من الهدي النبوي في تربية البنات
محمد بن يوسف عفيفي
مقدمة
الْمُقدمَة الْحَمد لله رب الْعَالمين وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على نَبينَا مُحَمَّد الأسوة الْحَسَنَة وعَلى آله وَصَحبه أَجْمَعِينَ؛ وَبعد: كَانَت وَلَا تزَال قَضِيَّة تربية الْبَنَات تشكل حيزاً فكرياً واجتماعياً، فقد كَانَت الْبِنْت فِي الْجَاهِلِيَّة مثار قلق وإزعاج لِلْأَبَوَيْنِ، وَكم كَانَت تظلم فِي سَبِيلهَا الْأُم متهمة بِأَنَّهَا السَّبَب فِي إنجاب الْبَنَات. والْحَدِيث عَن تربية الْبَنَات حَدِيث متجدد لَا يَنْتَهِي؛ لِأَن الْبِنْت بِحكم فطرتها وطبيعتها تحْتَاج إِلَى رِعَايَة خَاصَّة إعداداً للدور الْكَبِير الَّذِي ينتظرها فِي الْحَيَاة: أَن تكون زَوْجَة صَالِحَة وَأما ناجحة فِي الْمُسْتَقْبل، وَخير النِّسَاء من تعتني بزوجها وَأَوْلَادهَا، فقد ورد فِي الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ عَن أبي هُرَيْرَة -رَضِي الله عَنهُ- قَالَ: سَمِعت رَسُول الله -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- يَقُول: "خير نسَاء ركبن الْإِبِل نسَاء قُرَيْش، أحناه على ولد فِي صغره، وأرعاه على زوج فِي ذَات يَده" 1. وَفِي هَذَا يَقُول مُحَمَّد نور سُوَيْد: "للْمَرْأَة دورٌ تاريخي فِي حَيَاة المجتمعات فقد تنْتج ولدا مصلحاً للمجتمع يَقُود الْأمة إِلَى الْخَيْر وَالْقُوَّة"2. وَلَكِن كَيفَ نربي بناتنا ونعدهن لهَذِهِ المهمة الْكُبْرَى؟ الْجَواب بِلَا شكّ أَنه بِاتِّبَاع هدي النَّبِي -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فِي تربية بَنَاته -رَضِي الله عَنْهُن-.
وفِي هَذَا الْبَحْث سَوف يتَنَاوَل الباحث الحَدِيث عَن جَوَانِب من هدي النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فِي تَرْبِيَته لبنَاته –رَضِي الله عَنْهُن- لَعَلَّ الْقَارئ يجد فِيهِ الْفَائِدَة والعون على تربية بَنَاته. وَقد تضمن الْبَحْث الموضوعات التالية: أَولا: (التَّعْرِيف بالبحث) ويشتمل على مَا يَلِي: 1- هدف الْبَحْث. 2- أهمية الْبَحْث. 3- سَبَب اخْتِيَار الْبَحْث. 4- حُدُود الْبَحْث. 5- مَنْهَج الْبَحْث. 6- مصطلحات الْبَحْث. ثَانِيًا: الدراسات السَّابِقَة. ثَالِثا: الإطار النظري. رَابِعا: تربية النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- لبنَاته فِي مرحلة الطفولة. خَامِسًا: رِعَايَة النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- لبنَاته فِي مرحلة الصِّبَا. سادساً: تَزْوِيج النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- لبنَاته. سابعاً: رِعَايَة النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- لبنَاته بعد الزواج. ـ نتائج الْبَحْث. ـ التوصيات. ـ المراجع.
أولا: التعريف بالبحث:
أَولا – التَّعْرِيف بالبحث: 1- هدف الْبَحْث: يهدف الْبَحْث إِلَى التَّعْرِيف بجوانب من هدي النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فِي تربية الْبَنَات من خلال تتبع منهجه –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فِي تربية بَنَاته -رَضِي الله عَنْهُن- 2- أهمية الْبَحْث: سَوف يعين الْبَحْث –إِن شَاءَ الله– الْآبَاء والأمهات على تربية بناتهم وفقاً للهدي النبويّ، والْوَالِدَان فِي حَاجَة دائمة إِلَى مَا يعينهم ويرشدهم فِي تربية أبنائهم وبناتهم. وَهُنَاكَ الْكثير الَّذِي كُتب عَن تربية الْأَوْلَاد سَوَاء الْمُؤلف مِنْهُ، أَو المترجم ولكننا بحاجة ماسَّة إِلَى الْقِرَاءَة، والتدبر فِي سيرة النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- والاستفادة مِنْهَا وَاتِّبَاع مَا جَاءَ فِيهَا فِي جَمِيع شؤوننا حَتَّى لَا نتخبط وتفترق بِنَا السبل. 3- سَبَب اخْتِيَار الْبَحْث: كثيرا مَا يعْتَرض الْآبَاء والأمهات بعض المشاكل فِي تربية الْأَبْنَاء فيقف الْوَالِدَان أَحْيَانًا موقف الحائر بحثا عَن أنجح الأساليب التربوية الَّتِي تعينهم على تخطي هَذِه المشكلة، والْحل قريب مِنْهُم جدا إِنَّه فِي اتِّبَاع هدى النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فِي التربية بل فِي كَافَّة الْأُمُور. وَقد اخْتَار الباحث الْكِتَابَة عَن تربية الْبَنَات؛ لِأَن النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- كَانَ أَبَا لبنات، رباهن طيلة حَيَاته، وعاش مَعَهُنَّ لَحْظَة لَحْظَة فِي جَمِيع مراحل حياتهن من الْولادَة إِلَى الْوَفَاة فَكل أَوْلَاده توفى قبله إِلَّا فَاطِمَة –رَضِي الله عَنْهَا- فَإِنَّهَا تَأَخَّرت بعده بِسِتَّة أشهر1.
4- حُدُود الْبَحْث: سَوف يتَنَاوَل الْبَحْث الحَدِيث عَن جَوَانِب من هدي النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فِي تَرْبِيَته لبنَاته مُنْذُ مولدهن إِلَى وفاتهن على النَّحْو التَّالِي: ـ جَوَانِب من رعايته –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- لبنَاته فِي مرحلة الطفولة. ـ جَوَانِب من رعايته –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- لبنَاته فِي مرحلة الصِّبَا. ـ جَوَانِب من هَدْيه –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فِي تَزْوِيج بَنَاته. ـ جَوَانِب من هَدْيه –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فِي رعايته لبنَاته بعد الزواج. 5- مَنْهَج الْبَحْث: سَوف يتبع الباحث الْمنْهَج التاريخي فِي التعرف على جَوَانِب من هدي النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فِي تَرْبِيَته لبنَاته –رَضِي الله عَنْهُن- ومحاولة استنباط الْفَوَائِد التربوية مِمَّا كتب عَن سيرة بَنَات النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- وَالتَّعْلِيق عَلَيْهَا، وَبَيَان تطبيقاتها التربوية. 6- مصطلحات الْبَحْث: الهَدِيُّ: الطَّرِيقَة يُقَال مَا أحسن هَدِيَّةَ فلَان وهَدْيَهُ أَي طَرِيقَته 1. تربية: كلمة مُشْتَقَّة من (الرب) الرَّاء وَالْبَاء المضعفة وتَعْنِي رَبَّاه وأحسَنَ الْقيام عَلَيْهِ جَاءَ فِي لِسَان الْعَرَب رَبَّ ولَدَه والصَّبِيَّ يَرِبَّه بِمَعْنى رَبَّاه وأحسَنَ الْقيام عَلَيْهِ حَتَّى
يُفَارق الطفُّوُلِيةَ سَوَاء كَانَ ابْنه أَو لم يكن، والصَّبي مَرْبُوبٌ ورَبِيبٌ1 ويقْصد بالتربية فِي هَذَا الْبَحْث طرق الرِّعَايَة والتنشئة من الطفولة حَتَّى الْكبر. مرحلة الطفولة: هِيَ مرحلة من مراحل عمر الْإِنْسَان تبدأ من سنّ سنتَيْن حَتَّى قرب سنّ الْبلُوغ وَقسمهَا بعض عُلَمَاء التربية إِلَى أَقسَام هِيَ2: الطفولة المبكرة من 2-6 سنوات. الطفولة المتوسطة من 6-9سنوات. الطفولة الْمُتَأَخِّرَة من 9-12 سنة. وَفِي هَذَا الْبَحْث يقْصد بهَا المرحلة من الْعُمر من الْولادَة إِلَى قبيل التَّكْلِيف وَتحمل المسؤولية. مرحلة الصِّبَا: وَهِي المرحلة من الْعُمر الَّتِي تعقب مرحلة الطفولة وتعرف عِنْد عُلَمَاء التربية بالمراهقة "الَّتِي تَعْنِي التدرج نَحْو النضج البدني، والجنسي والعقلي، والانفعالي، والاجتماعي"3
ثانيا: الدراسات السابقة:
