من أعلام السلف

أحمد فريد

الإمام الأعمش

سلسلة من أعلام السلف_الإمام الأعمش من أعلام السلف وعلمائهم وأئمتهم الإمام الأعمش رحمه الله الذي رفعه الله بالعلم، حتى لقد كان السلاطين أحقر الناس في مجلسه، وقد عرف عنه الدعابة، ومع ذلك كان من أعبد الناس.

بين يدي ترجمة الأعمش رحمه الله

بين يدي ترجمة الأعمش رحمه الله إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: فمع علم جديد من أعلام السلف، وهو من علماء الكوفة ومن صغار التابعين، اسمه سليمان بن مهران الملقب بـ الأعمش، له علم وفضل وملح ونوادر، إمام في القرآن والحديث، لقب بالمصحف لصدقه، وكانوا يصححون مصاحفهم من حفظه، فقد كانت المصاحف تكتب باليد، لكنهم كانوا يصححون مصاحفهم المكتوبة من قراءته. كان فقيراً من الدنيا ولكنه كان مليئاً من العلم. قال عيسى بن يونس: ما رأينا الأغنياء والسلاطين في مجلس قط أحقر منهم في مجلس الأعمش، وهو محتاج إلى درهم. قال أبو نعيم في وصفه: ومنهم الإمام المقرئ الراوي المفتي، كان كثير العمل قصير الأمل، مع ربه راهباً ناسكاً، ومع عباده داعباً ضاحكاً، يعني: إشارة إلى كثرة مزاحه. سليمان بن مهران الأعمش تتلمذ عليه الأكابر، كـ شعبة وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة، وكان أعلم الناس بحديث عبد الله بن مسعود. فهو من صغار التابعين، وتتلمذ عليه أئمة كبار أتباع التابعين. وكان أعلم الناس بحديث عبد الله بن مسعود، رأى أنس بن مالك، ولكنه لم يرو عنه إلا بواسطة، وكانت له عجائب ونوادر وملح سنذكر شيئاً منها في غضون الترجمة، فرحمه الله وسائر الأئمة الأعلام والعلماء الكرام.

نسب الأعمش رحمه الله ومولده وصفته

نسب الأعمش رحمه الله ومولده وصفته اسمه: سليمان بن مهران الأسدي الكاهلي مولاهم أبو محمد الكوفي الأعمش، وكاهل هو: ابن أسد بن خزيمة، أصله من نواحي الري. فقيل: ولد بقرية أمه من أعمال طبرستان في إحدى وستين، وقدموا به إلى الكوفة طفلاً، وقيل: حملاً. صفته: عن ابن عيينة قال: رأيت الأعمش لبس فرواً مقلوباً، وثياباً تسيل خيوطه على رجليه، ثم قال: أرأيتم لولا أني تعلمت العلم من كان يأتيني؟ لو كنت بقالاً كان يقذرني الناس أن يشتروا مني. فانظروا إلى شرف العلم، وكيف أن العلم يرفع العبد المملوك حتى يجلسه مجالس الملوك، كما ورد في الصحيح: أن عمر بن الخطاب لقى نافع بن الحارث بعسفان، وعسفان ما بين مكة والمدينة، وهي أقرب إلى مكة، وكان قد استخلفه عمر على أهل الوادي، فلما لقيه قال: (من استخلفت على أهل الوادي؟ قال: ابن أبزى. قال: من ابن أبزى؟ قال: رجل من موالينا -والمولى يطلق على العبد، ويطلق على العبد الذي أعتق - فقال: رجل من موالينا، فقال عمر رضي الله عنه: استخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله عالم بالفرائض، فقال عمر رضي الله عنه: ألا إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: إن الله ليرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين). وعن أبي بكر بن عياش قال: رأيت الأعمش يلبس قميصاً مقلوباً فيقول: الناس مجانين، يلبسون الخشن مقابل جلودهم. وعن أبي هشام قال: سمعت عمي يقول: قال عيسى بن موسى لـ ابن أبي ليلى: اجمع الفقهاء. كان عيسى بن موسى أميراً، فأمر ابن أبي ليلى أن يجمع الفقهاء فجمعهم، فجاء الأعمش في جبة فرو وقد ربط وسطه بشريط فأبطئوا، فقام الأعمش فقال: إن أردتم أن تعطونا شيئاً وإلا فخلوا سبيلنا، فقال: يا ابن أبي ليلى! قلت لك تأتي بالفقهاء تجيء بهذا؟ قال: هذا سيدنا الأعمش.

ثناء العلماء على الأعمش رحمه الله

ثناء العلماء على الأعمش رحمه الله قال أحمد بن عبد الله العجلي: الأعمش ثبت، وكان محدث الكوفة في زمانه. ويقال: إنه كان له أربعة آلاف حديث، ولم يكن له كتاب، أي: كان ضبطه ضبط صدر وليس ضبط كتاب. قال: وكان يقرأ القرآن وهو رأس فيه، وكان فصيحاً. وقال عيسى بن يونس: لم نر نحن مثل الأعمش، وما رأيت الأغنياء عند أحد أحقر منهم عنده مع فقره وحاجته. قال الذهبي: كان عزيز النفس قنوعاً، وله رزق على بيت المال في الشهر خمسة دنانير، قررت له في آخر عمره. وعن ابن عيينة قال: سبق الأعمش الناس بأربع: كأن أقرأهم للقرآن، وأحفظهم للحديث، وأعلمهم بالفرائض، وذكر خصلة أخرى. وقال أحمد: أبو إسحاق والأعمش رجلا أهل الكوفة، يعني: في زمنهم. وأبو إسحاق هو السبيعي. وقال محمد بن سعد: وكان الأعمش صاحب قرآن وفرائض وعلم بالحديث، قرأ عليه طلحة بن مصرف القرآن، وكان يقرئ الناس، ثم ترك ذاك في آخر عمره، وكان يقرأ القرآن في كل شعبان على الناس في كل يوم شيئاً معلوماً حين كبر وضعف، ويحضرون مصاحفهم فيعرضونها ويصلحونها على قراءته. وعن عيسى بن يونس قال: ما رأينا في زماننا مثل الأعمش، ولا الطبقة الذين كانوا قبلنا، وما رأينا الأغنياء والسلاطين في مجلس قط أحقر منهم في مجلس الأعمش، وهو محتاج إلى درهم. وكان القاسم بن عبد الرحمن يقول: ليس أحد أعلم بحديث عبد الله من الأعمش. وذلك لأن عبد الله بن مسعود سكن الكوفة، وكان الأعمش من علماء الكوفة، فكان أعلم الناس بحديث عبد الله بن مسعود. وعن ضرار بن صرد قال: ما كان هذا العلم إلا في العرب وأشراف الملوك. فقال له رجل من جلسائه: وأي نبل كان في الأعمش؟ قال شريك: أما لو رأيت الأعمش ومعه لحم يحمله وسفيان الثوري عن يمينه وشريك عن يساره، وكلاهما ينازعه حمل اللحم لعلمت أن ثم نبلاً كثيراً. وعن إسحاق بن راشد قال: قال لي الزهري: وبالعراق أحد يحدث؟ قلت: نعم. قلت له: هل لك أن آتيك بحديث بعضهم؟ فقال لي: نعم. فجئته بحديث سليمان الأعمش، فجعل ينظر فيها ويقول: ما ظننت أن بالعراق من يحدث مثل هذا؟ قال: قلت: وأزيدك؟ هو من مواليهم. وقال علي بن المديني: حفظ العلم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ستة، فلأهل مكة عمرو بن دينار، ولأهل المدينة ابن شهاب الزهري، ولأهل الكوفة أبو إسحاق السبيعي وسليمان بن مهران، ولأهل البصرة يحيى بن أبي كثير وقتادة. وقال شعبة: ما شفاني أحد في الحديث ما شفاني الأعمش. وقال عبد الله بن داود الخريبي: سمعت شعبة إذا ذكر الأعمش قال: المصحف، المصحف. وقال عمر بن علي: كان الأعمش يسمى المصحف من صدقه. وقال محمد بن عمار الموصلي: ليس في المحدثين أثبت من الأعمش ومنصور بن المعتمر، ومنصور أفضل من الأعمش إلا أن الأعمش أعرف بالمسند وأكثر مسنداً منه.

الأعمش والتدليس

الأعمش والتدليس قال الذهبي: الأعمش أبو محمد أحد الأئمة الثقات، عداده في صغار التابعين، ما نقموا عليه إلا التدليس. والتدليس يعني: إخفاء عيب في الحديث، والتدليس على أقسام. تدليس الشيوخ: وهو أن المشهور بالاسم يذكر بالكنية أو ينسب إلى اسم غير مشهور به حتى يوعر الطريق إلى معرفته. وهناك تدليس الإسناد وهو: أن يسقط شيخاً ضعيفاً بين ثقتين ويكون هذا الشيخ الذي أسقط هو شيخه الأقرب. وهناك تدليس آخر يسمى تدليس التسوية وهو: أن يسقط ضعيفاً بين ثقتين ولا يكون هذا الضعيف شيخه الأقرب. وتدليس التسوية أسوأ أنواع التدليس؛ لأنه يصرح بالتحديث من شيخه فيقول: حدثنا فلان فيكون فلان ثقة، ثم يسقط ضعيفاً في بقية السند فيقول: عن فلان، فيكون الذي أسقط ضعيفاً، والعنعنة أو الأنأنة صيغة توهم السماع وليس فيها تصريح بالسماع؛ ولذلك كان شعبة يقول: كفيتكم تدليس الأعمش، يعني: كان ينظر إلى فمه فإذا قال: حدثنا كتب، وإذا قال عن فلان لم يكتب. فالحاصل: أن التدليس ليس كذباً، وإنما المدلس يسقط ضعيفاً في السند فيخفي عيباً فيه، ولا يكون الدافع للتدليس هنا دائماً هو الغش أو توعير الطريق إلى معرفة السند، ولكن أحياناً يكون للتجمل، كأن يروي شخص عن شيخ أحاديث كثيرة جداً، فيذكره مرة بالاسم ومرة بالكنية من أجل أن يجمل الحديث، ويكون هذا الشيخ ثقة ليس ضعيفاً، أو أنه يريد أن يوهم أن السند مرتفع، فيسقط شيخه لتقليل عدد الرواة، وعلى هذا لا يكون الدافع للتدليس هو الغش، وقد وقع في التدليس جماعة من كبار الأئمة؛ كـ الأعمش وكـ سفيان الثوري، إذ كان يدلس عن الضعفاء، وكذلك سفيان بن عيينة، ولكن لم يكن يدلس إلا عن ثقة. قال الإمام الشافعي في الرسالة: من دلس لنا مرة فقد كشف عن عورته في الرواية، فلا نقبل منه إلا التصريح بالسماع. يعني: الذي ثبت تدليسه لا يقبل منه شيء إلا أن يقول: حدثنا أو أخبرنا، فإذا عنعن أو أنأن في الحديث، كأن يقول: أن فلان أو عن فلان قال كذا، فلا يقبل منه. قال الذهبي: قال جرير بن عبد الحميد: سمعت مغيرة يقول: أهلك أهل الكوفة أبو إسحاق وأعيمشكم هذا. كأنه عنى الرواية عمن جاء، وإلا فـ الأعمش عدل صادق ثبت صاحب سنة وقرآن، ويحسن الظن بمن يحدثه ويروي عنه، ولا يمكننا أن نقطع عليه بأنه علم ضعف ذلك الذي يدلسه، فإن هذا حرام. وقال الذهبي في خاتمة ترجمته في الميزان: وهو يدلس، وربما دلس عن ضعيف ولا يدري به، فمتى قال: (حدثنا) فلا كلام، ومتى قال: (عن) تطرق إليه احتمال التدليس، إلا في شيوخ له أكثر عنهم، كـ إبراهيم -يعني: النخعي - وابن أبي وائل وأبي صالح السمان، فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال. وقال ابن المديني: الأعمش كان كثير الوهم في أحاديث هؤلاء الضعفاء.

عبادة الأعمش رحمه الله تعالى

عبادة الأعمش رحمه الله تعالى قال وكيع بن الجراح: كان الأعمش قريباً من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى. وعندما تسمعون عن مزاحه تتعجبون كيف حرصه على العبادة بهذه الطريقة. وقال عبد الله الخريبي: ما خلف الأعمش أعبد منه. وعن عبد الرزاق قال: أخبرني بعض أصحابنا: أن الأعمش قام من النوم لحاجة فلم يصب ماءً، فوضع يده على الجدار فتيمم ثم نام، فقيل له في ذلك؟ قال: أخاف أن أموت على غير وضوء. وعن إبراهيم بن عرعرة قال: سمعت يحيى القطان إذا ذكر الأعمش قال: كان من النساك، وكان محافظاً على الصلاة في الجماعة وعلى الصف الأول، وهو علامة الإسلام، وكان يحيى - يعني: القطان - يلتمس الحائط حتى يقوم في الصف الأول. وعن أبي نعيم قال: قال عبد السلام: كان الأعمش إذا حدث يتخشع ويعظم العلم.

شيوخ الأعمش رحمه الله وتلاميذه

شيوخ الأعمش رحمه الله وتلاميذه شيوخه: قال الحافظ: روى عن أنس ولم يثبت له منه سماع. يعني: أنه رآه، ولكنه لم يسمع منه، وإنما روى عنه بواسطة، وعبد الله بن أوفى يقال: مرسل، وزيد بن وهب وأبي وائل وأبي عمرو الشيباني وقيس بن أبي حازم وإسماعيل بن رجاء وأبي صخرة جامع بن شداد وأبي ظبيان بن جندب وخيثمة بن عبد الرحمن الجعفي وسعيد بن عبيدة وأبي حازم الأشجعي وسليمان بن مسهر وطلحة بن مصرف وأبي سفيان طلحة بن نافع وعامر الشعبي وإبراهيم النخعي وعبد الله بن مرة وعبد العزيز بن رفيع وعبد الملك بن عمير وعدي بن ثابت وعمارة بن عمير وعمارة بن القعقاع ومجاهد بن جبر وأبي الضحى ومنذر الثوري وهلال بن يساف وخلق كثير. قال الحافظ: وعنه -أي: روى عنه- الحكم بن عتيبة وزبيد اليامي وأبو إسحاق السبيعي وهو من شيوخه، وسليمان التيمي وسهيل بن أبي صالح وهو من أقرانه، ومحمد بن واسع وشعبة والسفيانان وإبراهيم بن طهمان وجرير بن حازم وأبو إسحاق الفزاري وإسرائيل وزائدة وأبو بكر بن عياش وشيبان النحوي وعبد الله بن إدريس وابن المبارك وابن نمير والخريبي وعيسى بن يونس وفضيل بن عياض ومحمد بن عبد الرحمن الطفاوي وهشيم وأبو شهاب الحناط وخلائق من أواخرهم أبو نعيم وعبيد الله بن موسى.

ملح من أخبار الأعمش رحمه الله

ملح من أخبار الأعمش رحمه الله قال الذهبي: وكان مع جلالته في العلم والفضل صاحب مزاح. قيل: إنه جاءه أصحاب الحديث يوماً فخرج فقال: لولا أن في منزلي من هو أبغض إلي منكم ما خرجت إليكم. وسأله داود الحائك: ما تقول يا أبا محمد! في الصلاة خلف الحائك؟ فقال: لا بأس بها على غير وضوء. قيل: فما تقول في شهادة الحائك؟ قال: تقبل مع عدلين. وقيل: إن الأعمش كان له ولد مغفل، فقال: اذهب فاشتر لنا حبلاً للغسيل. فقال: يا أبت! طول كم؟ قال: عشرة أذرع، قال: في عرض كم؟ قال: في عرض مصيبتي فيك.

درر من أقوال الأعمش رحمه الله

درر من أقوال الأعمش رحمه الله عن حفص بن غياث قال: سمعت الأعمش يقول: يوشك إن احتبس علي الموت إن وجدته بالثمن اشتريته. وعن الحسن بن صالح عن الأعمش قال: إنا كنا لنشهد الجنازة فلا ندري من نعزي من حزن القوم. يعني: من حزن الجميع لا يعرف أهل الميت. وعن منصور بن أبي الأسود قال: سألت الأعمش عن قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129] ما سمعتهم يقولون فيه؟ قال: سمعتهم يقولون: إذا فسد الناس أمر عليهم شرارهم. قال حميد: سمعت أبي يقول: سمعت الأعمش يقول: لا تنثروا اللؤلؤ تحت أظلاف الخنازير، يعني: لا تبذلوا العلم لمن لا يستحقه. وقيل لـ حفص بن أبي حفص الأبار: رأيت الأعمش؟ قال: نعم، وسمعته يقول: إن الله يرفع بالعلم أو بالقرآن أقواماً ويضع به آخرين، وأنا ممن يرفعني الله به، لولا ذلك لكان على عنقي دم صحن أطوف به في سكك الكوفة. ومر أنه كان يقول: لو كنت بقالاً لقذرني الناس -يعني: ما أتوه- ومع ذلك كان يذهب إليه الأكابر؛ لما عنده من العلم، وكان الأغنياء أحقر الناس حين يكونون في مجلسه، وهو محتاج إلى درهم.

وفاة الأعمش رحمه الله

وفاة الأعمش رحمه الله عن أبي بكر بن عياش قال: دخلت على الأعمش في مرضه الذي توفي فيه، فقلت: أدعو لك الطبيب؟ قال: ما أصنع به؟ لو كانت نفسي معي لطرحتها في الحش، إذا أنا مت فلا تؤذنن بي أحداً، واذهب بي واطرحني في لحدي. قال الذهبي: يقال: مات الأعمش في ربيع الأول سنة (148هـ) بالكوفة.

الإمام الشافعي

سلسلة من أعلام السلف_الإمام الشافعي الإمام الشافعي أحد أئمة المذاهب المتبعة، ناصر الحق وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، طلب العلم منذ نعومة أظفاره، ونبغ فيه وفاق أقرانه، كان عابداً ورعاً تقياً لا يخاف في الله لومة لائم، له المصنفات الكثيرة والنادرة، وهو أول من صنف في أصول الفقه وأحكام القرآن، أخذ عن جملة من العلماء وأخذ عنه كذلك مشاهير العلماء كأحمد بن حنبل وغيره، وأثنى عليه العلماء ثناء عطراً، فرحمنا الله وإياه رحمة الأبرار.

التعريف بالإمام الشافعي

التعريف بالإمام الشافعي إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: فما زلنا مع علماء السلف رضي الله عنهم، ونحن اليوم مع إمام من أئمة المذاهب المتبعة، ناصر الحق والسنة محمد بن إدريس الشافعي، نتعرف على اسمه ونسبه ومولده ونشأته وصفته رحمه الله. اسمه: محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب. كنيته: أبو عبد الله، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يلتقي معه في جده عبد مناف، فرسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم بن عبد مناف، وإمامنا الشافعي من بني المطلب بن عبد مناف، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد). قال الإمام النووي: اعلم أنه رضي الله عنه كان من أنواع المحاسن بالمحل الأعلى والمقام الأسنى؛ لما جمعه الله له من أنواع المكرمات، فمن ذلك شرف النسب الطاهر، والعنصر الباهر، واجتماعه هو ورسول الله صلى الله عليه وسلم في النسب، وذلك غاية الشرف ونهاية الحسب. ومن ذلك: شرف المولد والمنشأ؛ فإنه ولد بالأرض المقدسة ونشأ بمكة. مولده ونشأته: قال الذهبي رحمه الله: اتفق مولد الإمام رحمه الله بغزة، ومات أبوه إدريس شاباً فنشأ محمد يتيماً في حجر أمه فخافت عليه الضيعة، فتحولت إلى محتده وهو ابن عامين -يعني: انتقلت به من غزة إلى مكة وهو ابن عامين- فنشأ بمكة وأقبل على الرمي حتى فاق الأقران، وصار يصيب من عشرة أسهم تسعة، ثم أقبل على العربية والشعر فبرع في ذلك وتقدم، ثم حبب إليه الفقه فساد أهل زمانه. والإمام الشافعي يعتبر من أذكياء العالم. قال العليمي: أبو عبد الله الشافعي الإمام الأعظم والحبر المكرم أحد الأئمة المجتهدين الأعلام، إمام أهل السنة وركن الإسلام، لقي جده شافع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مترعرع، وكان أبوه السائب -والد شافع- صاحب راية بني هاشم يوم بدر، فأسر وفدى نفسه ثم أسلم، فقيل له: لم لم تسلم قبل أن تفدي نفسك؟ فقال: ما كنت أحرم المسلمين طعماً لهم في، فأراد أن يكون سبباً في الرزق للمسلمين، ففدى نفسه ثم أسلم. ولد الإمام الشافعي بغزة من بلاد الشام على الأصح في سنة (150هـ) وهي السنة التي مات فيها أبو حنيفة النعمان، فقد ولد الإمام أبو حنيفة سنة (80هـ)، ومات سنة (150هـ)، أما الإمام الشافعي فإنه ولد سنة (150هـ)، ومات سنة (204هـ)، فعاش (54) سنة رحمه الله، وقيل: إن الشافعي ولد في اليوم الذي مات فيه أبو حنيفة. وقيل: كان مولده بعسقلان وقيل: باليمن، ونشأ بمكة وكتب العلم بها وبمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدم بغداد مرتين، وخرج إلى مصر فنزلها وكان وصوله إليها في سنة (199هـ)، ومكث في مصر خمس سنين وأفتى بها، وعندما يقولون: قال الشافعي في الجديد، فيقصدون ما كتبه وهو في مصر، وهي الخمس السنين الأخيرة من عمره؛ فإنه مكث في مكة فترة وفي بغداد فترة، ومر على بلاد كثيرة، وقيل: دخل مصر سنة (201هـ) ولم يزل بها إلى حين وفاته. صفته رحمه الله: روى أبو نعيم بسنده عن إبراهيم بن برانة قال: وكان الشافعي طويلاً نبيلاً جسيماً. وقال الزعفراني: كان الشافعي يخضب بالحناء، خفيف العارضين. يعني: خفيف شعر اللحية في العارضين. وقال المزني: ما رأيت أحسن وجهاً من الشافعي، وكان ربما قبض على لحيته فلا تفضل على قبضته.

طلب الإمام الشافعي للعلم ونبوغه فيه

طلب الإمام الشافعي للعلم ونبوغه فيه ابتداء طلبه للعلم ونبوغه فيه: روى أبو نعيم بسنده عن أبي بكر بن إدريس وراق الحميدي -أي: الذي كان يحمل أوراقه التي يكتب فيها الحديث- عن الشافعي قال: كنت يتيماً في حجر أمي ولم يكن معها ما تعطي المعلم، وكان المعلم قد رضي مني أن أخلفه إذا قام، فلما ختمت القرآن دخلت المسجد، فكنت أجالس العلماء فأحفظ الحديث أو المسألة، وكان منزلنا بمكة في شعب الخيف، فكنت أنظر إلى العظم يلوح فأكتب فيه الحديث والمسألة، وكانت لنا جرة قديمة فإذا امتلأ العظم طرحته في الجرة. وروى البيهقي بسنده عن مصعب بن عبد الله الزبيري قال: كان الشافعي في ابتداء أمره يطلب الشعر وأيام الناس والأدب، ثم أخذ في الفقه بعد. قال: وكان سبب أخذه في الفقه أنه كان يوماً يسير على دابة له، خلفه كاتب أبي، فتمثل الشافعي ببيت من الشعر فقرعه كاتب أبي بسوط ثم قال له: مثلك تذهب مروءته في مثل هذا، أين أنت عن الفقه؟ قال: فهزه ذلك فقصد مجالسة مسلم بن خالد الزنجي وكان مفتي مكة، ثم قدم علينا فلزم مالك بن أنس. وروى البيهقي كذلك عن أبي بكر الحميدي قال: قال الشافعي: خرجت أطلب النحو والأدب فلقيني مسلم بن خالد فقال: يا فتى من أين أنت؟ قلت: من أهل مكة؟ قال: وأين منزلك بها؟ قلت: بشعب الخيف، قال: من أي قبيلة أنت؟ قلت: من ولد عبد مناف قال: بخ بخ! لقد شرفك الله في الدنيا والآخرة، ألا جعلت فهمك هذا في الفقه كان أحسن بك؟! قال الذهبي: وعن الشافعي قال: أتيت مالكاً وأنا ابن ثلاث عشرة سنة -كذا قال، والظاهر أنه كان ابن ثلاث وعشرين سنة- فأتيت ابن عم لي والي المدينة فكلم مالكاً فقال: اطلب من يقرأ لك. قلت: أنا أقرأ، فقرأت عليه، فكان ربما قال لي لشيء قد مر: أعده فأعيده حفظاً، فكأنه أعجبه، ثم سألته عن مسألة فأجابني، ثم أخرى فقال: أنت تحب أن تكون قاضياً، وفي بعض النسخ: يجب أن تكون قاضياً. وقال النووي رحمه الله: أخذ الشافعي رحمه الله في الفقه، وحصل منه على مسلم بن خالد الزنجي وغيره من أئمة مكة ما حصل، ورحل إلى المدينة قاصداً الأخذ عن أبي عبد الله مالك بن أنس، وأكرمه مالك -رحمه الله- وعامله لنسبه وعلمه وفهمه وعقله وأدبه بما هو اللائق بها، وقرأ الموطأ على مالك حفظاً فأعجبته قراءته، فكان مالك يستزيده من القراءة لإعجابه بقراءته، ولازم مالكاً فقال له: اتق الله! فإنه سيكون لك شأن. وفي رواية أنه قال له: إن الله تعالى قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بالمعصية. ثم ولى اليمن -صار والياً أو حاكماً عليها- واشتهر من حسن سيرته وحمله الناس على السنة والطرائق الجميلة أشياء كثيرة معروفة، ثم رحل إلى العراق للاشتغال بالعلم، وناظر محمد بن الحسن -صاحب أبي حنيفة - وغيره، ونشر علم الحديث، وأقام مذهب أهله، ونصر السنة، وشاع ذكره وفضله، وتزايد تزايداً ملأ البقاع، وأذعن بفضله الموافقون والمخالفون، واعترف به العلماء أجمعون، وعظمت عند الخلائق وولاة الأمور مرتبته، وظهر من فضله في مناظرات أهل العراق وغيرهم ما لم يظهر لسواه. عكف على الاستفادة منه الصغار والكبار والأئمة الأخيار من أهل الحديث والفقه وغيرهم، ورجع كثير منهم عن مذاهب كانوا عليها إلى مذهبه، وتمسكوا بطريقته، وصنف في العراق كتابه القديم المسمى (كتاب الحجة)، ثم خرج إلى مصر سنة (199هـ)، وصنف كتبه الجديدة كلها بمصر، وسار ذكره في البلدان، وقصده الناس في الشام واليمن والعراق. لذلك فإن أكثر أهل مصر شافعية.

ثناء العلماء على الإمام الشافعي

ثناء العلماء على الإمام الشافعي ثناء العلماء عليه: قال الحافظ أبو نعيم: ومنهم الإمام الكامل العالم العامل، ذو الشرف المنيف، والخلق الظريف، له السخاء والكرم، وهو الضياء في الظلم، أوضح المشكلات، وأفصح عن المعضلات، المنتشر علمه شرقاً وغرباً، المستفيض مذهبه براً وبحراً، المتبع للسنن والآثار، المقتدي بما اجتمع عليه المهاجرون والأنصار. اقتبس عن الأئمة الأخيار فحدث عنه الأئمة الأحبار، الحجازي المطلبي أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه وأرضاه، حاز المرتبة العالية، وفاز بالمنقبة السامية، إذ المناقب والمراتب يستحقها من له الدين والحسب، وقد ظفر الشافعي بهما جميعاً. شرف العلم والعمل به، وشرف الحسب قربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشرفه في العلم ما خصه الله من تصرفه في وجوه العلم، وتبسطه في فنون الحكم، فاستنبط خفيات المعاني، وشرح بفهم الأصول والمباني، ونال ذلك بما يخص الله تعالى به قريشاً من نبل الرأي. وروى الخطيب بسنده إلى إسحاق بن راهويه قال: أخذ أحمد بن حنبل بيدي وقال: تعال حتى أذهب بك إلى من لم تر عيناك مثله، فذهب به إلى الشافعي. فالإمام الشافعي يعتبر شيخ الإمام أحمد. وبسنده أيضاً إلى عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: قلت لأبي: يا أبت أي شيء كان الشافعي فإني سمعتك تكثر من الدعاء له؟ فقال: يا بني الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، انظر هل لهذين من خلف أو منهما عوض؟ وعن أيوب بن سويد قال: ما ظننت أني أعيش حتى أرى مثل الشافعي. وقال صالح بن أحمد بن حنبل: ركب الشافعي حماره فجعل أبي يمشي والشافعي راكب وهو يذاكره، فبلغ ذلك يحيى بن معين فبعث إلى أبي في ذلك؛ فبعث إليه الإمام أحمد فقال: إنك لو كنت في الجانب الآخر من الحمار كان خيراً لك. وعن حميد بن زنجويه قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول وهو يروي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يمن على أهل دينه في رأس كل مائة سنة برجل من أهل بيتي يبين لهم أمر دينهم)، وإني نظرت في سنة مائة فإذا رجل من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عمر بن عبد العزيز -توفي سنة (101هـ) - ونظرت في المائة الثانية فإذا هو رجل من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن إدريس، توفي سنة (204هـ). وعن محمد بن الفضل البزار قال: سمعت أبي يقول: حججت مع أحمد بن حنبل فنزلنا عند أحد الناس بمكة، وخرج أبو عبد الله -يعني: أحمد بن حنبل - باكراً وخرجت أنا معه، فلما صلينا الصبح بدأت المجالس، فجئت مجلس سفيان بن عيينة، وكنت أبحث مجلساً مجلساً طلباً لـ أبي عبد الله حتى وجدته عند شاب أعرابي وعليه ثياب مصبوغة وعلى رأسه جمة فزاحمته حتى قعدت عند أحمد بن حنبل. فقلت: يا أبا عبد الله! تركت ابن عيينة وعنده الزهري يعني: محمد بن مسلم بن شهاب وعمرو بن دينار وزياد بن علاقة ومن التابعين ما الله بهم عليم؟ فقال: اسكت فإن فاتك حديث بعلو تجده بنزول فلا يضرك في دينك ولا في عقلك أو فقهك، وإن فاتك عقل هذا الفتى أخاف ألا تجده إلى يوم القيامة، ما رأيت أحداً أفقه في كتاب الله تعالى من هذا الفتى القرشي، قلت: من هذا؟ قال: محمد بن إدريس الشافعي. وعن سويد بن سعيد قال: كنا عند سفيان بن عيينة فجاء محمد بن إدريس فجلس، فروى ابن عيينة حديثاً رقيقاً فغشي على الشافعي فقيل: يا أبا محمد مات محمد بن إدريس، فقال ابن عيينة: إن كان قد مات محمد بن إدريس فقد مات أفضل أهل زمانه. قال الرازي رحمه الله: إن ثناء العلماء على الإمام الشافعي أكثر من أن يحيط به الحصر، ونحن نذكر السبب في محبتهم له وثنائهم عليه، فنقول: الناس كلهم كانوا قبل زمان الشافعي فريقين: أصحاب الحديث وأصحاب الرأي، أما أصحاب الحديث فكانوا حافظين لأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنهم كانوا عاجزين عن النظر والجدل، وكلما أورد عليهم أصحاب الرأي سؤالاً أو إشكالاً بقوا على ما في أيديهم عاجزين متحيرين. وأما أصحاب الرأي فكانوا أصحاب الجدل والنظر إلا أنهم كانوا فارغين من معرفة الآثار والسنن، وهي مدرسة الكوفة، وأما الشافعي فإنه كان عارفاً بسنة النبي صلى الل

عبادة الإمام الشافعي وزهده وورعه

عبادة الإمام الشافعي وزهده وورعه عبادته وزهده وورعه. قال بحر بن نصر: ما رأيت ولا سمعت أتقى لله ولا أورع من الشافعي، ولا أحسن صوتاً منه بالقرآن. وعن الحسين الكرابيسي قال: بت مع الشافعي ثمانين ليلة فكان يصلي نحو ثلث الليل، وما رأيته يزيد على خمسين آية فإذا أكثر فمائة، وكان لا يمر بآية رحمة إلا سأل الله لنفسه وللمؤمنين أجمعين، ولا يمر بآية عذاب إلا تعوذ بالله منها، وسأل النجاة لنفسه ولجميع المؤمنين، فكأنما جمع له الرجاء والرحمة معاً. وعن بحر بن نصر قال: كنا إذا أردنا أن نبكي قال بعضنا لبعض: قوموا بنا إلى هذا الفتى المطلبي نقرأ القرآن، فإذا أتيناه استفتح القرآن حتى تتساقط الناس بين يديه، ويكثر عجيجهم بالبكاء، فإذا رأى ذلك أمسك عن القراءة من حسن صوته. وعن الربيع بن سليمان قال: كان الشافعي قد جزأ الليل ثلاثة أجزاء: الثلث الأول يكتب، يعني: الحديث، والثلث الثاني: يصلي، والثلث الثالث: ينام. وعن حرملة قال: قال الشافعي: ما حلفت لله صادقاً ولا كاذباً. وقال الحارث بن مسكين: أراد الشافعي الخروج إلى مكة فأسلم إلى قصارٍ -يعني: خياطاً- ثياباً بغدادية مرتفعة، فوقع الحريق فاحترق دكان القصار والثياب، فجاء القصار ومعه قوم، فتحمل بهم على الشافعي في تأخيره ليدفع إليه قيمة الثياب. فقال له الشافعي: قد اختلف أهل العلم في تضمين القصار -يعني: هل يضمن ثمن ما ضاع عنده- ولم أتبين أن الضمان يجب، فلست أضمنك شيئاً. وعن الحارث بن شريح قال: دخلت مع الشافعي على خادم للرشيد وهو في بيت قد فرش بالديباج يعني: بالحرير، فلما وضع الشافعي رجله على العتبة أبصره فرجع، ولم يدخل، فقال له الخادم: ادخل، فقال: لا يحل افتراش هذا، فقام الخادم فتبسم حتى دخل بيتاً قد فرش بالأرض، فدخل الشافعي، ثم أقبل عليه فقال: هذا حلال وهذا حرام، وهذا أحسن من ذلك وأكثر ثمناً، فتبسم الخادم وسكت. وعن الربيع قال: قال عبد الله بن عبد الحكم للشافعي: إن عزمت أن تسكن البلد -يعني: مصر- فليكن لك قوت سنة، ومجلس من السلطان تتعزز به. فقال له الشافعي: يا أبا محمد من لم تعزه التقوى فلا عز له، ولقد ولدت بغزة، وربيت بالحجاز، وما عندنا قوت ليلة وما بتنا جياعاً. وقيل للشافعي: ما لك تدمن إمساك العصا ولست بضعيف؟ قال: لأذكر أني مسافر، يعني: في الدنيا. وعن يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي الشافعي: يا أبا موسى! أنست بالفقر حتى صرت لا أستوحش منه. وعن الربيع بن سليمان قال: قال لي الشافعي يا ربيع! عليك بالزهد، فللزهد على الزاهد أحسن من الحلي على المرأة الناهد. وعن عبد الله بن محمد البلوي قال: جلسنا ذات يوم نتذاكر الزهاد والعباد والعلماء وما بلغ من زهدهم وفصاحتهم وعلمهم، فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا عمر بن نباته فقال: بماذا تتحاورون؟ قلنا: نتذاكر الزهاد والعباد والعلماء وما بلغ من فصاحتهم. فقال عمر بن نباته: والله ما رأيت رجلاً قط أورع ولا أخشع ولا أفصح ولا أسمح ولا أعلم ولا أكرم ولا أجمل ولا أنبل ولا أفضل من محمد بن إدريس الشافعي.

سخاء الشافعي وجوده

سخاء الشافعي وجوده أما سخاؤه وجوده رحمه الله: فعن الحميدي قال: قدم الشافعي رحمه الله من صنعاء إلى مكة بعشرة آلاف دينار في منديل، فضرب خباءه في موضع خارجاً من مكة، فكان الناس يأتونه، فما برح حتى ذهبت كلها. وعن الربيع بن سليمان قال: كان الشافعي راكباً حماراً فمر على سوق الحذائين، فسقط سوطه من يده، فوثب غلام من الحذائين فأخذ السوط ومسحه بكمه وناوله إياه، فقال الشافعي لغلامه: ادفع الدنانير التي معك إلى هذا الفتى. قال الربيع: فلست أدري كانت تسعة دنانير أو ستة. وعن الربيع بن سليمان قال: تزوجت فسألني الشافعي: كم أصدقتها؟ فقلت: ثلاثين ديناراً، قال: كم أعطيتها؟ فقلت: ستة دنانير، فصعد داره وأرسل إلي بصرة فيها أربعة وعشرون ديناراً. كان ابن عبد الحكم مالكياً ثم رجع عن مذهبه وصار شافعياً، ولما أوصى الإمام الشافعي بحلقته إلى البويطي رجع ابن عبد الحكم إلى المذهب المالكي مرة ثانية، قال رحمه الله: كان الشافعي أسخى الناس بما يجد، وكان يمر بنا، فإن وجدني وإلا قال: قولوا لـ محمد إذا جاء يأتي المنزل فإني لا أتغدى حتى يجيء، فربما جئته، فإذا قعدت معه على الغداء قال: يا جارية أنضجي لنا فالوذجاً -يعني: فطيراً- فلا تزال المائدة بين يديه حتى يفرغ منها ويتغدى. وعن الربيع قال: أخذ رجل بركاب الشافعي فقال: يا ربيع أعطه أربعة دنانير واعذرني عنده. وعن الربيع قال: كنا مع الشافعي رحمه وقد خرج من مسجد مصر، فانقطع شسع نعله -وهو رباط النعل- فأصلح له رجل شسعه ودفعه إليه، فقال: يا ربيع معك من نفقتنا شيء؟ قلت: نعم، قال: كم؟ قلت: سبعة دنانير، قال: ادفعها إليه. ولعل النعل كله لا يساوي هذا المبلغ. وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: جاءنا الشافعي إلى منزلنا قال: فقال لي: اركب دابتي هذه قال: فركبتها، قال: فقال لي: أقبل بها وأدبر ففعلت، فقال: إني أراك بها لبقاً فخذها فهي لك. قال: وكان من أسخى الناس ثم ذكر قصة التمر. وقصة التمر رواها البيهقي عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال: كان الشافعي رحمه الله من أسخى الناس قال: وكنت آكل مع الشافعي تمراً ملوزاً -وهو التمر الذي ينزع منه النوى ويوضع فيه اللوز، فجاء رجل فقعد وأكل وكان يجلس إليه، فلما فرغ من الأكل، قال الرجل للشافعي: ما تقول في أكل الفجأة؟ قال: فلوى الشافعي عنقه إلي وقال: هلا كان سؤاله قبل أن يأكل. لأنه لو قال له: لا يجوز كان كف عن الأكل. وقال الشافعي رحمه الله: السخاء والكرم يغطيان عيوب الدنيا والآخرة بعد ألا يلحقهما بدعة. وعن إبراهيم بن محمد قال: كنت في مجلس أحمد بن يوسف النقلي صاحب أبي عبيد القاسم بن سلام فجرى ذكر الشافعي وأخلاقه وفقهه وسماحته فقالوا: ما شبهناه إلا بأبيات أنشدها حفص بن عمر الأزدي المقرعي لبعض الأعراب: إن زرت ساحته ترجو سماحته بلتك راحته بالجود والكرم أخلاقه كرم وقوله نعم يقولها بفم بحبحت فاحتكم ما ضر زائره يرجو أنامله إن كان ذا رحم أو غير ذا رحم الجود غرته والنجم غايته يقولها بفم قد لج في نعم وعن الربيع بن سليمان قال: دفع إلي الشافعي دراهم لأشتري له حملاً -وهو الكبش أو الخروف- وأمرني أن أشوي ذلك، قال: فنسيت واشتريت سمكتين وشويتهما فأتيته بهما، فنظر فقال: يا أبا محمد! كلهما فقد اشتهيتهما.

اتباع الشافعي للسنة وذمه لأهل الأهواء

اتباع الشافعي للسنة وذمه لأهل الأهواء اتباعه للسنة رحمه الله وذمه لأهل الأهواء. عن ميمون بن مهران قال: قال لي أحمد بن حنبل: ما لك لا تنظر في كتب الشافعي؟ فما من أحد وضع الكتب أتبع للسنة من الشافعي. وعن أبي جعفر الترمذي قال: أردت أن أكتب كتب الرأي، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله! فأكتب رأي الشافعي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه ليس برأي، إنه رد على من خالف سنتي. وعن أحمد بن حنبل قال: قدم علينا نعيم بن حماد وحثنا على طلب المسند -يعني: الحديث بالإسناد- فلما قدم علينا الشافعي وضعنا على المحجة البيضاء. قال الربيع: سمعت الشافعي يقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بها ودعوا ما قلته. قال: وقال له رجل: يا أبا عبد الله نأخذ بهذا الحديث؟ فقال: متى رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً ولم آخذ به فأشهدكم أن عقلي قد ذهب. وقال الحميدي: روى الشافعي يوماً حديثاً فقلت: أتأخذ به؟ فقال: رأيتني خرجت من كنيسة أو علي زناراً -وهو الحبل الذي يربط في الوسط علامة لأهل الكتاب-، حتى إذا سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لا أقول به. وقال الشافعي: إذا صح الحديث فهو مذهبي. وقال: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط. إلى غير ذلك من الأقوال التي ثبتت عن الإمام الشافعي.

فقه الإمام الشافعي

فقه الإمام الشافعي فقهه رحمه الله: قال عبيد بن محمد بن خلف البزاز: سئل أبو ثور فقيل له: أيهما أفقه الشافعي أو محمد بن الحسن -صاحب أبي حنيفة؟ فقال أبو ثور: الشافعي أفقه من محمد وأبي يوسف وأبي حنيفة وحماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة وإبراهيم يعني: النخعي وعلقمة والأسود، يعني: أن كلهم من مدرسة الرأي في الكوفة. وعن أحمد بن يحيى قال: سمعت الحميدي يقول: سمعت سيد الفقهاء محمد بن إدريس الشافعي. وعن الربيع قال: سمعت الحميدي يقول: عن مسلم بن خالد أنه قال للشافعي: أفت يا أبا عبد الله فقد والله آن لك أن تفتي، وكان ابن خمس عشرة سنة. وهذه بعض الأشياء التي تدل على فقهه وفهمه. وعن حرملة بن يحيى قال: سمعت الشافعي يقول في رجل قال لامرأته وفي فيها تمرة: إن أكلتيها فأنت طالق، قال: طرحتيها فأنت طالق، بأن تأكل نصفها وتطرح نصفها. فكما يقولون: ليس الفقه بالتشدد، بل الفقه أن تأتيك الرخصة من العالم الذي يجد المخرج الموافق للشرع. وعن المزني قال: سئل الشافعي عن نعامة ابتلعت جوهرة لرجل آخر فقال: لست آمره بشيء، ولكن إن كان صاحب الجوهرة كيساً عدا على النعامة فذبحها واستخرج جوهرته ثم ضمن لصاحب النعامة ما بين قيمتها حية ومذبوحة. وعن معمر بن شبيب قال: سمعت المأمون يقول لـ محمد بن إدريس الشافعي: يا محمد لأي علة خلق الله الذباب؟ قال: فأطرق ثم قال: مذلة للملوك يا أمير المؤمنين، قال: فضحك المأمون، وقال: يا محمد رأيت الذباب قد سقط على خدي؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين ولقد سألتني وما عندي جواب، فلما رأيت الذباب قد سقط بموضع لا يناله أحد انفتق في ذهني الجواب. فقال: لله درك يا محمد. وقال إبراهيم بن أبي طالب الحافظ: سألت أبا قدامة السرخسي عن الشافعي وأحمد وأبي عبيد وابن راهويه فقال: الشافعي أفقههم. وعن الربيع قال: كنت يوماً عند الشافعي فجاءه رجل فقال: أيها العالم! ما تقول في رجل حلف إن كان في كمي دراهم أكثر من ثلاثة فعبدي حر، وكان في كمه أربعة دراهم، فقال: لم يعتق عبده، قال: لم؟ قال: لأنه استثنى من جملة ما في كمه دراهم، والدرهم لا يكون دراهم. فقال: آمنت بالذي فوهك هذا العلم.

براعة الإمام الشافعي في التصنيف وبركة مصنفاته

براعة الإمام الشافعي في التصنيف وبركة مصنفاته براعته في التصنيف وبركة مصنفاته: الشافعي رحمه الله أول من صنف في أصول الفقه وأحكام القرآن، وقد تسابق العلماء والأكابر على اقتناء مصنفاته والاستفادة منها، وأعظم كتبه كتاب (الرسالة) وهي موجودة الآن بتحقيق أحمد شاكر، وأسلوب الرسالة في غاية السهولة واليسر والفصاحة، فهي على سهولة لفظها كثيرة المعاني عظيمة المباني، شاهدة برجاحة عقله وكمال بصيرته. وعن أبي ثور قال: كتب عبد الرحمن بن مهدي إلى الشافعي وهو شاب أن يضع له كتاباً فيه معاني القرآن والأخبار وحجة الإجماع والناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة، فوضع له كتاب (الرسالة). قال عبد الرحمن بن مهدي: ما أصلي صلاة إلا وأدعو للشافعي فيها. وعن المزني قال: قرأت كتاب الرسالة للشافعي (500) مرة، ما من مرة منها إلا واستفدت منها فائدة جديدة لم أستفدها في الأخرى. والمفروض أن طالب العلم يقرأ كتب العلم في كل فترة من أجل أن يستفيد أكثر وأكثر. وعن محمد بن مسلم بن واره قال: قدمت من مصر فأتيت أبا عبد الله أحمد بن حنبل أسلم عليه فقال: كتبت كتب الشافعي قلت: لا، قال: فرطت، ما علمنا المجمل من المفصل، ولا ناسخ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من منسوخه حتى جالسنا الشافعي قال: فحملني ذلك إلى أن رجعت إلى مصر وكتبتها ثم قدمت. وعن أحمد بن مسلمة النيسابوري قال: تزوج إسحاق بن راهويه بمرو بامرأة رجل بعد وفاته عنده كتب الشافعي من أجل كتب الشافعي؛ لأن الكتب لم تكن متوفرة كما هو الآن، فوضع جامعه الكبير على كتاب الشافعي، ووضع جامعه الصغير على جامع الثوري الصغير. وقال أبو بكر الصومعي: سمعت أحمد بن حنبل يقول: صاحب الحديث لا يشبع من كتب الشافعي. وقال الجاحظ: نظرت في كتب هؤلاء النبغة الذين نبغوا في العلم فلم أر أحسن تأليفاً من المطلبي، كأن لسانه ينظم الدرر. قال العلامة أحمد شاكر: فكتبه كلها مثل رائعة من الأدب العربي النقي، في الذروة العليا من البلاغة، يكتب على سجيته وعلى فطرته ولا يتكلف ولا يتصنع، أفصح نثر تقرؤه بعد القرآن والحديث، لا يساميه قائل، ولا يدانيه كاتب. وعن الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: أريت في المنام كأن آتياً أتاني فحمل كتبي وبثها في الهواء فتطايرت، فاستعبرت بعض المعبرين فقال: إن صدقت رؤياك لم يبق بلد من بلاد الإسلام إلا ودخله علمك.

شيوخ وتلاميذ الإمام الشافعي

شيوخ وتلاميذ الإمام الشافعي شيوخه وتلامذته: قال الحافظ: روى عن مسلم بن خالد الزنجي ومالك بن أنس وإبراهيم بن سعد وسعيد بن سلمة القداح والدراوردي وعبد الوهاب الثقفي وابن علية إسماعيل بن إبراهيم -وعلية اسم أمه- وابن عيينة وأبي ضمرة وحاتم بن إسماعيل وإبراهيم بن محمد بن أبي يحيى وإسماعيل بن جعفر وغيرهم. وروى عنه سليمان بن داود الهاشمي وأبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي وإبراهيم بن المنذر الحزامي وأبو ثور إبراهيم بن خالد وأحمد بن حنبل وأبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي وحرملة وأبو طالب وغيرهم. وله كتب كثيرة منها كتاب (الأم) وكتاب السنن المأثورة، وكتاب الرسالة، ومسند يضم الأحاديث التي جمعها، و (اختلاف الحديث) وغير ذلك من الكتب.

درر من أقوال الشافعي ونتف من أشعاره

درر من أقوال الشافعي ونتف من أشعاره درر من أقواله، ونتف من أشعاره: قال الشافعي: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة. وقال: زينة العلم الورع والحلم. وقال: لا عيب في العلماء أقبح من رغبتهم فيما زهدهم الله فيه، وزهدهم فيما رغبهم فيه، وقال: ليس العلم ما حفظ، العلم ما نفع. وقال: من غلبته الشهوة للدنيا لزمته العبودية لأهلها، وقال: من رضي بالقنوع زال عنه الخضوع. وقال: لو علمت أن شرب الماء البارد ينقص مروءتي لما شربته، ولو كنت اليوم ممن يقول الشعر لرثيت المروءة. وقال: للمروءة أربعة أركان: حسن الخلق، والسخاء، والتواضع، والنسك. وقال: المروءة عفة الجوارح عما لا يعنيها. وقال: ليس بأخيك من احتجت إلى مداراته. وقال: من صدق في أخوة أخيه قبل علله، وسد خلله، وغفر زلله. وقال: ليس سرور يعدل صحبة الإخوان، ولا غم يعدل فراقهم. وقال: الشفاعات زكاة المروءات. وقال: من صدق الله نجا، ومن أشفق على دينه سلم من الردى، ومن زهد في الدنيا قرت عيناه لما يراه من ثواب الله غداً. وقال لأخ له في الله يعظه ويخوفه: يا أخي! إن الدنيا دحض مزلة، ودار مذلة، عمرانها إلى الخراب صائر، وساكنها للقبور زائر، شملها على الفرقة موقوف، وغناها إلى الفقر مصروف، والإكثار فيها إعسار، والإعسار فيها يسار، فافرغ إلى الله، وارض برزق الله تعالى، ولا تستلف من دار بقائك في دار فنائك، فإن عيشك فيء زائل، وجدار مائل، أكثر من عملك، وقصر من أملك. وقال: الشعر حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام، غير أنه كلام باق سائر، فذلك فضله على سائر الكلام. ودخل رجل عليه وهو مستلق على ظهره فقال: إن أصحاب أبي حنيفة الفصحاء، فأنشد فقال: ولولا الشعر بالعلماء يزري لكنت اليوم أشعر من لبيد وأشجع في الوغى من كل ليث وآل مهلب وأبي يزيد وله أشعار أخرى منها: أمت مطامعي فأرحت نفسي فإن النفس ما طمعت تهون وأحييت القنوع وكان ميتاً ففي إحيائه عرضي مصون وقال: إن الطبيب بطبه ودوائه لا يستطيع دفاع مقدور القضا ما للطبيب يموت بالداء الذي قد كان يبري مثله فيما مضى هلك المداوى والمداوي والذي جلب الدواء وباعه ومن اشترى

مرض الإمام الشافعي ووفاته

مرض الإمام الشافعي ووفاته مرضه رحمه الله ووفاته: قال الربيع بن سليمان: أقام الشافعي هاهنا أربع سنوات، فأملى (1500) ورقة، وخرج كتاب (الأم) (2000) ورقة، وكتاب (السنة) وأشياء كثيرة كلها في أربع سنين، وكان عليلاً شديد العلة، يكاد ربما يخرج الدم منه وهو راكب، حتى تمتلئ سراويله ومركبه وخفه. كان عنده بواسير رحمه الله، والبواسير عندما تنزف دماً تكون متقدمة. وعن يونس بن عبد الأعلى قال: ما رأيت أحداً لقي من السقم ما لقي الشافعي، فدخلت عليه يوماً فقال لي: يا أبا موسى! اقرأ علي ما بعد العشرين والمائة من آل عمران: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:121] إلى آخر السورة، وأخف القراءة، ولا تثقل. فقرأت عليه، فلما أردت القيام قال: لا تغفل عني، فإني مكروب. قال يونس عنى الشافعي بقراءتي بعد العشرين والمائة ما لقى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أو نحوه؛ ليتأسى بهم، والإنسان يتصبر بما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام في غزوة أحد. وعن الربيع قال: دخل المزني على الشافعي في مرضه الذي مات فيه، فقال له: كيف أصبحت يا أستاذ؟ فقال: أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقاً، ولكأس المنية شارباً، وعلى الله تعالى وارداً، ولسوء عملي ملاقياً، ثم رمى بطرفه نحو السماء واستعبر، ثم أنشأ يقول: إليك إله الخلق أرفع رغبتي وإن كنت يا ذا المن والجود مجرما ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سلما تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما ما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل تجود وتعفو منة وتكرما ولولاك لا يقوى بإبليس عابد فكيف وقد أغوى صفيك آدما فإن تعف عني تعف عن ذي إساءة ظلوم غشوم قاسي القلب مجرما وإن تنتقم مني فلست بآيس ولو دخلت نفسي بجرمي جهنما فجرمي عظيم من قديم وحادث وعفوك يا ذا العفو أعلى وأجسما قال الربيع بن سليمان: لما كان مع المغرب ليلة مات الشافعي قال له ابن عمه ابن يعقوب: ننزل نصلي؟ قال: تجلسون تنتظرون خروج نفسي؟ قال: فنزلنا ثم صعدنا فقلنا: صلينا أصلحك الله. قال: نعم. فاستسقى وكان شتاء، فقال له ابن عمه: أمزجه بالماء المسخن فقال الشافعي: لا، بل بلب السفرجل، وتوفي مع العشاء الآخرة رحمه الله. قال الربيع بن سليمان: توفي الشافعي رحمه الله ورضي عنه ليلة الجمعة بعد المغرب وأنا عنده، ودفن يوم الجمعة بعد العصر آخر يوم من رجب، فانصرفنا من جنازته ورأينا هلال شعبان سنة (204)، وهو ابن أربع وخمسين سنة. وعن أبي زكريا يعني: الأعرج قال: سمعت الربيع يقول: رأيت في المنام أن آدم مات، ويريدون أن يخرجوا بجنازته، فلما أصبحت سألت بعض أهل العلم عن ذلك فقال: هذا موت أعلم أهل الأرض، إن الله عز وجل علم آدم الأسماء كلها، فما كان إلا يسيراً حتى مات الشافعي رحمه الله، وغربت بذلك شمس حياته، ولكن محبة هذا الإمام وبركة علمه ومصنفاته تملأ طباق الأرض، فما من صاحب محبرة إلا وللشافعي عليه منة. فنسأل الله تعالى أن يغفر لنا وله، وأن يمن علينا وعليه بأعلى الدرجات، والله عز وجل يغفر لنا تقصيرنا في ترجمته، وأن يمتعنا في الآخرة بصحبته، ويدخلنا وإياه فسيح جنته. وهذا أوان ترك القلم في ترجمة هذا العلم، فالقلوب تشتاق إلى صحبته والتمتع بكمال عقله ووفور فطنته وبركة كلماته. وصل اللهم وسلم وبارك على المبعوث رحمة للعالمين، وآل بيته الطيبين، وأصحابه الغر الميامين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الإمام أبو حنيفة

سلسلة من أعلام السلف_الإمام أبو حنيفة الإمام أبو حنيفة من أئمة المذاهب الأربعة المتبعة، أخذ العلم عن شيوخ التابعين، وأخذ عنه جملة من علماء المسلمين الأعلام، كان ورعاً فقيهاً متبعاً للسنة المطهرة، وقد أثنى عليه علماء عصره، ابتلي بمحنة تولية القضاء من قبل المنصور فأبى، فسجن حتى مات رحمه الله تعالى.

