منهج النقد في علوم الحديث

نور الدين عتر

المقدمات

المقدمات التقريظ: كلمة جامعة لفضيلة الأستاذ الجليل العلامة الدكتور الشيخ محمد محمد أبو شهبة، أستاذ التفسير والحديث في الدراسات العليا في جامعة الأزهر سابقا، وفي كلية الشريعة بمكة المكرمة حاليا، وعميد ومؤسس كلية أصول الدين في أسيوط، وصاحب المؤلفات العلمية القيمة في الحديث، وعلومه، ورجاله، نثبت نص كلمته فيما يلي (¬1): "الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد: فإن كتاب: "منهج النقد في علوم الحديث" لمؤلفه العلامة الأستاذ الدكتور نور الدين عتر كتاب قيم جليل تميز على المؤلفات في هذا الفن بمزايا كثيرة تجعله في مقدمة المؤلفات الحديثة في هذا الفن الجليل. ومن هذه المزايا: أ- حسن التقسيم والتفصيل: فإن المؤلف الفاضل قد ابتكر في ¬

_ (¬1) وقد اكتفينا بهذه الكلمة عن التقاريظ الكثيرة التي تلقيناها من عدد من كليات الشريعة وأصول الدين والمراكز العلمية. ومن فضيلة العلامة المحقق الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي محدث الديار الهندية ورئيس مجلس الإفتاء، ومن الأستاذ الدكتور يوسف وإن إس رئيس قسم الدراسات العربية في جامعة توبنجن: ومن كبار المستشرقين في أوربة. هذا مع شكرنا الجزيل للجميع، من ذكرنا ومن لم نذكر، أجزل الله مثوبتهم، وجعلنا خيرا مما يظنون.

تقسيم وتنويع "علوم الحديث" أو "أصول الحديث" فصاغه صياغة جديدة، في نظرية علمية كاملة تبرز كمال هذا العلم ودقته، وتجعل الأنواع المتعلقة بكل جانب من الحديث مجتمعة في باب خاص، فجعل ما يتعلق بالمتن من أنواع علوم الحديث أو قواعد الحديث على حدة، وما يتعلق بالأسانيد على حدة، وما يجمع بين الأسانيد والمتون على حدة، بالإضافة إلى الدراسة التاريخية المبتكرة لأدوار هذا العلم، وكيف كان الحديث يحاط في كل عصر بما يكفل حفظه من الدس أو الخلط. كل هذا مع المحافظة على جوهر هذا العلم وعرضه في حلة جديدة، فكان الكتاب بذلك وثيقة علمية هامة وفريدة في طريقتها يثبت حفظ هذه الأمة لحديث نبيها صلى الله عليه وسلم وصيانتها إياه، ويبطل ما قد يقع في بعض الأوهام من شك أو تردد. وما أشد حاجة طلاب العلم في الجامعات الإسلامية وغيرها إلى هذه التآليف المبسطة والمقدمة في أسلوب سهل، والتي تعالج ما ثار من شبهات حول هذا الفن. وقد قام المؤلف بذلك خير قيام. ب- الاعتناء بضرب الأمثلة لأنواع علوم الحديث، وعدم الاقتصار على الأمثلة التي ذكرها الأئمة القدامى، كما نجده في المؤلفات الأخرى، مع الاعتناء بشرح الأمثلة اعتناء جيدا. وقد سهل له هذا اطلاعه على كتب الحديث ورواياته المشهورة، وهذا أمر يلمسه من يقرأ هذا الكتاب بتمعن. وبذلك زاد في العلم زيادات أثرت هذا العلم وجعلته صالحا للتجديد. جـ- العناية الفائقة بتخريج الأحاديث التي مثل بها لأنواع علوم الحديث، ومنهاج النقد عند المحدثين، وعزوها إلى مخرجيها الذين رووها في كتبهم، وبيان الراجح في الحكم على الأحاديث التي اختلف في بيان درجتها علماء الحديث والجرح والتعديل، فلم يكن مجرد ناقل، وإنما

جمع إلى ذكر أقوال العلماء الترجيح، وبذلك ظهرت شخصيته العلمية واضحة في هذا الكتاب. د- العناية بالتعريف بالأعلام الذي ذكروا في هذا الكتاب بتواريخ وفيات العلماء: وهذا من الأمور المهمة التي ينبغي أن يعنى بها المؤلفون في أي فن، وبذلك يضع أمام القارئ صورة صادقة للتطور العلمي، والتدرج في التأليف في هذا الفن وغيره من العلوم وزبدة تاريخ كل علم، دون ما بحث أو جهد من القراء، وقد بدا ذلك واضحا في الكتاب. هـ- سعة الاطلاع على كتب هذا الفن التي تكون في مجموعها مكتبة مستقلة بذاتها، وإن القارئ ليلمس أن المؤلف الفاضل غاص في أعماقها من مخطوط ومطبوع، واستخرج درر فوائدها، ثم نظمها نظما بديعا في هذا الكتاب. وومن محاسن هذا الكتاب دقة التحرير للأقوال والآراء التي كثرت فيها الخلافات، والتوفيق بين الآراء التي ظاهرها التعارض، وبيان أن الاختلاف بين العلماء في العبارات، إنما يرجع إلى الاختلاف في الأنظار والاعتبارات، وبذلك رفع عن أئمة الحديث ما عسى أن يأخذه عليهم من لم يتبحر في هذا الفن، ولم يقف على اجتهاداتهم فيه، فيرميهم بالتناقض وإنهم يخالف بعضهم بعضا، وذلك مثل ما فعل في بحث المنقطع، وبحث المرسل، وبحث الشاذ، والمنكر، وغيرها. ز- الرد على بعض المؤلفين الذين ألفوا في هذا الفن، فلم يوافقوا الصواب، بعبارة عفة مهذبة، وبذلك سار على نهج أئمة الحديث في النقد من أمثال الإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم. وهذا من أحسن المناهج في النقد الموضوعي، وليس أدل على ذلك مثل ما ذكره في هامش ص 383

وهامش ص" (403) " (¬1). ح- عناية المؤلف بالرد على بعض الآراء الاستشراقية التي لم تقم على أساس علمي سليم، وإنما هي أفكار صليبية، ظهرت واستعلنت على ألسنة هؤلاء المستشرقين الذين تجنوا على السنن والأحاديث تجنيا مذموما كي يشككوا المسلمين في الأصل الثاني من أصول التشريع، ذلك كما صنع في مواضع أثناء الكتابة، ثم في (390) وما بعدها إلى آخره (¬2). وقد ناقش المستشرقين مناقشة جادة منصفة، تتسم بالنقد الموضوعي. ط- حرصه في بحوثه على بيان أن مناهج المحدثين في النقد سواء كان ذلك في النقد الداخلي: نقد المتون. أم في النقد الخارجي: نقد السند هي آصل المناهج في النقد وأدقها. ويظهر ذلك جليا في الخاتمة تحت عنوان: مناقشات ونتائج. ص (432) وما بعدها (¬3). وهذه الخاتمة بما لخصه فيها من نتائج تعتبر قيمة جدا، وهكذا فلتكن البحوث الجادة الهادفة. ي- إبرازه دقة تطبيق المسلمين لهذا المنهج النقدي الدقيق الكامل الشامل كل جوانب النقد، ودحضه مزاعم المستشرقين الذين تقوَّلوا الأقاويل الباطلة في هذا الموضوع، ودعم ذلك بالحجج القاطعة والبراهين الساطعة. وبعد هذا المطاف في هذا المؤلف القيم "منهج النقد في علوم الحديث" فإنا نؤكد الإشادة بمزاياه، وجمعه بين أصالة القديم وجدة الحديث، وحسن العرض للمعلومات الحديثية الدقيقة، وبيان تحقق إنجاز الوعد الإلهي: ¬

_ (¬1) انظر مقابلها ص 406 و 427 من هذه الطبعة. (¬2) انظر ص 410 وما بعدها من هذه الطبعة. (¬3) انظر ص 457 وما بعدها من هذه الطبعة.

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. بما وفق الله المسلمين إليه من صيانة الأحاديث النبوية، وذلك كله في أسلوب سهل قريب، ونشيد به ونقرظه لما فيه من الإثراء لهذا العلم الإسلامي العظيم: علم السنن والأحاديث. فقد أفاد المؤلف هذا العلم إفادة ظاهرة واضحة، وخدمه خدمة جليلة. وإن من يبتكر هذا النظام البديع لعلوم الحديث ويقارع المستشرقين وأضرابهم بهذه الحجج الباهرة، وبهذا البيان الساطع والفكر النير ينبغي أن يعطى حقه ويعرف فضله، وينتفع به. ونسأل الله لنا وله التوفيق والسداد، وأن ينفع بعلمه طلاب هذا اللون من الثقافة الإسلامية الأصيلة. إنه نعم المولى ونعم النصير، ونعم المكافئ والمجازي للعلماء العاملين. في 20/ 11/ 98 هـ خادم القرآن والسنة الدكتور محمد بن محمد أبو شهبة

تصدير الطبعة الثالثة

بسم الله الرحمن الرحيم تصدير الطبعة الثالثة: الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على خاتم الأنبياء والمرسلين، والذي جاء بهذا الدين الحكيم، المحفوظ من كل تغيير وتبديل، بحفظ رب العالمين إلى يوم الدين، وعلى آله وصحبه، ومن سلك سبيلهم وتمسك بحبل السنة المتين. أما بعد: فهذه الطبعة الثالثة لكتابنا "منهج النقد في علوم الحديث"، نقدمها لمحبي علم السنن والآثار، بل لكل باحث ناقد، يتوجه إلى الحقيقة بعقل علمي ممحص، ولكل مثقف يريد أن يقف على أصول هذا الدين، ليستيقن بنقل هذه الأمة حديث نبيها صلى الله عليه وسلم بأمانة وثقة، وتواتر، وكيف أنها ابتكرت لتحقيق ذلك أقوم وأدق سبيل نقدي على مدى الأزمان: وتشبثت بتطبيق ذلك غاية التشبث عبر التاريخ، منذ أول عهدها بالرواية إلى يوم الناس هذا، وتحقق بذلك إنجاز الوعد الإلهي: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. ولعله من التحدث بنعمة الله تعالى أن نذكر هنا ما لقيه هذا الكتاب من القبول لدى الجهات العلمية الإسلامية والأجنبية، لما اختص به من منهج

جديد، صاغ علم مصطلح الحديث، في نظرية نقدية مبتكرة متكاملة، ولمناقشته آراء الذين تصدوا لنقد المحدثين، وإزالته اللبس الذي وقع فيه بعض الكاتبين. كما أننا نعلن في هذه المناسبة عن ضرورة تزويد طلاب الجامعات في أقسام التاريخ، والدراسات الاجتماعية بدراسات عن هذا العلم، تربط بين علوم الحديث عند المسلمين وبين النقد التاريخي الأجنبي، الذي هو مدين لنا ولعلمنا هذا، كما نرى ضرورة إدخال دراسة موجزة ولو بضع صفحات عن الرواية والإسناد في الدراسة الإعدادية والثانوية. وهذه أمانة أضعها في عنق كل قارئ وكل مسلم أن يجهد من أجلها في مكانه وميدانه، بغاية وسعه وطاقته. فإن لذلك أثره الكبير في وقاية الشباب الجامعي والمثقف من التشكك أو ضعف الثقة في تراثه العظيم. وإنا لنرجو أن يكون لكتابنا هذا أثره في هذا الميدان، وأن يكون وافيا بجوانب العلم، ملاحظا حاجة الثقافة، وحاجة الدعوة معا. أسأل الله تعالى أن يتقبله ويعمم النفع به، في نشر هذا اللون من الثقافة، وإحياء علم السنن والآثار، هو مولانا ونعم النصير. كتبه: نور الدين عتر، خادم القرآن وعلومه، والحديث وعلومه.

مقدمة الطبعة الأولى

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الطبعة الأولى: الحمد لله الذي أبدع كل شيء فأحسنه، وأرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بهذا الدين فبلغه وبينه، واختار له من الأصحاب والأتباع من نهضوا بنقله وتلقينه، وحفظه وتدوينه، حتى بَلَّغَ الخلف كما تلقاه السلف، غضا طريا مدى العصور. أما بعد: فهذا كتاب في علوم الحديث، نرجو أن يكون لبنة متواضعة في صرح هذا العلم العظيم، الذي اختص الله تعالى به هذه الأمة، وأكرمها به من دون سائر الأمم، يبرز بجلاء وفاء قواعد هذا العلم بالغرض العظيم الذي وضع من أجله، ألا وهو الذب عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمييز صحيحه من منحوله، ومقبوله من مدخوله. إنه كتاب ينقل مسائل هذا العلم من التفرق إلى التكامل، ويأخذ بالقارئ من الجزئيات إلى النظرية الكاملة المتناسقة، التي تتآلف فيها أنواع علوم الحديث كافة، لتبدو في مجموعها منطلقة بتسديد وإحكام نحو الغاية المنشودة. إنه بهذا يواجه مناهج البحث العصرية العربية والأجنبية التي تزهو بالمنهجية وصياغة النظريات، ويبين -بما لا يدع مجالا للشك- عمق نظرة المحدثين، وشمولها جوانب البحث النقدي في الأحاديث.

لقد تتبع الكتاب بالسبر والاختبار كل احتمالات القوة أو الضعف التي قد تطرأ على السند أو المتن أو عليهما معا، ونظر فيما يتبع كل واحد منها من أنواع الحديث. ثم قسم الأنواع على أبواب رئيسية يختص كل منها بركن من أركان البحث في الحديث، فتوصل بذلك إلى نتيجة هامة سيحس بها القارئ في متابعة أبحاث الكتاب، ألا وهي شمول هذه الأنواع لجميع الاحتمالات التي أشرنا إليها جزئيا وكليا، من البحث في رواة الحديث واحدا واحدا، إلى التحليل الشامل لمقومات الحديث في السند والمتن جمعيها، وبذلك يصدر الحكم على الحديث معتمدا على أصول نقدية دقيقة، لوحظ فيها المعنى مع المبنى، والمتن مع السند، مع الاستناد في ذلك إلى مقتضيات العقل والحس. وهكذا مهد كتابنا للدارس السبيل من أجل تكوين فكرة شاملة أو نظرية منتظمة لقواعد هذا العلم العظيم، تتبع فيها الفروع أصولها، وتتضح الوجهة في كل قاعد من قواعده، وفي كل مسألة من مسائله. وقد عنيت في أبحاثي بضبط التعاريف وتحليلها، وبيان الآراء المختلفة في الأمور الهامة ودراستها، مع نقد الضعيف منها، ونبهت على الذي أعرض له هل هو اختلاف اصطلاح، أو اختلاف اجتهاد في الحكم، فإن كثيرا من الخلافات يرجع إلى اختيار كل فريق من العلماء اصطلاحا يستعمله لمعنى يغير المعنى الذي يستعمله فيه الفريق الآخر، مثل الخلاف في "المنكر"، وقد وقع كثيرون في اللبس بسبب عدم التنبه إلى الاختلافات الاصطلاحية في هذا الفن. وضربت الأمثلة لإيضاح التعاريف والقواعد، وأوردت بعضا منها بنصه كاملا من كتب السنة، ليكون بمثابة تدريب على النظر في الأحاديث

والبحث فيها، ثم ربطت كل نوع من أنواع علوم الحديث بالباب الذي أوردته فيه وبإطار العلم العام، أعني غاية العلم الأولى وهي "معرفة المقبول من المردود". وبذلك يظل الدارس على صلة بمعالم النظرية الأساسية، ويفيد في وضع كل قاعدة موضعها المناسب في مجال تطبيقها. ومن هنا فقد اختصرت الفروع والمسائل التي لا تتصل صلة وثيقة بالغاية التي ذكرناها آنفا. وحاصل النظرية التي بنينا عليها نظام الكتاب وترتيبه يقوم على قضية واحدة مسلمة، هي أنه لا بد لكي يكون الحديث مقبولا أن نعلم أن رواية قد أداه كما سمعه، وهذا لا يتحقق إلا إذا استوفى الراوي الشروط الكافية لذلك، فكان لا بد أولا من بحث العلوم المتعلقة بالرواة. ثم إن أخذ الراوي عن أساتذته له أحوال وأحكام، وكذلك تبليغه العلم يعتوره أحكام أيضا، فكانت دراسة علم الرواية مكملة لما سبق ومتممة له. ولما أن الأحاديث قد وصلت إلينا بنقل رجال السند واحدا عن الآخر حتى يبلغوا قائلها، فإن من الواجب أن ندرس شروط القبول في السند والمتن، وذلك في تعريف الصحيح والحسن ونبين كفايتها لإثبات سلامة الحديث وأدائه كما سمع، كما نبين أن اختلال شيء منها يجعل الحديث ضعيفا لما فيه من فقد المعيار الذي يثبت سلامة الحديث. ومن ثم فإننا ننتقل على ضوء ما سبق إلى السبر والدرس لكل جوانب الحديث، ونوضح احتمالات الضعف والقوة فيها، مع بيان حكم كل منها. ونبدأ بدراسة أحوال المتن فإنه المقصود من بحث الأسانيد، ثم يأتي بعد ذلك البحث في تسلسل الإسناد وما يعرض له من اتصال أو انقطاع،

ومن تعدد سند أو غير ذلك، ثم نتبعه بالأنواع المشتركة بين السند والمتن، كالشاذ والمضطرب والمعلل. وإذا انتهى البحث الجزئي في كل جوانب الحديث جاء دور النظرة الشاملة، وهي نظرة إجمالية توضح دقة نهج المحدثين وإنهم شملوا بالدرس والبحث كل احتمالات القوة والضعف والعوامل المؤثرة فيهما سندا ومتنا، وأعطوا كل حال حكمه المناسب له، فجاء عملهم موفيا بالغرض المطلوب، وهو تمييز المقبول من المردود على غاية من الدقة المنهجية. وهكذا قسمت أبحاث الكتاب على الأبواب الآتية: الباب الأول: في التعريف العام بمصطلح الحديث: وفيه تعريف يبين المراد من "علوم الحديث"، وهو "مصطلح الحديث"، ثم بحث أدوار هذا العلم التاريخية، وأشهر المؤلفين والكتب المصنفة في كل دور. وفيه تحقيق هام عن حفظ الصحابة للحديث وعن كتابتهم إياه. الباب الثاني: في علوم رواة الحديث: ويقع في فصلين: الفصل الأول: العلوم المعرفة بحال الراوي من القبول أو الرد. الفصل الثاني: في علوم الرواة التي تبين شخص الراوي. ويقع في مبحثين: المبحث الأول: في علوم الرواة التاريخية. المبحث الثاني: في علوم أسماء الرواة. الباب الثالث: في علوم رواية الحديث: تحمله وأدائه وكتابه. وآداب ذلك، ومصطلحات كتاب الحديث.

الباب الرابع: في علوم الحديث من حيث القبول أو الرد: ويقع في فصلين: الفصل الأول: في أنواع الحديث المقبول. الفصل الثاني: في أنوا الحديث المردود. وهو الضعيف، وينقسم أقساما كثيرة تتعرض لبيان تفرعها وفقا لضابط دقيق سوف نفيد منه في سبر أحوال المتن والسند في الأبحاث الآتية. الباب الخامس: في علوم المتن: وندرس فيه هذين الفصلين: الفصل الأول: في علوم المتن من حيث قائله. الفصل الثاني: في علوم المتن من حيث درايته. الباب السادس: في علوم السند: ويقع في فصلين: الفصل الأول: في علوم السند من حيث الاتصال. الفصل الثاني: في علوم السند من حيث الانقطاع. الباب السابع: في علوم الحديث المشتركة بين السند والمتن: ويقع في ثلاثة فصول: الفصل الأول: في تفرد الحديث. الفصل الثاني: في تعدد رواية الحديث مع اتفاقها. الفصل الثالث: في اختلاف رواية الحديث. خاتمة الكتاب: مناقشات ونتائج عامة. وقد عولت في أبحاثي على المصادر الأصلية، ورجعت إلى

المصنفات الحديثية الخاصة بكل نوع من علوم الحديث، وفق خطة علمية تاريخية تلاحظ الابتداء من الأقدم فالذي يليه، وكثير من هذه المصنفات مخطوط أو في حكم المخطوط لندرته. ونبهت على بعض ما وقع من كبوات الكاتبين الأفاضل في هذا العصر، مع تقديري لهم ولما بذلوا من جهد أجزل الله مثوبتهم. ونرجو أن نكون قد أعطينا البحث حقه في الاستناد إلى المراجع، كما نرجو أن نكون قد وفقنا في عرض الآراء ودراستها والإدلاء بالنتائج الصحيحة في أبحاثنا. والله تبارك وتعالى نسأل، وإليه نتوسل أن يجعله عنده في حرز القبول، إنه أكرم مسئول، وجوده خير مأمول، وهو تقدست ذاته أرحم الراحمين، ذو الفضل العظيم. غرة رمضان المبارك سنة 1392 8 تشرين الأول سنة 1972 وكتب: نور الدين عتر

الباب الأول: في التعريف العام بمصطلح الحديث

الباب الأول: في التعريف العام بمصطلح الحديث الفصل الأول: تمهيد في منشأ مصطلح الحديث: أنزل الله سبحانه كتابه الحكيم هداية مبينة تضيء للناس سبل السعادة والسلام في دنياهم وآخرتهم، وجعله معجزة لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم باهرة باقية إلى يوم الدين، تنادي العالم إلى الهدى الحق. ثم أعطاه السنة مفصلة للكتاب وشارحة له، كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (¬1)، وقال: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (¬2). ¬

_ (¬1) سورة النحل الآية: 44. (¬2) سورة النحل الآية: 64.

فبين القرآن لنا في هاتين الآيتين وفي آيات كثيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وظيفته البيان لكتاب الله، أو بعبارة أخرى أن موقع الحديث النبوي من القرآن هو موقع المبين من المبين، وهذا البيان ليس قاصرا على مجرد التفسير، بل له أوجه عديدة تجعل العمل بالقرآن في أركان أبنيته العظيمة مفتقرا إلى السنة لا يستغني عنها (¬1). أخرج الخطيب (¬2) أن عمران بن حصين رضي الله عنه كان جالسا ومعه أصحابه، فقال رجل من القوم: لا تحدثونا إلا بالقرآن، قال: فقال له: "أدنه" فدنا، فقال: "أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن أكنت تجد فيه صلاة الظهر أربعا وصلاة العصر أربعا والمغرب ثلاثا تقرأ في اثنتين؟ ! أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن أكنت تجد الطواف بالبيت سبعا، والطواف بالصفا والمروة؟ ! ثم قال: "أي قوم خذو عنا، فإنكم والله إن لم تفعلوا لتضلن". وقد جاءت الآيات الكثيرة جدا صريحة قاطعة في وجوب العمل بالحديث النبوي، كقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} (¬3). وقال عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} (¬4). فقد نزلت هذه الآية في أهل بيت خطب النبي صلى الله عليه وسلم ¬

_ (¬1) انظر تفصيل بيان السنة للقرآن في كتاب "السنة" للإمام محمد بن نصر المروزي خصوصا ص 68 - 72. وانظر تخليصها في كتاب "التفسير والمفسرون" للأستاذ الدكتور محمد حسين الذهبي: 1: 55 - 57. (¬2) في كتابه العظيم "الكفاية في علم الرواية" طبع الهند: 15. (¬3) سورة المائدة: 92. (¬4) الأحزاب: 36.

إليهم فتاتهم إلى صحابي، فلم يرتضوه، فنزلت الآية بسبب ذلك (¬1)، وعاتبتهم عتابا شديدا، مع أنه خاص من أمورهم خولته لهم الشريعة، لكنه لما عارض أمر النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر مخالفة وعصيانا، فما بالك بوجوب طاعته واتباعه صلى الله عليه وسلم في سائر الأمور. ولقد تواترت الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم في وجوب الأخذ بهديه في كل شيء من الأمور، صغيرها وكبيرها، جليلها وحقيرها، على منشط النفس ورضاها، أو على كراهيتها وإبائها ومخالفة هواها. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" (¬2). وقال: "إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها" (¬3). بل إن النبي صلى الله عليه وسلم يؤكد الأخذ بحديثه الشريف على الرغم من التيارات الفاسدة والأعراف الاجتماعية المنحرفة، ويحض على اتباع سنته لما فيها إذ ذاك من مضاعفة الأجر: قال صلى الله عليه وسلم: "من أحيا سنة من سنتي قد أميتت ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير: 3: 490. لكن الروايات اختلفت في تعيين الأشخاص، فقيل إنها بشأن خطبة زينب بنت عمته صلى الله عليه وسلم لمولاه زيد بن حارثة، فلم يرتضوه لأنه لأنه مولى. وقيل خطب إلى بعض الأنصار فتاتهم لرجل من أصحابه فأبوا. فاحتججنا بالمعنى المشترك بين هذه الروايات. (¬2) أبو داود في لزوم السنة بلفظه: 4: 200 - 201. والترمذي في العلم وقال: حسن صحيح: 2/ 92. وابن ماجه في السنة: 15. (¬3) مسلم: 3: 11.

بعدي كان له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا". أخرجه الترمذي وقال حديث حسن (¬1). وعنه صلى الله عليه وسلم: "المتسمك بسنتي عند فساد أمتي له أجر مائة شهيد" أخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي في الزهد (¬2). لذلك عنيت الأمة الإسلامية بالحديث النبوي، فأوعته حوافظها الفذة، وبذلت من أجله أعظم الجهد، وحاز حديث النبي صلى الله عليه وسلم من الوقاية والمحافظة ما لم يكن قط الحديث نبي من الأنبياء. فقد نقل لنا الرواة أقوال الرسول في الشؤون كلها العظيمة واليسيرة، بل في الجزئيات التي قد يتوهم أنها ليست موضع اهتمام، فنقلوا تفاصيل أحواله صلى الله عليه وسلم في طعامه وشرابه ويقظته ومنامه وقيامه وقعوده، حتى ليدرك من يتتبع كتب السنة أنها ما تركت شيئا صدر عنه صلى الله عليه وسلم إلا روته ونقلته. وكان من حرصهم على الحديث وتلهفهم له أن يجتهدوا في التوفيق بين مطالب حياتهم اليومية وبين التفرغ للعلم: عن عمر رضي الله عنه قال: "كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد، وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يوما وأنزل يوما، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك" متفق عليه (¬3). ¬

_ (¬1) الجامع: 2: 92. (¬2) الشفا بشرح القاري: 2: 21. والجامع الصغير، ورمز لحسنه كما في الفيض: 6: 261 واللفظ للبيهقي. (¬3) البخاري بلفظه في العلم "باب التناوب في العلم": 1: 25. ومسلم في الطلاق: 4: 191 - 194 والترمذي في تفسير التحريم: 2: 166. والنسائي في في الطلاق: 6: 135 - 136

ولما اتسعت البلاد الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين ودخل الناس في البلاد المفتوحة أفواجا في دين الله، حبا لهذا الدين ويقينا به تعطشت نفوسهم لتعلم أحكام الشريعة والتهذب بأخلاقها وآدابها، والصدع بمواعظها وأحكامها. ولقد علم الصحابة بقيادة الخلفاء أنهم خرجوا هداة لا جباة، وساروا في الأرض معلمين مرشدين لا مستعبدين ولا ظالمين، لذلك كانت عنايتهم بالعلم ومحو الجهل والجاهلية بالغة أقصاها، فأقام الكثير من الصحابة الفاتحين في أصقاع متفرقة ينشرون العلم ويبلغون الحديث، وبعث الخلفاء إلى الناس من كبار الصحابة من يعلمهم أمور دينهم، ولقد كان إقبال الناس على ارتشاف معارف الإسلام عظيما جدا، حتى إنا لنجد الخلفاء يبذلون لهم من مواهب الرجال ما يعز عليهم، وهذا عمر يقول لأهل الكوفة حين أرسل إليهم عبد الله بن مسعود: "وقد آثرتكم بعبد الله على نفسي" (¬1). ونجد هذا الحرص، يسري من الصحابة إلى التابعين فمن بعدهم، فقد كان التابعون لا يكتفون بما سمعوا من الصحابة في بلادهم، بل يرحلون إلى عاصمة العلم: "المدينة المنورة" يسائلون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بل إن الصحابة أنفسهم كانوا يرحلون للقاء بعضهم واستماع الحديث من الراوي الأصل الذي شافهه النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر. ومن هنا تقرر للناظر حقيقة لها أهميتها، وهي أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين يرجع إليهم الفضل في بدء علم الرواية للحديث، ذلك لأن الحديث النبوي في حياة المصطفى كان علما ¬

_ (¬1) أسد الغابة: 3: 258 - 259.

يسمع ويتلقف منه صلى الله عليه وسلم، فلما لحق صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى حدث عنه الصحابة بما وعته صدورهم الحافظة ورووه للناس بغاية الحرص والعناية، فصار الحديث علما يروى وينقل، ووجد بذلك علم الحديث رواية. ثم وضع الصحابة للرواية قوانين تحقق ضبط العدل للحديث، وتكلموا في الرجال كما سنفصل، وذلك ليتميز المقبول فيعمل به، من غير المقبول. ومن هنا نشأ مصطلح الحديث.

الرواية والدراية في علم الحديث

الرواية والدراية في علم الحديث: فلنعرف "علم الحديث"، ثم نفصل أدوار مصطلح الحديث التاريخية. ونبدأ أولا بتعريف كلمتي "العلم" و"الحديث". العلم لغة: هو الإدراك. والفرق بينه وبين المعرفة أن العلم يطلق لإدراك الكليات عن دليل، والمعرفة لإدراك الجزئيات. والحديث لغة: ضد القديم، ويستعمل في اللغة أيضا حقيقة في الخبر، قال في القاموس: "الحديث: الجديد، والخبر". وفي اصطلاح علماء الإسلام: "ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو وصف خِلْقِيٍّ أو خُلُقِيٍّ". وعلى هذا التعريف لا يدخل في التعريفِ الحديثُ الموقوفُ، وهو

ما أضيف أي نسب إلى الصحابي، ولا المقطوعُ، أي ما أضيف للتابعي. وهو مذهب الكرماني والطيبي ومن وافقهما (¬1). لكن الجمهور ذهبوا إلى أنهما من الحديث، وسوَّوْا في الدلالة بين الحديث والخبر أيضا، قال الحافظ أحمد بن علي بن حجر في نزهة النظر: "الخبر عند علماء الفن مرادف للحديث". فلا فرق إذن عند الجمهور بين الحديث والخبر (¬2). فالتعريف المختار للحديث هو: "ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو وصف خِلْقِيٍّ أو خُلُقِيٍّ أو أضيف إلى الصحابي أو التابعي". وأما السنة: فهي لغة السيرة والطريقة المعتادة حسنة كانت أو قبيحة (¬3). ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها .. " (¬4). وتطلق في العرف الإسلامي على طريقة الإسلام، ومنه قولهم: فلان على السنة، وقولهم: سنة وبدعة. ¬

_ (¬1) انظر الكواكب الدراري للكرماني: 1: 12. (¬2) أما الأولون فقد خصوا الخبر بغير النبي للتمييز بينه وبين الحديث. ولذلك قيل لمن يشتغل بالتواريخ وما شاكلها الأخباري. ولمن يشتغل بالسنة النبوية المحدث. ومن العلماء من قال: بين الحديث والخبر عموم وخصوص مطلق. فالخبر أعم من الحديث حيث يصدق على ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم وعلى ما جاء عن غيره. بخلاف الحديث فإنه يختص بالنبي، فكل حديث خبر وليس كل خبر حديثا. شرح النخبة ص: 3، طبع مطبعة الاستقامة بمصر. (¬3) لسان العرب: 17: 89. (¬4) أخرجه مسلم: 3: 87.

وتطلق عند الفقهاء على ما يثاب فاعله، ولا يعاقب تاركه. وفي اصطلاح المحدثين: تطلق السنة على ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم خاصة عند بعضهم، والأكثر أنها تشمل ما أضيف إلى الصحابي أو التابعي (¬1). لكننا نلاحظ نتيجة الممارسة والتتبع أن لفظ السنة أكثر ما يستعمل عند علماء أصول الفقه، ويعرفونها بأنها: "ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير" (¬2). فيجعلونها خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يذكرون فيها "الوصف". وذلك لأنهم يبحثون فيها كمصدر للتشريع، والتشريع يثبت بالقول أو الفعل أو التقرير منه صلى الله عليه وسلم. أما علماء الآثار فأكثر ما يستعلمون كلمة "الحديث". وأما الأثر: فقد خصه فقهاء خراسان بالموقوف اصطلاحا. ومنهم جماعة خصوا المرفوع بالخبر. لكن المعتمد الذي عليه المحدثون أن يسمى كل هذا أثرا، لأنه مأخوذ من أثرت الحديث أي رويته (¬3). ويؤيد ذلك إطلاق الحافظ العراقي على نفسه لقب "الأثري" بمعنى المحدث حيث قال في أول ألفيته: يقول راجي ربه المقتدر ... عبد الرحيم بن الحسين الأثري ¬

_ (¬1) شرح شرح النخبة: 16، وقارن التقريب للنووي وشرحه للسيوطي: 109. (¬2) حاشية التلويح للسعد التفتازاني: 2: 2. (¬3) تدريب الراوي شرح تقريب النووي: 6 و 109.

وسمى الحافظ ابن حجر كتابه في المصطلح: "نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر" وغير ذلك كثير يشهد لما قلناه. والحاصل: أن هذه العبارات الثلاثة: "الحديث، الخبر، الأثر، تطلق عند المحدثين بمعنى واحد هو: "ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولا أو فعلا أو تقريرا أو صفة خلقية أو خلقية أو أضيف إلى الصحابي أو التابعي". أم السنة: فالمحدثون يشملون بها الصفة، لكن الأصوليين لا يجعلون الصفة داخلة في مدلول السنة. مثال القول: حديث: "إنما الأعمال بالنيات" (¬1). ومثال الفعل: قول عائشة في صيامه صلى الله عليه وسلم للتطوع: "كان يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم" (¬2). ومثال التقرير: حديث ابن عمر قال النبي صلى الله عليه وسلم لنا لما رجع من الأحزاب: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم بل نصلي، لم يُرِدْ منا ذلك، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم (¬3). فهذا هو التقرير أو الإقرار. يعني: أن يُخْبَرَ النبي صلى الله عليه وسلم بشيء أو يحدث أمامه، فلا ينكره صلى الله عليه وسلم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في أول صحيحه، ومسلم في الإمارة: 6: 48. (¬2) البخاري: "صوم شعبان": 3: 38، ومسلم: "صيام النبي صلى الله عليه وسلم" "3: 160 - 161". (¬3) البخاري بلفظه في صلاة الخوف: 2/ 15، ومسلم في المغازي: 5: 162.

ومثال الوصف الخلقي حديث: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان .... " (¬1). ومثال الوصف الخِلْقِيِّ: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن وجها، وأحسنه خَلْقًا، ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير" (¬2). ومعنى "علم الحديث" كتعبير لغوي إدراك الحديث. لكنه استعمل عند العلماء كاصطلاح يطلقونه باطلاقين: أحدهما: علم الحديث رواية أو علم رواية الحديث. والثاني: علم الحديث دراية، أو علم دراية الحديث. تعريف علم الحديث رواية: وردت عند العلماء تعاريف كثيرة لعلم رواية الحديث من أشهرها تعريف ابن الأكفاني حيث قال: "علم الحديث الخاص بالرواية: علم يشتمل على أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وروايتها وضبطها وتحرير ألفاظها" (¬3). لكن اعترض على التعريف بأنه غير جامع أي أنه لا يشمل كل المعرف، لأنه لم يذكر تقريراته وصفاته، كما أنه لم يراع مذهب القائلين بأن الحديث يشمل ما أضيف للصحابي أو التابعي. ¬

_ (¬1) البخاري أول صحيحه ومسلم في الفضائل: 7: 73. (¬2) البخاري "صفة النبي صلى الله عليه وسلم" ك 4: 188 ومسلم في الفضائل: 7: 83. (¬3) تدريب الراوي ص 4. نقلا عن إرشاد القاصد الذي تكلم فيه ابن الأكفاني على أنواع العلوم. وانظر التعاريف الأخرى في فتح الباقي شرح ألفية العراقي للشيخ زكريا الأنصاري ج 1 ص 7. والكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري للكرماني: 1: 12. والمقاصد في أصول الحديث لكمال بن محمد اللاوي ق 1 ب.

فالمختار أن نقول في تعريف علم الحديث رواية: "هو علم يشتمل على أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته وصفاته وروايتها وضبطها وتحرير ألفاظها". ونزيد في التعريف أو الصحابي أو التابعي": إن أريد مراعاة المذهب المشار إليه الذي عليه الأكثر. موضوعه: موضوع كل علم هو ما يدور البحث عن عوارضه في ذلك العلم. وهذا العلم موضوعه هو ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابي أو التابعي، فإنه يبحث في هذا العلم عن روايتها وضبطها ودراسة أسانيدها ومعرفة حال كل حديث أنه صحيح أو حسن أو ضعيف، كما أنهم يبحثون في هذا العلم عن معنى الحديث وما يستنبط منه من الفوائد. فعلم الحديث يحقق بذلك غاية عظيمة جدا تقوم على "الصون عن الخلل في نقل الحديث" (¬1). وذلك بالمحافظة عليه كما ورد ونقله. ثم إنه يحقق بما بذل في شروحه من الجهود معرفة هذ الحديث الذي نريده أنه مقبول فنعمل به أو مردود فلا يعمل به، ويبين لنا معناه، وما يستنبط منه من الفوائد. فهو علم عظيم القدر والشأن يدني إلينا علم فيوضات النبوة (¬2). ¬

_ (¬1) حاشية الصعيدي على فتح الباقي: ق 9 أ, وحاشية الأجهوري على شرح النخبة ق 6 ب. (¬2) وقال الكرماني: إن موضوع علم الحديث: "ذات رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث أنه رسول الله". وقلده في ذلك بعض من عاصرنا من الكاتبين في هذا الباب. لكنا نجد في هذا التعبير رغم جزالته وروعته توسعا كبيرا. إذ شمل=

تعريف علم الحديث دراية: ويطلق عليه "مصطلح الحديث" أو "علوم الحديث" أو "أصول الحديث" ويطلق عليه أيضًا "علم الحديث"، كما وقع في مصطلح ألفية العراقي (¬1). وأحسن تعريف لهذا العلم هو تعريف الإمام عز الدين بن جماعة حيث قال: "علم بقوانين يعرف بها أحوال السند والمتن" (¬2). فقوله: علم: معنى العلم الادراك المطابق للواقع عن دليل، وهذا جنس في التعريف يصدق على العلوم الأخرى كالفقه وأصوله والتفسير (¬3). لكن قوله: "يعرف بها .. " قيد أو فصل أدخل علم المصطلح في التعريف، وأخرج ما عداه. ¬

_ = علوما أخرى ليست من الحديث، فإنه يتناول القرآن لأنه صدر عنه عليه الصلاة والسلام بحكم الرسالة على سبيل التبليغ عن الله، ويشمل إثبات رسالته وهي في علم التوحيد. وأيضا فإنه يخرج عن موضوع العلم الأحاديث الواردة في صفاته الخلقية المنيفة وتاريخ مولده ونسبه ووفاته، ونحو ذلك، مما لا يتعلق بالرسالة وهو من الحديث بالإجماع. وأيا ما كان الأمر فلا خلاف في أن السيرة، وما يلحق بها من شرح واستنباط كل ذلك من علم الحديث، والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصر. (¬1) حيث قال: فهذه المقاصد المهمة ... توضح من علم الحديث رسمه وما وقع لبعض الكاتبين في عصرنا من الفرق بين المصطلح وبين علوم الحديث أو جعل أحدهما خاصا ببعض الأبحاث، فهو تساهل. (¬2) تدريب الراوي: 5. (¬3) وقوله: "علم" هذا باعتبار كونه ملكة في نفس العالم به. ويطلق "مصطلح الحديث" على العلم المدون، أي القواعد المدونة في المصنفات، فيعرف بهذا الاعتبار بأنه "القوانين التي يعرف بها ... إلخ".

أما السند: فالمراد به عند المحدثين حكاية رجال الحديث الذين رووه واحدا عن واحد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما الإسناد فهو إضافة الحديث إلى قائله، أي نسبته إليه. وقد يطلق أحدهما على الآخر، كما أنهما قد يطلقان على رجال سند الحديث، ويعرف المراد بالقرائن. وأحوال السند: هي ما يطرأ عليه من اتصال، أو انقطاع، أو تدليس، أو تساهل بعض رجاله في السماع، أو سوء حفظه، أو اتهامه بالفسق أو الكذب أو غير ذلك (¬1). وأم المتن: فهو ما ينتهي إليه السند من الكلام (¬2). وأحوال المتن، هي ما يطرأ عليه من رفع، أو وقف، أو شذوذ، أو صحة، أو غير ذلك. وموضوع هذا العلم الذي يبحثه هو السند والمتن من حيث التوصل إلى معرفة المقبول من المردود. وهذا قد يستشكل بأنه سبق أن ذكرناه في موضوع علم الحديث رواية، فما الفرق؟ ¬

_ (¬1) فقوله: "أحوال السند والمتن". أدق من قولهم: أحوال الراوي والمروي، وإن اختاره الحافظ ابن حجر، لأن معرفة حال السند تستلزم معرفة حال كل من رواته. لكن معرفة حال الراوي لا تستلزم معرفة حال السند من جميع الوجوه كالشذوذ والإعلال ... والسند مأخوذ إما من السند وهو ما يستند إليه من حائط أو غيره، كما في المصباح المنير، أو من قولهم فلان سند أي معتمد عليه. كما في مختار الصحاح. (¬2) مأخوذ من المتن وهو ما صلب وارتفع من الأرض كما في المصباح، لأن المسند يقويه بالسند ويرفعه إلى قائله، انظر التدريب: 5 - 6.

الجواب أن علم الحديث دراية يوصل إلى معرفة المقبول من المردود بشكل عام أي بوضع قواعد عامة. فأما علم رواية الحديث فإنه يبحث في هذا الحديث المعين الذي تريده، فيبين بتطبيق تلك القواعد أنه مقبول أو مردود، ويضبط روايته وشرحه، فهو إذن يبحث بحثا جزئيا تطبيقيا، فالفرق بينهما كالفرق بين النحو وبين الإعراب وكالفرق بين أصول الفقه وبين الفقه. غاية علم المصطلح: وقد أقيم بنيان هذا العلم لغاية عظيمة جليلة هي حفظ الحديث النبوي من الخلط فيه أو الدس والافتراء عليه، وتلك الوظيفة هي غاية في الأهمية تشتمل على فوائد لها خطرها الكبير، منها: 1 - أنه تم بذلك حفظ الدين الإسلامي من التحريف والتبديل فقد نقلت الأمة الحديث النبوي بالأسانيد، وميزت به الصحيح عن السقيم، ولولا هذا العلم لالتبس الحديث الصحيح بالضعيف والموضوع، ولاختلط كلام الرسول بكلام غيره. 2 - أن قواعد هذا العلم تجنب العالم خطر الوعيد العظيم الذي يقع على من يتساهل في رواية الحديث وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المستفيض عنه: "من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" (¬1). وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتواتر: "من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار". 3 - أن هذا العلم قد أجدى فائدة عظيمة في تنقية الأذهان من ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه: 1: 7، والترمذي في العلم وصححه: 5: 36، وأخرجه ابن ماجه: 14015، عن علي بن أبي طالب وعن المغيرة بن شعبة وعن سمرة بن جندب. وانظر فيض القدير: 6: 116.

الخرافات. وذلك أن الإسرائيليين وغيرهم حاولوا نشر مالديهم من الأقاصيص والخرافات الكاذبة والأباطيل، وهذه الأمور داء وبيل يفت في عضد الشعوب ويمزق الأمم، إذ تجعلها أوزاعا متفرقة هائمة على وجه البسيطة لا تميز الحق من الباطل ولا تفرق بين الصواب والخطأ فيسهل مقادها ويسلس لكل ناعق يدعو إلى الهلاك والردى. فالعالم الإسلامي حين يقوم بذب الكذب عن الحديث يقوم بعمل ذي صبغة إنسانية وأخلاقية، فضلا عن أداء الواجب الديني، لأنه يربي بذلك عقولا صحيحة تعقل وتفكر في الحياة بمنهج علمي وعقلي صحيح. مصطلح الحديث خصيصة للمسلمين: ومن قبل لم تعن الأمم السابقة في النقل والرواية بالإسناد والتحري في معرفة رجاله ودرجاتهم من العدالة والضبط ... فكانت الحوادث التاريخية تروى على علاتها، والأديان والمذاهب يعول فيها على التلقي من أفواه النقلة وكتاباتهم، دون سؤال عن الإسناد فضلا عن دراسته وبحثه. لكن الله تعالى لما جعل هذا الدين خاتمة الرسالات والأديان وتعهد بحفظه وصونه، اختص هذه الأمة بأن وفقها لحفظ كتاب ربها وصيانة حديث نبيها فإذا بها تبتكر لحفظ الحديث قواعد المصطلح على أدق منهج علمي يمكن أن يوجد للاستثبات من النصوص المروية وتمحيصها. "منذ أول عهدها بالحياة ومجابهتها لمشاكلها" (¬1). قال الإمام أبو محمد بن حزم (¬2). ¬

_ (¬1) انظر المدخل إلى علوم الحديث للمؤلف ص 13. (¬2) الفصل في الملل والأهواء والنحل: 2: 82.

"نقل الثقة عن الثقة مع الاتصال حتى يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم. خص الله به المسلمين دون سائر أهل الملل كلها وأبقاه عندهم غضا جديدا على قديم الدهور ... ". وقال الحافظ أبو علي الجياني: "خص الله تعالى هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يعطها من قبلها: الإسناد، والأنساب، والإعراب" (¬1). وفي العصر الحديث اعترف الباحثون الأجانب للمحدثين بدقة عملهم، وأقروا بحسن صنيعهم، واتخذ علماء التاريخ من قواعدهم أصولا يتبعونها في تقصي الحقائق التاريخية، ووجدوا فيها خير ميزان توزن به وثائق التاريخ (¬2). ¬

_ (¬1) التدريب: 359. (¬2) انظر مثالا لذلك كتاب "مصطلح التاريخ" للدكتور أسد رستم حيث تجده يعتمد كلام ابن الصلاح في علوم الحديث بحروفه.

الفصل الثاني: أدوار علوم الحديث

الفصل الثاني: أدوار علوم الحديث مدخل ... الفصل الثاني: أدوار علوم الحديث أشرنا سابقا إلى أن فن "مصطلح الحديث" "أو "علوم الحديث" تدرج عبر التاريخ، وقد استوحينا من النظرة التاريخية فكرة مبتكرة هي عقد بحث تاريخي لعلوم الحديث، يبين أدواره التي مر بها حتى عصرنا الحاضر، وقد توصلنا نتيجة البحث إلى تقسيم لهذا التدرج على أدوار لم يسبق أن درس تاريخ علوم الحديث على أساسها، وهي أدوار سبعة تتكلم عنها بإيجاز فيما يلي:

الدور الأول: دور النشوء

الدور الأول: دور النشوء وذلك في عصر الصحابة الممتد إلى نهاية القرن الأول الهجري: لما اختار الرسول صلى الله عليه وسلم جوار ربه ولحق بالرفيق الأعلى، قام الصحابة من بعده بحمل مشعل الإسلام وسارت جحافلهم به تنقذ الإنسانية وتبلغ عنه صلى الله عليه وسلم ما علموه، وكان الصحابة على حفظ تام للقرآن الكريم، كما كانوا على إدراك ووعي للحديث النبوي، لما توفر لهم من الأسباب، والدواعي لحفظ الحديث. عوامل حفظ الصحابة للحديث: ومن أهم عوامل حفظهم للحديث: 1 - صفاء أذانهم وقوة قرائحهم، وذلك أن العرب أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب. والأمي يعتمد على ذاكرته فتنمو وتقوى لتسعفه حين الحاجة، كما أن بساطة عيشهم وبعدهم عن تعقيد الحضارة ومشاكلها جعلهم ذوي أذهان نقية، لذلك عرفوا بالحفظ النادر والذكاء العجيب، فهاهم أولاء يحفظون الأنساب منهما طالت وامتدت عبر الأجيال، ويحفظون بالسمعة الواحدة ما يلقى إليهم من القصائد الطويلة ومن خطبهم، وغير ذلك، مما سجله لهم التاريخ وحفظه لهم مفخرة لم تتوفر لأمة من الأمم. 2 - قوة الدافع الديني، وذلك أن العرب أيقنوا أن لا سعادة لهم في الدنيا ولا فوز في الآخرة ولا سبيل للمجد والشرف ولا إلى المكانة بين الأمم إلا بهذا الإسلام، ولا سبيل للمجد والشرف ولا إلى المكانة بين الأمم إلا بهذا الإسلام، فتلقفوا الحديث النبوي بغاية الاهتمام ونهاية الحرص، ولا شك أن ذلك وحده كاف لقوة الحفظ كما هو مشاهد محسوس لكل فرد، إذا عظمت عنايته بمسألة وأهمه أمرها ثم عرف حلها فإنها ترسخ في حافظته فلا تنسى.

وقد ضاعف أثر هذا الدافع في نفوسهم تحريضه صلى الله عليه وسلم إياهم على حفظه حديثه وأدائه إلى الناس في أحاديث كثيرة تدل على عنايته صلى الله عليه وسلم بذلك وتكرار الوصاة به، كحديث زيد بن ثابت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نضر الله امرءا سمع مقالتي فبلغها فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه (¬1) وبذلك أصبح حفظ الحديث واجبا لكي يخرج المسلم من مسؤولية التبليغ الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. 3 - مكانة الحديث في الإسلام، فإنه كما عرفت ركن أساسي، دخل في تكوين الصحابة الفكري وسلوكهم العملي والخلقي، حيث كانوا يأتسون برسول الله صلى الله عليه وسلم في كل شيء، يتلقفون منه الكلمة فتخالط مخهم وعظمهم وكيانهم ثم يصوغونها عملا وتنفيذا. وذلك لا شك يؤدي للحفظ، ويحول دون النسيان، لأنه الوسيلة للبراءة من العهدة، وللتحقق بالاتباع. 4 - أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن الصحابة سيخلفونه في حمل الأمانة وتبليغ الرسالة، فكان يتبع الوسائل التربوية في إلقاء الحديث عليهم، ويسلك سبيل الحكمة كي يجعلهم أهلا لتحمل المسؤولية، فكان من شمائله في توجيه الكلام: أ- أنه لم يكن يسرد الحديث سردا متتابعا، بل يتأنى في إلقاء الكلام ليتمكن من الذهن. ب- أنه لم يكن يطيل الأحاديث، بل كان كلامه قصدا. وقد ¬

_ (¬1) أبو داود "فضل نشر العلم": 3: 322 والترمذي: 5: 33 - 34 وابن ماجه بلفظه: 1: 84. والحديث متواتر، هذا أحد ألفاظه.

أشارت إلى هذين الأمرين السيدة عائشة رضي الله عنها حيث قالت: "كان يحدث حديثا لو عده العاد لأحصاه" متفق عليه (¬1). وعنها قالت: "ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد كسردكم هذا ولكنه كان يتكلم بكلام بين فصل يحفظه من جلس إليه" أخرجه الترمذي (¬2). جـ- أنه صلى الله عليه وسلم- كثيرا ما يعيد الحديث لتعيه الصدور كما في البخاري (¬3) وغيره أنس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يعيد الكلمة ثلاثا لتعقل عنه". 5 - أسلوب الحديث النبوي فقد أوتي النبي صلى الله عليه وسلم قوة البيان التي يندر مثلها في البشر. ومن هنا نجد القرآن يسمي الحديث "حكمة" (¬4). ولا شك أن البيان البليغ يأخذ بمجامع القلوب ويسري في كيان الإنسان الذهني والعاطفي، فكيف إذا كان هذا المستمع ابن بجدة البلاغة المذواق لها، المشغوف بها. 6 - كتابة الحديث: وهي من أهم وسائل حفظ المعلومات ونقلها للأجيال، وقد كانت ¬

_ (¬1) البخاري: 4: 190، ومسلم: 8: 229. (¬2) في الشمائل: 2: 8 بشرح القاري والمناوي. وأصله في البخاري: 4: 190. (¬3) في العلم: 1: 26، والشمائل: 2: 9. (¬4) الرسالة للإمام الشافعي: 78.

أحد العوامل في حفظ الحديث، على الرغم مما وقع فيها من اختلاف الروايات، وتباين الوجهات، حتى صنفت فيها التآليف في القديم والحديث (¬1). أخرج البخاري (¬2) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب". وفي سنن أبي داود والمسند (¬3) عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه؟ فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء ورسول الله صلى الله عليه وسلم، بشر يتكلم في الغضب والرضا؟ ! فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ بيده إلى فيه فقال: "اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق". كذلك وردت أحاديث كثيرة عن عدد من الصحابة تبلغ بمجموعها رتبة التواتر في إثبات وقوع الكتابة للحديث النبوي في عهده صلى الله عليه وسلم. ¬

_ (¬1) مثل كتاب تقييد العلم للخطيب البغدادي. وكتاب السير الحثيث في تاريخ تدوين الحديث لمحمد زبير الصديقي وكتاب "تدوين الحديث" باللغة الهندية تأليف مناظر حسن كيلاني. وانظر فصل "حول تدوين الحديث" من كتاب "علوم الحديث ومصطلحه" للدكتور صبحي الصالح، ففيه تحقيق ومناقشات قيمة. وكتاب "السنة قبل التدوين" للزميل الدكتور محمد عجاد خطيب. وتاريخ التراث العربي لفؤاد سيزكين، 1/ 1/ 225 وما بعد، وفيه تحفظ مفيد على بعض هذه الدراسات، فانظره. (¬2) في كتاب العلم "باب كتابة العلم": 1: 148 بشرح فتح الباري والترمذي: 5: 40. (¬3) أبو داود في العلم: 3: 318، والمسند: 2/ 205.

وقد عارض ذلك ما أخرجه مسلم وأحمد (¬1) عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تكتبوا عني شيئا إلا القرآن فمن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه". ووردت الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم في ذلك من رواية جماعة من الصحابة كأبي هريرة وزيد بن ثابت (¬2)، مما لا يدع مجالا للتردد في صحة ثبوت ذلك عنه عليه السلام، كما أنه لا مجال للشك في إذنه صلى الله عليه وسلم في الكتابة. وقد اختلفت آراء العلماء في إزالة هذا التعارض، وفي التوفيق بين الأحاديث: فالإمام ابن قتيبة " (276) هـ" في "تأويل مختلف الحديث" (¬3) يقول: "إن في هذا معنيين: أحدهما أن يكون من منسوخ السنة بالسنة، كأنه نهى في أول الأمر عن أن يكتب قوله، ثم رأى بعد ذلك لما علم أن السنن تكثر وتفوت الحفظ أن تكتب وتقيد. والمعنى الآخر: أن يكون خص بهذا عبد الله بن عمرو لأنه كان قارئا للكتب المتقدمة، ويكتب بالسريانية والعربية، وكان غيره من الصحابة أميين، لا يكتب منهم إلا الواحد والاثنان، وإذا كتب لم يتقن ولم يصب التهجي، فلما خشي عليهم الغلط فيما يكتبون نهاهم، ولما أمن على عبد الله بن عمرو ذلك أذن له". وأبدى الخطابي رأيا له وجاهته، قال في معالم السنن (¬4): "يشبه ¬

_ (¬1) مسلم في الزهد: 8: 229، والمسند بلفظه: 3: 21. (¬2) انظر تقييد العلم: 29 - 35. وجامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر: 1: 63 - 64 وغيرهما. (¬3) 286 - 287، وانظر ص 290. (¬4) شرح مختصر سنن أبي داود: 5: 246، وقارن بتهذيب السنن للمنذري: 5: 247، وانظر تعليق ابن القيم. وتوجيه النظر ص 5 - 6.

أن يكون النهي متقدما، وآخر الأمرين للإباحة. وقد قيل: إنه إنما نهى أن يكتب الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط به ويشتبه على القارئ، فأما أن يكون نفس الكتاب محظورا وتقييد العلم بالخط منهيا عنه فلا". ويميل الرامهرمزي إلى نسخ النهي عن الكتابة، فيقول: أحسبه أنه كان محفوظا في أول الهجرة وحين كان لا يؤمن الاشتغال به عن القرآن" (¬1). هذه جملة آراء العلماء في بحث إشكال التعارض بين الروايات، وكلها اجتهادات يعوزها الاستناد النقلي اللهم إلا القول بالنسخ فقد استدل له من النقل، ومال إليه كثير من العلماء كالمنذري وابن القيم وابن حجر وغيرهم، وذلك لأن الإذن بالكتابة متأخر عن النهي عنها فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في غزوة الفتح: "اكتبوا لأبي شاه ... " يعني خطبته التي سأل أبو شاه كتابتها. وأذن لعبد الله بن عمرو في الكتابة، وحديثه متأخر عن النهي لأنه لم يزل يكتب ومات وعنده كتابته وهي الصحيفة التي كان يسميها "الصادقة". ولو كان النهي عن الكتابة متأخرا لمحاها عبد الله. وهذا الرأي في التحقيق ينبغي أن لا يجعل منافيا للآراء السابقة بل إنه متمم لها حيث نأخذ من تلك الآراء علة النهي السابق، وأنه لما زالت العلة ورد الإذن بالكتابة (¬2). ¬

_ (¬1) المحدث الفاصل ق 56 - ب، ص 386. وتهذيب السنن نفس المكان. انظر تصدير تقييد العلم للدكتور يوسف العش ص 9، وكتاب الحديث والمحدثون للدكتور محمد محمد أبو زهو: 122 - 125. والمنهج الحديث في علوم الحديث للدكتور محمد محمد السماحي: 36 وقد جمع النووي الأقوال في شرح مسلم: 18: 130. (¬2) لذلك يقول الحافظ ابن حجر في الفتح: 1: 149 "وهو أقربها مع أنه لا ينافيها"

إلا أننا نلاحظ أن القول بالنسخ لا يحل الإشكال في هذه المسألة؛ لأن النهي عن الكتابة لو نسخ نسخا عاما لما بقي الامتناع عن الكتابة في صفوف الصحابة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، ولأقيمت الحجة عليهم من طلبة العلم الذين كانوا على أشد الحرص على تدوين الحديث فما زال المشكل بحاجة إلى مخلص مناسب لحله. والذي يهدي إليه النظر في هذه المسألة أن الكتابة لا ينهى عنها لذاتها، لأنها ليست من القضايا التعبدية التي لا مجال للنظر فيها ولأنها لو كانت محظورة لذاتها لما أمكن صدور الأذن بها لأحد من الناس كائنا من كان. وعلى هذا فإنه لا بد من علة يدور عليها الإذن والمنع في آن واحد. والعلة التي تصلح لذلك في اختيارنا هي خوف الانكباب على درس غير القرآن، وترك القرآن اعتمادا على ذلك (¬1). ذلك أننا تأملنا أقوال الصحابة الذين امتنعوا عن الكتابة وحظروها فإذا بنا نجدهم يصرحون بذلك: هذا أبو نضرة يقول قلنا لأبي سعيد: "لو كتبتم لنا، فإنا لا نحفظ قال: لا نكتبكم ولا نجعلها مصاحف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا فنحفظ، فاحفظوا عنا كما نحفظ عن نبيكم" (¬2) فهذا أبو سعيد الخدري وهو راوي الحديث يفسر النهي عن الكتابة بأنه خشية أن يجعل الحديث موضع القرآن، وراوي الحديث أعلم بما روى كما يقرر العلماء. وعن عروة بن الزبير أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن، ¬

_ (¬1) وقد وقع ذلك للأسف في هذا العصر لبعض المتصدرين في الحديث أنه ربما عرضت لبعضهم الآية من القرآن فلم يعرف أنها من كتاب الله تعالى! ! (¬2) أخرجه الخطيب في تقييد العلم: 36. وابن عبد البر في جامعه: 1: 64.

فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله فيها شهرا، ثم أصبح يوما وقد عزم الله له فقال: "إني كنت أردت أن أكتب السنن، وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله تعالى. وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدا" (¬1). وقد أعلن عمر هذا على ملأ من الصحابة رضوان الله عليهم وأقروه، مما يدل على استقرار أمر هذه العلة في نفوسهم. ولذلك فإن هذا المعنى نقل عن جماعة من الصحابة كابن عباس (¬2) وابن مسعود، وأبي موسى الأشعري (¬3) بل نقل ذلك ابن سيرين عن الصحابة عموما فقال: "كانوا يرون أن بني إسرائيل إنما ضلوا بكتب ورثوها" (¬4). قال الخطيب في تقييد العلم (¬5): "فقد ثبت أن كراهة الكتاب من الصدر الأول إنما هي لئلا يضاهي بكتاب الله تعالى غيره أو يشتغل عن القرآن بسواه ... ". من أجل ذلك نجد أن الكتابة التي أذن بها هي التي لا تتخذ طابع التدوين العام، أي لا تتخذ مرجعا يتداول بين الصحابة ولذلك لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أحدا بكتابة الحديث كما أمر بكتابة القرآن، وإنما أذن لأفذاذ من الصحابة بذلك، ولم يكن الصحابة رضوان الله ¬

_ (¬1) أخرجه الخطيب في تقييد العلم ص 49، وابن عبد البر في جامع بيان العلم: 1: 64. والروايات عن عمر في ذلك كثيرة. (¬2) في تقييد العلم ص 43. (¬3) المرجع السابق: 53 - 56. وجامع بيان العلم: 1: 64 - 67. (¬4) تقييد العلم: 61. (¬5) المرجع السابق: 57.

عليهم يتداولون تلك الصحف من الحديث، ولم نجد في شيء من الروايات أن أحدا فعل ذلك. وإنما كانت تلك الصحف بين أيديهم بمثابة المذكرات فلما انتشر علم القرآن وكثر حفاظه وقراؤه وأمن على علمه أن لا يفي بكفاية المجتمع أو أن يلتبس به غيره لدى الناس أقبلت الأمة على تدوين الحديث تدوينا اتخذ صبغة العموم، وتداولت صحفه المكتوبة، وذلك بأمر الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز. المرحلة الأولى: مرحلة جمع الحديث في صحف بمن يكتب دون أن تتداول بين الناس وهذه بدأت منذ عهده صلى الله عليه وسلم وبإذنه. المرحلة الثانية: الكتابة التي تقصد مرجعا يعتمد عليه ويتداولها الناس وهذه بدأت من القرن الثاني للهجرة. وكانت في كل من هاتين المرحلتين مجرد جمع للأحاديث في الصحف غالبا لا يراعى فيها تبويب أو ترتيب معين، ثم جاء دور التصنيف الذي اتخذت فيه الكتابة طابع التبويب والترتيب من منتصف القرن الثاني، وبلغ أوجه وذروته في القرن الثالث المعروف بعصر التدوين. وقد تناولت الكتابة في عهده صلى الله عليه وسلم قسما كبيرا من الحديث يبلغ في مجموعه ما يضاهي مصنفا كبيرا من المصنفات الحديثية. ومما ورد كتابته من الحديث: 1 - الصحيفة الصادقة: التي كتبها عبد الله بن عمرو بن العاص، قال عبد الله بن عمرو: حفظت عن النبي صلى الله عليه وسلم ألف مثل (¬1)، وكان عبد الله يعتز بها يقول: "ما يرغبني في الحياة إلا الصادقة ¬

_ (¬1) أسد الغابة: 3: 233.

والوهط" (¬1). وقد انتقلت هذه الصحيفة إلى حفيده عمرو بن شعيب. وأخرج الإمام أحمد في مسند عبد الله بن عمرو من كتابه المسند قسما كبيرا من أحاديث هذه الصحيفة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. 2 - صحيفة علي بن أبي طالب: وهي صحيفة صغيرة تشتمل على العقل -أي مقادير الديات- وعلى أحكام فكاك الأسير. أخرج نبأها البخاري (¬2) وغيره عن أبي جحيفة قال: قلت هل عندكم كتاب؟ قال: قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة. قال: قلت: فما في هذه الصحيفة؟ قال العقل. وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر. 3 - صحيفة سعد بن عبادة الصحابي الجليل -15 هـ. أخرج الترمذي في سننه (¬3) عن ابن سعد به عبادة "وجدنا في كتاب سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين والشاهد". لكن لم نعثر على ¬

_ (¬1) سنن الدارمي: 1: 127. والوهط أرض وقفها أبوه عمرو في الطائف، كان عبد الله يقوم برعايتها. (¬2) في العلم باب كتابة العلم: 1: 29. (¬3) ج 3 ص 280 شرح تحفة الأحوذي، وانظر المسند: 5: 285. وقد وهم من قال: ويروي البخاري أن هذه الصحيفة كانت نسخة من صحيفة عبد الله بن أبي أوفى الذي كان يكتب الأحاديث بيده، فإن لفظ البخاري بسنده عن سالم أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله وكان كاتبا له أن عبد الله بن أبي أوفى كتب إليه فقرأته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وهذا ظاهر في أن ابن أبي أوفى كتب إلى عمر بن عبيد الله فمن أين جاء الزعم أن صحيفة سعد نسخة من صحيفة ابن أبي أوفى، ثم إن سعدا معروف بالكتابة منذ الجاهلية وهو أسبق إسلاما ووفاة، ولم يعرف عبد الله بالكتابة في عهده صلى الله عليه وسلم، فكيف يكون سعد هو الكاتب عنه والأعجب منه أن بعض معاصرينا سرى عليه الوهم وأحال على صحيح البخاري بشرح السندي ص 143 ج 2. باب الصبر عند القتال -دون أن ينظر أو يتأمل لفظ رواية البخاري الذي ذكرناه .. ! ! .

غير هذا الحديث من هذا الكتاب. ولعل كثيرا من الأحاديث التي رويت عن سعد من هذا الكتاب (¬1). 4 - كتبه صلى الله عليه وسلم إلى أمرائه وعماله فيما يتعلق بتدبير شؤون الأقاليم الإسلامية وأحوالها، وفي بيان أحكام الدين، وهي كتب كثيرة تشتمل على مهمات أحكام الإسلام وعقائده، وخطوطه العريضة، وبيان الأنصبة والمقادير الشرعية للزكاة، والديات والحدود والمحرمات وغير ذلك. ومن هذه الكتب: أ- كتاب الزكاة والديات الذي كتب به أبو بكر الصديق وأخرجه البخاري في صحيحه (¬2) فقد روى أبو داود والترمذي (¬3) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتاب الصدقة فلم يخرجه حتى قبض. ب- كتاب لعمرو بن حزم عامله على اليمن وفيه أصول الإسلام، وطريق الدعوة إليه، والعبادات وأنصبة الزكاة والجزية والديات (¬4). ¬

_ (¬1) هذه بعض الصحف المكتوبة في عصر النبوة، وقد ذكر بعض الباحثين صحفا لبعض الصحابة كجابر، وسمرة بن جندب، وعبد الله بن أبي أوفى، لم نجد ما يدل على كتابتها في عهده صلى الله عليه وسلم، فالظاهر أنها كتبها سامعوها عنهم، أو أنهم كتبوها بعد عصر النبوة. (¬2) في الزكاة مختصرا في أبواب متفرقة منها "باب زكاة الغنم": 2: 118، وأخرجه مطولا أبو داود 2: 96 - 97 والنسائي: 5: 13 - 14. (¬3) أبو داود نفس المكان. والترمذي: 3: 17. (¬4) أخرج بعضه مالك وغيره وأخرجه البيهقي مطولا في الدلائل. انظر تنوير الحوالك شرح موطأ مالك: 1: 157 - 159، وأبو عبيد في كتاب الأموال: 357 وما بعدها. والتراتيب الإدارية للكتاني: 1: 168 - 171. والمصباح المضي ق 96.

جـ- كتابه إلى وائل بن حجر لقومه في حضرموت فيه الأصول العامة للإسلام، وأهم المحرمات (¬1). 5 - كتبه صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والعظماء. وإلى أمراء العرب يدعوهم فيها إلى الإسلام ككتابه إلى هرقل ملك الروم، وإلى المقوقس بمصر، وغير هؤلاء (¬2). 6 - عقوده ومعاهداته التي أبرمها مع الكفار، كصلح الحديبية، وصلح تبوك، وصحيفة المعاهدة التي أبرمت في دستور التعايش بين المسلمين في المدينة وبين من جاورهم من اليهود وغيرهم. 7 - كتب أمر بها صلى الله عليه وسلم لأفراد من أصحابه لمناسبات ومقتضيات مختلفة، مثل كتابة خطبته لأبي شاه اليماني. وغير ذلك مما كتب في عهده صلى الله عليه وسلم مما لم نحصه هنا، أو لم نحط به علما. وهذا كاف لإثبات تواتر الكتابة في عهده صلى الله عليه وسلم وإثبات أن ما كتب فيه عهده صلى الله عليه وسلم تناول قسما كبيرا من حديثه، هو أهم هذه الأحاديث، وأدقها لاشتمالها على أمهات الأمور ذات الأهمية، وعلى أحكام دقيقة تتعلق بالأرقام تحتاج إلى ضبط دقيق، مما يجعل الكتابة عنصرًا هامًا في حفظ الصحابة للحديث ينضم إلى العوامل الأخرى ليدعمها ويؤازرها في تحقيق تحمل الصحابة للحديث النبوي تحملا حافظا أمينا كافلا بأن يؤدوه بعد ذلك كما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ¬

_ (¬1) الطبقات: 287 و 349 و 351 والمصباح المضي ورقة 112. (¬2) جمعت هذه الكتب في رسالة اسمها إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين للحافظ محمد بن علي بن طولون الدمشقي. وعني بجمعها صاحب المصباح المضي وهو أجمع ما اطلعنا عليه في ذلك.

رأي بعض المستشرقين في كتابة الحديث: هذا وعلى الرغم من توفر أسباب الحفظ المكين للحديث لدى الصحابة، فقد أطلق بعض المستشرقين لخيالهم العنان، وراحوا يقولون ما شاء لهم القول في هذه المسألة. وذلك أن كثيرا منهم وعلى رأسهم جودل زيهر قد سمحوا لأنفسهم أولا بإنكار وقوع تقييد الحديث في هذه الفترة حتى مطلع القرن الهجري الثاني بل إن بعضهم ليغلوا في ذلك حتى يزعم أن الحديث لم يدون حتى مطلع القرن الثالث، ثم بنوا على هذا زعمهم أن الحديث كان في تلك الفترة مضيعا لانقطاع كتابته بزعمهم خلال هذه الفترة الطويلة. والحقيقة أن إنكار تقييد الحديث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يأتي ممن يتحاكم إلى الانصاف، ويسلك نهج العلم، فإن روايات كتابته قد تعددت بالأسانيد الموثوقة الكثيرة جدا في مختلف مراجع السنة، مما يبلغ بها درجة التواتر الذي يقطع من يطلع عليه من العلماء، ويتحقق وقوع الكتابة للحديث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. أما تقييد العلم في عصر بن عبد العزيز فليس يعني أبدا أنه لم يدون من قبلن غاية الأمر أن هذا الخليفة العادل وجد كثيرا من العلماء يحجم عنه كما أنهم لم يكونوا يتداولون الكتب ليعتمدوا عليها، فأصدر أمره بكتابة الحديث لينتقل بالعلم إلى التدوين العام، الذي يعتمد مع الحفظ على الكتابة، ويجعل الكتابة مرجعا متداولا معتمدا لا يختص بصاحبه فقط. وذلك ما ترمي إليه عبارة الحفاظ ابن حجر حين قال: (¬1) "إن آثار النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن في عصر أصحابه وكبار تبعهم مدونة في الجوامع ولا مرتبة". ¬

_ (¬1) في هدي الساري مقدمة شرح البخاري ج 1 ص 4.

ومن فهم من كلام الحافظ غير ذلك فقد وهم ولم يحقق النظر (¬1). على أننا في دفاعنا هذا لا نزعم أن كل الحديث قد كتب، ونحن بالتالي لا نرتضي مسلك بعض الكاتبين حول هذه المسألة الذي ينجو إلى الغلو والزعم بأن التدوين تناول كل الحديث في عصر النبوة. وكأنهم يصدرون في ذلك عن رد الفعل من موقف بعض المستشرقين الذي يثير الحمية لإمعانه في تجاهل الحقائق. بل إنا لا نبالي أن نقول إن شيئا من الحديث لم يكتب لولا توافر الدلائل العلمية التي تبلغ درجة المسلمات في نطاق العلم على إثبات الكتابة لقسم كبير من الحديث في عصر النبوة. لقد أخطأ التوفيق جماعة المستشرقين وخانهم منذ الخطوة الأولى التي خطوها في فذلكة موضوع التدوين، حيث إنهم غفلوا أو تجاهلوا عوامل الحفظ الكثيرة التي توفرت في الصحابة، وهي بلا شك عوامل كافية كل الكفاء لحفظ الحديث النبوي فتوهموا أن القدح في تدوين الحديث يوصلهم إلى غرضهم. وهذا دأب الذين يظلمون الحقائق إنهم لا بد أن يرجعوا بالخيبة والخسران، وإن تقليب أي كتاب في تاريخ الصحابة العلمي ليملأ القلب، والسمع والبصر، بما كانوا عليه من قوة الحفظ العجيب الذي فطروا عليه بجبلتهم، فكيف وقد وجدت لديهم تلك الدوافع التي تجعل الأحاديث تنقش في قلوبهم نقشها في الحجر. ¬

_ (¬1) وأما ما زعمه "جولد زيهر" أن الأحاديث الواردة في كتابة الحديث موضوعة فنوع من جموح الخيال، أراد به صاحبه أن يلصق بعلماء الإسلام ما اجترحه الأحبار في ديانتهم المقدسة، فاخترع هذا الزعم، وهو فرية لا تستحق النظر، فضلا عن الرد. وانظر الرد عليها إن شئت تصدير تقييد العلم للدكتور يوسف العش.

قوانين الرواية في عهد الصحابة: قام الصحابة رضوان الله عليهم بالتبليغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلوا من أجله غاية ما في الوسع البشري، لكن لم يغفلوا في وقدة حماسهم للدعوة، عن أمر جوهري هام ألا وهو صون هذا التراث من التحريف، وقد كان لهم في عوامل الحفظ الذاتية التي اشتمل عليها هذا الدين القويم، تلك العوامل المعجزة التي جعلته شامخا أمام الأحداث، وفي وجه التيارات الجارفة لا يأتيه الباطل من بيد يديه، ولا من خلفه، كان فيها خير ملهم لهم، وموضح لائمة العلم سبيل المحافظة على تراث النبوة، فهذه توجيهات الشريعة تضع الركن الأساسي لأصول النقل ولقانون العلم النقلي الصحيح الذي يجب أن يتحقق فيه كي يكون علما يتبع، كقوله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}. وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتواتر عنه: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار". وكقوله تعالى في التثبت: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا}. وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} بل إن النبي صلى الله عليه وسلم حمل ناقل الكذب إثم الكاذب المفتري وذلك في الحديث الصحيح المستفيض المشتهر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين". فتفرعت من هذه التوجيهات المعجزة أصول قوانين الرواية التي تكفل حفظ الحديث وصيانته، وكان الناس آنذاك على أصل العدالة

لا حاجة إلى الجرح والتعديل، لأن العصر هو عصر الصحابة، وهم جميعهم عدول، فلم يكن يحتاج لأكثر من التحرز عن الوهم (¬1). فابتع الصحابة من قوانين الرواية ما يحتاج إليه في عصرهم، للتثبت من صحة النقل، والتحرز من الوهم، وما زالت هذه القوانين تتفرع لتلبية المطالب المستجدة عصرا بعد عصر، حتى بلغت ذروتها. وأهم قوانين الرواية في عهد الصحابة: أولا: تقليل الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن تزل أقدام المكثرين بسبب الخطأ أو النسيان، فيقعوا في شبهة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث لا يشعرون، فضلا عن قصدهم أن يتفرغ الناس لحفظ القرآن، ولا ينشغلوا عنه بشيء، فكان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يشددان في ذلك. وقد سلك عموم الصحابة هذا السبيل، حتى اشتهر واستفاض عنهم مرفوعا وموقوفا: "كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع" (¬2). ثانيا: التثبت في الرواية عند أخذها وعند أدائها. قال الإمام الذهبي في ترجمة أبي بكر الصديق رضي الله عنه (¬3): وكان أول من احتاط في قبول الأخبار، فروى ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث، فقال: "ما أجد لك في ¬

_ (¬1) أما المنافقون فكانوا أحقر من أن يحملوا علما أو يؤخذ عنهم العلم، انظر أثبات هذا الموقع للمنافقين، قسم التاريخ: 62 و 517 - 522. (¬2) روي ذلك عن جماعة من الصحابة، انظر الرواية عن بعضهم في مقدمة صحيح مسلم ص 8. وقارن بالبخاري في العلم "باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم": 1: 29. وسنن ابن ماجه: 10 - 13 وانظر توجيه النظر: 14 - 16. (¬3) من تذكرة الحفاظ ص 2.

كتاب الله شيئا وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لك شيئا، ثم سأل الناس، فقام المغيرة فقال حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيها السدس، فقال له: هل معك أحد؟ فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك. فأنفذه لها أبو بكر رضي الله عنه". وقال في ترجمة عمر بن الخطاب: "وهو الذي سن للمحدثين التثبت في النقل وربنا كان يتوقف في خبر الواحد إذا ارتاب، فروى الجر يري -يعني سعيد بن إياس- عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن أبا موسى سلم على عمر من وراء الباب ثلاث مرات، فلم يؤذن لهن فرجع، فأرسل عرم في أثرهن فقالك لم رجعت؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سلم أحدكم ثلاثا فلم يجب فليرجع" قال: لتأتيني على ذلك بينة أو لأفعلن بك. فجاءنا أبو موسى منتقعا لونه ونحن جلوس، فقلنا ما شأنك؟ فأخبرنا، وقال: فهل سمع أحد منكم؟ فقلنا: نعم، كلنا سمعه. فأرسلوا معه رجلا منهم حتى أتى عمر فأخبره". وقال في ترجمة علي رضي الله عنه (¬1): "كان إماما عالما متحريا في الأخذ بحيث إنه يستحلف من يحدثه بالحديث ... ". ثالثا: نقد الروايات "وذلك بعرضها على نصوص وقواعد الدين، فإن وجد مخالفا لشيء منها ردوه وتركوا العمل به، هذا الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فيما أخرج مسلم (¬2) عنه: يسمع حديث فاطمة ¬

_ (¬1) ص 10. (¬2) في الطلاق: 4: 198. والقصة أخرجها أيضا البخاري "باب قصة فاطمة بنت قيس" ج 7 ص 73 وأبو داود: 2: 288، والترمذي ج 3 ص 484 والنسائي: 2: 116، وابن ماجه ص 653، والموطأ ج 2 ص 30 والمسند ج 6 ص 373 وسنن الدارقطني ج 4 ص 22 - 272 والبيهقي ج 7 ص 321 و 431 و 471 و 475. وأما زيادة "أصدقت أم كذبت" فلا أصل لها في رواية الحديث، وقد استغلها أعداء الإسلام، والعجب أن يذكرها بعض الكاتبين في "أصول الحديث" أو أصول الفقه، ثم يعزوها لمسلم أيضا، ومسلم وغيره منها براء! !

بنت قيس أن زوجها طلقها ثلاثا فلم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا سكنى ولا نفقة، قال عمر: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت، لها السكنى والنفقة، قال الله عز وجل: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}. وتلكم عائشة رضي الله عنها، فيما أخرجه الشيخان (¬1) سمعت حديث عمر وابنه عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه". فقالت: رحم الله عمر والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يعذب المؤمنين ببكاء أحد، ولكن قال: "إن يزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه"، وقالت: حسبكم القرآن: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} زاد مسلم "إنكم لتحدثوني غير كاذبين ولا مكذبين ولكن السمع يخطئ". وجدير بالتنبيه أنهم إنما كانوا يفعلون ذلك للاحتياط في ضبط الحديث لا لتهمة أو سوء ظن، فهذا عمر رضي الله عنه يقول: "إني لم أتهمك ولكن أحببت أن أثبت". وكذلك رد بعض الأحاديث كان اجتهادا منهم لمخالفتها ما استنبطوه من القرآن، لذلك نجد بعض الصحابة ومن بعدهم عملوا بما رده غيرهم، لأنهم باجتهادهم رأوه غير معارض للأدلة. ¬

_ (¬1) البخاري في الجنائز: 2: 77 - 80، ومسلم: 3: 42 - 43. وذكره الزركشي في الإجابة 102 - 103 وانظر 76 - 77. والسيوطي في عين الإصابة ق 92 أ. وقد جمع هذا الإمامان في كتابيهما ما ورد من استدراك عائشة على الصحابة ومناقشاتها، فأفادا فوائد عظيمة.

ظهور الوضع ووسائل مكافحته: برز قرن الفتنة التي أدت إلى مقتل الإمام الشهيد عثمان بن عفان ثم مقتل الإمام الحسين رضي الله عنهما، وظهرت الفرق المنحرفة، وراح المبتدعة يبحثون عن مستندات من النصوص يعتمدون عليها في كسب أعوان لهم، فعمدوا إلى الوضع في الحديث فاختلفوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقلن فكان مبدأ ظهور الوضع في الحديث منذ ذلك الوقت. وقد انتدب الصحابة للمحافظة على الحديث، واجتهدوا في ذلك متبعين أقصى وأحكم ما يمكن من وسائل البحث والفحص الصحيحة. ومن ذلك أنهم: أولا: عنوا بالبحث في إسناد الحديث وفحص أحوال الرواة بعد أن كانوا من قبل يرجحون توثيق من حدثهم. أخرج مسلم في مقدمة صحيحه والترمذي في علل الجامع عن محمد ابن سيرين أنه قال: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم، فينظر إلى حديث أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم". ثانيا: حث علماء الصحابة الناس على الاحتياط في حمل الحديث عن الرواة، وألا يأخذوا إلا حديث من يوثق به دينا وورعا، وحفظا وضبطا، حتى شاعت في عرف الناس هذه القاعدة: "إنما هذه الأحاديث دين فانظروا عمن تأخذونها" (¬1). ¬

_ (¬1) أخرج ذلك ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل: 1/ 1/ 15 عن عدد من التابعين بلفظ: "كان يقال: إنما هذه الأحاديث .. " وهذا التعبير يفيد اتفاق الصحابة.

وبذلك نشأ علم ميزان الرجال: "الجرح والتعديل" الذي هو عمود أصول الحديث. فقد تكلم من الصحابة في الرجال: عبد الله بن عباس، وعبادة بن الصامت، وأنس بن مالك. وكان كلاما قليلا، لقلة الضعف وندرته. ثم تكلم من التابعين سعيد بن المسيب المتوفى سنة " (93) هـ" وعامر الشعبي " (104) هـ" وابن سيرين " (110) هـ" (¬1). ثالثا: الرحلة في طلب الحديث، لأجل سماعه من الراوي الأصل، والتثبت منه وقد وافتنا أخبار رحلاتهم بالعجيب المستغرب إذ بلغ بهم الأمر أن يرحل الرجل في الحديث الواحد مسافة شاسعة، على الرغم مما كان في مواصلاتهم من المشقات والتعب. ومن ذلك. أن أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه يرحل إلى عقبة بن عامر يسأله: حدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق أحد سمعه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من ستر على مؤمن في الدنيا ستره الله يوم القيامة". فأتى راحلته فركب ثم رجع (¬2). فسن الصحابة الرحلة في طلب الحديث للتثبت منه وسلك التابعون سبيلهم فكانوا يرحلون إلى الصحابة ويسألونهم عن الأحاديث، كما روى الخطيب (¬3) بأسانيده عن سعيد بن المسيب قال: "إن كنت لأسير الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد". ¬

_ (¬1) توجيه النظر: 114. (¬2) المسند: 4: 153، وانظر الآثار في فتح الباري: 1: 158 - 159 وأول كتاب العلم في سنن أبي داود. وقد جمع الخطيب البغدادي أخبار الراحلين في الحديث الواحد من الصحابة ومن بعدهم في جزء لطيف سماه "الرحلة في طلب الحديث" حققناه واستدركناه عليه بقدر حجمه. (¬3) في كتابه الرحلة في طلب الحديث ص 127 - 128 بتحقيقنا.

وفي الصحيحين (¬1): جاء رجل إلى الشعبي فقال: يا أبا عمرو إن أناسا عندنا يقولون: إذا أعتق الرجل أمته ثم تزوجها فهو كالراكب بدنته؟ ! قال الشعبي حدثني أبو بردة بن أبي موسى عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين ... ". ثم قال الشعبي: خذها قد كان الرجل يرحل فيما دونها إلى المدينة. واستمل شأن العلماء على ذلك فيما بعد حتى أصبحت الرحلة من ضرورات التحصيل. رابعا: ومن طريق معرفة الوضع والضعف في الحديث عرض حديث الراوي على رواية غيره من أهل الحفظ والاتقان، فحيث لم يجدوا له موافقا على أحاديثه أو كان الأغلب على حديثه المخالفة ردوا أحاديثه أو تركوها. وغير ذلك من الوسائل التي اتبعوها وبها ميزوا الصحيح من السقيم والسليم من المدخول. وهكذا لم ينقض القرن الأول إلا وقد وجدت أنواع من علوم الحديث منها: 1 - الحديث المرفوع 2 - الحديث الموقوف 3 - الحديث المقطوع 4 - الحديث المتصل 5 - الحديث المرسل 6 - الحديث المنقطع 7 - المدلس وغير ذلك من أنواع، وكانت كلها تنقسم إلى قسمين: 1 - المقبول: وهو الذي سمي فيما بعد بالصحيح والحسن. 2 - المردود: وسمي بعد ذلك الضعيف وأقسامه كثيرة. ¬

_ (¬1) البخاري في العلم: 1: 27، ومسلم: 1: 93 وانظر كتاب الرحلة: 141.

الدور الثاني: وهو دور التكامل

الدور الثاني: وهو دور التكامل اكتملت علوم الحديث في هذا الدور إذ وجدت كلها واحدا واحدا وخضعت لقواعد يتداولها العلماء وذلك من مطلع القرن الثاني إلى أو الثالث. فقد جدت في هذا العصر أمور أهمها: 1 - ضعف ملكة الحفظ في الناس، كما نص على ذلك الذهبي في تذكرة الحفاظ. 2 - طالت الأسانيد وتشعبت بسبب بعد العهد وكثرة حملة الحديث، حيث حمل الحديث عن كل صحابي جماعات كثيرة تفرقوا في البلاد، فكثرت الأحاديث، ودخلتها القوادح الكثيرة والعلل الظاهرة والخفية. 3 - كثرت الفرق المنحرفة عن جادة الصواب والمنهج الذي كان عليه الصحابة والتابعون بإحسان، كالمعتزلة والجبرية والخوارج وغيرهم. فنهض أئمة الإسلام لمواجهة هذه الضرورات ووضعوا لكل طارئ ما يسد الثلمة التي حصلت ومن ذلك: 1 - التدوين الرسمي، فقد أحس عمر بن عبد العزيز بالحاجة الملحة لحفظ كنوز السنة فكتب إلى الأمصار أن يكتبوا ما عندهم من الحديث ويدونوه حتى لا يضيع بعد ذلك. أخرج البخاري أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر بن حزم: "انظر ما كان من الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء" (¬1). ¬

_ (¬1) البخاري: 1: 27.

فكتب الزهري، وأبو بكر بن عبد الرحمن وغيرهما ما في آفاقهم من الحديث، ولم يلبث التدوين المبوب أن انتشر، فجمعت الأحاديث في الجوامع والمصنفات، كجامع معمر بن راشد "154"، وجامع سفيان الثوري "161"، وجامع سفيان بن عيينة "198"، وكمصنف عبد الرزاق "211"، ومصنف حماد بن سلمة "167"، ووضع الإمام مالك كتابه "الموطأ" وهو بأقوال الصحابة والتابعين. وقلده كثير من الناس حتى بلغت الموطآت الأربعين وعني مالك بانتقاء أحاديث الموطأ، حتى قال الإمام الشافعي: "أصح كتاب بعد كتاب الله كتاب مالك". وقد أخرجوا في هذه التآليف الحديث المرفوع والموقوف والمقطوع لأنهم قصدوا جمع الحديث للمحافظة عليه لذلك توسعوا فذكروا في المسألة كل ما ورد فنقوله بأسانيدهم إلى قائله. 2 - توسع العلماء في الجرح والتعديل، وفي نقد الرجال لكثرة شيوع الضعف من جهة ضعف الحفظ ومن جهة انتشار الأهواء والبدع. فتفرغ جماعة من الأئمة لنقد الرجال واشتهروا به كشعبة بن الحجاج "160"، وسفيان الثوري وعبد الرحمن بن مهدي "198" وغيرهم. 3 - توقفوا في قبول الحديث ممن لم يعرف به. أخرج مسلم في مقدمة صحيحه عن أبي الزناد قال: أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون ما يؤخذ عنهم الحديث يقال: "ليس من أهله". 4 - تتبعوا الأحاديث لكشف خباياها ووضعوا لكل صورة جديدة قاعدة تعرفها وتبين حكمها فتكاملت أنواع الحديث ووجدت كلها واتخذت اصطلاحاتها الخاصة. ووجدت العناية بسبر الروايات وتتبعها لكشف علل الحديث،

وشهد القرن نشاطا زائدا في الرحلة من أجل هذا الغرض، واعتبرت الرحلة من ضرورات التحصيل لطالب الحديث، فلا تعلم محدثا له شأنه علا قد رحل في البلاد، وأجدى العلماء من رحلاتهم هذه فوائد كثيرة، حيث اطلعوا على ما نشره الصحابة في شتى الآفاق، ووازنوا بين الأسانيد والمتون، مما تفرع عنه كثير من الفوائد. واحتل الرحالون في سبيل العلم مكانة مرموقة في المجتمع العلمي، حتى صار لقب "الرحال" والرحالة، والجوال وإليه كانت الرحلة ... شعرا على كبار المحدثين وحتى طوف كثير منهم بالشرق والغرب أكثر من مرة، وتناقل الناس أخبار رحلاتهم، وما صادفهم من المشاق والعجائب (¬1) بالإكبار والإجلال. وكان الإمام الزهري أول من عني في هذا القرن بجمع الضوابط وإلقائها إلى الناس، وأمر أتباعه بجمعها، حتى عده البعض واضع علوم الحديث (¬2). لكن تلك العلوم والضوابط التي وجدت حتى عصرهم كانت محفوظة في صدور الرجال لم يدون شيء منها في كتاب -فيما نعلم فضلا عن أن يجمعها يضبط قواعدها مصنف خاص- اللهم إلا ما وجدنا للشافعي من فصول وأبحاث متفرقة لها أهميتها في هذا الفن. فقد تكلم في الرسالة عن الحديث الذي يحتج به، وشرط فيه شروط الصحيح، وتكلم في شرط حفظ الراوي والرواية بالمعنى والمدلس وقبول حديثه (¬3)، كما أنه ذكر في الأم الحديث الحسن (¬4). وتكلم في الحديث المرسل وناقش الاحتجاج به بقوة، وبحث في غير ذلك من علوم الحديث. فكان ما كتبه الشافعي أول ما بلغنا من علوم الحديث مدونا في كتاب. ¬

_ (¬1) انظر على سبيل المثال ما رواه ابن أبي حاتم عن أبيه في مقدمة الجرج والتعديل: 364 - 366. (¬2) الشيخ إبراهيم البيجوري في شرحه على الشمائل: 6، وانظر مقدمة تحفة الأحوذي: 2 - 3. (¬3) انظر الرسالة: 370 - 372 و 379 - 383. (¬4) الأم: 8: 538.

الدور الثالث: دور التدوين لعلوم الحديث مفرقة

الدور الثالث: دور التدوين لعلوم الحديث مفرقة وذلك من القرن الثالث الهجري إلى منتصف القرن الرابع. والقرن الثالث وهو عصر التدوين عصر السنة الذهبي دونت فيه السنة وعلومها تدوينا كاملا. في مطلع هذه الدور ارتأى العلماء إفراد حديث الرسول بالتصنيف، فابتكروا لذلك "المسانيد" جمعوا فيها الحديث النبوي مرتبا بحسب أسماء الصحابة، فالأحاديث عن أبي بكر مثلا تجمع كلها في مكان واحد تحت عنوان مسند أبي بكر وكذا أحاديث عمر وهكذا. ثم جاء البخاري فرأى إفراد الحديث الصحيح وأن يرتب على الأبواب لتسهيل الوصول إليه وتسهيل الفقه فيه، فوضع كتابه الجامع الصحيح. وجاء بقية السنة وهم -عدا النسائي- من تلامذته فوضعوا كتبهم على الأبواب، وراعوا حسن الاختيار، وإن كان أصحاب السنن لم يشترطوا الصحة، وهكذا كان لمدرسة البخاري الفضل العظيم على السنة بما صنفت في رواية الحديث وفي علوم الحديث ثم تبع الشيخين في اشتراط الصحة ابن خزيمة "311 هـ". ثم ابن حبان "354 هـ". وفي هذا العصر أصبح كل نوع من أنواع الحديث علما خاصا مثل علم الحديث الصحيح، وعلم المرسل، وعلم الأسماء والكنى، وهكذا، فأفرد العلماء كل نوع منها بتأليف خاص. كتب يحيى بن معين "234 هـ" في تاريخ الرجال، ومحمد بن سعد "230" في الطبقات، الذي فاق كتب الطبقات وأحمد بن

حنبل " (241) هـ" "العلل ومعرفة الرجال" .. والناسخ والمنسوخ، ونبغ في التأليف والكتابة الإمام العلم علي بن عبد الله المديني " (234) هـ" شيخ البخاري، فقد ألف في فنون كثيرا جدا، حتى بلغت مؤلفاته المائتين (¬1). وكان له السبق في تصنيف كثير منها، حتى قيل: إنه ما من فن من فنون الحديث إلا ألف فيه كتابا. وأصبح التصنيف أمر متبعا لا ينفك عنه إمام في الحديث، والأئمة أصحاب الكتب السنة كلهم لهم تآليف كثيرة في علوم الحديث، وكذلك فعل غيرهم وكانت تآليفهم تحمل اسم العلم الذي دونت فيه. حتى شمل التدوين كل نوع من أنواع علوم الحديث وجعل في كتاب مفرد (¬2)، وصار يقال لهذه العلوم المتفرقة "علوم الحديث" كما يقال للفقه والأصول والتفسير والتوحيد: علوم الإسلام. واستوفى العلماء المتون والأسانيد دراسة وبحثا، واشتهرت الاصطلاحات الحديثية لكل نوع من أنواع الحديث واستقرت بين العلماء، كما يلاحظ ذلك من كتاب الترمذي وغيره. لكن لم يوجد في هذا الدور أبحاث تضم قواعد هذه العلوم وتذكر ضوابط تلك الاصطلاحات، اعتمادا منهم على حفظهم لها وإحاطتهم بها، سوى تأليف صغير هو كتاب "العلل الصغير" للإمام الترمذي " (279) هـ" فإنه وإن جعله مؤلفه خاتمة لكتاب الجامع فقد أفرده بالتحديث وحمله عنه العلماء جزءا مستقلا، لما اشتمل عليه من الفوائد (¬3). ¬

_ (¬1) الرسالة المستطرفة: 95. (¬2) انظر الرسالة المستطرفة تجد فيها أشهر ما صنف في كل فن حديثي. (¬3) ويشابه عمل الترمذي هذا مقدمة مسلم صحيحه، ورسالة أبي داود إلى أهل مكة، لكنا لم نعدهما تأليفا في فن "علوم الحديث" لقصورهما الشديد عن الشمول الذي في كتاب الترمذي.

وهو كتاب جامع لمهمات من المسائل في الجرح والتعديل ومراتب الرواة وآداب التحمل والأداء، والرواية بالمعنى والحديث المرسل. وتعريف الحديث الحسن، وتعريف الحديث الغريب وشرح هذا التعريف (¬1). ¬

_ (¬1) انظر تفصيل ذلك وتحقيقه في كتابنا الإمام الترمذي والموازنة بين جامعه وبين الصحيحين: 50 - 53. وتصديرنا لشرح علل الترمذي: 17 - 25.

الدور الرابع: عصر التآليف الجامعة وانبثاق فن علوم الحديث مدونا

الدور الرابع: عصر التآليف الجامعة وانبثاق فن علوم الحديث مدونا ويمتد من منتصف القرن الرابع إلى أوائل القرن السابع: أكب العلماء في هذه الفترة على تصانيف السابقين التي كانت تجربة أولى في التدوين فجمعوا ما تفرق في مؤلفات الفن الواحد، واستدركوا ما فات السابقين، معتمدين في كل ذلك على نقل المعلومات عن العلماء بالسند إليهم كما فعل سابقوهم، ثم التعليق عليها والاستنباط منها. فوجدت كتب في علوم الحديث لا تزال مراجع لا يغني عنها غيرها، ومن أهمها: 1 - "المحدث الفاصل بين الراوي والواعي" ألفه القاضي أبو محمد الرامهرمزي الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد المتوفى سنة 360. وهو أكبر كتاب وضع في علوم الحديث حتى ذلك العصر، استوفى فيه مؤلفه البحث في آداب الراوي والمحدث وطرق التحمل والأداء واجتهاد المحدثين في حمل العلم وما يتعلق بهذا الفن من الأمور. فهو في الحقيقة من كتب علوم الحديث بمعناه الإضافي لا باعتبار كونه اسما ولقبا للعلم الخاص المعروف. 2 - "الكفاية في علم الرواية" للخطيب البغدادي أبي بكر أحمد بن علي المتوفى سنة 463 هـ استوفى فيه البحث في قوانين الرواية

وإبان فيه عن أصولها وقواعدها الكلية، ومذاهب العلماء فيما اختلفت آراؤهم فيه، ولا يزال حتى يومنا أعظم كتاب في هذا الباب. 3 - "الإلماع في أصول الرواية والسماع"، للقاضي عياض بن موسى اليحصبي المتوفى سنة 544 هـ وهو كتاب مفيد جدا. فهذه المراجع وسواها مما صنف في ذلك العصر في كل نوع من أنواع علوم الحديث أصبحت المراجع الأصلية في هذه الفنون، بنى عليها اللاحقون بأن حذفوا أسانيدها وتلافوا أوهاما يسيرة فيها، أو استدركوا زيادات أضافوها إليها. وفي هذا الدور وضعت التآليف الجامعة لأنواع الحديث ونما التدوين في فن "علوم الحديث". ومن أهم ما صنف فيه إذ ذاك: 1 - "معرفة علوم الحديث" للحاكم أبي عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري المتوفى سنة 405 هـ بحث فيه اثنين وخمسين نوعا من علوم الحديث. وقد طبع في مصر سنة 1937. 2 - "المستخرج" لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني المتوفى سنة 430 هـ زاد فيه على الحاكم أشياء فاتته، لذلك سماه مستخرجا. ومع ذلك فقد تركا أشياء للمتعقب. 3 - "ما لا يسع المحدث جهله" للميانجي أبي حفص عمر بن عبد المجيد المتوفى سنة 580 هـ وهو رسالة مختصرة. وكان من أبرز الأعلام الذين شيدوا بنيان علوم الحديث في هذا الدور واعتمد عليهم من جاء بعدهم: الحاكم النيسابوري والخطيب البغدادي. أما الحاكم فقد شق الطريق لمن بعده، بوضع كتابه المذكور: قال ابن خلدون: "ومن فحول علمائه -يعني علوم الحديث- وأئمتهم

أبو عبد الله الحاكم وتآليفه فيه مشهورة، وهو الذي هذبه وأظهر محاسنه" (¬1). وقال الشيخ طاهر الجزائري "فيه فوائد مهمة رائعة ينبغي لمطالعي هذا الفن الوقوف عليها" (¬2). وأم الخطيب فإنه قد صنف في كل فن من فنون الحديث كتابا مفردا جامعا مستوفيا، حتى أضحت كتبه ملاذ الأئمة في فنون الحديث، كما قال الحافظ أبو بكر بن نقطة: "كل من أنصف علم أن المحدثين بعد الخطيب عيال على كتبه" (¬3). وكان طابع الجمع في هذه التآليف بارزا ظاهرا، فقد عمد المصنفون إلى نقل أقوال أئمة الفن في كل مسألة بأسانيدهم، ووضعوا لكل مجموعة منه عنوانا يدل على مضمونها معتمدين على القارئ في فهمها وإدراك مراميها، سوى شيء يسير من الإيضاح أو المناقشة، إلا أن الحاكم قصد ضبط القواعد، لكن فاته كما ذكر العلماء: أمران: استيعاب أنواع الحديث، وتهذيب العبارات وضبطها حتى يتضح المراد من التعريف (¬4). ¬

_ (¬1) مقدمة ابن خلدون: 371. (¬2) توجيه النظر: 163. (¬3) انظر إحصاء تصانيفه في كتاب "الخطيب البغدادي مؤرخ بغداد ومحدثها، للدكتور يوسف العش 120 - 137 وعددها /140/. (¬4) انظر بعد هذا العرض ما قاله الدكتور يوسف العش في كتابه "الخطيب البغدادي" ص 167 - 170 في وضع قواعد الحديث والتدوين فيها متأملا ناقدا.

الدور الخامس: دور النضج والاكتمال في تدوين فن "علوم الحديث"

الدور الخامس: دور النضج والاكتمال في تدوين فن "علوم الحديث" وذلك من القرن السابع إلى القرن العاشر، وفيه بلغ التصنيف لهذا العلم كماله التام فوضعت مؤلفات استوفت أنواع هذا العلم، وجمع إلى ذلك تهذيب العبارات وتحرير المسائل بدقة. وكان أصحاب تلك الصانيف من الأئمة الكبار الذين أحاطوا بالحديث حفظا، واضطلعوا من فنونه وأحوال أسانيده ومتونه دراية وعلما، على غرار الأئمة السابقين الكبار. وكان رائد هذا التحول العظيم في تدوين هذا الفن الإمام المحدث الحافظ الفقيه الأصولي أبو عمرو عثمان بن الصلاح المتوفى سنة " (643) " (¬1)، في كتابه المشهور "علوم الحديث"، فقد جمع فيه ما تفرق في الكتب السابقة، واستوفى أنواع علوم الحديث، ثم امتاز: 1 - بالاستنباط الدقيق لمذاهب العلماء وقواعدهم من أقوالهم المأثورة عنهم. 2 - أنه ضبط التعاريف التي سبق بها وحررها، وأوضح تعاريف لم يصرح بها من قبله. 3 - أنه عقب على أقوال العلماء بتحقيقاته واجتهاداته. وهكذا جاء كتابه متكاملا في فن التصنيف، وكان فتحا في تدوين هذا العلم، وابتداء عهد جديد له، نال من العلماء حظوة، وطارت شهرته في الآفاق، وعم الثناء عليه، حتى صار صاحبه يعرف به فيقال: "صاحب كاب علوم الحديث". وقد أصبح الكتاب إماما يحتذى ومرجعا يقتدى به، فعول عليه كل من جاء بعده، فمنهم من اختصره ومنهم من نظمه شعرا، ومنهم من شرحه وعلق عليه. لكن المصنفين في هذا الدور كانوا كما قدمنا أئمة ¬

_ (¬1) انظر ترجمته مفصلة في "المدخل إلى علوم الحديث": 21 - 27.

