من بلاغة القرآن فى التعبير بالغدو والأصال

محمد دسوقي

من بلاغة القرآن فى التعبير بالغدو والأصال والعشى والإبكار

من بلاغة القرآن في التعبير بالغدو والآصال والعشي والإبكار إعداد: الدكتور محمد محمد عبد العليم دسوقي المقدمة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فما من شك فى أن معرفة مواضع ودلالات الألفاظ فى سياقاتها، وبخاصة ما اشتجر القوم فيه واشتد الخلاف على دلالته.. يتوقف أولأًً على تحرير معاني تيك الألفاظ في معجمات العربية وقواميسها، كما أن تدبر مواقع لفظة ما، بغية الوقوف على دلالتها ومدى أثرها في نسق الذكر الحكيم، هو من النصيحة لكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. وتدعونا هذه التوطئة لأن أقرر أن الحديث عن سر مجيىء النظم الكريم معبَّراً فيه عن الطرف الأول للنهار بـ (الغدو) تارة، وبـ (قبل طلوع الشمس) أخرى، وبـ (الإبكار) ثالثة، وبـ (بالإشراق) رابعة، ومجيؤه معبّراً فيه عن الطرف الثاني بـ (العشي) تارة، وبـ (قبل الغروب) أخرى، وبـ (الآصال) ثالثة.. وكذا الحديث عن مقابلة (العشي) بـ (الإبكار) تارة وبـ (الغداة) أخرى وبـ (الإشراق) ثالثة، (ومقابلة (البُكرة) ببعض ما ذُكر تارة وبـ (الأصيل) أخرى.. وكذا مجيؤ تلك المفردات معرّفةً في بعض الأحيان ومنكرةً في بعضها الآخر إلى غير ذلك.. لهو مما يستدعي بل يستوجب الوقوف على أسباب هذا التنوع وعن أسرار مجيئه على الصورة التي ورد عليها، ذلك أن الألفاظ في هذا وما جاء على شاكلته "تختلف ولا تراها إلا متفقة وتفترق ولا تراها إلا مجتمعة، وتذهب في طبقات البيان وتنتقل في منازل البلاغة، وأنت لا تعرف منها إلا روحاً تداخلك بالطرب وتُشرب قلبك الروعة، وتنتزع من نفسك حس الاختلاف الذي طالما تدبرت به سائر الكلام وتصفحت به على البلغاء في ألوان خطابهم وأساليب كلامهم

وطبقات نظامهم مما يعلو ويسفل أو يستمر وينتقض أو يأتلف ويختلف ... فأنت ما دمت في القرآن حتى تفرغ منه، لا ترى غير صورة واحدة من الكمال وإن اختلفت أجزاؤها في جهات التركيب وموضع التأليف وألوان التصوير وأغراض الكلام" (¬1) . وقد كان دافعي لخوض غمار هذا البحث مع الرغبة في استجلاء أسرار التنوع فيما ذكرتُ، واستكناه الحكمة من وراء اصطفاء هذين الوقتين وانفرادهما - دون سواهما – بالذكر.. ندرة بل لا أبالغ إن قلت انعدام تخصيصه - فيما أعلم - بدراسة مستقلة تكشف عن هذا الكم غير القليل من المترادفات والمتقابلات، ومن عجيب ما لاحظت أن الدراسات التي عنيت بالبحث عن مثل هذا، وحتى التي تناول مصنفوها ما اشتبه من النظم، وأفردوا لأجله العديد من الكتب والمجلدات من نحو ما فعله الإسكافي في كتابه (درة التنزيل وغرة التأويل) ، والدامغاني في كتابه (الوجوه والنظائر) ، والغرناطي في كتابه (ملاك التأويل) ، لم تعرض هي الأخرى لشيئ من ذلك، الأمر الذى دعاني للاعتماد كلية بعد الله أولاً، على ما كتبه أهل التأويل على الرغم من تحفظي على كثير مما ذكروه في هذا الصدد. ¬

_ (¬1) إعجاز القرآن لمصطفى صادق الرافعي ص 188، 189.

المبحث الأول: مدلولات الألفاظ الواردة في معنىطرفي النهار وسر تنوعها وتخصيصها بالذكر

هذا وقد اقتضى الحديث عن طرفي النهار في النسق الكريم وعن طرائق التعبير عنهما وسر تنوعها، أن تأتي تلك الدراسة في ثلاثة مباحث تناول أولها مدلولات هذه الألفاظ وأسباب تنوعها وتخصيصها بالذكر دون سائر الأوقات الأخرى، وجاء ثانيها متحدثاً عما خُص به هذان الوقتان من أمر التسبيح وما إذا كان المعنى فيه محمولاً على ظاهره المعروف في اصطلاح التخاطب من التنزيه ومن قول (سبحان الله) أم غير ذلك من معانيه المستعمل فيها على جهة المجاز، كما تطرق المبحث الثالث للحديث عن المقامات التي ورد فيها التعبير عن طرفي النهار وكيف جاء كلٌّ منها متناغماً مع ما ناسبه من هذه المتقابلات، ومع ما تلاءم وكان منه بسبب من تعريف أو تنكير ومن تقديم أو تأخير. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل. المبحث الأول: مدلولات الألفاظ الواردة في معنى طرفي النهاروسر تنوعها وتخصيصها بالذكر مما تجدر الإشارة إليه أنه لا غناء عند تناول أيٍّ من الموضوعات التي تتنوع طرق الحديث عنه، من الوقوف أولاً على معاني المفردات المعبرة عنه، وبخاصة عندما يتم التقابل بين بعضها البعض، إذ بغير الوقوف على دلالة هذه المتقابلات، بل وعلى دلالة كلِّ مفردة مما احتوته واشتملت عليه لا يتسنى بحال استكناه ما بسياقاتها، ولا بحث ما بأسرار تنوعها وبلاغة مواقعها. والحق أن المفردات التي عُبر بها عن طرفي النهار وقوبلت بأضدادها تمثل في موضوعنا هذا لآلئ متقابلة، نُثرت حباتها المتطابقة في النسق الكريم هنا وهناك، في نظام بديع هو غاية في الدقة والإحكام. تحرير القول في معنى ما ورد في طرفي النهار:

ولتكن البداية تتبعاً لمعاني أكثر هذه الألفاظ وروداً في النظم القرآني، وهي كلمة (العشي) .. فقد وردت هذه الكلمة المراد بها آخر النهار في مقابلة أوله تسع مرات، أربعا منها قوبلت بـ (الإبكار) وذلك في قوله سبحانه: (واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشي والإبكار.. آل عمران/41) ، وقوله:) فأوحى إليهم أن سبحوه بكرة وعشياً.. مريم /11) ، وقوله: (لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاماً ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً.. مريم /62) ، وقوله: (واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار.. غافر/55) .. وثلاثا قوبلت فيها بلفظة (الغدو) ، وهي قوله: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي.. الأنعام/52) ، وقوله: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي.. الكهف/28) ، وقوله: (النار يعرضون عليها غدواً وعشياً.. غافر/46) .. كما قوبلت مرة بـ (الإشراق) ، وذلك في قوله: (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق.. ص/18) وأخرى بالإظهار، وذلك في قوله: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون. وله الحمد في السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون.. الروم/17، 18) ، وقدمت كلمة (العشيّ) في هذه المرات التسع أربع مرات، وتأخرت عن أضدادها في الخمس المتبقية. والعشي في أصله من العشا وهو سوء البصر بالليل والنهار من غير عمى، ويكون في الناس والدواب والإبل والطير (¬1) يقال: (ركب فلان عُِشوة) : إذا باشر أمراً على غير بيان (¬2) ومن أمثالهم السائرة: (هو يخبط خبْط عشواء) ، يُضرب مثلاً للسادر الذي يركب رأسه، ولا يهتم لعاقبته، كالناقة العشواء التي لا تبصر فهي تخبط بيديها كلّ ما مرت به، وشبه زهير في قوله: رأيت المنايا خبْط عشواء من تُصبْ تُمِتْه ومن تخطىء يُعَمِّر فيهرِم ¬

_ (¬1) ينظر لسان العرب 4/2959. (¬2) أساس البلاغة 2/118.

شبه المنايا التي مُثّلت في صورة شاخصة للعيان وهي تطيح بكل ما اعترض طريقها فتأخذه دون ما مساءلة ودون ما استثناء، بالجمل الذي يخبط خبط عشواء.. وتتعدى تلك المفردة بنفسها فيقال: عشوته أي قصدته ليلاً، وتُعدى بـ (إلى) كما في قولهم: (عشا إلى النار وعشاها) ، إذا أتى ناراً للضيافة واستدل عليها ببصر ضعيف، و (عشا الرجل إلى أهله يعشو) ، إذا علم مكان أهله فقصد إليهم أول الليل، كما تُعدى بـ (عن) إن صدر عنه إلى غيره كما في قول الله تعالى: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين.. الزخرف/36) ، قال الفراء: معناه من يعرض عن ذكر الرحمن. قال: ومن قرأ (يَعْشَ عن ذكر الرحمن) فمعناه من يعمَ عنه، وقيل أي يظلم بصره (¬1) . فالمادة على ما هو متضح تدور حول ضعف الرؤية وقِصر النظر في البصر أو في البصيرة، ومن ثمّ أطلقت على ما يتحقق فيه ذلك في الحال أو الزمان، فإذا زالت الشمس فتحول الظلّ شرقياً وتحولت الشمس غربية دعي ذلك الوقت (العشي) ، كذا قال أبو الهيثم فيما نقله عنه صاحب اللسان، وقال الأزهري فيما نقله عنه أيضاً: (يقع العَشِي على ما بين زوال الشمس إلى وقت غروبها، فإذا غابت فهو العِشاء) (¬2) . ¬

_ (¬1) ينظر لسان العرب 4/2960. (¬2) ينظر السابق.

وهذا فيما أرى أدق مما ساقه صاحب اللسان وصاحب بصائر ذوي التمييز بأسلوب التضعيف (¬1) ، بل وساقه الأصفهاني بدونه من أنه (من زوال الشمس إلى الصباح) (¬2) ، حيث أفرده الأخير بالذكر في الدلالة على هذا المعنى ولم يذكر غيره.. فإن ذلك يرد عليه ما أفاده سياق الآيات التي جاءت فيها هذه المفردة مع ما قابلها، حيث وقع التسبيح فيهما عطفاً على الذكر المطلق كما في نحو قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراُ وسبحوه بكرة وأصيلاً.. الأحزاب/41، 42) والعطف - على ما هو معلوم - يقتضي المغايرة، وعليه فالمعنى- والله تعالى أعلم بمراده- اذكروا الله أيها المؤمنون في كل وقت وخصوا هذين الوقتين بما هو أدل على كمال نعمته ودلائل قدرته وعجيب صنعه بتنزيهه تعالى وتسبيحه. ¬

_ (¬1) السابق وينظر بصائر ذوي التمييز للفيروزابادي 4/69. (¬2) المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص 335 وينظر التحرير والتنوير 7/247 مجلد 4.

كما يرد عليه الآية الكريمة: (ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والآصال ... الرعد/15) ، إذ وقوع الآصال الذي يفيده، في مقابلة ما يقابله غالباً وهو (الغدو) ، يشير إلى تعيين المراد من العشي، ويوجب أن يكون المراد به ما قبل غروب الشمس لان ظلال الأشياء لا تحدث - كما هو متعالم لدى الخاصة والعامة- إلا فيما بين طلوع الشمس وغروبها.. ويردعليه كذلك قوله تعالى: (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل.. هود/114) لأن "الإقامة: وهي إيقاع العمل على ما يستحقه، تقتضي أن يكون المراد بالصلاة هنا الصلاة المفروضة، فالطّرفان ظرفان لإقامة الصلاة المفروضة، فعلم أن المأمور إيقاع صلاة في أول النهار وهي الصبح، وصلاة في آخره وهي العصر، ويكون ذلك هو المراد من الغداة والعشي الذي كثر ورودهما في آي التنزيل وفي السنة المطهرة.. والزلف جمع زلفة، وهي الساعة القريبة من أختها، وهذا أيضاً يُعلم منه أن المأمور به، إيقاع الصلاة في طائفة من الليل الذي يبدأ من صلاة المغرب وهي - بالطبع- غير الصلاة التي في طرفي النهار.." (¬1) ، وفي بصائر ذوي التمييز: "قوله: (وأقم الصلاة طرفي النهار) أي الغداة والعشي" (¬2) ، وفيه: "قوله تعالى: (طرفي النهار) أي الفجر والعصر" (¬3) ، رُوي ذلك عن الحسن وقتادة والضحاك ونص عليه الزمخشري والبيضاوي (¬4) واستظهره أبو حيان بناء على أن طرف الشيئ يقتضي أن يكون من الشيئ، والتزم أن أول النهار من الفجر" (¬5) . وعليه فقد "وجب - على حد قول الرازي- حمل الطرف الثاني على صلاة العصر" (¬6) ، فيكون المراد ¬

_ (¬1) التحرير 12/179 من المجلد 6 بتصرف. (¬2) البصائر 3/503 وينظر الكشاف 2/296. (¬3) البصائر 3/503. (¬4) ينظر الكشاف 4/200 وتفسير البيضاوي بحاشية الشهاب6/256والآلوسي 12/234 مجلد 7. (¬5) ومن جعله من طلوع الشمس، عدّ الصبح كالمغرب طرف مجازي، وجعْله حقيقة فيهما، هو من زخرف القول لما ذكرنا من أدلة. (¬6) مفاتيح الغيب 8/631.

به العشي، إذ ليس قبل غروب الشمس سواه. وأصرح من ذلك في دلالة (الطرف الثاني) على (العشي) المأمور فيه بالتسبيح، قوله تعالى في ذات الأمر، وفي إطلاقه على نفس الوقت، (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها.. طه/130) ، وقوله في سياق مماثل: (وقبل الغروب.. ق/39) إذ ليس قبل الغروب- لتأدية ما صدر الأمر به في العشي من تسبيح- خلا العصر، وعليه فإنه لا يجوز أن يكون المراد من (العشي) صلاة المغرب، على ما هو المختار لدى الطبري وغيره والمروي عن ابن عباس، لأن ما ذكروه يعكر صفوه الأدلة التي سقناها، وكونها داخلة تحت قوله تعالى: (وزلفاً من الليل) (¬1) اللهم إلا على سبيل الحمل على المجاز فإنه يسوغ حينذاك، "لأن ما يقرب من الشيئ يجوز أن يطلق عليه اسمه" (¬2) ولعل الذي حدا بمن ذهب إلى هذا لأن يقول به، ويجعله أحد قولين مشهورين في معنى التسبيح بالغدو والآصال كما سيأتي بيانه، تعذر العمل بظاهر هذه الآية لإجماع الأمة على أن إقامة الصلاة في ذلك الوقت غير مشروعة، فتعين من ثمّ تفسير الطرف الثاني بصلاة المغرب.. وجوابه أن هذا التعين محمول على المجاز، وذلك لا يمنع من أن يكون مراده على الحقيقة هو العصر، وعليه "فإن كان النهار في أول الفجر إلى غروب الشمس فالمغرب (طرف) ، مجازاً وهو حقيقةً طرفُ الليل، وإن كان من طلوع الشمس إلى غروبها فالصبح كالمغرب طرف مجازي" (¬3) والحقيقة فيه هو ركعتا الضحى، يعضد هذا قوله سبحانه في حق داود عليه السلام (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق..ص /18) ، وكذا ما ورد من الآثار ومن أدلة السنة المطهرة مما يفيد أن الإشراق مراد به صلاة الضحى. ¬

_ (¬1) مفاتيح الغيب 8/631 بتصرف. (¬2) السابق. (¬3) الآوسي 12/234 مجلد 7وينظرالوجوه والنظائر للدامغاني 2/49.

والأصيل هو في معنى ما ذكر، يقول الزمحشري: "الآصال جمع أُصُل وهي العشي" (¬1) ، وإن كان من فرق بينهما فيكمن في أنه يتوسع في العشي بما لا يتوسع في الأصيل، وفي اللسان: "الأصيل: العشي.. والأصيل: الوقت بعد العصر إلى المغرب" (¬2) والجمع أُصُلٌ وأُصلان.. قال الزجاج: آصال جمع أُصُل فهو على هذا جمع الجمع (¬3) ، وإنما سمي كذلك لالتصاقه واتصاله بما هو الأصل لليوم التالي وأوله.. وقالوا في تصغير الأصيل أصيلانُ وأصيلال على البدل، أبدلوا من النون لاماً، ومنه قول النابغة: وقفتُ فيها أصيلالاً أسائلها عيَّت جواباَ وما بالربع من أحد" (¬4) ¬

_ (¬1) الكشاف 3/68. (¬2) لسان العرب 1/89. (¬3) وحاصل ما ذكره وغيره في (آصال) أنها جمع أُصُل، وأُصُل جمع أصيل فهي بذلك جمع الجمع، أو هي جمع أصيل كيمين وأيمان، أو هي جمع أُصُل مفرداً كعنق وأعناق وهذه تجمع أيضاً على أُصلان. (¬4) لسان العرب 1/89 وينظر الكشاف 3/68ومفاتيح الغيب 11/594 ونظم الدرر3/179 والتحرير 9/242 مجلد 5 ومفردات الراغب ص19 والوابل الصيب ص192 والآلوسي 9 /224مجلد 6، 18/258 مجلد 10.

ومحصلة ما ذكر أن وقت (العشي) و (الأصيل) هو ما بعد صلاة العصر إلى ما قبيل غروب الشمس وتلك هي حقيقتهما على ما تقضي به لغة العرب وتفيده سياقات الآيات الوارد فيها ذان اللفظان.. وإذا ما أُطلقا – سيما الأخير منهما - على ما بعيد غروب الشمس وهو ما يوافق صلاة المغرب، فإنه يكون على سبيل المجاز المرسل لعلاقة المجاورة، وقد يكنى بهما عن استغراق الشطر الثاني للنهار إذا اقتضاه المقام وأومأ إليه السياق (¬1) . ¬

_ (¬1) وأغرب من قال بأن معنى (العشي) هو ما كان وقتاً لصلاة الظهر قاله مجاهد ومحمد بن كعب القرظي وابن عطية، لـ"أن في جعل الظهر من الطرف الثاني خفاء، وإنما الظهر نصف النهار، والنصف– على حد قول صاحب روح المعاني- لايسمى طرفاً إلا بمجاز بعيد [تفسير الآلوسي 12/234من المجلد 7] ، وأُضيف بأن لو كان هذا صحيحاً لما كان هناك معنى للعطف في قوله تعالى: (وله الحمد في السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون.. الروم/18) إذ يصير من عطف الشيىء على نفسه، وهو مما لا يسوغ القول به، وأغرب منه للسبب ذاته ما ذكرناه من حده من الزوال إلى الصباح- كذا فعل الراغب في المفردات (ص 335) دون أن يذكر غيره، وابن عاشور في التحرير- 7/247من المجلد 4- الذي ناقض نفسه فذكر في قوله تعالى: (يسبحن بالعشي والإشراق) وقوله: (إذ عرض عليه بالعشي ... ص/31) أنه ما بعد العصر إلى الغروب [ينظر التحرير 23/228 مجلد 11، 23/254 مجلد 11] .

وابتناء على ما سبق ذكره يكون وقت الغداة والإبكار، والمراد منهما حقيقة: الطرف الأول من النهار، وهو ما يكون من النهار من أول الفجر إلى ما قبيل طلوع الشمس إذ هو المقابل للطرف الثاني منه، ويطلق على ما بعيد ذلك على سبيل المجاز لعلاقة المجاورة أيضاً، وقد يكنى بهما كذلك عن الاستغراق لجميع أجزاء الشطر الأول من النهار إذا اقتضى المقام ذلك وأملاه السياق.. يقول ابن منظور: "الغُدوة بالضم: البُكرة. وهي ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس.. والغداة كالغدوة وجمعها غدوات.. وقال الليث: الغُدوة جمعٌ مثل الغدوات، والغُدى جمع غُدوة.. وأنشد) بالغُدى والأصائل) وقالوا: إني لآتيه بالغدايا والعشايا، والغداة لا تجمع على الغدايا ولكنهم كسَّروه على ذلك - أي جمعوه جمع تكسير- ليطابقوا بين لفظه ولفظ العشايا، وليزاوجوا بينهما، فإذا أفردوه لم يكسِّروه.. ويستعمل مصدراً، يقال: غدا عليه غَدْوة وغُدُوّاً، واغتدى: بكَّر، والاغتداء: الغدو، وغاداه باكره وغدا عليه.. وقوله تعالى: (بالغدو والآصال) أي بالغدوات (¬1) ، فعبر بالفعل عن الوقت - إذ الأصل فيه: يغدون بالتسبيح أول النهار أي بعيد طلوع الفجر- كما يقال: أتيتك طلوع الشمس أي وقت طلوع الشمس، ويقال: غدا الرجل يغدو فهو غادٍ، وفي الحديث: (لغدوة أوروحة في سبيل الله..) ، والغدوة: المرة من الغُدُوِّ وهو سير أول النهار، نقيض الرواح (¬2) ". ¬

_ (¬1) وفي حال جعل (غدو) مصدراً لا جمعاً. يقدر معه مضاف مجموع أي أوقات الغدو، ليطابق قوله (الآصال) كذا في روح المعاني 9/224 مجلد 6. (¬2) اللسان 6/3220، 3221 بتصرف وينظر تمييز ذوي البصائر 4/122 والرازي 7/424 والآلوسي 9/224 مجلد 6.

ويكشف - رحمه الله - في كتابه لسان العرب عن معنى البكرة مفصحاً عن مرادفتها لصاحبتها فيقول: إنها تعني "الغداة.. والبكور والتبكير: الخروج في ذلك الوقت، والإبكار: الدخول فيه، قال سيبويه: لا يستعمل إلا ظرفاً، والإبكار كالإصباح هذا قول أهل اللغة، وعندي - والكلام لا يزال لابن منظور- أنه مصدر أبكر، (¬1) وبكَرَ على الشيئ وإليه يبكر بكوراً، وبكّر تبكيراً وابتكر وأبكر وباكره: أتاه بكرة.. وكلُّ من بادر إلى شيئ فقد أبكر عليه، وبكّر أي وقت كان، يقال: بكِّروا بصلاة المغرب أي صلوها عند سقوط القرص، وقوله تعالى: (بالعشي والإبكار) جعل الإبكار وهو فعل، يدل على الوقت وهو البُكرة – يريد أنه كسابقه، الأصل فيه: يبكرون بالتسبيح أول النهار أي بُعيد طلوع الفجر- والباكور من كلّ شيئ المعجل المجيئ والإدراك وبَكْرُ كل شيئ أوله" (¬2) ومنه قوله تعالى: (ولقد صبّحهم بكرة عذاب مستقر ... القمر /38) يعني أول النهار وباكره (¬3) . فالمادة على هذا تدور حول معنى الإسراع والمبادرة والمعاجلة في أول الوقت وهي إن نُوّنت صارت ظرفاً أو مصدراً، وأريد بها وقت الغدوة، وفي معنى ذلك يقول الراغب: "أصل الكلمة هي البُكرة التي هي أول النهار فاشتق من لفظه لفظ الفعل فقيل: بَكَرَ فلان بكوراً إذا خرج بُكرة، وتُصُوِّر منها معنى التعجيل لتقدمها على سائر أوقات النهار" (¬4) . ¬

_ (¬1) وعليه فإذا قوبل بالعشي كان على تقدير: وقت الإبكار، واللفظان (بكرة وعشياً) هما على أيّ حال معربان غير منصرفين، ويطلقان ظرفاً وعلماً للجنسية على وقتيهما سواء قصد تعيينهما ليوم معين أو لم يقصد، ويجوز تنوينهما على الحالين اتفاقاً [ينظر البحر 2/ 453 ودراسات لأسلوب القرآن د/ عضيمة 9/ 727] . (¬2) اللسان1/332 وينظر مفاتيح الغيب 4/205. (¬3) الكشاف 4/401. (¬4) المفردات ص57

وإن كان من فرق بين كلمة (بكرة) التي اتضح من خلال كلام أهل اللغة أن وقتها هو ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس.. وما راد فها مما وقع في مقابل العشي لكن بلفظ (الإشراق) هو أن الإشراق يكون عند من التزم جعل أول النهار من طلوع الشمس، إذ هو بهذا حقيقة فيه، ولذا قالوا في تفسير قول الله تعالى في حق داود عليه السلام: (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق.. ص/18) يعنى حين تشرق الشمس أي تضيئ ويصفو شعاعها، "يقال شرقت الشمس شروقاً: طلعت، وأشرقت: أضاءت" (¬1) ، "وأشرق القوم: دخلوا في وقت الشروق" (¬2) ، "وأشرق الرجل: أي دخل في شروق الشمس، وفي التنزيل: (فأخذتهم الصيحة مشرقين.. الحجر/73) أي مصبحين، (فأتبعوهم مشرقين.. الشعراء/60) أي لحقوهم وقت دخولهم في شروق الشمس وهو طلوعها" (¬3) . مدلولات الغداة والعشي وما في معناهما بين الحقيقة والمجاز: والذي ينعم النظر في تتبع مقولات أهل التأويل من المفسرين والمشغولين بالدراسات القرآنية في معنى ما جاء في طرفي النهار، يلحظ أنهم لا يقصرون مدلولي الغداة والعشي على وقتيهما المعلومين والمخصصين لهما عند أهل اللغة على جهة الحقيقة، أعنى من الفجر إلى طلوع الشمس ومن العصر إلى انتهاء النهار.. بل إنهم يتوسعون فيهما ليمتدا لديهم وليشملا سائر ساعات الليل والنهار، وما ذلك إلا حملاًَ لمعنى الأمر بالتسبيح بالغداة والعشيّ على معنى المداومة وفقاً لمدلولات النصوص وسياقات الآيات المُومِئَة إلى ذلك. ¬

_ (¬1) تمييز ذوي البصائر 3/311. (¬2) اللسان 4/2245. (¬3) السابق.

ولنتأمل في ذلك مثلاً ما ذكره صاحب الكشاف تفسيراً لقول الله تعالى عن أهل الجنة: (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً.. مريم/62) وقد تبعه فيه غيره، يقول: - "أراد دوام الرزق ودروره كما تقول: (أنا عند فلان صباحاً ومساءً وبكرةً وعشياً) ، تريد الديمومة ولا تقصد الوقتين المعلومين" (¬1) ، وما ذكره الطاهر ابن عاشور في تفسيره لقول الله تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه.. الأنعام/52) حيث يقول: "الغداة: أول النهار، والعشيّ من الزوال إلى الصباح، والباء للظرفية.. والمعنى أنهم يدعون الله اليوم كله، فالغداة والعشي قصد بهما استيعاب الزمان والأيام كما يقصد بالمشرق والمغرب استيعاب الأمكنة، وكما يقال: الحمد لله بكرةً وأصيلاً" (¬2) ، وفي معناه يقول الآلوسي تفسيراً لنفس الآية: "والمراد بهما ها هنا الدوام كما يقال فعله مساءً وصباحاً إذا داوم عليه" (¬3) ، وعلى هذا دأب جلّ المفسرين وربما كان مستندهم في هذا صحة ما ورد عن العرب "إني لآتيه بالعشايا والغدايا" (¬4) يقصدون بذلك استدامة المجيئ. ¬

_ (¬1) تفسير الكشاف 2/516، 515وينظر الرازي 9/487 وحاشية الشهاب لى البيضاوي 6/292. (¬2) التحرير7/247 مجلد4. (¬3) الآلوسي 7/232 مجلد5. (¬4) اللسان 4/2962.

والحق أن الأمر في هذا لا يعدو أن يكون كناية عن المداومة في فعل المجيئ، وفي استدامة الدعاء، وفي عدم انقطاع الرزق عن أهل الجنة، ولا يعني بحال أن يخرج اللفظان عن حقيقتهما الموضوعة لهما في اصطلاح التخاطب، إذ ليس من المعقول أن يظل هؤلاء المتحدث عنهم في آية الأنعام على حال واحدة لا يحيدون عنه ولا يميدون، كما لا يعقل أن يبقى أهل الجنة الوارد ذكرهم في آية مريم يطعمون ويشربون مدة خلودهم الأبدي وبقائهم السرمدي، إذ ذلك - مما لا شك فيه- مما يبعث على الملل ومما يتنافى مع خلق التوسط والزهادة اللذين تربوا عليهما في الدنيا، كما أن فيه مشغلة كذلك عن التمتع بسائر ألوان النعيم الأخرى التي أعدها الله لعباده الصالحين من نحو التسري بالحور العين والتقابل على السرر والأرائك والورود على الحوض ومصاحبة الأخلاء من المتقين والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، بل وفوق كل ذلك وأعلاه السعي لنيل رضا الله سبحانه والتمتع بالنظر إلى وجهه الكريم كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - عن رب العزة سبحانه من أنه (يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير بين يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يارب وأي شيئ أفضل من ذلك؟ فيقول: أحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً) (¬1) ، وقوله فيما رواه مسلم: (إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى منادياً يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه فيقولون: وما هو؟ ألم يثقل موازيننا ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويُجِرْنا من النار؟ قال: فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم) . ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم واللفظ له.

وقد استشعرالبيضاوي كل هذه المعاني فراح يمرض حمل المعنى على الديمومة ويتورك على القائلين به، ويقدم عليه ما يفيد الحمل على الحقيقة، يقول: قوله (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً) : "على عادة المتنعمين والتوسط بين الزهادة والرغابة (¬1) ، وقيل المراد دوام الرزق ودروره" (¬2) والعجيب أن يستنكر ابنُ منظور على من يذهب إلى إطلاق (العِشاء) على فترة ما بين زوال الشمس إلى طلوع الفجر ولا ينكر بنفس القدر على من ذهب إلى أن العشيّ: من زوال الشمس إلى الصباح، مكتفياً في ذلك بلفظ التضعيف، إذ يقول: "وقيل العشي من زوال الشمس إلى الصباح، ويقال لما بين المغرب والعتمة: عِشاء وزعم قوم أن العِشاء من زوال الشمس إلى طلوع الفجر وأنشد في ذلك: غدونا غدوة سحراً بليلٍ عِشاءً بعد ما انتصف النهار" (¬3) . على الرغم من أن قول الشاعر: (بعد ما انتصف النهار) يفيد اقتراب ما بعد منتصف النهار إلى وقت العِشاء، فيكون الحمل على المجاز لعلاقة المجاورة مستساغاً لقرب المسافة الزمنية.. وليس من هذا في شيئ القول بأن العَشيّ هو ما يمتد وقته ليتسع لما بين زوال الشمس إلى صباح اليوم التالي.. والأعجب منه أن يورد في ذلك ما أنشده ابن الأعرابي من قوله: هيفاءُ عجزاءُ خريدٌ بالعشيّ تضحك عن ذي أشرٍ عذْبٍ نقي ¬

_ (¬1) وكان العرب يسمون الأكل مرة واحدة في اليوم والليلة (الوجبة) باعتبار أن أكلها يوجب زهادة، وكان إذا أصاب أحدهم الغداء والعشاء أعجبهم ذلك ويسمون ماعداهما (الرغبة) أي في كثرة الأكل، فأخبرهم سبحانه أن لهم في الجنة هذه الحالة التي تعجبهم [ينظر أضواء على متشابهات القرآن للشيخ خليل ياسين 2/10] . (¬2) تفسير البيضاوي 6/292. (¬3) اللسان4/2962.

