من أعلام المجددين

صالح الفوزان

مقدمة

مقدمة ... بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله عز وجل الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه. فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين1، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وبعد: فمن المعلوم أنه كلما تأخر الزمان وبعد الناس عن آثار الرسالة حدثت البدع، والخرافات وفشا الجهل واشتدت غربة الدين، وظن الناس أن ما وجدوا عليه آباءهم هو الدين وإن كان بعيداً عنه، ولكن الله سبحانه لا يخلى الأرض من قائم لله بحجة. وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن طائفة من المسلمين لا تزال على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا

_ 1 هذه خطبة الإمام أحمد في كتاب الرد على الجهمية رأينا مناسبتها للموضوع فقدمناه بها.

من خالفهم حتى يأتي أمر الله تعالى، كما أخبر صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو داود وصححه الحاكم وغيره حيث قال: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"، قال المناوي في فيض القدير: (2/281-282) أي يقيض لها (على رأس كل مائة سنة) من الهجرة أو غيرها، والمراد الرأس تقريباً (من) أي رجلاً أو أكثر (يجدد لها دينها) أي يبين السنة من البدعة ويكثر العلم وينصر أهله ويكسر أهل البدعة ويذلهم –قالوا ولا يكون إلا عالماً بالعلوم الدينية الظاهرة والباطنة، قال ابن كثير: قد ادعى كل قوم في إمامهم أنه المراد بهذا الحديث والظاهر أنه يعم جملة من العلماء من كل طائفة وكل صنف من مفسر ومحدث وفقيه ونحوي ولغوي وغيرهم /انتهى. وقد وقع مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث فلا يزال –والحمد لله- فضل الله على هذه الأمة يتوالى بظهور المجددين عند اشتداد الحاجة إليهم، ومن هؤلاء المجددين الإمام بن حنبل في القرن الثالث، وشيخ الإسلام ابن تيمية في آخر القرن السابع وأول الثامن، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر، وقد أحببت في هذه العجالة أن أقدم بعض المعلومات عن هؤلاء الأئمة، وما قاموا به من تجديد هذا الدين مما لا تزال آثاره باقية في هذه الأمة ولله الحمد والمنة، والقصد من ذلك تعريف من يجهل مجهود هؤلاء الأئمة والتنبيه للانتفاع بآثارهم والاقتداء بهم، والله الهادي إلى سواء السبيل ...

الإمام أحمد بن حنبل

1-الإمام أحمد بن حنبل 1-نسبه: هو أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان1. 2-نشأته وتعلمه: قدم به والده من مرو وهو حمل، فوضعته أمه ببغداد في ربيع الأول من سنة أربع وستين ومائة وتوفي أبوه وهو ابن ثلاث سنين فكفلته أمه، وقد كان في حداثته يختلف إلى مجلس القاضي أبي يوسف، ثم ترك ذلك وأقبل على سماع الحديث، وكان سنه ست عشرة سنة، ثم حج عدة مرات وجاور بمكة مرتين، ثم سافر إلى عبد الرزاق في اليمن وكتب عنه، وقد طاف في البلاد والآفاق وسمع من مشايخ العصر وكانوا يجلونه ويحترمونه2. قال ابن الجوزي: ابتدأ أحمد رضي الله عنه في طلب العلم من شيوخ بغداد ثم رحل إلى الكوفة والبصرة ومكة والمدينة واليمن والشام والجزيرة، وكتب عن علماء كل بلد، ثم ذكر أسماء من لقي من كبار العلماء وروى عنهم مرتبين على حروف المعجم من الألف إلى الياء،

_ 1 مناقب الإمام أحمد بن حنبل لابن الجوزي ص 38. 2 البداية والنهاية لابن كثير 10/369.

ثم ذكر من روى عنهم ممن عرف بكنيته ولم يتحقق عنده اسمه، ثم ذكر من روى عنهن من النساء1 وقد ذكر خلقاً كثيراً من شيوخه. 3-غزارة علمه: قال إبراهيم الحربي: رأيت أحمد بن حنبل فرأيت كأن الله جمع له علم الأولين والآخرين من كل صنف يقول ما شاء ويمسك ما شاء، وقال أحمد بن سعيد الرازي: ما رأيت أسود الرأس أحفظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أعلم بفقهه ومعانيه من أبي عبد الله أحمد بن حنبل. وقال أبو عاصم: ليس ثمة ببغداد إلا ذلك الرجل يعني أحمد بن حنبل ما جاءنا من ثم أحد مثله يحسن الفقه، وقال الخلال: كان أحمد قد كتب كتب الرأي وحفظها ثم لم يلتفت إليها. وكان إذا تكلم في الفقه تكلم كلام رجل قد انتقد العلوم فتكلم عن معرفة، وقال أبو زرعة كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث2 فقيل له وما يدريك، قال ذاكرته فأخذت عليه الأبواب3. وقال ابن الجوزي: وقد كان أحمد يذكر الجرح والتعديل من حفظه إذا سئل عنه كما يقرأ الفاتحة –ومن نظر في كتاب العلل لأبي بكر الخلال عرف ذلك، ولم يكن هذا لأحد من بقية الأئمة، وكذلك

_ 1 مناقب الإمام أحمد في الصفحات 46، 58، 81. 2 يعني مليون حديث. 3 نفس المصدر: 85، 89، 90.

إنفراده في علم النقل بفتاوي الصحابة وقضاياهم وإجماعهم واختلافهم لا ينازع في ذلك، وأما علم العربية فقد قال أحمد كتبت من العربية أكثر مما كتب أبو عمرو الشيباني، وأما القياس فله من الاستنباط ما يطول شرحه1، قال الإمام ابن الجوزي: واعلم أنا نظرنا في أدلة الشرع وأصول الفقه، وسبرنا أحوال الأعلام المجتهدين فرأينا هذا الرجل أوفرهم حظاً من تلك العلوم، فإنه كان من الحافظين لكتاب الله عز وجل، قال أبو بكر بن حمدان القطيعي: قرأت على عبد الله بن أحمد بن حنبل قال لقنني أبي أحمد بن حنبل القرآن كله باختياره، وقرأ ابن حنبل على يحيى بن آدم وعبيد بن الصباح وإسماعيل بن جعفر وغيرهم بإسنادهم. وكان أحمد لا يميل شيئاً في القرآن ويروى الحديث: "أنزل مفخماً ففخموه"، وكان لا يدغم شيئاً من القرآن إلا (اتخذتم) وبابه كأبى بكر، ويمد مداً متوسطاً وكان رضي الله عنه من المصنفين في فنون العلم من التفسير والناسخ والمنسوخ والمقدم والمؤخر إلى غير ذلك، وأما النقل فقد سلم الكل له إنفراده فيه بما لم ينفرد به سواه من الأئمة من كثرة محفوظه منه ومعرفة صحيحه من سقيمه وفنون علومه، وقد ثبت أنه ليس في الأئمة الأعلام قبله من له حظ في الحديث كحظ مالك. ومن أراد معرفة مقام أحمد في ذلك مقام مالك فلينظر فرق ما بين المسند والموطأ2.

_ 1 المدخل للشيخ عبد القادر بن بدران ص 105. 2 مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص 599-600.

قال ابن بدران في كتاب المدخل1 في ذكر مؤلفاته: والمسند وهو ثلاثون ألف حديث، وكان يقول لابنه عبد الله: احتفظ بهذا المسند فإنه سيكون للناس إماماً، وقال عبد الله قرأ علينا أبي المسند وما سمعه منه غيرنا، وقال لنا: هذا كتاب قد جمعته وانتقيته من أكثر من سبعمائة ألف حديث.. انتهى. وهذا يدل على غزارة علمه بالحديث وتميزه فيه وقوة نقده. وهكذا من يتعلم العلم من مصادره الأصيلة: كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتتلمذ على حملته من جهابذة العلماء مع النية الصادقة والعمل به، فإنه حري أن يوفق لتحمل العلم النافع ويكون إماماً في الدين، كما كان الإمام أحمد وغيره من أئمة الإسلام وحملة الشريعة. فعسى أن يكون في هذا حافزاً لشباب المسلمين اليوم وقد توفرت لهم وسائل التعلم ليهبوا لحمل هذا العلم الذي به عزهم وشرفهم في الدنيا والآخرة –نرجو ذلك. 4-علمه وأخلاقه: من المعلوم أن العلم وسيلة للعمل ومصحح له، فالغاية المطلوبة هي العمل الصالح والعلم وسيلة لتلك الغاية –وفي الحكمة المأثورة: "علم بلا عمل كشجر بلا ثمر"، والله تعالى يقول: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 2.

_ 1 ص 104. 2 الآية 282 من سورة البقرة.

والصحابة رضي الله عنهم يقول قائلهم: ما كنا نتجاوز عشر آيات حتى نتعلم معانيهن والعمل بهن، قالوا فتعلمنا العلم والعمل جميعاً، وكان سلفنا الصالح على هذه الصفة، ومنهم الإمام أحمد فقد اتصف بالعلم الغزير والعمل الصالح والأخلاق الفاضلة. ذكر ابن الجوزي في صفة الصفوة1 قال: وعن عبد الله بن أحمد قال كان أبي أصبر الناس على الوحدة، لم يره أحد إلا في مسجد أو حضور جنازة أو عيادة مريض، وكان يكره المشي في الأسواق. وعنه قال: كان أبي يصلي في كل يوم وليلة ثلاثمائة ركعة، فلما مرض من تلك الأسواط2 أضعفته فكان يصلي في كل يوم وليلة مائة وخمسين ركعة، وقد كان قرب من الثمانين وكان يقرأ في كل يوماً سبُعاً يختم في كل سبعة أيام، وكانت له ختمة في كل سبع ليال سوى صلاة النهار، وكان ساعة يصلي عشاء الآخرة ينام نومة خفيفة، ثم يقوم إلى الصباح يصلي ويدعو، وحج أبي خمس حجات، ثلاث حجج ماشياً واثنتين راكباً، وأنفق في بعض حجاته عشرين درهما، وعنه قال: كنت أسمع أبي كثيراً يقول في دبر الصلاة: اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك صنه عن المسألة لغيرك، وقال صالح بن أحمد بن حنبل: ورد كتاب علي بن الجهم: أن أمير المؤمنين (يعني المتوكل) قد وجه إليك يعقوب المعروف بقوصرة ومعه جائزة ويأمرك بالخروج، فالله الله أن تستعفي أو ترد المال فيتسع القول لمن يبغضك، فلما كان من

_ 1 ص 197 جـ2. 2 يعني الأسواط التي ضربها بسبب امتناعه من القول بخلق القرآن في عهد المعتصم.

الغد ورد يعقوب فدخل عليه فقال: يا أبا عبد الله أمير المؤمنين يقرئك السلام، ويقول قد أحببت أن آنس بقربك وأن أتبرك بدعائك –وقد وجهت إليك عشرة آلاف درهم معونة على سفرك وأخرج صرة فيها بدرة نحو مائتي دينار والباقي دراهم صحاح، فلم ينظر إليها ثم شدها يعقوب، وقال له أعود غداً حتى أبصر ما تعزم عليه، وانصرف فجئت بإجانة خضراء فكببتها على البدرة، فلما كان عند المغرب قال: يا صالح خذ هذا فصيره عندك، فصيرتها عند رأسي فوق البيت، فلما كان سحراً إذا هو ينادي يا صالح فقمت فصعدت إليه فقال: ما نمت ليلتي هذه فقلت: لم يا أبت؟ فجعل يبكي وقال: سلمت من هؤلاء حتى إذا كان في آخر عمري بليت بهم، قد عزمت على أن أفرق هذا الشيء إذا أصبحت فقلت ذاك إليك، فلما أصبح قال: جئني يا صالح بميزان، وقال: وجهوا إلي أبناء المهاجرين والأنصار. ثم قال: وجه إلى آل فلان، فلم يزل يفرقها كلها ونفضت الكيس ونحن في حالة الله تعالى بها عليم، وكتب صاحب البريد أنه قد تصدق بالدراهم من يومه حتى تصدق بالكيس، قال علي بن الجهم فقلت يا أمير المؤمنين قد علم الناس أنه قد قبل منك، وما يصنع أحمد بالمال وإنما قوته رغيف، فقال لي صدقت يا علي –وبهذه النقولات عن ابني الإمام وقد عايشا أباهما معايشة خاصة أكبر دليل على مدى صلاح الإمام أحمد وتقواه وزهده وورعه. وأما تواضعه: فقد قال ابن الجوزي1 بلغني عن أبي الحسين بن المنادي قال

_ 1 مناقب الإمام أحمد الصفحات: 277، 280، 281.

سمعت جدي يقول: كان أحمد من أحب الناس وأكرمهم نفساً وأحسنهم عشرة وأدباً، كثير الإطراق، معرضاً عن القبيح واللغو، لا يسمع منه إلا المذاكرة بالحديث، وذكر الصالحين والزهاد في وقار وسكون ولفظ حسن، وإذا لقيه إنسان بش به وأقبل عليه، وكان يتواضع للشيوخ تواضعاً شديداً وكانوا يكرمونه ويعظمونه، قال الخلال: وأخبرني محمد بن الحسين أن أبا بكر المروذي –حدثهم قال: كان أبو عبد الله لا يجهل، وإن جهل عليه احتمل وحلم، ويقول: يكفى الله، ولم يكن بالحقود ولا العجول، ولقد وقع بين عمه وجيرانه منازعة فكانوا يجيئون إلى أبي عبد الله فلا يظهر لهم ميله مع عمه ولا يغضب لعمه، ويتلقاهم بما يعرفون من الكرامة، وكان كثير التواضع يحب الفقراء، لم أر الفقير في مجلس أعز منه في مجلسه، مائلاً إليهم مقصراً عن أهل الدنيا، تعلوه السكينة والوقار، إذا جلس في مجلسه بعض العصر للفتيا لا يتكلم حتى يسأل، وإذا خرج إلى مسجده لم يتصدر يقعد حيث انتهى به المجلس، وكان لا يمد قدمه في المجلس ويكرم جليسه، وكان حسن الخلق، دائم البشر، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، وكان يحب في الله ويبغض في الله، وكان إذا أحب رجلاً أحب له ما يحب لنفسه، وكره له ما يكره لنفسه ولم يمنعه حبه إياه أن يأخذ على يديه ويكفه عن ظلم وإثم أو مكروه إن كان منه، وكان إذا بلغه عن شخص صلاح أو زهد أو قيام بحق أو اتباع للأمر سأل عنه وأحب أن يجري بينه وبينه معرفة. وأحب أن يعرف أحواله، وكان رجلاً فطناً. إذا كان شيء لا يرضاه اضطرب لذلك، ويغضب لله ولا يغضب لنفسه فلا ينتصر لها، فإذا كان في أمر من الدين اشتد له غضبه حتى كأنه ليس هو، لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان حسن الجوار، يؤذى فيصبر ويحتمل الأذى من الجار ... انتهى.

هذه أخلاق الإمام أحمد. علم وعمل وتواضع وصبر واحتمال، وجدير بمن تربى على الكتاب والسنة وتتلمذ على العلماء العاملين وخالط الصالحين أن يكون كذلك، بخلاف من يتربى على نظريات الفلاسفة وأفكار الغرب فإنه يتأثر بها ويتخلق بها، فيجب على المسلمين أن يوجهوا أولادهم إلى الكتاب والسنة وأخلاق السلف الصالح، ليتربوا التربية الصحيحة، ويتوجهوا الوجهة السليمة ويتركوا استيراد النظريات التربوية من الكفار وفلاسفة الغرب. 5-محنته وصلابته في الحق: قال الحافظ ابن كثير رحمه الله1 باب ذكر ما جاء في محنة أبي عبد الله أحمد بن حنبل / في أيام المأمون ثم المعتصم ثم الواثق بسبب القرآن العظيم. وما أصابه من الحبس الطويل والضرب الشديد والتهديد بالقتل بسوء العذاب وأليم العقاب وقلة مبالاته بما كان منهم من ذلك إليه وصبره عليه وتمسكه بما كان عليه من الدين القويم والصراط المستقيم، وكان أحمد عالماً بما ورد بمثل حاله من الآيات المتلوة والأخبار المأثورة. وبلغه بما أوصي به في المنام واليقظة فرضي وسلم إيماناً واحتساباً –وفاز بخير الدنيا ونعيم الآخرة، وهيأه الله بما آتاه من ذلك لبلوغ أعلى منازل أهل البلاء في الله من أوليائه، ثم قال ابن كثير رحمه الله: وقد ذكرنا فيما تقدم أن المأمون كان قد استحوذ عليه جماعة من المعتزلة فأزاغوه عن طريق الحق إلى الباطل، وزينوا له القول بخلق القرآن ونفي الصفات عن الله عز وجل- قال البيهقي: ولم يكن في الخلفاء قبله من بني أمية وبني العباس خليفة إلا على مذهب

_ 1 البداية والنهاية الصفحات: 374، 376، 378، 379.

السلف ومنهاجهم، فلما ولي الخلافة اجتمع به هؤلاء فحملوه على ذلك، وزينوا له، واتفق خروجه إلى طرسوس لغزو الروم فكتب إلى نائبه ببغداد –إسحاق بن إبراهيم بن مصعب- يأمره أن يدعو الناس إلى القول بخلق القرآن، واتفق له ذلك آخر عمره قبل موته بشهور من سنة ثماني عشرة ومائتين، فلما وصل الكتاب كما ذكرنا استدعى جماعة من أئمة الحديث فدعاهم إلى ذلك فامتنعوا فتهددهم بالضرب وقطع الأرزاق فأجاب أكثرهم مكرهين، واستمر على الامتناع من ذلك الإمام أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح الجند يسابورى، فحملا على بعير وسيرا إلى الخليفة عن أمره بذلك. وهما مقيدان متعادلان في محمل على بعير واحد –فلما اقتربا من جيش الخليفة ونزلوا دونه بمرحلة جاء خادم وهو يمسح دموعه بطرف ثوبه ويقول: يعز علي يا أبا عبد الله أن المأمون قد سل سيفاً لم يسله قبل ذلك، وأنه يقسم بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف، قال فجثى الإمام أحمد على ركبتيه ورمق بطرفه إلى السماء وقال سيدي غر حلمك هذا الفاجر حتى تجرأ على أوليائك بالضرب والقتل، اللهم فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته، قال فجاءهم الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل، قال أحمد ففرحنا ثم جاء الخبر بأن المعتصم قد ولي الخلافة، وقد انضم إليه أحمد بن أبي دؤاد وأن الأمر شديد، فردونا إلى بغداد في سفينة مع بعض الأسرى ونالني منهم أذى كثير، وكان في رجليه القيود ومات صاحبه محمد بن نوح في الطريق وصلى عليه أحمد –فلما رجع أحمد إلى بغداد دخلها في رمضان فأودع السجن نحواً من ثمانية وعشرين شهراً وقيل نيفاً وثلاثين شهراً، ثم أخرج إلى الضرب بين يدي المعتصم، وكان أحمد وهو في

السجن هو الذي يصلي في أهل السجن والقيود في رجليه، ولما أحضره المعتصم من السجن زاد في قيوده، قال أحمد: فلم أستطع أن أمشي بها –فربطتها في التكة وحملتها بيدي، ثم جاءوني بدابة فحملت عليها فكدت أن أسقط على وجهي من ثقل القيود. وليس معي أحد يمسكني فسلم الله حتى جئنا دار المعتصم فأدخلت في بيت وأغلق علي. وليس عندي سراج فأردت الوضوء فمددت يدي فإذا إناء فيه ماء فتوضأت منه ثم قمت ولا أعرف القبلة فلما أصبحت إذا أنا على القبلة ولله الحمد –ثم دعيت فأدخلت على المعتصم-. وذكر ابن كثير رحمه الله المناظرة التي دارت بينه وبين خصومه بحضرة المعتصم في موضوع خلق القرآن –إلى أن قال: ثم لم يزالوا يقولون له يا أمير المؤمنين إنه ضال مضل كافر، فأمر بي فقمت بين العقابين وجيء بكرسي فأقمت عليه، وأمرني بعضهم أن آخذ بيدي بأي الخشبتين فلم أفهم فتخلعت يداي وجيء بالضرابين ومعهم السياط فجعل أحدهم يضربني سوطين –ويقول له -يعني المعتصم- شد قطع الله يدك- ويجيء الآخر فيضربني سوطين ثم الآخر كذلك، فضربوني أسواطاً فأغمي علي وذهب عقلي مراراً –فإذا سكن الضرب يعود علي عقلي –وقام المعتصم إلي يدعوني إلى قولهم فلم أجبه- وجعلوا يقولون: ويحك الخليفة على رأسك فلم أقبل. فأعادوا الضرب ثم عاد إلي فلم أجبه، فأعادوا الضرب ثم جاء الثالثة فدعاني فلم أعقل ما قال من شدة الضرب، ثم أعادوا الضرب فذهب عقلي فلم أحس بالضرب، وأرعبه ذلك من أمري وأمر بي فأطلقت ولم أشعر إلا وأنا في حجرة من بيت وقد أطلقت الأقياد من رجلي، ثم أمر الخليفة بإطلاقه إلى أهله، وكان جملة ما ضرب نيفاً وثلاثين سوطاً، وقيل ثمانين

سوطاً ولكن كان ضرباً مبرحاً شديداً جداً، ولما رجع إلى منزله جاء الجراح فقطع لحماً ميتاً من جسده وجعل يداويه، ولما شفاه الله بالعافية بقى مدة وإبهاماه يؤذيهما البرد –وجعل كل من آذاه في حل إلا أهل البدعة، وكان يتلو في ذلك قوله تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} الآية، ويقول ماذا ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك، انتهى باختصار. وهكذا ثبت الإمام أحمد رحمه الله على الحق، وصبر على السجن والضرب ولم تأخذه في الله لومة لائم، ولم ترهبه السلطة والجبروت، فكانت العاقبة والعقوبة لأعدائه، ومع هذا يعفو ويصفح عن خصومه ويجعلهم في حل ما عدا المبتدعة –لأن المبتدعة انتهكوا محارم الله ولم تكن إساءتهم قاصرة عليه، إنه الإيمان الراسخ والتربية النافعة المستمدة من الكتاب والسنة يصنعان الرجال، ويبعثان على الثبات في مواقف الفتن والأهوال، وهكذا تكون مواقف الأبطال. 6-مميزات مذهبه والأصول التي بناه عليها: مذاهب أهل السنة كلها مذاهب حق لا سيما مذاهب الأئمة الأربعة –أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وكل مذهب من هذه المذاهب السنية له مميزات، ويمتاز مذهب الإمام أحمد من بينها بقربه من النصوص1 وفتاوي الصحابة. قال الإمام ابن القيم رحمه الله2: رويت فتاويه ومسائله وحدث بها قرناً بعد قرن، فصارت إماماً وقدوة لأهل السنة على اختلاف

_ 1 ولهذا يعتبر الإمام أحمد من فقهاء المحدثين. 2 أعلام الموقعين 1/28-29.