أجلة فلم يقلدوه في القواعد العلمية، بل اجتهدوا رأيهم وكثيرا ما ناقشوه أو خالفوه فيما قرره. ومن أهم المؤلفات في هذا الدور بعد علوم الحديث: 1 - "الإرشاد" للإمام يحيى بن شرف النووي سنة (676) هـ لخص فيه كتاب ابن الصلاح ثم لخصه في كتاب "التقريب والتيسير لأحاديث البشير النذير". 2 - "التبصرة والتذكرة" منظومة في ألف بيت للإمام الحافظ عبد الرحيم بن الحسين المتوفى سنة (806) هـ ضمنها كتاب ابن الصلاح وتعقبه، وزاد عليه مسائل نافعة، ثم شرحها شرحا قيما (¬1). 3 - شرح للحافظ العراقي أيضا وضعه على كتاب ابن الصلاح: "التقييد والإيضاح لما أطلق وأغلق من كتاب ابن الصلاح" ويسمى أيضا "النكت". علق عليه فضيلة أستاذنا الشيخ محمد راغب الطباخ تعليقات نافعة (¬2). 4 - شرح الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة (852) هـ "الإفصاح على نكت ابن الصلاح" وهو مخطوط في الهند. 5 - "فتح المغيث شرح ألفية العراقي في علم الحديث"، للحافظ ¬

_ (¬1) وقد وهم بعض الكاتبين فسمى هذا الشرح "التبصرة والتذكرة"، ودرج على ذلك في كل عزوه إليه، مع أن نفس المنظومة أشارت في مطلعها إلى تسميتها بـ "التبصرة والتذكرة"، ونص على تسميتها هذه أيضا الحافظ السخاوي في مطلع شرحه لها ... ! ! . (¬2) وإلى شيخنا رحمه الله يرجع الفضل في إخراج علوم الحديث مع شرح العراقي محققا تحقيقا دقيقا لأول مرة وذلك في مطبعته العلمية أجزل الله مثوبته.

شمس الدين محمد السخاوي المتوفى سنة (902) هـ. امتاز بتحقيق وتتبع للمسائل في كتب السنة وعلوم الحديث، طبع في الهند في مجلد ضخم. 6 - "تدريب الراوي شرح تقريب النواوي" للحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي المتوفى سنة (911) هـ. ويغلب عليه طابع الجمع وإن كان لا يخلو من مناقشات مفيدة. 7 - "نخبة الفكر" وشرحه "نزهة النظر" كلاهما للحافظ ابن حجر. وغير ذلك من التآليف التي جاءت بع ابن الصلاح، يصعب حصرها في هذا المقام وقد بني كثير منها على كتابه، قال الحافظ ابن حجر (¬1): "فلهذا عكف الناس عليه وساروا بسيره، فلا يحصى كم ناظم له ومختصر، ومستدرك عليه ومقتصر، ومعارض له ومنتصر". لكن يلاحظ المتأمل أن الأنواع لم ترتب في كتاب ابن الصلاح على نظام مطرد، فتراه يبحث في نوع يتعلق بالسند مثلا ثم ينتقل إلى نوع يتعلق بالمتن أو بهما معا، والسر في ذلك كما ذكر البقاعي: أن ابن الصلاح أملى كتابه إملاءا فلم يقع مرتبا وصار إذا ظهر له أن غير ما وقع له أحسن ترتيبا يراعي ما كتب من النسخ (¬2). لكن العلماء تابعوه على هذا الترتيب لأن الكتاب أصحب قدوة في هذا الفن. اللهم إلا كتاب نخبة الفكر وشرحه للحافظ ابن حجر فإنه على وجازته يمتاز بغزارة فائدته واستقلال شخصية مؤلفه فيه ويمتاز بأن ¬

_ (¬1) نزهة النظر شرح نخبة الفكر ص 3. وانظر تفصيل مزايا كتاب ابن الصلاح في المدخل إلى علوم الحديث ص 9 و 28 - 32. (¬2) كشف الظنون 1162، وانظر نقلا آخر في المدخل إلى علوم الحديث ص 28 و 31.

الحافظ قد وضعه على ترتيب جديد وهو أسلوب السبر والتقسيم في ترتيب كثير من أنواع الحديث. فجاء كتابنا هذا متمما لما قصده من هذه الدقة فنظم كل أنواع الحديث في ظل نظرية نقدية دقيقة شاملة كشفنا النقاب عنها ودرسنا أنواع الحديث على ضوئها.

الدور السادس: عصر الركود والجمود

الدور السادس: عصر الركود والجمود وقد امتد ذلك من القرن العاشر إلى مطلع القرن الهجري الحالي. في هذا الدور توقف الاجتهاد في مسائل العلم والابتكار في التصنيف. وكثرت المختصرات في علوم الحديث شعرا ونثرا، وشغل الكاتبون بمناقشات لفظية لعبارات المؤلفين دون الدخول في عمق الموضوع تحقيقا أو اجتهادا. ومن المؤلفات في هذا الدور: 1 - "المنظومة البيقونية"، لعمر بن محمد بن فتوح البيقوني الدمشقي المتوفى سنة "1080 هـ" في ست وثلاثين بيتا وتمتاز عن غيرها من المنظومات المختصرة بعذوبة النظم وسهولة العبارة حتى إنها لتصلح مذكرة للطالب في هذا العلم. وضعت لها شروح كثيرة. 2 - "توضيح الأفكار" للصنعاني محمد بن إسماعيل الأمير المتوفى "1182 هـ". وهو كتاب حافل مفيد. 3 - شرح نزهة النظر شرح النخبة للشيخ علي بن سلطان الهروي القارئ المتوفى سنة "1014 هـ" ويعرف كتابه هذا باسم شرح الشرح. وهذا الكتاب الأخير لم يخل من فوائد في أبحاثه لغزارة علم مؤلفه رحمه الله.

لكن الله تعالى أقام نهضة للحديث في ديار الهند خلال هذه الفترة كانت على مستوى عال في البحث والعلم. وذلك على يد العلامة الإمام المحدث شاه ولي الله الدهلوي المتوفى سنة (1176) هـ ثم على يد أولاده وأحفاده ومن تخرج على طريقته ومدرسته، فهؤلاء الكرام قد رجحوا علم السنة على غيرها من العلوم، وجاء تحديثهم حيث يرتضيه أهل الرواية ويبتغيه أصحاب الدراية (¬1). وهذه هي الكتب الحديثية والشروح الكبيرة تردنا من تلك الديار شاهد صدق على ما نهضوا به في هذا العلم، وما أسدوا من خدمات جليلة. إلا أنا نسجل أخيرا أنه مهما يكن من الأمر الذي كان عليه التأليف في هذا الدور فإن العلماء لم يتوقفوا أبدا عن البحث في الأسانيد وتمييز الأحاديث المقبولة من المردودة، وهذه شروحهم لكتب السنة، وتآليفهم كثيرة غزيرة تقوم بالواجب المطلوب، ألا وهو تمييز الحديث الصحيح والحسن عن غيرهما ونفي الكذب والواهي عن الحديث. مع الجهد المشكور في شرح الحديث النبوي. ¬

_ (¬1) مقدمة تحفة الأحوذي: 26. وارجع إليه لمزيد التفصيل في ذلك.

الدور السابع: دور اليقظة والتنبه في العصر الحديث

الدور السابع: دور اليقظة والتنبه في العصر الحديث من مطلع القرن الهجري الحالي إلى وقتنا هذا، وفيه تنبهت الأمة للأخطار المحدقة نتيجة اتصال العالم الإسلامي بالشرق والغرب، ثم نتيجة الصدام العسكري العنيف والاستعمار الفكري الذي يفوق في خبثه وخطره كل الأخطار، فقد ظهرت دسائس وشبهات حول السنة أثارها المستشرقون وتلقفها ضعفاء النفوس من عبيد الأجنبي، فصاروا يدندون

يها ويلهجون، مما اتقضى تأليف أبحاث حولها والرد على أغاليطهم وافتراءاتهم، كما اقتضى الحال تجديد طريقة التأليف في علوم الحديث. فوفى العلماء بهذه المطالب وأخرجت المطابع الكثير من المؤلفات المبتكرة النافعة نذكر منها: 1 - "قواعد التحديث" للشيخ جمال الدين القاسمي، قال فيه: "إني جمعت هذا المختصر المبارك إن شاء الله لمن صنفت لهم التصانيف وعنيت بهدايتهم العلماء، وهم من جمع خمسة أوصاف معظمها الأخلاص والفهم والانصاف" ورتب فيه أنواع الحديث على ثلاثة أقسام 1 - الصحيح والحسن، 2 - الضعيف، 3 - المشترك بينهما. وكان في ذلك قدوة للكاتبين في هذا الفن من المعاصرين. 2 - "مفتاح السنة" أو تاريخ فنون الحديث. لعبد العزيز الخولي، وهو أول محاولة في دراسة تاريخ الحديث وتاريخ فنونه. 3 - "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي"، للدكتور مصطفى السباعي، وهو كتاب جليل القدر تحدث عن المستشرقين ومواقفهم العدائية للسنة والإسلام وعنادهم في ذلك مهما أقيمت عليهم الحجج، ثم بحث في رد مزاعم المنكرين لحجية الحديث سواء كانوا من العصر القديم أو الحديث. وقد أفدنا منه، وزدنا عليه مناقشات كثيرة لم يتعرض لهان لأنها ليست من موضوع كتابه، رحمه الله. 4 - "الحديث والمحدثون" ألفه الشيخ الدكتور محمد محمد أبو زهو، بحث فيه جهود العلماء لخدمة الحديث، وعني بدراسة الأعصر الأولى عصر الصحابة والتابعين إلى عصر التدوين وناقش الشبهات والمزاعم الباطلة. 5 - "المنهج الحديث في علوم الحديث" لأستاذنا العلامة الجامع

لأنواع العلوم فضيلة الأستاذ الدكتور الشيخ محمد محمد السماحي، قصد فيه إلى إعداد موسوعة جامعة في علوم الحديث، يتناول فيها المشاكل الحالية التي ذكرناها فيعالجها ويناقشها، ثم يبحث قواعد علوم الحديث بحثا جامعا موسعا. والكتاب يقع في أقسام عديدة هي: 1 - قسم تاريخ الحديث ويتألف من ثلاثة أجزاء. 2 - قسم مصطلح الحديث. 3 - قسم الرواية. 4 - قسم الرواة. وهكذا توالت سلسلة الجهود العلمية متواترة متضافرة لحمل الحديث النبوي وتبليغه علما وعملا، فنا ودراسة وشرحا، منذ عهده صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا الحاضر، يستطيع أي إنسان في أي وقت أن يجد السبيل إلى معرفة الحديث الصحيح وتمييزه عن غير الصحيح، حتى وصل إلينا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم غضا طريا، صافيا نقيا، وإنه احقا لمكرمة عظيمة أكرم الله بها هذه الأمة، بل هي معجزة تحقق صدق التنزيل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.

الباب الثاني: في علوم رواة الحديث

الباب الثاني: في علوم رواة الحديث هذه المعارف التي تبحث في راوي الحديث لها بالغ الأهمية في معرفة درجة الحديث من الصحة أو الحسن أو الضعف، وموقعه من القبول أو الرد، لذلك اتخذ البحث عن الرجال وسيلة هامة جدا، في علم مصطلح الحديث، وتعددت علوم الرواة وكثرت لتتناول كل ما يتصل بالراوي من الأمور، إذ ربما يشابه آخر في اسمه، أو كنيته، أو يعرف بكنيته فيحتاج إلى الكشف عن اسمه، أو يحتاج إلى إزالة النقاب عن نسبه وقبيلته كي يتبين هوية شخصه، أو غير ذلك. وقد تتبعنا هذه الأنواع كلها بالنظرة الفاحصة، وسبرناها من حيث الغرض الذي تؤديه، فوجدناها تنقسم إلى قسمين، نبحث كل واحد منهما في فصل مستقل.

الفصل الأول: في علوم الرواة المعرفة بحال الراوي. وهي علوم تبحث في الراوي من حيث قبول خبره أو رده. الفصل الثاني: في علوم الرواة المبينة لشخص الراوي. وهي تبحث في معلومات وأمور توصل إلى البحث عن حال الراوي، وذلك بأن تكشف النقاب عما يحدد شخصه ويميزه تماما.

الفصل الأول: في العلوم المعرفة بحال الراوي

الفصل الأول: في العلوم المعرفة بحال الراوي ويشتمل على تمهيد في تعريف الرواة وألقابهم العلمية، ثم على الأبحاث الآتية: 1 - صفة من تقبل روايته ومن ترد. 2 - الجرح والتعديل. 3 - الصحابة. 4 - الثقات والضعفاء. 5 - من اختلط في آخر عمره من الثقات. 6 - الوحدان. 7 - المدلسون. تعريف الرواة وألقابهم العلمية: الراوي هو من تلقى الحديث وأداه بصيغة من صيغ الأداء (¬1). وقد صنف العلماء رواة الحديث كلهم (¬2) بحسب كثرة مروياتهم ¬

_ (¬1) المنهج الحديث قسم الرواة ص 5. (¬2) من رحل منهم ومن لم يرحل. قارن علوم الحديث ومصطلحه: 75.

وعنايتهم بالحديث وفنونه إلى درجات علمية، خصوا كل واحدة منها بلقب يميزها، وهي: 1 - المسند: وهو من يروي الحديث بإسناده، سواء كان عنده علم به أو ليس له إلا مجرد الرواية. 2 - المحدث: وهو كما عرفه ابن سيد الناس: "من اشتغل بالحديث رواية ودراية، وجمع رواة، واطلع على كثير من الرواة والروايات في عصره، وتميز في ذلك حتى عرف فيه خطه واشتهر فيه ضبطه" (¬1). أي صار يقصد للإفادة في الحديث ورواته حتى اشتهر بذلك، وعرف خطه لكثرة ما يكتب من الأجوبة على أسئلة الناس. وقال ابن الجزري: "المحدث: من تحمل الحديث رواية واعتنى به دراية" (¬2). 3 - الحافظ: أرفع من المحدث وهو كما يؤخذ من كلامهم: من توسع في الحديث وفنونه بحيث يكون ما يعرفه من الأحاديث وعللها أكثر مما لا يعرفه (¬3). وقال ابن الجزري: "الحافظ: من روى ما يصل إليه ووعى ما يحتاج لديه". وقد تفاوتت عبارات العلماء في تعريف الحافظ حتى بلغوا أحيانا ما عده بعض الباحثين تغاليا في الحفاظ، كقول الزهري: "لا يولد الحافظ إلا كل أربعين سنة"، وقولهم في الإمام أحمد بن حنبل "كان يحفظ ألف ألف حديث". ¬

_ (¬1) انظر ترتيب الراوي ص 11. وقسم الرواة ص 197. (¬2) شرح الشرح: 3. (¬3) كما يفيده كلام ابن سيد الناس والمزي انظر التدريب ص 10، 11.

وهذا صدر عنهم باعتبار المرتبة العليا في الحفظ. كما أنهم صرحوا يتفاوت العرف وأثر اختلاف الزمان في ذلك. وقد وضع للأئمة من كبار الحفاظ ألقاب تشعر بتفوقهم، هي التالية: 4 - الحجة: وهو فيما يبدو لنا يطلق على الحافظ من حيث الاتقان، فإذا كان الحافظ عظيم الاتقان والتدقيق فيما يحفظ من الأسانيد والمتون لقب بالحجة .. وعرفه المتأخرون بأنه من يحفظ ثلاثمائة ألف حديث مع معرفة أسانيدها ومتونها ... ويدخل في الأحاديث التي يذكرون عددها في حفظ العلماء بعشرات الألوف أو مئات الألوف يدخل فيها تعدد الأسانيد للحديث الواحد، واختلاف الروايات، فإن تغيير الحديث بكلمة في السند أو المتن يعتبر بها حديثا جديدا، وكن اجتهد المحدثون ورحلوا من أجل كلمة في حديث. 5 - الحاكم: وهو من أحاط علما بجميع الأحاديث حتى لا يفوته منها إلا اليسير. 6 - أمير المؤمنين في الحديث: وهو أرفع المراتب وأعلها، وهو من فاق حفظا وإتقانا وتعمقا في علم الأحاديث وعللها كل من سبقه من المراتب بحيث يكون لاتقانه مرجعا للحكام والحفاظ وغيرهم. ومن أمراء المؤمنين في الحديث: سفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، وحماد بن سلمة، وعبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل، والبخاري، ومسلم. ومن المتأخرين الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني وغيرهم رحمه الله ورضي عنهم (¬1). ¬

_ (¬1) ذكرهم شيخنا العلامة محمد السماحي في قسم الرواة: 199 - 200، وقد رجعنا إليه في هذه التعريفات، وصنف الذهبي تذكرة الحفاظ جمع فيها من لقب بالحافظ بالمعنى الذي يشمل الحافظ والحجة فما فوق ...

وهذه المراتب العلمية إنما يلحظ فيها الحفظ لا اقتناء الكتب حتى إن من كانت عنده الكتب ولا يحفظ ما فيها لا يعتبر عندهم محدثا. ولكن بعض الناس في هذه العصر هان عندهم العلم، ولم يفقهوا منه إلا تقليب الأوراق عن طريق الفهارس، حتى راح بعضهم يستخف بحفظ القرآن أو الحديث، ويقول: "يزيد الكتاب نسخة"! ! . وهذا يدل على مبلغ ما عندهم من معرفة الفضل لذوي الفضل. 1 - صفة من تقبل روايته ومن ترد: هذا النوع من علوم الحديث له أهمية بالغة، إذ أنه يبحث في شروط الراوي الذي يقبل حديثه ويحتج به. وقد اختلفت عبارات العلماء في تعداد صفات القبول، فمن مقل ومن مكثر، وجمع أبو عمرو بن الصلاح تلك الخصال، فقال (¬1): "أجمع جماهير أئمة الحديث والفقه على أنه يشترط فيمن يحتج بروايته أن يكون عدلا ضابطا لما يروي. وتفصيله: أن يكون مسلما بالغا عاقلا سالما من أسباب الفسق وخوارم المروءة، متيقظا غير مغفل، ¬

_ (¬1) في علوم الحديث: 94. وهذه الخصال سبق إلى سردها بتفصيل، أوسع الإمام الشافعي في الرسالة، في أثناء تعريفه للحديث الصحيح: 370 - 371.

حافظا إن حدث من حفظه، ضابطا لكتابة إن حدث من كتابه. وإن كان يحدث بالمعنى اشترط فيه مع ذلك أن يكون عالما بما يحيل المعاني". وبالتأمل في هذه الصفات وغيرها مما ذكره العلماء نجد أنها لدى النظر ترجع كلها إلى أمرين ذكرهما ابن الصلاح هما: العدالة والضبط. فلنشرح كلها من العدالة والضبط فيما يلي: أولا: العدالة وهي ملكة تحمل صاحبها على التقوى، واجتناب الأدناس وما يخل بالمروءة عند الناس. ويشترط فيها الأمور الآتية: أ- الإسلام: لقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}، وغير المسلم ليس من أهل الرضى قطعا. ب- البلوغ: لأنه مناط تحمل المسؤلية، والتزام الواجبات وترك المحظورات. ج- العقل: لأنه لا بد منه لحصول الصدق وضبط الكلام. د- التقوى: وهي اجتناب الكبائر وترك الإصرار على الصغائر. أما الكبائر فركوبها فسق قطعا، وكذا الاصرار على الصغائر، لأن الاصرار يجعلها كبيرة -والعياذ بالله- كما قالوا: "لا صغيرة مع الإصرار". ودليل اشتراط التقوى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}، وقوله عز من قائل: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}. وهذه

الآيات وإن كانت في الأموال ونحوها فإن الرواية للحديث دين، فهي أجدر من المال في أن يشترط لها هذا الشرط. هـ- الاتصاف بالمروءة وترك ما يخل بها، وهو كل ما يحط من قدر الإنسان في العرف، الاجتماعي الصحيح، مثل التبول في الطريق، وكثرة السخرية والاستخفاف، لأن من فعل ذلك كان قليل المبالاة، لا نأمن أن يستهتر في نقل الحديث النبوي. هذه الخصال إذا توفرت في الراوي عرفت عدالته وكان صادقا، لأنها إذا اجتمعت حملت صاحبها على الصدق وصرفته عن الكذب لما توفر فيه من الدوافع الدينية والاجتماعية والنفسية، مع الادراك التام لتصرفاته وتحمل المسؤولية. ثانيا: الضبط هذه الصفة تؤهل الراوي لأن يروي الحديث كما سمعه، ومراد المحدثين بالضبط أن يكون الراوي: "متيقظا غير منفعل، حافظا إن حدث من حفظه، ضابطا لكتابه إن حدث من كتابه، وإن كان يحدث بالمعنى اشترط فيه مع ذلك أن يكون عالما بما يحيل المعاني". ويعرف كون الراوي ضابطا بمقياس قرره العلماء واختبروا به ضبط الرواة، وهو كما لخصه ابن الصلاح: "أن نعتبر -أي نوازن- رواياته بروايات الثقات المعروفين بالضبط والاتقان، فإن وجدنا رواياته موافقة ولو من حيث المعنى لروايتهم أو موافقة لها في الأغلب والمخالفة نادرة، عرفنا حينئذ كونه ضابطا، وإن وجدناه كثير المخالفة لهم عرفنا اختلال ضبطه ولم نحتج بحديثه". فإذا اجتمع في الراوي هذان الركنان: العدالة والضبط، فهو حجة يلزم العمل بحديثه، ويطلق عليه "ثقة". وذلك لأنه قد تحقق

فيه الاتصاف بالصدق، وتحلى بقوة الحفظ التي تمكنه من استحضار الحديث وتسعفه لأدائه كما سمع، فتحقق أنه أدى الحديث كما سمعه، فصار حجة، وإذا اختل فيه شيء من خصال الثقة، كان مردود الحديث بحسب الاختلال الذي لحقه. ونذكر لك فيما يلي أهم الفروع لذلك (¬1): فروع اختلال العدالة: 1 - لا يقبل حديث الراوي الكافر، بل يجب أن يكون وقت روايته للحديث مسلما، فإن الكفر أعظم موجبات العداء للدين وأهله، فكيف تقبل رواية الكافر مهما كان عليه من الصدق؟ ! . وها نحن نتتبع أخبار المحدثين السابقين واللاحقين، والعلماء المتقدمين والمتأخرين، فمحال أن نجد محدثا أو عالما تلقى الحديث أو علم الإسلام عن غير المسلمين. 2 و 3 - لا تقبل رواية الصبي والمجنون، لأنهما لا مسؤولية عليهما، فقد يتعمد الصبي الكذب بهذا الاعتبار، أو يتساهل، والمجنون أولى لأنه فاقد شريطة الضبط من الأصل. 4 - لا يقبل خبر الفاسق بارتكاب المعاصي والخروج عن طاعة الله تعالى، وإن لم يظهر عليه الكذب، وكذلك من كان فسقه بسبب كذبه في حديث الناس وإن توقى الكذب في الحديث النبوي، لأنه لا يؤمن أن يقع فيه حيث إنه مستهتر بمقام ربه، قد هتك الستر بينه وبينه والعياذ بالله، ولأن النصوص قد نهت عن قبول خبره بمجرد ¬

_ (¬1) توسعنا في صفات الرواة والفروع التي تترتب على اختلالها في بحث خاص في الجرح والتعديل يسر الله إخراجه.

الفسق. إلا إذا أقلع عن ذنبه وتاب توبة نصوحا تبدل ما كان من حاله، إلى حال التقى فإنه يقبل خبره وتعود عدالته؛ لقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}. أما من لم يقع في الكبيرة، ولا عرف بالاصرار والاستهتار في الصغائر، فإنه يقبل حديثه، ويغتفر له ما قد يبدو من من الهفوات، ويوهب نقصه لفضله. 5 - ترفض رواية التائب من الكذب في الحديث: لكن العلماء استثنوا خبر التائب من الكذب متعمدا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقبل خبره، وفي هذا يقول ابن الصلاح (¬1): "التائب من الكذب في حديث الناس وغيره من أسباب الفسق تقبل روايته، إلا التائب من الكذب متعمدا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا تقبل روايته أبدا وإن حسنت توبته على ما ذكر عن غير واحد من أهل العلم، منهم أحمد بن حنبل، وأبو بكر الحميدي شيخ البخاري ... ". والسبب في عدم قبوله الزجر والتغليظ، والمبالغة في الاحتياط للحديث، كما أن الشريعة غلظت حرمة أعراض الناس فردت شهادة القاذف ولو تاب بعد ذلك على ما ذهب إليه كثير من العلماء. واستدل السيوطي (¬2) على ذلك باستدلال بديع يدل على تحقيقه ¬

_ (¬1) في علوم الحديث: 104. (¬2) في تدريب الراوي: 221.

وفقهه فقال: "ذكروا في باب اللعان أن الزاني إذا تاب وحسنت توبته، لا يعود محصنا ولا يحد قاذفه بعد ذلك لبقاء ثلمة عرضه، فهذا نظير أن الكاذب لا يقبل خبره أبدا ... ". 6 - خبر المبتدع: المبتدع هو من فسق لمخالفته عقيدة السنة، وتنقسم البدعة إلى قسمين: بدعة مكفرة، وبدعة غير مكفرة، أما المبتدع الذي يرمى ببدعة مكفرة فترد روايته قولا واحدا، خلافا لمن شذ في ذلك. لكن ينبغي التثبت مما يرمى به، وألا تسرع بتكفيره، خلافا لما درج عليه كثير من المبتدعة في الأعصر الخالية وفي زماننا هذا حديث تهوكو في رمي المسلمين بالكفر والشرك لمجرد الأوهام (¬1). وأما المبتدع الذي لم يبلغ في بدعته حد الخروج عن الملة وخلع ربقة الإسلام فقد قال فيه ابن الصلاح: "اختلفوا في قبول رواية المبتدع الذي لا يكفر في بدعته، فمنهم من رد روايته مطلقا لأنه فاسق ببدعته .. ، ومنهم من قبل رواية المبتدع إذا لم يكن ممن يستحل الكذب في نصرة مذهبه أو لأهل مذهبه، سواء كان داعية إلى بدعته أو لم يكن. وقال قوم: تقبل روايته إذا لم يكن داعية إلى بدعته. وهذا مذهب الكثير أو الأكثر من العلماء. وقال أبو حاتم بن حبان البستي من أئمة الحديث: الداعية إلى البدع لا يجوز الاحتجاج به عند أئمتنا قاطبة، لا أعلم بينهم فيه خلافا. وهذا المذهب الثالث أعدلها وأولالها. والأول بعيد مباعد للشائع ¬

_ (¬1) قارن بتدريب الراوي: 216. ولقط الدرر حاشية نزهة النظر: 89 - 90.

عن أئمة الحديث، فإن كتبهم طافحة بالرواية عن المبتدعة غير الدعاة. وفي الصحيحين كثير من أحاديثهم في الشواهد والأصول (¬1) ". واشترط الإمام الجوزجاني شرطا آخر لقبول رواية المبتدع غير الداعية هو أن لا يكون الحديث الذي رواه مؤيدا لبدعته، فقال: "ومنهم زائغ عن الحق -أي عن السنة- صادق اللهجة فليس فيه حيلة إلا أن يؤخذ من حديثه ما لا يكون منكرا إذا لم يقو به بدعته". وأيد الحافظ ابن حجر هذا الرأي فقال: "ما قاله -اي الجوجاني- مته، لأن العلة التي رد لها حديث الداعية واردة فيما إذا كان ظاهر المروي يوافق مذهب المبتدع ولم يكن داية" (¬2) اهـ. وإجماع الأئمة على تلقي الصحيحين بالقبول، وفيهما أحاديث المبتدعة غير الدعاة خير شاهد لتقوية هذا المذهب. وأما ما وقع في الصحيحين من الرواية لبعض المبتدعة الدعاة، فلا يخل بهذه القاعدة، ولا يطعن في الكتابين (¬3) لأنه قليل نادر جدا كما حقق الحافظ ابن حجر (¬4)، وقد توفر فيهم من الصدق: ما لو أن أحدهم أن يخر من السماء أهون عليه من أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. لذلك استثني هؤلاء الرواة القلائل. وواضح أن هذا أمر لا يستطيع تقديره غير أولئك الأئمة المعاصرين للرواة أو قريبي العهد بهم كما أن النادر لا حكم له (¬5). ¬

_ (¬1) علوم الحديث: 103 - 104. (¬2) شرح النخبة نسخة لقط الدرر: 91. (¬3) انظر إيراد ذلك في تدريب الراوي: 217 - 218. (¬4) انظره مفصلا في هدي الساري: 2: 1780179. (¬5) قارن رأينا هذا بما ارتآه أحمد شاكر في الباعث الحثيث ص 100 - 101.

7 - خبر من أخذ على الحديث أجرًا: مضت سنة الصحابة والتابعين أن يرووا الحديث للناس احتسابا يبتغون الأجر عند الله، حتى شاع قولهم: "علم مجانا كما علمت مجانا" (¬1). ثم جاء بعض الرواة وخالفوا هذا العرف وصاروا يتقاضون من طلابهم أجرا لإسماعهم الحديث. وقد أثار هذا التصرف اسيتاء علماء الحديث ونقاده، واستنكروه، وحذروا من السماع من هؤلاء المتاجرين بالرواية، لما في صنيعهم هذا من خرم المروءة، ولما يخشى أن يجر أحدهم الحرص على الأجر إلى الوقوع في شبهة الكذب أو صريح الكذب لكي يرغب فيه ... ! ! لك بعض حفاظ الحديث الثقات ألجأتهم ظروف معيشتهم الضيقة لأخذ الأجرة، حيث كانوا محط رحال الطلاب، حتى لقد منعهم اشتغالهم بالعلم ونشره عن الكسب لعيالهم، فاغتفر لهم النقاد ذلك لما علم من صدقهم وأمانتهم، مثل أبي نعيم الفضل بن دكين، وعبد العزيز المكي وهما من شيوخ البخاري، قال أبو نعيم: "يلومونني على الأجر وفي بيتي ثلاثة عشر، وما في بيتي رغيف" (¬2). وفيما عدا تلك القلة التي تقاضت الأجر على الحديث جرى سائر المحدثين على رفض الأجرة وضربوا لذلك أمثلة عالية جدا. قال جعفر بن يحيى البرمكي: "ما رأينا في القراء مثل عيسى بن يونس عرضت عليه مائة ألف فقال: لا والله، لا يتحدث أهل العلم أني أكلت للسنة ثمنا ... ". وأهدى أصحاب الحديث للأوزاعي شيئا، فلما اجتمعوا قال لهم: ¬

_ (¬1) الكفاية ص 153 و 154. (¬2) تهذيب التهذيب: 8: 275.

أنتم بالخيار، إن شئتم قبلته ولم أحدثكم أو رددته وحدثتكم، فاختاروا الرد، وحدثهم، ومرض أبو الفتح الكروخي راوي جامع الترمذي، فأرسل إليه بعض من كان يحضر مجلسه مقدارًا من الذهب، فما قبله لمجرد اشتباهه أن صاحبه أرسله لأجل أنه كان يسمع منه الحديث، وقال: "بعد السبعين واقتراب الأجل آخذ على حديث رسول الله شيئا! ! "، ورده مع الاحتياج إليه (¬1). فروع اختلال الضبط: 1 - لا يقبل حديث من عرف بقبول التلقين في الحديث، ومعنى التلقين أن يعرض عليه الحديث الذي ليس من مروياته، ويقا له: إنه من روايتك، فيقبله ولا يميزه، وذلك لأنه مغفل فاقد لشرط التيقظ، فلا يقبيل حديثه. 2 - لا تقبل رواية من كثرت الشواذ أين المخالفات، والمناكير أي التفرد الذي لا يحتمل منه. جاء عن شعبة أنه قال: "لا يجيئك الحديث الشاذ إلا من الرجل الشاذ"، وعلة هذا أنه يدلى على عدم حفظه. 3 - لا تقبل رواية من عرف بكثرة السهو في رواياته، إذا لم يحدث من أصل مكتوب صحيح، لأن كثرة السهو تدل على سوء الحف أو التغفيل، فلا يكون الراوي ضابطا. 4 - ورد عن ابن المبارك وأحمد بن حنبل والحميدي وغيرهم أن من غلط في حديث وبين له غلطه فلم يرجع عنه وأصر على روايته ¬

_ (¬1) فتح المغيث بتصرف يسير: 149 - 153.

لذلك الحديث سقطت رواياته ولم يكتب عنه، وفي هذا نظر، وهو غير مستنكر إذا ظهر أن ذلك منه على جهة العناد أو نحو ذلك. 5 - لا تقبل رواية من يتساهل في نسخته التي يروي منها إن كان يروي الحديث من كتاب، كمن يحدث من أصل غير صحيح أي من كتاب أو مكتوب غير مقابل على الأصول المسموعة المتلقاة عن المصنفين بالسند الصحيح (¬1). تساهل المتأخرين في شروط الراوي: راعى المحدثون هذه الشروط بكل أمانة ودقة، وتناولوا في كلامهم عن الرجال أحوالهم كلها للتثبت من سلامة حديث الراوي واستيثاقا منه، حتى جاء عصر التدوين فدونت الأحاديث في المصنفات والمسانيد، والجوامع والمعاجم والأجزاء، ونقلت هذ المؤلفات عن أصحابها بالأسانيد الصحيحة كما ينقل الحديث الواحد، حتى كثتر النسخ لكل كتاب، وشاعت في الأقطر شيوع التواتر. فأصبحت العمدة عندئذ على هذه النسخ المنقولة بالسند إلى مؤلفيها، وقامت مقام الرواة، فتساهل العلماء في بعض شروط الراوي، واكتفوا بما يحصل المقصود، وهو أهليته بكونه عدلا، وحسن رعايته وضبطه للكتاب. وقد أبان الإمام ابن الصلاح أمر ذلك وأوضحه فقال (¬2): "اعرض الناس في هذه الأعصار المتأخرة عن اعتبار مجموع ما بينا من الشروط في رواة الحديث ومشايخه فلم يتقيدوا بها في رواياتهم، لتعذر الوفاء بذلك على نحو ما تقدم أو كان عليه من تقدم. ¬

_ (¬1) انظر علوم الحديث لابن الصلاح: 1050106 وقد فصلنا كلامه وعللناه. (¬2) المرجع السابق: 108 - 109.

ووجه ذلك ما قدمناه أول كتابنا هذا (¬1)، من كون المقصود آل آخرا إلى المحافظة على خصيصة هذه الأمة في اأسانيد والمحاذرة من انقطاع سلسلتها. فليعتبر من الشروط المذكورة ما يليق بها الغرض على تجرده، وليكتف في أهلية الشيخ بكونه مسلما، بالغا، عاقلا، غير متظاهر بالفسق والسخف. وفي ضبطه بوجود سماه مثبتا بخر غير متهم، وبروايته من أصل موافق لأصل شيخه ... ووجه ذلك بأن الأحاديث التي قد صحت أو وقعت بين الصحة والسقم قد دونت وكتبت في الجوامع التي جمعها أئمة الحديث، ولا يجوز أن يذهب شيء منها على جميعهم ... لضمان صاحب الشريعة حفظها. قال البيهقي، فمن جاء اليوم بحديث لا يوجد عند جميعهم لم يقبل منه، ومن جاء بحديث معروف عندهم، فالذي يرويه لا ينفرد بروايته، والحجة قائمة بحديثه برواية برواية غيره، والقصد من روايته والسماع منه أن يصير الحديث مسلسلا بحدثنا وأخبرنا، وتبقى هذه الكرامة التي خصصت بها هذه الأمة شرفا لنبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم". تقسيم الرواة من حيث معرفة صفتهم: ينقسم رواة الحديث من حيث معرفة صفتهم وعدم معرفتها إلى قسمين: القسم الأول علوم الحديث انظر ص (13). ¬

_ (¬1) أي كتابه علوم الحديث انظر ص 13.

أما مجروح. فيعمل بما علم فيهم من الجرح والتعديل حسب المراتب التي سنرشحها. القسم الثاني: من لم يعرف وصفه: وهو المحهول. وهذا يقسم بحسب نوع الجهالة إلى ثلاثة أقسام: وذلك أن الجهالة إما أن تكون في عين الراوي وهو مجهول العين، أو في صفته الظاهرة والباطنة معا وهو مجهول الحال، أو في صفته الباطنة مع العلم بحاله الظاهر أنه على العدالة ويسمى "المستور". فانقسم المجهول بذلك إلى ثلاثة أقسام درج عليها المحدثون في منصفات علوم الحخديث ثم جاء الحافظ ابن حجر، فذهب تقسيمه قسمين تكلم عليهما في النخبة وشرحه. فقال: "فإن سمي الراوي وانفرد راو وحد بالرواية عنه فهو مجهول الحال وهو المستور". وهذا التقسيم هو الذي نختاره. ونتكلم على قسمي المجهول فيما يلي: مجهول العين: قال الخطيب 1 في تعريفه: "المجهول عند أصحاب الحديث هو كل من لم يشتنهر بطلب العلم في نفسه ولا عرفه العلماء به، وممن لم يعرف حديثه إلا من جهة راو واحد" ا. هـ. وحاصله أن مجهول العين هو من لم يرو عنه إلا راو واحد. ومن أمثلته عمرو ذو مر، وجبار الطائي لم يرو عنهم غير أبي إساق السبيعي.

"ولا تزال جهالة العين عن الراوي إلا أن يروي عنه اثنان فصاعدا من المشهورين بالعلم، إلا أنه لا يثبت له حكم العدالة بروايتهما عنه". وإنما يصبح من طبقة "مجهول الحال" وهو من لم تعرف عدالته الظاهرة ولا الباطنة أو "المستور" وهو من عرفت عدالته الظاهرة أي لم يوقف منه على مفسق، لكن لم تثبت عدالته الباطنة، وهي التي ينص عليها علماء الجرح والتعديل ولو واحد منهم (¬1). وحكم هذا على الصحيح الذي عليه أكثر العلماء من أهل الحديث وغيرهم أنه لا يقبل حديثه، وقيل يقبلمطلقا وهو قول مردود لا يلتفت إليه، وقيل غير ذلك مما لا نظيل بذكره. نعم يقبل حديث مجهول العين على الأصح، بأحد أمرين ذكرهما الحافظ: الأول: أن يوثقه غير من ينفرد عنه على الأصح. الثاني: وكذا أي الأصح إذا زكاه من يتفرد عنه إذا كان متأهلا لذلك. أي إذا كان هذا المتفرد من أئمة الجرح والتعديل ثم زكى من انفرد بالرواية عنه قبل حديثه (¬2). مجهول الحال وهو المستور: وهذا قال الحافظ في حكمه: "قد قبل روايته جماعة بغير قيد" أي بغير اعتبار لعصر دون عصر وردها الجمهور. وذلك لأنه يجوز أن يكون غير عدل، فلا تقبل روايته، حتى يتبين حاله. ¬

_ (¬1) تنقيح الأنظار وشرحه توضيع الأفكار: 2: 192. وانظر مع هذا المرجع للتوسع في التقسيم الثلاثي وأحكامه فتح المغيث: 135 - 145، وانظر ما يأتي في نوع الوحدان لزاما رقم عام 6 ص 136 - 137. (¬2) شرح النهبة مع شرحه للقاري: 153 - 154.

والتحقيق أن رواية المستور ونحوه مما فيه الاحتمال أي احتمال العدالة وضدها، لا يطلق القول بردها ولا بقبولها، بل هي موقوفة إلى استبانة حاله (¬1). وما اختاره الحافظ من التوقف في خبر المستور حتى يتبين حاله، لا يختلف كثرا عما ذكرناه عن الجمهور من عدم قبول روايته، غاية الأمر أنه أراد ألا يعتبر ذلك جرحا له وطعنا فيه، وذلك ما تقضي به العدالة في الحكم، والتحري فيه (¬2). وسبب اختيارنا هذا التقسيم الثنائي أنه أقرب للعمل به، فإن التقسيم الثلاثي السابق إنما يمكن لمن شاهد الرواة، فإنه هو الذي يمكن أن يشاهد العدالة الظاهرة والباطنة معا بالبحث والفحص أو يشاهد الظاهرة فقط، فيكون الراوي عنده مستورا. وأما بالنسبة إلينا فليس أمامنا إلا المصنفات في الرجال، وهذه يصعب العثور فيها على التمييز بين مجهول الحال والمستور، فكان هذان القسمان بالنسبة إلينا سواء. ¬

_ (¬1) شرح شرح النخبة: 155. (¬2) وهذا لا يخالف ما نقله السخاوي عن الحافظ: أنه تثبت به الكراهة وينزل النهي المروي بهذا الطريق عن التحريم، لأن ذلك من قبيل فضائل الأعمال وهم يتساهلون فيها كما سيأتي في أحكام الحديث الضعيف. كما نشير هنا إلى أن المستور هو غير من عرف بالعناية بالعلم، الآتي في 103 - 104. فتنبه.

2 - الجرح والتعديل: الجرح عند المحدثين: هو الطعن في راوي الحديث بما يسلب أو يخل بعدالته أو ضبطه (¬1). والتعديل: عكسه، وهو تزكية الراوي والحكم عليه بأنه عدل أو ضابط (¬2). وعلم الجرح والتعديل ميزان رجال الرواية، يثقل بكفته الراوي فيقبل، أو تخف موازينه فيرفض، وبه نعرف الراوي الذي يقبل حديثه ونميزه عمن لا يقبل حديثه. ومن هنا اعتنى به علماء الحديث كل العناية، وبذلوا فيه أقصى جهد، وانعقد إجماع العلماء على مشروعيته، بل على وجوبه للحاجة الملجئة إليه (¬3). قال بعض الصوفيين لعبد الله بن المبارك: أتغتاب؟ قال: "اسكت، إذا لم نبين كيف يعرف الحق من الباطل". وقال أبو تراب النخشبي الزاهد لأحمد بن حنبل: "يا شيخ لا تغتب العلماء! ". ¬

_ (¬1) قسم الرواة: 82. بزيادة قولنا: "أو يخل". (¬2) المرجع السابق: 55. (¬3) انظر إحياء علوم الدين "آفات اللسان": 3: 148 - 150، ورياض الصالحين "باب ما يباح من الغيبة": 374 - 375"، وانظر الرفع والتكميل للكنوي مع التعليق عليه: 9 - 11. والتدريب: 520.

فقال له أحمد: "ويحك! هذا نصيحة، ليس هذا الغيبة" (¬1). وقال أبو بكر بن خلاد ليحيى بن سعيد: "أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند الله؟ ! ". فقال: لأن يكونوا خصمائي أحب إلي من أن يكون خصمي رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول: "لم لمْ تذبّ الكذب عن حديثي؟ ! " (¬2). ولولا ما بذله الأئمة النقاد في هذا الشأن من الجهود في البحث عن عدالة الرواة واختبار حفظهم وتيقظهم حتى رحلوا في سبيل ذلك، وتكبدوا المشاق، ثم قاموا في الناس بالتحذير من الكذابين والضعفاء المخلطين، لاشتبه أمر الإسلام، واستولت الزنادقة، ولخرج الدجالون (¬3). شروط الجارح والمعدل: يجب أن تتوفر في الجارح والمعدل الخصال التي تجعل حكمه منصفا كاشفا عن حال الراوي، وهي: 1 - يشترط في الجارح والمعدل: العلم والتقوى، والورع والصدق، لأنه إن لم يكن بهذه المثابة فكيف يصير حاكمًا على غيره بالجرح والتعديل، وهو ما زال مفتقرا لإثبات عدالته! ! ¬

_ (¬1) الكفاية: 45. والتدريب: 520. (¬2) الكفاية: 44. والتدريب الموضع السابق. (¬3) انظر التوسع في مشروعية الجرح والتعديل ومناقشة من اعترض على المحدثين في كتاب "الإمام الترمذي والموازنة بين جامعه وبين الصحيحين": 235 - 237.

قال الحافظ (¬1): "وينبغي ألا يقبل الجرح والتعديل إلا من عدل متيقظ أي مستحضر ذي يقظة تحمله على التحري والضبط فيما يصدر عنه". 2 - أن يكون عالما بأسباب الجرح والتعديل. قال الحافظ ابن حجر في شرح النخبة "وتقبل التزكية من عارف بأسبابها لا من غير عارف لئلا يزكي بمجرد ما يظهر له ابتداء من غير ممارسة واختبار". 3 - أن يكون عالما بتصاريف كلام العرب، لا يضع اللفظ لغير معناه، ولا يجرح بنقله لفظا هو غير جارح. خصال لا تشترط في الجارح والمعدل: 1 و 2 - لا يشترط كون الجارح أو المعدل ذكرا أو حرا، بل المعتمد أنه تقبل تزكية كل عدل وجره ذكرا كان أو أنثى، حرا كان أو عبدا (¬2). 3 - قيل لا يقبل الجرح ولا التعديل إلا بقول رجلين كما في الشهادة. لكن الأكثرين على الاكتفاء في جرح الراوي وتعديله بالواحد، إذا استوفى شروط الجارح والمعدل، كما نقهل الآمدي وابن الحاجب وغيرهما (¬3). وهذا كما قال ابن الصلاح (¬4): "هو الصحيح الذي اختاره الخطيب وغيره أنه يثبت بواحد، لأن العدد لم يشترط في قبول الخبر، فلم يشترط في جرح راويه وتعديله، بخلاف الشهادة". ¬

_ (¬1) في شرح النخبة 237، وانظر الرفع والتكميل: 16018. (¬2) كذا صرح به العراقي في شرح ألفيته ج 2: ص 5. وانظر الرفع والتكميل: 53. (¬3) الأحكام في أصول الإحكام للآمدي: 1: 185 والمختصر في أصول الفقه لابن الحاجب: 2: 64. وشرح مسلم الثبوت: 2: 150. (¬4) علوم الحديث: 98 - 99.

آداب الجارح والمعدل: وثمة آداب ينبغي على الجارح والمعدل مراعاتها، من أهمها: 1 - الاعتدال في التزكية، فلا يرفع الراوي عن مرتبته، ولا ينزل عنها. كما يقع لكثير من الناس في عصرنا. 2 - لا يجوز الجرح بما فوق الحاجة، لأن الجرح شرع للضرورة، والضرورة تقدر بقدرها. 3 - لا يجوز الاقتصار على نقل الجرح فقط فيمن وجد فيه الجرح والتعديل كلاهما من النقاد، لأن في ذلك إجحافا بحق الراوي وقد عاب المحدثون من يفعل ذلك. 4 - لا يجوز جرح من لا يحتاج إلى جرحه لأن الجرح شرع للضرورة، فما لم توجد إليه لا يجوز الخوض فيه، وقد شدد العلماء النكير على من فعل ذلك، ونبهوا على خطئه، ولكن هذا لم يجد نفعا -ويا للأسف- مع بعض الغلاة من المنتسبين إلى العلم في هذا العصر، فقد ظنوا أن مجابهة مخالفيهم بالطعن والقذف دليل على وفرة العلم وقوة الفهم، حتى صار "من عاداتهم الخبيثة: أنهم كلما ناظروا أحدا من الأفاضل في مسألة من المسائل توجهوا إلى جرحه بأفعاله الذاتية، وبحثوا عن أعماله العرضية، وخلطوا ألف كذبات بصدق واحد، وفتحوا لسان الطعن عليه بحيث يتعجب منه كل ساجد، وغرضهم منه إسكات مخاصمهم بالسب والشتم، والنجاة من تعقب مقابلهم بالتعدي والظلم بجعل المناظرة مشاتمة، والمباحثة مخاصمة" (¬1). وحسبنا في الحكم على هذا المسلك قوله صلى الله عليه وسلم: "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه" (¬2). ¬

_ (¬1) عن الرفع والتكميل انظر آداب الجرح فيه ص: 47 - 51. (¬2) مسلم في البر: 8: 11.

بل ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء" (¬1). شروط قبول الجرح والتعديل: الشرط الأول: أن يصدر الجرح والتعديل ممن استوفى شروط الجارح والمعدل قال اللكنوي رحمه الله في الرفع والتكميل (¬2). "يجب عليك ألا تبادر إلى الحكم بجرح الراوي بوجود حكمه من بعض أهل الجرح والتعديل، بل يلزم عليك أن تنقح الأمر فيه، فإن الأمر ذو خطر وتهويل. ولا يحل لك أن تأخذ بقول كل جارح في أي راو كا. فكثيرا ما يوجد أمر يكون مانعا من قبول جرحه، وله صور كثيرة لا تخفى على مهرة كتب الشريعة، فمنها: أن يكون الجارح في نفسه مجروحا، فحينئذ لا يبادر إلى قبول جرحه وكذا تعديله ما لم يوافقه فيه غيره. قال ابن حجر في ترجمة أحمد بن شبيب -بعد ما نقل عن الأزدي قوله فيه: "غير مرضي"- قلت: "لم يلتفت أحد إلى هذا القول، بل الأزدي غير مرضي" (¬3). ومنها: أن يكون الجارح من المتعنتين المشددين، فإن هناك جمعا من أئمة الجرح والتعديل له تشدد في هذا الباب يجرحون الراوي بأدنى جرح، فمثل هذا الجارح توثيقه معتبر، وجرحه لا يعتبر إلا إذا وافقه ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في البر والصلة، وقال حسن غريب: 4: 350. وفي المعنى أحاديث كثيرة. (¬2) في الإيقاظ: 19 ص 115 - 125 باختصار يسير. (¬3) تهذيب التهذيب: 1: 36.

غيره ممن ينصف ويعتبر، فمنهم أبو حاتم، والنسائي، وابن معين، وابن القطان، ويحيى القطان، وابن حبان، وغيرهم فإنهم معروفون بالإسراف في الجرح والتعنت فيه، فليثبت العاقل في الرواة الذين تفردوا بجرحهم وليتفكر فيه". قال الذهبي (¬1) في ترجمة محمد بن الفضل السدوسي عارم شيخ البخاري بعد أن ذكر توثيقه نقلا عن الدارقطني: قلت: القائل الذهبي: "فهذا قول حافظ العصر الذي لم يأت بعد النسائي مثله، فأين هذا القول من قول ابن حبان الحشاف المتهور في عارم، فقال: "اختلط في آخر عمره وتغير حتى كان لا يدري ما يحدث به، فوقع في حديثه المناكير الكثيرة، فيجب التنكب عن حديثه فيما رواه المتأخرون، فإذا لم يعرف هذا من هذا ترك الكل ولا يحتج بشيء منها؟ ! " قلت: "ولم يقدر ابن حبان أن يسوق له حديثا منكرا فأين ما زعم" انتهى كلام الذهبي. الشرط الثاني: لا يقبل الجرح إلا مفسرا أي مبين السبب، أما التعديل فلا يشترط تفسيره هذا الذي عليه جمهور العلماء، واقتصر على إيراده ابن الصلاح دون الأقوال الأخرى. قال ابن الصلاح (¬2): "التعديل مقبول من غير ذكر سببه على المذهب الصحيح المشهور لأن أسبابه كثيرة يصعب ذكرها، فإن ذلك يحوج المعدل إلى أن يقول: لم يفعل كذا، لم يرتكب كذا، فعل كذا، وكذا، فيعدد جميع ما يفسق بفعله أو بتركه وذلك شاق جدًّا. ¬

_ (¬1) في الميزان ج 4 ص 8. (¬2) في علوم الحديث: 96.

وأما الجرح فلا يقبل إلا مفسرا مبين السبب، لأن الناس يختلفون فيما يجرح وما لا يجرح، فيطلق أحدهم الجرح بناء على أمر اعتقده جرحا، وليس بجرح في نفس الأمر، فلا بد من بيان سببه، لينظر فيه أهو جرح أو لا. وهذا ظاهر مقرر في الفقه وأصوله". وذكر الخطيب الحافظ (¬1) أنه مذهب الأئمة من حفاظ الحديث ونقاده مثل البخاري ومسلم وغيرهما. وعقد الخطيب بابا في "بعض أخبار من استفسر في الجرح فذكر مالا يصلح جارحا" (¬2)، منها: عن شعبة أنه قيل له: لم تركت حديث فلان؟ فقال: رأيته يركض على برذون فتركت حديثه! ! . ومنها عن مسلم بن غبراهيم أنه سئل عن حديص لصالح المري فقال: ما تصنع بصالح! ذكروه يوما عند حماد بن سلمة فامتخط حماد! ؟ . استشكال الجرح المجمل في كتب الرجال: وقد أورد ابن الصلاح ههنا استشكالا لا بد أن يورده كل مسلم بالحديث، وهو أن كتب الجرح والتعديل التي صنفها الأئمة، "قل ما يتعرضون فيها لبيان السبب، بل يقتصرون على مجرد قولهم فلان ضعيف .. وفلان ليس بشيء، ونحو ذلك، فاشتراط بيان السبب يفضي إلى تعطيل ذلك وسد باب الجرح في الأغلب الأكثر". وهذا الإشكال قد أجاب عنه الإمام أبو عمرو بن الصلاح جوابا ¬

_ (¬1) في الكفاية: 108. (¬2) في الكفاية: 110 وهذا الشرط اشترطه ابن الصلاح للعمل بالجرح مطلقا، واشترطه الحافظ ابن حجر لتقديم الجرح إذا عارضه التعديل. انظر حاشية لقط الدرر: 137.

حسنا ارتضاه العلماء، فقال (¬1): وجوابه أن ذلك وإن لم نعتمده في إثبات الجرح والحكم به فقد اعتمدناه في أن توقفنا عن قبول حديث من قالوا فيه مثل ذلك بناء على أن ذلك أوقع عندنا فيهم ريبة قوية يوجب مثلها التوقف. ثم من انزاحت عن الريبة ببحث عن حاله أوجب الثقة بعدالته قبلنا حديثه، ولم نتوقف، كالذين احتج بهم صاحبا الصحيحين وغيرهما ممن مسهم مثل هذا الجرح من غيرهم، فافهم ذلك فإنه مخلص حسن" (¬2). فاحفظ هذه الفائدة الهامة في باب الجرح المبهم. ولا تبادر تقليدا لمن لا يعرف الحديث وأصوله إلى تضعيف الحديث وتوهينه بمجرد الأقوال المبهمة، والجروح غير المفسرة. الشرط الثالث: يقبل الجرح المجمل غير المفسر في حق من خلا من التعديل على ما اختاره الحافظ ابن حجر في شرح النخبة (¬3) حيث قال: "فإن خلا المجروح عن التعديل، قبل الجرح فيه مجملا غير مبين السبب، إذا صدر عن عارف على المختار، لأنه إذا لم يكن فيه تعديل كأنه في حيز المجهول، وإعمال قول المجروح أولى من إهماله". ¬

_ (¬1) علوم الحديث: 98. وانظر شرح الألفية: 2: 11 - 14 وغيرهما. (¬2) ومن المحققين من اختار جوابا آخر فقال: "الحق أنه إنْ كان المزكي عالما بأسباب الجرح والتعديل اكتفينا بإطلاقه، وإلا فلا". وهو جواب إمام والخطيب البغدادي، انظر شرح الألفية ج 2 ص 15. والكفاية: 107 - 108. لكنا نرجح جواب ابن الصلاح لما وجدنا أن كثيرا من الأئمة العلماء بهذا الشأن ورد عنهم الجرح ثم استفسروا ففسروه بما لا يصلح جرحا. (¬3) وقد عرفت ما قاله ابن الصلاح فيما سبق: انظر ما سبق في المستور: 89 و 90 - 91.

الشرط الرابع: أن يسلم الجرح من الموانع التي تمنع قبوله فإذا وجد مانع من قبول الجرح أو التعديل لم يقبل. تعارض الجرح والتعديل: إذا تعارض الجرح والتعديل في راوٍ واحد بأن ورد فيه الجرح والتعديل، ففيه أقوال ذكرها العلماء. الصحيح الذي نقله الخطيب البغدادي عن جمهور العلماء وصححه ابن الصلاح وغيرهما عن المحدثين وجماعة من الأصوليين أن الجرح مقدم على التعديل ولو أن المعدلون أكثر، "لأن المعدل يخبر عما ظهر من حاله، والجارح يخبر عن باطن خفي على المعدل". لكن هذه القاعدة ليست على إطلاقها في تقديم الجرح، فقد وجدناهم يقدمون التعديل على الجرح في مواطن كثيرة، ويمكننا أن نقول إن القاعدة مقيدة بالشروط الآتية: 1 - أن يكون الجرح مفسرًا، مستوفيًا لسائر الشروط، لما مر معك سابقًا. 2 - أن لا يكون الجارح متعصبًا على المجروح أو متعنتًا في جرحه. فلم يقبل كلام النسائي في أحمد بن صالح المصري لما بينهما من الجفاء (¬1). 3 - أن لا يبين المعدل أن الجرح مدفوع عن الراوي، ويثبت ذلك بدليل الصحيح، مثل ثابت بن عجلان الأنصاري: قال العقيلي: "لا يتابع على حديثه". وتعقب ذلك أبو الحسن بن القطان بأن ذلك ¬

_ (¬1) علوم الحديث: 99.

لا يضره إلا إذا كثرت منه رواية المناكير ومخالفة الثقات وأقر ذلك الحافظ ابن حجر فقال: "وهو كما قال" (¬1). وهذا يدل على أن اختلاف ملحظ النقاد يؤدي إلى اختلافهم في الجرح والتعديل، لذلك قال الذهبي وهو من أهل الاستقراء التام في نقد الرجال: "لم يجتمع اثنان من علماء هذا الشأن قط على توثيق ضعيف ولا على تضعيف ثقة". أي لأن الثقة إذا ضعف يكون ذلك بالنظر لسبب غير قادح، والضعيف إذا وثق يكون توثيقه من الأخذ بمجرد الظاهر (¬2). فاعرف هذه القيود التي ذكرناها لقاعدة تقديم الجرح، فقد زل كثير من الباحثين لغفلتهم عن التقييد والتفصيل، توهمًا منهم أن الجرح مطلقًا أي جرح كان، مقدم على التعديل مطلقًا أي تعديل كان من أي معدل كان في شأن أي راوٍ كان، فوقعوا بسبب ذلك في الخطأ (¬3). بم يثبت تعديل الراوي وجرحه: يثبت تعديل الراوي وجرحه بعدة وسائل، تتحدث عن أهمها فيما يلي: 1 - أن ينص اثنان من أهل العلم على عدالته. وذلك باتفاق الجماهير من العلماء، قياس على التزكية في الشهادة حيث يشترط فيها اثنان. ¬

_ (¬1) هدي الساري: 2: 120. (¬2) انظر شرح النخبة وقارنه بحاشية لقط الدرر: 136. (¬3) انظر تفصيلها في الرفع والتكميل في مواضع متفرقة، وانظر تلخيصها في تعليقنا على علوم الحديث: 99.

2 - أن يستفيض بين أهل الرواية أن فلانا ثقة، فمن اشتهرت عدالته بين أهل النقل أو نحوهم من أهل العلم وشاع الثناء عليه بالثقة والأمانة استغنى بذلك عن بينة شاهدة بعدالته تنصيصًا. مثل: مالك. وشعبة، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، والليث بن سعد، وعبد الله بن المبارك، ووكيع، ومن جرى مجراهم في نباهة الذكر واستقامة الأمر. قال الخطيب في الكفاية (¬1): "فهؤلاء وأمثالهم لا يسأل عن عدالتهم، وإنما يسأل عن عدالة من كان في عداد المجهولين، وخفي أمره على الطالبين". والدليل على ذلك أن العلم بظهور المستور من أمرهم واشتهار عدالتهم بالاستفاضة والشهرة أقوى في النفوس من تعديل واحد أو اثنين. وقد سئل الإمام أحمد عن إسحاق بن راهويه، فقال: "مثل إسحاق يسأل عنه؟ ! . إسحاق عندنا إمام من أئمة المسلمين". وسئل ابن معين عن أبي عبيد القاسم بن سلام فقال: "مثلي يسأل عنه؟ ! هو يسأل عن الناس". وحكم الجرح فيما ذكرنا كالتعديل أيضًا. 3 - التعديل بواحد: اختار الخطيب البغدادي وابن الصلاح وكثير من المحققين أن يثبت التعديل بواحد (¬2). واستدلوا على ذلك: بأن العدد لم يشترط في قبول الخبر، فلا ¬

_ (¬1) باب المحدث المشهور بالعدالة: 86. (¬2) الكفاية: 96. وعلوم الحديث: 98 - 99. والتقريب وشرحه التدريب: 204. وفتح المغيث للسخاوي: 123.

يشترط في جرح راويه وتعديله، بخلاف الشهادات، فإنها لا تقبل من شاهد واحد. واستدلوا أيضا بأن التزكية بمنزلة الحكم من المعدل بأن الراوي عدل، والحكم لا يحتاج فيه لاثنين. وخالف بعض العلماء فقال: لا يثبت التعديل إلا باثنين، قياسا على الجرح والتعديل في الشهادات. وقد عرفت الفرق بينهما من قبل فلا يصح هذا القياس. 4 - تعديل من عرف بالعناية بحمل العلم: قال ابن عبد البر: "كل حامل علم معروف العناية به فهو عدل محمول في أمره أبدا على العدالة، حتى يتبين جرحه في حاله، أو في كثرة غلطه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين" (¬1). وقد انتقده ابن الصلاح فقال: "وفيما قاله اتساع غير مرضي"، وكأن ابن الصلاح لحظ في ذلك إلى الشبه بالمستور. لكن صوب هذا القول المحققون من أهل الحديث كالجزري، والمزي، والذهبي، والسخاوي، وصوروه بما لا يشابه مجهول الحال، قال الذهبي: "ولا يدخل في ذلك المستور، فإنه غير مشهور بالعناية بالعلم، فكل من اشتهر بين الحفاظ بأنه من أصحاب الحديث وأنه معروف بالعناية بهذا الشأن، ثم كشفوا عن أخباره فما وجدوا فيه تليينا ¬

_ (¬1) الحديث أخرجه ابن عبد البر وقال: أسانيده مضطربة. ورواه ابن عدي في الكامل في الضعفاء ... وقد طال كلام العلماء عليه، وحسنه بعضهم لتعدد طرقه وشواهده انظر التدريب: 199 - 200 وفتح المغيث: 125 - 126.

ولا اتفق لهم على علم بأن أحدا وثقه، فهذا الذي عناه الحافظ وأنه يكون مقبول الحديث، إلى أن يلوح فيه جرح" (¬1). ويؤيد ذلك قول أبي عمران: الشهرة والمعرفة بين أهل العلم تدل على عدالته، فإنهم لو علموا فيه جرحا لبينوه وما سكتوا عنه، فكان ذلك دليلا على عدالته. وسائل مردودة للجرح والتعديل: 1 - التعديل على الإبهام، كأن يقول حدثني الثقة، أو من لا أتهم، من غير أن يسميه، لم يكتف به على الصحيح حتى يسميه، لأنه وإن كان ثقة عنده فربما لو سماه كان ممن جرحه غيره بجرح قادح، بل إضرابه عن تسميته ريبة توقع ترددا في القلب. وكذا لو قال: كل شيوخي ثقات لم يعمل بتزكيته حتى يسمي الرواة. لكن استثنوا من ذلك الإمام المجتهد، كمالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد، إذا قال ذلك كفى في حق من يقلده في المذهب (¬2). 2 - ذهب ابن حبان إلى أن الراوي إذا خلا من أن يكون مجروحا أو فوقه في السند مجروح أو دونه مجروح ولم يرو منكرا، فإنه يقبل حديثه، لذلك فإنه يوثق الراوي المجهول إذا روى عن ثقة وكان الراوي عنه ثقة، ولم يرو منكرا. ولا يخفى أنه لا يلزم مما ذكره أن يكون الراوي ثقة فما أكثر ¬

_ (¬1) فتح المغيث: 126. (¬2) الكفاية: 373 و 72. وانظر ضوابط تعيين المبهم في قول مالك والشافعي: "حدثني الثقة" في تعجيل المنفعة لابن حجر: 547 - 548.

الضعفاء الذين يروون عن الثقات، وما أكثر الثقات الذين يروون عن الضعفاء. لذلك وصف ابن حبان بالتساهل في تصحيح الأحاديث وفي تعديل الرواة (¬1)، في هذه النقطة وهي تعديل المجهولين، وإن كان متعنتا في الجرح من جهة أخرى لأدنى سبب يلوح له. 3 - إذا روى العدل عن راو، وسماه، لم يكن تعديلا عند الأكثرين من أهل الحديث، وهو الصحيح لأن هؤلاء رووا عن الثقات وعن غيرهم. 4 - عمل العالم وفتياه على وفق حديث يرويه ليس حكما بصحته. كذلك مخالفته للحديث ليست قدحا في صحته ولا في رواته، لأن عمله على وفق الحديث قد يكون احتياطا، أو لدليل آخر وافق الخبر. وكذلك عمله على خلافه قد يكون لمانع من معارض قوي أو تأويل. وقد روى مالك عن نافع عن ابن عمر حديث: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا"، ولم يعمل بظاهره، ولم يكن ذلك قدحا في نافع راويه (¬2). وفي الموطأ سبعون حديثا ترك مالك رضي الله عنه العمل به، منها أحاديث في الصحيحين. ألفاظ الجرح والتعديل ومراتبها: اصطلح علماء هذا الفن على استعمال ألفاظ يعبرون بها عن وصف حال الراوي من حيث القبول أو الرد، ويدلون بها على المرتبة التي ينبغي أن يوضع فيها من مراتب الجرح أو التعديل، ولا ريب أن معرفة ¬

_ (¬1) انظر مذهب ابن حبان في كتابه مختصر تاريخ الثقات: 3260327. (¬2) الموطأ: 2: 79، وانظر المنتقى: 5: 55 - 56.

هذه الألفاظ في غاية الأهمية لطالب الحديث، والباحث فيه، لأنها الأداة التعبيرية التي تعرفنا صفة الراوي. وقد كتب العلماء كثيرا عن هذه المراتب واجتهدوا في تقسيمها وبيان منازلها. وكان أول ما وصلنا من ذلك تصنيف سيد النقاد الإمام ابن الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي "المتوفى (327) هـ" في كتابه العظيم "الجرح والتعديل" (¬1)، فقد صنف مراتب التعديل أربع مراتب، ومراتب التجريح أربعا. مراتب التعديل عند الرازي: قال ابن أبي حاتم: "وجدت الألفاظ في الجرح والتعديل على مراتب شتى: 1 - فإذا قيل للواحد: إنه ثقة أو متقن أو ثبت، فهو ممن يحتج بحديثه. 2 - وإذا قيل له: صدوق، أو محله الصدق، أو لا بأس به، فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه، وهي المنزلة الثانية. 3 - وإذا قيل: "شيخ"، فهو بالمنزلة الثالثة، يكتب حديثه وينظر فيه، إلا أنه دون الثانية. 4 - وإذا قالوا: "صالح الحديث" فإنه يكتب حديثه للاعتبار. مراتب الجرح عند الرازي: 1 - وإذا أجابوا في الرجل بـ"لين الحديث" فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه اعتبارا. ¬

_ (¬1): 1/ 1/ 37.

2 - وإذا قالوا: "ليس بقوي" فهو بمنزلة الأولى في كتبة حديثه إلا أنه دونه. 3 - وإذا قالوا: "ضعيف الحديث"، فهو دون الثاني لا يطرح حديثه بل يعتبر به. 4 - وإذا قالوا: "متروك الحديث"، أو "ذاهب الحديث"، أو "كذاب" فهو ساقط الحديث لا يكتب حديثه. وهو المنزلة الرابعة. وقد تابع الرازي على هذا التقسيم ابن الصلاح والنووي وغيرهما (¬1) فوافقوه موافقة تامة. وجاء غيرهما فوافقوا على التقسيم وأحكامه من حيث الاجمال وزادوا عليه بعض التفاصيل، أشهرهم الذهبي، والعراقي، وابن حجر، والسخاوي. قال الذهبي في ديباجة ميزان الاعتدال: 1 - فأعلى الرواة المقبولين: ثبت حجة، وثبت حافظ، أو ثقة متقن، وثقة ثقة. 2 - ثم ثقة. 3 - ثم صدوق، ولا بأس به، وليس به بأس. 4 - ثم محله الصدق، وجيد الحديث، وصالح الحديث، وشيخ وسط، وشيخ حسن الحديث، وصدوق إن شاء الله، وصويلح، ونحو ذلك. فقد زاد رتبة أعلى من الأولى عند ابن أبي حاتم، وجعل الثالثة والرابعة مرتبة واحدة. ¬

_ (¬1) علوم الحديث ص 110113، والتقريب 228 - 235.

أما في الجرح فقال: 1 - وأردأ عبارات الجرح: دجال، كذاب، وضاع، يضع الحديث. 2 - ثم: متهم بالكذب، ومتفق على تركه. 3 - ثم متروك، وليس بثقة، وسكتوا عنه .... 4 - ثم واه بمرة، وليس بشيء، وضعيف جدا، وضعفوه ... 5 - ثم يضعف، وفيه ضعف، وقد ضعف، وليس بالقوي، سيئ الحفظ ... إلخ. وجاء العراقي فتابع الذهبي في تقسيمه وأدخل عليه تفصيلا وإيضاحا كلمة: المرتبة الأولى -المرتبة الثانية، بدلا من كلمة ثم. وتوسع في ذكر ألفاظ كل مرتبة، وأبان حكم المراتب وأوضحه. فالأولى والثانية من مراتب التعديل، إذا قيل للواحد شيء من ألفاظهما فهو ممن يحتج بحديثه والثالثة يكتب حديثه وينظر فيه، والرابعة بمنزلة التي قبلها يكتب حديثه وينظر فيه إلا أنه دونها. وقال في المراتب الثلاث الأولى من مراتب الجرح: "وكل من قيل فيه ذلك من هذه المراتب الثلاث لا يحتج به ولا يستشهد به ولا يعتبر به"، وفي المرتبتين الرابعة والخامسة: "يخرج حديثه للاعتبار". ثم جاء الحافظ ابن حجر العسقلاني فزاد في نخبته مرتبة في التعديل أعلى من المرتبة التي زادها الذهبي والعراقي وهي ما عبر فيها بأفعل التفضيل، كأوثق الناس، فصارت مراتب التعديل خمسا وزاد عليها في كتابيه "تهذيب التهذيب"، و"تقريب التهذيب" رتبة أخرى

اعتبرها أعلى أيضا وهي رتبة الصحابة، فصارت مراتب التعديل ستا. وصنيع الحافظ ابن حجر في إفراد رتبة الصحبة معقول، فإن توثيقهم إنما علم بالنصوص من الكتاب والسنة، وهي أعلى دلالة وأسمى شرفا ممن ثبتت عدالته بتعديل بشر. وأما مراتب الجرح فزاد عليها الحافظ رتبة المبالغة كأكذب الناس، وتابعه عليها السخاوي فصارت مراتب الجرح ستا أيضا. التقسيم المختار لمراتب الجرح والتعديل: ونحن نختار هذا التقسيم للمراتب فنفصلها بعد هذا التمهيد ونسوق لك مع كل رتبة ما ينطبق عليها من ألفاظ الجرح أو التعديل، بدءا من أعلى مراتب التعديل إلى أسوأ مراتب التجريح. مراتب التعديل: "المرتبة الأولى": وهي أعلاها شرفا، مرتبة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم. "المرتبة الثانية": وهي أعلى المراتب في دلالة العلماء على التزكية، وهي ما جاء التعديل فيها بما يدل على المبالغة، أو عبر بأفعل التفضيل، كقولهم، أوثق الناس، وأثبت الناس، وأضبط الناس، وإليه المنتهى في التثبت. ويلحق به: لا أعرف له نظيرا في الدنيا، وقولهم: لا أحد أثبت منه، أو من مثل فلان، أو فلان لا يسأل عنه. "المرتبة الثالثة": إذا كرر لفظ التوثيق، إما مع تباين اللفظين كقولهم: ثبت حجة، أو ثبت حافظ، أو ثقة ثبت، أو ثقة متقن، أو مع إعادة اللفظ الأول، كقولهم: ثقة ثقة، ونحوها، وأكثر ما وجدوا

قول ابن عيينة حدثنا عمرو بن دينار وكان ثقة ثقة ثقة ... ، إلى أن قال تسع مرات، ومن هذه المرتبة قول ابن سعد في شعبة: "ثقة مأمون ثبت حجة، صاحب حديث". "المرتبة الرابعة": ما انفرد فيه بصيغة دالة على التوثيق، كثقة. أو ثبت أو متقن، أو كأنه مصحف، أو حجة، أو إمام، أو عدل ضابط. والحجة أقوى من الثقة. "المرتبة الخامسة": ليس به بأس، أو لا بأس به، أو صدق، أو مأمون، أو خيار الخلق. أو ما أعلم به بأسا، أو محله الصدق. "المرتبة السادسة": ما أشعر بالقرب من التجريح، وهي أدنى المراتب، كقولهم: ليس ببعيد من الصواب، أو شيخ، أو يروى حديثه، أو يعتبر به، أو شيخ وسط، أو روي عنه. أو صالح الحديث، أو يكتب حديثه، أو مقارب الحديث، أو ما أقرب حديثه، أو صويلح، أو صدوق إن شاء الله، أو أرجو أن لا بأس به، أو جيد الحديث، أو حسن الحديث. أو وسط، أو مقبول، أو صدوق تغير بأخرة، أو صدوق سيء الحفظ، أو صدوق له أوهام، أو صدوق مبتدع، أو صدوق يهم. "ثم إن الحكم في أهل هذه المراتب: الاحتجاج بالأربعة الأولى منها. وأما التي بعدها فإنه لا يحتج بأحد من أهلها لكون ألفاظها لا تشعر بشريطة الضبط، بل يكتب حديثهم ويختبر، وأم السادسة فالحكم في أهلها دون أهل التي قبلها، وفي بعضهم من يكتب حديثه للاعتبار دون اختبار ضبطهم لوضوح أمرهم". كذا قال الحافظ السخاوي (¬1)، وهو ينطبق على تقسيمنا هذا أيضا، لما عرفت أثناء ¬

_ (¬1) فتح المغيث: 159.

الشرح. وهو موافق لما قاله ابن أبي حاتم وأقره ابن الصلاح في أحكام التقسيم لمراتب التعديل. وهذا اتفاق منهم على أن كلمة "صدوق" لا يحتج بمن قيلت فيه إلا بعد الاختبار والنظر، ليعلم هل يضبط الحديث أو لا (¬1). وذلك يرد ما زعمه بعض الناس من أن من قيلت فيه يكون حديثه حجة من الحسن لذاته، دون أن يقيده بأن ينظر فيه. مراتب الجرح: "المرتبة الأولى": وهي أسهل مراتب الجرح، قولهم: فيه مقال، أو أدنى مقال، أوضعف، أو ينكر مرة ويعرف أخرى، أو ليس بذاك، أو ليس بالقوي، أو ليس بالمتين، أو ليس بحجة، أو ليس بعمدة، أو ليس بمأمون (¬2)، أو ليس بالمرضي، أو ليس يحمدونه، أو ليس بالحافظ، أو غيره أوثق منه، أو فيه شيء، أو فيه جهالة، أو لا أدري ما هو، أو فيه ضعف، أو لين الحديث، أو سيئ الحفظ، أو ضعف، أو للضعف ما هو. أو فيه لين "عند غير الدارقطني، فإنه قال: إذا قلت: لين لا يكون ساقطا متروك الاعتبار ولكن مجروحا بشيء لا يسقط لا يسقط به عن العدالة". ¬

_ (¬1) قال ابن الصلاح وقرره الأئمة بعده: "هذا كما قال -يعني كما قال الرازي في الصدوق: يكتب حديثه وينظر فيه- لأن هذه العبارات لا تشعر بشريطة الضبط، فينظر في حديثه ويختبر حتى يعرف ضبطه". وقد استوفينا بحث مسألة الصدوق وأزحنا عنها غبار التقول في كتابنا "ماذا عن المرأة" بتحقيق دقيق، فارجع إليه لزاما ص 93 - 94 و 186 - 196 الطبعة الثالثة. (¬2) كذا في فتح المغيث ص 161 وهو مشكل، لأن ظاهرها فيه طعن بعدالة الراوي.

ومنه قولهم: تكلموا فيه، أو سكتوا عنه، أو مطعون فيه. أو فيه نظر، عند غير البخاري، فإنه يقول ذلك فيمن تركوا حديثه. "المرتبة الثانية": وهو أسوأ من سابقتها، وهي: فلان لا يحتج به، أو ضعفوه، أو مضطرب الحديث، أو له ما ينكر، أو حديثه منكر، أو له مناكير، أو ضعيف، أو منكر، عند غير البخاري، أما البخاري فقد قال: "كل من قلت فيه منكر الحديث فلا تحل الرواية عنه". وحكم من ذكر في هاتين المرتبتين -كما بين السخاوي-: يعتبر بحديثه، أي يخرج حديثه للاعتبار- وهو البحث عن روايات تقويه ليصير بها حجة- لاشعار هذه الصيغ بصلاحية المتصف بها لذلك، وعدم منافاتها لها. "المرتبة الثالثة": أسوأ من سابقتيها. كقولهم: فلان رد حديثه، أو مردود الحديث، أو ضعيف جدا، أو ليس بثقة، أو واه بمرة، أو طرحوه، أو مطروح الحديث، أو مطروح، أو ارم به، أو لا يكتب حديثه، أو لا تحل كتابة حديثه، أو لا تحل الرواية عنه، أو ليس بشيء، أو لا يساوي شيئا، أو لا يستشهد بحديثه، أو لا شيء خلافا لابن معين. "المرتبة الرابعة": كقولهم: فلان يسرق الحديث، وفلان متهم بالكذب أو الوضع، أو ساقط، أو متروك، أو ذاهب الحديث، أو تركوه، أو لا يعتبر به، أو بحديثه، أو ليس بالثقة، أو غير ثقة، وكذا قولهم: مجمع على تركه، ومود أي هالك، وهو على يدي عدل. "المرتبة الخامسة": كدجال، والكذاب، والوضاع، وكذا: يضع، ويكذب، ووضع حديثا. "المرتبة السادسة": ما يدل على المبالغة كأكذب الناس، أو إليه

المنتهى في الكذب، أو هو ركن الكذب، أو منبعه، أو معدنه. ونحو ذلك. وحكم هذه المراتب الأربع الأخيرة قال فيه السخاوي: "إنه لا يحتج بواحد من أهلها ولا يستشهد به، ولا يعتبر به". إيضاح لبعض هذه الألفاظ: ونوضح فيما يلي ما يحتاج إلى الشرح من هذه الألفاظ، ونبين ما وجد فيه اصطلاح خاص لبعض العلماء، لم يوافق فيه المصطلح العام الذي ذكرنا مراتبه: 1 - قولهم: "لا بأس به"، أو "ليس به بأس" قال ابن معين: إذا قلت: "ليس به بأس فثقة". ومثله عند دحيم الحافظ أيضا. أما عند غيرهما فإنه من المرتبة التي دون ثقة وهي الخامسة (¬1). 2 - قولهم: "إلى الصدق ما هو" يعني أنه قريب من الصدق ما هو ببعيد (¬2). 3 - قولهم: "مقارب الحديث" بفتح الراء وكسرها من صيغ التعديل على الصحيح. والمعنى على الفتح أن حديث غيره يقارب حديثه، والمعنى على كسر الراء أن حديثه يقارب حديث غيره، أي أن حديثه ليس بشاذ ولا منكر (¬3) وهو من المرتبة السادسة، ومثله في الرتبة: "ما أقرب حديثه". 4 - قولهم: "تعرف وتنكر"، أو "يعرف وينكر" ¬

_ (¬1) الرفع والتكميل: 100 - 101. (¬2) فتح المغيث: 158. وانظر للتوسع في هذا القول توضيح الأفكار: 2: 265. والتعليق على تدريب الراوي لشيخنا الأستاذ عبد الوهاب عبد اللطيف رحمه الله: 236. وكتابه المختصر: 69. (¬3) انظر فتح المغيث: 158 و 163.

على الوجهين، والمعنى: أنه يأتي مرة بالأحاديث المعروفة ومرة بالأحاديث المنكرة، فأحاديثه تحتاج إلى عرض وموازنة بأحاديث الثقات المعروفين. وقد وجدنا المحدثين أكثر استعمالا للصيغة الأولى، ولعل ذلك لأنها وردت في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم (¬1). 5 - قولهم: "منكر الحديث"، و"يروي المناكير"، وقولهم: "حديث منكر". بين هاتين العبارتين فرق ينبغي التنبه له، فإن معنى العبارة الأولى كثرة تفرده. وقولهم: "حديث منكر". اصطلح المتأخرون على أن المنكر هو الحديث الذي رواه ضعيف مخالفا للثقة. لكن المتقدمين كثيرا ما يطلقون النكارة على مجرد التفرد، ولو كان الراوي ثقة، وذلك كثير في كلام الإمام أحمد بن حنبل، ودحيم، وغيرهما (¬2). ومن هذا تعلم خطأ من ضعف يزيد بن خصيفة راوية حديث أن الصحابة كانوا في عهد عمر يصلون التراويح عشرين ركعة، حيث ضعفه شيئا لأن الإمام أحمد قال فيه في رواية عنه: "منكر الحديث"، وقد عرفت أن هذا القول من الإمام أحمد لا يقتضي تضعيف الحديث، بل هو حكم منه بأنه يتفرد بأحاديث وليس يضر الثقة أن يتفرد بأحاديث، إنما يضره المخالفة، والمقصود هنا هو التفرد، بدليل أن أحمد رضي الله عنه وثقه أيضا، وكذلك اعتمد توثيقه جماهير العلماء. ¬

_ (¬1) وهو قوله صلى الله عليه وسلم في حديث طويل: "قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر" أخرجه البخاري في علامات النبوة 4: 199 ومسلم في الإمارة "الأمر بلزوم الجماعة": 6: 20. (¬2) ارجع في هذا إلى علوم الحديث: 71 - 72، وتعليقنا الذي أوضحنا فيه ذلك. وانظر الرفع والتكميل: 97.

6 - قولهم: "يسرق الحديث"، سرقة الحديث معناها أن يكون محدث ينفرد بحديث، فيجيء السارق ويدعي أنه سمعه أيضا من شيخ ذاك المحدث، أو يكون الحديث عرف براوٍ فيضيفه السارق لراوٍ غيره ممن شاركه في طبقته (¬1). 7 - قولهم: "هل على يدي عدل". كان الحافظ العراقي يقول إنه من ألفاظ التوثيق، وينطق به "على يدي عدل" بكسر الدال الأولى وبرفع اللام وتنوينها، لكن حقق الحافظ ابن حجر أنها من ألفاظ التجريح الشديد كناية عن الهالك، لأنه مأخوذ من المصل السائر: "وضع على يدي عدل" وعدل هو رجل من شرط تبع، فكان تبع إذا أراد قتل رجل دفعه إليه (¬2). وثمة اصطلاحات أخرى تحتاج للتنبيه أضربنا عنها كي لا نخرج عما يناسب الاختصار الذي نقصده. مصادر الجرح والتعديل: والمصنفات في الجرح والتعديل عديدة كثيرة، معظمها في دراسة أحوال الرواة تفصيلا مما سنذكره في معرفة الثقات والضعفاء. وصنفوا أيضا في قواعد الجرح والتعديل تآليف نافعة من أهمها: 1 - مقدمة كتاب الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم الرازي. 2 - الرفع والتكميل في الجرح والتعديل، للإمام أبي الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي الهندي " (1304) هـ". وهو كتاب نفيس جدا في غاية الفائدة طبع في حلب ثم في بيروت في جزء واحد متوسط. ¬

_ (¬1) فتح المغيث: 160. (¬2) المرجع السابق: 163.

3 - الصحابة رضي الله عنهم: الصحابة رضوان الله عليهم هم خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في نشر الدعوة وحمل أعبائها، ومن ثم لم يقع خلاف "بين العلماء أن الوقوف على معرفة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أوكد علم الخاصة، وأرفع علم الخبر، وبه ساد أهل السير" (¬1). وأصل الصحبة في اللغة يطلق على مجرد الصحبة، دون اشتراط استمرارها طويلا، وعلى ذلك درج المحدثون. قال الحافظ ابن حجر: "الصحابي من لقي النبي صلى الله عليه وسلم -مؤمنا به، ومات على الإسلام". فقوله: "من لقي" يدخل في الصحابة من طالت مجالسته أو قصرت ومن غزا أو لم يغز. وقوله: "مؤمنا به" خرج به من لقيه كافرا ثم أسلم بعد ذلك ولم يجتمع به صلى الله عليه وسلم بعد الإسلام (¬2). مثل رسول هرقل. ¬

_ (¬1) الاستيعاب في أسماء الأصحاب: 1: 8. (¬2) الإصابة في تمييز الصحابة للحافظ ابن حجر ج 1 ص 10. وانظر علوم الحديث: 263، وهذا التعريف مأخوذ من كلام البخاري في صحيحه أول فضائل الصحابة ج 5 ص 2.

أما الأصوليون: فيراعي كثير منهم دلالة العرف في معنى الصحبة. فيطلقون اسم الصحابي على "من طالت صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم وكثرت مجالسته له على طريق التبع له والأخذ منه". وهو مروي عن سعيد بن المسيب فقد كان يقول: "الصحابة لا نعدهم إلا من أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أو سنتين، وغزا معه غزوة أو غزوتين" (¬1). لكن انتقد العلماء هذا القول بأنه يؤدي إلى إخراج أقوام وقع الاتفاق على اعتبارهم من الصحابة، قال ابن الصلاح (¬2): "لكن في عبارته ضيق يوجب ألا يعد من الصحابة جرير بن عبد الله البجلي، ومن شاركه في فقد ظاهر ما اشترطه فيهم ممن لا نعرف خلافا في عده من الصحابة". وقد اختار أصحاب الحديث هذا التوسع نظرا إلى شرف النبي صلى الله عليه وسلم وعظيم بركته التي تحصل للمؤمن إذا لقيه، فأعطوا كل من رآه صلى الله عليه وسلم مؤمنا به حكم الصحبة. ومعرفة الصحابة لها فوائد مهمة في الدين والعلم. منها: 1 - أنهم هداة البشرية بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهم أمثلة تطبيق الدين، سيرتهم تملأ القلوب يقينا، وتحث الهمم على الجهاد والعمل، وتلهب الحماس في النفوس. 2 - معرفة الحديث المرسل وتمييزه عن المنقطع والموصول، فإذا لم نعرف الناقل للحديث أهو صحابي أو ليس بصحابي لا يمكن لنا ذلك. ¬

_ (¬1) الكفاية: 50. وفي إسناده محمد بن عمر الواقدي وهو ضعيف. (¬2) علوم الحديث: 264.

وقد ذكر العلماء ضوابط يعرف بها الصحابي، نحررها لك فيما يلي: 1 - التواتر، بأن ينقل إثبات صحبته عن عدد كثير جدا من الصحابة، كالخلفاء الراشدين الأربعة، وكبار الصحابة المعروفين لدى الخاصة والعامة. 2 - الشهرة والاستفاضة القاصرة عن رتبة التواتر، كضمام بن ثعلبة، وعكاشة بن محصن. 3 - أن يروي عن واحد من الصحابة أن فلانا له صحبة، مثل حممة الدوسي: شهد له أبو موسى الأشعري فقال: "إنا والله ما سمعنا فيما سمعنا من نبيكم صلى الله عليه وسلم وما بلغ علمنا إلا أن حممة شهيد" (¬1). 4 - أن يروي عن أحد التابعين أن فلانا له صحبة (¬2). 5 - أن يقول هو عن نفسه إنه صحابي، وذلك بشرطين: أن يكون ثابت العدالة وأن يكون في المدة الممكنة، وهي مائة سنة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم. لقوله في آخر عمره لأصحابه: "أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها أحد" رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر. ورواه مسلم من حديث جابر ولفظه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت بشهر: "أقسم بالله ما على الأرض من نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنة وهي حية يومئذ". ¬

_ (¬1) انظر تدريب الراوي: 399. والإصابة: 1: 354. والحديث أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده ص 69. (¬2) هذا زاده الحافظ ابن حجر، وقال فيه وفي سابقه أنهما: "بناء على قبول التزكية من واحد، وهو الراجح".

وقد كان آخر الصحابة موتا سنة مائة وعشر سنين وهو أبو الطفيل عامر بن واثلة رضي الله عنه (¬1). ولهذا التحديد النبوي المعجز لم يصدق الأئمة أحدا ادعى الصحبة بعد المدة المذكورة. وقد ادعاها جماعة فكذبوا، آخرهم رتن الهندي ادعى الصحبة بعد الستمائة، فياله من كذاب (¬2). طبقات الصحابة: فصل الحاكم النيسابوري (¬3) طبقات الصحابة بحسب النظر الدقيق إلى سبقهم في الإسلام وشهود المشاهد الفاضلة، فجعلهم اثنتي عشرة طبقة، فقال: "أولهم: قوم أسلموا بمكة، مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. والطبقة الثانية من الصحابة: أصحاب دار الندوة، وذلك أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه لما أسلم وأظهر إسلامه حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دار الندوة فبايعه جماعة من أهل مكة. والطبقة الثالثة من الصحابة: المهاجرة إلى الحبشة. والطبقة الرابعة من الصحابة: الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم عند العقبة، يقال: فلان عقبي. والطبقة الخامسة: أصحاب العقبة الثانية، وأكثرهم من الأنصار. والطبقة السادسة: أول المهاجرين الذين وصلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء قبل أن يدخلوا المدينة ويبنى المسجد. ¬

_ (¬1) تدريب الراوي: 412. (¬2) اعتمدنا في بحث ثبوت الصحبة على كتاب الإصابة: 1: 14 - 15 وانظر الكفاية: 52. وغيره. (¬3) في كتابه معرفة علوم الحديث: 22 - 24.

والطبقة السابعة: أهل بدر الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: "لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". والطبقة الثامنة: المهاجرة الذين هاجروا بين بدر والحديبية. والطبقة التاسعة: أهل بيعة الرضوان الذين أنزل الله تعالى فيهم: {لَقَدْ رَضٍيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}. وكانت بيعة الرضوان بالحديبية لما صد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العمرة، وصالح كفار قريش على أن يعتمر من العام المقبل. والطبقة العاشرة: المهاجرة بين الحديبية والفتح، منهم خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وأبو هريرة، وغيرهم، وفيهم كثرة. والطبقة الحادية عشرة: هم الذين أسلموا يوم الفتح، وهم جماعة من قريش. ثم الطبقة الثانية عشرة: صبيان وأطفال رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وفي حجة الوداع وغيرها وعدادهم في الصحابة" اهـ. واشتهر تقسيم الصحابة تقسيما إجماليا إلى ثلاث طبقات: طبقة كبار الصحابة، كالعشرة المبشرين بالجنة، ومن في طبقتهم ممن تقدم إسلامهم، وطبقة أوساط الصحابة، وطبقة صغار الصحابة الذين تأخر إسلامهم أو كانوا صغارا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويقدر عدد الصحابة كلهم بما يزيد على مائة ألف، وقدرهم أو زرعة الرازي مائة ألف وأربعة عشر ألفا (¬1). ¬

_ (¬1) تدريب الراوي: 405 - 406.

عدالة الصحابة: وقد اختص الله الصحابة رضي الله عنهم بخصيصة ليست لطبقة من الناس غير طبقتهم، وهي أنهم لا يسأل عن عدالة أحد منهم، فهم جميعهم عدول ثبتت عدالتهم بأقوى ما تثبت به عدالة أحد، فقد ثبتت بالكتاب، والسنة، وبالإجماع، والمعقول. أما القرآن: فقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}. وهذا ينطبق على الصحابة كلهم، لأنهم المخاطبون مباشرة بهذا النص. وكذا قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً}. وغير ذلك كثير من الآيات في فضل الصحابة والشهادة بعدالتهم. وأما السنة: ففي نصوصها الشاهدة بذلك كثرة غزيرة، منها: حديث أبي سعيد الخدري المتفق على صحته (¬1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه". وتواتر عنه صلى الله عليه وسلم قوله: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم" (¬2). ¬

_ (¬1) البخاري في فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ج 6 ص 8. ومسلم: 7: 188. (¬2) الإصابة: 1: 21.

ومما ورد في إثبات عدالة مجهول الصحابة: حديث ابن عباس الصحيح قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال. يعني رمضان، فقال: "أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؟ " قال: "نعم" قال: "يا بلال أذن في الناس أن يصوموا غدا". أخرجه أصحاب السنن الأربعة، وله شاهد من حديث أنس، وحديث ربعي بن حراش، فقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد معرفة إسلامه. وفي الصحيحين من حديث عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما. قال: فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأعرض عني، قال: فتنحيت فذكرت ذلك له؟ فقال: كيف؟ وقد زعمت أن قد أرضعتكما! ! (¬1) فهذه النصوص وغيرها كثير تثبت العدالة لكل صحابي، من تقدم إسلامه ومن تأخر، ومن طالت صحبته، ومن ظفر بمجرد اللقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم. وأما الإجماع: فيقول أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب (¬2) "قد كفينا البحث عن أحوالهم لإجماع أهل الحق من المسلمين وهم أهل السنة والجماعة على أنهم كلهم عدول". وقال الخطيب في الكفاية (¬3): "هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقوله من الفقهاء". ونقل الإجماع محمد بن الوزير اليماني عن أهل السنة وعن الزيدية والمعتزلة أيضا وكذا الصنعاني (¬4). ¬

_ (¬1) انظر تنقيح الأنظار: 2: 467 - 469. (¬2) ج 1 ص 8. (¬3): 49. (¬4) توضيح الأفكار: 2: 469.

وقال ابن الصلاح (¬1): "ثم إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة، ومن لابس الفتن منهم فكذلك بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع، إحسانا للظن بهم، ونظرا إلى ما تمهد لهم من المآثر وكأن الله سبحانه وتعالى أتاح الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشريعة". وأما دلالة العقل: فقد قررها وأحسن فيها الخطيب البغدادي فقال (¬2): "على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنصرة، وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأولاد والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين القطع على عدالتهم والاعتقاد بنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيئون بعدهم أبد الآبدين. هذا مذهب كافة العلماء، ومن يعتد بقوله من الفقهاء". وبهذا ثبتت عدالة الصحابة بالأدلة القطعية النقلية والعقلية، مما لا يدع للشك أو التردد مجالا في ثبوت هذه الخصوصية الفاضلة لأحد منهم رضي الله عنهم. لذلك شدد العلماء النكير على من يقدح في هؤلاء الكرام، لما أنه شأن المارقين، والحائدين عن سواء الطريق، ورحم اله إمام الحديث أبا زرعة الرازي حيث قال: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما ¬

_ (¬1) علوم الحديث: 265. (¬2) الكفاية: نفس الصفحة.

يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة" (¬1). من مناقب الصحابة: 1 - اختلفت الروايات وأقوال العلماء في أول الصحابة إسلاما اختلافا، واختار ابن الصلاح في ذلك اختيارا حسنا راعى فيه الاحتياط، وأخذ به العلماء من بعده. قال ابن الصلاح: "الأورع أن يقال: أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر، ومن الصبيان أو الأحداث علي، ومن النساء خديجة، ومن الموالي زيد بن حارثة، ومن العبيد بلال". 2 - أفضل الصحابة بل أفضل الخلق بعد الأنبياء عليهم السلام: أبو بكر عبد الله بن عثمان "أبي قحافة" التيمي، وسمي بالصديق لمبادرته إلى تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الناس كلهم، ثم بعده عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب. ثم بقية العشرة المبشرين بالجنة، ثم أهل بدر، ثم أهل أحد، ثم أهل بيعة الرضوان يوم الحديبية. 3 - اشتهر بعض الصحابة بالعلم، وانتشر علمهم في الآفاق: أ- قال أحمد بن حنبل: "ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أكثروا الرواية عنه وعمروا: أبو هريرة، وابن عمر، ¬

_ (¬1) وقد استوفينا دراسة الشبهات الواردة على مسألة عدالة الصحابة دراسة منهجية في كتابنا أصول الجرح والتعديل واستقصينا أسباب القدح فيهم، وبينا بطلانه من جميع الوجوه. وانظر إن شئت أيضا كتاب السنة للدكتور مصطفى السباعي: 305 - 353 وكتاب الأضواء الكاشفة، والمنهج الحديث قسم التاريخ.

وعائشة، وجابر بن عبد الله، وابن عباس، وأنس". وأبو هريرة أكثرهم حديثا وحمل عنه الثقات. ب- العبادلة: "عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو، هؤلاء عاشوا حتى احتيج إلى علمهم، فإذا اجتمعوا على شيء قيل: هذا قول العبادلة، أو هذا فعلهم. وأكثر الصحابة في الفتوى ابن عباس. أما ابن مسعود ونحوه من كبار الصحابة كالخلفاء الأربعة، فقد تقدم موتهم، لكن هؤلاء تأخر متوهم، واحتاج الناس إلى علمهم، لقلة الصحابة إذا ذاك، فكثرت الرواية عنهم وكثر نقل الفقه عنهم. جـ- رؤساء الصحابة في العلم: قال مسروق: "وجدت علم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى ستة: عمر وعلي، وأبي، وزيد، وأبي الدرداء، وعبد الله بن مسعود. ثم انتهى علم هؤلاء الستة إلى اثنين: علي، وعبد الله". واستقصى أبو محمد بن حزم الظاهري فقهاء الصحابة استقصاء له أهميته وفائدته البالغة، في رسالة خاصة بالمجتهدين (¬1)، بلغ عددهم فيها مائة واثنين وستين: فالمكثرون هم عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم. قال: ويمكن أن يجمع من فقه كل واحد منهم سفر ضخم. ¬

_ (¬1) في آخر كتاب جوامع السيرة 319 - 323. وانظر قسم الرواة: 27 - 28، وتصدير معجم فقه ابن حزم لفضيلة الأستاذ محمد المنتصر الكتاني: 41 - 42.

والمتوسطون من فقهاء الصحابة عشرون، منهم أبو بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعبد الله بن الزبير ... ويمكن أن يجمع من فتيا كل امرئ منهم جزء صغير جدا. والمقلون في الفتيا هم الباقون: مثل جرير بن عبد الله البجلي، وعبد الله بن أبي أوفى، وسمرة بن جندب، هؤلاء وغيرهم مقلون في الفتيا جدا لا يروى عن الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان، والزيادة اليسيرة على ذلك. 4 - آخرهم على الإطلاق موتًا أبو الطفيل عامر بن واثلة، توفي كما سبق سنة عشر ومائة (¬1). وأما آخرهم وفاة بالنسبة للبلاد فقد قالوا: آخر من مات بمكة أبو الطفيل، وآخر من مات بالمدينة محمود بن الربيع " (99) "، وبالبصرة أنس " (93) "، وبالكوفة عبد الله بن أبي أوفى " (86) "، وبالشام عبد الله بن بسر " (96) " بحمص، وبمصر عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي " (86) ". رضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين وجعلنا من محبيهم وتابعيهم بإحسان (¬2). المصنفات في تراجم الصحابة: يقول أبو عمر يوسف بن عبد البر (¬3): "وما أظن أهل دين من ¬

_ (¬1) وقال ابن الصلاح مات سنة مائة من الهجرة والتحقيق ما ذكرناه. (¬2) باختصار عن التدريب: 412 - 414، وقارن علوم الحديث: 265 - 271 واختصار علوم الحديث 183 - 190 وفي بعض ما ذكرنا من الوفيات خلاف لم نطول بذكره (¬3) الاستيعاب: 1: 8 - 9.

الأديان إلا وعلماؤهم معتنون بمعرفة أصحاب أنبيائهم لأنهم الواسطة بين النبي وبين أمته" اهـ. ولا ريب أن المسلمين كانوا أعظم الأمم عناية بمعرفة أصحاب نبيهم، وها هي ذي المؤلفات في الصحابة تتجاوز العشرات من الكتب، نعرفك بأهمها، وهي أربعة مؤلفات قيمة أخرجتها المطابع: 1 - "الاستيعاب في أسماء الأصحاب" للإمام الحافظ المحدث الفقيه أبي عمر يوسف بن عبد البر النمري المتوفى سنة (463) هـ عن مائة سنة كاملة. قصد فيه إلى جمع ما تفرق في كتب الصحابة المدونة من قبله ذكر منها في مقدمته خمسة عشر مرجعا، وأشار إلى مراجع أخرى كثيرة لم يذكرها (¬1)، واقتصر في جمعه "ذلك على النكت التي هي البغية من المعرفة بهم". فلذلك سمى كتابه "الاستيعاب" ورتبه على حروف المعجم. لكن انتقد عليه أنه فاته جمع من الصحابة كثير، فإن غاية ما جمعه يبلغ ثلاثة آلاف وخمسمائة. وأنه كما قال ابن الصلاح شأنه بذكر ما شجر بين الصحابة، وحكاياته فيه عن الأخباريين لا المحدثين. والمحدثون لا يرتاحون إلى هؤلاء الأخباريين، لأن الغالب عليهم الإكثار والتخليط فيما يروونه. 2 - كتاب "أسد الغابة في معرفة الصحابة"، للإمام المحدث الحافظ عز الدين علي بن محمد الجزري المعروف بابن الأثير المتوفى سنة (630) هـ. جمع في كتابه هذا بين الكتب التي هي غاية ما انتهى إليه الجمع في الصحابة حتى عهده، فاجتمع له من الصحابة /7500/. وعني ¬

_ (¬1) الاستيعاب: 1: 9 - 10.

