منهج علماء الحديث والسنة في أصول الدين

مصطفى حلمي

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد ... فقد آثرنا اختيار دراستنا عن علم الكلام - أو أصول الدين - لتوضيح آراء علماء الحديث والسنة وبيان منهجهم، ذلك لأن الدراسات الكلامية التقليدية أولت عنايتها للفرق المنشقة عن أهل القرون الأولى - كالخوارج والشيعة والقدرية والجهمية - كما تعمقت وتوسعت في عرض المذهبين الكبيرين: الاعتزالي والأشعري، ولم تلتفت للنتاج العقلي للمحدثين والفقهاء بالقدر الكافي الذي يسمح بإبراز مواقفهم من أصول الدين ومنهجهم في النقاش والرد على مخالفيهم، مع العلم بأنهم كانوا يستندون إلى أدلة عقلية وبراهين منطقية قائمة على تفسير الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والاسترشاد أيضًا بفهم الأوائل الذين كانوا أكثر علمًا ودراية بأسرار اللغة العربية وأسباب النزول ودقائق العقائد المتصلة بأصول الدين. وفي ضوء هذه الحقيقة، نرى أن طريقة أهل الحديث والسنة تحتاج إلى نظرة إنصاف وتقدير حيث شاعت الفكرة التي تصفهم بأنهم (نصيين) وليسوا (عقليين) ، فضلاً عن أوصاف أخرى تشاع عنهم خطأ كوصفهم بالجمود وما إلى ذلك من صفات شوهت صورهم في أذهان الخاصة والعامة. وكثيرًا ما تروج - مع الأسف - أفكار وتسود أراء مع مجافاتها للحقيقة ومجانبتها الصحة وذلك بسبب ترديدها المتواصل. وساعد على ذلك عوامل ثقافية وتاريخية ومذهبية وسياسية، كلها أدت إلى ترقي الفكرة الشائعة إلى مرتبة تكاد تصل إلى اليقين في دوائر البحث العلمي، سواء على مستوى الجامعات والكليات المتخصصة، أو المهتمين بالدراسات الإسلامية من العلماء والباحثين والمؤرخين وغيرهم، إلا فيما ندر. وقد آن الأوان لإعطاء علماء الحديث والسنة حقهم، لا أقول من التقدير

فحسب، بل من التبيين والإيضاح. إزاء كل هذه العوامل، رأينا أن المسؤولية العلمية تقتضي منا إلقاء الضوء على منهج هؤلاء، وبيان الطابع العقلي بحيث يجعلهم في صفوف نظَّار المسلمين الأصليين وإنه وفقًا لاتباع مناهج المتكلمين أصحاب النظر العقلي، يمكننا وضع علماء السنة والحديث الذين خاضوا في قضايا علم الكلام في الصفوف الأولى. وكان مثار اهتمامنا بهذا الاتجاه، هو وقوفنا على سمات بارزة تربط بين هؤلاء العلماء الذين لا ينتمون إلى الدوائر الكلامية بمدارسها المعروفة، ذلك أن من يتتبع الحركات الفكرية المناوئة للفرق المنشقة منذ ظهورها، يعثر - كما فَعلْنا - على ملامح عناصر ثابتة لتيار إسلامي أصيل يعبر عن غالبية عقائد المسلمين، ظلوا يعارضون منذ البداية كافة الانشقاقات التي خالفت الأصول الإسلامية. وكان من سمات منهجنا تتبع الآثار الأولى حيث نلحظ المعارضة الشديدة لأية بادرة للخروج عن الصف الأول المتماسك الذي تركه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المحجة البيضاء، وكان يجابه بعلاج حاسم، وربما يعد من المفيد الاستشهاد على بعض هذه الملامح المشهورة تاريخيًا: كما حدث في حرب الردة إذ حاول بعض المسلمين الامتناع عن دفع الزكاة فكان موقف أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - المعروف، الذي استند فيه إلى قاعدة إيمانية نظر منها إلى شمول الدائرة الإسلامية التي لا تفرق بين الصلاة والزكاة، فتحرك بدافع هذا الفهم الواضح، ورأى أن أي انفراط يعني تخلخل الأساس واهتزازه وضياع المعالم للإسلام. وفي أيام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - نرى واقعة زجره لصبيغ عندما سأل عن الآيات المتشابهات فنهاه عن الخوض فيما لا طائل وراءه وثبت بعد ذلك صدق إلهام عمر. وفي خلافة عثمان - رضي الله عنه -، عندما ظهرت الفتن بأيدي محركيها، كان الخليفة الثالث يناقش بالحجج والأدلة آراء دعاة الفتنة ويدحضها، ولكنهم كانوا قد ركبوا رؤوسهم وبيتوا أمرًا بليل، فعبروا بجريمتهم على أنهم لم يكونوا طلاب حق وعدل، بل دعاة تفرقة وأدوات فتن كيدت للإسلام من وراء الستار. كذلك وقف علي بن أبي طالب وابن عباس - رضي الله عنهما - وعمر بن عبد العزيز وغيرهم كما تروي لنا المصادر التاريخية لمناقشة الخوارج بالأدلة العقلية المستمدة من الكتاب والسنة.

وظل هذا الاتجاه سائرًا في طريقه لمواجهة ما ظهر من الفرق، ففي مواجهة الخوارج والشيعة والقدرية والجهمية وقف عشرات العلماء لمقارعة الحجة وتقديم الأدلة والبراهين على انحرافاتهم، ونعني بهم أمثال الحسن البصري وسعيد بن المسيب والأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ووقائع وقوف كل من الشافعي والدارمي لمعارضة بشر المريسي معروفة مشهورة بكتب التاريخ والملل والنحل، كذلك تحدي الإمام أحمد بن حنبل لكل من المأمون والمعتصم والواثق في مسألة (خلق القرآن) ، إلى جانب أتباعه الذين ظلوا محافظين على منهجه لمواجهة المنهج الأشعري، بل إننا نرى موقف الأشعري نفسه إمام المذهب - في كتابه (الإبانة) ، (ومقالات الإسلاميين) - معبرًا عن الاتجاه السلفي العام في أصول الدين، حيث وجد فيه المنهج الصحيح الذي يستطيع به مواجهة منهج الكلام الاعتزالي الذي بلغ ذروته في عصر المأمون (215 هـ) ثم المعتصم ثم الواثق (227 هـ - 232 هـ) . وأثناء فترة حالكة في تاريخ الحضارة الإسلامية ظهر شيخ الإسلام ابن تيمية (661 - 728 هـ) ليستجمع مؤلفات علماء السنة والحديث قبله، ويظهرها في قالب (كلامي) يدحض به كافة الآراء حوله بعد أن تضخمت واستفحل أمرها، فكانت موَاقِفه الكلامية الحاسمة إزاء كل الفرق والمذاهب التي جعلت منه علامة بارزة على منهج علماء الحديث والسنة يستضاء بها في ظلمات الغربة واليأس، وسنرى في هذا الكتاب كيف وفق شيخ الإسلام إلى استنتاج طرق الاستدلالات العقلية من القرآن الكريم، مثل (الميزان القرآني) و (الآيات) و (اللزوم) و (قياس الأولى) و (أدلة الكمال) . هذا ما رأينا بحثه ودراسته. أما تكرار الحديث عن علم الكلام لمباحثه المعروفة في دوائر الفرق والمعتزلة والأشاعرة، مع انحياز لمذاهبهم الكلامية، فلن يخدم الحقيقة التي نسعى لمعرفتها في مجال البحث العلمي، لأن تجاهل غالبية علماء المسلمين في القرون الأولى - مع جلالة قدرهم ومكانتهم الدينية والعملية، ومن اتبع نفسه منهجهم - أو عرض آرائهم من وجهة نظر خصومهم بغير إنصاف، كل هذا يتنافى مع ما نتوخاه من معرفة الحقيقة - لا سيما إنَّ علماء الكلام عنوا بأصول الدين، لا بفروعه، ولكن المناهج السائدة عكست الآية، ذلك أن أغلب الدارسين اكتفوا بكتب علماء الكلام المتأخرين المشوبة

بكثير من الأنظار الغريبة الدخيلة وآراء عهد انحدار الحضارة الإسلامية، مع المنهج العلمي التاريخي الصحيح الذي يقتضي أن نرجع إلى الأصول الأولى قبل كل شيء (1) . وقد التزمنا باتباع هذا المنهج المعبر عن أصول حضارتنا أيام ذروتها، فكانت خطتنا البدء بالنظر في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته والتابعين، ثم التدرج لبحث ظهور الفرق وأسبابه، مع انتفاء بعض المناقشات التي دارت بين علماء الحديث والمعتزلة، كعبد العزيز المكي وبشر المريسي، والإمام أحمد والقاضي ابن أبي دؤاد. وتابعنا هذه الخطة فعرضنا لمذهب الأشاعرة ونقده من وجهة نظر علماء الحديث والسنة - لا سيما رأي ابن تيمية. كذلك خصصنا بابًا للحديث عن موقف ابن تيمية من القضايا الكلامية. وفي النهاية رأينا ضرورة عرض نبذة عن الفكر الإسلامي المعاصر. ولم يغب عن ذهننا أن موضوع الكتاب له وجهان: الأول - تاريخي ربما قد خمد بسببه الانفعال الذي كان مشتعلاً بين طيات السطور في الكتب الكلامية. ولكن بقيت المسائل موضوعيًا نابضة بالحياة إلى وقتنا الحاضر، لأنه ما من مسلم يقرأ القرآن ويطالع كتب الحديث إلا وتدور في ذهنه أوجه التفسير والتأويل، والتأمل في قضايا أصول الدين، من كلام عن الله تعالى ذاتًا وصفاتًا وأمور الغيب الأخرى، كقيام الساعة والحساب والعقاب والجنة والنار وأفعال العباد والإيمان بالقضاء والقدر وغيرها. ونرى أن خير عون - بعد توفيق الله تعالى - هو الاستضاءة بالفهم والتدبر بفهم علماء السنة وتدبرهم والاستناد إلى حججهم الشرعية العقلية، فإنها شرعية لأنها مستمدة من الشرع، وعقلية لأنها تتفق مع أدلة العقل الصحيحة. الثاني - الجانب المعاصر في الفكر الإسلامي المتجه إلى مقاومة الغزو الفكري للحضارة الغربية، فما لم نستكمل الدراسة بإلقاء النظر إلى الفكر الإسلامي المعاصر فإن الدراسة بذلك تصبح مبتورة، ولا تفيد القارئ الذي يريد فهم ما يدور حوله،

_ (1) مقدمة كتاب (عقائد السلف) تحقيق وتقديم أستاذنا الدكتور علي سامي النَّشَّار- رحمه الله تعالى - ود. عمار الطالبي - منشأة المعارف بالإسكندرية 1970 م.

لتعينه على التمييز بين الصواب والخطأ. لذلك رأينا إعطاء فكرة عن ملامح المشكلات الكلامية في عصرنا الحاضر مع اختلافها عما أثير في القرون الماضية. ونقرر عن ثقة واقتناع، بأن طريقة القرآن الكريم التي أجلاها وأظهرها علماء السنة هي الطريقة الثابتة الصحيحة على أمد الدهر، ولا تهز ثقتنا بهذا الأصل ما نراه حولنا من تطورات علمية وتكنولوجية بهرت العقول والقلوب، ذلك لأن المعلومات العلمية مهما ازدادت وتشعبت وتفرعت، فإنها لا تناقض ولا تعارض سنن الله تعالى في الكون والآفاق، فبقدر ما يهب الله عباده العلماء من القدرات والوسائل المتطورة لاكتشاف أبعاد أكبر في الآفاق أو أبعاد أعمق في النفس البشرية، بقدر ما تتأكد لهم ثبات السنن الإلهية. وقد مهد الطريق لهذا المنهج كثير من العلماء المتخصصين ذوي الكفايات الممتازة في مجالات تخصصهم، فإن أصبنا الغرض فذلك بتوفيق من الله تعالى، وإن أخطأنا فمن أنفسنا والشيطان، والخير أردنا وما توفيقي إلا بالله العلي القدير. مصطفى حلمي الإسكندرية في 3 ذو الحجة سنة 1402 هـ 20 سبتمبر سنة 1982 م

الباب الأول

الباب الأول الفصل الأول: عصر الصحابة رضي الله عنهم - أصول الدين في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة. - رد الرسول - صلى الله عليه وسلم - على وفد نجران. - القرآن كلام الله تعالى. - الإيمان بالقدر وفهمه على الوجه الصحيح. - الملائكة.

عصر الصحابة رضي الله عنهم ظلت أغلب دراسات المحدثين في الإسلاميات التي تحوم حول علم الكلام في نشأته وتطوره تعتمد على كتب المتكلمين أنفسهم من المعتزلة والأشاعرة في الغالب، فلا تكاد تعثر على دراسة عن المسلمين الأوائل ومناهجهم الشرعية العقلية في الاستدلال على أصول الدين. ونلحظ أن أغلب البحوث المعاصرة تعتمد على آراء المستشرقين الذين يهتمون عادة بالفرق المنشقة عن أهل السنة والجماعة، والاهتمام بإيجاد الصلات بين معتقدات الفرق والمصادر الخارجية من عقائد وديانات وفلسفات يونانية وفارسية ونحوها. وكثيرًا ما تتضخم أبحاثهم بالمسائل الخلافية والعناية بالفرق الغالية، وتصور التاريخ الإسلامي من خلال الخلافات والانشقاقات، فتختفي الحقيقة تحت أكوام من الجدل والخلاف بحيث يصعب على القارئ التمييز بين الحق والباطل. ومثل هذا المنهج - فضلا عن النتائج المغرضة التي يراد الوصول إليها فإنه يتجاهل حقيقة بارزة لا يمكن إخفاؤها، ألا وهي أن آراء الفرق المنشقة قد حوصرت منذ ظهورها بواسطة علماء الحديث والسنة، ورفضتها الغالبية من أهل السنة والجماعة التي ظلت مستمسكة بالعقيدة الصحيحة المتلقاة بالقبول والفهم منذ عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته. لهذا، رأينا - مستعينين بالله سبحانه وتعالى - إجلاء المنهج المتبع بواسطة علماء الحديث والسنة، وكانت أولى خطواتنا البدء بعصر الصحابة لاستقراء الاتجاهات الدالة على ألوان من النظر العقلي قبل أن يظهر أهل الكلام وقبل أن ينشق الصف الإسلامي إلى فرق ومذاهب متطاحنة، لنحاول أن نقف على تفسيرات أصحاب الصدر الأول للآيات القرآنية والأحاديث النبوية المتصلة ما سماه المتكلمون بـ (أصول الدين) والتي لم توضع في الصيغ الكلامية أو الأنساق الفلسفية خلال العصور المبكرة التي نتحدث عنها، ولكن الذي حدث هو أنه كلما تفتقت مسألة، أو حدث انشقاق طارئ مستحدث، قام لها من يتصدى بالتفسير والتوضيح، أو النهي والزجر إذا كان من قبل

أصول الدين في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة

البدع المنهي عنها. ثم ظهر على مر الأعصار المتكلمون في الفرق المختلفة فصاغوا كل هذا الكلام وشرحوه في أبواب وفصول نقلته إلينا مصادرهم، وجاء الباحثون لمحاولة استقصاء هذه المسائل في صيغها التقليدية بعينها، فلم يعثروا لها على أثر، فظنوا أن الصحابة لم يعرفوها، ولم يتطرقوا إليها، بينما الحق أنهم عرفوها وفهموا دقائقها، كما ينبغي أن تفهم وتعرف. ولا شك أن الأدلة تدعم اتجاهنا في اتخاذ عصر الصحابة نقطة البدء في البحث؛ لأن دراسة التاريخ الإسلامي ترشدنا إلى معرفة أسبقية الأوائل في العلم والعمل، في العقيدة والسلوك. وسنتخذ هذا المنهج في البحث لمحاولة شجب النتائج التي توصل إليها أمثال جولد تسيهر وغيره من المستشرقين الذين يطبقون على الإسلام - في العقائد والعبادات - آثار فكرة التطور، فيتصورون أنه بدأ بسيطًا ثم تطور على يد المسلمين فكانت أكبر زلاتهم. ولما كانوا غير مسلمين معنا بالدليل القطعي الثابت في قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة، الآية: 3] فإن استقراء الأحداث بأناة وصبر وجهد - مع توافر الصدق وحسن الطوية - ليثبت أن الإسلام في حياة الرسول اكتمل في عقائده وعباداته وأخلاقه وأحكامه ونصوصه وقواعده وأن الرسول صلوات الله عليه انتقل إلى الرفيق الأعلى، وترك الإسلام على هذا النحو وأن المسلمين من القرن الأول يرفضون من أي مخلوق، ومن أي جماعة، أن يضعوا في هذا الدين جديدًا إلى يوم الناس هذا، ويعتبرون أي تزيد على هذا الدين بدعة تحارب. وسنحاول على قدر الاستطاعة، وبقدر ما تسمح به هذه الدراسة، الالتفات إلى عصر الصحابة والتابعين للبحث عن مواقفهم إزاء المسائل التي أثارها المتكلمون في العصور التالية. أصول الدين في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة: تتعدد المواقف التي توضح اتجاه الصحابة في تلقي الآيات القرآنية والنظر إليها، فإذا بدأنا في دراسة تلك المواقف لمنهج استقرائي، استطعنا الوقوف على استنباطهم

للنصوص الشرعية من الكتاب والسنة، فيتضح لنا كيف بدأ التنازع، وأسباب حدوث الانشقاقات عن القواعد الإسلامية بعدهم. وكيف جوبهت الفرق المنشقة عن صف الجماعة، كالخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية وغيرها، وظل علماء السلف من أهل الحديث والسنة يحملون على أعناقهم هذه المهمة يفندون مزاعم المنشقين، موضحين أسباب انحرافاتهم، مبينين القواعد الإسلامية الصحيحة المتلقاة عن الأوائل. وتجتمع عناصر بحثنا في رأينا من قواعد عامة تجمع مواقف الصحابة منها أنهم تكلموا في أصول الدين جميعًا، كما أنهم يتفقون في المنهج فيفسرون بالقرآن مستندين إلى طرق الاستدلالات العقلية التي أشار إليها وحض على استخدامها. ونستطيع أن نستدل من الأحداث التاريخية على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - شرح لهم الأصول الإسلامية كلها أو ما يسميه المتكلمون بـ (أصول الدين) ، والأمثلة كثيرة نقتطف بعضًا منها فيما يلي: بدء الخلق: روى مسلم في صحيحه في باب الإيمان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يزال الناس يسألونك عن العلم حتى يقولوا هذا الله خلقنا فمن خلق الله؟ " قال أبو هريرة جاءني ناس من الأعراب فقالوا: يا أبا هريرة هذا الله خلقنا فمن خلق الله؟ فأخذ حصى بكفه فرماهم به ثم قال: قوموا صدق خليلي - صلى الله عليه وسلم - وهناك عدة روايات لمسلم بهذا المعنى، جاء في إحداها قول الرسول صلوات الله عليه: "فمن وجد من ذلك شيئًا فليقل آمنت بالله " وقوله: "فمن بلغ ذلك فليستعذ بالله " فأرجع الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا السؤال إلى وسوسة الشيطان. وروى البخاري في صحيحه في كتاب (بدء الخلق) عن عمران بن حصين قال: دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعقلت ناقتي بالباب، فأتاه ناس من بني تميم فقال: اقبلوا البشرى يا بني تميم. قالوا: قد بشرتنا فأعطنا مرتين، ثم دخل ناس من أهل اليمن فقال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم. قالوا: قد قبلنا يا رسول الله: قالوا: جئناك نسألك عن أول هذا الأمر. قال: (كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء وخلق

رد الرسول - صلى الله عليه وسلم - على وفد نجران

السموات والأرض.. ") . وسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فانزل الله تعالى هذه الآية: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) [البقرة، الآية: 186] (1) . رد الرسول - صلى الله عليه وسلم - على وفد نجران: تروي لنا كتب التاريخ قصة المباهلة المشهورة بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - ووفد نجران، نختار منها المناقشة الدائرية بينه وبينهم، وكان عمادها الجدل بالتي هي أحسن. وقد أورد الطبري في تفسيره أن النصارى أتوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخاصموه في عيسى ابن مريم، وقالوا له: من أبوه؟ وقالوا على الله الكذب والبهتان لا إله إلا هو لم يتخذ صاحبة ولا ولدا. فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه) ؟ قالوا: نعم. قال: فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء. قال: ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه. قالوا: بلى. قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئًا؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟ قالوا: بلى. قال: فهل يعلم عيسى من ذلك شيئًا إلا ما علم؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث؟ قالوا: بلى.

_ (1) تفسير ابن كثير ج 1 ص 2 يقول ابن تيمية: وقصّتهم مشهورة متواترة نقلها أهل السير، وأهل التفسير، وأهل الحديث وأهل الفقه وأصل حديثهم معروف.

القرآن كلام الله تعالى

قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غذي كما يتغذى الصبي ثم كان يطعم ويشرب الشراب ويحدث الحدث؟ قالوا: بلى. قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ قال: فعرفوا ثم أبوا إلا جحودًا. فأنزل الله تعالى: (الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [آل عمران، الآيتان: 1، 2] (1) . القرآن كلام الله تعالى: قبل إثارة محنة خلق القرآن قد لا نعثر في المصادر التاريخية على روايات تشرح موقف الصحابة بنفس الطريقة التي تقابلنا بكتب الفرق أثناء مناقشة بعضها البعض، كالمعتزلة والأشاعرة، أو المعتزلة والسلف، ولكن مع هذا، نستطيع لمح آراء متناثرة تفيدنا في التوصل إلى معرفة موقف الصحابة بما ورد على ألسنة أئمتهم كعلي وابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهم -، وأقوالهم حجة. ومن المعروف تاريخيًا أن أول من قال بأن القرآن مخلوق الجعد بن درهم من سني نيف وعشرين ومائة بعد الهجرة ثم الجهم بن صفوان. ولكن الثابت عن هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم أنهم قالوا: إن القرآن كلام الله، صحيح لم يرد لفظ غير مخلوق، لأن المشكلة ظهرت بعدهم واستخدم المتكلمون هذه الألفاظ ولكن استقراء النصوص الواردة عنهم تفيد ذلك، فقد اعترض الخوارج - كما هو معروف - عليًا بن أبي طالب لأنه حكم الحكمين وقالوا له: (حكمت رجلين قال: ما حكمت مخلوقًا إنما حكمت القرآن) وفي إجابته أنه ما حكم إلا القرآن نفي لهذا الخلق عنه. وأيضا قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: (من حلف بالقرآن فعليه بكل آية يمين، ومن كفر بحرف منه فقد كفر به أجمع) (2) .

_ (1) الواحدي: أسباب النزول ص 61/62 ط مؤسسة الحلبي 1388 هـ- 1968 م. (2) ابن تيمية الفتاوى الكبرى، تحقيق حسين محمد مخلوف ج 5 ص 56.

الإيمان بالقدر وفهمه على الوجه الصحيح

وأما قول ابن عباس رضي الله عنهما، قد كان مرة في جنازة فلما وضع الميت في لحده قام رجل فقال: اللهم رب القرآن اغفر له، فوثب إليه ابن عباس فقال: القرآن منه وفي رواية أخرى (القرآن كلام الله وليس بمربوب منه خرج وإليه يعود) . الإيمان بالقدر وفهمه على الوجه الصحيح: وفي الإيمان بالقدر الذي تنازع فيه المسلمون فيما بعد رأينا كيف كان أبو بكر - رضي الله عنه - مصيبًا حين يقول: أقول برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان فهذا القول يدل على تأييده لحقيقة المسؤولية الأخلاقية ونفي الجبر، كما عزر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من ادعى أن سرقته كانت بقضاء الله، فلما سأله فقال: قضى الله علي، فأمر بقطع يده وضربه أسواطًا، فلما استفسروا من عمر عن سبب هذا التعزير (1) فأجاب: القطع للسرقة، والجلد لما كذب على الله. ولما قال محاصرو عثمان - رضي الله عنه - حين رموه: الله يرميك. قال: كذبتم لو رماني ما أخطأني. وهناك توضيح أيضًا على لسان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - شارحًا الفرق بين قضاء الله تعالى وأمره، قد سأله شيخ عند انصرافه من صفين أكان المسير بقضاء الله وقدره؟ فأجابه علي رضوان الله عليه: والذي خلق الحبة وبرأ النسمة، ما هبطنا واديا ولا علونا قلعة إلا بقضاء وقدر، ففهم الشيخ خطأ أن عليًا يفسر ما حدث بالجبر لذلك أسرع علي فأفهمه معنى الإيمان بالقدر على حقيقته، وأنه لا يتنافى مع حرية إرادة الإنسان ومسؤوليته عن أفعاله، فقال له: لعلك تظن قضاء واجبًا وقدرًا حتمًا، لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب وسقط الوعد والوعيد، ولما كانت تأتي من الله لائمة لمذنب ولا محمدة لمحسن، ولا كان المحسن بثواب الإحسان أولى من المسيء، ولا المسيء بعقوبة الذنب أولى من المحسن.. ثم أردف قائلاً: (إن الله تعالى أمر تخييرًا، ونهى تحذيرًا، ولم يكلف مجبرًا، ولا بعث الأنبياء عبثًا) (2) .

_ (1) التعزير: التأديب دون الحد. (2) القاضي عبد الجبار (فرق طبقات المعتزلة) ص 24 ط دار المطوعات الجامعية بالإسكندرية تحقيق د. النشار وعصام الدين محمد علي.

الملائكة

ويسوق لنا التاريخ أيضًا ما فهمه عمر بن الخطاب وابنه رضي الله عنهما وتمييزهما الدقيق بين العلم الإلهي المسبق المحيط بكل شيء وبين أفعال الإنسان التي يؤديها بحريته وإرادته. وللقارئ هذا المثل الذي يضربه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في شرح الصلة بين العلم الإلهي والفعل الإنساني قال: (مثل علم الله فيكم كمثل السماء التي أظلتكم، والأرض التي أقلتكم، فكما لا تستطيعون الخروج من السماء والأرض، كذلك لا تستطيعون الخروج من علم الله، كما لا تحملكم السماء والأرض على الذنوب، كذلك لا يحملكم علم الله على ما تم) . وبسؤال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن حالة بعض الناس الذي يزنون ويشربون الخمر ويسرقون ويقتلون النفس زاعمين أن ذلك كان في علم الله تعالى، فغضب ثم قال: (سبحان الله العظيم، قد كان ذلك في علمه أنهم يفعلونها، ولم يحملهم علم الله على فعلها) (1) . والإجابة توضح نفسها ولا تحتاج إلى مزيد، فإن علم الله تعالى المحيط بكل شيء - لأنه سبحانه بكل شيء عليم - صفة من صفات الكمال، والعلم الإلهي بما حدث ويحدث وسيحدث لا يحمل العباد على أفعالهم. الملائكة: قال جماعة من المفسرين: كان لعمر أرض بأعلى المدينة فكان يأتيها، وكان طريقه على موضع مدارسة اليهود، وكان كلما مر دخل عليهم فسمع منهم وأنه دخل عليهم ذات يوم فقالوا: يا عمر ما من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أحد أحب إلينا منك، إنهم يمرون بنا فيؤذوننا وتمر بنا فلا تؤذينا، وإنا لنطمع فيك، فقال لهم عمر: أي يمين فيكم أعظم؟ قالوا: الرحمن قال: فبالرحمن الذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء أتجدون محمدًا عندكم نبيًا؟ فسكتوا فقال: تكلموا ما شأنكم والله ما سألتكم وأنا شاكٌّ في شيء من ديني، فنظر بعضهم لبعض، فقام رجل منهم فقال: أخبروا الرجل أو لأخبرنه، قالوا: نعم إنا نجده مكتوبًا عندنا، ولكن صاحبه من الملائكة الذي يأتيه

_ (1) نفس المصدر ص 26.

بالوحي هو جبريل، وجبريل عدونا وهو صاحب كل عذاب وقتل وخسف، ولو أنه كان وليه ميكائيل لآمنا به. فإن ميكائيل صاحب كل رحمة وكل غيث قال لهم: فأنشدكم بالرحمن الذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء أين ميكائيل وأين جبريل من الله؟ قالوا جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره، قال عمر: فأشهد أن الذي هو عدو للذي عن يمينه هو عدو للذي عن يساره والذي هو عدو للذي عن يساره هو عدو للذي عن يمينه وأن من كان عدوًا لهما فإنه عدو لله. ثم رجع عمر ليخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجد جبريل قد سبقه بالوحي فدعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقرأ عليه: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ) [البقرة، الآيتان: 97، 98] فقال عمر: والذي بعثك بالحق لقد جئت وما أريد إلا أن أخبرك (1) .

_ (1) الحافظ ابن عبد البر (463 هـ) جامع بيان العلم وفضله ج 2 ص 123، 124.

الفصل الثاني: مكانة الصحابة - رضي الله عنهم - في الأمة

الفصل الثاني: مكانة الصحابة - رضي الله عنهم - في الأمة - منهج الصحابة في النظر والتدبر. - الأدلة النقلية والعقلية على فضل الصحابة. أولا: الأدلة النقلية. ثانيًا: الدليل العقلي.

مكانة الصحابة - رضي الله عنه - في الأمة تخبرنا كتب التاريخ وصحائفه عن اكتمال الفهم والمعرفة لأصول الدين جميعًا لدى الصحابة - رضي الله عنهم - وكان ذلك بفضل طاعتهم للآيات القرآنية التي حثتهم على التدبر في غير موضع، مثل قوله تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ [ص، الآية: 29] وعلى العكس وصف الكفار والمنافقين بالإعراض عن تدبره في مثل قوله تعالى عز وجل: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) [النساء، الآية: 82] ومعنى ذلك أن معانيه مما يمكن للكفار والمنافقين فهمها ومعرفتها فهي إذن ممكنة للمؤمنين أيضًا، ويدل على أن معانيه كانت معروفة بينة لهم. وأيضًا فإن الله عز وجل بين أنه أنزل القرآن عربيًا لكي يعقلوه: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [يوسف، الآية: 2] والعقل لا يكون إلا مع العلم بمعانيه، وذم من لا يفقهه: (فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) [النساء، الآية: 78] فلو كان المؤمنون غير عاقلين لاصطفوا في صف واحد مع المنافقين والكفار الذين ضرب لهم مثلاً بقوله تعالى: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) [البقرة، الآية: 171] فكيف إذن يمكن وضع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار بمنزلة الكفار الذين ذمهم الله في أكثر من موضع لأنهم أعرضوا عن تدبر القرآن واتبعوا أهواءهم، فقال تعالى في وصفهم: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ) [محمد، الآية: 16] (1) . ويضيف شيخ الإسلام ابن تيمية إلى كل هذه الأدلة، ما ثبت عن كل واحد من أصحاب ابن مسعود وابن عباس أنه نقل عنهما من التفسير ما لا يحصيه إلا الله فقد قال ابن مسعود: "لو أعلم أحدًا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لأتيته". وجاء التابعون فتعلموا التفسير من الصحابة، قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره، أقف عند كل آية وأسأله عنها؛ لهذا قال سفيان

_ (1) ابن تيمية فتاوى ج 5 ص 157 و 159 ط الرياض.

الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به. فالأصل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد يبلغ الرسالة كما أمر ولم يكتم منها شيئًا تنفيذا لقوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل، الآية: 44] وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة، الآية: 67] وقد أخبر الله بأنه قد أكمل الدين، وقال الرسول صلوات الله عليه: "ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به، وما من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به". وبناء على هذا الأصل، فإنه تبين لنا أنه - صلى الله عليه وسلم - أوضح كافة الأصول الإسلامية مما أخبر به عن الله تعالى من أسماء الله وصفاته مما جاء في القرآن، وشرح وبين لأصحابه هذه الأصول كلها كأحسن ما يكون البيان. قال أبو ذر: "لقد توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علمًا". كان الصحابة حريصين على الفهم والاستيعاب الدقيق الكامل لكل ما يتعلمونه من القرآن والحديث، فإن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما كانوا إذا تعلموا من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات لم يجاوزوهما حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل (قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا) وقام عبد الله بن عمر يحفظ سورة البقرة في ثمان سنين لاستغراقه في المعرفة والفهم (1) . وكانت أم الدرداء تصف زوجها بأن أفضل عمله التفكر (2) وعلى العكس من هذه الحقيقة، فإن الادعاء بأن الصحابة كانوا مشغولين بالجهاد - كما يذكر بعض المتكلمين - فإنه يحمل في طياته ذم الصحابة بل يجعل مذهب السلف أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بلغ قرآنًا لا يفهم معناه، بل تكلم بأحاديث الصفات وهو لا يفهم معناها، وأن جبريل كذلك وأن الصحابة والتابعين كذلك وهذا الموقف - كما يذكر ابن تيمية - ضلال عظيم (3) .

_ (1) ابن تيمية: فتاوى ج 5 ص 155 و 156 ط الرياض. (2) نقض المنطق ص 87. (3) شرح حديث النزول.

منهج الصحابة في النظر والتدبر

وشرح ذلك يحتاج إلى مزيد من الإيضاح، نذكره فيما يلي: منهج الصحابة في النظر والتدبر: لقد خاطب الإسلام العقل كما رأينا ودعا الإنسان إلى النظر في آثار مخلوقات الله تعالى، وقد مضى عصر الصحابة في الصدر الأول على هذا المنهج القرآني الواضح كان قدوتهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحده في النظر والسلوك، حيث عاشوا معه وشاهدوا التنزيل وسألوا واستفسروا عما يعنُّ لهم من قضايا تحتاج إلى شرح وإيضاح. وهكذا استمدوا من كتاب الله تعالى معرفة وحدانية الله تعالى، وإثبات صفاته، وعرفوا الأنبياء والرسل عليهم السلام وقصصهم مع أممهم، ووقفوا منه على أصل خلق آدم عليه السلام وعداوة إبليس له ولبنيه وعرفوا مكانة الملائكة وأدوارهم من بين مخلوقات الله تعالى، واستمدوا معلوماتهم عن اليوم الآخر وحساب الله تعالى وجنته وناره والقدر خيره وشره إلى ذلك من القضايا التي تشكل أركانًا رئيسية وأصولاً في الإيمان. وكلها جمعها القرآن الكريم - كما يرى الزركشي - في أقسام ثلاثة: توحيد وتذكير وأحكام. (فالتوحيد تدخل فيه معرفة المخلوقات ومعرفة الخالق بأسمائه وصفاته وأفعاله، والتذكير ومنه الوعد والوعيد والجنة والنار وتصفية الظاهر والباطن، والأحكام ومنها التكاليف كلها وتبيين النافع والضار والأمر والنهي والندب. فالأول: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) [البقرة، الآية: 163] فيه التوحيد كله في الذات والصفات والأفعال، والثاني: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات، الآية: 55] . والثالث: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) [المائدة، الآية: 49] (1) . وقد خط لهم القرآن الكريم الاستدلال بمخلوقات الله تعالى على وحدانيته سبحانه وعلمه وحكمته، فإنها جميعًا تبرهن على أن لها صانعًا حكيماً خبيراً تام القدرة بالغ الحكمة، كما دعاهم إلى آثار الصنعة في أنفسهم أيضًا (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الذاريات، الآية: 21] إشارة إلى ما فيها من آثار الصنعة ولطيف الحكمة

_ (1) الزركشي: البرهان في علوم القرآن ج 1 ص 17 ط الحلبي 1957 م.

الدالين على وجود الصانع الحكيم (1) . ونهاهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن التفكر في الخالق جل شأنه، فجاء في الأثر "تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق) ، وتعليل النهي أنه سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء (فالتفكر والذي مبناه على القياس ممتنع في حقه، وإنما هو معلوم بالفطرة، فيذكره العبد) (2) كذلك جاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - بسنته كمصدر ثان للإسلام ولذلك أصبح المنهج الصحيح يقتضي معرفة سنته وتنفيذها، فمن كان أعلم بسنته وأتبع لها كان الصواب معه، وهذه الأوصاف تنطق على الصحابة - رضي الله عنهم - ثم الأجيال التالية من أهل الحديث والسنة (وهؤلاء هم الذين لا ينتصرون إلا لقوله، ولا يضافون إلا إليه، وهم أعلم الناس بسنته وأتبع لها لكن التفرق والاختلاف كثير في المتأخرين) (3) . وبهذه الطريقة وضعوا الأسس السليمة للمنهج الصحيح في معرفة أصول الدين وفروعه، فمن أراد إذن معرفة شيء من الدين والكلام فيه، نظر فيما قاله الله والرسول - صلى الله عليه وسلم -، فمنه يتعلم وبه يتكلم وفيه ينظر ويتفكر وبه يستدل، هذا أصل منهج أهل الحديث والسنة. أما المخالفون لهذا المنهج، فلم يراعوا قاعدته ويلتزموا بخطواته، إذ أنهم بدلاً من البدء بالنظر فيما قاله الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، بدأوا بما رأوه بعقولهم كما فعل المتكلمون، أو بما ذاقوه بوجدانهم - كما فعل الصوفية - فإذا وجدوا السنة توافقه وإلا لم يبالوا بذلك، فإذا وجدوها تخالفه، أعرضوا عنها تفويضًا أو حرفوها تأويلاً (4) . وهذه الصورة المخالفة للمنهج الإسلامي الصحيح كثيرًا ما نراها في عصرنا أيضًا، بسبب ضغوط ثقافة الغرب وحضارته، وعلى أثر انتصاره العسكري والسياسي وتفوقه العلمي ونفوذه الثقافي، وتأثيره الساحر على العقول والنفوس، في مقابل ضآلة

_ (1) السيوطي: صون المنطق ج 1 ص 143. (2) ابن تيمية: نقض المنطق ص 35. (3) ابن تيمية: منهاج السنة ج 3 ص 46. (4) ابن تيمية: الفرقان بين الحق والباطل ص 47.

المعرفة بالإسلام بأصوله وفروعه، نجم عنه أن أصبح الكثيرون يتبنون الأفكار والفلسفات الغربية ويعطونها شكلاً إسلاميًا، ظانين بذلك أنهم يدافعون عنه ويقدمونه إلى الأجيال الشابة في ثوب عصري!! (1) .

_ (1) كالقول مثلاً بديمقراطية النظام الإسلامي أو اشتراكيته وتحرر نظمه وقابليته للتطور وغيرها من المصطلحات اللصيقة بفلسفة الغرب وحضارته وتاريخه، ولها مدلولاتها ومعانيها المختلفة تمامًا عن مقابلها في الإسلام بعقيدته وشريعته وتاريخه وحضارته.

أولا: الأدلة النقلية

الأدلة النقلية والعقلية على فضل الصحابة رضي الله عنهم تشهد الأدلة النقلية والعقلية معًا على فضلهم، وبيان ذلك كالآتي: أولا: الأدلة النقلية: منها ما قاله تعالى في وصفهم: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة، الآية: 100] فكانوا هم الأفضل ثم يتناول الوصف من اتبعهم إلى يوم القيامة. وأيضًا ثبت في الصحيحين من غير وجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم". كما ظهر من دراسة السنة النبوية مكانة الصحابة الخاصة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا سيما الخلفاء الراشدين وباقي العشرة المبشرين بالجنة. والحديث: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين. عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة" (1) . والآيات والأحاديث كثيرة في وصف أفضالهم ومكانتهم الممتازة، مثل قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران، الآية: 110] . وقوله تعالى: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) [الحديد، الآية: 10] . والحديث "أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يستحلف ويشهد الشاهد ولا يستشهد" (2) . كما وصفهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديث آخر بأنهم خير القرون، وبأن غيرهم لو أنفق مثل أحد ذهبًا، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه. وقد عانوا وكابدوا كثيرًا بعد الاهتداء للإسلام من أهلهم وعشيرتهم وقبائلهم وأقرب أقربائهم ولكنهم لم يبالوا، بل صبروا وثبتوا لأنهم تذوقوا حلاوة الإيمان في القلوب أيقنوا صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - واقتنعوا بعقيدتهم ولم تتأثر نفوسهم وقلوبهم بأية

_ (1) جزء من حديث ص 43 رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وقال: الحديث حسن. (2) الحديث رواه أحمد والترمذي.

اضطهادات أو مشاق يقابلونها بسبب عقيدتهم، ثم انطلقوا ينشرونها، ويدافعون عنها ويبذلون في ذلك الأنفس والنفائس. يقول ابن الوزير اليماني: لولا ثقل موازينهم في الشرف والدين ما اتبعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأدلة الدين الجديد فلم يعبأوا أمام وضوح الأدلة ورسوخها في عقولهم ومالوا عن إلف دين الآباء والأتراب والقرباء إلى أمر شاق على القلوب، ثقيل على النفوس، لا سيما وهم في ذلك الزمان أهل الأنفة (1) . والصحابة - رضي الله عنهم - هم أيضًا الواسطة بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبين الأمة، ولذلك امتدحهم عليه السلام وجعلهم الأفضل على مدى الأجيال، ففي حديث صحيح قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " (2) . قال ابن عبد البر: (وما أظن أهل دين من الأديان إلا وعلماؤهم معنيون بمعرفة أصحاب أنبيائهم، لأنهم الواسطة بين النبي وبين أمته) (3) . والأدلة كثيرة تدل على فطنتهم وذكائهم، وأنهم كانوا أصحاب دراية وفكر ونظر، ولم يكونوا من السذج بحيث يخدعون أو يؤمنون كإيمان العامة. يروي لنا ابن كثير في تفسيره عن أحد صالحي المهاجرين وهو جندب بن كعب الأزدي أنه رأى عند الوليد بن عقبة ساحرًا يلعب بين يديه، فكان يضرب رأس الرجل ثم يصبح به فيرد إليه رأسه، فقال الناس: سبحان الله يحيي الموتى! فلما كان الغد جاء مشتملاً على سيفه، وذهب حيث يلعب لعبه ذلك، فاخترط الرجل سيفه فضرب عنق الساحر وقال: إن كان صادقا فليحي نفسه وتلا قوله تعالى: (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) [الأنبياء، الآية: 3] ولا شك أنه كان يعرف الحديث "حد الساحر ضربة

_ (1) ابن الوزير اليماني: الذب عن سنة أبي القاسم ج 1 ص 55. (2) رواه البخاري بسنده عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. والمد: ربع الصاع، وإنما قدره لأنها أقل ما كانوا يتصدقون به في العادة. (3) ابن عبد البر: الاستيعاب ص 19.

بالسيف" (رواه الترمذي) (1) . ولا نظن أننا نغالي إذا قلنا: إنهم عاشوا على أعتاب عالم الغيب وتمثلوه، كأنه عالم مشاهد حاضر أمامهم يرونه ويعيشون فيه، فكانوا يتنافسون في طلب الشهادة للانتقال من الحياة الفانية إلى الحياة الباقية، تحقيقًا للسعادة الأبدية عند ربهم عز وجل وها هو حارثة - رضي الله عنه - يسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كيف أصبحت يا حارثة؟ " قال: أصبحت مؤمنًا حقًا، قال: "انظر ما تقول؟ فإن لكل قول حقيقة"، قال: يا رسول الله، عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري كأني بعرش ربي عز وجل بارزًا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتعاوون فيها، قال: "الزم، عبد نور الله الإيمان في قلبه" (2) . فأما درجة السابقين كأبي بكر وعمر فتلك لا يبلغها أحد وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي فعمر" وفي حديث آخر "إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه" وقال علي: "كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر" وفي الترمذي وغيره (لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر، ولو كان بعدي نبي ينتظر لكان عمر) . ومع هذا فالصديق أكمل منه؛ فإن الصديق كمل في تصديقه للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يتلقى إلا عن النبي والنبي معصوم. والمحدث - كعمر - يأخذ أحيانًا عن قلبه ما يلهمه، ويحدث به، لكن قلبه ليس معصومًا. فعليه أن يعرض ما ألقي عليه على ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإن وافقه قبله، وإن خالفه رده. ولهذا رجع عمر عن أشياء، وكان الصحابة يناظرونه ويحتجون عليه، فإذا بينت له الحجة من الكتاب والسنة رجع إليها وترك ما رآه والصديق إنما يتلقى عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا عن قلبه. فهو أكمل من المحدث. وليس بعد أبي بكر الصديق أفضل منه، ولا بعد عمر محدث أفضل منه (3) . بعد هذا التوضيح لا نرى مزيدًا لمستزيد لتقرير كمال المنهج الذي اتبعه

_ (1) ابن كثير: التفسير ج 1 ص 139 ط دار الشعب. (2) ابن الأثير: أسد الغابة في معرفة الصحابة ج ص 425 - 426 ط الشعب. (3) ابن تيمية: الرد على المنطقيين ص 513- 514.

ثانيا الدليل العقلي

الصحابة في معرفة الدين أصولاً وفروعًا (1) . ثانيًا الدليل العقلي: ففضلاً عن النصوص المستفيضة عن الصحابة - رضي الله عنهم - في التفسير، والتي تدل على فهمهم للقرآن الكريم وتدبرهم، وإحاطتهم بالأدلة التي قدمها كالآيات وضرب الأمثلة واستخدام الأقيسة العقلية، فإن استخدامنا للدليل العقلي يبرهن أيضًا على أن حواريي الرسل وصحابتهم هم أكثر الناس فهمًا لرسالتهم من غيرهم بأصولها الكبرى وفروعها ودقائقها أيضًا، وأن المتأخرين هم أكثر الناس بعدًا عن الرسالات وفهمها باستثناء القلة الحريصة على اتباع السابقين عليهم بمنهج النقل الدقيق كما فعل أهل الحديث والسنة. وهذا هو التفسير المنطقي المعقول الذي يشهد به تاريخ الدعوات الدينية، فهي (تقوم إبان نشأتها على معتنقين اتجهوا نحوها بقلوبهم وتفاوتوا فيها بأرواحهم. وكم روى التاريخ من أخبار الرسول صلوات الله عليه وأن إشارته كانت تقابل بالتنفيذ من الجميع، فإذا ما فترت الدعوة وضعفت العقيدة وخمدت حرارة الإيمان الأولى، أخذ الناس يبحثون في معتقداتهم ويعللون ويناقشون ويعارضون) (2) . ولم نذهب بعيدًا في التعليل والتفسير بينما كان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما سباقًا إلى تعليل اختلاف المسلمين متنبئًا بما سيحدث في العصور التالية لعصر الصحابة مفسرًا إياه بنقص درايتهم بالقرآن وافتقادهم لفهمه على الوجه الصحيح فقد خلا عمر - رضي الله عنه - ذات يوم فجعل يحدث نفسه: كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد؟ فأرسل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة وكتابها واحد؟ فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين، إنما أنزل علينا القرآن فقرأناه وعلمنا فيما أنزل وأنه سيكون بعدنا أقوام يقرأون القرآن ولا يدرون فيما نزل، فيكون لهم فيه رأي فإذا كان كذلك اختلفوا فيكون لكل قوم فيه رأي..

_ (1) لم يكن تقسيم الدين إلى أصول وفروع معروفًا في عصر الصحابة والتابعين ولكن هذا التفريق ظهر من جهة المعتزلة. (2) د. إبراهيم مدكور: في الأخلاق والاجتماع ص 26 ط الهيئة العامة للنشر.

فإذا اختلفوا اقتتلوا (1) . وكانت طرق استدلال الصحابة مستمدة من النظر في المخلوقات والتأمل في عجائب صنع الله تعالى وما يطرأ عليها من تغيرات على مدار الأزمنة، فأيقنوا أنها لا بد أنها مخلوقة من رب حكيم، أحسن كل شيء خلقه وأتقن صنع كل شيء. عن الحسن البصري قال: (كانوا - يعني الصحابة - يقولون: الحمد لله الرب الرفيق الذي لو جعل هذا الخلق خلقًا دائمًا لا ينصرف لقال الشاك في الله: لو كان لهذا الخلق رب لحادثه (2) وإن الله قد حادثه بما ترون من الآيات: إنه جاء بضوء طبق ما بين الخافقين، وجعل فيها معاشا وسراجا وهاجا، ثم إذا شاء ذهب بذلك الخلق وجاء بظلمة طبقت ما بين الخافقين وجعل فيها سكنًا ونجومًا وقمرًا منيرًا، وإذا شاء بني بناء جعل فيه من المطر والبرق والرعد ما شاء وإذا شاء صرف ذلك وإذا شاء جاء ببرد يقرقف الناس (من القرقفة أي: الرعدة) ، وإذا شاء ذهب بذلك وجاء بحر يأخذ بأنفاس الناس، ليعلم الناس أن لهذا الخلق رباً يحادثه بما يرون من الآيات، كذلك إذا شاء ذهب بالدنيا وجاء بالآخرة. وترى الصحابة - طبقًا لهذا الاستدلال - قد سلكوا الطريق الفطري المطابق لطريق البرهان العقلي في إثبات وجود الله سبحانه وتعالى، وأنه خالق كل شيء وهو سبحانه المحدث الفاعل بمشيئته وقدرته، ولم يفعلوا كما فعل بعض فلاسفة اليونان عندما فسروا صدور الكون بأنه معلول يقارن علته (فإن ذلك يمتنع محادثته أي: إحداث الحوادث فيه) (3) . من هذا يتبين أيضًا أن أدلة الشرع أدلة عقلية، فقد فطر الله تعالى عباده على معرفة الحق وقد بعث الرسل - كما يصفهم ابن تيمية - بتكميل الفطرة قال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) [فصلت، الآية: 53]

_ (1) الشاطبي: الاعتصام ج 2 ص 107 ط دار الشعب. (2) حادثه أي جدد وجوده فهو (حادث) ويتعدى بالألف فيقال: (أحدثه) . (3) ابن تيمية - جامع الرسائل- المجموعة الأولى ص 139 تحقيق محمد رشاد سالم 1389 هـ /1969 م ط المدني بالقاهرة.

وتفسيرها (أنه سبحانه أخبر أنه سيريهم الآيات الأفقية والنفسية المبينة، لأن القرآن الذي أخبر به عباده حق، فتتطابق الدلالة البرهانية العيانية ويتصادق موجب الشرع المنقول والنظر المعقول) (1) . والتفسير العقلي أيضًا يبرهن على تجاوبهم الكامل مع العقيدة التي تغلغلت إلى نفوسهم فإن الدارس لأحوالهم وسلوكهم خلال سنوات الأزمات والجهاد الشاق على النفس وعلى الهوى وفي مواجهة الأهل والأصحاب والعادات المألوفة والعقائد الوثنية الباطلة بعد أن تلقوها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بعد كل هذا يمكن وصفهم بأنهم الأعلم والأحكم من كل من جاء بعدهم. ونكتفي بواقعة واحدة للمقارنة، تلك هي موقعة تبوك حيث بلغت بهم الشدة مبلغها. يقول ابن كثير: (ومن هنا تتبين فضيلة أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - على سائر أصحاب الأنبياء في صبرهم وعدم تعنتهم كما كانوا معه في أسفاره وغزواته منها عام تبوك في ذلك القيظ والحر الشديد والجهد لم يسألوا خرق عادة ولا إيجاد أمر مع أن ذلك كان سهلاً على الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما أجهدهم الجوع سألوه في تكثير طعامهم فجمعوا ما معهم فجاء قدر مبرك الشاة فدعَا فيه وأمرهم فملأوا كل وعاء معهم. وكذا لما احتاجوا إلى الماء سأل الله تعالى فجاءت سحابة فأمطرتهم، فشربوا وسقوا الإبل وملأوا أسقيتهم ثم نظروا فإذا هي لم تجاوز العسكر فهذا هو الأكمل في الاتباع أي: المشي مع قدر الله مع متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم) (2) . وهل نتصور أن أهل العصور التالية كانوا أكثر فهمًا للدين وأصوله من الصحابة؟ أو أنهم أفقه وأورع منهم؟ إن ذلك يعد قلبًا للأوضاع وتبديلاً لموازين القياس الصحيح، إذ سجل لنا التاريخ فضائل أعمال الجيل الأول بمثاليتهم في الفهم والتطبيق فلم يشغلهم عن الجهاد؛ والأعمال الصالحة تنطوي في ذاتها على عمق الإدراك والوعي بالرسالة والتحرك بها فانصرفوا عن الجدال واهتموا بالأعمال، ولكن الأوضاع

_ (1) منهاج السنة ج 1 ص 82. (2) ابن كثير: التفسير ج 1 ص 139 ط الشعب.

انقلبت بعدهم، فظهر الجدل في الدين على حساب العمل، أو كان بداية لفرقة وحدة المسلمين وتفتيت جماعتهم وظهور علامات الوهن بين صفوفهم. لذلك اعتبر علماء الحديث ظهور الجدل الكلامي لونًا من الردة، وعللوه بقلة الفقه في الدين وذهاب العلماء لقول الدارمي: (وكانوا مقموعين أيام الصحابة والتابعين مقهورين بسلطان الدولة وحجج العلماء، ولكنهم عندما بعد الزمن وجدوا الفرصة لنشر مذاهبهم عندما وجدوا من الرعاع جهلاً ومن العلماء قلة) (1) . لقد بحث المتكلمون ونقبوا في تاريخ الصحابة وأيامهم فلم يجدوا آثارًا تدل على خوض الصحابة فيهم، فاستنتجوا أنهم لم يعرفوها وهذا منهج خاطئ في البحث والتصور لقول السفاريني: ولما كان عصر الصحابة والتابعين لهم بإحسان خاليًا من البدع الكلامية والشبه الخيالية والخصوم المعتزلية، لم تكن أدلة علم أصول الدين مدونة هذا التدوين (2) . كما تمادى المتكلمون بالطعن في الصحابة فزعموا أنهم كانوا مشغولين بالجهاد عن تناول أمهات أصول الدين والحق أن الجهاد كان ثمرة العقيدة وتجسيدًا وتعبيرًا عن تمكنها من النفوس والقلوب. ولا يمكن تفسير الانتصارات المذهلة للصحابة إلا في ضوء استجابتهم لعقيدة الإسلام وفهمها حق الفهم وتطبيقها عمليًا فاجتذبوا غيرهم من الشعوب ذات الحضارات العريقة فكان الصحابة في وضع الطلائع والصفوة الممتازة. ولما كانت حضارة الإسلام منتصرة وسائدة لا انتصارًا عسكريًا فحسب فإن - ذلك يعبر عن المقدمات - ولكن تغلغلا إلى أعماق الشعوب عقائديًا ونفسيًا؛ لأن حملة العقيدة الجديدة كانوا هم الأفضل والأجدر بالاتباع والانقياد. وظهرت حروب الردة لتكشف معادن الرجال مبرهنة على أن قوة الإيمان في صف أبي بكر والصحابة وقد وقفت سدًا مانعًا لمواجهة أية ثغرة في العقيدة، وكانت

_ (1) عقائد السلف (نقد الدارمي على المريسي) . (2) مختصر السفاريني، ص 5 تحقيق محمد زهري النجار - دار الكتب العلمية بيروت 1403 هـ/ 1983 م.

محكًا لأثر الإيمان في النفوس والفهم الصحيح لعقائد الإسلام، فقد كشفت الردة عن (حقيقة التصور الإلهي في أذهان المسلمين وسلوكهم حين تحول إلى أعمال وحرب حتى لا يتمكن المرتدون من تشويه العقيدة، أو انتقاص المنهج، أو إدخال شيء من الجاهلية في الإسلام) (1) . إن هذا الفهم الممتزج بالإيمان هو الدافع الحقيقي لجهاد الصحابة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتسابق للاستشهاد، ومع الصديق - رضي الله عنه - بعده. ألا يحق لعلماء أهل السنة والجماعة سلوك طريقهم واعتبارهم الجيل المثالي في العقيدة والسلوك؟ ولن يدهشنا إذًا عندما نرى أحد علمائهم - وهو الدارمِيّ - يقول: فلم يظهر جهم وأصحابه - وهم أول من قالوا بالجبر ونفوا الصفات الإلهية - في زمن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكبار التابعين فيروى عنهم فيها أثر منصوص، مسمى ولو كانوا بين أظهرهم مظهرين آراءهم لقتلوا كما قتل علي - رضي الله عنه - الزنادقة - وهم أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي الذين قالوا بتأليه علي وظهروا في عصره، ولقتلوا كما قتل أهل الردة (2) . ويوضح لنا الدارمي - بهذا الرأي - كيف دارت عجلة التاريخ لتطبيق سننه في رقي الأمم وتدهورها، إذ عبرت الفلول المهزومة في الحضارات المغلوبة عن نفسها بنشر فلسفاتها ونظراتها للألوهية والكون والإنسان، أو إثارة المشكلات العقائدية التي كانت تعاني منها إبان أزماتها. ومما أذهل عقول مؤرخي التاريخ وفلاسفته أن المسلمين قاموا بغزو بلاد ذات حضارات عريقة، فكان من المنتظر قياسًا على الغزوات المماثلة من قبل كغزوات الإسكندر الأكبر مثلا - حيث لم تجاوز أعماله مجال التعمير الحضاري بمظهرها المادي فقط - كان من المنتظر بقاء الأفكار الفلسفية والدينية للسكان الأصليين كما هي

_ (1) محمد حسن بريغش: ظاهرة الردة في المجتمع الإسلامي الأول ط مؤسسة الرسالة- بيروت. (2) عقائد السلف ص 349.

ولكن ما حدث نتيجة انتصار المسلمين لم يتوقع، لأنه اكتسح ما لاقاه في طريقه كالسيل الجارف، (فتغير كل شيء بين يوم وليلة. ولم يقتصر في هذه المرة على الواجهة السياسية والاقتصادية في المدن الكبرى فقط، وإنما تغلغل في الأعماق النفسية لهذه الشعوب جميعًا: فاللغات والأفكار والقانون والآمال والعادات وتصور العالم وعقيدة الألوهية، كل ذلك قد طرأ عليه تغيير جذري سريع) (1) . والشواهد أكثر من أن يستدل بها في هذا الموضع وإلا اضطررنا إلى عرض حياة عشرات، بل مئات الصحابة رضوان الله عليهم ومنهم من فسر القرآن الكريم ومنهم من تفقه ومنهم من اختص بالإفتاء والاجتهاد والأمثلة كثيرة على مثل هذه التخصصات. ولو مضينا في دراسة أنشطتهم العلمية لخرجنا بصورة كاملة عن حقيقة عقائدهم، إذ توصلوا إليها في كافة أوجه أصول الدين من عقيدة التوحيد إلى الصفات الإلهية إلى مسألة القضاء والقدر الإلهي، إلى الإنسان وحقيقته وغايته وأخلاقه، إلى المجتمع ومكوناته والحياة الإنسانية بكافة جوانبها، حتى قال الإمام أحمد بن حنبل: (لقد حدثت أجناس الأعمال في عصر الصحابة) . وقال الإمام أحمد: (أنه ما من مسألة إلا وقد تكلم فيها الصحابة أو في نظيرها فإنه لما فتحت البلاد وانتشر الإسلام حدثت جميع أجناس الأعمال فتكلموا فيها بالكتاب والسنة، وإنما تكلم بعضهم في مسائل قليلة) (2) . ويقصد بذلك أنهم أرسوا قواعد الحياة الإسلامية الحقيقية كلها. هذه الحياة الكاملة التي تتناول العقيدة والعبادات والأخلاق في دائرة واحدة يعبرون عنها بحياتهم اليومية العادية والمعارك العسكرية والمعاملات التجارية والعلاقات الاجتماعية في الأخوة والصحبة والزواج والعتاق والمسرات والأحزان

_ (1) د. دراز: مدخل إلى القرآن الكريم ص 54 ط دار القلم - الكويت 1391 هـ - 1971 م. (2) ابن تيمية: معارج الوصول إلى أن أصول الدين وفروعه قد بينها الرسول ص 43 ط المكتبة العلمية بالمدينة المنورة. والجنس: الضرب من كل شيء والجمع: (أجناس) وهو أعم من النوع.

وهذه المزية ينفرد بها الصحابة دون من جاء بعدهم، لأنه ما إن انقضى عصرهم حتى ظهرت بواكير التحول التدريجي البطيء عن هذه الحياة أقل درجة منها، ثم ظهرت الفتن والقلاقل، شأنه سنن الحياة في النزول عن القمة بعد بلوغها الذروة. ومن هنا أصبحت تقاس أطوارنا تاريخيًا بالنظر إلى اقترابها أو ابتعادها عن المجتمع الإسلامي في الخلافة الراشدة وما حققته الحضارة الإسلامية في هذا الطور العظيم، فإذا تكلمنا عن الشورى والبيعة والعدالة، وإذا تكلمنا عن المساواة في الحقوق والواجبات بين الناس، وإذا تكلمنا عن الفتوحات ورايات الإسلام الخفاقة المنتشرة في الأرض حينذاك، فلن تجد مصدرا غنيًا كاملاً بكل ما تحقق في هذه الميادين إلا في وقت الخلافة الراشدة والقرون الأولى المفضلة. ولهذا فإن التاريخ يسجل الصلة العكسية بين ظهور الحضارة الإسلامية واتساع نفوذها وأثر إشعاعها وفتوحاتها، وبين ظهور الفرق وانقسام صفوف المسلمين بين نحل ومذاهب تتطاحن وتتناحر. وإذا عبرنا بلغة فلسفة التاريخ لفهم تاريخ المسلمين، عثرنا على الرباط الوثيق بين تنفيذ قواعد الشرع وفَهْم الإسلام من واقع مصدريه وبين النصر والظهور للمسلمين وبلوغ حضارتهم إلى الذروة، ففي العصور الأولى عندما كان الصحابة والتابعون يسيرون على طريق الشرع بفهم ووعي، انتصروا في الغزوات وقهروا الأعداء وحققوا مجتمعًا إنسانيًا مثاليًا لم تر البشرية مثله، ثم أصاب الوهن المجتمعات الإسلامية وظهر الضعف في أوصالها على أثر ضعف العقيدة في النفوس وظهور البدع. ولا تخطئ عين الباحث المنقب في كتب التاريخ ملاحظة ما حققه المسلمون في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقيادته ثم الصحابة التابعون. وإذا شئنا تفصيلا موجزًا، رأينا أن عصر بني أمية امتلأ بالفتوحات والانتصارات ولكن يعاب على أمرائهم تأخير الصلاة. وكان أوائل خلفاء بني العباس أفضل ممن سبقهم من بني أمية في أداء الصلاة في أوقاتها وفي عصر المأمون (215 هـ) ترجمت الكتب اليونانية وكان ذلك على حساب العقيدة، فعندما تدخلت المفاهيم الفلسفية اليونانية، انحرفت العقيدة. وزادها انحرافًا غلو التشيع ثم التصوف بمذاهبه المتطرفة كالحلول ووحدة الوجود، واختلط

علم الكلام لدى المعتزلة بمصطلحات الفلسفة اليونانية. ورويدًا رويدًا ضعفت الذاتية الإسلامية الأصلية - المتضمنة للعقيدة والأعمال - لدى الكثيرين وحلت محلها أفكارٌ فلسفية أجنبية، أو مذاهب كلامية متطرفة، فأضعفت من أثر العقيدة في النفوس، وحولت المسلمين إلى غير أهداف الأجيال الأولى، ونزعت من القلوب الخوف والرجاء والمحبة لله تعالى بأسمائه وصفاته الحسنى التي كان الأوائل يندفعون بها في ميادين الحياة والجهاد وتعمير الأرض والسعي فيها، تحولت إلى مناقشات وجدال، فخمدت الجذوة المشتعلة وتحولت أحيانًا إلى ما يشبه الرماد، فظهر الضعف وتغلب الأعداء.

الباب الثاني أحداث الردة والفتن

الباب الثاني أحداث الردة والفتن - الافتراق عن مذهب الصحابة رضي الله عنهم - موقف التابعين إزاء المخالفين - ظهور الجدل في أصول الدين. - مذهب أهل السنة والجماعة.

تمهيد: تبين لنا مما تقدم أن المسلمين في الصدر الأول من الصحابة وأوائل عصر التابعين تقيدوا بالمنهج الإسلامي الصحيح. فإن أفضل الخلق بعد الأنبياء هم الصحابة، فلا ينتصر لشخص انتصارًا مطلقًا عامًا إلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا لطائفة انتصاراً مطلقًا إلا للصحابة رضي الله عنهم (1) . وإن ارتد ناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فليسوا من الفرقة الناجية هم: أولاً: خصوم أبي بكر - رضي الله عنه - كمسيلمة الكذاب. ثانيًا: السبئية أتباع عبد الله بن سبأ. ثالثًا: المختار بن أبي عبيد. وشرح حديث الفرق الناجية يقتضي أنه كل من خرج عن الجماعة فينطق عليه وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم -، قال ابن تيمية: وكذلك يدل الحديث على مفارقة الاثنين والسبعين في أصول العقائد، بل ليس في ظاهر الحديث إلا مباينة الثلاث والسبعين كل طائفة للأخرى، وحينئذ فمعلوم أن جهة الافتراق جهة ذم لا جهة مدح، فإن الله تعالى أمر بالجماعة والائتلاف وذم التفريق والخلاف، فقال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران، الآية: 103] . وقال تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) [آل عمران، الآية: 105، 106] قال ابن عباس وغيره: (تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة) . وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام، الآية: 159] (2) .

_ (1) ابن تيمية: منهاج السنة ج 3 ص 66. (2) ابن تيمية: منهاج السنة ج 2 ص 104.

وقال: (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) [البقرة، الآية: 213] وقال: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة، الآية: 4] وإذا كان كذلك فأعظم الطوائف مفارقة للجماعة وافتراقًا في نفسها أولى الطوائف بالذم وأقلها افتراقًا ومفارقة للجماعة أقربها إلى الحق (1) . والحديث نفسه ليس في الصحيحين بل قد طعن فيه بعض أهل الحديث كابن حزم وغيره، ولكن قد رواه أهل السنن كأبي داود والترمذي وابن ماجه ورواه أهل الأسانيد كالإمام أحمد. وعلى أية حال فإن الحديث يصف حال الجماعة، فقد رواه في حديث آخر: (هم الجماعة) . وفي رواية: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) . السنة: ما كان - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه عليها في عهده مما أمرهم به أو أقرهم عليه أو فعله. أما الجماعة: فهم المجتمعون الذين ما فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، وهم أقل اختلافًا في أصول دينهم من سائر الطوائف (2) وأهل الجماعة أقل اختلافًا في أصول دينهم من سائر الطوائف. فإن الحق مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فمن كان أعلم بسننه وأتبع لها كان الصواب معه وهؤلاء هم الذين لا ينتصرون إلا لقوله ولا يضافون إلا إليه، وهم أعلم الناس بسننه وأتبع لها وأكثر سلف الأمة كذلك، لكن التفرق والاختلاف كثير في المتأخرين (3) . وقد سار أهل الحديث والسنة والجماعة بمنهج اتباعهم الكتاب والسنة الثابتة عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - في الأصول والفروع وما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بخلاف المنشقين عن هذا المنهج - كما سيتضح لنا تباعًا - فإنهم خالفوا هذه القاعدة الأصولية

_ (1) ابن تيمية: منهاج السنة ج 2 ص 104. (2) ابن تيمية: منهاج السنة ج 2 ص 02 1، ج 3 ص 62. (3) منهاج السنة ج 3 ص 46 ج 3 ص 46.

الافتراق عن مذهب الصحابة في أصول الدين

كالمعتزلة والشيعة والخوارج ومن وافقهم، فإنهم لا يتبعون الأحاديث التي رواها الثقات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - التي يعلم أهل الحديث صحتها والأدلة على ذلك أن المعتزلة يقولون: هذه أخبار آحاد، ويطعن الشيعة في الصحابة ونقلهم وهذا طعن ضمني في الرسالة. والخوارج يعبرون عن موقف قائلهم (اعدل يا محمد فإنك لم تعدل) ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ويلك إن لم أعدل من يعدل لقد خبت وخسرت إن لم أعدل) (1) . وقد ظهرت الفرق والآراء الكلامية المبتدعة تباعًا، وجابهها علماء السنة والجماعة للرد عليها وإعادتها إلى الصف الإسلامي بعقيدته في الصدر الأول. وكلما تفتقت الأحداث عن انحراف ما، أسرع الجهابذة من علماء أهل السنة والجماعة لتصويبه وإظهار وجه الحق، إذ ظهرت أفكار الخوارج بسبب قصورهم في فهم آيات من القرآن الكريم، وبدأ التشيع عندما قتل الحسين سيد الشهداء إلى آخر الأحداث التي سجلتها كتب التاريخ، فأخذت الآراء تكثر وتتشعب، والفرق تتشكل وتتحزب حول معتقداتها. ثم انتقلت أصداء هذه الخلافات والمناقشات إلى كتب علم الكلام لتأخذ مكانها بين الآلاف من صفحاتها عرضًا وتفنيدًا ونقاشًا، وهكذا ظهر الجدل في أصول الدين. الافتراق عن مذهب الصحابة في أصول الدين: إن مذهب الصحابة رضي الله عنهم - كما يذكر الشاطبي- وعليه دأبوا أن الحجة القاطعة والحاكم الأعلى هو الشرع لا غيره، فلم ينكر أحد منهم ذلك، بل أقروا وأذعنوا لكلام الله وكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يصادموه ولا عارضوه بأشكال، بل آمنوا به وأقروه (2) . وتعليل ذلك عنده: 1 - إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهاهم عن التنقيب فيما لا طائل وراءه بمثل قوله (ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين من قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا

_ (1) ابن تيمية: منهاج السنة ج 2 ص 103. (2) الشاطبي: الاعتصام ج 2 ص 191/2 - نفس المصدر ج 2 ص 207.

نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم) ولهذا قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (إن أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها، واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا لا نعلم فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياهم) . والآثار كثيرة تشير إلى ذم إيثار نظر العقل على آثار النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثم جاء جهم بن صفوان وغيره فخالفوا السنن وعارضوها بعقولهم فاستعملوا قياسهم وآراءهم في رد الحديث. 2- إن جميع ما قالوه مستمد من معنى قول الله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ) ثم قال: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) ، فإنها صريحة في هذا الرأي الذي قررناه - فإن كل ما لم يجر على المعتاد في الفهم متشابه. 3- اتخذوا من الشرع حجة قاطعة وحاكمًا أعلى، وظهرت هذه الحقيقة في عدة مواقف عقب انتقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومنها يوم السقيفة إذ قال بعض الأنصار: (منا أمير ومنكم أمير) فأتى الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن الأئمة من قريش أذعنوا لطاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ولم يعبأوا برأي من رأى غير ذلك لعلمهم بأن الحق هو المقدم على آراء الرجال. وفي حرب أبي بكر لمانعي الزكاة، قال له عمر رضي الله عنهما: كيف نقاتل وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءَهُمْ وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" فرد أبو بكر بقوله (إلا بحقها) ، فقال: الزكاة حق المال، مع أن الذين أشاروا عليه بترك قتالهم إنما أشاروا عليه بأمر مصلحي ظاهر تعضده مسائل شرعية، ولكن لم يقو عنده آراء الرجال إن تعارض مع الدليل الظاهر الخ. ونفهم - من استقراء أقوالهم وسلوكهم في جميع أصول الدين - أنهم كانوا يتقيدون بهذا المنهج أي: تقديم الشرع على العقل، لا عن قصور في الفهم، ولكن لمعرفتهم بمكانة الشرع وضرورة تقديمه على الاستنباطات العقلية التي لا تستند إلى دليل.

وإليكم مواقفهم من هذه الأصول: 1 - ففيما يتصل بمسائل الغيب كالكلام عن الميزان والصراط وعذاب القبر والميزان وأوصاف أهل الجنة وأوصاف أهل النار. فلم ينكر أحد منهم ما جاء من ذلك بل أقروا وأذعنوا لكلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولم يصادموه ولا عارضوه بأشكال، ولو كان شيء من ذلك لنقل إلينا كما نقل إلينا سائر سيرهم وما جرى بينهم من القضايا والمناظرات في الأحكام الشرعية، فلما لم ينقل إلينا شيء من ذلك دل على أنهم آمنوا به وأقروه، كما جاء من غير بحث عن الكيفيات لأمور الغيب. ويذكر لنا الشاطبي في كتابه "الاعتصام" طريقة الصحابة إزاء هذه المسائل موضحًا على سبيل التفصيل الاتجاه الصحيح في تلقي الأخبار المنقولة عن صاحب الشرع - صلى الله عليه وسلم -: - ففهموا وصف الصراط بأنه كحد السيف لأن العادة قد تخرق حتى يمكن المشي والاستقرار. وفى مسألة الميزان فأثبتوا أن كيفيته تليق بالدار الآخرة، لأن الأعمال ليست كالأجسام التي توزن في دارنا، ولم يأت في النقل ما يعين أنه كميزاننا من كل وجه. مسألة عذاب القبر، فإن رد الروح إلى الميت وتعذيبه بغير أن يراه البشر أو يسمعونه أمر ثابت بالحديث. والعقل يسلم بما نراه، فالميت يعالج سكرات الموت ويخبر بآلام لا مزيد عليها ولا نرى عليه من ذلك أثر، وكذلك أهل الأمراض المؤلمة. ويلحق بها مسألة سؤال الملكين للميت وإقعاده في قبره، فإنه إنما يشكل إذا حكمنا المعتاد في حياتنا الدنيا، ولكنه من قبيل خرق العوائد التي لا تحيط بمعرفتها العقول. كإنطاق الجوارح شاهدة على صاحبها يوم القيامة، وقراءة الصحف لمن لم يقرأ قط. رؤية الله عز وجل في الآخرة جائزة، إذ لا دليل في العقل يدل على أنه لا رؤية إلا على الوجه المعتاد عندنا. كلام الباري تعالى إنما نفاه من نفاه وقوفًا مع الكلام الملازم للصوت

موقف التابعين إزاء المخالفين

والحرف، وهو في حق الله عز وجل محال؛ فكلامه تعالى خارج عن مشابهة المعتاد، لائق بالرب، إذ لا يجزم العقل بأن الكلام إذا كان على غير الوجه المعتاد - محال. فالموقف الصحيح إذن الوقوف مع ظاهر الأخبار مجردًا. وكذلك باقي الصفات إنما نفاها من نفاها للزوم التركيب عنده في ذات الباري تعالى وهذا قطع من العقل الذي ثبت قصور إدراكه في المخلوقات فكيف بإثبات صفات الله تعالى، فالصواب في حقه أن يثبت من الصفات ما أثبته لنفسه، والإقرار مع ذلك بالوحدانية له على الإطلاق والعموم. تحكيم العقل على الله تعالى بحيث يقول: يجب عليه بعثة الرسول ويجب عليه الصلاح والأصلح ويجب عليه اللطف.. إلى آخر ما ينطق به أصحاب المذاهب العقلية المنحرفة، ونتج هذا لأن المعتاد إنما حسن في المخلوق من حيث هو عبد مقصور محصور ممنوع، والله تعالى ما يمنعه شيء ولا يعارض أحكامه حكم، فالواجب الوقوف مع قوله تعالى: (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) [الأنعام، الآية: 149] ، وقوله: (يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) [آل عمران، الآية: 40] . ويقول الإمام الشاطبي في النهاية: (فالحاصل من هذه القضية أنه لا ينبغي للعقل أن يتقدم بين يدي الشرع، فإنه من التقدّم بين يدي الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بل يكون ملبياً من وراء وراء) (1) . موقف التابعين إزاء المخالفين: كان موقف علماء التابعين امتدادًا للصحابة رضي الله عنهم ومن هنا نراهم يجابهون الآراء الشاذة التي أعلنها أمثال "غيلان الدمشقي" و"جهم بن صفوان ". وقد حفلت كتب التاريخ بالمناقشات الدائرة بين بعض التابعين وزعماء الخوارج وأصحاب الآراء التي شذ بها أصحابها عن معتقدات الصدر الأول. وسنقتطف نبذة يسيرة من هذه المناقشات لمعرفة المنهج الذي اتبعه علماء التابعين في جدالهم مع المخالفين، ومنها مناقشة دارت بين "عمر بن عبد العزيز" - الذي لقب بالخليفة الخامس بسبب تقواه وعدله واستنانه بسنن الراشدين قبله - وبين "غيلان الدمشقي" الذي كان أول من أعلن نفي القدر وتنسب إليه فرقة (القدرية) أي: نفاة القدر.

_ (1) الاعتصام للشاطبي - ج 331 دار المعرفة، بيروت 1408 هـ / 1988 م.

يذكر لنا الملطي المحاورة الدائرة بينهما فيقول: (لما دخل "غيلان" إلى "عمر بن عبد العزيز" سأله عن أمر الناس فأخبره صلاحًا، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ويحك يا غيلان ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: يا أمير المؤمنين أتكلم فتسمع؟ قال: تكلم، فقرأ (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) [الإنسان، الآية: 1 - 3] . ويبدو من إجابة غيلان أنه استند إلى آيات من سورة الإنسان - أو الدهر- فاقتطع آيات من السورة لكي يؤيد فكرته المسبقة عن نفي القدر. لذلك سنجد في إجابة "عمر بن عبد العزيز" رحمه الله ما يضع القضية في وضعها الصحيح، فيذكر غيلان بالأصل والمبدأ، وهو أن الإنسان مخلوق خلقه الله تعالى، وهو خالقه وخالق أعماله، ولا ينفي ذلك جعل الإنسان مسؤولاً عما يفعله ومريدًا له ومسؤولاً عنه. لهذا قال عمر: (ويحك من هاهنا تأخذ الأمر وتدع بدء خلق آدم عليه السلام؟ ثم تلا قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) [البقرة، الآية: 30 - 33] . فقال غيلان: والله يا أمير المؤمنين لقد جئتُك ضالاً فهديتني، وأعمى فأبصرتني، وجاهلاً فعلمتني، والله لا أتكلم في شيء من هذا الأمر أبدًا. فقال عمر: والله لئن بلغني أنك تكلمت في شيء منه لأجعلنك للناس أو للعالمين نكالاً، فلم يتكلم في شيء حتى مات عمر رحمه الله، فلما مات عمر استأنف الكلام بما وعد بالانتهاء عن الخوض فيه (1) . ولدينا مصدر آخر يسجل مناقشة ثانية دارت بين "عمر بن عبد العزيز"

_ (1) الملطي: التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ص 168.