ثَانِيًا: الدراسات السَّابِقَة: مُعظم الأبحاث الَّتِي كُتبت فِي تربية الْأَوْلَاد تحدثت عَن تربية الْوَلَد وَالْبِنْت على حد سَوَاء، وَلم ينْفَرد بِالْحَدِيثِ عَن تربية الْبَنَات إلاَّ الْقَلِيل جدا ولابأس فِي ذَلِك لِأَن الْبِنْت وَالْولد أَمَانَة لَدَى الْوَالِدين وسوف يسألان عَنْهُمَا يَوْم
الْقِيَامَة؛ لذا أوجب عَلَيْهِمَا الْإِسْلَام الاهتمام بذريتهما ذُكُورا وإناثاً وتربيتهم على الْأَخْلَاق الفاضلة يَقُول الإِمَام ابْن الْقيم – رَحمَه الله-: "وَمِمَّا يحْتَاج إِلَيْهِ الطِّفْل غَايَة الِاحْتِيَاج الاعتناء بِأَمْر خُلقه، فَإِنَّهُ ينشأ عَمَّا عوّده المربي فِي صغره من حر وَغَضب ولجاج وعجلة وخفة مَعَ هَوَاهُ، وطيش وحدة وجشع، فيصعب عَلَيْهِ فِي كبره تلافي ذَلِك، وَتصير هَذِه الْأَخْلَاق صِفَات وهيئات راسخة لَهُ، فَلَو تحرز مِنْهَا غَايَة التَّحَرُّز فضحته ولابد يَوْمًا مَا، وَلِهَذَا تَجِد أَكثر النَّاس منحرفة أَخْلَاقهم وَذَلِكَ من قبل التربية الَّتِي نَشأ عَلَيْهَا"1. وفِيمَا يَلِي يستعرض الباحث بعض الدراسات السَّابِقَة الَّتِي اسْتَفَادَ مِنْهَا وَيبين كَيفَ تلتقي هَذِه الدراسات ببحثه: 1ـ بحث بعنوان: (الْبِنْت الْمسلمَة بَين الْوَاقِع والتشريع) 2. يرى الباحث أَن الحَدِيث عَن الْمَرْأَة لَا يَنْتَهِي وَأَن هُنَاكَ من يثيره من فَتْرَة إِلَى أُخْرَى، وَأَن النظرة لهَذَا الْمَوْضُوع مُتعَدِّدَة الاتجاهات: الاتجاه الأول: ينظر إِلَى مَوْضُوع الْمَرْأَة نظرة شَرْعِيَّة وفقاً لما جَاءَ فِي الْكتاب وَالسّنة فَهُوَ يحكم الْوَحْي الإلهي وَيعْتَبر مَا خَالفه فَسَادًا وخسراناً مُبينًا للبشرية الرجل وَالْمَرْأَة على حد السوَاء. الاتجاه الثَّانِي: يحكم فِي الْمَرْأَة الْعَادة وَيعْتَبر اتِّبَاع هَذِه الْعَادَات والتقاليد الموروثة وَلَاء للسابقين. الاتجاه الثَّالِث: هُوَ الاتجاه الَّذِي انبهر بالحضارة المادية فِي كل شيىء فَأَصْبَحت الْمَرْأَة تعيش فِيهِ حَيَاة غربية. وعالج الباحث مَوْضُوع الْمَرْأَة بِالْحَدِيثِ عَن الْبِنْت بِذكر بعض المسلمات
عَنْهَا وَهِي: أَن الْبِنْت إِنْسَان كالذكر فِي إنسانيتها وَأَن الشَّرْع جَاءَ ليخاطب الذّكر وَالْأُنْثَى على حد السوَاء، وَأَن احترامها كإنسان يُوجب علينا الْعِنَايَة بهَا فِي مراحل الطفولة وَالصبَا عناية شَامِلَة لجَمِيع الجوانب الجسمية، والخلقية، والفكرية. ثمَّ بيَّن الباحث حَال الْمَرْأَة قبل الْإِسْلَام كَيفَ أَنَّهَا سلبت جَمِيع حُقُوقهَا بل وصل الْحَال بالعرب قبل الْإِسْلَام بدفنها حَيَّة خشيَة الْعَار، وَلما جَاءَ الْإِسْلَام غير النظرة إِلَى الْمَرْأَة وَحفظ لَهَا حُقُوقهَا فِي: الْإِرْث قَالَ تَعَالَى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} 1. ومنحها حق الْمُوَافقَة على الزَّوْج الَّذِي سَوف ترتبط بِهِ، وَوضع الْإِسْلَام الْولَايَة بيد وَليهَا بِدُونِ تعسف أَو تسلط فمهمة الْوَلِيّ مساعدتها على حسن الِاخْتِيَار وَلَيْسَ لَهُ الْحق فِي قسرها على الزواج بِمن لَا ترْضى أَن تقترن بِهِ، بل تستأذن قبل الزواج حَتَّى تُقَام أسرتها على أساس سليم قوي. وَفرض عَلَيْهَا الْإِسْلَام الْحجاب وأمرها بالعفة والستر. وبيّن حَال بعض النِّسَاء من ترك للحجاب وَالْقَبُول بِمَا ارْتَضَاهُ الغرب للْمَرْأَة من أَن تكون أَدَاة للإغراء ووسيلة لتسويق السّلع. ويري الباحث أَن السَّبِيل الوحيد إِلَى صِيَانة الْبِنْت وحفظها: هُوَ التَّمَسُّك بِالدّينِ وتطبيقه فِي جَمِيع جَوَانِب الْحَيَاة. وَهَذِه الدراسة تتفق مَعَ الدراسة الحالية فِي بَيَان أهمية التَّمَسُّك بدين الله، وتربية الْبَنَات وفقاً لما أَرَادَ الله عز وَجل، وَجَاء بِهِ نَبينَا مُحَمَّد –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-، وَأَن تُمنح الْبِنْت جَمِيع حُقُوقهَا الَّتِي كفلها لَهَا الْإِسْلَام.
2ـ بحث بعنوان: (دور الْأُم فِي تربية الطِّفْل الْمُسلم) 1. بدأت الباحثة الحَدِيث عَن حَال الْمَرْأَة فِي العصور السَّابِقَة لِلْإِسْلَامِ وَكَيف أَنَّهَا كَانَت: عِنْد الهنود لَا شيىء يذكر وَأَن أَحْقَر الْأَشْيَاء أفضل مِنْهَا، وَفِي شَرِيعَة حمورابي كَانَت الْمَرْأَة تعد من الْمَاشِيَة، وَعند اليونانيين أعلن أرسطو أَنه لَيْسَ لَدَيْهَا اسْتِعْدَادًا عقلياً يُعتز بِهِ، وَفِي الْيَهُودِيَّة المحرفة اعْتبرت الْمَرْأَة فِي أَيَّام الْحيض نَجِسَة تحبس فِي الْبَيْت، وَبَالغ رجال الْكَنِيسَة فِي إهدار شَأْنهَا والحط من قيمتهَا وَحملُوهَا مسئولية خراب المجتمعات وانتشار الْفَوَاحِش والمنكرات، وَفِي الْجَاهِلِيَّة الْعَرَبيَّة اعْتبرت الْمَرْأَة من سقط الْمَتَاع الَّذِي يُورث وَكَانَت تدفن حَيَّة؛ خشيَة الْعَار ثمَّ بيّنت الباحثة مكانة الْمَرْأَة الَّتِي خصها بهَا الْإِسْلَام. وَفِي الْفَصْل الرَّابِع من هَذِه الرسَالَة تحدثت الباحثة عَن طَريقَة الْأُم فِي تربية الطِّفْل الْمُسلم، وَأَن مسئولية التربية فِي مرحلة الطفولة المبكرة تقع على الْأُم فَهِيَ المسؤولة عَن نظافته النَّظَافَة الَّتِي تريح أعصابه وتوفر لَهُ الِاسْتِقْرَار النَّفْسِيّ، وَأَنَّهَا قدوة متحركة فِي أرجاء الْبَيْت فَهِيَ بسلوكها وَحسن خلقهَا تجْعَل أطفالها ينشئون على خِصَال الْخَيْر كالصدق وَالْأَمَانَة فعلَيْهَا تقع مسئولية عَظِيمَة فِي ذَلِك، إِذْ أَن علاقتها تزداد قُوَّة وتنمو يَوْمًا بعد يَوْم مَعَ طفلها الَّذِي يَعْتَبِرهَا الشَّخْص الوحيد فِي حَيَاته الَّذِي يتعامل مَعَه لَا سِيمَا فِي سنواته الأولى. وَهَذِه الدراسة تتفق مَعَ الدراسة الحالية فِي التَّأْكِيد على أَن الْإِسْلَام حفظ للْمَرْأَة حُقُوقهَا، وَأَن دور الْأُم فِي التربية دور هام وبالذات فِي مرحلة الطفولة المبكرة، وَأَنَّهَا قدوة لأولادها فلابد أَن تكون قدوة حَسَنَة. 3 ـ دراسة بعنوان: (مسؤولية الْأَب الْمُسلم فِي تربية الْوَلَد فِي مرحلة
الطفولة) هَذِه الرسَالَة نافعة تَضَمَّنت الْكثير من مبادئ التربية الإسلامية، فِي المبحث الْخَامِس مِنْهَا تكلم الباحث عَن دور الْأُم فِي التربية وَأَن لَهَا وَظِيفَة هَامة فِي التربية بِالنِّسْبَةِ للطفل الصَّغِير خَاصَّة، وأَن بناءها الجسمي والنفسي مُهَيَّأ لتحمل أعباء التربية والحضانة والاعتناء بالطفل، فَلَا يَسْتَطِيع الرجل أَن يسد مَكَان الْأُم ودورها فِي التربية، لِأَن دورها لَا يقْتَصر فَقَط على الْعِنَايَة بمأكله، ومشربه، وملبسه بل أَن دورها الْأَكْبَر والأعظم هُوَ ذَلِك الْحبّ المتدفق من قَلبهَا على الْوَلَد، وَذَلِكَ الحنان الَّذِي يشْعر الْوَلَد فِيهِ بالأمن والسعادة فينمو بدنه وعقله وَنَفسه نمواً متكاملاً. وَهَذَا مَا أكدته الدراسة الحالية من أَن بَنَات النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- حظين بحب وَعطف ورعاية أمهن أم الْمُؤمنِينَ خَدِيجَة بنت خويلد-رَضِي الله عَنْهَا- فنشئن نشأة متميزة؛ نظرا لما اتصفت بِهِ أمهن خَدِيجَة من حِكْمَة ورجاحة عقل.