بترتيبه على الأحرف ترتيبا أدق من كتاب الاستيعاب (¬1)، فجاء كتابا عظيما حافلا. قال الحافظ: (¬2) "إلا أنه تبع من قبله، فخلط من ليس صحابيا بهم، وأغفل كثيرا من التنبيه على كثير من الأوهام الواقعة في كتبهم". 3 - كتاب "الإصابة في تمييز الصحابة" للإمام الحافظ البحر الحجة أحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى سنة (852) هـ. جمع في كتابه ما كتبه السابقون، وأعاد النظر في مراجع الصحابة الأولى من كتب السنة وتاريخ الرواة والسير والمغازي، فاستخرج منها أسماء صحابة فاتت غيره. وقد رتب الكتاب على أحرف الهجاء وقسم كل حرف أربعة أقسام، عني فيها بتمييز من ثبت لقاؤه للنبي صلى الله عليه وسلم ممن لم يثبت، ونبه فيه على ما ذكر في الكتب السابقة على سبيل الوهم والغلط، وهذا زبدة ما يمخضه من هذا الفن اللبيب الماهر، وقد وقع فيه التنبيه على عجائب يستغرب وقوع مثلها (¬3). 4 - كتاب "حياة الصحابة" للعلامة الداعية المحدث الشيخ محمد يوسف الكاندهلوي -الهندي المتوفى سنة (1383) تغمده الله برحمته. وهو كتاب بديع جدا في هذا الفن، تناول فيه سيرة الصحابة رضي الله عنهم من حيث كونهم أمثلة عليا في تطبيق هذا الدين، ومن حيث كونهم قدوة تحتذى في العلم والعمل والتقى والورع، فجمع فيه أخبارهم مرتبة على الأبواب لا الأسماء. مثل: "باب تحمل الشدائد في الله"، "باب الهجرة"، "باب الجهاد" وهكذا ... والكتاب بهذا عدة هامة، وسلاح ماض للداعية لا يستغنى عنه ¬

_ (¬1) انظر تقدمة أسد الغابة 305. (¬2) الإصابة: ج 1 ص 4. (¬3) ج 1 ص 6 - 9.

4 - الثقات والضعفاء: هذا النوع من علوم الحديث ثمرة من ثمار النوعين الأول والثاني، فإنه ينتج من الأبحاث التي قام بها العلماء لمعرفة صفة كل راو من رواة الحديث، ثم ما رأوه مناسبا له من مراتب الجرح والتعديل. من هنا نبه العلماء على أهمية هذا النوع، وأنه كما قال ابن الصلاح: "من أجل نوع وأفخمه، فإنه المرقاة إلى معرفة صحة الحديث وسقمه". وقد لقي هذا العلم عناية أئمة الحديث في القديم والحديث، فصنفوا فيه التآليف الكثيرة، تكلموا فيها على الرواة مما شاهدوه من أحوالهم أو ما نقلوه من الكلام في صفاتهم عن أئمة العلم. وتنقسم التصانيف ثلاثة أقسام: ما أفرد في الثقات، وما أفرد في الضعفاء، وما جمع فيه من الثقات والضعفاء. أما المؤلفات في الثقات: فأشهرها: 1 - "كتاب الثقات" للإمام أبي حاتم محمد بن حبان البستي "المتوفى (354) "، ذكر فيه من هو ثقة بما يشمل اصطلاحه الخاص الذي سبق أن أشرنا إليه (¬1). ¬

_ (¬1) في صفحة 104 - 105.

2 - "الثقات" للإمام أحمد بن عبد الله العجلي "المتوفى (261) " في مجلد متوسط الحجم، لكنه غير مرتب، فرتبه الإمام السبكي وسماه "ترتيب الثقات". 3 - "كتاب تذكرة الحفاظ" للإمام الحافظ شمس الدين محمد الذهبي "المتوفى سنة (748) هـ"، ترجم فيه لكل من بلغ مرتبة توصف بالحافظ، وقال في مقدمته: "هذه تذكرة بأسماء معدلي حملة العلم النبوي، ومن يرجع إلى اجتهادهم في التوثيق والتضعيف والتصحيح والتزييف". وأما المؤلفات في الضعفاء: فكثيرة جدا مثل كتب الضعفاء للبخاري، والنسائي، والعقيلي، وابن حبان، والجوزجاني، والأزدي، وغيرهم، ممن كانوا المرجع والعمدة في هذا الفن، ومن أهم هذه المؤلفات: 1 - "الكامل في الضعفاء"، للحافظ الإمام أبي أحمد عبد الله بن عدي "المتوفى (365) " جمع فيه ما سبقه من التآليف، وأضاف إليها أشياء لم يسبق إليها، وأورد فيه كل من تكلم فيه، ولو لم يكن الكلام مؤثرا، لكنه على كل حال جمود وتشديد. 2 - "ميزان الاعتدال في نقد الرجال"، للإمام الذهبي، اعتمد فيه على كتاب الكامل، فسار على منهجه في إيراد كل من تكلم فيه (¬1). ¬

_ (¬1) فينبغي أن تتنبه إلى أن ذكر الراوي في كتاب "الكامل"، أو "الميزان" لا يستلزم أن يكون ضعيفا. وقد أوهم بعض الناس غير هذا حيث قال في يزيد بن خصيفة: "ذكره الذهبي في الميزان، ومعلوم أنه يذكر فيه من تكلم فيه"، فأوهم بهذا أن كل المذكورين في الميزان ضعفاء، مع أن الذهبي نبه في مقدمة الكتاب وفي خاتمته، ثم في مواطن كثيرة من الكتاب على ما ذكرناه. فالقول بعد ذلك أنه يذكر فيه من تكلم فيه هذا القول على إطلاقه تعمية وتلبيس لا يليقان بالبحث المنصف.

لكنه تعقب ابن عدي، وشنع عليه في مواطن كثيرة لأنه أورد في كامله من الثقات الحفاظ ما لا يناسب الكتاب. 3 - "المغني في الضعفاء"، للإمام الذهبي أيضا، جمع فيه من تكلم فيهم من الرواة على سبيل الاختصار الشديد، فاجتزأ في الكلام على كل راو بجملة يسيرة، لخص فيها أبحاثا طويلة، ويسر على القارئ البحث، مع تفرده بفوائد ليست في غيره. وقد حققنا هذا الكتاب على نسخ خطية منها نسخة قيمة مقروءة على المؤلف، وعليها خطه، وعلقنا عليه بما يهدي إليه البحث من خلاف رأي الذهبي، أو باستكمال فائدة ضرورية. كذلك عنينا بالراوة المتكلم فيهم من رجال الصحيحين أو أحدهما، فأوضحنا في التعليق دفع الطعن عن البخاري ومسلم في الرواية لهم في الصحيح، مع التعليل الفني الحديثي. 4 - "لسان الميزان" للحافظ ابن حجر العسقلاني أورد فيه من رجال كتاب الميزان من لم يذكرهم في كتابيه تهذيب التهذيب، وتقريب التهذيب. وهو يذكر كلام الذهبي في الميزان أولا، ثم يتكلم بما عنده تأييدا للذهبي، أو نقدا له، أو استدراكا عليه. وأما الكتب التي تجمع الثقات والضعفاء: فهي كتب كثيرة وفي غاية من الأهمية، منها: 1 - "الجرح والتعديل"، للإمام سيد النقاد عبد الرحمن بن الإمام أبي حاتم الرازي "327"، وهو كتاب جليل في هذا الشأن اعتمد فيه مصنفه على أئمة العلم، ولا سيما الإمام الكبير والده، رحمهما الله. 2 - "الكمال في أسماء الرجال" للحافظ عبد الغني المقدسي

"600" اقتصر فيه على رجال الكتب الستة فقط. وكان السابق لهذا الاقتصار، فحذا العلماء من بعده حذوه، واستدركوا عليه أشياء في كتابه. 3 - "تهذيب الكمال في أسماء الرجال"، للإمام الحافظ الحجة أبي الحجاج جمال الدين يوسف بن عبد الرحمن المزي "المتوفى 742"، رحمه الله، هذب كتاب الكمال السابق، واستدرك عليه ما فاته واستوفى البحث فيه في كل راو، فجاء كتابا حافلا لم يصنف مثله. 4 - "تهذيب التهذيب" للحافظ ابن حجر، لخص فيه تهذيب الكمال، وأضاف إليه فوائد زادها على الكتاب الأصل فبلغ ثلث حجمه، وطبع في اثني عشر مجلدا. 5 - "تقريب التهذيب" للحافظ ابن حجر أيضا، لخص فيه تهذيب التهذيب، وأتى فيه بنتائج البحث في كل راو بكلمة واحدة، واستعمل الرموز المصطلحة للكتب التي تروي له، فرمز للبخاري: خ، ولمسلم: م، ولأبي داود: د، وللترمذي: ت، وللنسائي: س، ولابن ماجه: ق، وللستة: ع، ولأصحاب السنن، أي ما عدا البخاري ومسلما: عه. مثل: "خ م د ت ق أحمد بن سعيد بن صخر الدارمي، أبو جعفر السرخسي ثقة حافظ، من الحادية عشرة. مات سنة ثلاث وخمسين". فالرموز تعني أن هذا الراوي روى له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه القزويني. وقوله: "الدارمي": نسبة إلى القبيلة التي ينتمي إليها. والسرخسي: نسبة إلى البلد التي عاش فيها. وقوله: من الحادية عشرة، أي ممن مات بعد المائتين. فتكون وفاته سنة مائتين وثلاث وخمسين. والكتاب بهذه المثابة في غاية الأهمية لطالب الحديث.

5 - من اختلط في آخر عمره من الثقات: معنى الاختلاط فساد العقل، وعدم انتظام الأقوال والأفعال. وفائدة دراسة الرواة المختلطين تمييز المقبول من حديثهم من غير المقبول (¬1)، لذلك نبهوا على أن "هذا فن عزيز مهم ... ". وقد ألف فيه الإمام الحافظ العلائي خليل بن كيكلدي "المتوفى (761) " ثم أفرده بالتصنيف الإمام الحافظ إبراهيم بن محمد سبط ابن العجمي الحلبي المتوفى سنة (841) هـ وسماه "الاغتباط بمن رمي بالاختلاط" (¬2). والحكم في حديث من رمي بالاختلاط من الثقات قرر فيه المحدثون: التفصيل: فما سمع منهم قبل الاختلاط يقبل ويحتج به. أما ما سمع بعد الاختلاط، أو أشكل أمره فلم يدر هل أخذ عنه قبل الاختلاط أو بعده فإنه يرد ولا يقبل (¬3). ويتميز ذلك بالراوي عنه. ¬

_ (¬1) فتح المغيث: 485. (¬2) انظر شرح الألفية للعراقي: 4: 153. وتعليق شيخنا العلامة محمد راغب الطباخ على نكت العراقي وكتاب الاغتباط قد طبعه شيخنا رحمه الله وجزاه عنا وعن العلم خير الجزاء وقد رجعنا إليه في دراسة هذا النوع، ويقع في 27 صحيفة. (¬3) علوم الحديث: 352، والاغتباط: 3.

ومن القرائن التي تتميز بها الرواية قبل الاختلاط أن يكون الحديث من رواية الكبار من أصحاب الراوي المختلط أي الذين علم أنهم سمعوا منه في وقت مبكر وإن لم ينص على تاريخ سماعهم. فقد وجدناهم يصرحون بصحة رواية هؤلاء، مثل عطاء بن السائب، قال الخطيب في الكفاية (¬1): "قد اختلط في آخره عمره، فاحتج أهل العلم برواية الأكابر عنه مثل سفيان الثوري وشعبة لأن سماعهم منه كان في الصحة، وتركوا الاحتجاج برواية من سمع منهم أخيرا". ومثل سعيد بن أبي سعيد المقبري: قيل أنه اختلط قبل وفاته بأربع سنين فأخرج له البخاري من حديث مالك وإسماعيل بن أبي أمية وعبيد الله بن عمر العمري وغيرهم من الكبار كما في هدي الساري. قال العلامة التهانوي (¬2) "قلت فرواية الكبار من أصحاب المختلط محمولة على الصحة". وقد وقع في الصحيحين أحاديث يروى عمن اختلط من الثقات، مما قد يستشكل، فقال ابن الصلاح (¬3): "واعلم أن من كان من هذا القبيل محتجا به في الصحيحين أو أحدهما فإنا نعرف على الجملة أن ذلك مما تميز وكان مأخوذا عنه قبل الاختلاط". وهذا جواب سديد أيده العلماء وقرروه في مصنفاتهم (¬4) يشهد له إجماع العلماء على تلقي أحاديث الكتابين بالقبول. ¬

_ (¬1): 137. (¬2) في إنهاء السكن: 98. (¬3): 357. (¬4) انظر شرح الألفية: 4: 161 ـ والاغتباط نفس المكان، وفتح المغيث: 486، والتدريب: 528، وغيرهما.

وقد عني النقاد في أبحاث هؤلاء الرواة ببيان تاريخ اختلاطهم، ومن سمع منهم قبل الاختلاط، ومن سمع بعده ومن لم يتبين وقت سماعه. وينقسم هؤلاء الرواة بحسب سبب اختلاطهم أقساما كثيرة: منهم من اختلط لخرفه أو هرمه أو مرضه أو مصاب نزل به، مثل سعيد بن أبي عروبة، الثقة الحافظ، ابتدأ اختلاطه سنة اثنتين وأربعين، واستحكم به سنة خمس وأربعين ومائة واستمر حتى وفاته سنة خمس وخمسين ومائة. وعامة الرواة سمعوا منه قبل اختلاطه، وممن عرف أنه سمع منه بعد اختلاطه وكيع بن الجراح، والمعافى بن عمران الموصلي. ومنهم من اختلط لذهاب بصره، كعبد الرزاق بن هام الصنعاني الإمام صاحب المصنف، قال أحمد: "من سمع منه بعدما عمي فليس بشيء، وما كان في كتبه فهو صحيح، وما ليس في كتبه فغنه كان يلقن فيتلقن". والضابط لم سمع منه قبل الاختلاط أن يكون سماعه قبل المائتين. فممن سمع منه قبل الاختلاط الأئمة: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعلي بن المديني، ووكيع ويحيى بن معين. وممن سمع منه بعد ذلك: إبراهيم بن منصور الرمادي، وإسحاق ابن إبراهيم الدبري (¬1). هذا وقد تنكب جادة الصواب بعض من نصب نفسه للحديث إذ ضعف حديث عبد الرزاق الذي في مصنفه في صلاة التراويح بأن عبد الرزاق قد اختلط، ليسلم له دعواه عدم مشروعية أدائها عشرين ¬

_ (¬1) علوم الحديث: 355، وفتح المغيث: 490 والمغني في الضعفاء رقم 3687.

ركعة، فقد عرفت أن كتبه صحيحة، وإن التخليط أضر بما سمع منه مما كان يحدث به من حفظه. لكن الرجل ضحى بهذا الجامع العظيم من جوامع الحديث النبوي في سبيل فكرته التي يصر عليها. ومن أقسام المخلطين أيضا من اختلط لذهاب كتبه، فحدث من حفظه فخلط في حديثه. مثل عبد الله بن لهيعة المصري القاضي: احترقت كتبه فراح يحدث من حفظه، فوقع في حديثه التخليط، ولم يتميز من حديثه ما كان قبل الاختلاط إلا النادر، قال في التقريب: "صدوق، اختلط بعد احتراق كتبه، ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه أعدل من غيرهما. وله في مسلم بعض شيء مقرون". 6 - الوحدان: وهم الرواة الذين لم يرو عنهم إلا راو واحد فقط. وفائدة هذا العلم معرفة المجهول إذا لم يكن صحابيا. ومن أمثلته من الصحابة: وهب بن خنبش، والمسيب بن حزن والد سعيد، وعمرو بن تغلب. ولصعوبة الحكم بالتفرد انتقد العلماء كثيرا مما قيل فيه: لم يرو عنه إلا واحد.

وادعى الحاكم في كتابه "المدخل إلى كتاب الإكليل" (¬1) أن الشيخين لم يخرجا من رواية هذا النوع شيئا، لكن انتقده بعض العلماء بجماعة من الرواة أخرج لهم الشيخان ليس لهم إلا راو واحد (¬2). وذكر الذهبي (¬3) عشرة من الصحابة أخرج لهم البخاري ليس لهم سوى راو واحد فقط. والجواب عن هذا بالنسبة للصحابة أنه ليس بضائر في حقهم، لأنهم عدول كما عرفت. وقد ثبت استثناء الحاكم إياهم (¬4). وأما بالنسبة لغير الصحابة فالجواب أن "الشرط الذي ذكره الحاكم وإن كان منتقضا في حق بعض الصحابة الذين أخرج لهم، فإنه معتبر في حق من بعدهم، فليس في الكتاب حديث أصل من رواية من ليس له إلا راو واحد قط" (¬5). ¬

_ (¬1) ق 188 من المجموعة الحديثية المخطوطة المحفوظة بالمكتبة الأحمدية بحلب. (¬2) انظر شروط الأئمة الخمسة للحازمي: 33. وشروط الأئمة الستة للمقدسي: 15. (¬3) في سير أعلام النبلاء: ج 8 ق 253 - 254. (¬4) فتح المغيث: 18. وانظر: 418 - 419 وانظر ما سبق في بحث المجهول: 89 - 91. (¬5) هدي الساري ج 1: ص 6. وانظر كتابنا الإمام الترمذي: 61.

7 - المدلسون: المدلس: هو من يحدث عمن سمع منه ما لم يسمع منه بصيغة توهم أنه سمعه منه. كأن يقول: عن فلان، أو قال فلان. والتدليس على أقسام تأتي في الحديث المدلس، مع بيان حكمها إن شاء الله. وتتفاوت أحوال المدلسين تفاوتا كبيرا، فمنهم من احتمله الأئمة لثقته وندرة تدليسه، بحيث يرى المحدث أن هذا من صحيح حديثه، ليس مما دلسه. ومنهم من احتملوه لكونه لا يدلس إلا عن ثقة، مثل سفيان بن عيينة الإمام الكبير، وقد أخرج له الشيخان (¬1). ومنهم ثقات كثر تدليسهم عن الضعفاء والمجهولين، مثل بقية بن الوليد الحمصي، فلا يحتج بحديث هذا الصنف إلا إذا صرح بالسماع (¬2). ومنهم ضعفاء لا يحتج بهم ولو صرحوا بالسماع، وازدادوا بالتدليس ضعفا مثل عطية العوفي. وقد فصل مراتبهم الحافظ العلائي (¬3) بأحسن بيان، واستمد منه الحافظ ابن حجر. ¬

_ (¬1) جامع التحصيل ق 38 آ، وتعريف أهل التقديس: 2 و 9. والتبيين: 9. (¬2) جامع التحصيل ق 38 ب و 40 آوتعريف أهل التقديس: 2 و 17، والتبيين: 6. والمغني: 944. (¬3) في كتاب جامع التحصيل لأحكام المراسيل ق 40 آوانظر ديباجة التعريف.

وقد عني المحدثون بهذا الفن، فأفرد كثير من الأئمة أسماء المدلسين بالتصنيف مثل: 1 - "التبيين في أسماء المدلسين"، للبرهان الحلبي الحافظ. 2 - "تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس" لابن حجر، وهو أجمعها وأوسعها إحصاءً، وقد بلغ مجموع ما احتواه /152/ مائة واثنين وخمسين مدلسا فقط. ومن هنا فإنا لا نستطيع أن نوافق الباحث الفاضل الدكتور صبحي الصالح على قوله (¬1): "ما أقل من سلم من التدليس" فهذا قول مبالغ جدا في تضخيم أمر التدليس، وغلو لا ستنده الحقيقة العلمية. وهذا أوسع إحصاء للمدلسين يبلغ مائة واثنين وخمسين مدلسا من بين آلاف الرواة، مما يدل على أن الأولى أن نقول: "ما أكثر من سلم من التدليس". نتائج الفصل: ونسجل في ختام الفصل هذه النتائج الهامة في منهج النقد الحديثي: 1 - إن المقياس الذي يعرف به الراوي المقبول من المردود مقياس موضوعي شامل، حيث لم يكتف فيه المحدثون بمجرد استقامة السلوك الديني، بل لاحظوا العوامل الداخلية، فنظروا إلى ما يخشى أن يدفع الراوي من انحياز فكري "بدعة" أو اجتماعي إلى عدم التحري في ¬

_ (¬1) في كتابه علوم الحديث ومصطلحه: 175 - 176, وسنستوفي مناقشة ما أثير من المزاعم في هذا الصدد في كتابنا "أصول الجرح والتعديل" إن شاء الله تعالى. وانظر لزاما ما يأتي في الحديث المدلس برقم 66.

النقل، ودرسوا حالة النفسية من حيث الاعتدال والتحرز، أو الاستهتار والتساهل على ضوء ما أسمعوه "بالمروءة"، وراعوا أهليته العلمية والذهنية للأداء الصحيح في شروط الضبط. فجاء مقياسهم هذا موضوعيا لا يتحيز ولا يحيف، شاملا كافة العوامل الدينية والنفسية والاجتماعية التي تدفع إلى الصدق وتنزه الراوي عن الكذب وتجعله قمينا بأداء الحديث كما هو، وبذا أصبح ميزانا يعرف حقيقة الرواة بكل دقة وإنصاف وعدالة. 2 - إن المحدثين طبقوا هذا المقياس تطبيقا دقيقا تجلى في مراتب الجرح والتعديل وعبارتها التي تحدد منزلة الراوي من القبول أو الرد تحديدا دقيقا يبين ما يحتج به من التعديل، وما يكتب حديثه وينظر فيه، وما يعتبر به من مراتب الضعف، ثم ما يترك ولا يلتفت إليه. يبينون بذلك واقع الراوي بيانا علميا صادقا. 3 - إن ثمار هذا التطبيق أودعت في تصانيف متنوعة كثيرة، بين العلماء فيها حال كل راو من القبول أوالرد، وما فيه من اختلاف اجتهاد العلماء وتقديرهم. ويجد الباحث في تلك المصادر من المعارف الدقيقة ما يعد بحق آية البحث النقدي في الرواة وفين التاريخ، تجعل الناقد بصيرا بالحقائق الدقيقة في هذا الركن الهام من أصول البحث النقدي.

الفصل الثاني: في العلوم التي تبين شخص الراوي

الفصل الثاني: في العلوم التي تبين شخص الراوي وهي مجموعة من المعارف تحدد شخص الراوي وتبرز هويته، كي يتميز عن غيره فيبحث بعد ذلك عن حالهن ويحكم عليه جراحا أو تعديلا كما قرر الحكماء فقالوا: "الحكم على الشيء فرع عن تصوره". والحاجة إلى تحديد شخص الراوي وتمييزه إما أن تكون من الناحية الزمنية أو من ناحية الاسم وما يتصل به من الكنية أو النسب أو غيرهما، فنقسم هذه المعارف إلى قسمين، ندرسهما في مبحثين: المبحث الأول: في علوم الرواة التاريخية. المبحث الثاني: في علوم أسماء الرواة.

المبحث الأول: في علوم الرواة التاريخية

المبحث الأول: في علوم الرواة التاريخية ويشمل هذا المبحث الأنواع الآتية من علوم الحديث: 1 - تواريخ الرواة 2 طبقات الرواة 3 - التابعون 4 - أتباع التابعين 5 - الأخوة والأخوات 6 - المدبج ورواية الأقران 7 - الأكابر الرواة عن الأصاغر 8 - السابق واللاحق 9 - رواية الآباء عن الأبناء 10 - رواية الأبناء عن الآباء 1 - تواريخ الرواة: التاريخ عند المحدثين هو (¬1): "التعريف بالوقت الذي تضبط به الأحوال في المواليد والوفيات ويلتحق به من الحوادث والوقائع التي ينشأ عنها معان حسنة من تعديل وتجريح ونحو ذلك". ¬

_ (¬1) كما قال السخاوي في فتح المغيث: 459.

وهذا النوع كالأصل بالنسبة للأبحاث التاريخية في رواة الحديث، لأنها مبنية على ما يثبته التاريخ من المواقيت في حياة الراوي. وقد احتل التاريخ عند أهل الحديث مكانة هامة جدا لمعرفة اتصال الأسانيد وانقطاعها، وفي الكشف عن أحوال الرواة وفضح الكذابين. قال سفيان الثوري: "لما استعمل الرواة الكذب استعلمنا لهم التاريخ". وقال حفص بن غياث: "إذا اتهمتم الشيخ فحاسبوه بالسنين". يعني احسبوا سنه وسن من كتب عنه. قال عفير بن معدان الكلاعي: "قدم علينا عمر بن موسى حفص، فاجتمعا إليه في المسجد، فجعل يقول: حدثنا شيخكم الصالح، فلما أكثر قلت له: من شيخنا هذا الصالح؟ سمه لنا نعرفه. قال فقال: خالد بن معدان. قلت له: في أي سنة لقيته؟ قال لقيته سنة ثمان ومائة. قلت فأين لقيته؟ قال لقيته في غزاة أرمينية، قال: فقلت: اتق الله يا شيخ ولا تكذب! مات خالد بن معدان سنة أربع ومائة، وأنت تزعم أنك لقيته بعد موته بأربع سنين! " (¬1). وقال الحاكم: لما قدم علينا محمد بن حاتم الكشي وحدث عن عبد بن حميد سألته عن مولده، فذكر أنه ولد سنة ستين ومائتين. فقلت لأصحابنا: سمع هذا الشيخ من عبد بن حميد بعد موته بثلاث عشرة سنة.! ! وزعم أبو خالدج السقاء في سنة تسع ومائتين أنه سمع أنس بن مالك ورأى عبد الله بن عمرز فقال أبو نعيم "ابن كم يزعم أنه؟ قالوا: ¬

_ (¬1) أسنده في الكفاية: 119، ورواه أيضا عن إسماعيل بن عياش الحمصي.

"ابن خمس وعشرين ومائة سنة" فقال أبو نعيم: "على زعمه مات ابن عمر قبل أن يولد بخمس سنين" (¬1). ولذلك أوجب العلماء على طالب الحديث تقديم الاهتمام بالتاريخ، ومعرفة وفيات الشيوخ لأنه من أهم علوم الحديث. ولا سيما ما يتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم وأكابر أصحابه وأئمة علماء الدين فلا يجوز أن يغفل عنها مسلم فضلا عن طالب العلم، فإن من ارتبط بفكرة تعلق قلبه بداعيتها ورجالها الذين جاهدوا في سبيلها والمسلم أحق بذلك (¬2). ومن أعظم المؤلفات في تاريخ الرواة: 1 - "التاريخ الكبير"، للإمام البخاري. تكلم فيه بإيجاز عن الراوي، وذكر شيوخه وتلامذته، وتعرض أحيانا للجرح والتعديل، وسكت في الأكثر عن بيان ذلك. طبع في ثمانية أجزاء. 2 - "التاريخ"، لابن أبي خيثمة، كتاب كبير، قال فيه ابن الصلاح: "وما أغزر فوائده". 3 - مشاهير علماء الأمصار"، لأبي حاتم محمد بن حبان البستي، تكلم فيه عن كل راو بإيجاز شديد في سطرين أو ثلاثة، وذكر تاريخ وفاته. والكتاب مطبوع في جزأين. ¬

_ (¬1) المغني رقم 7429. (¬2) وقد ذكر الإمام ابن الصلاح ومن تبعه أسماء أعلام من الصحابة وأهل الحديث ووفياتهم، بمناسبة الكلام على تواريخ الرواة اقتصروا فيه على ذكر الأسماء والوفيات فقط. وقد أوردنا لكل منهم ترجمة مفصلة في كتابنا هذا في الأدوار التاريخية لعلم الحديث، ثم في مصادر الحديث الصحيح والحسن بما يكمل ثقافة القارئ في هذا الجانب العلمي الحيوي. وانظر كذلك فصل "تراجم أعيان الحفاظ" في شرح علل الترمذي لابن رجب 162 - 233 وفصل "معرفة مراتب أعيان الثقات الذين تدور عليهم غالب الأحاديث الصحيحة" في شرح العلل أيضا: 472 - 552، فإنهما على غاية الأهمية جديران بالحفظ عن ظهر قلب.

2 - طبقات الرواة: الطبقة في اللغة: القوم المتشابهون في صفة من الصفات. وفي اصطلاح المحدثين: القوم المتعاصرون إذا تشابهوا في السن وفي الإسناد "أي الأخذ عن المشايخ" فهي بمعنى كلمة "جيل" مع ملاحظة الاشتراك في الأساتذة. وربما اكتفوا بالاشتراك في التلقي. وهو غالبا ملازم للاشتراك في السن (¬1). والباحث الناظر في هذا الفن يحتاج إلى معرفة المواليد والوفيات. ومن أخذوا عنه، ومن أخذ عنهم (¬2). ويختلف اعتبار الراوي من أي طبقة هو باختلاف الجهة والأمر الذي نصنفه على أساسه، وعند هذا فرب شخصين يكونان من طبقة واحدة لتشابههما بالنسبة إلى جهة، ومن طبقتين بالنسبة إلى جهة أخرى لا يتشابهان فيها. فأنس بن مالك الأنصاري وغيره من أصاغر الصحابة دون أبي بكر ونحوه من أكابر الصحابة بطبقات، إذا نظرنا إلى تفاوتهم في السبق إلى ¬

_ (¬1) فتح المغيث: 495. (¬2) علوم الحديث: 358.

الإسلام. لكنه يعد معهم من طبقة واحدة هي عموم الصحابة إذا نظرنا إلى اشتراكهم في أصل صفة الصحبة، وعلى هذا فالصحابة بأسرهم طبقة أولى، والتابعون طبقة ثانية، وأتباع التابعين طبقة ثالثة، وأتباع أتباع التابعين طبقة رابعة، وأتباع أتباع أتباع التابعين طبقة خامسة. وهذه الطبقات الخمس هي طبقات الرواة حتى نهاية القرن الثالث، وهو نهاية عصر الرواية. وقد قسمها الحافظ ابن حجر بحسب تقارب رجالها في الإسناد، أو تشابههم في الشيوخ والمعاصرة إلى اثنتي عشرة طبقة، ثم بين الزمن التقريبي لأفراد كل طبقة، في كتابه تقريب التهذيب (¬1). ومعرفة الطبقات لها أهمية كبيرة، إذ يتوصل بها إلى التمييز بين الرواة المتشابهين، والأمن من التداهل بينهم كالمتفقين في الاسم، والكنية، كما يتوصل به إلى الاطلاع على تبيين التدليس، والوقوف على المراد من العنعنة "أي قول الراوي: عن فلان" أهي على سبيل الاتصال، أم الانقطاع. ولأهمية هذا الفن عني به المحدثون وصنفوا فيه الكتب الكثيرة. طبع منها كتابان: أ- "الطبقات الكبرى" للإمام الحافظ محمد بن سعد. وهو كتاب حفيل غزير الفوائد فاق سائر كتب الطبقات شهرة، ومؤلفه حافظ ثقة، غير أنه كثر الرواية فيه عن الضعفاء، منهم محمد بن عمر الواقدي شيخه، ويذكره باسمه واسم أبيه: "محمد بن عمر"، ¬

_ (¬1): 1: 5 - 6.

دون أن ينسبه. ومنهم شيخه هشام بن محمد بن السائب الكلبي، فقد أكثر عنهما في كتابه. ب- "الطبقات" للإمام خليفة بن خياط. وهو كتاب نافع مفيد مختصر جدا، يقع في جزأين، طبع بدمشق. 3 - التابعون: المختار في تعريف التابعي عندنا ما قاله الحاكم (¬1) وهو: "من شافه (¬2) أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي مع كونه مؤمنا. ولهذا العلم فائدة عظيمة فإنه إذا "غفل الإنسان عن هذا العلم لم يفرق بين الصحابة والتابعين، ثم لم يفرق أيا بين التابعين وأتباع التابعين". ¬

_ (¬1) في معرفة علوم الحديث: 42. (¬2) وعبر عنه العراقي في الألفية وشرحها: 4: 52 ن بقوله: "من لقي واحدا من الصحابة فأكثر"، فلم يشترط المشافهة، أي الأخذ عن الصحابي، واخترنا تعريف الحاكم لأنه أوفى بأغراض المحدثين التي منها اتصال السند، فإن من لم يأخذ عن الصحابي لا يكون سنده إلى الصحابي متصلا إلا بالواسطة. أما الصحبة فكتفوا فيها باللقاء لعظمة شرفها وبركة النبي صلى الله عليه وسلم. وإن كان سند من لقي النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه مرسلا من قبيل مراسيل كبار التابعين. انظر مطلع الإصابة، وفتح المغيث: 368.

وجعل الحاكم التابعين خمس عشرة طبقة، ذكر منها ثلاث طبقات فقط، في مقدمتها: الذين لحقوا العشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، مثل قيس بن أبي حازم، سمع العشرة وروى عنهم، وليس في التابعين أحد روى عن العشرة سواه. وآخر طبقات التابعين من لقي أنس بن مالك من أهل البصرة، ومن لقي عبد الله بن أبي أوفى من أهل الكوفة، ومن لقي السائب بن يزيد من أهل المدينة ... وهؤلاء آخر الصحابة موتا رضي الله عنهم. ومن هذه الطبقة الإمام أبو حنيفة على الأصح، لأنه لقي من الصحابة عبد الله بن أنيس، وعبد الله بن جزء الزبيدي، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وعائشة بنت عجرد، وروى عنهم. ويمكن تقسيم التابعين إلى ثلاث طبقات شاعت في كتب العلم، وهي: طبقة كبار التابعين، وهم الذين رووا عن كبار الصحابة، وهؤلاء يقع حديثهم موقع حديث متأخري الصحابة، اكثر ما يوجد عند تابعي. وطبقة متوسطي التابعين، وهم الذين أدركوا هؤلاء الأئمة وأمثالهم ورووا عن الصحابة وعن التابعين. وطبقة صغار التابعين وهم الذين حدثوا عن صغار الصحابة الذين تأخرت وفاتهم فأدركهم في حال صغر سنهم وكبر سن الصحابة الذين كانوا صغارا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1). وأول التابعين موتا أبو زيد معمر بن يزيد، قتل سنة ثلاثين وآخرهم موتا خلف بن خليفة، مات سنة ثمانين ومائة. ومن التابعين: المخضرمون، وهم الذين أدركوا الجاهلية في حياة ¬

_ (¬1) مسألة العلو والنزول لابن طاهر المقدسي: ق 7 آ.

رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلموا، ولا صحبة لهم. وعدهم بعض العلماء من الصحابة. ذكرهم مسلم فبلغ بهم عشرين نفسا، منهم سويد بن غفلة " (80) هـ"، وعمرو بن ميمون الأودي " (74) " وأبوعثمان النهدي عبد الرحمن بن مل وهو من المعمرين توفي سنة " (95) "، جمع منهم البرهان الحلبي في تأليف خاص (¬1) فزاد على خمسين ومائة، وعني الحافظ ابن حجر يإيرادهم في كتابه الاصابة. فضل التابعين: وقد خلف التابعون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في حمل العلم، وقاموا بالدعوة من بعدهم، فكان لهم الفضل من بعدهم وقد ورد الثناء عليهم في القرآن: قال الله عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}. وذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم (¬2) عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم". واختلفوا في أفضل التابعين من الرجال ففضل أهل كل مصر إمامهم من التابعين. واختار كثير من العلماء سعيد بن المسيب. وقيل: أويس القرني. قال العراقي (¬3) إنه "الصحيح بل الصواب ... لما روى مسلم في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب قال ¬

_ (¬1) هو تذكرة الطالب المعلم بمن يقول إنه مخضرم انظر ص 2 - 6 للتوسع في تعريف المخضرم. (¬2) في الفضائل: 7: 185. (¬3) في شرح الألفية: 4: 55.

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن خير التابعين رجل يقال له أويس ... ". وسيدات النساء من التابعين: حفصة بنت سيرين "بعد (100) "، وعمرة بنت عبد الرحمن "قبل (100) "، وأم الدرداء الصغرى " (81) ". وهذه الطبقة لها الفضل في نشر العلم في الأمصار ففي مكة رويت الفتيا في الفقه والحديث عن عطاء بن أبي رباح " (114) " وطاوس بن كيسان " (106) ". وفي المدينة عن جماعة من أكابر التابعين هم "الفقهاء السبعة" من أهل المدينة، وهم: سعيد بن المسيب " (90) "، والقاسم بن محمد " (106) "، وعروة بن الزبير " (94) "، وخارجة بن زيد " (100) "، وأبو سلمة بن عبد الرحمن " (94) "، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة " (94) "، وسليمان بن يسار "بعد المائة". فهؤلاء هم الذين أطلق عليهم: "الفقهاء السبعة" عند الأكثر من علماء الحجاز. وفي الكوفة حمل الناس العلم عن علقمة بن قيس النخعي "توفي بعد سنة (60) "، ومسروق بن الأجدع الهمداني " (62) ". وفي البصرة عن الحسن البصري " (110) " ومحمد بن سيرين " (110) "، وفي الشام عن أبي إدريس الخولاني " (80) " وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي "بعد (80) "، وبمصر عن يزيد بن أبي حبيب " (128) " وبكير بن عبد الله الأشج " (120) " (¬1). أخطاء في هذه الطبقة: وقعت في طبقة التابعين أخطاء نذكر نبذا منها تنبيها لطالب العلم: ¬

_ (¬1) المختصر في علم رجال الأثر لأستاذنا الشيخ عبد الوهاب عبد اللطيف: 41.

آ- قال الحاكم (¬1): "طبقة تعد في التابعين ولم يصح سماع أحمد منهم من الصحابة، منهم إبراهيم بن سويد النخعي، وبكير بن أبي السميط، وثابت بن عجلان". ب- وقال أيضا: "طبقة عدادهم عند الناس في اتباع التابعين وقد لقوا الصحابة. منهم: أبو الزناد عبد الله بن ذكوان، لقي أنس بن مالك وأبا أمامة بن سهل. وهشام بن عروة وقد أدخل على عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله". جـ- قال ابن الصلاح: "قوم عدوا من التابعين وهم من الصحابة، ومن أعجب ذلك عد الحاكم أبي عبد الله: النعمان وسويدا ابني مقرن المزني من التابعين، (¬2) وهما صحابيان معروفان مذكوران في الصحابة (¬3) ". 4 - أتباع التابعين: ويمكن استخراج تعريفهم مما سبق فيقال: "تابع التابعي هو من شافه التابعي مؤمنا بالنبي صلى الله عليه وسلم" (¬4). ¬

_ (¬1) في المعرفة: 45، وذكر أسماء أخرى خطأه فيها العراقي في النكت: 284 - 285. (¬2) في نوع الأخوة والأخوات: 154. وانظر علوم الحديث: 276. (¬3) انظر ترجمتيهما في الاستيعاب: 2: 112 و 3: 516. وأسد الغابة: 2: 381 و: 5: 30، والإصابة: 2: 99، و: 3: 535. (¬4) هذا النوع ذكره الحاكم في المعرفة: ص 46 - 48، لكنه لم يعرفه،

قال الحاكم في أهمية هذا النوع وضرب الأمثلة له: "فإن غلط من لا يعرفهم يعظم أن يعدهم من الطبقة الرابعة، أو لا يميز فيجعل بعضهم من التابعين ... وقد ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فهذه صفة اتباع التابعين إذ جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم خير الناس بعد الصحابة والتابعين المنتخبين، وهم الطبقة الثالثة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهم جماعة من أئمة المسلمين، وفقهاء الأمصار، مثل مالك بن أنس الأصبحي، وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، وسفيان بن سعيد الثوري وشعبة بن الحجاج العتكي، وابن جريج. ثم فيهم أيضا جماعة من تلامذة هؤلاء الذين ذكرناهم، مثل: يحيى بن سعيد القطان وقد أدرك أصحاب أنس، وعبد الله بن لمبارك، وقد أدرك جماعة من التابعين، ومحمد بن الحسن الشيباني ممن روى الموطأ عن مالك، وقد أدرك جماعة من التابعين". ومن مصادر معرفة رجال التابعين وتابعيهم الكتب المصنفة على الطبقات، مثل: طبقات ابن سعد، وطبقات خليفة بن خياط، والثقات للذهبي، وتذكرة الحفاظ للذهبي أيضا.

5 - الإخوة والأخوات: وهو علم عزيز من معارف أهل الحديث المفردة بالتصنيف. ومن فائدته فيما نرى أنه قد يشتهر أحد الأخوة بالرواية فلا يظن الباحث إذا وجد الرواية عن بعض إخوته أنها وهم. فمن أمثلة الأخوين من الصحابة: عبد الله بن مسعود، وعتبة بن مسعود، هما أخوان. زيد بن ثابت ويزيد بن ثابت، أخوان. ومن التابعين: عمرو بن شرحبيل أبو ميسرة، وأخوه أرقمن كلاهما من أصحاب ابن مسعود. ثلاثة إخوة: علي، وعقيل، وجعفر، بنو أبي طالب، إخوة ثلاثة من الصحابة ومن أهل البيت (¬1). سهل وعباد وعثمان بنو حنيف إخوة ثلاثة من الصحابة، عمرو بن شعيب، وعمر، وشعيبن بنو شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو إخوة ثلاثة من التابعين. وأكثر ما ذكروا من الأخوة تسعة، على ما أفاد السيوطي. وقد صنف في هذا النوع جماعة من الحفاظ، منهم: علي بن المديني، ومسلم وأبو داود والنسائي، وغيرهم. ¬

_ (¬1) تسمية الأخوة الذين روي عنهم لأبي السجستاني ق 216 آ.

6 - المدبح ورواية الأقران بعضهم عن بعض: الأقران هم الرواة المتقاربون في السن والإسناد، واكتفى بعضهم بالتقارب في الإسناد فقط. وقد ذكروا قسمين لرواية القرين عن القرين: الأول: المدبج، وهو أن يروي القرينان كل واحد منهما عن الآخر، مثل: أبي هريرة وعائشة، روى كل منهما عن الآخر، والزهري وعمر بن عبد العزيز، ومالك والأوزاعي. القسم الثاني: غير المدبج، وهو أن يروي أحد القرينين عن الآخر ولا يروي الآخر عنه، مثاله رواية سليمان التيمي عن مسعر، وهما قرينان، ولا نعلم لمسعر رواية عن التيمي. ومن فائدة هذا النوع ألا يتوهم الناظر أن ذكر أحد المتقارنين وقع في السند خطأ، وألا يفهم أن "عن" خطأ، وأن صوابها واو العطف التي تدل على أنهما اشتركا في رواية الحديث عن الراوي الذي ذكر في الإسناد قبلهما. وقد صنف الدارقطني في المدبج كتابا، وهو أول من سماه به، وصنف الحافظ أبو الشيخ في رواية الأقران.

7 - الأكابر الرواة عن الأصاغر: قد يروي الكبير القدر أو السن، أو الكبير فيهما معا عمن دونه، كما قيل: "لا ينبل الرجل حتى يأخذ عمن هو فوقه، وعمن هو مثله، وعمن هو دونه". ومن الفائدة فيه ألا يتوهم انقلاب السند، أو يتوهم أن الراوي دون المروي عنه، نظرا إلى ان الأغلب كون المروي عنه أكبر من الراوي، وقد روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم" (¬1). وقد ذكروا مما يندرد تحت هذا النوع رواية الصحابي عن التابعي، كرواية العبادلة وغيرهم من الصحابة عن كعب الأحبار بعض ما كان يحدث به من أخبار السابقين. وهذا قد استند إليه بعض الملاحدة فزعم -تبعا للمستشرقين- أن الصحابة سمعوا من كعب الأحبار أشياء ونسبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه دعوى فاجرة، قامت على تحريف كلام العلماء، فإن العلماء لم يقولوا أبدا إن الصحابة نسبوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا وقع ذلك من الصحابة، وإنما نبهوا إلى هذا النزول في السند دفعا للتوهم. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في الأدب: 4: 261، وأعله بالانقطاع، وتساهل الحاكم فحكم بصحة الحديث، في المعرفة، وتابعه على ذلك ابن الصلاح وابن كثير، ونبه الحافظ العراقي على ضعف الحديث في نكته: 425 طبع حلب

ومن ذلك قولهم في عبد الله عمرو "أصاب زاملتين من كتب أهل الكتاب، وكان يرويها للناس عن النبي". ونسب الطاعن ذلك إلى فتح الباري 1: (166). وهذا خيانة وخداع، حيث دس الطاعن في كلام الحافظ كلمة ليست فيه، وهي "عن النبي" فزادها كذبا، ونسبها للحافظ ابن حجر بهتانا ... ! ! (¬1). ومن رواية الأكابر عن الأصاغر نوع طريف هو رواية صحابي عن تابعي عن صحابي، وإن كان نادرا (¬2) مثل حديث السائب بن يزيد الصحابي عن عبد الرحمن بن عبد القاري التابعي عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل". رواه مسلم في صحيحه (¬3). ومنه أيضا رواية التابعي عن تابع التباعي، كرواية الزهري ويحيى ابن سعيد الأنصاري عن مالك. ومن مقاصد الأئمة في الرواية عمن دونهم التنويه بذكرهم، ولفت الناس للأخذ عنهم (¬4). ¬

_ (¬1) انظر في الموضوع دراسة قيمة لفضيلة أستاذنا الشيخ محمد السماحي في قسم التاريخ: 2209 - 257. (¬2) وقد جمع الحافظ العراقي من هذا نحو عشرين حديثا في شحر الألفية. وانظر توضيح الأفكار والتعليق عليه لفضيلة أستأذنا الشيخ محمد محي الدين عبد الحميد: 2: 474. (¬3) ج 1: ص 208. وقارن بالباحث الحثيث: 196. (¬4) فتح المغيث: 405.

8 - السابق واللاحق: وهو أن يشترك في الرواية عن الراوي راويان: أحدهما متقدم الوفاة، والآخر متأخر في الوفاة، بينهما أمد بعيد. ومن فوائد ذلك تقرير حلاوة الإسناد في القلوب، ورفع توهم الخطأ في الإسناد. وهذا إنما يقع عند رواية الأكابر عن الأصاغر ثم بعد زمن يسمع من المروي عنه الصغير راو متأخر. ومن أمثلته أن الزهري روى عن تلميذه الإمام مالك بن أنس، وقد توفي الزهري سنة 124. وممن روى عن مالك أحمد بن إسماعيل السهمي، وهو من أهل الصدق، مات سنة 259. فبين وفاتي الزهري والسهمي خمس وثلاثون ومائة سنة "135". وقد صنف الخطيب البغدادي في ذلك كتابا اسماه "السابق واللاحق".

9 - رواية الآباء عن الأبناء: وفائدة هذا النوع أمن الخطأ الذي ينشأ عن توهم الابن أبا، أو توهم انقلاب السند. ومن أمثلته في الصحابة أن العباس بن عبد المطلب روى عن ابنه الفضل بن عباس رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين بالمزدلفة" (¬1). وفي التابعين رواية وائل عن ابنه بكر بن وائل ثمانية أحاديث، منها وائل عن بكر عن الزهري عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم أولم على صفية بسويق وتمر" (¬2). ومن بعدهم رواية أبي عمر حفص بن عمر الدوري المقرئ عن ابنه أبي جعفر محمد بن حفص ستة عشر حديثا، أو نحو ذلك. وهذا أكثر ما روينا لأب عن ابنه. وقد صنف الخطيب البغدادي في هذا النوع كتابا قيما، نقل م نه المؤلفون أمثلة كثيرة. ¬

_ (¬1) الحديث رواه هكذا الخطيب في كتابه "رواية الآباء عن الأبناء" وأصله في الصحيحين وغيرهما. (¬2) أبو داود في الأطعمة" استحباب الوليمة عند النكاح": 3: 34. وقارن بالترمذي في النكاح: 3: 403. وابن ماجه: 615.

10 - رواية الأبناء عن الآباء: رواية الأبناء عن الآباء قسمان: أولهما: رواية الابن عن أبيه فقط، وذلك كثير جدا. ومن الأمثلة المشهورة لذلك رواية أبي العشراء عن أبيه سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة ... (¬1). أبو العشراء لم يأت في الأسانيد إلا مكنيا، ووالده لم يسم في شيء من طرق الحديث، والأشهر أن أبا العشراء هو أسامة بن مالك ابن قهطم، بكسر القاف. الثاني: رواية الابن عن أبيه عن جده، وهي كثيرة أيضا، لكن دون كثرة الأول. ورواية الرجل عن أبيه عن جده مما يفخر به بحق، ويغبط عليه الراوي، يقول أبو القاسم منصور بن محمد العلوي: "الإسناد بعضه عوال وبعضه معال، وقول الرجل: حدثني أبي عن جدي من المعالي". أي المكارم التي يعتز بها. وهذا أربعة أسانيد مشتهرة من هذا القسم (¬2): ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي في الذبائح: 4: 75. والذكاة: الذبح الشرعي. (¬2) ذكرها النووي في "المبهمات في علم الحديث". ق 35 ب-36 من المخطوط بحلب: والعراقي في المستفاد: ق 98 واستوفى هذا القسم القطب القسطلاني في المبهمات: ق 3 ب -11.

1 - عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص عن أبيه عن جدهز يروى بهذا السند نسخة كبيرة حسنة الحديث، أكثرها فقهيات جياد في المسند للإمام أحمد بن حنبل وفي السنن الأربعة. وهذه السلسلة قد اشتجر فيها الخلاف بين المحدثين، وطعن فيها بعضهم بعدم الاتصال. والمختار الذي جرى عليه أكثر المحدثين هو الاحتجاج بعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إذا صح السند إليه، قال البخاري: "رأيت أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وأبا عبيد، وعامة أصحابنا يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ما تركه أحد من المسلمين. قال البخاري: من الناس بعدهم! ! " (¬1). 2 - بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه عن جده. روي بهذا السند نسخة كبيرة حسنة في مسند الإمام أحمد، وبعض حديثه في السنن الأربعة، وروى له البخاري معلقا لأنه ليس على شرطه. 3 - طلحة بن مصرف بن عمرو بن كعب اليامي عن أبيه عن جده، وطلحة ثقة فاضل، وجده عمرو بن كعب يقال فيه: كعب بن عمرون وهو صحابي عند الجمهور، لكن أباه مصرفا مجهول، روى له أبو داود. 4 - كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عبد الله عن جده عمرو. روى له الترمذي خمسة أحاديث حكم لها بالحسن ¬

_ (¬1) انظر تفصيل البحث فيه في الميزان، والتهذيب، وكتابنا هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات الخاصة: 117 - 118.

لتعضدها بالرواية من طرق أخرى، لكن كثيرا ضعفه الأكثرون، ومنهم من تركه ورماه، ومشاه الباقون (¬1). ورواية الأبناء عن آبائهم مما يحتاج لمعرفته، فإن المشاهد في الكثير من الأحيان أن لا يذكر اسم الأب أو الجد في السند، ويخشى أن يخفى على الناظر فيه. وفي بعضها ما يحتاج إلى التبيه على حقيقته: كما في نسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، فإن الضمير في جده يرجع إلى أبيه شعيب، أي أن السلسلة هكذا عمرو بن شعيب عن أبيه شعيب عن جده أي جد شعيب وهو عبد الله بن عمرو، وقد قيل إن شعيبا لم يسمع من جده، لكن التحقيق أنه سمع منه، وإن هذا السند حجة. وكرواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، فإنه لم يسمع أباه (¬2). وقد صنف العلماء في هذا النوع لتحقيق مثل هذا الغرض كتبا كثيرة، كابن أبي خيثمة، وأبي نصر الوائلي السجزي، ثم الحافظ العلائين وكتابه أجمع مصنف في ذلك. نقل عنه العلماء أشياء كثيرة. ¬

_ (¬1) طعن بعض المحدثين على الترمذي لتحسينه أحاديث كثير بن عبد الله. وقد أزلنا الشبهة في كتابنا الإمام الترمذي في فصل المكانة العلمية لعلم الترمذي في صناعة الحديث. (¬2) نبه على ذلك الترمذي في "زكاة البقر": 3: 21. وانظر أطروحتنا: 108. وقد عني الحافظ أبو موسى المديني في كتابه "اللطائف من علوم الحفاظ الأعارف" بالأسانيد المنقطع من رواية الأبناء عن الآباء، واستقصى هذا النوع فصل خاص فجمع نحوا من مائة إسناد، معظمها لم يذكر في كتب المراسيل. والكتاب مخطوط في الظاهرية، انظر ورقة 78 إلى آخره.

المبحث الثاني: في علوم أسماء الرواة

المبحث الثاني: في علوم أسماء الرواة ويشمل هذا المبحث الأنواع الآتية من علوم الحديث: 1 - المبهمات 2 - معرفة من ذكر بأسماء متعددة 3 - الأسماء والكنى 4 - الألقاب 5 - المنسوبون إلى غير آبائهم 6 - النسب التي على خلاف ظاهرها 7 - المالي من الرواة والعلماء 8 - أوطان الرواة وبلدانهم 9 - الأسماء المفردة والكنى 10 - المتفق والمفترق 11 - المؤتلف والمختلف 12 - المتشابه "يتركب من النوعين قبله" وسنتكلم عنها بإيجاز واحدا فواحدا.

1 - المبهمات: أي معرفة اسم من أغفل ذكر اسمه في الحديث من الرجال والنساء. ويعرف ذلك بوروده مسمى في بعض الروايات، وبتنصيص أهل السير على كثير منهم، وبغير ذلك، وكثير منهم لم يوقف على أسمائهم. وقد قسمه ابن الصلاح أقساما بحسب نوع الإبهام، ذكر منها: 1 - ما قيل فيه "رجل" أو"امرأة"، وهو من أبهمها. 2 - ما أبهم بأن قيل "ابن أو ابنة فلان" أو"ابن الفلاني". 3 - عم فلان أو عمته. 4 - زوج فلانة، أو زوجة فلان (¬1). 5 - وأرى أن نقسم الإبهام بحسب موضعه إلى قسمين: 1 - الإبهام في السند. 2 - الإبهام في المتن. ¬

_ (¬1) لا خلاف بين المحدثين في تسمية هذه الأقسام بالمبهم، وكتبهم في المبهمات ناطقة بذلك، فليحرر قول بعض الكاتبين: "أن الحافظ ابن حجر يفرق بين المجهول عينا وبين المبهم من حيث الاصطلاح ... أما غير ابن حجر فقد اعتبر مجهول العين المبهم لم يسم، ومن سمي وانفرد راو واحد بالرواية عنه". ففي النفس منه شيء.

قال ابن كثير: "وأهم ما فيه ما رفع إبهاما في إسناد، كما إذا ورد في سند: عن فلان بن فلان، أو عن أبيه، أو عن عمه، أو أمه، فوردت تسمية هذا المبهم من طريق أخرى، فإذا هو ثقة أو ضعيف أو ممن ينظر في أمره، فهذا أنفع ما في هذا". ومن فوائد رفع الإبهام في المتن (¬1): تعيين من نسبت إليه فضيلة أو ضدها، أو أن يكون الحديث واردا بسببه وقد عارضه حديث آخر، فيعرف التاريخ إن عرف زمن إسلامه، فيتبين الناسخ من المنسوخ. وهذه أمثلة حيوية لهذا النوع: روى أبو داود (¬2) قال: حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن منصور عن ربعي بن حراش عن امرأته عن أخت لحذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر النساء، أما لكن في الفضة ما تحلين به، أما إنه ليس منكن امرأة تحلى ذهبا تظهره إلا عذبت به". أخت حذيفة بن اليمان اسمها فاطمة، وقيل خولة. وامرأة ربعي لم تعرفز مما يضعف الحديث (¬3). وأخرج الخطيب البغدادي في كتاب الرحلة بسنده: عن معن بن عيسى حدثنا معاوية بن صالح عن ربيعة بن يزيد قال: سمعت ابن الديلمي يقول: بلغني حديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص فركبت إليه إلى الطائف أسأله عنه ... ". ¬

_ (¬1) انظرها مفصلة في كتاب المستفاد، ق 1 - 2 آ. والتدريب: 500 نقلا عنه. (¬2) في كتاب الخاتم "الذهب للنساء" وأخرجه النسائي أيضا. (¬3) المستفاد: ق 38 آ. وانظر تحقيق البحث في هذا الحديث وأحاديث تحلي النساء بالذهب في كتاب "ماذا عن المرأة؟ " للمؤلف: 89 - 100 و 186 - 200.

ابن الديلمي هذا هو عبد الله بن فيروز، وهو ثقة (¬1). ونسوق إليك هذا المثال استقصيناه من مراجع هذا الفن الخاصة. وهو حديث ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أختي حلفت أن تمشي إلى البيت ... " الرجل: عقبة بن عامر الجهني (¬2) ". أخرج الشيخان (¬3) عن عقبة قال: نذرت أختى أن تمشي إلى بيت الله حافية، فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لتمش ولتركب". وأخت عقبة من المبهم أيضا، فقال العراقي وقطب الدين القسطلاني (¬4): "هي أم حبان بنت عامر". وهذا وهم منه، تعقبه الحافظ أبو ذر الحلبي (¬5) ثم قال: "إنما هي أم حبال ... ". وللعلماء مصنفات كثيرة في هذا النوع، كالحافظ عبد الغني بن سعيد المصري، والخطيب البغدادي، وأحسن ما صنف في هذا النوع كتاب "المستفاد من مبهمات المتن والإسناد" للحافظ ولي الدين أحمد العراقي " (826) ". ¬

_ (¬1) الرحلة: 136 - 137. وتسمية عبد الله بن الديلمي وردت في المسند من طريق آخر برقم 6644 والمستدرك: 1: 30 - 31، وقال صحيح، وقال الذهبي: "صحيح على شرطهما ولا علة له". وانظر التعليق على المستند: 10: 167 - 171. (¬2) المبهمات للنووي ق 21 آ. (¬3) البخاري آخر الحج: 3: 20. ومسلم في النذر: 5: 79. (¬4) المستفاد: ق 38 ب. والمبهمات ق 15. (¬5) في توضيح مبهمات الجامع الصحيح ق 49 آ، لكن قال ابن حجر في الفتح: 4: 75: "لم يعرف اسم أخت عقبة بن عامر الجهني". وانظر مدي الساري: 2: 25.

2 - من ذكر بأسماء مختلفة أو نعوت متعددة: هذا فن عويص، والحاجة إليه حاقة. ومن فوائده: الأمن من جعل الواحد اثنين، والتحرز من توثيق الضعيف وتضعيف الثقة، وفيه إظهار تدليس المدلسين، فإن أكثر ذلك إنما نشأ من تدليسهم، يغربون به على الناس. فيذكرون الرجل باسم ليس هو مشهورا به، أو يكنونه ليبهموه على من لا يعرف. مثاله (¬1): محمد بن السائب الكلبي صاحب التفسير، هو أبو النضر الذي روى عنه محمد بن إسحاق بن يسار حديث تميم الداري وعدي بن بدَّاء في قصتها التي نزل فيها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الآية في الوصية في السفر (¬2). وهو حماد بن السائب الذي روى عنه أبو أسامة حديث "ذكاة كل مسك دباغه" (¬3). وقد وهم فيه حمزة بن محمد ووثقه، حيث لم يعرف أنه الكلبي المتروك. وهو أبو سعيد الذي يروي عنه عطية العوفي ¬

_ (¬1) بإيجاز عن موضع أوهام الجمع والتفريق: 2: 354 - 359. (¬2) أخرجه الترمذي في تفسير سورة المائدة: 2: 131 وأصل الحديث من غير طريق محمد بن السائب عند البخاري آخر الوصايا ج 4 ص 12 وأبي داود في الأقضية: 3: 307. (¬3) أخرجه الحاكم في المستدرك "كتاب الأطعمة" وقال: صحيح، ووافقه الذهبي: 4: 124. فلعل الحكم بالصحة لأصل المتن. أما هذا السند فليس بصحيح.

التفسير يدلس به، موهما أنه أبو سعيد الخدري. وهو أبو هشام الذي روى عنه القاسم بن الوليد الهمداني. وقد صنف في هذا النوع الحافظ عبد الغني بن سعيد الأزدي كتابا نافعا سماه "إيضاح الإشكال". وصنف فيه الخطيب البغدادي كتابا كبيرا قيما سماه "موضح أوهام الجمع والتفريق". تناول فيه بالتفصيل كل راو من هذا النوع، وما وقع فيه من الأوهام بسبب ذلك. 3 - الأسماء والكنى: المراد بهذا بيان أسماء ذوي الكنى، وكنى المعروفين بالأسماء. وفائدته تسهيل معرفة اسم الراوي المشهور بكنيته، ليكشف عن حاله، والاحتراز عن ذكر الراوي مرة باسمه ومرة بكنيته فيظنهما من لم يتنبه لذلك رجلين، أو ربما ذكر بهما معا فيتوهم رجلين سقط بينهما حرف "عن" أو غيره. ومن أمثلة الوهم في ذلك: ما روي عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن أبي الوليد عن جابر مرفوعا: "من صلى خلف الإمام، فإن قراءته له قراءة". وهذا وهم، عبد الله بن شداد هو أبو الوليد (¬1). ¬

_ (¬1) شرح الألفية: 4: 79، والتدريب ص 45 وفيه تصحيف.

وعكس ذلك وقع للنسائي حيث قال: عن أبي أسامة حماد بن السائب، والصواب عن أبي أسامة عن حماد (¬1). وهذا فن مطلوب لم يزل أهل العلم بالحديث يعنون به، ويتحفظونه ويتطارحونه فيما بينهم، ويتنقصون من جهله. وقد ابتكر ابن الصلاح فيه تقسيما حسنا بلغ فيه العشرة، نكتفي منها بهذه الخمسة: القسم الأول: من ليس له اسم سوى الكنية، مثاله: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي (¬2) عده بعضهم من فقهاء المدينة السبعة. وأبو بلال الأشعري الراوي عن شريك وغيره، روي عنه أنه قال: ليس لي اسم، اسمي وكنيتي واحد. ومن أمثلته: أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، يقال: اسمه أبو بكر وكنيته أبو محمد، فكأن لكنيته كنية، وهذا طريف عجيب. القسم الثاني: من لا يعرف بغير كنيته. ولم يعرف اسمه، كما أنه لم يعرف هل كنيته هي اسمه أم له اسم غيرها: مثاله من الصحابة: أو أناس، وأبو مويهبة. ومن غير الصحابة: أبو الأبيض الراوي عن أنس بن مالك، أو حرب بن أبي الأسود الدبلي، أو حريز الموقفي، روى عنه ابن وهب. القسم الثالث: من له كنيتان أو أكثر: كابن جريج كان يكنى ¬

_ (¬1) موضح الأوهام: 2: 358 وانظر المرجعين السابقين. (¬2) لكن قال الذهبي في المقتنى: ق 12 آ "يكنى أبا عبد الرحمن". وقال مسلم في الكنى والأسماء ق: 47 ب: "يقال اسمه أبو بكر وكنيته أبو عبد الرحمن". فلم يجزم به.

بأبي خالد وبأبي الوليد. وكان عبد الله العمري يكنى بأبي القاسم فتركها واكتنى بأبي عبد الرحمن. القسم الرابع: من عرفت كنيته واختلف في اسمه: مثاله من الصحابة: أبو هريرة رضي الله عنه اختلف في اسمه واسم أبيه اختلافا كثيرا جدا، وذكر ابن عبد البر (¬1) أن فيه ن حو عشرين قولا في اسمه واسم أبيه، واختار ابن إسحاق أنه عبد الرحمن بن صخر، وصحح ذلك أبو أحمد الحاكم. وجزم به الذهبي في المقتنى (¬2). ومن غير الصحابة: أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، أكثرهم على أن اسمه عامر، وعن ابن معين أن اسمه الحارث. القسم الخامس: من اشتهر بالامس دون الكنية: فممن يكنى بأبي محمد من هذا القسم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين: طلحة بن عبيد الله التيمي، عبد الرحمن بن عوف الزهري، الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي، ثابت بن قيس بن الشماس، عبد الله بن زيد صاحب الأذان، كعب بن عجزة، عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، عبد الله بن عمرو بن العاص، .... الخ. وهذا القسم جعله ابن الصلاح نوعا منفردا، لكنا أدرجناه في هذا النوع لأن ابن الصلاح نفسه قال: "يصلح لأن يجعل قسما من أقسام ذاك ... ". ويشهد لنا في ذلك أن الدولابي في كتابه "الكنى والأسماء" قد تعرض لبيان كنى المعروفين بالأسماء من الصحابة رضي الله عنهم (¬3). "وقد جمع الحفاظ كتبا كثيرة، ومن أجلها وأطولها كتاب ¬

_ (¬1) الاستيعاب والإصابة: 4: 200. (¬2) ق 76 - ب. (¬3): 1: 63 - 94.

النسائي، ثم جاء بعده أبو أحمد الحاكم -محمد بن محمد " (378) "- فزاد وأفاد، وحرر وأجاد، -قال الذهبي- فرتبته واختصرته وزدته وسهلته" (¬1). ومن الكتب القيمة في هذا الفن كتاب "الكنى والأسماء"، لأبي بشر الدولابي محمد بن أحمد " (310) "، وهو كتاب نفيس في مجلد. 4 - ألقاب المحدثين: اللقب هو ما يطلق على الإنسان مما يشعر بمدح أو ذم. وهو نوع هام، فإن في الرواة جماعة لا يعرفون إلا بألقابهم، ومن لا يعرفهم يوشك أن يظنها أسامي، وأن يجعل من ذكر اسمه في موضع وبلقبه في موضع آخر شخصين، كما اتفق لكثير ممن ألف. ومنهم ابن المديني، فرقوا بين عبد الله بن أبي صالح وبين عباد بن أبي صالح. وإنما عباد لقب لعبد الله، لأ أخل له، باتفاق الأئمة (¬2). قال الحاكم (¬3): "وفي الصحابة جماعة يعرفون بألقاب يطول ¬

_ (¬1) اللفظ للذهبي في ديباجة المقتنى في الكنى، بتصرف يسير. (¬2) تدريب الراوي: 458. (¬3) في المعرفة: 211.

ذكرهم، فمنهم ذو اليدين، وذو الشمالين، وذو الغرة، وذو الأصابع، وغيرهم. وهذه كلها ألقاب، ثم بعد الصحابة في التابعين وأتباعهم من أئمة المسلمين جماعة ذوو ألقاب يعرفون بها". ونسوق لك فيما يلي أمثلة لطيفة من ألقاب المحدثين: 1، 2 - قال الحافظ عبد الغني بن سعيد المصري: "رجلان جليلان لزمهما لقبان قبيحان: معاوية بن عبد الكريم الضال، إنما ضل في طريق مكة، وعبد الله بن محمد الضعيف، إنما كان ضعيفا في جسمه لا في حديثه". 3 - غندر: لقب محمد بن جعفر البصري أبي بكر، وسببه أنه أكثر على ابن جريج من الشغب، فقال له: اسكت يا غندر. والغندر هو المشغب عند الحجازيين. ثم كان بعده جماعة لقبوا بذلك. 4 - بندار: لقب محمد بن بشار البصري شيخ البخاري ومسلم، وروى عنه الناس، لقب بهذا لأنه كان بندار الحديث أي مكثرا منه. 5 - مطين: لقب أبي جعفر الحضرمي، قال: كنت ألعب مع الصبيان وقد تطينت، إذ مر بنا أبو نعيم الفضل بن دكين، فقال: "يا مطين، يا مطين، قد آن أن تحضر المجلس لسماع الحديث". فلما حملت إليه بعد ذلك بأيام فإذا هو قد مات. وتنقسم الألقاب إلى ما يجوز إطلاقه، وهو مالا يكرهه الملقب. وإلى ما لا يجوز، وهو ما يكرهه الملقب. وإذا ذكر المحدثون لقبا مكروها إلى صاحبه، فإنما يذكرونه على سبيل التعريف للشخص والتمييز عن غيره، لا على وجه الذم واللمز والتنابز (¬1) كالأعمش، والأعرج. ¬

_ (¬1) اختصار علوم الحديث: 220.

وقد صنف في الألقاب غير واحد، منهم: أبو الفضل بن الفلكي الحافظ. وأفضل تأليف هو تأليف شيخ الإسلام أبي الفضل ابن حجر العسقلاني (¬1). 5 - المنسوبون إلى غير آبائهم: معرفة الأب الذي ينتسب إليه الراوي ضرورية لتمييزه عن غيره، إلا أن بعض الرواة قد ينسب إلى غير أبيه، فالحاجة لمعرفة هؤلاء حاقة، وتسمية آبائهم هامة جدا لدفع توهم التعدد عند نسبتهم إلى آبائهم. وهذا النوع بالنسبة لمن ينسب إليهم الرواة على ضروب: الأول: من نسب إلى أمه: كمعاذ ومعوِّذ ابني عفراء، وهما اللذان أثبتا أبا جهل يوم بدر، أبوهم الحارث بن رفاعة الأنصاري، ومثل: ابن أم مكتوم الأعمى المؤذن، وكان يؤم الناس أحيانا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غيبته، قيل: اسمه عبد الله بن زائدة، وقيل: عمرو بن قيس. ومن التابعين فمن بعدهم: محمد ابن الحنفية واسمها خولة، وأبوه علي بن أبي طالب. إسماعيل ابن علية الحافظ، هي أمه وأبوه إبراهيم، وكان يكره النسبة إلى أمه. ¬

_ (¬1) التدريب: 458 - 459.

الثاني: من نسب إلى جدته، مثل بشير ابن الخصاصية، أبوه معبد، والخصاصية أم جده الثالث، وابن تيمية، هي أم أحد أجداده الأبعدين. الثالث: من نسب إلى جده، كأبي عبيدة ابن الجراح أحد العشرة المبشرين بالجنة، وهو عامر بن عبد الله بن الجراح. ومن غير الصحابة: ابن جريج الإمام الحافظ المحدث، هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج. وأحمد ابن حنبل الإمام المبجل، هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني. الرابع: من نسب إلى رجل غير أبيه هو منه بسبب، كالمقداد ابن الأسود الصحابي، هو المقداد بن عمرو الكندي، كان في حجر الأسود بن عبد يغوث الزهري زوج أمه، فتبناه فنسب إليه. 6 - النسب التي على خلاف ظاهرها: معرفة أنساب الرواة هامة ومفيدة لتمييز الراوي عن غيره، ومن لم يتنبه لهذا وقع في الخطأ، مثل ما وقع لابن حزم حيث ضعف حديث: "لا يمس القرآن إلا طاهر" لأن في سنده سليمان بن داود، وهو متفق على تركه. وهو وهم فإن المتفق على ترك حديثه سليمان بن

داود اليماني، وهذا الحديث من رواية سليمان بن داود الخولاني وهو ثقة (¬1). لكن الراوي قد ينسب إلى غير قبيلته أو غير بلدته أو صنعته. ولا يكون هذا النسب مرادا حقيقة، بل نسب إليه لسبب عارض كنزوله في ذلك المكان، أو تلك القبيلة ونحو ذلك مما ينبغي التنبه له، حتى لا يقع الباحث في الوهم. ومن أمثلة ذلك: سليمان بن طرخان التيمي، لم يكن من تيم، وإنما نزل فيهم فنسب إليهم، وقد كان من موالي بني مرة. أبو خالد الدالاني، دالان بطن من همدان، نزل فيهم أيضا، وإنما كان من موالي بني أسد. مقسم مولى ابن عباس، هو مولى عبد الله بن الحارث، لزم ابن عباس، فقيل له: مولى ابن عباس. خالد الحذاء، لم يكن حذاء، ووصف بذلك لجلوسه في الحذائين. وقد صنف العلماء في الأنساب كتبا جمة، أكثرها نفعا كتاب "الأنساب" للسمعاني، لخصه ابن الأثير في كتاب قيم سماه "اللباب في الأنساب". ¬

_ (¬1) سبل السلام: 1: 70 وانظر نيل الأوطار: 7: 20. وفي الحديث بحث من غير هذا الجانب، استوفيناه في دراسات تطبيقية ص 99 - 102 وانظر التلخيص الحبير ص 336 - 337 ونصب الراية ج 1 ص 196 - 199.

7 - الموالي من الرواة والعلماء: الأصل في نسبة الراوي إلى قبيلة أن يكون منهم صليبة، كقولهم: قرشي أي من أولاد قريش، وإذا نسبوا إليها من ينتمي إليها بالولاء أضافوا كلمة مولى، فقالوا: مولى قريش، أو القرشي مولاهم. والولاء أقسام (¬1) منها: ولاء العتاقة، وولاء الإسلام، وولاء الموالاة أي الحلف. إلا أن المولى ربما نسب إلى القبيلة دون التنبيه الذي ذكرناه، فيعتقد المرء أنه منهم صليبة، لذلك عني العلماء بمعرفة الموالي حتى لا يختلط من ينسب إلى القبيلة بالولاء مع من ينسب إليها من صلبها، وليتميز عن سميه المنسوب إليها صليبة. ومن الأمثلة على ذلك: أبو البختري الطائي: سعيد بن فيروز التابعي، هو مولى طيء لأن سيده كان من طيء فأعتقه. عبد الرحمن بن هرمز الأعرج الهاشمي، هو مولى بني هاشم بالعتاقة. الإمام محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي، مولى الجعفيين لإسلام جده الأعلى على يد بعض الجعفيين. ¬

_ (¬1) استوفاها فضيلة شيخنا الجليل محمد السماحي في قسم الرواة: 207 - 209.

الإمام مالك بن أنس الأصبحي التيمي، هو أصبحي صليبة، وتيمي بولاء الحلف، لأن جده مالك بن أبي عامر كان حليفا لبني تيم. والبحث في الموالي يقدم إلينا صورة مشرقة عن أثر الإسلام في إنهاض الشعوب ومحو الفروق بين الطبقات، إذ رفع من شأنهم مع أن أعراف سائر الأمم تعتبر أمثالهم طبقة دنيا لا يسمح لها أن تطمع بمساواة ساداتها، فضلا عن أن تطمح إلى المعالي والسيادة. لكن ديننا الإسلامي جعل سيادة الفرد وكرامته ما يتحلى به من الفضائل والخير، كما قرر القرآن: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}. وهذه قصة قصيرة يرويها لنا الزهري تفصح عما بلغه هؤلاء في ظل الإسلام: قال الزهري: "قدمت على عبد الملك بن مروان، فقال: من أين قدمت يا زهري؟ قال: قلت: من مكة. قال: فمن خلفت بها يسود أهلها؟ قلت: عطاء بن أبي رباح. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ ، قلت: من الموالي. قال: وبم سادهم؟ قلت: بالديانة والرواية! ! . قال: إن أهل الديانة والرواية ينبغي أن يسودوا. قال: فمن يسود أهل اليمن؟ قال: قلت: طاوس بن كيسان، قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي. قال وبم سادهم؟ قلت: بما سادهم به عطاء. قال: إنه لينبغي. قال: فمن يسود أهل مصر؟ قال: قلت: يزيد بن أبي حبيب. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي.

قال: من يسود أهل الشام؟ قال: قلت: مكحول. قال: فمن العرب أم من الموالي قال: قلت: من الموالي، عبد نوبي أعتقته امرأة من هذيل. قال: فمن يسود أهل الجزيرة؟ قال: قلت: ميمون بن مهران. قال فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي. قال: فمن يسود أهل خراسان؟ قال: قلت: الضحاك بن مزاحم. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي. قال: فمن يسود أهل البصرة؟ قال: قلت: الحسن بن أبي الحسن. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي. قال: ويلك فمن يسود أهل الكوفة؟ قال: قلت: إبراهيم النخعي. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من العرب. قال: ويلك يا زهري فرجت عني، والله لتسودن الموالي على العرب حتى يخطب لها على المنابر والعرب تحتها! ! . قال: قلت: يا أمير المؤمنين، إنما هو أمر الله ودينه، من حفظه ساد ومن ضيعه سقط. 8 - أوطان الرواة وبلدانهم: وهو ما يعتني به كثير من علماء الحديث، يفتقرون إليه في كثير من تصرفاتهم.

وقد كانت العرب إنما تنتسب إلى قبائلها، فلما جاء الإسلام وغلب عليهم سكنى القرى والمدائن حدث فيما بينهم الانتساب إلى الأوطان، كما كانت العجم تنتسب. والمقرر في العرف في هذا أن من كان من قرية فله الانتساب إليها بعينها، وإلى مدينتها إن شاء أو إقليمها. ومن كان من بلدة ثم انتقل منها إلى غيرها فله الانتساب إلى أيهما شاء. والأحسن أن يذكرهما، فيقول مثلا الشامي ثم العراقي. وهذا العلم تترتب عليه فوائد مهمة، منها: معرفة شيخ الراوي، فربما اشتبه بغيره فإذا عرفنا بلده تعين بَلَدِيُّه غالبا. وهذا مهم جليل، فضلا عن تعيين شخص الراوي أيضا وتمييزه عمن يشابهه في الاسم. وقد يتعين به المهمل، ويظهر الراوي المدلس، ويعلم تلاقي الرواة (¬1). وقد يتبين به ما وقع من ضعف في حديث الراوي، مثل معمر بن راشد الإمام: قال يعقوب بن شيبة: "سماع أهل البصرة من معمر حين قدم عليهم فيه اضطراب لأن كتبه لم تكن معه" (¬2). 9 - الأسماء المفردة والكنى والألقاب: كثيرا ما نجد الاسم يطلق على أكثر من شخص، مثل: علي، وسعد، وكذلك الكنية واللقب. ¬

_ (¬1) قسم الرواة: 210 - 212. (¬2) شرح العلل: 602، ونحوه عن أبي حاتم في المغني: 6365.

أما هذا النوع فقد خص المحدثون به الأسماء والكنى والألقاب التي لا يوجد في الرواة من يحملها إلا واحد فقط، وهو نوع مليح عزيز. لكن الحاكم فيه على خطر من الخطأ والانتقاض، فإنه حصر في باب واسع شدسد الانتشار. وهذا أمثلة لهذا النوع: صُدَيّ بن عجلان هو أبو أمامة الصحابي، شَكَل بن حميد صحابي، شَمْغُون بن زيد أبو ريحانة صحابي، سَفينة لقب مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. أوسط بن عمرو البجلي، أبو السليل البصرين أو العشراء الدارمي تابعيون. ومن المسائل الطريفة: رجل لا يوجد مثل أسماء آبائه فمن هو؟ هذا هو: "مسدد بن مسرهد بن مسربل". وفائدة حصر هذه الأسماء أنه بمجرد ذكرها نعرف الراوي المقصود، لعدم من يشاركه في اسمه أو كنيته أو لقبه، وضبط ما تدعو إليه الحاجة مخافة التصحيف والتحريف. ومن أشهر المصنفات فيه كتاب "الأسماء المفردة" للإمام أحمد بن هارون البرديجي.

10 - المتفق والمفترق من الأسماء والأنساب ونحوها: وهو ما يتفق لفظا وخطًّا، أي أن يكون الاسم الواحد قد أطلق على أكثر من راو، فهم متفقون في اسمهم مفترقون في شخصهم، وهو فن مهم جدا، لا غنى عن معرفته للأمن من اللبس، فربما يظن الأشخاص شخصا واحدا، وربما يكون أحد المتفقين ثقة والآخر ضعيفا، فيضعف ما هو صحيح، أو يصحح ما هو ضعيف. وقد ذكر له أبو عمرو بن الصلاح أقساما، نذكر منها: القسم الأول: من اتفقت أسماؤهم وأسماء آبائهم. مثاله: أنس بن مالك، عشرة. روى منهم الحديث خمسة: الأول خادم النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني كعبي قُشَيري روى حديثا واحدا، والثالث والد الإمام مالك، والرابع حمصي، والخامس كوفي. القسم الثاني: من اتفقت أسماؤهم وأسماء آبائهم وأجدادهم: مثاله: أحمد بن جعفر بن حمدان، أربعة: القطيعي راوية المسند والبصري، والدينوري، والطرسوسي. القسم الثالث: ما اتفق في الكنية والنسبة معا: مثاله: أبو عمران الجوني، اثنان: أحدهما عبد الملك بن حبيب التابعي، الثاني اسمه موسى بن سهل، بصري، سكن بغداد.

القسم الرابع: المشترك المتفق في النسبة خاصة: ومن أمثلته: "الآملي"و"الآملي". الأول إلى آمل طبرستان، والثاني إلى آمل جيحون. قال أبو سعد السمعاني: "أكثر أهل العلم من أهل طبرستان من آمل". وأكثر من ينسب إليها يعرف بالطبري. وشهر بالنسبة إلى آمل جيحون عبد الله بن حماد الآملي شيخ البخاري (¬1). "السروي" و"السروي" الأول منسوب إلى بلدة "سارية" من طبرستان، منهم محمد بن صالح السروي الطبري، ومحمد بن حفص السروي. الثاني: منسوب إلى مدينة بأردبيل يقال لها "سرو"، منها نصر السروي الأردبيلي (¬2). ثم إن ما يوجد من المتفق والمفترق غير مقرون ببيان فالمراد به قد يدرك بالنظر في رواياته فكثيرا ما يأتي في بعضها، وقد يدرك بالنظر في حال الراوي والمروي عنه. وقد زلق بسبب الاتفاق بين الرواة في الاسم أو غير واحد من الأكابر، ولم يزل الاشتراك من أسباب الغلط في كل علم. وللخطيب فيه كتاب "المتفق والمفترق" وهو كتاب نفيس. وصنف الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المتوفى سنة (507) هجرية كتابا في القسم الأخير فقط سماه "الأنساب المتفقة"، نبه فيه على فوائد مهمة. وصنف أبو الحسن محمد بن حيوية في قسم من هذا النوع سماه "من وافقت كنيته كنية زوجته من الصحابة" مثل أم أيوب الأنصارية زوج أبي أيوب، أم معقل الأسدية زوج أبي معقل (¬3). ¬

_ (¬1) الأنساب المتفقة ص 4. واللباب: 1: 16. (¬2) الأنساب المتفقة: 72. (¬3) ق 124 آو 129 من الكتاب المذكور.

11 - المؤتلف والمختلف من الأسماء والأنساب وما يلتحق بها: وهو ما تتفق في الخط صورته، وتختلف في النطق والتلفظ صيغته. وهو منتشر لا ضابط في أكثره يعول عليه، وإنما يضبط بالحفظ تفصيلا. والضبط في الأسماء التي أمكن ضبطها من هذا النوع على قسمين نذكرهما مع الإيضاح بالمثال: القسم الأول: الضبط على العموم أي ضبط الاسم بالنسبة لكافة الرواة الذين يسمون به من غير اختصاص بكتاب معين. من ذلك: "حزام" بالزاي والحاء المكسورة في قريش، "حرام" بالراء وفتح الحاء في الأنصار (¬1). أبو عبيدة: كله بضم العين. قال الدارقطني: لا نعلم أحدا يكنى أبا عبيدة بالفتح. الأذرعي: بالذال المعجمة، إسحاق بن إبراهيم الأذرعي، والأدرعي بالدال المهملة جماعة ينسبون إلى الأدرع وهو أبو جعفر محمد بن عبيد الله من أشراف آل البيت قتل أسدا أدرع فسمي به (¬2). ¬

_ (¬1) المراد بذلك ضبط ما في قريش والأنصار فقط وهذا لا يمنع وجود الاسمين في غير المكيين والمدنيين كما نبه في شرح الألفية: 4: 89. وانظر هذه المادة في المشتبه للذهبي: 24. (¬2) الإكمال: 1: 137 - 138.

عيسى بي أبي عيسى الحناط، بالحاء المهملة والنون، نسبة إلى بيع الحنطة. والخباط بالمعجمة مع الموحدة نسبة إلى بيع الخبط الذي تأكله الإبل، والخياط بالخاء المعجمة مع الياء نسبة إلى الخياطة، كلها جائزة في هذا الرجل، لأنه باشر هذه الحرف الثلاث، وأولها أشهر (¬1). القسم الثاني: الضبط على الخصوص أي ضبط ما كان من هذا النوع في كتاب معين أو كتابين، كضبط ما في الصحيحين مع ذلك، أو فيهما مع الموطأ، أو في أحد هذه الثلاثة. وقد خص ضبط ألفاظها وشرحها، وضبط رواتها القاضي عياض بكتاب سماه "مشارق الأنوار على صحاح الآثار". ومن أمثلة ما جاء فيه قوله: "فيها- أي الكتب الثلاثة المذكورة- بريد بن عبد الله بن أبي بردة: بضم الباء وفتح الراء بعدها ياء التصغير لا غير، ومحمد بن عرعرة بن البرند هذا بكسر الباء والراء وبعدها نون ساكنة، وعلي بن هاشم بن البريد هذا بفتح الباء وكسر الراء بعدها ياء باثنتين تحتها ساكنة. وما عدا هؤلاء الثلاثة فيها "يزيد" بياء باثنتين تحتها، بعدها زاي" (¬2). "حصين: كله بالضم والصاد المهملة، إلا أبا حصين عثمان بن عاصم فبالفتح، وأبا ساسان حضين بن المنذر فبالضم والضاد المعجمة، وحضير والد أسيد بن حضير أحد النقباء ليلة العقبة" (¬3). وغير ذلك من أمثلة القسمين كثير توسع فيها ابن الصلاح وذكر جملة مهمة لو رحل فيها طالب العلم لما كان كثيرا". ¬

_ (¬1) علوم الحديث وغيره. وانظر المشتبه: 252 والمغني رقم 4821. (¬2) مشارق الأنوار: 1: 100. (¬3) مشارق الأنوار: 1: 222.

وفائدة هذا النوع منع وقوع الوهم في اسم الراوي، أو خلطه بغيره، ومن لم يعرفه كثر عثاره ولم يعدم مخجلا. وقد صنفت في هذا الفن كتب كثيرة جدا (¬1). نذكر منها هذه الكتب المطبوعة الهامة: 1 - "الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف من الأسماء والكنى والأنساب"، لابن ماكولا علي بن هبة الله المتوفى سنة (475) هـ ويبلغ بتمامه ثمانية أجزاء، قال في مطلعه (¬2): "آثرت أن أعمل في هذا الفن كتابا جامعا لما في كتبهم وما شذ عنها، وأسقط ما لا يقع الإشكال فيه مما ذكروه، وأذكر ما وهم فيه أحدهم على الصحة". 2 - المشتبه" للإمام الذهبي جمع فيه كتاب ابن ماكولا والكتب التي استدركت عليه وغيرها وقال (¬3): "العمدة في مختصري هذا على ضبط القلم .. فأتقن يا أخي نسختك، واعتمد على الشكل والنقط، وإلا لم تصنع شيئا". 3 - "تبصير المنتبه بتحرير المشتبه"، للحافظ ابن حجر، وهو أحسن الكتب حيث إنه مضبوط ضبطا مبينا بالكتابة، كما أنه استدرك ما فات الذهبي رحمهما الله. ¬

_ (¬1) ذكر منها العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني ستة وعشرين كتابا في تقدمته لكتاب الإكمال وعرف بها. (¬2) ج 1 ص 2. (¬3) ج 1 ص 2.

12 - المتشابه: هذا النوع يتركب من النوعين السابقين، وهو: أن يتفق اسم شخصين أو كنيتهما التي عرفا بها، ويوجد في نسبهما أو نسبتهما الاختلاف والائتلاف الذي عرفناه، أو على العكس من هذا، بأن يختلف ويأتلف اسماؤهما، ويتفق نسبتهما أو نسبهما اسما أو كنية. ويلتحق بالمؤتلف، والمختلف فيه ما يتقارب ويشتبه، وإن كان مختلفا في بعض حروفه في صورة الخط. فمن أمثلة الأول: موسى بن علي بفتح العين، يطلق على جماعة، وموسى بن علي -بضم العين وفتح اللام- ابن رباح اللخمي، عرف بضم العين في اسم أبيه. ومنه: محمد بن عبد الله المخرمي. ومحمد بن عبد الله المخرمي. ومنه: أبو عمرو الشيباني، وأبو عمرو السيباني. ومما يتقارب ويشتبه مع الاختلاف في الصورة: ثور بن يزيد الكلاعي، وثور بن يزيد الديلي. ومن أمثلة القسم الثاني: الذي هو العكس: عمرو بن زرارة، وعمر بن زرارة. حين الأسدي، وحنان الأسدي. وقد صنف فيه الخطيب كتابا سماه "تلخيص المتشابه في الرسم" هو من أحسن كتبه.

13 - المشتبه المقلوب: ونوضحه لك بأنه: أن يكون اسم أحد الراويين مثل اسم أبي الآخر خطًا ولفظًا واسم الآخر مثل اسم أبي الأول، فينقلب على بعض المحدثين. مثاله: يزيد بن الأسود، والأسود بن يزيد، وكذلك الوليد بن مسلم ومسلم بن الوليد. وقد انقلب هذا الثاني على البخاري في تاريخه إذ ذكره فيه فقال: "الوليد بن مسلم" ونبه على هذا الوهم الإمام ابن أبي حاتم الرازي (¬1). وللخطيب في هذا النوع كتاب سماه "رفع الارتياب في المقلوب من الأسماء والأنساب" (¬2). نتيجة الفصل: من هذه الدراسة لأنواع الحديث المبينة لشخص الراوي نخلص إلى نتيجة جوهرية، هي شمول أبحاثه كل ما يتوصل به إلى معرفة شخص الراوي وتحديده من جميع النواحي الزمانية، والمكانية، والأسمية. ¬

_ (¬1) انظر هذا في تاريخ البخاري: 4/ 2/ 153، والتنبيه عليه في كتاب "خطأ البخاري في تاريخه": 130 وفي "الجرح والتعديل": 4/ 1/ 1971. (¬2) وهذا النوع يذكر في أقسام الحديث المقلوب سندا، فنكتفي بالتنبيه عليه هنا عن إعادته هناك.

ففي الناحية الزمنية درس المحدثون موقع الراوي من الأجيال السابقة واللاحقة، ومن جيله الذي عاش فيه، "المدبج ورواية الأقران". وتعمقوا حتى عرفوا موقعه في الرواية من أسرته في فنون الأخوة، والآباء، والأبناء. وفي الناحية المكانية عنوا بأوطان الرواة، وتنقلاتهم، وتبينوا ما قد يطرأ منها على الراوي مما يؤثر في حديثه. وفي أسماء الرواة شملوا كل ما يتصل بها حيث عنوا بإزالة الإبهام وتعيين أسماء الرواة وآبائهم وكناهم وألقابهم وأنسابهم، وضبطوا ذلك بغاية الدقة، وبينوا ما هو ظاهره من الأنساب وما ليس على ظاهره. ثم قاموا بجهود عظيمة في مقابلة أسماء الرواة وكناهم وألقابهم وأنسابهم لتمييز ما يتشابه منها عن بعضه ودرسوها من جميع أوجه التشابه: من التماثل كتابة ونطقا "المتفق والمفترق"، أو كتابة لا نطقا "المؤتلف والمختلف"، أو ما يقع فيه الأمران طردا أو عكسا "المتشابه"، ثم "المتشابه المقلوب". وهكذا أتوا على كل أوجه البحث، وتوصلوا إلى نتائج هامة فيما يقبل من حديث الراوي وما يرفض وما يتصل من سنده وما ينقطع، وميزوا كل راو عما سواه تمييزا بالغا دقيقا ليوضع تحت منظار الجرح والتعديل، وينزل في موضعه المناسب.

الباب الثالث: في علوم رواية الحديث

الباب الثالث: في علوم رواية الحديث معنى الرواية عند المحدثين: حمل الحيث ونقله وإسناده إلى من عزي إليه بصيغة من صيغ الأداء (¬1). وقواعد هذا الباب تبحث في المنهج العلمي للرواية في أخذ الراوي للحديث الذي سماه العلماء "التحمل". ثم في تبليغه الذي أطلقوا عليه: "الأداء". وما ينبغي أن يكون عليه حال التحمل والأداء من الأدب، والإخلاص، والتحري، والاتقان، وذلك يتصل بعلوم الرواة بسبب قوي. كما أن لهذه العلوم أهمية بالغة في أصول الحديث، لأنها تلقي لنا الضوء على المنهجية الدقيقة التي اتبعها علماء الإسلام في تلقي الحديث وتبليغه، والروح الإيمانية العظيمة التي دفعتهم لبذل أقصى الجهود لحفظ الحديث ونشره، بغاية الأمانة والحيطة التي يريدها العلم. 1 - معنى "حمله ونقله" أي تلقيه ثم تبليغه، فمن لم يبلغ شيئا لا يكون راويا، وقولنا: "وإسناده إلى من عزي إليه". أني نسبته إلى قائله، فلو تحدث بالحديث ولم ينسبه إلى قائله لم يكن ذلك رواية. المنهج الحديث: قسم الرواية: (29). ¬

_ (¬1) معنى "حملة ونقله" أي تلقيه ثم تبليغه، فمن لم يبلغ شيئا لا يكون راويا، وقولنا "وإسناه إلى من عزي إليه". أي نسبته إلى قائله، فلو تحدث بالحديث ولم ينسبه إلى قائله لم يكن ذلك رواية. المنهج الحديث: قسم الرواية: 29.

ويشتمل الباب على خمسة أنواع من علوم الحديث هي: 1 - آداب طالب الحديث. 2 - آداب المحدث. 3 - كيفية سماع الحديث وتحمله وضبطه. 4 - صفة رواية الحديث وشرط أدائه. 5 - كتابة الحديث وكيفية ضبطة. وفي الباب فروع كثيرة عديدة، سنسلك في عرضها طريق الاختصار والاقتصار على ما يتعلق بالمقصود. 1 - آداب طالب الحديث: وهي آداب كل طالب علم تبين له كيف ينهج في تحصيل العلم لكن عين بها المحدثون وخصوا بها طالب الحديث لأهمية شأن علمه وإليك تلخيصها فيما يلي: 1 - الإخلاص لله تعالى: وهو أول ما يجب عليه، فليجعل اشتغاله بالتحصيل خالصا لابتغاء مرضاة الله تعالى ولما أعده من جزيل الأجر. ففي الحديث المتواتر عنه صلى الله عليه وسلم قال: "نضر الله امرًأ سمع مقالتي فبلغها" (¬1) ¬

_ (¬1) انظر ما سبق 38، وتدريب الراوي: 374, وكشف الخفاء: 2: 319.

وقال سفيان الثوري رضي الله عنه: "ما أعلم عملا هو أفضل من طلب الحديث لم أراد الله به". وليحذر طالب العلم، وطالب الحديث خاصة من أن يتخذه وصلة إلى شيء من الأغراض الدنيوية، وقد صح في الحديث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في أول الناس يقضي يوم القيامة عليه: " ... ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى كب في النار". أخرجه مسلم (¬1). وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم قال: "من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة". يعني ريحها. أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه (¬2). وقال حماد بن سلمة -وكان من الأبدال رضي الله عنه-: "من طلب الحديث لغير الله مكر به". قال ابن الصلاح: "ومن أقرب الوجوه في إصلاح النية فيه ما روينا عن أبي عمرو إسماعيل بن نجيد أنه سأل أبا جعفر أحمد بن حمدان وكانا عبدين صالحين: فقال له: "بأي نية أكتب الحديث؟ " ¬

_ (¬1) في الإمارة: 6: 47. (¬2) أبو داود بلفظه في العلم عن أبي هريرة: 3: 323، والترمذي بنحوه عن ابن عمر: وحسنه: 5: 33 وابن ماجه بمثل أبي داود رقم 252. وانظر تهذيب السنن: 5: 255.

فقال: "ألستم تروون أن عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة؟ " قال: "نعم" قال: "فرسول الله صلى الله عليه وسلم رأس الصالحين". وليسأل الله تعالى التيسير والتأييد، والتوفيق، والتسديد، وليأخذ بالأخلاق الزكية، والآداب المرضية، كما قال أبو عاصم النبيل: "من طلب هذا الحديث فقد طلب أعلى أمور الدين، فيجب أن يكون خير الناس". 2 - الجد في الأخذ عن العلماء: فإنه يجب على طالب الحديث أن يشمر عن ساق جده واجتهاده في التلقي عن المشهورين بالعلم والدين والورع، ولو كانوا في غير معهده العلمي، وقد كان طلبة العلم يرحلون من أجل ذلك على الرغم من وعورة الطرق وصعوبة المركب، حتى قالوا في طلب الحديث الذي لا يرحل: "لا تأنس منه رشدا". 3 - العمل بالعلم: وقد ضرب القرآن لمن لم يعمل بعلمه أسوأ المثل، وجعله عبرة إلى الأبد في قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}. وقال وكيع بن الجراح شيخ الإمام الشافعي: "إذا أردت أن تحفظ الحديث فاعمل به". 4 - احترام الأساتذة وتوقيرهم: يجب على الطالب أن يوقر شيوخه وأساتذته، ومن يتلقى عنه فذلك من إجلال الحديث والعلم، وأن يحفظ أستاذه شاهدا وغائبا، ولا يطلبن عثرته، وليكن ذلك كله لله.

ولا يكن ممن يمنعه الخجل أو يحجبه الكبر عن طلب العلم والسؤال، فقد قال مجاهد رضي الله عنه: "لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر". حتى لو كانت الفائدة عند من هو دونه، فقد قال وكيع بن الجراح: "لا ينبل الرجل من أصحاب الحديث حتى يكتب عمن هو فوقه وعمن هو مثله، وعمن هو دونه". 5 - بذل الفائدة لزملائه الطلاب: وذلك من أول فائدة طلب الحديث والعلم، ومن كتم عن إخواته شيئا من الفوائد لينفرد بها عنهم كان جديرا بأن لا ينتفع به كما ذكر العلماء. وقال مالك رضي الله عنه "من بركة الحديث إفادة بعضهم بعضا". 6 - اتباع منهج علمي متدرج في طلب الحديث: وهذا أمر في غاية الأهمية كثيرا ما ساء لنا عنه طلبة العلم، وقد لخصنا للراغب في ذلك أصول هذا المنهج مما يتعلق بدراسة المراجع: فأهم كتب الحديث رواية: ما صنف في عصر التدوين، وهي المراجع الأصلية لرواية الحديث، وعلى رأسها الموطأ للإمام مالك، فإنه أيسر لاختصاره، وقصر أسانيده، وحسن انتقاء أحاديثه، والصحيحان، ثم يعتني بسنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، ضبطا لمشكلها وفهما لخفي معانيها. ومن المسانيد بعد ذلك: المسند للإمام أحمد بن حنبل، ومسند أبي يعلى الموصلي، فقد قيل: "المسانيد كالأنهار ومسد أبي يعلى كالبحر". ثم يعتني بالكتب الجامعة التي تجمع أحاديث عدة كتب، وبمراجع التخريج التي صنفت لتخريج أحاديث كتاب معين.

وسنفصل الكلام عليها، وعلى أنواع المصنفات في الحديث النبوي، في النوع التالي إن شاء الله تعالى. وليعتن بالشروح الحديثية، وأهمها "فتح الباري بشرح صحيح البخاري" للحافظ ابن حجر، و"المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للإمام النووي. وكتاب "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير، فإنه يعتني بالإيضاح التام لمفردات الأحاديث، ولغة النبوة، حتى كأنه شرح مختصر لكل الحديث النبوي. وأهم ما يحرص عليه طالب العلم أنه كلما مر به حديث لا يعرفه بحث عنه ودرسه، وكذا إذا مر به اسم أو كلمة مشكلة أو مسألة في العلم بحث عنها ودرسها، وأودع ذلك سويداء قلبه، فإنه يجتمع له بذلك علم كثير في سهولة ويسر. 7 - العناية بمصطلح الحديث: فإنه لا غنى بطالب الحديث عنه مهما أكثر من حفظ الحديث ورواياته، لأنه يستفيد منه بدونه، لأن فن علوم الحديث يفصح عن أصول الحديث، وفروعه، ويشرح مصطلحات أهله ومقاصدهم ومهماتهم، ينقص المحدث بالجهل به نقصانا فاحشا، ويتعطل بحرمانه منه استكمال الفائدة من تراث السنة العظيم.

2 - آداب المحدث: وهي آداب يحتاج إليها كل من يتصدر مجالس العلم، أو يتصدى للتدريس، نبه عليها المحدثون وحضوا عليها من يتصدى للتحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلمن نلخصها فيما يلي: 1 - الإخلاص وتصحيح النية: والإخلاص روح الأعمال، ولبها، أمر به جميع الأنبياء، وبعثوا بالدعوة إليه، كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}. وعالم الحديث ينبغي أن يكون أبعد الناس عن الرياء وحب الدنيا، ليفوز بنفحات النبوة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. 2 - التحلي بالفضائل: فإن علوم الشريعة علوم شريفة تناسب مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وتقتضي استقامة الأمر والسلوك. وعلم الحديث من أولى هذه العلوم بذلك، فجدير بالمحثد أن يفوق غيره في ذلك كما كان سلفه من علماء الحديث. ليكون جديرا بالنسب، كما قال القائل: أهل الحديث هم آل النبي وإن ... لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا 3 - مراعاة الأهلية للتحديث: معنى مراعاة الأهلية أن لا يجلس للتحديث إلا إذا كان أهلا لذلك، سواء كان في سن مبكرة أو متأخرة.

وقد أنشد بعض البغداديين: إن الحداثة لا تقصر ... بالفتى المرزوق ذهنا لكن تذكي قلبه ... فيفوق أكبر منه سنا وضابط ذلك ما قاله ابن الصلاح: "إنه متى احتيج إلى ما عنده استحب له التصدي لروايته ونشره في أي سن كان" (¬1). فإذا ما توفر فيه ذلك فليحرص على إفادة علم الحديث ونشره ما وسعه ذلك. 4 - التقاعد متى خاف الغلط: وهذا موضوع طريف جدا، يدل على انتظام الأمور في ظل الحضارة الإسلامية، إذ سبق العلماء إلى تحديد ما تسميه قوانين الموظفين "سن التقاعد". وبالنظر لما امتن الله به المحدثين من طول العمر فقد جعلوا سن التقاعد هو الثمانين لأن الغالب على من بلغ هذا السن اختلال الجسم والذكر، وضعف الحال، وتغير الفهم. وإلا فإنه ينبغي للعالم الإمساك عن التحديث وعن عقد دروس العلم متى خالف التخليط ولو كان دون هذه السن (¬2). 5 - توقير من هو أولى منه: وهذا من أخلاق العلماء الكملة، إذ يحذرون التقدم على من هو أولى منهم لكبر السن، أو فضل في العلم. ¬

_ (¬1) علوم الحديث 213. وقد حدد الرامهرمزي في المحدث الفاصل ق 43 آالأهلية بسن الخمسين وناقشه في ذلك القاضي عياض نقاشا قيما في الإلماع: 200 - 204 فانظرها. (¬2) انظر المحدث الفاصل: 354. والالماع: 204 - 209.