وغيلان "الدمشقي"، لها مدلول مشابه، مع الاختلاف في الحجج التي قدمها عمر رحمه الله، حيث تذكر أنه أفحم غيلان بآيات من سورة "يس" كقوله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ) [يس، الآية: 8] وقوله عز وجل: (فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) [يس، الآية: 9] وغيرها - وكانت إجابة "غيلان" لا تخرج أيضًا عن ترديده القول في كل آية يسمعها "كأني لم أقرأ هذه الآية قط". ولكن "غيلان" نقض العهد في زمان "هشام" فاستدعاه مذكرًا إياه بعهده لعمر بن عبد العزيز، فلما طلب "غيلان" العفو عنه هذه المرة أيضًا رفض هشام وأمره بقراءة أوائل سورة "الفاتحة"، فقرأ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) . فسأله هشام: علام استعنته؟ على أمر بيده لا تستطيعه إلا به أو على أمر في يدك أو بيدك؟ ثم أمر به ليضربوا عنقه (1) . ويتضح من هذه النصوص المنهج الذي اتبعه الأوائل في فهم الصلة بين المشيئة الإلهية والإرادة الإنسانية، فنجد "عمر بن عبد العزيز" يذكر غيلان بمبدأ خلق آدم عليه السلام وتعليمه الأسماء كلها وإسجاد الملائكة له فالذي خلقه - سبحانه - من قبل ولم يك شيئًا وعلمه ما لم يكن يعلم؛ وهو الذي يمده أيضًا بالقدرة على الفعل، فيظهر الفقر الذاتي لآدم عليه السلام وبنيه؛ وأنهم لا يستقلون عن خالقهم فهو خالقهم وخالق أفعالهم، مع نسبة الأفعال للإنسان نفسه طبقًا لقواعد الشرع والعقل واللغة؛ ومن ثم مسؤوليته عنها وجزاؤه في مقابلها، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر. ونلحظ أيضًا أن طريقة عمر بن عبد العزيز رحمه الله خالية من استخدام أية مصطلحات خارجة عن الآيات القرآنية، كل ما هناك أنه لفت نظر غيلان إلى الآيات المثبتة للقدرة المطلقة لله تعالى - فإنه سبحانه على كل شيء قدير - وهو توجيه ضمني إلى غيلان - وغيره ممن تأثروا به - إلى خطأ موقف اتخاذ الرأي المسبق ثم البحث في القرآن الكريم على ما يؤيده - فهذه طريقة الذين يضربون كتاب الله

_ (1) أحمد بن حنبل: كتاب السنة - الطبعة السلفية مكة المكرمة 1349هـ ج 2 ص 127.

تعالى بعضه ببعض، ويختارون الآيات التي توافق أهواءهم دون غيرها التي تصادمها. كما لم يرد على لسان "عمر بن عبد العزيز" لفظا الجبر والاختيار، ولكنه باختياره للآيات الأولى من "سورة البقرة" عن خلق آدم عليه السلام أرشدنا إلى فهمه للمسألة، وهو أن الآيات القرآنية متوافقة متعاضدة، الإنسان مسؤول حر في اختيار أفعاله، ولكنه لا يستقل بفعله عن القدرة والمشيئة الإلهية وهو نفس ما ذهب إليه "عمر" و"علي" رضوان الله عليهما كما بينا آنفًا (1) كما أراد أن يبين لغيلان خطأه في ضرب الكتاب بعضه ببعض، فأخذ يذكره بالآيات التي ربما غابت عنه في إنكاره للقدر، أو أنه أغفلها عامدًا. وكذلك في حديث هشام، رأيناه ينبه غيلان إلى عجز الإرادة الإنسانية بغير مدد من الله تعالى، فإن آيات سورة الفاتحة تتضمن دعاء العبد طالبًا الهداية والاستعانة بالله سبحانه، ومن ثم فلا استقلال للفعل الإنساني، بل لا قيام له منفردًا أصلا، فالإنسان عبد مخلوق مربوب عاجز فقير فقرًا ذاتيًا، وهو محتاج دائمًا إلى ربه وخالقه وفاطره عز وجل، ولما كان ربه سبحانه هو الخالق البارئ المصور، فكذلك هو الذي يمد عباده بالقدرة على أفعالهم. ولكن ظهر مع الأسف تيار ينزع الآيات القرآنية من مواضعها ليضرب كتاب الله عز وجل بعضه ببعض. ولذلك ظهرت موجة عارمة للوقوف في وجه القدريين منذ أن بدأوا بإعلان بدعتهم، فكان "الحسن البصري" يقول: "من كذب بالقدر فقد كذب بالقرآن"، وعندما سمع "سعيد بن المسيب" أقوال القدرية غضب غضبًا شديدًا حتى هم بالقيام ثم تكلم فقال: تكلموا به؟ أما والله لقد سمعت فيهم حديثًا كفاهم به شرًا، ويحهم لو يعلمون، ثم ردد الحديث بسنده قال: حدثني رافع أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يكون قوم من أمتي يكفرون بالله وبالقرآن وهم لا يشعرون كما كفرت اليهود والنصارى قال: قلت: جعلت فداك يا رسول الله وكيف ذلك؟ قال: يقرون ببعض القدر ويكفرون ببعضه" (2) .

_ (1) ينظر ص 14 و 15 من هذا الكتاب. (2) الملطي - التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ص 196 وهو جزء من حديث طويل أورده الملطي بتمامه.

أحوال أهل الجنة

أحوال أهل الجنة: ويدهشنا العثور على نموذج من الجدل يسوقنا إلى موضوع آخر أثير فوجدوا من يوفيه حقه، وهو موضوع يتصل بعالم الغيب وكيفياته، فقد دار نقاش بين راهب وبين خالد بن يزيد بن معاوية عن أهل الجنة ومأكلهم ومشربهم، قال الراهب: أليس يقولون إنكم في الجنة تأكلون وتشربون ولا يخرج منكم أذى؟ فأجاب "خالد: بلى. قال الراهب أفلهذا مثل تعرفونه في الدنيا؟ قال: نعم، الصبي يأكل في بطن أمه من طعامها ويشرب من شرابها ثم لا يخرج منه أذى. قال الراهب لخالد: أفليس تقولون إن الجنة تأكلون فيها فواكه ولا ينقص منها شيء قال خالد: بلى، قال: أفلهذا مثل في الدنيا تعرفون؟ قال خالد: نعم الكتاب يكتب منه كل شيء أحد ثم لا ينقص منه شيء. وفي النهاية سأل الراهب متعجباً أليس تقول: إنك لست من علمائهم؟ فأجابه خالد بأن فيهم لمن هو أعلم مني) (1) .

_ (1) الشاطبي: الاعتصام ج 2 ص 187 ط دار الشعب في 1970 بمصر.

ظهور الجدل في أصول الدين

ظهور الجدل في أصول الدين استقرت العقائد في القلوب ولم يختلف الصحابة حول أصول الدين قط، بل لم يعرفوا تقسيم الدين إلى أصول وفروع، ثم بدأت تظهر الآراء المخالفة منذ النزاع الحادث بين "علي" و"معاوية" رضي الله عنهما بعد مقتل "عثمان بن عفان" رضي الله عنه. وسنحاول أن نخط طريقنا من القاعدة المنهجية التي نراها صحيحة شرعًا وعقلاً، وتتلخص في الاعتقاد أن الصحابة كانوا هم الأعلم بلغة القرآن ومراميه، والأدق في فهم محكمه ومتشابهه، ولم تظهر في عصرهم خلافات في أصول العقيدة، إذ كان هناك إجماع عليها بين الكافة، ثم بدأت الانشقاقات رويدًا رويدًا. وكان انحراف الخوارج ظاهرًا عندما اعتقدوا خطأ تكفير علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - والنفر الذين كانوا معه من المهاجرين والأنصار. كما رأوا منصب الإمامة أو الخلافة لا تختص بشخص من القرشيين فجوزوا إمامة أي إمام يجتمع فيه العلم والزهد ولو كان من أخلاط الناس وأوباشهم، بالإضافة إلى عقائد أخرى كتخليد مرتكب الكبيرة في النار وغيرها من الآراء التي دونتها كتب التاريخ والفرق. وظهرت القدرية في أواخر زمن الصحابة وصار "معبد الجهني" و"غيلان الدمشقي" و"الجعد بن درهم" إلى القول بالقدر - أي: نفيه وعدم الاعتقاد به. وفي ذلك الزمان حدث سنة المرجئة (1) حين قالوا: لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة. ثم طلعت المعتزلة مثل أبي الهذيل العلاف والنظام ومعمر والجاحظ وترجمت كتب الفلاسفة في زمن المأمون واستخرجوا منها ما خلطوه بأوضاع الشرع مثل لفظ الجوهر والعرض والزمان والمكان والكمون ونحو ذلك. وأول مسألة أظهروها القول بخلق القرآن. وتلت هذه المسألة مسائل الصفات الإلهية مثل العلم والقدرة والحياة والسمع

_ (1) ينظر كتابنا "قواعد المنهج السلفي في الفكر الإسلامي" ط دار الدعوة بالإسكندرية.

والبصر (1) . وعندما ظهرت عقائد المعتزلة التي افترقوا بها عن عقيدة أهل السنة والجماعة، اضطر علماء الحديث والفقهاء للرد عليهم وإعادة الأمور إلى نصابها. وإننا نعثر على آراء أهل الحديث منبثة في كتبهم للرد على المتكلمين في المسائل التي أثيرت كالحديث عن الصفات والقدر والتوحيد والأسماء - وغيرها من أصول المسائل التي شغلت أذهان المسلمين -. كما حرصوا على استمداد أرائهم من أقوال الصحابة والتابعين في هذه الموضوعات إذ لا يغيب عن ذهن الباحث أن منهج المحدثين كفل لهم الاحتفاظ بالنصوص المنقولة عن السابقين جيلاً بعد جيل. وفي الأدوار التي تضخمت فيها الخلافات كتب علماء الحديث في هذه الموضوعات التي تطرق إليها علماء الكلام، ومن بين هذه المصادر العامة كتاب (خلق أفعال العباد) للإمام البخاري، (الرد على الجهمية والمعطلة) للإمام أحمد والرد على بشر المريسي للإمام الدارمي وغيرهم، بحيث نستطيع القول بأن تيار السمع أو النقل، ارتبط بتيار العقل أو الدراية، أي بعبارة أخرى امتد اهتمام علماء الحديث والسنة إلى المسائل التي أثيرت بواسطة المتكلمين وغيرهم، ووقفوا منها موقفًا عقليا أيضًا، فالتقى عندهم النقل مع النظر، فهم وإن كانوا في الغالب أهل رواية، قد أثبتوا أيضًا بأنهم أهل دراية؛ لأن الكتاب أمر بالتفكير والتدبر، وكانوا يحرصون على الارتباط بالصحابة ومواقفهم من هذه الأصول الهامة في الإسلام، وهم ورثة الأنبياء الذين قال الله فيهم: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ) [ص، الآية: 45] فالأيدي القوة في أمر الله، والأبصار في دين الله، فبالبصائر يدرك الحق ويعرف، وبالقوة يمكن من تبليغه وتنفيذه والدعوة إليه (2) . ولقد استمسكوا بهذا المنهج النقلي العقلي - إن صح التعبير - وربما نجد ما يعبر عن التقاء الرواية بالدراية في كتابات ابن تيمية الذي كان يلح دائمًا على ترديد

_ (1) ابن الجوزي ص 92- 93 تلبيس إبليس. (2) ابن تيمية: نقض المنطق ص 79.

مذهب أهل السنة والجماعة

القاعدة التي أخذ نفسه بالدفاع عنها طيلة حياته، وهي أن العقل لا يتعارض مع النقل، (فإن الله سبحانه بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بجوامع الكلم، فالكلم التي في القرآن جامعة محيطة كلية عامة لما كان منتشرًا في كلام غيره) (1) . وكانت هذه هي مهمة علماء أهل السنة والجماعة أيضًا. فما مذهبهم؟ مذهب أهل السنة والجماعة: ربما ينسب البعض مذهب أهل السنة والجماعة إلى أحد أئمة الفقهاء أو كلهم. ولكنه في الحقيقة امتداد ومتابعة لمذهب الصحابة، وقد أطلق عليه اسم الجماعة للتمييز بينه وبين مذاهب المنشقين عن الجماعة الأولى أمثال الخوارج والشيعة والمعتزلة والمرجئة والقدرية. ومذهب أهل السنة والجماعة مذهب قديم معروف قبل أن يخلق الله تعالى أبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأحمد، فإنه مذهب الصحابة الذين تلقوه عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ومن خالف ذلك كان مبتدعًا عند أهل السنة الجماعة، فإنهم متفقون على أن إجماع الصحابة حجة، ومتنازعون في إجماع من بعدهم (2) . وإذا طالعنا صفحات التاريخ لمعرفة تسلسل ظهور الآراء المخالفة لما كان عليه أهل القرون الأولى، فقد رأينا - كما تقدم - كيف خرج الخوارج وتابعتهم الشيعة في إعلان آرائهم، ثم القدرية. فالجمهية أتباع "جهم بن صفوان" من نفاة صفات الله عز وجل. ثم وقعت المحنة الكبرى في أوائل المائة الثالثة على عهد المأمون (المتوفى 215 هـ) وأخيه المعتصم ثم الواثق، ودعوا الناس إلى التجهم وإبطال صفات الله تعالى، فلم يوافقهم أهل السنة والجماعة حتى هددوا بعضهم بالقتل، وقيدوا بعضهم وعاقبوهم وابتلوهم بالرغبة والرهبة. وندع أحد معاصري الفتنة يصف لنا وقعها على المسلمين وما كابدوه بسببها: قال "عبد العزيز المكي" في كتابه (الحيدة) :

_ (1) نقض المنطق ص 110. (2) ابن تيمية: منهاج السنة ج 1 ص 256.

"واستتار المؤمنون في بيوتهم وانقطاعهم عن الصلاة في الجماعات والجمعات وهربهم من بلد إلى بلد خوفًا على أنفسهم وأديانهم، وكثرة موافقة الجهال له والرعاع من الناس على كفره وضلالته، والدخول على بدعته والانتحال بمذهبه رغبة في الدنيا ورهبة من العقوبة التي كان يعاقب بها من خالفه على مذهبه (1) . وثبت الإمام أحمد بن حنبل في هذه المحنة حتى حبسوه ثم طلبوا أصحابهم من المعتزلة بالبصرة لمناظرته فأفحمهم وعجزوا أمام حججه بالأدلة الشرعية العقلية. وبسبب هذا الموقف رفع الله قدر هذا الإمام، فصار إمامًا من أئمة أهل السنة والجماعة علمًا من أعلامها لقيامه بإعلامها وإظهارها واطلاعه على نصوصها وآثارها وبيان خفي أسرارها، لا أنه أحدث مقالة ولا ابتدع رأيا، ولهذا قال بعض شيوخ المغرب: (المذهب لمالك والشافعي والظهور لأحمد، يعني: أن مذهب الأئمة في الأصول مذهب واحد) (2) . وعلى أية حال فإن معيار الصحة والفساد في المذهب لا الاتباع ولكن الأدلة والإقناع، ولهذا يقرر "ابن تيمية" - وهو من أقوى المدافعين: (وإذا قدر أن في الحنبلية أو غيرهم من طوائف السنة من قال أقوالا باطلة، لم يبطل مذهب أهل السنة والجماعة ببطلان ذلك بل يرد على من قال ذلك بالباطل وينصر السنة بالدلائل) (3) .

_ (1) عبد العزيز بن يحيى بن مسلم الكناني المكي: كتاب الحيدة ص 2 مطابع الشرق الأوسط - الرياض. (2) ابن تيمية: منهاج السنة ج 1 ص 257. (3) المصدر السابق نفسه.

الباب الثالث نشأة الكلام في الدين وعوامل ظهوره

الباب الثالث نشأة الكلام في الدين وعوامل ظهوره الفصل الأول: - مراحل ظهور الكلام في الدين. - عوامل نشأة المشكلات الكلامية. - ذم السلف لعلم الكلام المبتدع.

الفصل الأول:

الفصل الأول: مراحل ظهور الكلام في الدين: اتضح لنا - مما تقدم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النظر في تشابه القرآن، وقد أخرج الشيخان عن عائشة رضي الله عنها، قالت: تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [آل عمران: 7] ، قال "فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم". وقد نفذ أصحاب الصدر الأول هذا النهي وأطاعوا أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - واجتنبوا تحذيراته، فلم يظهر من يجادل ويبحث في الآيات المتشابهة، وعلة ذلك - كما يذكر ابن عباس رضي الله عنهما - منع وقوع الشك في القلوب (1) . أما عن أول من خالف هذه السنة وسأل عن المتشابه فهو رجل يقال له: "عبد الله صبيغ" جعل يسأل عن متشابه القرآن عندما قدم المدينة، فاستدعاه "عمر بن الخطاب" - رضي الله عنه -، وسأله عن اسمه، فلما أخبره، أخذ عرجونًا من عراجين النخل فضربه حتى أدمى رأسه. ويبدو أن الرجل كان مصمما على موقفه؛ لأنه وعد بترك السؤال، ثم عاد إليه فطلبه عمر فقال: (إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً، فأذن له إلى أرضه. وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن لا يجالسه أحد من المسلمين) (2) . كذلك بالنسبة للناظر في القدر، روى "مسلم" أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على الصحابة وهم يتناظرون في القدر، ورجل يقول: ألم يقل الله كذا؟ ورجل يقول: ألم يقل الله كذا؟ ورجل يقول: ألم يقل الله كذا؟ فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان، فقال: "أبهذا أمرتم؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا. ضربوا كتاب الله بعضه ببعض وإنما نزل كتاب الله ليصدق بعضه بعضًا، لا ليكذب بعضه بعضًا، انظروا ما أمرتم به فافعلوه وما نهيتم عنه فاجتنبوه". وبسبب عصيان هذا الأمر النبوي ظهرت القدرية - وهم نفاة القدر في أواخر

_ (1) صون المنطق للسيوطي ج 1 ص 76 البحوث الإسلامية. (2) نفس المصدر ص 50.

زمن الصحابة، وقد روي أن أول من ابتدعه بالعراق رجل من أهل البصرة يقال له (سيسويه) من أبناء المجوس وتلقاه عنه "معبد الجهني" (1) . فلما أعلن هؤلاء التكذيب بالقدر رد عليهم من بقي من الصحابة "كعبد الله ابن عمر" و"عبد الله بن عباس" و"واثلة بن الأسقع" وكان أكثرهم في أطراف البلاد لا في وسطها، فكان أكثر القدرية بالبصرة والشام (2) ، وقليل منهم بالحجاز، أي أن التيارات الخارجية وجدت بغيتها في العناصر الداخلة في الإسلام حديثًا، والتي لم تستمد عقيدتها من الجهابذة العالمين بدينهم كالصحابة والتابعين. وبدأ نفي صفات الله عز وجل بواسطة "الجعد بن درهم" وهو أول المتكلمين في الصفات وأعلن نفيها، ثم تتلمذ على يديه "جهم بن صفوان ". ولكن أصابع المؤرخين ومؤلفي كتب الفرق تشير إلى سلسلة حلقات النافين للصفات إذ تبدأ في حلقتها الأولى "بلبيد الساحر" المعاصر للرسول - صلى الله عليه وسلم - الذي قال بخلق القرآن ناقلاً بدوره هذا القول من يهودي باليمن. والتقت حول "جهم بن صفوان" (128 هـ) عدة فرق كلها تنتمي إلى رأي من آرائه: كإنكار صفات الله تعالى، والقول بالجبر، وإنكار رؤية أهل الجنة لله تعالى، والقول بأن الجنة والنار لم يخلقهما الله بعد وأنهما تفنيان بعد خلقهما، وإنكار الميزان، والشفاعة، والكرام الكاتبين، وعذاب القبر، ومنكر ونكير، إلى غير ذلك فيما وردت به النصوص الثابتة.

_ (1) معبد الجهني - وصفه الذهبي بأنه تابعي صدوق في نفسه، لكنه سنَّ سنة سيئة فكان أول من تكلم في القدر ونهى الحسن البصري (110 هـ) عن مجالسته وقال: هو ضال مضل. قتله الحجاج صبراً لخروجه مع ابن الأشعث. الذهبي: (ميزان الاعتدال في نقد الرجال) ط الخانجي 1325 هـ ج 3 ص 183. (2) فأما الأعصار الثلاثة المفضلة فلم يكن فيها بالمدينة النبوية بدعة ظاهرة ألبتة، ولا خرج منها بدعة في أصول الدين ألبتة كما خرج من سائر الأمصار ... فالكوفة خرج منها التشيع والإرجاء ... والبصرة خرج منها القدر والاعتزال والنسك الفاسد ... والشام كان بها النصب (أي عداوة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -) والقدر. وأما التجهم فإنما ظهر من ناحية خراسان، وهو شر البدع ... ثم في أواخر عصر الصحابة حدثت القدرية ... وحدثت المرجئة قريبا من هذا وأما الجهمية فإنما حدثوا في أواخر عصر التابعين، بعد موت عمر بن عبد العزيز ص 22 من كتاب (صحة أصول مذهب أهل المدينة) - تصحيح زكريا علي يوسف - مطبعة الإمام بصر.

يقول "الملطي" بعد سرد عقائد فرق الجهمية: (وهذا جماع كلام الجهمية وإنما سموا جهمية لأن "الجهم بن صفوان" كان أول من اشتق هذا الكلام من كلام السمنية (1) ، وكانوا شككوا في دينه حتى ترك الصلاة أربعين يومًا، وقال لا أصلي لمن لا أعرفه ثم اشتق هذا الكلام، وبنى عليه من بعده) (2) . ولقد لخص وكيع بن الجراح الاعتقادات التي ذمها السلف بقوله: (القدرية يقولون الأمر مستقبل وأن الله لم يقدر الكتابة والأعمال، والمرجئة يقولون: القول يجزئ من العمل، والجهمية أتباع "جهم بن صفوان" يقولون: المعرفة تجزئ من القول والعمل) (3) . وقد مرت القدرية بمرحلتين: في المرحلة الأولى أنكروا القدر بالمعنى الوارد بالحديث في الصحيحين عن "عبد الله بن مسعود" أن الله يبعث ملكًا بعد خلق الجسد وقبل نفخ الروح فيه فيكتب أجله ورزقه وعمله وشقي أو سعيد. ولكن عندما اشتهر الكلام في القدر في مرحلة تالية وشارك فيه كثير من النظار أصبح أغلب القدرية يقرون بتقديم العلم الإلهي، وينكرون عموم المشيئة والخلق (4) . ويتضح لنا من العرض التاريخي أن بذور الانشقاقات بدأت متناثرة وبواسطة أفراد معدودين، جوبهوا بردود مفحمة ومواقف حاسمة لبتر آثارهم حتى لا تستشري وتنتقل عدواها إلى غيرهم. ثم بدأ الاعتزال بواسطة واصل بن عطاء 131 هـ وعمرو بن عبيد 148هـ، وتضخم بعدهما المذهب، إذ جمع ما تناثر من الأقوال الآنفة في شكل نسق شبه فلسفي متضمنا الأصول الخمسة عند المعتزلة.

_ (1) السمنية: بعض الهند وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسيات. (2) الملطي: التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ص 99. الجعد بن درهم: يصفه الذهبي بأنه مبتدع ضال، زعم أن الله تعالى لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى - ميزان الاعتدال ج 1 ص 197 ط الخانجي سنة 1325 هـ - وقال أبو حنيفة عن جهم: (أفرط جهم في نفس التشبيه حتى قال: إنه تعالى ليس بشيء، وأفرط مقاتل في معنى الإثبات حتى جعله مثل خلقه) ميزان الاعتدال ج 3 ص 196. (3) ابن تيمية: كتاب الإيمان مكتبة أنصار السُّنَّة المحمدية بالقاهرة ص 22. (4) نفسه.

قال "السفاريني": وكان أول من صنف في علم الكلام والجدال والخصام مع أهل السنة والجماعة "واصل بن عطاء" وهو رئيس المعتزلة (1) . والذي نود إبرازه في هذه العجالة عن مراحل ظهور الكلام في الدين أن المشكلات ظهرت بسبب عوامل سلبية - إن صح التعبير - أي: انحسارًا عن موجة المد الإسلامية الأولى في أصول الدين وفروعه ونظمه وأخلاقياته، ورجوعًا عن النموذج المثالي الذي حققه المسلمون في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته والتابعين بعده. كما يتضح أنها لم تبدأ من أصل إسلامي صحيح، بل بدأت بمخالفة الأصول المدعمة بالأدلة، والأمثلة على ذلك كثيرة منها أن الآية القرآنية الآنفة تتناول تقسيم الكتاب إلى آيات محكمات وأخر متشابهات تحمل في طياتها الأمر بعدم اتباع المتشابه ابتغاء الفتنة فجاء البعض ليضرب كتاب الله تعالى بعضه ببعض. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمر بعدم الكلام في القدر فخالفه المخالفون، وأمر بألا يسب أحد أصحابه، فجاء الشيعة بعده فسبوا أبا بكر وعمر رضي الله عنهما. وإذن فهي لا تدل على النضج العقلي أو التفكير الحر كما يصور ذلك بعض دراسات المستشرقين؛ فإن هذا من قبيل الخطأ الشائع الذي يردده كثير من الباحثين والعكس - تماما - صحيح، ولنبحث في عقيدة أقرب الفرق إلى خطأ التفسير اللغوي - وهم المرجئة - فقد نجم خطؤهم من الجهل باصطلاحات اللغة العربية، فزعموا أن الإيمان - لغة - هو التصديق، والتصديق إنما يكون بالقلب واللسان، أو بالقلب فقط، والأعمال عندهم حسب هذا الفهم المنحرف ليست من الإيمان. ويتضح خطؤهم إذا بحثنا في قضية الإيمان، فإن الأفعال تسمى أيضًا تصديقًا، وهذا معنى الإيمان المتواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. مثال ذلك ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "العينان تزنيان وزناهما النظر والأذن تزني وزناها السمع واليد تزني وزناها البطش والرجل تزني وزناها المشي والقلب يتمنى ذلك ويشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه" وكذلك قال أهل اللغة وطوائف من السلف والخلف قال الجوهري: الصدّيق الدائم التصديق الذي يصدق قوله بالعمل.

_ (1) شرح عقيدة السفاريني ص 10 ط المنار 1323 هـ.

عوامل نشأة المشكلات الكلامية

أضف إلى ذلك ما يلي: من مضى من سلفنا لا يفرقون بين الإيمان والعمل، العمل من الإيمان والإيمان من العمل، وهذا معروف أيضًا عن غير واحد من السلف والخلف أنهم يجعلون العمل مصدقًا للقول ورووا ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.. فقد سأل "أبو ذر" النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان قال: "الإيمان الإقرار والتصديق بالعمل" ثم تلا (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) إلى قوله: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة، الآية: 177] . وروي عن "علي بن أبي طالب" أنه قال: (إن الإيمان يبدو لمظة بيضاء في القلب: فكلما ازداد العبد إيمانًا ازداد القلب بياضًا، حتى إذا استكمل الإيمان ابيض القلب كله وإن النفاق يبدو لمظة سوداء في القلب؛ فكلما ازداد العبد نفاقا ازداد القلب سوادًا حتى إذا استكمل النفاق اسود القلب، وايم الله لو شققتم عن قلب المؤمن لوجدتموه أبْيَضَ، ولو شققتم عن قلب المنافق والكافر لوجدتموه أسود) . وقال "ابن مسعود": (الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل) . وعرف "الحسن البصري" الإيمان بقوله: (ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكنه ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال) (1) . لم يكن الكلام في الدين إذن تطورًا من البسيط إلى المركب، أو من الأدنى إلى الأعلى، بل كان نكوصًا من الكمال إلى النقصان، وعصيانًا للأوامر، وانشقاقا عن الجماعة. وهذا ينقلنا إلى بحث عوامل نشأة المشكلات الكلامية. عوامل نشأة المشكلات الكلامية: من استقراء المراحل التي مر بها الجدل في أصول الدين وإثارة التساؤلات وفتح باب المناقشات في القضايا المنهي عن الجدال فيها نستقرئ عوامل نشأة المشكلات الكلامية. وتكاد تجمع المصادر التاريخية على تعليل ظهور الجدل بعوامل خارجية، أي من قبيل الغزو الثقافي الأجنبي. وتشير أصابع المؤرخين إلى هذا المصدر، حيث هبت

_ (1) ابن تيمية: الإيمان ص 173-174-179.

منه أعاصير النزاع بعد أن كانت العقيدة راسخة في النفوس والقلوب، أمدت المسلمين الأوائل بطاقات هائلة فمضوا في طريقهم لتحقيق الغاية وجعل كلمة الله هي العليا. ولكن الجدل المنهي عنه أدى إلى انحسار حضارة المسلمين فعكفوا يتجادلون ويتناحرون، فوقفت عجلة المد الإسلامي وتقوقع المسلمون، فسهل على أعدائهم غزوهم في ديارهم. ويصف "ابن قتيبة" المظاهر الطارئة على المسلمين بقوله: (وكان المتناظرون فيما مضى يتناظرون في معادلة الصبر بالشكر، وفي تفضيل أحدهما على الآخر، وفي الوساوس والخطرات، ومجاهدة النفس، وقمع الهوى فقد صار المتناظرون يتناظرون في الاستطاعة والتولد والطفرة والجزء والعرض والجوهر، فهم دائبون يخبطون في العشوات؛ فقد تشعبت بهم الطرق وقادهم الهوى بزمام الردى) (1) . وهذا هو الدرس التاريخي الذي وعاه شيوخ الحديث والسنة فحذروا من تضييع الجهود في محاولات جدلية سقيمة، ورأوا في تشقيقات المتكلمين بدعًا من ناحية، واستهلاكًا لطاقة تبذل فيما لا طائل وراءه من ناحية أخرى، حيث جاء القرآن بأكمل المناهج في الحجاج العقلي، وفرغ المسلمين إلى العمل. وقد رأينا أهل أفضل القرون كيف استمسكوا بالمنهج الإسلامي الصحيح العقيدة حيث يرى شيخ الإسلام أن أفضل الخلق بعدهم هم المقتدون بعلم وعمل الصحابة وتتحقق هذه المتابعة بصفة خاصة بواسطة علماء الحديث، فهم أهل الآثار النبوية وهم أهل العلم بالكتاب والسنة في كل عصر ومصر (2) . وبمتابعة الأزمنة بعد عصر الحجاج نرى أنه كلما بعد الزمن وقل عدد الصحابة والتابعين بعدهم، بدأت البدع تظهر تدريجيًا، لأن نور النبوة في الأصل كان كمثابة الشمس الساطعة التي طمست الكواكب وعاش السلف فيها برهة طويلة ثم حجب

_ (1) ابن قتيبة (لاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة) كتاب عقائد السلف ص 224 تحقيق د. النشار وعمار الطالبي منشأة المعارف بالإسكندرية 1971 م. (2) ابن تيمية: بغية المرتاد ص 112.

بعض نور النبوة (1) . وبانقضاء دولة الخلفاء الراشدين، وتولي زمام الحكم من هم أقل منهم مرتبة ظهر أثر ذلك في بعض قضايا أصول الدين مثلما أثاره الخوارج. ولما كان ظهورهم في أواخر حكم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مرتبطًا بالخلافة أو الأمانة الكبرى فقد تبعه بدع الأحكام والأعمال والأسماء. ثم ظهر الملك على يد معاوية، ثم الإمارة إلى ابنه يزيد وانشق المسلمون على أثر مقتل "الحسين بن علي" بالعراق وفتنة الحرة (سنة 37 هـ) بالمدينة وقيام "عبد الله بن الزبير" بمكة في وجه بني أمية و"المختار بن أبي عبيد" وغيره من الشيعة بالعراق. وعلى أثر هذه الأحداث الجسام، برز الخوارج والشيعة والقدرية والمرجئة، فقد قام بعض الصحابة آنذاك بالرد على هذه البدع والوقوف في وجهها وهم على سبيل المثال: عبد الله بن عباس (68 هـ) وعبد الله بن عمر (73 هـ) ، وجابر بن عبد الله (78 هـ) وأبو سعيد الخدري (94 هـ) ، وغيرهم. ويضرب "ابن تيمية" مثلاً على ذلك بأن القدرية لم يجرؤوا على الكلام في الذات أو الصفات الإلهية إلا في أواخر صغار التابعين، أو في أواخر الدولة الأموية، وكانوا قبل ذلك يقتصرون على الكلام في الأحكام والوعد والوعيد. ويتضح مما سبق أن الحياة الدينية تأثرت في بداية العصر العباسي بعاملين: أحدهما ظهور سلطان الموالي من غير العرب لا سيما العناصر الفارسية وانحسار الأمر عن ولاية العرب، والعامل الثاني، وهو ترجمة كتب الفرس والروم والهند. ومما يساعد على قوة تأثير هذين العاملين أن صحابة الرسول صلوات الله عليه كانوا قد ماتوا عند انتهاء خلافة الراشدين فيما عدا القليل، وكذلك الحال بالنسبة للتابعين إذ مات أغلبهم في زمن إمارة ابن الزبير. أما تابعو التابعين فقد انقضى عصرهم في أواخر الدولة الأموية ولهذا لم تجد التيارات الجديدة التي تسللت إلى المسلمين من يقف في وجهها لصدها مثلما فعل الخلفاء الراشدون والصحابة في عصرهم من قبل.

_ (1) ابن تيمية: بغية المرتاد ص 112.

واستنتج "شيخ الإسلام" من هذه الأحداث ظهور أمور ثلاثة هي: الرأي والكلام والتصوف (1) . وأغلب الظن - من جهة أخرى - أن شيخنا قصد ترتيب ظهور الرأي ثم الكلام ثم التصوف بتسلسل زمني على أثر الترجمة خاصة وأنه يتكلم عن المأمون (218 هـ - 833 م) الذي شجعها - والمعروف - كما يذكر صاحب الفهرس أن "خالد بن يزيد بن معاوية" (85 هـ-704 م) الذي كان يسمى حكيم آل مروان "هو أول من قام بالترجمة". يقول "ابن النديم": (كان فاضلاً في نفسه وله همة ومحبة للعلوم، خطر بباله الصنعة فأمر بإحضار مجموعة من فلاسفة اليونانيين.. وأمرهم بنقل الكتب في الصنعة من اللسان اليوناني القبطي إلى العربي، وهذا أول نقل كان في الإسلام من لغة إلى لغة) (2) . ونستدل من تعيين الشيخ "السلفي" للمأمون دون غيره، أن هذا الخليفة اشتهر بالميل إلى التشيع والاعتزال، وفضلا عن مشكلة خلق القرآن التي ارتبطت في الأذهان فإن الباحث عن أسباب ذلك يجده دون كبير مشقة في كتب التاريخ التي تكاد تتحد في وصفها له. يقول "ابن الأثير": (إنه كان شديد الميل إلى العلويين والإحسان إليهم) (3) وذكر ابن كثير أن "المأمون" لما ابتدع التشيع والاعتزال فرح بذلك شيخه بشر المريسي (118هـ - 833 م) وكان من شيوخ الاعتزال (4) . ويضيف صاحب (تاريخ بغداد) (إنه كان إلى حد غير قليل تحت سلطان الفرس ووزرائهم) (5) وكأن شيخ الإسلام حاول بذلك أن يثبت أن الترجمة أنتجت آثارها الكاملة في عصر المأمون - أي في وقت متأخر عن عصر الصحابة والتابعين للأسباب التي تذكرها المصادر السالف الإشارة إليها. أو بعبارة أخرى أنها وجدت

_ (1) ابن تيمية: كتاب السلوك ص 358 ط الرياض. (2) ابن النديم: الفهرست ص 338. (3) ابن الأثير: تاريخ الكامل ج ص 179 (4) ابن كثير: البداية والنهاية ج 10 ص 279 (5) ابن الخطيب: تاريخ بغداد ج 6 ص 75.

صدى عنده وميلا لتقبل نتائجها. ولكن تحميل الترجمة النتائج التي حدثت في العالم الإسلامي حينذاك ليس دليلا على كراهية "ابن تيمية" للترجمة في ذاتها ولكن بسبب تشجيع المأمون للاتجاهات الفلسفية والكلامية. هناك إذن عامل داخلي يتمثل في بدء حركة انحسار الوازع الديني والخروج عن الأصول والقواعد المستقرة الثابتة، ولكن الحركة على ضآلتها في البداية حوصرت وعولجت بحسم، ثم أخذت في الازدياد باتساع رقعة العالم الإسلامي وشيئًا فشيئًا ضعفت المقاومة بسبب موت الصحابة وتفرقهم في الأمصار، ثم موت كبار التابعين أيضًا. ويتضح أثر العامل الخارجي بشكل أشمل إذا بحثنا ظروف الترجمة وأدوارها وآثارها، فالمشهور أن أول ترجمة للكتب اليونانية إلى العربية تمت في عهد "خالد بن يزيد بن معاوية" (توفي 85 هـ) وكانت في بدايتها - فيما يبدو - قاصرة على العلوم إذ كان "يزيد" هذا مولعًا بكتب الكيمياء (1) . ولكن عملية الترجمة بدأت على نطاق واسع بواسطة "يحيى بن خالد بن برمك" (متوفى 190 هـ) في خلافة الرشيد. وواقعة الترجمة لا تخلو من بعض المعاني التي يحسن بالباحث أن يتأملها حيث قيل: إن "يحيى بن خالد" هذا كان زنديقًا، وإنه صانع ملك الروم وأرسل إليه الهدايا طالبًا نقل الكتب اليونانية - وكانت مخبأة تحت بناء - فجمع الملك البطارقة والأساقفة والرهبان طالبًا منهم المشورة والرأي، وكان من رأيه أن الخير في حبس الكتب عن رعيته من النصارى لأنه خاف عليهم منها إذ قد تكون سببًا لهلاك دينهم، ويفضل إرسالها إلى خالد البرمكي؛ لكي يبتلى بها المسلمون ويسلم رعاياه من شرها، فوافقه المجتمعون على ذلك فنفذه. واهتم بها "يحيى بن خالد البرمكي" (فجعل المناظرة في داره والجدال فيما لا ينبغي، فيتكلم كل ذي دين في دينه، ويجادل عليه آمنًا على نفسه) (2) .

_ (1) السيوطي: صون المنطق 1/ 42. (2) ن. م ص 41.

وتشير رواية أخرى إلى أن المأمون (218 هـ) هو الذي طلب من صاحب جزيرة "قبرص" خزانة كتب اليونان، وكانت عندهم في بيت لا يظهر عليه أحد فأشار عليه خواصه بإجابة المأمون إلى طلبه بهدف إحداث الفتن بينهم (فما دخلت هذه العلوم على دولة شرعية إلا أفسدتها وأوقعت بين علمائها) (1) . ومن المحتمل أن الرواية قد حدث فيها بعض الإضافات إلا أنه من الثابت أن المأمون قد شجع عملية الترجمة والخوض في علم الكلام، ولذا فإن "ابن تيمية"، كان يعلق على ذلك بقوله (ما أظن أن الله يغفل عن المأمون ولا بد أن يقابله على ما اعتمده مع هذه الأمة من إدخاله هذه العلوم بين أهلها) (2) . ويلحظ الباحث إجماع مؤلفي كتب الفرق على إرجاع ظهور المشكلات الكلامية إلى تيار خارجي، ولا يمكن أن يكون هذا الإجماع إلا صدى لحقيقة تاريخية ثابتة أمامهم فنقلوها نقلاً متواترًا بعضهم عن بعض. والعبارة المذكورة في كتب الفرق والتاريخ تكاد تتشابه فتذكر أسماء من أثار المشاكل والمتتبع لها وناقلها إلى محيط الثقافة الإسلامية فتذكر: (أن البدع فشت أصلاً بعد القرون الثلاثة وإن كان قد نبع أصلها في أواخر عصر التابعين، فإن أصل مقالة نفي صفات الله تعالى - أي التعطل للصفات - إنما هو مأخوذ من تلامذة اليهود والمشركين وضلال الصابئين، فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام هو "الجعد بن درهم" وأخذها عنه "الجهم بن صفوان" وأظهرها فنسبت إليه، وقد قيل: إن الجعد أخذ مقالته عن "أبان بن سمعان"، وأخذها "أبان" عن "طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم) اليهودي الساحر الذي سحر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان الجعد هذا فيما قيل من أهل حران، وكان فيهم خلق كثير من الصابئة والفلاسفة بقايا أهل دين النمرود الكنعانيين الذين صنف بعض الساحرين في سحرهم. والنمرود هو ملك الصابئة إذ ذاك إلا قليلاً منهم على الشرك، وعلماؤهم الفلاسفة.. وكثر من الصابئة

_ (1) ن. م ص 41. (2) ن. م ص 42.

أو أكثرهم (1) كانوا كفاراً ومشركين وكانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل ومذهب النفاة الذين يقولون: ليس له صفات إلا سلبية أو إضافية أو مركبة منهما وهم الذين بعث سيدنا "إبراهيم" خليل الرحمن إليهم فيكون الجعد أخذ عقيدته عن الصابئة وأخذها الجهم أيضًا - فيما ذكره الإمام "أحمد" رضي الله عنه - عنه وعن غيره وكذلك "أبو نصر الفارابي" دخل "حران" وأخذ عن فلاسفة الصابئة تمام فلسفته لما ناظر السمنية فرجعت أسانيد الجهم إلى اليهود الصابئين والمشركين والفلاسفة الضالين إما من الصابئين وإما من المشركين. فلما عربت الكتب الرومية زاد البلاء مع ما ألقى الشيطان في قلوب أهل الضلال. ولما كان بعد المائة الثانية انتشرت هذه المقالة التي كان السلف يسمونها مقالة الجهمية بسبب "بشر بن غياث المريسي" وذويه) (2) . وقد أرخ "المسعودي" لمراحل انتقال المدارس الفلسفية أيام اليونان من أثينا إلى الإسكندرية ثم إلى إنطاكية ثم إلى حران، متتبعًا انتقالها إلى العالم الإسلامي ذاكرًا الأفراد المهتمين بها، مبينًا أن مجلس تعليم الفلسفة انتهى في أيام المقتدر، وإبراهيم المروزي ثم إلى "أبي محمد بن كرنيب" وأبي بشر "متى بن يونس" تلميذي "إبراهيم المروزي". ثم علق (المسعودي) بعد هذا بقوله: (وعلى شرح "متى" لكتب أرسطوطاليس المنطقية يعول الناس في وقتنا هذا - توفي المسعودي عام 385 هـ - وكانت وفاته ببغداد في خلافة "الراضي"، ثم إلى "أبي نصر محمد بن محمد الفارابي" تلميذ "يوحنا بن حيلان" وكانت وفاته بدمشق في رجب سنة 339 هـ) (3) . ويبدو أننا إذن أمام غزو ثقافي منظم يريد الكيد للإسلام وأهله، جوبه في بدايته بمقاومة شديدة أيام الصحابة والتابعين كما ظهر لنا آنفًا، ثم ازداد على أثر

_ (1) وإن كان الصابئ قد لا يكون مشركا بل مؤمنًا بالله واليوم الآخر كما قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة، الآية: 62] . (2) شرح السفاريني ج 1 ص 21. (3) المسعودي: التنبيه والإشراف ط القاهرة 1357 هـ 1938 م.

ذم السلف للكلام المبتدع

موت المدافعين الأول، وقد ثبت أن خلفاء بني أمية قاوموا هذه التيارات بشدة، قال "القيرواني" (رحم الله بني أمية، لم يكن فيهم قط خليفة ابتدع في الإسلام بدعة) (1) . أما دولة بني العباس فقد قامت على أكتاف الفرس، وربما حدثت عملية الغزو من جراء فشلهم في هزيمة المسلمين في ميادين القتال فخاضوا معهم هذه المعارك الثقافية لمحاولة تقويض العقيدة، وهذا ما ذهب إليه "ابن خلدون" في مقدمته. وقد ضخم من أثر ظهور الموالي عامل الجهل باللغة العربية وأسرارها واصطلاحاتها وعدم فهم لسان العرب الجاري عليه نصوص القرآن والسنة، إذ أرجع الإمام الشافعي القول بخلق القرآن ونفي الرؤية وغير ذلك من المسائل إلى الجهل بالعربية، وكان الحسن البصري يقول: (إنما أهلكتكم العجمة) (2) . وإزاء هذا كله، ذم السلف علم الكلام المبتدع، وإلى القارئ أسباب ذلك: ذم السلف للكلام المبتدع: تبين لنا مما تقدم أن المسلمين الأوائل من الصحابة والتابعين عارضوا الانشقاقات التي أحدثها البعض، وأظهروا معارضتهم لهذه البدع الطارئة وهي في جوهرها كانت نوعًا من أنواع الغزو الثقافي الزاحف من حضارات وديانات أخرى كان المجتمع الإسلامي عند نشأته في المدينة المنورة محصنًا إزاءها، إذ كان الوحي يتنزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكان الصحابة يتلقون منه كل ما يحتاجونه في حياتهم الفردية والاجتماعية ويستفسرون عما يعنُّ لهم في العقيدة والعبادات والمعاملات. كما سألوا عن المسائل الغيبية وعرفوا الإجابات عنها من النبي - صلى الله عليه وسلم - كصفات الله - سبحانه وتعالى - والحياة الآخرة والجنة والنار والعذاب والحساب والعقاب والملائكة والجان وغير ذلك من أمور الغيب. والبدعة اصطلاحًا هي: (التعدي في الأحكام والتهاون

_ (1) السيوطي: صون المنطق ج 1 ص 42. ويربط أستاذنا الدكتور محمد علي أبو ريان - رحمه الله تعالى - بين الغزوين: الحديث والقديم فيقول: (ومن أمثلة هذا الغزو الفكري انقضاض التيارات المادية والوجودية والبراجماتية على الفكر الإسلامي.. وكذلك ما تلقاه المسلمون من فلسفة إسلامية زيفاء لا يزالون يولونها عنايتهم إلى عصرنا هذا) ص 6 من كتابه (أسلمه المعرفة، العلوم الإنسانية ومناهجها من وجهة نظر إسلامية) دار المعرفة الجامعية بالإسكندرية 1997 م وينظر بحثه بنفس المصدر تحت عنوان: (جناية الفكر الفلسفي الملفق على الفلسفة الإسلامية) ص 80 - 84. (2) السيوطي: صون المنطق ج 1 ص 56

أسباب ذم علم الكلام

بالسنن واتباع الآراء والأهواء وترك الاقتداء والاتباع) (1) . وفي ضوء هذا التعريف، يصح بحث أسباب ذم السلف للكلام ورفضهم لما أدخله المتكلمون على البيئة الثقافية الإسلامية من تساؤلات وما بحثوه من قضايا وما استخدموه من مصطلحات طارئة. ويمكن أن نستخلص هذه الأسباب في ضوء معرفة حقيقة الصراع الذي بدأ في ميدان العقيدة بين الإسلام والتيارات التي أخذت تهب من الخارج والتي استهدفت زعزعة العقيدة في النفوس باعتبارها الحصن المكين الذي يتمكن به الصحابة والتابعون وتابعوهم من خوض المعارك الكبرى والمنتصرة في تاريخ الإسلام. وتتلخص أسباب ذم علم الكلام فيما يأتي: أولاً: لقد أغنى الله تعالى المسلمين بكتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - عن الالتجاء إلى مصادر أخرى لمعرفته عز وجل، أو إثبات توحيده وصفاته وأسمائه الحسنى، فقد أرسل الرسول (وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا) [الأحزاب: الآيتان 45 - 46] مع تكليفه بالتبليغ (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) [المائدة: 67] . وقد أدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأمانة وبلغ الرسالة على خير وجه وأشهد المسلمين على إتمام التبليغ في خطبة الوداع (ألا هل بلغت؟) وكمل إتمام الدين بقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ) [المائدة: الآية 3] وهذا يثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يترك أمرًا من أمور الدين - أصوله وفروعه - إلا وقد وضحها وأتم بيانها، بل إنه كان يبلغ كل أوامر ربه - عز وجل - في التو واللحظة ولا يؤخرها (ومعلوم أن أمر التوحيد وإثبات الصانع لا تزال الحاجة ماسة إليه أبدًا في كل وقت ومكان، ولو أخر عن البيان لكان التكليف واقعًا بما لا سبيل للناس إليه، وذلك فاسد غير جائز) (2) . ثانيًا: يرى علماء السلف أنه بمسائله واصطلاحاته وأبحاثه يعد من قبيل فضول الكلام الذي لا يفيد الاشتغال به بل إن العمل به مضيعة للجهد والوقت بعد أن

_ (1) نفس المصدر ص 171. (2) صون المنطق ج 1 ص 141.

كفانا الله عز وجل مؤونة العكوف على مسائله بما بين لعباده ما يحتاجون إليه في عاجلهم وآجلهم (أوضح لهم سبيل النجاة والتهلكة وأمر ونهى وأحل وحرم وفرض وسن) . هذا فضلا عن أننا نعثر في الأحاديث النبوية على توضيحات لكافة المباحث التي خاض فيها المتكلمون، فقد اشتمل الحديث على معرفة (أصول التوحيد وبيان ما جاء من الوعد ووجوه الوعيد وصفات رب العالمين تعالى عن مقالات الملحدين والإخبار عن صفات الجنة والنار وما أعد الله فيها للمتقين والفجار وما خلق الله في الأرضين والسموات من صنوف العجائب وعظيم الآيات وذكر الملائكة المقربين ونعت الصافين والمسبحين) (1) . ثالثًا: خشية الفتنة بسبب استخدام المصطلحات الكلامية التي لم يأت بها الكتاب والسنة إذ لم يدع الرسول - صلى الله عليه وسلم - الناس في أمر التوحيد إلى الاستدلال بالأعراض والجواهر فضلاً عما أدت إليه هذه المصطلحات من منازعات وخصومات بين المسلمين لعدم الاتفاق على مدلولاتها وتركيباتها، فأصبح لكل فرقة تشقيقات كلامية تختلف عن غيرها وظهرت الفرقة بين صفوف المسلمين (2) . والحق أن أسباب ذم السلف لعلم الكلام لا يمكن تقديرها حق قدرها وفهمها على وجهها الصحيح إلا إذا وضعناها في إطار الصراع الثقافي الحادث في المجتمع الإسلامي عقب وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه وانقضاء دولة الخلافة الراشدة. ونضرب على ذلك أمثلة من واقعنا المعاصر، فنتساءل: هل يجرؤ أحد في بلاد الاتحاد السوفيتي مثلاً؛ حيث النظام الماركسي، على القيام بالدعوة لنظم الغرب في الحكم والاقتصاد؟ إنه بلا شك سيواجه بتهمة الخيانة العظمى، فإما يعدم أو يطرد من بلاده شر طردة. كذلك فإن أية حركة تقوم في الغرب لمحاولة المساس بالنظام الديمقراطي في الحكم أو الاقتصاد الحر في المعاملات إلا وتواجه بمقاومة عنيفة من الرأي العام. بمثل هذا نستطيع تقريب فهم ما حدث من معارضة للمتكلمين في عصر

_ (1) نفس المصدر ص 194. (2) نفس المصدر ص 142.

علم الكلام بين الأصالة والابتداع

الحضارة الإسلامية الزاهية، حيث تأكد لعلماء الحديث والسنة بطريق لا تقبل الشك ويشهد بها التاريخ ويقرها الواقع الماثل أمامهم أن عقيدة الإسلام وعباداته ونظمه وأخلاقياته قد تحققت كاملة في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلافة الراشدة فكانت دولة عالمية تشع نورًا بقيمها وعلومها ومثلها العليا، فكان العلماء حريصين على بقاء هذه الدولة العظمى بأركانها جميعًا، وأهم أركانها بلا شك هي العقيدة بأصولها المدعمة بالأدلة من الكتاب والسنة، فلما جاء المنشقون لإثارة اللغط حول ما بني واكتمل وظهر آثاره رأوا أنه بمثابة معول هدم لن يتوقف إلا بعد أن يتحول البناء إلى ركام. ونحن نرى - من زاوية التشابه مع نظرتنا المعاصرة التي بيناها آنفًا - أنهم كانوا محقين في معارضتهم. وسيزداد اقتناعنا كلما مضينا في بحثنا. علم الكلام بين الأصالة والابتداع: إن من سمات منهجنا في هذه الدراسة النظر إلى علم الكلام من اتجاهين: أحدهما: الاتجاه الذي يتبناه شيوخ المعتزلة والأشاعرة بمفاهيم ومصطلحات بعضها إسلامي والآخر مستعار من ميتافيزيقا اليونان، كالقول بالقديم والمحدث والجوهر والعرض وغيرها. والاتجاه الثاني: الذي يتبناه علماء الحديث والسنة ويتلخص في أن القرآن الكريم قد استوفى القضايا التي خاض فيها المتكلمون، وتظهر أصالة المنهج عندهم إذا استخلصنا من آرائهم السمة الطاهرة المصطبغ بها نتاجهم، ويتضح ذلك بصفتين ظاهرتين: الأولى: الاستناد على طرق الاستدلال القرآنية لتدعيم نقدهم للنظريات الكلامية في دوائر الفرق الكلامية المعروفة. الثانية: رفضهم تقسيم دائرة الإسلام الكبرى إلى دوائر متفرقة، لأنه ينبغي في رأيهم معرفة الإسلام واعتناق عقيدته لمنهج متكامل، لأنه شامل: يحدد الغرض من حياة الإنسان، مخاطبًا عقله، ومغذيًا وجدانه وراسمًا له طريق السلوك الصحيح المؤدي إلى سعادة ممتدة من الحياة الدنيا المؤقتة إلى حياة الآخرة الخالدة. وفي هذا المعنى نجد "ابن تيمية" يرفض تجزئة الإسلام، فالصوفية في رأيه بنوا أمرهم على الإرادة وحدها، والمتكلمون بنوا أمرهم على النظر وحده، ولكن لابد

من أن تكون الإرادة عبادة الله - تعالى - وحده بما أمر، وأن يكون النظر في الأدلة التي دل بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي آيات الله تعالى (1) . ويوجز نقده لأهل الكلام بقوله: (إنهم قصروا عن معرفة الأدلة العقلية التي ذكرها الله في كتابه وعدلوا عنها إلى طرق أخرى مبتدعة) (2) بينما الحقيقة المؤكدة أن القرآن (جعله الله شفاء لما في الصدور، لكن قد تخفى آثار الرسالة في بعض الأمكنة والأزمنة، حتى لا يعرفون ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، إما أن لا يعرفون اللفظ، وإما أن يعرفوا اللفظ ولا يعرفون معناه) (3) . فما علم الكلام عند المتكلمين؟: أورد التهانوي الآراء التي قيلت في تعليل تسميته بعلم الكلام، منها أنه يورث قدرة على الكلام بالشرعيات، ومنها أن أبوابه عنونت - أولاً - بالكلام في كذا. ومنها أن مسألة الكلام أي: كلام الله - عز وجل- أشهر أجزائه حتى كثر فيه التقاتل، كما سمي كذلك بأصول الدين لأنه الأصل الذي تنبني عليه العلوم الشرعية، وسماه أبو حنيفة (الفقه الأكبر) لأنه الاشتغال بأصول الدين، لا بالأحكام الفرعية العملية. ويسمى أيضًا بعلم النظر والاستدلال ويسمى بعلم التوحيد والصفات (4) .

_ (1) ابن تيمية: معارج الوصول إلى أن معرفة الدين وفروعه قد بينها الرسول ص 18. (2) ابن تيمية: منهاج السنة ج 2 ص 62. (3) ابن تيمية مجموع الفتاوى ج 17 ص 306. (4) التهانوي: كشاف اصطلاحات الفنون ص 30 - 33.

الفصل الثاني علم الكلام - تعريف علم الكلام - علم الكلام بين الأصالة والبدعة. - حجج المتكلمين في الدفاع عن منهجهم. - رأي علماء الحديث في هذه الحجج.

الفصل الثاني: علم الكلام

الفصل الثاني: علم الكلام: إن علم الكلام عند ابن خلدون (علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، والرد على المبتدعة في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة) . ومع أنه أجاز الدفاع عن العقائد الإيمانية بواسطة الأدلة العقلية، إلا أنه عاد فأوضح أن المسائل الغيبية إنما هي لا تقع في حيز الإمكانيات التي يستطيع العقل وحده الاهتداء إليها لأنها فوق طور العقل. وتحدث أيضًا عن الملكة الإيمانية الراسخة في النفس من أثر أداء العبادات فيقول: (فقد تبين لك من جميع ما قررناه أن المطلوب في التكاليف كلها حصول ملكة راسخة في النفس يحصل عنها علم اضطراري هو التوحيد وهو العقيدة الإيمانية وهو الذي يحصل بها السعادة) . ثم أخذ يحدد معالم الفكر والنطاق الذي يدور فيه ويصف الحدود الضيقة التي لا يستطيع أن يتجاوزها، وأن الفكر عاجز عن الإحاطة بتفصيل الوجود كله - أي: الوجود المطلق - لأن الوجود (عند كل مدرك في بادئ رأيه منحصر في مداركه لا يعدوها فالأمر نفسه بخلاف ذلك) وأن الأمثال التي يسوقها مؤرخنا تدعم هذا الرأي، فالأصم ينحصر الوجود عنده في المحسوسات الأربع ويفقد صنف المسموعات ويسقط عند الأعمى صنف المرئيات. إن هذا يثبت عجز الإدراك الإنساني عن الإحاطة بما في الوجود كله فما بالنا بخالق هذا الكون، سبحانه وتعالى؟ ولكن لا يعني هذا القدح في العقل بل العقل ميزان صحيح لأن أحكامه يقينية ولكن بسبب ما بيناه من عجزه عن الإحاطة بالوجود - لأنه أوسع نطاقًا من المدارك الإنسانية - أي أن العقل لا يستطيع الإنسان أن يزن به أمور التوحيد والآخرة وحقيقة النبوة وحقائق الصفات الإلهية (1) . وربما كان المثال الذي ضربه لنا "ابن خلدون " في هذا الصدد يعد أقوى دليل

_ (1) مقدمة ابن خلدون ص 382 - ط دار الفكر 1399 هـ - 1979 م.

فيما يقدمه من رأي دقيق لإثبات عجز العقل عن إدراك ما وراء طوره في المسائل الغيبية، إذ يقول: "وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه بل العقل ميزان صحيح فأحكامه يقينية لا كذب فيها غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة وحقيقة النبوة وحقائق الصفات الإلهية وكل ما وراء طوره فإن ذلك طمع في محال، ومثال ذلك مثال رجل رأى الميزان الذي يوزن به الذهب فطمع أن يزن به الجبال، وهذا لا يدرك. على أن الميزان في أحكامه غير صادق، ولكن العقل قد يقف عنده ولا يتعدى طوره حتى يكون له أن يحيط بالله وبصفاته فإنه ذرة من ذرات الوجود الحاصل منه، وتفطن في هذا الغلط من يقدم العقل على السمع في أمثال هذه القضايا وقصور فهمه واضمحلال رأيه، فقد تبين لك الحق من ذلك (1) . وقد أشار "ابن خلدون " في تعريفه إلى أهم النقاط المثيرة للخلاف بين علماء الكلام في دائرتي المعتزلة والأشاعرة، وبين علماء الحديث والسنة، مما جعلنا نرجح أن وراء هذه الأسطر قراءات متشعبة ومستوعبة لقضايا أصول الدين ووجهات النظر المتباينة حولها. ويتضح أيضًا أنه أعطى الجانب النقدي اهتمامه أيضًا. لذلك لا ينبغي أن ننسى جبهة عريضة وقفت تعارض علم الكلام في دائرة السلف من علماء الحديث على مر الأعصار وتعده من قبيل البدع الطارئة على الفكر الإسلامي وأنه أدى إلى الاضطرابات والفتن، وفتت جهود المسلمين وأجهد عقولهم في مجال كفاه القرآن والسنة. وحتى أمام وجهة النظر المدافعة عن المتكلمين بأنهم دافعوا عن الإسلام فإن الرأي المعارض - الذي يمثله ابن تيمية والجامع للاتجاه السلفي قبله - على العكس - يرى أنهم أخفقوا في هذه المهمة لأنهم لم يستندوا في أصولهم على المبادئ الاستدلالية القرآنية (فالكلام الذي ابتدعوه وزعموا أنهم به نصروا الإسلام وردوا به على أعدائه كالفلاسفة، لا الإسلام ولا لعدوه كسروا، بل كان بما ابتدعوه ما أفسدوا به حقيقة الإسلام على من اتبعهم) (2) .

_ (1) المقدمة ص 384. (2) ابن تيمية: شرح حديث النزول ص 163.

أهم موضوعات علم الكلام

ومضى يذكر أسباب ذلك ودوافعه مما لا يدخل في نطاق موضوعنا الآن، وسنفصله عند الحديث عن آرائه الكلامية. ونقتصر هنا على بيانه لخطأ المتكلمين المنهجي - وهو يعبر لنا عن الاتجاه السلفي العام، إذ يستند إلى ضرورة طلب علم ما أنزل الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الكتاب والحكمة كما فعل الصحابة والتابعون ومن سلك سبيلهم لا سيما في أصول التوحيد والإيمان - ثم بعد معرفة ما بينه الرسول ينظر في أقوال المفكرين وما أرادوه بها فتعرض على الكتاب والسنة، مع العلم بأن العقل الصريح دائمًا موافق للرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يخالفه قط، فإن الميزان مع الكتاب (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) [الشورى، الآية: 17] ، ولكن قد تقصر عقول الناس عن معرفة تفصيل ما جاء به، فيأتيهم الرسول بما عجزوا عن معرفته وحاروا فيه، لا بما يعلمون بعقولهم بطلانه، فالرُّسُل صلوات الله وسلامه عليهم تخبر بمحارات العقول لا بمحالات العقول. وإذا كان هذا المنهج الصحيح فإن المناهج المخالفة على العكس من ذلك، فإنها ناجمة عن ابتداع بدعة برأي البعض وتأويلاتهم، ثم جعل ما جاء به الرسول تبعاً لها، فيحرفون ألفاظه ويؤولونها على وفق ما أصلوه (1) . أهم موضوعات علم الكلام: تدور المناقشات في أصول الدين التي يتكلم المتكلمون فيها ويتناظرون عليها، حول المسائل الآتية: أولاً: الرد على الدهرية القائلين بقدم العالم فأخذ المتكلمون يبرهنون على حدوث الأجسام والدلالة على أن للعالم محدثًا هو الله تعالى. ثانيًا: تنزيه الله عز وجل، للرد على أهل الكتاب من اليهود والنصارى ودحض مزاعم القائلين بكثرة الصانعين كالمجوس، فقد شبه اليهود الله سبحانه وتعالى بصفات المخلوقين وادعى النصارى بالقول بالتثليث، وقال المجوس بإله النور وإله الظلمة. ثالثا: إثبات أن الله تعالى عالم قادر حي قيوم، وأنه واحد، للرد على المعطلة

_ (1) ابن تيمية: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ج 17 ص 443/ 444.

النافين للصفات. رابعًا: الكلام في رؤية الله عز وجل في الجنة، وإثباتها أو نفيها، وأن كلام الله مخلوق أو غير مخلوق. خامسًا: البحث في أفعال العباد وهل هي مخلوقة يحدثها الله - تبارك وتعالى - أو العباد وإذا كانت الاستطاعة قبل الفعل أو معه. سادسًا: الحكم على من مات مرتكبًا الكبائر، فهل يخلد في النار أو يجوز أن يرحمه الله - تعالى - ويتجاوز عنه ويدخله الجنة؟ سابعًا: الدلالة على النبوة بعامة، ردًا على البراهمة وغيرهم من مبطلي النبوة. والدلالة على نبوة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بخاصة. ثامنًا: القول في الإمامة ومن يصلح لها ومن لا تصلح له وهل هي قضية مصلحية تتم بأهل الحل والعقد في الأمة أم أنها تتم بالنص (1) . هذه هي المسائل المثارة في المدارس الكلامية، ويظهر من مصطلحاتها أنها ترتبط بمراحل تاريخية للمسلمين، من أهم سماتها أنهم كانوا فيها أصحاب الحضارة السائدة في عالمهم. والآن، حلت مشكلات أخرى، فأصبح من الضروري أن يجابهها الفكر الإسلامي بطرق ملائمة لثقافة العصر وحضارته. فإذا صورنا العالم الإسلامي أيام الاشتباك العقلي مع خصوم الإسلام، فمن الواضح أنه كان مهاجمًا، يملك في يديه العناصر الحضارية الأسمى، ثم انحسرت موجة الحضارة وانقلب العالم الإسلامي مدافعًا بعد أن كان ممسكًا بزمام الأمور، مرهوب الجانب مسموع الكلمة (2) . والنظرة العامة لتاريخنا المعاصر تجعلنا ندرك صحة ما نذهب إليه، فقد اتخذ الغرب موقف المهاجم منذ شن نابليون هجومه على المشرق الذي بدأ في التمزق حينئذ بالغًا الذروة في الحرب العالمية الأولى، حيث انهار النظام الذي كان قائمًا في ظل الخلافة العثمانية.

_ (1) الخوارزمي: مفاتيح العلوم ط المنيرية ص 17-18 ط 1342 هـ. (2) باول شمتز: الإسلام قوة الغد العالمية ترجمة الدكتور محمد شامة ص 64.

وتجددت المشاكل أمام الفكر الإسلامي الذي أخذ يجابهها بأساليب جديدة نتيجة من ناحية لمقاومة الاستعمار ومقاومة المذاهب والبحوث الفكرية التي خلفها بمعاونته في تمكين سلطه في رقعة البلاد الإسلامية (1) ، ومن ناحية أخرى أصبح من واجب العلماء التعريف بالإسلام بصورته الشاملة كدين وحضارة وبعث النشاط في قيمه العليا - سواء في حقائقها الميتافيزيقية أو أنظمتها التشريعية والاجتماعية والسياسية - أو في قيمتها الإنسانية الأخلاقية في هذا العصر المصطبغ بالتقدم العلمي المادي، الذي عزل الإنسان عن القيم الروحية التي غذته بها الأديان. ومهما بلغت العلوم في تقدمها وازدهارها، فليس لها أن تعترض طريق الدين. وقد أصبح هذا الاستدلال في غاية القوة حيث إن العلماء اعترفوا في هذا القرآن بأن العلوم المادية لا تعطي إلا علما جزئيًا عن الحقائق (2) ، ومن جانب آخر فقد اضطر العلماء إلى الانحناء والخضوع أمام آلاء الله عز وجل، والإقرار بأن الزهو بالعلم والاكتشافات العلمية كان تعبيرًا عن قصور في إدراك الإنسان لمدى قدرته إزاء سنة الله الكونية ثم أظهرت الاكتشافات أن الإنسان لا يستطيع اكتشاف قوانين حياته بنفسه، وأن الأشياء التي لا نطلع عليها هي أهم بكثير من التي نطلع عليها، وإقرارا لهذا الواقع اشترك نحو مائة وخمسين من كبار علماء العالم في نشر معجم بعنوان (دائرة معارف الجهل) موضحين الكثير من الظواهر والحقائق الإنسانية والكونية التي لا تزال بدون تفسير. كذلك مما يقرب عالم الغيب للأذهان الذي يشمل أصول الدين أغلب قضاياه له وسرعاته وأعداده كلها تحير العقل وتذهله وتعجزه عن التصور الحقيقي - لأن هذا العالم أعظم وأضخم من القوة المتخيلة للأذهان، فالإنسان الذي يدرس الكون (مضطر لتغيير قيمه ومقايسه إلى هذه الحجوم والكتل الهائلة التي لا يستطيع أن يجد لها تشبيهًا معقولاً ليساعده على تصورها وفهمها) (3) .

_ (1) محمد البهي: الفكر الإسلامي في تطوره. (2) وحيد الدين خان: الإسلام يتحدى. (3) زهير الكرمي: مقدمة كتاب (الكون والثقوب السوداء) ص 12 سلسلة كتاب (عالم المعرفة) بالكويت.

حجج المتكلمين في الدفاع عن منهجهم

ثم جاءت النظرية النسبية لتنفي فكرة العبثية عن الكون ولتثبت أن الظواهر الكونية كلها تخضع لقوانين رياضية ثابتة (1) . حجج المتكلمين في الدفاع عن منهجهم: يستند علماء الكلام في الدفاع عن مناهجهم إلى الحجج الآتية: الأول: أن ظهور علم الكلام في زمن أتباع التابعين استتبعه استحسان وتم تدوينه بالكتب، فيعدّ من هذا الوجه من قبيل البدعة الحسنة، به انزاحت الشبه عن قلوب أهل الزيغ وثبت قدم اليقين للموحدين. الثاني: أن أدلة العقول لازمة لبيان صحة أصول الدين وحقائقها لأن المنهاج الصحيح في معرفة حق الكتاب وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - مستند على البراهين العقلية. الثالث: إذا جعل أصل الدين الاتباع - لا العقل- فإن ذلك مخالفة للكتاب لأن الله تعالى ذم التقليد في القرآن، وندب الناس إلى النظر والاستدلال آمرًا بمجادلة المشركين بالدلائل العقلية، ومن تدبر القرآن ونظر في معانيه وجد تصديق هذا الأصل (2) . الرابع: يرى القاضي عبد الجبار (415 هـ) أنه لما منع "الرشيد" من الجدال في الدين وحبس أهل الكلام، كتب إليه ملك السند يطلب من يناظره، " فوجه إليه الرشيد قاضيًا لم يحسن الجدل، فاضطر إلى البحث عمن يناضل عن الدين، وأخرج أهل الكلام من السجن ووقع اختياره على أحدهم، فبعثوه للمناظرة. وتروى القصة بوقائع أخرى، تتلخص في اجتماع الرشيد برجلين من المتكلمين فتكلما في مسألة فقال لبعض الفقهاء: احكم بيننا فقال: هذا أمر لا يعنيني فأمر له بصلة وقال: هذا جزاء من لا يشتغل بما لا يعنيه، أما الرواية الثالثة، فتشير إلى أمره بقتل رجلين تكلما أمامه في مسألة غامضة فأمر بقتلهما لأنهما زنديقان. ولكن المؤيدين لعلم الكلام يستخلصون منها جميعًا عجز أهل الحديث عن النضال عن الدين لمغايرة منهجهم عن طريقة المتكلمين المستندة إلى العقل.

_ (1) نفس المصدر ص 36. (2) السيوطي: صون المنطق ص 157.

رأي علماء الحديث في هذه الحجج

رأي علماء الحديث في هذه الحجج: يرى المعارضون أن الاختلاف ينبغي أن يفصل بين النظر الشرعي والكلام المبتدع، ويظهر الاختلاف بينها منهجيًا قبل أي شيء آخر، إذ يرى أهل الحديث أن العقل لا يوجب شيئًا فلا دور له ولا حظ في تحليل أو تحريم أو تحسين أو تقبيح ما لم يرد به الوحي مستدلين على ذلك بقول الله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) [الإسراء، الآية: 15] وقوله عز وجل: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء، الآية: 165] ، وقال تعالى حاكيًا عن الملائكة فيما خاطبوا به أهل النار: (ألم يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى) [الزمر، الآية: 71] ، فيتبين من هذه الآية أنه - عز وجل - أقام عليهم الحجة ببعث الرسل فلو كانت الحجة لازمة بنفس العقل لم يكن بعثة الرسل شرطًا لوجوب العقوبة، وإذا تأسس الإيمان على العقل لأدى ذلك إلى إنكار دور الرسل وكأن وجودهم وعدمه بمنزلة واحدة، أو كأنهم اقتصروا في دعوتهم على الشرائع وفروع العبادات دون أصول الدين. وهنا تظهر صورة مختصرة للاعتراض في صيغة تهكم، فيرى أحدهم (أنه لو قال قائل: لا إله إلا الله عقلي رسول الله لم يكن مستكفرًا عن المتكلمين من جهة المعنى، فظهر فساد قول من سلك هذا) (1) . وأيضًا ففي الدين معقول وغير معقول والاتباع في جميعه واجب، وأن الله تعالى هو الذي يعرف العبد ذاته فقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا" فدل على أن الله تعالى يعرف العبد مع وجود العقل سبب الإدراك والحجة لقوله عز وجل: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [النحل، الآية: 67] وقوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ [ق، لآية: 37] وقال تعالى مخبرًا عن أصحاب النار: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك، الآية: 10] . فالعقل آلة لإقامة العبودية لا لإدراك الربوبية، فهو آلة التمييز بين القبيح والحسن، السنة والبدعة، الرياء والإخلاص، ولولاه لم يكن تكليف ولا توجه أمر ولا

_ (1) القاضي عبد الجبار: فرق وطبقات المعتزلة ص 61- 64.

نهي (1) . وقديمًا عبر "الجنيد" عن عجز العقل عن إدراك الربوبية وعاب على المتكلمين منهجهم بقوله: (نفي العيب حيث يستحيل العيب، عيب) (2) ، ولا ينكر علماء الحديث النظر لزيادة البحث وإنما أنكروا طريقة أهل الكلام إذ أسسوا طريقتهم على وجوب النظر أولا المؤدي إلى معرفة الباري عز وجل، بينما لم يثبت اتباع هذه الطريقة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته والتابعين بعده (3) ، وقد علمنا من سيرته أنه لم يدع أحداً إلى الاستدلال بالأعراض والجواهر وحدوث الأجسام كما يفعل أهل الكلام (4) بل إن دراسة منهج الأنبياء والرسل يجعلنا ندرك أنهم لم يشتغلوا بالنظر وتلقين أتباعهم والمصدقين بهم الأدلة التي هي أصول الإسلام، ولكنهم حرصوا على تعليم الشرائع والآداب. وينبغي التمييز بين لفظي التقليد والاتباع، فالتقليد هو قبول قول الغير بلا حجة، أما الاتباع فإنه السير على منهاج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد قيام الأدلة على صدق نبوته المنقولة إلينا بواسطة أهل الإتقان والثقات من الرواة ما لا يعد كثرة من المعجزات والبراهين والدلالات. وأهملوا تعليمهم الدلائل وتعليمهم كيفية حل الشبه ولو فعلوا لنقل إلينا تصانيفهم كما نقل إلينا كتب الفلاسفة والمتكلمين من علماء المسلمين (5) ، ويذهب "ابن الوزير اليماني " إلى أبعد من هذا فيرى أنه لم ينقل أن اثنين اختلفا في شيء قط، ولا كذب أحدهما الآخر ولا غلطه ولا خطأه ولو كانوا اكتسبوا ذلك بالنظر لقضت العادة باختلافهم كما اشتد الاختلاف بين الفلاسفة والمتكلمين، فإن كثيرًا منهم قد تفردوا بمقالات حتى قيل اجتماع العلماء في النظريات محال. ويضيف إلى ذلك دليلا آخر، هو انقطاع الأذكياء في تحصيل علم الكلام، دقيقه وجليله، مستفيدًا بما انتهى إليه الرازي معترفًا بالقصور عن بلوغ غايته ومنتهاه، فقرر في وصيته التي مات عليها (ولقد اجتزت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن

_ (1) السيوطي: صون المنطق ص 180. (2) السيوطي: صون المنطق ص 170. (3) ابن خلدون المقدمة. (4) صون المنطق ج 1 ص 223. (5) صون المنطق.

العظيم) (1) . ويورد القصة التي شنع بها أهل الكلام على المحدثين من إرسال ملك الروم إلى "هارون الرشيد" وطلب المناظرة وعجز المحدث عنها وسخرية أولئك الفلاسفة، فقد كثر الكلام في التبجح بذلك، وبحكاية أخرى تشبهها. والجواب عليهم في ذلك أنهم أرادوا الاستدلال على أنهم أجدل من المحدثين، فذلك مسلم لهم بل إنهم أجدل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأن الكل يعلم أنه لم يصدر شيء من الكلام ومجادلة الفلاسفة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا من جميع أصحابه رضي الله عنهم ولا اشتغلوا بممارستهم لما رأوه أهل اللجاج. ولا يلزم من ذلك أنهم أقل معرفة بالله ولا أقل نصرة لدين الله. ولو أحبوا الخوض في علم الكلام واشتغلوا بتعلمه وتعليمه لبلغوا فيه ما أرادوا وعرفوا ما عرف المتكلمون وزادوا، ولكنهم أعرضوا إعراض مستغن عنه - واستقراء السير والأخبار تدلنا على أنهم لم يتبعوا هذا الأسلوب في الدعوة، فها هي قصة جعفر بن أبي طالب ومهاجري الحبشة مع "النجاشي" وما راجعه به خطيبهم "جعفر" حين قيل للنجاشي إنهم يقولون في عيسى عليه السلام قولاً عظيمًا، فلما سألهم النجاشي عن ذلك أجابوا بكلام الله تعالى واحتجوا به على صحة عقيدتهم وتلا جعفر على "النجاشي " صدر سور مريم حتى بكى النجاشي وأصحابه وكان ذلك سبب إسلامه، كما أرسل صلوات الله عليه إلى هرقل من كان على صفة المحدث الذي أرسله هارون وهو دحية بن خليفة الكلبي ولم يعلمه ما يجيب به عليهم إن أوردوا عليه ما يدق من شبههم وهم أهل المنطق وسائر الدقائق النظرية، كما بعث إلى النجاشي صاحب الحبشة، وإلى "المقوقس" صاحب الإسكندرية وبعث "أبا عبيدة" إلى البحرين يعلنهم الإسلام، وبعث "عليا" و"معاذً" و"أبا موسى" إلى اليمن، وبعث إلى سائر الملوك للدعاء إلى الإسلام لم يضمنها شيئًا من ذلك مثل كتابته إلى هرقل وإلى كسرى. وخلاصة المنهاج الذي اتبعه الرسول - كما أمره الله عز وجل - هو الاقتصار على مجرد الدعوة إلى الإسلام والاتكال في إيضاح الحجة على ما قد فعله الله تعالى لهم من إظهار المعاني وتقديم البيانات الواضحة للعقول، إذ قال الله عز وجل تسلية لرسول

_ (1) ابن الوزير اليماني: البرهان القاطع ص 55.

