكي يدهشه كل شيء ويود لو يمتلكه ويأكله أو تحتويه يده ... ولأني خرجت منه ضعيفاً مهدوداً ولقد كنت من قبله قوياً نشيطاً. استحممت يوماً في البحر، ثم خرجت منه متوثباً متحفزاً أكاد أطير مما أحسّ في جسمي من النشاط، فسرت على الشاطئ حتى حاذيت الصخرة «الروشة»، تلك الصخرة القائمة في البحر كأنها الطاق العظيم، أو كأنها قوس نصر أقامه الماء الهيّن الليّن الذي انتصر بصبره وثباته في جهاده على هذه الصخرة العاتية المتكبرة فجعلها فارغة جوفاء، ولا تزال على عتوها وكِبرها ... سنّةَ الله في المتكبرين، لا يكونون إلاّ فارغين! تلك التي يدْعونها في بيروت «صخرة الانتحار» لأن المجانين، أعداء أنفسهم وأوطانهم، يلقون بأنفسهم منها يثبون إلى ... إلى جهنم! وكانت الشمس مائلة إلى المغيب، تمنح البحر آخر هباتها فيبدو براقاً لامعاً قد لبس حلّةً من النور، فأكبرت هذه المخلوقات: الشمس والبحر والصخر، ووقفت صاغراً حيال عظمة الطبيعة وجلال الطابع (جلَّ جلالُه)، ثم غلب عليّ هذا النشاط الذي أُحسّ وبلغ دماغي فملأه ادعاء

وكبراً وغروراً، والمرء في فكره وعواطفه خاضع أبداً لحالة جسمه ودرجة صحته، فرأيت هذا الصخرَ إلى زوال قد عبث به الماء، والماءَ إلى ذهاب قد بخرته الشمس، والشمسَ إلى غياب قد ابتلعها البحر، ورأيتني وحدي الذي يبقى، أنا الذي فتَّتَ الصخر وأنا الذي أذلّ البحر وأنا الذي اتخذ الكون كله معمل تجارب لعقله وسخَّره لمنفعته، وأنا الذي يحوي في صدره عالَماً أكبر من هذا العالم ونوراً أبهى من هذه الشمس، وعواطف أعمق من هذا البحر وأرقَّ من هذا الماء وأشد من هذا الصخر ... وذهبت إلى المدرسة وأنا أقول «أنا»، والعياذ بالله من «أنا» فإنها كلمة إبليس ... ذهبت ماشياً فأكلت من فوري أكل من لبث في البحر ساعتين، ومشى ساعة كاملة، من الروشة إلى الحرج، وكانت سكرة النشاط ونشوة «أنا» لا تزال ضاربة في رأسي، فذهبت مع الطلاب أمشي وأعدو وأثِبُ وأفعل كل ما لا يفعل عاقل، ولم أعد إلى المدرسة إلاّ غارقاً في العرق فشربت قازوزتين (¬1) مثلّجتين من «القازوز» وصارعت ... واغتسلت بالماء البارد، ونمت فأصبحت مريضاً! * * * يا لهذا المغرور الأحمق الذي أصاب ذرة من العلم، وعبث بالكون عبث الوليد يرفع ويضع، فلم يعد يرضيه إلاّ أن يدّعي الألوهية أو «يؤلِّه» هذا العلم ... يا لهذه القوة الكاذبة وهذه السطوة الفارغة، هذا القويّ الجبار الذي فتت الصخر وأذلّ البحر، يذلّه ¬

_ (¬1) القازوزة: القارورة الصغيرة.

مخلوقٌ من أصغر مخلوقات الله لا تراه لهوانه العين، يعيش الملايين منه في قطرة ماء، مخلوق واحد من أضعف المخلوقات يلقي الإنسان محطوماً، ويطيِّر هذه الأفكار كلها من رأسه حتى يعود ذليلاً خانعاً ... فكيف -ويحك- لو أصابك الله بعذاب من عنده؟ يا للأحمق المغرور! * * * أصبحت فإذا أنا قد نسيت أفكار الأمس ونسيت الأمس كله، وأحسست بالبعد عن الدنيا التي آلفها وأحبها. ولقد انقطعنا مرة في قلب جزيرة العرب، وتهنا في رمالها الموحشة سبعة عشر يوماً نسير وراء حدود العالم مع الوحش والآكام والشمس والعطش والموت، فما أحسست بأني بعيد عن الدنيا ولا بلغ بي ذلك كله ما بلغ بي هذا المرض القصير ... لقد أصبحت بلا ماض ولا مستقبل ولا حاضر إلاّ هذا الحاضر الضيق الأليم الذي يستقر في بطني حيث «الزائدة» الملتهبة، وفي خاصرتي حيث الرمل في الكلية. اصطلحت عليّ العلل واجتمعت المتناقضات، فالالتهاب لا يطفئه إلاّ كيس الثلج، ونوبة الرمل لا يصلحها إلاّ الماء الحار، فإن داويت هذه زدت تلك، وإن عالجت تلك انتقضت هذه! * * * أنساني المرض كل شيء، حتى ما أذكر أني كنت يوماً من الأيام أمشي وآكل وأشرب وأقرأ وأكتب وأمارس أنواعاً من الرياضة، ولا أذكر أني كنت أستطيع التفكير في آلاف المسائل وأعالج المئات من الأمور، وماتت الدنيا في عيني وأصبح

هذا الألم دنياي كلها، فأنا أطلق الفكر من عنانه فلا يخرج عنه ولا يجول إلاّ فيه، يتخيل أبشع أنواع المرض وأفظع ألوان الخطر، ثم ينطلق الفكر إلى العملية التي أكّدَ الأطباء أنه لا بد منها، فلا يكاد يشرع في تصورها حتى تسودّ الحياة في عيني وأراها كلها ألماً وشراً، وأتمنى أن لو كان أبي على مذهب المعرّي أو لو أن أمي لم تلدني ... ويوسوس لي الشيطان أن ما حق أبيك في أن يقضي عليك فيجيء بك؟ أليست حياتك متعلقة بك وحدك؟ فهل استشارك فيها، أو هو قد ضحى بك وبحريتك وسعادتك في سبيل لذته، أو هو لم يفكر فيك أبداً ولم تخطر له على بال؟ ... فأرى الشيطان يريد أن يزيدني على مرض جسمي مرض ديني، فألعن الشيطان وما جاء به، وإن مما يجيء به الشيطان لمَا يسمونه فناً وابتكاراً وتجديداً، ولكنه يبقى أبداً فناً شيطانياً ... أدعُ هذا وأعود بفكري إلى سرير العمليات الذي حملني إليه المدير مرة ووكل بي الممرضات، وأقام عليّ طالبين يحرسانني وذهب إلى الطبيب يحضره، فوثبت أحمل أوجاعي وأناضل دون حريتي حتى بلغت الشارع حافياً، وركبت إلى الكلية أول سيارة رأيتها وأنجاني الله من العملية والأطباء (¬1)! والأطباء (والرجاء عدم المؤاخذة) قوم برئوا من العاطفة وانبتّوا من الشفقة، يشقّون بطون الناس -نسأل الله السلامة- ويخرجون أمعاءهم فيضعونها في طبق ... ويكسرون جماجم البشر ويعبثون في أدمغتهم، ويفعلون ما لو فعله غيرهم للحقه الشُّرَط واصطفّ له القضاة وفُتحت له ¬

_ (¬1) انظر تفصيلات هذه الحادثة في الحلقة 104 من «ذكريات علي الطنطاوي» (4/ 66) (مجاهد).

أبواب السجون وأعِدّت له حبال المشانق! ثم يتصدرون المجالس يفتخرون بأنهم أصدقاء الإنسانية ... أفأعطيهم بطني ليشقوه ويردّوني مريضاً بعد إذ أنا معافى وأتعجل الداء بنفسي؟ أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين! * * * لم يكن يفزعني شيء وأنا مريض مثل ما يفزعني الليل بسواده وامتداده؛ كنت أخافه أشد الخوف وأحسب لمجيئه الدقائق والثواني، وأرقبه كما يرقب المحكوم ساعة القتل، ذلك أني لم أكن أستطيع النوم ولا أطيق الجلوس، وإنما أستطيع أمراً واحداً هو الاضطجاع على قفاي أحدّق في السقف ليلاً ونهاراً ... ولطالما رأيت في السقف بقعة سوداء فخُيّل إليّ -لطول التحديق فيها- أنها حية تريد أن تنقضّ عليّ أو رُتَيْلاء كبيرة ذات تسع وتسعين رجلاً وعشرة رؤوس، أو مجموعة من العقارب أو عفريت من الجن أو جني من العفاريت، فأصيح فزعاً وأنطلق أهذي هذيان محموم حرارته أربعون! إني لأضحك الآن وأكركر من الضحك حين يعيدون عليّ ما كانوا يسمعون مني إذ أهذي، وأرى فيه صورة واضحة لكثير مما أقرأ في الصحف والمجلات ينشره أصحابه على أنه أدب ويقرؤه الناس على أنه ثرثرة وهذيان محموم! وكان أحبَّ شيء إليّ وأنا مريض أن يَكثر الناس من حولي، ثم يتحدثوا شتى الأحاديث لأخلص من وحدتي وأتسلى عن ألمي وأذكر جانباً مما في الحياة ... ولكني كنت أسمع أصواتهم كأنها خارجة من جوف بئر سحيق أو أعماق مغارة بعيدة، وأراهم من

خلال ضباب كثيف فلا أتبين صورهم ولا أصواتهم، وسرعان ما أملّ منهم وأطلب جديداً. كانت أيامي متشابهة متشاكلة فكنت أحب أن أجد كل لحظة شيئاً جديداً. ضعفت قواي وضاعت إرادتي ولم يبقَ لي طاقة على المشي ولا قدرة على المحاكمة العقلية، ولم يبق حياً فيّ إلا لساني ... أكُلّ ذلك لأن جرثومة صغيرة دخلت جسمي؟! يا لضعف هذا الإنسان القويّ! * * * تألمت في هذا المرض لكني تعلمت؛ تعلمت في الحياة درساً جديداً (وما الحياة إلاّ دروس ...) هو أن المرض نعمة ليس بنقمة، وأنه لازم للإنسان لا يدرك قيمة الصحة ولا يعرف معنى الحياة ولا يرجع إلى نفسه إلاّ إذا مرض، هنالك يدرك معاني هذه الأشياء التي يمرّ بها وهو صحيحٌ مرّاً سريعاً لأنه مشغول عنها بما لا نهاية له من الصغائر والترّهات. وإن للمريض -قبل لذّة الصحة- لذتين؛ لذة هذا العطف الذي يُحاط به والحب الذي يغمره ... ولن أنسى أبداً عطف مدير الكلية وناظرها عليّ وحبَّ الطلاب إياي، وإني لأسيغ ذكرى الألم إذا تصوّرت هذين الطالبين اللذين كانا يقيمان الليل كله بجانبي، إذا قلت «آه» أو انقلبت من جنب إلى جنب كانا واقفَين أمامي، آثراني على أهلهما وفضّلا راحتي على راحتهما، أما عطف إخوتي وأهلي فلست أذكره. ولذة أخرى، وهي اللذة الكبرى التي يجدها ساعة يلجأ إلى الله ويدعوه مخلصاً مضطراً. وكنت إذا وُصف لي مريض به مثل ما

بي اليوم يُدار بي من الرثاء له والخوف مما هو فيه، فلما غدوت مريضاً لم أجزع ولم أخف، وكانت تمرّ بي لحظات أضيق فيها بهذا القيد إلى السرير وهذا الألم، ويبلغ بي الضيق في الليل أقصاه، ولكنها كانت تمر بي لحظات كنت أرضى فيها كل الرضا، وأفيء فيها إلى ربي، وأرى ما أنا فيه امتحاناً لصبري ونعمة من الله تزيد في أجري، فأطمئنّ ويبلغ بي الأمر إلى أكثر من الاطمئنان ... إلى نوع من اللذة الخالصة لا أشعر بمثلها في الصحة، وإلى لون من النشاط القلبي لا أعرفه قط وأنا معافى. وأحسب أن لو أُصبت بأشد الأمراض وأقواها وأنا أقدر على هذا الرضا وأحس هذا الاطمئنان لما وجدت فيه إلاّ لذة! هذا ما كنت أجده لا أبالغ ولا أتخيل، فأرجو أن يصدّقني القراء. وهذه نعمة من نِعَم الله الخفية على الإنسان ومظهرٌ من مظاهر القوة الهائلة التي أعطاه، فلا يحكم الإنسان على المريض أو البائس بظاهره فيشكّ في عدل الله ورحمته، ولكنْ ليدخل إلى الداخل، لعلّ وراء الجدار الخَرِب قصراً عامراً، ولعل خلف الباب الضخم كوخاً خَرِباً، ولعل في هذه الثياب الرثة وهذا الجسم الممزَّق البالي نفساً مشرقة سعيدة وإنساناً كاملاً. عرفت من المرض أن المساواة التامة هي سنة الله في الحياة. انظروا المرض: هل يعرف غنياً أو فقيراً؟ هل يمتنع منه الملك الجبار رب القصر والحراس؟ وهل تمنع أبوابه وجنده هذا المخلوق التافه الصغير من الدخول؟ سدّ الأبواب وأغلق النوافذ وأقم الجند بالسلاح وعِشْ في صندوق مغلق ... إنه يدخل مع

الهواء الذي تنشقه والماء الذي تشربه والطعام الذي تأكله، ويحتل جسمك ويعيش في عينك وفمك ويسبح في دمك! ترفّعْ عن المساكين وتكبّرْ على الفقراء يُرجِعْك المرضُ إلى صفوف المساكين والفقراء، فتَالَم كما يَالَمون، وتصيح مثل ما يصيحون. وكل ما في الحياة يسوّي بينك وبينهم. هل تنشق -أيها الغني- من الهواء هواء معطَّراً وينشقه الفقير بغير عطر، أم أن الهواء (وهو قوام الحياة) لك وله، قد سُوّي فيه بينك وبينه؟ هل تشرب ماء العيون معسولة مذاباً فيها السكر ويأخذها الفقير ملحاً أجاجاً؟ إن الهواء والماء والشمس والقمر والصحة والمرض والولادة والموت ... كل أولئك سطور خطَّ فيها اللهُ على صفحة الحياة أن الناس متساوون. هل سمعتم أن ابن الملك يولد -إذ يولد- مرتدياً الحرير، يمشي على رجليه إلى سريره ويلقي بنفسه خطبة ميلاده ويشرف من شبّاكه على شعبه، وابن السوقي يولد أخرس عارياً؟ افتحوا القبر المجصَّص الفخم وارفعوا ما فوقه من نصب وتماثيل وكتابات ونقوش، هل تجدون فيه عظاماً تضوع بالمسك وتفوح بالندِّ لأنها كانت تلبس الحرير وترتدي الديباج؟ هذا ما تعلمته من المرض! وبعد، فلقد أطلت الكلام وآن أوان الطعام، ولا بد من قطع هذا الحديث! وأنا أحمد الله على الصحة والمرض، وأحمده على كل حال. * * *

من التعليم إلى القضاء

من التّعليم إلى القضاء نشرت سنة 1941 يسألني كثير من الإخوان: كيف وجدت القضاء؟ إني وجدت القضاء راحةَ جسم وتعبَ بال، وعلوَّ منزلة وقلةَ مال، واكتسابَ علم وازديادَ أعداء، وحملاً كبيراً نسأل الله السلامة من سوء عاقبته. أما أنه «راحة جسم» فذلك أني كنت في التعليم أتكلم ولا أسمع، فصرت الآن أسمع أكثر مما أتكلم. وكنت لا أقدر على السكوت لأني إن سكتّ تكلم العفاريت (أعني التلاميذ)، حتى إنه ربما أصابني أحياناً أذى في حلقي فجعلني أغصّ بالماء الزلال وأشرق بالريق وأجد للكلمة الواحدة أنطق بها مثل حزّة السكين، ثم لا أستطيع الصمت دقيقة لئلا يفلت من يدي طرف السّلكة فينفرط العقد ويبطل النظام. وكنت أدخل الصف (الفصل) وأخرج منه خمس مرات أو ستاً في اليوم ولا أقعد على كرسي، لئلا يرى الشيطان مني غفلة فيعطس في مناخر التلاميذ فيحدثوا في الفصل حدثاً، ويا ما أكثر أحداثهم! وأيسرُها ضجة كضجة حمّام انقطع ماؤه (كما يقول الشاميون في أمثالهم العامية). ثم إذا خرجت من الصف لأستريح راحة ما بين الدرسين (الحصتين)

لحقني طائفة من الطلاب يسألونني، فأقف لهم حتى ينفخ إسرافيل المدرسة في صُوره فيحشر الطلاب والمدرسون إلى نار العمل. فأصل آخر النهار بأوله وأنا قائم على أمشاط رجليّ ولساني لا يكف عن الدوران في فمي ... فغدوت الآن ولا عمل لي إلاّ القعود على كرسي القضاء، أقول الكلمة بعد الكلمة وأسمع سيلاً من الكلام مما له موضع أو ليس له مكان، وإلا كتابة القرارات (أي السجلات في عرف الفقهاء)، وقد كفاني الكاتب «أَحْمَدَ» الله فَعالَه كل ما سوى ذلك من الأعمال. وما ينغص عليّ هذه الراحة إلاّ خشية ثقل اللسان من كثرة الصمت فلا ينطلق -بعدُ- كما كان ينطلق، وإن كان ذلك نعمة تُرجى، وإن كان لساني هو مصدر أذاي ومن الخير لي أن يثقل أو يكِلّ! أما «تعب البال» فلأني أحمل على عاتقي حقوق الناس وأحكم في الأعراض، وهي (لعمر أهل المروءة) أثمن من المال وأغلى، فإذا قمت أو قعدت لم أزل مفكراً في هذه القضية وتلك الدعوى، لا لصعوبة فيها أو تعقيد، فطريق القانون واضح لمن كان أكبر همه ظاهر القانون وكان دينُه عبادةَ حروفه، بل لأنفُذ من خلال الفكر إلى مقصِد القوانين، وهو إقامة العدل. فأنا أفكر لأعرف المحق من المبطل، وأنضو عن المتقاضيَين ثياب التصنّع والرياء لتبدو حقائقهم عارية، وما ذلك بالأمر اليسير ولا المطلب الهيِّن. وإذا كنت قد وصلت مرة بالفراسة في لحظة خاطفة إلى ما لا يوصل إليه بمرافعة شهود فذلك من فضل الله، بيد أنه لا يدوم، ولا بد من الرجوع إلى الحكم بالشهادات التي قد يعلم القاضي أنها شهادات الزور وأن الشهود فُسّاق لا عدالة لهم ولا تُقبل من

مثلهم شهادة (¬1) وكانت القرائن تقطع بكذبها. والقرائن والأمارات من أسباب الحكم (كما بيّن ذلك ابن قيم المدرسة الجوزية في كتابه الجليل «الطرق الحكمية»)، ولكن لا سبيل لنا إلى الأخذ بها إلاّ أن تنظر وزارة العدل في دمشق في الاقتراح الذي رفعتُه إليها في هذا الموضوع وتتخذه أساساً لإصلاح شامل يخلّص الناس من شهود الزور، الذين صارت لهم جماعات ومراتب وأجور مسعَّرة ودخل فيهم من يعتقد الناظر إليه أنه من الأولياء ويجده مباحثه من العلماء! وهذا شر استطار شرره وعمّ الأنام خبره وشملهم ضرره، فكيف يهدأ بال من يغلب على ظنه أو هو يعلم فساد البيّنة ثم يضطر إلى الحكم بها؟ هذا وقد نجاني الله -بما رُكّب في طبعي من الحدة في الخلق والشدة في الحق- من منغصات القضاء؛ من الوساطات والالتماسات والهدايا والرشوات والولائم والدعوات ... وسلمني من ذلك كله أني لا أعرف في الحق لطفاً ولا مجاملة ولا خجلاً ولا فرقاً، وأرجو دوام ذلك. أما «علو المنزلة» فلأن لاسم القاضي -دون الحاكم المدني وإن علت رتبته وزادت وظيفته- له في الأسماع رنة إكبار وفي القلوب صورة إعظام، وله هيبة وله جلال، خلع ذلك المجدَ عليه أولئك الأبطالُ نجوم فلك العدل ودَرَاريه الهاديات، أفذاذ الدهر وأبكار الزمان الذين يحق لنا أن نفاخر بهم أمم الإنس ¬

_ (¬1) وقد صدر قانون البينات بعد كتابة هذا المقال فجعل للقاضي قبول الشهادة أو ردّها.