طبقاتهم حتى إن المخالفين لمذهبه بالاجتهاد والمقلدين لغيره يعظمون نصوصه وفتاواه ويعرفون لها حقها وقربها من النصوص وفتاوي الصحابة، ومن تأمل فتاواه وفتاوي الصحابة رأى مطابقة كل منهما على الأخرى، ورأى الجميع كأنها تخرج من مشكاة واحدة، حتى إن الصحابة إذا اختلفوا على قولين جاء عنه في المسألة روايتان، وكان تحريه لفتاوي الصحابة كتحري أصحابه لفتاويه ونصوصه بل أعظم، حتى إنه ليقدم فتاويهم على الحديث المرسل. أصول مذهبه: كان مذهبه مبنياً على خمسة أصول وهي: 1- النصوص، فإذا وجد نصاً أفتى بموجبه ولم يلتفت إلى ما خالفه ولا من خالفه. 2- ما أفتى به الصحابة –فإذا وجد لأحدهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يعدها إلى غيرها، ولم يقل إن ذلك إجماع- بل من ورعه في العبارة يقول: لا أعلم شيئاً يدفعه أو نحو هذا. 3- إذا اختلف الصحابة في المسألة تخير من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسنة ولم يخرج عن أقوالهم، فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال للدليل حكى الخلاف ولم يجزم بقول. 4- الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه ويرجح ذلك على القياس، والمراد بالحديث الضعيف عند قسيم الصحيح، وقسم من أقسام الحسن، وليس المراد بالضعيف عنده الباطل والمنكر ولا ما في روايته متهم. 5- فإذا لم يكن هناك نص ولا قول للصحابة أو أحدهم ولا أثر مرسل أو ضعيف عدل إلى القياس فاستعمله للضرورة.

فهذه الأصول الخمسة هي أصول مذهبه –وقد يتوقف في الفتوى لتعارض الأدلة عنده، أو لاختلاف الصحابة فيها، أو لعدم اطلاعه فيها على أثر أو قول أحد من الصحابة والتابعين، وكان شديد الكراهة والمنع للإفتاء بمسألة ليس فيها أثر عن السلف-كما قال لبعض أصحابه: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام1. أي لم يسبق أن قال فيها أحد من الأئمة بشيء. 7-مؤلفاته: قال الإمام ابن القيم2: كان الإمام أحمد رحمه الله شديد الكراهة لتصنيف الكتب، وكان يحب تجريد الحديث، ويكره أن يكتب كلامه ويشتد عليه جداً، فعلم الله حسن نيته وقصده فكتب من كلامه وفتواه أكثر من ثلاثين سفراً، ومنّ الله سبحانه علينا بأكثرها فلم يفتنا منها إلا القليل، وجمع الخلال نصوصه في الجامع الكبير فبلغ نحو عشرين سفراً أو أكثر، ورويت فتاويه ومسائله وحدث بها قرناً بعد قرن، فصارت إماماً وقدوة لأهل السنة على اختلاف طبقاتهم، وقال ابن الجوزي: كان الإمام أحمد رضي الله عنه لا يرى وضع الكتب، وينهى أن يكتب عنه كلامه ومسائله ولو رأى ذلك لكانت تصانيفه كثيرة، ولنقلت عنه كتب3 واقتصر الإمام أحمد على التصنيف في النقول –أي الأحاديث والآثار وهذه بعض مؤلفاته: 1) المسند في الحديث، وكان يقول لابنه عبد الله: احتفظ بهذا المسند فإنه سيكون للناس إماماً4.

_ 1 أعلام الموقعين لابن القيم 1/29/32. 2 نفس المصدر 1/28. 3 مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي 248. 4 وجملة أحاديث المسند ثلاثون ألف حديث انتقاها من سبعمائة ألف حديث.

2) التفسير –وهو مائة ألف وعشرون ألفاً- يعني من الأحاديث والآثار. 3) الناسخ والمنسوخ. 4) التاريخ. 5) المقدم والمؤخر في القرآن. 6) جوابات القرآن. 7) المناسك الكبير والصغير. 8) الزهد. 9) الرد على الجهمية. 8- وفاته: مرض في أول شهر ربيع الأول من سنة أحدى وأربعين ومائتين، وتوفي ليلة الجمعة وهي ليلة الثاني عشر من هذا الشهر، ولم حضرته الوفاة أشار إلى أهله أن يوضؤه فجعلوا يوضؤنه وهو يشير إليهم أن خللوا أصابعي وهو يذكر الله عز وجل في جميع ذلك، فلما أكملوا وضوءه توفي رحمه الله ورضي عنه، فغسلوه وكفنوه بثوب كان قد غزلته جاريته، وخرج الناس بنعشه والخلائق حوله ما لم يعلم عددهم إلا الله، ثم صلي عليه وأعيدت الصلاة عليه عند القبر. ثم أعيدت الصلاة أيضاً على القبر بعد دفنه، ولم يستقر في قبره رحمه الله إلا بعد العصر وذلك لكثرة الخلق الذين حضروا. وقد قدر عدد الذين صلوا عليه وشيعوه إلى قبره بألف ألف، وفي رواية وسبعمائة ألف –أي مليون وسبعمائة ألف –رحم الله الإمام أحمد رحمة واسعة وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيراً، وجعله مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

شيخ الاسلام أحمد بن تيمية

شيخ الاسلام أحمد بن تيمية ... -شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية نبذة عن حياته وجهاده وثمرات دعوته والرد على الشبهات التي أثيرت حوله

أولاً: التعريف بشيخ الإسلام ابن تيمية: هو شيخ الإسلام الحافظ المجتهد تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله ابن أبي القاسم بن الخضر بن محمد بن تيمية الحراني الحنبلي. ولد بحران يوم الإثنين عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة، وقدم به والده وبأخويه عند استيلاء التتار على البلاد إلى دمشق سنة 667هـ. مشائخه وتحصيله: أخذ الفقه والأصول عن والده وسمع عن خلق كثير منهم الشيخ شمس الدين والشيخ زين الدين ابن المنجا والمجد بن عساكر، وقرأ العربية على ابن عبد القوي، ثم أخذ كتاب سيبويه فتأمله وفهمه، وعني بالحديث وسمع الكتب الستة والمسند مرات، وأقبل على تفسير القرآن الكريم فبرز فيه، وأحكم أصول الفقه والفرائض والحساب والجبر والمقابلة، وغير ذلك من العلوم، ونظر في الكلام والفلسفة وبرز في ذلك ورد على أكابر المتكلمين والفلاسفة، وتأهل للفتوى والتدريس وله دون العشرين من السنين، وتضلع في علم الحديث وحفظه، وكان سريع الحفظ قوي الإدراك آية في الذكاء رأساً في معرفة الكتاب والسنة والاختلاف بحر في النقليات، وكان له باع طويل في معرفة مذاهب الصحابة والتابعين. اشتغاله في التدريس: كان والده من كبار أئمة الحنابلة فلما مات خلفه في وظائفه وكان عمره تسع عشرة سنة، فاشتهر أمره وبعد صيته في العالم، وأخذ في

تفسير القرآن الكريم أيام الجمع من حفظه –قال عنه الحافظ أبو حفص عمر بن علي البزار وكان من معاصريه1: لقد كان إذا قريء في مجلسه آيات من القرآن العظيم شرع في تفسيرها فينقضي المجلس بجملته والدرس بزمنه وهو في تفسير بعض آية منها، وقد منحه الله تعالى معرفة اختلاف العلماء ونصوصهم وكثرة أقوالهم واجتهادهم في المسائل، وما روي عن كل واحد منهم من راجح ومرجوح ومقبول ومردود، حتى كان إذا سئل عن شيء من ذلك كأن جميع المنقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والعلماء فيه من الأولين والآخرين متصور مسطور بإزائه، وهذا قد اتفق عليه كل من رآه أو وقف على شيء من علمه ممن لم يغلظ عقله الجهل والهوى ... انتهى. وقال أيضاً: وأما ذكر دروسه فقد كنت في حال إقامتي بدمشق لا أفوتها، وكان لا يهيئ شيئاً من العلم ليلقيه ويورده، بل يجلس بعد أن يصلي ركعتين فيحمد الله ويثني عليه ويصلي على رسوله صلى الله عليه وسلم على صفة مستحسنة مستعذبة لم أسمعها من غيره، ثم يشرع فيفتح الله عليه إيراد علوم وغوامض ولطائف ودقائق وفنون ونقول واستدلالات بآيات وأحاديث وأقوال العلماء، ونقد بعضها وتبيين صحته أو تزييف بعضها وبإيضاح حجته واستشهاد بأشعار العرب وربما ذكر ناظمها، وهو مع ذلك يجري كما السيل ويفيض كما يفيض البحر، من غير تعجرف ولا توقف ولا لحن، بل فيض إلهي حتى يبهر كل سامع وناظر، فلا يزال كذلك إلى أن يصمت، ويقع عليه إذ ذاك من المهابة ما يرعد

_ 1 الأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية ص 23، 25، 28، 30.

القلوب ويحير الأبصار والعقول –وكان لا يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قط إلا ويصلي ويسلم عليه، ولا والله ما رأيت أحداً أشد تعظيماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحرص على اتباعه ونصر ما جاء به منه، حتى إذا كان أورد شيئاً من حديثه في مسألة ويرى أنه لم ينسخه شيء غيره من حديثه يعمل به، ويقضي ويفتي بمقتضاه، ولا يلتفت إلى قول غيره من المخلوقين كائناً من كان، وقال رضي الله عنه: كل قائل إنما يحتج لقوله لا به إلا رسول الله، وكان إذا فرغ من درسه يقبل على الناس بوجه طلق بشيش وخلق دمث كأنه لقيهم حينئذ، وربما اعتذر إلى بعضهم من التقصير في المقال مع ذلك الحال، ولقد كان درسه الذي يورده حينئذ قدر عدة كراريس. وهذا الذي ذكرته من أحوال درسه أمر مشهور يوافقني عليه كل حاضريه وهم بحمد الله خلق كثير لم يحصر عددهم علماء ورؤساء وفضلاء من القراء والمحدثين والفقهاء والأدباء وغيرهم من عوام المسلمين ... انتهى كلام البزار في كتابه الأعلام العلية. مؤلفاته: لشيخ الإسلام ابن تيمية مؤلفات قيمة ضخمة ورسائل وفتاوى بلغ الموجود منها مجلدات ضخمة وعديدة، طبع منها الآن حسب علمي ما يقارب أربعة وثمانين مجلداً، وهي: 1) مجموع الفتاوى خمسة وثلاثون مجلداً، وقد طبع عدة مرات ووزع في كثير من الأقطار الإسلامية، وانتفع به المسلمون لما يحتويه من علم غزير في العقائد والفقه والتفسير والحديث والأصول. 2) موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول، وقد طبع في عشر مجلدات.

1) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (رد على شبه النصارى) ، وقد طبع في أربع مجلدات. 2) منهاج السنة النبوية في الرد على الشيعة والقدرية، وقد طبع في ثمانية مجلدات محققة. 3) الفتاوى المصرية، وقد طبعت في خمس مجلدات. 4) الاختيارات الفقهية، وقد طبعت في مجلد. 5) القواعد النورانية الفقهية، وقد طبعت في مجلد. 6) نقض منهاج التأسيس، وقد طبع الموجود منه في مجلدين1. 7) إقامة الدليل على إبطال التحليل، وقد طبع في مجلد. 8) شرح العقيدة الأصفهانية، وقد طبع في مجلد. 9) الصفدية وقد طبع المجلد الأول منها، والبقية في الطريق إن شاء الله. 10) الاستقامة، وقد طبع المجلد الأول منه والبقية في الطريق إن شاء الله. 11) كتاب الإيمان، وقد طبع في مجلد. 12) كتاب نقض المنطق، وقد طبع في مجلد. 13) كتاب النبوات، وقد طبع في مجلد. 14) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، مجلد. هذا ولا يزال الكثير من كتبه ورسائله وفتاويه مفقوداً ويعثر بين حين وآخر على شيء منه فيبادر من وجده إلى نشره للانتفاع به، وقد لمعت كتبه في هذا العصر وانتفع بها الخلق الكثير لما تحويه من العلم

_ 1 وقد وجدت منه نسخة كاملة والحمد لله وتقوم جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بتحقيقه وإعداده للطبع وربما على عشر مجلدات.

العزيز والتحقيق والتدقيق والأصالة، وقد شهد بذلك كل من اطلع عليها ممن لم تأخذه العصبية الجاهلية والتقليد الأعمى. ثناء العلماء عليه: قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (14/118-119) وقل أن سمع شيئاً إلا حفظه ثم اشتغل بالعلوم وكان ذكياً كثير المحفوظ، فصار إماماً في التفسير وما يتعلق به عارفاً بالفقه، فيقال إنه كان أعرف بفقه المذاهب من أهلها الذين كانوا في زمانه وغيره، وكان عالماً باختلاف العلماء عالماً في الأصول والفروع والنحو واللغة وغير ذلك من العلوم النقلية والعقلية، وما قطع في مجلس ولا تكلم معه فاضل في فن من الفنون إلا ظن أن ذلك الفن فنه ورآه عارفاًبه متقناً له، وأما الحديث فكان حامل رايته حافظاً له مميزاً بين صحيحه وسقيمه عارفاً برجاله متضلعاً من ذلك، وله تصانيف كثيرة وتعاليق مفيدة في الأصول والفروع ... انتهى. وقال الحافظ المزي في الثناء عليه1: ما رأيت مثله ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أحداً أعلم بكتاب الله وسنة رسوله ولا اتبع لهما منه، وقال الحافظ ابن دقيق العيد: لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلاً كل العلوم بين عينيه، يأخذ ما يريد ويدع ما يريد، وقال الشيخ إبراهيم الرقى: إن ابن تيمية يؤخذ عنه ويقلد في العلوم، فإن طال عمره ملأ الأرض علماً وهو على الحق، ولا بد من أن يعاديه الناس، لأنه وارث علم النبوة، وقال قاضي القضاة ابن الحريري: إن لم يكن ابن تيمية شيخ الإسلام فمن هو؟

_ 1 حياة شيخ الإسلام ابن تيمية ص 21 لمحمد بهجة البيطار.

نقل هذه الأقوال عن هؤلاء الأئمة في الثناء على شيخ الإسلام ابن تيمية الشيخ مرعي بن يوسف الحنبلي في كتابه: الكواكب الدرية. رد الشبهات التي وجهت في حق الشيخ: لقد ضاق خصومه قديماً وحديثاً به ذرعاً ووجهوا ضده الاتهامات: 1) من ذلك ما افتراه الرحالة ابن بطوطة حيث قال في رحلته (في حق شيخ الإسلام ابن تيمية: وكنت إذ ذلك بدمشق فحضرته يوم الجمهة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم فكان من جملة كلامه أن قال: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا. ونزل درجة من درج المنبر) . وقد رد على هذه الفرية الشيخ العلامة محمد بهجة البيطار1 بما يلي: 1- أن ابن بطوطة لم يسمع من ابن تيمية ولم يجتمع به إذ كان وصوله إلى دمشق يوم الخميس التاسع عشر من شهر رمضان المبارك عام ستة وعشرين وسبعمائة (726هـ) وكان سجن شيخ الإسلام في قلعة دمشق أوائل شهر شعبان من ذلك العام، ولبث فيه إلى أن توفاه الله تعالى ليلة الإثنين لعشرين من ذي القعدة عام ثمانية وعشرين وسبعمائة هجرية، فكيف رآه ابن بطوطة يعظ على منبر الجامع وهو إذ ذاك في السجن. 2- لم يكن شيخ الإسلام ابن تيمية يعظ الناس على منبر الجامع، وإنما كان يجلس على كرسي، قال الحافظ الذهبي عنه: وقد اشتهر أمره

_ 1 حياة شيخ الإسلام ابن تيمية ص 47-48.