"وكان إبراهيم النخعي والشعبي إذا اجتمعا لم يتكلم إبراهيم بشيء" كما ينبغي للعالم إذا التمس منه ما يعلمه عند غيره أعلى منه أو أرجع أن يعلم الطالب به، ويرشده إليه، فإن الدين النصحية. 6 - توقير الحديث والتأهب لمجلس التحديث: فإن الحديث كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينبغي أن يكون في نفس المحدث استشعار توقيره، وذلك بأن يتأهب للمجلس من حيث الثياب والطهارة، وينبغي أن يعني بأسلوب الألقاء فإنه أمر ضروري، ومن الواجب أن يراجع المحدث أو المدرس المادة العلمية، ويعد في نفسه طريقة أداء كل قسم، وينوع الأسلوب، فتارة يخبرهم، وتارة يلقي عليهم المسألة سؤالا، وهكذا ليشوقهم ويشركهم في المجلس. وينبغي له مع أهل مجلسه العلمي ما قال حبيب بن أبي ثابت "إن من السنة إذا حدث الرجل القوم أن يقبل عليهم جميعا". وليعمد للوسائل والأساليب المفهمة الموضحة التي تساعد على رسوخ الكلام في الذهن، على نحو ما سبق أن ذكرناه (¬1) م سنة النبي صلى الله عليه وسلم في تحديث أصحابه الكرام رضي الله عنهم. 7 - الاشتغال بالتصنيف والانتاج العلمي: لمن توفرت فيه الأهلية لذلك، فإنه يفتح له من مغاليق العلم، ويوسع أمامه من مجاله ما لم يكن بحسبانه، كما أن كل عصر له شأن خاص يحتاج إلى تجديد في الأسلوب وفي الموضوعات والأفكار، بحسب ما يتطلبه حال الناس من الناحية الفكرية والأخلاقية والعلمية ... وقد حجر واسعا من قال: "ما ترك الأول للآخر". ومن تأمل ومارس قال: كم ترك الأول للآخر! . ¬

_ (¬1): 38 - 39.

وينبغي لم يتصدى للتصنيف: أن يخلط في عمله فائدة جديدة، إما باشتغال مصنفه على ابتكار فكرة أو نظرية جديدة، توصل إليها باجتهاده، أو حسن ترتيب وتنسيق. أو حل لمشكل وإيضاح لغامض، أو تجديد أسلوب يقدم به المادة العلمية في ثوب يناسب عصره. كذلك ينبغي له أن لا يتعرض للتصنيف فيما لا يحسن من الفنون، اغترارا بعدم اكتشاف الناس لأمره، أو طلبا للسمعة بكثرة المؤلفات وتنوعها، ومن فعل ذلك تقع له السقطات، وتكثر منه الهنات. وحسن التصنيف أمنية عظيمة، وموهبة إلهية، نرجو الله أن يتفضل بها علينا، ويجعل عملنا في ذلك خالصا لوجهه الكريم، مقبولا عنده، نافعا لعباده.

الفصل الأول: أنواع المصنفات في الحديث النبوي

الفصل الأول: أنواع المصنفات في الحديث النبوي وقد نوع المحدثون التصانيف، وتفننوا فيها، مما يجعل تصانيفهم بتنوعها هذا ملبية للمطالب التي يتطلع إليها العلماء والباحثون في المراجع. وأهم أنواع التصنيف الأنواع الآتية (¬1): أولا: الكتب المصنفة على الأبواب ووقع في كتب المتقدمين إطلاق "الأصناف" عليها. وطريقة هذا التصنيف: أن تجمع الأحاديث ذات الموضوع الواحد ¬

_ (¬1) درسنا أنواع المصنفات الحديثية بتوسع في كتابنا "تصدير معجم المصنفات في الدراسات الحديثية". وهو بحث مبتكر يدرس الأدوار التاريخية لعلم الحديث حسب التقسيم الذي توصلنا إليه. وأشهر الأعلام في علم الحديث -في كل دور- ومؤلفاتهم، وقد حاز البحث على الجائزة الثانية لمسابقة الدراسات الحديثية التي قامت بها المنظمة العربية للثقافة والعلوم والآداب- جامعة الدول العربية.

إلى بعضها البعض، تحت عنوان عام يجمعها، مثل "كتاب الصلاة"، "كتاب الزكاة"، "كتاب البيوع" .. ثم توزع الأحاديث على الأبواب، يضم كل باب حديثا أو أحاديث في مسألة جزئية، ويوضع لهذا الباب عنوان يدل على الموضوع، مثل "باب مفتاح الصلاة الطهور"، ويسمي المحدثون العنوان "ترجمة". وفائدة هذا النوع من الكتب سهولة الرجوع إليه، حيث إنه أول ما يتبادر لطالب العلم، والباحث عن الحديث أن يرجع إليه. وذلك لأنه إن كان يريد الاطلاع على أحاديث في مسألة معينة، فإن موضوع هذه الأحاديث يحتم عليه الرجوع للأبواب. وإن كان يريد البحث عن حديث رآه ليخرجه مصادر السنة فموضوع الحديث يحدد له الباب الذي يبحث فيه عن الحديث المطلوب. لكن الإفادة والمنفعة من هذه الكتب المبوبة تحتاج إلى ذوق علمي، يهدي الطالب إلى تحديد موضوع الحديث، وإلى خبرة بأسلوب الأئمة في ترجمة أبواب كتبهم، فإنهم ربما يخرجون الحديث في غير الباب المتوقع، يقصدون من ذلك بيان دلالة الحديث على مسألة أخرى. وهذا كثير في صحيح الإمام البخاري، حتى عد من خصائص كتابه، واشتهر قولهم: "فقه البخاري في تراجمه". وللتصنيف على الأبواب طرق متعددة نذكر منها ما يلي: أ- الجوامع: الجامع في اصطلاح المحدثين: هو كتاب الحديث المرتب على الأبواب الذي يوجد فيه أحاديث في جميع موضوعات الدين وأبوابه، وعددها ثمانية أبواب رئيسية هي:

العقائد، الأحكام، السير، الآداب، التفسير، الفتن، أشراط الساعة، المناقب (¬1). وكتب الجوامع كثيرة، أشهرها هذه الثلاثة: 1 - الجامع الصحيح للإمام البخاري. 2 - الجامع الصحيح للإمام مسلم، وقد درسناهما في مصادر الحديث الصحيح، فانظر دراستهما هناك (¬2). 3 - الجامع للإمام الترمذي، المشتهر بـ "سنن الترمذي"، سمي سننا لاعتنائه بأحاديث الأحكام. ب- السنن: كتب السنن هي الكتب التي تجمع أحاديث الأحكام المرفوعة مرتبة على أبواب الفقه (¬3). وأشهر كتب السنن: سنن أبي داود، وسنن الترمذي -وهو جامع الترمذي كما ذكرنا -وسنن النسائي، وسنن ابن ماجه. وقد درسناها تفصيلا في مصادر الحديث الحسن، فانظرها هناك لزاما (¬4). ويطلق على هذه السنن: السنن الأربعة. وإذا قالوا: الثلاثة فمرادهم هذه ما عدا ابن ماجه. ¬

_ (¬1) بتصرف عن كتاب العرف الشذي شرح جامع الترمذي لمحمد أنور شاه: 5 وانظر مقدمة تحفة الأحوذي: 24. (¬2) رقم عام 36 ص 252 - 258. (¬3) الرسالة المستطرفة: 25 والعرف الشذي: 5. (¬4) رقم عام 37 ص 274 - 278.

وإذا قالوا الخمسة: فمرادهم السنن الأربعة ومسند أحمد. وإذا قالوا الستة: فمرادهم الصحيحان والسنن الأربعة. ويرمزون لها في كتب التخريج وكتب الرجال بهذه الرموز: خ: للبخاري، م: للإمام مسلم، د: لأبي داود، ت: للترمذي، س: للنسائي، هـ: لابن ماجه، ع: للستة، عه للسنن الأربعة. جـ- المصنفات: وهي كتب مرتبة على الأبواب لكنها تشتمل على الحديث الموقوف والحديث المقطوع، بالإضافة إلى الحديث المرفوع. ومن أشهر المصنفات: مصنف عبد الرزاق بن همام الصنعاني "211" ومصنف أبي بكر بن أبي شيبة "235". د- المستدركات: وأشهرها المستدرك للحاكم النيسابوري. هـ- المستخرجات: وأشهرها الكتب المخرجة على الصحيحين أو أحدهما. وقد زدنا هذين النوعين دراسة في مصادر الحديث الصحيح. ثانيا- الكتب المرتبة على أسماء الصحابة: وهي كتب تجمع الأحاديث التي يرويها كل صحابي في موضع خاص يحمل اسم راويها الصحابي. وهذه الطريقة مفيدة لمعرفة عدد مرويات الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم وطبيعتها، وتسهيل اختبارها، فضلا عن كونها إحدى الطرق المفيدة في استخراج الحديث، بمعرفة الصحابي الذي يرويه، وما يتبع ذلك من سهولة درسه.

أ- المسانيد: والمسند هو الكتاب الذي تذكر فيه الأحاديث على ترتيب الصحابة رضي الله عنهم، بحيث يوافق حروف الهجاء، أو يوافق السوابق الإسلامية، أو شرافة النسب. والمسانيد كثيرة جدا أشهرها وأعلاها المسند للإمام أحمد بن حنبل، ثم مسند أبي يعلى الموصلي، وسنأتي على درسهما في مصادر الحديث الحسن. ب- الأطراف: الأطراف جمع طرف، وطرف الحديث: الجزء الدال على الحديث، أو العبارة الدالة عليه، مثل حديث الأعمال بالنيات، وحديث الخازن الأمين، وحديث سؤال جبريل. وكتب الأطراف: كتب يقتصر مؤلفوها على ذكر طرف الحديث الدال عليه، ثم ذكر أسانيده في المراجع التي ترويه بإسنادها، وبعضهم يذكر الإسناد كاملا، وبعضهم يقتصر على جزء من الإسناد. لكنها لا تذكر متن الحديث كاملا، كما أنها لا تلتزم أن يكون الطرف المذكور من نص الحديث حرفيا. ولهذه الطريقة من الفوائد سوى ما ذكرناه: 1 - تسهيل معرفة أسانيد الحديث، لاجتماعها في موضع واحد. 2 - معرفة من أخرج الحديث من أصحاب المصادر الأصول، والباب الذي أخرجوه فيه، فهي نوع من الفهارس متعدد الفوائد.

ومن أشهر كتب الأطراف هذان الكتابان: 1 - تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف للحافظ الإمام أبي الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المزي المتوفى سنة 742 هـ. جمع فيه أطراف الكتب الستة، وبعض ملحقاتها، وهذه الملحقات هي: 1 - مقدمة صحيح مسلم، 2 - المراسيل لأبي داود السجستاني، 3 - العلل الصغير للترمذي، 4 - الشمائل للترمذي، 5 - عمل اليوم والليلة للنسائي. ورمز لكل من هذه الكتب، وكل كتاب من الكتب السنتة برمز خاص، أوضحه في مقدمة كتابه. تقارب الرموز السابقة مع زيادة رموز الملحقات. والكتاب يرتب تراجم أسماء الصحابة بحسب ترتيب الألف ياء، لذلك وقع في أوله مسند: أبيض بن حمال. ويطبع الكتاب الآن في الهند، وقد نجز قسم كبير منه وليت القائمين على إخراجه علقوا عليه بالعزو إلى أرقام صفحات الحديث في المراجع، إذا لسهل الانتفاع بالكتاب جدا، وأصبح فهرسا فريدا للمصادر ولتم تحقيق الكتاب على الشكل الأكمل. 2 - ذخائر المواريث في الدلالة على مواضع الحديث: تصنيف الشيخ عبد الغني النابلسي "المتوفى سنة 1143 هـ". جمع فيه أطراف الكتب السنة والموطأ، على طريقة ترتيب تحفة الأشراف وكأنه مختصر منه، لكنه امتاز بالتفنن في التصنيف حيث لاحظ التنوع في تراجم أسماء الصحابة، فقسم الكتاب بحسب ذلك إلى سبعة.

أبواب. والكتاب مطبوع في أربعة أجزاء، ونلاحظ على إخراجه الطباعي ما لاحظناه على تحفة الأشراف. ثالثا: المعاجم المعجم في اصطلاح المحدثين: كتاب تذكر فيه الأحاديث على ترتيب الشيوخ، والغالب عليها اتباع الترتيب على حروف الهجاء، فيبدأ المؤلف المعجم بالأحاديث التي يرويها عن شيخه أبان، ثم إبراهيم، وهكذا. وأشهر مصنفات هذا النوع: المعاجم الثلاثة للمحدث الحافظ الكبير أبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني "المتوفى سنة 360 هـ": وهي: المعجم الصغير والمعجم الأوسط، وكلاهما مرتب على أسماء شيوخه. والمعجم الكبير: وهو على مسانيد الصحابة، مرتبة على حروف المعجم. والمعجم الكبير هذا مرجع حافل، هو أكبر المعاجم، حتى صار لشهرته إذا أطلق قولهم "المعجم"، أو أخرجه الطبراني كان المراد هو المعجم الكبير. رابعا: الكتب المرتبة على أوائل الأحاديث وهي كتب مرتبة على حروف المعجم، بحسب أول كلمة من الحديث، تبدأ بالهمزة، ثم بالباء، وهكذا .... وهذه الطريقة سهلة جدا للمراجعة، لكن لا بد لها من معرفة الكلمة الأولى من الحديث بلفظها، معرفة أكيدة، وإلا ذهب الجهد في البحث عن الحديث هنا دون جدوى.

وهذه المصنفات لها طريقتان: أ- كتب "مجامع": تجمع أحاديث كتب حديثية متعددة مما نذكره في النوع التالي. ب- كتب في الأحاديث المشتهرة على الألسنة: أي الأحاديث التي تتداولها ألسنة العامة، وهي نوع من الحديث المشهور الآتي (¬1)، عني العلماء بجمعها في كتب خاصة لبيان حالها، ونذكر من أشهر هذه الكتب وأهمها كتابين: 1 - "المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة على الألسنة": للإمام الحافظ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي "المتوفى سنة (902) هـ". وهو كتاب جامع لكثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، مما ليس في غيره وتبلغ عدة أحاديثه /1356/ حديثا. عني فيه مؤلفه بفن الصناعة الحديثية فأتى فيه بفوائد ليست في غيره، مع الدقة والإتقان، فشفى وكفى في بيان حال الأحاديث، ومن مصطلحاته في هذا الكتاب قوله في الحديث "لا أصل له" أي ليس له سند، وليس في كتاب من كتب الحديث، وقوله "لا أعرفه" فيما عرض له التوقف خشية أن يكون له أصل، لم يقف عليه. وهاتان العبارتان من المحدث الحافظ من علامات الوضع. 2 - "كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الحديث على ألسنة الناس" للعلامة المحدث: إسماعيل بن محمد العجلوني " (1162) هـ". جمع فيه أحاديث كتاب السخاوي مع تخليص كلامه، وزاد أحاديث كثيرة جدا حتى نيف عدد أحاديثه على /3250/ حديثا، كما ¬

_ (¬1) برقم عام 72 ص 411 - 412.

زاد فوائد في الصناعة الحديثية على غاية الأهمية، وبهذا أصبح أكبر كتاب في هذ الفن، وأكثره جمعا للأحاديث المشتهرة على الألسنة. ويلحق بهذا النوع من المصنفات: ما وضعه العصريون من مفاتيح لكتب حديثية، أو فهارس ألحقوها بكتاب من هذه الكتب على ترتيب حروف المعجم. ومن هذه المفاتيح: مفتاح الصحيحين للتوقادي. ومن الفهارس: فهارس صحيح مسلم، وفهارس سنن ابن ماجه، التي وضعها محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله وأجزل مثوبته. خامسا: المصنفات الجامعة "المجامع": وهي كتب تجمع أحاديث عدة كتب من مصادر الحديث، وهي مرتبة على طريقتين: الطريقة الأولى: التصنيف على الأبواب، وأهم مراجعها: 1 - "جامع الأصول من أحاديث الرسول": لابن الأثير المبارك ابن محمد الجزري "606 هـ". جمع فيه أحاديث الصحيحين، والموطأ، والسنن الثلاثة، وجردها من الأسانيد، وأردفها بكلام موجز على غريب الألفاظ، لكنه أغفل بيان درجة أحاديث السنن، حتى أنه لم يذكر كلام الترمذي على أحاديثه، فأعوز القارئ البحث عن هذا الجانب، وقد ذيلت طبعة الكتاب بتخريج مفصل للأحاديث يعزو كل حديث إلى الكتب مع بيان الباب والجزء والصحيفة، فسهل بعض فائدته بذلك. 2 - "كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال" للشيخ المحدث علي بن حسم المتقي الهندي "975 هـ" وهو أجمع كتب هذا الفن، جمع أحاديث كتب كثيرة، بلغت/ 93/ كتابا في إحصائنا، فجاء كتابا حافلا لا مثيل له في الجمع، إلا أنه أغفل بيان حال الأحاديث، كما

لحظنا عليه إعوازا في التحريج حتى إنه ربما عزى الحديث لمرجع من المراجع البعيدة عن التناول وعن الاعتماد، وهو موجود في الصحاح، بل في أصحها. الطريقة الثانية: ترتيب الأحاديث على أول كلمة فيها حسب ترتيب حروف المعجم، وأهم المراجع فيها: 1 - "الجامع الكبير" أو"جامع الجوامع" للإمام الحافظ جلال الدين السيوطي "911 هـ" وهو أصل كتاب كنز العمال الذي عرفناك به. 2 - "الجامع الصغير لأحاديث البشير النذير" للإمام السيوطي أيضا، اقتضبه من الجامع الكبير، وحذف منه التكرار وزاد فيه أحاديث فبلغ عدد أحاديثه "10031" عشرة آلاف وواحدا وثلاثين حديثا، وقد نال الحظوة عند العلماء وكثرت حوله الشروح. ولكن بعض الرموز هنا تخالف الرموز في الجامع الكبير فالرمز "ق" في الجامع الصغير لم اتفق عليه الشيخان، وفي الجامع الكبير لما أخرجه البيهقي، فلتنتبه، وليكن أول اهتمام طالب الحديث دراسة مقدمة كل مصنف حديثي لمعرفة رموز الكتاب وطريقته وأهدافه. سادسا: مصنفات الزوائد: وهي مصنفات تجمع الأحاديث الزائدة في بعض الحديث على أحاديث كتب أخرى، دون الأحاديث المشتركة بين المجموعتين. وقد أكثر العلماء من تصنيف الزوائد، ونذكر منها هذين الكتابين الجليلين: 1 - "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي "807 هـ" جمع فيه ما زاد على الكتب السنة من ستة

مراجع مهمة، وهي: مسند أحمد، ومسند أبي يعلى الموصلي، ومسند البزار، والمعاجم الثلاثة للطبراني. وعني ببيان حال الأحاديث صحة وضعفا، واتصالا وانقطاعا وأفاد غاية الفائدة غير أن طبعته تحتاج إلى تحقيق وضبطا أكثر مما هي عليه بكثير. 2 - "المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية": للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني الشافعي، الإمام العلم " (852) هـ". جمع فيه الزوائد على الكتب الستة من ثمانية مسانيد: "وهي لأبي داود الطيالسي، والحميدي، وابن أبي عمر، ومسدد، وأحمد بن منيع، وأبي بكر بن أبي شيبةن وعبد بن حميد والحارث بن أبي أسامة. وأضاف زيادات من مسند أبي يعلى، ومسند إسحاق بن راهويه، ليست في مجمع الزوائد (¬1). وقد طبع بتحقيق متقن للمحدث الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي فسح الله في مدته، لكنه اعتمد على نسخة مجردة من الأسانيد، وسيعيده المحقق على نسخة مسندة، ولا يخفى ما فيها من الأهمية والفائدة. سابعا: كتب التخريج وهي كتب تؤلف لتخريج أحاديث كتاب معين، ونعرف بأهمها فيما يلي: 1 - "نصب الراية لأحاديث الهداية": تأليف الإمام الحافظ جمال الدين أبي محمد عبد الله بن يوسف الزيلعي الحنفي " (762) هـ"، خرج فيه أحاديث كتاب الهداية في الفقه الحنفي لمؤلفه علي بن أبي بكر المرغيناني، من كبار فقهاء الحنفية المتوفى سنة " (593) هـ". ¬

_ (¬1) كما أفصح في تقديم الكتاب: 4.

وهو كتاب حافل بإيراد الروايات غزير في فوائده الحديثية، يتكلم على كل حديث من كتاب الهداية، ثم يتبعه بما يؤيده من الروايات والأحاديث الأخرى، ثم يعقد بحثا للأحاديث التي يستدل بها مخالفو الحنفية، ويتكلم على الجميع بغاية الإحاطة والإفادة، والانصاف والموضوعية، مما يدل على تبحر الزيلعي في علم الحديث وعمق نظره، حتى كان من بعده عالة عليه مقتديا به. 2 - "المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار" تأليف الحافظ الكبير الإمام عبد الرحيم بن الحسين العراقي "806 هـ" شيخ الحافظ ابن حجر ومخجره، وواحد زمانه في علم الحديث. خرج كتابه هذا أحاديث كتاب هام شائع بين المسلمين هو كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي، وذلك بأن يذكر طرف الحديث من أحاديث الإحياء ثم يبين من أخرجه، وصحابيه الذي رواه، ويتكلم عليه تصحيحا أو تحسينا أو تضعيفا. وهو مطبوع مع كتاب الإحياء، وهذا الكتاب هو مختصر من تخريج كبير واسع صنفه على أحاديث الإحياء، لم يعثر عليه، وقد ضمن الزبيدي في شرحه للإحياء هذا التخريج الكبير. 3 - "التخليص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير" للحافظ ابن حجر. خرج فيه أحاديث الشرح الكبير للرافعي الذي شرح به كتاب الوجير في الفقه الشافعي للإمام الغزالي، ولخص في تخريجه هذا كتبا عدة صنفت قبله في تخريج أحاديث الشرح الكبيرن وأفاد كذلك من نصب الراية للزيلعي، فجاء كتابه حافلا جامعا لما تفرق في غيره من

الفوائد، وطريقته فيه أن يورد طرفا من الحديث الوارد في الشرح الكبير ثم يخرجه من المصادر ويذكر طرقه ورواياته ويتكلم عليه تفصيلا جرحا وتعديلا، وصحة وضعفا، ثم يذكر ما ورد من أحاديث في معنى الحديث باستيفاء، وهكذا حتى صار مرجعا في أحاديث الأحكام لا يستغنى عنه. ثامنا: الأجزاءك الجزء: في اصطلاح المحدثين: هو تأليف يجمع الأحاديث المروية عن رجل واحد سواء كان ذلك الرجل من طبقة الصحابة أو من بعدهم: كجزء حديث أبي بكر -وجزء حديث مالك .. كما أنه يطلق الجزء على التأليف الذي يدرس أسانيد الحديث الواحد ويتكلم عليه مثل: "اختيار الأولى في حديث اختصام الملأ الأعلى" للحافظ ابن رجب. كما أن الأجزاء الحديثية قد توضع في بعض الموضوعات الجزئية مثل جزء القراءة خلف الإمام للبخاري. والرحلة في طلب الحديث للخطيب البغدادي. وقد يجمع في الجزء أحاديث انتخبها المؤلف لما وقع لها في نفسهن كالعشاريات، والعشرينات، والأربعينات، والخمسينات، والثمانيات. ويتفاوت حجم الأجزاء من بضع أوراق إلى العشرات، والغالب أن تكون صغيرة، وتمتاز بأنها تبرز علم الأئمة، لما أن إفراد الموضوع الجزئي بالبحث يتطلب استقصاءا وعمقا. تاسعا: المشيخات وهي كتب يجمع فيها المحدثون أسماء شيوخهم، وما تلقوه عليهم

من الكتب أو الأحاديث مع إسنادهم إلى مؤلفي الكتب التي تلقوها. ولهم فيها مسالك عديدة في ترتيبها، ومنها ما يسمى فهرسا أو ثبتا، ومن أشهرها برنامج الرعيني المسمى "الإيراد لنبذة المستفاد من الرواية والإسناد"، و"فهرست الإمام أبي بكر محمد بن خير"، وكلاهما نفيس، مطبوع. عاشرا: العلل وهي الكتب التي يجمع فيها الأحاديث المعلةن مع بيان عللها، والتصنيف على العلل يأتي في الذروة من أعمال المحدثين، لما يحتاج إليه من الجهد الحثيث والصبر الطويل في تتبع الأسانيد، وإمعان النظر، وتكراره فيها لاستنباط خفي أمرها الذي يستره الطلاء الظاهري الموهم للصحة (¬1). هذا وقد عني العلماء بآداب الطالب والمحدث فتكلموا عنها في الكتب التي صنفوها في رواية الحديث، وأفردها الخطيب البغدادي بتأليف جيد سماه "الجامع لأخلاق الراوي، وآداب السامع". 3 - كيفية سماع الحديث وتحمله وضبطه: أهلية التحمل: اختلفت عبارات العلماء في أهلية التحمل، ونستطيع أن نخلص ما قالوه بمعيار جامع ترجع إليه كل أقوالهم فنقول: ¬

_ (¬1) اكتفينا بهذه النبذة لملاءمة موضوع الكتاب، مع أن الإفادة الحقيقية الكاملة من هذه المراجع لا بد لها من المطالعة فيها مع التمعن والتفهم، لا يغني عن ذلك تطويل في البحث النظري.

ركن أهلية التحمل عند الجمهور هو التمييز الذي يعقل به الناقل بما يسمعه ويضبطه. وقد ضبط ذلك كثير من المحدثين في حده الأدنى بالسن وهو خمس سنين، ونسبه القاضي عياض (¬1) إلى أهل الحديث. قال ابن الصلاح: "التحديد بخمس هو الذي استقر عليه عمل أهل الحديث المتأخرين، فيكتبون لابن خمس فصاعدا: "سمع"، ولمن لم يبلغ خمسا: "حضر" أو"أحضر". وهذا يفهمك معنى ما تجده على الكتب الخطية في تسجيل سماعاتها على العلماء وبيان أسماء السامعين، فيقولون: سمع هذا الكتاب فلان وفلان وحضر فلان. إلا أن التحقيق في هذا والتدقيق هو ما ذكرناه أولا من أن المعيار هو التمييز، وهذا هو مذهب الجمهور، وهو الصحيح المعول عليه. أما التقييد بخمس سنين فلا ينافيه، قال القاضي عياض (¬2): "ولعلهم إنما رأوا هذا السن أقل ما يحصل به الضبط وعقل ما يسمع وحفظه. وإلا فمرجوع ذلك العادة، ورب بليد الطبع غبي الفطرة لا يضبط شيئا فوق هذا السن، ونبيل الجبلة ذكي القريحة، يعقل دون هذا السن". ويتفرع على هذا صحة سماع الكافر والفاسق بحيث يقبل منه بعد الإسلام والتوبة النصوح ما كان قد تحمله حال الكفر أو الفسق، ¬

_ (¬1) في الإلماع: 62. (¬2) الإلماع: 64.

وهذه كتب السنة والسيرة فيها كثير من سماعات الصحابة لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم ومشاهداتهم لأحواله قبل أني يسلموا. أما الكمال والدرجة العليا للسماع فمداره على التأهل للضبط الفقهي والانتفاع بالعلم، وذلك يحتاج لسن كبير يشغله بتحصيل القرآن ومبادئ العلوم. قال أبو عبد الله الزبيري: "يستحب كتب الحديث في العشرين، لأنها مجتمع العقل، وأحب أن يشتغل دونها بحفظ القرآن والفرائض" (¬1). وقال سفيان الثوري وغيره: "كان الرجل إذا أراد أن يطلب الحديث تعبد قبل ذلك عشرين سنة" (¬2). وهذا لا يمنع أن يبكر بالسماع للكتب، وأخذ الإسناد بها منذ الصغر بظهور التمييز وبزوغه، كما نبه على ذلك أئمة العلمن قال الخطيب: "ولهذا بكروا بالأطفال في السماع من الشيوخ الذين علا إسنادهم" (¬3). وقد ذكروا من الروايات حول صنيع الأمة في هذا الأمر ما يدل دلالة عظيمة على عنايتهم بتحصيل العلم وتنافسهم فيه ذلك التنافس والتسابق الذي يثير المواهب ويكون العبقريات في البراعم الرطبة؛ الأطفال. هذا الخطيب البغدادي يروي في كفايته (¬4) عن أحمد بن حنبل قال في سفيان بن عيينة: "أخرجه أبوه مكة وهو صغير فسمع من الناس عمرو بن دينار وابن أبي نجيح في الفقه، ليس تضمه إلى أحد ¬

_ (¬1) الكفاية نقلا عن الرامهرمزي ص: 55، وانظر الإلماع: 65. (¬2) الكفاية: 54. (¬3) المرجع السابق: 63 - 64. وانظر علوم الحديث: 115. (¬4): 60.

إلا وجدته مقدما" اهـ. وكان في أذن سفيان آنئذ قرط من ذهب لصغره. وهذا الأعمش يقال له: هؤلاء الغلمان حولك؟ ! فقال: "اسكت، هؤلاء يحفظون عليك أمر دينك" (¬1). ويقول القاضي عبد الله بن محمد الأصبهاني: "حفظت القرآن ولي خمس سنين، وحملت إلى أبي بكر المقري لأسمع ولي أربع سنين، فقال بعض الحاضرين: لا تسمعوا فيما قرئ فإنه صغير. فقال لي ابن المقري: اقبرأ سورة الكافرون فقرأتها، فقال: "اقرأ سورة التكوير" فقرأتها. فقال لي غيره: "اقرأ سورة المرسلات" فقرأتها ولم أغلط فيها. فقال ابن المقري: "سمعوا له والعهدة علي" (¬2). وهذا من أطرف ما يسمع في حفظ الصغير ونبوغه في كل الأمم، وإنه لدليل قاطع يثبت ما كانت عليه تلك المجتمعات الإسلامية من التنافس في تحصيل العلم سيما علوم الشريعة وعلى رأسها القرآن والحديث. حتى إن ذلك ليعتبر عندهم من الضرورة بالمنزلة التي تفوق كل شيء. وهكذا على قبس من علوم الشريعة، وعلي هدي من نبراسها انطلقوا في شتى ميادين العلم، فسبقوا أمم الأرض، وكانوا رواد الحضارة: فابن رشد الحفيد إمام في الفلسفة والعلوم وفي الفقه والاجتهاد، وابن النفيس علامة مخترع في البصريات، وفقيه شافعي معتبر، ذكره السبكي في طبقات الشافعية، وهكذا غيرهم كثير، تحدثنا أخبارهم بالنبأ اليقين عن النهضة العلمية الشاملة في ظل الحضارة الإسلامية. ¬

_ (¬1) الكفايةك 63. (¬2) الكفاية: 64 - 65.

الفصل الثاني: طرق أخذ الحديث وتحمله

الفصل الثاني: طرق أخذ الحديث وتحمله حصر العلماء طرق الأخذ للحديث وتلقيه عن الرواة بثماني طرق، توسعوا في دراستها وبيان أحكامها، نخلص لك أصولها فيما يلي: 1 - السماع: وهو الوسيلة التي تلقى الحديث بواسطتها رعيل المحدثين الأوائل عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم رووه بها للناس أيضا. فلا غرو أن يعتبر أعلى مراتب التلقي للحديث، و"أرفع درجات أنواع الرواية عند الأكثرين" (¬1) من المحدثين وغيرهم. والعمدة في هذا القسم على سماع لفظ الشيخ. وذلك قد يكون بمجرد سرده للحديث، وقد يكون إملاء، سواء كان من حفظه أو بالقراءة من كتابه. فكل ذلك سماع عند المحدثين. 2 - العرض: سلك المحدثون هذا الطريق بعد أن انتشر التدوين، وأصبحت كتابة الحديث أمرا شائعا. ومعنى العرض عندهم: القراءة على الشيخ من حفظ القارئ، أو من كتاب بين يديه. وهو طريق صحيحة في تلقي الحديث، والرواية به سائغة بالإجماع. لكن اختلفوا هل هو مثل السماع في المرتبة أو دونه أو فوقه. ويمكن أن نوفق فنقول برجحان العرض فيما إذا كان الطالب ممن يستطيع إدراك الخطأ فيما يقرأ والشيخ حافظ غاية الحفظ، أما إذا لم يكن الأمر كذلك فالسماع أرجح. ¬

_ (¬1) الإلماع: 69. ونحوه قاله ابن الصلاح: 122، وغيره.

وقد وجدنا -بعد تقريرنا لذلك- الحافظ ابن عبد البر (¬1) أخرج عن مالك أنه سئل: "أفيعرض عليك الرجل أحب إليك أو تحدثه؟ " قال: "بل يعرض إذا كان يثبت في قراءته، فربما غلط الذي يحدث أو ينسى". وهذا يفيد أنه إذا لم يبلغ هذه المرتبة لا يفضل على السماع. 3 - الإجازة: والإجازة هي إذان المحدث للطالب أن يروي عنه حديثا أو كتابا أو كتبا من غير أن يسمع ذلك منه أو يقرأه عليه، كأن يقول له: أجزتك أو أجزت لك أن تروي عني صحيح البخاري، أو كتاب الإيمان من صحيح مسلم. فيروي عنه بموجب ذلك من غير أن يسمعه منه أو يقرأه عليه. وقد أجاز الرواية بها جمهور العلماء، من أهل الحديث وغيرهم (¬2). وقد وجد المصنفون في هذا الفن غموضا في الاستدلال لجواز الإجازة (¬3)، لكنا نوضحه لك فنقول: إن العلماء اعتمدوا على الإجازة بعدما دون الحديث وكتب في الصحف وجمع في التصانيف، ونقلت تلك التصانيف والصحف عن أصحابها بالسند الموثوق الذي ينتهي بقراءة النسخة على المؤلف أو مقابلتها بنسخته، فأصبح من العسير على العالم كلما أتاه طالب من طلاب الحديث أن يقرأ الكتاب، فلجئوا إلى الإجازة. فالإجازة فيها إخبار على سبيل الإجمال بهذا الكتاب أو الكتب ¬

_ (¬1) في جامع بيان العلم وفضله: 2: 178. وفي النسخة "إن تحدثه". وهو تصحيف مطبعي. وانظر تفصيل كلمة مالك هذه الإلماع: 74. وانظر للتوسع المحدث الفاصل: 420 والكفاية: 274 وما بعد. (¬2) انظر الإلماع: 89 واختصار علوم الحديث: 119. (¬3) علوم الحديث: 135 - 136.

أنه من روايته. فتنزل منزلة إخباره بكل الكتاب نظرا لوجود النسخ، فإن دولة الوراقين قد قامت بنشر الكتب بمثل ما تفعله المطابع الآن. ولهذا لا يجوز لمن حمل بالإجازة أن يروي بها إلا بعد أن يصحح نسخته على نسخة المؤلف، أو على نسخة صحيحة مقابلة على نسخة المؤلف، أو نحو ذلك مما نسخ وصحح على النسخ المقابلة المصححة. وقد ذكروا للإجازة أنواعا كثيرة، اعتنى القاضي عياض بها في الإلماع، وتقصاها بما لم يسبق إليه، وذكر لها ستة أنواع، ثم جاء ابن الصلاح ولخص كلامه وزاد عليها نوعا وادا فبلغت سبعة أنواع (¬1)، وأعلاها: أن يجيز الشيخ لشخص معين كتابا معينا أو كتبا معينة حال كونهما عالمين بهذا الكتاب. وهذا النوع يتحقق فيه معنى الأخبار الذي شرحناه كاملا قويا عاليا. لذلك قال العلماء: "إنما تستحسن الإجازة إذا كان المجيز عالما بما يجيز: والمجاز له من أهل العلم، لأنه توسع وترخيص يتأهل له أهل العلم لمسيس حاجتهم إليها" (¬2). ¬

_ (¬1) نوجزها فيما يلي: آ- أن يجيز الشيخ لشخص معين أو أشخاص بأعيانهم كتابا يسميه أو كتبا يسميها لهم وهي جائزة عند الجمهور. ب- الإجازة من معين في غير معين مثل أن يقول: "أجزت لك أن تروى عني ما أرويه، وهي مما يجوزه الجمهور. جـ- الإجازة العامة كان يقول، أجزت للمسلمين أو للموجودين. د- الإجازة للمجهول أو بالمجهول، وهي فاسدة. هـ- الإجازة للمعدوم كالإجازة للحمل في بطن أمه وهي غير صحيحة أيضا. وإجازة ما لم يسمعه المجيز كأن يقول: أجزت لك أن تروي عني ما ساسمعه والصحيح بطلانها، كما نص القاضي عياض وابن الصلاح وغيرهما. ز- إجازة المجاز مثل أن يقول: أجزت لك إجازاتي، وهي جائزة. انتهى ملخصا بإيجاز شديد من علوم الحديث: 134 - 144. وانظر التفصيل الوافي في كتاب الإلماع: 87 - 170. (¬2) علوم الحديث: 145، وهذا أقره المصنفون كافة.

وقد قوّى ذلك ابن عبد البر فقال في جامع بيان العلم وفضله (¬1): "تلخيص هذا الباب أن الإجازة لا تجوز إلا لماهر بالصناعة حاذق بها، يعرف كيف يتناولها، ويكون في شيء معين معروف لا يشكل إسناده فهذا هو الصحيح من القول في ذلك". 4 - المناولة: ومعنى المناولة عند المحدثين أن يعطي الشيخ للتلميذ كتابا أو صحيفة ليرويه عنه. والأصل فيها ما علقه البخاري في كتاب العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب لأمير السرية كتابا، وقال: لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا وكذا، فلما بلغ ذلك المكان قرأه على الناس وأخبرهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم" وصله البيهقي والطبراني بسند حسن، واحتج به البخاري (¬2) على صحة المناولة .... " وهو فقه صحيح" كما قال السهيلي (¬3). والمنأولة ثلاثة أنواع: النوع الأول: المناولة المقرونة بالإجازة مع التمكين من النسخة. وهي أعلى أنواع الإجازة على الإطلاق. مثل: أن يدفع الشيخ كتابه الذي رواه أو نسخة منه، وقد صححها، أو أحاديث من أحاديثه وقد انتهبا وكتبها بخطه، أو كتبت عنه فعرفها، فيقول للطالب: هذه روايتي فاروها عني ويدفعها إليه، أو يقول له خذها فانسخها، وقابل بها، ثم اصرفها إلي، وقد أجزت لك أن تحدث بها عني، أو أروها عني. أو يأتيه الطالب بنسخة صحيحة من رواية الشيخ أو بجزء منه ¬

_ (¬1): 2: 180. (¬2) التدريب: 268 وانظر البخاري: 1: 19. والإلماع: 81. (¬3) في الروض الآنف 2: 59. وانظر إرشاد الساري: 1: 217.

حديثه فيقف عليه الشيخ ويعرفه ويحقق صحته ويجيزه له. فهذا كله عند مالك وجماعة من العلماء بمنزلة السماع (¬1). وقال عياض: "وهي رواية صحيحة عند معظم الأئمة والمحدثين .... وهو قول كافة أهل النقل والأداء والتحقيق من أهل النظر". النوع الثاني: المناولة المقرونة بالإجازة من غير تمكين من النسخة: وهذا لا يمتاز في ظاهره عن الإجازة، لكن المشايخ من أهل الحديث يرون له مزية على الإجازة (¬2). ووجه هذه المزية فيما نرى أن في المناولة تأكيدا لمعنى الأخبار الذي اشتملت عليه الإجازة وتقوية لأمره. النوع الثالث: المناولة المجردة عن الإجازة. وصورة هذا النوع: أن يناوله الكتاب ويقتصر على قوله: "هذا من حديثي أو من سماعاتي". ولا يقول له أروه عني أو أجزت لك روياته عني، أو نحو ذلك. وهذه مناولة مختلة لا تجوز الرواية بها عند كثير من المحدثين. وذهب البعض إلى جواز الرواية بها لما سيأتي في قسم الأعلام إن شاء الله (¬3). 5 - المكاتبة: وهي أن يكتب المحدث إلى الطالب شيئا من حديثه ويبعثه إليه، وهي على نوعين: النوع الأول: المكاتبة المقرونة بالإجازة. ¬

_ (¬1) الإلماع: 79. (¬2) الإلماع: 83. (¬3) في الصفحة التالية.

وهي في الصحة والقوة شبيهة بالمناولة المقرونة بالإجازة. النوع الثاني: المكاتبة المجردة من الإجازة. والصحيح المشهور بين أهل الحديث هو تجويز الرواية بها، فإنها لا تقل عن الإجازة في إفادة العلم، "وقد استمر عمل السلف فمن بعدهم من المشايخ بالحديث بقولهم: كتب إلي فلان قال: أخبرنا فلان، وأجمعوا على مقتضى هذا التحديث، وعدوه في المسند بغير خلاف يعرف في ذلك. وهو موجود في الأسانيد كثير (¬1) ". 6 - الإعلام: وهو إعلام الراوي للطالب أن هذا الحديث أو هذا الكتاب سماعه من فلان. من غير أن يأذن له في روايته عنه. أي من غير أن يقول: اروه عني، أو أذنت لك في روايته". أو نحو ذلك. وقد ذهب بعض أئمة الأصول، واختاره ابن الصلاح إلى أنه لا تجوز الرواية بذلك (¬2). لأنه يجوز أن يكون فيه خلل يمنع من روايته عنه. وذهب كثير من المحدثين والفقهاء والأصوليين إلى جواز الرواية لما تحمله بالإعلام من غير إجازة، ورجحه الرامهرمزي، وقال عياض فيه "صحيح لا يقتضي النظر سواه، لأنه منعه أن لا يحدث بما حدثه لا لعلة ولا ريبة في الحديث لا يؤثر؛ لإنه قد حدثه فهو شيء لا يرجع فيه (¬3) ". ووجه هذا: أن التحمل قد صح بالإجازة لما فيها من إخبار على ¬

_ (¬1) الإلماع: 86. وانظر الكفاية: 345. (¬2) علوم الحديث: 156. والإلماع. 110. (¬3) الإلماع: 110. وانظر الكفاية: 348. والتدريب: 279 - 280.

سبيل الإجمال. والإعلام فيه نفس المعنى، بل هو أقوى، حيث أشار إلى الكتاب بعينه وقال: هذا سماعي من فلان. 7 - الوصية: الوصية وسيلة ضعيفة من طرق التحمل، وهي: أن يوصي المحدث لشخص أن تدفع له كتبه عند موته أو سفره. وقد رخص بعض العلماء من السلف للموصى له أن يرويه عن الموصي بموجب تلك الوصية، لأن في دفعها له نوعا من الإذن وشبها من العرض والمناولة، وهو قريب من الإعلام (¬1). لكن خالف في ذلك ابن الصلاح، وباعد جدا بين الوصية وبين الإعلام، وأنكر ذلك على من قاله، وقال (¬2): "هذا بعيد، وهو إما زلة عالم أو متأول على أنه أراد الرواية على سبيل الوجادة التي يأتي شرحها". وهو -فيما نرى- قول سديد قوي، فإن الوصية إنما تفيد تمليك النسخةن فهي كالبيع، وذلك أمر آخر غير الأخبار بمضمونها. 8 - الوجادة: الوجادة (¬3) هي: أن يجد لمرء حديثا أو كتابا بخط شخص بإسناده. فله أن يروي عنهعلى سبيل الحكاية فيقول: "وجدت فلان حدثنا فلان .... ". وله أن يقول: قال فلان" إذا لم يكن فيه تدليس يوهم اللقي. أما روايته بـ"حدثنا" أو "أخبرنا" أو نحو ذلك مما يدل على اتصال ¬

_ (¬1) الإلماع: 115. وانظر فتح المغيث: 232. (¬2) علوم الحديث: 157. (¬3) الوجادة مصدر لـ"وجد يجد" مولد غير مسموع من العرب.

السند فلا يجوز إطلاقا، ولا يعلم عن أحد يقتدى به من أهل العلم فعل ذلك، ولا يمن يعده معد المسند، أي المتصل الإسناد. ثم اختلف أئمة الحديث والفقه والأصول بما وجد من الحديث بالخط المحقق لإمام، أو أصل من أصول ثقة مع اتفاقهم على منع النقل والرواية بحدثنا أو أخبرنا أو نحوهما: فمعظم المحدثين والفقهاء من المالكية وغيرهم لا يرون العمل به. وحكي عن الشافعي جواز العمل به، وقالت به طائفة من نظار أصحابه ومن أرباب التحقيق (¬1). وهذا هو الراجح الذي يدل عليه الدليل، لأننا مكلفون شرعا أن نعمل بما يثبت لدينا صحته، وإذا ثبتت صحة الكتاب الذي وجدناه وجب العمل به، لا سيما وقد أصبتحت الضرورة تحتم ذلك، و"في الأعصار المتأخرة، فإنه لو توقف العمل فيها على الرواية لا نسد باب العمل بالمنقول، لتعذر شرط الرواية فيها". وفي هذه المسألة طرافة يجب التنبه إليها، وهي الفرق بين صحة الرواية وبين وجوب العمل، فلا تصح الرواية بالوجادة للكتاب أي لا يصح أن يقول: أخبرني فلان، أو حدثني أو غير ذلك لعدم وجود طريقة التحمل التي تسمح بذلك، لكن يجب العمل بمضمونه عند حصول الثقة بنسبة الكتاب إلى صاحبه، لأن ذلك هو الذي يوجب العمل ... وقد قال بمثل ذلك من منع الرواية بالإعلام. ومن هنا فإننا نستطيع القول بأن الدكتور الفاضل صبحي الصالح قد تسامح حيث قال (¬2): "بل لقد أمسى المتأخرون لا يجدون حاجة ¬

_ (¬1) الإلماع: 117. وفتح المغيث: 235. وتوضيح الأفكار: 2: 348 وغيرها. (¬2) في كتاب علوم الحديث ومصطلحه: 87.

للرحلة ولا لتحمل مشاقها مذ أصبح حقا لهم ولغيرهم أن يرووا كل ما يجدون من الكتب والمخطوطات سواء ألقوا أصحابها أم لم يلقوهم"، فهذا القول بإطلاقه لم يحرر حكم الإجادة، لأن الرواية بها كما علمت لا تعتبر صحيحة متصلة السند إلى أصحابها. لكن يجب العمل بمضمونها إذا حصلت الثقة به، وذلك بملاحظة توفر الشروط المقررة في تحقيق المخطوطات. 4 - صفة رواية الحديث وشرط أدائه: أداء الحديث: هو تبليغه وإلقاؤه للطالب بصورة من صور الأداء. وصور الأداء فرع مطابق لصور التحمل التي سبق درسها، فيحق لمن تحمل الحديث بأي قسم من أقسام التحمل أن يؤديه بأي قسم منها أيضا، ولا يشترط أن يكو أداؤه على نفس القسم من أقسام التحمل الذي تلقى به الحديث. وقد تعرض العلماء في معرفة هذا النوع إلى فروع كثيرة، ترجع إلى أصل أساسي هو ركن أداء الحديث. نحدده لك فنقول: ركن أداء الحديث: هو روايته وتبليغه بصورة من صور الأداء، بصيغة تدل على كيفية تحمله. وهو إما أن يكون من حفظ الراوي أو من كتابه، وقد احتاط المحدثون جدا في الأداء بهما. ولم يجوزوا للراوي أن يحدث إلا بما تحقق أنه الصواب، "فمتى كان بخلاف هذا أو دخله ريب أو شك لم

يجز له الحديث بذلك، إذ الكل مجمعون على أنه لا يحدث إلا بما حقق، وإذا ارتاب في شيء فقد حدث بما لم يحقق أنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم ويخشى أن يكونوا مغيرا، فيدخل في وعيد من حدث عنه بالكذب، وصار حديثه في الظن، والظن أكذب الحديث" (¬1). "وقد شدد قوم في الرواية -كما قال ابن الصلاح (¬2) - فأفرطوا، وتساهل فيها آخرون ففرطوا: ومن مذاهب التشديد مذهب من قال: لا حجة إلا فيما رواه الراوي من حفظه وتذكره، وذلك مروي عن مالك وأبي حنيفة رضي الله عنهما". "والصواب ما عليه الجمهور، وهو التوسط بين الأفراط والتفريط، فإذا قام الراوي في الأخذ والتحمل بالشرط الذي تقدم شرحه، وقابل كتابه، وضبط سماعه على الوجه الذي سبق ذكره جازت له الرواية منه وإن أعاره وغاب عنه إذا كان الغالب من أمره سلامته من التبديل والتغيير، لا سيما إذا كان ممن لا يخفى عليه في الغالب -لو غير شيء منه وبدل- تغييره وتبديله". ونسوق لك أهم ما ذكروا من المسائل في هذا الباب: أولا- العبارة عن النقل بوجوه التحمل: استعمال لفظ من ألفاظ الأداء ينبغي أن يكون على مطابقة اللفظ للصفة التي تحمل بها الراوي حديثه الذي يرويه، وقد ذكروا للك طريقة من طرق التحمل صيغا خاصة بها في الأداء تعبر عنها وتنبئ بها، نوضحها لك فيما يلي: ¬

_ (¬1) الإلماع: 135. (¬2) علوم الحديث: 185.

1 - العبارة عن التحمل بالسماع: يسوغ فيه كل ألفاظ الأداء مثل حدثنا، وأخبرنا، وخبرنا، وأنبأنا، وعن، وقال، وحكى، وإن فلانا قال، فإنها تطلق على إفادة السماع من المحدث، كما صرح بذلك القاضي عياض (¬1) وغيره. وقد درج على هذا الاطلاق أكثر رواة الحديث المتقدمين. ثم وجد النقاد بعد انتشار التدوين والتلقي بالإجازة ونحوها وجدوا فيه توسعا يؤدي إلى اشتباه السماع بغيره، لذلك رجحوا الأداء بلفظ يدل على السماع في استعمال المحدثين. وأرفع الألفاظ: سمعت، ثم حدثنا، وحدثني، كما ذكر الخطيب في الكفاية (¬2). 2 - العبارة عن التمل بالعرض: أسلم العبارات في ذلك أن يقول: "قران على فلان، أو قرئ على فلان وأنا أسمع"، ثم أن يقول "حثدنا فلان قراءة عليه"، ونحو ذلك. أما إطلاق حدثنا وأخبرنا في هذا فقد ذهب إلى جواز استعمالهما في العرض الإمام البخاري والزهري ومعظم الحجازيين، والكوفيين. وذهب الشافعي والإمام مسلم وأهل المشرق إلى التمييز بينهما والمنع من إطلاق "حدثنا" واختيار "أخبرنا". وكل من "حدثنا" و"أخبرنا" من حيث لسان العرب بمعنى واحد، إنما أصطلح المحدثون على التمييز بينهما في الاستعمال، ثم صار التفريق بينهما هو الشائع الغالب على أهل الحديث. ¬

_ (¬1) الإلماع: 135. (¬2) 284. وانظر علوم الحديث: 119 - 121.

3، 4 - العبارة عن التحمل بالإجازة أو المناولة: اصطلح المتأخرون على إطلاق "أنبأنا" في الإجازة، وكان هذا اللفظ عند المتقدمين بمنزلة "أخبرنا"، فإن قال: "أنبأنا إجازة أو مناولة" فهو أحسن، ومما عبر به كثير من الرواة المتقدمين والمتأخرين قولهم: أخبرنا فلان إذنا. أو فيما أذن لي فيه، أو فيما أطلق لي الحديث به عنه، أو فيما أجاز فيه، وهي عبارات حسنة تفصل الإجازة والمناولة عن السماع والعرض. وكان الأوزاعي يخصص الإجازة بقوله: "خبرنا" بالتشديد (¬1). 5 - العبارة عن التحمل بالمكاتبة: جوز الليث بن سعد وغير واحد من علماء المحدثين إطلاق "حدثنا" و"أخبرنا" في الرواية بالمكاتبة، والأولى قول من يقول فيهاك "كتب إلي فلان قال: حدثنا فلان"، أو "أخبرني فلان مكاتبة أو كتابة". 6، 7 - العبارة عن الإعلام أو الوصية: وذلك على القول بتسويغ الرواية والأداء لمن تحمل بهما، وهو على هذا القول جار مجرى الإجازة، فنرى أن يراعى فيه ما ذكرنا في الإجازة. أما على القول بفساد الرواية بهما. فإنهما يلحقان بالوجادة في صيغ الأداء. 8 - العبارة عن الوجادة: يجوز لمن تحمل بالوجادة أن يرويه على سبيل الحكاية فيقول: "وجدت بخط فلان: حدثنا فلان". ¬

_ (¬1) الإلماع: 128 - 132، وعلوم الحديث: 150 - 152 واختصاره: 124.

ويقع هذا في مسند الإمام أحمد، يقول ابنه عبد الله "وجدت بخط أبي حدثنا فلان". وله أن يقول: "قال فلان"، وكذا: "ذكر فلان"، و"بلغني عن فلان". أهمية اصطلاحات الأداء: هذه اصطلاحات المحدثين في العبارة عن وجوه التحمل لخصنا القول فيها وحررناه. ونود أن ننبه إلى أن قضية هذه الاصطلاحات، ليست مجرد ألفاظ تشرح، وقد مضى زمانها كما يتوهم، حتى إن بعض الناس قد يغفلها ويتركها في زواية الاهمال، بل إن لهذه الاصطلاحات صلة قوية بالهدف الأساسي لهذا العلم أي معرفة المقبول والمردود، ومن أوجه ذلك. 1 - أنها تعرفنا الطريقة التي حمل بها الراوي حديثه الذي نبحثه، فنعلم هل هي صحيحة، أو فاسدة، وإذا كانت فقد اختل أحد شروط القبول في الحديث. 2 - أن الراوي إذا تحمل الحديث بطريقة دنيا من طرق التحمل ثم استعمل فيه عبارة أعلى كأن يستعمل فيها تحمله بالإجازة: حدثنا أو أخبرنا كان مدلسا، وربما أتهمه بعض العلماء بالكذب بسبب ذلك. مثالهك أحمد بن محمد بن إبراهيم السمرقندي: اتهم في أحاديثه الكثيرة عن محمد بن نصر المروزي، وإنما هو تدليس، حصل على إجازة منه وصار يستعمل صيغة حدثنا ونحوها، وهذا تدليس. وكذا إسحاق بن راشد الجزري كان يطلق حدثنا في الوجادة، فسلكوه في عداد المدلسين (¬1). ¬

_ (¬1) تعريف أهل التقديس: 4. وانظر الإلماع: 119.

ثانيا: الرواية بالمعنى وهي من أهم مسائل علوم الرواية الحديث، لما وقع فيها من الخلاف والالتباس، وما أثير حولها من الشبهات: لا خلاف بين العلماء في أن الجاهل والمبتدئ ومن لم يمهر في العلم، ولا تقدم في معرفة تقديم الألفاظ وترتيب الجمل، وفهم المعاني يجب عليه ألا يروي ولا يحكي حديثا إلا على اللفظ الذي سمعه، وأنه حرام عليه التعبير بغير لفظه المسموع، إذ جميع ما يفعله من ذلك تحكم بالجهالة وتصرف على غير حقيقة في أصول الشريعة، وتقول على الله ورسوله. ثم اختلف السلف وأرباب الحديث والفقه والأصول في تسويغ الرواية بالمعنى لأهل العلم بمعاني الألفاظ ومواقع الخطاب: فشدد كثير من السلف وأهل التحري من المحدثين والفقهاء فمنعوا الرواية بالمعنى، ولم يجيزوا لأحد الأتيان بالحديث إلى على لفظه نفسه. وذهب جمهور العلماء ومنهم الأئمة الأربعة إلى جواز الرواية بالمعنى من مشتغل بالعلم ناقد لوجوه تصرف الألفاظ إذا انضم لاتصافه بذلك أمران: أن لا يكون الحديث متعبدا بلفظه، ولا يكون من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم (¬1). وهذا هو الصحيح المعتمد، لأن الحديث إذا كان بهذه المثابة كانت ¬

_ (¬1) انظر في هذا الموضوع الإلماع: 174 - 178 وكشف الأسرار: 7740779 وشروح التوضيح: 2: 13، وفواتح الرحموت: 2: 167، وشرح التحرير لابن أمير حاج: 2: 285 - 288. وشرح العضد على مختصر ابن الحاجب: 2: 70 - 71 وشروح جمع الجوامع: 2: 106 - 107.

العمدة فيه على المعنى لا اللفظ، فإذا رواه العالم على المعنى فقد أدى المطلوب المقصود منه. يدل على ذلك اتفاق الأمة على أنه يجوز للعالم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينقل معنى خبره بغير لفظه وغير اللغة العربية (¬1). وأيضا فإن ذلك كما هو ظاهر "هو الذي تشهد به أحوال الصحابة والسلف الأولين، كثيرا ما كانوا ينقلون معنى واحدا في أمر واحد بألفاظ مختلفة، وما ذلك إلا لأن معولهم كان على المعنى دون اللفظ". تنبيهان: 1 - ثمة أمر هام يجدر التنبه إليه، والتيقظ له، وهو أن هذا الخلاف في الرواية بالمعنى إنما كان في عصور الرواية قبل تدوين الحديث، أما بعد تدوين الحديث في المصنفات والكتب فقد زال الخلاف ووجب اتباع اللفظ، لزوال الحاجة إلى قبول الرواية على المعنى، "وقد استقر القول في العصور الأخيرة على منع الرواية بالمعنى عملا. وإن أخذ بعض العلماء بالجواز نظرا" (¬2). فلا يسوغ لأحد الآن رواية الحديث بالمعنى، إلى على سبيل التذكير بمعانيه في المجالس للوعظ ونحوه، فأما إيراده على سبيل الاحتجاج أو الرواية في المؤلفات فلا يجوز إلا باللفظ. وقد غفل عن هذا بعض من تصدر للحديث من العصريين حيث عزا ¬

_ (¬1) انظر للتوسع الكفاية: 198 - 203. والمراجع الأصولية السابقة وتوجيه النظر للعلامة الشيخ طاهر الجزائري: 298 - 312 فقد استوفى الأقوال وأدلتها وناقش الموضوع مناقشة جيدة. وراجع قواعد التحديث للقاسمي: 222 - 225. (¬2) انظر التنبيه على ذلك في علوم الحديث: 191 وشرح الألفية: 2: 5 والباعث الحثيث: 143 وغيرها.

أحاديث كثيرة إلى مصادرها بغير لفظها، زاعما أنها "ليست قرآنا نتعبد بلفظه ... ! ". 2 - ينبغي لمن يروي حديثا بالمعنى أن يراعي جانب الاحتياط وذلك بأن يتبعه بعبارة: "أو كما قال" أو"نحو هذا" وما أشبه ذلك من الألفاظ، فعل ذلك ابن مسعود، وأنس وأبو الدرداء، وغيرهم رضي الله عنهم (¬1). عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه حدث حديثا فقال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم". ثم أرعد وأرعدت ثيابه فقال: "أو شبيه ذا أو نحو ذا". وعن أبي الدرداء أنه كان إذا حدث الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم فرغ منه قال: "اللهم إن لا هكذا فكشكله". وكان أنس إذا فرغ من الحديث قال: "أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" (¬2). شبهة حول الرواية بالمعنى: هذا ما جرى عليه كثير من الرواة من الأخذ برخصة الرواية بالمعنى والعمل بموجبها لئلا يتعطل العمل بجملة كثيرة من الأحاديث، تعلم صحة مضمونها، ويؤدي اشتراط نقلها باللفظ إلى عسر يصعب على الرواة تخطيه أوالتغلب عليه. ثم جاء بعض المستغربين يضرب على وتر أساتذة المستشرقين بالمزاعم والأوهام يثيرونها حول الحديث من وراء الرواية بالمعنى زاعمين أنه ¬

_ (¬1) علوم الحديث المكان السابق. (¬2) انظر الروايات عن الصحابة وغيرهم في كتاب الكفاية: 205 - 206.

"إذا جاز للراوي تبديل لفظ الرسول بلفظ نفسه فذلك يقتضي سقوط الكلام الأول، لأن التعبير بالمعنى لا ينفك عن تفاوت، فإن توالت المتفاوتات كان التفاوت الأخير تفاوتا فاحشا بحيث لا يبقى بين الكلام الأخير وبين الأول نوع مناسبة". وهذا الطعن يعتمد أصحابه على إثارة الوساوس في النفوس، بطريق المغالطة والتغافل العنيد عن الشروط التي أحاطها العلماء حول صحة الحديث والرواية بالمعنى، وهي شروط تجعل الناظر في تصرف المحدثين يطمئن إلى أن النقل بالمعنى لم يفوت جوهرالحديث، وإنما وضع مفردات موضع مفردات أخرى في نفس المعنى. ونوجز لك بيان ذلك من وجهين (¬1). 1 - إن الرواية بالمعنى لم تجز إلا لعالم باللغة، لا يحيل المعاني عن وجهها، وهذا بالنسبة للصحابة متوفر، فهم أرباب الفصاحة وأبناء بجدة اللغة في ما أوتوا من قوة الحفظ، وما توفر من أسبابه التي ذكرنا منها طرفا، ثم من جاء بعدهم يعرض على الاختبار، ولم يقبل العلماء إلا من توفر فيه هذا الشرط. 2 - هب أن الراوي بالمعنى قد أخطأ الفهم وروى الحديث على الخطأ. أفيذهب الخطأ على العلماء؟ ! . هذا مالا يمكن! ! فإنهم يشترطون في الحديث الصحيح والحسن انتفاء الشذوذ والعلة منه، أي أن حديث الثقة لا يقبل حتى يعرض على روايات الثقات، ويتبين أنه موافق لها، سالم من القوادح الخفية. وبذلك يجتنب ما قد يطرأ على الحديث نتيجة تناقله بين رجال السند، ولا يبقى لتوهم إخلال الراوي بالحديث أي صنع. ¬

_ (¬1) وسنفصل بحث الرواية بالمعنى مع المناقشة حول هذه الشبهة في كتال الجرح والتعديل إن شاء الله.

ثالثا- اختصار الحديث: وذلك بأن يروي المحدث بعض الحديث ويحذف البعض الآخر، بشرط أن لا يكون متعلقا به. منع منه بعض العلماء ممن منع الرواية بالمعنى، لكن جمهور المحدثين قديما وحديثا ذهبوا إلى جواز ذلك، وهذا هو الصحيح، بشرط أن يكون ما "تركه متميزا عما نقله غير متعلق به بحيث لا يختل البيان، لا تختلف الدلالة فيما نقله بترك ما تركه، ... لأن الذي نقله والذي تركه -والحال هذه- بمنزلة خبرين منفصلين، في أمرين لا تعلق لأحدهما بالآخر" (¬1). وقد درج على ذلك واشتهر به الإمام البخاري، فإنه يروي الحديث الواحد في مواضع كثيرة بحسب ما يستبط من الحديث من الفوائد والأحكام، ويروي في كل مناسبة الجملة التي تلائمها من متن الحديث، ويذكره بتمامه في بعض المواضع ليعلمه القارئ كله. رابعا -مراعاة القواعد العربية: قرر العلماء واتفقوا على أنه ينبغي لطالب الحديث أن يكون عارفا بالعربية. فعن الأصمعي أنه قال: "إن أخوف ما أخاف على طالب العلم إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار"، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يلحن، فمهما رويت عنه ولحنت فيه كذبت عليه". وقال حماد بن سلمة رضي الله عنه: "مثل الذي يطلب الحديث ولا يعرف النحو مثل الحمار عليه مخلاة لا شعير فيها". فالعجب بعد هذا من أناس لا يعلم أحدهم من العربية والنحو إلا ¬

_ (¬1) علوم الحديث: 193. وقارن بكتابنا الإمام الترمذي: 102.

الاسم، بل إنه لا يقيم الكلام المضبوط بالشكل على الصواب، ثم يتسورون أصعب المراقين فيدعي أحدهم الاجتهاد في الحديث والاجتهاد في الفقه ويقابل كل مخالف لأهوائه بالشتم والسباب. ينصر بذلك السنة والدين، في زعمه الفاسد وخياله الغريب. خامسا -مراعاة المحذوف في الخط: وذلك كما ذكر ابن الصلاح وسائر العلماء: أنه "جرت العادة بحذف "قال" و"أن" ونحوهما فيما بين رجال الإسناد خطًا، ولا بد من ذكره في حالة القراءة لفظا، مثل: حدثنا أبو داود ثنا الحسن بن علي عن شبابة قال ... ". تقرأ هكذا: "حدثنا أبو داود قال: حدثنا الحسن بن علي عن شبابة أنه قال ... ". 5 - كتاب الحديث وصفة ضبطه: هذا البحث يبرز العناية التي تفرد بها المحدثون في كتابة الحديث، حتى أصبحوا قدوة الطوائف الأخرى من العلماء، لكن الناظر في مراجع هذا الفن قد يتوهم بادي الرأي أن هذا البحث مجرد وصف تاريخي لكتابة الحديث لا علاقة له بموضوع علم الحديث، وهو النظر في سند الحديث ومتنه من حيث القبول أو الرد. وهذا وهم خاطئ لا يلبث أن يتبدد إذا ما عرفنا أن الكتابة غدت منذ انتشار التدوين عنصرا هاما وركنا مكينا اعتمد عليه العلماء في حفظ

الحديث وضبطه، بعد أن طالت الأسانيد وتشعبت وكثرت فنون العلم، حتى عز على الذاكرة أحتواؤها دون مساعدة الكتاب، وقام الكتاب بدور كبير في الرواية يشبه دور الراوي كما أسلفنا (¬1). وقد استن المحدثون للكتابة آدابا تحقق الضبط الكامل لما يكتب على الصحف، ووضعوا تبعا لذلك مصطلحات ساروا عليها، أصبح من الواجب على الكاتب بمقتضى ذلك أن يسير على خطة دقيقة في الكتابة لكي يكون كتابه مقبولا معتبرا. كذلك يجب على طالب الحديث أن يعرف مصطلحاتهم في الكتابة ليكون أخذه سليما، فلا يأخذ من النسخ السقيمة، فيكون كمن حمل عن المخططين، ولا يخطئ في فهم مصطحاتهم فلا يستطيع الانتفاع بما خلفوه لنا من التراث الذي لا زال كثير منه مخطوطا لم يطبع. وكثير مما طبع منه لم يستوف شرط التحقيق العلمي الكامل! ! آداب كتاب الحديث: وأهمها هذه الأمور التي تتوقف عليها صحة النسخة والانتفاع بها: 1 - يجب على كتبة الحديث وطلبته صرف الهمة إلى ضبط ما يكتبونه أو يحصلونه بخط الغير من مروياتهم على الوجه الذي رووه شكلا ونقطا يؤمن معهما الالتباس، وكثيرا ما يتهاون بذلك الواثق بذهنه وتيقظه، وذلك وخيم العاقبة، فإن الإنسان معرض للنسيان، وأول ناس أول الناس. وينبغي أن يكون اعتناء الكاتب بضبط الملتبس من الأسماء أكثر من عنايته بضبط غيره من الأمور المتبسة، فإن الأسماء لا تدرك بالمعنى، ولا يستدل عليها بسياق الكلام. ¬

_ (¬1) في بحث الإجازة: 215 - 216.

2 - استحبوا في الألفاظ المشكلة أن يكرر ضبطها، يعني أن تضبط في متن الكتاب ثم يكتبها الكاتب مقابل ذلك في الحاشية ويضبطها، وكثيرا ما وجدناهم يكتبون بإزائها كلمة "بيان" لئلا تظن إلحاقا. 3 - ينبغي على طالب وطالب الحديث خاصة. أن يحافظ على كتبة الصلاة والتسليم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذكره، ولا يسأم من تكرير ذلك عند تكرره، فإن ذلك من أكبر الفوائد التي يتعجلها طلبة الحديث وكتبته، ومن أغفل ذلك حرم حظا عظيما، وكان بخيلا محروما. ثم ليتجتب في إثباتها أمرين: أحدهما: أن يرمز إليها بحرف مثل "ص" أو "صلعم" أو غير ذلك. والثاني: أن يقتصر على كتابة الصلاة دون السلام دون السلام أو العكس. 4 - على الطالب مقابلة كتابه بالأصل الذي أسمعهم الشيخ منه، أو بنسخة الشيخ الذي يرويه عنه، وإن كان إجازة، ولا يحل للمسلم التقي الرواية ما لم يقابل بأصل شيخه، أو نسخة تحقق ووثق بمقابلتها بالأصل. عن عروة بن الزبير رضي الله عنه أنه قال لابنه هشام: كتبت؟ قال: نعم. قال: عرضت كتابك؟ قال: لا. قال: لم يكتب؟ وعن الأخفش قال: "إذا نسخ الكتاب ولم يعارض ثم نسخ ولم يعارض خرج أعجميا". اصطلاحات كتاب الحديث: ونكتفي بإيراد أهمها مما يتوقف عليه حسن الانتفاع بالكتب الحديثية المخطوطة وسلامة الأخذ منها:

1 - ضبط الحروف المهملة: ضبط كثير من العلماء الحروف المهملة بعلامة تدل على عدم إعجامها أي عدم نقطها، واختلفت اصطلاحاتهم في ذلك مما يوجب التيقظ، والحذر من الوقوع في الخطأ. فمنهم من يقلب النقط، أي يجعل النقط الذي فوق المعجمات تحت ما يشابهها من المهملات. فينقط نقطة تحت الراء، والصاد، والطاء، والعين، ونحوها من المهملات هكذا: ر، ص، ط، ء ..... ومن أهل هذا المذهب من ذكر ان النقط التي تحت السين المهملة تكون مبسوطة صفا، هكذا يبين، والتي فوق الشين المعجمة تكون كالأثافي، أي هكذا. ومن الناس من يجعل علامة الاهمال فوق الحروف المهملة كعلامة الظفر مضجعة على قفاها هكذا س، ر .... ومنهم من يجعل تحت الحرف المهمل رسما مصغرا لنفس الحرف مفردا، كالحاء، والدال، والطاء، والصاد وسائر الحروف الملتبسة. 2 - الدائرة التي تفصل بين كل حديثين، أو بين كل فقرتين، هي علامة وضعوها للفصل والتمييز بين أحد الحديثين عن الآخر. واستحب الخطيب البغدادي أن تكون الدارات غفلا. فإذا قابل النسخة فكل حديث يفرغ من مقابلته ينقط في الدائرة التي تليه نقطة، أو يخط في وسطها خطًا. 3 - التخريج: أي إثبات شيء ساقط من الكتاب في حواشيه، وصورته أن يخط من موضع سقوطه من السطر خطا صاعدا إلى فوق، ثم يحنيه بين السطرين إلى جهة الحاشية التي يكتب فيها اللحق هكذا، أو ... ويبدأ في الحاشية بكتبة الكلام الساقط مقابلا للخط المنحني، ثم يكتب في آخره كلمة "صح".

4 - الحواشي: ما يكتب في الطرر والحواشي من تنبيه أوتفسير أو اختلاف ضبط، فلا يخرج له خط لئلا يشتبه باللحق، ويظن ظان أنه من نفس الأصل، لكن ربما جعل على الوضع المقصود بالحاشية علامة كالضبة أو التصحيح. وهذا اختيار القاضي عياض في الإلماع (¬1). واختار ابن الصلاح أن يخرج لها خط يشبه الخط المنحني الذي يوضع للحق، لكن يفترق عنه بأن خط التخريج للحق يقع بين الكلمتين اللتين سقط بينهما الساقط، وخط التخريج للحاشية يقع على نفس الكلمة التي من أجلها كتبت الحاشية. ووجدت كثيرا من العلماء يجعلون للتعليق في الحاشية علامة على هيئة الحاء التي في أول الكلمة متصلا بخط عليه نقط كالشين هكذا حشـ. وهذه الاصطلاحات ينبغي التنبه لها لئلا يشتبه ما يكتب في الحاشية من التعليقات باللحق الذي هو من أصل الكتاب. 5 - التصحيح: هو كتابة "صح" على الكلام، أو عنده، وذلك إذا كان الكلام صحيحا رواية ومعنى غير أنه عرضة للشك أو الخلاف، فيكتب عليه "صح" ليعرف أنه لم يغفل عنه، وأنه قد ضبط وصح على ذلك الوجه. 6 - التضبيب: ويسمى أيضا التمريض، ويجعل على الكلام الذي صح وروده كذلك من جهة النقل غير أنه فاسد لفظا أو معنى، أو ضعيف، أو ناقص، مثل أن يكون غير جائز من حيث العربية أو يكون شاذا وما أشبه ذلك. فيمد على مثل هذا الكلام خط أوله مثل الصاد، ولا يلزق بالكلمة المعلم عليها كيلا يظن ضربا وصورته هكذا صـ. ¬

_ (¬1) 164.

وينبغي التنبه إلى أن بعض النسخ استعمل فيها علامة التصحيح مختصرة على الحرف الأول، وقد يشتبه بالضبة، فلا بد في ذلك من التيقظ، "والفطنة" من خير ما أوتيه الإنسان". 7 - الضرب: وهو خط يمد على الكلام الغلط الذي يراد نفيه وإلغاؤه من الكتاب. وقد اختلفت اصطلاحتهم في كيفية الإلغاء بهذا الخط: فالإمام الرامهرمزي يقول (¬1): "أجود الضرب أن لا يلمس المضروب عليه، بل يخط من فوقه خطا جيدا بينا يدل على إبطاله، ويقرأ من تحته ما خط عليه". ويقول القاضي عياض في اصطلاحات المحدثين في ذلك (¬2): " ... أكثرهم على ما تقدم من مد الخط عليه، لكن يكون هذا الخط مختلطا بالكلمات المضروب عليها، وهوالذي يسمى الضرب، والشق، ومنهم من لا يخلطه، ويثبته فوقه، لكنه يعطف طرف الخط على أول المبطل، وآخره ليميزه من غيره. ومنهم من يستقبح هذا ويراه تسويدا وتطليسا في الكتاب، بل يحوق على الكلام المضروب عليه بنصف دائرة، وكذلك في آخره، وإن كثر فربما فعل ذلك في أول كل سطر وآخره من المضروب عليه للبيان، وربما اكتفى بالتحويق على أول الكلام وآخره. وربما يكتب عليه "لا" في أوله، و"إلى" في آخره. ومثل هذا يصلح فيما يصح في بعض الروايات وسقط من بعض حديث أو من كلام، وقد يكتفى بمثل هذا بعلامة من ثبتت له فقط، أو بإثبات "لا" ¬

_ (¬1) في المحدث الفاصل: 606 وانظر مهمات في كتاب الحديث: 605 - 609. (¬2) في الإلماع: 171 بعد أن نقل كلام المحدث الفاصل السابق.

و"إلى" فقط. وأماما هو خطأ محض فالتحويق التام عليه أو حكه أولى". انتهى. ومن المحدثين من اكتفى بوضع دائرة صغيرة في أول الكلام الزائد ودائرة صغيرة في آخره، وسماها صفرا، لاشعارها بخلو ما بينهما من الصحة. 8 - الرمز للألفاظ المكررة في الإسناد: غلب على كتبة الحديث الاقتصار على الرمز في قولهم: "حدثنا" و"أخبرنا" شعاع ذلك وظهر جدا، أما حدثنا فيكتب شطرها الأخير وهو "ثنا" وربما اقتصر على الضمير منها "نا" وأما أخبرنا فيكتب الضمير مع الألف هكذا "أنا" ومنهم من يرمز إليها هكذا "أنبا". وإذا كان للحديث إسنادان أو أثر فإنهم يكتبون عند الانتقال من إسناد إلى إسناد ما صورته "ح" وهي حاء مفردة مهملة، للإشارة إلى التحويل من سند إلى آخر، ومنهم من كتب بدلا عنها "صح". والمختار لقارئ الحديث إذا صادف هذه الحاء أن يقرأها كما هي "حا"، ثم يمر إلى الكلام بعدها. مصادر علوم الرواية: وقد عني علماء المحدثين بتفاصيل أصول الرواية في التحمل والأداء وكتابة الحديث ع ناية كبيرة جدا، وخصوها بالتآليف الكبيرة التي تتناول شؤونها التفصيلية وفروعها الجزئية الدقيقة، أهمها: 1 - "المحدث الفاصل بين الراوي والواعي" ألفه القاضي أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهزي "360". 2 - "الكفاية في علم الرواية" للخطيب البغدادي "463". 3 - "الإلماع في أصول الرواية وتقييد السماع" للقاضي عياض بن موسى اليحصبي "554".

الباب الرابع: في علوم الحديث من حيث القبول أو الرد

الباب الرابع: في علوم الحديث من حيث القبول أو الرد لم يكتف المحدثون بتوفر شروط القبول في الراوي للحكم على حديثه بقبوله والاحتجاج به، وذلك لأن الأحاديث قد وصلت إلينا بتناقل رجال الإسناد واحدا عن الآخر، فكان لا بد من شروط تحقق سلامة الانتقال خلال الإسناد بالإضافة إلى شروط الراوي ليكون مجموع الشروط مقياسا نعرف به ما يقبل من الحديث أو يرد. ونوضح في هذا الباب تلك الشروبط التي يتكون منها مقياس قبول الحديث ورده، لنبين تطبيقها فيما بعد على أحوال السند والمتن الحاصلة بالسبر والبحث. ونقسم أبحاث هذا الباب على فصلين: الفصل الأول: في الحديث المقبول: الفصل الثاني: في الحديث المردود:

الفصل الأول: في أنواع الحديث المقبول

الفصل الأول: في أنواع الحديث المقبول ويشمل هذه الأنواع من الحديث. 1 - الحديث الصحيح. 2 - الحديث الحسن. 3 - الصحيح لغيره. 4 - الحسن لغيره. 1 - الحديث الصحيح: وقد ذكروا هنا تعرف الحديث الصحيح الذي يحكم بصحته بلا خلاف بين أهل الحديث، ونختار لك تعريفا سليما من العيب والنقد، فنقول:

الحديث الصحيح: هو الحديث الذي اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه، ولا يكون شاذا ولا معلا. شرح التعريف: اشتمل على الصفات التي يشترط توفرها في الحديث كي يكون صحيحا، وهي خمس: 1 - الاتصال: ومعناه أن يكون كل واحد من رواة الحديث قد تلقاه ممن فوقه من الرواة وهكذا إلى أن يبلغ التلقي قائله. فخرج بذلك المرسل والمنقطع بأي نوع من أنواع الانقطاع. لأنه إذا لم يكن متصلا فمعناه أنه سقط من سنده واسطة أو أكثر، ويحتمل أن يكون الواسطة المحذوف ضعيفا، فلا يكون الحديث صحيحا. 2 - العدالة في الرواة: وقد سبق شرح معناها وتفصيل شروطها، وهي ركن هام في قبول الرواية، لأنها الملكة التي تحث على التقوى، وتحجز صاحبها عن المعاصي والكذب وما يخل بالمروءة، فخرج بهذا الشرط الحديث الموضوع، وما ضعف لاتهما الراوي بالفسق والإخلال بالمروءة، أو غير ذلك ... 3 - الضبط ومعناه أن يحفظ الراوي الحديث في صدره أو كتابه، ثم يستحضره عند الأداء، وهذا الشرط يستدعي عدم غفلته، وعدم تساهله عند التحمل والأداء، إلى آخر ما ذكرنا في أبحاث الضبط وفي علوم الرواية. 4 - عدم الشذوذ: والشذوذ هو مخالفة الراوي الثقة لمن هو أقوى منه لأنه إذا خالفه من هو أولى منه بقوة حفظه أو كثرة عدد كان مقدما عليه، وكان المرجوح شاذا. وتبين بشذوذه وقوع وهم في رواية هذا الحديث.

والحقيقة أن نفي الشذوذ يتحقق بالشروط السابقة، لكنهم صرحوا بانتفائه لأن الضبط ملكة عامة بالنسبة لجملة أحاديث الراوي، إلا أنه قد يحتمل أن يقع منع وهم في حديث ما، دون أن يفقد صفة الضبط لسائر حديثه، فهذا يخل بصحة الحديث الذي وهم فيه فقط، لذلك صرحوا بنفي الشذوذ. 5 - عدم الإعلال: ومعناه سلامة الحديث من علة تقدح في صحته، أي خلوه من وصف خفي قادح في صحة الحديث والظاهر السلامة منه، فخرج بهذا الشرط الحديث المعلل، فلا يكون صحيحا. ووجه دلالة هذه الشروط الخمسة على صحة الحديث: أن العدالة والضبط يحققان أداء الحديث كما سمع من قائله، واتصال السند على هذا الوصف في الرواة يمنع اختلال ذلك في أثناء السند، وعدم الشذوذ يحقق ويؤكد ضبط هذا الحديث الذي نبحثه بعينه وأنه لم يدخله وهم، وعدم الإعلال يدل على سلامته من القوادح الظاهرة، فكان الحديث بذلك صحيحا لتوفر عامل النقل الصحيح واندفاع القوادح الظاهرة والخفية. فيحكم له بالصحة بالإجماع. أما ما تجده أحيانا من اختلافهم في تصحيح حديث من الأحاديث، فإنه ناشي عن أحد أمرين: الأول: أختلافهم في أن الحديث هل استوفى شروط الصحة التي أوضحناها، فحكم كل بما انتهى إليه اجتهاده. الثاني: اختلافهم في اشتراط بعض هذه الشروط للصحة، كالحديث المرسل، بعض العلماء يصححه إذا استوفى بقية الشروط،

وبعضهم يضعفه لأنه ليس بمتصل، كما سنفصل ذلك في الحديث المرسل (¬1)، وكاشتراط أن لا يكون الحديث غريبا. مثال الصحيح: ما رواه البخاري ومسلم (¬2) قالا: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: "أمك". قال: ثم من؟ قال: "أمك". قال: ثم من؟ قال: "أمك". قال: ثم من؟ قال: "ثم أبوك". فهذا إسناد صحيح متصل بسماع العدل الضابط عن مثله: البخاري ومسلم إمامان جليلان في هذا الشأن، وشيخهما قتبية بن سعيد ثقة كبير المحل ثبت. وجرير هو ابن ابن عبد الحميد حفظه وهذا لا يضر فإن قتيبة من كبار تلامذة جرير متقدم السماع منه. وعمارة بن القعقاع ثقة أيضا، وكذا أبو زرعة التابعي وهو ابن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي. رجال هذا السند كلهم ثقات احتج بهم الأئمة، وتسلسل الإسناد معروف عند المحدثين وليس ثمة ما يخالفه، والمتن كذلك موافق لما وردت به الأدلة فالحديث صحيح لذاته. حكم الحديث الصحيح: أجمع العلماء من اهل الحديث ومن يعتد به من الفقهاء والأصوليين على أن الحديث الصحيح حجة يجب العمل به، سواء كان روايه واحدا لم يروه غيره، أو رواه معه راو آخر، أو اشتهر برواية ثلاثة فأكثر ولم يتواتر. ¬

_ (¬1) برقم 63. ص 371 - 373. (¬2) البخاري: أول الأدب ج 8 ص 2، ومسلم أول البر والصلة ج 8 ص 2 كذلك.

وهذا أمر بدهي في نظرنا تقضي به الفطرة الإنسانية لا يحتاج إلى كثير من الاستدلالات والبراهين، فما من إنسان إلا وهو يعول في إبرام شؤونه في العمل، أو التجارة، أو الدراسة، أو غيرها على ما يخبره به واحد موثوق من الناس، حيث يقع في نفسه صدق المخبر ويغلب على احتمال الغلط أو احتمال الكذب. بل إن الشؤون الكبرى في مصير الأمم يعتمد فيها على أخبار الآحاد الثقات، كالسفراء، أو المبعوثين من قبل الحكومات، فالتوقف عن قبول خبر الواحد يفضي إلى تعطيل الدين والدنيا. ثم إن العلماء بعد أن اتفقوا على وجوب العمل بالحديث الصحيح الآحادي في أحكام الحلال والحرام اختلفوا في إثبات العقائد ووجوبها به. فذهب أكثر العلماء إلى أن الاعتقاد لا يثبت إلا بدليل يقيني قطعي هو نص القرآن أو الحديث المتواتر. وذهب بعض العلماء من أهل السنة وابن حزم الظاهري إلى أن الحديث الصحيح يفيد العلم القطعي ويوجب الاعتقاد، وأن هذا العلم القطعي علم نظري برهاني لا يحصل إلا للعالم المتبحر في الحديث العارف بأحوال الرواة والعلل. وقوى بعض الكاتبين العصريين هذا المذهب تبعا لميله إلى ابن حزم الظاهري. ونحن إذا نظرنا إلى الأحاديث الصحيحة على ضوء قواعد العلم والمعرفة بأحوال الرواة نجد أنها تتفاوت في استيفائها صفات الصحة من أعلى مراتبها وأقوى أحوالها إلى أدنى وصف الصحيح، وذلك يفضي بنا إلى تفصيل في حكم الصحيح يقسمه إلى قسمين: 1 - القسم الأول: الخبر الصحيح الذي لم يحتف بما يقويه، وهذا يفيد الرجحان الغالب ويقع في القلب موقع القبول وربما يظنه

بعض الناس ولا سيما العوام يقينا، لعدم تفريقهم بين الأمرين، وإنما هو علم قائم على الاستنباط القوي لصحة الخبر، وهذا يجب العمل به، والأخذ بمقتضاه في الأحكام كما سبق أن ذكرنا. أما وجوب العقيدة والإيمان بمقتضاه فلا يجب. لأن الراوي الثقة ليس معصوما من الخطأ، فقد يخطئ، وإن كان ذلك بعيد الوقوع، كما أن من الرواة الثقات من اختلف فيه العلماء جرحا وتعديلا، وهم كثيرون. مما ينزل بحديثهم الصحيح عن درجة القطع اليقيني الذي يجب الاعتقاد به ويكفر جاحده. لكن هذا لا يعني أن يحل للمسلم إنكاره لمستند شرعي مقبول، كما وقع من عمر رضي الله عنه حيث رد حديث فاطمة بنت قيس وقال: "لا ندع كتاب الله لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت (¬1) ". فأوقع ذلك عند عمر من الشك في حفظها إياه ما جعله يخالفه. ونحو ذلك يقع للفقهاء الكبار لما عندهم من عمق النظر في الحديث (¬2) إن كان ذلك قد يتوهمه من لا علم عنده بفقه النصوص هجرا للسنة. وهذا الإمام الترمذي رحمه الله يقول في بعض المسائل: "كذا قال الفقهاء وهم أعلم بمعاني الحديث". 2 - القسم الثاني: من خبر الواحد الصحيح: قسم يفيد العلم اليقيني ويجب الاعتقاد به. وهو ما تتوفر فيه شروط الصحة بشكل قاطع لا مجال للاحتمال فيه، لما احتف به من المقويات، ومن ذلك: آ- أن يكون الحديث موضع إجماع على الاحتجاج به بين العلماء. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في ص 53. (¬2) كما سبق أن ذكرنا عن بعض أحاديث الموطأ في ص 105.

ب- أن يكون الحديث متصلا، بروايته من طريق أئمة الحديث الحفاظ، ولا يكون غريبا، ذكره الحافظ ابن حجر. جـ- وكذا إذا كان الحديث مرويا بما قيل إنه أصح الأسانيد ولم يكن غريبا أيضا. فمثل هذه الصور يفيد العلم القطعي للمتبحر في معرفة أحوال الرجال؛ مثل روايات مالك عن نافع عن ابن عمر، فالمحث يقطع بها، لما يعلم من حال كل واحد منهم من الورع والتقى والحفظ العظيم المتين بحيث يستبعد عن مثلهم في العادة وقوع الخطأ، فإذا خرج عن الغرابة بأن يروى من وجه آخر أو أكثر استحال لدى العالم أن يقع فيه الخطأ وارتقى إلى اليقين القاطع، وإن كان الخبر لا زال آحاديا غير متواتر. ولذلك أدلة كثيرة نذكر منها: 1 - أنه تواتر أنه عليه الصلاة والسلام قد أرسل إلى ملوك الأرض وعظمائها في عصره يدعوهم إلى الإسلام، وقد أرسل إلى كل منهم في أغلب الأحوال رجلا واحدا يحمل دعوته عليه الصلاة والسلام، ويبلغ أركان الإيمان والإسلام، وكل واحد من الوافدين خبره آحادي، وقد جعله النبي ملزما بالحجة، موجبا للانقياد. 2 - تواتر أيضا عليه الصلاة والسلام كان يرسل الواحد أو الاثنين فقط من أصحابه إلى أهل القطر العظيم لتعليمهم أركان الإيمان والإسلام والأحكام اليقينية القطعية وغيرها، ولولا أن يفيد القطع لما أكتفى بذلك صلى الله عليه وسلم. وغير ذلك كثيرا جدا يطول استقصاؤه ويصعب حصره.

أصح الأسانيد: ونظرا لما ذكرنا من تفاوت الأسانيد في درجات القوة فقد حكم بعض الأئمة بالتفضيل المطلق لبعض الأسانيد، فقالوا: "إنه أصح الأسانيد" أي كلها، واختلفوا في ذلك على أقوال (¬1) نذكر منها: 1 - أصح الأسانيد: مالك عن نافع عن ابن عمر. وهذا قول البخاري، وهو امر تميل إليه النفوس وتنذب إليه القلوب. وتسمى سلسلة هذا السند سلسلة الذهب. 2 - أصحها: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه. وهذا مذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. 3، 4 - أصحها: محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني عن علي. وهو مذهب علي بن المديني وسليمان بنحرب، إلا سليمان قال أجودها: أيوب السختياني عن ابن سيرين، وابن المديني قال: عبد الله بن عون عن ابن سيرين. 5 - سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود. قاله ابن المبارك والعجلي ورجحها النسائي. وهذه الأقوال وإن اتلفت فإنه يمكن الإفادة منها، بأنه (¬2) "يمكن للناظر المتقن ترجيح بعضها على بعض من حيث حفظ الإمام الذي رجح واتفانه، وإن لم يتهيأ ذلك على الاطلاق فلو يخلو النظر فيه من فائدة، لأن مجموع ما نقل عن الأئمة من ذلك يفيد ترجيح التراجم ¬

_ (¬1) أخرجها الخطيب في الكفاية في فصل نفيس: 397 - 404. (¬2) كما قال الحافظ ابن حجر. التدريب: 31.

التي حكموا لها بالأصحية على مالم يقع له حكم من أحد منهم". لكن الحاكم النيسابوري أبا عبد الله لحظ خطورة هذا التفضيل الشامل، فذهب في المسألة مذهبا آخر اختاره ابن الصلاح والنووي والعلماء حيث إنه أقرب للاحتياط والدقة في الترجيح، وهو أنه (¬1): "ينبغي تخصيص القول في أصح الأسانيد بصحابي أو بلد مخصوص بأن يقال: أصح أسانيد فلان أو الفلاينين كذا ولا يعمم". ومن أمثلة ذلك قول الحاكم: "أصح أسانيد الصديق: إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن حازم عنه. وأصح أسانيد عمر: الزهري عن سالم عن أبيه عن جده. وقال: أصح أسانيد المكيين سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر. واصح أسانيد اليمانيين معمر عن همام عن أبي هريرة .. ". أصح أحاديث الباب وأحسن: يوجد في كلام المحدثين قولهم: "أصح شيء في الباب كذا" أو "أحن شيء في الباب كذا". ويكثر ذلك في جامع الترمذي، وفي تاريخ البخاري. قال النووي في الأذكار: لا يلزم من هذه العبارة صحة الحديث. فإنهم يقولون: هذا أصح ما جاء في الباب وإن كان ضعيفا، ومرادهم أرجحه أو أقله ضعفا (¬2). ¬

_ (¬1) معرفة علوم الحديث: 54 - 56 وانظر التدريب: 36. (¬2) التدريب: 39. وانظر التوسع في كتابنا الإمام الترمذي: 175 - 176.

مصادر الحديث الصحيح: صنف العلماء في الحديث الصحيح كتبا كثيرة أشهرها صحيحا البخاري ومسلم. ولكثرة شهرة الكتابين ظن من لا علم عنده من الناس أنهما استوعبا الحديث الصحيح. وهذا خطأ كبير، فإنهما لم يقولا ذلك، بل نبها على أنهما تركا كثيرا من الحديث الصحيح مخافة الطول. ونتكلم هنا عن الكتب الخاصة الحديث الصحيح، والكتب التي صنفت على الصحيحين استدراكا أو استخراجا. وهذه الكتب الصحيحة التي سنعرف بها هي: الموطأ، صحيح البخاري، صحيح مسلسم، صحيح ابن خزيمة، صحيح ابن حبان، المختارة. 1 - الموطأ: مؤلفه الإمام مالك بن أنس الفقيه المجتهد نجم الآثار النبوية من كبار أئمة المسلمين، ومن فقهاء المدينة الذين تحققت بهم كلمة النبي صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم فلا يجدون أحدا أعلم من عالم المدينة" (¬1). ألف مالك كتابه لإشارة الخليفة أبي جعفر المنصور عليه أن يفعل ذلك، وظل ينقحه سنين كثيرة يختار ما هو الأصح للمسلمين، والأنسب للدين، حتى صار أصح الكتب في عصره، فقال الإمام الشافعي: "لا أعلم كتابا في العلم أكثر صوابا من كتاب مالك". وذهب بعض العلماء إلى أن الموطأ أول ما صنف في الحديث الصحيح، لما علم من تحري الإمام مالك في اختيار أحاديثه. وقد ¬

_ (¬1) الترمذي أواخر العلم وحسنه: 4: 47، والمسند: 2: 299.

اعترض على هذا الرأي بأن مالكا لم يخص كتابه بالحديث الصحيح، بل أدخل فيه المرسل والمنقطع والبلاغات أيضا، أي التي يقول فيها: بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا .. وعلى ذلك يكون البخاري هو أول من صنف في الصحيح. وأجيب بأنه تبين اتصالها، وصلها ابن عبد البر في "التميهد" جميعا خلا أربعة أحاديث من البلاغات لم يصل أسانيدها (¬1). لكن ابن الصلاح وصلها في جزء خاص (¬2). فيكون الموطأ أول مصنف في الحديث الصحيح، قبل صحيح البخاري. والتحقيق أن الاختلاف في هذا يسير يمكن أن يعتبر خلافا لفظيا، وذلك بأن نقول: الموطأ أو كتب الصحيح وجودا، بالنظر إلى مطلق الجمع للحديث الصحيح، نعني جمعه ممزوجا بغير المرفوع من أقوال الصحابة والتابعين، وذلك وصف الموطأ، فإنه جمع في الباب بعض ما ورد فيه من الحديث المرفوع ومن أقوال الصحابة وفتاوى التابعين، وكثيرا ما يعقب عليها ببيان العمل بها وما يتفرع عليها من مسائل الفقه. فلم يكن الموطأ مجردا للحديث المرفوع بل ممزوجا بغيره. أما الجامع الصحيح للإمام البخاري فهو أول مصنف للحديث الصحيح المرجد، لأن البخاري ميز أقوال الصحابة والتابعين فلم يوردها في سياق واحد مع الحديث المرفوع، بل أورد منها أشياء في تراجم "أي عناوين" الأبواب. ¬

_ (¬1) ذكرها ابن عبد البر في التقصي: 247 و 253 و 254، وانظر اختصار علوم الحديث: 30. والتدريب: 41. ومفتاح السنة للخولي: 22 - 23. (¬2) انظر الرسالة المستطرفة: 4 - 5.

2 - الجامع الصحيح للبخاري: مؤلفه: الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري الجعفي ولاء. ولد سنة (194) بخزتنك قرية قرب بخارى، وتوفي فيها سنة (256). وبدت عليه علائم الذكاء والبراعة منذ حداثته: حفظ القرآن -وهو صبي- ثم استوفى حفظ حديث شيوخه البخاريين ونظر في الرأي وقرأ كتب ابن المبارك حين استكمل ست عشرة سنة، فرحل في هذه السن إلى البلدان وسمع من العلماء والمحدثين وأكب عليه الناس وتزاحموا عليه ولم تبقل لحيته. قال شيخه محمد بن بشار الحافظ: "حفاظ الدنيا أربعة: أبو زرعة بالري، ومسلم بن الحجاج بنيسابور، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي بسمرقند، ومحمد بن إسماعيل البخاري ببخارى". وعنه أيضا قال: "ما قدم علينا مثل البخاري". وقال الإمام الترمذي (¬1): "لم أر بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد كبير أحد أعلم من محمد بن إسماعيل". قال البخاري: كنا عند إسحاق بن راهويه فقال: لو جمعتم كتابا مخصترا لصحيح سنة النبي صلى الله عليه وسلم. قال: فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع الجامع الصحيح. وهذا يدل على عقلية مبتكرة مبدعة، إذ أخذت هذه الكلمة منه الاهتمام وبعثته للعمل على تأليف كتابه، وسماه كما ذكر ابن الصلاح ¬

_ (¬1) في أوائل كتاب العلل: 32.

والنووي (¬1): "الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه". قصد البخاري في صحيحه إلى إبراز فقه الحديث الصحيح واستنباط الفوائد منه، وجعل الفوائد المستنبطة تراجم للكتاب "أي عناوين له"، ولذلك فإنه قد يذكر متن الحديث بغير إسناد وقد يحذف من أول الإسناد واحدا فأكثر، وهذان النوعان يسميان تعليقا (¬2). وقد يكرر الحديث في مواضع كثيرة من كتابه يشير في كل منها إلى فائدة تستنبط من الحديث، وذكر في تراجم الأبواب علما كثيرا من الآيات والأحاديث وفتاوى الصحابة والتابعين، ليبين بها فقه الباب والاستدلال له، حتى اشتهر بين العلماء "فقه البخاري في تراجمه" (¬3). 3 - صحيح مسلم: مصنفه الإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري ولد بمدينة نيسابور سنة (206) هـ وتوفي بها سنة (261) هـ. كان إماما جليلا مهابا، وكان غيروا على السنة والذب عنها، تلمذ على البخاري وأفاد منه ولازمه. وهجر من أجله من خالفه، وكان في غاية الأدب مع إمامه البخاري حتى قال له يوما: "دعني أقبلرجلك يا إمام المحدثين وطبيب الحديث وعلله". وقد أثنى أئمة العلم على مسلم، وقدمه أبو زرعة وأبو حاتم على أئمة عصره (¬4). وقال شيخه محمد بن عبد الوهاب الفراء "كان مسلم من علماء الناس وأوعية العلم، ما علمته إلا خيرا" (¬5). ¬

_ (¬1) علوم الحديث: 22. وشرح البخاري للنووي: 7. (¬2) انظر بحث المعلق الآتي برقم 64 ص 374 - 375. (¬3) بتصرف عن شرح البخاري للنووي ص 9. (¬4) تاريخ بغداد: 13: 101 وتذكر الحفاظ: 589. (¬5) تهذيب التهذيب: 10: 127.

وقال مسلمة بن قاسم: "ثقة جليل القدر من الأئمة" (¬1). وقال النووي: "أجمعوا على جلالته وإمامته، وعلو مرتبته، وحذقه في هذه الصنعة وتقدمه فيها ... " (¬2). وكتابه "المسند الصحيح"" ويطلق عليه "الجامع الصحيح" سار فيه على أسلوب آخر غير منهج البخاري في صحيحه. وذلك أن مسلما لم يقصد فقه الحديث، بل قصد لإبراز الفوائد الإسنايدة في كتابه، لذلك فإنه يروي الحديث في أنسب المواضع به، ويجمع طرقه وأسانيده في ذلك الموضع. بينما البخاري يفرق الحيث في مواطن متعددة، يرويه في كل موطن بإسناد جديد أيضا. حكم أحاديث الصحيحين: والحكم في أحاديث الصحيحين أنها كلها صحيحة، وذلك بالنسبة للأحاديث المخرجة بالإسناد المتصل الذي يساق بصيغة الرواية المعروفة، مثل "حدثنا" أو"أخبرنا". أما الأحاديث المعلقة فلها حكم خاص نوضحه في بحث الحديث المعلق إن شاء الله تعالى. ثم إن الإجماع قد انعقد على صحة أحاديث الكتابين، فإذا قيل هذا الحديث رواه البخاري، أو مسلم، كان ذلك كافيا للحكم بصحة الحديث. لا حاجة إلى أن يحكم عليها بالصحة، إلا أن يكون التنطع والتشبع (¬3). ¬

_ (¬1) التهذيب: 10: 128. (¬2) تهذيب الأسماء: 2: 90. (¬3) من عجيب أمر من اصطنع ذلك في عصرنا أنه يستشهد بقول السابقين "صحيح أخرجه البخاري" أو صحيح متفق عليه، فبجعله دليلا لصحة قوله مثلا: "أخرجه البخاري، قلت وهو صحيح". مع أن البون شاسع ظاهر بين العبارتين الأولى تأكيد للصحة بإخراج البخاري أو مسلم، والثانية تأسيس جديد للحكم بالصحة كما لا يخفى على من له إلمام بالعربية.

وإذا قيل متفق عليه أو على صحته فمعناه أنه اتفق عليه البخاري ومسلم، لا أنه متفق عليه من الأمة جميعها، لكن الإجماع انعقد على صحة أحاديثهما على الوجه الذي عرفت، فإنه يلزم من اتفاقهما اتفاق الأمة عليه لتلقيهم إياهما بالقبول. هذا وقد يستشكل ما ذكرناه بما وقع من الانتقاد على أحاديث في الصحيحين أو أحدهما، كالذي اشتهر عن الدارقطني أنه انتقد على الشيخين أحاديث ضعفها، اتفقا على بعضها، وتفرد كل واحد منهما عن الآخر بأحاديث أخرى. لكن العلماء تعرضوا منذ أمد بعيد لهذه الانتقادات وأماطوا اللثام عن اندفاعها، وأنها لا تضر بالاحتجاج بالكتابين. وقال الحافظ ابن حجر في هدي الساري (¬1): "والجواب عنه على سبيل الإجمال أن نقول لا ريب في تقديم البخاري ثم مسلم على أهل عصرهما ومن بعده من أئمة هذا الفن في معرفة الصحيح والمعلل، فإنهم لا يختلفون في أن علي بن المديني كان أعلم أقرانه بعلل الحديث، وعنه أخذ البخاري ذلك، حتى كان يقول: "ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني". ومع ذلك فكان علي بن المديني إذا بلغه ذلك عن البخاري يقول: دعوا قوله فإنه ما رأى مثل نفسه. وكان محمد بن يحيى الذهلي أعلم أهل عصره بعلل حديث الزهري، وقد استفاد منه ذلك الشيخان جميعا. وروى الفربري عن البخاري قال: "ما أدخلت في الصحيح حديثا إلا بعد أن استخرت الله تعالى وتيقنت صحته". ¬

_ (¬1) 2: 81 - 83. وله بقية مفصلة نفيسة فانظرها.