والجن، وأن نجعل قضاءنا بهم أول ما نعقد عليه الخناصر إذا عددنا المفاخر (وما زال قضاء كل أمة أول مفاخرها)؛ قضاتنا الأولون شُريح وإياس وشريك وأبو يوسف والعز بن عبد السلام ومنذر بن سعيد (¬1)، ومن أذكر الآن ومن لا أذكر ممن يقصر عنه العد ويضيق الحصر. ولولا أني عامل على تأليف محاضرة وافية بهذا الغرض ولا يجمل بي إذاعتها بالنشر قبل نشرها بالتلاوة (¬2) لأفضت في هذا الموضوع إفاضة من وجد مجال القول واسعاً، والمقول جديداً مسعفاً، والسامع مصغياً متشوقاً متلهفاً. لذلك يعظم الناس اسم القاضي لأنهم يذكرون به هؤلاء وأمثالهم، وعهداً رحم الله ذلك العهد، كان فيه القاضي قاضياً في كل خصومة بشرع الله حاكماً بما أنزل، لم يكن المسلمون يهجرون فيه جواهرهم ولآلئهم لخزيفات يستجدونها من أيد أشحة بها لأنها لا تملك غيرها، ولا يدَعون شرع أحكم الحاكمين لشرع بشر من ماء وطين، وكان من مشاغل علمائهم البحث في الحسن والقبح هل هما شرعيان أو عقليان وكثر في ذلك الكلام، فلما صرنا إلى هذه الأيام ذهب ذلك الخصام وحلّ مكانه الوئام، واصطلح أهل عصرنا من الناشئة والشبان على أن الحسن ما حسّنه (أولئك ...) والقبح ما قبّحوه، وارتضينا ¬

_ (¬1) انظر ما كتبه علي الطنطاوي عن أكثر هؤلاء في كتاب «رجال من التاريخ» وفي سلسلة «أعلام التاريخ» (مجاهد). (¬2) نُشرت هذه المقالة سنة 1941، وفي كتاب «فِكَر ومباحث» مقالة طويلة عنوانها «القضاء في الإسلام» قال في أولها إنها قطعة من محاضرة ألقيت سنة 1942 وضاعت تتمتها (مجاهد).

كلنا هذه النتيجة التي انتهينا إليها وصممنا الوقوف عليها، وسكن الجدال فلا قيل ولا قال، وكفى الله (المؤمنين) القتال، والحمد لله على (كل) حال! وأما «قلة المال» فلأن أجر القاضي الشرعي في بلادنا (أي مرتّبه) قليل قليل، وهو أدنى من سائر الحكام المدنيين، مع أنه يشترط فيه إجازة (ليسانس) الحقوق، والفوز في الامتحان المسلكي، وسَبق الاشتغال مدة في المحاماة ... وهذا حديث له مكان آخر. وأما «اكتساب العلم» فهو النعمة المفردة بين نِقَم القضاء المتعددة، اللهمّ بعد نعمة الثواب إذا كان الله يكتبه لمقصّر مثلي لا يستحقه بعمله ولم تصفُ له نيته ولم يتجرد -بعد- عن حب الشهرة والجاه، وإن ضعفت رغبته فيهما وهانا عليه! إن المطالعة هي نعمة هذه المحنة في المهنة، ولقد كنت أُطالع دائماً وأنا معلم، بل إني لا أعرف أنه مرّ عليّ يومٌ واحد منذ عقلت إلى اليوم لم أقرأ فيه شيئاً، غير أني استفدت من القضاء الأنس بكتب الفقه والاستمتاع بها مثل استمتاعي بكتب الأدب أو قريباً منه. وعندي مجموعة منها صالحة إذا أنا استمررت على النظر فيها رجوت أن أكون يوماً من الأيام من أوعية هذا العلم، ذلك لأني أدأب على القراءة ولا يمنعني من السؤال عما لا أعرف حياءٌ ولا كِبر، ولأن لي -بحمد الله- ذاكرة لا تمسك النصوص بحروفها ولا الأرقام ولا الأبيات، غير أنها في حفظ المسائل ومواطن وجودها من العجائب. وما أعهد أني نسيت مسألة قرأتها أو سمعتها، وما أعهد أني تعرفت بإنسان وحفظت اسمه إلاّ بعد المخالطة الشديدة الزمن

الأطول، ثم إني أنسى اسمه إذا فارقته مع أني لا أنسى الوجه ولو رأيته مرة واحدة، ولا أعرف تعليل هذا الأمر. وأما «ازدياد أعداء» القاضي العادل القائم بإحقاق الحق والموظف النزيه المستقيم فشيء مشاهَد مسلَّم به لا يحتاج إلى بيان. وإذا كان قد رُوي عن أبي ذر أنه قال: «كلمة الحق ما تركت لي صاحباً» وذلك على عهد الصحابة وفي أفضل القرون، فما بالك بعصرنا؟ وماذا يقول القاضي وما قضيةٌ تُعرض عليه إلاّ وفيها اثنان يقضي لأحدهما على الآخر، فمَن قضى عليه جعله عدواً له ما عدا النادر الأندر من الناس الذي يرضى بالحق ولو كان على نفسه. وأكبر المصيبة أنه قد يكون المبطل المقضي عليه أو الشفيع المردودة شفاعته كبيراً في قومه وجيهاً في بلده، فإذا ألزمته ما يلزمه شرعاً أثار عليك الشعب والحكومة وافترى عليك الفِرَى، وأساء فيك رأي رؤسائك فآذوك وضروك وأخروا ترفيعك. والمعروف عند أولي الأمر أن الموظف الصالح هو الذي لا يسخط عليه أحداً ولا يثير مشكلة، ولا يكون ذلك لقاض عادل وموظف نزيه، وإنما يكون لمنافق في جيبه ألف وجه في كل وجه مئة لسان، يقابل كلاًّ بالوجه الذي يحبه ويخاطبه باللسان الذي يرضيه. وخلاصة القول أن القضاء «حمل ثقيل» وهمٌّ طويل، ولو أن الله أغناني عنه وكتب لي أن أعيش بقلمي ومؤلفاتي، أو لو أني رُزقت مرتبة أهل الورع، لما أقدمت عليه ولآثرت التعليم؛ فهو أسلم. ولكني وقعت، والله لا يكلف نفساً إلاّ وسعها. وإن وسعي وغاية جهدي العزم الصحيح وبالله التوفيق على أن لا أحكم في قضية ما لم أعرف حكم الشرع فيها على مقدار طاقتي فأسير

عليه، وأن لا أتعمد الزيغ والظلم تعمداً ولا أنوي الميل مع أحد الخصمين، وأن لا تأخذني في الحق رغبة صديق ولا رهبة ذي سلطان. أما الخطأ فلا أملك دفعه إلاّ بالانتباه، أما الجهل فلا أقدر معه إلاّ على التعلم والسؤال. هذا وقد فسّروا حديث القاضي والقاضيين أن القاضيَين اللذين في النار هما قاض يقضي بالجور وقاض يقضي بالجهل. ونحن نسأل الله لنا ولكل محب للحق أن يوفّقنا إلى اتباع الحق، وأن يعلمنا ما ينفعنا ويرزقنا العمل بما علمنا ويزيدنا علماً. * * *

أنا والقلم

أنا والقلم نشرت سنة 1940 [بين يدي الآن رسائل من بيروت وحمص وبغداد والإسكندرية وأم درمان، من إخوان كرام ما كان لي شرف الاتصال بهم، كلهم يسألني لِمَ لا أكتب في الرسالة في هذه الأيام، ويشفق أن تكون الأرزاء قد هدت ركني وكسرت قناتي ... فكتبت هذا الفصل هدية إليهم وجواباً.] أعترف أنها قد جفّتْ قريحتي فما تبضّ بقطرة، وكلَّ ذهني ومات خيالي، ومرّتْ عليّ أيام طوال لم أستطع أن أخط فيها حرفاً، وعدت -من العيّ والحصر- كأول عهدي بصناعة الإنشاء، وأصبحت وكأني لم أكن حليف القلم وصديق الصحف، وكأني لم أجرِ للبلاغة في مضمار ... وما أدري أأبرأني الله من حرفة الأدب التي ابتلاني بها وابتلاها بي، أم هي سكتة عارضة وعُقلة مؤقتة كالذي يعرض للشعراء والكتاب، ثم تزول السكتة وينطلق اللسان ويعود أحدَّ مما كان؟ وما أدري أَعلّة ذلك الزواج (وقد قالوا إن زواج الأديب يؤذيه وتغور منه ينابيع فكره)، أم هي الرزايا والآلام، وما يغيظ الأديب من انحراف الأمور عن صراطها، وتقدم مَن حقُّه التأخر وتأخر من يستأهل التقدم، وضياع الحقوق وغلبة

الجهّال ... أم هذه العزلة الحسية والروحية التي أبتُ إليها طوعاً أو كرهاً، فجعلت حياتي كالبركة الساكنة لا يسقط فيها حجر فيثير أوحالها ويخرج دررها؟ إني كلما أخذت القلم لأكتب أحسست أنه يحرن ولا يملكني زمامه، وأنه يستعصي عليّ ويستعصم مني، وأجدني أميل إلى مطالعة كتاب أو النظر في صحيفة، فأقبل على القراءة وأعوض على ذهني ما فاته منها في هذا الزمن الطويل. وإني لا أزال أحتاج إلى تعلم كثير مما أجهل، ولا يزال في الكتب ما لا أستوعبه في شهرين أو ثلاثة، ولست قائلاً مقالة ذلك الدعيّ الذي زعم أنه قرأ ديوان الفرزدق في خمسة عشر يوماً، ولا والله ما يفهم قصيدة منه واحدة في شهر ... ولا الذي ظن أنه علم كل شيء حتى ما يسائل واحداً عن علم مسألة لكي يزدادها! فأسلمتني المطالعة إلى الزهد في الإنشاء، ومال بي الزهد إلى إيثار الدعة وابتغاء السلامة ومحبة الخمول بعد الرغبة في الذكر، فسبحان مقلِّب القلوب! ولقد كنت أشكو الغربة وأضيق بها، فصرت أشكو فقدها. ويا حبذا الغربة، وأنعم بها مثيراً للشعور موقظاً للهمم. كنت أتألم منها فأصف ألمي، وأشتاق فأصور شوقي، وأرى فيها جديداً فأنتبه إليه فأكتب فيه، فرجعت أمرُّ على المشاهد غافلاً عنها لأني آلفها كلها وأعرفها، ورجعت لا آلم ولا أسر، ولا أقول إني راض ولا مبتئس ... وهذا لعمري شرّ ما يمر على الأديب من الأحوال، وهذا هو الموت! ولربما شغلني سفساف الأمور وأضاع عليّ الكثير من وقتي. وهل ينفع القراء أن يعلموا أن عملي منذ شهر الطواف في أحياء دمشق من شرقها إلى المغرب، ومن شمالها

إلى القبلة (¬1)، أفتش عن دار أستعيض بها عن داري (في الجادة الخامسة)، لأن حماقة صاحبها كرهت إليّ جمال مستشرَفها وطيب موقعها ... وأن أعصابي في ثورة دائمة عفتُ معها الحياة، من صبية عشرة (أحياهم الله لأبوَيهم) يسكنون الطبقة التي تحتنا، لا يهدؤون لحظة ولا يسكنون ولا يفترون عن بكاء أو صياح أو غناء أو قرع باب أو كسر شبّاك ... وقلبي يخفق وأعصابي تتمزق ولا أنتفع من نفسي بشيء، وإن شكوت إلى أحد سخر مني وضحك عليّ! فليتصور القراء مبلغ ما أجد من الضيق والأذى، فيا ليت أني لم أُعطَ ملكة الكتابة، أو ليتني -إذ أُعطيتها- عرفت كيف أستفيد منها، فما شيء أصعب على الرجل من أن يريد ولا يقدر أو يقدر ولا يريد. وليثق القرّاء أن يوماً يمرّ عليّ لا أكتب فيه شيئاً أو أعد في نفسي شيئاً لأكتبه لهو يوم بؤس عليّ لا يوم نعيم، وأن أول ما أفكر فيه -إذا سرني أمر أو ساءني، أو أعجبني أو راعني- كيف أصوره وأعرض على الناس صورته كي أنقل إليهم شعوري وأقاسمهم عواطفي؛ لا أفعل ذلك للشهرة والمجد الأدبي، ولا للنفع ولا للضرر، فقد بلغت من الشهرة ما يصح الوقوف عليه لو كانت الشهرة أكبر همي، ولكني رغبت عنها لأني وجدت ما نلت منها لم يُنلني خيراً قط. ثم إنه ليس بين الرجل وبين أن يشتهر في بلادنا بصفة الأدب إلاّ أن يكتب فصلاً أو فصلين، فإذا هو ومَن ملأ الأسماع أدباً حقاً وبلاغة باقية سواء! ولكني أكتب -علم ¬

_ (¬1) القبلة في دمشق جهة الجنوب (مجاهد).

الله- لأدفع عن نفسي الملل وما يصيبها من الألم إذا أنا لم أكتب، فكأنني أعمل بالغريزة التي تدفع النحل إلى اتخاذ العسل والعقارب إلى نفث السم وكل حي من الحيوان إلى ما سُخِّر له من نفع أو ضرر! ولا أعلم أأحسن أم أسيء، ومتى يكون الإحسان وكيف يجيء، وكل ما أعلم أن فكرة تخطر على بالي تأتي بها نظرة أو سمعة، فتنمو فيها حتى تملأ ذهني وتسيطر عليّ فلا أملك عن تدوينها تأخراً؛ فآخذ القلم فإذا هي تجر وراءها أخوات لها، وإذا أنا أمضي في الكتابة لا أكف حتى يكون القلم هو الذي يقف، ثم أبعث بذلك إلى المجلة أو الجريدة، فإذا أبطأت بنشره أو أهملته سخطت وثرت، وإن نشرته فرحتُ به وقرأته مستمتعاً، فإذا مضى عليه يوم عدت إليه فرأيت عيوبه، فقلت: ليتني نقصت من هنا وزدت من هناك وحذفت هذا أو أثبتّ ذاك ... ثم لا يمنعني ذلك أن أعود إلى خلتي من الإسراع كَرّة أخرى. ولقد حاولت التنقيح والصناعة مرة فأفسدت من حيث توهمت الإصلاح، فعدت إلى طبعي. فإذا كان في الناس من يعجبه ما أكتبه فالحمد لله. وما سكتّ لقلة في الموضوعات، ولكن لجفاف في القريحة. ولو كان بي أن أكتب لوجدت في كل شيء موضوعاً لفصل، غير أنه لا بد من العاطفة والفن، ولو كان الأدب الواقعي أن تسرد كل ما «وقع» لك لكان الناس كلهم أدباء، ولكن الأدب الواقعي أن تأتي بالصورة الجميلة، قد صقلها الطبع وبَرقَشها الخيال وزانتها العبارة الصحيحة والسبك الدقيق، لكنك لا تخرج فيها عما «يمكن أن يقع». ولو أسعدتني القريحة لكتبت في وصف هذا الفتى الذي

صحبنا في لجنة من لجان الامتحان كان فيها الأستاذ الشيخ بهجة البيطار ليصحح معنا أجوبة التلاميذ، فكان كلما وجد استعارة أو مجازاً خط تحته خطاً، وكلما وجد مترادفاً من اللفظ أو مزدوجاً من الجمل مدّ مَدّة فوقه، ثم نقص عليه من درجات التلاميذ درجة. فحاورناه في ذلك فكان من رأيه الذي تعلّمه في باريز وعلّمه التلاميذ الذين جعلوه معلّمهم أن المذهب الجديد ينكر ذلك ويعُدّه غلطاً، وكانت حجته القاطعة على صحة رأيه أنه رأيه. وبذلك دفع كل ما ردّ به عليه الشيخ وما بيّنَ له من سنن العرب من كلامها وما جرى عليه بلغاؤها وما نزل به الكتاب، ومال ناظر المدرسة إلى «رأيه» لأنه هو وحده بيننا الذي يحمل شهادة التخصص في اللغة العربية من ... باريز! ولو أسعدتني القريحة لكتبت في التعليق على الامتحانات وما يكون فيها من الوساطات والشفاعات والالتماسات وما نالني منها، وكم أبصرت في داري من وجوه ما كانت لتكون فيها لولا الحاجة وطلب «الشفاعات» ... وما يحيق بالمدرس المستقيم الشريف من عنت ومشقة وما يقال عنه وما يلقى ... وما يتخذ التلميذ من طرق الغش والحيل، فإذا أظهرتَها وعاقبته عليها زعم أنك ظلمته وتَمَسْكَنَ وجعل نفسه ضحية فأثار عليك الناس، أو «تَنَمْرَدَ» واستكبر فبطش بك، أو شتمك أو وكل بك من يقوم بـ «الواجب»! ولو أسعدتني القريحة لكتبت في تاريخ الأدب فصلاً أجعل إهداءه للدكتور فلان ليرى أن الله لا يستحيل عليه أن يمنح ملكة الأدب مَن لا يحمل شهادة اختصاص فيه ... وأن الشهادة بلا علم ليست دائماً أفضل من العلم بلا شهادة!