بين يدي ترجمة الإمام أبي حنيفة

بين يدي ترجمة الإمام أبي حنيفة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: فهذه الجولة في السلسلة المباركة (من أعلام السلف) مع إمام من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة، وكلهم فاضل كريم، وإنما تأخرت في إنجاز ترجمته لأمور: أولها: أن الأمور تجري بالمقادير، والذي يملك مفاتيح خزائن السماوات والأرض هو الذي يملك قلوب العباد. ثانيها: همة البحث والتوفيق بيد الله عز وجل، نسأل الله تعالى أن يوفقنا لطاعته وأن يعرضنا لأسباب رحمته وجنته. ثالثها: أن هذا الإمام تباينت أقوال الناس فيه تبايناً بالغاً، فمن معظم له أشد التعظيم، فمقدم له على جميع العلماء، وهم متعصبة الأحناف، وفي مقابلهم من انتقصه وطعن في حفظه وفضله. وقد ساق الخطيب رحمه الله في ترجمته أقوال الفريقين، إلا أن أسانيد من طعن فيه الغالب عليها الضعف الشديد، وبعد تتبع سيرته، وانتقاء أبعد الروايات عن الغلو اتضحت لنا بفضل الله عز وجل الأمور، وظهر ما أخبر به الخريبي: لا يقع في أبي حنيفة إلا جاهل أو حاسد. وإذا كان الأصل في المسلم حسن الظن، فكيف بمن شهد له علماء عصره الأثبات بالعدالة والفقه والشرف والفضل؟! وكيف بمن امتلأت قلوب المسلمين بمحبته، وشغلت الألسن بالثناء عليه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تلك عاجل بشرى المؤمن)؟! فالإمام أبو حنيفة تباينت فيه أقوال الناس، فبعض الناس يرفعه فوق كل الأئمة أصحاب المذاهب الأربعة وغيرهم، وبعضهم يطعن فيه، ومع تتبع الأخبار وجد أن الذين مدحوا هذا الإمام هم الذين معهم الحق، وكما سنرى في خاتمته وفي ترجمته كيف أنه إمام عظيم من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة لهم فضل وشرف، ونظن أن لهم نية حسنة؛ لأن المذاهب كانت كثيرة جداً، والعلماء كانوا كثيرين، فقد يوجد في القرية الواحدة ما يزيد على مائة عالم، ولكن الذين بقي علمهم وبقيت مذاهبهم ونقلت أخبارهم هم هؤلاء الأئمة أصحاب المذاهب الأربعة المتبعة. قال التاج السبكي: ينبغي لك أيها المسترشد أن تسلك سبيل الأدب مع الأئمة الماضين، وألا تنظر إلى كلام بعضهم في بعض إلا إذا أتى ببرهان واضح، ثم إن قدرت على التأويل وحسن الظن فدونك، وإلا فاضرب صفحاً عما جرى بينهم؛ فإنك لم تخلق لهذا، فاشتغل بما يعنيك ودع ما لا يعنيك، ولا يزال طالب العلم عندي نبيلاً حتى يخوض فيما جرى بين السلف الماضين ويقضي لبعضهم على بعض، فإياك ثم إياك أن تصغى إلى ما اتفق بين أبي حنيفة وسفيان الثوري، أو بين مالك وابن أبي ذئب، أو بين أحمد بن صالح والنسائي أو بين أحمد والحارث بن أسد المحاسبي. ففي كل زمن هناك شيء من تغاير العلم، ومن طبيعة البشر بين بعض العلماء، ولكنهم نسور في الفضاء ونحن أفراخ على الأرض. وهلم جراً إلى زمن العز بن عبد السلام، والتقي ابن الصلاح؛ فإنك إذا اشتغلت بذلك خشيت عليك الهلاك، فالقوم أئمة أعلام، ولأقوالهم محامل، وربما لم تفهم بعضها، فليس لك إلا الترضي عنهم، والسكوت عما جرى بينهم، كما نقول فيما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم. أي: نقول بقوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134]. وعن يحيى بن معين قال: سمعت يحيى القطان يقول: جالسنا والله أبا حنيفة وسمعنا منه، وكنت والله إذا نظرت إليه عرفت في وجهه أنه يتقي الله عز وجل. ويحيى بن معين، هو إمام الجرح والتعديل. وقال سفيان بن عيينة: ما قدم مكة رجل في وقتنا أكثر صلاة من أبي حنيفة. وروى الخطيب بسنده أبياتاً مدح فيها ابن المبارك مدح فيها أبا حنيفة رحمه الله فقال: رأيت أبا حنيفة كل يوم يزيد نبالة ويزيد خيراً وينطق بالصواب ويصطفيه إذا ما قال أهل الجور جوراً يقايس ما يقايسه بلب فمن ذا يجعلون له نظيراً كفانا فقد حماد وكانت مصيبتنا به أمراً كبيراً وهو حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة. فرد شماتة الأعداء عنا وأبدى بعده علماً كثيراً رأيت أبا حنيفة حين يؤتى ويطلب علمه بحراً غزيراً إذا ما المشكلات تدافعتها رجال العلم كان بها بصيراً فهذا من مدح عبد الله بن المبارك إمام المسلمين لـ أبي حنيفة رحمه الله. وبعد! فلسنا مع متعصبة الأح

التعريف بالإمام أبي حنيفة

التعريف بالإمام أبي حنيفة اسمه ومولده وصفته: اسمه: النعمان بن ثابت بن زوطي التيمي الكوفي مولى بني تيم بن ثعلبة، وقيل: سبب تكنيته بـ أبي حنيفة ملازمته للدواة المسماة حنيفة بلغة العراق ولاجتهاده في طلب العلم، فـ أبو حنيفة كنية وليست اسماً. مولده: ولد سنة (80) بالكوفة في خلافة عبد الملك بن مروان، في حياة صغار الصحابة، ورأى أنس بن مالك لما قدم عليهم الكوفة، ولم يثبت له حرف عن أحد من الصحابة. فـ أبو حنيفة يعتبر من صغار التابعين، وهو في طبقة الأعمش، ولذلك يقول أبو حنيفة: إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى العين والرأس، وإن جاء عن الصحابة فعلى العين والرأس، وإن جاء عن التابعين فنحن رجال وهم رجال. صفته: قال أبو يوسف رحمه الله: كان ربعة -يعني: ليس طويلاً ولا قصيراً- من أحسن الناس صورة، وأبلغهم نطقاً، وأكملهم إيراداً، وأحلاهم نغمة، وأبينهم حجة على من يريد. وقال حماد ولده: كان طويلاً -يعني: يميل إلى الطول أكثر منه إلى القصر- يعلوه سمرة، جميلاً حسن الوجه، هيوباً لا يتكلم إلا جواباً، ولا يخوض فيما لا يعنيه. وقال أحمد بن حجر الهيتمي: ولا تنافي بين كونه ربعة وبين كونه طويلاً؛ لأنه قد يكون مع كونه ربعة أقرب إلى الطول. وقال ابن المبارك: كان حسن الوجه، حسن الثياب. وكان تاجراً فهو كثير المال. وقال عبد الرحمن بن محمد بن المغيرة: رأيت أبا حنيفة شيخاً يفتي الناس بمسجد الكوفة على رأسه قلنسوة سوداء طويلة.

ثناء العلماء على أبي حنيفة والرد على من طعن فيه

ثناء العلماء على أبي حنيفة والرد على من طعن فيه قال الفضيل بن عياض: كان أبو حنيفة رجلاً فقيهاً معروفاً بالفقه مشهوراً بالورع، واسع المال، معروفاً بالإفضال على من يطيف به، صبوراً على تعليم العلم بالليل والنهار، حسن الليل، كثير الصمت، قليل الكلام، حتى ترد مسألة في حلال أو حرام، فكان يحسن أن يدل على الحق، هارباً من مال السلطان. وزاد ابن الصباح: وكان إذا وردت عليه مسألة فيها حديث صحيح اتبعه، وإن كان عن الصحابة والتابعين وإلا قاس وأحسن القياس. وعن أبي بكر بن عياش قال: مات عمر بن سعيد أخو سفيان بن سعيد الثوري فأتينا نعزيه فإذا المجلس غاص بأهله، وفيهم عبد الله بن إدريس إذ أقبل أبو حنيفة في جماعة معه فلما رآه سفيان تحرك من مجلسه ثم قام فاعتنقه وأجلسه في موضعه وقعد بين يديه. قال أبو بكر: فاغتظت عليه، يعني: كأنه كره أن يفعل سفيان ذلك بـ أبي حنيفة. وقال ابن إدريس: ويحك ألا ترى؟ فجلسنا حتى تفرق الناس، فقلت لـ عبد الله بن إدريس: لا تقم حتى نعلم ما عنده في هذا. يعني: أرادوا أن يسألوا سفيان الثوري عما فعله مع أبي حنيفة. فقلت: يا أبا عبد الله! رأيتك اليوم فعلت شيئاً أنكرته وأنكره أصحابنا عليك، قال: وما هو؟ قلت: جاءك أبو حنيفة فقمت إليه وأجلسته في مجلسك وصنعت له صنيعاً بليغاً، وهذا عند أصحابنا منكر، فقال: وما أنكرت من ذاك؟ هذا رجل من العلم بمكان، فإن لم أقم لعلمه قمت لسنه، وإن لم أقم لسنه قمت لفقهه، وإن لم أقم لفقهه قمت لورعه، فأحجمني فلم يكن عندي جواب. فالصراع كان بين مدرسة الرأي مع مدرسة الحديث. وعن أبي وهب محمد بن مزاحم قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: رأيت أعبد الناس، ورأيت أورع الناس، ورأيت أعلم الناس، ورأيت أفقه الناس، فأما أعبد الناس فـ عبد العزيز بن أبي رواد، وأما أورع الناس فـ الفضيل بن عياض، وأما أعلم الناس فـ سفيان الثوري، وأما أفقه الناس فـ أبو حنيفة، فيقصد بالفقه هنا القدرة على القياس واستنباطه للأحكام، ثم قال: ما رأيت في الفقه مثله. وعن يحيى بن معين قال: كان أبو حنيفة ثقة لا يحدث بالحديث إلا بما يحفظه، ولا يحدث بما لا يحفظ. وبعض الناس ضعفوه في الحديث. وعن أبي وهب محمد بن مزاحم قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: لولا أن الله أعانني بـ أبي حنيفة وسفيان لكنت كسائر الناس. وعن الشافعي قال: قيل لـ مالك: هل رأيت أبا حنيفة؟ قال: نعم، رأيت رجلاً لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهباً لقام بحجته. وعن قيس بن ربيع قال: كان أبو حنيفة ورعاً تقياً مفضلاً على إخوانه. وعن شريك قال: كان أبو حنيفة طويل الصمت، كثير العقل. وقال يزيد بن هارون: ما رأيت أحداً أحلم من أبي حنيفة. وعن أبي معاوية الضرير قال: حب أبي حنيفة من السنة. وقال الشافعي: الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة. وقال الذهبي: وكان من أذكياء بني آدم، جمع الفقه والعبادة والورع والسخاء، وكان لا يقبل جوائز الدولة. فهذا كلام العلماء الذين مدحوا أبا حنيفة وأثنوا على علمه وفقهه وورعه وعبادته. وقال ضرار بن صرد: سئل يزيد بن هارون أيهما أفقه الثوري أو أبو حنيفة؟ فقال: أبو حنيفة أفقه وسفيان أحفظ للحديث، فـ سفيان الثوري كان واسع العلم جداً بالحديث، فهو أمير المؤمنين في الحديث، أما الذي يستنبط ويقيس فـ أبو حنيفة فهو أفقه. قال في هامش السير: وأما ما يؤثر عن النسائي وابن عدي من تضعيفهم لـ أبي حنيفة من جهة حفظه فهو مردود لا يعتد به في جنب توثيق أئمة الجرح والتعديل، من أمثال علي بن المديني ويحيى بن معين وشعبة وإسرائيل بن يونس ويحيى بن آدم وعبد الله بن داود الخريبي والحسن بن صالح وغيرهم، فهؤلاء كلهم معاصرون لـ أبي حنيفة أو قريبو العهد به، وهم أعلم الناس به، وأعلم من النسائي وابن عدي. فـ النسائي متأخر عنه فقد مات سنة (303) هـ

عبادة الإمام أبي حنيفة

عبادة الإمام أبي حنيفة عن أسد بن عمرو أن أبا حنيفة رحمه الله صلى العشاء والصبح بوضوءٍ أربعين سنة. وعن بشر بن الوليد عن القاضي أبي يوسف قال: بينما أنا أمشي مع أبي حنيفة إذ سمعت رجلاً يقول لآخر: هذا أبو حنيفة لا ينام الليل، فقال أبو حنيفة: والله لا يتحدث عني بما لم أفعله، فكان يحيي الليل صلاة وتضرعاً ودعاءً. وعن المثنى بن رجاء قال: جعل أبو حنيفة على نفسه إن حلف بالله صادقاً أن يتصدق بدينار، وكان إذا أنفق على عياله نفقة تصدق بمثلها. وقال أبو عاصم النبيل: كان أبو حنيفة يسمى الوتد، لكثرة صلاته. وعن يحيى بن عبد الحميد الحماني عن أبيه أنه صحب أبا حنيفة ستة أشهر قال: فما رأيته صلى الغداة -أي: الصبح- إلا بوضوء عشاء الآخرة، وكان يختم كل ليلة عند السحر. وعن القاسم بن معن: أن أبا حنيفة قام ليلة يردد قوله تعالى: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر:46] ويبكي ويتضرع إلى الفجر. وقال الفضل بن دكين وكنيته أبو نعيم: رأيت جماعة من التابعين وغيرهم فما رأيت أحسن صلاة من أبي حنيفة، ولقد كان قبل الدخول في الصلاة يبكي ويدعو. وقالت أم ولد لـ أبي حنيفة، وأم الولد: أمة وطأها فأنجبت له، فالولد يكون تبعاً لأبيه فيكون سيداً لا عبداً، فلو مات سيدها عتقت، وقد نهي عن بيع أمهات الأولاد. وقالت أم ولد لـ أبي حنيفة: ما توسد فراشاً بليل منذ عرفته، وإنما كان نومه بين الظهر والعصر بالصيف، وأول الليل بمسجده في الشتاء. وقال ابن أبي رواد: ما رأيت أصبر على الطواف والفتيا بمكة منه، إنما كان كل الليل والنهار في طلب الآخرة والنجاة، ولقد شاهدته عشر ليال فما رأيته نام بالليل ولا هدأ ساعة من نهار من طواف وصلاة أو تعليم. وعن سفيان بن عيينة قال: ما قدم مكة رجل في وقتنا أكثر صلاة من أبي حنيفة.

ورع الإمام أبي حنيفة

ورع الإمام أبي حنيفة عن عبد الله بن المبارك قال: قدمت الكوفة فسألت عن أورع أهلها فقالوا: أبو حنيفة. وقال مكي بن إبراهيم: جالست الكوفيين فما رأيت أورع من أبي حنيفة. وعن علي بن حفص البزار قال: كان حفص بن عبد الرحمن شريك أبي حنيفة، وكان أبو حنيفة يجهز عليه -يعني: يرسل له بثياب وشريكه يبيعها- فبعث إليه رفقة بمتاع -والرفقة هم الأصحاب- وأعلمه أن في ثوب كذا وكذا عيباً، فإذا بعته فبين، فباع حفص المتاع ونسي أن يبين، ولم يعلم لمن باعه، فلما علم أبو حنيفة تصدق بثمن المتاع كله.

سماحة الإمام أبي حنيفة وكرمه

سماحة الإمام أبي حنيفة وكرمه عن قيس بن ربيع قال: كان أبو حنيفة رجلاً ورعاً فقيهاً محسوداً -يعني: لكثرة النعم عليه- كثير الصلة والبر لكل من لجأ إليه، كثير الإفضال على إخوانه. وعن حفص بن حمزة القرشي قال: كان أبو حنيفة ربما مر به الرجل فيجلس إليه لغير قصد ولا مجالسة، فإذا قام سأل عنه فإن كانت به فاقة وصله، وإن مرض عاده، حتى يجره إلى مواصلته، وكان أكرم الناس مجالسة.

اتباع أبي حنيفة للسنة

اتباع أبي حنيفة للسنة عن سعيد بن سالم البصري قال: سمعت أبا حنيفة يقول: لقيت عطاء بمكة فسألته عن شيء فقال: من أين أنت؟ فقلت: من أهل الكوفة، قال: أنت من القرية الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً؟ قلت: نعم، قال: فمن أي الأصناف أنت؟ قلت: ممن لا يسب السلف، ويؤمن بالقدر، ولا يكفر أحداً بذنب، قال: فقال لي عطاء: عرفت فالزم. قال أحمد بن حجر الهيتمي المكي: اعلم أنه يتعين عليك ألا تفهم من أقوال العلماء عن أبي حنيفة وأصحابه أنهم أصحاب الرأي أن مرادهم بذلك تنقيصهم، ولا نسبتهم إلى أنهم يقدمون رأيهم على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا على قول أصحابه؛ لأنهم براء من ذلك، فقد جاء عن أبي حنيفة من طرق كثيرة ما ملخصه: أنه أولاً يأخذ بما في القرآن، فإن لم يجد فبالسنة، فإن لم يجد فبقول الصحابة، فإن اختلفوا أخذ بما كان أقرب إلى القرآن والسنة من أقوالهم ولم يخرج عليهم. -يعني: أن الصحابة إذا اختلفوا على قولين فلا بد أن يكون الحق منحصراً في القولين، لا يكون هناك قول ثالث؛ لأن الحق لا يضيع في الأمة، فإن اختلفوا أخذ بما كان أقرب إلى القرآن أو السنة من أقوالهم ولم يخرج عليهم. ثم قال: فإن لم يجد لأحد منهم قولاً لم يأخذ بقول أحد من التابعين، بل يجتهد كما اجتهدوا. فكان رحمه الله لا يقدم رأيه على القرآن والسنة ولا على كلام الصحابة إذا اتفقوا، وإذا اختلفوا فيتخير من أقوالهم الأقرب إلى الكتاب والسنة، وهو أحد التابعين وإن كان من صغارهم فكان يجتهد ويقول: هم رجال ونحن رجال، لأنه ولد سنة (80) هـ فهو قريب من عصر النبوة. وقال الفضيل بن عياض: إن كان في المسألة حديث صحيح تبعه، وإن كان عن الصحابة أو التابعين فكذلك، وإلا قاس فأحسن القياس. وقال ابن المبارك رواية عنه: إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن الصحابة اخترنا ولم نخرج عن أقوالهم، وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم. وعنه أيضاً: عجباً للناس! يقولون: أفتى بالرأي وما أفتى إلا بالأثر. وعنه أيضاً: ليس لأحد أن يقول برأيه مع كتاب الله تعالى، ولا مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مع ما أجمع عليه الصحابة، وأما ما اختلفوا فيه فنتخير من أقوالهم أقربه إلى كتاب الله تعالى أو إلى السنة ونجتهد، وما جاوز ذلك فالاجتهاد بالرأي لمن عرف الاختلاف وقاس، وعلى هذا كانوا. يعني: فلا يجوز القياس مع وجود النص؛ لأن القياس كأكل الميتة للمضطر، فإذا لم يوجد في المسألة نص من الكتاب أو السنة فينظر في إجماع الصحابة، فإن كانت المسألة غير منصوصة فالقياس يلجأ إليه عند الاضطرار، وكل قياس مهما كان حسناً من حيث النظر إذا صح الحديث بخلافه فهو مردود بالقادح من مسمى فساد الاعتبار.

محنة الإمام أبي حنيفة

محنة الإمام أبي حنيفة عن عبيد الله بن عمرو أن ابن هبيرة ضرب أبا حنيفة مائة سوط وعشرة أسواط في أن يلي القضاء فأبى، وكان ابن هبيرة عامل مروان على العراق في زمن بني أمية. وعن يحيى بن عبد الحميد عن أبيه قال: كان أبو حنيفة يخرج كل يوم -أو قال: بين الأيام- فيضرب ليدخل في القضاء فأبى، ولقد بكى في بعض الأيام، فلما أطلق قال لي: كان غم والدتي أشد علي من الضرب، فهو يبكي؛ لأنه يعلم أن والدته في غم من أجل أنه يضرب. وعن بشر بن الوليد قال: طلب المنصور أبا حنيفة فأراده على القضاء وحلف ليلين فأبى، وحلف: إني لا أفعل، فقال الربيع الحاجب: ترى أمير المؤمنين يحلف وأنت تحلف، فقال: أمير المؤمنين على كفارة يمينه أقدر مني، فهو أغنى مني يمكن أن يكفر عن يمينه، فأمر به إلى السجن فمات فيه ببغداد. وقيل: دفعه أبو جعفر إلى صاحب شرطته حميد الطوسي فقال: يا شيخ إن أمير المؤمنين يدفع إلي الرجل فيقول لي: اقتله أو اقطعه -يعني: اقطع يده- أو اضربه ولا أعلم بقصته فماذا أفعل؟ فقال: هل يأمرك أمير المؤمنين بأمر قد وجب أو بأمر لم يجب؟ قال: بل بما قد وجب، قال: فبادر إلى الواجب. وعن مغيث بن بديل قال: دعا المنصور أبا حنيفة إلى القضاء فامتنع فقال: أترغب عما نحن فيه؟ فقال: لا أصلح، قال: كذبت، قال: قد حكم أمير المؤمنين علي أني لا أصلح إن كنت كاذباً، فإن كنت صادقاً فقد أخبرتكم أني لا أصلح، فحبسه. وروى نحوها إسماعيل بن أويس عن الربيع الحاجب وفيها قال أبو حنيفة: والله ما أنا بمأمون الرضا، فكيف أكون مأمون الغضب فلا أصلح لذلك؟ قال المنصور: كذبت بل تصلح، فقال: كيف يحل أن تولي من يكذب؟ وقيل: إن أبا حنيفة ولي القضاء، فقضى قضية واحدة، وبقي يومين ثم اشتكى ستة أيام وتوفي. وقال الفقيه أبو عبد الله الصيمري: لم يقبل العهد بالقضاء فضرب وحبس ومات بالسجن. وقيل: سقي السم كما سيأتي.

شيوخ وتلاميذ الإمام أبي حنيفة

شيوخ وتلاميذ الإمام أبي حنيفة شيوخه: قال الحافظ روى عن عطاء بن أبي رباح وعاصم بن أبي النجود إمام القراءات، وعلقمة بن مرثد وحماد بن أبي سليمان، فهذا هو شيخه المباشر الذي كان في حلقته وعلى كرسيه بعدما توفي، والحكم بن عتيبة وسلمة بن كهيل وأبي جعفر محمد بن علي وعلي بن الأقمر وزياد بن علاقة وسعيد بن مسروق الثوري والد سفيان وعدي بن ثابت الأنصاري وعطية بن سعيد العوفي وأبي سفيان السعدي وعبد الكريم بن أبي أمية ويحيى بن سعيد الأنصاري من صغار التابعين وهشام بن عروة وآخرين. تلامذته: قال الحافظ: وعنه ابنه حماد وإبراهيم بن طهمان وحمزة بن حبيب الزيات وزفر بن الهذيل وأبو يوسف القاضي وأبو يحيى الحماني وعيسى بن يونس ووكيع ويزيد بن زريع وأسد بن عمرو البجلي وغيرهم.

براعة الإمام أبي حنيفة في الفقه

براعة الإمام أبي حنيفة في الفقه قال يحيى بن سعيد القطان: لا نكذب الله، ما سمعنا أحسن من رأي أبي حنيفة. وقال علي بن عاصم: لو وزن علم أبي حنيفة بعلم أهل زمانه لرجح عليهم. وقال حفص بن غياث: كلام أبي حنيفة في الفقه أدق من الشعر، لا يعيبه إلا جاهل. وروي عن الأعمش أنه سئل عن مسألة فقال: إنما يحسن هذا النعمان بن ثابت وأظنه بورك له في عمله. لعله في علمه، وهذه أيضاً شهادة من الأعمش وهو من الأئمة كما مر في الترجمة السابقة. وقال جرير: قال لي المغيرة: جالس أبا حنيفة تفقه، فإن إبراهيم النخعي لو كان حياً لجالسه. وقال ابن المبارك: أبو حنيفة أفقه الناس. وقال الشافعي: الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة. وقال الذهبي: الإمامة في الفقه ودقائقه مسلمة إلى هذا الإمام، وهذا أمر لا شك فيه.

وفاة الإمام أبي حنيفة

وفاة الإمام أبي حنيفة قال الذهبي في العبر: روي أن المنصور سقاه السم فمات شهيداً رحمه الله. وقال الهيثمي: روى جماعة أنه رفع إليه قدح فيه سم ليشرب فامتنع، وقال: إني لأعلم ما فيه، ولا أعين على قتل نفسي، فطرح ثم صب في فيه قهراً فمات. وقيل: إن ذلك كان بحضرة المنصور، وصح أنه لما أحس بالموت سجد وخرجت نفسه وهو ساجد. وقيل: الامتناع عن القضاء لا يوجب للمنصور أن يقتله هذه القتلة الشنيعة، وإنما السبب في ذلك أن بعض أعداء أبي حنيفة دس إلى المنصور أن أبا حنيفة هو الذي أثار عليه إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي رضي الله عنهم الخارج عليه بالبصرة، فخاف خوفاً شديداً ولم يقر له قرار، وأنه قواه بمال كثير، فخشي المنصور من ميله إلى إبراهيم؛ لأنه -أعني: أبا حنيفة - كان وجيهاً ذا مال واسع التجارة، فطلبه لبغداد ولم يجسر على قتله بغير سبب، فطلب منه القضاء مع علمه بأنه لا يقبله ليتوصل بذلك إلى قتله. واتفقوا على أنه رحمه الله مات سنة (150) عن (70) سنة. قال كثيرون: وكان موته في رجب، وقيل: شعبان، وقيل: نصف شوال، ولم يخلف غير ولده حماد فرحمه الله عز وجل رحمة واسعة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

الإمام الأوزاعي

سلسلة من أعلام السلف_الإمام الأوزاعي الإمام الأوزاعي رحمه الله تعالى من أئمة أتباع التابعين، ومن علماء الشام الغر الميامين، جمع بين العلم والأدب، والعبادة والخشية، وعدم المداهنة للخلق، فلذلك هابه الملوك والسلاطين، فما أحوج العلماء والدعاة وطلاب العلم إلى معرفة سيرته والانتفاع بها!

بين يدي ترجمة الإمام الأوزاعي

بين يدي ترجمة الإمام الأوزاعي إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: فما زلنا بحمد الله تعالى سعداء بصحبة الركب المبارك أعلام السلف، وعالمنا وعلمنا في هذه الترجمة إمام مبارك من أئمة أتباع التابعين، ومن علماء الشام الغر الميامين، جمع العلم والأدب، والعبادة والخشية، فكان لا يهاب الملوك الجبابرة، وتهابه الملوك لقوته في الحق، وعدم مداهنته للخلق، فما أحوج الطلاب والعلماء إلى معرفة سيرته والانتفاع ببركته، ونكتفي في هذه المقدمة بما ذكره الحافظ الذهبي في سيره عن العباس بن الوليد قال: فما رأيت أبي يتعجب من شيء في الدنيا تعجبه من الأوزاعي، فكان يقول: سبحانك تفعل ما تشاء، كان الأوزاعي يتيماً فقيراً في حجر أمه، تنقله من بلد إلى بلد، وقد بلغ حكمك فيه أن بلغته حيث رأيته. يا بني! عجزت الملوك أن تؤدب أنفسها وأولادها أدب الأوزاعي في نفسه، ما سمعت كلمة قط فاضلة إلا احتاج مستمعها إلى إثباتها عنه. يعني: ما تكلم بكلمة خير إلا احتاج من يستمع إليها إلى إثباتها. ثم قال: ولا رأيته ضاحكاً قط حتى يقهقه، ولقد كان إذا أخذ في ذكر المعاد أقول في نفسي: أترى في المجلس قلباً لم يبك. فرحم الله الأوزاعي وسائر أئمة المسلمين، وجمعنا بهم في عليين، والحمد لله رب العالمين.

التعريف بالإمام الأوزاعي وذكر صفاته

التعريف بالإمام الأوزاعي وذكر صفاته اسمه: عبد الرحمن بن عمرو بن محمد الشامي الأوزاعي. مولده: قال أبو مسهر وجماعة: ولد سنة (88) هـ. يعني: بعد أبي حنيفة بثمان سنين. وعن ضمرة قال: سمعت الأوزاعي يقول: كنت محتلماً أو شبيهاً بالمحتلم في خلافة عمر بن عبد العزيز. وقال الوليد بن مزيد: مولده ببعلبك ومنشؤه بالكرك. قال الذهبي: كان يسكن عجلة الأوزاع، وهي العقبة الصغيرة ظاهر باب الفراديس بدمشق، ثم تحول إلى بيروت مرابطاً بها إلى أن مات. صفته: قال محمد بن عبد الرحمن السلمي: رأيت الأوزاعي فوق الربعة، خفيف اللحم، به سمرة، يخضب بالحناء.

ثناء العلماء على الإمام الأوزاعي

ثناء العلماء على الإمام الأوزاعي عن عبد الرحمن بن مهدي قال: الأئمة في الحديث أربعة: الأوزاعي، ومالك، وسفيان الثوري، وحماد بن زيد. يعني: هؤلاء أئمة زمانهم، الأوزاعي بالشام، ومالك بالمدينة، وسفيان الثوري بالكوفة، وحماد بن زيد بالبصرة، وكان يمكن أن يضيف سفيان بن عيينة في مكة، وابن المبارك أيضاً بخرسان. وعنه قال: ما كان في الشام أحد أعلم بالنسب من الأوزاعي. وعن عثمان بن سعيد الدارمي قال: سألت يحيى بن معين عن الأوزاعي ما حاله في الزهري؟ قال: ثقة، ما أقل ما روى عن الزهري. يعني: رواياته عن الزهري قليلة؛ لأنه من نفس الطبقة، من طبقة كبار أتباع التابعين، والذين رووا عن الإمام الزهري من صغار التابعين، وكان أعلم أهل زمانه. وعن سفيان بن عيينة قال: كان الأوزاعي إمام أهل زمانه. وقال محمد بن سعد: وكان ثقة مأموناً صدوقاً فاضلاً خيراً، كثير الحديث والعلم والفقه، حجة. وقال إسماعيل بن عياش: سمعت الناس في سنة (140) هـ يقولون: الأوزاعي اليوم عالم الأمة. وعن محمد بن شعيب قال: قلت لـ أمية بن يزيد: أين الأوزاعي من مكحول؟ قال: هو عندنا أرفع من مكحول. قال الذهبي: بلا ريب هو أوسع دائرة في العلم من مكحول. وقال الخريبي: كان الأوزاعي أفضل أهل زمانه. وعن الوليد بن مسلم قال: ما كنت أحرص على السماع من الأوزاعي حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام والأوزاعي إلى جنبه، فقلت: يا رسول الله! عمن أحمل العلم؟ قال: عن هذا، وأشار إلى الأوزاعي. قال الذهبي: كان الأوزاعي كبير الشأن وقال إسحاق بن راهويه: إذا اجتمع الثوري والأوزاعي ومالك على أمر فهو سنة. لقد كان الإمام الذهبي مؤرخاً، لكنه لم يكن مؤرخاً حاطب ليل يجمع أي أخبار، ولكن كان يعلق أحياناً ويعترض أحياناً على ما لا يوافق الحق، فعلق على هذه الكلمة (فهو سنة) فقال الذهبي: بل السنة سنة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده، والإجماع ما اجتمع عليه علماء الأمة قديماً وحديثاً إجماعاً ظنياً أو سكوتياً، فمن شذ عن هذا الإجماع من التابعين أو تابعيهم بقول باجتهاد احتمل له، فأما من خالف الثلاثة المذكورين من كبار الأئمة فلا يسمى مخالفاً للإجماع ولا للسنة، كما كان الإمام مالك يعتبر إجماع أهل المدينة حجة. وكان يقول: إن المدينة هي مدينة العلم وفيها أبناء المهاجرين والأنصار، فلا شك أن الحديث الذي ليس له أصل في الحجاز كما يقولون انقطع نخاعه، لا بد أن يكون له أصل في الحجاز، ولكن العلماء بعد الإمام مالك اعترضوا على ذلك، ولم يوافقوه على إن إجماع أهل المدينة حجة؛ لأن هذا ليس عليه دليل شرعي؛ والعلماء تفرقوا في الأمصار، والإجماع هو إجماع سائر الأئمة المجتهدين في عصر من العصور. فلا شك أنه كان في خارج المدينة علماء مجتهدون، فلا يعتبر إجماع أهل المدينة أو أي بلد من بلاد المسلمين حجة. كذلك يعترض هنا الإمام الذهبي على أن اجتماع الثوري والأوزاعي ومالك سنة فيقول: إن السنة هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده، وأيضاً هذا لا يعتبر إجماعاً؛ لأن الإجماع ما اجتمع عليه علماء الأمة قديماً وحديثاً، إجماعاً ظنياً أو سكوتياً، فمن شذ عن هذا الإجماع من التابعين أو تابعيهم بقول باجتهاد احتمل له. والذي يخالف الإجماع يكون شاذاً. يقول: فأما من خالف الثلاثة المذكورين من كبار الأئمة فلا يسمى مخالفاً للإجماع ولا للسنة، وإنما مراد إسحاق أنهم إذا اجتمعوا على مسألة فهو حق غالباً. كما نقول اليوم: لا يكاد يوجد الحق فيما اتفق عليه أئمة الاجتهاد الأربعة على خلافه، مع اعترافنا بأن اتفاقهم على مسألة لا يكون إجماع الأمة، ونهاب أن نجزم في مسألة اتفقوا عليها بأن الحق في خلافها، فهذا على سبيل الغالب. يعني: لو اجتمع هؤلاء الثلاثة الذين ذكرهم إسحاق وهم أئمة زمانهم فغالباً يكون هو الحق. ومن غرائب ما انفرد به الأوزاعي: أن الفخذ ليست في الحمام عورة، وأنها في المسجد عورة. وله مسائل كثيرة حسنة ينفرد بها، وهي موجودة في الكتب

عبادة الأوزاعي رحمه الله

عبادة الأوزاعي رحمه الله قال الوليد بن مسلم: ما رأيت أحداً أشد اجتهاداً من الأوزاعي في العبادة. وقال غيره: حج فما نام على الراحلة، إنما هو في صلاة. من السنة التنفل في الراحلة في السيارة في السفينة على الدابة، يقول: حج فما نام على الراحلة إنما هو في صلاة، يعني: كان إذا نعس استند إلى القتب، وكان من شدة الخشوع كأنه أعمى. وعن الوليد بن مزيد قال: كان الأوزاعي من العبادة على شيء ما سمعنا بأحد قوى عليه، ما أتى عليه زوال قط إلا وهو قائم يصلي. وقال مروان الطاطري: قال: الأوزاعي من أطال قيام الليل هون الله عليه وقوف يوم القيامة. وقال الوليد بن مسلم من علماء الشام: رأيت الأوزاعي يثبت في مصلاه يذكر الله حتى تطلع الشمس، ويخبرنا عن السلف أن ذلك كان هديهم، فإذا طلعت الشمس قام بعضهم إلى بعض، فأفاضوا في ذكر الله والفقه في دينه.

خشية الأوزاعي رحمه الله

خشية الأوزاعي رحمه الله عن بشر بن المنذر قال: رأيت الأوزاعي كأنه أعمى من الخشوع. وعن أبي مسهر قال: ما رئي الأوزاعي باكياً قط، ولا ضاحكاً حتى تبدو نواجذه، وإنما كان يتبسم أحياناً كما روي في الحديث، وكان يحيي الليل صلاة وقرآناً وبكاء. وأخبرني بعض إخواني من أهل بيروت أن أمه كانت تدخل منزل الأوزاعي وتتفقد موضع مصلاه، فتجده رطباً من دموعه في الليل. وقال بعضهم: ما رئي الأوزاعي ضاحكاً مقهقهاً قط، ولقد كان يعظ الناس فلا يبقى أحد في مجلسه إلا بكى بعينه أو بقلبه، وما رأيناه يبكي في مجلسه قط، وكان إذا خلا بكى حتى يرحم. يعني: كان أمام الناس لا يبكي، ولكن إذا كان وحده بكى حتى يرحم.

ورع الأوزاعي رحمه الله

ورع الأوزاعي رحمه الله عن أبي مسهر قال: حدثنا محمد بن الأوزاعي قال: قال لي أبي: لو قبلنا من الناس كل ما يعطونا لهنا عليهم. يعني: قبول الجوائز والهدايا، خاصة من الأمراء. وعن أحمد بن أبي الحواري قال: بلغني أن نصرانياً أهدى إلى الأوزاعي جرة عسل. فقال: يا أبا عمرو! تكتب لي إلى والي بعلبك، قال: إن شئت رددت الجرة وكتبت لك، وإلا قبلت الجرة ولم أكتب لك. قال: فرد الجرة وكتب له فوضع عنه ثلاثين ديناراً. وعن أبي فروة يزيد بن محمد الرهاوي قال: سمعت أبي يقول: قلت لـ عيسى بن يونس: أيهما أفضل الأوزاعي أو سفيان؟ فقال: وأين أنت من سفيان، قلت: يا أبا عمرو ذهبت بك العرقية، الأوزاعي فقهه وفضله وعلمه، فغضب وقال: أتراني أوثر على الحق شيئاً، سمعت الأوزاعي يقول: ما أخذنا العطاء حتى شهدنا على علي بالنفاق وتبرأنا منه، وأخذ علينا بذلك الطلاق والعتاق وأيمان البيعة -يعني: كل هذا بإكراه- فلما عقلت أمري سألت مكحولاً ويحيى بن أبي كثير وعطاء بن أبي رباح وعبيد بن عمير فقالوا: ليس عليك شيء، وإنما أنت مكره. يعني: كان هذا تحت تهديد السلاح بأن يقتل أو يطلق امرأته مثلاً، فهو لما سألهم قالوا: ليس عليك شيء، وإنما أنت مكره، يقول: فلم تقر عيني حتى فارقت نسائي، وأعتقت رقيقي، وخرجت من مالي، وكفرت أيماني، فأخبرني سفيان أنه كان يفعل ذلك. يعني: فعل ذلك على سبيل الورع، وإلا فقد أفتاه علماء عصره، أنه كان مكرهاً وليس على المكره شيء. وعن سعيد بن سالم صاحب الأوزاعي قال: قدم أبو مرحوم من مكة على الأوزاعي فأهدى له طرائف فقال له: إن شئت قبلت منك ولم تسمع مني حرفاً، وإن شئت فضم هديتك واسمع.

اتباع الأوزاعي للسنة

اتباع الأوزاعي للسنة عن العباس بن الوليد قال: حدثني أبي قال: سمعت الأوزاعي يقول: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول، فإن الأمر ينجلي، وأنت على طريق مستقيم. هذه عدة آثار تدل على اتباعه للسنة، وإنما يعظم شأن الإنسان إذا عظم شرع الله، وإذا عظم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن من هان عليه الشرع أهانه الله عز وجل: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18]. فكان الأوزاعي يقول: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول، فإن الأمر ينجلي، وأنت على طريق مستقيم. وعن بقية بن الوليد وهو أيضاً من علماء الشام، وكان مشهوراً بتدليس التسوية، كما قال بعضهم: أحاديث بقية غير نقية، فكن منها على تقية. وليس معنى أنه مدلس أنه وضاع أو أنه كذاب أو ضعيف، ولكن كما قال الشافعي في الرسالة: من دلس لنا مرة فقد أبان عن عورته في الرواية، فلا نقبل منه إلا تصريحاً بالسماع، ومن يثبت عنه تدليس التسوية لا بد أن يكون هناك تصريح بالسماع في كل السند؛ لأنه لا يؤمن أن يكون طوى ضعيفاً بين ثقتين. عن بقية بن الوليد قال: قال لي الأوزاعي: يا بقية لا تذكر أحداً من أصحاب نبيك صلى الله عليه وسلم إلا بخير. يا بقية العلم ما جاء عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وما لم يجئ عنهم فليس بعلم. يعني: أن العلم هو علم الكتاب والسنة بفهم الصحابة الذين هم سلف الأمة. العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه. ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه. فالعلم ما جاءنا من قبل الصحابة؛ لأنهم هم الذين نقلوا لنا الكتاب والسنة، وأيضاً نفهم الكتاب والسنة بفهم الصحابة رضي الله عنهم. وعن بقية بن الوليد قال: قال الأوزاعي: لا يجتمع حب علي وعثمان رضي الله عنهما إلا في قلب مؤمن. لأنه وجد الشيعة، وفي مقابلهم النواصب، فالشيعة تشيعوا لـ علي وآل البيت، ونصبوا العداوة للصحابة، والنواصب تشيعوا للصحابة ونصبوا العداوة لآل البيت. ولكن المؤمن الذي يتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم يجتمع في قلبه حب علي وحب عثمان رضي الله عنهما وعن سائر الصحابة. وعن محمد بن كثير المصيصي قال: سمعت الأوزاعي يقول: كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله تعالى فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته. وعن أبي إسحاق الفزاري قال: قال الأوزاعي: اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعهم، ولا يستقيم الإيمان إلا بالقول، ولا يستقيم القول إلا بالعمل، ولا يستقيم الإيمان والقول والعمل إلا بالنية وموافقة السنة، وكان من مضى من سلفنا لا يفرقون بين الإيمان والعمل، والعمل من الإيمان، والإيمان من العمل، وإنما الإيمان اسم جامع كما يجمع هذه الأديان اسمها، ويصدقه العمل، فمن آمن بلسانه وعرف بقلبه وصدق بعمله، فتلك العروة الوثقى التي لا انفصام لها، ومن قال بلسانه ولم يعرف بقلبه ولم يصدقه بعمله لم يقبل منه، وكان في الآخرة من الخاسرين. يعني: صدق من قال: ما يتكلم الأوزاعي بكلمة إلا احتاج من يسمعها إلى إثباتها. وعن الأوزاعي قال: رأيت رب العزة في المنام فقال: أنت الذي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فقلت: بفضلك أي ربي، ثم قلت: يا رب أمتني على الإسلام، فقال: وعلى السنة. ورؤية الله عز وجل في المنام جائزة، لأنها ليست رؤيا بالبصر، وإنما هي رؤية قلبية.

صدع الأوزاعي بكلمة الحق

صدع الأوزاعي بكلمة الحق عن أبي خليد عتبة بن حماد القارئ قال: حدثنا الأوزاعي قال: بعث عبد الله بن علي إلي، وقدمت فدخلت والناس صفان، فقال: ما تقول في مخرجنا وما نحن فيه؟ يعني: عندما قامت الدولة العباسية قتل عبد الله بن علي كثيراً من أمراء بني أمية، وكان يجبر العلماء على أن يوافقوه على خروجه وأن يطعنوا في بني أمية، فأرسل إلى الأوزاعي فقال: ما تقول في مخرجنا وما نحن فيه؟ قال: قلت: أصلح الله الأمير، قد كان بيني وبين داود بن علي مودة -يعني: أراد أن يهرب من السؤال- قال: لتخبرني، يقول: فتفكرت ثم قلت: لأصدقنه واستبسلت للموت، ثم رويت له عن يحيى بن سعيد حديث: (إنما الأعمال بالنيات)، وبيده قضيب ينكت به، ثم قال: يا عبد الرحمن! ما تقول في قتل أهل هذا البيت؟ قلت: حدثني محمد بن مروان عن مطرف بن الشخير عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل قتل المسلم إلا في ثلاث) وساق الحديث. فقال: أخبرني عن الخلافة وصية لنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فقلت: لو كانت وصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ترك علي رضي الله عنه أحداً يتقدمه. قال: فما تقول في أموال بني أمية؟ قلت: إن كانت لهم حلالاً فهي عليكم حرام، وإن كانت عليهم حراماً فهي عليكم أحرم. يعني: إن كانوا نهبوها فلا يجوز لكم أن تنهبوها، وإن كانت عليهم حراماً فهي عليكم أحرم، فأمر بي فأخرجت. قال الذهبي: وقد كان عبد الله بن علي ملكاً جباراً سفاكاً للدماء، صعب المراس، ومع هذا فالإمام الأوزاعي يصدعه بمر الحق كما ترى، لا كخلق من علماء السوء الذين يحسنون للأمراء ما يقتحمون من الظلم والعسف، ويقلبون له الباطل حقاً، قاتلهم الله، أو يسكتون مع القدرة على بيان الحق. وعن أبي الأسوار محمد بن عمر التنوخي قال: كتب المنصور إلى الأوزاعي أما بعد: فقد جعل أمير المؤمنين في عنقك ما جعل الله لرعيته قبلك في عنقهم، فاكتب إليه بما رأيت فيه المصلحة مما أحببت. فكتب إليه: أما بعد: فعليك بتقوى الله، وتواضع يرفعك الله يوم يضع المتكبرين في الأرض بغير الحق، واعلم أن قرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لن تزيد حق الله عليك إلا عظماً، ولا طاعته إلا وجوباً. وعن عبد الحميد بن بكار قال: حدثنا ابن أبي العشرين قال: سمعت أميراً بالساحل يقول: وقد دفنا الأوزاعي ونحن عند القبر، رحمك الله أبا عمرو! فلقد كنت أخافك أكثر ممن ولاني. يعني: أنه كان يخاف من هذا العالم أكثر من أمير المؤمنين الذي ولاه.

شيوخ الأوزاعي وتلامذته

شيوخ الأوزاعي وتلامذته قال الحافظ: روى عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، وشداد بن عمار، وعبدة بن أبي لبابة، وعطاء بن أبي رباح، وقتادة، وأبي النجاشي عطاء بن صهيب، ونافع مولى ابن عمر، والزهري ومحمد بن إبراهيم التيمي، ومحمد بن سيرين، والمطلب بن عبد الله بن حنطب، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ويحيى بن أبي كثير، وأبي عبيد المذحجي، وأبي كثير السحيمي، وسليمان بن حبيب المحاربي، وحسان بن عطية وغيرهم. وقال الحافظ: روى عنه مالك، وهو من طبقته، وشعبة وهو قريب منهم، والثوري وابن المبارك وابن أبي الزناد، وعبد الرزاق وبقية، وبشر بن بكر، ومحمد بن حرب، وعقل بن زياد، ويحيى بن سعيد القطان، وشعيب بن إسحاق وأبي ضمرة المدني، وصخرة بن ربيعة، وإسماعيل بن عبد الله بن سماعة، وأبو إسحاق الفزاري، وإسماعيل بن عياش، وغيرهم.

درر من أقوال الأوزاعي

درر من أقوال الأوزاعي عن يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية قال: كتب الأوزاعي إلى أخ له: أما بعد: فإنه قد أحيط بك من كل جانب، وأعلم أنه يسار بك في كل يوم وليلة، فاحذر الله والمقام بين يديه، وأن يكون آخر عهدك به. والسلام. وعن الأوزاعي قال: إن المؤمن يقول قليلاً ويعمل كثيراً، وإن المنافق يقول كثيراً ويعمل قليلاً. فعلامة إيمان إنسان أن يكون كلامه قليلاً، وعبادته وعمله الصالح كثيراً، وأما المنافق فيقول كثيراً ويعمل قليلاً. وعن موسى بن أعين قال: قال لي الأوزاعي: يا أبا سعيد كنا نمزح ونضحك، فأما إذ صرنا يقتدى بنا ما أرى يسعنا إلا التبسم. يعني: من صار يقتدى به ينبغي أن يضبط تصرفاته. وعن أبي حفص عمرو بن أبي سلمة عن الأوزاعي قال: من أكثر ذكر الموت كفاه اليسير، ومن علم أن منطقه من عمله قل كلامه. فقال أبو حفص: سمعت سعيد بن عبد العزيز يقول: ما جاء الأوزاعي بشيء أعجب إلينا من هذا، يعني: من هذه الكلمة، يقول: من أكثر ذكر الموت كفاه اليسير، ومن علم أن منطقه من عمله قل كلامه. وعن الوليد بن مزيد قال: سمعت الأوزاعي يقول: إذا أراد الله بقوم شراً فتح عليهم باب الجدل، ومنعهم العمل، وكذلك العكس بالعكس، وإذا أراد بقوم خيراً فتح لهم باب العمل، وأغلق عنهم باب الجدل. وعن محمد بن شعيب قال: سمعت الأوزاعي يقول: من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام. أي: زلات العلماء، فمن اتبع زلة كل عالم اجتمع فيه الشر كله. وعن الأوزاعي قال: ما ابتدع رجل بدعة إلا سلب الورع.

وفاة الإمام الأوزاعي رحمه الله

وفاة الإمام الأوزاعي رحمه الله عن محمد بن عبيد الطنافسي قال: كنت عند سفيان الثوري فجاءه رجل فقال: رأيت كأن ريحانة من المغرب رفعت، قال: إن صدقت رؤياك فقد مات الأوزاعي. وسفيان الثوري كان بالكوفة، وتكون الشام في جهة المغرب بالنسبة إلى العراق، فقال: كنت عند سفيان الثوري فجاءه رجل فقال: رأيت كأن ريحانة من المغرب رفعت، قال: إن صدقت رؤياك فقد مات الأوزاعي، فكتبوا ذلك فوجد كذلك في ذلك اليوم. وعن أحمد بن عيسى المصري قال: حدثني خيران بن العلاء -وكان من خيار أصحاب الأوزاعي - قال: دخل الأوزاعي الحمام وكان لصاحب الحمام حاجة. يعني: حمامات عامة ليست كالحمامات الموجودة في البيوت، يدخل الإنسان فيها بالأجرة، يأخذ كمية ماء مسخن ويغتسل في هذه الحمامات، فدخل الأوزاعي الحمام يقول: وكان لصاحب الحمام حاجة، فأغلق عليه الباب وذهب، ثم جاء ففتح فوجد الأوزاعي ميتاً مستقبل القبلة. يبدو من الدخان، أو أتى أجله في هذا الوقت. وعن أبي مسهر قال: بلغنا موت الأوزاعي، وأن امرأته أغلقت عليه باب الحمام غير متعمدة فمات، فأمرها سعيد بن عبد العزيز بعتق رقبة، ولم يخلف سوى ستة دنانير فضلت من عطائه، وكان قد اكتتب رحمه الله في ديوان الساحل. وقال أبو مسهر وعدة: مات سنة (157) هـ وزاد بعضهم في صفر. نكتفي بهذا القدر، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

الإمام الحسن البصري

سلسلة من أعلام السلف_الإمام الحسن البصري كان الحسن البصري علماً من أعلام السلف رحمة الله عليهم، وعالماً من علمائهم، وكان كلامه يشبه كلام الأنبياء، تشرب العلم حتى نطق بالحكمة، وصار حليف الخوف والحزن، وأليف الهم والشجن، وعديم النوم والوسن، وكان فقيهاً زاهداً مشمراً عابداً رحمه الله تعالى.

بين يدي ترجمة الإمام الحسن البصري

بين يدي ترجمة الإمام الحسن البصري إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: فمع أحد العلماء العاملين، والأئمة التابعين، الإمام الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء، تشرب بالعلم حتى نطق بالحكمة، وصفه أبو نعيم فقال: ومنهم حليف الخوف والحزن، أليف الهم والشجن، عديم النوم والوسن، أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن، الفقيه الزاهد، المشمر العابد، كان لفضول الدنيا وزينتها نابذاً، وشهوة النفس ونخوتها واقذاً. ووصفه الزهري فقال: مناقبه كثيرة، ومحاسنه غزيرة، كان رأساً في العلم والحديث إماماً مجتهداً كثير الاطلاع، رأساً في القرآن وتفسيره، رأساً في الوعظ والتذكير، رأساً في الحلم والعبادة، رأساً في الزهد والصدق، رأساً في الفصاحة والبلاغة، رأساً في الأيد والشجاعة. كان رجلاً مليحاً تام الشكل حسن الصورة، طال عمره في العلم والعمل، فقال ابنه: عاش أبي ثماني وثمانين سنة. عصمه الله عز وجل من الفتن، فلم يخف في فتنة ابن الأشعث، وسلك مسلك الورع، فكان ينهى عن الانضمام إليه، وكذا إلى جيش الحجاج، فأمر باعتزال الجميع، وهذا هو الواجب على المسلم في الفتن. وكان يرى الحجاج الثقفي عقوبة من الله عز وجل، ومع ذلك يدعو إلى اللجوء إلى الله عز وجل وعدم اللجوء إلى السلاح؛ فإنهم إذا لجئوا إلى الله عز وجل جعل لهم من ظلم الظالمين فرجاً ومخرجاً، وإذا لجئوا إلى السلاح والخروج عليهم وكلوا إليه، فلا يغني عنهم شيئاً، فما أحوج المسلمين إلى معرفة أخباره والانتفاع بآثاره! الحسن البصري كان يشبه الأنبياء في سمته وهيئته، وحسنه، وحسن كلامه.