4 ـ مقالات فِي تربية الْبَنَات: أ – مكانة الْبَنَات1. بيّن الْكَاتِب كَيفَ كَانَ حَال الْبِنْت قبل الْإِسْلَام وَأَنَّهَا كَانَت تعْتَبر نوعا من الْبلَاء الَّذِي يسْتَحق التَّخَلُّص مِنْهُ فَكَانُوا يَقُولُونَ: "دفن الْبَنَات من المكرمات"، ثمَّ تحدث عَمَّا كَانَت تَلقاهُ الْمَرْأَة من سوء الْمُعَامَلَة بِسَبَب إنجاب الْبَنَات فقد تهجر ويُغضب عَلَيْهَا لَا لشييء إلاّ لِأَنَّهَا أنجبت بِنْتا فقد حدث أَن أَبَا حَمْزَة الضَّبِّيّ هجر زَوجته لِأَنَّهَا ولدت بِنْتا ثمَّ مر ذَات يَوْم على بَيتهَا فَسَمعَهَا تنشد لبنتها وَتقول: مَا لأبي حَمْزَة لَا يأتينا ... يظل فِي الْبَيْت الَّذِي يلينا غَضْبَان أَلا نَلِد البنينا ... تا الله مَا ذَلِك فِي أَيْدِينَا وَإِنَّمَا نَأْخُذ مَا أعطينا ... وَنحن كَا لأرض لزارعينا وَقد تَغَيَّرت هَذِه النظرة فِي الْإِسْلَام فحثَّ على حسن رِعَايَة الْبِنْت وتربيتها ووعد من يحسن إِلَيْهَا بِالْخَيرِ الْكثير وَالثَّوَاب الجزيل من الله –كَمَا ورد فِي مُقَدّمَة الْبَحْث- وأجمل الْكَاتِب التعاليم الإسلامية فِي تربية الْبَنَات فِيمَا يَلِي: 1- أَن يحسن الْإِنْسَان تربية الْبِنْت وتأديبها وَتَعْلِيمهَا. 2- أَن ينْفق عَلَيْهَا وَيُؤَدِّي إِلَيْهَا حُقُوقهَا. 3- أَن لَا يفضل عَلَيْهَا أحدا من الْبَنِينَ. 4- أَن يُلَاحظ رقتها فَلَا يخشن مَعهَا فِي الْمُعَامَلَة. 5- أَن يحسن اخْتِيَار الزَّوْج لَهَا حَتَّى يسعدها. 6- أَن لَا يرغمها على التَّزَوُّج بِمن تكرههُ. 7- أَن يوّدها ويصلها بعد الزواج.
وَهَذَا الْمقَال يُؤَيّد مَا توصل إِلَيْهِ الباحث من أَنه يجب الْإِحْسَان إِلَى الْبِنْت بِحسن التربية وَالرِّعَايَة، وَاخْتِيَار الزَّوْج الْكُفْء لَهَا، وَأَن لَا يُرغمها وَليهَا على الزواج بِمن تكره وَأَن يوّدها والدها بعد الزواج. ب- مقَال بعنوان: (كَيفَ نربي بناتنا على الْحجاب؟) 1: يهدف هَذَا الْمقَال إِلَى وضع أسلوب عَمَلي يَجْعَل الْبِنْت ترتدي الْحجاب عَن رَغْبَة طَمَعا فِي طَاعَة الله عز وَجل وثواب الْآخِرَة وَلَيْسَ لبسه لعادة اجتماعية فَقَط. ويري الْكَاتِب أَن الأسلوب الأمثل فِي تربية الْبِنْت على الْحجاب هُوَ تعويدها مُنْذُ الصغر (قبل الْبلُوغ) على لبسه قِيَاسا على أَمر النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- بِأَمْر الْأَوْلَاد بِالصَّلَاةِ وهم أَبنَاء سبع سِنِين؛ لِأَن الطفولة الْمُتَأَخِّرَة من سنّ (7-11) سنة تسمى مرحلة الطفولة الهادئة فِيهَا يتَقَبَّل الطِّفْل من وَالِديهِ. أما عِنْدَمَا يدْخلُونَ مرحلة الْبلُوغ والمراهقة فَإِنَّهُم يبحثون عَن مثل أَعلَى خَارج الْبَيْت ويجدونه غَالِبا فِي مَجْمُوعَة الرفاق فِي الْمدرسَة. ثمَّ تكلم عَن وَسَائِل غرس فَضِيلَة الْحجاب وَهِي: 1- أَن تُلقن الْبِنْت مُنْذُ سنّ الرَّابِعَة أَو الْخَامِسَة حب الله عز وَجل وَحب رَسُوله –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-، وَوُجُوب طَاعَة الله وَطَاعَة رَسُوله –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- رَغْبَة فِي الْأجر وَالثَّوَاب. وَكَذَلِكَ حب الْوَالِدين وَوُجُوب طاعتهما طَمَعا فِي ثَوَاب الله فَقَط وجنته، ولقص الْقَصَص عَلَيْهِنَّ أثر ممتاز فِي غرس هَذِه الْقيم فِي نفوسهن. 2- أَن يُعوّد الْوَالِدين الْأَطْفَال على ستر الْعَوْرَة مُنْذُ الرَّابِعَة من الْعُمر. 3- أَن تُؤمر الطفلة مُنْذُ الْخَامِسَة من عمرها على تَغْطِيَة شعرهَا كلما خرجت من الْبَيْت كي تعتاد على ذَلِك.
4- أَن ترغب الْبِنْت فِي الْحجاب مُنْذُ السَّادِسَة ثمَّ تُؤمر بالحجاب الْكَامِل فِي السَّابِعَة. 5- أَن تُعوّد الطفلة مُنْذُ السَّابِعَة كَذَلِك على عدم الِاخْتِلَاط بالذكور من غير محارمها، وَأفضل وَسِيلَة لذَلِك كُله الْقدْوَة الْحَسَنَة من أمهَا وَأُخْتهَا الْكُبْرَى، وتمنع من الِاخْتِلَاط مَعَ أقاربها الذُّكُور كأبناء الْخَالَة وَأَبْنَاء الْعم وَغَيرهم. 6- أَن تلقن الْبِنْت مُنْذُ السَّابِعَة من عمرها آيَات الْحجاب، وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيث الشَّرِيفَة الْوَارِدَة فِي الْحجاب وَيبين لَهَا مضار التبرج والاختلاط. وأكد فِي نِهَايَة الْمقَال على أهمية التربية الإسلامية للْبِنْت لِأَنَّهَا الخطوة الأساسية فِي بِنَاء الْمُجْتَمع السَّلِيم. ويلتقي هَذَا الْمقَال مَعَ الْبَحْث الحالي فِي أهمية أَن تكون الْأُم، وَالْأُخْت الْكُبْرَى قدوة للْبِنْت. فقد كَانَت أم الْمُؤمنِينَ خَدِيجَة بنت خويلد –رَضِي الله عَنْهَا– قدوة لبناتها، وَكَانَت ابْنَتهَا الْكُبْرَى زَيْنَب –رَضِي الله عَنْهَا– قدوة لأخواتها. وَمَا يؤكده الْكَاتِب فِي نِهَايَة مقاله هُوَ مَا يؤكده الباحث فِي هَذَا الْبَحْث من أَن التربية الإسلامية للْبِنْت هِيَ الخطوة الأساسية فِي بِنَاء الْمُجْتَمع السَّلِيم، وَأَن هَذِه التربية تبدأ من الصغر حَتَّى تعتاد عَلَيْهَا الْبِنْت.
ثالثا: الإطار النظري للبحث:
ثَالِثا - الإطار النظري للبحث: أجمع المؤرخون أَن للنَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- أَربع بَنَات كُلهنَّ أدركن الْإِسْلَام، وهاجرن هن: (فَاطِمَة عَلَيْهَا السَّلَام: ولدت قبل النُّبُوَّة بِخمْس سِنِين، وَزَيْنَب تزَوجهَا الْعَاصِ بن الرّبيع -رَضِي الله عَنهُ-، ورقية وَأم كُلْثُوم تزوجهما عُثْمَان بن عَفَّان –رَضِي الله عَنهُ- تزوج أم كُلْثُوم بعد رقية) 1. وَفِي هَذَا يَقُول الشَّاعِر: أولادهُ القاسمُ وهوَ يكنى ... بهِ وَعبد الله هدىُ الأبنا والطاهرُ الطّيب فاسمُ الثَّانِي ... وقيلَ بلْ سواهُ أخوانِ مَاتُوا صغَارًا لم يرواْ نبوَّة ... وزينبُ فاطمةُ رقية وأمُّ كلثومَ وكلهمْ ولدْ ... خديجةٍ وبعدهمْ لهُ ولدْ آخرا إبراهيمُ من سَرِيَّة ... وتلكمُ ماريةُ الْقبْطِيَّة وكلهمْ قدْ ماتَ فِي حَيَاته ... إلاّ البتولَ فَإلَى وفاتهِ2 والْحِكْمَة من أَن النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- أَبَا للبنات –الله أعلم بهَا- ويرجعها الْبَعْض لأسباب مِنْهَا: أَن الْبِنْت فِي عُرف الْعَرَب قبل الْإِسْلَام عَار يسْتَحق الدّفن حَيا قَالَ الله تَعَالَى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ
الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} 1. جَاءَ فِي تَفْسِير هَذِه الْآيَة: بِأَن الكظيم هُوَ الكئيب من الْهم، ويمسكه على هون: أَي يبْقى الْبِنْت مهانة لَا يُورثهَا وَلَا يعتني بهَا ويفضل أَوْلَاده الذُّكُور عَلَيْهَا2. فشاء الله أَن يكون النَّبِي مُحَمَّد -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- أَبَا لبنات ليَكُون الْقدْوَة للْمُؤْمِنين فِيمَا يَنْبَغِي للْبِنْت من حُقُوق ومكانة لائقة أقرها لَهَا الدّين الإسلامي الحنيف. فأبوة الرَّسُول –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- لبنَاته حَدثا جَدِيدا فِي حَيَاة الْمَرْأَة، وَفِي هَذَا قَالَ عمر بن الْخطاب – رَضِي الله عَنهُ –: "وَالله إِن كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّة مَا نعد للنِّسَاء أمرا حَتَّى أنزل الله فِيهِنَّ مَا أنزل وَقسم لَهُنَّ مَا قسم" 3. وَمِنْهَا أَيْضا -وَالله أعلم- (حَتَّى يكون النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- بَعيدا عَن تُهْمَة الاستنصار بِالْوَلَدِ، والاعتماد عَلَيْهِ) 4 كَمَا هِيَ عَادَة الْعَرَب فِي ذَلِك الْوَقْت. بل أَن مَا جَاءَ بِهِ من دين نُشر فِي الأَرْض لِأَنَّهُ هُوَ الْحق وَلَا حق سواهُ، وَالْحق دَائِما أظهر وَأقوى. وَقد كَانَ الْعَرَبِيّ فِي الْجَاهِلِيَّة يترقب الْأَوْلَاد للوقوف إِلَى جَانِبه ومساندته، والدفاع عَن الْحَوْزَة وحماية الْبَيْضَة، أما الْبِنْت فَكَانَ التخوف من عارها يحملهم على كراهتها5 حَتَّى بعث الله نَبينَا مُحَمَّد –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- بِالدّينِ الإسلامي خَاتم الْأَدْيَان
الَّذِي ارْتَضَاهُ الله عزَّ وَجل لِعِبَادِهِ قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 1 وَقَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} 2. فحفظ الْإِسْلَام للْبِنْت حُقُوقهَا وأنزلها الْمنزلَة اللائقة بهَا ووعد من يرعاها وَيحسن إِلَيْهَا بِالْأَجْرِ الجزيل وَجعل حسن تربيتها ورعايتها وَالنَّفقَة عَلَيْهَا سَبَب من الْأَسْبَاب الموصلة إِلَى رضوَان الله وجنته، جَاءَ فِي الحَدِيث عَن أنس بن مَالك -رَضِي الله عَنهُ- قَالَ: قَالَ رَسُول الله –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-: "من عَال جارتين حَتَّى تبلغا جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة أَنا وَهُوَ كهاتين وَضم أَصَابِعه" 3. يُلَاحظ فِي هَذَا الحَدِيث أَن النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- ضم أَصَابِعه، وَلم يفرق بَينهمَا كِنَايَة عَن شدَّة قرب من عَال جارتين من الرَّسُول –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فِي الْجنَّة. وَفِي الحَدِيث الآخر عَن عَائِشَة –رَضِي الله عَنْهَا – قَالَت: "دخلت علىّ امْرَأَة وَمَعَهَا ابنتان لَهَا تسْأَل، فَلم تَجِد عِنْدِي شَيْئا غير تَمْرَة وَاحِدَة، فأعطيتها إِيَّاهَا فقسمتها بَين ابنتيها وَلم تَأْكُل مِنْهَا، ثمَّ قَامَت فَخرجت، فَدخل النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- علينا، فَأَخْبَرته فَقَالَ: "من ابْتُلِيَ من هَذِه الْبَنَات بِشَيْء فَأحْسن إلَيْهِنَّ كن لَهُ سترا م ن النَّار" 4 أَي حِجَابا ووقاية من النَّار. أيُّ فضل أعظم من هَذَا الْفضل؟ وأيُّ أجر أعظم من هَذَا الْأجر؟.