فينفي عنه وضع العشيّ موضع الليل، ويتلمس له مخرجاً ويعلق عليه بقوله: "فإن أراد (بالليل) ، فإما أن يكون سمى الليل عشياً لمكان العِشاء الذي هو الظلمة، وإما أن يكون وضع (العشيّ) موضع الليل لقربه منه من حيث كان العشي آخر النهار وآخر النهار متصل بأول الليل" (¬1) ... يقول: "وإنما أراد الشاعر أن يبالغ بتخرُّدِها واستحيائها، لأن الليل قد يعدم فيه الرقباء والجلساء وأكثر من يُستحيا منه، فإذا كان ذلك مع عدم هؤلاء فما ظنك بتخرُّدها نهاراً إذا حضروا؟ " (¬2) ، وإذا ما اتفقنا على أن لفظ (الأصيل) هو في معنى العشيّ كما قرر أهل اللغة وأهل التأويل وعلى ماسبق ذكره، فإن الزوال وما يقرب منه – على ماقرروا أيضاً – لا يسمى أصيلاً، وما قيل من أنه يسمى كذلك، لو سلم فهو ارتكاب لغير المألوف من غير ضرورة تدعو إليه (¬3) ، وطرقاً للباب على وتيرة واحدة وقياساً على ما سبق نقول: إن إطلاق العشي كذلك ليمتد إلى صباح اليوم التالي هو أيضاً ارتكاب لغير المألوف من غير ضرورة تدعو إليه. ونظير ما مضى - مما يعد مقبولاً- في الحمل على المجاز مع ما يفيده من الدلالة على الاستغراق والاستدامة على فعل الشيئ في الوقتين المذكورين، ما ذكره الرازي في تفسيره لقول الله تعالى: (واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار.. غافر/55) قال: "الإبكار عبارة عن أول النهار إلى النصف، والعشيّ عبارة عن النصف إلى آخر النهار، فيدخل فيه كل الأوقات" (¬4) ، وأحسب أن هذا هو الأليق فيما هذا شأنه وفيما يقتضي المقام حمله على معنى الاستغراق في الزمن وفاءً بحق السياق، على اعتبار أن ما يقرب من الشيئ يطلق عليه اسمه، وقد نحا كثير من المفسرين هذا المنحى مقدمين إياه على القول بمغالطة أهل اللغة والجنوح بالعشيّ وجعله من زوال الشمس إلى الصباح. ¬

_ (¬1) السابق. (¬2) السابق بتصرف. (¬3) ينظر حاشية الشهاب9/363. (¬4) مفاتيح الغيب13/569.

من هؤلاء صاحب التحرير والتنوير فقد ذهب في تفسيره لنفس الآية التي حمل الزمخشري فيها معنى العشيّ والإبكار على الاستدامة الشاملة لسائر ساعات اليوم والليلة، وهي قوله تعالى: (ولهم رزقهم فيها بكرةً وعشياً.. مريم/62) ، إلى أن المقصود من " (البكرة) : النصف الأول من النهار، و (العشيّ) النصف الأخير (¬1) . والجمع بينهما كناية عن استغراق الزمن (¬2) ، أي لهم رزقهم غير محصور ولا مقدر بل كلما شاءوا" (¬3) .. وإن كان يعاب عليه أنه لم يستمر على هذا المنحى وراح في مواضع أخرى يحمل معنى العشي على ما بين زوال الشمس إلى الصباح على نحو ما فعل في تفسيره لآية الأنعام. ولا يُحتج لهذا أن المقصد من كلامه الذي أورده في تفسير آية الأنعام، وكذا كلام من حجل بقيده، التكنية عن الاستدامة، لأن الجواب عن ذلك أن الكناية لا تمنع من إرادة ظاهر اللفظ، وظاهر اللفظ يصعب حمله – على نحو ما ارتأينا- في آيتي مريم والأنعام على وجه الحقيقة. ¬

_ (¬1) ولعل هذا ما عناه ابن منظور بقوله: "إنما أراد لهم رزقهم في مقدار ما بين الغداة والعشي". (¬2) والأليق منه حمل المعنى على الحقيقة، لإفادة التوسط بين الزهادة والرغابة لما سبق ذكره. (¬3) التحرير والتنوير 16/138 مجلد8.

على أن هذا المنحى قد يحمد في مثل قوله سبحانه: (واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفةً ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين ... الأعراف/205) إذ الحمل فيه بضميمة قوله - صلى الله عليه وسلم -: (تنام عيني ولا ينام قلبي) ، وقوله سبحانه: (ولا تكن من الغافلين) .. على التكنية عن سائر أحواله - صلى الله عليه وسلم - يقظةً أومناماً سراً أو إعلاناً ليلاً أو نهاراً لمما يدل عليه السياق ويومِئ إليه، والشرط في ذلك ألا يوجد في سياق الكلام ما ينافيه أو يتماشى معه من نحو إطلاق الذكر وتقييد نوع منه بوقتي الغداة والعشيّ في نحو قوله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبحوه بكرةً وأصيلاً.. الأحزاب/41، 42) ، وكذا ما تعيّن الحمل فيه على الوقتين لكون الموقوت بزمنيهما مختص بهما لا يتعداهما، كما في قوله سبحانه: (ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والآصال.. الرعد/15) إذ من المعلوم بداهة أن الفيئ لا يظهر بصورة كاملة تشعر بما يمليه النظم الكريم إلا في الوقتين بمعناهما اللغوي، ونظير ذلك ما كان منصوصاً على وقتيه ببعض دلائله التي لا ينصرف بها المعنى إلا إليه، كما في الآية الكريمة الواردة في حق داود - عليه السلام -: (إنا سخرنا الجبال معه بالعشي والإشراق.. ص/18) ذلك أن "وقت الإشراق محدود بوقت ارتفاعهما عن الأفق الشرقي وهو ما يسمى بالضحوة الصغرى" (¬1) وذلك لا يتأتى إلا وقت بدء طلوعها ولا يكون دون ذلك أو سواه بحال. من أسرار تقديم بعض مسميات طرفي النهار على بعض ووجه تنوعها: ¬

_ (¬1) روح المعاني 23/356 من المجلد 13 بتصرف.

وإذا ما رُمنا الإبحار في الكتاب العزيز بغية الوقوف على سر التنوع في التعبير عن الوقتين المنوط بهما هذا البحث، وأردنا الكشف عن علائق التراكيب التي قُدم فيها بعض مسميات هذين الوقتين على البعض الآخر، وابتغينا الغوص للتعرف على وجوه اختلاف سياقاتها وتناغيها وتواصلها.. فإنه لا بد لنا أولاً أن نستجلي الملابسات التي ورد فيها ذكر هذين الوقتين. والمتأمل للسياقات التي قُدم فيها لفظ (العشيّ) على الإبكار كما في حق زكريا عليه السلام: (واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشيّ والإبكار.. آل عمران/41) ، وقوله في مخاطبة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -قبل هجرته إلى مكة: (واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشيّ والإبكار.. غافر/55) ، يبصر بضميمة ما جاء في قوله سبحانه في حق داود - عليه السلام -: (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشيّ والإشراق.. ص/18) ، أن الإبكار يدقُّ جعله وصفاً لأول النهار من بعد طلوع الشمس لا الفجر (¬1) ، كما يرمق أن في اصطفاء مفردة (الإبكار) ، وفي تقديم (العشيّ) عليها ما يصور حال الأمم السابقة المستضعفة وما كانت عليه من تلبس بالعبادة المفروضة، وكذا ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه الكرام قبل فرض الصلوات الخمس وقبل الجهر بالدعوة والصدع بها. ¬

_ (¬1) وسيأتي ما يفيد أن طرف النهار الأول يطلق ويراد به أحد معنيين: مابعد طلوع الفجر ومابعد طلوع الشمس، فعلى من التزم جعل أول النهار من طلوع الفجر جعل ما بعد طلوع الشمس مجازاً فيه والعكس بالعكس.

ونعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - قد أمر بأن يقتدي بالأنبياء من قبله وأن يعبد الله بالكيفية التي كانوا يعبدونه سبحانه بها (¬1) ، وصلاة ركعتين في آخر النهار ومثلهما بأوله هو الأوفق لحال أولئك الأوائل الذين صدّقوا بدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - في صدر الإسلام فقد كان معظمهم خليط من الفقراء والضعفاء والأرقاء وليس بوسعهم مجابهة قوى الكفر المتعصبة لشركها ووثنيتها، بل ولا إظهار شعائر الدين الذي آمنت به، ولقد بلغ الضعف بهذه الثلّة المؤمنة التي آمنت بالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - في بداية الأمر لحدّ أنه إذا أراد أحدهم ممارسة عبادة من العبادات التي كُلف بها ذهب إلى شعاب مكة يستخفي فيها من عيون قريش.. فمع انشغال أهل الكفر في أول هذين الوقتين بجلب الرزق والسعي على المعاش، وخلودهم في آخرهما للدعة والراحة بعد عناء يوم كامل من العمل، يمكن لأولئك المستضعفين أن يمارسوا بشئ من الحرية والبعد عن الضغط والتعرض للأذى، ما كلفوا به من قِبل ربهم وما تعلموه من نبيهم.. والبدء بالعشي أقدر على تصوير هذه الفترة، وأبلغ في بيان حالتي الإخفاء والهمس اللذين كانوا عليهما أثناء تأدية ما كلفوا به من صلاة، وترديد ما كان ينزل على نبيهم - صلى الله عليه وسلم - من آي الذكر الحكيم. ¬

_ (¬1) وذلك قوله سبحانه: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده.. الأنعام/90) .

ولا يبعد أن يكون حال زكريا - عليه السلام - مع مناوئيه من اليهود شبيهاً بحال أولئك الصحب الكرام مع كفار مكة، فيكون في هذا أيضا الوجه في البدء بالعشيّ، بل إن هذا ما ينبئ به طبيعة هؤلاء القوم الذين تخصصوا في الإيذاء وفي قتل الأبرياء والأنبياء بغير حق، ففي تفسير ما أخبر الله به عن قتلهم أنبياء الله ذكر أهل العلم نصوصاً تصرح بقتل سيدنا زكريا وابنه يحيى عليهما السلام على يد أولئك الأنجاس، ومن ذلك ما ذكره ابن القيم رحمه الله في قوله: "ومن تلاعب الشيطان بهم ما كان في شأن زكريا ويحيى عليهما السلام وقتلهم لهما حتى سلط الله عليهم بختنصر وسنحاريب وجنودهما فنالوا منهم ما نالوه" (¬1) ، كما حكى عنهم في موضع آخر أنهم "هم قتلة الأنبياء، قتلوا زكريا وابنه يحيى وخلقاً كثيراً من الأنبياء حتى قتلوا في يوم واحد سبعين نبياً في أول النهار وأقاموا سوق بقلهم آخره، كأنهم لم يصنعوا شيئاً" (¬2) . الأمر الذي يعكس مدى الهلع والخوف الذي كان ينتاب أهل الحق في تلك الأزمنة الغابرة، ويعكس بالتالي سر البدء بالعشي في آية آل عمران. ومما قيل في سر تقديم (العشيّ) مراعاً فيه السياق ما ذكره البقاعي في حق آية غافر سالفة الذكر من أنه "لما كان المقام لإثبات قيام الساعة (¬3) وكان العشيّ أدل عليها قدمه" (¬4) . ¬

_ (¬1) إغاثة اللهفان 2/319. (¬2) هداية الحيارى ص54 وينظر تفسير ابن كثير 1/102، 355. (¬3) يعني قوله تعالى: (النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب. وإذ يتحاجون في النار.. إلى آخر الآيات 46-51) . (¬4) نظم الدرر 6/525.

وأيّاً ما كان الأمر فإن السياق في الآيتين المذكورتين يختلف عنه في آية (ص) وإن كان منه بسبب إذ المناسب للبدء بالعشيّ قبل الإشراق، هو ما كان عليه داود - عليه السلام - من أوب إلى الله وترجيع، وقد كان يشاركه في ذلك الجبال والطير كما دل عليه قوله تعالى: (واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب.. ص/17) ، وقوله: (يا جبال أوبي معه والطير.. سبأ/10) ، وقوله: (والطير محشورة كل له أواب.. ص/19) ، وظهور كل ذلك في وقت العشيّ أبين في تذكر المصير وما سيؤول إليه حال الخلق. يقول صاحب نظم الدرر "لما كان - أي التسبيح- في سياق الأوبة، وكان آخر النهار وقت الرجوع لكل ذي إلف إلى مألفه مع أنه وقت للفتور والاستراحة من المتاعب قال (بالعشيّ) "، وكان من ثمّ البدء به "تقوية للعامل وتذكيراً للغافل" (¬1) . وإنما كان تقديم العشيّ - فيما هو قريب مما ذكرناه من أمر الإبكار والإشراق - أعني الإظهار في قوله جل وعلا: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون ... الروم/17) ، لنفس ما سبق ذكره في آية غافر حيث الكلام عن القيامة وإثبات الحشر والبعث حتى ليكاد يكون متطابقاً معه تمام التطابق، ومن ثم فملابساتها هي من ملابسات نظيرتها. ¬

_ (¬1) السابق 6/370.

وفي مراعاة تقديم ما هو ألصق بالسياق في آية الروم وأدل عليه يقول الفخر الرازي: إنه "قدم الإمساء على الإصباح ههنا وأخره في قوله تعالى: (وسبحوه بكرةً وأصيلاً.. الأحزاب/42) لأن ههنا، أول الكلام ذِكْر الحشر والإعادة من قوله تعالى: (الله يبدأ الخلق ثم يعيده) إلى قوله تعالى: (فأولئك في العذاب محضرون.. الروم/11-16) ، وآخر هذه الآية أيضاً – يعني ما جاء عقبها- ذكر الحشر والإعادة بقوله تعالى: (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي وكذلك تخرجون.. الروم/19) والإمساء آخر فذكر الآخر أولاً لتذكر الآخرة" (¬1) وهو في معنى ما ذكره البقاعي في حق آية غافر وفاءً بحق السياق. ويريد الرازي بما ذكره أن مقابلة العشيّ بالظهيرة والإمساء بالإصباح وتقديم ما تقدم في كلٍُ جاء ملائماً للسياق في التذكير بيوم القيامة، فعلى نحو ما يعقب الركونً إلى الدعة والراحة والنوم والسكون في الإمساء والعشي حركة بعد الاستيقاظ وانتشار، يعقب الموت وإعادة إحياء الخلق من جديد، وإخراجهم من قبورهم، الحشر واجتماع الناس في يوم لا ريب فيه، ولما كان الموت الذي يمثل الإمساء والعشيّ، ويشبهه في ترتيبه الزمني بوقوعه قبل الحشر، وكان الغرض من السياق التذكير بالآخرة قدم من ثمت الإمساء والعشيّ، رداً على قالتهم السوء بإنكار البعث والحساب من ناحية، وإقامة للحجة عليهم بنصب الأدلة عليهما بتشبيههما بالاستيقاظ بعد الموتة الصغرى من ناحية أخرى. ¬

_ (¬1) الرازي 12/452.

وفي البحر المحيط: "قوبل بالعشيّ الإمساء وبالإظهار الإصباح، لأن كلا منهما يُعقب بما قابله، فالعشيّ يعقبه الإمساء، والإصباح يعقبه الإظهار" (¬1) ، وفي معنى ما ذُكريقول الآلوسي "قدم الإمساء على الإصباح لتقدم الليل والظلمة، وقدم العشيّ على الإظهار لأنه بالنسبة إلى الإظهار كالإمساء بالنسبة إلى الإصباح" (¬2) ويعنيان بذلك أنهم في "الاستعمال العربي يعتبرون فيه الليالي مبدأ عدد الأيام (¬3) ، فهو أسبق في حساب أيام الشهر، وفي التنزيل قال تعالى: (سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين.. سبأ/18) " (¬4) ، وقال أبو السعود بأن تقديم (عشياً) على (حين تظهرون) لمراعاة الفواصل وتغيير الأسلوب (¬5) ، وليس ما ذكروه بالوجه بل هو - فيما أرى- على ما ذكرت، مراعاة لمكان النزول. وإن كنت لا أرى فيما ذكره الفخر الرازي – وفاء بحق السياق - بأساً، وفي محصلته يقول الطاهر في عبارة بليغة موجزة: "قدم فعل الإمساء على فعل الإصباح.. لأن الكلام لما وقع عقب ذكر الحشر من قوله: (الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون.. الروم/11) ، وذكر قيام الساعة، ناسب أن يكون الإمساء وهو آخر اليوم خاطراً في الذهن فقُدم لهم ذكره" (¬6) . وهكذا يجيىء النظم غاية في التناسق بين مفرداته والتآخي بين جملة، كما يجيئ التقديم والتأخير للأوقات محققاً الغرض الذي يهدف إليه سياق النص القرآني، وتلك - وأيم الله- آية من آيات الإعجاز في كتاب الله. ¬

_ (¬1) ينظر البحر المحيط الآية17، 18من سورة الروم. (¬2) الآلوسي 21/45 مجلد 12، وينظر حاشية الشهاب على البيضاوي 7/379. (¬3) كما كانوا يؤرخون بالليالي ويبتدئون الشهر بالليلة الأولى التي بعد طلوع الهلال، وهو ما أقرهم الإسلام عليه واستمر عليه الحال. (¬4) التحرير 21/66 مجلد 10، 26/327 مجلد 12. (¬5) تفسير أبي السعود 7/55 مجلد4. (¬6) التحرير 21/66 مجلد 10.

"وتغيير الأسلوب في (عشياّ) لما أنه لا يجيىء منه الفعل بمعنى الدخول في العشي كالمساء والصباح والظهيرة، ولعل السر في ذلك على ما قيل: إنه ليس من الأوقات التي تختلف فيها أحوال الناس وتتغير تغيراً ظاهراً مصححاً لوصفهم بالخروج عما قبلها والدخول فيها، كالأوقات المذكورة، فإن كلا منها وقت يتغير فيه الأحوال تغيراً ظاهراً، أما في المساء والصباح فظاهر، وأما في الظهيرة فلأنها وقت يعاد فيه التجرد عن الثياب للقيلولة" (¬1) ، فهو وقت عورة كما صُرح بذلك في سورة النور. وفي سر تخصيص الأولين في قوله تعالى: (حين تمسون وحين تصبحون) في آية الروم بالتنزيه، والأخيرين (عشياً وحين تظهرون) بالتحميد، يقول البيضاوي: إن "تخصيص التسبيح بالمساء والصباح، لأن آثار القدرة والعظمة فيهما أظهر، وتخصيص الحمد بالعشي الذي هو آخر النهار.. والظهيرة التي هي وسطه، لأن تجدد النعم فيهما أكثر" (¬2) .. وما جاء في الحواشي الشهابية وكذا ما ذكره الآلوسي من أن هذا يرد عليه عطف ظرف الزمان (عشياً) على المكان (في السموات) ، وأن هذا وعكسه لا يجوز (¬3) ، جوابه أنه يمكن جعله معطوفاً على مقدر أي (وله الحمد في السموات والأرض) دائماً (وعشياً) ، على أنه تخصيص بعد تعميم، والجملة اعتراضية (¬4) وعليه يكون العطف في (وحين تظهرون) على قوله قبل: (وحين تمسون وحين تصبحون) ، ويكون التخصيص في الثلاث بالتنزيه، وفي العشي بالتحميد. ¬

_ (¬1) الآلوسي 21/45 مجلد 12. (¬2) تفسير البيضاوي 7/380. (¬3) حاشية الشهاب 7/380، والآلوسي 21/45 مجلد 12. (¬4) السابقان.

وعلى نحو ما جاء الترتيب في تقديم العشيّ في حال الاستضعاف والخوف - أعني على الوجه الذي تراءى لنا- متناغماً مع سياق الآيات التي قدمت فيها ومع نظمها.. يجيىء الترتيب كذلك في تقديم المقابل للعشيّ عندما يُزال ذلك ويُستشعر بدلاً عنه معاني الأمن والقوة، والأمان والكثرة. ولعلك تجد صدى هذا في حديث القرآن عن أهل الجنة وتحديداً في قوله سبحانه عنهم: (لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاماً ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً.. مريم/62) ، وفي حديثه عما كان من أمر زكريا عليه السلام عندما (خرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوه بكرة وعشياً.. مريم/11) ، وفي حديثه عن أهل الإيمان بعد أن مكّن الله لهم وذلك في قوله: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً. وسبحوه بكرة وأصيلا..الأحزاب/41، 42) . فقد أضحى الذين زحزحوا عن النار وأدخلوا الجنة في مأمن من عناء الدنيا ومن عذاب جهنم (لايسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون. لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون.. الأنبياء/102، 103) ، وأضحى زكريا عليه السلام في مأمن عن أعين الرقباء والأعداء، وفي منعة من قومه الذين "كانوا من وراء المحراب ينتظرونه أن يفتح لهم الباب فيدخله ويصلوا" (¬1) ، كما تغير حال المؤمنين في المدينة بعد أن تهيىء لهم المجتمع الآمن المستقر، وبعد أن أذهب الله عنهم ما كان بهم من ضعف وصاروا ذوي بأس شديد ومنعة، ويمكن لك أن تستكنه هذه المعاني وتستشعر أنفة العظمة والعزة التي انخلعت على الصحب الكرام، وأنت تقارن ما جاء في آية الأحزاب بما جاء في قوله سبحانه عنهم: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس.. الأنفال/26) . ¬

_ (¬1) تفسير أبي السعود 5/258 مجلد 3.

الأمر الذي يؤكد على أنه حتى عندما يكون أمر تقديم كلمة على كلمة متعلقاً بما ذكره العلوي في الطراز تحت باب (ما يجوز تقديمه ولو لم يفسد معناه) (¬1) ، فإن بلاغة النظم القرآني تقتضي أن يجيىء التناسق والترتيب بين الكلمات تحقيقاً للغرض، وأنه عندما يتغير الغرض من موضع إلى موضع آخر لا جرم يتغير معه ترتيب النظم. وإلا فـ"لو كان القصد بالنظم إلى اللفظ نفسه دون أن يكون الغرض ترتيب المعاني في النفس، ثم النطق بالألفاظ على حذوها لكان ينبغي - كما ذكر شيخ البلاغة - أن لايختلف حال اثنين في العلم بحُسن النظم أو غير الحُسن فيه لأنهما يُحسان بتوالي الألفاظ في النطق إحساساً واحداً ولا يعرف أحدهما في ذلك شيئاً يجهله الآخر" (¬2) . وجه تخصيص طرفي النهار بالذكر دون سواهما: ولا يعني هذا العنوان بحال أن يُقصر التسبيح لله تعالى على الوقتين ويُترك فيما عداهما. بل مراده البحث عن سر إفرادهما بالذكر، وبيان أنهما في ذلك وفي الدلالة على أهميتهما كإفراد التسبيح من بين الأذكار مع اندراجه فيهما لكونه العمدة (¬3) . هذا وقد تعددت الأقوال في سر تخصيص وقتي الغداة والعشي بالذكر ليكونا وما في معناهما زمناً لتسبيح الله وتنزيهه دون سائر الأوقات الأخرى. فمن قائل أن الوجه في ذلك: ¬

_ (¬1) ينظر الطراز للعلوي 2/73. (¬2) دلائل الإعجاز تحقيق محمود شاكر ص 51. (¬3) تفسير الآلوسي 22/61 مجلد 12، وينظر 9/224 مجلد 6، والبيضاوي 7/495.

1- كونهما مشهودين أي يحضرهما ملائكة الليل والنهار، يلتقون فيهما ويتعاقبون على ابن آدم على نحو ما ورد في حديث أبي هريرة بلفظ: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم، وهو أعلم. كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون" (¬1) . ولا وجه لما ذكره الشهاب من أن دلالة الحديث "على ما ذكر محل نظر" (¬2) على اعتبار أن عروجهم يتنافى مع كون الوقتين مشهورين بحضورهم.. ذلك لأن الحديث نص في الطريقة التي يكونون عليها أثناء حضورهم وشهودهم على بني البشر فضلاً عن أنه كذلك نصٌّ في الصلاة التي تكون بوقتي الغداة والعشي. إذ ليسا إلا الفجر والعصر كما سبق تقريره، قال ابن بطال فيما نقله عنه ابن حجر "خَصّ هذين الوقتين لاجتماع الملائكة فيهما ورفعهم أعمال العباد لئلا يفوتهم هذا الفضل العظيم" (¬3) . ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري 555، 7429، 7486، 7223، ومسلم 632، والنسائي 1/240، 241، وأحمد 2/486، 257، 344، وابن حبان 1737، ومالك 1/170، والبغوي 380. (¬2) حاشية الشهاب 7/495. (¬3) فتح الباري 2/26.

2- أنهما مجامع أوقات الصلاة يقول الآلوسي فيما نقله عن بعض أهل العلم: "يجوز أن يقال: تخصيص هذين الوقتين بالذكر دل على اختصاصهما بمزيد شرف، فيصلح ذلك الشرف سبباً لتعيينهما للصلاة والعبادة، فإن لفضيلة الأزمنة والأمكنة أثراً في فضيلة ما يقع فيهما من العبادات" ويعلق الآلوسي على ذلك بالقول: "وهذا عندي أصفى مما تقدم" (¬1) يعني من حمل التسبيح على ظاهر معناه من التنزيه والتسبيح لله سبحانه، ويشعر به ما أخرجه الطبراني في الأوسط وابن مردوديه عن ابن عباس في فضل صلاة الضحى وتعيين وقتها والاستدلال عليها من خلال قوله تعالى: (يسبحن بالعشي والإشراق.. ص/18) على ما سيأتي بيانه، كما يشعر به ما ورد عن بعض أهل العلم في المراد بالوقتين فقد قال الحسن: أريد بهما ركعتان بكرةً كانتا قد فرضتا بمكة وركعتان مثلهما عشية (¬2) ، و"قال قتادة أريد بهما صلاة الغداة -أي الفجر- وصلاة العصر" (¬3) ، ومن الأحاديث التي وردت في فضلهما وفي تعيين وقتهما قوله- صلى الله عليه وسلم - (¬4) : (من صلى البردين (¬5) دخل الجنة) زاد في رواية مسلم: (يعني العصر والفجر) ، وأصرح منه حديث عمارة بن روبية وفيه: (لن يلج النار أحدٌ صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) (¬6) يعني الفجر والعصر، ورواه الشيخان بلفظ: (من صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وجبت له الجنة) (¬7) .. وليس في هذا من الإشكال في الحمل على الحقيقة أوالمجاز، ما ¬

_ (¬1) الآلوسي 23/257 مجلد 13. (¬2) ينظرالآلوسي 24/118 مجلد 13. (¬3) السابق. (¬4) فيما أخرجه البخاري 574، ومسلم 635، وأحمد 4/80، والدارمي 1/331، وابن حبان1739. (¬5) قال الخطابي فيما نقله عنه ابن حجر سميتا بردين لأنهما تُصليان في بردي النهار وهما طرفاه حين يطيب الهواء ويذهب الحر [ينظر فتح الباري 2/42] . (¬6) أخرجه مسلم634وأحمد4/261وأبو داود427وابن أبي شيبة2/386وابن حبان1738. (¬7) أخرجه الطبراني في الأوسط كما في المجمع 1/318 برقم 1789 من حديث عمارة بن رويبة أيضاً.

في التعبير عن الوقتين بـ (طرفي النهار) ، إذ "يمكن اعتبار النهار من طلوع الشمس مع صحة ما ذكروه في صلاة الطرف الأول" (¬1) من أن المراد بها صلاة الصبح على ما ارتضاه الحسن وقتادة والضحاك (¬2) . والصلاة على أي حال وأيّاً ما كان الأمر فيها حاصلة في الوقتين المباركين، أما قبل فرض الصلوات فلكونها متحققة بما ذكرنا نقلاً عن الحسن، أما بعد فرضيتها وجعلها في خمس فلكونها متحققة بصلاتي الضحى والعصر هذا على القول بأن طرف النهار الأول يطلق ويراد به ما بعد طلوع الشمس، أو بصلاتي الفجر والعصر كما قال قتادة وكما نطقت به الأحاديث سالفة الذكر، وذلك على القول بجعل طرف النهار مراداً به ما بعد طلوع الفجر. 3- أن فيهما تبدو مظاهر العظمة ودلائل القدرة على بديع صنع الله في خلقه، إذ في هذين الوقتين تطالع النفس البشرية التغير الواضح في صفحة الكون من ليل إلى نهار ومن نهار إلى ليل، وفيهما يتصل القلب بالوجود من حوله، وهو يرى كلما طلعت شمس يوم أو غربت، وكلما أقبل ليل إو أدبر نهار، يد الله تغير الظواهر والأحوال وتقلب الليل والنهار بما يدل على كمال مقلِّبهما وقدرته على إيجاد المعدوم الممحوق كما كان وتسويته، وهنا وفي هذا الجو المفعم بفيض التدبر والتفكر في خلق السموات والأرض وفي هدأة الصبح وهو يتنفس ويتفتح بالحياة، وهدأة الغروب والكون يغمض أجفانه وينقلب البصر خاسئاً وهو حسير، يحمل التسبيح بحمد الله اعترافاً بفضله وعظيم امتنانه (¬3) ، وفي هذا المعنى يقول البيضاوي: "وتخصيص التسبيح بالمساء والصباح لأن أثار القدرة والعظمة فيهما أظهر" (¬4) . ¬

_ (¬1) الآلوسي 12/234 مجلد7. (¬2) ينظر السابق. (¬3) ينظر الظلال 3/1427، 4/2357، ونظم الدرر 6/525. (¬4) تفسير البيضاوي 7/380.

4- أنهما وقتان للانتقال من حال إلى حال، بما يعني التذكير بالموت وبقيام الساعة، فالغدوة عندها ينقلب الإنسان من النوم الذي هو كالموت، إلى اليقظة التي هي كالحياة (¬1) ، ويتحول العالم من الظلمة التي هي طبيعة عدمية إلى النور الذي هو طبيعة وجودية، وأما عند الآصال فالأمر بالضد لأن الإنسان ينقلب من الحياة إلى الموت، والعالم ينقلب من النور الخالص إلى الظلمة الخالصة وتلك هي عبارة الرازي التي يقول بعدها معقباً، "وفي هذين الوقتين يحصل هذان النوعان من التغيير العجيب القوي القاهر ولا يقدر على مثل هذا التغيير إلا الإله الموصوف بالحكمة الباهرة والقدرة الغير متناهية" (¬2) . ¬

_ (¬1) كما جاء في حديث حذيفة وأبي ذر رضي الله عنهما من أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا آوى إلى فراشه قال: باسمك اللهم أحيا وأموت، وإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور"، والنشور هو الحياة بعد الموت. والحديث رواه البخاري 11/96، 97، 111 وأبو داود 5049 والترمذي 3413. (¬2) تفسير الرازي 7 /425وينظر 10/295 والآلوسي 9/224 مجلد 6.

ووجه دلالة التعبير بالغدو والآصال عن التذكير بالموت - على ما توحى به عبارته- هو أنه "عند الإصباح يخرج الإنسان من شبه الموت إلى شبه الوجود وهو اليقظة، وعند العِشاء يخرج الإنسان من اليقظة إلى النوم" (¬1) يقول البقاعي: "خَصّ هذين الوقتين وإن كان المراد الدوام بتسمية كل من اليوم والليلة باسم جزئه، ليذكر بالغدو: الانتشار من الموت، وبالأصيل: السكون بالموت والرجوع إلى حال العدم فيستحضر بذلك جلال الله عز وجل، فيكون ذلك حاوياً على تعظيمه" (¬2) ، أما وجه دلالة التعبير بهما على قيام الساعة فـ"لأن ساعتيهما، أثناء الطيّ والبعث" (¬3) . وعن الدلالة الظاهرة على طيّ الخلق وزوال الدنيا كلها والخلود إلى الراحة الجسدية بعد البعث، وعلى انتشار الناس بعد الاستيقاظ إلى الأمور الضرورية التي بها قوام حياتهم، يقول البقاعي في تفسيره لقول الله تعالى: (واذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً.. الإنسان/25) أى "عند قيامك من منامك، وتذكرك أنه يحيي الموتى ويحشرهم إليه جميعاً، وعند انقراض نهارك وتذكرك انقراض دنياك وطيّ هذا العالم لأجل إيجاد يوم الفصل" (¬4) ، وهو في معنى ما ذكره الإمام الفخر. ¬

_ (¬1) الر ازي 12/452. (¬2) نظم الدرر 3/179. (¬3) السابق 5/57. (¬4) السابق 8/276 بتصرف، وينظر 6/114، 7/266.