وبعد صيته في العالم وأخذ في تفسير الكتاب العزيز أياك الجمع على كرسي من حفظه. 3- أن هذا الذي ذكره ابن بطوطة يخالف ما ذكره الشيخ في جميع كتبه من أنه يجب إثبات أسماء الله وصفاته إثباتاً بلا تشبيه وتنزيهها عن مشابهة صفات المخلوقين تنزيهاً بلا تعطيل، وهذا الذي ذكره ابن بطوطة تشبيه ينهى عنه شيخ الإسلام ويحذر منه غاية التحذير. 4- لشيخ الإسلام ابن تيمية في موضوع النزول كتاب مستقل اسمه شرح حديث النزول وهو مطبوع ومتداول وليس فيه ما ذكره ابن بطوطه، بل فيه ما يرد عليه ويبطله من أصله والحمد لله رب العالمين. 2- قالوا عنه إنه يخالف الإجماع، وقد أجاب عن هذه الشبهة الشيخ محمد1 بهجة البيطار بقوله: اشتهر ابن تيمية بمسائل أثرت عنه وظن كثير من الناس أنه انفرد بها عن غيره، بل ظنوا أنه خالف في بعضها الإجماع، وهي أمور اجتهادية يقع في مثلها الخلاف بين العلماء، ومن المفروغ منه أن ابن تيمية قد بلغ رتبة الاجتهاد في الأحكام الشرعية، وأنه كان يفتي الناس بما أدى إليه اجتهاده2، وأنه موافق في فتاواه بعض الصحابة أو التابعين أو أحد الأئمة الأربعة أو غيرهم ممن عاصرهم أو جاء قبلهم أو بعدهم، وقد قال العلامة برهان الدين بن الإمام محمد المعروف بابن قيم الجوزية: لا نعرف مسألة خرق فيها الإجماع، ومن ادعى ذلك فهو إما جاهل وإما كاذب، ولكن ما نسب إليه الانفراد به ينقسم إلى أربعة أقسام: الأول: ما يستغرب جداً فينسب إليه أنه خالف فيه الإجماع لندور القائل به وخفائه على الناس لحكاية بعضهم

_ 1 حياة شيخ الإسلام ابن تيمية ص 54-55. 2 أي أنه الراجح من الأقوال

الإجماع على خلافه. الثاني: ما هو خارج عن مذاهب الأئمة الأربعة، وقال بعض الصحابة أو التابعين أو السلف به والخلاف فيه محكي. الثالث: ما اشتهرت نسبته إليه مما هو خارج عن مذهب الإمام رضي الله عنه لكن قد قال به غيره من الأئمة وأتباعهم. الرابع: ما أفتى به واختاره مما هو خلاف المشهور في مذهب أحمد وإن كان محكياً عنه، وعن بعض أصحابه. انتهى من كتاب حياة شيخ الإسلام ابن تيمية للشيخ محمد بهجة البيطار ص 54/55. قلت: وبهذا يعلم أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لم ينفرد بقول لم يقم عليه دليل من الكتاب والسنة ولم يقل به أحد من الأئمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ومن أراد الحق في هذا فلينظر في مجموع فتاواه الكبير الذي بلغ خمسة وثلاثين مجلداً وطبع عدة مرات ووزع على نظاق واسع في العالم الإسلامي، ولا يصدق ما أشاعه منه المغرضون. فإن قول الخصم غير مقبول على خصمه –وإنما يرجع إلى كلام الشخص نفسه ويحكم عليه بموجبه، واليوم والحمد لله كتب شيخ الإسلام وفتاواه قد انتشرت واشتهرت وهي تدحض ما افتراه عليه خصومه من الأكاذيب، ومن رجع إلى هذه المؤلفات القيمة أدرك أنه مفترى عليه ووجد في هذه المؤلفات العلم الغزير الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يسع المنصف الخالي من التعصب الأعمى إلا أن يقر له بالعلم والفضل والاستقامة على الحق. 3- قالوا إنه أفتى بفتاوى الأئمة أهل السنة والجماعة، وهذا من الكذب على شيخ الإسلام ابن تيمية، فهو لم ينفرد بقول يخالف به الأئمة جميعاً سواء الأئمة الأربعة أو أئمة السلف الذين هم قبل

الأربعة، كما سبق بيانه، فلم يقل قولاً إلا وله سلف فيه من الأئمة وأهل السنة والجماعة، اللهم إلا أن يريد هذا القائل بأن أهل السنة والجماعة جماعة الأشاعرة والماتريدية –فهذا اصطلاح خاطئ، لأن المراد بأهل السنة والجماعة حقاً من كان على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهم الفرقة الناجية، وهذا الوصف لا ينطبق إلا على الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم واتبع طريقهم، والأشاعرة والماتريدية خالفوا الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة في كثير من المسائل الاعتقادية وأصول الدين، فلم يستحقوا أن يلقبوا بأهل السنة والجماعة. وهؤلاء لم يخالفهم شيخ الإسلام ابن تيمية وحده، بل خالفهم عامة الأئمة والعلماء الذي ساروا على نهج السلف. وهذه الفتاوى التي نسبوها كذباً للشيخ، وقالوا إن الشيخ خالف فيها فتاوى الأئمة أهل السنة والجماعة، هي قولهم: 1- أنه يرى جلوس الله على العرش كجلوسه هو، وأنه قال ذلك على المنبر في مسجد بني أمية مراراً في دمشق وفي مصر. ونقول: هذا من الكذب الواضح على شيخ الإسلام ابن تيمية، فشيخ الإسلام في هذه المسألة يثبت ما أثبته الله لنفسه، من أنه استوى على العرش استواء يليق بجلاله سبحانه بلا تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه –كما قال الإمام مالك وغيره: الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وإليك ما قاله رحمه الله في هذه المسألة من إثبات. استواء الله على عرشه مع نفي مشابهة المخلوقين في ذلك حيث قال رحمه الله (ولله تعالى استواء على عرشه حقيقة، وللعبد استواء على الفلك حقيقة، وليس استواء الخالق كاستواء المخلوقين.

فإن الله لا يفتقر إلى شيء ولا يحتاج إلى شيء، بل هو الغني عن كل شيء) انظر مجموع فتاوى الشيخ (5/199) ، فقال رحمه الله: (لله استواء) ولم يقل لله جلوس، وفرق بين استواء الله واستواء الخلق. 2- قالوا إنه يقول: (نزول الله إلى سماء الدنيا كل ليلة كنزوله هو من المنبر) ، وهذا من الكذب على شيخ الإسلام ومما افتراه عليه ابن بطوطة، وقد بينا كذبه في ذلك ولله الحمد. ونحن نسوق عبارة الشيخ في هذه المسألة لما سئل عن حديث النزول فكان من جوابه: (لكن من فهم من هذا الحديث وأمثاله ما يجب تنزيه الله عنه كتمثيله بصفات المخلوقين ووصفه بالنقص المنافي لكماله الذي يستحقه فقد أخطأ في ذلك. وإن أظهر ذلك منع منه. وإن زعم أن هذا الحديث يدل على ذلك ويقتضيه فقد أخطأ أيضاً في ذلك) انظر مجموع الفتاوى (5/323) . وقال أيضاً: (من قال إنه ينزل فيتحرك وينتقل كما ينزل الإنسان من السطح إلى أسفل الدار كقول من يقول إنه يخلو منه العرش، فيكون نزوله تفريغاً لمكان وشغلاً لآخر، فهذا باطل يجب تنزيه الرب عنه) . انظر المجموع (5/578) . 3-قالوا إنه يحرم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ونقول هذا أيضاً من الكذب الواضح، فإن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لم يحرم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا زيارة غيره من القبور إذا وقعت هذه الزيارة وفق الأدلة الشرعية بأن يكون الزائر رجلاً والقصد من هذه الزيارة التذكر والاعتبار

والدعاء للموتى من المسلمين بالرحمة والمغفرة. وكانت هذه الزيارة بدون سفر، فإن كانت زيارة القبور بقصد التبرك بها وطلب المدد وقضاء الحوائج وتفريج الكربات من الموتى، أو كانت هذه الزيارة تحتاج إلى سفر. أو الزائر من النساء، فشيخ الإسلام ليس وحده الذي يمنع من هذه الزيارة، بل يمنع منها كل المحققين من علماء السلف والخلف، لأنها زيارة شركية أو بدعية، قد جاءت الأدلة من الكتاب والسنة بمنعها وإليك ما قاله في هذه المسألة- قال رحمه الله: (فإن زيارة القبور على وجهين: وجه شرعي ووجه بدعي، فالزيارة الشرعية مقصودها السلام على الميت والدعاء له سواء كان نبياً أو غير نبي، ولهذا كان الصحابة إذا زاروا النبي صلى الله عليه وسلم يسلمون عليه ويدعون له ثم ينصرفون ولم يكن أحد منهم يقف عند قبره ليدعو لنفسه، ولهذا كره مالك وغيره ذلك وقالوا: إنه من البدع المحدثة، ولهذا قال الفقهاء: إذا سلم المسلم عليه وأراد الدعاء لنفسه لا يستقبل القبر، بل يستقبل القبلة، وتنازعوا وقت السلام عليه هل يستقبل القبلة أو يستقبل القبر. فقال أبو حنيفة: يستقبل القبلة، وقال مالك والشافعي: يستقبل القبر- وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم: " اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد"، وقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تتخذوا قبري عيداً"، وقوله صلى الله عليه وسلم: " لعن الله اليهود والنصاري اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا"، وقوله صلى الله عليه وسلم: " إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك "، ولهذا اتفق السلف على أنه لا يستلم قبراً من قبور الأنبياء وغيرهم، ولا يتمسح به ولا يستحب الصلاة عنده ولا قصده للدعاء عنده أو به، لأن هذه الأمور كانت من أسباب الشرك وعبادة الأوثان، كما قال تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً

وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} ، قال طائفة من السلف هؤلاء كانوا قوماً صالحين من قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم فعبدوهم. وهذه الأمور ونحوها هي من الزيارة البدعية. وهي من جنس دين النصاري والمشركين. وهو أن يكون قصد الزائر أن يستجاب دعاؤه عند القبر، أو أن يدعو الميت ويستغيث به ويطلب منه أو يقسم به على الله في طلب حاجاته وتفريج كرباته، فهذه كلها من البدع) انتهى من مجموع التفاوى (27/31-32) . وبه يتضح رأي الشيخ في زيارة القبور وأنه يتمشى مع الأدلة الشرعية فيجيز ما أجازته، ويمنع ما منعته من الزيارة الشركية والبدعية. 4- قالوا إنه يقول إن التوسل في الدعاء كفر أو شرك، وهذا أيضاً من الكذب الصريح على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإنه لم يحكم على التوسل بأنه كفر أو شرك، وإنما كان يفصل في ذلك بين التوسيل المشروع والتوسل الممنوع، وإليك عبارته في ذلك –يقول رحمه الله: (فلفظ التوسل يراد بن ثلاثة معان: أحدها: التوسل بطاعته (يعني النبي صلى الله عليه وسلم) فهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به. والثاني: التوسل بدعائه وشفاعته –وهذا كان في حياته. ويكون يوم القيامة يتوسلون بشفاعته. والثالث: التوسل به بمعنى الإقسام على الله بذاته والسؤال بذاته فهذا هو الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه لا في حياته ولا بعد مماته، لا عند قبره ولا غير قبره، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم، وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفه مرفوعة وموقوفة، أو عن من ليس قوله حجة، وهذا هو الذي قال أبو حنيفة وأصحابه إنه لا يجوز ونهوا عنه حيث قالوا: (لا يسأل بمخلوق

ولا يقول أحد أسألك بحق أنبيائك) انتهى من مجموع الفتاوى (1/202) فبين الشيخ أن هذا النوع من التوسل لا يجوز وليس هو من فعل الصحابة، ولم يقل إنه كفر أو شرك كما قال هذا الكاذب عليه. 5- قالوا إنه يكفر الناس الذين لا يتبعون آراءه مثل تكفيره الذين يزورون قبر الرسول، وهذا من جنس ما قبله من الأكاذيب، فالشيخ تقي الدين لا يكفر إلا من كفره الله ورسوله بارتكاب ناقضاً من نواقض الإسلام، كدعاء غير الله من الموتى وغيرهم. ولم يكفر الذين يزورون قبر الرسول صلى الله عليه وسلم الزيارة الشرعية كما سبق بيانه. 6- قالوا إنه يحرم الطرق الصوفية، وجواباً عن هذا الموضوع ننقل لك عبارة الشيخ رحمه الله في هذا: قال رحمه الله: (الحمد لله أما لفظ الصوفية فإنه لم يكن مشهوراً في القرون الثلاثة، وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك- إلى أن قال: ولأجل ما وقع من كثير منهم من الاجتهاد والتنازع، تنازع الناس في طريقهم، فطائفة ذمت الصوفية والتصوف، وقالوا إنهم مبتدعون خارجون عن السنة، ونقل عن طائفة من الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف وتبعهم على ذلك طوائف من أهل الفقه والكلام، وطائفة غلت فيهم وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء، وكلا طرفي هذه الأمور ذميم، والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهادهم، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطيء، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا

يتوب، ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه عاص لربه، وقد انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة- ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم كالحلاج مثلاً، انتهى مجموع الفتاوى (11/5، 17-18) . هذا كلامه رحمه الله في التصوف المعتدل المعروف في وقته وقبله، أم التصوف المنحرف في وقته وبعده فلا أحد يجيزه. فالطرق الصوفية تغيرت ودخلها من البدع والخرافات والشركيات الشيء الكثير، فيجب تركها والابتعاد عنها وملازمة السنة. 7- قالوا إنه أفتى بفتاوى تخالف الإجماع وهي كما يلي: 1- لا يعتبر الحلف بالطلاق طلاقاً، وإنما يعتبره يميناً مكفرة، والجواب عن هذا أن نقول: إن دعوى الإجماع في هذه المسألة دعوى كاذبة، فإن الشيخ رحمه الله ذكر في هذه المسألة ثلاثة أقوال، وهذا نص كلامه حيث يقول: (إذا حلف بالطلاق أو العتاق يميناً تقتضي حصناً أو منعاً –كقوله الطلاق أو العتق يلزمه ليفعلن كذا أو لا يفعل كذا أو قوله إن فعلت كذا فامرأتي طالق أو فعبدي حر، ونحو ذلك فللعلماء فيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إذا حنث وقع به الطلاق والعتاق، وهذا قول بعض التابعين وهو المشهور عند أكثر الفقهاء. الثاني: لا يقع به شيء، ولا كفارة عليه –وهذا مأثور عن بعض السلف وهو مذهب داود وابن حزم وغيرهما من المتأخرين، ولهذا كان سفيان بن عيينة شيخ الشافعي وأحمد لا يفتي بالوقوع.

والقول الثالث: أنه يجزئه كفارة يمين اهـ من مجموع فتاوى (33/195-196) فتبين بهذا أنه لم ينفرد بهذا القول وأن المسألة خلافية. 2- قالوا إنه يعتبر الطلاق الثلاث واحدة، إذا قاله الزوج دفعة واحدة، والجواب: أن هذا لم يخالف فيه الشيخ رحمه الله إجماعاً ولم ينفرد به، فقد سبقه إليه كثير من الأئمة. وهو مبني على أدلة استدلوا بها. قال رحمه الله: "وهذا القول منقول عن طائفة من السلف والخلف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف، ويروى عن علي وابن مسعود وابن عباس القولان وهو قول كثير من التابعين ومن بعدهم، مثل طاووس وخلاس بن عمرو ومحمد بن إسحاق وهو قول داود وأكثر أصحابه". انظر مجموع الفتاوى (33/8) . قال القرطبي: وشذ طاووس وبعض أهل الظاهر إلى أن طلاق الثلاث في كلمة واحدة يقع واحدة، ويروى هذا عن محمد بن إسحاق والحجاج بن أرطأة، وقيل عنهما لا يلزم منه شيء وهو قول مقاتل ويحكى عن داود أنه قال: لا يقع، والمشهور عن الحجاج بن أرطأة وجمهور السلف والأئمة أنه لازم واقع ثلاثاً –انتهى (3/129) . من تفسير القرطبي. 3- وقالوا إنه لا يصحح طلاق الحائض والطلاق في الطهر الذي جامعها فيه، والجواب أن هذا الطلاق طلاق بدعة وقد اختلف العلماء هل يقع أو لا، فإذا قال الشيخ بعدم وقوعه فإنه لم يخالف بذلك إجماعاً كما يدعي هذا المفتري، فالمسألة خلافية. وكل له دليله. ومن تبين له

رجحان قول وجب عليه الأخذ به. قال القرطبي: وقال سعيد بن المسيب في آخرين لا يقع الطلاق في الحيض لأنه خلاف السنة انتهى (17/151) من تفسير القرطبي. 4- قالوا إنه لا يرى قضاء الصلاة المتروكة عمداً، والجواب أن الموجود من كلام الشيخ في مجموع الفتاوى (22/103) في هذه المسألة ما نصه: (وأما من كان عالماً بوجوبها وتركها بلا تأويل حتى خرج وقتها المؤقت فهذا يجب عليه القضاء عند الأئمة الأربعة، وذهب طائفة منهم ابن حزم وغيره إلى أن فعلها بعد الوقت لا يصح من هؤلاء، وكذلك قالوا فيمن ترك الصوم متعداً- والله سبحانه وتعالى أعلم انتهى. وقال الحافظ في فتح الباري (=1/71) على حديث "من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك" قال: وقد تمسك بدليل الخطاب منه القائل إن العامد لا يقضي الصلاة، لأن انتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط فيلزم منه أن من لم ينس لا يصلي ا. هـ. فالشيخ إنما حكى الخلاف فقط، فالمسألة خلافية ليست محل إجماع والله أعلم. فإذا اختار القول بعدم القضاء لرجحانه عنده بالدليل فلا حرج عليه. وقال الشيخ أيضاً في مجموع الفتاوى (22/18-19) واختلف الناس فيمن ترك الصلاة والصوم عامداً هل يقضيه؟ فقال الأكثرون يقضيه، وقال بعضهم لا يقضيه ولا يصح فعله بعد وقته كالحج ... انتهى، ولم يزد على حكاية الخلاف. 5- وقالوا عنه إنه قال إن الذي ينكر الإجماع لا يعتبر كافراً أو فاسقاً، وهذا كذب على الشيخ رحمه الله لأنه يحترم الإجماع ويحث على التمسك

به وينهى عن مخالفته، قال في مجموع الفتاوى (20/10) الحمد لله: معنى الإجماع أن يجتمع علماء المسلمين على حكم من الأحكام، وإذا ثبت إجماع الأمة على حكم من الأحكام لم يكن لأحد أن يخرج عن إجماعهم، فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة ... انتهى. 6- قالوا: إنه يرى أن ذات الله عز وجل مركبة بعضها يحتاج إلى بعض، وأن الله له جسم وله جهات وينتقل من مكان إلى مكان آخر، وهذا من الكذب الشنيع على شيخ الإسلام ابن تيمية، فإنه رحمه الله في كل كتاباته ومؤلفاته يقرر مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان في أسماء الله وصفاته، وهو إثباتها كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل على حد قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . قال في مطلع الرسالة الحموية الكبرى لما سئل: (ما قول السادة العلماء أئمة الدين في آيات الصفات وأحاديث الصفات، فأجاب: الحمد لله رب العالمين قولنا فيها ما قاله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، وهذا هو الواجب على جميع الخلق في هذا الباب وغيره –انتهى من مجموع الفتاوى (5/5-6) . وقال أيضاً في موضوع الحركة والانتقال في المجموع (5/578/579) والذي يجب القطع به أن الله ليس كمثله شيء في جميع ما يصف به نفسه، فمن وصفه بمثل صفات المخلوقين في شيء من الأشياء فهو مخطئ قطعاً كمن قال إنه ينزل فيتحرك وينتقل كما

ينزل الإنسان من السطح إلى أسفل الدار كقول من يقول إنه يخلو منه العرش، فيكون نزوله تفريغاً لمكان وشغلاً لآخر، فهذا باطل يجب تنزيه الرب عنه، كما تقدم، وهذا هو الذي تقوم على نفيه وتنزيه الرب عنه الأدلة الشرعية والعقلية ... انتهى. وقال في موضوع الجسم والتركيب في مجموع الفتاوى (17/317) فمن قال إنه جسم وأراد أنه مركب من الأجزاء فهذا قول باطل، وكذلك إن أراد أنه يماثل غيره من المخلوقات فقد علم بالشرع والعقل أن الله ليس كمثله شيء في شيء من صفاته، فمن أثبت لله مثلاً في شيء من صفاته فهو مبطل، ومن قال إنه جسم بهذا المعنى فهو مبطل، ومن قال إنه ليس بجسم بمعنى أنه لا يرى في الآخرة ولا يتكلم بالقرآن وغيره من الكلام ولا يقوم به العلم والقدرة وغيرهما من الصفات، ولا ترفع الأيدي إليه في الدعاء، ولا عرج بالرسول صلى الله عليه وسلم إليه، ولا يصعد إليه الكلم الطيب ولا تعرج الملائكة والروح إليه فهذا باطل، وكذلك كل من نفي ما أثبته الله ورسوله، وقال إن هذا تجسيم فنفيه باطل وتسمية ذلك تجسيماً تلبيس منه. إلى أن قال: بل لم ينطق كتاب ولا سنة ولا أثر من السلف بلفظ الجسم في حق الله تعالى لا نفياً ولا إثباتاً فليس لأحد أن يبتدع إسماً مجملاً يحتمل معاني مختلفة لم ينطق به الشرع، ويعلق به دين المسلمين ... انتهى. وقال أيضاً: وهذه الألفاظ المجملة المحدثة مثل لفظ: (المركب) و (المؤلف) و (المنقسم) ونحو ذلك قد صار كل من أراد نفي

شيء مما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات عبر بها عن مقصوده فيتوهم من لا يعرف مراده أن المراد تنزيه الرب الذي ورد به القرآن، وهو إثبات أحديته وصمديته، ويكون قد أدخل في تلك الألفاظ ما رآه هو منفياً وعبر عنه بتلك العبارة وضعاً له واصطلاحاً اصطلح عليه هو ومن وافقه على ذلك المذهب، وليس ذلك من لغة العرب التي نزل بها القرآن ولا من لغة أحد من الأمم، ثم يجعل ذلك المعنى هو مسمى الأحد والصمد والواحد ونحو ذلك من الأسماء الموجودة في الكتاب والسنة. انتهى من مجموع الفتاوى (17/351-352) . وبهذه المنقولات من كلام الشيخ رحمه الله ظهر بطلان ما نسبه إليه أعداؤه الكذابون من هذه الأباطيل ... والحمد لله. 7- قالوا إنه يرى أن القرآن حديث ليس بقديم، والجواب أن نسوق عبارة الشيخ رحمه الله في هذا الموضوع، قال في مجموع الفتاوى (12/54) إن السلف قالوا القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وقالوا لم يزل متكلماً إذا شاء، فبينوا أن كلام الله قديم أي جنسه قديم لم يزل، ولم يقل أحد منهم أن نفس الكلام المعين قديم، ولا قال أحد منهم القرآن قديم، بل قالوا إنه كلام الله منزل غير مخلوق، وإذا كان الله قد تكلم بالقرآن بمشيئته كان القرآن كلامه وكان منزلاً غير مخلوق، ولم يكن مع ذلك أزلياً قديماً بقدم الله، وإن كان الله لم يزل متكلماً إذا شاء فجنس كلامه قديم، فمن فهم قول السلف وفرق بين هذه الأقوال زالت عنه الشبهات في هذه المسائل المعضلة التي اضطرب فيها أهل الأرض ... انتهى.

