منهج القرآن الكريم في دعوة المشركين إلى الإسلام

حمود الرحيلي

المجلد الأول

المجلد الأول مقدمة ... منهج القرآن الكريم في دعوة المشركين إلى الإسلام إعداد: حمود بن أحمد بن فرج الرحيلي بسم الله الرحمن الرحيم شكر وتقدير الحمد لله وحده والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين لهم إلى يوم الدين. وبعد: فإني أشكر الله تعالى على نعمه الكثيرة التي لا تعد ولاتحصى، ومن هذه النعم أن وفقني لطلب العلم الشرعي، وأمدني بعونه وتوفيقه على إتمام هذه الرسالة، فله الحمد وله الشكر لا أحصي ثناء عليه. ثم عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يشكر الله من لا يشكر الناس" 1، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تروا أنكم

_ 1 سنن أبي داود 5/157 كتاب الأدب، باب في شكر المعروف. وسنن الترمذي 4/339 كتاب البر والصلة، باب ما جاء في الشكر لمن أحسن إليك. ومسند الإمام أحمد 2/258، 295. وجامع الأصول لابن الأثير 2/559. والحديث صحيح. انظر: فيض القدير للمناوي 6/224.

المقدمة الحمد لله رب العالمين، الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المتفرد بالإلهية على جميع خلقه. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خاتم أنبيائه وصفوة خلقه، أرسله على فترة من الرسل بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون. وبعد: فإن الإسلام يواجه كثيراً من التحديات الضارية من الصهيونية، والشيوعية، والصليبية، والوثنية البغيضة، وقد استيقظت هذه الحركات الهدامة كلها دفعة واحدة، وبيتت النية على اغتيال هذا الدين من نفوس أبنائه، منتهزة فرصة ما يسود كثيراً من ديار الأمة الإسلامية من جهل وغفلة وفرقة. والواقع أن الباطل مهما كان نفوذه، فإنَّه لا ينتشر ولا يذيع إلاّ في غفلة أهل الحق وضعفهم، وابتعادهم عن ميادين البذل والجهاد. وما هي إلا جولة أو بعض جولة حتى ينكشف مثار النقع، وتتجلى حكمة الله تعالى فيما يكلأ به هذا الدين وقرآنه العظيم، ويعود المسلمون

قد كافأتموه" 1. أتقدم بخالص الشكر وعظيم التقدير لأستاذي الجليل فضيلة الدكتور عبد الفتاح إبراهيم سلامة المشرف على هذه الرسالة، فقد وجدت منه رحابة الصدر والإخلاص في العمل، وأفاض علي بعلمه الغزير، وتوجيهاته السديدة، وأعطاني من وقته الكثير، فجزاه الله عني وعن جميع طلابه أحسن الجزاء، وبارك في عمره ومنحه العفو والعافية في الدنيا والآخرة. كما أشكر فضيلة الدكتور عبد المنعم محمد حسنين المشرف السابق على هذه الرسالة في مرحلتها الأولى، فقد أمدني بتوجيهاته العلمية، فجزاه الله خير الجزاء. كما أتقدم بخالص الشكر وعظيم الامتنان للجامعة الإسلامية ممثلة في القائمين عليها، وأخص منهم معالي رئيس الجامعة الدكتور عبد الله بن صالح العبيد، وفضيلة رئيس قسم الدراسات العليا الشيخ عبد الله بن محمد الغنيمان، فقد قدموا لأبنائهم الطلاب كافة الإمكانيات الكفيلة بمساعدتهم على أداء مهماتهم.

_ 1 سنن أبي داود 2/310 كتاب الزكاة، باب عطية من سأل الله. وسنن النسائي 5/82 كتاب الزكاة، باب من سأل بالله عز وجل. ومسند الإمام أحمد 2/ 68، 96، 99، وجامع الأصول لابن الأثير 11/692، وفيض القدير للمناوي 6/55.

كما أشكر كل من قدم إليّ عوناً أو أسدى إليّ معروفاً من كافة الأساتذة الأفاضل، والإخوة الأكارم، فجزى الله الجميع عني خير الجزاء. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أشدّ ما كانوا ذوداً، وأبلغ ما كانوا دفعاً ومحاماة عن دينهم، وإذا الإسلام أقوى ما يكون فيهم وأثبت من كل مبدأ دخيل أو فكرة هدامة. ولما كان الشرك وهيمنة البدع والخرافات من أعظم الأزمات التي عانت منها البشرية عبر تاريخها الطويل. ولما كان القرآن الكريم قد وقف من الشرك موقفاً حازماً لاقتلاعه بجميع أشكاله وألواته، وأفرد لدحضه السور والآيات البينات، وناقش المفاهيم والاتجاهات نقاشاً منطقياً وموضوعياً، فنقدها ونقضها، ورد كل زعم ودحض كل فرية، وأبان في النهاية العقيدة الصحيحة، عقيدة التوحيد والوحدانية لله رب العالمين. فقد آثرت اختيار: "منهج القرآن الكريم في دعوة المشركين إلى الإسلام" ليكون موضوعاً لرسالتي لنيل درجة العالمية العالية "الدكتوراه" للأسباب التالية: أولاً: إبراز منهج القرآن في دعوة المشركين إلى الإسلام، وقد سبق لي أن بينت منهج القرآن في دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام في رسالتي للماجستير، وذلك لأن الإسلام هو دين الله الحق الذي لا يقبل من أحد سواه. ثانياً: القيام بمسؤليتي في ميدان الدعوة إلى الله عملاً بقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ

الْمُشْرِكِينَ} 1. وقوله عز وجل: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2. وقوله سبحانه: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} 3. وقوله جل وعلا: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 4. وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 5. ولحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي

_ 1 سورة يوسف آية: 108. 2 سورة آل عمران آية: 104. 3 سورة آل عمران آية: 110. 4 سورة النحل آية: 125. 5 سورة فصلت آية: 33.

صلى الله عليه وسلم قال: "بلغوا عني ولو آية ... " 1. ولحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" 2. ثالثاً: أن الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك هي دعوة الرسل جميعاً، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} 3، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ

_ 1 أخرجه: البخاري في صحيحه بشرح الفتح 6/496 كتاب الأنبياء، باب 50 ما ذكر عن بني إسرائيل. والجامع الصحيح للترمذي 5/40 كتاب العلم، باب ما جاء في الحديث عن بني إسرائيل. 2 صحيح مسلم 1/69 كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان ... وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان. والترمذي 4/469-470 كتاب الفتن، باب ما جاء في تغيير المنكر باليد أو باللسان أو بالقلب. وأبو داود 1/677 كتاب الصلاة، باب الخطبة يوم العيد. والنسائي 8/111 كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان. وابن ماجه 2/1330 كتاب الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 3 سورة النحل آية: 36.

لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 1. وقد قام الأنبياء والرسل جميعاً بدعوة الناس إلى عبادة الله وتوحيده، فما منهم من أحد إلا قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 2. وقد احتدم الصراع بين دعاة الحق وأنصار الباطل بين الرسل وأممهم، وخلال هذا الصراع الرهيب تحطمت الأصنام وتهاوت الأوثان، وانخذل الشرك وأهله، وانتصر الحق ودعاته. وعلى هذا الطريق سار السلف الصالح يدعون إلى دين الله على بصيرة، ويبينون للناس الحق على هدى من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولنا في رسل الله والسلف الصالح القدوة الحسنة. رابعاً: أن الشرك بالله تعالى هو أعظم الذنوب وأكبر الكبائر على الإطلاق، وأول الأسباب التي أدت إلى هلاك الأمم المكذبة، وعواقبه وخيمة في الدنيا والآخرة، وذلك أن صاحبه في الدنيا يصبح ضحية للخرافات والوساوس والأوهام، الأمر الذي يعود على صحته وماله ووقته بالتلف والهلاك، وهو في الآخرة من الخالدين في نار جهنم، إذا مات وهو مصر على الشرك والعياذ بالله.

_ 1 سورة الأنبياء آية: 25. 2 سورة الأعراف آية: 59.

خامساً: أنه على الرغم من كثرة النصوص الواردة في النهي عن الشرك والتحذير من صغيره وكبيره، فإن الشرك لا يزال ينتشر في بعض بقاع العالم الإسلامي على الرغم من انتشار العلوم والمعارف والتقدم الثقافي، بل أخذت معاول الهدم والتخريب تعمل جاهدة على إحياء ما قبل الإسلام، ومن ذلك إحياء الوثنية الجاهلية، فظهرت البدع التي قام أتباعها بنشرها والترويج لها، فظهر في الساحة القبوريون وأدعياء الولاية من الصوفية والمبتدعة، وأهل السحر والشعوذة الذين شوهوا معالم الدين، وزيفوا حقائقه ومعتقداته، حتى أصبحت في بعض البلدان السنة بدعة والبدعة سنة، وأصبح الشرك توحيداً، والتوحيد شركاً وكفراً1، ولا حول ولا قوة إلا بالله. سادساً: أن هذا الموضوع بهذا العنوان وهذا المنهج الذي اتبعته لم أر من أفرده بالتأليف -على مبلغ علمي المحدود- اللهم ما تناثر في كتب العلماء القدامى والمحدثين في كتب العقائد والتفاسير والتواريخ ونحوها. لهذا عزمت على الكتابة في هذا الموضوع محاولاً إعطاء القارئ صورة واضحة عن مسلك القرآن في دعوته للمشركين وما أقامه عليهم من الحجج والبراهين الدالة على وحدانية الله تعالى.

_ 1 انظر في هذا: الإسلام والدعوات الهدامة لأنور الجندي ص: 219، ومصرع الشرك والخرافة للشيخ خالد محمد علي الحاج ص: 11.

خطة البحث قد قسمت الرسالة إلى: مقدمة، وتمهيد، وأربعة أبواب، وخاتمة. أما المقدمة فتشمل على: سبب الاختيار والخطة، ومنهجي في البحث. وأما التمهيد فيشمل على تعريف موجز لكل من: المنهج، القرآن، الدعوة، الإسلام. وأما الباب الأول: فقد جعلته عن التوحيد والشرك في حياة البشرية. ويشتمل على أربعة فصول: الفصل الأول: تحدثت فيه عن أصالة التوحيد في البشرية ودعوة جميع رسل الله إليه. ويشتمل على ما يلي: 1- تعريف التوحيد لغة. 2- تعريف التوحيد شرعاً. 3- أسبقية التوحيد على الشرك، وذكر الأدلة على ذلك. 4- خطأ بعض علماء مقارنة الأديان في هذا الموضوع والرد عليهم.

5- التوحيد دعوة جميع الرسل. 6- أنواع التوحيد والعلاقة بينها. وأما الفصل الثاني: فقد تحدثت فيه عن معنى الشرك وبعض صوره. ويشتمل على ما يلي: 1- تعريف الشرك لغة. 2- مواضع ورود كلمات الشرك في القرآن الكريم. 3- تعريف الشرك شرعاً. 4- أنواع الشرك. 5- الفرق بين الشرك والكفر. 6- صور من الشرك في الاعتقاد. أ- الشرك في النية. ب- الشرك في المحبة. ج- الشرك في الخوف. د- الشرك في الطاعة والانقياد. 7- صور من الشرك في العبادات. أ- دعاء غير الله. ب- الغلو في قبور الأنبياء والصالحين. ج- الشرك في الذبح. د- الشرك في النذر.

هـ‍- ادعاء علم الغيب. و السحر والخداع. ز- الأحجبة والرقى والتمائم. 8- صور من المعبودات من دون الله. أ- عبادة الشخصية الإنسانية. ب- عبادة الأصنام والأوثان. ج- عبادة الأهواء. د- عبادة الأسلاف. هـ‍- عبادة بعض الظواهر الطبيعية. وأما الفصل الثالث: فقد تحدثت فيه عن تسرب الشرك إلى البشرية ومناهج الأنبياء السابقين في محاربته. ويشتمل على ما يلي: 1- الشرك في قوم نوح عليه السلام ومنهجه في محاربته. 2- الشرك في قوم هود عليه السلام ومنهجه في محاربته. 3- الشرك في قوم صالح عليه السلام ومنهجه في محاربته. 4- الشرك في قوم إبراهيم عليه السلام ومنهجه في محاربته. 5- الشرك في قوم إسماعيل عليه السلام ومنهجه في محاربته. 6- الشرك في قوم يوسف عليه السلام ومنهجه في محاربته. 7- الشرك في قوم شعيب عليه السلام ومنهجه في محاربته.

8- الشرك في قوم موسى عليه السلام ومنهجه في محاربته. 9- الشرك في قوم عيسى عليه السلام ومنهجه في محاربته. أما الفصل الرابع: فقد تحدثت فيه عن حالة العقائد قبيل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم في داخل الجزيرة العربية وفي خارجها، وبينت كيف أن العالم بأسره كان في حاجة ماسة إلى منقذ. أما الباب الثاني: فكان في معالم المنهج القرآني في دعوة المشركين. ويشتمل على ثلاثة فصول: الفصل الأول: في ثبوت وجود الله والدلائل على وحدانيته وبينت فيه ثبوت فطرية وجود الله والإيمان به في النفوس البشرية، وأسباب تغير هذه الفطرة. أما الدلائل العلمية على وجود الله ووحدانيته فتتمثل فيما يلي: 1- آيات الله في خلق الإنسان. 2- آيات الله في الكون: من سماء وأرض، وشمس وقمر، وليل ونهار، ونجوم وأفلاك، وسحاب ورياح ورعد. 3- آيات الله في خلق الحيوان. 4- آيات الله في خلق النبات. أما الفصل الثاني: فكان في إقامة الحجج والبراهين على المشركين، ويشتمل على ما يلي: 1- الأدلة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم.

2- أسئلة في إفحام المشركين. 3- الاحتجاج على المشركين باعترافهم بتوحيد الربوبية وإقرارهم بتوحيد الإلهية عند الشدائد. 4- الدعوة عن طريق السؤال والجواب. 5- أمثلة من البراهين العقلية على وحدانية الله. 6- الاستدلال بالمتقابلات. 7- ضرب الأمثال. 8- الجدل. 9- تعجيزهم عن الإتيان بدليل عقلي أو نقلي يقر عبادتهم. أما الفصل الثالث: فقد تحدثت فيه عن توجيهات وتحذيرات القرآن للمشركين، ويشتمل على ما يلي: 1- الأمر الجازم بعبادة الله وحده، والنهي عن عبادة ما سواه. 2- الأساليب الخبرية في دعوتهم. 3- الدعوة إلى التجرد من التقاليد الموروثة. 4- استعمال الحكمة في دعوتهم. 5- أسلوب القصة. 6- الدعوة إلى الاعتبار بالسابقين. 7- تذكيرهم بالنعم وتحذيرهم من النقم. 8- الشرك خرافات وأوهام وفيه:

أ- بيان ضعف الشركاء، ومهانة الآلهة المدعاة. ب- تسفيه وتهجين عقول المشركين. 9- أضرار الشرك في الدنيا والآخرة. وأما الباب الثالث: فكان في دحض شبهات المشركين ويشتمل على فصلين: الفصل الأول: دحض شبهات المشركين حول بعض المسائل الغيبية، وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: في حقيقة الملائكة وأراجيف المشركين حولهم. المبحث الثاني: في إنكار المشركين لليوم الآخر ومنهج القرآن في إثباته. المبحث الثالث: في بيان الحق في أمر الشفعاء. المبحث الرابع: في بيان الحق في أمر الأولياء. وأما الفصل الثاني: فقد تحدثت فيه عن دحض شبهات المشركين حول الرسالة، وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: في دحض أكاذيب المشركين على القرآن. المبحث الثاني: في دحض مفترياتهم على الرسول صلى الله عليه وسلم. المبحث الثالث: في إعناتهم للرسول صلى الله عليه وسلم بطلب المعجزات والخوارق.

أما الباب الرابع: فكان عن النقلة بالمشركين في السلوك والعبادة وموقف الإسلام منهم، ويشتمل على ثلاثة فصول: الفصل الأول: النقلة بالمشركين في العبادات، ويشتمل على ما يلي: 1- الصلاة. 2- الزكاة. 3- الصيام. 4- الحج. أما الفصل الثاني: فكان في النقلة بهم في السلوك والأخلاق، وينقسم إلى قسمين: القسم الأول: الترغيب في الفضائل، ويشتمل على ما يلي: 1- بر الوالدين وصلة الأرحام. 2- العدل والوفاء. 3- الإحسان. 4- الأمانة. 5- الصبر. 6- الصدق. 7- الاستقامة وتزكية النفس. القسم الثاني: التحذير من الرذائل، ويشتمل على ما يلي: 1- تقاليد الجاهلية في الحرث والنعم.

2- أحكام الجاهلية. 3- وأد البنات. 4- الزنا. 5- التبرج. 6- الإكراه على البغاء. 7- أكلهم للميتة والدم وما أهل به لغير الله. 8- الخمر. 9- الربا. أما الفصل الثالث: فقد تحدثت فيه عن موقف الإسلام من المشركين، ويشتمل على ما يلي. 1- تمهيد في وصفهم بالمشركين. 2- لا يحل لهم دخول المسجد الحرام واعتبارهم نجس. 3- تحريم نسائهم وذبائحهم. 4- عدم الاستغفار لهم. 5- البراءة من عهودهم. 6- الأمر بقتالهم. 7- الخلاف في أخذ الجزية منهم. وأما الخاتمة: فقد أوجزت فيها أهم الأفكار والمحتويات التي تضمنتها الرسالة.

هذا وكان منهجي في البحث كالتالي: 1- وضعت الآيات الكريمة تحت المبحث أو الموضوع المناسب، مع عزوها إلى سورها وترقيمها، وبيان وجهتها في الدعوة على ضوء التفاسير المشهورة. 2- ذكرت من الأحاديث ما يتعلق بموضوع البحث، وقمت بعزوها إلى مصادرها من كتب الصحاح والسنن قدر الطاقة، مبيناً في الهامش الجزء والصفحة ثم الكتاب فالباب. 3- عزوت الآثار، وأحداث السيرة النبوية، والوقائع التاريخية إلى أشهر الكتب التي أوردتها ككتب التفسير، والحديث، والعقيدة، والسيرة، والتاريخ. 4- ذكرت معاني الكلمات الغريبة -في نظري- معتمداً في ذلك على كتب اللغة والتفسير والحديث. هذا وأودُّ أن أنبه القارئ الكريم بأن ما نقلته عن بعض الكتب في هذا البحث لا يعني موافقتي لبعض أفكار ومناهج مؤلفيها، وذلك لمخالفتهم منهج السلف الصالح في بعض آرائهم، بل نقلت عن غير المسلمين، وذلك للإستفادة من بعض مؤلفاتهم، وقد حرصت ألاّ آخذ عنها إلا صواباً. والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها.

الفهارس وقد ألحقت بهذه الرسالة أربع فهارس: الفهرس الأول: للآيات القرآنية مرتبة حسب السور فالآيات. الفهرس الثاني: للأحاديث النبوية والآثار مرتبة على الحروف الهجائية. الفهرس الثالث: ثبت أهم المصادر مرتبة على حسب الحروف الهجائية أيضاً. الفهرس الرابع: للموضوعات. هذا وإنني قد بذلت جهدي وطاقتي في تحري الدقة والرجوع إلى كل ما أمكنني الرجوع إليه من المصادر والمراجع التي تتعلق بهذا الموضوع، ليخرج البحث في صورة طيبة، فإن كان صواباً فهو من الله تعالى، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، وحسبي أني لم أدخر وسعاً في سبيل ذلك، ولكن طبيعة البشر النقص والتقصير، والكمال لله وحده، ويؤكد هذا المعنى ما قاله العماد الأصفهاني: "إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتاباً في يوم إلا قال في غده: لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد هذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر"1.

_ 1 إعلام الموقعين، مقدمة المحقق 1/ م.

وأسأل الله تعالى أن أكون قد وقفت فيما كتبت، وأن ينفعني بما تعلمت، وأن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. حمود بن أحمد بن فرج الرحيلي

تمهيد

تمهيد تمهيد: يشتمل على تعريف موجز بعنوان الرسالة، وهو تعريف كل من: المنهج، القرآن، الدعوة، الإسلام. وقد أجلت التعريف بالشرك إلى الفصل الثاني من الباب الأول. 1- تعريف المنهج: جاء في لسان العرب: "طريق نهج بين واضح، والجمع نهجات ونهج ونهوج، ونهج الطريق وضحه، والمنهاج كالمنهج"1. وفي التنزيل: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} . ونهجت الطريق أثبته وأوضحته، يقال: إعمل على ما نهجته لك، ونهجت الطريق سلكته، وفلان يستنهج سبل فلان، أي: يسلك مسلكة، والنهج الطريق المستقيم. وفي معجم مقاييس اللغة: "النهج الطريق، ونهج لي الأمر: أوضحه، وهو مستقيم المنهاج والمنهج الطريق أيضاً، والجمع المناهج"2. وجاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه: "فإذا

_ 1 لسان العرب لابن منظور 2/383 دار صادر بيروت، وانظر: المفردات في غريب القرآن للأصفهاني ص: 506 دار المعرفة بيروت، والنهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 5/134، المكتبة الإسلامية لصاحبها الحاج رياض الشيخ، والقاموس المحيط للفيروزأبادي 1/210 مؤسسة الحلبي وشركاه القاهرة. 2 معجم مقاييس اللغة لابن فارس 5/361 دار الكتب العلمية إيران.

جواد منهج على يميني" 1. قال النووي:" والجوادّ جمع جادة، وهي: الطريق البينة المسلوكة والمشهور فيها جوادّ بتشديد الدال، وقد تخفف"2. ومن هذا يتبين لنا أن المنهج أو المنهاج هو: الطريق الواضح المستقيم الذي يسير فيه السالك. ونعني بالمنهج هنا الطرق والأساليب التي سلكها القرآن في دعوة المشركين إلى الإسلام. 2- تعريف القرآن: القرآن في الأصل مصدر قرأ قراءة وقرآناً، قال الله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} 3، أي: قراءته، فهو مصدر على وزن فعلان -بالضم- كالغفران والشكران4. وقد خُصَّ القرآن بالكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فصار له كالعلم الشخصي، وسمي قرآناً لكونه جمع ثمرات الكتب

_ 1 صحيح مسلم 4/932، فضائل الصحابة رقم: 150. 2 شرح النووي على مسلم 16/44 دار الفكر- بيروت ط 3. 3 سورة القيامة آية: 17-18. 4 اللسان 1/129، ومناهل العرفان 1/7 دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه -القاهرة.

السالفة المنزلة1. ويطلق القرآن على مجموعة، وعلى كل آية من آياته من باب إطلاق الجزء على الكل، فإنك إذا سمعت من يتلو آية منه صح أن تقول أنه يقرأ القرآن، قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 2. وفي الاصطلاح هو: "كلام الله المنزل على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، المعجز بلفظه ومعناه، المكتوب في المصاحف المنقول إلينا بالتواتر، المتعبد بتلاوته، المبدوء بسورة الفاحتة، المختتم بسورة الناس"3. فالكلام اسم جنس في التعريف يشمل كل كلام، وإضافته إلى الله

_ 1 المفردات في غريب القرآن للأصفهاني ص: 402 دار المعرفة -بيروت، ولسان العرب 1/129، ومباحث في علوم القرآن لمناع القطان ص: 20. 2 سورة الأعراف آية: 204. انظر: مناهل العرفان 1/15-16، ومباحث في علوم القرآن ص: 20. 3 مناهل العرفان للزرقاني 1/10-13، والنبأ العظيم لمحمد عبد الله دراز ص: 15 ط2 دار القلم - الكويت، والمدخل لدراسة القرآن الكريم لمحمد أبو شهبة ص: 6 ط2 دار الكتب - القاهرة، ومباحث في علوم القرآن لمناع القطان ص: 20-21 ط5 مؤسسة الرسالة - بيروت، ومباحث في علوم القرآن لصبحي الصالح ص: 21 دار العلم للملايين - بيروت ط11.

تعالى يخرج كلام غيره من الإنس والجن والملائكة والمنزل على محمد صلى الله عليه وسلم يخرج ما أنزل على الأنبياء قبله كالتوارة والإنجيل قبل تحريفهما. والمعجز بلفظه ومعناه: يخرج الأحاديث القدسية على القول بأن ألفاظها منزلة من عند الله، وأما على قول من يرى أن معانيها من عند الله، وألفاظها من عند الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد خرجت بالقول الأول، والمنقول إلينا بالتواتر: يخرج قراءت الآحاد، والمتعبد بتلاوته: يخرج الآيات التي نسخت تلاوتها1. 3- تعريف الدعوة: الدعوة لغة: المرة الواحدة من الدعاء، ومنه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "فإن دعوتهم تحيط من ورائهم" 2، وتداعى القوم دعا بعضهم بعضاً حتى يجتمعوا، والدعاة قوم يدعون إلى بيعة هدى أو ضلالة، وأحدهم داع، ورجل داعية إذا كان يدعو الناس إلى بدعة أو دين، أدخلت الهاء فيه للمبالغة، والنبي صلى الله عليه وسلم داعي إلى

_ 1 انظر المراجع السابقة. 2 الترمذي 5/34 كتاب العلم رقم: 2658، وأبو داود 4/68 كتاب العلم رقم: 3660، وابن ماجه 2/1016 كتاب المناسك رقم: 3055. ورواه أيضاً أحمد وهو حديث صحيح، انظر جامع الأصول لابن الأثير 8/18.

الله تعالى1. وفي تهذيب اللغة: "المؤذن داعي الله، والنبي صلى الله عليه وسلم داعي الأمة إلى توحيد الله وطاعته، قال عز وجل مخبراً عن الجن الذين استمعوا القرآن وولوا إلى قومهم منذرين، قالوا: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} 2"3. وفي معجم مقاييس اللغة: " ... الدعوة إلى الطعام بالفتح، والدعوة في النسب بالكسر ... ومنه داعية اللبن، وهو ما يترك في الضرع لدعوة ما بعده، ومنه تداعت الحيطان إذا أسقط واحد وآخر بعده، فكأن الأول دعا الثاني، ودواعي الدهر صروفه "4. "ودعوة الحق شهادة أن لا إله إلا الله"5 وجاء في المصباح المنير: "دعوت الله دعاء، ابتهلت إليه بالسؤال

_ 1 لسان العرب 14/258. 2 سورة الأحقاف آية: 31. 3 تهذيب اللغة لأبي منصور 3/120 الدار المصرية للتأليف والترجمة، وانظر: القاموس المحيط 4/328. 4 معجم مقاييس اللغة لابن فارس 2/279-280 مطبعة مصطفى الحلبي وأولاده -بمصر. 5 تاج العروس للزبيدي 10/128 دار مكتبة الحياة -بيروت.

ورغبت فيما عنده من الخير، ودعوت زيداً ناديته وطلبت إقباله، ودعا المؤذن الناس إلى الصلاة فهو داعي الله، والجمع دعاة، وداعون مثل: قاضي وقضاة وقاضون، والنبي داعي الخلق إلى التوحيد"1. والدعاء إلى الشيء الحث على قصده، ومنه قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} 2. وقول الله تعالى: {وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ} 3. ومن هذا يتبين لنا أن الدعوة في اللغة تستعمل في الخير والهدى، كما في قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 4. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} 5.

_ 1 المصباح المنير لأحمد الفيومي ص: 194 دار المعارف -مصر. 2 سورة يوسف آية: 33. 3 سورة يونس آية: 25. 4 سورة يوسف آية: 108. 5 سورة الأحزاب الآيتان: 45-46.

وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 1. كما تستعمل عند الإطلاق في الشر والضلال، ولذلك لا بدّ من المعنى الاصطلاحي لتوضيحها وتمييزها. الدعوة في الاصطلاح: عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بقوله: "الدعوة إلى الله هي: الدعوة إلى الإيمان به وبما جاءت به رسله، بتصديقهم فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا، وذلك يتضمن الدعوة إلى الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والدعوة إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره، والدعوة إلى أن يعبد العبد ربه كأنه يراه"2. وهذا التعريف اشتمل على الدعوة إلى أركان الإسلام، وأركان الإيمان، وركن الإحسان. وعرفها المتأخرون3 بتعاريف كثيرة متقاربة إلا أنها في نظري ليست

_ 1 سورة فصلت آية: 33. 2 مجموعة الفتاوى 15/157-158 الطبعة السعودية تصوير عن الطبعة الأولى. 3 انظر مثلاً: تذكرة الدعاة للبهي الخولي ص: 35 ط6 مكتبة الفلاح -الكويت، والدعوة إلى الإسلام لأبي بكر ذكرى ص: 8 مكتبة العروبة -القاهرة، ومع الله للغزالي ص: 17 المكتبة الإسلامية، والدعوة الإسلامية لأحمد غلوش ص: 10 وما بعدها دار الكتاب المصري اللبناني، والدعوة إلى الله في سورة إبراهيم لمحمد الحبيب ص: 27 ط1.

دقيقة، ونستطيع القول: بأن الدعوة هي: "قيام من له الأهلية بدعوة الناس جميعاً لاقتفاء أثر الرسول صلى الله عليه وسلم والتأسي به قولاً وعملاً واعتقاداً بالوسائل والأساليب المشروعة التي تتناسب مع أحوال المدعوين في كل زمان ومكان". 4- تعريف الإسلام: تعريف الإسلام لغة: جاء في لسان العرب: "الإسلام والإستسلام الإنقياد، والإسلام من الشريعة إظهار الخضوع وإظهار الشريعة، والتزام ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك يحقن الدم ويستدفع المكروه"1. وفي المصباح: "أسلم لله فهو مسلم، وأسلم دخل في دين الإسلام، وأسلم دخل في السلم"2.

_ 1 لسان العرب لابن منظور 12/293. وانظر: تهذيب اللغة 12/451، وتاج العروس للزبيدي 8/340. 2 المصباح المنير ص: 287.

فالإسلام في اللغة إذاً هو الاستسلام والخضوع والانقياد لأمر الآمر ونهي الناهي، قال تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} 1. تعريف الإسلام شرعاً: جاء في حديث جبريل -عليه السلام-: " ... قال يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، قال: صدقت ... " 2 الحديث. وهذا التعريف بالإسلام إنما هو تعبير بالجزء عن الكل لبيان أهمية هذا الجزء، ويدل على ذلك ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان" 3.

_ 1 سورة آل عمران آية: 83. 2 أخرجه: مسلم 1/37 كتاب الإيمان، حديث رقم: 1. والبخاري بنحوه 1/18 كتاب الإيمان، باب 37 سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان. 3 البخاري 1/8 كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس. ومسلم 1/45 كتاب الإيمان، باب بيان أركان الإسلام حديث رقم: 20، 21، 22.

وبهذا يتبين أن بناء الإسلام يقوم على هذه الأركان الخمسة، وليس معنى ذلك أن هذه الأركان كل الإسلام، وإنما هي بمثابة الأساس الذي يقوم عليه البناء الكبير. ويمكن أن يقال أن الإسلام: "هو مجموع ما أنزل الله تعالى على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من أحكام العقيدة والأخلاق والعبادات والمعاملات والإخبارات في القرآن الكريم والسنة المطهرة"1. ونظراً للتلازم بين الدعوة إلى التوحيد والنهي عن الشرك أود أن أتكلم عن التوحيد والشرك في حياة البشرية في الباب التالي:

_ 1 انظر: أصول الدعوة لعبد الكريم زيدان ص: 10 ط3، وقد ذكر الدكتور عبد الكريم عدة تعريفات للإسلام في كتابه هذا فانظرها.

الباب الأول: التوحيد والشرك في حياة البشرية.

الباب الأول: التوحيد والشرك في حياة البشرية. الفصل الأول: أصالة التوحيد في البشرية ودعوة جميع رسل الله إليه. ... الباب الأول: التوحيد والشرك في حياة البشرية ويشتمل على أربعة فصول: الفصل الأول: أصالة التوحيد في البشرية ودعوة جميع رسل الله إليه. ويشتمل على ما يلي: تعريف التوحيد. أسبقية التوحيد على الشرك وذكر الأدلة على ذلك. خطأ بعض علماء مقارنة الأديان في هذا الموضوع والرد عليهم. التوحيد دعوة جميع الرسل. أنواع التوحيد والعلاقة بينها. تعريف التوحيد: تعريف التوحيد لغة: التوحيد لغة قال ابن الأثير في النهاية -في أسماء الله الواحد-:"هو الفرد الذي لم يزل ولم يكن معه آخر"1. وقال الأزهري: الفرق بين الواحد والأحد أن الأحد بني لنفي ما يذكر معه من العدد، تقول: ما جاءني أحد، والواحد اسْم بني لمفتتح العدد، تقول: جاءني واحد من الناس، ولا تقول جاءني أحد، فالواحد منفرد بالذات في عدم المثل والنظير، والأحد منفرد بالمعنى، وقيل: الواحد هو الذي لا يتجزأ، ولا يثنى، ولا يقبل الانقسام، ولا نظير له ولا مثيل، ولا يجمع هذين الوصفين إلا الله تعالى"2. وفي لسان العرب: "الواحد من صفات الله تعالى، معناه لا ثاني له، ولا يجوز أن ينعت الشيء بأنه واحد، فأما أحد فلا ينعت به غير الله لخلوص هذا الاسم الشريف له جل ثناؤه، وتقول: أحَّدْتُ الله تعالى، ووحدته وهو الواحد الأحد"3. وقال الفيروزأبادي: "التوحيد الإيمان بالله، والله الأوحد والمتوحد

_ 1 النهاية لابن الأثير 5/159. 2 تهذيب اللغة 5/195. 3 لسان العرب 3/451.

ذو الوحدانية"1. وقال الراغب:" الوحدة الانفراد، والواحد في الحقيقة هو الشيء الذي لا جزء له البتة، ثم يطلق على كل موجود، حتى أنه ما من عدد إلا ويصح أن يوصف به، فيقال عشرة واحدة، ومائة واحدة، وألف واحد ... "2. من هذا يتبين لنا أن مادة "وحد" وكلمة وحدة تدور حول انفراد الشيء بذاته أو بصفاته أو بأفعاله، وعدم وجود نظير له فيما هو واحد فيه، أما إذا عدى بالتضعيف، فقيل: وحد الشيء توحيداً، أن معناه: إما جعله واحداً، أو اعتقده واحداً، قال تعالى حكاية عن المشركين: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} 3.

_ 1 القاموس المحيط 1/344. 2 المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص: 514. 3 سورة ص آية: 5.

تعريف التوحيد شرعاً: فتوحيد الله معناه اعتقاد أنه إله واحد لا شريك له، ونفي المثل والنظير عنه، والتوجه إليه وحده بالعبادة، وإذا قيل: الله واحد أو أحد، كان معنى ذلك انفراده بما له من ذات وصفات، وعدم مشاركة غيره فيها، فهو واحد في إلهيته، فلا إله غيره، وواحد في ربوبيته، فلا رب سواه، وواحد في كل ما ثبت له من صفات الكمال التي لا تنبغي إلا له1. ونستطيع القول بأن التوحيد هو: الإيمان الجازم بتفرد الله تعالى ووحدانيته في ذاته وصفاته وأفعاله، ونفي الشركاء والأنداد عنه سبحانه اعتقاداً وعملاً على الوجه الذي جاء به الوحي الإلهي على ألْسنة الرسل عليهم السلام2.

_ 1 انظر: مصرع الشرك والخرافة ص: 18. 2 انظر: دراسات في التفسير الموضوعي للدكتور زاهر الألمعي ص: 157 الطبعة الأولى 1405هـ‍.

2- أسبقية التوحيد على الشرك، وذكر الأدلة على ذلك: لقد بدأت البشرية على التوحيد الخالص والتنزيه الكامل لله وحده، وهذا ما قرره القرآن الكريم والسنة النبوية من أن آدم أبا البشر عليه السلام، كان نبياً موحداً على أنقى صور التوحيد وأصفاه، وأنه عرف حقيقة التوحيد وطبيعة العلاقة بين الخالق والمخلوق. وقد خلق الله تعالى آدم من تراب، فسواه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته الكرام. قال سبحانه: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 1. وقال الله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} 2.

_ 1 سورة ص الآيات: 71-75. 2 سورة طه الآيتان: 121-122.

ويعترف آدم عليه السلام، ويقر بخطئه، ويرجع إلى ربه تبارك وتعالى تائباً خاضعاً متذللاً، كما قال تعالى حكاية عن قول آدم ومعه زوجه حواء: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 1. كما أخذ الله تعالى الميثاق على آدم وزوجه أن يتبعا ما يأتيهما من هدى، وأن يبتعدا عن سبل الشيطان وخطواته، قال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} 2. ومما لا شك فيه أن آدم عليه السلام قد قام بنقل ما تلقاه عن ربه جل وعلا من العقيدة والوحي الإلهي، وأن أبناءه قد تلقوا هذه التعاليم بالقبول والرضا وتوارثوها من بعد أبيهم جيلاً بعد جيل، حتى عهد نوح عليه السلام، كما سيأتي بيانه عند دعوته.

_ 1 سورة الأعراف آية: 23. 2 سورة طه الآيتان: 123-124.

الأدلة على أسبقية التوحيد على الشرك: من الأدلة على أقدمية التوحيد على الشرك ما يلي: 1- أنه لأهمية التوحيد قد أخذ الله العهد والميثاق من جميع البشر على التزام أحكامه، وذلك قبل أن يخلقهم، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} 1. ويؤيد ذلك ما ثبت في الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتدياً به؟ قال: فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك ما هو أهون من ذلك، قد أخذت عليك من ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً، فأبيت إلا أن تشرك بي" 2.

_ 1 سورة الأعراف الآية: 172. 2 صحيح البخاري بشرح الفتح 6/363 كتاب الأنبياء، باب خلق آدم وذريته. ونحوه في مسلم 4/2160 كتاب صفات المنافقين، باب طلب الكافر الفداء بملء الأرض ذهباً. وأحمد 3/127 وهذا لفظه.

2- فطرية التدين وأصالته في حياة البشرية، كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} 1. وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء2 هل تحسون فيها من جدع اء3"4. 3- كون الناس كانوا أمة واحدة على الهدى وعلى شريعة من الحق، قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ} 5.

_ 1 سورة الروم آية: 30. 2 أي: سليمة من العيوب، مجتمعة الأعظاء كاملتها، فلا جدع بها ولا كي. النهاية لابن الأثير 1/296. 3 أي: مقطوعة الأطراف أو واحدها. النهاية لابن الأثير 1/247. 4 صحيح البخاري بشرح الفتح 3/219 كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي هل يصلى عليه. ومسلم 4/2047 كتاب القدر، حديث: 22 و 24. 5 سورة البقرة آية: 213.

فعن ابن عباس رضي الله عنهما: "كان الناس أمة واحدة كانوا على الإسلام كلهم". قال ابن القيم -رحمه الله-:" وهذا هو القول الصحيح في الآية"1. 4- اختلاف الناس عن الحق مع توالي العصور، فقد روى الحاكم في المستدرك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين قال: وكذلك في قراءة عبد الله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} فَاخْتَلَفُوا"2.

_ 1 إغاثة اللهفان 2/204. 2 المستدرك لأبي عبد الله النيسابوري الحاكم 2/546. هذا وقد ذكر ابن كثير في البداية والنهاية هذا الحديث، وعزاه للبخاري في صحيحه ولفظه ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس أنه قال: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام" البداية والنهاية 1/101، وعزاه في قصص الأنبياء 1/74 بلفظه. وبعد البحث لم أجد الحديث في صحيح البخاري. وقد ذكره السيوطي في الإتقان 2/‍175، وعزاه للحاكم فقط، مع أن ابن كثير -رحمه الله- نفسه ذكر هذا الحديث في التفسير عند قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} سورة البقرة آية: 113، وعزاه للحاكم في المستدرك، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. انظر: تفسير ابن كثير 1/259. وقد رواه ابن جرير عن ابن عباس بسنده ... انظر تفسير ابن جرير 3/334.

ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه، وقد وافقه الذهبي على ذلك1. وكلمة "فاختلفوا" ليست من لفظ الآية، وإنما ذكرها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كتفسير لها، ويؤيد تفسيره لهذه الآية على هذا النحو الآية الأخرى في سورة يونس: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 2. 5- إغواء الشياطين لبني آدم لصرفهم عن شريعة الحق، كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم عن عياض المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: "ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبداً حلال3، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت

_ 1 التلخيص مع المستدرك 2/547. 2 سورة يونس آية: 19. 3 قال النووي: "معنى نحلته أعطيته، وفي الكلام حذف أي قال الله تعالى: كل مال أعطيته عبداً من عبادي فهو حلال، والمراد إنكار ما حرموا على أنفسهم من السائبة والوصيلة والبحيرة والحامي، وغير ذلك، وأنها لم تصر حراماً بتحريمهم، وكل مال ملكه العبد فهو له حلال حتى يتعلق به حق". شرح النووي على مسلم 17/197.

عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً" 1 الحديث. 6- إن الله تعالى أرسل إلى جميع الأمم رسلاً يرشدونهم الخير والهدى، ويحذرونهم من الشر والضلال، ولا شك أن في مقدمة تعليمهم وإرشادهم تعريفهم بخالقهم ورازقهم، ولم يتركوا الناس يتعرفون إلى خالقهم عن طريق البحث والاجتهاد، وقد كان هؤلاء الرسل من الكثرة بحيث أنهم بلغوا البشرية كلها دعوة الله، قال تعالى: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} 2. وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} 3. ومما يدل على تبليغ الرسل لأممها أن الأمم المكذبة في يوم القيامة تقر وتعترف بتبليغ الرسل لها دعوة الله، قال تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ

_ 1 صحيح مسلم 4/2197 كتاب الجنة وصفة نعيمها، حديث رقم: 63، ومسند أحمد 4/162. 2 سورة فاطر آية: 24. 3 سورة غافر آية: 78.

سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ} 1. ومن خلال الأدلة السابقة يتبين لنا بوضوح أسبقية التوحيد على الشرط، يقول الدكتور عبد الله دراز: "وقد انتصر لهذه النظرية أي فطرية التوحيد وأصالته جمهور من علماء الأجناس، وعلماء الإنسان، وعلماء النفس ... "2. وقوله رحمه الله عن حقيقة التوحيد أنها نظرية غير دقيقة. ويقول الدكتور جواد علي: "وهو رأي رجال الدين بصورة عامة"3.

_ 1 سورة الملك الآيتان: 8-9. 2 بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان ص: 107. 3 تاريخ العرب قبل الإسلام 5/60.

3- خطأ بعض علماء مقارنة الأديان في هذا الموضوع، والرد عليهم: يزعم بعض الباحثين الغربيين -ممن يسمون بعلماء مقارنة الأديان، وكذلك مقلدتهم من الكتاب المسلمين بأن الشرك سابق على التوحيد، وأن عبادة الإله قد تطورت من جيل إلى جيل، حتى وصلت إلى التوحيد الخالص، حتى زعم بعضهم أن عقيدة الإله الأحد عقيدة جد حديثة، وأنها وليدة عقلية خاصة بالجنس السامي1. وقد اعتمد هؤلاء على نظرية التطور والارتقاء، حيث قاسوا التوحيد في حياة البشر على نمو وتطور العلوم والصناعات التي تنمو وتتطور بسبب الجهد البشري. يقول الدكتور عبد الله دراز: "وهذه النظرية نادى بها أنصار مذهب التطور التقدمي، أو الإقتصادي الذي ساد في أوربا في القرن التاسع عشر، في أكثر من فرع من فروع العلوم، وحاول تطبيقه على تاريخ الأديان عدد من العلماء، وإن اختلفت وجهات نظرهم في تحديد صورة العبادة الأولى وموضوعها "2.

_ 1 انظر: بحوث لدراسة تاريخ الأديان لعبد الله دراز ص: 107. 2 المرجع السابق.

وبالنظر إلى قيام الأدلة ووضوحها على أقدمية التوحيد وأسبقيته على الشرك والوثنية، فإننا نأسف كل الأسف لبعض الكتاب المسلمين الذين يعدون أنفسهم ويعدهم غيرهم من الباحثين المسلمين لانخداعهم بالأفكار الغربية، وتبنيهم لتلك النظرية الملحدة. فهذا العقاد يقول في مقدمة كتابه المسمى "الله": "موضوع هذا الكتاب نشأة العقيدة الإلهية منذ أن اتخذ الإنسان رباً إلى أن عرف الله الواحد واهتدى إلى نزاهة التوحيد". ثم يشرح العقاد ما أجمل في هذه العبارة في الفصل الذي عقده بعنوان: "أصل العقيدة"، فيقول: "ترقى الإنسان في العقائد، كما ترقى في العلوم والصناعات، فكانت عقائده الأولى مساوية لحياته الأولى، وكذلك كانت علومه وصناعاته فليست أوائل العلم والصناعة بأرقى من أوائل الديانات والعبادات، وليست عناصر الحقيقة في واحدة منها بأوفر من عناصر الحقيقة في الأخرى"1. إلى أن يقول: "فإن العالم الذي يخطر له أن يبحث في الأديان البدائية ليثبت أن الأولين قد عرفوا الحقيقة الكونية الكاملة منزهة عن شوائب السخف والغباء إنما يبحث عن محال"2.

_ 1 الله، للعقاد ص: 13. 2 المرجع السابق ص: 14.

وينتقل العقاد إلى فصل آخر بعنوان:" أطوار العقيدة الإلهية"، فيقول:" يعرف علماء المقابلة بين الأديان ثلاثة أطوار عامة مرت بها الأمم البدائية في اعتقادها بالإلهية والأرباب، وهو دور التعدد، ودور التمييز والترجيح، ودور الوحدانية ... "1. ثم يقول: "فالتطور في الديانات محقق لا شك فيه، ولكنه لم يكن على سلم واحد متعاقب الدرجات بل كان على سلالم مختلفة تصعد من ناحية وتهبط من أخرى"2. وأخيراً قرر العقاد رأي أولئك القائلين بتطور العقيدة زاعماً أن ديانة الشمس كانت الخطوة السابقة لخطوة التوحيد الصحيح، حيث قال: " فديانة الشمس كانت الخطوة السابقة لخطوة التوحيد الصحيح، لأنها أكبر ما تقع عليه العين، وتعلل به الخليقة والحياة، فإذا دخلت هي أيضاً في عداد المعلومات فقد أصبح الكون كله في حاجة إلى خالق موجد للأرض والسماء والكواكب والأقمار ... وينطبق هذا الترتيب تمام الانطباق على فحوى قصة إبراهيم في القرآن الكريم: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا

_ 1 الله للعقاد ص: 28. 2 المرجع السابق ص: 32.

أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} 1. وواضح أن استدلال العقاد بهذه الآيات الكريمة دليل على أنه يرى رأي العلماء الغربيين وإلا لما استدل بهذه الآيات، ولما قال قبلها: "وينطبق هذا الترتيب تمام الانطباق على فحوى قصة إبراهيم". والحق الذي لا ريب فيه أن الذين يقولون إن إبراهيم عليه السلام كان متحيراً في الاهتداء إلى معرفة ربه، قد خالفوا الحق والصواب؛ لأنهم استدلوا بظاهر الآيات على أن إبراهيم عليه السلام كان يريد أن يصل إلى معرفة ربه حتى هداه الله تعالى في النهاية. والحق أن أول هذه الآيات وآخرها ومضمونها يدل على أن إبراهيم عليه السلام كان يتدرج في دعوة قومه -عباد الكواكب- ليقدم لهم الدليل المحسوس على بطلان ما يعتقدونه في تلك المعبودات.

_ 1 سورة الأنعام الآيتان: 76-80.

قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "والحق أن إبراهيم عليه السلام كان في هذا المقام مناظراً لقومه مبيناً لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام والكواكب السيارة، وأشدها إضاءة الشمس، ثم القمر، ثم الزهرة، فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار، وتحقق ذلك بالدليل القاطع {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} "1. وقال صاحب الكشاف:" كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والكواكب، فأراد أن ينبههم على ضلالتهم، ويرشدهم إلى الحق من طريق النظر والاستدلال، ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤد إلى ألا يكون شيء منها إلهاً وأن وراءها محدثاً أحدثها، ومدبراً دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها"2. وقوله: {هَذَا رَبِّي} قول من ينصف خصمه مع علمه بأنه مبطل، فيحكى قوله كما هو غير متعصب لمذهبه، لأن ذلك أدعى إلى الحق، ثم يكر عليه فيبطله بالحجة. وقال الشهرستاني: "ابتدأ بإبطال مذاهب عبدة الكواكب على صيغة

_ 1 تفسير ابن كثير 2/163 باختصار. 2 الكشاف للزمخشري 2/31 بتصرف.

الموافقة، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي: أتيناه الحجة كذلك نريه المحجة، فساق الإلزام على أصحاب الهياكل مساق الموافقة في المبدأ، والمخالفة في النهاية، ليكون الإلزام أبلغ والإفحام أقوى، وإلا فإبراهيم الخليل لم يكن في قوله: {هَذَا رَبِّي} مشركاً، كما لم يكن في قوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} كاذباً"1. هذا وقد كتب الدكتور مصطفى محمود كتاباً سماه "الله" أيضاً عرض فيه نفس الفكرة من تطور العقيدة على أيدي البشر حتى وصلت إلى التوحيد أخيراً، وإن كان قد ذكر بأن ذلك يمثل المجهود البشري، أما رسالات السماء فهي واحدة من آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم فلا تطور ولا تبديل 2. كما عثرت على كتيب لنفس المؤلف بعنوان "محمد" صلى الله عليه وسلم بدأه بالآية الكريمة: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} 3، ثم قال: "هكذا بدأت الحال بالناس، أمة واحدة على الجهل

_ 1 الملل والنحل 2/51-53 بتصرف. 2 انظر كتاب "الله" لمصطفى محمود ص: 47 وما بعدها. 3 سورة البقرة آية: 213.

والمادية والكفر وعبادة اللذة العاجلة لا يؤمنون إلا بما يقع في دائرة حواسهم، ولا تتجاوز أشواقهم دائرة المعدة والغرائز، ثم نزلت الكتب والرسل فتفرق الناس بين مصدق ومكذب، وبين مؤمن وكافر، واختلفوا شيعاً وطوائف ... "1. والحق أن هذه النظرية المادية هي شبيهة بنظرية من يزعمون بأن أصل الإنسان قرد أو سمكة ونحو ذلك ثم تطور حتى أصبح إنساناً قاتلهم الله أنى يؤفكون. وقد جمع هـ‍‍. ج. ولز في كتابه معالم تاريخ الإنسانية بين النظرتين، فقال: "ونمت الديانة كما تنمو كل مصلحة إنسانية، ويقيناً أنه لم يكن في مقدور الإنسان البدائي بله أسلافه القردة وأسلافه من الثدييات2، أن يكون له أي فكرة عن الرب أو الدين، فلم يستطع ذهنه ولا قوى فهمه أن يصبح قادراً على تصور هذه الأفكار العامة إلا ببطء شديد، فالدين شيء نما مع الترابط الإنساني"3. ا.‍? أقول: ما قرره بعض الباحثين الغربيين ومن أخذ برأيهم من كتّاب المسلمين من كون الشرك سابق على التوحيد، فيه إنكار للوحي السماوي

_ 1 انظر كتاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لمصطفى محمود ص: 7 دار المعارف. 2 الثدييات: الحيوانات اللبونية. قاموس إلياس العصري ص: 98 طبعة 1982 م. 3 معالم تاريخ الإنسانية ل هـ‍. ج. ولز 1/123-124 -ترجمة عبد العزيز توفيق، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر -القاهرة سنة 1956م.

والسنة النبوية، لأنهم اعتبروا الوصول إلى التوحيد إنما هو بسبب المجهود البشري الناتج عن الارتقاء العقلي والتقدم الثقافي. والحق أن عقيدة التوحيد كانت منذ خلق الله الإنسان الأول على هذه الأرض إلى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وستبقى إلى قيام الساعة، فهي البداية وهي النهاية، ونصوص القرآن الكريم والسنة النبوية تؤكد أن البشرية قد صاحبتها عقيدة التوحيد منذ بدايتها. بدأ بذلك نبي الله أبو البشر آدم عليه السلام، وتلقاها من بعده أبناؤه جيلاً بعد جيل، وكلما انحرفت البشرية عن طريق الحق بسبب الجهل أو الانحراف في الفطرة البشرية بعث الله إليها من يعيدها إلى الحق والصواب. فقد دعا نوح عليه السلام إلى عبادة الله وحده، وأعاد إلى العقيدة نقاءها وصفاءها بعد أن خرج قومه عن خط الهداية الإلهية، وشذوا عن طريق التوحيد الذي تقرر في الأرض منذ عهد آدم عليه السلام. واستمر موكب الإيمان يتجدد من وقت لآخر، وتوالى الأنبياء في كل أمة يبينون للناس الحق والهدى كلما انتكسوا أو انحرفوا حتى جاء خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم الذي دعا إلى التوحيد من جديد، وسلك نهج سلفه من الأنبياء في الدعوة إلى الله تعالى، وأكمل الله به الدين وأتم به النعمة كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ

عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} 1. والكتب السماوية جميعها جاءت بتقرير هذه الحقيقة، وإذا كان قد حصل تحريف أو تبديل في الكتب السابقة على أيدي بعض الأتباع، فذلك لأن الله تعالى لم يتكفل بحفظ تلك الكتب، وأن دورها قد انتهى بانتهاء وقتها، وقد بقي القرآن الكريم محفوظاً بحفظ الله له يكشف الزيف، ويبين التحريف، ويهيمن على كل ما سبقه من كتاب، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2. وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} 3. وكل ما يمكن أن يقال في هذا الصدد هو أنه إذا كان قد حصل تدرج أو اختلاف بين الرسالات، فإنما كان ذلك في الشرائع والأحكام التي قد تناسب أمة ولا تناسب أخرى، فمثلاً الصلاة كانت مشروعة في الأمم السابقة، لكن طريقة أدائها قد تختلف من أمة إلى أخرى، وكذلك

_ 1 سورة المائدة آية: 3. 2 سورة الحجر آية: 9. 3 سورة المائدة آية: 48.

الصيام وغيره، حتى بلغت حد الكمال في الشريعة الإسلامية الخاتمة التي نسخت كل ما لا يتفق مع الشريعة الوافية والصالحة لكل زمان ومكان. قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} 1. وقال تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 2. أما أصول الشرائع فهي واحدة في لبها ومضمونها وجوهرها، لم تختلف ولم تتغير، كما قال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} 3. أما استدلال القائلين بأسبقية الوثنية على التوحيد بآثار الحفريات4

_ 1 سورة المائدة آية: 48. 2 سورة البقرة آية: 106. 3 سورة الشورى آية: 13. 4 انظر: كتاب الإيمان كما يصوره الكتاب والسنة للدكتور علي عبد المنعم ص: 46، دار البحوث العلمية -الكويت الطبعة الأولى 1398?.

التي زعموا بأنها تدل على أن الناس في بادئ الأمر قد تدينوا بالوثنية، ثم تطورت عباداتهم مع تطورهم الفكري، فإن ذلك ما هو إلا مجرد التخمينات والتخرصات الوهمية والتي لا تقاوم القرآن الكريم، والسنة الثابتة. ومن الممكن والمعقول جداً أن تكون تلك الآثار التي اكتشفوها قد وقعت لذرية آدم عليه السلام، فقد تكون لقوم نوح، أو لقوم هود، أو لقوم صالح، أو لقوم إبراهيم، أو لقوم شعيب، أو لقوم موسى، فقد حدث الشرك في أقوام أولئك الأنبياء عليهم وعلى نبينا السلام كما سيأتي بيانه، والدليل متى تطرق إليه الاحتمال، فلا يصح أن يكون دليلاً يحتج به، فكيف وأدلتهم تصطدم بنصوص القرآن والسنة؟

4- التوحيد دعوة جميع الرسل والدعوة إلى الإيمان بالله تبارك وتعالى، وإفراده بالعبادة، والتذلل إليه، والانقياد لأمره وحكمه، وتنزيهه عن الند والصاحبة والولد، هي القضية الأساسية التي من أجلها بعث الله جميع أنبيائه ورسله، وقد جاء ذلك واضحاً جلياً فيما قصه الله تعالى علينا في القرآن الكريم من دعوة الرسل إلى أممهم وأقوامهم. قال تعالى عن نوح عليه السلام: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 1. وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} 2. وقال سبحانه عن هود عليه السلام: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 3.

_ 1 سورة الأعراف آية: 59. 2 سورة هود الآيتان: 25-26. 3 سورة الأعراف آية: 65، ومثلها آية: 50 من سورة هود.

وقال جل ذكره عن صالح عليه السلام: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 1. وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 2. وقال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} 3. وقال تعالى عن يعقوب عليه السلام: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} 4. وقال تعالى عن يوسف عليه السلام: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ

_ 1 سورة الأعراف آية: 73، وسورة هود آية: 61. 2 سورة الأنعام آية: 79. 3 سورة العنكبوت آية: 16. 4 سورة البقرة آية: 133.

وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} 1. وقال تعالى عن شعيب عليه السلام: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 2. وقال عن موسى عليه السلام: {قَالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} 3. وقال عن عيسى عليه السلام: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} 4. أما عن خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم فقد بعث

_ 1 سورة يوسف الآيات: 38-40. 2 سورة الأعراف آية: 85. 3 سورة الأعراف آية: 140. 4 سورة آل عمران آية: 51.

بالدعوة العالمية الشاملة، وبالبيان الأكمل في شأن الدين كله عامة، والتوحيد منه خاصة، وقد جاء القرآن العظيم بأتم الحجج والبراهين الدالة على وحدانية الله، وسجل أقاويل ومزاعم الكفار والردود عليها، حتى تكون حجة الله بالغة باهرة إلى يوم الدين، وحتى لا تكون للناس على الله حجة بعد ختم النبوة، لأن القرآن الكريم هو صوتها الممدود، ودعاؤها الموصول إلى قيام الساعة، وفيه أكمل حديث عن التوحيد تقريراً، وإثباتاً، ورداً على المشركين والملحدين، وإبطالاً للشرك وكل ضروب الوثنية والانحراف عن التوحيد. ويكفي هنا أن أذكر مثالاً واحداً لما أمره الله به أن يقوله للناس في كلمات موجزة جامعة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} 1. وما هذه الرسالة إلا محاولة في بيان مسلك القرآن في دعوة المشركين، وما أقامه عليهم من حجج وبراهين. ومما لا شك فيه أنّ كل نبي أو رسول قد دعا قومه إلى كلمة التوحيد بنصها أو معناها، قال الله تعالى مخاطباً رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا

_ 1 سورة الإخلاص بتمامها.

فَاعْبُدُونِ} 1. قال القرطبي رحمه الله عند قوله: {أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} أي: قلنا للجميع لا إله إلا الله، فأدلة العقل شاهدة أنه لا شريك له، والنقل عن جميع الأنبياء موجود، والدليل إما معقول وإما منقول، وقال قتادة: لم يرسل نبي إلا بالتوحيد، والشرائع مختلفة في التوراة والإنجيل والقرآن، وكل ذلك على الإخلاص والتوحيد2. وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 3. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} 4. فهذه مهمة الرسل من أولهم إلى آخرهم الدعوة إلى عبادة الله تعالى

_ 1 سورة الأنبياء آية: 25. 2 تفسير القرطبي 11/280. 3 سورة الزخرف آية: 45. 4 سورة النحل آية: 36.

وحده وإفراده بالألوهية الصحيحة، فلا شريك له، ولا ندّ، ولا صاحبة، ولا ولد. والتوحيد أهم أصل من أصول الدعوة إلى الله، وأهم صفة يتصف بها أولياء الله، وأهم عنصر من عناصر الحكمة، وبيان ذلك ما يلي: 1- ما جاء بشأن لقمان في وصيته لابنه، وتحذيره له من الشرك، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 1. 2- ما ذكره الله تعالى عن اتصاف أهل الكهف بالتوحيد في قوله تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا هَؤُلاَء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} 2. 3- وأثنى الله تعالى على مؤمن آل فرعون فوصفه بالتوحيد، كما

_ 1 سورة لقمان آية: 13. 2 سورة الكهف الآيات: 13-15.

قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلاَ فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} 1. كما أن الدين الذي بعث الله به رسله من أولهم إلى آخرهم، إنما هو الإسلام، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وكان دينه الذي ارتضاه لنفسه هو دين الإسلام، الذي بعث الله به الأولين والآخرين من الرسل، ولا يقبل من أحد ديناً غيره، لا من الأولين، ولا من الآخرين، وهو دين الأنبياء وأتباعهم، كما أخبر الله بذلك عن نوح ومن بعده إلى الحواريين"2. وقد استشهد رحمه الله تعالى ببعض الآيات الكريمة، وأنا أذكرها مع التصرف في الترتيب: قال تعالى عن نوح عليه السلام: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ

_ 1 سورة غافر الآيات: 41-43. 2 الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 1/11.

أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 1. وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} 2. وقال تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} 3. وقال تعالى عن موسى عليه السلام: {يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ

_ 1 سورة يونس الآيتان: 71-72. 2 سورة البقرة الآيات: 130-132. 3 سورة يوسف آية: 101.

تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} 1. وقال تعالى عن أنبياء بني إسرائيل: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ} 2. وقال تعالى عن المسيح عليه السلام: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} 3. وقال تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} 4. وقال تعالى عن السحرة أنهم قالوا لفرعون: {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} 5.

_ 1 سورة يونس آية: 84. 2 سورة المائدة آية: 44. 3 سورة آل عمران الآيتان: 52-53. 4 سورة المائدة آية: 111. 5 سورة الأعراف آية: 126.

وقال تعالى عن بلقيس ملكة اليمن: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1. ثم يعلق رحمه الله على هذا بقوله: "فهذا دين الأولين والآخرين من الأنبياء وأتباعهم، هو دين الإسلام، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وعبادته تعالى في كل زمان ومكان بطاعة رسله عليهم السلام، فلا يكون عابداً له من عبده بخلاف ما جاءت به رسله"2. ومن هذا يتبين أن الأنبياء كلهم وكذلك أتباعهم -كما ذكر الله تعالى- كانوا مسلمين، وهذا يبين أن قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ} 3. وقوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 4، لا يختص بمن بعث إليه محمد صلى الله عليه وسلم، بل هو حكم عام في الأولين والآخرين، ولهذا قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ

_ 1 سورة النمل آية: 44. 2 الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 1/12. 3 سورة آل عمران آية: 19. 4 سورة آل عمران آية: 85.

أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} 1. وقال تعالى: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} 2.

_ 1 سورة النساء آية: 125. 2 سورة البقرة الآيتان: 111-112.

5- أنواع التوحيد والعلاقة بينها: أشار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أن التوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه نوعان، حيث قال: "وسورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فيها التوحيد القولي العملي الذي تدل عليه الأسماء والصفات، وسورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} فيها التوحيد القصدي العملي ... "1. وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: "التوحيد نوعان: نوع في العلم والاعتقاد، ونوع في الإرادة والقصد، ويسمى الأول: التوحيد العلمي، والثاني: التوحيد القصدي الإرادي، لتعلق الأول بالأخبار والمعرفة، والثاني بالقصد والإرادة، وهذا الثاني أيضاً نوعان: توحيد في الربوبية، وتوحيد في الإلهية، فهذه ثلاثة أنواع"2. ولما تحدث ابن القيم عن التوحيد عند الطوائف الباطلة كالفلاسفة والاتحادية، والجهمية، والقدرية، والجبرية ... قال: وأما التوحيد الذي دعت إليه رسل الله، ونزلت به كتبه، فهو وراء ذلك كله، وهو نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات. وتوحيد في الطلب والقصد.

_ 1 اقتضاء الصراط المستقيم ص: 465، وانظر مجموع الفتاوى 3/3. 2 مدارج السالكين 1/33.

فالأول: هو حقيقة ذات الرب تعالى، وأسمائه وصفاته وأفعاله، وعلوه فوق سماواته على عرشه، وتكلمه بكتبه، وتكليمه لمن شاء من عباده، وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمه. النوع الثاني: مثل ما تضمنته سورة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ، وقوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية1. وقال الإمام الطحاوي رحمه الله: "فإن التوحيد يتضمن ثلاثة أنواع: أحدها: الكلام في الصفات. والثاني: توحيد الربوبية، وبيان أن الله وحده خالق كل شيء. والثالث: توحيد الإلهية، وهو استحقاقه سبحانه وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له"2. وقد تحدث الإمام الطحاوي رحمه الله عن هذه الأنواع من التوحيد، ثم عقد موضوعاً بعنوان "التوحيد الذي دعت إليه الرسل". قال فيه: "ثم إن التوحيد الذي دعت إليه رسل الله ونزلت به كتبه نوعان: توحيد الإثبات والمعرفة. وتوحيد في الطلب والقصد.

_ 1 سورة آل عمران آية: 64. 2 شرح العقيدة الطحاوية ص: 76.

فالأول: هو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه، ليس كمثله شيء في ذلك كله، كما أخبر عن نفسه، وكما أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم. والثاني: توحيد في الطلب والقصد"1. وقال الشيخ حافظ بن أحمد حكمي رحمه الله: "التوحيد نوعان: الأول: التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي، المتضمن إثبات صفات الكمال لله عز وجل، وتنزيهه عن التشبيه والتمثيل وتنزيهه عن صفات النقص، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات. والثاني: التوحيد الطلبي القصدي الإرادي، وهو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وتجريد محبته والإخلاص له، وخوفه ورجاؤه، والتوكل عليه والرضا به رباً وإلهاً وولياً، وأنْ لا يجعل له عدلاً في شيء من الأشياء، وهو توحيد الإلهية"2. وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "وأما التوحيد فهو ثلاثة أنواع: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات"3.

_ 1 شرح العقيدة الطحاوية ص: 88. 2 معارج القبول 1/54. 3 مجموعة التوحيد ص: 3. وانظر: تيسير العزيز الحميد ص: 33، ومصرع الشرك والخرافة ص: 19.

ومما سبق يتبين لنا أن العلماء المحققين قد اختلفت عباراتهم في أنواع التوحيد وأقسامه، فمنهم من جعل التوحيد يرجع إلى قسمين هما: التوحيد القولي العلمي أو العملي، والثاني: التوحيد القصدي العملي. ومنهم من قال: التوحيد في العلم والاعتقاد، وفي القصد والإرادة. ومنهم من قال: في المعرفة والإثبات، وفي الطلب والقصد. ومنهم من جعله ثلاثة أنواع: هي توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات. وبالتأمل في هذه الأقوال، نجد أن ما يبدوا عليها من خلاف ليس على ظاهره، وإنما هو مجرد خلاف في اللفظ والشكل فقط، والفرق بين من قسم التوحيد إلى نوعين، وبين من جعله ثلاثة أنواع، هو: أن من قسم التوحيد إلى نوعين فإنه أدخل توحيد الأسماء والصفات في توحيد الربوبية، ومن جعله ثلاثة أقسام فإنه قد أفرد توحيد الأسماء والصفات بقسم خاص، وذلك لوقوع النزاع فيه، كما سيأتي. وبعد استعراض أقوال العلماء رحمهم الله في تقسيم أنواع التوحيد، أود أن أشير إلى معرفة هذه الأنواع بإيجاز: أ- فأما توحيد الربوبية: فهو توحيد الله بأفعاله كالإقرار بأن الله تعالى هو الخالق الرازق، المحي المميت، المدبر لشؤون خلقه، النافع الضار، المنفرد بإجابة الدعاء عند الاضطرار، الذي بيده الأمر كله، وبيده الخير كله.

وهذا التوحيد لم يذهب إلى نقيضه طائفة معروفة من بني آدم، بل القلوب مفطورة على الإقرار به، أعظم من كونها مفطورة على الإقرار بغيره من الموجودات، كما قالت الرسل فيما حكى الله عنهم: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 1. وأشهر من عرف تجاهله وتظاهره بإنكار الصانع فرعون، وقد كان مستيقناً به في الباطن، كما قال له موسى عليه السلام: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا} 2. وقال تعالى عنه وعن قومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} 3. ولهذا لما قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} على وجه الإنكار والجحود، قال له موسى: {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ

_ 1 سورة إبراهيم آية: 10. 2 سورة الإسراء آية: 102. 3 سورة النحل آية: 14.

إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} 1. أما مشركوا العرب فإنهم كانوا مقرين بتوحيد الربوبية، وأن الله تعالى خالق السموات والأرض، كما أخبر تعالى عنهم بقوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 2. وقوله تعالى: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} 3، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. ولم يكن المشركون يعتقدون في الأصنام أنها مشاركة لله في خلق العالم، بل كان حالهم فيها كحال أمثالهم من مشركي الأمم من الهند والترك والبربر وغيرهم4. ولكن إقرارهم بهذا التوحيد لم يدخلهم في الإسلام، بل إنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قاتلهم واستحل دماءهم وأموالهم5، وهو

_ 1 سورة الشعراء الآيات: 24-28. 2 سورة لقمان آية: 25. 3 سورة المؤمنون الآيتان: 84-85. 4 انظر: شرح العقيدة الطحاوية: 79. 5 مجموعة التوحيد ص: 3.

من الحجة عليهم1. ب- وأما توحيد الأسماء والصفات: فهو إعتقاد ثبوت ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتاً ونفياً، فيثبت لله ما أثبته لنفسه، وينفي عنه ما نفاه عن نفسه، كالعلم والقدرة، وأنه الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وأنه سميع بصير، رؤوف رحيم، وأنه الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، على العرش استوى، وينزل لفصل القضاء، ونحو ذلك من الأسماء الحسنى، والصفات العلى، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، كما قال الإمام أحمد رحمه الله: "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز القرآن والحديث"2. ويوضح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذا التوحيد، فيقول3: "فالأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله نفياً وإثباتاً، فيثبت لله ما أثبته لنفسه، وينفي عنه ما نفاه عن نفسه، وقد علم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها إثبات ما أثبته من الصفات، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، وكذلك ينفون عنه ما

_ 1 مجموعة الفتاوى 1/23. 2 العقيدة الواسطية ص: 101. 3 مجموعة الفتاوى 3/3-4.

نفاه عن نفسه، مع إثبات ما أثبته من الصفات من غير إلحاد لا في أسمائه، ولا في آياته، فإنّ الله تعالى ذم الذين يلحدون في أسمائه وآياته، كما قال تعالى: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} 1 ". وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 2. وذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن طريقة سلف الأمة وأئمتها، تتضمن إثبات الأسماء والصفات، مع نفي مماثلة المخلوقات إثباتاً بلا تشبيه، وتنزيها بلا تعطيل، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 3. وبين رحمه الله إن في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} رد للتشبيه والتمثيل، وفي قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} رد للإلحاد والتعطيل، ثم قال:

_ 1 سورة الأعراف آية: 180. 2 سورة فصلت آية: 40. 3 سورة الشورى آية: 11.

والله سبحانه بعث رسله بإثبات مفصل ونفي مجمل، فإثبتوا لله الصفات على وجه التفصيل، ونفوا عنه ما لا يصل له من التشبيه والتمثيل. انتهى. وهذا التوحيد لا يكفي أيضاً في حصول الإسلام من الشخص بمجرد الاعتراف به، بل لا بد مع ذلك من الإتيان بلازمه، من توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، والمشركون كانوا يقرون بجنس هذا النوع من التوحيد، وإن كان بعضهم قد ينكر بعضه، إما جهلاً، وإما عناداً، كما قالوا: لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، فأنزل الله فيهم: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} 1. قال ابن كثير رحمه الله: "والظاهر أن إنكارهم هذا، إنما هو جحود وعناد وتعنت في كفرهم، فإنه قد وجد في بعض أشعار الجاهلية تسمية الله بالرحمن. قال ابن جرير: وقد أنشد بعض الجاهلية الجهال: ألا ضربت تلك الفتاة هجينها ... ألا قضب الرحمن ربي يمينها وقال سلامة بن جندب الطهوي: عجلتم علينا إذ عجلنا عليكم ... وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق2

_ 1 سورة الرعد آية: 30. 2 تفسير ابن كثير 1/20، وانظر: تفسير ابن جرير الطبري 1/58.

قال صاحب تيسير العزيز الحميد: "قلت ولم يعرف عنهم إنكار شيء من هذا التوحيد، إلاّ في اسم الرحمن خاصة، ولو كانوا ينكرونه لردوا على النبي صلى الله عليه وسلم، كما ردوا عليه توحيد الإلهية"1. وجاء في كتاب مصرع الشرك والخرافة2: "ولم يقع في هذا التوحيد خلاف في القرن الأول، بل كانوا مطبقين على ذلك، وإنما وقع النزاع فيه في أوائل القرن الثاني، وأول من عرف عنه القول بنفي الأسماء والصفات، هو: الجهم بن صفوان، تابعاً للجعد بن درهم، وفي أوائل المائة الثالثة فشت هذه المقالة، وكان المتصدر لنشرها والدعوة إليها، بشر المريسي في عصر المأمون.... ". ج- أما توحيد الإلهية: فهو توحيد الله تعالى بأفعال العباد، وهو مبني على إخلاص التأله لله تعالى وحده، وإفراده بجميع أنواع العبادات، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والدعاء، والنذر، والنحر، والخوف، والرجاء، والتوكل، والإنابة، والرغبة، والرهبة، وغير ذلك من أنواع العبادات والقربات. ويسمى هذا التوحيد: توحيد العبادة، وقد عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بقوله: "العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من

_ 1 تيسير العزيز الحميد ص: 35. 2 مصرع الشرك والخرافة للشيخ خالد الحاج ص: 21، والعقائد السلفية 1/48.

الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة ... "1. وينبني على ذلك إخلاص العبادات كلها لله تعالى فرضها ونفلها، باطنها وظاهرها، فلا يجعل فيها شيئاً لغير الله تعالى، لا ملك مقرب، ولا لنبي مرسل، فضلاً عن ما سواهما. وهذا التوحيد هو المطلوب من العباد إنسهم وجنهم، ولأجله خلقوا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 2. وهو دعوة جميع الرسل، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 3. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} 4. وهذا التوحيد هو حقيقة دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد غيره، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء

_ 1 العبودية ص: 4. 2 سورة الذاريات آية: 56. 3 سورة الأنبياء آية: 25. 4 سورة النحل آية: 36.

الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت"1. وهو حق الله على العباد، كما جاء في الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أتدري ما حق الله على عباده؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على عباده أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً"2.

_ 1 صحيح البخاري 1/8 كتاب الإيمان، باب أقوال النبي صلى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس. وصحيح مسلم 1/45 كتاب الإيمان، باب بيان أركان الإسلام. 2 صحيح البخاري بشرح الفتح 6/58 كتاب الجهاد، باب اسم الفرس والحمار. وصحيح مسلم 1/58 كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً. والجامع الصحيح للترمذي 5/26 كتاب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة. وابن ماجه 2/1435 كتاب الزهد، باب ما يرجى من رحمه الله يوم القيامة. وأحمد في المسند 2/39.

العلاقة بين أنواع التوحيد أما العلاقة بين أنواع التوحيد فهي علاقة متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض، فمن أتى بنوع منها دون الآخر، فإنه لم يأت بالتوحيد على وجه الكمال المطلوب، فالإقرار بتوحيد الربوبية وحده لا يكفي لتحقيق معنى التوحيد المطلوب من العبد شرعاً، وأن العبد لا يكون موحداً التوحيد الذي يمنع صاحبه من القتل والأسر في الدنيا، ومن عذاب النار في الآخرة بمجرد اعتقاده أن الله هو الخالق الرازق، المدبر للأمور جميعاً، المجيب الدعاء عند الاضطرار، لأن هذا التوحيد كان يقربه المشركون، قال تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} 1. وقال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُم لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 2. وقال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِن

_ 1 سورة يونس آية: 31. 2 سورة الزخرف آية: 87.

بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 1. وقال تعالى: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} 2. فهم مع إقرارهم بجميع ذلك، واعترافهم بأن الله واحد في هذه الأمور، لم يدخلوا بذلك في الإسلام، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم، ولذلك فإنه لا بدّ مع الإقرار بتوحيد الربوبية من الإتيان بتوحيد الإلهية الذي هو الغاية من بعثه الرسل عليهم الصلاة والسلام، والذي من أجله خلق الله الخلق، وجعل الجنة والنار، وفرق الناس إلى سعداء وأشقياء. ومن المهم في توحيد الإلهية أن تصرف جميع العبادات لله تعالى، والإخلاص له فيها، سواء كانت هذه العبادات قلبية كالحب والخوف والإخلاص، والتوكل والصبر والتعظيم، والرضا والتسليم وغيرها. أو كانت عبادات قولية كالدعاء والذكر والتسمية والاستعاذة والاستغاثة، والحلف والتوسل والشفاعة وغير ذلك. أو كانت عبادات بدنية عملية مثل الصلاة من سجود وركوع،

_ 1 سورة العنكبوت آية: 63. 2 سورة النمل آية: 62.

وتسليم، وكالصيام والحج، والطواف والسعي، والجهاد والرحلة في طلب العلم، وغير ذلك. أو كانت عبادات مالية كالزكاة والصدقات والذبائح والنذور وغيرها. وتوحيد الأسماء والصفات " لا يكفي وحده، بل لا بدّ مع ذلك من الإتيان بلازمه من توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية "1 كما تقدم. جاء في معارج القبول للحكمي: " فإنه لا يكون إلهاً مستحقاً للعبادة إلاّ من كان خالقاً، رازقاً، مالكاً، متصرفاً، مدبراً لجميع الأمور، حياً، قيوماً، سميعاً، بصيراً، عليماً، حكيماً، موصوفاً بكل كمال، منزهاً عن كل نقص، غنياً عما سواه، مفتقراً إليه كل ما عداه، فاعلاً مختاراً لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، ولا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ولا تخفى عليه خافية، وهذه صفات الله عز وجل لا تنبغي إلاّ له، ولا يشركه فيها غيره، فكذلك لا يسستحق العبادة إلا هو، ولا تجوز لغيره، فحيث كان متفرداً بالخلق والإنشاء والبدء والإعادة، لا يشركه في ذلك أحد، وجب إفراده بالعبادة دون من سواه، لا يشركه معه في عبادته أحد"2.

_ 1 تيسير العزير الحميد ص: 19 المكتبة السلفية. 2 معارج القبول 1/350-351.

وبعد أن تحدثت عن معنى التوحيد وأصالته في البشرية، وأنه دعوة جميع الرسل، وتحدتث عن أنواعه، أود أن نعرف معنى الشرك وأنواعه، وبعض صوره في الاعتقاد وفي العبادات، وبعض المعبودات التي عبدت من دون الله تعالى في الفصل التالي.

الفصل الثاني: معنى الشرك وبعض صوره.

الفصل الثاني: معنى الشرك وبعض صوره: ويشتمل على ما يلي: 1- تعريف الشرك لغة: جاء في لسان العرب: " الشِّرْكَةُ والشَّرِكَةُ سواء: مخالطة الشريكين، يقال: اشتركنا بمعنى تشاركنا، وقد اشترك الرجلان وتشاركا وشارك أحدهما الآخر، والشريك المشارك، والشرك كالشريك، والجمع أشراك وشركاء، وطريق مشترك يستوي فيه الناس، واسم مشترك فيه معان كثيرة: كالعين ونحوها، وأشرك بالله جعل له شريكاً في ملكه تعالى الله عن ذلك، والإسم الشرك، قال الله تعالى حكاية عن عبده لقمان أنه قال لابنه: {يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 1. والشرك أن يجعل لله شريكاً في ربوبيته، تعالى الله عن الشركاء والأنداد"2. وجاء في مقاييس اللغة: "الشين والراء والكاف أصلان، أحدهما يدلّ على مقارنة وخلاف انفراد، والآخر يدل على امتداد واستقامة.

_ 1 سورة لقمان آية: 13. 2 لسان العرب 10/448-449.

فالأول: الشركة، وهو أن يكون الشيء بين اثنين لا ينفرد به أحدهما، ويقال شاركت فلاناً في الشيء إذا صرت شريكه، وأشركت فلاناً إذا جعلته شريكاً لك. قال تعالى في قصة موسى عليه السلام: {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} 1. ويقال في الدعاء: "اللهم أشركنا في دعاء المؤمنين" أي: اجعلنا لهم شركاء في ذلك الدعاء. وأما الثاني: فالشرك: لَقَم الطريق، وهو شراكه أيضاً، وشراك النعل مشبه بهذا، ومنه شرك الصائد سُمِيَ بذلك لامتداده"2. وفي تهذيب اللغة: "الشرك بمعنى الشريك، وهو بمعنى النصيب، وجمعه أشراك كشبر وأشبار، والشرك حبائل الصائد، وكذلك ما ينصب للغير، وفي الحديث: "أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه" 3، أي حبائله ومصائده، يعني ما يدعو إليه ويوسوس به من الإشراك بالله تعالى. وفي حديث تلبية الجاهلية: "لبيك لا شريك لك، إلاّ شريكاً هو

_ 1 سورة طة آية: 32. 2 مقاييس اللغة 3/265. 3 أبو داود 5/310-311 كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح، رقم: 5067. والترمذي 5/467 كتاب الدعوات، رقم: 3392، وقال: حديث حسن صحيح. وصححه ابن حبان 2349، والحاكم 1/513، ووافقه الذهبي.

لك، تملكه وما ملك" 1، يعنون بالشرك الصنم، يريدون أن الصنم وما يملكه، ويختص به من الآلات التي تكون عنده، وحوله من النذور التي كانوا يتقربون بها إليه، ملك لله تعالى ... "2. وفي القاموس المحيط: "وأشرك بالله كفر"3. وفي المفردات في غريب القرآن: "يقال أشرك فلان بالله، وذلك أعظم كفر"4. ومن هذا يتبين لنا أن مادة (الشين والراء والكاف) في اللغة تدور حول المخالطة، والنصيب، والتسوية، والكفر، وحبائل الصائد، والند، والمثل، والشبيه، والكفء، والنظير، ونحو ذلك.

_ 1 ابن إسحاق بدون إسناد. انظر: سيرة ابن هشام 1/78، وكشف الأستار للبزار بإسناد حسن 2/15. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 3/223: رجاله رجال الصحيح. وانظر: الأصنام لابن الكلبي ص: 7، والنهاية لابن الأثير 2/467، والفتاوى لابن تيمية 1/156، وإغاثة اللهفان لابن القيم 2/210-211، والبداية والنهاية لابن كثير 2/188، والسيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية د. مهدي رزق الله ص: 69. 2 تهذيب اللغة 10/17-18. 3 القاموس المحيط 3/308. 4 المفردات في غريب القرآن ص: 259.

2- مواضع ورود كلمات الشرك في القرآن الكريم: والقرآن الكريم يكشف لنا هذا الأمر الخطير في ألفاظ متعددة، ليتضح أمره للناس ويبتعدوا عنه، فقال تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} 1. قال ابن جرير: "والأنداد جمع ند، والند: العدل والمثل، كما قال حسان بن ثابت: أتهجوه ولست له بند ... فشركما لخيركما الفِداء يعني ولست له بند: لست له بمثل ولا عدل، وكل شيء كان نظيراً لشيء وشبيها، فهو له ند "2. ونقل ابن جرير رحمه الله كلام العلماء في معنى الأنداد في الآية، فعن قتادة ومجاهد: "أنداداً" أي: عدلاء. وعن ابن مسعود: "أنداداً"، قال: أكفاء من الرجال، تطيعونهم في معصية الله. وعن ابن عباس: "أنداداً"، قال: أشباهاً. وعن عكرمة: "أنداداً"، أي: تقولون لولا كلبنا لدخل علينا اللص

_ 1 سورة البقرة آية: 22. 2 تفسير ابن جرير 1/163.

الدار، ولولا كلبنا صاح في الدار ونحو ذلك1. وقال ابن كثير رحمه الله: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من التوحيد هو الحق الذي لا شك فيه"2. ونقل ابن كثير عن أبي العالية قوله: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً} أي: عدلاء شركاء، وهكذا قال الربيع بن أنس، وقتادة، والسدي، وأبو مالك، وإسماعيل بن أبي خالد"3. وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن هذه الآية تعني جميع المشركين من عبدة الأوثان، وكفار أهل الكتاب، قال ابن عباس: نزل ذلك في الفريقين جميعاً الكفار والمنافقين، وإنما عني بقوله: {فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي: لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر، وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم أن الذي تدعوكم إليه الرسل من توحيده، هو الحق لا

_ 1 تفسير ابن جرير 1/163. 2 تفسير ابن كثير 1/58. 3 المرجع السابق والصفحة.

شك فيه"1. ومن الآيات التي جاء فيها ذكر الأنداد، قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِلّهِ} 2. وقوله تعالى: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} 3. وقوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 4. وأطلق الشرك على العدول والتسوية، قال تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ} 5. قال الطبري:"يعدلون: يجعلون له شريكاً في عبادتهم إياه، فيعبدون

_ 1 تفسير ابن جرير 1/164، وانظر: تفسير ابن كثير 1/58. 2 سورة البقرة آية: 165. 3 سورة إبراهيم آية: 30. 4 سورة فصلت آية: 9. 5 سورة الأنعام آية: 1.

معه الآلهة والأنداد والأصنام والأوثان، وليس منها شيء شركه في خلق شيء من ذلك، ولا في أنعامه عليهم بما أنعم به عليهم، بل هو المنفرد بذلك كله، وهم يشركون في عبادتهم إياه غيره"1. وقال مجاهد: "يعدلون" يشركون2. وقال ابن كثير: "أي كفر به بعض عباده، وجعلوا له شريكاً وعدلاً، واتخذوا له صاحبة وولداً"3. كما أطلق الشرك على الأرباب، قال تعالى: {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ} 4. قال ابن جرير: "فإنَّ اتخاذ بعضهم بعضاً هو ما كان بطاعة الأتباع الرؤساء فيما أمروهم به من معاص الله، وتركهم ما نهوهم عنه من طاعة الله، كما قال جل ثناؤه: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا} 5.

_ 1 تفسير الطبري 7/144. 2 تفسير ابن جرير 7/144. 3 تفسير ابن كثير 2/133. 4 سورة آل عمران آية: 64. 5 سورة التوبة آية: 31.

وعن عدي بن حاتم قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: يا عدي اطرح عنك هذا الوثن من عنقك، فطرحته وانتهيت إليه وهو يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ} ، قال: قلت: يا رسول الله إناّ لسنا نعبدهم، فقال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرّم الله فتحلونه؟ قال قلت: بلى، قال: فتلك عبادتهم"1. وقد نفى الله تعالى عن نفسه الكفء والشبيه والنظير، قال تعالى: { ... وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} 2. ومن هذا يظهر لنا أن معنى الشرك من خلال آيات القرآن لا يختلف عن ما جاء في كتب اللغة، إذ أنّ معناه يدور حول اتخاذ المثيل والشبيه والنظير، والأرباب والعديل أو العدلاء، وأن يجعل العبد لله نداً أو كفؤاً، أو أن ينسب إليه الصاحبة والولد.

_ 1 الجامع الصحيح للترمذي 5/278 كتاب التفسير، سورة التوبة. ورواه ابن جرير في تفسيره 10/114، وانظر تفسير ابن كثير 2/373. 2 سورة الإخلاص آية: 4.

3- تعريف الشرك شرعاً: فقد عرّفه الذهبي رحمه الله بقوله: "هو أن تجعل لله نداً، وهو خلقك، ويمكن القول بأن الشرك في الشرع هو أنْ يصرف العبدُ شيئاً من أنواع العبادة لغير الله تعالى من أصنام أو أوثان، أو أشجار، أو أحجار، أو إنس، أو جن، أو قبور، أو أجرام سماوية، أو قوى طبيعية، أو غير ذلك. ومن هذا يتبين لنا أن من صرف شيئاً من أنواع العبادة كالدعاء والذبح والنذر والصلاة والاستغاثة والخوف والرجاء والتوكل ونحوها، لغير الله تعالى فقد أشرك بالله عز وجل. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة الشرك وعظم جرمه، ففي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ الذنبِ أعظم عند الله؟ قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك.." 1 الحديث. وفي الصحيحين عن أبي بكرة عن أبيه قال: كنا عند رسول الله

_ 1 صحيح البخاري بشرح الفتح 8/163 كتاب التفسير، باب قوله تعالى {فلا تجعلوا لله أنداداً} . وصحيح مسلم 1/90 كتاب الإيمان، باب كون الشرك أكبر الذنوب ... حديث رقم: 141.

صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور ... "1 الحديث. فالشرك أكبر الكبائر وأعظم الذنوب، لأنه تنقص برب العالمين وانتهاك لحقه تبارك وتعالى، فقد ثبت في الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معاذ هل تدري ما حق الله على العباد؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنّ حق اللهِ على العباد أن يعبدُوهُ ولا يشرِكُوا به شيئاً ... "2.

_ 1 صحيح البخاري بشرح الفتح 10/405 كتاب الأدب، باب عقوق الوالدين من الكبائر. وصحيح مسلم 1/91 كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها حديث رقم: 143. 2 صحيح البخاري بشرح الفتح 6/58 كتاب الجهاد، باب اسم الفرس والحمار. وصحيح مسلم 1/58 كتاب الإيمان، حديث رقم: 48.

4- أنواع الشرك: وشرك الإنسان في الدين نوعان1: أحدهما الشرك العظيم: وهو إثبات شريك لله تعالى، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} 2. وقال تعالى: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} 3. وقال تعالى: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} 4. وقال تعالى حكاية عن قول لقمان: { ... إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 5. والثاني: الشرك الأصغر، وهو مراعاة غير الله معه في بعض الأمور، وهو الرياء والنفاق، قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} 6.

_ 1 انظر: المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص: 259. 2 سورة النساء آية: 48. 3 سورة النساء آية: 116. 4 سورة المائدة آية: 72. 5 سورة لقمان آية: 13. 6 سورة يوسف آية: 106.

والآية كما تدل على نعت المشركين بالشرك الأكبر، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما من إيمانهم أنهم إذا قيل لهم: من خلق السموات ومن خلق الأرض، ومن خلق الجبال؟ قالوا: الله وهم مشركون به. وكذا قال مجاهد وعطاء وعكرمة والشعبي وقتادة والضحاك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم1، فإنها تشير إلى ما يتخلل الأفئدة وينغمس به الأكثرون من الشرك الخفي الذي يشعر صاحبه به غالباً. ومنه قول الحسن البصري في هذه الآية: "ذاك المنافق يعمل إذا عمل رياء الناس، وهو مشرك بعمله ذلك"2. وقال تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} 3. قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "وأما الشرك فهو نوعان: أكبر، وأصغر. فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو أن يتخذ من دون الله نداً، يحبه كما يحب الله، وهو الشرك الذي تضمن تسوية المشركين برب العالمين ...

_ 1 انظر تفسير ابن كثير 2/532. 2 المرجع السابق والصفحة. 3 سورة الكهف آية: 110.

ثم قال: وأما الشرك الأصغر: فكيسير الرياء، والتصنع للخلق، والحلف بغير الله، وقول الرجل للرجل ما شاء الله وشئت، وهذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، ومالي إلا الله وأنت، وإنا متوكل على الله وعليك، ولولا أنت لم يكن كذا وكذا، وقد يكون هذا شركاً أكبر بحسب قائله ومقصده "1 ا.? وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الشرك الخفي، وأخبر أنه يخافه على أمته أكثر مما يخافه عليهم من المسيح الدجال. فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر المسيح الدجال، فقال: "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قال قلنا: بلى، فقال: الشرك الخفي، أن يقوم الرجل يصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل" 2.

_ 1 مدارج السالكين لابن القيم 1/368-373. 2 سنن ابن ماجه 2/1406 كتاب الزهد، باب الرياء والسمعة، حديث رقم: 4204. ونحوه في مسند الإمام أحمد 3/30. وفي الزوائد: إسناده حسن.

5- الفرق بين الشرك والكفر: وقد يسأل سائل عن الفرق بين الشرك الذي نتحدث عنه وبين الكفر؟ أو بين المشركين وأهل الكتاب، ونحو ذلك؟ والجواب: أن الكفر في اللغة معناه الستر والتغطية1. وقد وصف به الليل لستره الأشياء، والزراع لستره البذور في الأرض، وكفر النعمة وكفرانها: سترها بترك شكرها، قال تعالى: {فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} 2. وأعظم الكفر جحود الوحدانية أو الشريعة أو النبوة، والكفران في جحود النعمة أكثر استعمالاً، والكفر في الدين أكثر، والكفور فيهما جميعاً، قال تعالى: {فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا} 3. والكافر على الإطلاق متعارف فيمن يجحد الوحدانية أو النبوة أو الشريعة أو ثلاثتها4. وقد فرق القرآن الكريم في كثير من الآيات بين الكافرين عموماً،

_ 1 لسان العرب 5/146-147، ومقاييس اللغة 5/191. 2 سورة الأنبياء آية: 94. 3 سورة الإسراء آية: 99. 4 انظر: المفردات في غريب القرآن للأصفهاني ص: 433-434.

وبين أهل الكتاب من جهة، وبين المشركين من جهة أخرى. وإنْ كان هؤلاء جميعاً يتفقون في معارضة الدين، أو رسالة نبي من الأنبياء، أو إيذاء رسول من الرسل، كما قد يشتركون في إيذاء المؤمنين، ولكنهم في طبيعة العقيدة يختلف كل منهم عن الآخر. قال تعالى: {مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ} 1. وقال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذىً كَثِيراً} 2. وقال الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ} 3. كما بين القرآن الكريم ما عليه أهل الكتاب من الدعاوي الباطلة من زعمهم أن الهداية في اتباع اليهودية، أو أنها في اتباع النصرانية، وبين أن تلك الدعاوي لم تكن عن دليل أو شبهة، بل هي مجرد جحود وعناد،

_ 1 سورة البقرة آية: 105. 2 سورة آل عمران آية: 186. 3 سورة المائدة آية: 82.

وبين أن إبراهيم عليه السلام كان مائلاً عن الأديان كلها إلى الدين القيم، ولم يكن من المشركين بالله غيره. قال تعالى: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ ِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1. وقال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 2. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3. ونجد تفصيلاً أكثر بين مجموعة المهتدين ومجموعات الكافرين، في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 4.

_ 1 سورة البقرة آية: 135. 2 سورة آل عمران آية: 67. 3 سورة الأنعام آية: 161. 4 سورة الحج آية: 17.

وآيات سورة البينة تجمل الكفر، ثم تفصل بين أهل الكتاب والمشركين، سواء في طبيعة تقبلهم للهداية، أو في المصير المنتظر لهم، قال الله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} إلى أن تقول الآيات: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} 1. وقد يطلق الكفر على من كفر بالنعمة، كقوله تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} 2. وقد يطلق على من ترك ركناً من أركان الدين، كما في قوله تعالى:3. وإطلاق الكفر على من كفر بالله، وجحد ألوهيته {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} مطلقاً، فكثير في القرآن، كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ

_ 1 سورة البينة الآيات: 1-6. 2 سورة إبراهيم آية: 7. 3 سورة آل عمران آية: 97.

كَفَرُواْ ... } 1. وقوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} 2. وقوله: {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ} 3. وقد يطلق على المشركين، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} 4. وقوله: {وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ} 5. وقد يطلق الكفر على أهل الكتاب، خاصة دون المشركين، كقوله

_ 1 سورة البقرة آية: 102. 2 سورة البقرة آية: 126. 3 سورة الغاشية الآيتان: 22- 23. 4 سورة البقرة آية: 6. 5 سورة البقرة آية: 89.

تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ} 1. ومن هذا يتبين لنا أن الكفر بمعنى الجحد والستر، يشمل كل من أنكر الرب أو الخالق سبحانه وتعالى، أو أنكر يوم البعث، أو نبياً من الأنبياء، أو كتاباً من الكتب السماوية، وكذا من أحلّ محرماً، أو أنكر ركناً من أركان الإسلام. وبهذا المعنى يشمل الكفر كفرا أهل الكتاب يهوداً أو نصارى، وربما كان بعضهم موحداً إذا احتفظ بأصل العقيدة، وربما كان مشركاً كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 2. وبهذا المعنى يشمل الكفر كفر الصابئة، وقد اختلف في أمرهم، هل هم من أهل الكتاب أو ليسوا منهم؟ وقال ابن قدامة: "ينظر في أمرهم، فإن كانوا يوافقون أحد أهل الكتابين في نبيهم وكتابهم، فهم منهم، وإلا فليسوا من أهل الكتاب"3.

_ 1 سورة آل عمران آية: 70. 2 سورة التوبة آية: 30. 3 المغني لابن قدامة 8/496-497.

ويشمل المجوس: وهم كما يقول ابن القيم: " يعظمون الأنوار والنيران، ويدّعون نبوة زرادشت، وهم فرق شتى، منهم المزدكية أصحاب مزدك، وهؤلاء يرون الاشتراك في النساء والمكاسب، كما يشترك الناس في الهواء والماء، ومنهم الخرمية، أصحاب بابك الخرمى، وهم شر طوائفهم، لا يقرون بخالق، ولا معاد، ولا نبوة، ولا حلال، ولا حرام "1. ويشمل كفر الدهريين: وهم الذين ينكرون الخالق، ويقولون لا إله ولا صانع للعالم، وأن هذه الأشياء وجدت بلا خالق2. وجاء في الكواشف الجلية عن العقيدة الواسطية3: والكفر أنواع: 1- كفر عناد ككفر أبي جهل. 2- كفر إباء ككفر إبليس. 3- كفر جحد ككفر فرعون. فالكفر إذاً أعم من الشرك. أما الشرك فهو ما سبق تعريفه، وهو أن يصرف العبد شيئاً من أنواع العبادة لغير الله تعالى، وهو الذي بيده الخلق والرزق، والإحياء

_ 1 إغاثة اللهفان 2/247-248. 2 انظر: تلبيس إبليس لابن الجوزي ص: 44. 3 الكواشف الجلية عن العقيدة الواسطية ص: 193-194.

والإماتة، وتدبير الأمور، وهو الذي يفزع إليه الإنسان بطبعه وفطرته عند نزول الكرب، ويتجه إليه عنه الدعاء والرجاء. قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ} 1. والشرك أعظم أنواع الكفر، وأشدها لأنه يتنافى مع كل عقل ومنطق، ولهذا نجد أن القرآن الكريم يخوض معركة حامية مع الشرك والمشركين، ليقتلع فكرة الشرك من جذورها. ومن هنا يتبين لنا أن كل مشرك كافر، وليس كل كافر مشرك.

_ 1 سورة يونس آية: 12.

6- صور من الشرك في الاعتقاد: أ- الشرك في النية: المطلوب من العبد أن يكون قوله وفعله وعمله وجهاده خالصاً لوجه الله تعالى، من غير طلب مغنم أو جاه، أو رئاسة أو لقب، أو شرف أو غير ذلك من الأحوال الدنيوية، وإلا فإنّ عمله يكون حابطاً فاسداً والعياذ بالله، لأنه أصبح نوعاً من الشرك. ونذكر في هذا المعنى ما قاله الدكتور محمد خليل هراس: "فإن العبادات كلها لا تكون مقبولة ولا معتداً بها إلاّ إذا توفر لها شرطان: أحدهما: باطن، وهو إخلاص النية فيها لله عز وجل، بحيث لا يقصد بها إلا وجه الله والدار الآخرة. والآخر: ظاهر، وهو المتابعة فيها للشرع، وفق ما أمر الله به ورسوله، من غير زيادة ولا نقص. فإذا اختل واحد من هذين الشرطين، لم تصح العبادة، فإنها إن خلت من الإخلاص كانت رياء، وهو الشرك الأصغر، وإن خلت من المتابعة كانت ابتداعاً.

قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} 1"2. قال قتادة: "من كانت الدنيا همه وزينته، جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يُعطى بها، أمّا المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة"3. ولهذا كانت النية ميزان الأعمال كلها، وعلى قدر توفرها في العمل يكون الثواب، كما ثبت في الحديث الصحيح: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه"4.

_ 1 سورة هود الآيتان: 15-16. 2 دعوة التوحيد ص: 44. 3 تفسير ابن كثير 2/471. 4 صحيح البخاري بشرح الفتح 1/9 كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -وقد أخرجه البخاري في ستة مواضع أخرى-. وصحيح مسلم 3/1515 كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات"، حديث رقم: 155. وأحمد 1/25.

ب- الشرك في المحبة: قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِلّهِ} 1. قال ابن القيم رحمه الله 2: "اخبر تعالى أنّ من أحب من دون الله شيئاً كما يحب الله تعالى، فهو ممن اتخذ من دون الله أنداداً، فهذا في المحبة، لا في الخلق والربوبية. فإن أحداً من أهل الأرض لا يثبت هذا الند، بخلاف ند المحبة، فإنّ أكثر أهل الأرض قد اتخذوا من دون الله أنداداً في الحب والتعظيم. قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} 3. فجعل علامة حبهم لله أن يتابعوا رسوله صلى الله عليه وسلم، ويكون هواهم تابعاً لما جاء به، ووعدهم على ذلك حبه لهم ومغفرته لذنوبهم، وإذا كان الحب عبادة، بل هو أساس العبادات كلها، إذ لا يصح شيء منها إلاّ مع كمال الحب وكمال الذل، فلا يصح أن يحب العبد مع

_ 1 سورة البقرة آية: 165. 2 التفسير القيم لابن القيم ص: 140، وانظر مدارج السالكين 3/20. 3 سورة آل عمران آية: 31.

الله أحداً، فإن هذا من اتخاذ الأنداد التي صرحت به آية البقرة، بل يحب في الله ولله. وبهذا يظهر أن حب غير الله لا ينافي التوحيد، بل قد يكون من كمال التوحيد: فإنّ من تمام حب العبد لله أن يحب في الله ويبغض في الله، ويوالي في الله، ويعادي في الله، ويحب ما يحبه الله ويرضاه من الأشخاص والأخلاق والأعمال، ويبغض ما يبغضه الله كذلك. ولهذا لا يكمل إيمان أحد حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين، وحتى يحب المرء لا يحبه إلا لله، وحتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فيؤثر مرضاتهما على مرضاة كل أحد، ويقدم أمرهما وحكمهما على أن كل أحد وحكمه. وبالجملة فيجب التمييز بين المحبة في الله ولأجله، التي هي من كمال التوحيد، وتمام الإخلاص، وبين المحبة مع الله، التي هي محبة الأنداد من دون الله لما يتعلق بقلوب المشركين مع الإلهية التي لا تجوز إلاّ لله وحده. ا.? وقال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ

لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} 1. وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين"2. فالمراد بهذه المحبة هي: "المحبة الخاصة التي لا تصلح إلا لله، ومتى أحب العبد بها غيره، كان شركاً لا يغفره الله، وهي محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع والتعظيم، وكمال الطاعة، وإثاره على غيره"3. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " فحقيقة المحبة لا تتم إلا بموالاة المحبوب، وهو موافقته في حبه ما يحب، وبغض ما يبغض، والله يحب الإيمان والتقوى، ويبغض الفسوق والعصيان"4. وخلاصة القول إنّ الشرك في المحبة هو الحب المبني على إيثار غير الله عز وجل بالذل والخضوع والطاعة في المحبة الخاصة بالله تعالى. أما الحب الغريزي الذي يشعر به الإنسان نحو أهله وأولاده مثلاً،

_ 1 سورة التوبة آية: 24. 2 صحيح البخاري بشرح الفتح 1/58 كتاب الإيمان، باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان. ومسلم 1/67 كتاب الإيمان، باب وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. 3 انظر: تيسير العزيز الحميد ص: 468. 4 العبودية ص: 28.

فلا يتعارض مع الحب الذي يجب أن يكون خالصاً لله تعالى، إلا إذا غلا ذلك الحب وطغى على تقديم محبة الله، أو تسبب في الإنشغال عن طاعته، فإنه يكون حينئذ من الحب المنهي عنه. ج- الشرك في الخوف: ولما كان الله تعالى هو النافع الضار، فقد أمر عباده أنْ يخافوه ولا يخافوا أحداً سواه، قال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} 1. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " فالآية دلت على أن الشيطان يجعل أولياءه مخوفين، ويجعل ناساً خائفين منهم، ودلت الآية على أن المؤمن لا يجوز أن يخاف أولياء الشيطان، ولا يخاف الناس، كما في الآية الأولى، بل يجب عليه أن يخاف الله، فخوف الله أمر به، وخوف الشيطان وأوليائه نهى عنه"2. وقال تعالى: {فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ ... } 3 الآية.

_ 1 سورة آل عمران آية: 175. 2 دقائق التفسير 1/307. 3 سورة المائدة آية: 44.

وقال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ} 1. إلى غير ذلك من الآيات التي تفيد أن من أخلص الناس في العبادة وأكملهم إيماناً أخوفهم لله تعالى، وأشدهم له خشية. والخوف الذي لا يجوز تعلقه بغير الله أصلاً، هو: خوف السر، وهو أن يخاف من غير الله أن يصيبه بما يشاء من مرض، أو فقر، أو قتل، ونحو ذلك بقدرته ومشيئته، سواء ادعى أن ذلك كرامة للمخلوق بالشفاعة، أو على سبيل الاستقلال، لأن هذا من لوازم الإلهية، فمن اتخذ مع الله نداً يخافه هذا الخوف؛ فهو مشرك2. أما الخوف الطبيعي كالخوف من عدو، وسبع، وهدم، وغرق، وحريق، ونحو ذلك هذا لا يذم3. ومن هذا القبيل خاف الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهم أكمل الناس توحيداً، فهذا إبراهيم عليه السلام لما جاءته الملائكة بالبشارة في صورة الآدميين، وقدم لهم عجلاً ظاناً إنهم من البشر، ورأى أيديهم لا تمتد إلى الطعام، نكرهم وأوجس منهم خيفة، عند ذلك قالوا له: {لاَ

_ 1 سورة الزمر آية: 36. 2 انظر: تيسير العزيز الحميد ص: 484 بتصرف. 3 المرجع السابق ص: 486.

تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} 1. وذكر الله تعالى هذا الخوف عن موسى عليه السلام لما قتل المصري حين استغاثه الإسرائيلي {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} 2. وكذلك لما أمره الله تعالى أن يلقي عصاه، ورآها تهتز كأنها جان ولى مدبراً ولم يعقب، حتى قال له الله عز وجل: {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} 3. د- الشرك في الطاعة والانقياد: ولما كانت الطاعة من أعظم أنواع العبادات التي أمر الله بها، كما قال تعالى: {أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} 4. قال المراغي في تفسيره: "أي أطيعوا الله واعملوا بكتابه، وأطيعوا الرسول لأنه يبين للناس ما نزل إليهم، فقد جرت سنة الله بأن يبلغ عنه شرعه رسل منهم تكفل بعصمتهم، وأوجب علينا طاعتهم. وأطيعوا أولي الأمر، وهم الأمراء والحكام والعلماء ورؤساء الجند،

_ 1 سورة هود آية: 70. 2 سورة القصص آية: 21. 3 سورة القصص آية: 31. 4 سورة النساء آية: 59.

وسائر الرؤساء والزعماء الذين يرجع إليهم الناس في الحاجات والمصالح العامة، بشرط أن يكونوا أمناء، وألا يخالفوا أمر الله، ولا سنة رسوله الصحيحة، وأن يكونوا مختارين في بحثهم في الأمر واتفاقهم عليه"1. أما من أطاع أحداً من الخلق في تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحلّ الله، فقد اتخذ ذلك المخلوق رباً في التشريع من دون الله، كما قال تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2. وروى الترمذي وابن جرير من طرق، عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: "يا عدي اطرح عنك هذا الوثن، وسمعته يقرأ في سورة براءة {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ} قال: أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه"3.

_ 1 تفسير المراغي 5/72 بتصرف يسير. 2 سورة التوبة آية: 31. 3 أخرجه الترمذي 5/278 كتاب التفسير، سورة التوبة، وابن جرير الطبري في تفسير 10/114. وانظر: تفسير ابن كثير 2/373، وتقدم ص: 106.

وفي لفظ: قال عدي: يا رسول الله: إنا لسنا نعبدهم، قال: "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرّم الله فتحلونه؟ فقلت: بلى، قال: فتلك عبادتهم1. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وكثير من المتفقهة وأجناد الملوك، وأتباع القضاة، والعامة المتبعة لهؤلاء يشركون شرك الطاعة.. فتجد أحد المنحرفين يجعل الواجب ما أوجبه متبوعه، والحرام ما حرمه، والحلال ما حلله، والدين ما شرعه إما ديناً، وإما دنيا، وإما ديناً ودنيا، ثم يخوف من امتنع من هذا الشرك، وهو لا يخاف أنه أشرك به شيئاًَ في طاعته بغير سلطان من الله"2.

_ 1 تفسير ابن جرير 10/114. 2 مجموع الفتاوى 1/98.

7- صور من الشرك في العبادات: ويشتمل على يأتي: أـ دعاء غير الله. ب ـ الغلو في قبور الأنبياء والصالحين. ج ـ الشرك في الذبح. د ـ الشرك في النذر. هـ ـ إدعاء علم الغيب. وـ السحر والخداع. ز ـ الأحجبة والرقى والتمائم. أ- دعاء غير الله: ومن أنواع الشرك: دعاء غير الله تعالى، وذلك لأن الله تعالى بين أن الدعاء من أجلّ العبادات وأكرمها، كما قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 1.

_ 1 سورة غافرة آية: 60. ومعنى داخرين أي: أذلاء. المفردات في غريب القرآن ص: 116.

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة" 1. فعلى هذا فمن دعا أحداً غير الله تعالى ممن لا يملك جلب نفع، أو دفع ضر، فقد وقع في الشرك، سواء كان ملكاً من الملائكة المقربين، أو نبياً من المرسلين، أو ولياً من الصالحين، أو جنياً من الشياطين، أو أي مخلوق حياً أو ميتاً. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} 2. وقال تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 3.

_ 1 رواه الإمام أحمد في المسند 4/267. وابن ماجه في سننه 2/1258 كتاب الدعاء، باب أفضل الدعاء. والترمذي في جامعه 5/456 كتاب الدعاء، باب ما جاء في فضل الدعاء، وقال: حديث حسن صحيح. 2 سورة الأعراف آية: 194. 3 سورة يونس الآيتان: 106-107.

وقال تعالى: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً} 1. وقال تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} 2 الآية. وكذلك لا تجوز الاستعاذة أو الاستغاثة ونحوها إلاّ بالله تعالى. ب- الغلو في قبور الأنبياء والصالحين: ومن أنواع هذا الشرك الخبيث، والداء العضال، والوباء المعدي، والسرطان الفتاك، الذي ما حل بأرض إلا شوه معالمها، وأهلك أهلها، وعطل مسيرتها، الغلو والمبالغة وتجاوز الحدود في تعظيم قبور الأولياء وتقديسها. وقد نهى الله تعالى أهل الكتاب عن الغلو في الدين، وتوعد الغالين، فقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقِّ} 3 الآية. وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ

_ 1 سورة الإسراء آية: 56. 2 سورة القصص آية: 88 3 سورة النساء آية: 171.

أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} 1. قال ابن كثير رحمه الله عند الآية الأولى: "ينهى تعالى أهل الكتاب من الغلو والإطراء، وهذا كثير في النصارى، فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها، فنقلوه من حيز النبوة، إلى أن اتخذوه إلهاً من دون الله، يعبدونه كما يعبدونه، بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه، فادعوا فيهم العصمة واتبعوهم في كل ما قالوا، سواء كان حقاً أو باطلاً، أو ضلالاً أو رشاداً، أو صحيحاً أو كذباً"2. وقال رحمه الله عند الآية الثانية: "أي لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق، ولا تطروا من أمرتم بتعظيمه فتبالغوا فيه حتى تخرجوه من حيز النبوة إلى مقام الإلهية، كما صنعتم في المسيح، وهو نبي من الأنبياء فجعلتموه إلهاً من دون الله، وما ذاك إلاّ لاقتدائكم بشيوخكم، شيوخ الضلال الذين هم سلفكم ممن ضل قديماً "3. كما لعن النبي صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى لغلوهم

_ 1 سورة المائدة آية: 77. 2 تفسير ابن كثير 1/629. 3 تفسير ابن كثير 2/89.

في اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد، محذراً أمته من الوقوع في ما وقع فيه أولئك القوم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" 1. وعن جندب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ... ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك" 2. وجاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وما فيها من الصور، فقال: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح، أو العبد الصالح، بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق

_ 1 صحيح البخاري بشرح الفتح 3/200 كتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور. وصحيح مسلم بشرح النووي 5/13 كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور. 2 صحيح مسلم بشرح النووي 5/13 كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور.

عند الله" 1. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتسوية القبور، فعن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته" 2. والأحاديث التي تنهى عن البناء على القبور، وتوجب هدمها كثيرة، وصحيحة، وصريحة. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فأما بناء المساجد على القبور، فقد صرح عامة علماء الطوائف بالنهي عنه، متابعة للأحاديث، وصرح أصحابنا وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي وغيرهما بتحريمه"، ثم قال: "فهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين، والملوك وغيرهم، يتعين إزالتها بهدم أو بغيره، هذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء المعروفين"3.

_ 1 صحيح البخاري بشرح الفتح 3/208 كتاب الجنائز، باب بناء المسجد على القبر. وصحيح مسلم بشرح النووي 5/11 كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور. 2 صحيح مسلم بشرح النووي 7/36 كتاب الجنائز، باب الأمر بتسوية القبر. 3 اقتضاء الصراط المستقيم ص: 229-230

وعلى كل فالغلو في الصالحين والأولياء، والعكوف عند قبورهم بالصلاة، أو الدعاء، أو الذبح، أو الطواف، أو النذر، ونحو ذلك، لهو من أعمال الشرك الذي حذرنا منه ديننا الإسلامي، وقد أمرنا الله تعالى بمحبة الأنبياء، والأولياء، والصالحين، ولكن لا نرفعهم فوق المنزلة التي لهم من العبودية لله تعالى، وإنما تكون محبتهم باتباع ما دعوا إليه من الهدى والعلم النافع، والتقوى والعمل الصالح، واقتفاء آثارهم في ذلك دون عبادتهم، وعبادة قبورهم والعكوف عليها. ج- الشرك في الذبح: قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} 1. قال ابن كثير: "يأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبر المشركين، الذين يعبدون غير الله، ويذبحون له، بأنه أخلص صلاته وذبيحته، لأن المشركين يعبدون الأصنام ويذبحون لها، فأمره الله تعالى بمخالفتهم، والانحراف عما هم فيه، والإقبال بالقصد والنية، والعزم على الإخلاص لله تعالى"2.

_ 1 سورة الأنعام الآيتان: 162-163. 2 تفسير ابن كثير 2/214 بتصرف يسير.

وقال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 1. ومن هذا يتبين لنا أن من ذبح لغير الله من الجن، أو الإنس، أو الأنبياء، أو الصالحين وغيرهم، من الأصنام والأوثان، فقد أشرك بهذا الفعل غير الله تعالى، ولا يجوز أكل ذبيحته؛ لأنها مما أهل لغير الله، قال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} 2. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فلو ذبح لغير الله متقرباً به إليه لحرم، وإن قال فيه بسم الله، كما يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة الذين يتقربون إلى الأولياء والكواكب بالذبح والبخور، ونحو ذلك"3. د- الشرك في النذر: والنذر -كما يقول اللغويون-: ما كان وعداً على شرط4، أو أن توجب على نفسك ما ليس بواجب لحدوث أمر5. وقد ورد النهي عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنذروا فإنّ النذر لا يغني من القدر شيئاً، ولا يؤخر، وإنما يستخرج به من

_ 1 سورة الكوثر آية: 2. 2 سورة النحل آية: 115. 3 اقتضاء الصراط المستقيم ص: 259. 4 القاموس المحيط 2/140. 5 المفردات في غريب القرآن ص: 487.

البخيل" 1. لكن العبد إذا نذر لزمه الوفاء بنذره، بشرط أن يكون النذر في طاعة الله تعالى، وفيما يملك الناذر، قال صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصه فلا يعصه" 2. وقال صلى الله عليه وسلم: "لا وفاء لنذر في معصية، ولا فيما لا يملك ابن آدم" 3. لهذا فإن النذر قربة من القرب، وعبادة من العبادات، يجب أن تكون خالصة لله سبحانه، قال تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} 4. وقال تعالى في مدحه للأبرار من عباده: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا

_ 1 صحيح البخاري بشرح الفتح 11/575 كتاب الأيمان والنذور، باب الوفاء بالنذر. ومسلم 3/1261 كتاب النذر، باب النهي عن النذر، وأنه لا يرد شيئاً. وأحمد 2/412. 2 صحيح البخاري بشرح الفتح 11/581 كتاب الأيمان والنذور، باب النذور في الطاعة. 3 صحيح مسلم 5/1263 كتاب النذر، باب لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك العبد. وأبو داود 3/112 كتاب الإيمان والنذور، باب في النذور فيما لا يملك. 4 سورة الحج آية: 29.

كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} 1. أما النذر للأضرحة والأصنام والأوثان، والأولياء والصالحين، ونحو ذلك، طلباً لنفعهم، أو رجاء شفاعتهم، فلا ريب أن ذلك من الشرك الواضح الصريح؛ لأنه صرفت فيه العبادة لغير الله تعالى. جاء في الحديث أن رجلاً نذر أن ينحر إبلاً ببوانة2، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: "هل كان فيها صنم من أصنام الجاهلية يعبد؟ فقيل: لا، فقال: هل كان فيها عيد من أعياد الجاهلية يقام؟ فقيل: لا، فقال للرجل: أوف بنذرك"3. ?- ادعاء علم الغيب: لم يطلع الله تعالى أحداً من خلقه على علم الغيب -سوى الملائكة والرسل- ومن زعم أنّ أحداً من الناس يعلم الغيب فقد وقع في الشرك. وقد ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة نصوص مستفيضة أن علم الغيب هو من خصائص الله تعالى التي استأثر الله بها، ومن هذه النصوص،

_ 1 سورة الإنسان آية: 7. 2 بوانة -بضم الباء، وقيل بفتحها، هضبة من وراء ينبع. النهاية لابن الأثير 1/164. وانظر: لسان العرب 13/62. 3 سنن أبي داود 3/607 كتاب الأيمان والنذور، باب ما يؤمر من الوفاء بالنذر، طبعة الدعاس.

قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} 1. وقوله تعالى: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} 2. وورد في الحديث الصحيح أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مفتاح الغيب خمس، لا يعلمها إلا الله، لا يعلم أحد ما يكون في غده، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام، ولا تعلم نفس ماذا تكسب غداً، وما تدري نفس بأي أرض تموت، وما يدري أحد متى يجيء المطر"3. واستثنى الله تعالى من ذلك الملائكة، والرسل الكرام، فقد أطلعهم سبحانه وتعالى على ما شاء لهم أن يعرفوه من غيبه، من أجل تبليغ رسالاته وأوامره إلى خلقه، بما لا يخرج عن نطاق ما يكون فيه مصالح البشر ومنافعهم. قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ

_ 1 سورة الأنعام آية: 59. 2 سورة النمل آية: 65. 3 صحيح البخاري بشرح الفتح 2/524 كتاب الاستسقاء، باب لا يدري متى يجيء المطر إلا الله. ومسند الإمام أحمد 2/24.

رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} 1. قال ابن كثير رحمه الله عند قوله تعالى: {إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} : "وهذا يعم الرسول الملكي والبشري"2. أما ما عدا ذلك، فلا يعلم أحدٌ من خلقه شيئاً مما استأثر بعلمه من الغيب، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه نفى الله عنه الإحاطة بالغيب، إلا ما شاء الله، ولذلك علم الله خاتم رسله أن يقول للناس ما ورد في قوله تعالى: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} 3 الآية. وقال تعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 4. فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو سيد البشر على

_ 1 سورة الجن الآيات: 26-28. 2 تفسير ابن كثير 4/459. 3 سورة الأنعام آية: 50. 4 سورة الأعراف آية: 188.

الإطلاق قد نفى الله عنه علمه بالغيب، إلاّ ما يوحيه إليه بواسطة الملك، فكيف يزعم الدجالون معرفتهم للغيب، واطلاعهم على أمور مستقبلة؟ ومن هذه المزاعم ما يفتريه بعضهم بأنّ الجن يعرفون غيب الماضي.. مع أن الله تعالى نفى عن الجن معرفتهم بالغيب كله، ماضيه ومستقبله. وقصة الجن الذين سخرهم الله للعمل بين يدي سليمان عليه السلام، يذكر القرآن الكريم أن سليمان بعد أن مات أعمى الله موته عن الجن، ولو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا مدة من الزمن، وهم يعانون الأعمال الشاقة. قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ1 فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} 2. قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: "يذكر تعالى كيفية موت سليمان عليه السلام، وكيف عمّى الله موته على الجان المسخرين له في الأعمال الشاقة، فإنه مكث متوكئاً على عصاه، وهي منسأته، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد والحسن وقتادة، وغير واحد مدة طويلة، نحواً من

_ 1 منسأته أي: عصاه. 2 سورة سبأ آية: 14.

سنة، فلما أكلتها دابة الأرض، وهي الأرضة ضعفت وسقطت على الأرض، وعلم أنه قد مات قبل ذلك بمدة طويلة، وتبينت الجن والإنس أيضاً أن الجن لا يعلمون الغيب، كما كانوا يتوهمون ويوهمون الناس ذلك"1. كما نجد أنّ القرآن الكريم يصرح بأنّ الجن قد نفوا عن أنفسهم معرفة الغيب كلية، قال تعالى: {وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} 2. و السحر والخداع: ومن أنواع الشرك الممقوت، الاشتغال بالسحر وتصديق السحرة، قال ابن منظور: "والسحر الأخذة، وكل ما لطف مأخذه ودق، فهو سحر"3. وقال ابن فارس: "السحر قال قوم: هو إخراج الباطل في صورة الحق. ويقال: هو الخديعة"4.

_ 1 تفسير ابن كثير 3/552. 2 سورة الجن آية: 10. 3 لسان العرب 4/348. 4 معجم مقاييس اللغة 3/138.

وقال الراغب: والسحر على معان: الأول: الخداع وتخييلات لا حقيقة لها، نحو ما يفعله المشعوذ بصرف الأبصار عما يفعله لخفة يده، وعلى ذلك قوله تعالى: {سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} 1. وقال: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} 2. الثاني: استجلاب معاونة الشيطان بضرب من التقرب إليه، كقوله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} 3. وعلى ذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} 4. والثالث: ما يذهب إليه الآغتام -الجهلة- وهو اسم لفعل يزعمون أنه من قوته يغير الصور والطبائع، فيجعل الإنسان حماراً، ولا حقيقة لذلك عند المحصلين "5.

_ 1 سورة الأعراف آية: 116. 2 سورة طه آية: 66. 3 سورة الشعراء الآيتان: 221-222. 4 سورة البقرة آية: 103. 5 المفردات في غريب القرآن ص: 226. وانظر: فتح الباري لابن حجر 10/222.

ولهذا فإن السحر في اللغة، هو: عبارة عما خفي ولطف سببه، وقد جاء في الحديث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ من البيان لسحرا، أو إن بعض البيان سحر" 1. وسُمّيَّ السّحرُ سحراً؛ لأنه يقع خفياً آخر الليل2. وقد سمى الله تعالى السحر كفراً، قال تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} 3. وقد حذّر الله تعالى أمته عن السحر والاشتغال به، لأن الشياطين يعلمونه للناس عن طريق الوسوسة إليهم، ويعرفونهم كيف يوقدون العداوات ويثيرون الفتن بين الزوج وزوجته بالنميمة والوشاية، وفي هذا العمل قطع للأرحام، وخراب للبيوت والعمران. قال تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ} 4.

_ 1 صحيح البخاري بشرح الفتح 10/237 كتاب الطب، باب إنّ من البيان سحرا. وصحيح مسلم 2/594 كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة. وأحمد 1/269. 2 لسان العرب لابن منظور 4/350، والمفردات في غريب القرآن ص: 226. 3 سورة البقرة آية: 102. 4 سورة البقرة آية: 102.

وقد ذمّ الله عمل الساحر ووصفه بالخسران في قوله تعالى: {وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} 1. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عقد عقدة ثم نفث فيها، فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً وكل إليه" 2. لذلك: "فمن مارس السحر، ودعا بأسماء الشياطين، وعقد العقد، ووضع التمائم والحروز التي تذكر أسماء الجن، وفعل محبات ومكاره

_ 1 سورة طه آية: 69. 2 أخرجه: النسائي في سننه 7/112 كتاب تحريم الدم، الحكم في السحرة. والمزي في تهذيب الكمال 2/654 من طريق عباد بن ميسرة المنقري عن الحسن عن أبي هريرة مرفوعاً وسنده منقطع. قال المنذري في الترغيب والترهيب 4/32:" رواه النسائي من رواية الحسن عن أبي هريرة، ولم يسمع منه عند الجمهور". وقال الذهبي في الميزان 2/378:" هذا الحديث لا يصح، للين عباد وانقطاعه" ا.?. وحسنه ابن مفلح في الآداب 3/78. ورواه عبد الرزاق 11/17 بسند صحيح عن الحسن مرسلاً، فثبت أن أصل الحديث مرسل، لكن عباد أخطأ فوصله. انظر: النهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد ص:134-135، حديث رقم: 265.

للأزواج والزوجات، فقد وقع في الكفر"1. ز- الأحجبة والرقى والتمائم: ومن الشرك عمل الأحجبة والرقى، وتعليق الودع ونحوها على الأولاد والحيوانات والسيارات، وكذلك البيوت والدكاكين. وقد عرف الجاهليون قديماً هذه الأعمال نتيجة لاعتقادات وهمية باطلة. ولما جاء الإسلام الحنيف، حارب تلك الإعتقادات الفاسدة، والخرافات الساقطة، وحذّر الناس من أخطارها وويلاتها، نظراً لما يترتب عليها من مفاسد وشرور دينية ودنيوية. فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرقى2، والتمائم3،

_ 1 انظر: الإيمان لعبد المجيد الزنداني ص: 237. 2 قال ابن الأثير: الرقية: العوذة التي يرقي بها صاحب الآفة كالحمى والصرع وغيير ذلك من الآفات، وقد جاء في بعض الأحاديث جوازها، وفي بعضها النهي عنها، والأحاديث في القسمين كثيرة، ووجه الجمع بينها أن الرقى يكره منها ما كان بغير اللسان العربي، وبغير أسماء الله تعالى وصفاته وكلامه ... ، وأن يعتقد أن الرقية نافعة ... ، ولا يكره منها ما كان في خلاف ذلك، كالتعوذ بالقرآن وأسماء الله تعالى، والرقى المروية ... وما كان بغير اللسان العربي مما لا يعرف ترجمته، ولا يمكن الوقوف عليه، لا يجوز استعماله. النهاية 2/254-255. 3 التمائم: جمع تميمة، وهي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم، يتقون بها العين في زعمهم، فأبطلها الإسلام. النهاية لابن الأثير 1/197.

والتولة1 شرك" 2. وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من تعلق تميمة، فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة3، فلا ودع الله له" 4. وقال صلى الله عليه وسلم: "من علق تميمة فقد أشرك" 5. وجاء في الحديث الصحيح عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فأرسل

_ 1 التولة: -بكسر التاء وفتح الواو- ما يحبب المرأة إلى زوجها من السحر وغيره. النهاية لابن الأثير 1/200. 2 سنن أبي داود 4/212 كتاب الطب، باب في تعليق التمائم. وابن ماجه 2/1167 كتاب الطب، باب تعليق التمائم. ومسند أحمد 1/381. وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني رقم: 492، ص: 265. 3 الودع: هو شيء أبيض يجلب من البحر، يعلق في حلوق الصبيان وغيرهم. النهاية لابن الأثير 5/168. 4 مسند الإمام أحمد 4/154. 5 مسند الإمام أحمد 4/156. قال المنذري في الترغيب والترهيب 4/307: "ورواة أحمد ثقات".

رسولاً "أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر1، أو قلادة من حبل إلاّ قطعت" 2. ومع هذه النواهي والتحذيرات من الرسول صلى الله عليه وسلم فهناك من جهال المسلمين لا يزالون يعلقون حروزاً فيها أسماء الجن، ورسوم مجهولة، ويوجد من يأكلون تراب القبور، أو يتمسحون بها، ومن يعلقون الودع والأوتار وغيرها. وأن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة فيهما الهداية والنور، وإرشاد أولئك الحيارى إلى الاتجاه الصحيح إلى الله تعالى الذي بيده النفع والضر وحده. ألم يقرأ أو يسمع أولئك الجهلة قول إبراهيم عليه السلام حين قال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} 3.

_ 1 الأوتار: هي أوتار القسي، وهي ثياب من كتان مخلوط من حرير كانوا يزعمون أن التقلد بها يرد عن العين ويدفع عنهم المكاره. النهاية لابن الأثير 4/59 و 5/149. وانظر: فتح الباري لابن حجر 6/142. 2 صحيح البخاري بشرح الفتح 6/141 كتاب الجهاد، باب ما قيل في الجرس ونحوه في أعناق الإبل. وصحيح مسلم 3/1673 كتاب اللباس، باب كراهية قلادة الوتر في رقبة البعير. 3 سورة الشعراء الآيات: 78-80.

إن الشريعة الإسلامية لم تحرم التداوي بالمباح، بل شرعته وأمرت به، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تداووا بحرام" 1.

_ 1 صحيح البخاري بشرح الفتح 10/134 كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء. ومسلم 4/1729 كتاب السلام، باب لكل داء دواء. وأبو داود 4/7 كتاب الطب، باب في الأدوية المكروهة -واللفظ له-. والترمذي 4/383 كتاب الطب، باب ما جاء في الدواء والحث عليه. وابن ماجه 2/1137 كتاب الطب، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء. وأحمد 1/377.

8- صور من المعبودات من دون الله: ويشتمل على ما يلي: أـ عبادة الشخصية الإنسانية. ب ـ عبادة الأصنام والأوثان. ج ـ عبادة الأهواء. د ـ عبادة الأسلاف. هـ ـ عبادة بعض الظواهر الطبيعية. أ- عبادة الشخصية الإنسانية: ومن أنواع الإشراك بالله عبادة الشخصية الإنسانية، وكان منشأ هذه العبادة إما ناتج عن بعض أنواع العنف التي استغلها بعض الطغاة لدى الجهلة من الناس، كما فعل فرعون، قال تعالى حكاية عن قوله: {يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} 1. وقال تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ

_ 1 سورة القصص آية: 38.

خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} 1. وإما أنه ناتج عن الجهل والغلو في بعض الأشخاص، كما يفعل القبوريون نحو قبور الأنبياء والصالحين بعد موتهم، فعظموهم ونذروا لهم، ودعوهم لقضاء الحاجات، وتفريج الكربات. يقول ابن القيم رحمه الله: "ومن أسباب عبادة الأصنام: الغلو في المخلوق، وإعطاؤه فوق منزلته، حتى جعلوا فيه حظ الإلهية، وشبهوه بالله سبحانه، وهذا هو التشبية الواقع في الأمم الذي أبطله الله سبحانه، وبعث رسله، وأنزل كتبه بإنكاره والردّ على أهله"2. ولما كانت دعوة القرآن الكريم حرباً على الشرك، وجعل الأمر كله لله تعالى، فلا قدسية لفرد ولا عبادة لإنسان مهما كانت منزلته حتى ولو كان نبياً من الأنبياء، فإننا نجد أن الله تعالى يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ الناس بأنه بشر كسائر البشر، يوحى إليه، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 3. وهو مع ذلك لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا يعلم الغيب، وإنما

_ 1 سورة الأعراف الآيتان: 123-124. 2 إغاثة اللهفان 2/226. 3 سورة الكهف آية: 110.

هو عبد مرسل للإنذار والبشارة، قال تعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 1. وقد ذم الله تعالى الحكام الظالمين من أهل الكتاب الذين استغلوا سذاجة الناس وضعفهم، فشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن الله به، إذ أحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال، قال تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2. وقد زعم اليهود بأنّ عزير ابن الله، وزعمت النصارى أن المسيح ابن الله. وقد أبطل القرآن الكريم هذه المبادئ والمعتقدات الباطلة، وعمل على اجتثاثها من جذورها حتى لا يقع اللاحقون فيما وقع فيه السابقون. فقال تعالى في شأن عيسى عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ

_ 1 سورة الأعراف آية: 188. 2 سورة التوبة آية: 31.

مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 1. وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} 2. ب- عبادة الأصنام والأوثان: ومن أنواع الشرك بالله تعالى عبادة الأصنام والأوثان، -والأصنام جمع صنم، وهو التمثال من حجر أو خشب أو من غير ذلك في صورة إنسان، وهو الوثن، وقد يقال للصورة المصورة على صورة الإنسان في

_ 1 سورة المائدة الآيتان: 116-117. 2 سورة آل عمران آية: 79-80.

الحائط وغيره: صنم ووثن1. وقيل: الفرق بين الوثن والصنم أن الوثن ما كان له جثة من خشب، أو حجر، أو فضة ينحت ويعبد، والصنم الصورة بلا جثة، ومن العرب من جعل الوثن المنصوب صنماً2. وسواء سُمي المعبود من دون الله صنماً أو وثناً مصوراً على شكل إنسان أو حيوان أو طائر أو غير ذلك، أو لم يكن مصوراً كالأحجار والأشجار والأخشاب والقبور ونحوها. فإنّ جميعها تشترك في كونها معبودات من دون الله تعالى. وقد كانت عبادة الأصنام منتشرة انتشاراً واسعاً في جزيرة العرب، قبل الإسلام، كما سيأتي بيانه في الفصل الرابع من هذا الباب. والحق أن هذه العبادة مع عدم استنادها إلى دليل علمي، أو حجة مقنعة، فإنّ فيها استخفاف بالعقل الإنساني، إذ كيف يرضى عاقل أنْ يعبد أجساماً أو صوراً، لا حياة فيها، ولا نفع ولا ضر؟ قال تعالى: {أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلاَ يَضُرُّكُمْ} 3. بل إنَّ هذه الأصنام والأوثان قد أضللن كثيراً من الناس، قال تعالى

_ 1 انظر تفسير الطبري 7/244. 2 لسان العرب لابن منظور 12/349. 3 سورة الأنبياء آية: 66.

حكاية عن قول إبراهيم عليه السلام في دعائه: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ ... } 1. وقد بين القرآن الكريم الدافع الذي حمل المشركين على عبادة تلك الأصنام من واقع تعليلهم في ذلك، حيث قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2. وهذا التعليل هو الذي يحتج به بعض الوثنيين في الحاضر، وحجتهم في ذلك أن وجود الصنم أمام المتعبد يساعد على تركيز الفكر والتعمق في التفكير للتقرب إلى الله، ولكن نلفت النظر إلى أنّ السجود للصنم على أنه رمز لله، أو القول بأنّ الصنم يقرب إلى الله هو باطل منطقياً، لأنَّ وجود الصنم أمام المتعبد في صلاته يصرف الفكر عن الله، وأن التقرب إلى الله يحصل بالتوجه رأساً إليه، لا بواسطة جماد أو صورة، ولأنه ليس من الصعب توجيه الفكر رأساً إلى الله بدون واسطة، بل ذلك أدعى لطبيعة الإنسان في رفع قيمته المعنوية، وعدم جعل أحداً قيماً عليه، هذا وإن الإنسان كثيراً ما يلجأ إلى الله في محن ومصائب لا تتوفر له فيها الواسطة،

_ 1 سورة إبراهيم الآيتان: 35-36. 2 سورة الزمر آية: 3.

. مع العلم بأنَّ هذه الواسطة لا تنفع ولا تضر1. وذكر ابن القيم رحمه الله: أن من أسباب عبادتها: أن الشياطين تدخل فيها وتخاطبهم منها، وتخبرهم ببعض المغيبات، وتدلهم على بعض ما يخفى عليهم، وهم لا يشاهدون الشياطين، فجهلتهم وسقطُهم يظنون أنَّ الصنم نفسه هو المتكلم.."2. ج- عبادة الأهواء: ومن أنواع الشركيات المظلمة إتباع الإنسان وانقياده لهوى نفسه، فلا تميل نفسه إلى شيء إلا اتبعه، وهذا ما ذكره القرآن الكريم في قوله تعالى {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} 3. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زمناً، فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني، وترك الأول"4. وقال ابن كثير:" أي مهما استحسن من شيء ورآه حسناً في هوى

_ 1 روح الدين الإسلامي لعفيف طبارة ص: 100. 2 إغاثة اللهفان 2/224. 3 سورة الفرقان آية: 43. 4 تفسير ابن كثير 3/335، وفتح القدير للشوكاني 4/78، وزاد المسير 6/92.