نسب الإمام الحسن البصري ومولده وصفته

نسب الإمام الحسن البصري ومولده وصفته اسمه: الحسن بن أبي الحسن وأبوه اسمه يسار البصري أبو سعيد مولى زيد بن ثابت، ويقال: مولى جابر بن عبد الله، ويقال: مولى جميل بن قطبة بن عامر بن حديدة، ويقال: مولى أبي اليسر وأمه خيرة مولاة أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ويقال: إن يساراً والد الحسن من بيسان. مولده: ولد الحسن لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. صفته: قال محمد بن سعد: كان الحسن رحمه الله جامعاً عالماً رفيعاً فقيهاً ثقة حجة مأموناً عابداً ناسكاً، كثير العلم، فصيحاً جميلاً وسيماً. وقال الذهبي: كان رجلاً تام الشكل، مليح الصورة، بهياً، وكان من الشجعان الموصوفين. وعن العوام بن حوشب قال: ما أشبه الحسن إلا بنبي؛ لأن الأنبياء أكمل الناس خَلقاً وخُلقاً، وأحسن الناس كلاماً. وعن شعبة قال: رأيت الحسن وعليه عمامة سوداء. وعن عاصم بن سيار الرقاشي قال: أخبرتني أمة الحكم قالت: كان الحسن يجيء إلى حطان بن عبد الله فما رأيت شاباً قط كان أحسن وجهاً منه.

ثناء العلماء على الإمام الحسن البصري

ثناء العلماء على الإمام الحسن البصري عن أبي بردة قال: ما رأيت أحداً أشبه بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم منه. وعن حميد بن هلال قال: قال لنا أبو قتادة: الزموا هذا الشيخ، فما رأيت أشبه رأياً بـ عمر منه. يعني: الحسن. وعن أنس بن مالك قال: سلوا الحسن؛ فإنه حفظ ونسينا. فإذا أحال الصحابة على الحسن فهذا يدل على تمكنه في العلم. وعن أيوب قال: كان الحسن يقول: إن المؤمن يصبح حزيناً ويمسي حزيناً وينقلب باليقين في الحزن ويكفيه ما يكفي العنيزة. وعن محمد بن جحادة عن الحسن قال: ذهبت المعارف، وبقيت المناكير -يعني: ذهبت الأشياء الطيبة، وبقيت المناكير، والمناكير: جمع منكر- ومن بقي من المسلمين فهو مغموم. يقول: هذا في زمن فاضل، زمن التابعين، فكيف بهذه الأزمنة المتأخرة؟!

علم الإمام الحسن البصري رحمه الله

علم الإمام الحسن البصري رحمه الله قال قتادة: كان الحسن من أعلم الناس بالحلال والحرام. وعن بكر بن عبد الله المزني قال: من سره أن ينظر إلى أفقه من رأينا فلينظر إلى الحسن. وعن أبي هلال قال: كنت عند قتادة فجاء الخبر بموت الحسن، فقلت: لقد غمس في العلم غمساً. قال قتادة: بل نبت فيه وتحقبه وتشربه، والله! لا يبغضه إلا حروري. وهذه علامة أن أهل البدعة يبغضون أهل السنة. وعن حجاج بن أرطأة قال: سألت عطاء عن القراءة على الجنازة؟ قال: ما سمعنا ولا علمنا أنه يقرأ عليها، قلت: إن الحسن يقول: يقرأ عليها، قال عطاء: عليك بذاك، ذاك إمام ضخم يقتدى به. وعن أبي سعيد بن الأعرابي قال: كان عامة من ذكرنا من النساك يأتون الحسن، ويسمعون كلامه، ويذعنون له بالفقه في هذه المعاني خاصة، وكان عمرو بن عبيد وعبد الواحد بن زيد من الملازمين له، وكان له مجلس خاص في منزله لا يكاد يتكلم فيه إلا في معاني الزهد والنسك وعلوم الباطن؛ فإذا سأله إنسان غيرها تبرم به، وقال: إنا خلونا مع إخواننا نتذاكر. فأما حلقته في المسجد فكان يمر فيها الحديث والفقه وعلوم القرآن واللغة وسائر العلوم، وكان ربما يسأل عن التصوف فيجيب، وكان منهم من يصحبه للحديث، ومنهم من يصحبه للقرآن والبيان، ومنهم من يصحبه للبلاغة، ومنهم من يصحبه للإخلاص وعلم الخصوص كـ عمرو بن عبيد وأبي جهيم، وعبد الواحد بن زيد وصالح المري شميط وأبي عبيدة الناجي وكل واحد من هؤلاء اشتهر بحال في العبادة، ولكن عمرو بن عبيد اعتزل مجلس الحسن وصار من أئمة المعتزلة. وعن خالد بن رباح أن أنس بن مالك سئل عن مسألة فقال: عليكم بمولانا الحسن، فقال: إنا سمعنا وسمع، فحفظ ونسينا. وعن قتادة قال: دخلنا على الحسن وهو نائم، وعند رأسه سلة، فجذبناها فإذا خبز وفاكهة فجعلنا نأكل، فانتبه فرآنا فسره فتبسم وقرأ: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور:61]، لا جناح عليكم. يعني: لا جناح على الإنسان أن يأكل من بيت صديقه بغير إذنه.

الحسن البصري وفتنة ابن الأشعث

الحسن البصري وفتنة ابن الأشعث يبدو أن الحسن البصري رحمه الله كان معارضاً للخروج على الحجاج مع ابن الأشعث، ولكنهم ما زالوا به حتى أكرهوه على الخروج معهم، ثم نجاه الله عز وجل بفضله ورحمته، وكاد أن يهلك، وهذه جملة من أخباره رحمه الله تنبئ بذلك: عن سليمان بن علي الربعي قال: لما كانت فتنة ابن الأشعث، إذ قاتل الحجاج بن يوسف، انطلق عقبة بن عبد الغافر وأبو الجوزاء وعبد الله بن غالب في نظرائهم، فدخلوا على الحسن فقالوا: يا أبا سعيد! ما تقول في قتال هذا الطاغية الذي سفك الدم الحرام، وأخذ المال الحرام، وترك الصلاة، وفعل وفعل؟! قال: وذكروا من فعل الحجاج، قال: فقال الحسن: أرى ألا تقاتلوه، فإنها إن تك عقوبة من الله فما أنتم برادي عقوبة الله بأسيافكم. يعني: إذا أراد الله عز وجل أن يعاقبكم به فما أنتم برادي عقوبة الله بأسيافكم. قال: وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين. قال: فخرجوا من عنده وهم يقولون: نطيع هذا العلج؟! يعني: الأعجمي؛ لأن أصله مولى وليس عربياً أصيلاً، وهم عرب، فقالوا: نطيع هذا العلج؟! قال: وهم قوم عرب. قال: وخرجوا مع ابن الأشعث، فقتلوا جميعاً. وعن الحسن قال: لو أن الناس إذ ابتلوا من قبل سلطانهم صبروا ما لبثوا أن يفرج عنهم، ولكنهم يفزعون إلى السيف فيوكلون إليه، فوالله! ما جاءوا بيوم خير قط. وهذه عادة الخروج على الحكام غالباً لا يجنى منها إلا الدماء والأشلاء، ولا يكون فيها مصلحة للإسلام والمسلمين، والدارس لتاريخ الإسلام يرى أمثال هذه الفتنة كثيراً، ولا ينتج عنها عز الإسلام. وعن أيوب قال: قيل لـ ابن الأشعث: إن سرك أن يقتلوا حولك كما قتلوا حول جمل عائشة فأخرج الحسن، فأرسل إليه فأكرهه. وعن ابن عون قال: استبطأ الناس أيام ابن الأشعث، فقالوا له: أخرج هذا الشيخ، يعني: الحسن، قال ابن عون: فنظرت إليه بين الجسرين وعليه عمامة سوداء، قال: فغفلوا عنه فألقى نفسه في بعض تلك الأنهار حتى نجا منهم، وكاد يومئذ أن يهلك. يعني: كأنهم أخذوه جبراً ليكون معهم؛ حتى ينضم الناس معه إذا رأوا الحسن، ثم هرب منهم. وعن سلم بن أبي الذيال قال: سأل رجل الحسن وهو يسمع وأناس من أهل الشام، فقال: يا أبا سعيد! ما تقول في الفتن مثل يزيد بن المهلب وابن الأشعث؟ فقال: لا تكن مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، فقال رجل من أهل الشام: ولا مع أمير المؤمنين يا أبا سعيد؟! فغضب، ثم قال بيده فخطر بها، ثم قال: ولا مع أمير المؤمنين يا أبا سعيد؟ نعم، ولا مع أمير المؤمنين. فظاهر الكلام أنه لا يكون مع الذين خرجوا ولا مع جند الحجاج، يعني: يعتزل الفريقين، فقال: ولا مع أمير المؤمنين يا أبا سعيد؟ فغضب وقال: ولا مع أمير المؤمنين. وعن ابن عون قال: كان مسلم بن يسار أرفع عند أهل البصرة من الحسن، حتى خف مع ابن الأشعث، فلم يزل في علو منها بعد، وسقط الآخر. يعني: لما انضم مسلم بن يسار لـ ابن الأشعث خف ولم يخف الحسن، فصار الحسن في علو وسقط الآخر.

شيوخ الإمام الحسن البصري وتلامذته رحمهم الله

شيوخ الإمام الحسن البصري وتلامذته رحمهم الله شيوخه: قال الحافظ: رأى علياً رضي الله عنه وطلحة وعائشة، وكتب للربيع بن زياد والي خراسان في عهد معاوية، وروى عن أبي بن كعب وسعد بن عبادة وعمر بن الخطاب ولم يدركهم. يعني: روى عنهم مرسلاً. وعن ثوبان وعمار بن ياسر وأبي هريرة وعثمان بن أبي العاص ومعقل بن سنان ولم يسمع منهم. وقال الذهبي: روى عن عمران بن حصين والمغيرة بن شعبة وعبد الرحمن بن سمرة وأبي بكرة والنعمان بن بشير وجندب بن عبد الله وسمرة بن جندب وابن عباس وعمر وجابر وغيرهم. تلامذته: قال الحافظ: وعنه حميد الطويل. ويزيد بن أبي مريم وأيوب السختياني وقتادة بن دعامة وعوف الأعرابي وبكر بن عبد الله المزني وجرير بن حازم وأبو الأشهب والربيع بن صبيح وغيرهم.

درر من أقوال الإمام الحسن البصري رحمه الله

درر من أقوال الإمام الحسن البصري رحمه الله عن عمران بن خالد قال: قال الحسن: إن المؤمن يصبح حزيناً ويمسي حزيناً، ولا يسعه غير ذلك؛ لأنه بين مخافتين: بين ذنب قد مضى لا يدري ما الله يصنع فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما يصيب فيه من المهالك. يعني: له ذنوب في الماضي لا يدري هل غفرت أم لا، وكذلك لا يدري هل يصيبه شيء من المهالك في بقية عمره، فلابد أن يكون حزيناً. وعن عمران القصير قال: سألت الحسن عن شيء فقلت: إن الفقهاء يقولون كذا وكذا، فقال: وهل رأيت فقيهاً بعينك؟ إنما الفقيه: الزاهد في الدنيا، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه عز وجل. وعن طلحة بن صبيح عن الحسن قال: المؤمن من يعلم أن ما قال الله عز وجل كما قال، المؤمن أحسن عملاً، وأشد الناس خوفاً، لو أنفق جبلاً من مال ما أمن دون أن يعاين -يعني: الآخرة- ولا يزداد صلاحاً وبراً وعبادة إلا ازداد فرقاً. وهذا له شاهد من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية)، فكلما ازداد الإنسان علماً وصلاحاً وعبادة يزداد خشية من الله عز وجل؛ لأنه يعلم من صفات الله عز وجل ومن عظمته من أمور الآخرة ما يجعله يزداد خوفاً من الله عز وجل. والله تعالى حصر الخشية في العلماء، فقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]. وقيل للشعبي: فلان عالم، قال: إنما العالم من يخشى الله. قال: ولا يزداد صلاحاً وبراً وعبادة إلا ازداد فرقاً، يقول: لا أنجو، والمنافق يقول: سواد الناس كثير، وسيغفر لي ولا بأس علي وينسى العمل، ويتمنى على الله تعالى. وعن هشام بن حسان قال: سمعت الحسن يحلف بالله ما أعز أحد الدرهم إلا أذله الله. وبالمقابل ما أعز أحد دين الله إلا أعزه الله، وإذا أهان دين الله عز وجل أهانه الله عز وجل، {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18]. وعن حزم بن أبي حزم قال: سمعت الحسن يقول: بئس الرفيقان: الدينار، والدرهم، لا ينفعانك حتى يفارقاك. وعن أبي عبيدة الناجي عن الحسن قال: ابن آدم! ترك الخطيئة أهون عليك من معالجة التوبة، ما يؤمنك أن تكون أصبت كبيرة أغلق دونها باب التوبة، فأنت في غير معمل. وعن زريك بن أبي زريك قال: سمعت الحسن يقول: إن هذه الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل. يعني: من فائدة معرفة الفتنة عند إقبالها أن يعصم الإنسان منها، ولا يعرفها إلا العلماء، ولكن إذا أدبرت عرفها كل جاهل، حيث لا تفيد المعرفة. وعن عمارة قال: كنت عند الحسن فدخل علينا فرقد، وهو يأكل خبيصاً، فقال: تعال فكل، فقال: أخاف ألا أؤدي شكره، فقال الحسن: وتؤدي شكر الماء البارد؟! ويروى أيضاً أنه وزع حلوى في مجلس الحسن فرفض أحد الجالسين وقال: لا أستطيع أن أؤدي شكرها، فقال له: كل يا أحمق! فإن شربة الماء البارد لا تستطيع أن تؤدي شكرها. فعلى كل حال حق الله عز وجل أثقل من أن يقوم به العباد.

وفاة الإمام الحسن البصري رحمه الله

وفاة الإمام الحسن البصري رحمه الله عن عبد الواحد بن ميمون مولى عروة بن الزبير قال: قال رجل لـ ابن سيرين: رأيت طائراً آخذاً أحسن حصاة في المسجد، فقال ابن سيرين: إن صدقت رؤياك مات الحسن. قال: فلم يلبث إلا قليلاً حتى مات. وعن يونس قال: لما حضرت الحسن الوفاة جعل يسترجع، فقام إليه ابنه فقال: يا أبت! قد غممتنا، فهل رأيت شيئاً؟ قال: هي نفس لم أصب بمثلها. قال هشام بن حسان: كنا عند محمد بن سيرين عشية يوم الخميس، فدخل عليه رجل بعد العصر، فقال: مات الحسن، فترحم عليه محمد وتغير لونه، وأمسك عن الكلام، فما تكلم حتى غربت الشمس، وأمسك القوم عنه مما رأوا من وجده عليه. قال الذهبي: وما عاش محمد بن سيرين بعد الحسن إلا مائة يوم. وقال عبد الله بن الحسن: إن أباه عاش نحواً من ثمان وثمانين سنة. قال الذهبي: مات في أول رجب أي: سنة عشر ومائة، وكانت جنازته مشهودة، وصلوا عليه عقب الجمعة بالبصرة، فشيعه الخلق وازدحموا عليه، حتى إن صلاة العصر لم تقم في الجامع. وروي أنه أغمي عليه ثم أفاق إفاقة، فقال: لقد نبهتموني من جنات وعيون ومقام كريم. فرحمه الله رحمة واسعة، وأدخلنا وإياه جنة عالية، قطوفها دانية. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

الإمام الزهري

سلسلة من أعلام السلف_الإمام الزهري الإمام الزهري إمام علم من أئمة أهل الحديث، وممن حمل علوم الشريعة الغراء على خير وجه، قال عنه بعضهم أنه أول من دون العلم وكتبه، وكان من أحفظ أهل زمانه وأحسنهم سياقاً لمتون الأخبار.

بين يدي ترجمة الزهري رحمه الله تعالى

بين يدي ترجمة الزهري رحمه الله تعالى إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: فما زلنا -بحمد الله- في صحبة العلماء الكرام من أئمة الدين، والعلماء العاملين في هذه السلسلة المباركة من أعلام السلف. وهذه الجولة مع إمام من أئمة الحديث، من صغار التابعين، انتهت إليه رئاسة الحديث، إنه شيخ مالك والليث وابن أبي ذئب والسفيانين وغيرهم من أئمة أتباع التابعين. إنه الإمام الزهري، وناهيك به علماً وفضلاً وشرفاً! قال أبو نعيم رحمه الله: ومنهم العالم السوي، والراوي الروي: أبو بكر محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، كان ذا عز وسناء، وفخر وسخاء. لازم سعيد بن المسيب سيد التابعين، ومست ركبته ركبته ثمان سنين، وتردد على عروة بن الزبير وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود والقاسم بن محمد وغيرهم من أئمة التابعين، وكان آية في الحفظ والذكاء، فنهل من علومهم، حتى قال له سعيد بن المسيب: من مات وترك مثلك لم يمت. ساق الله عز وجل له أسباب الشرف والعز في الدنيا والآخرة، فكان كثير المال، عظيم السخاء، له رتبة وشرف في دولة بني أمية، وكان أول من دون الحديث بأمر الخليفة عمر بن عبد العزيز، وكان يتردد بين الشام والحجاز. قال أبو بكر الذهلي: قد جالست الحسن وابن سيرين فما رأيت أحداً أعظم منه. يعني: الزهري. والحسن وابن سيرين أعلى منه طبقة وأكبر منه سناً، ولكن العلم منايح، والله يختص بفضله ورحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

نسب الزهري ومولده وصفته

نسب الزهري ومولده وصفته اسمه ومولده وصفته: اسمه: محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، الإمام العلم، حافظ زمانه، أبو بكر القرشي الزهري المدني، نزيل الشام. مولده: قال دحيم وأحمد بن صالح: في سنة خمسين. وقال خليفة بن خياط: في سنة إحدى وخمسين. صفته: قال محمد بن يحيى بن أبي عمرو عن سفيان: رأيت الزهري أحمر الرأس واللحية، وفي حمرتهما انكفاءً قليلاً، كأنه يجعل فيها كتماً، أي: كأنه يصبغ بالحناء وفيه كتم. قال: وكان الزهري أعيمش وعليه جميمة. وعن يعقوب بن عبد الرحمن قال: رأيت الزهري قصيراً، قليل اللحية، له شعرات طوال، خفيف العارضين. قال الذهبي: كان رحمه الله محتشماً جليلاً بزي الأجناد، له صولة كبيرة في دولة بني أمية. وقال محمد بن إشكاب: كان الزهري جندياً. قال الذهبي: كان برتبة أمير.

ثناء العلماء على الزهري رحمه الله تعالى

ثناء العلماء على الزهري رحمه الله تعالى ثناء العلماء عليه: عن عمرو بن دينار قال: ما رأيت أحداً أبصر للحديث من ابن شهاب. وقال عمر بن عبد العزيز لجلسائه: هل تأتون ابن شهاب؟ قالوا: إنا لنفعل. قال: فأتوه فإنه لم يبق أحد أعلم بسنة ماضية منه. فهو حصل علم فقهاء المدينة السبعة، ثم لقن هذا العلم الجليل لأئمة أتباع التابعين كـ مالك والسفيانين والليث بن سعد وغيرهم. وقال محمد بن عبد الملك في حديثه: والحسن وضرباؤه يومئذ أحياء. يعني: أن عمر بن عبد العزيز قال هذا القول وكبار التابعين كـ الحسن وابن سيرين أحياء. وعن الليث قال: ما رأيت عالماً قط أجمع من الزهري، يحدث في الترغيب فتقول: لا يحسن إلا هذا، وإن حدث عن العرب والأنساب قلت: لا يحسن إلا هذا، وإن حدث عن القرآن والسنة كذلك. وعن الدراوردي قال: أول من دون العلم وكتبه ابن شهاب. وقال أحمد بن حنبل: الزهري أحسن الناس حديثاً وأجود الناس إسناداً. وقال أبو حاتم: أثبت أصحاب أنس: الزهري. وعن إبراهيم بن سعد عن أبيه قال: ما رئي أحد جمع بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جمع ابن شهاب. فكأن أكثر واحد جمع السنة ابن شهاب؛ لأنه حصل علم كبار التابعين، إضافة إلى أنه أدرك بعض الصحابة كـ أنس بن مالك، وكان شيخ من بعده من أئمة أتباع التابعين. وقيل لـ مكحول: من أعلم من لقيت؟ قال: ابن شهاب. قيل: ثم من؟ قال: ابن شهاب. قيل: ثم من؟ قال: ابن شهاب. كأن ليس هناك أحد يدانيه. وقال أحمد بن عبد الله العجلي: أدرك من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنس بن مالك وسهل بن سعد وعبد الرحمن بن أزهر ومحمود بن الربيع الأنصاري، وروى عن عبد الله بن عمر نحواً من ثلاثة أحاديث، وروى عن السائب بن يزيد. وقال أبو بكر بن منجويه: رأى عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من أحفظ أهل زمانه وأحسنهم سياقاً لمتون الأخبار، وكان فقيهاً فاضلاً. وعن جعفر بن ربيعة قال: قلت لـ عراك بن مالك: من أفقه أهل المدينة؟ قال: أفقههم فقهاً وأعلمهم بما مضى من أمر الناس سعيد بن المسيب، وأما أغزرهم حديثاً فـ عروة بن الزبير، ولا تشاء أن تفجر من عبيد الله بن عبد الله - أي: ابن عتبة بن مسعود - بحراً إلا فجرته. قال عراك: فأعلمهم عندي جميعاً ابن شهاب، فإنه جمع علمهم جميعاً إلى علمه. وعن يونس عن ابن شهاب قال: قال لي سعيد بن المسيب: ما مات رجل ترك مثلك. أي: كأن سعيد بن المسيب ترك نسخة أخرى لما عنده من العلم.

أسباب تفوق الزهري في العلم

أسباب تفوق الزهري في العلم أسباب تفوقه في العلم: قوة حفظه، وكتابته كل ما يسمع، ومدارسته العلم ومذاكرته، وملازمته أهل العلم وخدمتهم والقرب منهم وتوقيرهم، والأخذ بالأسباب التي تساعد على الحفظ؛ وتجنب ما يؤدي إلى النسيان. ونذكر ذلك بشيء من التفصيل:

السبب الأول: قوة حفظه

السبب الأول: قوة حفظه قال الذهبي: ومن حفظ الزهري أنه حفظ القرآن في ثمانين ليلة. روى ذلك عنه ابن أخيه محمد بن عبد الله. وعن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري قال: ما استعدت حديثاً قط -أي: ما طلب إعادة حديث؛ لأنه كان يحفظ من أول مرة- وما شككت في حديث إلا حديثاً واحداً، فسألت صاحبي فإذا هو كما حفظت. وعن الليث قال: كان ابن شهاب يقول: ما استودعت قلبي شيئاً قط فنسيته.

السبب الثاني: كتابته كل ما يسمع

السبب الثاني: كتابته كل ما يسمع عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال: كنت أطوف أنا وابن شهاب، ومع ابن شهاب الألواح والصحف. قال: وكنا نضحك به. وفي رواية: كنا نكتب الحلال والحرام، وكان ابن شهاب يكتب كل ما سمع، فلما احتيج إليه علمت أنه أعلم الناس. وعن محمد بن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: كان ابن شهاب يختلف إلى الأعرج، وكان الأعرج يكتب المصاحف فيسأله عن الحديث، ثم يأخذ قطعة ورقة، فيكتب فيها ثم يتحفظ، فإذا حفظ الحديث مزق الرقعة. وعن صالح بن كيسان قال: كنت أطلب العلم أنا والزهري، قال: فقال: نكتب السنن، قال: فكتبنا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: تعال نكتب ما جاء عن الصحابة. قال: فكتب ولم أكتب فأنجح وضيعت. أي: لم يقتصر على كتابة الأحاديث المرفوعة، ولكنه كتب أيضاً الوارد عن الصحابة.

السبب الثالث: مدارسته العلم ومذاكرته

السبب الثالث: مدارسته العلم ومذاكرته عن الأوزاعي عن الزهري قال: إنما يذهب العلم النسيان وترك المذاكرة. وعن يعقوب بن عبد الرحمن: أن الزهري كان يكتب العلم عن عروة وغيره، فيأتي جارية له نائمة فيوقظها فيقول لها: حدثني فلان وفلان بكذا، فتقول: ما لي ولهذا؟ فيقول: قد علمت أنك لا تنتفعين به، ولكن سمعت الآن فأردت أن أستذكره. يعني: أنه كان يوقظ الجارية ويخبرها بالحديث الذي حفظه فيقول لها: حدثني فلان وفلان بكذا، فتقول: ما لي ولهذا؟ فيقول: قد علمت أنكِ لا تنتفعين به؛ ولكن سمعته فأردت أن أستذكره. فكأنه عندما لا يجد أحداً يذاكره الحديث كان يوقظ جاريته ويذاكرها أو يحدثها بالحديث.

السبب الرابع: ملازمته أهل العلم وخدمتهم والقرب منهم

السبب الرابع: ملازمته أهل العلم وخدمتهم والقرب منهم عن مالك عن الزهري قال: تبعت سعيد بن المسيب في طلب حديث ثلاثة أيام. وعن معمر قال: سمعت الزهري يقول: مست ركبتي ركبة سعيد بن المسيب ثمان سنين. وهي إشارة إلى أدب من آداب طلب العلم وهي القرب من العالم، وكما في حديث جبريل عندما أتى في صورة رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم: شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه أحد من الصحابة، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، وجعل كفيه على فخذيه، وسأل عن الإسلام والإيمان والإحسان، فالقرب من أهل العلم سبب للبركة في العلم. وعن مالك بن أنس عن الزهري قال: خدمت عبيد الله بن عبد الله بن عتبة حتى كان ليقول: من بالباب؟ فتقول الجارية: غلامك الأعيمش. فظنت الجارية أنه عبد من عبيده فتقول: غلامك الأعيمش، قال: وإن كنت لأخدمه حتى لأستقي له وضوءه.

السبب الخامس: توقير أهل العلم

السبب الخامس: توقير أهل العلم عن معمر عن الزهري قال: إن كنت لآتي باب عروة فأجلس، ثم أنصرف، ولا أدخل، ولو أشاء أن أدخل لدخلت؛ إعظاماً له. وعن سفيان قال: كنت أسمع الزهري يقول: حدثني فلان وكان من أوعية العلم، ولا يقول: كان عالماً.

السبب السادس: الأخذ بالأسباب التي تساعد على الحفظ وتجنب ما يؤدي إلى النسيان

السبب السادس: الأخذ بالأسباب التي تساعد على الحفظ وتجنب ما يؤدي إلى النسيان عن إسماعيل المكي قال: سمعت الزهري يقول: من سره أن يحفظ الحديث فليأكل الزبيب. قال الحاكم: لأن زبيب الحجاز حار حلو رقيق، فيه يبس مقطع للبلغم. وعن الليث عن ابن شهاب: أنه كان يسمر على العسل. فالعسل من أسباب الحفظ، فقد كان وكيع يشرب العسل ويجلس الساعات الطويلة وهو يحدث، ويقول: اسقونا وحدثونا، فقد كان يكثر شرب العسل ولا يأكل شيئاً من التفاح. وعن ابن وهب عن الليث قال: كان ابن شهاب يقول: ما استودعت قلبي شيئاً، وكان يكره أكل التفاح وسؤر الفأر، وكان يشرب العسل ويقول: إنه يذكره.

سخاء الزهري وكرمه في العلم

سخاء الزهري وكرمه في العلم عن الليث قال: كان ابن شهاب يختم حديثه بدعاء جامع يقول: اللهم أسألك من كل خير أحاط به علمك في الدنيا والآخرة، وأعوذ بك من كل شر أحاط به علمك في الدنيا والآخرة. قال: وكان من أسخى من رأيت، كان يعطي فإذا فرغ ما معه، يستلف من عبيده ويقول: يا فلان! أسلفني كما تعرف، وأضعف لك كما تعلم، وكان يطعم الناس الثريد ويسقيهم العسل. وعن مالك قال: كان ابن شهاب من أتقى الناس، فلما أصاب تلك الأموال قال له مولى وهو يعظه: قد رأيت ما مر عليك من الضيق، فانظر كيف تكون، أمسك عليك مالك، قال: إن الكريم لا تحنكه التجارب. فكان ينفق كثيراً حتى يستدين، وإذا نصح يقول: إن الكريم لا تحنكه التجارب. وعن عقيل بن خالد: أن ابن شهاب كان يخرج إلى الأعراب يفقههم، فجاء أعرابي وقد نفد ما بيده، فمد الزهري يده إلى عمامته فأخذها فأعطاه، وقال: يا عقيل! أعطيك خيراً منها. وعن عمرو بن دينار قال: ما رأيت أحداً أهون عليه الدينار والدرهم من ابن شهاب، وما كانت عنده إلا مثل البعرة. وعن مالك بن أنس قال: قال الزهري: وجدنا السخي لا تنفعه التجارب. ولـ فايد بن أقرم يمدح الزهري: ذر ذا وأثن على الكريم محمد واذكر فواضله على الأصحاب وإذا يقال من الجواد بماله قيل: الجواد محمد بن شهاب أهل المدائن يعرفون مكانه وربيع بادية على الأعراب

قصة دخول الزهري على بني أمية وعدم مداهنته في الحق

قصة دخول الزهري على بني أمية وعدم مداهنته في الحق كان بعض العلماء يمنع من الدخول على الأمراء، وينصح من أراد أن يأمرهم أن يأمرهم من بعد، يعني: خشية أن يميل قلبه إليهم، ومنهم من كان يرى الدخول عليهم لنصحهم، فمن الذين كانوا يرون الدخول عليهم الإمام مالك، ولما قيل له: إنك تغشى الأمراء وتدخل عليهم وهم يفعلون كذا وكذا، فقال: يرحمك الله! فأين الجهر بالحق؟ فكان لدى العلماء قوة في الجهر بالحق، من هؤلاء أيضاً الإمام الزهري، كان قريباً من أمراء بني أمية، ولم يكن يداهنهم، بل يجهر أمامهم بكلمة الحق. قال ابن أبي ذئب: ضاقت حال الزهري ورهقه دين، فخرج إلى الشام فجالس حويصة بن ذؤيب. قال ابن شهاب: فبينما نحن معه نسمر إذ جاءه رسول لـ عبد الملك بن مروان، فذهب به إليه ثم رجع، فقال: من منكم يحفظ قضاء عمر في أمهات الأولاد؟ قلت: أنا. قال: قم، فدخلنا على عبد الملك، فإذا هو جالس على نمرقة بيده مخصرة وعليه غلالة ملتحف بسبيبة بين يديه شمعة. قال: من أنت؟ فانتسبت له -ذكر نسبه- فقال: إن كان أبوك لنعاراً في الفتن -أي: يثير الفتن على الدولة الأموية -قلت: يا أمير المؤمنين! عفا الله عما سلف. قال: اجلس: فجلست. قال: تقرأ القرآن؟ قلت: نعم. قال: اقرأ من سورة كذا ومن سورة كذا فقرأت، فقال: أتفرض؟ -يعني: أتعلم علم الفرائض؟ - قلت: نعم. قال: فما تقول في امرأة تركت زوجها وأبويها؟ قلت: لزوجها النصف ولأمها السدس ولأبيها ما بقي، قال: أصبت الفرض وأخطأت اللفظ، إنما لزوجها النصف ولأمها ثلث ما بقى. هات حديثك. قلت: حدثني سعيد بن المسيب فذكر قضاء عمر في أمهات المؤمنين، فقال: وهكذا حدثني سعيد. وذلك لأن عبد الملك بن مروان كان يتعلم من سعيد بن المسيب، ولكن لما ولي الخلافة بعد وفاة أبيه شغل عن ذلك بالملك وترك طلب العلم. فقال: هكذا حدثني سعيد. فقلت: يا أمير المؤمنين! اقض ديني، قال: نعم. قال: وتفرض لي؟ يعني: تجعل لي راتباً ثابتاً، قال: لا، والله! ما نجمعهما على أحد، قال: فتجهزت إلى المدينة. قال الشافعي: حدثنا عمي قال: دخل سليمان بن يسار على هشام بن عبد الملك فقال هشام: يا سليمان! من الذي تولى كبره منهم؟ قال: عبد الله بن أبي ابن سلول. قال: كذبت، هو علي، فدخل ابن شهاب فسأله هشام فقال: هو عبد الله بن أبي، قال: كذبت، هو علي. فقال الإمام الزهري: أنا أكذب؟ لا أب لك، فوالله! لو نادى منادٍ من السماء: إن الله أحل الكذب، ما كذبت، حدثني سعيد وعروة وعبيد الله وعلقمة بن وقاص عن عائشة: أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي. قال: فلم يزل القوم يغرون به، فقال له هشام: ارحل، فوالله! ما ينبغي لنا أن نحمل عن مثلك. قال: ولمَ، أنا اغتصبتك على نفسي أو أنت اغتصبتني على نفسي؟ فخل عني. فقال له: لا، ولكن استدنت ألفي ألف، فقال: قد علمت وأبوك قبلك أني ما استدنت هذا المال عليك ولا على أبيك. قال هشام: إنا لن نهيج الشيخ، فأمر فقضي عنه ألف ألف، فأخبر بذلك فقال: الحمد لله الذي هذا هو من عنده. فهذه بعض الأخبار التي تدل على أنه كان يجهر بكلمة الحق مع قربه من الحكام والأمراء.

شيوخ الزهري وتلامذته

شيوخ الزهري وتلامذته شيوخه: روى عن سهل بن سعد وأنس بن مالك لقيه بدمشق والسائب بن يزيد وعبد الله بن ثعلبة بن صغير ومحمود بن الربيع وغيرهم. وكما ذكرنا روى عن عشرة من الصحابة رضي الله عنهم، بالإضافة إلى أئمة التابعين كفقهاء المدينة السبعة. تلامذته: قال الذهبي: حدث عنه عطاء بن أبي رباح وهو أكبر منه، ومات قبله ببضع وعشرين سنة. وعمرو بن دينار وعمرو بن شعيب وقتادة بن دعامة وزيد بن أسلم وطائفة من أقرانه ومنصور بن المعتمر وأيوب السختياني ويحيى بن سعيد الأنصاري وغيرهم.

درر من أقوال الزهري رحمه الله

درر من أقوال الزهري رحمه الله عن معمر عن الزهري قال: إذا طال المجلس كان للشيطان فيه نصيب. وعن ابن أبي رواد عن ابن شهاب قال: العمائم تيجان العرب. وبعض الناس يجعلون هذا حديثاً مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك كثير من الأحاديث التي يتداولها الناس هي في الأصل قول لبعض السلف أو حكمة، فيضعون لها إسناداً، أو يظنها بعض الناس لجهلهم حديثاً مرفوعاً، منها هذه المقالة: العمائم تيجان العرب، يظنون أنها حديث نبوي، وهي من قول الإمام الزهري. قال: العمائم تيجان العرب، والحبوة حيطان العرب، والاضطجاع في المسجد رباط المؤمنين. وعن يونس قال: قال الزهري: إياك وغلول الكتب، قلت: وما غلولها؟ قال: حبسها. يعني: أن يستعير إنسانٌ كتاباً مثلاً، فيحبسه ويمنع صاحبه من الانتفاع به، أو حتى أن يقرضه إلى غيره. وعن أبي يحيى عن الزهري قال: استكثروا من شيء لا تمسه النار. قيل: وما هو؟ قال: المعروف. وعن سفيان قال: سئل الزهري عن الزهد؟ فقال: من لم يمنعه الحلال شكره ولم يغلب الحرام صبره. وعن محمد بن إسحاق عن الزهري قال: إن للعلم غوائل - يعني: آفات - فمن غوائله: أن يترك العالم حتى يذهب بعلمه، يعني: لا ينتفع به. ومن غوائله: النسيان، ومن غوائله: الكذب فيه، وهو أشد غوائله. وروى معمر عن الزهري قال: ما عبد الله بشيء أفضل من العلم. وعن يونس عن الزهري قال: العلم وادٍ، فإذا هبطت وادياً فعليك بالتؤدة حتى تخرج منه. وعن الزهري قال: كنا نأتي العالم، فما نتعلم من أدبه أحب إلينا من علمه. يعني: ما يأخذون من سمته وهديه وأدبه أفضل عندهم مما يسمعونه من الأحاديث المسندة؛ لأنهم قد يسمعون هذه الأحاديث من غيره، يعني: ممن ليس في درجته من الأدب. وعن الأوزاعي عن الزهري قال: كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة، والعلم يقبض قبضاً سريعاً، فبعز العلم ثبات الدين والدنيا، وفي ذهاب العلم ذهاب ذلك كله. وقال حماد بن زيد: كان الزهري يحدث ثم يقول: هاتوا من أشعاركم وأحاديثكم؛ فإن الأذن مجاجة، وإن للنفس حمضة.

وفاة الزهري رحمه الله تعالى

وفاة الزهري رحمه الله تعالى قال إبراهيم بن سعد وابن أخي الزهري: مات سنة (124هـ). وقال خليفة: مات لسبع عشرة خلت من رمضان سنة (124هـ). أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

الإمام الشعبي

سلسلة من أعلام السلف_الإمام الشعبي الإمام الشعبي رحمه الله تعالى من أئمة التابعين، وكان فقيهاً عالماً بالسنة وبالمغازي، متورعاً عن الفتوى ذاماً للرأي، أخذ عن الصحابة رضي الله عنهم، وبلغ في العلم والدين منزلة رفيعة، فرحمه الله تعالى رحمة الأبرار.

بين يدي ترجمة الشعبي

بين يدي ترجمة الشعبي عالمنا في هذه الحلقة من السلسلة المباركة نحيف الجسم، عظيم القدر، جبل من جبال العلم، وإمام من أئمة التابعين، أدرك ما يقرب من خمسين صحابياً، وكانت له حلقة عظيمة في وجود أكابر الصحابة رضي الله عنهم، رآه ابن عمر رضي الله عنهما فقال: كأنه قد شاهد معنا، ذو دعابة وذكاء، يرغب الملوك في قربه، ويحتاج الجميع إلى علمه، أرسله عبد الملك بن مروان إلى ملك الروم فتعجب الملك لماذا لم يؤمره العرب عليهم؟ وهذه القصة ذكرها الذهبي في سيره عن ابن عائشة قال: وجه عبد الملك بن مروان الشعبي رسولاً إلى ملك الروم، فلما انصرف من عنده قال: يا شعبي! أتدري ما كتب به إلي ملك الروم؟ قال: وما كتب يا أمير المؤمنين؟ قال: كنت أتعجب لأهل ديانتك كيف لم يستخلفوا عليهم رسولك. قلت: يا أمير المؤمنين؛ لأنه رآني ولم يرك. وهذا من ذكائه رحمه الله تعالى.

حفظ الإمام الشعبي ونباهة خاطره وسعة علمه

حفظ الإمام الشعبي ونباهة خاطره وسعة علمه حفظه ونباهة خاطره وسعة علمه: عن ابن شبرمة قال: سمعت الشعبي يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء إلى يومي هذا، ولا حدثني أحد قط إلا حفظته، ولا أحببت أن يعيده علي. وعنه عن الشعبي قال: ما سمعت منذ عشرين سنة رجلاً يحدث بحديث إلا أنا أعلم به منه، ولقد نسيت من العلم ما لو حفظه رجل لكان به عالماً. وعن وادع الراسبي عن الشعبي قال: ما أروي شيئاً أقل من الشعر، ولو شئت لأنشدتكم شهراً لا أعيد. وعن أبي مجلز قال: ما رأيت فقيهاً أفقه من الشعبي. وقال مكحول: ما رأيت أعلم بسنة ماضية من الشعبي. وقال داود بن أبي هند: ما جالست أحداً أعلم من الشعبي. وعن عبد الملك بن عمير قال: مر ابن عمر بـ الشعبي وهو يقرأ المغازي، فقال: كأنه كان شاهداً معنا، ولهو أحفظ لها مني وأعلم. وقال عاصم الأحول: ما رأيت أحداً أعلم من الشعبي. فهذه قمم شامخة في سماء المجد، وأئمة في العلم يجهلها أكثر الناس، ومن فوائد دراسة هذه التراجم أن نتعرف على هؤلاء الأعلام حتى نتقرب إلى الله عز وجل بحبهم.

تورع الإمام الشعبي عن الفتوى وذمه الرأي

تورع الإمام الشعبي عن الفتوى وذمه الرأي تورعه عن الفتوى وذمه للرأي: عن محمد بن جحادة أن عامراً الشعبي سئل عن شيء فلم يكن عنده فيه شيء، فقيل له: قل برأيك. فقال: وما تصنع برأيي؟ بل على رأيي. وعن آدم: أن رجلاً سأل إبراهيم -أي النخعي - عن مسألة فقال: لا أدري. فمر عليه عامر الشعبي فقال للرجل: سل ذاك الشيخ، ثم ارجع فأخبرني، فرجع إليه فقال: قال: لا أدري. قال إبراهيم: هذا والله الفقه. وبعض الإخوة الذين سجّلوا للشيخ ابن باز رحمه الله وقد سئل عن راوٍ فقال: لا أدري. فأراد مسجّل البرنامج أن يحذف هذه الكلمة، يظن أن في هذا رفعاً لشأن الشيخ، فأصر الشيخ ابن باز رحمه الله على أن تبقى هذه الكلمة في البرنامج. وقالوا: كان لها أثر عظيم جداً، وهذا موافق لما يقوله العلماء: ينبغي للعالم أن يورث تلامذته: لا أدري. أي: يُكثر منها حتى تُحمل عنه؛ لأنه إذا تجرأ على الشرع وأفتى بعلمه فإن هذا يكون من باب طلب الشرف بالدين، فهو يستحي أن يقول: لا أدري، فيتجرأ على شرع الله عز وجل ويقول بلا علم. وعن مالك بن مغول عن الشعبي قال: لو كانت الشيعة من الطير كانوا رخماً، ولو كانوا من الدواب كانوا حمراً. وعن الوصافي عن عامر الشعبي قال: أحب صالح المؤمنين، وصالح بني هاشم، ولا تكن شيعياً، وارج ما لم تعلم ولا تكن مرجئاً، واعلم أن الحسنة من الله والسيئة من نفسك ولا تكن قدرياً، وأحبب من رأيته يعمل بالخير وإن كان أخرم سندياً. وعن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان الشعبي صاحب آثار، وكان إبراهيم النخعي صاحب قياس. وعن مجالد قال: وكان الشعبي يذم الرأي ويفتي بالنص. قال مجالد: سمعت الشعبي يقول: لعن الله رأيت. وعن الهذلي قال: قال الشعبي: أرأيتم لو قُتل الأحنف بن قيس وقُتل طفل أكانت ديتهما سواء، أم يفضّل الأحنف لعقله وعلمه؟ قلت: سواء. قال: فليس القياس بشيء. وعن ابن أبجر قال: قال الشعبي: ما حدثوك عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم فخذه، وما قالوا برأيهم فبل عليه. وعن صالح بن مسلم قال: قال عامر الشعبي: إنما هلكتم أنكم تركتم الآثار وأخذتم بالمقاييس. وعن الشعبي قال: لا أدري نصف العلم.

قصة خروج الإمام الشعبي مع القراء على الحجاج واعتذاره إليه

قصة خروج الإمام الشعبي مع القراء على الحجاج واعتذاره إليه قصة خروجه مع القراء على الحجاج واعتذاره إليه: قال الذهبي: خرج القراء وهم أهل القرآن والصلاح بالعراق على الحجاج لظلمه، وتأخير الصلاة، والجمع في الحضر، وكان ذلك مذهباً واهياً لبني أمية، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (يكون عليكم أمراء يميتون الصلاة)، فخرج على الحجاج عبد الرحمن بن الأشعث بن قيس الكندي وكان شريفاً مطاعاً، وجدته أخت الصديق فالتف على مائة ألف أو يزيدون، وضاقت على الحجاج الدنيا، وكاد أن يزول ملكه، وهزموه مرات، وعاين التلف وهو ثابت مقدام إلى أن انتصر وتمزق جمع ابن الأشعث، وقُتل خلق كثير من الفريقين، فكان من ظفر به الحجاج منهم قتله إلا من باء منهم الكفر على نفسه فيدعه. عن مجالد عن الشعبي قال: لما قدم الحجاج سألني عن أشياء من العلم فوجدني بها عارفاً، فجعلني عرّيفاً على قومي الشعبيين ومنكباً -يعني رأساً- على جميع همدان، وفرض لي، فلم أزل عنده بأحسن منزلة، حتى كان شأن عبد الرحمن بن الأشعث، فأتاني قراء أهل الكوفة فقالوا: يا أبا عمرو إنك زعيم القراء، فلم يزالوا حتى خرجت معهم، فقمت بين الصفين أذكر الحجاج وأعيبه بأشياء، فبلغني أنه قال: ألا تعجبون من هذا الخبيث؟ أما لئن أمكنني الله منه لأجعلن الدنيا عليه أضيق من مسك جمل -يعني: جلد جمل-، قال: فما لبثنا أن هزمنا فجئت إلى بيتي وأغلقت علي، فمكثت تسعة أشهر، فنُدب الناس لخراسان، فقام قتيبة بن مسلم فقال: أنا لها، فعُقد له على خراسان، فنادى مناديه من لحق بعسكر قتيبة فهو آمن، فاشترى مولى لي حماراً وزودني، ثم خرجت فكنت في العسكر، فلم أزل معه حتى أتينا فرغانة -وهي مدينة وكورة واسعة بما وراء النهر متاخمة لبلاد تركستان- فجلست ذات يوم وقد برق -أي: تحيّر قتيبة بن مسلم - فنظرت إليه فقلت: أيها الأمير عندي علم ما تريد، فقال: من أنت؟ قلت: أعيذك ألا تسأل عن ذلك، فعرف أني ممن يخفي نفسه، فدعا بكتاب فقال: اكتب نسخة، قلت: لا تحتاج إلى ذلك، فجعلت أملي عليه وهو ينظر حتى فرغ من كتاب الفتح. قال: فحملني على بغلة -يعني: أعطاه بغلة- وأرسل إلي بسرق من حرير، وكنت عنده بأحسن منزلة، فإني ليلة أتعشى معه إذا أنا برسول الحجاج بكتاب فيه: إذا نظرت إلى كتابي هذا فإن صاحب كتابك عامر الشعبي، فإن فاتك قطعت يدك على رجلك وعزلتك. قال: فالتفت إلي وقال: ما عرفتك قبل الساعة، فاذهب حيث شئت من الأرض. فهو أراد أن يخفي أمره، وطلب من الشعبي أن يختفي وكأنه ما رآه. ثم قال: فوالله لأحلفن له بكل يمين، فقلت: أيها الأمير! إن مثلي لا يخفى. فقال: أنت أعلم. قال: فبعثني إليه وقال: إذا وصلتم إلى خضراء واسط فقيدوه ثم أدخلوه على الحجاج، فلما دنوت من واسط استقبلني ابن أبي مسلم فقال: يا أبا عمرو! إني لأضن بك عن القتل، إذا دخلت على الأمير فقل كذا وكذا، فلما أُدخلت عليه ورآني قال: لا مرحباً ولا أهلاً، جئتني ولست في الشرف من قومك ولا عريفاً، فقلت: وفعلت، ثم خرجت علي وأنا ساكت. فقال: تكلم؟ فقلت: أصلح الله الأمير، كل ما قلته حق، ولكنا قد اكتحلنا بعدك السهر، وتحلسنا الخوف، ولم نكن في ذلك بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء، فهذا أوان حقنت لي دمي، واستقبلت بي التوبة. قال: قد فعلت ذلك. يعني: هو عرّض بكلام وما قال باطلاً، فهو نوع من المداراة، وليس من المداهنة، لأن المداراة لا تكون على حساب الحق أو الشرع، فقال له: اكتحلنا بعدك السهر، وتحلسنا الخوف، ولم نكن مع ذلك بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء، فهذا أوان حقنت لي دمي. وعن عبادة بن موسى عن الشعبي قال: أُتي بي الحجاج موثقاً، فلما انتهيت إلى باب القصر لقيني يزيد بن أبي مسلم فقال: إنا لله يا شعبي لما بين دفتيك من العلم، وليس بيوم الشفاعة، بؤ للأمير بالشرك والنفاق على نفسك، فبالحري أن تنجو. ولقيني محمد بن الحجاج وقال لي مثل مقالة يزيد. فلما دخلت عليه قال: وأنت يا شعبي فيمن خرج علينا وكثر! فقلت: أصلح الله الأمير أحزن بنا المنزل -يعني: ضاق- وأجدب بنا الجناب، وضاق المسلك، واكتحلني السهر، واستحلسنا الخوف، ووقعنا في خزية لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء. قَال: صدق والله ما بروا في خروجهم علينا، ولا قووا علينا حيث فجروا، فأطلقوا عنه. قال: فاحتاج إلي في فريضة -أي: مسألة من المواريث- فقال: ما تقول في أخت وأم وجد؟ قلت: اختلف فيها خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: عثمان بن عفان و

شيوخ الإمام الشعبي وتلاميذه

شيوخ الإمام الشعبي وتلاميذه شيوخه وتلامذته رحمه الله: قال الحافظ: روى عن علي وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وزيد بن ثابت وقيس بن سعد بن عبادة وقرظة بن كعب وعبادة بن الصامت وأبي موسى الأشعري وأبي مسعود الأنصاري وأبي هريرة والمغيرة بن شعبة وغيرهم. ومن التابعين الذين روى عنهم: الحارث الأعور وخارجة بن الصلت وزر بن حبيش وسفيان بن الليل. تلامذته: قال الحافظ: وعنه: أبو إسحاق السبيعي وسعيد بن عمرو بن أشوع وإسماعيل بن أبي خالد وبيان بن بشر وأشعث بن سوار وتوبة العنبري وغيرهم.

من أقوال الشعبي رحمه الله

من أقوال الشعبي رحمه الله من أقواله رحمه الله: قال أبو الحسن المدائني في كتاب الحكمة: قيل للشعبي: من أين لك كل هذا العلم؟ قال: بنفي الاغتمام، والسير في البلاد، وصبر كصبر الحمام، وبكور كبكور الغراب. وعن ابن شبرمة عن الشعبي قال: إنما سمي هوى؛ لأنه يهوي بأصحابه. وعن أبي الجابية الفراء قال: قال الشعبي: إنا لسنا بالفقهاء، ولكنا سمعنا الحديث فروينا، ولكن الفقيه من إذا علم عمل. وعن مالك بن مغول قال: قيل للشعبي: أيها العالِم، فقال: العالِم من يخاف الله. وعن أبي إسحاق عن الشعبي قال: ما ترك أحد في الدنيا شيئاً لله إلا أعطاه الله في الآخرة ما هو خير له. وعن مجالد عن الشعبي قال: تعايش الناس بالدين زمناً طويلاً حتى ذهب الدين، ثم تعايش الناس بالمروءة زمناً طويلاً حتى ذهبت المروءة، ثم تعايش الناس بالحياء زمناً طويلاً حتى ذهب الحياء، ثم تعايش الناس بالرغبة والرهبة، وأظن أنه سيأتي بعد هذا ما هو أشد منه. وعن ابن عياش عن الشعبي قال: كانت العرب تقول: إذا كانت محاسن الرجل تغلب مساويه فذلكم الرجل الكامل، وإذا كانا متقاربين فذلكم المتماسك، وإذا كانت المساوئ أكثر من المحاسن فذلكم المتهتك. وعن مجالد عن الشعبي قال: شهدت شريحاً وجاءته امرأة تخاصم رجلاً فأرسلت عينها تبكي، فقلت: يا أبا أمية ما أظنها إلا مظلومة، فقال: يا شعبي إن إخوة يوسف جاءوا أباهم عشاء يبكون. أي: البكاء ليس دليلاً على الصدق. قال عيسى بن أبي عيسى الخياط عن الشعبي: إنما كان يطلب هذا العلم من اجتمعت فيه خصلتان: العقل والنسك -يعني: العبادة-، فإن كان ناسكاً ولم يكن عاقلاً قال: هذا أمر لا يناله إلا العقلاء فلم يطلبه، وإن كان عاقلاً ولم يكن ناسكاً قال: هذا أمر لا يناله إلا النساك فلم يطلبه، قال الشعبي: ولقد رهبت أن يكون من يطلبه اليوم من ليست فيه واحدة منهما لا عقل ولا نسك. وعن محمد بن بشر أو بشير قال: قال الشعبي: اتقوا الفاجر من العلماء، والجاهل من المتعبدين؛ فإنهما آفة كل مفتون. وعن داود بن أبي هند عن الشعبي قال: الرجال ثلاثة: رجل، ونصف رجل، ولا شيء، فأما الرجل التام هو الذي له رأي وهو يستشير، وأما نصف الرجل فالذي ليس له رأي وهو يستشير، وأما الذي لا شيء فالذي ليس له رأي ولا يستشير. وعن مجالد عن الشعبي قال: العلم أكثر من أن يُحصى فخذ من كل شيء أحسنه. وقال أيضاً عنه: ليس حسن الجوار أن تكف أذاك عن الجار، ولكن حسن الجوار أن تصبر على أذى الجار. كما في حديث (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قُطعت رحمه وصلها).

وفاة الإمام الشعبي

وفاة الإمام الشعبي وفاته رحمه الله: قال الهيثم بن عدي ويحيى بن بكير: مات سنة (103هـ). زاد يحيى: وسنه (79) سنة. وقال يحيى بن معين وغيره: مات سنة (104هـ). وقال أحمد بن حنبل عن يحيى بن سعيد القطان: مات قبل الحسن بيسير، ومات الحسن سنة (110هـ) بلا خلاف، فرحمه الله رحمة واسعة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

الإمام ابن سيرين

سلسلة من أعلام السلف_الإمام ابن سيرين الإمام ابن سيرين علم من أعلام السلف، وإمام في الورع، كان ثقة مأموناً عالماً فقيهاً إماماً، عالماً بتفسير الرؤيا، وكان شديداً على أهل البدع والأهواء، منكراً على السلاطين، فبمثل هذا الإمام يقتدى، وبمحاسنه وأخلاقه يؤتسى، فهو من مصابيح الدجى ومنارات الهدى.