وعَلى الرغم من هَذَا الْأجر الْعَظِيم الْوَارِد فِي فضل تربية الْبَنَات وَالْإِحْسَان إلَيْهِنَّ إلاَّ أَن هُنَاكَ من النَّاس من لَا يُسر لمولد الْبِنْت –وَالْعِيَاذ بِاللَّه- فَيظْهر الهمَّ والحزن! وَمَا هَذَا إِلَّا جهل وَاعْتِرَاض على قدر الله، وَالْبَعْض يفرط وَيقصر فِي تربية وتوجيه بَنَاته وَلم يرعهن الرِّعَايَة الْمَطْلُوبَة مِنْهُ. وَلَو أَن الْإِنْسَان تفقه فِي دين الله ووقف عِنْد حُدُوده واقتفى أثر الرَّسُول –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فِي كل أَمر من أُمُور حَيَاته لعاش مطمئناً مرتاح البال قرير الْعين، ولعرف كَيفَ يعبد ربه، وَكَيف يتعامل مَعَ إخوانه، وَأَهله، وَزَوجته، وَكَيف يُربي أَوْلَاده فَالْحَمْد لله أَنه مَا من خير إلاَّ ودلنا ديننَا الإسلامي الحنيف عَلَيْهِ وَمَا من شَرّ إلاَّ وحذرنا مِنْهُ.
رابعا: تربية النبي - صلى الله عليه وسلم - لبناته في مرحلة الطفولة:
رَابِعا: تربية النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- لبنَاته فِي مرحلة الطفولة: من هَدْيه –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فِي تربية بَنَاته فِي مرحلة الطفولة أَنه كَانَ يُسَّر ويفرح لمولد بَنَاته رَضِي الله عَنْهُن فقد سُرَّ واستبشر –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - لمولد ابْنَته فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا وَقَالَ لما بشر بهَا: "رَيْحَانَة أشمها وَرِزْقهَا على الله" 1 وتوسم فِيهَا الْبركَة واليمن، فسماها فَاطِمَة، ولقبها بـ (الزهراء) وَكَانَت تكنى أم أَبِيهَا2. وَفِي هَذَا درس عَظِيم من دروس السِّيرَة النَّبَوِيَّة بِأَن من رزق الْبَنَات وَإِن كثر عددهن عَلَيْهِ أَن يظْهر الْفَرح وَالسُّرُور ويشكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على مَا وهبه من الذُّرِّيَّة، وَأَن يعزم على حسن تربيتها، وتأديبها، وعلى تَزْوِيجهَا بالكفء "التقي" صَاحب
الدّين حَتَّى يظفر بِالْأَجْرِ الجزيل من الله. ففاطمة –رَضِي الله عَنْهَا– كَانَت الْبِنْت الرَّابِعَة للنَّبِي–صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-، وهِيَ أَصْغَر ذريتة –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-1. وَفِي مرحلة الطفولة يلْزم على الْأَبَوَيْنِ الاهتمام بالطفل وتوفير كَافَّة الاحتياجات الْخَاصَّة بِهَذِهِ المرحلة، الْحَاجَات الجسمية والنفسية؛ وبالذات الْأُم فعلَيْهَا تقع المسؤولية الْكُبْرَى فِي رِعَايَة أَوْلَادهَا فِي مرحلة الطفولة فهم أَكثر مَا يكونُونَ التصاقاً بهَا وَقد حرصت أم الْمُؤمنِينَ خَدِيجَة بنت خويلد –رَضِي الله عَنْهَا– على تربية ورعاية أَوْلَادهَا مُنْذُ ولادتهم (وَكَانَت إِذا ولدت ولدا دَفعته إِلَى من يرضعه) 2 فِي الْبَادِيَة حَتَّى ينشئوا على الفصاحة والشجاعة كَمَا كَانَت عَادَة قُرَيْش. لَا كَمَا يَفْعَله بعض الْأُمَّهَات فِي زَمَاننَا من دفع أَوْلَادهم إِلَى الخادمات والمربيات الْأَمر الَّذِي قد يحصل مَعَه خلل فِي عقيدة الطِّفْل وسلوكه. وَفِي هَذِه المرحلة –مرحلة الطفولة- يجب على الْأَبَوَيْنِ أَن يلقنا الْبِنْت مبادئ الْإِسْلَام، والعقيدة الصَّحِيحَة، وتلاوة الْقُرْآن الْكَرِيم، وَالصَّلَاة، والتعوّد على لبس الْحجاب حَتَّى تنشأ الْبِنْت على ذَلِك مُنْذُ نعومة أظفارها.
خامسا: رعاية النبي - صلى الله عليه وسلم- لبناته في مرحلة الصبا:
خَامِسًا: رِعَايَة النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- لبنَاته فِي مرحلة الصِّبَا: وَإِذا كَبرت الْبِنْت قَلِيلا وَجب على والديها أَن يعلماها حُقُوق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَحُقُوق الْوَالِدين، وَحُقُوق الآخرين وَحسن الْخلق وَحسن التَّصَرُّف فِي شَتَّى الْأُمُور، وعَلى الْمُحَافظَة على لبس الْحجاب والتستر والبعد عَن أعين الرِّجَال1 حَتَّى تنشأ الْبِنْت على التربية الإسلامية الصَّحِيحَة تعرف مَا يجب لَهَا وَمَا يجب عَلَيْهَا. مَعَ الْأَخْذ فِي عين الِاعْتِبَار إعدادها لما هُوَ منتظر مِنْهَا من دور هام فِي الْحَيَاة بِأَن تكون زَوْجَة صَالِحَة، وَأما حانية تربي أَوْلَادهَا وتعدهم لِأَن يَكُونُوا صالحين مصلحين؛ "لِأَن للْمَرْأَة الْمسلمَة أثرا كَبِيرا فِي حَيَاة كل مُسلم، فَهِيَ الْمدرسَة الأولى فِي بِنَاء الْمُجْتَمع الصَّالح، وخاصة إِذا كَانَت هَذِه الْمَرْأَة تسير على هدى من كتاب الله فِي كل شيىء"2. وَإِذا قربت الْبِنْت من سنّ الْبلُوغ (التَّكْلِيف) يجب أَن تدرب على أَن تكون زَوْجَة، وَأما وَهَذِه هِيَ سنة الله فِي خلقه وعَلى الْأُم تقع مسؤولية ذَلِك، فقد بادرت أم الْمُؤمنِينَ خَدِيجَة بنت خويلد –رَضِي الله عَنْهَا– بتمرين ابْنَتهَا الْكُبْرَى زَيْنَب –رَضِي الله عَنْهَا– عِنْدَمَا كَبرت على الْمُشَاركَة فِي أَعمال الْبَيْت والتدريب على الأمومة فَكَانَت (زَيْنَب) لشقيقتها الصُّغْرَى فَاطِمَة أما صَغِيرَة ترعى شؤونها
وتمضى فراغها فِي ملاعبتها1. وَلَقَد صدق الْقَائِل: (إِن الفتاة المتعلمة المهذبة فَخر لأَهْلهَا وَعون لبعلها، وَكَمَال لبنيها، أَهلهَا بهَا يفتخرون، وَأَوْلَادهَا بهَا يسعدون، وَمن ذَا الَّذِي لَا يسرّ فُؤَاده بابنته الأديبة الَّتِي تدبر الْأُمُور المعاشية بالمعرفة، وتدير الْحَرَكَة المنزلية بالحكمة، ويجد فِي مجالستها أنيساً عَاقِلا وسميراً كَامِلا) 2.