وقال مكي بن عبدان سمعت مسلم بن الحجاج يقول: "عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي فكل ما أشار أن له علة تركته". فإذا عرف وتقرر أنهما لا يخرجان من الحديث إلا ما لا علة له أو له علة إلا أنها غير مؤثرة عندهما فبتقدير توجيه كلام من انتقد عليهما يكون قوله معارضا لتصحيحهما ولا ريب في تقديمها في ذلك على غيرهما، فيدفع الاعتراض من حيث الجملة". اهـ. المفاضلة بين الصحيحين: ثم إن العلماء اختلفوا في أي الكتابين أرجح من الآخر، فذهب جمهور المحدثين إلى ترجيح صحيح البخاري على صحيح مسلم، وذهب جماعة من العلماء من أهل المغرب وغيرهم إلى ترجيح صحيح مسلم على البخاري. والتحقيق أن الخلاف بين الفريقين سهل، وأنه شكلي أكثر منه موضوعي، وذلك أن جهة المفاضلة مختلفة بين الفريقين. فالجمهور رجعوا صحيح البخاري بالنظر إلى المقصد الأصلي عند المحدثين، وهو توفر الصحة، وهذا هو الحق فإن البخاري أشد اتصالا وأتقن رجالا مع صحيح مسلم كما ذكر الحافظ ابن حجر. وقد فصل الحافظ ذلك (¬1) بأوجه ستة، تجتزئ منها هنا بما يلي: 1 - أن البخاري يشترط في المعنعن ثبوت اللقي بين الراويين لكي يحكم باتصال السند، أما مسلم فإنه يكتفي بإمكان اللقي مع انتقاء التدليس (¬2)، ومن هنا كان شرط البخاري أشد من شرط مسلم، فيكون أصح. وهذا الوجه كاف ليكون الفيصل في ترجيح البخاري. ¬

_ (¬1) في هدي الساري: 1: 7 - 8 وانظر التدريب: 42 - 44. (¬2) كما سيأتي في المعنعن رقم 56 ص 351 - 352. فانظره لزاما.

2 - أن البخاري يخرج عن الثقات من الدرجة الأولى البالغة في الحفز والاتقان، ويخرج عن طبقة تليها في التثبت، ومسلم يخرج عن هذه أكثر من البخاري. 3 - أن ما طعن على البخاري من الأحاديث والرواة الذين أخرج لهم أقل مما طعن على مسلم، وهذه الطعون وإن أجاب عنها العلماء، لكن السلامة من الطعن أولىن فالبخاري أعلى صحة لكونه أبعد وأقل تعرضا للنقد من مسلم. وأما مذهب من فضل صحيح مسلم فوجهه ما اعتنى به مسلم من منهج التأليف في كتابهز وما استتبعه من المزايا، وذلك -كما أوضح الحافظ ابن حجر- (¬1) " .. أن مسلما صنف كتابه في بلده بحضور أصوله، في حياة كثير من مشايخه، فكان يتحرز في الألفاظ ويتحرى في السياق، ولا يتصدى لما تصدى له البخاري من استنباط الأحكام ليبوب عليها، ولزم من ذلك تقطيعه للحديث في أبوابه. -قال نور الدين وإخراه إياه في غير مظنته-، بل ج مع مسلم الطرق كلها في مكان واحد، واقتصر على الأحاديث دون الموقوفات فلم يعرج عليها إلا في بعض المواضع تبعا لا مقصودا". يعني أن هذا جعل كتاب مسلم أيسر تناولا للوصول إلى الحديث فيه، وأنفع للفقيه في التعرف على اختلاف الرواة في بعض ألفاظ الحديث. هذا ويجب التنبه إلى أن هذا التفضيل تفضيل إجمالي للصحيحين على بعضهما، وليس معناه أن كل حديث في البخاري أصح من أي حديث في مسلم، بل كثيرا ما يوجد في صحيح مسلم حديث أصح من حديث ¬

_ (¬1) في هدي الساري: 1: 8. وانظر التدريب: 44.

في البخاري، ولكن جملة الصحة في البخاري أرجح من جملتها في مسلم، وهذا أمر يقع فيه اللبس كثيرا لطلبة العلم. 4 - صحيح ابن خزمية: للإمام المحدث الكبير أبي عبد الله وأبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، المتوفى سنة إحدى عشرة وثلاثمائة " (311) هـ". وقد عرف صاحبه بالتحري، حتى إنه يتوقف في التصحيح لأدنى كلام في الإسناد، فيقول: إن صح الخبر" أو "إن ثبت كذا" ونحو ذلك (¬1). 5 - صحيح ابن حبان: للإمام المحدث الحافظ أبي حاتم محمد بن حبان البستي، المتوفى سنة " (354) هـ" تلميذ ابن خزيمة، ويسمى كتابه هذا "التقاسيم والأنواع". وهو على ترتيب مخترع ليس على الأبواب. ولا على المسانيد، والكشف منه عسر جدا، وقد صرح في أوله أنه سلك هذا المنهج في الكتاب، كي يعتمد الناس فيه على الحفظ، ولا يعتمدوا على شيء من الترتيب المعروف (¬2). وقد رتبه على الأبواب الأمير علاء الدين أبو الحسن علي بن بلبان الفارسي الحنفي المتوفى بالقاهرة سنة " (739) هـ" وسماه "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (¬3) ". هذان الكتابان صحيحا ابن خزيمة وابن حبان اشترط صاحباهما الصحة فيما يخرجانه فيهما، إلا أن العلماء لم يجمعوا عليهما، بل وقعت انتقادات لأحاديث فيهما تساهلا في تصحيحها، وابن حبان أكثر تساهلا، لما عرفت قبل من مذهبه في تعديل بعض المجهولين (¬4). ¬

_ (¬1) التدريب: 54 والرسالة المستطرفة: 16. (¬2) مطلع الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان. (¬3) طبع منه العلامة أحمد شاكر -رحمه الله- جزءا واحدا. (¬4) في صفحة 104 - 105، وانظر التدريب والرسالة المستطرفة- الموضعين السابقين.

6 - المختارة، للحافظ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي المتوفى سنة " (643) هـ"، وقد سماه في الرسالة المستطرفة: "الأحاديث الجياد المختارة مما ليس في الصحيحين أو أحدهما، وهو كتاب التزم ما يصلح للحجية، حتى جعله السيوطي في ديباجة جمع الجوامع، أحد كتب خمسة جميع ما فيها صحيح. قال الحافظ ابن كثير (¬1): "وكتاب المختارة فيه علوم حسنة حديثية، وهو أجود من مستدرك الحاكم لو كمل". والكتاب مرتب على المسانيد على حروف المعجم، لا على الأبواب، ولم يكمل، وذكر فيه أحاديث لم يسبق إلى تصحيحها (¬2). لكن انتقد على الكتاب تصحيح أحاديث لا تبلغ رتبة الصحة، بل ولا رتبة الحسن، نبه العلماء في شروح كتب الحديث عليها لمناسبة تخريجها. ومن ذلك حديث: "ركعتان من متأهل خير من ثنتين وثمانين ركعة من العزب". رواه تمام في فوائده، والضياء في المختارة عن أنس. قال السيوطي في اللآلئ المصنوعة (¬3): "أخرجه من طريق بقية الضياء في المختارة، لكن تعقبه الحافظ ابن حجر في أطرافه، فقال: هذا حديث منكر ما لإخراجه معنى". وقال الذهبي في الميزان (¬4): "باطل". وحديث: "علي أصلي، وجعفر فرعي". رواه الطبراني والضياء في المختارة. قال المناوي في فيض القدير (¬5): "قال الهيثمي: فيه من لم أعرفهم". ¬

_ (¬1) في كتابه البداية 13: 17. (¬2) الرسالة المستطرفة: 29. (¬3): 2: 160 وانظر تنزيه الشريعة: 2: 205. (¬4) في ترجمة راويه مسعود بن عمرو البكري: 3: 164. (¬5): 4: 356. وانظر مجمع الزوائد ج 9 ص 273.

وغير ذلك مما تعقبه العلماء على كتاب المختارة (¬1)، يحتم على طالب العلم التثبت والتحري فيما يعزى إلى هذا الكتاب، أو يصحح لوجوده فيه. المستدركات على الصحيحين: المستدرك: كتاب يخرج فيه صاحبه أحاديث لم يخرجها كتاب ما من كتب السنة، وهي على شرط ذلك الكتاب، أي رجالها يروى لهم ذلك الكتاب. وقد ألفت عدة كتب استدركت أحاديث على الشيخين (¬2)، أشهرها وأكثرها تداولا بين العلماء كتاب "المستدرك على الصحيحين" للإمام المحدث أبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري "المتوفى سنة (405) هـ"، أودعه أحاديث على شرطهما، أو شرط أحدهما، وأخرج فيه أحاديث صحيحة ليست على تلك الصفة (¬3)، فجاء كتابا كبيرا حافلا. لكن العلماء انتقدوه بأنه متساهل في التصحيح واسع الخطو فيه. وقد صنف الحافظ شمس الدين محمد الذهبي المتوفى " (748) هـ" ملخصا لهذا المستدرك، وتعقب ما فيه من النكارة والضعف، وخلص إلى نتيجة هامة في أحاديث هذا الكتاب، حيث قرر أن فيه جملة وافرة على شرطهما، وأخرى كبيرة على شرط أحدهما، ولعل مجموع ذلك نحو نصف الكتاب، وفيه نحو الربع مما صح سنده وإن كان فيه علة، ¬

_ (¬1) التعليقات على الأسئلة العشرة الكاملة: 153 - 155. (¬2) ذكر بعضا منها في الرسالة المستطرفة: 17 - 19. (¬3) ذكر تحقيق شرط الشيخين وعمل الحاكم في المستدرك في التدريب: 65 - 70 وانظر التوسع في كتاب "الحاكم النيسابوري" للزميل الدكتور محمود ميرة: 298 وما بعد.

وما بقي وهو نحو الربع فهو مناكير واهيات لا تصح وفي بعض ذلك موضوعات، أثارت الإمام الذهبي حتى أنحى باللوم على الحاكم وراح يقسم بالله في بعضها إنه لموضوع! ! وقد كشف الحافظ ابن حجر الستر عن العذر في هذا التساهل الذي فرط من الحاكم وهو إمام جليل. وذلك لأنه مات قبل أن يكمل تنقيح مسودات الكتاب. قال الحافظ: "وقد وجدت في قريب نصف الجزء الثاني على تجزئة ستة من المستدرك: إلى هنا انتهى إملاء الحاكم". قال الحافظ: "والتساهل في القدر المملى قليل جدا بالنسبة إلى ما بعده" (¬1). المستخرجات على الصحيحين: الكتاب المستخرج أو المخرج: هو كتاب يروي فيه صاحبه أحاديث كتاب معين بأسانيد لنفسه، فيلتقي في أثناء السند مع صاحب الكتاب الأصل في شيخه أو من فوقه (¬2). لكن لا يتوهم أنه يروى الحديث بنفس لفظ الكتاب الأصلي، وإنما يرويه بحسب ما نقله إليه رجال سنده، مع احتمال أن يكون بينهما تفاوت في اللفظ، وربما كان تفاوتا في المعنى. ولهذه الطريقة في التصنيف فوائد كثيرة (¬3) من أهمها: ¬

_ (¬1) التدريب: 52. وانظر للتوسع كتاب "الحاكم النيسابوري": 115 - 138. (¬2) قارن شرح الألفية: 1: 21 والتدريب: 56. (¬3) ذكر منها سبعة فوائد في التدريب: 59 وأوصلها ابن حجر إلى عشرة فوائد ذكر نصه بها الصنعاني في توضيح الأفكار ج 1 ص 72 - 73. وانظر شرح الألفية السيوطي لفضيلة أستاذنا الشيخ محمد محي الدين عبد الحميد: 38.

1 - علو الإسناد: توضيح ذلك أن أبا نعيم الأصفهاني مثلا لو روى حديثا عن عبد الرزاق من طريق البخاري أو مسلم لم يصل إليه إلا بأربعة، وإذا رواه عن الطبراني عن الدبري وصل باثنين. 2 - الزيادة في قدر الصحيح، لما يقع فيها من ألفاظ زائدة، وتتمات في بعض الأحاديث تثبت صحتها بهذه التخاريج. 3 - أنه يندفع بروايات المستخرج ما قد يتوهم من النقد على إسناد صحيح كأن يثبت في إسناد المستخرج تصريح المدلس بالسماع، وتعيين المبهم، وغير ذلك. قال الحافظ ابن حجر: "وكل علية أعل بها حديث في أحد الصحيحين جاءت رواية المستخرج سالمة منها". والكتب المخرجة كثيرة، منها استخرج أحاديث الصحيحين، ومنها ما استخرج أحاديث غيرهما. وأهم المستخرجات على الصحيحين: المستخرج للإسماعيلي وللبرقاني كلاهما على البخاري، والمستخرج لأبي عوانة، وأبي جعفر بن حمدان على مسلم، والمستخرج لأبي نعيم الأصفهاني، وأبي عبد الله بن الآخرم كلاهما على الصحيحين معا. لكن روايات المستخرجات على الصحيحين أو أحدهما ليست صحيحة دائما، لأن المستخرج قد يوثق بعض الرواة ولا يكون ثقة أو نحو ذلك، وإن كان أصل الحديث صحيحا لتخريجه في كتاب مجمع على صحته. أقسام الصحيح بحسب تخريجه: وحيث إنه قد أصبحت العمدة في معرفة الحديث الصحيح على

المراجع التي خصصت له بالدرجة الأولى فقد قسمه العلماء بحسب قوة المرجع الذي أخرجه أقساما عدة فقالوا: أعلاها ما اتفق عليه البخاري ومسلم، ثم ما انفرد به البخاري، ثم ما انفرد به مسلم، ثم ما كان على شرطهما، ثم ما كان على شرط البخاري، ثم ما كان على شرط مسلم. وهذا كله كما عرفت تفضيل إجمالي بحسب قوة الكتاب في جملته، لا يقتضي تفضيل كل حديث في كتاب على كل حديث في كتاب دونه في الرتبة (¬1). 2 - الحديث الحسن: هذا النوع من الحديث له أهمية خاصة، لما وقع فيه بين العلماء من الاختلاف، ولمافي الحكم على الحديث بالحسن من الدقة. والذي يتبين بالبحث أن اختلاف المحدثين يرجع في صورته الجوهرية إلى اختلاف مرادهم من الحديث الحسنن منهم من أراد الحسن لذاته، ومهم من أراد الحسن لغيره. والذي ندرسه هنا هو الحسن لذاته، ونختار في تعريفه هذه العبارة فنقول: ¬

_ (¬1) وبهذا يندفع الاعتراض على التقسيم بالحديث المشهور، أو بغيره "انظر التدريب: 64". لأن هذا التقسيم إنما هو بالنظر إلى المراجع التي اشترطت الصحة كما أوضحنا.

الحديث الحسن: هو الحديث الذي اتصل سنده بنقل عدل خف ضبطه غير شاذ ولا معلل (¬1). وبالموازنة بين هذا التعريف، وبين تعريف الحديث الصحيح، نجد بينهما تشابها كبيرا، حيث اتفقا في سائر الشروط عدا ما يتعلق بالضبط، فالحديث الصحيح راويه تام الضبط، وهو من أهل الحفظ والاتقان، أما راوي الحديث الحسن فهو قد خف ضبطه. وهذا ينطبق عليه ويوضحه قول ابن الصلاح: "أن يكون من المشهورين بالصدق والأمانة، غير أنه لم يبلغ درجة رجال الصحيح، لكونه يقصر عنهم في الحفظ والاتقان، وهو مع ذلك يرتفع عن حال من يعد ما ينفرد به من حديثه منكرا" (¬2). لكن التعريف الذي اخترناه جاء مختصرا، ودقيقا، لأنه ميز الحسن عن الضعيف بالشروط التي تضمنها، ثم ميزه عن الصحيح بأنه قل ضبطه. ¬

_ (¬1) بتصرف يسير عن شرح النخبة: 17، وانظر شرح البيقونية للزرقاني: 25. (¬2) وهذا المعنى للحديث الحسن هو الذي قصده الإمام حمد الخطابي حيث قال في معالم السنن ج 1 ص 11: "الحسن ما عرف مخرجه واشتهر رجاله، وعليه مدار أكثر الحديث، وهو الذي يقبله أكثر العلمءا، ويستعمله عامة الفقهاء. إلا أن العلماء انتقدوا هذا التعريف بأنه لا يحقق الغاية منه، وهي تمييز الحسن عما يشابهه وهو الصحيح، قال ابن كثير: فإن كان المعرف هو قوله: "ما عرف مخرجه واشتهر رجاله" فالحديث الصحيح كذلك بل والضعيف. وإن كان بقية الكلام من تمام الحد فليس هذا الذي ذكره مسلما له" أي لا يسمل له قوله: إن أكثر الحديث من قبيل الحسان، ولا هو الذي يقبله أكثر العلماء، ويستعمله عامة الفقهاء.

فجاء مطابقا للمعرف، ميزا له عن غيره تماما. مثال الحديث الحسن: ما رواه أحمد (¬1) قال: ثنا يحيى بن سعيد عن بهز بن حكيم حدثني أبي عن جدي قال: قلت: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك. قال: قلت: ثم من؟ قال: ثم أمك. قال: قلت: ثم من؟ قال: أمك، ثم أباك، ثم الأقرب فالأقرب. فهذا الحديث سنده متصل، لا شذوذ فيه ولا علة قادحة، حيث لم يقع في هذه السلسلة أي اختلاف بين الرواة ولا في المتن. والإمام أحمد وشيخه يحيى بن سعيد وهو القطان إمامان جليلان، وبهز بن حكيم من أهل الصدق والصيانة حتى وثقه علي بن المديني ويحيى بن معين والنسائي وغيرهم، لكن استشكل العلماء بعض مروياته حتى تكلم فيه شعبة بن الحجاج بسبب ذلك، وهذا لا يسلبه صفة الضبط، لكنه يشعر بأنه خف ضبطه (¬2)، ووالده حكيم وثقه العجلي وابن حبان. وقال النسائي: ليس به بأس. فيكون حديث بهز هذا حسنا لذاته كما حكم العلماء بل هو من أعلى مراتب الحسن. ومن هذا تبين أن ثمة تشابها كثيرا بين الحسن والصحيح. حتى إن طائفة من أهل الحديث جعلت الحسن مندرجا في الصحيح، ولم يجعلوه نوعا منفردا، وهو الظاهر من كلام الحاكم أبي عبد الله النيسابوري في تصرفاته. لكن العمل بين المحدثين استقر على اعتبار الحسن نوعا منفردا، ¬

_ (¬1) في المسند ج 5 ص 5. (¬2) المغني رقم 1007، والتهذيب: 1: 498 - 499.

لأن الحديث الذي يحتج به إما أن يكون في أعلا درجات القبول، وهو الصحيح، أو في أدناها وهو الحسن. حكم الحديث الحسن: الحديث الحسن مقبول عند الفقهاء كلهم في الاحتجاج والعمل به وعليه معظم المحدثين والأصوليين، وذلك لأنه قد عرف صد راويه وسلامة انتقاله بالسند، وخفة الضبط كما عرفت لا تخرجه عن الأهلية للأدءا كما سمع، لأن المقصود أنه درجة أدنى من الصحيح، من غير اختلال في ضبطه، وما كان كذلك فإن النفس تميل إلى قبوله، ولا يأباه القلب، والظن يحسن بسلامته فيكون مقبولا. مراتب الحديث الحسن: تتفاوت مراتب الحديث الحسن كما تفاوتت مراتب الصحيح، وذلك بحسب قرب راوي الحسن ذاته من الصحيح في ضبطه. وقد ذكروا هنا أمثلة من تفاوت مراتب الحسن لذاته: فذكر الذهبي أن أعلا مراتبه بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وأمثال ذلك مما قيل أنه صحيح، وهو من أدنى مراتب الصحيح. ثم بعد ذلك ما اختلف في تحسينه وتضعيفه، كديث الحارث بن عبد الله (¬1)، وعاصم بن ضمرة. وهكذا يتوسط الحديث الحسن بين منزلتي الصحة والضعف، وقد يكون أدنى إلى الصحة حينا، وأدنى إلى الضعف حينا آخر، ولا تزال مثل هذه الحال مثار اجتهاد العلماء وتحريهم، وموضع تخوفهم، حتى عسر التعبير عن الحسن وضبطه على بعض منهم لأنه أمر ¬

_ (¬1) هو الحارث الأعور، قارن هذا بترجمته في الميزان للذهبي، وتأمل.

نسبي، وشيء ينقدح في نفس الحافظ، وربما تقصر عبارته عن تبريريه تفصيلا (¬1). 3 - الصحيح لغيره: الصحيح الذي سبق تعريفه هو الذي بلغ درجة الصحة بنفسه دون أن يحتاج إلى ما يقويه ويسميه العلماء الصحيح لذاته. وهذا لا يشترط للحكم بصحته أن يكون عزيزا أي أن يروى من وجه آخر. أما الصحيح لغيره: فهو الحديث الحسن لذاته إذا روي من وجه آخر مثله أو أقوى منه بلفظه أو بمعناه، فإنه يثقوى ويرتقي من درجة الحسن إلى الصحيح، ويسمى الصحيح لغيره. مثال ذلك: حديث بهز بن حكيم السابق، فقد أخرجه الشيخان عن أبي هريرة باللفظ الذي سبق في الحديث الصحيح. والظاهر أن السائل المبهم فيه هو معاوية بن بهز، وقد ورد بلفظ: "من أبر" في بعض طرقه عند مسلم (¬2). فقوي حديث بهز بذلك، وأصبح "صحيحا لغيره". والسبب في هذا الارتقاء أن الحسن بهذا التعدد للسند تجتمع له ¬

_ (¬1) هذا في رأينا محمل قول ابن كثير "أنه أمر نسبي ينقدح عند الحافظ، ربما تقصر عبارته عنه". أما ما يجعل أمرا وجدانيا غير منضبط فذلك مالا نقبله، وذلك الذي أردنا رده في اطروحتنا ص 161. (¬2) وفي كتاب الأدب المفرد للبخاري، في أوله رقم /5/، وانظر فتح الباري: 10: 309.

القوة من الجهتين، ويزول بذلك ما كان يخشى من جهة خفة ضبطه، وينجبر ذلك النقص اليسير، فيلتحق الإسناد بدرجة الصحيح. 4 - الحسن لغيره: وهو الذي ترقى إلى درجة الحسن بالتقوية أيضا، وهذا النوع هو المقصود في الأصل عند الإمام الترمذي من قوله "حديث حسن". وقد كشف الترمذي النقاب عن هذا النوع من الحديث، وأبان مقصده منه؛ فقال يعرف الحديث الحسن في كتابه (¬1): "وما قلنا في كتابنا حديث حسن فإنما أردنا به حسن إسناده عندنا: كل حديث يروى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، ولا يكون الحديث شاذا، ويروى من غير وجه نحو ذاك، فهو عندنا حديث حسن. فقد بين الترمذي أنه يشرح اصطلاحا استعمله في كتابه خاصة. ولم يجعل هذا شرحا لاصطلاح المحدثين عامة، ثم وصف الحديث الحسن بثلاثة أوصاف هي قيود في التعريف تميزه عما عداه: الأول: "أن لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب". هذا قيد يخرج حديث المتهم بالكذب، ويدخل في الحسن ما كان بعض رواته سيء الحفظ، أو مستورا لم ينقل فيه جرح ولا تعديل. ¬

_ (¬1) في كتاب العلل آخر جامعه: 5: 758. و 340 من الشرح.

أو اختلف في جرحه وتعديله ولم يترجح فيه شيء، أو مدلسا روى بالعنعنة فإن أوصاف هؤلاء يصدق عليها عدم الاتهام بالكذب. لكن ظاهر هذا الوصف لراوي الحسن مشكل لأنه يشمل الثقة والمغفل الشديد التغفيل الكثير الخطأ. وحديث الثقة من الصحيح لا الحسن، والمغفل الكثير الخطأ الفاحش لا يعتبر به كما عرفت. والجواب عن هذا أنه لا يصلح أن يقصد الثقة بهذا التعبير، لأنه يشير إلى انخفاض منزلته، كما لا يصلح أن يقال عن السيف الصارم إنه خير من العصا! ! وأما المغفل الذي يخطئ الكثيرن فهو في حكم المتهم بالكذب، لأن الترمذي نفسه صرح بأنه لا يشتغل بالرواية عنه (¬1). القيد الثاني: "ألا يكون الحديث شاذا". والمتتبع يعلم أن مراد الترمذي من الشاذ أن يروي الثقات خلافه، فاشترط في الحديث الحسن أن يسلم من المعارضة، لأنه إذا خالف الثقات كان مردودا. القيد الثالث: "أن يروى من غير وجه نحوه". يعني أن يروى الحديث من طريق أخرى فأكثر على أن تكون مثله أو أقوى منه لا دونه، ليترجح به أحد الاحتمالين -كما قال السخاوي (¬2) -، لكن لا يشترط أن يروى بلفظه، بل يكفي أن يروى بمعناه من وجه أو وجوه أخر. هذا ونلاحظ أن الترمذي لم يشترط اتصال السند في الحديث الحسن فيدخل فيه المنقطع إذا استوفى سائر الشروط. ¬

_ (¬1) علل الترمذي بشرحه: 78 وانظر تعليقنا عليه: 385. (¬2) في فتح المغيث: 24.

والحاصل أن الحسن لغيره هو الحديث الذي فيه ضعف غير شديد كأن يكون راويه ضعيفا لا ينزل عن رتبة من يعتبر به، أو مدلسا لم يصرح بالسماع، أو كان سنده منقطعا، وكل ذلك مشروط بأمرين: ألا أن يكون الحديث شاذا، وأن يروى من وجه آخر مثله أو أقوى منه بلفظه أو بمعناه. وإذا أطلق الترمذي قول "حديث حسن" فإن الأصل فيه أن يراد به هذا. ونمثل للحسن لغيره بمثال نسوقه من جامع الترمذي: قال الترمذي (¬1): "حدثنا علي بن حجر حدثنا حفص بن غياث عن حجاج عن عطية عن ابن عمر قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر في السفر ركعتين وبعدها ركعتين". قال أبو عيسى: "هذا حديث حسن، وقد رواه ابن أبي ليلى عن عطية ونافع عن ابن عمر: حدثنا محمد بن عبيد المحاربي حدثنا علي بن هاشم عن ابن أبي ليلى عن عطية ونافع عن ابن عمر قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحضر والسفر: فصليت معه في الحضر الظهر أربعا وبعدها ركعتين، وصليت معه في السفر الظهر ركعتين وبعدها ركعتين ... قال أبو عيسى: هذا حديث حسن". انتهى. فالحديث في إسناده الأول "الحجاج" وهو ابن أرطأة. قال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب: "صدوق كثير الخطأ والتدليس". وفيه عطية وهو ابن سعد بن جنادة العوفي، وهو كسابقه أيضا مع كونه شيعيا، لكن كلا منهما لم يتهم بالكذب ولم ينزل عن رتبة الاعتبار. ¬

_ (¬1) في "باب ما جاء في التطوع في السفر": 2: 437 - 438.

وقد حسن الترمذي حديثهما لأنه اعتضد بروايته من وجه آخر كما رأيت، وهذا الطريق الآخر فيه ابن أبي ليلى وهو فقيه جليل لكن تكلم فيه المحدثون من قبل حفظه. لكن الحديث تقوى بوروده من هذا الطريق، ومن هنا حسنه الترمذي. حكم الحديث الحسن لغيره: الحديث الحسن لغيره حجة يعمل به أيضا عند جماهير العلماء من المحدثين والأصوليين وغيرهم، لأنه وإن كان في الأصل ضعياف لكنه قد انجبر وتقوى بوروده من طريق آخر، مع سلامته من أن يعارضه شيء، فزال بذلك ما نخشاه من سوء حفظ الراوي أو غفلته، وتحصل بالمجموع قوة تدل على أنه ضبط الحديث، وحسن الظن براويه أنه حفظه وأداه كما سمعه، لذلك سمي الحديث حسنا. جمع الصحيح أو الحسن مع غيرهما: أكثر الإمام الترمذي من الجمع بين الصحة والحسن وبين غيرهما في أحكامه على الأحاديث، وهو استعمال سبقه إليه بعض المتقدمين أيضا، لكن العلماء استشكلوا وقوع ذلك عند الترمذي على ضوء ما سبق بيانه في تعريف الصحيح والحسن، وكثرت أقولاهم جدا في هذه العبارات، وقد حققنا بحث ذلك بتوسع في كتاب الإمام الترمذي (¬1)، وأفضنا في مناقشة أهم تلك الآراء، حتى خلصنا إلى نتيجة نطمئن إليها على ضوء قواعد العلم ودراسة تصرف الترمذي في هذه العبارات، نلخصها فيما يلي: 1 - قول الترمذي: "صحيح غريب"، معناه أن الحديث قد ¬

_ (¬1) 185 - 199 فانظره.

جمع بين الصحة والغرابة أي تفرد الراوي به، والحديث الغريب قد يكون صحيحا، وقد يكون حسنا، وقد يكون ضعيفا. 2 - قول الترمذي: "حسن صحيح"، يفيد أنه تعددت أسانيد الحديث، وبلغ درجة الصحة، فجمع الحسن إلى الحسن، ليبين أنه خرج عن حد الغرابة. 3 - قول الترمذي: "حسن غريب"، إن كانت الغرابة في السند والمتن وهو الذي لم يرو إلا بإسناد واحد، فهذا يعني أن الحديث حسن لذاته. وقد يحكم عليه بذلك لوجود دلالئل تقوي معناه. وإذا كان الحديث غريبا في الس فقط -وهو الذي اشتهر من عدة أوجه، ثم جاء من طريق غير مشهور- فهذا متفق مع تعريف الحديث الحسن عند الترمذي، لأنه يصدق عليه أنه روي من غير وجه. 4 - قول الترمذي: "حسن صحيح غريب" إن كان غريبا سندا فقط فالمعنى على ما ذكرنا في "حسن صحيح" غاية الأمر أنه أفاد أن في الإسناد تفردا عما اشتهرت به الأسانيد الأخرى. وإن كان غريبا سندا ومتنا فيكون قد ذكر الحسن هنا لإفادة أنه ورد ما يوافق معنى الحديث (¬1). ¬

_ (¬1) أما إن كان الحديث غريبا سندا ومتنا ولا يكون ثمة شيء يوافق معناه، فهذا التعبير يفيد التردد في الحديث بين الصحة والحسن للخلاف بين العلماء فيه، أو عدم الجزم من المجتهد، على ما اتجه إليه الحافظ ابن حجر. لكن لم أقع بعد على مثال من الترمذي يصلح لهذه الصورة الأخيرة. فالله تعالى أعلم.

اصطلاحات شاملة للصحيح والحسن: كثيرا ما يستعمل المحدثون للدلالة على قبول الحديث ألقابا غير قولهم: "صحيح"، أو قولهم: "حسن"، مثل "الجيد"، و"القوي"، و"الصالح"، و"المعروف"، و"المحفوظ"، و"المجود"، و"الثابت". فأما الجيد، فقد قرر الحافظ ابن حجر أنه لا مغايرة بين صحيح وجيد عندهم، ومنه في جامع الترمذي في الطب: "هذا حديث جيد حسن"، إلا أن الجهبذ منهم لا يعدل عن صحيح إلى جيد إلا لنكتة، كأن يرتقي الحديث عنده عن الحسن لذاته، ويتردد في بلوغه الصحيح، فالوصف به أنزل رتبة من الوصف بصحيحن وكذا القوي. وأما الصالح، فيشمل الصحيح والحسن لصلاحيتهما للاحتجاج بهما، ويستعمل أيضا في ضعيف ضعفا يسرا لأنه يصلح للاعتبار. وأما المعروف فهو مقابل المنكر، والمحفوظ مقابل الشاذ. والمجود والثابت يشملان أيضا الصحيح والحسن. ومن ألفاظهم أيضا "المشبه" وهو يطلق على الحسن وما يقاربه. قال أبو حاتم: أخرج عمرو بن حصين الكلابي أول شيء أحاديث مشبهة حسانا، ثم أخرج بعد أحاديث موضوعة فأفسد علينا ما كتبنا" (¬1). الحكم بالصحة أو الحسن على المسند: يقع كثيرا في كلام المحدثين قولهم: "هذا حديث صحيح الإسناد" أو "حسن الإسناد"، أو "سند صحيح"، ونحو ذلك، فهذا دون ¬

_ (¬1) تدريب الراوي: 104 - 105.

قولهم "حديث صحيح" أو"حديث حسن"، لما عرفنا من دقة نظر المحدثين الذي لا يغفل عن فحص المتن اكتفاء بدرس السند، فلا ملازمة عند المحدثين بين صحة السند وصحة المتن، بل قد يصح السند ولا يصح المتن لشذوذ أو علة قادحة. ومن هنا كان لا بد من النظر إلى هذا الحكم بحسب قائله الذي صدر منه، فغن كان حافظا معتمدا ولم يذكر له علة ولا قادحا فالظاهر صحة المتن، أو ح سنه لأن عدم العلة والقادح هو الأصل والظاهر، لكن الحافظ ابن حجر يلفت النظر هنا إلى أن الإمام منهم لا يعدل عن قوله "صحيح" إلى"صحيح الإسناد" إلا لأمر حاك في صدره. ويتصل بهذا فائدة أخرى نضمها إلى ما ذكره العلماء في هذا الصدد وهي ما درج عليه الحافظ الهيثمي في كتابه العظيم "مجمع الزوائد" من قوله في الحديث: "رجاله ثقات" أو "رجاله رجال الصحيح"، فهذه العبارة ينبغي أن تكون دون قولهم: "صحيح الإسناد" لأنها تزيد على عدم ذكر السلامة من الشذوذ والعلة فقد الحكم باتصال السند، وإن كان الظاهر من تتبع كلامه أنه يميز المنقطع بالتنبيه عليه، كان يقول: رجاله رجال الصحيح غير أنه منقطع، أو مرسل. مصادر الحديث الحسن: لم يفرد العلماء الحديث الحسن بالتصنيف، بل جمعوا معه الصحيح، ونزلوا إلى الضعيف، وإن كانوا لا ينزلون في هذه التصانيف إلى الضعيف التالف إلا قليلا نادرا جدا. وأهم مصادر الحديث الحسن: السنن الأربعة، والمسند للإمام أحمد، ومسد أبي يعلى الموصلي، نعرف بها فيما يلي:

1 - "الجامع" للإمام أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، المولود سنة (209) هـ والمتوفى سنة (279) هـ. وكان الترمذي من خواص تلامذة البخاري، شهد له العلماء بالعلم والحفظ والمعرفة، وبالديانة والورع، حتى إنه لغلبة الخشية عليه كف بصره آخر عمره بكاء من خشية الله تعالى. قال الحافظ أبو سعيد الإدريسي: "أحد الأئمة الذين يقتدى بهم في علم الحديث، صنف الجامع والتواريخ والعلل تصنيف رجل عالم متقن، كاد يضرب به المثل في الحفظ" (¬1). وكتابه "الجامع" المشهور بـ"سنن الترمذي" أهم مصادر الحديث الحسن، عني به فيه، وأشاد به. قال ابن الصلاح: "كتاب أبي عيسى الترمذي رحمه الله أصل في معرفة الحديث الحسن وهو الذي نوه باسمه وأكثر من ذكره في جامعه". ويمتاز الكتاب بكثرة فوائده العلمية وأصنافها، وفي ذلك يقول ابن رشيد: "إن كتاب الترمذي تضمن الحديث مصنفا على الأبواب وهو علم برأسه، والفقه وهو علم ثانن وعلل الحديث ويشتمل على بيان الصحيح من السقيم وما بينهما من المراتب وهو علم ثالث، والأسماء والكنى وهو علم رابع، والتعديل والتجريح وهو علم خامس، ومن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ومن لم يدركه ممن أسند عنه في كتابه وهو علم سادس، وتعديد من روى ذلك وهو علم سابع. ¬

_ (¬1) شروط الأئمة الستة: 17، والتهذيب: 9: 388.

هذه علومه المجملة، وأما التفصيلية فمتعددة، وبالجملة فمنفعته كثيرة، وفوائده غزيرة" (¬1). 2 - "السنن" للإمام أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني المولود سنة " (202) هـ" والمتوفى سنة " (273) هـ". وأبو داود من تلامذة البخاري أيضا، أفاد مه وسلك في العلم سبيله، وكان يشبه الإمام أحمد في هديه ودله وسمته. قال محمد بن إسحاق الصاغاني وإبراهيم الحربي: "لين لأبي داود الحديث كما لين لداود الحديد". وقال الحافظ موسى بن هارون: "خلق أبو داو في الدنيا للحديث، وفي الآخرة للجنة، ما رأيت أفضل منه". وقال الحاكم أبو عبد الله: "أبو داود إمام أهل الحديث في عصره بلا مدافعة" (¬2). وكتابه "السنن" صنفه وانتقاه من خمسمائة ألف حديث، عني فيه بأحاديث الأحكام وجمعها عناية كبيرة، ولخص طريقته فيه بقوله: (¬3): "وما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد فقد بينته، وفيه مالا يصح سنده، وما لم أذكر فيه شيئا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض". وقد اختلفت الآراء في قول أبي داود "ما لم أذكر فيه شيئا فهو صالح" هل يستفاد منه أن ما سكت عليه في كتابه فهو صحيح أو أنه حسن؟ . وقد اختار ابن الصلاح والنووي وغيرهما أن يحكم عليه بأنه حسن، ما لم ينص على صحته أحمد ممن يميز بين الصحيح والحسن. ¬

_ (¬1) بتصرف يسير عن قوت المغتذي للسيوطي: 1: 215 ومقدمة تحفة الأحوذي 175 - 176. (¬2) تذكرة الحفاظ: 591 - 592. وغيرها. (¬3) في رسالته إلى أهل مكة: 6.

وقد تأملنا سنن أبي داود فوجدنا الأحاديث التي يسكت عليها متنوعة جدا؛ فمنها الصحيح المخرج في الصحيحين، ومنها صحيح لم يخرجاه، ومنها الحسن، ومنها أحاديث ضعيفة أيضا لكنها صالحة للاعتبار، ليست شديدة الضعف، فتبين بذلك أن مراد أبي داود من قوله "صالح" المعنى الأعم الذي يشمل الصحيح والحسن، ويشمل ما يعتبر به ويتقوى لكونه يسير الضعف. وهذا النوع يعمل به لدى كثير من العلماء، مثل أبي داود وأحمد والنسائي، وإنه عندهم أقوى من رأي الرجال (¬1). 3 - "المجتبى" للإمام أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي المولود سنة " (215) هـ" والمتوفى " (303) هـ". قال الدارقطني: "أبو عبد الرحمن مقدم على كل من يذكر بهذا العلم من أهل عصره". وقال الحافظ ابن يونس: "كان النسائي إماما حافظا ثبتا" (¬2). وقد اشتهر النسائي بشدة تحريه في الحديث والرجال، وأن شرطه في التوثيق شديد. وضع كتابا كبيرا جدا حافلا عرف "بالسنن الكبرى" وهذا الكتاب"المجتبى" المشهور بسنن النسائي منتخب منه وقد قيل إن اسمه المجتنى" بالنون. وكتاب "المجتبى" هذا يسير على طريقة دقيقة تجمع بين الفقه وفن الإسناد، فقد رتب الأاديث على الأبواب، ووضع لها عناوين تبلغ أحيانا منزلة بعيدة من الدقة، وجمع أسانيد الحديث الواحد في موطن واحد، وبذلك سلك أغمض مسالك المحدثين وأجلها. ¬

_ (¬1) انظر رسالة أبي داود: 7، وعلوم الحديث: 33 - 34 وغيرهما. (¬2) تذكرة الحفاظ: 698 - 701.

4 - "سنن المصطفى" لابن ماجه محمد بن يزيد القزويني الحافظ الكبير المفسر، ولد سنة " (209) هـ" وتوفي سنة " (273) ". قال أبو يعلى الخليلي الحافظ: "ابن ماجه ثقة كبير متفق عليه، محتج به، له معرفة وحفظ ... ". قال ابن ماجه "عرضت هذه السنن على أبي زرعة فنظر فيه، وقال: أظن إن وقع هذا في أيدي الناس تعطلت هذه الجوامع أو أكثرها" (¬1). وقد اعتبر هذا الكتاب رابع السنن، ومتمم الكتب الستة التي هي المراجع الأصول للسنة النبوية، وكان المتقدمون يعدونها خمسة، ليس فيها كتاب ابن ماجه، ثم جعل بعضهم الموطأ سادسها، ولما رأى بعض الحفاظ كتابه كتابا مفيدا قوي النفع في الفقه ورأى من كثرة زوائده أدرجه في الأصول وجعلوه آخرها منزلة (¬2)؛ وذلك لأنه تفرد بأحاديث عن رجال متهمين بالكذب، وبسرقة الأحاديث مما حكم عليه بالبطلان أو السقوط أو النكارة. ومما تقدم نعلم أن إطلاق "الصحيح" على حد كتب السنن الأربعة هذه أو عليها مجتمعة مع الصحيحين ناشيء عن التساهل، لأن أحاديث الأربعة ليست كلها صحيحة، نعم أكثرها صحيح أو حسن، وربما كان ذلك سبب إطلاق الصحاح عليها من باب التغليب. 5 - "المسند" للإمام المبجل أحمد بن حنبل، إمام أهل السنة والحديث، ولد سنة " (164) " وتوفي " (241) ".ط قال الشافعي: "خرجت من بغداد فما خلفت بها رجلا أفضل ولا أعلم ولا أفقه من أحمد بن حنل". ¬

_ (¬1) تذكرة الحفاظ: 636. (¬2) الرسالة المستطرفة: 10.

وقال إبراهيم الحربي: "رأيت أحمد كأن الله قد جمع له علم الأولين والآخرين". وقال أبو زرعة لعبد الله بن أحمد: "كان أبوك يحفظ ألف ألف حديث". كان الإمام أحمد غيورا على السنة، شديد التأسي بالسلف، وقد كان لموقفه العظيم من المعتزلة وقولهم بخلق القرآن أثر عيظم في سلامة اتجاه الفكر الإسلامي، وحسبنا في ذلك قول علي بن المديني: "إن الله أيد هذا الدين بأبي بكر الصديق يوم الردة، وبأحمد بن حنبل يوم المحنة" (¬1). وضع الإمام أحمد هذا الكتاب ليكون مرجعا للمسلمين وإماما، وجعله مرتبا على أسماء الصحابة الذين يروون الأحاديث كما هي طريقة ألفا تقريبا. فيها الصحيح والحسن والضعيف، ومنها أحاديث يسيرة شديدة الضعف حتى حكم على بعضها بعض المحدثين بالوضع. لكن الحافظ ابن حجر ألف كتابا سماه "القول المسدد في الذب عن المسند" حقق فيه نفي الوضع عن أحاديث المسند التي أشرنا إليها، وظهر من بحثه أن غالبها جياد وأنه لا يتأتى القطع بالوضع في شيء منها، بل ولا الحكم بكون واحد منها موضوعا إلا الفرد النادر مع الاحتمال القوي في دفع ذلك (¬2). 6 - "المسند" لأبي يعلى الموصلي أحمد بن علي بن المثنى ولد سنة عشر ومائتين، وارتحل في طلب الحديث وهو ابن خمس عشرة سنة، وعمر وتفرد ورحل إليه الناس. توفي سنة (307) هـ". وحضر جنازته من الخلق جمع عظيم. ¬

_ (¬1) تذكرة الحفاظ: 431 - 432. (¬2) تعجيل المنفعة: 6. وانظر التدريب: 100 - 101.

أثنى عليه العلماء ووصفوه بالحفظ والاتقان والدين، قال الحاكم النيسابوري: "كنت أرى أبا علي الحافظ "وهو شيخ الحاكم" معجبا بأبي يعلى وإتقانه وحفظه لحديثه حتى كان لا يخفى عليه منه إلا اليسير". قال الحاكم: "وهو ثقة مأمون". ومسند أبي يعلى الذي نتكلم عنه هو المسند الكبير، وله مسند آخر صغير، والمسند الكبير مرجع ضخم حافل، يقارب في درجة أحاديثه المسند للإمام أحمد، قال فيه الحافظ محمد بن الفضل التميمي: "قرأت المسانيد كمسند العدني ومسند ابن منيع وهي كالأنهار، ومسند أبي يعلى كالبحر يكون مجتمع الأنهار" (¬1). هذه أهم مصادر الحديث الحسن، وهي تجمع الصحيح والضعيف إلى الحسن كما عرفت، وإذا ضمت هذه إلى مصادر الحديث الصحيح السابقة كانت المجموعة حاوية كافة الأحاديث المقبولة لا يفوتها إلا النزر اليسير، مما يؤكد على أهل العلم العناية بها واستخراج كنوزها. تصحيح المتأخرين وتحسينهم للأحاديث: قام أئمة الحديث منذ العصور الأولى بنقد الأحاديث، وتمييز مقبولها من مردودها، وتكلموا في عللها، وأتوا في ذلك بأبحاث دقيقة تكشف خبايا الأسانيد والمتون، كأنما كانوا يطوفون مع الرواةن وينتقلون مع المتون خلال حلقات الإسناد. فكانت أبحاثهم وأحكامهم حجة تلقاها العلماء بالقبول. واحتجوا بأحكامهم في صحتها وحسنها، وعملوا بمقتضاها. ولما امتد الزمن وبعد العهد بالرواة خشي بعض أئمة المسلمين وهو ¬

_ (¬1) تذكرة الحفاظ: 707 - 708. وقارن بالرسالة المستطرفة: 53 - 54.

الإمام أبو عمرو بن الصلاح أن لا تقع أحكام المتأخرين الموقع الصائب كالذي كان عليه أولئك الأعلام، فأبدى تشككه في صلاحية المتأخرين لهذه المهمة الجليلة، فقال في كتابه علوم الحديث: "إذا وجدنا فيما يروى من أجزاء الحديث وغيرها حديثا صحيح الإسناد، ولم نجده في أحد الصحيحين، ولا منصوصا على صحته في شيء من مصنفات أئمة الحديث المشهورة فإنا لا نتجاسر على جزم الحكم بصحته، فقد تعذر في هذه الأعصار الاستقلال بإدراك الصحيح بمجرد اعتبار الأسانيد، لأنه ما من إسناد من ذلك إلا وتجد في رجاله من اعتمد في روايته لعى ما في كتابه عريا عما يشترط في الصحيح من الحفظ والضبط والاتقان، فآل الأمر إذا في معرفة الصحيح والحسن إلى الاعتماد على ما نص عليه أئمة الحديث في تصانيفهم المعتمدة المشهورة". لكن العلماء لم يوافقوا ابن الصلاح على ذلك، بل أجازوا النظر في الأحاديث والحكم عليها، لمن تمكن من علماء المتأخرين وقويت معرفته. صرح بذلك النووي، وابن كثير، والعراقي وغيرهم في عصورهم والعصور التي بعدهم، وأشهر من ناقش ذلك واعتنى بنقضه الحافظ عبد الرحيم العراقي، ثم تليمذه الحافظ ابن حجر. أما الحافظ العراقي فقد انتقد ابن الصلاح في نكته على كتابه بأن عمل هذا الحديث جرى على خلاف ما رآه ابن الصلاح وحكم به، قال: "ولم يزل ذلك دأب من بلغ أهلية ذاك منهم إلا ان منهم من لا يقبل ذاك منهم، وكذا كان المتقدمون ربما صحح بعضهم شيئا فأنكر عليه تصحيحه". وإذا كان الحافظ العراقي قد خص التصحيح بالذكر، فإن جواز الحكم بالحسن أولى، وهذه أبحاث أولئك الأعلام تتناول التحسين

للأحاديث التي لم يسبقوا إلى الحكم عليهان كما تتناول الصحيح. وقد حسن جماعة كثيرون كما ذكر السيوطي أحاديث صرح الحفاظ بتضعيفها، وقد حسن الحافظ المزي حديث "طلب العلم فريضة على كل مسلم" مع تصريح الحفاظ بتضعيفه. وأما الحافظ ابن حجر فرأى أن مجرد مخالفة العلماء لابن الصلاح ليست كافية من غير إقامة دليل ولا بيان تعليل، فعمد إلى مناقشة ما استدل به أبو عمرو. فنقض احتجاجه بوقوع الخلل في الأسانيد بأنه لا يدل على التعذر إلا في جزء ينفرد بروايته من وصف بذلك التساهل. ثم قال الحافظ رحمه الله: "ما اقتضاه كلامه من قبول التصحيح من المتقدمين ورده من المتأخرين قد يستلزم رد ما صحيح وقبول ما ليس بصحيح. فكم من حديث حكم بصحته إمام متقدم اطلع المتأخر فيه على علة قادحة تمنع من الحكم بصحته، ولا سيما إن كان ذلك المتقدم ممن لا يرى التفرقة بين الصحيح والحسن، كابن خزيمة وابن حبان" (¬1). وقد أثارت هذه المناقشات اهتمام الإمام السيوطي فكتب في المسألة بحثا خاصا سماه "التنقيح لمسألة التصحيح" (¬2) جنح فيه إلى التوفيق بين رأي ابن الصلاح ورأي من خالفه، وخرج مذهب ابن الصلاح تخريجا حسنا فقال (¬3): "والتحقيق عندي أنه لا اعتراض على ابن الصلاح ولا مخالفة بينه وبين من صحح في عصره أو بعده، وتقرير ذلك أن الصحيح قسمان: صحيح لذاته، وصحيح لغيره، كما هو مقرر في كتاب ابن الصلاح ¬

_ (¬1) تدريب الراوي: 81 - 82. (¬2) مخطوط في الظاهرية في مجموع رقم/ 5896/ عام. (¬3) ورقة 39 ب.

وغيره، والذي منعه ابن الصلاح إنما هو القسم الأول دون الثاني كما تعطيه عبارته. وذلك أن يوجد في جزء من الأجزاء حديث بسند واحد من طريق واحد لم تتعدد طرقه، ويكون ظاهر الإسناد الصحة لاتصاله وثقة رجاله فيريد الإنسان أن يحكم لهذا الحديث بالصحة لذاته بمجرد هذا الظاهر، ولم يوجد لأحد من أئمة الحديث الحكم عليه بالصحة، فهذا ممنوع قطعا لأن مجرد ذلك لا يكتفي به في الحكم بالصحة، بل لا بد من فقد الشذوذ ونفي (¬1) العلة، والوقوف على ذلك الآن متعسر بل متعذر لأن الاطلاع على العلل الخفية إنما كان للئامة المتقدمين لقرب أعصارهم من عصر النبي صلى الله عليه وسلم، فكان الواحد منهم من تكون شيوخه التابعين أو اتباع التابعين أو الطبقة الرابعة، فكان الوقوف على العلل إذ ذاك متيسرا للحافظ العارف، وأما الأزمان المتأخرة فقد طالت فيها الأسانيد، فتعذر الوقوف على العلل إلا بالنقل من الكتب المصنفة في العلل، فإذا وجد الإنسان في جزء من الأجزاء حديثا بسند واحد ظاهره الصحة لاتصاله وثقة رجاله لم يمكنه الحكم عليه بالصحة لذاته، لاحتمال أن يكون له علة خفية لم نطلع عليها لتعذر العلم بالعلل في هذه الأزمان. وأما القسم الثاني: فهذا لا يمنعه ابن الصلاح ولا غيره، وعليه يحمل صنع من كان في عصره ومن جاء بعده، فإني استقريت ما صححه هؤلاء فوجدته من قسم الصحيح لغيره لا لذاته ... ". وهذا تحقيق جيد من السيوطي يحقق الاحتياط للسنة، والإفادة من كنوز مصادرها العظيمة، وقد تحمل السيوطي عهدة الاستقراء الذي ذكره، وهو إمام حافظ ثقة. ¬

_ (¬1) غير ظاهرة في المخطوطة فقرأناها هكذا.

غير أنه لما كان العهد قد بعد برجال الأسانيد فإنه يجب الاحتياط الشديد في هذا الأمر، ولا يظن ظان أنه من السهولة بحيث يكتفي فيه بتقليب كتب في الرجال، كما يتوهم بعض الناس، حتى قد يتجرأ على مخالفة الأئمة فيما حققوه وقرروه، بل يجب أن يوضع في الحسبان كافة احتمالات الوهن والنقد في السند والمتن، ثم لا يكون الحكم جازما، بل هو حكم على الظاهر الذي تبدى لنا، لذلك قال السيوطي في التدريب (¬1): "والأحوط في مثل ذلك أن يعبر عنه بصحيح الإسناد، ولا يطلق التصحيح لاحتمال علة للحديث خفيت عليه، وقد رأيت من يعبر خشية من ذلك بقوله: صحيح إن شاء الله". ¬

_ (¬1): 82 وفيه بحث موسع فارجع إليه.

الفصل الثاني: في أنواع الحديث المردود

الفصل الثاني: في أنواع الحديث المردود ونتكلم فيه عن هذه الأنواع فقط: 1 - الحديث الضعيف، وتنوعه. 2 - الحديث المضعف. 3 - المتروك. 4 - المطروح. 5 - الموضوع. وهي الأنواع الناشئة عن اختلال شروط القبول في الرواي، بالطعن فيه، أما سائر الأنواع فنستخلصها من استقراء أحوال المتن والسند في الأبحاث الآتية إن شاء الله تعالى.

1 - الضعيف: أحسن ما يعرف به الحديث الضعيف هو: ما فقد شرطا من شروط الحديث المقبول. وشروط الحديث المقبول ستة هي: العدالة: الضبط "ولو لم يكن تاما"، الاتصال، فقد الشذوذ، فقد العلة القادحة، العاضد عند الاحتياج إليه. كذا عدها البقاعي والسيوطي وغيرهما (¬1): لكن عبروا بقولهم: "الضبط" بدون زيادة "ولو لم يكن تاما". وهذا مشكل لأنه إذا فقد تمام الضبط بأن خف ضبط الراوي، فإنه يصير عندئذ حسنا، ولا يكون ضعيفا، لذلك كان الصواب في التعبير عن هذا الشرط ما قلناه: "الضبط ولو لم يكن تاما". والسبب في الحكم على الحديث بالضعف لفقد أحد شروط القبول أن باجتماع هذه الشروط ينهض الدليل الذي يثبت أن الحديث قد أداه رواته كما هو، فإذا اختل واحد منها فقد الدليل على ذلك. وهنا يتضح لنا احتياط المحدثين الشديد في شروطهم لقبول الحديث، حيث جعلوا مجرد فقد الدليل كافيا لرد الحديث والحكم عليه بالضعف، مع أن فقد الدليل ليس دليلا محتما على الخطأ أو الكذب في رواية الحديث، مثل ضعف الحديث بسبب سوء حفظ الراوي وغلطه ¬

_ (¬1) انظر التدريب: 105. وتوضيح الأفكار: 1: 248. وانظر شرح الزرقاني: 30 وحاشية الأبياري: 25.

مع صدقه وأمانته، فإنه لا يعني أنه قد أخطأ فيه حتما، بل يحتمل أن يكون قد أصاب، لكن لما طرأ هذا التخوف القوي من وقوع الخطأ فيه حكمنا عليه بالرد. كذلك ضعف الحديث بسبب فقد الاتصال فإنه يضعف للجهالة بحال الواسطة المفقودة، فيحتمل أن يكون من الثقات وأن يكون من الضعفاء، وعلى فرض أنه ضعيف فإنه يحتمل أن يكون أخطأ فيه أو حرفه ... فأخذ المحدثون بعين الاعتبار احتمال الاحتمال، وجعلوا ذلك قادحا في قبول الحديث، وذلك غاية ما تكون الحيطة المنهجية في النقد العلمي. أقسام الضعيف: يتبين من التعداد الذي أوضحناه لشروط القبول: أن هذا الاصطلاح: "ضعيف" لقب عام يشمل كل حديث مردود مهما كان سبب رده، وأنه بالتالي يتنوع أنواعا كثيرة جدا، وذلك أنا إذا جعلنا اختلال كل شرط على حدة نوعا تحصل معنا ستة أنواع، فإذا أضفنا إلى كل واحد من الستة اختلال باقي الشروط بعده كانت الأنواع كثيرة جدا، بلغت في إحصاء فضيلة أستاذنا الشيخ محمد السماحي/ 510/، مع إمكان الزيادة إذا اعتبرنا تفاصيل الشروط وفروعها (¬1). لكن المحدثين لم يفردوا كل صورة بنوع خاص لما في ذلك من التطويل الذي يوعر سبيل العلم، ولا يجدي ثمرة زائدة على المقصود، إنما صنفوها بحسب الأنواع الرئيسية. حيث إنها ضوابط كافية لتمييز المقبول من المردود تندرج تحتها كافة الصور، كما أنها تبين إلى أي مستوى بلغ الضعف، هل هو هين يصلح للتقوية إن وجد العاضد، أو شديد لا يصلح، أو مكذوب مختلق جزما. ¬

_ (¬1) انظر قسم مصطلح الحديث: 130 - 134.

ولا ريب أن هذا التمييز الدقيق لمراتب الضعيف هدف عظيم يقصد إليه فن المصطلح، وحيث تحقق التوصل إليه بهذه الأنواع الرئيسية، فإن الاستمرار في تتبع الفروع غير المتناهية فضول عقلي وبحث نظري مجرد عن الفائدة التطبيقية. لكن المحدثين درجوا عند الاطلاق قولهم "ضعيف" على ما يضعف بسبب من الطعن في روايه، لاختلال في شروط القبول في الراوين لذلك يمكن أن يعتبر من هذه الناحية، نوعا خاصا بالأحوال الناشئة عن اختلال شرطي القبول في الراوي وهما: العدالة، وتشتمل على خمسة شروط كما عرفت من قبل، فكل شرط منها اختلاله صورة من صور الضعف. والضبط وله صور كثيرة. فأدرج المحدثون هذه الصور كلها تحت الضعيف ولم يخصوها بلقب خاص. مراتب الضعيف وأضعف الأسانيد: ولما أن أسباب الضعف -كما عرفت- تتفاوت قوتها في توهين الحديث فإن مراتب الحديث الضعيف تتفاوت بحسب ذلك، فمنه الضعيف أيسر الضعف حتى يكاد يحكم بحسنه، ومنه ضعيف أشد الضعف. وقد عدد الحاكم أو هي الأسانيد: نشرح لك أمثلة منها (¬1): أو هي أسانيد الشاميين: محمد بن قيس المصلوب عن عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة. محمد بن قيس هو: محمد بن سعيد، وقيل في اسمه غير ذلك كان يضع الحديث صلب في الزندقة. وعبيد الله مختلف فيه وهو إلى الضعف. ¬

_ (¬1) معرفة علوم الحديث: 56 - 58 إلا المثال الأخير فليتنبه.

أقرب. وعلي بن يزيد ضعفوه وتركه الدارقطني. وأما القاسم فهو ابن عبد الرحمن الشامي صدوق يرسل كثيرا، وله أفراد. وأوهى أسانيد المصريين: أحمد بن محمد بن حجاج بن رشدين بن سعد عن أبيه عن جده، عن قرة بن عبد الرحمن بن حيويل. يروى بهذا الإسناد أحاديث كثيرة عن جماعة. أحمد بن محمد بن حجاج: قال ابن عدي: "يكتب حديثه مع ضعفه". وأبوه في حديثه نظر. وجده رشدين ضعيف، وقرة بن عبد الرحمن صدوق له مناكير. وأوهى أسانيد ابن عباس: السدي الصغير محمد بن مروان عن الكلبي، عن أبي صالح عن ابن عباس. محمد بن مروان تركوه واتهم بالكذب. والكلبي هو محمد بن السائب تركوه وكذبه سليمان التيمي وزائدة وابن معين. وأبو صالح هو باذام ضعيف مدلس. قال الحافظ ابن حجر: هذه سلسلة الكذب لا سلسلة الذهب (¬1). وينبغي أن يتنبه (¬2): إلى أن هذا باعتبار ضعف الرواة، وأنه كما يتفاوت ضعف الحديث بسبب ضعف الرواة يتفاوت باعتبار فقد الصفات الأخرى بحسب الصفة أو الصفات المفقودة. وقد ميز المحدثون بين مراتب الضعف الناشيء من القدح في رجاله، فهناك الضعف الذي يقبل التقوية وهذا يسمونه ضعيفا أيا كان سبب ضعفه، وهناك الضعف الشديد الذي لا ينجبر وهذا يطلقون عليه أيضا الضعيف ويؤخذ من ¬

_ (¬1) التدريب: 60. وقد اعتمدنا في شرح الأسانيد على كتاب المغني في الضعفاء. (¬2) كما أوضحه فضيلة أستاذنا السماحي في قمس المصطلح: 135 - 136.

تعابيرهم تمييزه كقولهم ضعيف جدا. أو فيه فلان متروك أو متهم. إلا أن كثيرا من المحدثين ميزوا بعض حالات الضعيف بألقاب خاصة بها هي: "المنكر، المتروك، المطروح" ندرسها فيما يلي: واتفقوا على تمييز الضعف الأخس وهو الكذب المختلق بلقب خاص هو "الموضوع". وهكذا تأتي الأنواع التي ندرسها في هذا الفصل شاملة لأنواع الضعف الناشيء، من الطعن في الرواة، ثم ندرس في الأبحاث الآتية باقي أركان الحديث: أحوال المتن، وأحوال السند، والأحوال المشتركة بينهما، ونطبقعليها الضابط العام للقبول والرد، فتأتي بذلك الدراسة شاملة كل جوانب الحديث على غاية من الدقة والأحكام. ضعف الإسناد لا يقتضي ضعف المتن: وههنا مسألة جدا تدل على دقة نظر المحدثين في تطبيق أصول النقد، حيث نبهوا على أنه لا يلزم من ضعف السند ضعف المتن، كما أنه لا يلزم من صحة السند صحة المتن. فقد يضعف السند ويصح المتن لوروده من طريق آخر، كما أنه قد يصح السند ولا يصح المتن لشذوذ أو علة. لذلك قالوا (¬1): إذا رأيت حديثا بإسناد ضعيف فلك أن تقول: ضعيف بهذا الإسناد. وليس لك أن تقول هذا ضعيف كما يفعله بعض المتمجهدين في هذا العلم الشريف، وتعني به ضعف متن الحديث بناء على مجرد ضعف ذلك الإسناد، فقد يكون الحديث مرويا بإسناد آخر صحيح يثبت بمثله الحديث، بل يتوقف جواز الحكم بضعف الحديث على حكم إمام من أئمة الحديث الحفاظ بأنه لم يرو بإسناد يثبت به، أن الحكم المطلق عليه بأنه حديث ضعيف. أو نحو هذا مفسرا وجه القدح ¬

_ (¬1) كما في علوم الحديث: 92 - 93 وسائر مصادر هذا العلم.

فيه، أما إذا حكم عليه بالضعف ولم يفسر سببه فإن الحكم فيه هو حكم الجرح غير المفسر الذي بيناه سابقا (¬1). حكم الحديث الضعيف: لما كان الحديث الضعيف على احتمال أن يكون راويه قد حفظه وأداه على وجهه الصحيح، فقد كان ذلك مثار اختلاف كبير بين العلماء في العمل به، دارت به مناقشات طويلة (¬2)، حتى وضع بعض العصريين بعض عباراتهم في غير موضعها، وتقلب بينها بحيث يعسر على القارئ معرفة وجهه فيها. وتقدم إليها حاصل مذاهب العلماء في هذه المسألة الهامة: المذهب الأول: أنه يعمل بالحديث الضعيف مطلقا أي في الحلال والحرام والفرض والواجب بشرط أن لا يوجد غيره. ذهب إلى ذلك بعض الأئمة الأجلة كالإمام أحمد وأبي داود وغيرهما. وهذا محمول على ضعيف غير شديد الضعف، لأن ما كان ضعفه شديدا فهو متروك عند العلماء، وأن لا يكون ثمة ما يعارضه. وكأن وجهة هذا المذهب أن الحديث الضعيف لما كان محتملا للإصابة ولم يعارضه شيء فإن هذا يقوي جانب الإصابة في روايته فيعمل به. روى الحافظ ابن منده أنه سمع محمد بن سعد الباوردي يقول: "كان من مذهب أبي عبد الرحمن النسائي أن يخرج عن كل من لم ¬

_ (¬1) في صفحة 96 - 98 من كتابنا هذا. (¬2) انظر في المسألة: الكفاية: 133 - 134. وعلوم الحديث: 93، والتدريب: 196 وتوضيح الأفكار: 2: 109 - 113 وتوجيه النظر: 289 - 293 وقواعد التحديث: 117 - 121 والأجوبة الفاضلة: 36 - 59. وغيرها.

يجمع على تركه". قال ابن منده: "وكذلك أبو داود السجستاني يأخذ مأخذه ويخرج الإسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره لأنه أقوى عنده من رأي الرجال". وهذا مذهب الإمام أحمد فإنه قال: "إن ضعيف الحديث أحب إليه من رأي الرجال لأنه لا يعدل إلى القياس إلا بعد عدم النص" (¬1). وقد تأول جماعة من العلماء (¬2) هذه الروايات بأن المراد بها معنى آخر غير المعنى المتعارف لكلمة "ضعيف"، وهذا المعنى المراد هو "الحسن"، لأنه ضعف عن درجة الصحيح. لكن هذا التأويل يشكل عندنا بما قاله أبو داود (¬3) ولفظه: "وإن من الأحاديث في كتابي السنن ما ليس بمتصل، وهو مرسل ومدلس، وهو إذا لم توجد الصحاح عند عامة أهل الحديث على معنى أنه متصل، وهو مثل: الحسن عن جابر، والحسن عن أبي هريرة، والحكم عن مقسم عن ابن عباس ... ". حيث جعل أبو داود الحديث غير المتصل صالحا للعمل عند عدم الصحيح، ومعلوم أن المنقطع من أنواع الحديث الضعيف لا الحسن. كما أنه على تأويل الضعيف بالحسن لا معنى لتخصيص هؤلاء الأئمة بالعمل به به وتقديمه على القياس، لأن هذا مذهب جماهير العلماء. المذهب الثاني: يستحب العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال من المستحبات والمكروهات، وهو مذهب جماهير العلماء من ¬

_ (¬1) علوم الحديث: 33 - 34. والتدريب: 97. (¬2) انظر النقول عنهم في التعليقات الحافلة على الأجوبة الفاضلة: 47 - 48. (¬3) في رسالته إلى أهل مكة: 7.

المحدثين والفقهاء وغيرهم، وحكى الاتفاق عليه بين العلماء الإمام النووي (¬1) والشيخ علي القاري وابن حجر الهيتمي (¬2). وقد أوضح الحافظ ابن حجر شروطه خير إيضاح فقال (¬3): "إن شرائط العمل بالضعيف ثلاثة: الأول: متفق عليه، وهو أن يكون الضعف غير شديد، فيخرج من انفرد من الكذابين والمتهمين بالكذب ومن فحش غلطه. الثاني: أن يكون مندرجا تحت أصل عام، فيخرج ما يخترع بحيث لا يكون له أصل أصلا. الثالث: ألا يعتقد عند العمل به ثبوته، لئلا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله". وقد وجه الحافظ الهيتمي الاستدلال للعمل بالضعيف في فضائل الأعمال فقال: "قد اتفق العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال لأنه إن كان صحيحا في نفس الأمر فقد أعطي حقه من العمل به. والألم يترتب على العمل به مفسدة تحليل ولا تحريم ولا ضياع حق للغير" (¬4). المذهب الثالث: لا يجوز العمل بالحديث الضعيف مطلقا، لا في ¬

_ (¬1) انظر الأذكار للنووي: 7 و 217 ونقل العلامة الجليل المحدث السيد علوي المالكي المكي رحمه الله عن النووي إجماع العلماء على ذلك، في كتابه المنهل اللطيف في أحكام الحديث الضعيف: 13. (¬2) أنظر الأجوبة الفاضلة: 37 و 42. (¬3) كما نقل عنه السخاوي في خاتمة القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع: 258. وانظر الأجوبة الفاضلة: 43 وانظر بعض المناقشات الهامة حول الشروط في المنهل اللطيف: 8 و 9 - 10. (¬4) الأجوبة الفاضلة: 42.

فضائل الأعمال ولا في الحلال والحرام، نسب ذلك إلى القاضي أبي بكر بن العربي، وقال به الشهاب الخفاجي والجلال الدواني، ومال إليه بعض العصريين من الكاتبين مستدلا بأنها كالفرض والحرام لأن الكل شرع، وأن في الأحاديث الصحاح والحسان مندوحة عن الأحاديث الضعيفة. هذا والمسألة ذات إشكالات كثيرة ومناقشات نرجو أن نوفق لبسطها في مقام آخر إن شاء الله، إلا أنه يبدو أن أوسط هذه المذاهب هو أعدلها وأقواها، وذلك أننا إذا تأملنا الشروط التي وضعها العلماء للعمل بالحديث الضعيف، فإننا نلاحظ أن الضعيف الذي نبحث فيه لم يحكم بكذبه، لكن لم يترجح فيه جانب الإصابة، إنما بقي محتملا، وهذا الاحتمال قد تقوى بعدم وجود معارض له وبانضوائه ضمن أصل شرعي معمول به، مما يجعل العمل به مستحبا ومقبولا، رعاية لذلك. أما زعم المعارضين أن العمل بالضعيف في الفضائل اختراع عبادة وتشريع في الدين لما لم يأذن به الله تعالى. فقد أجاب عنه العلماء بأن هذا الاستحباب معلوم من القواعد الشرعية الدالة على استحباب الاحتياط في أمر الدين، والعمل بالحديث الضعيف من هذا القبيل، فليس ثمة إثبات شيء من الشرع بالحديث الضعيف. وفي رأيي أن الناظر في شروط العمل بالحديث الضعيف يجد فيها ما ينفي الزعم بأنه إثبات شرع جديد، وذلك أنهم اشترطوا أن يكون مضمونه مندرجا تحت أصل شرعي عام من أصول الشريعة الثابتة، فأصل الشريعة ثابت بالأصل الشرعي العام، وجاء هذا الخبر الضعيف موافقا له.

مثال ذلك: ما أخرجه ابن ماجه في سننه (¬1) حدثنا أبو أحمد المرار بن حمويه ثنا محمد بن المصفى ثنا بقية بن الوليد عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قام ليلتي العيدين يحتسب لله لم يمت قلبه يوم تموت القلوب". فهذا الإسناد رجاله ثقات، إلا أن ثور بن يزيد قد رمي بالقدر لكنه هنا يروي ما لا صلة له ببدعته، فلا يخل بالاحتجاج به، ومحمد بن مصفى صدوق كثير الحديث حتى وصفه ابن حجر بأنه حافظ، وقال الذهبي: ثقة مشهور. لكن وقعت له في رواياته المناكير. وفي سند الحديث: بقية بن الوليد وهو من الأئمة الحفاظ صدوق، لكنه كثير التدليس عن الضعفاء روى له مسلم متابعة فقط. وهو هنا لم يصرح بما يثبت سماعه للحديث فيكون الحديث ضعيفا (¬2). وقد ذهب العلماء إلى أنه يستحب إحياء ليلتي العيدين بذكر الله تعالى وغيره من الطاعات لهذا الحديث الضعيف لأنه يعمل به في فضائل الاعمال كما قرر النووي (¬3). ونحن نعلم أن قيام الليل والتعبد فيه ورد الحض عليه في القرآن والسنة المتواترة، والتقرب إلى الله تعالى بالذكر والدعاء ونحوهما مرغب فيه كل الأوقات والأحوال، وكل ذلك يشمل بعمومه ليلتي العيدين اللتين لهما من الفضل ما لهما. وهذا يوضح تماما أن الحديث لم يشرع شيئا جديدا، إنما جاء ¬

_ (¬1) آخر الصيام برقم 1782. (¬2) انظر مزيدا من التفصيل في كتابنا الصلوات الخاصة: 102 - 103. (¬3) في الأذكار: 207. وانظر ص 7 منه.

بجزئية موافقة لأصول الشريعة ونصوصها العامة، مما لا يدع أي مجال للتردد في استحباب العمل به والأخذ بمقتضاه. رواية الحديث الضعيف: أما مجرد رواية الحديث الضعيف في غير العقائد وأحكام الحلال والحرام، كأن يروي في الترغيب والترهيب والقصص والمواعظ ونحو ذلك فقد أجاز العلماء المحدثون رواية ما سوى الموضوع وما يشابهه من غير اهتمام ببيان ضعفه، والآثار عنهم في ذلك كثيرة مستفيضة ذكر الخطيب البغدادي جملة منها في كفايته (¬1). منها قول الإمام أحمد: "إذا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والسنن والأحكام تشددنا في الأسانيد، وإذا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل الأعمال أو مالا يضع حكما ولا يرفعه تساهلنا في الأسانيد". لكن علماء الحديث يراعون الدقة في رواية الحديث الضعيف، لذلك لا يسوغون روايته بصيغة جازمة في نسبة الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لك أن تقول في روايتك لحديث ضعيف: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا ... ، أو فعل، أو أمر، وما أشبه ذلك من الألفاظ الجازمة بصدوره عنه صلى الله عليه وسلم، وإنما تقول فيه: "روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يروى، أو ورد، أو يحكى، أو ينقل ... " وهكذا تقول أيضا فيما تشك في صحته وضعفه". ¬

_ (¬1) 133 - 134.

إنما تقول: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" فيما ظهر صحته أو حسنه. لكن المتقدمين كانوا يتساهلون في ذلك، وربما عبروا عن الصحيح بقولهم: "روي"، اعتمادا على اشتهار الأحاديث والأسانيد في عصرهم، كما ستقف عليه في بحث المعلق (¬1) إن شاء الله تعالى. مصادر الحديث الضعيف: لما كان الحديث الضعيف ذا أثر خطير في الدين فقد عني أئمة الحديث بالتأليف في التنبيه عليه وبيان أسباب ضعفه، ليظهر ما يصلح للتقوية أو يؤخذ به في الفضائل ومالا يصلح لشيء من ذلك. ونسوق إليك أهم هذه المصادر: 1 - الكتب التي صنفها العلماء في الضعفاء من الرواة (¬2)، فإنهم يوردون لمناسبة الكلام على الراوي أحاديث من مروياته تنبيها على ضعفها، أو استدلالا بها على ضعفه، فهي ألصق بما غلب عليه إطلاق الضعيف، وهو الذي ضعف لجرح روايه. 2 - مصادر نص العلماء على أن تفردها بحديث أمارة على ضعفه. قال السيوطي في ديباجة كتابه الجامع الكبير (¬3). " ... كل ما عزي لهؤلاء الأربعة -يعني العقيلي في الضعفاء، وابن عدي في الكامل في الضعفاء، والخطيب البغدادي، وابن عساكر- أو عزي للحكيم الترمذي في نوادر الأصول، أو للحاكم في تاريخه، أو للديلمي في مسند الفردوس فهو ضعيف، فيستغنى ¬

_ (¬1) الآتي برقم 64 ص 374 - 378. (¬2) سردنا منها جملة هامة فيها سبق: 130 - 132. (¬3) كنز العمال: 1: 8 طبع الهند بتصرف يسير وزيادة ما بين-

بالعزو إليها أو إلى بعضها عن بيان ضعفه" انتهى كلامه. ونحوها "حلية الأولياء" لأبي نعيم. وهذه المصادر لا يختص فيها الضعف باختلال شروط الرواة، بل يوجد فيها ما يضعف لقادح آخر في السند أو المتن. 3 - المصادر التي ألفها العلماء في أنواع من الحديث الضعيف ضعفت لغير جرح الرجال، مثل الكتب المصنفة في المراسيل، والمدرج، والمصحف، والعلل، وغير ذلك مما سنذكره لدى استقصاء أحوال السند والمتن وبيان حكم كل إن شاء الله تعالى. 2 - المضعف: وهو الذي لم يجمع على ضعفه، بل ضعفه بعضهم وقواه آخرون: إما في المتن أو في السند. أفرد هذا النوع ابن الجوزي، واستدرك عليه السخاوي بأنه يشترط فيه أن يترجح التضعيف أو يتساويا ولا يترجح شيء منهما. وهو شرط لا بد منه، فكم من الأحاديث الصحيحة ما وقع في سنده راو ضعفه بعض العلماء، لكن لم يعد بجرحه. وهذا النوع أعلى مرتبة من الضعيف المجمع عليه (¬1). لكن هذا اطلاقه غير مسلم في رأينا، لأنه قد يترجح ¬

_ (¬1) انظر فتح المغيث للسخاوي: 39، وتوجيه النظر: 239.

التضعيف: ويكون أشد جرحا مما أجمع على ضعفه، كما إذا فسر بجارح مفسق، وصح ثبوت ذلك عنه ثبوتا مؤكدا، فإنه أشد مما أجمع على ضعفه لسوء حفظ راويه. ولهذا فإن الأولى ما درج عليه جمهور المحدثين من عدم إفراد هذا النوع. 3 - المتروك: هذا النوع ذكره شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر وعرفه بأنه (¬1): هو الحديث الذي يرويه من يتهم بالكذب ولا يعرف ذلك الحديث إلا من جهته ويكون مخالفا للقواعد المعلومة، وكذا من عرف بالكذب في كلامه وإن لم يظهر منه وقوع ذلك في الحديث النبوي. وهذا النوع يسمى متروكا ولم يسم موضوعا، لأن مجرد الاتهما بالكذب لا يسوغ الحكم بالوضع (¬2). وقد يطلق عليه بعض المحدثين المنكر، كما سيأتي تفصيله (¬3). مثاله حديث عمرو بن شمر عن جابر الجعفي عن الحارث عن علي. وهو مما قيل فيه أو هي الأسانيد. ¬

_ (¬1) في شرح النخبة: 30 بتصرف يسير جدا. (¬2) قسم المصطلح: 203، وفيه تفصيل هام لشرح هذا النوع. (¬3) في بحث المنكر رقم 79 ص 430 - 432.

وحديث الجارود بن يزيد النيسابوري قال الذهبي: ومن بلاياه عن بهز عن أبيه عن جده أنه قال: "إذا قال لامرأته أنت طالق إلى سنة إن شاء الله فلا حنث عليه". الجارود كذبه أبو أسامة، وضعفه علي، وقال ابود داود: غير ثقة، وقال النسائي والدراقطني: متروك (¬1). 4 - المطروح: هذا النوع أفرده الحافظ الذهبي وعرفه بأنه: ما نزل عن الضعيف وارتفع عن الموضوع. ومثل له الذهبي بحديث جويبر بن سعيد عن الضحاك عن ابن عباس (¬2). وهي سلسلة يروى بها أحاديث كثيرة منها: عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا قال: "تجب الصلاة على الغلام إذا عقل والصوم إذا أطاق" (¬3). جويبر: قال ابن معين ليس بشيء، وقال الجوزجاني: لا يشتغل به. وقال النسائي والدراقطني وغيرهما: متروك. ¬

_ (¬1) ميزان الاعتدال: 1: 384. (¬2) توجيه النظر: 253. (¬3) الميزان، 1: 427؟

وقد أدى نظر بعض العلماء إلى أن هذا القسم هو الحديث المتروك السابق فيكون هذا القسم مما له اسمان. ولعلك ترى تقارب ما بين النوعين، خلا أن السابق أدنى إلى الموضوع من هذا. 5 - الحديث الموضوع: الحديث الموضوع: هو المختلق المصنوع. أي الذي ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبا، وليس له صلة حقيقية بالنبي صلى الله عليه وسلم. وليس هو بحديث، لكنهم سموه حديثا بالنظر إلى زعم راويه. وكثيرا ما يكون اللفظ المزعوم من كلام الحكماء أو الأمثال، أو من آثار الصحابة ينسبه الواضع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقد يكون من نسج خياله وإنشائه. والحديث الموضوع هو شر الأحاديث الضعيفة، وأشدها خطرا، وضررا على الدين وأهله. وقد أجمع العلماء على أنه لا تحل روايته لأحد علم حاله في أي معنى كان إلا مقرونا ببيان وضعه، والتحذير منه، وذلك لما اشتهر من الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حدث عني بحديث يرى

أنه كذب فهو أحد الكاذبين" (¬1). أسباب الوضع وأصناف الواضعين: وقد عني العلماء بدراسة أسباب الوضع وتصنيف الواضعين بحسب الأسباب التي دعتهم إلى الوضع، لما في ذلك من إلقاء الضوء لكشف الأحاديث الموضوعة. ونقدم هنا عرضا مستخلصا مما بحثوه: 1 - أول أسباب الوضع ظهورا هو الخلاف الذي دب بين المسلمين بسبب الفتنة وما أعقبها من تصدع الجماعة الإسلامية إلى فرق مختلفة، حيث راح أصحاب كل فرقة يضعون الأحاديث انتصارا لمن يزعمون أنه أحق بالخلافة، ولما يبتغونه من المآرب، ومما يزيدنا أسفا أن ينجرف بعض المنتسبين إلى السنة فيعارض المنحرفين بأحاديث يختلقها أيضا لتقوية السنة والجماعة ... وهكذا كثرت الأحاديث الموضوعة في فضائل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والعباس ومعاوية وغيرهم، مثل: حديث: "أبو بكر يلي أمتي بعدي". وحديث: "علي خير البشر من شك فيه كفر". وحديث: "الأمناء ثلاثة أنا وجبريل ومعاوية". وغير ذلك مما وضع لتأييد فريق ضد فريق آخر في المسائل الخلافية التي وقعت بين الفرق والمذاهب، مثل حديث: "القرآن غير مخلوق". وحديث: "لا تقوم الساعة حتى يقولوا بآرائهم" (¬2). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في ص 34. وانظر التدريب: 178. واعتمدنا في بحث الحديث الموضوع على مقدمة ابن الجوزي لكتابه الموضوعات، وخاتمة اللآلئ المصنوعة للسيوطي، وديباجة الحافظ ابن عراق لكتابه "تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة". (¬2) انظر الكلام على هذه الأحاديث في كتاب "المغني في الضعفاء" للذهبي وقد أثبتنا أرقامها في فهرسته.

2 - العداء للإسلام وقصد تشويهه: وهو ما عمد إليه الزنادقة خصوصا من أبناء الأمم المغلوبة، فقد كانوا يعتزون بدولهم القوية، ويحقرون العرب، فلما زالت دولتهم ودالت على أيدي العرب عز ذلك عليهم، وراحوا يسعون لإفساد أمر المسلمين بالدس حيث عجزوا أن ينالوا منهم بالقوة أو بالحجة والبرهان. ووجدوا القرآن الكريم محفوظا متواترا فعمدوا إلى الحديث يدسون فيه ويختلقون، لإفساد الدين على أهله وإفساد عقولهم وتفكيرهم، وللصد عن دين الله وتهجينه بدس الأحاديث المستشنعة والمستحيلة (¬1). قال حماد بن زيد: وضعت الزنادقة على النبي صلى الله عليه وسلم أربعة عشر ألف حديث. وقال ابن عدي في عبد الكريم بن أبي العوجاء: -لما أخذ وأتي به محمد بن سليمان بن علي فأمر بضرب عنقه- قال: "والله لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أحرم فيها الحلال، وأحل فيها الحرام". ومن أمثلة ذلك حديث: رأيت ربي يوم عرفة بعرفات على جمل أحمر عليه إزاران .... ". رواه أبو علي الأهوازي أحد الكذابين في كتابه في الصفات، قبح الله واضعه. وحديث: "إن الله إذا غضب انتفخ على العرش حتى يثقل على حملته". أخرجه ابن حبان واتهم به راويه أيوب بن عبد السلام، وهو كذاب. والحديث من أبشع الكذب والاختلاق. ومثل محمد بن سعيد الشامي المصلوب في الزندقة، روى عن ¬

_ (¬1) تأويل مختلف الحديث: 279، وانظر ما سبق ص 34 - 35.

حميد بن أنس مرفوعا: "أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي إلا أن يشاء الله" زاد في الحديث "إلا أن يشاء الله" لدعم ما كان يدعو إليه من الإلحاد والزندقة والتنبؤ. 3 - الترغيب والترهيب لحث الناس على الخير: صنع ذلك قوم من الجهلة ينسبون إلى الزهد والتعبد، حملهم التدين المتلبس بالجهل على وضع أحاديث في الترغيب والترهيب ليحثوا الناس على الخير ويزجروهم عن الشر بزعمهم الفاسد. أخرج مسلم في مقدمة صحيحه (¬1) عن يحيى بن سعيد القطان قال: "لم تر أهل الخير في شيء أكذب منهم في الحديث". قال مسلم" "يقول: يجري الكذب على لسانهم ولا يتعمدون الكذب. وروى ابن عدي بإسناده عن أبي عاصم النبيل قال: "ما رأيت الصالح يكذب في شيء أكثر من الحديث" (¬2). قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في شرح علل الترمذي (¬3): "المتشتغلون بالتعبد الذين يترك حديثهم على قسمين: منهم من شلغته العبادة عن الحفظ فكثر الوهم في حديثه فرفع الموقوف ووصل المرسل. وهؤلاء مثل أبا بن أبي عياش ويزيد الرقاشي، وقد كان شعبة يقول في كل منهما: لأن زاني أحب إلي من أن أحدث عنه. ومثل: ... عبد الله بن محرر -قال ابن المبارك "لو خيرت بين أن أدخل الجنة وبين أن ألقى عبد الله بن محرر لاخترت أن ألقاه ثم أدخل الجنة، فلما رأيته كانت بعرة أحب إلي منه" (¬4) -. ¬

_ (¬1): 13 (¬2) شرح علل جامع الترمذي: 93. (¬3): 96. (¬4) مقدمة مسلم: 21: وهذا زدناه على كلام الحافظ ابن رجب.

ومنهم: من كان يتعمد الوضع ويتعبد بذلك! ! كما ذكر عن محمد بن أحمد بن غالب غلام الخليل وعن زكريا بن يحيى الوقار المصري".اهـ. وغلام الخليل الذي ذكره الحافظ ابن رجب كان يتزهد ويهجر شهوات الدنيا ويتقوت الباقلاء صرفا! ! ، قيل له: هذه الأحاديث التي تحدث بها من الرقائق؟ فقال: وضعناها لنرقق بها قلوب العامة. قال أبو داود: أخشى أن يكون دجال بغداد (¬1). وأما زكريا بن يحيى الوقار فقد كان فقيها صاحب حلقة، فقيل: كان من العلماء العباد الفقهاء، نزح عن مصر أيام محنة القرآن إلى طرابلس الغرب، قال ابن عدي: "يضع الحديث"، وقال صالح جزرة الحافظ: "حدثنا زكريا الوقار وكان من الكذابين الكبار! ! (¬2) ". وهذا الصنف من الواضعين أشد الأصناف خطرا وأعظمهم ضررا، حيث يقع حديثهم من العامة موقع القبول والتسليم، لا يظنون بهم الكذب ولا يتوقعون، وقد سبق فيهم المثل: "عدو عاقل خير من صديق جاهل". وكم ترى من أعاجيب هذه الفئة التي تفصل التعبد وتزكية النفس عن العلم، حتى أصبحوا حجة على الدين، مفسدة لعقول المسلمين. 4 - التوصل إلى الأغراض الدنيوية: كالتقرب من الأمراء، أو تجميع الناس حول الراوي كما كان يفعل القصاص والشحاذون أيضا حتى عظم البلاء من مثل هذه الفئات. ومن أمثلة ذلك: قصة غياث بن إبراهيم حين دخل على المهدي وكان المهدي يحب ¬

_ (¬1) الميزان: 1: 141 - 142. (¬2) الميزان: 2: 77.

الحمام ويلعب به، فإذا قدامه حمام فقيل لغياث حدث أمير المؤمنين فقال: حدثنا فلان عن فلان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر أو جناح"، فأدخل فيه قوله: "أو جناح". فأمر له المهدي ببدرة، فلما قام قال: أشهد أن قفاك قفا كذاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قال المهدي: أنا حملته على ذلك. ثم أمر بذبح الحمام، ورفض ما كان فيه. ومثل القصص الإسرائيلية الغريبة، كقصة عوج بن عنق، وابتلاء أيوب، ونحوهما مما هو ظاهر الوضع لائح الاختلاق. والقصاص أولع الناس بالإغراب، يستميلون به وجوه العوام إليهم، ويستدرون أموالهم بالمناكير والأكاذيب من الأحاديث. قال ابن قتيبة (¬1): "ومن شأن العوام القعود عند القاص ما كان حديثا عجيبا خارجا عن فطر العقول، أو كان رقيقا يحزن القلوب ويستغزر العيون. فإذا ذكر الجنة قال: فيها الحوراء من مسك أو زعفران. وعجيزتها ميل في ميل، ويبوئ الله تعالى وليه قصرا من لؤلؤة بيضاء فيه سبعون ألف مقصورة في كل مقصورة سبعو ألف قبة ... فلا يزال في سبعين ألف كذا وسبعين ألفا كأنه يرى أنه لا يجوز أن يكون العدد فوق السبعين ولا دونها. وكلما كان من هذا أكثر كان العجب أكثرن والقعود عند أطول، والأيدي بالعطاء إليه أسرع! ! ". 5 - أن يقع الوضع في حديث الراوي من غير تعمد وقصد لذلك، كأن يغلط فيرفع إلى النبي صلى الله وسلم كلام بعض الصحابة أو غيرهم، وكمن ابتلي بمن يدس في حديثه ما ليس منه، كما وقع ¬

_ (¬1) في تأويل مختلف الحديث: 279 - 280 باختصار يسير.

لسفيان بن وكيع مع وراقة قرطمة، وكمن تدخل عليه آفة في حفظه أو في بصره أو في كتابه فيروي ما ليس من حديثه غالطا. وهذا الصنف من الوضع أشد الأصناف خفاء لأنهم لم يتعمدوا وهم أهل صدق، فاستخراج ذلك دقيق جدا إلا من الأئمة النقاد، وأما باقي الأصناف فالأمر فيهم أسله، لأن كون تلك الأحاديث كذبا لا يخفى إلا على الأغبياء. محاربة الوضع وأهم وسائلها: انبرى العلماء لمحاربة الوضع ودرء مفاسد الوضاعين، واتبعوا من أجل ذلك وسائل علمية دقيقة نلخصها لك فيما يلي: 1 - البحث في أحوال الرجال وتتبع سلوكهم ورواياتهم، حتى فارقوا من أجل ذلك الأهل والأوطان، وقنعوا بالكسر والأطمار في طلب السنن، ومعرفة الرواة، وقد ميزوا بذلك بين الثقات الأثبات، وبين أهل الصدق الذين وقع لهم تخليط، وأهل الكذب والفسوق، وذلك بتطبيق المعايير التي تثبت العدالة والضبط. مما سبق شرحه. 2 - التحذير من الكذابين وفضحهم، والإعلان بكذبهم على رؤوس الخلائق. قال يحيى بن سعيد: سألت شعبة وسفيان الثوري ومالك ابن أنس وسفيان بن عيينة عن الرجل يتهم في الحديث أولا يحفظه؟ قالوا: بين أمره للناس (¬1). وقال سفيان بن عيينة: كنا نتقي حديث داود بن الحصين. وقال أيضا: لا تسمعوا من بقية ما كان في سنة، واسمعوا منه ما كان في ثواب وغيره (¬2). وذلك لأنه كان يدلس. ¬

_ (¬1) الكفاية: 43. (¬2) مقدمة الجرح والتعديل: 40 - 41.

وقال حماد بن زيد: كلمنا شعبة بن الحجاج أنا وعباد بن عباد وجرير بن حازم في رجل، قلنا: لو كففت عن ذكره، فكأنه لأن وأجابنا، ثم مضيت يوما أريد الجمعة فإذا شعبة يناديني من خلفي، فقال: ذاك الذي قلت لكم فيه لا أراه يسعني" (¬1). فهذا عبد الرحمن بن إسحاق شيخ عابد لكنه نحى إلى بدعة القدرية أي المعتزلة. قال سفيان بن عيينة: "كان قدريا فنفاه أهل المدينة، فجاءنا ههنا -يعني إلى مكة- فلم نجالسه" (¬2). وكان جعفر بن الزبير وعمران بن حدير في مسجد واحد مصلاهما، وكان الزحام على جعفر بن الزبير وليس عند عمران أحد، وكان شعبة يمر بمهما فيقول: يا عجبا للناس اجتمعوا على أكذب الناس وتركوا أصدق الناس، فما أتى عليه قليل حتى رأيت ذلك الزحام على عمران، وتركوا جعفر وليس عنده أحد. وهكذا كان أئمة الحديث لهم القدم الراسخ في المجتمع، والكلمة النافذة، قال الإمام الذهبي (¬3): "فشهادة الفرد منهم ترد الكثير من الأخبار، وتوثيق الحجة منهم موجبة للاحتجاج بما ثبتوه من أحاديث سيد الأبرار، إن هذا لهو الفخار، وإن في ذلك لعبرة الأولى الأبصار (¬4) ". ¬

_ (¬1) الكفاية: 44. (¬2) تقدمة الجرح والتعديل: 47. (¬3) في ديباجة كتابه المغني في الضعفاء. (¬4) ومن هنا فإنا لا نرتضي ما ذكره الكاتبون في هذا البحث عن القاص الذي قام في مسجد الرصافة فقال: حدثني أحمد بن حنبل ويحي بن معين قالا: حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال: لا إله إلا الله خلق الله من كل كلمة منها طيرا=

3 - البحث عن الأسانيد: فلا يقبل حديث لا يوجد له إسناد، بل يعتبر باطلا وما روي بسنده يبحث فيه سندا ومتنا على ضوء شروط القبول، وقواعد هذا العلم. 4 - اختبار الحديث بعرضه على الروايات الأخرى والأحاديث الثابتة، فيتبين بذلك ما وقع فيه من وهم أو علة وقعت من أهل الصدق. 5 - وضع ضوابط يكشف بها الحديث الموضوع. 6 - التصنيف في الأحاديث الموضوعة، للتنبيه عليها، والتحذير منها. ونذكر لك فيما يلي تفصيلا لهذين العنصرين: علامات الحديث الموضوع: وهي علامات استخلصها المحدثون من أبحاثهم وتنقيبهم عن

_ = منقاره من ذهب وريشه من مرجان. . . وأخذ في قصة طويلة نحوا من عشرين ورقة وحين فرغ وجمع قطيعات النقد قال يحي بن معين له: من حدثك بهذا الحديث؟ قال أحمد بن حنبل ويحي بن معين، فقال: "أنا يحي بن معين وهذا أحمد بن حنبل ما سمعنا بهذا قط في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم! ! ". فقال: "لم أزل أسمع أن يحي بن معين أحمق ما تحققته إلا الساعة، كأن ليس في الدنيا يحي بن معين وأحمد بن حنبل غيركما، قد كتبت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل ويحي بن معين. فوضع أحمد كمه على وجهه وقال: دعه يقوم، فقام كالمستهزئ بهما". فهذه القصة تنافي ما كان عليه الناس آنذاك حيث كانت ألوية السنة مرفوعة، وكلمة العلماء مسموعة، وقد سبق الذهبي ثم ابن عراق إلى التنبيه على خللها وسقوطها، قال الذهبي في الميزان: إبراهيم بن عبد الواحد البكري لا أدري من ذا، أتى بحكاية منكرة! أخاف أن تكون من وضعه، وذكر الحكاية المذكورة. وانظر تنزيه الشريعة: 1: 14. وقارنه بالميزان وفيه" "أخاف ألا تكون من وضعه"؟ ! .

الأحاديث الموضوعة واحدا واحدا، تيسر معرفة الحديث الموضوع وتكفي مؤونة التطويل، وقد شملت هذه الضوابط النظر في حال الراوي، وفي حال المروي، كما نفصله فيما يلي: علامات الوضع في الراوي: 1 - إقراره بوضع الحديث. نحو أبي عصمة نوح بن أبي مريم، وميسرة بن عبد ربه. قيل لأبي عصمة: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟ فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن إسحاق فوضعت هذا الحديث حسبة". وكان يقال لأبي عصمة هذا نوح الجامع، لما جمع من خصال وعلم لم ينتفع به، قال ابن حبان: "جمع كل شيء إلا الصدق! ". وقال عبد الرحمن بن مهدي قلت لميسرة بن عبد ربه. "من أين جئت بهذه الأحاديث: من قرأ كذا فله كذا ... " قال: "وضعتها أرغب الناس فيها! ! ". وكذلك حديث أبي الطويل في فضائل القرآن سورة سورة، بحث عنه باحث حتى اعترف له رواية أنه وضعه، وكل من أودع هذه الأحاديث الموضوعة في تفسيره فهو مخطئ، كالواحدي، والثعلبي، والزمخشري والبيضاوي، يذكرون في آخر تفسير كل سورة قسما من هذه الأحاديث في فضلها. وقد صح جملة من الأحاديث في فضائل سورة من القرآن خاصة وهي: الفاتحة، البقرة، آل عمران، السبع الطوال جملة، الكهف.

يس، الدخان، تبارك، الزلزلة، النصر، الكافرون، الإخلاص، المعوذتان (¬1). 2 - أن يكذبه التاريخ: مثل ما وقع للمأمون بن أحمد أنه ذكر بحضرته الخلاف في كون الحسن سمع من أبي هريرة أو لم يسمع منه، فساق في الحال إسنادا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سمع الحسن من أبي هريرة" (¬2). ولذلك أمثلة كثيرة (¬3). 3 - أن تحف بالراوي قرائن تدل على كذبه: مثل الذي وقع لغياث بن إبراهيم في القصة التي أوردناها. وأسند الحاكم عن سيف بن عمر التميمي قال: كنت عند سعد بن طريف فجاء ابنه من الكتاب يبكي، فقال: مالك؟ قال: ضربني المعلم، قال: لأخزينهم اليوم، حدثني عكرمة عن ابن عباس مرفوعا: "معلموا صبيانكم شراركم، أقلهم رحمة لليتيم، وأغلظهم على المسكين". وقيل لمأمون بن أحمد الهروي: ألا ترى إلى الشافعي ومن تبعه بخراسان؟ فقال حدثنا أحمد بن عبد الله حدثنا عبيد الله بن معدان الأزدي عن أنس مرفوعا: "يكون في أمتي رجل يقال له محمد بن إدريس أضر على أمتي من إبليس، ويكون في أمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج أمتي هو سراج أمتي" (¬4). قال السيوطي (¬5): "ومن القرائن كون الراوي رافضيا والحديث في فضائل أهل البيت". ¬

_ (¬1) التدريب: 190، وانظر تفصيلها في كتاب الاتقان: 2: 153 - 155. (¬2) شرح النخبة: 31. وقارن به تنزيه الشريعة: 1: 6. (¬3) أوردنا منها في بحث التاريخ: 143 - 144. (¬4) انظر المدخل إلى كتاب الإكليل ق 291 آوغيره. (¬5) في التدريب: 180.

علامات الوضع في المروي: 1 - الركة في اللفظ أو المعنى كما قال ابن الصلاح وغيره. واعترض الحافظ ابن حجر فقال: "المدار في الركة على ركة المعنى لأن هذا الدين كله محاسن، والركة ترجع إلى الرداء ... أما ركة اللفظ فقط فلا تدل على ذلك، لاحتمال أن يكون الراوي رواه بالمعنى فغير ألفاظه بغير فصيح". إلا أنا نرى في الاعتراض شيئا يدعو للبحث، فإن المحدثين اشترطوا للرواية بالمعنى أن يكون راوي المعنى عالما باللغة عالما بما يحيل معاني الألفاظ، ومن زعم أنه رواه بالمعنى فأتى به ركيك التركيب متهافت التناسب فإنه لا شك قد أخل بالمعنى ويجب أن يرد، كما أننا لا نعلم حديثا مقبولا قد جاء مسف الألفاظ مخل التراكيب. قال الإمام البقاعي: "ومما يرجع إلى ركة المعنى الإفراط بالوعيد الشديد على الأمر الصغير، أو بالوعد العظيم على الفعل اليسير، وهذا كثير في حديث القصاص". قال ابن الجوزيك "وإني لأستحي مع وضع أقوام وضعوا: من صلى كذا فله سبعون دارا، في كل دار سبعون ألف بيت، في كل بيت سبعون ألف سريرن على كل سرير سبعون ألف جارية. وإن كانت القدرة لا تعجز، ولكن هذا تخليط قبيح. وكذلك يقولون: "من صام يوما كان كأجر ألف حاج وألف معتمر وكان له ثواب أيوب. "وهذا يفسد مقادير موازين الاعمال". انتهى. ومما يتصل بهذا الأصل ويرد لركة المعنى: أحاديث فضل الباذنجانن والأرز، والعدس، وغير ذلك، فإنها تنبو عما عرف من

مضمون الأحاديث الصحيحة، ومهمة الهداية التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنما حكم أئمة الحديث بالوضع لهذا السبب لأنه حصلت لهم من مزاولة ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم هيئة نفسانية وملكة قوية يعرفون بها ما يجوز أن يكون من حديث النبي صلى الله عليه وسلم وما لا يجوز، كما سئل بعضهم كيف تعرف أن الشيخ كذاب؟ قال: إذا روى "لا تأكلوا القرعة حتى تذبحوها" علمت أنه كذاب. قال الربيع بن خثيم (¬1): "إن من الحديث حديثا له ضوء كضوء النهار نعرفه به، وإن من الحديث حديثا له ظلمة كظلمة الليل نعرفه بها". وقال ابن الجوزي: "الحديث المنكر يقشعر له جلد الطالب للعلم، وينفر منه قلبه في الغالب". قال البلقيني: "وشاهد هذا أن إنسانا لو خدم إنسانا سنتين وعرف ما يحب وما يكره، فادعى إنسان أنه كان يكره شيئا يعلم ذلك أنه كان يحبه فبمجرد سماعه يبادر إلى تكذيبه" (¬2). 2 - أن ينقب عن الحديث ثم لا يوجد عند أهله من صدور الرواة وبطون الكتب، بعد أن تم استقراء الأحاديث وتدوينها (¬3). قال الحافظ العلائي: "وهذا إنما يقوم به الحافظ الكبير الذي قد أحط حفظه بجميع الحديث أو معظمه كالإمام أحمد، وعلي بن المديني ويحيى بن معين، ومن بعدهم: كالبخاري، وأبي حاتم، وأبي زرعة، ¬

_ (¬1) أسنده عنه الحاكم في المعرفة: 62. (¬2) التدريب: 179. (¬3) انظر ما سبق في النوع /1/ ص 88 لزاما.

ومن دونهم: كالنسائي ثم الدارقطني ... ، وأما من لم يصل إلى هذه المرتبة فكيف يقضي بعدم وجدانه للحديث بأنه موضوع، هذا مما يأباه تصرفهم". قال الحافظ ابن عراق: "فاستفدنا من هذا أن الحفاظ الذين ذكرهم وأضرابهم إذا قال أحدهم في حديث لا أعرفه أو لا أصل له كفى ذلك في الحكم عيه بالوضع والله أعلم" (¬1). ومما ذكروه من ذلك حديث "إن الله أخذ الميثاق على كل مؤمن أن يبغض كل منافق، وعلى كل منافق أن يبغض كل مؤمن" قال الإمام القاري: لم يوجد. وحديث: "إن الله لا يقبل دعاءا ملحونا" قال القاري: "لا يعرف له أصل" (¬2). 3 - أن يكون الحديث مخالفا للقضايا المقررة، كأن يكون مخالفا للعقل ولا يقبل التأويل، أو اشتمل على أمر يدفعه الحسن والمشاهدة، أو الواقع التاريخي. ومن أمثلة هذا الصنف: حديث "خلق الورد من عرقي" قال الذهبي في المغني (¬3): باطل. وحديث: "تختموا بالعقيق فإنه ينفي الفقر" وهذا باطل (¬4). وبطلانه ظاهر جدا فكم من فقير تختم ولم يستغن وكم من غني لم يدفع الفقر عنه عقيق ولا مانع عياذا بالله تعالى. وكحديث: "إذا عطس الرجل عند الحديث فهو دليل صدقه". ¬

_ (¬1) انظر تنزيه الشريعة: 1: 7 - 8. والتدريب: 180. (¬2) المصنوع: 35. (¬3) رقم 5883. (¬4) المغني/ 1504/ وانظر المغني عن الحفظ والكتاب لعمر بن بدر الموصلي: 42.