بين يدي ترجمة الإمام ابن سيرين

بين يدي ترجمة الإمام ابن سيرين إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: فمع علم من أعلام السلف الكرام من علماء التابعين الأعلام وهو محمد بن سيرين إمام في الورع وتأويل الرؤيا. قال أبو نعيم: ومنهم ذو العقل الرصين والورع المتين، المطعم للإخوان والزائرين، ومعظم الرجاء للمذنبين والموحدين أبو بكر محمد بن سيرين، كان ذا ورع وأمانة، وحيطة وصيانة، كان بالليل بكَّاءً نائحاً، وبالنهار سائحاً بساماً، يصوم يوماً ويفطر يوماً. وقال محمد بن جرير الطبري: كان ابن سيرين فقيهاً عالماً ورعاً أديباً كثير الحديث، شهد له أهل العلم والفضل بذلك، وهو حجة. اجتمعت في هذا الإمام خلال من فضل الكبير المتعال، جعلته من أكابر الرجال في الورع والاحتياط في الدين، والاجتهاد في طاعة رب العالمين، مع الديانة والصيانة وكثرة الرواية، ثم هو من بيت علم وفضل وكمال، فقد كان سابع سبعة من إخوته من ثقات التابعين، أُلهم في تأويل الرؤيا، وعلم من علم التعبير ما صار يضرب به المثل في هذا العلم، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21]. فنسأل الله عز وجل أن ينفعنا بعلم هؤلاء الأكابر، ويجمعنا بهم في دار النعيم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

التعريف بالإمام ابن سيرين وذكر صفته

التعريف بالإمام ابن سيرين وذكر صفته اسمه: محمد بن سيرين الأنصاري أبو بكر بن أبي عمرة البصري، أخو أنس ومعبد وحفصة وكريمة ن مولى أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبوه من سبي عين التمر، الذين أسرهم خالد بن الوليد رضي الله عنه. مولده: قال أنس بن سيرين: ولد أخي محمد لسنتين بقيتا من خلافة عمر. قال الحاكم: هكذا وجدت في كتابي: عمر، وقال غيره: عثمان. قال الذهبي: الثاني أشبه، ولو كان أولاهما الأول لكان ابن سيرين في سن الحسن، ومعلوم أن محمداً كان أصغر بسنوات، فالراجح أنه لسنتين بقيتا من خلافة عثمان. صفته: عن يوسف بن عطية قال: رأيت ابن سيرين قصيراً، عظيم البطن، له وفرة - (وفرة). يعني: شعر يصل إلى أذنيه- يفرق شعره، كثير المزاح والضحك، يخضب بالحناء.

ثناء العلماء على الإمام ابن سيرين

ثناء العلماء على الإمام ابن سيرين عن هشام بن حسان قال: حدثني أصدق من أدركت من البشر محمد بن سيرين. وقال محمد بن سعد: كان ثقة مأموناً عالماً رفيعاً فقيهاً إماماً كثير العلم ورعاً، وكان به صمم. أي: ثقل في سمعه. وقال العجلي: بصري تابعي ثقة، وهو من أروى الناس عن شريح وعبيدة السلماني، وإنما تأدب بالكوفيين أصحاب عبد الله بن مسعود. وإخوته: معبد ويحيى وأنس وحفصة أم الهذيل تابعون ثقاة. وعن عمرو بن دينار قال: والله ما رأيت مثل طاوس، فقال أيوب السختياني وكان جالساً: والله لو رأى محمد بن سيرين لم يقله. وعن عثمان البتي قال: لم يكن بالبصرة أحد أعلم بالقضاء من ابن سيرين. وعن شعيب بن الحبحاب قال: كان الشعبي يقول لنا: عليكم بذاك الأصم. يعني: ابن سيرين. وعن ابن عون قال: ثلاثة لم تر عيناي مثلهم: ابن سيرين بالعراق أو بالبصرة، والقاسم بن محمد بالحجاز، ورجاء بن حيوة بالشام، كأنهم التقوا فتواصوا. وعن ابن عون قال: كان محمد من أرجى الناس لهذه الأمة، وأشد الناس إزراءً على نفسه. وعن أم عبدان امرأة هشام بن حسان قالت: كنا نزولاً مع محمد بن سيرين في الدار، فكنا نسمع بكاءه بالليل، وضحكه بالنهار. وعن ابن عوف عن محمد بن سيرين: أنه لما ركبه الدين اغتم لذلك، فقال: إني لأعرف هذا الغم بذنب أصبته منذ أربعين سنة. وعن عبد الله بن السري قال: قال ابن سيرين: إني لأعرف الذنب الذي حمل علي به الدين ما هو؟ قلت لرجل من أربعين سنة: يا مفلس، فحدثت به أبا سليمان الداراني، فقال: قلت ذنوبهم فعرفوا من أين يؤتون، وكثرت ذنوبي وذنوبكم فليس ندري من أين نؤتى. أي: أن الإنسان إذا كانت ذنوبه قليلة ونزل به بلاء فإنه يعرف أنه بسبب ذنب كذا، أما من كان له في كل لحظة ذنب، وفي كل يوم عشرات الذنوب أو مئات الذنوب فلا يدري من أين يؤتى.

ورع الإمام ابن سيرين رحمه الله

ورع الإمام ابن سيرين رحمه الله قال الخطيب البغدادي: وكان محمد أحد الفقهاء من أهل البصرة، والمذكورين بالورع في وقته. وعن مورق العجلي قال: ما رأيت رجلاً أفقه في ورعه، ولا أورع في فقهه من محمد بن سيرين. وقال أبو قلابة: اصرفوه حيث شئتم، فلتجدنه أشدكم ورعاً، وأملككم لنفسه. وعن عبد الحميد بن عبد الله بن مسلم بن يسار قال: لما حبس ابن سيرين في السجن قال له السجان: إذا كان الليل فاذهب إلى أهلك، فإذا أصبحت فتعال، فقال ابن سيرين: لا والله لا أعينك على خيانة السلطان. وعن ابن عون قال: قال محمد في شيء راجعته فيه: إني لم أقل: ليس به بأس، وإنما قلت: لا أعلم به بأساً. وعن جرير بن حازم قال: سمعت محمد بن سيرين يحدث رجلاً فقال: ما رأيت الرجل الأسود؟ ثم قال: أستغفر الله، ما أراني إلا قد اغتبت الرجل. وعن طلق بن وهب الطاحي قال: دخلت على محمد بن سيرين وقد كنت اشتكيت، فقال: ائتِ فلاناً فاستوصفه -يعني: اطلب منه وصفة أو علاجاً- فإنه حسن العلم بالطب، ثم قال: ولكن ائت فلاناً فإنه أعلم منه، ثم قال: أستغفر الله، ما أراني إلا قد اغتبته. والغيبة: هي ذكرك أخاك بما يكره. والإنسان ينبغي له أن يستحضر ما يذكر به أخاه، فإن كان يكره ما يذكره به كان ذلك من الغيبة، فـ ابن سيرين رحمه الله بعدما قال: ائت فلاناً فاستوصفه فإنه حسن العلم بالطب، ثم قال: ولكن ائت فلاناً، فلو أن الأول سمع ذلك لكرهه. وقال بكر بن عبد الله المزني: من أراد أن ينظر إلى أورع من أدركنا فلينظر إلى محمد بن سيرين. وعن يونس بن عبيد قال: لم يكن يعرض لـ محمد أمران في ذمته إلا أخذ بأوثقهما. وعن عمارة بن مهران قال: كنا في جنازة حفصة بنت سيرين فوضعت الجنازة، ودخل محمد بن سيرين صهريجاً يتوضأ فقال الحسن: أين هو؟ قالوا: يتوضأ، صباً صباً، دلكاً دلكاً، عذاب على نفسه وعلى أهله. وقال هشام بن حسان: كان محمد يتّجر فإذا ارتاب في شيء تركه. وعن المدائني قال: كان سبب حبس ابن سيرين في الدين أنه اشترى زيتاً بأربعين ألف درهم، فوجد في زق منه فأرة فقال: الفأرة كانت بالمعصرة. الفأرة وقعت في الزيت فماتت فتنجس الزيت، فصب الزيت كله. وكان يقول: عيرت رجلاً بشيء منذ ثلاثين سنة أحسبني عوقبت به، وكانوا يرون أنه عير رجلاً بالفقر فابتلي به. وعن ميمون بن مهران قال: قدمت الكوفة وأنا أريد أن أشتري البز، فأتيت ابن سيرين بالكوفة فساومته، فجعل إذا باعني صنفاً من أصناف البز قال: هل رضيت؟ فأقول: نعم، فيعيد ذلك علي ثلاث مرات، ثم يدعو رجلين فيشهدهما، ولا يشتري ولا يبيع بهذه الدراهم الحجاجية -نسبة إلى الحجاج - فلما رأيت ورعه ما تركت شيئاً من حاجتي أجده عنده إلا اشتريته حتى لفائف البز.

عبادة الإمام ابن سيرين وبره بأمه رحمه الله

عبادة الإمام ابن سيرين وبره بأمه رحمه الله عن أيوب وهشام: أن ابن سيرين كان يصوم يوماً ويفطر يوماً. وهذا أحب الصيام إلى الله وهو صيام داود. وعن أنس بن سيرين قال: كان لـ محمد سبعة أوراد، فكان إذا فاته شيء من الليل قرأه بالنهار. وعن هشام بن حسان قال: حدثني بعض آل سيرين قال: ما رأيت محمد بن سيرين يكلم أمه قط إلا وهو يتضرع. وعن ابن عون قال: دخل رجل على محمد وعنده أمه فقال: ما شأن محمد. أيشتكي شيئاً؟ قالوا: لا، ولكن هكذا يكون إذا كان عند أمه.

تورع الإمام ابن سيرين عن الفتوى

تورع الإمام ابن سيرين عن الفتوى قال أشعث: كان ابن سيرين إذا سئل عن الحلال والحرام تغير لونه حتى تقول: كأنه ليس بالذي كان. وعن عاصم الأحول قال: كنت عند ابن سيرين فدخل عليه رجل فقال: يا أبا بكر! ما تقول في كذا؟ قال: ما أحفظ فيها شيئاً، فقلنا له: فقل فيها برأيك، قال: أقول فيها برأيي ثم أرجع عن ذلك الرأي، لا والله. وعن ابن شبرمة قال: دخلت على محمد بن سيرين بواسط فلم أر أجبن على فتوى منه، ولا أجرأ على رؤيا منه.

شدة الإمام ابن سيرين على أهل البدع والحكام الجائرين

شدة الإمام ابن سيرين على أهل البدع والحكام الجائرين عن شعيب بن الحبحاب قال: قلت لـ ابن سيرين: ما ترى في السماع من أهل الأهواء؟ قال: لا نسمع منهم ولا كرامة. وعن ابن عون قال: جاء رجل إلى محمد فذكر له شيئاً من القدر، فقال محمد: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، قال ووضع إصبعي يديه في أذنيه، وقال: إما أن تخرج عني وإما أن أخرج عنك. فهو رحمه الله لم يسمح لكلام أهل البدع أن يدخل في أذنيه، فإما أن يمرضه وإما أن يقتنع به فيصير من أهل البدع، وإما أن يحدث عنده شبهات فيظل قلبه مشوشاً. فكانت عادة السلف أنهم لا يجالسون أهل البدع، ولا يسمعون كلامهم، ولا يلقون عليهم سلاماً، وإذا وجدوا مبتدعاً في طريق سلكوا طريقاً آخر. قال: فخرج الرجل، فقال محمد: إن قلبي ليس بيدي، وإني خفت أن ينفث في قلبي شيئاً فلا أقدر على إخراجه منه، فكان أحب إلي ألا أسمع كلامه. وعن عمر بن عبد العزيز قال: سمعت محمد بن سيرين وسمع عمن يسمع القرآن فيصعق، قال: ميعاد ما بيننا وبينهم أن يجلسوا على حائط، فيقرأ عليهم القرآن من أوله إلى آخره؛ فإن سقطوا فهم كما يقولون. وهذا من فعل الصوفية أن الواحد منهم إذا سمع آية صعق، ولكن لم يكن هذا من هدي الصحابة رضي الله عنهم. وعن جعفر بن مرزوق قال: بعث ابن هبيرة الوزير إلى ابن سيرين والحسن والشعبي قال: فدخلوا عليه، فقال لـ ابن سيرين: يا أبا بكر ماذا رأيت منذ قربت من بابنا؟ قال: رأيت ظلماً فاشياً، قال: فغمزه ابن أخيه بمنكبه، فالتفت إليه ابن سيرين فقال: إنك لست تسأل إنما أنا أُسأَل، فأرسل إلى الحسن بأربعة آلاف، وإلى ابن سيرين بثلاثة آلاف، وإلى الشعبي بألفين، فأما ابن سيرين فلم يأخذها، قال هشام: ما رأيت أحداً عند السلطان أصلب من ابن سيرين. فالعلماء لا يحسنون إلا الصدق!

براعة الإمام ابن سيرين في تعبير الرؤيا

براعة الإمام ابن سيرين في تعبير الرؤيا قال الذهبي رحمه الله: قد جاء عن ابن سيرين عجائب يطول الكتاب بذكرها، وكان له في ذلك تأييد إلهي. وعن عبد الله بن مسلم المروزي قال: كنت أجلس إلى ابن سيرين فتركته، وجالست الإباضية -فرقة من الخوارج- فرأيت كأني مع قوم يحملون جنازة النبي صلى الله عليه وسلم، فأتيت ابن سيرين فذكرته له، فقال: مالك جالست أقواماً يريدون أن يدفنوا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. وعن المغيرة بن حفص قال: سئل ابن سيرين فقال: رأيت كأن الجوزاء تقدمت الثريا -يعني: كوكب الجوزاء سبق كوكب الثريا- فقال: هذا الحسن يموت قبلي ثم أتبعه وهو أرفع وأعلى مني منزلاً. وكما ذكرنا في الترجمة السابقة أنه مات بعده بمائةيوم تقريباً. وعن يوسف الصباغ عن ابن سيرين قال: من رأى ربه تعالى في المنام دخل الجنة. ورؤية الله عز وجل في المنام جائزة؛ لأنها ليست رؤية بالبصر، فرؤية البصر لا تحيط بالشيء، والله عز وجل يُرى في الآخرة ولا يدرك؛ لأن الإدراك فوق الرؤيا: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]، فقد تحصل الرؤيا ولا يحصل الإدراك، فرؤية المنام رؤية بالبصيرة. يعني: بالقلب. فرؤية الله عز وجل في المنام جائزة كما في حديث اختصام الملأ الأعلى: (فرأيت ربي عز وجل في أحسن صورة. فقال: يا محمد! فيم يختصم الملأ الأعلى؟). فيقول: من رأى ربه تعالى في المنام دخل الجنة. وعن أبي قلابة: أن رجلاً قال لـ أبي بكر: رأيت كأني أبول دماً، فقال: أتأتي امرأتك وهي حائض؟ قال: نعم. قال: اتق الله ولا تعد. وعن أبي جعفر عن ابن سيرين: أن رجلاً رأى في المنام كأن في حجره صبياً يصيح، فقص رؤياه على ابن سيرين فقال: اتق الله ولا تضرب بالعود. وعن مبارك بن يزيد البصري قال: قال رجل لـ ابن سيرين: رأيت كأني أطير بين السماء والأرض، قال: أنت رجل تكثر المنى. يعني: أحلام اليقظة. وعن هشام بن حسان قال: جاء رجل إلى ابن سيرين وأنا عنده فقال: إني رأيت كأن على رأسي تاجاً من ذهب، فقال له ابن سيرين: اتق الله فإن أباك في أرض غربة، وقد ذهب بصره، وهو يريد أن تأتيه، قال: فما زاده الرجل الكلام، حتى أدخل يده في حجزته فأخرج كتاباً من أبيه يذكر فيه ذهاب بصره، وأنه في أرض غربة، ويأمر بالإتيان إليه.

شيوخ الإمام ابن سيرين وتلامذته رحمهم الله

شيوخ الإمام ابن سيرين وتلامذته رحمهم الله قال الحافظ: روى عن مولاه: أنس بن مالك وزيد بن ثابت والحسن بن علي بن أبي طالب وجندب بن عبد الله البجلي وحذيفة بن اليمان ورافع بن خديج وسليمان بن عامر وسمرة بن جندب وابن عمر وابن عباس وعثمان بن أبي العاص وعمران بن حصين وكعب بن عجرة وغيرهم. وقال الحافظ: روى عنه الشعبي وثابت البناني وخالد الحذاء وداود بن أبي هند وابن عون ويونس بن عبيد وجرير بن حازم وأيوب السختياني وأشعث بن عبد الملك وحبيب بن الشهيد وعاصم الأحول وعوف الأعرابي وقتادة وسليمان التيمي وغيرهم.

درر من أقوال الإمام ابن سيرين رحمه الله

درر من أقوال الإمام ابن سيرين رحمه الله عن أيوب قال: قال محمد: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذوا دينكم. أي: أن العلم الشرعي لا يؤخذ عن أهل البدع ولا عن أهل المعاصي، كما يقول بعضهم: خذوا قرآني ولا تأخذوا دخاني فمثل هذا لا يؤخذ منه قرآن ولا دخان، وإنما يؤخذ العلم والدين من أهل الدين والورع، ومن اشتهر بالصيانة والديانة. وعن ابن عون قال: جاء ناس إلى محمد فقالوا: إنا قد نلنا منك فاجعلنا في حل، فقال: لا أحل لكم شيئاً حرمه الله عليكم. وعن هشام عن محمد قال: كانوا يقولون: المسلم المسلم عند الدراهم. يعني: عند المعاملة بالدينار والدرهم. وعن هشام عن محمد بن سيرين قال: كان مما يقال للرجل إذا أراد أن يسافر في التجارة: اتق الله تعالى واطلب ما قدر لك في الحلال؛ فإنك إن تطلبه من غير ذلك لم تصب أكثر مما قدر لك. فالإنسان يطلب الرزق الحلال، وهو مقدر له رزق محدد، فلو ناله من الحرام فهو رزقه الذي يأتيه، لا يأتيه أكثر مما قدر له، فهو إذا اتقى الله عز وجل في الرزق فليس معنى ذلك أنه سوف يكون مقدراً عليه في الرزق ويأتيه الرزق قليلاً، فبالعكس فالتقوى تكون سبباً في البركة في الرزق: (وإن الرزق ليطلب ابن آدم كما يطلبه أجله، ولو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت). وعن حبيب عن ابن سيرين قال: إذا أردا الله بعبد خيراً جعل له واعظاً من قلبه يأمره وينهاه. وعن قرة بن خالد عن ابن سيرين أنه كان يقول: إنك إن كلفتني ما لم أطق ساءك ما سرك مني من خلق. فالإنسان يطلب ما يطاق. وعن ابن عون قال: سمعت محمد بن سيرين يقول: ثلاثة ليس معها غربة: حسن الأدب، وكف الأذى، ومجانبة الريب.

وفاة الإمام ابن سيرين رحمه الله

وفاة الإمام ابن سيرين رحمه الله قال الذهبي: قال غير واحد: مات محمد بعد الحسن بمائة يوم، سنة (110) هـ. وعن خالد بن خداش قال: حدثنا حماد بن زيد قال: مات ابن سيرين لتسع مضين من شوال سنة (110) هـ. وعن عبد الله بن محمد بن سيرين قال: لما ضمنت على أبي دينه قال لي: بالوفاء به، قلت: بالوفاء به، فابنه وعده أن يقضي عنه دينه، وهذا من أعظم البر، فدعا له بخير، قال: فقضى عبد الله عنه (30000) درهم، فما مات عبد الله حتى قومنا ماله (300000) درهم، أو نحوها. فبورك له في رزقه لبره بأبيه وقضاء دين أبيه. نكتفي بهذا القدر، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه وسلم.

الإمام شعبة

سلسلة من أعلام السلف_الإمام شعبة لقد دعا النبي عليه الصلاة والسلام لمن اعتنى بحديثه وسمعه وحفظه وأتقنه ثم بلغه كما سمعه بالنضارة، وقد نالت هذه الدعوة المباركة من النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً من أئمة الحديث المتقنين، وكان منهم الإمام العلم أمير المؤمنين في الحديث شعبة الخير أبو بسطام، فقد كان شديد الحرص على الحديث وإتقانه، حامل لواء الجرح والتعديل، ومع هذا كان ورعاً عابداً زاهداً في الدنيا وملذاتها رحمه الله رحمة واسعة.

بين يدي ترجمة الإمام شعبة بن الحجاج

بين يدي ترجمة الإمام شعبة بن الحجاج إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. ثم أما بعد. فلا زلنا بحمد الله عز وجل سعداء بصحبة العلماء الأعلام والأئمة الكرام، وهذه الحلقة من حلقات هذه السلسلة المباركة سلسلة التراجم التربوية (من أعلام السلف)، وشيخنا فيها إمام من أئمة الحديث من التابعين، ومن العلماء العاملين، إمام الحديث في أوانه، والمقدّم على سائر أقرانه، كان حماد بن زيد -وناهيك به شرفاً وفضلاً- شيخ ابن المبارك إذا حدّث عنه قال: حدّثنا الضخم عن الضخام شعبة الخير أبو بسطام، إنه شعبة بن الحجاج بن الورد أبو بسطام. وقال بعضهم: وهل العلماء إلا شعبة من شعبة. اشتهر بالزهد والعفاف والورع والكفاف، كان محباً للمساكين معظماً لأهل الدين، مع أنه كان فقيراً من الفقراء، قوموا ثيابه وحماره وسرجه ولجامه ببضعة عشر درهماً، كان إذا حك جلده تناثر منه التراب، ولكنه كان شديد الغيرة على حديث النبي صلى الله عليه وسلم. قال حماد بن زيد: رأيت شعبة قد لبب أبان بن أبي عياش يقول: أستعدي عليك إلى السلطان؛ فإنك تكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فبصر بي. فقال: يا أبا إسماعيل قال: فأتيته فما زلت أطلب إليه حتى خلّصته. وكان شديد التحري، قال: لو حدثتكم عن ثقة ما حدثتكم إلا عن ثلاثة. وقالوا له مرة: حدثنا ولا تحدثنا إلا عن ثقة، فقال: قوموا. فكأنه لم يجد شرطهم. روى عنه مالك نجم السنن بواسطة، مع أن مالكاً لا يفعل ذلك إلا نادراً، والإمام مالك من كبار أئمة أتباع التابعين، وشعبة من صغار التابعين، فالفترة قريبة بين مالك وشعبة، فإذا حدث عنه بواسطة فهذا يدل على حرص الإمام مالك على الرواية عن هذا الإمام. قال العلماء: لولا شعبة لذهب حديث أهل العراق، ولما مات شعبة قال سفيان: مات الحديث. قال الذهبي: كان أبو بسطام إماماً ثبتاً حجة ناقداً جهبذاً صالحاً زاهداً قانعاً بالقوت، رأساً في العلم والعمل منقطع النظير، وهو أول من جرّح وعدّل. أخذ عنه هذا الشأن: يحيى بن سعيد القطان وابن مهدي وطائفة، وكان سفيان الثوري يخضع له ويجله ويقول: شعبة أمير المؤمنين في الحديث. فلا يليق بطلاب العلم الشرعي أن يجهلوا مثل هذه القمم الشامخة، والأمثلة النادرة التي قل أن يسمع الزمان بمثلها. لقد لمع نجمه في سماء كثرت فيها النجوم، واشتهر اسمه في أزمنة هي أزمنة العلم والخير والبركة، والعلماء العاملين، في زمن سفيان ومالك والأوزاعي والليث بن سعد وحماد بن زيد وغيرهم، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21]. وهذه فائدة جديدة من فوائد هذه السلسلة المباركة، وهي تبصير أجيال الصحوة بمن لم يشتهر عند العوام من العلماء الكرام والأئمة الأعلام؛ حتى يتقربوا إلى الله عز وجل بحبهم والنسج على منوالهم، نسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياهم جنة عالية قطوفها دانية!

نسب الإمام شعبة ومولده وصفته

نسب الإمام شعبة ومولده وصفته اسمه: شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي الأزدي أبو بسطام الواسطي مولى عبدة بن الأغر مولى يزيد بن المهلب بن أبي صفرة. وقال قعنب بن المحرر: مولى الجهاضم من العتيك. وقال محمد بن سعد: مولى الأشاقر عتاقة. مولده: ولد في سنة (80 هـ) في دولة عبد الملك بن مروان. وقال أبو زيد الهروي ولد سنة (82 هـ). صفته: قال حمزة بن زياد الطوسي: سمعت شعبة وكان ألثغ قد يبس جلده على عظمه من العبادة. يبس جلده على عظمه. أي: ليس بينهما لحم. وعن أبي بحر البكراوي قال: ما رأيت أعبد لله من شعبة، لقد عبد الله حتى حنى جلده على ظهره ليس بينهما لحم. وقال أبو قطن: كانت ثياب شعبة كالتراب، وكان كثير الصلاة، سخياً. وعن عبد العزيز بن أبي رواد قال: كان شعبة إذا حك جسمه انتثر منه التراب، وكان سخياً، كثير الصلاة.

ثناء العلماء على الإمام شعبة

ثناء العلماء على الإمام شعبة قال أبو عبد الله الحاكم: شعبة إمام الأئمة بالبصرة في معرفة الحديث، رأى أنس بن مالك وعمرو بن سلمة الجرمي وسمع من أربعمائة شيخ من التابعين. قال: وحدث عنه من شيوخه: منصور والأعمش وأيوب وداود بن أبي هند وسعد بن إبراهيم يعني قاضي المدينة. قال الذهبي: ومن جلالته قد روى مالك الإمام عن رجل عنه، وهذا قل أن يعمله مالك. وعن أبي داود قال: حدثنا شعبة قال: قال لي سفيان الثوري: أنت أمير المؤمنين في الحديث. وعن أبي النضر قال: كان سليمان بن المغيرة إذا ذكر شعبة قال: سيد المحدثين. وكان شعبة إذا ذكر سليمان بن المغيرة قال: سيد القراء. وعن الفضيل بن زياد قال: سئل أحمد بن حنبل: شعبة أحب إليك حديثاً أو سفيان؟ فقال: شعبة أنبل رجالاً، وأوثق حديثاً. وعن سلم بن قتيبة قال: قدمت البصرة فأتيت الكوفة، فأتيت سفيان فقال لي: من أين أنت؟ فقلت من البصرة قال: ما فعل أستاذنا شعبة؟ وقال يحيى بن معين: شعبة إمام المتقين. وقال أبو زيد الأنصاري: وهل العلماء إلا شعبة من شعبة. وقال ابن معين: كان يحيى بن سعيد -يعني: القطان فهو من الطبقة التي بعد طبقة الإمام شعبة، أما الأنصاري فهو من صغار التابعين- إذا سمع الحديث من شعبة لم يبال ألا يسمعه من غيره. لأن شعبة كان يسمع الحديث أكثر من مرة قبل أن يحدث به من تثبته. وقال محمد بن زيد: إذا خالفني شعبة في حديث صرت إليه. وعن حسن بن عيسى قال: سمعت ابن المبارك قال: كنت عند سفيان فأتاه موت شعبة فقال: اليوم مات الحديث، وقال الشافعي: لولا شعبة لما عُرف الحديث بالعراق. وقال أبو قطن: كتب لي شعبة إلى أبي حنيفة فأتيته، فقال: كيف أبو بسطام؟ قلت: بخير، قال: نعم حشو المصر هو! وقال أحمد بن حنبل: شعبة أثبت من الأعمش في الحكم -أي: ابن عتيبة - وشعبة أحسن حديثاً من الثوري، وقد روى عن ثلاثين شيخاً كوفياً لم يلقهم سفيان، قال: وكان شعبة أمة وحده في هذا الشأن. قال أبو نعيم في وصفه: ومنهم الإمام المشهور في المناقب، مذكور له التقشف والتعبد والتكشف عن الأخبار والتشدد، أمير المؤمنين في الرواية والتحديث، وزين المحدثين في القديم والحديث، أكثر عنايته بتصحيح الآثار والتبري من تحمل الأوزار، المتثبت المحجاج أبو بسطام شعبة بن الحجاج كان للفقر عانقاً، وبضمان الله تعالى واثقاً. وقال يحيى بن سعيد: لا يعدل شعبة عندي أحد.

عبادة الإمام شعبة

عبادة الإمام شعبة عن أبي بكر البكراوي قال: ما رأيت أعبد لله عز وجل من شعبة، لقد عبد الله حتى جف جلده على عظمه ليس بينهما لحم. وعن عمر بن هارون قال: كان شعبة يصوم الدهر كله لا ترى عليه، وكان سفيان يصوم ثلاثة أيام من الشهر ترى عليه. وعن ابن منيع قال: سمعت أبا قطن قال: ما رأيت شعبة ركع قط إلا ظننت أنه قد نسي، ولا قعد بين السجدتين إلا ظننت أنه قد نسي، من إطالته للركوع والقعود بين السجدتين. وقال عبد السلام بن مطهر: ما رأيت أحداً أمعن في العبادة من شعبة. وعن أبي الوليد عن شعبة قال: إذا كان عندي دقيق وقصب -يعني حطباً للفرن- ما أبالي ما فاتني من الدنيا. وعن صالح بن سليمان قال: كان شعبة مولى للأزد، مولده ومنشؤه بواسط، وعلمه كوفي، وكان له ابن يقال له سعد وكان له أخوان: بشار وحماد وكانا يعالجان الصرف، وكان شعبة يقول لأصحاب الحديث: ويلكم الزموا السوق فإنما أنا عيال على أخوين يعني: ينفقان عليه. قال: وما أكل شعبة من كسبه درهماً قط. وعن قراد أبي نوح قال: رأى علي شعبة قميصاً فقال: بكم اشتريت هذا؟ فقلت: بثمانية دراهم، فقال: ويحك، أما تتقي الله، ألا اشتريت قميصاً بأربعة دراهم وتصدقت بأربعة كان خيراً لك؟ قلت: يا أبا بسطام إنا مع قوم نتجمل لهم، قال: إيش نتجمل لهم؟ كأنه ينكر عليه هذه الكلمة. وعن يحيى بن أيوب قال: حدثنا أبو قطن قال: كانت ثياب شعبة لونها لون التراب -وقد كان بعض العلماء يفضّلون الثياب التي بلون التراب حتى لا تحتاج إلى غسل كل فترة- وكان كثير الصلاة كثير الصيام سخي النفس. وعن عبدان بن عثمان عن أبيه قال: قومنا حمار شعبة وسرجه ولجامه ببضعة عشر درهماً. وعن عبد العزيز بن رواد قال: كان شعبة إذا حك جلده انتفض منه التراب. وعن عبد الرحمن بن مهدي قال: ما رأيت أعقل من مالك بن أنس، ولا أشد تقشفاً من شعبة، ولا أنصح للأمة من عبد الله بن مبارك.

أدب شعبة وسماحته وحبه للمساكين

أدب شعبة وسماحته وحبه للمساكين عن أبي داود الطيالسي قال: كنا عند شعبة فجاء سليمان بن المغيرة يبكي، فقال له شعبة: ما يبكيك يا أبا سعيد؟ قال: مات حماري، وذهبت مني الجمعة، وذهبت حوائجي، قال: فبكم أخذته؟ قال: بثلاثة دنانير، قال: فعندي ثلاثة دنانير والله ما أملك غيرها، يا غلام هات تلك الصرة، فإذا فيها ثلاثة دنانير فدفعها إليه، وقال: اشتر بها حماراً ولا تبك. وعن حجاج قال: ركب شعبة حماراً له فلقيه سليمان بن المغيرة فشكى إليه، فقال له شعبة: والله ما أملك إلا هذا الحمار، ثم نزل عنه ودفعه إليه. وعن نضر بن شميل قال: ما رأيت أرحم لمسكين من شعبة، إذا رأى المسكين لا يزال ينظر إليه حتى يغيب عن وجهه. وعن مسلم بن إبراهيم قال: كان شعبة إذا وقف في مجلسه سائل لا يحدث حتى يُعطى، فقام له يوماً سائل ثم جلس، فقال: ما شأنه؟ قال: ضمن عبد الرحمن بن مهدي أن يعطيه درهماً. قال يحيى القطان: كان شعبة من أرق الناس، يُعطي السائل ما أمكنه. وعن أبي داود قال: كنا عند شعبة نكتب ما يملي فسأل سائل؟ فقال شعبة: تصدقوا. فلم يتصدق أحد، فقال: تصدقوا فإن أبا إسحاق حدثني عن عبد الله بن معقل عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) قال: فلم يتصدق أحد، فقال: فإن عمرو بن مرة حدثني عن خيثمة عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة) فلم يتصدق أحد، فقال: تصدقوا فإن محلاً الضبي حدثني عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استتروا من النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة) فلم يتصدق أحد، فقال: قوموا عني فوالله لا حدثتكم ثلاثة أشهر، ثم دخل منزله فأخرج عجيناً فأعطاه السائل، فقال: خذ هذا فإنه طعامنا اليوم. وعن مسلم بن إبراهيم قال: ما دخلت على شعبة في وقت صلاة قط إلا رأيته قائماً يصلي، وكان أبا الفقراء وأمهم، وسمعته يقول: والله لولا الفقراء ما جلست لكم. وهذا يدل على أنه يحدث من أجل أن يتصدق الناس على الفقراء. وعن سليمان بن حرب قال: لو نظرت إلى ثياب شعبة لم تكن تساوي عشرة دراهم، وكان شيخاً كثير الصدقة. فالصدقة ليست خاصة بالأغنياء، بل صدقة الفقير يكون وقعها أكبر، وقد يسبق درهم ألف درهم. وعن مسلم بن إبراهيم قال: سمعت شعبة يقول: لولا المساكين ما حدثت، فإني أُحدث ليعطوا. وعن عفان قال: لولا حوائج لي ما حدثتكم، وكان يسأل لنسوة ضعاف.

احتياط الإمام شعبة في الرواية وتشدده في التوثيق

احتياط الإمام شعبة في الرواية وتشدده في التوثيق عن أبي داود الطيالسي -وهو في الطبقة التي قبل طبقة الإمام أحمد وهي طبقة يحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي وهما من تلامذة كبار أتباع التابعين وصغار التابعين- قال: سمعت شعبة بن الحجاج يقول: كل حديث ليس فيه حدثنا أو أخبرنا فهو خل وبقل. وعن حماد بن سلمة قال: جاء شعبة إلى حميد فسأله عن حديث فحدثه به فقال: أسمعته؟ قال: أحسبه، قال: فقال بيده هكذا -أي لا أريده- فلما قام فذهب، قال: سمعته من أنس ولكن تشدد عليّ فأحببت أن أشدد عليك. فهو شديد الاحتياط للتدليس؛ لأنه كان يعظم أمر التدليس جداً، وكان يقول: لأن أزني أحب إلي من أن أدلّس، فكان يتأكد أن المعروف بالتدليس سمع الحديث فيكتبه عنه، فهو عندما جاء إلى حميد فسأله عن الحديث فحدثه به، فقال: أسمعته؟ قال: أحسبه، فقال بيده هكذا -يعني: لا أريده- فلما قام فذهب، قال: سمعته من أنس ولكن تشدد عليّ فأحببت أن أشدد عليك. وعن خضر بن زياد قال: رئي شعبة متقنعاً في شدة الحر فقيل له: إلى أين أبا بسطام؟ قال: أستعدي على رجل يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن حماد بن زيد قال: لقيني شعبة بن الحجاج ومعه مدرة فقلت: يا أبا بسطام أين تريد؟ قال: إلى أبان بن عياش أدعوه إلى القاضي فإنه يكذب، فقلت له: إني أخاف عليك عبد القليس قال: فكلمته فانصرف، قال حماد: ثم لقيني شعبة بعد ذلك فقال: يا أبا إسماعيل إني نظرت في ذلك فلم يسعني السكوت. وعن أبي أسامة قال: وافقنا من شعبة طِيبَ نفسٍ فقلنا له: حدثنا ولا تحدثنا إلا عن ثقة، فقال: قوموا. وعن يحيى بن سعيد قال: ما رأيت أحداً قط أحسن حديثاً من شعبة. قال أبو نعيم: سمعت شعبة يقول: لأن أزني أحب إليّ من أن أُدلّس. وقال عبد الرحمن بن مهدي: قال شعبة: كنت أتفقد فم قتادة -لأن قتادة مدلّس- فإذا قال سمعت أو حدثنا تحفّظته وإلا تركته. ولذلك إذا كان شعبة هو الراوي عن قتادة -حتى لو كان الحديث بالعنعنة- فهو محمول على السماع؛ لأن شعبة قال: كفيتكم تدليس قتادة. وتجدون في البخاري ومسلم بعض الأحاديث يحدث فيها شعبة عن قتادة بالعنعنة -بدون تصريح بالسماع- فمادام الراوي عن قتادة هو شعبة فيكون هذا الحديث قد صُّرح فيه بالسماع، وإن لم يكن في هذه الرواية ففي رواية أخرى. قال أبو زرعة: سمعت مقاتل وهو ابن محمد يقول: سمعت وكيعاً يقول: إني لأرجو أن يرفع الله لـ شعبة درجات في الجنة بذبه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو الوليد: قال لي حماد بن زيد: إذا خالفني شعبة في حديث صرت إلى قوله، قلت: كيف يا أبا إسماعيل؟ قال: إن شعبة كان لا يرضى أن يسمع الحديث عشرين مرة، وأنا أرضى أن أسمعه مرة. وقال مكي بن إبراهيم: سئل شعبة عن ابن عون؟ فقال: سمن وعسل. قيل: فما تقول في هشام بن حسان؟ قال: خل وزيت، قيل: فما تقول في أبي بكر الهذلي؟ قال: دعني لا أقيء به. وقال أبو الوليد: سألت شعبة عن حديث؟ فقال: والله لا حدثتك به، قلت: ولم؟ قال: لأني لم أسمعه إلا مرة. وقال: شعيب بن حرب: سمعت شعبة يقول: لئن أُقدم فتضرب عنقي أحب إليّ من أن أحدث عن أبي هارون العبدي. وقال بشر بن عمر الزهراني: سمعت شعبة يقول: لئن أخر من السماء -أو من فوق هذا القصر- أحب إليّ من أن أقول قال: الحكم بشيء لم أسمعه منه. قال الذهبي: هذا والله ورع. يعني: أنه لا بد أن يكون قد سمع الحديث بالتصريح. وقال عبد الرحمن بن مهدي قلت لـ شعبة من الذي تترك الرواية عنهم؟ قال: إذا أكثر عن المعروفين من الرواية ما لا يُعرف، أو أكثر الغلط، أو تمادى في غلط مجتمع عليه، ولم يتهم نفسه عند اجتماعهم على خلافه، أو رجل متهم بالكذب وسائر الناس يروي عنهم. فـ شعبة أول من عدّل -يعني: إمام الجرح والتعديل- ثم أخذ ذلك عنه عبد الرحمن بن مهدي

شيوخ الإمام شعبة وتلامذته رحمهم الله

شيوخ الإمام شعبة وتلامذته رحمهم الله شيوخه وتلامذته رحمهم الله: شيوخه: قال الذهبي: حدث عن أنس بن سيرين وإسماعيل بن رجاء. وقد رأى أنس بن مالك وبعض الصحابة ولكن لم يرو عنهم. وحدث عن سلمة بن كهيل وجامع بن شداد وسعيد بن أبي سعيد المقبري وجبلة بن سحيم والحكم بن عتيبة وعمرو بن مرة وغيرهم. تلامذته: قال الخطيب: روى عنه أيوب السختياني والأعمش ومحمد بن إسحاق صاحب السيرة، وإبراهيم بن سعد وسفيان الثوري وشريك بن عبد الله وسفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي ومحمد بن جعفر وعبد الله بن المبارك وغيرهم.

درر من أقوال الإمام شعبة

درر من أقوال الإمام شعبة درر من أقواله: قال عفان: سمعت شعبة يقول: من ذهبنا إلى أبيه فأكرمنا فجاءنا ابنه أكرمناه، ومن أتيناه فأهاننا فأتانا ابنه أهناه! وعن يحيى القطان عن شعبة قال: من الناس من عقله معه، ومن الناس من عقله بفنائه، ومنهم من لا عقل له، فأما الذي عقله معه فالذي يبصر ما يخرج منه قبل أن يتكلم، وأما الذي عقله بفنائه فالذي وذكر كلمة. وعن ابن عيينة قال: سمعت شعبة يقول: من طلب الحديث أفلس، بعت طست أمي بسبعة دنانير. وكان بيعه للطست من أجل الرحلة في طلب الحديث. وقال سلمة بن قتيبة: ربما سمعت شعبة يقول لأصحابه: يا قوم إنكم كلما تقدمتم في الحديث تأخرتم في القرآن. كأنه ينكر على أهل الحديث أن يشتغلوا بالحديث عن القرآن. وعن يزيد بن هارون قال: كان شعبة يقول: لا تكتبوا الحديث إلا عن غني، وكان هو فقيراً يعوله بنو أخيه. وعن مؤمل بن إسماعيل قال: سمعت شعبة يقول: كل حديث ليس فيه حدثنا فهو مثل الرجل في فلاة معه بعير بلا خطام. وقال أبو نوح قراد سمعت شعبة يقول: إذا رأيت المحبرة في بيت إنسان فارحمه، وإن كان في كمك شيء فأطعمه. وعن الأصمعي قال: سمعت شعبة يقول: ما أعلم أحداً فتّش الحديث كتفتيشي، وقفت على أن ثلاثة أرباعه كذب. وهذا فيه شيء من المبالغة، وإلا فكل العلماء حكموا على كل حديث بما يليق به. وعن حمزة بن زياد الطوسي: سمعت شعبة وكان ألثغ قد يبس جلده من العباده، يقول: لو حدثتكم عن ثقة ما حدثتكم إلا عن ثلاثة. وقال يحيى بن سعيد: سمعت شعبة يقول: كل من كتبت عنه حديثاً فأنا له عبد. وقال ابن مهدي: سمعت شعبة يقول: إن هذا العلم يصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة وعن صلة الرحم فهل أنتم منتهون. فكأنه يُنكر على طالب العلم اشتغاله بطلب العلم بحيث يفرط في أشياء هي واجبة عليه وجوباً عينياً. وقال أبو قطن: سمعت شعبة يقول: ما من شيء أخوف عندي من أن يدخلني النار من الحديث.

وفاة الإمام شعبة رحمه الله

وفاة الإمام شعبة رحمه الله وفاته رحمه الله: عن شبابة قال: دخلت على شعبة في يومه الذي مات فيه وهو يبكي، فقلت له: ما هذا الجزع يا أبا بسطام؟ أبشر فإن لك في الإسلام موضعاً، فقال: دعني فلقد وددت أني وقّاد حمام، وأني لم أعرف الحديث. وعن أبي قطن قال: سمعت شعبة يقول: ما من شيء أخوف عندي من أن يدخلني النار من الحديث. يعني: خشية أن يكون قد زاد فيه شيئاً أو نقص منه شيئاً. قال الذهبي: كل من حاقق نفسه في صحة نيته في طلب العلم يخاف من مثل هذا، ويود أن ينجو كفافاً. حتى أن بعض العلماء أوصى بأن تُحرق كتبه أو تُغسل، خشية أن يكون فيها شيء من الزيادة أو النقص. وقال سعد بن شعبة: أوصى أبي إذا مات أن أغسل كتبه فغسلتها، قال الذهبي: وهذا فعله غير واحد بالغسل والحرق والدفن خوفاً من أن تقع في يد إنسان واهم يُزيد فيها أو يغيرها. ويكون هذا من باب الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو لم يكذب عليه ولكن يخشى أن يقع الكتاب في يد كذاب فيزيد فيه شيئاً. وقال ابن منجويه: مولده سنة 82 هـ ومات سنة 160 هـ في أولها، وله يوم مات سبع وسبعون سنة. وهكذا أكثر علماء الحديث كانوا يعمّرون كما قال بعضهم: أهل الحديث طويلة أعمارهم ووجوهم بدعا النبي منضّره وسمعت من بعض المشايخ أنهم أرزاقهم أيضاً به متكثّره نكتفي بهذا القدر، وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم تسليماً.

الإمام مالك

سلسلة من أعلام السلف_الإمام مالك الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة، وارث العلوم النبوية، قصده طلبة العلم من الآفاق وازدحموا عليه، كان عزيزاً في نفسه موقراً لحديث النبي عليه الصلاة والسلام، محتاطاً في الرواية ومتحرياً في نقد الرجال، ورعاً في الفتوى ناصراً للسنة، وقد أثنى عليه العلماء ثناءً جميلاً رحمه الله تعالى.

بين يدي ترجمة الإمام مالك رحمه الله

بين يدي ترجمة الإمام مالك رحمه الله إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: ما زلنا نسعد بحمد الله تعالى مع سلسلة التراجم التربوية، وإمامنا وقدوتنا فيها هو إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله، وارث العلوم النبوية والسنن المصطفوية في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الإمام الذهبي: قد كان هذا الإمام من الكبراء والسادة العلماء، ذا حشمة وتجمل وعبيد ودار فاخرة، ونعمة ظاهرة، ورفعة في الدنيا والآخرة، كان يقبل الهدايا، ويأكل طيباً، ويعمل صالحاً، وما أحسن قول ابن المبارك فيه: صموت إذا ما الصمت زين أهله وفتاق أبكار الكلام المختم وعى ما وعى القرآن من كل حكمة وسيطت له الآداب باللحم والدم وقال أبو مصعب: كانوا يزدحمون على باب مالك حتى يقتتلوا من الزحام، وكنا نكون عنده فلا يكلم ذا ذا، ولا يلتفت ذا إلى ذا، والناس قائلون برءوسهم هكذا. وكانت السلاطين تهابه وهم قابلون منه ومستمعون، وكان يقول: لا ونعم، ولا يقال له: من أين قلت هذا؟ وقال بعضهم: يدع الجواب ولا يراجع هيبة والسائلون نواكس الأذقان نور الوقار وعز سلطان التقى فهو المهيب وليس ذا سلطان والدارس لترجمة الإمام يقف على شيء من أسباب هذه الهيبة وهذا القبول، وقد أشرنا إلى شيء من ذلك في غضون الترجمة، فمن ذلك: أنه كان كثير التعظيم لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أراد أن يحدث اغتسل وتطيب وسرح لحيته وجلس على منصة، ولا يزال يبخر بالعود حتى يفرغ، ومن أعز دين الله أعزه الله عز وجل، ومن نصر دين الله نصره الله عز وجل، قال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ} [الحج:40]. ومن ذلك: قوة حجته في نصر السنة وشدته على أهل الأهواء والبدعة. ومن ذلك: احتياطه في الرواية نصرة للشريعة، فلا يروي إلا عن ثقة، ولا يروي إلا عمن عرف بالرواية وأنه من أهل الحديث، وهو الذي قال: لا يؤخذ العلم عن أربعة: سفيه يعلن السفه وإن كان أروى الناس، وصاحب بدعة يدعو إلى هواه، ومن يكذب في حديث الناس وإن كنت لا أتهمه في الحديث، وصالح عابد فاضل إذا كان لا يحفظ ما يحدث به. قال ابن أبي حاتم: كان مالك رحمه الله أول من انتقى الرجال من الفقهاء بالمدينة، وأعرض عمن ليس بثقة في الحديث، ولم يكن يروي إلا ما صح، ولا يحدث إلا عن ثقة مع الفقه والدين والفضل والنسك. وأصح الأسانيد: مالك عن نافع عن ابن عمر، وأصح الكتب المصنفة في زمانه موطأ مالك كما أشار الشافعي رحمه الله، وذلك قبل تصنيف الصحيحين، وهو لم يجرد الصحيح كما فعل البخاري ومسلم، وأسانيده أنقى الأسانيد، وإن كان قد خلط الأسانيد المسندة ببعض البلاغات عن النبي صلى الله عليه وسلم كما يأتي إشارة إلى ذلك، والله عز وجل يغفر لنا وله، ويدخلنا وإياه جنة عالية، قطوفها دانية.

التعريف بالإمام مالك وذكر صفته

التعريف بالإمام مالك وذكر صفته اسمه ومولده وصفته: اسمه: مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان بن خثيل بن عمرو بن الحارث ذو أصبح الأصبحي الحميري أبو عبد الله المدني، إمام دار الهجرة، وعداده في بني تيم بن مرة من قريش، حلفاء عثمان بن عبيد الله التيمي أخي طلحة بن عبيد الله. مولده: قال الذهبي: مولد الإمام مالك على الأصح في سنة (93هـ) في السنة التي توفي فيها أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونشأ في صيانة ورفاهية وتجمل. صفته: عن مطرف بن عبد الله قال: كان مالك بن أنس طويلاً عظيم الهامة أصلع أبيض الرأس واللحية، شديد البياض إلى الشقر. وعن عيسى بن عمر المدني قال: ما رأيت بياضاً قط ولا حمرة أحسن من وجه مالك، ولا أشد بياض ثوب من مالك. وعن عبد الرحمن بن مهدي قال: ما رأيت أهيب من مالك، ولا أتم عقلاً ولا أشد تقوى.

طلب الإمام مالك للعلم وثناء العلماء عليه

طلب الإمام مالك للعلم وثناء العلماء عليه ابتداء طلبه للعلم وثناء العلماء عليه: قال الذهبي: وطلب مالك العلم وهو ابن بضع عشرة سنة، وتأهل للفتيا وجلس للإفادة وله إحدى وعشرون سنة، وحدث عنه جماعة وهو حيي شاب طري، وقصده طلبة العلم من الآفاق في آخر دولة أبي جعفر المنصور وما بعد ذلك، وازدحموا عليه في خلافة الرشيد إلى أن مات. وعن عبد الله بن المبارك قال: ما رأيت رجلاً ارتفع مثل مالك بن أنس، ليس له كثير صلاة ولا صيام إلا أن تكون له سريرة. يعني: سريرة صالحة من حب الله عز وجل ومن الإخلاص. وقال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي من أثبت أصحاب الزهري؟ قال: مالك أثبت في كل شيء. وقد لمع نجم الإمام مالك في زمن كثرت فيه النجوم. قال الشافعي: إذا ذكر العلماء فـ مالك النجم. وعن ابن عيينة قال: مالك عالم الحجاز وهو حجة زمانه. وقال الذهبي: كان عالم المدينة في زمانه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه زيد بن ثابت وعائشة ثم ابن عمر ثم سعيد بن المسيب ثم الزهري ثم عبيد الله بن عمر ثم مالك. وقال كذلك: لم يكن بالمدينة عالم بعد التابعين يشبه مالكاً في العلم والفقه والجلادة والحفظ. فقد كان فيها بعض العلماء مثل: سعيد بن المسيب والقاسم وسالم وعكرمة ونافع ومن في طبقتهم، ثم زيد بن أسلم وابن شهاب وأبي الزناد ويحيى بن سعيد وصفوان بن سليم وربيعة بن أبي عبد الرحمن ومن في طبقتهم، فلما تفانوا اشتهر ذكر مالك بها، وابن أبي ذئب وعبد العزيز بن الماجشون وفليح بن سليمان والدراوردي وأقرانهم، فكان مالك هو المقدم فيهم على الإطلاق، والذي تضرب إليه آباط الإبل من الآفاق. وقال ابن مهدي: أئمة الناس في زمانهم أربعة: الثوري ومالك والأوزاعي وحماد بن زيد. وقال: ما رأيت أحداً أعقل من مالك. قال الواقدي: كان مالك يجلس في منزله على ضجاع ونمارق مطروحة يمنة ويسرة في سائر البيت لمن يأتي. وكان مجلسه مجلس وقار وحلم، وكان مهيباً نبيلاً ليس في مجلسه شيء من المراء واللغط، وكان الغرباء يسألونه عن الحديث بعد الحديث، وربما أذن لبعضهم فقرأ عليه، وكان له كاتب يقال له: حبيب قد نسخ كتبه ويقرأ للجماعة، فإذا أخطأ فتح عليه مالك وكان ذلك قليلاً. وعن بقية قال: ما بقي على وجه الأرض أعلم بسنة ماضية منك يا مالك.

عزة نفس الإمام مالك وتوقيره لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم

عزة نفس الإمام مالك وتوقيره لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عزة نفسه وتوقيره لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: عن ابن أبي أويس قال: كان مالك إذا أراد أن يحدث توضأ وجلس على صدر فراشه، وسرح لحيته، وتمكن في الجلوس بوقار وهيبة، ثم حدث فقيل له في ذلك، قال: أحب أن أعظم حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أحدث به إلا على طهارة متمكناً. وكان يكره أن يحدث في الطريق وهو قائم أو مستعجل قال: أحب أن أفهم ما يحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن معن بن عيسى قال: كان مالك بن أنس إذا أراد أن يجلس للحديث اغتسل وتبخر وتطيب، فإذا رفع أحد صوته في مجلسه زجره، قال: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2]، فمن رفع صوته عند حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنما رفع صوته فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن عمر بن المحبر الرعيني قال: قدم المهدي إلى المدينة فبعث إلى مالك فأتاه، فقال لولديه هارون وموسى: اسمعا منه، فبعثا إليه فلم يجبهما، فأعلما المهدي فكلمه فقال: يا أمير المؤمنين! العلم يؤتى أهله، فقال: صدق مالك صيرا إليه. فظن الناس أن الإمام مالك سيذهب إليهما؛ لأنهما أبناء الخليفة، فتوقير الإمام مالك للعلم منعه، وقد كان لهما مؤدب وهو المربي، فقال له مؤدبهما: اقرأ علينا، قال: إن أهل المدينة يقرءون على العالم كما يقرأ الصبيان على المعلم، فإن أخطئوا أفتاهم، فرجعوا إلى المهدي فبعث إلى مالك فكلمه فقال: سمعت ابن شهاب يقول: جمعنا هذا العلم في الروضة من رجال، وهم يا أمير المؤمنين: سعيد بن المسيب وأبو سلمة وعروة والقاسم وسالم وخارجة بن زيد وسليمان بن يسار ونافع وعبد الرحمن بن هرمز، ومن بعدهم: أبو الزناد وربيعة ويحيى بن سعيد وابن شهاب، كل هؤلاء يقرأ عليهم ولا يقرءون. فقال الخليفة: في هؤلاء قدوة، صيروا إليه فاقرءوا عليه. ففعلوا. وعن ابن القاسم قال: قيل لـ مالك: لم لم تأخذ عن عمرو بن دينار؟ قال: أتيته فوجدته يأخذون عنه قياماً فأجللت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آخذه قائماً.