5- كونهما "من الأوقات التى تختلف فيها أحوال الناس وتتغير تغيراً ظاهراً مصححاً لوصفهم بالخروج عما قبلها والدخول فيها" (¬1) ، وهذا أمر ملموس ويستوجب ذكره سبحانه بمجامع التسبيح وتنزيهه عن كل نقص إذ فى ذكر أوقات التسبيح في آية الروم إشارة إلى ما فيها من التغير الذي هو منزه عنه وإلى ما يتجدد فيها من النعم ووجود الأحوال الدالة على القدرة على الإبداع الدال على البعث لذا قال لافتاً الكلام إلى الخطاب لأنه أشد تنبيهاً ودالاً على الاستغراق بنزع الخافض (حين تمسون) مقدماً المحو لأنه أدل على البعث الذي النزاع فيه وهو الأصل (¬2) وفي هذا المعنى أخرج الإمام أحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن السني في عمل اليوم والليلة والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدعوات عن معاذ بن أنس قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ألا أخبركم لم سمى الله تعالى إبراهيم خليله الذى وفّى؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى: سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد فى السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون) ، وفيه أخرج أبو داود والطبراني وابن السني وابن مردويه عن ابن عباس قوله- صلى الله عليه وسلم -: (من قال حين يصبح (سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون.. إلى قوله تعالى: وكذلك تخرجون) أدرك ما فاته في يومه، ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته من ليلته) ، إلى غير ذلك من الأخبار المؤدية إلى ذلك المعنى والدالة عليه. ¬

_ (¬1) الآلوسي 21/45 مجلد 12. (¬2) ينظر نظم الدرر 5/609.

6- كونهما المنوط بهما والمتطلع بالصلاة في زمانيهما إلى التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم، لحديث جرير بن عبد الله البجلي، الذى يقول فيه: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنظر إلى القمر يعني ليلة البدر فقال: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون (¬1) في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا) ، ثم قرأ (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب.. ق /39) (¬2) . يقول ابن حجر: "فيه إشارة إلى قطع أسباب الغلبة المنافية للاستطاعة كالنوم والشغل ومقاومة ذلك بالاستعداد له، وقوله: (فافعلوا) أى عدم الغلبة، وهو كناية عما ذكر من الاستعداد، ووقع فى رواية شعبة ... فلا تغفلوا عن صلاة قبل طلوع الشمس.. الحديث (قوله: قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) زاد مسلم يعنى صلاة العصر والفجر، ولابن مردويه من وجه آخر عن إسماعيل: (قبل طلوع الشمس صلاة الصبح، وقبل غروبها صلاة العصر) " (¬3) . وقال الخطابى فيما نقله عنه الحافظ: "هذا يدل على أن الرؤية قد يرجى نيلها بالمحافظة على هاتين الصلاتين" (¬4) ، وذكر أهل العلم أن "وجه مناسبة ذكر هاتين الصلاتين عند ذكر الرؤية، أن الصلاة أفضل الطاعات، وقد ثبت لهاتين الصلاتين من الفضل على غيرهما، ما ذكر من اجتماع الملائكة فيهما ورفع الأعمال وغير ذلك، فهما أفضل الصلوات، فناسب أن يُجازى المحافِظ عليهما بأفضل العطايا وهو النظر إلى الله تعالى، والحكمة فى اجتماعهم في هاتين الصلاتين من لطف الله تعالى بعباده وإكرامه لهم، فقد جعل اجتماع ملائكته في حال طاعة عباده لتكون شهادتهم لهم أحسن شهادة" (¬5) ، ومما يستفاد من الحديث "أن الصلاة أعلى العبادات لأنه ¬

_ (¬1) أي لا يحدث لكم ضيم والمراد نفي الازدحام. (¬2) أخرجه البخاري 554، 7434 ومسلم 633، وأبو داود 4729، والترمذي 2551، وابن ماجة177، وابن حبان 7442وأحمد 4/360. (¬3) فتح الباري 2/26. (¬4) السابق 2/27. (¬5) السابق 2/27، 28.

عنها وقع السؤال والجواب، وفيه الإشارة إلى عِظم هاتين الصلاتين لكونهما تجتمع فيهما الطائفتان، وفي غيرهما طائفة واحدة، وفيه الإشارة أيضاً إلى شرف الوقتين المذكورين، وقد ورد أن الرزق يقسم بعد صلاة الصبح وأن الأعمال ترفع آخر النهار فمن كان حينئذ في طاعة بورك في رزقه وفي عمله، وهذا يترتب عليه حكمة الأمر بالمحافظة عليهما والاهتمام بهما، وفيه تشريف هذه الأمة على غيرها، ويستلزم تشريف نبيها على غيره وفيه الإخبار بالغيوب وهذا يترتب عليه زيادة الإيمان، كما فيه الإخبار بما نحن فيه من ضبط أحوالنا حتى نتيقّظ ونتحفّظ في الأوامر والنواهى ونفرح في هذه الأوقات بقدوم رسل ربنا وسؤال ربنا عنا، وفيه إعلامنا بحب ملائكة الله لنا لنزداد فيهم حباً ونتقرب إلى الله بذلك، وفيه كلام الله تعالى مع ملائكته وغير ذلك من الفوائد" (¬1) . ¬

_ (¬1) السابق 2/30 بتصرف.

7- أنهما محَلّ الغفلة، وأشهر ما يقع فيه المباشرة للأعمال والاشتغال بالأمور (¬1) ، "فوجوب الذكر المحمول على ظاهره فيهما وجوب له في غيرهما من باب الأولى، قال ابن عباس رضى الله عنهما: لم يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال العذر، غير الذكر فإنه تعالى لم يجعل له حداً ينتهى إليه، ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على عقله ... ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى صلاتي الصبح والعصر لأن المواظبة عليهما – لما أشير إليه من صعوبتهما بما يعتري الإنسان في وقتيهما من الشغل - دالة على غاية المحبة لله، حاملة على المواظبة على غيرهما من الصلوات وجميع الطاعات بطريق الأولى" (¬2) . وفى نظم الدرر تفسيراً لآية ص: "قال (بالعشي) ، تقوية للعامل وتذكيراً للغافل، (والإشراق) أي في وقت ارتفاع الشمس عند انشغال الناس في الأشغال، واشتغالهم بالمآكل والملاذ من الأقوال والأفعال، تذكيراً لهم وترجيعاً عن مألوفاتهم إلى تقديس ربهم سبحانه" (¬3) . وفي تفسير المنار: "خُصّ هذان الوقتان بالذكر لأنهما طرفا النهار، ومن افتتح نهاره بذكر الله واختتمه به، كان جديراً بأن يراقبه تعالى ولا ينساه فيما بينهما، وأهم الذكر فيهما صلاتا الفجر والعصر اللتين تحضرهما ملائكة الليل وملائكة النهار، ويشهدان عند الله تعالى بما وجدا عليه العبد كما ورد فى الصحيح" (¬4) . ¬

_ (¬1) ينظر تفسير الآلوسي 15/377 مجلد 9، 18/258 مجلد 10، والشهاب 5/166. (¬2) نظم الدرر 6/114، 115 بتصرف. (¬3) السابق 6/370 بتصرف. (¬4) تفسير المنار لمحمد رشيد رضا 9/557.

ولا يقدح فيما ذكرته هنا نقلاً عن بعض أهل العلم، ما قال به الآلوسي وصاحب الظلال من أن الوجه في اختصاصهما بالذكر "أنهما وقتا فراغ فيكون الذكر فيهما ألصق بالقلب" (¬1) وأصفى، لأن محل هذا الفراغ يكون عقيب الانتهاء من الاشتغال بأمورالحياة والمباشرة للأعمال الدنيوية وقبيل البدء بها، والعبد مطالب بذكر الله في كل حال. 8- أن مقصوده الحضُّ على مخالفة ما كان عليه المشركون، "فإنهم كانو يجتمعون على عبادة الأصنام في الكعبة بكرةً وعشياً" فأمروا بالتسبيح في أوقات كانوا يذكرون فيها الفحشاء والمنكر" (¬2) . ¬

_ (¬1) الآلوسي 9/224مجلد 6 وينظر الظلال 5/3087 (¬2) الرازي14/319.

وغني عن البيان أن الحكم على أيٍّ من الأوجه السابقة، متوقف بالدرجة الأولى على مدارسة مقامات الأحوال وسياقات الآيات على ما سيأتى بيانه، كما أن الذهاب إلى أن الوقتين يطلقان ويراد بهما الدوام كما يقال فعله صباحاً ومساءاً إذا داوم عليه - على ما قال به كثير من المفسرين في عديد من المواضع التي ورد فيها ذكر الآنين – لا يتماشى مع القول بالتخصيص (¬1) ، وأقصى ما يمكن القول به أنه إذا تسنى للملائكة ملازمة التسبيح على الدوام فإن بني البشر لا يمكنهم فعل ذلك لاحتياجهم إلى الأكل والشرب وتحصيل ذلك وما شابهه من ملبوس ومأكول ومركوب فكانت الإشارة بالتسبيح في تلك الأوقات التي إذا أتى العبد فيها بتسبيح الله كان كأنه لم يفتر، وهو إذا نزه ربه في أول النهار وآخره فإن الله تعالى مظهره في أوله وهو دنياه وفي آخرته وهو عقباه، وذلك لأن مريد العموم قد ينكر الطرفين ويفهم منهما الوسط كقوله عليه السلام: (لو أن أولكم وآخركم ولم يذكر وسطكم ففهم منه المبالغة في العموم.. وكذا الأمر بالنسبة للصلاة فإن العبد إذا صلى ركعتين حسب له صرف ساعتين من التسبيح وهكذا بالنسبة لسائر الصلوات التي يحصل له بأدائها صرف سبع عشرة ساعة فما بقي له وهو سبع ساعات هو ما بين نصف الليل وثلثيه، لأن ثلثيه ثمان ساعات ونصفه ست ساعات وما بينهما السبع وهذا القدر لو نامه الإنسان لكان كثيراً وإليه الإشارة بقوله: (قم الليل إلا قليلاً.. المزمل /4) وزيادة القليل على النصف هي ساعة فيصير سبع ساعات مصروفة إلى النوم والنائم مرفوع عنه القلم، فيقول الله لملائكته عبدي صرف جميع أوقات تكليفه في تسبيحي فلم يبق لكم أيها الملائكة عليهم المزية إذا ادعيتم بقولكم: (ونحن نسبح نحمدك ونقدس لك.. البقرة /30) على سبيل الانحصار بل هم مثلكم فمقامهم مثل مقامكم في أعلى عليين (¬2) . ¬

_ (¬1) لتنافيهما، وهذا من البداهة بمكان. (¬2) ينظر الرازي 12/ 450، 601.

المبحث الثاني: التسبيح بالغدو والآصال بين القائلين بالحقيقة والقائلين فيه بالمجاز

المبحث الثاني: التسبيح بالغدو والآصال بين القائلين بالحقيقة والقائلين فيه بالمجاز ذهب غير واحد من أهل التأويل إلى أن المراد بالتسبيح في الآيات التي ورد الأمر به في وقتي العشي والإبكار أو الغدو والآصال.. الصلاة، كذا أورده الحافظ ابن كثير عن الحسن والضحاك، حيث قالا فيما نقله عنهما: " (يسبح له فيها بالغدو والآصال) يعني: الصلاة" (¬1) وبنحوه روى "سعيد بن جبير عن ابن عباس: كل تسبيح في القرآن هو الصلاة" (¬2) ، كما قال به سعيد بن المسيب ومجاهد وقتادة (¬3) . وإطلاقه عليها من إطلاق اللازم على الملزوم فهو كناية عنها، أو هو من إطلاق الجزء على الكل، فنوع مجازه مرسل وعلاقته الجزئية، إذ التسبيح جزء من الصلاة، والنكتة في ذلك كونها مشتملة على تسبيح الله وتنزيهه، أو الزمانية ووجهه أن "الزمان كثيراً ما يطلق ويراد به ما يقع فيه كما يقال: صلى الصبح والمراد صلاته، وقد يعكس فيراد بالصلاة زمانها نحو: قربت الصلاة أى وقتها، وقد يراد بها مكانها كما قيل فى قوله تعالى: (ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى.. النساء/43) أن المراد بالصلاة: المساجد" (¬4) . وفى تحديد تلك الصلوات المرادة في هذين الوقتين المباركين "أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد أنهما عبارة عن صلاتي الصبح والعصر.. وخُصّا بالذكر لشرفهما" (¬5) ، كذا أخرجه الحافظ ابن كثير عن ابن عباس قائلا: "يعني بالغدو: صلاة الغداة، ويعني بالآصال: صلاة العصر. وهما أول ما افترض الله من الصلاة، فأَحبَّ أن يَذكرهما وأن يذكّر بهما عباده" (¬6) ، وباعتبارهما طرفي النهار، فما يقع بينهما يجُبُّه الصلاة فيهما. ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير 3/303. (¬2) السابق وينظر روح المعاني للآلوسي 18/258 مجلد 10. (¬3) ابن كثير 2/137. (¬4) روح المعاني 7/232 مجلد 5 وينظر حاشية الشهاب 4 /103. (¬5) السابق. (¬6) تفسير ابن كثير 3/303 وينظر فتح القدير للشوكاني 4/37.

وفى رواية أخرى لابن عباس أن المراد من "التسبيح بكرة: صلاة الفجر، والتسبيح أصيلاً: صلاة العِشاء" (¬1) ، كما أورد الآلوسي عن قتادة نحواً مما رُوى عن ابن عباس إلا أنه قال: "أشار بهذين الوقتين إلى صلاة الغداة وصلاة العصر، وهو أظهر مما رُوي عن الحَبر" (¬2) يقصد فى روايته القائلة بأنهما صلاتا الفجر والِعشاء. وأبعد من جنح إلى أن المراد بالأصيل: الظهر والعصر، وبالعشيّ: المغرب، بزعم أن المراد بذكرهما شمول ساعات النهار أوسائر أوقات اليوم والليلة، وأن ما يقرب من الشيئ يجوز أن يطلق عليه اسمه (¬3) ، وأشد منه بعداً: الزعم بأن الأصيل: صلاة العشاء، لما ذكرنا، وكذا الزعم بأن "الإبكار عبارة عن أول النهار إلى النصف، والعشي عبارة عن النصف إلى آخر النهار فيدخل فيه كلُّ الأوقات" (¬4) . إذ القول باللتيا والتى لا يخلو - على ما سنذكر- عن كدر. ¬

_ (¬1) روح المعاني 22/61 مجلد 12. (¬2) السابق. (¬3) ينظر تفسير الرازي 16/88، 8/631. (¬4) تفسير الرازي 13/570.

وأجاز طائفة من أهل العلم جعل المأمور به من التسبيح: قول (سبحان الله) بقصد إجلاله تعالى وتنزيهه - قولاً واعتقاداً- عن كل عيب فيكون الحمل فيه على الحقيقة، وإنما خَصّ التسبيح من جملة الذكر وأنواعه لأنه يعني "التنزيه عما لا يجوز على الله من النقائص فهو من أكمل الذكر لاشتماله على جوامع الثناء والتمجيد، ولأن في التسبيح إيماء إلى التبرؤ مما يقوله أهل الكفر والنفاق في حق الله وفى حق نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين بدعوته، فيكون فى معنى قول الله تعالى: (ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم.. النور/16) ، فإن كلمة (سبحان الله) يكثر أن تقال فى مقام التبرؤ من نسبة ما لايليق كقول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: (سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس) ، وقول هند بنت عتبة حين أخذ - صلى الله عليه وسلم -على النساء البيعة (أن لا يزنين) : سبحان الله أو تزني الحرة؟ (¬1) . ¬

_ (¬1) ينظر التحرير والتنوير 22/48 مجلد11.

قال أبو حيان: الظاهر أن قوله تعالى: (وسبح بحمد ربك) أمر بالتسبيح مقروناً بالحمد، وحينئذ إما أن يراد اللفظ، أى: قل (سبحان الله والحمد لله) ، أو يراد المعنى: أي نزهه سبحانه عن السوء وأثنِ عليه بالجميل، وفي خبرٍ ذكره ابن عطية: (من سبح عند غروب الشمس سبعين تسبيحة غربت بذنوبه، وقال أبو مسلم: لا يبعد حمل ذلك على التنزيه والإجلال. والمعنى: اشتغل بتنزيه الله تعالى في هذه الأوقات، وعلى ذلك حمله العزّ ابن عبد السلام، واختار الإمام الرازي حمل التسبيح على التنزيه من الشرك وتابعه في ذلك الآلوسي، قال الفخر: إنه أقرب إلى الظاهر وإلى ما تقدم ذكره، يعني في الآيات التي جاء فيها الأمر بالصبر قبيل الأمر بالتسبيح كما في قوله: (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل.. طه/130) وقوله: (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب.. ق/39) وقوله: لأنه سبحانه صبّره أولاً على ما يقولون من التكذيب وإظهار الكفر والشرك، والذى يليق بذلك أن يؤمر بتنزيهه تعالى عن قولهم حتى يكون مظهراً لذلك وداعياً إليه.

واعتُرض بأنه لا وجه حينئذ لتخصيص هذه الأوقات بالذكر، وأُجيب بأن المراد بذكرها، الدلالة على الدوام كما فى قوله تعالى: (بالغداة والعشي.. الأنعام/52، الكهف/28) ، مع أن لبعض الأوقات مزية لأمر لا يعلمه إلا الله تعالى، ورُدّ بأنه يأباه (مِن) التبعيضية في قوله في آية طه (ومن آناء الليل) على أن هذه الدلالة يكفيها أن يقال: قبل طلوع الشمس وبعده لتناوله الليل والنهار، فالزيادة تدل على أن المراد خصوصية الوقت.. وعورض ما قاله الإمام - للمرة الثانية- بأن الأنسب بالأمر بالصبر، الأمر بالصلاة ليكون ذلك إرشاداً لما تضمنه قوله تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة.. البقرة/45) ، وأيضاً الأمر الآتي أوفق بحمل الأمر بالتسبيح على الأمر بالصلاة (¬1) . وحمل الأمر بالتسبيح على أي من الوجهين السابقين، بهذا. مما التبست فيها الطرائق، ولا يسعنا أن نجزم بطريقة هي أسلم ولا أقرب إلى فهم المعنى المراد، من أن نكل أمر الحسم أو الترجيح في هذا الشأن إلى سياقات الآيات وقرائن أحوالها، فهذان - في تقديري- كافيان وحدهما وكفيلان بمعرفة ما إذا كان المراد من التسبيح ظاهره أو المراد منه التجوز فيكون بمعنى الصلاة. إذ من الإجحاف أن نحمل كل الآيات الآمرة بالتسبيح في ذينك الوقتين على معنى واحد، أو نجعلها - على تعددها وتنوع سياقاتها- تسير على وتيرة واحدة. ¬

_ (¬1) روح المعاني 16/412، 313مجلد 9بتصرف، وينظر 21/44 مجلد 12 ومفاتيح الغيب 12/447.

فهناك من الآيات الآتية على هذا النمط ما ينصبّ حديثها حول تواقيت الصلاة، سيما ما ذكر فيها الوقتان بلفظ (الطرف) الذى يعنى أول النهار أوآخره، سواء ما جاء منه على صيغة التثنية كما في قوله سبحانه: (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل.. هود/114) ، أو بأسلوب الجمع كما في قوله عز من قائل: (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار.. طه/130) .. وكذا ما ذكرا فيه بلفظ (قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) كما فى الآية سالفة الذكر، ونظيرها في قوله سبحانه: (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب. ومن الليل فسبحه وأدبار السجود.. ق/39، 40) .. أو ما كان نصّاً في سرد أوقات الصلاة الأخرى مما هو في معنى ما ذكر كما الحال في قوله تعالى: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون. وله الحمد في السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون.. الروم/17، 18) .. فمثل هذا يجمل حمل الأمر بالتسبيح فيه على معنى الصلاة إذ ليس ثمة ماهو أدل على تحديد مواقيت الصلاة على وجه التقصّي كتاباً وسنة، من حركة الشمس بكرةً وأصيلاً وما يحدث إبان دوران الأرض حولها وما يطرأ على الأرض إثر غروبها من تغيرات كونية وتعاقبٍ الليل والنهار.

وهناك من التسبيح مما جاء فى حق الأنبياء، ما يومِىء إلى ما كان في شرائع من قبلنا من صلاة كانت لهم على نحو معين في أول النهار وقبيل انتهائه، وهذا ضرب آخر من التسبيح ذكره الفيروزابادى قائلاً في شأنه بعد أن عدّد ما ورد في حق الملائكة وما جاء فى حق نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -: "وأما ... التي للأنبياء، فالأولى لزكريا، علامة على ولادة يحيى: (قال رب اجعل لي آية) إلى قوله: (وسبح بالعشيّ والإبكار.. آل عمران/41) ، الثاني في وصيته لقومه على محافظة وظيفة التسبيح: (فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشياً.. مريم/11) ، والثالث في موافقة الجبال والظباء والحيتان والطير لداود في التسبيح (يسبحن بالعشيّ والإشراق.. ص/18) " (¬1) ، وهذا كسابقه لا معنى له إلا بالحمل على المجاز لما سيأتى من ورود آثار تدل على مشروعية صلاة كانت لهم في هذين الوقتين تقضي بتأدية ركعتين أول النهار - هما أشبه بصلاة الضحى في شريعتنا الغراء - وركعتين قبيل انتهائه. وهناك ما أخبرت الآيات بتسبيحه في الوقتين المباركين بما لا يمكن لنا فهمه ولا يتأتى لنا إدراكه، من نحو ذاك الذى يحدث مما لا يُتصور أن يقع منه كلام نعيه أو صلاة أو سجود نبصره، من الجمادات والحادثات التى يقول سبحانه فى شأنها: (ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والآصال.. الرعد/15) ، ويقول: (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق.. ص/18) . فإن هذا وأضرابه مع دخوله في عموم قول الله تعالى: (تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم.. الإسراء/44) ، لا يتأتى منه - في حدود بشريتنا وفي نطاق معرفتنا- قول ولا يصدر منه فعل إلا ما كان منه على سبيل المعجزة أو الكرامة. ¬

_ (¬1) بصائر ذوي التمييز 2/287.

فالأليق بمثل هذا أن يحمل على معنى الانقياد والتسخير الذى يصدر عن طواعية (¬1) على سبيل الاستعارة بالكناية، أو على وجه الحقيقة على أن يخول الأمر فيه لخالقه فهو سبحانه العليم بأسرار خلقه. وهناك من الآي ما سبق الأمرَ فيها بالتسبيح في الوقتين، الأمرُ بالذكر، فناسب - لكون التسبيح واحداً من أنواعه وفرداً من جملته- أن يجعل من قبيل عطف الخاص على العام، وبالتالي فيكون معنى التسبيح فيه على ظاهره، ولك أن تتأمل مصداق ذلك في قوله سبحانه: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال. رجال.. النور/36، 37) ، وقوله جل ذكره: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلا.. الأحزاب/41، 42" ... كما يُفضّل عند الاقتصار على الذكر في نفس الوقتين كما هو الشأن في نحو قوله تعالى: (واذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً. ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلاً.. الإنسان/25، 26) أن يحمل المطلق فيه على المقيد. فالذي يطمئن إليه الباحث، أن مراعاة هذه الضوابط ووضعها في الاعتبار وملاحظتها عند تحديد المراد من التسبيح أو الذكر في وقتي الغدو والآصال، هو مما يساعد على فهم ما يهدف إليه النص القرآني، ويكون من التكلف والجور التسوية بين النصوص وجعلها على نحو ما فعل جلّ المفسرين على نمط واحد، إما أن يراد منها التنزيه وحمل المعنى على ظاهره بقول (سبحان الله) ، أو يراد منها الصلاة.. هكذا دون ما إبصار لمواقعها ولا إنعام نظر فيما يعين من القرائن على حملها على الوجه الصحيح، وينشأ عن ذلك تحميل النصوص مالا تحتمل أو صرفها عما يدل السياق بقرائن الأحوال على تحديد مراد الله منها. ¬

_ (¬1) ليتوافق مع قول الله تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين.. فصلت/11) .

ولنبحر في أعماق تيك الآيات، كيما يتسنى لنا – من خلال الوقوف على المعاني المقصودة من التسبيح - التعرف على وجهها الصحيح، وما إذا كان المراد بالتسبيح فيها ظاهره الموضوع لها في اصطلاح التخاطب، أم المراد به بمعونة السياق وقرائن الأحوال التجوز، أم أن الأمر فيه، له اعتلاق بهذا وذاك فيكون على ما قال ابن عاشور في المقدمة التاسعة: "فمختلف المحامل التي تسمح بها كلمات القرآن وتراكيبه وإعرابه ودلالته، من اشتراك وحقيقة ومجاز، وصريح وكناية، وبديع ووصل ووقف، إذا لم تفضِ إلى خلاف المقصود من السياق، يجب حمل الكلام على جميعها" (¬1) . ولتكن بداية حديثنا بما يحسن استخدامه من التسبيح، لغير ما وضع له في اصطلاح التخاطب. أولاً: ما يجمل فيه حمل التسبيح بطرفي النهار على المجاز 1- ما يتصل منها بمواقيت الصلاة: وتفريعاً عما سبق ذكره فإننا عندما نجيل البصر في سورتي هود وطه الوارد فيهما بعضاً من الآيات التي تحدثت عن التسبيح طرفي النهار، نجد أن أولى هاتين السورتين مكية عدا ثلاث آيات منها، كما نلحظ أن من بين هذه الثلاث قوله جل ذكره: (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل.. هود/114) ، وبإرجاعنا البصر كرة أخرى إلى ثاني هاتين السورتين نرى أنها كذلك مكية عدا قوله تعالى: (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها. ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى. ولا تمدن عينيك الى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خيراًوأبقى.. طه/130، 131) . ¬

_ (¬1) ينظر المقدمة التاسعة للطاهر ابن عاشورفي التحريروالتنوير1/97.

وهذا يدعونا الى مزيد من التبصر فيما يعين على فهم المراد من التسبيح، فالآيتان اللتان تحدثتا عن طرفي النهار في السورتين، نزلتا بالمدينة أى بعد فرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء والمعراج، وفى إحدهما أمر بالصلاة صراحة، وفيها وفي أختها تحديد لتواقيت الصلاة، وقد أعمل فقهاء الأمة فيهما عقولهم كيما يستنطقوا منهما ومما جاء على شاكلتهما من نحو قوله سبحانه: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرأن الفجر.. الإسراء/78) (¬1) ، مواقيت الصلاة التي فرضها الله على المؤمنين من عباده وجعلها بعد أن كلفهم بالحفاظ عليها، كتاباً موقوتاً، وأمرٌ كهذا يمثل في الإسلام عمود الدين الذي لايقوم إلا به، وأول ما فرض الله على عباده وأول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة وأخر وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته.. يستأهل أن يوجد في القرأن ما يشير إليه ويحدد معالمه. على أن ما استقر في ضمير الباحث هنا يعد من وجهة نظره قرائن حالية بل ولفظية كذلك، ترجح من كفة جعل المراد من التسبيح الصلاة، وتدل على أن المقصود بطرفي النهار: هما صلاتا الصبح والعصر على ما قال به الحسن في إحدى روايتيه، وكما ارتآه قتادة والضحاك وابن زيد والجمهور. ¬

_ (¬1) وكذا قوله: "فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون. وله الحمد في السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون.. الروم/17، 18"

وما ذكره الحافظ ابن كثير في تفسير آية هود من احتمال "أن تكون هذه الآية نزلت قبل فرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء" (¬1) بناء على فرضية الخمس بالمدينة على ما روى عن الحسن، هو من زخرف القول، لوقوع حادثة الإسراء والمعراج قبل الهجرة، وفرضية الصلاة ليلته عند التحقيق، فقد أورد ابن سعد في طبقاته الكبرى أنها كانت قبل الهجرة بثمانية عشر شهراً، كما أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما ما يدل على فرضية الصلاة في تلك الليلة المباركة، ففي سردهما لقصة الإسراء والمعراج بطولها، ذكرا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (ذُهب به إلى سدرة المنتهى، وأوحى الله إليه عندئذ ما أوحى.. وفيها فرضت الصلوات الخمس على المسلسين) ، كما أخرجا قوله - صلى الله عليه وسلم - عند تحدى كفار مكة: (لما كذبتني قريش قمت في الحِجر (¬2) فجلّى الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه) (¬3) يقول صاحب فقه السيرة: "وفي صبيحة ليلة الإسراء جاء جبريل وعلّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيفية الصلاة وأوقاتها، وكان عليه السلام قبل مشروعية الصلاة يصلي ركعتين صباحاً ومثليهما مساءً كما كان يفعل إبراهيم عليه السلام" (¬4) . ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير2/473. (¬2) يعني حجر إساعيل بجوف الكعبة. (¬3) حديث المعراج أخرجه البخاري 3207، 3393، 3430، 3887 ومسلم 164، 265، والترمذي 3346، والنسائي 8/346، 1/217، 223 كلهم من حديث صعصعة المطول بلفظ: (فيما أنا في الحطيم) . (¬4) فقه السيرة للبوطي ص 116.

والقول بأن المدلول اللغوي لـ (الطرَف) وهو نهاية الشيئ، لا يعين على حمل المعنى على الصلاة، يرد عليه بأنه يجوز أن يراد بـ (الطرف) طائفة من الشيىء، فإنه أحد معانيه كما في الصحاح والقاموس (¬1) ، ومما يعد قرينة على صحة ما ذكرت من أمر حمل التسبيح في مثل هذا المقام على معنى الصلاة، وجعل ذلك من قبيل المجاز المرسل لعلاقة الجزئية لإطلاق البعض وهو التسبيح وإرادة الكل، ما أخرجه الحاكم عن فضالة عن وهب الليثي من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: (حافظ على العصرين) قال: قلت وما العصران يا رسول الله؟ قال: (صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) .. فإذا أُضيف إلى هذا ما أفاده ذكر أوقات الليل فى الآيات سالفة الذكر من دلالة ظاهرة على تعيين المراد وتحديد الصلوات الأخرى المتعينة فيها ازداد الأمر وضوحاً وتأكد لنا صحة ما ارتأيناه، فقد ترجح لدى كثير من أهل التأويل أن صلاة الزلف الواردة في قوله جل ذكره: (وزلفاً من الليل) مرا د بها صلاتا المغرب والعشاء، وهذا - على ما ترجح لديّ أيضاً- هو المختار لكونه الأدخل في حمل مقابله وهو (طرفي النهار) على ظاهره، والأوفق مع قوله جل ذكره في آية طه: (ومن آناء الليل) بعد قوله: (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها.. طه/130، 131) (¬2) وقوله في آية ق (ومن الليل فسبحه) بعد قوله: (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب.. ق/39، 40) . ¬

_ (¬1) ينظر القاموس المحيط 3/162، والصحاح، ولسان العرب4/2659 (مادة طرف) . (¬2) ينظر الآلوسي 12/234 مجلد 7، 16/411 مجلد 9، 26/290 مجلد 14 وينظر حاشية الشهاب 7/380.