ولو أسعدتني القريحة لوصفت هذا المشهد الذي يملأ النفس ألماً ويفجر القلب أسى، منظر زميلنا المعلم الشاب (مصطفى شكري خسرو) الذي كان موعد زفافه اليوم وكان صحيحاً معافى، فرئي اليوم نعشه يمشي إلى المقبرة وعليه غطاء سرير العرس، ووقفت زوجته التي كانت ترقب الزفاف تشهد الدفن. مثل هذا الموضوع ينشد الأديب ويبتغي، إنه ينشد لحظات الإشراق والتجلي، إذ يحس بأنه خرج من ذاته فدخلتها روح أخرى فطارت به إلى الملأ الأعلى، فأرته ما لا تراه عين ولا تحيط بوصفه لغة بشر، وإنما يصور بإشارات ورموز ترفع قارئيها إلى هذا العالم النوراني العجيب. * * * أما المشفقون عليّ الخائفون أن تلوي الحادثات قناتي وتهد ركني فليعلموا أني في أمان، وأن رسالة الأديب أن يطاعن عن الحق ويناضل حتى تعلو كلمته أو يُصرع دونه، ولينظروا أيهما أسيَر في الناس وأشهر: أوَرقة الشهادة الناطقة بفضل صاحبها، أم مجلة يكتب فيها الأديب فيقرؤها مئة ألف؟ وأيهما أقوى وأمتن: أهذا القلم الدقيق أم أرجل الكراسي التي يثبت عليها «أولئك» ويَعلون بها؟ وأيهما أحد وأمضى: أَلِسان البليغ المفوَّه أم ألسنة ببغاوات الليسانس والدكتوراه؟ إن لكل أديب رسالة، فليقوِّنا الله على تأدية الرسالة. * * *

على عتبة الأربعين

على عتبة الأربعين نشرت سنة 1948 نزعت رجلي من الركاب، وطردت من ذهني همَّ السفر، ونفضت ما علق بذاكرتي من غبار الحاضر ثم نفذت إلى ما احتوت من كنوز الماضي من معجزات البطولة والنبل، من تاريخنا الواقع الذي لا يصل إليه خيال غيرنا ولا يتعلق به وهمهم، وحاولت أن أكتب للعدد الممتاز من الرسالة. فما سرت في الفصل غيرَ بعيد حتى تباطأ قلمي، ثم تعثر، ثم توقف ... وأحسست في نفسي بهذا الضيق الذي ما انفكّ يلازمني منذ أكثر من عشر سنين، فيطفئ وَقدة حماستي ويعقل نشاطي ويغلق أبواب الإلهام دوني، فلا أكتب ما أكتب إلاّ لملء الفراغ وتَزجية الوقت، كالذي يمشي العشيةَ يجر نفسه جراً، لا يسوقه مقصد ولا تجذبه غاية. ونظرت فإذا أنا بعد شهرين أُتمّ الأربعين ... أربعين سنة قمرية درت فيها مع الفلك وسايرت الشمس، واستقبلت السنين ثم ودعتها كما استقبلتُها، واستولدت الآمال ثم دفنتها كما استولدتُها، ورأيت أفراحاً ورأيت أتراحاً، وصادقت وعاديت وأحسنت وأسأت، فما الذي خرجت به من ذلك كله؟ لقد قطعت في هذه السنين الأربعين أكثرَ الطريق، ولكن لم

أعرف بعد إلى أين المسير! ومشيت أكثر من أربعة عشر ألف يوم تباعاً، ولكن لم أدرِ إلى أين أمشي! إنني أصحو كل يوم، فأكلم أهلي وآكل طعامي وأذهب إلى عملي، ثم أعود إلى داري فأكتب مقالتي أو أنظر في كتابي، أو أزور أصحابي أو ألهو بما يلهو به مثلي، ثم أنام لأصحو من الغد فأعيد الفصل ذاته ... والأيام تكرّ، والسنون تطوى، والعمر ينصرم، وأنا «أمثّل الرواية» الأبدية: صحو ومنام، وشراب وطعام، وصمت وكلام، ووداد وخصام ... أما أن أعرف نفسي وأخلو بها ساعة كل يوم وأسأل: من هي ومن أين جاءت؟ وفيمَ وُجدت وإلى أين تمضي؟ فهذا ما لم أفعله إلى اليوم. بل إني لأفر منها فراراً وأخاف أن أخلو بها، فأتشاغل عنها بحديث تافه أو كتاب سخيف أو لهو باطل، وإذا أنا أُلزمت صحبتها وعدمت الشواغل عنها ضقت بنفسي وضجرت وأحسست كأني سأجنّ! وأنا أصرف العمر في قطع العمر وأجعل أكبر همي إضاعة يومي، كأني أُعطيت الحياة لأعمل على تبديدها، فإذا لم أجد ما أمزق به الوقت واضطررت إلى مواجهة الزمان في ساعة كساعات الانتظار ضقت بعمري، وضجرت وأحسست كأني سأجنّ! إني أركض أبداً وراء المستقبل؛ ففي المستقبل أبلغ آمالي، وفيه أصلح نفسي، وفيه أنيب إلى ربي، وفيه أكتب تلك المعاني التي طالما جاشت بها نفسي ولم يجرِ بها قلمي، وفيه أؤلف الكتب الكبار التي طالما أزمعت تأليفها ... وفيه أصنع كل شيء. ولكن المستقبل لن يأتي أبداً، وحين يأتي يصير «حاضراً» وأذهب أفتّش

عن «مستقبل» آخر، فأنا كالفرس الذي يعدو ويشتد ويكدُّ نفسه ليدرك حزمة الحشيش، والحزمة معلقة في عنقه، يبصرها أبداً أمامه ولا يصل إليها، فلا يزال يسعى حتى يدركه الكلال فيقع، أو تعترضه حفرة فيسقط فيها ... ولكن الحفرة التي أسقط فيها أنا لا قيام منها ولا مناص من ورودها، ولا يستطيع أن يجتنبها كبير ولا صغير، ولا غني ولا فقير، ولا أمير ولا أجير. وإذا أنا وصلت إلى الأمل الضخم هان عليّ وذهب بهاؤه وامَّحت روعته، كأن الآمال سراب لا يلمع إلاّ من بعيد. لقد كان أكبر أملي يوم كنت في الابتدائية أن أكون معلماً، وكنت أتوهّم حياة المعلم فأجدها جنة أنزلت الأرض فيها ما تشتهي الأنفس ... أليس المعلم يأمر فيُطاع أمره، وينهى فيُجتنب نهيه، ويوفى التبجيل وينال الإكبار؟ فلما صرت معلماً لم أجد من تلك الجنة إلاّ الذي تجده من الغوطة في الشتاء: أرضاً موحلة ما فيها إلاّ الشوك، وأشجاراً يابسة ما فيها إلاّ الحطب، ورأيت مدرّس الثانوية أعلى قدراً وأقل عملاً وأكبر مرتباً وأوسع جاهاً، فأملت أن أكونه. وأملت أن أكون كاتباً، وأن أكون قاضياً، وأن أكون خطيباً، وأن أسيح في البلاد ... فلم أجد في الأمل إلاّ الألم لانتظاره، ثم الملل من بقائه، فتيقنت الآن أني لو صرت رئيس الجمهورية أو صاحب «الأهرام» أو كان لي مال «عبود»، لذهبت الأيام بلذة ذلك كله وهوّنه الاعتياد، فلم أستفد منه إلاّ حسد الحساد عليه والحسرة -إن فُقِدَ- لفقده ... وأن متع الدنيا أوهام، مَن لم ينلها تشوّقَ إليها وحسد عليها، ومَن نالها ملّها وتمنى غيرها:

المتزوج يتمنى العزوبة والعَزَب (¬1) يشتهي الزواج، والمقيم يرجو السفر والمسافر يطلب المعاد، والريفي يحن إلى المدينة والمدني يتشهى الريف، ونحن كلنا أطفال ... تشتري للطفل اللعبة النفيسة فيفرح بها ويهش لها، ثم يلقيها ويطلب غيرها ولو كان دونها! ثم إن الآمال لا تنتهي؛ فمن أُعطي المليون ابتغى المليونين، ومن رُفع في الوظيفة درجة طلب درجتين، فلا يزال في شقاءين: شقاء بالحاضر الذي لا يقنع به، وبالآتي الذي لا يصل إليه. أفلهذا وجدت وسعيت أربعين سنة؟ أسعيت لأدرك السراب؟ وتتالت عليّ الفِكَر، وعاودني الضيق الذي طالما كاد يدفعني (لولا خوف الله) إلى طلب الموت من سنين! وما أشكو المرض فصحتي جيدة، ولا أشكو الفقر فما أجد من المال يكفيني، وإنما أشكو فراغاً في النفس لا أعرف مأتاه، وقوىً فيّ لا أجد لها مصرفاً، وحنيناً إلى شيء غامض لا أدري ما هو على التحقيق. وتركت القلم والورق وقمت أدور في الغرفة، فوجدت على نضد إبريقاً من البلّور الصافي طويل العنق واسع البطن، فيه نحلة قد دخلت ولم تستطع الخروج، فهي تتحفز وتتجمع وتثب متقدمة بقوة وبأس، فيضرب الزجاج رأسها ويردها، فتعاود ¬

_ (¬1) قال صاحب القاموس: "العَزَب من لا أهل له، ولا تقل أعزب"، وفي المعجم الوسيط: " «الأعزب» استعمال قليل، والأجود «عَزَب» " (مجاهد).

الكرّة وهي لا تبصر الجدار وإنما تبصر ما وراءه، فتحسب أنه ليس بينها وبين الفضاء حجاب. فجعلت أنظر إليها وهي تعمل دائبة، كلما ضربت مرة عادت تحاول أخرى لا تقف ولا تستريح، حتى عددت عليها أكثر من أربعين مرة، تجد الصدمة كل مرة فلا تعتبر ولا تدرك الحقيقة، ولا ترفع رأسها لتبصر الطريق وتعلم أن سبيل الفضاء وباب الحرية هو من «فوق» لا عن يمين ولا عن شمال ... فتعلمت من هذه النحلة ما كان خافياً عني: تعلمت أننا مثل هذه النحلة نحسب أن الانطلاق إنما يكون على الأرض فنقدم، فتضرب العوائق وجوهنا وتردنا، فنقعد يائسين أو نعاود الكرة مستميتين، نحسب الانطلاق في الشهرة أو في المال أو في متع الجمال، وهيهات! وها هم أولاء السياسيون والممثلون والمغنون، تطبق الأرض بأحاديثهم ويشتغل الناس بأخبارهم، ويرون صورهم ويسمعون أصواتهم، فما الذي يحصل من ذلك في أيديهم؟ وماذا ينفعك أن يكون الناس كلهم يمدحونك إذا كنت منفرداً في غرفتك مبتئساً تَعِس النفس محزون القلب؟ وها هم أولاء الشباب الأغنياء، يؤمون كل ملهى ويستمتعون كل يوم بجمال جديد، فهل ذهب ظمأ قلوبهم إلى ارتياد منابع الجمال؟ هل شبعت شهواتهم؟ أم أن ذلك كالماء المالح كلما شربتَه جدّدَ لك ظمأً؟ وها هم أولاء المحبون المدنفون، يعانقون مَن يحبون، والنفس لا تزال بعد مشوقة ليس يرويها عناق ولا اقتراب، ولا يشبعها شيء من متع الجسد. وها هم أولاء «الملايِرة» (1) المؤلِّفون، هل أشبعت ملايينهم نفوسَهم ورزقتهم القناعة والاطمئنان؟

فما هذا طريق السعادة. إن الطريق على الأرض مسدود، والفضاء من حولك له حدود، وما طريق الفضاء وسبيل الانطلاق إلا من «فوق»، هناك عالم النفس، تنشط النفس كلما برقت لها منه بارقة أو لاح علم، كلما سمعت نغمة سحرية فيها رنّة من ذلك العالم أو قرأت قصة عبقرية فيها إشارة إلى ذلك المجهول، أو وعت موعظة علوية فيها قطرة من ذلك الينبوع. الآن عرفت، فيا ضيعة هذه السنين الأربعين! * * * لا تقولوا: إنك تكتب في الدين وفي الفضيلة وإنك تدعو إلى الخير، لأني عزمت على أن أقول الليلة الحق ولو كان على نفسي. الحق -يا سادة- أن الدعاة اليوم إلى الله (لا أستثني واحداً ممن أعرف منهم) كلهم ممثلون؛ يلبسون في المجلة أو على المنبر ثياب المسرح فيبدون بالجبة والعمامة، فإذا انقضى «الفصل» خلعوها وعادوا إلى بيوتهم، فعكف عابد الدينار منهم على معبوده ما له إلاّ جمع المال همّ، وعابد الشهوة عليها، وعابد الجاه، وعابد المنصب ... تعددت الأصنام والشرك واحد! إنهم ممثلون وأنا أول الممثلين. ولو كنت صادقاً لما ألّفت في سيرة أبي بكر وعمر ثم عدلت عن سنتهما وسرت غير سيرتهما، ¬

_ (¬1) جمع مليونير. و «المؤلِّفون» أردت بها أصحاب الآلاف.

ولو كنت صادقاً إذ أدعو إلى الإسلام لكنت في سري وجهري وفي لساني ويدي واقفاً عند أمر الإسلام ونهيه، ولو كنت صادقاً لما انغمست في حمأة هذه الحياة التي سال علينا سيلها من الغرب، ولو كنت (وكان عشرة مثلي، صادقين) لما بقي في الأرض فساد. ولقد طهّر الأرضَ من أوضارها منبر واحد من الخشب، ثلاثُ درجات ليس لها درابزين ولا عليها قبة ولا لها باب، فلِمَ لا تطهر الأرضَ مئةُ ألف منبر مزخرفة منقوشة محلاة لها أبواب جميلة وقِباب؟ ألأنّ الناس فسدت طبائعهم؟ ألأنّ الزمان قد دنا آخره؟ لا؛ بل لأن القائمين عليها وعّاظ من خشب، يحملون سيوفاً من خشب! * * * أما إن الحق الذي لا بد الليلة من الصدع به أنه: لا هذه المواعظ ولا هذه المقالات هي التي توصل إلى الله، ولكن يوصل إليه أن يعود كل إلى نفسه فيسأل: من أين جاءت، وفيمَ خُلقت، وإلى أين المصير؟ وأن يعلم كلٌّ أن الطريق من «فوق»، فيرفع رأسه ليرى الطريق. ومَنْ منا يرفع اليوم رأسه، ونحن كالنحلة لا نبصر إلاّ الأرض؟ بل إن منّا مَن هو كالفراشة تسعى إلى النار، تحسب أنها باب الانطلاق! إن المسيحيين يصلّون لربهم قبل الطعام على المائدة وقبل الدرس في المدرسة ويوم الأحد في الكنيسة، فتعلم أنهم مسيحيون، فما يصنع كثير من المسلمين؟ وأي علامة تدل على أنهم مسلمون، من ساعة يصبحون إلى ساعة يمسون؟!

لا صلاة، ولا ذكر، ولا تمييز لحلال من حرام ... إن عملوا خيراً فباسم الأخلاق والفضيلة والصحة لا باسم الإسلام. فما الفرق بينهم وبين غيرهم؟ يقولون إن الدين المعاملة والصدق والقصد والاعتدال وأن تعامل الناس كما تحب أن يعاملوك. صحيح؛ ولكن هذا من الدين، وليس هو الدين! وهذا شأن كل شريف، يستوي فيه الشرفاء جميعاً، فما معنى تفريقهم إلى مؤمنين وملحدين وعبّاد وثن؟ وهذا كله للحياة الدنيا، فما الذي نعمله للحياة الأخرى؟ لا، بل الدين أن تتصل بالعالم العلوي، وأن تراقب الله، وأن تعلم أنه مطلع عليك أبداً، وأنه يرعاك بعينه فترعاه بقلبك وتطيعه بجوارحك. هذه غاية الخلق وهذا سرّ الوجود: {مَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدون}، لا عبادة عادة، وصلاةَ رياضة، وصومَ استشفاء، وحجَّ سياحة؛ بل العبادة التي يحسّ بها القلب حلاوة الإيمان، ويذوق فيها لذة العبودية، ويستشعر فيها القيام بين يدي الله. ولتغامر مع ذلك في ميدان الحياة، ولتقحم لجَّها، ولتأخذ أوفر قسط من طيباتها ومن علومها ومن فنونها، ولتكن قوياً ولتكن غنياً. هذه حقيقة الدين وهذه غاية الحياة، فهل يصل إلى الغاية من مشى أربعين سنة مائلاً عنها ضالاً طريقها؟ ألا يا ضيعة هذه السنين الأربعين! * * *

بيوتنا هدمناها بأيدينا

بيوتنا هدمناها بأيدينا نشرت سنة 1959 لقيت أمس -وكنت رائحاً إلى الدار- إخواناً لي، فقالوا: هَلُمّ معنا إلى زيارة فلان. قلت: إني في شغل. قالوا: هو على طريقك، في العفيف. قلت: إذن أذهب، فلي في العفيف ذكريات أحب أن أجدد العهد بها. وانطلقت أسايرهم وأحدثهم حديث ذكرياتي في العفيف. ذلك أني كنت أيام الحرب الأولى تلميذاً في المدرسة الابتدائية، وكان سكننا في طرف «السمّانة»، في تلك الأزقة الملتوية الضيقة التي يستطيع الماشي فيها أن يمدّ يديه فيدرك طرفيها. وكانت مدرستنا في سوق صاروجا (¬1) فكنا نصرّم الأيام الطوال نعيش وراء الجدران لا نستطيع أن نطلق البصر في رحب الفضاء، ولا أن نمتع العين بخضرة الحقول وزرقة الأنهار، ولا أن نستمع إلى خرير السواقي وهدير النواعير ... لذلك كان من أحب الأيام إلى نفسي يوم تذهب الأسرة إلى ¬

_ (¬1) صاروجا من أمراء المماليك في القرن الثامن الهجري.

زيارة بيت عمي في العفيف. وكان الذهاب إليه سفرة، فكنا نمشي إلى «بوّابة الصالحية» ... وهي اليوم لب دمشق وهي أعظم ميدان فيها وحولها أضخم عماراتها، ولكنها كانت يومئذ مجازاً خطراً لا يستطيع أن يسلكه في الليل إلاّ الجَسور، وكان في نهاية سوق صاروجا «بوابة» من الخشب تُغلق في الليل، فإذا خرجت منها وجدت طريقاً ضيقاً يسلكه الترام وعلى جانبيه بساتين تتخللها بيوت متفرقة، وكان في موضع الشارع العظيم «شارع 29 أيار» بستان الكركه، وفي موضع البرلمان (سينما) أخذونا إليها ونحن تلاميذ فأرونا (فِلماً) عن موقعة «شناق قلعة». ثم احترقت السينما وبقيت أنقاضها سنين طويلة حتى أقيم البرلمان. وكان بيت عمي من تلك البيوت الشامية الأصيلة. قصر رحيب له براني وجواني (¬1) وشتائي وصيفي، له صحن واسع في وسطه بركة مثمّنة تخرج منها (نافورة) قطرها شبر يمدها نهر يزيد، يتدفق منها عمود من الفضة المذابة يرتجّ ويتمايل كراقصة تتثنى وتتخلع، يحسبه الناظر متدفقاً بالزئبق، وعلى أركانها الثمانية ثماني شماشير (¬2) مدوّرات كأنما أُدرن بـ «بركار»، ومن ورائهن صفوف من نفائس الأشجار من الخوخ والدراق والمشمش والرمان، تحفّ بها من عند سوقها غرائب الأوراد والأزهار تظللها الدوالي صاعدات إلى السطوح، والأرض والجدران من الرخام الأبيض والمجزّع والحجر الملون المنقش تتسلقها فروع ¬

_ (¬1) من العامي الفصيح، وورد: من أصلح جوانيَّه أصلح الله برانيّه. (¬2) نبات يخرج مستديراً كالقبة يكثر في دور دمشق.

الملّيسا والياسمين، وفي صدر الدار إيوان له قوس عال (¬1) تزيّن جدرانه وسقفه صنعةٌ شامية عجيبة من الحجر المتداخل والخشب المتشابك والقاشاني وبين يديه «فسقية» عجب من العجب، قطعة واحدة من الرخام الوردي على مثال الكأس لها عنق طويل، وتطل نوافذ الإيوان من جهة البلد على بساتين الجسر الأبيض التي تنحدر خلالها السواقي متعاقبة متتابعة، تحمل الماء من يزيد إلى تورا (¬2) تهدر به وتتكسر، لا تسرقه كلص متخفّ يخافت الخطو بل كأطفال مدللين يولون بما يخطفون وهم يزأطون ويضحكون ... وتبدو هام الأشجار دُوَين النوافذ فيحس الناظر منها كأنه على أرض من الغصون، وتلوح البلد من بعيد بمآذنها وسقوفها تبدو من خلال الأشجار كمشهد في حلم، وينظر الإيوان من أمام إلى قاسيون الحبيب ... منظر عجب وفتنة لا تنقضي. وإلى جنب الإيوان من هنا القاعة الكبرى بدكتَيها ونقوشها وبركتها، ومن ورائها البستان. ومن هناك القسم الشتوي من الدار: غرف دافئات يسبحن في الضياء ويغتسلن بأشعة الشمس في الشتاء. والبراني قريب منه في بنيانه وبستانه، وهو للضيوف من الرجال لئلا يدخلوا الدار فينتقصوا من حرية النساء (¬3). ¬

_ (¬1) القوس مؤنَّثة وقد تذكَّر. (¬2) من فروع بردى السبعة، ونهر يزيد أعلاها وهو منسوب إلى يزيد بن أبي سفيان أو يزيد بن معاوية. (¬3) إن أحببتم أن تعرفوا كيف كانت هذه البيوت وكيف عاش فيها أهل الشام في القرن الماضي فاقرؤوا رائعة علي الطنطاوي، «العجوزان»، في كتاب «قصص من الحياة» (مجاهد).