احتياط الإمام مالك في الرواية وتحريه في نقد الرجال

احتياط الإمام مالك في الرواية وتحريه في نقد الرجال احتياطه في الرواية وتحريه في نقد الرجال: عن منصور بن سلمة الخزاعي قال: كنت عند مالك فقال له رجل: يا أبا عبد الله! أقمت على بابك سبعين يوماً وقد كتبت ستين حديثاً، فقال: ستون حديثاً! وكأنه يستكثره. أي: أن الرجل كان يقلل العدد، والإمام مالك يستكثره، فقال له الرجل: إننا ربما كتبنا بالكوفة في المجلس ستين حديثاً، قال: وكيف بالعراق دار الضرب، يضرب بالليل وينفق بالنهار. وعن محمد بن إسحاق الثقفي السراج قال: سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن أصح الأسانيد؟ فقال: مالك عن نافع عن ابن عمر. وعن سفيان بن عيينة قال: ما كان أشد انتقاد مالك للرجال وأعلمه بشأنهم. قال الذهبي: وقد كان مالك إماماً في نقد الرجال حافظاً مجوداً متقناً. قال بشر بن عمر الزهراني: سألت مالكاً عن رجل فقال: هل رأيته في كتبي؟ قلت: لا، قال: لو كان ثقة لرأيته في كتبي. فهذا يشير إلى أن الإمام مالك كان لا يروي إلا عن ثقة. قال الذهبي: فهذا القول يعطيك بأنه لا يروي إلا عمن هو عنده ثقة، ولا يلزم من ذلك أن يروي عن كل الثقات، ثم لا يلزم مما قال أن كل من روى عنه وهو عنده ثقة أن يكون ثقة عند باقي الحفاظ، فقد يخفى عليه من حال شيخه ما يظهر لغيره، إلا أنه بكل حال كثير التحري في نقد الرجال. وعن عثمان بن كنانة عن مالك قال: ربما جلس إلينا الشيخ فيحدث جل نهاره ما نأخذ عنه حديثاً واحداً، وما بنا أن نتهمه، ولكن لم يكن من أهل الحديث. وعن ابن عيينة قال: ما نحن عند مالك إنما كنا نتبع آثار مالك، وننظر الشيخ إن كان كتب عنه مالك كتبنا عنه. وابن عيينة إمام مكة وشيخ الإمام الشافعي والإمام أحمد. وعنه قال: كان مالك لا يبلغ من الحديث إلا صحيحاً، ولم يحدث إلا عن ثقة، وما أرى المدينة إلا ستخرج بعد موته، يعني: من العلم. قال الشافعي: قال محمد بن الحسن: أقمت عند مالك ثلاث سنين وكسراً، وسمعت من لفظه أكثر من سبعمائة حديث. فكان محمد إذا حدث عن مالك امتلأ منزله، وإذا حدث عن غيره من الكوفيين لم يجئه إلا اليسير. فـ محمد بن الحسن لما رجع من الكوفة كان يروي الموطأ؛ لأنه من أحد رواة الموطأ، فكانت الدار تمتلئ بالتلاميذ، فإذا حدث عن غيره خلت الدار، أو ما سمعه إلا اليسير. وعن محمد بن الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي رضي الله عنه -نحن نقولها بنية الدعاء وليس بنية الخبر؛ لأنها خاصة بالصحابة رضوان الله عليهم- يقول: إذا جاء الحديث عن مالك فاشدد يديك به. وعنه عن الشافعي قال: كان مالك إذا شك في الحديث طرحه كله. وعن حبيب بن زريق قال: قلت لـ مالك بن أنس: لم لم تكتب عن صالح مولى التوأمة وحزام بن عثمان وعمر مولى غفلة، قال: أدركت سبعين تابعياً في هذا المسجد، ما أخذت العلم إلا عن الثقات المأمونين.

تورع الإمام مالك عن الفتوى

تورع الإمام مالك عن الفتوى تورعه عن الفتوى: عن مالك قال: جنة العالم لا أدري، فإذا أغفلها أصيبت مقاتله. ومعنى جنة العالم: لا أدري: أي: كلمة (لا أدري) تحمي العالم، فلا يتجرأ على ما ليس عنده به علم. وعن الهيثم بن جميل قال: سمعت مالكاً سئل عن ثمان وأربعين مسألة فأجاب في اثنين وثلاثين منها بـ: (لا أدري). وعن خالد بن خداش قال: قدمت على مالك بأربعين مسألة فما أجابني منها إلا في خمس مسائل. وعن مالك أنه سمع عبد الله بن يزيد بن هرمز يقول: ينبغي للعالم أن يورث جلساءه قول: لا أدري، حتى يكون ذلك أصلاً يرجعون إليه.

نصرة الإمام مالك للسنة وشدته على أهل البدع

نصرة الإمام مالك للسنة وشدته على أهل البدع نصرته للسنة وشدته على أهل البدع: عن مطرف بن عبد الله قال: سمعت مالكاً يقول: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سنناً، الأخذ بها اتباع لكتاب الله، واستكمال بطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً. وعن يحيى بن خلف الطرسوسي وكان من ثقات المسلمين قال: كنت عند مالك فدخل عليه رجل، فقال: يا أبا عبد الله ما تقول فيمن يقول: القرآن مخلوق؟ فقال مالك: زنديق اقتلوه. فقال: يا أبا عبد الله! إنما أحكي كلاماً سمعته، قال: إنما سمعته منك، وعظم هذا القول. فأعلام السنن كانت مرفوعة ومشهورة في زمن كبار التابعين، زمن الإمام مالك والسفيانين. وحدث أبو ثور عن الشافعي قال: كان مالك إذا جاءه بعض أهل الأهواء قال: أما إني على بينة من ديني، وأما أنت فشاك، اذهب إلى شاك مثلك فخاصمه. وقال القاضي عياض: قال أبو طالب المكي: كان مالك رحمه الله أبعد الناس من مذاهب المتكلمين، وأشد نقداً للعراقيين. ثم قال القاضي عياض: قال سفيان بن عيينة: سأل رجل مالكاً فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، كيف استوى؟ فسكت مالك حتى علاه الرحضاء -يعني: العرق- ثم قال: الاستواء منه معلوم، والكيف منه غير معقول، والسؤال عن هذا بدعة، والإيمان به واجب، وإني لأظنك ضالاً، أخرجوه. فناداه الرجل: يا أبا عبد الله! والله لقد سألت عنها أهل البصرة والكوفة والعراق فلم أجد أحداً وفق لما وفقت له.

محنة الإمام مالك رحمه الله

محنة الإمام مالك رحمه الله محنته رحمه الله: قال محمد بن جرير: كان مالك قد ضرب بالسياط واختلف في سبب ذلك، حدثني العباس بن الوليد، قال: حدثنا ابن ذكوان عن مروان الطاطري أن أبا جعفر نهى مالكاً عن الحديث: (ليس على مستكره طلاق)، وهو أن طلاق المكره ليس بشيء؛ لأنه يقاس على ذلك أن بيعة المكره ليست بشيء، فلو أكره إنسان على مبايعة إمام معين فإن هذه البيعة تكون غير شرعية. يقول: ثم دس إليه من يسأله على رءوس الناس فضربه بالسياط. وعن فضل بن زياد القطان قال: سألت أحمد بن حنبل من ضرب مالك بن أنس؟ قال: ضربه بعض الولاة لا أدري من هو، إنما ضربه في طلاق المكره، كان لا يجيزه فضربه لذلك. وعن أبي بكر بن محمد بن أحمد بن راشد قال: سمعت أبا داود يقول: ضرب جعفر بن سليمان مالك بن أنس في طلاق المكره. وحكى له بعض أصحاب ابن وهب أن مالك بن أنس لما ضرب حلق وحمل على بعير، فقيل له: ناد على نفسك، فقال: ألا من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي وأنا أقول: طلاق المكره ليس بشيء، قال: فبلغ جعفر بن سليمان أنه ينادي على نفسه بذلك، فقال: أدركوه، أنزلوه. وروى ابن سعد عن الواقدي قال: لما دعي مالك وشور وسمع منه وقبل قوله حسد وبغوه بكل شيء، فلما ولي جعفر بن سليمان المدينة سعوا به إليه، وكثروا عليه عنده، وقالوا: لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء، وهو يأخذ بحديث رواه عن ثابت بن الأحنف بطلاق المكره أنه لا يجوز عنده، قال: فغضب جعفر فدعا بـ مالك فاحتج عليه بما رفع إليه عنه، فأمر بتجريده وضربه بالسياط وجبذت يده حتى انخلعت من كتفه، وارتكب منه أمر عظيم، فوالله ما زال مالك بعد في رفعة وعلو. قال الذهبي رحمه الله: هذه ثمرة المحنة المحمودة، أنها ترفع العبد عند المؤمنين، وبكل حال هي بما كسبت أيدينا، ويعفو عن كثير، (ومن يرد الله به خيراً يصب منه)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل قضاء المؤمن خير له) وقال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد:31]، وأنزل تعالى في واقعة أحد قوله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]. وقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، فالمؤمن إذا امتحن صبر واتعظ واستغفر ولم يتشاغل بذم من انتقم منه، فالله حكم مقسط، ثم يحمد الله على سلامة دينه، ويعلم أن عقوبة الدنيا أهون وخير له.

درر من أقوال الإمام مالك رحمه الله

درر من أقوال الإمام مالك رحمه الله درر من أقواله رحمه الله: عن ابن وهب أنه سمع مالكاً يقول: إن الرجل إذا ذهب يمدح نفسه ذهب بهاؤه. وعن حرملة عن ابن وهب قال: سمعت مالكاً وقال له رجل: طلب العلم فريضة؟ قال: طلب العلم حسن لمن رزق خيره، وهو قسم من الله تعالى. وقال: لا يكون إماماً من حدث بكل ما سمع. وقال: إن حقاً على طالب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية، وأن يكون متبعاً لأثر من مضى قبله.

وفاة الإمام مالك رحمه الله

وفاة الإمام مالك رحمه الله وفاته رحمه الله: قال القعنبي: سمعتهم يقولون: عمر مالك (89) سنة، ومات سنة (179هـ). وقال إسماعيل بن أبي أويس: مرض مالك فسألت بعض أهلنا عما قال عند الموت. قالوا: تشهد ثم قال: لله الأمر من قبل ومن بعد. وتوفي صبيحة أربع عشرة من ربيع الأول سنة (179هـ)، فصلى عليه الأمير عبد الله بن محمد بن إبراهيم، وغسله ابن أبي زنبر وابن كنانة وابنه يحيى وكاتبه حبيب يصبان عليهما الماء، ونزل في قبره جماعة، وأوصى أن يكفن في ثياب بيض، وأن يصلى عليه في موضع الجنائز، فصلى عليه الأمير المذكور. قال: وكان نائباً لأبيه محمد على المدينة، ثم مشى أمام جنازته وحمل نعشه، وبلغ كفنه خمسة دنانير. ويقال: إنه في الليلة التي مات فيها رأى رجل من الأنصار قائلاً ينشد: لقد أصبح الإسلام زعزع ركنه غداة ثوى الهادي لدى ملحد القبر إمام الهدى ما زال للعلم صائناً عليه سلام الله في آخر الدهر وقال ابن القاسم: مات مالك عن مائة عمامة فضلاً عن سواها. وقال ابن أبي أويس: بيع ما في منزل خالي من بسط ومنصات ومخاد وغير ذلك بما ينيف على خمسمائة دينار. رحمه الله عز وجل رحمة واسعة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

الإمام الفضيل بن عياض

سلسلة من أعلام السلف_الإمام الفضيل بن عياض الفضيل بن عياض إمام في الزهد والورع، وأحد الأعلام الأثبات ممن سارت بذكرهم الركبان، وقد كان رحمه الله من العباد الأبرار الصادقين، المحاربين للبدع والمبتدعة، فرحمه الله رحمة واسعة.

نسب الفضيل بن عياض ومولده

نسب الفضيل بن عياض ومولده إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. ثم أما بعد: فمع السلسلة الطيبة من أعلام السلف نقف مع علم من أعلام الزهد والورع والخوف والعبادة، إنه الملقب بعابد الحرمين الفضيل بن عياض رحمه الله. تهذبت نفسه فنطق بالحكمة وفصل الخطاب، وهو قرين مالك وسفيان وابن المبارك، وهذه الطبقة المباركة طبقة كبار أتباع التابعين، فرحم الله أئمتنا الكرام، وجمعنا بهم في دار السلام. اسمه ومولده: اسمه: فضيل بن عياض بن مسعود بن بشر التميمي اليربوعي، وكنيته أبو علي، فقد كان له ولد يسمى علي بن فضيل. وله ترجمة في السير بعد ترجمة أبيه، وكان على نفس النمط، وبعضهم يقول: كان أكثر من أبيه في الزهد والورع والخوف. مولده: ولد بسمرقند، ونشأ بأبيورد مدينة بين سرخس ونسا، وكتب بالكوفة -يعني: كتب الحديث- وتحول إلى مكة.

ثناء العلماء على الفضيل بن عياض

ثناء العلماء على الفضيل بن عياض ثناء العلماء عليه: قال ابن سعد: كان ثقة فاضلاً عابداً ورعاً كثير الحديث. وقال ابن حبان: نشأ بالكوفة، وبها كتب الحديث، ثم انتقل إلى مكة وأقام بها مجاوراً للبيت الحرام مع الزهد الشديد والورع التام والخوف الوافر والبكاء الكثير والتخلي بالوحدة، ورفض الناس وأسباب الدنيا إلى أن توفي بها سنة (187 هـ). وقال الذهبي: فضيل بن عياض الزاهد، شيخ الحرم، وأحد الأثبات، مجمع على ثقته وجلالته، ولا عبرة بما رواه أحمد بن أبي خيثمة قال: سمعت قطبة بن العلاء يقول: تركت حديث الفضيل بن عياض؛ لأنه روى أحاديث أزرى فيها على عثمان. قال: وما قطبة حتى يجرح وهو هالك. يعني: أن الذي يجرح ويعدل لابد أن يكون هو نفسه ثقة، فكيف يكون هو نفسه هالكاً، ثم يجرح إماماً من أئمة المسلمين؟! وقال إبراهيم بن محمد الشافعي: سمعت سفيان بن عيينة يقول: فضيل ثقة. وقال العجلي: كوفي ثقة متعبد، رجل صالح سكن مكة. وروى إبراهيم بن شماس عن ابن المبارك قال: ما بقي على ظهر الأرض عندي أفضل من فضيل بن عياض. وعن نصر بن المغيرة البخاري قال: سمعت إبراهيم بن شماس يقول: رأيت أفقه الناس وأورع الناس وأحفظ الناس: وكيع والفضيل وابن المبارك. وعن مردويه الصائغ قال: قال لي ابن المبارك: إن الفضيل بن عياض صدق الله فأجرى الحكمة على لسانه، فـ الفضيل ممن نفعه علمه. وهؤلاء الذين وثقوا الفضيل بن عياض وأخبروا عن منزلته ومكانته في الورع، وكذلك في الحديث هم أئمة زمانهم، فكيف يرد قولهم بقول رجل هالك؟ وقال أبو نعيم: ومنهم الراحل في المفاوز والقفار إلى الحصون والحياض، والناقل من المهالك والسباخ إلى الغصون والرياض أبو علي الفضيل بن عياض، كان من الخوف نحيفاً وللطواف أليفاً. وقال الذهبي: وأما قول ابن مهدي: لم يكن بالحافظ، فمعناه: لم يكن في علم الحديث كهؤلاء الحفاظ البحور كـ شعبة ومالك وسفيان وحماد وابن المبارك ونظرائهم، لكنه ثبت فيما نقل، ما أخذ عليه في حديث كما علمت. يعني: ولم يكن واسع العلم في الحديث. يعني: محفوظه من الحديث لم يكن كثيراً مثل أئمة زمانه شعبة ومالك وسفيان وحماد بن زيد وابن المبارك؛ لأنه كان مشغولاً كثيراً بالعبادة والورع. وكان يتورع عن رواية الحديث، يعني: من خوف الزيادة والنقصان، وكان يقول: بذل الدنانير إلى الناس أحب إلي من بذل الحديث إليهم. ولكن ما أخذ عليه حديث واحد، يعني: كان يحفظ الأحاديث التي يحدث بها، وما أخطأ في حديث واحد من أحاديثه. يقول: وهل يراد من العلم إلا ما انتهى إليه الفضيل رحمة الله عليه؟

عبادة الفضيل بن عياض وخشيته

عبادة الفضيل بن عياض وخشيته عبادته وخشيته رحمه الله: عن إسحاق بن إبراهيم الطبري قال: ما رأيت أحداً أخوف على نفسه ولا أرجى للناس من الفضيل. وكانت قراءته حزينة شهية بطيئة مترتلة، كأنه يخاطب إنساناً. وكان إذا مر بآية فيها ذكر الجنة يردد فيها ويسأل. وكانت أكثر صلاته بالليل قاعداً، يلقى له الحصير في مسجده فيصلي من أول الليل ساعة ثم تغلبه عيناه، فيلقي نفسه على الحصير فينام قليلاً ثم يقوم، فإذا غلبه النوم نام ثم يقوم، وهكذا حتى يصبح، وكان دأبه إذا نعس أن ينام. وأشد العبادة ما كان هكذا، أن الإنسان كلما وجد خفة ونشاطاً يصلي فإذا غلبه النوم أخذ قسطاً من الراحة، ثم يقوم يصلي وهكذا طوال الليل. فهذا أشد العبادة. يقول: وكان صحيح الحديث، صدوق اللسان، شديد الهيبة للحديث إذا حدث، وكان يثقل عليه الحديث جداً، وربما قال لي: لو أنك طلبت مني الدنانير كان أيسر علي من أن تطلب مني الحديث، فقلت له: لو حدثتني بأحاديث فوائد ليست عندي كان أحب إلي من أن تهب لي عددها دنانير، قال: إنك مفتون، أما والله! لو عملت بما سمعت لكان لك في ذلك شغل عما لم تسمع. سمعت سليمان بن مهران يقول: إذا كان بين يديك طعام تأكله فتأخذ اللقمة فترمي بها خلف ظهرك متى تشبع؟ إشارة إلى أن من يسمع الحديث ويحفظه ولا يعمل به يشبه من أمامه طعام فهو يأخذ اللقمة ويرمي بها خلف ظهره. وعن إبراهيم بن الأشعث قال: ما رأيت أحداً كان الله في صدره أعظم من الفضيل بن عياض، كان إذا ذكر الله أو ذكر عنده أو سمع القرآن ظهر به الخوف والحزن، وفاضت عيناه حتى يرحمه من بحضرته، وكان دائم الحزن شديد الفكرة، ما رأيت رجلاً يريد الله بعلمه وعمله وأخذه وعطائه ومنعه وبذله وبغضه وحبه وخصاله كلها غيره. وقال أيضاً عنه: كنا إذا خرجنا مع الفضيل في جنازة لا يزال يعظ ويذكر ويبكي، كأنه مودع أصحابه ذاهب إلى الآخرة حتى يبلغ المقابر فيجلس كأنه بين الموتى -من الحزن والبكاء-، حتى يقوم وكأنه يرجع من الآخرة يخبر عنها. وعن سفيان بن عيينة قال: ما رأيت أحداً أخوف من الفضيل وابنه علي بن الفضيل. وعن إسحاق بن إبراهيم قال: قال عبد الله بن المبارك: إذا مات الفضيل ارتفع الحزن. لما مات سفيان قالوا: مات الورع، وهنا يقولون: إذا مات الفضيل ارتفع الحزن. وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري: قال لي المأمون: قال لي الرشيد: ما رأت عيناي مثل الفضيل بن عياض، دخلت عليه فقال لي: فرغ قلبك للحزن والخوف حتى يسكناه فيقطعاك عن المعاصي ويباعداك من النار. والحزن يكون على الشيء الماضي، وهو ليس من مقامات العارفين، فهو هنا محمول على الحزن على ما فرط من الإنسان، يعني: من المعاصي، أو الحزن على ما يصيب المسلمين وما وصل إليه الإسلام في ديار المسلمين، فهذا هو الحزن الذي يمدح، وأما الحزن على الدنيا فلا يمدح، والخوف يكون على الشيء المستقبل، ففرغ قلبك للحزن والخوف حتى يسكناه فيقطعاك عن المعاصي ويباعداك من النار. وعن ابن أبي عمر قال: ما رأيت بعد الفضيل أعبد من وكيع. وستأتي ترجمة وكيع إن شاء الله تعالى، وهو إمام الكوفة، ولما مات سفيان جلس وكيع في مجلسه، وكان عظيماً سمين الجسم، ولما دخل على الفضيل أنكر عليه هذا السمن، وقال: ما هذا السمن وأنت راهب العراق؟ فقال: من فرحي بالإسلام. ويحكي ابنه أنه كان يأكل عشرة أرطال ويشرب مثلها من النبيذ، ولكنه كان يوالي الصيام، وكذلك القيام. عن ابن المبارك قال: إذا نظرت إلى الفضيل جدد لي الحزن ومقت نفسي.

اتباع الفضيل بن عياض للسنة وذمه للبدع والمبتدعين

اتباع الفضيل بن عياض للسنة وذمه للبدع والمبتدعين اتباعه للسنة وذمه للبدعة والمبتدعين: وعن عبد الصمد بن يزيد قال: سمعت الفضيل يقول: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه. وكما قال بعضهم: من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الدين. وعن عبد الصمد قال: سمعته قال: إذا رأيت مبتدعاً في طريق فخذ في طريق آخر. وقال الفضيل: لا يرفع لصاحب بدعة إلى الله عز وجل عمل. وعن الفضيل قال: من أعان صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام. وعن حسين بن زياد قال: سمعت فضيلاً يقول: ما على الرجل إذا كان فيه ثلاث خصال: إذا لم يكن صاحب هوى، ولا يشتم السلف، ولا يخالط السلطان. كأنه إذا سلم من هذه الثلاث فغيرها هين، وذلك إذا لم يكن صاحب هوى -يعني: بدعة-، ولا يشتم السلف، ولا يخالط السلطان. وعن عبد الصمد بن يزيد الصائغ قال: ذكر عند الفضيل -وأنا أسمع- الصحابة فقال: اتبعوا فقد كفيتم، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. فما قاله قطبة فيه: إنه روى حديثاً فيه طعن في علي مردود لهذا الخبر. فلذلك قال الذهبي: فالرجل صاحب سنة واتباع.

شيوخ الفضيل بن عياض وتلامذته

شيوخ الفضيل بن عياض وتلامذته شيوخه: قال الحافظ: روى عن الأعمش، وهو من كبار أتباع التابعين، وسمع من صغار التابعين كـ الأعمش، ومنصور، وعبيد الله بن عمر، وهشام بن حسان، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ومحمد بن إسحاق، وليث بن أبي سليم وهو غير الليث بن سعد، فـ الليث بن أبي سليم ضعيف، ومحمد بن عجلان، وحصين بن عبد الرحمن، وسليمان التيمي، وحميد الطويل، وفطر بن خليفة، وصفوان بن سليم، وجعفر بن محمد الصادق، وإسماعيل بن أبي خالد، وبيان بن بشر، وزياد بن أبي زياد، وعوف الأعرابي وآخرين. تلامذته: قال الحافظ: وعنه الثوري -وهو من شيوخه- وابن عيينة وهو من أقرانه، وهو شيخ أهل مكة مكث يحدث أكثر من (40) سنة، وابن المبارك ومات قبله، ويحيى القطان، وابن مهدي، وحسين بن علي الجعفي، وعبد الرزاق، وإسحاق بن منصور السلولي، والأصمعي، وابن وهب الشافعي وغيرهم.

درر من أقوال الفضيل بن عياض رحمه الله

درر من أقوال الفضيل بن عياض رحمه الله عن أبي الفضل القزاز قال سمعت الفضيل بن عياض يقول: أصلح ما أكون، وإني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق حماري وخادمي. وكما قال بعضهم: في خلق امرأتي ودابتي، فالإنسان إذا وجد السيارة تتعطل عليه أو وجد الخادم أو الزوجة يتمردان عليه فليراجع نفسه، فلعله مقصر في حق الله عز وجل. وعن إسحاق بن إبراهيم قال: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم مكبل، كبلتك خطيئتك. وهذا كما قال بعضهم لما قيل له: لا نستطيع قيام الليل فقال: أبعدتكم الذنوب، أو قيدتكم خطاياكم. وقال سفيان: حرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب أصبته. وقال بعضهم: من علامة من غرق في الذنوب ألا ينشرح صدره لقيام الليل وصيام النهار. وهذا في غير رمضان، فالناس كلهم صائمون في رمضان، فهذا في غير رمضان. فإذا وجد الإنسان نفسه لا يوفق للقيام والصيام فليعلم أنه قد غرق في الذنوب. وقال فيض بن إسحاق: سمعت الفضيل بن عياض وسأله عبد الله بن مالك: يا أبا علي! ما الخلاص مما نحن فيه؟ قال: أخبرني من أطاع الله هل تضره معصية أحد؟ قال: لا، قال: فمن يعصي الله هل تنفعه طاعة أحد؟ قال: لا، قال: هو الخلاص إن أردت الخلاص. وعن إبراهيم بن الأشعث قال: سمعت الفضيل يقول: أكذب الناس العائد في ذنبه -يعني: الإنسان يذنب ويتوب ويعود مرة ثانية وهكذا- وأجهل الناس المدل بحسناته، وأعلم الناس بالله أخوفهم منه، لن يكمل عبد حتى يؤثر دينه على شهوته، ولن يهلك عبد حتى يؤثر شهوته على دينه. وقال إبراهيم بن الأشعث: سمعت الفضيل يقول: من أحب أن يذكر لم يذكر، ومن كره أن يذكر ذكر. يعني: من سعى للشهرة والمدح وذكر الناس لم يذكر، ومن كره أن يذكر ذكر. وقال الذهبي: وقيل له: ما الزهد؟ قال: القنوع، قيل: ما الورع؟ قال: اجتناب المحارم، قيل: ما العبادة؟ قال: أداء الفرائض، قيل: ما التواضع؟ قال: أن تخضع للحق، وقال: أشد الورع في اللسان. قال الذهبي: هكذا هو، فقد ترى الرجل ورعاً في مأكله وملبسه ومعاملته، وإذا تحدث يدخل عليه الداخل من حديثه، فإما أن يتحرى الصدق فلا يكمل الصدق، وإما أن يصدق فينمق حديثه ليمدح على الفصاحة، وإما أن يظهر أحسن ما عنده ليعظم -يعني: يكون عنده أحاديث غرائب مثلاً أو عنده أشياء ليست عند غيره فهو يظهرها؛ حتى يظن أنه عنده علم كثير- وإما أن يسكت في موضع الكلام ليثنى عليه، ودواء ذلك كله الانقطاع عن الناس إلا من الجماعة. يعني: حضور الجماعة. وقال الفضيل: يا مسكين! أنت مسيء وترى أنك محسن، وأنت جاهل وترى أنك عالم، وتبخل وترى أنك كريم، وأحمق وترى أنك عاقل، أجلك قصير وأملك طويل. قال الذهبي: إي والله! صدق. قال: وأنت ظالم وترى أنك مظلوم، وآكل للحرام وترى أنك متورع، وفاسق وتعتقد أنك عدل، وطالب العلم للدنيا وترى أنك تطلبه لله. وعن عبد الصمد قال: سمعت الفضيل يقول: إذا أتاك رجل يشكو إليك رجلاً فقل: يا أخي! اعف عنه؛ فإن العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمل قلبي العفو ولكن أنتصر كما أمر الله عز وجل، قل: فإن كنت تحسن تنتصر مثلاً بمثل وإلا فارجع إلى باب العفو، فإنه باب واسع، فإن من عفا وأصلح فأجره على الله، وصاحب العفو ينام الليل على فراشه وصاحب الانتصار يقلب الأمور. يعني: يفكر كيف ينتصر، فهذا مما يؤرقه، أما إذا عفا فيسلم صدره. وكان بعض السلف يقول: تصدقت بعرضي على الناس. وكما ورد في الحديث: (كان تاجر يداين الناس فإذا رأى معسراً قال لغلمانه: تجاوزوا عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه)، فالإنسان يعود نفسه أن يعفو عمن ظلمه، وأن يسامح من أخطأ عليه؛ لعل الله عز وجل أن يعفو عنه. وعن إبراهيم بن الأشعث قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: ما يؤمنك أن تكون بارزت الله بعمل مقتك عليه، فأغلق دونك أبواب المغفرة وأنت تضحك؟ كيف ترى أن يكون حالك؟ وعن محمد بن طفيل قال: سمعت فضيل بن عياض يقول: حزن الدنيا يذهب بهم الآخرة، وفرح الدنيا يذهب بحلاوة العبادة.

وفاة الفضيل بن عياض رحمه الله

وفاة الفضيل بن عياض رحمه الله وفاته رحمه الله: قال بعضهم: كنا جلوساً عند الفضيل بن عياض فقلنا له: كم سنك؟ فقال: بلغت الثمانين أو جاوزتها فماذا أؤمل أو أنتظر علتني السنون فأبلينني فدق العظام وكلَّ البصر فهو جاوز الـ (80) سنة. قال الذهبي: هو من أقران سفيان بن عيينة في المولد، ولكنه مات قبله بسنوات، وسفيان بن عيينة عمر جداً. وقال مجاهد بن موسى: مات الفضيل سنة (186). وقال أبو عبيد وابن المديني وابن معين وابن نمير والبخاري وآخرون: مات سنة (187)، وزاد بعضهم: في أول المحرم. قال الذهبي: وله نيف وثمانون سنة، فرحمه الله. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

الإمام الليث بن سعد

سلسلة من أعلام السلف_الإمام الليث بن سعد الليث بن سعد علم من أعلام السلف الصالح، عرف بسخائه وكرمه وفضله وعلمه، كان نبراساً في العلم والفقه، تربى على مائدة الكتاب والسنة، فعرف بحرصه على اتباع السنة ونشرها رحمه الله تعالى.

نسب الليث بن سعد ومولده وصفته

نسب الليث بن سعد ومولده وصفته إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: فما زلنا بحمد الله مع أعلام السلف الكرام، ومعنا في هذه الترجمة المباركة الإمام الحافظ شيخ الإسلام عالم الديار المصرية: أبو الحارث الفهمي الليث بن سعد رحمه الله. قال أبو نعيم: ومنهم الثري السخي المري الوفي، لعلمه عقول، ولماله بذول، أبو الحارث الليث بن سعد، كان يعلم الأحكام مرياً، ويبذل الأموال سخياً، وهو من أئمة أتباع التابعين، من أقران مالك والسفيانين والأوزاعي، حفظ الله عز وجل بهم الإسلام، وارتفعت بهم أعلام السنة، ونكست أعلام البدعة، فرحم الله الجميع. وقد كان الليث إماماً في الحديث والفقه والسخاء فرحمه الله رحمة واسعة، وأدخله جنة عالية قطوفها دانية. اسمه: ليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي أبو الحارث المصري مولى عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، وقيل: ثابت بن ظاعن جد عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، وأهل بيته يقولون: نحن من الفرس من أهل أصبهان. قال: أو سعيد بن يونس، وليس لما قالوه في ذلك عندنا صحة. يقول: وروي عن الليث أنه قال مثل ذلك، والمشهور أنه فهمي، وفهم من قيس عجلان، يعني: بطن من قبيلة قيس عجلان. مولده: ولد بقرقشندة، قرية على نحو أربعة فراسخ من مصر، في سنة أربع وتسعين، وقيل: ثلاث وتسعين. ذكره سعيد بن أبي مريم، يقول: والأول أصح؛ لأن يحيى يقول: سمعت الليث يقول: ولدت في شعبان سنة أربع. قال الليث: حججت سنة ثلاث عشرة ومائة. صفته: عن عمرو بن محمد الحيري قال: سمعت محمد بن معاوية يقول وسليمان بن حرب إلى جنبه: خرج الليث بن سعد يوماً فقوموا ثيابه ودابته وخاتمه وما عليه ثمانية عشر ألف درهم إلى عشرين ألفاً، فقال سليمان: لكن خرج علينا شعبة يوماً فقوموا حماره وسرجه ولجامه ثمانية عشر درهماً إلى عشرين درهماً. فمن العلماء من كان له صولة وجولة وعز ورفعة في الدنيا والآخرة كالإمام مالك، وكعالمنا في هذه الترجمة الليث بن سعد، ومر كذلك من العلماء الذين كان لهم شرف ومال وسخاء، فالإمام الزهري كان برتبة أمير في دولة بني أمية، وهناك الفقراء جداً، فقد مر بنا الأعمش أحد صغار التابعين، وكان يلبس فروة خروف، وكان يجعل الصوف إلى الخارج. فقيل له: ألا جعلت الصوف إلى الداخل؟! وكذلك مر بنا شعبة الذي قوموا حماره وسرجه ولجامه بثمانية عشر درهماً إلى عشرين درهماً.

ثناء العلماء على الليث بن سعد

ثناء العلماء على الليث بن سعد عن شرحبيل بن جميل بن يزيد مولى شرحبيل بن حسنة قال: أدركت الناس أيام هشام بن عبد الملك، وكان الليث بن سعد حدث السن، وكان بمصر عبيد الله بن جعفر وجعفر بن ربيعة والحارث بن يزيد ويزيد بن أبي حبيب وابن هبيرة وغيرهم من أهل مصر، ومن يقدم علينا من فقهاء المدينة، وإنهم ليعرفون لليث فضله وورعه وحسن إسلامه على حداثة سنه. وقال ابن بكير: ورأيت من رأيت فلم أر مثل الليث. وعن أبي الوليد عبد الملك بن يحيى بن بكير قال: سمعت أبي يقول: ما رأيت أحداً أكمل من الليث بن سعد، كان فقيه البدن، عربي اللسان، يحسن القرآن والنحو، ويحفظ الشعر والحديث، وحسن المذاكرة -ومازال يذكر خصالاً جميلة ويعقد بيده حتى عد عشراً- لم أر مثلهم. وعن هارون بن سعيد قال: سمعت ابن وهب يقول: كل ما كان في كتب مالك: وأخبرني من أرضى من أهل العلم، فهو الليث بن سعد. أحياناً الإمام مالك لا يصرح بمن يحدث عنه، ولكن يقول: أخبرني من أرضى من أهل العلم، فإذا قال ذلك فإنه يقصد الليث بن سعد. وعن الربيع بن سليمان قال: قال ابن وهب: لولا مالك والليث لضل الناس. وقال الفضل بن زياد: قال أحمد: ليث كثير العلم صحيح الحديث. وعن أحمد بن سعد الزهري قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: الليث ثقة ثبت. فمن أعلى درجات التوثيق الجمع بين الصفتين، تقول: ثقة ثقة أو ثقة ثبت، فهذا يكون أعلى من قوله ثقة. وقال عثمان الدارمي: سمعت يحيى بن معين يقول: الليث أحب إلي من يحيى بن أيوب ويحيى ثقة. قلت: فكيف حديثه عن نافع؟ قال: صادق ثقة. وعن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال: سمعت الشافعي يقول: الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به. فكان بعض العلماء يقدم الليث على نجم السنن الإمام مالك، ولكن أصحاب الليث لم يقوموا بـ الليث، يعني: لم يرفعوه، كما رفع أصحاب الإمام مالك الإمام مالكاً. وكان الإمام مالك في المدينة التي هي منارة العلم وفيها أحفاد المهاجرين والأنصار. وقال محمد بن سعد: وكان ثقة كثير الحديث صحيحه، وكان قد اشتغل بالفتوى في زمنه بمصر، وكان سرياً من الرجال نبيلاً سخياً، له ضيافة. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: أصح الناس حديثاً عن سعيد المقبري ليث بن سعد، يفصل ما روى عن أبي هريرة وما روى عن أبيه عن أبي هريرة. فـ سعيد المقبري يروي أحياناً عن أبي هريرة مباشرة وأحياناً يروي عن أبيه عن أبي هريرة. وقال علي بن المديني: الليث بن سعد ثبت. وقال العجلي: مصري فهمي ثقة.

سخاء الليث بن سعد

سخاء الليث بن سعد عن حرملة بن يحيى قال: سمعت ابن وهب يقول: كتب مالك إلى الليث: إني أريد أن أدخل ابنتي على زوجها، فأحب أن تبعث لي بشيء من عصفر. قال ابن وهب: فبعث إليه بثلاثين جملاً عصفراً، فصبغ منه لابنته وباع منه بخمسمائة دينار. والدينار عملة ذهبية. وعن أسد بن موسى قال: كان عبد الله بن علي يطلب بني أمية فيقتلهم، فلما دخلت مصر دخلتها في هيئة رثة يعني: مستنكراً حتى لا يعرفه أحد. قال: فدخلت على الليث بن سعد فلما فرغت من مجلسه خرجت، فتبعني خادم له في دهليزه فقال: اجلس حتى أخرج إليك، فجلست، فلما خرج إلي وأنا وحدي دفع إلي صرة فيها مائة دينار، فقال: يقول لك مولاي: أصلح بهذه النفقة بعض أمرك، ولم من شعثك، وكان في حوزتي هيمان -ما يجعله الحاج في وسطه- فيه ألف دينار، فأخرجت الهيمان فقلت: أنا عنها في غنى استئذن لي على الشيخ، فاستأذن لي فدخلت عليه، فأخبرته بنسبي واعتذرت إليه من ردها، وأخبرته بما مضى. فقال: هذه صلة وليست بصدقة فقلت: أكره أن أعود نفسي عادة وأنا في غنى. فقال: ادفعها إلى بعض أصحاب الحديث ممن تراه مستحقاً لها، فلم يزل بي حتى أخذتها ففرقتها على جماعة. وعن يحيى بن بكير قال: سمعت أبي يقول: وصل الليث بن سعد ثلاثة أنفس بثلاثة آلاف دينار، احترقت دار ابن لهيعة فبعث إليه بألف دينار. كان قاضياً من قضاة مصر صدوقاً، قيل: إنه كان سيئ الحفظ من بداية أمره، ولما احترقت داره واحترقت كتبه صار يحدث من حفظه، وكان ضبطه ضبط كتاب وليس ضبط حفظ، فوهم كثيراً، فما روي عنه قبل احتراق داره فهو صحيح، وما روي عنه بعد احتراق داره فهو ضعيف، فمن الذين رووا عنه قبل احتراق كتبه عبد الله بن وهب قاضي مصر، وعبد الله بن مبارك محدث خراسان. قال: وحج فأهدى إليه مالك بن أنس رطباً على طبق، فرد إليه في الطبق ألف دينار، ووصل منصور بن عمار القاضي بألف دينار وقال: لا تسمع بهذا بني فتهون عليهم، فوصل ثلاثة أنفس كل نفس بألف دينار. وقال قتيبة: كان الليث يركب في جميع الصلوات إلى الجامع، ويتصدق كل يوم على ثلاثمائة مسكين. وعن عبد الله بن صالح قال: صحبت الليث عشرين سنة لا يتغدى ولا يتعشى إلا مع ناس، وكان لا يأكل إلا بلحم إلا أن يمرض. قال قتيبة: وجاءت امرأة إلى الليث فقالت: يا أبا الحارث! إن ابناً لي عليل -يعني: مريض- واشتهى عسلاً، فأعطاها مرطاً من عسل، والمرط: عشرون ومائة رطل.

اتباع الليث بن سعد للسنة

اتباع الليث بن سعد للسنة عن حرملة بن يحيى قال: سمعت الشافعي يقول: الليث بن سعد أتبع للأثر من مالك بن أنس. عن عثمان بن صالح قال: كان أهل مصر ينتقصون عثمان حتى نشأ فيهم الليث بن سعد، فحدثهم بفضائل عثمان، فكفوا عن ذلك، وكان أهل حمص ينتقصون علياً حتى نشأ فيهم إسماعيل بن عياش فحدثهم بفضائله فكفوا عن ذلك. وعن سعيد بن أبي مريم قال: سمعت الليث بن سعد يقول: بلغت الثمانين وما نازعت صاحب هوى قط. قال الذهبي: كانت الأهواء والبدع خاملة في زمن الليث ومالك والأوزاعي والسنن ظاهرة عزيزة، فأما في زمن أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد فظهرت البدع -خاصة بدعة المعتزلة- وامتحن أئمة الأثر، ورفع أهل الأهواء رءوسهم بدخول رجال الدولة معهم، فاحتاج العلماء إلى مجادلتهم بالكتاب والسنة، ثم كثر ذلك، واحتج عليهم العلماء أيضاً بالعقول، فطال الجدال واشتد النزاع وتولدت الشبه. ففي زمن الليث ومالك والأوزاعي والسفيانين كانت البدعة خاملة والسنة ظاهرة، وفي زمن أحمد بن حنبل وإسحاق وأبي عبيد ظهرت البدع. وعن أبي بكر الفقيه الخلال قال: أخبرني أحمد بن محمد بن واصل المقرئ قال: حدثنا الهيثم بن خارجة قال: أخبرنا الوليد بن مسلم قال: سألت مالكاً والثوري والليث والأوزاعي عن الأخبار التي في الصفات فقالوا: أمروها كما جاءت، أمروها كما جاءت، فهذا كالإجماع. يعني: أجمع أئمة أتباع التابعين على ما أجمع عليه التابعون، وعلى ما أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم أن آيات الصفات وأحاديث الصفات تمر كما جاءت.

عرض ولاية مصر على الليث بن سعد

عرض ولاية مصر على الليث بن سعد عن أبي بكير قال: قال الليث: وقال لي أبو جعفر: تلي لي مصر؟ قلت: لا يا أمير المؤمنين! إني أضعف عن ذلك، إني رجل من الموالي، فقال: ما بك ضعف، ولكن ضعفت نيتك في العمل عن ذلك لي. وعن يحيى بن بكير قال: قال الليث: قال لي المنصور: تلي لي مصر؟ فاستعفيت، قال: أما إذ أبيت فدلني على رجل أقلده مصر. قلت: عثمان بن الحكم الجذامي رجل له صلاح وله عشيرة. قال: فبلغ عثمان ذلك فعاهد الله لا يكلم الليث. قال الذهبي: كان الليث رحمه الله فقيه مصر ومحدثها ومحتشمها ورئيسها ومن يفتخر بوجوده هذا الإقليم، أي: كانوا يعملون بأمره، ويرجعون إلى رأيه ومشورته، قال: ولقد أراده المنصور أن ينوب له على الإقليم فاستعفى من ذلك.

درر من أقوال الليث بن سعد

درر من أقوال الليث بن سعد عن الليث قال: بلغت الثمانين وما نازعت صاحب هوى قط. وعن يحيى بن بكير قال: أخبرني من سمع الليث يقول: كتبت من علم ابن شهاب علماً كثيراً، وطلبت ركوب البريد إلى الرصافة فخفت ألا يكون ذلك لله فتركته، ودخلت على نافع فسألني فقلت: أنا مصري فقال: ممن؟ قلت: من قيس، قال: ابن كم؟ قلت: ابن عشرين سنة، قال: أما لحيتك فلحية ابن أربعين. وعن حفص بن سلمة قال: تكلم الليث بن سعد في مسألة، فقال له رجل: يا أبا الحارث! في كتابك غير هذا، قال: في كتبنا ما إذا مر هذبناه بعقولنا وألسنتنا، يعني: كتب ذلك في بداية الأمر ثم رجع عنه، فقد كان يمر على الكتاب فيصلح فيه أو يزيد فيه أو ينقص. وعن عبد الله بن صالح قال: سمعت الليث بن سعد يقول: لما قدمت على هارون الرشيد قال لي: يا ليث ما صلاح بلدكم؟ قلت: يا أمير المؤمنين صلاح بلدنا بإجراء النيل وإصلاح أميرها، ومن رأس العين يأتي الكرم فإذا صفا رأس العين صفت السواقي، فقال: صدقت يا أبا الحارث! وهذا كقول عمر بن عبد العزيز: السوق يؤتى إليها ما ينفق فيها. فالأمير إذا كان من أهل الخير ومن أهل العلم والصلاح كان الناس متسابقين على الخير والصلاح والعبادة والطاعة، وإن كان الأمير عكس ذلك، فإن الناس يتسابقون على عكس ذلك.

شيوخ الليث بن سعد وتلامذته

شيوخ الليث بن سعد وتلامذته شيوخه: قال الحافظ: روى عن نافع وابن أبي مليكة ويزيد بن أبي حبيب ويحيى بن سعيد الأنصاري وأخيه عبد ربه بن سعيد وابن عجلان والزهري وهشام بن عروة وعطاء بن أبي رباح وبكير بن أشج والحارث بن يعقوب وأبي عقيل زهرة بن معبد وسعيد المقبري وأبي زناد ويزيد بن الهاد وأبي الزبير المكي وإبراهيم بن أبي عبدة وغيرهم. تلامذته: قال الحافظ: روى عنه شعيب ابنه ومحمد بن عجلان وهشام بن سعد وهما من شيوخه. وابن لهيعة وهشيم بن بشير وقيس بن الربيع وعطاف بن خالد وهم من أقرانه. وابن المبارك وابن وهب ومروان بن محمد وأبو الناصر وأبو الوليد بن مسلم ويعقوب بن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص ويونس بن محمد المؤذن ويحيى بن إسحاق وعلي بن نصر الجهضمي الكبير وأبو سلمة الخزاعي والحسن بن سوار وحجين بن المثنى وغيرهم.

وفاة الليث بن سعد رحمه الله

وفاة الليث بن سعد رحمه الله قال يحيى بن بكير وسعيد بن أبي مريم: ومات الليث للنصف من شعبان سنة خمس وسبعين ومائة، قال يحيى: يوم الجمعة، وصلى عليه موسى بن عيسى. قال خالد بن عبد السلام الصدفي: شهدت جنازة الليث بن سعد مع والده، فما رأيت جنازة قط أعظم منها، رأيت الناس كلهم عليهم الحزن، وهم يعزي بعضهم بعضاً ويبكون، فقلت: يا أبت! كأن كل واحد من الناس صاحب هذه الجنازة؟ فقال: يا بني! لا ترى مثله أبداً. فرحم الله الليث بن سعد وسائر أئمة المسلمين.

الأسئلة

الأسئلة

بيان بداية الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان

بيان بداية الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان Q متى يكون الاعتكاف في ليلة عشرين أم في ليلة واحد وعشرين؟ A في ليلة واحد وعشرين، فيدخل المعتكف المسجد قبل غروب شمس يوم عشرين من رمضان؛ لأن الليل يبدأ بالمغرب، قال تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] ومن السنة أيضاً أن يبكر بدخوله إلى المسجد، فيدخل قبل فجر يوم عشرين، فيجمع يوم عشرين إلى ليلة واحد وعشرين، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والاعتكاف: ترك الدنيا ومشاغلها، والعكوف على العبادة والصلاة والدعاء والبكاء، فلا ينبغي للمعتكف أن يحضر كتباً للمذاكرة في المسجد، أو يحضر معه حساباته إلى المسجد؛ لأن هذا هو عكوف على الدنيا وليس على الآخرة، والذي لا يتمكن من الاعتكاف كامل أيام وليالي العشر الأواخر من رمضان يتحرى ليلة القدر، فيمكنه أن يتفرغ في النهار لأعمال الدنيا كمذاكرة أو امتحانات أو أعمال لا يستطيع أن يتركها، فعندما ينتهي منها تماماً يدخل المسجد كل يوم قبل غروب الشمس ويخرج بعد الفجر، فيعتكف في ليالي العشر الأواخر، ويتحرى أيضاً ليلة القدر. نسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم سائر الطاعات. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الإمام أيوب السختياني

سلسلة من أعلام السلف_الإمام أيوب السختياني أيوب بن أبي تميمة السختياني إمام من أئمة السلف الكرام، سيد شباب أهل البصرة في زمانه، أثنى عليه العلماء ثناءً حسناً، كان متميزاً في عبادته لله وخشيته له، وكان زاهداً ورعاً مؤثراً للخمول، متبعاً للسنة وذاماً للبدعة وأهلها، فرحمه الله تعالى رحمة واسعة.

نسب أيوب السختياني ومولده وصفته

نسب أيوب السختياني ومولده وصفته إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. ثم أما بعد: فما زلنا -بحمد الله- سعداء بصحبة العلماء، ومع علم من الأعلام وإمام من أئمة السلف الكرام مع سيد شباب أهل البصرة في زمانه، وإمام من أئمة الحديث في أوانه، إمام في الورع والزهد والفرار من الشهرة. قال فيه شيخ المؤرخين الإمام الذهبي: إليه المنتهى في الإتقان. إنه أيوب السختياني. فرحم الله أئمتنا الأعلام ونفعنا بعلمهم وزهدهم وورعهم، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً. اسمه ومولده وصفته: اسمه: أيوب بن أبي تميمة كيسان السختياني أبو بكر البصري مولى عنزة، ويقال: مولى جهينة، وعنزة وجهينة اسما قبيلتين. مولده: قال إسماعيل بن علية: ولد أيوب سنة ست وستين. وقال غيره: ولد قبل الجارف سنة ثمان وستين. والجارف: اسم طاعون، أي: طاعون الجارف، وكان سنة تسع وستين. قال الذهبي: مولده عام توفي ابن عباس سنة ثمان وستين. فسنة ثمان وستين توفي فيها ابن عباس رضي الله عنهما وولد فيها أيوب السختياني سيد شباب أهل البصرة. وقد رأى أنس بن مالك رضي الله عنه، وما وجدنا له عنه رواية مع كونه كان معه في بلد، وكونه أدركه وهو ابن بضع وعشرين سنة، فلعله لم يكن قد طلب الحديث في هذا الوقت. صفته: عن حماد بن زيد قال: ما كنت تسقي أيوب شربة من ماء على القراءة إلا أن تعرفه، كان شعره وافراً، يحلقه من السنة إلى السنة، قال: فكان ربما طال فينسجه هكذا، كأنه يفرقه.

ثناء العلماء على أيوب السختياني

ثناء العلماء على أيوب السختياني ثناء العلماء عليه: عن الحسن قال: أيوب سيد شباب أهل البصرة. والحسن رحمه الله كان أكبر منه ويعتبر من شيوخه. وكان محمد بن سيرين إذا حدثه أيوب بالحديث يقول: حدثني الصدوق. وعن هشام بن عروة قال: ما قدم علينا من العراق أحد أفضل من ذاك السختياني أيوب. وعن أيوب بن سليمان بن بلال قال: قلت لـ عبيد الله بن عمر: أراك تتحرى لقاء العراقيين في الموسم؟ يعني في الحج. قال: فقال: والله ما أفرح في سنتي إلا أيام الموسم، ألقى أقواماً قد نور الله قلوبهم بالإيمان، فإذا رأيتهم ارتاح قلبي، فمنهم أيوب. وقال محمد بن سعد: وكان أيوب ثقة ثبتاً في الحديث، جامعاً عدلاً ورعاً كثير الحديث، حجة. وعن شعبة قال: حدثني أيوب سيد الفقهاء. وعن سلام بن أبي مطيع قال: ما فقنا أهل الأمصار في عصر قط إلا في زمن أيوب ويونس وابن عون، لم يكن في الأرض مثلهم. يعني: فاق أهل البصرة سائر الأمصار لوجود هؤلاء الأئمة. وقال الذهبي: إليه المنتهى في الإتقان. وقال النسائي: ثقة ثبت. وقال أبو حاتم: سئل ابن المديني من أثبت أصحاب نافع مولى ابن عمر؟ قال: أيوب وفضله، ومالك وإتقانه، وعبيد الله وحفظه. وقال محمد بن أحمد بن البراء عن علي بن المديني: وليس في القوم -يعني: هشام بن حسان وسلمة بن علقمة وعاصماً الأحوال وخالداً الحذَّاء - مثل أيوب وابن عون، وأيوب أثبت من ابن سيرين ومن خالد الحذاء. وعن أشعث قال: كان أيوب جهبذ العلماء.

عبادة أيوب السختياني وخشيته لله تعالى

عبادة أيوب السختياني وخشيته لله تعالى عبادته وخشيته رحمه الله: عن إسحاق بن محمد قال: سمعت مالك بن أنس يقول: كنا ندخل على أيوب السختياني، فإذا ذكرنا له حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى حتى نرحمه. كان الإمام مالك لا يروي عن أيوب السختياني حتى رآه في الموسم، فكان أيوب إذا حدث بالحديث فذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى يرحم، فكان بعد ذلك يروي عنه. وعن سعيد بن عامر عن سلام قال: كان أيوب السختياني يقوم الليل كله فيخفي ذلك، وإذا كان عند الصباح رفع صوته كأنه قام تلك الساعة. فالسلف كانوا يخفون أعمالهم الصالحة كما نخفي أعمالنا السيئة. كان إبراهيم بن أدهم إذا دخل عليه داخل وهو يقرأ في المصحف غطاه. وروى سليمان بن حرب عن حماد بن زيد قال: كان أيوب في مجلس فجاءته عبرة -أي: دمعة أو بكاء - فجعل يتمخط ويقول: ما أشد الزكام! وعن ابن شوذب قال: كان أيوب يؤم أهل مسجده في شهر رمضان ويصلي بهم في الركعة قدر ثلاثين آية، ويصلي لنفسه ما بين الترويحتين بقدر ثلاثين آية، وكان يقول هو بنفسه للناس: الصلاة، ويوتر بهم، ويدعو بدعاء القرآن، ويؤمن من خلفه، وآخر ذلك يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: اللهم استعملنا بسنته، وأوزعنا بهديه، واجعلنا للمتقين إماماً ثم يسجد، وإذا فرغ من الصلاة دعا بدعوات.

زهد أيوب السختياني وورعه

زهد أيوب السختياني وورعه زهده وورعه رحمه الله: عن ابن شوذب قال: كان أيوب - يعني: السختياني - إذا سئل عن الشيء ليس عنده فيه شيء؟ قال: سل أهل العلم، وكأنه ليس من أهل العلم. وعن حماد عن أيوب قال: أدركت الناس هاهنا، وكلامهم: إن قضي وإن قدر. وكان يقول: ليتق الله رجل، فإن زهد فلا يجعلن زهده عذاباً على الناس، فلأن يخفي الرجل زهده خير من أن يعلنه. يعني: إذا كان يأخذ نفسه بالشدة فلا يظهر ذلك؛ شفقة على الناس. قال: وكان أيوب ممن يخفي زهده، دخلنا عليه فإذا هو على فراش مخمس أحمر فرفعته أو رفعه بعض أصحابنا فإذا خصفة محشوة بليف. وعن شعبة قال: ما واعدت أيوب موعداً قط إلا قال حين يفارقني: ليس بيني وبينك موعد، فإذا جئت وجدته قد سبقني. يعني: أنه كان يخشى أن يطرأ له عذر، فكان يقول: ليس بيني وبينك ميعاد احتياطاً. وعن بشر بن منصور قال: كنا عند أيوب فوعظنا وتكلمنا فقال لنا: كفوا، لو أردت أن أخبركم بكل شيء تكلمت به اليوم لفعلت. لأنه كان يجتهد في الطاعة والعبادة والعمل الصالح، وكانوا يعدون كلامهم فلا يتكلمون كلاماً كثيراً كما نتكلم نحن، وإنما كان وقتهم في الطاعة والعبادة والعمل الصالح، وكان في التابعين من هو أكثر عملاً من الصحابة رضي الله عنهم، حتى قال ابن مسعود للتابعين: لأنتم أكثر عملاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنهم كانوا خيراً منكم، كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة. فالصحابة سبقوا بأحوال القلوب، فالأحوال الإيمانية كانت عندهم مرتفعة جداً في الزهد والورع والتقوى والمحبة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فالعبد يسبق بقلبه من هو أكثر اجتهاداً ببدنه، والسبق سبق القلوب وسبق الهمم. من لي بمثل سيرك المدلل تسير رويداً وتجيء في الأول والصحابة تهيأت لهم ظروف لم تتهيأ لمن بعدهم؛ فهم عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم واكتحلوا برؤيته، وكان يفيض عليهم مما يفيض الله عز وجل على قلبه، ولذلك يقول أنس: ما نفضنا أيدينا من دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا. أي: أنهم فقدوا مصدراً عظيماً من مصادر الرقي الإيماني فأحسوا بتغير القلوب بمجرد أن دفنوا الجسد الشريف. وقال حماد بن زيد: كان أيوب صديقاً لـ يزيد بن الوليد، فلما ولي الخلافة قال أيوب: اللهم أنسه ذكري. كان بعض السلف إذا تولى صاحب أحدهم الإمامة يقول: اللهم أنسه ذكرنا حتى يصير لا يعرفنا ولا نعرفه.