فتبين بهذا أن نفي القدم عن القرآن ليس رأيه وحده كما يزعم المفترون، وإنما هو رأي سلف هذه الأمة قاطبة، وأن هناك فرقاً بين جنس الكلام وأفراد الكلام، والله أعلم. 8- قالوا إنه يقول بقدم العالم، وهذا من الكذب الصريح على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإنه لا يقول بقدم العالم، وإليك عبارته رحمه الله في إبطال هذا القول ورده، قال في مجموع الفتاوى (9/281) فإن الرسل مطبقون على أن كل ما سوى الله محدث مخلوق كائن بعد أن لم يكن ليس مع الله شيء قديم بقدمه، وأنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، والعقول تعلم أن الحوادث لا بد لها من محدث، وفي الجزء الثاني من هذا المجموع المبارك في الصفحة (188) صرح بتكفير من قال بقدم العالم. 9- قالوا إنه يقول إن الأنبياء غير معصومين، والجواب: أن هذا كذب صريح وبهتان واضح، فإن شيخ الإسلام رحمه الله يقرر عصمة الأنبياء ويثبتها، وهذا نص عبارته في هذا الموضوع حيث يقول: إن الأنبياء صلوات الله عليهم معصومون فيما يخبرون به عن الله سبحانه، وفي تبليغ رسالاته باتفاق الأمة، ولهذا وجب الإيمان بكل ما أوتوه- إلى أن قال: وأما العصمة في غير ما يتعلق بتبليغ الرسالة، فللناس فيها نزاع هل هو ثابت بالعقل أو بالسمع، ومتنازعون في العصمة من الكبائر والصغائر أو من بعضها، أم هل العصمة إنما هي في الإقرار عليها لا في فعلها، أم لا يجب القول بالعصمة إلا في التبليغ فقط، وهل تجب العصمة من الكفر والذنوب قبل المبعث أو لا.

والكلام في هذا مبسوط في غير هذا الموضع، والقول الذي عليه جمهور الناس وهو الموافق للآثار المنقولة عن السلف إثبات العصمة من الإقرار على الذنوب مطلقاً –انتهى من مجموع الفتاوى (10/89، 292، 293) .

الخاتمة: وهكذا والحمد لله –وجدنا في كلام الشيخ رداً على كل ما افتراه عليه خصومه ونفياً لما نسبوه إليه، هذا يدل على غزارة علمه وإمامته، ونحن لا ندعي له العصمة، فهو كغيره من الأئمة يخطئ ويصيب. قال الإمام ابن كثير في ترجمته له في البداية والنهاية (14/119) وأثنى عليه وعلى علومه جماعة من علماء عصره مثل القاضي الخوبي، وابن دقيق العيد، وابن النحاس، والقاضي الحنفي وقاضي قضاة مصر ابن الحريري وابن الزملكاني وغيرهم، ووجدت بخط ابن الزملكاني أنه قال: اجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهتها وأن له اليد الطولى في حسن التصنيف وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتدين. إلى أن قال ابن كثير: وبالجملة كان رحمه الله من كبار العلماء وممن يخطئ ويصيب، ولكن خطؤه بالنسبة إلى صوابه كنقطة في بحر لجي –وخطؤه أيضاً مغفور له كما في صحيح البخاري: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) فهو مأجور، وقال الإمام مالك بن أنس: كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر –انتهى1. وكما قلنا قريباً أن مؤلفات هذا العالم موجودة ومبذولة لكل من أرادها، فمن أراد أن يعرف الحقيقة بلا مكابرة فليطالعها ولا يستمع لما يقوله عنه خصومه وحساده والمغرضون المضللون، فإن العدل والإنصاف أن تحكم على الشخص من واقع كلامه المذكور في كتبه لا

_ 1 وقد رد على هذه الشبهات جماعة من العلماء منهم الحافظ ابن عبد الهادي في الصارم المنكي في الرد على السبكي، ومنهم علامة العراق الشيخ نعمان خيري الألوسي في كتابه: جلاء العينين، ومنهم علامة الشام محمد بهجة البيطار في حياة شيخ الإسلام ابن تيمية.

من كلام خصومه. فأعداء الدين دائماً في صراع مع دعاء الحق الذين يردون كيدهم، ويبينون زيفهم ويظهرون للناس حقيقتهم. فقد ظهر شيخ الإسلام في عصر قد اشتدت فيه غربة الإسلام وتفرقت كلمة المسلمين، وظهرت الفرق المخالفة لما كان عليه السلف الصالح في العقائد والفروع، وخيم الجمود الفكري والتقليد الأعمى فأثر في الجو العلمي، ظهرت فرق الشيعة والصوفية المنحرفة والقبورية ونفاة الصفاة والقدرية، وطغى علم الكلام والفلسفة حتى حلا محل الكتاب والسنة لدى الأكثر من المتعلمين في الاستدلال، هذا كله في داخل المجتمع الإسلامي في ذلك العصر. ومن خارج المجتمع تكالب أعداء الإسلام فغزوا المسلمين في عقر دارهم فجاءت جيوش التتار تداهم ديار المسلمين وتفتك بهم في هذا الجو المعتم عاش شيخ الإسلام ابن تيمية ضياء لامعاً بعلمه الأصيل الغزير يدرس الطلاب ويؤلف الكتب والرسائل ويفتي في النوازل والمسائل. ويناظر المنحرفين. ويرد على المخرفين. وينازل الفرق والطوائف. فيرد على الشيعة والقدرية ويرد على علماء الكلام والفلاسفة، ويرد على المعطلة والمؤولة في الصفات من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، ويرد على الصوفية المنحرفة وعلى القبوريين والمبتدعة. ويحرك أهل الجمود الفقهي والخمول الفكري برد الفقه إلى أصوله الصحيحة، ومنابعه الصافية، وتصحيح الصحيح وتزييف الزائف حتى أعاد للشريعة نقاءها وإلى العلوم الشرعية صفاءها. يظهر ذلك في مؤلفاته التي خلفها ثروة علمية هائلة، وإلى جانب مجهوده العلمي العظيم شارك في الجهاد في سبيل الله فحمل السلاح وخاض المعارك ضد التتار عدة مرات، مما كان له أطيب الأثر في تقوية معنوية المجاهدين حتى انتصروا

على عدوهم، وقد تخرج على يد هذا العالم الجليل أئمة من طلابه حملوا الراية من بعده. منهم الإمام ابن القيم والإمام ابن كثير والحافظ الذهبي والحافظ ابن عبد الهادي، وغيرهم ممن أخذوا عنه العلم ونشروه في الآفاق بما ألفوه من المؤلفات القيمة التي تزخر بها المكتبات الإسلامية اليوم، فجزى الله شيخ الإسلام ابن تيمية عن الإسلام والمسلمين خير الحزاء، ونفعنا بعلومه، ولما قام بهذا الواجب العظيم غاض خصومه فرمته كل طائفة من الطوائف المنحرفة بلقب سيء تريد بذلك صد الناس عن دعوته وتشويه عمله. فنفاة الصفات قالوا إنه مجسم. لأن إثبات الصفات عندهم تجسيم، ومتعصبة الفقهاء والمبدعة قالوا إنه خرق الإجماع، لأن أخذ القول الراجح بالدليل المخالف لما هم عليه ورد البدع خرق للإجماع عندهم، وغلاة الصوفية والقبوريين قالوا إنه يبغض الأولياء ويكفر المسلمين ويحرم زيارة القبور. لأن الدين عندهم هو التقرب إلى الأولياء والصالحين وتعظيم مشائخ الطرق الصوفية واتخاذهم أرباباً من دون الله والغلو في تعظيمهم بصرف العبادة إليهم، هذا موقف هذه الطوائف من دعوة شيخ الإسلام، وهو موقف يتكرر مع كل مصلح ومجدد يدعو إلى دين الله الذي جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم ونبذ ما خالفه من دين الآباء والأجداد وعادات الجاهلية. وليس هذا بغريب فقد قوبلت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم من قبل بأعظم من هذا وقيل عنه إنه ساحر كذاب وإنه شاعر مجنون. إلى غير ذلك من الألقاب السيئة التي يراد بها الصد عن دين الله والبقاء على دين الشرك الذي ورثوه عن آبائهم وأجدادهم، فلشيخ الإسلام وإخوانه من الدعاة إلى الله أسوى بنبيهم

ولهؤلاء المنحرفين سلف من المشركين والمكذبين، ولكن العاقبة للمتقين. فهذه كتب شيخ الإسلام تأخذ طريقها إلى أيدي كل من يريدون الحق يتنافسون في الحصول عليها والتنقيب عن المفقود منها لإخراجه للناس، فعليك أيها المسلم الناصح لنفسه أن لا تلتفت إلى أقوال المرجفين في حق هذا العالم المجدد المجاهد وأن تنظر إلى أقواله هو، لا إلى ما يقال عنه لتصل إلى الحقيقة {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} .

شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب

3-شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب نبذة عن حياته وجهاده وثمرات دعوته ورد الشبهات التي أثيرت حول دعوته

التعريف بشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد ابن أحمد بن راشد بن بريد بن مشرف النجدي التميمي، ولد سنة 1115هـ، ونشأ في بيت علم. فوالده من علماء البلاد، وتولى القضاء في عدة جهات، وجده الشيخ سليمان كان عالماً جليلاً وإماماً في الفقه وهو المفتي في البلاد في وقته، وقد تخرج على يديه عدد كثير من العلماء وطلبة العلم. وعمه الشيخ إبراهيم بن سليمان، كان من أجلة العلماء، فنشأ الشيخ محمد في هذا الجو العلمي، وكان حاد الذهب متوقد الذكاء سريع الحفظ، حفظ القرآن الكريم قبل سن العاشرة، ودرس على والده كتب الفقه الحنبلي. وكان كثير المطالعة والقراءة للكتب إلى جانب قراءته على والده، فقرأ في كتب التفسير والحديث والأصول، وعني عناية خاصة بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وكتب العلامة ابن القيم، وكان لكتب هذين الإمامين أكبر الأثر في تكوين شخصيته العلمية المتميزة، والأخذ بيده إلى مصادر العلم الصحيحة، فتكون لديه الاتجاه السليم منذ صغره وتركزت في قلبه العقيدة الصحيحة، وتخرج على كتب هذين الإمامين المحققين. رحلاته: ولما استوعب ما يدرس في بلدته من علوم الفقه والعربية والحديث والتفسير، تطلع إلى الزيادة وعزم على الرحلة إلى علماء البلاد المجاورة للاستفادة من علومهم فرحل إلى البصرة وإلى الإحساء، وإلى مكة والمدينة والتقى بعلماء تلك البلدان وأخذ عنهم واستحصل على الكتب والمراجع، ولنترك المجال لحفيده الشيخ عبد الرحمن بن حسن ليحدثنا عن تلك الرحلات المباركة.

قال إنه نشأ في طلب العلم وتخرج على أهله في سن الصبا. ثم رحل لطلب العلم إلى البصرة مراراً وللأحساء ثم إلى المدينة، ثم قال في تفصيل ذلك: فظهر شيخنا بين أبيه وعمه، فحفظ القرآن وهو صغير، وقرأ في فنون العلم وصار له فهم قوي وهمة عالية في طلب العلم. فصار يناظر أباه وعمه في بعض المسائل بالدليل على بعض الروايات عن الإمام أحمد والوجوه عن الأصحاب. فتخرج عليهما في الفقه وناظرهما في مسائل قرأها في الشرح الكبير والمغني والإنصاف لما فيها من مخالف ما في متن المنتهى، والإقناع –وعلت همته إلى طلب التفسير والحديث. فسافر إلى البصرة غير مرة كل مرة يقيم بين من كان بها من العلماء، فأظهر الله له من أصول الدين ما خفي على غيره. وكذلك ما كان عليه أهل السنة في توحيد الأسماء والصفات والإيمان –إلى أن قال: فصنف في البصرة كتاب التوحيد الذي شهد له بفضله بتصنيفه القريب والبعيد، أخذه من الكتب التي في مدارس البصرة من كتب الحديث –إلى أن قال: ثم إن شيخنا رحمه الله تعالى بعد رحلته إلى البصرة وتحصيل ما حصل بنجد رحل إلى الأحساء وفيها فحول العلماء منهم عبد الله بن فيروز أبو محمد الكفيف، ووجد عنده من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ما سر به، وأثنى على عبد الله هذا بمعرفته بعقيدة الإمام أحمد، وحضر مشائخ الأحساء، ومن أعظمهم عبد الله بن عبد اللطيف القاضي فطلب منه أن يحضر الأول من فتح الباري على البخاري ويبين له ما غلظ فيه الحافظ في مسألة الإيمان وبين أن الأشاعرة خالفوا ما صدر به البخاري كتابه من الأحاديث والآثار، وبحث معهم في مسائل وناظر، وهذا أمر مشهور يعرفه أهل

الأحساء وغيرهم من أهل نجد –إلى أن قال: ثم إن شيخنا رحمه الله تعالى، قد تبين له بما فتح الله تعالى عليه ضلال من ضل باتخاذ الأنداد وعبادتها من دون الله في كل قطر وقرية إلا من شاء الله، فلما قضى الحج وقف في الملتزم وسأل الله تعالى أن يظهر هذا الدين بدعوته وأن يرزقه القبول من الناس، فخرج قاصداً المدينة مع الحاج يريد الشام، فعرض له بعض سراق الحجيج فضربوه وسلبوه وأخذوا ما معه وشجوا رأسه وعاقه ذلك عن سيره مع الحجاج، فقدم المدينة بعد أن خرج الحاج منها فأقام بها وحضر عند العلماء إذ ذاك منهم الشيخ محمد حياة السندي وأخذ عنه كتب الحديث إجازة في جميعها، وقراءة لبعضها، ووجد فيها بعض الحنابلة1 فكتب كتاب الهدى لابن القيم بيده وكتب متن البخاري وحضر في النحو وحفظ ألفية ابن مالك. حدثني بذلك حماد بن حمد عنه رحمهما الله، ثم رجع إلى نجد وهم على الحالة التي لا يحبها الله –انتهى المقصود2. فأنت ترى أيها القارئ من هذا السياق قوة الأسباب التي بذلها الشيخ لتحصيل العلم: كثرة الحفظ وكثرة القراءة والاطلاع وكثرة الرحلات في طلب العلم للتلقي عن العلماء مع شدة الذكاء والنية الصالحة –إن هذه الأسباب مع توفيق الله تعالى كفيلة بتوفر التحصيل وهذا ما حصل.

_ 1 منهم الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف وابنه. 2 الدرر السنية 9/215-216.

حالة المسلمين عند ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب: لقد ذكر المؤرخون كابن غنام وابن بشر، وغيرهما عن حالة أهل نجد خصوصاً –والعالم الإسلامي عموماً- الشيء الكثير من ظهور البدع والخرافات والشركيات والجهل بحقيقة الدين الصحيح. ففي نجد كانت القبور والأشجار والأحجار والمغارات تعبد من دون الله بأنواع من القربات، وفي الحجاز واليمن وغيرها من البلاد في ذلك الشيء الكثير، يقول العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني في قصيدة له يصف المظاهر الشركية في البلاد الإسلامية وهو معاصر للشيخ محمد، وقد وصف ما يفعل ويمارس حول القبور من الشرك الأكبر ويثني على دعوة الشيخ: وقد جاءت الأخبار عنه بأنه ... يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي وينشر جهرا ما طوى كل جاهل ... ومبتدع منه فوافق ما عندي ويعمر أركان الشريعة هادما ... مشاهد ضل الناس فيها عن الرشد أعادوا بها معنى سواع ومثله ... يغوث وود بئس ذلك من ود وقد هتفوا عند الشدائد باسمها ... كما يهتف المضطر بالصمد الفرد وكم عقروا في سوحها من عقيرة ... أهلت لغير الله جهرا على عمد وكم طائف حول القبور مقبل ... ومستلم الأركان منهن باليد ويقول الإمام الشوكاني وهو من المعاصرين لدعوة الشيخ أيضاً –يقول في وصف ما يفعل عند القبور من الشرك: وكم قد سرى عند تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام. منها اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام، وعظم ذلك فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضرر، فجعلوها مقصداً لطلب قضاء الحوائج

وملجأ لنجاح المطالب، وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم وشدوا إليها الرحال وتمسحوا بها واستغاثوا، وبالجملة إنهم لم يدعو شيئاً مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه، فإن لله وإنا إليه راجعون، ومع هذا المنكر الشنيع والكفر الفظيع لا نجد من يغضب لله ويغار حمية للدين الحنيف لا عالماً ولا متعلماً ولا أميراً ولا وزيراً ولا ملكاً، وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يشك معه أن كثيراً من هؤلاء القبوريين أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه حلف بالله فاجراً –فإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني تلعثم وتلكأ وأبى واعترف بالحق، وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال إنه تعالى ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة، فيما علماء الدين ويا ملوك المسلمين أي رزء للإسلام أشد من الكفر، وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله، وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة، وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البين واجباً: لقد أسمعت لو ناديت حياً ... ولكن لا حياة لمن تنادي ولو ناراً نفحت بها أضاءت ... ولكن أنت تنفخ في رماد انتهى1. وقد ألف كل من هذين الإمامين2 رسالة في التحذير من هذا الشرك الذي فشا في البلدان في عصرهما فألف الصنعاني رسالة اسمها تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد، وألف الشوكاني رسالة اسمها شفاء

_ 1 نيل الأوطار 4/90. 2 الصنعاني والشوكاني.