وما كان كذلك كان أولى في التقديم وفي الحمل على معنى الصلاة مما قيل من أن معنى (زلفاً) قُرَباً، فيكون حقه على هذا -كما في الكشاف- أن يعطف على الصلاة أي أقم الصلاة طرفي النهار وأقم الصلاة زلفاً من الليل، أي صلوات تتقرب بها إلى الله عز وجلّ كان واجباً عليه - صلى الله عليه وسلم -، أو العشاء والوتر على ما ذهب إليه أبوحنيفة، أو المجموع كما يقتضيه ظاهر الجمع، (¬1) إذ القول بأىٍّ من هذه الآراء لا يخلو عن كدر، وبخاصة مع ما نقله ابن كثير والشوكاني عن "الحسن فى رواية ابن المبارك عن مبارك بن فضالة عنه (وزلفاً من الليل) يعني المغرب والعشاء، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (هما زلفا الليل المغرب والعشاء) كذا قال مجاهد ومحمد بن كعب وقتادة والضحاك أنها صلاة المغرب والعشاء" (¬2) ، فضلاً عن أن تكرار التأدية لصلاتي المغرب والعشاء يمكن أن يتحقق معه معنى الجمع، ناهيك عما سبق ذكره أن آية هود وجلَّ ما جاء على شاكلتها مما تقدم، قد نزل بالمدينة، وهذا يتلائم معه ما ذكرنا. ويأتي في معنى (زلفاً من الليل) قوله في آية طه: (ومن آناء الليل) إذ الآناء - وهو بوزن أفعال ومفرده (إني) و (أنو) بالياء والواو وكسر الهمزة، و (إنا) بالكسر والقصر- هو على ما ترجح "وقتا المغرب والعشاء" (¬3) قال الراغب في مفرداته: "قال الله تعالى: (غير ناظرين إناه.. الأحزاب/53) أى وقته" (¬4) . ¬

_ (¬1) ينظر الآلوسي 12/234 مجلد 7 والكشاف2/297 وحاشية الشهاب 5/248، وابن كثير 3/175. (¬2) تفسير ابن كثير 2/473 وفتح القدير 2/532. (¬3) التحرير 16/338 مجلد 8. (¬4) المفردات في غريب القرآن ص 29.

وفي إشارة صريحة لمعنى التسبيح في الليل الوارد في آية ق "ذهب غير واحد إلى أن المراد بالتسبيح الصلاة على أنه من إطلاق الجزء أو اللازم على الكل أو الملزوم، وعليه فالمراد بالصلاة قبل الطلوع الصبح وقبل الغروب العصر، قاله قتادة وابن زيد والجمهور وأخرجه الطبراني في الأوسط وابن عساكر عن جرير بن عبد الله مرفوعاً، (ومن الليل) صلاة العتمة (وإدبار السجود) النوافل بعد المكتوبات كذا أخرجه ابن جرير عن ابن زيد" ونص عليه الآلوسي في تفسيره. (¬1) والوجه في الاهتمام بـ (آناء الليل) وزلفه، "أن الليل وقت تميل فيه النفوس إلى الدعة، فيُخشى أن يتساهل في أداء الصلاة فيه" (¬2) وعلل له الفخر الرازي بقوله: "لأن الجمعية -أي جمع القلب والهمة- فيه أكثر، وذلك لسكون الناس وهدوء حركاتهم وتعطيل الحواس عن الحركات وعن الأعمال، ولذلك قال سبحانه وتعالى: (إن ناشئة الليل هى أشد وطئاً وأقوم قيلاً.. المزمل/6) وقال: (أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر ويرجو رحمة ربه.. الزمر/9) ولأن الليل وقت السكون والراحة فإذا صرف إلى العبادة كانت على الأنفس أشق وللبدن أتعب، فكانت أدخل في استحقاق الأجر والفضل" (¬3) . ¬

_ (¬1) الآلوسي 26/290 مجلد 14. (¬2) التحرير 6/338 مجلد 8. (¬3) الرازي 11/70.

وبرأيي أن النكتة البلاغية لجمع (طرف) فى قوله جل شأنه: (ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار) على الرغم من أن للنهار طرفان ورد ذكرهما فى قوله: (وأقم الصلاة طرفي النهار) ، وقوعه في حال الجمع معمولاً لـ (سبح) ووقوعه في حال التثنية معمولاً لـ (أقم الصلاة) وفي هذا ما يشير إلى أن الصلاة وإن كان الأمر فيها قاصراً على طرفي النهار أوله وآخره، وهما على ما ترجح (الفجر والعصر) فإنه لا يعني أن يخلو سائر يوم المسلم من تسبيح لله وشغل للسان بذكره، وأنه إذا كان للنهار طرفان يتم شغلهما بتأدية الصلاة التي لا تشغل حيزاً كبيراً من الوقت، فإن ثمة طرفان آخران يستغرقان سائر ساعات النهار ينبغي ملؤهما مع سابقيهما، بالتقديس والتنزيه لصاحب العظمة والكبرياء جل جلاله، أولهما عند انتهاء النصف الأول من الطرف الأول من النهار وهو طرف سير الشمس في قوس الأفق، وبلوغ سيرها وسطه، والمعبر عنه بالزوال، والثاني عند ابتداء النصف الثاني من القوس والذي يوافق الشطر الأول من النصف الثاني من النهار، فيكون للنهار أربعة أطراف أوله وآخره، وآخر نصفه الأول وأول نصفه الثاني (¬1) والكل مستغرق بالتسبيح ولذا نزع الخافض.. وتكون الدلالة على فضيلة الصبح والعصر في الآية المجموع فيها مفردة (الطرف) من أوجه ثلاثة هي: ¬

_ (¬1) ويسوغ مع هذين الأخيرين إدخال صلاتي الضحى والظهر لكونهما في نهاية النصف الأول من طرف النهار الأول، وبداية النصف الآخر من الشطر الثاني له. ويكون حمل التسبيح فيهما حينذاك على المجاز لإطلاق البعض وإرادة الكل، وهو الصلاة لاشتمالها عليه وهو الموافق لما روي عن ابن عباس من أنه حمل الغداة على وقت الضحى [ينظر تفسير الآلوسي 13/58 مجلد 10] .

التقديم في قوله: (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) ، والتكرير بذكرهما ثانية مندرجين تحت (أطراف النهار) ، وإرادة الاختصاص بالذكر بعد التعميم المشتمل على ساعات النهار، أو بضميمة قوله (آناء الليل) ، المستغرق لجميع ساعات اليوم والليلة اهتماماً، كذكر جبريل بعد الملائكة في قوله: (تنزل الملائكة والروح فيها.. القدر/4) ، والصلاة الوسطى بعد الصلوات جميعاً في قوله: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى.. البقرة/238) ، وذلك لضيق وقت آخر النهار المخصص لصلاة المغرب، ولكون الصبح وقت نوم (¬1) ، وإن كنت لا أرى بأساً في الاستئناس في ذلك من إمكانية أن يكون السر في جمع طرف حاصلاً من كون الطرف يتكرر في كل نهار ويعود، فتكون (أل) في النهار للجنس الشامل لكلّ نهار ويكون الجمع باعتبار تعدد النهار وأن لكلٍّ طرفان، أو يكون من باب إطلاق الجمع على المثنى وهو متسع فيه في العربية عند أمن اللبس كقوله تعالى: (فقد صغت قلوبكما.. التحريم/4) ، والذي حسن جمعه هنا على أىٍّ وقوعه مشاكلة لجمع آخر هو قوله: (ومن آناء الليل) (¬2) ، ومهما يكن من أمر فقد أجمع المتأولون على أن التسبيح في آية طه بمعنى الصلاة، ساق هذا الإجماع ابن عطية وعلل هل الطاهر بقوله: "لذلك صار فعل التسبيح منزلاً منزلة اللازم لأنه في معنى صلّ" (¬3) ¬

_ (¬1) ينظر الكشاف 2/559، وحاشية الشهاب 6/407، ونظم الدرر 5/57، والتحرير 16/ 339 مجلد 8. (¬2) ينظر التحرير 16/339 مجلد 8 والآلوسي 16/412 مجلد9. (¬3) التحرير 2/ 327 مجلد 12.

والنكتة في تصدير الآيتين الكريمتين بالأمر بالصبر قبيل الأمر بالتسبيح، الإعلام بأعظم ما يستعان به في شتى مصائب الدنيا، وهذا مما يعضد من شأن حمل التسبيح على معنى الصلاة، بل ويعين على التشيع له في سائر ما دلت القرائن على استعماله في ذات المعنى، إذ هو الأنسب مع الأمر بالصبر ليكون إرشاداً لما تضمنه قوله تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة.. البقرة/45) (¬1) . على أن ما قيل في شأن الآيات الآمرة بالتسبيح، المحددة لمعالم أوقات الصلاة، وكذا ما ذكر في أمر نزولها بالمدينة دون سائر آيات السورة التي وردت فيها.. يقال مثله في قوله سبحانه في سورة الروم: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون.. الروم/17) ، ففي المصاحف المتداولة بين أيدينا أن هذه الآية، هي الآية الوحيدة من بين سائر آيات السورة البالغ عددها ستين آية، التي نزلت بالمدينة المنورة - على ساكنها أفضل الصلاة والسلام- الأمر الذي يومِىء إلى أن التسبيح الوارد فيها - بالنظر إلى تلك القرينة- يراد به الصلاة، وأن المراد بـ (عشياً) بعدها، هو صلاة العصر لكونه المتصل به والمقابل لقوله: (وحين تصبحون) ، بل إن هذا مما نص عليه الدامغاني في الوجوه والنظائر ودل عليه الأثر فقد أخرج عبد الرازق والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والطبراني والحاكم وصححه، عن أبي رزين قال: جاء نافع بن الأزرق إلى ابن عباس فقال: هل تجد الصلوات الخمس فى القرآن؟ فقال: نعم. فقرأ (فسبحان الله حين تمسون) : صلاة المغرب، (وحين تصبحون) : صلاة الفجر، (وعشياً) : صلاة العصر (وحين تظهرون) : صلاة الظهر ... وأخرج ابن أبى شيبة وابن جرير وابن المنذر عنه قال: جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة (فسبحان الله حين تمسون) : المغرب والعشاء، (وحين تصبحون) : الفجر، (وعشياً) : العصر، (وحين تظهرون) : الظهر.. وذهب الحسن إلى نحو ذلك (¬2) ¬

_ (¬1) ينظر الآلوسي16/413مجلد9. (¬2) ينظر الكشاف 3/217 والآلوسي 21/42 مجلد 12وفتح القدير4/222 والوجوه والنظائر1/ 446.

ولا يستقيم لنا مع هذا، ما ذكره ابن عاشور من أن التسبيح في هذه الأوقات "سلك به مسلك الإطناب لأنه مناسب لمقام الثناء" (¬1) لأن هذا التعليل ناشىء عن القول بحمل التسبيح على ظاهره، والآثار ترده ... كما لا صحة لما اختاره الرازى وتابعه فيه - بقوة وبحماس زائدين- الآلوسي، من حمل التسبيح في الآية الكريمة على ظاهره من معنى التنزيه، زاعمَين أنه "أقوى والمصير إليه أولى، لأنه يتضمن الأول" (¬2) يعنى معنى الصلاة.. أما أولاً: فلما ذكرت، وأما ثانياً: فلأن عكس ما قالاه هو الصحيح، لكون الصلاة مشتملة عليه وعلى غيره. وإذا كان الوجه فيما اختاراه وتعصبا له تنزيهه سبحانه عن صفات النقص ووصفُُه بصفات الكمال، بالأمر المطلق الذي لا يختص بنوع دون نوع فيكون الأمر به أمر بالصلاة (¬3) ، فإن فيما تركاه يتناول التنزيه بالقلب وهو الاعتقاد الجازم، وباللسان مع ذلك وهو الذكر الحسن، وبالأركان معهما وهو العمل الصالح الذى يأتي على قمته التلبس بالصلاة عمود الدين ورأسه في الإسلام، وتلك - وأيم الله - هى ثمرة التنزيه وذروته، لكونها ثمرة الثاني وهما معاً ثمرة الأول ... ذلك أن الإنسان إذا اعتقد شيئاً ظهر من قلبه على لسانه، وإذا قال ظهر صدقه في مقاله، وإذا عمل ظهرت حجته في أحواله وأفعاله، فاللسان ترجمان الجنان، والأركان برهان اللسان. وعليه فتنزيهه سبحانه بالصلاة من قِبل العبد برهان على تنزيهه من قِبله لسواها، وهي لاشتمالها على الذكر باللسان والقصد بالجنان والعمل بالأركان -لا جرم- كانت أفضل الأعمال، فهي في التحقيق تنزيه له سبحانه بما هو أعم وأشمل. ¬

_ (¬1) التحرير والتنوير 21/65 مجلد 10. (¬2) الرازي 12/447 والآلوسي 2/44 مجلد 12. (¬3) ينظر السابقين.

ولقد ناقض الفخر الرازي نفسه تناقضاً شديداً حين ألمع في موطن آخر إلى أن التسبيح في آية الروم عينها مراد به الصلاة، بل راح - وهو الذى تعصب بشدة لحمل المعنى فيها على ظاهره- راح يستدل بها ويجعلها عمدة في الاحتجاج على إفادة التسبيح لمعنى الصلاة. فقد ذكر في تفسيره لقول الله تعالى مخاطباً نبيه زكريا عليه السلام: (واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشي والإبكار.. آل عمران/41) ، أن قوله: (وسبح) المراد منه (وصلِّ) لأن الصلاة تسمى تسبيحاً، قال تعالى: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون) - واستطرد يقول مفصحاً عن علة مجازيتها – وأيضاً الصلاة مشتملة على التسبيح، فجاز تسمية الصلاة بالتسبيح" (¬1) . فما يكون موقف الآلوسي من هذا ياترى وهو الذى كان ينبغي عليه أن يأخذ هذا الكلام ويبني عليه موقفه متكئاً على ما ورد من الآثار، بدل أن يقول: "وأنا بالإمام اقتدى فى دعوى أولوية الحمل على الظاهر" (¬2) ، وبدل أن يتكلف له ويبني عليه رأيه مكرراً ومؤكداً على ما ذكره الفخر وقائلاً: "واختار الإمام الرازي حمل التسبيح على التنزيه فقال: إنه أقوى والمصير إليه أولى لأنه يتضمن الصلاة" (¬3) ، على الرغم من بطلان هذا الادعاء، وأن العكس من ذلك هو الصحيح؟ على أن قولنا المدعوم بالقرائن وبالآثار التى تقطع بمفاد التسبيح في حق آية الروم وما يجمل حمل معناه عليه بمعونة السياق، لا يمنعنا بحال – إحقاقاً للحق - من التسليم بما ذكره ابن عاشور من أن ما ذكر بهذا الصدد لا يعنى أن الصلوات الخمس وأوقاتها هى المراد تحديداً من الآية، أو أن الآية نص قطعي فيها وفي تحديد أوقاتها، ولكن نقول بأن الآية الكريمة "نسجت على نسج صالح لشموله الصلوات الخمس وأوقاتها وذلك من إعجاز القرأن لأن الصلاة وإن كان فيها تسبيح ويطلق عليها السُّبحة فلا يطلق عليها: سبحان الله" (¬4) . ¬

_ (¬1) الرازي 4/205. (¬2) الآلوسي 21/44 مجلد 12. (¬3) السابق وينظر الرازي 12/447. (¬4) ينظر التحرير 21/66 مجلد 10.

والقول بهذا أيّاً ما كان الأمر فيه يقتضي أن يكون الخطاب موجهاً - بالطبع - إلى المؤمنين (¬1) ، ومناسبة ذلك مع سابقه أنه سبحانه لما وعدهم بحسن مصيرهم فى قوله قبل: (ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون. فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم فى روضة يحبرون.. الروم/14، 15) .. لقَّنهم شكر نعمته بإقامة الصلوات في أجزاء اليوم والليلة (¬2) ، و (سبحان) على هذا مصدر واقع بدل فعل الأمر بالتسبيح، والتقدير (فسبحان الله سبحاناً) وعليه تُخرّج رواية نافع بن الأزرق سالفة الذكر، ويكون المراد بقوله (سبحان) أمر بأن يقولوا (سبحان الله) وهو مجاز كما قلنا عن الصلاة، أو كناية عنها، لأن الصلاة تشتمل على قول (سبحان ربي العظيم.. سبحان ربي الأعلى) . وقد حدا القول بجعل المراد من التسبيح في آية الروم التنزيه وحمل الأمر على ظاهره خلافاً لما ذكرنا من حملٍ وتوجيه خطاب ... حدا أصحابه القائلين به لأن يتعسفوا ويجعلوا الخطاب في قوله (تمسون) و (تصبحون) و (تظهرون) تابعاً للخطاب الذي قبله في قوله: (الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون.. الروم/11) ، فيكون بهذا خطاباً موجهاً للمشركين على طريقة الالتفات من ضمائر الغيبة المبتدئة من قوله: (أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون. أولم يسيروا في الأرض فينظروا.. الروم/8، 9) ، ويكون المقصود من قول (سبحان الله) إنشاء تنزيه لله عما نسبوه من العجز عن إحياء الناس بعد موتهم، وإنشاء ثناء عليه.. علماً بأن هذا الخطاب يفصل بينه وبين الأمر بالتسبيح بالإمساء والإصباح خمس آيات، وفي ذلك فضلاً عما دلت القرائن والآيات على نقيضه، من البعد والتكلف ما لا يخفى. ¬

_ (¬1) وليس موجهاً - كما زُعم- إلى المشركين على طريقة الالتفات على ما سنذكر. (¬2) ينظر التحرير 21/66 مجلد 10.

والزعم بأن الفاء في قوله (فسبحان الله) هي فاء الفصيحة وهي تقتضي اتصال ما بعدها بما قبلها، يرد عليه أن هذا ليس شرطاً فيها، وهو إن سلم فإنه لا ينافي كون الخطاب لآهل الإيمان، ولعل هذا ما أشار إليه أبو السعود بقوله: "الفاء لترتيب ما بعدها بما قبلها، أي إذا علمتم ذلك – يعني مصير من جاء ذكرهم في قوله جل وعلا (وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون.. الروم /16) – فسبحوا الله تعالى تسبيحه اللائق في هذه الأوقات واحمدوه، فإن الإخبار بثبوت الحمد له تعالى ووجوبه على المميزين من أهل السموات والأرض في معنى الأمر به على أبلغ وجه وآكده" (¬1) ، أو أنها للاستئناف أو للابتداء. والادعاء بأن الأنسب والأغلب أو المتعين في استعمال مصدر (سبحان) ، أن يجعل الخطاب فيه موجهاً للمشركين لكثرة وروده في القرأن على هذا النحو في مثل قوله: (سبحانه وتعالى عما يشركون.. يونس/18، النحل/1، الروم/40، الزمر/67) ، وعلى ما تقضيه أقوال أئمة اللغة (¬2) .. يردّه أيضاً- بضميمة القرائن والأدلة سالفة الذكر- هذه الآية الكريمة من سورة الروم، وكذا ما جاء فى نحو قوله جل ذكره فى مخاطبة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: (وسبح بحمد ربك حين تقوم.. الطور/48) ، وقول الأعشى في داليته: (وسبح على حين العشيّات والضحى) . ¬

_ (¬1) تفسير أبي السعود 7/ 54مجلد 4. (¬2) ينظر التحرير 21/65 مجلد10.

وفي الاعتراض بجملة (وله الحمد في السموات والأرض) في آية الروم بين الظروف إشعار بأن تسبيح المؤمنين لله ليس لمنفعة تعود عليه سبحانه فهو الغني عن العالمين، بل لمنفعة المسبحين أنفسهم، لأن الله محمود في السموات والأرض من غير وقوع الحمد منهم، فهو غني عن حمدهم، وقد أفاد تقديم المجرور في (وله الحمد) ، القصر الادعائي لجنس الحمد على الله تعالى، لأن حمده هو الحمد الكامل على نحو قولهم: فلان الشجاع (¬1) . وتوسيطه بين أوقات التسبيح إنما هو للاعتناء بشأنه والإشعار بأن حقها أن يجمع بينهما كما ينبئ عنه قوله تعالى: (ونحن نسبح بحمدك.. البقرة /30) ، وقوله: (فسبح بحمد ربك.. الحجر /98، والنصر /3) (¬2) ، ولعل هذا يفسره ما جاء عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي) يتأول القرآن (¬3) ، وعنها أنها فقدته - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة، فظنت أنه ذاهب إلى بعض نسائه، فتحستسه فإذا هو راكع أو ساجد يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت) فقالت: بأبي أنت وأمي، إني لفي شأن وإنك لفي شأن آخر (¬4) . 2- ما جاء في حق الأنبياء السابقين: ¬

_ (¬1) ينظر التحرير 21/ 66 مجلد 10والرازي12/ 451. (¬2) ينظرتفسير أبي السعود 7/ 54 مجلد 4. (¬3) رواه أحمد والبخاري ومسلم. (¬4) رواه أحمد ومسلم والنسائي.

هذا وقد ورد في التنزيل صدور الأمر بالتسبيح في حق بعض الأنبياء السابقين لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كما في قوله جل شأنه في حق زكريا عليه السلام: (قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشي والإبكار.. آل عمران/41) ، وقوله: (قال رب اجعل لى آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سوياً. فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوه بكرة وعشياً.. مريم/10،11) ، وكذا قوله فى حق نبى الله داود عليه السلام بعد توجيه الخطاب لخاتم المرسلين - صلى الله عليه وسلم -: (اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب. إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق.. ص/17، 18) . وقد كان لأمر التسبيح الصادر من الله على سبيل الإلزام فى حق نبيي الله زكريا وداود، ما يستدعي التعجب من بديع صنع الله، ويستوجب – من ثمّ - التسبيح على ما أعطى سبحانه من نعم وما أسبغ من فضل، فقد طمع زكريا عليه السلام - بعد أن رأى أن الله يرزق مريم عليها السلام فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، أن يرزقه الله الولد، وهو وإن كان شيخاً كبيراً قد وهن منه العظم، واشتعل فيه شيب الرأس، وكانت امرأته هي الأخرى مع ذلك كبيرة وعاقراً، إلا أنه لم يقطع الرجاء في نيل ما تأمله وصبت نفسه إليه، ثقة منه في رحمة الله وقدرته على خرق نواميس الكون، فراح يسأل ربه ويناديه نداء خفياً وكان الجواب الفوري، الماثل هو ودعاؤه في قول الله تعالى: (رب هب لى من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء. فنادته الملائكة وهو قائم يصلي فى المحراب أن الله يبشرك بيحيى.. آل عمران/28، 29) .

وقد أعرب بعض المفسرين عن مدى تعجبهم لطلب زكريا، ودعاهم ذلك لأن يقولوا إنما أخفى دعاءه - يعني المفاد من قوله تعالى: (إذ نادى ربه نداء خفياً.. مريم/3) - لئلا ينسب في طلب الولد إلى الرعونة لكِبَره، كذا حكاه الماوردي، وكان الوازع لدى زكريا عليه السلام خوفه أن تتصرف عصبته من بعده في الناس تصرفاً سيئاً، فسأل الله ولداً يرثه في النبوة ويرث من آل يعقوب ويكون مرضياً عند ربه، واستجاب الله دعاءه وكان من عجيب ما انتابه من إجابة الله له، أن طلب من ربه أن يجعل له علامة يستدل بها على وجود الولد منه كيما تستقر نفسه ويطمئن قلبه، ولِتلك أجابه سبحانه أيضاً و (قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشي والإبكار.. آل عمران/ 41) ، أي جعلت آيتك التي طلبت، أن تحبس لسانك عن الكلام ثلاثة أيام بلياليهن وأنت صحيح سويّ قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة ووهب والسدي وقتادة وغير واحد، اعتُقل لسانه من غير مرض ولا علة، وقال ابن زيد بن أسلم كان يقرأ ويسبِّح ولا يستطيع أن يكلم قومه إلا إشارة، ولهذا قال في آية مريم (فخرج على قومه من المحراب) يعني الذي بُشر فيه بالولد (فأوحى إليهم) بإشارة خفيفة سريعة (أن سبحوا بكرة وعشياً) موافقة له فيما أُمر به في هذه الأيام الثلاثة زيادة على أعماله وشكراً لله على ما أولاه، كذا قال مجاهد ووهب وقتادة (¬1) ، ويحتمل أنهم كانوا يصلُّون معه في محرابه هاتين الصلاتين فكان يخرج إليهم فيأذن لهم – يعني بكلام - فلما اعتُقل لسانه خرج إليهم كعادته فأذن لهم بغير كلام" (¬2) . ¬

_ (¬1) ينظر تفسير ابن كثير 3/114وما بعده والرازي 10/413. (¬2) الرازي 10/413 بتصرف.

ولكون الأمر في حق داود لا يقل غرابة عما كان في حق زكريا فقد استوجب هو الآخر تسبيحاً وتنزيهاً لصاحب القوى والقدر جلّ جلاله، وعن غرابة ما في أمره يقول سبحانه: (إنا سخرنا الجبال معه) أي جعلناها مصاحبة له منقادة ذلولاً كالجمل الأنف (يسبحن بالعشي والإشراق) . وقد تباينت كلمة أهل العلم في شأن التسبيح في حق هذين النبيَينِ المباركين -عليهما وعلى نبينا أفضل السلام وأزكى التسليم - فارتأى بعضهم أن المراد بالتسبيح في حقهما هو التسبيح اللساني بقول (سبحان الله) ، فحملوا بذلك، الأمر على ظاهره.. والوجه فيه بمقتضى قولهم، أن العادة جارية أن كلّ من رأى أمراً عجب منه أو رأى فيه بديع صنعة أو غريب حكمة يقول (سبحان الله.. سبحان القادر المقتدر) ، وهكذا كان الأمر في حقهما فزكريا- عليه السلام - لما رأى حصول الولد من شيخ وعاقر، عجب من ذلك فسبح وأمر قومه بالتسبيح، وبمثل ذلك فعل داود عندما عاين الجبال تؤوب معه وتشاركه - بطريق الاقتداء به - عبادة الله تعالى وتقديسه.

وذهب الراسخون منهم إلى أن "المراد بالتسبيح الصلاة مجازاً بعلاقة الاشتمال، وهو المروي عن ابن عباس وقتادة وجماعة" (¬1) وهذا يعني أن ثمة صلاة خاصة بهم كانت تؤدى - كما سبقت الإشارة - في هذين الوقتين، بواقع ركعتين في أول النهار وركعتين في آخره، والظاهر أن هذه من بقية ما ورثوه عن إبراهيم- عليه السلام - … وقد كان نبينا صلوات الله وسلامه عليه، يقتدي بهما وبه في صلاته طوال فترة بقائه بمكة قبل أن تفرض عليه الصلوات الخمس، لكونهما ولكونه داخليِن فيمن قال سبحانه في حقهم آمراً (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده.. الأنعام/90) ، يقول البوطي: "كان عليه السلام قبل مشروعية الصلاة يصلي ركعتين صباحاً ومثليهما مساء (¬2) كما كان يفعل إبراهيم - عليه السلام - " (¬3) . ¬

_ (¬1) الآلوسي 16/103 مجلد 9. (¬2) والزعم بأنهما كانتا ركعتين في أي وقت اتفقت كما روي عن الحسن [ينظر الكشاف 3/217والآلوسي 21/44 مجلد 12، 24/118 مجلد 13 والبيضاوي وحاشيته 7/380، 8/274] يرده تعيين وقتيهما بالعشي والإبكار ... وما ذكر في نظم الدرر من أن الصلاتين كانتا الصبح والعصر، و"أنه لم يكن أمر في أول الإسلام بغيرهما، وبهما أمر من كان قبلنا، وهما أفضل الصلوات، وكانتا ركعتين ركعتين" [نظم الدرر 8/276] ، يرد عليه ما جاء في آية (ص) من قوله تعالى: (بالعشي بالإشراق) ، إذ من المعلوم أن الصبح إنما يكون قبل شروق الشمس. (¬3) فقه السيرة ص116.

والحق أن الأدلة التي اتكأ عليها أولئك الراسخون من غير ما ذكرنا، ترشح القول بحمل التسبيح على الصلاة، بل وترجح من كفة الذهاب إلى أن الأولين منهما يمثلان في شريعتنا ركعتي الضحى، فقد ذكروا أن تخصيص هذين الوقتين بالذكر واختصاصهما بمزيد شرف، وشدة الموافقة فيهما لقوله تعالى: (أقم الصلاة طرفي النهار.. هود/114) يصلح أن يكون سبباً لتعيينهما للصلاة والعبادة، فإن لفضيلة الأزمنة والأمكنة أثراً في فضيلة ما يقع فيهما من العبادات وهذا أصفى (¬1) ، ويشعر به مجيئ الأمر بالتسبيح في آية آل عمران عقب الأمر بالذكر الكثير، والتصريح فيها بقيام زكريا - عليه السلام - في محراب الصلاة، وذلك في قوله: (فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب.. آل عمران/39) ، وكذا قوله في آية مريم: (فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشياً.. /مريم11) ، كما يشعر به تقييد الوقتين بالباء كما في آيتي آل عمران وص، أو بالظرفية كما في آية مريم، وكذا الاحتجاج على مشروعية صلاة الضحى بآية (ص) . ¬

_ (¬1) ينظر الآلوسي 23/257مجلد 13 والرازي 4/205.

ففضلاً عما اتفق المفسرون عليه من جواز إطلاق التسبيح عليها بقولهم عنها: (سُبحة الضحى) أي صلاة الضحى، وبما روي عن عائشة في شأنها: (وإني لأسبحها) أي لأصليها (¬1) ، فقد ورد ما يدل صراحة على أنها هي بعينها، من ذلك ما جاء عن أم هانئ قالت: (دخل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا بوَضوء فتوضأ ثم صلى الضحى، وقال يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق) (¬2) ، وعن طاووس عن ابن عباس قال: هل تجدون ذكر صلاة الضحى في القرآن، قالوا: لا، فقرأ (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق) ، وقال: كان يصليها داود عليه السلام، وقال: (لم يزل في نفسي شيئ من صلاة الضحى حتى وجدتها في قوله: (يسبحن بالعشي والإشراق) (¬3) ، وهي رواية عبد الرزاق وعبد بن حميد عن عطاء الخراساني عنه، وفي رواية أخرى عنه: ماعرفت صلاة الضحى إلابهذه الآية، وثالثة أخرجها الطبراني في الأوسط وابن مردويه عنه أيضاً قال: كنت أمر بهذه الآية (يسبحن بالعشي والإشراق) ، فما أدري ما هي حتى حدثتني أم هانئ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلّى يوم فتح مكة صلاة الضحى ثمان ركعات.. فقال ابن عباس: ظننت ان لهذه الساعة صلاة لقوله تعالى: (يسبحن بالعشي والإشراق) ، ولأهل الأثر والحديث في صلاة الضحى كلام طويل، وقد ورد فيها كما قال الشيخ ولي الدين العراقي أحاديث كثيرة مشهورة حتى قال محمد بن جرير الطبري: إنها بلغت مبلغ التواتر ومن ذلك حديث أم هانئ الذي في الصحيحين، وكذا ما رواه أبو داود من طريق كريب عنها، أنها قالت: صلّى عليه الصلاة والسلام سُبحة الضحى، ومسلم في كتاب الطهارة من طريق أبي مرّة عنها أيضاً، وفيه ثم ¬

_ (¬1) الرازي 10/413. (¬2) أخرجه الطبراني كما في المجمع2/238 والسيوطي في الدرالمنثور 5/298وابن مردويه مرفوعاً وكرره موقوفاً، وقال الهيثمي: فيه حجاج بن نصير، ضعفه المديني وجماعة ووثقه ابن معين وابن حبان. (¬3) الرازي13/296 وينظر الكشاف3/364 وابن كثير4/30.