قال ابن القيم (¬1): "هذا وإن صحح بعض الناس سنده، فالحس يشهد بوضعه، لأنا نشاهد العطاس والكذب يعمل عمله! ولو عطس مئة ألف رجل عند حديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم بصحته بالعطاس". وكحديث: المجرة التي في السماء من عرق الأفعى التي تحت العرش". ومما يندرج في هذه العلامة للوضع: أن يكون الحديث خبرا عن أمر جسيم تتوفر الدواعي على نقله بمحضر الجمع، ثم لا ينقله منهم إلا واحد. مثل الأحاديث التي تروى في تعيين اسم الخليفة مصرحة بكونه الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، كحديث: "أبو بكر يلي أمتي من بعدي" (¬2). وحديث: "علي وصبي" (¬3). ونحوها فإنها باطلة، لأن أحدا من الصحابة أولهم وآخرهم لم يستدل على شيء من ذلك بحديث يصرح بالاسم، إنما فهموا اختيار الخليفة من إشارات النبي صلى الله عليه وسلم وأجمعوا عليه. 4 - أن يكون الحديث مناقضا دلالة القرآن القطعية أو السنة المتواترة، أو الإجماع القطعي مع عدم إمكان الجمع والتوفيق في ذلك كله. قال الإمام السبكي في جمع الجوامع (¬4): "كل خبر أوهم باطلا ولم يقبل التأويل فمكذوب أو نقص منه ما يزيل الوهم". ¬

_ (¬1) في المنار المنيف: 51. (¬2) المغني: 5738. (¬3) المغني: 5070. (¬4): 2: 71. وانظر التدريب: 180.

مثل حديث مقدار مدة الدنيا "وأنها سبعة آلاف، ونحن في الألف السابعة". وهذا من أبين الكذب كما قال العلماء، لأنه يجعل كل أحد عالما بتوقيت القيامة. وقد قال تعالى: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ}. وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}. وها قد مضى على البعثة أكثر من ألف عام ولم تقم الساعة؟ ! ومثل حديث: "ثلاثة لا يلامون على سوء الخلق: المريض، والصائم حتى يفطر، والإمام العادل" (¬1). فهذا يناقض الأحاديث الكثيرة الواردة في الحض على الصبر وحسن الخلق، ولا سيما للصائم. قال ابن الجوزي: "ما أحسن قول القائل: إذا رأيت الحديث يباين المعقول أو يخالف المنقول، أو يناقض الأصول، فاعلم أنه موضوع". ولا بد في هذين الصنفين من علامات الوضع من التنبه إلى شرط هام، وهو عدم إمكان التوفيق والجمع بين الحديث المدروس وبين ما عارضه إذا لم يكن راويه ضعيفا. قال أستاذنا المحقق الشيخ محمد السماحي أمتع الله به (¬2). "وهنا مسألة هامة جدا، وهي أن كثيرا من الباحثين اليوم يعمدون إلى أحاديث صحيحة في الصحيحين أو أحدهما -قال نور الدين أو صحيحة عند غيرهما من الأئمة المعتمدين- ثم يعارضونها بالمعقول تارة وبالمنقول أخرى، ويدعون عليها الوضع بحجة أنهم تحاكموا إلى القواعد فحكمت لهم بما يقولون". "والاعتدال في ذلك أن ننظر الحديث الذي ¬

_ (¬1) تنزيه الشريعة الفصل الثاني من الصوم: 2: 166. والأولى أن يكون في الأول. (¬2) في قسم المصطلح: 189.

هو محل الإشكال فإن أمكن فهمه على وجه يتفق مع القواعد ولا يتعارض معها فهو المطلوب، ولا داعي إلى تجريح الرجال ... " انتهى. والواقع أن ما ثبت صحته عند أئمة الحديث لا يرد عليه ما تكلف له هؤلاء من الطعون، وقد سبق العلماء من قبل إلى بحث مثل هذا الإشكال وإزاحته عن الأحاديث الصحيحة في علم مختلف الحديث الذي يأتيك إن شاء الله تعالى (¬1). 5 - استقراء الأبواب: أي قولهم: لم يصح في الباب شيء، أو إلا حديث كذا، وذلك لما قاموا به من استقراء للأحاديث وتبويبها. وهو ضابط هام رأينا التنبيه عليه لعظيم فائدته، ومن أمثلته: أحاديث ذم الأولاد، كلها كذب من أولها إلى آخرها. أحاديث التواريخ المستقبلة: كل حديث فيه إذا كانت سنة كذا حل كذا وكذا، أو يكون في سنة كذا أو شهر الفلاني كذا وكذا باطل. أحاديث مدح العزوبة، كلها باطلة (¬2). أحاديث فضائل الأزهار، كحديث فضل النرجس، والورد، والمرزنجوش، والبنفسج، والبان كلها كذب (¬3). لكن ينبغي التنبه إلى خطورة هذا الحكم واحتمال خطئه، لما فيه من الحصر لأمر واسع منتشر. مصادر الحديث الموضوع: عني أئمة الحديث بتأليف الكتب في بيان الأحاديث الموضوعة، وبذلوا في ذلك غاية جهدهم، صيانة للمسلمين من الوقوع في الباطل، وذبا عن الدين الحنيف. وإليك أهم هذه المصادر فيما يلي: ¬

_ (¬1) في الباب التالي: رقم 52 ص 337 - 341. (¬2) و (¬3) انظر المغني عن الحفظ والكتاب للموصلي: 39 - 40.

1 - الموضوعات: للإمام الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي المتوفى سنة (597) وهو من أقدم وأوسع ما صنف في هذا الفن، لكنه انتقد بإيراده كثيرا مما لا دليل على وضعه، بل هو ضعيف، بل وفيه الحسن والصحيح! وهذا عدوان ومجازفة. قال شيخ الإسلام ابن حجر (¬1): "غالب ما في كتاب ابن الجوزي موضوع، والذي ينتقد عليه بالنسبة إلى مالا ينتقد قليل جدا. قال: وفيه من الضرر أن يظن ما ليس بموضوع موضوعا، عكس الضرر بمستدرك الحاكم فإنه يظن ما ليس بصحيح صحيحا. ويتعين الاعتناء بانتقاد الكتابين فإن الكلام في تساهلهما أعدم الانتفاع بهما إلا لعالم بالفن". لذلك تعقب العلماء كتاب ابن الجوزي هذا وتناولوه بالتهذيب والتنقيح. 2 - "اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة" للحافظ جلال الدين السيوطي المتوفى سنة (911) هـ اختصر فيه كتاب ابن الجوزي، وتعقبه فيما ليس بموضوع، وألحق روايات من الموضوعات لم يذكرها ابن الجوزي، فجاء كتابا حافلا عظيم النفع. 3 - "تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة" للحافظ أبي الحسن علي بن محمد بن عراق الكناني المتوفى سنة (963) هـ. لخص فيه موضوعات ابن الجوزي وما زاده السيوطي وغيره في تآليفهم الكثيرة. وقدم له بفصل جمع فيه أسماء الكذابين فتجاوز عددهم ألفا وستمائة، وهي فائدة قيمة جدا أتى بها هذا الكتاب. 4 - "المنار المنيف في الصحيح والضعيف" للحافظ ابن قيم الجوزية " (751) هـ". 5 - "المصنوع في الحديث الموضوع". للحافظ علي القاري " (1014) هـ". وهذا الكتاب وسابقه مختصران نافعان جدا. ¬

_ (¬1) كما نقل في التدريب: 182.

نتائج الباب

نتائج الباب: نستخلص من دراسة أنواع علوم الحديث في هذا الباب أن المحدثين وضعوا شروطا دقيقة لقبول الحديث. تشمل فحص المتن والسند، فالعلة والشذوذ قادحان في صحة الحديث، وهما يقعان في المتن كما يقعان في السند، بل أن شريطة الثقة والعدالة والضبط ترتبط بالمتن ارتباطا وثيقا كما يعرف من تأمل أبحاثهما فيما سبق (¬1). ثم كان من دقة منهجهم أن ميزوا بين مراتب القبول ولم يسووا بينها، فهي متفاوتة من أصح الصحيح إلى أدنى مراتب الحسن، ولم يغفلوا فيها عن اعتبار عنصر التقوية. فالحسن إذا تقوى يلتحق بالصحيح، والضعيف اليسير الضعف إذا تقوى يلتحق بالحسن. ونقف بإجلال أمام ضابط الحديث المردود الذي بلغ غاية الاحتياط في أحكامه، حيث لم يجعل ضعف الحديث موقوفا على وجود الدليل العكسي المضاد له. بل أثبتوا حكم الضعف، بمجرد اختلال ضابط القبول، نظرا لاحتمال أن يكون الراوي أخطا في أداء الحديث، ثم قرروا أنه قد يصح السند ولا يصح المتن، كما أنه قد يصح المن ولا يصح السندن ونظروا في ذلك إلى ملابسات كل من السند والمتن. كذلك وقفوا من أحوال الحديث الضعيف وقفة منصفة، حيث ¬

_ (¬1) نوع رقم 1 ص 78 - 91.

ميزوا بين يسير الضعف الذي يحتمل صدقه في باطن الأمر، وبين شديد الضعف الذي يبعد منه ذلك الاحتمال، وبين المكذوب الملصق بقائله، وأعطوا كل مرتبة منها حكمها المناسب، فأجازوا العمل استحبابا فقط بالحديث الضعيف اليسير الضعف بشروط تقوى احتمال صحته، ولم يجيزوا العمل بما سوى ذلك، بل شددوا، فأوجبوا التحذير من الأحاديث التالفة والموضوعة صيانة للدين، وتنقية لعقول الناس، فجاء عملهم دقيقا شاملا محققا للهدف منه.

الباب الخامس: في علوم المتن

الباب الخامس: في علوم المتن المتن: هو ما انتهى إليه السند من الكلام. وهو المقصود من أبحاث المصطلح، ليعرف ما تقبل نسبته إلى قائله، ومالا يقبل، وقد سبق ضابط ذلك في الباب السابق بحمد اله تعالى. وقد تعرض المحدثون لدراسة المتن من جوانبه العديدة الأخرى استكمالا لبحثهم في القبول والرد، واستيفاءًا لما يحتاج إليه الباحث. ولدى استقراء هذه الأنواع من علوم الحديث وجدنا أنه يمكن تقسيمها إلى ثلاث زمر هي: أولا: علوم المتن من حيث قائله، وهي أربع: الحديث القدسي، المرفوع، الموقوف، المقطوع. ثانيا- علوم شارحة للمتن، نبحث منها: غريب الحديث، أسباب ورود الحديث، ناسخ الحديث ومنسوخه، مختلف الحديث، محكم الحديث. ثالثا -علوم تنشأ من مقابلة المتن المروي بالروايات والأحاديث

الأخرى. وهذه الزمرة الثالثة ندرسها في الباب السابع إن شاء الله لاشتراكها بين السند والمتن ونكتفي هنا بالإشارة إليها في نتيجة الباب إن شاء الله تعالى. وندرس الزمرة الأولى والثانية في فصلين:

الفصل الأول: في علوم الحديث من حيث قائله

الفصل الأول: في علوم الحديث من حيث قائله ... الفصل الأول: في علوم متن الحديث من حيث قائله 1 - الحديث القدسي: الحديث القدسي: هو ما أضيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسنده إلى ربه عز وجل. مثل: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسنده إلى ربه عز وجل: مثل: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن ربه"، أو"قال الله تعالى فيما رواه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم". ويقال له أيضا: الحديث الإلهي، أو الرباني. ومناسبة تسميته "قدسيا" هي التكريم لهذه الأحاديث من حيث إضافتها إلى الله تعالى، كما أنها واردة في تقديس الذات الإلهية، قلما تتعرض لأحكام الحلال والحرام، إنما هي من علوم الروح في الحق سبحانه وتعالى. ومن أمثلة الحديث القدسي: حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال

الله تبارك وتعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه". أخرجه مسلم وابن ماجه (¬1). وحديث معاذ بن جبل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله عز وجل: وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين في، والمتباذلين في، والمتزاورين في". أخرجه أحمد والحاكم وابن حبان والبيهقي (¬2). وحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب مني شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة". أخرجه مسلم (¬3). الفرق بين الحديث القدسي وبين القرآن: والفرق بين الحديث القدسي وبين القرآن وقع فيه خلاف كبير بين العلماء، ومن أقوى المذاهب في هذا ما ذهب إليه أبو البقاء العكبري والطيبي. قال أبو البقاء: "إن القرآن ما كان لفظه ومعناه من عند الله بوحي جلي، وأما الحديث القدسي فهو ما كان لفظه من عند الرسول ومعناه من عند الله بالإلهام أو بالمنام". ¬

_ (¬1) الاتحافات السنية رقم 58 - 59، ومسلم: 8: 223. وابن ماجه رقم 4202. (¬2) الاتحافات السنية رقم 159. وانظر المسند: 5: 233. ومجمع الزوائد: 10: 279 وقال: رجاله رجال الصحيح. وموارد الظمأن: 622. (¬3) في الذكر والدعاء: 8: 62.

وقال الطيبي: "القرآن هو اللفظ المنزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث القدسي إخبار الله معناه بالإلهام أو بالمنام، فأخبر النبي أمته بعبارة نفسه، وسائر الأحاديث لم يضفها إلى الله تعالى ولم يروها عنه تعالى" (¬1). ويختص القرآن بخصال ليست في الحديث القدسي أهما: 1 - أن القرآن معجز. 2 - أننا تعبدنا بلفظ القرآن، ولا يجوز لمسه لمحدث ولا قراءته للجنب. 3 - تواتر القرآن، وعدم تواتر الأحاديث القدسية بل فيها ما يضعف (¬2). وقد عني العلماء بجمع الأحاديث القدسية في مؤلفات خاصة، من أهمها كتاب "الاتحافات السنية في الأحاديث القدسية" للمنادي (¬3) جمع فيه (272) حديثا قدسيا. 2 - الحديث المرفوع: الحديث المرفوع: هو ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم خاصة من قول أو فعل أو تقرير أو وصف. ¬

_ (¬1) قواعد التحديث: 66. (¬2) انظر المنهج الحديث قسم التاريخ: 31 - 32. (¬3) الرسالة المستطرفة: 61.

هذا هو المشهور في تعريف المرفوع (¬1). ويدخل فيه المتصل والمنقطع، ومنه الصحيح والحسن، والضعيف، والموضوع، بحسب استيفائه شروط القبول أو اختلالها فيه. قال ابن الصلاح: "ومن جعل من أهل الحديث المرفوع في مقابلة المرسل فقد عنى بالمرفوع المتصل". 3 - الموقوف: وهو ما أضيف إلى الصحابة رضوان الله عليهم. ولم يتجاوز به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. سمي موقوفا لأنه وقف به عند الصحابي، ولم يرتفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن الصلاح والعلماء: ثم إن منه ما يتصل الإسناد فيه إلى الصحابي فيكون من الموقوف الموصول، ومنه ما لا يتصل إسناده فيكون من الموقوف غير الموصول على حسب ما عرف مثله في المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم". "وما ذكرناه من تخصيصه بالصحابي فذلك إذا ذكر الموقوف مطلقا، يعني إذا قيل: حديث موقوف، أو وقفه فلان. ¬

_ (¬1) قارن بما سبق في ص 28 - 29.

وقد يستعمل مقيدا في غير الصحابي، فيقال: حديث كذا وكذا وقفه فلان على عطاء أو على طاووس أو نحو هذا. وبعض العلماء يطلقون على الموقوف اسم "الأثر" (¬1). 4 - المقطوع: هو: ما أضيف إلى التابعي: ويقال في جمعه: المقاطع"، و"المقاطيع". وهذا غير المنقطع الآتي (¬2). وهذا النوع كسائر الأنواع الثلاثة السابقة ينقسم إلى صحيح وحسن وضعيف وإلى كافة الأقسام الآتية في أبحاث الكتاب. ومن مصادر الحديث الموقوف والمقطوع المصنفات، لأنها تجمع كل ما ورد في الباب، ومن أهمها: مصنف عبد الرزاق بن همام الصنعاني المتوفى (211) هـ. ومصنف أبي بكر بن أبي شيبة " (235) هـ". كذلك كتب التفسير بالمأثور، كتفسير ابن جرير الطبري " (310) هـ". لأنها تعني بأقوال الصحابة والتابعين في تفسير الآيات الكريمة. ¬

_ (¬1) كما سبق في ص 28 - 29. (¬2) برقم 62 ص 367 - 369، وقال ابن الصلاح "وقد وجدت التعبير بالمقطوع عن المنقطع غير الموصول في كلام الشافعي وأبي القاسم الطبراني وغيرهما".

مسائل تتعلق بالموقوف والمقطوع: المسألة الأولى: اختلف العلماء في الاحتجاج بما ثبت عن الصحابة من الموقوفات في إثبات الأحكام الشرعية. فذهب الرازي من الحنفية وفخر الإسلام والسرخسي والمتأخرون منهم ومالك وأحمد في أحدى روايتيه إلى أنه حجة، لما أن حال الصحابة كان العمل بالسنة وتبليغ الشريعة. وذهب بعض الحنفية والشافعي إلى أنه ليس بحجة لاحتمال أن يكون من اجتهاد الصحابي الخاص، أو أن يكون سمعه من غير رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1). المسألة الثانية: ما له حكم الرفع إذا احتف الحديث الموقوف بقرائن معنوية أو لفظية تدل على رفعه فإنه يكون له حكم المرفوع ويحتج به. وذلك في عدة صور بينها العلماء وهي: الصورة الأولى: أن يكون مما لا مجال فيه للرأي والقياس. فإن هذا يحكم برفعه. كالمواقيت، والمقادير الشرعية، وأحوال الآخرة، وقصص الماضين، ونحو ذلك من الصحابي الذي لم يأخذ عن أهل الكتاب، وذلك لأن الظاهر فيه النقل عن صاحب الشرع. ومن ذلك التفسير الذي يتعلق بسبب نزول آية، فإنه من الصحابي الذي عاين التنزيل وعاصره في حكم المرفوع، لا التفسير الوارد عن الصحابة مما هو محل الاجتهاد. ¬

_ (¬1) التقرير والتحبير: 2: 310 - 311 - وانظر الرسالة: 598.

قال الحاكم النيسابوري: "فأما ما نقول في تفسير الصحابي: مسند، فإنما نقوله في غير هذا النوع -يعني تفسير الصحابة الذي هو محل الاجتهاد-. فإنه كما أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي ثنا إسماعيل بن أبي أويس حدثني مالك بن أنس عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: كانت اليهود تقول: من أتى امرأته من دبرها في قبلها جاء الولد أحول، فأنزل الله عز وجل: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ}. قال الحاكم: "هذا الحديث واشباهه مسندة عن آخرها وليست بمرفوعة، فإن الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل فأخبر عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا وكذا فإنه حديث مسند" (¬1) اهـ. والمراد بقوله حديث مسند: أنه مرفوع. الصورة الثانية: ما يحكيه الصحابي من فعل الصحابة أو قولهم مضافا للعهد الماضي. نحو كنا نفعل كذا، أو نقول كذا. ولهذه الصورة عبارتان: الأول: عبارة مطلقة لم تضف إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم. الثانية: ما أضيف فيه القول أو الفعل إلى زمنه صلى الله عليه وسلم. أما العبارة التي أطلق فيها القول أو الفعل فاختلف فيها: ذهب العراقي والحافظ ابن حجر والسيوطي إلى أنه مرفوع، واختاره النووي والرازي والآمدي والأصوليون. وذهب ابن الصلاح إلى أنه موقوف ليس بمرفوع. ¬

_ (¬1) المعرفة: 20 وانظر الحديث في البخاري في التفسير: 6: 29، ومسلم في النكاح: 4: 156.

والراجح هو الأول: لأن الظاهر من مثل قول الصحابي "كنا نفعل كذا ... " أنه يحكي الشرع، حيث إنه كان دأبهم، وهذه عبارة عموم، فتفيد صدور ذلك منهم عن إذن من الشارع، ولذلك اختار النووي هذا المذهب، وقال في شرح المهذب: "وهو قوي من حيث المعنى". أما العبارة الثانية: التي فيها إضافته لعهد النبي صلى الله عليه وسلم فالجمهور من العلماء على أنه مرفوع، لأن ظاهر ذلك مشعر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك وأقرهم عليه، لتوفر دواعيهم على سؤالهم عن أمر دينهم، وتقريره صلى الله عليه وسلم أحد وجوه السنن المرفوعة. ومن أمثلة ذلك حديث جابر قال: "كنا نعزل والقرآن ينزل" متفق عليه (¬1). الصورة الثالثة: أن يصدر الصحابي حديثه بما يفيد الرفع كقولهم: أمرنا بكذا, أو نهينا عن كذا، أو من السنة كذا، فهذا ونحوه مرفوع على الصحيح الذي قاله الجمهور، لأن مطلق ذلك ينصرف بظاهره إلى من له الأمر والنهي، ومن يجب اتباع سنته، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن أمثلة ذلك: حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة" أخرجه الترمذي- وقال: حسن صحيح (¬2). ¬

_ (¬1) البخاري في النكاح: 7: 33، ومسلم 4: 160. (¬2) "باب ما جاء في إفراد الإقامة": 1: 369 - 370.

وكحديث عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: "نهينا عن الكي" أخرجه الترمذي وقال فيه: "حسن صحيح" (¬1). وكحديث علي -رضي الله عنه- قال: "من السنة أن تخرج إلى العيد ماشيا، وأن تأكل شيئا قبل أن تخرج" أخرجه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن (¬2). الصورة الرابعة: أن يذكر في الحديث عند ذكر الصحابي ما يفيد الرفع. نحو قولهم: يرفعه، أو ينميه أو رواية، فذلك وشبهه مرفوع عند أهل العلم. ومن ذلك حديث الترمذي عن أبي هريرة رفعه قال: "ضرس الكافر مثل أحد". رواه بسنده ثم قال: هذا حديث حسن (¬3). المسألة الثالثة في الحديث المقطوع: الحديث المقطوع لا يحتج به في إثبات شيء من الأحكام الشرعية، وإذا احتف بقرائن تفيد رفعه، فإنه عندئذ يكون حكمه حكم المرفوع المرسل (¬4)، لسقوط الصحابي منه. ¬

_ (¬1) في الطب "كراهية التداوي بالكي": 4: 389. (¬2) "المشي يوم العيد": 2: 410. (¬3) في صفة جهنم "عظم أهل النار": 4: 704. (¬4) الآتي برقم 63 ص 369 - 373.

الفصل الثاني: في علوم متن الحديث من حيث درايته

الفصل الثاني: في علوم متن الحديث من حيث درايته 1 - غريب الحديث: غريب الحديث: هو ما وقع في متون الأحاديث من الألفاظ الغامضة البعيدة عن الفهم. ومعرفة معاني هذه الألفاظ علم مهم بالنسبة للمحدث، كي لا يكون زاملة للأخبار لا يدري ما يرويه. وقد نبه العلماء على وجوب التحري والتوقي في بحثه، لئلا يقع المتعرض له في تحريف الكلم عن مواضعه والقول على الله بغير علم. سئل الإمام أحمد عن حرف من الغريب فقال: "سلوا أصحاب الغريب، فإني أكره أن أتكلم في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالظن فأخطئ". وسأل أبو قلابة الأصمعي اللغوي الجليل قال: قلت: يا أبا سعيد،

ما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجار أحق بسقبه (¬1)؟ " فقال: أنا لا أفسر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن العرب تزعم أن السقب: اللزيق". وقال أبو عبيد القاسم بن سلام " (224) هـ" عن كتابه غريب الحديث: "إني جمعت كتابي هذا في أربعين سنة، وهو كان خلاصة عمري" (¬2). وأقوى ما يعتمد عليه في تفسير غريب الحديث أن يظفر به مفسرا في بعض روايات الحديث، مثل حديث: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدة". متفق عليه (¬3) والبدنة تطلق على الإبل والبقر، قال العلماء: المراد هنا الإبل، وقد ورد في مصنف عبد الرزاق بلفظ "فله من الأجر مثل الجزور" فهذا يفسر المراد بالبدنة (¬4). وحديث عمران بن حصين في صلاة المريض: "صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب" أخرجه البخاري وغيره (¬5). وقد فسر قوله "على جنب" حديث علي رضي الله عنه ولفظه: "على جنبه الأيمن مستقبل القبلة بوجهه" (¬6). وقد عني العلماء بالتصنيف في شرح الغريب عناية كبيرة وكان أول من صنف فيه أبو عبيدة معمر بن المثنى " (210) هـ" وكتابه صغير. ثم ¬

_ (¬1) 1 البخاري في الشفعة: 3: 87. وأبو داود: 3: 286، والنسائي: 2: 234. وابن ماجه: 2: 833. (¬2) النهاية: 1: 6 وكتاب أبي عبيد يقع في جزء واحد. (¬3) البخاري "فضل الجمعة": 2: 3، ومسلم: 3: 4. (¬4) إرشاد الساري: 2: 193. (¬5) البخاري في أخر تقصير الصلاة: 2: 47. (¬6) سنن الدارقطني: 2: 42043.

لم يخل عصر وزمان ممن جمع في هذا الفن وانفرد فيه بتأليف، حتى جاء الإمام ابن الأثير مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري المتوفى " (606) هـ" فصنف كتاب "النهاية"، جعله جامعا لما تفرق في غيره، وتوسع في شرح المفردات بحيث يلقي الضوء على معنى الجملة من الحديث، فجاء كتابا حافلا جامعا بمثابة تلخيص لشروح الأحاديث النبوية (¬1). 2 - أسباب ورود الحديث: وهو ما ورد الحديث متحدثا عنه أيام وقوعه. ومنزلة هذا الفن من الحديث كمنزلة أسباب النزول من القرآن الكريم. وهو طريق قوي لفهم الحديث، لأن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب. والسبب في ينقل في نفس الحديث (¬2)، مثل حديث عمر بن الخطاب "بينا نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ¬

_ (¬1) راجع للتوسع في كتب الغريب مطلع النهاية لابن الأثير وتصدير محققيه. (¬2) التدريب: 540. والبيان والتعريف: 1: 3.

فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه ثم قال: يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ... الحديث" (¬1). وربما لا ينقل السبب في نفس الحديث، وينقل في بعض طرقه، وهو الذي ينبغي الاعتناء به، مثل حديث "الخراج بالضمان" (¬2) جاء في بعض طرقه عند أبي داود وابن ماجه أن رجلا ابتاع غلاما فأقام عنده ما شاء الله أن يقيم، ثم وجد به عيبا فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرده عليه، فقال الرجل: يا رسول الله قد استغل غلامي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان". وللسيوطي كتاب في أسباب الحديث أسماه "اللمع". وصنف المحدث إبراهيم بن محمد الدمشقي المشهور بابن حمزة المتوفى " (1120) هـ" كتابا سماه: "البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف" هو أوسع مصنفات هذا الفن. 3 - ناسخ الحديث ومنسوخه: النسخ: هو رفع الشارع حكما منه متقدما بحكم منه متأخر (¬3). وقد وقع النسخ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لحكم جليلة، ¬

_ (¬1) البخاري في الإيمان: 1: 15. ومسلم أول صحيحه. (¬2) أبو داود: 3: 284، والترمذي: 3: 581 - 582، والنسائي: 7: 223. وابن ماجه: رقم 2242. (¬3) انظر التوسع في التعريف وشرحه كتاب الاعتبار: 7 - 9.

منها ضرورة التدرج بالناس من دحض الجاهلية إلى علو المثالية الإسلامية. ومعرفة ما وقع فيه النسخ من الحديث علم مهم لا ينهض به إلا كبار أئمة الفقه. قال الزهري: "أعيى الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من منسوخه". ومر علي رضي الله عنه على قاص، فقال: "تعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكت وأهلكت" (¬1). ويعرف النسخ بأمور: منها -أن يثبت بتصريح رسول الله صلى الله عليه وسلم، كحديث "نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها". أخرجه مسلم وغيره (¬2). ومنها -ما يعرف بأخبار الصحابي، كحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار" أخرجه أبو داود والنسائي (¬3). ومنها -ما يعرف بالتاريخ، كحديث شداد بن أوس وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أفطر الحاجم والمحجوم" (¬4) وحديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم" (¬5). ¬

_ (¬1) الاعتبار: 6، ونحوه عن ابن عباس للطبراني مجمع الزوائد: 1: 154، وانظر جمع الفوائد: 1: 51. (¬2) مسلم: 3: 65، وأبو داود: 3: 218، وانظر الترمذي: 1: 125. والنسائي: 4: 73. وابن ماجه: 1571. (¬3) أبو داود: 1: 49. والنسائي: 1: 90. وصححه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما. (¬4) الترمذي في الصوم: 1: 96. وأبو داود: 2: 308. وابن ماجه: 1: 537. (¬5) أخرجه البخاري في الطب: 7: 125.

بين الإمام المطلبي محمد بن إدريس الشافعي أن الثاني ناسخ للأول، وذلك ببرهان دقيق حيث إنه روي في حديث شداد أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم زمان الفتح فرأى رجلا يحتجم في رمضان فقال: "أفطر الحاجم والمحجوم" وروي في حديث ابن عباس "أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم صائم" فبان بذلك أن الأول كان زمن الفتح سنة ثمان، والثاني في حجة الوداع سنة عشر، فيكون الثاني ناسخا للأول (¬1). وهذا الفن من ضرورات الفقه والاجتهاد، وقد ارتكب خطأ جسيما وركب مركبا صعبا من تسول له نفسه الفتوى بالحديث بزعمه مع عطله من هذا العلم فضلا عن الشروط الأخرى. عن ابن سيرين قال: سئل حذيفة عن شيء؟ فقال: "إنما يفتي أحد ثلاثة: من عرف الناسخ والمنسوخ، قالوا: ومن يعرف ذلك؟ قال: عمر، أو رجل ولي سلطانا فلا يجد من ذلك بدا، أو متكلف". وللعلماء تصانيف في هذا الفن أشهرها كتاب "الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار". للإمام أبي بكر محمد بن موسى الحازمي " (584) هـ". 4 - مختلف الحديث: وربما سماه المحدثون "مشكل الحديث". وهو ما تعارض ظاهره مع القواعد فأوهم معنى باطلا، أو تعارض مع نص شرعي آخر. وهو من أهم ما يحتاج إليه العالم والفقيه، ليقف على حقيقة المراد من الأحاديث النبوية، لا يمهر فيه إلا الإمام الثاقب النظر. ¬

_ (¬1) انظر هذا الفصل في كتاب "الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار" 4 - 10. وفي علوم الحديث وغيره.

وقد تهجم طوائف من أهل البدع على السنة وأهل الحديث بسبب زيغهم في فهم الأحاديث على وجهها حتى اتهموا المحدثين بحمل الكذب ورواية المتناقض ونسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تبعهم في عصرنا المستشرقون ومقدلدوهم ممن اغتر بالمادة واحتجرها على عقله، وغلف بحواجزها مشاعره. وإن كان بعضهم قد يتذرع باسم التحرر في فهم الدين، أو فتح باب الاجتهاد! ! .وهذا الصنف من الناس يوازي في ضرورة أولئك الجهلة المتزهدين الذين سوغوا الوضع والكذب في الحديث للترغيب والترهيب، فإن كلا من الفريقين استباح لنفسه التحكم في متن الحديث، فاختلق فيه أناس بجهلهم، وجحد الآخرون صحيحه بغرورهم. وفي الواقع أن ادعاء التعارض ليس بالعسير ما دمام في النصوص مالا بد منه من عام وخاص مستثنى منه، أو مطلق ومقيد يقيد به ... ، فهل نطبق على هؤلاء الناقدين نقدهم، ونطرح فكرهم، وقانونهم، وهلا وسعتهم جملة الأحاديث العظمى المحكمة، التي لا إشكال فيها ولا سؤال. وقد عني أئمة الحديث وجهابذة نقده بهذا الفن، فدرسوا ما وقع من الإشكال في الأحاديث الصحيحة دراسة وافية من الناحية العامة الكلية، ومن الناحية التفصيلية الجزئية. أما من الناحية العامة الكلية: فقد قسموا الأحاديث المستشكلة نتيجة البحث فيها إلى قسمين: القسم الأول: أن يمكن الجمع بين الحديثين المختلفين، وإبداء وجه من التفسير للحديث المستشكل يزيل عنه الاشكال، وينفي تنافيه مع غيره، فيتعين المصير إلى ذلك التفسير، وهذا هو الأكثر الأغلب في تلك الأحاديث. ومن أمثلة ذلك: حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا أيها الناس عليكم من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل

حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قل" متفق عليه (¬1). والملال: فتور يعتري النفس من كثرة شيء، وهو محال في حقه تعالى؟ ! . ويجاب عن هذا من وجهين (¬2): الوجه الأول: أن "حتى" إن كانت بمعنى "إلى أن" فجوابه ما قال ابن فورك في كتابه القيم مشكل الحديث (¬3): "أن يكون معناه أن الله سبحانه لا يغضب علكم ولا يقطع ثوابه حتى تتركوا العمل وتزهدوا في سؤاله والرغبة إليه. فسمى الفعل مللا تشبيها بالملل، وليس بملل على الحقيقة". الوجه الثاني: قال القصري (¬4): "وإن جعلتها بمعنى "كي" فبكون المعنى: لا يمل الله من العطاء ... على العبد كي يمل ويظهر عجزه حين أخذ مالا يطيق، وهذا بين في كلام العرب لا إشكال فيه". ومن أمثلة ذلك أيضا: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "أرسل ملك إلى موسى عليه السلام فلما جاءه صكه ففقأ عينه، فرجع إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت! قال: فرد الله إليه عينه وقال: ارجع إليه فقل له: يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سنة "قال أي رب ثم مه؟ " قال: "ثم الموت" قال: "فالآن، فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر". متفق عليه (¬5). ¬

_ (¬1) البخاري في اللباس: "الجلوس على الحصر": 7: 155. ومسلم في الصلاة: 2: 188 - 189. وللحديث بقية اختصرناها. (¬2) إشار إليهما القصري في شرح مشكل الحديث ق 36 آ-ب. (¬3) ص 94. (¬4) في شرح مشكل الحديث: ق 36 آ. وقارن بتأويل مختلف الحديث: 349، والمعتصر: 264 ومشكل ابن فورك: 94. (¬5) البخاري في الجنائز: "من أحب أن يدفن في الأرض المقدسة": 2: 90. والأنبياء وفاة موسى": 4: 157 ومسلم واللفظ له: 7: 100.

انتقد بعض الملاحدة هذا الحديث فقال: لعلى عيسى ابن مريم عليه السلام قد لطم الأخرى فأعماه! . وقد غفل الناقد عن حقيقة هامة، هي أن الملائكة مخلوقات نورانية وليست بمادية. لكن الله أعطاها قدرة على التشكل بالصور المادية ألا ترى أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصورة دحية الكلبي، ومرة في صورة أعرابي، فلما جادل الملك موسى وجاذبه لطمه موسى لطمة أذهبت العين التي هي تخييل وتمثيل، وليست عينا حقيقية للملك، ولم يضر الملك بشيء (¬1). وقال الإمام ابن فورك (¬2) "ومنهم من قال: أن معنى قوله لطم موسى عين الملك توسع في الكلام -أي مجاز-، ... يريد بذلك إلزام موسى ملك الموت الحجة حين رادَّه في قبض روحه ... ". القسم الثاني من مختلف الحديث: أن يتضاد الحديثان بحيث لا يمكن الجمع بينهما، وذلك على ضربين: الضرب الأول: أن يظهر كون أحدهما ناسخا والآخر منسوخا فيعمل بالناسخ ويترك المنسوخ. الضرب الثاني: أن لا تقوم دلالة على النسخ، فيفزع حينئذ إلى الترجيح ويعمل بالأرجح منها بكثرة عدد رواته، أو مزيد حفظ، أو مزيد ملازمة راوي أحد الحديثين لشيخه، في أوجه كثيرة من وجوه ¬

_ (¬1) تأويل مختلف الحديث: 277 - 288. وانظر الإيمان بالملائكة لفضيلة أستاذنا الشيخ عبد الله سراج الدين: 33 - 35 ففيه تحليل جيد. (¬2) في مشكل الحديث: 113. وفيه بسط لتحليل هذا لغة فانظره.

الترجيح (¬1). وهذا الضرب الثاني يدخل في الشاذ والمحفوظ (¬2). وإن تساويا ولم يمكن الجمع ولا الترجيح حكم بالاضطراب عليهما، وضعفا (¬3). وأما الناحية التفصيلية الجزئية: فقد عني العلماء بدراسة أي سؤال موجه على أي حديث، وأجابوا عن ذلك في شروحهم الموسعة على السنة، كما أنهم أفردوا هذا اللون العلمي بالدراسة في كتب خاصة كثيرة، نذكر منها: 1 - تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة عبد الله بن مسلم النيسابوري " (276) هـ". 2 - "مشكل الآثار" للإمام أبي جعفر أحمد بن سلامة الطحاوي " (321) " وهو أوسع كتب هذا الفن وأحفلها بالفوائد. 3 - "مشكل الحديث" لأبي بكر محمد بن الحسن بن فورك " (406) ". 5 - محكم الحديث: وهو نوع جليل ذكره الحاكم (¬4) وسماه تسمية تصلح لتعريفه: "الأخبار التي لا معارض لها بوجه من الوجوه". مثال ذلك: حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ¬

_ (¬1) أورد منها الحازمي في الاعتبار خمسين وجها: 11 - 27 وأوصلها العراقي في نكته إلى أكثر من مائة. وقد ضبطها السيوطي بتقسيم جيد جعلها تنقسم كلها إلى سبعة أقسام انظر التدريب: 388 - 391. (¬2) انظرهما برقم عام 77 و 78 ص 428 - 429. وأما إن كان أحدهما ضعيفا فيطرح رأسا، ولا يلتفت إليه، ويكون من الحديث المنكر الآتي برقم 79 من 430 وقد أورد بعض الناقدين أحاديث لا أصل لها، وأثار الإشكال حولها! ! . (¬3) انظر المضطرب برقم 81 ص 433. (¬4) في معرفة علوم الحديث: 129 - 130، وانظره في شرح النخبة: 23.

صلى الله عليه وسلم دخل عليها وهي مستترة بقرام فيها صورة تماثيل، فتلون وجهه، ثم أهوى على القرام فهتكه بيده، ثم قال: "إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله" متفق عليه (¬1). هذه سنة صحيحة لا معارض لها. وحديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول" أخرجه مسلم والأربعة (¬2). وهذا الفن شديد الخطورة، لما يحتاج الحكم فيه من التتبع والاستقصاء لكافة الأدلة. قال الحاكم: وقد صنف عثمان بن سعيد الدارمي فيه كتابًا كبيرًا. ¬

_ (¬1) البخاري أواخر اللباس: 7: 168. ومسلم بلفظه: 6: 158 - 159. (¬2) مسلم أول الطهارة: 1: 140. وأبو داود "فرض الوضوء": 1: 216 والترمذي أول جامعه. والنسائي "فرض الوضوء": 1: 75، وابن ماجه برقم 273 و 274.

نتيجة عامة

نتيجة عامة: هذه الأنواع من علوم المتن تبرز شمول اصطلاح المحدثين في تقسيمها وبحثها فالمتن ينظر إليه من حيث قائله فيقسم أربعة أقسام تشمل كل مصدر للحديث. ثم يعني المتن من جوانبه المتعددة لغة وورودا ونسخا وحلا لمشكله وبيانا لمحكمه وبهذا تكمل أنواع هذا الباب مهمات الباب السابق، حيث قدم لنا الباب السابق قواعد معرفة المقبول والمردود، وقدم لنا

هذا الباب أصول الفقه والفقاهة في المتن الذي هو المقصود من وراء تمييز المقبول والمردود، فضلا عن أن فهم النص ضروري قبل البحث في نقده، فاستكمل علم الحديث النظر في متن الحديث من حيث قبوله ورده ومن حيث فهمه ودراية معناه. أما القسم الثالث من دراسة المتن باختباره ومقابلته على المرويات فأنواعه لا تخص بالمتن بل تشارك السند أيضا. فإننا ننظر إلى المتن من حيث ورود ما يوافقه أو عدمه، فإن ورد طريق آخر بلفظه أو معناه فهو التابع أو الشاهد، وإن تعدد وروده بكثرة رواته كثرة تحيل تواطؤهم على الكذب فهو المتواتر، أو برواية جمع محصور دون ذلك فهو المشهور، وإن روي من طريقين أو ثلاثة فهو العزيز، وإن جاء المتن من طريق واحد فهو الغريب. أما إذا جاء ما يخالف المتن فإن خالفه بأرجح مع الثقة فالراجح المحفوظ ومقابله الشاذ، وإن خالفه مع الضعف فالراجح المعروف والمرجوح الضعيف هو المنكر، وإن وقع بين ألفاظ المتون تفاوت يدل على الوهم فالمعلل. ثم المخالفة إن كانت بدمج موقوف بمرفوع أو نحو ذلك فمدرج المتن، أو بتقديم وتأخير فالمقلوب، أو بالزيادة والنقص فهو زيادة الثقة. وإن وقع الاختلاف من غير مرجح فالحديث مضطرب. أما إن كانت المخالفة بتغيير حرف أو حرف مع بقاء صورة الخط في السياق فالمصحف والمحرف، فهذه ستة عشر نوعام. وهذه الأنواع لا تخص بالمتن بل يشترك السند فيها أيضا. لذلك جعلناها بابا مستقلا هو الباب السابع وقد أوضحنا ههنا استكمال دراسة المتن من جميع أوجهه بهذه اللمحة الموجزة الموضحة، نرجو الله أن يوفق لاتمام الأبحاث بمنه وكرمه.

الباب السادس: في علوم السند

الباب السادس: في علوم السند المراد بالسند هنا: سلسلة الرواة الذين نقلوا الحديث واحدا عن الآخر، حتى يبلغوا به إلى قائله. والبحث في السند دعامة أساسية في علوم الحديث، وفي التوصل إلى هدفه الأسمى والغرض المطلوب منه، وهو تمييز الحديث المقبول من المردود. قال سفيان الثوري: "الإسناد سلاح المؤمن. إذا لم يكن معه سلاح فبأي شيء يقاتل" (¬1). وقال عبد الله بن المبارك: "الإسناد عندي من الدين، لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، فإذا قيل له: من حدثك؟ بقي! " (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن حبان في مطلع كتاب المجروحين: 19. (¬2) اخرجه مسلم في مقدمة صحيحه: 12 والترمذي في العلل آخر الجامع. وابن حبان في مطلع كتاب المجروحين: 18، والخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث: 41. واللفظ للترمذي. وقوله: "بقي" أي بقي حائرا أو ساكنا. وفي بعض نسخ الترمذي "يقي" أي يقي نفسه من الكذب. انظر شفاء الغلل شرح العلل آخر تحفة الأحوذي: 4: 388.

وقال عبد الله بن المبارك: "لولا الإسناد لذهب الدين، ولقال امرؤ ما شاء أن يقول: ولكن إذا قلت عمن؟ بقي! " (¬1). وقال ابن المبارك أيضا: "بيننا وبين القوم القوائم" (¬2). يعني الإسناد. وقال الأوزاعي: "ما ذهاب العلم إلا ذهاب الإسناد" (¬3). وقال سفيان بن عيينة: "حدث الزهري يوما بحديث. فقلت: هاته بلا إسناد. فقال الزهري: أترقى السطح بلا سلم" (¬4). لذلك عني المحدثون بتحقيق الأسانيد والبحث فيها، لما أنه كثيرا ما يتوصل عن طريق السند إلى نقد للمتن لا يمكن الوصول إليه إلا عن طريق البحث في السند، وقد بذل المحدثون غاية الجهد في تتبع الأسانيد وتقصيها حتى رحلوا من أجلها في البلاد، وجالوا في الآفاق، لكي يعثروا على سند، أو لكي يبحثوا في سند صعب عليهم أمره. وأنواع مصطلح الحديث التي تتعلق بالسند إما أن تحصل من النظر في سند الحديث من حيث الاتصال أو عدم الاتصال، وإما أن تحصل من ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي كما في شرح علل الترمذي للحافظ ابن رجب: 58 بتحقيقنا. (¬2) أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه: 12. (¬3) أخرجه ابن عبد البر في أول التمهيد: شرح علل الترمذي: 58. (¬4) أخرجه البيهقي كما في شرح العلل للحافظ ابن رجب: 58، وأخرجه الخطيب في شرف أصحاب الحديث: 42، وورد نحوه عن ابن المبكارك أخجره الخطيب في شرف أصحاب الحديث بلفظه: 42 وفي الكفاية: 393 عن عبد الله بن المبارك قال: "مثل الذي أمر دينه بلا إسناد كمثل الذي يرتقي السطح بلا سلم". وانظر مزيدا من الأثار عن السلف في شرح علل الترمذي للحافظ ابن رجب: 56062.

النظر من حيث تعدد السند أو عدم تعدده. وهذه ندرسها في الباب السابع الذي يأتي إن شاء الله تعالى. أما أنواع الحديث من حيث الاتصال والانقطاع فندرسها هنا في فصلين: الفصل الأول: في علوم السند من حيث الاتصال. الفصل الثاني: في علوم السند من حيث الانقطاع.

الفصل الأول: في علوم السند من حيث الاتصال

الفصل الأول: في علوم السند من حيث الاتصال ويشمل الأنواع الآتية: 1 - المتصل: 2 - المسند: 3 - المعنعن. 4 - المؤنن. 5 - المسلسل. 6 - العالي. 7 - النازل. 8 - المزيد في متصل الأسانيد. وننبه إلى أن الأصل في هذا المبحث هو الأول المتصل، وأما الأنواع الأخرى فإنها تشتمل مع الاتصال على وصف زائد يبين كيفية الاتصال أو على وصف عارض له نفصله لدى دراسة كل منها إن شاء الله.

1 - المتصل: ويقال له الموصول أيضا، وعرفوه بأنه هو الذي سمعه كل واحد من رواته ممن فوقه حتى ينتهي إلى منتهاه، سواء كان مرفوعا أو موقوفا. وقولهم: "الذي سمعه" يلحق به فيما نرى ما تلقاه بوسيلة أخرى من وسائل التحمل المعتبرة، كالعرض والمكاتبة. والإجازة الصحيحة، وإنما ذكرو السماع في التعريف لأنه الغالب. وقد حرصوا في بحث المعنعن أن المتأخرين استعملوا "عن" في الإجازة، وأن ذلك لا يخرجه من قبيل الاتصال (¬1). مثال المتصل المرفوع: ما رواه مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله" (¬2). ومثال المتصل الموقوف: ما رواه مالك أيضا عن نافع أنه سمع عبد اله بن عمر يقول: "من أسلف سلفا فلا يشترط إلا قضاءه" (¬3). فكل من الحديثين متصل، أو موصول، لأن رواته سمعوه من بعضهم البعض إلى منتهاه. أما المقطوع وهو ما أضيف إلى التابعي إذا اتصل سنده، فلا خلاف في أنه يدخل تحت هذا النوع، لكن الجمهور قالوا: لا يقال ¬

_ (¬1) قارن التدريب: 108، وحاشية الأبياري: 29، والأجهوري: 38، وجامع الأصول: 58. (¬2) الموطأ: 1: 23. وهذا الإسناد هو سلسلة الذهب. (¬3) الموطأ "مال يجوز من السلف": 2: 85.

له: موصول أو متصل مطلقا، بل ينبغي أن يقرن بما يميزه عن سابقيه فيقال: هذا متصل إلى سعيد بن المسيب مثلا. وأجاز بعض العلماء أن يطلق عليه: موصول، أو متصل، بدون أن يقيد بشيء أسوة بالنوعين السابقين. وكأن السر فيما ذهب إليه الجمهور أن الذي ينتهي إلى التابعي يسمونه "المقطوع"، وهو بظاهره اللغوي ضد الموصول، فميزوه بإضافته إلى التابعي رعاية لذلك (¬1). 2 - المسند: الحديث المسند: هو ما اتصل سنده مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فلا يحل الموقوف والمقطوع ولو اتصل إسنادهما، ولا المنقطع، ولو كان مرفوعا. وهذا هو المعتمد المشهور في تعريف المسند. قطع به الحاكم واقتصر عليه. وجزم به في النخبة (¬2). ¬

_ (¬1) قارن علوم الحديث وشروح الألفية وغيرها بالتقريب واختصار علوم الحديث. (¬2) لكنه قال في تعريفه: "بسند ظاهره الاتصال". ثم فسره فقال: "ويفهم من التقييد بالظهور أن الانقطاع الخفي كعنعنة المدلس والمعاصر الذي لم يثبت لقيه لا يخرج عن كونه مسندا لإطباق الأئمة الذين خرجوا المسانيد على ذلك". وهذا التفسير للمسند لم نجد أحدا سبق به، بل وجدنا ما يدل على خلافه. فقد وجدنا في المسانيد أحاديث منقطعة كثيرة، نسرد لك ما استخرجناه بتتبع مائتي حديث من أول مسند أحمد وهي ذوات الأرقام: 7، 18، 27، 37، 46، 49، 60، / 62، 64، 65، 66، 68، 68، 69، 70، 71، 81، 98، 106، 107، 108، 109، 113، 115، 118، 126، 132، 140، 142، 193، 194، فهذه ثلاثون حديثا وجدت في مائتي حديث نبه العلامة أحمد شاكر على انقطاعها، ومنها ما هو ظاهر الانقطاع. ثم إن الحاكم قد صرح بنفي التدليس عن المسند، فلا يصح قول الحافظ: "وهذا التعريف موافق لقول الحاكم ... ".

مثاله: حديث ترك صلاة العصر في النوع السابق، فإنه مرفوع متصل. لكن بعض المحدثين أطلق المسند على غير ما ذكرناه، مما يوجب التنبيه عليه: فقد أطلق بعضهم المسند على ما رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، موصولا كان أو غير موصول، وهو مذهب ابن عبد البر (¬1)، ومنه قوله الدارقطني في سعيد بن عبيد الثقفي: "ليس بالقوي، يحدث بأحاديث يسندها وغيره يوقفها" (¬2). فقوله: "يسندها": أي يرفعها. وقد يطلق المسند على تأليف في أسانيد الأحاديث، مثل مسند الشهاب، ومسند الفردوس، أي أسانيد أحاديثهما. 3 و 4 - المعنعن والمؤنن: هذان النوعان يدرسان بعض الصيغ التي يستعملها الرواة في النقل عمن فوقهم، لما فيها من احتمال عدم الاتصال. ¬

_ (¬1) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد: 1: 21. (¬2) تهذيب التهذيب: 4: 61، وانظر فتح المغيث: 40.

والمعنعن: هو الذي يقال في سنده: فلان عن فلان، من غير تصريح بالتحديث أو الأخبار أو السماع ... وقد تشدد بعض الناس فعده من قبيل المرسل والمنقطع حتى يتبين اتصاله بالتصريح بالسماع ونحوه. والصحيح الذي عليه العمل التوسط فيه وأنه من الحديث المتصل، ذهب إلى هذا جماهير الأئمة من أهل الحديث وغيرهم، وأودعه المشترطون للصحيح في تصانيفهم الصحيحة وقبلوه. وادعى أبو عمر بن عبد البر، والداني إجماع أهل النقل على ذلك. لكنهم اشترطوا لكي يحكم للمعنعن بالاتصال شرطين: الأول: أن يثبت لقاء الراوي لمن روى عنه بالعنعنة، والثاني أن يكون بريئا من وصمة التدليس. فإذا استوفى ذلك صار قوله: "عن فلان" كقوله: "حدثني أو سمعت ... " لأنه لما تحقق لقاؤه وكان لا يدلس فهو لا يروي عمن لقيه ما لم يسمعه منه، فيكون قوله "عن" على ظاهر الاتصال حتى يثبت خلافه فنأخذ به. وأما المؤذن: فهو الذي يقال في سنده: فلان أن فلانا .. ومذهب الجمهور وهو الصحيح أنه كالمعنعن، ولا عبرة بالحروف والألفاظ إنما هو باللقاء والمجالسة والسماع. وقد خالف مسلم بن الحجاج في اشتراط التنصيص على ثبوت اللقاء والاجتماع في المعنعن والمؤنن، وادعى في مقدمة صحيحه أنه قول مخترع لم يسبق قائله إليه، وأن القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار قديما وحديثا أنه يكفي في ذلك أن يثبت كونهما في عصر واحد وإن لم ينص على أنهما اجتمعا أو تشافها، فاكتفى مسلم بإمكان اللقاء بين الراوي وبين من روى عنه مع السلامة من التدليس.

وقد ورد العلماء دعوى الإجماع التي استشهد بها مسلم، بأن القول الذي رده مسلم هو الذي عليه جماعة من أئمة هذا الفن علي بن المديني والبخاري وغيرهما كما قيل (¬1)، وأجابوا عما أورده من الأحاديث بأنه "يمكن أن يكون قبول الأئمة لذلك لقرائن اقترنت بها أفادت اللقاء ... " (¬2). وقوي بعضهم مذهب مسلم بأن المسألة في الثقة غير المدلس، ومثله إذا قال: عن فلان، ينبغي أن يكون سمعه منه، وإلا كان مدلسا، والمسألة في غير المدلس (¬3). إلا أنه لا ريب أن مذهب الجمهور أحوط، لأن الاتصال فيه أقوى، ولذلك كانت هذه المسألة من مرجحات صحيح البخاري على صحيح مسلم. وقد يستشكل ما ذكرنا بما وقع في الحديث على شرط الاتصال ثم تبين أنه ليس بمتصل. كحديث مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب يحلف بأبيه فقال: "ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت". وفي رواية أخرى عن سالم قال: قال ¬

_ (¬1) وقال في قواعد التحديث: 123: "والجمهور على أنه متصل إذا أمكن لقاء من أضيفت العنعنة إليهم بعضهم بعضا، مع براءة المعنعن من التدليس، وإلا فليس بمتصل" فتأمل! ! (¬2) جامع التحصيل لأحكام المراسيل للحافظ خليل بن كيكلدي العلائي 140. وقد وسع الحافظ ابن رجب في شرح علل الترمذي: 365 - 373 نقد مذهب مسلم، فانظره وانظر تعقيبنا عليه. (¬3) انظر التفصيل في فتح الملهم شرح صحيح مسلم: 1: 40 - 41 و 148 - 150. هذا ويجب أن يعلم أن الفريقين متفقان على اشتراط الانفصال لصحة الحديث، إنما الخلاف في إثبات الاتصال بهذا الطريق، فأثبته مسلم، ولم يقبله البخاري، فتنبه.

ابن عمر: سمعت عمر يقول: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم .. " (¬1). ظاهر الرواية الأولى يوجب أن يكون من مسند ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وظاهر الرواية الثانية يوجب أن يكون من مسند ابن عمر عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف نجعل المؤنن متصلا؟ ! ونجيب عن ذلك بأن إدراك ابن عمر في هذا الحديث مشترك متردد، لتعلقه بالنبي صلى الله عليه وسلم وبعمر، فقد أدركهما ابن عمر، وصحبهما، فصلحت "أن" للرواية عنهما، ولو كان الادراك قاصرا على أحدهما لتعين الاتصال عن طريقه. وهذا ملحظ دقيق جدا ينبغي التنبه له، والحذر من الغلط بسببه. تفريع على المعنعن والمؤنن: وينبني على ما ذكرناه من شرط الاتصال في المعنعن والمؤنن تعميم الحكم بالاتصال فيما ذكره الراوي عمن لقيه بأي لفظ كان إذا لم يظهر منه تدليس، سواء قال: عن فلان أو فلانا، أو قال فلان أو روى فلان أو حدث، وذلك لأن العبرة ليست بالحروف والألفاظ، ولكن بالمجالسة واللقاء والسماع. ومن الحجة في ذلك "أنه لو لم يكن قد سمعه منه لكان باطلاقه الرواية عنه من غير ذكر الواسطة بينه وبينه مدلسا، والظاهر السلامة من وصمة التدليس، والكلام فيمن لم يعرف بالتدليس". ¬

_ (¬1) البخاري بلفظه: 8: 132، ومسلم: 5: 80 وانظر مثالا آخر في الكفاية: 406 - 407.

5 - المسلسل: المسلسل في اصطلاح المحدثين: هو ما تتابع رجال إسناده على صفة واحدة أو حال واحدة للرواة أو للرواية. وله أنواع كثيرة بحسب تعدد أحوال الرواة وصفاتهم وأحوال الرواية. أما أحوال الرواة، فهي إما أقوال أو أفعال، أو أقوال وأفعال معا، وكذا القول في صفاتهم أيضا. وينقسم المسلسل أقساما كثيرة: الأول: المسلسل بأحوال الرواة القولية: مثل حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يا معاذ إني أحبك، فقل في دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك". تسلسل بقول كل واحد من رواته "وأنا أحبك فقل" (¬1). وكحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من الشعر حكمة". وقال عائشة رضي الله عنها: يرحم الله لبيدا وهو الذي يقول: ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقي في خلف كجلد الأجرب يتأكلون خيانة مذمومة ... ويعاب سائلهم وإن لم يشغب ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في الوتر "باب الاستغفار": 2: 86 مسلسلا لراويين فقط والنسائي في الصلاة "الدعاء بعد الذكر": 1: 192 غير مسلسل. ووقع مسلسلا خارج الكتب السنة لجماعة من العلماء. أخرجه مسلسلا في المناهل السلسلة في الأحاديث المسلسلة: 13 - 15.

قالت عائشة: يرحم الله لبيدا كيف لو أدرك زماننا هذا؟ . قال عروة بن الزبير الراوي عن عائشة رحم الله عائشة كيف لو أدركت زماننا هذا؟ ! تسلسل بقلو كل راو: رحم الله فلانا كيف لو أدرك زماننا هذا؟ ! (¬1) قال الشيخ محمد عابد السندي: قد جزم العلائي وغيره بصحة تسلسله (¬2). الثاني: المسلسل بأحوالهم الفعلية: مثل حديث أبي هريرة: شبك بيدي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، وقال: "خلق الله الأرض يوم السبت". تسلسل بتشبيك كل واحد من رواته يده بيد من رواه عنه (¬3). وكالمسلسل بوضع اليد على الكتف، والمسلسل بوضع اليد على الرأس. الثالث: المسلسل بأحوالهم القولية والفعلية: مثاله حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجد العبد حلاوة الإيمان حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، حلوه ومره" وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم على لحيته، وقال: "آمنت بالقدر خيره وشره، حلوه ومره". ¬

_ (¬1) أخرجه العلامة المحدث محمد عبد الباقي الأيوبي في كتابه المناهل السلسلة في الأحاديث المسلسلة: 71072. (¬2) المناهل السلسلة: 73. (¬3) أخرجه تام التسلسل الحاكم في المعرفة: 33034. وتسلسل أيضا للعلامة المحدث الشيخ محمد الأمير الكبيرن أخرجه من طريقه بسنده شيخنا العلامة الدكتور محمد السماحي في قسم المصطلح: 285. وصاحب المناهل السلسلة: 31 - 33.

تسلسل بصدور ذلك من كل رواته (¬1). الرابع: المسلسل بصفات الرواة القولية، وهي تقارب الأحوال القولية، بل تماثلها على التحقيق (¬2). الخامس: المسلسل بصفات الرواة الفعلية: مثل اتفاق أسماء الرواة، كالمسلسل بالمحمدين، ومثل اتفاق صفاتهم، كالمسلسل بالفقاء، أو الحفاظ، أو المعمرين، أو الصوفيين. السادس: المسلسل بصفات الرواية: وتتعلق بصيغ الأداء أو زمانه أو مكانه. مثال صفات الرواية المتعلقة بصيغ الأداء: المسلسل بقول كل واحد من رواته سمعت فلانا، أو أخبرنا فلان، أو أخبرنا فلان والله .. ومثال صفات الرواية الزمانية: المسلسل بروايته يوم العيد. ومثال صفات الرواية المكانية: المسلسل بإجابة الدعاء في الملتزم. وغير ذلك من أقسام يعرف مما ذكرناه. والتسلسل يفيد اتصال حلقات الإسناد مع ما اقترن بها من صفة خاصة أو حالة خاصة، وذلك يقوي معنى الاتصال في الحديث، لذلك قال الحاكم (¬3). "فإنه نوع من السماع الظاهر الذي لا غبار عليه". وقال ابن الصلاح (¬4): "وخيرها ما كان فيه دلالة على اتصال السماع، وعدم التدليس، ومن فضيلة التسلسل اشتماله على مزيد الضبط من الرواة". ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم تام التسلسل في المعرفة: 31 - 32. وصاحب المناهل السلسلة 35 - 38. (¬2) شرح الألفية: 4: 13. (¬3) في المعرفة: 29. (¬4) في علوم الحديث: 249. وانظر المناهل المسلسلة: 3.

لكن المسلسلات على الرغم من عذوبة وقعها تسلم رواية التسلسل فيها من ضعف، وإن صح أصل الحديث. ومن المسلسل ما ينقطع تسلسله في أثناء إسناده، وذلك نقص فيه. كحديث عبد الله بن عمرو مرفوعا: "الراحمون يرحمه الرحمن" المسلسل بأول حديث سمعته، فإنه إنما يصح التسلسل فيه بالأولية من أول السند إلى سفيان بن عيينة، وينقطع هذا التسلسل بين سفيان ومن فوقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ومن أصح مسلسل يروى في الدنيا المسلسل بقراءة سورة الصف، رواه الترمذي في جامعه (¬1)، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن أخبرنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: قعدنا نفرًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتذاكرتا فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله وهو العزيز الحكيم، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} قال ابن سلام: فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو سلمة. فقرأها علينا عبد الله بن سلام. قال يحيى: فقرأها علينا أبو سلمة. قال: ابن كثير: فقرأها علينا الأوزاعي. قال عبد الله: فقرأها علينا ابن كثير. ونضيف إلى هذا فنقول: أصح أقسام التسلسل المسلسل بالحفاظ، كحديث مالك عن نافع عن ابن عمر، بل إن الحافظ ابن حجر قال في شرح النخبة (¬2): "إنه يفيد القطع حيث لا يكون غريبا". ¬

_ (¬1) في التفسير "باب سورة الصف": 5: 412 - 413. (¬2): 27. والأمثلة التي أوردناها مخرجة بإسنادهما في المناهل السلسلة، لم نطول بالعزو إليه.

وقد جمع العلماء الأحاديث المسلسلة في مصنفات، منها كتاب للسخاوي فيه مائة حديث، وجمعها العلامة المحدث محمد عبد الباقي الأيوبي "المتوفى سنة (1364) " في كتاب سماه "المناهل السلسلة في الأحاديث المسلسلة" فبلغ /212/ حديثا، هو أوسع ما وقفنا عليه. وهذا لم يستوف المسلسل بصفات الرواة، ولا سيما المسلسل بالحفاظ، ولو استوفاها لكانت أكثر من ذلك بكثير. 6 - العالي: الإسناد العالي: هو الذي قل عدد رجاله مع الاتصال: وكذا إذا تقدم سماع روايه، أو تقدمت وفاة شيخه (¬1). وعلو الإسناد له عند المحدثين شأن كبير، وذلك أنه يفيد قوة السند، لأنه يبعد احتمال الخلل عن الحديث، لأن كل رجل من رجاله قد يحتمل أن يقع من جهته خلل، فإذا قلت الوسائط تقل جهات الاحتمال للخل، فيكون علو السند قوة للحديث. قال الحافظ أبو الفضل المقدسي (¬2): "أجمع أهل النقل على طلبهم العلو ومدحه، إذ لو اقتصروا على سماعه بنزول لم يرحل أحد منهم". وقد رحل المحدثون فيه، وأتعبوا مطاياهم من أجله. ما إن يسمع أحدهم ¬

_ (¬1) قارن فتح المغيث: 335. (¬2) هو محمد بن طاهر، في مسألة العلو والنزول: ق 5/ آ.

بحديث عن محدث في عصره حتى يرحل إليه ليسمعه منه مباشرة. قال أحمد بن حنبل: "طلب الإسناد العالي سنة عمن سلف". وقيل ليحيى بن معين في مرضه الذي مات فيه: "ما تشتهي؟ " قال: "بيت خالي، وإسناد عالي". وينقسم العلو بحسب جهته أقساما خمسة، ترجع إلى قسمين رئيسين: علو مسافة بقلة الوسائط، وعلو صفة. أما العلو بالمسافة فهو ثلاثة أقسام: القسم الأول: القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث العدد بإسناد صحيح نظيف. وهذا علو مطلق، وهو أفضل أنواع العلو وأجلها. قال محمد بن أسلم الطوسي الزاهد: "قرب الإسناد قرب أو قربة إلى الله عز وجل". ووجه كلامه هذا فيما نرى: أن قرب الإسناد يفيد قوة السند كما عرفت، واستخراج المحدث لذلك يقربه إلى الله عز وجل. وقد اعتنى العلماء بهذا النوع، وجمعوا فيه تآليف، أشهرها ما جمعت فيه الأحاديث الثلاثية، مثل كتاب ثلاثيات المسند وكتاب ثلاثيات البخاري. والأحاديث الثلاثية هي ما كان بين الإمام المصنف وبين النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث وسائط. مثل: حديث الإمام أحمد قال: "ثنا سفيان قال: قلت لعمرو: سمعت جابرا يقول مر رجل في المسجد معه سهام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أمسك بنصلها"؟ قال: نعم (¬1). ¬

_ (¬1) ثلاثيات المسند: 1: 264. وانظر مزيدا من التفصيل حول الثلاثيات في كتابنا الإمام الترمذي: 16.

وروى البخاري: حدثنا مكي بن إبراهيم قال حدثنا يزيد بن أبي عبيد عن سلمة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من يقل علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار" (¬1). وقد تساهل من جمع ثلاثيات المسند فأوردا فيه مثل إسناد "هُشَيم عن حُمَيد عن أنس" هكذا بهذا اللفظ، وهشيم وحميد مدلسان ولم يصرحا بالتحديث، مما يدخل على السند احتمال الانقطاع وحذف الوسائط. وفيه أحاديث كثيرة من هذا القبيل. أما إذا كان قرب الإسناد مع ضعف بعض الرواة فلا التفات إلى هذا العلو، وقد اتخذ بعض الكذابين العلو وسيلة لترويج كذبهم، فادعى بعضهم الصحبة، مثل رتن الهندي (¬2). وادعى بعضهم السماع من الصحابة، مثل إبراهيم بن هدبة، ودينار بن عبد الله، وأبي الدنيا الأشج، فافتضحوا بكذبهم، ولم يجعل لهم المحدثون أي عبرة، بل لا تجوز الرواية عنهم. ومن فرح بعلو سندهم فهو عامي يعد الرواة عدا، ولا يدري فيهم نقدا! ! القسم الثاني: القرب من إمام من أئمة الحديث. وهو علو نسبي، كالعلو إلى مالك، والأوزاعي، وسفيان وشعبة. وإنما يوصف بالعلو إذا صح الإسناد إلى ذلك الإمام بالعدد اليسير من الرجال. ووجه اعتبار هذا علوا -فيما يبدو لنا- أن هؤلاء الأئمة قد انتهى إليهم علم الحديث وحفظه، فأصبح خوف الخلل في رواياتهم مأمونا، فرغبوا في العلو إليهم، لما فيه من قوة السند. القسم الثالث: العلو بالنسبة إلى الكتب الحديثية المشتهرة، وهو ¬

_ (¬1) مطلع ثلاثيات البخاري ص 3، وانظر البخاري: 1: 29. (¬2) المار ذكره في ص 119.

أن يعلو إسناد المحدث بالنسبة إلى روايته عن طريق الصحيحين وبقية الستة، إذ لو روى الحديث من طريق كتاب من الستة يقع أنزل مما لو رواه من غير طريقها. وغالبا ما يكون العلو في هذا القسم بسبب نزول الإسناد عن طريق هذه الكتب. قال الحافظ العراقي (¬1): "مثاله حديث رواه الترمذي لابن مسعود مرفوعا": "يوم كلم الله موسى كانت عليه جبة صوف ... ". رواه الترمذي عن علي بن حجر عن خلف بن خليفة، فلو رويناه من طريق الترمذي وقع بيننا وبين خلف تسعةن فإذا رويناه من جزء ابن عرفة وقع بيننا وبينه سبعة بعلو درجتين .. ". وقد كثر اعتناء المحدثين المتأخرين بهذا القسم، وأصبح له شهرة كبيرة عندهم، ففرعوه إلى عدة فروع، هي: الموافقة، والبدل، والمساوة، والمصافحة (¬2). وأما علو الصفة: فهو هذان القسمان الباقيان، ذكرهما الحافظ أبو يعلى الخليلي في كتاب الإرشاد إلى معرفة علماء الحديث، واشتهرا بعده: الأول: العلو بتقدم وفاة الراوي، بأن يتقدم موت الراوي في هذا السند على موت الراوي الذي في السند الآخر، وإن كانا متساويين في العدد (¬3). الثاني: العلو بتقدم السماع من الشيخ، يكون أحد الرواة ¬

_ (¬1) في شرح الألفية: 3: 101، وقارن بعلوم الحديث: 234. (¬2) نكتفي بالإشارة إليها هنا، وليرجع من يرغب في التوسع إلى المصادر، مثل علوم الحديث لابن الصلاح أو غيره. (¬3) الإرشاد: ق 8 آ. وأشار إليه الحاكم في المعرفة: 11، ولم يذكره المقدسي.

سمع منه قبل غيره، (¬1) إلا أنه يقع التداخل كثيرا بين هذين القسمين، حتى عدهما بعض العلماء قسما واحدا. ونلاحظ أن فائدة العلو لا تظهر في هذين القسمين إلا في بعض الصور، التي تدخل في أنواع أخرى من علوم الحديث، مثل "معرفة من اختلط في آخر عمره" ونحوه من الأبحاث. لذلك لم يذكرهما بعض المحققين كالحافظ ابن حجر (¬2). 7 - النازل: الحديث النازل: ضد العالي، وهو الذي بعدت المسافة في إسناده. وكما أن العلو قد انقسم إلى خمسة أقسام، كذلك ينقسم النزول إلى خمسة أقسام، تعرف مما سبق. وهي: 1 - كثرة الوسائط إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وهو نزول مسافة مطلق. 2 - كثرة الوسائط إلى إمام من أئمة الحديث. وهو نزول مسافة نسبي. 3 - نزول الإسناد من طريق غير الكتب الستة عن الإسناد من طريقها. وهو نزول مسافة نسبي أيضا. 4 و 5 - تأخر الوفاة وكذا تأخر السماع وهما نزول صفة. ¬

_ (¬1) الإرشاد نفس الموضع. ومسألة العلو ق 9 آ. وانظر علوم الحديث وغيره. (¬2) في شرح النخبة: 60 - 61. وانظر شرح الألفية: 3: 105، وفتح المغيث: 341.

والنزول مفضول مرغوب عنه عند المحدثين، قال ابن معين: "الإسناد النازل قرحة في الوجه". وقال ابن المديني: "النزول شؤم". وشذ بعضهم فزعم أن النزول أفضل من العلو؛ "لأنه يجب على الراوي أن يجتهد في متن الحديث وتأويله، وفي الناقل وتعديله، وكلما زاد الاجتهاد زاد صاحبه ثوابا" (¬1). وهذا مذهب ضعيف، ضعيف الحجة، وما أحسن قول الحافظ العراقي (¬2): "هذا بمثابة من يقصد المسجد لصلاة الجماعة، فيسلك طريقا بعيدة لتكثر الخطأ، وإن أداه سلوكها إلى فوات الجماعة التي هي المقصود! ! ". لكن المحدثين استثنوا من تفضيل العلو ما إذا كان مع النزول ما يجبره ويجعل له مزية على الإسناد العالي، كأن يوجد في النازل زيادة يرويها ثقة، أو يكون رجال الإسناد النازل أحفظ أو أفقه. قال وكيع ابن الجراح لتلامذته: "أيهما أحب إليكم أن أحدثكم: عن سليمان الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أو أحدثكم عن سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود؟ ". قالوا: "نحب الأعمش، فإنه أقرب إسنادا". قال: "ويحكم! ، الأعمش شيخ ولكن سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة فقيه عن فقيه عن فقيه عن فقيه" (¬3). لذلك قال ابن المبارك: "ليس جودة الحديث قرب الإسناد، بل جودة الحديث صحة الرجال". ¬

_ (¬1) كذا نقل عنهم الرامهرمزي في المحدث الفاصل ص 26. (¬2) في شرح الألفية: 3: 99. (¬3) الإرشاد: ق 7 آ. وانظر غيره من المراجع.

وقال الحافظ السلفي: "الأصل الأخذ عن العلماء، فنزولهم أولى من العلو عن الجهلة، على مذهب المحققين من النقلة". ومن هذا القبيل أيضا العلو بتفرد السند بالحديث مع حاجة المحدث إليه، فإنه عال بتفرده. لكن هذا كله ليس من العلو الاصطلاحي عند المحدثين، ومن أدرجه في العلو الاصطلاحي (¬1) فقد تساهل ولم يحقق البحث، وإنما هو علو من حيث المعنى فحسب (¬2). 8 - المزيد في متصل الأسانيد: هذا نوع جليل مهم، عظيم الفائدة. وهو أن يزيد راو في الإسناد المتصل رجلا لم يذكره غيره (¬3). مثاله: ما أخرجه الترمذي في العلل الكبير (¬4) عن جرير بن حازم عن ابن إسحاق عن الزهري عن عمر بن عبد العزيز عن الربيع بن سبرة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة يوم الفتح. قال الترمذي: "سألت محمدًا يعني البخاري - عن هذا الحديث فقال: هذا حديث خطأ، والصحيح عن الزهري عن الربيع بن سبرة ¬

_ (¬1) كما فعل ابن الأثير في جامع الأصول: 59 - 62. (¬2) نبه على ذلك ابن الصلاح: 237. وكذا غيره أيضا. (¬3) اختصار علوم الحديث: 176. زدنا عليه كلمة "المتصل". لأن الزيادة في غير المتصل لا تدخل في هذا النوع. (¬4) ق 29 - ب.

عن أبيه ليس فيه عمر بن عبد العزيز، وإنما أتى الخطأ من جرير بن حازم". ولعل سبب الخطأ ما ورد أن الزهري سمع الحديث من الربيع عند عمر بن العزيزن فظنه جرير من رواية الزهري عن عمر بن عبد العزيز عن الربيع. والحديث روي من عدة أوجه عند مسلم (¬1) وأحمد عن الزهري عن الربيع ليس فيها ذكر عمر بن عبد العزيز. وقد صنف الخطيب في هذا النوع كتابا جيدا سماه "تمييز المزيد في متصل الأسانيد". وفي رأينا أن هذا النوع يمكن أن يدخل في المدرج "مدرج السند" الآتي وفي العلل بعلة غير قادحة (¬2)، فليتأمل. وجدير بالعناية هنا أن الحكم بالزيادة في هذا النوع صعب شديد، يقف على حافة النقد، وخطر الأنتقاض بأن يكون الراوي قد سمع من الشخص الزائد ثم طلب العلو فسمعه من الشيخ الأعلى مباشرة، وقد وقع ذلك في أحاديث كثيرة. لكنا نستأنس في هذه الحال بالقرائن، وبأن "الظاهر ممن وقع له مثل ذلك -كما قال ابن الصلاح- أن يذكر السماعين، فإذل لم يجيء ذكر ذلك حملناه على الزيادة المذكورة". كذلك قد ينتقض الحكم بالزيادة في هذا النوع بالمرسل الخفي، وسنشرح ذلك فيه إن شاء الله (¬3). حكم الاتصال وأنواع المتصل: اتصال السند له شأن كبير في مصطلح الحديث، يتوقف عليه قبول الحديث كما عرفت من قبل، فإذا وجد الاتصال مع سائر شروط القبول كان الحديث مقبولا، وإلا كان مردودا، فأنواع هذا الفصل مشتركة بين أقسام الحديث الثلاثة: الصحيح، الحسن، الضعيف. ¬

_ (¬1) مسلم في النكاح: 133. وأحمد: 3: 404. (¬2) انظر مدرج السند برقم 83 ص 440 - 442 والعلة غير القادحة: 448. (¬3) رقم 67 ص 389 - 390.

الفصل الثاني: في علوم السند من حيث الانقطاع

الفصل الثاني: في علوم السند من حيث الانقطاع الانقطاع مأخوذ من القطع، وهو لغة فصل شيء عن شيء، قطعته فانقطع. ضد الوصل والاتصال. والمقصود هنا وقوع سقط في سلسلة الإسناد. ويشمل هذا الفصل الأنواع الآتية: 1 - المنقطع. 2 - المرسل. 3 - المعلق. 4 - المعضل. 5 - المدلس. 6 - المرسل الخفي. وإليك تفصيل البحث في كل:

1 - المنقطع: اختلفت أقوال العلماء في هذا المصطلح الحديثي اختلافا كثيرا يرجع في رأينا إلى التدرج التاريخي لاستعمال هذا الاصطلاح بين المتقدمين والمتأخرين. وأولى تعاريفه تعريف الحافظ ابن عبد البر (¬1) وهو: المنقطع كل ما لا يتصل، سواء كان يعزى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى غيره. فهو ما سقط منه راو أو أكثر من أي موضع من السند، وفيه يقول صاحب المنظومة البيقونية: وكل ما لم يتصل بحال ... إسناده منقطع الأوصال على ذلك درج المتقدمون، وقال النووي: "إنه الصحيح الذي ذهب إليه الفقهاء والخطيب وابن عبد البر وغيرهم من المحدثين" (¬2). وعليه يكون المنقطع أصلا عاما تندرج تحته أنواع الانقطاع. أما المتأخرون فجعلوه قسما خاصا، وعرفوه بأنه: هو الحديث الذي سقط من رواته راو واحد قبل الصحابي في موضع واحد أو موضع متعددة ¬

_ (¬1) في مطلع كتابه "التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد: 1: 21. (¬2) التقريب نسخة الشرح: 126 - 127. وانظر الكفاية: 21. وعليه حمل الشراح كلام الحافظ في شرح النخبة، انظر شرح الشرح: 114، ولقط الدرر، 65 - 66 وفيه عندنا تأمل ونظر.

بحيث لا يزيد الساقط في كل منها على واحد وألا يكون الساقط في أول السند (¬1). وهذا التعريف جعل المنقطع مباينا لسائر أنواع الانقطاع، حيث خرج بقولهم: "واحد" المعضل، و"بما قبل الصحابي" المرسل، وبشرط أن لا يكون الساقط أول السند خرج المعلق (¬2). ومن أمثلة المنقطع: 1 - حديث أبي داود (¬3): "حدثنا شجاع بن مخلد ثنا هشيم أخبرنا يونس بن عبيد عن الحسن أن عمر بن الخطاب جمع الناس على أبي بن كعب، فكان يصلي لهم عشرين ليلة، ولايقنت بهم إلا في النصف الباقي .. ". فهذا إسناد منقطع، "الحسن البصري ولد سنة إحدى وعشرين، ومات عمر في أواخر سنة ثلاث وعشرين، أو في أول المحرم سنة أربع وعشرين" (¬4) فأنى يمكن للحسن أن يسمع عمر. 2 - حديث الترمذي في العلل الكبير (¬5): "حدثنا علي بن حجر حدثنا معمر بن سليمان الرقي عن الحجاج بن أرطأة عن عبد الجبار بن وائل عن أبيه قال: استكرهت امرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فدرأ عنها الحد وأقامه على الشي أصابها .. الحديث". ¬

_ (¬1) وعليه جرى الحافظ ابن حجر في النخبة وشرحها كما يوحي سياقه وأما على المذهب الأونل الذي اخترناه فإن هذا يدخل في عمومه ويأخذ حكمه منه. (¬2) حاشية الأبياري: 32، وانظر التدريب: 127. إلا أنا لم نجد في كلام الحافظ العراقي ما ينص على إخراج المعلق. وفي البحث مجال واسع لتحرير عباراتهم لا نطيل به. (¬3) في "القنوت" من سننه: 2: 65. (¬4) تهذيب السنن للمنذري: 2: 127. (¬5) ق 42 - ب. وفيه كلام البخاري الآتي.

هذا منقطع في موضعين. قال البخاري: "الحجاج بن أرطأة لم يسمع من عبد الجبار بن وائل، وعبد الجبار لم يسمع من أبيه، ولد بعد موت أبيه". وأدرج الحاكم في المنقطع الإسناد الذي ذكر فيه بعض رواته بلفظ مبهم. نحو "رجل" أو "شيخ". إذا لم يعرف اسمه، مثل الحديث الذي رواه الجريري عن أبي العلاء بن عبد اله بن الشخير عن رجلين من بني حنظلة عن شداد بن أوس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أحدنا أن يقول في صلاته: "اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد .. الحديث" (¬1). وهذا يفيدنا التنبه إلى هذا الاصطلاح عند الحاكم خاصة في مؤلفاته الحديثية، أما عبارات أهل الفن، فقد جعلت ذلك "متصلا في إسناده مبهم". قال الحافظ العلائي (¬2): "والتحقيق أن قول الراوي عن رجل ونحوه متصل، ولكن حكمه حكم المنقطع لعدم الاحتجاج به". 2 - المرسل: الإرسال لغة: الاطلاق، أرسلت كذا إذا أطلقته ولم تمنعه. وأما في اصطلاح المحدثين فقد اختلف العلماء في تعريف الحديث ¬

_ (¬1) المعرفة: 27 - 28، والحديث أخرجه الترمذي: 2: 176، والنسائي 1: 192. (¬2) في جامع التحصيل: 108، وانظر شرح الألفية: 1: 73 - 74.

المرسل، بسبب اختلاف موقعه عند المحدثين. والمشهود أن الحديث المرسل: هو ما رفعه التابعي، بأن يقول: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"، سواء كان التابعي كبيرا أو صغيرا. مثاله: ما رواه الشافعي (¬1): "أخبرنا سعيد عن ابن جريج قال أخبرني حميد الأعرج عن مجاهد أنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يظهر من التلبية لبيك اللهم لبيك .. " إلخ. مجاهد تابعي لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر الواسطة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم فالحديث مرسل. وعلى هذا المعنى اقتصر المتأخرون، فلا يطلقون المرسل إلا بهذا المعنى. أما المتقدمون فأكثر ما يطلقون المرسل فيما ذكرناه، وقد يطلقونه بمعنى المنقطع أيضا. وعلى ذلك جرى الخطيب وابن الأثير في المرسل (¬2) وهو مذهب الفقهاء والأصوليين. ومن أمثلة ذلك حديث موسى بن طحلة عن عمر بن الخطاب قال: طإنما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في هذه الأربعة: الحنطة والشعير والزبيب والتمر" (¬3). قال أبو زرعة: "موسى بن طلحة بن عبيد الله عن عمر مرسل" (¬4). وقال يحيى بن معين: "ما روى الشعبي عن عائشة مرسل" (¬5) ¬

_ (¬1) ترتيب مسند الشافعي: 1: 304 - 305. وسعيد هو ابن سالم القداح سمع من ابن جريج. (¬2) الكفاية: 384. وجامع الأصول: 62 - 64. (¬3) سنن الدارقطني: 2: 96. (¬4) المراسيل لأبي حاتم الرازي: 127 وانظر التلخيص الحبير: 179. (¬5) المراسيل: 105.

أي أنه لم يسمعها. وقد بنى على هذا التوسع في المرسل كثير من المصنفين كتبهم في المراسيل، ومن أهمها: 1 - "المراسيل" لأبي حاتم الرازي، بين فيه ما ليس متصلا من الأسانيد. 2 - "جامع التحصيل لأحكام المراسيل" للحافظ خليل بن كليكدي العلائي، تكلم فيه على أنواع الحديث المنقطع، التي جمعناها في هذا المبحث، ثم أورد أسماء المدلسين، ثم الأسانيد المنقطعة. حكم المرسل: اختلف العلماء في الاحتجاج بالحديث المرسل اختلافا كثيران نورد منه أهم الآراء وأشهر الأقوال وهي ثلاثة: المذهب الأول: مذهب جمهور المحدثين وكثير من الفقهاء والأصوليين وهو أن المرسل ضعيف لا يحتج به. ودليلهم على ذلك: أن المحذوف مجهول الحال، لأنه يحتمل أن يكون غير صحابي، وإذا كان كذلك فإن الرواة "حدثوا عن الثقات وغير الثقات، فإذا روى أحدهم حديثا وأرسله لعله أخذه عن غير ثقة". وإن اتفق أن يكون المرسل لا يروي إلا عن ثقة، فالتوثيق مع الابهام غير كاف" (¬1). المذهب الثاني: مذهب الإمام المطلبي الشافعي، وهو -كما أورده في الرسالة (¬2) - قبول المرسل من كبار التابعين بشرط الاعتبار في الحديث المرسل والراوي المرسل: ¬

_ (¬1) انظر ما سبق ص 104. (¬2) 461 - 467، وقارن بعلوم الحديث: 49، وتعليقنا عليه.

أما الاعتبار في الحديث فهو أن يعتضد بواحد من أربعة أمور: 1 - أن يروى مسندا من وجه آخر. 2 - أو يروى مرسلا بمعناه عن راو آخر لم يأخذ عن شيوخ الأول فيدل ذلك على تعدد مخرج الحديث. 3 - أو يوافقه قول بعض الصحابة. 4 - أو يكون قد قال به أكثر أهل العلم. وأما الاعتبار في راوي المرسل فإن يكون الراوي إذا سمى من روى عنه لم يسم مجهولا ولا مرغوبا عنه في الرواية. فإذا وجدت هذه الأمور كانت دلائل على صحة مخرج حديثه، كما قال الشافعي، فيحتج به. المذهب الثالث: مذهب أبي حنيفة ومالك وأصحابهما، وهو أن المرسل من الثقة صحيح يحتج به، ودليلهم على ذلك: 1 - أن الراوي الثقة لا يسعه حكاية الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا لم يكن من سمعه منه ثقة، والظاهر من حال التابعين خاصة أنهم قد أخذو الحديث عن الصحابة وهم عدول. 2 - أن أهل تلك القرون كان غالب حالهم الصدق والعدالة، بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم لهم، فحيث لم نطلع على ما يجرح الراوي فالظاهر أنه عدل مقبول الحديث. وقد دارت حول المسألة مناقشات كثيرة استوفاها دراسة وبحثا الحافظ العلائي في كتابه القيم "جامع التحصيل"، لا نطيل بها. إلا أنا نلاحظ أن الحديث المرسل دائر بين احتمالي الصحة والضعف

فإذا اختلف بقرائن تقويه ينبغي أن يعمل به ويحتجن وذلك فيما نرى منتهى العمل في هذه المسألة بين الأئمة الفقهاء. والله أعلم (¬1). تتمة في مرسل الصحابي: مرسل الصحابي هو ما يرويه الصحابي عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمعه منه، إما لصغر سنه، أو تأخر إسلامه أو غيابه عن شهود ذلك. ومنه كثير من حديث ابن عباس، وعبد الله بن الزبيرن وغيرهما من أحداث الصحابة. مثاله: ما أخرجه أحمد والترمذي: عن ابن عباس قال: مرض أبو طالب فأتته قريش وأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده، وعند رأسه مقعد رجل، فقام أبو جهل فقعد فيه، فقالوا: إن ابن أخيك يقع في آلهتنا. قال: ما شأن قومك يشكونك؟ قال: يا عم أريدهم على كلمة واحدة تدين لهم بها العرب وتؤدي العجم إليهم الجزية. قال: ما هي؟ قال: لا إله إلا الله. فقاموا فقالوا: أجعل الآلهة إلاها واحدا .. " (¬2). وهذا النوع قد تعرض لبحثه علماء أصول الفقه. أما المحدثون فلم يعدوه من المرسل، لأن ذلك في حكم الموصول المسند، لأن روايتهم عن الصحابةن والجهالة بالصحابي غير قادحة، لأن الصحابة كلهم عدول. قال البراء بن عازب رضي الله عنه: "لي كلنا سمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت لنا ضيعة وأشغال، ولكن الناس لم يكونوا يكذبون يومئذ، فيحدث الشاهد الغائب" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر تحقيق ذلك في كتابنا الإمام الترمذي: 203 - 204. (¬2) المسند: 3: 314 - 315. والترمذي وحسنه: 5: 365 - 366. (¬3) أخرجه الخطيب في الكفاية: 385 و 386. وانظر ما سبق في بيان عدالة الصحابة: 121 - 124. وانظر: 24.

لكن اعترض على ذلك بأنه يحتمل أن يكون من رواية الصحابي عن تابعي عن صحابي، وقد وقع ذلك في بعض الأحاديث (¬1). وجهالة التابعي تضر بصحة الحديث، حتى تغالى بعضهم فجعل مرسل الصحابي كمرسل التابيع. غير أن نظر المحدثين الثاقب قد تتبع هذه الأحاديث، فتبين بالاستقراء أن رواية الصحابة عن التابعين نادرة جدا، وأن من روى منهم عن غير الصحابة فقد بين في روايته عمن سمعه. كما تبين أنها تقع غالبا في غير الحديث المرفوع، وإنما وقعت في نقلهم بعض أخبار الماضين، على قلة وندرة، والنادر لا حكم له فتحقق بذلك الحكم بالصحة لمرسل الصحابي. 3 - المعلق: يقع تعليق الحديث من المحدثين كثيرا لا سيما في مصنفاتهم، يقصدون به الاختصار في إيراد الأحاديث، أو تقوية الاستدلال على موضوع الباب بما لا يدخل في شرط الكتاب. والحديث المعلق: هو ما حذف مبتدأ سنده، سواء كان المحذوف واحدا أو أكثر على سبيل التوالي ولو إلى آخر السند (¬2). ¬

_ (¬1) كما سبق في رواية الأكابر عن الأصاغر رقم 14 ص 155 - 156. (¬2) شرح الشرح: 106، ولقط الدرر: 62. وقارن بشرح الألفية: 1: 3 وغيره.

وقولهم: "واحدا أو أكثر" يدخل فيه المعضل الآتي، وقولهم "على سبيل التوالي" خرج به ما إذا حذف البعض وأبقي البعض، فإنه يدخل عندئذ في المنقطع، ولا يكون من المعلق. وقد سمي هذا النوع من الحديث معلقا لأنه بحذف أوله صار كالشيء المقطوع عن الأرض الموصول من الأعلى بالسقف مثلا. وحكم المعلق أنه مردود مثل حكم المنقطع، للجهل بحال المحذوف، غلا أن يقع في كتاب الترمت صحته، كصحيح البخاري ومسلم، فإن العلماء درسوا معلقاتهما وتوصلوا إلى نتيجة علمية خاصة بهما. حكم المعلق في الصحيحين: بيان ذلك بالنسبة للبخاري: ان تعليقه للحديث إما أن يكون بصيغة الجزم، مثل: قال فلان، أو حدث، أو روى، أو ذكر. وإما أن يكون بصيفة لا تفيد الجزم، مثل روي عن فلان، أو يحكى، أو عن فلان، أو يقال. وتسمى صيغة تمريض. أما القسم الأول: وهو المعلق بصيغة الجزم، فغن هذه الصيغة تعتبر حكما بصحة الحديث إلى من علقه عنه فقط، لأنه لا يستجيز أن يجزم بالحديث عنه ونسبته إليه إلا وقد صح عنده أنه قاله. فإذا جزم به عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابي عنه فهو صحيح. أما إذا كان الذي علق الحديث عنه دون الصحابة فلا يحكم بصحة الحديث حكما مطلقا، بل يتوقف على النظر فيمن أبرز من رجاله، وفي غير ذلك مما يشترط لصحة الحديث. فتتنوع هذه الأحاديث إلى الصحيح وغيره، بحسب ذلك. مثال الصحيح: قوله في الصوم (¬1): وقال صلة عن عمار: من ¬

_ (¬1): 3: 26 - 27. ووصله الترمذي: 3: 70.

صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم". وصلة هو ابن زفر من فضلاء التابعين والحديث صحيح صححه الترمذي وغيره. ومثال الضعيف: قوله في الزكاة: (¬1) "وقال طاووس: قال معاذ بن جبل لأهل اليمن: ائتوني بعرض ثياب خميص، أو ليس في الصدقة". إسناده إلى طاووس صحيح، لكنه لم يسمع من معاذ، فالإسناد منقطع، غير صحيح. ومن هذا البيان يتضح خطؤ علي بن حزم الظاهري في رده لحديث البخاري (¬2) قال: "وقال هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثنا عطية بن قيس الكلابي حدثنا عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال حدثني أبو عمار الأشعري أو أبو مالك الأشعري، والله ما كذبني، سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر، والحرير، والخمر، والمعازف ... ". فزعم ابن حزم أنه وإن رواه البخاري فهو غير صحيح، لأن البخاري قال فيه: "قال هشام بن عمار". فهو منقطع ضعيف، واستروح ابن حزم إلى ذلك من أجل تقرير مذهبه الفاسد في إباحة الملاهي، وزعمه أنه لم يصح في تحريمها حديث. قال أبو عمرو بن الصلاح في شرحه لصحيح مسلم (¬3): "وهذا ¬

_ (¬1): 2: 116. (¬2) في الأشربة: "باب فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه" 7: 106. (¬3) الذي سماه "صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط، وحمايته من الاسقاط والسقط": ق 4 ب-5 آ. وعنه النووي بحروفه في شرح مسلم: 1: 18 - 19. وانظر للتوسع إغاثة اللهفان: 139 - 140، وفتح الباري: 10: 41 - 43.

خطأ من وجوه والله أعلم. أحدها: أنه لا انقطاع في هذا أصلا من جهة أن البخاري لقي هشاما وسمع منه .... الثاني: أن هذا الحديث بعينه معروف الاتصال بصريح لفظه من غير جهة البخاري. الثالث: أنه وإن كان ذلك انقطاعا فمثل ذلك في الكتابين، غير ملحق بالانقطاع القادح، لما عرف من عادتهما وشرطهما. وذكرهما ذلك في كتاب موضوع لذكر الصحيح خاصة، فلن يستجيزا فيه الجزم المذكور من غير ثبت وثبوت ... ". وأما القسم الثاني من المعلق عند البخاري: وهو ما كان بغير صيغة الجزم (¬1) فهذه الصيغة ليست حكما بصحته عمن رواه عنه، لأنها تستعمل في الحديث الصحيح وتستعمل في الضعيف أيضا. مثال الصحيح: قول البخاري في الصلاة: "ويذكر عن عبد الله ابن السائب قال: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنون في الصبح، حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر عيسى أخذته سعلة فركع". وهو حديث صحيح أخرجه مسلم (¬2). ومثال الضعيف: قوله في الوصايا: "ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية". وقد رواه الترمذي ¬

_ (¬1) ذكر ابن الصلاح أنه لم يجد في عباراتهم إطلاق المعلق على هذا القسم، لكن وجدنا المتأخرين استعملوا المعلق فيه أيضا كما نبه الحافظ العراقي في نكتة طبع مصر: 93 - 94. وانظر هدي الساري: 1: 12 - 13، والتدريب: 137، فجرينا على ذلك. (¬2) البخاري: 1: 154 ومسلم: 2: 39.

موصولا من طريق الحارث الأعور عن علي، والحارث ضعيف (¬1). وقد عني العلماء بمعلقات البخاري وبحثوا فيها كثيرا، ولعل أوفى بحث فيها هو بحث الحافظ ابن حجر في الكتاب الذي أفرده لهذه الناحية الهامة، وسماه "تعليق التعليق". وأما المعلقات في صحيح: فقد بحثت وفرغ منها وتحققت صحتها وقد أوردها الحافظ أبو علي الغساني (¬2)، وبلغ بها أربعة عشر حديثا، ثم تبعه في ذكرها ابن الصلاح في مطلع شرحه لصحيح مسلم (¬3) وحقق أنها اثنا عشر حديثا فقط. ثم قال: "ولا شيء من هذا والحمد لله مخرج لما وجد ذلك فيه من حيز الصحيح، وهي موصولة من جهات صحيحة، لا سيما ما كان منها مذكروا على وجه المتابعة، ففي نفس الكتاب وصلها، فاكتفي بكون ذلك معروفا عند أهل الحديث". 4 - المعضل: المعضل: مأخوذ -على الراجح- من قول أهل اللغة: أعضله، أي أعياء. وفي اصطلاح المحدثين: هو ما سقط من إسناده اثنان أو أكثر في موضع واحد، سواء كان في أول السند أو وسطه أو منتهاه. ¬

_ (¬1) البخاري: ج 4 ص 5، والترمذي ج 2 ص 16. (¬2) في كتابه القيم "تقييد المهمل وتمييز المشكل" ق. 520 - 554. (¬3) ق 4 ب. ونقل النووي كلامه بنصه في شرح مسلم: 1: 16 - 18.

سمي بذلك لأن الحديث بسقوط واحد يصير مردودا، فإذا سقط منه اثنان أو أكثر كان أمره أشد، فكأن المحدث بهذا الإسقاط أعضله، أي أعياه فلم ينتفع به من يرويه عنه: ويدخل في المعضل ما سقط من أول سنده اثنان فصاعدا، وهذا يدخل في المعلق كما سبق، فيكون بينهما عموم وخصوص من وه، فإنهما يجتمعان فيما إذا حذف مصنف من مبادئ السند اثنين فصاعدا، ويفترقان إذا وقع الحذف لاثنين فصاعدا في غير أول السند، فإنه يسمى معضلا، ولا يكون معلقا. ومن أمثلة المعضل: 1 - ما رواه مالك عن معاذ بن جبل قال: آخر ما أوصاني به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وضعت رجلي في الغرز أن قال: "حسن خلقك للناس يا معاذ بن جبل". وبين مالك ومعاذ أكثر من راويين، فهو معضل (¬1). 2 - حديث مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "استقيموا ولن تحصوا، واعملوا، وخير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن" (¬2). فقد سقط رجال السند بين مالك وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وهم رجلان على الأقل التابعي والصحابي، فهو معضل، كما أنه يصلح أن يسمى معلقا لأن السقط وقع في أول السند. ¬

_ (¬1) لكن معناه صحيح مسند، انظر الموطأ بشرحه تنوير الحوالك: 2: 209 والتقصي: 249. (¬2) الموطأ وشرحه تنوير الحوالك: 1: 43. قال ابن عبد البر في التقصي: 250: "هذا يستند ويتصل من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق صحاح.

وجعل الحاكم النيسابوري من المعضل نوعا ثانيا هو الحديث الذي يرويه الراوي موقوفا على التابعي لا يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يوجد ذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متصلا. ومثل له بما رواه الأعمش عن الشعبي قال: "يقال للرجل يوم القيامة: عملت كذا وكذا! . فيقول ما عملته! . فيختم على فيه فتنطق جوارحه، أو قال ينطق لسانه فيقول لجوارحه: "أبعدكن الله، ما خاصمت إلا فيكن". فقد أعضله الأعمش، وهو حديث صحيح أخرجه مسلم (¬1) من طريق أخرى مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن الصلاح: "هذا جيد حسن، لأن هذا الانقطاع بواحد مضموما إلى الوقف يشتمل على الانقطاع باثنين: الصحابي ورسول صلى الله عليه وسلم: فذلك باستحقاق اسم الاعضال أولى". 5 - المدلس: هذا النوع مهم على غاية من الخطورة، لما فيه من الغموض والخفاء. والتدليس في اللغة مشتق من الدلس، بالتحريك، وهو اختلاط الظلام بالنور، سمي المدلس بذلك لما فيه من الخفاء والتغطية. ¬

_ (¬1) في الزهد: 8: 216. وانظر المعرفة: 37 - 38.

وقد قسم العلماء الحديث المدلس أقساما عدة، تنتهي إلى قسمين رئيسيين هما: تدليس الإسناد وتدليس الشيوخ. القسم الأول: تدليس الإسناد: وهو على أربعة أضرب: الأول: تدليس الإسقاط (¬1) وهو أن يروي المحدث عمن لقيه وسمعه ما لم يسمعه منه موهما أنه سمعه منه، أو عمن لقيه ولم يسمع منه موهما أنه لقيه وسمع منه. كأن يقول: عن فلان، أو أن فلانا قال كذا، أو قال فلان أو حدث بكذا .. ونحو ذلك مما يوهم السماع ولا يصرح به. وقد يكون بينهما واحدا وقد يكون أكثر. أما إذا أتى بلفظ صريح في السماع، مثل: حدثني، أو سمعت فقد خرج عن كونه مدلسا، وصار كذابا مفروغا منه. لذل يعترف المدلس بتدليسه إذا استفسر عنه ووقع له من ينفر عن سماعه، بل كان كثير منهم يبادر من نفسه فيبين ما دلسه لئلا يغتر به الناس. مثال هذا المدلس: الحديث الذي رواه أبو عوانة عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فلان في النار ينادي: يا حنان يا منان". قال أبو عوانة: قلت للأعمش: سمعت هذا من إبراهيم؟ . قال: لا، حدثني به حكيم بن جبير ع نه". فقد دلس الأعمش الحديث عن إبراهيم، فلما استفسر بين الواسطة بينه وبينه. ¬

_ (¬1) كذا استحسن تسميته الإبياري في حاشيته: 35. وأدخل فيه اب الصلاح من حدث عمن عاصره ولم يلقه موهما أنه قد لقيه وسمعه منه. ويأتي مزيد تفصيل لذلك في بحث المرسل الخفي رقم 67 ص 386 - 388.