فكنا إذا بلغنا الدار وثبنا ننعم بالحرية والانطلاق بعد السجن والضيق، فلعبنا وتسلقنا الأشجار وصعدنا السطح وأكلنا العنب (وكانت دوالي الدار تحمل كل سنة أربعة قناطير (¬1) من العنب البلدي النادر) وأشرفنا على دار عثمان باشا، ولم يكن ثمة غيرها، وقد صارت هذه الدار -من بعد- قصر الملك فيصل لما كان في دمشق، ثم صارت المفوضية الفرنسية، وهي اليوم خالية خاوية قائمة تسخر ممن يثق بالزمان ويطمئن إلى السلطان! فإذا مللنا دخلنا الجُنينة فبقينا فيها وأفسدنا ما فيها من نوادر الغراس، وكان في آخرها باب صغير هو في أنظارنا -يومئذ- نهاية العمران وآخر المسكون في الأرض، وكنا نتهيب أن ندنو منه، ثم تجرأنا مرة فولجناه فإذا نحن في مثل غابات إفريقية بهولها وعجائبها: بساتين متصلة وأشواك معترضة وسَواقٍ هدّارة مرعبة (¬2)، تعترضها شلالات عميقة وكلاب شرسة ونواطير أشرس من الكلاب ... وكنا مجموعة من الأولاد؛ أنا وأبناء عمي وأولاد الجيران ... وأظلم علينا الليل ونحن في هذه المجاهل وكانت ليلة ليلاء. * * * كذلك كانت دورنا الشامية، كانت سكناً ونزهة، وكانت مَصِيفاً ومشتىً، وكانت كالمرأة المحجبة لا تبدي زينتها لغير أهلها، تراها من الخارج كأنها مخازن التبن ما تكشف عنها نافذة ¬

_ (¬1) هذه حقيقة، والقنطار مئتان وخمسون كيلو غراماً، وفي أكثر دور دمشق العربية من هذه الدوالي الكبار. (¬2) صارت اليوم أحياء جديدة واسعة الشوارع فخمة العمارات.

ولا شرفة، فإذا دخلت رأيت الصحون الكبار والبِرَك والأنهار وغرائب الأشجار، وفي كل دار أسرة كاملة يجمعها الحب والإخلاص، وقد يختلف مَن فيها ويتنازعون، ولكنه اختلاف لا يمحو المحبة وتنازع لا يولد البغضاء، وإنما هو كاصطدام الغصن بالغصن في الروض الممرع من نسيم الأصيل. يأكلون جميعاً من قدر واحدة على مائدة واحدة، فإذا كان العصر غُسلت أرض الصحن حتى صار رخامها وبلاطها كالمرايا، ورُشَّت الأشجار حتى قَطَرَ منها الماء، وزقزقت عليها العصافير التي تأوي إليها كل عشية، واصطفت الأسرة على الإيوان: الجد وأولاده وبناته وكناته وأحفاده، ونُصب (سماور) الشاي وأُديرت الكؤوس، وقفز الأولاد ولعبوا وتحدث الكبار وضحكوا، لا تصل إلى الجيران أصواتهم ولو صاحوا وغنوا ولا تصل إليهم أصوات الجيران، ولا يراهم أحد ولو تعروا ولا يرون أحداً، فهي مملكة مستقلة يحس ساكنها أنها له وحده، لا يؤذي جاراً ولا يؤذيه جار، وهي كثيرة الغرف متعددة الأجزاء، وهي لرجل الفكر نعمة يستطيع أن يجد فيها غرفة يقرأ فيها هادئاً ويكتب والضجة في الدار على أشدها فلا يسمعها، وهي عالم كثير المشاهد مختلف المناظر، إن مللت منه مكاناً قصدت غيره، فمن قعود في القاعة أو صعود إلى القصر (¬1) أو جلوس على بساط تحت الشجرة، أو عزلة في المشرقة (¬2). ¬

_ (¬1) القصر في عامية الشام: البهو الشتوي. (¬2) أي سطح الدار.

هذه هي بيوتنا التي خُلقت لنا والتي هندسَتْها طبيعةُ جوّنا وآداب ديننا وعاداتنا وأوضاعنا، وهي البيوت الشامية الأصلية التي رسخت أصولها فينا، ثم امتدت فروعها فقطعت البحر من ضفة إلى ضفة، من الشام إلى الأندلس، فملأت الأندلس ثم انتقلت إلى المغرب فلا تزال فيه إلى اليوم، ما ملّوها كما مللناها ولا انصرفوا عنها تقليداً للغرب الذي اتخذنا تقليده ديناً ورأينا كل ما يأتي من عنده حسناً، ولو كان الفجور والعهر، والرقص والخمر، والفسق والكفر! * * * وكنا قد بلغنا منزل الرجل حين بلغتُ هذا المحطّ من الحديث، فنظرت فإذا الأرض قد بُدِّلت غير الأرض، وإذا تلك الدار التي كانت مدارج صباي ومرابع هواي قد ذهبت مع أمس الدابر، وإذا في مكانها عمارتان جديدتان في إحداها دار صديقنا الذي جئنا نزوره، فأحسست -مما فقدت وما وجدت- كأني قد ودّعت عزيزاً وفارقت حبيباً، وتردد بي الزمان بين الماضي والحاضر حتى شعرت كأن قد أصابني دوار، ودخلت متحاملاً على نفسي غائباً عن حسي، فإذا الدار سجن من هذه السجون التي تُسمّى الطوابق: صناديق من (الإسمنت) تتلظى في الصيف حراً وتشتعل لهباً، فكدنا نختنق وقلنا: افتح النافذة نجد مسَّ النسيم. قال: لا نستطيع، إن نافذة الجيران أمامنا، فإن فتحنا أبصروا كل ما في الدار. فصبرنا على مضض، فما هي إلاّ هنيهة حتى ارتجّ البيت

رجة ظننت أن قنبلة قد تفجرت فيه! قلت: ما هذا؟ قال: شيء قد سقط عند الجيران. وهنيهة أخرى، وإذا بصوت يملأ الدار ويصم الآذان. قلت: وهذا؟ قال: رادّ (¬1) الجيران. قلت: أعوذ بالله، فكيف تعيشون في هذه الدور؟ قال: في عذاب. لقد تعجلنا الجحيم في الدنيا حين زهدنا في بيوتنا العربية واتخذنا هذه الطوابق؛ هي جحيم على الكبار وعلى الصغار. ألا ترى الأولاد يلعبون في كل طريق، يتعلمون في مدرسة الشوارع كل سيء من العادات وبذيء من القول، ويعودون إلى أهلهم بوساخة الثياب ووساخة الخلق ووساخة اللسان ... هذا إن لم يعودوا بشجة في الرأس من الحجارة أو كسر في الرجل من السيارات. إن السبب فيها هو هذه البيوت، لو كان في الدور مثل تلك الصحون وتلك الحدائق لما خرج الأولاد إلى الطرق والشوارع. * * * وخرجنا من الزيارة، فودعت صحبي ووقفت وحدي أبكي ¬

_ (¬1) الراد: الراديو.

الماضي الذي افتقدته. أفتّش عن بقية منه فلا أجدها، وأستنطقُ الديار فلا أسمع جوابها ... ثم رأيت وراء العمارتين خربة صغيرة مهجورة فيها بحرة عتيقة لا يزال ينساب منها الماء، وقد اخضرّت حجارتها ونبتت الطحالب عليها، فأحسست بقلبي يدق في صدري لمرآها، وتسارعت أنفاسي كأنني رأيت في زحمة الناس وجه حبيب طال منه الهجر وعز اللقاء ... إنها بركة القاعة الكبرى في بيت عمي؛ البركة التي كانت تلمع حجارتها كالمرايا ويبرق ماؤها كالألماس (¬1)، إنها تبدو اليوم كسائلة عجوز بأسمالها الباليات، ولكني أراها كما كنت أعرفها في أيام عزها، أراها الصبية الحسناء المدللة اللعوب. ووقفت أصغي إلى خريرها الخافت فأغفي عليه كما يغفي الطفل على الأغنية الناعمة تهمس بها أمه في أذنيه، ورحت أحلم: رأيت البركة قد انجلت وصُقلت والماء قد عاد متدفقاً قوياً، وقامت من حولها الجدران المزخرفة وظللها السقف المنقوش، وعاد الإيوان والصحن، ورجعت الدار، وعاش الماضي. وسمعت طرق القباقيب وصياح النسوة وزئيط الأولاد. واستغرقت في الماضي حتى ذهبت أنادي وأهتف بأسماء أهل الدار وقد نسيت أني أنادي من وراء أربعين سنة، أهتف بأسماء مِن أصحابها مَن واراه التراب، ومنهم من رمت به الأيام أبعد المرامي. ولم يجب أحد. ¬

_ (¬1) أصله «ألماس» وهمزته أصلية.

ما في الدّيار مُخَبِّرٌ ... إلاّ صَدىً لِمُصَوّتِ ناديتُ: أين أحبّتي؟ ... فأُجِبتُ: أين أحبتي؟ وفُتحت النوافذ وأطل مَن فيها ينظرون. قالوا: من هذا الغريب الذي يصيح في الخربة كالمجانين؟ زعموا أني أنا الغريب. أنا الغريب؟ ويحكم! إنها دارنا؛ إن فيها قطعاً من قلبي وبقايا من حياتي، أفأغدو غريباً في داري؟ وعدت إلى الحاضر، وتصرّمَ الحلم كأنه سطور خُطّت على الماء. وانصرفت وأنا أسائل نفسي أن لماذا نلوم الذين هدموا تلك المنازل الغالية التي كانت في الميدان والشاغور وسيدي عامود (¬1)؟ لماذا نلومهم إذا رحنا نحن نهدم بأيدينا ما ترك الفرنسيون من منازلنا؟! لقد كان الفرنسيون أعداءنا فهل نحن أعداء أنفسنا؟ ألا يا أسفي على تلك المنازل! يا أسفي علينا! * * * ¬

_ (¬1) اسم محلة كانت في دمشق.

الدرس الأخير

الدّرس الأخير نشرت سنة 1936 أولادي! انتظروا، لا تخرجوا كتبكم ولا تفتحوا دفاتركم؛ فما جئت لألقي عليكم درساً، وإنما جئت لأودعكم لأني نُقلت من مدرستكم. إن الوداع صعب يا أولادي لأنه أول الفراق، وما آلام الدنيا كلها إلاّ ألوان من الفراق: فالموت فراق الحياة، والثّكل فراق الولد، والغربة فراق الوطن، والفقر فراق المال، والمرض فراق الصحة. إن الوداع صعب ولو إلى الغد، فكيف إن كان المودَّع صديقاً عزيزاً، فكيف إن كان ولداً، فكيف إن كانوا أولاداً؟ أنتم أولادي، أولادي حقيقة، لا أقولها مجاملة ولا رياء ولا أسوقها كأنها كلمة تقال، ولكن تنطق بها كل جارحة فيّ وأحسها من أعماق قلبي! ولم لا؟ ألستم تحبونني وأحبكم؟ ألم أفكر فيكم دائماً وأخَفْ عليكم؟ ألم تروني آلم إذا تألم أحدكم وأثور إذا تعدى أحد

عليكم؟ ألم أفتح لكم قلبي حتى اطمأننتم إليّ وأنِستم بي وخرقتم حجاب الخوف الذي كان بيني وبينكم، كما يكون بين كل معلم وتلاميذه، وغدوتم تدعونني لأشارككم في ألعابكم، وتقصون عليّ أخباركم وتبثونني أحزانكم، وتنبئونني بأسراركم وتشكون إليّ ما يصيبكم من آبائكم وأهليكم؟ فأي صلة بين الآباء والأبناء أوثق من هذه الصلة، وأي سبب أقوى من هذا السبب؟ أنتم أولادي. فهل رأيتم أباً يودِّع أولاده الوداع الأخير ثم يملك نفسه أن تسيل من عينيه؟ لقد شغلتم نفسي زماناً وأخذتم عليّ مسالكي في الحياة، فلا أرى غيركم ولا أفكر إلاّ فيكم، وأقنع بصداقتكم هذه الخالصة المتعِبة المرهِقة عن الصداقة الكاذبة والود المدخول. فكيف أقدِر أن أملك نفسي وأنا أقوم بينكم لألقي عليكم كلماتي الأخيرة، ثم أمضي لطيّتي لا أدري أأراكم بعد اليوم أم لا أراكم بعد أبداً؟ أما أنتم فاملكوا أنفسكم! لا تحزنوا ولا تأسفوا ولا تبكوا لأني علّمتكم كيف تكونون في طفولتكم أكثر منا في شبابنا رجولة وصبراً، ونشّأتكم على القوة التي فقدناها والبعد عن العاطفة التي رُبّينا عليها، وإنكار الألم الذي لا نزال نهرب منه، والمغامرة التي نكرهها ونجهلها لأرى صبركم في مثل هذا اليوم. إنكم الآن تجتمعون حولي، ولكنكم ستتفرقون في المستقبل وستُنثرون على درجات السلم الاجتماعي نثراً، وسيكون منكم الغني والفقير، والكبير والصغير، والتاجر والصانع، والموظف

الكبير، والمدير والوزير ... ولكن قلبي سيتبعكم، وحياتي ستمتد فيكم، ومبادئي ستبقى في قلوبكم لا تستطيعون أن تتناسوها، وكلماتي سترنّ في آذانكم لا تقدرون أن تتغافلوا عنها، وستسمعونها تدعوكم باسم الواجب في ساعات الهوى، وباسم الحق في جولة الباطل، وباسم الفضيلة في غمار اللذة. فطوبى لمَن لبّى وسمع واستجاب، وويلٌ لمن نسي وأنكر وأعرض واستكبر! إنني لقّنتكم مبادئ الحق والفضيلة، ولكنكم ستجدون في تطبيقها عناءً كبيراً، ستجدون أول خصومها معلّميكم في المدرسة وأهليكم في البيت ورفاقكم في الطريق، فالسعيد السعيد من ثبت على الحق وأوذي في سبيله، والبطل من درأ بصدره السهام عن أمته وأطفأ بدمه النار التي تحرق وطنه. إن في أمتكم طاعوناً أخلاقياً مروعاً أصيبت به منذ خمسمئة سنة فذلّت واستكانت وفقدت عزتها وصبرها وقوتها، وقد جاء الوقت الذي تبرأ فيه الأمة. إنها لن تبرأ إلا على أيديكم. لقد دللتكم على الطريق ووضعت في أيديكم مفتاح النجاح، فعلّمتكم فضائلي كلها مع ما عرفت من فضائل، وجنّبتكم نقائصي كلها مع ما عرفت من نقائص، فاحترمتكم لتحترموني، وأخطأت أمامكم لتردّوني، ورجعت عن خطئي لتتعلموا مني، وأنصفتكم من نفسي لتُنصفوا الناس من نفوسكم، وعلّمتكم معارضتي إذا جِرتُ لتتعلموا المعارضة لكل جائر ... ولم آتِ في ذلك بدعاً؛ فهذه مبادئ الإسلام الذي علمتكم اتباع سبيله والوقوف عند أمره ونهيه، والفخر به والجهر باتّباع شعائره، وربيتكم على الطاعة في غير ذل والعزة في غير كِبر، والتعاون على الخير، والثبات على

الحق والقوة في غير ظلم، والنظام الكامل من غير أن يفقدكم النظام شخصياتكم واستقلالكم. كنت أذكر ما كنت أستاء منه في المدرسة مما كان يصنع معنا معلمنا، فلا أصنع معكم منه شيئاً: كنّا نفر من المدرسة لأننا لا نجد فيها إلا جبّاراً عاتياً عَبوس الوجه قوي الصوت بذيء الكلمات، فجعلتكم تحبون المدرسة لأنكم تلقون فيها أباً باسماً شفيقاً يحبكم ويشفق عليكم، ويحرص على رضاكم كما يحرص على نفعكم. وكنا نكره الدرس لأننا نجده شيئاً غريباً وطلاسم لا نفهمها ولا ندرك صلتها بالحياة، ونعاقَب على إهماله ونجازَى على الخطأ فيه، فجعلتكم تحبون الدرس لأنكم ترونه سهلاً سائغاً، تدركون صلته بحياتكم وفائدته لكم، وتحفظونه لأنه لازم ومفيد لا خوفاً من العقاب ولا هرباً من الجزاء. وكنا ننتظر المساء لننجو من المدرسة، لأننا نُسجن فيها سجناً لا نستطيع أن نميل أو نتلفت أو نتكلم، ولا نسمع من الأستاذ إلا عبارة الدرس المبهمة وألفاظ الشتائم المؤلمة. فجعلتكم تكرهون المساء لأنه يفصلكم عن المدرسة التي تقولون فيها ما شئتم من طيب القول، وتفعلون ما أردتم من صالح العمل، وتقرؤون ما زلتم نشيطين للقراءة، فإذا مللتم من الدرس سمعتم قصة لطيفة ونكتة حلوة، هي أيضاً درس من الدروس، ووجدتموني أحادثكم كما أحادث الرجال لا الأطفال. كنا نشعر بأننا أذلاء في المدرسة لأننا لا نقدر أن ندافع عن حقنا أو نطالب بما لنا، وإذا قلنا كلمة فالعصا نازلة على رؤوسنا، أو رددنا على المعلّم لفظة فالبلاء

مستقر على عواتقنا، فجعلتكم أعزة أحراراً، تدافعون عن حقكم وتطالبون بما لكم، ولكن بأدب واحترام واتباع لقوانين المجتمع وأنظمة المدرسة. * * * أتذكرون يوم جئتكم كيف كان أكثركم يأتي إلى المدرسة بادية أفخاذه مرجَّلاً شعره، في جيبه مشطه ومرآته وكمّتُه (بيريه) على رأسه، تفخرون برقتكم وتعتزون بجمالكم وتتخلعون في مشيتكم، ولا تجدون من معلميكم إلاّ إقرار ما تفعلون واستحسان ما تأتون، لا تربطكم بالإسلام إلاّ رابطة الاسم ولا بالعروبة إلاّ صلة الجنسية، ولا تعرفون من تاريخكم ما تعرفون من تاريخ الحثيّين والآراميّين الذي قرأتموه مفصّلاً قبل أن تدرسوا سيرة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وقبل أن تعلموا من هو أبو بكر، وقبل أن تسمعوا باسم معاوية! فعلّمتكم أن فخر الرجل بقوته وعلمه، واعتزازه بدينه ولغته. فاشتدت أعصابكم وقويت نفوسكم وتنبهت عزائمكم، وصرتم تمشون كالأسود وتلعبون كالعفاريت، وتطالعون كالعلماء وتفكرون كالفلاسفة وتراقبون الله كالصديقين، وصرتم وأنتم في هذه السن تهيئون محاضرة في عشرين صفحة عن عمرو بن العاص أو عبد الملك أو عبد الرحمن الناصر، وسمعتم أن في الدنيا علوماً إسلامية، واستقر في نفوسكم أن هذه العلوم وهذه الحضارة وهذا المجد لا بد لها من بعث كالبعث الأوربي (الرينسانس). ولكنكم لا تستطيعون -يا أولادي- أن تفهموا التضحية التي قدمتها من أجلكم؛ لأنكم لم تعرفوا قبلي هذا الطراز من المعلمين،