نفسه، كان دينه ومذهبه"1. ومن هنا نرى أن الهوى صار إلهاً يعبد من دون الله، كما قال الشاعر2: لعمر أبيها لو تبدت لناسك ... قد اعتزل الدنيا بإحدى المناسك لصلى لها قبل الصلاة لربه ... ولارتدّ في الدنيا بأعمال فاتك ومن الآيات في هذا المعنى قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} 3. وقوله تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} 4. وفي العصر الحديث، ظهرت مذاهب وشعارات شتى، أصبحت تمتلك قلوب بعض الناس ومشاعرهم وولاءهم، بذكرها يهتفون، وباسمها يقسمون، وفي سبيلها يجاهدون ويستشهدون.

_ 1 تفسير ابن كثير 3/335. 2 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 13/36. 3 سورة الجاثية آية: 23. 4 سورة فاطر آية: 8.

تلك هي: شعارات القومية، والوطنية، والاشتراكية، والحزبية، والبعثية، والعلمانية، والديمقراطية، وما شاكلها ... وهي تشكل خطراً جسيماً على عقيدة المسلمين من حيث لا يشعرون1. ولا حول ولا قوة إلا بالله. د- عبادة الأسلاف: إنّ المتتبع لأحداث التاريخ، لا يجد عقيدة شاعت في الأمم قديماً وحديثاً، كعقيدة الأسلاف، حيث أسبغت قدسية وتعظيماً على الآباء والأجداد والشيوخ، وأطلقت عليهم من الصفات والنعوت ما جعل الجاهلين يتصروتهم آلهتهم. وقد ادعى العالم "تايلور": "أنَّ عبادة الأجداد نشأت من الاعتقاد بالأرواح فالآباء، والأجداد في القبائل البدائية كانوا رؤساء الأسر، وبيدهم مقاليد الأمور، لأنهم أخبرُ بشئون الحياة، فإذا ماتوا فإنَّ أرواحهم ترفرف في سماء الأسرة، لتقيها شر النوائب، ورد أذى الأعداء الأموات منهم والأحياء"2. أي مفكر في حقيقة هذا المعتقد يجده غريباً بعيداً عن التصديق

_ 1 انظر: العبادة في الإسلام ليوسف القرضاوي ص: 146 بتصرف. 2 انظر: تاريخ الأديان وفلسفتها للأستاذ طه الهاشمي ص: 68، وروح الدين الإسلامي لعفيف طبارة ص: 101.

والإقناع، فمن هم الأسلاف؟ لنتفكر بأصلهم ومصيرهم، إنهم من البشر يأكلون ويشربون ويمرضون، ثم يأتيهم الموت، وبعده ينخرُ الدودُ أجسادهم، ويحيلها إلى البلى، ومن كان هذا أصله ومصيره، فهل من العقل اللجوء إليه، وطلب المعونة منه1. إن عبادة الأسلاف تشتمل على كثير من الخرافات والأساطير، والقيام بشعائر وطقوس يمكن وصفها بالإجمال بأنها نوع من التخديرات التي خدرت الشعوب، ووقفت حائلاً دون تقدمها ورقيها. فمن آثار عبادة السلف عند العلماء: حلق الرأس، وإحداث جروح في الجسد، واحتفالات دفن الموتى، ولبس المسوح، والعناية بالقبور، والصلاة عليها، أو إقامة شعائر دينية فوقها2. وللإستفادة مما كان عليه الآباء، ينبغي أن يخضع ما كانوا عليه للعلم والهدى، ويجري عليه التصحيح دائماً، وعلى المسلم أنْ لا يضع الآباء المسلمين -المتقدمين منهم والمتأخرين- مكان القواعد والسنن المأثورة، ومهما أحسنا الظن فيهم، فإنّهم ليسوا فوق أن نختبر ما هم عليه، على أساس الآيات والسنن والعلم والقوانين3.

_ 1 المرجع السابق. 2 تاريخ العرب قبل الإسلام للدكتور جواد علي 5/35-36. 3 انظر: كتاب حتى يغيروا ما بأنفسهم لجودت سعيد ص: 174 الطبعة الرابعة 1398?.

ولما كان عليه اتباع الأسلاف من الآباء والأشياخ ونحو ذلك من التقليد المذموم الذي يفضي أحياناً إلى الشرك، فإنَّ الله تعالى ذمه في كتابه الكريم، فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} 1. ومن روعة القرآن الكريم أنه حضَّ على تخليص الإنسان من هذه الأباطيل التي طرأت على الجنس البشري، قال تعالى: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} 2. فقد وصف الله تعالى في هذه الآية الكريمة قدرته العظيمة على الإحياء والإماتة، بينما الأسلاف الغابرون لا يملكون شيئاً من ذلك، بل هم أموات، فما أبعد الميت عن نفع نفسه، فضلاً عن نفع غيره. وفي الآية الكريمة إعلان من الله تعالى بأنه رب الناس جميعاً الأحياء

_ 1 سورة الزخرف الآيات: 23-25. 2 سورة الدخان آية: 8.

منهم والميتين، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 1. ?- عبادة بعض الظواهر الطبيعية: ومن الناس من راعه الكون وما فيه من عجائب الطبيعة وجمالها، وما فيها من منافع وخيرات للخلق، كالشمس والقمر والنجوم والليل والنهار، فعبد بعض هذه الظواهر. وقد أبطل القرآن الكريم عبادة هذه المخلوقات، وبين أنها من حجج الله تعالى على خلقه، ومن آياته العظيمة الدالة على وحدانيته سبحانه وتعالى، وأنه لا يجوز التوجه إليها بشيء من أنواع العبادة كالصلاة، أو السجود، أو الركوع، أو الدعاء، ونحو ذلك. قال تعالى: الْخَلْق {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ ُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 2.

_ 1 سورة الأعراف الآية: 158. 2 سورة الأعراف الآية: 54.

وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ} . وقال تعالى: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا َيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} . وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} .

_ سورة الحج الآية: 18. سورة الصافات: 4-5. سورة فصلت الآية: 37.

الفصل الثالث: تسرب الشرك إلى البشرية ومناهج الأنبياء السالفين في محاربته.

الفصل الثالث: تسرب الشرك إلى البشرية ومناهج الأنبياء السالفين في محاربته. ... الفصل الثالث: تسرب الشرك إلى البشرية ومناهج الأنبياء السابقين في محاربته: ويشتمل على ما يلي: 1- الشرك في قوم نوح عليه السلام ومنهجه في محاربته: تقدم معنا في موضوع أقدمية التوحيد على الشرك، بأن نبي الله آدم عليه السلام قد عاش موحداً لله تعالى، على أنقى ما يكون التوحيد وأصفاه، وأنه قد ربى أبناءه على هذا التوحيد، وأن ذريته تلقت هذا التوحيد من جيل إلى جيل، وأنهم كانوا على الإسلام يعبدون الله تعالى وحده، حتى عهد نوح عليه السلام. وكان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة قرون على الإسلام، كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون على الإسلام"1. والقرن إما أن يكون المراد به مائة سنة، كما هو المشهور عند كثير من الناس، وإما أن يكون المراد به الجيل من الناس، كما في قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ} 2. وقوله تعالى: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} 3. فقد كان الجيل قبل نوح يعمّرون الدهور الطويلة، فعلى هذا يكون

_ 1 تقدم تخريجه ص: 54 2 سورة الإسراء الآية: 17. 3 سورة المؤمنون الآية: 31.

بين آدم عليه السلام، ونوح عليه السلام ألوف السنين1. والذي أميل إليه، أن المراد بالقرن هو الجيل من الناس، ويؤيد ذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم ... " 2 الحديث. والمراد أن الناس من آدم عليه السلام إلى عهد نوح عليه السلام كانوا على التوحيد، يعبدون الله وحده، ولا يشركون به شيئاً، وكانوا على الإسلام الذي ارتضاه الله تعالى لعباده، كما قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ} 3. ولما انحرف الناس عن الفطرة بسبب جهلهم وبعدهم عن العلم، وإغواء الشيطان لهم، وعبدوا مع الله غيره من الأصنام والأوثان، وقبور الصالحين، بعث الله إليهم نوحاً عليه السلام، ليردّهم إلى الصواب، وعبادة الله وحده.

_ 1 البداية والنهاية لابن كثير 1/101. 2 صحيح البخاري بشرح الفتح 7/3 كتاب فضائل الصحابة. وصحيح مسلم 4/1963 كتاب فضائل الصحابة، حديث رقم: 211، 212. ومسند أحمد 1/378. 3 سورة آل عمران الآية: 19.

سبب دخول الأصنام في قوم نوح: وكان سبب عبادتهم للأصنام، ما رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن جريج عند تفسير قوله تعالى: {وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} 1. قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك، وانتسخ العلم، عبدت2. قال ابن عباس: "وصارت هذه الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد ... "3. وروى ابن جرير بسنده عن محمد بن قيس في تفسيره: "كانوا قوماً صالحين بين آدم ونوح، وكان لهم أتباع يعتقدون بهم، فقالوا: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دبَّ إليهم إبليس، فقالوا: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون

_ 1 سورة نوح الآية: 23. 2 صحيح البخاري بشرح الفتح 8/167 كتاب التفسير، تفسير سورة نوح. 3 تفسير ابن كثير 4/452.

المطر، فعبدوهم"1. ونقل ابن كثير عن ابن أبي حاتم بسنده عن أبي المطهر قال:" ذكروا عند أبي جعفر الباقر يزيد بن المهلب، فقال: أما إنه قتل في أول أرض عبد فيها غير الله، ثم ذكر "ود"، قال: وكان ود رجلاً صالحاً، وكان محبباً في قومه، فلما مات عكفوا حول قبره في أرض بابل، وجزعوا عليه، فلما رأى إبليس جزعهم عليه تشبه في صورة إنسان، ثم قال: أرى جزعكم على هذا، فهل لكم أن أصور لكم مثله، فيكون في ناديكم فتذكرونه، فلما رأى ما بهم من ذكره، قال: هل لكم أن أجعل لكل أهل بيت تمثالاً مثله، فأقبلوا فجعلوا يذكرونه به، قال: وأدرك أبناؤهم فجعلوا يسرُّون ما يصنعون به، وتناسوا ودرس أمر ذكرهم إياه، حتى اتخذوه إلهاً يعبدونه من دون الله، قال: فكان أول ما عبد غير الله في الأرض "ود" الصنم الذي يسمونه بود"2. أقول: وما تقدم من أدلة على أن أول حدوث الشرك في البشرية كان في قوم نوح عليه السلام، يجعلنا نتردد في ما جاء في كتاب الأصنام للكلبي: "أول ما عبدت الأصنام، أنَّ آدم عليه السلام لما مات جعله بنو شيث بن آدم في مغارة في الجبل الذي أهبط عليه آدم بأرض الهند، وكان بنو

_ 1 تفسير ابن جرير الطبري 29/99، وانظر: تفسير ابن كثير 4/452. 2 البداية والنهاية لابن كثير 1/106، ومثله في تفسيره 4/452، وفي الدر المنثور للسيوطي 6/269-270.

شيث يأتون جسد آدم في المغارة فيعظمونه ويترحمون عليه، فقال رجل من بني قابيل بن آدم: يا بني قابيل إن لبني شيث دواراً1 يدُورُون حوله ويعظمونه، وليس لكم شيء، فنحت لهم صنماً، فكان أول من عملها"2. فإن معنى هذا الخبر أن عهد بني آدم عليه السلام بالتوحيد لم يبق طويلاً، وأنهم لم يلبثوا أن غيرُوا بعد موته، والحق أنَّ هذا ليس صحيح، وغير معقول لما تقدم من أدلة، لا سيما وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون على الإسلام"3. ومن هنا نجد أن تعظيم القبور والدعاء عندها، والتمسح بها، وتقبيلها هو من أسباب الشرك، وعبادة غير الله تعالى من الأصنام والأوثان.

_ 1 يقال: دار يدور واستدار يستدير، بمعنى: إذا طاف حول الشيء، وإذا عاد إلى الموضع الذي ابتدأ منه. لسان العرب لابن منظور 4/296، والنهاية لابن الأثير 2/139. 2 الأصنام لابن الكلبي ص: 50-51. وانظر: تلبيس إبليس لابن الجوزي ص: 52-53، وإغاثة اللهفان لابن القيم 2/205. 3 تقدم تخريجه ص: 54.

ولهذا ندرك أيضاً السر العظيم في نهي الإسلام عن اتخاذ القبور مساجد، واتخاذ السرج عليها، والنهي عن رفعها، وإقامة القباب عليها، وتعظيمها إلى غير ذلك مما قصد به سد الذريعة، وقطع دابر الشر والفتنة. منهج نوح عليه السلام في دعوة قومه إلى التوحيد: وقد سلك نوح عليه السلام في ردّ قومه إلى عقيدة التوحيد منهجاً فريداً وعجيباً، جديراً بالتأمل والاعتبار، يمكن تلخيصه فيما يلي: 1- لين الكلمة، وسهولة الأسلوب، وعدم مقابلة السب والأذى بمثله، يظهر ذلك واضحاً من جوابه لقومه عندما قالوا له: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} 1. حيث ردّ عليهم في هدوء ولين، قائلاً لهم: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} 2. 2- تبرؤه من ادعائهم ما ليس له، كما وصف القرآن الكريم: {وَلاَ

_ 1 سورة الأعراف الآية: 60. 2 سورة الأعراف الآيتان: 61-62.

أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} 1. 3-تنويعه للأساليب في الدعوة، فلم يلتزم أسلوباً معيناً، أو حالة واحدة، ولكنه أخذ يدعوهم في الليل والنهار، وفي السر والجهر، يظهر ذلك من قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} 2. 4-ترغيبهم بمغفرة الذنوب إنْ هم أطاعوه، وصدقوا ما جاء به، ويمد الله في أعمارهم، ويدرأ عنهم العذاب الذي إنْ لم يجتنبوا ما نهاهم عنه أوقعه الله بهم، قال تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا

_ 1 سورة هود الآية: 31. 2 سورة نوح الآيات: 5-9.

جَاء لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} 1. كما رغبهم في سعة العيش، ويسر الحياة السعيدة، وذلك بهطول الأمطار، والإمداد بالأموال والبنين، إنْ هم استغفروا الله تعالى، وتابوا إليه من الشرك وجميع الذنوب، قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} 2. 5-استعماله معهم أسلوب الجدل والحوار، يتضح ذلك من آيات كثيرة، منها ما جاء في قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ

_ 1 سورة نوح الآيات: 2-4. 2 سورة نوح الآيات: 10-12.

لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} 1. وكما هو واضح من قوله تعالى حكاية عن قولهم: { ... يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} 2. 6- التكرار الدائم في دعوتهم، على الرغم من مرور الأعوام الطوال، وبذله كل الجهود الهادفة إلى إرجاعهم إلى الحق، وسلوك الطريق المستقيم، ولكن ليس هناك جدوى تذكر، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ... } 3. وعن كثرة دعوته إليهم وتكرارها، كما في الآية المتقدمة: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا ... } 4. 7- دعوتهم إلى النظر إلى الكون، وما فيه من نظام وإبداع، وإلى

_ 1 سورة الشعراء الآيات: 105-117. 2 سورة هود الآية: 32. 3 سورة العنكبوت الآية: 14. 4 سورة هود آية: 32.

الأنفس وما فيها من عجائب تدل على عظمة الخالق جل وعلا، وأنه المستحق للعبادة وحده، قال تعالى: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجًا} 1. وبعد أن بذل نوح عليه السلام غاية جهده في سبيل هداية قومه وإصلاحهم، وصبره وحلمه الطويل عليهم، ومع ذلك كله {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} ، وأخيراً لجأ إلى ربه يشكو قومه: {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 2. كما دعا عليهم بالهلاك قائلاً: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا} 3. وقد استجاب الله لدعاء رسوله، وأوحى إليه أنه لن يؤمن من قومه

_ 1 سورة نوح الآيات: 13-20. 2 سورة الشعراء الآيتان: 118-119. 3 سورة نوح الآيتان: 26-27.

سوى من آمن منهم، وأمره أن يصنع سفينة لنجاته ونجاة من آمن معه، وأعلمه أنه سيكون محاطاً بعنايته ورعايته، وأخبره أن من لم يؤمن من قومه فإنَّ مصيره الغرق؛ لإصراره على الكفر والعناد، وأن لا يحزن لغرقهم وهلاكهم، قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} 1. وبعد أن انتهى نوح عليه السلام من صنع السفينة، وحمل فيها من كل زوجين اثنين، وركب هو فيها وجميع من آمن معه، وأهل بيته إلا من سبق عليه القول منهم ممن لم يؤمن بالله تعالى، وأمره الله ومن آمن معه أن يذكروا اسم الله تعالى الذي عليه توكلهم واعتمادهم، وهو المجري والمرسي للسفينة، كما ذكرهم بأنَّ الله تعالى رحيم بعباده المؤمنين، ومن رحمته أنجاهم من الغرق والهلاك الذي حلّ بالكافرين، عند ذلك (أرسل الله من السماء مطراً لم تعهده الأرض قبله، كأفواه القرب، وأمر الأرض

_ 1 سورة هود الآيات: 36-39.

فنبعت من جميع فجاجها، وسائر أرجائها) 1. قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} 2. وقال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ فَانتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} 3. وفي خلال زمن قليل جداً تم هلاك الكافرين، ونجاة المؤمنين، فأمر الله الأرض أن تبلع ماءها، وأمر السماء أن تمسك عن المطر، قال تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ

_ 1 البداية والنهاية لابن كثير 1/112. 2 سورة هود الآيتان: 40-41. 3 سورة القمر الآيات: 9-16.

عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 1. يقول صاحب المنار: "ما أفظع المنظر! ما أشد هوله! ما أعظم روعته! ماء ينهمر من آفاق السماء انهماراً، وأرض تتفجر عيوناً فوارة فتفيض مدراراً، ماء ثجاج يصير بحراً ذا أمواج، خفيت من تحته الأرض بجبالها، وخفيت من فوقه السماء بشمسها وكواكبها ... فتخيل أنك ناظر إلى هذه السفينة كما صورها لك التنزيل، تتفكر في أمر هذا الخطب الجليل، واستمع لما بينه الذكر الحكيم، في أوجز عبارة، وأبلغها تأثيراً، جعلت أعظم ما في العالم، كأن لم يكن شيئاً مذكوراً"2. وهكذا انتهت محنة دامت طويلاً بهلاك الكفرة المشركين، الذين حادُّوا الله ورسوله، وأبوا التوبة والعودة إلى الله تعالى في مدة قصيرة، فهل من مدكر؟

_ 1 سورة هود الآية: 44. 2 تفسير المنار 12/79-80.

2- الشرك في قوم هود عليه السلام ومنهجه في محاربته. وبعد أن أهلك الله تعالى المشركين من قوم نوح عليه السلام بالغرق، وأنجى الله نبيه نوحاً والذين آمنوا معه، عاد الناس إلى عبادة الأصنام والأوثان في قوم هود عليه السلام. وذكر ابن كثير رحمه الله: "أن عاداً الأولى كانوا أول من عبد الأصنام بعد الطوفان، وكان أصنامهم ثلاثة: صمداً، وصموداً، وهراً، فبعث الله فيهم أخاهم هوداً عليه السلام، فدعاهم إلى الله"1. وعن دعوة هود عليه السلام في قومه إلى عبادة الله وحده، وترك عبادة الأصنام، يقول تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} 2. وقال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ} 3. وقال تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ

_ 1 البداية والنهاية 1/121، وانظر: تاريخ الطبري 1/216. 2 سورة الأعراف الآية: 65. 3 سورة هود الآية: 50.

مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 1. منهجه في دعوة قومه: وقد سلك هود عليه السلام في دعوة قومه منهجاً راشداً وطريقاً واضحاً، يمكن تلخيصه فيما يلي: 1-ضرب لهم المثل بما أصاب قوم نوح من قبلهم، وما وقع منهم من عناد ومكابرة، وإصرار على الزيغ والضلال، وكيف دمّر الله عليهم سعادتهم حينما بغوا وتجبّروا، وأصروا على الباطل والاستكبار، مذكراً إيّاهم بنعم الله عليهم، إذ زادهم في الخلق بسطة، وجعلهم خلفاء من بعد قوم نوح. قال تعالى: {وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 2. 2- وذكرهم بنعم الله تعالى عليهم محاولاً إقناعهم بالرجوع إلى طريق الحق، مبيناً لهم أنّ الله تعالى جعلهم وارثين للأرض من بعد قوم نوح، الذين أهلكهم الله بذنوبهم، وزادهم قوة في السلطان وفي الأجسام، وذكرهم بإعطائهم الخيرات الجليلة من الأنعام والبنين، والحدائق والمياه،

_ 1 سورة الأحقاف الآية: 21. 2 سورة الأعراف الآية: 69.

وخوفهم من العذاب الأليم، وانقلاب النعمة إلى نقمة إذا لم يؤمنوا بالله وحده. وهذا يتضح من الآية السابقة، كما يتضح من قوله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 1. 3- ومن منهجه عليه السلام القول اللين، والخطاب الجميل، وعدم مقابلة الأذى بمثله، يتضح ذلك عندما رماه قومه بالسفه والكذب، حيث ردّ عليهم قائلاً: {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} 2. 4- واستعمل معهم أسلوب الجدل والحوار، يظهر ذلك عندما أصر زعماؤهم على عبادة الأوثان، وقالوا لهود عليه السلام بأنه لم يأتهم ببينة واضحة على صحة ما يدعو إليه، وقالوا له: إنهم غير تاركي آلهتهم، ولن يؤمنوا به، وزعموا أن آلهتهم قد مسته بضر، فصار يتكلم بأقوال باطلة،

_ 1 سورة الشعراء الآيات: 128-135. 2 سورة الأعراف الآيتان: 67-68.

فأجابهم هود عليه السلام بأنه يشهد الله، ويشهدهم بأنه بريء من الشرك الذي هم فيه. قال تعالى: {قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} 1. ولما ضجرت عاد من نبيها هود عليه السلام، وتبرموا من كثرة نصحه لهم، تحدوه أن يقع فيهم إنذاره ووعيده، عند ذلك قال لهم هود عليه السلام لا بد أنْ يقع عليكم غضب من الله تعالى فانتظروا عذاب الله، وإني معكم من المنتظرين. قال تعالى: {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَب

_ 1 سورة هود الآيات: 53-57.

أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ} 1. 5- وبيّن لهم عليه السلام أنه لا يطلب على نصيحته أجراً منهم، أو رياسة ينتزعها، ولا يريد منهم جزاءاً ولا شكوراً، وإنّما يطلب الأجر والثواب من الله عز وجل. قال تعالى: {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} 2. 6- وأرشدهم إلى الاستغفار والتوبة فبسببهما تهطل الأمطار المتتابعة، وتحصل الخيرات، ويزيدهم ربهم قوة إلى قوتهم، وعزاً إلى عزهم، قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ} 3. لكن ما هو تأثير هذه الدعوة الطيبة المباركة على قبيلة عاد؟ إنهم احتقروا هوداً عليه السلام، واستصغروا أمره، ووصفوه بالسفه

_ 1 سورة الأعراف الآيتان: 70-71. 2 سورة هود الآية: 51. 3 سورة هود الآية: 52.

والكذب، إلاّ أنْ هوداً عليه السلام نفى عن نفسه ما اتهموه به، وبين لهم إنه رسول من رب العالمين، لا يريد منهم إلا الخير والصلاح. قال تعالى: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} 1. ولما تمادى قوم هود عليه السلام في الباطل والضلال، باتخاذ آلهة ما أنزل الله بها من سلطان، دعا ربه أن ينصر دينه، وقد أجاب الله تعالى دعوته، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاء فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 2. لقد أرسل الله عليهم الريح العقيم، سلطها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً، فأهلكهم الله وأبادهم، وصارت أجسامهم كأنها أعجاز نخل منقعر، وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة، ونجى الله هوداً والذين

_ 1 سورة الأعراف الآيات: 66-68. 2 سورة المؤمنون الآيات: 39-41.

آمنوا معه برحمة منه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} 1.

_ 1 سورة الشعراء الآيتان: 139-140.

3- الشرك في قوم صالح عليه السلام ومنهجه في محاربته. ثم ظهرت عبادة الأصنام في ثمود، والتي كانت تسكن الحجر، بين المدينة وتبوك، وكانت ثمود تتعبد لأصنام كثيرة، منها الصنم: "ود" و (شمس) و (مناف) و (اللات) وغيرها. فبعث الله تعالى فيهم نبيه صالح عليه السلام، فدعاهم إلى عبادة الله وحده، وأن يخلعوا عبادة الأصنام والأنداد1. قال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} 2. وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} 3. منهجه في دعوة قومه: ومنهج صالح عليه السلام في دعوته، لا يختلف عن المنهج الذي

_ 1 انظر: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام للدكتور جواد علي 1/331. 2 سورة هود الآية: 61. 3 سورة النمل الآية: 45.

سلكه نبي الله هود عليه السلام في دعوة قومه عاد. ولعل السبب في ذلك وجود التشابه بين القبيلتين، فإنه بالإضافة إلى أنّ كلاً من الشعبين كان يسكن الجزيرة العربية، فقبيلة عاد تسكن في الجنوب بالأحقاف، بين اليمن وعمان، وثمود تسكن بالحجر، بين المدينة النبوية وتبوك –كما تقدم- فإن الأوضاع الاجتماعية والعمرانية في زمان كل منهما قد بلغت أقصى حدود القوة والمنعة، لا سيما في فنون البناء والعمارة، كنحت البيوت في الجبال، وإقامة القصور في السهول، وتشييد المصانع وشق العيون ... وفوق ذلك فقد منحهم الله بسطة في الأجسام، وقوة في الأبدان. كما يوجد تشابه في سلوك كل منهما القائم على البطر والطغيان، وإيثار الشرك على التوحيد، وقد قرن الله تعالى بين ذكر القبيلتين، وما حلّ بهما من العقاب الأليم في كثير من السور، كما في سورة: براءة، وإبراهيم، والفرقان، وص، وق، والنجم، والقمر، والحاقة، والفجر. ونلخص منهجه عليه السلام في دعوة قومه فيما يلي: 1- ضرب المثل لهم بقوم هود عليه السلام، مذكراً لهم بنعم الله عليهم، حيث جعلهم خلفاء من بعدهم، ومكّنهم في الأرض يتخذون من سهولها قصوراً ومن الجبال بيوتاً، قال تعالى: {وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا

فَاذْكُرُواْ آلاء اللهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} 1. 2- وذكّرهم بنعم الله تعالى عليهم، قال تعالى: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ} 2. 3- كان لطيفاً في القول، ولين الجانب، يظهر ذلك في جوابه لهم: { ... قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} 3. {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} 4. 4- أسلوب الحوار المبني على إقامة الحجة البينة، يظهر ذلك جلياً

_ 1 سورة الأعراف الآية: 74. 2 سورة الشعراء الآيات: 146-152. 3 سورة هود الآية: 62. 4 سورة هود الآية: 63.

في كثير من السور التي تعرضت لقصته عليه السلام. ففي سورة هود: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} 1. وفي سورة النمل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} 2.

_ 1 سورة هود الآيات: 61-65. 2 سورة النمل الآيات: 45-47.

5- وأفهمهم أنه لا يطلب على دعوته أجراً، جاء ذلك في قوله لهم: { ... وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1. 6- ووجههم إلى الاستغفار والتوبة، فهما سبب للخير والبركة والقوة، جاء ذلك في قوله لهم: { ... فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} 2. وقوله لهم: { ... يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 3. إلا أنه على الرغم من هذه الدعوة المباركة المبنية على الحجة والإقناع، فإن الثموديين لم يؤمنوا بما نصحهم به نبيهم، ولم يسيروا في طريق الحق الذي أرشدهم إليه، بل أخذوا يتهمونه بالسحر الذي سيطر على عقله، فادعى أنه رسول من عند الله تعالى. وطلبوا منه أن يأتيهم بمعجزة تدل على أنه رسول من عند الله حقاً. قال ابن كثير: " وقد ذكر المفسرون أن ثمود اجتمعوا يوماً في

_ 1 سورة الشعراء الآية: 145. 2 سورة هود الآية: 61. 3 سورة النمل الآية: 46.

ناديهم، فجاءهم رسول الله صالح، فدعاهم إلى الله، وذكرهم وحذرهم، ووعظهم وأمرهم، فقالوا له: إن أنت أخرجت لنا من هذه الصخرة –وأشاروا إلى صخرة هناك- ناقة صفتها كيت وكيت، وذكروا أوصافاً سموهاونعتوها وتعنتوا فيها ... فقال لهم النبي صالح عليه السلام: أرأيتم إن أجبتكم إلى ما سألتم على الوجه الذي طلبتم، أتؤمنون بما جئتكم به وتصدقوني فيما أرسلت به، قالوا: نعم، فأخذ عهودهم ومواثيقهم على ذلك، ثم قام إلى مصلاه، فصلى لله عز وجل ما قدر له، ثم دعا ربه عز وجل أن يجيبهم إلى ما طلبوا، فأمر الله عز وجل تلك الصخرة أنْ تتفطر عن ناقة عظيمة عشراء على الوجه الذي طلبوا ... فلما عاينوها.. رأوا أمراً عظيماً، ومنظراً هائلاً، وقدرة باهرة، ودليلاً قاطعاً، وبرهاناً ساطعاً، فآمن كثير منهم، واستمر أكثرهم على كفرهم، وضلالهم، وعنادهم"1. ا.? لقد أظهر الله المعجزة العظيمة، الدالة على صدق رسوله عليه السلام، وأمرهم ألاّ يمسوها بسوء، وجعل لها شرباً في يوم معلوم، ولهم شرباً في يوم غيره، وأوعدهم بالعذاب إنْ هم اعتدوا عليها. قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلاَ

_ 1 البداية والنهاية 1/134.

تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} 1. وقال تعالى: {هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} 2. ولكن المستكبرين من الكفرة أقدموا على عقر الناقة، غير مبالين بما توعدهم به نبيهم {فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} 3. عند ذلك قال لهم نبيهم: {تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} 4. وقد حقق الله جلت قدرته هذا الإنذار الذي وجهه إليهم صالح عليه السلام، فلم تمض ثلاثة أيام حتى حل بهم الهلاك والدمار. يقول ابن كثير: "وأصبحت ثمود في اليوم الأول، وهو يوم الخميس، فإذا وجوههم مصفرة، كما أنذرهم صالح عليه السلام، فلما أمسوا نادوا

_ 1 سورة هود الآية: 64. 2 سورة الشعراء الآيتان: 155-156. 3 سورة الأعراف الآية: 77. 4 سورة هود الآية: 65.

بأجمعهم: ألا قد مضى يوم من الأجل، ثم أصبحوا في اليوم الثاني من أيام التأجيل، وهو يوم الجمعة ووجوههم محمرة، فلما أمسوا نادوا ألا قد مضى يومان من الأجل، ثم أصبحوا في اليوم الثالث، وهو يوم السبت ووجوههم مسودة، فلما أمسوا نادوا: ألا قد مضى الأجل، فلما كان صبيحة يوم الأحد، تأهبوا وقعدوا ينتظرون ماذا يحلُّ لهم من العذاب والنكال والنقمة، ولا يدرون كيف يفعل بهم، ولا من أي جهة يأتيهم العذاب، فلما أشرقت الشمس جاءتهم صيحة من السماء من فوقهم، ورجفت من أسفل منهم، ففاضت الأرواح، وزهقت النفوس، وسكنت الحركات، وخشعت الأصوات، وحقت الحقائق، فأصبحوا في ديارهم جاثمين، جثثاً لا أرواح فيها، ولا حراك بها "1. كما ذكر القرآن الكريم وجهاً آخر في سبب هلاكهم، وهو أن تسعة رجال منهم ائتمروا على مباغتة نبيهم صالح وأهله، وقتله سراً، فأهلكهم الله بالصاعقة بسبب ظلمهم وعدوانهم. قال تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا

_ 1 البداية والنهاية 1/136.

لَصَادِقُونَ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} 1.

_ 1 سورة النمل الآيات: 48-52.

4- الشرك في قوم إبراهيم عليه السلام ومنهجه في محاربته. وبعد مدة طويلة من الزمن، ظهر في بابل عباد الأصنام، كما ظهر في حران عباد الكواكب والأصنام، فبعث الله تعالى فيهم إبراهيم الخليل عليه السلام. وعن معبودات أهل بابل، يذكر صاحب قصة الحضارة:" بأنه كان لأهل بابل كثير من الآلهة ... ذلك أن كل مدينة كان لها رب يحميها، وقد كان للمقاطعات والقرى آلهة صغرى تعبدها وتخلص لها، وإن كانت تخضع رسمياً للإله الأعظم، ثم قل عدد الآلهة شيئاً فشيئاً بعد أن فسرت الآلهة الصغرى بأنها صور أو صفات للآلهة الكبرى، وعلى هذا النحو أصبح "مزدك" إله باب كبير الآلهة البابلية. وكان الملوك يشعرون بشدة حاجتهم إلى غفران الآلهة، فشادوا لها الهياكل وأمدوها بالأثاث والطعام والعبيد"1. وأما عباد الكواكب من أهل حران، فكانوا على مذهب الصابئة المتعصبة للروحانيات، وهم يقولون بأن للعالم صانعاً فاطراً حكيماً، ولا يمكن الوصول إلى جلاله ومعرفته، وإنما يتقرب إليه بواسطة المقربين إليه، وهم الروحانيون المطهرون الذين {لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا

_ 1 قصة الحضارة – ول ديورانت 2/211-214 بتصرف.

أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} 1. ويعتقدون أن الكواكب السبعة السيارة في أفلاكها، هي هياكل للروحانيات، فلكل روحاني هيكل، ولكل هيكل فلك، ونسبة الروحاني إلى ذلك الهيكل الذي اختص به كنسبة الروح إلى الجسد، فهو ربه ومدبره، وكانوا يسمون الهياكل أرباباً، وربما يسمونها آباء، والله تعالى هو رب الأرباب، وإله الآلهة، ومنهم من جعل الشمس إله الآلهة، ورب الأرباب2. فأعلن إبراهيم عليه السلام في قومه دعوة التوحيد، وجادل وناقش كلا الفريقين بالحجة والبرهان، دون خوف أو مبالاة من أحد، وهو فريد لا يجد من ينصره أو يشد أزره، حتى إنّ والده، وهو أقرب الناس إليه وقف له بالمرصاد. ولكن إبراهيم عليه السلام سار في طريقه، لا يأبه لشيء، وأعلن في الناس دعوته متحدياً كل من يتصدى له، قائلاً: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 3.

_ 1 سورة التحريم الآية: 6. 2 انظر: الملل والنحل للشهرستاني 2/6، 7، 49. 3 سورة الأنعام الآية: 79.

دعوة إبراهيم لوالده: ولما كان والد إبراهيم عليه السلام أعلم القوم بصناعة الأصنام، وكان الناس يشترونها منه، كان إبراهيم عليه السلام يحمل أكثر وأقوى الإلزامات على والده، وقد ضرب إبراهيم عليه السلام المثل الرائع في الجمع بين قوة الحجة والإقناع، وأدب الحديث مع والده. وقد قص الله تعالى لنا تلك المجادلة في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} 1. وفي هذه الآيات نحس أسلوب الداعية المخلص في التوجيه والتعليم، الذي يحذر في لطف وينذر في لين، ويعرف منزلة الأبوة ومكانتها، فيعطيها حقها من اللين والاحترام. ومع أنّ تلك الأبوة لم تقابل هذه الدعوة بالحنان والشفقة، بل انقلبت إلى نار تتأجج وجحيم يتوقد، تمثل ذلك في قول تلك الأبوة

_ 1 سورة مريم الآيات: 41-45.

الظالمة: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأََرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} 1. فإن إبراهيم عليه السلام لم يقابل تلك الشدة بمثلها، كما يفعل الأبناء الجهلة، ولكنه قابل تلك الشدة باللين والإحسان، فهو يقول لوالده: {سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} 2. وهذا الاستغفار من إبراهيم عليه السلام إنّما كان طمعاً منه في إيمان أبيه، ولكنه حينما ظهر له إصراره على الشرك، وعداوته المتأصلة لدين الله تعالى، تبرأ منه وقطع صلته به، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ} 3. دعوة إبراهيم للوثنيين: أما دعوة إبراهيم عليه السلام لقومه الوثنيين، فقد سلك معهم منهجاً مرتباً لا تعقيد فيه ولا غموض، جاء ذلك في قوله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ

_ 1 سورة مريم الآية: 46. 2 سورة مريم الآية: 47. 3 سورة التوبة الآية: 114.

إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} 1. فمن خلال الآيات الكريمة، نرى أن إبراهيم عليه السلام قد دعا قومه دعوة بسيطة واضحة، وهي مرتبة في عرضها ترتيباً دقيقاً يحسن أن يتملاه أصحاب الدعوة، لينسجوا على منواله في مخاطبة النفوس والقلوب. 1- فهو أولاً: بدأ ببيان حقيقة الدعوة التي يدعوهم إليها: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} . 2- ثم أثنى بتحبيب هذه الحقيقة إليهم، وما تضمنته من الخير لهم، لو كانوا يعلمون أين يكون الخير {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} . 3- وفي الخطوة الثالثة يبين لهم فساد ما هم عليه من العقيدة من عدة وجوه: أ- إنهم يعبدون من دون الله أوثاناً، والوثن -التمثال من الخشب-

_ 1 سورة العنكبوت الآيات: 16-18.

وهي عبادة سخيفة، وبخاصة إذا كانوا يعدلون بها عن عبادة الله. ب- إنهم بهذه العبادة لا يستندون إلى برهان أو دليل، وإنما يخلقون إفكاً وينشئون باطلاً من عند أنفسهم بلا أصل ولا قاعدة. ج- إن هذه الأوثان لا تقدم لهم نفعاً، ولا ترزقهم شيئاً {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} . 4- وفي الخطوة الرابعة يوجههم إلى الله ليطلبوا منه الرزق، الأمر الذي يهمهم ويمس حاجتهم {فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ} ، والرزق مشغلة النفوس، وبخاصة تلك التي لم يستغرقها الإيمان، ولكن ابتغاء الرزق من الله وحده حقيقة لا مجرد استثارة للميول الكامنة في النفوس. وفي النهاية يهتف بهم إلى وهاب الأرزاق المتفضل بالنعم، ليعبدوه ويشكروه: {وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} ، ويكشف لهم أنه لا مفر من الله، فمن الخير أن يتوبوا إليه مؤمنين عابدين شاكرين {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . 5- وأخيراً بين لهم أنهم إن كذبوا بعد ذلك فلن يضروا الله شيئاً، ولن يخسر رسوله شيئاً، فقد كذّب الكثيرون من قبل، وما على الرسول إلى واجب التبليغ {وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ

الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} 1. بهذا الأسلوب المثالي في الدعوة، أخذ إبراهيم عليه السلام يدعو قومه، ولكنه حينما لم يجد قبولاً لدعوته أو سماعاً لتوجيهاته ونصائحه، أخذته الغيرة والحماس لدين الله تعالى ونصرته، فصاح بهم قائلاً: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} 2، {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} 3. ثم توعدهم بتحطيم تلك الأصنام في غيابهم {وَتَاللَّهِ لأََكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} 4. وكان للقوم عيد يخرجون فيه كل عام بعيداً عن العمران، وطلبوا من إبراهيم أن يشاركهم في بهجة ذلك الاحتفال، لكنه رفض مشاركتهم واعتذر بقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} 5، ولما خرجوا إلى ذلك الاحتفال، وغادروا المساكن والعمران، ذهب إبراهيم عليه السلام إلى معبودات أولئك القوم،

_ 1 انظر في ظلال القرآن لسيد قطب 6/399. 2 سورة الأنبياء الآية: 52. 3 سورة الصافات الآية: 86. 4 سورة الأنبياء الآية: 57. 5 سورة الصافات الآية: 89.

فوجد أنهم وضعوا أمامهم شتى أنواع الأطعمة والأشربة، فقال في تهكم لهذا العمل السخيف {أَلاَ تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ} 1. ثم انفلت عليها يحطم ويهدم، وقد ترك كبير الأصنام ليقيم به على قومه الحجة، لعلهم يفيقون إلى رشدهم، ويرعوون عن غيهم {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} 2. وبعد أن انتهى القوم من احتفالهم ورجعوا إلى أصنامهم، فوجئوا بما حدث، قال بعضهم لبعض في دهشة: {مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ} 3. كان من المفروض أن يفيق أولئك القوم إلى رشدهم عند هذا الحد، ويوقنوا بسخافة عبادتهم لها، ولكن القوم استمروا في غيهم وجدالهم،

_ 1 سورة الصافات الآيتان: 91-92. 2 سورة الأنبياء الآية: 58. 3 سورة الأنبياء الآية: 65.

وقالوا لإبراهيم: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاَء يَنطِقُونَ} 1. ورد عليهم إبراهيم عليه السلام ساخراً منهم: {أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلاَ يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} 2. ولما لم يبق في أيدي القوم شيء يحتجون به، عدلوا عن الجدل والمناظرة، وقرروا استخدام القوة والسلطان، لنصرة ما هم عليه من ضلال وباطل: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ} 3. وألقوا إبراهيم عليه السلام في نار مستعرة انتقاماً منه، ومما يدعو إليه، ولكن الله تعالى صرف كيدهم، وجعل تلك النار برداً وسلاماً عليه، قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} 4.

_ 1 سورة الأنبياء الآية: 65. 2 سورة الأنبياء الآية: 66-67. 3 سورة الأنبياء الآية: 68. 4 سورة الأنبياء الآيتان: 69-70.

مناظرة إبراهيم للنمرود: ولما سمع الملك الطاغية نمرود بن كنعان عن نجاة إبراهيم عليه السلام من النار، خشي على نفسه ومنصبه، فاستدعاه ليناقشه عن إلهه الذي يعبده، ويدعو الناس إلى عبادته، فأجابه إبراهيم عليه السلام بأن ربه الذي يحيي ويميت، ولكن النمرود أجاب بأنه هو كذلك يحيي ويميت، قال ابن قتادة وابن إسحاق والسدي وغيرهم: أنه كان يؤتى بالرجلين قد تحتم قتلهما، فيأمر بقتل أحدهما فيقتل، ويعفو عن الآخر فلا يقتل، فذلك معنى الإحياء والإماتة في نظره1. قال ابن كثير: "والظاهر والله أعلم أنه ما أراد هذا، لأنه ليس جواباً لما قال إبراهيم، ولا في معناه، لأنه غير مانع لوجود الصانع، وإنما أراد أن يدعي لنفسه هذا المقام عناداً ومكابرة، ويوهم أنه الفاعل لذلك، وأنه هو الذي يحيي ويميت، كما اقتدى به فرعون في قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} 2"3. ولما رأى إبراهيم عليه السلام حماقة الطاغية ومشابهته في الدليل،

_ 1 تفسير ابن كثير 1/325. 2 سورة القصص الآية: 38. 3 تفسير ابن كثير 1/325.

عدل إلى دليل آخر، أجدى وأروع وأشد إفحاماً، فقال له: {فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} . عند ذلك أخرس ذلك الفاجر بالحجة القاطعة، وأصبح مبهوتاً لا يستطيع أن ينطق بكلمة، وكأنما ألقم الحجر. اقرأ هذه المناظرة في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 1. وكانت نهاية هذا الطاغية كما ذكر ابن كثير عن زيد بن أسلم قال: "دخلت بعوضة واحدة في منخر النمرود، وأخذ يعذبه الله بها مدة طويلة، حتى كان يضرب رأسه بالمرزاب، حتى أهلكه الله بها"2. دعوة إبراهيم لعبدة الكواكب: ولما انتقل إبراهيم عليه السلام من أرض بابل إلى منطقة حران،

_ 1 سورة البقرة الآية: 258. 2 تفسير ابن كثير 1/326، وانظر: البداية والنهاية 1/149.

وأمله أن يجد من أهلها قلوباً تتفتح إلى النور والهدى، ولكنه مع الأسف وجد أهلها أشد ظلاماً، وأكثر جهلاً، حيث وجدهم يعبدون ويؤلهون الشمس والقمر والنجوم، فعند ذلك نزل إبراهيم عليه السلام حلبة الميدان، يجادل بالحجة والبرهان، مستخدماً معهم طرق العقل والمنطق، لعلهم يفيقون إلى رشدهم، ويعبدون الإله الحق الذي يسير تلك الكواكب، والآيات التالية تبين لنا الأسلوب الذي سلكه إبراهيم عليه السلام معهم في التدرج إلى معرفة الخالق تبارك وتعالى. قال عز وجل: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ

آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} 1. ونلاحظ من خلال الآيات الكريمة أن إبراهيم عليه السلام قد أعلن لهم خيبة أمله في جميع هذه الكواكب، وأنَّ واحداً منها لا يستحقُّ أنْ يكون إلهاً حقاً، فهي تظهر من هنا، وتغيب من هنا، وإذا كانت الآلهة تغيب، فمن الذي يرعى الخلائق عند غيابها، أو من يدبر أمرها إذا أفلت. فلا بدّ إذاً من إله خالق الكل، وهيمن على مسيرتها وحركتها، حتى أكبرها لا يعدو أن يكون واحداً من هذه الكواكب السيارة. ورب هذه الكواكب هو الذي ينبغي التوجه إليه، وصرف العبادة له.

_ 1 سورة الأنعام الآيات: 76-83.

5- الشرك في قوم إسماعيل عليه السلام ومنهجه في محاربته. ونأتي إلى إسماعيل عليه السلام، بكر أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، من زوجه هاجر المصرية، وقد رزق به لما بلغ من العمر ستاً وثمانين سنة، وإلى ذلك تشير الآية الكريمة: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء} 1. ومن الثابت أن إبراهيم عليه السلام قد انتقل بزوجه هاجر وابنه إسماعيل -وكان يومئذ رضيعاً- إلى مكة. وبمكة نشأ إسماعيل وترعرع، وكان أول من تكلم بالعربية الفصيحة البليغة، وقد تعلمها من العرب العاربة الذين نزلوا عندهم بمكة، من جرهم والعماليق، وأهل اليمن2. وقد أثنى الله تعالى على هذا النبي الجليل، ووصفه بالصبر والحلم، وصدق الوعد، والمحافظة على الصلاة والزكاة، وأمره لأهله بها، بالإضافة إلى الدعوة إلى عبادة الله وحده.

_ 1 سورة إبراهيم الآية: 39. 2 انظر: قصص الأنبياء لابن كثير 1/306.

قال تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ} 1. وقال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ} أي: إبراهيم {بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ} 2. وقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} 3. وقال تعالى: {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنْ الأَخْيَارِ} 4. ولما شب إسماعيل عليه السلام، وأصبح في سن يستطيع معها أن يسعى ويعمل، رأى إبراهيم في المنام –ورؤيا الأنبياء حق- أن الله يأمره بأن يذبح ولده إسماعيل، وكان وحيده آنذاك، فعرض إبراهيم الأمر على ولده ليختبر إيمانه، وليكون ذلك أطيب لقلبه، وأهون عليه من أن يذبحه قهراً. وكان جواب إسماعيل لأبيه أن يفعل ما أمره الله به، وأنه سيجده إن

_ 1 سورة الأنبياء الآيتان: 85-86. 2 سورة الصافات آية: 101. 3 سورة مريم الآيتان: 54-55. 4 سورة ص الآية: 48.

شاء الله من الصابرين الراضين بحكم الله وإراداته، فلما استسلما لقضاء الله، وعزما على تنفيذ أمره، وأمرّ إبراهيم السكين على رقبة ابنه، غير أنه وجد أن السكين لم تقطع، وناداه ربه بالكف عن ذبح إسماعيل؛ لأنه قد حصل المقصود من الإمتحان والابتلاء، وفداء الله إسماعيل بكبش عظيم. قال تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَء الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} 1. وقد كانت رسالته عليه السلام إلى القبائل العربية التي عاش في وسطها، وما والاها من قبائل جرهم والعماليق واليمن2. وإذا كان القرآن الكريم لم يفصل الحديث عن دعوته عليه السلام، فإن من المرجح أنه سار على نهج والده في الدعوة إلى الله تعالى من تقرير عقيدة التوحيد، وعبادة رب الأرباب، وأداء الصلوات والزكوات وغيرها من العبادات. ولعل معاصرته لأبيه عدداً من السنين، ومشاركته له في بعض مهام

_ 1 سورة الصافات الآيات: 102-107. 2 انظر: قصص الأنبياء لابن كثير 1/306.

الدعوة ولوازمها، كبناء البيت الحرام، أو لعل ما جرى بخصوص دعوة أبيه من التفصيل والإيضاح، اقتصر في عرض دعوته عليه السلام. وقد بين القرآن الكريم أنّ الله تعالى جعل البيت الحرام "مثابة" أي: مرجعاً للناس يقصدونه للعبادة، وأنه مكان أمن وأمان، لا يخاف قاصده، كما أشار الله إلى وصيته لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بتطهير البيت من الدنس الحسي، كالقاذورات، والدنس المعنوي كالشرك وعبادة الأصنام، ليكون طاهراً للطائفين حوله، والمعتكفين فيه للعبادة، والراكعين الساجدين لله تعالى فيه. قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} 1. وبين القرآن الكريم إن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يرفعان القواعد من البيت الحرام، ويدعوان الله تعالى أن يتقبل منهما عملهما، كما يدعوانه أن يبقيهما على الإسلام، ومن ذريتهما كذلك، وأن يبعث في تلك الأمة رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آيات الله ويعلمهم الكتاب والحكمة.

_ 1 سورة البقرة الآية: 125.

قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} 1. وقد وافقت هذه الدعوة المستجابة قدر الله السابق، في بعث محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً في الأميين، وسائر الأعجمين، من الإنس والجن، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك، دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين ترين" 2.

_ 1 سورة البقرة الآيات: 127-129. 2 أخرجه الإمام أحمد في المسند 4/127 و 5/262 عن العرباض بن سارية، وعن أبي أمامة، وعن أبي النّضر، وعن فرج. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 8/212: "إسناد أحمد حسن". وفيه: ((ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت منه قصور الشام)) . ورواه الحاكم في المستدرك 2/616-617 بمثل سند أحمد، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. ورواه إسحاق بإسناد حسن، كما في سيرة ابن هشام 1/219-220 إذ إن جهالة الصحابي فيه لا تضر، ولذا قال عنه ابن كثير في البداية 2/299: "وهذا إسناد جيد قوي". وانظر تخريجه في السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية للدكتور مهدي رزق الله ص: 112.

والمراد أنّ أول من نوه بذكره وشهره في الناس إبراهيم عليه السلام، ولم يزل ذكره مشهوراً حتى أفصح باسمه آخر أنبياء بني إسرائيل، وهو عيسى بن مريم عليه السلام، حيث قال: { ... يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ... } 1. هذا والبشارات بالرسول صلى الله عليه وسلم ليس هذا مكانها2.

_ 1 سورة الصف آية: 6. 2 وقد تحدثت عنها في رسالة الماجستير: "منهج القرآن الكريم في دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام".

6- الشرك في قوم يوسف عليه السلام ومنهجه في محاربته. وفي زمن يوسف عليه السلام، كان الشرك سائداً في مصر، كسائر الأمم القديمة، وذكروا أنه كان لكل مدينة في مصر يومئذ معبود لا يشبه ما يجاورها من المدن، وكان لكل مدينة أو مقاطعة صغيرة آلهتها الخاصة، وعبادتها المختلفة، فكان موطن أوزيريس في أبيدوس، وفتاح في منفيس، وآمون في طيبة، وهوروس في أدفو، وهاتور في دندرة، ورع في هليوبوليس، وآتون في هرموبولس، وغيرها كثير هنا وهناك، وكانت مكانة الآلة مستمدة من مكانة المدينة أو المقاطعة التي يعبد فيها، وهكذا كانت الآلهة مراتب متفاوتة، تبعاً لتفاوت مراتب المقاطعات السياسية1. كما كانت لهم معبودات أخرى كالشمس، والأسد، وابن آوى، وغير ذلك من الحيوانات والآلهة الحرقاء2. وقد غاظ يوسف عليه السلام ما شاهده من انحراف شنيع عن عقيدة التوحيد، فلما واتته الفرصة أثناء وجوده في السجن، صاح في

_ 1 مقارنة الأديان لأبي زهرة ص: 7، والأديان دراسة تاريخية مقارنة للدكتور رشدي عليان وسعدون الساموك ص: 53-54. 2 تاريخ الدعوة لجمعة الخولي 1/219، عن مؤتمر تفسير سورة يوسف 2/783 ط أولى، سنة 1961م.

أولئك الناس قائلاً لهم: {أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّين ُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} 1. يقول سيد قطب رحمه الله: " لقد رسم يوسف عليه السلام بهذه الكلمات القليلة الناصعة، الحاسمة المنيرة، كل معالم هذا الدين، وكل مقومات هذه العقيدة، كما هزّ بها كلَّ قوائم الشرك هزاً شديداً عنيفاً {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} . إنه يتخذ منهما صاحبين، ويتحبب إليهما بهذه الصفة المؤنسة، ليدخل من هذا المدخل إلى صلب الدعوة، وجسم العقيدة، وهو لا يدعوهما إليها دعوة مباشرة، إنّما يعرضها قضية موضوعية: {أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ؟} . وهو سؤال يهجم على الفطرة في أعماقها، ويهزها هزاً شديداً. إن الفطرة تعرف لها إلهاً واحداً، ففيم إذاً تعدد الأرباب؟ إنَّ الذي

_ 1 سورة يوسف الآيتان: 39-40.

يستحق أن يكون رباً يعبد ويطاع أمره، ويتبع شرعه، هو الله الواحد القهار، ومتى توحد الإله وتقرر سلطانه القاهر في الوجود، فيجب تبعاً لذلك أنْ يتوحد الرب وسلطانه القاهر في حياة الناس، وما يجوز لحظة واحدة أن يعرف الناس أن الله واحد، وأنه هو القاهر، ثم يدينوا لغيره ويخضعوا لأمره، ويتخذوا بذلك من دون الله رباً. إنّ الرب لا بدّ أنْ يكون إلهاً يملك أمر هذا الكون ويسيره، ولا ينبغي أن يكون العاجز عن تسيير أمر هذا الكون كله رباً للناس يقهرهم بحكمه. والله الواحد القهار، خير من يدين الناس لربوبيته، من أن يدينوا للأرباب المتفرقة الأهواء الجاهلية العمياء، عن رؤية ما وراء المنظور القريب، كالشأن في كل الأرباب إلاّ الله. وما شقيت البشرية قط، مثل شقاءها بتعدد الأرباب وتفرقهم، وتوزع العباد بين أهوائهم وتنازعهم"1 ا.?. والذي لا شك فيه أن يوسف عليه السلام، قد عاش بين قومه الوثنيين يدعوهم إلى عبادة الله وحده، ويبلغهم رسالة ربه، وينصح لله تعالى ما استطاع، لكنه لم يتمكن من أن يحقق بينهم كلّ ما يرجوه من دعوته، وظل قومه في شك مما جاء به، كما أشار إلى ذلك مؤمن آل

_ 1 في ظلال القرآن 4/723-724 بتصرف.

فرعون في قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ} 1.

_ 1 سورة غافر الآية: 34.

7- الشرك في قوم شعيب عليه السلام ومنهجه في محاربته. وفي عهد شعيب عليه السلام، ظهر في مدين1 قوم يعبدون الأيكة. قال ابن كثير:" وكان أهل مدين كفاراً يقطعون السبيل، ويخيفون المارة، ويعبدون الأيكة، وهي الشجرة من الأيك، حولها غيضة ملتفة بها، وكانوا من أسوأ الناس معاملة، يبخسون المكيال والميزان، ويطففون فيما يأخذون بالزائد، ويدفعون بالناقص، فبعث الله فيهم رجلاً منهم، وهو رسول الله شعيب عليه السلام، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن تعاطي هذه الأفاعيل القبيحة من بخس الناس أشياءهم، وإخافتهم لهم في سبلهم وطرقاتهم، فآمن به بعضهم، وكفر أكثرهم، حتى أحل الله بهم البأس الشديد "2. قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ

_ 1 مدين: مدينة على بحر القلزم (البحر الأحمر) محاذية لتبوك، على نحو من ست مراحل، وبها البئر التي استقى منها موسى عليه السلام، لسائمة شعيب، وقيل مدين اسم القبيلة، ولهذا قال تعالى: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا) . معجم البلدان للحموي 5/77-78. 2 البداية والنهاية لابن كثير 1/185.

إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} 1. فأنكر قومه دعوته، ولم يؤمنوا بما جاء به من عند الله تعالى، واستهزؤا به، ولم يرتدعوا عما يفعلونه، وقالوا له على سبيل السخرية والاستهزاء: {يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لأََنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} 2. و {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} 3. وكانت النتيجة أن أخذتهم رجفة شديدة، وزلزلة عظيمة أزهقت أرواحهم من أجسادهم، وانتهى أمرهم وزالت آثارهم، ونجى الله شعيباً والذين آمنوا معه برحمة منه وإحسان، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا

_ 1 سورة الأعراف الآية: 85. 2 سورة هود الآية: 87. 3 سورة هود الآية: 91.

شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} 1.

_ 1 سورة هود الآية: 94-95.

8- الشرك في قوم موسى عليه السلام ومنهجه في محاربته. ولما كثر بنو إسرائيل في مصر، وتزايد عددهم وحكمهم فرعون ذلك الملك الطاغية، الذي ادعى الربوبية والألوهية معاً، وحكم قومه بالحديد والنار، وكان مما أوقعه بهم تفريقهم شيعاً وأحزاباً، وتسخيرهم في أشق الأعمال لإنهاك قواهم، وكان يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم، كما قص الله تعالى ذلك في قوله عز وجل: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} 1. وقال لهم: { ... مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأََظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} 2. فبعث الله تعالى إليه وإلى قومه موسى وأخاه هارون عليهما السلام، فدعواه باللين والحسنى إلى عبادة الله وحده، وترك التجبر والتكبر في

_ 1 سورة القصص الآية: 4. 2 سورة القصص الآية: 38.

الأرض، قال تعالى: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} 1. وقد أنزل الله تعالى على موسى عليه السلام التوارة، وهي كتاب سماوي، فيه هدى ونور، وضياء وذكر، وتمام على الذي أحسن، وتفصيل لكل شيء. وأمر الله بني إسرائيل أن يأخذوا بأحسنها، وأن يقيموا أحكامها، وأن لا يشتروا بها ثمناً قليلاً، وأن لا يحرفوا كلمها عن مواضعه ... كما جاءت التوراة بتفاصيل العبادة التي لا تنبغي إلاّ لله تعالى، وحذرت من الشرك وغوائل الوثنية. فقد جاء في سفر الخروج:" أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر، من بيت العبودية، لا يكن لك آلهة أخرى أمامي، لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً، ولا صورة مما في السماء من فوق، ومما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض، لا تسجد لهنَّ ولا تعبدهنَّ، لأني أنا الرب إلهك، إله غيور "2. وجاء في سفر الخروج أيضاً: "من ذبح لآلهة غير الرب وحده

_ 1 سورة طه الآية: 44. 2 سفر الخروج الإصحاح العشرين فقرة 3-5، وانظر هذا المعنى في سفر الخروج أيضاً الإصحاح 34 فقرة 11-15، وسفر التثنية الإصحاح 5 فقرة 6-22.

يهلك"1. وجاء في سفر اللاويين: "لا تلتفتوا إلى الأوثان، وآلهة مسبوكة، ولا تصنعوا لأنفسكم"2. وقد أشار القرآن الكريم إلى دعوة بني إسرائيل إلى التوحيد، فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ} 3. وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ} 4. وقد استكبر فروعون وطغى، وتجبر واستخفّ قومه واستجلبهم، فأطاعوه لما دعاهم إليه من الكفر والضلال، قال تعالى عنه: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلاَ

_ 1 سفر الخروج الإصحاح 22 فقرة: 20. 2 سفر اللاويين الإصحاح 19 فقرة: 5. 3 سورة البقرة الآية: 83. 4 سورة المائدة الآية: 12.

تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلاَئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} 1. وكان مصير فرعون وأتباعه أن أغرقهم الله تعالى في البحر، وأنجى الله تعالى موسى وهارون، ومن آمن معهما من بني إسرائيل، فكان ذلك آية وعبرة للناس إلى يوم القيامة. قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} 2. وقال تعالى: {وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} 3.

_ 1 سورة الزخرف الآيات: 51-54. 2 سورة يونس الآيات: 90-92. 3 سورة الشعراء الآيات: 65-68.

ولم يهمل القرآن الكريم الحديث عن مصير فرعون وقومه في الدار الآخرة، وما أعده الله لهم من العذاب، وسوء المصير، قال تعالى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} 1. وعلى الرغم مما لقي موسى عليه السلام في سبيل دعوة بني إسرائيل إلى عبادة الله تعالى وحده من الأهوال والمعاناة، وما أيده الله به من المعجزات العظيمة الدالة على قدرة وعظمة الخالق، جلت قدرته، إلا أن رواسب الوثنية التي ألفها قومه طوال عهدهم في مصر، بقيت تعاودهم من حين إلى آخر. ومن مظاهر ذلك أنهم عندما جاوزوا البحر الذي أغرق الله عدوهم به، مروا على قوم يعبدون الأصنام، فطلبوا من موسى عليه السلام أن يتخذ لهم صنماً يعبدونه مثل ما لأولئك الوثنيين، وقد لامهم موسى عليه السلام، وعاتبهم على جهلهم، وبين لهم أنَّ دين أولئك القوم هالك وباطل، وأنّ أعمالهم خاسرة ومضمحلة لعبادتهم ما لا يستحق العبادة. قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى

_ 1 سورة غافر الآيات: 45-47.

أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} 1. وعندما ذهب موسى عليه السلام لمناجاة ربه، استغل السامري فرصة غيابه، وأخذ من بعض حلي النساء وأذابها بالنار، وسبك منها جسداً على شكل عجل، إذا دخلته الريح تجعل له صوتاً كصوت البقر، وأمرهم بعبادته، وقد تصدى لهم هارون عليه السلام، وأفهمهم بأنهم فتنوا بهذا العمل، وأجهد نفسه عليه السلام في ردهم عن عبادة العجل، ولكنه لم يفلح؛ لإصرارهم على عبادته حتى يرجع إليهم موسى. فلما أخبر الله تبارك وتعالى رسوله موسى عليه السلام بما فعله السامري، وما أضل به القوم عن دينهم، عاد موسى عليه السلام وهو في أشد حالات الغضب والأسف، ولام قومه على فعلهم، كما لام أخاه هارون عليه السلام على عدم لحوقه به لإخباره بما حدث، كما توجه باللوم الشديد للسامري على تسببه في إضلال الناس، وبين له بوحي من الله تعالى أن عاقبته في الحياة أن يقول: "لا مساس"، فكان يتألم من مس أي إنسان له، فإذا لقي إنساناً وخشي أن يمسه يقوله له: "لا مساس".

_ 1 سورة الأعراف الآيات: 138-140.

ثم ذهب موسى نحو العجل المصنوع، وأحرقه وأذراه في البحر. قص الله تبارك وتعالى لنا ذلك في الآيات التالية: {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا

لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} 1. كما بين موسى عليه السلام لقومه بوحي من الله تعالى أن توبتهم تكون بقتل أنفسهم، وكبت شهواتهم وتطهيرها من الشرك والآثام. قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} 2. ويعلق الشيخ العدوي على تأصل الوثنية في بني إسرائيل على الرغم من دعوة موسى عليه السلام لهم الأيام والليالي الطويلة، فيقول: " فهذا نبي الله موسى يمضي الأيام في دعوة القوم إلى توحيد الله تعالى، ويدأب على محاربة الشرك والوثنية أياماً وليالي، ثم يترك أخاه هارون عليه السلام، فيطمع القوم في حلمه ولين جانبه، فينتهز السامري تلك الفرصة، ويضل القوم بعمل عجل من حلي الذهب والفضة على نحو خاص، بحيث إذا مرّ الهواء منه صوت كصوت العجل، واستغل سذاجة بني إسرائيل وجهلهم

_ 1 سورة طه الآيات: 85-97. 2 سورة البقرة الآية: 54.

بحقيقة تلك الصنعة، ويريهم أن ذلك هو الذي ينبغي أن يعبد، فيعود نبي الله موسى، فيحزن على ذلك العمل الحزن العميق، ويأسف غاية الأسف على إضاعة مجهوده بسبب ضعف قومه، واستعدادهم لكل أنواع التحريف"1. هذا وسيأتي معنا بعض الإيضاح عن مظاهر التحريف للديانة اليهودية بعد موسى عليه السلام، في الكلام عن حالة العقائد قبيل البعثة المحمدية، على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.

_ 1 دعوة الرسل إلى الله تعالى ص: 22.

9- الشرك في قوم عيسى عليه السلام ومنهجه في محاربته. وتتابعت بعثة الرسل والأنبياء على بني إسرائيل على مرّ العصور والأزمان، لانتشالهم من الضلال والجهل وطغيان المادة، ولكن بني إسرائيل لم يقابلوا تلك النعمة بالشكر والامتنان، وإنما قابلوها بالجحود والكفر، وتمردوا على الشرائع الربانية التي جاء بها أنبياؤهم، واستمروا على الشرك وعبادة الأوثان، حتى قبيل ظهور المسيح عليه السلام ظهر من الآلهة المقدسة في الإغريق والرومان والفرس والشام ومصر وبابل وغيرها الأعداد الكثيرة. يقول الدكتور أحمد شلبي في كتابه المسيحية: " قبل ظهور المسيح، كانت هناك معابد كثيرة تقدس عدداً كبيراً من الآلهة، فهناك مثلاً آيلو الذي كان يقدسه الإغريق، وهيركوليس معبود الرومان، ومترا معبود الفرس، وأدونيس معبود السوريين، وأوزيريس وإيزيس وحورس معبودات المصريين، وبعل معبود البابليين، وسواهم كثيرون. وكانت هذه الآلهة تعتبر كلها من نسل الشمس ... "1. فجاء عبد الله ورسوله عيسى بن مريم عليه السلام إلى بني إسرائيل، ليردهم إلى الطريق الحق، ويصحح لهم ما دخل على شريعتهم من تحريف

_ 1 المسيحية، لأحمد شلبي ص: 176-177.

وتبديل، ويبلغهم ما أنزل الله عليه من شريعة جديدة، وما فيها من تحليل بعض ما حُرِّم عليهم في شريعة موسى عليه السلام بسبب بغيهم وعدوانهم، قال تعالى: {وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ... } 1. وأنزل الله تعالى عليه الإنجيل، فيه الهدى والنور، كما قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} 2. وفيه البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم النبي الخاتم، وصاحب الشريعة العامة لكافة الخلق، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} 3. ودعا قومه إلى عبادة الله تعالى وتوحيده.

_ 1 سورة آل عمران الآية: 50. 2 سورة المائدة الآية: 46. 3 سورة الصف الآية: 6.

قال تعالى: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} 1. وقال تعالى: {وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} 2. وعلى هذا الأساس، أخذ عيسى عليه السلام يدعو قومه إلى عبادة الله تعالى، ويقارعهم الحجة، ويرفض أي إدعاء أو زيادة ترفع شخصه عن جنس البشرية، أو مقام النبوة. وهكذا جاء عيسى عليه السلام بكلمة التوحيد خالصة لله تعالى، في وضوح وجلاء، ولم يقل مرة واحدة إنه إله، أو ابن إله، أو ثالث ثلاثة، ولم يشر من قريب أو بعيد إلى أي صله بربه، غير صلة العبودية الخالصة من جانبه، والربوبية المطلقة لله رب العالمين. ومن هذا يتبين لنا أن عيسى عليه السلام لو جرِّد من كل ما أضافه

_ 1 سورة المائدة الآية: 72. 2 سورة الزخرف الآية: 63-65.