الصدور بتحريم البناء على القبور، والرسالتان مطبوعتان ومتداولتان. وفي هذا الجو المظلم ظهر شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بالعقيدة السليمة والدعوة المستقيمة –وقال بعض علماء نجد في وصف الحالة التي كانوا عليها قبل ظهور دعوة الشيخ وهم من المعاصرين له. (من محمد بن غيهب ومحمد بن عيدان إلى عبد الله المويس، الباعث للكتاب إخبارك عن ديننا قبل أن يجعل هذا الشيخ لهذا القرن1 يدعوهم إلى الله وينصح لهم، ويأمرهم وينهاهم حتى أطلع الله به شموس الوحي وأظهر به الدين، وفرق به أهل الباطل من السادة والكهان والمرتشين فهو غريب في علماء هذا الزمان هو في شأن وهم في شأن آخر، رفع الله له علم الجهاد فشمر إليه فأمر ونهى ودعا إلى الله تعالى ونصح ووفى بالعهد لما نقضوه، وشمر عن ساعد الجد لما تركوه، وتمسك بالكتاب المنزل لما نبذوه فبدعوه وكفروه، فديننا قبل هذا الشيخ المجدد لم يبق منه إلا الدعوى والإسم فوقعنا في الشرك فقد ذبحنا للشياطين ودعونا الصالحين ونأتي الكهان ولا نفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، ولا بين توحيد الربوبية الذي أقر به مشركو العرب وتوحيد الألوهية الذي دعت إليه الرسل، ولا نفرق بين السنة والبدعة، فنجتمع لليلة النصف من شعبان لصلاتها الباطلة التي لم ينزل بها من سلطان ونضيع الفريضة، ونقدم قبل الصلاة الوسطى –صلاة العصر- من الهذيبان ما يفوتها عن وقت الاختيار إلى وقت الضرورة، هذا وأضعافه من البدع لم ينهنا عنه علماؤنا بل أقرونا عليه وفعلوه معنا

_ 1 كذا في الأصل، ولعل الصواب: "يجيء" بدل " يجعل".

فلا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر، ولا ينصحون جاهلاً ولا يهدون ضالاً والكلام من جهتهم طويل عصمنا الله وإياك من الاقتداء بهم واتباع طريقتهم فكن منهم على حذر إلا القليل منهم ويكفيك عن التطويل أن الشرك بالله يخطب به على منابرهم ومن ذلك قول ابن الكهمري: اللهم صل على سيدنا وولينا ملجانا منجانا معاذنا ملاذنا، وكذلك تعطيل الصفات في خطب الطيبي فيشهد أن الله لا جسم ولا عرض ولا قوة. فقبل هذا الشيخ لا تؤدي أركان الإسلام كالصلاة والزكاة، فلم يكن في بلدنا من يزكي الخارج من الأرض حتى جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً1. عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: قال رحمه الله جواباً لمن سألة عن عقيدته2: بسم الله الرحمن الرحيم أشهد الله ومن حضرني من الملائكة وأشهدكم أني أعتقد ما اعتقده الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره، ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم

_ 1 من كتاب علماء نجد خلال ستة قرون للشيخ عبد الله البسام 2/605-606. 2 انظر الدرر السنية 1/28/30.

من غير تحريف ولا تعطيل، بل أعتقد أن الله سبحانه وتعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه ولا أحرف الكلم عن مواضعه، ولا ألحد في أسمائه وآياته، ولا أكيف، ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خلقه لأنه تعالى لا سمي له ولا كفو له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره وأصدق قيلاً وأحسن حديثاً فنزه نفسه عما وصفه به المخالفون من أهل التكييف والتمثيل وعما نفاه عنه النافون من أهل التحريف والتعطيل فقال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1، والفرقة الناجية وسط في باب أفعاله تعالى بين القدرية والجبرية. وهم وسط في باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية؛ وهم وسط في باب الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية، وهم وسط في باب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرافضة والخوارج. وأعتقد أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود: وأنه تكلم به حقيقة وأنزله على عبده ورسوله وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عبده نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ وأومن بأن الله فعال لما يريد، ولا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج عن مشيئته، وليس شيء في العالم يخرج عن تقديره ولا يصدر إلا عن تدبيره ولا محيد لأحد عن القدر المحدود ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور، واعتقد الإيمان بكل ما أخبر به صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، فأؤمن بفتنة القبر ونعيمه، وبإعادة الأرواح إلى الأجساد، فيقوم الناس لرب

_ 1 سورة الصافات الآيات: 180-181-182

العالمين حفاة عراة غرلا تدنو منهم الشمس، وتنصب الموازين وتوزن بها أعمال العباد {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} 1. وتنشر الدواوين فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله، فأؤمن بحوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعرصة القيامة ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، آنيته عدد نجوم السماء من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً. وأؤمن بأن الصراط منصوب على شفير جهنم يمر به الناس على قدر أعمالهم. وأؤمن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أول شافع وأول مشفع، ولا ينكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أهل البدع والضلال، ولكنها لا تكون إلا من بعد الإذن والرضا كما قال الله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} 2، وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِه} 3، وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 4، وهو لا يرضى إلا التوحيد ولا يأذن إلا لأهله. وأما المشركون فليس لهم من الشفاعة نصيب، كما قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} 5. وأؤمن بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما اليوم موجودتان، وأنهما لا يفنيان؛ وأن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة كما يرون

_ 1 سورة المؤمنون الآيتان: 102-103. 2 سورة الأنبياء من الآية: 28. 3 سورة البقرة من الآية: 255. 4 سورة النجم الآية: 26. 5 سورة المدثر الآية: 48.

القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته، وأؤمن بأن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين، ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوته وأن أفضل أمته أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضي، ثم بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم أهل الشجرة أهل بيعة الرضوان، ثم سائر الصحابة رضي الله عنهم. وأتولى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذكر محاسنهم وأترضى عنهم وأستغفر لهم وأكف عن مساويهم وأسكت عما شجر بينهم، وأعتقد فضلهم عملا بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1. وأترضى عن أمهات المؤمنين المطهرات من كل سوء، وأقر بكرامات الأولياء وما لهم من المكاشفات إلا أنهم لا يستحقون من حق الله تعالى شيئاً، ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله. ولا أشهد لأحد من المسلمين بجنة ولا نار إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني أرجو للمحسن وأخاف على المسيء، ولا أكفر أحداً من المسلمين بذنب2، ولا أخرجه من دائرة الإسلام، وأرى الجهاد ماضياً مع كل إمام براً كان أو فاجراً وصلاة الجماعة خلفهم جائزة، والجهاد ماض منذ بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله، ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت

_ 1 سورة الحشر الآية: 10. 2 يعني الذنب الذي ليس هو من نواقض الإسلام.

طاعته؛ وحرم الخروج عليه، وأرى هجر أهل البدع ومباينتهم حتى يتوبوا، وأحكم عليهم بالظاهر وأكل أسرارهم إلى الله، وأعتقد أن كل محدثة في الدين بدعة، وأعتقد أن الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وهو بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. وأرى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما توجبه الشريعة المحمدية الطاهرة، فهذه عقيدة وجيزة حررتها وأنا مشتغل البال لتطلعوا على ما عندي والله على ما نقول وكيل ... انتهى. وبهذا يعلم أن عقيدته رحمه الله هي عقيدة السلف الصالح، وأنه بريء مما نسبه إليه أعداء الدين من أنه على مذهب الخوارج. بدئ دعوة الشيخ محمد رحمه الله: في وسط هذا الجو المظلم الذي سبق وصفه سطعت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ورفع صوته منكراً هذا الشرك داعياً الناس إلى التوحيد الذي بعث به رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم فلقي من الناس ما يلقاله أمثاله من الدعاة إلى الله من الأذى، وأطاعه من وفقه الله لقبول الحق. يقول حفيده الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: ثم رجع إلى نجد وهم على الحالة التي لا يحبها الله ولا يرضاها من الشرك بعبادة الأموات والأشجار والأحجار والجن. فقام فيهم يدعوهم إلى التوحيد

وأن يخلصوا العبادة بجميع أنواعها لله، وأن يتركوا ما كانوا يعبدونه من قبر أو طاغوت أو شجر أو حجر والناس يتبعه الواحد منهم والإثنان، فصاح به الأكثرون وحذروا منه الملوك وأغروهم بعداوته. انتهى1. وهذا لا يعني أنه لا يوجد في هذا العصر علماء، بل يوجد منهم الكثير، ولكن هم ما بين مستحسن لهذا الوضع السيء أو غير مستحسن له، لكنه لا يملك الشجاعة لمقاومته. أصول دعوة الشيخ رحمه الله: لقد أوضح أصول دعوته في رسائله حيث قال2: 1- أما ما نحن عليه من الدين فعلى دين الإسلام الذي قال الله فيه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 3. 2- وأما ما ادعونا الناس إليه فندعوهم إلى التوحيد الذي قال الله فيه خطاباً لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 4، وقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} 5.

_ 1 الدرر السنية 9/216. 2 الدرر السنية 1/62-64. 3 سورة آل عمران الآية: 85. 4 سورة يوسف الآية: 108. 5 سورة الجن الآية: 18.

3- وأما ما نهينا الناس عنه فنهيناهم عن الشرك الذي قال الله فيه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} 1، وقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على سبيل التغليظ، وإلا فهو منزه هو وإخوانه عن الشرك {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 2، وغير ذلك من الآيات. 4- ونقاتلهم عليه كما قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} 3 أي شرك، ثم ساق الأدلة على ذلك إلى أن قال: 5- وأما ما ذكرتم من حقيقة الاجتهاد فنحن مقلدون للكتاب والسنة وصالح الأمة وما عليه الاعتماد من أقوال الأئمة الأربعة أبي حنفية النعمان بن ثابت ومالك بن أنس ومحمد بن إدريس الشافعي وأحمد بن حنبل رحمهم الله. 6- وما جئنا بشيء يخالف النقل ولا ينكره العقل ... نقاتل عباد الأوثان4 كما قاتلهم صلى الله عليه وسلم ونقاتلهم على ترك الصلاة، وعلى منع الزكاة، كما قاتل مانعها صديق هذه الأمة أبو بكر الصديق رضي الله عنه. انتهى. وقال في رسالة أخرى من رسائله5:

_ 1 سورة المائدة من الآية: 72. 2 سورة الزمر الآيتان: 65-66. 3 سورة البقرة من الآية: 193. 4 وقال في بعض أجوبته: نقاتلهم بعد ما نقيم الحجة عليهم من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع السلف الصالح من الأئمة متمثلين قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} آية: 39 من الأنفال، انتهى الدرر السنية 1/58. 5 الدرر السنية 1/56.

7- وأما التكفير فأنا أكفر من عرف دين الرسول ثم بعدما عرفه سبه ونهى الناس عنه وعادى كم فعله، فهذا الذي أكفره، وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك1. 8- وأما القتال فلم نقاتل أحداً إلا دون النفس والحرمة، فإنا نقاتل على سبيل المقابلة {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} 2. وكذلك من جاهر بسب دين الرسول بعد ما عرفه. وقال أيضاً3 9- وأيضاً ألزمت من تحت يدي بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وغير ذلك من فرائض الله ونهيتهم عن الربا وشرب المسكر وأنواع المنكرات. المراحل التي مرت بها دعوة الشيخ محمد رحمه الله: بدأ الشيخ دعوته في بلدة حريملاء لوجود والده فيها، ولكن لما كانت الظروف غير مواتية ترك هذه البلدة بحثاً عن غيرها، فاتجه إلى العيينة واتصل بأميرها عثمان بن معمر فساعده في أول الأمر واجتمع حوله طلبة، وبدأ بتنفيذ الأحكام الشرعية، فهدم بعض القباب الشركية ورجم في الزنا.

_ 1 وقال: فإن قال قائلهم: إنهم يكفرون بالعموم، فنقول سبحانك هذا بهتان عظيم، الذي نكفر الذي يشهد أن التوحيد دين الله ودين رسوله، وأن دعوة غير الله باطلة، ثم بعد هذا يكفر أهل التوحيد ويسميهم بالخوارج. 2 سورة الشورى من الآية: 40. 3 الدرر السنية 1/54.

ثم إن ابن معمر تخلى عنه خوفاً من تهديد بعض الرؤساء، فترك الشيخ العيينة وبحث عن غيرها فاتجه إلى الدرعية واتصل بأميرها محمد بن سعود وعرض عليه دعوته فقبلها وبايعه على مناصرته، وصدق في ذلك. وهناك استقر الشيخ رحمه الله وانعقدت حوله حلق الدروس ووفد إليه الطلاب من مختلف الجهات. وتكونت في هذه البلدة ولاية إسلامية أميرها الإمام محمد بن سعود، وموجهها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وامتدت الدعوة إلى البلاد المجاورة، ونشأ الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة التوحيد وقمع الشرك. وما هي إلا فترة وجيزة حتى انتشرت الدعوة وتوحدت جميع البلدان النجدية تحت رايتها. وامتدت فيما بعد ذلك إلى الحجاز وعسير وشمال الجزيرة. وكان ذلك بفضل الله وحده ثم مؤازة آل سعود لهذه الدعوة المباركة، وصدق الله وعده {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} 1، {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} 2، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُره} 3. المراجع التي يعتمد عليها الشيخ رحمه وعلماء الدعوة بعده والمنهج الذي يسيرون عليه في الفتوى وأخذ المسائل: المراجع التي يعتمد عليها علماء الدعوة هي: 1-القرآن الكريم وتفاسيره المعتمدة. 2-السنة النبوية وشروحها. 3-كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه وابن القيم وغيرها من كتب السلف في سائر الفنون.

_ 1 سورة محمد من الآية: 7. 2 سورة الصافات الآية: 173. 3 سورة الحج من الآية: 40.

4-كتب المذاهب الأربعة وبالأخص كتب المذهب الحنبلي وما ترجح بالدليل من غيره1. يقول الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب2: مذهبنا في أصول الدين مذهب أهل السنة والجماعة وطريقتنا طريقة السلف وهي أنا نقر آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها. ونحن أيضاً في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل ولا ننكر على من قلد أحد الأئمة الأربعة. ولا نستحق مرتبة الاجتهاد المطلق ولا أحد لدينا يدعيها. إلا أننا في بعض المسائل إذا صح لنا نص جلي من كتاب أو سنة غير منسوخ ولا مخصص ولا معارض بأقوى منه، وقال به أحد الأئمة الأربعة أخذنا به وتركنا المذهب كإرث الجد والإخوة، فإنا نقدم الجد بالإرث وإن خالف مذهب الحنابلة. ولا مانع من الاجتهاد في بعض المسائل دون بعض، فلا مناقضة لعدم دعوى الاجتهاد، وقد سبق جمع من أئمة المذاهب الأربعة إلى اختيارات لهم في بعض المسائل مخالفين للمذهب الملتزمين تقليد صاحبه. ثم إنا نستعين على فهم كتاب الله بالتفاسير المتداولة المعتبرة، ومن أجلها لدينا تفسير ابن جرير ومختصره لابن كثير الشافعي، وكذا البغوي والبيضاوي، والخازن والحداد والجلالين وغيرهم.

_ 1 قال الشيخ محمد رحمه الله: (وأما المتأخرون رحمهم الله فكتبهم عندنا فنعمل بما وافق النص منها وما لا يوافق النص لا نعمل به) انتهى من الدرر السنية 1/65. 2 الدرر السنية 1/126.

وعلى فهم الحديث بشروح الأئمة المبرزين كالعسقلاني والقسطلاني على البخاري، والنووي على مسلم والمناوي على الجامع الصغير، ونحرص على كتب الحديث. خصوصاً الأمهات الست وشروحها ونعتني بسائر الكتب في سائر الفنون أصولاً وفروعاً وقواعد وسيراً ونحواً وصرفاً وجميع علوم الأمة. هذا وعندنا أن الإمام ابن القيم وشيخه إماماً حق من أهل السنة، وكتبهم عندنا من أعز الكتب إلا أنا غير مقلدين لهما في كل مسألة، فإن كل أحد يؤخذ من قوله يترك إلا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم ومعلوم مخالفتنا لهما في عدة مسائل، منها طلاق الثلاث بلفظ واحد في مجلس فإنا نقول به تبعاً للأئمة الأربعة. ثمرات دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وآثارها: إن كل دعوة من الدعوات وكل عمل من الأعمال إنما تعرف قيمته من ثمراته المترتبة عليه ومن أثره الذي يتركه. وإن دعوة الشيخ ولله الحمد لما كانت دعوة خالصة لله مترسمة منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمدة عليه ومستمدة من الكتاب والسنة صار لها أطيب الآثر واستمر نفعها، وبقي أثرها وأنتجت للأمة خيرات كثيرة منها: 1- قيام دولة إسلامية وهي دولة آل سعود الذين آزروا هذه الدعوة وجاهدوا في سبيلها، ولا تزال هذه الدولة ولله الحمد تحكم بشريعة الله وتخدم الحرمين الشريفين وتشد أزر المسلمين في كل مكان من بقاع العالم بعمارة المساجد والمراكز الإسلامية والتعليمية وتنشر دعوة الإسلام.

2- تصحيح العقيدة الإسلامية مما علق بها من الشركيات والبدع والخرافات إلى منبعها الصافي من كتاب الله وسنة رسوله، وقد طهر الله كل البلاد التي صار لهذه الدعوة المباركة فيها نفوذ وسلطة من جميع مظاهر الشرك والبدع والخرافات. 3- امتداد أثر هذه الدعوة المباركة خارج بلادها حتى انتفع بها من هدفه الحق في مختلف بلدان العالم الإسلامي في الشام ومصر والمغرب العربي، وإفريقيا والسودان واليمن والعراق والهند والباكستان وأندونيسيا وغيرها. 4- وجود حركة علمية واهية متحررة من التقليد الأعمى، فانتشر التعليم في المساجد في مختلف مناطق البلاد حتى تخرج منها علماء أفذاذ في حياة الشيخ وبعدها قاموا بنشر هذه الدعوة ورعايتها إلى يومنا هذا، ثم أسست لهذا التعليم جامعات إسلامية تخرج الأفواج تلو الأفواج من مختلف العالم الإسلامي مسلحين بالعقيدة الصحيحة والفكر السليم ينتشرون في العالم الإسلامي وغيره للدعوة إلى الله. 5- نشاط حركة التأليف والنشر، فقد قدم علماء هذه الدعوة للأمة الإسلامية رصيداً من الكتب النافعة في الأصول والفروع ومن ذلك: 1) مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب إمام الدعوة ويتكون مجموعها من اثني عشر مجلداً في الفقه والعقائد والتفسير والحديث والسيرة. 2) مجموع الفتاوى والرسائل لعلماء الدعوة ويتكون من أحد عشر مجلداً.

3) كتب ألفها أئمة الدعوة في مختلف العصور للرد على خصوم الدعوة، وتبلغ العديد من المجلدات وهي مطبوعة ومتداولة. 4) نشر كتب السلف وتوزيعها على المسلمين في موسم الحج وغيره. 5) نشر كل مفيد من المؤلفات العصرية وتوزيعها مجاناً. الشبه التي أثيرت حول دعوة الشيخ والرد عليها: تعرضت دعوة الشيخ كغيرها من دعوات المصلحين للنقد من قبل خصومها وأثيرت حولها شبهات ربما تروج على من لم يعرف حقيقتها، وقد أثير كثير من هذه الشبهات في حياة الشيخ ورد عليها بنفسه، وأثير البعض الآخر –أو بالأصح- أعيدت إثارة تلك الشبه بعد وفاته، فرد عليها تلامذته وغيرهم من محققي علماء المسلمين الذين لا يروج عليهم البهرج والكذب، ولا تأخذهم في الله لومة لائم. ومن هذه الشبه: 1- قالوا: إنه يبطل كتب المذاهب الأربعة ويقول إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء. 2- وأنه يدعي الاجتهاد وأنه خارج عن التقليد وأنه يقول اختلاف العلماء نقمة. 3- قالوا: إنه يحرم زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وزيارة قبر الوالدين وغيرهما. 4- وأنه يكفر من حلف بغير الله. وقد أجاب الشيخ عن هذه بقوله:

جوابي عن هذه المسائل أني أقول: سبحانك هذا بهتان عظيم، وقبله من بهت النبي صلى الله عليه وسلم أنه يسب عيسى بن مريم ويسب الصالحين فتشابهت قولبهم بافتراء الكذب والزور قال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} 1 بهتوه صلى الله عليه وسلم بأنه يقول إن الملائكة وعيسى وعزيراً في النار، فأنزل الله في ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} 2 انتهى3. 5- قالوا: إنه ينهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يقول لو أن لي أمراً هدمت قبة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يتكلم في الصالحين وينهى عن محبتهم. وقد أجاب الشيخ عن ذلك بقول: هذا كذب وبهتان افتراه علي الشياطين الذين يريدون أن يأكلوا أموال الناس بالباطل4. 6- قالوا: إنه يكفر جميع الناس إلا من اتبعه وأن أنكحتهم غير صحيحة. وقد أجاب الشيخ عن ذلك بقوله: يا عجباً كيف يدخل هذا في عقل عاقل وهل يقول هذا مسلم، إني أبرأ إلى الله من هذا القول الذي ما يصدر إلا من مختل العقل فاقد الإدراك، فقاتل الله أهل الأغراض الباطلة5. 7- قالوا: إنه يكفر بالعموم ويوجب الهجرة إليه على من قدر على إظهار دينه.