سادسا: تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم- لبناته:
سادساً – تَزْوِيج النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- لبنَاته: الزواج سنة من سنَن الله فِي خلقه، وَأمر مَرْغُوب فِيهِ حثَّ إِلَيْهِ ديننَا الحنيف ودعى إِلَيْهِ قَالَ الله تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 3 وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} 4. والزواج من سنة الرَّسُول –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- جَاءَ فِي الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ عَن أنس بن مَالك -رَضِي الله عَنهُ- قَالَ: "جَاءَ ثَلَاثَة رَهْط إِلَى بيُوت أَزوَاج النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-، يسْأَلُون عَن عبَادَة النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فَلَمَّا أُخبروا كَأَنَّهُمْ تقالوها، فَقَالُوا: "وَأَيْنَ نَحن من النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-؟ قد غفر الله لَهُ مَا تقدم من ذَنبه وَمَا تَأَخّر"، قَالَ أحدهم: "أما أَنا فَإِنِّي أُصلي اللَّيْل أبدا"، وَقَالَ آخر: "أَنا أَصوم الدَّهْر وَلَا أفطر"، وَقَالَ آخر: "أَنا أعتزل النِّسَاء فَلَا أَتزوّج أبدا"، فجَاء رَسُول الله –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فَقَالَ: "أَنْتُم الَّذين
قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أما وَالله إِنِّي لأخشاكم لله وأتقاكم لَهُ، لكني أَصوم وَأفْطر، وأصلى وأرقد، وأتزوج النِّسَاء، فَمن رغب عَن سنتي فَلَيْسَ مني" 1 وامتثالاً لأمر الله عز وَجل وَأمر رَسُوله –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- يجب على الْأَب أَن يُزَوّج بَنَاته ولَا يعضلهن ويمنعهن من الزواج لأي سَبَب من الْأَسْبَاب فَوَاجِب الْأَب أَن يُزَوّج ابْنَته وَأَن يخْتَار لَهَا الْكُفْء من الرِّجَال والكفء مَعْرُوف هُوَ صَاحب الدّين والخلق قَالَ النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم– "إِذا أَتَاكُم من ترْضونَ خلقه وَدينه فَزَوجُوهُ، إِن لَا تَفعلُوا تكن فتْنَة فِي الأَرْض وَفَسَاد عريض" 2. وَقد زوج النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- جَمِيع بَنَاته من خيرة الرِّجَال: فزوج زَيْنَب –رَضِي الله عَنْهَا- من أبي الْعَاصِ بن الرّبيع الْقرشِي -رَضِي الله عَنهُ- وَهُوَ ابْن خَالَتهَا هَالة بنت خويلد وَأَبُو الْعَاصِ كَانَ من رجال مَكَّة الْمَعْدُودين مَالا، وَأَمَانَة، وتجارة 3. وَقد أثنى النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- على أبي الْعَاصِ بن الرّبيع فِي مصاهرته خيرا وَقَالَ: "حَدثنِي فصدقني، ووعدني فوفى لي" وَكَانَ قد وعد النَّبِي أَن يرجع إِلَى مَكَّة، بعد وقْعَة بدر، فيبعث إِلَيْهِ بِزَيْنَب ابْنَته، فوفى بوعده، وفارقها مَعَ شدَّة حبه لَهَا4.
وَمِمَّا يدل على شهامته وَصدقه قصَّة إِسْلَامه -رَضِي الله عَنهُ- فقد كَانَ فِي تِجَارَة لقريش إِلَى الشَّام وَفِي طَرِيق عودته إِلَى مَكَّة المكرمة لَقيته سَرِيَّة فَأخذُوا مَا مَعَه، وَجَاء تَحت اللَّيْل إِلَى زَوجته زَيْنَب – وَقد كَانَت فِي الْمَدِينَة وَفرق بَينهمَا الْإِسْلَام فَهُوَ لم يدْخل فِي الْإِسْلَام بعد – فَاسْتَجَارَ بهَا فَأَجَارَتْهُ وَخرجت وَالنَّبِيّ -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- صلى بِالنَّاسِ الْفجْر فَقَالَت: "أَيهَا النَّاس إِنِّي قد أجرت أَبَا الْعَاصِ بن الرّبيع" فَلَمَّا سلم الرَّسُول –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- أقبل على النَّاس فَقَالَ: "أَيهَا النَّاس هَل سَمِعْتُمْ الَّذِي سَمِعت؟ " قَالُوا:"نعم" قَالَ: "أما وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ مَا علمت بشيىء حَتَّى سَمِعت مَا سَمِعْتُمْ وَأَنه يجير على الْمُسلمين أَدْنَاهُم" ثمَّ انْصَرف رَسُول الله –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فَدخل على ابْنَته زَيْنَب فَقَالَ: "أَي بنية أكرمي مثواه وَلَا يخلصن إِلَيْك فَإنَّك لَا تحلين لَهُ" قَالَ: وَبعث –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فحثهم على رد مَا كَانَ مَعَه فَردُّوهُ بأسره لَا يفقد مِنْهُ شَيْئا فَأَخذه أَبُو الْعَاصِ فَرجع بِهِ إِلَى مَكَّة فَأعْطى كل إِنْسَان مَا كَانَ لَهُ ثمَّ قَالَ: "يَا معشر قُرَيْش هَل بَقِي لأحد مِنْكُم عِنْدِي مَال لم يَأْخُذهُ؟ " قَالُوا: "لَا فقد وجدناك وفياً". قَالَ: "فَإِنِّي أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله، وَالله مَا مَنَعَنِي عَن الْإِسْلَام عِنْده إلاَّ تخوف أَن يَظُنُّوا أَنِّي إِنَّمَا أردْت أَن آكل أَمْوَالكُم فَلَمَّا أَدَّاهَا الله إِلَيْكُم وفرغت مِنْهَا أسلمت"1. وَقد زوجه النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- من ابْنَته زَيْنَب عِنْدَمَا طلبت مِنْهُ أمهَا خَدِيجَة بنت خويلد –رَضِي الله عَنْهَا- أَن يُزَوّجهَا لَهُ فَوَافَقَ النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- على طلبَهَا2؛ لما يعرف
من رجاحة عقلهَا وثقتها بِابْن أُخْتهَا فَكَانَت تعده بِمَنْزِلَة وَلَدهَا. وَهنا درس نبوي كريم فِي تَزْوِيج الْبَنَات هُوَ أَنه لَا مَانع من أَخذ رَأْي وَالِدَة الْبِنْت والتشاور مَعهَا فَفِي ذَلِك إِكْرَاما لَهَا واعترافاً بِحَقِّهَا. وزوَّج النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- رقية من عُثْمَان بن عَفَّان -رَضِي الله عَنهُ- الْخَلِيفَة الراشد الزَّاهِد الْجواد السخي الْحَيِي، وَكَانَ من أبرز أخلاقه وأشدها تمَكنا من نَفسه خلق الْحيَاء، الَّذِي تأصل فِي كيانه؛ لذا فقد أشاد الرَّسُول –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- بِهَذَا الْحيَاء الْوَاسِع العميم فَقَالَ: "إِن عُثْمَان رجلٌ حييّ" 1، وَقَالَ – صلى الله عَلَيْهِ وَسلم -: "ألاَّ أستحي من رجل تَسْتَحي مِنْهُ الْمَلَائِكَة" 2. وَكَانَ النَّبِي – صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - يُحِبهُ كثيرا فَلَمَّا توفيت رقية –رَضِي الله عَنْهَا– زوجه النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- بأختها أم كُلْثُوم وَلما مَاتَت أم كُلْثُوم قَالَ النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- "لَو كَانَ عِنْدِي ثَالِثَة لزوجتها عُثْمَان"، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى "لَو كن عشرا لزوجتهن عُثْمَان" 3. وزوَّج فَاطِمَة –رَضِي الله عَنْهَا– من عَليّ بن أبي طَالب -رَضِي الله عَنهُ- ابْن عَمه –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- وَكَانَ أول ذكر من النَّاس آمن برَسُول الله –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- وَكَانَ قد تربى فِي حجر الرَّسُول –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- قبل الْإِسْلَام وَلم يزل عَليّ مَعَ رَسُول الله –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-حَتَّى بَعثه الله نَبيا 4. يَقُول ابْن كثير رَحمَه الله: "كَانَ أَبُو طَالب ذَا عِيَال كَثِيرَة، فَقَالَ رَسُول الله –
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- لِعَمِّهِ الْعَبَّاس، وَكَانَ من أيسر بني هَاشم: "يَا عَبَّاس إِن أَخَاك أَبَا طَالب كثير الْعِيَال وَقد أصَاب النَّاس مَا ترى من هَذِه الأزمة فَانْطَلق حَتَّى نخفف عَنهُ من عِيَاله"، فَأخذ رَسُول الله– صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - عليا فضمه إِلَيْهِ، فَلم يزل مَعَ رَسُول الله حَتَّى بَعثه الله نَبيا فَاتبعهُ عَليّ وآمن بِهِ وَصدقه "1 والْبِنْت أَمَانَة فِي بَيت والديها ولابد أَن تنْتَقل إِلَى بَيت زَوجهَا يَوْمًا مَا، وَقد أوجب لَهَا ديننَا الإسلامي الحنيف حق الاسْتِئْذَان فِي الزواج فَلَا يحل لوَلِيّهَا أَن يعْقد لَهَا على رجل تكرههُ قَالَ النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-: "لَا تنْكح الأيم حَتَّى تستأمر، ولاتنكح الْبكر حَتَّى تستأذن". قَالُوا: "يَا رَسُول الله، وَكَيف إِذْنهَا؟ " قَالَ: " أَن تسكت" 2. فكلمة تستأمر فِي حق الثّيّب تفِيد طلب الْأَمر فَلَا يعْقد عَلَيْهَا إلاَّ بعد طلب أمرهَا وإذنها بذلك، وَكلمَة تستأذن فِي حق الْبكر تعنى طلب إِذْنهَا وموافقتها على النِّكَاح3 وَإِذا عقد الْأَب لابنته وَهِي كارهة فَالْعقد مَرْدُود "عَن خنساء بنت خدام الْأَنْصَارِيَّة: أَن أَبَاهَا زَوجهَا وَهِي ثيب فَكرِهت ذَلِك، فَأَتَت رَسُول الله –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فَرد نِكَاحهَا" 4. وَفِي رِوَايَة: عَن الْقَاسِم: " أَن امْرَأَة من ولد جَعْفَر، تخوفت أَن يُزَوّجهَا وَليهَا وَهِي كارهة، فَأرْسلت إِلَى شيخين من الْأَنْصَار – عبد الرَّحْمَن وَمجمع ابْني جَارِيَة –