أدب أيوب السختياني وفراره من الشهرة

أدب أيوب السختياني وفراره من الشهرة أدبه وفراره من الشهرة: عن حماد بن زيد قال: ما رأيت رجلاً قط أشد تبسماً في وجوه الرجال من أيوب. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وتبسمك في وجه أخيك صدقة)، فمن حق أخيك عليك أن تبتسم في وجهه حتى لو كان عندك مشاكل وعليك ديون، وما ذنب أخيك أن تلقاه بغير الوجه الطلق. وعن حماد قال: رأيت أيوب لا ينصرف من سوقه إلا معه شيء يحمله لعياله، حتى رأيت قارورة الدهن بيده يحملها - يعني: الطيب - فقلت له في ذلك، فقال: إني سمعت الحسن يقول: إن المؤمن أخذ عن الله عز وجل أدباً حسناً، فإذا أوسع عليه أوسع، وإذا أمسك عليه أمسك. فالمؤمن إذا أتاه رزق يوسع على أولاده، وإذا أمسك عليه أمسك. وقال شعبة: قال أيوب: ذُكرت ولا أحب أن أُذكر. فكان العلماء يفرون من الشهرة ومن الذكر ومن المدح، وكما يقولون: من أحب أن يذكر لم يذكر، ومن كره أن يذكر ذكر. فالإنسان الذي يهرب من الذكر والشهرة والمدح هو الذي يذكر ويكون له شأن، أما من يسعى للذكر والشهرة فلا يذكر. وقال حماد بن زيد: كان لـ أيوب برد أحمر يلبسه إذا أحرم، وكان يعده كفناً، وكنت أمشي معه فيأخذ في طرق، إني لأعجب له كيف يهتدي لها؛ فراراً من الناس أن يقولوا: هذا أيوب. فكان يفر من أن يراه الناس حتى لا يقولوا: هذا أيوب. وقال شعبة: ربما ذهبت مع أيوب لحاجة فلا يدعني أمشي معه، ويخرج من هاهنا وهاهنا لكي لا يفطن له. وكان أيوب إذا دخل السوق ورآه أهل السوق سبحوا وهللوا وكبروا؛ لما يرون عليه على وجهه من أنوار الطاعة والعبادة والإقبال على الله عز وجل. فالعبد إذا أقبل على الله عز وجل بكليته أقبل الله عز وجل عليه، ومن أقبل الله عز وجل عليه أضاءت ساحاته واستنارت جوانبه، والأولياء إذا رءوا ذكر الله، فهم يذكرون الناس بالله عز وجل برؤيتهم.

اتباع أيوب السختياني للسنة وذمه للبدع وأهلها

اتباع أيوب السختياني للسنة وذمه للبدع وأهلها اتباعه للسنة وذمه للبدع وأهلها: قال حماد بن زيد: أيوب عندي أفضل من جالسته. وحماد بن زيد من طبقة الإمام مالك، فهو من كبار أتباع التابعين، فكان حماد بن زيد بالبصرة ومالك بالمدينة والليث بن سعد بمصر وسفيان الثوري بالكوفة وابن عيينة بمكة، ومع هذا يقول حماد بن زيد: أيوب عندي أفضل من جالسته وأشدهم اتباعاً للسنة. قال سعيد بن عامر الضبعي: عن سلام بن أبي مطيع قال: رأى أيوب رجلاً من أصحاب الأهواء فقال: إني لأعرف الذلة في وجهه، ثم تلا: {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف:152]. فكل من افترى على الشرع فهو من أهل الأهواء والبدع، وكل مبتدع مفترٍ على الشرع إما بزيادة أو بنقصان فلابد أن ينال نصيباً من الذلة، كما أن كل من عصى أمر الله عز وجل وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم لا بد أن ينال من الذلة بحسب معصيته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري). وقال الحسن: إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين إن ذل المعصية لفي رقابهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه. ثم قال أيوب: هذا لكل مفترٍ، وكان يسمي أصحاب الأهواء خوارج، ويقول: إن الخوارج اختلفوا في الاسم واجتمعوا على السيف. وقال له رجل من أهل الأهواء: يا أبا بكر! أسألك عن كلمة، فولى وهو يقول: ولا نصف كلمة، مرتين. وعن هشام بن حسان عن أيوب السختياني قال: ما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً إلا ازداد من الله بعداً. وعن ابن عيينة قال: قال أيوب: إنه ليبلغني موت الرجل من أهل السنة فكأنما يسقط عضو من أعضائي. وكان ذلك في أزمنة متوفر فيها علماء السنة، حيث كانت الواحة لا تخلو من عالم من علماء السنة فكيف بهذه الأزمنة المتأخرة؟ والمسلمون فقدوا عدداً كبيراً من علماء السنة، نسأل الله عز وجل أن يجبر الأمة وأن يعوضها خيراً.

شيوخ أيوب السختياني وتلامذته

شيوخ أيوب السختياني وتلامذته شيوخه وتلامذته: أما شيوخه، فقد قال الذهبي: سمع من أبي بريد عمرو بن سلمة الجرمي وأبي عثمان النهدي -وهو روى عن العشرة المبشرين- وسعيد بن جبير وأبي العالية الرياحي وعبد الله بن شقيق وأبي قلابة الجرمي ومجاهد بن جبر والحسن البصري ومحمد بن سيرين ومعاذة العدوية وقيس بن عباية الحنفي وأبي رجاء عمران بن ملحان العطاردي وغيرهم. وأما تلامذته: فقد قال الذهبي: حدث عنه محمد بن سيرين وعمرو بن دينار والزهري وقتادة وهم من شيوخه، ويحيى بن أبي كثير وشعبة وسفيان ومالك ومعمر وعبد الوارث وحماد بن سلمة وسليمان بن المغيرة وحماد بن زيد ومعمر بن سليمان ووهيب وعبيد الله بن عمرو وإسماعيل بن علية -وعلية اسم أمه- وعبد السلام بن حرب ومحمد بن عبد الرحمن الطفاوي ونوح بن قيس الحداني وهشيم بن بشير ويزيد بن زريع وخالد بن الحارث وسفيان بن عيينة وعبد الوهاب الثقفي وأمم سواهم.

درر من أقوال أيوب السختياني

درر من أقوال أيوب السختياني درر من أقواله: عن عبيد الله بن شميط قال: سمعت أيوب السختياني يقول: لا يسود العبد حتى يكون فيه خصلتان: اليأس مما في أيدي الناس، والتغافل عما يكون منهم. يعني: العفو عن زلتهم. وعن حماد بن زيد قال: قال لنا أيوب: إنك لا تبصر خطأ معلمك حتى تجالس غيره وتجالس الناس. ويقصد بالناس: العلماء. وعن حماد بن سلمة قال: سمعت أيوب يقول: إن قوماً يترفعون ويأبى الله إلا أن يضعهم، وإن قوماً يتواضعون ويأبى الله إلا أن يرفعهم. وعن حماد بن زيد قال: قال لي أيوب: الزم سوقك؛ فإنك لا تزال كريماً على إخوانك ما لم تحتج إليهم. وعن مخلد بن الحسين قال: قال أيوب: ما صدق عبد فأحب الشهرة. فالله تعالى يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] فمحبة الشهرة محبة للعلو في الأرض.

وفاة أيوب السختياني رحمه الله

وفاة أيوب السختياني رحمه الله وفاته: قال الذهبي: اتفقوا على أنه توفي سنة إحدى وثلاثين ومائة بالبصرة، زمن الطاعون وله ثلاث وستون سنة، وآخر من روى حديثه عالياً أبو الحسن بن البخاري. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه وسلم.

الإمام حماد بن زيد

سلسلة من أعلام السلف_الإمام حماد بن زيد حماد بن زيد رحمه الله أحد الأئمة الأعلام في عصر كبار أتباع التابعين، وقد أثنى عليه العلماء ثناء عطراً في علمه وإمامته وحفظه وفقهه واتباعه للسنة وزهده وصلاحه، فرحمه الله تعالى رحمة الأبرار.

بين يدي ترجمة حماد بن زيد رحمه الله تعالى

بين يدي ترجمة حماد بن زيد رحمه الله تعالى إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: فنحن في هذه السلسلة المباركة من أعلام السلف مع إمام من أئمة المسلمين في زمن كبار التابعين، زمن مالك والسفيانين والليث والأوزاعي؛ إنه إمام أهل البصرة، وراوية أيوب السختياني: حماد بن زيد رحمه الله، إنه شيخ ابن المبارك وابن مهدي، كان يحفظ أربعة آلاف حديث عن ظهر قلب لا يخطئ في حرف واحد، فارق الدنيا وليس له فيها نظير، فرحمه الله رحمة واسعة، ورحم الله سائر الأئمة الكرام والعلماء الأعلام. وحماد بن زيد بن درهم، وكذلك حماد بن سلمة بن دينار كلاهما من أئمة البصرة، وفي عصر واحد هو عصر كبار أتباع التابعين.

نسب حماد بن زيد ومولده وصفته

نسب حماد بن زيد ومولده وصفته اسمه: حماد بن زيد بن درهم الأزدي الجهضمي، أبو إسماعيل البصري الأزرق، مولى آل جرير بن حازم، وكان جده درهم من سبي سجستان. أما مولده: قال الذهبي: مولده في سنة ثمان وتسعين. وعن حماد بن زيد قال: زعمت أمي أنني ولدت في خلافة عمر بن عبد العزيز. قال: وقالت عمتي: في آخر خلافة سليمان بن عبد الملك. صفته: قال أبو حاتم بن حبان: كان ضريراً، يحفظ حديثه كله. يعني: كان ضبطه ضبط صدر. وقال الذهبي: إنما أضر بآخره. يعني: ذهب بصره في آخر عمره، وليس في أوله. وعن عفان بن مسلم قال: كان حماد بن زيد يلبس قلنسوة بيضاء طويلة لطيفة.

ثناء العلماء على حماد بن زيد

ثناء العلماء على حماد بن زيد قال الحافظ أبو نعيم: ومنهم الإمام الرشيد الآخذ بالأصل الوتيد، المتمسك بالمنهج الحميد، نزل من العلوم بالمحل الرفيع، وتوصل إلى الأصول بالوسيط المنيع، اقتبس الآثار عن الأخيار، وأخذ الأعمال عن الأبرار، أكبر فوائده في الأقضية والأحكام، وأبلغ مواعظه في مراعاة الأبنية والأعلام، أبو إسماعيل حماد بن زيد. وعن علي بن الحسن بن شقيق قال: قال عبد الله بن المبارك: أيها الطالب علماًَ ائت حماد بن زيد فاطلب العلم بحلم ثم قيده بقيد لا كثور وكجهم وكعمرو بن عبيد وعن خالد بن خداش قال: حماد بن زيد من عقلاء الناس، وذوي الألباب. وعن أبي عاصم قال: مات حماد بن زيد يوم مات ولا أعلم له في الإسلام نظيراً في هيبته ودله. وأظنه قال: وسمته. قال عبد الرحمن بن مهدي: أئمة الناس في زمانهم أربعة: سفيان الثوري بالكوفة، ومالك بالحجاز، والأوزاعي بالشام، وحماد بن زيد بالبصرة. وقال آخر: هو أجل أصحاب أيوب السختياني وأثبتهم. وقال أحمد بن حنبل: حماد بن زيد من أئمة المسلمين من أهل الدين، هو أحب إلي من حماد بن سلمة. فـ حماد بن سلمة كان مشهوراً بالعبادة والشدة على أهل البدع، وكان واعظاً، وكان الناس يحسبون فيه الإخلاص في تعلمه وتعليمه، ولكن حماد بن زيد أثبت في الحديث. وقال عبد الرحمن بن مهدي: ما رأيت أعلم من حماد بن زيد ومالك بن أنس وسفيان الثوري، وما رأيت أحداً أفقه منه، يعني: حماد بن زيد. وعن إبراهيم بن سعيد الجوهري قال: سمعت أبا أسامة يقول: كنت إذا رأيت حماد بن زيد قلت: أدبه كسرى وفقهه عمر. وقال محمد بن سعد: حماد بن زيد يكنى أبا إسماعيل، وكان عثمانياً، يعني: كان يقدم عثمان على علي. وكما قال بعض العلماء: من فضل علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار؛ لأن المهاجرين والأنصار أجمعوا على تقديم عثمان على علي. وعن يحيى قال: حماد بن زيد أثبت من عبد الوارث وابن علية وعبد الوهاب الثقفي وابن عيينة. وعن عبيد الله بن الحسن قال: إنما هما الحمادان، فإذا طلبتم العلم فاطلبوه من الحمادين. وعن عبد الرحمن بن مهدي قال: ما رأيت بالبصرة أفقه من حماد بن زيد.

تثبت حماد بن زيد وحفظه رحمه الله

تثبت حماد بن زيد وحفظه رحمه الله عن محمد بن المنهال الضرير قال: سمعت يزيد بن زريق وسئل: ما تقول في حماد بن زيد وحماد بن سلمة، أيهما أثبت في الحديث؟ قال: حماد بن زيد، وكان الآخر رجلاً صالحاً. وعن يحيى بن معين قال: ليس أحد في أيوب أثبت من حماد بن زيد. وعن عبد الرحمن بن مهدي قال: سئل أبو زرعة عن حماد بن زيد وحماد بن سلمة؟ فقال: حماد بن زيد أثبت من حماد بن سلمة بكثير، أصح حديثاً وأتقنه. وقال ابن مصفى: أخبرنا بقية قال: ما رأيت بالعراق مثل حماد بن زيد. وقال الذهبي: ومن خاصية حماد بن زيد أنه لا يدلس أبداً. وقال خالد بن خداش: سمعته يقول: المدلس متشبع بما لم يعط. وقال الذهبي أيضاً: والمدلس داخل في عموم قوله: {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [آل عمران:188]، وداخل في قوله عليه الصلاة والسلام: (من غشنا فليس منا)؛ لأنه يوهم السامعين أن حديثه متصل، وفيه انقطاع، وهذا إذا دلس عن ثقة، أما إذا دلس خبره عن ضعيف يوهم أنه صحيح؛ لكون الضعيف -مثلاً- مشهوراً بالاسم فيذكره بالكنية، أو مشهوراً بالكنية فيذكره بالاسم حتى لا يفطن له، فهذا نوع من الغش، أو أنه يسقطه، وهو تدليس الإسقاط، فيذكر شيخه بصيغة توهم السماع، فيقول: عن فلان، ويسقط شيخاً ضعيفاً، فهذا أيضاً غش، وقد قال عبد الوارث بن سعيد: التدليس ذل. وعن يحيى بن يحيى النيسابوري قال: ما رأيت أحفظ من حماد بن زيد. وقال أحمد بن عبد الله العجلي: حماد بن زيد ثقة، وحديثه أربعة آلاف حديث كان يحفظها ولم يكن له كتاب. وقال عبد الرحمن بن خراش الحافظ: لم يخطئ حماد بن زيد في حديث قط. وعن مقاتل بن محمد قال: سمعت وكيعاً وقد قيل له: حماد بن زيد كان أحفظ أو حماد بن سلمة؟ فقال: حماد بن زيد، ما كنا نشبه حماد بن زيد إلا بـ مسعر.

اتباع حماد بن زيد للسنة وحذوه معتقد أهلها

اتباع حماد بن زيد للسنة وحذوه معتقد أهلها عن عبد الرحمن بن مهدي قال: لم أر أحداً قط أعلم بالسنة ولا بالحديث الذي يدخل في السنة من حماد بن زيد. وعن يحيى بن المغيرة قال: قرأت كتاب حماد بن زيد إلى جرير: بلغني أنك تقول في الإيمان بالزيادة، وأهل الكوفة يقولون غير ذلك، اثبت على ذلك ثبتك الله. وعن عبد الرحمن بن مهدي قال: إذا رأيت بصرياً يحب حماد بن زيد فهو صاحب سنة. وهذا إشارة إلى أنه من أئمة السنة في زمانه، فمحبة علماء أهل السنة علامة على الخير، وبغض علماء السنة والطعن فيهم علامة على البدعة. قال الذهبي: لا أعلم بين العلماء نزاعاً في أن حماد بن زيد من أئمة السلف، ومن أتقن الحفاظ وأعدلهم وأعدمهم غلطاً على سعة ما روى رحمه الله. وعن سليمان بن محمد قال: سمعت حماد بن زيد يقول: إنما يدورون على أن يقولوا: ليس في السماء إله. يعني الجهمية الذين ينفون الفوقية. وعن أبي النعمان عارم قال: قال حماد بن زيد: القرآن كلام الله، أنزله جبريل من عند رب العالمين. وعن فطر بن حماد بن واقد قال: سألت حماد بن زيد فقلت: يا أبا إسماعيل! إمام لنا يقول: القرآن مخلوق، أصلي خلفه؟ قال: لا، ولا كرامة. وعن خالد بن خداش قال: سمعت حماد بن زيد يقول: لئن قلت: إن علياً أفضل من عثمان لقد قلت: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خانوا. فهذا يدل على ضعف القول أنه كان علوياً، أو لعل هذا كان مذهباً له في البداية ثم رجع عنه. فترتيب الصحابة الخلفاء في الخلافة كترتيبهم في الفضل.

التفريق بين حماد بن زيد وحماد بن سلمة

التفريق بين حماد بن زيد وحماد بن سلمة اشترك الحمادان في كثير من المشايخ والتلاميذ، فكيف نفرق بينهما: قال الحافظ الذهبي ما ملخصه: اشترك الحمادان في الرواية عن مشايخ، يعني: لأنهما متعاصران وفي مصر واحد وهو البصرة، فطبيعي أن يكون هنالك اشتراك بينهما في أكثر الشيوخ والتلاميذ، كما هو الحال في سفيان الثوري وسفيان بن عيينة، وإن كان سفيان بن عيينة بالحجاز والثوري بالكوفة، إلا أنهما متعاصران واشتركا في جملة من المشايخ، فكيف نفرق لو وجدنا في الإسناد: (حدثنا حماد) دون أن يبين من هو حماد. يقول الحافظ الذهبي: اشترك الحمادان في الرواية عن مشايخ، وروى عنهما جماعة من المحدثين، فربما روى الرجل منهم عن (حماد) ولم ينسبه، فلا يعرف أي الحمادين هو إلا بقرينة، فإن عري السند من القرائن -وذلك قليل- لم نقطع أنه ابن زيد ولا ابن سلمة، بل نتردد، أو نقدره ابن سلمة ونقول: هذا الحديث على شرط مسلم؛ إذ مسلم قد احتج بهما جميعاً، كما ذكرنا أن البخاري تحاشا الرواية عن حماد بن سلمة لأنه تغير بآخره، فقد كان له أحاديث كثيرة جداً، وليس هو في الضبط مثل حماد بن زيد، ولكن الإمام مسلم تخير من حديث حماد بن سلمة فروى حديثه في الأصول عن ثابت البناني وعن خاله حميد الطويل، وفي المتابعات ذكر روايته عن حماد بن سلمة عن غيرهما. أي: ثابت البناني وحميد الطويل. فيقول: لو وجدنا في السند حماداً ولم يميز فنقول: إن هذا من شرط مسلم؛ لأن مسلماً روى للحمادين، أما البخاري فروى لـ حماد بن زيد وحده، فلو وجدنا حماداً في صحيح البخاري غير منسوب إلى أبيه فهو حماد بن زيد فقط. ثم ذكر رحمه الله جملة من شيوخهما وتلامذتهما، ثم قال: والحفاظ المختصون بالإكثار من الرواية عن حماد بن سلمة: بهز بن أسد وحبان بن هلال والحسن الأشيب وعمر بن عاصم، يعني: لو قال بهز بن أسد: حدثنا (حماد) وسكت، فيكون الغالب أنه حماد بن سلمة أو قال ذلك حبان بن هلال أو الحسن الأشيب أو عمر بن عاصم. والحفاظ المختصون بالإكثار من الرواية عن حماد بن زيد الذين ما لحقوا ابن سلمة أكثر وأوضح، فـ حماد بن سلمة كان أكبر، وهناك حفاظ ما أدركوا حماد بن سلمة، فلو قال واحد منهم: (حدثنا حماد)، فهو حماد بن زيد؛ لأنهم فاتهم حماد بن سلمة فلم يرووا عنه، كـ علي بن المديني وأحمد بن عبدة وأحمد بن المقدام وبشر بن معاذ العقدي وخالد بن خداش وخلف بن هشام وزكريا بن عدي وسعيد بن منصور وأبي الربيع الزهراني والقواريري وعمرو بن عوف وقتيبة بن سعيد ومحمد بن أبي بكر المقدمي ولوين ومحمد بن عيسى الطباع ومحمد بن عبيد الأحدب ومسدد ويحيى بن حبيب ويحيى بن يحيى التميمي وعدة من أقرانهم، فإذا رأيت الرجل من هذه الطبقة قد روى عن حماد وأبهمه -يعني: لم يميزه- علمت أنه ابن زيد، وأن هذا الراوي لم يدرك حماد بن سلمة. وكذلك إذا روى رجل ممن لقيهما فقال: (حدثنا حماد) وسكت نظرنا في شيخ حماد من هو، فإذا كان من شيوخهما ترددنا، وإن كان من شيوخ أحدهما على الاختصاص والتفرد عرفنا أنه من شيوخه المختصين به. يعني: ينظر للتلاميذ وللشيوخ، فهناك تلاميذ أدركوا حماد بن زيد ولم يدركوا حماد بن سلمة، فهؤلاء لو قالوا: (حماد) نعرف أنهم يقصدون حماد بن زيد، بخلاف الذين أكثروا من الرواية عن حماد بن سلمة كما سبق. وكذا إذا روى رجل ممن لقيهما فقال: (حدثنا حماد) وسكت، نظرت في شيخ حماد من هو، فإذا رأيته من شيوخهما ترددت، وإذا رأيته من شيوخ أحدهما على الاختصاص والتفرد عرفته من شيوخه المختصين به. وأنفع كتاب بالنسبة لتحديد هؤلاء العلماء كتاب تهذيب الكمال للحافظ المزي، فهو لم يحصر الشيوخ والتلاميذ، ولكن يذكر أكثر الشيوخ والتلاميذ، وهو الكتاب الذي اختصره من الكمال لـ

شيوخ حماد بن زيد وتلامذته رحمه الله

شيوخ حماد بن زيد وتلامذته رحمه الله شيوخه: قال الحافظ: روى عن ثابت البناني وأنس بن سيرين وعبد العزيز بن صهيب وعاصم الأحول ومحمد بن زياد القرشي وأبي جمرة الضبعي والجعد أبي عثمان وأبي حازم سلمة بن دينار وشعيب بن الحبحاب وصالح بن كيسان وعبد الحميد صاحب الزيادي وأبي عمران الجوني وعمرو بن دينار وهشام بن عروة وعبيد الله بن عمر وغيرهم من التابعين فمن بعدهم. تلامذته: قال الحافظ: وعنه ابن المبارك وابن مهدي وابن وهب والقطان وابن عيينة وهو من أقرانه، والثوري وهو أكبر منه، وإبراهيم بن أبي عبلة وهو من عداد شيوخه ومسلم بن إبراهيم وعارم ومسدد ومؤمل بن إسماعيل وأبو أسامة وسليمان بن حرب وعفان وعمرو بن عوف وعلي بن المديني وقتيبة ومحمد بن زنبور المكي وأبو الأشعث أحمد بن المقدام العجلي وخلق كثير آخرهم الهيثم بن سهل التستري مع ضعفه.

درر من أقوال حماد بن زيد رحمه الله

درر من أقوال حماد بن زيد رحمه الله عن سليمان بن حرب قال: سمعت حماد بن زيد يقول في قوله تعالى: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] قال: أرى رفع الصوت عليه بعد موته كرفع الصوت عليه في حياته، إذا قرئ حديثه وجب عليك أن تنصت له كما تنصت للقرآن. فهذا من الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم، فليس المقصود التأدب معه في حياته فحسب، ولكن إذا سمعت حديثه فعليك أن تخفض صوتك عند سماع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك يدخل فيها - والله أعلم - ألا ترفع الآراء والأهواء والأقيسة الفاسدة على كلام النبي صلى الله عليه وسلم فتطرح الآراء وتوضع الأقوال المخالفة لقوله، فهذا من الأدب معه صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته. وقال محمد بن وزير الواسطي: سمعت يزيد بن هارون يقول: قلت لـ حماد بن زيد: هل ذكر الله أصحاب الحديث في القرآن؟ قال: بلى، الله تعالى يقول: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة:122]. يعني: طائفة تنفر إلى الجهاد، وطائفة تنفر لتتعلم حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أتت الطائفة التي نفرت للجهاد علمتها الطائفة التي نفرت لسماع الحديث. وعن أيوب العطار قال: سمعت بشر بن الحارث يقول: حدثنا حماد بن زيد ثم قال: أستغفر الله، إن لذكر الإسناد في القلب خيلاء.

وفاة حماد بن زيد رحمه الله

وفاة حماد بن زيد رحمه الله قال الذهبي: ولد سنة ثمان وتسعين، ومات سنة تسع وسبعين ومائة. وقال أبو حفص الفلاس: مات يوم الجمعة في التاسع عشر من شهر رمضان. وقال عارم: مات لعشر ليال خلون من رمضان في يوم الجمعة. وقال أبو داود: مات قبل مالك بشهرين وأيام. قال الذهبي: هذا وهم، بل مات قبله بستة أشهر، فرحمهما الله، فلقد كانا ركني الدين، وما خلفهما مثلهما. يعني: ما بقي في الدنيا مثل مالك بن أنس نجم السنن -وستأتي ترجمته إن شاء الله تعالى- وحماد بن زيد إمام أهل البصرة. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الإمام حماد بن سلمة

سلسلة من أعلام السلف_الإمام حماد بن سلمة حماد بن سلمة علم من أعلام السلف، وإمام من الأئمة الكرام، كان أكثر أتباع التابعين عبادة وشدة على البدع وأهلها، أثنى عليه العلماء، واتهموا من يطعن فيه، فرحمنا الله وإياه رحمة الأبرار.

بين يدي ترجمة حماد بن سلمة

بين يدي ترجمة حماد بن سلمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: فنحن هنا في سلسلة من أعلام السلف مع علم من الأعلام، وإمام من الأئمة الكرام، إنه أكبر الحمادين سناً وأكثرهم عبادة وشدة على أهل البدع، إنه إمام أهل البصرة حماد بن سلمة رحمه الله، كفاه شرفاً وفخراً قول ابن المبارك رحمه الله: دخلت البصرة فما رأيت أحداً أشبه بمسالك الأول من حماد بن سلمة. فرحمه الله وأعلى درجته وجمعنا به في دار كرامته، ولله الحمد والمنة على كل نعمة.

نسب حماد بن سلمة ومولده وصفته

نسب حماد بن سلمة ومولده وصفته اسمه: حماد بن سلمة بن دينار، الإمام القدوة، شيخ الإسلام أبو سلمة البصري النحوي البزاز الخرقي البطائني مولى آل ربيعة بن مالك، وابن أخت حميد الطويل. مولده: قال أبو سلمة التبوذكي: مات حماد بن سلمة وقد أتى عليه ست وسبعون سنة. والمشهور أن وفاته سنة سبع وستين ومائة، فيكون ميلاده في إحدى وتسعين. صفته: قال البخاري: سمعت آدم بن أبي إياس يقول: شهدت حماد بن سلمة ودعوه - يعني: السلطان - فقال: أحمل لحية حمراء إلى هؤلاء؟ لا والله ما فعلت. فرفض أن يذهب إلى السلطان.

ثناء العلماء على حماد بن سلمة

ثناء العلماء على حماد بن سلمة عن يحيى بن معين قال: حماد بن سلمة ثقة. وعن حجاج بن المنهال قال: حدثنا حماد بن سلمة وكان من أئمة الدين. وعن عبد الرحمن بن مهدي قال: حماد بن سلمة صحيح السماع حسن اللقي، أدرك الناس -أي: وجوه الناس أو العلماء- ولم يتهم بلون من الألوان -يعني: من البدع- ولم يتلبس بشيء، أحسن ملكة نفسه، ولسانه لم يطلقه على أحد، ولا ذكر خلقاً بسوء، فسلم حتى مات رحمه الله. وقال عبد الله بن المبارك: دخلت البصرة فما رأيت أحداً أشبه بمسالك الأول من حماد بن سلمة. وعن موسى بن إسماعيل قال: سمعت حماد بن زيد يقول: ما كنا نأتي أحداً نتعلم شيئاً بنية في ذلك الزمان إلا حماد بن سلمة. وكان معاصراً له، وإن كان حماد بن سلمة أكبر منه بعشر سنوات تقريباً، ولكنهما إماما أهل البصرة، وإن كان حماد بن زيد أثبت، وحماد بن زيد يشبه بالإمام مالك، ولكن حماد بن سلمة لشدته على أهل البدع وعبادته وشبهه بالأولين ركزنا عليه في هذه الترجمة التربوية. وقال أحمد: أعلم الناس بـ ثابت البناني حماد بن سلمة، وهو أثبتهم في حميد الطويل. ولذلك فإن البخاري لم يرو عن حماد بن سلمة، ولكن روى عنه الإمام مسلم، وركز على روايته عن ثابت البناني وحميد الطويل؛ لأنه كان من أعلم الناس بحديثهما. قال الذهبي: كان بحراً من بحور العلم، وله أوهام في سعة ما روى، وهو صدوق حجة، وليس هو في الإتقان كـ حماد بن زيد، وتحايد البخاري إخراج حديثه إلا حديثاً خرجه في الرقاق، فقال: قال لي أبو الوليد: حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس عن أبي، ولم ينحط حديثه عن رتبة الحسن. ومسلم روى له في الأصول، أي: الأحاديث التي ليس في سندها مقال فيصدرها، ثم بعد ذلك يذكر روايات للحديث قد يكون فيها عنعنة مدلس، أو فيها راو تكلم فيه، فهو مطمئن إلى صحة الحديث من الطرق السليمة التي أوردها في المقدمة وفي الأصول، ولا بأس بالمتابعات إذا كان فيها شيء من الضعف. ورد الحافظ ابن حبان على الإمام البخاري في تجنب حديثه، فقال في صحيحه: لم ينصف من جانب حديثه واحتج بـ أبي بكر بن عياش، وبـ ابن أخي الزهري وعبد الرحمن بن دينار، فإن كان تركه إياه لما كان يخطئ فغيره من أقرانه -مثل الثوري وشعبة ودونهما- كانوا يخطئون، فإن زعم أن خطأه قد كثر من تغير حفظه فكذلك أبو بكر - يعني: ابن عياش - ولم يكن مثل حماد بالبصرة، ولم يكن يثلبه - أي: يطعن فيه - إلا معتزلي أو جهمي؛ لما كان يظهر من السنن الصحيحة، وهل يبلغ أبو بكر بن عياش مبلغ حماد بن سلمة في إتقانه أم في جمعه أم في علمه أم ضبطه؟ وقال الذهبي: قال أحمد بن حنبل رحمه الله: إذا رأيت من يغمزه فاتهمه، فإنه كان شديداً على أهل البدع. وعلامة أهل البدع الطعن في علماء السنة، وخاصة الذين عرفوا بتحريهم للسنة، كالإمام أحمد وحماد بن سلمة وغيرهم من أئمة أهل السنة والجماعة، قال الذهبي: إلا أنه لما طعن في السن ساء حفظه، فلذلك لم يحتج به البخاري. أما مسلم فاجتهد فيه، وأخرج من حديثه عن ثابت مما سمع منه قبل تغيره، ويقصد بالتغير قلة الحفظ لا الاختلاط، فقد ينزل من درجة الصحيح إلى الحسن، ولكن ليس معنى ذلك أن يترك حديثه في آخر عمره. فيقول: أخرج من حديثه عن ثابت. كما قالوا عن عبد الرزاق أيضاً: تغير بآخره، ولكن لا يقصدون بذلك أنه اختلط. وقالوا أيضاً في عروة بن الزبير: تغير بآخره، فليس المقصود أنه نزل عن رتبة الاحتجاج، ولكن المقصود: قل حفظه وضبطه. يقول: وأما عن غير ثابت فأخرج له نحو اثني عشر حديثاً في الشواهد دون الاحتجاج. أي: لم يخرج له في الأصول، وإنما في الشواهد أو المتابعات، فالاحتياط ألا يحتج به فيما يخالف الثقات، وهذا الحديث من جملتها. وقال عبد الله بن معاوية الجمحي: حدثنا الحمادان، وفضل ابن سلمة على ابن زيد كفضل الدينار على الدرهم. يعني: الذي اسم جده دينار أفضل من حماد بن زيد الذي اسم جده

عبادة حماد بن سلمة رحمه الله

عبادة حماد بن سلمة رحمه الله قال أبو نعيم في ترجمته له: ومنهم المجتهد في العبادة المعدود في الإمامة: أبو سلمة حماد بن سلمة، كان لخطير الأعمال مصطنعاً، وبيسير الأقوات مقتنعاً. وعن عبد الرحمن بن مهدي قال: لو قيل لـ حماد بن سلمة: إنك تموت غداً ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً. وعن عفان بن مسلم قال: رأيت من هو أعبد من حماد بن سلمة، ولكن ما رأيت أشد مواظبة على الخير وقراءة القرآن والعمل لله من حماد بن سلمة. وعن موسى بن إسماعيل قال: لو قلت لكم: إني ما رأيت حماد بن سلمة ضاحكاً لصدقت، كان منشغلاً، إما أن يحدث، أو يقرأ، أو يسبح، أو يصلي، قد قسم النهار على ذلك. وقال أحمد بن عبد الله العجلي: حدثني أبي قال: كان حماد بن سلمة لا يحدث حتى يقرأ مائة آية نظراً في المصحف. وعن حماد بن سلمة قال: أخذ إياس بن معاوية بيدي وأنا غلام فقال: لا تموتن حتى تقص -أي: يعظ الناس- أما إني قد قلت هذا لخالك - يعني: حميد الطويل - فما مات حماد حتى قص. قال أبو خالد: قلت لـ حماد: أنت قصصت؟ قال: نعم. قال الذهبي: القاص هو الواعظ.

ورع حماد بن سلمة رحمه الله

ورع حماد بن سلمة رحمه الله عن موسى بن إسماعيل قال: سمعت حماد بن سلمة يقول لرجل: إذا دعاك الأمير أن تقرأ عليه (قل هو الله أحد) فلا تأته. فقد كان حماد على مذهب سفيان الثوري في البعد عن أبواب الأمراء. وعن محمد بن الحجاج قال: كان رجل يسمع معنا عند حماد بن سلمة، فركب إلى الصين، فلما رجع أهدى إلى حماد بن سلمة هدية، فقال له حماد: إني إن قبلتها لم أحدثك بحديث، وإن لم أقبلها حدثتك. قال: لا تقبلها وحدثني. وعن حماد بن سلمة قال: ما كان من شأني أن أحدث أبداً، حتى رأيت أيوب السختياني - في منامي فقال لي: حدث فإن الناس يقبلون. وقال سوار بن عبد الله العنبري: حدثني أبي قال: كنت آتي حماد بن سلمة في سوقه، فإذا ربح في حبة أو حبتين شد جونته ولم يبع شيئاً، فكنت أظن ذلك يقوته. فكان بعض السلف يفتح دكانه ويبيع حتى يأتي بقوت يومه، ثم يغلق دكانه ويعود إلى بيته للعبادة.

اتباع حماد بن سلمة للسنة واعتقاده معتقد أهلها

اتباع حماد بن سلمة للسنة واعتقاده معتقد أهلها عن أحمد بن حنبل قال: إذا رأيت الرجل يغمز حماد بن سلمة فاتهمه على الإسلام؛ فإنه كان شديداً على المبتدعة. وتقدم قول ابن حبان: ولم يكن مثل حماد بالبصرة، ولم يكن يثلبه إلا معتزلي أو جهمي؛ لما كان يظهر من السنن الصحيحة. وقال حنبل بن إسحاق: قلت لـ أبي عبد الله: وهيب وحماد بن زيد وحماد بن سلمة؟ قال: وهيب وهيب، كأنه يوثقه، وحماد بن سلمة لا أعلم أحداً أروى في الرد على أهل البدع منه، وحماد بن زيد حسبك به. وقال عبد الله بن المبارك: دخلت البصرة فما رأيت أحداً أشبه بمسالك الأول من حماد بن سلمة. وروى عبد العزيز بن المغيرة عن حماد بن سلمة: أنه حدثهم بحديث نزول الرب عز وجل فقال: من رأيتموه ينكر هذا فاتهموه.

شيوخ حماد بن سلمة وتلامذته رحمه الله

شيوخ حماد بن سلمة وتلامذته رحمه الله شيوخه: روى عن ثابت البناني وقتادة وخاله حميد الطويل وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة وأنس بن سيرين وثمامة بن عبد الله بن أنس ومحمد بن زياد القرشي وأبي الزبير المكي وعبد الملك بن عمير وعبد العزيز بن صهيب وأبي عمران الجوني وعمرو بن دينار وهشام بن زيد بن أنس وهشام بن عروة ويحيى بن سعيد الأنصاري وأيوب السختياني وخالد الحذاء وداود بن أبي هند وسليمان التيمي وسماك بن حرب وخلق كثير من التابعين فمن بعدهم. وهو أيضاً من نفس الطبقة الفاضلة طبقة كبار أتباع التابعين. تلامذته: قال الحافظ: وعنه ابن جريج والثوري وشعبة وهم أكبر منه، وابن المبارك وابن مهدي والقطان وأبو داود وأبو الوليد الطيالسيان وأبو سلمة التبوذكي وآدم بن أبي إياس والأشيب وأسود بن عامر شاذان وبشر بن السري وبهز بن أسد وسليمان بن حرب وأبو نصر التمار وهدبة بن خالد وشيبان بن فروخ وعبيد الله العيشي وآخرون.

درر من أقوال حماد بن سلمة

درر من أقوال حماد بن سلمة قال إسحاق بن الطباع: سمعت حماد بن سلمة يقول: من طلب الحديث لغير الله تعالى مكر به. يعني: إذا لم تكن نيته خالصة مكر به، وإن كان بعضهم قال: طلبنا العلم للدنيا فدلنا على طلب الدين، يعني: قد تكون نية طالب العلم في البداية ليست صحيحة، ولكن العلم يهذبه ويوجهه الوجهة الصحيحة. وعن محمد بن إسماعيل البخاري قال: سمعت بعض أصحابنا يقول: عاد حماد بن سلمة سفيان الثوري، فقال سفيان: يا أبا سلمة! أترى الله يغفر لمثلي؟ فقال حماد: والله لو خيرت بين محاسبة الله إياي وبين محاسبة أبوي لاخترت محاسبة الله، وذلك لأن الله أرحم بي من أبوي. وعن أبي سلمة المنقري قال: سمعت حماد بن سلمة يقول: إن الرجل ليثقل حتى يخف.

وفاته رحمه الله

وفاته رحمه الله قال أبو الحسن المدائني: مات حماد بن سلمة يوم الثلاثاء في ذي الحجة سنة سبع وستين ومائة. إذاً: ولد سنة إحدى وتسعين، ومات سنة سبع وستين ومائة، وصلى عليه إسحاق بن سليمان. وقال يونس بن محمد المؤذن: مات حماد بن سلمة في الصلاة في المسجد. وهكذا فإن الإنسان غالباً يموت على ما عاش عليه، إن كان مشغولاً بالدعوة أو بالعبادة أو بالخير فغالباً يموت على ذلك، نسأل الله تعالى حسن الخاتمة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الإمام سعيد بن جبير

سلسلة من أعلام السلف_الإمام سعيد بن جبير صاغ الإسلام رجالاً أناروا الطريق للناس، وكانوا قدوات ومفاتيح خير وأعلام هدىً لهذه الأمة، ومنهم الإمام العلم المفسر الزاهد العابد سعيد بن جبير أجل تلاميذ ابن عباس رضي الله عنهما، ففي سيرته معلم هداية ومنبر علم، ومحراب خشوع، وإمامة للعلماء العاملين.

بين يدي ترجمة سعيد بن جبير

بين يدي ترجمة سعيد بن جبير إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. ثم أما بعد: فمع السلسلة المباركة من أعلام السلف والفارس في هذه الجولة إمام من أئمة المسلمين اشتهر بالعبادة وكثرة البكاء من خشية الله، وكان كاسمه بالطاعة سعيداً، ونرجو أن يكون عند الله شهيداً، فقد كان ولياً من أولياء الله الصالحين مستجاب الدعوة. عن أصبغ بن زيد قال: كان لـ سعيد بن جبير ديك كان يقوم من الليل بصياحه، قال: فلم يصح ليلة من الليالي حتى أصبح، فلم يصل سعيد تلك الليلة، فشق عليه فقال: ما له قطع الله صوته? فما سُمع له صوت بعد. فقالت أمه: لا تدع على شيء بعدها. عذّبه الحجاج حتى قتله، وكان يمكن أن يدعو على الحجاج فلم يفعل، ودعا أن يكون آخر من يقتله الحجاج فأهلك الله الحجاج وأراح البلاد والعباد من شره، وكان ذلك بعد مقتل سعيد بمدة يسيرة. كان ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن إذا سأله أحد من أهل الكوفة يحيل عليه ويقول: أليس فيكم ابن أم الدهماء؟ إنه السعيد الذي بكى بالليل حتى عمش، تابع ابن الأشعث عندما خرج على الحجاج، ودعا الناس إلى قتال الحجاج لجوره وتجبره، وإماتة الصلاة واستذلال المسلمين، فلما انهزم ابن الأشعث فر سعيد بن جبير إلى مكة وظل مختفياً اثنتي عشرة سنة، ثم ظفر به الحجاج في السنة التي هلك فيها؛ لما أراده الله عز وجل للحجاج الثقفي -لعنة الله على الظالمين- من سوء الخاتمة، وكذا لسوق السعادة والشهادة لـ ابن جبير، فقتله أشنع قتلة، وهو صابر محتسب راغب في فضل الله عز وجل والجنة، فنسأل الله عز وجل أن يرفعه فوق كثير من خلقه لصبره وعبادته، وبذله وشهادته، ونسأل الله عز وجل أن يرزقنا شهادة في سبيله مقبلين غير مدبرين.

نسب الإمام سعيد بن جبير ومولده وصفته

نسب الإمام سعيد بن جبير ومولده وصفته اسمه سعيد بن جبير بن هشام الأسدي الوالبي مولاهم -أي: أنه لم يكن من أصل عربي ولكنه مولى لبني أسد، أي: أن أحد أفراد هذه القبيلة اشتراه فأعتقه، فصارت هناك علاقة بين المُعتِق والمُعتَق وهي علاقة الولاء- أبو محمد ويقال: أبو عبد الله الإمام الحافظ المقرئ المفسّر الشهير أحد الأعلام. مولده: لم يصرّح أحد من المترجمين بتاريخ مولده، وصرحوا بأن مقتله كان في شعبان سنة 95 هـ، وكثير من المترجمين أو كثير من الذين يرصدون الأخبار ويؤرخون للحوادث لا يقفون كثيراً على تاريخ الميلاد، ولكنهم يضبطون تاريخ الوفاة. وقد قال لابنه: ما بقاء أبيك بعد سبعة وخمسين، كأنه عاش 57 سنة، وتوفي سنة 95 هـ، وعلى ذلك يكون ميلاده سنة 38 هـ تقريباً، وقد صرّح الذهبي بأن ميلاده كان في خلافة الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو الخليفة الخامس، والذي اشتهر عند كثير من الناس أن الخليفة الخامس هو عمر بن عبد العزيز، ولكن الصحيح أن الخليفة الخامس هو الحسن بن علي؛ لأن خلافته كانت ستة أشهر بعد مقتل أبيه، وتم به ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بأن الخلافة بعده ثلاثون سنة، أي: الخلافة الراشدة ثلاثون سنة، فتمت الثلاثون سنة بخلافة الحسن بن علي رضي الله عنهما. وقال بعضهم: مات وله تسع وأربعون سنة، فيكون ميلاده سنة 46 هـ. صفته: قال الذهبي: روي أنه كان أسود اللون. وعن عبد الله بن نمير عن فطر قال: رأيت سعيد بن جبير أبيض الرأس واللحية. وعن أيوب قال: سئل سعيد بن جبير عن الخضاب بالوسمة فكرهه، وقال: يكسو الله العبد النور في وجهه ثم يطفئه بالسواد؟! فالصبغ يكون بالأحمر أو بالحناء، ويكره الصبغ بالسواد. وعن إسماعيل بن عبد الملك قال: رأيت على سعيد بن جبير عمامة بيضاء. وعن القاسم الأعرج قال: كان سعيد بن جبير يبكي بالليل حتى عمش.

ثناء العلماء على الإمام سعيد بن جبير

ثناء العلماء على الإمام سعيد بن جبير عن جعفر بن أبي المغيرة قال: كان ابن عباس إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه يقول: أليس فيكم ابن أم الدهماء -يعني: سعيد بن جبير؟ - فكان ابن عباس يحيل عليه، وهذا يدل على تبحّره وأنه كان من أكبر تلامذة ابن عباس رضي الله عنهما. وعن عمرو بن ميمون عن أبيه قال: لقد مات سعيد بن جبير وما على الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه. وعن أشعث بن إسحاق قال: كان يقال: سعيد بن جبير جهبذ العلماء. وعن أسلم المنقري عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن فريضة -مسألة في المواريث- فقال: ائت سعيد بن جبير فإنه أعلم بالحساب مني، وهو يفرض منها ما أفرض. فالصحابة كانوا يحيلون عليه. وقال أبو القاسم هبة الله بن الحسن الطبري: هو ثقة إمام حجة على المسلمين. وقال إبراهيم النخعي: ما خلّف سعيد بن جبير بعده مثله. وعن خصيف قال: كان أعلمهم بالقرآن مجاهد وأعلمهم بالحج عطاء تلميذ ابن عباس -وهو عطاء بن أبي رباح - وأعلمهم بالحلال والحرام طاوس. وهؤلاء كلهم تلامذة ابن عباس، وطاوس إمام من أهل اليمن كان أعلمهم بالحلال والحرام، وأعلمهم بالطلاق سعيد بن المسيب، وأجمعهم لهذه العلوم سعيد بن جبير. وعن علي بن المديني قال: ليس في أصحاب ابن عباس مثل سعيد بن جبير قيل: ولا طاوس؟ قال: ولا طاوس ولا أحد.

عبادة الإمام سعيد بن جبير رحمه الله

عبادة الإمام سعيد بن جبير رحمه الله عن هلال بن خباب قال: خرجنا مع سعيد بن جبير في جنازة فكان يحدثنا في الطريق ويذكرنا حتى قمنا فرجعنا، وكان كثير الذكر لله. وعن هلال بن خباب قال: خرجت مع سعيد بن جبير في أيام مضين من رجب، فأحرم من الكوفة بعمرة، ثم رجع من عمرته، ثم أحرم بالحج في النصف من ذي القعدة، وكان يخرج كل سنة مرتين: مرة للحج، ومرة للعمرة. وطبعاً لم يكن أحد في ذلك الزمان يركب الطائرة، وفي خلال ساعة أو ساعتين يكون في جدة، ولكن كانوا يسافرون إما سيراً على الأقدام أو على الراحلة، فكان سعيد بن جبير يسافر مرتين في السنة للحج والعمرة، وهذه عبادة يُخضع لها. وعن خصيف قال: رأيت سعيد بن جبير صلى ركعتين خلف المقام قبل صلاة الصبح، قال: فأتيته فصليت إلى جنبه وسألته عن آية من كتاب الله فلم يجبني، فلما صلى الصبح قال: إذا طلع الفجر فلا تتكلم إلا بذكر الله حتى تصلي الصبح. وعن أبي جرير أن سعيد بن جبير قال: لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر. فكانت العبادة تعجبه. وكان يقول: أيقظوا خدمكم يتسحّرون لصوم يوم عرفة. وعن عبد الله بن مسلم بن هرمز عن سعيد بن جبير أنه كان ينكر أن يتكفأ الرجل في صلاته، قال: وما رأيته قط يصلي إلا وكأنه وتد. فكان يكره أن يصلي الإنسان وهو منحنٍ، فكان يصلي وكأنه وتد، وقيل عن بعض السلف -ومنهم مسلم بن يسار - إنه كان يصلي وكأنه جذع شجرة حتى يأتي الطير فيقف عليه. وانهدمت ناحية في المسجد فهرع لها أهل السوق وهو في صلاته فما تحرك. وعن هشام بن حسان قال: قال سعيد بن جبير: إني لأزيد في صلاتي من أجل ابني هذا. قال هشام: رجاء أن يُحفظ فيه. فالإنسان يكون تقواه لله عز وجل في حدود خوفه على الذرية، قال عز وجل: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:9] فهذا هو التأمين الرباني. وعن عمر بن ذر قال: كتب سعيد بن جبير إلى أبي كتاباً أوصاه بتقوى الله، وقال: إن بقاء المسلم كل يوم غنيمة؛ لأن المسلم يزداد من الدنيا خيراً، فكل يوم يعيشه المؤمن فهو غنيمة، ومن تساوى يوماه فهو مغبون، فهو يزداد طاعة ويزداد حباً لله عز وجل، ويزداد علماً، ويرتفع في الأحوال الإيمانية، فكل يوم يعيشه المؤمن فهو غنيمة. وعن القاسم بن أيوب قال: سمعت سعيد بن جبير يردد هذه الآية في الصلاة بضعاً وعشرين مرة: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281]. وعن ابن شهاب قال: كان سعيد بن جبير يصلي العتمة -أي: العشاء- في رمضان ثم يرجع فيمكث هنيهة ثم يرجع فيصلي بنا ست ترويحات، ويوتر بثلاث، ويقنت بقدر خمسين آية.

توكل الإمام سعيد بن جبير وخشيته رحمه الله

توكل الإمام سعيد بن جبير وخشيته رحمه الله عن ضرار بن مرة الشيباني عن سعيد بن جبير قال: التوكل على الله جماع الإيمان. والتوكل هو: اعتماد القلب على الله عز وجل في جلب المنافع ودفع المضار. وعن أبي سنان عن سعيد بن جبير أنه كان يدعو: اللهم إني أسألك صدق التوكل عليك وحسن الظن بك. وعن موسى بن رافع قال: دخلت على سعيد بن جبير بمكة وقد أخذه صداع شديد، فقال له رجل ممن عنده: هل لك أن نأتيك برجل يرقيك من هذه الشقيقة؟ -الشقيقة: هي الصداع النصفي، وغالباً ما يكون هذا الصداع بسبب الأوردة- قال: لا حاجة لي في الرقى. قال ذلك لأنه يريد أن يكون ممن قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (يدخل من هذه الأمة الجنة سبعون ألفاً بغير حساب ولا عذاب)، ولما سأل الصحابة عن صفتهم قال: (هم الذين لا يكتوون ولا يتطيرون ولا يسترقون) وفي رواية: (يرقون) ولكن هذه الرواية ضعيفة، والرواية الصحيحة: (لا يسترقون) أي: لا يطلبون الرقية. وعن أبي سنان عن سعيد بن جبير قال: لدغتني عقرب فأقسمت عليّ أمي أن أسترقي -أي: أطلب رقية- فأعطيت الراقي يدي التي لم تُلدغ وكرهت أن أحنّثها. أي: أعطى الراقي يده التي لم تُلدغ حتى لا يحنث أمه ويوقعها في حنث اليمين. وعن قاسم الأعرج قال: كان سعيد بن جبير يبكي بالليل حتى عمش. وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: لو فارق ذكر الموت قلبي لخشيت أن يفسد عليّ قلبي.