إليه المحرفون الضالون، لكان كما وصفه رب العزة والجلال في كتابه الكريم: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} 1. ولما كان اليهود الذين بعث فيهم عيسى عليه السلام قساة القلوب، فقد أعرضوا عن رسالته، وأخذوا يصدون الناس من سماع دعوته، ولما وجدوا أنَّ البعض يؤمن به ويلتف حول دعوته، أخذوا يحرضون الرومان عليه، ويوهمونهم أنّ في دعوة عيسى زوالاً لملك قيصر، وتقويضاً لسلطانه، فتمكنوا من حمل الحاكم الروماني على إصدار الأمر بالقبض عليه، والحكم بإعدامه صلباً2.

_ 1 سورة مريم الآيات: 30-36. 2 قصص الأنبياء للنجار ص: 504، ومع الأنبياء في القرآن الكريم لعفيف طبارة ص: 326.

ولكن الله تعالى لم يمكنهم مما أرادوا به من كيد ومكر، إذ رفعه الله تعالى إليه، وألقى الشبه على غيره، كما قال تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} 1. وقال تعالى: {إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ} 2. وسنلقي شيئاً من الضوء على ما حصل للديانة النصرانية من تحريف وتبديل بعد رفع المسيح عليه السلام، في الحديث عن حالة العقائد قبيل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم. هذا ولأنّ رسالة محمد صلى الله عليه وسلم خاتمة الرسالات، ولكونها عامة إلى جميع الناس، في كل زمان ومكان، أود أن أعطي فكرة عن حالة العقائد في العالم، قبيل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم في الجزيرة العربية، وفي خارجها، لنرى كيف أنَّ العالم بأسره كان في حاجة ماسة إلى رسالة جديدة تنير له الطريق، وتكفل له أمنه واستقراره.

_ 1 سورة النساء الآيتان: 157-158. 2 سورة آل عمران الآية: 55.

الفصل الرابع: حالة العقائد قبيل البعثة المحمدية.

الفصل الرابع: حالة العقائد قبيل البعثة المحمدية أولاً: حالة العقائد داخل الجزيرة العربية. أ-الحالة الدينية للعرب قبل الإسلام: العرب كانوا على التوحيد: كان العرب على دين إبراهيم وإسماعيل، وعلى دين من بعثه الله تعالى فيهم من أنبياء لعاد ولثمود ولمدين وغيرهم. فقد بعث الله تعالى هوداً عليه السلام لعاد، الذين سكنوا الأحقاف جنوب الربع الخالي وشمال حضرموت، وبعث صالحاً عليه السلام لثمود الذين سكنوا بالحجر ووادي القرى بين المدينة النبوية وتبوك. وأبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وإن كان ولد ببابل، إلاّ أنه لم يستقر بها، بل أخذ يتنقل بينها وبين حران ومصروفلسطين، ثم كان مهاجره إلى مكة ومعه ولده إسماعيل وأمه هاجر، وقد استقرّ المقام بإسماعيل وأمه بمكة، ورفع إبراهيم وابنه إسماعيل بمكة قواعد البيت الحرام. قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} 1.

_ 1 سورة البقرة الآيتان: 127-128.

وكانت على مقربة من الجزيرة العربية رسالة لوط، ورسالة شعيب عليهما السلام. ولهذا فإنَّ العرب في الجزيرة العربية كانوا يؤمنون بدعوة التوحيد التي دعا إليها هؤلاء الأنبياء وغيرهم، لأنَّ الصحيح المقطوع به، أنّ الرسل المذكورين في القرآن الكريم ليسوا كل الرسل الذين بعثهم الله تعالى، بل إنه يوجد رسل غيرهم، كما قال تعالى لخاتم رسله بعد أن ذكر عدداً من الرسل: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} 1. وقال تعالى: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} 2. تحول العرب من التوحيد إلى الوثنية: وعن تحول العرب عن عبادة الله تعالى إلى الوثنية، قال أبو المنذر الكلبي: "إن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام لما سكن مكة، وولد له بها أولاد كثيرون، حتى ملاءوا مكة، ونفوا من كان بها من العماليق، ضاقت عليهم مكة، ووقعت بينهم الحروب والعداوات، وأخرج بعضهم بعضاً، فتفسحوا في البلاد إلتماساً للمعاش، وكان الذي سلخ بهم إلى عبادة الأوثان والحجارة، إنه كان لا يظعن من مكة ظاعن إلا احتمل معه حجراً

_ 1 سورة النساء الآية: 164. 2 سورة فاطر الآية: 24.

من حجارة الحرم، تعظيماً للحرم وصبابة1 بمكة، فحيثما حلوا وضعوه، وطافوا به كطوافهم بالكعبة، تيمناً منهم، وصبابة بالحرم، وحباً له، وهم بعد يعظمون الكعبة ومكة، ويحجون ويعتمرون، على إرث إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ثم سلخ ذلك بهم إلى أنْ عبدوا ما استحبوا، ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره، فعبدوا الأوثان، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم، وانتجثوا (استخرجوا) ما كان يعبد قوم نوح عليه السلام منها، على إرث ما بقي فيهم من ذكرها، وفيهم على ذلك بقايا من عهد إبراهيم وإسماعيل يتنسكون بها، من تعظيم البيت، والطواف به، والحج، والعمرة، والوقوف على عرفة ومزدلفة، وإهداء البدن، والإهلال بالحج والعمرة مع إدخالهم فيه ما ليس منه"2. وقد كانت كنانة وقريش إذا أهلوا قالوا: "لبيك اللهم لبيك لا شريك لك، إلاّ شريك هو لك، تملكه وما ملك" فيوحدونه بالتلبية، ويدخلون معه أصنامهم ويجعلون ملكها بيده، يقول تعالى لنبيه محمد صلى

_ 1 الصبابة: رقة الشوق وحرارته. مختار الصحاح ص: 354. 2 الأصنام ص: 6، وأخبار مكة لأبي الوليد الأزرقي 1/166، وسيرة ابن هشام 1/177، والبداية والنهاية لابن كثير 2/188، وإغاثة اللهفان لابن القيم 2/210، وتلبيس إبليس لابن الجوزي 55-56.

الله عليه وسلم: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} 1. أي ما يوحدونني لمعرفة حقي، إلاّ جعلوا معي شريكاً من خلقي2. وذكر السهيلي وغيره: "أن أول من لبى هذه التلبية عمرو بن لحي، وأن إبليس تبدى له في صورة شيخ، فجعل يلقنه ذلك فيسمع منه، ويقول كما يقول، واتبعه العرب في ذلك"3. وقد ذكر ابن الكلبي: "أنَّ أولّ من غير دين إسماعيل عليه السلام فنصب الأوثان، وسيب السائبة، ووصل الوصلة، وبحر البحيرة، وحمى الحامية، عمرو بن ربيعة، وهو لحي بن حارثة بن عمرو بن عامر الأزدي، وهو أبو خزاعة. وكان الحارث هو الذي يلي أمر الكعبة، فلما بلغ عمرو بن لحي نازعه في الولاية، وقاتل جرهما ببني إسماعيل، فظفر بهم وأجلاهم عن الكعبة، ونفاهم عن بلاد مكة، وتولى حجابة البيت بعدهم"4. وذكر السهيلي: "أن العرب قد جعلته رباً لا يبتدع لهم بدعة، إلاّ

_ 1 سورة يوسف الآية: 106. 2 الأصنام للكلبي ص: 7، وسيرة ابن هشام 1/78، والبداية والنهاية لابن كثير 2/188، والفتاوى لابن تيمية 1/156، وإغاثة اللهفان لابن القيم 2/210-211. 3 الروض الأنف 1/102، والبداية والنهاية لابن كثير 2/188. 4 الأصنام للكلبي ص: 8، وتلبيس إبليس لابن الجوزي ص: 56، وبلوغ المرام للألوسي 2/200.

اتخذوها شرعة، لأنه كان يطعم الناس، ويكسو في الموسم، فربما نحر في الموسم عشرة ألاف بدنة، وكسا عشرة آلاف حلة"1. وقد نص الشهرستاني أن عمرو بن لحي وضع الأصنام في البيت في أول ملك "سابور" ذي الأكتاف2".3 وعن جلب الأصنام من الشام إلى مكة، يروي ابن الكلبي أنّ عمرو بن لحي مرض مرضاً شديداً، فقيل له: إنَّ بالبلقاء من الشام حمة، إنْ أتيتها برأت، فأتاها فاستحم بها فبرأ، ووجد أهلها يعبدون الأصنام، فقال: ما هذه؟ فقالوا: نستسقي بها المطر، ونستنصر بها على العدو، فسألهم أن يعطوه منها، ففعلوا، فقدم بها مكة ونصبها حول الكعبة"4. وهناك رواية أخرى تذكر أنّ أول من اتخذ تلك الأصنام من ولد إسماعيل وغيرهم من الناس هو: هذيل بن مدركة5.

_ 1 الروض الأنف 1/102، وإغاثة اللهفان لابن القيم 2/211. 2 هو: سابور بن هرمز بن نرسي بن بهرام، أحد ملوك الفرس، قتله الروم وله من العمر 72 سنة، وهلك في أيامه عامله على العرب امرؤ القيس بن عمرو بن عدي. انظر: الكامل لابن الأثير 1/228-231، ومروج الذهب للمسعودي 1/254. 3 الملل والنحل 2/233. 4 الأصنام ص: 8، وتلبيس إبليس لابن الجوزي ص: 56، وإغاثة اللهفان لابن القيم 2/211، وبلوغ الإرب للألوسي 2/201. 5 الأصنام لابن الكلبي ص: 9، ومعجم البلدان للحموي 3/276، وبلوغ الإرب للألوسي 2/20.

وعلى كل فالرواية الأولى هي المعروفة والمشهورة بين الإخباريين عن منشأ عبادة الأصنام عند العرب1. والحق إنه إذا كان للدعوة الإلهية أنبياء ودعاة يدعون الناس إلى الخير، وإلى عبادة الله تعالى وحده، فكذلك فإن للدعوات الشيطانية دعاة يدعون إلى أبواب جهنم، وإلى عبادة الأوهام والطواغيت، ومن أكبر دعاة الضلال عمرو بن لحي الخزاعي، حيث استورد الأصنام من بلاد بعيدة، ووزعها في الجزيرة العربية، بل في أرض الحرم. فإنَّ العرب جميعاً من قحطان وعدنان كانوا قبل عمرو بن لحي على التوحيد يعبدون الله وحده، ولا يشركون به شيئاً، فلما جاء عمرو بن لحي أفسدهم، ونشر بينهم الأضاليل بما جلبه لهم من بلاد الشام من أصنام، فكان داعي الوثنية عند العرب، ومضلهم الأول، وموزع الأصنام بين القبائل، ومقسمها عليها، فكان من دعوته تلك عبادة الأصنام والأوثان، إلى أن جاء الإسلام، فأعاد العرب إلى سواء السبيل. وقد جاء في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت عمرو

_ 1 انظر: تاريخ العرب قبل الإسلام للدكتور جواد علي 5/73.

ابن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، كان أول من سيب السوائب" 1. وجاء في صحيح البخاري أيضاً، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت جهنم يحطم بعضها بعضاً، ورأيت عمراً يجر قصبه، وهو أول من سيب السوائب" 2. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندق أبا بني كعب هؤلاء، يجر قصبه في النار" 3. وروى ابن كثير عن ابن إسحاق عن أبي هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجوزي الخزاعي "يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندق يجر قصبه في النار، فما رأيت رجلاً أشبه برجل منك له، ولا بك منه"، فقال أكثم: عسى أن يضرني شبهه يا رسول الله، قال: لا إنك مؤمن، وهو كافر، إنه أول من غير دين إسماعيل، فنصب الأوثان، وبحّر البحيرة، وسيّب السائبة، ووصل الوصيلة،

_ 1 صحيح البخاري بشرح الفتح 8/283 كتاب التفسير، المائدة، باب ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة. 2 صحيح البخاري بشرح الفتح 8/283 المرجع السابق. 3 صحيح مسلم 4/2191 كتاب الجنة وصفة نعيمها رقم: 50.

وحمى الحامي" 1. بعض أصنام العرب: وفي طليعة الأصنام التي عبدها العرب: الصنم "ود" وكان لبني كلب.. وكان منصوباً بدومة الجندل2. ويذكر ابن الكلبي أن عمرو بن لحي قد دفع هذا الصنم إلى عوف ابن عذرة ابن زيد اللات.. من قضاعة بعد أن أجابه إلى عبادة الأصنام، وأن عوف بن عذرة هذا حمله إلى وادي القرى، فأقره بدومة الجندل، وسمى ابنه عبد ود، فهو أول من سمى به،.. ثم سمت العرب به بعد ذلك، وجعل عوف ابنه عامراً ... سادناً له، فلم تزل بنوه يسدنونه حتى جاء الله بالإسلام، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد من غزوة تبوك لهدمه، فحالت بينه وبين هدمه بنو عبد ود، وبنو عامر

_ 1 البداية والنهاية 2/189، وقال: ليس في الكتب من هذا الوجه. ورواه ابن جرير الطبري في التفسير بنحوه 7/86. وانظر السهيلي في الروض الأنف 1/100، ابن إسحاق بإسناد حسن. انظر سيرة ابن هشام 1/76، وانظر السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية د. مهدي رزق الله ص: 68. 2 الأصنام لابن الكلبي ص: 10. وانظر: البداية والنهاية لابن كثير 2/190، ومعجم البلدان للحموي 5/368، وسيرة ابن هشام 1/78.

الأجداد، فقاتلهم حتى قتلهم، فهدمه وكسره1. وكان "سواع" لبني هذيل بن إلياس بن مدركة بن مضر، وكان منصوباً بمكان يقال له رهاط من بطن نخلة، يعبده من يليه من مضر2. قال رجل من العرب: تراهم حول قبلتهم عكوفاً ... كما عكفت هذيل على سواع3 وقد هدم هذا الصنم عمرو بن العاص رضي الله عنه4. وكان "يغوث" لبني أنعم من طيء، ولأهل جرش بن مذحج، وكان منصوباً بجرش5. ويذكر ابن الكلبي أن عمرو بن لحي دفع بهذا الصنم إلى أنعم بن عمرو المرادي، فوضعه بأكمة مذحج باليمن، فعبدته مذحج ومن والاها

_ 1 الأصنام ص: 55-56، وانظر: معجم البلدان للحموي 5/368. 2 الأصنام لابن الكلبي ص: 57، والبداية والنهاية لابن كثير 2/191، وسيرة ابن هشام 1/78. 3 بلوغ الإرب للألوسي 2/201. 4 انظر: معجم البلدان للحموي 3/276، والطبقات لابن سعد 2/146معلقاً، ولسان العرب لابن منظور 10/24. 5 الأصنام لابن الكلبي ص: 57، والبداية والنهاية لابن كثير 2/191، وسيرة ابن هشام 1/79.

من أهل جرش1. وكان "يعوق" منصوباً بأرض همدان من اليمن، لبني خيوان بطن من همدان2. ويذكر ابن الكلبي أن عمرو بن لحي وضع بهذا الصنم إلى مالك بن مرثد بن جشم، وقد عبدته همدان وخولان ومن والاهما من قبائل، وكان في أرب، قال مالك بن نمط الهمداني: يريش الله في الدنيا ويبري ... ولا يبري يعوق ولا يريش3 وكان "نسر" منصوباً بأرض حمير، لقبيلة يقال لها ذو الكلاع، وقد أعطاه عمرو بن لحي قيل: لذي رعين، يقال له: معد يكرب، فوضعه في موضغ "بلخ" من أرض سبأ، فتعبدت له حمير إلى أيام ذي نواس، حيث تهودت معه، وتركت عبادته، فلم تزل هذه الأصنام تعبد حتى بعث الله

_ 1 الأصنام لابن الكلبي ص: 30، 75، واللسان لابن منظور 2/175، ومعجم البلدان 5/439، والروض الأنف للسهيلي 1/103، وبلوغ الأرب للألوسي 2/201. 2 البداية والنهاية لابن كثير 2/191. 3 الأصنام لابن الكلبي ص: 57، والروض الأنف للسهيلي 1/103، واللسان لابن منظور 10/281، ومعجم البلدان للحموي 5/438، وسيرة ابن هشام 1/79-80، وبلوغ الارب للألوسي 2/201.

النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بهدمها1. وهذه الأصنام الخمسة، قد كانت في قوم نوح عليه السلام، كما قال تعالى: {وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا..} 2. ثم انتقلت هذه الأصنام في العرب بعد، كما ذكر ابن عباس رضي الله عنهما 3. ويعد الصنم "مناة" أقدم الأصنام التي اتخذها العرب، وكان منصوباً على ساحل البحر، بناحية المشلل بقديد، بين المدينة ومكة، وكانت العرب تعظمه، وتذبح حوله، وكان أشد الناس إعظاماً له الأوس والخزرج وغسان من الأزد، ومن دان بدينهم من أهل يثرب (المدينة) وأهل الشام4.

_ 1 الأصنام لابن الكلبي ص: 57-58، والبداية والنهاية لابن كثير 2/191، واللسان لابن منظور 5/206، وسيرة ابن هشام 1/80، ومعجم البلدان للحموي 5/284، وبلوغ الارب للألوسي 2/201. 2 سورة نوح الآية: 22. 3 الأصنام لابن الكلبي ص: 13-14، 438، وسيرة ابن هشام 1/85، وأخبار مكة للأزرقي 1/124، وتاج العروس لمحب الدين الحسيني 10/351، وإغاثة اللهفان لابن القيم 2/112، وبلوغ الارب للألوسي 2/202. 4 الأصنام لابن الكلبي ص: 13-14، 438، وسيرة ابن هشام 1/85، وأخبار مكة للأزرقي 1/124، وتاج العروس لمحب الدين الحسيني 10/351، وإغاثة اللهفان لابن القيم 2/112، وبلوغ الارب للألوسي 2/202.

ومناة هي التي ذكرها الله تعالى بقوله: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} 1. وقد كان سدنة هذا الصنم يرتزقون باسمه، إلى أن خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة سنة ثمان من الهجرة، وهو عام الفتح، فلما سار من المدينة أربع ليال أو خمس، بعث علياً فهدمها، وأخذ ما كان لها، فأقبل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان فيما أخذ سيفان كان الحارث ابن شمر ملك غسان أهداهما لها، أحدهما اسمه (مخذم) والآخر (رسوب) ، فوهبهما لعلي، فيقال: إنّ ذا الفقار سيف علي أحدهما، ويقال إنَّ علياً وجدهما في "الغلس" صنم لطي، حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم فهدمه2. ويقال إنَّ الذي هدمه أبو سفيان بن حرب3. وفي رواية للواقدي إن الذي هدم الصنم هو سعد بن زيد

_ 1 سورة النجم الآية: 19. 2 الأصنام لابن الكلبي ص: 14-15، ومعجم البلدان للحموي 5/204، وبلوغ الارب للألوسي 2/202. 3 البداية والنهاية لابن كثير 2/192.

الأشهلي1. وكانت اللات لثقيف بالطائف، وكان سدنتها وحجابها بنو مُعَتِّبُ من ثقيف2. ويذكر أن رجلاً ممن مضى كان يقعد على صخرة لثقيف يبيع السمن من الحاج إذا مروا فيلت سويقهم، وكان ذا غنم، فسميت صخرة اللات فمات، فلما فقده الناس، قال عمرو: إنَّ ربكم كان اللات، فدخل في جوف الصخرة، ثم أمرهم بعبادتها، وأن يبنوا عليها بنياناً يسمى اللات ... فاتخذها ثقيف طاغوتاً، وبنت لها بيتاً وجعلت لها سدنة وعظمته وطافت به، وقيل كانت صخرة مربعة، وكان يهودي يلت عندها السويق3. وقد هدم اللات أبو سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة في جملة من هدم من الأصنام، وأحرق البيت، وقوضت حجابته بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الروايات، أنَّ المغيرة هدمها لوحده4.

_ 1 المغازي للواقدي 2/870، والطبقات الكبرى لابن سعد 2/146 معلقاً. 2 البداية والنهاية 2/192. 3 الأصنام ص: 16 وما بعدها، ومعجم البلدان 5/4، وأخبار مكة 1/126، وبلوغ الارب 2/2034. 4 الأصنام ص: 17، ومعجم البلدان 5/5، والبداية والنهاية 1/192، وبلوغ الأرب للألوسي 2/20302.

وفي ذلك يقول شداد بن عارض الجشمي حين هدمت وحرقت، ينهى ثقيفاً عن العود إليها والغضب لها: لا تنصروا اللات إن الله مهلكها ... وكيف نصركم من ليس ينتصر إن التي حرقت بالنار فاشتعلت ... ولم تقاتل لدى أحجارها هدر إن الرسول متى ينزل بساحتكم ... يظعن وليس بها من أهلها بشر1 وكانت "العزى" لقريش وبني كنانة2، وهي أحدث عهداً من اللات ومنات، فقد سمّت العرب بهما قبل العزى، وقد سمى تميم بن مر ابنه زيد مناة، كما سمى ثعلبة بن عكابة تيم اللات، وكان عبد العزى بن كعب من أقدم ما سمت به العرب، وكان الذي اتخذ العزى ظالم بن أسعد3، وكانت بواد من نخلة الشامية يقال له: حراض عن يمين المصعد إلى العراق من مكة، فوق ذات عرق بتسعة أميال، فبنى عليها بيتاً، وكانوا يسمعون فيها الصوت، وكانت أعظم الأصنام عند قريش، وكانت قريش تطوف بالكعبة، وتقول: "واللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، فإنهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترجى".

_ 1 الأصنام لابن الكلبي ص: 17. 2 سيرة ابن هشام 1/83، 2/436، والبداية والنهاية لابن كثير 2/192، والطبقات لابن سعد 2/147 معلقاً. 3 الأصنام لابن الكلبي ص: 17-18، ومعجم البلدان للحموي 4/116.

وكانوا يقولون: "بنات الله" تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وهن يشفعن إليه، فلما بعث الله رسوله أنزل عليه: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} 1. وحمت لها قريش شعباً من وادي حراض، يقال له: سقام، يضاهون به حرم الكعبة، وكان لها منحر ينحرون فيه هداياها، يقال له: الغبغب، وكانت قريش تخصها بالإعظام، فلذلك قال زيد بن عمرو بن نفيل، وكان قد تأله في الجاهلية، وترك عبادة الأصنام: تركت اللات والعزى جميعاً ... كذلك يفعل الجلد الصبور فلا العزى أدين ولا ابنتيها ... ولا صنمي بني غنم أزور ولا هبلاً أزور وكان رباً ... لنا في الدهر إذ حلمي صغير2 وقد بلغ من حرص قريش على عبادتها، أنه لما مرض أبو أحيحة مرضه الذي مات فيه، دخل عليه أبو لهب يعوده، فوجده يبكي، فقال: ما

_ 1 سورة النجم الآيات: 19-23. 2 الأصنام لابن الكلبي ص: 18، وأخبار مكة للأزرقي 1/126، ومعجم البلدان للحموي 4/116، وبلوغ الأرب للألوسي 2/203-204.

يبكيك يا أبا أحيحة، أمن الموت تبكي، ولا بدّ منه؟ قال: لا والله، ولكن أخاف أن لا تعبد العزى بعدي، قال أبو لهب: والله ما عبدت حياتك لأجلك، ولا تترك عبادتها بعدك لموتك، فقال أبو أحيحة: الآن علمت أنّ لي خليفة1. وكان سدنة العزة بنو شيبان من بني سليم خلفاء بني هاشم، وكان آخر من سدنها دبيه بن حرمي السلمي، فلم تزل كذلك حتى بعث الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، فعاب الأصنام، ونهاهم عن عبادتها، ونزل القرآن فيها، فاشتد ذلك على قريش، فلما كان يوم الفتح، دعا النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، فقال: انطلق إلى شجرة ببطن نخلة فاعضدها، فانطلق فقتل دبية. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت العزى شيطانة تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد قال له: أئت بطن نخلة، فإنك تجد ثلاث سمرات، فاعضد الأولى، فأتاها فعضدها فلما جاء إليه عليه الصلاة والسلام، فقال: هل رأيت شيئاً؟ قال: لا، قال: فاعضد الثانية، فعضدها، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هل رأيت شيئاً؟ قال: لا، قال: فاعضد الثالثة، فأتاها فإذ هو بخناسة، (بجيشة) نافشة شعرها، واضعة ثيابها على عاتقها، تصرف

_ 1 الأصنام ص: 23، ومعجم البلدان للحموي 4/117.

بأنيابها. وخلفها دبيه السلمي، فلما نظر إلى خالد، قال: أغراء شدي شدةً لا تكذبي على خالد ألقي الخمار وشمري فإنك إن الا تقتلي اليوم خالداً تبوئي بذل عاجل وتنصري فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: يا عز كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك ثم ضربها ففلق رأسها، فإذا هي حمحمة، ثم عضد الشجرة، وقتل دبية، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: "تلك العزى، ولا عزى بعدها للعرب، أما إنها لن تعبد اليوم" 1. قال أبو المنذر: "ولم تكن قريش ومن بمكة يعظمون شيئاً من الأصنام أعظامهم العزى، ثم اللات، ثم مناة، فأما العزى فكانت تخصها دون غيرها بالزيارة والهدية، وكانت ثقيف تخص اللات، وكانت الأوس والخزرج تخص مناة، وكلهم كان معظماً لها، أي: (العزى) "2. وكانت لقريش في جوف الكعبة وحولها أصنام عديدة، يقول ابن الكلبي: "وكان أعظمها عندهم "هبل" وكان فيما بلغني من عقيق أحمر، على صورة الإنسان، مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش ... فجعلوا له يداً

_ 1 الأصنام لابن الكلبي ص: 22- 26، وأخبار مكة للأزرقي 1/127-128، ومعجم البلدان للحموي 4/117. 2 الأصنام لابن الكلبي ص: 27.

من ذهب. وكان أول من نصبه خزيمة بن مدركة ... وكان يقال له هبل خزيمة، وكان في جوف الكعبة قدامه سبعة أقداح، مكتوب في أولها: صريح، والآخر ملصق، فإذا شكوا في مولود أهدوا له هدية، ثم ضربوا بالقداح، فإن خرج صريح ألحقوه، وإن خرج ملصق دفعوه، وقدح على الميت، وقدح على النكاح ... فإذا اختصموا في أمر، أو أرادوا سفراً أو عملاً، أتوه فاستقسموا بالقداح عنده، فما خرج عملوا به وانتهوا إليه، وعنده ضرب عبد المطلب بالقداح على ابنه عبد الله"1. وفي معركة أحد علا صوت أبي سفيان "أعل هبل"2. ويذكر ابن هشام: أن الصنم هبل كان أول صنم جاء به عمرو بن لحي من مآب بأرض البلقاء3. بينما يذكر السهيلي بأن عمرو بن لحي استورد هذا الصنم من هبت، وهي من أرض الجزيرة بالعراق4.

_ 1 الأصنام لابن الكلبي ص: 28، وأخبار مكة للأزرقي 1/118-119، وبلوغ الأرب للألوسي 2/205. 2 الأصنام لابن الكلبي ص: 28، وسيرة ابن هشام 2/93. 3 سيرة ابن هشام 1/77، والبداية والنهاية لابن كثير 2/188. 4 الروض الأنف 1/105.

وكان لكفار قريش "إساف ونائلة"، على موضع زمزم، ينحرون ويذبحون عندهما تجاه الكعبة، وهما في الأصل كما يذكر ابن الكلبي وابن إسحاق: رجل وامرأة من جرهم، فجرا في الكعبة، أو أحدثا فيها فمسخا حجرين، ووضعا عند الكعبة ليتعظ الناس بهما، فلما طال مكثهما، وعبدت الأصنام، عبدا معها، وكان أحدهما بلصق الكعبة، والآخر في موضع زمزم، فنقلت قريش الذي كان بلصق الكعبة إلى الآخر1. وفي رواية أنهما أخرجا إلى الصفا والمروة، فنصبا عليهما ليكونا عبرة وموعظة، فلما كان عمرو بن لحي نقلهم إلى الكعبة، ونصبهما على زمزم، فطاف الناس بالكعبة وبهما، حتى عُبِدا من دون الله2. ويذكر أن الطائف إذا طاف بالبيت كان يبدأ بإساف، ويستلمه، فإذا فرغ من طوافه ختم بنائلة فاستلمها، فكان ذلك.. حتى كسرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأصنام يوم فتح مكة3. وأما صنم "ذي الخلصة" فكان صنم خثعم، وبجيلة، وباهلة، ودوس، وأزد السراة، ومن كان ببلادهم من العرب بتبالة، قال رجل منهم:

_ 1 الأصنام ص: 29، وأخبار مكة 1/119، وسيرة ابن هشام 1/82، والبداية والنهاية 2/191، وبلوغ الأرب 2/205-206. 2 الروض الأنف 1/105، وأخبار مكة 1/120، والبداية والنهاية 2/185، 191. 3 أخبار مكة 1/120، وبلوغ الأرب 2/206.

لو كنت يا ذا الخَلَص الموتورا مثلي وكان شيخك المقبورا لم تنه عن قتل العداة زورا وكان أبوه قتل، فأراد الطلب بثأره، فأتى ذا الخلصة فاستقسم عنده بالأزلام، فخرج السهم بنهيه عن ذلك، فقال هذه الأبيات، ومن الناس من ينحلها امْرأ القيس بن حجر الكندي1. وكان مروة بيضاء منقوشة عليها كهيئة التاج، وكان بتبالة بين مكة واليمن على مسيرة سبع ليال من مكة2. وكانت لهذا الصنم ثلاثة أقداح: الآمر، والناهي، والمتربّص، وكان الناس يأتون إليه للاستقسام3. وفي رواية لابن إسحاق أن عمرو بن لحي نصب ذا الخلصة بأسفل مكة، فكانوا يلبسونها القلائد، ويهدون إليها الشعير والحنطة، ويصبون عليها اللبن، ويذبحون لها، ويعلقون عليها بيض النعام4.

_ 1 انظر: صحيح البخاري مع الفتح 8/70 حديث: 4355-4357. وصحيح مسلم 4/1925، حديث: 2476. وانظر: الأصنام ص: 35، والروض الأنف 1/108، وسيرة ابن هشام 1/86، وبلوغ الأرب للألوسي 2/207. 2 الأصنام ص: 34، وبلوغ الأرب 2/207. 3 الأصنام ص: 47. 4 أخبار مكة 1/124.

وقد هدم بنيان ذي الخلصة في الإسلام، وأضرم فيه النار فاحترق، هدمه جرير بن عبد الله البجلي، بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وذو الخلصة اليوم عتبة باب مسجد تبالة1. وهناك صنم يقال له: "سعد" لمالك وملكان ابني كنانة، وكان صخرة طويلة بفلاة، على ساحل جدة2، وقيل إنه قرب اليمامة3. وقد أورد عنه الإخباريون القصة التالية: "أقبل رجل من بني ملكان بإبل له مؤبلة ليقفها عليه التماس بركته، فيما يزعم، فلما رأته الإبل، وكانت مرعية لا تركب، وكان يهراق عليه الدماء، نفرت منه، فذهبت في كل فج، فغضب ربها وأخذ حجراً فرماه به، وقال: "لا بارك الله فيك، نفرت عليّ إبلي" ثم خرج في طلبها حتى جمعها، فلما اجتمعت له قال: أتينا إلى سعد ليجمع شملنا ... فشتتنا سعد فلا نحن من سعد

_ 1 قصة تكسير ذي الخلصة في صحيح البخاري مع الفتح 8/70 كتاب المغازي، باب غزوة ذي الخلصة، الأحاديث: 4355، 4356، 4357. وانظر: دلائل النبوة للبيهقي 5/396-397، والأصنام لابن الكلبي ص: 36، وبلوغ الأرب للألوسي 2/207-208، وتاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي 5/106. 2 الأصنام ص: 36. 3 تاج العروس لمحب الدين الحسيني 2/378.

وهل سعد إلا صخرة بتنوفة1 ... من الأرض لا تدعو لغي ولا رشد2 وكان لدوس ثم لبني منهب بن دوس صنم يقال له: "ذو الكفين"، فلما أسلموا، بعث النبي صلى الله عليه وسلم الطفيل بن عمرو الدوسي، فحرقه وهو يقول: يا ذا الكفين لست من عبادكا ... ميلادنا أكبر من ميلادكا إني حشوت النار في فؤادكا3 وأما "ذو الشرى" فهو صنم معروف بين العرب الشماليين، ذكر ابن الكلبي أنه كان لبني الحارث بن يشكر بن مبشر من الأزد4. وأما "الأقيصر"، فكان صنم قضاعة ولخم وجذام وعاملة، وغطفان، وكان في مشارف الشام، وأنشد ابن الأعرابي:

_ 1 الأصنام ص: 37، وسيرة ابن هشام 1/81، والروض الأنف 1/104-105، والبداية والنهاية 2/191، ومعجم البلدان 3/221، وبلوغ الأرب 2/208. 2 التنوفة القفر من الأرض، وهي المفازة، وقيل: التي لا ماء بها ولا أنيس وإن كانت معشبة. لسان العرب 9/18. 3 الأصنام لابن الكلبي ص: 37، وأخبار مكة للأزرقي 1/131، والطبقات لابن سعد 2/157 معلقاً، وبلوغ الأرب للألوسي 2/209، والواقدي 3/992-923. 4 الأصنام ص: 38، وبلوغ الأرب 2/209، وتاريخ العرب قبل الإسلام للدكتور جواد علي 5/109.

وأنصاب الأقيصر حين أضحت ... تسيل على مناكبها الدماء1 وكان لمزينة صنم يقال له: "نهم"، وكان سادنه يسمى خزاعي بن عبد نهم، فلما سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم ثار على الصنم فكسره وأنشأ يقول: ذهبت إلى نهم لأذبح عنده ... عتيرة نسك كالذي كنت أفعل فقلت لنفسي حين راجعت عقلها ... أهذا إله أبكم ليس يعقل؟ أبيت فديني اليوم دين محمد ... إله السماء الماجد المتفضل2 وأما "سعير"، فهو صنم عنزه، وكان الناس يطوفون حوله، ويعترون العتائر له، فخرج جعفر بن خلاس الكلبي على ناقته فمرت به وقد عترت عتيرته عنده، فنفرت ناقته منه، فأنشأ يقول: نفرت قلوصى من عتائر صرعت ... حول السعير يزوره ابنا يقدم وجموع يذكر مهطعين جنابة ... ما إن يجير إليهم بتكلم3 وعميانس "عم أنس"، هو صنم لخولان في أرضهم، وكانوا يقسمون له من أنعامهم وحروثهم، قسما بينه وبين الله فيما يزعمون، فما

_ 1 الأصنام لابن الكلبي ص: 38، وبلوغ الأرب للألوسي 2/209. 2 الأصنام ص: 39-40، وبلوغ الأرب 2/210. 3 معجم البلدان للحموي 3/222، وبلوغ الأرب للألوسي 2/210.

دخل في حق عميانس "عم أنس" من حق الله الذي قسموه له، تركوه له، وما دخل في حق الله من حق الصنم، ردوه عليه، وفيهم أنزل الله تعالى: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} 1. وكان لطي صنم يقال له: "الفلس" وكان أنفا أحمر في وسط جبلهم الذي يقال له أجا، أسود كأنه تمثال إنسان، وكانوا يعبدونه، ويهدون إليه ويعترون عنده عتائرهم، ... وكانت سدنته بنو بولان، وبولان هو الذي بدأ بعبادته ... ، ولم يزل الفلس يعبد حتى ظهرت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فبعث إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهدمه2. وقد كانت عبادة الأصنام في جزيرة العرب منتشرة انتشاراً واسعاً قبل الإسلام.

_ 1 انظر الأصنام لابن الكلبي ص: 43-44، وسيرة ابن هشام 1/80، والبداية والنهاية لابن كثير 2/191، وبلوغ الأرب 2/211. والآية 137 من سورة الأنعام. 2 الأصنام ص: 59 وما بعدها، والروض الأنف 1/107، ومعجم البلدان للحموي 4/273، والواقدي 3/984، والطبقات لابن سعد 2/64، وسيرة ابن هشام 1/87.

يوضح ذلك قول ابن الكلبي: "كان لأهل كل دار من مكة صنم يعبدونه، فإذا أراد أحدهم السفر كان آخر مايصنع في منزله أن يتمسح به، وإذا قدم من سفره كان أول ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسح به أيضاً ... واستهترت العرب في عبادة الأصنام، فمنهم من اتخذ بيتاً، ومنهم من اتخذ صنماً، ومن لم يقدر عليه، ولا على بناء بيت، نصب حجراً أمام الحرم، أو أمام غيره، مما استحسن، ثم طاف به كطوافه بالبيت ... فكان الرجل إذا سافر فنزل منزلاً، أخذ أربعة أحجار، فنظر إلى أحسنها فاتخذه رباً، وجعل ثلاث اثافي لقدره، وإذا ارتحل تركه، فإذا نزل منزلاً آخر، فعل مثل ذلك"1 ا.?. ويذكر الأزرقي أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم حينما دخل يوم الفتح، وجد حول الكعبة ثلاثمائة وستين صنماً، فجعل يطعنها ويقول: {جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} 2، {جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} 3، كما رأى فيها صور الأنبياء عليهم السلام، فأمر

_ 1 الأصنام لابن الكلبي ص: 33. وانظر: سيرة ابن هشام 1/83، والبداية والنهاية لابن كثير 2/191-192. 2 سورة الإسراء الآية: 81. 3 سورة سبأ الآية: 49

بها فطمست1 ا.? بعض معبودات العرب من غير الأصنام: قد كانت الحياة العقدية قبل البعثة المحمدية اخلاطاً من الضلالات، وأمشاجاً من الأوهام والخرافات، فإلى جانب عبادة الأصنام والأوثان، كان للعرب نحل وديانات أخرى. فمنهم من عبد الشمس، ومنهم قوم بلقيس ملكة سبأ باليمن، صاحبة القصة مع سليمان عليه السلام، وقد ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم، في قوله: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا

_ 1 أخبار مكة للأزرقي 1/121، 1/165. وانظر: الكامل لابن الأثير 2/171 ذكر فتح مكة، وسيرة ابن هشام 2/417.

تُعْلِنُونَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} 1. ويشير القرآن الكريم إلى عبادة المشركين الجاهليين للأجرام السماوية، ولا سيما الشمس والقمر، فقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} 2. قال الألوسي: "وطائفة أخرى اتخذت القمر صنماً، وزعموا أنه يستحق التعظيم والعبادة، وإليه تدبير هذا العالم السفلي، ومن شريعة عبادتهم أنهم اتخذوا له صنماً على شكل عجل، وبيد الصنم جوهرة يعبدونه ويسجدون له، ويصومون له أياماً معلومة من كل شهر، ثم يأتون إليه بالطعام والشراب والفرح والسرور، فإذا فرغوا من الأكل، أخذوا في الرقص والغناء، وأصوات المعازف بين يديه، ومنهم من يعبد أصناماً اتخذوها على صورة الكواكب وروحانيتها بزعمهم، وبنوا لها هياكل ومتعبدات لكل كوكب منها هيكل يخصه، وصنم يخصه، وعبادة تخصه"3.

_ 1 سورة النمل الآيات: 20-26. 2 سورة فصلت الآية: 37. 3 بلوغ الأرب للألوسي 2/216.

ومنهم الثنوية الذين اتخذوا إلهين اثنين، يقول الله تعالى: {وَقَالَ اللهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ} 1. قال ابن الجوزي:" وهم قوم قالوا صانع العالم اثنان: ففاعل الخير نور، وفاعل الشر ظلمة، وهما قديمان لم يزالا، ولن يزالا قويين حساسين، سميعين بصيرين، وهما مختلفان في النفس والصورة، متضادان في الفعل والتدبير، فجوهر النور فاضل حسن نير صاف نقي، طيب الريح، حسن المنظر، ونفسه نفس خيرة كريمة حكيمة نفاعة، منها الخير واللذة، والسرور والصلاح، وليس فيها شيء من الضرر، ولا من الشر، وجوهر الظلمة على ضدّ ذلك من الكدر والنقص ونتن الريح، وقبح المنظر، ونفسه نفس شريرة، بخيلة سفيهة منتنة ضرارة منها الشر والفساد"2 ا.? وصنف من العرب دهريون، وهم قوم أنكروا الخالق والبعث والإعادة، وقالوا الطبع المحيي، والدهر المفني، وهذا الصنف هم المشار إليه في القرآن في قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا

_ 1 سورة النحل الآية: 51. 2 تلبيس إبليس ص: 43-44، وانظر: إغاثة اللهفان لابن القيم 2/244.

يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} 1. وصنف منهم أقروا بالخالق، وابتداء الخلق والإبداع، وأنكروا البعث والإعادة2، وهم الذين أخبر عنهم القرآن في قول الله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} 3. ومن العرب من يصبو إلى الصابئة، وهم من يعتقد في الأنواء اعتقاد المنجمين في السيارات، حتى لا يتحرك ولا يسكن، ولا يسافر، ولا يقيم إلا بنوء من الأنواء، ويقول مطرنا بنوء كذا ... 4. وصنف من العرب زنادقة، وهم طائفة من قريش، وقد أخذوها من الحيرة5. والزنديق بالكسر: الثنوية أو القائل بالنور والظلمة، أو من لا يؤمن بالآخرة وبالربوبية، أو من يبطن الكفر ويظهر الإيمان، أو هو معرب [زن دين] أي دين المرأة، والاسم الزندقة6.

_ 1 سورة الجاثية الآية: 24. 2 انظر: الملل والنحل للشهرستاني 2/235. 3 سورة يس الآيتان: 78-79. 4 بلوغ الأرب للألوسي 2/223. 5 بلوغ الأرب للألوسي 2/228. 6 القاموس المحيط للفيروزابادي 3/243.

يقول الدكتور جواد علي: "ولا يستبعد أن يكون المراد بالزندقة التي أشار إليها الأخباريون المجوسية، فقد كان في الحيرة جماعة من الفرس هم مجوس، وقد كان لقريش وتجار مكة اتصال دائم بالحيرة لهم معها روابط وتجارات"1. وبعض العرب جعل لله البنات، تعالى الله عن قولهم، قال الله عنهم: {وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ} 2. ومن العرب من عبد الجن، وقد قص الله تعالى ذلك عنهم في قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} 3. وقال تعالى حكاية عن قول الملائكة: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} 4. وقال الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ

_ 1 تاريخ العرب قبل الإسلام جواد علي 5/364 بتصرف. 2 سورة النحل الآية: 57. 3 سورة الأنعام الآية: 100. 4 سورة سبأ الآية: 41.

فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} 1. ومن العرب من عبد الملائكة، قال تعالى: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} 2. وقال الله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} 3. وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} 4. وأشتات من العرب عبدوا النار، وكأن ذلك سرى إليهم من الفرس

_ 1 سورة الجن الآية: 6. 2 سورة آل عمران الآية: 80. 3 سورة الفرقان الآيتان: 17-18. 4 سورة سبأ الآية: 41.

والمجوس1، ومن هؤلاء قوم من تميم، ذكروا منهم زرارة بن عدي وابنه حاجب، ومنهم الأقرع بن حابس والأسود جد وكيع بن حسان2. الأديان السماوية في الجزيرة العربية قبيل البعثة: كما عرفت الديانات السماوية طريقها إلى أرض الجزيرة العربية قبيل الإسلام. وقد اختلف المؤرخون في سبب تسرب اليهود إلى الجزيرة العربية، وزمن وصولهم إليها بعد اتفاقهم على أن العنصر اليهودي عنصر دخيل على الجزيرة العربية، نازح إليها من بعيد، لا تربطه بسكان هذه الجزيرة أية رابطة من دين أو لغة أو دم3. وذكر المؤرخون عدة أسباب لتسرب اليهود إلى هذه الأرض، من أشهرها: 1- أن ذلك كان بعد أن قام بختنصر بالإستيلاء على القدس، حيث تفرقت بنو إسرائيل، ونزل بعضهم الحجاز بيثرب، ووادي القرى وغيرها، وهم بنو النضير، وبنو قريظة، وبنو هدل4.

_ 1 بلوغ الأرب للألوسي 2/233. 2 بلوغ الأرب 2/235، وتاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي 5/364. 3 انظر: غزوة بني قريظة لمحمد أحمد باشميل ص: 35-36. 4 تاريخ الطبري 1/383، وفاء الوفاء للمسهودي 1/160، والبداية والنهاية لابن كثير 2/39.

2- أن ذلك كان إثر الحرب التي وقعت بين اليهود والرومان في سنة 70 م، وكانت الغلبة فيها للرومان على اليهود، حيث قتلوا منهم مقتلة عظيمة، وضربوا فلسطين، ودمروا هيكل بيت المقدس، عند ذلك تفرقت اليهود، وقصد كثير منهم بلاد العرب، فخرج بنو النضير، وبنو قريظة، وبنو هدل، هاربين إلى الحجاز، وسكنوا في يثرب1. والرأي الأخير هو ما أميل إليه، بالإضافة إلى أن من أهم ما دعا اليهود إلى الإقامة في هذه المنطقة، أنَّ علماءهم يجدون صفة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة، وأنه يهاجر إلى بلد فيه نخل، بين حرتين، ولذلك خرجوا من الشام يعبرون كل قرية من القرى العربية بين الشام واليمن، يجدون نعتها نعت يثرب، فينزل بها طائفة منهم، ويرجون ان يلقوا محمداً فيتبعونه، وكان آباؤهم يحثون أبناءهم على اتباعه إذا جاء، فأدركه من أدركه من أبنائهم، فكفروا به، وهم يعرفونه، حسداً للعرب2. هذا وقد اعتنق ملك اليمن الذي اسمه ذو نواس اليهودية، واعتنقها معه كثير من رعيته، وقد أخذ ذو نواس اليهودية من اليهود الذين هاجروا

_ 1 معجم البلدان للحموي 5/84. 2 انظر: وفاء الوفاء للمسهودي 1/160-161، ومعجم البلدان للحموي 5/84.

إلى اليمن1. وكانت اليهودية في حمير، بعد أن كان الغالب من المجوس وعبدة الشمس، ونحو ذلك ... ، وكانت اليهودية في كنانة وكندة وبني الحرث ابن كعب، ولعلها سرت إليهم من مجاورة اليهود في يثرب وخيبر، ونحو ذلك2. وأما النصرانية: فقد دخلت بلاد العرب بسبب جهود أباطرة الدولة الرومانية الشرقية، في القرن الرابع الميلادي، ولما كانت العلاقات وثيقة بين العرب والبيزنطيين، فقد تأثر العرب بالمسيحية إلى حد ما ... فانتشرت في الجنوب عن طريق الحبشة، وفي الشمال عن طريق سورية، وشبه جزيرة سيناء الآهلة بالأديرة والصوامع ... ، وقد انقسمت النصرانية في ذلك الوقت إلى عدة فرق، تسرب منها إلى جزيرة العرب فرقتان: فكانت النسطورية منتشرة في الحيرة. واليعقوبية في غسان وسائر قبائل الشام. وكان أهم موطن النصرانية في بلاد العرب نجران3.

_ 1 انظر: موسوعة التاريخ الإسلامي لأحمد شلبي 1/174. 2 بلوغ الأرب للألوسي 2/240. 3 انظر: تاريخ الإسلام السياسي لحسن إبراهيم ص: 73، وموسوعة التاريخ الإسلامي لأحمد شلبي 1/175.

ومن القبائل التي يحشرها أهل الأخبار في جملة العرب المتنصرة: غسان، وتغلب، وتنوخ، ولخم، وجزام، وسليم، وعاملة1. وقد وفد أهل نجران على الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيهم نزلت آية المباهلة: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} 2. وثبت في الصحيحين عن حذيفة رضي الله عنه قال: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه، قال: فقال أحدهما لصاحبه لا تفعل، فوالله لئن كان نبياً فلاعنا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، قالا: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلاً أميناً، ولا تبعث معنا إلا أميناً، فقال: "لأبعثن معكم رجلاً أميناً حق أمين، فاستشرف له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح، فلما قام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

_ 1 بلوغ الأرب للألوسي 2/241، وتاريخ العرب قبل الإسلام جواد علي 6/216. 2 سورة آل عمران الآيات: 59-61.

هذا أمين هذه الأمة" 1. على أن اليهودية والنصرانية لم تكونا عظيمتي الخطر، واسعتي الانتشار في الجزيرة العربية، فأما اليهودية فكانت دين الشعب المختار -على زعمهم-، وكان دخول العربي فيها لا يحقق المساواة مع اليهود من أبناء إسرائيل، ولذلك لم يقبل العرب أن يدخلوا ديناً يثبتهم في طبقة أسفل من طبقة دعاة ذلك الدين. وأما النصرانية، فهي مملوءة بالتعقيدات التي لم يستسغها ذهن العربي، ومملوءة بالخلافات الحادة التي سببت الغموض للدين، وصرفت عنه من كان يمكن أن يتبعه من العرب2. الموحدون من العرب: وذكر المفسرون وأهل الأخبار أفراداً من العرب رفضوا عبادة الأصنام والأوثان، واعتقدوا بوجود الله تعالى وتوحيده، وقد عرف هؤلاء الأفراد بالحنفاء، ووصفوا بأنهم كانوا على دين إبراهيم عليه السلام، ولم يكونوا من اليهود ولا من النصارى.

_ 1 صحيح البخاري 5/120 كتاب المغازي، باب قصة أهل نجران. ومسلم 4/1882 كتاب فضائل الصحابة، فضل أبي عبيدة بن الجراح. وأحمد 1/414. 2 انظر: موسوعة التاريخ الإسلامي لأحمد شلبي 1/175.

ومن الرجال الذين أشتهر بأنهم كانوا من هؤلاء الجماعة: قس بن ساعدة الإيادي. زيد بن عمرو بن نفيل. أمية بن أبي الصلت. أرباب بن رئاب. سويد بن عامر المصطلقي. أسعد أبو كريب الحميري. وكيع بن سلمة بن زهير الإيادي. عمير بن جندب الجهني. عدي بن زيد العابدي. أبو قيس صرمة بن أبي أنيس. سيف بن ذي يزن. ورقة بن نوفل القرشي. عامر بن الظرب العدواني. وغيرهم1. قال ابن هشام: "واجتمعت قريش يوماً في عيد لهم عند صنم من أصنامهم، كانوا يعظمونه وينحرون له، ويعكفون عنده، ويدورون به،

_ 1 بلوغ الأرب للألوسي 2/244 وما بعدها، وتاريخ العرب قبل الإسلام للدكتور جواد علي 5/370.

فخلص منهم أربعة ... وهم: ورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث، وزيد بن عمرو بن نفيل، فقال بعضهم لبعض: تعلمون والله ما قومكم على شيء، لقد أخطأوا دين أبيهم إبراهيم، ما حجر نطيف1 به، لا يسمع ولا يبصر، ولا يضر ولا ينفع، يا قوم التمسوا لأنفسكم ديناً، فإنكم والله ما أنتم على شيء، فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم"2. ثم قال: " فأما ورقة بن نوفل فاستحكم في النصرانية، واتبع الكتب من أهلها، حتى علم علماً من أهل الكتاب. وأما عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه من الالتباس حتى أسلم، ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة، فلما قدمها تنصر وفارق الإسلام حتى هلك هنالك نصرانياً. وأما عثمان بن الحويرث فقدم على قيصر ملك الروم، فتنصر وحسنت منزلته عنده، ومنحه لقب "البطريق" وأراد تنصيبه ملكاً على مكة، ولكن قومه أبوا عليه ذلك، فلم يتم له مراده، ومات بالشام

_ 1 الطواف في اللغة: الدوران حول الشيء. انظر: لسان العرب لابن منظور 9/225، والقاموس المحيط للفيروزابادي 3/170. ومعنى ذلك دورانهم حول الأصنام. 2 سيرة ابن هشام 1/222، والروض الأنف للسهيلي 1/253.

مسموماً، سمّهُ عمرو بن حفنه الغساني. وأما زيد بن عمرو بن نفيل، فوقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية، وفارق دين قومه، فاعتزل الأوثان والميتة والدم والذبائح التي تذبح على الأوثان، ونهى عن قتل الموؤدة، وقال: أعبد رب إبراهيم، وبادى قومه بعيب ما هم عليه ... وكان يسند ظهره إلى الكعبة ويقول: يا معشر قريش، والذي نفس زيد بن عمرو بيده، ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري، ثم يقول: اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك عبدتك، ولكني لا أعلمه، ثم يسجد على راحته"1. ومن شعر زيد بن عمرو في فراق دين قومه2: أرباً واحداً أما ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور عزلت اللات والعزى جميعاً ... كذلك يفعل الجلد الصبور فلا العزى أدين ولا ابنتيها ... ولا صنمي ابن عمرو أزور ولا هبلاً أدين وكان رباً ... لنا في الدهر إذ حلمي يسير

_ 1 سيرة ابن هشام 1/223 وما بعدها، والروض الأنف للسهيلي 1/255-256. 2 الأصنام لابن الكلبي ص: 22، وسيرة ابن هشام 1/226، والروض الأنف للسهيلي 1/257، وبلوغ الأرب للألوسي 2/249.

إلى أن يقول: ولكن أعبد الرحمن ربي ليغفر ذنبي الرب الغفور وذكر ابن هشام أن الخطاب بن نفيل كان يعاتب زيد بن عمرو على فراق دين قومه ... ووكل به شباباً من شباب قريش وسفهائها، فقال لهم: لا تتركوه يدخل مكة ... ثم خرج يطلب دين إبراهيم عليه السلام، ويسأل الرهبان والأحبار، حتى بلغ الموصل والجزيرة كلها، ثم أقبل فجال الشام كله، ثم انتهى إلى راهب بميفعة (الأرض المرتفعة) في أرض البلقاء، وكان عالماً بالنصرانية، فسأله زيد عن الحنيفية دين إبراهيم، فقال: إنك لتطلب ديناً ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم، ولكن قد أظل زمان نبي يخرج من بلادك التي خرجت منها، يبعث بدين إبراهيم الحنيفية، فالحق بها، فإنه مبعوث الآن، هذا زمانه ... 1 فخرج سريعاً حين قال له ذلك الراهب ما قال، يريد مكة، حتى إذا توسط بلاد لخم، عدوا عليه فقتلوه"ا.? وقد روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله

_ 1 وكان الرهبان يعلمون ذلك عن طريق البشارات الموجودة في التوراة والإنجيل، وقد تحدثت عن هذا الموضوع في رسالتي الماجستير "منهج القرآن الكريم في دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام".

عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح1، قبل أن ينزل على النبي عليه السلام الوحي، فقدّمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرة ... فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلاّ ما ذكر اسم الله عليه، وأن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم، ويقول: الشاة خلقها الله، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله؟ إنكاراً لذلك وإعظاماً له2. ومن هنا نستطيع القول بأن من العرب من رفضوا عقائد قومهم الذين يعبدون من دون الله ما لا يضر ولا ينفع، وأن بعضهم قد طاف في البلاد يبحث عن العقيدة الصحيحة، والدين القيم. وهؤلاء الجماعة لم يكونوا من اليهود، ولا من النصارى، وإنما عبدوا الله تعالى على ما فهموا من دين إبراهيم عليه السلام، وقد قال الله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ

_ 1 بلدح: مكان في طريق التنعيم، ويقال هو واد. انظر: فتح الباري لابن حجر 7/143. 2 صحيح البخاري بشرح الفتح 7/124 كتاب مناقب الأنصار، باب حديث زيد بن عمرو بن نفيل.

مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1. ب- الحالة الإجتماعية: أما الحالة الإجتماعية، فقد كان الفرد جزءاً من قبيلته، يعيش لها ويدور في فلكها في كل أمر: خير أو شر، ويعبر عن ذلك قول دريد بن الصمة: وهل أنا إلاّ من غزية أن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد2 ومن قولهم: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً". ويقول شاعرهم: قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم ... طاروا إليه زرافات ووجدانا لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا3 وكثيراً ما يتخذون من السلب والغارة، وسيلة من وسائل العيش، فيسلبون الأموال والنساء والأولاد، ثم تتربص القبيلة المغار عليها، فتفعل ما فعلت القبيلة المعتدية، بل إنَّ القبيلة تقاتل نفسها إذا لم تجد عدواً من

_ 1 سورة آل عمران الآية: 67. 2 ديوان الحماسة لأبي تمام 1/337. 3 المرجع السابق 1/5.

غيرها، يمثل ذلك قول القطامي: وأحياناً على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلاّ أخانا1 وكان من عادات العرب في الجاهلية، أن الرجل يتزوج بزوجة أبيه إذا مات عنها، ويرثها إرث المال. فقد ذكر العلماء أن سبب نزول قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً} 2. أنه لما توفي أبو قيس بن الأسلت، خطب ابنه امرأته فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقال: "ارجعي إلى بيتك"، فنزلت الآية3. وعن صلة الرجل بالمرأة في الجاهلية، تروي لنا السيدة عائشة -رضي الله عنها-: " أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: منها

_ 1 فجر الإسلام لمحمد أمين ص: 9. 2 سورة النساء الآية: 22. 3 وقد تزوج أبو قيس هذا المذكور زوجة أبيه أم عبيد الله، وكانت تحت أبيه الأسلت، وتزوج الأسود بن خلف زوجة أبيه ابنة أبي طلحة، وتزوج عمرو بن أمية زوجة أبيه فولدت له أولاداً، وهذا كان كثيراً شائعاً في العرب. انظر: تفسير الطبري 4/318، وأسباب النزول للسيوطي ص: 66، وأضواء البيان للشنقيطي 1/277.

نكاح الناس اليوم ... والنكاح الآخر، كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد ... ونكاح آخر، يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت، ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها، أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع، حتى يجتمعوا عندها تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت فهذا ابنك يا فلان: تسمي من أحبت باسمه، فيلحق به ولدها، ولا يستطيع أن يمتنع به الرجل ... والنكاح الرابع: يجتمع الناس الكثير، فيدخلون على المرأة لا تمنع من جاءها وهن البغايا، كن ينصبن على أبوابهن رايات، تكون علماً، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا القافة1، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاطه2 ودعي ابنه لا يمتنع

_ 1 القائف: هو الذي يتتبع الآثار ويعرفها، ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه، والجمع القافة. انظر: لسان العرب 9/293، والنهاية لابن الأثير 4/121. 2 إلتاطه أي: التصق به. انظر: لسان العرب 7/395، والنهاية 4/277.

من ذلك"1. والمجتمع العربي الجاهلي مجتمع طبقي، تفصل بين طبقاته حدودو واضحة، فكان فيه: 1- طبقة الأحرار: وهم أبناء القبيلة الصرحاء، الذين يجمع بينهم الدم الواحد، والنسب المشترك. 2- طبقة الموالي: وهم من انضموا إلى القبيلة من العرب الأحرار، من غير أبنائها عن طريق الجواز، أو الحلف، أو العتقاء من الأرقاء فيها. 3- طبقة الأرقاء: وهم المجلوبون عن طريق الشراء أو أسرى الحرب، ولكل من هذه الطبقات واجب لا يتعداه، فرضه عليه نظام المجتمع الجاهلي2. ج- الحالة السياسية: وإذا ذهبنا إلى الحالة السياسية، فإننا نجد أنَّ العرب كانوا جماعات غير منظمة، تعيش عيشة قبيلة، ويحكمها عرف القبيلة وسلطانها، وليس هناك حاكم له نواب ووزراء، وقادة وقضاة،

_ 1 صحيح البخاري بشرح الفتح 9/182-183 كتاب النكاح، باب من قال لا نكاح إلاّ بولي. 2 انظر: مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول ص: 31.

وجيش منظم كما هو معروف، ومع ذلك فهم قوم أحرار لا يملكهم أحد، يثأر المعتدي عليه لنفسه، وعلى قبيلته أن تقوم معه، وتشد أزره. يقول ابن حزم: " وكانت العرب بلا خلاف، قوماً لقاحاً لا يملكهم أحد، كربيعة ومضر وأياد وقضاعة، أو ملوكاً في بلادهم يتوارثون الملك كابراً عن كابر ... "1. ويوضح المستشرق توماس.و. أرنولد المنهج السياسي عند العرب، فيقول:" لم يكن هناك إطلاقاً أي منهج منظم للإدارة أو القضاء، كالذي نعرفه عن فكرة الحكومة في العصر الحديث، وكانت كل قبيلة أو عشيرة تؤلف جماعة منفصلة مستقلة تمام الاستقلال، وينسحب هذا الاستقلال أيضاً على أفراد القبيلة فكل فرد منهم لا يعتبر زعامة شيخ القبيلة أو سلطته إلا رمزاً لفكرة عامة، شاءت الظروف أن يأخذ هو منها بنصيب، بل كان له مطلق الحرية في أن يرفض ما اجتمع عليه رأي الأغلبية من أبناء قبيلته، وأبعد من هذا أنه لم يكن هناك نظام لنقل سلطة الرئيس، إذ كان يختار لها –غالباً- أكبر أفراد القبيلة سناً، وأكثرهم مالاً، وأعظمهم

_ 1 الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 2/84.

نفوذاً، وأجدرهم بكسب الاحترام الشخصي، وإذا ما تضخمت قبيلته تشعبت فروعاً كثيرة، يتمتع كل منها بحياة منفصلة ووجود مستقل، ولا تتحد إلاّ في ظروف غير عادية اشتراكاً في الدفاع عن القبيلة، أو قياماً بغارات بالغة الخطورة"1 ا.?. ولكن الحرية التي يتحدث عنها أرنولد ليست مطلقة، فإن العربي كان حراً في أن يرفض ما اجتمع عليه أبناء قبيلته، أو أن يأخذ به، لكن هذا الرفض، يعرض صاحبه إلى الطرد والإبعاد، وحينئذ لا يجد له طريقاً سوى الالتجاء إلى قبيلة أخرى، ويصبح مولى من مواليها، أو يعمد إلى الصحراء ليتخذ من السلب والنهب وسيلة للحياة. وكانت العرب قبل الإسلام طوائف متنازعة، وقبائل متباغضة، ونحلاً متحاسدة: "لذلك كانت الجزيرة دائمة الحروب والمنازعات، قلما يخلو منها زمان أو مكان، وإذا رجعت إلى أسبابها المباشرة، وجدتها في بعض الأحيان تافهة، كما كان في حروب الفجار ... وفي البعض الآخر تراها أموراً يمكن حلها على أسهل الوجوه، كالحروب بين عبس وذبيان، وبين بكر وتغلب، ولكن الأسباب الحقيقية سابقة على ذلك، وهي النفور

_ 1 الدعوة إلى الإسلام لتوماس و. أرنولد ص: 51-52.

المتأصل في القلوب"1. إنها أمة فرقتها الحروب، وأنهكت قواها الأحقاد والغارات، فلا غرو أن تسقط ممالكها الشهيرة تحت أيدي المحتل الغاصب "فاليمن فقدت استقلالها منذ نهاية الربع الأول من القرن السادس، وسقطت تحت حكم الأحباش، ثم حكم الفرس2. والحيرة فقدت استقلالها بعد أن غيرت فارس سياستها نحوها، بعد أن استنفذت كل طاقتها الحيوية، وجعلت منها إمارة فارسية يحكمها أمير فارسي3. ومملكة الغساسنة، فقدت قوتها كذلك بعد أن غير الروم سياستهم نحوها، فاضطربت أحوالها، وذهبت قوتها، وأصبحت في شبه فوضى. ومن هنا يظهر لنا إنه لم يبق متمتعاً بالاستقلال سوى مكة، وذلك لبعدها عن مجال التصارع الدولي في ذلك الوقت، وتمتع أهلها بنوع التنظيم الاجتماعي. وقد أشار القرآن الكريم إلى الأمن الذي حظيت به مكة، فقال

_ 1 انظر: محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية للشيخ الخضري ص: 24. 2 انظر: الكامل لابن الأثير 1/253، 254، 265. 3 انظر: تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي 4/104.

تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} 1. وقال تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} 2.

_ 1 سورة العنكبوت الآية: 67. 2 سورة قريش الآيتان: 3-4.

ثانياً: حالة العقائد خارج الجزيزة العربية: 1-الديانة اليهودية: وإذا انتقلنا إلى الديانة اليهودية، وإلى شعب بني إسرائيل الذين حباهم الله تعالى بكثير من النعم، وبعث فيهم كثيراً من الأنبياء والرسل لدعوتهم إلى الخير، وتحذيرهم من الشر والفساد. وكانت التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام، فيها الهدى والنور، والحث على عبادة الله تعالى وحده، واتباع أوامره واجتناب نواهيه، وفيها كافة التكاليف التي يحتاجها شعب بني إسرائيل في ذلك الوقت، لذلك فإنًّ الله تعالى قد أرسل فيهم بعد موسى عليه السلام عدة رسل وأنبياء؛ لإحياء شريعة التوراة، والحكم بمقتضاها، كما قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء} 1. وجعلهم الله تعالى يعيشون كالملوك، أعزاء، أقوياء، بعد أن كانوا أذلاء مهانين من قبل فرعون وقومه، وأتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين في زمانهم.

_ 1 سورة المائدة الآية: 44.

قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ} 1. وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 2. وعلى الرغم من ذلك كله، نجد أنّ القوم جحدوا نعم الله، وتعالوا في كبرياء، ولم يلتزموا بما أخذوه على أنفسهم من مواثيق، وامتلأ تاريخهم بشتى أنواع المخالفات، وحتى التوحيد الذي هو أصل ديانتهم، لم يسلم من التأثر بما حدث من التحريف والتبديل والتمرّد على تعاليم الدين. ولعل من أهم ما أصاب التوحيد من التحريف، هو ما أشار الله إليه في القرآن الكريم من قول اليهود: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ} 3. وما وصفوا به الخالق جل وعلا من صفات النقص والسوء،

_ 1 سورة المائدة الآية: 20. 2 سورة الجاثية الآيتان: 16-17. 3 سورة التوبة الآية: 30.

والتشبيه، كقولهم: {إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} 1. وقولهم: {يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء} 2. وقولهم: {نَحْنُ أَبْنَاء اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} 3. وعن التنقص بالخالق وتشبيهه بالمخلوقين، جاء في سفر التكوين4: " أن الله تعالى بعد أن خلق السموات والأرض في ستة أيام، استراح في اليوم السابع، وكان يوم السبت، وأن الله قد بارك هذا اليوم من أجل ذلك، فحرم فيه العمل".5. وفي هذا يقول الشهرستاني: "وقد اجتمعت اليهود عن آخرهم أن الله تعالى لما فرغ من خلق السموات والأرض، استوى على عرشه مستلقياً على قفاه، واضعاً إحدى رجليه على الأخرى"6.

_ 1 سورة آل عمران الآية: 181. 2 سورة المائدة الآية: 64. 3 سورة المائدة الآية: 18. 4 سفر التكوين الإصحاح الثاني فقرة: 1-2. 5 انظر الأسفار المقدسة لعلي وافي ص: 25-26. 6 الملل والنحل للشهرستاني 1/219.

ويرد القرآن الكريم على هذا الزعم الباطل في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} 1. ومن ذلك ما يرويه سفر التكوين من قصة هلاك قوم لوط، وتدمير قريتي: "سدوم" و"عمورة"، إذ يذكر أن ثلاثة رجال وهم: الله وملكان معه، قدموا على إبراهيم وهو جالس أمام خيمته، وأن إبراهيم قد عرف الله من بينهم، ورجاه أن يستريحوا عنده قليلاً من وعثاء سفرهم، وقد إليهم ماء لشربهم وغسل أرجلهم، وأخذ عجلاً حينذاً لطعامهم، فانتحى ثلاثتهم تحت ظل شجرة، وأخذوا يأكلون مما قدمه إليهم، وإبراهيم جالس على مقربة منهم2، إلى الخ القصة. وقد ذكر القرآن الكريم هذه القصة على حقيقتها، وبين أن الذين وفدوا على إبراهيم عليه السلام، إنّما كانوا ملائكة في صورة آدميين، فظنهم بشراً، فقدم لهم طعاماً، فلم تصل أيديهم إليه، لأن الملائكة لا يأكلون، وفي هذا يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى

_ 1 سورة ق الآية: 38. ومعنى {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} ، أي: لم يحصل لنا من تعب، حتى نحتاج إلى الراحة. 2 انظر: سفر التكوين الإصحاح: 18 من: 1-8.

قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوط ... ٍ} 1. وعن ملازمة بني إسرائيل لعبادة العجل والكبش والحمل، يقول ديورانت: "لم يتخلوا قط عن عبادة العجل والكبش والحمل، ولم يستطع موسى أن يمنع قطيعه من عبادة العجل الذهبي، لأن عبادة العجول كانت لا تزال حية في ذاكرتهم منذ كانوا في مصر، وظلوا زمناً طويلاً يتخذون هذا الحيوان القوي، آكل العشب، رمزاً لآلهتهم"2. وبعد موسى عليه السلام، وفي عهد القضاء، تأثر بنو إسرائيل بمعبودات الكنعانيين تأثراً كبيراً ويوضح "كنْتْ"، أن إله الكنعانيين "بعل أصبح معبوداً لبني إسرائيل في كثير من قراهم، وفي أحوال كثيرة أصبح للطائفتين معبد واحد، به تمثال يهوه، وتمثال بعل، بل أصبح يهوه ينادى بعل، وقد ظل ذلك إلى عهد يوشع3. يقول أحمد شلبي:" ولم يستطع بنو إسرائيل في أية فترة من فترات تاريخهم أن يستقروا على عبادة الواحد، الذي دعا له الأنبياء، وكان

_ 1 سورة هود الآيتان: 69-70. 2 قصة الحضارة 2/338. 3 انظر: اليهودية لأحمد شلبي ص: 182.

اتجاههم إلى التجسيم والتعدد والنفعية واضحاً في جميع مراحل تاريخهم، وعلى الرغم من ارتباط وجودهم بإبراهيم إلاّ أن البدائية الدينية كانت طابعهم، وتعد كثرة أنبيائهم دليلاً على تجدد الشرك فيهم، وبالتالي تجدد الحاجة إلى أنبياء يجددون الدعوة إلى التوحيد، وكانت هذه الدعوات قليلة الجدوى على أي حال، فظهر للتاريخ بدائيون يعبدون الأرواح، والأحجار، وأحياناً مقلدون يعبدون معبودات الأمم المجاورة، التي كانت لها حضارة وفكر قلدهما اليهود"1. ولعل من أسباب تحريفهم لكتبهم، هو أنه لما أقبلت عليهم الدنيا، أحبوها، واستولى حب المال على مشاعرهم وقلوبهم، كما قال تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} 2. فمن أجل حرصهم على المادة، باعوا دينهم في سبيلها، وحرفوا ما أنزل الله عليهم من الكتب، طمعاً في الكسب المادي الرخيص، والعرض الدنيوي الزائل، قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا

_ 1 أديان الهند الكبرى أحمد شلبي ص: 213. 2 سورة البقرة الآية: 96.

مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} 1. وقال تعالى: {وَإِذَ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} 2. وقال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 3. لقد اعتدى بنو إسرائيل على الأنبياء، ومصادر الرحمة، فأطفأوا مصابيح الهداية، وأصموا آذانهم عن النداء الرباني، فعاشوا في الظلام الحالك، واستحقوا غضب الله ومقته بسبب ذنوبهم، ونقضهم لمواثيقهم. قال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ

_ 1 سورة البقرة الآية: 79. 2 سورة آل عمران الآية: 187. 3 سورة آل عمران الآية: 78

بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} 1. وقال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ} 2. ونظر اليهود إلى الإنسانية في ازدراء واحتقار، وزعموا بأنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم شعب الله المختار، وأن لهم الفضل والسيادة، وغيرهم عبيد وحقراء، ولم يبالوا بما يصنعون بالبشرية، ولم يجدوا غضاضة في أن ينزلوا الظلم والاستغلال بأي إنسان من غير اليهود. قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 3. وتاريخ اليهود من أوله إلى آخره مليء بالجرائم والمخالفات، ولم يشرق في أفقه سوى فترة قصيرة من الزمن، صبروا فيها فاستحقوا ثناء الله

_ 1 سورة آل عمران الآية: 112. 2 سورة النساء الآيات: 155-157. 3 سورة آل عمران الآية: 75.

عليهم، وتفضيله لهم على عالمي زمانهم، أما بعد ذلك، فقد عثوا في الأرض فساداً، وبدأ ذلك في وقت مبكر، إذ لم يكن للمعجزات التي أجراها الله على يد موسى عليه السلام، أثر ظاهر في تغيير سلوكهم، ولم يتعظوا بما أنزل بفرعون وقومه من الهلاك، إذ ما كادوا يمرون على قوم يعكفون على أصنام لهم حتى قالوا لموسى: {اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} 1. وعندما ذهب موسى عليه السلام ليتلقى الألواح من ربه، وفيها هدى ونور، نسي بنو إسرائيل إلههم الحق، حين رأوا العجل الذي سبكه لهم السامري من الحلي، فتوجهوا له بالعبادة، والطاعة من دون الله. قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ} 2. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} 3.

_ 1 سورة الأعراف الآيتان: 138-139. 2 سورة الأعراف الآية: 148. 3 سورة الأعراف الآية: 152.

لقد عبدوا العجل، ولم يردهم عن غيهم نصح هارون لهم، حين قال: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} 1. ولما أصر هارون عليه السلام على نصحهم بترك عبادة العجل، هموا بقتله، ولنستمع إليه وهو يعتذر لأخيه موسى في قوله تعالى: {قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 2. وإذا كان بنو إسرائيل قد هموا بقتل رسول الله هارون، فقد كان القتل من أعظم جرائمهم، قال تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} 3. ولما عتوا عن الحق واستكبروا عن هدايات السماء، مسخهم الله

_ 1 سورة طه الآيتان: 90-91. 2 سورة الأعراف الآية: 150. 3 سورة البقرة الآيتان: 87-88.

وغير قلوبهم، وحقت عليهم كلمة العذاب، وأذاقهم الله جزاء ما صنعوا، قال تعالى: {فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} 1. وعن حالة اليهود قبيل البعثة المحمدية: يقول أبو الحسن الندوي: "أصبحت اليهودية -أي في القرن السادس الميلادي- مجموعة طقوس وتقاليد لا روح فيها ولا حياة، وهي -بصرف النظر عن ذلك- ديانة سُلالية، لا تحمل للعالم رسالة ولا للأمم دعوة، ولا للإنسانية رحمة، وقد أصيبت هذه الديانة في عقيدة كانت لها شعاراً بين الديانات والأمم، وكان فيها سر شرفها، وتفضيل بني إسرائيل على الأمم المعاصرة في الزمن القديم، وهي عقيدة التوحيد التي وصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب، فقد اقتبس اليهود كثيراً من عقائد الأمم التي جاوروها، أو وقعوا تحت سيطرتها، وكثيراً من عاداتها وتقاليدها الوثنية الجاهلية، وقد اعترف بذلك مؤرخو اليهود المنصفون، فقد جاء في دائرة المعارف اليهودية ما معناه: (إن سخط الأنبياء وغضبهم على عبادة الأوثان، تدل على أن عبادة

_ 1 سورة الأعراف الآيتان: 166-167.

الأوثان والآلهة، كانت قد تسربت إلى نفوس الإسرائليين، ولم تستأصل شافتها إلى أيام رجوعهم من الجلاء والنفي في بابل، وقد قبلوا معتقدات خرافية ومشركة، إنَّ التلمود أيضاً يشهد بأن الوثنية كانت فيها جاذبية خاصة لليهود) "1. 2-الديانة النصرانية: أمّا الديانة التي جاء بها المسيح عليه السلام، وما فيها من الدعوة إلى التوحيد، والنهي عن الشرك، وتنزيه الخالق جل وعلا، والتأدب بالأخلاق السمحة الرحيمة من الصفح والعفو، والترفع عن حب الدنيا، والعطف على الفقراء والمساكين، وتحمل الأذى، كما جاء في إنجيل متى: " سمعتم أنه قيل عين بعين، وسن بسن، وأمّا أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر.. بل من لطمك على خدك الأيمن، فاعرض له الآخر أيضاً، ومن أراد أنْ يخاصمك، ويأخذ ثوبك، فاترك له الرداء، ومن سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين"2. وجاء في نفس الإنجيل: "لا تقدرون أن تخدموا الله والمال، لذلك أقول لكم، لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وماتشربون، ولا لأجسادكم بما

_ 1 السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي ص: 20. 2 انجيل "متى" الإصحاح الخامس فقرة: 38-40.

تلبسون"1. وقال: "ما أعسر دخول ذوي الأموال ملكوت السموات.. وأقول لكم بأنَّ مرور جمل في ثقب إبرة، أيسر من أنْ يدخل غني ملكوت الله"2. فإنَّ هذه الديانة بعد رفع المسيح، لم تظل على ما كانت عليه، بل سرعان ما ذابت في شتى الفلسفات، والنحل الأرضية الأخرى، وتسربت إليها أساطير الوثنيات القديمة، كالبوذية والبراهمية، والإغريقية، والرومانية، وعقائد الفرس والروم وقدماء المصريين، فصار التوحيد تعدداً، وجعلوا الإله الواحد آلهة ثلاثة3. ومن أجل التحريف والتبديل في هذه الديانة، عقدت المجامع، وأصدرت القرارات القاضية بألوهية المسيح، فألوهية روح القدس، أو أن المسيح اجتمع فيه الإنسان والإله، وأنَّ مريم العذراء والدة الإله، وأنَّ المسيح اجتمع فيه الإنسان والإله، وأن المسيح إله حق معروف بطبيعتين:

_ 1 انجيل "متى" الإصحاح السادس فقرة: 25. 2 انجيل "متى" الإصحاح التاسع عشر فقرة: 23، وإنجيل "لوقا" الإصحاح الثامن عشر فقرة: 25-26. 3 تفسير المنار لمحمد رشيد رضا 6/88 وما بعدها، والمسيحية لأحمد شلبي ص: 130 وما بعدها.

طبيعة إلهية، وطبيعة إنسانية بشرية1. ومما يؤكد أن عقائد النصرانية الحالية من تثليث وصلب وفداء، قد تسربت إليها عن طريق الوثنيات القديمة، هو وجه التشابه التام فيما بينها، ولو تتبعت هذا الأمر لطال بنا المقام، ولكني أقتصر على بعض ما نقله الأستاذ رشيد رضا رحمه الله في تفسير المنار –وكما يُقال يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق- 2. جاء في كتاب خرافات التوراة وما يقابلها في الديانات الأخرى3، لصاحبه دوان، جاء ما ترجمته بالتلخيص: إنَّ تصور الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة نفسه ذبيحة فداء عن الخطيئة، قديم العهد، بدأ عند الهنود الوثنيين وغيرهم. وذكر الشواهد على ذلك، منها قوله: "يعتقدون أن كرشنا المولود البكر –الذي هو نفس الإله (فشنو) الذي لا ابتداء له، ولا انتهاء –على رأيهم- تحرك حنواً كي يخلص الأرض من ثقل حملها، فأتاها وخلص الإنسان بتقديم نفسه ذبيحة عنه. وذكر أن مستر مور قد صور "كرشنا" مصلوباً كما هو مصور في

_ 1 انظر: تاريخ الدعوة لجمعة الخولي 1/259-260. 2 تفسير المنار 6/32-33، وانظر: قصص الأنبياء للنجار ص: 514-515. 3 ص: 181-182.

كتاب الهنود، مثقوب اليدين والرجلين، وعلى قمصيه صورة قلب الإنسان معلقاً، ووجدت له صورة مصلوباً وعلى رأسه إكليل من الذهب. والنصارى تقول: إن يسوع صلب، وعلى رأسه إكليل من الشوك. وقال "هوك" في ص326 من المجلد الأول من رحلته: ويعتقد الهنود الوثنيون بتجسيد أحد الآلهة، وتقديم نفسه ذبيحة فداء للناس من الخطيئة. وقال "مونيورليمس" في ص 36 من كتابه الهنود: ويعتقد الهنود الوثنيون بالخطيئة الأصلية، ومما يدل على ذلك ما جاء في مناجاتهم وتوسلاتهم التي يتوسلون بها بعد "الكباترى" وهو: إني مذنب ومرتكب الخطيئة، وطبيعتي شريرة، وحملتني أمي بالإثم، فخلصني يا ذا العين الحندوقية، يا مخلص الخاطئين من الآثام والذنوب. ونقل "هيجين" عن: "اندرار الكروزويوس" وهو أول أوربي دخل بلاد النيبال والتبت، أنه قال في الإله "أنددادا" الذي يعبدونه أنه سفك دمه بالصلب، وثقب بالمسامير لكي يخلص البشر من ذنوبهم، وأن صورة الصلب موجودة في كتبهم. هذا وأما ما يروى عن البوذيين في "بوذا" فهو أكثر انطباقاً على ما يرويه النصارى عن المسيح، من جميع الوجوه، حتى أنهم يسمونه المسيح والمولود الوحيد، ومخلص العالم، ويقولون إنه إنسان كامل، وإله كامل تجسد بالناسوت، وأنه قدم نفسه ذبيحة ليكفر ذنوب البشر، ويخلصهم من

ذنوبهم، فلا يعاقب عليها، ويجعلهم وارثين لملكوت السموات. بين ذلك كثير من علماء الغرب، منهم "بيلي" في كتابه تاريخ بوذا، و "هوك" في رحلته، و "مولر" في كتابه تاريخ الآداب السنسكريتية وغيرهم. ومن أراد المقابلة بين إله النصارى، وآلهة الوثنيين الأولين –في الشرق والغرب- فعليه أن يقرأ كتاب "العقائد الوثنية في الديانة النصرانية" لمحمد طاهر التنير البيروتي، ففيه بلاغ ومقنع ا.?. ومن هذا يتبين لنا أن عقائد النصارى الحالية تحتوي على عقائد وثنية شركية واضحة، وأنها مقتبسة من الوثنيات القديمة. كما أنّ عقيدة النصارى الحالية أصبحت عقيدة مستغلقة، وتركيبات غير مفهومة، ولذلك فعسير على الذهن السليم أنْ يقبلها ولا تزال –حتى اليوم تصطدم بعقول شبابهم ومثقفيهم، ويحاول رجال الكنيسة بين فترة وأخرى إدخال بعض التفسيرات والتوضيحات من أجل استساغها وقبولها عند جماهير النصارى، ومن ذلك تفسيرهم أخيراً بأنَّ البنوة ليست ولادة كولادة البشر، وأن يفسروا الإله الواحد في ثلاثة بأنها صفات الله1. وعن غموض العقيدة النصرانية الحالية، ووضوح الإسلام وسهولته،

_ 1 انظر: النصرانية لمحمد أبي زهرة ص: 118، وتاريخ الدعوة لجمعة الخولي 1/361.

يقول جوستاف لبون في كتابه حضارة العرب: "لو أنك سألت مسيحياً عن عقيدته، لما استطاع أن يجيبك منهم إلاّ المتخصصون، والمتخصصون يجيبونك بكلام غير مفهوم، ولو سألت أي مسلم عن عقيدته، لأجابك لكلام واضح سهل، لا تعقيد فيه، ولا غموض، ولعل هذا سر عظمة الإسلام وانتشاره"1. كما طرح الدكتور أحمد شلبي في كتابه المسيحية عدة أسئلة على النصارى، يسألهم فيها عن عقيدة التثليث عندهم، ومن تلك الأسئلة ما وظيفة كل فرد من أفراد هذا الثالوث؟ وكيف يتم فهم وحدة في تثليث، وتثليث في وحدة؟ وما معنى قولهم الابن مولود غير مخلوق، والابن ليس أحدث من الأب؟ ثم يقول: "لقد حاولت جهدي أنْ أصل إلى جواب صحيح لهذه الأسئلة عن طريق القراءة، أو المحادثة مع المسيحيين، ولكن أقرر أنني لم أستطع فهم إجاباتهم، بل صرح كثير منهم ... أن هذه المسائل مسائل اعتقادية لا فهم، فاعترضت بأنّها مسائل أساسية، وهي المدخل للدين، فكيف لا تفهم؟ ولكن لم أتلق جواباً على اعتراضي، واتبع بعضهم التعبيرات الإنشائية التي لا توضح مقصوداً، كقول بعضهم (المحبة السرية

_ 1 حضارة العرب لجوستاف لبون ص: 68.

التي بين المسيح والله) وقول الآخر: (كل ثروات الولاء والتعبد اختزنت في فكر يسوع المسيح، عوناً على فهم حقيقة الله ... "1. ثم ينقل الدكتور شلبي بعضاً من أقوال وآراء القسس النصارى في العقيدة النصرانية، وقد صرحوا بتناقضها، وعدم فهمها، فإليك طرفاً منها2: يقول الدكتور يوسف بوست في قاموس الكتاب المقدس: "طبيعة الله عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية: الله الأب، والله الابن، والله الروح القدس، فإلى الأب ينتمي الخلق، بواسطة الابن، وإلى الابن الفداء، وإلى الروح القدس التطهير، غير أن الثلاثة الأقانيم تتقاسم جميع الأعمال الإلهية على السواء". ويقول القس بوطر صاحب رسالة الأصول والفروع في نهاية شرحه لعقيدة التثليث:" قد فهمنا ذلك على قدر طاقة عقولنا، ونرجو أن نفهمه فهماً أكثر جلاء في المستقبل، حين ينكشف لنا الحجاب عن كل ما في السموات وما في الأرض، وأمّا في الوقت الحاضر ففي القدر الذي فهمناه كفاية".

_ 1 المسيحية لأحمد شلبي ص: 134. 2 المسيحية لأحمد شلبي ص: 134-139، وانظر النصرانية لأبي زهرة ص: 117 وبعدها.

ويقول القس وهيب عطاء الله: "إنَّ التجسد قضية فيها تناقض مع العقل والمنطق، والحس والمادة والمصطلحات الفلسفية، ولكننا نصدق ونؤمن أنّ هذا ممكن حتى ولو لم يكن معقولاً". وقد أورد الشيخ رحمة الله الهندي في تخبط النصارى في عقيدة التثليث، الحكاية التالية: "نقل أنه كان هناك ثلاثة أشخاص يعلمهم بعض القسس، فجاء أحد أصدقاء القسيس، وسأله: هل تعلموا شيئاً من العقائد النصرانية الضرورية، فقال: نعم، وطلب واحداً منهم ليري صديقه ما تعلمه، فسأله عن عقيدة التثليث، فقال: إنك علمتني أنَّ الآلهة ثلاثة أحدهم الذي في السماء، والثاني الذي تولد من بطن مريم العذراء، والثالث: الذي نزل في صورة الحمامة على الإله الثاني، بعد أن صار أبن ثلاثين سنة، فغضب القسيس وطرده، وقال: هذا مجهول، ثم طلب الآخر منهم، وسأله فقال: إنّك علمتني أنَّ الآلهة كانوا ثلاثة، وصلب واحد منهم، والباقي إلاهان، فغضب القسيس أيضاً وطرده، ثم طلب الثالث، وكان ذكياً بالنسبة إلى الأولين، فسأله فقال: يا مولاي حفظت ما علمتني جيداً، بفضل السيد المسيح، إنَّ الواحد ثلاثة، والثلاثة واحد، وصلب واحد منهم، ومات، فمات الكل لأجل الاتحاد، ولا إله الآن، وإلاّ يلزم نفي الاتحاد "1.

_ 1 إظهار الحق ص: 337.

والحق إنَّ قول النصارى في التثليث مصادم للعقول السليمة، ومعارض للأصول الثابتة، وتنفر منه الضمائر الحية، وتأباه الفطر السليمة، وفيه تنقص لرب العالمين، ورميه بالعظائم، وتعصّب النصارى لهذا المعتقد حتى اليوم يدل على جهلهم وغباوتهم. يقول الفخر الرازي: "واعلم أنَّ هذا معلوم البطلان، ببداهة العقل، فإنَّ الثلاثة لا تكون واحداً، والواحد لا يكون ثلاثة، ولا يرى في الدنيا مقالة أشد فساداً وأظهر بطلاناً من مقالة النصارى"1. ويقول أبو محمد ابن حزم2: "ولولا أن الله تعالى وصف قولهم في كتابه، إذ يقول تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} 3. وإذ يقول تعالى حاكياً عنهم: {إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} 4. وإذ يقول: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ} 5، لما نطق لسان مؤمن بحكاية هذا القول العظيم الشنيع السمج6 السخيف.

_ 1 التفسير الكبير 12/60. 2 الفصل في الملل والأهواء والنحل 1/49. 3 سورة المائدة الآية: 72. 4 سورة المائدة الآية: 73. 5 سورة المائدة الآية: 116. 6 السمج: القبيح. النهاية لابن الأثير 2/398.

وتالله لولا أننا شاهدنا النصارى، ما صدقنا أن في العالم عقلاً يسع هذا الجنون، ونعوذ بالله من الخذلان. ولعل من أهم العوامل التي أدّت إلى تحريف النصرانية، دخول بولس "شاؤول" فيها، وقد كان بولس أحد اليهود المغرمين بتعذيب النصارى وفتنتهم عن دينهم، وكان يسطو على الكنيسة، ويدخل البيوت، ويجر الرجال والنساء ويسلمهم إلى السجن1 ... وفجأة بينما كان بولس "شاؤول" في طريقه إلى دمشق للمساهمة في تعذيب المسيحين عام 38م زعم أنه رأى يسوع المسيح، وأنه آمن به وتسمى "بولس". ويذكر لوقا صاحب الإنجيل، هذه القصة في أعمال الرسل فيقول: "وعندما كان بولس قريباً من دمشق، فبغتة أبرق حوله نور من السماء، فسقط على الأرض، وسمع صوتاً قائلاً: شاؤل شاؤل لماذا تضطهدني؟ فقال: من أنت يا سيد؟ فقال: أنا يسوع الذي تضطهده، فقال وهو مرتعد ومتحير يا رب ماذا تريد أن أفعل. فقال له: "قم وكرز بالمسيحية"2.

_ 1 انظر أعمال الرسل الإصحاح السابع فقرة: 60، والإصحاح الثامن فقرة: 3. 2 انظر أعمال الرسل الإصحاح التاسع: 30-20، وانظر: ترجمة بولس في المسيحية لأحمد شلبي ص: 104-109، والنصرانية لأبي زهرة ص: 81-88، والأسفار المقدسة لعلي وافي ص: 71-72.

ثم يقول لوقا: "وللوقت جعل يكرز في المجامع بالمسيح إنَّ هذا هو ابن الله"1 ا.? كما إنه بعد رفع المسيح عليه السلام، وقع على أتباعه اضطهاد عظيم، فشُرِدُوا وعُذِبُوا وقُتِلُوا وصُلِبُوا، حتى كادت تختفي معالم المسيحية من الأرض، بسبب تلك الإضطهادات التي كان يتولاها أباطرة الرومان وعمالهم، وكذلك اليهود. وأشد ما نزل بهم من الأذى، كان في عهد الإمبراطور نيرون (64م) ، ثم في عهد الإمبراطور ترجان (106م) ثم في عهد الإمبراطور ديسيوس (251م) ، ثم في عهد الإمبراطور دقلد يانوس (284م) . فأما نيرون فقد اتهمهم بأنهم هم الذين أحرقوا مدينة روما، وتفنن في تعذيبهم، إذ كان يأمر أتباعه بوضع النصارى في جلود الحيوانات، ثم يطرحونهم للكلاب فتنتهشهم، كما كانوا يُلْبِسُون بعض النصارى ثياباً مطلية بالقار، ثم يجعلونهم مشاعل يستضيئون بنارها. وفي عهد ديسيوس، قد عم الخوف الجميع، وفر بعضهم بدينه، وقد أبعد كل مسيحي من خدمة الدولة مهما يكن ذكاؤه، وكل مسيحي

_ 1 انظر أعمال الرسل الإصحاح التاسع: 30-20، وانظر: ترجمة بولس في المسيحية لأحمد شلبي ص: 104-109، والنصرانية لأبي زهرة ص: 81-88، والأسفار المقدسة لعلي وافي ص: 71-72.

يرشد عنه يؤتى به على عجل، ويقدم إلى هيكل الأوثان، ويطلب منه تقديم ذبيحة للصنم، وعقاب من يرفض تقديم الذبيحة، أنْ يكون هو الذبيحة بعد أنْ يجتهدوا في حمله بالترهيب ... أما دقلد يانوس فقد جاء إلى مصر، وأنزل بها البلاء، وأمر بهدم الكنائس، وإحراق الكتب، وأصدر أمراً بالقبض على الأساقفة وزجهم في غياهب السجون، وقهر المسيحيين على إنكار دينهم، وقتل منهم حوالي ثلاثمائة ألف. ومن قبل ومن بعد أنزلوا البلاء بعلمائهم، فما تركوا عالماً منهم بالديانة إلا قتلوه، وكان الولاة يتفننون في طرق إبادة النصارى من الوجود، أبادوا العلماء حتى لا يوجد من يرشد إلى النصرانية، ويتوارث العلم بها، وأبادوا الكتب حتى لا تحفظ تلك الديانة في الصدور أو السطور. واستمر البلاء والاضطهاد ينزل بالنصارى والنصرانية من قبل اليهود والرومان حتى جاء عهد قسطنطين، في أول القرن الرابع الميلادي، وقد سمي عصره (284-305م) عصر الشهداء1.

_ 1 انظر المسيحية لأحمد شلبي ص: 70-72، ومحاضرات في النصرانية لأبي زهرة ص: 34-38 وص: 106.

ولا شك أنَّ لهذه الإضطهادات الأثر البالغ في فقدان الإنجيل الأصلي، الذي أنزل على عيسى عليه السلام، وفي اضطراب الأناجيل القائمة حالياً، لا سيما أنها ألفت ودونت في تلك الفترة، مما جعل بعض علمائهم يقرون لمناظريهم أنَّ تلك الاضطهادات كانت السبب في فقدان سندها المتصل بصاحب الشريعة1. بل الراجح أنّ هذه الأناجيل لا صلة لها البتة بالوحي الذي أنزله الله على عيسى عليه السلام. لذلك فإن النصرانية قد أصبحت بسبب تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين ووثنية المتنصرين ركاماً دفنت تحته تعاليم المسيح عليه السلام، واختفى نور التوحيد وإخلاص العبادة لرب العالمين، وراء هذه السحب الكثيفة. وقد أصيبت النصرانية بما أصيبت به في وقت مبكر من حياتها، واستمرّ الحال على ذلك حتى "جاء القرن السادس المسيحي، والحرب قائمة على قدم وساق، بين نصارى الشام والعراق، وبين نصارى مصر، حول حقيقة المسيح وطبيعته، تحولت المدارس والكنائس والبيوت ومعسكرات متنافسة، يكفر بعضها بعضاً، ويقتل بعضها بعضاً، كأنها

_ 1 انظر إظهار الحق لرحمة الله الهندي ص: 83، والفارق بين المخلوق والخالق لعبد الرحمن بك باجة جي زاده ص: 9 وما بعدها.

حرب بين دينين متنافسين، أو أمتين متحاربتين"1. وقد أصحبت النصرانية في شغل شاغل بنفسها عن محاربة الفساد، وإصلاح الأمم. يتحدث الأستاذ أبو الحسن الندوي عن المسيحية في القرن السادس الميلادي، فيقول: "لم تكن المسيحية في يوم من الأيام من التفصيل والوضوح ومعالجة مسائل الإنسان، بحيث تقوم عليها الحضارة، أو تسير في ضوئها دولة، ولكن كان فيها أثارة من تعاليم المسيح، وعليها مسحة من دين التوحيد البسيط، فجاء بولس فطمس نورها، وطعمها بخرافات الجاهلين التي انتقل منها، والوثنية التي نشأ عليها، وقضى قسطنطين على البقية الباقية، حتى أصبحت النصرانية مزيجاً من الخرافات اليونانية، والوثنية الرومانية، والأفلاطونية المصرية والرهبانية، اضمحلت في جنبها تعاليم المسيح البسيطة، كما تتلاشى القطرة في اليَم، وعادت نسيجاً خشبياً من معتقدات وتقاليد لا تغذي الروح، ولا تمد العقل، ولا تشعل العاطفة، ولا تحل معضلات الحياة، ولا تنير السبيل، بل أصبحت بزيادات المحرفين، وتأويل الجاهلين تَحُولُ بين الإنسان والعلم والفكر، وأصبحت على

_ 1 فتح العرب لمصر للفرد بتلرج تعريب محمد فريد أبو حديد ص: 37، 38، 47. وانظر: السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي ص: 23.

تعاقب العصور ديانة وثنية"1 ا.?. 3- بلاد فارس: وإذا تجاوزنا بني إسرائيل، وذهبنا إلى بلاد فارس، نجد أن ديانة أهلها أشد اضطراباً وأكثر تعدداً، وأن بنيان هذه العقيدة عبادة النار، وإقامة بيوت للعبادة، وتقديم القرابين لها، والإيمان بالثنوية، أي: الإيمان برب للنور ورب للظلام، وإله للخير، وإله للشر، وأن كلا الإلهين يتنازع النفس الإنسانية والكون وما فيه. يقول الشهرستاني: "ثم إنّ التثنية اختصت بالمجوس، حتى أثبتوا اثنين مدبرين قديمين، يقتسمان الخير والشر، والنفع والضر، والصلاح والفساد، يسمون أحدهما النور، والآخر الظلمة، وبالفارسية (يزدان وأهر من) ، ولهم في ذلك تفصيل مذهب.. ومسائل المجوس كلها تدور على قاعدتين اثنتين.. أحدهما بيان سبب امتزاج النور بالظلمة، والثانية بيان سبب خلاص النور من الظلمة، وجعلوا الامتزاح مبدأ، والخلاص معاداً.."2. وجاء – زاردشت 660-583 ق. م يهذب من عبادة المجوس، ويصلح من عقيدتهم، فما خرج كثيراً عنها، فقد ادعى أن النور والظلمة

_ 1 ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص: 28. 2 الملل والنحل للشهرستاني 1/232.

أصلان متضادان، وأن الخير والشر والصلاح والفساد، والطهارة والخبث، إنما حصلت من امتزاج النور والظلمة، ولو لم يمتزجا لما كان وجود العالم، وهما يتعاونان ويتغالبان إلى أن يغلب النور الظلمة، والخير الشر، ثم يتخلص الخير إلى أعماله، والشر ينحط إلى أعماله، وذلك سبب الخلاص.."1. وظهر "ماني" في أواخر القرن الثالث المسيحي، يزعم أن العالم مصنوع، مركب من أصلين قديمين، أحدهما نور، والآخر ظلمة، وأنهما أزليان لم يزالا، ولن يزالا، وفرض على أصحابه العشر في الأموال كلها، والصلوات الأربع في اليوم والليلة، والدعاء إلى الحق وترك الكذب، والقتل والسرقة، والزنا والبخل، والسحر وعبادة الأوثان، ... واعتقاده في الشرائع والأنبياء: أن أول من بعث الله تعالى بالعلم والحكمة آدم أبو البشر، ثم بعث شيئاً بعده، ثم نوحاً بعده، ثم إبراهيم بعده عليهم الصلاة والسلام، ثم بعث بالبددة إلى أرض الهند وزرادشت إلى أرض فارس، والمسيح كلمة الله وروحه إلى أرض الروم والمغرب، وبولس بعد المسيح إليهم، ثم يأتي خاتم النبيين إلى أرض العرب2.

_ 1 الملل والنحل للشهرستاني 1/237. 2 الملل والنحل للشهرستاني 1/248.

ومن بعد ماني ظهر "مزدك"، فرأى أن سبب الكراهية بين الناس، إنما تقع بسبب المال والنساء، فزعم أنه ليس هناك وسيلة لإزالة أسباب الشقاق والخلاص بين الناس، إلاَّ بجعل الأموال والنساء مشاعاً حراً يأخذ منه من يشاء ما يشاء.. يقول الشهرستاني: "أحل –مزدك- النساء، وأباح الأموال، وجعل الناس شركة فيهما كاشتراكهم في الماء والنار والكلأ"1. وتحت ظلام هذه العقائد المزيفة، عاش الفرس يعانون قسوة الملوك، وتجبر الحكام الذين انتهزوا هذا الجهل المطبق، فادعوا أنهم من عناصر علوية مقدسة، وبنوا ادعائهم على مذهب "مترا" أحد مصلحيهم الذي رفع سلطان الملوك إلى عرش السماء، وقال: "إن الشمس تشع عليهم قبساً من نورها، وهالة من بركتها، فيرمزون بعروشهم على الأرض إلى عرش الله في عليين.."2. وكانت الأكاسرة ملوك فارس يدعون أنه يجري في عروقهم دم إلهي، وكان الفرس ينظرون إليهم كآلهة، ويعتقدون أن في طبيعتهم شيئاً علوياً مقدساً، فكانوا يكفرون لهم، وينشدون الأناشيد بألوهيتهم، ويرونهم فوق القانون، وفوق الانتقاد، وفوق البشر، لا يجري اسمهم على

_ 1 الملل والنحل للشهرستاني 1/249. 2 الله، للعقاد ص: 98.

لسانهم، ولا يجلس أحد في مجلسهم، ويعتقدون أنَّ لهم حقاً على كل إنسان، وليس لإنسان حق عليهم، وأنَّ ما يرضخون لأحد من فضول أموالهم وفتات نعيمهم، إنّما هو صدقة وتكرم من غير استحقاق، وليس للناس قبلهم إلا السمع والطاعة1. 4- بلاد الهند: وإذا تجاوزنا بلاد فارس إلى ما وراءها من أرض المشرق، فإننا نجد الهند وما فيها من ديانات باطلة، وأفكار ساذجة، وأوضاع اجتماعية جائرة، تقوم على التفرقة الإنسانية بين الطبقات. يقول الشهرستاني:" الهند أمة كبيرة، وملة عظيمة، وآراؤهم مختلفة، منهم البراهمة، وهم المنكرون للنبوات أصلاً، ومنهم من يميل إلى الدهر ومنهم من يميل إلى مذهب الثنوية، ويقول بملة إبراهيم عليه السلام، وأكثرهم على مذهب الصابئة ومناهجها، فمن قائل بالروحانيات، ومن قائل بالهياكل، ومن قائل بالأصنام، إلاّ أنهم مختلفون في شكل الهياكل التي ابتدعوها، وكيفية أشكال وضعوها، ومنهم حكماء على طريقة اليونانيين علماً وعملاً "2.

_ 1 انظر كتاب ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين لأبي الحسن الندوي ص: 40. 2 الملل والنحل 2/250.

ويقول أبو الحسن الندوي: "اتفقت كلمة المؤرخين في تاريخ الهند على أن أحط أدوارها ديانة وخلقاً واجتماعاً كان ذلك العهد الذي يبتدئ من مستهل القرن السادس الميلادي.. فقد شاركت الهند جاراتها وشقيقاتها في التدهور الخلقي والاجتماعي، الذي شمل الكرة الأرضية في هذه الحقبة من الزمن.. وقد بلغت الوثنية أوجها، ووصل عدد الآلهة إلى 330 مليوناً، وقد أصبح كل شيء رائعاً، وكل شيء جذاباً، وكل مرفق من مرافق الحياة إلهاً يعبد. وهكذا جاوزت الأصنام والتماثيل والآلهة الحصر، وأربت على العد، فمنها أشخاص تاريخية، وأبطال تمثل فيهم الله.. وجبال تجلى عليها بعض آلهتهم، ومعادن كالذهب والفضة تحمل سر الألوهية، وأنهار وآلات حرب، وآلات التناسل، وحيوانات أعظمها البقرة، والأجرام الفلكية، وغير ذلك. وأصبحت الديانة نسيجاً من خرافات وأساطير، وأناشيد وعقائد، وعبادات ما أنزل الله بها من سلطان، ولم يستسغها العقل السليم في زمن من الأزمان. وقد ارتفعت صناعة نحت التماثيل في هذا العهد، حتى فاق هذا العصر في ذلك العصور الماضية، وقد عكفت الطبقات كلها، وعكف أهل

البلاد من الملك إلى الصعلوك على عبادة الأصنام.."1. والحق إنَّ فطرة الهند تنادي بأن الله واحد، ولكن جهلهم وضلالهم طمس هذه الفطرة، فأشركوا بالله الواحد مخلوقاته المسخرة بأمره. انظر إلى قولهم في بعض أناشيدهم الدينية: "إنني أنا الله، نور الشمس، وضوء القمر، وبريق اللهب، وميض البرق، وصوت الرياح، وأنا الرائحة الطيبة التي تنبعث في أنحاء الكون، والأصل الأزلي لجميع الكائنات، وأنا حياة كل موجود، وصلاح الصالح، أنا الأول، والآخر، والحياة، والموت لكل كائن"2. أما الشهوة الجنسية، فقد امتازت بها ديانة الهند ومجتمعها منذ العهد القديم، بشكل ليس له مثيل، حتى عبدوا آلة التناسل، لإلههم الأكبر "مهاديو" وتصويرها في صورة بشعة، واجتماع أهل البلاد عليها من رجال ونساء وأطفال.. زد على ذلك أن بعض الفرق الدينية كانوا يعبدون النساء العاريات، والنساء يعبدون الرجال العراة..3 ويقرر دين البراهمة في الهند التفرقة بين الناس من حيث العبادة والزلفى لبراهما إلههم الأكبر، وانقسم الناس من حيث مهنهم التي تتوارث

_ 1 ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص: 46-47. 2 ذيل الملل والنحل لمحمد سيد كيلاني ص: 10. 3 انظر كتاب ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين لأبي الحسن الندوي ص: 48-49.

وتصير المهنة عندهم أصلاً نسبياً ينتقل من الأصول إلى الفروع، ومن الفروع إلى فروعهم، إلى أربع طبقات: 1- البراهمة، طبقة الكهنة ورجال الدين، ويزعمون أنهم خلقوا من رأس إلههم "براهما" ولذلك كانوا أعلى الناس، لأنهم خلقوا من أعلى الإله. 2- طبقة الجند ورجال الحرب، ويزعمون أنهم خلقوا من مناكب إلههم براهما، ويديه، ولهذا فهم الحماة والغزاة ومواطن القوة. 3- طبقة رجال الزراعة والتجارة، وهم مخلوقون من ركبتي إلههم. 4- طبقة الخدم والرقيق، وهؤلاء خلقوا فيما يزعمون من قدمي إلههم، فهم أحط الطبقات، وأبعدها لبعدها عن رأس براهما. وهناك فريق من الشعب الهندي لا يدخل في هذه القسمة الجائرة، وهم المنبوذون، وهم الذين يتناولون الأعمال الحقيرة في المدن، وقد حال انحطاط شأنهم دون اعتبارهم، حتى بين الطبقة الدنيا من الخدم والأجراء1. وديانة المنبوذين تنحصر في عبادة الأرواح، وأعظم الآلهة عندهم

_ 1 انظر: خاتم النبيين لأبي زهرة القسم الأول ص: 19-20، وماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص: 49، وذيل الملل والنحل 2/13.

يظهر في شكل "كومة" من الآجر، أو في هيئة أخرى ساذجة، وهذا الإله هو الذي يمنح الخصب للعواقر، ويحمي المحاصيل من الآفات، ويرعاهم برعايته وعنايته، ولكل مدينة إلهها1. ومن هذه الإشارة العابرة عن الهند، يتبين لنا ما وصل إليه الكفر الهندي من انحطاط كبير في جميع نواحي الحياة الدينية والأخلاقية والإجتماعية، وأصبح في حاجة ماسة إلى من ينير له الطريق، ويرشده إلى الهدى. 5- بلاد الصين: أما الأمة الصينية، فإنها قد عاشت بلا دين صادق، أو عقيدة ثابتة، وإنّما توجهت إلى طبيعة الحياة تستلهم منها معنى الإله الحق، فعبدت السماء وما فيها من كواكب، وعبدت الأرض وما فيها من جبال وبحار وأنهار، وعبدت الأموات من أبطالها السالفين الذين بقيت ذكرياتهم حية في قلوبهم، فقدمت لهم ألواناً من العبادة والطاعة. وبعد قرون طويلة، استقر الصينيون على أديان ثلاثة، وهي: 1-الكنفوشية. 2-البوذية.

_ 1 ذيل الملل والنحل 2/13.

3-التاوزمية1. واشتهر حكيمهم ومعلمهم "كونفشيوس" بالإخلاص في الدعوة إلى إصلاح النفس الإنسانية، وتكوين مجتمع سليم، قوامه المحبة والإخاء، والعدل والطاعة والرضا.. يقدمها الولد لوالده، والأخ الأصغر للأخ الأكبر، والمحكوم لحاكمه. كما اشتهر بجملة من الفضائل كالصدق والإخلاص، والقناعة والصمت، إلاّ فيما يجب الكلام فيه، ومعاملة الناس بالرفق والمودة، وغير ذلك من الفضائل. لكن "كونفشيوس" لم يهتد إلى الحياة الأخرى، فأنكر الجنة والنار، والثواب والعقاب، وقد سأله بعض تلاميذه مرة عن الموت، فقال: إننا لم ندرس الحياة بعد، فكيف ندرس الموت!! ومات "كونفشيوس" فتوجه الصينيون إلى روحه بالعبادة والتقديس، وأقاموا لها الهياكل، وقدموا لها القرابين، وانتقلت عبادة هذا الفيلسوف عبر الأجيال إلى يومنا هذا2. وعلى مثال "كونفشيوس" كان الفيلسوف "لاوتسي" وهو أسن

_ 1 انظر: ذيل الملل والنحل لمحمد سيد كيلاني 2/19. 2 انظر: ذيل الملل والنحل 2/22-26، بتصرف، وموسوعة النظم والحضارة لأحمد شلبي 3/31، والديانات القديمة لرشدي عليان وزميله ص: 107 وما بعدها.

من صديقه، وكلاهما دعا إلى الخير والفضيلة، إلاّ أنهما افترقا في الخلق والمزاج، وإن اتفقا في العقيدة والإيمان. فلاوتسي يقول: "من كان طيباً معي، فأنا طيب معه، ومن أساء إليَّ فأنا طيب معه كذلك، فلنجز السيئة بالحسنة، ولنعمل الطيب على كل حال..". أما كنفشيوس، فهو يوصي بأن تقابل السيئة بالعدل، وأن يقابل الإحسان بالإحسان1. وأتباع لاوتسي يبنون منهجهم على التصوف، واحتقار العادات القديمة، والإعتقاد بأنَّ الدرس والتحصيل والتفكير العقلي ليس وسيلة لاكتساب المعرفة، إنّما سبيلها تطهير النفس والتدرج في كمالاتها إلى مرحلة الاتصال التام، أو الوحدة التامة بين الفرد والقانون الأعظم. كما دعا لاوتسي إلى هجر العمل، والاقتصار على التأمل والتجربة الصوفية، وبعد وفاة لاوتسي أفسدت تعاليمه، وتفشت فيها الأساطير، وضمّت إليها أشد الطقوس والفكرات الخرافية تعقيداً، وخروجاً عن المألوف. وحدث في الصين مثلما حدث في الهند بالضبط، وذلك أن نشطت

_ 1 انظر كتاب الله للعقاد ص: 84.

فكرات السحر البدائية، وتحركت الأساطير البشعة التي ظهرت في الماضي تكافح ضدّ التفكير الجديد في العالم، ونجحت في أن تسدل عليه ساتراً سابلاً من طقوس غريبة مضحكة، وغير معقولة، وعتية بالية1. وليس من الغريب أن تنتقل أكبر ديانات الهند إلى الصين، وتلك هي -البوذية- التي نشرها الهنود والصينيون الذين ذهبوا إلى الهند، وعادوا إلى قومهم حاملين رسالة البوذية، إلاّ أنهم حين نقلوها كانت قد فقدت بساطتها، وتحولت إلى عبادة تماثيل وصور. يقول الأستاذ أيشوراتوبا: " لقد قامت في ظل البوذية دولة تعني بمظاهر الآلهة، وعبادة التماثيل"2. نظرة عامة على الوضع العالمي الجزيرة العربية انتشرت فيها العقائد الفاسدة، وجرفتها تيارات العصبية الممقوتة، وسادت فيها الأوضاع الاجتماعية الجائرة.. وبنو إسرائيل حرفوا وغيروا كتب الله وشرائعه، وكفروا بنعمه، وركنوا إلى المادة، وأصبح بأسهم بينهم شديد.. والفرس والهند هذه البلاد ضلت طريقها، وعاشت في ظلام الشك

_ 1 انظر موجز تاريخ العالم تأليف ?. ج. ولز ص: 131. 2 المجتمع الإسلامي لأحمد شلبي ص: 33.

والجهل، والأوهام والبهتان.. وعلى هذه الشاكلة كان العالم يعيش بأسره في الصين وإسبانيا، وفرنسا وإنجلترا، وافريقيا وغيرها، فلم يبق موضع إلا وإنسان يمرغ نفسه أمام صنم، ويذل عزته وكرامته أمام الأرباب، ونسي الإنسان إنسانيته أمام الشهوة والشيطان، وضاع حقه بل كيانه لإطماع المستبدين. ففي إسبانيا وفرنسا الجنوبية كان شعب "الويزيجو" الأوربيين يصاولون الملك كلوفيس وأولاده الكاثلوكيين، وفي فرنسا نفسها، كان أولاد كلوفيس هذا متقادرين متسافكين، وكانت الحروب التي شبت نيرانها بين المملكة "الويزيجوتية" و "برونهو" والمملكة الفرنكية "فيريد يجوند" تهيء للتاريخ أشد الصحائف إثارة للأسى والكمد. أما في إنكلترا فكان "الأنجلو" ينازعون "السكسونيين" الأرض التي احتلوها، واستعبدوا فيها ذرية "كيمريس"، وهم أقدم المغيرين على تلك الجزيرة، التي تتطلع اليوم للوقوف في مقدمة الأمم علماً وصناعة وقوة، وهي التي كانت في ذلك الوقت مجالاً للقوة الوحشية السائدة في تلك الغياهب الحالكة. أما في أفريقيا، فكان اليونان الرومانيون أنفسهم -وهم أخلاط من عساكر وتجار وحكام، مجموعين من آفاق مختلفة- دائبين على امتصاص دم القطر المصري، وعاملين على جعل مصر العلمية، ذات المجد القديم

كالجثة المصبرة، عديمة الحس والحراك، وكان هذا شأنهم أيضاً في الأقاليم الخصبية وقتئذ، الواقعة في الجهات الشمالية من أفريقيا التي انتزعوها من أيدي الفنداليين. لقد كانت دولتا العالم، دولة الفرس في الشرق، ودولة الرومان في الغرب، في تنازع وتجالد مستمر.. دماء بين العالمين مسفوكة، وقوى منهوكة، وأموال هالكة، وظلم من الاحن حالكة.. ومع ذلك فقد كان الزهو والترف، والإسراف والفخفخة، والتفنن في الملاذ بالغة جداً ما لا يوصف في قصور السلاطين والأفراد والقواد، ورؤساء الأديان من كل أمة، وكان شره هذه الطبقة من الأمم لا يقف عند حد، فزادوا في الضرائب، وبالغوا في فرض الإتاوات حتى أثقلوا ظهور الرعية بمطالبهم، وأتوا على ما في أيديها من ثمرات أعمالها، وانحصر سلطان القوى في اختطاف ما بيد الضعيف، وفكر العاقل في الاحتيال لسلب الغافل، وتبع ذلك أن استولى على تلك الشعوب ضروب من الفقر، والذل، والاستكانة، والخوف، والاضطراب، لفقد الأمن على الأرواح والأموال1. يوضح هذه الصورة المحزنة لحال العالم قبيل البعثة الأستاذ أبو الحسن

_ 1 انظر رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده ص: 117.

الندوي في كتابه ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، فيقول: "أصبحت الديانات العظمى فريسة العابثين والمتلاعبين، ولعبة المحرفين والمنافقين، حتى فقدت روحها وشكلها، فلو بعث أصحابها الأولون لم يعرفوها، وأصبحت مهود الحضارة والثقافة، والحكم والسياسة مسرح الفوضى والانحلال، والاحتلال وسوء النظام، وعسف الحكام، وشغلت بنفسها، لا تحمل للعالم رسالة، ولا للأمم دعوة، وأفلست في معنوياتها، ونضب معين حياتها، لا تملك مشرعاً صافياً من الدين السماوي، ولا نظاماً ثابتاً من الحكم البشري"1. ويقول الندوي تحت عنوان: ظهر الفساد في البر والبحر: "وبالجملة لم تكن على ظهر الأرض أمة صالحة المزاج، ولا مجتمع قائم على أساس الأخلاق والفضيلة، ولا حكومة مؤسسة على أساس العدل والرحمة، ولا قيادة مبنية على العلم والحكمة، ولا دين صحيح مأثور عن الأنبياء "2. ثم يقول تحت عنوان: العالم الذي واجهه محمد صلى الله عليه وسلم: "بعث محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم والعالم بناء أصيب بزلزال شديد هزه هزاً عنيفاً، فإذا كل شيء فيه في غير محله.. نظر إلى

_ 1 ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص: 28. 2 المرجع السابق ص: 63.

العالم بعين الأنبياء، فرأى إنساناً قد هانت عليه إنسانيته، رآه يسجد للحجر والشجر والنهر، وكل ما لا يملك لنفسه النفع والضر، رأى إنساناً معكوساً قد فسدت عقليته..، وفسد نظام فكره..، وفسد ذوقه..، رأى مجتمعاً هو الصورة المصغرة للعالم، وكل شيء فيه في غير شكله أو في غير محله..، فقد أصبح فيه الذئب راعياً، والخصم الجائر قاضياً، وأصبح المجرم فيه سعيداً حظياً، والصالح محروماً شقياً..، ورأى عادات فاسدة تستعجل فناء البشرية، وتسوقها إلى هوة الهلاك. ورأى معاقرة الخمر إلى حد الإدمان، والخلاعة والفجور إلى حدّ الاستهتار، وتعاطي الربا إلى حدّ الإغتصاب واستلاب الأموال، ورأى الطمع وشهوة المال إلى حدّ الجشع..، ورأى القسوة والظلم إلى حدّ الوأد وقتل الأولاد.. رأى ملوكاً اتخذوا بلاد الله دولاً، وعباد الله خولاً1، ورأى أحباراً ورهباناً أصبحوا أرباباً من دون الله، يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله. المواهب البشرية ضائعة أو زائفة، لم ينتفع بها، ولم توجه التوجيه الصحيح، فعادت وبالاً على أصحابها، وعلى الإنسانية، فقد تحولت الشجاعة فتكاً وهمجية، والجود تبذيراً وإسرافاً، والأنفة حمية جاهلية،

_ 1 خولاً: أي عبيداً وخدماً. انظر: لسان العرب 11/224.

والذكاء شطارة وخديعة، والعقل وسيلة لابتكار الجنايات والإبداع في إرضاء الشهوات. رأى الأمم قطعاناً من الغنم، ليس لها راع، والسياسة جمل هائج حبله على غاربه، والسلطان كسيف في يد سكران يجرح به نفسه، ويجرح به أولاده وإخوانه "1 ا.?. وخلاصة القول في هذا، أنَّ جو العالم كله كان يموج بالإضطرابات الوحشية إلى حدّ كبير، وذلك على حدّ قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "وإنَّ الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلاّ بقايا من أهل الكتاب.." 2 الحديث. وكان اعتماد الناس على وسائل الشر، أكثر من اعتمادهم على وسائل الخير، ونستطيع أن نقول إنّ الإنسان في تلك الفترة قد فقد عقيدته، ونظام حياته، حيث عم الفساد والانحطاط، وأصبح التطلع إلى المنقذ وإلى رسالة السماء، والخروج من ذلك الكابوس أمراً ضرورياً، ولعل ظاهرة "التحنف" أصدق دليل على هذا التطلع والترقب.

_ 1 ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص: 78-79. 2 رواه مسلم في صحيحه عن عياض المجاشعي 4/2197 كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار رقم: 63. وأحمد في المسند 4/162.

الباب الثاني: معالم المنهج القرآني في دعوة المشركين.

الباب الثاني: معالم المنهج القرآني في دعوة المشركين. الفصل الأول: في ثبوت وجود الله والدلائل على وحدانيته. ... الباب الثاني: معالم المنهج القرآني في دعوة المشركين: ويشتمل على ثلاثة فصول: الفصل الأول: ثبوت وجود الله والدلائل على وحدانيته: ويشتمل على ما يلي: تمهيد: العالم تائية، والأمة حائرة، والظلام مطبق في كل ناحية، والنفوس مرتقبة ليوم جديد تشرق فيه شمس الأمان والعدل على جنبات هذا الكون، الذي مزقته الأحقاد، وأنهكته الضغائن والعداوات. وتشرق شمس محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم تحمل الهداية والنور لهذا العالم المضطرب، ومعه القرآن الكريم خطاب الله تعالى إلى جميع الناس، على اختلاف مللهم ونحلهم وأوطانهم، وفيهم المنكرون لوجود الله تعالى، والمثبتون له، إلاّ أن الطريق قد اعوج والتوى بهم، فعاشوا على الشرك والأوهام، وعبدوا مع الله آلهة أخرى من الأحجار أو الأشجار، أو الإنسان، أو الحيوان، وغيرها. وأمام هذا الحشد الهائل من البشر المليء بالمتناقضات، وقف القرآن الكريم يخاطب كلاً بالأسلوب الذي يناسبه، وبالحجة التي تلائمه، ليقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق. والقرآن الكريم في منهجه وفي دعوة الناس عموماً، والمشركين خصوصاً إلى الإسلام، وإلى العقيدة الصحيحة، لم يأخذ أسلوب الجدل العقيم، أو الفلسفة الباطلة، أو بأدلة يستعصي على العقول فهو أدلتها. ولكنه جاء سهلاً واضحاً يفهمه البدوي في الصحراء، كما يفهمه أهل الحضارة والثقافة في أرجاء الأرض، ويتذوقه من عاصر الوحي،

وشهد تنزلات القرآن ومن بعد به العهد أو المكان. فطرية الإيمان بالله في النفوس البشرية: وعن معرفة وجود الله تعالى، والإيمان به، فإن القرآن الكريم يعتبر هذه القضية أمراً فطرياً في النفوس البشرية السليمة، وحقيقة بدهية لا تحتاج إلى جدال أو نقاش، فكل إنسان عاقل يدرك بنفسه هذه الحقيقة، بما أودعه الله تعالى فيه من فطرة يحس بها، دون الحاجة إلى منهج يسلكه لمعرفة ربه خالقه ورازقه. والدلائل التي تحرك هذه الفطرة، وتشير إلى وجود الله تعالى أكثر من أن تحصى، إنها تنبعث من كل شيء على وجه الأرض، بل ومن كل شيء في السماء، أضف إلى ذلك النظام البديع، والدقة المتناهية في صنع هذه المخلوقات، والترتيب في سيرها وحركتها، فيدرك الإنسان بعقله وبصيرته أنّ هذا النظام وذلك الإبداع، لا يمكن أنْ يحدث من غير محدث، أو يوجد من غير موجد، لأنّ تلك المخلوقات عاجزة عن إيجاد ذلك النظام الدقيق، والترتيب المحكم من تلقائي نفسها. لذلك فإنّ منهج القرآن الكريم ومسلكه في هذه القضية، البدء بالفطرة يوقظها ويذكرها بما هو مغروس في أعماقها، ليجد أنها معترفة ومقرة بوجود الخالق العظيم، وأنها في ذلك لا تحتاج إلى دليل.

قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} 1. فالفطرة السليمة التي أوجدها الله تعالى في الناس، كما قال تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} 2، تعرف ربها حقيقة، وتلوذ به، وتلتجئ إليه إذا مسها الضر، ولم تجد مغيثاً يغيثها، أو ناصراً ينصرها غير الله عز وجل. قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا} 3. وقال تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} 4.

_ 1 سورة الأعراف الآية: 172. 2 سورة الروم الآية: 30. 3 سورة الإسراء الآية: 67. 4 سورة النحل الآيتان: 53-54.

والمخاطبون حين نزول القرآن يعرفون ربهم الذي خلقهم، وتنطق فطرهم بالحق عندما تُسْئَل، كما قال تعالى: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 1. ويقول تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 2. وقد أدرك الأعرابي بفطرته السليمة أنَّّ هذه المخلوقات العظيمة، من أرض وسماء، وليل ونهار، وشمس وقمر، وإنسان وحيوان، ونبات وكواكب، ورياح وسحاب، وغيرها تدل على الخالق تبارك وتعالى، حيث قال: (البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، أفلا تدل على الصانع الخبير) 3.

_ 1 سورة المؤمنون الآيات: 84-89. 2 سورة العنكبوت الآية: 61. 3 من خطبة لقيس بن ساعدة، جواهر الأدب لأحمد الهاشمي 2/19. وانظر: البيان والتبيين للجاحظ ص: 163.

وهذه الغريزة الفطرية، لم تكن مقتصرة على النفوس البشرية وحدها، بل حتى الطير والجمادات وغيرها، قد فطرها ربُّّها وخالقها على تسبيحه وتحميده وتنزيهه، نطقاً لا يفهمه إلاّ الذي أنطقها. قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} 1. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} 2. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ... } 3. إلى غير ذلك من الآيات التي تدلُّ على معرفة الجمادات بربها، وتسبيحها له.

_ 1 سورة الإسراء الآية: 44. 2 سورة النور الآية: 41. 3 سورة الحج الآية: 18.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " والمقصود إذا كانت هذه الجمادات قد فطرت على معرفة ربها وتسبيحه وتنزيهه، والإنسان أشرف منها، فلأن يفطر على معرفته بربه بطريق الأولى والأحرى، لما ركب فيه من العقل والتمييز والفطنة"، إلى أن يقول: " وهذا الهدهد طير من الطيور، وفي نظرنا عديم العقل، يصيح كغيره من الطيور، قد خاطب سليمان بأعظم التوحيد، وأعلمه بغير ذلك، فقال: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} إلى قوله: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} 1، هذا كله كلام الهدهد، كما اتفق على ذلك المفسرون"2ا.?. ومن هذا يتبين لنا أنّ وجود الله تعالى أمر فطر في النفوس البشرية، وأنّ الميل والانحراف إنّما يكون عند تغير الفطرة وفسادها، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " الإقرار بالخالق وكماله، يكون فطرياً في حق من سلمت فطرته، وإن كان مع ذلك تقوم عليه الأدلة الكثيرة، وقد يحتاج إلى الأدلة عليه كثير من النّاس، عند تغير الفطرة وأحوال تعرض لها"3.

_ 1 سورة النمل الآيات: 22-26. 2 مجموعة الرسائل الكبرى 2/340-344. 3 مجموع الفتاوى 6/73، وما تقرر هنا من أن وجود الخالق أمر فطري في النفوس البشرية، وأن الانحراف أمر طارئ عليها.. هو ما قرره الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين 1/144، وشيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه منهاج السنة 2/202 وعزاه إلى الجمهور، وابن القيم في كتابه إغاثة اللهفان 2/157-158. وانظر: منهج القرآن في الدعوة إلى الإيمان للدكتور علي ناصر فقيهي ص: 40 الطبعة الأولى 1405?.

أسباب تغير الفطرة: وقد يقال هنا لو كان التوجه إلى الله تعالى أمراً فطرياً في النفوس البشرية، لما عبد الناس في مختلف العصور آلهة شتى؟ والجواب: أنّ الفطرة تدعو المرء إلى الاتجاه إلى الخالق جل وعلا، لكن الإنسان في هذه الدنيا تحيط به مؤثرات كثيرة، تجعله ينحرف حينما يتجه إلى المعبود الحق، وذلك فيما قد يغرسه الآباء في نفوس الأبناء، وما قد يلقية الكتّاب والمعلمون والباحثون في أفكار الناشئة، بما يبدل هذه الفطرة ويفسدها، ويلقي عليها غشاوة، فلا تتجه إلى الحقيقة. يصدِّق ما ذكرنا ماثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلاّ يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" 1. ولم يقل يسلمانه؛ لأنَّ الإسلام دين الفطرة.

_ 1 صحيح البخاري بشرح الفتح 3/219 كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي هل يصلى عليه؟ ومسلم 4/2047 كتاب القدر، حديث: 22 و24 وتقدم.

وقد يقال إذا تركنا الطفل من غير أن نؤثر على فطرته، هل يخرج موحداً عارفاً بربه؟ فنقول: إذا ترك شياطينُ الإنس البشر، ولم يدنّسُوا فطرهم، فإنّ شياطين الجن لن يتركوهم، فقد أخذ الشيطان على نفسه العهد بإضلال بني آدم: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} 1. وأُعطي الشيطان القدرة على أنْ يصل إلى قلب الإنسان، كما في الحديث الصحيح: "إنَّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.." 2. وبين القرآن أنَّ لكلِّ إنسان قريناً من الجن يأمره بالشر، ويحثه عليه، قال تعالى: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ} 3. ولا يتخلص الإنسان من هذا إلاّ بالالتجاء إلى الله تعالى، والتعوذ من

_ 1 سورة ص الآيتان: 82-83. 2 صحيح البخاري بشرح الفتح 4/278 كتاب الاعتكاف، باب هل يخرج المعتكف لحوائجه إلى باب المسجد؟ وصحيح مسلم 4/1712 كتاب السلام، حديث رقم: 24. وسنن أبي داود 2/835 كتاب الصوم، باب المعتكف يدخل البيت لحاجته. وسنن ابن ماجه 1/566 كتاب الصيام، باب في المعتكف يزور أهله في المسجد. 3 سورة ق الآية: 27.

شر الشياطين1. قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} 2. ماذا عن الدهريين والشيوعيين في العصر الحاضر؟ أما عن الدهريين والشيوعيين الملحدين في العصر الحاضر، فقد يُخيّل إلينا أحياناً أنَّ الانحراف الحاصل في بعض المجتمعات المعاصرة استثناء من هذه القاعدة، لأن فيها شعوباً بأسرها لا تعرف الله ألبتة، ولا تعبده ألبتة، بل تدرس الإلحاد في المدارس، وتخرج ملحدين لا يعرفون الله، ولا يؤمنون بوجوده. كما أنَّ بعض المفسرين قالوا عن "الدهريين" الذين يقص القرآن قولهم: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} 3، إنّ هؤلاء القوم ينكرون وجود الله، ويؤمنون بدلاً منه بالدهر. فأما بالنسبة لهذه الآية، فليس فيها ما يقطع بأنهم حتماً ينكرون وجود الله، لأنَّ الآية تقرر فقط أنهم ينسبون الإماتة إلى الدهر، بدلاً من

_ 1 انظر في هذا: العقيدة في الله للدكتور عمر سليمان الأشقر ص: 65-66. 2 سورة الناس بتمامها. 3 سورة الجاثية الآية: 24.

الله، وأنهم ينكرون البعث، وليس هناك على الإطلاق ما يمنع من أن يكونوا مؤمنين بوجود الله، ولكنهم ينفون صلته سبحانه بما يحدث لهم من حياة وموت، كما ينفون قدرته على البعث ... أما الشيوعيون فليسوا -برغم إلحادهم- مستثنين من القاعدة، إنّما الإلحاد مفروض عليهم فرضاً بالحديد والنار، كالنظام الشيوعي ذاته، ولو خلى بينهم وبين أنفسهم لكان ضلالهم في أمر العقيدة كضلال بقية الضالين من البشرية. ويدلّل الأستاذ محمد قطب على ذلك بأن الشيوعيين في الأصل على الفطرة، وأنهم ليسوا خارجين عنها، فيقول: فجاجارين رائد الفضاء الأول، شاب ربى نفسه في الشيوعية والإلحاد منذ مولده إلى يوم انطلاقه إلى الفضاء في داخل الصاروخ، ومع ذلك فقد اهتزت فطرته حين نظر إلى الكون من خلال الصاروخ، لأنه رأى صورة لم يشهدها من قبل، وكان أول تصريح له حين هبط إلى الأرض: " حين صعدتُ إلى الفضاء، أخذتني روعة الكون، فمضيت أبحث عن الله". ويبين الأستاذ محمد قطب بأن استجابة الفطرة التلقائية إزاء الكون الهائل، الذي خلقه الله عز وجل، لم تستطع كل الشيوعية التي تفرضها الدولة، وكل الإلحاد الذي تبثه في الدروس، أن تحول دون انطلاقها حين هزتها روعة الكون. ثم يقول: "ومن الطريف أن الدولة غضبت من هذا التصريح، لأنه

سيهدم كل ما أنشأته خلال خمسين عاماً من الإلحاد، لذلك أمرت جاجارين بتقييم ذلك التصريح الخطير، فأضاف إليه في القراءة الثانية: " ... أخذتني روعة الكون، فمضيت أبحثُ عن الله، فلم أجده". ونشرت وكالات الأنباء هاتين القراءتين المختلفتين للتصريح الواحد، بغير تعليق1 ا.?. وهذا يدلنا على أنّ إنكار الإله الحق عند الشعوب الشيوعية، إنّما هو نتيجة لتدريس الإلحاد في تلك البلدان، وفرضه على الناس بالحديد والنار. وأما ما وجد وقت نزول القرآن الكريم من بعض من فسدت فطرتهم، وانحرفوا عن الحق، فظنوا أو توهموا أنّ المؤثر في الحياة والإماتة، إنّما هو الدهر، كما جاء ذلك عنهم في قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} 2. قال ابن كثير رحمه الله في معنى الآية: "هذا قول الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد، ومرادهم ما ثم إلا هذه

_ 1 انظر دراسات قرآنية لمحمد قطب ص: 26-28 بتصرف. 2 سورة الجاثية الآية: 24.

الدار، يموت قوم ويعيش آخرون، وليس هناك معاد ولا قيامة، وهذا قول الفلاسفة الدهريين، المنكرين للصانع، والمعتقدين أنّ في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه"1 ا.? فإن الله تعالى رد عليهم بقوله: {وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} 2، أي: ليس لهم مستند في ذلك من عقل أو نقل، وإنّما هم قوم يتوهمون ويتخبلون بالظن من غير يقين، والظن لا يغني من الحق شيئاً. كما طالبهم بالدليل على هذا المعتقد الفاسد، والدعوى الباطلة، وهي قولهم إنّهم خلقوا من غير خالق، فقال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} 3. قال الخازن: "ومعنى الآية، هل خلقوا من غير شيء خلقهم، فوجدوا بلا خالق، وذلك مما لا يجوز أنْ يكون، لأن تعلق الخلق بالخالق ضروري، فإنْ أنكروا الخالق لم يجز أنّ يوجدوا بلا خالق، أن هم الخالقون لأنفسهم؟ وذلك في البطلان أشد، لأن ما لا وجود له كيف يخلق؟ فإذا

_ 1 تفسير ابن كثير 4/162 بتصرف. 2 سورة الجاثية الآية: 24. 3 سورة الطور الآية: 35.

بطل الوجهان قامت الحجة عليهم بأنْ لهم خالقاً فليؤمنوا به، وليوحدوه وليعبدوه، وليوقنوا أنّه ربهم وخالقهم"1 ا.?. هذا وسيأتي بيان شبهة منكري البعث، وأدلة القرآن في إثباته في موضعه. ولما كان القرآن الكريم هو آخر الكتب السماوية، والرسول الذي أنزل عليه هذا الكتاب هو خاتم الأنبياء والرسل، والدين الإسلامي خاتم الأديان كلها على الإطلاق، لا يقبل الله من أحد ديناً غيره، كما قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ} 2. وقوله: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 3. جاء هذا الكتاب شاملاً وافياً لكل حاجات البشر، كما قال تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} 4. ومن كماله ووفائه اشتماله على جميع الحجج، والبراهين القاطعة التي تقمع شبهات المنحرفين، والمعاندين متى ظهروا، وفي أي

_ 1 تفسير الخازن 4/210. 2 سورة آل عمران الآية: 19. 3 سورة آل عمران الآية: 85. 4 سورة الأنعام الآية: 38.

مكان ظهروا. وإليك دلائل وجود الله ووحدانيته من كتاب الله العزيز ترشد كلا من الملحدين والمشركين، وتدحض كل شبهة، وتبطل كل فرية، وتدل على الطريق الواضح المستقيم.

تفصيل القول في الدلائل على وحدانية الله 1-آيات الله في خلق الإنسان: إنَّ كلَّ ما في الكون من الذرة إلى المجرة، آيات عظيمة تدل على وجود الله تعالى ووحدانيته، والقرآن الكريم مليء بالآيات التي تحث الإنسان على التدبر والتأمل في مخلوقات الله الكثيرة، ليزداد إيماناً ويقيناً بمعرفة خالقه وبارئه، ومصوره إن كان مؤمناً، وتدعوه إلى الإيمان عن حقيقة واقتناع، إن كان مشركاً أو ملحداً. ولما كان أقرب شيء إلى الإنسان نفسه، فإننا نبدأ به قبل غيره. ففي النفس الإنسانية من الآيات والدلائل على وجود الله تعالى ووحدانيته ما لا يحصى، قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} 1. قال ابن جرير الطبري رحمه الله:" معنى ذلك: وفي أنفسكم أيها الناس آيات وعبر، تدلكم على وحدانية صانعكم، وأنه لا إله لكم سواه، إذ كان لا شيء يقدر على أن يخلق مثل خلقه إياكم {أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} ، يقول: أفلا تنظرون في ذلك فتتفكروا فيه، فتعلموا حقيقة وحدانية خالقكم"2.