فحسبي أن أخبركم أنني أشتغل بالأدب. أعني أن لي نفساً تشعر وتحِسّ، وتَالَم وتسرّ، وتغضب وترضى، وتثور وتهدأ، وتأمل وتقنط، وأن لي غاية في الحياة أكبر من هذه الوظيفة، وأنني أهتم بأشياء غير صفّارة المناوب وعصا التأديب وحفظ النكات الباردة لتقطيع الوقت بها، ولف رجل على رجل في عظمة جوفاء لانتظار الدرس ... ذلك أنني أغدو إلى المدرسة كل يوم وفي نفسي عشرات من الصور والأفكار أبني منها هياكل فخمة لآثاري الأدبية القيمة التي لم أكتب منها شيئاً بعد، فإذا بلغت المدرسة ونشقت هذا الهواء المليء بجراثيم البلادة والخمول طار من رأسي كل شيء، وأحسست أني غدوت -حقيقة- معلماً أولياً! أجل! لقد ضحيت من أجلكم بفكري ونفسي ... فخسرتهما من أجلكم، وهأنذا أخسركم أنتم أيضاً. إنكم لا تعلمون أيّ فراغ سيدع في نفسي فراقكم، وتحسبون معلّمكم واحداً من هؤلاء البشر الآليين الذين يذهبون ويجيئون ويعملون ويتركون، ولكن بلا قلوب، فسأقص عليكم قصة وقعت لي منذ أسبوع: كان اليوم عطلة، وكنت أرقبه من زمن بعيد لأستريح فيه من هذا العناء الذي هدّني هدّاً وطمس بصيرتي وبلغ بي إلى الحضيض الفكري. فلما أصبحت عمدت إلى المطالعة فلم أفهم شيئاً، ووجدت شيئاً يدفعني إلى الخروج، فارتديت ثيابي وأنا لا أدري أين أقصد، فإذا أنا أمشي في الطرقات التي أمشي فيها كل يوم،

وإذا رجلاي تقودانني إلى المرجة حيث ركبت السيارة إلى حيّ السفح (المهاجرين) (¬1)، إلى باب المدرسة. هنالك انتبهت وعدت إلى نفسي، فإذا أنا لم أقدر أن أعيش يوماً واحداً بعيداً عنكم، وإذا صوركم وبسماتكم الحلوة وشيطنتكم البريئة وصداقتكم الخالصة وأصابعكم الممدودة للسؤال قِيد بصري حيثما ذهبت! ولكن لا عليكم مني يا أبنائي، لا تفكروا فيّ ولا تحملوا همّي، بل فكّروا دائماً في «مبادئي» التي علّمتكم إياها، واذكروا في المستقبل أني كنت أستاذكم وأنكم أحببتموني وأحببتكم، ولا تحقدوا عليّ أني كنت أحياناً أقسو عليكم أو أعاقبكم، فإنما كان ذلك لفائدتكم. وبعد، فقوموا يا أولادي ودّعوا أباكم الذي لن تلقوه بعد اليوم! * * * وخرج صاحبي من المدرسة مهدود الجسم خائر القوى، فألقى عليها النظرة الأخيرة، فرآها من خلال دموعه مشرقةً بهيّةً كأنها ألماسة تلمع في شعاع الشمس، ثم ولّى ... يفكر تفكيراً مضطرباً. * * * هذه هي حياة المعلم؛ يغرس غصون الحب في قلبه فتمزقه بجذورها، فإذا أزهرت جاؤوا فنزعوها من قلبه فمزقوه مرة ثانية ¬

_ (¬1) كذلك كانت تسمى الصالحية قديماً.

بنزعها: يأخذ المعلم أولاداً لا يعرفهم ولا يعرفونه، فلا يزال يجهد فيهم ليفهم طبائعهم ويألفهم ويحبهم، ويقوّم اعوجاجهم ويصلح فاسدهم، حتى إذا أثمر الحب الفائدة وأتى العطف بالمنفعة جاء ولاة الأمور فقطعوا بجرّة قلم واحدة هذه الأسباب كلها، وفرقوا بنقطة من حبر بين الأب وأولاده ... لا لشيء، بل لوشاية سافلة أو مؤامرة دنيئة، أو لإخلاء مكانه ليبوّأه بعض الملتمسين من ذوي الوساطات. وانطلق صاحبنا يهمس في أذن نفسه: إني أشعر بالانحطاط والضعف وأحسّ كأنني شمعة قد انطفأت، لم يكفِ أنهم أضاعوني وألقَوني في هذا الطرْق (¬1) حتى جعلوني أسبح فيه، ثم أغوص إلى أعماقه، بينما يمرح الأدعياء واللصوص بالعيون الصافية ويقطفون وردها وزهرها! لم يبقَ لي أمل ... لقد سقطت في المعركة قبل أن أنال ظفراً ... لقد بعت نفسي ومستقبلي وآمالي بتسعة جنيهات في الشهر ثمناً لخبز عيالي! أفكان حراماً أن أجدها من غير هذا الطريق؟ ألم يكن بدٌّ من أن أموت لأعيش؟! أستغفرك اللهمّ، فلا اعتراض ولا انتقاد، ولكنما هي شكوى. أفيخسر المرء ماله فيشكو ويفقد حبيبه فيبكي؟ ويرى آماله تنهار أمام عينيه ونفسَه تذوب وحياتَه تنضب ومواهبَه تذوي ولا يقول شيئاً؟! إنني أشكو ولكن إلى الله، فليس في الناس من يُشكى إليه! * * * ¬

_ (¬1) الطرْق (بطاء مفتوحة أو مكسورة): الفخ (مجاهد).

عدد 1000 من الرسالة

عدد 1000 من الرّسالة نشرت سنة 1952 لما سمعت أن الرسالة كادت تستكمل أعدادها الألف دُهشت وفرحت، كما يُدهش من يُقال له لقد غدا ولدك شاباً ويفرح به كأنه يرى شبابه لأول مرة، وما ذاك عن جهل به أو إهمال له، بل لأنه لا يزال يذكر مولده وطفولته، ولأنه يراه كل يوم فلا يحسّ أنه تغير ولا يدري متى جاوز الطفولة إلى الشباب. وأنا أذكر أبداً فرحتي بصدور الرسالة، وموقف أخي أنور العطار وقد جاء بالعدد الأول منها فخبأه وراء ظهره، وقال: احزر! قلت: ماذا؟ قال: الزيات أخرج مجلة أدبية. إنني أحس -من شدة وقع الفرح في نفسي لمّا قالها- كأنْ قد كان ذلك أمس ... فكيف مرت الأيام حتى بلغ عمر الرسالة ألف أسبوع؟ كيف مر هذا الأمد الطويل وكأنه من قصره ليالي الوصال؟! * * * ألف عدد؟! كم أنفقت من ذهني في إعداد المقالات لها ومن أعصابي في ارتقاب وصولها! وكم سألت الباعة عنها،

في شارع رامي في دمشق، وفي سوق السراي في بغداد، وفي العشار في البصرة، وعلى السور في بيروت، وعند باب السلام في مكة، وعند الجسر في الدير، وفي شارع الملوك في حيفا ... وفي كل بلد عشت فيه أو مررت به! وكم قرأت مسوّداتها وراء مكتب رئيس التحرير في الإدارة وأمام الآلات في المطبعة! كانت الأيام عندي السبت والأحد ويوم «الرسالة»، وكانت تتبدل عليّ المشاهد ويتغير الرفاق، ولكن الرسالة هي رفيقي الدائم، أذكر كل عدد منها وكل مقالة نشرت فيها وكل مناقشة فيها وكل بحث، ولقد قالت زوجتي أول ما قدمت عليّ: إنني لا ضرة لي، ولكن هذه الرسالة ضرتي! ثم رأت (وهي من أعقل النساء وأفضلهن) أنها ضرة لا تضر ولا تؤذي. * * * كم وضعت فيها من قلبي ومن فكري، ومن مشاهد حياتي ومن ذكرياتي، ومن آلامي ومن آمالي، من سنة 1933 إلى اليوم! ألف عدد، وستعيش الرسالة -إن شاء الله- حتى تبلغ الألف العاشر (¬1) وحتى تكون من أعلاق المكتبة العربية وكنوزها ... وقد ¬

_ (¬1) لم تعِش «الرسالة» بعد نشر هذه المقالة إلا قليلاً، ولم تلبث أن توقف صدورها في السنة التالية (مجاهد).

كانت. ستعيش حتى تصير في مثل عمر «المقتطف»، وليست المقتطف (مدّ الله في عمرها) بأحق منها بالخلود. ولقد كان للرسالة فضل على اللغة، وفضل على الأدب، وفضل على الأخلاق، وكان لها عمل كبير في إحياء روح الدين في دنيا الإسلام. ولقد أخرجت للناس كتّاباً وشعراء وكانت مدرسة للبيان العربي؛ جئناها شباباً فمشينا في رِكاب شيوخ الأدب، وبقينا فيها حتى أوشكنا أن نُعَدّ في الشيوخ، وهل بعد خمس وأربعين شباب؟ لقد ولّى الشباب وذبلت زهرة العمر وجاءت الكهولة، إن نسيتها ذكّرتني بها كل جارحة من جوارحي وكل عضو من أعضائي؛ إن أثقلت الطعام قالت المعدة: حاذر، إنك لم تعد شاباً. وإن مارست ما كنت أمارس من الرياضة قال القلب: قف، إنك لست بشاب. وإن تعرضت للبرد قالت المفاصل: تنبه، لقد فارقت عهد الشباب! وإن تطلعت إلى الحب أو ابتسمت للجمال، قال الفؤاد المَلول السّامان ... ويا ما أشد ما يقول الفؤاد السأمان الملول! وإن اشتعلت في الأعصاب نيران الحماسة وأخذت (ذلك) القلم الذي كنت أكتب به في الأيام الخوالي، تراءت لي هموم الأسرة فأطفأت نار الحماسة في أعصابي. كنت وحيداً خفيفاً وكان لي جناحان من أحلامي وأماني، فأثقل ظهري بناتي الأربع وأمهن وعماتهن وعمة أبيهن، واصطدم جناحايَ بأرض الواقع، وتبيّنتُ ضلال الأحلام وكذب الأماني، فتحطم الجناحان، فكيف يطير بغير جناحين مَن يحمل همَّ ثماني نساء؟

إني لأقف الآن لأراجع حسابي وأنظر ماذا ربحت وماذا خسرت! أما الرسالة فقد أفضلت عليّ وأضاءت للناس مكاني ومشت باسمي إلى بلاد ما كنت أسمع بها، وجاءتني بالشهرة والجاه ومجد الأدب، وعرفتني بإخوان كرام في أقطار ما دخلتها ولا أظن أني سأدخلها، وهذي رسائلهم تحت يدي من المشرق والمغرب، من إيران وأندونيسيا واليابان، فهل تعلمون أن للرسالة سوقاً وقراء في اليابان؟ ومن تونس والجزائر ومراكش وأميركا. ولقد كتبت مرة مقالة عن «الحياة الأدبية في دمشق» (¬1) فتجاوبت في الرسالة أصداؤها ببضع عشرة مقالة عن حياة الأدب في هاتيك البلدان، وكانت مناقشة -مرة- بيني وبين الأستاذ محسن البرازي (الذي صار رئيس وزراء حسني الزعيم، ثم قضى رحمه الله) فجاءني التأييد من جاوا، وهذه جريدة «برس» بشيراز تنشر الآن كتابي الجديد «كلمات» (¬2) مترجَماً إلى الفارسية بقلم الأديب الفارسي الأستاذ أحمد آرام، مع تعليقات في المدح والتأييد شعراً ونثراً يمُنّ ¬

_ (¬1) المقالة في كتاب «فِكَر ومباحث». وفي الحلقتين 126 و 128 من «الذكريات» عرض لهذه المقالة وما أثارته من ردود من البلدان المختلفة، وفيها مقتطفات من المقالات التي تحدثت عن الحياة الأدبية في العراق ولبنان والسودان والحجاز وفلسطين والأردن وتونس والمغرب. والمقالتان في آخر الجزء الرابع وأول الخامس من الذكريات (مجاهد). (¬2) وهو نواة كتاب «مقالات في كلمات» الذي صدر من بعد (مجاهد).

بها عليّ القراء، وهي على وشك الترجمة إلى الأوردية، ولولا الرسالة ما كان هذا كله. ولكن ما جدوى هذا كله؟ ما الشهرة؟ ما الجاه؟ إني لأكتب هذه الكلمة وأنا في دار في مضايا (¬1) منفردة في الجبل وأنا مريض وحيد منعزل، فهل أذهبت الشهرة عني المرض أو دفع الجاه عني الملل؟ وكذلك أنا في دمشق؛ أنا منذ سنين أعيش في حلقة مفرَغة لا تكاد تتجاوز الدار والمحكمة، حتى يوم الجمعة وحتى يوم العطلة أذهب إلى المحكمة، كالحمار (ولا مؤاخذة ...) الذي يدور بالسّانية (¬2)، إن أطلقت عنقه من الحبل عاد يدور لأنه مربوط من قيد العادة بحبل لا تراه العيون. فماذا ينفعني في عزلتي وسأمي أن يمدحني في بلاد الله مئة ألف؟ وماذا يضرني أن يذموني أو ألاّ يكونوا قد سمعوا باسمي؟ وماذا يفيدني -وأنا أعيش في دمشق عيش الغريب- أن يكون (وهذا هو الواقع، ولا فخر) بين كل عشرة يمرون في أي شارع ¬

_ (¬1) من مصايف الشام، وكان من عادة الشيخ أن يستأجر بها داراً في بعض السنين فيمضي فيها وأسرته الصيفَ بعيداً عن ازدحام دمشق وحرّها، شأنَ كثير من الدمشقيين. وفي إحدى هذه السنين سقطتُ من شرفتها على الصخر سقطةً ارتفاعُها أربعةُ أمتار أو خمسة فانكسر رأسي (وعمري أربع سنين)، ولولا لطف الله لما بقيتُ ولكان قرّاء هذا الكتاب قد حُرموا هذه الحاشية المفيدة! (مجاهد). (¬2) السانية: الناعورة، وتسمى في الغوطة «الحنانة»، ومنه المثل المشهور: «سَيرُ السّواني سَفَرٌ لا ينقطع».

فيها خمسة على الأقل يعرفون اسمي، ويحفظون طرفاً من مناقبي أو أطرافاً من مثالبي؟! ولقد اشتغلت الجرائد منذ سنة أسبوعاً كاملاً بشتمي وسبّي في صفحاتها الأولى من أجل تلك الخطبة المشهورة (¬1)، وفعلت مثل ذلك أيام الانتخاب سنة 1947 ونسبت إليّ نقائصَ تشين إبليس، فهل يصدق القراء أني لم أبالِ بها، حتى إني لم أقرأ أكثرها؟ أقسم بالله أن هذا الذي كان! ولقد نشرت الجرائد مرات أخرى أطيب الثناء عليّ وألصقت بي مناقب تزين الملائكة فما باليت بها أيضاً، لأن «كِلا طرفَي قَصْدِ الأمور ذميم»، والثناء إن زاد كالهجاء إن زاد؛ كلاهما أقرب إلى الكذب، وما أنا ملَك ولا أنا شيطان، ولي حسنات ولي سيئات، وأنا أعرف بنفسي من سائر الناس. * * * إني لأسأل مرة ثانية: ما الشهرة؟ إن الشهرة وهمٌ ليس له في سوق الحقيقة قيمة وليس له في ميزان الواقع وزن، حتى إن هذا الحرف (أي الشهرة) لا يصح لغة، ولا تكون الشهرة في الفصيح إلاّ بالعيب والعار والفضيحة، ولكن الألسنة أدارتها على هذا المعنى فكتبنا للناس ما يفهمون. ¬

_ (¬1) التي هزّت دمشق وشَغَلت أهلها وكانت حديثَ جرائدها ومجلاتها. اقرأ تفصيلاتها في الحلقة 135 من «الذكريات» (5/ 101) (مجاهد).

إن الشهرة سراب زائف. إنها مثل «المستقبل» الذي يركض وراءه الناس كلهم فلا يصلون إليه أبداً، لأنهم إن وصلوا إليه صار «حاضراً» وعادوا يفتشون عن مستقبل آخر يعدُون إليه؛ كحزمة الحشيش المربوطة برأس الفرس، يسعى ليدركها وهي تسعى معه أبداً! إنني أقول هذا من أعماق قلبي مؤمناً به، ولقد مرّ عليّ زمانٌ كان أحلى أمانيّ فيه أن أسير فيشير إليّ الناس بالأيدي يقولون: "هذا علي الطنطاوي"، وأن أعلو خطيباً كلَّ منبر، وأن أجد اسمي في كل صحيفة، وكان قلبي يتفتح للجمال ويستشرف للحب، فلما جربت هذا كله وذقت لذته صار كل ما أرجوه أن أتوارى عن الناس وأن أمشي بينهم فلا يعرفني منهم أحد. لقد مرّ بي أكثر العمر، ورأيت الحياة ونلت لذاتها وجرعت آلامها. لم تبقَ متعة إلاّ استمتعت بها، فلا اللذائذ دامت ولا الآلام، ولا الشهرة أفادت ولا الجاه. ولقد شهدت حربين عالميتين، ورأيت تعاقب الدول على الشام من العثمانيين إلى الفرنسيين إلى مَن جاء بعد، ومَن قام ومَن قعد، ومَن أتى ومَن ذهب، ولو أردت الوزارة وسلكت طريقها لبلغتها من زمان كما بلغها من مشى على إثري في الدراسة وفي الحياة، ولو شئت لكنت من المشايخ الذين تُقبَّل أيديهم ثم تُملأ بالمال، فيملكون الضياع والسيارات ويصيرون -بحِرفة الدين- من كبار أبناء الدنيا! ولكني ما وجدت شيئاً يدوم. تذهب الوزارة فلا تترك إلاّ حسرة في نفوس أصحابها، ويصحو الناس فيعلمون أن الذي يأكل الدنيا بالدين لا يمكن أن يكون من الصالحين المصلحين ... فزهدت في المناصب والمراتب

والمَشْيَخات، وهانت عليّ وصَغُرت في عيني، ولم يبقَ لي من دنياي (الآن) إلاّ مطلب واحد: يقظة قلب أدرك بها حقائق الوجود وغاية الحياة وأستعد بها لما بعد الموت. وهيهات يقظة القلب في هذا العالم المادي! إن الذي يبلغ ذروة الجبل تنكشف له الجهة الأخرى فيرى ما بعد الانحدار، وأنا قد بلغت ذروة العمر وانحدرت ولكني لم أبصر شيئاً ... إن الطريق مغطى بالضباب، وقد أضعتُ مصباحي في زحمة الحياة ومعترك العيش! * * * أما الرسالة فقد أفضَلَت عليّ وأحسنت إليّ. وما أشكوها، إنما أشكو دهري وأشكو نفسي، ومن حق الرسالة عليّ تحيةٌ خيرٌ من هذه التحية في عيدها الألفي، ولكني أكتب بيد عليل من فكر كليل، ولي من الأستاذ الزيات الصديق النبيل العذر الجميل. * * *

من رسائل الصيف

من رسائل الصيف [وهي سلسلة كنت أنشرها في «ألف باء» سنة 1933، لم يبقَ لديّ منها إلاّ هذه الرسالة ورسالة أخرى، وقد ضاع سائرها فيما ضاع من مقالاتي.] إلى صديقي (فلان): لست أدري من أين أبدأ أحاديثي الكثيرة التي سأصبّها في هذه الرسالة صباً؟ وأخشى أن أبعث بها إليك مهوّشة مضطربة قد تَداخلَ بعضها في بعض، فلا تفقه منها شيئاً. وأنا -كما عهدتني قبل أن تأخذ طريقك إلى مَصِيفك هذا الجميل الذي تنعم فيه وكما يعهدني أصدقائي جميعاً- رجل فوضى واضطراب، أغدو ولي وجهة أنا موليها وعمل أريد أن أذهب إليه، فلا أبعد حتى تحملني موجة من موجات الحياة إلى غير ما قصدت ... وما لي أحدثك عني قبل أن أسألك: كيف أنت؟ وهل أنت ساكن إلى حياتك في هذا المَغْنى الوادع، قانع من الدنيا بجلسة على صخرة «بقّين» والسهل تحت قدميك كأنه بساط من السندس، لولا أنه يفيض بالحياة فهو أسمى وأبهى ... أم أنت متبرّم بهذه العزلة تَحِنُّ إلى صخب المدينة وضوضائها؟ وهل الطبيعة -كما يقولون- كائن حي له كآبته وبهاؤه

وحزنه وسروره؟ وهل يفيض بهاؤها وكآبتها على من يجاورها ويلقي بنفسه في حضنها؟ أما أنا فأحسب ذلك حديث خرافة، وأعتقد أن الإنسان هو الذي يمنح الطبيعة (وأسألك الإغضاء عن هذه الكلمة، فلستُ أول من استعملها في غير مكانها)، أقول إن الإنسان هو الذي يمنح الطبيعة الحزن والسرور، فيراها ضاحكة مستبشرة إذا كان هو الضاحك المستبشر، ويراها كامدة مظلمة إذا كان مظلم النفس خاثرها. وأكاد أؤمن برأي هذا المجنون الإنكليزي بركلي (ولا تغضبك كلمة المجنون، فلقد عنيت بها العبقري!) ذاك الذي يقول: الدنيا صحيفة بيضاء كصحيفة السينما، لا شيء فيها وإنما تسقط الصور إليها من الصندوق. وما صندوق الحياة إلا رأسي ورأسك ورؤوس إخواننا أعضاء المجمع الأدبي، وإننا قادرون بعون الله الذي جعلنا أدباء (أو أنصاف أدباء، لا بأس) على أن نرى الدنيا على غير ما خلقها الله، ونأخذ كل شيء مقلوباً، ونخترع أشياء ما وُجدت كالحب العذري، ولا أثر لمدلولاتها إلاّ في رؤوسنا الطاهرة وصفحات الكتب. مالك بُهِتّ ورحت تلحف في السؤال عن هذا المَجْمَع. ألا تسكت لحظة فأحدثك حديثه (¬1): أنشئ هذا المجمع -يا صديقي- من السيد منير العجلاني «سكرتيراً» (أو ناموساً إذا اخترت الكلمة العربية) والسيد محمد الجيرودي «خازناً» والسيد أنور العطار والسيد ميشيل عفلق والسيد سعيد الأفغاني والسيد أنا «أعضاء ¬

_ (¬1) تجدون عن المجمع حديثاً مفصلاً في الحلقة 66 من «الذكريات»، في أول الجزء الثالث (مجاهد).