الله - صلى الله عليه وسلم - وبيانًا لحد ما جب عليه؟ (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران، الآية: 20] أي: في الذي ببواطنهم وما أقام عليهم من الحجة، إذ لا مطمع في هداية المرء والجدال والحجة وكيف يطمع فيهم وقد حكى الله تعالى عنهم أنهم جادلوه يوم القيامة وأنكروا ما صنعوا من معاصيه سبحانه وتعالى حتى شهدت عليهم أيديهم وأرجلهم فقالوا لأعضائهم لم شهدتم علينا (1) ؟ وإن قيل: إن الله - تعالى - قد أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالجدل في قوله تعالى: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل، الآية: 125] فالجواب من وجهين: أحدهما: أن الله تعالى بين ذلك بالتي هي أحسن ولم يأمره بمطلق الجدال، فامتثل ما أمره ومع ذلك فلم ينقل عنه أنه جادل بأساليب المتكلمين والجدليين فثبت أن التي هي أحسن ليست سبيل المتكلمين مثل ما علم الله رسوله أن يحاجهم به في قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [سبأ، الآيتان: 46 - 47] ، وتنفيذه للأمر الإلهي (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) فصعد على الصفا فجعل ينادي لبني قريش حتى اجتمعوا فسألهم "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم كنتم مصدقي؟ " قالوا: (نعم ما جربنا عليك إلا صدقًا) قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد"، والأمثلة الأخرى كثيرة في القرآن عن محاجة الأنبياء وجدالهم كما في سورة "هود"، ومحاجة "إبراهيم" لقومه ومحاجة "يوسف" لصاحبي السجن. الوجه الثاني: أن الله - تعالى - أجمل كيفية الجدال بالتي هي أحسن في تلك الآيات وبينه في غيرها بتعليمه في القرآن العظيم لنبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا

_ (1) ابن الوزير اليماني (الذب عن سنة أبي القاسم صلوات الله عليه) ج 2 ص 131 المكتبة السلفية بالقاهرة 1385هـ.

فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران، الآية: 19 و 20] ، فهذه الآية واضحة الدلالة على الأمر بالاقتصار على مجرد الدعاء إلى الإسلام والاتكال في إيضاح الحجة على ما قد فعله الله تعالى لهم من خلق العقول وبعثة الرسول وإنزال الآيات وإظهار المعجزات وتكثير مواد البينات (1) وسنرى أيضًا أن ابن تيمية في معارضته لعلم الكلام يوضح أن السلف الصالح لم يعارضوا جنس النظر والاستدلال ولكن المعارضة اتجهت إلى الأساليب الكلامية المستقاة من الفلسفة اليونانية وكان الأحرى الإحالة إلى الأدلة الشرعية وفي مقدمتها القرآن الحكيم لأنه اتجه في خطابه للإنسان باستثارة قوانين العقل وتحريك وجدانه وإيقاظ قلبه من الغفلة.

_ (1) ابن الوزير اليماني: الذب عن سنة أبي القاسم صلوات الله عليه ج 2 ص 285 وما بعدها.

الباب الرابع موقف أهل الحديث والسنة من المعتزلة

الباب الرابع موقف أهل الحديث والسنة من المعتزلة الفصل الأول: - التعريف بعلماء الحديث ومنهجهم. - التعريف بالمعتزلة وأصولهم الخمسة. - دوافع علماء الحديث لمجابهة المتكلمين. - علم الكلام لدى علماء الحديث والسنة.

التعريف بعلماء الحديث ومنهجهم

التعريف بعلماء الحديث ومنهجهم: إن الحديث والسنة يعني حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنته المنقولة إلينا عن الثقات منذ الجيل الأول - أي الصحابة - ثم التابعين وتابعيهم إلى أن تلقاها المحدثون بمنهجهم الدقيق في الجرح والتعديل. ولم يقتصر علماء الحديث بطبيعة الحال على نقل الأحاديث المتعلقة بالفقه والعبادات والأعمال فحسب بل تناولت أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - كلها بما في ذلك ما يتناول أصول الدين من توحيد الله - سبحانه - والإيمان باليوم الآخر والملائكة والبعث والحساب والعقاب والجنة والنار وما إلى ذلك من عالم الغيب الذي يشكل موضوعات أصول الدين، وأفرد له المحدثون في كتبهم أبوابًا خاصة. والحديث قد دون - في أرجح الروايات - أيام الرسول - صلى الله عليه وسلم - (1) . وكان المسلمون في عصر الصحابة والتابعين يستمدون عقائدهم عن أصول الدين من الكتاب والسنة، وذلك قبل أن يطرأ عامل الترجمة والفلسفة اليونانية، وتحولت المناهج بعدها إلى نزاع بين المحدثين من جانب والمتكلمين والفلاسفة من جانب آخر، إذ ظل أهل الحديث على طريقة الأوائل، بينما ظهر علم الكلام على يد المعتزلة كواصل بن عطاء وعمرو بن عبيد ممن استخدموا منهجًا ظنوه عقليًا في أصول الدين استخدامًا خاطئًا لأنهم أطلقوا ألفاظ الفلسفة اليونانية على المعاني الإسلامية. وقد قام أهل الحديث بمهمة كبرى في تاريخ الإسلام إذْ حفظوا للمسلمين الأصل الثاني من أصول الإسلام ممثلاً في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ لا تستقيم حياة المسلمين بدون معرفتها واتباعها، وقد نيط بعلماء الأحاديث تنقيتها وتمييز الصحيح من الضعيف والموضوع فحفظوا لنا تراث النبوة فلم يضع كما ضاع غيره من تراث الأنبياء والرسل من قبل وصانوه من التحريف والتبديل والتعديل الذي حدث في تراث الرسل والأنبياء من قبل، وبقي الإسلام بدعامتيه الكبيرتين - كتاب الله وسنة

_ (1) الخطيب البغدادي: تقييد المعالم ص 57، ص 93 دار إحياء السنة النبوية بتحقيق يوسف العش 1395 هـ 1975 م.

سلاسل الإسناد

رسوله - صلى الله عليه وسلم -. والحديث هو اسم من التحديث وهو الإخبار ثم سمي به قول أو فعل أو تقرير نسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) . وجمع المحدثون بين طريقتي الحفظ والتدوين، وظهرت مراحل تدوينه وحفظه من المسانيد إلى الصحاح. وأقيم العلم على صروح متينة من التنقيح والتعديل والتجريح والتثبت من صدق الرواة الناقلين للحديث، وانكبّ على خدمته الآلاف من العلماء يتناقلونه جيلاً بعد جيل بحرص ودأب دون أن يعتريهم الكلل أو الملل. بل يحدوهم الفخار والزهو لأنهم يؤدون عملاً يتقربون به إلى الله تعالى ودخل في دائرة العبادة، لأنهم يحافظون على سنة رسولهم - صلى الله عليه وسلم -، التي بها يعرف المسلمون تفاصيل عبادتهم ويتفقهون في دينهم ويستنبطون أحكامه ويعرفون شريعته ويقفون على أحكامه وأوامره ونواهيه، فإن السنة تعكس مرآة صادقة لحياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأقواله وأفعاله وتقريراته، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "نضَّر الله امرءا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها" (2) . سلاسل الإسناد: ويمتد الإسناد - نقلاً عن العلماء - إلى الصحابة وتابعيهم. ويبدأ بالصحابة وعلى رأسهم العشرة المبشّرون بالجنة إلى غيرهم وهم أعلم الأمة وأخصها بعلم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلم خاصته مثل الخلفاء الراشدين وسائر العشرة، ممن كان أخص الناس بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وأعلمهم بباطن أمورهم وأتبعهم لذلك. وقام العلماء المحققون أمثال مالك وابن حنبل والبخاري ومسلم وابن ماجه والنسائي وأبو داود والترمذي وأبو يعلى، والدارمي إلى الحاكم والبيهقي والدارقطني والديلمي وابن عبد البر وأمثالهم (3) كل هؤلاء قاموا بدورهم في خدمة هذا العلم ينفون عنه تحريف المغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. وأصل هذا الحديث عن أسامة بن زيد رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:

_ (1) القاسمي: قواعد التحديث ص 61. (2) رواه الشافعي والبيهقي عن ابن مسعود (القاسمي - قواعد التحديث ص 48) . (3) قواعد التحديث ص 341.

منهج علماء الحديث في أصول الدين

"يحمل هذا العلم من كل خلف عُدُولهُ ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين) (1) حديث ضعيف. ورواه من الصحابة غير واحد، أخرجه ابن عدي والدارقطني وأبو نعيم. وكانت جماهير المسلمين الغفيرة تتلقى الأحاديث من علمائه لتعرف دينها وتقيم شعائره، فلما ظهرت علوم الكلام والتصوف والفلسفة واتبعها البعض، ظلت الغالبية العظمى من المسلمين متذرعة بمنهج علماء الحديث، فنبذت غيرها من المناهج لمعرفتها بأنها طارئة دخيلة، وفدت إليهم من طرق غير طرق المحدثين الناقلين لتراث النبوة، فإن عندهم علم خاصة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبطانته. منهج علماء الحديث في أصول الدين: إذا كانت دائرة الحديث قد أكملت في المرحلة الثالثة على أيدي أصحاب الصحاح المعروفين فإن سندهم في الحقيقة يتصل - جيلاً بعد جيل - منذ الصحابة، وهم الطرف الأعلى في نقل الحديث، فإذا عرفنا مكانة الصحابة وعلو قدرهم في الدين، عرفنا مضمون ما نقله علماء الحديث، ودورهم ومكانتهم مما جعل الإمام الشافعي رحمه الله يقول: "أهل الحديث في كل زمان كالصحابة في زمانهم) (2) . فالصحابة قد ورثوا عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - العلم والإيمان. فهم أهل حقائق الإيمان، وأهل الفهم لكتاب الله تعالى والعلم والفهم لحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - (3) . ولكن بامتداد العصور والأزمنة واختلاط المسلمين بغيرهم من الأمم والنزاع الحادث بين المتكلمين وغيرهم على أثر ظهور الفرق تأسست مناهج جديدة في سماعه أو كتابته أو روايته بل شمل كل من كان حافظًا له عارفًا به ظاهرًا وباطنًا مع اتباعه وكذلك أهل القرآن (2) . وكشأن أي طائفة من الناس ظهرت قلة قليلة ضمن المنتسبين إلى أهل الحديث، غالوا في إثبات صفات الله تعالى وأخذوا يروون أحاديث موضوعة في

_ (1) قواعد التحديث ص 48. (2) القاسمي: قواعد التحديث ص 49. (3) المصدر: نقض المنطق ص 55، 81، 77. (4) القاسمي: قواعد التحديث ص 49.

الصفات، وقد تبرأ منهم أهل الحديث وأعلنوا أنهم أبرياء منهم (1) . وبسبب الخصومات الناجمة عن اختلاف المناهج وتحزب كل فريق لآراء أتباعه، أطلق خصوم أهل الحديث عليهم أسماء أخرى تخالف الحقيقة وتدل على شدة الخصومة المبنية على الهوى. قال الإمام الحافظ أبو حاتم الرازي: (علامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر أي الحديث، وعلامة الجهمية أن يسموا أهل السنة مشبهة، وعلامة القدرية أن يسموا أهل السنة مجبرة، وعلامة الزنادقة أن يسموا أهل الأثر حشوية) (2) .

_ (1) نقض المنطق ص 119. (2) القاسمي - قواعد التحديث ص 58.

موقف أهل الحديث والسنة من المعتزلة

موقف أهل الحديث والسنة من المعتزلة تعريف المعتزلة ونشأتهم: تكاد تجمع المصادر التاريخية وكتب الفرق على أن نشأة مذهب الاعتزال ترجع إلى اختلاف واصل بن عطاء مع شيخه الحسن البصري (110 هـ) في الحكم على مرتكب الكبيرة، واعتزاله مجلسه لهذا السبب، وفيما عدا هذه الرواية الشهيرة فإن الملطي (توفي 377 هـ) يعود بنشأة المعتزلة إلى أيام تنازل الحسن بن علي عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان، لأنهم كانوا من أصحاب "علي" فاعتزلوا الناس ولزموا البيت والمساجد قائلين: (نشتغل بالعلم والعبادة فسموا بذلك: المعتزلة) والأرجح الرواية الأولى. وعلى أية حال، قد انفصل الخوارج عن الجماعة للأسباب التي ذكرناها آنفًا، وفعل المعتزلة بالمثل بطريقة أخرى، وأطلقوا على أنفسهم اسم المعتزلة مشتركين معاً في اعتقاد الأصول الخمسة التي وضعوها. ففارقوا جماعة المسلمين وانفضوا عنهم حريصين على التميز والظهور بما أعلنوه من عقائد مخالفة، ولهذا فقد قوبلوا بالاستنكار والمعارضة من جانب العلماء، لأنهم ابتدعوا آراء لم يعرفها الأوائل كالحكم على مرتكب الكبيرة بأنه (منزلة بين المنزلتين) ونفي القدر. فكان عبد الله بن المبارك حينذاك يحذر المسلمين منهم بقوله: (أيها الطالب علماً ايت حماد بن زيد، فخذ العلم بحلم، ثم قيده بقيد، وذر البدعة من آثار عمرو بن عبيد) ومنه نفهم الانشقاق الذي بدأ يظهر بين علماء الحديث والمتكلمين منذ بزوغ المسائل الكلامية في مهدها، إذ كان عمرو بن عبيد قبل ذلك منخرطًا في سلك الجماعة الإسلامية، مرتبطًا بإعلانه لرأيه المخالف لرأي الجماعة، اعتبر مبتدعًا، فوصفه "ابن حبان" بأنه كان من أهل الورع والعبادة، إلى أن أحدث ما أحدث واعتزل مجلس الحسن، وجماعة معه؛ فسموا معتزلة، وكان يشتم الصحابة ويكذب في الحديث وهماً لا تعمداً. الأصول الخمسة عند المعتزلة: والأصول الخمسة التي اتفقوا عليها هي: التوحيد، العدل، والوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن أنقض منها أو زاد عليها أصلاً واحدًا لا يستحق لقب الاعتزال.

ولأفكار المعتزلة مظهر براق كالذهب المزيف يجذب بظاهره العيون، ولكن سرعان ما يظهر بريقه الزائف لمن يتعمق في فهمه، فإذا دققنا في فهم أصولهم واحدًا فواحدًا، تحليلاً لها ومقارنة لهما يقابلها من عقائد أهل السنة والجماعة، ظهر لنا زيف بريقها. (1) التوحيد: ومرادهم بالتوحيد نفي صفات الله تعالى، وقد أورد عقيدتهم كاملة أبو الحسن الأشعري في كتابه (مقالات الإسلاميين) ، ومنها نعرف بعض ما ذهبوا إليه في هذا الأصل، إذ أجمعوا على أن الله واحد ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وليس بجسم ولا جوهر ولا عرض، ولا يحيط به مكان ولا يجري عليه زمان ولا تجوز عليه المماسة ولا الحلول في الأماكن، ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدوثهم وكل ما خطر بالبال وتصور بالوهم فغير مشبه له، لم يزل أزلاً، أولاً سابقًا للمحدثات، موجودًا قبل المخلوقات، ولم يزل عالمًا قادرًا حيًا ولا يزال كذلك لا تراه العيون ولا تدركه الأبصار. ويمضى الأشعري - وهو خبير بعقائدهم لأنه كان معهم طوال أربعين عامًا فينقل لنا كل ما قالوه في (التوحيد) ، ويكفي من الاطلاع عليها معرفة الألفاظ والمصطلحات الفلسفية، فضلاً عن استخدام أوصاف غير لائقة تجعلنا ندرك خلو القلوب والنفوس من الهيبة التي استشعرها المسلمون الأوائل، ونفهم أيضًا التعليق المنسوب "للجنيد" القائل: (نفي العيب حيث يستحيل العيب عيب) . وربما عنى بذلك مثل: إطلاقهم المترادفات الآتية (وليس بجسم ولا شبح ولا جثة ولا صورة، ولا لحم ولا دم.. إلى قولهم: ولا بذي حرارة ولا رطوبة ولا يبوسة ولا طول ولا عرض ولا عمق.. الخ) (1) . وغيرها من الألفاظ التي تتنافى مع أدب الحديث عن رب العالمين - جل شأنه - ومن هنا نفهم حكمة سكوت السلف الصالح عن مثل هذا الكلام واكتفائهم بالقرآن العظيم، وهو دليل على عمق الإيمان والعناية الفائقة بكتاب الله - تعالى -

_ (1) الأشعري: مقالات الإسلاميين ج 1 ص 235.

تلاوة وحفظًا وعملاً فأيقنوا أنه يغنيهم عن كل ما سواه. والمفهوم من (التوحيد) عند المعتزلة أنهم يعنون به إثبات وحدة الذات الإلهية فنفوا الصفات ظنًا منهم أن إثباتها يؤدي إلى الشرك وأنكروا رؤية الله تعالى في الآخرة وعن هذا الأصل أيضًا تفرع قولهم في القرآن بأنه محدث، مخلوق. وقد وقف لهم علماء السنة بالمرصاد ودحضوا عقيدتهم بالحجج العقلية وشكلت مجادلة الإمام أحمد معهم أهم سند لعقيدة أهل السنة والجماعة. نقد المعتزلة: ظن المعتزلة أنهم بنفي الصفات الإلهية يؤكدون عقيدة التوحيد، ويتحاشون التشبيه والتجسيم والحشو، ووصفوا من خالفهم بهذه الصفات، وهم أول من رموا مخالفيهم بهذه الصفات. ويرى "ابن تيمية" عند نقده لهم أن الأسماء التي يتعلق بها المدح والذم من الدين لا تكون إلا من الأسماء التي أنزل الله بها سلطانه ودل عليها الكتاب والسنة والإجماع كالمؤمن والكافر والعالم والجاهل والمقتصد والملحد، فأما هذه الألفاظ الثلاثة فليست في كتاب الله ولا في حديث عن رسول الله ولم ينطق بها أحد من سلف الأمة وأئمتها نفيًا ولا إثباتًا. ولذلك أصبح التوحيد عندهم مصطلحًا يعنون به نفي جميع الصفات الإلهية، وكل من أثبت شيئًا منها رموه بالتجسيم والتشبيه حتى أن من قال (إن الله يرى) أو (إن له علما) فهو عندهم مشبه مجسم (وأما التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب فليس متضمنًا شيئًا من هذه الاصطلاحات بل أمر الله عباده أن يعبدوه وحده لا يشركوا به شيئًا فلا يكون لغيره نصيب فيما يختص به من العبادة وتوابعها - هذا في العمل، وفي القول: هو الإيمان بما وصف به نفسه ووصفه رسوله - صلى الله عليه وسلم -) ولا بد من التوحيد بالقول والكلام - وهو أن يصفوا الله بما وصفته رسله وهذا وحده لا يكفي في السعادة، والنجاة في الآخرة، بل لابد من أن يعبد الله وحده، ويتخذه إلهًا دون سواه وهو معنى قول (لا إله إلا الله) . إن هذا الفصل بين العلم والعمل وترجيح جانب على آخر، وإثارة الجدل في قضايا مستقرة، كل هذه الأسباب قربتهم من الفلاسفة، وحولت العقيدة النابضة بالحياة إلى نظريات يدور حولها النقاش وتختلف عليها وجهات النظر بين أخذ ورد.

كلمة عن الصفات الإلهية وأثر الإيمان بها

أضف إلى ذلك، فإن أية مقارنة بين صفات الله تعالى وأفعاله وأسمائه الحسنى وبين ما ابتدعوه بحجة التوحيد، يرينا مدى الافتعال الظاهر في مصطلحاتهم فهي أدنى إلى ألفاظ الفلاسفة اليونان منها إلى آيات القرآن. والقرآن الكريم مليء بإثبات صفات الله تعالى وأسمائه، فعن العلم نقرأ قوله تعالى: (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [هود، الآية: 123] . كذلك قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) [طه، الآية: 5 - 8] (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ) [الرعد، الآية: 8، 9] . وتَفرُّده - عز وجل - بالألوهية: (قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [الأنبياء، الآية: 108] (إنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) [طه، الآية: 98] . (قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) . وعن القدرة: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الحج، الآية: 6] . (يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [النور، الآية: 45] ، وانظر إلى الآيات من 84 إلى 89 سورة المؤمنون. (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) [الفرقان: الآية 2] . ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) [لقمان: الآية 30] . كلمة عن الصفات الإلهية وأثر الإيمان بها: يتضح لقارئ القرآن الكريم، والمطلع على السنة النبوية، عنايتهما الفائقة بإثبات الأسماء والصفات الإلهية. فما مغزى ذلك وما جدواه؟

قلنا من قبل، إن الإنسان مفطور على معرفة ربه عز وجل والإقرار بوجوده، ونستطيع القول هنا أيضًا (على سبيل اليقين، لا على سبيل الظن، بأن صحائف الفكر البشري لم تشهد إنسانًا بغير عقيدة في إله) . ولكن يأتي الاختلاف بين البشر في التصور نفسه لا في الاختلاف في أساس الاعتقاد بوجود الله (1) . خذ مثلاً فلسفة أرسطو التي تصف المبدأ الأول بواجب الوجود، ولكنها ذاتًا مجردًا من كل وصف، ولا دخل له في أي شأن من شؤون الكون، فسدت بذلك باب الدعاء والالتجاء بل قطعت كل خيط من الأمل والرجاء لدى بني آدم، إذ لا جدوى من محاولة إيجاد أية علاقة بينهم وبين (المبدأ الأول) كما تصوره هذه الفلسفة. وعلى العكس خلقت عقيدة العرب الجاهلية كل صفة من صفات الإله على أشخاص من خلقه، كالقدرة على الإحياء، والرزق، والعلم.. الخ.. فقطعت بذلك أيضًا الرجاء في سؤال الإله الواحد والالتجاء إليه ثم جاءت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. مذكرة الإنسان بصفات الله أي بعلمه وقدرته وسائر صفاته، وأسمائه الحسنى. فهو سبحانه الحي القيوم، يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف عنه السوء وهو أقرب إليه من حبل الوريد، وأنه عز وجل معه بعلمه أينما كان حيث يطمئن قلبه، ويجعله شديد الثقة بالعون الإلهي، إذ يؤمن أن لا ملجأ منه إلا إليه، فيصبر عند البلاء ويشكر عند الرخاء: يستنصره فينصره ويسأله فيعطيه، يستسقيه فيسقيه، ويتقرب إليه فيقربه. وهكذا تأتي الأسماء والصفات الإلهية منبهة بني آدم إلى حاجتهم الدائمة إلى خالقهم ورازقهم لكي لا يتوهموا الاستقلال والغنى بذواتهم عن مولاهم، وتفتح أمامهم باب الأمل في حياة أفضل دائمًا سواء في الدنيا أو الآخرة. فمعرفة العبد لربه ذاتًا وصفاتًا تجعله يدرك أن الله يراقبه في حركاته وسكناته في سره وعلنه، فيخشاه ويتقيه ويلجأ إليه عابدًا داعيًا متضرعًا.

_ (1) د. زكي نجيب محمود: الله وحياة الإنسان في فكره وسلوكه ص 18، 19 مجلة الهلال جمادى الأولى سنة 1399 هـ إبريل 1979 م.

وبوسعك الإلمام بطرف من عقائد أهل الملل والنحل الأخرى كاليهودية والنصرانية والمجوسية، فلا تعثر في تصوراتها الإلهية، بمثل تصور المسلم لربه عز وجل مما أدى إلى الافتقار إلى الألوهية، بالنسبة إلى الإنسان الغربي، وإحلال العلم والإنسان مؤلهين، محلها على الأرض، وليتدبر بعد ذلك ما أوقعته كوارث القرن العشرين المتلاحقة بتلك الألوهية الجديدة للعلم والإنسان من دمار. والأسوأ من ذلك انتقال العدوى إلينا معشر المسلمين بعد ضعف عقيدة التوحيد وهي الحصن الذي نلوذ به لرفع هذه البلوى، بعد أن تسرب إلينا انحراف الغرب فأصبح خضوعنا لحواسنا يكاد يكون تامًّا مثلهم، وكادت الغالبية منا تفقد القدرة على تخطي الظواهر ببصائرها وعقولها إلى الله عز وجل خالق الكون ومدبره (1) . وعلى المستوى الحضاري، قامت الحضارة الإسلامية على عقيدة التوحيد، فظلت متماسكة عندما وازن المسلمون بين أطرافها، أي بين الإيمان بالله غيبًا ذاتًا وصفاتًا - وبين إعداد العدة بالأساليب العسكرية المعروفة آنذاك، فاجتاح المسلمون الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية بفضل إيمانهم بالله تعالى على هذه الصورة، إذ أيقنوا أنه ناصرهم، فلم ترهبهم قوى الأعداء الظاهرة الملموسة ولم يخفهم الفارق المشاهد في القوى والعتاد والعدد، لأنهم أيقنوا أن الله من وراء الغيب يؤيدهم ويشد أزرهم. (2) العدل: والمقصود بالأصل الثاني وهو العدل، إرجاع كل عمل إلى الإنسان لتفسير ظهور الشر ونسبته إلى الإنسان فقط. وإذا كان المسلمون كافة يؤمنون بعدل الله سبحانه وتعالى، فإن المعتزلة فرعوا الكلام عن هذا الأصل، فأدى بهم إلى إيجاب الصلاح والأصلح على الله تعالى، وانبثقت فكرتهم عن الحسن والقُبْح العقليين وأنهما ذاتيان عقليان كما تفرعت أيضًا مسألة خلق أفعال العباد قالوا (يمتنع عليه إرادة الشر والمعاصي والقبائح) وقالوا: (يريد ما لا يقع، ويقع ما لا يريد) فزعموا أنه تعالى أراد

_ (1) الندوي: دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - معجزة من معجزات السمو ودليل من دلائل النبوة مجلة البعث الإسلامي للكهنوت [[كذا في المطبوع، والصواب: "لكهنو" وهي بلدة معروفة في الهند]] . (الهند) ص 16، 17 جمادى الأولى 1396 هـ - مايو 1976 م.

الإيمان بالقدر وعلاقته بالإرادة الإنسانية

من الكافر الإيمان وإن لم يقع إلا الكفر، إن وقع، وكذا أراد من الفاسق الطاعة لا الفسق، حتى زعموا أن أكثر ما يقع من عباده على خلاف مراد الله، تعالى عن ذلك. وظاهر عقيدتهم إرادة تنزيه الله تعالى، ولكننا سنعرف عندما نعرض لآراء أهل السنة، كم أخطأوا وشذوا، لأنهم لم ينتبهوا إلى التمييز بين الأمر والرضا والمحبة إذ الأخيرة لا تكون إلا في الخير، ولكن الإرادة قد تكون في غيره فهي تتعلق بكل ممكن كما يذكر ابن تيمية. قال الله تعالى: (وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) [الزمر، الآية: 7] ، (إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) [الأعراف، الآية: 28] فإن قيل، قد قال الله تعالى (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة، الآية: 185] وقال: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا) [الإسراء، الآية: 16] ، فالمقصود هنا أن الإرادة التي تعنيها هي الإرادة الكونية المتصلة بالحكمة من خلق العالمين. وأما الإرادة الدينية المتصلة بالأوامر الشرعية فهي ترادف الرضا والمحبة. وربما يلخص لنا موقف المعتزلة عبارة القاضي عبد الجبار في قوله: (سبحان من تنزه عن الفحشاء) ، بينما يعبر عن اتجاه أهل السنة والجماعة رد أبي إسحاق السفاريني "سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء) (1) وللقارئ مزيد إيضاح: الإيمان بالقدر وعلاقته بالإرادة الإنسانية: من أفضل ما نستهل به هذا الموضوع، هو إجابة السؤال الذي وجه إلى جعفر الصادق رضي الله عنه عندما سئل عن قول الله تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون، الآية: 115] لم خلق الله الخلق؟ فأجاب: لأن الله كان محسنًا بما لم يزل فيما لم يزل، فأراد الله أن يفيض إحسانه إلى خلقه وكان غنيًا عنهم، لم يخلقهم لجر منفعة ولا لدفع مضرة، ولكن خلقهم وأحسن إليهم فأرسل إليهم الرسل ليفصلوا بين الحق والباطل فمن أحسن كافأه الجنة ومن عصى كافأه النار (2) . ويشرح "ابن القيم" أنواع الابتلاءات التي يتعرض لها الإنسان أثناء حياته في

_ (1) شرح عقيدة السفاريني ص 231: 232. (2) ابن تيمية: شرح حديث النزول ص 159 منشورات المكتب الإسلامي 1389 هـ / 1969 م.

الدنيا، محصيًا الآيات القرآنية الدالة عليها. ويذكر أن الله سبحانه وتعالى ابتلى العباد بالنعم كما ابتلاهم بالمصائب، وأن ذلك كله ابتلاء فقال: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء، الآية: 35] . وقال: (أَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) [الفجر، الآية: 15 - 16] (1) . وقال: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الملك، الآية: 2] فأخبر سبحانه أنه خلق العالم العلوي والسفلي وقدر أجل الخلق وخلق ما على الأرض للابتلاء والاختبار، وهذا الابتلاء إنما هو ابتلاء صبر العباد وشكرهم في الخير والشر والسراء والضراء (2) . كذلك وردت الأحاديث الكثيرة في بيان ما يقابله المؤمن في حياته من ابتلاءات طوال عمره، منها: عن صهيب الرومي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له" رواه مسلم. وعن "مصعب بن سعد" عن أبيه قلت يا رسول الله: أي الناس أشد بلاءً أي: محنة وشدائد؟ قال: "الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلاه الله على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة" رواه ابن ماجه وابن أبي الدنيا والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. والعبد المؤمن أمام شكره على النعم وصبره على البلاء حتى يجتاز طريق الدنيا ويعود إلى الجنة - موطنه الأصلي - كوعد الله تعالى إياه (فإنه ما حرمه - عز وجل - إلا ليعطيه، ولا أمرضه إلا ليشفيه، ولا أفقره إلا ليغنيه، ولا أماته إلا ليحييه، وما

_ (1) في تفسير ابن القيم الآية: قال الله تعالى: (كلا) أي: ليس الأمر كما يقول الإنسان، بل قد أبتلي بنعمتي وأنعم ببلائي. (2) ابن القيم: عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين ص 125 مطبعة الإمام.

أخرج أبويه من الجنة إلا ليعيدهما إليها على أكمل وجه. كما قيل: يا آدم لا تجزع من قولي لك: اخرج منها فلك خلقتها وسأعيدك إليها) (1) . موقف الإنسان: الإنسان إذن أمام هذه الحقيقة لا يملك فراراً، فهو بين أمر يجب عليه امتثاله وتنفيذه، ونهي يجب عليه اجتنابه وتركه، والصبر مع هذين الطرفين لازم لا يخلو من نوعين: أحدهما: يوافق هواه ومراده كالصحة والسلامة والجاه والمال. والآخر: المخالف للهوى وهو على شكلين؟ أ - يرتبط باختياره كالطاعات والمعاصي، وعليه يترتب الأجر. ب - لا يرتبط باختياره كالمصائب، وبها تمحى السيئات وترفع الدرجات (2) . ولكن الثابت أن الإنسان لا يملك منح نفسه القدرات والمزايا الجبلية كالذكاء والصحة والأنوثة أو الذكورة، ولا يملك اختيار أبويه يرث عنهما مواهب وسمات معينة دون الأخرى، ولا انتخاب الزمان الصالح ليعيش فيه، ولا البيئة الصالحة ليمضي فيها طفولته. هذه كلها أمور لا يملكها الإنسان وخارجة عن نطاق اختياره وليس مسؤولاً عنها (3) . ولكن المتعللين بالقدر على أفعالهم الإنسانية يحتجون بآيات قرآنية يختارونها وفق أهوائهم، كقول الله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) [فاطر، الآية: 8] . وهذا الاحتجاج سرعان ما يدحض أمام النظرة القرآنية لآيات أخرى تخير الإنسان بين فعلين، كقوله عز وجل: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) [الإنسان، الآية: 3] . وقوله سبحانه وتعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) [الشمس، الآية: 7، 8] .

_ (1) ابن القيم: عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين ص 47. (2) نفسه ص 51: 69. (3) علي الطنطاوي: تعريف عامر [[كذا في المطبوع، والصواب "عام"]] بدين الإسلام ج 1 ص 131 / 132 دار الرائد 1395 هـ 1975 م.

والقرآن يفسّر بعضه بعضًا، وهذا التفسير هو أدق التفاسير الذي يلجأ إليه العلماء لأن القرآن ميسر لكل ذي بصر وبصيرة. (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر، الآية: 17] وبهذا الفهم يصبح تفسير الآية الأولى واضحًا لا لبس فيه، إذ معناه أن إضلال الله لشخص أنه آثر الغي على الرشاد فأقره الله على مراده وتم له ما يبغي لنفسه قال تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [الصف، الآية: 5] . إذن، فمعنى قوله تعالى (يُضِلُّ مَن يَشَاءُ) لا يتعارض وقوله: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ) [البقرة، الآيتان: 26 و 27] وكذلك الحال في قوله تعالى: (يَهْدِي مَن يَشَاءُ) وللنظر إلى دور الإرادة الإنسانية في قول الله تعالى وهو يتكلم عن إرادته: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد، الآيتان: 27، 28] . ثم يأتي دور مناقشة المحتجين بالأحاديث النبوية وربما يقع أكثرهم على الحديث الآتي - ويفسرونه خطأ بأنه يدل على الجبر ونفي حرية الإرادة الإنسانية. والحديث: "ما منكم من أحد وما من نفس منفوسة إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة"، فقالوا يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له. أما من كان من أهل السعادة فيصير لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاوة فيصير لعمل أهل الشقاوة" ثم قرأ: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) [الليل، الآيتان: 5 - 10] . وروى أبو بكر الضحاك بن مخلد الشيباني في كتابه "السنة" بسنده عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال قلت: يا رسول الله، أرأيت عملنا هذا على أمر قد فرغ منه، أم على أمر نستقبله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بل أمر قد فرغ منه"، فقال عمر: ففيم العمل؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلا، لا ينال إلا بعمل" فقال عمر: إذا نجتهد (1) . والحديث - للبصر النافذ - لا لبس فيه (2) .

_ (1) ص 71 بتحقيق الألباني - المكتب الإسلامي (1413 هـ - 1993 م) . (2) الشيخ محمد الغزالي: عقيدة المسلم ص 140 - والحديث رواه البخاري بألفاظ متقاربة.

أما سبق علم الله تعالى فإنه ليس حجة أيضًا للمحتجين بالقدر على معاصيهم. قال تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) [البقرة، الآية: 143] . وقال: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران، الآية: 142] . وقوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) [محمد، الآية: 31] . فروي عن ابن عباس في قوله: (إِلَّا لِنَعلَمَ) أي: (لنَرَى) وروي لنميز. وكذلك قال عامة المفسرين: (إلا لنرى ونميز) وكذلك قال جماعة من أهل العلم، قالوا: لنعلمه موجوداً واقعًا بعد أن كان قد علم أنه سيكون. ولفظ بعضهم، قال: العلم على منزلتين - علم بالشيء قبل وجوده، وعلم به بعد وجوده. والحكم للعلم به بعد وجوده لأنه يوجب الثواب والعقاب. قال: فمعنى قوله (لِنَعْلَمَ) أي: لنعلم العلم الذي يستحق به العامل الثواب والعقاب ولا ريب أنه كان عالمًا سبحانه بأنه سيكون، لكن لم يكن المعلوم قد وجد (1) . (3) الوعد والوعيد: ويتصل الأصل الثالث بالوعد والوعيد ومضمونه كما يعبر عنه الشهرستاني أن المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعة وتوبة استحق الثواب والعوض، وإذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبها استحق الخلود في النار، ولكن عقابه يكون أخف من عقاب الكفار (2) . وانسياق المعتزلة في هذا الأصل يتصل بدفاعهم عن الحرية الإنسانية واحتكامهم إلى العقل إذ أصبح الثواب والعقاب عندهم ينصب على أفعال الإنسان نفسها والتي يقتضيها العقل ومعنى هذا اعتقادهم أن إثابة المطيع ومعاقبة العاصي إن لم يتب - أمر محتوم أي: يجب على الله تعالى أن يفعله، فخلطوا بين الوعد والوعيد،

_ (1) ابن تيمية: الرد على المنطقيين ص 446 ط لاهور 1396 هـ 1976 م. (2) الملل والنحل ج 1 ص 59.

بينما يعتقد أهل الحديث والسنة أنه يجوز على الله تعالى إخلاف الوعيد لا إخلاف الوعد، والفرق بينهما أن الوعيد حقه فخلافه عفو وهبة، وإسقاط ذلك موجب كرمه وجوده وإحسانه والوعد على نفسه بوعده، والله لا يخلف الميعاد. ويعتقد أهل السنة والجماعة أنه من موانع وقوع الوعيد التوبة والتوحيد والحسنات العظيمة والمصائب المكفرة وإقامة الحدود في الدنيا وأضعاف أضعافها. (4) المنزلة بين المنزلتين: ويأتي أصلهم في (المنزلة بين المنزلتين) الذي فارقوا به الجماعة ليرتبوا عليه اعتقاد أن مرتكب الكبيرة فاسق، وهو في منزلة بين منزلتي الكفر والإيمان ولكنهم لم يكفروه كما فعل الخوارج، كما لم يستحلوا الدماء والأموال في الدنيا. (5) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ولا ينفرد المعتزلة بالأصل الأخير - أي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنه مبدأ إسلامي اعتنقته كل الفرق، وهو يقضي بأمر المسلمين وتكليفهم بالجهاد في سبيل الله بأمر الآية: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران، الآية: 104] . إلى جانب اعتقادات أخرى اختلفوا فيها تزيد عن هذه مثل قولهم بأن العلم بالله تعالى يحصل بالنظر والاستدلال أي: ترتيب الأقيسة العقلية، فخالفوا جماهير الفقهاء والصوفية وأهل الحديث والعامة وغيرهم، لأن سلف الأمة وأئمتها اتفقوا على أن معرفة الله تعالى والإقرار به لا يقف على الطرق التي يذكرها أهل طريقة النظر، لأن الأصل المعرفة والإقرار بالصانع يحصل بديهة وضرورة ولا يتوقف على النظر والاستدلال، ويدلل ابن تيمية على ذلك بأن جميع الأمم تقر بالصانع مع عظيم شركهم وكفرهم (ولهذا يوجد له عند كل أمة اسم يسمونه، والتسمية مسبوقة بالتصور. فلا يسمي أحدًا إلا ما عرفه، ثم المستمع لذلك الاسم يقبل بفطرته ثبوت المسمى به من غير طلب حجة على وجوده ويكون قبوله لأسماء سائرها ما أدركه بحسه وعقله مثل الشمس والقمر والواحد والاثنين بل هذا أكمل وأشرف) .

دوافع علماء الحديث لمجابهة المتكلمين

بالإضافة إلى مآخذ أخرى أخذها أهل السنة والجماعة على المعتزلة ومنها: - ردهم للأحاديث التي لا توافق أغراضهم ومذاهبهم ويدعون أنها مخالفة للعقول فيجب ردها كالمنكرين لعذاب القبر والصراط والميزان ورؤية الله عز وجل في الآخرة وكذلك حديث الذباب ومقله وأنه يقدم الذي فيه الداء.. وما أشبه ذلك من الأحاديث الصحيحة المنقولة نقل العدول. - قدحهم في الرواة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم وفيمن اتفق الأئمة من المحدثين على عدالتهم وإمامتهم. كل ذلك ليردوا به على من خالفهم في المذاهب وأحيانًا كانوا يردون فتاوى الصحابة أمام العامة، لينفروا الأمة عن اتباع السنة وأهلها. - ذهبت طائفة إلى نفي أخبار الآحاد جملة والاقتصار على ما تستحسنه عقولهم في فهم القرآن (1) . والآن، بعد أن نزعنا الوجه البراق للفكر الاعتزالي، ووقفنا على حقيقته ومراميه، فإن أقل ما يطعن فيه أنه حول الدين الذي جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي تستجيب له الفطرة الإنسانية، ويستسيغه العقل بكل سهولة - حوله إلى فلسفة نظرية دقيقة يعجز عن فهمها وإساغتها كثير من العقلاء والأذكياء فكان تنمية العقل على حساب العاطفة وإضعافًا للإيمان وإثارة للشكوك والشبهات وعدم الثقة على وجوده، وما أكثر ما في العالم مما يعجز العقل عن تعليله وإقامة الدليل عليه. دوافع علماء الحديث لمجابهة المتكلمين: بالرغم من المناقشات الكلامية الدائرة بين أهل الكلام والتي خصصت كتب

_ (1) الاعتصام للشاطبي ج 1 ص 140. يذكر الشاطبي أنهم بنفيهم أخبار الآحاد واستحسان عقولهم أباحوا الخمر بفهمهم المعوج لقوله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا) [المائدة، الآية: 93] ويقول: ففي هؤلاء وأمثالهم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لا ألقين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه) وهذا وعيد شديد تضمنه النهي، لاحق بمن ارتكب رد السنة.

الفرق والمذاهب عرضها والتوسع في شرحها، بالرغم من ذلك كانت الغالبية العظمى من المسلمين يتبعون علماء السنة والحديث في العقيدة المتلقاة بالقبول. وهنا لنا ملاحظتان: الأولى: أن الاكتفاء بالاطلاع على مؤلفات الفرق يعطي انطباعا بأن هذه المسائل كانت الشغل الشاغل للمسلمين كافة، وهذا لم يحدث إلا بعد أن فرض المأمون القول بخلق القرآن - وفي هذه القضية وحدها - وفيما عدا هذا فقد كانت الأمة الإسلامية تمضي قدمًا في بناء حضارة زاهرة بعلومها وآدابها وفنونها ونظمها في السياسة والاقتصاد والاجتماع - وجهود علماء المسلمين في فروع العلوم المختلفة أكثر من أن تذكر في هذا الموضع. الثانية: أن العلماء المهتمين بالحديث والسنة يمثلون الأغلبية ويظهر بجانبهم أصحاب الكلام كقلة قليلة لا تعبر إلا عن نفسها وبضعة أفراد يتأثرون بهم ويقولون بأقوالهم وكانوا على سبيل التحديد كالجعد بن درهم وجهم بن صفوان. ويذكر لنا ابن قتيبة أن عقيدة السلف الصالح كانت هي عقيدة العلماء المبرزين المتقدمين والعباد المجتهدين الذين لا يجارون ولا يبلغ شأوهم، مثل: سفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعي وشعبة والليث بن سعد وعلماء الأمصار كإبراهيم بن أدهم والفضيل بن عياض وداود الطائي وأحمد بن حنبل وبشر الحافي وأمثال هؤلاء ممن قرب من زمانه. ثم يستطرد قائلاً: (فأما المستقدمين فأكثر من أن يبلغهم الإحصاء ويحوزهم العدد) (1) . كانت إذن الآراء الشاذة التي أظهرها جهم بن صفوان كالبثور في الجسم كبداية علامات المرض بعد أن كان صحيحًا معافًى به من المناعة ما يقاوم به المرض. (لم يظهر جهم وأصحاب جهم في زمن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكبار التابعين فيروى عنهم فيها أثر منصوص، ولو كانوا بين أظهرهم مظهرين آراءهم لقتلوا، كما همَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقتل صبيغ إذ تكلف في السؤال عن

_ (1) ابن قتيبة: تأويل مختلف الحديث ص 17.

المتشابه أو كما قتل علي رضي الله عنه الزنادقة، التي ظهرت في عصره، ولقتلوا كما قتل أهل الردة) (1) . ويرى الدارمي أن آراء جهم والمريسي بمثابة الردة، لأن القول بأن القرآن مخلوق يضاهي ما قاله الوليد بن المغيرة المخزومي (إن هذا إلا قول البشر) والنضر ابن الحارث قال: (لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين) أي كما قال جهم والمريسي سواء، لا فرق بينهما في اللفظ والمعنى، إن هذا إلا مخلوق، فأنكر عليهم قولهم، وكأن نور النبوة قد بدد ظلام العصر الجاهلي وعقائده الباطلة، ولكن أقوال الجاهلية عادت للظهور مرة أخرى في عصر جهم ثم المريسي ونظرائهم (2) . وأمام هذه الموجة التي بدأت تهب على عقائد المسلمين، رأى علماء الحديث أن واجباتهم تقتضي الوقوف في وجهها وحماية المسلمين منها، واندفعوا بنية أداء ما أوجبه الله عليهم. يقول ابن قتيبة (كما رأيت إعراض أهل النظر عن الكلام في هذا الشأن منذ وقع، وتركهم تلقيه بالدواء حين بدأ.. إلى أن استحكم أساسه ... لم أر لنفسي عذرًا في ترك ما أوجبه الله علي بما وهب من فضل المعرفة في أمر استفحل بأن قصر مقصر، فتكلفت بمبلغ علمي ومقدار طاقتي ما رجوت أن يقضي بعض الحق عني، لعل الله ينفع به، فإنه بما شاء نفع) (3) ، ولكنه كان حريصًا في منهج رده على المخالفين توضيح الأسرار اللغوية التي جهلوها فحادت بهم عن التفسير الصحيح للكلمات والآيات فأخذ يذكر ما تأولته الجهمية في الكتاب والحديث ليعلم المسلمون أن الحق مستغن عن الحيل، ولهذا لم يتعد في أكثر الرد عليهم طريق التفسير والشرح. وقال بعد توضيح منهجه هذا: (فأما الكلام فليس من شأننا ولا أرى أكثر من

_ (1) نقض الدارمي على المريسي ص 349. (2) نفس المصدر ص 465، 469. (3) ابن قتيبة: الاختلاف في اللفظ ص 225.

علم الكلام لدى علماء الحديث والسنة

هلك إلا به) (1) . وإلى نفس السبب يرجع الدارمي اضطراره للخوض في علم الكلام، إذ إنه يشخص أحوال المسلمين ويفسر تاريخهم طبقًا للقاعدة الشرعية العقلية التي تقضي بأفضلية أهل العصور الأولى، لأن الله - تعالى - أثنى عليهم وعلى من بعدهم باتباعهم إياهم فقال: (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ) ، وكانت قوة المسلمين المادية والمعنوية كفيلة باختفاء مخالفيهم خوفًا من الافتضاح، بل كانوا يتقلبون مع المسلمين في النعم. ويمضي الدارمي في وصف أحوالهم فيرى أنهم لم يزالوا بعد ذلك مقموعين أذلة مدحورين حتى قل الفقهاء وقبض العلماء (ودعا إلى البدع دعاة الضلال، فشد ذلك طمع كل مشعوذ في الإسلام من أبناء اليهود والنصارى وأنباط العراق ووجدوا فرصة للكلام، فجدوا في هدم الإسلام وتعطيل ذي الجلال والإكرام، وإنكار صفاته وتكذيب رسله وإبطال وحيه، إذ وجدوا فرصتهم وأحسوا من الرعاع جهلاً ومن العلماء قلة.. فحين رأينا ذلك منهم، رأينا أن نبين من مذاهبهم رسومًا من الكتاب والسنة وكلام العلماء ما يستدل بها أهل الغفلة من الناس على سوء مذهبهم فيحذروهم على أنفسهم وعلى أولادهم وأهليهم ويجتهدوا في الرد عليهم، محتسبين منافحين عن دين الله تعالى طالبين به ما عند الله) (2) . كما اضطر الإمام أحمد بن حنبل - أمام هذه الأحوال الطارئة - أن يقف مدافعًا عن العقيدة الصحيحة، فقال: (كنا نرى السكوت عن هذا قبل أن يخوض فيه هؤلاء، فلما أظهروه لم نجد بدًا من مخالفتهم والرد عليهم) (3) . علم الكلام لدى علماء الحديث والسنة: تقدم بيان تعريف علم الكلام لدى ابن خلدون الذي عبر به عن المدارس الكلامية التقليدية، وبقي أن نستطلع رأي علماء الحديث في هذا العلم وبيان موقفهم ودواعيه ومسائله والدوافع التي أدت بهم إلى استخدامه. أما عن تعريفه فلم يختلفوا كثيرًا عن غيرهم، فنرى السفاريني يصفه بأنه (علم

_ (1) ابن قتيبة: الاختلاف في اللفظ ص 225. (2) نقض الدارمي على المريسي ص 259. (3) عقائد السلف ص 467- 468.

يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية، ويسمى أيضا علم التوحيد والصفات وعلم أصول الدين) (1) . ويعرفه بمترادفاته فإنه علم الكلام والتوحيد وأصول الدين، والعلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية أي: اعتبر في أدلتها باليقين، لأنه لا عبرة بالظن في الاعتقادات بل في العمليات أي: أمور الفقه فيقول: (واعلم أنا لا نأخذ الاعتقادات الإسلامية من القواعد الكلامية، بل إنما نأخذها من النصوص القرآنية والأخبار النبوية) . وفي بيان الغرض منه، يرى أن القواعد الكلامية ما رتبت وبوبت منها الاعتقادات الإسلامية، بل لدفع شبه الخصوم ودحض نهج البدع، فإنهم طعنوا في بعض منها فإنه غير مقبول، فيبين علماء السنة بأن زعمهم غير صحيح، فإن الأنبياء تأتي بمحارات العقول - أي: ما يحير العقول، لا بمحالاتها - أي: بما تراه مستحيلاً، ثم بين علماء السنة بالقواعد الكلامية معقولية ما أنكروا، وذلك بالنظر والقياس، والنظر المقصود هنا المستند إلى دليل من كتاب أو سنة أو قياس جلي، لا التخمين، فهذا من ألطف فهم النصوص وأدقه لا الرأي المجرد بغير دليل، وسنجد هذا متحققًا عند محاورة عبد العزيز المكي لبشر المريسي. ويتضح من هذا أن ذم علماء الحديث والسنة اقتصر على علم الكلام المشحون بالفلسفة والتأويلات الشاذة وصرف الآيات القرآنية عن معانيها الظاهرة. والمراد بالعقائد الدينية المنسوبة إلى دين نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - واعتبر في أدلتها اليقين. كذلك يفصل في التعريف بين علم الصحابة وعلم من جاء بعدهم؛ فإن علم الصحابة يحتوي على كلام وأصول وعقائد وإن لم يكن يسمى في ذلك الزمان بهذا الاسم - حيث كان متعلقًا بجميع العقائد بقدر الطاقة البشرية، مكتسبًا من النظر في الأدلة اليقينية، أو كان ملكة تتعلق بها بأن يكون عندهم من المآخذ والشرائط ما يكفيهم في استحضار العقائد (2) .

_ (1) شرح عقيدة السفاريني ص 160 - 161 ج 1 ط مجلة المنار الإسلامية مصر سنة 1323 هـ. (2) شرح عقيدة السفاريني ج 1 ص 61.

إن فيصل التفرقة إذن بين المنهجين: أن علماء الحديث والسنة تقيدوا بطريقة الأوائل في النظر واستندوا في ذلك إلى الكتاب والسنة والإجماع والنظر في الأدلة الشرعية، وذلك بخلاف أهل الكلام الذين استخدموا اصطلاحات الفلسفة اليونانية. وبهذه الصفة وبهذا التمييز وصف بأنه أشرف العلوم باعتباره علم أصول الدين إذ شرف العلم بشرف المعلوم، وهو الفقه الأكبر بالنسبة إلى فقه الفروع (1) . وغايته: أن يصير الإيمان والتصديق بالأحكام الشرعية متقنًا محكمًا لا تزلزله شبه المبطلين، فيتصدى للمعاندين بإقامة الحجج والبراهين وصحة النية والاعتقادات الإسلامية التي يقع بها العمل في حيز القبول. وثمرته: الفوز بسعادة الدارين فمنفعته في الدنيا انتظام أمر المعاش بالمحافظة على العدل والمعاملة التي يحتاج إليها في إبقاء النوع الإنساني على وجه لا يؤدي إلى الفساد وفي الآخرة: النجاة من العذاب المترتب على الكفر وسوء الاعتقاد (2) . والمقصود بذلك أن موضوعاته تتصل بالإيمان بالله سبحانه وتعالى ذاتًا وصفاتًا، ويقتضي الإيمان بصفات الله تعالى من العلم والقدرة والحكمة والسمع والبصر وباقي الصفات والأسماء الحسنى التي أثبتها الله تعالى لنفسه، تؤدي في الدنيا إلى المراقبة والتقوى، واعتقاد المسلم بموضوعاته من الإيمان بعالم الغيب ومعرفة تفاصيله من عذاب القبر وهول المطلع والحساب وصفات الجنة والنار والصراط وغير ذلك، هذه المعرفة التفصيلية تعطيه إيمانًا مفصلاً يدفعه إلى خشية الله تعالى ومراقبته وتقواه في السر والعلن كما تجعله يتجه إلى مرضاة الله طمعًا في جنته وخوفًا من ناره. ومحصلة ذلك كله إقامة العدل بين الناس وتحقيق السعادة المتاحة على المستوى البشري في الدنيا ثم النعيم المقيم الخالد في الجنة. ودخل علم الكلام عند علماء السنة دور التدوين والتبويب منذ الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - وصار إمام أهل السنة، وسبب ذلك أنه عندما ابتلي بالمحنة، وراج في عصره مذاهب الاعتزال، اضطر إلى إظهار عقيدة الأوائل والدفاع عنها وشرح ما التبس على أفهام المعتزلة والكشف عن خطأ منهجهم، وهو

_ (1) شرح الطحاوية ص 1. (2) شرح عقيدة السفاريني ج 1 ص 66.

ما أشار إليه في مقدمة كتابه (الرد على الزنادقة والجهمية) ، فبعد أن حمد الله تعالى الذي جعل في كل زمن فترة من الرسل بقايا من أهل العلم الذي يبصرون الناس ويدعونهم إلى الهدى، أخذ في شرح سمات المعتزلة فوصفهم بأنهم (مختلفين في الكتاب، مخالفون للكتاب مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله، وفي الله، وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم) (1) . ويرى شارح عقيدة السفاريني أن الإمام أحمد لما انتصر للسنة ورد على المعتزلة صار هو علم السنة وإمامها وصاحبها ومقدامها، حتى أن أبا الحسن الأشعري إمام الأشعرية، انتسب إلى الإمام أحمد، ورأى اتباعه على عقيدته وهو المنهج الأحمد (2) .

_ (1) مقدمة كتاب الرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد. (2) شرح عقيدة السفاريني ص 53.

الفصل الثاني

الفصل الثاني: محاورات علماء أهل السنة مع المعتزلة: (1) الإمام أحمد بن حنبل وابن أبي دؤاد. (2) عبد العزيز المكي وبشر المريسي.

محاورات علماء أهل الحديث والسنة مع المعتزلة:

محاورات علماء أهل الحديث والسنة مع المعتزلة: بالرغم من تبني المأمون للمذهب الاعتزالي وفرضه على الناس بالقوة ووسائل الإغراء معًا حتى كانت محنة الإمام أحمد في قضية خلق القرآن وعانى فيها العلماء ما عانوه - بل عالق المسلمون أيضًا حتى امتحن أسرى المسلمين بالقول بخلق القرآن وإلا أعيدوا إلى أعدائهم!! - بالرغم من كل هذا فقد أخذ علماء الحديث والسنة على عاتقهم إظهار الحق، فحفظت لنا المصادر أهم محاورتين دارتا في هذا الصدد، ونعني بهما محاورة الإمام أحمد بن حنبل وابن أبي دؤاد، ومحاورة عبد العزيز المكي مع بشر المريسي أحد كبار المعتزلة. وسنعرض بإيجاز لما دار في هاتين المحاورتين، لاستخلاص المنهج وبيان صدق النتائج التي توصل إليها كل من الإمام أحمد وعبد العزيز المكي: 1 - الإمام أحمد بن حنبل وابن أبي دؤاد 164 - 241 هـ: لم تمض القرون المفضلة، حتى خاض علماء الكلام في مسائل الذات والصفات، وأثاروا مسائل توقيفية من الحقائق التي اكتفى بها الأوائل بما أمدهم به الوحي، وكان لظهور الحديث في الذات والصفات الإلهية بتأثير الفلسفة اليونانية آثارها الوخيمة على المجتمع الإسلامي، فبينما اتجه السابقون إلى الجهاد ونشر الدعوة، وصرف الهمم إلى تدوين العلوم التي يجدي بذل الجهود فيها، تقلص الاهتمام بالجهاد لتتحول الهمم إلى مسائل أفنى البعض فيها أعمارهم ولم يعودوا فيها بطائل، إذ ليست عندهم وسائل الوصول إليها، ومؤهلات الحكم عليها (1) . من هنا جاءت المعارضة الشديدة للتيار المخالف لما كان عليه السلف، بادئًا بمعبد الجهني (80 هـ) الذي تكلم في القدر، ثم غيلان الدمشقي، فشاع الكلام بعدهما بواسطة واصل بن عطاء (131 هـ) وتوالى شيوخ الاعتزال في الظهور إلى أن تلقف هذا التيار أحد خلفاء المسلمين وهو المأمون (215 هـ) فاعتنق عقيدتهم، وأخذ على عاتقه نصرة مذهبهم بالإرهاب والبطش، فلم ينصت إلى أصوات المعارضة التي ارتفعت من الغالبية العظمى للمسلمين. وما من باحث يتعرض لهذه

_ (1) أبو الحسن الندوي - رجال الفكر والدعوة في الإسلام ص 115.

حياته وعصره

الفترة من الفكر الإسلامي، إلا وتأخذه الدهشة من أساليب المعتزلة ضد خصومهم، فقد استخدموا أسلوبًا مضادًا لمبادئهم المعلنة باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لينكلوا بكل مخالف، فكم من الضحايا المعارضين لهم ألقي بهم في السجون! فانكمش أغلب المحدثين والفقهاء يلعقون جراحهم، حتى أصبح الانتساب إلى الاعتزال فاشيًا منتشرًا، وكل من كان متسننًا كان متخفيًا مستترًا (1) . وظهر في هذه الفترة التي عم فيها الاضطهاد بأشد أساليب القمع، الإمام أحمد ابن حنبل ليعلن استمساكه بعقيدة الأوائل، وكانت محنة (خلق القرآن) هي مركز الدائرة التي دارت حولها المنافشات الكلامية، وظل الأمر كذلك في أيام المأمون والمعتصم والواثق، وكأن التاريخ وقف عندهم حابسًا أنفاسه، ليدون تفاصيلها، مثبتًا أن الرأي لا يمكن أن يدحض إلا برأي مضاد، وأن أساليب القوة لا تجدي في مجال العقائد والأفكار، وظلت العقيدة الصحيحة حية توارثها الطائفة الظاهرة على الحق. وقبل التعرض للمحنة، فإنه يجدر بنا تناول الحديث عن الإمام أحمد بإيجاز. حياته وعصره: هو أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال الإمام عبد الله، ولد في ربيع الأول سنة 164 هـ وتوفي أبوه محمد شابًا، فوليته أمه، وحفظ القرآن في صباه وتعلم القراءة والكتابة، وظهر فيه آثار النبوغ مبكرًا، اتجه إلى الحديث وبقي يتلقى الحديث ببغداد من سنة 179 هـ إلى 186 هـ، وكان في طلبه للعلم مثال الجد والحرص والنشاط فقد روى عن نفسه (كنت ربما أردت البكور في الحديث فتأخذ أمي بثيابي، حتى يؤذن الناس أو حتى يصبحوا) . رحل إلى عدة بلاد طالبًا للحديث، فسار إلى البصرة، الحجاز، اليمن، مكة، وإلى الكوفة واستمر على الجد والطلب حتى بلغ مبلغ الإمامة في الحديث، ووصف بأنه أعلم الناس بالسنة وكان معجبًا بالشافعي استفاد منه في الفقه والاستنباط، وكان الشافعي معجبًا به أيضًا فوصفه بأنه لا أحد ببغداد أفقه من ابن حنبل. وعند الأربعين شرع في التدريس والفتيا، فأقبل الناس على مجالسه إقبالاً عظيمًا، ويذكر ابن الجوزي

_ (1) ابن عساكر: تبيين كذب المفتري ص 410.

في مناقبه أن عدد من كانوا يستمعون إلى درسه نحو خمسة آلاف. ولكنه كان ينهي حال حياته عن كتابة كلامه ليجمع القلوب على المادة الأصلية العظمى، ثم استدرك أصحابه، فنقلوا لنا علمه فانتصرت طريقته (1) ، وهذا يدلنا على أنه لم يقصد تأسيس مذهب والأمر باتباعه. وقد تعددت المصادر التي وصلتنا تحمل أدق تفاصيل حياة الإمام ابن حنبل وآرائه، ويبدو أنه رأى أن يوضح وجهة نظره في المسائل التي طغت على ثقافة العصر واتجاهاته المختلفة، وأن يدعم المنهج النقلي مبرزًا في الوقت نفسه مضمونه العقلي فأخرج على هذا الأساس - ضمن مؤلفاته - روائعه الثلاثة: وكلها تحفظ لنا عقائد السلف وآراءهم وسط التيارات المختلفة السائدة في العالم الإسلامي حينذاك، فإن (المسند) عني بحفظ الحديث، وكتابه (الردّ على الجهمية والزنادقة) يتضح فيه حجاجه العقلي في أجلى وأدق صورة، لأنه يفسر القرآن بالقرآن ليوضح ما اشتبه على المخالفين من فهم، ثم مؤلفه في (الزهد) الذي يعد وثيقة على طريقة الاقتداء عند بداية التصوف وانتشاره، إذ كان معاصرًا للحارث المحاسبي. أما عن سيرته وأخلاقه، فقد اشتهر بالزهد والعزوف عن زخارف الدنيا، وكان يأكل من عمل يده رافضًا عطايا الأمراء. ويظهر من سيرته في المحنة شجاعته في الحق والتشبث به، مهما كلفه من آلام، فقد ظل يواجه حربًا ضروسًا، فاستمسك بموقفه في مواجهة الفقهاء والمتكلمين المعارضين الذي سامتهم الدولة العباسية سوء العذاب حينئذ بالقوتين المعنوية والمادية معًا (ولقد ابتليت السنة الإسلامية في شخصه، فكان في صبره - لو صبر - فوزها ونهوضها، وفي ضعفه - لو فتن - سقوطها وخذلانها) (2) . وبوسعنا أن ننظر إلى النتائج المحتملة التي كانت ستترتب على انهياره وتسليمه بآراء خصومه ومن هنا اقترن اسمه باسم الصديق، فقيل: (أبو بكر يوم الردة وابن حنبل في المحنة) . ويرى المستشرق باتون في دراسته عن المحنة أن الإمام أحمد أبقى بموقفه على

_ (1) ابن تيمية: مجموعة نصوص باسم مجموعة علمية ص 152. (2) باتون: أحمد بن حنبل والمحنة ص 35.

منهجه مع المتكلمين

السنة ودعم أصولها، ويذهب إلى أبعد من ذلك فيذكر أن الإسلام، إذا كان يبغي المحافظة على جوهره وطابعه، ليظل إسلامًا، فما من سبيل يبلغ به هذه الغاية أفضل من سبيل المحافظة على السنة والاستمساك بعراها (1) . ومما يوضح لنا منهجه، ما نقل لنا من كلامه المأثور في قوله (أصول الإسلام أربعة دال ودليل ومبين ومستدل، الدال: هو الله تعالى، والدليل هو القرآن، والمبين وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والمستدل: أولو العلم وأولو الألباب الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم) (2) . وظل الإمام أحمد معظمًا عند أهل السنة والجماعة. يقول شارح عقيدة السفاريني في نسبة المذهب السلفي إلى الإمام أحمد: (وإنما نسب لإمامنا الإمام أحمد؛ لأنه انتهى إليه من السنة. قال بعض شيوخ المغاربة: المذهب لمالك والشافعى وغيرهما من الأئمة والظهور للإمام أحمد بن حنبل) (3) . منهجه مع المتكلمين: ضمن الإمام أحمد كتابه (الرد على الزنادقة والجهمية) آراءه في الرد على المتكلمين فيرميهم بأنهم يقولون على الله، وفي الله، وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم. ومضى في كتابه سالكًا طريق تفسير الكتاب بالكتاب فيما أثاروه من شبهات، ففندها جميعًا، مبينًا التفسير الصحيح. وسنعتمد على هذا الكتاب في إيراد المسائل التي خاض فيها المعتزلة بخاصة. من ذلك إنكارهم رؤية الله تعالى في الآخرة، بين ابن حنبل أن تفسير الآية (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ) [القيامة، الآية: 22] يعني الحسن والبياض (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة، الآية: 23] يعني: تعاين ربها في الجنة. ومضى شارحًا تفسير الآية الأخرى (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) [الأنعام، الآية: 103] بأنها تعني في الدنيا والأخرة، وذلك أن

_ (1) ولتر باتون: ابن حنبل والمحنة ص 35. (2) ابن تيمية: النبوّات ص 42. (3) شرح عقيدة السفاريني ص 64 ط المنار سنة 1323هـ.

اليهود قالوا لموسى: (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) [النساء، الآية: 153] وقد سألت مشركو قريش النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: (أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا) ، فنزل قوله تعالى: (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ) [البقرة، الآية: 108] وأوحى الله إلى رسوله أنه لا تدركه الأبصار، أي: لا يراه أحد في الدنيا، دون الآخرة. ولا تعارض بين الآية الأولى التي تخبر برؤية المؤمنين لربهم عز وجل في الجنة، والآية الثانية التي تعني استحالة رؤية الله سبحانه وتعالى في الدنيا (1) . ويفند الإمام أحمد دعوى الجهمية في نفي الصفات عن الله تعالى، ويوضح لنا جذور المسألة، وعلة اتخاذهم لهذا الموقف، يذكر لنا ما بلغه من أمر الجهم وينسب نفيه الصفات الإلهية، فقد كان الجهم من أهل خراسان، صاحب خصومات وكلام، فلقي أناسًا من المشركين يقال لهم: السمنية (نسبة إلى سومنات بلدة بالهند وهم البوذية) فعرفوا الجهم، فناقشوه، مطالبين إياه بتقديم الحجة على صحة دينه. وسألوه: ألست تزعم أن لك إلهًا؟ قال الجهم: نعم، فقالوا له فهل رأيت إلهك؟ قال، لا، قالوا - فهل سمعت كلامه؟ سألوه - هل رأى ربه أو سمعه، أو وجد له حسًا؟ ومضوا في هذه الأسئلة المشبهة لله عز وجل بصفات المخلوقين، فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يومًا، ثم استدرك حجة مثل حجة النصارى في زعمهم أن الروح الذي في عيسى هو روح الله، فاستدرك حجة مثل هذة الحجة فقال للسمني: ألست تزعم أن فيك روحًا؟ قال: نعم، فقال هل رأيت روحك؟ واستمر في توجيه نفس الأسئلة وكان جواب السمني بالنفي، فظن أن هذا إفحام، إذ ختم أسئلته، بقوله: (فكذلك الله لا يرى له وجه ولا يسمع له صوت ولا يشم له رائحة، وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان) . ويرى الإمام أحمد أن الجهم يعتمد في حججه على ثلاث آيات من المتشابه. فيقول (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ) [الأنعام، الآية: 3]

_ (1) ابن حنبل: الرد على الزنادقة والجهمية ص 59.

و (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ) [الأنعام، الآية: 103] ، فتأول القرآن على غير تأويله، وكذب أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وزعم أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله، كان كافرًا، وكان من المشبهة، وتبعه قوم منهم أصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة سألهم الناس عن قول الله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أجابوا ليس كمثله شيء من الأشياء، وهو تحت الأرضين السبع، وكما هو على العرش، ولا يخلو منه مكان، ولا يكون في مكان دون مكان، ولم يتكلم ولا يكلم، ولا ينظر إليه أحد في الدنيا، ولا في الآخرة، ولا يوصف، ولا يعرف، ولا يدرك بعقل، وهو وجه كله، وهو علم كله، وهو سمع كله، وهو بصر كله، وهو نور كله، وهو قدرة كله.. ويرى الإمام أحمد أن إلزامات مذهبهم تؤدي إلى أنهم لا يؤمنون بشيء - ويوجه إليهم بدوره الأسئلة لاستدراجهم للإقرار. ويسألهم: من تعبدون؟ فإذا قالوا: إنهم يعبدون من يدبر أمر هذا الخلق، قيل لهم (هذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة. قالوا: نعم فقلنا: قد عرف المسلمون أنكم لا تؤمنون بشيء، لأن هذا الذي يدبر هو الذي كلم موسى. قالوا: لا يتكلم ولا يكلم، لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة والجوارح عن الله منفية. وهكذا يوهمون البعض بأنهم من أشد الناس تعظيمًا لله، بينما يعود قولهم إلى ضلالة وكفرا (1) . ويمضي الإمام في بيان تفصيل ما جحدته الجهمية، شارحًا معاني الآيات القرآنية التي يستندون إليها، في الرؤية، وصفة الاستواء، وعلو الله تعالى على خلقه: قالوا في تفسير الآية: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) [القيامة، الآية: 22، 23] ، إنما تنظر الثواب من ربها وصحتها أنها مع ما تنتظر الثواب ترى ربها، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم سترون ربكم" ويؤيد ذلك في تفسير قوله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) [يونس، الآية: 26] أن الزيادة هي النظر إلى وجه

_ (1) ابن حنبل: الرد على الزنادقة 7: 69.

الله تعالى. وعلى عكس ذلك فإن الكفار سيحجبون عن الله في قوله تعالى: (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطففين، الآية: 15] فإذا كان الكافر يحجب عن الله، والمؤمن يحجب عن الله، فما فضل المؤمن على الكافر؟ ويستند ابن حنبل إلى الآيات القرآنية المثبتة بأن الله تعالى على العرش كقوله (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه، الآية: 5] و (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) [الحديد، الآية: 4] بينما يزعم الجهمية أنه سبحانه على العرش وفي السموات وفي الأرض وفي كل مكان ولا يخلو منه مكان استنادًا إلى الآية (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ) [الأنعام، الآية: 3] فيتساءل قد عرف المسلمون أماكن كثيرة ليس فيها من عظم الرب شيء. ويضرب الأمثلة على ذلك: أجسام البشر وأجوافهم وأجواف الخنازير والأماكن القذرة، بينما أخبرنا الله أنه في السماء فقال: (ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) [الملك، الآية: 16] ، (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا) [الملك: 17] وقال: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر، الآية: 10] وقال: (مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) [آل عمران، الآية: 55] (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ) [النساء، الآية: 158] وغيرها من الآيات، بينما وجدنا كل شيء أسفل منه مذمومًا، كقوله جل ثناؤه (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) ، (قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) [فصلت، الآية: 29] أما معنى الآية (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ) [الأنعام، الآية: 3] التي أخطأ في تفسيرها الجهمية، فهي تعني: أنه إله من في السموات وإله من في الأرض وهو على العرش أحاط علمه بما دون العرش، ولا يخلو من علم الله مكان ولا يكون علم الله في مكان دون مكان، فذلك قوله: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) [الطلاق، الآية: 12] . وواضح من منهج الإمام أحمد أنه يقرن الدليل الشرعي بالنظر العقلي: فيقدم الآية القرآنية، مقترنة بالتفسير الصحيح للناظر إلى القرآن بتدبر في شموله (في هذا دلالة وبيان لمن عقل عن الله. فرحم الله من فكر، ورجع عن القول الذي يخالف

الكتاب والسنة) (1) . ويلجأ إلى الحجة العقلية لإثبات الصفة الإلهية مع توحيد الله عز وجل، فإذا قلنا إن الله لم يزل بصفاته كلها، أليس أننا نصف إلهًا واحدًا بجميع صفاته؟ ومثال ذلك النخلة، لها جذع وكرب وليف وسعف وخوص واسمها اسم شيء واحد وسميت نخلة بجميع صفاتها، فذلك الله وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد (2) . وما أوقع الجهمية في الخطأ، تفسيرهم لآيات المعية الإلهية، فرأوا أن الله سبحانه وتعالى بذاته معهم في كل مكان، مؤيدين ذلك بمثل قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [المجادلة، الآية: 7] . ولكن ابن حنبل يسلك معهم طريقين لإثبات خطأ تفسيرهم، الأول: لفت نظرهم إلى أن الآيات السالفة الذكر بدأت بعلم الله وختمت بعلمه، المعية إذن مع العباد ليست بالذات ولكن بالعلم، فالله تعالى مع عباده بعلمه أينما كانوا. هذا هو التفسير الصحيح. ويسلك الطريق الثاني بالحجاج العقلي، فيفحم الخصم بوضع الأسئلة المتعددة التي تضطره إلى اختيار إحدى الإجابات، فيلزمه بالخطأ أو يفحمه فيغير رأيه. ونترك الإمام يتكلم هنا بأسلوبه الجدلي في نقاشه مع أحد الجهمية: إذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله حين زعم أن الله في كل مكان، ولا يكون في مكان دون مكان فقل: أليس الله كان ولا شيء؟ فيقول: نعم. فقل له: حين خلق الشيء خلق في نفسه أو خارجًا من نفسه فإنه يصير إلى ثلاثة أقوال لابد له من واحد منها، إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه كفر، حين زعم أن الجن والإنس والشياطين في نفسه. وإن قال: خلقهم خارجًا عن نفسه ثم دخل فيهم، كان هذا كفرًا أيضًا حين

_ (1) الرد على الزنادقة ص 77. (2) نفس المصدر ص 91.

المحنة

زعم أنه دخل في مكان وحش قذر رديء وإن قال: خلقهم خارجًا عن نفسه ثم لم يدخل فيهم رجع عن قوله أجمع. وهو قول أهل السنة. ومثل هذا النص يعطينا صورة عن طريقة الجدل عند الإمام، بل إن أكثر أجزاء كتابه تمضي على هذا النحو القائم على نظر عقلي محض. ويجعلنا ندرك أنه تصدى للمعتزلة بالمنهج العقلي قبل ظهور المذهب الأشعري بزمن طويل. وها نحن أمام نموذج ثان من نماذج الاستدلالات العقلية المؤدية إلى إفحام الخصم وإقراره بخطئه، واضطراره إلى التنازل عن رأيه. ففي نقاشه لإثبات علم الله تعالى، يقول: إذا أردت أن تعلم أن الجهمي لا يقر بعلم الله فقل له: الله يقول: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) ويسرد آيات أخرى تصف الله عز وجل بالعلم. فإن قال الجهمي: ليس له علم، كفر، وإن قال: لله علم محدث، كفر، حين زعم أن الله قد كان في وقت من الأوقات لا يعلم حتى أحدث له علمًا فعلم. فإن قال: لله علم وليس مخلوقًا ولا محدثًا. رجع عن قوله كله، وقال بقول أهل السنة. المحنة: نفى المعتزلة الصفات الإلهية كما بينا في أصل من أصولهم وهو التوحيد، ولكنهم خرجوا على هذا الأصل عندما تطرقوا إلى صفة الكلام الإلهي، فلم يقولوا بأنه متكلم وكلامه ذاته خشية أن يتساوى كلام الله عز وجل مع ذاته فيكون هناك قديمان مما يؤدي إلى الشرك، ولهذا فإنهم يرون أن كلام الله - أي أن القرآن - مخلوق محدث وغير قديم، فيُحدثه وقت الحاجة إلى الكلام، مفسرين تكليم الله موسى بأن الله خلق الكلام في شجرة فسمعه موسى عليه السلام (1) .