صلى ثماني ركعات سبحة الضحى، وابن عبد البر في التمهيد من طريق عكرمة بن خالد أنها قالت: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة فصلى ثمان ركعات، فقلت ما هذه الصلاة؟ قال: هذه صلاة الضحى (¬1) . والزعم بأن تلك الصلاة كانت صلاة شكر من قِبَل النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك الفتح العظيم صادفت ذلك الوقت، أو أنها كانت قضاء عما شغل به - صلى الله عليه وسلم - تلك الليلة من حزبه فيها، خلافُ ظاهر الخبر السابق عنها (¬2) ، وما جاء عن عائشة بنفي صلاة النبي لها حمله القائلون بالإثبات، على نفي رؤيتها ربما في بداية مشروعيتها، وذلك لما ورد عنها بعد ذلك من إثبات كما في نحو ما رواه مسلم وأحمد وابن ماجة أنها قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى أربعاً، ويزيد ما شاء الله تعالى.. وقد شهد أيضاً بأنه عليه الصلاة والسلام كان يصليها على ما قال الحاكم، أبو ذر الغفاري وأبو سعيد وزيد بن أرقم وأبو هريرة وبريدة الأسلمي وأبوالدرداء وعبد الله بن أبي أوفى وعتبان بن مالك وعتبة بن عبد السلمي ونعيم بن همام الغطفاني وأبو أمامة الباهلي وأم هانئ وأم سلمة. ومن القواعد المعروفة أن المثبِت مقدم على النافي، على أن رواية الإثبات أكثر بكثير من رواية النفي وتأويلها أهون من تأويل غيرها، وتمام الكلام في ذلك في كتب الحديث والفقه وحسبنا منه ما ذكرنا مما اقتضاه المقام (¬3) . ¬

_ (¬1) ينظر روح المعاني23/257مجلد 13. (¬2) ينظر السابق. (¬3) السابق23/257، 258، 256 مجلد 13..والحواشي الشهابية8/136.

والحق أن ماسيق قبلاً من أمر الصلاتين اللتين كان يؤديهما زكريا في محرابه وأمر بهما قومه، وما ذكر هنا في حق داود عليه السلام، وماقيل في أمر استنباط المفسرين من أنه حيث كانت صلاة لداود وقصَّت على طريق المدح عُلم منه مشروعيتها، وأنه عليه السلام كان يصلي مسبحاً فيهما … لمما يستجمع منه كيفية صلاة من كان قبلنا ويستشف من خلاله أن صلاة البكرة أو الإشراق كانت – بالإضافة إلى ركعتين أخريين وقت العصر بالعشي – مفروضة في حق الأمم السابقة، وأن ذلك أضحى شرعاً لنا حتى فرضت الصلوات الخمس، فصارت ركعتا الإشراق بعد فرض الصلوات سنة في حق هذه الأمة، وأن هذا العمل – بموجب قوله تعالى في حق نبينا: (أولئك الذين هدى الله فبهداه اقتده.. الأنعام/90) ، وقوله في حق أمته: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر.. الأحزاب/21) ، وبموجب تقرير شرعنا لها إضافة لما خص الله هذه الأمة ونبيها به – ملزم لنا ويُعمل به. كما يستكنه مما سبق أن ما روي في الصحيح عن عائشة من أن الصلاة فرضت ركعتين فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أُقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر (¬1) .. مرجح لما قلنا من أن الصلاة المفروضة في بداية الأمر – أعني قبل فرضية الصلوات الخمس، وطوال فترة بقائه - صلى الله عليه وسلم - بمكة - كانت ركعتي الضحى ومثليهما بالعشي، وبعد الأمر بالخمس ليلة الإسراء أقرت الرباعية منها على حالها ركعتين ركعتين في السفر وزيدت في الحضر، وعليه فما نقل عن أبي العالية من أن الصلاتين الواجبتين في ابتداء الحال كانتا متعينتين – وتحديداً - بصلاة الصبح والعصر (¬2) ، فيه نظر. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري 350، 1090ومسلم685وأبو داود1198والنسائي1/225، 226 وأحمد1/234والبيهقي3/143وكلهم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. (¬2) ينظر الرازي10/413، 11/594.

وهذه وإن كانت إطالة لأمر فقهي إلا أن الذي دعى إليها كثرة ما دار بين أهل التأويل من لغط حول مجازية التسبيح في الآيات التي مرت بنا، فهي إطالة استدعاها المقام والقصد منها إثبات صحة ما ارتأيناه من حمل التسبيح على المعنى المجازي له وهو الصلاة. هذا وقد أورد الحافظ ابن كثير طرفاً مما كان عليه نبي الله داود من أمر العبادة مما يعد مَعْلماً لهذه الأمة، وزاداً لها في طريقها إلى الله، كما أفاد في تفسيره أن جوانب تعبده عليه السلام لم تكن قاصرة على ما ذكرنا من صلاة ركعتين بكرة ومثليهما عشياً، ونقل عن قتادة قوله: (أُعطي داود عليه الصلاة والسلام قوة في العبادة وفقهاً في الإسلام) ، وذكر أنه (كان يقوم ثلث الليل ويصوم نصف الدهر) وهذا ثابت في الصحيحين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: (أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله عز وجل صيام داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً، ولا يفرُّ إذا لاقى، وإنه كان أوّاباً) وهو الرَّجَّاع إلى الله عز وجل في جميع أموره وشئونه (¬1) . 3- ما تعلق بتسبيح الجبال وسجود الظلال: ¬

_ (¬1) ينظر ابن كثير4/29.

وعلى نحو ما كانت دلالة التسبيح في حق نبي الله داودعليه السلام مجازية، كذا كانت دلالته في حق الجبال مجازية أيضاً، وهذا من البداهة بمكان، بلْه أن المجاز في حق داود منصرف كما قلنا إلى معنى الصلاة، لكون التسبيح جزءاً منها فهي علاقة جزئية لمجاز مرسل … بينا هو في حق الجبال له دلالة مغايرة، فهو تجوز عن التسخير والانقياد وإن كان تسخيراً وانقيادًا يحمل معنى الطواعية على ما يدعو إليه نسق الآية ويدل عليه قوله سبحانه: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين.. فصلت/11) ، فالفعل (يسبح) الواقع من نبي الله داودعليه السلام والموصوف به الجبال، مستخدم في غير ما وضع له في اصطلاح التخاطب، ومستعمل في حقهما بمعناه المجازي، وإن اختلفت دلالة المجاز فيهما كلٌّ بحسبه. ونظير هذا في الحمل على المجاز والقول به جعل التسبيح بمعنى الترجيع، فإن التأويب (¬1) الذي جاء مرادفاً للتسبيح هو في اللغة بمعنى الترجيع وترديد الصوت، وعليه فتكون الجبال الشامخات قد أمرت من قِبَل القادر المقتدر سبحانه أن تُرجِّع معه وتجيبه بأصواتها وتسبح تبعاً له واقتداءً به، ويكون المراد من الآية، الإخبار بـ"أنه تعالى سخر الجبال معه عند إشراق الشمس وآخر النهار، كما قال عز وجل (ياجبال أوبي معه والطير.. سبأ/10) " (¬2) ، "وكذلك كانت الطير تسبح بتسبيحه وترجع بترجيعه إذا مر به الطير وهو سابح في الهواء فسمعه وهو يترنم بقراءة الزبور، لايستطيع الذهاب بل يقف في الهواء ويسبح معه" (¬3) . ¬

_ (¬1) مصدر آب بمعنى رجع، ويجوز فيه: أوباً وأوبة وأيبة وإياباً ومآباً [ينظرلسان العرب 1/166مادة (أوب) ، كما ينظر3/1591مادة (رجع) ] . (¬2) تفسير ابن كثير4/29. (¬3) السابق وينظر 3/543.

وأغرب صاحب (الجُمَل) حين جعل التسبيح مجازاً عن السير، أي أنها كانت تسير إلى حيث يريد فيكون قد جعل السير تسبيحاً للدلالة على كمال قدرة الله تعالى وحكمته، أوعلى اعتبار أن (يسبحن) من السباحة فيكون المعنى: سيري معه بالنهار كله (¬1) ، فإن هذا وإن كان له مساعدة من حيث اللفظ في اللغة على اعتبار أن التأويب سير النهار كله، والسّرى سير الليل كله، إلا أن السياق في الآية لايساعده، وأغرق في الإغراب من ذكر أن التسبيح في حق الجبال إنما هو تقديس بلسان الحال! إذ لا اختصاص بتسبيحهن الحالي بالوقتين، وكذا لا اختصاص له حينئذ بكونه معه، كما أن التقييد بالوقتين المذكورين يأباه (¬2) . ونظير ذلك في الغرابة جعْل التسبيح للجبال مجازاً عن الفيئ، فإن هذا المعنى لايسوغ بحال جعله مجازاً عن التسبيح وإن استقام جعله مجازاً عن السجود، وليس هذا الأخير قاصراً على الجبال بل يعمها وغيرها مما يتأتى أن يكون له فيئٌ أو ظلّ، لذا جاء التعبير به في قوله تعالى: (ألم ترأن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب.. الحج/18) . يقول أبو العالية فيما نقله عنه الحافظ ابن كثير: "ما في السماء نجم ولا شجر ولا قمر إلا يقع لله ساجداً حين يغيب ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه، وأما الجبال والشجر فسجودهما بفيئِ ظلالهما عن اليمين والشمائل" (¬3) . والحاصل أن السجود للجبال يصح جعله مجازاً عن الفيئ، لأنه لاوجه فيه للاختصاص لكونه واقعاً منها ومن غيرها على كل حال، أما التسبيح الذي خُصّت به مع داوود فله وجه آخر هو ما ذكرناه آنفا واستقر عليه أمرنا. ¬

_ (¬1) ينظر ابن كثير 3/543 والرازي 13/296والآلوسي 23/256 مجلد 13. (¬2) ينظر الآلوسي 23/256 مجلد 13. (¬3) ابن كثير 3/217.

وفي التعبير بالمضارع (يسبحن) في حقهن والعدول به عن (مسَبِّحات) مع أن الأصل في الحال الإفراد، دلالة على تجدد التسبيح حالاً بعد حال، نظير ما وقع في قول الأعشى: لعمري لقد لاحت عيون كثيرة إلى ضوء نار في يفاع تحرق فلصيغة الفعل خصوصية في الدلالة على حدوثه، ولا كذلك اسم الفاعل (¬1) . ويجئ التعبير بالظرف في قوله تعالى: (إنا سخرنا الجبال معه) متناغماً مع السياق وكاشفاً عن عظمة الله وتفرده بالخلق والإيجاد، ومسوقاً مساق التعليل لقوة داود - عليه السلام - في الدين وأوابيته إلى مرضاته جل في علاه، ومؤكداً في الوقت ذاته على مدى المشاركة في تأدية هذه المهمة الجليلة، مهمة التنزيه والتقديس لقيوم السموات والأرض. والشيئ بالشيئ يذكر فإن المتأمل لآية الرعد: (وله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والآصال.. الرعد/15) ، يجد مصداق مابين أيدينا، فقد خُص فيئ الظلال - بما فيها ظلال الجبال - بالسجود دون التسبيح لكونه الأدوم والأبقى ولأنه الأظهر، لذا ساغ جعله - أعني السجود- مجازاً عن الفيئ، قال مجاهد: "سجود كل شئ فيؤه وذكر الجبال فقال: سجودها فيؤها" (¬2) . ¬

_ (¬1) ينظر الكشاف3/346 والآلوسي 23/256 مجلد 13. (¬2) تفسير ابن كثير 3/589.

ولعدم اختصاص أهل الكفر بسجود ظلالهم بالغدو والآصال، تنوزع في حمل المعنى في آية الرعد على الحقيقة أو المجاز بما لم يتنازع عليه في حمل تسبيح الجبال على المجاز في آية ص، حتى ذهب بعضهم إلى القول بالجمع في آية الرعد بين الحقيقة والمجاز، وعلق أبو السعود على ذلك بالقول بأنه "لايخفى ما في الشقوق من النظر" (¬1) ، ومنشأ النزاع يكمن في ضمير (ظلالهم) العائد ـ كما يفيده السياق في الآية - على الكفار والتعبير عن سجودها بقوله: (كرهاً) ، أمر مستغرب إذ أنى لظلالهم أن تُخص بالسجود ويتحقق فيها معنى الانقياد وأصحابها أصلاً لا يتأتى منهم سجود قط؟ وأنى لمن هذا حالهم أن يجعلوا في مقابلة من عناهم سبحانه بقوله: (ولله يسجد من السموات والأرض) وهو شامل ـ بالطبع ـ لمن أتوه طوعاً من الملائكة وصالحي الإنس والجن وهم الذين يتصور منهم السجود على جهة الحقيقة؟. فمن قائل ممن حمل المعنى على ظاهر معناه، إن المراد حقيقة السجود فإن الكفرة حالة الاضطرار يخصونه سبحانه بالسجود كما جاء في قوله تعالى: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين.. العنكبوت/65) ، ومن قائل بجواز أن يخلق الله في الظلال أفهاماً وعقولاً تسجد بها لله كما خلقها للجبال حين اشتغلت بالتسبيح وظهر فيها آثار التجلي كذا ذكره ابن الأنباري، ومن قائل: إنه عبر بالطوع عن سجود الملائكة عليهم السلام والمؤمنين، وبالكره عن سجود من ضمه السيف إلى الإسلام فراح يسجد لله نفاقاً. ¬

_ (¬1) ينظر تفسير أبو السعود 5/12 مجلد3.

بيد أن هذه الأقوال جميعاً يعكر صفوها مساقُ الآية، فهي تنبئ بأن العالم كله مقهور لله خاضع لما أراده منه، مقصور على مشيئته لايكون منه إلا ما قدر، وأن الذين يعبدون غيره ويقصدون سواه كائنا من كانوا داخلين تحت القهر، ويدل على هذا تشريك ظلالهم في السجود، وهي ليست أشخاصاً يتصور منها السجود بالهيئة المخصوصة، ولكنها داخلة تحت مشيئته تعالى في الإمداد والتقلص والفيئ والزوال فهو يصرفها حسبما أراد، كما قال: (أولم يروا إلى ما خلق الله من شئ يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجداً لله.. النحل/48) ، غاية ما هنالك أن في ذكرها إشعار بأنها بريئة منهم ومن فعالهم القبيحة، وفي ذلك إعلام على عظمة الخالق جلّ وعلا الذي دانت له المخلوقات بأسرها وخضع له كل شيئ. كما يعكر صفو القول باختصاص سجود الكافر حال الضرورة والشدة لله سبحانه أن ذلك لا يجدي، فإن سجوده للصنم حال الاختيار والرخاء مخل بالقصر المستفاد من تقديم الجار والمجرور في قوله: (وله يسجد من في السموات والأرض.. الرعد/15) ، وقوله: (ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة.. النحل/49) ، ويلحق بالكافر فيما ذكرنا المنافق الذي لم يخلص في سجوده لله، كذا يعكر صفو القول بأن الله يخلق في الظلال أفهاماً وعقولاً تدرك معنى السجود وتفعله، وقياسها في ذلك على الجبال، أن الجبال يمكن أن يكون له عقل بشرط تقدير الحياة أما الظلّ فعَرضٌ لايتصور قيام الحياة به، وإنما يكون سجوده بميله من جانب إلى جانب واختلاف أحواله ـ سيما في الوقتين اللذين يظهر فيهما ذلك بوضوح ـ كما أراد سبحانه.

والخليق بالقبول حمل السجود في حق الكفارعلى الانقياد ـ أي على المجازـ والوجه البلاغي في ذلك، أن تحقيق انقياد الكل لله تعالى في الإبداع والإعدام، أدخل في التوبيخ على اتخاذ أولياء من دونه سبحانه، من تحقيق سجودهم له جل وعلا، والنكتة في تخصيص انقياد العقلاء المدلول عليه بقوله في آية الرعد (مَن) بالذكر مع كون غيرهم أيضاً كذلك، أنهم العمدة وانقيادهم دليل على انقياد غيرهم، والوجه في تخصيص الغدو والآصال بالذكر مع أن انقياد الظلال متحقق في جميع أوقات وجودها، ظهور ذلك فيهما (¬1) . ثانياً: ما يجمل فيه حمل التسبيح بطرفي النهار على الحقيقة وإن كان من حمل للتسبيح على ظاهره وعلى ما هو الأصل المعهود فيه والمعلوم، من ذكر اللسان بقول (سبحان الله) واعتقاد تنزيهه سبحانه من السوء، والثناء عليه بالخير لا سيما في وقتي الغدو والآصال لما يتجدد فيهما من نعم الله الظاهرة.. فهو يَمْثُل فيما أومأت لإفادته دلالات السياق وقرائن الأحوال في نحو قوله تعالى: (إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً. لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً.. الفتح/8، 9) ، وقوله: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلاً.. الأحزاب/42) ، وقوله: (واذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً. ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلاً طويلاً.. الإنسان/25، 26) . 1) آية الفتح والمناسب لعود الضمير في معطوفاتها: ¬

_ (¬1) ينظر السابق وينظر الآلوسي 13/182 مجلد8.

أورد الآلوسي في آية الفتح وتحديداً في قوله منها: (وتسبحوه) قراءة ابن مسعود وابن جبير: (وتسبحوا الله) ، كذا بالاسم الجليل مكان الضمير (¬1) ، وتلك – لعمري- قرينة كافية تدعو لعدم الالتفات لرأي القائلين بعود الضمائر الثلاث في (وتعزروه وتوقروه وتسبحوه) إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعلى رأس هؤلاء الإمام البقاعي في نظم الدرر، ليكون المعنى على زعمه وزعمهم: (أرسلناه إليكم لتؤمنوا به وتعينوه على كل من ناوأه وتجتهدوا في حسن اتباعه وفي تبجيله وإجلاله، وتنزهوه عن كل وصمة من إخلاف الوعد بدخول مكة والطواف بالبيت الحرام ونحو ذلك (¬2) ، إذ في تأويل الأخير من هذه المعطوفات الثلاثة على هذا المعنى من التكلف ما لا يخفى. على أن عود الضمير في الأولين منها أي في قوله جل شأنه: (وتعزروه وتوقروه) لأقرب مذكور أعني للرسول- صلى الله عليه وسلم - لقوله قبلها: (لتؤمنوا بالله ورسوله) .. مع كاف الخطاب العائد عليه أيضاً في قوله قبل: (إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً.. الفتح/8) ، لمما يوهن هو الآخر- بضميمة ما تأكد لنا من عوده في (تسبحوه) إلى الله في القراءة سالفة الذكر- من شأن الميل إلى جعل الضمائر الثلاث لله سبحانه، وهو ما ترجح لدى الزمخشري والآلوسي والبيضاوي والطاهر (¬3) ومن لف لفهم وحجل بقيدهم، لكون المعنى حينذاك: أرسلناه إليكم لتنصروا الله وتوقروه وتعظموه وتنزهوه، إذ في تقدير الآية على هذا النحو من الإخلال بالمعنى وبعود الضمائر في (وتعزروه وتوقروه) ومن استعمال كلمة التعزير بالذات التي هي في معنى الإعانة والإمداد بأسباب القوة اللتين حاشاه سبحانه أن يتصف بهما لكونها مما لا يليق بجلال الله وعظمة سلطانه.. ما لا يخفى. ¬

_ (¬1) ينظر روح المعاني26/146مجلد14. (¬2) ينظر نظم الدرر7 /193. (¬3) ينظر على الترتيب المذكور الكشاف 4/542 وروح المعاني 26/146 مجلد 14 وتفسير البيضاوي 8/520 والتحرير 26/156 مجلد 12.

والعجب كل العجب أن يجنح أئمة التفسير إلى مثل هذا القول المؤدي إلى هذه اللوازم الشنيعة، بل والمفضي إلى ما هو أشنع منها بما ورد في الكلمة من قراءات أخرى، فقد "قرأ الجحدري (تعزروه) بفتح التاء وضم الزاي مخففاً، وفي رواية عنه فتح التاء وكسر الزاي مخففاً، وروي هذا عن جعفر الصادق - رضي الله عنه -، وقُرأ بضم التاء وكسر الزاي مخففاً، وقرأ ابن عباس ومحمد بن اليماني: (تعززوه) بزاءين من العزة أي تجعلوه عزيزاً " (¬1) . ¬

_ (¬1) الآلوسي 26/146 مجلد14 وينظر الكشاف 3/543.

والزعم بضرورة القول بهذا، "لئلا يلزم فك الضمائر من غير ضرورة"، على ما ادعاه الآلوسي، وأورده الشهاب في حاشيته على البيضاوي (¬1) ، وكذا الزعم بأن "من فرق الضمائر فقد أبعد" على ما ذكر الزمخشري (¬2) ، زعم باطل، ذلك أن فك الضمائر والذهاب مذهب عود الأولين منها إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه وعود الثالث إليه سبحانه - فضلاً عن تعين القول به لدلالة السياق من خلال المعنى وعود الضمائر، وللقراءة الواردة عن ابن مسعود وابن جبير- هو من الطي والنشر، أو ما يسمى باللف والنشر، وهذا من أعظم أبواب المحسنات المعنوية في علم البديع، وهو على ما ذكر البلاغيون: أن يذكر متعدد - كما هو الحال في النظم الكريم: (وتعزروه وتوقروه وتسبحوه) - ثم يذكر ما لكلٍّ من أفراده شائعاً من غير تعيين اعتمادأً على تصرف السامع في تمييز ما لكلِّ واحد منها، ورده إلى ما هو له، وهو في هذه الآية - على ما ترجح لدينا - يتمثل في جعل الأولين عائداً إلى الرسول، وفي الأخير راجعاً إلى الله، وفي العود على هذا النحو من تهيئة النفوس وإعدادها كيما تتلقى ما يذكر من النشر العائد في الآية إلى اللف قبلاً.. ما فيه، وحسب صاحب الذوق البلاغي أن يدرك كيف وقع العود على الطريقة الذي ذكرنا موقعه، وكيف تمت الفائدة على أتم وجه وأحسنه، وتحقق الغرض بأبلغ ما يكون، وحسبه كذلك أن يأتنس للوقوف على جمال هذا الصبغ من البديع، بتلاوة قوله سبحانه: (ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله.. القصص/73) ، وقوله: (فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب.. الإسراء/12) ، وقول ابن الرومي مادحاً: آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم في الحادثات إذا دجون نجوم ¬

_ (¬1) الآلوسي 26/146 مجلد 14 والشهاب 8/521. (¬2) الكشاف 3/542.

فيها معالم للهدى ومصابح تجلوا الدجى والأخريات رجوم (¬1) فإذا ما تقرر هذا – وهو متقرر بمشيئة الله تعالى – فإن الأليق لمعنى التسبيح في الآية الكريمة من سورة الفتح، أن يجعل المعنى فيه على ظاهره، وقد تنبه لهذا ونوه إليه الدامغاني (¬2) وله في ذلك حق فالمقام مقام تعجب والآية مدنية وليس فيها ما يدعو إلى القول بحثّ المؤمنين على صلاة بغداة أو عشيّ، وليس فيها كذلك ما يشير من قريب أو بعيد إلى تواقيت للصلاة على نحو ما سبق في آيات هود وطه والروم، وتأتي التسبيح فيها من المؤمنين للرسول - صلى الله عليه وسلم - في البكرة والأصيل أعني في الوقتين المخصصين لذلك فيما يجئ عادة لإفراد الله سبحانه بالتقديس إجلالاً وتعظيماً وتنزيهاً، أمر لا يقبله من له مسكة من عقل. فلا جرم إذن والحال هكذا من جعل الأمر بالتسبيح بحمد الله مسوقاً لحث المؤمنين، والصحابة منهم على جهة الخصوص، على تنزيهه سبحانه والثناء عليه بماهو أهل، أنْ أرسل فيهم نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - شاهداً ومبشراً ونذيراً، و (إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين.. آل عمران/164) ، وذلك يستلزم أن يكون التقدير في الآية والمعنى: أرسلناه إليكم لتؤمنوا به وتقوّوا من أزره وتعينوه على إظهار دينه على كل دين، وعلى مناصرة دعوته، وتمنعوا عنه كل ما يكيده - مبالغين في ذلك - باليد واللسان والسيف والجنان، وأن تؤثروه على أنفسكم ولا تجهروا له بالقول تعظيماً له وتفخيماً ولا تقدموا بين يديه، وأن تسبحوا من منّ به عليكم كل بكرة وكل عشية حمداً له وشكراً. ¬

_ (¬1) دجَوْن: أظلمن، والمعالم: جمع معلم وهو مايستدل به على الطريق، والدجى: جمع دُجية وهي الظلمة، والرجوم: الشهب. (¬2) ينظر الوجوه والنظائر للدامغاني 1/ 447.

ولا حجة فيما ذكره الطاهر وهو من مؤيدي عود الضمائر الثلاثة على الله، من أن "إفراد الضمائر مع كون المذكور قبلها اسمين، دليل على أن المراد أحدهما وأن القرينة على تعيين المراد، ذكر (وتسبحوه) " (¬1) .. لأنا نقول إن إفراد الضمائر مع كون المذكور قبلهما اسمين، لا يمنع من أن يكون الأولان منها راجعين إلى الاسم الأخير، بل هذا هو الأوقع لكونه الأقرب ذكراً والأوفق في عود الضمير، والأدخل في تصحيح المعنى. وغني عن البيان أن نشير إلى أن لفظ (التسبيح) ، ما جاء في القرآن – على كثرته – إلا وهو مصروف إلى الله، وشذوذ هذا الموضع عن القاعدة بلا سبب بل ومع وجود ما يفيد عكسه هو شذوذ في الفهم. 2) السياق والمقام في آية الأحزاب: والغريب في أمر ابن عاشور أن يسوق ما جاء في نظير ذلك من آية الأحزاب (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلاً.. الأحزاب/41، 42) ، ويذهب به إلى العكس مما ذكره في آية الفتح، وحجته الواهية في ذلك اختلاف السياق، على الرغم من أن كلامه في اختلاف السياق هذا، هو غاية في التناقض. ¬

_ (¬1) التحرير22/48مجلد11.

ففي التماسه الوجه في زيادة قوله سبحانه في آية الأحزاب (وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً..الأحزاب/46) عقب قوله: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً.. الأحزاب/45) ، وعقب قوله قبل: (يا أيها الذين أمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً. وسبحوه بكرة واًصيلا.. الأحزاب/41، 42) .. يشير إلى أن النكتة في ذلك مجيئ الآية في سياق تنزيه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مطاعن المنافقين والكافرين في تزوج زينب بنت جحش بعد أن طلقها زيد بن حارثة بزعمهم أنها زوجة ابنه (¬1) .. على الرغم من أن نفس العلة أو قريباً منها يمكن التماسها والقول بها في آية الفتح لورودها هي الأخرى - على حد قوله هو- في سياق إبطال شك الذين ارتابوا في أمر الصلح، والذين كذبوا بوعد الفتح والنصر (¬2) ... سيما مع تعجب المسلمين الصريح من بنود الصلح وقولهم على ما جاء في الصحيحين: (سبحان الله كيف يُردُّ من أسلم من المشركين إليهم وقد جاء مسلماً) ، والتفتوا إلى رسول الله يسألونه: أنكتب هذا يارسول الله، قال: نعم، بل مع قول عمر بن الخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - على ما ورد في الصحيحين أيضاً: ألستَ نبي الله حقاً قال: بلي، قلت: ألستَ على حق وعدوّنا على باطل، قال: بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار، قال: بلى، قلت: ففيم نٌعطى الدنية في ديننا إذن، قال: إني رسول الله ولستُ أعصيه، وهو ناصري) ... وقول أبي بكر له حين أتاه في هذا: (إنه رسول الله ولن يعصيَ ربه ولن يضيعه الله أبدًا) ... ونظير ذلك في بلوغ التعجب لدى الصحابة غايته، ما جاء في الصحيح عن سهل بن سعيد رضي الله عنه، فقد قال يوم صفين: (أيها الناس، اتهموا رأيكم، لقد رأيتُني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله لرددته) . ¬

_ (¬1) ينظر التحرير 26/157مجلد 12. (¬2) ينظر السابق.

ويفاد مما سبق أن الأمر في حمل التسبيح في قوله سبحانه في سورة الأحزاب: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً. وسبحوه بكرة وأصيلاً.. الأحزاب/41، 42) على ظاهره بيّنٌ، بل إنه من الوضوح بمكان، فذكر الله يعني "ذكر اللسان وهو المناسب – على حد قول الطاهر – لموقع الآية مما قبلها وما بعدها" (¬1) ، أما مناسبته لما قبلها فلما ذكرنا، وأما مناسبته لما بعدها فلأن التسبيح وهو إيقاع التنزيه لفاطر السموات والأرض جل في علاه، عن كل شائبة نقص مما لا يليق به بإثبات أضداد ما لا يليق أو نفي ما لا يليق بقول: (سبحان الله) .. هو واحد مما يشمله ذكر الله، والوجه في تخصيصه بالذكر، الإشعار ببيان فضله على سائر الأذكار، لكون معناه تنزيه ذاته عما لا يجوز عليه من الصفات والأفعال، وفي سر تقييده بالغدو والآصال، بيان لفضل هذين الوقتين على سائر الأوقات لتعاقب ملائكة الليل والنهار بهما، ولما يتجدد فيهما من نعم الله الظاهرة، إلى غير ذلك مما سبق ذكره في المبحث الأول. وهذا التقييد وحده، هو في حد ذاته دليل على حمل المعنى على ظاهره، فما بالك وقد توفرت القرائن الأخرى من خلال السياق على جعله على حقيقته وعلى ما هو الأصل فيه، ويأتي على رأس هذه القرائن تقييد الذكر بالكثرة، وإيثار التعبير بكلمة (الآصال) التي لا يتوسع فيها لتشمل ما تشمله كلمة (العشي) لكونها لا تطلق إلا على ما قبيل غروب الشمس مباشرة، وهو ما لا تصح الصلاة فيه، فذكرها مما يُعد قرينة أخرى تدل على حمل التسبيح على ظاهره وعلى تخصيص الوقتين به، وعلى جعل القول بأن "كلا الأمرين - الذكر والتسبيح- متوجه إليهما- يعني إلى الوقتين بكرة وأصيلاً- كقولك صم وصلّ يوم الجمعة" (¬2) قولاً بادي الضعف، لذا مرضه أكثرهم بقولهم (وقيل) لأنه تجوز بغير ضرورة. ¬

_ (¬1) التحرير22/48مجلد11. (¬2) الآلوسي 22/60 مجلد 12وينظر الكشاف 3/265.