الضرب الثاني: تدليس التسوية وهو أن يروي المدلس حديثا عن ضعيف بين ثقتين لقي أحدهما الآخر، فيسقط الضعيف ويجعل بين الثقتين عبارة موهمة، فيستوي الإسناد كله ثقات بحسب الظاهر لمن لم يخبر هذا الشأن. وقد سماه القدماء "تجويدا" لأنه ذكر من فيه من الأجود وحذف غيرهم. وممن كان يعرف بذلك ويكثر منه: بقية بن الوليد الحمصي، والوليد بن مسلم الدمشقي، حتى تكلم فيهما بسبب ذلك: قال أبو مسهر: "أحاديث بقية ليست نقية، فكن منها على تقية" (¬1). وقال أبو مسهر أيضا "كان الوليد بن مسلم يحدث بأحاديث الأوزاعي عن الكذابين ثم يدلسها عنهم" (¬2). وقال الحافظ ابن حجر في الوليد: "ثقة، لكنه كثير التدليس والتسوية" (¬3). الضرب الثالث من تدليس الإسناد: تدليس القطع. وهو أن يقطع اتصال أداة الرواية بالراوي. مثاله: ما قاله علي بن خشرم: كنا عند ابن عيينة، فقال: "الزهري" فقيل له: "حدثك؟ ". فسكت! ثم قال "الزهري" فقيل له: سمعته منه؟ فقال: "لم أسمعه منه ولا ممن سمعه منه، حدثني عبد الرزاق عن معمر عن الزهري" (¬4). ¬

_ (¬1) ميزان الاعتدال في نقد الرجال للذهبي: 1: 332. (¬2) شرح الألفية: 1: 88. (¬3) تقريب التهذيب: 2: 336، وانظر ميزان الاعتدال: 4: 348. (¬4) علوم الحديث: 66، لكن في المعرفة: 105، بلفظ "عن الزهري". وعليه يكون من تدليس الإسقاط.

فهو مثل تدليس الاسقاط مع اسقاط أداة الرواية أيضا. الرابع من تدليس الإسناد: تدليس العطف: وهو أن يصرح بالتحديث عن شيخ له، ويعطف عليه شيخا آخر لم يسمع منه ذلك المروي. قال الحاكم: حدثونا أن جماعة من أصحاب هشيم اجتمعوا يوما على أن لا يأخذوا منه التدليس، ففطن لذلك فكان يقول في كل حديث يذكره: "حدثنا حصين، ومغيرة عن إبراهيم" فلما فرغ قال لهم: "هل دلست لكم اليوم؟ ". فقالوا: لا. فقال: "لم أسمع من مغيرة حرفا مما ذكرته، إنما قلت: حدثني حصين ومغيرة غير مسموع لي". أي أنه أضمر في الكلام محذوفا كما فسر عبارته (¬1). وحكم تدليس الإسناد بأضربه كلها: أنه مكروه جدا، ذمه أكثر العلماء. قال شعبة بن الحجاج: "التدليس أخو الكذب". وقال سليمان بن داود المنقري: "التدليس والغش والغرور والخداع والكذب يحشر يوم تبلى السرائر في نفاذ واحد". وقال عبد الله بن المبارك يذم المدلس: دلس الناس أحاديثه ... والله لا يقبل تدليسا وشر أنواع التدليس تدليس التسوة، لأن الثقة الأول ربما لا يكون معروفا بالتدليس فيجده الناظر في السند بعد التسوية قد رواه عن ثقة ¬

_ (¬1) قارن تفسيرنا هذا بشرح الزرقاني وحاشية الأجهوري: 61.

آخر فيحكم له بالصحة، وفي ذلك غرر شديد، قال الحافظ العلائي (¬1) "ولا ريب في تضعيف من أكثر من هذا النوع". وأما حكم حديث المدلس تدليس الإسناد: فقد اختلفت فيه آراء العلماء، فمنهم من شدد فجرحه ولم يقبل حديثه مطلقا، ومنهم متساهل يقبله مطلقا. والصحيح الذي عليه جمهور الأئمة التفصيل، وهو أن ما رواه المدلس الثقة بلفظ محتمل لم يبين فيه السماع والاتصال حكمه حكم المنقطع مردود، وما رواه بلفظ مبين للاتصال نحو "سمعت، وحدثنا، وأخبرنا" فهو متصل، يحتج به إذا استوفى باقي السند والمتن شروط الاحتجاج. وهذا لأن التدليس ليس كذبا وإنما هو ضرب من الإيهام بلفظ محتمل (¬2). فإذا زال الاحتمال كان الإسناد متصلا. وقد أخذ بهذا جمهور الفقهاء، لا سيما الشافعي، فإنه أجراه فيمن عرفناه دلس مرة (¬3). ويدل على صحة ذلك أيضا أن في الصحيحين وغيرهما من الكتب المعتمدة كثيرا من أحاديث هذا الضرب مما صرح فيه بالسماع، كقتادةن والأعمش، وسفيان الثوري، وابن عيينة، وهشيم بن بشير، وغيرهم. فتصحيح الأئمة لأحاديثهم التي بينوا فيها اتصال السند يدل على ما قلناه (¬4). ¬

_ (¬1) جامع التحصيل: 117. وانظر شرح الألفية: 1: 88. (¬2) علوم الحديث: 67 - 68، وجامع التحصيل: 112. وغيرهما. (¬3) كما هو صريح كلامه في الرسالة: 379 - 380. أما قول بعض الأفاضل: "وكان الشافعي يرد مطلقا من عرف بالتدليس في الإسناد ولو مرة واحدة". أخذا من ابن كثير في اختصاره لعلوم الحديث. ففيه نظر والصواب المنصوص عليه في سائر مراجع هذا الفن هو ما ذكرنا أعلاه. (¬4) وفي الموضوع مناقشات أخرى هامة سوف نستوفيها إن شاء الله في كتابنا في الجرح والتعديل.

القسم الثاني: تدليس الشيوخ وهو أن يروي عن شيخ حديثا سمعه منه، فيسميه، أو يكنيه، أو ينسبه، أو يصفه بما لا يعرف به كي لا يعرف. مثاله: أن الحارث بن أبي أسامة روى عن الحافظ أبي بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان الشهير بابن أبي الدنيا، والحارث أكبر منه فدلسه فمرة قال: عبد الله بن عبيد، ومرة قال: عبد الله بن سفيان، ومرة: أبو بكر بن سفيان ... يدلسه (¬1). وكذلك فعل الخطيب البغدادي في كثير من شيوخه، فقد روى في كتابه "الرحلة في طلب الحديث" عن الحسن بن محمد الخلال، ثم دلسه فسماه الحسن بن أبي طالب (¬2). ووجدناه يروي فيه عن شيخه محمد بن الحسين بن الفضل القطان، ثم يقول: "ثنا ابن الفضل" ويقول "محمد بن الحسين" (¬3) وهو هو دلسه. ويقع هذا النوع كثيرا في كتب المتأخرين. وقد استوفاه العلماء وبينوا هذه الأسماء فيما صنفوه من كتب في فن "من عرف بأسماء ونعوت متعددة" (¬4). وحكم هذا القسم في الكراهة أخف إجمالا من القسم السابق، لأن الشيخ الذي دلس اسمه يمكن أن يعرفه الماهر الخبير بالرواة وأسمائهم إلا أن فاعل هذا التدليس يعرض الشخص المروي عنه للتضييع إذا لم يتوصل إلى معرفته، وذلك يجر إلى ضياع الحديث المروي أيضا. ثم إن الكراهة في هذا القسم تختلف باختلاف المقصد الحامل على ¬

_ (¬1) فتح المغيث: 79. (¬2) الرحلة بتحقيقنا رقم 10 و 43. (¬3) الرحلة رقم: 16، 18، 51. (¬4) السابق برقم 19 ص 166 - 167.

ذلك: فشر ذلك إذا كان المروي عنه ضعيفا، فيدلسه حتى لا تظهر روايته عن الضعفاء، أو يتوهم أنه راو من الثقات يوافق اسمه وكنيته. وقد يكون الحامل على ذلك كون المروي عنه صغيرا في السن. أو تأخرت وفاته وشاركه فيه من هو دونه، وقد يكون الحامل على ذلك إيهام كثرة الشيوخ. وكثيرا ما يقصد المحدث من ذلك امتحان أذهان الطلاب واختبار المشتغلين بالعلم، ولفت نظرهم إلى حسن التأمل في الرواة وأحوالهم وأنسابهم، وغير ذلك. وذلك فيما يبدو لنا من مقصد الخطيب في تدليسه، فإنه كثير الشيوخ جدا، وتدليسه كان لهذا الغرض، والأمثلة التي أوردناها من كلامه قد أمكن كشف الراوي فيها بالتأمل والنظر. 6 - المرسل الخفي: هذا نوع مهم عظيم الفائدة، دقيق المسلك، إنما يدركه نقاد الحديث وجهابذته، فإن الإسناد إذا عرض على كثير من العلماء قد يعتر بظاهره ولا يهتدي لما فيه من الانقطاع أو الاعضال أو الارسال. وتختلف آراء العلماء في تعريف المرسل الخفي خلافا قويا متشابكا. والمعتمد أن المرسل الخفي هو الحديث الذي رواه الراوي عمن عاصره ولم يسمع مه، ولم يلقه (¬1). ¬

_ (¬1) وهو اختيار الحافظ ابن حجر وتحقيقه في شرح النخبة: 29.

وهو نوع من المنقطع، إلا أن الانقطاع فيه خفي، لما أن تعاصر الراويين يوهم اتصال السند بينهما. ومن أمثلة المرسل الخفي ما رواه الترمذي في العلل الكبير (¬1): "حدثنا إبراهيم بن عبد الله الهروي نا هشيم أنا يونس بن عبيد عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مطل الغني ظلم، وإذا أحلت على ملئ فاتبعه، ولا تبع بيعتين في بيعة". فهذا الإسناد ظاهره الاتصال، يونس بن عبيد أدرك نافعا وعاصره معاصرة حتى عد فيمن سمع من نافع، لكن أئمة النقد قالوا إنه لم يسمع منه، قال البخاري: "ما أرى يونس بن عبيد سمع من نافع". وهو رأي ابن معين وأحمد بن حنبل وأبي حاتم أيضا (¬2). فهو من المرسل الخفي. وأما الفرق بين المرسل الخفي وبين المدلس فوقع فيه كلام كثير لأئمة أصول الحديث، واختلفت فيه وجهاتهم، تبعا لاختلافهم حول ما يعتبر مندرجا في المدلس (¬3). ونقدم إليك ههنا حاضل التفريق بينهما، وذلك من وجهين: الأول: أن المدلس يروي عمن سمع منه أو لقيه ما لم يسمع منه بصيغة موهمة للسماع، وأما الرمسل فإنه يروي عمن لم يسمع منه ولم يلقه إنما عاصره فقط. فهما متباينان. الثاني: إن التدليس إيهام سماع ما لم يسمع، وليس في الارسال إيهام، فلو بين المدلس أنه لم يسمع الحديث من الذي دلسه عنه لصار ¬

_ (¬1) ق 36 - آ. (¬2) انظر جامع التحصيل: 377، والتهذيب: 11: 445. (¬3) ولعل ذلك دعا بعض الكاتبين إلى إغفال المرسل الخفي، ومنهم من جعله داخلا في المدلس! ! ونرجو أن نستوفي هذه النقطة الشائكة بتفصيل واف في مقام آخر إن شاء الله.

الحديث مرسلا لا مدلسا، نبه على ذلك النقاد المحققون كالخطيب البغدادي وابن عبد البر (¬1). وكذلك فيما يرى من كان معروفا من أمره أن من يحدث عنه لم يسمع منه لاشتهار ذلك، أو اشتهار أنه سمع منه أحاديث، بعينها إذا لم يقصد الإيهام. فهذا ينبغي أن يكون مرسلا خفيا لا مدلسا. ويدل على ذلك أنهم لم يذكروا هذا النوع في المدلسين ولم يصفهم بالتدليس تلامذتهم ومن عرفهم من علماء الجرح والتعديل. ومن هنا ميز علماء الرجال بين الفريقين كما وجدناه في صنيع الحافظ العلائي وغيره، فإنهم ينبهون على المدلس أنه مدلس، ويصفون غيره بأنه "يرسل"، أو "كثير الإرسال". وسائل معرفة الإرسال: وقد عني العلماء بكشف هذا النوع لما فيه من الخفاء، ووضعوا لمعرفته ضوابط دقيقة، فصلها الحافظ العلائي (¬2)، وأخذ بتفصيله الحافظ العراقي وغيره، بعد تنقيحها وتحريرها. وهي: 1 - أن يعرف عدم اللقاء بينهما بنص بعض الأئمة على ذلك، أو يعرف بوجه صحيح من البحث في تواريح الرواة. مثل حديث عمر بن ¬

_ (¬1) الكفاية: 357 والتمهيدك 1: 15 - 19 و 27. وهذا هو الفرق بين المدلس والمرسل الخفي عند من جعلهما يشملان رواية الراوي عمن لقيه أو عاصره ولم يلقه. كما أفادنا فضيلة الأستاذ الشيخ عبد الله سراج الدين حفظه المولى، ويؤيده تقييد ابن الصلاح المدلس بالإيهام حيث قال: "هو أن يروي عمن لقيه ما لم يسمعه منه موهما أنه سمعه منه، أو عمن عاصره ولم يلقه موهما أنه قد لقيه وسمعه منه". بينما لم يقيد المرسل الخفي بذلك، وإنما أحال على أنه يعرف فيه الإرسال "بمعرفة عدم السماع من الراوي فيه أو عدم اللقاء". (¬2) في جامع التحصيل: 145 وما بعد. ونحوه في شرح الألفية: 4: 25 - 26.

عبد العزيز عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "رحم الله حارس الحرس". أخرجه ابن ماجه (¬1). قال المزي في الأطراف: إن عمر لم يلق عبة. 2 - أن يعرف عدم السماع منه مطلقا بنص إمام على ذلك، أو نحوه، كأن يصرح الراوي نفسه بذلك كما سبق (¬2) أن أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود لم يسمع أباه. 3 - أن يعرف عدم سماعه منه لذلك الحديث فقط، وإن سمع منه غيره، إما بنص إمام أو أخباره عن نفسه بذلك في بعض طرق الحديث، أو نحو ذلك. 4 - أن يرد في بعض طرق الحديث زيادة اسم راو بينهما، كحديث رواه عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن زيد بن يثيع عن حذيفة مرفوعا: "إن وليتموها أبا بكر فقوي أمين". هذا منقطع في موضعين، لأنه روي عن عبد الرزاق قال: حدثني النعمان بن أبي شيبة عن الثوري، وروي عن الثوري عن شريك عن أبي إسحاق. إلا أن في هذا المسلك الأخير لمعرفة الارسال إشكالا كبيرا! ! ، إذا يمكن أن يعارض بكونه من المزيد في متصل الأسانيد لا من المرسل الخفي. ووجه ذلك أننا لم نعرف عدم السماع بدليل خارجي، وإنما اكتشفناه بورود الواسطة بين الرجلين في الإسناد، فيمكن أن يكونا قد التقيا وسمع الراوي ممن فوق المحذوف، فيكون السند متصلا بهما، ¬

_ (¬1) في الجهد "فضل الحرس"، برقم 2769 ص 925. (¬2) ص 161. وانظر اللطائف للحافظ أبي موسى المديني ق 96 ب.

ورواية الزيادة من باب المزيد في متصل الأسانيد (¬1). ويمكن حل هذا الإشكال -في رأينا- بمنهج دقيق تتبعه، وهو أن نلاحظ في المزيد في متصل الأسانيد ثبوت السماع تاريخيا بين الراويين المتواليين في الإسناد المحذوف، أما المرسل الخفي فليس لدينا ما يثبت أنه قد وقع السماع بين الراويين اللذين حكمنا على رواية أحدهما عن الآخر بالإرسال. وفرق آخر يتعلق بصيغة الرواية، فإنها في المزيد في متصل الأسانيد تثبت سماع الراوي للحديث ممن فوقه في الإسناد الخالي من الزيادة صراحة، أو بالقرائن الدالة على السماع. أما صيغة الرواية في المرسل الخفي فإنها لا تثبت سماعه منه في الإسناد الناقص، فإذا جاءت رواية بزيادة واسطة بينهما كان الحكم لها. والله تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) كما سبق الإشارة إليه في ص 365 فانظره لزاما.

نتائج مهمة

نتائج مهمة: هذه أنواع الحديث المتفرعة عن البحث في الإسناد من حيث اتصال حلقاته أو انقطاعها، درسناها في هذا الباب مقترنة ببعضها البعض على وفق منهج النظرية التي قام عليها هذا الكتاب، وقد بدت من هذه الطريقة نتائج هامة جدا تتصل بموضوع هذا العلم وغايته اتصالا وثيقا، نسجل هنا أهمها فيما يلي: أولا: إن دراسة إسناد الحديث من حيث الاتصال قد وضعت له قواعد تلقي الضوء على كافة أحوال الاتصال، وتتناول بالبحث سائر

وجوهه، فلم يكتف المحدثون بنوع عام واحد هو "المتصل"، لكن جعلوا في موضوع البحث أنواعا خاصة لها سمتها المميزة، ولها أثرها في القبول والرد، فنظروا إلى السند المتصل من حيث انتهاؤه، فأفردوا الحديث الذي ينتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بنوع خاص هو "المسند" لأهمية الحديث المرفوع. ونظر المحدثون إلى صيغة الاتصال، فخصوا بالدراسة ما كان متصلا بصيغة محتملة "المعنعن"، و"المؤنن"، وما يشابههما، وبينوا شرط الاتصال في هذه الصيغ، وهو شرط كفيل بأن يدرأن احتمال الانقطاع الذي قد ينطوي في هذه الصيغ. ونظروا إلى مسافة السند التي تم بها الاتصال، فإذا كانت الوسائط قليلة فهو "العالي" وميزوه عن ضده وهو "النازل" وإلى حال الرواة عند الأداء "المسلسل" لما فيهما من الإشارة إلى القصد الأساسي وهو قوه السند في "العالي" ومزيد الضبط وقوة الاتصال في "المسلسل" حسبما شرحناه. ثم كان من دقة نظرهم التنبيه على ذلك البحث الخطير. "المزيد في متصل الأسانيد". وتجد نظرة المحدثين الثاقبة تضبط هذا البحث بضابط دقيق ينأى به عن الاندراج في احتمالات الارسال، أو تعدد السماع للحديث من وجهين وذلك يثبت بجلاء أن الدراسة التحليلية لم تشغل أهل الحديث من وجهين وذلك يثبت بجلاء أن الدراسة التحليلية لم تشغل أهل الحديث عن النظرة الشاملة التي تحسن ربط الأنواع ببعضها، وهي النظرة التي عبر عنها كتابنا تعبيرا كاملا إن شاء الله بهذا المنهج الذي نظمنا به أبحاث هذا العلم. ثانيا: إن تفصيل أنواع الانقطاع جاءت كذلك شامل لكل أوجه السقط في الإسناد، فهناك بحث للانقطاع من حيث الموضع الذي وقع فيه السقط فهو: "إما أن يكون من مبادئ السند من مصنف أو من آخره بعد التابعي، أو غير ذلك. فالأول: المعلق، والثاني: المرسل،

والثالث: إن كان باثنين فصاعدا مع التوالي فهو المعضل، وإلا فالمنقطع". فتناولوا بذلك كل مواضع السقط. وهناك بحث لانقطاع السند من حيث طبيعة الانقطاع في الظهور أو الخفاء، فإنه قد يكون واضحا أو خفيا، فالأول يدرك بعدم التلاقي بينهما حيث لم يجمعهما عصر واحد، وذلك ما يتوصل إليه بعلم تاريخ الرواة، والثاني الخفي وهو المدلس ويرد بصيغة تحتمل اللقي والسماع كعن، وقال، والمرسل الخفي ممن معاصر لم يلق من حدث عنه (¬1). وفي هذين النوعين: المدلس، والمرسل الخفي، تبدو دقة المحدثين المنهجية، ويظهر ما انتهوا إليه من غاية البراعة والحذق، حيث فرقوا بين المدلس وبين المرسل الخفي بالنظر إلى طبيعة الأداء في كل ومقصده، فمن قصد التعمية والتغطية وإيهام السماع فهو مدلس مذموم، ومن قصد مجرد الرواية حسبما يحضره في المجلس فهذا العمل منه إرسال خفي، لذلك استثنى الحاكم هذا النوع في كتابه معرفة علوم الحديث فقال: "ففي هؤلاء الأئمة المذكورين بالتدليس من التابعين جماعة وأتباعهم، غير أني لم أذكرهم فإن غرضهم من ذكر الرواية أن يدعوا إلى الله عز وجل، فكانوا يقولون: "قال فلان"، لبعض الصحابة، فأما غير التابعين فأغراضهم فيه مختلفة". ثالثا: أن الحكم باتصال السند أو انقطاعه لا يعتمد فيه نقاد الحديث على توالي الفترات الزمنية للرواة ليكون الحديث متصلا، أو على وجود ثغرات زمنية بين الرواي ومن فوقه فيكون منقطعا. ولقد جانب التوفيق بعض المستشرقين حيث زعم أن المحدثين اكتفوا بمجرد توالي فترات الزمن لرواة في حكمهم باتصال السند. وهذه أبحاث ¬

_ (¬1) انظر هذا السبر للانقطاع وأنواعه في شرح النخبة: 36 - 30.

التدليس والإرسال الخفي تقيم الحجج والبراهين القاطعة على أن المحدثين لم يغتروا أبدًا بعامل اتصال الزمن لحاية الرواة، بل جعلوا العمدة في اتصال السند امرًا أدق من ذلك وهو تحقق اللقاء والسماع، وثبوت المجالسة والأخذ، كما سبق بيانه في المعنعن (¬1). ثم لم يكتف المحدثون بالسماع والأخذ حتى توغلوا في البحث والنقد إلى ما يرويه المحدث عمن سمع منه، هل كل ما يحدث به عنه سمعه منه أو حدث عنه بأشياء سمعها من غيره عنه، وأوهم أنه سمعها منه، وهو المدلس، وبذلك استوفت نظرة المحدثين كافة اوجه الاحتمالات في اتصال الحديث وانقطاعه، لتأتي أحكامهم عليه في غاية الصحة وادقة والسداد. ¬

_ (¬1) رقم 56 ص 350 - 353. وانظر ذكذلك ما سبق في رواية الأبناء. عن الآباء رقم 17 ص 161 وتعليقنا عليها.

الباب السابع: في العلوم المشتركة بين السند والمتن

الباب السابع: في العلوم المشتركة بين السند والمتن وتنشأ من مقابلة الحديث سندا ومتنا مع غيره من الأحاديث والروايات الأخرى، ليعرف تفرد الحديث وتعدده، ثم يعرف اتفاقه مع غيره أو اختلافه. وقد حرص العلماء على التحري والبحث من أجل ذلك، وسموا الطريق الموصلة إلى معرفة ذلك بـ "الاعتبار". والاعتبار: هو أن نأتي إلى حديث لبعض الرواة فنتتبع الطرق والأسانيد لنعرف هل شاركه في رواية ذلك الحديث راو غيره من الرواة بأن يرويه لفظه أو بمعناه، من نفس السند أو من طريق صحابي آخر، أو لم يشاركه في روايته أحد لا في اللفظ ولا في المعنى. فالاعتبار إذن ليس قسما مقابلا للمتابعات والشواهد كما قد يتوهم، إنما هو البحث في الأسانيد لمعرفة وجود المتابعات والشواهد، أو عدم وجودها، أي لمعرفة تدد إسناد الحيث أو عدم تعدده، ولمعرفة ورود حديث آخر بمعناه أو عدم ذلك.

وقد اجتهد المحثون في البحث والاستقصاء عن تعدد الأسانيد والروايات، وبذلوا في سبيل ذلك غاية ما في وسعهم، لما يأتي من وراء ذلك من النتائج العلمية الهامة، وما يتفرع عليها من الأنواع الحديثية. ذلك أننا بالنظر في الطرق والأحاديث الواردة في المسألة أو الأحاديث التي تتعلق بها نعرف أن الحديث قد تفرد به بعض الرواة أو تعددت رواته، وفي حال التعدد نعلم أنهم قد اتفقوا في روايته أو اختلفوا، فيتحصل من هذا السبر ثلاثة أحوال عامة يتفرع منها كثير من أنواع علوم الحديث، ندرسها في ثلاثة فصول: الفصل الأول: في تفرد الحيث. الفصل الثاني: في تعدد رواية الحديث مع اتفاقها. الفصل الثالث: في اختلاف رواية الحديث. هذا وقد اعتبرنا أنواع علوم الحديث التي احتوتها مباحث هذا الباب مشتركة بين السند والمتن لأنها تنشأ من بحث يشترك فيه السند والمتثن، فإن وصف التفرد أو التعدد وصف مشترك يتصف به راوي الحديث حيث لا يرويه غيره بلفظه أو معناه. ويتصف به المتن أيضا حيث ينظر إليه بأنه لم يرو إلا من طريق واحد أو روي بأكثر من طريق بلفظه أو بمعناه، متفقا في روايته أو غير متفق. فضلا عن الانقسام الجلي في جملة كبيرة من أنواع هذا الباب إلى ما يقع في السند تارة وفي المتن أخرى كزيادة الثقات وما يليها.

الفصل الأول: في تفرد الحديث

الفصل الأول: في تفرد الحديث ويتفرع عنه نوعان من أنواع علوم الحديث هما: أ- الغريب. ب- الفرد. 1 - الغريب: الغريب لغة، هو المنفرد، أو البعيد عن أقاربه. وعند المحدثين: هو الحديث الذي تفرد به راويه، سواء تفرد به عن إمام يجمع حديثه أو عن راو غير إمام (¬1). سمي بذلك لأنه كالغريب الوحيد الذي لا أهل عنده، أو لبعده عن مرتبة الشهةر فضلا عن التواتر (¬2). ¬

_ (¬1) انظر في تفرد الصحابي شرح الشرح: 47 - 48 ولقط الدرر: 37. (¬2) التعليق على توضيح الأفكار لأستاذنا الشيخ محمد محي الدين عبد الحميد: 2: 402.

وقد قسم العلماء الغريب بحسب موضع الغرابة فيه أقساما كثيرة، ترجع إلى قسمين: اأول: الغريب متنا وإسنادا. وهو الحديث الذي لا يروى إلا من وجه واحد. مثاله: حديث محمد بن فضيل عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم" متفق عليه (¬1). فهذا الحديث تفرد به أبو هريرة، ثم تفرد به عنه أبو زرعة، وتفرد به عن أبي زرعة عمارة وتفرد به أيضا عن عمارة محمد بن فضيل (¬2). ويعبر الترمذي عن هذا القسمبمثل قوله: "غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه". القسم الثاني: الغريب إسنادا لامتنا. وهو الحديث الذي اشتهر بوروده من عدة طرق عن راو، أو عن صحابي أو عدة رواة، ثم تفرد به راو من وجه آخر غير ما اشتهر به الحديث. مثاله كما ذكر الترمذي في العلل: حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الكافر يأكل في سبعة أمعاء، والمؤمن يأكل في معي واحد". قال الحافظ ابن رجب (¬3): "فهذا المتن معروف عن النبي ¬

_ (¬1) البخاري في آخر صحيحه، ومسلم: 8: 70. (¬2) انظر فتح الباري في آخره. (¬3) في شرح علل الترمذي: 440 - 441.

صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة، وقد خرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة، ومن حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما حديث أبي موسى هذا فخرجه مسلم عن أبي كريب، وقد استغربه غير واحد من هذا الوجه، وذكروا أن أبا كريب تفرد به، منهم البخاري وأبو زرعة". ومثاله أيضا الحديث الذي تفرد به يحيى بن أيوب في النهي عن الرياء في العلم، حيث رواه متصلا، ورواه غيره مرسلا، قال الذهبي (¬1): "ومن غرائبه: ثنا ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا لتخيروا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار". فالحديث مشهور بروايته عن غير يحيى مرسلا: لكنه غريب من طريق يحيى بن أيوب المتصلة، فهو غريب إسنادا لا متنا (¬2). ويعبر الترمذي عن هذا القسم بنحو قوله: "غريب من هذا الوجه". وأمام الأقسام الأخرى التي أشرنا إليها فهي: 1 - الغريب متنا لا إسنادا، أي أنه في أول أمره فرد ثم اشتهر آخرا وهذا يرجع إلى الغريب إسنادا ومتنا، لأنه إنما تعدد سنده فيما بعد المتفرد. ¬

_ (¬1) في المغني رقم 6931. وانظر الميزان. (¬2) أخرجه ابن ماجه في العلم برقم 254. وابن حبان الموارد: 51 كلاهما من طريق يحيى. وأخرجه الحاكم على الوجهين الارسال والوصل: 1: 68. وصحح وصله لثقة يحيى راويه وأخرج ما يشهد لوصله هو وابن ماجه برقم 259.

2 - الغريب بعض المتن، وهو ما انفرد فيه راويه بزيادة في متنه مثل حديث "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" روي عن تسعة من الصحابة على هذا اللفظ، ورواه عمرو بن يحيى بن عمارة المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري بلفظ: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام (¬1) ". فزاد الاستثناء. وهذا يرجع إلى الأول، فإنه غريب إسنادا ومتنا من حيث هذه الزيادة. 3 - الغريب بعض السند: مثل حديث يحيى بن أيوب الغافقي بالسابق. وهذا يرجع إلى الغريب إسنادا لا متنا (¬2). ولهذين القسمين الأخيرين صلة بعلم زيادات الثقات (¬3). وقد صنف العلماء في هذا النوع تصانيف مفيدة جدا: منها "غرائب مالك" للدارقطني، أي الأحاديث الغرائب التي ليست في الموطأ. وكتاب "غرائب شعبة" لابن منده (¬4). 2 - الأفراد: الحديث الفرد: هو ما تفرد به روايه بأي وجه من وجوه التفرد. فهو أعم من الغريب تدخل فيه أقسام لا تدخل في الغريب. ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي وأعله: 2: 131. (¬2) انظر تفصيل هذه الأقسام الثلاثة في كتابنا الإمام الترمذي: 182 - 184. (¬3) الآتي برقم 76. ص 423 - 427. (¬4) الرسالة المستطرفة: 84 - 85.

وهو قسمان: الفرد المطلق، والفرد النسبي. القسم الأول: الفرد المطلق. وهو ما تفرد به راويه عن جميع الرواة لم يروه أحد غيره. وهذا يطابق الغريب إسنادا ومتنا، ويدخل فيه أيضا الشاذ والمنكر. القسم الثاني: الفرد النسبي، وهو ما يقع فيه التفرد بالنسبة إلى جهة خاصة أيا كانت تلك الجهة. ويدخل في ذلك ما ذكرنا في الريب إسنادا لامتنا ويتناول جهات أخرى كثيرة. منها: 1 - تفرد الثقة عن ثقة، بأن لا يروي الحديث عن روا ثقة إلا هذا الثقة. 2 - تفرد الراوي بالحديث عن راو، بأن لا يرويه غيره، وإن كان مرويا من وجوه أخرى عن غيره. 3 - تفرد أهل بلد أو قطر بحديث لا يرويه غيرهم، كحديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم صلى عليه سهيل بن بيضاء في المسجد (¬1) .. قال الحاكم: تفرد أهل المدينة بهذه السنة (¬2). وحديث معقل بن سنان الأشجعي (¬3) فيمن تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقا ولم يدخل بها حتى مات أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم: 3: 63. (¬2) الرسالة المستطرفة: 85 - 86. هذا وينبغي أن يتنبه إلى أنه قد يقع قولهم: "تفرد به أهل مكة" أو"تفرد به البصريون عن المدنيين" أو نحو ذلك، على الحديث الذي لم يروه إلا واحد من أهل مكة، أو واحد من القبيلة، وذلك على سبيل المجاز. كما يطلق فعل الواحد على قبيلته مجازا. (¬3) أبو داود: 2: 237، والترمذي: 3: 450، وصححه، والنسائي في الطلاق "عدة المتوفى عنها زوجها قبل أن يدخل بها": 6: 164 وابن ماجه رقم 1791.

لها بمهر مثل نسائها وعليها العدة ولها الميراث، تفرد به الأشجعيون ووقع في بعض الروايات أنه رواه ناس من أشجع. ومن هذا يظهر تقارب هذين النوعين: الغريب والفرد من بعضها، حتى اختلف فيهما المحدثون هل هما نوع واحد أو نوعان مفترقان (¬1). والأولى جعلهما نوعين لما عرفت من عدم دخول بعض الأفراد في الحديث الغريب، مثل أفراد البلدان وأفراد القبائل. وقد عني العلماء بالحديث الفرد، وصنفوا فيه كتبا، من أهمها كتاب "السنن التي تفرد بكل سنة منها أهل بلدة" لأبي داود السجستاني وكتاب "الأفراد" للدارقطني، وهو كتاب كبير حافل بالفوائد (¬2). حكم الغريب والفرد: يخضع حكم هذين النوعين إلى استيفائهما شروط الصحة أو الحسن أو عدم استيفائها، فينقسم كل منهما من حيث القبول أو الرد ثلاثة أقسام: 1 - الغريب الصحيح، أو الفرد الصحيح، وهو ما توفرت في سنده شروط الصحة، كحديث "إنما الأعمال بالنيات"، وسائر الأفراد والغرائب التي بلغت درجة الصحة. ويعبر عنه الترمذي بقوله "صحيح غريب". 2 - الغريب الحسن أو الفرد الحسن، وهو ما توفرت فيه صفات الحسن لذاته، ومنه كثير في جامع الترمذي، يقول فيه "حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه". ¬

_ (¬1) انظر شرح النخبة: 28. وعلوم الحديث: 244. وانظر فتح المغيث: 343. (¬2) الرسالة المستطرفة: 85.

3 - الغريب الضعيف أو الفرد الضعيف، وهو ما لم تتوفر فيه صفات الصحيح ولا الحسن، وهو الكثير الغالب في الأحاديث الغريبة، لأن تفرد الراوي بالحديث مظنة الخطأ والوهم، وقد كثر الضعف والعلل الخفية في الرائب حتى حذر علماء الحديث منها، ونهوا عن الاستكثار من روايتها، وأطلق بعضهم على الغريب الفرد اسم "المنكر". قال الحافظ ابن رجب: "وقد كان السلف يمدحون المشهور من الحديث، ويذمون الغريب منه في الجملة". وقال الإمام أبو يوسف: "من اتبع غريب الحديث كذب". وقال الإمام أحمد: "لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب فإنها مناكير وعامتها عن الضعفاء". وقال الإمام مالك: "شر العلم الغريب، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس". وقال إبراهيم النخعي: "كانوا يكرهون غريب الحديث، وغريب الكلام" (¬1). وهذا ظاهر بالنسبة للغريب سندا ومتنا، وللفرد المطلق، أما الغريب إسنادا لامتنا والفرد النسبي فينظر في أسانيد الحديث، إن صح من بعض الوجوه التي ورد بها لاستيفائه شرط الصحة فهو صحيح، وكذا إذا استوفى شروط الحسن، وإلا ينظر فإن صلحت أسانيده للتقوية ببعضها قبلت، وإلا فهو ضعيف. وقد يكون الغريب سندا لامتنا ضعيفا في الإسناد الذي وقعت فيه الغرابة بسبب خطأ الراوي أو وهمنه، فيعتمد في الحكم على متن الحديث على الطريق الأخرى. ¬

_ (¬1) وغير ذلك من أقوال المحدثين انظر الكفاية: 140 - 143 وشرح علل الترمذي: 406 - 409.

الفصل الثاني: في تعدد رواة الحديث مع اتفاقهم

الفصل الثاني: في تعدد رواة الحديث مع اتفاقهم وفيه هذه الأنواع: 1 - المتواتر. 2 - المشهور. 3 - المستفيض. 4 - العزيز. 5 - التابع. 6 - الشاهد. أما ما يتفرع على التعدد دون التواتر من حيث قوة الحديث فقد سبق بحثه في الباب الرابع وهو الصحيح لغيره (¬1)، والحسن لغيره (¬2). ¬

_ (¬1) رقم 38 ص 267 - 268. (¬2) رقم 39 ص 268 - 271.

1 - المتواتر: الحديث المتواتر: هو الذي رواه جمع كثير يؤمن تواطؤهم على الكذب عن مثلهم، إلى انتهاء السند، وكان مستندهم الحسن. فقولهم: "جمع كثير" أي من غير تقييد بعدد، إنما المقصود العدد الذي يحصل به إحالة العقل تواطؤهم أي اتفاقهم على الكذب. وكذا وقوع الكذب أو السهو منهم بالمصادفة. ومال بعض العلماء إلى تعيين العدد، فقيل: إذا بلغوا سبعين كان متواترا، لقوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا}. وقيل أربعين. وقيل: اثني عشر. وقيل بأقل من ذلك حتى قيل بالأربعة اعتبارا بالشهادة على الزنا. لكن المختار أن ليس في شيء من ذلك مقنع، إنما العبرة بحصول العلم اليقيني بصدق الخبر. وقولهم: "عن مثلهم إلى انتهاء اسند" خرج به ما كان آحاديا في بعض الطبقات ثم رواه عدد التواتر بعد ذلك، فإنه لا يكون متواترا. مثل حديث: "إنما الأعمال بالنيات" فإنه آحادي في مبدإ إسناده وإنما طرأ عليه التواتر في وسط الإسناد، فلا يكون متواترا. وقولهم: "وكان مستندهم الحسن" أخرج القضايا الاعتقادية التي تستند إلى العقل، مثل وحدانية الله وأخرج القضايا العقلية الصرفة مثل كون الواحد نصف الاثنين، فإن العبرة فيها للعقل لا للأخبار. ومن العلماء من عدالحديث المتواتر قسما من الحديث المشهور كابن الصلاح، والنووي.

ومن أمثلة المتواتر: حديث: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ بضع وسبعون صحابيا. وحديث "نزل القرآن على سبعة أحرف". رواه سبع وعشرون صحابيا (¬1). هذا ولا يشترط في رواة المتواتر، ما يشترط في رجال الصحيح أو الحسن من العدالة والضبط، بل العبرة بكثرتهم كثرة تجعل العقل يحكم باستحالة تواطئهم على الكذب. حتى لو أخبر أهل بلدة كفار أنهم رأوا بأعينهم حريقا كبيرا في بلدتهم أو انفجارا حصل العلم اليقيني بصدقهم. ومن هنا قرر المحدثون أن هذا النوع لا يدخل في مصطلح الحديث، وليس من صناعة هذا العلم، لأن هذا العلم يبحث فيه عما يوصل إلى صحة الحديث أو حسنه أو ضعفه، والمتواتر لا يحتاج فيه إلى البحث، لأن العمدة فيه على كثرة تحصل العلم اليقيني، وهو أمر ضروري فطري يحصل لكل سامع دون حاجة إلى البحث والنظر. ولذلك فإننا نجد الترمذي يخرج حديث "من كذب علي" ويقول فيه: "حسن صحيح" ولا يذكر أنه متواتر. أقسام المتواتر: يقسم العلماء الحديث المتواتر إلى قسمين: متواتر لفظي، ومتواتر معنوي. أما المتواتر اللفظي: فهو ما تواترت روايته على لفظ واحد يرويه كل الرواة، كحديث "من كذب علي ... " المذكور. ¬

_ (¬1) أوضح تواتره في بحث قيم موسع الشقيق الدكتور حسن ضياء الدين عتر في رسالة: "الأحرف السبعة في القرآن ومنزلة القراءات منها" ص 65 - 66 ومواضع أخرى.

وأما المتواتر المعنوي: فهو أن ينقل جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب أو وقوعه منهم مصادفة، فينقلوا وقائع مختلفة تشترك كلها في أمر معين، فيكون هذا الأمر متواترا. مثل رفع اليدين في الدعاء. فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم فيه نحو مائة حديث لكن هذه الأحاديث في وقائع مختلفة. وشروط المتواتر المعنوي هي عين شروط المتواتر اللفظي، إنما يختلفان في أن المتن المنقول يتطابق لفظه في المتواتر اللفظي، ويتوافق في معنى معين تشتمل عليه المتون الكثيرة في المتواتر المعنوي. وهذا أمر متفق عليه لا إشكال فيه ولا خلاف (¬1). وجود المتواتر: والحديث المتواتر كثير الوجود، وحسبنا في ذلك أن ننظر إلى شعائر الإسلام وفرائضه كالصلاة والوضوء والصوم فقد نقل صفات ذلك عن النبي عدد التواتر من الصحابة، ونقله عن الصحابة عدد التواتر من التابعين وهكذا، وغير ذلك كثير نقلته الأمة وأجمعت عليه من الأقوال والأفعال. ¬

_ (¬1) ومن هنا فإنا لا نوافق بعض الكاتبين الأفاضل على قوله "ومن علماء الحديث من لا يرى بأسا في أن يكون المتواتر المعنوي في أوله آحاديا ثم يشتهر بعد الطبقة الأولى، ويستفيض، فيسلكون حديث "إنما الأعمال بالنيات" في عداد ما تواتر معنى، مع أنه لم يروه إلا عمر بن الخطاب، ولم يروه عن عمر إلا علقمة، ولم يروه عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي، ولم يروه عن التيمي إلا يحيى بن سعيد الأنصاري، وإنما طرأت له الشهرة من عند يحيى". فإن أحدا من المحدثين لم يقل بذلك وإنما نبه ابن الصلاح والنووي والسيوطي وغيرهم على هذا الحديث أنه ليس بمتواتر دفعا لتوهم تواتره بسبب كثرة رواته في الأزمنة المتأخرة فإن هذه الكثرة لم تستمر في كل الطبقات، فنبهوا على أنه ليسب بمتواتر لأنه لم يروه في كل طبقة عدد التواتر. وليس قصدهم أن أحدا من المحدثين يعتبر مثل هذا من المتواتر المعنوي كقاعدة عامة، فذلك ما لم يقله أحد، ولم يقصده أحد في علمنا.

وقد ادعى ابن الصلاح (¬1) ندرة الحديث المتواتر وبالغ غيره فنفى وجود المتواتر. لكن العلماء رفضوا ذلك وروده بأنه ناشئ من قلة الاطلاع على كثرة الطرق. وأثبت الحافظ ابن حجر كثرة وجود المتواتر بطريقة واضحة ميسرة فقال (¬2): "ومن أحسن ما يقرر به كون المتواتر موجودا وجود كثرة في الأحاديث أن الكتب المشهورة المتداوةل بين أهل العلم المقطوع بصحة نسبتها إلى مصنفيها، إذا اجتمعت على إخراج حديث وتعددت طرقه تعددا تحيل العادة تواطؤهم على الكذب أفاد العلم اليقيني بصحة نسبته إلى قائله، ومثل ذلك في الكتب المشهورة كثير". ويمكن أن نوفق بأن ما قاله ابن الصلاح أراد به المتواتر اللفظي، وظاهر أنه قليل الوجود، وما قاله الحافظ ابن حجر أراد به المتواتر الذي يشمل المعنوي وهو كثير. وأما القول بعدم وجود المتواتر فهو كما قال فيه الحافظ ناشيء من قلة الاطلاع (¬3). مصادر الحديث المتواتر: المؤلفات في الحديث المتواتر اللفظي والمعنوي كثيرة، لعل أجمعها كتاب السيوطي الذي قال فيه (¬4) قد ألفت في هذا النوع كتابا لم أسبق إلى مثله، سميته: "الأزهار ¬

_ (¬1): 242. (¬2) في شرح النخبة: 607. (¬3) وللعلامة المحدث إسحاق عزوز تقسيم جديد للمتواتر مفيد جدا يدل على كثرة المتواتر انظره في تعليقه على شرح النهبة طبع بيروت: 22 - 23 وانظر بعض أنواعه في الموافقات: 1: 36 - 37 بشرح الدكتور درا. (¬4) في تدريب الراوي: 373 - 374.

المتناثرة في الأخبار المتواترة"، مرتبا على الأبواب أوردت فيه كل حديث بأسانيد من خرجه وطرقه. ثم لخصته في جزء لطيف سميته "قطف الأزهار" اقتصرت فيه على عزو كل طريق لمن أخرجها من الأئمة، وأوردت فيه أحاديث كثيرة، منها: حديث الحوض من رواية نيف وخمسين صحابيا، وحديث المسح على الخفين من رواية سبعين صحابيا، وحديث رفع اليدين في الصلاة من رواية نحو خمسين، وحديث "نضر الله امرءا سمع مقالتي من رواية نحو ثلاثين ... في أحاديث جمة أودعناها كتابنا المذكور" (¬1). وقد استدرك على السيوطي المحدث أبو عبد الله محمد بن جعفر الكتاني في كتابه "نظم المتناثر من الحديث المتواتر" وهو مطبوع في جزء لطيف، ثم جاء بد ذلك الأستاذ الشيخ عبد العزيز الغماري فاستدرك عليه أيضا في كتابه "إتحاف ذوي الفضائل المشتهرة بما وقع من الزيادة على الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة"، أورد فيه جملة صالحة من الأحاديث. 2 - المشهور: الشهرة في اللغة: الانتشار والذيوع. أما في اصطلاح المحدثين فنختار في المشهور تعريف الحافظ ابن حجر، وهو: ¬

_ (¬1) انظر بحثا موسعا في الحديث المتواتر في توضيح الأفكار وتعليقات فضيلة شيخنا العلامة محمد محي الدين عبد الحميد: 2: 401 - 412.

"ماله طرق محصورة بأكثر من اثنين": فقول: "له طرق محصورة" يخرج به المتواتر، لأن المتواتر لا يضبط بعدد معين، بل هو ما كان رواته جماعة يؤمن تواطؤهم على الكذب عن مثلهم ... وهذا أمر لا يضبط، فقد يحصل الاطمئنان من الكذب بالعشرة من الثقات، كما يحصل بالخمسين من غيرهم. وقوله: "أكثر من اثنين" يخرج به الحديث الغريب والعزيز. والحاصل أن الحديث المشهور هو ما رواه جماعة عن جماعة، ولم يبلغ حد التواتر. حكم الحديث المشهور: ربما تظن أن الحديث المشهور ملازم للصحة، لما يدخل في روع الناظر إلى تعدد الرواة من توهم القوة والصحة بادي الرأي، لكن المحدثين لم يبالوا بمجرد هذا العدد إذا لم يكن معه من الصفات ما يجعل هذه الأسانيد صحيحة، أو صالحة للتقوي ببعضها والاحتجاج بها. ومن هنا كان الحديث المشهور منقسما من حيث القبول أو الرد إلى ثلاثة أقسام: الصحيح، والحسن، والضعيف: 1 - مثال المشهور على الاصطلاح وهو صحيح: حديث: "إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل" روي من أوجه كثير عن النبي صلى الله عليه وسلم (¬1). 2 - مثال المشهور وهو حسن: حديث: "لا ضرر ولا ضرار" روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أوجه كثيرة، وله طرق يرتقي ¬

_ (¬1) البخاري في أوائل الجمعة: 2: 2 و 3 و 5 ومسلم: 3: 2. وغيرهما.

بها إلى الحسن أو الصحة، وحسنه النووي في الأربعين (¬1). 3 - مثال المشهور وهو ضعيف: حديث: "اطلبوا العلم ولو بالصين". روي من عدة أوجه عن أنس وأبي هريرة، ولم يخل طريق منها من مجروح جرحا شديدا، فهو مشهور ضعيف (¬2). تقسيم المشهور بحسب موقع شهرته: وينقسم الحديث المشهور تقسيما آخر إلى أقسام كثيرة، وذلك بالنظر إلى الأوساط التي يذيع فيها وينتشر، فقد يطلق المشهور على ما ذاع بين أهل الحديث وغيرهم من العلماء والعامة، وقد يطلق على ما اشتهر على ألسنة الناس، ولو روي بإسناد واحد، بل ول لم يكن له إسناد أصلا. وهذه أمثلة لبعض هذه الأقسام: 1 - المشهور عند أهل الحديث خاصة، مثل حديث أنس: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت شهرا بعد الركوع يدعو على رعل وذكوان". أخرجه الشيخان (¬3) من رواية سليمان التيمي عن أبي مجلز عن أنس، وقد رواه عن أنس غير أبي مجلز، وعن أبي مجلز غير سليمان، وعن سليمان جماعة. وهو مشهور بين أهل الحديث، وقد يستغربه غيرهم، لا، الغالب على رواية التيمي عن أنس كونها بلا واسطة. 2 - المشهور عند المحدثين والعلماء والعوام: مثل حديث "المسلم أخو المسلم" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه عن عبادة منقطعا ص 784 رقم 2340 وعن ابن عباس برقم 2341، وأخرجه الحاكم عن أبي سعيد الخدري: 2: 57. وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي. وانظر نصب الراية: 4: 384 - 386. (¬2) أخرجه البخاري في تاريخه: 2/ 2/ 358 وابن عدي في الكامل: ق 207 ب وفي موضع آخر "اللآلي المصنوعة: 1: 193". والعقيلي في الضعفاء ق 196 آ، وأخرجه الخطيب البغدادي في الرحلة في طلب الحديث رقم 1 بتحقيقنا. وقد توسعنا في دراسة أسانيده في تعليقنا عليه هناك. (¬3) البخاري في الوتر: 2: 26 والمغازي: 5: 105. ومسلم: 2: 136. (¬4) البخاري في المظالم: : 3: 128، ومسلم في البر والصلة: 8: 18.

3 - المشهور عند الفقهاء: مثل حديث "لا ضرر ولا ضرار " السابق ذكره. وحديث "المسلمون على شروطهم" (¬1) وحديث "نهى عن بيع الغرر" (¬2). 4 - المشهور عند الأصوليين: مثل حديث: إذا حكم الحاكم ثم اجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" (¬3). 5 - المشهور عند علماء العربية: مثل حديث "نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه" وليس له إسناد (¬4). وحديث "أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أني من قريش". ومعناه حق لكن ليس لهذا اللفظ إسناد إلى النبي صلى الله عليه وسلم (¬5). 6 - المشهور بين الأدباء: مثل حديث: "أدبني ربي فأحسن تأديبي" ونحن لا نشك في ذلك، لكن إسناده ضعيف (¬6). 7 - المشهور بين العامة: مثل حديث "السفر قطعة من العذاب" (¬7). وحديث: "من غشنا فليس منا" (¬8). ¬

_ (¬1) الترمذي في الأحكام: 3: 634، والحاكم: 4: 101. وقد انتقد على الترمذي تحسين هذا الحديث أو تصحيحه، فأزلنا الإشكال عنه في كتابنا الإمام الترمذي: 269 و 271 و 272. (¬2) أخرجه مسلم: 5: 3 وأصحاب السنن بلفظ "نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر". (¬3) البخاري في الاعتصام: 9: 108، ومسلم في الأقضية: 5: 131. (¬4) المقاصد الحسنة: 449 وكشف الخفاء: 2: 323. (¬5) المقاصد الحسنة: 95 وكشف الخفاء: 1: 200 - 201. (¬6) أخرجه ابن السمعاني في أدب الاملاء بلفظ "أن الله ادبني .. " والمراد به تثقيف اللسان على الفصاحة وبلاغة الكلم. انظر المقاصد: 29 وشرح المناوي على الجامع الصغير: 1: 225. (¬7) البخاري آخر العمرة: 3: 8 ومسلم في الإمارة: 6: 55. (¬8) مسلم في الإيمان: 1/ 69.

وحديث: "الحرب خدعة" (¬1). وهي صحيحة. ومثل حديث: "المؤمن مرآة أخيه". أخرجه أبو داود بلفظ "المؤمن مرآة المؤمن" وحسنه العراقي (¬2). ومثل: "كما تدين تدان" ضعيف (¬3). "المجالس بالأمانة" (¬4) ضعفه العلماء. "من لم يخف الله خف منه" ليس بحديث، وإن كان معناه صحيحا (¬5). وغير ذلك كثير من الأحاديث التي تدور على ألسنة الناس. ولا ريب أن هذه الأحاديث التي تدور على ألسنة الناس. ولا ريب أن هذه الأحاديث لها تأثير قوي في سلوك الأمة، لذلك عني العلماء ببيان حالها، وألفوا في ذلك تصانيف كثيرة. من أهمها. 1 - "المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة على الألسنة" للإمام السخاوي. 2 - "كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس" للعلامة إسماعيل بن محمد العجلوني (¬6). ¬

_ (¬1) البخاري في الجهاد: 4: 64، ومسلم: 5: 143. (¬2) أبو داود في الأدب "النصحية": 4: 280 وانظر فيض القدير: 6: 252. (¬3) أخرجه البيهقي في الزهد وفي الأسماء والصفات وأبو نعيم وغيرهما انظر المقاصد الحسنة: 325 - 326 وكشف الخفاء: 2: 126. (¬4) أخرجه أبو داود والديلمي وغيرهما فيض القدير: 6: 262. (¬5) المقاصد: 427 وكشف الخفاء: 2: 276 - 277. (¬6) وقد سبق التعريف بهذين الكتابين: 204 - 205.

شبهة حول الحديث المشهور: هذا الذي أوضحناه من أقسام المشهور ومراتبها من القبول أو الرد يبين لنا بجلاء بطلان ما ادعاه بعض المستشرقين من تعويل العلماء على انتشار الحديث بين العامة في قبوله. يقول بورشيه فيما لخصه عن جولدتسيهر: " ... كانت جماعة المؤمنين المتدينة التقية تقبل بسهولة متناهية في التصديق كل ما كان يقدم لها في شكل حديث على أنه قول للنبي حقيقة، أما التخوفات التي أثيرت حول صحة أجزاء كثيرة من تلك المجموعات المنقولة والمتراكمة فإنها قد هدئت بشكل سهل تماما. ويبدو أن علماء الدين أنفسهم قد مددوا استعمال نظرية الإجماع منذ وقت مبكر جدا لتستعمل في تصحيح استعمال نظرية الإجماع منذ وقت مبكرا جدا لتستعمل في تصحيح وتوثيق الأحاديث، ويبدو أنهم قد اعترفوا! بأن إجماع الأمة هو الحكم الأعلى لمعرفة صحة الأحاديث". ثم يضيف إلى ذلك قوله: "ولكن المحدثين المتذممين لم يتركوا أنفسهم يتأثرون بهذه الطريقة السهلة للحكم على صحة أحاديث متراكمة على شكل مجموعة عظيمة إلى هذا الحد، ففي مقابلة الخطر الذي كان يتهدد الجماعة الإسلامية السنية والذي كان يتمثل بوجود عدد لا يحصى من الأحاديث المغرضة والمتحيزة طالبوا بوضع شروط أخرى غير تصديق الجماعة لقبول وثاقة الأحاديث وصحتها" انتهى (¬1). وهذا الكلام قد فيه صاحبه بمقدمة خاطئة توطئه للنتيجة التي يقصدها فخرج عن الجادة إلى منعطفات تائهة، نذكر منها: ¬

_ (¬1) من الفصول المترجمة التي ترجمها لنا الزميل الدكتور عبد اللطيف الشيرازي الصباغ من كتاب، "دراسات في السنة الإسلامية" تأليف ليون بورشيه، الذي استخلص زبدته من كتاب دراسات محمدية لجولد تسيهر.

1 - أنه فسر الاجماع باتفاق عامة الناس كما ينبئ عنه قوله "كانت جماعة المؤمنين"، وقوله في عجز كلمته: "تصديق الجماعة لقبول وثاقة الأحاديث". وهذا التفسير للإجماع مجاف للمقررات البدهية في العلوم الإسلامية، لا يخفى على طالب علم أو شخص له إلمام بالثقافة الإسلامية، فإنه ليس يخفى أن الاجماع الذي يحتج به عند المسلمين إنما هو اجماع الأئمة المجتهدين على اتسخرجا حكم من دليل شرعي، وأنه ليس لأهل الاجماع الحق في تجاوز دلائل الشريعة. 2 - أن العلماء لم يعولوا أبدا على قبول العوام أي حديث من الأحاديث، بل كانوا كلهم أولهم وآخرهم حتى يومنا هذا ينظرون بعين الحذر إلى الروايات التي تنتشر بين العوام وهذه مقدمة مسلم لصحيحه صريحة في أنه قد دفعه إلى تأليف صحيحه ما وجده ذاع بين العوام من الأحاديث الضعيفة والتالفة. 3 - أن المحدثين قد خصوا بالدراسة ما اشتهر من الحديث بين العوام في نوع خاص هو المشهور حيث درسوا الأحاديث المشهورة بين العامة وبينوا أنها ليست على مستوى واحد، ثم أحصوها في مصنفات بينوا فيها درجة كل حديث من الصحة أو الضعف، بل الكذب والاختلاق. 4 - لو فرضنا أن قصد الطاعنين من قولهم "نظرية الإجماع" إجماع العلماء الأخصائيين بالنقد من جهابذة المحدثين، فهل يمكن أن يعتبر هذا الأسلوب في التمحيص العلمي "أسلوبا سهلا" منتقدا كما زعم، أم أن هذا هو قمة البحث المحقق! . وها نحن نجد العالم يحتج بما يحققه المختص في فنه ويتلقاه عنه بالقبول، فكيف بما اتفق عليه أئمة الاختصاص وكبار علمائه.

3 - المستفيض: المستفيض مأخوذ في اللغة من فاض الماء إذا سال وانتشر. وأما في الاصطلاح فاختلف فيه، وأكثر ما يستعمل عند الأصوليين. وهو الحديث المشهور عن جماعة من العلماء، وقيل بأن ثمة فرقا بينهما، وأصحاب هذا الرأي اختلفوا في التفرقة بينهما: فمنهم من قال: المشهور أعم من المستفيض، لأن المستفيض يكون في ابتدائه وانتهائه وأثنائه سواء، والمشهور ليس كذلك. ومنهم من عكس فجعل المستفيض أعم من المشهور. وقيل: إنه ما تلقته الأمة بالقبول، من غير اعتبار عدد، فهو والمتواتر بمعنى واحد على هذا القول: وإليه مال الحافظ ابن حجر، حيق قال في شرح النخبة (¬1): "وليس من مباحث هذا الفن". 4 - العزيز: مأخذ هذا الاصطلاح في اللغة من قولهم: عز يعز، إذا قوي. كقوله تعالى: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} أو من "عز، يعز" إذا صار قليلا نادرا. ¬

_ (¬1): 7.

وفي اصطلاح المحدثين قال ابن الصلاح: روينا عن الحافظ أبي عبد الله بن منده أنه قال: الغريب من الحديث كحديث الزهري وقتادة وأشباههما من الأئمة ممن يجمع حديثهم إذا انفرد الرجل عنهم بالحديث يسمى غريبا. فإذا روى عنهم رجلان وثلاثة واشتركوا في حديث يسمى عزيزا، فإذا روى الجماعة عنهم حديثا سمي مشهورا". فلم يفصله ابن الصلاح تبعا لابن منده عن المشهور فصلا تاما، حيث جعلهما مشتركين فيما رواه الثلاثة! . وعلى ذلك سار النووي وغيره، وبه تشعر عبارة البيقونية: عزيز مروي اثنين أو ثلاثة ... مشهور مروي فوق ما ثلاثة (¬1) واختيار الحافظ ابن حجر وغيره في العزيز أنه ما رواه اثنان، وفصلوه عن المشهور فصلا تاما فخصوا المشهور بما رواه ثلاثة فأكثر. ومناسبة التسمية للعزيز ظاهرة، لعزته أن قوته بمجيئه من طريق أخرى، أو لقلة وجوده. حتى قد نازع ابن حبان في وجود هذا النوع. قال الحافظ ابن حجر (¬2): "وادعى ابن حبان .. أن رواية اثنين عن اثنين إلى أن ينتهي لا توجد أصلا. قلت: إن أراد أن رواية اثنين فقط عن اثنين فقط لا توجد أصلا فيمكن أن يسلم، وأما صورة العزيز التي حررناها فموجودة، بأن لا يرويه أقل من اثنين عن أقل من اثنين". وما قاله الحافظ قوي، لأن الحديث إذا رواه في بعض الطبقات راويان فقط، ثم رواه أكثر من ذلك لم يخرج عن كونه عزيزا، لأن الأقل يقضي على الأكثر. ¬

_ (¬1) وقارن بشرح المنظومة البيقونية: 90 و 92. (¬2) في شرح النخبة: 8.

مثال العزيز: حديث: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين". رواه الشيخان (¬1) من حديث أنس، والبخاري من حديث أبي هريرة .. ، وقد رواه عن أنس قتادة وعبد العزيز بن صهيب، ورواه عن قتادة شعبة وسعيد، ورواه عن عبد العزيز إسماعيل بن علية وعبد الوارث، ورواه عن كل جماعة. والحكم في العزيز كالمشهور يتبع حال السند والمتن فإذا تحققت فيهما شروط الصحة ولو من طريق واحد كان صحيحا، وقد يكون حسنا أو ضعيفا، وليس يشترط في الحديث الصحيح أن يكون عزيزا، بل قد يكون غريبا كما عرفت (¬2). 5، 6 - التابع والشاهد: ويعبر العلماء عنهما في كتب المصطلح بصيغة الجمع: "المتابعات والشواهد". ¬

_ (¬1) البخاري في الإيمان: ج 1 ص 8، ومسلم: 1: 49، واللفظ روياه عن أنس. (¬2) في بحث حكم الغريب والفرد ص 401 - 402 من هذا الكتاب. وقد نسب بعض العلماء إلى الحاكم أنه يشترط في الحديث الصحيح أن يكون عزيزا، أي لا يرويه أقل من اثنين، وسرى ذلك إلى بعض الكاتبين العصريين. والصواب أن الحاكم لا يشترط ذلك، وقد حققناه مذهبه وفهم كلامه في كتابنا الإمام الترمذي: 60 - 61 فانظره لزاما.

أما المتابعة، فهي أن يوافق راوي الحديث على ما رواه من قبل راو آخر فيرويه عن شيخه أو عمن فوقه. وتنقسم المتابعة إلى قسمين: تامة، وقاصرة. فالمتابعة التامة: هي التي تحصل للراوي نفسه بأن يروي حديثه راو آخر عن شيخه. والمتابعة القاصرة "أي الناقصة" هي التي تحصل لشيخ الراوي بأن يروي الراوي الآخر الحديث عن شيخ شيخه، وكذا التي تحصل لمن فوق شيخ الراوي. ولا اقتصار في المتابعة بقسميها على ورود الحديث بنفس اللفظ، بل لو جاءت بالمعنى لكفى، لكنها تختص بكونها من رواية ذلك الصحابي. وأما المشاهد فهو حديث مروي عن صحابي آخر يشابه الحديث الذي يظن تفرده، سواء شابهه في اللفظ والمعنى. أو في المعنى فقط. وهذا مثال يجمع المتابعة التامة، والقاصرة، والشاهد (¬1). فالمتابعة التامة: ما رواه الشافعي (¬2) عن مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الشهر تسع وعشرون لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين". هذا الحديث بهذا اللفظ ظن قوم أن الشافعي تفرد به عن مالك، فعدوه في غرائبه، لأن أصحاب مالك رووه عنه بهذا الإسناد بلفظ "فإن غم عليكم فاقدروا له". ¬

_ (¬1) عن شرح النخبة: 22 - 23، وقد خرجنا أسانيده من مصادرها. (¬2) في الأم أول الصيام: 2: 94.

لكن وجدنا للشافعي متابعا عند البخاري في صحيحه فقد قال فيه (¬1): "حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الشهر تسع وعشرون ليلة، فلا تصوموا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين". وهذه متابعة تامة للإمام الشافعي، فقد روى عبد الله بن مسلمة الحديث عن مالك شيخ الشافعي بالسند والمتن. ومثال المتابعة القاصرة: ما رواه ابن خزيمة في صحيحه من حديث عاصم بن محمد عن أبيه محمد بن زيد عن جده عبد الله بن عمر، "فأكملوا ثلاثين". ورواه مسلم (¬2) في صحيحه، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر ... الحديث بلفظ "فاقدورا ثلاثين". فهذه متابعة قاصرة لأن الموافقة للشافعي وقعت في رواية الحديث عمن فوق شيخه، وهو هنا الصحابي. ومثال الشاهد: ما رواه النسائي (¬3): أخبرنا محمد بن عبد الله بن يزيد قال حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن محمد بن حنين عن ابن عباس قال: "عجبت ممن يتقدم الشهر وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا. فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين". ¬

_ (¬1) في الصوم: 3: 27. (¬2) "3: 122". (¬3) "2: 109".

وكذا ما رواه البخاري (¬1): حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا محمد بن زياد قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم أو قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين". فهذا يوافقان حديث الشافعي، لكنهما من حديث صحابي آخر، فكل منهما شاهد لحديث الشافعي رحمه الله. ومن هذا يتضح الفرق بين التابع والشاهد، وهو أن التابع يختص بالرواية عن نفس الصحابي، والشاهد بالرواية عن غيره. وهذا عند الجمهور. وفرق قوم بين التابع والشاهد فخصوا التابع بالموافقة على رواية لفظ الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، سواء كان من رواية ذلك الصحابي أو غيره. وخصوا الشاهد بالموافقة في المعنى كذلك. قال الحافظ ابن حجر: "وقد تطلق المتابعة على الشاهد، وبالعكس، والأمر فيه سهل" (¬2). وهذا لأن المقصود بكل منهما هو التقوية، وهو "حاصل بكل منهما سواء سمي متابعة أو شاهدا". ولما كان المقصود بالمتابعات والشواهد التقوية، فإن المحدثين يتساهلون، فيقبلون فيها رواية من يقارب الثقة، وينزلون إلى الضعيف، وهذا هو السبب في أن البخاري ومسلما يخرجان أحاديث بعض الضعفاء. ¬

_ (¬1): 3: 27. (¬2) انظر شرح النخبة وشرحه للقاري: 93.

في المتابعات والشواهد. وذلك لأن الاعتماد ليس على التابع والشاهد، إنما هو على الأصل الصحيح الذي أريد إردافه بالمتابعة أو الشاهد. لكن المحدثين لم يفرطوا في هذا التساهل بل تحرزوا فلم يعتدوا بكل أحد من الضعفاء في المتابعات والشواهد بل اشترطوا فيه ألا يكو قد اشتد ضعفه، وفقا لما سبق في مراتب الجرح والتعديل من بيان المراتب التي يعتبر بها والتي لا يعتبر بها (¬1). مثال ذلك ما روى الترمذي (¬2): "حدثنا أبو كريب حدثنا سويد بن عمرو الكلبي عن حماد بن سلمة عن أيوب عن محمد ين سيرين عن أبي هريرة أراه رفعه قال: "أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما". قال أبو عيسى: "هذا حديث غريب لا نعرفه بهذا الإسناد إلا من هذا الوجه .. " إلى آخره. والحديث يرويه أيضا الحسن بن دينار عن ابن سيرين، مما قد يوهم أنه خرج بذلك عن الغرابة، وتقوى، لكن الحسن بن دينار شديد الضعف. قال الذهبي (¬3): "تركوه". لذلك لم يخرجه الترمذي عن حد الغرابة والضعف لأنه لا يصلح للمتابعة. ¬

_ (¬1) 1 في ص 112 - 113. (¬2) في البر والصلة: 4: 360. وانظر ما سبق في حديث طلب العلم: 410. (¬3) في المغني رقم 1399، وانظر التدريب: 154.

الفصل الثالث: في اختلاف رواية الحديث

الفصل الثالث: في اختلاف رواية الحديث اختلاف الرواة ظاهرة لها أهمية كبيرة في علوم الحديث، لما تكشف عنه من الفوائد الحديثية في السند أو في المتن، أو فيهما. ذلك أنه عن طريق البحث الناقد المتعمق في هذه الظاهرة يتبين ما وقع في الحديث من الوهم لبعض الرواة، أو ما في سنده أو متنه من قدح أو غير ذلك، كما أنها أحيانا تكون مقوية للحديث كما في بعض أحوال زيادات الثقات في السند. ويضم هذا المبحث عشر أنواع من علوم الحديث، هي: 1 - زيادات الثقات. 2 و 3 - الشاذ والمحفوظ. 4، 5 - المنكر والمعروف. 6 - المضطرب. 7 - المقلوب. 8 - المدرج. 9 - المصحف. 10 - المعل.

وبعض هذه الأنواع إنما يتبين في أغلب الأحيان عن طريق تعدد السندن وقد يتبين على قلة بدون تعدد السند، مثل زيادة الثقة، فإنها قد ترد من راوي الحديث نفسه، وكالمدرج والمصحف، فإنهما قد يعرفان بغير نظر في رواية أخرى للحديث، لكن الأكثر فيها أن تعرف بتعدد السند لذلك أدرجنا مثل هذه الأنواع في هذا المبحث. واكتفينا بالتبينه على ذلك هنا، رفعا للالتباس، وحجبا للتظنن. 1 - زيادات الثقات: زيادة الثقة: هي ما يتفرد به الثقة في رواية الحديث من لفظة أو جملة في السند أو المتن. وهذا فن مهم عني به المحدثون، وفتشوا الأسانيد والروايات وتعبوا في البحث عنه، ثم اختلفوا في حكمه اختلافا كثيرا، حتى أخل ببحثه بعض الكاتبين. وبالنظر في التعريف نجدها تنقسم إلى قسمين، نلخص زبدة بحثهما فيما يلي: القسم الأول: الزيادة في السند: وفيها ما يكثر من اختلاف الرواة في وصل الحديث وإرساله. وكذا في رفعه ووقفه (¬1). ¬

_ (¬1) في رأينا يدخل في زيادة السند "المزيد في متصل الأسانيد"، وبعض صور معرفة الارسال الخفي، لكن العلماء أفردوا كلا منهما بنوع خاص، لما فيه من وصف خاص.

وقد ذهب الجمهور وأكثر أهل الحديث إلى ترجيح رواية الارسال على الوصل، وترجيح رواية الوقف على الرفع. لكن الراجح الذي عليه المحققون من أئمة هذا الفن هو ترجيح الوصل على الارسال، والرفع على الوقف، إذا كان راويهما حافظا متقنا ضابطا (¬1)، ولم تكن قرينة أقوى على ترجيح إرساله أو وقفه (¬2). قال الخطيب البغدادي (¬3): "وهذا القول هو الصحيح عندنا، لأن إرسال الراوي للحديث ليس بجرح لمن وصله ولا تكذيب له، ولعله أيضا مسند عند الذين رووه مرسلا أو عند بعضهم، إلا أنهم أرسلوه لغرض أو نسيان، والناسي لا يقضي له على الذاكر، وكذلك حال راوي الخبر إذا أرسله مرة ووصله أخرى لا يضعف ذلك أيضا، لأنه قد ينسى فيرسله، ثم يذكر بعده فيسنده، أو يفعل الأمرين معا عن قصد منه لغرض له فيه .. ". مثال ذلك: ما رواه الترمذي (¬4): حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا آدم بن أبي إياس حدثنا شيبان أبو معاوية حدثنا عبد الملك بن عمير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة: قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ساعة لا يخرج فيها، ولا يلقاه يها أحد، فأتاه أبو بكر .. ¬

_ (¬1) هذا ما نختاره في وصف الثقة كي تقبل زيادته كما صرح به طائفة من كبار الأئمة، ذكر بعضهم السخاوي في فتح المغيث: 88. وفصلنا شرح هذا الشرط في كتابنا الإمام الترمذي: 134 - 135. (¬2) ولذلك فإن هذا الفن دقيق جدا لتشابهه بالمعلل، خلافا لما جرى عليه كثير من الباحثين العصريين حيث يقدمون زيادة الثقة مطلقا. وانظر للاستيضاح: الإمام الترمذي 135. (¬3) في الكفاية: 411. (¬4) في الزهد: "باب معيشة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم": 4: 583 - 585.

قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب". ثم قال: "حدثنا صالح بن عبد الله حدثنا أبو عوانة عن عبد الملك بن عمير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن رسول الله صلى الله عليه خرج يوما .. ". وهذا إسناد مرسل والإسناد الأول متصل، وراوي الوصل فيه شيبان ثقة حجة (¬1) صاحب كتاب احتج به الجماعة. لذلك صحح الترمذي روايته للوصل. القسم الثاني: الزيادة في المتن: وهي أن يروي أحد الرواة زيادة لفظة أو جملة في متن الحديث لا يرويها غيره. وقد وقع الخلاف بين العلماء في حكم هذه الزيادة أكثر من سابقتها، ثم جاء أبو عمرو بن الصلاح فبحث فيها بحثا يمكن أن يحل كثيرا من الخلاف، ويحقق الرأي المحرر الواضح. وذلك أنه قسم الزيادة في المتن إلى ثلاثة أنواع: النوع الأول: أن تخالف الزيادة ما رواه الثقات، فهذه حكمها الرد. النوع الثاني: أن لا يكون فيه منافاة أو مخالفة أصلا لما رواه غيره. فهذه تقبل سواء كانت من الراوي نفسه بأن رواه ناقصا ومرة فيه تلك الزيادة، أو رواه هو فيه تلك الزيادة وغيره بدونها، لأنها بمثابة خبر منفصل تفرد به الراوي فيقبل منه (¬2). النوع الثالث: ما يقع هاتين المرتبتين، كزيادة لفظة معنوية ¬

_ (¬1) المغني والتقريب. (¬2) تأمل ما أورده صاحب التوضيح: 2: 17.

لم يذكرها سائر رواته فيخالف الزائد إطلاق الحديث، أو شيئا من وصفه. مثاله: ما رواه أبو مالك الأشجعي عن ربعي عن حذيفة: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ... وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا ظهورا .. ". أخرجه مسلم (¬1). تفرد أبو مالك الأشجعي برواية الحديث بهذه الزيادة: "تربتها". وجه تردد هذا القسم بين القسمين: أنه يشبه الأول من حيث إن ما رواه الجماعة عام لشموله جميع أجزاء الأرض، وما رواه المنفرد بالزيادة مخصوص بالتراب، وفي ذلك مغايرة في الصفة، ونوع مخالفة يختلف فيها الحكم. ويشبه القسم الثاني من حيث إنه لا منافاة بينهما. ولم يصرح ابن الصلاح بحكم القسم الأخير المتوسط بين المرتبتين، وقد اختلف فيه العلماء، فقبله مالك والشافعي لما عرفت من عدم المنافاة، ولم يقبله أبو حنيفة ومن وافقه، لأن الزيادة لما كانت تقتضي تغييرا للحكم فقد أصبحت من قبيل الزيادة المعارضة، فلا تكون مقبولة. وبسبب هذا الخلاف اختلف العلماء في العمل بموارد كثير من الزيادات، ومن ذلك أن الحنفية جوزوا التيمم بكل ما كان من جنس الأرض كالصخر والحصى، ولم يقيدوه بأن يكون ترابا. وخص الشافعية التيمم بأن يكون بالتراب فقط عملا برواية "وتربتها". وهذا التقسيم هو الذي نرجحه ونأخذ به، لأنه يوافق قواعد المحدثين في أنه يشترط لقبول الحديث ألا يكون شاذا، فالزيادة المنافية ما دامت دون روايات الحديث في القوة فهي غير مقبولة. فلا بد من تقييد ¬

_ (¬1) في المساجد: 2: 63 - 64.

قبول الزيادة بكونها غير منافية كما حققه الحافظ ابن حجر في شرح النخبة (¬1). ¬

_ (¬1) لكن الخطيب البغدادي نقل "في الكفاية: 424 - 425" عن الجمهور من الفقهاء وأصحاب الحديث: "زيادة الثقة مقبولة إذا انفرد بها". قال الخطيب. "ولم يفرقوا بين زيادة يتعلق بها حكم شرعي أولا يتعلق بها حكم، وبين زيادة توجب نقصانا من أحكام تثبت بخبر ليست فيه تلك الزيادة وبين زيادة توجب تغيير الحكم الثابت، أو زيادة لا توجب ذلك، وسواء كانت الزيادة في خبر رواه راويه مرة ناقصا ثم رواه بعد وفيه تلك الزيادة. أو كانت الزيادة قد رواها غيره ولم يروها هو". وأخذ بهذا بعض الكاتبين في هذا الفن من العصريين، تبعا مع ميله إلى ابن حزم الذي أفاض في الاحتجاج لهذا القول، "واتهم من يخالف ذلك بالتناقض". هكذا استند إلى نقل الخطيب وكلان ابن حزم وأطلق قبول الزيادة من الثقة، وفي ذلك لمحة إلى قبول زيادة الثقة ولو كانت مخالفة لأصل الحديث أو لما رواه غيره. وهذا خطأ نعيذ جمهور محدثي الأمة وفقهائها أن يتورطوا فيه، فإنه عين التناقض الذي تقحم ابن حزم وقذف به من يخالفه. وقد أوضح الحافظ ابن حجر حقيقة مذهب الجمهور واستنكر على من نسب إليهم هذا الاطلاق، قال الحافظ في شرح النخبة "80 - 81 نسخة شرح الشرح": "واشتهر عن جمع من العلماء القول بقبول الزيادة مطلقا من غير تفصيل. ولا يتأتى ذلك على طريق المحدثين الذين يشترطون في الصحيح أن لا يكون شاذا، ثم يفسرون الشذوذ بمخالفة الثقة من هو أوثق منه. والعجب ممن أغفل ذلك منهم مع اعترافه باشتراط انتفاء الشذوذ في حد الحديث الصحيح وكذا الحسن. والمنقول عن أئمة الحديث المتقدمين كعبد الرحمن بن مهدي ويحي القطان وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، والبخاري، وأبي زرعة، وأبي حاتم، والنسائي، والدارقطني، وغيرهم، اعتبار الترجيح فيما يتعلق بالزيادة وغيرها ولا يعرف عن أحد منهم إطلاق قبول الزيادة". انتهى كلام الحافظ ابن حجر. وهذا القول من ابن حجر قاطع في أن الزيادة يجب أن يقيد بأن تكون غير منافية، وهو تحقيق دقيق، بين الحجة، صارم البرهان، يجب أن لا يغيب عن باحث في هذا الفن.

2، 3 - الشاذ والمحفوظ: الشاذ في اللغة: المنفرد عن الجماعة، شذ يشذ ويشذّ شذوذا، إذا انفرد. وفي اصطلاح المحدثين: الشاذ ما رواه المقبول مخالفا لمن هو أولى منه لكثرة عدد أو زيادة حفظ. والمحفوظ: مقابل الشاذ، وهو ما رواه الثقة مخالفا لمن هو دونه في القبول. وينقسم الشاذ بحسب موضعه في الحديث إلى قسمين: شاذ في السند، وشاذ في المتن. مثاله: ما أخرجه الدارقطني (¬1) عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم، ويفطر ويصوم". فهذا حديث رجال إسناده ثقات، وقد صحح إسناده الدارقطني. لكنه شاذ سندا ومتنا: أما السند فلأنه خالف ما اتفق عليه الثقات عن عائشة أنه من فعلها غير مرفوع. وأما المتن فلأن الثابت عندهم مواظبته صلى الله عليه وسلم على قصر الصلاة في السفر، لذلك قال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام (¬2): "والمحفوظ من فعلها". أي رواية ذلك موقوفا عليها لا مرفوعا. والحكم في الشاذ أنه مردود لا يقبل، لأن راويه وإن كان ثقة، لكنه لما خالف من هو أقوى منه علمنا أنه لم يضبط هذا الحديث. فيكون مردودا. ¬

_ (¬1) في سننه: 2: 189 وقال: "وهذا إسناد صحيح". (¬2) برقم 340 وقد فصلنا بيان ذلك في الصلوات الخاصة: 131 - 132.

وهذا النوع دقيق جدا، لأنه يشتبه كثيرا بزيادة الثقة في السند أو المتن ويحتاج إلى نظر دقيق للفصل بينهما. هذا هو المشهور في الشاذ، وهو ما ذهب إليه الإمام الشافعي وغيره. وخالف الحاكم والخليلي في تعريف الشاذ، وذهبا فيه مذهبا آخر: قال الحاكم (¬1): "الشاذ من الروايات، وهو غير المعلول، فإن المعلول ما يوقف على علته أنه دخل حديث في حديث، أو وهم فيه راو، أو أرسله واحد فوصله واهم. فأما الشاذ فإنه حديث يتفرد به ثقة من الثقات وليس للحديث أصل متابع لذلك الثقة". وقال الخليلي في كتابه الارشاد (¬2): "الذي عليه حفاظ الحديث: الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد يشذ بذلك شيخ، ثقة كان أو غير ثقة، فما كان عن غير ثقة فمتروك لا يقبل، وما كان عن ثقة يتوقف فيه ولا يحتج به". وقد انتقد ابن الصلاح هذا الرأي الذي يتوسع في الحديث الشاذ بالأحاديث الغرائب والأفراد الصحيحة التي سبق أن ذكرنا أمثلة منها في الغريب (¬3)، فقد اتفق العلماء على تصحيح عدد كثير من الأحاديث الغريبة والأفراد، "مما يبين -كما قال ابن الصلاح- أنه ليس الأمر في ذلك على الاطلاق الذي أتى به الخليلي والحاكم". وبهذا يثبت أن الأليق في تعريف الشاذ ما عرفه به الإمام الشافعي رضي الله عنه. ¬

_ (¬1) في معرفة علوم الحديث: 119. (¬2) بعد أن ذكر كلام الشافعي: ق 7 آ- ب. (¬3) في ص 401.

4، 5 - المنكر والمعروف: اختلفت عبارات علماء المصطلح في تعريف المنكر، حتى يكاد يشتبه أمره لدى الناظر، والتحقيق الذي يتبين بالبحث أن ذلك الاختلاف يرجع إلى اختلاف مقصد كل طائفة منهم من استعمال هذا الاصطلاح. وقد وجدنا بالبحث في ذلك مسلكين للعلماء نفصلهما فيما يلي: المسلك الأول: اطلاق المنكر على نوع خاص من المخالفة وهو: ما رواه الضعيف مخالفا للثقة. وهذا القسم يقع في مقابلة المعروف. والمعروف هو: حديث الثقة الذي خالف رواية الضعيف. وعلى هذا كثير من المحدثين، وهو الذي استقر عليه هذا الاصطلاح عند المتأخرين، وعليه جرى الحافظ ابن حجر في النخبة وشرحها. المسلك الثاني: التوسع في إطلاق المنكر وأنه: ما تفرد به راويه، خالف أو لم يخالف ولو كان ثقة. وهذا يشمل صورا متعددة، اطلق المحدثون على كل منها "منكر" وهو مسلك كثير من المتقدمين، وهذه أمثلة مما وجدناه عنهم: 1 - قال الإمام أحمد في أفلح بن حميد الأنصاري، أحد رجال الصحيحين الثقات: "روى أفلح حديثين منكرين: أن النبي أشعر، وحديث: وقت لأهل العراق ذات عرق" (¬1). ¬

_ (¬1) هدي الساري: 2: 117.

فسمى الإمام أحمد هذين الحديثين منكرين لتفرد أفلح بروايتهما مع كونه ثقة. 2 - حديث أبي الزبير المكي قال: سألت جابرا عن ثمن السنور والكلب، فقال: زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك" هكذا أخرجه مسلم (¬1). ورواه النسائي قال: "أخبرني إبراهيم بن الحسن قال: أنبأنا حجاج بن محمد عن حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب والسنور إلا كلب صيد". قال أبو عبد الرحمن. "هذا منكر" (¬2). وهذا إسناد رجاله ثقات (¬3)، لكنه تفرد برواية "إلا كلب صيد" لذلك قال فيه النسائي: "منكر". ويمكن أن يدخل هذا في الشاذ لأن هذه الزيادة فيها مخالفة. 3 - قال الترمذي (¬4): "حدثنا الفضل بن الصباح بغدادي حدثنا سعيد بن زكريا عن عنبسة بن عبد الرحمن عن محمد بن زاذان عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السلام قبل الكلام" ... قال أبو عيسى: هذا حديث منكر، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. ¬

_ (¬1) مسلم: 5: 35. (¬2) النسائي: 7: 272. (¬3) كما قال الحافظ ابن حجر. انظر سبل السلام: 2: 323. (¬4) في "باب ما جاء في السلام قبل الكلام": 5: 59 - 60.

وسمعت محمدا يقول: "عنبسة بن عبد الرحمن ضعيف في الحديث ذاهب، ومحمد بن زاذان منكر الحديث". فقد حكم أبو عيسى الترمذي على الحديث بأنه "منكر" وهو مروي بإسناد فيه ضعيفان ولم يعرف الحديث من وجه آخر. 4 - حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقلم أظفاره ويقص شاربه يوم الجمعة قبل أن يخرج إلى الصلاة". أخرجه البزار والطبراني في الأوسط (¬1)، وفي سنده إبراهيم بن قدامة الجمحي "لا يعرف". فقال الذهبي (¬2) "هذا خبر منكر". وهذا من قليل استعمال المتأخرين لهذا الاصطلاح. أما حكم المنكر: فهو بالنسبة للاصطلاح الأول ضعيف جدا، لأن راويه ضعيف، وازداد بالمخالفة ضعفا. وأما بالنسبة للاصطلاح الثاني الذي يطلقه على الفرد وكذا الشاذ إذا أريد به ذلك فالحكم فيه حكم الغريب متنا وإسنادا والفرد المطلق، قد يكون صحيحا وقد يكون حسنا وقد يكون ضعيفا. ومن هنا يتعين على من يطالع كتب المحدثين أن يتفطن ويتنبه لاطلاق كلمة "منكر" ولا يتاثر بدافع التعجل فيضعف مالا يستحق التضعيف، ويتكلم بغير علم، كما وقع لبعض العصريين. قولهم: أنكر ما رواه فلان: قال السيوطي (¬3): "وقع في عباراتهم: أنكر ما رواه فلان كذا، ¬

_ (¬1) مجمع الزوائد: 2: 170 - 171. (¬2) في الميزان ترجمة إبراهيم بن قدامة: 1: 53 وانظر الصلوات الخاصة: 17. (¬3) في التدريب: 153.

وإن لم يكن ذلك الحديث ضعيفا، قال ابن عدي: أنكر ما روى بريد بن عبد الله بن أبي بردة: "إذا أراد الله بأمة خيرا قبض نبيها قبلها" قال: وهذا طريق حسن رواته ثقات وقد أدخله قوم في صحاحهم". انتهى، والحديث في صحيح مسلم. وقال الذهبي: أنكر ما للوليد بن مسلم من الأحاديث حديث حفظ القرآن "وهو عند الترمذي وحسنه وصححه الحاكم على شرط الشيخين" (¬1). 6 - المضطرب: المضطرب: اسم فاعل من اضطرب. أصله مادة "ضرب". يقال: اضطرب الموج أي ضرب بعضه بعضا. واضطرب الأمر اختل. والحديث المضطرب: هو الحديث الذي يروى من قبل راو واحد أو أكثر على أوجه مختلفة متساوية، لا مرجح بينها، ولا يمكن الجمع. فالمضطرب لا بد فيه مع اختلاف رواياته من شرطين: الأول: أن تكون متساوية في القوة بحيث لا يترجح منها شيء، فإن ترجح شيء فالحكم للراجح، ويكون محفوظا أو معروفا، ومقابله الشاذ أو المنكر. الثاني: أن لا يمكن التوفيق بينها. فإن أمكن إزالة الاختلاف ¬

_ (¬1) انظر دراسة الحديث بتفصيل في الصلوات الخاصة: 246 - 253.

بوجه صحيح زال الاضطرب، وإذا اختل شرط واحد من هذين الشرطين زال الاضطراب عن الحديث. والاضطراب بحسب موقعه في الحديث ينقسم إلى قسمين: الاضطراب في السند، وهو الأكثر، والاضطراب في المتن، وهو نادر (¬1). ومن أمثلة المضطرب: حديث زيد بن أرقم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذه الحشوش محتضرة، فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل: أعوذ بالله من الخبث والخبائث" (¬2). قال الترمذي: (¬3): "حديث زيد بن أرقم في إسناده اضطراب". وسبب اضطرابه أنه اختلف فيه على قتادة اختلافا كثيرا: فرواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن القاسم بن عوف الشيباني عن زيد بن أرقم. وقال هشام الدستوائي عن قتادة عن زيد بن أرقم. ورواه شعبة عن قتادة عن النضر بن أنس عن زيد بن أرقم. ورواه معمر عن قتادة عن النضر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا الاختلاف موجب لاضطراب الحديث. وحكم الاضطراب: أنه يوجب ضعف الحديث. لأنه يشعر بعدم ¬

_ (¬1) كما ذكر السخاوي في فتح المغيث: 101. (¬2) أخرجه أبو داود في مطلع السنن وابن ماجه رقم 296 - 297. (¬3) في مطلع جامعه، وفيه سبب الاضطراب، وانظر تحفة الأحوذي: 1: 15.

ضبط الراوي للحديث، ذلك أنه لما كان يروي الحديث تارة على وجه وأخرى على وجه آخر فإن ذلك معناه أنه لم يستقر الحديث في حفظه، وكذا إذا وقع التعارض بين الرواة المتعددين لا نعلم أيهم ضبط الحديث فنحكم بضعف الحديث بسبب ذلك. وللحافظ ابن حجر كتاب قيم في هذا الفن سماه "المقترب في بيان المضطرب". 7 - المقلوب: القلب في اللغة: صرف الشيء عن وجهه. والمقلوب في اصطلاح المحدثين، يمكننا أن نعرفه فنقول: هو الحديث الذي أبدل فيه راويه شيئا بآخر في السند أو المتن سهوا أو عمدا (¬1). وهذا فيما يبدو لنا أضبط تعريف للمقلوب. ومنه يمكن أن نقسم المقلوب تقسيما يحصر ما تفرق في مراجع هذا الفن، ذلك أن القلب بحسب موضعه إما أن يكون في السند أو المتن، وكلاهما إما أن يصدر من الراوي سهوا أو عمدا، ويعني المحدثون بهذين الأخيرين لما يتوقف عليهما من القبول والرد والجرح والتعديل. القسم الأول: ما وقع من الراوي سهوا كأن يكون متن الحديث لإسناد فينقلب على الراوي ويرويه بإسناد آخر. ¬

_ (¬1) قارن بلقط الدرر: 79، والتعليق على توضيح الأفكار: 2: 99.

مثل ما ورد عن إسحاق بن عيسى الطباع قال: حدثنا جرير بن حازم عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني". قال إسحاق بن عيسى: فأتيت حماد بن زيد فسألته عن الحديث فقال: وهم أبو النضر -يعني جرير بن حازم- إنما كنا جميعا في مجلس ثابت البناني وحجاج بن أبي عثمان معنا، فحدثنا حجاج الصواف عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني". فظن أبو النضر أنه فيما حدثنا ثابت عن أنس". وبهذا تبين انقلاب السند على الراوي وأنه جعل المتن لغير السند الذي روي به (¬1). وقد يقع السهو بأن توضع لفظة موضع لفظة من متن الحديث. ومن أمثلته ما رواه مسلم في حديث: "سبعة يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله". فقد جاء في هذه الرواية: "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله". وهذا قد انقلب على روايه "والحديث مروي في البخاري وغيره من طرق بلفظ "حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه" (¬2). ومما قيل فيه ذلك: حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ¬

_ (¬1) الحديث أخرجه على الصواب البخاري "متى يقوم الناس إذا رأوا الإمام": 1: 125، ومسلم: 2: 101 وما رواه إسحاق في وهم جرير أخرجه عنه الإمام أحمد في كتاب العلل ومعرفة الرجال: 1: 243، ورواه الترمذي عن البخاري في الجمعة "الكلام بعد نزول الإمام من المنبر": 2: 395. (¬2) البخاري في الجماعة "باب من جلس في المسجد .. ": 1: 129 ومواضع أخرى ومسلم في الزكاة "فضل إخفاء الصدقة": 3: 93.

صلى الله عليه وسلم: "إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه" (¬1). قال ابن القيم في زاد المعاد (¬2): " .. إن حديث أبي هريرة مما انقلب على بعض الرواة متنه وأصله، ولعله: "وليضع ركبتيه قبل يديه". وحكم هذا القسم أنه ضعيف، لأنه ناشيء عن اختلال ضبط الراوي للحديث حتى أحاله عن وجهه، وإذا كثر وقوع ذلك منه أدى إلى اختلال اتصافه بالضبط وضعف كل حديثه. القسم الثاني: ما وقع فيه القلب عمدا وهذا أخطر أقسام المقلوب، عني العلماء بدراسته وتحليله، وبينوا ما وراءه من أهداف للرواة والمحدثين تدفعهم إليه. نذكر منها: 1 - رغبة الراوي في إيقاع الغرابة على الناس، حتى يظنوا أنه يروي ما ليس عند غيره فيقبلوا على أخذ حديثه والتحمل عنه، كأن يكون الحديث مشهورا عن راوٍ من الرواة أو بإسناد من الأسانيد فيقلبه أحد الضعفاء الكذابين براوٍ أو إسناد آخر. وممن عرف بذلك من الضعفاء حماد بن عمرو النصيبي، وإسماعيل ابن أبي حية اليسع، وبهلول بن عبيد الكندي. ومثل له الحافظ العراقي بما رواه عمرو بن خالد الحراني عن حماد بن عمرو النصيبي عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا: "إذا لقيتم المشركين في طريق فلا تبدءوهم بالسلام ... ". ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود "كيف يضع ركبتيه قبل يديه": 1: 222، والترمذي صدر الحديث فقط بنحوه: 2: 58، والنسائي على الوجهين: 2: 163. (¬2): 1: 57 وفيه تحليل مطول، وانظر تعليقه على السنن: 1: 399 - 400.

هذا مقلوب السند، قلبه حماد بن عمرو وجعله عن الأعمش، وهو معروف من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة. قال العقيلي: "لا نحفظ هذا من حديث الأعمش إنما هذا من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه". وهذا صنيع، يقدح في عدالة صاحبه، ويدرجه في زمرة الهالكين المتهمين بالكذب. ويكون الحديث الذي قلبه من نوع المختلق الموضوع. وإذا كان الراوي المبدل به قد تفرد بالحديث فإن هذا القلب يسمى "سرقة الحديث"، ويقال في فاعله إنه يسرق الحديث. وربما قيل في الحديث نفسه مسروق (¬1). 2 - رغبة الراوي في اختبار حفظ المحدث، أهو حافظ أم غير حافظ. وهل بقي على حفظه أو دخله الاختلاط، كما أنهم يختبرون به تيقظ الراوي وحسن انتباهه، هل يقبل التلقين أولا (¬2)؟ فإن معرفة الحديث المقلوب تحتاج إلى سعة في الحفظ واتقان دقيق لمعرفة الروايات والأسانيد. وكان أهل الحديث يسلكون هذا الطريق من الاختبار كثيرا: قال العجلي: "ما خلق الله أحدا كان أعرف بالحديث من ابن معين، لقد كان يؤتى بالأحاديث قد خلطت وقلبت، فيقول: "هذا كذا، وهذا كذا، فيكون كما قال". وأشهر اختبار فعله المحدثون مما دونته لنا مصادر التاريخ اختبارهم ¬

_ (¬1) فتح المغيث: 115، وقارن بالتعليق على توضيح الأفكار: 2: 100. (¬2) راجع ص 86، وسنفصل بحث التلقين في مقام آخر إن شاء الله.

للإمام العظيم محمد بن إسماعيل البخاري لما ورد مدينة بغداد. وكانت شهرته قد سبقته في الآفاق، فعمد أصحاب الحديث إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها، ودفعوها إلى عشرة أنفس، إلى كل رجل عشرة، وأمروهم إذا حضروا المجلس يلقون ذلك على البخاري، وأخذوا الوعد للمجلس، فحضر المجلس أصحاب الحديث من الغرباء والبغدايين، فلما اطمأن المجلس بأهله انتدب إليه رجل من العشرة، فسأله عن حديث فقال: لا أعرفه، فما زال يلقي عليه حديثا بعد آخر حتى فرغ من عشرته، وهكذا حتى فرغوا من الأحاديث المائة المقلوبة، والبخاري لا يزيدهم على "لا أعرفه" فلما علم أنهم فرغوا التفت إلى الأول منهم فقال: أما حديثك الأول فهو كذا، وحديثك الثاني فهو كذا وهكذا إلى آخر الأحاديث المائة، فرد كل متن إلى إسناده، وكل إسناد إلى متنه، فأقر له الناس بالحفظ وأذعنوا له بالفضل (¬1). 8 - المدرج: الإدراج لغة: جعل شيء في طي شيء آخر. وفي اصطلاح المحدثين: ما ذكر في ضمن الحديث متصلا به من غير فصل وليس منه. وقد قسموا الإدراج بحسب موضعه إلى قسمين: مدرج المتن، ومدرج الإسناد. ¬

_ (¬1) تاريخ بغداد: 2: 20. وقارن بـ 15 - 16، وانظر طبقات الشافعية: 2: 218. والبداية: 1: 25، وهدي الساري: 2: 200.

القسم الأول: مدرج المتن وهو ما ذكر في ضمن متن الحديث من قول بعض الرواة الصحابي أو من دونه موصولا بالحديث، من غير فصل بين الحديث وبين ذلك الكلام، أي من غير أن يذكر قائله فيؤدي عدم الفصل إلى الإلتباس على من لا يعلم حقيقة الحال، ويتوهم أن الجميع من أصل الحديث. والإدراج في المتن قد يقع في آخر الحديث وهو الأكثر، أو في وسطه، أو في أوله وهو قليل نادر. وغالبا ما يكون الإدراج في المتن تفسيرا لعبارة في الحديث، وقد يكون استنباطا لحكم منه ظنه السامع جزءا منه فأدرجه فيه. ومن أمثلة مدرج المتن: حديث عائشة رضي الله عنها في بدء الوحي: "أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله (¬1) .. جملة "وهو التعبد" مدرجة في الحديث من كلام الزهري، لتفسير "يتحنث" (¬2). القسم الثاني: مدرج الإسناد ذكر العلماء لإدراج السند صورا متعددة يمكن أن تجمل فيما يلي: 1 - أن يسمع الراوي حديثا عن جماعة مختلفين في إسناده، فيرويه عنهم بإسناد واحد، ولا يبين اختلافهم. ¬

_ (¬1) البخاري في مطلع جامعه، ومسلم في الإيمان: 1: 97. (¬2) شرح مسلم: 2: 198 - 199 وفتح الباري: 1: 17.

ومما وجدناه من هذا ما رواه أبو داود (¬1): حدثنا سليمان بن داود المهري أخبرنا ابن وهب أخبرني جرير بن حازم وسمى آخر عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة والحارث الأعور عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "فإذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم ... ". هذا قد أدرج فيه إسناد في آخر، ذلك أن عاصم بن ضمرة رواه موقوفا على علي، والحارث رواه مسندا أي مرفوعا، والحارث متهم بالكذب، فجاء جرير بن حازم وجعله مرفوعا من روايتهما. وقد ذكر أبو داود أن شعبة وسفيان وهما من جبال العلم وكذا غيرهما رووا الحديث عن أبي إسحاق عن عاصم عن علي ولم يرفعوه، فعلمنا من ذلك أن جريرا قد داخله الوهم فجعل الحديث مرفوعا من رواية عاصم أيضا وأدرجها مع رواية الحارث. 2 - أن يكون المتن عند راو إلا طرفا منه، فإنه عنده بإسناد آخر، فيرويه عنه راو تاما بإسناد واحد، ونحوه فيما نرى إذا كان عنده حديثان بإسنادين فجمع بينهما بإسناد واحد. ومن أمثلة هذه الصورة: حديث سعيد بن أبي مريم عن مالك عن الزهري عن أنس مرفوعا: "لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تنافسوا ... ". قوله: "ولا تناقسو" مدرج في الحديث بهذا السند، إنما هو من حديث آخر رواه مالك عن أبي الزناد عن أبي هريرة مرفوعا (¬2) ... ¬

_ (¬1) في الزكاة: 2: 100 - 101. وانظر نصب الرابة: 2: 328 - 329. (¬2) الحديثان من المتفق عليه. البخاري في الأدب: 8: 19، ومسلم في البر والصلة: 8: 9 و 10، وانظر فتح الباري: 10: 371 - 372؟ .

3 - أن يسوق المحدث إسناد حديث، ثم يعرض له عارض فيقول كلاما من عند نفسه فيظنه بعض السامعين متن ذلك الإسناد، فيرويه به. مثال هذه الصورة قصة ثابت بن موسى الزاهد المشهورة، في روايته "من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار". فقد دخل ثابت بن موسى على شريك بن عبد الله القاضي وهو يقول: "ثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم". فدخل ثابت عليه، فلما نظر إلى ثابت ذكر ذلك يريد به ثابتا لزهده وورعه. فظن ثابت أن ذلك سند الحديث فكان يحدث به بهذا الإسناد (¬1). وهذا عده ابن الصلاح شبه الوضع، وعده بعض العلماء موضوعا، واختار الحافظ ابن حجر أن يعد من المدرج، وهو أولى لأن معنى الإدراج فيه أظهر. كيف يعرف المدرج: لما كان الإدراج في الحديث ذا أثر خطير، لما يترتب عليه أحيانا أن يجعل من الحديث ما ليس منه، فقد شدد العلماء البحث عنه، وتحروا، وأخذوا فيه بالحيطة، فوضعوا لكشفه وسائل عديدة تحقق معرفته، وكشفه، وهي: 1 - ورود رواية تفصل القدر المدرج عن أصل الحديث، وهذا ظاهر جدا. 2 - أن يرد التنصيص على ذلك من الراوي نفسه، أو من أحد الأئمة المطلعين. 3 - أن يعرف الإدراج من ظاهر سياق الحديث، كما في حديث ¬

_ (¬1) أخرجه عند ابن ماجه "باب قيام الليل" رقم 1333 وانظر حاشية السندي: 1: 400.

إن بلالا يؤذن بليل، أو باستحالة صدور ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل حديث أبي هريرة مرفوعا (¬1): "للعبد الملوك الصالح أجران، والذي نفسي بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك". وظاهر أنه يستحيل منه صلى الله عليه وسلم أن يتمنى الرق، لأنه غير لائق بالنبوة، كما أن أمه لم تكن إذ ذاك موجودة حتى يبرها، فعلمنا من ذلك أن قوله "والذي نفسي ... إلخ" ليس من الحديث، وإنما هو مدرج فيه من كلام أبي هريرة. حكم المدرج والإدراج: والمدرج من أنواع الحديث الضعيف؛ لأنه إدخال في الحديث لما ليس منه، وهذا المدرج وإن كان ربما صح أو حسن من حيث احتمال وروده من طريق أخرى يصح بها، لكن هذا لا يمنع الحكم عليه بالضعف هنا؛ لأننا نحكم عليه من حيث دخوله في هذا الحديث الذي وقع فيه الإدراج وظاهر أنه ليس منه. ثم الإدراج إن وقع خطأ وسهوا فلا يؤاخذ عليه صاحبه، إلا إذا كثر منه وقوع ذلك، فإنه يكون حينئذ جرحا في ضبطه. وأما الإدراج عن تعمد فهو حرام بإجماع أهل الحديث والفقه، حتى قال ابن السمعاني: "من تعمد الإدراج فهو ساقط العدالة، وممن يحرف الكلم عن مواضعه، وهو ملحق بالكذابين (¬2) ". واستثنى السيوطي (¬3) من تحريم الإدراج العمد ما كان لتفسير ¬

_ (¬1) البخاري في العتق "العبد إذا أحسن عبادة ربه": 3: 149، ومسلم في الإيمان: 5: 94. (¬2) و (¬3) تدريب الراوي: 178.