_ (1) د. أبو ريان: تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام ص 194 - 195 - أحمد بن أبي دؤاد: أحمد بن أبي دؤاد (على وزن فؤاد) بن علي أبو سليمان، يكثر ذكره إذا ما تطرق الحديث إلى محنة القرآن. كان قاضيًا، ثم أصبح وزيرًا نافذ الكلمة عند الخلفاء الثلاثة: المأمون (218 هـ) والمعتصم (227 هـ) والواثق (232 هـ) لا سيما الثاني منهم حتى قيل: إنه ما رؤي أحد قط أطوع لأحد من المعتصم لابن أبي دؤاد، وتشير المصادر إلى اهتزاز هذه المكانة لدى الواثق، ثم انهارت تماما أمام المتوكل، إذ رفع المحنة بخلق القرآن وأظهر السنة وأمر بنشر الآثار النبوية وأكرم الإمام أحمد بن حنبل وقدمه. ويقال: إن الواثق قبله قد ترك الاشتغال =

_ = بالمحنة بعد أن أفحم أحد الشيوخ القاضي ابن أبي دؤاد في جدال دار أمام الواثق - كما سيأتي. وابن أبي دؤاد أحد القضاة المشهورين من المعتزلة، نشأ بدمشق ومنها رحل إلى بغداد، وهو أول من افتتح الكلام مع الخلفاء. كان بليغًا، جواداً، عارفًا بالأخبار والأنساب، ولكنه أثار أهل السنة عليه بموقفه في المحنة، يقول الخطيب البغدادي: (لولا ما وضع من نفسه من محبة المحنة لاجتمعت عليه الألسن) ، وذلك لأنه اتسم بكريم الخصال، فقد كان موصوفًا بالجود والسخاء وحسن الخلق ووفور الأدب. أصيب بالفالج قبل موته بأربع سنين، ونكب وأهين، وظلت عداوة أهل السنة ثابتة في صفحات الكتب عند الحديث عنه. وظهرت عداوة الغالبية له في مرضه الذي مات فيه، وكأنما كان مناسبة لإظهار الحنق عليه والازدراء به. وربما كان ذلك دليلاً على ما أثاره من السخط في النفوس: فقد دخل عليه بعضهم فقال له مخاطبًا: (والله ما جئت عائدًا وإنما جئتك لأعزيك في نفسك، وأحمد الله الذي سجنك في جسدك الذي هو أشد عليك عقوبة من كل سجن) . ولد حوالي 160 هـ ومات سنة 240 هـ. وقد عنيت معظم كتب تاريخ المسلمين - كالطبري والبغدادي وابن الأثير وابن خلكان واليعقوبي وكتب التراجم أيضًا بمحنة خلق القرآن وسجلت تفاصيلها من حيث آراء المتنازعين فيها بدقائقها وأسماء الشيوخ الذين أجابوا بخلق القرآن، والذين رفضوا الإذعان بالرغم من صنوف التعذيب والتنكيل، وفي مقدمتهم الإمام أحمد بن حنبل، ومن ثنايا المحاكمات التي أجريت للإمام أحمد وكان على رأسها ابن أبي دؤاد والمناقشات التي جرت بين المتناظرين، يمكن أن نستخلص آراء ابن أبي دؤاد من حيث منهجه الكلامي، ونفي الصفات الإلهية، ونفي الرؤية، وهي الموضوعات الرئيسية التي أثارت الجدل حينذاك. وقد احتضن القاضي ابن أبي دؤاد عقيدة المعتزلة في هذه المسائل، وكان المحرك الحقيقي للمناظرات الدائرة حولها، والتي اتخذت من محنة خلق القرآن المحول الأساسي لها. والمحنة لغويًا: ما يمتحن به الإنسان من بلية وشدائد، واصطلاحًا ترتبط بما اتفق عليه المؤرخون من اتخاذ موضوع خلق القرآن موضوعًا لها، وكان أول من عقدها الخليفة المأمون وتابعه المعتصم والواثق. وفكرة خلق القرآن تمضي إلى قضية نفي الصفات عمومًا، والتي تستند إلى مبدأ التوحيد المنزلي ومن ثم القول بأن القرآن مخلوق يقول القاضي عبد الجبار (وليس هذا يعني أن الله أحدث الكلام في ذاته ولكنه أحدثه فى محل) وقد اشترط المعتزلة أن يكون المحل جمادًا حتى لا يكون هو المتكلم دون الله، لاعتقادهم بأن حقيقة المتكلم من أحدث الكلام وخلقه لا من قام الكلام به. ويذهب المعتزلة إلى أن كلام الله عز وجل من جنس الكلام المعقول فى الشاهد وهو حروف منظومة وأصوات مقطعة. هو =

وأصدر المأمون سنة 218 رسالة إلى والي بغداد يأمره فيها بجمع القضاة وامتحانهم في عقيدة خلق القرآن وعزل من لا يقول بذلك منهم وإسقاط شهادة من لا يراها من الشهود، وأمره بأن يجمع الفقهاء وشيوخ الحديث في داره ويمتحنهم بهذه العقيدة فأجابوا، ثم ضيق الأمر وأمر بالتوسع في امتحان الناس، فأحضر كبار العلماء ورؤوس الناس وامتحنهم، وانتهى الأمر بعد مكاتبات وأوامر مشددة من المأمون للوالي إلى الإقرار من الجميع بأن القرآن مخلوق إلا أربعة - أحمد بن حنبل، والحسن بن حماد، والقواريري، ومحمد بن نوح. وتنقل لنا معظم المصادر التاريخية النقاش الدائر بين الإمام أحمد بن حنبل وممتحنيه، وكان يرفض القول بالإيجاب أو السلب عندما يسأل هل القرآن مخلوق؟

_ = عرض يخلق الله سبحانه وتعالى في الأجسام على وجه يسمع ويفهم معناه. فالقرآن إذاً مخلوق محدث مفعول، لم يكن ثم كان، وأنه غير الله عز وجل، وأنه أحدث بحسب مصالح العباد. ونُسِبَت المشكلة إلى أول من أثارها وهو الجعد بن درهم (124 هـ) وتذكر مصادر أهل السنة أن مصدر المشكلة يهودي، فيروي ابن عساكر أن الجعد أخذ مصادر بدعته من بيان ابن سمعان، وأخذها بيان عن طالوت ابن أخت لبيد بن أعصم وأخذها لبيد بن أعصم الساحر الذي سحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن يهودي باليمن، وأخذ عن الجعد الجهم بن صفوان ثم أخذ بشر المريسي عن الجهم، وأخذ ابن أبي دؤاد عن بشر. وعن امتحان العلماء والفقهاء في هذه المحنة أجابوا جميعًا بأن القرآن مخلوق ما عدا أربعة وهم: أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، وعبد الله بن عمر القواريري، والحسن بن حماد. ثم أجاب عبد الله بن عمر والحسن بن حماد، وبقي الإمام أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح في السجن لرفضهما الإجابة. أهم المصادر عنه: القاضي أبو الحسن عبد الجبار (المغني في أبواب التوحيد والعدل) الجزء السابع: خلق القرآن - وزارة الثقافة والإرشاد 1380 هـ - 1960 - الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد - الجزء السابع ط الخانجي 1349 هـ 1931 م. الخياط: الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد ط دار الكتب 1344 هـ 1925 م. الذهبي: كتاب دول الإسلام ط حيدر آباد 1346 هـ. - ابن كثير: البداية والنهاية الجزء العاشر مطبعة السعادة بمصر. ابن الجوزي: مناقب الإمام أحمد بن حنبل ط الخانجي 1349 هـ.

فمن إجابته (لست بصاحب كلام، ولا أرى الكلام في شيء من هنا إلا ما كان في كتاب أو حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو عن أصحابه، فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود) . وكان المحرك للمناقشات القاضي ابن أبي دؤاد المعتزلي الذي يتعجب من إجابة الإمام بأنه لا يستند إلا لكتاب الله أو سنة رسول الله صلوات الله عليه. ثم يدور الحوار بأسلوب جدلي إذ يتعرض القاضي لبعض الآيات القرآنية لاستخراج معنى الخلق كقوله تعالى: (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) [الأنبياء، الآية: 2] ، ومن صيغة السؤال الموجه للإمام أحمد، حاول ابن أبي دؤاد الوصول إلى إجابة ملزمة، فسأل (أفيكون محدث إلا مخلوق) ؟ فأجاب ابن حنبل قال تعالى: (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) [ص، الآية: 1] فالذكر هو القرآن، ويحتمل أن يكون ذكرًا آخر غير القرآن، وهو ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو وعظه إياهم. فسأل القاضي: أليس الله قال: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الزمر، الآية: 62] فأجاب ابن حنبل: قد قال: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ) [الأحقاف، الآية: 25] فدمرت إلا ما أراد الله. وعندما سئل مرة أخرى (أتقول إن القرآن مخلوق) ؟ قال ابن حنبل: (القرآن كلام الله لا أزيد على هذا) ، فعاد فسأله: (ما تقول في كلام الله) ؟ فأعاد إليه الإمام أحمد السؤال بصيغة أخرى (ما تقول في علم الله) ؟ وكانت هذه الحجة مفحمة لابن أبي دؤاد، لأن الإقرار بأن القرآن علم الله يعادل في نظره أن القرآن جزء لا ينفصل عن علم الله تعالى، فإذا قالوا بأن هذا العلم غير مخلوق، فالقرآن تبعًا لذلك ينبغي أن يكون غير مخلوق. ودفع عبد الرحمن بن إسحاق القاضي المناقشة إلى نقطة أبعد من ذلك وهي (أكان الله ولا قرآن؟) فرد الإمام بحجة مماثلة (أكان الله ولا علم؟) ويعبر لنا ابن إسحاق عن رأي المعتزلة بسؤاله ابن حنبل (ما تقول في هذه الرقعة) ؟ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى، الآية: 11] وقد لاحت عندئذ الفرصة لانتقال الامتحان إلى مسألة جديدة وهي المتصلة بصفات الله سبحانه - وعلى رأي المعتزلة غير منفصلة عن الذات الإلهية أي: أنهم يقولون بأن الله تعالى حي بذاته، قادر بذاته،

وهكذا في سائر الصفات، أي: أنها ليست زائدة على الذات. وهنا سأل إسحاق الإمام أحمد (ما أردت بقولك سميع بصير) ؟ وربما أراد أن يستخرج منه إجابة يلزمه بها بالتشبيه أو التجسيم، ولكن ابن حنبل أجاب بقوله: (أردت منها ما أراده الله منها، وهو كما وصف نفسه، ولا أزيد على ذلك) . ويبدو أن هذه المناقشات قد تسربت إلى الجماهير الغفيرة من المسلمين، فضلاً عن علمائهم، فقد كانت القلوب تحيط بالإمام، مشفقة عليه تخشى عليه من ألوان الأذى التي أصيب بها. ولم يستطح السلطان الكبير للمأمون وأتباعه أن ينالوا من مكانة الشيخ في قلوب المسلمين الذين اتخذوه إمامًا لهم. ونعثر في هذا الصدد على عبارة قالها أحد أولئك الذين حاولوا شد أزره في المحنة، قال له: (وإنك رأس الناس اليوم، فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك) (1) وقد ترددت حجج الإمام أحمد على الألسنة، وأخذت مكانها في الرد على أهل الاعتزال. وتنقل لنا كتب التاريخ المناظرة بين الأذري شيخ أبي داود والنسائي، وبين ابن أبي دؤاد محامي المعتزلة، أمام الخليفة الواثق. وقد تمت المناظرة على النحو التالي: وجه الإمام عبد الله الأذري الأسئلة الثلاثة الآتية إلى ابن أبي دؤاد: الأول: هل ستر الرسول - صلى الله عليه وسلم - شيئًا مما أمره الله عز وجل في أمر دينهم؟ الثاني: حين أنزل القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول الله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة، الآية: 3] . هل كان الله تعالى الصادق في إكمال دينه أو أنت الصادق في نقصانه حتى يقال فيه بمقالتك هذه؟ وقد قوبل السؤالان بالصمت بلا إجابة. الثالث: أخبرني عن مقالتي هذه، علمها رسول الله أم جهلها؟ فأجاب ابن أبي دؤاد: علمها، قال الإمام أحمد: فدعا الناس؟ فسكت، وهنا علق الأذري قائلاً: (فكيف وسعه - صلى الله عليه وسلم - أن ترك الناس ولم يدعهم إليه وأنتم لا يسعكم؟) فبهت الحاضرون وأمر الواثق بخلاص الإمام الأذري وقد علق الذهبي على هذا الإفحام بقوله: إنه إلزام صحيح وبحث لازم للمعتزلة (2) .

_ (1) ابن كثير: البداية ج 1 ص 332. (2) تاريخ الخلفاء للسيوطي (واسم الإمام كاملا أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمد الأذري شيخ =

ومن هذا يتضح كيف اعتبر المعتزلة الاعتقاد بخلق القرآن المحور الأساسي في العقيدة حتى امتحنوا بها الأسرى المسلمين، فكأنهم أضافوا للإسلام أصلاً جديدًا بعد كماله. ومن هنا أثار الشيخ الأذري الآية القرآنية الآنفة. والسؤال الثاني والثالث يوضحان هذا الغرض. وتنتهي المحنة، وتسدل الستار عن مأساة كادت تطيح بالمنهج الإسلامي المتوارث عن السلف، وخلقت لنا مغزى بالغ الأهمية، يتمثل في النزاع بين طرفين: أحدهما المأمون الذي جعل من الاعتزال مذهبًا رسميًا، يحميه ويدعو إليه بالقوة، فيدين به أصحاب المناصب والجاه والنفوذ، وجعل من عقيدة الاعتزال التفسير الوحيد للإسلام، فكانت محنة عظيمة على الأمة، وفكرة فلسفية ضاق عنها تفكير العامة وضاقت بها النفوس (1) . وتظهر مأثرة الإمام أحمد الكبرى التي أكسبته مكانه الجديد، في وقوفه سدًا منيعًا في اتجاه الأمة إلى التفكير الفلسفي الذي لو سيطر على هذه الأمة لانقطعت صلتها بالتدريج عن منابع الدين الأولى وعن النبوة المحمدية وخضعت للفلسفات وأصبحت عرضة للآراء والقياسات، فحفظ الدين من أن يعبث به العابثون أو تتحكم فيه السلطة والأهواء (2) . وإذا توقفنا برهة لنتساءل عن سر هذا الاهتمام الكبير بالمحنة من وجهة نظر السلف، ولم كتبوا عشرات الكتب في الدفاع عن القرآن وإثبات أنه كلام الله تعالى، فلن نفتقد الإجابة بين طيات الصفحات. إنهم خشوا من الآثار المترتبة على اعتقاد أن القرآن مخلوق، ففضلاً عن ضياع الهيبة من القلوب، وافتقاد الخشية والخوف من كلام الله فإن القائل: (إن هذا القرآن مخلوق) أو (إن القرآن المنزل مخلوق) كان بمنزلة المعتقد أن هذا الكلام ليس هو كلام الله (3) .

_ = أبي داود والنسائي) . (1) أبو الحسن الندوي: رجال الفكر والدعوة ص 123. (2) نفس المصدر ص 144. (3) ابن تيمية: موافقة ج 1 ص 157 تحقيق الفقي.

2- عبد العزيز المكي. وبشر المريسي:

2- عبد العزيز المكي. وبشر المريسي: المنهج: حرص عبد العزيز المكي على بيان المنهج أولاً، فقال: (ولكننا نؤصل بيننا أصلاً فإذا اختلفنا في شيء من الفروع رددناه إلى الأصل، فإن وجدناه فيه وإلا رمينا به ولم نلتفت إليه. ثم وجه الحديث إلى المأمون عندما سأله عن الأصل بينه وبين بشر المريسي (218 هـ) قال: (يا أمير المؤمنين بيني وبينه ما أمرنا الله عز وجل واختاره لنا وعلمناه وأدبنا به في التنازع والاختلاف، ولم يكلنا إلى غيره، ولا إلى أنفسنا واختيارنا فنعجز) . فطالبه المأمون بأصل ذلك في كتاب الله، فتلا المكي قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [النساء، الآية: 59] فهذا تعلم من الله وتأديبه واختياره لعباده المؤمنين ما أصله المتنازعون بينهم، وقد تنازعت أنا وبشر يا أمير المؤمنين وبيننا كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن وجدناه فيها وإلا ضربناه في الحائط ولم نلتفت إليه) . وقد أقر المأمون هذا المنهج، فقال: (فافعلا وأصِّلا بينكما هذا واتفقا عليه، وأنا الشاهد عليكما، والحافظ لما يجري بينكما) (1) . وسنعرض في الصفحات التالية لأبرز المسائل التي دار حولها الحوار، وهي عن صفات الله تعالى وقضية القرآن الكريم. صفات الله عز وجل: حاول بشر المريسي أولا جعل عبد العزيز المكي يقر بأن القرآن شيء، فإن كان المراد بأنه شيء إثباتًا للوجود ونفيًا للعدم، فإنه شيء، وإن كان المراد أن الشيء اسم له وأنه كالأشياء فليس كذلك. وقد أقام عبد العزيز الدليل على ذلك بقول الله تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا) [الأنعام، الآية: 91] ، فذم الله

_ (1) الحيدة ص 12.

من نفى أن يكون كلامه الذي أنزله على رسوله شيئًا، ولكنه في آية أخرى أخبرنا تعالى بأنه لا كالأشياء حتى لا يدخله الملحدون في جملة الأشياء، فأظهره باسم الكتاب والنور والهدى فقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ) . وإزاء إصرار قول بشر بأن القرآن شيء كالأشياء ليدعم عقيدته في خلق القرآن وطالب بإتيان الدليل بنص التنزيل، فاحتج بآيات كثيرة من القرآن كقوله تعالى: (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل، الآية: 40] وقوله عز وجل (وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فدل سبحانه وتعالى بهذا الإخبار وأشباه لها في القرآن كثير على أن كلامه ليس كالأشياء وأنه غير الأشياء وأنه خارج عن الأشياء وأنه يكوِّن الأشياء، ثم أنزل الله عز وجل خبرًا مفردًا ذكر فيه خلق الأشياء كلها، لم يدع منها شيئًا إلا ذكره وأخرج كلامه وأمره من جملة الخلق وفصله منها ليدل على أن كلامه غير الأشياء المخلوقة وخارج عنها فقال: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [الأعراف، الآية: 54] . فجمع سبحانه وتعالى في قوله: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ) جميع ما خلق فلم يدع منه شيئًا ثم قال: (وَالْأَمْرُ) يعني والأمر الذي كان به الخلق خلقًا، ففرق بين خلقه وأمره فجعل الخلق خلقًا والأمر أمرًا، وجعل هذا غير هذا وقال: (وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) [القمر، الآية: 50] وقال: (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) [الروم، الآي: 4] . ومن هذه الآيات وآيات أخرى سردها عبد العزيز المكي حتى طلب منه المأمون الاختصار، فأوضح بعد ذلك أن الله تعالى قد أخبر عن خلق السموات والأرض وما بينهما فلم يدع شيئًا من الخلق إلا ذكره فأخبر عن خلقه أنه ما خلقه إلا بالحق، وأن الحق قوله وكلامه الذي به خلق الخلق كله، وأنه غير الخلق وأنه خارج عن الخلق، وغير داخل في الخلق وهذا نص التنزيل (1) . ولكن بشر لم يوافقه على هذا الذي ذهب إليه، ورأى أن عبد العزيز جاء

_ (1) الحيدة ص 18.

بأشياء متباينات متفرقات مدعيًا أن الله خلق بها الأشياء. قال عبد العزيز: إن الله تعالى خلق الأشياء بقوله وكلامه وأمره بالحق فاعترض بشر على قوله لأنه جاء بأشياء متباينات متفرقات مدعيًا أن الله تعالى خلق بها الأشياء. فأخذ المكي في بيان كلامه وشرحه بأن بين أن هذه أربعة أشياء لشيء واحد، لأن كلام الله هو قوله وقول الله هو كلامه وأمر الله هو كلامه وكلام الله هو أمره وكلام الله هو الحق والحق هو كلام الله فهذه أسماء لكلام الله، وأوضح أن الله تعالى سمى كلامه نورًا وهدى وشفاء ورحمة وقرآنًا وفرقانًا وبرهانًا وسماه الحق، وهذه أشياء شتى لشيء واحد وهو كلام الله كما سمى نفسه بأسماء كثيرة وهو واحد صمد فرد. وإنما ينكر بشر هذا ويستعظمه لقلة معرفته بلغة العرب. وهنا ظن بشر أن عبد العزيز يستخدم التأويل لا التنزيل ويخالف المنهج الذي أصّله منذ البداية، ولكن عبد العزيز أعاد إلى سمعه الآيات الدالة على ما ذكره، كقول الله تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ) [التوبة، الآية: 6] ، وإنما يسمعه من قارئه وإنما عنى القرآن لا خلاف بين أهل العلم واللغة في ذلك. وقال تعالى: (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ) [الفتح، الآية: 15] وقال الله عز وجل: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ) ، وآيات أخرى مثل قوله تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) [السجدة, الآية: 3] وقال (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ) [المائدة، الآية: 83] . وهذه الآيات وغيرها يتضح منها أن الله تعالى أخبر عن القرآن أنه الحق كما أخبر أن الحق قوله: (قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ) [ص، الآية: 84] فأخبر أنه الحق والحق قوله وقال: (وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [السجدة، الآية: 13] وقال: (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ

إثبات أن كلام الله تعالى ليس مخلوقا

رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ) [سبأ، الآية: 23] (1) . كما أخبر الله تعالى أن أمره هو القرآن وهو كلامه، قال: (حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) [الدخان، الآيات: 1 - 5] يعني القرآن. وقال: (ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) [الطلاق، الآية: 5] (2) . وثبت بذلك أن القرآن أمر الله تعالى وكلامه وأن أمره هو القرآن وهنا قال عبد العزيز المكي: (وهذا تعليم الله لخلقه وتأديبه لهم فقلت كما قال الله: إن القرآن كلام الله، وإنه أمر الله، وإنه الحق، وإن هذه أسماء لشيء واحد وهو الكلام الذي به خلقت الأشياء وهو غير الأشياء وخارج عن الأشياء وليس هو كالأشياء فهذا بنص التنزيل لا بتأويل ولا بتفسير) . فقال المأمون: (أحسنت يا عبد العزيز) (3) . إثبات أن كلام الله تعالى ليس مخلوقًا وبعد أخذ ورد طويلين ومناقشات حول معاني القرآن وطرق قراءته بالفصل والوصل مما أثبت به عبد العزيز المكي جهل بشر المريسي بأسرار اللغة العربية، عاد المريسي ليقول: إن قول الله تعالى: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) لا تخرج عنها شيء لأن تلك كلمة تجمع الأشياء كلها فلا تدع شيئًا يخرج عنها وكل ذلك داخل فيها. وهنا أخذ عبد العزيز يسترسل في ذكر آيات من القرآن الحكيم، مثل قوله تعالى: (وَاصْطَنَعْتُكَ) [طه، الآية: 41] (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) [آل عمران، الآية: 28، 30] وقوله عز وجل (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام، الآية: 54] وقال: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) [المائدة، الآية: 116] ، فأخبرنا الله عز وجل أن له نفسًا، وطلب من بشر المريسي الإقرار بذلك، فأقر. وأشهد المأمون على هذا الإقرار. وهنا تلا قوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)

_ (1) الحيدة ص 19- 20. (2) الحيدة ص 19- 20. (3) عبد العزيز المكي- الحيدة ص 20.

[آل عمران، الآية: 185] ، ثم سأل بشر (فتقول يا بشر إن نفس الله عز وجل داخلة في هذه النفوس التي تذوق الموت) ، فصاح المأمون بأعلى صوته - وكان جهوري الصوت - معاذ الله، معاذ الله قال عبد العزيز: (معاذ الله أن يكون كلام الله داخلاً في الأشياء المخلوقة كما أن نفسه ليست بداخلة في الأشياء الميتة) . وقد اعترف المأمون عندئذ بأن حجة عبد العزيز قد وضحت وانكسر قول بشر، وطالب عبد العزيز بالمزيد من هذه الأخبار في القرآن الكريم. قال عبد العزيز: يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل شرف العرب وكرمهم وأنزل القرآن بلسانهم فقال: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) [يوسف، الآية: 2] وقال: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ) [مريم، الآية: 97] فخص الله عز وجل العرب بفهمه ومعرفته وفضلهم على غيرهم بعلم أخباره ومعاني ألفاظه وخصوصه وعمومه ومحكمه ومبهمه وخاطبهم بما عقلوه وعلموه ولم يجهلوه، إذْ كانوا قبل نزوله عليهم يتعاملون بمثل ذلك في خطابهم فأنزل الله عز وجل القرآن على أربعة أخبار خاصة وعامة (1) . فمنها: 1 - خبر مخرجه مخرج الخصوص ومعناه معنى الخصوص وهو قوله تعالى: (إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ) [ص، الآية: 71] وقوله: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ) [آل عمران، الآية: 59] ثم قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى) [الحجرات، الآية: 13] والناس اسم يجمع آدم وعيسى وما بينهما وما بعدهما فعقل المؤمنون عن الله عز وجل أنه لم يعن آدم وعيسى لأنه قدم خبر خلقهما. 2- خبر مخرجه مخرج العموم ومعناه معنى الخصوص وهو قوله تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف، الآية: 156] فعقل عن الله أنه لم يعن إبليس فيمن تسعه الرحمة لما تقدم فيه من الخبر الخاص قبل ذلك وهو قوله: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص، الآية: 85] فصار معنى ذلك الخبر العام خاصًا لخروج إبليس ومن تبعه من سعة رحمة الله التي وسعت كل شيء.

_ (1) الحيدة ص 32- 33.

الفرق بين الجعل والخلق

3- خبر مخرجه مخرج الخصوص ومعناه معنى العموم وهو قوله: (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى) [النجم، الآية: 49] ، فكان مخرجه خاصًا ومعناه عامًا. 4- خبر مخرجه العموم ومعناه العموم. فهذه الأربعة الأخبار خص الله العرب بفهمها ومعرفة معانيها وألفاظها وخصوصها وعمومها والخطاب بها، ثم لم يدعها اشتباهاً على خلقه وفيها بيان ظاهر لا يخفى على من تدبره من غير العرب ممن يعرف الخاص والعام، فلما قدم إلينا عز وجل في نفسه خبرًا خاصًا أنه حي لا يموت بقوله: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ) [الفرقان، الآية: 58] ثم أنزل خبرًا مخرجه مخرج العموم ومعناه الخصوص فقال: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران، الآية: 185] فعقل المؤمنون عن الله عز وجل أنه لم يعن نفسه مع هذه النفوس لما قدم إليهم من الخبر الخاص، كذلك وقدم إلينا في كتابه خبرًا خاصًا (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل، الآية: 40] ، فدل على قوله باسم مفرد فقال إذا أردناه - ولم يقل أردناهما - ففرق بين القول والشيء المخلوق الذي يكون بالقول مخلوقًا ثم قال عز وجل (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [غافر، الآية: 62] فعقل المؤمنون عن الله عز وجل أنه لم يعن كلامه وقوله في الأشياء المخلوقة لما قدم من الخبر الخاص (1) . الفرق بين الجعل والخلق ولكن بشرا عاد إلى موقفه الأول مصممًا على أن قوله مؤيد بنص التنزيل، واستخرج من القرآن الكريم آية يدلل بها على رأيه بقول الله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) [الزخرف، الآية: 3] ذاهبًا إلى معنى جعلناه: خلقناه. وفي مقدمة رد عبد العزيز المكي على بشر المريسي أرجع خطأه إلى أنه رجل من أبناء العجم يتأول كتاب الله تعالى على غير ما أنزل، ويحرفه عن مواضعه ويبدل معانيه ويقول ما تنكره العرب وكلامها ولغاتها، ويكفر بشر الناس ويستبيح دماءهم بتأويل لا بتنزيل. وأخذ عبد العزيز المكي يستقرئ آيات القرآن التي يثبت فيها أن (جعل)

_ (1) الحيدة ص 34.

إقامة الحجة بالتنزيل

ليست بمعنى (خلق) مثل قوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا) [النحل، الآية: 91] فإذا كان (جعلتم) هنا بمعنى خلقتم الله عليكم كفيلا، ومن قال هذا فقد أعظم الفرية على الله عز وجل وكفر به. وقال عز وجل: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ) [البقرة، الآية: 224] ، وقال سبحانه: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ) [النحل، الآية: 57] وقوله: (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا) [الأعراف، الآية: 190] ، وقال: (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا) [الأنعام، الآية: 91] . وإزاء هذه الحجة المفحمة لما يترتب على تأويل معنى (جعل) بـ (خلق) من مقالات، اعترف المأمون بصحة ما ذهب إليه عبد العزيز المكي فقال: (ما أقبح هذه المقالة وأعظمها وأشنعها فحسبك يا عبد العزيز فقد صح قولك وأقر بشر بما حكيت عنه وكفر نفسه من حيث لم يدر) (1) . إقامة الحجة بالتنزيل وعندما ضيق الخناق على بشر المريسي، قال للمأمون: (يا أمير المؤمنين هذا يريد نص القرآن لكل شيء يتكلم به، وهذا مما لا يقدر عليه لأنه ليس كل ما يتكلم به الناس مما يحتاجونه إليه من علم أديانهم يوجد في كتاب الله بنص التنزيل، وإنما يوجد فيه بالتأويل) ، أي أنه عاد يطالب بالتأويل بعد أن أفحمه عبد العزيز المكي بالتنزيل. وظن أنه بهذه الطريقة سيعجز عبد العزيز عن إثبات صحة ما ذهب إليه، فأخذ يتحدى مطالبًا بآيات تدل على شمولها لكل المخلوقات. وأخذ يطالب عبد العزيز بالإتيان ببراهينه، فقال: (أوجدني أن هذا الحصير مخلوق بنص القرآن) . ولكن عبد العزيز لم يعجز عن إثبات ذلك، فطالب بشر المريسي أولاً بالإقرار

_ (1) الحيدة ص 37- 38.

إقامة الحجة بالنظر والقياس

بأن الحصير من سعف النخل وجلود الأنعام بالإضافة إلى صناعة الإنسان الذي يعمله حتى صار حصيرًا، ثم أخذ يردد آيات الله تعالى في هذا الصدد قال تعالى في النخيل: (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ) [الواقعة، الآية: 72] فهو نص بخلق النخل والسعف. وأما الجلود فقال الله تعالى: (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ) [النحل، الآية: 5] وهذا خلق الجلود وأما الصانع فقال الله عز وجل: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ) [ق، الآية: 16] فهذا خلق الصانع، فصار الحصير مخلوقًا بنص التنزيل لا بتأويل ولا بتفسير. وسأل بشر: (فهل عندك مثل هذا لخلق القرآن، ما تذكره أو تحتج به وإلا فقد بطل ما تدعونه من خلقه وصح ولم يزل صحيحًا أن القرآن كلام الله غير مخلوق من كل جهة وعلى أي جهة تصرفت) (1) . ثم دارت المحاولة على النحو التالي: قال بشر: يا أمير المؤمنين، عندي أشياء كثيرة إلا أنه يقول بنص التنزيل، وأنا أقول بالنظر والقياس. فليدع مناظرتي بنص التنزيل وليناظرني بغيره. فتعجب المأمون من طريقة بشر في المناظرة وسأله في دهشة (تقول لرجل يناظر بالكتاب والسنة دعهما واخرج إلى النظر والقياس؟ هذا ما لا يجوز؟) (2) . إقامة الحجة بالنظر والقياس ولكن عبد العزيز المكي فاجأ المأمون والحاضرين وأبدى تمام استعداده للمناظرة بالنظر والقياس دون الاحتجاج بآية من كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسأل بشر المريسي: (تسألني أم أسألك؟ قال: اسأل أنت) وقال مستطردًا: (وطمع في هو وأصحابه وظنوا أني إن خرجت عن الكتاب والسنة لم أحسن أن أتكلم بغيرهما) (3) .

_ (1) الحيدة ص 49 - 50. (2) الحيدة ص 50. (3) والمقصود بالحيدة الانصراف عن السؤال والهروب من إجابته. وقد استند عبد العزيز المكي إلى واقعتين أحدهما في القرآن الكريم والأخرى فى تاريخ المسلمين. فأما في القرآن فقال الله تعالى في قصة إبراهيم حين قال لقومه: (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ =

قال عبد العزيز لبشر المريسي: (يلزمك في قولك بخلق القرآن واحد من ثلاث: 1- أن الله خلق كلامه في نفسه. 2- أو خلقه في غيره. 3- أوخلقه قائمًا بذاته أي شيئًا منفصلاً قائمًا بنفسه. فقل ماعندك يا بشر) . فأجاب بشر: (أنا أقول: إنه مخلوق وإنه خلقه كما خلق الأشياء كلها) فصاح عبد العزيز في وجهه ليثبت عليه الحيدة عن جوابه قائلاً: (تركنا الكتاب والسنة عند هرب بشر عنهما، وناظرته بالقياس والنظر لما ادعاه وذكر أنه يحسبه ويقيم على الحجة ولكنه مال إلى الحيدة ونقض ما شرط على نفسه، فإن بشرًا إنما يحسن أن يناظر من لا يفهم ولا يدري ما يقول) . وهنا نهره المأمون وأمره بأن يجيب عبد العزيز المكي، فقال معترفا بعجزه عن الإجابة (ما عندي جواب غير ما أجبته به) (1) . فأقبل المأمون على عبد العزيز فقال: (قد حاد بشر عن جوابك فتكلم أنت يا عبد العزيز في شرح المسألة) . وهنا أعاد عبد العزيز المكي الإلزامات الثلاثة التي ذكرها في بداية سؤاله، وفصلها حسب البيان الآتي: 1 - إن قال بشر: إن الله خلق كلامه في نفسه، هذا محال باطل لا يجد للسبيل إلى القول به من قياس ولا نظر ولا معقول، لأن الله - تعالى عما يقولون علوًا كبيرا -

_ = تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) [الشعراء، الآية: 72، 73] وإنما قال لهم إبراهيم هذا؛ ليذمهم ويعيب آلهتهم ويسفه أحلامهم فعرفوا ما أراد به فصاروا بين أمرين، أن يقولوا نعم يسمعونا حين ندعو وينفعونا أو يضرونا فيشهد عليهم بلغة قومهم أنهم كذبوا ويقولوا: لا يسمعونا حين لا ندعو ولا ينفعونا ولا يضرونا فينفوا عن آلهتهم القدرة، وعلموا أن الحجة عليهم لإبراهيم لأنهم فى أي القولين أجابوه فهو عليهم، فحادوا عن جوابه واجتلبوا كلاماً من غيرهم ما سألهم عنه فقالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون فلم يكن هذا جواب مسألته.

إثبات علم الله - تعالى - بنص التنزيل

لا يكون مكانًا للحوادث ولا يكون فيه شيء مخلوق ولا يكون ناقصًا بشيء إذا خلقه. 2- وإن قال: خلق كلامه في غيره فهذا أيضًا محال باطل لا يجد السبيل إلى القول به من قياس ولا نظر، ولا معقول، لظهور الشناعة من قبله لأنه يلزم قائل هذه المقالة في القياس والنظر والمعقول أن يجعل كل كلام خلقه في غيره هو كلام الله، فيجعل الشعر وقول الزور والفحش والخنا وكل كلام ذمه الله وذم قائليه من كلام الكفر والسحر وغيره لله تعالى عن ذلك. 3- وإن قال: خلق كلامه قائمًا بذاته، فهذا هو المحال الباطل الذي لا يجد السبيل إلى القول به من قياس ولا نظر ولا معقول؛ لأنه لا يكون الكلام إلا من متكلم، كما لا تكون الإرادة إلا من مريد، ولا العلم إلا من عالم، ولا القدرة إلا من قدير، ولا رؤي ولا يرى أبدًا كلام الله قائم بذاته متكلم بنفسه، وهذا ما لا يعقل، ولا يعرف ولا يثبت من قياس ولا نظر، ولا غيره. فلما استحال القرآن أن يكون مخلوقًا من هذه الجهات، ثبت أنه صفة لله عز وجل وصفات الله عز وجل غير مخلوقة، فيبطل قول بشر من جهة النظر والقياس كما بطل من الكتاب والسنة. وهنا قال المأمون: (أحسنت يا عبد العزيز) ، ولكن بشرًا انتقل إلى موضوع آخر فقال: (دع هذه المسألة واسأل عن غيرها) (1) . وانتقلا من الحديث عن كلام الله تعالى إلى صفاته عز وجل وقد بدأ بالعلم ثم الحديث عن القدرة والفعل، واختتما المحاورة بالبرهنة بالمنهج القياسي على أن كلام الله تعالى غير مخلوق، ونرى كيف التزم عبد العزيز طرقًا ثلاثة في محاورته: أي التنزيل والنظر والقياس. إثبات علم الله - تعالى - بنص التنزيل: انتقل الحديث إلى الصفات الإلهية التي أثبتها الله تعالى لنفسه ومنها العلم، وقد تدخل المأمون في هذا الجزء من المحاورة، فسأل عبد العزيز (أتقول يا عبد العزيز: إن الله عالم؟) فأجابه (نعم يا أمير المؤمنين) ، فسأله ثانيا (فتقول: إن لله علم؟) فأجاب

_ (1) الحيدة ص 52- 53.

بالإيجاب. وذهب المأمون بعد ذلك إلى ما هو أدق من هذه القضية في الفهم والنظر، فسأل عبد العزيز: (فتقول: إن الله سميع بصير؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: فتقول: إن لله سمعًا وبصراً؟ قلت: لا يا أمير المومنين) . وكان عبد العزيز واعيًا لإجاباته مدعمًا عقيدته بالمنهج الثابت المنقول عن السلف الصالح وما فهمه المسلمون قبله، فقال: (يا أمير المومنين، قد قدمت إليك فيما احتججت به أن على الناس جميعًا أن يثبتوا ما أثبت الله، وينفوا ما نفى الله، ويمسكوا عما أمسك الله عنه، فأخبرنا الله عز وجل أن له علمًا، فقلت: إن له علمًا، كما أخبر وأخبرنا أنه عالم بقوله: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) [التغابن، الآية: 18] فقلت: إنه عالم كما أخبرنا إنه سميع بصير، فقلت إنه سميع بصير كما أخبر في كتابه، ولم يخبر أن له سمعًا ولا بصر) . فقال المأمون لبشر وأصحابه: (ما هو بمشبه فلا تكذبوا عليه) (1) . وهنا أراد بشر إحراج عبد العزيز فسأله: (قد زعمت يا عبد العزيز أن لله علمًا، فأي شيء هو علم الله؟ وما معنى علم الله؟) . وأجاب عبد العزيز بشيء من التفصيل، مستشهدًا بآيات من القرآن الكريم فقال: (هذا مما تفرد الله بعلمه ومعرفته، فلم يخبر به ملكًا مقربًا ولا نبيًا مرسلاً، بل احتجبه عن الخلق جميعهم فلم يعلمه أحد قبلي ولن يعلمه أحد بعدي، لأن علمه أكثر وأعظم من أن يعلمه أحد من خلقه) . وأخذ يذكره بقوله تعالى: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ) [البقرة، الآية: 255] ، وقوله: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) [الجن، الآية: 26، 27] ، وقوله: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [الأنعام، الآية: 59] وقوله عز وجل: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [لقمان، الآية: 27] .

_ (1) الحيدة 25- 26.

وسأل بشرًا (أتدري يا بشر ما معنى هذا؟ وأي شيء مما نحن فيه؟) . فطالبه المأمون بالإجابة بنفسه على هذا السؤال شرحًا وتفسيرًا فاستكمل ذلك بقوله: (يا أمير المؤمنين يعني بقوله هذا ولو أن ما في الأرض من جميع الشجر والخشب والقصب أقلام يكتب بها، والبحر مداد يمده من بعده سبعة أبحر، والخلائق كلهم يكتبون بهذه الأقلام من هذا البحر، ما نفدت كلمات الله، فمن بلغ عقله وفهمه وفكره كنه عظمة الله وسعة علمه؟!! وقال سبحانه وتعالى: (لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) [الكهف، الآية: 109] فمن يحد هذا أو يصفه أو يدعي علمه، وقد عجزت الملائكة المقربون عن علم ذلك واعترفوا بالعجز عنه فقالوا: (سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [البقرة، الآية: 32] ؟ وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) . وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن علم الساعة فقال: (علمها عند ربي من خمس لا يعلمها إلا هو) وتلا: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ) [لقمان، الآية: 34] فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذه الخمس مما تفرد الله بعلمها، فلا يعلمها إلا هو، فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم من علم الله إلا ما علمه، فكيف يجوز لأحد من أمته أن يتكلف علمًا أو يدعي معرفة) (1) . ويبدو من تعليق عبد العزيز أنه غضب بسبب هذا السؤال الذي لا محل له للإجابة عنه واضطر إلى إفحامه بنصوص التنزيل لبيان أن مثل هذا السؤال منهي عنه من قبل الله تعالى، فقال عبد العزيز: (إنك لتأمرني بما نهاني الله عنه وحرم علي القول به، وتأمرني بما أمرني به الشيطان، ولست أعصي ربي وأرتكب نهيه وأطيع الشيطان وأتبع أمره وأمرك إذا كنتما قد أمرتماني بخلاف ما أمرني به ربي، بل نهاني) !!

_ (1) الحيدة ص 26- 27.

وكان المأمون يراقب الموقف منصتًا باهتمام، ودهش من رد عبد العزيز وأراد شرحًا له، فقال: (يا عبد العزيز أمرك بشر بما نهاك الله عنه وحرم عليك القول به وأمرك به الشيطان؟!!) فلما أجاب عبد العزيز بالإيجاب، طالبه بآيات من كتاب الله بنص التنزيل. قال عبد العزيز: (قال الله عز وجل لنبيه عليه السلام: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [الأعراف، الآية: 33] وأمرهم الشيطان بضد ذلك، فقال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة، الآية: 168، 169] فأخبر الله عز وجل أن الشيطان يأمر الناس بأن يقولوا على الله ما لا يعلمون، فنهاهم عن اتباعه وقبول قوله، فهذا تحريم الله ونهيه لنا بها يا أمير المؤمنين أن نقول عليه ما لا نعلم، وهذا أمر الشيطان لنا أن نقول على الله ما لا نعلم، وقد اتبع بشر يا أمير المؤمنين سبيل الشيطان التي نهاه الله عن اتباعها ووافقه على قوله وأمرني بمثل ما أمرني به الشيطان أن أقول على الله ما لا أعلم) . ويصف عبد العزيز انعكاسات هذه الإجابة على المأمون بقوله: (فكثر تبسم المأمون حتى غطى بيده على فيه وأطرق يكتب في الأرض بيده على السرير) (1) ويدهشنا أن تصل المجادلة إلى هذا الحد مع إصرار بشر المريسي على موقفه بالرغم من حجج عبد العزيز القوية الواضحة، ومنها يتضح أن المريسي قد أفلس بعناده وعجزه عن مجابهة أدلة عبد العزيز. كما تعجب من تصرف المأمون لاتخاذه القضية البالغة الأهمية ذريعة للتضييق على الناس وكبت آرائهم، ثم وقوفه بنفسه على الأدلة وإقراره بصحتها في أكثر من موضع بقوله: (أحسنت يا عبد العزيز) ، بينما في مجالسه الخاصة تكون مدعاة لابتسامه وربما ضحكه!!

_ (1) الحيدة ص 28.

إثبات الفعل والقدرة بالنظر والقياس

إثبات الفعل والقدرة بالنظر والقياس أولا: بالنظر والمعقول: استهل عبد العزيز المكي المحاورة في هذه القضية بسؤاله لبشر المريسي فسأله: (يا بشر تقول: إن الله كان ولا شيء، وكان لم يفعل شيئاً، وكان لم يخلق شيئاً) فلما أقر بشر بهذه المقدمة، استخرج منها الإقرار بأن الله تعالى هو الذي أحدث الأشياء أي: خلقها بقدرته سبحانه. ولكنهما اختلفا بعد الاتفاق على هذه المقدمة، ويعبران عن وجهتي النظر المتعارضتين، إذ إن المعتزلة ينفون صفات الله تعالى بينما يثبت علماء أهل السنة والجماعة هذه الصفات كما اتضح لنا فيما تقدم من هذا البحث. أقر بشر بأن الله عز وجل لم يزل قادرًا، ولكنه لم يقر بأن الله سبحانه لم يزل يفعل فانبرى إليه عبد العزيز المكي قائلاً (فلا أن تقول إنه خلق بالفعل الذي كان عن القدرة، وليس الفعل هو القدرة، لأن القدرة صفة من صفات الله، ولا يقال لصفات الله هي الله، ولا هي غير الله، وهذا يلزمك القول به) . فلما اعترض بشر على هذا التفسير قائلاً لعبد العزيز: (ويلزمك أيضًا أن تقول إنه لم يزل يفعل ويخلق، وإذا قلت ذلك تبين أن المخلوق لم يزل مع الخلق) ، هنا أضاف عبد العزيز إيضاحًا أكبر، متوسعًا في شرح العلاقة بين الخالق والمخلوقات، ليصل إلى إثبات صفة الفعل لله تعالى مع القدرة، وبذلك يضع البرهان العقلي لصفات الله تعالى وتغايرها. قال عبد العزيز: (إني لم أقل هذا وليس لك أن تحكم علي وتحكي عني ما لم أقل وتلزمني ما لم يلزمني، إني لم أقل إنه لم يزل الخالق يخلق، ولم يزل الفاعل يفعل فألزمني ما قلت، وإنما قلت لم يزل الفاعل سيفعل، ولم يزل الخالق سيخلق لأن الفعل صفة الله يقدر عليها ولم يمنعه منها مانع) (1) . وكان عبد العزيز حريصًا في اختيار ألفاظه أن يستخدم الفعل بصيغة المستقبل، لكي يتضح أمام السامع أن الله تعالى هو الأول بالإطلاق وأنه سبحانه متقدم قبل الخلق، وكان ولا شيء قبله ولا شيء معه.

_ (1) الحيدة ص 53.

ثانيا: إثبات أن القرآن كلام الله بمنهج القياس

ولكن بشرًا أصر على موقفه بالاعتقاد أن الله تعالى أحدث الأشياء بقدرته ولم يقر بالفعل الذي كان عن القدرة. وهنا اضطر عبد العزيز لإشراك المأمون في المحاورة، فقال: (يا أمير المؤمنين، قد قال بشر: إن الله كان ولا شيء، وإنه أحدث الأشياء بعد أن لم تكن شيئًا بقدرته، فقلت أنا: أحدثها بأمره وقوله عن قدرته) . فقال المأمون: قد حفظت عليكما قولكما. فقال عبد العزيز: (يا أمير المؤمنين لن يخلو أن يكون أول خلق خلقه الله بقول قاله وبإرادة أرادها، وقدرة قدرها) . واستمر في شرح معتقده، إذ ترتب على المقدمة السابقة أن ههنا إرادة ومريدًا، وقولاً وقائلاً ومقولاً له، وقدرة وقديرًا ومقدوراً عليه، وذلك كله متقدم قبل الخلق وما كان متقدمًا قبل الخلق فليس هو من الخلق في شيء. وكان سكوت بشر يدل على أنه أفحم فلم يجد جوابًا فقال عبد العزيز: وقد كسرت والله قول بشر ودحضت حجته بإقراره بلسانه بالنظر والمعقول، ولم يبق إلا القياس. وأنا أكسره بالقياس إن شاء الله تعالى، فقال المأمون: هات وأوجز قبل خروج وقت الصلاة (1) . ثانيًا: إثبات أن القرآن كلام الله بمنهج القياس: واستخدم عبد العزيز المكي المنهج القياسي في إثبات أن القرآن الكريم كلام الله تعالى وليس شيئًا مخلوقًا، وكانت دوافعه للعودة مرة أخرى إلى هذا الموضوع أن يثبت صفة الكلام، فإذا تم ذلك أثبت باقي صفات الله تعالى قياسًا عليه. وبدأ عبد العزيز بتوجيه كلامه إلى المأمون، قال: يا أمير المؤمنين، لو كان لبشر غلامان وأنا لا أجد لهما خبرًا من أحد من الناس إلا من بشر، ويقال لأحدهما: خالد، وللآخر: يزيد، وكان بشر غائبًا عني بحيث لا أراه فكتب إلي بشر ثمانية عشر كتابًا يقول في كل كتاب منها: (ادفع إلى غلامي هذا الكتاب) وكتب إلي أربعة وخمسين كتابًا يقول: (ادفع إلى يزيد هذا

_ (1) الحيدة ص 54.

الكتاب ولم يقل: غلامي) . وبعد هذه البداية، التي سنفهم بعدها سبب اختيار عبد العزيز لهذه الأعداد بالذات حالا، استكمل حديثه بقوله: ثم قدم بشر من سفره فقال لي: ألست تعلم أن يزيد غلامي، فقلت: قد كتبت إلي أربعة وخمسين كتابًا وقلت: ادفع هذا الكتاب إلى يزيد ولم تقل غلامي، وكتبت ولم أسمعك تقول غلامي - وأنا لا أجد ذلك إلا منك ولا أعرف خبره من أحد غيرك. وكتبت إلي ثمانية عشر كتابًا (ادفع إلى خالد غلامي هذا الكتاب) ، فعلمت بكتابك أنه غلامك. ثم كتبت إلي كتابًا جمعتهما فيه فقلت: (ادفع هذا الكتاب إلى خالد غلامي وإلى يزيد - ولم تقل غلامي، فمن أين أعلم أن يزيد غلامك ولست أعلم خبرهما من أحد غيرك؟) . وسياقًا لهذه الواقعة، وما يترتب على حدوثها من نتائج، أراد عبد العزيز الوصول إلى أنها لو حدثت بهذه الكيفية، سيتهمه بشر بأنه فرط حيث لم يعلم أن يزيد غلامه من كتبه ولكن عبد العزيز يلقي المسئولية عن كاهله ويرى أن بشرًا هو المفرط، وأشرك المأمون في الشهادة فسأله: (فأينا المفرط يا أمير المؤمنين) ؟ فأقر المأمون بأن بشرًا هو المفرط (1) . ومع غرابة هذه الواقعة التي يريد عبد العزيز القياس عليها، ظهرت دهشة بشر المريسي من غرضه فقال: (وأيش هذا مما نحن فيه تريد أن تثبت بهذا السؤال علي ما لم يكن مني كانت هذه المكاتبة وهذا الكلام) ؟ وحينذاك حسم عبد العزيز الموقف مستخدمًا القياس في البرهنة على ما ذهب إليه، فقال: (اسمع حتى تقف على ما أردت) ثم أردف قائلاً: يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل أخبرنا في كتابه بخلق الإنسان في ثمانية عشر موضعًا، ما ذكره في موضع منها إلا أخبر عن خلقه. وذكر القرآن في أربعة وخمسين موضعًا فلم يخبر عن خلقه في موضع منها ولا أشار إليها بشيء من صفات الخلق، ثم جمع القرآن والإنسان في آية من كتابه فأخبر عن الخلق للإنسان ونفى الخلق عن القرآن، فقال الله عز وجل: الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) [الرحمن، الآية: 1 - 4]

_ (1) الحيدة ص 54.

الاستواء على العرش

ففرق بين القرآن والإنسان فزعم بشر يا أمير المؤمنين أن الله فرط في الكتاب من شيء. فهذا كسر قول بشر بالقياس. فقال المأمون: (أحسنت يا عبد العزيز) (1) . إلى جانب تناول الجدل حول باقي صفات الله سبحانه وتعالى من وجهتي النظر المتعارضتين: رأي المعتزلة الذي يعبر عنه بشر المريسي ورأي علماء السنة الذي يعبر عنه عبد العزيز المكي (2) . الاستواء على العرش: من محاورات عبد العزيز المكي مع بشر المريسي في بيان استواء الله عز وجل على عرشه: فسر الجهمية قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه، الآية: 5] بأن المعنى استولى كقول العرب استوى فلان على مصر وعلى الشام. ويسأل عبد العزيز المكي عدة أسئلة يستخلص منها الإجابات الملزمة لها، فيسأل أولا (أيكون خلق من خلق الله أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه؟) فالإجابة الصحيحة بالنفي، ومن زعم غير ذلك فهو كافر. وبالنظر إلى آيات أخرى تتناول العرش، يلزم المريسي بأن العرش قد أتت عليه مدة ليس الله بمستول عليه، فقد قال الله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) [الفرقان، الآية: 59] وقوله: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) [غافر، الآية: 7] وقوله: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ) [فصلت، الآية: 11] ويستطرد المكي بعد هذا قائلاً: (فيلزمك أن تقول: المدة الذي كان العرش فيها قبل خلق السموات الأرض ليس الله بمستول عليه، إذ كان (اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) معناه عندك استولى، فإنما استولى بزعمك ذلك الوقت لا قبله) . وبقيت الصعوبة التي يثيرها الجهمية في كيفية الاستواء، إذ يستفسر المريسي

_ (1) الحيدة ص 55. (2) وقد استخلصناه من ابن تيمية نقلاً عن الحيدة إذ لاحظنا أن الكتاب المتداول والذي استندنا إليه جاء خلوًا هن هذه المسألة.

عنه، أهو كما يقول: (استوى فلان على السرير) فيكون السرير قد حوى فلانًا وحده إذا كان عليه؟ ويلزم من ذلك القول أن العرش قد حوى الله وحده إذا كان عليه، لأنا لا نعقل الشيء إلا هكذا. ويوضح عبد العزيز المكي إجابته على هذا التساؤل، فيؤكد أولاً أن الله تعالى لا يجرى عليه كيف، فلا مجال إذن للتساؤل (كيف استوى؟) فقد أخبرنا بأنه استوى على العرش ولم يخبرنا كيف استوى، إذ لم تره العيون في الدنيا فتصفه بما رأت، وحرم عليهم أن يقولوا عليه ما لا يعلمون فآمنوا بخبره عن الاستواء، ثم ردوا علم كيف استوى إلى الله تعالى. بقي بعد هذه الإجابة أن يلزم الجهمي بإلزامين يستخرجهما من وصفه لله تعالى بأنه في كل مكان، أولهما فقد زعم أن الله تعالى محدود وقد حوته الأماكن، لأنه لا يعقل شيء في مكان إلا والمكان قد حواه، ويلزمه ثانيًا تقليد النصارى في الاعتقاد بأن الله عز وجل في عيسى وعيسى بدن إنسان واحد، فكفروا بذلك، ولكن قول الجهمية أشنع إذ يلزمهم القول أنه في أبدان الناس كلهم، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. وفي ختام المحاورة يضطر المريسي إلى الوقوع في التناقض إذ يصف الله عز وجل بأنه في كل مكان، لا كالشيء في الشيء ولا كالشيء على الشيء، ولا كالشيء خارجًا عن الشيء، ولا مباينًا للشيء. ويسخر المكي من هذا الاعتقاد، لأن المريسى يدعي أنه يستند إلى القياس والمعقول، ولكنه دل بالقياس والمعقول على أنه لا يعبد شيئًا، لأن ما لا يكون داخلاً في الشيء ولا خارجًا منه فإنه لا يكون شيئًا، وأن ذلك صفة لمعدومٍ لا وجود له (1) . وتلقف ابن تيمية بقراءاته المتشعبة مثل هذا الدليل العقلي، وزاده إيضاحًا، فبين أولا أن الألفاظ التي لم تنطق الرسل فيها بنفي ولا إثبات كلفظ الجهة والحيز ونحو ذلك لا يطلق نفيًا ولا إثباتًا إلا بعد بيان المراد، ثم أحصى الأدلة المستمدة من القرآن والسنة فرآها تقارب ألفًا، مع تطابق الأنبياء كلهم على أن الله سبحانه وتعالى في العلو.

_ (1) ابن تيمية: مجموعة فتاوى ج 5 ص 316 - 317 ط السعودية.

ولكن ماذا يقصد بالعلو؟ يقدم كعادته الآيات القرآنية، مثل قوله تعالى: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) ، (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا) [الملك، الآية: 16، 17] ، فهو سبحانه العلي الأعلى لا يعلوه شيء من خلقه، كما أخبر الرسل بأن الله تعالى فوق العالم بعبارات متنوعة ولكن ليس مرادهم أن الله في جوف السموات أو أن الله يحصره شيء من المخلوقات، بل كلام الرسل كله يصدق بعضه بعضًا، كما قال تعالى: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات، الآيات: 180 - 182] وثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (أنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء) ويناقش شيخ الإسلام كافة التصورات المحتملة فينفيها، ويثبت الصحيح، فمن التصورات الخاطئة اعتقاد أن يكون الرب محصورًا في شيء من المخلوقات أصلاً سواء سمي ذلك المخلوق جهة أو لم يسم جهة، ويخطئ أيضًا من يظن أنه ليس فوق السموات رب، ولا على العرش، ومحمد صلوات الله لم يعرج إلى ربه، ولا تصعد الملائكة إليه، ولا تنزل الكتب منه، ولا يقرب منه شيء، ولا يدنو إلى شيء. الاعتقاد الصحيح إذن أنه ليس موجود إلا الخالق والمخلوق، والخالق بائن على مخلوقاته، عال عليها، فمن سمى ما فوق العالم جهة وجعل العدم المحض جهة وقال في جهة بهذا المعنى أي: هو نفسه فوق كل شيء فهذا معنى صحيح (1) .

_ (1) ابن تيمية: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ج 3 ص 83.

الفصل الثالث:

الفصل الثالث: صلة العقل بالشرع - تعريف الشرع - تعريف العقل بين فلاسفة اليونان ولغة عدنان - أدلة الشرع عقلية - تعقيب

صلة العقل بالشرع

صلة العقل بالشرع لعل أبرز نقاط الخلاف بين شيوخ الحديث والسنة، والمتكلمين بعامة والمعتزلة بخاصة هي نقطة صلة العقل بالشرع، فبينما زعم المتكلمون أن بوسعهم استحداث أدلة مستوحاة من العقل وممزوجة بمصطلحات الفلاسفة والاستناد إليها في الدفاع عن الإسلام، يرى أهل الحديث والسنة أن الأدلة الشرعية بذاتها كافيةـ؛ لأنها تتفق مع أحكام العقل وقوانينه. وهناك أيضًا مترادفات، فيقال: النقل والعقل أو الرواية والدراية والسمع والعقل، وكان مثار الخلافات الحادثة بين المسلمين أن أهل الكلام ظنوا أن الأدلة الواردة بالوحي لا صلة لها بالعقل، ولهذا حاولوا التوفيق بين أدلة الشرع وأدلة العقل ظانين أنهم بهذا المنهج يستطيعون الدفاع عن الإسلام وتقريب أصوله إلى الأذهان. وتوطئة لتحليل هذه القضية الهامة التي تعتبر جوهر الخلاف بين المتكلمين والمحدثين فسنعرض لبعض المصطلحات التي حددها أحد علماء الحديث والسنة ليمكننا التمييز بين مناهج علماء الحديث ومناهج المتكلمين من المعتزلة والأشاعرة وأصحاب الفرق الأخرى. تعريف الشرع: وهو ينقسم إلى: 1 - الشرع المنزل: فالشرع يطلق تارة على ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الكتاب والسنة. وهذا هو الشرع المنزل، وهو الحق الذي ليس لأحد خلافه. 2- الشرع المبدل: ويطلق على ما يضيفه بعض الناس إلى الشرع، إما بالكذب والافتراء وإما بالتأويل والغلط، وهذا شرع مبدل لا منزل، ولا يجب، بل لا يجوز اتباعه. ويضع شيخ الإسلام ابن تيمية في دائرة الشرع المبدل هؤلاء الذين يناقضونه في خبره، فينفون ما أثبته أو يثبتون ما نفاه، كأتباع جهم بن صفوان الذين ينفون ما أثبته من صفات الله سبحانه وتعالى، والقدرية النفاة الذين ينفون ما أثبته من قدر الله تعالى ومشيئته وخلقه وقدرته، والقدرية المجبرة الذين ينفون ما أثبته من عدل الله

تعريف العقل بين فلاسفة اليونان ولغة عدنان

تعالى وحكمته ورحمته، ويثبتون ما نفاه من الظلم والعبث والبخل ونحو ذلك عنه (1) . تعريف العقل بين فلاسفة اليونان ولغة عدنان: مدح الله تعالى مسمى العقل في القرآن الكريم في غير آية. كذلك رويت أحاديث نبوية كثيرة عن فضل العقل الإنساني، منها قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الرجل ليكون من أهل الصيام وأهل الصلاة وأهل الحج وأهل الجهاد فما يجزى يوم القيامة إلا بقدر عقله) . وعن علي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (والله لقد سبق إلى جنات عدن أقوام ما كانوا بأكثر الناس صلاة ولا صيامًا ولا حجًا ولا اعتمارًا، ولكنهم عقلوا عن الله تعالى مواعظه فوجلت منه قلوبهم واطمأنت إليه النفوس وخشعت منه الجوارح ففاقوا الخليقة بطيب المنزلة وحسن الدرجة عند الناس في الدنيا وعند الله في الآخرة) (2) . ويقرر شيخ الإسلام ابن تيمية أن القرآن الحكيم مملوء من ذكر الآيات العقلية أي التي يستدل بها العقل، وهي شرعية دل عليها وأرشد إليها، ولكن كثيرًا من الناس لا يسمي دليلاً شرعيًا إلا ما دل بمجرد خبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو اصطلاح قاصر (3) . ويذهب الشيخ/ الدكتور دراز إلى أننا نستطيع دراسة القرآن الكريم من زوايا جد مختلفة، لكنها جميعًا يمكن أن تنتهي إلى قطبين أساسين هما اللغة والفكر، فالقرآن كتاب أدبي وعقيدي في نفس الوقت وبنفس الدرجة (4) . لكن ما أحدثه المتكلمون من الكلام المبتدع المخالف للكتاب والسنة بل هو في نفس الأمر مخالف للمعقول، ومرد ذلك إلى إدخال مصطلحات الفلسفة اليونانية والتعبير بها عن عقائد الإسلام. والأصل أن الترجمة من اللغات الأخرى جائزة بل حسنه وقد تجب أحيانًا كما

_ (1) ابن تيمية: النبوات ص 63- 64. (2) ابن تيمية: بغية المرتاد فى الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية ص 60. (3) ابن تيمية- النبوات ص 52 المكتبة السلفية 1386 هـ. (4) دكتور محمد عبد الله دراز: مقدمة الكتاب (مدخل إلى القرآن الكريم) .

أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب اليهود لأن المعرفة بلغات الناس واصطلاحاتهم نافعة في معرفة مقاصدهم، ولكن المحظور هو عدم الدقة في فهم الفروق بين الكلمات والمعاني من لغة إلى أخرى. وعلى سبيل المثال فإن لفظ (العقل) عند فلاسفة اليونان يقصد به جوهرًا قائمًا بنفسه، وليس الأمر كذلك في اللغة العربية، كذلك العقل في الكتاب والسنة وكلام الصحابة والأئمة لا يراد به جوهر قائم بنفسه باتفاق المسلمين وإنما يراد به العقل الذي في الإنسان. وبسبب الخلط بين اللغتين فسر بعض الفلاسفة المسلمين - نقلا عن اليونان - الخلق بنظرية الصدور، فتصوروا خلق العالم وكأنه صدر عن العقول العشرة والنفوس التسعة إلى أن انتهى بالعقل الفعال. وعندما رفض المحدثون منهج المتكلمين وردوه، لم يفعلوا ذلك إنكارًا لأحكام العقل وقوانينه، ولا رفضاً للجدل المبني على أسس منطقية برهانية، ولكن لأن الأصول التي استند إليها علماء الكلام، إما أنها تلبس المعاني الإسلامية ثيابًا ليست لها كمصطلحات الجوهر والعرض والقديم والحادث ومثلها من التعبيرات النابعة من الفلسفة اليونانية والتي لا تعبر عن مدلولات مشابهة في الإسلام، أو أنها تشوه الفكرة وتخلط بين التصورات لأن صلة الفكر باللغة صلة وثيقة، (وقد وضع المتكلمون هذه المصطلحات أولاً ثم أرادوا إنزال كلام الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - على ما وضعوه من اللغة والاصطلاح) (1) . السبب الثاني: أنهم أقاموا حججهم على أدلة مخالفة للمعقول ولا تستقيم مع الأدلة العقلية يزعمون أنها كذلك. ونضرب على ذلك مثالين: أولاً: فكرة نظرية الجواهر الفردة التي يفسرون بها الخلق، وتتلخص أن

_ (1) ابن تيمية - بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية ص 20- أما الحديث المنسوب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لما خلق الله العقل قال له: قم فقام ثم قال له: أدبر فأدبر ثم قال له: اقعد فقعد فقال: ما خلقت خلقًا هو خير منك ولا أكرم علي منك ولا أحسن منك آخذ وبك أعطي وبك أعرف وبك الثواب وعليك العقاب) فقد أجمع علماء الحديث ومنهم ابن الجوزي أن هذا الحديث لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفس المصدر ص 2.

الأجسام مركبة من الجواهر الصغار التي قد بلغت من الصغر إلى حد لا يتميز منها جانب عن جانب وتلك الجواهر باقية تتقلب عليها الأعراض أو الصفات الحادثة. وبناء عليه يرى هؤلاء المتكلمون أن الله تعالى أحدث أعراضًا كجمع الجواهر وتفريقها فالمادة التي هي الجواهر المنفردة باقية بأعيانها، ولكن أحدث صورًا هي أعراض قائمة بهذه الجواهر (1) . ويترتب على هذه النظرية أشد النتائج انحرافًا، لأنه لا يختلف عن مذاهب الفلاسفة القائلين بقدم العالم، فانهارت بذلك الحجج العقلية للمتكلمين الذين ظنوا أنهم بأدلتهم يدافعون عن الإسلام، وأصبحوا (كمن أراد أن يغزو العدو بغير طريق شرعي فلا فتح بلادهم ولا حفظ بلاده، بل سلطهم حتى صاروا يحاربونه بعد أن كانوا عاجزين عنه) (2) . أما الحقيقة الماثلة للأذهان، وأظهر ما تكون في خلق الإنسان نفسه، أنه خلق من تراب وحوله الله تعالى (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ) [السجدة، الآية: 7 - 8] . فقد خلق الله الإنسان ولم يك شيئًا (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا) [مريم، الآية: 9] ولا تعني الآية الأخيرة أنه خلق من لا شيء لأنه قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) [الأنبياء، الآية: 30] وهذه هي القدرة التي تبهر العقول وتذهلها، وهو أن يقلب الحقائق الموجودة فيحيل الأول ويفنيه ويلاشيه ويحدث شيئًا آخر فأصل الإنسان التراب وفصله الماء المهين، فإذا خلق الله الإنسان من المني، فالمني استحال وصار علقة، والعلقة استحالت وصارت مضغة، والمضغة استحالت إلى عظام وغير عظام، فالإنسان مخلوق خلق الله جواهره وأعراضه كلها من المني أي: من مادة استحالت، فليست باقية بعد خلقه ويحدث الله فيها صورًا عرضية كما يزعم المتكلمون. وعند إفناء الإنسان إذا مات وصار ترابًا فني وعدم وكذلك سائر ما على

_ (1) ابن تيمية: النبوات ص 53 ط المنيرية 1346هـ. (2) ابن تيمية: شرح العقيدة الأصفهانية ص 63.

الأرض كما قال تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) [الرحمن، الآية: 26] ثم يعيده من التراب كما خلقه ابتداء من التراب ويخلقه خلقًا جديدًا، ولكن للنشأة الثانية أحكام وصفات ليست للأولى، فمعرفة الإنسان بالخلق الأول وما يخلقه من بني آدم وغيرهم من الحيوانات وما يخلقه من الشجر والنبات والثمار، وما يخلقه من السحاب والمطر وغيرهما من المخلوقات، هو أصل لمعرفته بالخلق بالمبدأ والمعاد. وهكذا تنهار الأصول التي استحدثها المتكلمون وظنوها عقلية. المثال الثاني: طريقة المتكلمين في إثبات الصانع. وهي الطريقة التي ابتدعها أهل الكلام، زاعمين أنها طريقة عقلية صحيحة وخلاصتها أن الله تعالى لا يعرف إلا بالنظر والاستدلال المفضي إلى العلم بإثبات الصانع ولا طريق إلى ذلك إلا بإثبات حدوث العالم. وطريقتهم في إثبات حدوث العالم مبنية على الاستدلال بالأعراض أو ببعض الأعراض: كالحركة والسكون أو الاجتماع والافتراق وهي الأكوان فإن الجسم لا يخلو منها وهي حادثة، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، فاضطرهم ذلك إلى القول بحدوث كل موصوف فنفوا عن الله تعالى الصفات وقالوا بأن القرآن مخلوق وأنه لا يرى في الآخرة (1) . وأدى ذلك إلى نتائج مشابهة إلى زعم الفلاسفة الدهرية القائلين بقدم العالم، إذ أثاروا الفلاسفة عليهم فقالوا: (هذه الطريقة تستلزم كون الصانع كان معطلا عن الكلام والفعل دائمًا إلى أن أحدث كلامًا وفعلاً بلا سبب أصلاً، وهذا مما يعلم بطلانه بصريح العقل) (2) . وبعد فإننا نرى من وجهة نظر الباحثين في نظرية المعرفة، كيف حددها القرآن الكريم مفصلاً الحديث عن الأحاسيس والعقل والشعور مثيرًا في الإنسان كوامن الفطرة الموحدة بآية الميثاق، مدللاً على صدق النبوة والرسالة والتوحيد وعالم الغيب بأدلة يمتزج بها العقل والوجدان لأن الخطاب موجه إلى الإنسان على الحقيقة بفطرته وروحه وقلبه ووجدانه وأحاسيسه وشعوره وعقله، فكان التوجيه الإلهي للإنسان بهذا المفهوم والتكوين الذي خلقه به الله تعالى، وفي الوقت نفسه

_ (1) ابن تيمية: شرح العقيدة الأصفهانية ص 78. (2) ابن تيمية: الصفدية ج 1 ص 275 تحقيق د. محمد رشاد سالم. مطابع حنيفة - الرياض 1396 هـ 1976م.

أدلة الشرع عقلية

حض القرآن على التفكير والتعقل والتدبر في غير آية. ومن غير المتصور وغير المنطقي أن يأتي الشرع بأدلة مخالفة للقوانين العقلية الفطرية كالتماثل والاختلاف فإنها الميزان الذي يزن به الإنسان المعلومات الواردة إليه. وهذا ما يقصده شيوخ الإسلام من وصفهم لحقيقة الآيات السمعية والقولية والعيانية والعقلية. ولهذا فإن التنازع الموهوم بين العقل والنقل والأدلة العقلية والأدلة الشرعية أو أصحاب الرواية وأصحاب الدراية لا محل له في تراثنا بالصورة التي ظهرت في تراث أهل الكتاب، كل ما هنالك أن (عالم الغيب) بما يحتويه من أعاجيب تخالف المألوف مما يراه الإنسان ويشاهده ويحسه ويتعقله، جعل البعض يحاول إخضاعه للمقاييس العقلية الإنسانية، فحدث الاضطراب بين المتكلمين والفلاسفة (1) . وتصبح القضية غير ذات موضوع لا سيما في عصورنا الحديثة التي كشف العلم فيها عما يحير العقل ويذهله في عالم المخلوقات كالأفلاك والحيوان والنبات. أدلة الشرع عقلية: أثبت علماء السلف أن أدلة الشرع عقلية أيضًا وليست نقلية فحسب، فإن القرآن الكريم جاء بالأدلة العقلية على أحسن بيان وأقومه، واستخلصوا منه الطرق المبنية على البراهين المنطقية التي تخاطب الإنسان أينما كان وحيثما وجد. وكلها دل عليها القرآن الذي وصفه الله - تعالى - بأنه يهدي للتي هي أقوم: ومن هذه الطرق دلالات الأنفس والآفاق التي يدعو القرآن الحكيم للنظر فيها والاعتبار بها والتفكر في نظمها. أما الأولى فهي دلالة الأنفس، قال الله تعالى: (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) [عبس، الآيات: 17 - 19] . وقال تعالى: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الذاريات، الآية: 21] . وقال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) [الانفطار: 6 - 8] وقال: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ

_ (1) ينظر رأيه السابق ص 10.

بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة: 28] وقال سبحانه: (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ) [يس: 77 - 79] . أما دلالة الآفاق فإن القرآن الكريم يحثُّنا على تدبر ما يحدث حولنا في عالمنا الذي نعيش فيه وما يطرأ من تغيرات تتعاقب فيه في أوقات محدودة وأزمنة معروفة كطلوع الشمس والقمر والكواكب وغروبها ودوران الأفلاك والنجوم والسفن الجاريات في البحار والرياح وتغير أحوال الهواء بالغيوم والصواعق والبروق وإنزال الأمطار فتسقي الزرع وتنبت الأشجار والفواكه والأزهار والثمار وتمد البحار والأنهار والآبار، وما في اختلاف الليل والنهار والفصول، وقد جمع الله تعالى ذلك في قوله: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [البقرة، الآية: 164] (1) . وقد جمع الله تعالى دلالتي النفوس والآفاق في قوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) [فصلت، الآية: 53] (2) وذلك أننا نعلم بالضرورة وجودنا أحياء قادرين، عالمين، ناطقين، سامعين، مبصرين، مدركين، بعد أن لم نكن شيئًا وأن أول وجودنا كان نطفة قذرة مستوية الأجزاء والطبيعة غاية الاستواء بحيث يمتنع في عقل كل عاقل أن يكون منها بغير صنع حكيم وما يختلف أجناسًا وأنواعًا وأشخاصًا. أما الأجناس فكما نبه عليه قوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ

_ (1) ابن الوزير اليماني: إيثار الحق على الخلق ص 43- 49- 50. (2) وتزداد معرفتنا بأنفسنا على ضوء العلم حيث عرَّفنا بأن نحو الخلية البشرية يشكل معجزة إلهية. وكيف لهذه الخلية أن تتحول إلى جهاز هضمي وجهاز تنفسيِ وجهاز عصبي وإلى مخ لو أريد صناعة مثله لكان المصنوع في حجم الكرة الأرضية ص 22 من كتاب (الذين يلحدون في آيات الله) للدكتور كامل سعفان دار المعارف 1983 م.

يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ) [النور، الآية: 45] . وأما الأشخاص فبقوله تعالى: (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) [عبس، الآيات: 17 - 20] . فهذا هو الفكر المأمور به، وهو أي النظر في هذه الأمور وهي طريقة السلف التي اتبعوها مستندين إلى كتاب الله عز وجل (1) . وقد ظل هذا المنهج موحدًا بين علماء الحديث والسنة على مر الأعصار، فنجد الإمام عبد الحميد بن باديس رحمة الله عليه - ينبهنا في العصر الحديث إلى ضرورة اتباع هذا المنهج دون غيره لأنه العاصم من الزلات فيقول: (ونحن معشر المسلمين قد كان منا للقرآن العظيم هجر كثير في الزمان الطويل وإن كنا به مؤمنين. بسط القرآن عقائد الإيمان كلها بأدلتها العقلية القريبة القاطعة فهجرناها وقلنا: تلك أدلة سمعية لا تحصل اليقين وأخذنا في الطرائق الكلامية المعقدة وإشكالاتها المتعددة واصطلاحاتها المحدثة) . ويرى الإمام ابن باديس أن الأقيسة العقلية في القرآن كافية للرد على المخالفين، فقد قال تعالى (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا) [الفرقان: الآية 33] . وتفسير ذلك (ولا يأتيك يا محمد هؤلاء المشركون وأمثالهم بكلام يحسنونه ويزخرفونه ويصورون به باطلاً أو اعتراضًا فاسدًا إلا جئناك بالكلام الحق الذي يدفع باطلهم ويدحض شبهتهم وينقض اعتراضهم ويكون أحسن بيانًا وأكمل تفصيلا) (2) . وفي قوله تعالى: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) [الفرقان، الآية: 52] . يرى في هذه الآية نصًا صريحًا في أن الجهاد في الدعوة إلى الله تعالى وإحقاق الحق من الدين وإبطال الباطل من شبه المشبهين وضلالات الضالين وإنكار الجاحدين هو بالقرآن العظيم، فيه بيان العقائد وأدلتها ورد الشبه عنها (3) .

_ (1) ابن الوزير اليماني: إيثار الحق على الخلق ص 44. (2) تفسير الإمام عبد الحميد بن باديس ج 1 ص 421. (3) نفس المصدر ص 429.

تعقيب

تعقيب: بعد دراستنا لبعض المشكلات الكلامية التي أثيرت في العالم الإسلامي على صعيد العقيدة والفكر، انتهينا إلى الاقتناع بأن طريقة القرآن الحكيم تسمو ببراهينها على كافة الطرق، وأن منهج الاقتداء مع الوعي والفهم والتدبر يوصل إلى الحق من أقصر طريق لأنه الطريق المستقيم. وعلينا هاهنا أن نقف نستطلع بنظرة عامة مقارنة، ما كان عليه السلف وما طرأ على المسلمين من تغييرات وإذا اكتفينا بدليل واحد وهو الموقف من القرآن الكريم فما أشد المفارقة والتباين بين الصحابة وتابعيهم الذين آمنوا بأن القرآن كلام الله، فخشعت له قلوبهم وخضعت جوارحهم لأحكامه، فاستغرقهم التدبر في آياته وتنفيذ أحكامه، وبين القوى التي أهدرت في المناقشات والمحاورات والاختلافات. إن الموازنة بين الاتجاهين توضح لنا الآثار التي خلفها علم الكلام بحجة استخدام النظر في الدفاع عن العقيدة الذي نشأ على أيدي المعتزلة - والنظر في اصطلاحهم وهو الفكر الذي يطلب من قام به علمًا أو غلبة الظن (1) - وليس اليقين. فما الذي أدى إليه هذا الفكر؟ كان الصحابة - رضي الله عنهم - وهم صدور هذه الأمة يعرفون حق القرآن الكريم عليهم، فوصفهم ابن عمر رضي الله عنهما بقوله: (كان القرآن ثقيلا عليهم، أي: يقدرونه حق قدره ورزقوا علمًا به وعملاً، وإن آخر هذه الأمة يخف عليهم القرآن حتى يقرأه الصبي والعجمي لا يعلمون منه شيئًا) . ومهما يكن من أمر في تفسير ظهور المشكلة وآثارها، فإنها لا شك خلفت مظاهر لا تخفى على عين قارئ التاريخ الباحث عن الحقيقة متجردًا من الهوى فقد ارتفع نصيب المناقشات الجدلية على حساب الإيمان، فنقص هذا وزاد ذاك. يقول الأنصاري في كتاب (ذم الكلام) : (وأوجبوا النظر في الكلام واضطروا إليه الدين بزعمهم، فكفروا السلف وسموا الإثبات تشبيهًا.. فلا يكاد يرى منهم رجلاً ورعًا، ولا للشريعة معظمًا ولا للقرآن محترمًا ولا للحديث موقرًا، سلبوا التقوى ورقة القلب

_ (1) فتاوى ابن تيمية ج 5 ص 333 تحقيق مخلوف.

وبركة التعبد ووقار الخشوع) (1) . وبإيجاز شديد، تبين كيف كان الدارمي في حكمه صادقًا ومصيبًا في تعليل ما حدث بالردة، بعد أن كان القرآن قد أطلق العرب - بل والناس جميعًا - من عقال الجاهلية، وارتقى بهم إلى آفاق حضارة رائعة في مجال العقيدة والفكر والعلم والأخلاق بفضل الوحي الإلهي؛ لأنه يفوق طور العقل الانساني القاصر - عادوا ليصفدوا أنفسهم بالأغلال ... داخل أسوار أهوائهم!!. وهكذا رجعوا القهقرى إلى الفلسفات التي كانت قبل الوحي المنزل من الله - تعالى - على رسوله - صلى الله عليه وسلم - حيث أضاء العقول والنفوس بنور الحق، فكأنهم لا يقرون بالوحي أو لم يسمعوا به!

_ (1) نفس المصدر ص 330 - 332.