يقول الشهاب في تعليقه على قول البيضاوي (وقيل الفعلان موجهان إليهما) : "قوله: (وقيل الفعلان) أي: (اذكروا) و (سبحوه) ومرضه لأنه على تفسيره بغلبة الأوقات، يكون شاملاً لهما فلا حاجة لتعلقه بالأول على التنازع" (¬1) ، وأضيف أن العطف في قوله (بكرة وأصيلاً) ينبو عنه التمثيل بما ذكره الزمخشري والآلوسي من قولك (صم وصلّ يوم الجمعة) ، إذ ليس ثمة ما يدل على التفريق بين الوقتين، ولا ذَكر ذلك أحد من أهل العلم، غاية ما يمكن قوله في هذا جواز "أن يكون المراد بالذكر المأمور به، تكثير الطاعات والإقبال عليها، فإن كل طاعة من جملة الذكر، ثم خُص من ذلك التسبيح بكرة وأصيلاً" (¬2) . وأشد مما ذكر ضعفاً ما ادعاه الرازي في موضع مشابه، وتحديداً أثناء تفسيره لقول الله تعالى في حق زكريا: (واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشي والإبكار.. آل عمران/41) من استدلال على إرادة الصلاة من التسبيح، من "أنا لو حملناه على التسبيح والتهليل لم يبق بين هذه الآية وبين ما قبلها وهو قوله تعالى (واذكر ربك) فرق، وحينئذ يبطل، لأن عطف الشيئ على نفسه غير جائز" (¬3) ، ويعني بذلك أن التسبيح في معنى الذكر، وعليه فيتعين حمله على معنى الصلاة.. فإن ما ذكره يرد عليه ما بين الذكر والتسبيح من عموم وخصوص، وآية آل عمران وإن صح ما ذكره من أن التسبيح فيها بمعنى الصلاة لما سبق أن ذكرنا من القرائن الدالة على ذلك، إلا أن تعليله سالف الذكر هو الذي فيه نظر، والحقيقة فيه ما ذكرت. ¬

_ (¬1) حاشية الشهاب7/495. (¬2) كذا ذكره الآلوسي [22/61مجلد12] ، وإن أخطأ في قوله بعد: "أي الصلاة في جميع أوقاتها أو صلاة الفجر والعصر والعشاء لفضل االصلاة على غيرها من الطاعات البدنية"، ولو أنه حمل التسبيح - مع ما نوه به - على ظاهره، لربما كان قولاً وجيهاً ورأياً سديداً. (¬3) الرازي4/205.

ويتعين من خلال كل ما سبق من مقدمات جعل العطف في قوله (وسبحوه) على (واذكروا) "من عطف الخاص على العام اهتماماً بالخاص لأن معنى التسبيح، التنزيه عما لا يجوز على الله من النقائص فهو من أكمل الذكر لاشتماله على جوامع الثناء والتحميد، ولأن في التسبيح إيماء إلى التبرؤ مما يقوله المنافقون في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - ... وكلمة (سبحان الله) يكثر أن تقال في مقام التبرؤ من نسبة ما لا يليق إلى أحد" (¬1) ، سيما إذا تعلق الأمر بسيد الأولين والآخرين صلوات الله عليه. والسر البلاغي في هذا العطف، عطف (وسبحوه) الخاص على (اذكروا) العام، الإشعار بالعناية بأمر الخاص وتعظيم شأنه وذلك بذكره مرتين، مرة مندرجاً تحت العام، ومرة بلفظه، ومثل هذا اللون من الإطناب الذي اقتضاه المقام واستدعاه السياق وجاء مطابقاً لمقتضى الحال، مطلوب وهو مما كثر وروده في القرآن، وحسبنا مما جاء فيه قول الله تعالى: (تنزل الملائكة والروح.. القدر/4) ، وقوله (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى.. البقرة / 238) ، فذكْرُ جبريل معطوفاً على الملائكة على الرغم من دخوله في عداد المعطوف عليهم يؤذن بمزيد تكريم له وعظم شأن في حقه، وكأنه جنس آخر غير جنس الملائكة، وعطف الصلاة الوسطى وهي واحدة من الصلوات داخلة في عمومها يجيئ تنبيها إلى مزية المعطوف وزيادة فضله.. وهكذا دواليك. الأمر الذي يعني شيوع هذا اللون من العطف في جيد الكلام وأبلغه كلما اقتضاه المقام ودعت إليه الأحوال.. فأنى لما جاء على صورته وورد على شاكلته أن يدّعى فيه نحو ما ادعاه الفخر الرازي من أنه من عطف الشيئ على نفسه، ويحكم عليه من ثمّ بعدم جوازه؟ ¬

_ (¬1) التحرير 22/48مجلد 11بتصرف.

يقول الزمخشري بعد أن نص على أن التسبيح من جملة الذكر وأفصح عن حمل الأمر فيهما على ظاهره: "إنما اختصه من بين أنواعه اختصاص جبريل وميكائيل - يقصد في قوله تعالى (من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين.. البقرة/98) - ليبين فضله على سائر الأذكار لأن معناه تنزيه ذاته عما لا يجوز عليه من الصفات والأفعال وتبرئته من القبائح" ويستطرد منوهاً عن مكانته وقائلاً: "ومثال فضله على غيره من الأذكار فضل وصف العبد بالنزاهة من أدناس المعاصي، وبالطهر من أرجاس المآثم، على سائر أوصافه من كثرة الصلاة والصيام والتوفر على الطّاعات كلها والاشتمال على العلوم والاشتهار بالفضائل ا. هـ) (¬1) ، وهو في معنى ما ذكر. ولعل الوجه في هذا العطف، وفي تخصيص الذكر المأمور به أولاً بالكثرة دون التسبيح، أنه "بتفسير الذكر الكثير بما يعم أغلب الأوقات لا تبقى حاجة إلى تعلق الظرفين المختصين بالفعل الأول" كذا ذكره الآلوسي (¬2) ، وبمثل ما ذكره تُلتمس العلة فيما دلت القرائن عليه، لا أن يضرب عنها وعن معلولها الصفح ويثني عنهما العِطف، وسيأتي الكلام - بمشيئة الله تعالى- عن معنى الذكر الكثير وعن فضله إبان حديثنا عن مقام الحث عليه بالمبحث الثالث. ¬

_ (¬1) الكشاف 4/265. (¬2) روح المعاني22/60مجلد 12بتصرف.

لكن ما تجدر الإشارة إليه هنا أنه وابتناءً على ما سبق، فإن اطلاق الذكر في وقتي التسبيح في نحو قوله تعالى:) واذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً.. الإنسان/25) ، جمعا بين الأدلة وطرقاً للباب على وتيرة واحدة، يرجح أن يكون من إطلا ق الكل وإرادة الجزء فيكون بذلك من المجاز المر سل لعلاقة الكلية، ولا يبعد أن يدخل في هذا قوله تعالى في سورة الأعراف: (واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال.. الأعراف/205) ، ليفيد إطلاق الذكر كي يعم سائر الأحوال والأوقات، وتقييد الوقتين المذكورين بأفضله وأشمله وهو التسبيح فيكون من باب حمل المطلق على المقيد، كما أن التسبيح يطلق – على ما سبق تقريره - ويراد به الصلاة مجازاً. ثالثاً: ما يجمل حمله من التسبيح على معناه الكنائي سبق أن ذكرتُ أن من مشهور إطلاقات العرب قولهم: (إني لآتيه بالغدايا والعشايا) يرومون به استدامة المجئ واستمراره، وقد جاء القرآن في هذا على طريقتهم في التكنية بهذين الوقتين عن نفس هذا المعنى، ومن الأمثلة الواضحة في ذلك قوله سبحانه عن أهل الجنة: (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً.. مريم/62) .

وقد صدرت عبارات كثيرة من أهل التأويل تشير إلى أن المقصود بذكر الوقتين فيما كان الأمر فيهما بالدعاء مثلاً أو بالتسبيح أو الذكر، استيعاب الزمان والدلالة على الدوام، وعقبت على ذلك بضروة أن توضع الآيات تلك في سياقاتها لتفهم وتحمل على وجهها الصحيح، ذلك أنه يشتم من كلامهم، أنهم يقصرون المعنى فيما يمكن حمله على الكناية كما في الآية المذكورة وكذا ما جاء على شاكلتها على معنى الاستدامة ويجعلونه حقيقة فيه، وربما حمّلوا الآية بسبب هذا ما لا تحتمل، والذي ينبغي الالتفات إليه أن الكناية أخت الحقيقة إذ ليس هنالك ما يمنع من إرادة المعنى الأصلي للفظ مع المعنى الكنائي، وذلك ما أراده البلاغيون بقولهم عنها أنها: (لفظ أطلق وأريد به لازم معناه، مع جواز إرادة معناه الأصلي) . وعلى نحو ما أغرب البعض في الاقتصار على المعنى الكنائي لِما يحسن حمله عليه، كما فعل ابن عاشور والآلوسي مثلاً في تناولهما لقوله سبحانه: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه.. الأنعام/52) على ما ذكرته لهما قبلاً، لم يتوسط آخرون فقصروه على الحقيقة وربما حمّلوا المعنى في الآية بسبب هذا أيضاً ما لا تحتمل، ونذكر على سبيل المثال ما ذكره الطاهر في معنى الغدو والآصال الواردين في قول الله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال. رجال.. النور/36، 37) ، يقول: "المراد بالغدو: وقت الغدو وهو الصباح، لأنه وقت خروج الناس في قضاء شئونهم، والآصال جمع أصيل وهو آخر النهار" (¬1) ، مع أن سياق الآية ناطق بغير ذلك، ولك أن تستشعر مصداق ذلك عندما تبصر صدر الآية ذاتها، وكذا وأنت تقرأ قوله تعالى بعد: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله.. الآية) . ¬

_ (¬1) التحرير 18/248مجلد 9.

هذا وقد تردد المفسرون في متعلق الجار والمجرور في قوله: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال) ، فقيل هو من تمام التمثيل المشار إليه في قوله قبل: - (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونه لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيئ عليم.. النور/35) ، فيكون للجار والمجرور متعلق، هو الفعل المذكور (يوقد) ، والمعنى: يوقد المصباح في بيوت أذن الله لها أن ترفع وهذا ما قاله الرماني، وقيل إن شبه الجملة متعلق بمحذوف وهذا المحذوف صفة لمشكاة على ما ذكره الحوفي ونقله عنه الآلوسي وابن عاشور، والمعنى: مثل نوره كمشكاة مستقرة أو كائنة في بيوت أذن الله أن ترفع، وما بينهما اعتراض، أو صفة لمصباح، وقيل بل للزجاجة. ومهما يكن من أمر فشبه الجملة على هذه الأقوال الأربعة قيد للممثل به قصد منه المبالغة فيه، وسوغ مجيئ (بيوت) جمعاً مع أن موصوفه المحتمل (مشكاة) أو (مصباح) أو (زجاجة) مفرد، كون المراد بذلك الموصوف الجنس، فتساوى الإفراد والجمع لذا كان تنوين الموصوف للنوعية لا الفردية (¬1) . ¬

_ (¬1) ينظر روح المعاني 18/254مجلد 10 والتحرير18/245 وما بعدهامجلد 9.

والأظهر عندي أن يكون متعلق الجار والمجرور أعني في قوله (في بيوت) هو الفعل (يسبح) ، ولا يرد على ذلك أن فيه تكرير لشبه الجملة المتعلق به لكون قوله (فيها) الذي وليه متعلق به أيضاً، أو وجود أكثر من متعلِّق بالفعل الواحد … لأنا نقول أن لهذا التكرير سره البلاغي وهو التأكيد والتذكير بما بعد في الجملة، والإيذان بأن ما تقدم من شبه الجملة هو للاهتمام بتلك البيوت والتشويق إلى متعلق المجرور وهو التسبيح، ويكون قوله (في بيوت) …إلخ، غير مرتبط بما قبله لكونه استئنافاً قصد به بيان حال من حصلت لهم الهداية لذلك النور والإشادة ببعض أعمالهم (¬1) ، ونظير ما ذُكر في التكرير للتأكيد قوله تعالى: (ففي رحمة الله هم فيها خالدون.. آل عمران/107) (¬2) . وفي النسق الكريم من آية النور تنويه بالمساجد وإعلام بضرورة إيقاع الصلاة والذكر فيها كما في الحديث: (صلاة في المسجد - أي الجماعة- تفضل صلاته في بيته بسبع وعشرين درجة) . ¬

_ (¬1) ينظر السابقين. (¬2) وفي مغني اللبيب "هو من توكيد الحرف بإعادة ما دخل عليه مضمراً، وليس الجار والمجرور توكيداً للجار والمجرور، لأن الظاهر – لكونه أقوى- لا يؤكد بالضمير، وليس المجرور به بدلاً بإعادة الجار لأنه لا يبدل مضمر من مظهر وإنما جوزه بعض النحاة قياساً".

ويعضد من شأن هذا المساق المعبر فيه بالظرفين والمشاد فيه بملازمة المسجد وبمواصلة الذكر والدعاء فيه سيما في الوقتين المباركين، ما ينبئ به أمثال قوله تعالى مثنياً على الصحابة الكرام عليهم الرضوان: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي.. الأنعام/52) ، وقوله: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي..الكهف/28) .. وكذا ما جاءت به الأحاديث الدالّة على فضل المشي إلى المساجد والتردد عليها وانتظار الصلاة فيها بعد الصلاة من نحو قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلاً في الجنة كلما غدا أو راح) (¬1) ، وقوله: (ألا أدلكم على ما يمحوا الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط) (¬2) وقوله: (لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة) (¬3) ، وقوله: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده) (¬4) ، وقوله: (إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان) ثم تلا قوله تعالى: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر..التوبة/18) (¬5) .. إلى آخر ما جاء في هذا، والوجه في تخصيص الرجال في الآي والأحاديث، أنهم الغالب على المساجد والذين الأصل فيهم أن تكون صلاتهم بها كما في الحديث: (ورجل قلبه معلق بالمساجد) . المبحث الثالث أهم المقامات التي ورد التعبير فيها بطرفي النهار في آي التنزيل ¬

_ (¬1) رواه البخاري 2/124ومسلم669. (¬2) رواه مسلم 251. (¬3) رواه البخاري 2/119 ومسلم 1/460 برقم 275. (¬4) رواه مسلم. (¬5) أخرجه الترمذي 3092 وقال حسن وابن حبان 310 والحاكم 1/212، 213.

ويجدر بنا بعد أن عرجنا على دلالات التعبير عن طرفي النهار - حقيقة ومجازاّ وكناية - بمقابلاتها المتعددة في النظم الكريم، وبعد أن وقفنا - ما وسعنا الجهد - على بعضٍ من أسرار تنوع هذه المقابلات ومزايا مجيئها على النحو الذي انصبت فيه، وفاء بحق السياق.. أن نبحر للتعرف على المقامات التي وردت فيها تيك المقابلات طمعاً في استجلاء المزيد من دلائل الإعجاز في كتاب الله العزيز، ورجاء الوقوف على بعض أسرار نظمه وبدائع كلمه، ولنبدأ بآخر ما انتهينا إليه وهو: مقام الإشادة بالصحابة في ملازمة بيوت الله وإعمارها صباح مساء بالذكر والدعاء: ويسترعي انتباهنا في هذا المقام آيتان وردتا في حق الصحابة الإجلاء عليهم الرضوان، هما قوله سبحانه: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه.. الأنعام/ 52) ، وقوله: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه.. الكهف/28) ، أي دائبِين على الدعاء في جميع الأوقات سيما ما كان منها في طرفي النهار، ففي الكشاف أنه بعد أن "ذكر غير المتقين من المسلمين وأمر بإنذارهم ليتقوا - يعني في قوله: (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه وليّ ولا شفيع لعلهم يتقون.. الأنعام/5) - أردفهم ذكر المتقين منهم وأمره بتقريبهم وإكرامهم، وأن لا يطيع فيهم من أراد بهم خلاف ذلك، وأثنى عليهم بأنهم يواصلون دعاء ربهم أي عبادته، ويواظبون عليها. والمراد بذكر الغداة والعشي الدوام" (¬1) . ¬

_ (¬1) الكشاف 2/21 وأبو السعود 5/218 مجلد 3.

وللآيات الواردة في هذا المقام قصة مؤداها أن رءوساً من المشركين قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو طردت عنا هؤلاء الأعبد - يعنون فقراء المسلمين وهم عمار وصهيب وبلال وخباب وسلمان وأضرابهم رضوان الله عليهم- وأرواح جبابهم - وكانت عليهم جباب من صوف - جلسنا إليك وحادثناك، فقال عليه الصلاة والسلام: ما أنا بطارد المؤمنين، فقالوا: فأقمهم عنا إذا جئنا فإذا قمنا فأقعدهم معك إن شئت، فقال: نعم، طمعاً في إيمانهم ... وفي رواية أحمد والطبراني وابن جرير والبيهقي أنهم قالوا: يا محمد رضيت بهؤلاء من قومك؟ أهؤلاء الذين منّ الله عليهم من بيننا؟ أنكون نحن تبعاً لهؤلاء؟ اطردهم عنك واجعل لنا منك مجلساً تعرف به العرب فضلنا فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا قعوداً مع هؤلاء فنزل جبريل بها (¬1) . ¬

_ (¬1) ينظر الآلوسي 7/231مجلد هـ.

والحق أن آخر هذا الكلام - الذي أراد الزمخشري وغيره من أهل التأويل الربط بينه وبين الآية الخامسة من سورة الأنعام - لا يستقيم مع أوله ولا يتمشى مع سياق الآيات، إذ أنّى لقوم أن يصدر عنهم مثل هذه الأقوال أن يجعلوا ممن (يخافون أن يحشروا إلى ربهم) ، أو يكونوا من المسلمين على ما أقر به الزمخشري، أو يرجى منهم على سبيل التحقيق ما ذكره سبحانه في قوله (لعلهم يتقون) .. اللهم إلا أن يكون السبب في نزولها هو ما اقترحه بعض الصحابة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعقيباً على ما صدر من أولئك المنكرين، نحو ما روي من "أن عمر رضي الله عنه قال: لو فعلت حتى تنظر إلى ما يصيرون، قال: فاكتب بذلك كتابا فدعا بصحيفة وبعليّ رضي الله عنه ليكتب فنزلت، فرمى بالصحيفة واعتذر عمر عن مقالته" (¬1) ... فهذا عندي افضل مما قاله الزمخشري ومما تكلف له أبو السعود الذي ذكر أنه - صلى الله عليه وسلم - "أمر بتوجيه الإنذار إلى من يتوقع من أهل الكفر التأثر في الجملة، وهم المجوزون منهم للحشر سواء كانوا جازمين بأصله كأهل الكتاب وبعض المشركين أو مترددين، أما المنكرون له فهم خارجون ممن أمر بإنذارهم ا. هـ" (¬2) قال سلمان وخباب: فينا- أي آية الأنعام – نزلت، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقعد معنا ويدنو منا حتى تمس ركبتنا ركبته، وكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزلت: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم.. الكهف/28) . ¬

_ (¬1) الكشاف2/22. (¬2) تفسير أبو السعود3/137مجلد 2بتصرف.

وفي التعبير عمن نزلت في حقهم هذه الآيات في الموضعين بالموصول، الإيماء إلى تعليل الأمر بملازمتهم، وبما في حيز الصلة الداعية إلى إدامة الصحبة، أي لأنهم أحرياء بذلك لأجل إقبالهم على الله فهم الأجدر بالمقارنة والمصاحبة (¬1) ، وهم وإن كانوا عند أهل الكفر والنفاق مؤخرين فهم عند الملك الأعلى مقدمون، وقوله: (يريدون وجهه) فيهما، في موضع الحال من ضمير يدعون أي يدعونه تعالى مخلصين له الدين، والوجه في تقييده به تأكيد علِّيتِه للنهي في آية الأنعام (ولا تطرد) ، وللأمر في آية الكهف (واصبر نفسك) ، والإعلام بأن الإخلاص من أقوى موجبات الإكرام المضاد للطرد والحاضّ على الصبر، وفي التنوع بمجيئ العلة تارة بالنهي وتارة أخرى بالأمر، تأكيد على ملازمة من في حقهم نزلت هذه الآيات ومواصلتهم من قِبَل النبيّ بجميع الأوجه، وعليه فلا وجه لما ادعاه أبو حيان في البحر من أن آية الكهف أبلغ من التي في الأنعام. ولا يسيئن أحد الظن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن طاوع من أشار عليه بطردهم بقوله: نعم، وأن في طردهم ظلم، لأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما عين لجلوسهم وقتاً معيناً سوى الوقت الذي كان يحضر فيه أكابر قريش، وأن غرضه من الجلوس مع أولئك الأكابر هو إدخالهم في الإسلام حتى لا يفوتهم خير الدين والدنيا والآخرة فكان ترجيح هذا الجانب أولى، وأقصى ما يقال ان هذا كان اجتهاداً منه - صلى الله عليه وسلم - والخطأ في الاجتهاد مغفور والمخطئ فيه على أيّ حال مأجور. وتبقى دلالة السياق على إفادة التعبير بالغداة والعشي للديمومة، سيما مع ما سبق من أن العرب تستعمل هذين اللفظين في التكنية عن هذا المعنى كما في قولهم: (إني آتيه بالغدايا والعشايا) ، ويريدون بذلك الاستدامة في فعل المجئ إليه. مقام التذرع بالصبر والتسلية بأحوال السابقين: ¬

_ (¬1) ينظر السابق 5/218مجلد3 والتحرير15/305 مجلد 7.

ومما يجب التفطن له أن أغلب المواضع التي جاء فيها الذكر الموقوت بطرفي النهار في آي التنزيل وأكثرها شيوعا.. هو ما جاء في حق النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأن أغلب هذه المواضع سبق الأمرَ بالذكر والتسبيح فيها، الأمرُ بالتحلي بالصبر فقد جاء ما يفيد هذا وذاك في القرآن سبع مرات وذلك قوله مخاطباً إياه: (واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولاتكن من الغافلين.. الأعراف/205) ، وقوله: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل.. هود/114) ، وقوله: (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها.. طه /130) ، وقوله في نفس الآية والسورة: (ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى) ، وقوله: (فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار.. غافر/55) ، وقوله (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب.. ق/39) ، وقوله: (فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثماً أوكفوراً واذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً.. الدهر/25، 26) .

والمتبصر لهذه الآيات يرمق أن الطريقة التي عبر بها عن طرفي النهار في حقه - صلى الله عليه وسلم - فريدة من نوعها، إذ هي - فضلاً عن تنوعها- قد غطّت كل الأساليب التي ورد ذكرها وتم التعبير بها في القرآن عن هذين الوقتين المباركين، وهذا لم يُعهد مثله في سائر المقامات - على ما تم تقصّيه- فقد جاء التعبير عن أول النهار وآخره بـ (الغدو والآصال) وذلك عقب الأمر بالذكر في آية الأعراف، وبـ (بكرة وأصيلاً) عقب الأمر به مصحوباّ بالأمر بالصبر في آية الإنسان، كما جاء التعبير عنهما بـ (طرفي النهار) في آية هود وذ لك عقيب الأمر بإقامة الصلاة، وبـ (قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) وبـ (قبل طلوع الشمس وقبل الغروب) في آيتي طه وق عقيب الأمر فيهما بالصبر والتسبيح، وبـ (أطراف النهار) عقيب الأمر بالتسبيح فقط في عجز الآية سالفة الذكر من سورة طه، وبـ (العشي والإبكار) عقيب الأمر به مصحوباَ بالأمر بالصبر والاستغفار في آية غافر.

كما يلحظ انفراد هذا المقام بالتعبير عن أول النهار وآخره بـ (طرفي النهار) و (أطراف النهار) إذ التوقيت بهاتين العبارتين اللتين وردتا بالتثنية تارة وذلك عن الأمر بإقامة الصلاة، وبالجمع أخرى عند الأمر بالتسبيح - على تنوعها- لم يأتيا على هذا النحو إلا في حقه - صلى الله عليه وسلم -، ونظير ذلك في تنوع الأسلوب عند الأمر بالتسبيح، يقال في التعبير عن ذينك الوقتين بـ (قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) كذا بإضافة الطلوع والغروب للشمس، وبـ (قبل طلوع الشمس وقبل الغروب) بإضافة الطلوع فقط إليها، فهذان الموضعان لم يخاطب بهما أيضا على هذا النحو ولم يأتيا على هذه الشاكلة إلا في حقه صلوات الله وسلامه عليه، ناهيك عن مجيئ التعبير عن الوقتين مما لم يخصه وحده بل عمّه مع غيره كما في قوله: (يا أيّها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلاً.. الأحزاب/41، 42) . بل إن من مظاهر التنوع في الأساليب التي عرضت في هذا المقام.. مجيئ الأمر بما ذكرنا من ذكر أو تسبيح مقيدًا أحياناً بالجار والمجرور أو بالحال كما في آية الأعراف التي قُيد الذكر بها في الوقتين بقوله: (في نفسك) وبقوله: (تضرعاً وخيفة) ، ومعللاً أحياناً كما في قوله: (وسبح وأطراف النهار لعلك ترضى) ، ويأتي خالياً من كل ذلك أحياناً أخرى كما في سائر الآيات المذكورة.

والوجه في هذا التنوع والشمول - فيما أرى - مع تكرار الأمر بالصبر والتنزيه والتلبس بسائر ألوان العبادات الأخرى من نحو الاستغفار وإقامة الصلاة وذكر الله … يَمْثُل في أن ما حظي - صلى الله عليه وسلم - به مما حباه الله من كرامة ومكانة خُص بهما في الدنيا والآخرة (¬1) دون سائر أقرانه من النبيين بما فيهم أولي العزم من الرسل، يستأهل وفاء بحق النعمة أن يقابل بالمزيد من إعلان الولاء لله والتذرع بالصبر لمواجهة سيل البلاء الذي يعرِض لمن كان هذا حاله، باعتبار أن المرء يبتلى على قدر دينه فمن ثخن دينه اشتد بلاؤه (¬2) .. يفسر هذا ويؤيده ما جاء عن ابن مسعود فيما أورده البخاري ومسلم قال: دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يوعك فمسسته، فقلت: إنك لتوعك وعكاً شديداً، فقال: أجل، إني أوعك كما يوعِك رجلان منكم قال: فقلت ذلك أن لك أجرين، فقال- صلى الله عليه وسلم -: أجل.. وكذا ما جاء في نحو ما أورده البخاري عن ابن عمر قال: بينا النبي- صلى الله عليه وسلم - ساجد وحوله ناس من قريش، جاء عقبة ابن أبي معيط بسلا جزور فقذفه على ظهره - صلى الله عليه وسلم -.. وما أورده الطبري ¬

_ (¬1) فهو صاحب الحوض المورود والمقام المحمود والشفاعة العظمى وهو الذي قال عن نفسه - فيما رواه ابن عباس وعكرمة، إثر سماعه أناس يتذاكرون، وقد قال بعضهم: عجباً أن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وقال آخر: إنه كلم موسى تكليماً وقال آخر: فعيسى كلمة الله وروحه - "ألا وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأن أول شافع وأول مشفع يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لي فيدخلها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر"، والقائل: فضلت على الأنبياء بست… الحديث. (¬2) كما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - فيما أورده ابن حبان جواباً عمن سأله عن أشد الناس بلاء، وثخن في الحديث: أي قوي.

وابن إسحاق من أن بعضهم عمد إلى قبضة من التراب فنثرها على رأسه - صلى الله عليه وسلم - وهو يسير في بعض سكك مكة (¬1) ، إلى غير ذلك مما عرض له صلوات الله وسلامه عليه من فنون الاستهزاء والغمز واللمز كلما مشى بينهم أو مرّ بهم في طرقاتهم أو نواديهم مما يضيق المقام بذكره. كما يستأهل أن يقابل كذلك بالمزيد مما يستعان فيه بالله من ألوان العبادة من نحو تنزيه الله وقيام الليل وصيام النهار إلى غير ذلك من الأعمال المرضية له سبحانه، من نحو ما جاء في الصحيحين عن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه - أي تتشقق- فقلت له: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟ (¬2) ... ونحوه في الصحيحين أيضاً عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: صليت مع النبي- صلى الله عليه وسلم - ليلة فأطال القيام حتى هممت بأمر سوء، قيل وما هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه (¬3) ... وفيهما عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهي رسول ¬

_ (¬1) ينظر تاريخ الطبري 2/344وسيرة ابن هشام 1/158. (¬2) رواه البخاري 8/449، 3/12ومسلم 2819، 2820. (¬3) أخرجه البخاري 3/15، 16ومسلم 773 وأحمد 1/385، 396ونحوه حديث حذيفة قال: صليت مع النبي- صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فافتتح بالبقرة، فقلت يركع عند المائة، ثم مضى فقلت: يصلي بها في ركعة فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلاً ـ أي مرتلا بتبيين الحروف وأداء حقها ـ إذا مر بآية فيها تسبيح سبح وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم، فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم قال: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد، ثم قام طويلاً قريباً مما ركع، ثم سجد فقال: سبحان ربي الأعلى فكان سجوده قريباً من قيامه) [أخرجه مسلم 772 وأبو داود 874 والنسائي 2/176، 177 وأحمد 5/384، 397] .

الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال، قالوا: إنك تواصل، قال: إني لست مثلكم (¬1) . ولنا أن نتأمل بشئ من التفصيل ماجاء في سورة ص حيث لم يقتصر الحديث على نبي الله داود، بل ذكر عقب قصته قصة سليمان وأيوب كما جاء ذكر إبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل واليسع وذا الكفل فكأنه يقول (اصبر على ما يقولون) واعتبر بحال سائر الأنبياء، ليعلمه أن كل واحد منهم كان مشغولاً بهمٍّ خاص وحزن خاص فحينئذ يعلم أن الدنيا لا تنفك عن الهموم والأحزان وأن استحقاق الدرجات العالية عند الله لا يتحصل عليها إلا بتحمل المشاق والمتاعب في الدنيا.. وفي آية غافر أيضاً التي سبق الأمرَ بالتسبيح فيه بطرفي النهار، الأمرُ بالصبر حيث يقول جل ذكره (فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار) ، لقد جاءت هذه الآية الكريمة عقب الحديث عن فرعون وملإه وما كان من مآلهم وسوء خاتمتهم وذلك بعد أن وقى الله ذاك الذي كان يكتم إيمانه خوفاً منهم.. سيئات ما مكروا على عظم الخطر، فقد جاهر بإيمانه عندما استوجب المقام ذلك وراح يدعو قومه آملاً في أن ترق قلوبهم لدعوة نبي الله موسى - عليه السلام -، وطفق على الجانب الآخر يذب عن الكليم ما اشتور القوم لفعله من أمر قتله وهو يصرخ فيهم مقيماً حجته: (أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذباً فعليه كذبه وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم.. غافر/28) (¬2) ¬

_ (¬1) رواه البخاري 4/177 ومسلم 1102. (¬2) والغريب أن يتكرر نفس الموقف أو قريب منه مع النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -وصاحبه أبي بكر، وذلك حين أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنق النبي - صلى الله عليه وسلم - وخنقه خنقاً شديداً بعد أن وضع سلا الجزور على ظهره، فأتى أبو بكر حتى أخذ بمنكب هذا اللعين ودفعه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول ما قاله مؤمن آل فرعون: (أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله..) .

وذلك بعد أن أوغر الفرعون صدور جنده وكل من حوله بدعاوى كاذبة، همّ بسببها للتخلص منه (وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد.. غافر/26) . الأمر الذي يعني أن الصدع بكلمة الحق مهمة خطيرة وصعبة وقد تكلف الإنسان حياته، ويعكس مدى عناد أهل الباطل وقساوة قلوبهم. وذلك كله يستوجب من صاحب الدعوة الصبر الجميل والمزيد من التحمل في مواصلة الطريق إلى نهايته إذ العا قبة في آخر المطاف للتقوى كما أنها دائماً تكون للمتقين، لذا أعقب العزيز الذي لا يغلب ذلك بقوله: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار. ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب. هدىً وذكرى لأولي الألباب.. غافر/51 ـ 54) .