_ 1 سورة النحل من الآية: 105. 2 سورة الأنبياء الآية: 101. 3 الدرر السنية 1/30-31. 4 الدرر السنية 1/52. 5 الدرر السنية 1/55

وقد أجاب الشيخ عن ذلك بقوله: كل هذا من الكذب والبهتان الذي يصدون بها الناس عن دين الله ورسوله، وإذا كنا لا نكفر من عبد الصنم الذي على عبد القادر، والصنم الذي على قبر أحمد البدوي وأمثالها لأجل جهلهم وعدم من ينبههم، فكيف نكفر من لم يشرك بالله إذا لم يهاجر إلينا أو لم يكفر ويقاتل1 {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} 2 انظر الدرر (1/66) . 8- قالوا: إنه ينكر الشفاعة، فرد الشيخ على ذلك بقوله: ثم بعد هذا يذكر لنا أن عدوان الإسلام الذين ينفرون الناس عنه يزعمون أننا ننكر شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فنقول: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} . بل نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع صاحب المقام المحمود نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يشفعه فينا، وأن يحشرنا تحت لوائه، هذا اعتقادنا وهذا الذي مشى عليه السلف الصالح من المهاجرين والأنصار والتابعين وتابع التابعين، والأئمة الأربعة رضي الله عنهم أجمعين، وهم أحب الناس لنبيهم وأعظمهم في اتباعه وشرعه، فإن كانوا يأتون عند قبره يطلبونه الشفاعة فإن اجتماعهم حجة، والقائل: إنه يطلب منه الشفاعة بعد موته يورد علينا الدليل من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إجماع الأمة والحق أحق أن يتبع ... انتهى3.

_ 1 يعني لم يكفر المسلمين ويقاتلهم. 2 سورة النور من الآية: 16. 3 الدرر السنية 1/46.

9- وأما اتهام الشيخ أنه يكفر بالعموم ويقاتل المسلمين، فقد أجاب الشيخ عنه بقول: وأما التكفير فإنا نكفر من عرف دين الرسول، ثم بعدما عرفه سبه ونهى عنه وعادى من فعله، فهذا هو الذي أكفر، وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك، وأما القتال فلم نقاتل أحداً إلى اليوم إلا دون النفس والحرمة، وهم الذين أتونا في ديارنا ولا أبقوا ممكناً، ولكن قد نقاتل بعضهم على سبيل المقابلة وجزاء سيئة مثلها، وكذلك من جاهر بسب دين الرسول بعدما عرف، فإنا نبين لكم أن هذا هو الحق الذي لا ريب فيه، وأن الواجب إشاعته في الناس وتعليمه الرجال والنساء1. انتهى. وقال أيضاً لما بين بطلان الذي يفعله القبوريون، فهذا الذي أوجب الاختلاف بيننا وبين الناس، حتى آل بهم الأمر إلى أن كفرونا وقاتلونا واستحلوا دماءنا وأموالنا حتى نصرنا الله عليهم وظفرنا بهم، وهو الذي ندعو الناس إليه ونقاتلهم عليه بعد ما نقيم عليهم الحجة من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع السلف الصالح من الأئمة ممتثلين لقوله سبحانه وتعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلّهُ لِلَّهِ} 2، فمن لم يجب الدعوة بالحجة والبيان قاتلنا بالسيف والسنان، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} 3 انتهى4.

_ 1 الدرر السنية 1/51. 2 سورة الأنفال من الآية: 39. 3 سورة الحديد الآية: 25. 4 الدرر السنية 1/58.

وقال ابنه الشيخ عبد الله بن محمد، مجملاً هذه الشبة مع الرد عليها: وأما ما يكذب علينا ستراً للحق وتلبيساً على الخلق بأنا نفسر القرآن برأينا ونأخذ من الحديث ما وافق فهمنا من دون مراجعة شرح ولا معول على شيخ، وأنا نضع من رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقولنا: النبي رمة في قبره وعصا أحدنا أنفع منه، وليس له شفاعة، وأن زيارته غير مندوبة، وأنه كان لا يعرف معنى لا إله إلا الله حتى أنزل الله عليه {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} 1. مع كون الآية مدنية، وأنا لا نعتمد على أقوال العلماء ونتلف مؤلفات أهل المذاهب لكون فيها الحق والباطل، وأنا مجسمة، وأنا نكفر الناس على الإطلاق أهل زماننا ومن بعد الستمائة إلا من هو على ما نحن عليه، ومن فروع ذلك أنا لا نقبل بيعة أحد إلا بعد التقرير عليه بأنه كان مشركاً وان أبويه ماتا على الإشراك بالله وأننا ننهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ونحرم زيارة القبور المشروعة مطلقاً، وأن من دان بما نحن عليه سقطت عنه جميع التبعات حتى الديون، وأنا لا نرى حقاً لأهل البيت رضوان الله عليهم، وأنا نجبرهم على تزويج غير الكفء لهم، وأنا نجبر بعض الشيوخ على فراق زوجته الشابة لتنكح شاباً إذا ترافعوا إلينا ...

_ 1 سورة محمد من الآية: 19.

فلا وجه لذلك فجميع هذه الخرافات وأشباهها لما استفهمنا عنها من ذكر أولا (يعني علماء مكة) كان جوابنا في كل مسألة من ذلك {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} 1. فمن روى عنا شيئاً من ذلك أو نسبه إلينا فقد كذب علينا وافترى، ومن شاهد حالنا وحضر مجالسنا وتحقق ما عندنا علم قطعاً أن جميع ذلك افتراه علينا أعداء الدين وإخوان الشياطين تنفيراً للناس عن الإذعان بإخلاص التوحيد لله تعالى بالعبادة وترك أنواع الشرك الذي نص الله عليه بأن الله لا يغفره {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 2. فإنا نعتقد أن من فعل أنواعاً من الكبائر كقتل المسلم بغير حق والزنا وشرب الخمر، وتكرر منه ذلك أنه لا يخرج بفعله ذلك عن دائرة الإسلام، ولا يخلد في دار الانتقام إذا مات موحداً بجميع أنواع العبادة، والذي نعتقده أن ربتة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعلى مارتب المخلوقين على الإطلاق، وأنه حي في قبره حياة برزخية أبلغ من حياة الشهداء المنصوص عليها في التنزيل، إذ هو أفضل منهم بلا ريب، وأنه يسمع سلام المسلم عليه وتسن زيارته إلا أنه لا يشد الرحل إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه وإذا قصد مع ذلك الزيارة فلا بأس، ومن أنفق نفيس أوقاته بالاشتغال بالصلاة عليه، عليه الصلاة والسلام الواردة عنه فقد فاز بسعادة الدارين وكفى همه وغمه كما جاء في الحديث عنه، ولا ننكر كرامات الأولياء ونعترف لهم بالحق، وأنهم على هدى من ربهم

_ 1 سبقت. 2 سورة النساء من الآية: 116.

مهما ساروا على الطريقة الشرعية والقوانين المرعية، إلا أنهم لا يستحقون شيئاً من أنواع العبادات لا حال الحياة ولا بعد الممات، بل يطلب من أحدهم الدعاء في حال حياته بل ومن كل مسلم فقد جاء في الحديث: " دعاء المرء المسلم مستجاب لأخيه "1 الحديث. وأمر صلى الله عليه وسلم عمر وعلياً بسؤال الاستغفار من أويس ففعلا. ونثبت الشفاعة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة حسب ما ورد، وكذلك نثبتها لسائر الأنبياء، والملائكة والأولياء، والأطفال حسب ما ورد أيضاً. ونسألهم من المالك لها والآذن فيها لمن يشاء من الموحدين الذين هم أسعد الناس بها كما ورد بأن يقول أحدنا متضرعاً: اللهم شفع نبينا محمداً فينا يوم القيامة، اللهم شفع فينا عبادك الصالحين، أو ملائكتك، أو نحو ذلك مما يطلب من الله لا منهم، فلا يقال يا رسول الله أو يا ولي الله أسألك الشفاعة أو غيرها كأدركني أو أغثني أو اشفني أو انصرني على عدوي ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى –فإذا طلب ذلك مما ذكر في أيام البرزخ كان من أقسام الشرك، إذ لم يرد بذلك نص من كتاب أو سنة ولا أثر من السلف الصالح في ذلك، بل ورد في الكتاب والسنة وإجماع السلف أن ذلك شرك أكبر قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم2 ... انتهى.

_ 1 رواه مسلم ولفظه: "دعوة المرئ المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة" في الذكر باب فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب/ مسلم بشرح النووي ص 50، المجلد التاسع، ورواه ابن ماجه في المناسك باب فضل دعاء الحاج، تحقيق عبد الباقي ص 967، ج م. 2 الدرر السنية 1/127-129.

هذا وقد انبرى كثير من العلماء بعد وفاة الشيخ رحمه الله للإجابة عن هذه الشبهات وألفوا في ذلك مؤلفات ضخمة أشهرها: 1) مصباح الظلام في الرد على من كذب على الشيخ الإمام، ونسب إليه تكفير أهل الإسلام في مجلد. وهو للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن من آل الشيخ رحمهم الله. 2) معارج القبول، للشيخ الحسين بن مهدي النعمي من علماء اليمن في مجلد. 3) غاية الأماني في الرد على النبهاني للشيخ محمود شكري الألوسي، من علماء العراق وهو في مجلدين. 4) صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان للشيخ محمد بن بشير السهسواني الهندي في مجلد. وهكذا يقيض الله سبحانه للحق أنصاراً في كل زمان تقوم بهم حجة الله على خلقه، فلله الحمد والمنة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

رد أوهام أبي زهرةفي حق شيخ الإسلام ابن تيمة وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً به وتوحيداً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً مزيداً. أما بعد ... فإنه كان من الواجب علينا احترام علمائنا في حدود المشروع كما قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} . وقال صلى الله عليه وسلم: "وإن العلماء ورثة الأنبياء. وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب "، ولا سيما العلماء المجددون لدين الله والدعاة المخلصون إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن –فكان حقهم علينا الاقتداء بهم واحترامهم والترحم عليهم، والدعاء لهم لقاء ما قاموا به من الواجب وما بينوه من الحق وردوا من الباطل- إلا أننا نجد بدلاً من ذلك من بعض حملة الأقلام والمتطفلين على العلم والتأليف من يكيل التهم في حقهم ويرميهم بما هم بريئون منه ويحاول صرف الناس عن دعوتهم بدافع الحقد أو سوء الاعتقاد –أو الاعتماد على ما يقوله أعداؤهم وخصومهم- ومن ذلك أني قد اطلعت على كتاب بعنوان تاريخ المذاهب الإسلامية في السياسة والعقائد، وتاريخ المذاهب الفقهية، للشيخ محمد أبي زهرة، تعرض فيه لإمامين عظيمين وداعيين إلى الله مخلصين هما: شيخ الإسلام ابن تيمية وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله، ووجه ضدهما نفس التهم التي يروجها ويرددها أعداؤهما المظلون في كل زمان، حيث تروعهما دعوة الإصلاح

وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ويريدون أن يبقى الناس في ظلام ويعيشوا في ضلال حتى يتسنى لخرافاتهم أن تروج، وما كان يليق بباحث يتحرى الحقيقة مثل الشيخ أبي زهرة أن يعتمد في حق هذين الإمامين الجليلين على كلام خصومهما بل كان الواجب عليه وعلى كل باحث منصف أن يرجع إلى من يريد أن يقدم للناس معلومات عنه من كتبه ويوثق ذلك بذكر اسم الكتاب المنقول عنه. مع ذكر الصفحة السطر. حتى تحصل القناعة التامة من صحة ما يقول، لأننا والحمد لله في عصر قد وضعت فيه ضوابط البحث العلمي. وأصبح لا يقبل فيه إطلاق القول على عواهنه من غير تقيد بتلك الضوابط –وفوق هذه الضوابط هناك وقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى وسؤال عما يقوله الإنسان ويكتبه في حق غيره من اتهام وكذب. قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} . إلا أن الشيخ أبا زهرة تجاهل ذلك كله، ونسب إلى الشيخين الإمامين الجليلين –الشيخ تقي الدين ابن تيمية، والشيخ محمد بن عبد الوهاب ما لا يليق بمقامهما وما يتنزهان عنه من التهم الباطلة والتهجم السخيف اعتماداً على ما يقوله عنهما خصومهما وما يروجه المخرفون ضدهما، غير متقيد بضوابط البحث العلمي، ولا خائف من الوعيد الذي توعد الله به من أقدم على مثل هذا العمل، وإليك بيان هذه التهم مع الرد عليها، سائلين الله تعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.

أولاً: ما نسبه إلى شيخ الإسلام ابن تيمية: 1- في صفحة 187 قال إنه أضاف إلى مذهب السلف أموراً أخرى قد بعثت إلى التفكير فيها. أقول هذا من الافتراء على شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قد أحدث أموراً من عند نفسه وزادها على مذهب السلف، وهو اتهام خطير قد برأ الله منه شيخ الإسلام فإنه لم يزد شيئاً ولم يخترع شيئاً من عند نفسه، وإنما دعا إلى مذهب السلف وبينه ودافع عنه بأمانة وإخلاص. يشهد لذلك أن ما في كتبه ورسائله يتطابق تمام التطابق مع ما ذكره الأئمة قبله في كتبهم، وهو إنما ينقل كلامهم ويعزوه إلى مصادره المعروفة من غير زيادة ولا نقصان. وأبو زهرة لم يذكر مثالاً واحداً يدل على صدق ما يقول. 2- في صفحة 193 قال: وعلى ذلك يقرر ابن تيمية أن مذهب السلف هو إثبات كل ما جاء في القرآن الكريم من فوقية وتحتية واستواء على العرش ووجه ويد ومحبة وبغض، وما جاء في السنة من ذلك أيضاً من غير تأويل وبالظاهر الحرفي، فهل هذا هو مذهب السلف حقاً، ونقول في الإجابة عن ذلك: والقائل أبو زهرة. لقد سبقه بهذا الحنابلة في القرن الرابع الهجري كما بينا وادعوا أن ذلك مذهب السلف. وناقشهم العلماء في ذلك الوقت وأثبتوا أنه يؤدي إلى التشبية والجسمية لا محالة، وكيف لا يؤدي إليها والإشارة الحسية إليه جائزة، لهذا تصدى لهم الإمام الفقيه الحنبلي الخطيب ابن الجوزي ونفى أن يكون ذلك مذهب السلف، ونفى أيضاً أن يكون ذلك رأي الإمام

أحمد ... انتهى كلامه وفيه من الخلط والكذب ما لا يخفى وبيان ذلك كما يلي: (أ) اتهم شيخ الإسلام ابن تيمية واتهم معه الحنابلة بأنهم نسبوا إلى السلف ما لم يقولوه ولم يعتقدوه في صفات الله تعالى، وهذا اتهام ظاهر البطلان، فإن ما قاله الحنابلة وقاله شيخ الإسلام موجود في كلام الأئمة الأربعة وغيرهم وفي كتبهم، وقد نقل ذلك عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية وعزاه إلى مصادره من كتبهم التي يوجد غالبها في أيدي الناس اليوم، وانظر على سبيل المثال ما ذكره عنهم في الرسالة الحموية. (ب) اتهم الشيخ بأنه ينسب إلى السلف وصف الله بالتحتية حيث قال: يقرر ابن تيمية أن مذهب السلف هو إثبات كل ما جاء في القرآن الكريم من فوقية وتحتية، وهذا كذب على القرآن الكريم وعلى الشيخ –فإنه لم يرد في القرآن ذكر التحتية في حق الله تعالى الله عن ذلك، لأنها لا تليق به. ولم يقل الشيخ ذلك ولم ينسبه إلى السلف، لكنه التخبط الأعمى والتخليط العجيب من أبي زهرة. (ج) اتهم القرآن بأنه جاء بالتشبية والتجسيم، وما لا يليق بالله تعالى، واتهم السلف الصالح بأنهم لا يعتقدون ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية من وصف الله بالفوقية والاستواء على العرش، وأن له يدا ووجهاً وأنه يحب ويبغض، لأن ذلك بزعمه يؤدي إلى التشبيه والجسمية، وهذا معناه أن القرآن جاء بالباطل وأن السلف يخالفون الكتاب والسنة في أهم الأمور وهو العقيدة فماذا بقي بعد ذلك. وما الذي يوافقون فيه الكتاب والسنة، ولم يذكر دليلاً على ذلك إلا ما نقله من كلام ابن الجوزي، وكلام ابن الجوزي لا يحتج به من ناحيتين:

1) أنه معروف باتجاهه المخالف لعقيدة السلف في الصفات وكلام المخالف لا يحتج به على خصمه. 2) أن كلام أئمة السلف ومنهم الإمام أحمد يبطل ما قاله ابن الجوزي وكلامهم موجود –بحمد الله- في كتبهم المتداولة المعروفة التي نقل منها شيخ الإسلام ابن تيمية. (د) قال أبو زهرة: وكيف لا يؤدي إليهما والإشارة الحسية إليه جائزة –يعني كيف لا يؤدي إثبات ما دل عليه الكتاب والسنة من صفات الله إلى التشبيه والتجسيم، وقد جاء في الحديث أن الله يشار إليه بالأصبع في جهة العلو كما أشار إليه أعلم الخلق به صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع- وهذا بزعم أبي زهرة يؤدي إلى التشبية والتجسيم فهو باطل –وهذا مصادمة للحديث الصحيح بسبب توهم باطل. فإن الإشارة إلى الله سبحانه في جهة العلو ووصفه بما ثبت في الكتاب والسنة في صفات الكمال لا يؤديان إلى التشبيه لأن الله ليس كمثله شيء، فله صفات تخصه لا يشاركه فيها أحد، وأما لفظ التجسيم فهو لفظ محدث لم يرد نفيه ولا إثباته في حق الله تعالى ولم يتكلم فيه السلف، وإنما ورد في الكتاب والسنة تنزيه الله عن التشبيه والتمثيل وهو الذي ينفيه السلف عن الله تعالى. 3- ينسب التفويض إلى شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول في صفحة 195 أن هذا يؤدي عند ابن تيمية إلى أن الأسلم هو التفويض الذي يدعيه وينسبه إلى السلف الصالح فيأخذ الألفاظ بظواهرها الحرفية ويطلقها على معانيها الظاهرة في أصل الدلالة. ولكنه يقرر أنها ليست

كالحوادث ويفوض فيما بعد ذلك ولا يفسر، ويقول إن محاولة التفسير زيغ، فابن تيمية يعتقد أنه بهذا يجمع بين التفسير والتفويض، فهو يفسر بالمعنى الظاهر وينزه عن الحوادث ويفوض في الكيف والوصف، انتهى المقصود من كلامه وهو كما ترى فيه من الخلط والركاكة والكذب على الشيخ الشيء الكثير –وهو بين أمرين: إما أنه لم يفهم كلام الشيخ ... وإما أنه يفهمه لكنه يحاول الالتواء والتلبيس، فإن الشيخ رحمه الله يقرر في سائر كتبه أن مذهب السلف وهو المذهب الذي يعتقده ويدين الله به، وكل مريد للحق يعتقده ويدين به: أن نصوص الصفات تجري على ظواهرها وتفسر بمعناها الذي تدل عليها ألفاظها من غير تأويل ولا تحريف، وأما كيفيتها فيجب تفويضها إلى الله سبحانه لأنه لا يعلمها إلا هو، وهذا هو الذي يقرره علماء السلف في كتبهم، وفيما يروي عنهم بالأسانيد الصحيحة، أن المعنى معلوم والكيف مجهول في كل الصفات. فالتفويض إنما هو للكيفية، وأما المعاني فهي معلومة مفسرة لا تفويض فيها ولا غموض. ولا يلزم من إثبات صفات الله بالمعاني التي دلت عليها النصوص تشبيه الله بخلقه، لأن لله صفات تخصه وتليق به، وللمخلوقين صفات تخصهم وتليق بهم ولا يلزم من الاشتراك في المعنى الكلي الموجود في الأذهان بين صفات الله وصفات خلقه الاشتراك في الحقيقة والكيفية الخارجية، وقد أثبت الله لنفسه تلك الصفات ونفى عنه نفسه المماثلة والمشابهة للمخلوقات، فقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فأثبت له السمع والبصر، ونفى عنه أن يماثله شيء، وهكذا سائر الصفات، فدل على أن إثبات

الصفات لا يلزم منه التشبيه. كما يقوله أبو زهرة وأضرابه –ومن العجب أن يحتج على بطلان ما ذكره شيخ الإسلام من إثبات صفات الله على ما يليق به سبحانه بمخالفة الغزالي والماتوريدي وابن الجوزي له. ويرجح مذهبهم فيقول: ولذلك نحن نرجح منهاج الماتوريدي، ومنهاج ابن الجوزي ومنهاج الغزالي. هكذا يرغب أبو زهرة عن مذهب السلف إلى مذهب هؤلاء (وللناس فيما يعشقون مذاهب) لكنه استبدل الباطل بالحق، واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير (بئس للظالمين بدلاً) . 4- ينسب القول بالمجاز إلى الصحابة فيقول إن الصحابة كانوا يفسرون بالمجاز إن تعذر إطلاق الحقيقة. كما يفسرون بالحقيقة في ذاتها، هكذا قال في حق الصحابة، ينسب إليهم القول بالمجاز في تفسير كلام الله وأنهم يتركون الحقيقة وكأنه بهذا يريد أن ينسب إلى الصحابة نفي الصفات وحمل نصوصها على خلاف الحقيقة. وكفى بهذا تقولاً على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون دليل ولا برهان، لكنه الهوى والانتصار للباطل. وهذا تجاوز من اتهام ابن تيمية إلى اتهام الصحابة بما هم بريئون منه، فإنه لم يعرف المجاز إلا متأخراً أحدثه الأعاجم الذين ليسوا حجة في اللغة والتفسير. 5- في صفحة 199 نسب إلى الشيخ القول بأن الله لا ييسر الإنسان لفعل الشر. حيث قال: وبهذا يقرر ابن تيمية ثلاثة أمور –ثالثها: أنه الله تعالى ييسر فعل الخير ويرضاه ويحبه ولا ييسر فعل الشر ولا يحبه وهو في هذا يفترق عن المعتزله كذا قال.