الباب الخامس

الباب الخامس علم الكلام على مفترق الطرق - السلف والأشاعرة. - محنة القرآن ونتائجها المنهجية. - التعريف بابن كُلاَّب. - إثبات صفة العلو لله تعالى شرعًا وعقلاً. - الإمام أبو الحسن الأشعري والمنهج السلفي. التمييز بين الأشاعرة والسلف عقيدة ومنهجاً: - صفات الله سبحانه وتعالى. - نظرية الكسب الأشعرية وتفسير أفعال الإنسان. - عدل الله وحكمته. - نظرية الجوهر الفرد وتفسير الخلق والبعث. - توافق أدلة الكتاب والسنة مع الواقع المشاهد. - صعوبات أمام النظرية في تفسير البعث. ظهور الحقيقة لأئمة الأشاعرة: - تحول أئمة الأشعرية إلى طريقة السلف. - تقييم ابن تيمية لشيوخ الأشاعرة. - طريقة السلف أعلم وأحكم.

علم الكلام على مفترق الطرق

علم الكلام على مفترق الطرق السلف والأشاعرة: تبين لنا مما تقدم أن علماء الحديث والسنة وقفوا طويلاً أمام علم الكلام نابذين أصحابه، مبتعدين عن الخوض فيه، ثم دخلوا الميدان حينما قويت شوكة المعتزلة، فاضطروا اضطرارًا إلى مجابهتهم - لا سيما عند محنة خلق القرآن - ولكن بمنهج مخالف، فكانت طريقتهم في الدفاع عن أصول الدين اتباع منهج السلف أي: مراعاة المعاني الصحيحة والألفاظ الشرعية، والرد على من تكلم بلفظ مبتدع يحتمل حقًا وباطلاً، ومثال ذلك ما مر بنا من طريقة الإمام أحمد في المحنة، فقد دأب على الامتناع عن التلفظ بألفاظ لم ترد بالشرع، فلما حاولوا إلزامه القول بالجسمية، امتنع وأجاب (هو أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد) (1) . ورأى المحدثون بعده أن طريقة الإمام ابن حنبل هي كفيلة وحدها بالرد على أهل السنة من المتكلمين وغيرهم، ومن ثم لم ينكروا جنس النظر والاستدلال فيما يتعلق بأصول الدين، ولكنهم أنكروا الاصطلاحات التي أوردها أهل الكلام وخالفوا بها الأصول الشرعية، ومنذ ذلك الحين، يمكن التمييز بين نوعين من الكلام: أحدهما كما يذكر السفاريني - هو العلم المشحون بالفلسفة والتأويل عن حقائقها الباهرة، والثاني: علم السلف ومذهب الأثر وما جاء في الذكر الحكيم وصحيح الخبر (2) ويعني ذلك: الاستدلال بالآيات والأحاديث. وكانت حجة علماء الحديث أن الشارع - صلى الله عليه وسلم - لم يترك شيئًا من أصول الدين وفروعه إلا أوضحه، كيف تترك آثاره ويستند إلى آراء غيره؟ ومن هذه الوجهة لخص الإمام أحمد موقف علماء الحديث جميعًا، إذ لما سئل عن الكرابيسي (245 هـ) وهو أحد زعماء المتكلمين - أجاب (إنما جاء بلاؤهم من هذه الكتب التي وضعوها، تركوا آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وأقبلوا على هذه الكتب (3) .

_ (1) ابن تيمية - موافقة صحيح المنقول مع صريح المعقول ج 1 ص 153. (2) شرح عقيدة السفاريني ج 1 ص 94. (3) الخطب البغدادي: شرف أصحاب الحديث ص 6، 7، 8 - تحقيق د. محمد سعيد خطيب =

كذلك اكتفى علماء السنة والحديث وأتباعهم بالحديث النبوي حيث أوضح أصول الدين أفضل توضيح، وبيَّنها أحسن بيان بحيث يغني عن الالتجاء إلى غيره مصدرًا أو طريقًا. يقول الخطيب البغدادي في كتابه (شرف أصحاب الحديث) : (ولو أن صاحب الرأي المذموم شغل نفسه من العلوم، وطلب سنن رسول رب العالمين - صلى الله عليه وسلم -، واقتفى آثار الفقهاء والمحدثين. لوجد ذلك ما يغنيه عما سواه، واكتفى بالأثر عن رأيه الذي رآه، لأن الحديث يشتمل على معرفة أصول التوحيد، وبيان ما جاء من وجوه الوعد والوعيد، وصفات رب العالمين تعالى عن مقالات الملحدين، والإخبار عن صفات الجنة والنار، وما أعد الله تعالى فيهما للمتقين والفجار، وما خلق الله في الأرضين والسموات من صنوف العجائب وعظيم الآيات، وذكر الملائكة المقربين ونعت الصافين والمسبحين. وفي الحديث قصص الأنبياء، وأخبار الزهاد والأولياء ومواعظ البلغاء وكلام الفقهاء وسير ملوك العرب والعجم، وأقاصيص المتقدمين من الأمم، وشرح مغازي الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسراياه، وجمل أحكامه وقضاياه، وخطبه وعظاته وأعلامه ومعجزاته، وعدد أزواجه وأولاده وأصهاره وأصحابه، وذكر فضائلهم ومآثرهم، وشرح أخبارهم ومناقبهم، ومبلغ أعمارهم، وبيان أنسابهم (1) . أما المنهج الكلامي المعتزلي، فكانت أبرز معالمه - فضلاً عما تقدم من التزامهم بالأصول الخمسة - مخاصمة أهل الحديث والطعن في الأحاديث النبوية؟ إذ تحامل المعتزلة على المحدثين، واتخذوا من الجدل أساسًا للطعن في النصوص، وأولوا المتشابه من آي القرآن الكريم تأويلاً لم يقرهم أهل السلف عليه، وكانت مسألة الصفات الإلهية من أهم مسائل النزاع بينهما، حتى أصبحت علمًا مميزًا بين الطائفتين أو بين المثبتين والنافين لها، يقول الشهرستاني: (اعلم أن جماعة كبيرة من

_ = أوغلي ط دار إحياء السنة النبوية - أنقرة 1972 م. (1) الخطيب البغدادي: شرف أصحاب الحديث ص 6، 7، 8. تحقيق د. محمد سعيد خطيب أوغلي ط دار إحياء السنة النبوية - أنقرة 1972 م.

محنة خلق القرآن ونتائجها المنهجية

السلف كانوا يثبتون لله تعالى صفات أزلية من العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام والجلال والإكرام والجود والإنعام والعزة والعظمة، ولا يفرقون بين صفات الذات وصفات الفعل، بل يسوقون الكلام سوقًا واحدًا. ولما كانت المعتزلة ينفون الصفات، والسلف يثبتون، سمي السلف "صفاتية" والمعتزلة "معطلة" (1) . وبلغت ذروة الخلاف بين الاتجاهين عند محنة خلق القرآن التي عرضنا تفاصيلها في الباب السابق ثم تفجر الموقف بعدها عن اتجاه آخر جديد، سنعرض له فيما يلي: محنة خلق القرآن ونتائجها المنهجية: كانت محنة خلق القرآن بحق - كما يرى أستاذنا الدكتور إبراهيم مدكور - نقطة تحول واضحة في تاريخ الحياة الفكرية والعقائدية في تاريخ المسلمين، ذلك لأنها أثارت في نفوس المسلمين ما أثارت من سخط وغضب، وعززت النزعة السلفية لمواجهة تيار العقليين الغلاة (2) . ومنذ ذلك الوقت تميزت المواقف إزاء أصول الدين فكانت الغالبية العظمى من أهل الحديث والسنة في موقف المعارضة للقول بخلق القرآن بخاصة ونفي الصفات الإلهية بعامة الذي تبناه المأمون والخليفتان من بعده وبالنظر لقانون الفعل ورد الفعل، كان أظهر ردود الفعل على يد أحد أئمة المتكلمين المنتسبين للسنة وهو عبد الله بن سعيد بن كلاب (3) (وفاته بعد 240 هـ) ، وأصبح التابعون لآرائه ينسبون إليه باسم (الكلابية) . وسار على طريقته أبو الحسن الأشعري (324 هـ أو 331 هـ) الذي كان منتسبًا إلى المعتزلة نحو أربعين سنة ثم أعلن خروجه عليهم ونبذ عقائدهم وتبني عقائد الإمام أحمد بن حنبل.

_ (1) الشهرستاني: الملل والنحل ج 1 ص 95 ط صبيح 1347 هـ. (2) د. إبراهيم مدكور: فى الفلسفة الإسلامية منهج وتطبيق ج 2 ص 113. (3) كخطاف لفظًا ومعنى كما في (طبقات الشافعية لابن السبكي) .

وينسب الأشعري إلى ابن كلاب لاعتناقه بعض عقائده - كما سنرى - ثم صارت الشهرة بعد ذلك لأبي الحسن الأشعري، وصار على نهجه كبار الأئمة المنتسبين إليه كالباقلاني 402 هـ، والجويني 478 هـ، والغزالي 505 هـ، والشهرستاني 548 هـ، والرازي 606 هـ، وغيرهم. ومنذ قيام الأشعري والأشعرية بعده بالرد على المعتزلة ومعارضتهم، أصبح هناك تياران يعيشان جنبًا إلى جنب، كل منهما ينتهج منهجًا متميزًا وإن كان الاثنان يرتبطان بالسنة والجماعة تميزهما عن الفرق الخارجة عن الجماعة كالخوارج والشيعة والمعتزلة والقدرية والجهمية. والمنهجان ينتسبان إلى السنة ويعلنان أنهما يتمسكان بها، ولكن المحدثين يرون أن منهجهم وحده الذي يلتزم باتباع طريقة السلف. وكانت الضربة القاضية للمعتزلة على يد واحد كان منهم - ونعني بذلك أبا الحسن الأشعري، وتاريخه الذي يعبر تعبيرًا صادقًا عن الأزمة النفسية والاضطرابات التي لاقاها بعد أن عاش أربعين سنة على الاعتزال متتلمذًا على أبي علي وولده أبي هاشم الجبائي 303، 321 هـ ولكنه عندما عرف طريقة الإمام أحمد ومنهجه وعقيدة أهل السنة والجماعة التي امتحن وابتلي بسببها، عندما عرف ذلك كان شجاعًا في التصريح بنبذه منهج المعتزلة وعقائدهم، وأخذ يؤلف كتبه للرد عليهم ونقض آرائهم وتابعه الأئمة المنتسبون إليه بعده كالباقلاني والجويني والغزالي وغيرهم. ولم يكن طعن المنهج الاعتزالي وتأويلاته بالقهر والقسر كما فعل المأمون وخلفاؤه في قضية خلق القرآن، ولكن بمقارعة الحجة بالحجة، واستخدام المنهج العقلي سواء بطريقة أبي الحسن الأشعري وأتباعه، أو بالمنهج الذي أضله علماء الحديث والسنة الذي درسنا فكرة عنه، على لسان الإمام أحمد بن حنبل وعبد العزيز المكي وغيرهما. ولكن الصحيح أيضًا أنه قامت موجة عارمة بواسطة علماء الحديث لصد موجة الاعتزال، ولكنها مهما أخذت شكل العنف أحيانًا أو الالتجاء إلى أولي الأمر، فإنها لم تصل إلى ما وصلت إليه على يد المأمون، الذي شاء (أن يجعل من تعاليمهم

عقيدة رسمية. واتخذ موضوع (خلق القرآن) شعارًا لذلك. وجاراه في هذه الخليفتان التاليان المعتصم والواثق، وقضى المسلمون ما يقرب من نصف قرن في قلق فكري، وجدل متواصل، وامتحان لبعض الأئمة وقادة الرأي، لم يسلم فيه بعضهم من السجن والتعذيب والقتل) (1) . وقد أثبت أستاذنا الدكتور إبراهيم مدكور في دراسته عن المحنة أن بطلها بلا منازع كان الإمام أحمد بن حنبل الذي أبى أن يجاري الحكام فيما ذهبوا إليه، أو أن يأخذ بالتقية في أمر يمس العقيدة، لأنه كان يرى أنه (إذا أجاب العالم تقية، والجاهل بجهل، فمتى يتبين الحق؟) ولم تسكن هذه العاصفة إلا يوم أن تولى المتوكل سنة 232 هجرية وأخذ يعالج الموقف في حذر وحكمة، واستطاع في عام 237 أن يأمر بوقف هذا الصراع، فهدأت نفوس ثائرة، وسكنت جماهير متحركة، وأحس أنصار السلف بتأييد رسمي لهم، إلى جانب تأييد الرأي العام. ولم يلبث هؤلاء أن غلوا بدورهم في الجمود والمحافظة غلوًّا ربما زاد على غلو المعتزلة، فتطرفوا في آرائهم، واستمسكوا بحرفية النصوص، وانتقلنا من غلو عقلي إلى غلو آخر نقلي، وعلى رأس هؤلاء الغلاة جماعة الحنابلة الذين أصبح لهم نفوذ عظيم ببغداد في أخريات القرن الثالث للهجرة حتى أصبح يهدد الأمن والنظام، وقد امتد بعض الوقت. أضف إلى ذلك أن موقف الحنابلة لم يكن طارئًا جديدًا على مسرح الأحداث، بل كان امتدادًا لمنهج علماء الحديث والفقهاء قبلهم بزمن طويل. وكان اضطهاد المأمون لمعارضيه شاملا الحنابلة وغيرهم من أئمة السنة والحديث (2) . ولكننا نرى أنه مهما كان نفوذ الحنابلة في ذلك الحين، فلم يبلغ نفس النفوذ المفروض بالقوة الذي بدأ به المأمون وأتباعه أمثال بشر المريسي وابن أبي دؤاد. أضف إلى ذلك أنه لم يظهر دور الحنابلة المميز في ذلك الوقت المبكر، لأن الفقهاء والمحدثين وأتباعهم كانوا مجتمعين تحت لواء واحد ولم تظهر الفرقة بين الحنابلة

_ (1) د. مدكور في الفلسفة الإسلامية: منهجه وتطبيقه ج 2 ص 114. (2) د. مدكور في الفلسفة الإسلامية: منهجه وتطبيقه ج 2 ص 114.

والأشاعرة بشكل مؤثر إلا في عصر متأخر عندما قامت فتنة القشيري عام 469 هـ أي: بعد المحنة بما يقرب من قرنين ونصف قرن. وتخبرنا كتب التاريخ عن حوادث عارضة حيث تنازع الفريقان وأتباعهم، مثل ما حدث بين الإمام ابن خزيمة وأتباعه وابن كلاب وأتباعه، وكان إثبات صفات الله تعالى هو المعروف عند أهل السنة والحديث كالبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم ومحمد بن يحيى الذهلي وغيرهم من العلماء الذين أدركهم ابن خزيمة وتابعهم في العقيدة حيث استقرت على الإيمان بأن الله تعالى لم يزل متكلمًا إذا شاء، وأنه يتكلم بالكلام الواحد مرة بعد مرة. وترتب على ذلك أن صار الناس حينذاك حزبين، منهم من وافق ابن خزيمة كالحاكم والسلمي والشهرستاني وابن مندة، ومنهم من وافق ابن كلاب كأبي ذر الهروي وأبي بكر البيهقي (1) . ولكن صدى هذا الخلاف لم يتعد أن أمر ابن خزيمة - في رواية - ولاة الأمر بتأديبهم لمخالفتهم له وكانوا من أتباعه. وفي رواية أخرى أنه هب مناقشًا لآراء الكلابية (فلم يزل يصيح بتشويهها، ولقن في الكتاتيب ونقش في المحاريب، أن الله تعالى متكلم.. إن شاء الله تكلم وإن شاء سكت..) (2) . وهناك حادثة ثانية كانت بمثابة فصل الخطاب في النزاع بين الأشعرية والحنابلة، ولكنها لم تخرج أيضًا عن خلاف بين الفريقين وأسفر - كما يذكر ابن كثير في تاريخه - عن مقتل رجل واحد. وتسمى هذه الحادثة بفتنة القشيري، من حوادث عام 469 هـ بسبب أن ابن القشيري قدم بغداد، فجلس يتكلم في المدرسة النظامية وأخذ يذم الحنابلة وينسبهم إلى التجسيم، وكتب إلى نظام الملك يشكو إلى الله الحنابلة ويسأل المعونة عليهم، كما أرسل بعض مؤيديه إلى الشريف ابن جعفر شيخ الحنابلة وهو في مسجده للاعتداء عليه فدافع عنه أتباعه، واقتتل الناس بسبب ذلك وقتل رجل خياط

_ (1) ابن تيمية - موافقة ج 2 ص 6-7. (2) نفس المصدر ص 42.

وجرح آخرون ثم انتهت الفتنة بالمصالحة بين الشيوخ الطرفين، واستدعى الخليفة أبو جعفر (شيخ الحنابلة) إلى دار الخلافة للسلام عليه والتبرك بدعائه. ولكن يفهم من سياق الحادثة أن البادئ هم أتباع الأشعرية لا الحنابلة، كما يستخلص منها أيضًا أن الأشعرية كانوا أقوى شوكة وأنهم استندوا إلى قوة الوزير في إثارة الناس على الحنابلة. وجاء هذا على لسان شيخ الحنابلة إلى الشيخ أبي إسحاق ( ... إلا أنك لما كنت فقيرا لم تظهر لنا ما في نفسك، فلما جاء الأعوان والسلطان ... ونظام الملك أي الوزير وشبعت، أبديت ما كان مختفيًا في نفسك) (1) . ونضطر للتساؤل، أين مثل هذه الحوادث بحجمها ونتائجها مع ضراوة الأساليب التي اتخذها المأمون والخليفتان من بعده؟ وبغير استطراد في سرد ألوان الاضطهاد والتعذيب مما تحشده كتب التاريخ عن المحنة - حتى أصبح اللفظ مصطلحاً معبراً عن محنة خلق القرآن وحدها - سنكتفي بالواقعة المشهورة المذهلة التي تتلخص في اختبار أسرى المسلمين بقضية خلق القرآن ونفي رؤية الله عز وجل في الجنة، فإن أجابوا بالإيجاب، فك أسرهم، وإن لم يفعلوا أعيدوا إلى الأعداء مرة أخرى (2) . قال المسعودي يصف هذه المأساة: (وحضر هذا النداء رجل يكنى أبا رملة من قبل أحمد بن أبي دؤاد قاضي القضاة. يمتحن الأسارى وقت المفاداة فمن قال منهم بخلق التلاوة ونفي الرؤية فودي به، وأحسن إليه، ومن أبى ترك بأرض الروم. فاختار جماعة من الأسارى الرجوع إلى أرض النصرانية على القول بذلك. وأبى أن يسلم الانقياد إلى ذلك، فنالته محن ومهانة إلى أن تخلص (3) .

_ (1) ابن كثير: البداية والنهاية ج 12 ص 115. (2) ومع هذا يؤسفنا أن نجد باحثاً جادًا، كالدكتور محمد عمارة في كتاب (تيارات في الفكر الإسلامي) يغض الطرف عن هذه الحقيقة ويقصر وصف المحنة على ما حدث لبعض المعتزلة نتيجة خروجهم. (3) وقدر عدد الأسرى حينذاك بأربعة آلاف وثلاثمائة واثنين وستين من ذكر وأنثى وقيل أربعة آلاف وسبعة وأربعين. المسعودي: التنبيه والإشراف ط القاهرة 1357 هـ ص 161 - 162.

أما عن الفكرة الشائعة عن الغلو في التمسك بالنصوص، فسنحاول توضيحها في الصفحات القادمة، عندما ندرس آراء ابن كلاب والأشعري في ضوء مؤلفات لعلماء الحديث والسنة تتضمن المنهج العقلي حيث برهنوا به على أن طريقة المتكلمين لم تخل من ثغرات كبيرة لا يمكن سدها إلا بالتأويل الصحيح لنصوص التنزيل. وبذلك فإن وصفهم بـ (النصيين) لا ينطبق بالمعنى الحرفي عليهم، وإذا كانت طريقتهم مبنية على تفضيل أدلة الشرع فإنهم ما فعلوا ذلك إلا بناء على فهمهم لتفسيرها الصحيح، ومعرفتهم لأساليب اللغة وأسرارها وأسباب النزول، واستدلالات الأوائل بها. ولذلك مضى علماء السنة يستدلون بآيات القرآن والأحاديث بناء على إدراكهم العميق لها وامتلاكهم لنواصي منهج البحث العلمي كاملا في قضايا أمور الدين وأصوله مما جعلهم فرسانًا في هذا الميدان لا يجاريهم فيه أحد؟ فلم يقتصروا على ظاهر النصوص كالظاهرية مثلاً. وللتعريف بهم وبمنهجهم في البحث العلمي نورد طرفًا من وصف إمام الحرمين مع أبي الحسن الكرجي (532 هـ) لهم ووصف قدراتهم وعلومهم وأسباب تفضيلهم على غيرهم (1) ، قال: لأنهم أجمع لشرائط (القدوة والإمامة من غيرهم وأكثر لتحصيل أسبابها وأدواتها مع جودة الحفظ والبصيرة، والفطنة والمعرفة بالكتاب والسنة، والإجماع والسند والرجال والأحوال، ولغات العرب ومواضعها والتاريخ والناسخ والمنسوخ، والمنقول والمعقول، والصحيح والمدخول في الصدق والصلابة، وظهور الأمانة والديانة ممن سواهم) وإذا فرض ولم يستكمل أحدهم هذه الشرائط جميعًا جبر تقصيره قرب عصره من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، باينوا هؤلاء بهذا المعنى من سواهم فإن غيرهم من الأئمة - وإن كانوا في منصب الإمامة - لكن أخلوا ببعض ما أشرت إليه مجملاً من شرائطها (2) .

_ (1) ويقصد بهم أئمة أهل السنة في أنحاء العالم الإسلامي كالشافعي ومالك والثوري والبخاري وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك والأوزاعي والليث بن سعد وإسحاق بن راهويه وغيرهم. (2) ابن تيمية: نقض المنطق ص 143 - 144 نقلاً عن شيخ الحرمين أبي الحسن الكرجي (532 هـ) بكتابه (في الأصول عن الأئمة الفحول) . =

التعريف بابن كلاب

أسفرت المحنة إذن - كما تبين آنفًا - عن التمييز بين منهجين معارضين للمعتزلة. أحدهما: منهج علماء الحديث المتصل بسلسلة طويلة من الأئمة، بادئة بعصر الصحابة والتابعين، ولكن أصبح الإمام ابن حنبل علمًا له واشتهر باسمه بسبب ما لاقاه وحده في المحنة من عذاب وابتلاء، بينما كان موقفه في الحقيقة معبرًا عن طريقة العلماء من معاصريه والسابقين عليه السائرين على طريق السنة. الثاني: موقف جديد معارض للمعتزلة أيضًا، لكن استخدم طريقة علماء الكلام مع محاولة التوفيق - في رأيهم - بين المنقول والمعقول وقد بدأه أبو الحسن الأشعري، موافقًا مذهب السنة والحديث في أصولهم العامة فأثبت صفات الله تعالى خلافًا للنفاة وإثبات القدر وأن أعمال الناس وغيرهم بمشيئة الله وقدرته، خلافًا لنفاة القدر، وإثباته لفضائل الصحابة لا سيما الخلفاء الأربعة، وموافقته لأهل السنة في عقائدهم في الشفاعة والصراط والميزان. كما قام بالرد على المعتزلة والشيعة والجهمية مبينًا تناقضهم (1) . ولما كان الأشعري بعد رجوعه عن الاعتزال قد سلك طريقة ابن كلاب، فإننا سنعرض أولاً لعقيدة ابن كلاب، قبل الحديث عن الشيخ الأشعري لمعرفة الصلة بينهما، لا سيما في موقفهما من موضوع كلام الله تعالى. التعريف بابن كلاب: تروي كتب الفرق أن أبا الحسن الأشعري لما رجع عن الاعتزال سلك طريقة أبي محمد بن كلاب، الذي قام مدافعًا عن عقيدة أهل السنة في مواجهة المعتزلة مبينًا

_ = ويرى الكرجي أنه يلزم كل من يتبع أحدًا من الأئمة في الفروع أن يتبعه فى الأصول أيضًا، فانتحال مذهبه، مع مخالفته له في العقيدة، مستنكر شرعا وطبعًا. فمن قال: أنا شافعي الشرع، أشعري الاعتقاد، قلنا له: هذا من الأضداد، لا بل من الارتداد إذ لم يكن الشافعي أشعري الاعتقاد ومن قال: أنا حنبلي فى الفروع معتزلي في الأصول، قلنا: قد ضللت إذاً عن سواء السبيل عما تزعمه، إذ لم يكن أحمد معتزلي الدين والاجتهاد. (1) ابن تيمية: مجموع فتاوى ج 4 ص 13 ط الرياض 1381 هـ وفي موضع آخر يدافع عن الأشعري بحرارة مقررًا أنه بين من تناقض أقوال المعتزلة وفسادها ما لم يبينه غيره حتى جعلهم في قمع السمسمة (شرح حديث النزول ص 172) .

فساد قولهم بنفي علو الله تعالى، ونفي صفاته وصنف كتبًا كثيرة في أصل التوحيد والصفات، وبين بأدلة كثيرة عقلية على فساد قول الجهمية، وبين فيها أن علو الله على خلقه، ومباينته لهم من المعلوم بالفطرة والأدلة العقلية القياسية، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، إذْ كان الجهمية النفاة المعطلة للصفات في عصره يقولون: إن الله لا يرى ولا له علم ولا قدرة وأنه ليس فوق العرش رب، ولا على السموات إله، وأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يعرج به إلى ربه. وقد أنصفه ابن تيمية فأقر بما كان له من فضل وعلم ودين ودافع عنه إزاء من يتهمونه بأنه ابتدع ما ابتدعه ليظهر دين النصارى في المسلمين ورأى أنه كذب عليه (1) ، وإنما افترى هذا عليه المعتزلة والجهمية الذين رد عليهم، لأنهم يزعمون أن من أثبت الصفات فقد قال بقول النصارى، بينما كان ابن كلاب أقرب إلى السنة من الجهمية والمعتزلة (2) . ولكن وجه الخطأ في تأويل ابن كلاب ومن وافقه ظنه أنه لا يمكن رد قول الجهمية في القرآن إلا إذا قيل: إن الله تعالى لم يتكلم بمشيئته وقدرته، ولا كلم موسى حين أتاه، ولا قال للملائكة: اسجدوا لآدم بعد أن خلقه، ولا يغضب على أحد بعد أن يكفر به، ولا يرضى عنه بعد أن يطيعه، ولا يحبه بعد أن يتقرب إليه بالنوافل، ولا يتكلم بكلام بعد كلام، فتكون كلماته لا نهاية لها.

_ (1) شرح حديث النزول ص 171. (2) وبذلك طعن ابن تيمية في الرواية التي يحكيها خصوم ابن كلاب، وتتلخص فى الادعاء بأنه كان نصرانيا فأسلم وفارق قومه، وكانت له أخت أكبر منه عالمة بدين النصرانية، لها عندهم قدر عظيم فهجرته حين أسلم وأبعدته من المحلة، لأنها كانت راهبة للنصارى مقبولة القول عندهم، يصدرون عن رأيها، فتحيل عليها كل أحد من المسلمين والنصارى من الجيران، في أن تمكنه من الدخول إليها فلم تفعل فاحتال حتى تسلق عليها من بعض بيوت الجيران، فلما رأته صاحت فقال لها: يا سيدتي اسمعي مني كلمة واحدة، ثم افعلي ما بدا لك. فقالت: هات. فقال: اعلمي أني وجدت هذا الإسلام ينشر ويزداد كل يوم ظهورًا، والنصرانية تضمحل آثارها، فوضعت فصولا وعلمت مسائل - ذكرها لها - أودعتها معنى النصرانية وأسسها في الإسلام، وشوشت عليهم أصولهم - فلما سمعت بذلك طابت نفسها. (عباس بن منصور السكسكي الحنبلي (متوفى 683 هـ) البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان ص 19 تحقيق خليل أحمد إبراهيم الحاج، دار التراث العربي 1400 هـ - 1980 م) .

وكانت هذه العقيدة التي اتخذها ابن كلاب وأتباعه بمثابة رد فعل لما زعمه الجهمية بأن القرآن مخلوق، فظنوا أن دفع هذا القول والرد عليه يقتضي الاعتقاد بأن كلام الله تعالى معنى واحد قائم بذاته، وبذلك خالفوا سلف الأمة وجمهورها القائلين بأن كلام الله بعضه أفضل من بعض، كما بين ذلك الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين من غير خلاف يعرف في ذلك عنهم (1) . لذلك أنكر بعض أصحاب مالك والشافعي على ابن كلاب هذا الأصل وأمر أحمد بن حنبل وغيره بهجر الكلابية حتى هجر الحارث المحاسبي لأنه كان صاحب ابن كلاب، وكان قد وافقه على هذا الأصل، ثم روي عنه أنه رجع عن ذلك، وكان الإمام أحمد يحذر من الكلابية (2) . والصحيح في رأي ابن تيمية أن القرآن الكريم - وإن كان كله كلام الله تعالى وكذلك التوراة والإنجيل والأحاديث القدسية (أو الإلهية) التي يحكيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الله تبارك وتعالى كقوله: (يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا) وكقوله: (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي) وأمثال ذلك، فهي وإن اشتركت في كونها كلاماً إلا أن بعضها أفضل من بعض، وشرح ذلك يحتاج إلى بيان. إن الكلام له نسبتان: نسبة إلى المتكلم به، ونسبة إلى المتكلم فيه. فهو يتفاضل باعتبار النسبتين وباعتبار نفسه أيضًا، فإن (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) و (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) كلاهما كلام الله تعالى، وهما مشتركان من هذه الجهة، لكنهما متفاضلان من جهة المتكلم فيه، المخبر عنه، فالآيات الأولى كلام الله وخبره الذي يخبر به عن نفسه، وصفته التي يصف بها نفسه، وكلامه الذي يتكلم به عن نفسه تعالى، والآيات الثانية كلام الله الذي يتكلم به عن بعض خلقه، ويخبر به ويصف به حاله، وهما في هذه الجهة متفاضلان بحسب تفاضل المعنى المقصود بالكلامين (3) .

_ (1) ابن تيمية: جواب أهل العلم والإيمان ص 52 - 53. (2) نفس المصدر ص 55. (3) ابن تيمية: جواب أهل العلم والإيمان ص 57.

إثبات صفة العلو لله تعالى شرعا وعقلا

ولكن، لا ينكر ابن تيمية فضل ابن كلاب عندما قام في وجه المعتزلة مثبتًا صفات الله تعالى، ومنها صفة العلو، وهي بإيجاز تتلخص فيما يلي: إثبات صفة العلو لله تعالى شرعًا وعقلاً: نقد ابن كلاب بشدة رأي المعتزلة القائل بأن الله - سبحانه وتعالى - لا هو في العالم ولا خارج منه لأن هذا النص يتساوى مع وصف العدم. وعلى هذا فإن دعواهم هي النفي الخالص بدعوى التوحيد الخالص، مع أنهم عقليون قياسيون وعرض آرائهم على العقل يكشف أخطاءهم، وفيما يلي رأي ابن كلاب بإيجاز: يستند ابن كلاب في إيراد حجته لإثبات استواء الله على العرش إلى حجج عقلية وشرعية، فمن الحجج العقلية أن المعتزلة إذا وصفوا الله عز وجل بأنه ليس فوق ولا تحت، فإنهم بذلك يصفون العدم. وهم يعتقدون أن الله في الأمكنة كلها، فيتساءل ابن كلاب معجبًا: (وإن كنتم تذهبون إلى خلوه من استوائه عليها كما استوى على العرش، فنحن لا نحتشم أن نقول: استوى الله على العرش ونحتشم أن نقول: استوى على الأرض واستوى على الجدار، وفي صدر البيت) . وأيضًا يلزمهم بالفوقية؛ لأنهم يعنون بها القدرة والعزة، وليس هذا إجابة عن سؤاله لهم؛ لأنهم من ناحية أخرى يصفونه بأنه ليس هو فوق وليس هو تحت - ويلزمهم بالتناقض - لأن ما كان لا تحت ولا فوق فعدم، ويتناقضون أيضًا بقولهم هو تحت وهو فوق، فساووا بين الجهتين، وهذا تناقض. أما التفسير فهو في جانب إثبات صفة العلو لله تعالى، فإذا تعمقنا في غور الفطرة الإنسانية، لوجدنا من المفطور فيها معرفة ربها في السماء، ومعارف الآدميين هنا لا شيء أبين منه ولا أوكد، فلا تسأل أحدًا من الناس عربيًا ولا عجميًا ولا مؤمنًا ولا كافرًا: أين ربك؟ إلاّ وأجاب بأنه في السماء، ولا رأينا أحدًا إذا دعا إلا رافعًا يديه إلى السماء، فكيف يضل الناس جميعًا ويهتدي جهم وأتباعه، ويدعون أنهم أفضل الناس كلهم؟ ويضيف ابن كلاب إلى ذلك الدليل الشرعي في الحديث النبوي عن سؤال الرسول - صلى الله عليه وسلم - جارية: (أين الله؟) فأجابت: (في السماء) فأجاز إجابتها الرسول، وأنه

الإمام أبو الحسن الأشعري والمنهج السلفي

صواب، ومن أجله شهد لها بالإيمان (1) . وبعد، فإن وقوف ابن كلاب في وجه المعتزلة وإثباته للصفات الإلهية كان بمثابة تمهيد لآراء أبي الحسن الأشعري بعده، ولهذا عده صاحب (الفهرست) من الكلابية (2) . ويرى الأشاعرة بعامة - كما يذكر ابن عساكر المتكلم بلسانهم - في ظهور آراء إمامهم أبي الحسن الأشعري حسمًا للمشاكل الكلامية المثارة حينذاك على مسرح الفكر الإسلامي من الوجهين المنهجي والموضوعي، قد استطاع منهجيًا استخدام نفس أسلوب المعتزلة لدحض آرائهم مستخدمًا المنهج الكلامي الجدلي، كما استطاع موضوعيا إيجاد الحلول للمسائل المتنازع عليها بين طائفتي أهل الحديث والسنة والمعتزلة، وأهمها الصفات الإلهية والقدر ورؤية الله عز وجل في الآخرة. يقول الدكتور حمودة غراب: (وعلى يديه وحده تمت هزيمة المعتزلة بعد أن نازلهم بنفس سلاحهم وناقشهم بأسلوب يعتمد على العقل والمنطق) (3) . ويقرر ابن عساكر أن الأشعري لم يكن أول من تكلم بلسان أهل السنة، ولكنه جرى على سنة غيره، مناصرًا المذهب فزاد حجة وبيانًا (ولم يبتدع مقالة اخترعها ولا مذهبًا انفرد به. وليس له في المذهب أكثر من بسطه وشرحه وتأليفه في نصرته) (4) . وسنعرض فيما يلي لأهم القضايا الكلامية من وجهة نظر الإمام الأشعري، ثم نتبعها بآراء شيخ الإسلام ابن تيمية باعتباره ممثلاً للمذهب السلفي ومدافعًا عنه. الإمام أبو الحسن الأشعري والمنهج السلفي: هو أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري، من أهل البصرة، وكان معتزلي النشأة والعقيدة، ثم رجع عن القول بآرائهم. وأعلن في المسجد الجامع

_ (1) ابن تيمية: مجموع فتاوى ج 5 ص 318 - 320 ط السعودية. (2) ابن النديم: الفهرست ص 181 ط فلوجل ليبسك 1871 م. (3) د. حمودة غراب: أبو الحسن الأشعري ص 59 من مطوعات مجمع البحوث الإسلامية 1393 هـ 1973 م. (4) ابن عساكر: تبيين كذب المفتري على الإمام أبي الحسن الأشعري ص 118.

بالبصرة، في يوم الجمعة مناديًا بأعلى صوته (من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه نفسي. أنا فلان ابن فلان.. كنت أقول بخلق القرآن، وأن الله لا يرى بالأبصار، وأن أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع) (1) . ولن نخوض في الدراسة التفصيلية لآراء الأشعري وأئمة المذهب بعده، فإن المؤلفات العديدة قديمًا وحديثًا قد كفتنا مؤونة ذلك، ولكننا سنشغل أنفسنا ببيان أهم الموضوعات التي كانت مثار مناقشة بين الاتجاهين البارزين في دائرة علم الكلام عبر قرون طويلة ممتدة حتى عصرنا الحاضر، وهو السبيل لتوضيح المنهج عند كل منهما ونعني بذلك الاتجاهين: المذهب الأشعري بإمامه أبي الحسن الأشعري، والسلفي بإمامه شيخ الإسلام ابن تيمية، وبالرغم من أنهما ليسا متعاصرين، إلا أنهما استأثرا بجذب علماء المسلمين وعامتهم منهجيًا وعقائديًا، ولكن الفرق بينهما أن الأول كما قلنا نشأ في بيئة الفكر الاعتزالي ثم خرج عليه مفضلاً التأويل في أغلب آرائه - ثم روي أنه رجع في نهاية حياته إلى اعتناق مذهب الإمام أحمد بن حنبل - ولكن الثاني، أي: ابن تيمية، وإن عاش في العصور المتأخرة - خلال القرن السابع - الثامن الهجري (مولده 661 هـ ووفاته 728 هـ) ، إلا أنه استمسك بمنهج الأوائل منذ الصحابة والتابعين - فضلا عن أدلة الكتاب والسنة - مدافعًا عن الإسلام بعامة، وأصوله بخاصة بأسلوب الحجاج العقلي، مؤكدًا اتفاق الأدلة العقلية مع الأدلة الشرعية، وظهر أثره الإيجابي في كثير من رجال الفكر والدعوة في العصر الحديث كمحمد بن عبد الوهاب والأفغاني ومحمد عبده وابن باديس ومحمد إقبال وغيرهم. أما منهج الأشعري، فقد كان نتاجًا للنزاع العميق الذي تفجر بين المعتزلة وعلماء الحديث والسنة في عصره، وبدأ محاولاته الجدلية الكلامية بعد انفصاله عن

_ (1) ابن النديم: الفهرست ص 181 لييسك 1871 م تحقيق فلوجل وكان الأشعري شديد المعارضة للمعتزلة بعد خروجه من صفوفهم ومن مظاهر ذلك أنه كتب مدللاً على كفر النَّظَّام، فروى البغدادي في كتابه (الفرق بين الفرق) ذلك بقوله: (ولشيخنا أبي الحسن الأشعري رحمه الله في تكفير النظام ثلاثة كتب) ص 133 بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ط مكتبة محمد علي صبيح بالأزهر.

صفوف المعتزلة، وكان يظن بحكم ثقافته ونشأته وتكوينه بافتراق طريقي العقل والنقل، وأن دوره يقتضي الجمع بينهما، وكان حريصًا على الارتباط بأهل السنة والحديث في شخص إمامهم أحمد بن حنبل ولذلك ذيل مقالتهم في كتابه (مقالات الإسلاميين) بقوله: (وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وبه نستعين، وعليه نتوكل، إليه المصير) (1) . وظل المذهب الأشعري ينتقل من طور إلى آخر بواسطة شيوخ المدرسة، كالبلاقاني [[كذا في الأصل، والصواب: كالباقلاني.]] والجويني والشهرستاني والغزالي والآمدي والرازي. وما زال يلقى قبولاً وتأييدًا لدى الغالبية العظمى من المسلمين، فلسنا بإزاء قضايا تاريخية انقطعت صلتهم بها بل ما زالت تلقى اهتمامًا في دوائر الفكر الإسلامي المعاصر أيضًا. ويقابلها الاتّجاه السلفي المتصل بابن تيمية. ويقول الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق: (أما النهضة الحديثة لعلم الكلام فتقوم على نوع من التنافس بين مذهب الأشعرية ومذهب ابن تيمية. وإنا لنشهد تسابقًا في نشر كتب الأشعرية وكتب ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ويسمي أنصار هذا المذهب الأخير أنفسهم بالسلفية، ولعل الغلبة في بلاد الإسلام لا تزال إلى اليوم لمذهب الأشاعرة) (2) . ومع تقديرنا البالغ لعلمائنا الذين بذلوا الجهد الكبير وأفنوا أعمارهم في خدمة الإسلام عقيدة وشريعة، ورغبتنا في التوحيد والتآلف بين الصفوف، نرى أن إسهامنا في توضيح مذهب أهل السنة والحديث - وابن تيمية واحد من أبرزهم - يعبر عن اقتناع بتفضيل منهج السلف لاتصاله الوثيق بالقرآن والحديث والكشف عن الطرق العقلية بهما، وهما لا شك باقيان أبدًا، وينبغي أن يكونا دائمًا جامعين للمسلمين. ولعل الدور الذي قام به شيخ الإسلام ابن تيمية يوضح أكثر من الإمام الأشعري التقاء المعقول بالمنقول، بل التحامهما، وذلك بسبب بيئته الثقافية وتكوينه العلمي ومواهبه الذهنية والقضايا المثارة في عصره؛ فقد عاش في زمن انقسمت فيه

_ (1) مقالات الإسلاميين ج 2 ص 325. (2) الشيخ مصطفى عبد الرازق: تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية ص 395 ط لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة 1363 هـ - 1944 م.

الفرق الإسلامية انقسامًا كبيرًا وتضخمت المشكلات الكلامية والفلسفية، وتوقفت الاجتهادات الفقهية فشاع التقليد والتعصب للمذهبية الضيقة، كذلك عانى المسلمون الأمرين بسبب آثار حروب طاحنة متوالية بسبب الحروب الصليبية وغزوات التتار، فتنبه الشيخ السلفي إلى صلة العقيدة بالواقع الثقافي والاجتماعي والسياسي، بل أرجع هذه الحروب إلى تراخي العلاقة بين المسلمين وعقيدتهم، وبسبب تفرقهم وتنازعهم. وكان نفوذ الأشعرية هو السائد آنذاك، فأثاروا مع ابن تيمية عدة مناقشات تتعلق بأصول الدين، واجتاز بسببها المحن تلو المحن، وكانت دوافعه تنبيه المسلمين إلى منهج السلف، بعد أن قام بدراسة نتائج شيوخ الأشاعرة، وهاله أن يجد اختلاط الكلام بالفلسفة اليونانية، واستخدام الحدود والأقيسة المنطقية الأرسطية، فوقف ابن تيمية ليدافع بشدة عن قضية موافقة الشرع للعقل، ولم يدع لنفسه تجديدًا - مع أنه كذلك - وعكف على قراءة واستيعاب مئات المؤلفات لعلماء الحديث والسنة قبله، وأخذ يدعم منهجهم ويشرحه لمعاصريه، مستخدمًا اصطلاحات المتكلمين والفلاسفة أيضًا، معالجًا لكافة القضايا المثارة، فاهمًا بعمق للمنهج السلفي ومدافعًا عنه بكافة الأساليب المتاحة، فضلا عن إبرازه لأحد سمات الإسلام البارزة بشموله وسعة دائرته لأمور الدين والدنيا، ولا بأس هنا من الإشارة بصفة عاجلة لأهم القواعد التي استند إليها، قبل أن ننتقل لعرض منهجه بالتفصيل، وهي: أولاً: أن أصول الدين وفروعه قد بينها الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ثانيًا: أصحاب القرون الأولى هم الأفضل مستندًا إلى قول الله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ) [التوبة، الآية: 100] ، وحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - "خير القرون الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم"، وتفسير ذلك أنه رضي عمن اتبعهم بإحسان، وذلك متناول لكل من اتبعهم إلى يوم القيامة (1) . ثالثاً: إن الأولى استخدام طرق القرآن في الحجاج والجدل، والتعبير عن حقائق

_ (1) النبوات ص 161.

الإيمان بكلمات القرآن أفضل، لأنها نفس أساليب الرسل في مناقشة الأمم الذين بعثوا إليهم (1) ، والأمثلة كثيرة: منها أن الله تعالى قد أخبر عن قوم نوح وإبراهيم ومجادلتهم للكافرين (قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا) [هود، الآية: 32] وعن قوم إبراهيم (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ) إلى قوله: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ) [الأنعام، الآيات: 80 - 83] كما فصل محاجة إبراهيم عليه السلام للنمرود. وأيضًا فإن الدارس للقرآن المتدبر لآياته يلتقي مع مناظرات متعددة للكفار والاحتجاج عليهم بالأدلة العقلية الكافية والشافية، وأن الله تعالى أمر بالجدل بالتي هي أحسن فقال: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [العنكبوت، الآية: 46] وقال سبحانه: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل، الآية: 125] . رابعًا: إن آيات الله السمعية والعقلية والعيانية كلها متوافقة، فلا تعارض إذن بين أدلة الشرع وأدلة العقل (2) . وربما كان أكثر ما أثار شيخ الإسلام ابن تيمية هو اعتبار المنهج الذي اختصته الأشاعرة لأنفسهم أفضل من منهج السلف، فاعتبروا طريقة السلف أسلم وطريقتهم هم أعلم وأحكم، ولا شك أن مثل هذا الشعار يؤدي إلى تفضيل الخلف على السلف في العلم والبيان والتحقيق والعرفان، ويصف السلف بالنقص في ذلك والتقصير فيه، أو الخطأ والجهل، ويؤدي إلى الزعم أيضًا بأن (أهل القرون المفضولة في الشريعة أعلم وأفضل من أهل القرون الفاضلة) (3) . لذلك بذل ابن تيمية المحاولات تلو الأخرى في كتبه ومناقشاته لإثبات أن السلف كانوا أهل نظر ودراية إلى جانب كونهم أهل نقل ورواية، وأنهم آثروا عدم تضييع جهودهم وأوقاتهم في محاولات عقيمة؛ إذ رأوا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - الكفاية، وأقاموا البناء كاملاً في العقيدة والشريعة والعبادات والنظم

_ (1) نفس المصدر ص 157. (2) نفس المصدر ص 303. (3) ابن تيمية: نقض المنطق ص 128.

مدى التمايز بين المنهجين

والأخلاق جميعًا، فإذا أرادت الأمة أن تأخذ بزمام أمورها من جديد بين الأمم، فعليها باتباع طريقتهم، وهذا معنى قول عبد الله بن مسعود: (من كان منكم مستنًّا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -: كانوا أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بدينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم) ويمضي الشيخ في شرح ذلك فيصف الصحابة بالمقارنة بغيرهم بأنهم كانوا أقل الناس تكلفًا، يصدر عن أحدهم الكلمة والكلمتان من الحكمة أو من المعارف، ما يهدي الله بها أمة، وهذا من منن الله على هذه الأمة، ونجد غيرهم يحشون الأوراق من التكلفات والشطحات (1) . ونرى ابن تيمية محقًا في نظرته، وإذا كان المجال هنا غير مناسب للكشف عن درايته العميقة بأصول التفسير التاريخي، أو ما يسمى بفلسفة التاريخ، إلا أنه كثيرًا ما كان يعالج في مؤلفاته أسباب هزائم المسلمين وطمع أعدائهم فيهم ويعللها بسبب التفرق والاختلاف، وقد أصاب تفسيره إذ شغلوا أنفسهم بالبحث في حقائق توقيفية مصدرها الوحي، فانصرفوا عن العمل والتنفيذ، وكان بوسعهم المضي قدمًا في مجالات العلوم والمعارف النافعة، وكان لعلمائهم جهود لا تنكر في هذه الميادين، كما أسفرت عنه الدراسات الحديثة المنصفة. والآن نتساءل: هل وفق الأشاعرة في التعبير عن أئمة السلف عقيدة ومنهجًا؟ (2) . تقتضي الإجابة دراسات متشعبة يضيق عنها نطاق هذا الكتاب، مما اضطرنا إلى اختيار بعض القضايا التي دار حولها النقاش؛ لكي نعرف بالمقارنة مدى التمايز بين المنهجين وهي كما يلي:

_ 11 (نفس المصدر ص 113 - 114 وأيضًا جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ج 2 ص 119. (2) سبقنا إلى طرق هذا البحث أستاذنا الدكتور محمد علي أبو ريان بكتابه (تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام) ، وانتهى إلى أن البون شاسع بين موقف السلف ومذهب الأشاعرة من حيث أنه لم يثبت أن السلف قد استخدموا الكلام في شرح العقيدة، أو مالوا إلى التأويل في تفسيرها ص 223. مع العلم بأن السلف يرون أن هناك نوعين من الكلام: مذموم وممدوح، وقد نقدوا الأول واستخدموا الثاني كما بينا.

صفات الله سبحانه وتعالى

أولا: صفات الله سبحانه وتعالى: فرق الأشاعرة بعامة بين صفات الذات وصفات الأفعال الإلهية قال الآمدي: (مذهب أهل الحق: أن الواجب بذاته مريد بإرادة، عالم بعلم، قادر بقدرة، حي بحياة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، وهذه كلها معان وجودية أزلية زائدة على الذات) (1) . ولقد تعرض هذا الموقف للنقد بواسطة شيخ الإسلام ابن تيمية لأنهم اقتصروا على هذه الصفات وحدها، مؤكدًا أن تضمن الأسماء والصفات التامة الكاملة لله سبحانه وتعالى، مثل قوله سبحانه: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) [البقرة، الآية: 163] وقوله عز وجل: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر، الآيتان: 15، 16] . وقال تعالى: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة، الآية: 255] وقوله: (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) [طه، الآية: 111] . ومما يدل على دقة الشيخ في النقد أنه مع إقراره بالمعنى الصحيح لصفتي مريد متكلم إلا أنه بإحصاء الآيات القرآنية يتبين أن هذين الاسمين لم يردا في القرآن الكريم ولا في الأسماء الحسنى المعروفة، ولكن معناهما حق. ويقرر ابن تيمية أن صفات الله عز وجل ثابتة بالشرع والعقل، ويعجب من موقف الأشاعرة وغيرهم من الصفاتية الذين أثبتوا الصفات السبع لأنها عندهم قد دل عليها العقل، ويرى أن وجه القصور في هذا المنهج يرجع إلى أنهم لم ينتبهوا إلى أن هناك من الأسماء والصفات المقدسة ما هو ثابت بالشرع - ولكن لا يلزم من عدم الدليل المعين المدلول فلا يلزم نفي ما سوى هذه الصفات إذ إن السمع قد أثبت صفات أخرى، واستطرد مثبتًا الأسماء والصفات التي تدل على الرحمة والمحبة وغيرهما، ثم يميز بين نوعي الفعل: المتعدّي واللازم، واتخذ من آيات الله تعالى أدلة على الجمع بين صفات الأفعال بمثل قوله سبحانه: (الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا

_ (1) سيف الدين الآمدي (551 - 631 هـ) : غاية المرام في علم الكلام تحقيق د. حسن عبد اللطيف ص 38 المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة 1391 هـ - 1971 م.

بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) وأخذ في تدبر الآيات الأخرى وإحصائها مثبتًا أن هذا الأصل ورد في القرآن في أكثر من مائة موضع. كذلك لا يرى سببًا يدعو إلى إنكار صفات الأفعال مستندًا إلى دليل عقلي مقتضاه (أن دلالة السمع على علم الله تعالى وقدرته وإرادته وسمعه وبصره، كدلالته على رضاه ومحبته وغضبه واستوائه على عرشه ونحو ذلك) . ويصبح التساؤل هنا في موضعه تمامًا، إذ أين الصفات السبعة التي اقتصر عليها الأشاعرة من الأسماء والصفات التي أثبتها الله تعالى لنفسه؟ لقد أخبرنا في كتابه أنه حي، قيوم، حكيم، غفور، رحيم، سميع، بصير، عظيم، خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش، وكلم موسى، وتجلى للجبل فجعله دكًّا، يرضى عن المؤمنين، ويغضب على الكافرين، إلى أمثال ذلك من الأسماء والصفات. هذا من حيث إثبات الصفات والأفعال. أما من حيث النفي، فإن الله - تعالى - يصف نفسه بأنه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى، الآية: 11] (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) [الإخلاص، الآية: 4] (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم، الآية: 65] ؟ (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا) [البقرة، الآية: 22] فنفى بذلك أن تكون صفاته كصفات المخلوقين. وبعد هذه المقارنة التي عقدها الشيخ، لفت نظره اختلاف طريقة الأنبياء والرسل وطريقة المتكلمين في التحدث عن صفات الله تعالى وبيانها، إن القارئ للقرآن يتضح له أن الله سبحانه وتعالى بعث أنبياءه ورسله بإثبات مفصل لأسمائه وصفاته ونفي مجمل لها أي: نفوا عنه مماثلة المخلوقات كقوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى، الآية: 11] ولكن جاء النظار (أي أهل النظر من المتكلمين النفاة والفلاسفة وغيرهم) فعكسوا القضية فجاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل، أي يقولون: (ليس كذا.. ليس كذا) والقارئ الذي يراجع هذا الحكم يجده صحيحًا تمامًا، خير شاهد على ذلك عقيدة المعتزلة في صفات الله تعالى (1) . أما الرسل صلوات الله عليهم، فطريقتهم طريقة القرآن، وطريقة القرآن النفي

_ (1) ينظر مقالات الإسلاميين ج 1 ص 235 - 236 وكلها تتضمن النفي في وصف الله تعالى.

المجمل والإثبات المفصل، وقد رد الله تعالى على كل المخالفين لهذه الطريقة بقوله: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات، الآيات: 180 - 182] (1) . ويلح ابن تيمية دائمًا في مؤلفاته على قاعدة أصلية يجب الاستناد إليها في توضيح أصول الدين، وهي أن الأولى بيان الحق الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - مستخدمًا الأقيسة العقلية والأمثال المضروبة، لأنها طريقة الكتاب والسنة وسلف الأمة. والآيات القرآنية كثيرة تدل على ضرب الأمثال كما قال تعالى: (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا) [الفرقان، الآية: 33] كما بين سبحانه بالبراهين العقلية توحيده وصدق رسله والبعث وغيرها من قضايا أصول الدين مجيباً بها على معارضة المشركين، إذ لما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إحياء الموتى ضرب له المثل بإحياء النبات كما في سورة (يس) وغيرها. والأحاديث مملوءة أيضًا بذكر صفات الله تعالى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما منكم من أحد إلا سيخلو به ربه، كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر"، فسأله أبو رزين العقيلي: كيف يا رسول الله وهو ونحن كثير؟ فأجابه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ضاربًا المثل، قال: (سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله، هذا القمر من آيات الله كلكم يراه مخليًا به، فالله أعظم) . ولكن التشبيه هنا تشبيه للرؤية لا للمرئي بالمرئي فإن الله تعالى ليس كمثله شيء. وكانت طريقة الصحابة أيضًا، فقد روي عن ابن عباس أنه لما أخبر بالرؤية عارضه السائل بقوله: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) [الأنعام، الآية: 103] ، فقال له: (ألست ترى السماء؟) فقال: بلى فسأله مرة ثانية: تراها كلها؟، أجاب: لا، وبهذا بين ابن عباس للسائل أن نفي الإدراك لا يقتضي نفي الرؤية (2) . ومضى أئمة الحديث والسنة على نفس الطريقة، إذ عندما أثيرت صفات الله تعالى أيام المحنة، ومنها صفة العلو لله عز وجل، بين الإمام أحمد دلالة القرآن على

_ (1) ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم فى مخالفة أصحاب الجحيم ص 466 - 467. (2) ابن تيمية: موافقة صحيح المنقول ج 1 ص 142 - 152.

نظرية الكسب الأشعرية وتفسير أفعال الإنسان

علوه تعالى واستوائه على عرشه، وأنه مع ذلك عالم بكل شيء، كما دل على ذلك قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الحديد، الآية: 4] وفسر الإمام ابن حنبل المراد بذكر المعية في الآية أنه بهم، وكما افتتح الآية بالعلم وختمها بالعلم، وأنه سبحانه بين أنه مع علوه على العرش يعلم ما الخلق عاملون، كما في حديث العباس بن عبد المطلب الذي رواه أبو داود وغيره، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيه: "والله فوق عرشه وهو يعلم ما أنتم عليه". وقد شرح الإمام أحمد هذا الحديث بالقياس العقلي وضرب مثلين، ولله المثل الأعلى، فقال: (لو أن رجلاً في يده قوارير فيها ماء صاف، لكان بصره قد أحاط بما فيها، مع مباينته له، فالله - ولله المثل الأعلى - قد أحاط بصره بخلقه، وهو مستور على عرشه) والمثال الثاني: لو أن رجلاً بنى دارًا لكان مع خروجه عنها يعلم ما فيها، فالله الذي خلق العالم يعلمه مع علوه عليه، كما قال تعالى: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك، الآية: 14] ؟ (1) . ثانيًا: نظرية الكسب الأشعرية وتفسير أفعال الإنسان: نشأ الأشعري كما علمنا في بيئة الاعتزال، ومن أصولهم العدل ومؤداه أن العدل الإلهي في رأيهم يقتضي أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق أفعال العباد، فالإرادة الإنسانية حرة، والإنسان نفسه هو خالق أفعاله، ومن ثم يستحق الثواب والعقاب (2) وكان موقفهم هذا بمثابة رد فعل للجبرية القائلين بعدم قدرة العبد على إحداث الفعل. ومن هنا وصف المعتزلة أنفسهم بأنهم أهل العدل، لأنهم يهدفون بإثبات الفعل للإنسان، نفي الظلم عن الله سبحانه التي تتجه أفعاله نحو قصد وغاية، وتتفق مع ما يقتضيه العقل من التمييز بين الحسن والقبيح والخير والشر، فأجمعوا - كما يذكر

_ (1) ابن تيمية: موافقه صحيح المنقول ج 1 ص 143. (2) د. أبو ريان: تاريخ الفكر ص 167.

الشهرستاني - على أن العبد قادر على الأفعال خيرها وشرها، مستحق على كل ما يفعله ثوابًا وعقابًا في الدار الآخرة والرب تعالى منزه أن يضاف إليه شر وظلم، وفعل هو كفر ومعصية (1) . واستدل المعتزلة ببعض الآيات القرآنية التي تثبت نفي الظلم والشر والقبح عن الله سبحانه وتعالى، مثل قوله: (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ) [غافر، الآية: 31] وقوله: (وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [ق، الآية: 29] وقوله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل، الآية: 90] وغيرها من الآيات الدالة على أن الله لم يجبر أحدًا على الخير أو الشر أو الحسن أو القبح، بل ترك لكل إنسان حرية الاختيار فيما يفعل (2) . ثم جاء الأشعري فاختط طريقًا وسطًا بين فكرة المعتزلة ورأي الجبرية، فأثبت الحرية الإلهية الغير الخاضعة للمعيار الإنساني، فليس لأحد أن يوجب عليه سبحانه فعل الصلاح أو الأصلح لعباده، كما أراد إثبات حرية الإنسان وقدرته على الفعل فميز في الإنسان بين حركات الرعدة والرعشة، وبين حركات الاختيار والإرادة، الذي يجد الإنسان في نفسه تمييزًا واضحًا بينهما، فالتفرقة راجعة إلى أن الحركات الاختيارية حاصلة تحت القدرة، متوقفة على اختيار القادر، ويسمى هذا الفعل (كسبًا) فيكون خلقًا من الله تعالى، إبداعًا وإحداثًا وكسبًا من العبد، حصولاً تحت قدرته (3) .

_ (1) الشهرستاني: الملل والنحل ج 1 ص 36 - 40 ط بدران. (2) يذكر الأشعري المقالات المختلفة في فكرة (الكسب) يقول: عند المعتزلة الإنسان فاعل محدث ومخترع ومنشئ على الحقيقة دون المجاز. وكثير من أهل الإثبات يقولون: إن الإنسان فاعل في الحقيقة بمعنى مكتسب ويمنعون أنه محدث. مقالات الإسلاميين ج 2 ص 219. ثم يذكر رأيه (والحق عندي أن معنى الاكتساب هو أن يقع الشيء بقدرة محدثه، فيكون كسبًا لمن وقع بقدرته) (نفس المصدر ص 221) . والحق أن مؤدى الفكرة يتفق مع الجبرية المحضة بطريقة غير مباشرة. (3) الملل والنحل ج 1 ص 88 - 89.

فإذا عدنا للنظرية الجبرية عن الفعل الإنساني، لما وجدناها تختلف عن فكرة الكسب الأشعرية، فالجبرية ينفون الفعل حقيقة عن العبد ويضيفونه إلى الله تعالى، ولا يختلف ذلك في جوهره عن قول أبي الحسن الأشعري: إن الفعل الحاصل إذا أراده العبد وتجرد له سمي هذا الفعل كسبًا، فيكون خلقًا من الله تعالى - وإبداعًا وإحداثًا - وكسبًا من العبد - حصولاً تحت قدرته (1) . وربما أحس الشهرستاني نفسه - باعتباره أشعريًا - بهذا المأزق، فتراه عند عرضه للمذهب الجبري، يفرق بين ما سماه بالجبرية الخالصة التي لا تثبت للعبد فعلاً أو قدرة على الفعل أصلاً، والجبرية التي يسميها المتوسطة - وهي التي تثبت للعبد قدرة غير مؤثرة، ثم اضطر إلى اصطناع موقف الدفاع عن فكرة الكسب فقال: (فأما من أثبت للقدرة الحادثة أثراً ما في الفعل، وسمى ذلك كسبًا، فليس بجبري) (2) . نقد ابن تيمية لنظرية الكسب: لم يكن ابن تيمية متعسفًا إزاء الأشعري، عندما أظهر تناقضه بين الجبريين والقدريين وهذا يفضي بنا إلى بيان النقد التفصيلي الذي يوجهه شيخ الإسلام إلى نظرية الكسب الأشعرية، ونقطة البداية في شرح المسألة أنه ينبغي التمييز في الإرادة الإلهية بين نوعين: إرادة تتعلق بالأمر المتضمنة للمحبة والرضا وهي الإرادة الدينية، وإرادة تتعلق بالخلق وهي المشيئة، أي: الإرادة الكونية القدرية (3) لإثبات أن كل الأفعال خاضعة لقدرة الله تعالى، في مثل قوله: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ) [السجدة، الآية: 7] وقوله عز وجل (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) [النمل، الآية: 88] فإذا نظرنا إلى أفعال العباد من الطاعات لوجدناها موافقة للأمر الإلهي، لا موافقة للإرادة الإلهية، وذلك لينفي فكرة الجبرية، لأن الطاعة والمعصية باختيار العباد.

_ (1) نفس المصدر الصفحة 89. وينظر أيضا نشأة الفكر للدكتور النشار ص 78 حيث يحكم على هذا المذهب أنه جبري خالص ط مكتبة النهضة لسنة 1954م. (2) نفس المصدر ص 79. (3) ابن تيمية - منهاج ج 2 ص 28 - 29. واستند ابن تيمية إلى قواعد اللغة العربية في شرح وبيان ما قد يغمض على البعض فهمه في هذه الفكرة.

وينتقل إلى نقطة أخرى، فيؤكد أن الله - سبحانه وتعالى - خالق أفعال العباد بإرادته، ولكنه لم يأمر بالكفر والفسوق والعصيان، كما لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر، وهذا ما فهمه السلف الصالح، كقول أبي بكر وعمر وابن مسعود رضي الله عنهم: (أقول برأيي فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان) (1) ففهموا - أي السلف جميعًا - أن الشر مخلوق لحكمه، ولكنه لا ينسب إلى الله تعالى مفردًا، ولكن إما يدخل في العموم كقوله تعالى: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [غافر، الآية: 62] أو يضاف لسبب (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) [الفلق، الآية: 1، 2] ، أو يحذف فاعله كقوله فيما حكاه عن الجن: (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا) [الجن، الآية: 10] . ويشرح ابن تيمية ضمن أبحاثه اللغوية التي يستقيها من البخاري في (خلق أفعال العباد) ، لكي يؤكد أنه لا تقوم بالله سبحانه وتعالى أفعال العباد ولا يتصف بها، ولا تعود إليه أحكامها؛ ولهذا قال أكثر المثبتة للقدر بأن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى وهي فعل العبد فإذا قيل هي فعل الله، فالمراد أنها مفعولة له لا أنها هي الفعل الذي هو مسمى المصدر، وأكثر الأئمة يفرقون بين الخلق والمخلوق (2) والمسلمون جميعًا ينزهون الله تعالى عن الظلم، فليس كل ما كان ظلمًا من العبد يكون ظلمًا من الرب، ولا ما كان قبيحًا من العبد يكون قبيحًا من الرب، فإن الله ليس كمثله شيء، ولا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. ويعتمد شيخ الإسلام في نفي الظلم عن الله تعالى على دليل عقلي؛ لأن من قوانين الفطرة الإنسانية ألا يعتبر الإنسان مقابلة الظالم على ظلمه بمثابة الظلم له، فالله تعالى أولى أن لا ينسب إلى الظلم، فإذا أخذ الله العبد بما فعله، فلأنه تم باختياره. ولكن مرد خطأ المعتزلة ونفاة القدر بعامة، أنهم قاسوا أفعال الله على أفعال خلقه، وعدله على عدلهم، وهو قياس ظاهر الفساد - وسنعود لشرح رأيه عن عدل الله وحكمته، وعلى النقيض من ذلك غلاة المثبتة للقدر أي: الجبرية، الذين

_ (1) منهاج ج 2 ص 25. (2) نفس المصدر ص 26.

عدل الله تعالى وحكمته

سلبوا العبد قدرته، زاعمين أن حركته حركة الأشجار بالريح، وأشد الطوائف اقترابًا منهم - في رأي ابن تيمية - الأشعري ومن وافقه، إذ يظهر اضطرابه بين إثباته للعبد قدرة محدثة واختيارًا، وأن الفعل كسب للعبد، وبين نفيه لتأثير قدرة العبد في إيجاد المقدور، فخالف بذلك قول أهل الإثبات، بأن العبد فاعل لفعله حقيقة، وله قدرة واختيار، وقدرته مؤثرة في مقدورها، كما تؤثر قوى الطائع، لهذا قال من قال: (هذا الكسب الذي أثبته الأشعري غير معقول) (1) . بقيت النقطة المشار إليها في السياق، وهي تتصل بفكرة العدل والظلم، ولهذا سنفرد لها الحديث من وجهة نظر ابن تيمية، حيث يرى أن فكرة الكسب في جوهرها جبرية، والجبريون لا ينزهون الله تعالى عن الظلم. عدل الله تعالى وحكمته: كانت حجة المعتزلة في نفي القدر إثبات العدل الإلهي كما رأينا، ولكن أهل الحديث والسنة مع إثباتهم لعدل الله تعالى يؤمنون بالقدر أيضًا، ولا يتنافى هذا مع ذلك، ولما رأوا أن فكرة (الكسب) تؤدي للجبرية، عادوها موضحين الموقف الصحيح فإن الله تعالى منزه عن الظلم، ولا يفعل السوء ولا السيئات - مع أنه سبحانه خالق كل شىء: أفعال العباد وغيرها. وقد يحدث الالتباس في فهم البعض بسبب الخلط بين نسبة الفعل إلى العبد ونسبته إلى الله تعالى، فإن الإنسان إذا فعل القبيح المنهي عنه أصبح شرًا وظلمًا بالنسبة إليه، ومع أن الرب قد جعله فاعلاً لذلك، بناء على اختياره، إلا أن ذلك منه سبحانه عدل ورحمة ووضع للأشياء مواضعها، فهو منه عدل وحكمة وصواب وإن كان من المخلوق عيبًا. ويضرب ابن تيمية لذلك مثلاً لتقريبه للأذهان؛ لأن مثل هذا يحدث في الفاعلين المخلوقين، فإن الصانع إذا أخذ الخشبة المعوجة، والحجر الرديء، واللبنة الناقصة فوضعها في موضع يليق بها ويناسبها، كان ذلك منه عدلا واستقامة وصوابا وهو محمود، وإن كان في تلك عوج وعيب هي به مذمومة، ومن أخذ الخبائث فجعلها في المحل الذي يليق بها كان ذلك حكمة وعدلا، وإنما السفه والظلم أن

_ (1) نفس المصدر ص 16.

يضعها في غير موضعها (1) وله المثل الأعلى، فإنه سبحانه لا يضع شيئًا إلا موضعه، فلا يكون إلا عدلاً ولا يفعل إلا خيرا، وهو سبحانه له الخلق والأمر، فأمر بتحصيل المصالح وتكميلها وبتعطيل المفاسد وتقليلها، إذا تعارض أمران رجح أحسنهما، وليس في الشريعة أمر بفعل إلا ووجوده للمأمور خير من عدمه، ولا نهي عن فعل إلا وعدمه خير من وجوده وهو فيما يأمر به قد أراده إرادة دينية شرعية واجبة ورضيه، فلا يحب ويرضى شيئًا إلا ووجوده خير من عدمه، ولهذا أمر عباده أن يأخذوا بأحسن ما أنزل إليهم من ربهم، فإن الأحسن هو في المأمور، وهو خير من المنهي عنه. والقارئ لمؤلفات ابن تيمية، يلحظ أنه كثيرًا ما يعالج قضايا متشابكة في مؤلف واحد أو رسالة واحدة، ولكن وراءها ضابط يمسك بزمامها فإذا ما وجه الباحث عنايته إليها ظهر الحل واضحًا جليًا. وقضية كهذه - أي: قضية الإيمان بالقضاء والقدر وصلتها بأفعال العباد - من أهم القضايا وأعمقها، وقد حارت بها العقول والأفهام، ولهذا نجد ابن تيمية يعالجها من مداخل عدة: مدخل الإيمان بأن الله تعالى رب كل شيء ومليكه، وأنه سبحانه خالق العباد وأفعالهم، وإثبات صفات الله تعالى من الحكمة والعدل والرحمة كما يفضل أحيانًا عرض آرائه من خلال التمييز بين الإرادة الكونية القدرية والإرادة الدينية. ويرى ابن تيمية أن سوء الفهم والاعتقاد بين القدرية والجبرية راجع إلى الخلط بين خلق الله تعالى وتقديره، وأمره وتشريعه، فإن أمره وتشريعه مقصوده بيان ما ينفع العباد إذا فعلوه، وما يضرهم، بمنزلة أمر الطبيب المريض بما ينفعه وحمايته مما يضره. فأخبر الله على ألسنة رسله بمصير السعداء والأشقياء، وأمر بما يوصل إلى السعادة، ونهى عما يوصل إلى الشقاوة. وأما خلقه وتقديره فيتعلق به وبجملة المخلوقات، فيفعل ما له فيه حكمة متعلقة بعموم خلقه، وإن كان في ضمن ذلك مضرة للبعض. مثال ذلك: أنه ينزل الغيث رحمة وحكمة، وإن كان في ضمن ذلك

_ (1) ابن تيمية: رسالة فى معنى كون الرب عادلا وفي تنزيهه عن الظلم ص 130 - 131 بكتاب (جامع الرسائل) المجموعة الأولى - تحقيق الأستاذ الدكتور محمد رشاد سالم مطبعة المدني 1389 هـ - 1969 م.

ضرر للبعض بسقوط منزله أو انقطاعه عن سفره أو تعطيل معيشته. ويرسل الرسل رحمة وحكمة وإن كان في ضمن ذلك أذى قومه وسقوط رياستهم. فإذا قدر على الكافر كفره قدره لما في ذلك من الحكمة والمصلحة العامة، وعاقبه لاستحقاقه ذلك بفعله الاختياري، ولما في عقوبته من الحكمة والمصلحة العامة (1) . وهناك عاملان آخران يسهمان في سوء الفهم والخلط في هذه المسألة أحدهما - قياس أفعال الله تعالى على أفعالنا وهو خطأ ظاهر. ولزيادة إيضاح ذلك فإن السيد يأمر عبده بأمر لحاجته إليه ولغرضه، فإذا أثابه على ذلك كان من باب المعاوضة، إنما أمرهم بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم أمر إرشاد وتعليم، فإن أعانهم فعل المأمور فقد تمت نعمته، وإن خذل ولم يعن العبد حتى فعل الذنب كان له في ذلك حكمة أخرى، وأن كانت مستلزمة. وتألم هذا فإنما يألم بأفعاله التي من شأنها أن تورثه نعيمًا أو عذابًا، وإن ذلك الإيراث بقضاء الله وقدره، فلا منافاة بين هذا وهذا. العامل الثاني - موقف الناس من حكمة الله تعالى الكلية، فليس على الناس معرفتها وقد تكون فوق مداركهم القاصرة المخلوقة، ويكفيهم التسليم لمن قد عرفوا وآمنوا بحكمة الله تعالى ورحمته وقدرته. فمن المعلوم ما لو علمه كثير من الناس لضرهم علمه، فحكمه سبحانه أكبر من العقول، لذلك قال تعالى: (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [المائدة، الآية: 101] . ختام ذلك كله في كلمات قليلة ولكنها تلخص المسألة وتشرحها بما فيه الكفاية. قال ابن تيمية: (وهذه المسألة مسألة غايات أفعال الله تعالى ونهاية حكمته، ولعلها أجل المسائل الإلهية، وما ضلت القدرية إلا من قياس الله بخلقه في عدلهم وظلمهم، كما ضلت الجبرية الذين لا يجعلون لأفعال الله حكمة، ولا ينزهونه عن ظلم، ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه) (2) .

_ (1) ابن تيمية: منهاج السنة ج 1 ص 271 - 272. (2) نفس المصدر السابق.

نظرية الجوهر الفرد وتفسير الخلق والبعث

نظرية الجوهر الفرد وتفسير الخلق والبعث: تنسب النظرية الذرية العامة إلى ديمقريطس من فلاسفة اليونان، وتتلخص في تقسيم الوجود إلى عدد غير متناه من الوحدات المتجانسة غير المنقسمة غير المحسوسة لتناهيها في الدقة، تتحرك في الخلاء، ويحدث بتلاقيها وافتراقها الكون والفساد. واحدها الجوهر الفرد أو الجزء الذي لا يتجزأ، وهي متشابهة الطبيعة تمام التشابه، وليست لها أية كيفية، ولا تتمايز بغير خاصتين: وهما الشكل والمقدار (1) . ولكن ثمة نقاطٌ كثيرة هامة في النظرية لم تعالجها مثل مسألة ما إذا كانت الذرات ذات ثقل ومسألة المصدر الأصلي للحركة ومسألة الضرورة، فما زالت موضعًا للتخمين (2) . هذه هي النظرية الذرية في وضعها الأصلي، صدرت في محيط فلسفي يوناني، وبيئة وثنية لا تعرف إلهًا ولا كتابًا ولا نبيًّا، ولعل الفكرة نشأت بسبب التخبط في تفسير خلق العالم. وكل ما هنالك أن الفلاسفة القائلين بالصورة والهيولى القديمتين زعموا أزلية العالم وحركته عندهم دائرة ولهذا فهي قديمة مثلها في ذلك مثل مادته ولكن أصحاب النظرية الذرية خالفوهم فاعتقدوا أن الحركة في هذه الجواهر مستقيمة فهي ليست أزلية ولا أبدية (3) . واقتبس المتكلمون - المعتزلة والأشاعرة - هذه النظرية (ما عدا النظام) (4) مع

_ (1) يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانية ص 38 - 39 - لجنة التأليف والترجمة والنشر 1378 هـ 1958 م. (2) الموسوعة الفلسفية المختصرة ص 146 مكتبة الأنجلو المصرية سنة 1963 م. (3) د. محمد علي أبو ريان: تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام ص 197 دار الجامعة المصرية بالإسكندرية. (4) ولكن النظام يرى أنه لا جزء إلا وله جزء، ولا بعض إلا وله بعض، ولا نصف إلا وله نصف وأن الجزء جائز تجزئته أبدًا، ولا غاية له من باب التجزؤ (مقالات الإسلاميين للأشعري ج 2 ص 17) .

اختلاف في التفاصيل، ولكن الأشاعرة حولوا هذه النظرية إلى القول بالمناسبات في الفعل الإلهي، أي: إنكار خاصية الأشياء وفاعليتها، فالنار لا تحرق عند التقائها بالخشب مثلا، ولكن الله تعالى يخلق الاحتراق عند التقائهما، لا بسبب النار أنها محرقة. وتنسب النظرية إلى الباقلاني (402 هـ) وترتيبه الثاني في المذهب الأشعري بعد أبي الحسن شيخه - فقال بأن العالم مؤلف من جواهر فردة لا حصر لها ولا تتجزأ، والعقل هو الذي يضفي على هذه الجواهر الكيفيات التي ليست من طبيعتها وإنما هي من العقل قط، والجواهر متغيرة محدثة وكذلك أعراضها، وليست لها خواص أو صفات فعالة بذاتها، إذ أن الله تعالى هو الخالق للجواهر وأعراضها، وهو سبحانه الذي يحدث فيها خصائصها، مثال ذلك أن الله تعالى يخلق فعل الإحراق، وما اجتماع النار والخشب إلا مناسبة للاحتراق. وجاء الغزالي (505 هـ) بعده فأنكر قانون السببية أو العلية وأرجعه إلى مبدأ العادة والتكرار (1) . ويبدو من سياق النظرية في صياغتها العامة إثبات قدرة الله تعالى في المخلوقات، وأنه - سبحانه وتعالى - هو وحده الفعال لما يريد، إن شاء خلق في الأشياء خصائصها وإن شاء لم يخلقها. ولكننا ما دمنا في مجال الدفاع عن أصول الدين بالأدلة العقلية، فإن حسن النوايا لا تكفي، بل لابد أن يتوافر معها الأقوال المتفقة مع أدلة العقول، وما يتفق مع المشاهد المجرب المتفق عليه بين البشر، فضلاً عن اتفاقه مع النصوص الشرعية المتوافقة مع الأدلة العقلية التي تثبت أن لله تعالى سننا في خلق العالم وحركته. من هذه الزاوية، نقد شيخ الإسلام ابن تيمية هذه النظرية مقدمًا الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة المتوافقة مع المعقولات وما يعلمه الناس بالفطرة والتجربة العملية والمشاهدات العيانية. ونقطة البداية في معارضته للنظرية تتلخص في إثبات أن المتكلمين الآخذين بها لا يجعلون الله تعالى خلق شيئًا بسبب، ولا لحكمة، ولا يجعلون للإنسان قدرة تؤثر

_ (1) د. أبو ريان: تاريخ الفكر الفلسفي. ص 205 - 206.