قَالَا: فَلَا تخشين، فَإِن خنساء بنت خدام، أنْكحهَا أَبوهَا وَهِي كارهة، فَرد النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- ذَلِك" 1. وكَانَ النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- يستشير بَنَاته قبل تزويجهن فعندما خطب عَليّ -رَضِي الله عَنهُ- فَاطِمَة –رَضِي الله عَنْهَا– قَالَ لَهَا الرَّسُول –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-: "إِن عليا يذكرك" فَسَكَتَتْ فَزَوجهَا2. وَكَانَ –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- يتحدث إِلَى بَنَاته فِي أَزوَاجهنَّ ويقنعهن بِفضل من تَزَوَّجن فقد قَالَ لفاطمة –رَضِي الله عَنْهَا– مُبينًا فضل ومكانة عَليّ بن أبي طَالب –رَضِي الله عَنهُ- عِنْدَمَا قَالَت: "زوجتني بِرَجُل فَقير لَا شييء لَهُ" فَقَالَ –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-: "أما ترْضينَ يَا فَاطِمَة إِن الله اخْتَار من أهل الأَرْض رجلَيْنِ جعل أَحدهمَا أَبَاك، والأخر بعلك" 3. وَهنا يجب على الْآبَاء أَن يتأكدوا من مُوَافقَة الْبِنْت قبل إِجْرَاء العقد لَهَا. ويخطئ بعض الْآبَاء من ترديد كلمة نَحن أعلم بمصلحتها –لَا شكّ– أَن الْأَب يفوق ابْنَته فِي الْخِبْرَة، وَطول التجربة فِي الْحَيَاة، وَمَعْرِفَة الرِّجَال وَلَكِن على الرغم من ذَلِك يجب عَلَيْهِ أَن لَا يحيد عَن تعاليم الْإِسْلَام، وَلَا يجْبر ابْنَته على رجل تكرههُ بل عَلَيْهِ أَن يستأذنها وَيعرف رأيها قبل إِجْرَاء عقد النِّكَاح، وَفِي ذَلِك خير كَبِير حَيْثُ تشعر الْبِنْت بكيانها وأهميتها وتبدى رأيها فِي الرجل الَّذِي
ستنتقل إِلَى بَيته وَهُوَ أدعى لدوام السَّعَادَة والوفاق لاقتناع كل من الطَّرفَيْنِ بِصَاحِبِهِ فالزوج أَبَاحَ لَهُ الْإِسْلَام النّظر إِلَى من ينوى نِكَاحهَا، وَهِي كَذَلِك ترَاهُ وتستشار فِي الْمُوَافقَة على إِجْرَاء العقد وَهَذِه من عَظمَة ديننَا الإسلامي الحنيف. وَالصَّدَاق فِي الزواج حق من حُقُوق الزَّوْجَة يَدْفَعهُ لَهَا الزَّوْج قَالَ الله تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} 1 فِي هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة يَأْمر الله تَعَالَى الْمُؤمنِينَ بِأَن يُعْطوا النِّسَاء مهورهن فَرِيضَة مِنْهُ تَعَالَى فَرضهَا على الرجل لامْرَأَته، فَلَا يحل لَهُ وَلَا لغيره أَن يَأْخُذ مِنْهُ شَيْئا إِلَّا برضى الزَّوْجَة2، والنحلة فِي كَلَام الْعَرَب الْوَاجِب وَلَا تنْكح الْمَرْأَة إِلَّا بِشَيْء وَاجِب لَهَا، وَيجب على الرجل دفع الصَدَاق إِلَى الْمَرْأَة حتما، وَأَن يكون طيب النَّفس بذلك3. وَلَيْسَ هُنَاكَ حدٌ فِي أقل الصَدَاق وَأَكْثَره، وَيصِح فِيهِ أَن يكون شَيْئا يَسِيرا جدا بِكُل مَا يتراضى عَلَيْهِ الزَّوْجَانِ، أَو من لَهُ ولَايَة العقد وَإِن لم يكن عينا كَالْمَالِ وَالذَّهَب وَنَحْوه، فقد يكون الصَدَاق خدمَة، كقصة مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام مَعَ صَاحب مَدين، وَقد يكون تَعْلِيما فقد، ورد فِي الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ: "أَن امْرَأَة جَاءَت إِلَى رَسُول –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فَقَالَت: "يَا رَسُول الله جِئْت لأهب لَك نَفسِي"، فَنظر إِلَيْهَا رَسُول الله –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فَصَعدَ النّظر إِلَيْهَا وَصَوَّبَهُ، ثمَّ طأطأ رَأسه، فَلَمَّا رَأَتْ الْمَرْأَة أَنه لم يقْض فِيهَا شَيْئا جَلَست، فَقَامَ رجل من أَصْحَابه فَقَالَ: "أَي رَسُول الله، إِن لم يكن لَك بهَا حَاجَة فزوجنيها"، فَقَالَ: "هَل عنْدك من شيىء؟ " فَقَالَ: "لَا وَالله
يَا رَسُول الله"،قَالَ: "اذْهَبْ إِلَى أهلك فَانْظُر هَل تَجِد شَيْئا؟ ".فَذهب ثمَّ رَجَعَ فَقَالَ: "لَا وَالله يَا رَسُول الله مَا وجدت شَيْئا"، فَقَالَ: "انْظُر وَلَو خَاتمًا من حَدِيد" فَذهب ثمَّ رَجَعَ فَقَالَ: "لَا يَا رَسُول الله وَلَا خَاتمًا من حَدِيد، وَلَكِن هَذَا إزَارِي" – فَقَالَ رَسُول الله –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-: "مَا تصنع بإزارك، إِن لَبِسْتَهُ لم يكن عَلَيْهَا مِنْهُ شيىء، وَإِن لَبِسَتْهُ لم يكن عَلَيْك مِنْهُ شيىء" فَجَلَسَ الرجل حَتَّى طَال مَجْلِسه، ثمَّ قَامَ فرأه رَسُول الله –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- موليا، فَأمر بِهِ فدعي، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ: "مَاذَا مَعَك من الْقُرْآن؟ " قَالَ: "معي سُورَة كَذَا وَسورَة كَذَا وَسورَة كَذَا"، عدَّها، قَالَ: "أتقرؤهن عَن ظهر قَلْبك؟ " قَالَ: "نعم" قَالَ: "اذْهَبْ فقد ملكتكها بِمَا مَعَك من الْقُرْآن" 1. وَسنة النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم– وهديه عدم التغالي فِي الصَدَاق، بل إِن خير الصَدَاق أيسره قَالَ الإِمَام ابْن الْقيم –يرحمه الله-: "إِن المغالاة فِي الْمهْر مَكْرُوهَة فِي النِّكَاح، وَأَنَّهَا من قلَّة بركته وعسره"2. " فقد زوَّج النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- بَنَاته على الْيَسِير من الصَدَاق فَبعد أَن تمت الْمُوَافقَة على زواج عَليّ بن أبي طَالب -رَضِي الله عَنهُ- من فَاطِمَة حُب رَسُول الله –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- وأصغر بَنَاته جَاءَ إِلَى النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فَسَأَلَهُ النَّبِي "مَا تصدقها؟ " فَقَالَ عَليّ: "مَا عِنْدِي مَا أصدقهَا" فَقَالَ الرَّسُول –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- "فَأَيْنَ درعك الحطمية الَّتِي كنت قد منحتك؟ " قَالَ عَليّ: "عِنْدِي". قَالَ النَّبِي
-صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- " أصدقهَا إِيَّاهَا" فَأَصْدقهَا وتزَوجهَا وَكَانَ ثمنهَا أَرْبَعمِائَة درهما " 1. هَذَا هُوَ صدَاق بنت رَسُول الله –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- وحبه وأصغر بَنَاته سيدة نسَاء أهل الْجنَّة فَعَن ابْن عَبَّاس – رَضِي الله عَنهُ – قَالَ: "خطّ رَسُول الله –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فِي الأَرْض أَرْبَعَة خطوط، وَقَالَ: " أَتَدْرُونَ مَا هَذَا؟ " فَقَالُوا: " الله وَرَسُوله أعلم "، فَقَالَ رَسُول الله –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- " أفضل نسَاء أهل الْجنَّة خَدِيجَة بنت خويلد، وَفَاطِمَة بنت مُحَمَّد، وآسيا بنت مُزَاحم امْرَأَة فِرْعَوْن، وَمَرْيَم ابْنة عمرَان رَضِي الله عَنْهُن أَجْمَعِينَ" 2. وَمَا يَفْعَله بعض النَّاس فِي زَمَاننَا من التغالي فِي المهور هُوَ أبعد مَا يكون عَن هدي رَسُول الله –صلى الله عَلَيْهِ- وهُوَ أَمر خطير لَهُ أضراره على الْفَرد وعَلى الْمُجْتَمع وَالدّين الإسلامي دين الْيُسْر والسهولة وَفِي أَمر الزواج لَا يقْتَصر الْيُسْر على الصَدَاق بل يَمْتَد إِلَى الْوَلِيمَة الَّتِي يُشهر بهَا الزواج وَهِي أَمر دعى إِلَيْهِ الْإِسْلَام وحثَّ عَلَيْهِ فَكَانَ النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- يولم فِي زواجه باليسير من النَّفَقَة، فَعَن صَفِيَّة بنت شيبَة قَالَت: " أولم النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- على بعض نِسَائِهِ بمدين من شعير " 3. وَكَذَلِكَ فِي زواج أَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم فَعَن أنس -رَضِي الله عَنهُ -: " أَن النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- رأى على عبد الرَّحْمَن بن عَوْف أثر صفرَة، قَالَ: "مَا هَذَا؟ " قَالَ: " إِنِّي تزوجت امْرَأَة على وزن نواة من ذهب "، قَالَ: "بَارك الله لَك، أولم وَلَو بِشَاة " 4.