وهذا كذب على الشيخ، لأنه كغيره من أئمة الهدى يرون أن الله قدر الخير والشر، وأنه لا يجري في ملكه ما لا يريد –فالشر يجري على العبد بسبب تصرفاته السيئة وهو من قبل الله تعالى قدراً وبإرادته الكونية –قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اعملوا فكل ميسر لما خلق له ". 6- في صفحة 199-200 يقول: أما ابن تيمية فيرى أنه لا تلازم بين الأمر والإرادة. فالله سبحانه وتعالى يريد الطاعات ويأمر بها، ولا يريد المعاصي التي تقع من بني آدم وينهى عنها، وإرادته للمعاصي من ناحية إرادة أسبابها. انتهى ... وأقول: في هذا الذي نسبه إلى الشيخ إجمال ينبغي تفصيله، فقوله لا تلازم بين الأمر والإرادة. الصواب: أن يقال لا تلازم بين الأمر الشرعي والإرادة الكونية. فقد يأمر شرعاً بما لا يريده كوناً. مثل الإيمان من الكافر. وقد يريد كونا ما لا يأمر به شرعاً، مثل الكفر والمعاصي، وذلك لأن الإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة كونية وإرادة شرعية، والأمر ينقسم إلى قسمين: أمر كوني، وأمر شرعي. فالإرادة الكونية والأمر الكوني ليس من لازمهما المحبة والرضا، وأما الإرادة الشرعية والأمر الشرعي فمن لازمهما المحبة والرضا، وهذا التقسيم هو الذي يتمشى مع منهج الشيخ الذي هو منهج السلف المبني على أدلة الكتاب والسنة فالله لا يأمر بالمعاصي ولا يريدها ولا يرضاها شرعاً، لكنه أرادها وأمر بها كوناً وقدراً، لأنه لا يقع في ملكه ما لا يريد، قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ

نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} أي أمرناهم بذلك كوناً وقدراً. وقال تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} ، {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . 7- في صفحة 201 يختم أبو زهرة مباحثه حول القدر بقوله: (هذه نظرات ابن تيمية في مسائل الجبر والاختيار وتعليل أفعال الله سبحانه وتعالى، وهو يسند دائماً ما يراه إلى السلف الصالح من الصحابة والتابعين. انتهى. وكأنه بهذا التعبير يتهم الشيخ في أنه ينسب إلى السلف بمجرد رأيه ما ليس من مذهبهم، وهذه التهمة يبطلها الواقع. فإن الشيخ رحمه الله لم ينسب إلى السلف إلا ما هو موجود في كتبهم وما ثبتت روايته عنهم، والشيخ أتقى لله من أن يتقول على السلف ما لم يقولوه، لكن أبا زهرة لم يراجع كتب الشيخ أو أنه يتعمد التلبيس. 8- في الصحفات: 202-206 لما ذكر كلام الشيخ في منع التوسل بالأموات والاستغاثة بهم ومنع زيارة القبور لقصد التبرك بها وطلب الحاجات من الموتى ومنع السفر لزيارتها، قال بعد ذلك: ولقد خالف ابن تيمية بقوله هذا جمهور المسلمين، بل تحداهم في عنف بالنسبة لزيارة قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم والنذر لها، ونحن نوافق إلى حدّ ما على قوله في زيارة قبور الصالحين والنذر لها، ولكن نخالفه مخالفة تامة في زيارة الروضة الشريقة، وذلك لأن الأساس الذي بني عليه منع زيارة الروضة الشريفة بقصد التبرك والتيمن هو خشية الوثنية وإن ذلك خوف من

غير مخاف، فإنه إذا كان في ذلك تقديس لمحمد فهو تقديس لنبي الوحدانية وتقديس نبي الوحدانية إحياء لها إذ هو تقديس للمعاني التي بعث بها ... إلى أن قال: وإن الحديث الذي رواه ابن تيمية وغيره وهو " ألا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى"، يدل على شرف المسجد الذي دفن بجواره وقد دفن ببيت عائشة الذي كان أقرب بيوت أزواجه إليه، وقد كان متصلاً بالمسجد. وأنه لو أريد منع زيارة قبره لدفن في مكان بعيد كالبقيع. ثم قال: وبعد فإننا نقرر أن التبرك بزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم مستحسن، وليس التقرب الذي نقصده عبادة أو قريباً منها إنما التبرك هو التذكر والاعتبار والاستبصار. انتهى المقصود من كلامه، وهو يدل على ما عنده من جهل وتخليط وتخبط، وأقول في بيان ذلك ما يلي: (1) قوله: ولقد خالف ابن تيمية بقوله هذا –يعني منع التوسل بالموتى والتبرك بالقبور والاستغاثة بالموتى- خالف جمهور المسلمين. والجواب: أن الشيخ رحمه الله قد وافق في قوله هذا إجماع المسلمين فلم يخالفه واحد منهم ونعني بالمسلمين أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين والقرون المفضلة ومن تبعهم بإحسان، وإنما خالفه بعض من جاء بعدهم من المخرفين والقبوريين وهؤلاء لا يعتد بخلافهم وليسوا جمهور المسلمين وإن سماهم هو بذلك فالعبرة بالحقائق لا بالتسميات. وإنما هم من الشواذ المنتسبين إلى الإسلام. (ب) قوله: ونحن نوافق إلى حد ما على قوله في زيارة قبور الصالحين والنذر لها –معناه أنه لا يوافق موافقة تامة على منع زيارة قبور الصالحين للتبرك بها والاستغاثة بأصحابها والنذر لها، وهذا يدل على أنه يسمح

بشيء من ذلك مع أنه عبادة لغير الله وشرك أكبر، ولا يخفى ما في هذا من التساهل في شأن الشرك وعدم اهتمامه بالعقيدة. (جـ) وقوله: ولكن نخالفه مخالفة تامة في زيارة الروضة الشريفة، وذلك لأن الأساس الذي بني عليه منع زيارة الروضة الشريفة بقصد التبرك والتيمن هو خشية الوثنية، وأن ذلك خوف من غير مخاف، فإنه إذا كان في ذلك تقديس لمحمد فهو تقديس لنبي الوحدانية وتقديس نبي الوحدانية إحياء لها. والجواب عن ذلك أن نقول: أولاً: الشيخ رحمه الله لا يمنع زيارة الروضة الشريفة بقصد الصلاة فيها فنسبة المنع إليه غير صحيحة. بل هو يرى استحباب ذلك كغيره من علماء المسلمين عملاً بالسنة الصحيحة. ثانياً: زيارة الروضة الشريفة إنما القصد منها شرعاً هو الصلاة فيها لقوله صلى الله عليه وسلم: " ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة "، وليس القصد من زيارتها التبرك والتيمن بها وتقديس محمد صلى الله عليه وسلم كما يزعم أبو زهرة، لأن هذا مقصد شركي أو بدعي. ثالثاً: التقديس قد يكون غلواً ممنوعاً. ومحمد صلى الله عليه وسلم حقه علينا المحبة والمتابعة والعمل بشرعه وترك ما نهى عنه، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن إطرائه وهو المبالغة في مدحه، ولما قال له رجل: "ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله نداً، قل ما شاء الله وحده"، وليس تقديس المخلوق تقديساً لله كما يقول: بل قد يكون شركاً بالله عز وجل إذا تجاوز الحد. (د) وقوله: إن حديث "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد" يدل على شرف المسجد الذي دفن بجواره.. الجواب عنه: أن شرف المسجد

النبوي ليس من أجل كون قبر النبي صلى الله عليه وسلم بجواره، فإن فضله ثابت قبل دفن النبي صلى الله عليه وسلم بجواره، لأنه أول مسجد أسس على التقوى ولأنه مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم كما في قوله صلى الله عليه وسلم: " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة " ولم يقل بعد موتي. والمساجد الثلاثة فضلت على غيرها لكونها مساجد الأنبياء لا من أجل القبور أو مجاروة القبور، بل لأنها أسست على التوحيد والطاعة، لا على الشرك والخرافة. (هـ) قوله: وقد دفن يعني النبي صلى الله عليه وسلم ببيت عائشة الذي كان أقرب بيوت أزواجه إليه –يعني المسجد- وقد كان متصلاً بالمسجد وأنه لو أريد منع زيارة قبره لدفن في مكان بعيد عن المسجد كالبقيع ... الجواب عنه: أولاً: أن هذا كلام من لا يعرف ما جاء في السنة من الأحاديث الموضحة لملابسات دفنه صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة رضي الله عنها وما هو القصد من ذلك –فإنه صلى الله عليه وسلم لما مرض استأذن أزواجه أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها لمحبته لها ومحبة قربها منه وتمريضها له، فأذن له في ذلك، ولما توفي صلى الله عليه وسلم دفن في المكان الذي توفي فيه. لأن الأنبياء يدفنون حيث يموتون. كما جاء في الحديث، والقصد من ذلك خشية أن يفتتن بقبره صلى الله عليه وسلم لو دفن في مكان بارز فيتخذ مسجداً وعيداً مكانياً، وقد كان صلى الله عليه وسلم يحذر من ذلك فيقول: "لا تتخذوا قبري عيداً " ويقول: " اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد "، وقد روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها. فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود

والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً". هذا هو القصد من دفنه صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة. وهو حماية التوحيد وحماية قبره أن يتخذ مسجداً، وليس القصد ما توهمه الخرافيون، أنه دفن في بيت عائشة لأجل القرب من المسجد والتبرك بقبره صلى الله عليه وسلم، فقد كان يحذر من اتخاذ القبور مساجد والتبرك بها، ومن بناء المساجد على القبور، لأن هذا من وسائل الشرك. فدفنه صلى الله عليه وسلم في بيته لمنع هذه الأشياء أن تمارس عند قبره. ثانياً: زيارة قبره صلى الله عليه وسلم الزيارة الشرعية ليست ممنوعة. بل هي مستحبة كزيارة قبر غيره إذا كان ذلك بدون سفر وكان القصد السلام عليه والدعاء له صلى الله عليه وسلم. ثالثاً: قوله: وأنه لو أريد منع زيارة قبره لدفن في مكان بعيد عن المسجد كالبقيع. أقول معنى هذا الكلام أنه صلى الله عليه وسلم دفن في حجرة عائشة لأجل أن يزار ويتبرك بقبره على حد قوله. وهذا فهم يخالف ما جاء في الحديث الصحيح الذي تقدم ذكره. وهو أنه دفن في بيته لمنع أن يتخذ قبره مسجداً، ثم إن دفنه في البقيع أمكن لزيارة قبره والتبرك به من دفنه في بيته. عكس ما يقوله أبو زهرة: فلو كان ما يقوله مشروعاً لدفن في البقيع لتمكين الناس من هذه المقاصد التي قالها. (و) قوله: وإنا لنعجب من استنكاره لزيارة الروضة للتيمن والاستئناس مع ما رواه عن الأئمة الأعلام من تسليمهم على النبي صلى الله عليه وسلم كلما مروا بقبره الشريف، وكانوا يذهبون إليه كلما همو بسفر أو أقبلوا من سفر.

الجواب عنه أن نقول: أولاً: لا عجب فيما ذكرت لأن استنكار ذلك هو الحق، فإن زيارة الروضة للتبرك والتيمن مقصد شركي بدعي، لم يشرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما شرع زيارتها للصلاة فيها وعبادة الله فيها. ثانياً: وأما قوله إن الأئمة الأعلام يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم كلما مروا بقبره أو هموا بسفرة. فهو قول لا أصل له ولا دليل عليه، ولم يروه الشيخ عنهم وإنما روى عنهم خلافه، وهو أنهم لم يكونوا يترددون على قبر النبي صلى الله عليه وسلم كلما دخلوا المسجد، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك فقال: " لا تتخذوا قبري عيداً " أي لا تترددوا عليه وتجتمعوا حوله. وإنما كانوا يسلمون عليه إذا قدموا من سفر، كما كان ابن عمر يفعل ذلك إذا قدم من سفر ولا يزيد على قوله: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبي، ثم ينصرف، ثم ما علاقة التسليم على الرسول بالروضة، لأن الروضة في المسجد وقبر الرسول كان خارج مسجده في عهد الصحابة رضي الله عنهم. (ز) وقوله: وبعد: فإننا نقرر أن التبرك بزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم مستحسن، وليس التبرك الذي نقصده عبادة أو قريباً منها، إنما التبرك هو التذكر والاعتبار، والاستبصار. والجواب عن ذلك أن نقول: أولا التقرب بقبر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من البقاع والأشجار والأحجار أمر مستقبح وليس مستحسناً إلا عند الجهال والقبوريين، وهو شرك بالله لكونه تعلق على غير الله. وطلب البركة من غيره. ولما رأى بعض الصحابة وكانوا حدثاء عهد بالإسلام أن المشركين يتبركون بشجرة، وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم شجرة مثلها يتبركون بها استنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك

استنكاراً شديداً، وقال: "قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، قال إنكم قوم تجهلون"، فدل هذا الحديث على أن من تبرك بشجرة أو حجر أو قبر أو بقعة فقد أشرك بالله واتخذ المتبرك به إلها، هذا إن كان يقصد التبرك بذات القبر. ثانياً: وأما قوله: وليس التبرك الذي نقصده عبادة أو قريباً منها، إنما التبرك هو التذكر والاعتبار والاستبصار. فالجواب عنه: أن هذا من جهله بمعنى العبادة وعدم تفريقه بين التبرك وبين التذكر والاعتبار –أو هو يتجاهل ذلك من أجل التلبيس على الناس، فالعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال- ومنها الرغبة والرهبة والرجاء، ومنها التبرك وهو طلب البركة، ويكون بأسمائه سبحانه. فالتبرك بغير الله شرك، إلا التبرك بشعر النبي صلى الله عليه وسلم ووضوئه، فهذا خاص به صلى الله عليه وسلم لأن الله جعله مباركاً. ولا يمكن ذلك إلا في حال حياته ووجوده. ولم يكن الصحابة يتبركون بمنبره ولا بقبره ولا حجرته، وهم خير القرون وأعلم الأمة بما يحل وما يحرم فلو كان جائزاً لفعلوه. وبعد أن انتهينا من رد ما نسبه شيخ الإسلام ابن تيمية ننتقل إلى رد ما نسبه إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب فنقول: ثانياً: ما نسبه إلى شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله. 1- اعتبر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب نحلة ومذهباً محدثاً مستقلاً أطلق عليه لفظ الوهابية وعده من جملة المذاهب الضالة التي أدرجها تحت عنوان مذاهب حديثة وهي الوهابية والبهائية والقاديانية.

ومن المعلوم وواقع دعوة الشيخ أنه ليس صاحب مذهب جديد، وإنما هو في العقيدة على مذهب السلف أهل السنة والجماعة، وفي الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، ولم يستقل ولا بمسألة واحدة عن هؤلاء. فكيف يعتبره أبو زهرة صاحب مذهب جديد ويدرجه ضمن المذاهب الضالة الكفرية والنحل الفاسدة قاتل الله الجهل والهوى والتقليد الأعمى وإذا كان هو يعيب على الوهابية ما توهمه من تكفيرهم للناس فكيف يبيح لنفسه هذا الذي عابه على غيره؟ 2- ثم قال: ومنشيء الوهابية هو محمد بن عبد الوهاب. وقد درس مؤلفات ابن تيمية فراقت في نظره وتعمق فيها وأخرجها من حيز النظر إلى حيز العمل. هكذا قال عن مرتبة الشيخ محمد بن عبد الوهاب العلمية أنه لم يدرس إلا مؤلفات ابن تيمية، وكأنه لم يقرأ ترجمة الشيخ وسيرته ولم يعرف شيئاً عن تحصيله العلمي، أو أنه عرف ذلك وكتمه بقصد التقليل من شأنه والتغرير بمن لم يعرف شيئاً عن الشيخ، ولكن هذا لا يستر الحقيقة، ولا يحجب الشمس في رابعة النهار، فقد كتب المنصفون عن الشيخ رحمه الله مؤلفات كثيرة، انتشرت في الأقطار وعرفها الخاص والعام، وأنه رحمه الله تعمق في دراسة الفقه والتفسير والحديث والأصول، وكتب العقيدة التي من جملتها مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم. وقد تخرج على أيدي علماء أفذاذ، وأئمة كبار في مختلف الفنون في بلاد نجد والحجاز والإحساء والبصرة.

وقد أجازوه في مروياتهم وعلومهم وقد ناظر ودرس وأفتى وألف في الفقه والحديث والعقيدة، حتى نال إعجاب من اجتمع به أو استمع إلى دروسه ومناظراته أو قرأ شيئاً من مؤلفاته، ومؤلفاته تدل على سعة أفقه وإدراكه في علوم الشريعة وسعة اطلاعه وفهمه. ولم يقتصر فيما ذكر في تلك المؤلفات على كتب ابن تيمية –كما يظن هذا الجاهل أو المتجاهل- بل كان ينقل آراء الأئمة الكبار في الفقه والتفسير والحديث، مما يدل على تبحره في العلوم وعمق فهمه ونافذ بصيرته. وها هي كتبه المطبوعة المتداولة شاهدة بذلك –والحمد لله. ولم يكن رحمه الله يأخذ من آراء شيخ الإسلام ابن تيمية ولا من آراء غيره إلا ما ترجح لديه بالدليل- بل لقد خالف شيخ الإسلام في بعض الآراء الفقهية. 3- ثم قال عمن أسماهم بالوهابية: وأنهم في الحقيقة لم يزيدوا بالنسبة للعقائد شيئاً عما جاء به ابن تيمية ولكنهم شددوا فيها أكثر مما تشدد ورتبوا أموراً علمية لم يكن قد تعرض لها ابن تيمية لأنها لم تشتهر في عهده ويتلخص ذلك فيما يأتي: (1) لم يكتفوا بجعل العبادة كما قررها الإسلام في القرآن والسنة، وكما ذكر ابن تيمية، بل أرادوا أن تكون العبادات أيضاً غير خارجة على نطاق الإسلام فيلتزم المسلمون ما التزم1، ولذا حرموا الدخان وشددوا في التحريم حتى أن العامة منهم يعتبرون المدخن كالمشرك، فكانوا يشبهون الخوارج الذين كانوا يكفرون مرتكب الذنب.