إداريين» والسيد سليم الزركلي والسيد جميل سلطان والسيد حلمي اللحام والسيد زكي المحاسني والسيد مصطفى المحايري «أعضاء عاملين» ... هؤلاء جميعاً هم الأعضاء المؤسسون، وقد انضم إليهم السادة: كامل عياد ومصطفى العظم وأنور حاتم، وكل هؤلاء ممن تعرف غناءهم. أما غاية المجمع فهي إنعاش الروح الأدبية في هذا البلد والتعاون على الإنتاج، والأخذ بضَبْعَي (¬1) كل أديب نابغ أقعده عن الظهور عارض من عوارض الدهر، وإنشاء أدب جديد قوي ... والتجديد كما نفهمه (أو كما أفهمه أنا على الأقل) لا يكون بقطع الصلة بالماضي ولا بالخروج على قواعد اللغة العربية وسنن العرب في كلامها، ولا بالدعوة الحمقاء إلى اللغة العامية وإلى تحطيم قواعد النحو وإعلان الحرية اللغوية وإنزال الفاعل الذي تعب من الارتفاع هذه العصور الطويلة ورفع المجرور الذي طالما انخفض وذل ... كلا. ولست أسمي شيئاً من هذا بالتجدد ولكنه هو التجرد والحماقة. فاللغة يجب أن تبقى كما هي في قواعدها وسننها، ولنصبَّ فيها -بعد ذلك- ما شئنا من أساليب جديدة وأفكار جديدة وكتب جديدة، أي أن نفعل فعل العرب في فجر الدولة العباسية حين ترجموا كتب اليونان والفرس فجعلوها عربية، ولم يجعلوا لغتهم من أجلها يونانية ولا فارسية ولا لغة ممسوخة، كل كلمة فيها هي من أصلها العربي كالقرد والخنزير من الإنسان ... هذه اللغة القردية التي نراها في الصحف والمجلات التي تترجم ¬

_ (¬1) الضَّبْع (بسكون الباء): ما بين الإبط إلى نصف العضُد من أعلاها، وهما ضبعان (مجاهد).

عن الإنكليز والفرنسيين أدبهم وشعرهم، والتي أُنفقُ ساعة كاملة في تفهّم الفقرة الواحدة منها ثم لا أفهمها! فأول شرط إذن من شروط التجديد هو حفظ الصلة بين أدبنا وأدب العرب، ولا يكون ذلك إلاّ بانقطاع طائفة منا إلى تراثنا الأدبي الثمين الذي يسميه بعض الجاهلين -سخرية وهزءاً- بتراث «الكتب الصفراء». نعم، يجب أن تنقطع طائفة منا إلى هذه «الكتب الصفراء» فيقرؤوها ويفقهوها حق الفقه؛ يجب أن نقرأ النحو لا في هذه الكتب المدرسية فحسب بل في المغني والأشموني وفي كتاب سيبويه وفي مفصّل الزمخشري. وأن نقرأ كتب اللغة، وأن نطالع كتب الأدب العربي الكبرى كالأغاني والكامل والبيان والأمالي، وأن نقرأ كتب البلاغة وأن ندرس الأصول والمنطق، ونقرأ تفسير الكشاف مثلاً وكتاباً آخر في الحديث، وأن يكون تحت أيدينا كتاب من كتب اللغة موسَّع كاللسان أو التاج أو القاموس على الأقل، وأن نرجع إليه عشر مرات في اليوم ... ولعلي أفزعتك وأوقعت في وهمك أني رجعي لأني أفرض هذا كله على كل أعضاء المجمع! كلا يا سيدي؛ أنا لا أفرض على أحد فرضاً ولكني أراه فرض كفاية علينا، يجب أن يقوم به بعضٌ كما يقوم بعضٌ بتفقه الأدب الإنكليزي أو الفرنسي ودراسة مناهج النقد فيه وأصول التحليل وتطبيقها على أدبنا، وكما نجد كثيرين منا (كالسيد العجلاني وعفلق) يقبلون على العمل في هذه الجهة نرى آخرين (كالسيد الأفغاني والسيد الجيرودي وأنا) يقبلون على العمل في الجهة الأخرى، وأكاد أثق أن الأفغاني والجيرودي لا يَقبلان منذ الآن إدراكاً وفقها لهذه العلوم الإسلامية العربية عمّن أفنى عشرين سنة من حياته في دراستها وحدها، فإذا

راضا نفسيهما على دراستها من جديد والانقطاع إليها كان منهما ومن أمثالهما تلك الطبقة من الأدباء التي تألّمَ الأستاذ أحمد أمين لفقدها في مصر ودعا إلى تكوينها (¬1). * * * وبعد، فلعلي أزعجتك يا صديقي بهذه الأحاديث، ولعلها جوفاء لا شيء فيها، فأنا أعتذر إليك وإلى أصدقائنا القراء وأرجو ألاّ يكثروا لي الشتائم ... وإلى الملتقى في رسالة أخرى تكون أقل سخفاً! * * * ¬

_ (¬1) في مقالة له عنوانها «الحلقة المفقودة»، افتقد فيها طبقة من الناس تجمع بين علوم الدين وعلوم العصر. وقد وُجدت عندنا الآن والحمد لله، وكان أول تلميذ من تلاميذ المدارس الحديثة اشتغل معها بعلوم الدين كاتب هذه السطور وسعيد الأفغاني، ومن بعدهما الأساتذة مظهر العظمة ومحمد المبارك ومحمد كمال الخطيب، وأول شيخ اشتغل بعلوم العصر الأستاذ الزرقا (وقد نال البكالوريا بعدي بسنة) ثم الأساتذة صبحي الصباغ ومعروف الدواليبي، ثم تعاقب الناس من الجانبين. وأنا أكتب هذا للتاريخ. أما هذا المجمع الأدبي فلم يصنع شيئاً لأنه أُلِّف تأليف الزيت والماء، مهما خضضتهما وجمعتهما عادا فافترقا، لأنهما من جنسين متباينين وطبيعتين مختلفتين.

في لج البحر

في لجّ البحر نشرت سنة 1955 مات علي الطنطاوي ... وليس عجيباً أن يموت، والموت غاية كل حي، ولكن العجيب أن يرجع بعدما مات ليصف لقراء «المسلمون» الموت الذي رآه! وكان ذلك من شهرين، وكان على سيف (¬1) البحر في بيروت، وكان البحر هائجاً غضبان يرمي بأمواج كأنها الكثبان، وقد فرّ منه الناس فليس في الشطوط كلها -على طولها وامتدادها (من سان سيمون إلى الأوزاعي) - إلاّ نفر قليل. ولم يكن يعرف من السباحة إلاّ درساً واحداً، كان قد تلقاه من أكثر من ثلث قرن على معلم لم يسبح أبداً، هو أن يقف حيث لا يصل الماء إلى الصدر، ثم يحاول أن ينبطح ويسيب قدميه ويخبط (¬2) بيديه، ويبقى على ذلك مقدار ما يبتلع من ماء ¬

_ (¬1) أرجوكم لا تقرؤوها بفتح السين كما تنطقون اسم السَّيف الذي هو من أدوات القتال، بل هي بالكسر، ننطقها كما ننطق كلمة «ريف»، و «السِّيف» هو ساحل البحر (مجاهد). (¬2) من العامي الفصيح.

البحر (وهو كشربة الملح الإنكليزي.) ما يملأ معدته وأنفه ... ثم يخرج! وكان معه شاب تونسي من علماء جامع الزيتونة، لا يمتاز في السباحة عنه إلاّ بأنه أجهل فيها منه، حتى هذا الدرس لم يحضره لأنه لم يكن وُلد، فلما كبر لم يستطع أن يأخذ مثله لأن ذلك «المعلّم» كان قد مات. وتركا (الحمام) حيث النساء العاريات مضطجعات ومنبطحات، رافعات السوق باديات العورات، وابتغيا مكاناً منعزلاً وراء صخرة مستديرة تطيف به إطافة الجدار، فتجعل من مائه الذي لا يبلغه من ورائها الموج بركةً آمنة ساكنة الماء قريبة القرار لا تغط (¬1) صبياً، فنزلا فيها. قال: وأخذت أسبح السباحة التي أعرفها، أرفع رجليّ وأحرك يديّ، فإذا تعبت خرجت أستمتع بالشمس والهواء. وكنت ممتلئاً صحة، أكاد أتوثب من النشاط توثباً، أحسّ كأن الأرض تدفعني عنها دفعاً. وكان الموت بعيداً عن فكري، والموت -أبداً- أبعد شيء في أفكارنا عنا، وإن كان أقرب شيء في حقيقته منا، نتناساه وهو عن أيماننا وشمائلنا، نشيّع الجنائز ونمشي معها ونحن في غفلة عنها نتكلم كلام الدنيا، ونرى مواكب الأموات تمر بنا كل يوم فلا نفكر ولا نعتبر، ولا نقدّر أننا سنموت كما ماتوا ومات من كان أصح منا صحة وكان أشد منا قوة وأكبر سلطاناً وأكثر أعواناً، فما دفعت عنه الموتَ -لمّا جاءه- صحتُه ولا قوته ولا حماه منه سلطانه ولا أعوانه، نعرف بعقولنا أن الموت كأس سيشرب منها ¬

_ (¬1) من العامي الفصيح.

كل حي، ولكننا ننسى هذه الحقيقة بشعورنا وعواطفنا وتحجبها عنا شواغل يومنا وتوافه دنيانا، يقول كل واحد منا بلسانه: إن الموت حق وإنه مقدر على كل حيّ، ويقول بفعله: لن أموت، لقد كُتب الموت على كل نفس إلاّ نفسي، فلا يزال في العمر فسحة لي دائماً ولن يأتي أجلي أبداً. وعاودت الدخول في الماء وأطلت البقاء فيه، وما أحسست -وأنا أتزحزح شبراً فشبراً- أني جاوزت هذه البركة وبلغت موضعاً من البحر عميقاً، علمت بعدُ أن فيه تياراً يتحاماه السباحون القادرون، فكيف بمن لم يكن يتقن من السباحة إلاّ فن الرسوب؟ وحاولت الوقوف فإذا أنا لا أجد الأرض الصلبة من تحتي، وحاولت أن أرفع رأسي فأنظر فإذا أنا لا أجد الهواء ولا أبصر شيئاً، وأحسست الماء الملح قد تدفق على فمي وأنفي، فأنا لا أملك إلاّ أن أبلعه وأنشقه. وبدأت أحسّ آلاماً لا تُصوَّر ولا توصَف، ليست في الرأس وليست في عضو من الأعضاء وحده، ولكنها في كل ذرة من جسدي وروحي ... وشعرت كأنْ قد ألقيت عليّ صخرة ضخمة وأن أعصابي تجذب من تحتها وتقطع كما تجذب خيوط الحرير مما خالطها من الشوك! وصار كل همي من دنياي أن أجد نسمة واحدة من الهواء فلا أجدها، فقلت: هذا هو الموت، هذا هو الموت الذي أفر من الكلام فيه والحديث عنه، والذي أراه بعيداً عني لم يحِنْ حينُه ولم يَدْنُ موعدُه، لذلك كنت أؤجل التوبة من يوم إلى يوم، أقول: إذا بلغت سن الشباب تبت، فلما بلغتها قلت: أتوب في الأربعين، فلما جاوزتها قلت: أنتظر حتى أتم بناء الدار، فلما أتممتها قلت: أتوب وأتفرغ إلى الله إذا بلغت

سن التقاعد (¬1) ... كأني أخذت على مَلَك الموت عهداً ألاّ يطرق بابي حتى أبلغ سن التقاعد، فها هو ذا قد جاء على غير ميعاد! وكان أول ما خطر على بالي أني كنت أتمنى ميتة سهلة سريعة تكون على الإيمان، وأن هذه الأمنية تلازمني من أزمان، فخشيت أن أكون قد سعيت إلى هذه الميتة فأكون (والعياذ بالله) منتحراً. ورحت أفكر فيما صنعته من لَدُن دخلت الماء، فإذا أنا لا أذكر من ذلك شيئاً، وإذا أنا أشعر أنه غدا بعيداً عني كأنه قد كان من مئة سنة لا من دقائق معدودات، وصَغُرَت الدنيا في عيني كأني أراها من طيّارة قد علت في طِباق الجو. ومن كان على سفر يسرع ليلحق القطار، هل يرى من الشوارع التي يجتازها شيئاً؟ وهل يغريه منها جمال ساحر أو فن طريف؟ إنه يحسّ بها غريبة عنه وأنها ليست له، ويغدو منظرها في عينه كصورة زائغة، فكيف ينظر إلى هذه الدنيا من أيقن بالموت؟ لقد امّحَت (والله) صورة الدنيا كلها من أمامي. وما لي وللدنيا ولم يبقَ لي فيها إلاّ لحظات معدودات، أنا أتجرع فيها ثمالة كأس الآلام؟ لم يبق لي منها ما يغريني بها، حتى الأهل والولد شُغلت بنفسي عنهم؛ فلا تصدّقوا ما تقرؤونه في القصص من أن المشرف على الغرق يفكر في أحبائه أو في أعماله أو في أدبه وعلمه ومقالاته وأشعاره، أو يهمه ما يُقال فيه من بعده ... ربما ¬

_ (¬1) أي سن المعاش في الاصطلاح المصري، و «التقاعد» أصح عربية وأقرب مدلولاً، وكذلك اصطلاحاتنا الشامية كلها ..

كان ذلك من غير المسلم، أما المسلم فلا يرى في تلك الساعة إلاّ ما هو قادم عليه. وازدحمت عليّ الخواطر فيما أفعله، فحاولت التشهد والتوبة أولاً، فلم أستطع النطق بشيء مما كان في فمي من الماء. وازدادت عليّ الآلام ولكنها لم تقطع خواطري، وكان ذهني في نشاط عجيب ما أحسست مثله عمري كله، وكنت بين خوف من الموت ورغبة فيه: أرغب فيه أرجو أن تكون هذه الميتة على الإيمان، وأخاف لأنه ليس لديّ ما أقدم به على الله، وقد فاجأني الموت كما يفاجئ الامتحان التلميذ المهمل الذي لا يزال يؤجل المطالعة والحفظ ويقول: الامتحان بعيد ... وتمضي الأيام، حتى إذا رآه صار أمامه قطع أصابعه ندماً وأذهب نفسه حسرة، وما نفعه ذلك شيئاً. هذا وهو امتحان يسير أسوأ ما فيه أن تذهب بالسقوط فيه سنة من عمره سدىً، فكيف بالامتحان الأعظم الذي ما بعده إلاّ النعيم الأبدي في الجنة، أو الشقاء الطويل في النار؟ الامتحان الذي ليس فيه «إكمال» ولا تُعاد له دورة ولا يُجبر فيه «كسر» درجة، ولا تنفع فيه شفاعة شافع ولا وساطة ذي جاه أو مال؟ ورأيت موقف الحساب رأي العين، وقد شَغلت كلَّ امرئ نفسُه، والناس يُدعَون ليأخذوا نتائج الامتحان، فمَن أخذ كتابه بيمينه وحُمل إلى الجنة فهذا هو الفائز، ومن أخذ كتابه بشماله وسيق إلى النار فهذا هو الخاسر، وهذا هو الخسران المبين. وعرضت عملي فلم أجد لي عملاً من أعمال الصالحين، فلا أنا من أهل المراقبة الذين لا يغفلون عن الله طرفة عين، ولا أنا من

المتعبدين الذي يقومون الليالي الطوال والناس نيام ويناجون ربهم في الأسحار، وما أنا من المتقين الذين يجتنبون المحرمات ... ما أنا إلاّ واحد من الغافلين المذنبين، إي والله، فبِمَ أقدُمُ على الله؟ ونظرت فإذا كل الذي ربحته من عمري لحظات، لحظات كنت أحسّ فيها حلاوة الإيمان وأخلص فيها التوجه إلى الله، تقابلها عشرات من السنين كنت سابحاً فيها في بحار الغفلة تائهاً في بَيداء الغرور، أحسب -من جهلي- أن الأيام ستمتدّ بي، لم أدرِ أن العمر ساعات محدودة وأن ذلك هو رأس مالي كله، فإن أضعته لم يبقَ لي من بعده شيء. وذكرت حديثاً كنت حفظته في صباي: «اغتنم خمساً قبل خمس: حياتَك قبل موتك، وصحتَك قبل سقمك، وفراغَك قبل شُغلك، وشبابَك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك» (¬1) وندمت على أنْ لم أكن وضعته في صدر مجلسي واتخذته منهجاً لحياتي، ولكني لم أعرف -مع الأسف- معناه ولم أدرك حقيقته إلاّ عندما انتهت حياتي. وفكرت فيما كنت أكابد من ألم الطاعة، فإذا الألم قد ذهب وبقي الثواب، ونظرت فيما استمتعت به من لذّة المعصية، فإذا هو قد ذهب وبقي الحساب؛ فندمت على كل لحظة لم أجعلها في طاعة. ¬

_ (¬1) قال الألباني: صحيح، رواه الحاكم في المستدرك والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس، وأحمد في الزهد وأبو نعيم في الحلية عن عمرو بن ميمون مرسَلاً (انظر: صحيح الجامع الصغير للسيوطي 1/ 243) (مجاهد).