وَفِي زواج بَنَاته رَضِي الله عَنْهُن كَذَلِك مظهر من مظَاهر الْيُسْر فِي الْوَلِيمَة فَفِي لَيْلَة زواج فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَ الرَّسُول –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-: "يَا عَليّ لَا بُد للعروس من وَلِيمَة ". فَقَالَ سعد بن معَاذ -رَضِي الله عَنهُ-: "عِنْدِي كَبْش". وَجمع رَهْط من الْأَنْصَار أصواعاً من ذرة وأولم الرَّسُول –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- 1. ونشهد من بعض النَّاس إسرافاً وَاضحا فِي ولائم الزواج وتباهياً وتفاخراً غير مَحْمُود وَهَذَا أَيْضا مُخَالف لهدي النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- وسنته، وَيعود هَذَا الْإِسْرَاف وَغَلَاء المهور على الْأَفْرَاد والمجتمعات بمشاكل وسلبيات كَثِيرَة، أهمها: كَثْرَة العوانس فِي الْبيُوت، وَتَأَخر سنّ الزواج بَين الشَّبَاب، فقد أثبت عبد الرب نواب الدّين فِي دراسة لَهُ: أَن 92% من الْبَنِينَ و 69% من الْبَنَات يرَوْنَ أَن غلاء المهور سَبَب قوي ومباشر من أَسبَاب العنوسة وَتَأَخر سنّ الزواج، واستنتج أَن هَذِه النِّسْبَة الْعَالِيَة تدل على أَن غلاء المهور مشكلة قَائِمَة فِي الْمُجْتَمع، وَهِي مشكلة مستفحلة يعاني مِنْهَا قطاع كَبِير جدا من الشَّبَاب، وَأَنَّهَا السَّبَب الأول والمباشر لظاهرة العنوسة أَو تَأَخّر سنّ الزواج، أَو العزوف عَن الزواج من ذَوي المهور الغالية والتكاليف الْعَالِيَة! واللجوء من ثمّ إِلَى الْخَارِج للزواج من ذَوَات المهور الْيَسِيرَة والمؤونة السهلة2.
سابعا: رعاية النبي - صلى الله عليه وسلم- لبناته بعد الزواج:
سابعاً: رِعَايَة النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- لبنَاته بعد الزواج: يخْتَلف النَّاس فِي النّظر إِلَى علاقَة الْبِنْت بوالديها بعد الزواج: فَمنهمْ من يرى أَنه يجب على الْأَبَوَيْنِ أَن يتْركُوا الْبِنْت وشأنها بعد الزواج لدرجة أَن علاقتهم بهَا شبه مَقْطُوعَة فَلَا تزاور من طرف الْأَهْل، بزعمهم أَن هَذَا أدعى لسعادتها الزَّوْجِيَّة واستمرار العلاقة بَينهَا وَبَين زَوجهَا وَأَهله. وَفِي الْمُقَابل نجد أَن هُنَاكَ من الْأسر من يتدخل فِي حَيَاة ابنتهم بشكل مبَاشر فيتطلعون إِلَى معرفَة كل صَغِيرَة وكبيرة فِي حَيَاة ابنتهم، وَلِهَذَا التدخل سلبياته الَّتِي تُؤدِّي إِلَى إِفْسَاد الْحَيَاة الزَّوْجِيَّة، لدرجة قد تصل إِلَى الطَّلَاق! فَمَا هُوَ الْهَدْي النَّبَوِيّ فِي هَذَا الْجَانِب من حَيَاة الْبَنَات؟. كَانَ النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- يزور بَنَاته بعد الزواج وَيدخل عَلَيْهِنَّ الْفَرح وَالسُّرُور، فقد زار النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فَاطِمَة –رَضِي الله عَنْهَا– بعد زواجها ودعا لَهَا ولزوجها بِأَن يعيذهما الله وذريتهما من الشَّيْطَان الرَّجِيم1. وَلم يكن يشْغلهُ –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- عَن بَنَاته –رَضِي الله عَنْهُن– شاغل بل كَانَ يفكر فِيهِنَّ وَهُوَ فِي أصعب الظروف وأحلكها فعندما أَرَادَ النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- الْخُرُوج لبدر لملاقاة قُرَيْش وَصَنَادِيدهَا كَانَت رقية –رَضِي الله عَنْهَا– مَرِيضَة فَأمر النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- زَوجهَا عُثْمَان بن عَفَّان -رَضِي الله عَنهُ- أَن يبْقى فِي الْمَدِينَة؛ ليمرضها وَضرب لَهُ بسهمه فِي مَغَانِم بدر وأجره عِنْد الله يَوْم الْقِيَامَة 2. وَيجب على الْأَب أَن يحافظ على بَيت ابْنَته وسعادتها مَعَ زَوجهَا وَأَن يتدخل إِذا لزم الْأَمر ويحرص على الْإِصْلَاح بَينهَا وَبَين زَوجهَا بشكل يضمن إِعَادَة الصفاء إِلَى جو الأسرة. فقد حدث أَنه كَانَ بَين عَليّ بن أبي طَالب -رَضِي الله عَنهُ- وَزَوجته فَاطِمَة
الزهراء –رَضِي الله عَنْهَا– كَلَام فَدخل عَلَيْهِمَا النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فأُلقى لَهُ مِثَالا فاضطجع عَلَيْهِ. فَجَاءَت فَاطِمَة –رَضِي الله عَنْهَا- فاضطجعت من جَانب، وَجَاء عَليّ –رَضِي الله عَنهُ- فاضطجع من جَانب، فَأخذ رَسُول الله بيد عَليّ –رَضِي الله عَنهُ- فوضعها على سرته، وَأخذ بيد فَاطِمَة –رَضِي الله عَنْهَا- على سرته وَلم يزل حَتَّى أصلح بَينهمَا، ثمَّ خرج فَقيل لَهُ: "دخلت وَأَنت على حَال وَخرجت وَنحن نرى الْبشر فِي وَجهك" فَقَالَ: "وَمَا يَمْنعنِي وَقد أصلحت بَين أحب اثْنَيْنِ إليَّ "1. وَلَكِن قد يسْتَمر الْخلاف بَين الزَّوْجَيْنِ وَيُصْبِح اسْتِمْرَار الْعشْرَة بَينهمَا أمرا مستحيلاً وَالله الْحَكِيم الْخَبِير الَّذِي سنَّ الزواج أَبَاحَ الطَّلَاق وَجعله الْحل الْأَخير الَّذِي يُلجأ إِلَيْهِ إِذا استحالت الْعشْرَة بَين الزَّوْجَيْنِ. وَأَحْيَانا يَقع الطَّلَاق على الزَّوْجَة ظلما وعدواناً، عِنْدهَا تحزن الْبِنْت كثيرا ويحزن أَهلهَا لحزنها، والعزاء فِي ذَلِك أَن ابْنَتي الرَّسُول –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-: رقية وَأم كُلْثُوم طلقتا من عتبَة وعتيبة ابْنا أبي لَهب ظلما بِدُونِ سَبَب إلاَّ أَنَّهُمَا صدقتا مَا قَالَه النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-: من أَنه أُوحِي إِلَيْهِ وَأَنه نَبِي هَذِه الْأمة، الْكَلَام الَّذِي أغضب قُرَيْش فقد تزوج عتبَة بن أبي لَهب من رقية بنت رَسُول الله –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فَلَمَّا نزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} قَالَ أَبُو لَهب: "رَأْسِي من رَأسك حرَام إِن لم تطلق بنت مُحَمَّد ففارقها قبل الدُّخُول"2. وَلم يكتف أَبُو لَهب بذلك بل أَمر ابْنه عتيبة أَن يُطلق أم كُلْثُوم بنت النَّبِي –
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- ظنا مِنْهُ أَنه بذلك يَسْتَطِيع أَن يشغل النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- عَن دَعوته1. هُنَا درس للبنات وللآباء بِأَن يصبروا ويحتسبوا الْأجر من الله جلَّ وَعلا، وَأَن مَا وَقع من الطَّلَاق ظلما مَا هُوَ إلاَّ ابتلاء سَوف يعوضهم الله خيرا فقد عوض الله ابْنَتي الرَّسُول –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- خيرا من عتبَة وعتيبة، عوضهما زوجا صَالحا كَرِيمًا هُوَ عُثْمَان بن عَفَّان -رَضِي الله عَنهُ- أحد الْعشْرَة المبشرين بِالْجنَّةِ وثالث الْخُلَفَاء الرَّاشِدين، فقد تزوج عُثْمَان -رَضِي الله عَنهُ- برقية وَبعد وفاتها تزوج بأختها أم كُلْثُوم قَالَ الله تَعَالَى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً} 2. وَقد يحدث أَن يفقد الْأَب بعض بَنَاته بموتهن فالموت نِهَايَة كل حَيّ وَهُوَ الْمصير المحتوم الَّذِي لَا مفر مِنْهُ قَالَ الله تَعَالَى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} 3 يَقُول الشَّيْخ ابْن سعدي – يرحمه الله – فِي تَفْسِير هَذِه الْآيَة: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} " أَي الْمَلَائِكَة الموكلون بِقَبض الْأَرْوَاح " {وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} "فِي ذَلِك فَلَا يزِيدُونَ سَاعَة مِمَّا قدره الله وقضاه، وَلَا ينقصُونَ"4. وَمن أعزّ من الْبِنْت على أَبِيهَا؟ وَلَو قدر الله هَذَا يجب على الْأَب أَن يصبر ويحتسب، وَلَا يَقُول إِلَّا مَا يرضى رَبنَا عز وَجل قَالَ الله تَعَالَى: {الَّذِينَ إِذَا
َصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ} 1 أَي تسلوا بقَوْلهمْ هَذَا عَمَّا أَصَابَهُم وَعَلمُوا أَنهم ملك لله يتَصَرَّف فِي عبيده بِمَا يَشَاء، وَعَلمُوا أَنه لَا يضيع لَدَيْهِ مِثْقَال ذرة يَوْم الْقِيَامَة فأحدث لَهُم ذَلِك اعترافهم بِأَنَّهُم عبيده وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُون فِي الدَّار الْآخِرَة2. وليعلم من ابتلى بفقد إِحْدَى بَنَاته أَن الرَّسُول –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فقد جَمِيع ذُريَّته من الذُّكُور وَالْإِنَاث وَلم يبْق بعد وَفَاته إلاَّ فَاطِمَة الزهراء –رَضِي الله عَنْهَا- وهديه –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فِي وَفَاة بَنَاته رَضِي الله عَنْهُن، أَنه كَانَ يحزن لوفاتهن وتذرف عَيناهُ الدمع على فراقهن، يَقُول أنس بن مَالك -رَضِي الله عَنهُ- فِي نبأ وَفَاة أم كُلْثُوم –رَضِي الله عَنْهَا– "شَهِدنَا بِنْتا لرَسُول الله –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- قَالَ: وَرَسُول الله –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- جالسٌ على الْقَبْر، قَالَ فَرَأَيْت عَيْنَيْهِ تدمعان، وَقَالَ: "هَل مِنْكُم رجل لم يقارف3 اللَّيْل؟ " قَالَ أَبُو طَلْحَة: " أَنا " قَالَ: " فانزِل " قَالَ: " فَنزل فِي قبرها "4. والدموع هَذِه لَيست دموع جزع وَسخط من قَضَاء الله وَقدره -وَالْعِيَاذ بِاللَّه- إِنَّمَا هِيَ دموع رَحْمَة وشفقة تذرف من عُيُون الرُّحَمَاء روى أُسَامَة بن زيد –رَضِي الله عَنهُ- قَالَ: "أرْسلت ابْنة النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- إِلَيْهِ: أَن ابْنا لي قبض، فأتنا، فَأرْسل يقرئ السَّلَام وَيَقُول: "إِن لله مَا أَخذ، وَله مَا أعْطى، وكل عِنْده بِأَجل مُسَمّى، فَلتَصْبِر ولتحتسب" فَأرْسلت إِلَيْهِ تقسم ليأتينها فَقَامَ وَمَعَهُ سعد بن عبَادَة، ومعاذ ابْن جبل، وَأبي
بن كَعْب، وَزيد بن ثَابت، وَرِجَال فرُفع إِلَى رَسُول الله –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- الصَّبِي وَنَفسه تتقعقع – قَالَ: حسبته قَالَ: كَأَنَّهَا شن- فَفَاضَتْ عَيناهُ، فَقَالَ سعد: "يَا رَسُول الله مَا هَذَا؟ " فَقَالَ: "هَذِه رَحْمَة جعلهَا الله فِي قُلُوب عباده، وَإِنَّمَا يرحم الله من عباده الرُّحَمَاء" 1. وَمن هَدْيه –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فِي وَفَاة بَنَاته أَنه كَانَ يصبر على فقدهن ويحتسب الْأجر الجزيل من الله تَعَالَى وَهُوَ جنَّة عرضهَا كعرض السَّمَاوَات وَالْأَرْض فِيهَا مَالا عين رَأَتْ وَلَا أذن سَمِعت وَلَا خطر على قلب بشر. وَالْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي فضل الصَّبْر على فقد الْأَوْلَاد كَثِيرَة مِنْهَا: عَن أنس – رَضِي الله عَنهُ ـ قَالَ: قَالَ النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- "مَا من مُسلم يتوفى لَهُ ثَلَاث لم يبلغُوا الْحِنْث إِلَّا أدخلهُ الله الْجنَّة بِفضل رَحمته إيَّاهُم" 2 وَعَن أبي سعيد –رَضِي الله عَنهُ– أَن النِّسَاء قُلْنَ للنَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-: "اجْعَل لنا يَوْمًا " فوعظهن وَقَالَ: "أَيّمَا امْرَأَة مَاتَ لَهَا ثَلَاثَة من الْوَلَد كَانُوا لَهَا حِجَابا من النَّار" قَالَت: "امْرَأَة وَاثْنَانِ؟ " قَالَ: "وَاثْنَانِ" 3. وَمن هَدْيه –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فِي وَفَاة بَنَاته –رَضِي الله عَنْهُن– أَنه كَانَ يشرف على غسلهن وتكفينهن، وَيصلى عَلَيْهِنَّ ويدفنهن، وَيقف على قبورهن وَيَدْعُو الله لَهُنَّ. فَعَن أم عَطِيَّة –رَضِي الله عَنْهَا- قَالَت: "دخل علينا رَسُول الله –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- وَنحن نغسل ابْنَته فَقَالَ: "اغسلنها ثَلَاثًا، أَو خمْسا، أَو
أَكثر من ذَلِك بِمَاء وَسدر واجعلن فِي الْآخِرَة كافوراً. فَإِذا فرغتن فآذنني". فَلَمَّا فَرغْنَا آذناه فَألْقى إِلَيْنَا حقوة فَقَالَ: "أشعرنها إِيَّاه" 1. وَفِي كَيْفيَّة الْغسْل قَالَت أم عَطِيَّة –رَضِي الله عَنْهَا- قَالَت: "لما غسلنا بنت النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-، قَالَ لنا وَنحن نغسلهَا: " ابدأن بميامنها ومواضع الْوضُوء مِنْهَا " 2. وَكَانَ –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- يقف على قبر من توفّي من بَنَاته وَيَدْعُو لَهَا فقد كَانَت رقية –رَضِي الله عَنْهَا– مَرِيضَة أثْنَاء غَزْوَة بدر فَأمر النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- زَوجهَا عُثْمَان بن عَفَّان –رَضِي الله عَنهُ- بِالْبَقَاءِ إِلَى جَانبهَا لتمريضها. وَلما عَاد –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- من الْغَزْوَة وَقد مَاتَت ابْنَته رقية، خرج إِلَى بَقِيع الْغَرْقَد ووقف على قبرها يَدْعُو لَهَا بالغفران.3.
نتائج البحث:
نتائج الْبَحْث: أَسْفر الْبَحْث عَن العديد من النتائج أهمها: 1- الْبِنْت نعْمَة من نعم الله الْعَظِيمَة وَهِي سَبَب من الْأَسْبَاب الموصلة إِلَى رضوَان الله وجنته. 2- كَانَت الْمَرْأَة قبل الْإِسْلَام مهانة. 3- جَاءَ الْإِسْلَام فحفظ للْمَرْأَة حُقُوقهَا. 4- كَانَ النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- يسر كثيرا لمولد بَنَاته. 5- تربية الْبِنْت فِي مرحلة الطفولة مسؤولية الْأُم فِي الدرجَة الأولى. 6- يجب أَن تُعد الْبِنْت للدور الَّذِي ينتظرها فِي الْحَيَاة بِأَن تكون زَوْجَة وَأما. 7- يجب على الْأَب أَن يخْتَار لابنته الْكُفْء (التقي) من الرِّجَال. 8- على الْأَب أَن يستشير ابْنَته فِي الزَّوْج قبل إِجْرَاء العقد. 9- الْيُسْر فِي الصَدَاق والوليمة من سنة الْمُصْطَفى –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. 10- التغالي فِي المهور وحفلات الزواج من أَسبَاب تَأَخّر الزواج بَين الشَّبَاب وَالْبَنَات، لَهُ أضراره على الْفَرد وعلى الْمُجْتَمع. 11- يَنْبَغِي زِيَارَة الْبِنْت فِي بَيتهَا وتفقد أحوالها وَإِصْلَاح مَا قد يَقع بَينهَا وَبَين زَوجهَا من خلاف. 12- إِذا وَقع الطَّلَاق على الْبِنْت ظلما وعدواناً فَلتَصْبِر وليصبر والديها ويعلموا أَن الله سيعوضهما خيرا. 13- إِذا فقد إِنْسَان إِحْدَى بَنَاته فليصبر وليحتسب وليعلم أَن النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فقد جَمِيع أَوْلَاده من الذُّكُور والْإِنَاث إِلَّا فَاطِمَة –رَضِي الله عَنْهَا- فَإِنَّهَا توفيت بعده. 14- وجوب اتِّبَاع هدى النَّبِي –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فِي كل أحوالنا.
التوصيات:
التوصيات: أهمية دراسة هدي الرَّسُول –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فِي تربية بَنَاته وتطبيق ذَلِك فِي تربية بناتنا امتثالاً لقَوْل الله تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} 1. يَقُول الإِمَام ابْن كثير –يرحمه الله-: "هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة أصل كَبِير فِي التأسي برَسُول الله -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- فِي أَقْوَاله وأفعاله وأحواله"2. وَفِي ختام هَذَا الْبَحْث أسأَل الله الْعلي الْقَدِير أَن يوفقنا للْعَمَل بكتابه وَاتِّبَاع سنة نبيه –صلى الله عَلَيْهِ وَسلم-، وَأَن يعيننا على تربية أَوْلَادنَا وبناتنا التربية الإسلامية الصَّحِيحَة، وَأَن يجعلهم قُرَّة عين لنا فِي الدُّنْيَا، وَأَن يجعلهم من أَعمالنَا الصَّالِحَة الَّتِي لَا تَنْقَطِع بعد وفاتنا وَصلى الله على نَبينَا مُحَمَّد وعَلى آله وَصَحبه أَجْمَعِينَ.