_ 1 كذا قال والعبارة ركيكة متناقضة.

(2) وكانوا في أول أمرهم يحرمون على أنفسهم القهوة وما يماثلها، ولكن يظهر أنهم تساهلوا فيها فيما بعد. (3) إن الوهابية لم تقتصر على الدعوة المجردة بل عمدت إلى حمل السيف لمحاربة المخالفين لهم، باعتبار أنهم يحاربون البدع، وهي منكر تجب محاربته ويجب الأخذ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. (4) أنها كانت كلما مكن لها من قرية أو مدينة أتت على الأضرحة هدماً وتخريباً. (5) أنهم تعلقوا بأمور صغيرة ليس فيها وثنية ولا ما يؤدي إلى وثنية، وأعلنوا استنكارها مثل التصوير الفوتوغرافي، ولذلك وجدنا ذلك في فتاواهم ورسائلهم التي كتبها علماؤهم. (6) أنهم توسعوا في معنى البدعة توسعاً غريباً حتى أنهم ليزعمون أن وضع الستائر على الروضة الشريفة أمر بدعي، ولذلك منعوا تجديد الستائر عليها، إلى أن قال: وإننا لنجد فوق ذلك منهم من يعد قول المسلم: سيدنا محمد بدعة لا تجوز، ويغلون في ذلك غلواً شديداً- إلى أن قال: وإنه يلاحظ أن علماء الوهابيين يفرضون في آرائهم الصواب الذي لا يقبل الخطأ، وفي آراء غيرهم الخطأ الذي لا يقبل التصويب. بل إنهم يعتبرون ما عليه غيرهم من إقامة الأضرحة والطواف حولها قريباً من الوثنية –انتهى ما قاله في حق من سماهم الوهابية، ويظهر أنه قد امتلأ صدره غلا وحقداً وغيظاً عليهم فتنفس الصعداء بإفراغ بعض ما عنده –والله سبحانه عند لسان كل قائل وقلبه. {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} . وجوابنا عن ذلك من وجوه: الوجه الأول: قوله: إنهم في الحقيقة لم يزيدوا بالنسبة للعقائد شيئاً

عما جاء به ابن تيمية، معناه أن ابن تيمية في نظره جاء بعقائد ابتدعها من عنده، وأن الوهابية اعتبروه مشرعاً، وقد سبق الجواب عن هذه الفرية وبينا أن شيخ الإسلام ابن تيمية لم يبتدع شيئاً من عنده. بل كان على عقيدة السلف الصالح من الصحابة والتابعين والقرون المفضلة. لم يستحدث شيئاً من عنده، وإننا نتحدى كل من يقول مثل هذه المقالة الظالمة أن يبرز لنا مسألة واحدة خالف فيها شيخ الإسلام ابن تيمية من سبقه من سلف الأمة غاية ما في الأمر أنه جدد عقيدة السلف ونشرها وأحياها بعد ما اندرست ونسيها الكثيرون. ونقول أيضاً: إن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وغيره من أئمة الدعوة لم يقتصروا على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية بل استفادوا منها ومن غيرها من الكتب السليمة المفيدة المتمشية على منهج السلف. يعرف هذا من طالع كتبهم. الوجه الثاني: أن قوله لم يكتفوا بجعل العبادة كما قررها الإسلام في القرآن والسنة، فرية عظيمة واتهام خطير لعلماء دعوة التوحيد في نجد بأنهم ابتدعوا عبادات لم يشرعها الله ورسوله، ولكن الله فضحه وبين كذبه حيث لم يجد مثالاً لما قال إلا تحريم الدخان، وهذا مما يدل على جهله، فإن تحريم الدخان ليس من قسم العبادات وإنما هو من قسم الأطعمة والحلال والحرام. وأيضاً فإن تحريم الدخان لم يختص به علماء الدعوة في نجد بل حرمه غيرهم من علماء الأمة لخبثه وضرره. وها هي الآن تقام أنشطة مكثفة للتحذير من شرب الدخان وتوعية الناس بأضراره من قبل المنظمات الصحية العالمية.

وقوله: حتى إن العامة منهم يعتبرون المدخن كالمشرك، هذه فرية أخرى، ولو صح أن أحداً من العامة حصل منه ذلك، فالعامي ليس بحجة يعاب به أهل العلم. ولكن عوام أهل نجد والحمد لله يعرفون من الحق أكثر مما يعرفه علماء الضلال، يعرفون ما هو الشرك وما هو المحرم الذي لا يعد شركاً بما يقرؤون وما يسمعون من دروس التوحيد، وكتب العقائد الصحيحة. الوجه الثالث: قوله: كانوا في أول أمرهم يحرمون القهوة وما يماثلها –نقول: هذا كذب ظاهر. ولم يأت بما يثبت ما يقول، وما زال علماء نجد وعامتهم يشربون القهوة في مختلف العصور. وهذه كتبهم وفتاواهم ليس فيها شيء يؤيد ما يقوله. بل فيها ما يكذبه. فإن الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن رحمه الله أنكر على من قال بتحريم القهوة ورد عليه. وله في ذلك رسالة مطبوعة مشهورة. الوجه الرابع: قوله: إن الوهابية لم تقتصر على الدعوة المجردة، بل عمدت إلى حمل السيف لمحاربة المخالفين لهم باعتبار أنهم يحاربون البدع. أقول: أولاً قوله إن الوهابية لم تقتصر على الدعوة المجردة يدل على جهله، فإن الدعوة المجردة لا تكفي. مع القدرة على مجاهدة أعداء الإسلام، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالدعوة والجهاد في سبيل الله. ثانياً: قوله إنهم حملوا السيف لمحاربة من خالفهم –هذا كذب عليهم، فإنه لم يحاربوا خصومهم لمجرد مخالفتهم. بل حاربوهم لأحد

أمرين: إما للدفاع عن أنفسهم إذا اعتدى عليهم أحد، وإما لأجل إزالة الشرك إذا احتاجت إزالته إلى قتال، وتاريخ غزواتهم شاهد بذلك، وهو مطبوع متداول في أكثر من كتاب. الوجه الخامس: قوله إنها كانت كلما مكن لها من قرية أو مدينة أتت على الأضرحة هدماً وتخريباً. أقول هذا من فضائلهم وإن عده هو وأضرابه من معائبهم. لأنهم ينفذون بذلك وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله لعلي رضي الله عنه: " لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته " فأي عيب في ذلك إذا أزالوا مظاهر الوثنية. وعملوا بالسنة النبوية. ولكن أهل الجهل والضلال لا يعلمون فيعتقدون الحسن قبيحاً والقبيح حسناً، والمنكر معروفاً والمعروف منكراً، وقد تكاثرت الأدلة على تحريم البناء على القبور لأن ذلك من وسائل الشرك، فلا بد من هدم الأضرحة وإزالة مظاهر الوثنية وإن غضب أبو زهرة وأضرابه ممن يرون بقاء الأضرحة التي هي منابت الوثنية وأوكارها. الوجه السادس: قوله: إنهم تعلقوا بأمور صغيرة. ثم مثل لذلك بتحريم التصوير الفوتوغرافي. والجواب عن ذلك أولاً: أن التصوير ليس من الأمور الصغيرة بل هو من كبائر الذنوب. للأحاديث الصحيحة في النهي عنه والتحذير منه. ولعن المصورين والإخبار بأنهم أشد الناس عذاباً يوم القيامة من غير تفريق بين التصوير الفوتوغرافي وغيره –ومن فرق فعليه الدليل. والمحذور في التصوير والتعليل الذي حرم من أجله متحققان في جميع أنواع الصور فوتوغرافية أو غيرها.

وثانياً: قوله إن التصوير لا يؤدي إلى وثنية قول مردود لأن التصوير من أعظم الوسائل التي تؤدي إلى الوثنية، كما حصل لقوم نوح لما صوروا الصالحين وعلقوا صورهم على مجالسهم وآل بهم الأمر إلى أن عبدوا تلك الصور- كما ورد ذلك في صحيح البخاري وغيره عند تفسير قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} . الوجه السابع: قوله: إنهم توسعوا في معنى البدعة توسعاً غريباً حتى أنهم ليزعمون أن وضع ستائر على الروضة الشريفة أمر بدعي ولذلك منعوا تجديد الستائر عليها. والجواب: عن ذلك أن نقول: أولاً: هو لا يدري ما هي الروضة الشريفة فيظن أنها الحجرة النبوية –وليس الأمر كذلك فالروضة في المسجد. وهي ما بين منبر النبي صلى الله عليه وسلم وبيته، لقوله صلى الله عليه وسلم: " ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة "، والحجرة النبوية خارج الروضة، وكانت خارج المسجد قبل التوسعة. ثانياً: الروضة لا يمكن وضع ستائر عليها ولا يتصور وإنما يقصد الحجرة النبوية يريد أن تجعل مثل الأضرحة القبورية فتجعل عليها الستور كما على الأضرحة وهذا لا يجوز. أولاً: لأنه لم يكن من عمل السلف الصالح من الصحابة والتابعين والقرون المفضلة، فلم يكن عليها ستائر في وقتهم. وثانياً: لأنه وسيلة إلى الشرك، بل ستر سائر الحيطان إسراف لا ينبغي فعله قال في المغني (7/9) غير الكعبة المشرفة.

(فأما ستر الحيطان بستور غير مصورة فإن كان لحاجة من وقاية حر أو برد فلا بأس به. لأنه يستعمله في حاجته فأشبه الستر على الباب وما يلبسه على بدنه –وإن كان لغير حاجة فهو مكروه وعذر في الرجوع عن الدعوة (يعني إلى الوليمة) وترك الإجابة. بدليل ما روى سالم بن عبد الله بن عمر قال: أعرست في عهد أبي أيوب فآذن أبي الناس فكان أبو أيوب فيمن آذن وقد ستروا بيتي بخباء أخضر. فأقبل أبو أيوب مسرعاً فاطلع فرأى البيت مستتراً بخباء أخضر. فقال: يا عبد الله أتسترون الجدر، فقال أبي –واستحيا- غلبتنا النساء يا أبا أيوب، فقال: من خشيت أن يغلبنه فلم أخش أن يغلبنك- ثم قال: لا أطعم لكم طعاماً، ولا أدخل لكم بيتاً. ثم خرج. رواه الأثرم. وروي عن عبد الله ابن يزيد الخطمي أنه دعى إلى طعام فرأى البيت منجداً فقعد خارجاً وبكى. قيل له: ما يبكيك- قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قد رقع بردة له بقطعة أدم فقال: تطالعت عليكم الدنيا –ثلاثاً- ثم قال: أنتم اليوم خير أم إذا غدت عليكم قصعة وراحت أخرى، ويغدو أحدكم في حلة ويروح في أخرى. وتسترون بيوتكم كما تستر الكعبة. قال عبد الله: أفلا أبكي وقد بقيت حتى رأيتكم تسترون بيوتكم كما تستر الكعبة. وقد روى الخلال بإسناده عن ابن عباس وعلي بن الحسين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن تستر الجدر، وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرنا فيما رزقنا أن نستر الجدر. انتهى. الوجه الثامن: قوله: وإنا لنجد فوق ذلك منهم من يعد قول المسلم سيدنا محمد بدعة، لا تجوز ويغلون في ذلك غلواً شديداً.

والجواب: عن ذلك أن نقول: هذا كذب من القول، فعلماء الدعوة يثبتون ما ثبت للنبي صلى الله عليه وسلم من الصفات الكريمة ومنها أنهم يعتقدون أنه سيد ولد آدم وأفضل الخلق على الإطلاق، لكنهم يمنعون الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم" ويمنعون الابتداع. ومن ذلك أن يقال سيدنا في المواطن التي لم يرد قول ذلك فيها، كالآذان والإقامة والتشهد في الصلاة، وكذا رفع الأصوات قبل الآذان يقول: اللهم صل وسلم على سيدنا رسول الله أو بعد أداء الصلوات كما يفعله المبتدعة بأصوات جماعية، وهذا هو الذي أظنه يقصده في كلامه –حيث يراه يفعل عندهم فظنه مشروعاً. وهذا هو الذي ينكره علماء الدعوة في المملكة العربية السعودية وينكره غيرهم من أهل التحقيق والعمل بالسنة وترك البدعة في كل مكان –لأنه بدعة وكل بدعة ضلالة، وغلو في حقه صلى الله عليه وسلم والغلو ممنوع. أما قول سيدنا رسول الله في غير مواطن البدعة فعلماؤنا لا ينكرونه بل يعتقدونه ويقولون هو سيدنا وإمامنا صلى الله عليه وسلم. الوجه التاسع: قوله: وفي سبيل دعوتهم يغلظون في القول حتى إن أكثر الناس لينفرون منهم أشد النفور. والجواب عن ذلك أن نقول: أولاً هذا الكلام من جملة الاتهامات التي لا حقيقة لها –وهذه كتب علمائنا ورسائلهم والحمد لله ليس فيها تغليظ إلا فيما يشرع فيه التغليظ وليس فيها تنفير. وإنما فيها الدعوة إلى الله بالبصيرة والحكمة والموعظة الحسنة وكتبهم في ذلك مطبوعة ومتداولة ومنتشرة وكل من اتصل بهم فإنه يثني عليهم، وقد كتب المنصفون عنهم الشيء الكثير في تاريخهم الماضي والحاضر من

حسن السياسة وصدق المعاملة والوفاء بالعهود والرفق بالمسلمين. وأكبر شاهد على ذلك من يفد إلى مكة المشرفة للحج والعمرة كل عام وما يشاهدونه من العناية بخدمة الحجيج وبذل الجهود في توفير راحتهم مما أطلق الألسنة والأقلام بالثناء عليهم وعلى حكومتهم وكذلك من يفدون إلى المملكة للعمل فيها يشهد أكثرهم بذلك. ثانياً: وأما قوله: حتى أن أكثر الناس لينفرون منهم أشد النفور، فهو من أعظم الكذب وخلاف الواقع. فإن الدعوة التي قاموا بها من عهد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله إلى هذا العهد هي الدعوة إلى الإسلام وإخلاص التوحيد والنهي عن الشرك والبدع والخرافات وقد لاقت هذه الدعوة قبولاً في أرجاء العالم وانتشرت انتشاراً واسعاً في كثير من الأقطار، وما هو على صعيد الواقع الآن أكبر شاهد وأعظم دليل على ما ذكرنا. ويتمثل ذلك فيما تبذله الحكومة السعودية أدام الله بقاءها وسدد خطاها بتوجيه من علمائها ورغبة من حكامها بفتح الجامعات الإسلامية التي تخرج الأفواج الكثيرة من أبناء العالم الإسلامي على حسابها. ويتمثل ذلك أيضاً في إرسال الدعاة إلى الله في مختلف أرجاء العالم. وفي توزيع الكتب المفيدة وبذل المعونات السخية للمؤسسات الإسلامية. ومد يد العون للمعوزين في العالم الإسلامي. وإقامة المؤتمرات والندوات وبناء المساجد والمراكز الإسلامية لتبصير المسلمين بدينهم. مما كان له أعظم الأثر والقبول الحسن –والحمد لله- وهذا واقع مشاهد. وهو يبطل قول هذا الحاقد: إن أكثر الناس لينفرون منهم أشد النفور- لكن كما قال الشاعر: لي حيلة فيمن ينم ومالي في الكذاب حيلة من كان يخلق ما يقول فحيلتي فيه قليلة

الوجه العاشر: قوله: وإنه يلاحظ أن علماء الوهابيين يفرضون في آرائهم الصواب الذي لا يقبل الخطأ، وفي رأي غيرهم الخطأ الذي لا يقبل التصويب. والجواب عنه أن نقول: هذا من جنس ما قبله من التهجم الكاذب الذي لا حقيقة له، فهذه كتب علمائنا ومناقشاتهم لخصومهم ليس فيها شيء مما ذكره. بل فيها ما يكذبه من بيان الحق وتشجيع أهله. ورد الباطل بالحجة والبرهان ودعوة أهله إلى الرجوع إلى الحق بالحكمة والموعظة الحسنة، ولم يدعوا لأنفسهم العصمة من الخطأ ويرفضوا ما عند غيرهم من الصواب كما وصمهم بذلك. وهذا إمامهم وكبيرهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يقول في إحدى رسائله التي وجهها لخصومه1. وأرجو أني لا أرد الحق إذا أتاني، بل أشهد الله وملائكته وجميع خلقه إن أتانا منكم كلمة من الحق لأقبلنها على الرأس والعين ولأضربن الجدار بكل ما خالفها من أقوال أئمتي. حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإنه لا يقول إلا الحق –انتهى- وكلهم والحمد لله على هذا المنهج الذي قاله الشيخ. الوجه الحادي عشر: قوله بل إنهم يعتبرون ما عليه غيرهم من إقامة الأضرحة والطواف حولها قريباً من الوثنية. والجواب عنه أن نقول: كلامه هذا يدل على جهله بمعنى الوثنية، فلم يدر أنها تتمثل في تعظيم القبور بالبناء عليها والطواف حولها وطلب الحوائج من أصحابها والاستغاثة لهم. فلذلك استغرب استنكار ذلك واعتباره من الوثنية، وكأنه لم يقرأ ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية من استنكار الاستشفاع بالموتى، واتخاذهم أولياء ليقربوا

_ 1 الدرر السنية 1/32.

إلى الله زلفى. ولم يقرأ نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن البناء على القبور واتخاذها مساجد ولعن من فعل ذلك– وإذا لم تكن إقامة الأضرحة والطواف حولها وثنية فما هي الوثنية- لكن كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "تنقض عرى الإسلام عرورة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية" ألم يكن شرك قوم نوح متمثلاً في دعاء الأموات، ألم تكن اللات ضريحاً لرجل صالح كان يَلُتُّ السويق للحاج فلما مات عكفوا عند قبره وطافوا حوله. ولو كان هذا الكلام صادراً عن عامي لا يعرف الحكم لهان الأمر، لأن العامي جاهل وتأثيره على الناس محدود. لكن الذي يؤسفنا أن يكون صادراً عمن يدعي العلم وقد صدرت عنه مؤلفات كثيرة. فهذا قد يكون تأثيره على الناس –خصوصاً- محدودي الثقافة شديداً نظراً لكثرة مؤلفاته وسمعته الواسعة وإحسان الظن به، ولكن الحق سينتصر بإذن الله {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} والعلم لا يقاس بكثرة الاصدرات وإنما يقاس بمدى معرفة الحق من الباطل والهدى من الضلال والعمل بذلك، وإلا فكيف يتصور من مسلم فضلاً من ينتسب إلى العلم أن يتفوه بأن الطواف بالأضرحة ليس من الوثنية، أليس الطواف عبادة. وصرف العبادة لغير الله وثنية وشرك، فالطائف بالأضرحة إن كان قصده التقرب إليها بذلك فلا شك أن هذا شرك أكبر، لأنه تقرب بالعبادة إلى غير الله –وإن كان قصده بالطواف حول الضريح التقرب إلى الله وحده فهذه بدعة ووسيلة إلى الشرك، لأن الله لم يشرع الطواف إلا حول الكعبة المشرفة، ولا يطاف بغيرها على وجه الأرض، هذا وإننا ندعو كل من بلغه شيء من تشويه دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب أو قرأ شيئاً من الكتب التي تروج هذا التشويه أمثال كتب الشيخ محمد أبي زهرة فعليه أن يتثبت وأن يراجع كتب

الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكتب العلماء الذين جاءوا من بعده وحملوا دعوته ليرى فيها تكذيب تلك الشائعات، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} . وكتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكتب علماء الدعوة من بعده ميسورة والحمد لله وهي توزع على أوسع نطاق عن طريق الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ومكاتبها في الداخل والخارج وفي موسم الحج كل سنة، وهي لا تدعو إلى مذهب معين أو نحلة محدثة. وإنما تدعو إلى العمل بكتاب الله وسنة رسوله ومذهب أهل السنة والجماعة ونبذ البدع والخرافات والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته – وسلف الأمة والقرون المفضلة. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

§1/1