توافق أدلة الكتاب والسنة مع الواقع المشاهد

في مقدورها، ولا لشيء من الأجسام طبيعة، ولا غريزة بل يقولون: (فعل عنده لا به) . وخالفوا بذلك الكتاب والسنة، وإجماع السلف والأئمة، وصرائح العقول (1) . وسنلخص فيما يلي الأدلة التي قدمها ابن تيمية وهي مستمدة من الكتاب والسنة ومن آراء العلماء والفلاسفة نتيجة التجارب والنظر والمعقول: توافق أدلة الكتاب والسنة مع الواقع المشاهد: اختار ابن تيمية من النصوص ما يبرهن به على إثبات الأسباب، مثل قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [البقرة، الآية: 164] وقال سبحانه: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الأعراف، الآية: 57] . وقال عز وجل: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ) [ق، الآية: 9] . وهناك آيات كثيرة أخرى في كتاب الله تعالى حيث يذكر سبحانه أنه فعل هذا بها، كما ذكر أنه أنزل الماء بالسحاب، وأنه أحيا الأرض بالماء. أما ما ورد في السنة، فكثير أيضًا، فقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان لموت أحد ولا لحياته. ولكنهما آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده. فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة". وأمر - صلى الله عليه وسلم - عند الكسوف بالصلاة والذكر، والدعاء، والصدقة، والعتاقة، والاستغفار، وكذلك عند سائر الآيات التي يخوف الله بها عباده. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تنكسفان لموت أحد ولا لحياته" رد لما كان قد توهمه بعض

_ (1) ابن تيمية: الرد على المنطقيين ص 270.

الناس من أن كسوف الشمس كان لأجل موت إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان قد مات وكسفت الشمس، فتوهم بعض الجهال من المسلمين أن الكسوف كان لأجل هذا، فبين لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الكسوف لا يكون سببه موت أحد من أهل الأرض، نفى بذلك أن يكون الكسوف معلولاً عن ذلك ... وبين أن ذلك من آيات الله التي يخوف بها عباده (1) . وما يثبت أيضًا أن التخويف إنما يكون سبباً للشر وعلة له، ما قاله تعالى في سورة الإسراء: (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) [الإسراء، الآية: 59] وقياسًا على ذلك فلو كان الكسوف وجوده كعدمه بالنسبة إلى الحوادث، لم يكن سببًا لشر، وهو خلاف نص الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ويدعم ذلك ما ورد في سنن - الترمذي والنسائي وأحمد - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نظر إلى القمر وقال لعائشة: "يا عائشة، تعوذي بالله من شر هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب". وتفسير الحديث أيضًا يدل على أن الاستعاذة إنما تكون مما يحدث عنه شر. أضف إلى ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر عند انعقاد أسباب الشر بما يدفع موجبها بمشيئة الله تعالى وقدرته من الصلاة والدعاء، والذكر، والاستغفار، والتوبة، والإحسان بالصدقة والعتاقة فإن هذه الأعمال الصالحة تعارض الشر الذي انعقد سببه، كما في الحديث "إن الدعاء والبلاء ليلتقيان بين السماء والأرض فيعتلجان" ومثل ذلك مثلما جاء عدو فإنه يدفع بالدعاء، وفعل الخير، وبالجهاد له، ومثلما يفعله المرء إذا هجم البرد، يدفعه باتخاذ الدفء فكذلك الأعمال الصالحة والدعاء. وإذا كانت الحكمة ضالة المؤمن، فإن ابن تيمية لا يكتفي بهذه الأدلة فيضيف إليها اتفاق أهل الملل وأساطين الفلاسفة، مؤيدًا ذلك لهما ذكر عن بطليموس أنه قال (واعلم أن ضجيج الأصوات في هياكل العبادات بفنون اللغات يحلل ما عقدته الأفلاك الدائرات) (2) .

_ (1) ابن تيمية: الرد على المنطقيين ص 270- 271. (2) الرد على المنطقيين ص 272 ويرى أن ذلك مخالف للحس والعقل والخلق عندهم الموجود في زماننا إنما هو جمع وتفريق لا ابتداع عين وجوهر قائم بنفسه، ولا خلق لشيء قائم لا إنسان ولا غيره وإنما يخلق أعراضًا.

صعوبات أمام النظرية في تفسير البعث

من هذا يتضح خطأ تفسير الخلق - أو النشأة الأولى - بنظرية الجواهر الفردة كما فعل المتكلمون من المعتزلة والأشاعرة، فالثابت أن كل ما سوى الله تعالى محدث وأنه سبحانه خلق الأسباب والمسببات، وبذلك ينتظم الكون وفق نواميس ثابتة منتظمة. أما الإعادة والبعث فإن النظرية أيضًا تقصر عن تفسيره والبرهنة عليه، فأدى إلى تقوية شبهات الفلاسفة المنكرين لمعاد الأبدان، ونتج عنها صعوبات لن تجد حلاً إلا بالأدلة الشرعية والعقلية، سنعرض لها كما يلي: صعوبات أمام النظرية في تفسير البعث: لما كان أصل رأيهم في ابتداء الخلق إثبات الجوهر الفرد، وجعلوه أيضًا في المعاد والبعث، ولكن اختلفوا بين رأيين: أحدهها: تعدم الجواهر ثم تعاد. الثاني: تتفرق الأجزاء ثم تجتمع. ولكن هذين الرأيين أثارا صعوبات أمامهم في مواجهة الفلاسفة المنكرين لبعث الأبدان حيث تساءل هؤلاء الفلاسفة عن الآتي: (1) الإنسان الذي يأكله حيوان، وذلك الحيوان أكله إنسان آخر، فإن الأجزاء في هذه الأجساد قد اختلطت. (ب) إن الإنسان يتحلل دائمًا، فما الذي يعاد، أهو الذي كان وقت الموت؟ فإن أجيب بالإيجاب، لزم أن يعاد على صورة ضعيفة، وهو خلاف ما جاءت به النصوص، وإن كان غير ذلك ليس بعض الأبدان بأولى من بعض، أي أنها تتفاوت في القوة والضعف. واضطر المتكلمون أمام هذه الصعوبات إلى القول. بأن الله تعالى يخلق بدنًا آخر تعود إليه الروح، فالمقصود تنعيم الروح وتعذيبها سواء كانت في هذا البدن أو في غيره. وهذا أيضًا يخالف النصوص الصريحة بإعادة هذا البدن، كما يخالف عقائد السلف للأجسام التي يشاهد حدوثها أنه يقلبها ويحيلها من جسم إلى جسم. وتفصيل ذلك أن الفقهاء يبحثون في النجاسة مثلا، هل تطهر بالاستحالة أم

لا؟ كما تستحيل العذرة رمادًا والخنزير وغيره ملحاً ونحو ذلك. والأطباء كذلك يقررون بأن المني الذي في الرحم يقلبه الله تعالى علقة ثم مضغة، وهذا التحول يسري على بني أدم. أما آدم عليه السلام فقد خلق من طين، فقلب الله - سبحانه وتعالى - حقيقة الطين فجعلها عظمًا ولحمًا وغير ذلك من أجزاء البدن، والمضغة أيضًا يقلبها عظامًا وغير عظام. قال الله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ) [المؤمنون، الآية: 12 - 16] . وكذلك الثمر يخلق بقلب المادة التي يخرجها من الشجر من الرطوبة مع الهواء والماء الذي سقيت به أو نزل عليها وغير ذلك من المواد التي يقلبها ثمرة بمشيئته وقدرته، والحبة أيضًا يفلقها وتتقلب المواد التي يخلقها منها سنبلة وشجرة وغير ذلك. وكذلك النار يخلقها بقلب بعض أجزاء الزناد نارًا كما قال تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا) [يس: 80] . ويجمع ابن تيمية هذه الأمثلة لما يربط بينها من حقيقة التحول الخاضعة للمشاهدة والتجربة، فيقول: (نفس تلك الأجزاء خرجت من الشجر الأخضر، جعلها الله نارًا من غير أن يكون في الشجر الأخضر نارًا أصلاً، كما لم يكن في الشجر ثمر أصلاً، ولا كان في بطن المرأة جنين أصلاً بل خلق هذا الموجود من مادة غيره، بقلبه تلك المادة إلى هذا، وبما ضمه إلى هذا من مواد أخرى) (1) .

_ (1) ابن تيمية: تفسير سورة الإخلاص 25. ويختار شيخ الإسلام بين الأقوال المختلفة في الجوهر الفرد أن الجسم يقبل القسمة إلى غاية، من غير إثبات الجوهر الفرد، مدللاً على ذلك بأن الجسم - كالماء مثلا - يقبل انقسامات متناهية إلى أن تتصاغر أجزاؤه، فإذا تصاغرت استحالت إلى جسم آخر، لا يبقى ما ينقسم إلى غير غاية، بل يستحيل عند تصاغره، فلا يقبل الانقسام بالفعل مع كونه فى نفسه يتميز منه شيء عن شيء، وليس كل ما تميز منه شيء عن شيء لزم أن يقبل =

ويرى شيخ الإسلام أن عقيدة السلف وما أجمع عليه العقلاء وما اتفق عليه الأطباء أن الأجسام تنقلب من حال إلى حال، ويؤيد هذا الأطباء بصفة خاصة في تناولهم لخلق الإنسان وأطوار نموه، فالله تعالى يقلبه ويجعله من جسم إلى جسم. وأيضًا فإن معنى الإعادة يدل على أن الله سبحانه وتعالى يعيد الجسم بعد أن يبلى (ولهذا يقال: هو مثله، ويقال: هذا هو هذا، فإن فعل مثل غيره، لا يقال: أعاده، وإنما يقال: حاكاه وشابهه، بخلاف ما إذا فعل ثانيًا مثل ما فعل أولاً، فإنه يقال: أعاد فعله) ، مثلما هُدم بيت ثم أعيد بناؤه. وبعبارة أخرى، فإن الله عز وجل يعيد الخلق بعدما استحالت الأجسام إلى غيرها، فيعيدها من تلك الأجزاء التي انقلبت واستحالت إليها، والنشأة الأولى خلقة فساد وفناء وملاءمة للحياة الدنيا وطبيعتها الفانية بينما الثانية للبقاء فهما يتشابهان من وجه ويتنوعان من وجه آخر، فباعتبار اتفاق المبدأ والمعاد فهو هو، وباعتبار ما بين النشأتين من الفرق فهو مثله. فلابد إذن من الاستناد إلى الحقيقة القرآنية الممثلة في خلق الله، منها قوله تعالى: (أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا) [مريم، الآية: 67] وهو أمر للإنسان بأن يتذكر خلقه من نطفة، فإذا ما فسر الإنسان المخلوق في ضوء نظرية الجواهر الفردة، فإن جواهر الإنسان عندهم ما زالت باقية وحدث لها الأعراض، ومعلوم أن تلك الأعراض وحدها ليست هي الإنسان، فإن الإنسان مأمور، منهي، حي، عليم، قدير، متكلم، سميع، بصير، موصوف بالحركة والسكون، وهذه صفات الجواهر، والعرض لا يوصف بشيء لا سيما وهم يقولون العرض لا

_ = الانقسام بالفعل، بل قد يضعف عن ذلك ولا يقبل البقاء مع فرط تصاغر الأجزاء، لكن يستحيل، إذ الجسم الموجود لابد له من قدر ما ولا بد له من صفة ما فإذا ضعفت قدرته على اتصافه بتلك الصفة انضم إلى غيره، إما مع ما استحالته إن كان ذلك من غير جنسه وإما بدون الاستحالة إن كان من جنسه كالقطرة الصغيرة - من الماء - إذا صغرت جدًا لا بدّ أن تستحيل هواء أو ترابًا أو تنضم إلى ماء آخر (كتاب الصفدية ص 118) .

ظهور الحقيقة لأئمة الأشاعرة:

يبقى زمانين (1) . وهكذا يبرهن شيخ الإسلام أن فكرة الجوهر الفرد لا تفسر لنا المشاهدة العيانية في الخلق، ولا تتفق مع حقيقته الثابتة بالآيات القرآنية، والمرئية في أطوار الإنسان كما يثبت ذلك الأطباء أيضًا، فإنه يتحول في مراحل خلقه، فيخلق الله الإنسان من المني، فالمني استحال وصار علقة، والعلقة استحالت مضغة، إلى استواء الإنسان بشرًا سويًا، ويستشهد بهذا المثال ليقوض دعائم تفسير المتكلمين، إذ يعدون الأجسام متماثلة لأنها مركبة من الجواهر المتماثلة، وإنما اختلفت باختلاف الأعراض. ويستبدل بها حقيقة الخلق والبعث القرآنية المتفقة مع أدلة العقول وتجارب البشر. بعد هذا العرض الموجز، يتضح أن طريقة الأشاعرة مع إخلاصهم في الدفاع عن النصوص لم تقو على الوقوف إزاء النقد الذي وجه إليهم من شيوخ السنة كابن تيمية وغيره حيث ناقشوا وفندوا بالحجج والبراهين. ويبدو أن أئمة الأشاعرة أنفسهم قد ظهرت لهم الحقيقة، ولكن بعد طول بحث وبعد إفناء الأعمار. ومن هنا نجد أئمتهم قد فضلوا طريقة السلف في نهاية حياتهم وأعلنوها صراحة وإلى القارئ بيان ذلك: تحول أئمة الأشعرية إلى طريقة السلف: لاشك أن الرغبة في الدفاع عن عقيدة أهل السنة بخاصة والإسلامية بعامة هي التي دفعت أئمة الأشاعرة إلى علم الكلام ظنًا منهم أنه المنهج الصحيح لهذا الغرض، ثم تبين لهم بعد التجربة غير ذلك، فتحولوا عنه، ولعل أول المتحولين إلى طريق السلف هو الإمام أبو الحسن الأشعري نفسه، وقصة تحوله من الاعتزال إلى عقيدة الإمام أحمد بن حنبل تبرهن على ذلك كما أسلفنا. ومن الثابت عن الذين ترجموا للأشعري - وأبرزهم ابن عساكر في كتاب (تبيين كذب المفتري) أن كتاب (الإبانة) من أواخر كتبه وهو دليل على استقراره على

_ (1) ابن تيمية: تفسير سورة الإخلاص (54 - 56) .

طريقة الإمام أحمد ومنهجه وعقيدته متابعة لطريقة السلف. ويمكن تقسيم حياته العلمية إلى ثلاثة أطوار - الأول عندما كان معتزليا - والثاني عندما بدأ يعيد النظر في معتقدات المعتزلة ويخط لنفسه منهجًا جديدًا يلجأ فيه إلى تأويل النصوص بما ظن أنه يتفق مع أحكام العقل ثم الطور الأخير الذي كتب فيه (الإبانة) وعبر فيه عن تفضيله لعقيدة السلف ومنهجهم والتي كان الحامل لواءها حينذاك الإمام أحمد بن حنبل (1) ، وكرر أيضًا مضمون عقيدته في كتابه (مقالات الإسلاميين) ناسبًا إياها لأهل السنة والحديث. وجاء بعده الإمام الباقلاني فكان حريصًا على الانتساب إلى الإمام أحمد بن حنبل أيضًا حتى كان يكتب في بعض أجوبته محمد بن الطيب الحنبلي (2) . وأئمة الأشعرية بعده اتخذوا موقفًا مشابهًا أيضًا يثير الانتباه ويدعو لبحث هذه الظاهرة التي - إن دَلَّت على شيء - فإنها تدل على الإخلاص في البحث عن الحقيقة من جهة، كما يدل من جهة أخرى على أن لا سبيل إلى معرفة أصول الدين إلا من مصادره في الكتاب والسنة. فها هو إمام الحرمين الجويني في كتابه (الرسالة النظامية) يشير إلى اختلاف مسالك العلماء في هذه الظواهر، فرأى بعضهم تأويلها، والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن وذهب أئمة السلف إلى الكف عن التأويل، وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب. ثم يصرح بأن الذي يرتضيه رأيًا، ويدين لله به عقدًا، اتباع سلف الأمة، مبرهنًا على ذلك بأن الدليل السمعي القاطع في ذلك أن إجماع الأمة حجة متبعة، وهو مستند الشريعة وقد درج صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما بها وهم صفوة الإسلام. والمستقلون بأعباء الشريعة كانوا لا يألون جهداً في ضبط قواعد الملة، والتواصي بحفظها، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها. فلو كان تأويل هذه الظواهر مشروعًا أو محتومًا لأوشك أن

_ (1) ينظر تعليق الأستاذ محب الدين الخطيب على كتاب (المنتقى) للذهبي ص 43 ط السلفية 1374 هـ. (2) ابن تيمية: موافقة ج 2 ص 9، 51.

يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة. وإذْ ثبت عنهم الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتبع فحق على كل ذي دين أن يعتقد تنزيه الباري عن صفات المحدثين، ولا يخوض في تأويل المشكلات، ويكل معناها إلى الرب فليجر آية الاستواء، والمجيء، وقوله: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) [ص: الآية: 75] (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ) [الرحمن، الآية: 27] وقوله: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) [القمر، الآية: 14] وما صح من أخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - كخبر النزول وغيره على ما ذكرنا. ويعضد ذلك ما ذهب إليه في كتابه (غياث الأمم) فبالرغم من أن الكتاب مخصص لعرض الفقه السياسي الإسلامي وآرائه في منصب الخلافة أو الإمامة، فقد حرص في باب (تفضيل ما إلى الأئمة والولاة) على أن ينص على أحد مهام الخليفة على صرف المسلمين عن الخوض في المشكلات الكلامية وتوجيههم إلى طريقة السلف فقال في هذا الصدد: (والذي أذكره الآن لائقًا لمقصود هذا الكتاب، أن الذي يحرص الإمام فيه على جمع عامة الخلق على مذاهب السلف السابقين، قبل أن نبغت الأهواء وزاغت الآراء، وكانوا رضي الله عنهم، ينهون عن التعرض للغوامض والتعمق في المشكلات.. إلى أن يقول: وما كانوا ينكفون رضي الله عنهم عما تعرض له المتأخرون عن عي وحصر، وتبلّد في القرائح هيهات! قد كانوا أذكى الخلائق أذهانًا وأرجحهم بيانًا) (1) . ورأي الغزالي أيضًا في علم الكلام مدون في كتبه معروف مشهور لا سيما (الإحياء) فقد قال فيه: (وأما منفعته فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه، وهيهات فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف، ولعل التخبيط والتضليل فيه أكبر من الكشف والتعريف) وإلى نفس المعنى يذهب في كتابه (المنقذ من الضلال) فذم علم الكلام أيضًا وقال بأن أدلته لا تفيد اليقين. وفي كتابه (التفرقة بين الإيمان والزندقة) ، صرح بتحريم الخوض فيه فقال: (لو تركنا المداهنة لصرحنا بأن الخوض في هذا العلم حرام) . ومات الغزالي على خير أحواله، مات على

_ (1) الجويني: غياث الأمم فى التياث الظلم ص 140، 141 تحقيق د. مصطفى حلمي ود. فؤاد عبد المنعم ط دار الدعوة بالإسكندرية سنة 1400 هـ.

الصحيحين، صحيح البخاري وصحيح مسلم، طالبًا علم الحديث، فتحول من الكلام إلى طلب السنة من مصادرها الصحيحة. أما الرازي - وهو المعبر عن المذهب الأشعري في مرحلته الأخيرة حيث خلط الكلام بالفلسفة، فقد نبه في أواخر عمره إلى ضرورة اتباع منهج السلف، وأعلن أنه أسلم المناهج بعد أن دار دورته في طرق علم الكلام والفلسفة، فقال في النهاية: (لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق القرآن أقرأ في الإثبات (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه،: 5] و (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر، الآية: 10] وأقرأ في النفي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى، الآية: 11] (وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا) [طه، الآية: 110] (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم، الآية: 65] ثم قال: (من جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي) ، وكان يتمثل كثيرا الأبيات التالية: نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا له فيه قيل وقالوا (1) وقال في وصيته: (أحمد الله بالمحامد التي ذكره بها أفضل ملائكته فى أشرف أوقات معارجهم، ونطق بها أعظم أنبيائه في أكمل أوقات مشاهدتهم، بل أقول ذلك من تاريخ الحدوث والإمكان، فأحمده بالمحامد التي يستحقها لإلهيته ويستوجبها لكمال إلاهيته، عرفتها أو لم أعرفها، لأنه لا مناسبة للتراب مع جلال رب الأرباب) إلى قوله: (ولقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن العظيم، لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال بالكلية لله تعالى ويمنع من التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات، وما ذلك إلا للعلم بأن العقول البشرية تتلاشى وتضمحل في تلك المضايق العميقة والمناهج الخفية) وذكر في وصيته أيضًا أنه يدين لله تعالى بدين محمد - صلى الله عليه وسلم -، وسأل الله تعالى أن

_ (1) ابن الوزير اليماني: الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم ج 2 ص 168 المطبعة السلفية بالقاهرة سنة 1385 هـ.

تقييم ابن تيمية لشيوخ الأشاعرة

يقبل منه هذه الجملة ولا يطالبه بالتفصيل (1) . ونكتفي بهذا القدر لبيان النتائج التي توصل إليها أكبر أئمة المتكلمين في المدرسة الأشعرية، إذ تأكدوا بعد رحلة طويلة مع الكلام والخوض في قضاياه إلى نتائج حاسمة حيث وجدوا - كما ذكر الرازي - أن طريقة القرآن كافية شافية، وأن طريقة أهل الحديث موصلة إلى اليقين، داعية إلى الاطمئنان وثبات الإيمان. تقييم ابن تيمية لشيوخ الأشاعرة: يرى ابن تيمية أن شيوخ الأشاعرة أقرب إلى الإمام أحمد تحقيقًا وانتسابًا. أما تحقيقًا، فإن الأشاعرة أقرب إلى مذهب السلف وأهل الحديث في مسألتي القرآن والصفات. كذلك فإن انتساب الأشعري وأصحابه إلى أحمد بن حنبل والمحدثين عمومًا ظاهرة واضحة في كتبهم (2) ويقول: (ولهذا لما كان أبو الحسن الأشعري وأصحابه منتسبين إلى السنة والجماعة وكان منتحلاً للإمام أحمد ذاكرًا أنه مقتد به متبع سبيله. وكان بين أعيان أصحابه من الموافقة والمؤالفة لكثير من أصحاب الإمام أحمد ما هو معروف) (3) .

_ (1) ابن الوزير اليماني: الروض الباسم. ج 2 ص 168 وقد أورد نصوصًا كثيرة أخرى تثبت رجوع أئمة الكلام إلى طريقة السلف، فنقل عن القرطبي في شرح مسلم أيضًا أن الجويني كان يقول لأصحابه: يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما تشاغلت به. وأوصى الكرابيسي قبل موته أتباعه بقوله: (عليكم بما عليه أهل الحديث، إني رأيت الحق معهم) وأورد قول أبي الوفاء بن عقيل لأصحابه: (لقد بالغت في الأصول طول عمري ثم عدت القهقرى إلى مذهب المكتب يعني الذين يكتبون الحديث ويشتغلون به) وأيضا قول الشهرستاني: (عليكم بدين العجائز فإنه أسنى الجوائز) والمصدر السابق ص 968 - 169. وانظر أيضًا نص الوصية التي أوردها الدكتور علي محمد حسن العماري في كتابه (الإمام فخر الدين الرازي حياته وآثاره ص 75 ط المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة 1388 هـ 1969 م) . (2) ابن تيمية: شرح العقيدة الأصفهانية ص 68. (3) ابن تيمية - نقض المنطق 137.

أما عن موقفه من الإمام أبي الحسن، فإن القارئ لكتبه يلمس أحيانًا رقة في نقده، وذلك بسبب أقوال الأشعري المؤيدة لمذاهب أهل الحديث والسنة في عدة مواضيع كالصفات والقدر والإمامة، وردوده على المعتزلة والشيعة والجهمية. ولذا يرى أنه ينبغي أن يعرف لهذا الإمام حقه وقدره عملاً بقول الله تعالى: (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) كذلك فإن قيامه بنصرة مذهب أهل السنة في وجه أهل البدع وقهره للمخالفين يضعه في مرتبة المجاهدين (1) . ومع أن شيخنا لا يعد أتباع المدرسة الأشعرية سلفيين خلَّصاً لأن المذهب السلفي بالمعنى الدقيق يلفظ استخدام الكلام المبتدع سواء على منهج المعتزلة أم بدفاع شيوخ الأشاعرة، إلا أنه يقر بوجود تقارب بين المذهبين كما قلنا، ويراه يكاد يلتحم عند المحدثين منهم خاصة: كابن عساكر (571 هـ) ، والبيهقي (458 هـ) ، والنووي (676 هـ) حيث غلب عندهم جانب الحديث عن الاتجاه الكلامي. ومن جهة أخرى، ينتسب إلى الحنابلة أيضًا من المتأخرين من يذهب إلى شيء من التأويل، كابن عقيل (513 هـ) وابن الجوزي (597 هـ) (2) كذلك فقد شذت منهم قلة - شأنهم في ذلك شأن أتباع المذاهب والفرق جميعًا - حيث اتفقت مع ابن حنبل في الفروع وخالفته في بعض الأصول قائلين بالجهة والجسمية ولكن (أحمد برئ منهم وأهل السنة والجماعة من الحنابلة لا يعدونهم منهم) (3) . وفي نقده للمحدثين، يرى أن ما يعيب بعض علماء الحديث يرجع إلى الحشو الناجم عن الاحتجاج بأحاديث ضعيفة أو موضوعة، أو ما لا يصح الاحتجاج به. أما القاعدة السليمة التي ينبغي على المحدثين التقيد بها حتى يسلم منهجهم من الأخطاء والحشو، فهي تتلخص في ضرورة توافر عاملين: أحدهما: التثبت من صحة الحديث، والثاني: فهم معناه (4) .

_ (1) نفس المصدر 11. (2) صفي الدين الحنفي: القول الجلي في ترجمة شيخ الإسلام. ص 253. (3) ن. م 127. (4) ابن تيمية: نقض المنطق ص 22.

طريقة السلف أعلم وأحكم

وهكذا استطاع ابن تيمية باستخدامه لمنهج (المعادلة والموازنة) أن يحدد مدى الاقتراب والابتعاد عن طريقة السلف، محاولاً البرهنة على أن المحدثين الذين تنسحب الشروط السالف الإشارة إليها عليهم - هم الممثلون الحقيقيون لشيوخ السلف لأنهم (اعتمدوا في دينهم على استنباط النصوص، لا على خيال فلسفي، ولا رأي قياسي ولا غير ذلك من الآراء المبتدعات) (1) . أما سبب ذيوع المذهب الأشعري في رأي شيخ الإسلام فيرجع إلى العوامل الآتية: أولاً: كثرة الحق الذي يقولونه وظهور الآثار النبوية عندهم. ثانيًا: لبسهم ذلك لمقاييس عقلية ظنوا أنها صحيحة بينما هي في الواقع موروثة عن تيار خارجي من الفلسفة وغيرها، وظنوا أيضًا أنه لم يمكن التمسك بالآثار النبوية في مواجهة المعتزلة بهذا الوجه. ثالثًا: ضعف الآثار النبوية في عصورهم الموضحة لسبيل الهدى. رابعا: تقصير المنتسبين للسنة. ويحملهم ابن تيمية مسؤولية ما حدث ناقدًا لبعضهم بقوله: (إنهم تارة يروون ما لا يعلمون صحته وتارة يكونون كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، ويعرضون عن بيان دلالة الكتاب والسنة على حقائق الأمور) (2) . طريقة السلف أعلم وأحكم: وبعد، فإن الغالب على القضايا المتنازع عليها أصبحت لها الصبغة التاريخية لأن الاهتمامات الثقافية والعلمية والدينية حينذاك هي الدافعة لجعلها الأولى بالبحث والمناقشة، ولكن لهذه القضايا نفسها جانبٌ ما زال يستحق الاهتمام والدراسة باعتباره يلقي الضوء على الصلة بين الاتجاهين النصي والعقلي، ولا يمكن تجاهل النقاش الدائر بينهما، فإن الإنسان بمكوناته العقلية والنفسية وثقافته المصطبغة أحيانًا بصبغة العصر الذي يعيش فيه، كل ذلك قد يؤثر عليه تأثيرًا كبيرًا عند تطلعه في

_ (1) نفس المصدر 81. (2) ابن تيمية: فتاوى ج 12 ص 23.

البحث عن الحقيقة التي ينشدها. وإذا خصصنا المسلم المعاصر بالحديث، فإننا نراه يقف أمام القرآن الحكيم والسنة النبوية أحد موقفين: الأول: التأثر بالفلسفات السائدة والمناهج التي تجعل للعقل المكانة الأولى في نظرية المعرفة، ومن ثم يميل إلى المنهج الاعتزالي، وإن توسط في موقفه اختار المنهج الأشعري. الثاني: وإما البحث عن المنهج الصحيح للعقيدة موقنًا بأنه من الخطأ العلمي والديني الانصراف عن الأصل الثاني للإسلام وهو الأحاديث النبوية الصحيحة في مصادرها، وما أكثرها وأوثقها. وهنا ينبغي أيضًا الاسترشاد بطريقة علماء الحديث والسنة ومعرفة منهجهم في النظر والاستدلال لإثبات صحة أصول الدين. وفي بحث كهذا محدود الهدف وموحد المنهج، رأينا توضيح التباين والتمايز بين الاتجاهين: المعتزلي والأشعري من ناحية، والسلفي من ناحية أخرى. وقد تبين لنا أن المعتزلة اعتزلوا السنة والجماعة ووضعوا لأنفسهم أصولاً خمسة. أما الأشاعرة فإنهم دافعوا عن عقيدة أهل السنة والجماعة وأعلنوا الانتماء إليهم. ولكنهم التزموا في منهجهم بصفة عامة بالمنهج الكلامي، بحجة التوفيق بين النصوص الشرعية والأحكام العقلية، وغلب عليهم تأويل النصوص الشرعية لتطويعها للأصول التي وضعها أهل الكلام قبلهم. وإذا كانت دراستنا قد أوصلتنا إلى انتهاء أغلب أئمة الأشاعرة سلفيين، فإن ذلك يدل على اكتشافهم أن طريقة السلف هي الأعلم والأحكم، وعلينا الاستفادة من تجاربهم التي أمضوا فيها السنوات الطوال بحثًا وتفكيرًا وتأملاً ودراسةً، ويصبح من السرف أيضًا في الوقت والجهد، اتباع طريقتهم الكلامية قبل رجوعهم عنها، لا سيما ولدينا مؤلفات علماء الحديث والسنة بعدهم، أخلصوا في إظهار المنهج السلفي والدفاع عنه وبيان أنه يستند إلى الأدلة الشرعية العقلية. وفي مقدمة هؤلاء يقف شيخ الإسلام ابن تيمية، وسنحاول عرض منهجه بإيجاز في الباب التالي.

الباب السادس

الباب السادس موقف ابن تيمية من القضايا الكلامية: - حياته وعصره - منهجه - هدم المنطق الأرسططاليسي وإعلاء الميزان القرآني. نظرية ابن تيمية في المعرفة - الفطرة الإنسانية وطرق المعرفة. - الهدى والبينات. موقفه إزاء القضايا الكلامية: - الصفات الإلهية. - طرق البراهين القرآنية. - إثبات صفات الله تعالى وأفعاله بالأدلة العقلية. الميزان القرآني. - قياس الأولى. - الاعتبار واللزوم. - النبوة.

مقدمة

موقف ابن تيمية من القضايا الكلامية مقدمة: ولد تقي الدين بن تيمية يوم الاثنين عاشر من شهر ربيع الأول سنة 661 هـ في حران ونشأ في بيت علم أتاح له الاطلاع إلى التراث الإسلامي واستيعاب علوم المسلمين، فبزَّ علماء زمنه لتفرده بالإحاطة الشاملة دونهم بأغلب هذه العلوم - كالتفسير واللغة وحفظ السنن والآثار، وعلم الفقه والتاريخ، والفلسفة وعلم الكلام وغيرها. وقد ساعدته مواهبه العقلية على بلوغ مرماه إذ كان يتمتع بذكاء حاد وحافظة متميزة استطاع بهما أن يفهم ويعبر عن أعوص المسائل في الفلسفة والمنطق وعلم الكلام وأصول الفقه بحيث ارتفع إنتاجه العلمي إلى مصاف المتخصصين في هذه الفروع كلها كما يذكر مترجموه، إلى جانب خصائص أخلاقية تتمثل في النهم والتشوق للمعرفة وقوة الجلد والصبر على قراءة ما يشبه الموسوعات، بحيث مكنته من استحضار النصوص وقت الحاجة والاستشهاد بها وتأييد صحة آرائه. ويضاف إلى ذلك انقطاعه للعلم انقطاعًا تامًا فلم تشغله صاحبة ولا ولد، ولم يحل دونه منصب أو يعوقه سعي لطلب مال أو جاه لزهده وتقلله في معيشته. وعندما اضطهد وسجن، بسبب آرائه الجريئة التي ساقته إليها اجتهاداته المدعمة بالأدلة، انتهز فرصة سجنه واستمر في القراءة والبحث إلى أن أجبر في فترة سجنه الأخيرة عن التخلي عن أدوات الكتابة. ومن أخلاقه الشخصية الدقة والأمانة في رواية النصوص المنقولة من مصادرها المختلفة؛ فحفظ لنا صفحات كاملة من كتب تعد في حكم المفقودة، مع شجاعته في إعلان رأيه مهما قوبل من صنوف الاضطهاد بسببها، وخوضه المعارك الحربية في مواجهة التتار وقيامه بحث الأمراء على مقاومة حروبهم مهما كلفهم ذلك من نفوس وأموال. ولقي العنت بسبب خصومته لعلوم الكلام والطعن في شيوخ الصوفية ونقد آراء بعض الفقهاء، كما انتقد مظاهر الاضطراب والضعف في عصره لأنه عاش وسط جو صاخب مليء بالحروب الخارجية ومظاهر التشتت والاختلاف في الداخل

حياته وعصره

بعد انهيار الخلافة العباسية في بغداد سنة 656 هـ وانقسام الدولة الإسلامية الكبرى إلى ولايات متعددة، فقامت بمصر والشام حينذاك دولة المماليك التي عاش فى ظلها ابن تيمية، وقد كتب لها أن تقوم بالنصيب الأوفى في خدمة الإسلام ودفاع المعتدين من المغول في الشرق والصليبيين في الشمال (1) . ولم يأل ابن تيمية جهدًا فى شن الغارة على النصيرية والباطنية في الشام، لأن السواحل الشامية إنما استولت عليها النصارى من جهتهم وهم دائمًا مع كل عدو للمسلمين، كما قام ابن تيمية بالسفارة لدى ملك المغول غازان. وجمع في شخصيته صفات العالم المجاهد الذي ضحى - كما يصفه الشيخ المراغي - بمتع الدنيا لنصرة دعوته، فانتقد انتقاد الرجل المثالي الذي كان يرى ألا حكم إلا لله، وأن الجماعة يجب أن تكون على النحو الذي شرعه الله، فله في الدين رأي، وله في الدولة رأي، وله في الصوفية رأي، وله في رجال الكلام رأي، وله في النصرانية رأي، والباطنية رأي (2) . وأمضى حياة حافلة في التأليف والجدل والجهاد بنفسه ضد التتار والإفتاء ومحاربة البدع. ومثل هذه الشخصية الفذة لابد أن تتعرض للابتلاءات والمحن، ولذا فقد استطاع خصومه إدخاله السجن أكثر من مرة في حياته، فكان موته بسجن القلعة بدمشق عام 728 هـ (3) . والآن يحسن بنا أن نفصل هذه المقدمة. حياته وعصره: ولد الشيخ كما قلنا في بيت ثقافة إسلامية سلفية، فإن جده كان محدثًا مشهوراً، وكذلك كان أبوه. يصف ابن تيمية جده بقوله: (كان جدنا عجبًا في حفظ

_ (1) المراغي: ابن تيمية ص 59 ط الحلبي (سلسلة أعلام الإسلام) . (2) المراغي: ابن تيمية ص 37- 38. (3) ينظر كتاب المستشرق الفرنسي هنري لاوست (نظريات شيخ الإسلام في السياسة والاجتماع) ترجمة الأستاذ محمد عبد العظيم وتقديم وتعليق د. مصطفى حلمي دار الأنصار 1396 هـ - 1977 م.

الأحاديث وسردها وحفظ مذاهب الناس بلا كلفة) ويصفه بأنه كان معدوم النظير في زمانه، رأسًا في الفقه وأصوله (1) . أما والده فإنه (أتقن العلوم وأفتى وصنف وصار شيخ البلد بعد أبيه.. كان محققًا كثير الفنون، وكان من أنجم الهدى، وإنما احتفى من نور القمر وضوء الشمس ويشير الذهبي في هذا الوصف إلى كل من أبيه وابنه) (2) . وتلقى شيخنا الفقه والحديث والعلوم الأخرى، وكان مضرب المثل في قوة الحفظ والذكاء، كما استطاع أن يستوعب ثقافة العصر كما قلنا ويجيدها ويحاجج أهلها عن مقدرة ودراية. يصفه تلميذه الذهبي بأنه (برع في الرجال، وعلل الحديث وفقهه، وفي علوم الإسلام وعلم الكلام، وغير ذلك. وكان من بحور العلم والأذكياء المعدودين والزهاد والأفراد. وسارت بتصانيفه الركبان، لعلها ثلاثمائة مجلد) (3) . وكان عصره يموج بالتيارات السياسية العنيفة، فإن حروب التتار التي بدأت تغزو البلاد منذ عام 616 هـ - 1229 م، وظلت أمواجها تتلاحق دفعة وراء الأخرى عبر السنوات الطويلة حتى سنة 680 هـ - 1281 م حيث وصلت إلى حماه، واشترك ابن تيمية بنفسه في إحدى المعارك. إلى جانب صراع المماليك على السلطة في الداخل. وكان سقوط بغداد عام 656 هـ - 1257 م على أيدي التتار هو النتيجة الطبيعية التي تمخض عنها ضعف الدولة العباسية، لأنها بدأت منذ أواخر القرن الرابع، وأوائل القرن الخامس (وكأنها جدار يريد أن ينقض وكان لا بدّ لها أن تنتهي إلى إحدى النهايتين: إلى الانحلال التام والفناء أو اليقظة والإحياء) (4) . ولكن مع الأسف

_ (1) الألوسي: جلاء العينين في محاكمة الأحمدين ص 18. (2) نفس المصدر 19. (3) الذهبي: تذكرة الحفاظ ج 4 ص 288 وقد لاحظ لاوست وحده النظرة الدينية عند ابن تيمية في وقتها ودوامها (حيث كانت الأفكار التي عرضها في مطلع فجر تأليفه هي نفس الأفكار التي تناولها شرحًا وتفصيلاً في سائر تواليفه المتأخرة) ص 835 من كتاب أسبوع الفقه - ابن كثير - البداية ج 13 ص 83. (4) د. جمال الدين الشيال: تاريخ الدولة العباسية ص 89.

انتهت إلى ما نعرفه من انقسام الدولة الإسلامية الكبرى إلى دويلات عديدة، وعاصر ابن تيمية دولة المماليك. وكان للشيخ دور بارز في مقاومة الغزو التتاري وهذا يعطينا فكرة عن ارتباط العقيدة بالعمل عنده. وقد أفرغ ما في جعبته من آيات وأحاديث لحث المسلمين على الجهاد، وتخليصهم من روح اليأس والهزيمة التي دفعت بجموع كبيرة منهم إلى الفرار هربًا من جحافل الجيش التتاري، الذي شرب من كأس النصر حتى الثمالة، وانتشى بروح السيطرة والتفوق. وفي مقابل الحرب والغزو الخارجي الذي ملأ التاريخ بصفحات عديدة من المآسي والكوارث التي أصابت العالم الإسلامي، كانت هناك في الداخل تيارات عدائية تتمثل في روح الهزيمة، وبث روح اليأس، وترويج الإشاعات التي تروع القلوب وتخلعها لكي يسلم الناس دون قتال. يقول ابن كثير: (وأشاع المرجفون بأن التتار وصلوا إلى حلب، وأن نائب حلب تقهقر إلى حماه، ونودي في البلد بتطييب قلوب الناس وإقبالهم على معايشهم) (1) . ومما زاد الأمر سوءًا في هذا العام - أي عام 700 هـ 1300 م حيث بدأ التتار يقصدون بلاد الشام - أن هذه البلاد شهدت شتاء قارسًا مما أدى إلى صعوبة الهجرة (حيث جعلوا يحملون الصغار في الوحل الشديد والمشقة على الدواب والرقاب، وقد ضعفت الدواب من قلة العلف، مع كثرة الأمطار والزلق والبرد الشديد والجوع وقلة الشيء) (2) . رأى ابن تيمية هذه الظروف العصيبة التي تضافرت فيها توالي انتصارات الأعداء، مع ضعف المسلمين ويأسهم، ومما زاد الطين بلة الأحوال الجوية التي جرت على غير المألوف. وهنا يتجلى إيمان الشيخ، وتظهر آثار التشبع بالروح السلفية فعالة قوية، في الوقت الذي كان بعض الفقهاء غيره يتركون دمشق فرارًا بأنفسهم

_ (1) ابن كثير: البداية والنهاية ج 14 ص 95. (2) نفس المصدر 150.

وعائلاتهم إذ (كان قد خرج جماعة من بيوتات دمشق، كبيت ابن صصري، وبيت ابن فضل الله وابن منجا وابن سويد وابن الزملكاني وابن جماعة) (1) . وبذل الشيخ جهدًا كبيرًا ليقف في وجه كل العوامل التي تدعو إلى الهزيمة واليأس معلناً على الملأ آراءه الكفيلة بتحويل الهزيمة إلى نصر. فأخذ يحرض الناس على القتال بدلاً من الفرار (وساق لهم الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، ونهى عن الإسراع في الفرار، ورغب في إنفاق الأموال في الذود عن المسلمين وبلادهم وأموالهم، وأن ما ينفق في أجرة الهرب إذا أنفق في سبيل الله كان خيرًا) (2) . كذلك سافر بنفسه إلى مصر لحث السلطان على الدفاع عن الشام، وأقنعه بضرورة تجهيز الجيش لهذا الغرض. وجاء ضمن أقواله للسلطان في هذا الصدد: (لو قدر أنكم لستم حكامًا للشام ولا ملوكه، واستنصركم أهله، وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه، وهم رعاياكم وأنتم مسؤولون عنهم؟) (3) . وعندما حان أوان المعركة المرتقبة بأرض الشام، وصلت جحافل التتار إلى حمص وبعلبك، ولم يكن جيش مصر قد وصل للنجدة بعد، تخبط الناس ومسهم الفزع والذعر، وعادوا يتحدثون عن التقهقر، ولكن ابن تيمية عاد ينفث من قوة إيمانه في صدور الأمراء والجند، مؤكدًا لهم النصر، متأولاً قوله تعالى: (وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) [الحج: 60] وإذا ما طلبوا منه ذكر مشيئة الله، أجابهم: (إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا) (4) . أما عن تردد بعض المسلمين في حرب التتار لأنهم أعلنوا الإسلام تظاهراً، فقد أوضح لهم شيخنا هذا اللبس، إذ إن التتار كالخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية، زاعمين أنهم أحق بالرياسة منهما، وكذا يفعل التتار، فبينما هم متلبسون بالمظالم والمعاصي (يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق بين المسلمين) .

_ (1) ابن كثير: البداية والنهاية ج 14 ص 14. 21 (نفس المصدر والصفحة. (3) نفس المصدر ص 15. (4) نفس المصدر ص 23.

خلقه

وحتى لا يدع مجالاً للشك في صحة رأيه لإدخال الطمأنينة والثبات في قلوب المترددين، أعلن لهم في وضوح قاطع (إذا رأيتموني من ذلك الجانب - يقصد التتار - وعلى رأسي مصحف فاقتلوني) (1) . وقاتل الشيخ مع الجند، حاثًا إياهم على الإفطار في شهر رمضان، لأن الفطر أقوى لهم، وذلك تشبهًا بالمسلمين حين أفطروا عام الفتح تنفيذًا لنصيحة الرسول - صلى الله عليه وسلم - (2) . خلقه: اتصف الشيخ بمكارم الأخلاق. أما عن حدة الطبع التي توصف بها كتاباته وشدته في نقد المذاهب والطوائف المخالفة للسنة، فهي كرد فعل لشدة خصومه ومخالفيه. وكان هو على يقين بأنه على الحق بالأدلة الشرعية العقلية. فالواقع أن الرجوع إلى مراحل حياة الشيخ، والاطلاع على التهم التي كيلت إليه ظلمًا، وما نسب إليه زورًا وبهتانًا (3) . كل هذا دفع بالشيخ إلى الثورة على المظالم التي أحدقت به. ويزيد الأمر إيضاحًا ما يحدثنا به عن نفسه فيقول: (فإن الناس يعلمون أني من أطول الناس روحًا وصبرًا على مر الكلام، وأعظم الناس عدلاً في المخاطبة لأقل الناس) (4) فبم إذن يفسر ثورته وغضبه؟ هنا يجيب قائلاً: (فمتى ظلم المخاطب، لم نكن مأمورين أن نجيبه بالتي هي أحسن، بل عنف أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - عروة بن مسعود بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال: إني لأرى أوباشًا من الناس خليقًا أن يفروا ويدعوك، وأجابه بحدة بالغة الشدة:

_ (1) ابن كثير: البداية والنهاية ج 14 ص 24. (2) نفس المصدر ص 26. (3) يقول ابن تيمية: (وكان قد بلغني أنه زور عليَّ كتاب) ويقول: (أنا أعلم أن أقوامًا يكذبون عليَّ) 207. من كتاب العقود الدرية لابن عبد الهادي. (4) محنة الشيخ ص 44.

(أنحن نفر عنه وندعه) ؟ (1) . وفيما عدا هذا، فقد كان الشيخ متسامحًا، مطبقًا لأخلاقيات الإسلام في العفو وتصفية قلبه من الأحقاد والضغائن، إذ لما انقلبت الأوضاع السياسية وحل الملك محمد ابن الملك المنصور قلاوون، بدلاً من المظفر الجاشنكير بيبرس - وكان يكن للشيخ المحبة والتقدير في بداية حكمه - طلب منه أن يفتي بقتل بعض القضاة - الذين أفتوا بعزله عن الملك أيام الجاشنكير - فأبى، بل دافع عنهم بقوله: إذا قتلت هؤلاء، لا تجد مثلهم بعدهم. فلما ذكره الملك بأنهم سبق أن آذوه وأرادوا قتله مرارًا أجاب (من آذاني فهو في حل) . وإزاء هذا التصرف، اضطر ابن مخلوف قاضي المالكية إلى الاعتراف بأنه لم ير مثل ابن تيمية، لأنه حرض عليه فلم يقدر عليه، فلمّا قدر عليهم جميعًا صفح عنهم، وحاج عنهم (2) وهذا صحيح. لأننا لو عقدنا مقارنة بين حديث هذا القاضي بعد أن زال عنه الصولجان، ووصف ابن تيمية له في السجن، لظهر الفرق بين الرجلين، إذ يقول عنه: (وابن مخلوف ولو عمل مهما عمل - والله ما أقدر على خير إلا وأعمله معه.. فإني أعلم أن الشيطان ينزغ بين المؤمنين، ولن أكون عونًا للشيطان على إخواني المسلمين) (3) . فإذا ما انتقل من هذه العلاقة الخاصة مع خصمه القاضي ونظر إلى المسلمين بعامة، فإنه يدعو لهم بالخير في دينهم ودنياهم، ويحب أن يراهم وقد اختفت من بينهم بذور الفتن والخلاف، فلن (ينقطع الدور وتزول الحيرة، إلا بالإنابة إلى الله والاستغفار والتوبة، وصدق الالتجاء، فإنه سبحانه لا ملجأ منه إلا إليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله) (4) . كذلك يعلن أنه لا يهدف إلى تحقيق غرض دنيوي، ولا يطمع في تحقيق

_ (1) نفس المصدر والصفحة 19، 20 ابن كثير ص 54، ج 14. (2) ابن كثير: البداية والنهاية ج 14 ص 54. (3) محنة الشيخ ص 59. (4) نفس المصدر.

منهجه

منصب، أو جاه، أو الحصول على أموال، فإنه (لم يقبل من أحد شيئًا من النفقات السلطانية، ولا من الكسوة، ولا من الإدارات ولا غيرها، ولا تدنس بشيء من ذلك) (1) ، فهو يسعى إلى تحقيق ما يحبه الله ورسوله، فإذا ما قابلته بعض الخصومات، فإنه لا ينظر إليها نظرة شخصية خاصة، وإنما يتحمل كل الصعاب في سبيل هدفه العام الذي عاش من أجله (نحن إنما ندخل فيما يحبه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون، ليس لنا غرض مع أحد، بل نجزي بالسيئة الحسنة، ونعفو ونغفر) (2) . وكانت حياة الشيخ برهانًا على صدق قوله، واقتران العلم بالعمل. إنه تمكن من خصومه كما بينا فلم يصبهم بأذى، وعندما سجنه الملك الناصر، أصبح ذلك دليلاً على أنه لم يحاول أن يستمد قوته من الأمير، بل كان يعلن ما يراه حقًا (ولو كان يستمدها من الناصر ما ألقاه في غيابة السجن، فكان هذا هو الدليل القاطع على أنه متبوع لا تابع، وحر سيد نفسه، وليست نفسه، ولا فكره ملكًا لأحد) (3) وبذلك نراه يتخلق بأخلاق العالم المسلم. منهجه: تكاد تنحصر معالم المنهج لدى ابن تيمية في مميزات ثلاثة: أحدها: إثبات اتفاق الدليل العقلي مع الدليل النقلي. الثانية: رفضه لمصطلحات المتكلمين والفلاسفة وإخضاعها للمعاني الإسلامية قبل البت في قبول استخدامها أو رفضها لأن التعبير عن حقائق الإيمان بعبارات القرآن أولى من التعبير عنها بألفاظ محدثة فيها إجمال واشتباه ونزاع، والثالثة هدمه للمنطق الأرسططاليسي واستبعاده. فبالنظر إلى الدليلين العقلي والنقلي فإن التعارض يأتي بسبب ضعف أحدهما أو كليهما أما الدليلان القطعيان فلا يجوز تعارضهما سواء كانا عقليين أو سمعيين أو أحدهما عقليًا والآخر سمعيًا، لأن القرآن دل على الأدلة العقلية وبينها ونبه عليها

_ (1) ابن كثير: البداية والنهاية ج 14 ص 42. (2) محنة الشيخ ص 58. (3) محمد أبو زهرة: التعريف بابن تيمية ص 690 من كتاب أسبوع الفقه الإسلامي.

ونستطيع أن نستدل بالآيات العديدة على الأمر بالتدبر والفهم والتعقل، ولكن ابن تيمية يشترط ألا نقدم العقل بالإطلاق ويرى أن الجزم بتقديم الدليل العقلي ظاهر الفساد بالضرورة لأن وجود الله سبحانه وتعالى لا يتوقف على وجود الإنسان أو عقله المخلوق، وقد جاءت آيات الله السمعية والعقلية العيانية والسماعية كلها متوافقة متصادقة لا يناقض بعضها بعضًا. وإذا تكلم أهل الكلام فيما يسمونه بـ (أصول الدين) كمسائل التوحيد والصفات الإلهية والنبوة والقدر والمعاد وغيره، فلا بد أن يكون المبين الأول والشارح لها هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما دامت باعترافهم أصولاً في الدين، ولا حجة لهم بالاستمساك بدعوى (الأدلة العقلية) ؛ لأنه كان - صلى الله عليه وسلم - يتمتع بأكثر العقول وأعلاها ذكاء وفطنة، وهو كغيره من الأنبياء الذين خاطبوا عقول البشر وتسلحوا بأدلتها المتوافقة مع الفطرة فأخبروا الأمم التي بعثوا إليها بمجيزات العقول لا بمحالات العقول. وقبل استخدام المصطلحات الكلامية والفلسفية كان على ابن تيمية توضيح مدلولاتها لا سيما ما تردد كثيرًا بحكم القضايا المعروضة للبحث والمناقشة كالتأويل مثلاً، فالتأويل لغة ما يؤول الأمر إليه إن كان موافقًا لمدلول اللفظ ومفهومه في الظاهر، أو تفسير الكلام وبيان معناه وإن كان موافقًا له. أو صرف اللفظ من الأمثال الراجحة إلى الاحتمال المرجوح. ويظهر معنى التأويل الذي استأثر الله بعلمه (1) أي: الحقيقة التي لا يعلمها إلا هو كصفة النزول والاستواء والمجيء والإتيان فلا نعرف كيفيتها - فإن ذات الله سبحانه ليست كذوات المخلوقين وكذلك صفاته وأفعاله ليست كصفات المخلوقين وأفعالهم. وعارض الفلسفة التي اعتبرها إسلامية مجازًا لأنها في أصلها يونانية، وكان يشير دائمًا إلى أن الرومان واليونان كانوا مشركين وكانوا يعبدون الهياكل والأصنام

_ (1) فإذا تحدث عن الاستواء (فإننا لا نعلم الكيفية التي اختص بها الرب مع أننا نعرف أن تفسيره العلو والاعتدال ولكننا لا نعرف الفارق الذي امتاز به الرب، فصرنا نعرفه من وجه ونجهله من وجه، وذلك تأويله) تفسير سورة الإخلاص ص 112.

الأرضية ومنهم أرسطو وأمثاله من الفلاسفة المشائين. كذلك في مناقشاته مع المتكلمين، عارض الألفاظ والاصطلاحات التي استخدمها علماء الكلام لأنها لا تعطي مدلولات إسلامية صحيحة، ولكنه لم يعارض استخدام الأدلة العقلية، بل ذهب إلى خطأ القول بأن الأدلة الواردة بالكتاب والسنة مجرد أدلة نقلية، فذهب إلى أنها عقلية أيضًا - أي أن العقول تجيزها فتزنها مستندة لآيات القرآن المنوهة بشأن العقل كقوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى) [طه، الآية: 128] أي العقول وقوله عز وجل: (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) [الفجر، الآية: 5] لذي عقل وقوله عز وجل: (وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة، الآية: 197] وقوله سبحانه وتعالى: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) [الأنفال، الآية: 22] فإن الله سبحانه وتعالى مدح وأثنى على ذوي العقول وبالعكس ذم غيرهم ممن لا يسمع أو يعقل في قوله تعالى عن أهل النار: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك، الآية: 10] (1) . [وسيأتي بيان ذلك كله عند حديثنا عن طرق القرآن] . الواجب إذن أن يجعل ما أنزل الله من الكتاب والحكمة أصلاً في جميع أصول الدين فإن القرآن جعله الله تعالى شفاء لما في الصدور. ومن هنا عارض كافة البدع التي يعارض بها الكتاب والسنة التي يسميها أهلها كلاميات وعقليات وفلسفات أو ذوقيات ووجدانات وحقائق وغير ذلك لأنها لا بد أن تشتمل على لبس حق بباطل وكتمان حق. ويعلل ابن تيمية ظهور البدع الكلامية والصوفية والفلسفية بسببين أحدهما ذاتي والآخر خارجي: الأول: ابتداع ألفاظ ومعاني جعلوها هي الأصل المعقول المحكم وساروا في طريق التأويل تبعاً لما اعتقدوه صحيحًا وفقًا لأحكامهم العقلية. الخارجي: وموجزه: أنه قد تخفى آثار الرسالة في بعض الأمكنة والأزمنة؟ حتى لا يعرفون ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإما أن لا يعرفوا اللفظ وإما أن يعرفوا

_ (1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ج 10 ص 435 - 436.

اللفظ ولا يعرفون معناه. أما طريقة القرآن الحكيم في الجدل فقد تضمنتها الآية الكريمة في قوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل: 125] حيث أنها راعت حال المخاطبين حسب أحوالهم لأن الإنسان له ثلاثة أحوال: إما أن يعرف الحق ويعمل به فيدعى بالحكمة، وإما أن يعرفه ولا يعمل به، إذ تخالفه نفسه فهذا يوعظ الموعظة الحسنة، فهذان هما الطريقان - الحكمة والموعظة. وعامة الناس يحتاجون إلى هذا وهذا؟ فإن النفس لها هوى يدعوها إلى خلاف الحق وإن عرفته فالناس يحتاجون إلى الموعظة الحسنة وإلى الحكمة؟ فلا بد من الدعوة بهذا وهذا. ولكن النوع الثالث من الناس لا يعرف الحق فحسب بل يعارضه. ولهذا فلا يدعى بالجدل، بل هو من باب دفع الصائل، فإذا عارض الحق معارض، جودل بالتي هي أحسن ولهذا قال: (جَادِلْهُمْ) ، فجعله فعلاً مأمورا به مع قوله: (ادعهم) فأمره بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وأمره أن يجادل بالتي هي أحسن ولم يقل: بالحسنة كما قال في الموعظة لأن الجدال فيه مدافعة ومغاضبة؛ فيحتاج أن يكون بالتي هي أحسن؛ حتى يصلح ما فيه من الممانعة والمدافعة. وهكذا فإن مقصود القرآن بيان الحق ودعوة العباد إليه لا الجدال بغير علم، فهذا مما ذمه الله تعالى بقوله: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) [آل عمران: 66] . كذلك من سمات منهجه - الاكتفاء بالقرآن والسنة - ففيهما بيان كافة ما يحتاج إليه الإنسان في معرفة الدين وتنظيم المعاش في الدنيا، واستلزم منه هذا التصور أن يجمع في مؤلفاته بين المباحث التي شغلت المتكلمين والفلاسفة والصوفية، فأخذ يناقش كل طائفة مستدلاً على صحة أقواله بالآيات والأحاديث، مثبتًا أن في هذين المصدرين وحدهما كافة ما يحتاج إليه من معارف في أمور الدين، وأنهما يعبران عن ذاتية الإسلام في مواجهة كل الآراء والنظريات والفلسفات التي ابتدعها البشر، على اختلاف طرقهم في البحث والاستدلال.

قال شيخ الإسلام في هذا الصدد: (ومن تأمل ما تكلم به الأولون والآخرون في أصول الدين والعلوم الإلهية وأمور المعاد والنبوات والأخلاق والسياسات والعبادات وسائر ما فيه كمال النفوس وصلاحها وسعادتها ونجاتها، لم يجد عند الأولين والآخرين من أهل النبوات ومن أهل الرأي كالمتفلسفة وغيرهم إلا بعض ما جاء به القرآن. ولهذا لم تحتج الأمة مع رسولها وكتابها إلى نبي آخر وكتاب آخر، فضلاً عن أن تحتاج إلى شيء لا يستقل بنفسه بل بغيره، سواء كان من علم المحدثين والملهمين، أو من أرباب النظر والقياس الذين لا يعتصمون مع ذلك بكتاب منزل من السماء) (1) . وسنعرض فيما يلي بالترتيب لتفاصيل منهج شيخ الإسلام الذي برهن به على ضرورة الاكتفاء بطرق القرآن وأدلته العقلية اليقينية المتفقة مع الفطرة الإنسانية. وكانت عناية الشيخ الفائقة متجهة إلى هدم المنطق الأرسططاليسي واستبعاده ونقض حدوده وقضاياه كما سيأتي. وكان يحاول أيضًا التقريب بين وجهات النظر، ما دامت الأصول المتفق عليها واحدة، إذ بالرغم من الخصومات العنيفة الحادثة بين الفرق والمذاهب في عصر شيخ الإسلام، فإنه حاول التقريب بين الاتجاهات المتقاربة إذ وجد مواضيع الالتقاء كثيرة، وأظهر الاتفاق في الأصول وأغضى عن الخلافات في دقائق المسائل التي تخفى على الكثير فإن الكلام في مسألة الكلام حير عقول أكثر الأنام ودوافعه في ذلك أن الله تعالى أمرنا بالجماعة والائتلاف ونهانا عن الفرقة والاختلاف، فقال لنا في القرآن: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) [آل عمران: 103] . وقال: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) [الأنعام: 159] . وقال: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) [آل عمران: 105] .

_ (1) ابن تيمية: جواب أهل العلم والإيمان ص 44 - 45 ط - دار الكتب العلمية بيروت 1394 هـ - 1974 م.

هدم المنطق الأرسططاليسي وإعلاء الميزان القرآني

وكان يبرز أمام مخالفيه الأصول الكبار المتفق عليها فيذكرهم بأن ربنا واحد وكتابنا واحد ونبينا - صلى الله عليه وسلم - واحد، وأصول الدين لا تحتمل التفرق والاختلاف (1) . وفي إحدى مرات النقاش والجدل قال لمخالفيه: لا شك أن الناس يتنازعون، يقول هذا: (أنا حنبلي) ، ويقول هذا: (أنا أشعري) ويجري بينهم تفرق وفتن واختلاف على أمور لا يعرفون حقيقتها. ثم شجب هذا الاختلاف والتفرق آتيًا بما يثبت اعتناق الأشعري بعد رجوعه من الاعتزال عقيدة الإمام أحمد بن حنبل، مؤيدًا ذلك لما أعلنه أبو الحسن الأشعري نفسه في كتابه (الإبانة) وما حكاه عنه ابن عساكر في كتابه (تبيين كذب المفتري فيما ينسب إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري) . وقال: وأنا قد أحضرت ما يبين اتفاق المذاهب فيما ذكرته، ولم يصنف في أخبار الأشعري المحمودة كتاب مثل هذا، وقد ذكر فيه لفظه الذي ذكره في (الإبانة) (2) . هدم المنطق الأرسططاليسي وإعلاء الميزان القرآني: لعل من أبرز معالم منهج شيخ الإسلام ابن تيمية هو هدمه للمنطق الأرسططاليسي وتقويضه من أساسه، فقدم بذلك خدمة لا تقدر - لا للعقيدة والفكر الإسلامي فحسب - بل أسهم في انتشال فلسفة أوروبا وحضارتها من عقم المنطق الصوري وعرقلته للعقل البشري، إلى المنهج الحقيقي الوحيد الصحيح للتقدم العلمي والمعارف الصحيحة ألا وهو المنهج التجريبي. ويرى أستاذنا الدكتور النشار - رحمه الله - أنه ليس هناك في الحقيقة من تكلم - فيما قبل العصور الحديثة - بما تكلم به ابن تيمية. لقد وصل إلى أوج الدرج في فلسفة المنهج التجريبي، بنقده للمنطق اليوناني القياسي وبدعوته إلى المنطق الإسلامي التجريبي وعبر عن روح الحضارة الإسلامية الحقة. ويضيف إلى ذلك رأي الشيخ مصطفى عبد الرازق بقوله: (إن الدراسات المنطقية لو سارت منذ عهد ابن تيمية على نهجه في النقد، بدل الشرح والتعمق،

_ (1) ابن تيمية: شرح العقيدة الأصفهانية ص 63. (2) أبو المعالي محمود شكري الألوسي: غاية الأماني في الرد على النبهاني ج 1 ص 289.

لكنا بلغنا بها من الرقي مبلغًا عظيمًا) (1) . وقد نقد ابن تيمية بشدة المنادين بتطبيق المنطق الأرسططاليسي والمعجبين به في العالم الإسلامي؛ باعتباره القانون الذي يعصم الذهن من الوقوع في الخطأ، وأظهر بكتاباته ومناقشاته العميقة لحدود هذا المنطق وطرق استدلالاته، أظهر أنه لا يجوز لعاقل أن يظن أن الميزان العقلي الذي أنزله الله هو منطق اليونان للأسباب الآتية: أولاً: إن الله - تعالى - أنزل الموازين مع كتبه قبل أن يخلق اليونان، في عهد نوح وإبراهيم وموسى عليهم السلام وغيرهم، وهذا المنطق اليوناني وضعه أرسطو قبل المسيح بثلاثمائة سنة فقط، فكيف كانت الأمم المتقدمة تزن به؟ ويثبت بذلك أن الله تعالى خاطب الأمم بالميزان العقلي، فإن الوحي المنزل قائم على أدلة العقول (2) . ولما كان القرآن الكريم هو الكتاب الإلهي الأخير للبشرية، قد عظم من شأن العقل، وجعله أساساً للتكليف، فإن مسلوب العقل أو المجنون غير مكلّف، وقد رُفع عنه العقاب، ولا يصح إيمانه ولا صلاته ولا صيامه ولا شيء من أعماله، فإن الأعمال كلها لا تقبل إلا مع العقل؛ فمن لا عقل له لا يصح شيء من عباداته - لا فرائضه ولا نوافله - ومن لا فريضة له ولا نافلة ليس من أولياء الله تعالى. ولهذا قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى) [سورة طه: آية: 128] أي: العقول وقال تعالى: (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) [سورة الفجر: آية: 5] أي: لذي عقل؟ وقال تعالى: (وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [سورة البقرة: آية: 197] وقال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [يوسف، الآية: 2] . ويتضح من آيات قرآنية أخرى أن الله تعالى قد مدح وأثنى على من كان له عقل فأما من لا يعقل فإن الله لم يحمده ولم يثن عليه ولم يذكره بخير قط، بل قال تعالى عن أهل النار: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) وقال (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) [الأنفال: 22]

_ (1) د. علي سامي النشار: مناهج البحث لدى مفكري الإسلام. واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي ص 289، 303 دار المعارف 1965 م. (2) السيوطي: صون المنطق ج 2 ص 1557.

وقال سبحانه: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الأعراف، الآية: 179] وَقال: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) [الفرقان، الآية: 44] (1) . ثانيًا: كان السلف من هذه الأمة يستخدمون الموازين العقلية التي بينها القرآن الكريم ولم يلجأ أحد منهم إلى المنطق اليوناني الذي لم يعرف في العالم الإسلامي إلا بعد الترجمة في عهد دولة المأمون أو قريبًا منه. وقد لجأ ابن تيمية لاستخلاص طرق الحجاج العقلي من القرآن الحكيم مستندًا إلى مواقف الرسل والأنبياء عليهم السلام مع الكافرين، فقد ذكر الله تعالى في كثير من السور القرآنية المناقشات التي دارت بين الملوك والعلماء التابعين لهم من ناحية والرسل من جهة أخرى، ولذلك فقد أعلمنا القرآن بما دار مع المعاندين، فذكر في كتابه في غير موضع قصص فرعون والذي حاج إبراهيم في ربه لما آتاه الله الملك، والملأ من قوم نوح وعاد وغيرهم من المتكبرين المكذبين للرسل، أخبرنا بردود علمائهم، كقول الله تعالى: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ) [غافر، الآيات: 83 - 85] (2) . وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (كل سلطان في القرآن فهو حجة) وقد قصت لنا سورة (غافر) أحوال مخالفي الرسل من الملوك والعلماء، مثل: أقوال الفلاسفة وعلمائهم ومجادلتهم واستكبارهم مما يشكل عبرة لمن أتى بعدهم. وكذلك في سورة الأنعام وعامة السور المكية وطائفة من السور المدنية، فإنها تشتمل على خطاب هؤلاء وضرب الأمثال والمقاييس لهم، وذكر قصصهم وقصص

_ (1) ابن تيمية: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية المجلد العاشر ط الرياض ص 435. (2) السيوطي: صون المنطق ج 2 ص 157 - 158.

الأنبياء وأتباعهم معهم، فقال سبحانه: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [الأحقاف، الآية: 26] (1) . فكيف يعقل أن يترك المسلمون هذه الحجج العقلية ويلجأون إلى منطق اليونان؟ لقد أغناهم الله عز وجل بالميزان التي أنزلها مع الكتاب حيث قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) [الشورى: 17] وقال عز وجل: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ) [الحديد: 25] وهي ميزان عادلة تتضمن اعتبار الشيء بمثله وخلافه، فيسوي بين المتماثلين ويفرّق بين المختلفين بما جعله الله في فطر عباده وعقولهم من معرفة التماثل والاختلاف. ويضاف إلى القرآن الحديث أيضًا، وبهما تتبين الحقائق بالمقاييس العقلية والأمثال المضروبة، ويتبين طريق التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين، ويتبين الإنكار على من يخرج عن ذلك، كقوله تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) [الجاثية، الآية: 21] وقوله سبحانه وتعالى: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [القلم، الآية: 35، 36] (2) . إذن مما تقدم يتبين أن حجج القرآن وأدلته ميسرة مفهومة للناس وفقًا للفطرة التي فطرهم الله تعالى عليها، وبها يعرفون ويستدلون. ويقتضي التوضيح إلمامنا أولاً بنظرية ابن تيمية في المعرفة ثم بيان طرق البراهين التي استقرأها من القرآن الكريم وهي على الترتيب: 1 - الميزان القرآني. 2 - قياس الأولى (على وزن الأعلى) . 3 - دليلا اللزوم والاعتبار.

_ (1) فتاوى ابن تيمية ج 9 ص 38 - 39. (2) ابن تيمية: الرد على المنطقيين ص 382 - 383.

الفطرة الإنسانية وطرق المعرفة

أولا: نظرية ابن تيمية في المعرفة الفطرة الإنسانية وطرق المعرفة: لا يمكن فهم عملية المعرفة الإنسانية إلا بالنظر إلى الإنسان ومكوناته، ذلك أن تضخيم أحد جوانبه على الجوانب الأخرى يؤدي إلى أخطاء في التصورات ناشئ عن انحراف الفهم. ويعد تعريف ابن تيمية للإنسان مدخلاً للنظر إلى تفسير كيف تتم عملية المعرفة، لأن الاختلاف الأساسي في رأيه بين الفلاسفة والمتكلمين من ناحية والصوفية والفقهاء من ناحية أخرى يرجع إلى تجزئة القدرات الإنسانية وعدم التصور الصحيح للإنسان كما خلقه الله تعالى. ومن ثم فإن الإسلام جاء مخاطبًا الفطرة الإنسانية كما خلقها الله تعالى باعتبار أن الإنسان حي حساس متحرك بالإرادة - أو أنه علم وعمل، عقيدة وعبادة، معرفة وسلوك، فأثبت ابن تيمية أن الإسلام جاء موافقًا لهذه الثنائية في خلقه الإنسان، فيعلمه بكل ما هو حق ويأمره باتباع المعروف، ويلفت أنظاره إلى الآيات الكثيرة الدالة على وجود الله عز وجل، وعلى حكمته وعدله ورحمته وقدرته وسائر الصفات والأسماء الكاملة له سبحانه، كما أنه لا يأمره إلاّ بالمعروف، ولا ينهاه إلا عن المنكر. ويهتم ابن تيمية ببيان الصلة التي ينبغي أن تكون بين العبد وربه حتى تستقيم الحياة ويسعد الإنسان فيقول: (أما النفس فإن لها قوة الإرادة مع الشعور وهما متلازمان، والنفس تتقوم بمرادها، وهو المعبود، والله سبحانه هو المقصود المعبود وحده لا بمجرد ما تشعر به) (1) . ويستند ابن تيمية إلى النصوص يفسرها ويشرحها، فالإنسان قد سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله (أصدق الأسماء حارث وهمام) فهو دائمًا يهم ويعمل ولكنه لا يعمل إلا ما يرجو نفعه أو يدفع مضرته. وينطبق ذلك الوصف على من صحت فطرته، فالفطرة السليمة تعرف الحق وتحبه وتطمئن إليه وتكذب بالباطل وتبغضه وتنكره، كما قال تعالى: (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) [الأعراف، الآية: 157] (2) .

_ (1) ابن تيمية: النبوات ص 90 - 91. (2) ابن تيمية: نقض المنطق ص 29.

ولكن المشاهد في أحوال كثيرة أن من الناس من يعلم أن شيئًا يضره ومع ذلك يفعله، ويعلم أن شيئًا ينفعه ومع ذلك يتركه، فما تعليل ذلك؟ ويرى شيخ الإسلام أن ذلك عارض ما في نفسه من طلب لذة أخرى أو دفع ألم آخر، فأصبح جاهلاً، حيث قدم هذا على ذلك ولهذا قال أبو العالية (متوفى 90 هـ) (وهو من كبار التابعين) سألت أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - عن قوله تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) [النساء، الآية: 17] (1) فقالوا: كل من عصى الله فهو جاهل، وكل من تاب من قبل الموت فقد تاب من قريب. وإذا عدنا إلى مبدأ الثنائية في خلق الإنسان، وعرفنا حقيقة العداء بينه وبين الشيطان، استطعنا الوقوف على أسباب أخرى للمفاسد والمعاصي لأنّ مبدأ العلم الحق والإرادة الصالحة من لمة الملك، ومبدأ الاعتقاد الباطل والإرادة الفاسدة من لمة الشيطان، وذلك تفسير قول الله تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا) [البقرة، الآية: 268] وقال تعالى أيضًا: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) [آل عمران، الآية: 175] أي يخوفكم أولياؤه. الأصل إذن أن الله تعالى خلق عباده على الفطرة التي إن تركت على سجيتها عرفت الحق وعملت به - لأنها جُلبت على الصحة في الإدراك وفي الحركة (2) لذلك يأتي دور الرسل عليهم السلام بتكميل الفطرة الإنسانية لا بتغييرها. قال تعالى (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) [فصلت، الآية: 53] وهذا التطابق والتوافق بين آيات الله تعالى في الآفاق والأنفس يأتي متطابقًا مع الآيات القرآنية السمعية (لأن القرآن الذي أخبر به عباده حق، فتتطابق الدلالة البرهانية القرآنية والبرهانية العيانية ويتصادق موجب الشرع المنقول والنظر المعقول) . ومما يساعد الإنسان في الوصول إلى معرفة الحق أن يهتدي بالطرق العقلية التي استخدمها القرآن الكريم والتوافق بين آيات الله تعالى في الآفاق وفي الأنفس - أي

_ (1) ابن تيمية: نقض المنطق ص 29 - 30. (2) ابن تيمية: منهاج السنة ج 1 ص 83 والنبوات ص 303.

العيانية والعقلية وكذلك السمعية. وينقد ابن تيمية الفلاسفة القائلين بأن العبادات التي أمرت بها الرسل مقصودها إصلاح النفس لتستعد للعلم الإلهي وهي الحكمة النظرية في تعريفهم الذي زعموا أنه كمال النفس، أو مقصودها إصلاح المنزل والمدينة أي الحكمة العملية. ويظهر تميز ابن تيمية في نقده للمناطقة والفلاسفة عندما يربط في مناقشاته لهم بين العلم الإلهي عندهم وعند المسلمين - فالعلم بالله هو (العلم الأعلى) ويتحقق هذا العلم على الوجه الصحيح باكتمال ناحيته النظرية والعملية، ولا يقتصر الأمر على أن النفس تكمل بمجرد العلم به فقط كما زعموه، لأن النفس لها قوتان: قوة علمية نظرية، وقوة إرادية عملية، فلا بد لها من كمال القوتين بمعرفة الله تعالى، وعبادته. وبناء على هذا التفسير يسقط زعم الفلاسفة ويقصد ابن سينا خاصة - بأن العبادات التي أمرت بها الرسل مقصودها إصلاح أخلاق النفس لتستعد للعلم الذي زعموا أنه كمال النفس، فيجعلون العبادات وسيلة محضة إلى ما يدعونه من العلم (ولهذا يرون ذلك ساقطًا عمن حصل المقصود، كما تفعل الملاحدة الإسماعيلية، ومن دخل في الإلحاد أو بعضه، وانتسب إلى الصوفية، أو المتكلمين، أو الشيعة، أو غيرهم) (1) . ويبدع ابن تيمية في تحليله لمكونات النفس الإنسانية واشتمالها على القوة العلمية والقوة الإرادية العملية لكي يعطي العبادات مكانتها الصحيحة ودورها الفعال في العلاقة بين الإنسان وربه، فإن عبادته - سبحانه وتعالى - تجمع بين محبته والذل له. تتميز إذن نظرية ابن تيمية بنظرة شمولية جامعة، فالنفس لها قوة نظرية علمية، وقوة إرادة عملية، وهي مفطورة على معرفة الله عز وجل كذلك تعرف المعروف وتنكر المنكر ويؤيدها الملك بالعلم الحق والإرادة الصالحة، بينما الاعتقاد الباطل والإرادة الفاسدة من هواتف الشيطان.

_ (1) ابن تيمية: الرد على المنطقيين ص 145.

الهدى والبينات

وإزاء هذا التصور للإنسان ومكوناته ودوافعه النفسية، لا تكفي المعرفة؛ لأنها تتصل فقط بالقوة النظرية العلمية، بل لكي يقف الإنسان على قدميه مقاومًا الأهواء وهواتف الشيطان ومعوقات سيره نحو الله - تعالى - لا بد له من عبادة الله وحده لا شريك له (والعبادة تجمع معرفته، ومحبته والعبودية له. وبهذا بعث الله الرسل، وأنزل الكتب الإلهية: كلها تدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له) (1) . وبهذا يتبين انحراف قول الجهمية، بأن الإيمان مجرد معرفة الله ففصلوا بين علم النفس وبين إرادتها وجعلوا الكمال في نفس العلم وإن لم يصدقه قول ولا عمل، ولا اقترن مع الخشية، والمحبة، والتعظيم وغير ذلك من أصول الإيمان ولوازمه (2) . الهدى والبينات: تحدثنا من قبل عن نقد ابن تيمية للمتكلمين لا سيما في ظنهم بأن الصحابة لم يكونوا أهل نظر، واستخدامهم لأساليب كلامية بدعية مخالفة لأساليب القرآن في النظر والاستدلال العقلي. بينما استدل القرآن الحكيم بالهدى والبيان والأدلة والبراهين وهي تغني عن مناهج النظر التي أسسها أهل الكلام، فإن الله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وأرسله بالآيات البينات، ومن الممتنع أن يرسل الله رسولاً يأمر الناس بتصديقه ولا يكون هناك ما يعرفون به صدقه. وقال تعالي: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) [البقرة: 159] . ويفصل ابن تيمية المعاني القرآنية لكلمات البينات والهدى والفرقان كما يلي: أ - فإن البينات جمع "بينة" وهي: الأدلة والبراهين التي هي بينة في نفسها أي:

_ (1) ابن تيمية - الرد على المنطقيين ص 144 - 145. (2) ويلحظ الباحث أن ابن تيمية يشتد في خصومته للجهمية ويحملهم مسؤولية الانحرافات كلها وأنهم أصل البلاء الذي حدث بتفرق المسلمين شيعًا وأحزابًا ويصفهم بقوله فهؤلاء الجهمية من أعظم مبتدعة المسلمين، بل جعلهم غير واحد خارجين عن الثنتين وسبعين فرقة، كما يروى ذلك عن عبد الله بن المبارك، ويوسف بن أسباط (الرد على المنطقيين ص 146) .