ونظرت فإذا المقاييس كلها تتبدل ساعة الموت، وإذا كل ما كنت أحبه وأنازع عليه قد صار عدماً! وإذا أنا لم آخذ معي شيئاً؛ بنيت داراً فما حملت معي منها حجراً، واقتنيت مالاً فما كان لي منه إلاّ ما ظننت من قبل أني خسرته، وهو ما أخرجته لله، وكتبت آلافاً من المقالات في عشرات من السنين، وكان لي من القراء والمستمعين ملايين وملايين، فما نفعني إلاّ كلمة قلتها لوجه الله، وأين هي؟ لقد تركني هؤلاء المعجبون (كما يقولون) بأدبي وبياني أموت الآن وحدي، ما جاء واحد منهم ليأخذ بيدي وما أقبلَ واحدٌ منهم يدفع الموت عني! وعرفت لذائذ الحياة كلها، فما الذي بقي في يدي وأنا أموت غرقاً من لذائذ الحياة كلها؟ وما الذي استبدلته بالعمل الصالح (¬1) الذي لا أرجو النجاة الآن إلاّ به؟ لقد كان إبليس يشغلني عن الخشوع في الصلاة بالتفكير في البنطال (¬2) أن يُفسد كيَّه السجودُ، ويخوّفني أن تذهب صحتي بقطع المنام لصلاة الفجر أو صيام أيام الحر من آب، وأن أخسر حسن رأي الناس فيّ إن جهرت بقولة الحق أو أن ينالني من ذلك أذىً في جسدي أو في رزقي! فوجدتني الآن أخسر الناس، إذ بعت النعيم الباقي، بهذا الوهم الزائل (¬3)؛ كزنوج إفريقية الذين يعطون ¬

_ (¬1) القاعدة أن الباء تدخل على المتروك؛ أي: ما الذي تركت عملي الصالح من أجله؟ (مجاهد). (¬2) البنطال: تعريب بنطلون. (¬3) هذا كله من باب ضرب المثل بالنفس، وكل قارئ لبيب يدرك أنه من خيال المؤلف؛ فلم يحصل أبداً أن خاف علي الطنطاوي على نفسه أو =

كنوز بلادهم وخيراتها ليأخذوا خرزات لماعة، أو ساعة طنانة، أو هنة هينة من هنات الحضارة! أو كأهل الجزيرة التي أراد الأميركيون أن يُخلوها ليتخذوها مكاناً لتجربة قنبلة ذرية يفجرونها فيها، فبعثوا إلى أهلها رسلاً منهم يخبرونهم وينذرونهم: إن هذه الجزيرة ستدمَّر وإنه لن يبقى فيها لحي مقام، وإنها صارت دار ممر وإن أمريكا هي دار المستقر، وإن مَن سلَّمَ أثاثه ورياشه وماله أعطوه في أميركا خيراً منها وأبدلوه بالخيمة في الجزيرة داراً في نيويورك، وإن الطيارات ستتوالى على الجزيرة لنقل أهلها فليكونوا جميعاً على استعداد، فإنه لا يدري أحدٌ متى سيُنقل، وليعلموا أنه ليس لأحد أن يحمل معه من متاعه شيئاً إلاّ ما كان قدّمه وسيجده أمامه. أما العاقل فيبذل ما لديه من متاع، ويعلم أن الذي يعطيه اليوم هو الذي يبقى له غداً وأن الذي يحتفظ به ويخفيه يخسره ويخرج من يده، ويكون مستعداً للسفر في كل لحظة ... وأما الأحمق فيتمسك بخيمته ومتاعه القليل ويقول: "أنا باق هنا، هذه هي داري وهذا متاعي، وما الدار الآخرة في أميركا إلاّ أكاذيب جرائد وأساطير محررين، ولن أكون أحمق فأبيع عاجلاً حاضراً

_ = رزقه إن قال كلمة الحق، وما أحسبه حفل يوماً برضا الناس أو غضبهم أمام رضا الله وغضب الله، بل هو لا يبالي الناس في أمور هي أهون من ذلك بكثير، والذي قرأ سيرته أو طرفاً منها يدرك أن هذه واحدة من أظهر الصفات فيه. ومثل ذلك يقال عن المقارنة بين الصيام والصحة أو الصلاة وكيّ البنطلون! إنما هي أمثلة أراد أن يوصل بها الفكرة فلم يجد أصدقَ من أن يجعل من نفسه مضرب المثل (مجاهد).

بآجل موهوم". ويرى الناس يطيرون كل يوم فلا يفكر ويظن أنه وحده هو الباقي، حتى يجيء دوره فيُحمَل قسراً لا يملك دفعاً ولا منعاً، ويخسر ما كان له في الجزيرة ولا يلقى في أمريكا إلاّ جحيم الفقر والحاجة إلى الناس. وطغى عليّ ألم الموت ولم يعد في طَوقي أن أفكر، فتوجهت إلى الله وتصورت كرمه وعفوه، وكان يغلب عليّ الأمل وحب الحياة فأضرب بيديّ ورجليّ وأرفع يميني أشير بها، ثم يدركني اليأس فأسلم أمري إلى الله. ولم أكن أتمنى بعد المغفرة إلاّ شيئاً واحداً؛ هو أن يخفف الله عني بتعجيل موتي، أخشى أن يطول بي هذا الألم فوق ما طال. وقد خُيِّل إليّ أني بقيت على ذلك ساعات، ولكن تبين لي من بعد أني لم ألبث أكثر من دقيقتين ... في دقيقتين أحسست هذه الآلام ومرّت في ذهني هذه الخواطر! وهذا من العجائب التي أودعها الله النفس البشرية، فأنت ترى حلماً تعيش فيه عشرين سنة بأحداثها، ولا تكون قد نمت أكثر من خمس دقائق. ثم لما خارت قواي وأوشكت أن أغوص فلا أطفو أبداً خُيِّل إليّ أني أسمع أصواتاً تناديني، وأحسست بيدي تمسّ شيئاً صلباً أدركت أنه طرف زورق، ففرحت فرحة ما فرحت قط مثلها، وشعرت أني أُرفع إلى الزورق، ثم غبت عن نفسي وهم يمسكون برجليّ لأخرج بعض ما في جوفي من ماء البحر. لقد خرجت بنفس جديدة، واتّعظت موعظة أرجو أن تدوم لي، وعرفت قيمة الحياة وحقيقة الموت. ونحن لا نعرف مِن

الموت إلاّ ظاهره دون حقيقته، نراه عدماً ونندب القريب والحبيب أنْ وضعناه في حفرة باردة وخلّفناه وحيداً تأكله الدود! وليس حبيبك الذي أودعته الحفرة ولكن جسده، والجسدُ ثوبٌ يُخلَع بالموت كما تخلع الحية ثوبها، فهل يبكي أحد على ثوبٍ خُلع؟ وما الموت إلاّ انتقال إلى حياة أرحب وأوسع، إلى النعيم الدائم أو الشقاء الطويل، ولو كان الموت فناء لكان نعمة. ولو أنّا إذا متنا تُرِكنا ... لكانَ الموتُ راحةَ كلِّ حيِّ ولكنّا إذا مِتْنا بُعثنا ... ونُسأَلُ بعدَها عن كلِّ شيِّ فإذا كان الموت سفرة لا بدّ منها، فالعاقل من تهيّأ لها وأعدَّ لها الزاد والراحلة وذكرها دائماً كيلا ينساها، ونظر في كل شيء، فإن كان مما يستطيع أن يحمله فيها حرص عليه، وإن كان مجبراً على تركه وراءه زهد فيه وانصرف عنه. وبعد، فلا يهنّئْني أحدٌ بالسلامة، بل ليدعُ لنفسه ولي بحسن الخاتمة، فإني أخاف -والله- ألاّ أجد ميتة أكون فيها حاضر القلب مع الله، مستشعراً التوبة، متصوراً الدار الآخرة، كما كنت هذه المرة. * * *

شكوى

شكوى أذيعت سنة 1959 هذه شكوى. ولكن ممّن؟ ولمن؟ لست أدري؟ أسمع الآن أذان الفجر وأنا في الفراش، أكتب وأجفاني مطبقة من النعاس، فاليد تكاد تجري بنفسها وأنا لا أبصر، أما الخط فخرابيشُ لا يقرؤها إلاّ أنا. ذلك أني لبثت أتقلّب في الفراش إلى الآن؛ أغفي لحظة ثم أستيقظ. وما ذاك عن مرض، فأنا ولله الحمد نشيط قوي أمارس الرياضة وأحس دبيب الصحة في عضلاتي كأني شاب في الثلاثين. وما عن همِّ العيش والفكر في المال، فإنه يَرِدُ عليّ والحمد لله ما يكفيني ويزيد عني. وما عن خلاف في البيت أو مشاكل (¬1) مع الناس، فأنا مستريح في بيتي وقد تركت الناس فلا أعاملهم ولا أقاربهم ولا أشتري ولا أبيع، ولا أشتغل بسياسة ولا رياسة، فاسترحت من الناس. ¬

_ (¬1) قال بأَخَرة: الصواب «مشكلات» لا «مشاكل»، وكان اسم برنامجه اليومي في الإذاعة «مسائل ومشاكل» فغيّره فجعله «مسائل ومشكلات» (مجاهد).

فمالي إذن لا أنام؟ إنه همٌّ أكبر من هذه الهموم كلها؛ إنه هم الأدب! إن ما أنا فيه أصعب من عمل العامل الذي يحفر الطريق ويضرب المعول من الصباح إلى المساء، أصعب والله، لأن العامل يتعب حتى يسيل عرقه ولكنه يجد إذا أكل شهية حاضرة وإذا وضع جنبه على الأرض نام، وأنا أصبح جائعاً فلا أجد الرغبة الصحيحة في الطعام، فإذا أكلت وأنا أفكر لم أهضم ما أكلت. ويقتلني النعاس فأتقلب فلا أستطيع أن أنام، وهل ينام من يدق رأسه بالحجر؟ إن رأسي يدق ولكن من داخل، فيه أفكار تجري وتصطدم فتقرعه، فكيف أنام وهذه الأفكار تدق رأسي دق الحجارة؟ أفكار المقالات والأحاديث والقصص. إن عليّ أن أعدّ لكم كل جمعة هذا الحديث، وعليّ أن أعدّ خطبة الجمعة في مسجد الجامعة أو أفتش عمّن أوكله بها، وعليّ أن أكتب مقالة الإثنين في «الأيام»، وأنا مرتبط بثلاث مجلات أكتب بها ومجلات أخرى أعاود الكتابة فيها حيناً بعد حين، وعندي كتب أعدّها للطبع، وقد عهدت إليّ داران للنشر أن أكتب لهذه سلسلة من القصص للصغار ولتلك سلسلة في تراجم الرجال (¬1)، وعليّ فوق ذلك عملي في المحكمة، وهو وحده يملأ وقت مثلي ورأسه ¬

_ (¬1) في السنة التي أذيع فيها هذا الحديث والتي بعدها أصدر جدي أكثر كتبه المطبوعة، جمع فيها ما كان نشره منجَّماً مقالاتٍ في الجرائد والمجلات على مر السنين. أما القصص التي كتبها للصغار فسلسلة «حكايات من التاريخ» (وهي سبع) والأخرى التي في تراجم الرجال سلسلة «أعلام التاريخ» وهي في سبعة كتيبات صغار (مجاهد).

ويستنفد قواه. إني أتمنى أن أعيش شهراً لنفسي كما يعيش الناس، وأين مني ما أتمناه؟ إن الناس إذا سمعوا خبراً أو قرؤوا قصة فكروا في ذلك لأنفسهم، وأنا إن سمعت أو قرأت فكرت كيف أبني على ذلك مقالة أو أصوغ منه قصة، وإن رأى الناس مشهداً من مشاهد الطبيعة أو فِلماً من أفلام السينما استمتعوا به لأنفسهم، وإن رأيته أنا فكرت كيف أصفه لأمتع به القراء والمستمعين، وإن فرحوا أو حزنوا كان فرحهم أو حزنهم لهم، وفرحي أنا أو حزني للناس، أعمل من أجل ذلك عمل المجانين. أقف في الطريق لأدوّن فكرة طرأت عليّ تصلح لحديث أو مقال، وأكتب في زحمة الترام أن ذكّرني الترام بشيء يصلح لحديث أو مقال، وإلى جنب سريري الورق والقلم مربوط بالمصباح، فكلما خطرت لي فكرة أضأت المصباح وكتبت. ويقول مدرّسو الأدب إن الأفكار تجيء في المناظر الجميلة، في الرياض حيث تزقزق العصافير وتهدر السواقي والمرء مستريح نشيط، أما أنا فلا تجيئني الأفكار إلاّ في الفراش وأنا محطم من النعاس، فأنا أشعل النور كل ليلة وأطفئه عشرين مرة، لذلك يهرب مني الأهل فلا يستطيع أن ينام أحد في الغرفة التي أنام فيها. أما الناس فقد هربت منهم أو هربوا مني، فأنا من سنين منفرد معتزل لا أكاد أزور أحداً ولا يزورني الناس إلا قليلاً. وإن زارني صديق على شدة الشوق إليه والرغبة فيه لم أستطع أن أستقبله، وهل يستقبل الطالب أحداً ليلة الامتحان؟ إن عليّ في كل ليلة إعداد مقالة يمتحن بها القراء أو السامعون أدبي، ليروا هل أنا حيث كنت أم قد أدركني الونى والكلال فسقطت في المعركة.

فكيف أجلس مع الضيف أساقطه لغو الحديث وهو فارغ الفكر جاء يتسلى ويدفع الساعات التي لا يجد له فيها عملاً، وأنا قاعد على مثل الجمر أفكّر في المطبعة التي تنتظرني فاتحةً فاها كجهنم تنتظر المقالة؟ لقد صيّرتني هذه المقالات وهذه الأحاديث غريباً وأنا في بلدي، وحرمتني حديث المجالس ولقاء الإخوان. لقد طار النوم من عيني الآن فقمت إلى المكتبة ... وسألتني ربة الدار والنوم يغالبها: هل من شيء؟ فلم أجب ... إنها ستسمع الجواب في هذا الحديث. وهذه أيضاً من مصائب الأدب. للناس أسرار بينهم وبين أهليهم وأسرار يطوون عليها جوانحهم، والأديب المسكين ليس له سرّ، عليه أن يشرك القراء معه في أسراره كلها، حتى في أخباره في بيته، حتى في أدق مشاعره وأعمق عواطفه، عليه أن يصفها للناس ويحدثهم بها، فخفايا الأديب معلَنة وأسرار الأديب مذاعَة، فيا بؤس الأدباء! هذه حالي يا أيها السامعون، وهذه هي الليلة الرابعة التي لا أنام فيها. هذه حالي وأنا في هذا البلاء من إحدى وثلاثين سنة. نعم يا سادتي، من إحدى وثلاثين سنة وأنا أفكر للقراء، وأحس للقراء، وأعيش للقراء؛ همّي أن أصفّ كل يوم كلاماً أقدمه لهم، أنتزعه من روحي ومن نفسي ليكون متاعاً لهم يتسلون به في أوقات

الفراغ، أما السامعون فإن لي معهم سبع عشرة سنة ما انقطعت فيها عن حديثهم إلا فترات. سبع عشرة سنة وأنا أحدثكم! أفما تنفد الموضوعات؟ أما أمَلُّ أو تملّون مني؟ دعوني أسترِح قليلاً وتستريحوا مني! أقسم لكم بالله أني حين أجد في برامج الإذاعة ما يمنع من حديثي، حفلة أو مباراة أو شبهها، أفرح كما يفرح التلميذ الذي يجد المدرسة مغلقة لأن اليوم عيد! لقد لبثت ثلث قرن وأنا أكتب، أكتب دائماً، حتى زاد ما طُبع من كتاباتي على خمسة عشر ألف صفحة لم أعُدَّ منها الخطب التي خطبتها ولم أكتبها فضاعت (وهي تزيد على ألف خطبة)، وأنا أحسُّ -مع ذلك- بأن عندي شيئاً لم أقله، ولا أجد الوقت الكافي لأقوله ... هو العمل الأدبي الخالد الذي أهم به وتشغلني عنه هذه الأحاديث وهذه المقالات. إن لكل امرئ طاقة، وأنا لم أعد أحتمل. فإذا رأيتموني قد انقطعت فجأة عن هذا الحديث وعن الكتابة في الصحف والمجلات فلا تعجبوا، لأني أكون قد قررت الهرب. إني أطلب إجازة، فهَبوني موظفاً أو عاملاً، أفليس من حق الموظف أو العامل أن يُجاز أياماً ليستريح؟ لقد كنت أكتب والشباب موات والحماسة تملأ النفس والرغبة في الشهرة والمجد الأدبي تحفز إلى العمل، أكتب وأعرض المقالة على الناشر لا أطلب منه مالاً ولا أجراً إلا نشرها، فإن رأيتها منشورة ملأ الزهو والفرح قلبي فوجدت المكافأة حاضرة، فأقبل

عليّ الآن الناشر يطلب مني، وعرض الأجر الكبير والمال الوفير، ولكني فقدت الحماسة وماتت في نفسي الرغبة في الشهرة حين نلتها فوجدتها سراباً. سراب والله! هل تعرفون السراب؟ إن سالك الصحراء يراه من بعيد كنبع الماء الصافي، فإذا جاءه لم يجد شيئاً. هذه هي الشهرة! وأنا أكتب عنها عن خبرة. لقد صار يعرف اسمي ملايين، وتُرجم كثير مما كتبت إلى الفارسية والأوردية وترجم شيء منه إلى الإنكليزية، وتجيئني كتب من القراء والسامعين من أندونيسيا في أقصى المشرق ومن مراكش في المغرب. فماذا في هذا كله؟ ما ينفعني وماذا يصير في يدي منه؟ ما ينفعني وأنا منفرد في داري أن يمدحني ملايين من الناس ويقولوا إني أديب العرب، وما يضرني أن يقولوا إني أكبر دعيّ وأجهلُ جاهل؟ أو أن لا يمر على ألسنتهم اسمي ولا يعرفوني؟ وما المجد الأدبي؟ هو أن تَرِد عليك كتب المعجبين، وأن تُقام لك حفلات التكريم، وأن تكتب عنك الصحف؟ لقد رأيت هذا كله من أكثر من عشرين سنة، فصدقوني حين أقول لكم إنه سراب. إن الحقيقة الوحيدة من ثمار الأدب هي أجور المقالات وما نرجو من ثواب الله! ولقد أخذت على مقالاتي أكبر أجر أخذه كاتب عربي؛ قبضت غير مرة ثلاثمئة ليرة على المقالة الواحدة، وقبضت ألف ليرة على المحاضرة الواحدة ... والمال حقيقة ليس سراباً، ولكن ماذا أصنع بهذا المال؟