ولما كان التقدير بعد أن تقدم الوعد المؤكد بنصرة الرسل وأتباعهم: (ولقد آتيناك يا محمد الهدى والكتاب كما آتينا موسى، ولننصرنك مثل ما نصرناه وإن زاد إبراق قومك وإرعادهم فإنهم لايعشرون فرعون (¬1) فيما كان فيه من الجبروت والقهر والعز والسلطان والمكر، ولم ينفعه من ذلك كله شيئ) ، سبب عنه قوله: (فاصبر) أي على أذاهم فإنا نوقع الأشياء في أتم محالها على ما بنينا عليه أحوال هذه الدار من إجراء المسببات على أسبابها، ثمّ علل ذلك بقوله ـ صارفاً القول عن مظهر العظمة الذي هو مدار النصرة، إلى اسم الذات الجامع لجميع الكمالات التي من أعظما إنفاذ الأمر وصدق الوعد (إنّ وعد الله حق) يعني في إظهار دينك وإعزاز أمرك فقد رأيت ما اتفق لموسى - عليه السلام - مع أجْبر أهل ذلك الزمان وما كان له من العاقبة، فاصبر ولا تستبطئ النصر إذن فإنه واقع لك لا محالة كما وقع لموسى من قبل (¬2) . ¬

_ (¬1) أي لا يبلغون معشار ما فعله. (¬2) وقد كان، فقد نصره الله على أعدائه من المشركين يوم بدر ويوم الفتح وفي حنين وفي أيام الغزوات الأُخرى، أما ما عرض من الهزيمة يوم أحد فقد كان امتحاناً وتنبيهاً، على سوء مغبة عدم الحفاظ على وصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن لا يبرحوا مكانهم، ثم كانت العاقبة للمؤمنين.

ولما تكفل هذا الكلام من التثبيت بإنجاز المرام أمر بالإعراض عن ارتقاب النصر والاشتغال بتهذيب النفس موجهاً الخطاب إلى أعلى الخلق ليكون من دونه من باب الأولى فقال (واستغفر لذنبك) أي من كل عمل كامل ترتقي منه إلى أكمل، وحال فاضل تصعد به إلى أفضل (¬1) فيكون ذلك شكراً منك فتستن به أمتك، ولما أمره بالاستغفارعند الترقية في درجات الكمال أمره بالتنزيه عن كل شائبة، والإثبات لكل رتبة كمال، لافتاً القول إلى صفة التربية والإحسان، لأنه من أعظم مواقعها فقال: (وسبح بحمد ربك) لكونه المحسن إليك المربي لك فلا تشتغل عنه بشيئ، وإنما "جعل الأمران معطوفين على الأمر بالصبر لأن الصبر هنا لانتظار النصر الموعود ولذلك لم يؤمربه لما حصل النصر في قوله: (إذا جاء نصر الله والفتح) فقد اكتفى بقوله (فسبح بحمد ربك واستغفره) لأن ذلك مقام محض الشكر دون الصبر" (¬2) . وفي أمره - - صلى الله عليه وسلم -بالاستغفار تعريض بأن أمته مطالبون بذلك بالأحرى فهو أشبه ما يكون بقوله: (ولقد أوحى إليك وإلى الذين قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك.. الزمر/65) ، وفي الأمر به وبالتسبيح دلالة على أنهما داخلان في سياق التفريع على الوعد بالنصر إيذاناً بتحقيقه وكناية رمزية عن كونه واقع لا محالة (¬3) . ¬

_ (¬1) وتسميته ذنباً من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين، فهو أمر بأن يطلب من الله المغفرة التي تقتضيها النبوة، لكونه سبحانه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو في معنى اسأل الله دوام العصمة لتدوم المغفرة، وهذا مقام التخلية عن الأكدار النفسية. (¬2) التحرير 24/ 171مجلد 11. (¬3) ينظر نظم الدرر 6/525 والتحرير 24/170، 171مجلد 11والظلال5/3087، 6/3786.

وفي وجه تصدير الأمر بالصبر في قوله في آية طه (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى) ، وقوله في آية ق: (فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب) ، وقوله في آية الإنسان: (فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفوراً. واذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً) إثر ما بدر من أهل الشرك من أقوال آثمة وفي بيان النكتة في ذلك، يشير البقاعي إلى أنه لما كانت أقوالهم لا تليق بالجناب الأقدس لجهالة قائليها، وهي في جملتها أقوال تُخرج الحليم عن حلمه وكان الصبر شديداً على النفس منافراً للطبع، لكون النفس مجبولة على النقائص مشحونة بالوساوس، أمر سبحانه بالصبر ليفيد أن ما يقولونه إنما هو بإرادته سبحانه، وأنه موجب لتنزيهه وكماله لأنه تعالى هو الذي قهر قائله على قوله، وإلا فلو كان الأمر بإرادة ذلك القائل استقلالاً لكان ذلك في غاية البعد عنه لأنه موجب للهلاك (¬1) . ¬

_ (¬1) ينظر نظم الدرر7/265

وفي تغيير السياق في قوله من آية طه (ومن آناء الليل) ، إيذان بأن العبادة في هذه الأحيان هي أيضاً من الأمور المرضية لله سبحانه لاجتماع القلب وهدوء الرجل والخلو بالرب، ولأن العبادة إذ ذاك أشق وأدخل في التكليف كانت كذلك أفضل عند الله، وإنما جاء الجزاء بكلمة الإطماع (لعلك ترضى) ولم يجئْ بما يفيد اليقين أو يدل على الجزم، لئلا يأمن مكر الله، وذلك لما كان الغالب على الإنسان النسيان وكان الرجاء عنده أوفر، والمعنى: كن على ذُكر من ربك وسبح بحمده في هذه الأوقات بالذات، رجاء أن يدوم رضاك بهذا المقدار الواجب من الصلوات والتسبيحات دون زيادة رفقاً بك وبأمتك (¬1) فتنعم في ذلك الجوار الرضي وتطمئن في ذاك الحمى الآمن بما تنال في الدنيا من ثواب، تسبب فيه اجتهادك في الطاعة وإظهارك دين الله وإعلاؤك أمره (¬2) ، وفي ذلك - بالطبع - من الثواب ما يؤهلك ويجعلك تستحق ما ادخره الله لك في الآخرة من شفاعة ودرجة عالية، وهو في معنى قوله: (ولسوف يعطيك ربك فترضى.. الضحى/5) ، وقوله: (عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً.. الإسراء/79) ، وكذا ما صح عنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث أنس: (لكل نبي دعوة قد دعا بها في أمته وخبّأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة) ، وقوله تعالى على لسان جبريل عندما بكى - صلى الله عليه وسلم - وهو يتلو قول الله تعالى في سورة إبراهيم (رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه منّي ومن عصاني فإنك غفور رحيم.. إبراهيم/36) ، وقوله في عيسى: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم.. المائدة /118) : قل له يا جبريل إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك. ¬

_ (¬1) على ما ذكره ابن عاشور في التحرير 16/339 مجلد 8، ويبينه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) . (¬2) ينظر نظم الدرر5/57، 58.

وإنما أثرت جُلّ الآيات الواردة في هذا المقام التعبير بالربوبية المضافة إليه - صلى الله عليه وسلم - سواء فيما يخص الذكر عامة أو ما يتعلق بالتسبيح بحمده خاصة ليدل على نهاية الرحمة والتقريب والفضل والإحسان، والمقصود منه أن يصير العبد فرحاً عند سماع هذا الاسم فيستحضر معنى أسمائه وصفاته، ويستجلي معاني كرمه وآلائه، ذلك أن لفظ الرب مشعر بالتربية والفضل وعند سماع هذا الاسم يتذكر العبد أقسام نعم الله عليه (¬1) ، وإن كان عقله بالحقيقة عاجزاً عن أن يصل إلى أقل أقسامها كما قال تعالى: (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها.. إبراهيم/34) فعند انكشاف هذا المقام يقوى الرجاء به والاعتماد عليه واللجوء إليه والثقة فيه. مقام الاستغراق والاستيعاب لجميع الأحوال: ¬

_ (¬1) ينظر تفسير الرازي 6/4221وتفسير المنار 9/557.

ويبدو هذا المعنى بوضوح في آية الأعراف: (واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال.. الأعراف/205) فإن الأمر بذكر الله في هذه الآية الكريمة وحمله على ظاهره في تخصيص الوقتين المذكورين دون سائر الأوقات، غير مستساغ ولا يساعد عليه السياق، ذلك أن الاستغراق في الأحوال يستتعبه استغراق في الأوقات كيما تستوعب جميع ما يقوم به الإنسان في سائر شئون حياته، سيما وأن لكل حالة يقدم عليها أو يهم بها – حتى فيما يظن أنه مشغلة عن ذكر الله من نحو دخول السوق أو الخلاء – دعاء أو ذكر وارد يلزم المسلم التزود به، وفي الحديث الذي ذكره البيهقي في شعب الإيمان عن عبد الله بن سلام قال: قال موسى - عليه السلام -: يارب ما الشكر الذي ينبغي لك؟ فأوحى الله تعالى إليه: أن لا يزال لسانك رطباً من ذكري. قال: يا رب إني أكون على حال أُحِلُّك أن أذكرك فيها، قال: وما هي؟ قال: أكون جنباً، أو على الغائط.. فقال: وإن كان، قال: يا رب فما أقول؟ قال: تقول (سبحانك وبحمدك جنبني الأذى، وسبحانك وبحمدك فقني الأذى) ، قلت: قالت عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله تعالى على كل أحيانه (¬1) ، يقول عبد الله بن أبي الهزيل فيما نقله عنه ابن القيم: (إن الله تعالى ليحبّ أن يذكر في السوق، ويحب أن يذكر على كل حال، إلا في الخلاء) ، ويكفي في هذا الحال استشعار الحياء والمراقبة، والنعمة عليه في هذه الحالة، وهي من أجلّ الذكر. فذكر كل حال بحسب ما يليق بها، واللائق بهذه الحال التقنع بثوب الحياء من الله تعالى وإجلاله وذكر نعمته عليه.. إذ النعمة في تيسير خروجه كالنعمة في التغذي به، وكان علي ابن أبي طالب إذا خرج من الخلاء، مسح بطنه وقال: (يا لها من نعمة لو يعلم الناس قدرها) ، وكان بعض السلف يقول: (الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى فيّ ¬

_ (¬1) رواه مسلم 373وأبو داود18 والترمذي 338 وأحمد في المسند 6/70، 153 وابن ماجة 302.

قوته وأذهب عني مضرته) (¬1) . على أن المتأمل لدلالة السياق في إطلاق الذكر، حتى في غير آية الأعراف، يلمس أن الاستيعاب الذي يكتنفه يتجاوز دائرة أحوال الإنسان ليمتد وليشمل ألواناً أخرى مما يلهج به الذاكرون وتطمئن به قلوبهم، وذلك من نحو قراءة القرآن ومن نحو الدعاء والتحميد والتكبير والتهليل والبسملة والحوقلة وغير ذلك مما يشتمل على تمجيد الله وتقديسه. وأحسب أني فيما قلت، لم أذهب بعيداً عما قاله الطاهر من أن المقصود من قوله في آية الأعراف (بالغدو والآصال) : "استيعاب أجزاء النهار بحسب المتعارف فأما الليل فهو زمن النوم، والأوقات التي تحصل فيها اليقظة خصت بأمر خاص مثل قوله تعالى: (قم الليل إلا قليلاً.. المزمل/2) ، على أنها تدخل في عموم قوله: (ولا تكن من الغافلين) " (¬2) ، ومن أن المقصود من قوله: (ودون الجهر من القول) : "استيعاب أحوال الذكر باللسان، لأن بعضها قد تكون النفس أنشط إليه منها إلى البعض الآخر" (¬3) ، يريد أن قوله: (ودون الجهر من القول) ، مراد به الذكر المتوسط بين الجهر والإسرار، وهو المقابل لكلّ من التضرع والخيفة. ¬

_ (¬1) وبنحوه رواه ابن السني برقم 25 من حديث ابن عمر وفي سنده ضعف وانقطاع، وله شواهد بمعناه ذكرها ابن علاّن في الفتوحات الربانية 1/405 وينظر الوابل الصيب ص 135وما بعدها. (¬2) التحرير9/242مجلد5. (¬3) السابق.

وفي تقديري أن التماس علة قصد الشمول لجميع أحوال الذكر اللساني في قوله: (تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول) ، أوقع في النفس وآدب في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - من ادعاء "أن الإخفاء أدخل في الإخلاص وأقرب إلى حسن التفكر"، على ما ذهب إليه الزمخشري والآلوسي (¬1) ومن حجل بقيدهم، إذ في ذلك من الظن السيئ وإساءة الأدب في حق المعصوم - صلى الله عليه وسلم -، المنزه عن كل شائبة شرك أو رياء ما فيه، وما يجب أن يترفع عن الوقوع فيه أي مسلم. وفي مقابلة التضرع بالخيفة لطيفة يجب الالتفات إليها وهي أنه لما كان التضرع الذي هو في معنى التذلل يستلزم الخطاب بالصوت المرتفع في عادة العرب، كنى به عن رفع الصوت مراداً به معناه الأصلي والكنائي.. ثم قوبل بالخفية تارة وذلك في قوله تعالى: (ادعوا ربكم تضرعاً وخفية.. الأعراف/55) ، حينما جهر الصحابة الكرام بالدعاء وفوق المقدار وأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بخفض الصوت قائلاً لهم: (إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً) ، (¬2) وبالخيفة كما هنا تارة أخرى، فمقابلتها إذن بالتضرع طباق في معنيي اللفظتين الصريحين ومعنييهما الكناءين، فكأنه قيل تضرعاً وإعلاناً وخيفة وإسراراً، وفي ذلك من الشمول والا ستيعاب لجميع أحوال الإنسان، ومن التحذير من الغفلة ما لا يخفى. ¬

_ (¬1) ينظر الكشاف 2/140 وروح المعاني9/223مجلد 6. (¬2) رواه البخاري 6610، 2992، 6384، ومسلم 2704وأبو داود1526، 1528والترمذي 3461وابن ماجة 3824 وأحمد 4/403، 417، 418.

على أن قوله: (ولا تكن من الغافلين) في الدلالة على شدة الانتفاء والنهي أبلغ وأقوى من نحو (ولا تغفل) ، وذلك لأنه في أولى العبارتين يفرض جماعة يحق عليهم وصف الغافلين فيحذر من أن يكون منهم أو في زمرتهم وذلك أبين للحالة المنهي عنها، والخطاب هنا وإن كان خاصاً بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وموجهاً إليه، إلا أن مراده العموم لكل من يصلح له الخطاب من الأمة لوجوب الاقتداء به، وهو وإن كان في حقه واجباً ففي حقها هي مستحسن طالما أنه لم يثبت لها فرضيته أو الانتهاء عنه كالوصال في الصوم (¬1) . مقام الثناء والشكر على النعمة: ¬

_ (¬1) ينظر التحرير 9/242مجلد 5.

ونرمق هذا المعنى في حديث القرآن عن نبي الله زكريا - عليه السلام - فقد جاء الأمر بالذكر والتسبيح له ولقومه في قوله سبحانه: (واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشي والإبكار.. آل عمران/41) ، وقوله: (فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشياً.. مريم/11) ، وجاء التكليف بذلك في سياق الحديث عن مناقبه - عليه السلام - إعلاماً باصطفائه واستحقاقه شرف النبوة وتشريفه بتكاليفها وأعمالها، وحسبنا دلالة على ذلك ما أخبرت به وأفصحت عنه الآيات السابقة واللاحقة للآيات المذكورة في السورتين من أمر اجتهاده عليه السلام في الطاعة والعبادة، من نحو ما أفاده قوله سبحانه: (وهو قائم يصلي في المحراب…آل عمران/39) كذا بلفظ القيام المعبر عنه باسم الفاعل الدال على الملازمة والثبوت على أمر الصلاة لله جل وعلا والقيام بين يديه.. ومن أمر إقباله على الدعاء من غير تأخير، وهو ما ينبىء عنه تقديم الظرف على الفعل في قوله: (هنالك دعا زكريا ربه.. آل عمران/38) (¬1) .. وأمر خضوعه - عليه السلام - وإلحاحه في الطلب، على ما جاء في قوله: (إذ نادى ربه نداءاً خفياً.. مريم/3) ، "أي كما يفعل المحب القريب مع حبيبه المقبل عليه في قصد خطاب السرّ، الجامع بين شرف المناجاة ولذاذة الانفراد بالخلوة" (¬2) ... وأمر إيثاره فيما طلب، رضاء الله وحظ الآخرة على ما ينتظره أي والد قد بلغ من الكبر عتياً ومن العمر أرذله من ولده، من شدّ أزر ومن إعانة على ظروف الحياة وصروفها ... وأمر تطلعه - عليه السلام - بدل ذلك إلى أن تمتد فيه وفي نسله شجرة النبوة والعلم والعمل، إرضاء لصاحب المنّة والفضل سبحانه، القائل حكاية عنه وعلى لسانه: (فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضياً.. مريم /6) .. وأمر مبالغته في التضرع المفاد من عدم مخاطبة الملك المبشِّر له بيحيى والمنادِي له، بملابسة أنه المباشر بما يعد ¬

_ (¬1) ينظر تفسير أبو السعود 2/31 مجلد 2. (¬2) نظم الدرر 4/520.

مندوحة له لو فعل، وإيثاره على ذلك مناجاة ربه بالقول: (ربّ أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر.. آل عمران /40) ... وأمر تسليم زمام شئونه إلى مولاه وخالقه حين خاطبه الملَك بقوله: (كذلكَ الله يفعل ما يشاء.. آل عمران/40) ، وقوله: (قال كذلك قال ربك هو علىّ هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا.. مريم/9) ... وأمر امتثاله حين طلب من ربه أن يجعل له آية تدل على العلوق، أو ليتلقى بها تلك النعمة بالشكر حين حصولها أو الوعد بها دون تأخير، حتى تظهر ظهوراً معتاداً (¬1) ... وأمر ملازمته أثناء كل ذلك وقبله وبعده، الثناء على الله بما هو أهل كما حكى القرآن عنه قوله: (رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء.. آل عمران/38) ، وقوله: (رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين.. الأنبياء /89) . ولا عجب إذن لمن كان هذا حاله أن يقَابل ثناؤه على الله، بثناء منه سبحانه على وجه لائق به، وأن تأتي الشهادة له بذلك في قوله عز من قائل: (فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجة إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين.. الأنبياء/90) . ¬

_ (¬1) ينظر روح المعاني 3/240مجلد 3.

والوجه في ارتباط الأمرله - عليه السلام - بالتسبيح الكثير، الإيذان بتأدية هذه المهمة الجليلة التي كلف بها على أتم وجه. والوجه في جعل الآية التي طلبها ليتلقى بها هذه النعم من قبل أن يُرزقها، الصمت التام عن محادثة الخلق ثلاثة أيام بلياليهن، الإشعار بغرابة ما طلبه وأجيبه في أعراف الناس، والإعلام بعدم مقدرتهم على استيعابه، وقبل اللتيا تخليص المدة بذكر لا يشغل لسانه بغيره توفراً منه على قضاء حق تلك النعمة الجسيمة وشكرها، يقول الآلوسي في معنى ما أخبر به تعالى عن ذلك في قوله: (قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشي والإبكار.. آل عمران/41) : "أي لا تقدر على تكليمهم من غير آفة، وهو الأنسب بكونه آية والأوفق لما في سورة مريم" (¬1) ، يعني من قول الله تعالى: (قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليالٍ سوياً. فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشياً.. مريم/10، 11) . ¬

_ (¬1) ينظر السابق 3/241 مجلد3 والكشاف 1/ 429.

وعليه فالمرجح أن يراد من عدم التكلم ظاهره، ويحتمل من غير المرجح أن يكون كناية عن الصيام لأنهم كانوا إذ ذاك إذا صاموا لم يكلموا أحداً، وإلى ذلك ذهب عطاء وهو خلاف الظاهر، وإنما خالف الظاهر لأنه "لما طلب الآية من أجل الشكر قيل له آيتك أن تحبس لسانك إلا عن الشكر، وأحسن الجواب ما كان منتزعاً من السؤال"، كذا في مدارك التنزيل (¬1) ، فيكون الوجه في عدم تكليم الناس الإشارة إلى أنه غير ممنوع من التكلم بذكر الله تعالى وتخليص المدة لشكره، بحيث لا يُشغل لسانه بغيره، ولا تنافي – بالطبع – بين ما أفاده أبو البركات وغيره من أمر حمل التسبيح على ما ذكر وحمله على معنى الصلاة، لكونه كما قلنا وكما هو معلوم جزءاً منها، ولكونه مقيداً ومفسراً بما في نحو قوله: (يصلي في المحراب) كذا بالتصريح بنوع العبادة وبالمراد من التسبيح. مقام الحض على صلاتي الفجر والعصر بخاصة: هذا وتكمن النكتة في مجيئ التأكيد على صلاتي الصبح والعصر تارة بصيغة الأمر كما في قوله: (وأقم الصلاة طرفي النهار) ، وتارة بالتكرار أو ما يشبهه كما في قوله: (فسبح وأطراف النهار) بعد قوله في نفس الآية والسورة (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) ... في الإعلام بمزيد فضلهما، والقصد إلى أن تكون الصلاة أول أعمال المسلم إذا أصبح، وأخر أعماله إذا أمسى لتكون السيئات الحاصلة فيما بين ذلك ممحوة بالحسنات الحافّة بها، وهذا مشير إلى حكمة كراهة الحديث بعد صلاة العشاء حفاظاً على الصلاة بصفة عامة، وما كان منها في أوقات الغفلة بصفة خاصة (¬2) . ¬

_ (¬1) المسمى بتفسير النسفي، وينظر فيه 1/214. (¬2) التحرير 12/179مجلد 9.

وقد أفاد إيثار كلمة (أقم) في آية هود على سواها، تأكيد الأمر على صلاتي الصبح والعصر ذلك أن "الأمر بالإقامة - على حد ما ذكر الطاهر - يؤذن بأنه عمل واجب لأن الإقامة إيقاع العمل على ما يستحق وهذا يقتضي أن يكون المراد بالصلاة هنا الصلاة المفروضة ... ولكون الطرفان ظرفين لإقامة الصلاة المفروضة، فقد علم أن المأمور إيقاع صلاة في أول النهار وهو الصبح وصلاة آخره وهي العصر" (¬1) . كما أفاد تكراره في آية طه جواز أن يراد بالنهار في قوله (فسبح وأطراف النهار) ما بين طلوع الفجر وغروب الشمس، واندراج الوقتين المذكورين في قوله (قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) - من ثم - في هذا الجمع، وانما جاء التكرار بلفظ الجمع للمشاكلة لـ (آناء الليل) أو لأن لكل من الطرفين أولاً وآخراً فجمعه باعتبار تعدد النهار وأن لكلٍّ طرفاً، أو لأن المراد الجنس الشامل لكلِّ نهار، على ما سبق ذكره (¬2) . وقد جاءت التعدية بالباء في قوله: (فسبح بحمد ربك.. طه/130، ق/39) رغم أن الفعل يتعدى بنفسه كما في قوله: (وسبحه.. الإنسان /26) ، وقوله: (وسبحوه.. الأحزاب 42) وقوله: (سبح اسم ربك الأعلى.. الأعلى /1) ، لتفيد المصاحبة وليكون المعنى سبح ربك متلبساً ومقترناً بحمده، فيكون فيه حذف المفعول لحصول العلم به من غير ذكر، والقول بأن المراد التنزيه أي نزهه واقرن التنزيه بحمده لا يساعد عليه السياق لأن الباء يترجح معها إرادة معنى الصلاة، إذ في كل ركعة منها تقرأ الفاتحة وهي حمد لله تعالى (¬3) . ¬

_ (¬1) السابق بتصرف. (¬2) ينظر الآلوسي16/412مجلد 9. (¬3) ينظر الرازي 14/ 271، 272والتحرير26/ 327 مجلد 12.

أما دخول الفاء على عامله (فسبح) فالسر فيه هو أنه لما قدم عليه الجار والمجرور للاهتمام شابه تقديم أسماء الشرط المفيدة معنى الزمان، فعومل الفعل معاملة جواب الشرط كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ففيهما مجاهد) أي الأبوين، وقوله تعالى: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك.. الإسراء /79) (¬1) ، والقول بأنها مفسرة، فيه نظر.. والزعم بأنها زائدة للدلالة على لزوم ما بعدها لما قبلها – كما ذكر الآلوسي (¬2) - يرده ما ذكرنا. وعن بلاغة التنوع بين قوله تعالى: (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) في آية طه، وقوله في آية ق بلفظ (وقبل الغروب) وعن سر مجيئ الأول مضافاً إلى الشمس والثاني بدونها.. ذكر الكرماني والغرناطي والفيروزابادي أنه في ق راعى القياس وفي طه راعى الفواصل ومقاطع الآي، وهم جميعاً في ذلك قد حجلوا بقيد الخطيب الإسكافي الذي أوضح أن "فواصل أكثر الآيات في سورة طه أو آخرها ألف فعدل إلى (غروبها) وهو الأصل، لأن الطلوع مضاف إلى الشمس، وحق الغروب أن يكون مضافاً إلى ضميرها، وضميرها بعدها ألف، وأما سورة ق ففواصلها مردوفة بواو أو ياء (السجود) و (أدبار) و (القعيد) و (العتيد) و (المريج) . والغروب متى ذكر علم أنه أريد به غروبها فكان ذلك أشبه بالفواصل التي تقدمتها في المكانين فلذلك اختلفا" (¬3) . ¬

_ (¬1) ينظر التحرير16/338مجلد6. (¬2) ينظر الآلوسي16/411مجلد 9. (¬3) درة التنزيل وغرة التأويل ص 56 وينظر البرهان في متشابه القرآن 4/ 253 وملاك التأويل 2/ 830 وبصائر ذوي التمييز 1/ 438.

وفي تقديري أن ما ذكروه بخصوص تنوع السياق في آيتي (طه) و (ق) والمقارنة بينهما لا يشفي العِلّة ولا يروي الغُلّة، إذ الاقتصار على جعل النكتة في ذلك منحصرة على رعي الفواصل ينتابه القصور الشديد في التعرف على سياقات الآيات في الموضعين، وبرأيي أن مجييء الأمر بالتسبيح في آية (طه) وهي الآية الوحيدة المستثناة مع ما بعدها، بنزولها في المدينة دون آيات السورة، ومجيؤه في آية (ق) وهي ضمن آيات السورة مكية، وحمل التسبيح فيهما على معنى الصلاة - كما سبق تقريره وعلى ماهو المرجح لدينا- الإشعار بمدى أهمية الصلاة في أي زمان ومكان وعلى أي نحو من الأنحاء، والإعلام بضرورة الاستدامة عليها والصبر والمثابرة على أدائها والدعوة إليها، وبيان عظيم مكانتها بين أركان الدين لكونها عموده وأن لا معنى لإسلام المرء بدونها لكونها ناهيته عن الفحشاء والمنكر والبغي، والإعلام كذلك بمدى حاجة المسلم لما خُص منها في الوقتين من محو سيئات ومن رفع درجات، يعضد ذلك قوله فيما ولي آية طه المذكورة: (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى.. طه /132) . مقام الحث على الإكثار من ذكر الله والاستدامة عليه:

وهو ما يجمل أو يتعين حمل الأمر بالتسبيح بطرفي النهار فيه على ظاهره، سواء تعلق الخطاب في ذلك الأمر بالرسول - صلى الله عليه وسلم - كما في قوله تعالى: (واذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً. ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلاً طويلاً.. الإنسان /25، 26) ، أو تعلق بغيره كما في قوله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال. رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة.. النور /36، 37) ، وقوله: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً. وسبحوه بكرة وأصيلاً..الأحزاب /41، 42) إلى غير ذلك مما تعد علاقة التسبيح فيه بالنسبة إلى الذكر المطلق علاقة خاص بعام، فيحمل الخاص فيه على العام بأن يجعل العام فيما نحن بصدده وهو الذكر المطلق، في سائر الأوقات. ويختص بالعشي والإبكار ما تعلق منه بأمر التسبيح.. ويستأنس لذلك ويدل عليه قول الطاهر في آية الأحزاب: "والذكر: ذكر اللسان وهو المناسب لموقع الآية بما قبلها وبعدها" (¬1) ، وقوله: "عطف (وسبّحوه) على (اذكروا الله) عطف الخاص على العام، اهتماماً بالخاص لأن معنى التسبيح التنزيه عما لا يجوز على الله من النقائص فهو من أكمل الذكر لاشتماله على جوامع الثناء والتمجيد" (¬2) وعلى هذا، القياس في سائر ما ذكرنا في هذا المقام طرقاً للباب على وتيرة واحدة. ¬

_ (¬1) التحرير 22/48 مجلد 11. (¬2) السابق.

على أن ما قاله في معنى الذكر، لا يمنع أن يدخل فيه - على ما أفاد في موضع آخر- الصلوات المفروضات لقوله: (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل.. هود /114) وكذلك النوافل التي هي في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - دائرة بين المفروض وغير المفروض وفي حق غيره لا تتخطى دائرة المسنون والمندوب، كما يشمل ذكر اسم الرب: تبليغ الدعوة والموعظة بتخويف عقابه ورجاء ثوابه (¬1) ، إلى غير ذلك مما يقرب إلى الله وللسان منه علقة، وفي روح المعاني عن ابن عباس: المراد به توحيد الله عز وجل بقول (لا إله إلا الله) وعنه المراد به تلاوة كتابه وقيل ذكر أسمائه الحسنى (¬2) ، وهو في معنى ما تقدم. أما التسبيح الذي يجمل حمل الآيات سالفة الذكر فيه، على ظاهره فمراده - كما مربنا - التنزيه بالقول وبالاعتقاد، عن كل شيئ كان على خلاف ما أخبر به سبحانه وعن كل صفة أو شائبة نقص، والإثبات لكل كمال. ¬

_ (¬1) ينظر التحرير 29/405مجلد 14. (¬2) ينظر الآلوسي18/258مجلد10.

ومما جاء في فضل الذكر الكثير الوارد في آية الأحزاب، ما روي عن ابن عباس ومجاهد: (أن لا ينسى جلّ شأنه) ، وقيل أن يذكر سبحانه بصفاته العلى وأسمائه الحسنى وينزه عن كلّ ما لا يليق به، وعن مقاتل: هو أن يقال: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) على كل حال، وقال بعضهم: مرجع الكثرة العرف (¬1) . وفي الحديث عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا ركعتين جميعاً، كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات) (¬2) ، ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن الأمر في الذكر الكثير ليس قاصراً على عمل الليل كما قد يفهم من الحديث بل إنه ليشمل ويعمّ - على ما أفادة ابن القيم - كل عمل، يقول رحمه الله: "أفضل أهل كل عمل أكثرهم فيه ذكراً لله عز وجل فأفضل الصُّوَّام أكثرهم ذكراً لله في صومهم وأفضل المتصدقين أكثرهم ذكراً لله في صدقتهم وأفضل الحجاج أكثرهم ذكراً لله في حجهم، وهكذا سائر الأعمال ا. هـ" (¬3) ، ويؤيده ما ذكره ابن أبي الدنيا في حديثه المرسل، عندما سؤل - صلى الله عليه وسلم -: أي أهل المسجد خير؟ قال: (أكثرهم ذكراً لله عز وجل) ، قيل: وأي أهل الجنازة خير؟ قال: (أكثرهم ذكراً لله عز وجل) ، قيل: فأي المجاهدين خير؟ قال: (أكثرهم ذكراً لله عز وجل) ، قيل فأي الحجاج خير؟ قال: (أكثرهم ذكراً لله عز وجل) ، قيل: وأي العوّاد أو العبّاد خير؟ قال: (أكثرهم ذكراً لله عز وجل) . قال أبو بكر: (ذهب الذاكرون بالخير كله) (¬4) . ¬

_ (¬1) ينظر تفسير ابن كثير3/505 والوابل الصيب ص 152، 153. (¬2) رواه أبو داود (1309) بإسناد صحيح، وابن ماجة (1335) ، وابن حبان 645 وصححه. (¬3) الوابل الصيب لابن القيم ص 152. (¬4) ينظر تفسير ابن كثير3/505 والوابل الصيب 152، 153.