بديهيات، وأوليات وضروريات وكلها ألفاظ مترادفة تطلق منهجيًا على القواعد الأساسية للمعارف والعلوم، وبها يتبين غيرها، يقال: بين الأمر أي تبين في نفسه ويقال بين غيره، فالبين: اسم لما ظهر في نفسه ولما أظهر غيره، وكذلك المبين كقوله فاحشة مبينة أي: متبينة. ومقدمات الأدلة تكون معلومة بنفسها كالمقدمات الحسية والبديهية، وبها يتبين غيرها فيستدل على الخفي بالجلي والهدى أيضًا هو بيان ما ينتفع به الناس ويحتاجون إليه وهو ضد الضلالة، فالضال يضل عن مقصوده وطريق مقصوده وهو سبحانه عرفهم أن الله هو المقصود المعبود وحده وأنه لا يجوز عبادة غيره. ويوضح الصلة بين البينات والهدى فيذكر أن البينات فيها بيان الأدلة والبراهين وعلى ذلك فليس ما يخبر به ويأمر به من الهدى قولاً مجردًا عن دليله ليؤخذ تقليدًا واتباعًا للظن، بل هو مبين بالآيات والبينات - وهي الأدلة اليقينية والبراهين القطعية. ثم يخطو خطوة أخرى فيذكر أن الهدى التام لا يكون إلا مع الفرقان، ولهذا قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [البقرة، الآية: 185] ، فالفرقان هو المفرق بين الحق والباطل والخير والشر والصدق والكذب والمأمور والمحظور والحلال والحرام، وأيضًا فإن الأدلة تشتبه كثيرًا بما يعارضها فلا بد من الفرق بين الدليل الدال على الحق وبين ما عارضه ليتبين أن الذي عارضه باطل، فالدليل يحصل به الهدى وبيان الحق لكن لا بد مع ذلك من الفرقان وهو الفرق بين ذلك الدليل وبين ما عارضه (1) . ويضرب الأمثلة على ما يقصده بالفرق بين الهدى والفرقان، فالهدى مثل أن يأمر بسلوك الطريق إلى الله كما يؤمر قاصد الحج بسلوك طريق مكة مع دليل يوصله، والبينات ما يدل ويبين أن ذلك هو الطريق وأن سالكه سالك للطريق لا ضال، والفرقان أن يفرق بين ذلك الطريق وغيره وبين الدليل الذي يسلكه ويدل الناس عليه وبين غيرهم ممن يدعي الدلالة وهو جاهل مضل. وهذا وأمثاله مما يبين

_ (1) ابن تيمية: النبوات، ص 162.

مواقفه إزاء القضايا الكلامية

أن في القرآن الأدلة الدالة للناس على تحقيق ما فيه من الأخبار والأوامر كثيرة (1) . والله - سبحانه - أنزل في كتبه البينات والهدى، فمن تصور الشيء على وجهه فقد اهتدى إليه، ومن عرف دليل قبوله فقد عرف البينات، فالتصور الصحيح اهتداء وهو سبحانه - إذا ذكر الأنبياء - نبينا وغيره - ذكر أنه أرسلهم بالآيات البينات وهي الأدلة والبراهين البينة المعلومة علمًا يقينًا إذْ كان كلّ دليل لا بد أن ينتهي إلى مقدمات بينة بنفسها قد تسمى بديهيات وقد تسمى ضروريات وقد تسمى أوليات، وقد يقال هي معلومة بأنفسها، فالرسل صلوات الله عليهم بعثوا بالآيات البينات (2) . أيحتاج الناس بعد ذلك إلى أقيسة وأدلة المتكلمين والفلاسفة، إن الكتب المنزلة وآخرها القرآن الحكيم - كلها بذاتها - آيات بينة لأنها كلام الله تعالى أوحى به إلى أنبيائه ورسله، كذلك اتجه الوحي إلى مخاطبة الفطرة التي فطر الناس عليها، ومنها تمييزها الموازين العقلية بين الحق والباطل إذا حافظت على فطرتها ولم تنصت إلى هواتف الشيطان أو تجنح مع هوى النفس. مواقفه إزاء القضايا الكلامية الصفات الإلهية: إن أهم المسائل التي أثارت الجدل بين ابن تيمية وخصومه المعاضرين هي صفات الله سبحانه وتعالى، فقد اختلفت أهم الفرق بين نفيها - كجهم بن صفوان والمعتزلة - أو الغلو في إثباتها فوقعوا في التشبيه والتجسيم - كالهشامية والكرامية وقلة من الحنابلة الذين يصفهم ابن تيمية بأنهم أتوا من المنكرات والإمام أحمد بريء منهم - أو اتخاذ الموقف الوسط كما فعل الأشاعرة الذين أثبتوا لله صفات سبعة هي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والكلام والسمع والبصر، وفرقوا بين صفات الذات وصفات الفعل، وعدوا صفات الفعل كالتنزيل والإتيان والخلق والرضى والغضب وغيرها من الحوادث التي ينبغي تنزيه الله عنها تبعًا للأصل (ما لا يخلو من الحوادث

_ (1) النبوات، ص 163. (2) نفس المصدر، ص 165.

فهو حادث) . وفي اعتراض ابن تيمية على المتكلمين، يرى أنهم أقاموا برهانهم على محاولة إثبات الصانع بإثبات حدوث الأجسام التي لا يثبت حدوثها إلا بحدوث ما يقوم بها من الصفات والأفعال فألجأهم هذا إلى نفي صفات الله تعالى وأفعاله القائمة به وظنوا بهذه المقدمة أنهم سيبطلون قول الدهرية، ولكن الدهرية - في رأي ابن تيمية - كانت حجتهم أقوى إذ قالوا: كيف يحدث الحادث بلا سبب حادث؟ ويستند منهج المتكلمين بعامة إلى قاعدة (ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث) وإن كان معتقدهم أن كل ما يرى وتقوم به الصفات فهو جسم، ومن قال: إنه جسم أراد أنه مركب من الأجزاء. ولكن ابن تيمية يرى أن هذا الطريق طويل ويؤدي إلى الوقوع في الخطأ أما الطريق الصحيح فهو إثبات صفات الكمال لله عز وجل، إذ يثبت له - تعالى - صفات الكمال المطلق ذاتًا وصفاتًا مستخدمًا قياس الأولى - أي إنه ما من صفة يثبت وجودها للمخلوق فإن إثباتها للخالق أولى، فضلاً عن ثبوت الصفات الإلهية بالسمع والعقل. وقد جاء الأنبياء جميعًا بإثبات هذه الصفات - بالتفصيل - أي بإثبات مفصل ونفي مجمل كقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى، الآية: 11] فعكس المتكلمون الآية وجاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل، والدليل وصف المعتزلة لله بأنه ليس كذا وليس كذا ... إلخ. ويستخلص ابن تيمية من مذاهب المتكلمين إلزامات يؤدي إليها السياق: فإن التوحيد عند المعتزلة - وهو في حقيقته نفي الصفات الإلهية - قول من أبطل الباطل عقلاً، لأنهم يسلمون بأن الله حي عليم قدير، ومن المعلوم أن حيًا بلا حياة وعليمًا بلا علم وقديرًا بلا قدرة يعبر عن موقف معاند للعقل والشرع واللغة، فإن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل، لا غيره. وكذلك الأمر بالنسبة للأشاعرة الذين أثبتوا صفات الذات وفروا من إثبات الأفعال، إذ لا يعقل أن يكون الموصوف حيًا عالمًا قادرًا متكلمًا رحيمًا مريدًا بحياة قامت بغيره ولا بعلم وقدرة قامت بغيره، ولا بكلام ورحمة وإرادة قامت بغيره والكلام بمشيئة المتكلم وقدرته أكمل ممن لا يكون بمشيئته وقدرته.

إثبات صفات الله تعالى وأفعاله بالأدلة العقلية

وفي تناوله لصفة الكلام لمشيئة الكلام بالذات التي أثارت أشد ألوان الجدل بين السلف والمعتزلة والأشاعرة، فإن ابن تيمية يثبت أن السلف قالوا: إن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء وكيف شاء لأن الكلام صفة كمال لا صفة نقص وإنما تكون صفة كمال إذا قام به لا يتصف بما هو بائن عنه، فبرهن على خطأ المعتزلة لقولهم بأن كلام الله مخلوق، واعتبر قول الأشاعرة بدعة، لأنهم ميزوا - تأثرًا بابن كلاب - بين الكلام النفسي وغيره. وعلينا بعد هذا البيان، الانتقال لمعالجة واحدة من أهم القضايا التي أثارت الخصومات ضد شيخ الإسلام، وألبت الخصوم عليه ورمته بسببها بتهمة التجسيم، وذلك توطئة لمناقشة هذه التهمة وتفنيدها فيما بعد: إثبات صفات الله تعالى وأفعاله بالأدلة العقلية: يثبت علماء السنة والحديث ما يقوم بالله تعالى من الصفات كالحياة والعلم والقدرة والإرادة والكلام والسمع والبصر كما يثبتون الأفعال التي يشاؤها ويقدر عليها كالخلق والإحياء والإماتة والاستواء وغير ذلك من الأفعال. ولا نزاع بين أهل السنة وغيرهم بطبيعة الحال أن أدلة السمع توافرت على إثبات هذه الصفات والأفعال، لكن الذين يخالفون دلالة السمع من المتكلمين يدعون أنها دلالة ظاهرة لا قاطعة، ويرون أن الدلالة العقلية القاطعة خالفتها. ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية فى شرح القواعد التي يستند إليها في الدلالة العقلية القاطعة التي يشجب بها رأي الفلاسفة الدهرية القائلين بقدم العالم وينقد بها أيضًا المتكلمين سواء المعتزلة الذين نفوا الصفات ونفوا الأفعال بالتأويل. قال شيخ الإسلام: معلوم بالسمع اتصاف الله تعالى بالأفعال الاختيارية، كالاستواء إلى السماء، والاستواء على العرش، والقبض، والطي، الإتيان، والمجيء، والنزول ونحو ذلك؛ بل الخلق، والإحياء والإماتة، فإن الله تعالى وصف نفسه بالأفعال اللازمة كالاستواء وبالأفعال المتعدية كالخلق، فإن الفعل لا بد له من فاعل، سواء كان فعله مقتصراً عليه أو متعديًا إلى غيره. والفعل المتعدي إلى غيره لا يتعدى

حتى يقوم بفاعله، إذ لا بد من الفاعل. وهذا معلوم سمعًا وعقلاً (1) . واستعان ابن تيمية في شرحه ببعض قواعد اللغة العربية التي يقرها الكافة ويعرفونها، فإن أهل اللغة التي نزل بها القرآن متفقون على أن الإنسان إذا قال: (قام فلان وقعد) أو قال: (أكل فلان الطعام وشرب الشراب) فإنه لا بد أن يكون في الفعل المتعدي إلى المفعول به ما في الفعل اللازم وزيادة. إذاً كلتا الجملتين فعلية، وكلتاهما فيه فعل وفاعل، الثانية امتازت بزيادة المفعول. فإذا وضعنا هذه القاعدة نصب أعيننا في التفسير لتبين لنا التفسير الواضح لمثل قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) [الحديد: 4] إذ تضمن فعلين: أولهما متعد لمفعول به، والثاني مقتصر لا يتعدى، فإذا كان الثاني - وهو قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى) فعلاً متعلقًا بالفاعل، فقوله: (خَلَقَ) كذلك، بلا نزاع بين أهل العربية. ويستكمل ابن تيمية الشرح من حيث الأدلة العقلية، فيوضح أن من جوز أن يقوم بذات الله تعالى فعل لازم له، كالاستواء والمجيء ونحو ذلك، لم يمكنه أن يمنع قيام فعل يتعلق بالمخلوق، كالخلق والبعث والإماتة والإحياء. كما أن من جوز أن تقوم به صفة لا تتعلق بالغير كالحياة، لم يمكنه أن يمنع قيام الصفات المتعلقة بالغير، كالعلم والقدرة والسمع والبصر. وينبغي أن نقرر أيضًا تبعًا لما نشاهده في الكون من مخلوقات حادثة، أن علم المخلوقات بأفعال الله تعالى الاختيارية القائمة بنفسه، وهذه الأفعال سبب حدوثها، والله تعالى حي قيوم لم يزل موصوفًا بأنه يتكلم بما يشاء. فعال لما يشاء. إذن يثبت بذلك خلق السموات والأرض بما جاء به الشرع، ولا يمكن القول بحدوث العالم إلاّ بإثبات الأفعال الإلهية لا - كما يزعم نفاة الأفعال الذين يزعمون أن العقل دل على نفيها فالعقل عند التحقيق يبطل النفي ويوافق الشرع، لأن نفي

_ (1) موافقة ج 2 ص 3.

الأفعال يؤدي إلى إنكار حدوث المخلوقات، بينما هي مشهورة مرئية لنا جميعًا، دالة بنفسها على خالق حكيم قدير. كذلك بالنظر إلى أفعال الله تعالى، يمكننا وضع القضية في الصيغة المنطقية الآتية: إن الله تعالى موصوف بصفات الكمال، منزه عن النقائص، وكل كمال وصف به المخلوق من غير استلزامه لنقص، فالخالق أحق به، وكل نقص ينزه عنه المخلوق فالخالق أحق بأن ينزه عنه، والفعل صفة كمال لا صفة نقص، كالكلام والقدرة، وعدم الفعل صفة نقص كعدم الكلام وعدم القدرة، فدل العقل على صحة ما دل عليه الشرع وزال الإشكال وهو المطلوب. ألا يدعو إلى الدهشة بعد هذا البيان وصف الشيخ بالتجسيم وتلفيق التهم إليه؟! ولكن إذا استرجعنا ترجمة حياته وعلمنا كثرة حساده وخصومه زالت دهشتنا. ونبادر الآن لنكمل عرض الطرق البرهانية القرآنية التي طرحها ابن تيمية بديلاً لطرق المتكلمين والفلاسفة، مع تفضيله لمنهج الأنبياء لأنه الأكمل، مبرهنًا أيضًا على صدق نبوة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -.

طرق البراهين القرآنية

ثانيًا: طرق البراهين القرآنية 1 - الميزان القرآني: ويرى ابن تيمية أن القياس الصحيح هو الميزان المنزل من الله تعالى الذي يستدل به العقل، فإن من أعظم صفات العقل معرفة التماثل والاختلاف، فإذا رأى الشيئين المتماثلين، علم أن هذا مثل هذا فجعل حكمهما واحدًا، قال الله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) [الشورى: 17] وقال سبحانه: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد: 25] وفسر السلف الميزان بالعدل وفسره بعضهم بما يوزن به، وهما متلازمان وقد أخبر أنه أنزل ذلك مع رسله كما أنزل معهم الكتاب ليقوم الناس بالقسط، ويبين أيضًا في موضع آخر أن القياس الصحيح هو من العدل الذي أنزله الله تعالى، وأنه لا يجوز أن يختلف الكتاب والميزان، فلا يختلف نص ثابت عن الرسل وقياس صحيح - لا قياس شرعي ولا عقلي، ولا يجوز قط أن الأدلة الصحيحة النقلية تخالف الأدلة الصحيحة العقلية وليس في الشريعة شيء على خلاف القياس الصحيح على خلاف القياس الفاسد (1) . وبعد عرض مسهب مقارن للأقيسة المنطقية والميزان القرآني، يقرر ابن تيمية أن الله تعالى يبين الحقائق بالمقاييس العقلية والأمثال المضروبة، ويبين طريق التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين (2) وينكر على من يخرج عن ذلك كقوله تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) [الجاثية: 21] وقوله سبحانه: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [القلم: 35، 36] أي هذا حكم جائر، لا عادل فإن فيه تسوية بين مختلفين. وقال عز وجل: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص الآية: 28] وقوله سبحانه: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ

_ (1) الرد على المنطقيين ص 317. (2) نفس المصدر ص 383.

تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا) [البقرة: 214] . وإذا سأل سائل: إذا كان هذا مما يعرف بالعقل، فكيف جعله الله تعالى مما أرسلت به الرسل؟ وهذا السؤال في غير موضعه لأن صاحبه يفترض أن العقل مباين للشرع، وأن ما يعلم بالعقل قسيمًا - أو مقابلا - للعلوم النبوية وبعبارة أخرى يجعل الأحكام العقلية منفصلة عن العلوم النبوية، فهذه نقلية سمعية وتلك عقلية برهانية. والإجابة على هذا السؤال سهلة يسيرة إذا قرأنا القرآن، حيث يتبين منه أن الرسل ضربت للناس الأمثال العقلية التي يعرفون بها التماثل والاختلاف، فإن الرسل خاطبت الناس بما يعرفونه، ودلت على ما يفهمونه بفطرتهم التي خلقهم الله بها، فليست العلوم النبوية إذن مقصورة على مجرد الخبر، كما يظنه أهل الكلام، بل الرسل - صلوات الله عليهم - بينت العلوم العقلية التي بها يتم دين الناس علمًا وعملاً، وضربت الأمثال، وذلك يظهر دور الرسل الذين جاءوا بتكميل الفطرة وإصلاحها، فكملت الفطرة بما نبهتها عليه وأرشدتها مما كانت الفطرة معرضة عنه لأسباب الغفلة، وكذلك تصلح الفطرة وتعيدها إلى طبيعتها إذا قيست بالآراء والأهواء الفاسدة، ويكون دور الرسل أيضًا إزالة ذلك الفساد وتذكير البشر ما كانت فطرتهم معرضة عنه (1) . وكانت طريقة السلف الصالح تتلخص في الاستدلال بالأدلة العقلية التي يحتاج إليها في العلم بما لا يقدر عليه المتكلمون بإتيانه، بل إن غاية ما يذكرونه قد جاء القرآن بخلاصته على أحسن وجه، وذلك كالأمثال المضروبة التي يذكرها الله تعالى في كتابه التي وصفها بقوله: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) [سورة الروم: آية 58] . ولا يمل ابن تيمية من تكرار وإعادة القول: بأن الأمثال المضروبة في القرآن الكريم هي الأقيسة العقلية، ويضيف إلى ذلك أنه يدخل فيها ما يسميه المناطقة براهين، وهو القياس المؤلف من المقدمات اليقينية، بل إن لفظ البرهان في اللغة أعم

_ (1) ابن تيمية - الرد على المنطقيين ص 382.

قياس الأولى

من ذلك، سمى الله تعالى آيتي موسى عليه السلام برهانين، فقال سبحانه: (فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ) [سورة القصص: 32] . 2 - قياس الأولى: (على وزن الأعلى) : ولعل أهم نقد لشيخ الإسلام ابن تيمية للقياس الأرسططاليسي أن هذا القياس إذا استخدم في الاستدلال على (واجب الوجود) تبارك وتعالى، لا يدل على ما يختص به، وإنما يدل على أمر مشترك كلي بينه وبين غيره؛ لأن قياس الشمول تستوي أفراده، والله تعالى ليس كمثله شيء. ولا يجتمع سبحانه، هو وغيره، تحت كلٍّ تستوي أفراده، وقد جعلوا الوجود المطلق موضوع الفلسفة الأولى. فإن وصفهم (للوجود) الذي هو موضوع العلم الإلهي عندهم هو الوجود المطلق الكلي، فإذا كان هذا هو (العلم الأعلى) عندهم، لم يكن العلم (الأعلى) عندهم علمًا بشيء موجود في الخارج، بل علمًا بأمر مشترك بين جميع الموجودات، وهو مسمى (الوجود) ، وذلك كمسمى (الشيء) ، و (الذات) ، و (الحقيقة) ، و (النفس) و (العين) ، و (الماهية) ونحوها من المعاني العامة. ويرى ابن تيمية أن العلم بهذا ليس هو علمًا بموجود في الخارج، لا بالخالق ولا بالمخلوق، وإنما هو علم بأمر مشترك كلي تشترك فيه الموجودات، لا يوجد إلا في

_ (1) ابن تيمية: موافقة صحيح المنقول ص 14 وجاء (تفسير الجلالين) (أدخل يدك اليمنى بمعنى الكف في جيبك - وهو طريق القميص وإخراجها (تخرج) بخلاف ما كانت عليه من الأدمة (بيضاء من غير سوء: برص، فأدخلها وأخرجها، تُضئ كشعاع الشمس، تغشي البصر (.. فذانك) بالتشديد والتخفيف أي: العصا واليد. والآية كاملة: (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) [سورة القصص: 32] . ويقول الأصفهاني: فالبرهان أوكد الدلالة وهو الذي يقتضي الصدق أبداً، لا محالة قال تعالى: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [سورة البقرة: 111] (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ) [سورة الأنبياء: 24] (قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) [سورة النساء، آية: 174] المفردات في غريب القرآن ص 45.

الذهن (1) . وهذا بخلاف (العلم الأعلى) عند المسلمين؛ فإنه العلم بالله - تعالى - الذي هو في نفسه أعلى من غيره من كل وجه. والعلم به أصل لكل علم ولاختصاص الله - تعالى - بصفات الكمال بالإطلاق، فقد استعمل الأنبياء - عليهم السلام - في الاستدلال عليه - تعالى - قياس الأولى (على وزن الأعلى) ، لإثبات أن كل ما ثبت لغيره من كمال فثبوته له بطريق الأولى وما تنزه عنه غيره من النقائص فتنزهه عنه بطريق الأولى. والآيات الكثيرة في القرآن في هذا الصدد تستند إلى قياس الأولى. قال تعالى: (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) [الروم: 28] . وقال تعالى: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [النحل: 57 - 60] . ويستخدم القرآن الكريم أيضًا قياس الأولى في بيان إمكان المعاد: (أ) فتارة يخبر عمن أماتهم ثم أحياهم، كما أخبر عن قوم موسى بقوله: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة الآية: 55، 56] . وكما أخبر عن المسيح عليه السلام أنه كان يحيي الموتى بإذن الله. وبنفس الطريقة أخبر عن أصحاب الكهف أنهم لبثوا نيامًا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا [الكهف: 25] وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) [الكهف: 21] . وقد ورد تفسير هذه الآية عن غير واحد من العلماء أن قضية البعث أثيرت في ذلك الزمان أيضًا فتنازع الناس حول حقيقته، هل هو بالأرواح فقط أم بالأرواح

_ (1) ابن تيمية - الرد على المنطقيين ص 130 - 131.

اللزوم والاعتبار

والأجساد؟ ولذلك أعثر الله تعالى هؤلاء على أهل الكهف، وعلموا أنهم بقوا نيامًا لا يأكلون ولا يشربون ثلاثمائة سنة شمسية وهي ثلاثمائة وتسع هلالية، فأعلمهم الله بذلك إمكان إعادة الأبدان (1) . (ب) وتارة يستدل القرآن الحكيم على البعث بالنشأة الأولى، وأن الإعادة أهون من الابتداء، كقوله تعالى: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يس: 78 - 79] وقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم: 27] . (جـ) وتارة يستدل على إمكان ذلك بخلق السموات والأرض، فإن خلقها أعظم من إعادة الإنسان، كقوله تعالى: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) [يس: 81] وقوله سبحانه: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأحقاف: 33] . (د) وتارة يستدل على إمكانه بخلق النبات، كقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الأعراف: 57] وقوله سبحانه: (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ) [فاطر: 9] . ومن طرق الميزان القرآني: اللزوم والاعتبار: نقد ابن تيمية كما تقدم القياس المنطقي الأرسططاليسي للوصول إلى إثبات أنه لا يفيد العلم، ولا يدعي شيخ الإسلام أن النقد نقده، ولكن يرجعه إلى نظار المسلمين فمع كثرة التعب، ليس فيه فائدة علمية بل كثيرًا ما يمكن علمه بدونه، ففيه تطويل كثير متعب فإنه متعب للأذهان مضيع للزمان، ويضرب مثالاً على ذلك

_ (1) ابن تيمية - الرد على المنطقيين ص 318 - 320.

بمن يريد مثلاً الوصول إلى مكة أو غيرها من البلاد فإذا سلك الطريق المستقيم المعروف وصل في مدة قريبة بسعي معتدل، ولكن إذا قيض له من يدور به طرقًا دائرية - ويسلك به مسالك منحرفة يتعب تعبًا كثيرًا حتى يصل إلى الطريق المستقيمة إن وصل. وإلا فقد يصل إلى غير المطلوب، فيعتقد اعتقادات فاسدة. وقد يعجز بسبب ما يحصل له من التعب والإعياء، فلا هو نال مطلوبه، ولا هو استراح. ويرى ويشارك ابن تيمية نظار المسلمين في وصف هذا القياس بأنه استعمال لطرق غير فطرية ويعذب النفوس بلا منفعة، كما أن القياس الأرسطي لا يفيد إلا بأمور كلية، لا يفيد العلم بشيء معين من الموجودات، بل الأيسر والأبين العلم بالمعينات لا الكليات (1) . هذا القياس الذي لا يتضمن إلا شكل الدليل وصورته لأن الكليات تقع في النفوس بعد معرفة الجزئيات المعينة، أي أن النظريات العلمية العامة لا يتوصل إليها إلا بعد معرفة الجزئيات في العلوم المختلفة والتوصل منها إلى استنباط القانون العام الذي ينتظمها جميعًا (ومن تدبر جميع ما يتكلم فيه الناس من الكليات المعلومة في الطب والحساب والطبيعيات والتجارات وغير ذلك وجد الأمر كذلك) (2) . ويستنتج من ذلك أن قياس التمثيل أقوى وأكثر يقينًا من قياس الشمول لأنه بالأول يصل إلى المفردات المعينة للقضية الكلية، ومن أعظم صفات العقل معرفة التماثل والاختلاف، أي قياس الطرد وقياس العكس، وهو ما استخدمه القرآن الكريم بهدف الاعتبار. الاعتبار (3) : ويمضي ابن تيمية في الاستشهاد بالآيات القرآنية الدالة على ذلك، فإن ما أمر

_ (1) ابن تيمية: الرد على المنطقيين ص 248 - 252. (2) السيوطي: صون المنطق ج 2. ص 155. (3) ومعنى الاعتبار (العبور) بالفكر في المخلوقات إلى قدرة الخالق، فيسبّح عند ذلك ويقدّس ويعظّم، وتصير حركاته باليدين والرجلين كلها لله تعالى، ولا يمشي فيما لا يعنيه ولا يفعل بيده شيئاً عبثاً، بل تكون حركاته وسكناته لله تعالى، فيثاب على ذلك في حركاته وسكناته وفي سائر أفعاله. (شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن والثلاثون) من عادى لي وليًا ...

الله به من الاعتبار في كتابه يتناول قياس الطرد وقياس العكس، قال تعالى: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء، الآية: 105] وقال سبحانه: (كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء، الآية: 123] فإنه لما أهلك المكذبين للرسل بتكذيبهم، كان من الاعتبار أن يعلم أن من فعل مثل ما فعلوا أصابه مثل ما أصابهم فيبقى تكذيب الرسل سببًا للعقوبة، وهذا قياس الطرد. كما يعلم أن من لم يكذب الرسل لا يصيبه ذلك، وهذا قياس العكس، وهو المقصود من الاعتبار بالمكذبين والاعتبار يكون بهذا وبهذا، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) [يوسف: 111] وقال: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا) إلى قوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) [آل عمران: 13] (1) . ولهذا المدلول يرى ابن تيمية أن كثرة الإشارة إلى قصة موسى - عليه السلام - وفرعون في القرآن الكريم يرجع إلى الاعتبار في كل مرة تذكر فيها. إنه ينكر فكرة (التكرار) في القرآن. لأن المقصود من إعادة القصة في سور وآيات متعددة هو توضيح عبرة جديدة لم يشر إليها في موضع آخر من الكتاب. ومن هنا فليس في القرآن تكرار أصلا. أما أهمية قصة موسى وفرعون فترجع إلى أنهما في طرفي نقيض في الحق والباطل فإن موسى عليه السلام بلغ الغاية القصوى من الإيمان وكلمه الله سبحانه تكليمًا بلا حجاب، بينما كفر فرعون بالربوبية وبالرسالة، وكان موقفه أشد إنكارًا من باقي المخالفين للرسل لأن أكثرهم لا يجحدون وجود الله (وربما يقصد هنا أنهم يشركون) كذلك لم يكن للرسل من التكليم لرب العالمين. فصارت قصة موسى وفرعون أعظم القصص وأعظمها اعتباراً لأصل الإيمان ولأصل الكفر، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقص على - أمته عامة - عن بني إسرائيل، وكان يتأسى بموسى في أمور كثيرة، ولما بشر بقتل أبي جهل يوم بدر قال: (هذا فرعون هذه الأمة) (2) .

_ (1) صون المنطق. ج 2 ص 156. (2) فتاوى ابن تيمية: ج 12. ص 9.

اللزوم: ويرى ابن تيمية أن الحقيقة المعتبرة في كل دليل هو (اللزوم) ، فمن عرف أن هذا لازم لهذا استدل بالملزوم على اللازم بغير ذكر لفظ اللازم ولا تصور معنى هذا اللفظ لأن الإنسان بفطرته السوية يعرف أن كل شيء مصنوع لا بد له من صانع وكثيرًا ما يستخدم الناس أمثال هذه القضية بقولهم: (إن كذا لابد له من كذا أو إنه إذا كان كذا كان كذا) وبغير استخدام لفظ (اللزوم) فإن الصياغة نفسها تتضمن العلم باللزوم باعتباره حقيقة معتبرة. كذلك الأمر في المخلوقات، فان كل ما في الوجود فهو آية لله تعالى، مفتقر إليه محتاج إليه، لا بد له منه، فيلزم من وجوده وجود الصانع. والآية القرآنية الآتية واضحة الدلالة على معنى اللزوم قال تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) [الطور: 35] وفي الصحيحين عن جبير بن مطعم أنه لما قدم في فداء الأسرى عام بدر سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بسورة الطور قال فلما سمعت قوله تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) أحسست بفؤادي يتصدع. ولا شك أن للآية تقسيمًا حاصرًا بين أمرين لا ثالث لهما، فهل خلقوا من غير خالق خلقهم؟ فهذا ممتنع بالبداهة، أم خلقوا أنفسهم؟ فهذا أشد امتناعًا. فعلموا أن لهم خالقًا خلقهم، وهو سبحانه وتعالى. ويمضى ابن تيمية في شرح الاستدلال العقلي في هذه الآية بقوله: (ذكر الدليل بصيغة استفهام الإنكاري ليبين أن هذه القضية التي استدل بها فطرية، بديهية، مستقرة في النفوس، لا يمكن إنكارها. فلا يمكن لصحيح الفطرة أن يدعي وجود حادث بدون محدث أحدثه، ولا يمكنه أن يقول هو أحدث نفسه) (1) . النبوة: استوعب ابن تيمية آراء السابقين عليه في موضوع النبوة والبرهنة عليها، وقد

_ (1) ابن تيمية - الرد على المنطقيين ص 252، والسيوطي - صون المنطق ب 2 ص 130 - 131.

تدخل في المواد التي قرأها فأضاف إليها وعدل بعضها، لأنه لم يوافق على ما كتبه الرازي - وهو أقرب المتكلمين إليه زمنًا. ويقوم برهانه على إثبات النبوة بعامة ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومجيئه بالقرآن عند أهل الأرض وتواتر معجزاته وأخباره. ويستدل أيضًا على نبوته بنسبه المنتمي إلى سلالة إبراهيم الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب، فلم يأت نبي من بعد إبراهيم إلا من ذريته، وجعل له ابنين إسماعيل وإسحاق، وذكر في التوراة هذا وهذا وهو من قريش صفوة بني إبراهيم. وأيضًا يستند إلى سيرته وآياته وأخلاقه وشريعته من حين ولد إلى أن بعث ومن حيث بعث إلى أن مات وبتدبر نسبه وبلده وأصله. فإذا قارن بين تواتر أخبار الفلاسفة وأخبار الأنبياء، رجح أخبار الأنبياء كموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم لأن أنباءهم معلومة عند الناس من تواتر وجود أولئك فضلاً عن تواتر ما يخبرون به، ولهذا صار ظهور الأنبياء مما تؤرخ به الحوادث في العالم لظهور أمرهم عند الخاصة والعامة، فإن التاريخ يكون بالحادث المشهور الذي يشترك الناس فيه ليعرفوا به كم مضى قبله وبعده. كما يفضلون من حيث أساليبهم في الإقناع والدعوة، فيأمرون البشر بما فيه صلاحهم وينهونهم عما فيه فسادهم، ولا يشغلونهم بالكلام في أسباب الكائنات كما يفعل الفلاسفة، فإن هذا الأسلوب كثير التعب قليل الفائدة أو موجب للضرر. ويضرب مثلاً على النبي بالطبيب الذي يأمر مريضه بتناول الدواء المفضي إلى علاجه، فيسترد صحته إذا استمع لنصحه، ولكن الفيلسوف يتجه باهتمامه إلى الحديث عن أسباب المرض وصفته وذمه وذم ما أوجبه ولو سأله المريض عن الدواء الشافي لعجز عن الإجابة. وقد يثار التساؤل حول من لم تبلغهم الرسالات السماوية، أو من لم تقم عليه الحجة في الدنيا بالرسالة كالأطفال والمجانين وأهل الفترات الخالية من الأنبياء والرسل. وهنا، يختار من الأقوال أرجحها، وخلاصتها أن هؤلاء يمتحنون يوم القيامة فيبعث إليهم من يأمرهم بطاعته، فإن أطاعوه استحقوا الثواب وإن عصوه استحقوا العقاب، أما الحجة بالقرآن فقد قامت على من بلغه كما قال تعالى: (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ)

[الأنعام: 19] فمن بلغه بعض القرآن دون بعض قامت عليه الحجة فيما بلغه دون ما لم يبلغه. كما تظهر وظيفة الأنبياء - أو دورهم، ومهامهم - في كونهم وسائط بين الله وبين عباده في تبليغ أمره ونهيه ووعده ووعيده، وما أخبر به عن نفسه وملائكته وغير ذلك مما كان ويكون. وتفصح الآيات القرآنية عن الرسول بأنه لا يعلم الغيب وأنه ليس ملكًا يملك الخزائن، وإنما هو بشر لا يستغني عن المأكل والمشرب. ولابن تيمية كتاب (النبوات) عالج فيه الموضوع باستفاضة، كما أشار في كتب كثيرة ربما أكثرها استفاضة (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) إذ عرض فيه دلالة وبراهين نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومنها الأدلة العقلية التي استخدمها هرقل ملك الروم، إذ سأل أبا سفيان قبل إسلامه (كيف نسبه فيكم؟ قال هو فينا ذو نسب قال فهل قال هذا القول منكم أحد قبله قط؟ قال: لا قال فهل كان من آبائه من ملك؟ قال: لا قال: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم فقال أيزيدون أم ينقصون؟ قال: بل يزيدون قال: فهل يرتد منهم أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا قال فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا، قال فهل يغدر؟ قال: لا، قال فهل قاتلتموه؟ قال: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قال: الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا، وننال منه قال: فبماذا يأمركم؟ قال: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة) . ومن هذه الإجابات كلها تأكد هرقل من نبوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفسر إجابات أبي سفيان بالآتي (أن الرسل تبعث في أحساب قومها ولو كان من آبائه ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه والضعفاء هم أتباع الرسل، وأنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يكذب على الله) واستدل من عدم ارتداد أتباعه عن دينه بسبب الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب وأنهم يزيدون - فكذلك الإيمان حتى يتم ومن الحرب الدائرة بينه وبين قومه وأنها سجال ينالون منه وينال منهم دلت على أن الرسل يبتلون ثم تكون لهم العاقبة إلى جانب أنه لا يغدر ولم يسبقه أحد قبله بقوله وكذلك أوامره بعبادة الله

تعالى أي الصلاة والزكاة والعفاف. قال هرقل في النهاية: (إن يكن ما تقول فيه حقًا إنه لنبي وكنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظنه منكم ولو أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه وليبلغن ملكه ما تحت قدمي) (1) . ونرى بعد ذلك استكمال الحديث عن معالم المنهج الذي عاش ابن تيمية من أجل توضيحه ولفت الأنظار إليه وحث المسلمين - خاصتهم وعامتهم - إلى اتباعه والاستضاءة به إذ إن العلاقة بين اجتهادات شيخ الإسلام وبين قضايا أصول الدين لم تنقطع بموته، فهي تمتد لكل الأعصار لأن محورها يتمثل في أهم قضية للإنسان يترتب عليها النتيجة الحاسمة في مصيره، أي قضية الإيمان بالله تعالى وعبادته والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والبعث والحساب والعقاب والملائكة وغيرها من كائنات عالم الغيب وحقائقه حيث لا تكتمل المعرفة الإنسانية الحقة إلا بعد الإحاطة بها مقترنة بالعبادة والاستسلام لله تعالى وحده. ولهذا فإن دراسة اجتهادات شيخنا تصبح متجددة أبدًا لأنها تتصل بأهم ما ينبغي أن يشغل الإنسان إذا ما تطلع إلى مبدئه ومعاده وسبل تحقيق سعادته. وكان من دواعي اطمئنان ابن تيمية ويقينه - بل تفاؤله رغم العوامل التي عاشها وكانت مثبطة للهمم - أن الإسلام يتميز بعناية الله تعالى وحفظه وظهوره إلى قيام الساعة، قال الشيخ: (وذلك أن الله تبارك وتعالى أكمل الدين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين، وبينه وبلغه البلاغ المبين، فلا تحتاج أمته إلى أحد بعده يغير شيئًا من دينه، وإنما تحتاج إلى معرفة دينه الذي بعث به فقط، وأمته لا تجتمع على ضلالة، بل لا يزال في أمته طائفة قائمة بالحق حتى تقوم الساعة فإن الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله فأظهره بالحجة والبيان وأظهره باليد واللسان، ولا يزال في أمته أمة ظاهرة وهذا حتى تقوم الساعة) (2) .

_ (1) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح جـ 1 ص 93-94 وجـ 4 ص 316. (2) ابن تيمية - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح جـ 1 ص 124، مطبعة المدني.

وكل ما تحتاجه الأمة إذن، هو معرفة الدين بالمنهج الذي وضعه الله - تعالى - في كتابه وبالهدى النبوي الحق، وصحة المنهج ليست مرتبطة بعصر من العصور أو بمصر من الأمصار، بل صحته ثمرة أصوله ويقينية براهينه، وما على المسلمين إلا اتباعه. وسننظر في الباب القادم، كيف وقف هذا المنهج شامخًا ثابتًا؛ لمواجهة التحديات حتى عصرنا الحاضر.

الباب السابع

الباب السابع - القضايا الكلامية في العصر الحاضر. - المشكلات الكلامية في ضوء التفسير التاريخي. - مسائل الإجماع في العقيدة والعبادات. - الالتقاء بالغرب وآثاره على القضايا الكلامية. - ما هي الحضارة؟ - صلة العلم بالدين في العصر الحديث (أو العلاقة بين المادة والروح) . - المشكلات الكلامية الطارئة في العصر الحديث. - ملامح الفكر الإسلامي المعاصر. - الإسلام والعلم.

القضايا الكلامية في العصر االحاضر

القضايا الكلامية في العصر االحاضر المشكلات الكلامية في ضوء التفسير التاريخي: كانت الموضوعات الآنفة من هذه الدراسة بمثابة إيضاح للمنهج الذي استخدمه الأوائل والسائرون على طريقهم، وقد رأينا كيف اتخذ علماء السلف من القرآن والسنة سلاحًا لحماية العقيدة، وأثبتوا أن هذا المنهج أفضل وأحكم من منهج المتكلمين. ولكن بعد انقضاء القرون، وابتلاء الأمة الإسلامية بمحن وتجارب استهلكت طاقات ضخمة من قواها البشرية والاقتصادية والعسكرية، وتراوحت خلالها مكانتها الحضارية - التي احتلتها عن جدارة طيلة عدة قرون بين مد وجزر، ثم تحطم أخيرًا في بداية القرن الحالي فقط كيان دولتها بإلغاء الخلافة، وأصبحنا الآن، ربما أكثر اقتناعًا من أي وقت مضى بمخاطر الخلافات وتصارع الفرق الإسلامية وتشتت الجهود وبعثرة القدرات. وبسبب الثغرات الخلافية الجسيمة ضاعت الأندلس وتسللت الشيعة الباطنية إلى حكم مصر والمغرب والشام والبحرين، وسقطت بغداد تحت سنابك خيل التتار عام 656 هـ ثم كانت الخاتمة - لهذا السبب ولغيره من الأسباب - نجاح الاستعمار الغربي في أواخر القرن السادس عشر في عقد الأنشوطة حول المسلمين - كما يذكر أرنولد توينبي - وذلك بفضل غزوه للمحيط، وبعدها ضيق الغرب الأنشوطة في القرن التاسع عشر (1) فإذا أنصتنا إلى صوت آخر، ارتفع من وراء القرن الثامن الهجري وهو ابن تيمية - وجدناه يبرهن في إيجاز على العقيدة المتلقاة عن الأوائل في شمولها وكمالها، أنتجت أجيالا مؤمنة دافعت عنها وعضت عليها بالنواجذ وظهر السر في استمساك أهل السنة والجماعة بها أنهم عرفوا أنها المعبرة عن صدق العقيدة المتلقاة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكل انحراف عنها أو ميل بها ذات اليمين أو ذات اليسار، سيفقدها قوتها في القلوب والصدور، فضلا عن انحرافها عن أصول الإيمان والإسلام

_ (1) أرنولد توينبي: الإسلام ... والغرب.. والمستقبل ص 19 دار العربية - بيروت 1389 هـ

الصحيح. والتطبيق التاريخي لهذه القاعدة يوضح انتصار المسلمين عندما كانت غالبيتهم مستمسكة بهذه الأصول، وبالعكس انهزامهم وانحدار حضارتهم عندما تفشت العقائد الزائغة. ولتقريب المعنى إلى أجيالنا الشابة، فإن العقيدة هي حجر الزاوية وقطب الرحى لحضارة الإسلام، شأنها في ذلك شأن الأيدولوجية في العصر الحديث، فإن عقيدة المسلمين هي (أيدولوجيتهم بالاصطلاح الغربي) الثابتة الدائمة، بها سادوا، وبها أقاموا حضارة أنارت العالم، وسارت معهم أينما كانوا في عصور مجدهم وانتصاراتهم، وعندما انحرفوا عنها وتركوها وراء ظهورهم انطفأ نور الحضارة، وتقهقروا إلى الوراء، وذلوا أمام غيرهم. وكانت هذه الظاهرة تتدرج على مراحل للمتتبع لتاريخ المسلمين. يقول ابن تيمية: (ونجد الإسلام والإيمان كلما ظهر وقوي كانت السنة وأهلها أظهر وأقوى، وإن ظهر شيء من الكفر والنفاق ظهرت البدع بحسب ذلك، مثل دولة الهادي والرشيد ونحوهما مما كان يعظم الإسلام والإيمان ويغزو أعداءه من الكفار والمنافقين، كان أهل السنة في تلك الأيام أقوى وأكثر وأهل البدع أذل وأقل) (1) . وبمثل هذه القاعدة ينتقل إلى النظر إلى تاريخ المسلمين بعامة، فيبرهن ابن تيمية على أن أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - أدعى للعلم والتوحيد والسعادة. ويعني المقارنة بين الصحابة والتابعين لهم، وبين المتكلمين وفلاسفة المسلمين، ويقف أمام الأحداث التاريخية فيعللها بسبب مخالفة الأصول الإسلامية في القرآن والحديث، فيرى أن انقراض دولة بني أمية كان بسبب الجعد بن درهم والجهم بن صفوان، إلى جانب أسباب أخرى أوجبت إدبارها. ويعني بذلك أن العقيدة عندما خمدت في النفوس وفقدت فاعليتها عما كانت

_ (1) ابن تيمية: نقض المنطق ص 18 - 19 وفي منهاج السنة ج 2 ص 149 - يقول: (فإن الكفار بالشام وخراسان طمعوا وقت الفتنة فى بلاد المسلمين لاشتغال المسلمين بعضهم ببعض) . وينظر تفسيره التاريخي بكتابنا (قواعد المنهج السلفي فى الفكر الإسلامي ص 125 (ط. دار الأنصار 1396 هـ - 1976 م.

لدى المسلمين الأوائل، ظهر الضعف في الأمة، إذ تحولت العقيدة الراسخة من قوة محركة ناجمة عن اقتناع عقلي ويقين قلبي إلى أفكار جدلية تتطاول إلى الحديث عن الذات الإلهية ففقدت القلوب الهيبة. ولما تضاءلت العقيدة في النفوس وأصابها الوهن، تحولت إلى مناقشات وجدل كلامي وفلسفي، وظهر النفاق والبدع والفجور، هان المسلمون على أعدائهم، فغزا الصليبيون أراضي الإسلام، واستولوا على بيت المقدس في أواخر المائة الرابعة (1) وكذلك الأمر بالنسبة لحروب التتار، حتى إن البعض رأى أن هولاكو ملك التتار بمثابة بخت نصر لبني إسرائيل، مستندين إلى تفسير سورة بني إسرائيل التي توعدهم فيها الله تعالى إذا أفسدوا في الأرض (2) . ويمضي شيخ الإسلام في تفسير الأحداث التاريخية وفقاً لهذه القاعدة فيذكر أن محنة خلق القرآن كانت بداية لتشجيع القرامطة الباطنية في إظهار آرائهم، بعد ترجمة كتب الفلسفة، ولما رأت الفلاسفة أن المنسوب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته هو هذا القول الذي يقوله المتكلمون الجهمية ومن اتبعهم، ورأوا أن هذا القول الذي يقولونه فاسد من جهة العقل، طمعوا في تغيير الملة، فمنهم من أظهر إنكار الصانع وأظهر الكفر الصريح وقاتلوا المسلمين، وأخذ قرامطة البحرين الحجر الأسود (3) ولم يقتصر الأمر على انتصار الخصوم في مجال الحروب فحسب، بل امتد الخطب إلى مجال الفكر والعقيدة، لأن فتح باب القياس الفاسد في العقليات بواسطة المتكلمين، شجع الزنادقة على المضي في تنفيذ مخططاتهم، فانتهى بالقرامطة إلى إبطال الشرائع المعلومة كلها، كما قال لهم رئيسهم بالشام: قد أسقطنا عنكم العبادات فلا صوم ولا صلاة ولا حج ولا زكاة (4) . وقبل الانتهاء من هذه اللمحة لموقف ابن تيمية من التاريخ، فإننا نعجب من تفاؤله، بينما كان في وسط ظروف حالكة الظلام، ومع هذا فإنه يقدم تفسيرًا

_ (1) الفرقان بين الحق والباطل 120 - 122. (2) ومن ثم الأمثال السائرة (إياك أعني واسمعي يا جارة) ن. ص 120- 121. (3) شرح حديث النزول ص 173. (4) نفس المصدر ص 169 (وينظر أيضًا ص 163 و 165) .

مسائل الإجماع في العقيدة والعبادات

لحديث (إن الله يبعث لهذه الأمة في رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) ، فالتجديد إنما يكون بعد الدروس، وذاك هو غربة الإسلام، ثم يحاول إدخال الطمأنينة على القلوب بقوله: (وهذا الحديث يفيد المسلم أنه لا يغتم بقلة من يعرف حقيقة الإسلام، ولا يضيق صدره بذلك، ولا يكون في شك من دين الإسلام، كما كان الأمر حين بدأ قال تعالى: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) [يونس، الآية: 94] إلى غير ذلك من الآيات والبراهين الدالة على صحة الإسلام) (1) ، ولكنه في الوقت نفسه يحذر من مخالفة الأوامر الإلهية، لأن الذنوب تورث الهزائم والكوارث للمسلمين، كالهزيمة التي أصابتهم يوم أحد. وهكذا يعود بنا إلى نفس الأصل الذي يفسر به التاريخ، ويعلل المقصود بقصص بني إسرائيل في القرآن اتخاذهم عبرة لنا، مستشهدًا ببعض السلف القائلين: (إن بني إسرائيل ذهبوا وإنما يعني أنتم) ومن الأمثال السائرة: إياك أعني واسمعي يا جارة. مسائل الإجماع في العقيدة والعبادات: وفي ضوء هذه التفسيرات التاريخية والعبرة مما حدث، فإن الحكمة تقتضي التخفيف من غلواء التفرق، مع تلمس مسائل الإجماع بين المسلمين؛ لأن الأحوال المعاصرة تجعل من الاستمرار في بث الفرقة لونًا من ألوان التدمير العقائدي والحضاري للمسلمين كافة. وقد رأينا خلال البحث نتائج بارزة تثبت من ناحية ما يلي: أولا: عودة أئمة الأشاعرة إلى المنهج السلفي بعد المعاناة الطويلة في طريق التأويل الكلامي. ثانيًا: إجماعهم - بالاتفاق مع علماء السنة والحديث - على أن أدلة الشرع متوافقة مع قوانين العقل وموازينه، ومن ثم أصبح ضروريًا جمع المسلمين حول المادة العظمى: كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ومن ناحية أخرى، نود في ختام هذا البحث إضافة أكثر العوامل أهمية، وإبرازه والالتفاف حوله، ونعني به عناصر الوحدة التي تجمع بين المسلمين قاطبة، لأن

_ (1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ج 18 ص 298 - 299 ط. الرياض.

تحليل عناصرها يثبت أنها تفوق أسباب الخلاف والفرقة. أضف إلى ذلك أن المشكلات الكلامية المثارة في الماضي نشأت عن أسباب وعوامل نبعت من البيئة الثقافية حينذاك، وقد قتلت بحثًا وتحليلاً ومناقشة وظهر فيها الحق بين المذاهب والفرق، وربما كانت محتملة عندما كانت الحضارة الإسلامية سائدة، أما وقد آل الحال إلى ما نحن عليه، فلم يعد من المحتمل إثارة هذه المشكلات من جديد. وقد سبقنا علماء الحديث والسنة إلى توجيهنا إلى هذا الأصل الجامع، منهم ابن حزم بكتابه (مراتب الإجماع في العبادات والمعاملات والاعتقادات) وعنوانه يشير إلى مضمونه، يعنينا ما سجله في باب الاعتقادات، قال: (اتفقوا أن الله عز وجل وحده لا شريك له خالق كل شيء غيره، وأنه تعالى لم يزل وحده ولا شيء غيره معه، ثم خلق الأشياء كلها كما شاء، وأن النفس مخلوقة، والعرش مخلوق، والعالم كله مخلوق، وأن النبوة حق وأنه كان أنبياء كثير منهم من سمى الله تعالى في القرآن ومنهم من لم يسم لنا، وأن محمدَ بن عبد الله القرشي الهاشمي المبعوث بمكة المهاجر إلى المدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الجن والإنس إلى يوم القيامة. وأن دين الإسلام هو الدين الذي لا دين لله في الأرض سواه، وأنه ناسخ لجميع الأديان قبله، وأنه لا ينسخه دين بعده أبدًا، وأن من خالفه ممن بلغه كافر مخلد في النار أبدًا، وأن الجنة حق وأنها دار نعيم أبداً لا تفنى ولا يفنى أهلها بلا نهاية، وأنها أعدت للمسلمين والنبيين المتقدمين وأتباعهم على حقيقة ما أتوا به قبل أن ينسخ الله تعالى أديانهم بدين الإسلام. وأن القرآن المتلو الذي في المصاحف بأيدي الناس في شرق الأرض وغربها من أول (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) إلى آخر (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) هو كلام الله عز وجل ووحيه أنزله على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - مختارًا له من بين الناس وأنه لا نبي مع محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا بعده أبدًا) . إلى أن يقول: (واتفقوا أنه منذ مات النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد انقطع الوحي وكمل الدين

الالتقاء بالغرب وآثاره على القضايا الكلامية

واستقر وأنه لا يحل لأحد أن يزيد شيئًا من رأيه بغير استدلال منه، ولا أن ينقص منه شيئًا ولا يبدل شيئًا مكان شيء ولا أن يحدث شريعة، وأن من فعل ذلك كافر، واتفقوا أن كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صح أنه كلامه بيقين فواجب اتباعه..) (1) . وكذلك العبادات، هناك إجماع في أمور رئيسية لخصها ابن تيمية كما يلي: (وذلك مثل إجماعهم على أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى جميع الأمم، وكذلك إجماعهم على استقبال الكعبة البيت الحرام في صلاتهم ... وكذلك الإجماع على وجوب الصلوات الخمس وصوم شهر رمضان وحج البيت العتيق، وإجماعهم على وجوب الاغتسال من الجنابة وتحريم الخبائث وإيجاب الطهارة للصلاة، فإن هذا كله مما نقلوه عن نبيهم، وهو منقول عنه - صلى الله عليه وسلم - نقلاً متواترًا، وهو مذكور في القرآن) (2) . لذلك ينبغي أن تخف أصوات الخلافات ويجتمع المسلمون على مادة الإسلام العظمى: كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والاسترشاد باجتهادات علماء الحديث والسنة، لا سيما وقد جدت تحديات في هذا العصر تقتضي منهم الوقوف جبهة واحدة. ولما كانت حضارة العصر الغالبة هي الحضارة الغربية، فيجدر الإشارة باختصار إلى أثر الالتقاء بها في محيط المشكلات الكلامية. فكيف حدث الالتقاء؟ وما هي آثاره في الماضي والحاضر؟ الالتقاء بالغرب وآثاره على القضايا الكلامية: يحدد توينبي اللقاء الأول بين الإسلام والغرب في الماضي عندما كان المجتمع الغربي في دور طفولته بينما كان الإسلام الدين المميز للعرب في عصرهم البطولي. وكان العرب قد فرغوا من فتح وتوحيد البلاد التي كانت مهد الحضارات القديمة في الشرق الأوسط، وكانوا يحاولون توسيع هذه الإمبراطورية - كما يراها - لتصبح دولة عالمية، وينتهي المؤرخ الإنجليزي الكبير إلى التقرير بأنه في هذا اللقاء الأول اكتسح المسلمون نصف المجتمع الغربي تقريبًا وكادوا يفرضون سيادتهم على البلاد الغربية

_ (1) ابن حزم: مراتب الإجماع في العبادات والمعاملات والاعتقادات ص 167 - 175 باختصار ط دار الكتب العلمية. (2) ابن تيمية: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ج 1 ص 124 -125 ط. المدني. بدون تاريخ.

كلها (1) . واتضحت الفجوة الثقافية بين الحضارتين عندما وقف علماء السنة سدًا منيعًا في وجه الفلسفة اليونانية المعبرة عن غزو ثقافي مضاد للعالم الإسلامي حينذاك. وفي التنابذ والمعارضة لآثار اليونان الفلسفية، ظهرت المعارضة الشديدة بواسطة علماء السنة والجماعة، وربما شكلت آثار المعارضة للفلسفة اليونانية آثارها في صفحات الكتب وكانت أحد عوامل ظهور الأفكار والاصطلاحات المترجمة كالجوهر الفرد والحدوث والقدم، فضلا عن آثار المنطق الأرسططاليسي، وردود الفعل التي أحدثها بين الآخذين به كالغزالي وغيره من بعض علماء الفقه، والمعارضين له كابن تيمية ومن سبقه من علماء السنة والحديث الذين أعلنوا (أنه من تمنطق تزندق) . وبوجه عام كان التنافر بين العقيدة الإسلامية والفلسفية معبرًا عن اختلاف بين حضارتين. يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي: (وإذا رأينا الاتجاه العام لروح الحضارة الإسلامية ينفر نفورًا شديدًا من التراث اليوناني فيحمل عليه حملة عنيفة شعواء هي رد فعل قوي لهذا الروح ضد روح حضارة أخرى شعرنا بما بينها وبينها من تباين يكاد يصل إلى حد التناقض) (2) . وفي ضوء هذا التحليل الدقيق تزداد معرفتنا لأسباب معارضة علماء السنة والجماعة لآراء المعتزلة المستمدة من فلاسفة اليونان، ولنفس السبب أيضًا سنرى كيف تكونت معارضة علماء المسلمين للفلسفة الغربية وتصوراتها عندما حدث الالتقاء الثاني الذي بدأ منذ القرن السادس عشر الميلادي في شكل غزوات وحروب استعمارية متوالية ظلت نحو ثلاثة قرون، بدأت بشكل حاسم - كما يذكر توينبي -

_ (1) آرنولد توينبي: الإسلام.. والغرب.. والمستقبل. ط. دار العربية - بيروت 1389 هـ - 1969 م ص 19، 22. (2) د. عبد الرحمن بدوي: التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية - المقدمة - ط. دار النهضة العربية بالقاهرة - سنة 1965 م.

ما هي الحضارة؟

في أواخر القرن السادس عشر وأوائل السابع عشر وحسب تعبيره الذي أسلفناه قال: (لم يقتصر الأمر على الإحداق بالعالم الإسلامي ولكن أمكن تطويقه تمامًا) ، ثم يستطرد قائلاً: (ووضع الطوق حول رقبة الفريسة) . ولكن مما يدهشه - وغيره من المؤرخين والباحثين - أن العالم الإسلامي قد استطاع أن يصمد للعدوان الأوروبي طوال القرون من الخامس عشر حتى الثامن عشر ويعزو صموده المذهل إلى ما يصفه (بالاعتداد بالذات التي رسبت في عقل المسلمين الباطن بفعل الأمجاد الرائعة التي حققوها إبان عصور الازدهار الإسلامية) ويدهشنا هذا التعليل - مع وجاهته - إلا أنه يغفل ذكر العامل الأساسي المباشر المتمثل في العقيدة، لا سيما أنه يرى عند بحث علاقة الإسلام - كعقيدة دينية بالحضارة الإسلامية - أن هذه الحضارة قد وفدت مع العقيدة الدينية (1) . وفي ضوء هذه الأحداث التاريخية حتى العصر الحاضر تتشكل ملامح الفكر الأساسي المعاصر، وتظهر طبيعة القضايا (الكلامية) المثارة. لذلك يجدر بنا إعطاء فكرة عامة عن حضارة العصر وسماتها البارزة وسنبدأ بتعريف الحضارة. ما هي الحضارة؟ لفظ (الحضارة) من الألفاظ التي اختلف الباحثون حوله، ولعله خضع بدوره للثقافة والبيئة والأحوال الاجتماعية والاقتصادية للمفكرين والفلاسفة الذين قاموا بتعريف الحضارة فكثيرًا ما تعكس الأفكار والنظريات ظروف العصور وأحوالها إما تأييدًا أو معارضة أو تعديلاً ويمكننا طرح وجهتي النظر الرئيسيتين حول تعريف الحضارة كما يأتي: أحدهها: يعنى بطرق الثقافة والقيم الأخلاقية والآداب والفنون. الثاني: يعنى بالمنجزات والأعمال التي حققها الإنسان في مجال التشييد والبناء والإنتاج الصناعي والزراعي، أو بعبارة أخرى (التكنولوجيا) أي استخدام النتائج

_ (1) فؤاد محمد شبل: حضارة الإسلام فى دراسة توينبي للتاريخ ص 39 - 61 المؤسسة المصرية العامة - المكتبة الثقافية (العدد 211) 1968 م.

المكتشفة بالتجارب العلمية في مجالات الحياة المختلفة والاستفادة منها. وتبسيطًا للتعريف الثاني وتوضيحه، فإن الحضارة بهذا المعنى تعتبر عنوانًا على كل ما أحدثه الإنسان أو أبدعه أو بدله في كائن طبيعي، وجعل له قيمة. وأبسط مثال على ذلك أن الحجر الذي نجده في الطبيعة كما خلقه الله - تعالى - هو طبيعي، بينما الحجر الذي صقلته يد الإنسان لتستخدمه في أمر ما هو حضاري (1) . ولكننا نرى نقص هذا التعريف لأنه يشير فقط إلى ما استحدثه الإنسان في العالم الطبيعي من تغييرات تعبّر عن مواهب الإنسان وإمكانياته العقلية والجسدية وتكشف عن رغبة الإنسان في تذليل الصعاب التي تعترضه أثناء رحلة حياته الطويلة في الدنيا حيث أقام السدود للاستفادة من فيضانات الأنهار وقطع أشجار الغابات ليحولها إلى أراضي زراعية، وتسلح ضد الحيوانات المفترسة ليأمن على نفسه وأولاده وعشيرته إلى تشييد المنازل ورصف الطرق واختراع الآلات. ولعلنا نعيش الآن أرقى مرحلة اجتازها الإنسان، ولكننا لا نغفل أيضًا أعمال الإنسان في مجالات الحروب والتدمير فكلها من قبيل تدخل الإنسان في الطبيعة فهل تعد أيضًا من الأعمال الحضارية فما حكم صنع القنابل الذرية والهيدروجينية والصواريخ النووية والإشعاعات القاتلة المهلكة؟ إننا نرى أن أعمال الإنسان الحضارية (واللاحضارية) تعبر عن مداركه وقدرته إلى جانب غرائزه وشهوته ودوافعه، فإذا كان يبني وينشئ لجعل الحياة أسهل وأجمل وأمتع مدفوعًا بالقيم الأخلاقية ومستهدفًا إقامة الحق والخير والعدل فإنه يقيم حضارة حقيقية يسعد في ظلها الناس، أما إذا أخذ يخترع الأسلحة المدمرة ليقتل ويفتك بأعدائه ويعتدي على غيره ويفرض إرادته وينهب الخيرات ويستولي على أراضي غيره ومتملكاته طمعًا وحسدًا وإشباعًا لشهوة السيطرة والامتلاك والتعالي فإن محصلة ذلك تعبر عن أعمال لا حضارية.

_ (1) د. جورج عطية: من حضارتنا ص 16. منشورات دار النشر الجامعية - بيروت سنة 1956 م.

واستكمالاً للحديث عن الحضارة فإننا لا نستطيع دفع المخاطر عن تصور الحضارة المعاصرة التي نحيا في ظلها بالتقليد والمحاكاة (1) ، كما لا نستطيع في مجال المقارنة بينهما وبين الحضارة الإسلامية إغفال حالة التأخر التي تحياها المجتمعات - التي كانت في يوم ما معبرة عن الحضارة الإسلامية إبان القرون الخوالي. ومهما يكن من أمر فقد كان اصطدام الحضارتين أمرًا حتميًا ويوجبه اختلاف العقائد والتصورات والقيم والنظم وهو أمر حتمي لسنن الله تعالى في قيام الأمم وسقوطها قال تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) [البقرة: 251 - الحج، الآية: 40] . نجم عنه تفاعل مشكلات (كلامية) بالمصطلح المعروف، إذ إن الهزائم في الميادين العسكرية لم تمنع علماء الإسلام من التصدي للحضارة الغازية ونقدها من واقع الأصول الإسلامية في الكتاب والسنة فضلاً عن المنجزات التي حققها المسلمون عندما كانت حضارتهم هي السائدة والقائدة. ولعل الترتيب المنطقي في موضوعنا يلزم تسلسل الأفكار بحيث نبدأ بتعريف سمات الحضارة المعاصرة وأثرها على الفكر الإسلامي تأييدًا أو معارضة مما نجم عنه ظهور قضايا لا زالت موضوع البحث والجدل. ولعلنا نصل إلى هدفنا من خلال بيان نقد هذه الحضارة وخلاصته أن التقدم الصناعي والتجارة العالمية هما اللذان أديا - بخلاف المرتقب والمتوقع - إلى وقوع الحرب العالمية الأولى، كما أن الاختراعات التي وضعت في أيدي الجيوش جعلت الحرب ذات طابع مدمر فأصبح الغالب والمغلوب سيان، ثم إن الإنجازات التكنولوجية جعلت الدول في وضع يسمح لها بالقتال من مسافة بعيدة والقضاء على أعداد ضخمة من الناس كالأشعات والأسلحة السامة وغيرها. ويستخلص - أشفتيسر - من هذا كله أن الإنجازات المادية ليست حضارة، ولا تصبح حضارة إلا بمقدار ما تستطيع عقلية الشعوب المتمدينة توجيهها وجهة

_ (1) يرى ابن خلدون بعد تحليله للنفس الإنسانية أن المغلوب يتشبه بالغالب في شعاره وبخلقه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها بل وفي سائر أحواله وعوائده. المقدمة: الفصل الثالث والعشرون.

كمال الفرد والجماعة، ويرى أن أهل أوروبا خدعوا بمظاهر التقدم في المعرفة والقوة فلم يفكروا في الخطر الذي يتعرضون له من جراء تضاؤل القيمة التي يعطونها للعناصر الروحية في بناء الحضارة، ومن ثم فإن إعادة بناء الحضارة على الوجه الصحيح يتطلب أولا: الأخذ من جديد بالنظرة الأخلاقية التي سادت في القرن الثامن عشر. ويتطلب ثانيًا: تكوين نظرية في الكون، فالواقع أن كل ما تقدم إنساني يتوقف على التقدم في نظريته في الكون، وينبغي أن نهز الناس في هذا العصر وندفعهم إلى التفكير الأولي في حقيقة الإنسان ومكانته في هذا العالم فإن تصور العلم والحياة، وكذلك الأخلاق كلها أمور لا عقلية. ويجب أن يكون لدينا الشجاعة للاعتراف بذلك (1) . ولشرح الغرض من ضرورة نظرية عن الكون للحضارة، سنعطي القارئ فكرة موجزة عن الأصل الذي تنبثق منه الأفكار الفلسفية والنظم الاجتماعية، فإن المتتبع للنظم والمبادئ الاجتماعية التي ظهرت في عصر العلم بأوروبا جعلت الاقتصاد أساسًا للمجتمع، والحق أن القاعدة الاقتصادية مجرد فرع من مبدأ عام في العقيدة من أصل الوجود، ثم يتفرع إلى استخلاص الأحكام والمبادئ اللازمة لصلاح المجتمع. يقول الدكتور الفندي: (والعجب أيضًا، بل أعجب أن المادية في نظر أساطينها، مثل الماركسية، إنما تصل نهاية المطاف إلى ما وراء الطبيعة. أي لا يمكن أن تقتصر المادية على عالم المادة فحسب وإنما تنتهي إلى ما هو أكبر من ذلك عندما تتطرق إلى الحديث عن نظام الكون العام) (2) . وكثيرًا ما يحلل الفلاسفة معالم المادية الظاهرة الوضوح على الحضارة المعاصرة، ويفسرونها بغياب العقيدة الدينية وإنكار الجانب الروحي للإنسان، ويعالج هذا المبحث عادة بتحليل العلاقة بين العلم والدين.

_ (1) ألبرت أشفتيسر: فلسفة الحضارة ص 100 - 115 ترجمة عبد الرحمن بدوي مراجعة د. زكي نجيب محمود، المؤسسة العامة للتأليف والترجمة والنشر 1960. (2) د. محمد جمال الدين الفندي: الكون بين العلم والدين ص 14 ط المجلس الأعلى للشئون الإسلامية سنة 1972 م.

صلة العلم بالدين في العصر الحديث

صلة العلم بالدين في العصر الحديث: (أو العلاقة بين المادة والروح) إن الانبهار والذهول أمام التقدم العلمي الذي سحر أعين الناس وقلوبهم قد شكل معالم القضية الماثلة للأذهان وهي: ضمور الاعتقاد بالغيبيات والحقائق الدينية حيث ساد في وقت ما الاعتقاد أن العلم سيحقق السعادة الكاملة وبذلك يمكن الاستغناء عن العقائد الدينية. هذه هي القضية الملحة التي دارت حولها المناقشات وتشكل حجر الزاوية في ملامح العصر الحاضر. ويرى برتراند رسل أن العلوم في العصور الجديدة أسكرت البشر ودفعت الكثيرين للسيطرة على بقية البشر بواسطة القوى التي حققها التقدم العلمي، وهو لا ينتقد هذه المعارف العلمية في ذاتها، ولكن ينتقد وضعها في أيدي أناس يفتقدون الحكمة. ولو وضعت في أيدي الحكماء لعرفوا كيف يستخدمونها. إن هذه الحكمة موجودة إلا أنها - مع الأسف - لا حول لها ولا قوة على الأحداث، ثم يعطينا فكرة عن ضرورة تحقيق التعادل بين قوتي العلماء والحكماء فيقول: (لقد دعا الأنبياء والحكماء إلى تجنب الدنايا والصغائر، ولو أننا أنصتنا إليهم لعشنا في سعادة متجددة) (1) . والرأي الذي ذهب إليه رسل يشاركه فيه الكثيرون في الآونة الأخيرة بعد المراحل التي مر بها العلم منذ عدة قرون، فقد توقع أغلب العلماء في القرن التاسع عشر الميلادي الذين آمنوا بالعلم، توقعوا له القدرة على الإحاطة في المستقبل بمجهولات الغيب التي لم يحط بها في ذلك الحين ولكن حينما أطل القرن العشرون تواضعت دعوى العقل (2) . وأخذت عقول العلماء تنحني إجلالا لحقائق ما فوق طور العلم التجريبي الحسي، ورأينا الاعترافات تصدر من علماء كثيرين لهم مكانتهم فها هو أنيشتين يقول: (العلم بغير دين أعرج، والدين بغير علم أعمى) .

_ (1) رسل: هل الإنسان مستقل؟ ص 12 - 13. (2) العقاد: عقائد المفكرين في القرن العشرين ص 32 - 35.

ويقف مندهشًا أمام السر في نجاح العلماء معللا إياه بالإلهام مقرراً في يقين (إن العاملين في العلم الجادين في عصرنا هذا المادي هم وحدهم الذين يتصفون بالتدين العميق) (1) . ويقرر كارليل أن التقدم الهائل الذي أحرزته علوم الجماد على علوم الحياة هو أحد الكوارث التي تعاني منها الإنسانية، ويعلل ذلك بأن قوانين العلاقات البشرية ما زالت غير معروفة، لأن علوم الاجتماع والاقتصاد والنفس علوم تخمينية افتراضية، على عكس ما ظنه الكثيرون عندما خدعوا في بعض المذاهب التي حازت شهرة في صفحات التاريخ وعلى ألسنة الناس، كمبادئ الثورة الفرنسية وخيالات ماركس ولينين (2) . ما هي النتيجة إذن بين التقدم الهائل في العلوم التجريبية وبين قصور العلوم الإنسانية عن اللحاق بها؟ يجيب الدكتور حسين مؤنس على هذا السؤال بقوله: (فإن الذين يفكرون في الدمار أنشط بكثير ممن يفكرون في البناء؟ فهناك من صنع القنبلة الذرية التي قتلت مائة ألف في ثوان وزاد عليه الذي صنع القنبلة الهيدروجينية التي تقتل المائتي ألف في ثوان، ثم جاء صاحب قنبلة النيوترون التي تشل أهل البلد الضخم وتصرعهم دون أن تؤذي العقارات والأشياء (3) . ويتبين من ذلك أن العلم التجريبي أقام مدنًا ومصانع وجامعات وعبَّد الطرق، وساهم في تسهيل المواصلات وتذليل عقبات لا تحصى في حياة الإنسان، ولكنه ساهم في الوقت نفسه في تعاسته للأسباب الآنفة. كذلك يرجع فشل العلوم الإنسانية في علاج الأزمات لكونها افتراضية تخمينية وليست تقريرًا لواقع وبرهانًا على حقائق، إذ لا تملك وسائل الإثبات وتنقصها دقة مناهج العلوم الأخرى في الهندسة والفيزيقا

_ (1) أدرين كوخ: آراء فلسفية في أزمة العصر ص 112 ترجمة محمود محمود، الأنجلو سنة 1963. (2) الكسيس كارليل: الإنسان ذلك المجهول ص 44. (3) د. حسين مؤنس: الحضارة ص 136.

والكيمياء والطب وغيرها من العلوم. وهكذا أصبح العالم المتحضر منتفخًا بالإمكانيات ولكنه ضامر بالإرادات، أشياؤه كثيرة وأفكاره قليلة. وهذا الوضع البائس المتناقض بين وفرة الأشياء وفراغ النفس أدخل البشرية في دوامة يصاب الإنسان فيها بالدوار (1) . ولا نجد مبررًا للدفاع عن الجانب العلمي التكنولوجي بحجة وصول الإنسان إلى القمر إذ أن هذا النجاح يحمل في ذاته دلالة مفادها أن الصاروخ الذي يحمل مركبة الفضاء يستطيع إن يحمل قنابل ذات رؤوس نووية تصل إلى أي مكان في العالم فتهلك الحرث والنسل، قد تعود بالإنسان في طرفة عين إلى العصر الحجري من جديد. ولكن ما معنى ذلك كله في ضوء البحث عن السعادة الحقيقية للإنسان على هذه الأرض، وما أثره على موقف المدافعين عن العقيدة الدينية في مواجهة المسحورين بالمخترعات العلمية لا سيما في العالم الإسلامي الذي يشعر بالفارق الضخم بينه وبين العالم الغربي؟ معناه أن منهج المعرفة الخاص بالكون قد هدى الله إليه الإنسان (أما منهج المعرفة الخاص بالإنسان نفسه، فإنه لما كان من العسير على الإنسان أن يعرف نفسه بنفسه فقد هداه الله إليه بالوحي في رسالات السماء) (2) . ومعناه أيضًا: أن ركني الحضارة الإنسانية بمعناها الصحيح لا بد أن تحقق الارتقاء أو التحسن المادي والمعنوي معًا. ونحن نميل إلى الرأي الذي يغلب التحسن المعنوي على التحسن المادي، (لأن الغاية القصوى للتحسين هي شعور الإنسان بالأمان والاطمئنان والكفاية،

_ (1) د. خالص جلبي: الطب في محراب الإيمان ج 2 ص 29 ط مؤسسة الرسالة - بيروت 1391 هـ - 1971 م. (2) أنور الجندي: سقوط العلمانية ص 74 - دأر الكتاب اللبناني - بيروت 1393 هـ - 1973 م.

المشكلات الكلامية الطارئة في العصر الحديث

وقيام مجتمعه على التفاهم والتعاون والمحبة، بدلا من قيامه على التحايل والأنانية والقانون الذي تنفذه قوة غالبة) (1) . وبمثل هذا التحليل والتعليل الموجز لحضارة الغرب من حيث مقوماتها وآثارها، نستطيع تلخيص الأفكار والفلسفات الرئيسية التي تشكل ملامح المشكلات الكلامية فى عصرنا الحاضر، والتي استدعت اتخاذ موقف النقد والتمحيص من جانب علماء الإسلام، ودورهم هنا كدور أسلافهم من علماء السنة عندما واجهوا فلسفة اليونان منذ القرن الثاني والثالث الهجريين. المشكلات الكلامية الطارئة في العصر الحديث: لا شك أن هناك جانباً هامًا لا يزال محتفظًا بجدته وحيويته في القضايا المثارة في كتب الكلام لأنه متصل بالعقائد كالإيمان بالله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والبعث والحساب والعقاب وما إلى ذلك من مسائل أصول الدين، ولهذا فإنه يحتفظ بأهميته ومكانته في العقول والقلوب، وينبغي أن يكون الأمر كذلك حيث يتحرى المسلمون معرفة أصول العقيدة فإذا درسناها وفق منهج صحيح واضح المعالم كما فعل علماء الحديث والسنة، فإنه يتيسر الوصول إلى الحقيقة بين وجهات النظر المتباينة. ولا شك أيضًا أن مشكلات أخرى طرأت في العصر الحاضر لم تعرفها الأجيال الماضية ولا تدخل في نطاق القضايا الكلامية المثارة آنذاك بنفس المناهج، بالإضافة إلى الانقلابات الحادثة في نظم التعليم والاقتصاد والسياسة، وظهور التخصص في مجالات العلوم والمعارف. كل هذا أدى إلى تشابك المشكلات وتداخلها. ولكن إذا أعدنا للأذهان مرة أخرى تعريف ابن خلدون لعلم الكلام - أي إنه يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية - رأينا أن ظهور القضايا الجديدة تشكل في مجموعها لونًا من علم الكلام الحديث أو المعاصر. صحيح أن العلماء القائمين بدور الدفاع عن العقائد الإيمانية في عصرنا لا

_ (1) د. حسين مؤنس: الحضارة ص 54. سلسلة عالم المعرفة - المجلس الوطني للفنون والأداب - الكويت محرم - صفر سنة 1398 هـ - يناير 1978 م.

ملامح الفكر الإسلامي المعاصر

تنطبق عليهم أوصاف أسلافهم، ولكن حصيلة إنتاجهم العلمي يدخل في دائرة القضايا الكلامية حيث قاموا بالدفاع عن الإسلام - كل حسب تخصصه - وقد صدرت لهذا الغرض مئات المؤلفات والأبحاث، وكتبت آلاف المقالات، وانعقدت عشرات المؤتمرات والندوات، وكلها نتيجة جهود مخلصة لعلماء المسلمين في شتى صنوف العلوم والمعارف، واستهدفت الشرح والتفسير والدفاع عن الإسلام عقيدة وشريعة ونظمًا وأخلاقًا وتشكل في مجموعها ملامح عامة، يدور حولها الفكر الإسلامي المعاصر، ونعرضها بإيجاز: ملامح الفكر الإسلامي المعاصر: وما دمنا نتكلم عن الإسلام في العصر الحديث، فإننا نحترس من استخدام المصطلح الشائع الذي تأثرت به العلوم منذ ظهور فكرة دارون في النشوء والارتقاء ونعني به مصطح (التطور) والذي استخدمه الكثيرون حتى في مجال العقائد، ونسترشد هنا برأي الأستاذ الدكتور قاسم رحمه الله في رده على روجيه باستيد الذي ظن أن العقائد في الإسلام قد تطورت كما هي الحال فيما يتعلق بالعقائد المسيحية، وأغلب الظن أن جهله بعقائد الإسلام نفسه كان سببًا في جنوحه إلى هذا الرأي. وإذا بينا أن العقائد الإسلامية لم تتطور لهذا السبب اليسير، وهو أن القرآن دون مباشرة ولأن العقائد تتجه إلى العقل قبل كل شيء فلا يشعر بحاجة إلى تعديلها وتحويرها (1) . ولا يحتاج الأمر إلى كبير عناء للاستدلال على أن الاتجاه العام للفكر الإسلامي المعاصر، هو اتخاذ الإسلام محوراً ترتكز عليه جهود المخلصين من المفكرين المسلمين للانطلاق نحو إحياء جديد للحضارة الإسلامية التي ازدهرت في عصور الارتقاء بفضله. إن القرآن خلق العرب خلقًا جديدًا وقد وعد الله تعالى للمتمسكين به بالرفعة في الدارين والله عز وجل (غير مخلف وعده والقرآن لم يتغير وإنما المسلمون هم الذين تغيروا) (2) . ولسنا نؤرخ هنا عوامل اضمحلال الحضارة الإسلامية - إلا أننا نستطيع أن نغفل ظاهرة أخرى تشكل ملامح الفكر الإسلامي في عصرنا الحاضر، وهو إظهار فضل مفكري الإسلام على الحضارة الأوروبية المعاصرة، لقد بقي الغرب في تأخره

_ (1) قاسم: مقدمة كتاب مبادئ الاجتماع الديني لروجيه باستيد ص 6. (2) شكيب أرسلان: لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم ص 12، 14.