محنة الإمام سعيد بن جبير رحمه الله

محنة الإمام سعيد بن جبير رحمه الله خرج القراء على الحجاج الثقفي وكان أميراً لـ عبد الملك بن مروان على العراق، وانتصر جند ابن الأشعث على الحجاج في مواطن كثيرة وكاد أن يزول ملكه، وكان الحجاج مقداماً شجاعاً فثبت حتى فرّق جمعهم، ثم تعقّب الذين خرجوا عليه، وكان من هؤلاء سعيد بن جبير، ولكنه اختفى فترة ثم وقع في يد الحجاج، وكان منهم أيضاً الإمام الشعبي، ولكن الشعبي استعمل التقية وعرّض بالكلام وتحايل حتى نجا من القتل، أما سعيد بن جبير فاستبسل للموت حتى قُتل. قال الذهبي: خرج مع ابن الأشعث على الحجاج، ثم إنه اختفى وتنقل في النواحي اثنتي عشرة سنة، ثم أوقعوا به وأحضروه إلى الحجاج فقال: يا شقي بن كسير -أي: بدل سعيد بن جبير قال: يا شقي بن كسير- أما قدمت الكوفة وليس يؤم بها إلا عربي فجعلتك إماماً؟ -لأنه كان مولى وليس عربياً أصلياً- قال: بلى، قال: أما وليتك القضاء فضج أهل الكوفة وقالوا: لا يصلح للقضاء إلا عربي، فاستقضيت أبا بردة بن أبي موسى الأشعري وأمرته ألا يقطع أمراً دونك؟ قال: بلى، قال: أما جعلتك في سماري؟ -يعني: من يسمر معه ويحادثه بالليل- وكلهم رءوس العرب؟ قال: بلى، قال: أما أعطيتك مائة ألف تفرقها على أهل الحاجة؟ قال: بلى، قال: ما أخرجك عليّ؟ قال: بيعة كانت في عنقي لـ ابن الأشعث، فغضب الحجاج وقال: أما كانت بيعة أمير المؤمنين في عنقك من قبل؟ يا حرسي اضرب عنقه، فضرب عنقه رحمه الله. وعن أبي حصين قال: رأيت سعيداً بمكة فقلت: إن هذا خالداً -يعني: خالد بن عبد الله القسري وكان أميراً على مكة لـ عبد الملك بن مروان - ولست آمنه عليك، قال: والله لقد فررت حتى استحييت من الله. قال الذهبي: طال اختفاؤه، فإن قيام القراء على الحجاج كان في سنة 82 هـ وما ظفروا بـ سعيد إلا سنة 95 هـ وهي السنة التي أهلك الله فيها الحجاج. وعن أبي اليقظان قال: كان سعيد بن جبير يقول يوم دير الجماجم -وهي المعركة التي بين القراء وبين الحجاج - وهم يقاتلون: قاتلوهم على جورهم في الحكم، وخروجهم من الدين، وتجبّرهم على عباد الله، وإماتتهم الصلاة -فإنهم كانوا يصلون الجمعة قرب المغرب، ولكنهم كانوا يحكمون الشرع، إلا أنه كان عندهم شيء من الجور، وكانوا يداً قوية على أعداء الإسلام، ولكن من ينازعهم السلطان كانوا يضربونه بيد قوية- واستذلالهم للمسلمين. فلما انهزم أهل دير الجماجم لحق سعيد بن جبير بمكة فأخذه خالد بن عبد الله فحمله إلى الحجاج مع إسماعيل بن أوسط البجلي. قال محمد بن سعد: كان الذي قبض على سعيد بن جبير والي مكة خالد بن عبد الله القسري، فبعث به إلى الحجاج، فأخبرنا يزيد عن عبد الملك بن أبي سليمان قال: سمع خالد بن عبد الله صوت القيود، فقال: ما هذا؟ قيل: سعيد بن جبير وطلق بن حبيب وأصحابهما، يطوفون بالبيت، قال: اقطعوا عليهم الطواف. وعن أبي صالح قال: دخلت على سعيد بن جبير حين جيء به إلى الحجاج فبكى رجل، فقال سعيد: ما يبكيك؟ قال: لما أصابك، قال: فلا تبك، كان في علم الله أن يكون هذا، وتلا: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22]. وهذا مما يتسلى به عند المصائب، فإن الإنسان المؤمن يعلم أن هذا في قدر الله ولا بد أن يكون، كما قال بعضهم: هي المصيبة تصيب العبد فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم. وعن سالم بن أبي حفصة قال: لما أتى سعيد بن جبير الحجاج قال: أنت شقي بن كسير، قال: أنا سعيد بن جبير قال: لأقتلنك، قال: أنا إذاً كما سمتني أمي -أي: سعيد - ثم قال: دعوني أصلي ركعتين، قال: وجهوه إلى قبلة النصارى، قال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله} [البقرة:115]-ولأنه مكره على الصلاة لغير القبلة فليس عليه شيء- قال: إني أستعيذ منك بما عاذت به مريم، قال: ما عاذت به مريم؟ قال: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا} [مريم:18]. قال سليمان التيمي:

علم الإمام سعيد بن جبير رحمه الله بالتفسير

علم الإمام سعيد بن جبير رحمه الله بالتفسير علمه رحمه الله بالتفسير: سعيد بن جبير هو أكبر تلامذة ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن، فقد أخذ عنه علماً كثيراً. بعض آثاره في التفسير: عن ربيع بن أبي راشد عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [العنكبوت:56] قال: إذا عُمل في أرض بالمعاصي فاخرجوا. أي: إذا وجدت معاصٍ في بلدة فاخرجوا منها؛ فإن أرض الله واسعة. وعن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] قال: اذكروني بطاعتي، أذكركم بمغفرتي. وعن عطاء عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12] قال: ما سنوا. أي: السنن التي تركوها سواء كانت سنن خير أو شر. وعن أبي سنان ضرار بن مرة عن سعيد في قوله تعالى: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:43] قال: الصلاة في الجماعة. وعن سالم عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} [ص:45] قال: الأيدي القوة في العلم والبصر فيما هم فيه من أمر دينهم. وعن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} [القيامة:5] يقول: سوف أتوب. يعني: يستمر على المعاصي ويسوف بالتوبة ويقول: سوف أتوب. وعن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113] قال: لا ترضوا أعمالهم.

شيوخ الإمام سعيد بن جبير وتلامذته

شيوخ الإمام سعيد بن جبير وتلامذته شيوخه وتلامذته: شيوخه: روى عن أنس بن مالك والضحاك بن قيس الفهري وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس وغيرهم. تلامذته: روى عنه ابناه: عبد الملك وعبد الله، ويعلى بن حكيم ويعلى بن مسلم وأبو إسحاق السبيعي وأبو الزبير المكي وآدم بن سليمان وأشعث بن أبي الشعثاء وأيوب السختياني وبكير بن شهاب وثابت بن عجلان وحبيب بن أبي ثابت وجعفر بن أبي وحشية وغيرهم.

درر من أقوال الإمام سعيد بن جبير رحمه الله

درر من أقوال الإمام سعيد بن جبير رحمه الله درر من أقواله رحمه الله: عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير قال: إن الخشية أن تخشى الله حتى تحول خشيته بينك وبين معصيته، فتلك الخشية. يعني: ليست الخشية أن يرق الإنسان فيبكي؛ لأن هذه الرقة قد توجد في الممثلين والمنافقين، وقد توجد كثيراً في النساء؛ لأن النساء قد يبكين أكثر من الرجال، ومع ذلك فإن النساء أكثر أهل النار، فهذا البكاء ليس هو الخشية، ولكن الخشية أن يمنع الإنسان خوفه لله عز وجل من الوقوع في المعصية. وقال: الذكر طاعة الله فمن أطاع الله فقد ذكره، ومن لم يطعه فليس بذاكر وإن أكثر التسبيح وتلاوة القرآن. وعن حبيب بن أبي ثابت قال: قال لي سعيد بن جبير: لأن أنشر علمي أحب إلي من أن أذهب به إلى قبري. ولهذا قالوا: ليس للعالم أن يضيع نفسه، وأن يكون في مكان لا يُعرف فلا يُسأل ولا يتعلم منه، فالإنسان قد يُخبر عما عنده من العلم من أجل أن يستفاد منه، كما قال علي بن أبي طالب: إن هاهنا علماً -وأشار بيده إلى صدره- لو أصبت له حملة. فيجوز للإنسان أن يخبر عما عنده من العلم ليس تكبراً، ولكن من أجل أن يستفاد منه. وعن هلال بن خباب قال: قلت لـ سعيد بن جبير: ما علامة هلاك الناس؟ قال: إذا ذهب علماؤهم. وعن عمر بن حبيب قال: كان سعيد بن جبير بأصبهان لا يحدث، ثم رجع إلى الكوفة فجعل يحدث. فقلنا له في ذلك. فقال: انشر بزك حيث تُعرف. البز: هو القماش أو ما يتاجر فيه، فهو يحدث في وطنه لأنه معروف. وعن عبد الملك بن سعيد بن جبير قال: قال أبي: أظهر اليأس مما في أيدي الناس فإنه عناء، وإياك وما يُعتذر منه فإنه لا يُعتذر من خير. وعن عبد الكريم عن سعيد بن جبير قال: لأن أُضرب على رأسي أسواطاً أحب إليّ من أن أتكلم والإمام يخطب يوم الجمعة. وعن أيوب قال: حدث سعيد بن جبير بحديث، فتبعته أستزيده - أي: يريد أن يسمع منه حديثاً آخر أو أحاديث - فقال: ليس كل حين أحلب فأشرب. ويؤخذ من هذا أن طالب العلم عليه أن يتأدب مع شيخه، وليس في كل وقت يطلب منه، ولكنه ينتهز فرصة راحة باله ثم يطلب منه، أو إذا تكلم يسجّل كلامه. وعن جعفر عن سعيد قال: من عطس عنده أخوه المسلم فلم يشمته - أي: لم يقل له: يرحمك الله - كان ديناً يأخذه به يوم القيامة.

وفاة الإمام سعيد بن جبير رحمه الله

وفاة الإمام سعيد بن جبير رحمه الله وفاته: قال الذهبي: وكان قتله في شعبان سنة (95 هـ)، ومن زعم أنه عاش تسعاً وأربعين سنة لم يصنع شيئاً، وقد مر قوله لابنه: ما بقاء أبيك بعد سبع وخمسين. فالراجح أنه عاش (57) سنة، وكان قتله سنة (95 هـ) رحمه الله رحمة واسعة، وأدخلنا وإياه جنة عالية قطوفها دانية. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

الإمام سفيان الثوري

سلسلة من أعلام السلف_الإمام سفيان الثوري الخير باقٍ في هذه الأمة إلى يوم القيامة ما بقي فيها العلماء العاملون الذين تحيا بهم الأمم ويرشدون الناس إلى طريق الخير والهدى والحق، ومن هؤلاء العلماء سفيان الثوري الإمام العالم العلم إمام أهل زمانه المشهور بالزهد والورع والصدع بكلمة الحق رحمه الله رحمة واسعة.

بين يدي ترجمة سفيان الثوري

بين يدي ترجمة سفيان الثوري إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. ثم أما بعد. فما زلنا -بحمد الله تعالى- في هذه الجولة المباركة مع العلماء الأعلام والأئمة الكرام، نسعد بصحبتهم ونأخذ من هديهم وننهل من بركة علمهم وعملهم في سلسلة التراجم التربوية من أعلام السلف. والعالم الذي نتشرف بترجمته اليوم عالم زمانه والمقتدى به في أوانه، سيد من سادات العلماء العاملين والعباد المجتهدين، إنه عالم الكوفة وشيخها سفيان بن سعيد الثوري من بيت خير وعلم وفضل، فأبوه من كبار الثقات بالكوفة، وإخوته من العلماء الأفذاذ، فرحمة الله على الجميع. والدارس لتراجم العلماء يرى حاجة الطلاب إلى دراستها، والانتفاع ببركتها، إلا أنها كسائر العلوم المدونة تحتاج إلى تصفية، فقد يكون فيها شيء من الغلو أو العصبية المذهبية، أو الحكايات الملفقة والأخبار المزوقة التي تخالف روح الشرع المتين، وتنادي على نفسها بالوضع، فمن ذلك ما أتى في ترجمة هذا الحبر: أنه عندما طلبه أبو جعفر لاذ بالبيت، وقال -ومعاذ الله أن يُنسب ذلك إليه-: أكون بريئاً منك إذا دخل أبو جعفر مكة، فمات أبو جعفر قبل أن يدخلها. فأمثال هذه الحكايات إن قصد بها بيان كرامة سفيان رحمه الله ففيها نسبة سوء الأدب إليه، فهو في الخشية والورع والأدب بمكانة، فنحن نقتصر على الأخبار التي تنشّط الهمم وتشحذ العزائم على الاجتهاد في الطاعة والزهد والورع والخشية، وإمامنا في هذه الرسالة أستاذ هذه الصنعة، وقد جمع بين العلم والعمل والشجاعة في الجهر بكلمة الحق. قال الحافظ أبو بكر الخطيب: كان إماماً من أئمة المسلمين، وعلماً من أعلام المسلمين، وعلماً من أعلام الدين، وحصل الإجماع على إمامته بحيث يُستغنى عن تزكيته، مع الإتقان والحفظ والمعرفة والضبط والورع والزهد. وقال ابن مهدي: ما كنت أقدر أن أنظر إلى سفيان استحياءً وهيبة منه. وقد قال بعض السلف: على قدر محبتك لله عز وجل يحبك الخلق، وعلى قدر خشيتك من الله عز وجل يهابك الخلق، وعلى قدر انشغالك بالله عز وجل تشغل الخلق بأشغالك.

نسب سفيان الثوري ومولده

نسب سفيان الثوري ومولده اسمه ومولده وصفته: اسمه: سفيان بن سعيد بن مسروق بن رافع بن عبد الله بن موهبة بن أبي عبد الله بن منقذ بن نصر بن الحارث بن ثعلبة بن عامر بن ملكان بن ثور بن مناة بن أد بن طابخة بن إلياس. مولده: ولد سنة 97 هـ اتفاقاً، أي: أنه لا يوجد خلاف في أنه ولد سنة 97 هـ. ووالده المحدث سعيد بن مسروق الثوري من أصحاب الشعبي وخيثمة بن عبد الرحمن من ثقات الكوفيين. وعداده في صغار التابعين. وقد انتهينا من ذكر صغار التابعين بذكر شعبة والأعمش وأبي حنيفة، ونبدأ بهذه الترجمة في بيان كبار أتباع التابعين: سفيان الثوري ومالك بن أنس والليث بن سعد وحماد بن زيد وغيرهم. روى له الجماعة الستة في دواوينهم، وحدث عنه أولاده سفيان -الإمام الذي نحن بصدد ترجمته- وعمر ومبارك، وحدث عنه شعبة بن الحجاج وآخرون. موطنه: ولد رحمه الله بالكوفة في خلافة سليمان بن عبد الملك. وقال أبو نعيم: خرج سفيان من الكوفة سنة 155 هـ ولم يرجع إليها. ولم أقف على شيء من صفته رحمه الله، فقد كان اعتناء أكثر المترجمين له في بيان أحواله وأقواله وثناء العلماء عليه، ولا شك أنه أولى بالاهتمام، والله المستعان.

ثناء العلماء على سفيان الثوري

ثناء العلماء على سفيان الثوري ثناء العلماء عليه: وهذا بحر لا يُدرك قعره ولا يُنزف غمره، ولا نُحرم بفضل الملك الوهاب من نقل ما أُثر من ذلك في هذا الكتاب. قال وكيع: كان سفيان بحراً. وقال الأوزاعي: لم يبق من تجتمع عليه الأمة بالرضا والصحة إلا سفيان. وقال ابن المبارك: لا أعلم على وجه الأرض أعلم من سفيان. قال سفيان بن عيينة: ما رأيت أحداً أفضل من سفيان ولا رأى سفيان مثل نفسه. وعن يحيى بن سعيد وسألوه عن سفيان وشعبة قال: ليس الأمر بالمحاباة، ولو كان الأمر بالمحاباة لقدمنا شعبة على سفيان لتقدمه. لأن شعبة من صغار التابعين، وسفيان من كبار أتباع التابعين. فقال: لو كان الأمر بالمحاباة لقدمنا شعبة على سفيان لتقدمه، فإن سفيان يرجع إلى كتاب وشعبة لا يرجع إلى كتاب، وسفيان أحفظهما، وقد رأيناهما يختلفان فوجدنا الأمر كما قال سفيان. وقال أبو بكر بن عياش: إني لأرى الرجل يصحب سفيان فيعظم. وعن يحيى بن معين قال: ما خالف أحدٌ سفيان في شيء إلا كان القول قول سفيان. وقال أحمد بن عبد الله العجلي: أحسن إسناد الكوفة سفيان عن منصور بن معتمر عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود. وقال شعبة وسفيان بن عيينة وأبو عاصم النبيل ويحيى بن معين وغير واحد من العلماء: سفيان أمير المؤمنين في الحديث. وقال يونس بن عبيد: ما رأيت أفضل من سفيان فقال له رجل: يا أبا عبد الله! رأيت سعيد بن جبير وإبراهيم وعطاء ومجاهد -وهؤلاء من التابعين- وتقول هذا؟ فقال: ما رأيت أفضل من سفيان. وروى وكيع عن شعبة قال: سفيان أحفظ مني. وقال عبد العزيز بن رزمة: قال رجل لـ شعبة: خالفك سفيان فقال: دمغتني. وقال ابن مهدي: رأى أبو إسحاق السبيعي سفيان الثوري مقبلاً، فقال: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:12]، وأبو إسحاق السبيعي من التابعين. وقال محمد بن عبد الله بن عمار: سمعت يحيى بن سعيد يقول: سفيان أعلم بحديث الأعمش من الأعمش. وعن شعيب بن حرب قال: إني لأحسب أنه يُجاء غداً بـ سفيان حجة من الله على خلقه، يقال لهم: لم تدركوا نبيكم قد رأيتم سفيان. وقال ابن المبارك: كتبت عن ألف ومائة شيخ ما كتبت عن أفضل من الثوري. ومع علو شأنه وارتفاع قدره وجمعه بين العلم والعمل لم يكن رحمه الله بالمعصوم، فقد لخّص الحافظ الذهبي مناقبه وما أُخذ عليه رحمه الله. فقال: قد كان سفيان رأساً في الزهد والتأدب والخوف، رأساً في الحفظ، رأساً في معرفة الألفاظ، رأساً في الفقه لا يخاف في الله لومة لائم، من أئمة الدين، واغتفر له غير مسألة اجتهد فيها، وفيه تشيع يسير، كان يثلث بـ علي، أي أنه يقدم علياً على عثمان، وهو على مذهب بلده أيضاً في النبيذ، أي: أنهم كانوا يجيزون النبيذ الذي يسكر كثيره ولا يسكر قليله. ويأتي في ذكر ترجمة وكيع أيضاً أنه وقع في ذلك. ويقال: إنه رجع عن كل ذلك، وكان يُنكر على الملوك ولا يرى الخروج أصلاً، وكان يدلّس في روايته، وربما دلّس عن الضعفاء، وكان سفيان بن عيينة مدلساً لكن ما عُرف له تدليس عن ضعيف، فكان يدلّس عن ثقات.

زهد سفيان الثوري وورعه رحمه الله

زهد سفيان الثوري وورعه رحمه الله زهده وورعه رحمه الله: والمقصود بالزهد: خلو القلب من الدنيا وعدم الحرص عليها، فليس الزهد نفض اليدين منها والقلب متعلق بها شديد الشغف بحبها. قال يحيى بن نصر بن حاجب: سمعت ورقاء بن عمر يقول: إن الثوري لم ير مثل نفسه. قال وكيع: سمعت سفيان يقول: ليس الزهد بأكل الغليظ ولبس الخشن، ولكنه قصر الأمل، وارتقاب الموت. وعن عيسى بن يونس قال: مات سفيان الثوري مستخفياً، قد جمع قميصه خريطة قد ملأها كتباً. أي: كتابة. وعن شعيب بن حرب قال: قال لي الثوري: يا أبا صالح! احفظ عني ثلاثاً: إذا احتجت إلى شسع -وهو رباط النعل- فلا تسأل، وإذا احتجت إلى ملح فلا تسأل، واعلم أن الخبز الذي تأكله بملح عجن، وإذا احتجت إلى ماء فاستعمل كفّيك فإنه يجري مجرى الإناء. وقال أبو قطن: عن شعبة: ساد سفيان الناس بالورع والعلم. وعن أبي السري قال: قيل لـ فضيل بن عياض عما كان يذهب إليه من الورع: من إمامك في هذا؟ قال: سفيان الثوري. أُهدي لـ سفيان ثوبٌ فرده، فقال له من أهداه: لست أنا ممن يسمع الحديث حتى ترده عليّ. قال: علمت أنك لست ممن يسمع الحديث، ولكن أخاك يسمع مني الحديث، فأخاف أن يلين قلبي لأخيك أكثر مما يلين لغيره. وعن قتيبة بن سعيد قال: لولا سفيان لمات الورع. وعن عبد العزيز القرشي قال: سمعت سفيان يقول: عليك بالزهد يبصّرك الله عورات الدنيا، وعليك بالورع يخفف الله عنك حسابك، ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وادفع الشك باليقين يسلم لك دينك. وقال العمري: معاشر القراء! كلوا الدنيا فقد مات سفيان الثوري. وعن حفص بن غياث وذكر الثوري فقال: كان يتعزى بـ سفيان وبمجالس سفيان عن الدنيا. وعن يحيى بن اليمان قال: كان سفيان الثوري يتمثل بهذا البيت: باعوا جديداً جميلاً باقياً أبداً بدارس خلق يا بئس ما اتجروا أي: باعوا الآخرة بالدنيا.

عبادة سفيان الثوري وخشيته

عبادة سفيان الثوري وخشيته عبادته وخشيته: عن علي بن فضيل قال: رأيت سفيان الثوري ساجداًً حول البيت، فطفت سبعة أشواط قبل أن يرفع رأسه، أي: أنه طاف سبعة أشواط وهو في نفس السجدة. وعن ابن وهب قال: رأيت الثوري في المسجد الحرام بعد المغرب صلى ثم سجد سجدة فلم يرفع رأسه حتى نودي لصلاة العشاء. وقال رجل لـ سفيان: أوصني! فقال: اعمل للدنيا بقدر بقائك فيها، وللآخرة بقدر مقامك فيها. وعن عبد الله بن عبدان أبو محمد البغلاني قال: حدثنا عبد الله أن رجلاً كان يتّبع سفيان الثوري فيجده أبداً يُخرج من لبنة - أي: طوب - رقعة ينظر فيها، فأحب أن يعلم ما فيها، فوقعت الرقعة في يده فإذا مكتوب فيها: سفيان! اذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل. وعن عطاء الخفاف قال: ما لقيت سفيان الثوري إلا باكياً. فقلت: ما شأنك؟ قال: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقياً. وكما قال بعضهم: كنا إذا جلسنا إلى سفيان كأن النار قد أحاطت بنا؛ لما نرى من خوفه وجزعه. وعن عبد الرحمن رسته قال: سمعت ابن مهدي يقول: بات سفيان عندي فجعل يبكي. فقيل له؟ فقال: لذنوبي عندي أهون من ذلك -ورفع شيئاً من الأرض- إني أخاف أن أُسلب الإيمان قبل أن أموت. وعن يحيى القطان قال: ما رأيت رجلاً أفضل من سفيان، لولا الحديث كان يصلي ما بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، فإذا سمع مذاكرة الحديث ترك الصلاة وجاء. وعن عبد الرحمن بن مهدي قال: كنا نكون عند سفيان الثوري فكأنه قد أوقف للحساب فلا نجترئ أن نكلمه، فنعرض بذكر الحديث فيذهب ذلك الخشوع، فإذا هو حدثنا وحدثنا.

اتباع سفيان الثوري رحمه الله للسنة

اتباع سفيان الثوري رحمه الله للسنة اتباعه رحمه الله للسنة: عن شعيب بن حرب قال: قلت لـ سفيان الثوري: حدثني بحديث في السنة ينفعني الله به، فإذا وقفت بين يديه وسألني عنه قلت: يا رب حدثني بهذا سفيان، فأنجو أنا وتؤخذ، فقال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، ومن قال غير هذا فهو كافر، والإيمان قول وعمل ونية، ويزيد وينقص، وتقدمة الشيخين - أبي بكر وعمر - إلى أن قال: يا شعيب لن ينفعك ما كتبت حتى ترى المسح على الخفين -ومسألة المسح على الخفين في الحضر والسفر مسألة فقهية، ولكن لما نفاها الروافض نص أهل السنة في عقائدهم على أن هذه من عقيدة أهل السنة لمخالفة أهل البدعة- قال وحتى ترى أن إخفاء بسم الله الرحمن الرحيم أفضل من الجهر بها -يقصد: في الصلاة، وهذا أيضاً من الفقه بالسنة، ولكن لمخالفة أهل البدع في ذلك- وحتى تؤمن بالقدر، وحتى ترى الصلاة خلف كل بر وفاجر، والجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، والصبر تحت لواء السلطان جار أو عدل. فقلت: يا أبا عبد الله! الصلاة كلها؟ قال: لا، ولكن صلاة الجمعة والعيدين صل خلف من أدركت، وأما سائر ذلك فأنت مخير لا تصل إلا خلف من تثق به، وتعلم أنه من أهل السنة، فإذا وقفت بين يدي الله وسألك عن هذا فقل: يا رب! حدثني بهذا سفيان بن سعيد، ثم خل بيني وبين ربي عز وجل. قال الذهبي: هذا ثابت عن سفيان. والذهبي يحقق القصص والروايات، فيقول: هذه الرواية ضعيفة، وهذه الرواية مسندة صحيحة.

محنة سفيان الثوري رحمه الله وصدعه بالحق

محنة سفيان الثوري رحمه الله وصدعه بالحق محنته رحمه الله وصدعه بالحق: عن داود عن أبيه قال: كنت مع سفيان الثوري فمررنا بشرطي نائم وقد حان وقت الصلاة، فذهبت أحركه فصاح سفيان فقال: مه! فقلت: يا أبا عبد الله يصلي، فقال: دعه لا صلى الله عليه، فما استراح الناس حتى نام هذا. وعن عطاء بن مسلم قال: لما استخلف المهدي بعث إلى سفيان، فلما دخل خلع خاتمه فرمى به إليه، فقال: يا أبا عبد الله هذا خاتمي فاعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة، فأخذ الخاتم بيده وقال: تأذن في الكلام يا أمير المؤمنين؟! قال عبيد قلت لـ عطاء: يا أبا مخلد! قال له: يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، قال: أتكلم على أني آمن؟ قال: نعم، قال: لا تبعث إليّ حتى آتيك، ولا تعطني شيئاً حتى أسألك، قال: فغضب من ذلك وهم به، فقال له كاتبه: أليس قد أمّنته يا أمير المؤمنين؟! قال: بلى، قال: فلما خرج حف به أصحابه فقالوا: ما منعك يا أبا عبد الله وقد أمر أن تعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة، قال: فاستصغر عقولهم ثم خرج هارباً إلى البصرة. وروى ابن سعد في الطبقات قال: وطُلب سفيان فخرج إلى مكة، فكتب المهدي أمير المؤمنين إلى محمد بن إبراهيم وهو على مكة يطلبه، فبعث محمد إلى سفيان فأعلمه بذلك، وقال: إن كنت تريد إتيان القوم فاظهر حتى أبعث بك إليهم، وإن كنت لا تريد ذلك فتوار، قال: فتوارى سفيان، وطُلب من محمد بن إبراهيم وأمر منادياً فنادى بمكة: من جاء بـ سفيان فله كذا وكذا، فلم يزل متوارياً بمكة لا يظهر إلا لأهل العلم ومن لا يخافه، قالوا: فلما خاف سفيان بمكة من الطلب خرج إلى البصرة فقدمها، فنزل قرب منزل يحيى بن سعيد القطان فقال لبعض أهل الدار: أما قُربكم أحداً من أهل الحديث؟ قالوا: بلى يحيى بن سعيد قال: جئني به، فأتاه به، فقال: أنا هنا منذ ستة أيام أو سبعة، فحوّله يحيى إلى جواره بينه وبينه بابٌ، وكان يأتي بمحدثي أهل البصرة يسلمون عليه ويسمعون منه الحديث، فكان فيمن أتاه جرير بن حازم والمبارك بن فضالة وحماد بن سلمة ومرحوم العطار وحماد بن زيد وغيرهم، وأتاه عبد الرحمن بن مهدي ولزمه، فكان يحيى وعبد الرحمن يكتبان عنه تلك الأيام، وكلّم أبا عوانة أن يأتيه فأبى، وقال: رجل لا يعرفني كيف آتيه. وذلك أن أبا عوانة سلّم عليه بمكة فلم يرد عليه سفيان السلام -ولعله شك فيه أو كأنه لا يعرفه- وكُلم في ذلك فقال: لا أعرفه، ولما تخوّف سفيان أن يشهر بمقامه بالبصرة قرب يحيى بن سعيد قال له: حوّلني من هذا الموضع، فحوّله إلى منزل الهيثم بن منصور الأعرجي من بني سعد بن زيد مناة بن تميم، فلم يزل فيهم فكلمه حماد بن زيد في تنحيه عن السلطان وقال: هذا فعل أهل البدع، وما نخاف منهم؟ فأجمع سفيان وحماد أن يقدما بغداد. وسيأتي أنه توفي قبل أن يذهب.

شيوخ سفيان الثوري وتلامذته

شيوخ سفيان الثوري وتلامذته شيوخه وتلامذته: شيوخه: قال الحافظ روى عن أبيه سعيد الثوري وأبي إسحاق الشيباني وعبد الملك بن عمير وعبد الرحمن بن عابس بن ربيعة وإسماعيل بن أبي خالد وسلمة بن كهيل وطارق بن عبد الرحمن والأسود بن قيس وبيان بن بشر وجامع بن أبي راشد وغيرهم. تلامذته: روى عنه خلق لا يُحصون منهم جعفر بن برقان وخصيف بن عبد الرحمن وابن إسحاق صاحب المغازي وغيرهم من شيوخه، وأبان بن تغلب وشعبة وزائدة والأوزاعي ومالك وزهير بن معاوية ومسعر وغيرهم من أقرانهم. وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن معين وابن المبارك وغيرهم.

درر من أقوال سفيان الثوري رحمه الله

درر من أقوال سفيان الثوري رحمه الله درر من أقواله: عن عبد الله بن سابق قال: قال سفيان الثوري: النظر إلى وجه الظالم خطيئة. والأفضل أن نقول: يقسي القلب؛ لأن قولنا: خطيئة، يحتاج إلى دليل. وعن يوسف بن أسباط قال: قال سفيان الثوري: من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله. وعن يحيى بن يمان قال: حدثنا سفيان قال: قال عيسى بن مريم عليه السلام: تقربوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، والتمسوا رضوانه بالتباعد منهم، قالوا: فمن نجالس؟ قال: من تذكركم بالله رؤيته، ويرغّبكم في الآخرة عمله، ويزيد في علمكم منطقه. وعن محمد بن أبي منصور أو غيره قال: عاتب سفيان رجلاً من إخوانه كان هم أن يتلبس بشيء من أمر هؤلاء - أي: الأمراء - فقال له: يا أبا عبد الله! إن عليّ عيالاً، قال: لئن تجعل في عنقك مخلاة فتسأل على الأبواب خير من أن تدخل في شيء من أمر هؤلاء. وعن حذيفة المرعشي قال: قال سفيان: لئن أخلّف عشرة آلاف درهم يحاسبني الله عليها أحب إليّ من أن أحتاج إلى الناس. وعن خلف بن تميم قال: سمعت سفيان يقول: من أحب أفخاذ النساء لم يفلح. وعن عبد الله بن بشر قال: سمعت الثوري يقول: إن الحديث عز، من أراد به الدنيا فدنيا، ومن أراد به الآخرة فآخرة. وعن أبي أسامة قال: سمعت سفيان الثوري يقول: إنما العلم عندنا الرخص عن الثقة، فأما التشديد فكل إنسان يحسنه. فليس الفقه بالتشدد، ولكن الفقه أن تأتيك الرخصة من عالم، فالفقيه ليس هو الذي يقول: هذا حرام وهذا حرام ويضيّق على الناس، ولكن الفقيه هو الذي يجد للناس مخرجاً بحيث لا يخالف الشرع. وعن الفريابي قال: سمعت سفيان يقول: يعجبني أن يكون صاحب الحديث مكفياً - أي: عنده الرزق الذي يكفيه - فإن الآفات إليه أسرع وألسنة الناس إليه أسرع. وعن زيد بن أبي الزرقاء قال: خرج سفيان ونحن على بابه نتدارس النسخ - أي: يعالجون بعض الأخطاء في النسخ - فقال: يا معشر الشباب! تعجّلوا بركة هذا العلم؛ فإنكم لا تدرون لعلكم لا تبلغون ما تؤملون منه، ليفد بعضكم بعضاً. وعن أبي أحمد الزبيري قال: كتب رجلٌ من إخوان سفيان الثوري إلى سفيان الثوري: أن عظني فأوجز، فكتب إليه: عافانا الله وإياك من السوء كله، يا أخي! إن الدنيا غمها لا يفنى، وفرحها لا يدوم، وفكرها لا ينقضي، فاعمل لنفسك حتى تنجو، ولا تتوانى فتعطب، والسلام.

ما تمثل به سفيان الثوري رحمه الله من الشعر

ما تمثل به سفيان الثوري رحمه الله من الشعر ما تمثل به من الشعر رحمه الله: عن عبد الله بن زياد عن محمد بن بشر قال: سمعت سفيان الثوري يقول: إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا ندمت على ألا تكون كمثله وأنك لم ترصد كما كان أرصدا وعن محمد بن عبيد الطنافسي قال: سمعت سفيان يقول: يسر الفتى ما كان قدم من تقى إذا عرف الداء الذي هو قاتله وعن مزاحم بن زفر قال: سمعت سفيان الثوري ينشد هذه الأبيات من قول ابن حطان: أرى أشقياء الناس لا يسأمونها على أنهم فيها عراة وجوّع أراها وإن كانت قليلاً كأنها سحابة صيف عن قليل تقشّع وعن زكريا بن عدي قال: كان الثوري يتمثل: أرى الرجال بدون الدين قد قنعوا وليس في عيشهم يرضون بالدون فاستغن بالدين عن دنيا الملوك كما استغنى الملوك بدنياهم عن الدين أي: أنه كما استغنى أهل الدنيا بالدنيا وتركوا الدين، فاستغن أنت بالدين. قال: وليس في عيشهم يرضون بالدون، أي: في الدنيا لا يرضون بالدون.

وفاة سفيان الثوري رحمه الله وبعض ما قيل في رثائه

وفاة سفيان الثوري رحمه الله وبعض ما قيل في رثائه وفاته رحمه الله: قال ابن سعد رحمه الله: كتب سفيان إلى المهدي أو إلى يعقوب بن داود فبدأ بنفسه فقيل له: إنهم يغضبون من هذا، أي: أنه عندما يكتب: من فلان إلى فلان -وهذه سنة في الرسائل- قالوا له: إن الأمراء يغضبون من ذلك، ولا بد أن يبدأ بهم، فبدأ بهم، فأتاه جواب كتابه بما يحب من التقريب والكرامة والسمع منه والطاعة، فأراد الخروج إليهم، فحُم ومرض مرضاً شديداً وحضره الموت فجزع، فقال له مرحوم بن عبد العزيز: يا أبا عبد الله! ما هذا الجزع؟ إنك تقدم على الرب الذي كنت تعبده، فسكن وهدأ وقال: انظروا من هاهنا من أصحابنا الكوفيين، فأرسلوا إلى عبدان فقدم عليه عبد الرحمن بن عبد الملك بن أبجر والحسن بن عياش أخو أبو بكر بن عياش فأوصى إلى عبد الرحمن بن عبد الملك وأوصاه أن يصلي عليه، فأقام عنده حتى مات، فأُخرج بجنازته على أهل البصرة فجأة وسمعوا بموته، وشهده الخلق، وصلى عليه عبد الرحمن بن عبد الملك، وكان رجلاً صالحاً رضيه سفيان لنفسه، ونزل في حفرته ونزل معه خالد بن الحارث وغيرهما، ودفنوه، ثم انصرف عبد الرحمن بن عبد الملك والحسن بن عياش إلى الكوفة فأخبرا أهلها بموت سفيان رحمه الله. وعن عبد الرحمن بن مهدي قال: لما مات سفيان أخرجناه من الليل من أجل السلطان، فحملناه بالليل، فما أنكرنا الليل من النهار -لعل هذا من كثرة الناس- قال: وسمعته يقول في علّته وكان به البطن: ذهب التستر ذهب التستر أي: أنه لما أوشك على الموت وكان به البطن كان يقول: ذهب التستر ذهب التستر. وقال يحيى القطان: مات في أول سنة 161هـ، وولد سنة 97 هـ. قال الذهبي: الصحيح موته في شعبان سنة 161 هـ، وكذلك أرّخه الواقدي ووهم خليفة فقال: مات سنة 162 هـ. وعن ضمرة قال: نظر حماد بن زيد إلى سفيان الثوري مسجى بثوب على السرير فقال: يا سفيان! لست أغبطك اليوم بكثرة الحديث، وإنما أغبطك بعمل صالح قدمت. وعن عبد الرحمن بن مهدي قال: جاءني جرير بن حازم وحماد بن زيد الغد يوم دفنا سفيان فقالا: أخرج بنا، فخرجت معهما فبينما نحن نمشي قال جرير بن حازم: من كان يبكي على حي لمنزله بكى الغداة على الثوري سفيانا قال: ثم سكت، فظننت أنه كان قد هيأ أبياتاً يقولها فسكت فقال عبد الله بن الصبّاح: أبكي عليه وقد ولى وسؤدده وفضله ناضر كالغصن ريانا فرحمه الله عز وجل رحمة واسعة، وأدخلنا وإياه جنة عالية قطوفها دانية. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

الإمام سفيان بن عيينة

سلسلة من أعلام السلف_الإمام سفيان بن عيينة الإمام سفيان بن عيينة أبو محمد الهلالي علم من أعلام أتباع التابعين وإمام أهل مكة، كان مقارباً للإمام مالك في إتقانه، اشتهر بزهده وعبادته، وأثنى عليه العلماء لعلمه الغزير وقلبه المستنير، فرحمه الله رحمة واسعة.

نسب سفيان بن عيينة ومولده وصفته

نسب سفيان بن عيينة ومولده وصفته إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: فما زلنا -بحمد الله- سعداء مع الصحبة المباركة أعلام السلف، ونحن مع علم من الأعلام، وهو من أئمة كبار أتباع التابعين إمام مكة سفيان بن عيينة رحمه الله. اسمه: سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون الهلالي أبو محمد الكوفي مولى محمد بن مزاحم أخي الضحاك بن مزاحم. مولده: عن محمد بن عمر قال: أخبرني سفيان بن عيينة أنه ولد سنة (107 هـ). قال ابن سعد: وكان أصله من أهل الكوفة، وكان والده من عمال خالد بن عبد الله القسري، فلما عُزل خالد عن العراق وولي يوسف بن عمر الثقفي طلب عمال خالد فهربوا منه، فلحق عيينة بن أبي عمران بمكة فنزلها.

ثناء العلماء على سفيان بن عيينة

ثناء العلماء على سفيان بن عيينة قال أبو نعيم: ومنهم الإمام الأمين ذو العقل الرصين، والرأي الراجح الركين، المستنبط للمعاني المرتبط بالمباني، أبو محمد سفيان بن عيينة الهلالي، كان عالماً ناقداً، وزاهداً عابداً، علمه مشهور، وزهده معمور. قال الذهبي: طلب الحديث وهو حدث، بل غلام، ولقي الكبار، وحمل عنهم علماً جماً، وأتقن وجود وصنّف، وعمّر دهراً، وازدحم الخلق عليه، وانتهى إليه علو الإسناد -لأنه جاوز التسعين سنة- ورُحل إليه من البلاد، وألحق الأحفاد بالأجداد. طال عمر سفيان وظل إماماً لمكة أربعين سنة، فكان يروي عنه الرجل ثم يروي عنه ابنه، ثم يروي عنه حفيده، وهذا معنى قوله: وألحق الأحفاد بالأجداد. وقال علي بن المديني: ما من أصحاب الزهري أحد أتقن من سفيان بن عيينة. فهم دائماً يفضّلون سفيان بن عيينة إمام مكة ومالك بن أنس إمام المدينة، فقد كان سفيان بن عيينة أوسع علماً وأكثر حديثاً، ولكن مالكاً أتقن. وقال أحمد بن عبد الله العجلي: كان ابن عيينة ثبتاً في الحديث، وكان حديثه نحواً من سبعة آلاف ولم تكن له كتب، أي: أن ضبطه كان ضبط صدر وليس ضبط كتاب. وقال بهز بن أسد: ما رأيت مثل سفيان بن عيينة، فقيل له: ولا شعبة؟ قال: ولا شعبة. وقال يحيى بن معين: هو أثبت الناس في عمرو بن دينار. لأن عمرو بن دينار أيضاً من علماء مكة. وذكر أن الإمام مالك لم يرو عن عمرو بن دينار؛ لأنه رأى الناس يكتبون عنه وهم واقفون، فأجل حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتبه وهو واقف. وقال ابن المديني: قال لي يحيى القطان: ما بقي من معلمي أحد غير سفيان بن عيينة وهو إمام منذ أربعين سنة. وقال ابن المبارك: سئل سفيان الثوري عن سفيان بن عيينة؟ فقال: ذاك أحد الأحدين، ما أغربه! وكما ذكرنا الحمادين وقلنا: إن حماد بن سلمة بن دينار أكبر سناً من حماد بن زيد بن درهم، وكلاهما من علماء البصرة، فإن سفيان الثوري من علماء الكوفة وسفيان بن عيينة من علماء مكة، وهما متقاربان، وكان سفيان الثوري أيضاً أكبر سناً من سفيان بن عيينة. وقال أبو حاتم الرازي: سفيان بن عيينة إمام ثقة، كان أعلم بحديث عمرو بن دينار من شعبة، قال: وأثبت أصحاب الزهري هو ومالك. وقال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي يقول: لولا مالك وسفيان لذهب علم الحجاز. لأن سفيان بن عيينة من علماء الحجاز. وقال علي: وسمعت بشر بن المفضل يقول: ما بقي على وجه الأرض أحد يشبه سفيان بن عيينة. وقال عثمان بن سعيد الدارمي: سألت يحيى بن معين قلت له: ابن عيينة أحب إليك في عمرو بن دينار أو الثوري؟ فقال: ابن عيينة أعلم به، قلت: فـ ابن عيينة أحب إليك فيه أو حماد بن زيد؟ قال: ابن عيينة أعلم به، قلت: فـ شعبة؟ قال: أيش روى عنه شعبة؟ إنما روى عنه نحواً من مائة حديث. وقال محمد بن إسحاق صاحب كتاب المغازي -وهو من تلامذة الزهري - قال: وكان ثقة ثبتاً كثير الحديث حجة، توفي وهو ابن إحدى وتسعين سنة. وطلب العلم وهو ابن سبع سنين أو ثمان سنين، فانظروا كيف حصّل العلم.

سعة علم سفيان بن عيينة رحمه الله

سعة علم سفيان بن عيينة رحمه الله سعة علمه رحمه الله: قال حرملة بن يحيى: سمعت الشافعي يقول: ما رأيت أحداً من الناس فيه آلة العلم ما في سفيان بن عيينة، وما رأيت أحداً أكفأ في الفتيا منه. قال الشافعي رحمه الله: وجدت أحاديث الأحكام كلها عند ابن عيينة سوى ستة أحاديث، ووجدتها كلها عند مالك سوى ثلاثين حديثاً. والشافعي مكث فترة طويلة في مكة وتتلمذ على سفيان بن عيينة. قال الذهبي معلّقاً على هذا الخبر: فهذا يوضّح لك سعة دائرة سفيان في العلم؛ وذلك لأنه ضم أحاديث العراقيين إلى أحاديث الحجازيين، وارتحل ولقي خلقاً كثيراً، ما لقيهم مالك، وهما نظيران في الإتقان، أي: أنه قريب من مالك في الإتقان، ولكن الإمام مالكاً لم يرحل كثيراً، وكان يعتقد أن الحديث الذي ليس له أصل في الحجاز انقطع نخاعه؛ لأن الحجاز وخاصة المدينة كان فيها أبناء وأحفاد المهاجرين والأنصار، وكان يعتبر إجماع أهل المدينة حجة، فلذلك لم يرحل كثيراً. يقول: وهما نظيران في الإتقان، ولكن مالكاً أجل وأعلى، فعنده نافع وسعيد المقبري. وقال عبد الرحمن بن مهدي: كان ابن عيينة من أعلم الناس بحديث الحجاز. وقال ابن وهب: لا أعلم أحداً أعلم بالتفسير من ابن عيينة. وقال أحمد: ما رأيت أعلم بالسنن منه.

اتباع سفيان بن عيينة رحمه الله للسنة

اتباع سفيان بن عيينة رحمه الله للسنة اتباعه للسنة رحمه الله: قال الذهبي: كان سفيان رحمه الله صاحب سنة واتباع. قال الحافظ ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن الفضل بن موسى قال: حدثنا محمد بن منصور قال: رأيت سفيان بن عيينة سأله رجل: ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله منه خرج وإليه يعود. وقال محمد بن إسحاق الصاغاني: حدثنا لوين قال: قيل لـ ابن عيينة: هذه الأحاديث التي تروى في الرؤية؟ قال: حق على ما سمعناها ممن نثق به ونرضاه. وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري: سمعت ابن عيينة يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.

زهد سفيان بن عيينة رحمه الله وأقواله في الزهد

زهد سفيان بن عيينة رحمه الله وأقواله في الزهد زهده رحمه الله، وأقواله في الزهد: قال أحمد بن أبي الحواري: قلت لـ سفيان بن عيينة: ما الزهد في الدنيا؟ قال: إذا أُنعم عليه فشكر، وإذا ابتُلي ببلية فصبر، فذلك الزاهد. وقال المسيب بن واضح: سئل ابن عيينة عن الزهد؟ فقال: الزهد فيما حرم الله، فأما ما أحل فقد أباحه الله، فإن النبيين قد نكحوا وركبوا ولبسوا وأكلوا. فكأن سفيان ينكر على الصوفية زهدهم، فهم يُحرّمون على أنفسهم الطيبات فلا يتزوج الواحد منهم مثلاً أو لا يأكل الطعام الطيب! وهذا كان في سلف الصوفية، ولكن بعد ذلك توسعوا في المآكل والمشارب، فالمقصود: أن الذي يُنكر هو الزهد المبتدع. قال: فأما ما أحل فقد أباحه الله، فإن النبيين قد نكحوا وركبوا ولبسوا وأكلوا، لكن الله نهاهم عن شيء فانتهوا عنه وكانوا به زهاداً. وعن أحمد بن عبدة قال: حدثنا سفيان بن عيينة قال: الزهد في الدنيا الصبر وارتقاب الموت. وعن حرملة بن يحيى قال: أخذ سفيان بن عيينة بيدي فأقامني في ناحية، وأخرج من كمه رغيف شعير وقال لي: دع يا حرملة! ما يقول الناس، هذا طعامي منذ ستين سنة.

شيوخ سفيان بن عيينة وتلامذته رحمه الله

شيوخ سفيان بن عيينة وتلامذته رحمه الله شيوخه: قال الحافظ: روى عن عبد الملك بن عمير وأبي إسحاق السبيعي وزياد بن علاقة والأسود بن قيس وأبان بن تغلب وإبراهيم بن موسى ومحمد بن عقبة وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة وإسرائيل بن موسى وإسماعيل بن أبي خالد وإسماعيل بن أمية وأيوب بن موسى وأيوب بن أبي تميم السختياني ويزيد بن أبي بردة وبيان بن بشر وجعفر الصادق وغيرهم. تلامذته: قال الحافظ: وعنه الأعمش -وهو أعلى طبقة منه؛ لأنه من صغار التابعين- وابن جريج وشعبة والثوري ومسعر، وكل هؤلاء من شيوخه، ولكنهم رووا عنه. أيضاً روى عنه من أقرانه: أبو إسحاق الفزاري وحماد بن زيد والحسن بن حي وهمام وأبو الأحوص وابن المبارك وقيس بن الربيع وأبو معاوية ووكيع ومعمر بن سليمان ويحيى بن أبي زائدة، وهم من أقرانه وماتوا قبله؛ لأنه عمّر وجاوز التسعين سنة. ومن تلامذته أيضاً: محمد بن إدريس الشافعي وعبد الله بن وهب ويحيى القطان وابن مهدي وأبو أسامة وروح بن عبادة والفريابي وأبو الوليد الطيالسي وعبد الرزاق وأبو نعيم وغيرهم.

درر من أقوال سفيان بن عيينة رحمه الله

درر من أقوال سفيان بن عيينة رحمه الله عن محمد بن ميمون الخياط قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: إذا كان نهاري نهار سفيه وليلي ليل جاهل فما أصنع بالعلم الذي جمعت؟ وعن إبراهيم الجوهري قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: إنما أرباب العلم الذين هم أهله الذين يعملون به. وعن علي بن الجعد قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: من زيد في عقله نقص من رزقه. وهذا في الغالب، كما قيل: تموت الأسد في الغابات جوعاً ولحم الضأن تأكله الكلاب فليس معنى: أن الإنسان عنده رزق واسع أنه يكون أذكى الناس، فالله عز وجل يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر. وعن سنيد بن داود عن ابن عيينة قال: من كانت معصيته في الشهوة فارج له التوبة، فإن آدم عليه السلام عصى مشتهياً فغُفر له، وإذا كانت معصيته في كبر فاخش على صاحبه اللعنة، فإن إبليس عصى مستكبراً فلُعن. وعن أبي معمر قال: حدثنا سفيان بن عيينة قال: ليس العالم الذي يعرف الخير والشر، إنما العالم الذي يعرف الخير فيتّبعه، ويعرف الشر فيجتنبه. وعن أحمد بن محمد بن أيوب قال: اجتمع الناس إلى سفيان بن عيينة فقال: من أحوج الناس إلى هذا العلم؟ فسكتوا، ثم قالوا: تكلم يا أبا محمد! قال: أحوج الناس إلى العلم العلماء، وذلك أن الجهل بهم أقبح؛ لأنهم غاية الناس وهم يُسألون. وعن سفيان بن عيينة قال: كان يقال: جالس العلماء؛ فإن مجالستهم غنيمة، وصحبتهم سليمة، ومؤاخاتهم كريمة. فالإنسان يجالس أهل العلم وأهل الفضل؛ لأن الإنسان يكتسب من صفات من يجالس. وقيل في تربية الأولاد: يجالسهم أهل الفضل وأهل الخير وأهل العلم، ويجنبون السفلة والخدم، فإنهم أسوأ الناس خُلقاً. وعن أبي موسى الأنصاري قال: من أبر البر كتمان المصائب، قال: وسمعت سفيان يقول: لا تكن مثل العبد السوء، لا يأتي حتى يُدعى: ائت الصلاة قبل النداء، أي: على الإنسان أن يأتي المسجد قبل حي على الصلاة. قال: وسمعت سفيان يقول: قال رجل: من توقير الصلاة أن تأتي قبل الإقامة. وعن إبراهيم بن الأشعث قال: حدثنا سفيان بن عيينة قال: كان يقال: أشد الناس حسرة يوم القيامة ثلاثة: رجل كان له عبد فجاء يوم القيامة أفضل عملاً منه، فأصبح العبد سيداً والسيد عبداً، ورجل له مال فلم يتصدّق منه، فمات فورثه غيره فتصدق منه. أي: جمع المال وبخل بإنفاقه في سبيل الله، فورثه ولد صالح وأنفقه فكان في ميزان ابنه، فهو جمع المال فكان في ميزان غيره. قال: ورجل عالم لم ينتفع بعلمه، فعلّمه غيره فانتفع به. وقال أبو أيوب سليمان بن داود: عن سفيان بن عيينة كان يقال: إن العاقل إذا لم ينتفع بقليل الموعظة لم يزدد على الكثير منها إلا شراً.

وفاة سفيان بن عيينة

وفاة سفيان بن عيينة عن الحسن بن عمران بن عيينة بن أبي عمران قال: حججت مع عمي سفيان آخر حجة حجها سنة (197هـ)، فلما كنا بجمع في مزدلفة وصلى، استلقى على فراشه ثم قال: قد وافيت هذا الموضع سبعين عاماً أقول في كل سنة: اللهم لا تجعله آخر العهد من هذا المكان، وإني قد استحييت الله من كثرة ما أسأله ذلك، فرجع فتوفي في السنة الداخلة يوم السبت أول يوم من رجب سنة (198هـ). وهو ولد سنة (107هـ) وتوفي سنة (198هـ) أي: أنه عاش (91) سنة، ودفن بالحجون فرحمه الله تعالى رحمةً واسعة، وأسكنه فسيح جناته. نكتفي بهذا القدر، وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

الإمام طاوس بن كيسان

سلسلة من أعلام السلف_الإمام طاوس بن كيسان طاوس بن كيسان علم من أعلام الهدى، وإمام من أئمة المسلمين الذين ينبغي الاقتداء بهم، والسير على طريقهم، والاهتداء بهديهم، ففي سيرته رحمه الله مثال يحتذى في الزهد والورع والعبادة وقول الحق، فرحمه الله تعالى رحمة الأبرار.

اسم طاوس ومولده وصفته

اسم طاوس ومولده وصفته الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه، أن رحمته سبقت غضبه، دعا عباده إلى دار السلام، فعمهم بالدعوة حجة منه عليهم وعدلاً، وخص بالهداية والتوفيق من شاء نعمة ومنة وفضلاً، فهذا عدله وحكمته، وهو العزيز الحكيم، وذلك فضله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته ومن لا غنى به طرفة عين عن فضله ورحمته، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بعفوه ومغفرته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، ترك أمته على الواضحة الغراء والمحجة البيضاء، فسلك أصحابه وأتباعه على أثره إلى جنات النعيم، وعدل الراغبون عن هديه إلى صراط الجحيم، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:42]. فصلى الله وملائكته وجميع عباده المؤمنين عليه، كما وحد الله عز وجل وعرفنا به ودعا إليه، وسلم تسليماً. أما بعد: فنحن في هذه الترجمة من سلسلة أعلام السلف المباركة مع إمام من أئمة التابعين من أهل اليمن، (الإيمان يمان والحكمة يمانية)، إنه طاوس بن كيسان من تلامذة ابن عباس رضي الله عنهما. وقيل: سمي طاوساً لأنه كان طاوس القراء، وكان من أزهد الناس وأورعهم وأشدهم على الحكام الجائرين، فرحم الله أئمتنا وجمعنا بهم في عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً. اسمه: طاوس بن كيسان اليمني الحميري مولى بحير بن كريسان الحميري من أبناء فارس. وقال أبو حاتم بن حبان وأبو بكر بن منجويه: كانت أمه من أبناء فارس وأبوه من واسط، وقيل: اسمه ذكوان وطاوس لقبه. وروي عن يحيى بن معين قال: سمي طاوساً؛ لأنه كان طاوس القراء. مولده: قال الذهبي: أراه ولد في دولة عثمان رضي الله عنه أو قبل ذلك. صفته: قال جرير بن حازم: رأيت طاوساً يخضب بحناء شديد الحمرة. وقال فطر بن خليفة: كان طاوس يصبغ بالحناء. وقال عبد الرحمن بن أبي بكر المليكي: رأيت طاوساً وبين عينيه أثر السجود.