غريب فإنه لا يمنع، ويؤيده في ذلك صنيع أئمة الحديث المعتمدين، كالزهري وغيره، لكن الأولى أن ينص على ذلك، وأن يميزه من عرفه. وقد جمعت الأحاديث المدرجة في تأليف خاص، يسر سبيل معرفتها على الناس، وهو كتاب "الفصل للوصل المدرج في النقل" للخطيب البغدادي، نقحه الحافظ ابن حجر وزاد عليه قدره مرتين وأكثر، في كتابه "تقريب المنهج بترتيب المدرج" فجاء أوسع كتب هذا النوع وأعظمها فائدة. 9 - المصَحَّف: التصحيف لغة: تغيير اللفظ حتى يتغير المعنى المراد، وأصله الخطأ، يقال: صحَّفه فتصحَّف، أي غيره فتغير. وعند المحدثين: تحويل الكلمة في الحديث من الهيئة المتعارفة إلى غيرها (¬1). وهذا فن جليل، لما يحتاج إليه من الدقة والفهم واليقظة، لم ينهض به إلا الحفاظ الحاذقون، قد عني به المحدثون وبضبطه. وقسموه إلى عدة تقسيمات، كي يكون طالب الحديث على غاية التنبه والتفطن له. فهو ينقسم بحسب موضعه إلى قسمين: تصحيف في السند: مثل جواب التيمي، قرأه حبيب كاتب مالك: جراب. وأبي حُرّة، قرأه بعضهم أبو جَرّة. ¬

_ (¬1) قارن بفتح المغيث: 359

وتصحيف في المتن: مثاله ما رواه عبد الله بن لهيعة عن كتاب موسى بن عقبة إليه بإسناده عن زيد بن ثابت "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم في المسجد". فقد تصحف عليه، وإنما هو بالراء "احتجر في المسجد بخص أو حصير حجرة يصلي فيها" (¬1) احتجر: أي اتخذ حجرة فصحفه ابن لهيعة لكونه أخذه من كتاب بغير سماع. ومثل حديث: "نهيه صلى الله عليه وسلم عن الحلق قبل الصلاة في الجمعة". صحفه كثير من المحدثين ورواه "الحلق". قال الخطابي (¬2): "قال لي بعض مشايخنا: لم أحلق رأسي قبل الصلاة نحوا من أربعين سنة بعدما سمعت هذا الحديث"! ! وينقسم التصحيف تقسيما آخر بحسب نشأته إلى قسمين: تصحيف بصر، وهو الأكثر، كالأمثلة السابقة. وتصحيف سمع نحو حديث لعاصم الأحول، صحفه بعضهم فقال: واصل الأحدب. وهذا كما ذكر الدارقطني تصحيف سمع لا بصر، لأنه لا يشتبه في الكتابة لكنه يشتبه في السمع. وينقسم قسمة ثالثة: إلى تصحيف اللفظ، بأن يقع التغيير على نفس اللفظ كالأمثلة السابقة. وتصحيف يتعلق بالمعنى دون اللفظ بأن ينطق باللفظ كما هو لكن يضعه لغير معناه المراد في الحديث، مثل ما يذكر عن الحافظ محمد بن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في "صلاة الليل": 1: 143، والأدب "الغضب لأمر الله" 8: 28، ومسلم في المسافرين: 2: 188، ورواية ابن لهيعة في المسند: 5: 185 مصحفة. (¬2) في كتابه إصلاح خطأ المحدثين: 12 - 13.

موسى العنزي أنه قال يوما: "نحن قوم لنا شرف، نحن من عنزة، قد صلى النبي صلى الله عليه وسلم إلينا" يريد حديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى عَنزة" متفق عليه (¬1) توهم أنه صلى إلى قبيلتهم، وإنما العنزة ههنا حربة نصبت بين يديه فصلى إليها. وقسمة الحافظ ابن حجر (¬2) قسمة رابعة إلى قسمين: الأول المصحف: وهو ما غير فيه النقط، الثاني المحرف وهو ما غير فيه الشكل مع بقاء الحروف. ثم إن التصحيف إذا صدر من المحدث نادرا لا يعاب به، ولا يطعن فيه، لكن إذا كثر منه ذلك دل على ضعفه، لأنه ليس من أهل هذا الشأن. وظاهر أن ما وقع فيه التصحيف مردود، وإن كان أصل الحديث ربما يكون صحيحا. والسبب في وقوع التصحيف والإكثار منه إنما يحصل غالبا للآخذين من بطون الكتب والصحف، دون تلق للحديث عن أستاذ من ذوي الاختصاص، لذلك حذر أئمة الحديث من الأخذ عمن هذا شأنه، وقالوا: "لا يؤخذ الحديث من صحفي". وقد ألف المحدثون في الحديث المصحف كتبا كثيرة، نبهوا فيها على تصحيفات الرواة والمحدثين، وفي كثير منها ما يضحك اللبيب، لكنهم لم يقصدوا بها الحط ممن وقعت منهم، إنما قصدوا التنبيه عليها حتى لا يغتر بها أحد، أو يقع في مثلها. ¬

_ (¬1) البخاري: "أبواب سترة المصلي": 1: 102، ومسلم: 2: 56. (¬2) في شرح النخبة: 35 - 36 وانظر التدريب: 386.

ومن أشهر هذه المصنفات: 1 - "إصلاح خطأ المحدثين" لأبي سليمان حمد الخطابي "388". 2 - "التصحيف" للدارقطني "385 هـ" وهو تصنيف مفيد، توسع مؤلفه فأورد فيه كل تصحيف وقع للعلماء حتى في القرآن الكريم. 10 - المعلل: كذا اشتهر استعمال هذا الاصلاح عند المحدثين، ووقع في كلام بعضهم "حديث معلول"، وكلاهما منتقد بأنه لا يساعد استعمال المحدثين من حيث اللغة، فإنهم يستعلمونه فيما وجد فيه وصف قادح. وهذا الأولى فيه أن يقال "معل"، لأنه مشتق من أعله الرباعي. والعلة: سبب خفي غامض يطرأ على الحديث فيقدح في صحته. والحديث المعلل: هو الحديث الذي اطلع فيه على علة تقدح في صحته، مع أن ظاهره السلامة منها. ولما كان البحث في هذا النوع يكتنفه الغموض كان أجل معارف المحدثين وأعلاها وأشرفها. تظهر فيه عظمتهم، وعظمة نهجهم النقدي الذي يبلغ الأعماق السحيقة، ليستخرج ما فيها من آفة تضعف الحديث، وتزيل عن حقيقة الضعف قشرة الصحة الظاهرة التي تستره. وينقسم الحديث المعل بحسب موقع العلة إلى معل في السند، ومعل في المتن، ومعل فيهما.

القسم الأول: المعلل في السند وهو الأكثر والأغلب وهذا القسم قد تكون العلة قادحة في السند وقادحة في المتن، بأن كان لا يعرف إلا من راو واحد. ثم ظهرت فيه علة، كالاضطراب، أو الانقطاع الباطن، أو وقف المرفوع ... ومن أمثلة ذلك "حديث ابن جريج عن موسى بن عقبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: "من جلس مجلسا كثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه". هذا حديث ظاهره الصحة حتى اغتر به غير واحد من الحفاظ وصححوه لكن فيه علة خفية قادحة. والصواب فيه ما رواه وهيب بن خالد الباهلي عن سهيل عن عون بن عبد الله من قوله، أي ليس بمرفوع. فقد خالف وهيب موسى بن عقبة. وقضى له البخاري بالرجحان وصرح بأنه لا يعرف في الدنيا في هذا الباب بسند ابن جريج بهذا إلا هذا الحديث، قال: ولا نذكر لموسى سماعا من سهيل. فجاءت هذه القرائن لترجح من خالف موسى بن عقبة. وقد تكون العلة الواقعة في الإسناد غير قادحة في المتن، وذلك إذا كان الخلاف فيما له أكثر من طريق، أو في تعيين واحد من ثقتين. ومن أمثلة ذلك مما وجدناه: حديث جريج عن عمران بن أبي أنس بن مالك بن أوس بن الحدثان عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في الإبل صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البقر صدقتها وفي البر صدقته". فهذا إسناد ظاهره الصحة حتى اغتر بظاهره الحاكم. وصححه على

شرط الشيخين ووافقه الذهبي (¬1). وهذا التصحيح فيه نظر كبير، فإن الترمذي رواه في كتابه "العلل الكبير" ثم قال سألت محمد بن إسماعيل -يعني البخاري- عن هذا الحديث فقال: ابن جريج لم يسمع من عمران بن أبي أنس، هو يقول: حدثت عن عمران بن أبي أنس" (¬2). لكن هذا الإعلال للسند لا يقدح في صحة المتن، لأنه ورد من طريق أخرى صحيحة من رواية سعيد بن سلمة بن أبي الحسام قال حدثنا عمران بن أبي أنس عن مالك بن أوس بن الحدثان عن أبي ذر إلى آخره فصح المتن لثبوته من طريق ثانية صحيحة. القسم الثاني: المعل في المتن مثل حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطيرة من الشرك، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل" (¬3). فهذا الحديث صحيح ظاهرا سندا ومتنا، إلا أن متنه معلول بعلة خفية، في قوله "وما منا إلا" قال البخاري: كان سليمان بن حرب يقول في هذا الحديث: وما منا ولكن يذهبه بالتوكل قال سليمان: هذا عندي قول عبد الله بن مسعود". قال الخطابي قوله: "وما منا إلا" معناه: إلا يعتريه التطير ويسبق ¬

_ (¬1) المستدرك: 1: 388. وانظر كتابنا الإمام الترمذي: 429. (¬2) نصب الراية: 2: 376 - 377، وانظر التلخيص الحبير: 184. (¬3) أخرجه أبو داود في آخر الطب، والترمذي أواخر السير صححه، وفي العلل، وابن ماجه رقم 3538. وقوله "إلا" ليس في الترمذي، وهو ثابت عنه في تعليق الخطابي والمنذري: 5: 374 - 375.

إلى قلبه الكراهة فيه. فحذف اختصارا للكلام واعتمادا على فهم السامع" انتهى. "ولكن الله يذهبه بالتوكل" أي يزيل أثر ذلك الوهم المكروه بسبب الاعتماد عليه تعالى والاستناد إليه سبحانه. ويؤيد الحكم بإعلال المتن أن صدر الحديث رواه غير واحد عن ابن مسعود بدون الزيادة (¬1). القسم الثالث: المعل في السند والمتن مثاله: ما أخرجه النسائي وابن ماجه (¬2) من حديث بقية عن يونس عن الزهري عن سالم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك ركعة من صلاة الجمعة وغيرها فقد أدرك". قال أبو حاتم الرازي (¬3): "هذا خطأ المتن والإسناد، إنما هو الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي الله عليه وسلم: "من أدرك من صلاة ركعة فقد أدركها"، وأما قوله من صلاة الجمعة فليس هذا في الحديث فوهم في كليهما". والحديث مروي من أوجه كثيرة في الصحيحين وغيرهما (¬4) على خلاف حديث بقية عن يونس، وهو دليل العلة في هذا الحديث. كيف يعرف الحديث المعل: لما كانت معرفة الحديث المعل دقيقة غامضة، وكانت من الأهمية ¬

_ (¬1) تحفة الأحوذي: 2: 400. (¬2) النسائي: 1: 220، ابن ماجه رقم 1123. (¬3) فيما نقل عن ابنه في كتاب العلل: 1: 172. (¬4) البخاري: في المواقت: 1: 112 و 116، ومسلم: 2: 102 وأبو داود: 1: 111، الترمذي: 1: 353، والنسائي: 1: 205، و 219 و 220، وابن ماجه رقم 699 و 700 و 1122.

بمكان كبير، رأينا أن ننبه على وسائل الوصول إليه مما استخرجناه من كلام أئمة هذا الشأن، وذلك بأحد الوسائل الآتية: 1 - أن يجمع المحدث اليقظ روايات الحديث الواحد، ويوازن بينها سندا ومتنا فيرشده اختلافها واتفاقها على موطن العلة، مع قرائن تنضم لذلك تنبه العارف. وهذا الطريق هو الأكثر اتباعا وهو أيسرها. وقد يحتاج إلى جمع أحاديث الباب كله وكل ما له علاقة بمضمون الحديث، وذلك يحتاج لحفظ غزير سريع الاستحضار. 2 - موازنة نسق الرواة في الإسناد بمواقعهم في عامة الأسانيد، فيتبين منه أن تسلسل هذا الإسناد تفرد عن المعروف من وقوع رواته في الأسانيد، مما ينبه على علة خفية فيه، وإن كانت هذه العلة يصعب تعيينها، وهذا أمر لا يدرك إلا بالحفظ التام والتيقظ الدقيق، وسرعة الاستحضار الخاطف لجمل الأسانيد في الدنيا. وهذا قد أدخله الحاكم في تعريفه للشاذ الذي تعرضنا له سابقا. فإنه قال (¬1) في حديث قتيبة بن سعيد: ثنا الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم سار ... إلخ. قال الحاكم: "هذا حديث رواته أئمة ثقات، وهو شاذ الإسناد والمتن. لا نعرف له علة نعلله بها ... ، ثم نظرنا فلم نجد ليزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل رواية، ولا وجدنا هذا المتن بهذه السياقة عند أحد من أصحاب أبي الطفيل، ولا عند أحد ممن رواه عن معاذ بن جبل عن أبي الطفيل. فقلنا: الحديث شاذ" .. إلى آخر كلامه. ¬

_ (¬1) في المعرفة: 119 - 120, وانظر ص 429 من كتابنا هذا.

ولولا أن لما ذكرنا أثرا في إعلال الحديث لما ذكره الحاكم. 3 - قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في شرح علل جامع الترمذي (¬1): "قاعدة مهمة: حذاق النقاد من الحفاظ لكثرة ممارستهم للحديث ومعرفتهم للرجال وأحاديث كل واحد منهم، لهم فهم خاص يفهمون به أن هذا الحديث يشبه حديث فلان، ولا يشبه حديث فلان، فيعللون الأحاديث بذلك ... وإنما يرجع فيه إلى مجرد الفهم والمعرفة التي خصوا بها عن سائر أهل العلم". 4 - أن ينص على علة الحديث، أو القدح فيه أنه معلل إمام من أئمة الحديث المعروفين بالغوص في هذا الشأن، فإنهم الأطباء الخبيرون بهذه الأمور الدقيقة. أنواع العلة: والأسباب التي يستنبطها المحدثون في تنقيبهم، ويعلون بها الأحاديث كثيرة مثل الإرسال أو الانقطاع في الموصول، والوقف في المرفوع، أو الإدراج في الحديث، أو وهم الثقة، بما يورث ضعف الحديث. قال الحاكم النيسابوري (¬2): "وإنما يعلل الحديث من أوجه ليس للجرح فيها مدخل، فإن حديث المجروح ساقط واه. وعلة الأحاديث: يكثر في أحاديث الثقات أن يحدثوا بحديث له علة، فيخفى عليهم علمه، فيصير الحديث معلولا. والحجة فيه عندنا الحفظ والفهم والمعرفة لا غير". ولما كان شأن العلل الدقة والخفاء توقف المحدثون كثيرا عن التصريح بما يعل به الحديث، إما لعدم استحضار عبارة يعبرون بها، أو لعدم قابلية السامع أن يتفهم. ¬

_ (¬1): 756 - 758. (¬2) في معرفة علوم الحديث: 112 - 113.

قيل لعبد الرحمن بن مهدي. إنك تقول للشيء: هذا صحيح. وهذا لم يثبت. فعمن تقول ذلك؟ فقال: أرأيت لو أتيت الناقد فأريته دراهمك. فقال: هذا جيد وهذا بهرج. أكنت تسأل عمن ذلك أو تسلم له الأمر؟ . قال: فهذا كذلك، بطول المجالسة والمناظرة والخبرة. وقال ابن مهدي أيضا: "في معرفة علل الحديث إلهام. لو قلت للعالم بعلل الحديث: من أين قلت هذا؟ لم يكن له حجة، وكم من شخص لا يهتدي لذلك" (¬1). والمقصود بهذا ما ذكرناه، لا أن الحكم في العلل أمر مزاجي لا مسوغ له في لغة العلم، لذلك عقب السخاوي على قولة ابن مهدي: "لم يكن له حجة" قال السخاوي (¬2): "يعني يعبر بها غالبا، وإلا ففي نفسه حجج للقبول وللرفض". وهذا دأب كل ذي اختصاص أن يحكم بممارسته، وكثيرا ما يغيب عنه التعبير عن المعنى الدقيق الذي في نفسه، وهذه كلمة أبي حاتم الرازي توضح ذلك حيث يقول: "مثل معرفة الحديث كمثل فص ثمنه مائة دينار وآخر مثله على لونه ثمنه عشرة دراهم". هذا وقد يطلق اسم العلة على غير ما ذكرنا، مما يجب التنبه له: قال ابن الصلاح: "ثم اعلم أنه يطلق اسم العلة على غير ما ذكرناه من باقي الأسباب القادحة في الحديث المخرجة له من حال الصحة إلى حال الضعف المانعة من العمل به على ما هو مقتضى لفظ العلة في الأصل، ولذلك نجد في كتب علل الحديث الكثير من الجرح بالكذب، والغفلة، وسوء الحفظ، ونحو ذلك من أنواع الجرح. ¬

_ (¬1) التدريب: 162. (¬2) فتح المغيث: 98، وفيه تصحيف قومناه.

وسمى الترمذي النسخ علة من علل الحديث. ثم إن بعضهم أطلق اسم العلة على ما ليس بقادح من وجوه الخلاف، نحو إرسال من أرسل الحديث الذي أسنده الثقة الضابط، حتى قال: من أقسام الصحيح ما هو صحيح معلول، كما قال بعضهم: من الصحيح ما هو صحيح شاذ" انتهى كلام ابن الصلاح. مصادر علل الحديث: عني أئمة الحديث النقاد بالتصنيف في هذا الفن، وأودعوا تصانيفهم زبدة أبحاثهم الدقيقة، وإليك نخبة من هذه الصفات. 1 - "العلل الكبير" أو المفرد للإمام الترمذي. وهو كتاب قيم متوسط الحجم أكثر فيه من الاعتماد على شيخه الإمام البخاري. جمعنا طائفة من نصوصه في بحث هام (¬1) هو أول بحث عن هذا الكتاب. 2 - "علل الحديث" للإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، طبع في مجلدين. 3 - "العلل الواردة في الأحاديث النبوية" للإمام الدارقطني. وهو أجمع ما صنف في هذا الفن العظيم. وتوجد منه عدة نسخ خطية. ¬

_ (¬1) في كتابنا "الإمام الترمذي" 425 - 437.

نتيجة وموازنة

نتيجة وموازنة: نستخلص من هذا الباب أن المحدثين شملوا بالبحث المقارن كل احتمالاته واستنتجوا الأنواع المشتركة بين السند والمتن، وذلك أن الحديث إما أن يتفرد به روايه حقيقة "غريب سندا ومتنا"، أو يتفرد به بوجه ما من أوجه التفرد النسبي "الغريب سندا لا متنا" و"الفرد". وإما أن يتعدد رواته مع الاتفاق أو يختلفوا في روايته: أما التعدد مع الاتفاق فقد استقصى المحدثون كل صوره من أدنى التعدد بأن يكون له طريقان "العزيز" أو ثلاثة فأكثر وكان جمعا محصورا "المشهور" أو يكون رواته جمعا يؤمن تواطؤهم على الكذب "المتواتر". وهذا التقسيم أدق من تقسيم الأصوليين الذين قسموا الخبر إلى قسمين فقط "المتواتر" الذي ذكرناه، و"الآحاد" وهو كل ما لم يبلغ درجة التواتر. أما تعدد رواة الحديث مع اختلافهم فيه فهذا الاختلاف إما بالزيادة والنقصان وهو "زيادات الثقات"، وإما بالباين بينهم، وقد استقصى المحدثون أوجه هذا الاختلاف وجعلوا لك واحد منها نوعا خاصا به على نحو ما سبق بيان في خاتمة الباب الخاسم (¬1)، فإنه ينطبق على هذه الأنواع المشتركة، ومن تأمل درساتها يتصح له دقة المحدثين في موازنة المرويات وأنهم لك يكتفوا في ذلك بأسانيد الحديث المبحثو وألفاظ منه بل اسحضروا أحاديث الباب، ثم قاموا باستقراء موقع الراوي بين حلقات الأسانيد من أجل كشف العلل الخفية، وهو استقراء عظيم يحتاج إلى خبرة وحافظة محيطة متيقظة سريعة الاسحضار، كما أعملوا النظر الناقد في المتون فساتخرجوا من موازنتها ما قد يفع في بعضها من العلل واستعانوا كذلك بالاحتكام إلى دلائل العقل والشرع لكشف العلة في المتن، نحو المدرج والمصحف، فجاءت دراساتهم لهذه المسائل الامضة الخطيرة آية في دقة البحث النقدي، وعظمة المنهج الذي وضعوه من أجل صيانة الحديث النبوي، والمحافظة عليه. ¬

_ (¬1) الخاص بأنواع المتن. انظر عرض ذلك في ص 342 - 343.

الخاتمة

الخاتمة: مناقشات ونتائج عامة: في نهاية هذا التطواف العلمي العقلي للبحث وراء علل الأخبار واحتمالات النقد فيها، نستخلص بشكل جازم قاطع شمول منهج المحدثين النقدي كل أوجه الاحتمال في جوانب الحديث كافة، سندا ومتنا، شمولا دقيقا متناسقا يشكلل نظرية وفلسفة نقدية كاملة، سندا ومتنا، شمولا دقيقا متناسقا يشكل نظرية وفلسفة نقدية كاملة، وذلك ما قد جلاه كتابنا هذا، بحمد الله وتوفيقه، فالأساس الأول هو أداء الراوي للحديث كما سمعه، وهذا يقتضي أولا دراسة الراوي، وقد حقق المحدثون ذلك بدراسات مستفيضة متنوعة دقيقة، وضعوا فيها شروط الراوي الثقة "العدالة والضبط، ثم وضعوا العلوم التي تكشف أمور الرواة، فبحثوا في اسمائهم وفي تواريخهم وأماكنهم وبما يتصل بهذه الأوصل من المسائل في ثلاثين نوعا من أنواع علوم الحديث، لها فروعها ومسائلها وتصانيفها الكثيرة التي تتناول جزئياتها بالنسبة لكل راو جزئية جزئية. ثم إن للحديث جوانب أخرى سوى شخص الراوي قد تدل على الضعف أو السلامة في النقل، وهي إما أن تكون قد أخذ الراوي أو أدائه للحديث أو في سلسلة السند أو في عين المتن، أو مشتركة بين السند والمتن، وقد استوفى المحدثون بحث ذلك كله وتتبعوا كل احتمال للقوة أو الضعف فيها حسبما درسناه مفصلا في كل باب من الأبواب

السابقة، ثم استخصلناه في نهاية كل باب نتيجة واضحة لا خفاء فيها. ومن هنا فقد جاءت أحكام المحدثين سليمة واضحة الحجة نيرة المحجة، قد أقام أهل الحديث بنيانها على الدراسة الشاملة لكل وجه من أوجه احتمال القوة أو الضعف ووضعوا كل حال منها في موضعه الملائم. ومن ثم نجد أحكامهم في القبول والرد تنقسم بدقة متدرجة تبدأ من قمة الصحة فيما أسموه أصح الأسانيد وما يحفه من قرائن أخرى، ثم باقي مراتب الصحيح فالحسن لذاته، فالحسن لغيره، إلى الضعف اليسير الذي قد يعمل به بشروط تقوي احتمال سلامته، ثم الضعف الشديد وهو الناشئ عن فحش الغلط والغفلة أو كون الراوي متهما بمفسق، وهذا متروك لا يلتف إليه، ثم ما هو مشر من ذلك كله وهو الكذب المختلق، لا تجوز روايته إلا على سبيل التحذير منه والتنبيه على كذبه. فهذا أسلم دقيق للقبول والرد أخذت كل درجة منه شروطها، وحكمها الملائم تماما، كما هو واضح جلي. وبناء على ذلك يمكن أن نلخص الحكم على أنواع الأحاديث عامة بتقسيمها إلى ثلاثة أقسام رئيسية: القسم الأول: المقبول الذي استوفى شروط القبول، بأي رتبة من مراتب القبول، ويندرج تحته هذه الأنواع، نسردها تبعا لفقد كل شرط منها: 1 - ما ضعف لاختلال العدالة: الموضوع، المتروك، المطروح. 2 - ما ضعف لاختلال الضبط: الضعيف، المنكر، المضطرب، المصحف، المقلوب، المدرج. 3 - ما ضعف لفقد الاتصال: المنقطع، المرسل، المعضل.

المعلق، المدلس، المرسل الخفي. وهذا القسم يرد للجهل بحال المحذوف فيحتمل أن يكون ضعيفا. 4 - ما ضعف لفقد شرط عدم الشذوذ، وهو الشاذ، والمنكر بالأولى، لأنه دليل على اختلال الضبط. 5 - ما ضعف لفقد شرط عدم العلة، وهو المعلل بأحد أوجه الإعلال، فهذا مردود، لأن العلة فيه إما من وهم الراوي، أو تبين الانقطاع في سند ظاهره الاتصال. وقد ظهر من ذلك أن مدار الشروط في الحقيقة على توفر العدالة والضبط، وسائر الشروط دلائل على هذين الشرطين اللذين لا بد منهما لتوفر أداء الحديث كما هو. القسم الثالث: المشترك بين القبول والمردود. وذلك لأنه لا يشتمل دائما على صفات القبول، بل تجتمع فيه أحيانا وتختل أحيانا أخرى. ويندرج تحت هذا القسم هذه الأنواع: الحديث القدسي: المرفوع، الموقوف، المقطوع، المتصل، المسند، المعنعن، المؤنن، المسلسل، العالي، النازل، المزيد في متصل الأسانيد (¬1) الغريب، الفرد، العزيز، المشهور، زيادة الثقة (¬2). ثم إن المحدثين لم يكتفوا بمجرد اختبار السند والمتن، بل قاموا بموازنة ضخمة بين الأحاديث سندا ومتنا استخرجوا بها أنواعا كثيرة من علوم الحديث أوضحها الباب السابع من كتابنا هذا مفصلا. ونجد أنهم في هذه المقارنة لم يكتفوا بعرض الحديث على أشباهه من الروايات، بل عرضوه أيضا على كل الدلائل العقلية والشرعية، كما في المعلل، والموضوع، والمدرج ... ¬

_ (¬1) وإن كانت الزيادة في الواقع غير صحيحة، لكن أصل الحديث يحتمل القبول أو الرد وانظر رقم 61 ص 364 - 365. (¬2) على تفصيل في أحوالها ذكرناه برقم 76 ص 423 - 427.

وهذا كله يثبت كيف أن بحثهم النقدي قد جاء شاملا لجوانب الحديث، ولكل الدلائل الخارجية التي ترشد إلى معرفة قوة الحديث أو ضعفه، مما يجعل كل مطلع متفهم منصف يقطع بسلامة أحكامهم على الأحاديث، وبأن منهجهم هو السبيل الوحيد المتكامل للوصول إلى تمييز المقبول من المردود من المرويات.

شبهات ومناقشات

شبهات ومناقشات: لكن بعض الناس ممن لم يتمعن منهج المحدثين وأعمالهم العلمية القيمة تصور هذا المنهج النقدي تصورا شائها يقلب حقيقته، ويغير الواقع تغييرا يدعو للنقد والاعتراض. وهو فيما يبدو ما وقع فيه كثير من المستشرقين الذين كتبوا عن هذا العلم، وإذا بهم ينتقدون عمل المحدثين ويطعنون فيه بمطاعن شاعت بينهم وإن كان قد حمل رايتها أحد كبرائهم مثل جولد تسيهر المستشرق المجري اليهودي، الذي فاق غيره، حتى "يعتبر الدارسون -أي المستشرقون واتباعهم- ما توصل إليه في هذا الصدد نتائج حاسمة على وجه العموم، وكان حسبهم عند التعرض للقضايا الأساسية والتفصيلات الجزئية أن يحيلوا على نتائج جولد تسيهر" (¬1). نقول هذا ونحن نحسن الظن، ولا نفترض أن ثمة في الصدور نزعة ¬

_ (¬1) قرر ذلك فؤاد سيزكين في بحث كتابة الحديث من كتابه "تاريخ التراث العربي: 1: 1: 225.والأستاذ سيزكين تلقى عن المستشرقين مدة طويلة وعرف أحوالهم واطلع على أبحاثهم.

تنزغ بأصحابها لتوجيه هذا الطعن، أو أية عوامل أخرى تدفع بعضهم إلى ذلك (¬1). والحقيقة أننا ما كنا لنعير شبهات هؤلاء القوم اهتمامنا، ولا نوليهم إشارة أبدا لولا أننا وجدنا من بني جلدتنا أتباعا ومنبهرين يعملون لنشر أفكارهم، ويرددون مقالاتهم. ولعل زيف هذه التقولات أضحى ظاهرا لقارئ هذا الكتاب أكثر من أي وقت مضى بسبب هذه الصياغة التي وفقنا إليها بفضل الله تعالى، والتي تظهر دقة فلسفة علم الحديث النقدية وإحاطتها بدرس الحديث من جميع جوانبه. ولذلك فإنا سنكتفي باليسير من التذكير للقارئ بالدلائل القاطعة بإبطال تلك المتقولات، نأتي بها بمثابة تلخيص لنتائج الأبحاث في هذه الخاتمة (¬2). ¬

_ (¬1) بين الأستاذ الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله أن قسما كبيرا من المستشرقين يعمل في دوائر استخبارات وزارات الخارجية للدول الأجنبية. انظر كتابه "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي": 21 - 28. (¬2) وقد نبهنا على بطلان طائفة من شبهاتهم في أثناء هذا الكتاب لتعلقها ببعض موضوعاته: ونستكمل هنا مناقشتهم ببحث انتقاداتهم التي تتناول جملة علو الحديث وعمل المحدثين.

أولا: تدوين الحديث وأثره في الفقه

أولا: تدوين الحديث وأثره في الفقه وهي شبهة شائعة حتى أصبحت كأنها مسلمة يلقيها بعض المتخصصين في الدراسات الفقهية على طلاب الجامعات يزعم أن تدوين الحديث تأخر عن تدوين الفقه وانتشار المذاهب الفقهية، وهو بزعمه الأمر الذي أدى إلى الخلاف بين الفقهاء، بل إن بعض من حمل هذه الفكرة من المتمجهدين قد زاد على ذلك وراح يبالغ إلى درجة توهم البعد بين بضع المذاهب الفقهية المعتمدة وبين السنة النبوية .. ! ! . وهذه الشبهة من أصلها قول من أبعد النجعة عن الحقيقة، وعمد إلى المبالغة في تضخيم الأثر المتوهم لتأخر تدوين الحديث المزعوم. والحقيقة التاريخية تثبت خلاف ما ادعاه هؤلاء، وذلك لما تقدمه فيما يلي: 1 - أن حفظ الحديث قد توفر لدى الصحابة رضوان الله عليهم بأقوى ما يكون، وكان جماعة من الصحابة على إحاطة بجملة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وجد في كل صقع وقطر من الأقطار من يؤدي بلاغ الحديث بجملته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة ثم من التابعين وهكذا، ناهيك عن حفظهم للقرآن واعتنائهم بدرسه والتفقه فيه، وهو الأصل الأول في التشريع، فكانوا بذلك بغنى عن التدوين لما وعته صدورهم من العلم. 2 - ما سبق أن ذكرناه من تحقق التدوين منذ عهده صلى الله عليه وسلم، وهو على كل حال يدل على أن الحديث حظي من التدوين والنشر بما لم يحظ به الفقه إلا بعد عهد. 3 - أن تدوين الفقه بدأ في ضمن تدوين الحديث، حيث جمعت المصنفات والموطآت الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة والمقطوعة (¬1) ¬

_ (¬1) كما سبق في ص 59 و 463، لكن هذا لا يعني أن القرن الثاني للهجرة لم يعرف "فرقا مذكورا بين كتب الفقه وكتب الحديث المصنف". بل عرف ذلك جيدا، فهذه كتب محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة هي كتب فقه خاصة. لكن وجدت كتب تضم الفقه والحديث، كما وجدت كتب الحديث فقط.

فالحقيقة أن العكس هو الصواب، وهو أن تدوين الحديث سبق تدوين الفقه، وانتشار المذاهب. 4 - أن أسباب الخلاف بين الفقهاء ترجع في حقيقتها إلى أمور جوهرية أوسع وأبعد مدى بكثير جدا من غيبة حديث أو رواية عن الفقيه، ولو استقصينا المسائل التي وقع فيها الخلاف بسبب ذلك لكانت مسائل يسيرة من أبواب الفقه، كثير منها في الآداب والمستحبات، أما سائر المسائل الخلافية فيرجع الخلاف فيها إلى أسباب جوهرية أخرى تتصل بطبيعة تلك المسائل الاجتهادية التي من شأنها ومن سنة الله أن تختلف فيها الفقهات والأفهام، سواء في ذلك قوانين الشريعة الإسلامية، والقوانين الوضعية، كما هو معلوم لمن ألم بأوضاع التطبيقات القانونية. وقد وقع الخلاف في عهده -صلى الله عليه وسلم- بين الصحابة في نص واحد وجهه إليهم جميعهم يوم بني قريظة (¬1)، ولم يعنف صلى الله عليه وسلم أحدا من الفريقين، وها هي ذي المصادر الإسلامية فيها الكثير مما يرويه الفقيه من حديث صحيح لا شك في صحته عنده ثم يخالف ما دل عليه ظاهر الحديث لقيام دليل آخر عنده على خلافه، أو لأن له فهما في النص غير الفهم الذي وقع لغيره، أو غير ذلك من الأسباب التي يطول شرحها، وموطأ مالك مثال ظاهر لذلك، فقد روى فيه أحاديث كثيرة، ولم يعمل بظاهرها (¬2). هذا كله وغيره كثير من الوجوه تبطل ادعاء تأخر تدوين الحديث عن تدوين الفقه، وتبطل زعم أن ذلك التأخر كان منشأ تفرق المذاهب الإسلامية الفقهية. ¬

_ (¬1) كما سبق في ص 29 من هذا الكتاب. (¬2) انظر على سبيل المثال ما سبق في ص 105.

ثانيا: التدوين وأثره في صحة الحديث

ثانيا: التدوين وأثره في صحة الحديث هذه دعوى اخترعها بعض غلاة المستشرقين من قديم، وأقام بناءها على وهم فاسد سبقت مناقشتة في بحث كتابة الحديث. يقول هذا الزعم: أن الحديث بقي مائيت سنة غير مكتوب، ثم بعد هذه المدة الطويلة قرر المحدثون جمع الحديث، وصاروا يأخذون عمن سمعوا الأحاديث، فصار هؤلاء يقول الواحدج منهم: سمعت فلانا يقول سمعت فلانا عن النبي صلى الله عليه وسلم. لكن لما أن الفتنة أدت إلى ظهور الانقسامات والفرق السياسية فقد قامت بعض الفرق بوضع أحاديث مزورة حتى تثبت أنها على حق. وقد قام عليماء السنة بدراسة أقسام الحديث ونوعوع إلى أقسام كثيرة جدا، وعلى هذا يصعب الحكم بأن هذا الحديث صحيح أو هذا الحديث موضوع (¬1). وقد سبق لنا في بحثو كتابة الحديث، وتأريخ الإسناد، وشروط الرواة، التحقيق الذي يغني عن نقاش هذا الزعم، فنكتفي بهذه الخلاصات للرد عليه هنا: 1 - أن تدوين الحديث قد بأ منذ العهد الأول في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وشمل قسما كبيرا من الحديث، كما حققناه بالأدلة القاطعة (¬2)، وأشرنا إلى أمثلة من تلك الكتابة. وننبه هنا إلى ما يجده المطالع للكتب المؤلفة في رواة الحديث من نصوص تاريخية مبثوثة في ¬

_ (¬1) من الفصول المترجمة من كتاب "دراسات في السنة الإسلامية" مع إدماج مسأةل كتابة الحخديث، وانظرها بعزوها في كتاب علوم الحديث ومصطلحه للدكتور صبحي الصالح. (¬2): 45 - 50.

تراجم هؤلاء الرواة تثبت كتابتهم للحديث بصورة واسعة جدا تدل على انتشار التدوين وكثرته البالغة، حتى لقد يقع في ظن الباحث أن الحديث قد دون جميعه منذ عهده المبكر (¬1). 2 - أن تصنيف الحديث على الأبواب في المصنفات والجوامع مرحلة متطورة متقدمة كثيرا في كتابة الحديث، وقد تم ذلك قبل سنة (200) للهجرة بكثير، بل أنه قد تم في أوائل القرن الثاني، بين سنة 120 - (130) هـ (¬2). بدليل الواقع الذي يحثدنا عن ذلك، فهناك جملة من هذه الكتب مات مصنفوها في منتصف المائة الثانية، مثل جامع معمر بن راشد " (154) " وجامع سفيان الثوري " (161) " وهشام بن حسان " (148) " وابن جريج " (150) " وغيرها كثير. وقد وجد العلماء بعض هذه الجوامع، ويجري الآن تحقيق جامع معمر بن راشد في الهند، ليكون إخراجه شاهد حق ودليل صدق على ما بيناه في هذه المسألة. 3 - أن علماء الحديث وضعوا شروطا لقبول الحديث تكفل نقله عبر الأجيال بأمانة وضبط، حتى يؤدي كما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أوضحنا من شروط الراوي التي توفر فيه غاية الصدق لما اجتمع فيه من الدوافع الدينية والاجتماعية والنفسية، مع الادراك التام لتصرفاته وتحمل المسؤولية، كما أنها توفر فيه قوة الحفظ والضبط بصدره أو بكتابه أو بهما معا مما يمكنه من استحضار الحديث وأدائه كما سمعه (¬3)، وكما أوضحناه من شروط الصحيح والحسن التي تكفل ثقة الرواة ثم سلامة تناقل الحديث بين حلقات الإسناد وسلامته ¬

_ (¬1) انظر على سبيل المثال فؤاد سيزكين في "تاريخ التراث العربي": 1: 1: 231 وما بعد، وفيه نقول هامة وتتبع جيد. (¬2) كما حدده أبو طالب المكي في قوت القلوب: 1: 350 وانظر تاريخ التراث: 1: 229. (¬3) كما بيناه في صفات من تقبل روايته وفروعها: 70 - 79.

من القوادح الظاهرة والخفية (¬1). ثم بما بيناه من دقة تطبيق المحدثين لهذه الشروط في الحكم على الحديث بالضعف لمجرد فقد الدليل على صحته، من غير أن ينتظروا قيام دليل مضاد له (¬2). 4 - أن علماء الحديث لم يكتفوا بهذا، بل تنبهوا إلى عوامل في الرواية المكتوبة لم يتنبه إليها هؤلاء المتطفلون بالاقتراح عليهم، فقد اشترط المحدثون في الرواية المكتوبة شروط الحديث الصحيح، لذلك نجد على مخطوطات الحديث تسلسل سند الكتاب من راوٍ إلى آخر حتى يبلغ مؤلفه، ونجد عليها إثبات السماعات وخط المؤلف أو الشيخ المسمع الذي يروي النسخة عن نسخة المؤلف أو عن فرعها .. فكان منهج المحدثين بذلك أقوى وأحكم، وأعظم حيطة من أي منهج في تمحيص الروايات، والمستندات المكتوبة. 5 - أن البحث عن الإسناد لم ينتظر مائتي سنة كما وقع في كلام الزاعم، بل قتش الصحابة عن الإسناد منذ العهد الأول حين وقعت الفتنة سنة (35) هجرية، لصيثانة الحديث من الدس (¬3). وقد ضرب المسلمون للعالم المثل الفريد في التفتيش عن الأسانيد، حيث رحلوا إلى شتى الآفاق بحاثا عنها، واختبارا لرواة الحديث، حتى اعتبرت الرحلة شرطا أساسيا لتكوين المحدث (¬4). 6 - أن المسلمين -كما تبين مما سبق. لم يغفلوا عما اقترفه الوضاعون وأهل البدع والمذاهب السياسية من الاختلاق في الحديث، بل بادروا لمحاربة ذلك باتباع الوسائل العلمية الكافلة لصيانة السنة في ¬

_ (¬1) كما أوضحناه في شروط الصحيح ص 242 - 243. (¬2) في الحديث الضعيف ص 286 - 287. (¬3) انظر ص 55 - 56. (¬4) انظر بحث هذا والتنبيه على حرصهم، حتى بلغ بهم أن يرحلوا في الحديث الواحد في ص 56 - 57.

قيود رواية المبتدع (¬1)، ولبيان أسباب الوضع وعلامات الحديث الموضوع (¬2). 7 - أن هذا التنوع الكثير للحديث ليس بسبب أحواله من حيث القبول أو الرد فقط، بل إنه يتناول إضافة إلى ذلك أبحاث رواته وأسانيده ومتونه، وهو دليل على عمق نظر المحدثين ودقة بحثهم، وقد بحثنا ذلك في جلاء في هذا الكتاب، فكان على هذا القائل أن يسلم لهم، كما أننا نستدل على دقة العلم وإحكام أهله له بتقاسيمه وتنويعاته. بل لا يعبد علما ما ليس فيه تقسيم أقسام وتنويع أنواع؟ ! ! 8 - إن علماء الحاديث قد أفردوا لكل نوع من الحديث وعلومه كتبا تجمع أفراد هذا النوع من أحاديث، أو أسانيد أو رجال، كما أوضحناه في بحث كل نوع في كتابنا هذا، فلا يصلح بعد هذا أن يقول قائل كيف نعرف هذا الحديث أنه صحيح من بين تلك الأنواع. ونحن نقول له: كذلك وقع التنوع في كل علم وكل فن، فلو قال إنسان كيف نحكم على هذا المرض بأنه كذا وأنواع الأمراض تعد بالمئات، وكيف نبين هذا المركب الكيمائي من بين المركبات التي تعد بالآلاف لحلناه على الخبراء المتخصصين ليأخذ منهم الجواب الشافي، والحل المقنع. فكما يرجع في الطب إلى الأطباء، وفي الهندسة إلى المهندسين وفي الكيمياء إلى علمائها، والصيدلة إلى أصحابها .... كذلك فارجع في الحديث إلى علماء الشرع المتخصصين في هذا العلم لأخذ البيان الجلي المدعم بالأدلة القاطعة عن كل حديث تريده وتود معرفة حاله. ¬

_ (¬1) ص 83 - 84. (¬2) ص 302 - 304.

ثالثا: المصطلح بين الشكل وبين المضمون

ثالثا: المصطلح بين الشكل وبين المضمون يقول المستشرقون: " .. إن وجهات النظر التي تبناها النقد الإسلامي للسنة لم يكن بإمكانها أن تساهم في تشذيب المادة المحترمة للأحاديث من الزيادات التي هي أكثر ظهورا إلا في مقياس محدود، ففي النقد الإسلامي للسنة تهيمن النزعة الشكلية في القاعدة التي انطلق منها هذا العلم. والعوامل الشكلية هي بصورة خاصة العوامل الحاسمية للحكم على استقامة وأصالة الحديث، أو كما يقول المسلمون على صحة الحديث، وتختبر الأحاديث بحسب شكلها الخارجي فقط، ثم إن الحكم الذي يمس قيمة مضمونها يتعلق بالقرار الذي يعطونه حول تصحيح سلسلة الرواة. وعندما ينتصر إسناد في امتحان هذا النقد الشكلي ويكون قد نقل به فكرة مستحيلة ملوثة بتناقضات خارجية وداخلية وعندما يقدم هذا الإسناد سلسلة غير منقطعة لشيوخ جديرين بالثقة تماما وعندما يبرهن على أن هؤلاء الأشخاص كان في إمكانهم أن يكونوا على صلة فيما بينهم فإن الحديث يعتبر عند ذلك صحيحا، ولا يبادرن أحد لأن يقوفل: بما أن المتن يتضمن استحالة منطقية أو تاريخية فإني أشك في أن يكون الإسناد منتظما" (¬1). هذا أخطر اشكالات المستشرقين وأشهرها، وإن كان أشدها ضعفا وأوضحها سقوطا، لكنهم عنوا بتسديده نحو قواعد المصطلح ليظهروا هذا العلم بمظهر العلم الناقص الذي يرى شيئا شكليا هو ما أسموه "النقد الخارجي" أي نقد السند، على حين أنه يعشو بصره عن أشياء خطيرة في النقد، حيث إنه بزعمهم لا يعتني بنقد المتن الذي يسمونه "النقد ¬

_ (¬1) من الفصول التي ترجمها لنا الزميل الدكتور عبد اللطيف الشيرازي الصباغ من كتاب "دراسات في السنة الإسلامية.

الداخلي"، وقد سرت العدوى بهذا الظن الخاطئ إلى بعض كتابنا ومفكرينا مثل الدكتور أحمد أمين (¬1)، والدكتور أحمد عبد المنعم البهي (¬2)، فقد كرر الدكتور أن هذا الطعن في المحدثين، بدافع من التقليد للمستشرقين وحب التظاهر على الناس بمعرفة شيء خفي بزعمهم عن الأئمة الكبار، من حيث إن هؤلاء المقلدة هم ومتبوعوهم ليسوا من علم المحدثين في ذلك المكان، ومَثَلُ الدكتورين في مقاليهما كمثَلِ تلميذ يتلقف ما يسمعه ثم يردده دون أن يدرك ما فيه من عظيم البهتان. ومن الدليل على ما قلناه: 1 - أن الدكتور أحمد أمين ذكر أنهم قسموا الحديث بحسب النقد الخارجي إلى صحيح وحسن وضعيف وشاذ .. إلخ. والحقيقة التي نعرفها منذ حداثة عهدنا بعلم الحديث أنهم قسموا الحديث بحسب النقد الداخلي والخارجي إلى الأقسام التي ذكرها، لا بحسب النقد الخارجي فقط. بيان ذلك أنك تجد من شرط الحديث الصحيح والحسن أن لا يكون شاذا ولا معلا، ثم نقرأ كلام القوم وإذا بهم يقسمون الذوذ إلى شذوذ في المتن وشذوذ في السند، كذلك يقولون: إن العلة قد تكون في المتن كما قد تكون في السند، فلو كان ناقد المحدثين اطلع على مؤلف يسير في علم الحديث أكان يجترى على أن يقول ما قال، بل إنا نكتفي منه أن ينظر نظرة في تعريف علوم الحديث إذا لوجده علما يبحث في أحوال السند والمتن، لكنه سقط فيما عابه بزعمه على المحدثين ¬

_ (¬1) في كتابه "ضحى الإسلام" 2: 130 و 131. (¬2) في مقاله المنشور في مجلة العربي الكويتية عدد/ 89/ ص 13.

بسبب تقليده للمستشرقين حيث إنه لم يتثبت ولم يعتبر ظروف المستشرقين التي هي أكبر دافع يدفع لاختلاق المطاعن، فحق عليه المثل رمتني بدائها وانسلت". 2 - أن المحدثين قد احتاطوا من النظرة الشكلية حيث قرروا قاعدة اتفقوا عليها وهي أنه لا تلازم بين صحة السند وصحة المتن، بالعكس أيضا فإنه لا تلازم بين ضعف السند وضعف المتن، وهذا واضح في قواعد هذا العلم مسلم به لا يحتاج إلى الاستكثار من النقول والتطويل بها (¬1). وهو يدل بما لا يدع مجالا للشك على أن المحدثين النقاد قد احتاطوا لكل احتمال وأعدوا له العدة العلمية في منهج موضوعي متعمق بعيد غاية البعد عن الشكلية والانخداع بالمظاهر. 3 - أن النقد الداخلي كان أول علوم الحديث وجودا حين كان الناس على العدالة، وذلك في عصر الصحابة كما سبق بيانه (¬2). والعجيب أن الدكتور أحمد البهي قال في آخر مقالته التي أومأنا إليها: "وقد ذكر العلماء وجوها في رد المتن بناء على معناه مع صحة السند ... "، ومثل لذلك بقصة فاطمة بنت قيس (¬3)، وقصة علي بن أبي طالب حين رد حديث معقل ابن سنان في مهر من مات عنها زوجها ولم يدخل بها ولم يسم لها مهرا فقال علي رضي الله عنه: "لا ندع كتاب ربنا لقول أعاربي بوال على عقبيه" (¬4). الأمر الذي يبين أن الكاتب غلب عليه التقليد فجاءت مقالته متناقضة ينسف آخرها أولها! ! ، وتثبت هي نفسها أن النقد الداخلي قد عني به المحدثون منذ قديم العهد برواية ¬

_ (¬1) انظر علوم الحديث 35 و 92، وغيره، وانظر ما سبق في ص 290 - 291 من هذا الكتاب. (¬2) في ص 53 - 54 من كتابنا هذا. (¬3) السابق ذكرها في ص 53 - 54 و 246. (¬4) انظر تحقيق نقد هذه الرواية عن علي في سبل السلام: 3: 151.

حديث النبي صلى الله عليه وسلم، بل إنا نجد أن نقد المتن يؤدي إلى الحكم على الحديث بأشد الأحكام وهو الوضع، حيث قرروا أن الوضع قد يعرف من النظر في المروي، كما سبق أن أوضحنا وجوهه العديدة. 4 - أن فكرة الاعتماد على النظر في المتن وحده ليست من اختراع المستشرقين، بل أن تجربتها قد سبقت في تاريخ المسلمين القديم على أيدي أناس جعلوا الرأي وحده يتحكم في المتون سلبا وإيجابا نفيا وإثباتا، وقد أسفرت التجربة عن أسواء النتائج وأغرب التناقضات. لقد استحسن بعض المتزهدين الجهلة وضع الحديث في الترغيب والترهيب وقالوا: "نحن نكذب له"، والوعليدإنما جاء لمن "كذب علي"، فجعلوا هذا العبث في النص الصريح ذريعة للاختلاق على النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنهم جهلوا أن فعل "كذب عليه" معناه ألصق به ما لم يقله، سواء أكان مؤيدا له أم طاعنا فيه، وهكذا أدى التصور الخاطئ بهذه الطائفة إلى أن تتصور أن كل كلام صحيح فإنه قاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصاروا يسندون ما يشاؤون إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو منه ومنهم براء. وفي الطرف المقابل نهض أناس لرفض المتون الصحيحة لمجرد بعدها عن خيالاتهم ومألوفاتهم، كما فعل بعض المبتدعة من المعتزلة وغيرهم، وإذا بهم يبلغون من الإسفاف مبلغا عظيما، حيث راحو يتحكمون إلى المشاهدات المادية المعتادة يقيسون عليها ما ورد من النصوص في عوالم مغيبة غير عادية، كالأحاديث في الملائكة أو الجن ينكرونها أو يتأولونها تأويلات هزيلة، حتى خرجوا بذلك عن نصوص الإسلام القطعية، بل عن الأديان السماوية، فلو رام أحدهم أن ينتقل إلى النصرانية لما وجد له فيها متنقلا، أو إلى اليهودية لم يجد متسعا .. ! ! .

وهذا كله يثبت أبلغ إثبات أن نقد المتون ليس له بمفرده تلك الجدوى إلا إذا كان في ضمن الاطار العام لنظرية النقد الشامل الذي سلكه المحدثون وانتهجواه. 5 - أن النقد الخارجي للأحاديث أن نقد الأسانيد الذي عابه العائبون وسموه شكليا يتصل اتصالا وثيقا بالنقد الداخلي أن نقد المتون، لأن إثبات ثقة الرواة وكونهم جديرين بالثقة هذا الذي استخف به تسيهر وأشياعه ليس عملا شكليا سطحيا، بل إنه مرتبط بالمتن ارتباطا قويا، وذلك لأن توثيق الراوي لا يثبت بمجرد عدالته وصدقه بل لا بد من اختبار مروياته بعرضها على روايات الثقات، فإن وجدنا رواياته موافقة ولو من حيث المعنى لرواياتهم أو موافقة لها في الأغلب والمخالفة نادرة عرفنا حينئذ كونه ضابطا ثبتا (¬1). وهذه كتب الجرح والتعديل ملأى بالجرح لرواية المناكير والأباطيل نسوق أمثلة لذلك من كتاب المغني في الضعفاء للإمام الذهبي: 80 - إبراهيم بن زكرياء الواسطي. قال ابن عدي: حدث بالبواطيل. وقال أبو حاتم: حديثه منكر. 82 - إبراهيم بن زيادة القرشي، عن خصيف، وعنه محمد بن بكار الريان بخبر منكر جدا، ولا يدر من هو؟ . 85 - إبراهيم بن زيد الأسلمي، عن مالك، وهاه ابن بان والدراقطني، وله عن مالك خبر كذب. 86 - إبراهيم بن سالم النيسابوريز قال ابن عدي: له مناكير. ¬

_ (¬1) انظر ما سبق في ص 83 - 84.

89 - إبراهيم بن سلم، قال ابن عدي: منكر الحديث لا يعرف. فهذه ست تراجم اخترناها من عشرة فقط من كتاب مختصر جدا في نقد الرواة يأتي جرحهم بنقد مروياتهم. وذلك يوضح قوة ارتباط نقد السند بالمتن وعلاقته بمرويات الرواة علاقة وشيجة لا يصح أن يدور حولها جدال. 6 - سبق أن بينا أن ظهور الفرق دعا علماء الأمة إلى تحري أحوال الرواة ودراستها من كافة الوجوه، ولا سيما بيئة الراوي ومذهبه، حتى إنهم لم يقبلوا رواية من يدعو لبدعة ولو كان الحديث الذي يرويه غير متعلق ببدعته (¬1)، فقد كانوا في الاحتياط أبلغ مما يريده المتطفلون عليهم وإننا ندعوا الناقدين كلهم أن يأتوا بحديث من كتب السنة الأصول يدل على وضعه ما ذكروه من عامل سياسي كدعم بني أمية أو غيرهم، أو عامل بيئة أو غير ذلك. اللهم إلا أن يكون بعض هؤلاء الوالغين في علم المحدثين قد اطلع على بعض تلك الأحاديث في كتاب "اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة" للإما السيوطي، أو في كتاب "تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة" للحافظ أبي الحسن بن عراق فحسب بما أوتي من السعة في علم الحديث أن هذه الكتب هي مصادر نقل السنة النبوية؟ ! فحق له أن يقول ما شاء له القول .. ! ! وحق للعقلاء المنصفين أن يقروا بحقيقة الجهود العظيمة والوسائل العلمية الدقيقة التي اتبعها المحدثون في خدمة الحديث. ¬

_ (¬1) انظر ما سبق في ص 83 - 84.

رابعا: منهج المحدثين في حقل تطبيقه

رابعا: منهج المحدثين في حقل تطبيقه يقول تسيهر ومن يقلده: "والناقد المسلم يبقى باردا أمام المناقضات للتاريخ وللعرف الاجتماعي ذات النوع الأكثر عامية "يعني أنها مسفة جدا" بشرط واحد هو أن يكون الإسناد بحسب القاعدة. والامتياز النبوي لمحمد هو وسيلة للتغلب على مثل هذا المشكلات". ثم يقول بعد ذلك: "ونوضح هذه الخصوصية لنقد الحديث عند المسلمين بذكر مثال مأخوذ من حقل تطبيقه نفسه، فيوجد بين الفئات العديدة من الأحاديث المغرضة فئة نستطيع أن نسميها فئة "أحاديث المذهب"، وهذه الأحاديث هي الأحاديث المختلفة في داخل نزعة مذهب علمي التي يقصد بها البرهنة على تفوق هذا المذهب في مقابل نزعة منافسة وأن يخلع شيئا من الثقل والقوة على آرائها المذهبية الخاصة. ولم تنتحل الأحاديث المغرضة بعدد كبير ضد البدع الاعتقادية فقط، بل إن الواضعين كانوا يدخلون النبي نفسه كحكم أعلى في الخلاف الذي يفصل بين علماء العراق وعلماء الحجاز، فللبرهنة على أن أبا حنيفة هو أفضل فقيه من فقهاء الشريعة الدينية اخترع تلامذته الحديث التالي: "يكون في أمتي يوما رجل يقال له أبو حنيفة وسيكون سراج الأمة". الحديث بشكل مباشر من فم النبي، ولم يجهدوا مطلقا في أن يجعلوا الناس يصدقون بأن النبي قد ذكر فعلا اسم العالم العراقي" (¬1). ¬

_ (¬1) من الفصول التي ترجمها لنا الزميل الدكتور عبد اللطيف الشيرازي الصباغ من كتاب "دراسات في السنة الإسلامية".

انتهت الترجمة الحرفية لما قاله بورشيه مستخلصا عن جولدتسيهر أستاذ المستشرقين المتحاملين على الإسلام. وقد كنت أتساءل عن المنهج الذي يريد هؤلاء الناس أن نأخذه عنهم كي نحسن نقد الروايات حتى عثرت عليه ظاهرا جليا في مناقشاتهم لأهل الحديث، وظهر أوضح ما يكون في هذه الكلمة التي يتحدث فيها عن مثال تطبيقي من علم الحديث، فإذا منهجهم المنتظر منهج متهافت يقوم على التسرع في الحكم والمجازفة، بعيدا عن التحقيق والرواية، حتى لقد أصاب هؤلاء الناقدون من أنفسهم المقاتل بطعنهم المفتعل في منهج المحدثين وتطبيقهم لقواعد الحديث. بيان ذلك: 1 - أن المحدثين قد ذكروا أن من دلائل الوضع في الحديث مخالفته للوقائع الحسية المشاهدة، أو للتاريخ، وذلك أمر مفروغ منه في كتب المصطلح، مطبق على أوسع نطاق في نقد الأحاديث كما يشاهد في كتب الأحاديث الموضوعة. وهذه واقعة لطيفة لها دلالتها الهامة جرت مع الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي سنة 447، قال الذهبي في تذكرة الحفاظ: "أظهر بعض اليهود كتابا بإسقاط النبي صلى الله عليه وسلم الجزية عن الخيابرة -يعني يهود خيبر-، وفيه شهادة الصحابة، فعرضه الوزير على أبي بكر؟ فقال: هذا مورو! قيل: من أين قلت هذا؟ ، قال: "فيه شهادة معاوية وهو أسلم عام الفتح بعد خيبر، وفيه شهادة سعد بن معاذ، ومات قبل خيبر بسنتين". فاستحسن الوزير ذلك منه ولم يقبل

منهم ما في هذا الكتاب (¬1). فهذا الناقد المسلم لا يتردد لحظة ولا يتوقف عن الحكم ببطلان الوثيقة المزورة التي أسندها إلى النبي صلى الله عليه وسلم أساتذة الأفك في العالم، وها نحن نجعل هذه التجربة التي خاضها أجداد تسيهر من قبل هدية إليه تعبيرا عن الموقف البارد الذي يزعمه في حق النقاد المسلمين. ولا ندري إذا كان تسيهر وأمثاله لا يزالون بعد هذا يقولون: "إن الناقد المسلم يبقى باردا أمام المناقضات للتاريخ وللعرف الاجتماعي ذات النوع الأكثر عامية". إذن فما الذي يمكن أن يعتبر موقفا حاميا والنووي، والعراقي والعسقلاني، في الأرض المقدسة، ولن يكون ذلك بعيدا بإذن الله تعالى. 2 - زعم أن الامتياز النبوي أي ادعاء كون الخبر المغيب أو الخارق للعادة معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم وسية للتغلب على التناقضات التاريخية في الأحاديث. وهذا القول منه غاية في المكابرة والبعد عن الحق، حيث أحال ¬

_ (¬1) التذكرة: 1141، وانظر طبقات الشافعية الكبرى: 4: 35، والإعلان بالتوبيخ للسخاوي: 10، والخطيب البغدادي للدكتور يوسف العش: 235، وقد أحال إلى هذه المصادر وغيرها، وأوردنا ذلك في تصديرنا لكتاب: "الرحلة في طلب الحديث" للخطيب البغدادي، مع واقعة أخرى في عتق سلمان ص 53 و 54. لكن الغريب أن القوم لم يرتدعوا بما حاق بهم من الخيبة بل حاولوا تثبيت هذه الوثيقة كرة ثانية فأحضروا هذا الكتاب بين يدي ابن تيمية رحمه الله وحوله اليهود يزفونه ويجلونه وقد غشي بالحرير والديباج فلما فتحه وتأمله بزق عليه وقال: هذا كذب من عدة أوجه وذكرها، فقاموا من عنده بالذل والصغار. انظر القصة وتفصيل الأوجه وهي عشرة في كتاب تلميذه ابن القيم: "المنار المنيف في الصحيح والضعيف": 102 - 105.

المعجزات وإبناء النبي صلى الله عليه وسلم عن الغيب إلى اختلاق الرواة عوضا من أن يجعله هذا الاعجاز يعيد النظر في موقفه، كما فعل بعض المستشرقين حيث اعتنق الإسلام حين انزاحت عن بصائرهم غشاوة التعصب. والحقيقة أن أنباء الغيب المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأسانيد الصحيحة الثابتة كثيرة تفوق درجة التواتر في جملتها، ويبلغ عدد كثير منها التواتر بمفرده، كالأحاديث الواردة في ظهور المسيح الدجال اليهودي وفي نزول المسيح عيسى بن مريم عليه السلام مما لا يسع أحدا إنكاره إلا أن ينكر عقله وحسه (¬1). وإذا كانت أنباء الغيب لا تقبل في زعم تسهير فلا ندري لماذا يتعب نفسه في الطعن على الإسلام واصطناع البحث العلمي من أجل ذلك وهو إنما يفعل ذلك لتشكيك المسلمين وتشتيتهم تمهيدا لتحقيق النبوءة المزعومة عن أرض الميعاد! على أن المسلمين لم يتلقوا أحاديث الخوارق وأنباء الغيب جزافا من غير تمييز، بل محصوها وفحصوها فصحا دقيقا ميزوا به الصواب من الخطأ والصدق من الكذب، وها هي ذي الأحاديث الكثيرة في ذم الأمويين وفي مدحهم وفي التنبئ ببعض الوقائع لهم تملأ بطون الكتب الخاصة بالأحاديث الموضوعة والتحذير منها، وها هي ذي أيضا الأحاديث الساقطة في فضل العباس وفي التنبي بدولة العباسيين والأحاديث فيهم مدحا أو غير ذلك قد جمعت في كتب الموضوعات والضعيفات التالفة للتحذير منها. أرأيت لو كان المحدثون يودون إثبات المعجزات ولو بالتلفيق أفما ¬

_ (¬1) انظر أحاديث هذين الأمرين في كتاب "التصريح بما تواتر في نزول المسيح" لفضيلة مولانا محمد شفيع ابن مفتي باكستان. واخترنا هذين المثالين لتوفر المرجع الذي يبحثهما ويجمع أحاديثهما.

كانوا يختارون من هذه الأحاديث ما فيه إنباء عن واقع مجرد بعيد عن المدح أو الذم على الأقل؟ ! فما لنا لا نجد لهذه الروايات ظلا في كتب السنة المعتمدة؟ ! ولماذا نجد كتب الموضوعات تحذر من جملة كبير من أحاديث المعجزات والخوارق ... ؟ ! 3 - إن الحديث الذي أورده على "أنه مأخوذ من حقل تطبيق هذا العلم نفسه" لهو نفسه برهان عظيم يثبت دقة نظر المحدثين، فإنهم قد وسموا بالكذب راويه مأمون بن أحمد السلمي الهروي منذ الأيام التي ظهر فيها وطلع على الناس بهذا الحديث ونحوه، وكان منه آنذاك عصرية الإمام أبو حاتم بن حبان البستي رحمه الله، كما نقل عنه الإمام الذهبي في ميزان الاعتدال (¬1). وقد كنت فيما خلا من الزمن أتساءل عن هؤلاء الناقدين (¬2) أن يكونوا اطلعوا في كتب الأحاديث الموضوعة والتالفة على بعض تلك الأحاديث التي يتذرعون بها فحسبوا بما أوتوا من السعة في علم الحديث أن هذه الكتب هي مصادر السنة النبوية؟ ! فقد -والله- وجدت ذلك واقعا بهم على أفحش وضع وأبينه سقوطا حيث مخرقوا على العالم بحديث موضوع كذبه المحدثون ونفوه منذ اللحظة الأولى لصدوره من آفكه! . 4 - قوله: "ولم يجهدوا مطلقا في أن يجعلوا الناس يصدقون بأن النبي قد ذكر فعلا اسم العالم العراقي". هذا قول مناقض للحقيقة وللواقع تماما، حيث إن هذا الحديث قد استنكر هو وأضرابه غاية الاستنكار من قبل العلماء كلهم ومن قبل العامة على حد سواء، حتى سقط راويه نفسه ولم يعد يسمع منه ¬

_ (¬1): 3: 429 - 430. (¬2) في المدخل إلى علوم الحديث: 17.

أحد، وقد قال الحاكم في المدخل (¬1)، بعد أن أورد هذا الحديث: "ومثل هذه الأحاديث يشهد من رزقه الله أدنى معرفة بأنها موضوعة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". فهل يصدق بعد هذا من زعم أن الناس تلقوا الحديث بالقبول حتى إن الواضعين بزعمه الفاسد ورأيه الكاسد "لم يجهدوا مطلقا في أن يجعلوا الناس يصدقونه"، أو أن الواقع هو عكس ذلك وأن الأمة جميعها قد رفضت هذا الحديث رفضا باتا قاطعا منذ الوهلة الأولى لصدوره عن مزوره كما رفضت سائر الأكاذيب وتبرات منها. 5 - إن هذا الحديث من أشهر الأحاديث الموضوعة، لكثرة ما نبه عليه العلماء في مختلف العصور في تصانيفهم الحديثية المشتهرة المتداولة بين الخاصة والعامة من كتب الموضوعات وكتب مصطلح الحديث وكتب الرجال: 1 - ذكره ابن حبان " (354) هـ" في كتابه الضعفاء وحذر منه كما ذكر الذهبي في الميزان. 2 - وذكره الحاكم " (405) هـ" في المدخل إلى كتاب الإكليل كما أوضحنا. 3 - وذكره محمد بن طاهر المقدسي " (507) هـ" في تذكرة الموضوعات: (144). 4 - وذكره الإمام عبد الرحمن بن الجوزي " (597) هـ" في الموضوعات الكبرى: 2: 47 - 49 وقال: "حديث موضوع لعن الله واضعه". ¬

_ (¬1) المدخل إلى كتاب الإكليل ق 291 وانظر لسان الميزان: 5: 8.

5 - والذهبي "748 هـ" في ميزان الاعتدال كما سبق. 6 - والحافظ ابن حجر "852 هـ" في لسان الميزان ج 5 ص 8. 7 - والسخاوي "902 هـ" في فتح المغيث: 114. 8 و 9 - والسيوطي "911 هـ" في تدريب الراوي: 181، واللآلئ المصنوعة: 1: 457. 10 - والحافظ ابن عراق "963 هـ" في تنزيه الشريعة: 2: 30. 11 و 12 - والشيخ علي القاري في شرح النخبة: 128، والموضوعات الكبرى: 76، وقال: "موضوع باتفاق المحدثين". 13 - والشوكاني في الفوائد المجموعة: 420. 14 - والإبياري في حاشيته نيل الأماني: 53. 15 - والعلامة حسين خاطر في لقط الدرر: 73. هذه خمسة عشر مرجعا في أعصر متتالية منذ عصر الراوي الوضاع حتى عصرنا هذا، وفي حقول الحديث المتنوعة: حقل القواعد كالمدخل وتدريب الراوي، وحقل التطبيق الذي زعم الطاعن أنه يرجع إليه كالميزان وغيره من كتب الرجال، وكتب الموضوعات مثل كتاب ابن الجوزي والسيوطي وابن عراق، كل المصادر في شتى الحقول توضح كذب هذا الحديث وتفضح إفكه، وهي كلها بحمد الله مشهورة معروفة متداولة، ثم يأتي بعد ذلك من يزعم أنه يدين المحدثين من حقل تطبيقهم بأنهم يسيرون الأحاديث الموضوعة أو أنها تنطلي عليهم، على حين أنهم سيروا في الناس وأذاعوا في كل عصر ومصر في كل زمان ومكان التحذير من الأحاديث الموضوعة والتنبيه عليها بما في ذلك هذا الحديث نفسه الذي استشهد به الطاعه، حيث توالي المحدثون على التحذير منه في المصنفات

المشهورة المتداولة على مر العصور وكر الدهور. فهل لمنصف بعد ذلك أن يقبل شيئا من أمثال المستشرق، أو يعول على دعوام التجرد والموضوعية .. ؟ ! من مآخذنا على المستشرقين: لقد أسفرت المناقشة العلمية الموضوعية لمن انتقد المحدثين عن فشلهم في مطاعنهم التي وجهت إلى منهج المحدثين النقدين بل إنها زادته قوة وثباتا، على حين كشفت أهداف الطاعنين وزيف بها رجم المصطنعة، وكشفت اختلال منهجهم العلمي من وجوه كثيرة نلخص منها ههنا: 1 - وضع النصوص في غير موضعها، وتحميلها مالا تطيقه ألفاظها ولا يستمد من معانيها، على نحو ما سبق أن ذكرنا في رواية "الأكابر عن الأصاغر" (¬1). 2 - اعتمادهم على نصوص مفردة مقتطعة عما ورد في موضوعها مما يوضح المراد منها ويبينه، وذلك كثير في أبحاثهم. ومنه استدلال تسيهر على أن تصنيف الحديث تأخر إلى القرن، الثالث بما ورد عن الإمام أحمد أنه قال في سعيد بن أبي عروبة " (156) هـ": "هو أول من صنف الأبواب بالبصرة ... لم يكن له كتاب إنما كان يحفظ" فاستدل بقوله: "لم يكن له كتاب" على "أنه لم يؤلف ك تابا" (¬2). مع أن المحدثين يستعملون هذا في الدلالة على أن المحدث حافظ متين الحفظ لا يعتمد على الكتاب في روايته للحديث. وهذا لا يدل على أن المحدث لم يصنف كتابا من محفوظاته، وهو يصرح في أول كلمته بأنه صنف، والشواهد على ذلك كثيرة في ترجمة سعيد من كتب الرجال. ¬

_ (¬1) رقم عام 14 ص 155 - 156. (¬2) تاريخ التراث العربي: 1: 1: 229.

3 - أنهم يعولون على مصادر ليست في مستوى البحث العلمي، مثل كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني، وهو ليس كتابا علميا، ولا كتاب حديث، إنما يعتمد عليه في الأدب والفكاهات، ثم هو صاحب بدعة تحمله على الطعن في أئمة الإسلام، ومع ذلك فلم يبال ناقد منهج المحدثين أن يستشهد به في الحط من قدر إمام جليل، كالإمام مالك بن أنس. 4 - أنهم يورودن مقدمات جزئية ضعيفة ثم يبنون عليها نتائج ضخمة فضفاضة لا تناسب تلك المقدسات ولا تنتج منها. وتتخذ هنا حديث الهروي المختلق في ذم الشافعي ومدح أبي حنيفة مثالا لذلك. هذا الحديث زعم الناقد أنه درج في الناس وغفل المحدثون عنه، بينما هو أشهر في بيان وضعه من نار على علم. ولو فرضنا أن باحثا وجد حديثا ضعيفا جاز على بعض المحدثين فهل يدل ذلك على فشل منهج النقد من أساسه؟ كلا! فإن القانون كثيرا ما يكون سليمان ثم تأتي الآفة من تصرف بعض العاملين به أو من ذهوله. فهذا لو تحقق إنما يكون سهوا من المحدث الذي جاز عليه الحديث، وأي علم في الدنيا لم يتعرض عالم من علمائه للنقد في بعض بحثه، ثم لم يكن ذلك مسقطا لذلك العلم ولا لذلك العالم، إلا إذا كثر منه ذلك فإنه تكون أخطاؤه محسوبة عليه تضعف الثقة به، ويبقى بنيان العلم شامخا. 5 - اغفال الحقائق التي تخالف استنتاجاتهنم وتبطلها. ومن ذلك أن جولد تسهير حكم بالوضع على الرواية الصحيحة: "أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى ابن حزم أن يدون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم". قال تسيهر: "إن هذا الخبر بعينه فيه نظر، فلم يرو عن مالك إلا في

رواية واحدة من روايت الموطأ هي رواية الشيباني، وقد تلقف هذا الخبر الواحد علماء الحديث المتأخرون فكان منطلقا لهم، وروجوا له، وهذا الخب رليس إلا تعبيرا عن الرأي الحسن السائد حول الخليفة الورع وحبه للسنة" (¬1). قال الأستاذ فؤاد سيزكين يتعقب ذلك (¬2): "ولكن لا يجوز لنا أن نبادر فنزعم أن هذا الخبر الذي ورد في الموطأ برواية الشيباني تلميذ مالك لا يعكس إلا حسن رأي المتأخرين "في عمر"، فليست كل روايات الموطأ بين أيدينا فنحكم بعدم ورود هذا الخبر إلا في رواية واحدة، وفوق هذا فجولد تسيهر يعلم أن هذا الخبر وارد كذلك في سنن الدارمي هذا وقد ذكره كل من ابن سعد والبخاري! ! "اهـ. على أنه لو سلم لتسيهر دعواه أن التفرد بالشيء يبطله فإنه يؤدي إلى بطلان أمور كثيرة أتى بها في كتبه وأبحاثه هي لباب مقاصده فيها، فهل يقبل أن ينسحب حكمه هذا عليه؟ ! . 6 - يقول الأستاذ فؤاد سيزكين: "هذا ونرى لزاما علينا أن ننبه إلى أن جولد تسيهر لم يدرس كتب علم أصول الحديث دراسة شاملة رغم أنه عرف قسما منها كان ما يزال مخطوطا في ذلك الوقت. وفوق هذا فيبدو لنا أنه لم ينظر رغم كثرة مصادره إلى بعض المعلومات في سياقها وفي ضوء ظروفها، ويبدو لنا كذلك أنه لم يصب في فهم المواضع ¬

_ (¬1) جولد تسيهر. GoIdziheI. Mup. Stud II 211. (¬2) في كتاب تاريخ التراث العربي: 1: 1: 226.

التي قد تعطي لأول وهلة دلالة تختلف عن معناها الحقيقي اختلافا أساسيا" (¬1). ويقول سيزكين أيضا: "أن جولد تسيهر على تضلعه في اللغة العربية قد أساء فهم بعض المعلومات الواردة في كتب الحديث وضرب بهذا منذ البداية في اتجاه خاطئ" (¬2). ونحن لا نتعرض لواقع الخطأ في فهم النصوص أو في الأخذ المقتطع للنص عما يكمله أو النقل المحرف، ولا نود الخوض في أسباب ذلك ودوافعه، لكن نجد أنه لزاما علينا إزاء ذلك أن نصرح بأن هذا الواقع يجعلنا عاجزين عجزا تاما كاملا عن الاعتماد على شيء من نظريات المستشرقين وأبحاثهم هم وأتباعهم الذين يعتمدون عليهم. ونسجل في النهاية هذه النتائج العامة في هذا العلم العظيم: 1 - أهمية الهدف الجليل الذي نشأ من أجله علم مصطلح الحديث، أو علوم الحديث، وهو صيانة الحديث النبوي الذي هو أعظم المصادر الإسلامية بعد كتاب الله. 2 - أن الأمة الإسلامية قد عنيت بتحقيق هذا الهدف منذ أول عهدها بالرواية كما أوضحه بحثنا عن الحديث في عصر الصحابة (¬3)، وأهم قوانين الرواية التي اتبعوها (¬4). 3 - أن قواعد علوم الحديث، قواعد نقد شاملة تدرس جوانب الحديث كلها دراسة تامة دقيقة، وإن كانت في مصادر هذا العلم مفرقة فيما يبدو. ¬

_ (¬1) المرجع السابق. (¬2) المرجع السابق: 225. (¬3) ص 37 وما بعدها من هذا الكتاب. (¬4) ص 51 وما بعدها.

4 - أن قواعد علوم الحديث ترتبط في مجموعها برباط وحدة الهدف ارتباطا يشكل منها نظرية نقدية ومنهجا علميا كاملا، يقوم على أساس بدهي مسلم به تتفرع عنه أصول البحث النقدي. وإذا كان السابقون لم يقوموا بمثل تلك الصياغة في تآليفهم فإن تعليقاتهم على فوائد كل نوع من هذا العلم وعلى قواعد التي أوضحناها في مواطنها توضح تلعقهم بها ووضوح أساساها لديهم، وقد جاء كتابنا هذا يعبر عن هذا المنهج النقدي المتكامل تعبيرا نرجو أن يكون قويا واضحا موفقا بفضله. 5 - أن جهود المحدثين في حقل تطبيق هذا المنهج النقدي العظيم قد بلغت الغاية في الوصول إلى الهدف المنشود، وهذه تصانيفهم الكثيرة في أنواع الحديث، ما اختص منها بالصحيح، وما جمع إليه الضعيف، أو اختص بالموضوع، أو بنوع مستقل من علوم الحديث الأخرى كالمرسل والمدرج ... هذه التصانيف برهان عملي على مدى ما بلغوه من العناية في تطبيق هذا المنهج حتى أدوا إلينا تراث النبوة صافيا نقيا. ولقد كان حقا ما شهد به العلماء من تحقيق هذا الغرض العظيم. فقال عبد الله بن المبارك حين سئل: هذه الأحاديث الموضوعة؟ فقال: "تعيش لها الجهابذة، إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" .. وكان حقا ما قال ابن خزيمة: "ما دام أبو حامد بن الشرقي في الأحياء لا يتهيأ لأحد أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقال أيضا: "حياة أبي حامد بن الشرقي تحجب بين الناس وبين الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقال الدارقطني: "يا ال بغداد لا تظنوا أن أحدا يقدر يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا حي".

ورحم الله الإمام الثوري حيث قال: "الملائكة حراس السماء، وأصحاب الحديث حراس الأرض" (¬1). أجل والله، ولنعم الحراس الأمناء كانوا، تحقق بهم الوعد الآلهي بحفظ هذه الملة، وجرت على أيديهم هذه المكرمة التي اختص الله تبارك وتعالى بها هذه الأمة. رضي الله عنهم وأجزل مثوبتهم، وسلك بنا من محض فضله سبيلهم. وأخيرا، لا بد من أن أشيد بالشكر لمن كرر علي الطلب وأكد من إخواني الكرام أن أكتب في هذا الفن الجليل، ذاكرا أثره في توجيه هميت لصياغة أفكاري وخطتي في هذا الكتاب أرجو الله تبارك وتعالى أن يمن بقبوله، وأن لا يخيب من أحسن بي ظنه، وأن يغفر لي وله. وأحمد الله تعالت صفاته، وتباركت أسماؤه، وأثني عليه كما هو أهله، وأسأله المزيد من فيض فضله، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين وآل كل وصحبه وسلم تسليما. وكتب نور الدين عتر خادم القرآن وعلومه والحديث وعلومه ¬

_ (¬1) انظر هذه المأثورات في اللآلئ المصنوعة: 2: 472 و 474 وفيه تصحيف في كلمة سفيان الثوري قومناه من تنزيه الشريعة: 1: 16.

المصادر والمراجع

1 - ثبت المصادر المخطوطة مع بيان أماكن وجودها مختصرا: الإرشاد، للخليلي، "استانبول". تسمية الأخوة الذين روي عنهم، لأبي داود السجستاني "دمشق". تقييد المهمل وتمييز المشكل، للحافظ الغساني "حلب". التنقيح لمسألة التصحيح، للسيوطي "دمشق". توضيح مبهمات الجامع الصحيح، للقسطلاني "حلب". حاشية الأجهوري على شرح النخبة "القاهرة". حاشية الصعيدي على فتح الباقي "القاهرة". سير أعلام النبلاء، للذهبي "دمشق". شرح صحيح مسلم، لابن الصلاح، قطعة منه، "استانبول". شرح مشكل الحديثن للقصري، "استانبول". الضعفاء، للعقليلي "دمشق". العلل الكبير، للترمذي بترتيب أبي طالب القاضي "استانبول". عين الإصابة فيما استدركته عائشة على الصحابة، للسيوطي "حلب". الكامل في الضعفاء، لابن عدي "دمشق". الكنى والأسماء، للإسماء مسلم "دمشق". اللطائف في علوم الحفاظ الأعارف لأبي موسى المديني "دمشق".

المبهمات في علم الحديث، للنووي "حلب". المحدث الفاصل، للرامهرمزي "دمشق". مختصر تاريخ الثقات لابن حبان "دمشق". المدخل إلى كتاب الإكليل، للحاكم "حلب". مسألة العلو والنزول، لابن طاهر المقدسي "دمشق". المستفاد من مبهمات المتن والإسناد، لأحمد بن العراقي "دمشق". المصباح المضي في كتاب النبي العربي، لابن حديد الأنصاري "حلب". المقاصد في أصول الحديث، لكمال بن حمد اللاوي "دمشق". المقتنى في الكنى، للذهبي "حلب". من وافقت كنيته كنية زوجته من الصحابة، لابن حيويه "دمشق".

ثبت المراجع المطبوعة

2 - ثبت المراجع المطبوعة: أ: الاتحافات السنية في الأحاديث القدسية، للمناوي. الاتقان في علوم القرآن، للسيوطي. ط. مصر، الأزهرية، الثانية. الإجابة لا يراد ما استدركته عائشة على الصحابة، للزركشي. الأجوبة الفاضلة في الأسئلة العشرة الكاملة، للكنوي. الأحرف السبعة ومنزلة القراءات منها، للدكتور حسن ضياء الدين عتر. "طبع الآلة الكاتبة". الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان لابن بلبان الفارسي. الإحكام في أصول الأحكام، للآمدي. إحياء علوم الدين، للغزالي، ط. عيسى الحلبي. اختصار علوم الحديث، لابن كثير، بشرح أحمد شاكر. الطبعة الثالثة. الأذكار، للنووي، ط. مصر المطبعة الخيرية للخشاب. إرشاد الساري شرح صحيح البخاري، للقسطلاني، الطبعة الخامسة. الاستيعاب في أسماء الأصحاب، لابن عبد البر، بذيل الإصابة. أسد الغابة في معرفة الصحابة، لابن الأثير. الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة، للقاري. ط. بيروت. الأسماء والكنى للدولابي، ط. الهند. الإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر العسقلاني، بذيله الاستيعاب. إصلاح خطأ المحدثين، للخطابي، ط. مصر. الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار، للحازمي، ط. حمص. إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين، لمحمد بن طولون الدمشقي. إغاثة اللهفان من مكايد الشيطان، لابن القيم، ط. مصر، الميمنية.

_ (*) على حروف المعجم مقتصرا على بيان الطبعة في موطن الحاجة.

الاغتباط بمن رمى بالاختلاط، لسبط ابن العجمي، حلب. العلمية الإكمال، لابن ماكولا، الهند. الإلماع في أصول الرواية وتقييد السماع، للقاضي عياض. الأم، للإمام الشافعي، ط. مصر، الاستقامة. الإمام الترمذي والموازنة بين جامعه وبين الصحيحين للمؤلف. الأموال، لأبي عبيد القاسم بن سلام. الأنساب المتفقة، للمقدسي. إنهاء السكن لمن يطالع إعلاء السنن، للتهانوي، ط. الهند. الإيمان بالملائكة عليهم السلام، لعبد الله سراج الدين، ط. حلب. ب: الباعث الحثيث، شرح اختصار علوم الحديث، لأحمد شاكر. البداية والنهاية، لابن كثير، ط. مصر، السعادة. البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف، لابن حمزة الدمشقي. ت: التاريخ الكبير، للإمام البخاري، الهند. تاريخ بغداد، للخطيب البغدادي، ط. مصر. تأويل مختلف الحديث، لابن قتيبة، ط. مصر. التبصرة والتذكرة "ألفية الحديث"، للحافظ العراقي. التبيين في أسماء المدلسين، للبرهان الحلبي، حلب، العلمية. تدريب الراوي شرح تقريب النواوي للسيوطي، مصر، الطبعة الأولى. تذكرة الحفاظ، للذهبي، الهند، الطبعة الثالثة. تذكرة الطالب المعلم بمن يقال أنه مخضرم، للبرهان الحلبي، ط. حلب. تذكرة الموضوعات لابن طاهر المقدسي. ط. الهند.

التراتيب الإدارية، للكتاني. ترتيب مسند الشافعي، للسندي. الترغيب والترهيب، للمنذري، مصر، الثالثة. تصدير تقييد العلم، للدكتور يوسف العش. تصدير معجم فقه ابن حزن، لمحمد المنتصر الكتاني. تصدير النهاية في غريب الحديث، للمحققين. تعجيل المنفعة برجال الأربعة، لابن حجر، الهند. تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس، لابن حجر. تعليق على تدريب الراوي، عبد الوهاب عبد اللطيف. تعليق على شرح نخبة الفكر، لإسحاق عزوز، بيروت. تعليق على توضيح الأفكار، محمد محي الدين عبد الحميد. تعليق على سنن أبي داود، لابن القيم. تعليق على الرفع والتكميل، لعبد الفتاح أبو غدة. التعليقات الحافلة، لعبد الفتاح أبو غدة. تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ط. عيس الحلبي. التفسير والمفسرون، لمحمد حسين الذهبي. تقدمه الإكمال، لابن ماكولا، لعبد الرحمن المعلمي اليماني. تقريب التهذيب لابن حجر، مصر. التقريب والتيسير، للنووي بشرحه للسيوطي. التقرير والتحبير شرح التحرير، لابن أمير حاج. التقصي، لابن عبد البر. تقييد العلم، للخطيب البغدادي بتحقيق الدكتور يوسف العش. التقييد والإيضاح، للعراقي، ط. حلب. التلخيص الحبير، لابن حجر، ط. الهند.

التلويح على التوضيح، للسعد التفتازاني، مصر، صبيح. التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر يوسف بن عبد الله النمري، ط. المغرب. تنزيه الشريعة المرفوعة، لابن عراق. تنقيح الأنظار، لمحمد بن الوزير اليماني. تنوير الحوالك شرح موطأ مالك، للسيوطي. تهذيب الأسماء واللغات، للنووي. تهذيب التهذيب، لابن حجر. توجيه النظر، لطاهر بن صالح الجزائري. التوضيح شرح التنقيح لصدر الشريعة، مصر، صبيح. توضيح الأفكار شرح تنقيح الأنظار، للصنعاني. ث ج ح: ثلاثيات البخاري، للتبريزي، مع شرحه إنعام الباري. ثلاثيات مسند الإمام أحمد. جامع الترمذي، ط. مصطفى البابي الحلبي. جامع الأصول لابن الأثير "الجزء الأول"، ط. مصر. جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر. الجامع الصحيح للبخاري، بولاق سنة 1313. الجامع الصغير للسيوطي، مع شرحه للمناوي. الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم الرازي. ط. الهند. جمع الجوامع، للتاج السبكي. ط. مصر. جمع الفوائد، للروداني. ط. مصر. جامع التحصيل في أحكام المراسيل، للعلائي: خليل بن كيكلدي، ط. بغداد. حاشية الأجهوري، على شرح البيقونية. ط. مصر.

حاشية البناني، على شرح جمع الجوامع. حاشية السندي، على البخاري. ط. عيسى الحلبي. حاشية السندي على سنن ابن ماجه. الحاكم النيسابوري للدكتور محمود ميرة "الآلة الكاتبة". الحديث والمحدثون، للشيخ الدكتور محمد محمد أبو زهو. خ: خطأ البخاري في تاريخه، لابن أبي حاتم الرازي، ط. الهند. الخطيب البغدادي مؤرخ بغداد ومحدثها، ليوسف العش. د-ر: دراسات تطبيقية في الحديث النبوي "العبادات" لمؤلف هذا الكتاب. الرحلة في طلب الحديث، للخطيب البغدادي، تحقيق نور الدين عتر. الرسالة، للإمام الشافعي، ط. مصر، الاستقامة. رسالة أبي داود إلى أهل مكة. الرسالة المستطرفة، للكتاني، ط. بيروت. رسالة في أصحاب الفتيا من الصحابة لابن حزم، ط. مصر، مع كتاب جوامع السيرة. الرفع والتكميل في الجرح والتعديل للكنوي، ط. حلب. الروض الأنف، شرح سيرة ابن هشام، للسهيلي. ط. مصر الجمالية. رياض الصالحين، للنووي، ط. مصر، عبد الحميد حنفي. س: سبل السلام، شرح بلوغ المرام للصنعاني، ط. مصر، الثالثة. سنن أبي داودن ط. مصر، التجارية الأولى,

سنن الدارمي، ط. دمشق. سنن ابن ماجه، ط. عيسى البابي الحلبي بتحقيق فؤاد عبد الباقي سنن الدارقطني، ط. مصر. السنة، للحافظ محمد بن نصر المروزي. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، للدكتور مصطفى السباعي. ش: شرح ألفية الحديث للعراقي، ط. مصر. شرح ألفية الحديث للسيوطي، لمحمد محي الدين عبد الحميد. شرح جمع الجوامع، لجلال الدين المحلي. شرح الزرقاني على المنظومة البيقونية. شرح شرح النخبة. للقاري، ط. استانبول. شرح الشمائل، للبيجوري، ط. مصر. شرح البخاري، للنووي، ط. مصر. شرح صحيح مسلم، للنووين المطعبة المصرية. شرح العضد على مختصر ابن الحاجب. شرح علل جامع الترمذي، لابن رجب طبع دمشق بتحقيق نور الدين عتر. شرح المسند، لأحمد شاكر. شرح المنظومة البيقونيةن لعبد اله سراج الدين، حلب، الثالثة. شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي، تحقيق الدكتور محمد سعيد خطيب. شروط الأئمة الخمسة، للحازمي. شروط الائمة الستة، للمقدسي. الشفا، للقاضي عياض، بشرح القاري. شفاء الغلل شرح العلل، آخر تحفة الأحوذي للمباركفوري، ط. الهند. الشمائل، للترمذي، بشرح القاري.

ص: صحيح مسلم، ط استانبول. ط: طبقات الشافعية، للسبكي. ط. عيسى البابي الحلبي. الطبقات الكبرى، لابن سعد، ط. بيروت. ع: العرف الشذي شرح جامع الترمذي لمحمد أنور شاه. ط. الهند. العلل، لابن أبي حاتم الرازي. ط. مصر. السلفية. علوم الحديث لابن الصلاح: بتحقيق نور الدين عتر. علوم الحديث ومصطلحه، للدكتور صبحي الصالح. بيروت. الخامسة. ف: فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر، مصر: الخيرية للخشاب. فتح المغيث شرح ألفية العراقي في علوم الحديث، للسخاوي. الهند. فتح الملهم شرح صحيح مسلم، للديوبندي، الهند. الفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم. فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت، للإمام محب الله بن عبد الشكور فيض القدير شرح الجامع الصغير، للمناوي. ق: قواعد التحديث للقاسمي، مصر، عيسى البابي الحلبي. قوت المغتذي شرح الترمذي، للسيوطي، الهند. القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع للسخاوي، بيروت.

ك: كشف الأسرار في أصول الفقه، للبزدوي. كشف الخفاء، للعجلوني، ط. مصر. كشف الظنون، لحاجي خليفة، تصوير طهران. الكفاية في علم الرواية، للخطيب البغدادي، الهند. كنز العمال، لعلي المتقي الهندي، الهند، الثانية. الكواكب الدراري شرح البخاري، للكرماني. ل: اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، للسيوطي. اللباب في تهذيب الأنساب، لابن الأثير، ط. القدسي. لسان العرب، لابن منظور، مصر. لقط الدرر حاشية نزهة النظر، للعدوي. م: ماذ عن المرأة، لمؤلف هذا الكتاب. المجتبى "سنن النسائي"، مصر، مصطفى البابي الحلبي. مجمع الزوائد للهيثمي. ط. مصر. المختصر في أصول الفقه، لابن الحاجب، ط. بولاق. المخصر في علم رجال الأثر، لعبد الوهاب عبد اللطيف. مخصر سنن أبي داود، للمنذري. مختصرا المستدرك للذهبي، بذيل المستدرك. المدخل إلى علوم الحديث، للمؤلف، تصدير علوم الحديث لابن الصلاح، ط. حلب. المراسيل، لأبي حاتم الرازي، مصر.

المستدرك، للحاكم النيسابوري، الهند. المسند، للإمام أحمد، مصر، تصوير بيروت. مشارق الأنوار، للقاضي عياض. ط. فارس المشتبه، للذهبي ط. مصر. مشكل الحديث، لابن فورك، الهند. مصطلح التاريخ، للدكتور أسد رستم. المصنوع في الحديث الموضوع، للقاري، تحقيق عبد الفتاح أبوغدة، بيروت. المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية للحافظ ابن حجر. معالم السنن للخطابي، مع تهذيب المنذري، مصر، السلفية. المعتصر من المختصر في مشكل الآثار، الهند. معرفة علوم الحديث للحاكم النيسابوري، مصر. المغني عن الحفظ والكتاب، للموصلي، مصر. المغني في الصفاء، للذهبي، حلب، بتحقيق نور الدين عتر. مفتاح السنة، لعبد العزيز الخولي، مصر. المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة على الألسنة، للسخاوي، مصر. مقدمة ابن خلدون، مصر. الأزهرية سنة 1348 م-1930 م. مقدمة تحفة الأحوذي للمباركفوري، الهند. مقدمة الجرح والتعديل للرازي، الهند. المنار المنيف، لابن القيم، بتحقيق عبد الفتاح أبو غدة. المناهل السلسلة في الأحاديث المسلسلة، للأيوبي، مصر. المنتقى شرح الموطأ، للباجي. المنظومة البيقونية، حلب بشرح الأستاذ عبد الله سراج الدين. المنهج الحديث في علوم الحديث قسم التاريخ للأستاذ الشيخ محمد السماحي

المنهج الحديث في علوم الحديث قسم المصطلح. المنهج الحديث في علوم الحديث قسم علوم الرواة. المنهج الحديث في علوم الحديث، قسم علوم الرواية (¬1)، مصر. المنهل اللطيف في أحكام الحديث الضعيف، لعلوي المالكي. موارد الظمآن للهيثمي، السلفية. الموافقات للشاطبي، بشرح الدكتور دراز. موضح أوهام الجمع والتفريق، للخطيب البغدادي، الهند. الموضوعات لابن الجوزي، مصر. الموطأ للإمام مالك بشرحه للسيوطي، مصر. ميزان الاعتدال، للذهبي، ط. عيسى البابي الحلبي. ن-هـ: نزهة النظر شرح نخبة الفكر لابن حجر، مصر. نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية، للزيلعي، مصر. نظم المتناثر من الحديث المتواتر، للكتاني. النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير، ط. عيسى البابي الحلبي. نيل الأوطار للشوكاني، مصر، العثمانية. نيل الأماني حاشية الأبياري على مقدمة القسطلاني، مصر. هدي الساري مقدمة فتح الباري، لابن حجر، مصر، المنيرية. هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلوات الخاصة، للمؤلف طبع دمشق، دار الفكر. ¬

_ (¬1) عزونا إلى هذه السلسلة بذكر القسم الخاص بالبحث فقط.

للمؤلف

للمؤلف: في تحقيق المخطوطات: 1 - علوم الحديث للإمام ابن الصلاح الشهرزوري. وهو أحسن ما ألف العلماء في مصطلح الحديث. وقد استكمل المحقق في التعليق على الكتاب ما يحتاج إليه القارئ من الفوائد، مع العناية بتخريج أحاديثه وتحرير مسائله. "طبعة ثالثة بتعليقات موسعة". 2 - المغني في الضعفاء للإمام شمس الدين الذهبي. كتاب جامع عظيم الأهمية يمتاز بتلخيص البحث بما يسهل معرفة حكم الراوي، مع الفوائد الفريدة. وقد استكمل المحقق فوائد الكتاب في التعليق عليه، وعني بدفع الإشكال عن الرواة الذين روي لهم في الصحيحين، مع الإيضاح والتعليل الفني الحديثي. 3 - نزهة النظر شرح نخبة الفكر للحافظ ابن حجر. يمتاز بما أورد فيه الحافظ من زيد الفوائد العلمية المحررة مع الاختصار، وقد ذيلنا الكتاب "بتعليق مشترك" فوائد هامة، وتنبيهات على مسائل زلق فيها بعض الكاتبين في الحديث. 4 - الرحلة في طلب الحديث للخطيب البغدادي. كتاب فريد في موضوعه يتحدث عن الرحلة في طلب الحديث الواحد، وأخبار الراحلين الذين قطعوا المسافات الشاسعة في طلب الحديث الواحد من الصحابة، ومن بعدهم. "طبعة ثانية". وقد قدم الكتاب ببحث عن الإعجاز العلمي للقرآن، وأثره العالمي، ومناقشة آراء المستشرقين في تفسير الرحلة عند المسلمين، وذيل بإضافة أحاديث وأخبار كثيرة في الرحلة في الحديث الواحد. 5 - شرح علل الترمذي للحافظ ابن رجب: وهو أحسن شرح لأول تأليف في علوم الحديث، وأحسن مرجع في أصول كشف علل الحديث، والتعريف بالمحدثين الأئمة والرواة الذين تدور عليهم غالب الأحاديث في المراجع. وقد علق المحقق على الكتاب بتخريج أحاديثه ونصوصه. وكمل فوائده القيمة، مع ترجمة الأعلام الذين تتعلق بهام أبحاث الكتاب.

في التأليف العلمي المتخصص: 1 - الإمام الترمذي والموازنة بين جامعه وبين الصحيحين: دراسة حديثية مقارنة مبتكرة، تدرس مناهج الأئمة الثلاثة في الأسانيد، مع الأمثلة المشروحة لسياق الأسانيد، وبيان الفوائد الإسنادية، ومصطلحات المحدثين، وبيان موقع اصطلاحات الترمذي منها، وتشرح فقه البخاري والترمذي اللذين هما منارة فقه المحدثين. 2 - منهج النقد في علوم الحديث: دراسة مبتكرة لقواعد الحديث، تصوغها في نظرية نقدية تتآلف فيها أنواع علوم الحديث، وتنتقل من التجزيء إلى التكامل، وتجلو دقة علم المصطلح، وعبقرية المحدثين، ومعالجة للقضايا المشكلة مع مناقشة آراء المستشرقين والناقدين للمحدثين بالأدلة والبراهين القاطعة. "الطبعة الثالثة- منقحة". 3 - معجم المصطلحات الحديثية: أول معجم يؤلف في مصطلحات المحدثين، يشرحها ويرشد إلى مواضع بحثها في المصادر الهامة، في مختلف العصور. "جائز على الجائز الأولى لمسابقة الدراسات الحديثية للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم -جامعة الدول العربية". 4 - تصدير معجم المصنفات في الدراسات الحديثية: دراسة مبتكرة لتاريخ علم الحديث رواية ودراية، والأدوار التي مر بها، وأشهر الأعلام، من أئمة الحديث، والمصنفات في كل دور. "حائز على الجائزة الثانية لمسابقة الدراسات الحديثية أيضا". 5 - هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلوات الخاصة: ثلاث عشر صلاة لها حكم خاص أو هيئة خاصة يجمعها الكتاب الأول مرة، ويدرسها على ضوء السنة، دراسة شاملة للفن الحديثي، ولاستنباط الفوائد والفقه من الأحاديث، مبينا في ذلك اجتهادات أئمة الإسلام في فهم الحديث، مع حسن العرض وتحقيق المسائل الشائكة.

6 - دراسة تطبيقية في الحديث النبوي: "الكتاب الأول" "الطهارات- الصلاة" "الطبعة الثانية -منقحة". 7 - دراسات تطبيقية في الحديث النبوي: "الكتاب الثاني" في بقية العبادات والمعاملات المالية. دراسة شاملة لأسانيد الأحاديث ومتونها، والفقه فيها، وموازنة أسانيد الحديث، مع الأسلوب السهل والعرض العلمي الميسر. "الطبعة الثانية -منقحة" 8 - الحج والعمرة في الفقه الإسلامي: أول كتاب عصري يجمع بين الفقه والحديث وبيان المذاهب، ويقدم للقارئ برنامجا يوميا للمناسك، وأدعيتها المأثور. موضح بالخرائط الملونة. "طبعة ثانية فيها تعديل وزيادات هامة". 9 - محاضرات في تفسير القرآن الكريم: دراسة لمجموعة من السور تجمع بين الرواية والدراية، وتحقيق الراجح من آراء المفسرين بتطبيق أصول منهج علم التفسير. 10 - دراسات منهجية في التفسير وبلاغة القرآن: أبحاث عالية في تفسير مجموعة من النصوص والسور، تعني بالدرس التفصيلي المنهجي وبإبراز بلاغة القرآن وإعجازه، لتكون نموذجا في هذا الفن، وهي مأخوذة من محاضرات أساتذة الدراسات العليا في الأزهر وباشرافهم "مخطوطة".

أبحاث ثقافية إسلامية: 1 - المعاملات المصرفية والربوية وعلاجها في الإسلام: يعرض أسس نظام الاقتصاد الإسلامي، والإطار التاريخي والفكري لمشكلة الربا، ويبرز أخطاره الكبيرة، ثم يبين علاج ذلك في الإسلام، وينبه على معاملات ربوية يقع فيها كثير من الناس. "طبعة رابعة منقحة". 2 - أبغض الحلال: دراسة لتشريع الطلاق في إطار واقعة عند الإمم في القديم والحديث وإصلاحات الإسلام وحكمته فيه، ونقض شبهات المستغربين فيه، بالبيان العلمي والإحصاءات. 3 - أسس الدعوة وأخلاق الدعاة: يدرس طبيعة الدعوة وأهميتها، والمشاكل التي يعاني المسلمون منها، وموقف الداعية ووسائله لعلاجها، والأساليب التي يتبعها الداعية لتبليغ الدعوة. وأخلاق الدعاة التي تحقق نجاح الداعية وترفعه للتحقق بالاتباع الحق للنبي صلى الله عليه وسلم "طبع الآلة الكاتبة". 4 - الأحاديث المختارة من جوامع الإسلام: شرح معنوي وبياني لمجموعة من الأحاديث تعرف بأهم أمور الإسلام، وأهدافه وأصوله، "طبع الآلة الكاتبة". 5 - تفسير سورة الفاتحة: دراسة موسعة لهذه السورة أم الكتاب، تضع بين يدي القارئ مفاتيح ينطلق بها في تفهم هذه السورة، وتذوق أسرارها كلما قرأها، وبيان لتضمن السورة أهداف القرآن كله، وأصول دعوته، وتجاوبها مع حال المسلم. 6 - ماذا عن المرأة؟ يعالج تساؤلات خطت علامات استفهام في أذهان الجيل المثقف، معتمدا على الدراسات التجريبية والإحصاءات "طبعة ثالثة منقحة، مزيدة".

§1/1