ثقافيًا واقتصاديًا (طوال الفترة التي عزل فيها نفسه على الإسلام ولم يواجهه، ولم ييدأ ازدهار الغرب ونهضته إلا حين بدأ احتكاكه بالعرب سياسيًا وعلميًا وتجاريًا. واستيقظ الفكر الأوروبي، على قدوم العلوم والآداب والفنون العربية من سباته الذي دام قرونًا ليصبح أكثر غنى وجمالا وأوفر صحة وسعادة) (1) . إن فهم هذه الحقيقة كان دافعًا لإعادة الثقة بالنفس، والتحول من موقف الخضوع لسلطان الحضارة الغربية، إلى موقف منابذتها وإظهار القدرة الذاتية للإسلام في مواجهة التحديات، لأن العالم الإسلامي (هدف ثمين من أهداف تصدير الأفكار نظرًا إلى موقعه وخطورة موقفه بين الكتل المتصارعة..، وأن يبقى هذا العالم مفتقرًا إليها على اختلافها وأن يحال بينه وبين أفكاره الأصلية التي يمكن أن تغنيه عن الاستيراد وتحقق له الاكتفاء الذاتي) (2) . ونلمح نموذجًا لهذا الموقف المتحدي من جانب الشيخ رشيد رضا في قوله: نتحداهم بالقرآن - وهو يقصد الفلاسفة والمؤرخين من جميع الأمم ولا سيما أحرار الإفرنج - بأن يأتوا بالإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي مؤكدًا تقديم أسمى الحضارة على أساس قرآني (3) . ويبدو أن هذه النزعة للشيخ السلفي أحدثت تأثيرًا حاسمًا في أغلب مفكري الإسلام المحدثين، إذ رأوا مثله، بأنه لا بد من إظهار حقيقة الإسلام كما عرفه السلف الصالح ورفض التأثيرات المتراكمة التي فصلت بين المسلمين في عصورهم الأخيرة وبين فهم أجدادهم للإسلام في القرون الأولى. وفي ضوء ظروف العصر كان لا بد للنظر إلى الإسلام في شموله في ذاته لأنه يتناول الجانب المادي وحياة الروح معًا. ويقتضي ذلك فصل الإسلام ذاته عن فهم المسلمين للإسلام خلال العصور المتأخرة لأنه بمضي العصور، وبسبب التقاء المسلمين بثقافات الأمم الأخرى، حدث أن تفرعت

_ (1) زيجفرد هونكه: شمس الله تسطع على الغرب ص 541 ط التجارية للطاعة والنشر دبي 1969 م. (2) كتاب (الإسلام يتحدى) لوحيد الدين خان ص 7. (3) رشيد رضا: الوحي المحمدي ص 165.

شعب ثلاث: أحدها فقهي، والثاني كلامي، والثالث أخلاقي، وكلما تقدم الزمن، انفصل بعضها عن بعض (بعد أن كان الإسلام وحدة شاملة) (1) . ومن أقوال محمد إقبال: (إننا نحن المسلمين نواجه عملاً ضخمًا إن واجبنا أن ننظر في الإسلام من جديد؛ بصفته نظامًا فكريًا، من غير أن تقطع صلتنا عن الماضي (2) ، وسنرى أنه كذلك قام بنقد أسس الحضارة الغربية المادية موضحًا أن المنهج الصحيح لفهم الإسلام هو أن (يطابق الكتاب والسنة وفهم السلف) (3) . ولكن لا يعني الاقتداء بالسلف الرجوع إلى الماضي بحيث تصبح الأمة الإسلامية (كأنها تعيش في متحف للتاريخ، كلا ولكن المقصود إقامة روح الإسلام الذي عرفه السلف وأخرج العرب من جزيرتهم فسادوا الأمم) (4) . الإسلام والعلم: هناك مقدمة لابد منها في بيان صلة العالم بالإسلام، وعالجها كثير من الباحثين وأفاضوا في شرح جوانبها لتجلية العلاقة الوثيقة بين الإسلام والعلم واستبعاد التوهم المصطنع الذي حاول به البعض الفصل بينهما في بداية الالتقاء بالحضارة المعاصرة وكان العالم الإسلامي حينذاك يغط في نوم عميق (5) ، فقام البعض محاولاً الدفاع عن حقائق الدين فأدّى به إلى الفصل

_ (1) محمد المبارك: الفكر الإسلامي الحديث فى مواجهة الأفكار الغربية 61 - 62 ط دار الفكر 1389 هـ 1970 م. (480) نفس المصدر ص 61. (2) أبو الحسن الندوي: الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية ص 121 ط دار الندوة بلبنان 1388 هـ 1968 م. (3) نفس المصدر ص 185. (4) أبو الأعلى المودودي: نحن والحضارة الغربية ص 335 - 336 وأول القضايا إزاء نقد حضارة الغرب هي قضية الإسلام والعلم. (5) قام الأستاذ الدكتور محمد جمال الدين الفندي بدراسة الآيات التي تحدثت عن الطبيعة: الهواء والماء، والرياح، والجبال والنجوم والسماء، ملفتًا الأنظار إلى ما في بعض آيات العلم من أوامر صريحة تطالب المسلمين بالبحث والدراسة وتأمرهم بالأخذ بأسباب العلم، حتى كأنها جزء لا يتجزأ من تعليم الدين أو من العبادات ذاتها وإذا كان المسلمون قد تخلفوا فمعنى ذلك: أنهم ولا شك قد ابتعدوا عن جوهر الإسلام مهما احتفظوا بطقوس من العبادات (الكون بين الدين والعلم ص 35) .

القاطع بين حقائق الدين ومعطيات العلم، وبالتالي إيجاد ثنائية بين التفكير العقلي واليقين القلبي، فموضوع العقل العلم وموضوع القلب الإيمان، وذلك تقليدًا لما حدث في أوروبا في عصر النهضة من انفصال بين الدين والعلم للأسباب التي قامت هناك حينذاك. ثم تغيرت هذه الصورة رويدًا رويدًا عندما انتشر التعليم، وأعيدت الثقة في النفوس وقام العلماء بشرح الآيات القرآنية في ضوء الاكتشافات العلمية، وظهرت حقيقة التوافق بين الإسلام والعلم بالأدلة التي لا تقبل الشك. وهنا نجد الدكتور موريس بوكاي يبدي دهشته البالغة عندما يستكشف في بحثه المبتكر في هذا المجال التوافق التام بين النص القرآني ومعطيات العلم الحديث، ثم - سرعان ما يقرر أنه لا داعي للعجب أو الدهشة في هذا (إذا عرفنا أن الإسلام قد اعتبر دائمًا أن الدين والعلم توأمان متلازمان فمنذ البدء كانت العناية بالعلم جزءا لا يتجزأ من الواجبات التي أمر بها الإسلام. وأن تطبيق هذا الأمر هو الذي أدى إلى ذلك الازدهار العظيم للعلوم في عصر الحضارة الإسلامية، تلك التي اقتات منها الغرب نفسه قبل عصر النهضة في أوروبا) (1) . أما عن وجهتي النظر التي يقابلهما الباحث في هذه القضية، وأعني بذلك وجهة النظر القائلة بأن النظريات العلمية كلها منصوص عليها بين دفتي القرآن الكريم، والأخرى التي تفضل عدم الزج بالقرآن في مجالات علمية قابلة للتغير في ضوء التجارب والمكتشفات المتوالية، فإن الرأي الوسط الذي نميل إليه أن كتاب الله عز وجل يستثير في بني آدم عملية التفكير ويحضهم على النظر في آيات الله الكونية المحيطة بهم في جوانب المخلوقات في عوالم النبات والحيوان والأفلاك والمجتمعات والتاريخ. ومهما يكن اختلاف الآراء حول القرآن الكريم من آيات عرف العلماء الآن دلالتها العلمية في العصر الحاضر من شمس وقمر وكواكب، أو تتحدث عن الأرض والسماء، أو خلق الإنسان وأطواره، فإن الرأي الراجح بين الرأيين السالف الإشارة إليهما - أن القرآن الحكيم ليس في الواقع من مراجع العلوم (ولكنه وجه الحديث إلى القلوب المتفتحة وإلى العقول الواعية في نفس الوقت، وهو بذلك كتاب مشاعر وأخلاق وفكر في آن واحد، يعطي من

_ (1) موريس بوكاي: القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم ص 14، ط دار المعارف سنة 1979 م.

كل منها القدر اللازم للبشرية حتى لا تكون ثمة حجة لقارئه في مختلف العصور ومنها عصر العلم) (1) . وها هي طريقة القرآن تبرهن أنها الوحيدة الثابتة بثبات القرآن مع تغير الدهور. ويزيدنا الدكتور "موريس بوكاي" إيضاحًا فيذهب إلى أن القرآن ليس كتابًا يهدف إلى عرض بعض القوانين التي تتحكم في الكون. إن له هدفا وسببًا جوهريًا. وأوصاف القدرة الإلهية هي المناسبة الرئيسية في توجيه الدعوات للبشر أن يتأملوا في أعمال الخالق. وتصاحب هذه الدعوات إشارات إلى أمور يمكن للملاحظة الإنسانية أن تدركها أو قوانين عرفها الله تلك - التي تسود انتظام الكون - في ميدان علوم الطبيعة وفيما يخص الإنسان على حد سواء. وهناك جزء من هذه الأقوال يسير الفهم ولكن هناك جزء آخر لا يمكن إدراك دلالته إلا إذا كان المرء يملك معارف علمية لازمة لهذا (2) . إن ثبات القوانين الطبيعية والنواميس الكونية يقابلها في انتظامها في مسيرتها ثبات أحكام العقول وبديهية الأوليات، إذْ لو لم تستمد العلوم أساسها من أوليات وبديهيات لانهار الصرح العلمي، ولما أمكن إثبات نظرية علمية. وبنفس البديهيات والأوليات، عرف الإنسان ربه عز وجل، بل الأسبق في فطرة الإنسان أن يعرف خالقه، فهو مفطور على ذلك كما أنه مفطور أيضًا على معرفة القوانين الأولية والبديهيات العقلية. ويرى الدكتور الفندي أن الذي يدرس ما جاء في القرآن الكريم من آيات بينات في شتى المجالات، يجد أن الإسلام إنما يخلق مجتمعًا (طبيعياً) يساير الفطرة ويتمشى مع الناموس الطبيعي، سواء من حيث ما فطر عليه، أو ما جبلت عليه الطبيعة.

_ (1) د. محمد جمال الدين الفندي: الله والكون ص 24. ط الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1976 م. (2) د. موريس بوكاي: القرآن الكريم ص 13- 14.

وهي نفس الفكرة التي أجمع عليها العلماء المسلمون عند تأكيدهم لتوافق الآيات العيانية والسمعية، وأن أدلة الشرع هي أدلة عقلية، حيث يأتي النظر والاستدلال أيًّا كانت وسائله تبعًا للعصور والأزمنة، معضدًا للفطرة التي فطر الله الناس عليها، وبانياً على العقيدة النظم الصالحة للمجتمع الإنساني. وهنا تظهر روعة القرآن الكريم، بل إنه أروع الكتب التي توضح العقيدة على هذا النمط وهو إلى جانب هذا، إنما يعطي الأحكام والأمثال والآيات كلها من الكون نفسه، ولهذا نطق على الإسلام اسم (الدين الكوني) أو دين الفطرة، ولهذا أيضًا يظل القرآن معجزًا أبد الدهر وتبقى حجته قوية إلى ما شاء الله (1) . وإذا كان قيام علماء الكلام في القرون الماضية باستخدام الأدلة المنطقية والتفكير النظري السائد آنذاك، فإن ما يتصل بالقضايا التي اصطلح على تسميتها (كلامية) في تاريخ الفرق، يتصل أوثق الصلات بالآفاق التي كشف عنها العلم وتجاربه في العصور الحديثة. ونود القول بأن الطريقة الاستدلالية التي استخدمها القرآن الكريم ظلت هي الوحيدة بين الطرق الأخرى - أي منهج الكلام والفلسفة - فهي ثابتة في نفسها كميزان عقلي متوافقة مع الاجتهادات العقلية، وتخاطب البشرية قاطبة مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة. وإذا أردنا إثبات ذلك بنبذة موجزة عن دليل الآفاق، فإن هذا الدليل ما زال - وسيظل - ثابتًا، لأن نواميس الله تعالى في الكون والنفس لا تتغير، وبقدر ما يمنح الله تعالى العلماء من علم لاكتشاف المجهول، بقدر ما تتسع معارفهم وعلومهم عن الكون والمخلوقات والأنفس. وقد سبق الإشارة إلى استخدام الصحابة رضي الله عنهم طريقة الاستدلال بحدوث العالم وهي طريقة عقلية شرعية كما قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ) [السجدة، الآية: 27] فهذا مرئي بالعيون، وقال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) ثم قال

_ (1) د. الفندي: الكون بين العلم والدين 14.

(أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت، الآية: 53] (1) . والآيات الكونية والنفسية أمامنا ثابتة النواميس ولكن وسائل العلماء أخذت في التطور فاستطاعوا اختراع آلات المقاييس والمجاهر (2) التي عمقت وزادت من القدرات الإنسانية على الاكتشاف ووسعت قوى الإدراك حيث يرى العلماء الآن في عالم الأفلاك ما لم يره علماء العصور السابقة ويجري العلماء المتخصصون التجارب بالوسائل المتطورة في مجالات عوالم الطبيعة والبحار والحيوان والنبات والميكروب وغيرها من الكائنات. السنن الإلهية إذن ثابتة، ولكن التطور حدث في وسائل الإنسان لمعرفة أسرارها، وفي ضوء هذه الحقيقة كيف أمر الله تعالى في كتابه الحكيم بالتدبر والنظر والتفقه والاستدلال بآيات الله تعالى حولنا وفي أنفسنا. والمستقرئ لآيات القرآن الكريم يلحظ أن أسلوب الدعوة القرآني يقوم على استثارة الفطرة الإنسانية، كمثل قوله تعالى: (أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) بدلا من لغة الفلسفة التي لجأ إليها أغلب المتكلمين ظنًا منهم أنها تؤدي للدفاع عن عقيدة الإسلام. وفي ضوء الآفاق التي امتدت إليها البحوث العلمية، أصبح الأسلوب المقبول هو الذي استخدمه القرآن الكريم قبل نحو أربعة عشر قرنًا، ومن ثم فإن المنهج الذي اتبعه علماء السنة أي الاقتصار على استخدام الأدلة الشرعية هو المناسب أيضًا لطبيعة العصر إذ يمكن اليوم وضع تعاليم القرآن أمام الناس بنفس الأسلوب الفطري الذي نزلت به آياته. والأمثلة كثيرة مبسوطة في المؤلفات التي عالجت موضوعات الدين بلغة العلم واكتشافاته، نشير إلى بعض الأفكار الرئيسية بها، إذ يرى وحيد الدين خان أن الأسلوب العلمي - على عكس الأسلوب الكلامي - يعتمد على البساطة والإيجابية التي تراعي سرد

_ (1) ابن تيمية: النبوات ص 52. (2) منها على سبيل الأمثال: المقراب أو (التلسكوب) المستخدم فى رؤية النجوم، ومقاييس أعماق البحار والمحيطات ومقاييس الحرارة والزلازل والسرعة والضغط وعلماء الأحياء والكيميائيون والجيولوجيون وغيرهم من العلماء.

الحقائق لغة وبيانًا (1) . ويرى الدكتور الغمراوي أن العلم في الإسلام جزء من الدين، مستنداً إلى تفسير آية الفطرة المارة بنا، مع النظر إلى موقعها بعد آيات قبلها في سورة الروم كلها من أية 17: 29 وهي آيات كونية تتعلق بظواهر طبيعية لا يدرسها ولا يبحثها ويكشف أسرارها إلا العلم التجريبي الحديث. ولو نظر الإنسان في نفسه وفيمن حوله لوجد نظريات العلم أتت موافقة لقوانين الفطرة، وهذا ما نص عليه القرآن الكريم في قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [الروم، الآية: 30] . ويقول الدكتور الغمراوي (والعلم الحديث يقوم وجوده على هذا القانون الإلهي، قانون (لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) إذ العلم وطريقته العلمية التجريبية متوقفة على اتساق الفطرة، واتساق سننها بالاطراد والثبوت) (2) . خذ مثلاً بعض الآيات القرآنية التي تتحدث عن بعض الظواهر الطبيعية كقوله تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 22] . وقوله سبحانه: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [البقرة، الآية: 164] . وقوله عز وجل: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى)

_ (1) وحيد الدين خان: الإسلام يتحدى ص 30. (2) د. الغمراوي: بين الدين والعلم ص 7.

[طه، الآيتان: 53، 54] . إلى غير ذلك من الآيات التي يسهل إدراكها بواسطة الناس جميعًا ومنهم أولئك الذين كان القرآن موجهًا إليهم وقت نزوله، ومن ناحية أخرى فهي تعبر عن تأملات عامة يستطيع الجمهور المتنوع الثقافة بحسب كل مكان وزمان (أن يستخرج منها تعاليم إذا ما كبد نفسه عناء التأمل، وتلك هي السمة الكونية الشاملة للقرآن) (1) .

_ (1) موريس بوكاي: القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم ص 196 - 197.

الباب الثامن دراسة في الفكر الإسلامي المعاصر

الباب الثامن دراسة في الفكر الإسلامي المعاصر محمد إقبال - حياته وعصره. - موقف محمد إقبال من الحضارة الغربية. - إقبال بين الغرب والشرق. - منهجه. - أهم آرائه. - الإنسان في القرآن. - الحقيقة بين التجربة العلمية والتجربة الدينية.

دراسة في الفكر الإسلامي المعاصر محمد إقبال وفي مجال هذه الدراسة، نرى استكمالاً للبحث، العرض بإيجاز لأفكار الشاعر المسلم محمد إقبال، إذ يعبر بآرائه عن نموذج متكامل معبر عن القضايا الكلامية المعاصرة، حيث جمع بين الثقافتين الغربية والإسلامية، واستطاع بمنهجه وإنتاجه - المازج بين الشعر والفلسفة - إظهار حقائق الإسلام والدفاع عنه بمنهج (كلامي) فلسفي مستخدمًا طريقة القرآن ومستلهمًا حقائقه، متحدثًا في الوقت نفسه بلغة العلم. تقول السيدة مريم جميلة الأمريكية المهتدية للإسلام في تقويمها لمكانة إقبال الفلسفية والأدبية: (في هوجة تفسخ المجتمع الإسلامي الذي زاد من تفسخه تفشي الهيمنة الغربية، وزاد من مرضه وتخلفه الاستعمار الغربي، وفي هوجة الفوضى والتشويش والعقم الحضاري والثقافي، ظهر وبقي العلامة الشاعر الفيلسوف محمد إقبال متميزًا أصيلاً في تاريخ الأدب الإسلامي الحديث كله) وترى أن قصائده الشعرية الفلسفية التي نظمها منذ أكثر من خمسين عامًا لا زالت حية حتى الآن ورسالتها تلائم يومنا الحاضر تمامًا (1) . وسنرى كيف وفق في بيان موقف الإسلام من المشكلات الناجمة عن الالتقاء بالحضارة المعاصرة.

_ (1) الإسلام في مواجهة الغرب: مريم جميلة ص 166/ 167 ترجمة طارق خاطر ط. المختار الإسلامي سنة 1992 م.

حياته وعصره

محمد إقبال حياته وعصره ولد محمد إقبال في سيالكوت بالبنجاب عام 1289 هـ - 1873 م وكان أبوه تقيًا فألحقه بكتّاب لحفظ القرآن الكريم، وقد تلقى الابن تأثيرًا وحُبًّا من الأب، وكاد محمد إقبال يتخذ طريقًا دينيًا بحتًا لولا أن صديقًا لوالده - الذي كان يعمل بالزراعة - حثه على أن يتلقى الابن العلوم الحديثة، فالتحق بمدرسة البعثة الاسكتلندية في سيالكوت في رعاية صديق الوالد (مولانا مير حسن) وكان ضليعًا في الآداب الفارسية والعربية. التحق بعد ذلك بالكلية الأميرية في لاهور حيث اختار الفلسفة مجالاً لتخصصه، وفيها تتلمذ على يد المستشرق سير توماس أرنولد، ثم سافر إلى إنجلترا للدراسات العليا في الفلسفة حيث حصل على الماجستير ثم اتجه بعدها إلى ألمانيا، وهناك حصل على الدكتوراه في الفلسفة، إذ منعه النظام البريطاني من الحصول عليها لأنه أجنبي. وذاعت شهرته في أوروبا إذ أخذ يترنم شعرًا بأفكاره الإسلامية. وعاد من أوروبا بانطباع جديد عام 1327 هـ - 1908 أنه إذا كانت مادية الغرب خالية من القيم الروحية والأخلاقية، فإن روحانية الشرق أصبحت خاوية، فرأى إعادة الروح إلى الحضارة الإسلامية بنفخة من الشرق والغرب معًا، فعلم الغرب وتقدمه التكنولوجي يعملان على القضاء على الفقر والمرض، ولكن ليس على الشرق أن يكرر خطأ الغرب بعبادة القوى المادية وإنما يجب أن نخضع هذه لأهداف روحية لأن إنقاذ البشرية لا يتم إلا بالدين. والمسلمون أنفسهم في حاجة إلى تجديد الفكر الديني وإزالة معالم الجمود والتحلل التي طمست معالم الإسلام الأصلية، كان دقيقًا في اعتبار حركته الفكرية (إعادة بناء الفكر الحديث) لأن أية محاولة إنسانية لا تتعلق بتعديل مبادئه طالما أن مصدره وهو القرآن له صفة الجزم والتأكيد الأبدية فإن دوره إذن يقتصر على إفهام المسلمين لمبادئه، فالتطور إذن في تفسير تعاليمه وليس هناك تطور في الإسلام نفسه على النحو الذي تم بفعل (مارتن لوثر) في المسيحية. واشتغل بالمحاماة إلى جانب اشتغاله بالتعليم والتدريس في الجامعة من الخارج إذ درس الفلسفة في المدارس الأميرية ولكنه اضطر لتركها لأن إشراف الإنجليز لم يسمح له بالتعبير عن أفكاره، ثم عين عميدًا لكلية الدراسات الشرقية ورئيسًا لقسم الفلسفة دون التفرغ

موقف محمد إقبال من الحضارة الغربية

للتدريس، وكان يلقي المحاضرات العامة فألقى محاضرات في مدراس عام 1928 م ثم جمعت فأصبحت أهم كتاب فلسفي له (تجديد الفكر الديني في الإسلام) . شارك في الحياة السياسية، وكان عضوًا في حزب الرابطة الإسلامية وانتخب في الجمعية التشريعية سنة 1926، وكان يدعو إلى استقلال المسلمين في دولة تجمعهم ثم أصبح رئيس حزب الرابطة الإسلامية في البنجاب سنة 1935 م. توفي في إبريل سنة 1938 (1) . موقف محمد إقبال من الحضارة الغربية: إذا انتقلنا إلى التأريخ للحركات الإسلامية بالهند قبل إنشاء الباكستان في عام 1947 فإننا نجد أن حركات كثيرة ظهرت في أوائل القرن التاسع عشر تجعل شعارها (الرجوع إلى القرآن) . وكانت هذه الحركات بمثابة رد فعل لتزايد المؤثرات الخارجية في حركة الغزو الاستعماري الغربي لبلاد الإسلام، وكان حامل لوائها محمد إقبال الذي كان (أهم ما يشغله هو الرجوع إلى تلك العقيدة البسيطة ليسترد الإسلام ما فقده) ، وربما كان مرد إعجابه بحركة محمد عبد الوهاب يرجع إلى هذا السبب، فقد سماه (المطهر العظيم) (2) . وكافح محمد إقبال حتى ظهرت دولة الباكستان إلى الوجود ومن ثم أصبح هو (الأب الروحي) لها، كما أن غرس الثقافة الإسلامية الجديدة التي بدأت في الهند قبل إقبال بنحو قرن كامل أثمرت النتاج العقلي له، كما يذهب إلى ذلك أبو الحسن الندوي ويصفه بأنه أعمق مفكر وجده الشرق في عصرنا الحاضر (3) . وكان محمد إقبال مشبعًا بالثقافة الغربية، ولكن - مع هذا - لم يدفعه ذلك إلى العودة لتقليد الحضارة الأوروبية كما فعل غيره من مفكري المسلمين في العصر الحديث حيث قنعوا بمظهر الحضارة الأوروبية الخلاب وأخفقوا في فهم روحها الصحيحة وذهب إلى العكس من ذلك فإن الماضي البعيد ظل ماثلاً أمام عينيه حيث استمد الفكر الأوروبي وحيه من الإسلام

_ (1) د. محمد البهي: صلة الفكر الإسلامي بالاستعمار الغربي ص 434. (2) م. ل. فزاز: وجهة الإسلام ص 119، 129. (3) أبو الحسن الندوي: الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية ص 98.

خلال العصور الوسطى. وفي النص الذي ننقل ترجمته فيما يلي، يعبر لنا عن تحذيره الشديد للمسلمين من هذه الحضارة فيقول: (ولكن إياك والحضارة اللادينية التي في صراع دائم مع أهل الحق، وإن هذه الفتانة تجلب فتنًا وتعيد اللات والعزى إلى الحرم وإن القلب يعمى بتأثير سحرها.. وإنها تدع الإنسان لا روح فيه ولا قيمة له) (1) . إن ثقافته الغربية التي اغترف منها بعمق، هي التي جعلته يدرك في سهولة ويسر عمق الصلة بين فكر فلاسفة الغرب المحدثين، والفكر الإسلامي في أوج نضجه، ومن ثم فقد اكتشف أن أوروبا كانت بطيئة في إدراك الأصل الإسلامي لمنهجها العلمي، ويعدد الأدلة على الجذور الإسلامية لنهضة الغرب فيعثر عليها في منهج الشك الذي أفاض فيه الغزالي ومهد به السبيل إلى ديكارت، كما تنبه لنقد ابن تيمية للمنطق الأرسططاليسي وبرهنته على أن الاستقراء هو الطريقة الوحيدة الموصلة إلى اليقين ومن ثم (قام المنهج التجريبي القائل بأن الملاحظة والتجربة هما أساس العلم وأصله لا التفكير النظري) وانتقاله إلى جون ستيوارت مل. كذلك تلقى روجر بيكون علومه من الجامعات الإسلامية بالأندلس إلى غير ذلك من ميادين الفكر التي تتمثل في الرياضيات والفلك والطب، وكانت نتيجة ثورة عقلية إسلامية على الفلسفة اليونانية. من هذه النظرة الواسعة يخلص مفكرنا إلى أن الزعم (بأن أوروبا هي التي استحدثت المنهج التجريبي زعم خاطئ) . أضف إلى ذلك أن نظر إقبال في القرآن، وإحاطته بنتاج الفكر الإسلامي في شموله واتساعه جعله يؤكد أن (معارضة القرآن لعلوم القدامى أكدت وجودها بالرغم من أولئك الذين كانت رغبتهم في أول الأمر هي تفسير الإسلام على ضوء التفكير اليوناني) (2) ويقصد

_ (1) الترجمة العربية من قصيدة (ضرب كليم) نقلا عن كتاب الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية للندوي ص 99. (2) محمد إقبال: تجديد التفكير الديني ص 149 - 164.

إقبال بين الغرب والشرق

بذلك نقده للفلاسفة الذين حاولوا التوفيق بين عقائد الإسلام وفلسفة اليونان كابن سينا وابن رشد. إنه لم يستبعد احتمال إعادة الحيوية للفكر الإسلامي من جديد إذا ما تخلص من جمود التقليد فهو يقول: (عندما ندرس أصول الفقه الإسلامي الأربعة المتفق عليها.. وهو يعني القرآن والحديث والإجماع والقياس على الترتيب - وما ثار حولها من خلاف، فإن ذلك الجمود المزعوم عن مذاهبنا المعترف بها يتبخر ويبدو للعيان إمكان حدوث تطور جديد) . بهذا العقل الناقد للحضارة الغربية، المطلع على التراث الإسلامي في مظانه الحقيقية، استطاع هذا المفكر أن يتخلص من روح اليأس من مظاهر أحوال المسلمين - مثلما فعل ابن تيمية من قبل بعدة قرون - ونظر بروح متفائلة مؤكدًا إمكان قيام الحضارة الإسلامية من جديد، إذا ما عادت الأمة الإسلامية إلى أساس حضارتها دون تقليد أوروبا (التي لا نصيب لها في التوجيه السماوي والتنزيل الإلهي. إنه يرى - فضلا عن ذلك - المخطط اليهودي مسيطرًا على أوروبا بحضارتها المادية، فليست المصارف إلا وليدة دهائهم) ، بل (لا يستغرب أن يرث تراثها الديني ويدير كنائسها اليهود) (1) . وعلى هذا فإن المصدر الأصلي للتجديد الذي ينادي به هو الإسلام لأنه التوجيه السماوي، وقد أثر القرآن في عقلية إقبال وفي نفسه ما لم يؤثر فيه كتاب أو شخصية. إقبال بين الغرب والشرق: وظل إقبال سنين طويلة يفكر فى حال المسلمين، ويمعن النظر في أسباب ضعفهم، ويجول في دروب تاريخهم الطويل، فيتفتق ذهنه عن أنظومة رائعة، يخاطب بها الإنسان المسلم المعاصر (يا شاكيا جور الزمان ويا أسير الوهم والحسبان، اجعل قميصك ثوب الإحرام وأطلع الصبح في هذا الظلام، واستغرق كآبائك في السجود حتى تكون سجدة للواحد المعبود) إن المسلم الأول خضع للخلاق فسيطر على الآفاق ومشى على الشوك في سبيل الحق، فأنبت الورد في الغرب والشرق. ويوجه إليه اللوم، فيقرعه، ويتساءل في أسى (إني لأرعد من خزيك يوم يسألك

_ (1) قصيدة ضرب كليم (كتاب الصراع. ص 100) .

الرسول - صلى الله عليه وسلم -: قد أخذت منا كلمة الحق، فلماذا لم تسلمها إلى الخلق) (1) ؟ ومعنى هذا أن الأمة الإسلامية قد قصرت في أداء رسالتها، وها هو يضع يده على عللها، فقد استحوذت على عقول المسلمين الأوهام والخرافات وانهمكت نفوسهم في الخلافات والخصومات، فلم يفقدوا وحدتهم فحسب بل فقدوا جميع مرافق الحياة ووسائل النمو والتقدم في هذا الكون، أي: بأنهم تخلفوا في ميدان القيادة في العالم الفكري والحضاري جميعًا ففي الجانب الأول - كالتصوف أو الشريعة أو الدين - أصبحوا وثنيين وعباد آلهة العجم بعد أن كانوا موحدين ومعلمي التوحيد للعالم أجمع وفي الجانب الثاني رأى أن روح القرآن في جملتها تعارض الفلسفة القديمة، فإنه ليس كتاب فلسفة ولكن فيه هدي إلى مقاصد الحياة ورقيها، ويجعلنا ندرك أن الإسلام دين يعنى بالعمل أكثر مما يعنى بالفكرة. ولكن المسلمين خالفوا روحه وطغت عليهم نزعة التواكل، فالقول بالقضاء الذي يحمله نقاد الغرب للإسلام في كلمة (القسمة) يرجع بعض سببه إلى التفكير الفلسفي وبعضه إلى ما لحق القوة الحيوية التي كان الإسلام قد بعثها في أتباعه أول الأمر، من ضعف تدريجي (2) . وأيضًا يولي فيلسوفنا وجهه قبل التصوف الذي كان له تأثير في بداية حياته، ولكن بعد دراسته واكتشاف أثره كأحد عوامل تأخير المسلمين، يعود فيلفظه. ويعني به تصوف وحدة الوجود أي التفسير الفلسفي الصوفي الذي أخذ به ابن عربي، إذ بينما - يرى الإسلام (الأنا) مخلوقاً ينال الخلود بالعمل، جعل ابن عربي فلسفة وحدة الوجود عنصرًا في الفكر الإسلامي، ثم اصطبغ كل شعراء العجم في القرن السادس الهجري بهذه الصبغة، فخاطب فلاسفة الهند - العقل - في إثبات وحدة الوجود، وخاطب شعراء إيران - القلب - فكانوا أشد خطرًا وأكثر تأثيرًا حتى أشاعوا بدقائقهم الشعرية هذه المسألة بين العامة فسلبوا الأمة الإسلامية الرغبة في العمل (3) .

_ (1) عبد الوهاب عزام: محمد إقبال - سيرته وفلسفته وشعره ص 105. (2) محمد إقبال: تجديد التفكير الديني ص 127. (3) عبد الوهاب عزام: محمد إقبال ص 51 - 52.

ليست إذن عقيدة وحدة الوجود من تعليم القرآن، فإن القرآن يبين المغايرة التامة بين الخلق والمخلوق أو العابد أو المعبود، ولكن امتد أثر هذه الفلسفة مع الأيام فأحدثت آثارًا هائلة في تغيير مفاهيم إسلامية أخرى، ويضرب إقبال مثلا على ذلك بالجهاد كشعيرة يراها الإسلام من ضرورات الحياة، ويلفت النظر إلى هذه الرباعية، التي ترنم بها الصوفية ودندنوا حول ما سموه (العشق الإلهي) حيث استخدموا اللغة الرمزية في مثل قول أحدهم: (يسلك الغازي كل سبيل من أجل الشهادة، ولا يدري أن شهيد العشق أفضل منه كيف يستوي هذا وذاك يوم القيامة، هذا قتيل العدو وذاك قتيل الحبيب) ولكنه يعلق على ذلك بقوله: (وهذا جميل في الشعر ولكنه خدعة لإبطال الجهاد) . فلا نعجب إذن من الظاهرة التي تتضح في شعر إقبال كما لاحظ النقاد، فالأمل يظهر في شعر إقبال كله، فهو باعث الحياة، والجهاد الدائب في رأيه هو المحافظة على هذه الحياة. وإن قارئ إقبال ليروعه إعظامه الأمل، وتصويره إياه، وإشادته بالعمل الدائب، والجهد المستمر، بل يرى إقبال أن الجهاد في سبيل المقصد أعظم لذة من بلوغه، فيقول: (طوبى لمن لا يزال في أثر المحمل أي لذة في الاضطراب دون وصول) ؟ وإذا كانت فلسفة وحدة الوجود قد انتقلت حقًا إلى الغرب ونراها بوضوح عند الفيلسوف الهولندي الإسرائيلي اسبينوزا إلا أن الذي أنقذهم منها رغبتهم في العمل، فلم يلبث طويلا لطلسم وحدة الوجود أن انحسر في الغرب، فقد تبين بأدلة رياضية سبق الألمان إلى إثبات حقيقة (الأنا) الإنسانية المستقلة، ثم تحرر من هذا الطلسم الخيالي فلاسفة الغرب على مر الزمان ولا سيما فلاسفة الإنجليز الحسيين التجريبيين. ويفسر لنا سبب عزوفه عن التصوف ووحدة الوجود أمام حملة النقد التي وجهت إليه فيقول في رسالة سنة 1915: (إني بفطرتي وتربيتي أنزع إلى التصوف وقد زادتني فلسفة أوروبا نزوعًا إليه، فإن فلسفة أوروبا في جملتها تتوجه إلى وحدة الوجود، ولكن تدبر القرآن المجيد، ومطالعة تاريج الإسلام بإمعان أشعراني بغلطي، ومن أجل القرآن عدلت عن أفكاري الأولى، وجاهدت ميلي الفطري، وحدت عن طريق آبائي) . ويلخص منهجه في بيان القيمة الإيجابية في توجيه الإسلام لإنقاذ المسلمين من ضغط

الفكر المادي الطبيعي وسيادته في أوروبا وانتشار الدعوة إليه في الهند خاصة في ذلك الوقت عن طريق السيد أحمد خان (1) . أما تعليله للمادية في الغرب. فيرجع إلى توجيه أممه إلى العالم بحثًا وتنقيبًا ودراسة واستخدامًا، وغفلت عن الحق تعالى تمامًا، فأدى بها إلى عبادة المادة والتجرد من خلال الإنسانية الحقة وبينما سلك الغرب الطريق فإن أمم الشرق اتجهت بكليتها إلى الحق صارفة أنظارها عن العالم مما جعلها لا تعبأ بتسخير الكون، فتحولت إلى فقر وعوز واستذلها غيرها (2) . كذلك يرى إقبال أنه لا يمكن الوصول إلى الحقيقة الكاملة بواسطة الفلسفة النظرية مغلبًا الجانب العملي الدائب لإصلاح النفس فيقول: فتفكر في ذاتك، ولا تخش المرور من هذه البادية. فأنت موجود ووجود العالمين ليس شيئًا، اجتهد في إصلاح شخصيتك وتكميلها، ولا تمض في الحياة خائفًا مذعورًا، فوجودك هو الوجود ووجود العالمين ليس شيئًا إذا قيس بوجودك باعتبارك مكرمًا من جانب الله تعالى. وبعد عدة أبيات شعرية أخرى يصف فيها طرق إصلاح النفس والوصول إلى درجة عالية من الرقي الروحي، مناديًا بأنه ينبغي على الإنسان أن يهمل كل ما لا يعنيه في الوصول إلى الهدف المنشود ألا وهو وجود الحق تعالى. وعندئذ فإن الجنة هي الهبة النهائية وهي جزاء العمل (فالجنة التي وهبك الله إياها ليس لها قيمة أو اعتبار ما لم تكن جزاء على عمل صالح قد قدمته) (3) . وهكذا يتجه إقبال للاهتمام بالروح ويعطيها المكانة الأولى في جانب المعرفة والجانب الأخلاقي. يقول إقبال: (يا من تقول: إن الجسد حامل الروح انظر سر الروح ولا تعبأ بالجسد.

_ (1) د/ محمد إسماعيل الندوي: نظرات جديدة في شعر أمثال [[كذا في المطبوع، والصواب: "إقبال"]] ص 152 ط. المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية صفر 1389 مايو سنة 1969 م. (2) محمد إقبال: رسالة الخلود - أو جاويد نامة ص 99 ترجمة وشرح وتعليق د/ محمد السعيد جمال الدين 1974 م. (3) نفسه ص 119.

إن هذا الجسد ليس مخزنًا لروحنا ولا رفيقًا لها يذهب معها حيثما ذهبت، بل لا يزيد عن كونه حفنة من التراب وهل تحول حفنة من التراب دون تحليق الروح؟) (1) . ويرفع إقبال من شأن العمل وجهاد النفس لكي ترقى وتسمو بصاحبها. يقول: (إن القرب من الله تعالى أمر ليس يسير المنال، إنه في حاجة إلى جهاد مع النفس مع قيود الزمان والمكان، فلا تتحدث عن غربتك وعن رغبتك في القرب الإلهي وأنت خامل، وإنما انهض واعمل على ترقية روحك حتى تصل إلى هدفك) (2) . وما دامت الروح هي الوجود الفعال المؤثر، ووجودها هو الوجود الجوهري بينما وجود المادة عرضي، فإن السبيل الوحيد لسعادتها هو التجربة الدينية، لا سيما الصلاة، فالفلسفة معرفة جزئية والعلم كذلك ولكن الدين ينطوي على الأكمل لأنه منهاج المعرفة الصحيح. ويقيم إقبال تصوراته عن الإنسان ومكانته ومصيره على أصول من الآيات القرآنية إذ المعنى الحقيقي للإنسان (أنه هو الذي جعله الله خليفة له وأودع فيه صلاحية الرقي، وسيظل يطوي مراحل الرقي إلى أن يأتي اليوم الذي يتحقق له التوازن في الصفات فيكون معتدلاً موزونًا كبيت من الشعر، عادلاً كخالقه) . ويرى استنادًا إلى قصة الخلق في القرآن الكريم أن وجود الإنسان في الأرض وجود مؤقت فهو في شوق دائم إلى موطنه الأصلي أي الجنة (3) . يقول إقبال: (والإنسان بما وهب الله له من قوى متوازنة على أحسن ما يكون قد ألقى نفسه في أسفل ميزان الوجود وقد أحاط به من كل جانب قوى تقيم في وجهه العقبات) . ويرى أن انعكاس البيئة الدنيوية على الإنسان هي سبب قلقه وشغله الدائم بالمثل العليا والبحث عن آفاق جديدة ومع أن نصيب الإنسان في الوجود شاق وحياته وهن كورقة الورد، فليس للروح الإنسانية نظير بين جميع الحقائق في قوتها، وفي إلهامها وفي جمالها.

_ (1) نفسه ص 83. (2) نفسه ص 111. (3) نفسه ص 69 وص 112.

أهم آرائه

وبهذا التحليل يرتفع فيلسوفنا بقيمة الإنسان ومكانته حتى يقوم بمسؤولية حمل الأمانة، ويستحق أن يكون خليفة الله تعالى فى الأرض (1) . أهم آرائه: تعد قصيدته المشهورة (أسرار خودي) سنة 1915 م أول دواوينه الفلسفية وأهمها، وكلمة (خودي) تدل في لغتها الفارسية على الأثرة والعجب والأنوية وما يتصل بها وفي الأردية تعني: دعوة في الأخلاق منكرة وفي التصوف أشد نكرًا، لكن إقبال نقل (خودي) إلى مفهوم أخر، جعله أصل فلسفة له، فأراد بها الذاتية، وهي مفتاح فلسفته كلها، إذ رأى أن العالم قائم بهذه الذاتية، وأن الإنسان بهذه الذاتية يقوم على قدر قوتها وضعفها بل يخلد أو يفنى باستحكامها أو اضمحلالها، لهذا فإن الواجب الإنساني في هذه الحياة ينبغي أن يتوجه لمعرفة ذاته وتقويتها وتنمية مواهبها واستنباط ما في فطرتها، وليس من الخير في شيء إنكار الذات أو إضعافها بل هو الشر كل الشر، كما لا ينبغي العمل لفنائها ولا الرضا به كما يفعل الهنادك وصوفية العجم، بل لا تفنى الذاتية في الله تعالى وليس من الخير السعي إلى إفنائها فيه. ونستطيع الإلمام بأهم آرائه إذا أحطنا علمًا كما أسلفنا بالمؤثرات الثقافية في تكوينه، فقد نشأ في بيئة إسلامية تميل إلى التصوف، والتقى بحضارة الغرب في أوج نضجها قبل الحرب العالمية الأولى، وعكف على القرآن يدرسه، بعقلية المتشبع بالفلسفة الغربية، وأعلن: (لو أن مسلمًا متفلسفًا بَيَّن المسائل القرآنية في ضوء الأفكار والتجارب الحديثة ما صح اتهامه بأنه يقدم شرابًا جديدًا في ثياب قديمة، ولكني أبين حقائق قديمة في ضوء الأفكار الجديدة. ما أشد أسفي لجهل الغرب بالإسلام والفلسفة الإسلامية) !. وتشير هذه العبارات إلى مقومات فلسفته وأصولها، فقد استمد من القرآن الحكيم أهم خصائص فلسفته الذاتية، ونعني بها تصوره للإنسان وأصل نشأته ومصيره فقد كشف القرآن الأسرار الكامنة والطاقات الهائلة في الإنسان، وسخر له

_ (1) د/ محمد إسماعيل الندوي: نظرات جديدة في شعر إقبال ص 76.

الإنسان في القرآن

هذا الكون، وجعله خليفة الله في الأرض إذ يصف إقبال الإنسان بأن الله سبحانه وتعالى وهب له من القوى المتوازنة على أحسن ما يكون، قد ألقى بنفسه في أسفل ميزان الوجود، وقد أحاط به من كل جانب قوى تقيم في وجهه العقبات (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) [التين، الآيتان: 4، 5] (1) ، وكل ذلك لتقوية ذاته بواسطة مقاومة العقبات التي تصادفه كما سيأتي. الإنسان في القرآن: إن الإنسان كائن قلق كما رأينا في رأي إقبال. (وهو على ما فيه من نقائض أسمى من الطبيعة. إذ إنه يكيف مصيره ومصير العالم كذلك ويسخر القوى ... ولكن المنهج الذي يضعه القرآن يجعل تفسير الإنسان لنفسه أساسًا وآيات خلافته للأرض تشير إلى أن الإنسان موهوب بالملكة التي تجعل له القدرة على وضع أسماء للأشياء أي إنه يكون التصورات لها) (2) . ولكن الإنسان هو خليفة الله في الأرض والمعصية الأولى التي أوردها القرآن كانت بمثابة أول فعل للإنسان تتمثل فيه حرية الاختيار. ويصور الحياة كمغامرة تيسر الابتلاء (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء، الآية: 35] . على أن المغزى لحادثة سجود الملائكة لآدم عليه السلام يتعلق بأمرين أولهما أفضلية الإنسان في المعرفة حيث تبين الآيات القرآنية تفوق آدم على الملائكة في معرفة أسماء الأشياء، أما الأمر (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى) [طه، الآية: 120] أي إشارة إلى رغبة (لا تقاوم في الحصول على ملك لا يبلى) (3) . وقد توقف إقبال عند هذا الشرح مكتفيًا بالإشارة إلى أن معنى الحياة للإنسان يتحقق في الشكل الفردي (فإن الحياة معناها أن يكون للإنسان شكل معين، وفردية

_ (1) د. محمد إسماعيل الندوي: نظرات جديدة في شعر إقبال ص 76. (2) تجديد التفكير الديني ص 101 - 102. (3) نفسه.

متحققة الوجود في الخارج) . إلا أنه يفسر قوله تعالى: (قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) [الأعراف، الآية: 24] بأنها تعبر عن الصراع بين الأفراد المتعارضين أثناء سعي كل منهم للكشف عن إمكانياته وعن أسباب ملكه، إن هذا الصراع هو سبب ألم الدنيا. ومن نظرته للوجود الشخصي الفردي جعل الأمانة التي ذكرتها آية (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) [الأعراف، الآية: 172] جعل هذه الأمانة ستشمل عنصري الخير والشر لأنها قائمة على أساس حرية الاختيار، وقد خلقه الله تعالى للاختبار مع وضع الأمثلة للرجولة الحقة كالصبر في البأساء والضراء والاعتقاد في الفوز في النهاية لمن اجتاز الابتلاء بنجاح. ويصور لنا إقبال الحياة الإنسانية في شكل معركة حقيقية، تبرز فيها عناصر المقاومة والكفاح الدائم، ولكن الإنسان يملك في نفسه من أسلحة المقاومة ما هو كفيل بنجاحه وانتصاره، فبالرغم من أن نصيب الإنسان في الوجود شاق، وحياته كورقة الورد، فليس للروح الإنسانية نظير بين جميع الحقائق في قوتها وفي إلهامها وفي جمالها. وقدر على الإنسان أن يشارك في أعمق رغبات العالم الذي يحيط به. وأن يكيف مصير نفسه ومصير العالم، وتسخير هذه القوى لأغراضه، على شرط أن يبدأ بتغيير نفسه (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: آية 11] . وهنا تظهر لنا الشخصية الإنسانية كأوضح ما تكون، لأن القرآن قد بينها - من وجهة نظر فيلسوفنا - مؤلفة من أمور ثلاثة واضحة كل الوضوح على التفصيل الآتي: أولا: إن الإنسان قد اصطفاه الله (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) [طه: 122] . ثانيًا: إن الإنسان بالرغم من أخطائه جميعًا، أريد به أن يكون خليفة الله في

الحقيقة بين التجربة العلمية والتجربة الدينية

الأرض. (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة: آية 30] (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ) [الأنعام: آية 165] . ثالثًا: إن الإنسان أمين على شخصية حرة، أخذ تبعتها على عاتقه (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب: آية 72] . واستخلص إقبال، من هذه الأمور، أن مهمة الإسلام الحقيقية هي كشف الذات الإنسانية وإبرازها، والذات خالدة أبدًا، ولا تفقد وجودها حتى بعد الموت، ويعد القرآن أعلى مراتب السعادة الإنسانية للإنسان وجزاؤه الأوفى تدرجه في السيطرة على نفسه، هذه السيطرة التي يكفلها خضوعه لأوامر الله عز وجل (فمن طريق حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والخضوع لشريعته - سبحانه - في نقائها الأصيل وصورتها التامة والتمسك المخلص بأركان الإسلام، تصل شخصية المسلم إلى قمة اكتمالها، إذا ما عملت بقانون الله على الأرض) (1) . الحقيقة بين التجربة العلمية والتجربة الدينية: كان لا بد لإقبال أن يدلي بدلوه وسط ضجة التجارب العلمية والاكتشافات التي تمت، عن طريق المنهج التجريبي بأوروبا، وطغيان هذه الظاهرة أمام انحسار موجة الدين وأهميته للحضارة البشرية، ورأى ضرورة إعداد الإنسان العصري إعدادًا خلقيًا يؤهله لتحمل التبعة العظمى التي لابد من أن يتمخض عنها تقدم العلم الحديث، والدين كفيل بتحقيق هذه الغاية؛ لأنه يحث على سعي المرء سعيًا مقصودًا للوصول إلى الغاية النهائية للقيم (2) .

_ (1) مريم جميلة: الإسلام في مواجهة الغرب ص 169. (2) تجديد الفكر الديني: محمد إقبال ص 217.

ونستطيع تفسير موقف محمد إقبال هنا بالمقارنة بين فريقي العقل والنقل في الفكر الإسلامي، فمن هذا الوجه، يعد من الآخذين بهما معا كسلفه ابن تيمية. وكان لا بد للفيلسوف المعاصر لأوروبا في أوج حضارتها، القارئ لتراثها والفاهم لإنتاج فلاسفتها، أن يستلهم الإسلام في حل المشاكل التي يراها تتفتق أمامه عن أزمات لا يستهان بها. قال: (لا ريب في أن اللحظة الحاضرة تمثل أزمة خطيرة في تاريخ الثقافة العصرية) بعد فشل أسلوب التصوف، في العصور الوسطى والقومية والاشتراكية الإلحادية، في شفاء علل الإنسانية البائسة؛ لأن أسلوب التصوف كان أبعد ما يكون عن تدعيم قوى الحياة النفسانية عند الرجل العادي، بحيث يعده للمشاركة في موكب التاريخ، فعلمه نوعًا من الزهد الزائف، وجعله يقنع بجهله ورقِّه الروحي قناعة تامة وكان لأسلوب الاشتراكية الملحدة الحديثة ما للدين الجديد من حمية وحرارة، ولكنها استمدت أساسها الفلسفي من المتطرفين أمثال هيجل، وأعلنت العصيان عن المصدر الذي كان يمكن أن يمدها بالقوة والهدف، ويؤكد أنها ستتأثر بغير شك بالقوى السيكولوجية للكراهية والارتياب في نيات الغير والأحقاد، تلك القوى التي تنزع إلى إضعاف روح الإنسان وإنضاب ينابيع قوته الروحانية الخفية (1) وكان إقبال متنبئًا بسقوط الشيوعية، سابقًا لعصره في رؤية ثمارها القاتلة. ولمعرفة رأي إقبال في الحل المقترح، لا بد أن نعرض بإيجاز شديد للمقارنة بين الحقيقة في التجربة العلمية، والتجربة الدينية: عندما نضع (العلم) في مجموع التجربة الإنسانية، يشرع ينكشف عن طبيعة مختلفة، والعلوم جزئية بطبيعتها، وعلى هذا فإن الأفكار التي تستخدمها في تنظيم المعرفة جزئية بطبعها، وتطبيقها اعتباري بالنسبة لمستوى التجربة التي نستخدمها فيه وأظهر دليل على ذلك تطورات النظرية العلمية، على مر الأجيال عن المادة. والتجربة، كما تنكشف في الزمان، تتمثل في ثلاث مستويات كبرى، هي: مستوى المادة.. ومستوى الحياة.. ومستوى العقل وهي - على التوالي-

_ (1) نفسه.

موضوعات علم الطبيعة وعلم الأحياء وعلم النفس. ولقد وجه النظر إلى بعض آيات الكتاب الكريم التي تتصل بالموضوع: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [البقرة: آية 164] (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) [آل عمران: 190] . (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) [النور: 44] . وينتقي من أقوال بعض الفلاسفة ما يؤيده الواقع المشاهد والتجارب العلمية. فمن أقوال هوايتهد: إن العالم ليس شيئا قارًّا، بل هو بناء من حوادث، كأنها سيل متصل خلاق، وهذه الصفة لسير الطبيعة في موكب الزمان، ربما كانت أبرز وجوه التجربة التي أكدها القرآن على وجه خاص. والكون الذي يبدو لنا في صورة - مجموعة من الموجودات ليس مادة صلبة تشغل فراغًا، إنه ليس شيئًا، إنما هو فعل وطبيعة الفكر المتجدد، على ما يرى برجسون. إن الطبيعيات تدرس العالم المادي والعالم الطبيعي الذي يبدأ وينتهي بالظواهر الحسية التي يستحيل بغيرها أن يتحقق من صدق نظرياته، والطبيعيات مقصورة على درس عالم المادة، أي: عالم الأشياء المحسوسة. أما الحركة العقلية التي يتضمنها هذا الدرس وكذلك التجربة الدينية، فإنها أمور خارجة عن ميدان الطبيعيات. وعلى سبيل المثال عندما أصف السماء بأنها (زَرْقاء) فإن هذا لا يدل على أن هذا اللون صفة موجودة في السماء وإنما يدل على أن السماء تحدث في العقل إحساسًا بالزرقة (1) .

_ (1) (القبة الزرقاء: ظاهرة ضوئية نراها فوق رؤوسنا أثناء النهاية، وتحدث في غلاف الأرض =

وقد أثبت عالم الرياضيات والطبيعة هوايتهد، أيضًا بطريقة قاطعة، أن الألوان والأصوات.. إلخ، في نظر العلم، ليست إلا أحوالاً ذاتية لمدركها لا جزءا من الطبيعة، فاللون والصوت عبارة عن موجات أثيرية تراها العين وموجات هوائية تسمعها الأذن، أي: أن - بعبارة هذا العالم - تصبح نصف الطبيعة (حلمًا) ، ونصفها الثاني (ظنًا) . بعبارة أخرى إن النزعة التجريبية التي بدت أول الأمر أنها تقتضي المادة العلمية، انتهت إلى ثورة على المادة. ولقيت أيضًا نظرية المادة أعظم لطمة على يد (أينشتاين) ، حيث زعزع بنظريته عن النسبية معنى الجوهر، كما اصطلح عليه القدماء، أكثر مما زعزعه جدل الفلاسفة كله. إن المادة عند قدماء الفلاسفة هي شيء يلبث في الزمان ويتحرك في مكان، ولكن النسبية في الطبيعيات قوضت دعائم هذا الرأى، حيث تذهب إلى أن (القطعة من المادة ليست شيئًا ثابتًا له أحوال متغايرة، بل أصبحت مجموعة حوادث مرتبطة بعضها ببعض) . وبهذا ذهبت صلابة المادة التي قيل بها قديمًا، وذهبت معها الخصائص التي كانت تجعلها تبدو، في نظر المادي، شيئًا أقوى في حقيقته من الأفكار التي تجول في العقل وعلى هذا فليس ثمة شيء اسمه مادة لها وجود في ذاتها، كما كان الرأي في علم الطبيعيات القديم. لذلك فإن النظرية النسبية بوصفها نظرية علمية، لها قيمة مزدوجة

_ = الجوي بسبب تشتت أشعة الشمس الزرقاء فيه بوفرة وغزارة دون سائر الأشعة الأخرى، وما القبّة التي تبدو لنا ليلاً مرصّعة بالنجوم إلا صورة ظاهرية، لا تمثل الحقيقة والواقع، ولا يزيد ارتفاعها على نحو 200 كم فقط من إجمالي ارتفاع الغلاف الجوي الذي يبلغ 1000 كم وعندما يصعد رجال الفضاء يرونها تحتهم حول الأرض، بينما يظهر الفضاء الكوني على طبيعة حالك الظالم) ص 108 من كتاب: (الإعجاز العلمي للقرآن بين الآيات القرآنية والنظرية العلمية) تأليف أحمد المرسي حسين جوهر مكتبة الإيمان بالمنصورة 1421 هـ 2000 م.

من الناحية الفلسفية (فهي أولاً: لا تهدم حقيقة الوجود الخارجي وإنما تهدم النظر إلى الجوهر، باعتباره مجرد شيء قائم في مكان، وهو رأي انتهى إلى المادية في علم الطبيعيات القديم، فالجوهر في نظر الطبيعيات النسبية ليس قائمًا بذاته له أحوال متغايرة ولكنه مجموعة من حوادث يتعلق بعضها ببعض) (1) . وهكذا أخذت (المادة) طبيعة مختلفة، لأن العلم لا يستطيع أن يقيم نظرياته على اعتبار أنها رأي كامل عن الحقيقة، وعلى هذا فإن الأفكار التي يستخدمها في تنظيم المعرفة جزئية بطبعها، كما رأينا، وتطبيقها اعتباري بالنسبة لمستوى التجربة التي نستخدمها، وقد أصبح هذا الاستدلال في غاية الأهمية، حيث إن العلماء قد اعترفوا بأن العلوم المادية لا تعطي إلا علمًا جزئيًا عن الحقائق. أما الدين فهو السبيل إلى معرفة (الذات الكلية) فالعبادة فيه - وعلى وجه أخص الصلاة - هي المدخل في نظر إقبال إلى إدراك تلك الحقائق الكلية إدراكًا قريبًا. إن حقائق الدين فوق العلم، ولا تستطيع العلوم المادية الوصول إليها. ويكشف إقبال عن خطأ التعريفات للدين التي وضعها (يونج) ومضمونها - في الجملة - هو أن الدين لا يصل بين ذات الإنسان وبين أية حقيقة واقعية خارج نفسه بل هو مجرد تدبير بيولوجي حسن القصد أريد به إقامة حدود ذات طابع أخلاقي حول المجتمع الإنساني لكي تحمي البناء الاجتماعي من غرائز الذات التي لا يكبح لها بغير ذلك جماح، وكأن يونج قد رأى في المسيحية أنها انتهت من رسالتها بسبب تصوره للحياة الدينية الرفيعة مجرد قهر النفس للبواعث الجنسية، ولكن محمد إقبال يفند هذا الزعم الخاطئ لأن قهر البواعث الجنسية ليس إلا مرحلة تمهيدية من مراحل تطور الذات وارتقائها. وكما يؤكد أيضًا أن علم النفس الحديث لم يمس بعد الحياة

_ (1) لمزيد إيضاح، ينظر كتاب (أينشتين والنظرية النسبية) للدكتور محمد عبد الرحمن مرحبا، ص 128 حيث يذكر اعتقاده بأن الأشياء المادية لا وجود لها فى ذاتها، بل هي تمثل مركبات من الإحساسات تتكرر باستمرار، وأن العالم مؤسس على العقل، ومن الممكن فهمه (ص 129) وأن أصنام الفلسفة القديمة أخذت تتحطم؛ فالمادة، بمعناها المتداول تبخرت، وأصبحت لا مادية ص 131. ط. دار القلم - بيروت سنة 1974 م.

الدينية حتى في هوامشها، وأنه ما زال بعيدًا عما يسمى تنوع الرياضة الدينية. ويرى فيلسوفنا أن الدين، هو في جوهره حال من أحوال الحياة الواقعية، هو الطريقة الوحيدة للبحث في الحقيقة، وبوصفه نوعًا من رياضة عالية رفيعة، يصحح أفكارنا في فلسفة الإلهيات لأن الإدراك وحده لا يؤثر في الحياة إلا تأثيرًا جزئيًا، أما العمل - وربما يقصد هنا العبادة وأخصها الصلاة - فيظهر في السيطرة على الأفعال السيكولوجية والفسيولوجية لتهيئة الذات لكي تكون صالحة للاتصال المباشر بالحقيقة القصوى، وهو وسيلة لإدراك الحق، ويفتح لنا أبوابًا جديدة من الشعور، كما يفتح المجال لإمكان وجود تجربة تهب الحياة وتفيد العلم (فالسؤال عن أن الدين يمكن أن يكون نوعًا من تجربة أسمى وأرفع سؤال مشروع تمامًا ويتطلب الانتباه الجدي) . وأيضًا فإن مطمح الدين يسمو فوق مطلب الفلسفة، فالفلسفة نظريات وأما الدين فتجربة حية ومشاركة واتصال وثيق، وينبغي على الفكر لكي يحقق هذا الاتصال أن يسمو فوق ذاته وأن يجد كماله في حال من أحوال العقل يسميها الدين الصلاة، والصلاة لفظ من آخر ما انفرجت عنه شفتا نبي الإسلام عند وفاته - صلى الله عليه وسلم -. تم الكتاب بحمد الله وتوفيقه.

المراجع

المراجع (أ) اقتضاء الصراط المستقيم - ابن تيمية ابن تيمية - المراغي (سلسلة أعلام المسلمين. ط. الحلبي) . آراء فلسفية في أزمة العصر - أدريين كوخ. مكتبة الأنجلو المصرية سنة 1963 م. أبو الحسن الأشعري - د. حمود غراب ط مجمع البحوث الإسلامية 1393 هـ- 1973 م. إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق - ابن الوزير اليماني ط الآداب بمصر. أحمد بن حنبل والمحنة - والتر بيتون. الله والكون - د. محمد جمال الدين الفندي. الإسلام قوة الغد العالمية - ترجمة الدكتور محمد شامة - بول شميتز. الإسلام يتحدى - وحيد الدين خان. الإسلام والغرب والمستقبل - أرنولد توينبي. الإيمان - ابن تيمية - مكتبة أنصار السنة المحمدية بالقاهرة. (ب) البداية والنهاية - ابن كثير. البرهان في معرفة عقائد الأديان - عباس بن منصور السكسكي الحنبلي - دار التراث العربي 1400 هـ - 1980 م تحقيق: خليل أحمد إبراهيم الحاج. بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية - ابن تيمية. البرهان القاطع - ابن الوزير اليماني. البرهان في علوم القرآن - الزركشي - ط الحلبي سنة 1957 م. بين الدين والعلم - د. الغمراوي. (ت) - تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام - د. محمد علي أبو ريان.

تاريخ الفلسفة اليونانية - يوسف كرم. تاريخ الدولة العباسية - د. جمال الدينى الشيال. تدوين العلم - الخطيب البغدادي. تأويل مختلف الحديث - ابن قتيبة. تجديد التفكير الديني - محمد إقبال. تفسير سورة الإخلاص - ابن تيمية. تذكرة الحفاظ - الذهبي. التعريف بابن تيمية - محمد أبو زهرة - من كتاب أسبوع الفقه الإسلامي. تيارات في الفكر الإسلامي - د. محمد عمارة. تبيين كذب المفتري على الإمام أبي الحسن الأشعري - ابن عساكر. تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية - الشيخ مصطفى عبد الرازق ط لجنة التأليف والنشر والترجمة بالقاهرة 1363 هـ - 1944 م. تفسير الإمام عبد الحميد بن باديس. التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية - د. عبد الرحمن بدوي. تلبيس إبليس - ابن الجوزي. التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع - الملطي. تاريخ بغداد - الخطيب البغدادي. تاريخ الكامل - ابن الأثير. التنبيه والإشراف - المسعودي ط القاهرة (1357 هـ - 1938 م) تصحيح ومراجعة عبد الله إسماعيل الصاوي. (ج) جامع الرسائل الكبرى - ابن تيمية تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم ط المدني بالقاهرة سنة 1969 م. جلاء العينين في محاكمة الأحمدين - الألوسي. جواب أهل العلم والإيمان - ابن تيمية.

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح - ابن تيمية. جامع ييان العلم وفضله - الحافظ ابن عبد البر القرطبي. (ح) الحيدة - عبد العزيز المكي - مطابع الشرق الأوسط - الرياض. حضارة الإسلام - فؤاد محمد شبل. الحضارة - د. حسين مؤنس. (د) - دفاع عن العقيدة - محمد الغزالي - دار الكتب الحديثة - القاهرة. دول الإسلام - الذهبي - ط حيدر آباد 1346 هـ. (ر) الرد على المنطيين - ابن تيمية - ط لاهور (1396 هـ - 1976 م) الروض الباسم في الذبّ عن سنة أبي القاسم - ابن الوزير اليماني. الرد على الزنادقة والجهمية - أحمد بن حنبل. رجال الفكر والدعوة في الإسلام - الندوي. رحلة ابن بطوطة - المطبعة الأزهرية. رسالة الخلود (أو جاويد نامة) - محمد إقبال. (س) سقوط العلمانية - أنور الجندي. السلوك - ابن تيمية - ط الرياض. الاستيعاب - ابن عبد البر. أسد الغابة في معرفة الصحابة - ابن الأثير - ط الشعب. (ش) شمس الله تسطع على الغرب - زيجرد هونكة. شرح العقيدة الأصفهانية - ابن تيمية. شرح حديث النزول - ابن تيمية.

شرح عقيددة السفاريني - ط المنار سنة 1323 هـ بمصر. شرح الطحاوية - تحقيق الألباني. شرف أصحاب الحديث - الخطيب البغدادي - ط دار إحياء السنة النبوية أنقرة 1972 م تحقيق د. محمد سعيد خطيب أوغلي. (ص) الصفدية - ابن تيمية - تحقيق د. محمد رشاد سالم - مطابع حنيفة - الرياض 1396 هـ - 1976 م. صلة الفكر الإسلامي بالاستعمار - د. محمد البهي. صون المنطق - السيوطي - ط. البحوث الإسلامية. الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية - أبو الحسن الندوي - ط دار الندوة لبنان. (ط) طبقات الشافعية - ابن السبكي. الطب فيِ محراب الإيمان - د. خالص جلبي. (ظ) ظاهرة الرد في المجتمع الإسلامي الأول - محمد حسن بريغش - ط. مؤسسة الرسالة - بيروت. (ع) عقائد السلف - ابن قتيبة - تحقيق د. النشار وعمار الطالبي - منشأة المعرفة بالإسكندرية 1971 م. الاعتصام - الشاطبي - ط. دار الشعب. العقود الدرية - ابن عبد الهادي. عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين - ابن القيم - مطبعة الإمام. عقائد المفكرين في القرن العشرين - عباس العقاد - دار الكتاب العربي - بيروت 1971 م.

(غ) غاية المرام في علم الكلام - سيف الدين الآمدي - ط المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة 1391 - 1971 م - تحقيق: د. حسن عبد اللطيف. غاية الأماني في الرد على النبهاني - أبو المعالي السلامي. غياث الأمم في التياث الظلم - (الإمام الجويني) - ط. دار الدعوة بالإسكندرية 1399 - 1979 م - تحقيق د. مصطفى حلمي ود. فؤاد عبد المنعم. (ف) الفتاوى الكبرى - ابن تيمية - تحقيق حسين محمد مخلوف - ط الرياض. في الفلسفة الإسلامية - د. مدكور في الأصول على الأئمة الفحول - أبو الحسن الكرجي. الفهرست - ابن النديم - ط فلوجل ليبسك 1871 م. الفرق وطبقات المعتزلة - القاضي عبد الجبار - ط. دار المطبوعات الجامعية تحقيق د. النشار وعصام الدين محمد علي. الفرقان بين الحق والباطل - ابن تيمية. الفكر الإسلامي الحديث في مواجهة الأفكار الغربية - محمد المبارك. فلسفة الحضارة - البرت اشفيتسر ترجمة د. عبد الرحمن بدوي. في الأخلاق والاجتماع - د. إبراهيم مدكور - ط الهيئة العامة للنشر. (ق) القول الجلي في ترجمة شيخ الإسلام - صفي الدين الحنفي. قواعد التحديث القاسمي. قواعد المنهج السلفي في الفكر الإسلامي - د. مصطفى حلمي - دار الأنصار بالقاهرة. القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم - موريس بوكاي - ط دار المعارف سنة 1979 م. (ك) كتاب السنة - أحمد بن حنبل - المطبعة السلفية - مكة المكرمة 1349 هـ.

كشاف اصطلاحات الفنون - التهانوي. الكون والثقوب السوداء - زهير الكرمى - سلسلة كتب عالم المعرفة بالكويت. الكون بين الدين والعلم - د. محمد جمال الدين الفندي. (ل) لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم - شكيب أرسلان. (م) مقالات الإسلاميين - أبو الحسن الأشعري. المفردات في غريب القرآن - الراغب الأصفهاني. مبادئ الاجتماع الديني - روجيه باستيد - د. قاسم. ميزان الاعتدال في نقد الرجال - الذهبي. معارج الوصول إلى أن أصول الدين وفروعه قد بينها الرسول - ابن تيمية - المكتبة العلمية بالمدينة المنورة. موافقة صحيح المعقول - ابن تيمية. الملل والنحل - الشهرستاني - ط بدران. منهاج السنة النبوية - ابن تيمية. المغني في أبواب التوحيد والعدل - القاضي أبو الحسن عبد الجبار - وزارة الثقافة والإرشاد. الموسوعة العلمية المختصرة - مكتبة الأنجلو المصرية. المنتقى - الذهبي - تعليق الأستاذ محب الدين الخطيب. محنة شيخ الإسلام في سجنه - تحقيق الشيخ محمد حامد الفقي. مناهج البحث عند مفكري الإسلام - د علي سامي النشار. من حضارتنا - د. جورج عطة. مدخل إلى القرآن الكريم - محمد عبد الله دراز - ط دار القلم - الكويت 1391 هـ - 1971م. مقدمة ابن خلدون - ابن خلدون - ط دار الفكر 1399 هـ- 1979.

مفاتيح العلوم - الخوارزمي - ط المنيرية سنة 1942 هـ مناقب الإمام أحمد بن حنبل - ابن الجوزي. محمد إقبال سيرته وفلسفته وشعره - عبد الوهاب عزام. مراتب الإجماع - ابن حزم. (ن) نحن والحضارة - أبو الأعلى المودودي، الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد - دار الكتب 1344 هـ - 1925 م. نظرات جديدة في شعر إقبال - د. محمد إسماعيل الندوي. نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام - د. النشار. نقد المنطق - ابن تيمية. نظريات شيخ الإسلام في السياسة والاجتماع - المستشرق الفرنسي هنري لاووست - ط دار الأنصار بالقاهرة. النبوات - ابن تيمية - ط السلفية 1386 هـ. نقد الدارمي على المريسي - الدارمي. الإنسان ذلك المجهول - الكسيس كارليل - تعريب شفيق أسعد فريد - مؤسسة المعارف بيروت. (هـ) هل للإنسان مستقبل - بارتراند راسل - ترجمة عايد - الرباط - الدار القومية للطباعة والنشر. (و) وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان - لأبي العباس شمس الدين أحمد بن خلكان - تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد - مطبعة السعادة بالقاهرة سنة 1984 م. - الوحي المحمدي - محمد رشيد رضا.

فهرس الموضوعات الموضوع مقدمة.................... 3 الباب الأول الفصل الأول: عصر الصحابة.................... 9 أصول الدين في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة.................... 12 رد الرسول - صلى الله عليه وسلم - على وفد نجران.................... 14 القرآن كلام الله تعالى.................... 15 الإيمان بالقدر وفهمه على الوجه الصحيح.................... 16 الملائكة.................... 17 الفصل الثاني: مكانة الصحابة - رضي الله عنهم - في الأمة.................... 19 منهج الصحابة فى النظر والتدبر.................... 23 الأدلة النقلية والعقلية على فضل الصحابة.................... 26 أولا: الأدلة النقلية.................... 26 ثانيًا: الدليل العقلي.................... 29 الباب الثاني: أحداث الردة والفتن.................... 37 الافتراق عن مذهب الصحابة - رضي الله عنهم - في أصول الدين.................... 41 موقف التابعين إزاء المخالفين.................... 44 أحوال أهل الجنة.................... 48 ظهور الجدل فى أصول الدين.................... 49 مذهب أهل السنة والجماعة.................... 51 الباب الثالث: نشأة الكلام في الدين وعوامل ظهوره:.................... 51 الفصل الأول: مراحل ظهور الكلام في الدين.................... 55 عوامل نشأة المشكلات الكلامية.................... 59 ذم السلف للكلام المبتدع.................... 66 أسباب ذم علم الكلام.................... 67

علم الكلام بين الأصالة والابتداع.................... 69 الفصل الثاني: علم الكلام.................... 71 تعريف علم الكلام.................... 73 أهم موضوعات علم الكلام.................... 75 حجج المتكلمين في الدفاع عن منهجهم.................... 78 رأي علماء الحديث ني هذه الحجج.................... 79 الباب الرابع: موقف أهل الحديث والسنة من المعتزلة:.................... 85 الفصل الأول:.................... 85 التعريف بعلماء الحديث ومنهجهم.................... 87 سلاسل الإسناد.................... 88 منهج علماء الحديث فى أصول الدين.................... 89 موقف أهل الحديث والسنة من المعتزلة.................... 91 الأصول الخمسة عند المعتزلة.................... 91 كلمة عن الصفات الإلهية.................... 94 الإيمان بالقدر وعلاقته بالإرادة الإنسانية.................... 97 دوافع علماء الحديث لمجابهة المتكلمين.................... 103 علم الكلام لدى علماء الحديث والسنة.................... 106 الفصل الثاني: محاورات علماء أهل السنة مع المعتزلة:.................... 111 أ- الإمام أحمد بن حنبل وابن أبي دؤاد.................... 113 حياته وعصره.................... 114 منهجه مع المتكلمين.................... 116 المحنة.................... 121 2- عبد العزيز المكي، وبشر المريسي:.................... 127 المنهج.................... 127 صفات الله عز وجل.................... 127 إثبات أن كلام الله تعالى ليس مخلوقا.................... 130 الفرق بين الجعل والخلق.................... 132 إقامة الحجة بالتنزيل.................... 133 إقامة الحجة بالنظر والقياس.................... 134

إثبات علم الله تعالى بنص التنزيل.................... 136 إثبات الفعل والقدرة بالنظر والقياس.................... 140 أولا: بالنظر والمعقول.................... 140 ثانيًا: إثبات أن القرآن كلام الله بمنهج القياس.................... 141 الاستواء على العرش.................... 143 الفصل الثالث:.................... 147 صلة العقل بالشرع.................... 149 الشرع.................... 149 العقل.................... 150 أدلة الشرع عقلية.................... 154 تعقيب.................... 157 الباب الخامس:.................... 159 علم الكلام على مفترق الطرق.................... 161 السلف والأشاعرة.................... 161 محنة خلق القرآن ونتائجها المنهجية.................... 163 التعريف بابن كلاب.................... 169 إثبات صفة العلو لله تعالى شرعًا وعقلاً.................... 172 الإمام أبو الحسن الأشعري والمنهج السلفي.................... 173 التمييز بين الأشاعرة والسلف عقيدة ومنهجًا.................... 178 صفات الله سبحانه وتعالى.................... 179 نظرية الكسب الأشعرية وتفسير أفعال الإنسان.................... 182 عدل الله تعالى وحكمته.................... 186 نظرية الجوهر الفرد وتفسير الخلق والبعث.................... 189 توافق أدلة الكتاب والسنة مع الواقع المشاهد.................... 191 صعوبات أمام النظرية في تفسير البعث.................... 193 ظهور الحقيقة لأئمة الأشاعرة:.................... 196 - تحول أئمة الأشعرية إلى طريقة السلف.................... 196 - تقييم ابن تيمية لشيوخ الأشاعرة.................... 200 - طريقة السلف أعلم وأحكم.................... 202

الباب السادس: موقف ابن تيمية من القضايا الكلامية:.................... 205 مقدمة.................... 207 حياته وعصره.................... 208 خلقه.................... 212 منهجه.................... 214 هدم المنطق الأرسططاليسي وإعلاء الميزان القرآني.................... 219 الفطرة الإنسانية وطرق المعرفة.................... 223 الهدى والبينات.................... 226 مواقفه إزاء القضايا الكلامية.................... 228 الصفات الإلهية.................... 228 إثبات صفات الله تعالى وأفعاله بالأدلة العقلية.................... 230 طرق البراهين القرآنية.................... 233 الميزان القرآني.................... 233 فياس الأولى.................... 235 الاعتبار واللزوم.................... 237 الباب السابع: القضايا الكلامية في العصر الحاضر:.................... 245 المشكلات الكلامية في ضوء التفسير التاريخي.................... 245 مسائل الإجماع في العقيدة والعبادات.................... 250 الالتقاء بالغرب وآثاره على القضايا الكلامية.................... 252 ما هي الحضارة؟ .................... 254 صلة العلم بالدين في العصر الحديث (أو العلاقة بين المادة والروح) .................... 258 المشكلات الكلامية الطارئة في العصر الحديث.................... 261 ملامح الفكر الإسلامي المعاصر.................... 262 الباب الثامن: دراسة في الفكر الإسلامي المعاصر - محمد إقبال.................... 273 حياته وعصره.................... 274 موقف محمد إقبال من الحضارة الغربية.................... 275 إقبال بين الغرب والشرق.................... 277

أهم آرائه.................... 282 الإنسان فى القرآن.................... 283 الحقيقة بين التجربة العلمية والتجربة الدينية.................... 285 المراجع.................... 291 فهرس الموضوعات.................... 299

§1/1