ثناء العلماء على طاوس بن كيسان

ثناء العلماء على طاوس بن كيسان قال حبيب بن الشهيد: كنت عند عمرو بن دينار فذكر طاوساً فقال: ما رأيت أحداً قط مثل طاوس. وعن عثمان بن سعيد قال: قلت لـ يحيى بن معين: طاوس أحب إليك أو سعيد بن جبير؟ فقال: ثقات ولم يخير. وكلاهما من أكبر تلامذة ابن عباس رضي الله عنهما. وروى عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: إني لأظن طاوساً من أهل الجنة. وقال ابن شهاب: لو رأيت طاوساً علمت أنه لا يكذب. فعلامات الصدق تبدو على الصادقين، كما قال حسان بن ثابت في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تأتيك بالخبر أي: لو لم يأت بالمعجزات الدالة على صدقه لكان الناظر إلى وجهه الكريم صلى الله عليه وسلم يعلم أنه نبي صادق. وهذا ما حدث من عبد الله بن سلام لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فقد ذهب عبد الله بن سلام ونظر في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: أشهد أن وجهك ليس بوجه كذاب. وقال ابن حبان: كان من عباد أهل اليمن ومن فقهائهم، ومن سادات التابعين. وعن ابن عيينة قال: قلت لـ عبيد الله بن أبي يزيد: مع من كنت تدخل على ابن عباس؟ قال: مع عطاء وأصحابه. قلت: طاوس؟ قال: أيهان! ذاك كان يدخل مع الخواص. وعن ابن أبي نجيح قال: قال مجاهد لـ طاوس: رأيتك يا أبا عبد الرحمن! تصلي في الكعبة والنبي صلى الله عليه وسلم على بابها يقول لك: اكشف قناعك وبين قراءتك. قال طاوس: اسكت لا يسمع هذا منك أحد. قال: ثم خيل إليَّ أنه انبسط من الكلام -يعني: فرحاً بالمنام- وقد كان من عادته رحمه الله التقنع -يعني: يلف شيئاً على وجهه- فعن أبي أيوب الجعفي قال: كان طاوس يتقنع ولا يدع التقنع. أي: حتى لا يعرف مثلاً، أو يثقل عليه. وعن يونس بن الحارث قال: رأيت طاوساً يصلي وهو متقنع. وعن قيس بن معدان قال: كان طاوس فينا مثل ابن سيرين فيكم. يعني: كان طاوس في أهل اليمن مثل ابن سيرين في أهل البصرة، وابن سيرين من أئمة التابعين، وستأتي ترجمته إن شاء الله تعالى. وقال سفيان: وحلف لنا إبراهيم بن ميسرة وهو مستقبل الكعبة: ورب هذه البنية ما رأيت أحداً الشريف والوضيع عنده بمنزلة إلا طاوساً، يحاسب الأمراء كما يحاسب الفقراء، ويعامل هذا مثل هذا. وروى جعفر بن برقان قال: حدثنا طاوس، ولا تحسبن فينا أحداً أصدق لهجة من طاوس.

ورع طاوس بن كيسان وزهده وخشيته

ورع طاوس بن كيسان وزهده وخشيته عن عبد الله بن بشر: أن طاوس اليمني كان له طريقان إلى المسجد: طريق في السوق وطريق آخر، فيأخذ في هذا يوماً وفي هذا يوماً، فإذا مر في طريق السوق فرأى تلك الرءوس المشوية لم ينعس تلك الليلة. وعن سفيان قال: كان طاوس يجلس في بيته فقيل له في ذلك، فقال: حيف الأئمة وفساد الناس. وعن ابن طاوس قال: قلت لأبي: أريد أن أتزوج فلانة، قال: اذهب فانظر إليها. قال: فذهبت فلبست من صالح ثيابي وغسلت رأسي وأتيت، فلما رآني في تلك الهيئة قال: اقعد لا تذهب. كأنه خشي أن يدلس عليها، فكأنه أحب أن يذهب بثيابه وبهيئته، فلا يغسل رأسه ولا يلبس ثياباً جديدة. وعن عبد الرزاق قال: سمعت النعمان بن الزبير الصنعاني يحدث أن محمد بن يوسف أخا الحجاج -أو أيوب بن يحيى - بعث إلى طاوس بـ700 دينار أو 500، وقال للرسول: إن أخذها منك فإن الأمير سيكسوك ويحسن إليك -من أجل أن يؤكد عليه أن يقبلها منه- قال: فخرج بها حتى قدم على طاوس فقال: يا أبا عبد الرحمن! نفقة بعث الأمير بها إليك. قال: ما لي بها من حاجة، فأراده على أخذها فأبى أن يقبل طاوس، فرمى بها في كوة البيت -والكوة: تجويف في الحائط- ثم ذهب فقال لهم: أخذها -من أجل أن يأخذ الجائزة- فلبثوا حيناً، ثم بلغهم عن طاوس شيئاً يكرهونه، فقالوا: ابعثوا إليه فليبعث إلينا بمالنا. فهم يعتقدون أنه أنفق هذا المال ويصعب عليه أن يرد لهم هذا المال، فجاءه الرسول فقال: المال الذي بعث به إليك الأمير. فقال: ما قبضت منه شيئاً، فرجع الرسول فأخبرهم، فعرفوا أنه صادق، فقال: انظروا الذي ذهب بها فابعثوا إليه، فبعثوه فجاءه وقال: المال الذي جئتك به يا أبا عبد الرحمن! قال: هل قبضت منك شيئاً؟ قال: لا. قال: هل تعلم أين وضعته؟ قال: نعم، في تلك الكوة، قال: انظر حيث وضعته، فمد يده فإذا هو بالصرة قد نسجت عليها العنكبوت، قال: فأخذها فذهب بها إليهم. وعن أيوب قال: سأل رجل طاوساً عن شيء فانتهره، ثم قال: أتريد أن تجعل في عنقي حبلاً ثم يطاف بي؟! وعن عمر بن طاوس قال: جاء رجل من الخوارج إلى أبي فقال: أنت أخي. فقال أبي: أمن بين عباد الله؟! المسلمون كلهم إخوة. وذلك أنه يعرف أنه يكفر المسلمين، فلما قال له: أنت أخي قال له: أمن بين عباد الله؟! يعني: وهل البقية كفار وأنا مسلم؟! فقال: المسلمون كلهم إخوة. وعن أبي عاصم قال: زعم لي سفيان قال: جاء ابن لـ سليمان بن عبد الملك فجلس إلى جنب طاوس فلم يلتفت إليه. فقيل له: جلس إليك ابن أمير المؤمنين فلم تلتفت إليه! قال: أردت أن يعلم أن لله عباداً يزهدون فيما في يديه. وقال الحافظ: قال عمرو بن دينار: ما رأيت أحداً أعف عما في أيدي الناس من طاوس. وقال ابن عيينة: متجنبو السلطان ثلاثة: أبو ذر في زمانه، وطاوس في زمانه، والثوري في زمانه. وطاوس كان في زمن كبار التابعين، وأما الثوري ففي الطبقة التي تليها أو في زمن أتباع التابعين، وكان من كبار أتباع التابعين، وهو من طبقة الإمام مالك وابن المبارك والليث بن سعد وغيرهم. وروي عن عبد الرزاق عن أبيه قال: كان طاوس يصلي في غداة باردة مغَيمة، فمر به محمد بن يوسف أخو الحجاج -أو أيوب بن يحيى - في موكبه وهو ساجد، فأمر بساج أو طيلسان مرتفع فطرح عليه، فلم يرفع رأسه حتى فرغ من حاجته، فلما سلم نظر فإذا الساج عليه، فانتفض ولم ينظر إليه ثم مضى إلى منزله. وقال عبد الرحمن بن أبي بكر المكي: رأيت طاوساً وبين عينيه أثر السجود. فقد كان الأئمة أئمة في العلم وفي العبادة وفي الورع وفي الجهر بكلمة الحق.

عبادة طاوس بن كيسان

عبادة طاوس بن كيسان عن داود بن إبراهيم: أن الأسد حبس الناس ليلة في طريق الحج، فدق الناس بعضهم بعضاً -أي: من الزحام- فلما كان السحر ذهب عنهم، فنزل الناس يميناً وشمالاً فألقوا أنفسهم وناموا، فقام طاوس يصلي. فقال له رجل: ألا تنام، فإنك نصبت هذه الليلة؟! فقال طاوس: وهل ينام السحر أحد؟ وعن ابن شوذب قال: شهدت جنازة طاوس بمكة سنة (105 هـ) فجعلوا يقولون: رحم الله أبا عبد الرحمن، حج (40) حجة. والحج لم يكن بالطائرة ولا بالسفينة ولا حتى بالسيارة المكيفة، ولكن كان على الدواب أو سيراً على الأقدام.

شيوخ طاوس بن كيسان وتلامذته

شيوخ طاوس بن كيسان وتلامذته شيوخه: قال المزي: روى عن جابر بن عبد الله، وحجر المدري وزياد بن الأعجم، وزيد بن أرقم وعبد الله بن شداد بن الهاد، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، ومعاذ بن جبل ولم يلقه، وأبي هريرة، وعائشة أم المؤمنين، وأم كرز الكعبية، وأم مالك البهزية. وقال عبد الملك بن ميسرة عنه: أدركت (50) من الصحابة رضي الله عنهم. تلامذته: قال الحافظ: وعنه ابنه عبد الله، ووهب بن منبه، وسليمان التيمي، وسليمان الأحول، وأبو الزبير، وإبراهيم بن ميسرة، وحبيب بن أبي ثابت، والحكم بن عتبة، والحسن بن مسلم بن يناق، وسليمان بن موسى الدمشقي وغيرهم.

درر من أقوال طاوس بن كيسان

درر من أقوال طاوس بن كيسان عن أبان بن أبي نجيح عن أبيه أن طاوساً قال له -أي: قال لـ أبي نجيح -: من قال واتقى الله خير ممن صمت واتقى الله. يعني: من يتقي الله وينصح الناس أو يعلمهم فيجمع بين التقوى وبين تعليم الناس أفضل ممن صمت واتقى الله. وعن هشام بن حجير عن طاوس قال: لا يتم نسك الشاب حتى يتزوج. أي: لا تتم عبادته حتى يتزوج. وعن إبراهيم بن ميسرة قال: قال لي طاوس: لتنكحن أو لأقولن لك ما قاله عمر بن الخطاب لـ أبي الزوائد: ما يمنعك من النكاح إلا عجز أو فجور. وعن سفيان قال: سمعت طاوساً يقول: لا يحرز دين المرء إلا حفرته. أي: إنه طوال حياته في الدنيا معرض للفتن، فإذا ختم له بخير وصار إلى قبره فإنه يأمن بذلك من الوقوع في الفتن أو من أن يفتن، فقد أراد الشيطان أن يفتن إمام المسلمين أحمد بن حنبل فكان يقول له: فُتَّني يا أحمد! فتني يا أحمد! وهو في السياق، فكان يقول: لا بعد، لا بعد. فكان يريد أن يصاب بعجب أو بشيء من ذلك عند الموت فيهلك، فقال: لا بعد، لا بعد. أي: ما دام في الدنيا فهو ما يزال في دار البلاء والفتن. وعن ابن طاوس عن أبيه قال: البخل: أن يبخل الإنسان بما في يديه. والشح: أن يحب الإنسان أن يكون له ما في أيدي الناس. فالشح: شدة المحبة للمال والتطلع إلى الحرام، فلا يكفيه ما أحل الله عز وجل، بل يتطلع إلى ما حرم الله عز وجل، والبخل: أن يبخل الإنسان بما في يديه. وعن ابن طاوس عن أبيه قال: كان رجل له أربعة من البنين -وهذه القصة لعلها عن الأمم السابقة من كتب أهل الكتاب أو سمعها من أحد من المتقدمين- فمرض، فقال أحدهم: إما أن تمرضوه -أي: تعالجوه- وليس لكم من ميراثه شيء، وإما أن أمرضه وليس لي من ميراثه شيء. قالوا: مرضه وليس لك من ميراثه شيء، قال: فمرضه حتى مات ولم يأخذ من ميراثه شيئاً، قال: فأتي في المنام فقيل له: ائت مكان كذا وكذا فخذ منه (100) دينار، فقال في نومه: أفيها بركة؟ قالوا: لا، قال: فأصبح فذكر ذلك لامرأته، فقالت امرأته: خذها، فإن من بركتها أن نكتسي منها، فأبى، فلما أمسى أتي في النوم فقيل له: ائت مكان كذا وكذا فخذ منه عشرة دنانير، قال: أفيها بركة؟ قالوا: لا، فلما أصبح قال ذلك لامرأته فقالت له مثل مقالتها الأولى، فأبى أن يأخذها، فأتي في الليلة الثالثة فقيل له: ائت مكان كذا وكذا فخذ منه ديناراً، فقال: أفيه بركة؟ قالوا: نعم، قال: فذهب فأخذه ثم خرج إلى السوق فإذا هو برجل يحمل حوتين -أي: سمكتين- فقال: بكم هما؟ قال: بدينار. قال: فأخذهما منه بدينار ثم انطلق بهما، فلما دخل بيته شق بطنهما فوجد في بطن كل واحدة منهما درة لم ير الناس مثلها. قال: فبعث الملك يطلب درة يشتريها فلم توجد إلا عنده، فباعها بوقر ثلاثين بغلاً ذهباً، فلما رآها الملك قال: ما تصلح هذه إلا بأختاً اطلبوا أختها وإن أضعفتم -أي: الثمن- قال: فجاءوا فقالوا: أعندك أختها ونعطيك ضعف ما أعطيناك؟ قال: وتفعلون؟! قالوا: نعم، فأعطاهم إياها بضعف ما أخذوا الأولى. وهذه القصة ذكرت في حليلة الأولياء، والله أعلم بسندها. وعن ابن طاوس عن أبيه قال: لقي عيسى عليه السلام إبليس فقال: أما علمت أنه لا يصيبك إلا ما قدر لك؟ قال: نعم، قال: فارق ذروة هذا الجبل فتردى منه فانظر أتعيش أم لا؟ قال: عيسى عليه السلام: إن الله يقول: لا يجربني عبدي؛ فإني أفعل ما شئت. ورواه معمر عن الزهري، وفيه: فقال: إن العبد لا يبتلي ربه، ولكن الله يبتلي عبده، قال: فخصمه. وعن طاوس قال: ما من شيء يتكلم به ابن آدم إلا أحصي عليه حتى أنينه في مرضه. ولما كان الإمام أحمد في مرض موته يئن قيل له: إن طاوساً كان يكره الأنين، فما أنّ حتى مات. وعن أبي عبد الله الشامي قال: استأذنت على طاوس لأسأله عن مسألة فخرج علي شيخ كبير فظننته هو فقال: لا، أنا ابنه، قلت: إن كنت ابنه فقد خرف أبوك، قال: تقول ذاك؟! إن العالم لا يخرف. قال: فدخلت فقال لي طاوس: سل وأوجز، وإن شئت علمتك في مجلسك هذا القرآن والتوراة والإنجيل. قلت: إن علمتني إياهن لا أسألك عن شيء، قال: خف الله مخافة لا يكون شيء عندك أخوف منه، وارجه رجاء هو أشد من خوفك إياه، وأحب للناس ما تحبه لنفسك.

وفاة طاوس بن كيسان رحمه الله تعالى

وفاة طاوس بن كيسان رحمه الله تعالى قال محمد بن عمر الواقدي ويحيى القطان والهيثم وغيرهم: مات طاوس سنة (106). ويقال: كانت وفاته يوم التروية -يوم الثامن من ذي الحجة-، وصلى عليه الخليفة هشام بن عبد الملك، ثم بعد أيام اتفق له الصلاة بالمدينة على سالم بن عبد الله بن عمر. وروى عبد الرزاق عن أبيه قال: مات طاوس بمكة فلم يصلوا عليه حتى بعث هشام بن عبد الملك بالحرس. قال: فلقد رأيت عبد الله بن الحسن واضعاً السرير على كاهله، فسقطت قلنسوة كانت عليه ومزق رداؤه من خلفه، فما زايله إلى قبره وتوفي بمزدلفة أو بمنى. وقال الذهبي: توفي طاوس بمكة أيام الموسم، ومن زعم أن قبر طاوس ببعلبك فهو لا يدري ما يقول، بل ذاك شخص اسمه طاوس يعني: أنه شخص آخر اسمه طاوس، وقد يكون من الصالحين إن صح، كما أن قبر (أبي) بشرق دمشق، وليس بـ أبي بن كعب البتة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه.

الإمام عبد الرحمن بن مهدي

سلسلة من أعلام السلف_الإمام عبد الرحمن بن مهدي قيض الله تعالى لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم رجالاً فحفظوها وذادوا عنها، وتمسكوا بهديها، ومن هؤلاء الرجال الأعلام الإمام عبد الرحمن بن مهدي، فقد بذل حياته كلها في خدمة السنة والتمسك بها والحث عليها، حتى بلغ بذلك شأواً رفيعاً استحق به ثناء الأكابر عليه فرحمنا الله وإياه رحمة الأبرار.

نسب عبد الرحمن بن مهدي ومولده

نسب عبد الرحمن بن مهدي ومولده إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. ثم أما بعد: فما زلنا مع النجوم اللامعة والقمم الشامخة، ومعنا هنا إمام من أئمة الجرح والتعديل، وهو عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله. اسمه: عبد الرحمن بن مهدي بن حسان بن عبد الرحمن العنبري، -وقيل: الأسدي - مولاهم، أبو سعيد البصري اللؤلؤي. مولده: عن أبي الوليد الطيالسي قال: ولد عبد الرحمن بن مهدي في سنة 135هـ. وقال حنبل: سمعت أبا عبد الله -الإمام أحمد - يقول: ولد عبد الرحمن بن مهدي سنة 135هـ. والإمام أحمد من تلامذته، فهو من الطبقة التي هي فوق طبقة الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه وعلي بن المديني ويحيى بن معين والقاسم بن سلام وغيرهم.

ثناء العلماء على ابن مهدي

ثناء العلماء على ابن مهدي ثناء العلماء عليه: قال أيوب بن المتوكل: كنا إذا أردنا أن ننظر إلى الدين والدنيا ذهبنا إلى دار عبد الرحمن بن مهدي، كان شبيهاً بالإمام مالك. يعني: أنه له مكانة وعز وسعة في الدنيا والدين. وقال محمد بن أبي بكر المقدمي: ما رأيت أحداً أتقن لما سمع ولما لم يسمع وبحديث الناس من عبد الرحمن بن مهدي، إمام ثبت، أثبت من يحيى بن سعيد -يعني: القطان، وهو قرينه- وأتقن من وكيع، كان عرض حديثه على سفيان. يعني: الثوري، لأن ابن مهدي من علماء البصرة، والله أعلم. قال ابن حبان: وكان من الحفاظ المتقنين، وأهل الورع في الدين، ممن حفظ وجمع وتفقه وصنف وحدث، وأبى الرواية إلا عن الثقات. وقال محمد بن سعد: وكان ثقة كثير الحديث. وعن خالد بن يزيد المخرمي قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: كأن عبد الرحمن بن مهدي خلق للحديث. وعن زياد بن أيوب قال: كنا في مجلس هشيم، فلما قام أخذ أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وخلف بن سالم بيد فتى أمنَّا، فأدخلوه مسجداً وكتبوا عنه وكتبنا، فإذا هو عبد الرحمن بن مهدي. وعن الحسن بن محمد بن الصباح قال: أخبرني غير واحد أنهم كانوا عند حماد بن زيد فسئل عن مسألة فقال: أين ابن مهدي؟ من لهذا إلا ابن مهدي؟ قال: فأخبر عبد الرحمن فسأله عن ذلك فأجاب، فلما قام من عنده قال: هذا سيد -أو فتى البصرة- منذ ثلاثين سنة، أو نحو هذا. وعن علي بن المديني قال غير مرة: والله لو أخذت فحلفت بين الركن والمقام لحلفت بالله أني لم أر قط أعلم بالحديث من عبد الرحمن بن مهدي. وعلي بن المديني هو إمام زمانه. وقال أيوب بن المتوكل: كان حماد بن زيد إذا نظر إلى عبد الرحمن بن مهدي في مجلسه تهلل وجهه. وفي بعض الأحيان إذا كان يوجد في مجالس الشيوخ بعض المجتهدين فإنهم يفرحون بوجودهم، ويعرفون أن لهم شأناً، كما كان الإمام أحمد، فقد كانوا يقولون: كاد أن يكون إماماً في بطن أمه، وكان مرة في مجلس يزيد بن هارون -وهو شيخه- فمزح مع مستمليه فتنحنح الإمام أحمد، فقال: من المتنحنح؟ فقالوا: أحمد بن حنبل، فقال: هلا أخبرتموني؟ يعني: حتى لا أمزح. فأحياناً يكون للطالب مكانة وهيبة، كما كان بعض شيوخ الإمام محمد بن إسماعيل البخاري يقول -والإمام البخاري ما زال فتى-: إذا دخل علي هذا الفتى لا أزال في رعب حتى يخرج؛ لأنه كان يأخذ السقطات عن الكبار، فكان يرعب منه الشيخ حتى لا يأخذ عليه خطأً حتى ينصرف. وقال محمد بن عبد الرحيم صاعقة والصاعقة لقب له، ولقب به لأنه كان صاعقة في الحفظ-: سمعت علياً -يعني: ابن المديني - وذكر الفقهاء السبعة، فقال: كان أعلم الناس بقولهم وحديثهم ابن شهاب ثم من بعده مالك ثم من بعده عبد الرحمن بن مهدي. وقال الخطيب البغدادي: هو بصري، قدم بغداد وحدث بها، وكان من الربانيين في العلم، وأحد المذكورين في الحفظ، وممن برع في معرفة الأثر وطرق الروايات وأحوال الشيوخ.

عبادة ابن مهدي

عبادة ابن مهدي قال ابن المديني: دخلت على امرأة عبد الرحمن بن مهدي وكنت أزورها بعد موته -لأنه شيخه- فرأيت سوداً في القبلة، فقلت: ما هذا؟ قالت: موضع استراحة عبد الرحمن، كان يصلي بالليل فإذا غلبه النوم وضع جبهته عليها. فأثر في الجدار. وقال علي: كان ورد عبد الرحمن كل ليلة نصف القرآن. وقال رسته: وكان عبد الرحمن يحج كل عام، فمات أخوه وأوصى إليه فأقام على أيتامه، فسمعته يقول: قد ابتليت بهؤلاء الأيتام، فاستقرضت من يحيى بن سعيد أربعمائة دينار احتجت إليها في مصلحة أرضهم.

حفظ ابن مهدي وضبطه وتثبته رحمه الله

حفظ ابن مهدي وضبطه وتثبته رحمه الله حفظه وضبطه وتثبته رحمه الله: تقدم قول الحافظ الخطيب البغدادي: كان من الربانيين في العلم، وأحد المذكورين بالحفظ، وممن برع في معرفة الأثر وطرق الروايات وأحوال الشيوخ. وعن حنبل قال: قال أبو عبد الله: إذا اختلف وكيع وعبد الرحمن فـ عبد الرحمن أثبت؛ لأنه أقرب عهداً بالكتاب. يعني: كان وكيع ضبطه ضبط صدر. وعن عبيد الله بن عمر القواريري قال: أملى عبد الرحمن بن مهدي عشرين ألف حديث حفظاً. وعن خالد بن يزيد الخواص المخرمي قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: كأن عبد الرحمن بن مهدي خلق للحديث. وقال محمد بن يحيى الذهلي -وهو من طبقة الإمام البخاري، وكان أكبر منه سناً ومن شيوخه-: ما رأيت في يد عبد الرحمن بن المهدي كتاباً قط: يعني: كان يحدث حفظاً. وعن عمرو بن علي قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: حدثنا أبو خلدة. فقال له رجل: أكان ثقة؟ فقال: كان صدوقاً وكان خياراً وكان مأموناً، الثقة سفيان وشعبة. وهذا يدل على تشدده. وقال ابن حبان في صدر كتابه (الضعفاء): إلا أن من أكثرهم تنقيراً عن شأن المحدثين وأتركهم للضعفاء والمتروكين حتى جعلوا هذا الشأن صناعة لهم لم يتعدوها مع لزوم الدين والورع الشديد والتفقه في السنن رجلين: يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي. وهما من تلامذة شعبة، وكان شعبة أول من نقب عن الرجال. وقال سهل بن صالح: سمعت يزيد بن هارون يقول: وقعت بين أسدين: عبد الرحمن بن مهدي ويحيى القطان.

اتباع ابن مهدي للسنة في العمل والاعتقاد وشدته على المبتدعة

اتباع ابن مهدي للسنة في العمل والاعتقاد وشدته على المبتدعة عن عبد الرحمن بن عمر قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: كنا في جنازة فيها عبيد الله بن حسن العنبري -وهو يومئذ قاضي البصرة وله موضعه في قومه وقدره عند الناس- فتكلم في شيء فأخطأ، فقلت وأنا يومئذ حدث -يعني: غلام- ليس هكذا يا أبي! عليك بالأثر، فتزايد علي الناس -يعني: استكثروا علي أن أقول ذلك لرجل له مكانة وعلم وفضل- فقال عبيد الله: دعوه، وكيف هو؟ قال: فأخبرته، فقال: صدقت يا غلام! إذاً: أرجع إلى قولك وأنا صاغر. وعن أبي موسى محمد بن المثنى قال: رأيت في حجر عبد الرحمن بن مهدي كتاباً فيه حديث رجل قد ضرب عليه فقلت: يا أبا سعيد لم ضربت على حديثه قال: أخبرني يحيى أنه يرمي برأي جهم فضربت على حديثه. وعن إبراهيم بن زياد قال: سألت عبد الرحمن بن مهدي ما تقول فيمن يقول: القرآن مخلوق؟ فقال: لو كان لي سلطان لقمت على الجسر، فكان لا يمر بي أحد إلا سألته، فإذا قال لي: مخلوق ضربت عنقه وألقيته في الماء. وعن عبد الرحمن بن عمر قال: ذكر عند عبد الرحمن بن مهدي قوم من أهل البدع واجتهادهم في العبادة فقال: لا يقبل الله إلا ما كان على الأمر والسنة، ثم قرأ: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27]، فلم يقبل ذلك منهم ووبخهم عليه. ثم قال: الزم الطريق والسنة. قال: وسمعت عبد الرحمن بن مهدي يكره الجلوس إلى أصحاب الأهواء، ويكره أن يجالسهم أو يماريهم، فقلت له: أترى للرجل إذا كانت له خصومة وأراد أن يكتب عهده أن يأتيهم؟ قال: لا، مشيك إليهم توقير، وقد جاء فيمن وقر صاحب بدعة ما جاء. وقال رسته: سمعت ابن مهدي يقول لفتى من ولد الأمير جعفر بن سليمان: بلغني أنك تتكلم في الرب وتصفه وتشبهه؟ قال: نعم، نظرنا فلم نر من خلق الله شيئاً أحسن من الإنسان، فأخذ يتكلم في الصفة والقامة، فقال له: رويدك يا بني! حتى نتكلم أول شيء في المخلوق، فإن عجزنا عنه فنحن عن الخالق أعجز، أخبرني عما حدثني شعبة عن الشيباني عن سعيد بن جبير عن عبد الله {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:18] قال: رأى جبريل له ستمائة جناح. فبقي الغلام ينظر، فقال: أنا أهوِّن عليك، صف لي خلقاً له ثلاثة أجنحة، وركب الجناح الثالث منه موضعه حتى أعلم، قال: يا أبا سعيد! عجزنا عن صفة المخلوق، فأشهدك أني قد عجزت ورجعت. قال الذهبي: ونقل غير واحد عن عبد الرحمن بن مهدي قال: إن الجهمية أرادوا أن ينفوا أن يكون الله كلم موسى، وأن يكون استوى على العرش، أرى أن يستتابوا، فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم.

شيوخ ابن مهدي وتلامذته رحمه الله

شيوخ ابن مهدي وتلامذته رحمه الله شيوخه وتلامذته رحمه الله. شيوخه: قال الحافظ: روى عن أيمن بن نابل، وجرير بن حازم، وعكرمة بن عمار، وأبي خلدة، وخالد بن دينار، ومهدي بن ميمون، ومالك، وشعبة، والسفيانين، والحمادين، وإسرائيل، وحرب بن شداد، ومحمد بن راشد، ومالك بن مغول، ووهبت، وهشام بن سعد وغيرهم. تلامذته: قال الحافظ: وعنه ابن المبارك -وهو أعلى منه طبقة ومن شيوخه- وابن وهب -وهو عبد الله بن وهب، وكان من قضاة مصر، وكان شيخ ابن لهيعة وهو أكبر منه -وابنه موسى، وأحمد، وإسحاق، وعلي، ويحيى بن معين، ويحيى بن يحيى النيسابوري، وأبو ثور، وأبو خيثمة، وأبو عبيد القاسم بن سلام -وكان من تلامذة القطان - وإبراهيم بن محمد، وابن أبي شيبة، وغيرهم.

من أقوال ابن مهدي

من أقوال ابن مهدي درر من أقواله رحمه الله: عن عبيد الله بن سعيد قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: احفظ: لا يجوز للرجل أن يكون إماماً حتى يعلم ما يصح مما لا يصح، وحتى لا يحتج بكل شيء، وحتى يعلم بمخارج العلم. وعن عبد الرحمن بن عمر قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: يحرم على الرجل أن يقول في أمر الدين إلا شيئاً سمعه من ثقة. وعنه قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: إذا لقي الرجل الرجل فوقه في العلم كان يوم غنيمة -يعني: حتى يستفيد منه ويتعلم-، وإذا لقى من هو مثله دارسه وتعلم منه -يعني: كل واحد يتعلم من الآخر-، وإذا لقي من هو دونه تواضع له وعلمه، ولا يكون إماماً في العلم من يحدث بكل ما سمع، ولا يكون إماماً في العلم من يحدث عن كل أحد، ولا يكون إماماً في العلم من يحدث بالشاذ من العلم والحفظ والإتقان. وعنه قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: لولا أني أكره أن يعصى الله لتمنيت ألا يبقى في هذا المصر أحد إلا وقع فيَّ واغتابني، وأي شيء أهنأ من حسنة يجدها الرجل في صحيفته يوم القيامة لم يعملها ولم يعلم بها؟! أي: يجد في صحيفة حسناته حسنات غيره الذين وقعوا فيه قد انتقلت إليه. وعن أحمد بن سنان قال: سمعت ابن مهدي يقول: لزمت مالكاً حتى ملني، فقلت يوماً: قد غبت عن أهلي هذه الغيبة الطويلة، ولا أعلم ما حدث بهم بعدي. قال: يا بني! وأنا بالقرب من أهلي ولا أدري ما حدث بهم منذ خرجت. وعن عبد الرحمن بن عمر قال: سمعت ابن مهدي يقول: فتنة الحديث أشد من فتنة المال والولد؛ لأن الحديث له شهوة وحلاوة، والإنسان يقول: حدثنا فلان أو حدثنا فلان. وقال أبو قدامة: سمعت ابن مهدي يقول: لأن أعرف علة حديث أحب إلي من أن أستفيد عشرة أحاديث. والعلة هنا المقصود بها العلة الخفية التي تقدح في صحة الحديث مع أن الظاهر السلامة منها، كوجود راوٍ ضعيف الحفظ مثلاً أو عنعنة مدلس، وأما العلل التي يعرفها طلاب العلم الصغار أمثالنا عند النظر في الحديث فهذه لا تسمى عللاً، وعندما يقول الأئمة: هذا الحديث معلول، لا يشبه حديث فلان، أو: إن فلاناً وهم فيه، فليس معناه أن الإنسان ليس ثقة أو أنه يخطئ، فقد يكون الرواة كلهم ثقات والحديث فيه تصريح بالسماع في كل السند، ولكن تكون هناك علة خفية، لا يقف عليها إلا أهل الشأن، مثل: علي بن المديني الذي كان إماماً في معرفة العلل، وكذلك الإمام أحمد، والقطان، والدارقطني. فلذلك لو نظر أحدنا في السند فلا يقل: الحديث صحيح حتى ينظر في كتب العلل؛ لأنه قد يكون معلاً، فلعل أحد العلماء أعل هذا الحديث. والعلامة أحمد شاكر دائماً في تحقيق المسند عن الحديث يقول: إسناده صحيح. وهذا من باب الورع، فهو يقول: الإسناد صحيح؛ لأن الرواة ثقات والسند متصل، ويقول: حديث صحيح؛ وقال رسته: قام ابن مهدي من المجلس وتبعه الناس، فقال: يا قوم! لا تطئوا عقبي، وتمشوا خلفي؛ حدثنا أبو الأشهب عن الحسن قال: قال عمران: خفق النعال خلف الأحمق قل ما يبقي من دينه. وهذا من تواضعه. وقال رسته: سألت ابن مهدي عن الرجل يتمنى الموت مخافة الفتنة على دينه، قال: ما أرى بذلك بأساً، لكن لا يتمناه من ضر به أو فاقة. يعني: أن الإنسان لو خاف على دينه فله أن يتمنى الموت، ولكن لو أصابه فقر أو مرض لا يتمنى الموت؛ لأنه قد يكون كالمستجير من الرمضاء بالنار، فلا يدري كيف يكون حاله في القبر وفي الآخرة، فأهل الدين لا يتمنون الموت إلا إذا أصابهم ضرر في الدين، كأن يخافوا على أنفسهم من الفتنة، كما في حديث: (وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون)، ولكن أهل الدنيا قد يتمنون الموت لضر أصابهم في الدنيا، وقد جاء في الحديث: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به -يعني: أصابه- ولكن ليقل: اللهم أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)، وقد تمنى الموت أبو بكر وعمر ومن دونهما.

وفاة ابن مهدي

وفاة ابن مهدي وفاته رحمه الله: قال الذهبي: توفي ابن مهدي بالبصرة في جمادى الآخرة سنة (198هـ). وقد ولد عام (135 هـ)، فيكون عمره 63 سنة. وقال الخطيب البغدادي: ومات عبد الرحمن بن مهدي سنة 198هـ وهو ابن 63 سنة. وقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم وعمره 63 سنة، وكذلك أبو بكر، وكذلك الإمام أحمد كما ذكر. وعن أحمد بن سفيان قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي سئل عن سنه سنة 95هـ، فقال: هذه السنة تتم لي ستين، ومات عبد الرحمن في رجب سنة 98هـ وهو ابن 63 سنة. رحمه الله عز وجل رحمة واسعة. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الإمام وكيع بن الجراح

سلسلة من أعلام السلف_الإمام وكيع بن الجراح وكيع بن الجراح علم من أعلام أتباع التابعين في الحفظ والعلم والعبادة والزهد، كان متبعاً للسنة معتقداً لما عليه أهلها، أثنى عليه علماء عصره، وشهدوا له بالعلم والحفظ والديانة، وبلغ شأن الكبار، فرحمنا الله وإياه رحمة الأبرار.

مقتطفات من حياة وكيع بن الجراح

مقتطفات من حياة وكيع بن الجراح

اسمه ومولده

اسمه ومولده إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. أما بعد: فما زلنا -بحمد الله- سعداء في صحبة أعلام السلف رضي الله عنهم، فنحن هنا مع إمام من أئمة الكوفة، راوية سفيان الثوري، وهو وكيع بن الجراح رحمه الله. اسمه: وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي أبو سفيان الكوفي، من قيس عيلان. مولده: ولد سنة 129هـ. وقال أحمد بن حنبل، وخليفة، وهارون بن حاتم: ولد سنة 128هـ. وروي عنه أنه قال: ولدت بـ (أبه) قرية من قرى أصفهان.

صفته

صفته قال الشاذكوني: قال لنا أبو نعيم يوماً: ما دام هذا التنين حياً لا يفلح أحد معه. قال الذهبي: كان وكيع أسمر ضخماً سميناً. وقال أبو داود: كان أعور. قال سعيد بن منصور: قدم وكيع مكة وكان سميناً، فقال له الفضيل بن عياض: ما هذا السمن وأنت راهب العراق؟! قال: هذا من فرحي بالإسلام. وعن أبي جعفر الجمال قال: أتينا وكيعاً فخرج بعد ساعة وعليه ثياب مغسولة، فلما بصرنا به فزعنا من النور الذي رأيناه يتلألأ من وجهه، فقال رجل بجنبي: أهذا ملك؟! فتعجبنا من ذلك النور.

ثناء العلماء عليه

ثناء العلماء عليه قال محمد بن سعد: كان ثقة مأموناً عالماً رفيعاً كثير الحديث، حجة. وقال: كان ضبط وكيع ضبط صدر وليس ضبط كتاب -يعني: كان يحفظ الأحاديث التي يحدث بها- وكان ربما استند إلى سارية وحدث بسبعمائة حديث. عن يحيى بن يمان قال: نظر سفيان إلى عيني وكيع فقال: أترون هذا الرؤاسي لا يموت حتى يكون له شأن. وقيل: كان وكيع أحفظ من سفيان. قال يحيى بن يمان: مات سفيان الثوري فجلس وكيع بن الجراح في موضعه. وعن القعنبي قال: كنا عند حماد بن زيد، وكان عنده وكيع، فلما قام قالوا: هذا راوية سفيان، فقال: -هذا إن شئتم- أرجح من سفيان، وكما قلنا: إن سفيان كان أحفظ لحديث الأعمش من الأعمش. وعن أحمد بن أبي الحوري قال: سمعت مروان يقول: ما وصف لي أحد إلا رأيته دون الصفة، إلا وكيع فإنه فوق ما وصف لي. وعن يحيى بن معين قال: والله ما رأيت أحداً يحدث لله غير وكيع، وما رأيت رجلاً أحفظ من وكيع، ووكيع في زمانه كـ الأوزاعي في زمانه. وعن جرير الرازي قال: قدم ابن المبارك فقلت له: يا أبا عبد الرحمن! من خلفت في العراق؟ قال: وكيع. قلت: ثم من؟ قال: ثم وكيع. وقال محمد بن عامر المصيصي: سألت أحمد: وكيع أحب إليك أو يحيى بن سعيد؟ والمقارنة تكون بين اثنين من طبقة واحدة، وكان يحيى بن سعيد القطان في طبقة وكيع، وهو المقصود هنا، أما يحيى بن سعيد الأنصاري فهو من طبقة الأعمش والزهري، أي: من صغار التابعين. قال: سألت أحمد: وكيع أحب إليك أو يحيى بن سعيد؟ قال: وكيع. فقلت: كيف فضلته على يحيى ويحيى ومكانه من العلم والحفظ والإتقان ما قد علمت؟! قال: وكيع كان صديقاً لـ حفص بن غياث، فلما ولي القضاء هجره، وإن يحيى كان صديقاً لـ معاذ بن معاذ، فلما ولي القضاء لم يهجره يحيى. وعن عبد الرزاق قال: رأيت الثوري، وابن عيينة، ومعمراً، ومالكاً ورأيت ورأيت، فما رأت عيناي مثل وكيع. فقد قارنه عبد الرزاق برجال من الطبقة التي فوقه وهم أئمة من كبار أتباع التابعين. فهذه القمم الشامخة يجهلها كثير من طلاب العلم فضلاً عن عوام الناس، وقد قلنا: إن من فوائد دراسة هذه التراجم أن نتعرف على هؤلاء الأعلام حتى نتقرب إلى الله عز وجل بحبهم. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: كان وكيع حافظاً حافظاً ما رأيت مثله. والإمام أحمد في الطبقة التي تلي طبقة وكيع. وقال بشر بن موسى: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ما رأيت قط مثل وكيع في العلم والحفظ والإسناد والأبواب مع خشوع وورع. قال الذهبي: يقول هذا أحمد مع تحريه وورعه، وقد شاهد الكبار مثل هشيم، وابن عيينة، ويحيى القطان، وأبي يوسف القاضي وأمثالهم. وقال الترمذي: سمعت أحمد بن الحسن يقول: سئل أحمد بن حنبل عن وكيع وابن مهدي، فقال: وكيع أكبر في القلب، وعبد الرحمن إمام. وهذا من أدب الإمام أحمد، فإنه لو قال مثلاً: وكيع أفضل لأوهم هذا أن عبد الرحمن بن مهدي دونه أو ليس بشيء، فزكاه أيضاً بقوله: وعبد الرحمن إمام. وعن جرير قال: جاءني ابن المبارك فقلت له: يا أبا عبد الرحمن! من رجل الكوفة اليوم؟ فسكت عني، ثم قال: رجل المصرين وكيع، والمصران: الكوفة والبصرة. وقال عباس الدوري: ذكرت أحمد بن حنبل بحديث من حديث شعبة، فقال لي: من حدثك بهذا؟ قلت: شبابة بن سوار، قال: لكن حدثني من لم تر عيناك مثله:

عبادته رحمه الله

عبادته رحمه الله عن يحيى بن أكثم قال: صحبت وكيعاً في الحضر والسفر، وكان يصوم الدهر ويختم القرآن كل ليلة، وقد علق الذهبي على ذلك، فالإمام الذهبي مؤرخ حافظ، وهو يعلق على الأخبار، إما أن يزكيها وإما أن يبين ما فيها من مخالفات للسنة أحياناً، فقال: هذه عبادة يخضع لها، ولكنها من مثل إمام من الأئمة الأثرية مفضولة، فقد صح نهيه صلى الله عليه وسلم عن صوم الدهر. وبعض العلماء قال: إن النهي عن صوم الدهر يدخل فيه صيام الأيام كلها مع العيدين وأيام التشريق، فنهي عن صوم الدهر من أجل ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحب الصيام صيام داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً)، فهذا يدل على أن أفضل الصيام أن يصوم الإنسان يوماً ويفطر يوماً. يقول: وصح أنه نهى أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاثة أيام. وبعض العلماء خصص في رمضان أن يختم القرآن في أقل من ثلاثة أيام، وروي أن الإمام الشافعي كان يختم في رمضان ستين ختمة. قال: والدين يسر ومتابعة السنة أولى. وعن يحيى بن أيوب قال: حدثني بعض أصحاب وكيع الذين كانوا يلزمونه: أن وكيعاً كان لا ينام حتى يقرأ جزأه من كل ليلة ثلث القرآن، ثم يقوم من آخر الليل، فيقرأ المفصل، ثم يجلس فيأخذ في الاستغفار حتى يطلع الفجر. وعن أحمد بن سنان قال: رأيت وكيعاً إذا قامت الصلاة ليس يتحرك منه شيء، لا يزول ولا يميل عن رجل دون الأخرى. وعن سفيان بن وكيع قال: كان أبي يجلس لأصحاب الحديث من بكرة إلى ارتفاع النهار من الفجر ثم ينصرف فيقيل، ثم يصلي الظهر ويقصد الطريق منها إلى المشرعة التي يصعد منها أصحاب الروايا، فيريحون نواضحهم -الناضح: الجمل- فيعلمهم من القرآن ما يؤدون به الفرائض إلى حدود العصر. وهذا نوع من التواضع ونوع من التقرب إلى الله، قال: ثم يرجع إلى مسجده فيصلي العصر، ثم يجلس يدرس القرآن ويذكر الله إلى آخر النهار، ثم يدخل منزله فيقدم له الإفطار؛ لأنه كان يصوم الدهر، وكان يفطر على عشرة أرطال من الطعام -أي: أربعة كيلو من الأطعمة تقريباً- ثم تقدم إليه قربة فيها نحو عشرة أرطال من نبيذ، فيشرب منها ما طاب له على طعامه، ثم يجعلها بين يديه، ثم يقوم فيصلي ورده من الليل، كلما صلى شيئاً شرب منها حتى ينفذها، ثم ينام.

حفظه رحمه الله

حفظه رحمه الله عن إبراهيم بن الشماس قال: لو تمنيت أتمنى عقل ابن المبارك وورعه، وزهد ابن الفضيل ورقته، وعبادة وكيع وحفظه، وخشوع عيسى بن يونس، وصبر حسين الجعفي لم يتزوج ولم يدخل في شيء من أمر الدنيا. وعن عبد الله بن أحمد قال: سمعت أبي وذكر وكيعاً فقال: ما رأيت أحداً أوعى للعلم منه ولا أحفظ. وعن بشر بن موسى قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: ما رأيت رجلاً قط مثل وكيع في العلم والحفظ والإسناد والأبواب مع خشوع وورع. وعن علي بن خشرم قال: ما رأيت بيد وكيع كتاباً قط، إنما هو حفظ، فسألته عن أدوية الحفظ فقال: إن علمتك الدواء استعملته؟ قلت: إي والله. قال: ترك المعاصي، ما جربت مثله للحفظ. وعن يحيى بن معين قال: ما رأيت أحفظ من وكيع. وقال أبو حاتم الرازي: وكيع أحفظ من ابن المبارك، وقال إسحاق بن راهويه: حفظي وحفظ ابن المبارك تكلف، وحفظ وكيع أصلي، قام وكيع فاستند وحدث بسبعمائة حديث حفظاً. وعن أبي السائب سلم بن جنادة قال: جالست وكيع بن الجراح سبع سنين، فما رأيته بزق وما رأيته مس -والله- حصاة بيده، وما رأيته جلس مجلسه فتحرك، وما رأيته إلا مستقبل القبلة، وما رأيته يحلف بالله. وعن محمد بن أبي الصباح قال: كان وكيع بن الجراح إذا أراد أن يحدث احتبى، فإذا احتبى سأله أصحابه الحديث، فإذا نزع الحبوة لم يسألوه، وكان إذا حدث استقبل القبلة. وروي عن وكيع: أن رجلاً أغلظ له، فدخل بيتاً فعثر وجهه، ثم خرج إلى الرجل فقال: زد وكيعاً بذنبه، فلولاه ما سلطت عليه، أي: لولا هذا الذنب ما سلط الرجل عليه. وعن سعيد بن عفير قال: أخبرني رجل من أهل هذا الشأن ثقة من أهل المروءة والأدب قال: جاء رجل إلى وكيع بن الجراح فقال له: إني أمت إليك بحرمة، قال: ما حرمتك؟ قال: كنت تكتب من محبرتي في مجلس الأعمش، قال: فوثب وكيع فدخل منزله، فأخرج له صرة فيها دنانير -عملة ذهبية- فقال: اعذرني، فإني ما أملك غير هذا، فأعطى كل ما عنده من المال.

محنته رحمه الله

محنته رحمه الله أما محنة وكيع فكانت محنة عجيبة فيها نوع من الدرس أو الأدب. قال الذهبي: وهي غريبة تورط فيها ولم يرد إلا خيراً، ولكن فاتته سكتة. يقصد الذهبي بالسكتة حديث: (كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع)، فالمقصود: ألا يحدث بهذا الحديث وإن كان سمعه، والحديث في مقدمة صحيح الإمام، قال الذهبي: فليتق عبد ربه، ولا يخافن إلا ذنبه. قال علي بن خشرم: حدثنا وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله البهي: أن أبا بكر الصديق جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته فأكب عليه فقبله، وقال: بأبي وأمي ما أطيب حياتك وميتتك، ثم قال البهي: وكان ترك يوماً وليلة حتى ربا بطنه -يعني: انتفخ بطنه- وانثنت خنصراه، كأنه تغير بالموت. وهذا الحديث منكر ليس بصحيح، أي: فيه راو ضعيف سيئ الحفظ. قال ابن خشرم: فلما حدث وكيع بهذا بمكة اجتمعت قريش وأرادوا صلب وكيع، ونصبوا خشبة لصلبه، فجاء سفيان بن عيينة إمام مكة فقال لهم: الله الله! هذا فقيه أهل العراق وابن فقيههم، وهذا حديث معروف. ولم يقل: هذا حديث صحيح. بل قال: معروف، ولم يقصد بالمعرفة الصحة. قال سفيان: ولم أكن سمعته، إلا أني أردت تخليص وكيع، قال علي بن خشرم: سمعت الحديث من وكيع بعدما أرادوا صلبه، فتعجبت من جسارته، وأخبرت أن وكيعاً أصبح فقال: إن عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عمر قالوا: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد الله أن يريهم آية الموت. فكان هذا تأويل وكيع لهذا الحديث، أن بعض الصحابة من هول المصيبة لم يصدقوا أن النبي صلى الله عليه وسلم مات، حتى قال عمر: إني لأرجو أن يأتي فيقطع أيدي وأرجل رجال يزعمون أن محمداً قد مات. قال الذهبي: هذه زلة عالم، فما لـ وكيع ولهذا الخبر المنكر المنقطع الإسناد، وكادت نفسه أن تذهب غلطاً، والقائمون عليه معذورون بل مأجورون، فإنهم تخيلوا من إشاعة هذا الخبر المردود غضاً ما لمنصب النبوة، وهو في بادئ الرأي يوهم ذلك، ولكن إذا تأملته فلا بأس إن شاء الله بذلك؛ فإن الحي قد يربو جوفه وتسترخي مفاصله، وذلك تفرع من الأمراض، وأشد الناس بلاء الأنبياء، وإنما المحظور أن تجوز عليه تغير سائر موتى الآدميين وأكل الأرض أجسادهم يعني: لا تأكل الأرض أجساد الأنبياء، وإذا كان الشهداء كذلك فالأنبياء من باب الأولى ألا تتغير أجسادهم. قال: وإنما المحظور أن تجوز عليه تغير سائر موتى الآدميين وأكل الأرض أجسادهم، والنبي صلى الله عليه وسلم مفارق لسائر أمته في ذلك، فلا يبلى ولا تأكل الأرض جسده ولا يتغير ريحه، بل هو الآن -وما زال- أطيب من المسك، وهو حي في لحده حياة أكبر من حياة سائر النبيين، وحياتهم -بلا ريب- أتم وأشرف من حياة الشهداء الذين هم بنص الكتاب: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169].

عقيدته رحمه الله تعالى

عقيدته رحمه الله تعالى قال أبو حاتم الرازي: حدثنا أحمد بن حنبل قال: حدثنا وكيع بحديث الكرسي، قال: فاقشعر رجل عند وكيع فغضب وقال: أدركنا الأعمش والثوري يحدثون بهذه الأحاديث لا ينكرونها. وعن يحيى بن يحيى التميمي قال: سمعت وكيعاً يقول: من شك أن القرآن كلام الله -يعني: غير مخلوق- فهو كافر. وقال أحمد بن إبراهيم الدورقي: سمعت وكيعاً يقول: نسلم هذه الأحاديث كما جاءت، ولا نقول: كيف كذا، ولا لم كذا. فآيات وأحاديث الصفات كان منهج السلف فيها إمرارها كما جاءت، وقد أجمع على ذلك أئمة التابعين، استناداً إلى إجماع الصحابة رضي الله عنهم.

درر من أقواله

درر من أقواله عن إبراهيم بن شماس قال: سمعت وكيع بن الجراح يقول: من لم يأخذ أهبة الصلاة قبل وقتها لم يكن وقرها. وقال وكيع: من تهاون بالتكبيرة الأولى فاغسل يديك منه. وعن الفضل بن محمد البيهقي قال: سمعت وكيعاً يقول وقد جاءه رجل يناظره في شيء من أمر المعاش أو الورع، فقال له وكيع: من أين تأكل؟ قال: ميراثاً ورثته عن أبي، قال: من أين هو لأبيك؟ قال: ورثه عن أبيه، قال: من أين هو كان لجدك؟ قال: لا أدري، فقال له وكيع: لو أن رجلاً نذر لا يأكل إلا حلالاً، ولا يلبس إلا حلالاً، ولا يمشي إلا في حلال لقلنا له: اخلع ثيابك وارم بنفسك في الفرات، ولكن لا تجد إلا السعة. ثم قال وكيع: لو أن رجلاً بلغ في ترك الدنيا مثل سلمان وأبي ذر وأبي الدرداء ما قلنا له: إنك زاهد؛ لأن الزهد لا يكون إلا على ترك الحلال المحض، والحلال المحض لا نعرفه اليوم، فالدنيا عندنا حلال وحرام وشبهات، فالحلال حساب والشبهات عتاب، فأنزل الدنيا بمنزلة الميتة، وخذ منها ما يقيمك، فإن كانت حلالاً كنت قد زهدت فيها، وإن كانت حراماً كنت قد أخذت منها ما يقيمك؛ لأنه لا يحل من الميتة إلا قدر ما يقيمك، وإن كانت شبهات كان فيها عتاب يسير. وعن أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت وكيعاً يقول: إنما العاقل من عقل عن الله أمره، وليس من عقل أمر دنياه. وعن عبد الله بن خبيق قال وكيع: هذه بضاعة لا يرتفع فيها إلا صادق. يقصد بضاعة العلم، والله أعلم. وعن علي بن خشرم قال: سمعت وكيعاً يقول: لا يكمل الرجل حتى يكتب عمن هو فوقه وعمن هو مثله وعمن هو دونه. فالرجل قد يستحي حين يجلس إلى أخ يكون أقل منه سناً أو شهرة أو علماً، وهذا ليس من الإخلاص ولا من كمال الرجل، فلا يكمل الرجل حتى يكتب عمن هو فوقه وعمن هو مثله وعمن هو دونه.

شيوخه وتلامذته

شيوخه وتلامذته أما شيوخه: فقد روى عن أبيه وإسماعيل بن أبي خالد، وأيمن بن نابل، وعكرمة بن عمار، وهشام بن عروة، والأعمش، وتوبة أبي صدقة، وجرير بن حازم، وعبد الله بن سعيد بن أبي هند، ومعروف بن خربوذ، وابن عون وغيرهم. وأما تلامذته: فقد روى عنه أبناؤه: سفيان، ومليح، وعبيد ومستمليه محمد بن أبان البلخي، وروى عنه شيخه سفيان الثوري، وأحياناً يروي الشيخ بعض الأحاديث عن بعض تلامذته من أجل أن يرفع شأن تلميذه، كما روى الإمام البخاري حديثاً عن الترمذي، والترمذي من تلامذة البخاري، وكان الترمذي يفرح بذلك ويقول: هذا رواه عني محمد بن إسماعيل. وروى عنه أيضاً عبد الرحمن بن مهدي وهو في نفس الطبقة، وأحمد، وعلي -يعني: ابن المديني - ويحيى -يعني: ابن معين - وإسحاق بن راهويه، وابن أبي شيبة، وأبو حنيفة، والحميدي، والقعنبي، والأشج، وعلي بن خشرم، ومسدد وغيرهم.

وفاته رحمه الله

وفاته رحمه الله قال علي بن عفان: مرض وكيع فدخلنا عليه فقال: إن سفيان أتاني فبشرني بجواره فأنا مبادر إليه. وقال أبو هشام الرفاعي: مات وكيع سنة 197هـ يوم عاشوراء، فدفن بفيد، يعني: راجعاً من الحج. قال أحمد بن حنبل: حج وكيع سنة 197هـ ومات بفيد، قال الذهبي: عاش 68 سنة سوى شهر أو شهرين. فرحمه الله رحمة واسعة وأدخله جنة عالية قطوفها دانية. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه.

§1/1