وفي الحديث الذي رواه أبو الدرداء يقول - صلى الله عليه وسلم -: (ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: (ذكر الله تعالى) (¬1) ، وعن أبي موسى الأشعري قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحي والميت) (¬2) ، وفي حديث أبي هريرة قال - صلى الله عليه وسلم -: يقول الله تعالى: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإٍ ذكرته في ملإٍ خير منهم) (¬3) . ¬

_ (¬1) رواه الترمذي 3374وأحمد6/447 وابن ماجة بسند صحيح 3790والحاكم وصححه 1/496. (¬2) البخاري مع الفتح11/175، 177ومسلم779 بلفظ (مثل البيت الذي يذكرالله فيه والبيت الذي لا يذكرالله فيه مثل الحي والميت) . (¬3) رواه البخاري 2675ومسلم 4/2061 والترمذي 3598.

ومن الأحاديث الحاثّة على التسبيح قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده، مائة مرة، لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به، إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد) (¬1) ، وقوله: (كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) (¬2) ، وقوله: (لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس) (¬3) ، وقوله: (من قال سبحان الله وبحمده، في يوم مائة مرة، حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) (¬4) ، وقوله: (من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمد الله ثلاثاً وثلاثين، وكبر الله ثلاثاً وثلاثين، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر) (¬5) ، وقوله: (أيعجز أحدكم أن يكسب في كل يوم ألف حسنة؟ فسأله سائل من جلسائه، كيف يكسب ألف حسنة؟ قال: يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة، أو يحط عنه ألف خطيئة) (¬6) ، وقوله حين جاءه فقراء المهاجرين وقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم، يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ولهم فضل من أموالهم يحجون ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون فقال: ألا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ¬

_ (¬1) رواه البخاري7/168، 11/173ومسلم 2692وأبو داود 5091 والترمذي 3466وأحمد2/ 515. (¬2) رواه البخاري7/ 168، 11/175 ومسلم 2694 والترمذي 3463وابن ماجة 3806.وأحمد2/232. (¬3) كناية عن الدنيا، والحديث رواه مسلم 2695 والترمذي 3591. (¬4) رواه البخاري 11/168، 169ومسلم 2691 والطبراني1/209 والترمذي 3464. (¬5) أورده الإمام مسلم597 والإمام أحمد3/371، 483. (¬6) ر واه مسلم 2698والترمذي 3459.

ثلاثاً وثلاثين (¬1) وزاد مسلم في روايته فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله فقال رسو ل الله - صلى الله عليه وسلم -: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) . ومما جاء في فضل الذكر والتسبيح المضاعف ما روته أم المؤمنين جويرية بنت الحارث من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة، فقال: ما زلت على الحال الذي فارقتك عليها؟ قالت: نعم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات، لو وزنت بما قلتِ منذ اليوم لوزنتهن (سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته) (¬2) ، وعن سعد ابن أبي وقاص أنه دخل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على امرأة وبين يديها نوى أو حصى تسبح به فقال: أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا أو أفضل، فقال: سبحان الله عدد ما خلق في السماء سبحان الله عدد ما خلق في الأرض، سبحان الله عدد ما بين ذلك، سبحان الله عدد ما هو خالق، والله أكبر مثل ذلك، ولا إله إلا الله مثل ذلك، والحمد لله مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك) (¬3) . ¬

_ (¬1) رواه البخاري 2/270، 271ومسلم595 ومالك 1/190 وأبو داود1504 وأحمد 2/238 والدارمي1360 والطبراني 1/209. (¬2) روا هـ مسلم 2726 والترمذي 3550 وأبو داود 1503 والنسائي 4/77. (¬3) رواه أبو داود 1500 والترمذي 3563 وابن حيان 2330 والحاكم 1/548 وصححه الذهبي.

وفي الأثر عن ابن مسعود: (لأن أسبح الله تعالى تسبيحات أحب إليّ من أن أنفق عددهن دنانير في سبيل الله عز وجل) ، وجلس عبد الله بن عمرو وعبد الله بن مسعود فقال ابن مسعود: (لأن آخذ في طريق أقول فيه: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، أحب إليّ من أن أنفق عددهن دنانير في سبيل الله عز وجل) ، فقال عبد الله بن عمرو: (لأن آخذ في طريق فأقولهن أحب إليّ من أن أحمل عددهن على الخيل في سبيل الله عز وجل) (¬1) . مقام موافقة الجبال والطيرلتسبيح نبي الله داود عليه السلام: وفي ذلك يقول سبحانه: (اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب. إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق. والطيرَ محشورةً كلٌّ له أوّاب.. 17- 19) ، وقد سبق أن ألمعنا إلى أن مفردة التسبيح هنا في حق كلٍّ مستخدمة على غير ظاهر معناها ومستعملة في غير ما وضعت له في اصطلاح التخاطب من معنى التنزيه وقول: سبحان الله، وأن التجوز في حق تسبيح الجبال بالعشي والإبكار، مغاير للتجوز الذي هوفي حق داود عليه السلام، ذلك أن استعمالها تجوزاً في حق داود استعمال بما يليق به من معنى الصلاة لكونه المستساغ في حقه، واستعمالها تجوزاً في حق الجبال والطير استعمال بمعنى التسخير والانقياد وهو تسخير وانقياد يحمل - كما قلنا - معنى الطواعية على ما يومئ إليه السياق ويدل عليه قوله (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين.. فصلت /11) ، فهو تقديس بلسان قالٍ لائق بهن نظير تسبيح الحصى المسموع في كف النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) ينظر الوابل الصيب لابن القيم ص134.

وأضيف أن المقام هنا هو الذي أملى ذلك الفهم، وأعان عليه التقييد بالوقتين المذكورين (العشي والإشراق) واختصاص تسبيحهن بكونه معه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فـ (مع) في النظم الكريم متعلقة بالتسخير، وإيثارها على اللام للدلالة على أن تسخير الجبال له- عليه السلام - لم يكن بطريق التصرف الكلي فيها كتسخير الريح وغيرها لسليمان، بل بطريق التبعية له والاقتداء به في عبادة الله وتلك هي نكتة التأخير للظرف، وإنما "قدم في سورة الأنبياء فقيل: (وسخرنا مع داود الجبال.. الأنبياء/79) لذكر داود ثمة فقدم مسارعة للتعيين ولا كذلك هنا" (¬1) . والنكتة في مجيئ التسبيح بلفظ المضارعة (يسبحن) دون اسم الفاعل (سابحات) استحضار تلك الصورة العجيبة الخارقة للعادة، في الذهن. وكونها في معنى (مسبحات) ، فإن صيغة الفعل تدل على الحدوث والتجدد ليفيد المعنى أن تسبيحهن معه إنما كان يحدث شيئاً بعد شيئ وحالاً بعد حال وكأن السامع حاضر تلك الجبال يسمعها تسبح (¬2) . ¬

_ (¬1) الآلوسي23/256 مجلد 13وينظر تفسير أبي السعود7/219مجلد4. (¬2) ينظر الكشاف 3/364 والرازي13/296 والآلوسي 23/259مجلد 13.

والأمر على عكس ذلك في حق الطير، فإنه لما لم يكن في الحشر ما كان في التسبيح من إرادة الدلالة على الحدوث شيئا بعد شيئ لا جرم جيئ به اسماً لا فعلاً، وذلك للدلالة على أنها مجموعة إليه طوعاً من كلّ جانب دفعة واحدة، ولو قال: (وسخرنا الطير يُحشَرن) - على تقدير أن الحشر يحصل من حاشرها شيئاً بعد شيئ والحاشر هو الله عز وجلّ - لكان خُلفاً، لأن حشرها جملة واحدة والتعبير عن ذلك باسم الجمع دون الجمع، أبلغ في الدلالة على القدرة.. ووضْع (الأوّاب) – الذي هو في معنى الرجّاع - موضع (المسبِّح) إما لبيان أنها ترفع التسبيح، والمرجِّع رجَّاع لأنه يرجع إلى فعْله رجوعاً بعد رجوع، وإما لأن الأوّاب وهو التوّاب الكثير الرجوع إلى الله وطلب مرضاته، من عادته ودأبه أن يكثر ذكر الله ويديم تسبيحه وتقديسه (¬1) ، ومهما يكن من أمر فإن في هذا وما قبله تعريض بالكفار، لأنه في معنى أن الجبال والطير فعلت أو فُعل بها ذلك على الرغم من أنها أشدّ صلابة ونفرة من قومك وأعسر ضبطاً. ¬

_ (¬1) ينظر الكشاف 3/365 كما ينظر الرازي 13/297.

على أن في اختيار ما هو شديد الصلابة ومقابلته بما هو شديد النفرة ليكونا مضرب المثل في مشاركة نبي الله دادو - عليه السلام - في التسبيح، دقيقة أخرى ملفتة ألا وهي عدم استبعاد أن يكون التنوين في (كلٌّ) عوضاً عما يشمل الطير والجبال معاً وليس الطير فحسب، ذلك أن غرض السياق بالتعبير عن تسخير أثقل الأشياء وأثبتها، وإتباعه بأخفها وأكثرها انتقالاً، الكشف عن خروج الكل إبان ترنيم داود عن مألوفه، وإفادة أنه كلما رجع عن حكمه وما هو فيه من الشغل بالخلق إلى تسبيح الحق، رجّعت معه بذلك الجبال والطير كلٌّ بطريقته التي اعتادها وفقهها عن الله تعالى خالقه، وقد جعل الخبر (أوّاب) في حقهما بلفظ التذكير ولم يجعل مؤنثاً للإعلام بشدة زجلهما بالتأويب وعظمته، وفي مجيئه مفرداً إشارة إلى أنهما في الطواعية في التأويب قد بلغا الغاية حتى لكأنهما الشيئ الواحد، كما أفاد الإفراد أيضاً شمول الحكم لكل فرد منها ولو جمع لطرقه احتمال أن الحكم على المجموع بقيد الجمع (¬1) وسبحان من هذا كلامه. التسبيح في مقام التكذيب والسخرية والاستهزاء: ¬

_ (¬1) ينظر نظم الدرر 6/ 371.

ففي آية الفرقان التي يقول سبحانه فيها: (وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً (¬1) .. الفرقان /5) ، إخبار عما كان يدعيه أهل الكفر - قاتلهم الله – من أنه - صلى الله عليه وسلم - يكذب عليهم ويتكلف حفظ ما يملى عليه مما سطره الأقدمون بعد أن يتكلف تحصيله بالانتساخ لكونه أمياً، وذلك في أوقات انشغال الناس عنه فهو يفعل ذلك – في زعمهم وفي خيالهم المريض - كلّ صباح قبيل انتشار الناس إلى أعمالهم وعشياً حين يأوون إلى مساكنهم، فما يملى عليه بكرة يقرؤه عليهم عشية وما يملى عليه عشية يقرؤه عليهم بكرة، وهذا المعنى مفاد من صيغة الافتعال (اكتتبها) الدال على التكلف لحصول ذلك الفعل، ومن دلالة السياق على التكنية بفعل ذلك في الغدو والآصال عن الاستمرار وكثرة الممارسة لتلقي هذه الأساطير، وقد عنوا أنها تملى عليه خفية لئلا يقف الناس على حقيقة الحال.. وهذه – تالله - فرية وجرأة عظيمة منهم على الله وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكلامهم هذا ظاهر العوار لمن كان له أدنى بصيرة أو استبصار، فهو كلام لا يتفوه به من له مسكة من عقل أو مثقال حبة من مروءة، فإن من المعلوم الذي لا يخفى على ذي لبّ أن لو لازم إنسان شيئاً عشرة أيام بكرة وعشياً لم يبق ممن يعرفه ويطلع على أحواله أحد حتى يعرف ذلك منه فلو أنكره بعد لافتضح فضيحة لا يُغسل عنه عارها أبد الدهر، فكيف والبلد صغير والرجل عظيم شهير، وقد ادّعوا أنه مصرٌّ على ذلك لا ينفك عنه إلى حين مقالتهم وبعدها، وعيّروه بأنه معدم يحتاج إلى المشي في الأسواق، وهو يدعوهم في كل ملإ إلى المعارضة ولو بسورة من مثله ¬

_ (¬1) قائل هذه المقولة هو النضر بن الحارث العبدري ترويجاً لبهتانه، وكان قد تعلم بالحيرة قصص ملوك الفرس وأحاديث رستم واسفنديار، فكان يقول لقريش: إنا والله يا معشر قريش أحسن حديثاً من محمد فهلمّ أحدثكم، وكان يقول في القرآن أنه من قصص الماضين وأباطيلهم.

- وفيهم الكتاب والشعراء والبلغاء والخطباء وهم أكثر منه مالاً وأعظم أعواناً - فلا يقدرون (¬1) . لأجل هذا جاء الجواب المستأنف المتضمن بطلان ما ادعوه، في صورة تهديد (قل أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض.. الفرقان /6) ، قصداً إلى الإفحام وبطلاناً لدعاويهم الباطلة وإقامة للحجة البالغة. ومما سبق ندرك أن إسنادهم الاكتتاب إليه - صلى الله عليه وسلم - إسناد مجازي لأنه سببه، والقرينة ما هو مقرر ومعروف لدى الجميع من أنه أميّ لا يكتب ولا يقرأ، وقد جاء الإملاء تفريعاً على الاكتتاب وإيماء إلى أن املاءها عليه إنما يحصل بعد كتابتها ليقرأها أو ليحفظها، فالتعبير بالإملاء استعارة عن الإلقاء للحفظ بعد الكتابة لا الإلقاء للكتابة كما هو معروف ... وعلى جعل المعنى: أراد اكتتابها أو طلب كتابتها فأمليت عليه أو على كاتبه يبقى الإملاء على ظاهره (¬2) . ¬

_ (¬1) ينظر نظم الدرر 5/296. (¬2) ينظر التحرير 18/352 مجلد 9 وروح المعاني18/346 مجلد 10.

واختلفوا في معنى السر الوارد في الآية السابقة على سبيل التهديد فمن قائل في معناه: أن العالم بكل سر في السموات والأرض هو وحده الذي يمكنه إنزال مثل هذا الكتاب، ومن قائل بأن المعنى أنه أنزله من يعلم السر فلو كذب عليه لانتقم منه لقوله تعالى: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل. لأخذنا منه باليمين.. الحاقة /44، 45) ، ومن قائل بأن المعنى أنه سبحانه يعلم كل سر خفي في السموات والأرض ومن جملته ما تسرونه أنتم من الكيد لرسوله - صلى الله عليه وسلم - مع علمكم بأن ما يقوله حق، كما يعلم كذلك باطن أمر رسول الله وبراءته مما تتهمونه به، وهو سبحانه مجازيكم ومجازيه على ما علم منكم وعلم منه (¬1) ، والوجه في جعل (قل أنزله الذي يعلم السر) جواباً لشبهتهم ورداً على استهزائهم أيّاً ما كان المعنى أنه - صلى الله عليه وسلم - لما تحداهم بالمعارضة وظهر عجزهم عنها فلو كان هو الذي أتى بالقرآن بأن استعان بأحد لكان من الواجب عليهم أيضاً أن يستعينوا بهذا الواحد فيأتوا بمثله، فلما عجزوا عن ذلك أيضاً ثبت أنه وحي الله وكلامه، سيما وأن هذا القرآن الذي لا يجارى في فصاحته مبرأ عن النقص والعيوب ومشتمل على الإخبار عن الغيوب وعلى أنواع العلوم التي لا يحيط بها إلا العالم بجميع المعلومات ولا يحيط بها سواه (¬2) فأين يقع إذن علم حفاظ الأساطير ورواتها من ذلك وماذا يساوي بجوار هذا الخضم الذي لا ساحل له؟. التسبيح في مقام الوعد والوعيد: جاء التعبير بطرفي النهار في مقام الحديث عن الوعد في قول الله تعالى: (لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاماً ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً.. مريم /62) ، بينا جاء عن مقام الوعيد في قوله: (النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ... غافر/46) . ¬

_ (¬1) ينظر مفاتيح الغيب 11/663. (¬2) ينظر الرازي 11/ 662 ونظم الدرر5/ 297.

أما الموعود به في آية مريم بحصول الرزق لهم بكرة وعشياً، فقد ورد في سياق الحديث عن أهل الجنة الذين تابوا في الدنيا من بعد ظلمهم وأنابوا إلى ربهم واتبعوا سبيله، وذلك قوله: (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً. إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا. جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتياً.. مريم /59- 61) ، وبصرف النظر عما إذا كان هذا في حق اليهود أم في حقهم والنصارى أم في حق قوم من المسلمين لكونها عامة ولا دليل على التخصيص.. فإن الاستثناء فيها على أي حال وعلى ما ذكره في البحر ظاهره الاتصال، والمنعوتون فيها بالتوبة والإيمان والعمل الصالح هم المشار إليهم بما جاء في قوله (أولئك يدخلون الجنة) ، وهم إنما استحقوا ذلك بموجب الوعد المحتوم الذي أخذه الله على نفسه. والوجه البلاغي في التعبير باسم الإشارة في جانبهم، الإشادة بهم لأجل توبتهم والتنويه بشأنهم، ومجيئ المضارع الدال على الحال للإشارة إلى أنهم لا يُمطلون في الجزاء، وفي قوله: (ولا يظلمون شيئاً) تنبيه على أن فعلهم السابق لا يضرهم ولا ينقص أجورهم، والمراد من قوله في حق الوعد (مأتياً) أي منجزاً، لأن فعل الوعد بعد صدوره وإيجاده إنما هو تنجيزه، ومجيؤه هكذا مع أن المأتي هو الذي يأتيه غيره هو من قبيل الإسناد العقلي أو الاستعارة فقد استعير الإتيان لحصول المطلوب المترقب تشبيهاً لمن يحصِّل الشيئ بعد أن سعى لتحصيله بمن مشى إلى مكان حتى أتاه، وتشبيهاً للشيئ المحصل بالمكان المقصود، فهي استعارة تمثيلية اقتصر من أجزائها على إحدى الهيئتين وهي تستلزم الهيئة الأخرى لأن الثاني لا بد له من آت، والكلمة في سياق جملتها تعليل لجملة (التي وعد الرحمن عباده بالغيب) والمعنى فيه والتقدير: يدخلون الجنة وعداً من الله واقعاً.

و (اللغو) في قوله بعد: (لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاماً) كناية عن انتفاء أقل المكدرات في الجنة وعن جعل مجازاة المؤمنين في الجنة بضد ما كانوا يلاقونه في الدنيا من أذى المشركين ولغوهم، والاستثناء المنقطع في نسق الآية – إلا إذا جعل بمعنى الكلام السالم من العيب فيكون متصلاً – هو من تأكيد المدح بما يشبه الذم كما في قول الشاعر: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب وهو يفيد نفي سماع اللغو بالطريق البرهاني الأقوى، والاتصال على هذا على طريق الفرض والتقدير ولولا ذلك لم يقع موقعه من الحسن والمبالغة (¬1) . وقوله في محل الشاهد: (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً) وارد على عادة المتنعمين في هذه الدار، فقد أخرج ابن المنذر عن يحيى بن كثير قال: كان العرب في زمانها إنما لها أكلة واحدة فمن أصاب أكلتين سمي فلان الناعم، فأنزل الله تعالى هذا يرغب عباده فيما عنده، وروي نحو ذلك عن الحسن. ¬

_ (¬1) ينظر روح المعاني16/ 161، 613مجلد 9 والتحرير 16/136، 137مجلد 8.

وقد سبق بيان أن حمل معنى الوقتين على ظاهره – خلافاً لما ذهب إليه جلّ أهل التأويل من أن التعبير بالبكرة والعشي مراده دوام رزقهم ودروره – هو المناسب في حال ارتباط الرزق في سياق الآية بالمأكل والمشرب وهو الملائم لحال المؤمنين في الزهادة والانشغال بمتع الجنة الأخرى، ولا يرد على ما ذكرت أن حمل المعنى على الدوام مؤيد بمجيئ الجملة في صورة الإسمية وهذا يدل على ثبوت ذلك ودوامه فيفيد التكرر المستمر وهو أخص من التكرر المفاد بالفعل المضارع وأكثر، لأنا نقول أن هذا حاصل بالاقتصار على الإطعام في البكرة والعشي أيضاً، وإلا فليس في الجنة بكرة ولا عشي، فهم إنما يؤتون به على ما كانوا يشتهون به في الدنيا لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلّون فيها، (¬1) فقد جاء في بعض الآثار أن أهل الجنة يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب، ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب، ومن ذلك ما أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول من طريق أبان عن الحسن وأبي قلابة قالا: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله هل في الجنة من ليل؟ قال: وما هيجك على هذا؟ قال: سمعت الله تعالى يذكر في الكتاب: (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً) فقلت: الليل من البكرة والعشي، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (ليس هناك ليل وإنما هو ضوء ونور يرد الغدو على الرواح والرواح على الغدو، وتأتيهم طرف الهدايا من الله تعالى لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا وتسلم عليهم الملائكة عليهم السلام) . نسأل الله أن يجعلنا منهم وأن يحشرنا في زمرتهم. ¬

_ (¬1) ينظر الآلوسي 16/ 164 مجلد 9 ونظم الدرر4/ 547.

أما الوعيد المتحدث عنه في قوله: (النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ... غافر /46) ، فقد جاء في سياق ما يعرض لآل فرعون من سوء العذاب وأشده، قصداً إلى تعظيم أمر النار وكناية عن استدامتهم فيها – عياذاً بالله من ذلك – وناسب أن تأتي هذه الآية الكريمة في ثنايا الحديث عن مؤمن آل فرعون الذي ذكرنا طرفاً من قصته إبان عرضنا لما جاء في قوله سبحانه من نفس السورة: (واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار.. غافر /55) ، وفي أعقاب ما صدر منه من نصح قومه وتحذيره إياهم من مغبة وسوء ما ينتظرهم من عقابي الدنيا والآخرة إن هم خالفوا ما دعاهم إليه نبيهم موسي عليه السلام، وبعد قوله لهم فيما قال: (إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب.. غافر /30) ، وقوله: (ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار. تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار.. غافر /41، 42) ، وقوله بعد أن استفرغ الوسع وأخلص النصح: (فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد.. غافر /44) ، وبعد جواب الله على ذلك بقوله: (فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب. النار يعرضون عليها غدواً وعشياً.. غافر/45، 46) . ومعنى عرضهم على النار أن أرواحهم تشاهد المواضع التي أعدت لهم في جهنم على ما جاء في الصحيح عن عبد الله بن عمر: إن أحدكم إذامات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة) .

والشاهد في حديثنا في الآية وهو (النار) ، المعروض عليها آل فرعون غدواً وعشياً، يجوز أن تكون بدلاً مفرداً من نوع المطابقة من (سوء العذاب) ، وجملة (يعرضون عليها) حالاً منها أو من الآل، أو تكون خبراً لمبتدأ محذوف وهو الضمير العائد على (سوء العذاب) وجملة (يعرضون) تفسير لها في موضع الحال، فيكون بين هذه الآية والتي قبلها شبه كمال اتصال كأنه قيل: ماسوء العذاب؟ فقيل هو النار، ويجوز وهو الأبلغ في تحقيق الغرض من السياق - أعني الدلالة على التهويل والتفخيم من شأن ما يعرض له آل فرعون غدواً وعشياً - أن تكون (النار) هي المبتدأ وجملة (يعرضون عليها غدواً وعشياً) في موقع الخبر عنها ويكون مجموع الجملة من المبتدأ والخبر بدل اشتمال من جملة (وحاق بآل فرعون سوء العذاب) ، لأن سوء العذاب إذا أريد به الغرق كان مشتملاً على موتهم، وموتهم يشتمل على عرضهم على النار غدواً وعشياً.

وفي هذا الوجه من التعظيم من أمر النار والتهويل من عذابها والتخويف من العرض عليها والإحراق بها ما ليس في غيره (¬1) ومنشأ التعظيم أن المذكور في الآية علىالوجه الأول عذاب واحد هو ما يحدث لهم في البرزخ، أما في الأخير فالمذكور عذابان عذاب الغرق في الدنيا، وما يلحق به من عذاب قبل عذاب يوم القيامة (¬2) ، أو منشؤه - على ما في الكشف ونقله عنه الآلوسي - الإجمال والتفسير في كيفية تعذيبهم وإفادة كل من الجملتين نوعاً من التهويل، أما الأول (¬3) منهما فالإحاطة بعذاب يستحق أن يسمى سوء العذاب وأما الثاني فهو النار المعروض عليها غدواً وعشياً (¬4) "وإنما كان الغرق سوء عذاب لأن الغريق يعذب باحتباس النّفَس مدة وهو يطفو على الماء ويغوص فيه ويرعبه هول الأمواج وهو موقن بالهلاك ثم يكون عُرضة لأكل الحيتان حياً وميتاً وذلك ألم في الحياة وخزي بعد الممات يُذكرون به بين الناس" (¬5) . ¬

_ (¬1) على ما ذكره الزمخشري في الكشاف 3/430. (¬2) كذا في التحرير 24/158مجلد 11. (¬3) ينظر الآلوسي 24/111مجلد 13. (¬4) ينظر الآلوسي 24/111مجلد 13. (¬5) تفسير التحرير24 /158مجلد 11.

والسر في إفادة تعظيم النار في هذا الوجه وبيان كيفيتها - دون ما تضمنه جعل النار بدلاً من سوء العذاب - أنك إذا فسرت (سوء العذاب) بالنار فقد بالغت في تعظيم سوء العذاب ثم استأنفت بـ (يعرضون عليها) تتميماً لقوله (وحاق بآل فرعون) من غير مدخل للنار فيما سيق له الكلام، أما إذا جئت بالجملتين من غير نظر إلى المفردين وأن أحدهما تفسير للآخر، فقد قصدت بالنار قصد الاستقلال حيث جعلتها معتمد الكلام وجئت بالجملة الثانية بياناً وإيضاحاً للأولى، كأنك قد آذنت بأنها أوضح لاشتمالها على ما لا أسوء منه وهو النار، على أن من موجبات تقديم المسند إليه إنباؤه عن التعظيم مع اقتضاء المقام له وها هنا كذلك على ما لا يخفى، ناهيك عما يفيده التركيب من تقوية للحكم كما في نحو (زيد ضربته) ، وفيما ذكر يقول صاحب الكشف فيما نقله عنه الآلوسي: "هذا هو الوجه، وأُيد بقراءة من نصب (النار) بناءاً على أنها ليست منصوبة بأخص أو بأعني بل بإضمار فعل يفسره (يعرضون) مثل: (يُصْلَون) فإن عرضهم على النار إحراقهم بها، من قولهم: (عرض الأسارى على السيف) أي قتلهم به، وهو من باب الاستعارة التمثيلية يُشَبّه حالهم بحال متاع يبرز لمن يريد أخذه، وفي ذلك جعْل النار كالطالب الراغب فيهم لشدة استحقاقهم الهلاك" (¬1) . وسواء جُعلت (النار) مع ما بعدها بدلاً من جملة (وحاق بآل فرعون) أو بدلاً مفرداً من (سوء العذاب) ، فالمذكرو في الآية عذاب قبل عذاب يوم القيامة المشار إليه بقوله في نفس السورة والآية (ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) . نسأل الله المعافاة وحسن العاقبة. الخاتمة ¬

_ (¬1) روح المعاني 24/111مجلد 13.

وبعد، فقد آن لنا أن نحط الرحال أعقاب هذه الرحلة الميمونة التي تم التطواف فيها حول الدقائق واللطائف المفادة من التعبير عن هذين الوقتين المباركين لطرفي النهار، (العشي والإبكار) أو (الغدو والآصال) أو (الغداة والعشي) ، لنخلص إلى أن ما ورد من حديث للقرآن حول هذين الوقتين هو مما يستأهل التأمل والتدبر ويستحق المزيد من إعمال الذهن وكدّ الفكر، ذلك أن النظرة العجلى لغير المتأمل يبدو منها أنها مجرد مترادفات أو متقابلات جيئ بها لمجرد التعبير عن وقتين اعتادهما الإنسان كلما أشرقت شمس يومه أو غربت فلا يحظيان منه - من ثمّ - بكثير اهتمام، بينا الأمر في الحقيقة على العكس من ذلك تماماً. والشيئ الذي زاد الطين بلة ويبعث - أيضاً - على الأسى هو أن الذين الأصل فيهم التأمل والتدبر لما في كتاب الله تعالى من أهل التأويل من المفسرين - على سعة علمهم وعظم مكانتهم - ينتاب كثير من معالجاتهم لآي القرآن بسبب عدم التدقيق وإنعام النظر في مراعاة مقتضى الحال في سياق النظم، شيئ من القصور والتناقض، ومن عدم وضع للأمور في نصابها، كما يشوبها أحياناً- وتلك ثالثة الأسافي- عدم الالتفات إلى ما يخدم النص من نصوص أخرى تعين بضميمة قرائن الأحوال ومعونة السياق على فهم النص الفهم الصحيح.

وإلا فما معنى ان تجعل الضمائر الثلاثة مثلاً في قول الله تعالى: (إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً. لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً.. الفتح /8، 9) - وهذا مجرد مثال - عائدة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع قراءة ابن مسعود وابن جبيرالواردة في الآية الكريمة والتي جاء فيها (لتؤمنوا بالله ورسوله وتسبحوا الله) كذا بالاسم الجليل مكان الضمير؟ وما الذي يدعو إلى ليّ معنى التسبيح كيما يتناسب مع هذا الرأي الواهي الذي يُضرب من خلاله أي القرآن بعضه ببعض؟ أو جعلها جميعا عائدة إلى الله فيلوى من أجل ذلك معنى التعزير والتوقير ويُخرج بهذه الكلمات عما وضع لها في اصطلاح التخاطب حتّام يستقيم مع ذاك الرأ ي على ضعفه، وما الدافع أمام الإصرار على طرح ما يصح حمل المعنى عليه حملاً صحيحأً من أمر اللف والنشر مع لطافته ووجاهة القول به على ما سبق ذكره.. وما معنى أن يذهب بالآيات الوارد فيها ذكر الوقتين إلى الحمل في معنى التسبيح على الظاهر من قول (سبحان الله) ، مع ما تفيده قرائن الأحوال وما ترشحه سياقات الآيات من أفضلية حمله على معنى الصلاة أعني على المجاز، أو أن يفعل العكس من ذلك، أو أن يقال بالوجهين هكذا دون ما التفات إلى ما يعين على الوصول إلى ما صح من ذلك أو ترجح.

أن الأمر بهذا يفرض على كل من أراد أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يخدم دينه وكتاب ربه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أن يقيم - قدر الطاقة - من التأويل ما اعوج، فمجال البحث في التنزيل فسيح ومتسع ويحتاج إلى مزيد من استجلاء الدقائق والحقائق، وليس أفضل في حياة أي باحث منصف بل ولا في حياة أهل الحق جميعاً من الوصول إلى الحقيقة سيما لو كانت تلك الحقيقة تمس كتاب الله تعالى، ولم لا وهو موئلهم الذي إليه عن الخلاف يئلون ومعقلهم الذي إليه في النوازل يعقلون وحصنهم الذي به من وساوس الشيطان يتحصنون وحكمة ربهم التي إليها يحتكمون وفصل قضائه بينهم الذي إليه ينتهون وحبله الذي به من الهلكة يعتصمون. فالله نسأل أن يجعلنا من أهل الحق وممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعل عملنا خالصاً لوجهه، إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير، وهو نعم المولى ونعم النصير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. *******

§1/1