إن راتبي يكفيني، وقد كنت أتمنى أن يكون لي بيت فصار لي بحمد الله بيت، وأنا لا أدّخر مالاً ولا أريد أن أكون من كبار المثرين، فلماذا الحرص على المال؟ وهل يعدل المال الذي آخذه الراحةَ التي أفقدها والنوم الذي أشتهيه فلا أجده؟ أما ثواب الله فأرجو أن يكون لي من الإخلاص ما أستحقه به أولاً، وأرجو ثانياً أن لا يحرمني الله الثواب إن استرحت حيناً لأجمَّ النفس وأجدد العمل. لا؛ إن ثواب الله هو الحقيقة الواحدة الباقية وما عداه متاع الغرور، خدع نخدع بها أنفسنا وأوهام، قبض الريح! اقبض على الريح تَجِد يدك فارغة لا شيء فيها، وكذلك الدنيا. ما الذي نحمله معنا إن ذهبنا إلاّ العمل الصالح؟ كله سراب إلا ما تقدمه بين يديك لآخرتك. وبعد، فإنكم -يا سادتي- تسمعون حديث المحدث أو تقرؤون مقالة الكاتب فلا تتصورون ماذا أنفق في ذلك من جهد وما حمل من تعب حتى وصل ذلك إليكم. إنه كرغيف من الخبز تأكلونه بلا فكر فيه أو بحث عن حاله، ولو فكرتم لعلمتم ماذا عملت فيه من يد وما صُبّ فيه من جهد، من يوم حرَثَ الأرضَ الزارعُ إلى أن عجنَ العاجنُ وخبَزَ الخبّاز. بل إن عمل الأديب في المقالة أشق وبلاءَ الأديب بالأدب أكبر، فسامحوني إذا نفّست اليوم عن نفسي بهذا الحديث، فإنها شكوى:

ولا بُدَّ مِن شكوى إلى ذي مروءةٍ ... يُواسيكَ أو يُسْليكَ أو يتوجّعُ * * * إني أشعر أني ألقيت بهذه الشكوى حملاً عن عاتقي، وأنا قائم الآن لأصلي الصبح وأحاول المنام، فسامحوني أنْ أتعبتكم بالحديث عن نفسي وتصبحون على خير. * * *

بعد الخمسين

بعد الخمسين نشرت سنة 1959 نظرت في التقويم فوجدت أني أستكمل اليوم (23 جمادى الأولى 1379 هـ) اثنتين وخمسين سنة قمرية، فوقفت ساعة أنظر فيها في يومي وأمسي، أنظر من أمام لأرى ما هي نهاية المطاف، وأنظر من وراء لأرى ماذا أفدت من هذا المسير. وقفت كما يقف التاجر في آخر السنة ليجرد دفاتره ويحرر حسابه، وينظر ماذا ربح وماذا خسر. وقفت كما تقف القافلة التي جُنّ أهلوها وأخذهم السُّعَار، فانطلقوا يركضون لا يعرفون من أين جاؤوا ولا إلى أين يذهبون، ولا يهدؤون إلاّ إذا هدّهم التعب فسقطوا نائمين كالقتلى! وكذلك نحن إذ نعدو على طريق الحياة؛ نستبق كالمجانين ولكن لا ندري علامَ نتسابق، نعمل أبداً من اللحظة التي نفتح فيها عيوننا في الصباح إلى أن يغلقها النعاس في المساء، نعمل كل شيء إلا أن نفكر في أنفسنا أو ننظر من أين جئنا وإلى أين المصير! وجردت دفاتري، أرى ماذا طلبت وماذا أُعطيت. * * *

طلبت المجد الأدبي وسعيت له سعيه، وأذهبت في المطالعة حِدّة بصري وملأت بها ساعات عمري، وصرّمت الليالي الطِّوال أقرأ وأطالع، حتى لقد قرأت وأنا طالب كتباً من أدباء اليوم مَن لم يفتحها مرة لينظر فيها! وما كان لي أستاذ يبصرني طريقي ويأخذ بيدي، وما كان من أساتذتي مَن هو صاحب أسلوب في الكتابة يأخذني باتّباع أسلوبه، ولا كان فيهم مَن له قدم في الخطابة وطريقة في الإلقاء يسلكني مسلكه ويذهب بي مذهبه (¬1). وما يسميه القراء أسلوبي في الكتابة ويدعوه المستمعون طريقتي في الإلقاء شيء مَنَّ الله به عليّ لا أعرفه لنفسي، لا أعرف إلاّ أني أكتب حين أكتب وأتكلم حين أتكلم منطلقاً على سجيتي وطبعي، لا أتعمد في الكتابة إثبات كلمة دون كلمة ولا سلوك طريق دون طريق، ولا أتكلف في الإلقاء رنّةً في صوتي ولا تصنّعاً في مخارج حروفي. وكنت أرجو أن أكون خطيباً يهز المنابر وكاتباً تمشي بآثاره البرد (¬2)، وكنت أحسب ذلك غاية المنى وأقصى المطالب، فلما نلته زهدت فيه وذهبت مني حلاوته، ولم أعد أجد فيه ما يُشتهى ويُتمنّى. وما المجد الأدبي؟ أهو أن يذكرك الناس في كل مكان وأن يتسابقوا إلى قراءة ما تكتب وسماع ما تذيع، وتتوارد عليك كتب الإعجاب وتقام لك حفلات التكريم؟ لقد رأيت ذلك كله، فهل ¬

_ (¬1) إلاّ الشيخ عبد الرحمن سلام. (¬2) جمع بريد (مجاهد).

تحبون أن أقول لكم ماذا رأيت فيه؟ رأيت سراباً ... سراب خادع، قبض الريح! وما أقول هذا مقالة أديب يبتغي الإغراب ويستثير الإعجاب، لا والله العظيم (أحلف لكم لتصدقوا) ما أقول إلاّ ما أشعر به. وأنا من ثلاثين سنة أعلو هذه المنابر وأحتل صدور المجلات والصحف، وأنا أكلم الناس في الإذاعة كل أسبوع مرة من سبع عشرة سنة إلى اليوم، ولطالما خطبت في الشام ومصر والعراق والحجاز والهند وأندونيسيا خطباً زلزلت القلوب، وكتبت مقالات كانت أحاديث الناس، ولطالما مرت أيام كان اسمي فيها على كل لسان في بلدي وفي كل بلد عشت فيه أو وصلت إليه مقالاتي، وسمعت تصفيق الإعجاب، وتلقيت خطب الثناء في حفلات التكريم، وقرأت في الكلام عني مقالات ورسائل، ودرَس أدبي ناقدون كبار ودُرّس ما قالوا في المدارس، وتُرجم كثير مما كتبت إلى أوسع لغتين انتشاراً في الدنيا: الإنكليزية والأردية، وإلى الفارسية والفرنسية ... فما الذي بقي في يدي من ذلك كله؟ لا شيء. وإن لم يكتب لي الله على بعض هذا بعضَ الثواب أكُنْ قد خرجت صفر اليدين! إني من سنين معتزل متفرد، تمر عليّ أسابيع وأسابيع لا أزور فيها ولا أزار، ولا أكاد أحدّث أحداً إلاّ حديث العمل في المحكمة أو حديث الأسرة في البيت. فماذا ينفعني وأنا في عزلتي إن كان في مراكش والهند وما بينهما مَن يتحدث عني ويمدحني، وماذا يضرني إن كان فيها من يذمني أو لم يكن فيها كلها مَن سمع باسمي؟

ولقد قرأت في المدح لي ما رفعني إلى مرتبة الخالدين، ومن القدح فيّ ما هبط بي إلى دركة الشياطين، وكُرِّمت تكريماً لا أستحقه وأُهملت حتى لقد دُعي إلى المؤتمرات الأدبية وإلى المجالس الأدبية الرسمية المبتدئون وما دُعيت منها إلى شيء، فألفت الحالين وتعوّدت الأمرين، وصرت لا يزدهيني ثناء ولا يهزّ السبُّ شعرةً واحدة في بدني. أسقطت المجد الأدبي من الحساب لما رأيت أنه وهم وسراب. * * * وطلبت المناصب، ثم نظرت فإذا المناصب تكليف لا تشريف، وإذا هي مشقة وتعب لا لذّة وطرب، وإذا الموظف أسير مقيَّد بقيود الذهب، وإذا الجزع من عقوبة التقصير أكبر من الفرح بحلاوة السلطان، وإذا مرارة العزل أو الإعفاء من الولاية أكبر من حلاوة التولية. ورأيت أني مع ذلك كله قد اشتهيت في عمري وظيفة واحدة، سعيت لها وتحرّقت شوقاً إليها ... هي أن أكون معلماً في المدرسة الأولية في قرية حرستا (¬1) وكان ذلك من أكثر من ثلاثين سنة، فلم أنلها فما اشتهيت بعدها غيرها. وطلبت المال وحرصت على الغنى، ثم نظرت فوجدت في الناس أغنياء وهم أشقياء وفقراء وهم سعداء. ¬

_ (¬1) قرية في طرف الغوطة، كان منها الإمام محمد صاحب الإمام الأعظم أبي حنيفة.

ووجدتني قد توفي أبي وأنا لا أزال في الثانوية، وترك أسرة كبيرة وديوناً كثيرة، فوفّى الله الدين وربى الولد وما أحوج إلى أحد، وجعل حياتنا وسطاً ما شكونا يوماً عوزاً ولا عجزنا عن الوصول إلى شيء نحتاج إليه، وما وجدنا يوماً تحت أيدينا مالاً مكنوزاً لا ندري ماذا نصنع به، فكان رزقنا والحمد لله كرزق الطير: تغدو خِماصاً وترجع بِطاناً. فلم أعد أطلب من المال إلاّ ما يقوم به العيش ويقي الوجهَ ذلَّ الحاجة. وطلبت متعة الجسد وصرّمت ليالي الشباب أفكر فيها وأضعت أيامه في البحث عن مكانها، وكنت في سكرة الفتوة الأولى لا أكاد أفكر إلا فيها ولا أحن إلاّ إليها، أقرأ من القصص ما يتحدث عنها ومن الشعر ما يشير إليها. ثم كبرت سني وزاد علمي، فذهبت السكرة وصحّت الفكرة، فرأيت أن صاحب الشهوة الذي يسلك إليها كل سبيل كالعطشان الذي يشرب من ماء البحر وكلما ازداد شرباً ازداد عطشاً، ووجدت أن مَن لا يرويه الحلال يقنع به ويصبر عليه لا يرويه الحرام ولو وصل به إلى نساء الأرض جميعاً. ثم ولّى الشباب بأحلامه وأوهامه، وفترت الرغبة ومات الطلب، فاسترحت وأرحت. * * * وقعدت أرى الناس، أسأل: علامَ يركضون؟ وإلامَ يسعون؟ وما ثَم إلاّ السراب!

هل تعرفون السراب؟ إن الذي يسلك الصحراء يراه من بعيد كأنه عينٌ من الماء الزلال تحدق صافية في عين الشمس، فإذا كد الركابَ وحثّ الصحابَ ليبلغه لم يلقَ إلاّ التراب. هذه هي ملذات الحياة؛ إنها لا تلذ إلاّ من بعيد. يتمنى الفقير المال، يحسب أنه إذا أعطي عشرة آلاف ليرة فقد حيزت له الدنيا، فإذا أعطيها فصارت في يده لم يجد لها تلك اللذة التي كان يتصورها وطمع في مئة الألف ... إنه يحسّ الفقر بها وهي في يده كما يحسّ الفقر إليها يوم كانت يده خلاء منها، ولو نال مئة الألف لطلب المليون، ولو كان لابن آدم واد من ذهب لابتغى له ثانياً، ولا يملأ عينَ ابن آدم إلاّ التراب (¬1). والشاعر العاشق يملأ الدنيا قصائد تسيل من الرقة وتفيض بالشعور، يعلن أنه لا يريد من الحبيبة إلاّ لذّة النظر ومتعة الحديث، فإذا بلغها لم يجدهما شيئاً وطلب ما وراءهما، ثم أراد الزواج فإذا تمّ له لم يجد فيه ما كان يتخيل من النعيم، ولذابت صور الخيال تحت شمس الواقع كما يذوب ثلج الشتاء تحت همس الربيع، ولرأى المجنون في ليلى امرأة كالنساء ما خلق الله النساء من الطين وخلقها (كما كان يُخيَّل إليه) من القشطة، ثم لَمَلّها وزهد فيها وذهب يجنُّ بغيرها! ¬

_ (¬1) حديث آخره: «ويتوب الله على من تاب». قلت: وهو حديث مشهور رواه الشيخان والترمذي وابن ماجه وأحمد من طرق كثيرة بألفاظ متقاربة (مجاهد).

ويرى الموظفُ الصغيرُ الوزيرَ أو الأميرَ ينزل من سيارته فيقف له الجندي وينحني له الناس، فيظن أنه يجد في الرياسة أو الوِزارة مثل ما يتوهم هو من لذتها ومتعتها لحرمانه منها، ما يدري أن الوزير يتعوّد الوزارة حتى تصير في عينه كوظيفة الكاتب الصغير في عين صاحبها. أوهام ... ولكننا تتعلق دائماً بهذه الأوهام! * * * وفكرت فيما نلت في هذه الدنيا من لذائذ وما حملت من عناء طالما صبرت النفس على إتيان الطاعة واجتناب المعصية، رأيت الحرام الجميل فكففت النفس عنه على رغبتها فيه، ورأيت الواجب الثقيل فحملت النفس عليه على نفورها منه، وطالما غلبتني النفس فارتكبت المحرمات وقعدت عن الواجبات، تألمت واستمتعت، فما الذي بقي من هذه المتعة وهذا الألم؟ لا شيء. لقد ذهبت المتعة وبقي عقابها وذهب الألم وبقي ثوابه. ولم أرَ أضلَّ في نفسه ولا أغشَّ للناس ممّن يقول لك: لا تنظر إلاّ إلى الساعة التي أنت فيها، فإن: ما مضى فاتَ والمؤمَّل غيبٌ ... ولكَ السّاعةُ التي أنت فيها لا والله؛ ما فات ما مضى ولكن كُتب لك أو عليك، أحصاه الله ونسوه. والآتي غيب ولكنه غيب كالمشاهَد. وما مَثَل هذا القائل إلاّ كمَثَل راكب سفينة أشرفت على الغرق ولم يبقَ لها إلاّ ساعات، فما أسرع إلى زوارق النجاة إسراع العقلاء ولا ابتغى طوق النجاة كما يبتغيه من فاته الزورق، ولكنه عكف على تحسين غرفته في

السفينة الغارقة يزين جدرانها بالصور ويكنس أرضها من الغبار، يقول لنفسه: ما دامت السفينة غارقة على كل حال فلِمَ لا أستمتع بساعتي التي أنا فيها؟ يُفسد عمرَه كله بصلاح هذه الساعة، وإذا عرض له العقل يسفّه عملَه فليضرب وجه العقل بكأس الخمر التي تعمي عينيه فلا يبصر ولا يهتدي، وإن من الخمر لخمرة المال وخمرة السلطان! هذا مثال من يجعل هذه الدنيا الفانية أكبر همه ويزهد في الآخرة الباقية، ولو عقل لزهد في الدنيا. لا يحمل ركوته وعصاه ويسلك البراري وحيداً، ولا يقيم في زاوية ويمد يده للمحسنين؛ فإن هذا هو زهد الجاهلين، وهو معصية في الدين. إن الزهد الحق هو زهد الصحابة والتابعين، الذين عملوا للدنيا واقتنوا الأموال واستمتعوا بالطيبات الحلال وأظهروا نِعَم الله عليهم، ولكن كانت الدنيا في أيديهم لا في قلوبهم، وكان ذكر الله أبداً في نفوسهم وعلى ألسنتهم، وكانت الشريعة نبراسهم وإمامهم، وكانت أيديهم مبسوطة بالخير، وكانوا لا يفرحون بالغنى حتى يَبطروا ولا يحزنون للفقر حتى ييأسوا، بل كانوا بين غني شاكر وفقير صابر. ومَن يحصل المال وينفقه في الطاعة خيرٌ ممّن لا يحصل ولا ينفق بل يسأل ويأخذ، ومَن يتعلم العلم ويعمل به خيرٌ ممّن يعتزل الناس للعبادة في زاوية أو مغارة، ومَن يكون ذا سلطان ومنصب فيقيم العدل ويدفع الظلم خيرٌ ممّن لا سلطان له ولا عدل على يديه ... وليست العبادة أن تصفّ الأقدام في المحاريب فقط، ولكن كل معروف تسديه إن احتسبته عند الله كان لك عبادة، وكل مباح تأتيه إن نويت به وجه الله كان عبادة؛ إذا نويت بالطعام التقوي على

العمل الصالح وبمعاشرة الأهل الاستعفاف والعفاف وبجمع المال من حِلّه القدرة به على الخير، كان كل ذلك لك عبادة، وكل نعمة تشكر عليها وكل مصيبة تصبر لله عليها كانت لك عبادة. والإنسان مفطور على الطمع، تراه أبداً كتلميذ المدرسة؛ كلما بلغ فصلاً كان همه أن يصعد إلى الذي فوقه. ولكن التلميذ يسعى إلى غاية معروفة إذا بلغها وقف عندها، والمرء في الدنيا يسعى إلى شيء لا يبلغه أبداً، لأنه لا يسعى إليه ليقف عنده ويقنع به بل ليجاوزه راكضاً يريد غايةً هي صورةٌ في ذهنه ما لها في الأرض من وجود! وقد يُعطى المال الوفير والجاه الواسع والصحة والأهل والولد، ثم تجده يشكو فراغاً في النفس وهمّاً خفياً في القلب لا يعرف له سبباً، يحسّ أن شيئاً ينقصه ولا يدري ما هو، فما الذي ينقصه فهو يبتغي استكماله؟ لقد أجاب على ذلك رجلٌ واحد؛ رجل بلغ في هذه الدنيا أعلى مرتبة يطمح إليها رجل: مرتبة الحاكم المطلق في ربع الأرض فيما بين فرنسا والصين، وكان له مع هذا السلطان الصحة والعلم والشرف، هو عمر بن عبد العزيز الذي قال: "إن لي نفساً توّاقة، ما أُعطيت شيئاً إلاّ تاقت إلى ما هو أكبر: تمنّت الإمارة، فلما أعطيَتها تاقت إلى الخلافة، فلما بلغتها تاقت إلى الجنة"! هذا ما تطلبه كل نفس؛ إنها تطلب العودة إلى موطنها الأول، وهذا ما تحسّ الرغبة الخفية أبداً فيه والحنين إليه والفراغ الموحِش إن لم تجده.

فهل اقتربتُ من هذه الغاية بعدما سرت إليها على طريق العمر اثنتين وخمسين سنة؟ يا أسفي! لقد مضى أكثر العمر وما ادّخرت من الصالحات، ولقد دنا السفر وما تزوّدتُ ولا استعددت، ولقد قَرُبَ الحصاد وما حرثت ولا زرعت، وسمعت المواعظ ورأيت العِبَر فما اتّعظت ولا اعتبرت، وآن أوان التوبة فأجّلت وسوّفت. اللهمّ اغفر لي ما أسررتُ وما أعلنت، فما يغفر الذنوب إلا أنت. اللهمّ سترتني فيما مضى فاسترني فيما بقي، ولا تفضحني يوم الحساب. ورحم الله قارئاً قال: آمين. * * *

المحتويات «مقدمة» 5 أنا 9 أنا والنجوم 21 جواب على كتاب 27 من دموع القلب 35 في الكُتّاب 45 في معهد الحقوق 55 شهادة ليسانس للبيع 61 مشروع مقال 67 قصة معلم 71 إلى حلبون 77 عيدي الذي فقدته 89 على أبواب الثلاثين 99 صورة المؤلف بقلمه 105 زفرة مصدور 111 زفرة أخرى 119 كتاب مفتوح إلى الأستاذ أحمد أمين 129

الشفاء 139 الوَحدة 145 ذكريات 151 مما حدث لي 161 مقدّمة ديوان 167 أستاذنا الجندي 183 أول مقالة نشرتها وأوّل درسٍ ألقيته 201 وقفة على طلل 211 بعد المرض 219 من التّعليم إلى القضاء 229 أنا والقلم 237 على عتبة الأربعين 243 بيوتنا هدمناها بأيدينا 251 الدّرس الأخير 261 عدد 1000 من الرّسالة 269 من رسائل الصيف 277 في لج البحر 283 شكوى 293 بعد الخمسين 301 * * *

§1/1