_ 1 سورة الذاريات الآية: 21. 2 تفسير ابن جرير 26/205.

وقال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 1. وبين أن نفخة من روح الله تعالى في قبضة من التراب، تصنع هذا الكائن العجيب، وهذا دليل قوي وشاهد عظيم على ربوبية الله تعالى ووحدانيته، قال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} 2. وعن أصل خلق الإنسان، قال تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} 3. وقال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} 4.

_ 1 سورة فصلت الآية: 53. 2 سورة السجدة الآيات: 7-9. 3 سورة الطارق الآيات: 5-7. 4 سورة الدهر الآيتان: 1-2.

وعن أصل خلقه وتكوينه، ومراحل نموه وتطوره، ثم إماتته وبعثه، يقول تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} 1. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 2. وقال تعالى: {قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ} 3. وعن أغشية الجنين، والتي عبر عنها القرآن الكريم بالظلمات الثلاث، قال تعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ

_ 1 سورة المؤمنون الآيات: 12-16. 2 سورة غافر الآية: 67. 3 سورة عبس الآيات: 17-22.

ثَلاَثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} 1. وهذه الظلمات هي: ظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، التي هي كالغشاوة والوقاية على الولد، وظلمة البطن2. وكل عالم ومفكر، وأديب وطبيب، وباحث وصانع، وفيلسوف وشاعر، يخرج من بطن أمه لا يعلم شيئاً كبيراً أو صغيراً، وما اكتسبه من علم ومهارات فإنما هو من فضل الله تعالى عليه. قال تعالى: {وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 3. وبين لنا القرآن الكريم تلك المفارقة الضخمة بين التراب والنطفة القذرة، وبين ذلك الإنسان المستوي المعتدل الخلقه، ثم ما يلبث أنْ يكابر ويتكبر، ويعاند ويجحد، قال تعالى: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} 4.

_ 1 سورة الزمر الآية: 6. 2 انظر: تفسير ابن كثير 4/50، وإيثار الحق على الخلق لأبي عبد الله المرتضى اليماني ص: 45. 3 سورة النحل الآية: 78. 4 سورة النحل الآية: 4.

وقال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} 1. ومن خلال الآيات السابقة، يتبين لنا أنّ الإنسان لو نظر وفكر وتأمل في مبدأ خلقه، وفي كيفية تكوينه وتركيبه، لوجد الشيء الهائل الذي يعجز عن وصفه، فضلاًً عن إدراك كنهه، وكلما اتسع نطاق العلم، تضافرت الأدلة على أن لهذا الإنسان البديع الصنع إلهاً حكيماً، إنه لا يوجد ناحية من نواحي الإنسان ليست مثار دهشة وعجب، إنّ أطواره في الرحم آية من آيات الله تعالى الدالة على وجوده ووحدانيته، ونظام طعامه وشرابه وتحليل الطعام إلى عناصر مختلفة بموازين دقيقة يذهب كل عنصر إلى حيث يؤدي وظيفته، عدا العنصر الذي لا يفيد فيطرد إلى الخارج، كل ذلك آية من آيات الله الدالة على وجوده ووحدانيته. ونظام توزيع الدم من مكانه الرئيسي، وهو القلب إلى جميع أنحاء الجسم بواسطة الشرايين التي لا يحصى عددها إلا الله، ثم عودته إلى القلب بواسطة الأوردة، ومرور الهواء الجديد الذي جلبه التنفس، ليصلح الدم بعد الفساد فيفيد منه الجسم، آية من آيات الله الدالة على وجوده ووحدانيته، دع السمع والبصر والنطق والإحساس، بل دع ما يعرض

_ 1 سورة يس الآية: 78.

للإنسان من تذكر ونسيان، وحزن وسرور، وعلم وجهل، ومحبة وبغض، وغير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على قدرة الله وعظمته، وبالتالي على وجوده ووحدانيته. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "وأقرب شيء إلى الإنسان نفسه، وفيه من العجائب الدالة على عظمة الله ما تنقضي الأعمار في الوقوف على بعضه، وهو غافل معرض عن التفكر فيه، ولو فكر في نفسه لزجره ما يعلم من عجائب خلقها عن كفره"1.

_ 1 مفتاح دار السعادة 1/188.

2- آيات الله في الكون: أ- آيات الله في خلق السماء: ومن أعظم الآيات الدالة على عظمة خالقها ومبدعها، خلق السماء التي فوق رؤوسنا، انظر إلى خلقها المحكم مرةً بعد مرة، ثم كرر النظر إليها مرةً بعد أخرى، فإنك لا تجد فيها صدعاً ولا فطراً، ولا عيباً، بل ستجد أنَّ النظر يعود إليك خاشعاً ذليلاً أمام عظمة الخالق سبحانه وتعالى. قال تبارك وتعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ} 1. قال القرطبي رحمه الله: "أي ردد طرفك وقلب البصر في السماء كرتين، أي مرة بعد أخرى، يرجع إليك البصر خاشعاً صاغراً، متباعداً عن أن يرى شيئاً من ذلك العيب والخلل، وإنما أمر بالنظر كرتين، لأنَّ الإنسان إذا نظر في الشيء مرة لا يرى عيبه، ما لم ينظر إليه مرة أخرى، والمراد بالكرتين التكثير بدليل قوله تعالى: {يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ

_ 1 سورة الملك الآيتان: 3-4.

حَسِيرٌ} ، وهو دليل على كثيرة النظر"1. وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَاوَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} 2. فيا سبحان الله إنها لمثار الدهشة والإعجاب، ربنا ما خلقت هذا باطلاً. ولعظم خلق السماء، فقد أكثر الله تبارك وتعالى من القسم بها، كقوله: والسماء ذات البروج، والسماء والطارق، والسماء وما بناها، والسماء ذات الرجع. قال ابن القيم رحمه الله: "ولم يقسم في كتابه بشيء من مخلوقاته أكثر من السماء والنجوم والقمر، وهو سبحانه يقسم بما يقسم به من مخلوقاته لتضمنه الآيات والعجائب الدالة عليه، وكلما كان أعظم آية وأبلغ في الدلالة، كان إقسامه به أكثر من غيره، ولهذا يعظم هذا القسم كقوله: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} 3، ثم قال: والمقصود إنه سبحانه إنما يقسم من مخلوقاته بما هو من آياته الدالة على

_ 1 الجامع لأحكام القرآن 18/209. 2 سورة ق الآية: 6. 3 سورة الواقعة الآية: 75-76.

ربوبيته ووحدانيته"1 ا.?. ومن كمال قدرة الله تعالى، وعظيم سلطانه أنه رفع السموات بغير قواعد ترتكز عليها، قال تعالى: {اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} 2. وقال تعالى: { ... وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} 3. فأيُّ قوى تمسك بمقاليد هذه السماء، فتجعل عملها يستمر ووظائفها تتأدى وفق نظام شامل بديع!! والجواب: إنه لا يوجد غير الله العزيز الحكيم، الخالق الرؤوف الرحيم بخلقه، الذي يمسك الزمام بقوة وإحكام. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ} 4.

_ 1 مفتاح دار السعادة 1/197. وانظر التبيان في أقسام القرآن للمؤلف ص: 57 وما بعدها. 2 سورة الرعد الآية: 2. 3 سورة الحج الآية: 65. 4 سورة فاطر الآية: 41.

قال القرطبي رحمه الله: "لما بين أنَّ آلهتهم لا تقدر على شيء من السموات والأرض، بين أنَّ خالقها وممسكها هو الله، فلا يوجد حادث إلا بإيجاده، ولا يبقى إلا ببقائه". وقد بين نديم الجسر في كتابه قصة الإيمان، بأن العلم يرجع ذلك الإمساك إلى قوة الجاذبية التي شاهد العلماء آثارها، وأحصوا أطوارها، ومسوا سطوحها ولم يسيروا أغوارها، وعرفوا قوانينها، ونواميسها، ولم يعرفوا بعد أسرارها1.. ثم يعلق نديم الجسر على ذلك بقوله: والحق ما قالوا، فالجاذبية حق وقوانينها المحسوسة المتزنة المتناسبة المحكمة الدقيقة حق، ولكن هل يكون القانون الدقيق المحكم أثر من آثار المصادفة العمياء؟. قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2. وقد امتدح الله تعالى المتفكرين والمتأملين في ملكوت السموات والأرض، فقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ

_ 1 قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والإيمان ص: 311. 2 سورة الزمر الآية: 67.

وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} 1. إنَّ السموات والأرض كون هائل، يزخر بالنفائس ويمتلئ بالمعجزات، لا يستطيع أحدٌ سوى الله تعالى أن يخلق شيئاً فيه كبيراً أو صغيراً، وفي تعاقب الليل والنهار آيات ضخمة كذلك، تشارك في ذلك الشمس بالمقدار المعلوم المنضبط من الضوء والحرارة، ويشارك فيه القمر بضوئه وإشراقه. كما ذم المعرضين عن التفكر في ذلك الخلق العجيب، والتنظيم الفريد، الدال على الحكمة البالغة، والقدرة الباهرة. فقال تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} 2. قال القرطبي: "بين تعالى أنّ المشركين غفلوا عن النظر في السموات وآياتها، من ليلها ونهارها، وشمسها وقمرها، وأفلاكها ورياحها وسحابها، وما فيها من قدرة الله تعالى، ولو نظروا واعتبروا لعلموا أنَّ لها صانعاً قادراً

_ 1 سورة آل عمران الآيتان: 190-191. 2 سورة الأنبياء الآية: 32.

واحداً، يستحيل أنْ يكون له شريك"1. هذا وقد تحدث الإمام ابن القيم في كتابه مفتاح دار السعادة عن عظمة خلق السموات وما فيها من الأدلة والعجائب الدالة على وجود الله تعالى ووحدانيته، فقال: "فالأرض والبحار والهواء، وكل ما تحت السموات، بالإضافة إلى السموات كقطرة في بحر، ولهذا قلَّ أنْ تجيء سورة في القرآن، إلاّ وفيها ذكرها، إما إخباراً عن عظمتها وسعتها، وإما إقساماً بها، وإما دعاء إلى النظر فيها، وإما إرشاداً للعباد أنْ يستدلوا بها على عظمة بانيها ورافعها، وإما استدلالاً منه سبحانه بخلقها على ما أخبر به من المعاد والقيامة، وإما استدلالاً منه بربوبيته لها على وحدانيته، وأنه الله الذي لا إله إلا هو، وإما استدلالاً منه بحسنها واستوائها والتئام أجزائها، وعدم الفطور فيها على تمام حكمته وقدرته، وكذلك ما فيها من الكواكب والشمس والقمر، والعجائب التي تتقاصر عقول البشر عن قليلها ... "2. ب- آيات الله في خلق الأرض: وفي حديث القرآن الكريم عن الأرض التي نعيش فوقها، ونكد

_ 1 الجامع لأحكام القرآن 11/285. 2 مفتاح دار السعادة 1/196-197.

ونكدح على ظهرها، نجد الآيات العظيمة التي تدعو الإنسان العاقل إلى النظر والتأمل في عظمة الخالق، وكمال قدرته، وأنه ليس له شريك في ملكه، تبارك وتعالى، قال تعالى: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ} 1. قال الإمام ابن كثير في معنى الآية الكريمة: " أي فيها من الآيات الدالة على عظمة خالقها وقدرته الباهرة، مما قد ذرأ فيها من صنوف النبات والحيوانات والمهاد، والجبال والقفار والأنهار والبحار، واختلاف ألسنة الناس وألوانهم، وما جبلوا عليه من الإرادات والقوى، وما بينهم من التفاوت في العقول والفهوم، والحركات والسعادة والشقاوة، وما في تركيبهم من الحكم في وضع كل عضو من أعضائهم في المحل الذي هو محتاج إليه فيه"2. يقول ابن القيم: "وإذا نظرت إلى الأرض، وكيف خلقت، رأيتها من أعظم آيات فاطرها وبديعها، خلقها سبحانه فراشاً ومهداً وذللها لعباده، وجعل فيها أرزاقهم وأقواتهم ومعايشهم، وجعل فيها السبل ليتنقلوا فيها في حوائجهم وتصرفاتهم، وأرساها بالجبال، فجعلها أوتاداً تحفظها لئلا تميد بهم، ووسع أكنافها ودحاها فمدها وبسطها، وطحاها فوسعها من جوانبها وجعلها كفاتاً للأحياء تضمهم على ظهرها ما داموا

_ 1 سورة الذاريات الآية: 20. 2 تفسير ابن كثير 4/251.

أحياء، وكفاتاً للأموات تضمهم في بطنها إذا ماتوا"1. وعن بسط الأرض واستقرارها ومهدها لتكون صالحة للحياة والمعاش، قال تعالى: {أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} 2. وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 3. وعن عظمة خلق السموات المرفوعة بغير عمد ترتكز عليها، وتثبيت الأرض بالجبال لئلا تتحرك وتضطرب فتهلك من عليها، أو تهدم بيوتهم، وما خلق في أرجائها من أنواع الحيوانات والدواب، وما أنزل من السماء من الأمطار لشربهم وشرب دوابهم، وإنبات النبات من جميع الأصناف، يقول تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن

_ 1 مفتاح دار السعادة 1/199-200. 2 سورة النمل الآية: 61. 3 سورة غافر الآية: 64.

تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} 1. أي: هذا الذي ترونه وتشاهدونه، إنما هو خلق الله وحده، أما آلهتكم المزعومة من الأوثان والأصنام فماذا خلقت؟ إنّه سؤال على جهة التهكم والسخرية بعقول أولئك المشركين، وبمعبوداتهم التي لا تجلب نفعاً ولا ترفع ضراً. وقال الله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} 2. ومع مهد الأرض واستقرارها، جعلها ذات سبل وطرق كثيرة من أجل سلوك الناس معها لقضاء حوائجهم ومصالحهم، قال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ

_ 1 سورة لقمان الآيتان: 10-11. 2 سورة البقرة الآية: 22.

أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} 1. وقال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} 2. وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} 3. وعن سعة الأرض وامتدادها، وما أودعه الله فيها من جميع الزروع والنبات، وصنوف الخيرات، قال تعالى: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ} 4. وقال تعالى: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ

_ 1 سورة طه الآيتان: 53-54. 2 سورة الزخرف الآية: 10. 3 سورة الأنبياء الآيات: 30-32. 4 سورة الحجر الآية: 19.

زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} 1. إلى غير ذلك من الآيات التي تدعو الإنسان إلى النظر والتفكر في صنع هذه الأرض، وما أودعه الله فيها من الخيرات والنعم الدالة على وجود الله تعالى، ووحدانية خالقها ومبدعها. ج- آيات الله في خلق الشمس والقمر، والليل والنهار والنجوم: ومن آيات الله العظيمة الدالة على وجوده ووحدانيته، تعاقب الليل والنهار، وما أودعه الله في الشمس والقمر من النور والإضاءة. قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 2. وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ

_ 1 سورة ق الآيتان: 7-8. 2 سورة البقرة الآية: 164.

مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 1. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ} 2. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} 3. وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلاَفُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} 4. وقال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي

_ 1 سورة الأعراف الآية: 54. 2 سورة يونس الآيتان: 5-6. 3 سورة يونس الآية: 67. 4 سورة المؤمنون الآية: 80.

ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 1. فهذه الآيات تخاطب العقول البشرية لتنظر وتفكر وتتأمل عظمة الخالق تبارك وتعالى، لتؤمن به رباً خالقاً قادراً حكيماً عظيماً، واحداً لا شريك له في ملكه. وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} 2. والآية خطاب من الله عز وجل إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأن يقول للمشركين أخبروني لو جعل الله عليكم الليل دائماً مستمراً بلا انقطاع إلى يوم القيامة، من إله غير الله يأتيكم بالنور الذي تستضيئون به في حياتكم؟ وأخبروني لو جعل الله تعالى عليكم النهار دائماً مستمراً بلا انقطاع، من الإله القادر على أن يأتيكم بليل تستريحون فيه من العناء والتعب، غير الله تعالى؟ فلو أن المشركين سمعوا سماع فهم وقبول للحق، ونظروا بعين

_ 1 سورة النمل الآية: 86. 2 سورة القصص الآيتان: 71-72.

الإنصاف والعدل، لاستدلوا بذلك على وحدانية الله تعالى، ولعرفوا ما هم عليه من الخطأ والضلال. وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} 1. وإذا تأمل الإنسان حال الشمس والقمر وما أودعهما الله من النور والإضاءة، وكيف أنه جعل لهما بروجاً ومنازل ينزلانها من مرحلة إلى مرحلة، لعلم أنّ ذلك من أجل مصالح البشر ولا غنى لهم عنه ليعلموا حساب الأعمار، والآجال المؤجلة للديون والإجارات، والمعاملات، وكذلك مواقيت العبادات كالصلاة، والصيام، والحج، وعدة النساء وغيرها. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآياتٍ

_ 1 سورة غافر الآيتان: 61-62.

لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} 1. وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} 2. ولما كانت الشمس والقمر من أعظم الأجرام المشاهدة في العالم العلوي والسفلي، نبه تعالى على أنهما من مخلوقات الله تعالى، وأنهما من عبيده وتحت قهره وتسخيره، ونهى عن السجود لهما، لأنَّ ذلك لا يجدي شيئاً، وإنّما يجب السجود لله تعالى الذي خلقهما، وسائر خلقه. قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} 3. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تبين أن الليل والنهار، والشمس والقمر من الآيات العظيمة الدالة على ربوبية الله تعالى ووحدانيته، وحكمته في جعل الليل وقتاً للسكن والراحة من كد السعي

_ 1 سورة يونس الآيتان: 5. 2 سورة الإسراء الآية: 12. 3 سورة فصلت الآية: 37.

والتعب أثناء النهار، حتى إذا أخذت النفوس راحتها، وأخذت تتطلع إلى معاشها وعملها، جاء خالق الإصباح سبحانه وتعالى بالنهار، فبدّد تلك الظلمة، وكشفها عن العالم، فإذا هم مبصرون، فيهرع الناس إلى أعمالهم ومصالحهم، وكذلك تخرج الحيوانات والطيور وغيرها إلى معاشها ومصالحها، فسبحانه من إله حكيم، لا إله غيره، ولا معبود بحق سواه. قال ابن القيم: " ثم تأمل الحكمة في طلوع الشمس على العالم، كيف قدرة العزيز العليم سبحانه، فإنها لو كانت تطلع في موضع من السماء فتقف فيه، ولا تعدوه، لما وصل شعاعها إلى كثير من الجهات، لأنَّ ظل أحد جوانب كرة الأرض يحجبها عن الجانب الآخر، وكان يكون الليل دائماً سرمداً على من لم تطلع عليهم، والنهار سرمداً على من هي طالعة عليهم، فيفسد هؤلاء وهؤلاء، فاقتضت الحكمة الإلهية والعناية الربانية أنْ قدر طلوعها من أول النهار من المشرق، فتشرق على ما قابلها من الأفق الغربي، ثم لا تزال تدور وتغشي جهة بعد جهة حتى تنتهي إلى المغرب، فتشرق على ما استتر عنها في أول النهار، فيختلف عندهم الليل والنهار، فتنتظم مصالحهم "1. كما تحدث نديم الجسر عن حركات القمر ومنازله وأنواره، وأحكام نظامه، وما في ذلك من الدلالة على عظمة الخالق، ثم عقَّب على

_ 1 مفتاح دار السعادة 1/209.

ذلك بأن تلك الآثار لا تكون عن طريق المصادفة العمياء، فيقول:" فهل كل هذا النظام والإحكام الذي خص الله به القمر في حركاته المحسوسة، ودوراته المكتوبة، ومنازله المقدرة، وأقداره المسخرة، وأنواره المكتسبة، وأطواره المرتقبة، أثر من آثار المصادفة العمياء ... ؟ سبحان الخلاق العظيم، والله إنَّ هذا كله لا يجتمع بالمصادفة"1. ومن آيات الله العظيمة الدالة على وحدانيته، خلق النجوم وكثرتها، وعجيب صنعها، وأنها زينة للسماء، وعلامات يهتدى بها في ظلمات الليل في البر والبحر، وما جعل فيها من الضوء والنور، وما في تسخيرها منقادة بأمر ربها تبارك وتعالى جارية وفق سنة ثابتة، ونظام دقيق، وكيف أنّ الله تعالى جعل منها البروج والمنازل، والثوابت السيارة والكبار والصغار والمتوسطة، وما فيها من اختلاف في الألوان، واختلاف في الدنو والعلو، وأشياء أخرى كلها تدعو إلى التأمل والتدبر، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} 2. وقال عز وجل: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ

_ 1 قصة الإيمان لنديم الجسر ص: 329. 2 سورة الأنعام الآية: 97.

مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1. وقال تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} 2. وقد أقسم الله تعالى قسماً عظيماً بمنازل النجوم، وأماكن دورانها في أفلاكها وبروجها، وذلك لما في المقسم به من الدلالة على عظيم قدرة خالقها ومبدعها، وكمال حكمته ورحمته، فقال تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} 3. وقال تعالى: {وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ} 4. د-آيات الله في خلق الرياح والسحاب والمطر: وهبوب الرياح وركودها، واختلاف مهابها لا يستغني عنها إنسان أو حيوان أو نبات، فالجميع في حاجة ماسة إليها، باردة مرة، وحارة

_ 1 سورة النحل الآية: 12. 2 سورة النحل الآية: 16. 3 سورة الواقعة الآية: 75-76. 4 سورة الطارق الآيات: 1-3.

أخرى، أو رطبة مرة، وجافة أخرى، أو معتدلة. هذه الرياح قد أحكم الله سيرها وقدر قواها، ووزعها على هذه الأرض توزيعاً دقيقاً، رصده العلماء، وقسموا على أساسه العالم إلى مناطق حارة، ومناطق باردة، وأخرى معتدلة، كما عرفوا سير هذه الرياح واتجاهها، فنظموا حركات السفن في البحر. يقول ابن القيم رحمه الله:" ومن آياته الباهرة هذا الهواء اللطيف، المحبوس بين السماء والأرض، يدرك بحس اللمس عند هبوبه يدرك جسمه، ولا يرى شخصه، فهو يجري بين السماء والأرض، والطير محلقة فيه سابحة بأجنحتها في أمواجه، كما تسبح حيوانات البحر في الماء، وتضطرب جوانبه وأمواجه عند هيجانه، كما تضطرب أمواج البحر، فإذا شاء سبحانه وتعالى حركه بحركة الرحمة، فجعله رخاء ورحمة وبشرى بين يدي رحمته، ولاقحاً للسحاب كما يلقح الذكر الأنثى بالحمل ... وإن شاء حركه بحركة العذاب، فجعله عقيماً وأودعه عذاباً أليماً، وجعله نقمة على من يشاء من عباده، فيجعله صرصراً ونحساً، وعاتياً، ومفسداً، لما يمر عليه"1. وهذه الرياح والسحاب الذي تحمله وما يتبع ذلك من مطر ورعد

_ 1 مفتاح دار السعادة 1/200-201.

وبرق، آيات عظيمة، وقد وقف القرآن الكريم مرشداً ومبصراً وواعظاً للخلق، طالباً منهم التفكر والتأمل في عظمة الخالق وقدرته الباهرة، ليعبدوه وحده ويطيعوا أمره. قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 1. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} 2. وقال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} 3. وقال تعالى: {أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا

_ 1 سورة الأعراف الآية: 57. 2 سورة الرعد الآيات: 12-14. 3 سورة الحجر الآية: 22.

بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1. وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 2. وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 3. وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ} 4.

_ 1 سورة النمل الآية: 63. 2 سورة الروم الآية: 46. 3 سورة الروم الآيات: 48-50. 4 سورة الشورى الآيات: 32-35.

قال القرطبي عند الآية الأخيرة: " ليعلم الكفار إذا توسطوا البحر، وغشيتهم الرياح من كل مكان، أنه لا ملجأ لهم سوى الله، ولا دافع عنهم إن أراد الله إهلاكهم، فيخلصون له العبادة"1. فكل هذه الآيات والبراهين العظيمة الدالة على القدرة الإلهية، إنّما ضربها الله تعالى لمن كان له عقل يعي ويدرك ويتدبر، ليعلم عن حقيقة واقتناع بأنّ هذه الآيات من صنع الله وحده، قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 2. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن

_ 1 الجامع لأحكام القرآن: 16/ 33. 2 سورة البقرة الآية: 164.

يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} 1. وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا} 2. وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 3.

_ 1 سورة النور الآيتان: 43-44. 2 سورة الفرقان الآيات: 48-50. 3 سورة الروم الآية: 24.

3- آيات الله في خلق الحيوان: وإذا ذهبنا إلى عالم الحيوان لوجدنا فيه من العجائب الإلهية ما يستحق الوقوف والتأمل طويلاً وطويلاً جداً، وذلك أنه عالم مستقل بل هو عوالم تحار فيها العقول والأفكار. هذا التنوع في الخلق من حيوانات برية، وبحرية، وطائرة، وحيوانات حشرية لا ترى بالعين المجردة، وأخرى كبيرة فقرية وثديية، ومنها ما يمشي على رجلين، ومنها ما يمشي على أربع، وأخرى زواحف لا أرجل لها، وحيوانات طويلة العمر، وأخرى قصيرة الأجل، وحيوانات تبيض، وأخرى تلد، وحيوانات للأكل والحمل والألبان، ومنافع أخرى كثيرة، وحيوانات أخرى لا ينتفع بها الإنسان.. وحيوانات ملساء الجلد لا شيء عليها، وحيوانات أخرى مكسورة الجلد بالصوف أو بالشعر أو بالوبر أو الريش. وهناك اختلاف في الأشكال والألوان، وفي الأصوات، وفي طريقة الحياة وتناول الطعام، وفي الأسماع والأبصار وآلات البطش، وأشياء وأشياء يعجز العلم عن تسطيرها. أما إذا ذهبت تفتش عن الحِكم والأسرار في خلق تلك الحيوانات لوجدت نفسك أمام خضم واسع منها. يقول ابن القيم رحمه الله بعد ذكر الكثير من الحكم في خلق هذه

الحيوانات: " فما أغزر الحِكَمْ وأكثرها في هذه الحيوانات التي تزدريها وتحتقرها، وكم من دلالة فيها على الخالق ولطفه ورحمته"1. وعن عوالم تلك الحيوانات والطيور، يتحدث القرآن الكريم، فيقول تبارك وتعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} 2. ويقول تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} 3. ويلفت القرآن الكريم الأبصار، ويفتح العقول ويثير العواطف ويمسك بالأيدي إلى الدلائل الدالة على وحدانية الله تعالى، فيقول عن الطير: {أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 4. ويقول تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ

_ 1 مفتاح دار السعادة 1/244. 2 سورة الأنعام الآية: 38. 3 سورة هود الآية: 6. 4 سورة النحل الآية: 79.

الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} 1. وعن إخراج العسل الذي فيه شفاء للناس من النحل، تلك الحشرة الضعيفة، يقول تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 2. وعن فطانة النملة، حكى الله تعالى قولها وقد رأت سليمان عليه السلام وجنوده: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} 3. وقد قال بعض العلماء: "إن هذه الآية من عجائب القرآن، لأنها بلفظة (يا) نادت (أيها) نبهت (النمل) عينت (ادخلوا) أمرت (مساكنكم) نصت (لا يحطمنكم) حذرت (سليمان) خصت (وجنوده)

_ 1 سورة الملك الآية: 19. 2 سورة النحل الآيتان: 68-69. 3 سورة النمل الآية: 18.

عمت (وهم لا يشعرون) عذرت"1. وعن قدرة الله العظيمة في خلقه لأنواع المخلوقات على اختلاف أشكالها وألوانها، وحركاتها وسكناتها، يقول تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 2. ويمتن الله تعالى على عباده بما خلق لهم من الأنعام، وبما جعل لهم فيها من المصالح والمنافع الكثيرة، فيقول الله تعالى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} 3. ويقول تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ

_ 1 انظر تفسير ابن الجوزي 6/162. 2 سورة النور الآية: 45. 3 سورة النحل الآيات: 5-8.

فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ} 1. قال صاحب الكشاف: "والآية للعبرة، فإنّ الله سبحانه يخلق اللبن وسطاً بين الفرث والدم، يكتنفانه وبينه وبينهما برزخ من قدرة الله لا يبقى أحدُهُما عليه بلون، ولا طعم، ولا رائحة، فسبحان الله ما أعظم قدرته وألطف حكمته لمن تفكر وتأمل"2. فهذا التنوع والتمايز في عالم الحيوان المليء بالعبر والأسرار، لم يكن عبثاً أو مصادفة عمياء. كما لم يبق مجال لأحد أنْ يدعَ أو يظنّ بأنّ لله شريكاً في ملكه.

_ 1 سورة النحل الآية: 66. 2 تفسير الكشاف 2/416.

4-آيات الله في خلق النبات: وإذا انتقلنا إلى عالم النبات، نجد أنّه لا يقلُّ عجباً عن عالم الحيوان، انظر إلى الحبة تكون في باطن الأرض، تربو وتنشق وتنمو شيئاً فشيئاً، حتى يخرجَ الثمر ويؤتى أكله في حينه بإذن ربه.. وانظر إلى النواة على ضعفها تكون نخلة باسقة تمسك بها الجذور، ولا تتأثر لهبوب الرياح، وتؤتي أشهى الثمار وأنفعها.. وانظر إلى التنوع والتمايز في الثمرة الواحدة، حجماً ولوناً ومذاقاً، على الرغم من كونها من نوع واحد، وفي أرض واحدة، وتسقى بماء واحد، وترى بعضها يؤكل باطنه ويرمى ظاهره، وبعضها الآخر يؤكل ظاهره ويرمى باطنه.. ولو نظرت إلى بساتين الأعناب والنخيل، وسائر الأشجار، لرأيت العجب العجاب في صنع الله تعالى، إذ كيف نمت تلك الأغصان وتفرعت هذه الفروع وتغايرت تلك الثمار، وتشكلت هذه الألوان وتنوعت هذه المذاقات..؟ لا ريب أنها الآيات الباهرة والدلائل الملموسة التي خاطب بها القرآن الكريم الفطر السليمة، فهل من تدبر، وهل من مجيب؟ ولقد نبه الله تعالى أنَّ المقصود الأول من هذه النباتات، إنّما هو للدلالة على معرفة وجوده ووحدانيته، وكمال علمه وقدرته، يقول تعالى:

{إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} 1. ويقول تعالى: {وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 2. وعن الزوجية في النبات، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 3. قال ابن الجوزي: و {جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ} أي: نوعين، والزوج الواحد الذي له قرين من جنسه، قال المفسرون: ويعني بالزوجين: الحلو

_ 1 سورة الأنعام الآية: 95. 2 سورة الأنعام الآية: 99. 3 سورة الرعد الآية: 3.

والحامض، والعذب والملح، والأبيض والأسود1. أقول: وهذا لا يمنع من أن يكون ذكراً وأثنى طبق سنته الحكيمة. قال المراغي: " أي وجعل فيها من كل أصناف الثمرات زوجين، ذكراً وأنثى حين تكونها، فقد أثبت العلم حديثاً أنّ الشجر والزرع لا يولدان التمر والحب إلاّ من اثنين ذكر وأنثى، وعضو التذكير قد يكون مع عضو التأنيث في شجرة واحدة كأغلب الأشجار، وقد يكون عضو التذكير في شجرة، وعضو التأنيث في شجرة أخرى كالنخل، وما كان العضوان فيه في شجرة واحدة، إما أن يكون معاً في زهرة واحدة كالقطن، وإمّا أنْ يكون كلٌّ منها في زهرة كالقرع مثلاً "2. وأما ما جاء في ظلال القرآن لسيد قطب بأنَّ هذه حقيقة لم تعرف للبشر من طريق علمهم وبحثهم، إلاّ قريباً، وهي أن كل الأحياء تتألف من ذكر وأنثى، حتى النباتات التي كان مظنوناً أن ليس لها من جنسها ذكور، تبين أنها تحمل في ذاتها الزوج الآخر، فتضم أعضاء التأنيث مجتمعة في زهرة، أو متفرقة في العود3. فلعل مراده من اكتشاف التذكير والتأنيث في عموم النباتات، وإلاّ

_ 1 زاد المسير 4/302. 2 تفسير المراغي 13/66. 3 في ظلال القرآن 5/71-72.

فإنَّ الأصل معروف قديماً، كما في عملية تأبير النخل. وقد أشار إلى هذه الملاحظة الدكتور علي ناصر فقيهي في كتابه منهج القرآن في الدعوة إلى الإيمان1. وجاء في قصة الإيمان لنديم الجسر: "يقول العلماء والعجب يأخذ منهم مأخذه، أنَّ نظام الزوجية مطرد وشامل لجميع الأحياء من الحيوانات، والنباتات كلها بطريقة واحدة، ونسق واحد. ثم ينقل الجسر تقريراً عن "هنري برغسون" في نفي المصادفة في ذلك التماثل والاطراد الشامل في نظام الزوجية لجميع الأحياء من الحيوانات والنباتات، إذ كيف اتفق أن اخترع الحيوان الذكورة والأنوثة ووفق النبات إلى الطريقة نفسها وبالمصادفة نفسها؟ "2. {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} 3. وبين القرآن الكريم أنَّ اختلاف النباتات في الطعم رغم الاتحاد في

_ 1 منهج القرآن في الدعوة إلى الإيمان ص: 60 الطبعة الأولى. 2 قصة الإيمان ص: 377. 3 سورة يس الآية: 36.

التربة والماء من العلامات الباهرة لمن عقل وتدبر، قال تعالى: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1. وفي معنى ذلك، قال الطبري: " الأرض الواحدة يكون فيها الخوخ والكمثرى، والعنب الأبيض والأسود، بعضها حلو، وبعضها حامض، وبعضها أفضل من بعض، مع اجتماعها على شراب واحد"2. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 3. قال أبو حيان: "ختم الآية بقوله (يتفكرون) لأنّ النظر في ذلك يحتاج إلى فضل تأمل، واستعمال فكر، ألا ترى أنَّ الجنة الواحدة إذا وضعت في الأرض، ومر عليها، زمن معين لحقها من نداوة الأرض ما تنتفخ به، فيشق أعلاها فتصعد منه شجرة إلى الهواء، وأسفلها يغوص منه

_ 1 سورة الرعد الآية: 4. 2 تفسير الطبري 13/98. 3 سورة النحل الآيتان: 10-11.

في عمق الأرض شجرة أخرى وهي العروق، ثم ينمو الأعلى، ويقوى، وتخرج الأوراق والأزهار، والأكمام والثمار، المشتملة على أجسام مختلفة الطبائع والألوان، والأشكال والمنافع، وذلك بتقدير قادر مختار، وهو الله تعالى"1. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ} 2.

_ 1 البحر المحيط 5/479. 2 سورة الزمر الآية: 21.

الفصل الثاني: إقامة الحجج والبراهين على المشركين.

الفصل الثاني: إقامة الحجج والبراهين على المشركين: ويشتمل على ما يلي: 1- الأدلة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن أقوى الأدلة التي أقامها القرآن الكريم على الناس عموماً والمشركين خصوصاً، ثبوت صدق النّبي صلى الله عليه وسلم، وأنه مرسل من ربه تبارك وتعالى ثبوتاً، لا يحتمل الشك والمراء وقد دلل على ذلك من وجوه عديدة منها: أ- شهادة الله له: قال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} 1. ومعنى الآية الكريمة أنَّ الله تعالى يأمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يقول للمشركين أي شيء أعظم شهادة، حتى يشهد لي بأني صادق في دعوتي لكم للإيمان بنبوتي؟ فإنّ أجابوك، وإلاّ فقل لهم الله يشهد لي بصدق ما أدعو إليه، وكفى بشهادة الله لي. ب- وجود صفته في كتب أهل الكتاب: إنَّ أهل الكتاب كانوا يجدونه موصوفاً عندهم في التوراة والإنجيل،

_ 1 سورة الأنعام الآية: 19.

بصفاته الكاملة، قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 1. وقال تعالى: { ... وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ ... } 2. وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ} 3. وصفات الرسول صلى الله عليه وسلم لا تزال توجد في كتب أهل الكتاب: العهد القديم، والعهد الجديد، رغم دخول التحريف والتبديل على هذه الكتب4.

_ 1 سورة البقرة الآية: 146. 2 سورة الأعراف الآيتان: 156-157. 3 سورة الشعراء الآية: 197. 4 انظر في هذا إظهار الحق لرحمة الله الهندي، والفارق بين المخلوق والخالق لعبد الرحمن بك زاده، والأجوبة الفاخرة لشهاب الدين القرافي وغيرها. وقد تحدثت عن هذا الموضوع في رسالتي للماجستير "منهج القرآن الكريم في دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام".

ج- شهادة اليهود له: وقد كان اليهود يستفتحون بالرسول صلى الله عليه وسلم على المشركين من العرب قبل البعثة، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ} 1. ذكر ابن إسحاق عن ابن عباس رضي الله عنهما أن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن معرور:.. يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك، وتخبروننا أنه مبعوث، وتصفونه لنا بصفته، فقال سلام بن مشكم أحد بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكره لكم، فأنزل الله في ذلك من قولهم: {وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ ... } الآية2.

_ 1 سورة البقرة الآية: 89. 2 انظر: سيرة ابن هشام 1/547، وتفسير الطبري 1/410، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 3/283، وأسباب النزول للسيوطي ص: 21.

وروى الإمام أحمد في مسنده عن سلمة بن سلامة رضي الله عنه -وكان من أصحاب بدر- قال: "كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل، قال فخرج علينا من بيته قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بيسير، فوقف على مجلس عبد الأشهل، قال سلمة: وأنا يومئذ -أحدث من فيه سناً- على بردة مضطجعاً بفناء أهلي، فذكر البعث والقيامة، والحساب والميزان، والجنة والنار، فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان، لا يرون أن بعثاً كائن بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان، ترى هذا كائناً أنَّ الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، يجزون فيها بأعمالهم؟ قال: نعم، والذي يحلف به لَودّ أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدنيا يحمونه، ثم يدخلونه إياه فيطبق به عليه، وأن ينجو من تلك النار غداً، قالوا له: ويحك وما آية ذلك؟ قال: نبي يبعث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده نحو مكة واليمن، قالوا: ومتى تراه؟ قال: فنظر إليَّ وأنا من أحدثهم سناً، فقال: إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه، قال سلمة: فوالله ما ذهب الليل والنهار، حتى بعث الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم وهو حي بين أظهرنا، فآمنا به، وكفر به بغياً وحسداً، فقلنا: ويلك يا فلان ألست بالذي قلت لنا ما قلت؟ قال: بلى وليس به"1.

_ 1 مسند أحمد 3/467. قال الهيثمي رجال أحمد رجال الصحيح، غير ابن إسحاق، وقد صرح بالسماع. انظر مجمع الزوائد 8/230. وصححه ابن حبان.

د- شهادة النصارى له: وكذلك كان النصارى يترقبون مبعثه صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر الله عز وجل أن المسيح بن مريم عليه السلام قد بشر بني إسرائيل ببعثه صلى الله عليه وسماه لهم في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} 1. وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنَّ أحمد من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم، من ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن جبير بن مطعم عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ لي أسماء، أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب" 2. ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث ورقة بن نوفل الذي

_ 1 سورة الصف الآية: 6. 2 أخرجه البخاري بشرح الفتح 6/554 كتاب المناقب، باب ما جاء في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم، و 8/640 كتاب التفسير، باب قوله تعالى: {يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} . وصحيح مسلم 4/1828 كتاب الفضائل، باب في أسمائه صلى الله عليه وسلم.

ترويه عائشة رضي الله عنها في بدء الوحي: "أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه –وهو التعبد- الليالي ذوات العدد ... إلى أن قالت: فأتت به خديجة ورقة بن نوفل، وكان قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، فقالت: اسمع من ابن أخيك، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال ورقة: هذا هو الناموس الذين نزّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أومخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب1 ورقة أن توفي"2. ومن ذلك ما جاء في الصحيحين أيضاً من حديث أبي سفيان،

_ 1 قال ابن الأثير: لم ينشب أي: لم يلبث، وحقيقته لم يتعلق بشيء غيره، ولا اشتغل بسواه. النهاية 5/52. 2 صحيح البخاري 1/3-4 كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومسلم 1/139 وما بعدها كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث: 252.

عندما استدعاه هرقل في بلاد الشام، قال في آخر حديثه: "وقد كنت أعلم أنه خارج (نبي) ، ولم أكن أظنه منكم، ولو أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي"1. ومن ذلك ما رواه أبو داود عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق إلى أرض النجاشي، فذكر حديثه، قال النجاشي: "أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أحمل نعليه"2. ومن ذلك حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: "كنت رجلاً فارسياً من أهل أصبهان، من قرية منها يقال له جى، وذكر الحديث إلى أن قال في قصته مع الرهبان النصارى، فإلى من توصي بي، وما

_ 1 صحيح البخاري بشرح الفتح 1/32 كتاب الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومسلم 3/1393 كتاب الجهاد، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل.. . 2 سنن أبي داود 3/543 كتاب الجنائز، باب في الصلاة على المسلم يموت في بلاد الشرك، وإسناده حسن. انظر: حاشية جامع الأصول في أحاديث الرسول لابن الأثير 11/264.

تأمرني؟ قال: أي بني، والله ما أعلمه أصبح على ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تتبعه، ولكنه قد أظلك زمان نبي، هو مبعوث بدين إبراهيم، يخرج بأرض العرب مهاجراً إلى أرض بين حرتين، بينهما نخل به علامات لا تخفى، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أنْ تلحق بتلك البلاد فافعل ... "1. هـ - شهادة مشركي العرب له بالصدق والأمانة: لقد حفظ لنا التاريخ صحيفة بيضاء لحياة النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها، ومما حفظ لنا التاريخ أنه صلى الله عليه وسلم اشتهر بالصدق والأمانة، وكانوا يلقبونه بالصادق الأمين2، وكانوا يضعون

_ 1 رواه أحمد في المسند 5/441 وما بعدها. وانظر: دلائل النبوة للبيهقي 1/348. قال ابن حجر: "ورويت قصته من طرق كثيرة من أصحها ما أخرجه أحمد من حديثه نفسه، وأخرجها الحاكم من وجه آخر عنه أيضاً، وأخرجه الحاكم من حديث بريدة، وعلق البخاري طرفاً منها". الإصابة 2/62. 2 انظر قصة الحجر الأسود في سيرة ابن هشام 1/197، والبداية والنهاية لابن كثير 2/303، وقصة المغيرة والمقوقس في دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني ص: 49، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية 1/99، وأسمائه صلى الله عليه وسلم في الخصائص الكبرى للسيوطي 1/193.

عنده أماناتهم لِمَا يعلمونه من صدقه وأمانته1. وكان رأيهم هذا يعد إجماعاً منهم فيه صلى الله عليه وسلم، يؤيد ذلك ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} 2، صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا، فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي، لبطون قريش حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أنَّ خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنت مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً، قال: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} "3.

_ 1 انظر قصة تخلف علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن الهجرة في مكة من أجل تأدية الودائع التي كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس، في تاريخ الطبري 2/378. 2 سورة الشعراء الآية: 124. 3 صحيح البخاري بشرح الفتح 8/737 كتاب التفسير، سورة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} . وصحيح مسلم بشرح النووي 3/83.

فتأمل قولهم: "ما جربنا عليك إلا صدقاً"، معنى ذلك: أنهم لم يحفظوا عنه كذبة واحدة قبل أن يقول لهم ذلك القول، وإلا لذكروها له. وشهد أبو سفيان -قبل أن يسلم- أمام هرقل بصدقه صلى الله عليه وسلم، قال هرقل: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان لا ... "1. كما شهد أمية بن خلف وزوجته قائلاً كلٌ منهما: "فوالله ما يكذب محمدٌ إذا حدث"2. لقد قالوا ذلك مع شدة عداوتهم له صلى الله عليه وسلم، فيا لها من شهادة. و إخبار الجن عنه صلى الله عليه وسلم: روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ما سمعت عمر لشيء قط يقول إنّي لأظنه كذا إلا كان كما يظن، بينما عمر جالس إذ مر به رجل جميل، فقال: لقد أخطأ ظني، أو أنَّ هذا

_ 1 صحيح البخاري بشرح الفتح 1/32 كتاب بدء الوحي. ومسلم 3/1393 كتاب الجهاد، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل. 2 صحيح البخاري بشرح الفتح 6/629، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام. وأحمد في المسند 1/400.

على دينه في الجاهلية، أو لقد كان كاهنهم، على الرجل، فدعي له فقال له ذلك، فقال: ما رأيت كاليوم أستقبل به رجل مسلم، قال: فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني، قال: كنت كاهنهم في الجاهلية، قال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتك. قال: بينما أنا يوماً في السوق جاءتني أعرف فيها الفزع، فقالت: ألم تر الجن وإبلاسها1، ويأسها2، من بعد إنكاسها3، ولحوقها بالقلاص4، وإحلاسها5؟ قال عمر: صدق، بينما أنا عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه، فصرخ به صارخ لم أسمع صارخاً أشد منه يقول: يا جليح6، أمر نجيح7، رجل فصيح يقول: لا إله إلا أنت فوثب القوم قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى: يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول: لا إله إلاّ الله، فقمت، فما نشبنا أنْ

_ 1 إبلاسها وفي رواية: "تجساسها" أي: أنها فقدت أمراً فشرعت تفتش عليه. الفتح 7/180. 2 المراد به اليأس ضد الرجاء. الفتح 7/180. 3 الإنكاس: الإنقلاب. الفتح 7/180. 4 القلاص: الفتية من النياق. الفتح 7/180. 5 الإحلاس: ما يوضع على ظهور الإبل تحت الرحل. الفتح 7/180. 6 الجليح معناه: الوقح المكافح بالعداوة. الفتح 7/181. 7 يقال نجح فلان، وأنجح، إذا أصاب طلبته. النهاية لابن الأثير 5/18.

قيل هذا نبي"1. ز- معجزاته: ومعنى الإعجاز في اللغة الفوت والسبق، يقال: أعجزني فلان، أي فاتني ... قال الليث: "أعجزني فلان إذا عجزت عن طلبه وإدراكه"2. والعجز في التعارف: اسم للقصور عن فعل الشيء، وهو ضد القدرة3، قال تعالى: {أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي} 4. والمعجزة في الإصطلاح: هي الأمر الخارق للعادة المقرون بالتحدي السالم عن المعارضة5. والمراد بالإعجاز هنا: هو إظهار صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة بإظهار عجز العرب بل الناس جميعاً عن معارضته في

_ 1 صحيح البخاري بشرح الفتح 7/177 كتاب مناقب الأنصار، باب إسلام عمر. 2 لسان العرب لابن منظور 5/370. 3 المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص: 322. 4 سورة المائدة الآية: 31. 5 الإتقان في علوم القرآن للسيوطي 2/148.

معجزته الخالدة –وهي القرآن الكريم- وعجز الأجيال من بعدهم إلى قيام الساعة. فالقرآن الكريم قد جاء يحاج العقل البشري ويتحداه إلى الأبد، بعلومه ومعارفة، وأسلوبه وبلاغته، وإخباره الماضية والمستقبلة، وهذا بخلاف معجزات الأنبياء السابقين، وعلامات صدقهم، فإنها كانت محسوسة مشاهدة، وكانت من جنس ما اشتهر به أقوامهم. وهذا ما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: "ما من الأنبياء إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنّما كان الذي أوتيت وحياً أوحاه الله إليَّ، فأرجو أنْ أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة" 1. وبيان ذلك أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد بعث في قوم بلغ فيهم البيان العربي أوج عزته، وتفننت لديهم الفصاحة والبلاغة بأرقى الأساليب، وأوضح البيان. فجاء القرآن الكريم كلاماً معجزاً وأفكاراً حية نابضة خالدة بخلود الزمن في المبادئ، والأخلاق، والعقائد، ومناقشة المبطلين، والرد عليهم، وإقامة الحجج والبراهين على بطلان مزاعمهم. والرسول صلى الله عليه وسلم مع ذلك رجل أمي لا يعرف القراءة

_ 1 صحيح البخاري 6/97 كتاب الفضائل، باب كيف نزول الوحي وأول ما نزل -المكتبة الإسلامية - استانبول.

والكتابة، ولم يدرس في مدرسة، أو يتعلم علومه في جامعة.. ولم يثبت عنه أنه تلقى شيئاً من العلوم والمعارف من بعض العلماء أو المبرزين في صنوف الثقافة والمعرفة، ولم يتصل بأحدٍ من علماء أهل الكتاب حتى يطلعَ على أخبار الأنبياء السابقين. ومع ذلك فقد تحدى النبي صلى الله عليه وسلم العرب خاصة، والناس عامة بالقرآن الكريم على ثلاث مراحل: 1- تحداهم أن يأتوا بمثله وأمهلهم سنين طويلة فلم يقدروا، كما قال تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ} 1. كما ورد التحدي بالقرآن الكريم كله، قال تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} 2. لقد طلب منهم أن يأتوا بكتاب كامل غير هذا الكتاب الكريم، فإذا لم يستجيبوا لدعوته، دلّ ذلك على أنهم متعنتون، يعبدون الهوى، ويسيرون على غير الهدى. 2- فلما عجزوا عن ذلك تحداهم بعشر سور من مثله مفتريات،

_ 1 سورة الطور الآية: 34. 2 سورة القصص الآية: 49.

قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} 1. 3- وبعد عجزهم عن ذلك تحداهم بالإتيان بسورة واحد مثله في قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} 2. وكرر هذا التحدي في قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} 3. وبرغم هذا النزول في التحدي إلى الإتيان بسورة واحدة، ولو

_ 1 سورة هود الآيتان: 13-14. 2 سورة يونس الآية: 38. 3 سورة البقرة الآيتان: 23-24.

بأقصر السور، لم يتقدم واحد منهم إلى حلبة الميدان، رغم أنهم أئمة الفصاحة، وفرسان البلاغة، وثبت عجزهم، وظهر إعجاز القرآن الكريم، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} 1. وقد ظل القرآن الكريم منذ اكثر من أربعة عشر قرناً، وسيظل بإذن الله ما بقي الدهر، يتحدى سائر الأمم عن الإتيان بمثل سورة واحدة من سوره، وما ذلك إلاّ لأنه كلام رب العالمين. وهناك معجزات أخرى كثيرة كانشقاق القمر، وحراسة السماء بالشهب، ومعراجه إلى السماء إلى سدرة المنتهى، وحماية الله له من أعداءه وعصمته من الناس، وإجابة دعائه، ونبع الماء من بين أصابعه، وإخباره عن المغيبات الماضية والمستقبلة التي لا يعلمها أحد إلاّ بتعليم من الله تعالى ... هذا وقد ذكر الإمام النووي في مقدمة شرح مسلم أنَّ معجزات النبي صلى الله عليه وسلم تزيد على الألف والمائتين2.

_ 1 سورة الإسراء الآية: 88. 2 انظر مقدمة شرح النووي على مسلم 1/ 2.

والاسترسال في هذا الموضوع يخرجنا عن المقصود، ومن أراد التوسع فعليه بكتب دلائل النبوة1.

_ 1 من هذه الكتب: دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة للحافظ أبي بكر أحمد ابن الحسين البيهقي، القسم الأول، طبع بمطبعة دار النصر للطباعة، القاهرة، ونشرته المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، والقسم الثاني مخطوط بالجامعة الإسلامية تحت رقم: 2593. وهناك دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني، وإعلام النبوة للماوردي الشافعي، وكلاهما مطبوع.

2- أسئلة تفحم المشركين: ومن الحجج التي أقامها القرآن الكريم على المشركين، استجوابهم عن أمور لا يمكنهم إنكارها، كالرزق والحواس، وأحوال الموت والحياة، وشئون التدبير. قال تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} 1.

_ 1 سورة يونس الآيات: 31-36.

فهذه الآيات الكريمة قد اشتملت على استجواب المشركين على أربعة أمور لا يمكنهم إنكارها، وذلك أنَّ الكلام إذا كان واضحاً جلياً، ثم ذكر على سبيل السؤال والاستفهام وتفويض الجواب إلى المسؤل، كان ذلك أبلغ وأوقع في قلب السامع. وهذه الأمور هي: أحوال الرزق، وأحوال الحواس، وأحوال الموت والحياة، وتدبير الأمر1. فأما الأمر الأول: فهو السؤال عن مسبب الأرزاق، وذلك أن الرزق إنّما يحصل من السماء والأرض، أما من السماء فبنزول الأمطار، كما قال تعالى: { ... وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 2. وقال تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} 3.

_ 1 انظر التفسير الكبير للفخر الرازي 17/76. 2 سورة الجاثية الآية: 5. 3 سورة عبس الآيات: 24-32.

وأما الرزق من الأرض، فلأن الغذاء إما أن يكون نباتاً أو حيواناً، أما النبات فلا ينبت إلاّ من الأرض، وأما الحيوان فهو محتاج إلى الغذاء، فلزم القطع بأنَّ الأرزاق لا تحصل إلاّ من السماء والأرض، ومعلوم أن مدبر السموات والأرض ليس إلاّ الله سبحانه وتعالى، وفثبت أنَّ الرزق ليس إلا من الله تعالى1. وأما الأمر الثاني: فهو أحوال الحواس، ومن أهمها وأشرفها: السمع والبصر، كما قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} 2. وقال تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} 3. وكان علي رضي الله عنه يقول: "سبحان من بصر بشحم، وأسمع

_ 1 انظر: التفسير الكبير للفخر الرازي 17/86 بشيء من التصرف. 2 سورة الأنعام الآية: 46. 3 سورة الملك الآية: 23.

بعظم، وأنطق بلحم"1. وأما الأمر الثالث: فهو أحوال الموت والحياة في قوله تعالى: {وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ} 2. قال الإمام القرطبي: "أي النبات من الأرض، والإنسان من النطفة، والسنبلة من الحبة، والطير من البيضة، والمؤمن من الكافر"3. وقال الإمام ابن كثير رحمه الله عند قوله تعالى: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} 4، أي:" تخرج الزرع من الحب، والحب من الزرع، والنخلة من النواة، والنواة من النخلة، والمؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، والدجاجة من البيضة، والبيضة من الدجاجة، وما جرى هذ المجرى من جميع الأشياء"5.

_ 1 التفسير الكبير للفخر الرازي 17/86. 2 سورة يونس الآية: 31. 3 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8/335. 4 سورة آل عمران الآية: 27. 5 تفسير ابن كثير 1/371.

أما الأمر الرابع: فهو قوله: {وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ} ، وذلك لأن أقسام تدبير الله تعالى في العالم العلوي وفي العالم السفلي، وفي عالم الأرواح والأجساد أمور لا نهاية لها، فلما ذكر تعالى بعض تلك التفاصيل، لا جرم عقبها بالكلام الكلي، ليدل على الباقي1. فهذه الآيات الكريمة تبين لنا أنّ استجواب المشركين عن هذه الأمور الأربعة، يهدف إلى إلزامهم بما يعترفون به حقيقة، وبما فطرت عليه نفوسهم من الإيمان بما تحس وما يحصل عندها من بداهة إلى حد الضرورة، ولهذا عندما سُئل المشركون هذا السؤال لم يكن بد من الاعتراف بما يعتقدونه من وجود الله تعالى، وتدبيره لشئون خلقه ووحدانيته، إذ لا مجال للعناد والمكابرة في شيء من ذلك لغاية وضوحه. ومما يؤيد اعترافهم وإقرارهم بربهم الأعلى الذي يلجأون إليه في الرغبة والرهبة، ما رواه الترمذي عن عمران أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحصين: "كم إلهاً تعبد؟ قال: سبعة، ستة في الأرض، وواحد في السماء، قال: من لرهبتك ورغبتك، قال: الذي في السماء، قال: فاترك الستة واعبد الذي في السماء، وأنا أعلمك دعوتين، فأسلم، وعلمه النبي

_ 1 انظر: التفسير الكبير للفخر الرازي 17/87.

صلى الله عليه وسلم أن يقول: اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي" 1. ومن تقرير وحدانية الله تعالى واستقلاله بالملك والتصرف عن طريق السؤال الذي لا محيد لهم فيه عن الجواب الصحيح. قوله تعالى: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} 2. ففي هذه الآيات الكريمة أمرَ اللهُ رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين لمن الأرض وما فيها من الحيوانات والنبات والثمار، وسائر صنوف المخلوقات؟ ومن المالك لها والمتصرف فيها بالإيجاد، والإفناء؟ فإن كان لديكم علم بذلك فأخبروني به. ستجد أنّهم عند ذلك ينطقون بالحق، وهو أن ذلك لله وحده، فإذا كان ذلك فقل لهم: {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} ، أي: أفلا تعتبرون أنّه لا تنبغي العبادة

_ 1 الجامع الصحيح للترمذي 5/519-520 كتاب الدعوات، باب جامع الدعوات، وقال: هذا حديث غريب. رقم: 3483. 2 سورة المؤمنون الآيات: 85-90.

إلاّ للخالق الرازق المحي المميت. وقل لهم: {مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} ، أي: من هو خالق السموات الطباق بما في ذلك الشمس والكواكب والأقمار، ومن هو خالق العرش الكبير الذي تحمله الملائكة الأطهار؟ ستجد أنّهم يقولون الله وحده، فقل لهم يا محمد {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} ، أي: أفلا تخافون من عذابه فتوحدونه وتتركون عبادة غيره. ثم قل لهم: {مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} ، أي: من بيده الملك الواسع؟ ومن بيده خزائن كل شيء؟ ومن هو المتصرف في هذه الأكوان بالخلق والإيجاد والتدبير؟ وهو مع ذلك يحمي من استجار به والتجأ إليه. وكانت العرب إذا كان السيد فيهم فأجار أحداً، لا يخفر في جواره، وليس لمن دونه أن يجير عليه، لئلا يفتات عليه1. إن المشركين عند ذلك: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ، قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} ، أي: إذا كنتم تقرّون بأنَّ الملك والتدبير كله لله جل وعلا، فكيف تخدعون وتعرضون عن طاعته وتوحيده.

_ 1 تفسير ابن كثير 3/266.

قال أبو حبان: "والسحر هنا مستعار، وهو تشبيه لما يقع منهم من التخليط، ووضع الأفعال والأقوال غير مواضعها، بما يقع للمسحور من التخبط والتخليط"1. وقال صاحب كتاب التسهيل: "ورتب هذه التوبيخات الثلاثة بالتدريج، فقال أولاً: {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} ، ثم قال ثانياً: {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} ، وذلك أبلغ لأن فيه زيادة تخويف، ثم قال ثالثاً: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} ، وفيه من التوبيخ ما ليس في غيره"2. وقال القرطبي: "ودلت هذه الآيات على جواز جدال الكفار، وإقامة الحجة عليهم، ونبهت على أنّ من ابتدأ بالخلق والاختراع والإيجاد والإبداع، هو المستحق للألوهية والعبادة "3. ثم قال تعالى: {بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} 4، وهو إعلام من الله تعالى بأنه لا إله غيره، وقد قامت الأدلة الصحيحة الواضحة على ذلك، وأن المشركين لا يفعلون ذلك عن دليل، وإنّما يتبعون الإفك والضلال طريق آبائهم وأسلافهم في الجهل والتقليد.

_ 1 البحر المحيط 6/418. 2 التسهيل لعلوم التنزيل للكلبي 3/119. 3 الجامع لأحكام القرآن 12/146. 4 سورة المؤمنون الآية: 90.

3- الاحتجاج على المشركين باعترافهم بتوحيد الربوبية وإقرارهم بتوحيد الإلهية عند الشدائد: أ-إقرارهم بتوحيد الربوبية: ومن أقوى الأدلة التي أقامها القرآن الكريم على المشركين في تقرير وحدانية الله تعالى اعتراف المشركين بأن الله تعالى هو المستقل بخلق وتدبير ما في الكون من سماء وأرض، وشمس وقمر، وليل ونهار، وسحاب وأنهار، وأنعام وحيوان، ونبات وأزهار ... وأنه الخالق الرازق المالك لعباده، ومقدر أرزاقهم وآجالهم. جاء هذا الاعتراف والإقرار في آيات كثيرة، منها: قوله تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} 1. وقوله تعالى: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ

_ 1 سورة يونس الآية: 31.

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} 1. ويقول سبحانه: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} 2. ويقول تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} 3. يقول سيد قطب رحمه الله عند تعرضه للآيات المتقدمة من سورة العنكبوت: " هذه الآيات ترسم صورة لعقيدة العرب فيما قبل الإسلام، وتوحي بأنه كان لها أصل من التوحيد، ثم وقع فيها الانحراف، ولا عجب في هذا فهم أبناء إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وقد كانوا بالفعل يعتقدون أنّهم على دين إبراهيم، وكانوا يعتزون بعقيدتهم على هذا الأساس، ولم يكونوا يحفلون كثيراً بالديانة الموسوية أو المسيحية، وهما معهم في الجزيرة العربية اعتزازاً منهم بأنهم على دين إبراهيم، غير منتبهين إلى ما صارت إليه عقيدتهم من التناقض والانحراف، وكانوا إذا سئلوا عن

_ 1 سورة المؤمنون الآيات: 84-89. 2 سورة العنكبوت الآية: 61. 3 سورة العنكبوت الآية: 63.

خالق السموات والأرض، ومسخر الشمس والقمر، ومنزل الماء من السماء، ومحي الأرض بعد موتها بهذا الماء.. يقرون أنّ صانع هذا كله هو الله، ولكنهم مع هذا يعبدون أصنامهم، أو يعبدون الجن، أو يعبدون الملائكة، ويجعلونهم شركاء لله في العبادة، وإن لم يجعلوهم شركاء له في الخلق.. وهو تناقض عجيب ... "1. والحق أن المتأمل في القرآن العظيم، يجد أنَّ أكثر ما دار الحوار بين الأنبياء وأممهم، إنّما هو في إثبات الوحدانية لله تعالى، وإلا فإنّ الإقرار بوجود الله تعالى والاعتراف به خالقاً رازقاً مدبراً، أمر فطري في النفوس البشرية، إلا إذا انتكست تماماً، ولهذا قالت الرسل لأقوامهم المكذبة بإرسالهم إليهم: {أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ... } 2. وقد قالوا لهم ذلك على وجه الاستفهام الإنكاري والتوبيخ، لأنَّ وجود الله ووحدانيته أمر لا يحتمل الشك، لظهور الأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة على ذلك، وصدق القائل: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد3.

_ 1 في ظلال القرآن 6/428. 2 سورة إبراهيم الآية: 10. 3 إحياء علوم الدين للغزالي 1/141.

أما قول ذلك المارد (النمرود بن كنعان) الذي جادل إبراهيم عليه السلام في ربه، كما ذكر الله تعالى قصته في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 1. فقد حمله بطره وطغيانه وكفره بنعم الله عليه، بأنْ ادعى لنفسه مماثلة إله إبراهيم في الإحياء والإماتة، حيث فسر الإحياء بالعفو عمن يستطيع قتله، والإماتة بمن يستطيع إعدامه. ومن هنا فإنّ إبراهيم عليه السلام قطع حجته الواهية، بأن الله تعالى يأتي بالشمس من المشرق، فعليه هو إن كان رباً صادقاً مثل إله إبراهيم، أنْ يأتي بالشمس من المغرب، ولو مرة واحدة؟ فعند ذلك أخرس ذلك الفاجر بالحجة القاطعة، وأصبح مبهوتاً لا يستطيع أنْ ينطق بكلمة. وكذلك ما ادعاه فرعون من الربوبية والإلهية، كما حكى الله تعالى ذلك عنه في قوله: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} 2.

_ 1 سورة البقرة الآية: 258. 2 سورة القصص الآية: 38.

وقوله: {فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} 1، فقد وضّح القرآن الكريم أن فرعون وملأه قد عرفوا الحق في أنفسهم، ولكن منعهم الكبر والطغيان عن اتباعه، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} 2. وأما ما حكاه الله تعالى عن الدهريين، في قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} 3. فهم قلة ممن فسدت فطرتهم فانحرفوا عن اتباع الحق، ومسلك العقلاء، وليس عندهم دليل على دعواهم سوى الظن، والظن لا يغني من الحق شيئاً، ومن هذا يتبين لنا أن الإقرار بتوحيد الربوبية، هو حجة ملزمة على المشركين، لأنه إذا كان الله تعالى هو رب كل شيء ومليكه، وهو الخالق الرازق وحده، فلماذا يعبدون غيره معه؟ وهم مع ذلك يعترفون أنَّ تلك المعبودات لا تملك لهم منعاً ولا عطاء، ولا تملك لأنفسهم ضراً ولا

_ 1 سورة النازعات الآيتان: 23-24. 2 سورة النمل الآيتان: 13-14. 3 سورة الجاثية الآية: 24.

نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فكيف تملك ذلك لغيرها؟! ب- إقرارهم بتوحيد الإلهية عند الشدائد: وأما إقرار المشركين بتوحيد الإلهية والتجاؤهم إلى الله تعالى وحده عند الشدة والكرب وتركهم كلَّ ما كانوا يدعونه من دون الله من الأصنام والأنداد وغيرها، فقد ثبت ذلك عنهم في آيات كثيرة منها: قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} 1. ونذكر في هذا الصدد ما قاله الشيخ محمد رشيد رضا –رحمه الله- في تفسير هذه الآيات: "والمعنى: قل يا أيها الرسول لهؤلاء المشركين المكذبين ... أخبروني عن رأيكم أو عن مبلغ علمكم في ذلك إن أتاكُم عذاب الله الذي نزل بمن كان من أقوام الرسل قبلكم، كالريح الصرصر العاتية، والصاعقة أو الرجفة القاضية، ومياه الطوفان المغرقة، وحرارة الظلمة المحرقة، أو أتتكم الساعةُ بمقدمات أهوالها، أو ما يلي البعث من خزيها ونكالها، أغير الله في هذه الحالة تدعون؟ أم إلى غيره فيها تجأرون؟ إن كنتم صادقين في

_ 1 الأنعام الآية: 40-41.

دعواكم ألوهية هؤلاء الشركاء، الذين اتخذتموهم أولياء، وزعمتم أنهم فيكم شفعاء، أو إن كان من شأنكم الصدق فأخبروني أغير الله تدعون إذا أتاكم أحد هذين الأمرين؟ اللذين يحلو دونهما طعم الأمرين؟ ... ثم أجاب تعالى مخبراً إياهم عما تقتضيه فطرتهم فقال: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} أي لا تدعون غيره لا وحده ولا معه، بل تخصونه وحده بالدعاء، فيكشف ما تدعون إلى كشفه إن شاء وتنسون ما تشركون الآن من الشفعاء والأنداد، لأنَّ الفزع إليه سبحانه عند شدة الضيق واليأس من الأسباب مركوز في فطرة البشر تنبعث إليه بذاتها كما تنبعث إلى طلب الغذاء عند الجوع مثلاً"1. قال الزجاج:" أعلمهم أنهم لا يدعون في الشدائد إلاّ إياه، وفي ذلك أعظم الحجج عليهم، لأنهم عبدوا الأصنام"2. وقال تعالى: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن

_ 1 تفسير المنار 7/408-409. 2 انظر: زاد المسير لابن الجوزي 3/37.

تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} 1. ففي هذه الآيات الكريمة نرى القرآن الكريم يخاطب محمداً صلى الله عليه وسلم بمحاكمة المشكرين المعاندين إلى ما تنطق به فطرتهم التي تعرف حقيقة الألوهية، وتلتجئ إلى إلهها الحق في ساعة الشدة والضيق والحرج، حين يعانون في أسفارهم أهوال البر والبحر، فإنهم لا يتوجهون في تلك اللحظات إلى صنم ولا إلى كوكب، ولا إلى ملك ولا إلى جني، ولا إلى غير ذلك. وإنّما يتوجهون إلى الله وحده مخلصين له الدين سراً وجهراً، ويعدون الله تعالى إذا أنجاهم من تلك الضائقة أن يكونوا من المؤمنين الشاكرين، ولكنهم بعد نجاتهم وأخذهم على أنفسهم العهد ألا يشركوا بالله تعالى يعودون إلى الشرك مرة أخرى. ويماثل معنى الآيات السابقة، قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ

_ 1 سورة الأنعام الآية: 63-65.

الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} 1. وقوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا} 2. وقوله عز وجل: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُون لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} 3. وقوله عز من قائل: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} 4.

_ 1 سورة يونس الآيتان: 22-23. 2 سورة الإسراء الآية: 67. 3 سورة النحل الآيات: 53-55. 4 سورة النمل الآية: 62.

وقوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} 1. وقال سبحانه وتعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} 2. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تبين أنّ ما تقلده المشركون من الشرك، إنّما هو أمر عارض وشيءٌ طارئ يشغل أذهانهم ومخيلاتهم في وقت الراحة والرخاء، أما إذا نزل بهم ما لا يُطاق من اللأواء وشدة الفزع، فإنهم يجأرون بالدعاء إلى الله وحده، مخلصين له الدين، وضلَّ عنهم كل ما كانوا يدعونه من الأصنام والأوثان، لأنَّ هذا دعاء القلب والفطرة، لا دعاء اللسان والتقليد الأعمى.

_ 1 سورة العنكبوت الآية: 66. 2 سورة الزمر الآية: 8.

4- الدعوة عن طريق السؤال والجواب: ومن تنويع أساليب القرآن الكريم في الاحتجاج على المشركين، والتفنن في دعوتهم إلى توحيد الله تعالى –حتى لا يسأموا- استعمل معهم أسلوب الدعوة إلى التوحيد عن طريق السؤال والجواب. قال الله تعالى: {قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} 1. ومعنى قوله: {قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ} ، أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الجاحدين لرسالتك، المعرضين عما جئتهم به من أمر التوحيد، والبعث والجزاء، لمن هذه المخلوقات في العالم كله، علوية وسفلية؟ لمن الكائنات جميعاً في السموات والأرض خلقاً وملكاً وتصرفاً وتدبيراً؟ قل لهم تقريراً وتنبيهاً وإلزاماً هي لله تعالى وحده، لأنهم يوافقون ويقرون بذلك، ولا يستطيعون إنكاره، إما باعترافهم أو بقيام الحجة عليهم. وقد جزم صاحب الكشاف، بأنَّ السؤال للتكبيت، وأنَّ قوله تعالى:

_ 1 سورة الأنعام الآية: 12.

{قُل لِلّهِ} تقرير لهم، أي: هو لله لا خلاف بيني وبينكم في ذلك، ولا تقدرون أن تضيفوا شيئاً منه إلى غيره1. وقال الرازي: "أمره بالسؤال أولاً، ثم بالجواب ثانياً، وهذا إنّما يحسن في الموضع الذي يكون الجواب فيه قد بلغ في الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر، ولا يقدر على دفعه دافع"2. ومن الآيات التي وردت في إثبات الوحدانية عن طريق السؤال والجواب، قوله تعالى: {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا ... } 3. قال القرطبي رحمه الله: " أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض} ، ثم أمره أن يقول لهم هو الله إلزاماً لهم للحجة، إنْ لم يقولوا ذلك وجهلوا من هو"4. وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ

_ 1 الكشاف 2/7. 2 التفسير الكبير 12/164. 3 سورة الرعد الآية: 16. 4 الجامع لأحكام القرآن 9/303.

مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} 1. إن الناس يشتاقون إلى مشرق الصبح حين يطول بهم ليل الشتاء، ويحنون إلى ضياء الشمس عندما تتوارى عنهم فترة وراء السحاب، فكيف بهم لو فقدوا الضياء، ولو دام عليهم الليل سرمداً إلى يوم القيامة؟ على فرض أنهم ظلوا أحياء، وإنَّ الحياة كلها لمعرضة للتلف والبوار، لو لم يطلع عليها النهار، والناس يستروحون الظلام حين يطول عليهم الهجير ساعات من النهار، ويحنون إلى الليل حين يطول النهار بعض ساعات في الصيف، ويجدون في ظلام الليل وسكونه الملجأ والقرار. والحياة كلها تحتاج إلى فترة الليل لتجدد ما تنفقه من الطاقة في نشاط النهار، فكيف بالناس لو ظل النهار سرمداً إلى يوم القيامة على فرض أنهم ظلوا أحياء، وإن الحياة كلها معرضة للتلف والبوار، إن دام

_ 1 سورة القصص الآيات: 71-75.

عليها النهار1. أما العلم الحديث، فيقول كريسي موريسون:" إن الشمس التي هي مصدر كل حياة، تبلغ درجة حرارة مسطحها 12.000 درجة فهرنهايت، وكرتنا الأرضية بعيدة عنها إلى حد يكفي لأن تمدنا هذه النار الهائلة بالدفء الكافي، لا بأكثر منه، وتلك المسافة ثابتة بشكل عجيب، وكان تغيرها في خلال ملايين السنين من القلة، بحيث أمكن استمرار الحياة كما عرفناها، ولو أنَّ درجة الحرارة على الكرة الأرضية قد زادت بمعدل خمسين درجة في سنة واحدة، فإن كل نبت يموت، ويموت معه الإنسان حرقاً أو تجمداً. والكرة الأرضية تدور ... بمعدل ثمانية عشر ميلاً في الثانية، ولو أنَّ معدل دورانها كان مثلاً ستة أميال أو أربعين ميلاً في الثانية، فإن بعدنا عن الشمس أو قربنا منها يكون بحيث يمتنع معه نوع حياتنا، ولو أنَّ شمسنا أعطت نصف إشعاعها الحالي فقط، لكنا تجمدنا، ولو أنها زادته بمقدار النصف، لأصبحنا رماداً من زمن بعيد، هذا إذا كنا قد ولدنا بوصفنا شرارة بروتوبلازمية (خلية) للحياة، ومن ذلك نجد أن شمسنا هي الصالحة لحياتنا من بين ملايين الشموس غير الصالحة لهذه الحياة "2.

_ 1 انظر في ظلال القرآن لسيد قطب 6/369-370 بتصرف. 2 العلم يدعو للإيمان ص: 55 الطبعة الخامسة 1965م.

والآيات تبين للناس جميعاً والمشركين على وجه الخصوص، أنَّ تعاقب الليل والنهار بهذا النظام الدقيق المحكم إلى يوم القيامة، يدل دلالةً جليةً على قدرة الخالق، وأنه لا إله غيره، ولا أحد يفعل كفعله، ولذا كان الخطاب عن طريق السؤال والجواب للتبكيت والإلزام بالحجة الواضحة التي لا يمكن إنكارها.

5- أمثلة من البراهين العقلية على وحدانية الله: الدين الإسلامي لا يدعو الناس إلى عقيدة غامضة، ولكنه يقوم على براهين عقلية واضحة، تدل على صحة ما يدعو إليه، ولا يهاجم مبدأ أو معتقداً آخر إلاّ بعد أن يقدّم الدليل الواضح على تفاهته وبعده عن الحق والصواب، وتعدد المعبودات –مثلاً- يجعل البشر عبيداً لتلك المعبودات، ومن جراء ذلك تقع الأعباء الكثيرة على كواهل عابديها، كتقديم الهدايا والنذور وغيرها من أنواع القرب. قال تعالى: {أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} 1. فالقرآن الكريم يبين الفرق العظيم، والبون الشاسع بين عبادة إله واحد يخضع الجميع لحكمه، وما يتطلبه ذلك التوحيد من التخفيف عن كواهل البشر من التضحيات المرهقة، والشعائر الرهيبة، وبين عبادة آلهة متعددة، غالباً ما ينشأ بسببها أنواع من الاختلاف والشقاق، كما يُحاج القرآن الكريم المشركين بأن تعدد المعبودات ليس له أساس من شرع أو

_ 1 سورة يوسف الآيتان: 39-40.

حق، وإنما هي أسماء سموها هم وآباؤهم، ولذلك فإنّه يجب عليهم أنْ يرجعوا إلى عقولهم ويخلصوا العبادة لله تعالى وحده، فذلك الدين القيم الذي لا اعوجاج فيه. قال الفخر الرازي: " إنّ كونه تعالى واحداً يوجب عبادته؛ لأنه لو كان له ثان لم نعلم من الذي خلقنا ورزقنا، ورفع الشرور والآفات عنا، فيقع الشك في أننا هل نعبد هذا أم ذاك؟ "1. وهذا الذي قاله الرازي هو بعض ما يفهم من بعض مقتضيات التوحيد، ومن ذلك قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} 2. وقد تضمنت الآية الكريمة استفساراً إنكارياً فيه تهكم وتقريع للمشركين، إذ أنّهُ من الواضح أنه ليس هناك موازنة بين ما عبدوه من دون الله من المعبودات التي ليس فيها شائبة خير، وبين من لا خير إلا خيره، ولا إله غيره. قال سيد قطب رحمه الله: " ويبدو هذا السؤال بهذه الصيغة وكأنه تهكم محض، وتوبيخ صرف؛ لأنه غير قابل أنْ يوجه على سبيل الجد، أو

_ 1 التفسير الكبير 18/140. 2 سورة النمل الآية: 59.

أن يطلب عنه جواب"1. وتتابع البراهين الدالة على وحدانية الله تعالى، وقدرته وحكمته، يقول تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} 2. فهذه الآيات الكريمة واجهت المشركين بأسئلة مستمدة من واقع الكون الذي حولهم، والذي يشاهدونه ويلمسونه، ويتمتعون بفوائده وخيراته.

_ 1 في ظلال القرآن 6/291. 2 سورة النمل الآية: 60-64.

إنَّ استخدام الحواس في النظر، والتدبر فيما يشاهد من خلق السموات والأرض وما فيهما من إبداع وتنسيق، لا يمكن أنْ يكون صدفةً، أو رميةً من غير رام. إنَّ الأرض التي جعلت مستقراً للكائن الحي، إنساناً كان أو حيواناً، والأنهار التي تجري فيها لمصلحة الإنسان والحيوان، والجبال التي انتصبت على ظهرها لتثبيتها واستقرارها، وما جعله الله من حواجز تفصل بين المياه العذبة والمياه المالحة1. إنَّ الذي فعل ذلك لا يمكن أن يكون معه شريك في ملكه، ولكن أكثر المشركين لا يعلمون الحق، فيشركون مع الله غيره. ويأتي البرهان الآخر في الآيات الكريمة عن طريق الاستفهام الإنكاري، لاستنهاض الذهن الخامل إلى القيام بالموازنة، بين الذي يجيب دعوة المضطر كلما تضرع إليه لإزالة ما ألم به من مكاره، ودفع ما أحاط به من نوازل، والذي يجعل سكان الأرض خلائق يعمرونها جيلاً بعد جيل، وأمة بعد أمة، وبين هذه المعبودات التي لا تفقه ولا تحس ولا تعي، ولا تدافع عن نفسها، فضلاً عن نفع أو إضرار غيرها. ويأتي برهان آخر أيضاً، وهو أنه من يرشدهم إلى مقاصدهم في أسفارهم في الظلام الدامس، في البراري، والقفار، والبحار، والبلاد التي

_ 1 انظر: تفسير ابن كثير 3/386.

يتوجهون إليها بالليل والنهار؟ ومن الذي يسوق الرياح مبشرة بنزول المطر الذي هو رحمة للبلاد والعباد؟ هل من إله مع الله يقدر على شيء من ذلك؟ تعالى الله وتقدس الخالق القادر عن مشاركة المخلوق العاجز. ويأتي البرهان الأخير من سياق الآيات الكريمة، يسأل المشركين عن من يبدأ خلق الإنسان ثم يعيده بعد فنائه؟ قال الزمخشري: " كيف قال لهم ذلك وهم منكرون للإعادة؟ والجواب: أنه قد أزيحت علتهم بالتمكين من المعرفة والإقرار، فلم يبق لهم عذر في الإنكار"1. ويسألهم القرآن الكريم عن الذي يرزقهم من السماء بإنزال المطر، فينبت لهم من خيرات الأرض والزروع والثمار؟ فهل من إله غير الله تعالى يفعل شيئاً من ذلك؟ ثم قال لهم: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} ، أي: أحضروا حجتكم ودليلكم على ما تدّعون وتزعمون إن كنتم صادقين في أنَّ مع الله إلهاً آخر. قال أبو حيان: " وناسب ختم كل استفهام بما تقدمه، فلما ذكر

_ 1 الكشاف 3/297.

إيجاد العالم العلوي والسفلي، وما امتن به من إنزال المطر، وإنبات الحدائق، اقتضى ذلك أن لا يعبد إلا موجد العالم، والممتن بما به قوام الحياة، فختم بقوله: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} ، أي: يعدلون عن عبادته، أو يعدلون به غيره مما هو مخلوق مخترع، ولما ذكر جعل الأرض مستقراً، وتفجير الأنهار وإرساء الجبال، وكان ذلك تنبيها على تعقل ذلك والفكر فيه، ختم بقوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} . ولما ذكر إجابة دعاء المضطر وكشف السوء واستخلافهم في الأرض ناسب أن يستحضر الإنسان دائماً هذه المنة، فختم بقوله: {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} إشارة إلى نسيان الإنسان إذا صار إلى الخير، بعد زال السوء عنه. ولما ذكر الهداية في الظلمات، وإرسال الرياح مبشرات، ومعبوداتهم التي لا تهدي ولا ترسل، وهم يشركون بها، ختمه بقوله: {تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، واعتقب كل واحدة من هذه الجمل قوله: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} على سبيل التوكيد والتقرير، إنه لا إله إلا هو تعالى"1 ا.?.

_ 1 البحر المحيط 7/91 بتصرف يسير.

6- الاستدلال بالمتقابلات: ومن الأدلة التي أقامها القرآن الكريم على المشركين، الإستدلال بالمقابلة بين خالق المخلوقات العظيمة –خاصة- ماله تأثير على حياة الناس ومنافعهم- وبين ما يعتقد فيه المشركون أنّ له شيئاًَ من التأثير كدفع ضر أو جلب نفع، وهو مخلوق حقير لا يستطيع أن يجلب لنفسه نفعاً ولا يُدفع عنها ضراً- فضلاً عن نفع أو إضرار غيره. ومن ذلك قوله تعالى: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} 1. قال الرازي: " والمعنى أفمن يخلق هذه الأشياء التي ذكرناها، كمن لا يخلق، بل لا يقدر ألبتة على شيء، أفلا تذكرون، فإنّ هذا القدر لا يحتاج إلى تدبر وتفكر ونظر، ويكفي فيه أن تنتبهوا على ما في عقولكم من أن العبادة لا تليق إلا بالمنعم الأعظم، فهذه الأصنام جمادات محضة، وليس لها فهم ولا قدرة، ولا اختيار، فكيف تقدمون على عبادتها، وكيف تجوزون الاشتغال بخدمتها وطاعتها"2. وجاء في تفسير أبي السعود: " {أَفَمَن يَخْلُقُ} هذه المصنوعات

_ 1 سورة النحل الآية: 17. 2 التفسير الكبير 20/12. بتصرف

العظيمة، ويفعل هاتيك الأفاعيل البديعة، أو يخلق كل شيء، {كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} شيئاً أصلاً، وهو تبكيت للكفرة، وإبطال لإشراكهم وعبادتهم للأصنام بإنكار ما يستلزمه ذلك من المشابهة بينها وبينه سبحانه وتعالى"1. ومن آيات المقابلة في هذا الخصوص، قوله تعالى: {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} 2. وقد اشتملت الآية الكريمة على أربع متقابلات: المقابلة الأولى: بين الله الذي هو رب السموات والأرض، وبين شركاء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا يدفعون عنها ضراً. قال الفخر الرازي: " ولما كانت عاجزة عن تحصيل المنفعة لأنفسها،

_ 1 تفسير أبي السعود 5/104. 2 سورة الرعد الآية: 16.

ودفع المضرة عن أنفسها، فبأن تكون عاجزة عن تحصيل المنفعة لغيرها، ودفع المضرة عن غيرها، كان ذلك أولى، فإذا لم تكن قادرة على ذلك، كانت عبادتها محض العبث والسفه"1. المقابلة الثانية: هي بين الأعمى، ويشمل المشرك الذي لا يبصر الحق، ولا يدرك الحقائق، وبين البصير ويشمل المؤمن الذي يبصر الحق، ويدرك الحقائق. وهذه المقابلة هي في الواقع استدلال تدعيمي للمقابلة الأولى، لأنه من المسلم به بداهة أنْ لا تساوي بين الأعمى والبصير. قال الرازي مبيناً العلاقة بين هذه المقابلة، والتي قبلها: " ولما ذكر هذه الحجة الظاهرة، بين أن الجاهل بمثل هذه الحجة يكون كالأعمى، والعالم بها كالبصير"2. المقابلة الثالثة: هي بين الظلمات والنور، وإيضاح ذلك، إنه إذا كانت الظلمة وما ينتج عنها من ضياع وضلال، فإنها لا يمكن أنْ تكون مساوية للنور، وما يتولد عنه من إنارة وإشعاع، واهتداء، فكيف تصح المساواة بين جمادات جاثمة من الأصنام والأوثان لا تحرك ساكناً، وبين من كان من إبداعه خلق السموات والأرض؟

_ 1 التفسير الكبير 19/31. 2 التفسير الكبير 19/31.

المقابلة الرابعة: وهي بين من يخلق، ومن لا يخلق، وهي من تمام الاحتجاج عليهم، والتهكم بعقولهم، والمعنى هل اتخذ هؤلاء المشركون آلهة خلقوا مخلوقات كالتي خلقها الله، فالتبس الأمر عليهم، فلا يدرون خلق الله من خلق آلهتهم؟ وإذا كان المشركون يعلمون بالضرورة أنّ تلك المعبودات من دون الله لم يصدر عنها فعل ألبتة، وما ظهر لها خلق إطلاقاً، ولما كان الأمر كذلك كان حكمهم إزاءها بأنها شركاء لله في الألوهية محض السفه والجهل. قال القرطبي عند قوله تعالى: {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء} هذا يدل على اعترافهم بأن الله هو الخالق، وإلا لم يكن للاحتجاج بقوله: {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء} معنى، بدليل قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 1، أي: فإذا اعترفتم، فلم تعبدون غيره؟ وذلك الغير لا ينفع ولا يضر، وهو إلزام صحيح"2.

_ 1 سورة لقمان الآية: 25. 2 الجامع لأحكام القرآن 9/303.

ومن آيات المقابلة قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} 1. وقد ذكر الله تعالى من مخلوقاته، في هذا السياق ما يلي: 1- خلق السموات بغير عمد مرئية. 2- جعل الرواسي الثابتة على الأرض حتى لا تهتز وتضطرب، فتهلك من على ظهرها. 3- تفريق كل أنواع الحيوانات والدواب من مأكول ومركوب على سطح الأرض. 4- إنزال الماء من السماء وفق نظام دقيق. 5- أنبت من الأرض كل صنوف النبات ذات المنافع الكثيرة، والخلق البديع. أما آثار الذين من دونه تعالى، فهي لا شيء بحكم واقع الأمر. قال الرازي: "يعني: الله خالق، وغيره ليس بخالق، فكيف تتركون

_ 1 سورة لقمان الآيتان: 10-11.

عبادة الخالق وتشتغلون بعبادة المخلوق"1. فالتقابلات إذن تهدف إلى الاستدلال على أن الله تعالى ليس له شريك في ملكه أبداً، وهي تبرهن على عدم وجود أي مبرر منطقي يسوغ عبادة غير الله من الأوثان والأنداد وغيرها.

_ 1 التفسير الكبير 25/144.

7- ضرب الأمثال: ومن الوسائل التي استعملها القرآن الكريم في دعوة المشركين، ضرب الأمثال للتذكير والوعظ والاعتبار، وتصوير الشرك بصورة محسوسة ليكون ذلك أقرب إلى الأنظار، وأثبت في الأذهان، وأسرع في الفهم والامتثال. قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} 1. وقال تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} 2. والمثل في اللغة يطلق على المثل، والشبه والشبيه وزناً ومعنىً في الجملة3، وقيل المثل بفتحتين معناه: الوصف، ومنه قوله تعالى: {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا} 4.

_ 1 سورة الزمر الآية: 27. 2 سورة العنكبوت الآية: 43. 3 لسان العرب لابن منظور 11/160. 4 سورة الرعد الآية: 35.

فمثلها صفتها والخبر عنها1. ونقل الميداني أنّ المثل: قول سائر يشبه به حال الثاني بالأول، مأخوذ من المثال، والأصل فيه التشبيه2. ويقرر أبو هلال العسكري أن كلَّ كلمةٍ سائرة تسمى مثلاً، وقد يأتي القائل بما يحسن من الكلام أن يتمثل به، إلا أنه لا يتفق أن يسير فلا يكون مثلاً3. ويذكر الراغب الأصفهاني "بأن أصل المثول الانتصاب، والممثل المصور على مثال غيره، يقال: مثل الشيء أي انتصب وتصور، والتمثال الشيء المصور، وتمثل كذا تصور، قال تعالى: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} 4"5. وقد نفى الله تعالى عنه المشابهة من كل وجه، فقال تعالى: {لَيْسَ

_ 1 لسان العرب 11/610. 2 الأمثال للميداني 1/5 المطبعة الخيرية. وانظر كتاب الجمهرة على هامش الأمثال ص: 10. 3 الجمهرة على هامش مجمع الأمثال 1/5. 4 سورة مريم الآية: 17. 5 المفردات في غريب القرآن ص: 462.

كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 1. ومن هنا نستطيع أن نقول إنَّ المثل هو: الشيء الممثل به، الذي يتضح به صورة المعنى المراد وصفه، وإبراز هذه الصفة بطريقة واضحة جلية. 1- ومن الأمثال التي ضربها الله تعالى للمشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله تعالى يعبدونها، ويرجون نفعها بالعنكبوت اتخذت بيتاً لا يغني عنها في حر ولا برد، ولا مطر ولا أذى، قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} 2. قال ابن كثير رحمه الله: " هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله، يرجون نصرهم ورزقهم ويتمسكون بهم في الشدائد، فهم في ذلك كبيت العنكبوت في ضعفه ووهنه، فليس في أيدي هؤلاء من آلهتهم، إلا كمن يتمسك ببيت العنكبوت، فإنه لا يغني عنه شيئاً، فلو علموا هذا الحال لما اتخذوا من دون الله أولياء، وهذا بخلاف

_ 1 سورة الشورى الآية: 11. 2 سورة العنكبوت الآية: 41.

المسلم المؤمن قلبه لله، وهو مع ذلك يحسن العمل في اتباع الشرع، فإنه متمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها لقوتها وثباتها "1. وقال القرطبي: " وهذا مثل ضربه الله سبحانه لمن اتخذ من دونه آلهة لا تنفعه ولا تضره، كما إنَّ بيت العنكبوت لا يقيها حراً ولا برداً "2. وقال ابن القيم رحمه الله: " ... وهذا من أحسن الأمثال، وأدلها على بطلان الشرك، وخسارة صاحبه، وحصوله على ضد مقصوده"3. 2-وضرب الله تعالى مثلاً آخر في بيان عجز معبودات المشركين وتفاهتها بالذباب الحقير، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} 4. قال ابن القيم رحمه الله: " حقيق على كل عبد أن يستمع لهذا المثل، ويتدبره حق تدبره، فإنه يقطع موارد الشرك من قلبه، وذلك أن المعبود أقل درجاته أن يقدر على إيجاد ما ينفع عابده، وإعدام ما يضره، والآلهة

_ 1 تفسير ابن كثير 3/431. 2 الجامع لأحكام القرآن 3/345 نقلاً عن الفراء. 3 الأمثال في القرآن لابن القيم ص: 190. 4 سورة الحج الآية: 73.

التي يعبدها المشركون من دون الله لن تقدر على خلق ذباب، ولو اجتمعوا كلهم لخلقه، فكيف ما هو أكبر منه، ولا يقدرون على الانتصار من الذباب، وإذا سلبهم الذباب شيئاً مما عليهم من طيب ونحوه، فيستنقذونه منه فلا هم قادرون على خلق الذباب الذي هو من أضعف الحيوان، ولا على الانتصار منه، واسترجاع ما يسلبهم إياه، فلا أعجز من هذه الآلهة، ولا أضعف منها، فكيف يستحسن عاقل عبادتها من دون الله تعالى؟ وهذا المثل من أبلغ ما أنزل الله سبحانه في بطلان الشرك، وتجهيل أهله وتقبيح عقولهم، والشهادة على أنَّ الشياطين قد تتلاعب بهم أعظم من تلاعب الصبيان بالكرة ... إلى أن يقول: وأدلُّ من ذلك على عجزهم وانتفاء آلهتهم، أنّ هذا الخلق الأقل الأذل، العاجز الضعيف، لو اختطف منهم شيئاً واستلبه، فاجتمعوا على أن يستنقذوه منه، لعجزوا عن ذلك، ولم يقدروا عليه.."1. 3-كما ضرب الله تعالى لهم مثلاً واقعياً من أنفسهم، وهو أنه إذا كان أحدهم لا يرضى أن يكون عبده ومملوكه شريكاً له في ماله الذي رزقه الله تعالى، فكيف يرضى لله شريكاً له في العبادة، وهو في الأصل مخلوق لله، وعبد له؟

_ 1 الأمثال في القرآن لابن القيم ص: 247-249.

قال تعالى: {ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} 1. قال ابن كثير رحمه الله: " هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين به، العابدين معه غيره، الجاعلين له شركاء وهم مع ذلك معترفون أن شركاءه من الأصنام والأنداد عبيد له، ملك له، كما كانوا يقولون: لبيك لا شريك لك، إلاّ شريكاً هو لك، تملكه وما ملك"2. وقال ابن القيم رحمه الله: " وهذا دليل قياس احتج الله سبحانه به على المشركين، حيث جعلوا له من عبيده وملكه شركاء، فأقام عليهم حجة يعرفون صحتها من نفوسهم، ولا يحتاجون فيها إلى غيرهم، ومن أبلغ الحجاج أن يأخذ الإنسان من نفسه، ويحتج عليه بما هو في نفسه مقرر عندها، معلوم لها. والمعنى: هل يرضى أحد منكم أن يكون عبده شريكه في ماله وأهله، حتى يساويه في التصرف في ذلك، فهو يخاف أن ينفرد في ماله بأن

_ 1 سورة الروم الآية: 28. 2 تفسير ابن كثير 3/449.

يتصرف فيه، كما يخاف غيره من الشركاء والأحرار، فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم، فَلِمَ عدلتم لي من خلقي من هو مملوك لي؟ فإن كان هذا الحكم باطلاً في خاطركم وعقولكم، مع أنه جائز عليكم، وممكن في حقكم، إذ ليس عبيدكم ملكاً لكم حقيقة، وإنّما هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، وأنتم وهم عبادي، فكيف تستجيزون مثل هذا الحكم في حقي، مع أنّ من جعلتموهم لي شركاء عبيدي وملكي وخلقي، فهكذا يكون تفصيل الآيات لأولي العقول "1. 4-ومن ضرب الأمثال للمشركين، وإقامة الحجة عليهم، ما ضربه الله لهم في قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} 2. ففي هذا المثل شبه الله المشرك بالعبد الذي يتولى أمره شركاء كثيرون بينهم اختلاف وتنازع، فهم يتنازعونه ويتجاذبونه في حوائجهم، واحد يأمره بأمر، وآخر يأمره بمخالفته، وثالث يأمره بكذا، ورابع يأمره بكذا، مما يجعل العبد في حيرة وضلال من أمره، لا يدري أيهم يرضي؟

_ 1 الأمثال في القرآن ص: 201-203. 2 سورة الزمر الآية: 29.

وشبه الرجل الموحد بالعبد الذي لا يملكه إلاّ شخص واحد، حسن الأخلاق، فلا منازعة ولا معارضة مما يحقق للعبد الهدوء والاستقرار. والسؤال الموجه إلى المشركين هو: هل يستوي العبد الذي يملكه شركاء بينهم نزاع في ذلك العبد المشترك بينهم وبين العبد الذي يملكه شخص واحد في حسن الحال وراحة البال؟ والجواب: إذا كان ذلك حقاً لا يستوي، فكذلك لا يستوي المؤمن الموحد الذي لا يعبدُ إلاّ الله وحده لا شريك له، مع المشرك الذي يعبد آلهة متعددة. قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: "هذه الآية ضربت مثلاً للمشرك والمخلص"1. وقال الرازي: "وهو مثل ضرب في غاية الحسن في تقبيح الشرك، وتحسين التوحيد"2. 5-ومن الأمثال التي ضربها الله تعالى للمشركين، قوله تعالى: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَضَرَبَ اللهُ

_ 1 تفسير ابن كثير 4/56. 2 التفسير الكبير 26/277.

مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} 1. فقد اشتملت الآيتان الكريمتان على مثلين: الأول: ما ضربه الله تعالى لنفسه وللأصنام التي يعبدونها من دون الله جل وعلا، وبيان ذلك: أنَّ مثل هؤلاء المشركين مثل من سوى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف، وبين حر مالك يتصرف في أمره كيف يشاء، مع أنهما سيان في البشرية والمخلوقية لله سبحانه وتعالى، فما الظن برب العالمين حيث يشركون به أعجز المخلوقات وأحقرها؟ وهو سبحانه المالك لكل شيء، ينفق كيف يشاء على خلقه، ليلاً ونهاراً، والأوثان مملوكة عاجزة لا تقدر على شيء. وقد ذهب إلى هذا القول مجاهد والسدي2. وذهب ابن عباس وقتادة أنه مثل صربه الله للمؤمن والكافر، فالذي لا يقدر على شيء هو الكافر؛ لأنه لا خير عنده، وصاحب الرزق هو المؤمن، لما عنده من الخير3.

_ 1 سورة النحل الآيتان: 75-76. 2 انظر تفسير الطبري 14/149-150. 3 انظر: زاد المسير لابن الجوزي 4/472، والطبري 14/149.

قال ابن القيم رحمه الله: " والقول الأول أشبه بالمراد، فإنه أظهر في بطلان الشرك، وأوضح عند المخاطب، وأعظم في إقامة الحجة، وأقرب نسباً بقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} 1"2. والمثل الثاني: هو ما ضربه الله سبحانه لنفسه، ولما يعبدون من دونه أيضاً من الأصنام الباطلة، فالصنم بمنزلة رجل أبكم لا ينطق ولا يعقل، ولذلك فهو عاجز لا يقدر على شيء بالكلية، لأنه إما حجر أو شجر، ومع هذا فأينما أرسله صاحبه لا يأتيه بخير، ولا يقضي له حاجة. والسؤال هو هل يستوي هذا الأخرس الذي لا يفيد شيئاً، وذلك الرجل البليغ المتكلم بأفصح بيان، وهو على طريق الحق والاستقامة؟ وإذا كان العاقل لا يسوي بينهما، فكيف تمكن التسوية بين صنم أو حجر، وبين الله سبحانه القادر العليم، المتكلم الآمر بالمعروف، والهادي إلى الصراط المستقيم. وبهذا يتبين لنا أن ضرب المثل من الوسائل التي أثبت الله تعالى بها قدرته العظيمة، وعجز كل ما يعبد من دونه من إنسان أو حيوان، أو

_ 1 سورة النحل الآيتان: 73-74. 2 انظر الأمثال في القرآن ص: 205-207.

حجر، أو شجر، وغير ذلك، وأنه من الأساليب التي اتخذها القرآن في إقامة الحجة على المشركين، حيث أنه أظهر الشرك في صور ملموسة محسوسة.

8- الجدل: قال ابن منظور في لسان العرب: " الجدل هو: اللدد في الخصومة والقدرة عليها.. يقال جادلت الرجل فجدلته جدلاً، أي: غلبته، ورجل جدل إذا كان أقوى في الخصام"1. وقال ابن فارس في مقاييس اللغة: " الجيم والدال واللام، أصل واحد، وهو من باب استحكام الشيء في استرسال يكون فيه، وامتداد الخصومة، ومراجعة الكلام"2. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا خاتم النبيين في أم الكتاب، وإن آدم لمنجدل في طينته"3، أي ملقى على الجدالة، وهي: الأرض4. ومن هذا يتبين لنا أن الجدل في اللغة هو اللدد في الخصومة، ومراجعة الكلام. أما الجدل في الاصطلاح فقد عرفه أبو البقاء في كتاب الكليات، فقال: " الجدل هو عبارة عن دفع المرء خصمه عن فساد قوله بحجة أو

_ 1 لسان العرب 11/105. 2 مقاييس اللغة 1/433. 3 سبق تخريجه ص: 211 4 النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 1/248.

شبهة، وهو لا يكون إلا بمنازعة غيره"1. وعرفه صاحب المصباح المنير، فقال بعد أن ذكر المعنى اللغوي للجدل: " ثم استعمل على لسان حملة الشرع في مقابلة الأدلة؛ لظهور أرجحها، وهو محمود إن كان للوقوف على الحق، وإلاّ فمذموم"2ا.? قال الرازي: "والجدل المذموم في القرآن، محمول على الجدل في تقرير الباطل، وطلب المال والجاه، والجدل الممدوح محمول على الجدل في تقرير الحق، ودعوة الخلق إلى سبيل الله، والذب عن دين الله تعالى"3 ا.?. هذا وقد جاء الجدل في القرآن الكريم على أنواع منها: 1-ما كان القصد منه الرد على المعاندين وإلْزامهم بالحجة، وهذا ما جاء على ألسنة الرسل والأنبياء عليهم السلام، وعلى هذا قوله تعالى: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 4، وقوله: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 5.

_ 1 كتاب الكليات لأبي البقاء 2/172. 2 المصباح المنير ص: 102. 3 التفسير الكبير للفخر الرازي 5/167. بتصرف يسير. 4 سورة النحل الآية: 125. 5 سورة العنكبوت الآية: 46.

2-ما جاء في القرآن من الحوار بقصد الترجي، أو الاسترشاد وحب الاستطلاع. ومن هذا القبيل، جدل إبراهيم عليه السلام مع ربه لتأخير العذاب عن قوم لوط عليه السلام، قال تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} 1. وكذلك جدال الملائكة في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} 2. وكذا جدال خولة بنت ثعلبة التي حكى الله قصتها في قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} 3. 3-ما جاء على ألسنة الكفار والمعاندين من الاعتراضات والدعاوي

_ 1 سورة هود الآية: 74. 2 سورة البقرة الآية: 30. 3 سورة المجادلة الآية: 1.

الباطلة، كما قال تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} 1. والذي نحن بصدده الآن، إنّما هو جدل القرآن للمشركين في إثبات الوحدانية لله تعالى، وما أقامه عليهم من أدلة وبراهين، وإلزامهم بالحق في أسلوب واضح جلي. هذا وقد سلك القرآن الكريم في الاستدلال على وحدانية الله تعالى مسلكين: المسلك الأول: الاستدلال على وحدانية الله تعالى بانتظام الكون، وسلامته من الخلل والتصادم والفساد. ومن أظهر الأدلة على هذا ما يسميه علماء الكلام بدليل التمانع، وعلى هذا قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} 2. قال الإمام عبد الرحمن بن نجم المعروف بالحنبلي في كتابه استخراج الجدل من القرآن، بعد إيراده للآية الكريمة: "وهذا الدليل معتمد أرباب

_ 1 سورة غافر الآية: 5. 2 سورة الأنبياء الآية: 22.

الكلام من أهل الإسلام، وقد نقل بعض علماء السلف أنه قال: نظرت في سبعين كتاباً من كتب التوحيد، فوجدت مدارها على قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} "1. ومعنى الآية الكريمة: "أي لو كان في السموات والأرض إله غير الله، لخرجتا وهلك من فيهما، ذاك أنه لو كان فيهما إلهان، فإما أن يختلفا أو يتفقا في التصرف في الكون، والأول ظاهر البطلان، لأنه إما أن ينفذ مرادهما معاً، فيريد أحدهما الإيجاد والثاني لا يريده، فيثبت الوجود والعدم لشيء اختلفا فيه، وأما أن ينفذ مراد أحدهما دون الثاني، فيكون هذا مغلول اليد عاجزاً، والإله لا يكون كذلك، والثاني باطل أيضاً؛ لأنهما إذا أوجداه معاً توارد الخلق من خالقين على مخلوق واحد. ولما أثبت بالدليل أنّ المدبر للسموات والأرض لا يكون إلا واحداً، وأن ذلك الواحد لا يكون إلاّ الله، قال: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} ، أي: فتنزيهاً لله رب العرش المحيط بهذا الكون، ومركز تدبير العالم عما يقول هؤلاء المشركون من أنَّ له ولداً أو شريكاً"2.

_ 1 استخراج الجدل من القرآن الكريم ص: 83. 2 انظر تفسير المراغي 17/19.

وقال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} 1. قال ابن كثير رحمه الله: " أي لو قدر تعدد الآلهة، لانفرد كل منهم بما خلق، ثم لكان كل منهم يطلب قهر الآخر وخلافه، فيعلو بعضهم على بعض، وما كان ينتظم الوجود، والمشاهد أن الوجود منتظم متسق غاية الكمال"2. وقال ابن القيم رحمه الله في هذا المقام: " فلا بدّ من أحد أمور ثلاثة: إما أنّ يذهبَ كل إله بخلقه وسلطانه، وإما أنْ يعلوا بعضهم على بعض، وإما أن يكونوا كلهم تحت قهر إله واحد، يتصرف فيهم ولا يتصرفون فيه، ويمتنع من حكمهم ولا يمتنعون من حكمه، فيكون وحده هو الإله الحق، وهم العبيد المربوبون المقهورون، وانتظام أمر العالم العلوي والسفلي وارتباط بعضه ببعض، وجريانه على نظام محكم لا يختلف ولا يفسد، من أدل دليل على أن مدبره واحد، لا إله غيره"3ا.?. وقال تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ

_ 1 سورة المؤمنون الآية: 91. 2 تفسير ابن كثير 3/267 بتصرف. 3 التفسير القيم ص: 371.

سَبِيلاً} 1. ومعنى الآية الكريمة أنه لو فرض جدلاً أن مع الله آلهة أخرى، كما يزعم المشركون، لطلبوا كما قال ابن عباس رضي الله عنهما منازعة وقتالاً، وكما تفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض2. وقد احتوت الآية الكريمة حجة جدلية، فلو كان لله شركاء في كونه، لما قبلوا أن يكونوا في مركز أدنى، ولسعوا ليكونوا شركاء منافسين له في كل شيء3.

_ 1 سورة الإسراء الآية: 42. 2 القرطبي 10/265، وهذا هو أحد وجهين في تفسير الآية الكريمة، والوجه الآخر لو كان الأمر كما تقولون، لكان أولئك المعبودون يبتغون سبيلاً إلى التقرب إليه بعبادته، وطاعته ويطلبون الزلفى لديه، وهو قول قتادة واختيار ابن جرير. انظر تفسيره 15/91، وتفسير ابن كثير 3/45. والوجه الأول أظهر والله أعلم، كما يقول أبو السعود، لأنه الأنسب لقوله تعالى بعدها {سُبْحَانَهُ} ، فإنه صريح في أن المراد بيان أنه يلزم مما يقولونه محذور عظيم. انظر تفسير أبي السعود 5/174. كما نصره الشوكاني حيث قال: " ومثل معناه قوله سبحانه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} . انظر فتح القدير للشوكاني 3/230. 3 انظر التفسير الحديث لدروزة 4/236-237.

المسلك الثاني: في التركيز على إبطال معبودات المشركين، ومناقشتهم فيها مناقشة واضحة صريحة في تلك المعبودات التي لا تخلق ذبابة، ولا تستطيع أنْ تدفع عن أنفسها ضراً، ولا تجلب لها نفعاً، فضلاً عن نفع أو إضرار غيرها، وبيان أن تلك المعبودات ما هي إلاّ مجرد أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، وأنّها وليدة الظن والهوى. وقد مر معنا أنّ من أصنام العرب المشهورة اللاتن والعزى، ومناة.. وعن مناقشتهم في هذه المعبودات قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} 1. قال محمد عزة دروزة: "والآيات هي الأولى من نوعها في احتوائها تعريضاً صريحاً بمعبودات العرب، وعقائدهم، ونقاشاً وحجاجاً وتسفيهاً وإفحاماً حول هذه العقائد "2. ومجادلة المشركين هنا هو أنه إذا كان المشركون يعظمون البنين

_ 1 سورة النجم الآيات: 19-23. 2 التفسير الحديث 1/221.

ويحتقرون الإناث، فكيف ينسبون ما يحتقرونه إلى الله تعالى، وما يحبونه ويعظمونه ينسبونه لأنفسهم؟ فهذه القسمة جائرة وباطلة، حتى ولو كانت بين المخلوقين، فكيف بهم وهم يقسمون ذلك بينهم وبين رب العالمين؟ كما بينت الآية الكريمة حقيقة هذه المعبودات، وأنها مجرد أسماء جاءت من نسج الخيال واستهواء الشياطين، وأن المشركين لم يستندوا في تسميتها أو عبادتها إلى علم أو برهان نقلي أو عقلي، وإنّما استندوا إلى مجرد الظن والتخريض، {وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} 1. كما أنهم فعلوا ذلك اتباعاً لهوى أنفسهم، وهوى الأنفس لا يصلح أن يكون إلهاً مشرعاً، وإلاّ لما احتاج الناس إلى إرسال الرسل، وإنزال الكتب، ولكان إله كل إنسان هواه.

_ 1 سورة النجم الآية: 28.

9- تعجيز المشركين عن الإتيان بدليل عقلي أو نقلي يقر عبادتهم: قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} 1. وفي هذه الآية الكريمة يخاطب الله تبارك وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يستجوب المشركين عن أمرين: 1-هل يعقل أنْ يضاف إلى هذه الأصنام خلق جزء من أجزاء هذا العالم؟ 2-فإن لم يصح، فهل يجوز أنْ يقال: إنها أعانت إله العالم في خلق جزء من أجزاء العالم؟ ولما كان صريح العقل حاكماً بأنه لا يجوز إسناد جزء من أجزاء هذا العالم إليها، وإن كان ذلك الجزء أقل الأجزاء، ولا يجوز أيضاً إسناد الإعانة إليه في أقل الأفعال وأذلها، فحينئذ صح أن الخالق الحقيقي لهذا العالم هو: الله سبحانه وتعالى، وأن المنعم الحقيقي بجميع أقسام النعم هو:

_ 1 سورة الأحقاف الآية: 4.

الله تعالى. والعبادة عبارة عن الإتيان بأكمل وجوه التعظيم، وذلك لا يليق إلاّ بمن صدر عنه أكمل وجوه الإنعام، فلما كان الخالق الحق، والمنعم الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى، وجب أنْ لا تكون العبادة إلا له، ولما كانوا لا يستطيعون القول بأنها تستحق هذه العبادة، كما لا يستطيعون القول بأنا نعبدها لأجل أنْ الإله الخالق المنعم أمرنا بعبادتها، فعند هذا، ذكر الله تعالى ما يجري مجرى الجواب عن هذا السؤال فقال: {اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ} . وتقرير هذا الجواب أن ورود هذا الأمر لا سبيل إلى معرفته إلا بالوحي والرسالة، فنقول: هذا الوحي الدال على الأمر بعبادة هذه الأوثان، إما أن يكون قد نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، أو في سائر الكتب الإلهية المنزلة على سائر الأنبياء. وأما إثبات ذلك بالوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فهو معلوم البطلان. وأما إثباته بسبب اشتمال الكتب الإلهية المنزلة على الأنبياء المتقدمين عليه، فهو أيضاً باطل، لأنه علم بالتواتر الضروري إطباق جميع الكتب الإلهية على المنع من عبادة الأصنام. وهذا هو المراد من قوله تعالى: {اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا} .

وأما إثبات ذلك بالعلوم المنقولة عن الأنبياء، سوى ما جاء في الكتب، فهذا أيضاً باطل، لأنّ العلم الضروري حاصل بأن أحداً من الأنبياء ما دعا إلى عبادة الأصنام، وهذا هو المراد من قوله: {أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ} ، ولما بطل الكل، ثبت أن الاشتغال بعبادة الأصنام عمل باطل، وقول فاسد1. ولهذا المعتقد الفاسد المبني على الضلال، أعقب الله تعالى الآية السابقة بقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} 2. ومن الآيات التي وردت في هذا المعنى، قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلاَّ غُرُورًا} 3. ومعنى الآية الكريمة: قل يا محمد –توبيخاً وتبكيتاً لهؤلاء المشركين

_ 1 انظر: التفسير الكبير للفخر الرازي 28/4 بتصرف يسير. 2 سورة الأحقاف الآية: 5. 3 سورة فاطر الآية: 40.

أخبروني عن شأن معبوداتكم من دون الله التي أشركتموها معه في العبادة، بأي شيء استحقت هذه العبادة؟ وإن كنتم تتوهمون فيها القدرة، فأروني أثرها؟ أروني أي شيء خلقوه في هذه الدنيا من المخلوقات حتى عبدتموهم من دون الله؟ أم أنهم شاركوا الله في خلق السموات وإبداعها فاستحقوا بذلك الشركة مع الله في الألوهية؟ أم أنزلنا عليهم كتاباً يشهد بالشركة، فهم على حجة ظاهرة واضحة في عبادة هذه الأوثان؟ ثم قال تعالى: {بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلاَّ غُرُورًا} . قال أبو السعود في هذا المعنى: " لما نفى أنواع الحجج في ذلك، أضرب عنه بذكر ما حملهم عليه، وهو تغرير الأسلاف للأخلاف، وإضلال الرؤساء للأتباع بأنهم شفعاء عند الله"1 ا.? وقد بين الله تعالى للمشركين به أن تلك المعبودات التي عبدوها من دونه لا تملك لعابديها وزن ذرة من خير أو ضر في السموات أو في الأرض، وليس له تعالى منها ولا من غيرها معين يعينه، أو مساعد يساعده، بل هو المنفرد بالخلق كله، المنفرد بالعطاء والمنع،

_ 1 تفسير أبي السعود 7/155.

سبحانه وتعالى. قال جل وعلا: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ} .

_ سورة سبأ الآية: 22.

الفصل الثالث: توجيهات وتحذيرات للمشركين.

الفصل الثالث: توجيهات وتحذيرات للمشركين ويشتمل على ما يلي 1- الأمر الجازم بعبادة الله وحده، والنهي عن عبادة ما سواه. ولما كان الله تبارك وتعالى هو الخالق وحده، والرازق المتفضل على جميع خلقه بأنواع النعم، فهو المستحق وحده للعبادة، وإخلاصها له، وعدم الإشراك بأحد من مخلوقاته، فقد أمر الله تعالى الناس بعبادته وحده، ونهاهم نهياً مطلقاً عن عبادة ما سواه، وبين أنَّ العلة في خلق الجن والإنس، إنّما هو من أجل عبادته، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 1. وقد جاءت الأوامر بعبادة الله وحده، والنواهي عن عبادة غيره في آيات كثيرة من القرآن الكريم، منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} 2.

_ 1 سورة الذاريات الآية: 56. 2 سورة البقرة الآيتان: 21-22.

وقال تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} 1. وقال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} 2. وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} 3. وقال تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} 4. وقال تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 5. قال ابن كثير: " أي: لا تكونوا من المشركين الذي فرقوا دينهم، أي: بدلوه وغيروه، وآمنوا ببعض وكفروا ببعض، كاليهود والنصارى

_ 1 سورة النساء الآية: 36. 2 سورة الأنعام الآية: 151. 3 سورة الإسراء الآية: 23. 4 سورة الحج الآيتان: 30-31. 5 سورة الروم الآية: 31.

والمجوس وعبدة الأوثان، وسائر أهل الأديان الباطلة -ما عدا أهل الإسلام-، فأهل الأديان قبلنا اختلفوا فيما بينهم على آراء ومذاهب باطلة، وكل فرقة منهم تزعم أنها على شيء، وهذه الأمة أيضاً اختلفت فيما بينهم على نحل، كلها ضلالة إلاّ واحدة، وهم أهل السنة والجماعة المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبما كان عليه الصدر الأول من الصحابة والتابعين، وأئمة المسلمين في قديم الدهر وحديثه"1. وقد أرشد الله تعالى نبيه إبراهيم عليه السلام عند بناء البيت الحرام، أن يبنيه على اسم الله تعالى وحده، وأن يطهره من الشرك وعبادة الأوثان، فقال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} 2. وأوصى لقمان الحكيم ابنه بعدم الشرك بالله تعالى، فقال الله عنه: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 3.

_ 1 تفسير ابن كثير 3/451-452. بتصرف يسير. 2 سورة الحج الآية: 26. 3 سورة لقمان الآية: 13.

وأمر الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول لقومه: {قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ} 1. وقال تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} 2. وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ} 3. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} 4.

_ 1 سورة الأنعام الآية: 14. 2 سورة الأنعام الآية: 106. 3 سورة يونس الآيات: 104-106. 4 سورة الرعد الآية: 36.

وقال تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} 1. وقال تعالى: {وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 2. إن واحداً من هذه الأوامر أو واحداً من هذه النواهي يكفي دليلاً للإقلاع عن هذه العبادة، فكيف والقرآن مليء بالأوامر بعبادة الله وحده والنواهي عن عبادة ما سواه!

_ 1 سورة الحجر الآية: 94. 2 سورة القصص الآيتان: 87-88.

2- الأساليب الخبرية: أ-أسلوب الخبر المجرد: وقد جاء هذا الأسلوب مجرداً عن المؤكدات، بياناً للحق، وإعلاماً للخلق، كما في قوله تعالى: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1، وقوله عز وجل: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 2. ب- أسلوب الخبر المؤكد: والمؤكدات التي جاء بها القرآن الكريم في شأن التوحيد والوحدانية كثيرة، منها: 1-التأكيد بالقسم. 2-التأكيد بأن. 3-التأكيد باللام. وقد اجتمعت هذه المؤكدات الثلاثة في قوله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَبُّ السَّمَاوَاتِ

_ 1 سورة الفاتحة الآية: 1. 2 سورة البقرة الآية: 163.

وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} 1. 4-التأكيد بأساليب القصر، كأسلوب النفي والاستثناء، كما في قوله تعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا} 2. وأسلوب القصر "بإنّما"، كما في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} 3. وأسلوب القصر بالتقديم والتأخير، كما في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، فتقديم المفعول {إِيَّاكَ} أفاد قصر العبادة على الله تعالى وحده، دون غيره.

_ 1 سورة الصافات الآيات: 1-5. 2 سورة طه الآية: 14. 3 سورة الأنعام الآية: 19.

3- الدعوة إلى التجرد من التقاليد الموروثة: لقد كانت التقاليد والعادات الموروثة تتحكم في عقائد الجاهلية، ومن أجل ذلك تعرضت العقائد للانحراف، وانهارت أمام القيم والأخلاق، واختلت الموازين والأعراف، فكان الواقع يرفض كل المسلمات والبدهيات، ولا يقبل سوى ما كان عليه الآباء والأجداد. ولذلك فقد ناقش القرآن الكريم هذه القضية مناقشة جادة، وعالجها معالجة شافية، كعادته في معالجة القضايا ذات الأهمية البالغة، وبين أن هذه القضية لم تكن حديثة المولد والنشأة، ولكنها قديمة التاريخ، عميقة الجذور، فلم يكن العرب الذين واجههم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هم أول من قال هذه المقالة، بل لقد رددها الذين استحبوا العمى على الهدى من الأمم السابقة. لقد قالها قوم نوح عليه السلام: {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} 1.

_ 1 سورة المؤمنون الآية: 24.

وقالها قوم هود عليه السلام: {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} 1. وقالها قوم صالح عليه السلام: {قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} 2. وقالها قوم إبراهيم عليه السلام، لما قال لهم: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} 3. ولما قال لهم: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} 4. وقالها قوم شعيب - عليه السلام -: {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ

_ 1 سورة الأعراف الآية: 70. 2 سورة هود الآية: 62. 3 سورة الأنبياء الآيات: 52-54. 4 سورة الشعراء الآيات: 72-74.

أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} 1. وقيلت لموسى عليه السلام: {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} 2. وقد بين القرآن الكريم أن تلك المقالة قد قيلت لكافة الأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} 3. وقص علينا ربنا تعالى قول الأقوام السابقين لرسلهم: {قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} 4. وأخيراً قالها مشركو مكة للنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم،

_ 1 سورة هود الآية: 87. 2 سورة يونس الآية: 78. 3 سورة الزخرف الآية: 23. 4 سورة إبراهيم الآية: 10.

قال تعالى: {قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا} 1. و {قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا} 2. {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} 3. فهذا سندهم الوحيد، وهو دليلهم الفريد، إنه التقليد الجامد الذي لا يقوم على علم، ولا يعتمد على برهان، بل ولا حتى على تفكير أو روية، إن هذا الموقف إنّما هو استجابة لدعوة إبليس، فهل هم مصرون على السير في هذا الطريق، وراء تقليد الآباء حتى دخول نار جهنم؟ إنّها لمسة مزعجة، موقظة منبهة، ولكن لمن ألقى السمع وهو شهيد. وقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ} 4.

_ 1 سورة البقرة الآية: 170. 2 سورة المائدة الآية: 104. 3 سورة لقمان الآية: 21. 4 سورة سبأ الآية: 43.

وفي سورة الزخرف آيات كثيرة تناقش هذه القضية، قال تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} 1. قال ابن كثير رحمه الله: " أي ليس لهم مستند فيما هم فيه من الشرك، سوى تقليد الآباء والأجداد، بأنهم كانوا على أمة ... ثم بين جل وعلا أن مقالة هؤلاء قد سبقتهم إليها أشباههم ونظائرهم من الأمم السالفة المكذبة للرسل تشابهت قلوبهم "2. ويربط القرآن الكريم مقالتهم بمقالات الأمم السابقة المكذبة، والتي أهلكها الله تعالى بسبب كفرهم وتقليدهم الأعمى لآبائهم. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} 3. والآيات السابقة تبين لنا أن التقاليد الوراثية قد استحكمت في

_ 1 سورة الزخرف الآية: 22. 2 تفسير ابن كثير 4/135. 3 سورة الزخرف الآيات: 23-25.

عقول الناس من عهود الأنبياء السابقين، وإلى عهد محمد صلى الله عليه وسلم، ولا شك أنّ تلك المقالة قد قيلت، وستقال كلما عدل الناس عن منهج الإسلام. وتبين الآيات كذلك أنَّ القوم المعارضين لم ينظروا إلى الدعوة بعين الإنصاف والتدبر، وإنّما نظروا إليها بالجحود والجمود، والاستسلام المطلق لتلك التقاليد والعادات الموروثة عن الآباء والأجداد. ولقد بين القرآن الكريم سذاجة هذه الأقاويل، ووضح أنّها لا تستند إلى دليل من نقل أو عقل، فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} 1. وقال سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} 2. فالآيات الكريمة تبين لنا أن القوم مستسلمون لتقاليد آبائهم وأجدادهم، حتى ولو كان آباؤهم وأجدادهم لا يعقلون شيئاً، ولا

_ 1 سورة البقرة الآية: 170. 2 سورة المائدة الآية: 104.

يعلمون شيئاً، بأن كانوا جهالاً لا يميزون بين ما هو حق، وما هو باطل. والقرآن الكريم يطلب من هؤلاء المقلدين أنْ يحاكموا تقاليدهم إلى ميزان العقل، إن كانت لديهم عقول، إلاّ أن القوم رفضوا توجيهات القرآن الكريم، واستمروا على تعصبهم، الأمر الذي جعل القرآن ينكر عليهم، ويتعجب من فعلهم، قال تعالى حكاية قول هود عليه السلام لقومه: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ} 1. وقال تعالى حكاية عن قول إبراهيم عليه السلام: {قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ} 2. وبين القرآن الكريم أنّ الطاعة العمياء، والإغراق في الجهالة والضلال، وتتبع خطا الآباء من غير دليل ولا برهان، جعلت مصيرهم ومرجعهم إلى دركات الجحيم.

_ 1 سور الأعراف الآية: 71. 2 سورة الشعراء الآيتان: 75-76.

قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ} 1. كما بين القرآن الكريم أنّ كل إنسان يتحمل تبعة عمله فقط، ولا يسأل عن حسنات أو سيئات الآخرين، كما ورد في كثير من الآيات البينات. قال تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ... } 2. وقال تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} 3. وقال الله تعالى: {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ

_ 1 سورة الصافات الآيات: 68-71. 2 سورة الإسراء الآية: 13-15. 3 سورة فاطر الآية: 18.

مَا سَعَى} 1. وقال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} 2.

_ 1 سورة النجم الآيتان: 38-39. 2 سورة الزلزلة الآيتان: 7-8.

4- استعمال الحكمة في دعوتهم: ولما كانت دعوة القرآن الكريم مبنية على الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، كما قال تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} 1. فقد أمر الله المؤمنين بأنْ لا يسبوا آلهة المشركين، مخافة أنْ يحمل هذا السب أولئك الجهلة على سب الله تعالى. قال سبحانه وتعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} 2. قال ابن عباس رضي الله عنهما: قالوا يا محمد لتنتهين عن سب آلهتنا، أو لنهجون ربك، فنهي الله أن يسبوا أوثانهم، فيسبوا الله عدواً بغير علم3.

_ 1 سورة النحل الآية: 125. 2 سورة الأنعام الآية: 108. 3 أسباب النزول للواحدي ص: 127، وتفسير ابن جرير 7/309، وتفسير ابن كثير 2/177.

وقال قتادة: كان المسلمون يسبون أوثان الكفار، فيردون ذلك عليهم، فنهاهم الله تعالى أنْ يستسبوا لربهم قوماً جهلة، لا علم لهم بالله1. وقال السدي: "لما حضرت أبا طالب الوفاة، قالت قريش: انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فلنأمره أنْ ينهى عنا ابن أخيه، فإنا نستحي أن نقتله بعد موته، فتقول العرب: كان يمنعه فلما مات قتلوه، فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحرث وأمية وأبيّ أبناء خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمرو بن العاص، والأسود بن البختري إلى أبي طالب، فقالوا: أنت كبيرنا وسيدنا، وأن محمداً قد آذانا، وآذى آلهتنا، فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا، ولندعه وإلهه، فدعاه، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أبو طالب: هؤلاء قومك وبنو عمك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا يريدون؟ فقالوا: نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك، فقال أبو طالب: قد أنصفك قومك فاقبل منهم، فقال عليه الصلاة والسلام: أرأيتم إن أعطيتكم هذا، هل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم بها العرب، ودانت لكم بها العجم؟ قال أبو جهل: نعم وأبيك لنعطيكنها وعشر أمثالها، فما هي؟ قال: قولوا لا إله إلا الله، فأبوا

_ 1 أسباب النزول للواحدي ص: 127، ولباب النقول في أسباب النزول للسيوطي ص: 103، وتفسير الطبري 7/309.

واشمأزوا، فقال أبو طالب: قل غيرها يا ابن أخي، فإن قومك قد فزعوا منها، فقال: يا عم، ما أنا بالذي أقول غيرها ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها، فقالوا: لتكفنّ عن شتمك آلهتنا أو لنشتمك، ونشتم من يأمرك، فأنزل الله هذه الآية1. والآية الكريمة تنهى المؤمنين عن سب معبودات المشركين التي يدعون أنها تجلب لهم النفع، أو تدفع عنهم الضر، لأن المؤمنين إذا سبوا وشتموا معبودات المشركين، ربما غضبوا وذكروا الله بما لا ينبغي من القول، وذلك لأنَّ طبيعة البشر أن كل من عمل عملاً، فإنه يستحسنه

_ 1 رواه أحمد في المسند 3/314-315 تحقيق أحمد شاكر، وإسناده صحيح. والترمذي 8/361، حديث: 3230، وقال: هذا حديث حسن صحيح. والحاكم في المستدرك 2/432، وصححه، ووافقه الذهبي، والطبري في التفسير 7/309، والواحدي في أسباب النزول ص: 127، والسيوطي في الدر المنثور 5/295، وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم، وابن مردويه. ورواه غير هؤلاء من أهل الحديث. وممن رواه من أهل السير: ابن إسحاق بإسناد منقطع كما في سيرة ابن هشام 2/67-68، والسير والمغازي 236 معلقاً، ويشهد له ما جاء بأسانيد صحيحة عند أهل الحديث. وانظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، د. مهدي رزق الله ص: 166-176.

ويدافع عنه، فإنْ كان الشخص يعمل الطيبات استحسنها ودافع عنها، وإنْ كان يعمل السيئات استحسنها ودافع عنها، ومن هنا فإنَّ واجب الداعية أن يبين الحق الواجب بيانه من بطلان عبادة المشركين وسخافتها، وعدم جوازها، وأنها لا تضر ولا تنفع، وأنها لا تستحق شيئاً من العبادة، وأن أي شيء يصرف إليها يكون محرماً، ويوصل صاحبه إلى نار جهنم، ويخلد فيها ما لم يرجع عن ذلك، ويتوب إلى الله تعالى قبل الموت، ثم يترك شأنهم إلى الله تعالى، إذ أنّ مصيرهم إليه، وهو الذي يجازيهم على أعمالهم. أما أسلوب الدعوة عن طريق السباب والشتائم، فإنه لا يأتي بفائدة، وإنما يأتي بالنتائج العكسية من النفور عن الدعوة، وعدم قبولها، كما قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} 1. وسب آلهة المشركين يترتب عليه المواجهة بالمثل من سب الله تعالى، أو رسوله صلى الله عليه وسلم، أو الدين، أو القرآن، وذلك لجهل المشركين، وعدم معرفتهم بعظمة الله تعالى، وبالتالي فشل الدعوة التي أتعب الداعية نفسه من أجلها.

_ 1 سورة آل عمران الآية: 159.

ومن هذا القبيل جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل: يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه، فيسب أمه" 1.

_ 1 صحيح البخاري بشرح الفتح 10/403 كتاب الأدب، باب لا يسب الرجل والديه. وصحيح مسلم 1/92 كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها.

5- أسلوب القصة: ومن أوسع أساليب القرآن الكريم في دعوة المشركين إلى التوحيد أسلوب القصة، وذلك لما للقصة من تأثير في النفوس البشرية، وسهولة في الحفظ والانتشار بين الناس. ونكتفي هنا بإيراد مثال واحد في هذا الشأن: وهو ما ذكره الله تعالى لنا من قصة إبراهيم الخليل عليه السلام مع قومه، وتحطيمه لأصنامهم، وذلك أنه لما حطم الأصنام وسألوه عليه السلام عن من فعل ذلك الفعل؟ أحالهم إلى أخذ الإجابة من معبوداتهم الهزيلة، ساخراً منهم ومتهكماً بهم، وعند ذلك رجعوا إلى أنفسهم يلوم بعضهم بعضاً. وقد ذكرت هذه القصة في عديد من السور، كالشعراء، والصافات، والأنبياء، ومنها قوله تعالى: {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ

الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاَء يَنطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلاَ يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} 1. وفي هذا تقرير للتوحيد بأبلغ أسلوب، وأقوى حجة، ونفي للشرك بأوضح بيان، فضلاً عما فيه من تحقير للأصنام وسخرية بالغة بعبادها. وذلك أن معبودات القوم قد حطمت وقوضت وسويت بالأرض، ولم تستطع أن تدافع عن نفسها، فكيف يرجون أنْ تدافع عنهم، أو أن تصيبهم بالخير، أو تمسهم بالشر والمكروه، وزيادة على ذلك فهي لا تسمع ولا تبصر ولا تتكلم. ومن عمل إبراهيم هذا نستفيد درساً في الشجاعة الإقدام والاستماتة من أجل إقرار التوحيد، وإزالة جميع المعبودات من دون الله تعالى، حيث وقف عليه السلام وجهاً لوجه أمام قومه الذين فشت فيهم عبادة الأصنام، يسفه معتقداتهم ويدعوهم بالحجة والبرهان إلى ترك عبادتها، ومع ذلك كان وحيداً لا يوجد من يقف إلى جانبه، حتى والده كان ضده، بل تهدده بالرجم والهجران، كما حكى الله قوله لابنه: {لَئِن لَّمْ

_ 1 سورة الأنبياء الآيات: 57-67.

تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} 1. ومع هذا لم ينثن إبراهيم عن قصده، ولم يدخله الوهن، بل شرع في تدمير معتقدات قومه، وزلزلة بنيان مقدساتهم بيده، وهذا الفعل أشد أثراً من مقاومة الباطل بالقول الذي لم يجد معهم نفعاً. وعلى هذا العمل جاء قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" 2.

_ 1 سورة مريم الآية: 46. 2 صحيح مسلم 1/69 كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان.

6- الدعوة إلى الاعتبار بالسابقين: يلفت القرآن الكريم أنظار المخاطبين إلى مصير الأمم المكذبة، وما تلقوه من الضربات القاصمة جزاء تمردهم على أنبياء الله تعالى، ويرشدهم إلى النظر والتدبر في الديار التي يمرون عليه مصبحين وممسين، ليكون منها الدرس والعبرة والذكرى. جاء ذلك في كثير من الآيات البينات في كتاب الله العظيم. ففي أعقاب قصة نوح عليه السلام، وهلاك قومه المكذبين بالطوفان، ونجاته ومن آمن معه بالسفينة، قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يُعَذِّبُُ مَن يَشَاء وَيَرْحَمُ مَن يَشَاء وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} 1. وبعد أن عرض لأخبار صالح ولوط - عليهما السلام - ومصير قومهما، قال الله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ

_ 1 سورة العنكبوت الآيات: 20-22.

عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} 1. وبعد أن ذكر قصة يوسف عليه السلام، وموقف أخوته منه، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} 2. ويقول بعد أنْ ذكر ما حدث بين فرعون وجنوده مع موسى وأخيه هارون عليهما السلام، وما حاق بآل فرعون من سوء العذاب: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 3. وبعد أن ذكر ما حدث بين الروم والفرس، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ

_ 1 سورة النمل الآية: 69. 2 سورة يوسف الآية: 109. 3 سورة غافر الآية: 82.

لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} 1. وقال تعالى بعد أن أشار إلى هلاك القرون السابقة، لما ظلموا: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} 2. والآيات التي تحث على النظر والتأمل، والدراسة والاعتبار بمصير الأمم السابقة كثيرة منها قوله تعالى: {فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ} 3. قال ابن كثير: " أي فكروا في أنفسكم وانظروا ما أنزل الله بالقرون الماضية الذين كذبوا رسله وعاندوهم من العذاب والنكال، والعقوبة في الدنيا مع ما ادخر لهم من العذاب الأليم في الآخرة، وكيف نجى رسله وعباده المؤمنين"4. وقال الفخر الرازي: " فإن قيل: ما الفرق بين قوله {فَانْظُرُواْ} وبين قوله: (ثم انظروا) ؟ قلنا: قوله: {فَانْظُرُواْ} يدل على أنه تعالى

_ 1 سورة الروم الآية: 9. 2 سورة يونس الآية: 14. 3 سورة الأنعام الآية: 11. 4 تفسير ابن كثير 2/135.

جعل النظر سبباً عن السير، فكأنه قيل: سيروا لأجل النظر، ولا تسيروا سير الغافلين. وأما قوله (سيروا في الأرض ثم انظروا) فمعناه إباحة السير في الأرض للتجارة، وغيرها من المنافع، وإيجاب النظر في آثار الهالكين، ثم نبه الله تعالى على هذا الفرق بكلمة (ثم) لتباعد ما بين الواجب والمباح، والله أعلم"1ا.?. وقوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ} 2. يقول ابن جرير الطبري: " يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين بالله من قومك: سيروا في البلاد فانظروا إلى مساكن الذين كفروا بالله من قبلكم، وكذبوا رسله، كيف كان آخر أمرهم، وعاقبة تكذيبهم رسل الله وكفرهم، أنا أهلكناهم بعذاب منا، وجعلناهم عبرةً لمن بعدهم، يقول فعلنا ذلك بهم، لأن أكثرهم كانوا مشركين بالله مثلهم"3.

_ 1 التفسير الكبير للفخر الرازي 12/163-164. 2 سورة الروم الآية: 42. 3 تفسير الطبري 21/51. بتصرف.

وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ} 1. وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} 2. وقال تعالى: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} 3. فهذه الآيات الكثيرة حينما تدعو إلى السير والنظر في ديار الأمم السابقة، ليس الغرض منها الدعوة إلى مجرد التنقل والسياحة والترويح عن النفس، وإنما القصد هو التأمل وأخذ الدروس والعبر والاتعاظ بسنن الله تعالى في الكون، حتى لا يقع اللاحقون فيما وقع فيه السابقون، والسعيد

_ 1 سورة السجدة الآية: 26. 2 سورة فاطر الآية: 44. 3 سورة غافر الآية: 21.

من اتعظ بغيره وتعلم من أخطاء الآخرين، كما قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلاَدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} 1.

_ 1 سورة ق الآيتان: 36-37.

7- تذكير المشركين بالنعم وتحذيرهم من النقم: ومن الأساليب التي اتبعها القرآن الكريم في دعوة المشركين إلى الإسلام، والإقرار بوحدانية الله تعالى، تذكيرهم بالنعم وتحذيرهم من النقم. أ-تذكيرهم بالنعم: ففي مجال تذكيرهم بالنعم، ذكّرهم القرآن بأنواع من النعم الكثيرة، التي امتن الله بها عليهم، وعلى عباده، والتي لا يستطيع أحد من خلقه أنْ يأتي بشيء منها، جاء ذلك في كثير من السور والآيات العديدة من ذلك ما تحدثت به سورة النحل عن الكثير من النعم التي امتن الله بها على الناس، والسورة مكية، والمشركون في مكة هم أول من خوطبوا بذلك. ومما جاء في هذه السورة قوله تعالى: {وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ

يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} 1. ومعنى الآيات أن الله تعالى فاوت بين خلقه في الأرزاق، فهذا غني وذاك فقير، وهذا مالك وذاك مملوك، وأن الأغنياء ليس بمشركين فيما رزقهم الله من الأموال حتى يستووا في ذلك مع عبيدهم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم، فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني"2. وعنه رواية أخرى: "فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم". وأنكر الله تعالى إشراك غيره معه، وهو المتفضل على خلقه بجميع أنواع النعم، ومن ذلك أنّ من آياته خلق النساء من جنس الرجال، ليحصل الائتلاف والمودة والرحمة بينهم، وجعل من هؤلاء الزوجات الأولاد والحفدة، ورزقهم بأنواع الثمار والحبوب، أفمع هذه النعم التي من الله تعالى يؤمنون بالأوثان، ويكفرون بالله تعالى ويضيفونها إلى غيره ممن لا يقدر على إنزال المطر، ولا على إخراج الزرع أو الشجر؟!! ومن الآيات التي ذكرهم الله تعالى فيها بأنواع كثيرة من النعم المناسبة لهم لعلهم يتدبرون، فيسلمون ويخلصون له العبادة، حتى ينجوا من

_ 1 سورة النحل الآيات: 71-74. 2 تفسير ابن كثير 2/625.

عذابه، قوله تعالى: {وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} 1. إنها نعم تأخذ بوجدان الإنسان العاقل إلى الشعور بالطمأنينة والراحة والسكون، وإنَّ الشعور بها ليؤدي إلى الشعور بالاستسلام إلى خالقها، والمنعم بها وفاءً له، وشكراً على كرمه وجوده، واعترافاً له بالجميل، وإقراراً بأنه لا أحد يقدر على إيجاد هذه النعم سواه. ومن تذكير الله تعالى لعبيده بالنّعم الكثيرة الدالة على ربوبيته ووحدانيته، ما جاء في قوله تعالى من سورة المؤمنون: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ فَأَنشَأْنَا لَكُم بِهِ

_ 1 سورة النحل الآيات: 80-83.

جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآكِلِينَ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} 1. وذكر الله تعالى ما امتن به على كفار قريش من الأمن والطمأنينة، حيث جعل بلدهم مكة حرماً مصوناً من السلب والنهب، بينما الناس من حولهم يقتل بعضهم بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً، فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} 2. ومن الآيات التي ذكر الله فيها بعض نعمه على خلقه، قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} 3.

_ 1 سورة المؤمنون الآيات: 18-22. 2 سورة العنكبوت الآية: 67. 3 سورة لقمان الآية: 20.

وقوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} 1. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تبين نعم الله العظيمة التي لا تعد ولا تحصى، كما قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} 2. ب-تحذيرهم من النقم: وفي مجال تحذيرهم من النقم، فقد حذّر القرآن الكريم المشركين وتهددهم بالجوع والخوف والمنع والحرمان. قال تعالى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} 3.

_ 1 سورة عبس الآيات: 24-32. 2 سورة النحل الآية: 18. 3 سورة النحل الآية: 112.

فهذا المثل ضربه الله تعالى لأهل مكة، بقوم كانوا في أمن واستقرار وسعادة ونعيم، تأتيهم الخيرات والأرزاق بكثرة من كل الجهات، فأبطرتهم ولم يشكروا الله على ما آتاهم من خير، وما وهبهم من رزق، فعصوا الله وتمردوا، فبدّل اللهُ نعمته بنقمة، وسلبهم نعمة الأمن والاطمئنان، وأذاقهم آلام الجوع والخوف بسبب كفرهم ومعاصيهم. قال الفخر الرازي: "وهذا مثل أهل مكة لأنهم كانوا في الأمن والطمأنينة والخصب، ثم أنعم الله عليهم بالنعمة العظيمة، وهو محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا به، وبالغوا في إيذائه، فعذبهم الله بالقحط والجوع سبع سنين، حتى أكلوا الجيف والعظام"1. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} 2. والمراد بهؤلاء كما ذكر المفسرون: مشركو قريش الذين بدلوا نعمة الله عليهم بالكفر، فكذبوا نبيهم محمداً صلى الله عليه وسلم، وقاتلوه يوم

_ 1 التفسير الكبير للفخر الرازي 20/128. 2 سورة إبراهيم الآيات: 28-30.

بدر، وعبدوا الأصنام ليضلوا الناس عن دين الله1. وبهذا يتبين لنا أن القرآن الكريم ذكر المشركين بأنواع من النعم، لعلهم يشكرون، وحذرهم من عقابه لعلهم يرجعون، وتذكير المخاطبين بالنعم وتحذيرهم من العذاب والنقم يدعوهم إلى التفكر بعين البصيرة، لترك عبادة غير الله تعالى.

_ 1 انظر: تفسير ابن جرير الطبري 13/219 وما بعدها، وتفسير ابن كثير 2/581، والقرطبي 9/364.

8- الشرك خرافات وأوهام: أ-بيان ضعف الشركاء ومهانة الآلهة المدعاة: ولم يقف القرآن الكريم في دعوته للمشركين عند إقامة الحجج والبراهين دون أن يبين لهم سخف ما هم عليه من عقيدة واهية، وما اتخذوه من دون الله تعالى من آلهة مزعومة، لا تخلق شيئاً، بل هي مخلوقة مصنوعة، ولا تنصر عابديها، بل لا تملك لأنفسها نصراً، ولا تدفع عنها ضراً، سواء كانت تلك المعبودات من البشر، أو من الحجر، أو من الكواكب، أو من الموتى، أو من غير ذلك. ولقد حاور القرآن أصحاب تلك العقائد الساذجة، وتلك العقليات السخيفة، وخاطب عقولهم لإيقاظها من تلك الغفلة التي لا تليق بالعقل البشري، مهما كانت طفولته، وبين لهم أنَّ تلك المعبودات ضعيفة مهانة لا حول لها ولا قوة، وإنّها لا تستطيع أن تنصر أنفسها، فضلاً عن أن تنصر غيرها. قال تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ

لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} 1. ومن الآيات الواردة في عجز تلك الآلهة المزعومة وضعفها، وحقارتها، وقلة شأنها، وأنَّ الإله هو رب واحد لا شريك له، قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ... } 2. وعن فقر تلك المعبودات واحتياجها إلى التقرب إلى الله، والتوسل إليه بالطاعة والعبادة، قال تعالى: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} 3.

_ 1 سورة الأعراف الآيات: 191-198. 2 سورة النحل الآيات: 20-22. 3 سورة الإسراء الآيتان: 56-57.

وهل اتخذ هؤلاء المشركون آلهة من الأرض قادرين على إحياء الموتى؟ كلا بل اتخذوا آلهة جمادة لا تتصف بالقدرة على شيء، قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} 1. بل إنَّ هذه المعبودات التي عبدوها من دون الله تعالى لو اجتمعت كلها لما استطاعت خلق ذبابة صغيرة حقيرة، بل لو خطفت الذبابة شيئاً من حقير الطعام، وطارت به، لما استطاعوا إنقاذه وإرجاعه منها، رغم قلته وحقارته. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} 2. وقال تعالى: { ... وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن

_ 1 سورة الأنبياء الآيتان: 21-22. 2 سورة الحج الآيتان: 73-74.

تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 1. ومما يبين حقارة تلك المعبودات وعجزها، ما ذكره الله في قصة إبراهيم عليه السلام مع الأصنام. قال تعالى: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} 2. إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على ضعف تلك المعبودات، وعجزها، وأنها لا تستطيع أنْ تقدم لعابديها أو المتبركين بها، أو المتوسلين إليها أي خدمة مرجوة، لا كبيرة ولا صغيرة، وبالتالي يجب على المشركين أنْ يقلعوا عن عبادة تلك المعبودات الواهية والتقرب إليها، ويخلصوا العبادة لله تعالى وحده، الذي خلقهم وخلقها، والقادر على الإحياء والإماتة، والنفع والضر.

_ 1 سورة فاطر الآيتان: 13-14. 2 سورة الصافات الآيات: 91-96.

ب- تسفيه وتهجين عقول المشركين: لقد تحدث القرآن الكريم عن المشركين كثيراً، ووقف معهم طويلاً، وما ذلك إلاّ لتصفية النفوس البشرية من أدران الشرك، ورواسب الجهل، وطالما طالبهم بالرجوع إلى الفطرة، والتساؤل معها عن مظاهر الخلق والرزق والتدبير، والملك والحفظ والرعاية، لأن الفطرة السليمة لا تملك إلاّ الاعتراف بالربوبية لله سبحانه وتعالى، وما دامت الفطرة قد اعترفت بربها خالقها ورازقها، فما الذي يمنعها من الاعتراف بالإلهية الحقة، وما الذي يمنعها من أن توحده في ذاته وصفاته وأفعاله؟ إن القرآن الكريم يتوجه إلى مكنونات عقول المشركين، وإلى فطرهم السليمة، ويضع أيديهم على مفاتيح الحق، ويضيء لهم أنوار البصيرة. إذ كيف يرضى عاقلٌ مدرك الوعي والشعور، أنْ يمرغ جبهته أمام حجر أصم، أو إنسان ضعيف عاجز، أو كوكب تسيره القدرة الإلهية، أو ميت هو في حاجة ماسة إلى عفو الله ورحمته وغفرانه؟ وكيف ينزل العقل الإنساني إلى هذا الدرك الأسفل من التخلف العقلي، مع اعترافه بأنَّ للوجود رباً خالقاً رازقاً؟ ويتوجه إلى هذا الخالق العظيم مباشرة؟ وهو القائل في محكم كتابه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ

فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} 1. لقد شنَّ القرآن الكريم حملةً عنيفةً على من يعترف بآلهة أخرى مع الله تعالى، أو يجعل له وساطات يتقربُ بها إليه، ويظهر القرآن فساد هذه الآلهة المدعاة وعجزها الشنيع، وفقرها البالغ، وحاجتها الماسة لمن يدبر أمرها ويقوم بحاجتها، فضلاً عن أن تعبد، أو تقدم لها الفروض والقربات!. وقد تقدم معنا في مبحث ضعف الشركاء كثيراً من الآيات الدالة على عجز تلك الآلهة، وسخف عقلية عابديها، ونزيد هنا شيئاً مما قدمه القرآن العظيم من تسفيه وتهجين لعقليات أولئك العابدين مع الله غيره. من ذلك ما ذكره الله تعالى، حكاية عن قول إبراهيم عليه السلام: { ... أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلاَ يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} 2. وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ

_ 1 سورة البقرة الآية: 186. 2 سورة الأنبياء الآيتان: 66-67.

وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} 1. وقال تعالى عن قوم موسى عليه السلام الذين عبدوا العجل: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا} 2. وقال تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} 3. وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلاَ هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ} 4. وعن ما وصل إليه المشركون من خطأ فادح، وضلال كبير واضح، يقول تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ

_ 1 سورة النحل الآية: 73. 2 سورة طه الآية: 89. 3 سورة الزمر الآية: 38. 4 سورة الأنبياء الآية: 43.

فِي ضَلاَلٍ} 1. وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 2. وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 3. ولفرط جهالتهم اتخذوا ما لا يملك لهم شيئاً أصلاً، شفعاء عند الله تعالى، قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلاَ يَعْقِلُونَ} 4. قال ابن كثير رحمه الله: "هذا ذم للمشركين في اتخاذهم شفعاء من دون الله -وهي الأصنام والأوثان التي اتخذوها من تلقاء أنفسهم، بلا دليل

_ 1 سورة الرعد الآية: 14. 2 سورة الأحقاف الآيتان: 5-6. 3 سورة الروم الآية: 40. 4 سورة الزمر الآية: 43.

ولا برهان، وهي لا تملك شيئاً من الأمر، وليس لها عقل تعقل به، ولا سمع تسمع به، ولا بصر تبصر به، بل هي جمادات أسوأ حالاً بكثير من الحيوانات"1. وبين لهم القرآن الكريم أن عبادة غير الله ظلم وافتراء وكذب على رب العالمين. قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} 2. وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلاَمِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} 3. وعن سذاجة عقول المشركين، وفعلهم مع الأصنام، يذكر ابن هشام وابن كثير: أن معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن جبل رضي الله

_ 1 تفسير ابن كثير 4/60 بتصرف يسير. 2 سورة العنكبوت الآية: 68. 3 سورة الصف الآيات: 7-9.

عنهما، وكانا شابين قد أسلما لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فكانا يعدوان في الليل على أصنام المشركين يكسرانها، ويتلفانها ويتخذانها حطباً للأرامل، ليعتبر قومهما بذلك، ويرتأوا لأنفسهم، فكان لعمرو بن الجموح -وكان سيداً في قومه- صنم يعبده ويطيبه، فكانا يجيئان في الليل، فينكسانه على رأسه، ويلطخانه بالعذرة، فيجيء عمرو بن الجموح فيرى ما صنع به، فيغسله ويطيبه، ويضع عنده سيفاً ويقول له: انتصر، ثم يعدوان لمثل ذلك، ويعود إلى صنيعه أيضاً، حتى أخذاه مرة فقرناه مع كلب ميت، ودلياه في حبل في بئر هناك، فلما جاء عمرو بن الجموح ورأى ذلك، نظر فعلم أنَّ ما كان عليه من الدين باطل، وقال: والله لو كنت إلهاً لم تكن ... أنت وكلب وسط بئر في قرن أف لملقاك إلهاً مستدن ... الآن فتشناك عن سوء الغبن الحمد لله العلي ذي المنن ... الواهب الرازق ديان الدين هو الذي أنقذني من قبل أن ... أكون في ظلمة قبر مرتهن بأحمد المهدي النبي المرتهن "1. وقد اتخذت بنو حنيفة صنماً من حلوى، فعبدوه دهراً طويلاً، ثم أدركتهم مجاعة، فأكلوه، وفيهم يقول الشاعر:

_ 1 انظر: سيرة ابن هشام 1/453، وتفسير ابن كثير 2/296.

أكلت بنو حنيفة ربها ... زمن التقحم1 والمجاعة لم يحذروا من ربهم ... سوء العواقب والتباعة2 وقال بعض المشركين حين وجد الثعلبان قد بال على رأس صنمه: إله يبولُ الثعلبانُ برأسه ... لقد ذلَّ من بالت عليه الثعالبُ3 ولهذه العقليات السخيفة، فقد سفه القرآن الكريم عقليات المشركين، واستهجن عبادتهم، لأنّ تلك المعبودات لا تسمع ولا تبصر، ولا تنفع ولا تضر، ولهذا فقد بين القرآن أنّ عبادتهم تلك ظلم وافتراء، وكذلك على رب الأرباب، وإنَّ تلك العبادات ليس لها ما يبررها من دليل عقلي أو نقلي.

_ 1 انظر: الدعوة إلى الله في سورة إبراهيم الخليل لمحمد بن سيدي الحبيب ص: 52. 2 التقحم: زمن الشدة والقحط. القاموس المحيط 4/161. 3 انظر: كتاب الحيوان للجاحظ 6/498 – دار صعب – بيروت، الطبعة الثانية 1398?. وتاج العروس للزبيدي 1/164، الطبعة الخيرية بمصر سنة 1306?، وكتاب الأصنام للكلبي ص: 47.

9- أضرار الشرك في الدنيا والآخرة: أ- أضرار الشرك في الدنيا: أما أضرار الشرك في الدنيا، فإنَّ الإسلام حينما يتصدى لمهاجمة الشرك ومحارته بجميع أشكاله وألوانه صغيره وكبيره، فإنَّ غايته من ذلك هو تحرير الإنسان من الخضوع والخنوع لأي مخلوق على ظهر هذه الأرض، لأن خضوع الإنسان للمتغير الذي يعتريه الفناء، معناه أنَّ الإنسان يصبح مضطرباً في التوجه والعبادة في حياته، ومضطرباً في غايته، وبالتالي فهو مضطرب في دوافع عمله وسلوكه. فإذن فإن مهاجمة الإسلام للشرك، كانت لأجل أن يترفع الإنسان عن عبادة الناقص المتغير الفاني، إلى عبادة من له الدوام والاستقرار والكمال1. إن الحياة التي يهيمن عليها الشرك، لهي حياة بهيمية، تعافها النفوس الزكية، وتأنفها الطبائع الإنسانية، فهذه المخلفات التي تتركها وراءها رواسب الشرك والوثنية، تعوق مسيرة الحياة، وتخالف السنن الكونية، تلك والله نتائج حرب الإبادة والتدمير لكافة القيم والمعاني الروحية

_ 1 انظر: روح الدين الإسلامي لعفيف طباره ص: 96 بتصرف يسير.

والأصلية1. إنَّ الإسلام حينما يبين فساد الشرك وبطلانه، وعدم الغفران لصاحبه إذا مات وهو مشرك، كما جاء ذلك في قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} 2. فما ذلك إلاّ لأنَّ الشرك بالإضافة إلى كونه تنقص لرب العالمين، وصرف العبادة لمن لا يستحقها من المخلوقين، فإنّه وليد الخرافة والجهل، لأنه يجلبُ من المساوئ للمجتمع ما لا يجلبه شيء آخر، فهو إلى جانب مناقضته للعقل والمنطق، فإنه يجعل الأذهان طيّعة لقبول الأوهام والخرافات والأساطير التي تهدم كيانه وتضعفه وتقف حاجزاً دون رُقيّه وازدهاره. يقول الدكتور خليل هراس: "أعجبني كلمة لبعض الباحثين في هذا الصدد، أثبتها هنا بنصها، يقول: إنّ أكبر الكبائر الإشراك بالله تعالى، لأنّ الشرك ظلمات بعضها فوق بعض، وحجب متلاطمة لا يقرّ لها قرار، فهو يجعل الإنسان عبداً للمخلوق، وهو لا يعبد المخلوق إلاّ جلباً لفائدة أو

_ 1 انظر: مصرع الشرك والخرافة للشيخ خالد محمد الحاج ص: 174 بتصرف يسير. 2 سورة النساء الآية: 116.

دفعاً لضرر، فهو في الواقع عبد لمصلحته، وبالتالي فهو عبد لنفسه، وعبادة النفس معناها أن الشّخص غير صالح ليكون عضواً عاملاً على الرقي بالجماعة الإنسانية، محققاً لسعادتها، بل هو على الضّد من ذلك يكون عدواً هادماً لأركانها، ساعياً في شقائها دون أن يدري ... "1. ب-أضرار الشرك في الآخرة: أما أضرار الشرك في الآخرة فتتمثل فيما يلي: 1-إحباط الأعمال. 2-العذاب النفسي. 3-الخلود في نار جهنم. 1-إحباط الأعمال: ولما كان الشرك بالله تعالى أكبر الكبائر، وأعظم الذنوب والمعاصي، وأفظع المحرمات وأشنعها على الإطلاق، وأنَّ صاحبه خالد مخلد في النار إذا لم يتب إلى الله تعالى، ويمت على التوحيد، لذلك فإنَّ الله عز وجل لا يقبل عملاً من الأعمال مع الإشراك به، مهما كان حجم ذلك العمل. قال تعالى بعد أن ذكر ثمانية عشر نبياً:

_ 1 الدعوة إلى التوحيد ص: 75-76.

{وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} 1. والمعنى لو فرض أنْ أشرك هؤلاء الأنبياء مع فضلهم وعلو مكانتهم، وقدرهم عند الله تعالى، لبطل عملهم، فكيف بمن سواهم؟ وقد ذكر القرآن هذا تحذيراً من الشرك، مع أن الشرك محال أن يكون من الأنبياء. قال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسير الآية: "يقول تعالى ذكره ولو أشرك هؤلاء الأنبياء الذين سميناهم بربهم تعالى ذكره، فعبدوا معه غيره، لحبط عنهم عملهم، أي: بطل، فذهب عنهم أجر أعمالهم التي كانوا يعملون، لأنّ الله لا يقبل مع الشرك به عملاً"2. وقال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} 3. روى ابن عباس في هذه الآية: "أنَّ أهل الرياء يعطون بحسناتهم في الدنيا، وذلك أنهم لا يظلمون نقيراً، يقول: من عمل صالحاً التماس الدنيا،

_ 1 سورة الأنعام الآية: 88. 2 تفسير ابن جرير الطبري 7/263. 3 سورة هود الآيتان: 15-16.

صوماً أو صلاة أو تهجداً بالليل، لا يعمله إلاّ التماس الدنيا، يقول الله تعالى: (أوفيه الذي التمس في الدنيا من المثابة، وأحبط عمله الذي كان يعمله لالتماس الدنيا، وهو في الآخرة من الخاسرين) ". وهكذا روي عن مجاهد والضحاك وغير واحد. وقال أنس بن مالك والحسن: نزلت في اليهود والنصارى، وقال مجاهد وغيره، نزلت في أهل الرياء، وقال قتادة: من كانت الدنيا همه ونيته، وطِلبته، جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة، وليس له حسنة يعطى بها جزاء. وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة1. وقال تعالى مخاطباً رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ} 2. قال ابن جرير: "لئن أشركت بالله شيئاً يا محمد، ليبطلن عملك، ولا تنال به ثواباً، ولا تدرك جزاءً إلا جزاء من أشرك بالله، ... ولتكونن

_ 1 انظر: تفسير الطبري 12/11-12، وتفسير ابن كثير 2/471. 2 سورة الزمر الآيتان: 65-66.

من الهالكين بالإشراك بالله، إنّ أشركت به شيئاً"1. وقال ابن الجوزي: "قال ابن عباس: هذا أدب من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وتهديد لغيره، لأن الله عز وجل قد عصمه من الشرك"2. وقال غيره: إنّما خاطبه بذلك، ليعرف من دونه أنَّ الشرك يحبط الأعمال المتقدمة كلها، ولو وقع من نبي. وقال أبو السعود: "والكلام وارد على طريقة الفرض، لتهييج الرسل، واقناط الكفرة، والإيذان بغاية شناعة الإشراك وقبحه"3. ولقد جاءت الأحاديث النبوية تبين وتؤكد أنّ الله تعالى لا يقبل من الأعمال إلاّ ما كان خالصاً لوجهه الكريم، وأنَّ من أشرك بالله في شيء من أنواع العبادات، فعليه أنْ يطلب الأجر والثواب من غير الله تعالى، على وجه التحدي والتعجيز. ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن

_ 1 تفسير الطبري 24/24. 2 زاد المسير 7/195. 3 تفسير أبي السعود 7/262.

الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه" 1. قال النووي: "ومعناه أنا غني عن المشاركة وغيرها، فمن عمل شيئاً لي ولغيري، لم أقبله، بل أتركه لذلك الغير، والمراد أنَّ عمل المرائي باطل لا ثواب فيه، ويأثم به"2. وروى الإمام أحمد وابن ماجة عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، يوم لا ريب فيه، ناد مناد من كان أشرك في عمل عمله لله، فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإنَّ الله أغنى الشركاء عن الشرك" 3. وروى مسلم وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيره، فأنا منه بريء، وهو

_ 1 صحيح مسلم 4/2289 كتاب الزهد، باب من أشرك في عمله غير الله، حديث رقم: 2985. 2 شرح النووي على مسلم 18/115-116. 3 رواه الترمذي 5/314 كتاب تفسير القرآن، رقم: 3154، وقال: هذا حديث حسن غريب. وابن ماجه 2/1406 كتاب الزهد، رقم 4203، بإسناد حسن. ومسند الإمام أحمد 3/466.

للذي أشرك" 1. إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي تبين أنّه لا يقبل عمل مع الشرك بالله، مهما كان حجم ذلك العمل. 2- العذاب النفسي: ويرشد القرآن الكريم هؤلاء المشركين الذين يتخذون من دون الله شركاء وأنداداً، ليمدوا بصائرهم إلى ذلك اليوم الذي يقفون فيه بين يدي الله الواحد الأحد، ليروا عند ذلك أن القوة لله جميعاً، فلا شركاء ولا أنداد مهما كان نوعها. وأصبحت كلها عاجزة عن حماية أنفسها فضلاً عن حماية تابعيها، وعند ذلك يتبرأ المتبوعون من التابعين، وينشغل كل بنفسه، تابعاً أو متبوعاً من شدة هول العذاب الذي يقطع كل الأواصر والعلاقات، وكل وسائل القربى والمحبة. وساعتها يعلم المشركون أنَّ الإله الذي يدبر عالم الآخرة، هو عين الإله الذي كان يدبر عالم الدنيا، وأنهم كانوا ضالين في الملجأ إلى سواه، وفي إشراك غيره معه، وأنَّ الضلال هو الذي هبط بعقولهم وأرواحهم، وكان منشأ عقابهم وعذابهم.

_ 1 صحيح مسلم 4/2289 كتاب الزهد، باب من أشرك في عمله غير الله رقم: 46. وسنن ابن ماجه 2/1505 كتاب الزهد، باب الرياء والسمعة حديث رقم: 4202.

قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} 1. وعن ما يقوله الله تعالى للمشركين المفترين عليه، المكذبين بآياته يوم القيامة، وما يقوله الأتباع للقادة والرؤساء منهم، وما يجيبونهم به: {قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} 2.

_ 1 سورة البقرة الآيات: 165-167. 2 سورة الأعراف الآيتان: 38-39.

وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلاَلَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 1. وقال تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الأَلِيمِ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا

_ 1 سورة سبأ الآيات: 31-33.

كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} 1. ويذكر الله تعالى حال المشركين به في الدار الآخرة، وما يعانون هناك من العذاب الشديد، وما يحل بهم من الأمر الفظيع، وما يحصل لهم من الاضطراب النفسي الرهيب، حيث يختلقون الأعذار الواهية، ويستترون وراء الخيال والأوهام، ظانين أنها تغني عنهم شيئاً، فيزعمون أنّهم كانوا مؤمنين، كما يلقى بعضُهم التبعية على الآخرين، ويعلن البعضُ الآخر الكفر بما كانوا به مشركين، ويلتجئ آخرون منهم إلى الله قائلين، لو شاء اللهُ ما عبدنا من دونه من شيء، رغم طرق الهداية الكثيرة التي بينها الله لهم في الدنيا. كل ذلك نتيجة للاضطرابات العصبية العنيفة التي تثيرها الحسرة والندامة، ولكن حين لا ينفع الندم، حين ينكشف الغطاء وتظهر الحقيقة التي لا مفرّ منها، فلا شركاء، ولا شفعاء، ولا أنداد ولا غيرهم، وأن جميع المتبوعين يتبرأون من التابعين. عند ذلك يعلم المشركون أنّ القوة لله وحده، وأنه لا إله غيره، فلو تدبر هؤلاء المشركون واتعظوا بما سيحصل لهم من عذاب الله هناك، لانتهوا عما هم فيه من الشرك والضلال، ووحدّوا الله الذي لا إله غيره في الدنيا ولا في الآخرة.

_ 1 سورة الصافات الآيات: 27-39.

هناك تتبرأ الملائكةُ من الذين يزعمون أنّهم يعبدونهم في الدنيا، فتقول الملائكة: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} 1. ويقولون: {سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ فَالْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعًا وَلاَ ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} 2. وتتبرأ الجن منهم كذلك، ويتنصلون من عبادتهم لهم، قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 3. وقال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 4.

_ 1 سورة القصص الآية: 63. 2 سورة سبأ الآيتان: 41-42. 3 سورة الأحقاف الآيتان: 5-6. 4 سورة إبراهيم الآية: 22.

قال الفخر الرازي: "قال المفسرون: إذا استقرّ أهلُ الجنة في الجنة، وأهلُ النار في النار، أخذ أهلُ النار في لوم إبليس وتقريعه، فيقوم في النار فيما بينهم خطيباً ويقول، ما أخبر الله عنه بقوله: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ} "1. وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} 2. وقال الخليل -عليه السلام- لقومه: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ} 3. وفي اليوم الآخر يسألُ اللهُ المشركين عن الأصنام والأنداد التي كانوا يعبدونها من دونه. فيقول تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا

_ 1 التفسير الكبير 19/110. 2 سورة مريم الآيتان: 81-82. 3 سورة العنكبوت الآية: 25.

مُشْرِكِينَ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} 1. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "أما قوله: {وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّامُشْرِكِينَ} ، فإنه لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام فقالوا: تعالوا لنجحد {قَالوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلُهم {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا} .2 وقال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاَء الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} 3. وإن الكفار ليتمنون العودة إلى الدار الدنيا، ليعملوا عملاً صالحاً، ويؤمنوا إيماناً صادقاً، حين يظهر لهم ما كانوا يخفونه في أنفسهم من

_ 1 سورة الأنعام الآيات: 22-24. 2 انظر: تفسير ابن جرير الطبري 7/168، تفسير ابن كثير 2/137، زاد المسير لابن الجوزي 3/17 الهامش. 3 سورة القصص الآيات: 62-64.

الكفر والمعاندة. قال تعالى: {وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} 1. وأنهم يأتون يوم القيامة وحداناً ليس معهم شيء من الأنداد أو الأصنام أو الشفعاء الذين يزعمون أنهم يشفعون لهم، والذين ظنوا أنّهم شركاء في استحقاق العبادة. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} 2. ويبين الله تعالى حالة المجادلين في آيات الله، المكذبين لرسله وما جاؤوا به، ما ينتظرهم من العذاب الشديد في الآخرة، وهناك يقول لهم على سبيل التبكيت والسخرية، أين معبوداتكم الذين كنتم تعبدونهم في الدنيا؟

_ 1 سورة الأنعام الآيتان: 27-28. 2 سورة الأنعام الآية: 94.

ووقتها يضطرب المشركون في الجواب: فتارة يقولون: غابوا عنا فلا نراهم، وتارة يجحدون عبادتهم لها، ويقولون لم نكن نعبد شيئاً، وتارة يرجعون ذلك إلى مشيئة الله تعالى، ولكن ذلك التملص وتلك الأعذار لا تجديهم من عذاب الله وعقابه شيئاً. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَل لَّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} 1. وقال الله تعالى عنهم: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ... } 2.

_ 1 سورة غافر الآيات: 69-76. 2 سورة غافر الآيتان: 84-85.

وقال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} 1. وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} 2. إلى غير ذلك من الآيات التي تصف حال المشركين في الآخرة حين يتخلى عنهم الشفعاءُ والأنداد، وما يحصل لهم في ذلك اليوم الرهيب من ارتباك واضطراب نفسي عندما يواجهون مصيرهم إلى نار جهنم -نجّانا الله منها- وأنَّ أمراً هذا شأنه لجدير بالعناية والتأمل والخوف والحذر من الوقوع فيه. 3- الخلود في نار جهنم: ولعظم جريمة الشرك وكبر بشاعته وشناعته فقد بيّن القرآن الكريم أنّ الله تعالى لن يتسامح مع مرتكبي هذا الجرم الفظيع، وأنّ الشرك يقطع الصلة بين الله تعالى وبين العباد، فلا يبقى لهم معه أمل من المغفرة والرحمة إذا خرجوا من هذه الدنيا وهم مشركون.

_ 1 سورة فصلت الآية: 47. 2 سورة النحل الآية: 35.

ولا شكّ أنَّ الإنسان إذا لم تدله دلائل التوحيد المبثوثة في هذا الكون الكبير، وما جاء به الرسل الكرام من هداية البشرية، أنّ نفسه قد فسدت فساداً لا رجعة فيه، وأنه لم يبق في نفسه عنصر من عناصر الخير والصلاح، وأنّ فطرته التي فطره الله عليها قد انتكست وارتدت إلى أسفل سافلين، وبذلك فقد تهيأت بذاتها إلى حياة الخلود في دار الجحيم، والعياذ بالله. والآيات التي تبين أنَّ المشرك إذا مات قبل أن يتوب إلى الله عزّ وجل توبة صادقة، فإنه يخلد في النار كثيرة، من ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} 1. قال الطبري: "وقد أبانت هذه الآية أنّ كلَّ صاحب كبيرة ففي مشيئة الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه عليها، ما لم تكن كبيرته شركاً بالله"2. وقال ابن الجوزي: "والمراد من الآية: لا يغفر الله لمشرك على

_ 1 سورة النساء الآية: 48. 2 تفسير الطبري 5/126.

شركه، وفي قوله: {لِمَن يَشَاء} نعمة عظيمة من وجهين: أحدهما: أنها تقتضي أن كلَّ ميت على ذنب دون الشرك لا يقطع عليه بالعذاب، وإنْ مات مصراً. والثاني: أنّ تعليقه بالمشيئة فيه نفع للمسلمين، وهو أن يكونوا على خوف وطمع"1. وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} 2. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا} 3. وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ

_ 1 زاد المسير 2/103-104. 2 سورة النساء الآية: 116. 3 سورة النساء الآيتان: 168-169.

عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} 1. وقال تعالى: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} 2. وقال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاَء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ} 3. ومعنى الآيات الكريمة، أي: أنَّكم أيها المشركون وما تعبدون من

_ 1 سورة المائدة الآية: 72. 2 سورة الكهف الآيات: 100-106. 3 سورة الأنبياء الآيات: 98-100.

دون الله من الأوثان والأصنام، حطب جهنم ووقودها يوم القيامة، ولو كانت هذه الأصنام والأنداد التي اتخذتموها من دون الله تعالى آلهة صحيحة، لما وردوا النار ولما دخلوها، ولكن كُلاً من العبادين والمعبودين في نار جهنم خالدون مخلدون، وأنَّ لهؤلاء الكفرة في النار أصوات تخرج من قلوبهم المحزونة، ولكنهم مع هذا لا يسمعون من تلك الأصوات شيئاً، لأنهم يُحشرون صماً، كما قال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} 1. قال المراغي: " أي ونجمعهم في موقف الحساب بعد تفرقهم من القبور -عمياً وبكماً وصماً كما كانوا في الدنيا، لا يستبصرون، ولا ينطقون بالحق، ويتصامون عن استماعه، فهم في الآخرة لا يبصرون ما تقرّ به أعينهم، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم، ولا ينطقون بما يقبل منهم، كما قال تعالى: {وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً} 2"3. وفي عدم سماع أهل النار، ذكر ابن جرير والسيوطي عن عبد الله

_ 1 سورة الإسراء الآية: 97. 2 سورة الإسراء الآية: 72. 3 تفسير المراغي 15/98-99.

بن مسعود رضي الله عنه قال: "إذا ألقى في النار من يخلد فيها، جعلوا في توابيت من نار، ثم جعلت تلك التوابين في توابيت أخرى، ثم جعلت التوابيت في توابيت أخرى فيها مسامير من نار، فلا يرى أحدٌ منهم أنَّ في النار أحد يعذب غيره.."1. وزاد ابن الجوزي قولين آخرين: أحدهما: أنَّ السماع أنس، والله لا يحبُّ أنْ يؤنسهم. والآخر: إنما لم يسمعوا لشدة غليان جهنم2. وقال تعالى: {فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} 3. وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} 4.

_ 1 تفسير ابن جرير 17/95. والدر المنثور 4/339، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وابن أبي الدنيا، في "صفة النار" والطبراني، والبيهقي في البعث. 2 زاد المسير 5/392. 3 سورة الشعراء الآية: 213. 4 سورة الزمر الآية: 8.

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} 1. وثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وهو يدعو من دون الله نداً، دخل النار" 2. وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من لَقِيَ الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار" 3. إلى غير ذلك من الآيات الصريحة، والأحاديث الصحيحة، التي تبين المصير الأسود الذي ينتظر المشركين يوم القيامة، وهو الخلود الأبدي السرمدي في نار جهنم.

_ 1 سورة بينة الآية: 6. 2 صحيح البخاري بشرح الفتح 8/176 كتاب التفسير، باب {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَندَاداً} . وأحمد 1/374. 3 صحيح مسلم 1/94 كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات مشركاً دخل النار، حديث رقم: 152، وفي الباب أحاديث نحوه، انظر الآحاديث رثم: 150-151.

والحق أنَّ ذلك تقتضيه العدالة الإلهية بين البشر، بعد أن أوضح الله لهم سبل الهداية، وأرشدهم إلى طريق العبادة الصحيحة، إذ لا يستوي الموحدون والمشركون في ميزان الله تعالى، فالموحدون يستحقون الأجر والثواب على توحيدهم لربهم وإخلاصهم له في العبادة، والمشركون بالله يستحقون العذاب والنكال على شركهم وعصيانهم لله الذي خلقهم، واتباعهم طرق الغواية، وتنقصهم لرب العالمين.

المجلد الثاني

المجلد الثاني الباب الثالث: دحض شبهات المشركين الفصل الأول: دحض شبهات المشركين حول بعض المسائل الغيبية المبحث الأول: حقيقة الملائكة وأراجيف المشركين حولهم ... الباب الثالث: دحض شبهات المشركين: ويشتمل على ما يلي: الفصل الأول: دحض شبهات المشركين حول بعض المسائل الغيبية المبحث الأول: حقيقة الملائكة، وأراجيف المشركين حولهم: الملائكة في الأصل جمع ملأك، ثم حذفت همزته لكثرة الاستعمال، فقيل: ملك، وقيل: أصله مألك بتقديم الهزة من الألوك، وهي الرسالة، ثم قدمت الهمزة وجمع1. وسميت الملائكة ملائكة بالرسالة، لأنهم رسل الله بينه وبين أنبيائه، ومن أرسلت إليه من عباده2. وهم أرواح قائمة في أجسام نورانية قادرة على التمثل بأنواع مختلفة الشكل بإذنه تعالى، مناسبة للحال التي يأتون فيها، ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم" 3. وقد أخبر الله تعالى عن المشركين أنَّهم جعلوا الملائكة {الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} وجعلوهم بنات الله، وعبدوها معه، فأخطأوا خطأ

_ 1 انظر: لسان العرب لابن منظور 10/496، والنهاية لابن الأثير 4/356. 2 انظر: تفسير الطبري 1/198. 3 صحيح مسلم 4/2494 كتاب الزهد، باب أحاديث متنوعة، رقم: 60.

كبيراً في كل مقام من هذه المقامات الثلاث1. وقد جادل القرآن الكريم هؤلاء المشركين في عدة مواضع، وألزمهم بالحجة البالغة، وبين سخافاتهم الوثنية، من ذلك قوله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} 2. لقد اختاروا لأنفسهم البنين، مع كراهتهم للبنات واحتقارهم لهنَّ، فإنَّ أحدهم إذا أخبر بولادة بنت، صار وجهه متغيراً من الغم والحزن، ومسوداً من الغيظ والكآبة، ولذلك فإنه يتوارى من قومه خجلاً من العار الذي قد يلحقه بسبب مجيء البنت، وكأنها في نظره بلية من البلايا، وليست هبة إلهية من الله تعالى. ثم يفكر فيما يصنع بهذه البنت، أيمسكها على الذل والهوان، أم يدفنها في التراب وهي حية، وهذا هو المذكور في قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} 3.

_ 1 تفسير ابن كثير 2/621. 2 سورة النحل الآيات: 57-59. 3 سورة التكوير الآيتان: 8-9.

وقوله تعالى: {سَاء مَا يَحْكُمُونَ} في آية النحل، أي: ساء وقبح حكمهم في نسبتهم لخالقهم البنات، وهن عندهم مستحقرات، وإضافتهم لأنفسهم البنين لشرفهم عندهم، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. وقال تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلاَئِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} 1. وهذا الكلام يشتمل على أمرين: الأول: إثبات البنات لله، وذلك باطل؛ لأن العرب كانوا يستنكفون من البنت، والشيء الذي يستنكف المخلوق منه، كيف يمكن إثباته للخالق؟ الثاني: إثبات أنّ الملائكة إناث، وهذا أيضاً باطل، لأنَّ طريق العلم إما الحس، وإما الخبر، وإما النظر. أما الحس فمفقود ههنا، لأنهم ما شاهدوا كيفية خلق الله للملائكة،

_ 1 سورة الصافات الآيات: 149-159.

وهو المراد من قوله: {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلاَئِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ} . وأما الخبر فمفقود أيضاً، لأنَّ الخبر إنما يفيد العلم، إذا علم كونه صدقاً قطعاً، وهؤلاء الذين يخبرون عن هذا الحكم كذابون أفاكون، لم يدل على صدقهم لا دلالة ولا أمارة، وهو المراد من قوله تعالى: {أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} . وأما طريق النظر، فمفقود وبيانه من وجهين: الأول: إنَّ دليل العقل يقتضي فساد هذا المذهب، لأنّ الله تعالى له الكمال المطلق، والأكمل لا يليق به اصطفاء الأخس، وهو المراد من قوله: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} . يعني إسناد الأفضل إلى الأفضل أقرب عند العقل من إسناد الأخس إلى الأفضل، فإن كان حكم العقل معتبراً في هذا الباب، كان قولهم باطلاً. الثاني: أن نترك الاستدلال على فساد مذهبهم، بل نطالبهم بإثبات الدليل الدال على صحة مذهبهم، فإذا لم يجدوا ذلك، ظهر ضده وهو خلو الدعوى من أي دليل يدل على صحة قولهم، وهذا هو المراد من قوله تعالى: {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} . فثبت بما ذكر أن القول الذي ذهبوا إليه لم يدل على صحته لا

الحس، ولا الخبر، ولا النظر، فكان المصير إليه باطلاً قطعاً1. وقال تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} 2. فهذه الآيات الكريمة، هي على شاكلة الآيات السابقة في معالجة مفتريات المشركين في الملائكة، بالأدلة العقلية، ومناقشتهم بمنطق الحجة والبرهان. والآيات الكريمة تناقشهم فيما يلي3:

_ 1 انظر: تفسير الفخر الرازي 26/127-128 بتصرف. 2 سورة الزخرف الآيات: 15-23. 3 انظر في ذلك: تفسير ابن كثير: 4/143، والتفسير الكبير للفخر الرازي 27/200 وما بعدها، وتفسير المراغي 25/76-81.

1-جعلهم لله جزءاً من عباده، وقد أنكر القرآن عليهم ذلك في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} ، ومعنى ذلك أنَّهم أثبتوا لله ولداً، فإن ولدَ الرجل جزء منه، ولا شك أن إثبات الولد لله تعالى محال قطعاً، لذلك فقد أكد الله سبحانه كفرهم بقوله: {إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ} ، أي: إنَّ الإنسان بجحوده بنعم الله التي أنعمها عليه ظاهر الكفر، لمن تأمل حاله وتدبر أمره. 2-مناقشتهم عن سرّ اختيارهم للبنين، وجعلهم البنات لله رب العالمين، جاء ذلك في الإنكار عليهم في قوله: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ} ، وقد تقرر عند هؤلاء المشركين تفضيل البنين على البنات، فلو كان مرجع القسمة إلى العقل، لكان اللهُ أولى بالبنين من البنات، ولو كان مرجعها إلى العدل -بصرف النظر عن استحالة ذلك أو إمكانه- لكان العدل يقتضي على أسوأ تقدير، التسوية في القسمة، ولكنهم تجاوزا في الطغيان والسذاجة حدود المألوف من الذوق والفطرة الإنسانية، قال تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} 1، أي: قسمة جائرة، وغير عادلة.

_ 1 سورة النجم الآيتان: 21-22.

3-بينت الآيات أنَّ الأنثى محل نقص في الظاهر والباطن، في الصورة والمعنى، فيكمل نقص ظاهرها وصورتها بلبس الحلي وما في معناه، ليجبر من نقصها، كما قال بعض شعراء العرب: وما الحلي إلا زينة من نقيصة ... يتمم من حسن إذا الحسن قصرا وأما إذا كان الجمال موفرا ... كحسنك لم يحتج إلى أن يزورا1 وأما نقص معناه، فإنها ضعيفة عاجزة عن الانتصار عند الانتصار، لا عبارة لها ولا همة، كما قال بعض العرب وقد بشر ببنت: ما هي بنعم الولد، نصرها بكاء، وبرها سرقة2. وهذا مما يبين سوء نظرتهم للبنت. قال صاحب التسهيل عند هذه الآية: "والمقصد الردّ على الذين قالوا الملائكة بنات الله، كأنه قال: أجعلتم لله من ينشأ في الحلية؟ يعني يكبر وينبت في استعمالها، وذلك صفة النقص. ثم أتبعها بصفة نقص أخرى فقال: {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} ، يعني: أنّ الأنثى إذا خاصمت أو تكلمت، لم تقدر أن تبين حجتها لنقص عقلها، وقلما تجد امرأة إلا تفسد الكلام، وتخلط المعاني، فكيف ينسب لله

_ 1 انظر: تفسير ابن كثير 4/134. 2 المرجع السابق والصفحة.

من يتصف بهذه النقائص"1. وقد زادت الآيات المشركين توبيخاً وإنكاراً في قوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} . والمعنى أنَّ الذي بلغ حاله في النقص إلى هذا الحد، فكيف يجوز للعاقل إثباته لله تعالى؟ وعن بعض العرب أن امرأته وضعت أنثى فهجر البيت الذي فيه المرأة، فقالت: ما لأبي حمزة لا يأتينا يظل في البيت الذي يلينا غضبان ألا نلدَ البنينا وليس لنا من أمْرنا ماشينا وإنّما نأخذُ بالذي أعطينا2 وفي قوله: {وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} ، كفر آخر تضمنه قولهم الشنيع، وهو اعتقادهم بأن الملائكة -الذين خلقوا لعبادة الله وطاعته- إناث. وقد ردّ اللهُ عليهم مقالهم هذا، فقال: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} ، أي:

_ 1 التسهيل لعلوم التنزيل 4/47. 2 الفخر الرازي 27/202، وروح المعاني للألوسي 25/70.

أحضروا وقت خلق الله لهم، حتى يحكموا بأنهم إناث؟ وفي هذا تجهيل للمشركين ورمي لهم بالسفه والحمق، ثم توعدهم على مقالهم بقوله: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} ، أي: ستكتب هذه الشهادة التي شهدوا بها في الدنيا في ديوان أعمالهم، ويسألون عنها يوم القيامة، ليأتوا ببرهان على صحتها، ولن يجدوا لذلك سبيلا. 4-مناقشتهم في احتجاجهم بالقدر لعبادتهم الباطلة، جاء ذلك في قوله: {وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم} ، أي: وقالوا لو شاء الله لحال بيننا وبين عبادة الملائكة والأصنام، فإنه تعالى عالم بذلك، وقد أقرنا عليه. قال ابن كثير: "وقد جهلوا في هذا الاحتجاج جهلاً كبيراً، فإنه تعالى قد أنكر ذلك عليهم أشدّ الإنكار، فإنه منذ بعث الرسل، وأنزل الكتب يأمر بعبادته وحده لا شريك له، وينهى عن عبادة ما سواه.."1. وقال القرطبي: "وهذا منهم كلمة حق أريدَ بها باطل، فكل شيء بإرادة الله، والمشيئة غير الرضى، ولا يصحُّ الاحتجاج بالمشيئة، فإنهم لو عبدوا الله بدل الأصنام لعلمنا أنّ الله أراد منهم ذلك"2. ونستطيع أنْ نقول بأنَّ مشيئة الله تعالى وإرادته نوعان: مشيئة قدرية

_ 1 تفسير ابن كثير 4/134. 2 الجامع لأحكام القرآن 16/73.

كونية، ومشيئة شرعية. فالمشيئة الشرعية هي المتضمنة للمحبة والرضى، والكونية هي المشيئة الشاملة لجميع الموجودات. والمشركون جعلوا المشيئة الكونية والعامة دافعة للأمر والنهي، ولم يذكروها على جهة التوحيد، وإنما ذكروها معارضين بها لأمر الله، دافعين بها شرعه1. 5-إفهام المشركين بأنَّ عباداتهم في ذلك كله، ليس لها دليل ولا برهان، بل مجرد الآراء والأهواء وتقليد الآباء والأجداد {مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} ، أي: ما لهم على ما قالوا مستند يستندون إليه في تأييد دعواهم، وما هم إلا متقولون على الله زوراً وبهتاناً. ولما بين تعالى بطلان قولهم بالعقل، أتبعه ببطلانه بالنقل، فقال تعالى: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} ، أي: هل أنزلنا على هؤلاء المشركين كتاباً من قبل هذا القرآن، ينطق بصحة ما يدّعون حتى يعولوا عليه، ويتمسكوا بتوجيهاته؟ ولما لم يكن لهم حجة على ما زعموا، اعترفوا بأنّه ليس لديهم

_ 1 انظر: شرح الطحاوية لأبي العز الحنفي ص: 116، 154، ومجموع الفتاوى لابن تيمية 2/409-410 و 3/111.

مستند سوى تقليد آبائهم الجهلة {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} ، فلما عجزوا عن الإتيان بما يبرر هذا الافتراء، بطل قولهم، وسقطت شبهتُهُم، وظهر أمرُ الله متمثلاً في عقيدة التوحيد الخالصة من أدران الشرك ورواسب الوثنية. ثم بين سبحانه وتعالى أن مقال هؤلاء سبقهم إلى مثله أشباهُهُم من الأمم المكذبة للرسل، فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} ، وفي هذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، ودلالة على أن التقليد في مثل ذلك ضلال قديم، وأسلافهم لم يكن لهم سند منظور يعتد به"1. بيان القرآن لحقيقة الملائكة: والقرآن الكريم يخبرنا بالكثير عن حقيقة الملائكة وأعمالهم في الكون، وعلاقتهم بالإنسان في الدنيا والآخرة. ومن أهم أعمالهم وأبرزها إبلاغ الوحي الإلهي إلى الرسل عليهم السلام، قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ

_ 1 انظر: تفسير البيضاوي 2/365، والمراغي 25/80.

شَيْءٍ قَدِيرٌ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1. وأخبر الله تعالى أنَّ الملائكة تظهر في صفوف منتظمة، تسبح له وتتلو آياته، فتلهم الحق والخير، وتزجر عن الكفر والشر، وقد أقسم اللهُ تعالى بها، وذلك في قوله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} 2. ظهور الملائكة في صور البشر: وقد تظهر الملائكةُ في صور رجال من البشر، لكن هذا لا يعني أنها تمارس ما يمارسه البشر من طبائع وغرائز، مثل الأكل والشرب وغيره. فقد جاءت الملائكة إبراهيم عليه السلام تبشره بمولد ابنه إسحاق على هيئة رجال من البشر، ولما كان إبراهيم عليه السلام لم يعرفهم بعد، فإنَّه سارع بإعداد وليمة لإطعامهم، لكن الملائكة امتنعت عن الأكل الذي قدمه لهم إبراهيم، ولم تمتد له أيديهم، فشعر إبراهيم عند ذلك

_ 1 سورة فاطر الآيتان: 1-2. 2 سورة الصافات: 1-5.

بالخوف والريبة، ولكنهم أخبروه بأنهم رسل الله إلى قوم لوط عليه السلام. قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} 1. ومن ظهور الملائكة في صورة البشر، ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أن جبريل عليه السلام كان يأتيه في صورة رجل أعرابي حسن المنظر. من ذلك حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه

_ 1 سورة هود الآيات: 69-73.

إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله ... " 1 الحديث. وفيه قال: "ثم انطلق فلبث ملياً، ثم قال: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنّه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم". طاعة الملائكة لربهم، وشهادتهم بوحدانيته: والملائكة يخشون الله تعالى، ويخافون عقابه، ومن طبيعتهم الطاعة وعدم العصيان، قال الله تعالى: {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} 2. وهم يشهدون بوحدانية الله تعالى: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 3. ويشهدون على صحة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم:

_ 1 صحيح مسلم 1/37 كتاب الإيمان، حديث رقم: 1. 2 سورة النحل الآيتان: 49-50. 3 سورة آل عمران الآية: 18.

{لَّكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا} 1. وهم يحملون عرش ربهم، ويستغفرون للمؤمنين: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} 2. وهم درجات عند ربهم، ولكل منهم مقام لا يتعداه، قال تعالى: {وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} 3. حفظ الملائكة للإنسان في الدنيا بإذن الله: ولقد جعل الله تعالى من الملائكة من يحفظ الإنسان من الأذى، إلى نهاية أجله. قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء

_ 1 سورة النساء الآية: 166. 2 سورة غافر الآية: 7. 3 سورة الصافات الآيات: 164-166.

أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ} 1. وقال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} 2. وقد أيد الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالملائكة في هجرته من مكة إلى المدينة، قال تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 3. مشاركة الملائكة المسلمين في بعض الغزوات: وفي غزوة بدر، حيث كان المسلمون في قلة من العدد والسلاح، لا يتميزون إلاّ بما اطمأنت به قلوبهم من عقيدة التوحيد الخالص، والثقة في

_ 1 سورة الأنعام الآية: 61. 2 سورة الرعد الآية: 11. 3 سورة التوبة الآية: 40.

نصر الله الذي سعوا إليه بالعزم الصادق، والتضرّع الخالي من الغرور والكبرياء، أمد الله المسلمين بألف من الملائكة مردفين، قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ} 1. وفي غزوة الأحزاب، نزلت الملائكة، وكان ما فعلته بالكفار، وما ألقته في قلوبهم من الرعب كفيلاً بردّهم خائبين. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} 2. وفي يوم حنين نزلت الملائكة، ونكّلت بالكافرين جزاء لهم على كفرهم وبغيهم على المؤمنين بالله تعالى، قال سبحانه: {وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ} 3. تسجيل الملائكة لأفعال العباد: ومن الملائكة المكلفين بمراقبة الناس في جميع حركاتهم وسكناتهم،

_ 1 سورة الأنفال الآية: 9. 2 سورة الأحزاب الآية: 9. 3 سورة التوبة الآية: 26.

وتسجيل كل ما يصدر عنهم من خير وشر. قال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} 1. وقال الله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} 2. وقال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} 3. تنزيل الملائكة لتثبيت المؤمنين عند الموت: وليست علاقة الملائكة بالناس في الحياة فحسب، بل إنها تتنزل عند الموت على الذين آمنوا بالله صدقاً وأخلصوا العمل له، بأنّ لا يخافوا مما يقدمون عليه من أهوال القيامة، ولا يحزنوا على ما تركوه في الدنيا من الأهل والمال والولد، وأنَّ لهم الجنة، وأنَّ الملائكة أنصارهم وأولياؤهم في الدنيا والآخرة، يرشدونهم إلى ما فيه الخير والسعادة.

_ 1 سورة ق الآيتان: 17-18. 2 سورة الإنفطار الآيتان: 10-11. 3 سورة الزخرف الآية: 80.

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} 1. وحين يتعرض المؤمنون لغمرات الموت، فإنَّ الملائكة تبشرهم بالجنة، وتبعث في نفوسهم الأمن والسكينة، قال تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} 2. حسن استقبال الملائكة للمؤمنين في الآخرة: وتستقبل الملائكةُ المؤمنين على أبواب الجنة، يهنئونهم بما هم قادمون عليه، فلا تخيفهم أهوال يوم القيامة، قال تعالى: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ المَلاَئِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} 3. وفي الجنة ينعم المؤمنون بتسليم الملائكة عليهم، وترحيبهم بهم، قال

_ 1 سورة فصلت الآيات: 30-32. 2 سورة النحل الآية: 32. 3 سورة الأنبياء الآية: 103.

تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} 1. تعنيف الملائكة للكفار عند قبض أرواحهم: وعلى النقيض مما سبق، يكون موقف الملائكة مع الكافرين الجاحدين، ذلك أنه من بدء سكرات الموت، فإنَّ الملائكة تتلقف أولئك الخاسرين بالتعنيف والأذى، والحساب العسير، على ما فرطوا في جنب الله، واتباعهم للعقائد الضالة، ثم يعرضون عليهم مشاهد مما ينتظرهم من عذاب يوم القيامة. قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} 2.

_ 1 سورة الرعد الآيتان: 23-24. 2 سورة الأنعام الآيتان: 93-94.

وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} 1. وقال تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} 2. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا} 3. لعن الملائكة للكفار: وهم يلعنون الكفار مع لعن الله لهم والناس أجمعين، قال تعالى: {إِنَّ

_ 1 سورة الأنفال الآيتان: 50-51. 2 سورة النحل الآيتان: 28-29. 3 سورة النساء الآية: 97.

الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} 1. الملائكة لا يملكون من الأمر إلا ما شاء الله: وعلى الرّغم مما رأينا من الصّلة الوثيقة بين الملائكة والإنسان في جميع مراحله المختلفة، سواء أكان ذلك قبل الموت أم بعده، فإنها لا تملك من أمره شيئاً في الدنيا ولا في الآخرة، وكلُّ ما يمكن قوله إنَّ الملائكة جنود الله وعبيده، منفذون لأوامره، كما قال تعالى: {لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} 2. أما الأمر فكله لله تعالى، لا يشاركه فيه من خلقه مشارك، ولو كان نبياً مرسلاً، أو ملكاً مقرباً، قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} 3.

_ 1 سورة البقرة الآية: 161. 2 سورة التحريم الآية: 6. 3 سورة الأنبياء الآية: 26-29.

وقال تعالى: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى} 1. وقال تعالى: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} 2. وقال تعالى: {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلُيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا} 3. الأمر بالإيمان بالملائكة: وقد أمر الله تعالى عباده بالإيمان بهم، والتصديق بوجودهم، بل

_ 1 سورة النجم الآية: 26. 2 سورة آل عمران الآية: 80. 3 سورة النساء الآيتان: 172-173.

وقرن الإيمان به تعالى بالإيمان بهم، قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} 1. وجعل تعالى إنكارهم كفراً وضلالاً، قال تعالى: { ... وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} 2. خلاصة ما تقدم: ومن هذا يتبين لنا أنّ القرآن الكريم بين منزلة الملائكة عند الله تعالى بما لا يحتملُ الجدل والمناقشة، فما الملائكة إلاّ عباد مكرمون، يفعلون ما يؤمرون، وهم يحصون أعمال العباد، وهم حملة عرش الرحمن تبارك وتعالى، يطُوفوُن حوله ويسبحون بحمد ربّهم، وينزلون فيما عظم من الأمور بإذن الله تعالى، ويشهدون بوحدانيته، ويشهدون على صحة ما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن وحمل الرسالة. وهم يُثّبتُون المؤمنين في جهادهم، ويصلون عليهم، ويتلقونهم عند وفاتهم بالبشرى والتحية الطيبة، والتكريم الحسن والاستغفار لهم، في حين أنّهم يعاملون الكفار عند الوفاة بالشدة والقسوة، ويتلقونهم في الآخرة بمثل ذلك ويلعنونهم.

_ 1 سورة البقرة الآية: 285. 2 سورة النساء الآية: 136.

ومع ذلك كله، فإنَّ الملائكة مهما علت منزلتهم عند ربهم، فإنَّهم لا يخرجون عن كونهم عبيداً لله تعالى، خاضعين له، مشفقين من خشيته، عارفين لحدودهم، فلا يتكلمون ولا يشفعون إلاّ بإذن ربهم ورضاه. وفي ذلك كله الردّ القاطع على مفاهيم المشركين الخاطئة نحو الملائكة، والتصحيح لما في أذهانهم من انحرافات وخرافات.

المبحث الثاني: إنكار المشركين لليوم الآخر ومنهج القرآن في إثباته.

المبحث الثاني: إنكار المشركين لليوم الآخر ومنهج القرآن في إثباته: الحكمة من البعث: لقد خلق الله الخلق لعبادته، وكلفهم بالعبودية له، فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 1. وبيّن تبارك وتعالى للناس طريق الخير، وطريق الشر، ليكونوا على بينة من أمرهم، ولما كانت الطبيعة البشرية فيها الاستعداد لقبول الخير والشر، كما قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} 2. ولما كان الخالق الحكيم لم يخلق الناس عبثاً، ولم يتركهم سدى، كما قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} 3. وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ

_ 1 سورة الذاريات الآية: 56. 2 سورة الشمس الآيتان: 7-8. 3 سورة المؤمنون الآية: 115.

يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى} 1. لذلك فإنَّ عدل الله وحكمته، وإعطاءه لكل ذي حق حقه، وتفريقه بين الخبيث والطيب، والمحسن والمسيء، وحتى لا يكون من كفر بالله وعصاه كمن عبده وأطاعه، لهذا فإنَّ الله تعالى جعل اليوم بعد هذه الحياة؛ لينال فيه كل إنسان جزاء عمله من الثواب والعقاب. جاء ذلك واضحاً في قوله تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} 2. وقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} 3. وقوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي

_ 1 سورة القيامة الآيات: 36-40. 2 سورة يونس الآية: 4. 3 سورة طه الآية: 15.

الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} 1. وواقع الحال أننا نرى كثيراً ممن ارتكبوا جرائم في هذه الحياة يفارقونها وهم متلبسون بجرائمهم، ولم يقتص منهم، كما نرى أناساً آخرين يغادرونها وهم مظلومون، ولم ترد إليهم مظالمهم، ولم يقتص من ظالميهم، كما نرى أشراراً في الدنيا منعمين، وأخياراً معذبين، مع العلم أنَّ ذلك كله واقع بعلم الله القوي القادر السميع البصير، الذي لا تخفى عليه خافية، والذي قد حرّم الظلم على نفسه، وجعله بين عباده محرماً، ولكنه تعالى يمهل ولا يهمل. لذا والحالة هذه، فإنه إذا ذهب كلُّ إنسان بما فعل، ظالماً أو مظلوماً دون محاسبة، أو مجازاة، كان ذلك خدشاً في حق الإله العظيم، وعدله تبارك وتعالى، فلا بدَّ إذاًَ من يوم يقف فيه الظالم والمظلوم، والقائم بالتكاليف الإلهية، والتارك لها بين يدي الخالق جل وعلا، ليقتص من الظالم للمظلوم، ولينال كلُّ من المحسن والمسيء جزاءه المستحق، كما قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} 2.

_ 1 سورة ص الآية: 28. 2 سورة الأنبياء الآية: 47.

وقال تعالى: {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} 1. لهذا كله، فإن الحكمة واضحة في أنه لا بدّ من حياة أخرى غير هذه الحياة، يحضر فيها الجميع بين يدي الخالق تبارك وتعالى لمجازاة المكلفين منهم بحسب كسبهم الإرادي الاختياري، الذي كسبوه في هذه الدنيا، لأنَّ الدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء، كما قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} 2. وقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} 3. شبه منكري البعث: ومع ظهور الحكمة في إعادة الحياة إلى الموتى للحساب والجزاء، فإنَّ

_ 1 سورة الجاثية الآية: 21. 2 سورة آل عمران الآية: 185. 3 سورة التغابن الآية: 7.

بعضاً من المشركين قد ضلوا في هذا الباب، والحق أنهم ليس لهم مستند فيما ذهبوا إليه، سوى الإنكار والاستبعاد الناتج عن تصورهم لتفتت العظام، وتحلل الأجساد بعد الموت إلى ذرات ترابية صغيرة، واختلاط تلك الأجزاء الصغيرة بالأرض والنبات. وقد قصّ الله تعالى مقولات هؤلاء المنكرين وشبهاتهم في كتابه الكريم، والتي تعود كلها كما قلت إلى الإنكار والاستبعاد. قال تعالى: {وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} 1. وقال تعالى: {وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} 2. وقال تعالى: {قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} 3. وقال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} 4.

_ 1 سورة الإسراء الآية: 49. 2 سورة مريم الآية: 66. 3 سورة المؤمنون الآيتان: 82-83. 4 سورة يس الآية: 78.

وقال تعالى: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} 1. ولشدة تعنت المنكرين للبعث، فقد نسبوا القائل به إلى الكذب والافتراء والجنون. قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلاَلِ الْبَعِيدِ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} 2. إنَّ الأمر غريب وعجيب عندهم، والحديث عنه يعد خرافة كما قال قائلهم: حياة ثم موت ثم نشر ... حديث خرافة يا أم عمرو3 وقال شداد بن أوس بن عبد شمس في رثاء أهل بدر من المشركين:

_ 1 سورة ق الآية: 3. 2 سورة سبأ الآيات: 7-9. 3 انظر: الملل والنحل للشهرستاني 2/236، وبلوغ المرام للألوسي 2/198.

وماذا بالقليب قليب بدر ... من الشيزى1 تكلل بالسنام يخبرنا الرسول لسوف نحيا ... وكيف حياة أصداء وهام2 ولما كانت قضية البعث بعد الموت من القضايا المهمة في العقيدة الإسلامية، شأنها في ذلك شأن إثبات الوحدانية لله تعالى، فقد اهتم القرآن الكريم بالدعوة إلى الإيمان باليوم الآخر غاية الاهتمام، وجمع بين الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر في كثير من الآيات، من ذلك قوله تعالى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 3. وقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 4. وقوله: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ} 5.

_ 1 الشيزى: شجر تتخذ منه الجفان، وأراد بالجفان أربابها الذين كانوا يطعمون فيها وقتلوا يوم بدر، وألقوا في القليب، فهو يرثيهم وسمي الجفان شيزى باسم أصلها. لسان العرب 5/363، والنهاية لابن الأثير 2/518. 2 البداية والنهاية لابن كثير 3/342، وبلوغ الأرب للألوسي 2/189، ولسان العرب لابن منظور 5/363. 3 سورة النساء الآية: 39. 4 سورة التوبة الآية: 18. 5 سورة التوبة الآية: 29.

وقوله: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 1. أدلة القرآن في إثبات البعث: ولقد استدل القرآن الكريم على إمكان البعث وتحقق وقوعه بأدلة مختلفة يمكن إيجازهما فيما يلي: الأول: الاستدلال على وقوع البعث بمن أماتهم الله ثم أحياهم، فقد ذكر القرآن الكريم عدداً من الأمثلة من هذا النوع من الاستدلال، وإليك البيان: 1-ما ذكره الله تعالى عن قوم موسى عليه السلام، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 2. وقد ذكر المفسرون: أن الذين أخذتهم الصاعقة هم السبعين الذين اختارهم موسى عليه السلام من خيارهم لميقات وقّته له ربه، فقالوا له: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} ، فأخذتهم الصاعقة، وهي كما قالوا:

_ 1 سورة المجادلة الآية: 22. 2 سورة البقرة الآيتان: 55-56.

-نار من السماء- فماتوا جميعاً، وقام موسى يناشد ربه ويدعوه، ولم يزل حتى ردّ الله إليهم أرواحهم، فقاموا وعاشوا رجلاً رجلاً ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون1. قال النحاس: "وهذا احتجاج على من لم يؤمن بالبعث من قريش، واحتجاج على أهل الكتاب إذ أخبروا بهذا"2. 2- قصة الرجل من بني إسرائيل الذي ضرب بعضو من أعضاء البقرة، كما قال الله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} 3. وذلك أن القتيل ضرب بعضو من أعضاء البقرة التي أمرهم الله بذبحها، كما قال لهم موسى عليه السلام: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} 4، فلما ضرب ببعضها قام تشخب أوداجه دماً، فقالوا له من

_ 1 انظر تفسير الطبري 1/291، وتفسير ابن كثير 1/95-96. 2 تفسير القرطبي 1/404. 3 سورة البقرة الآيتان: 72-73. 4 سورة البقرة الآية: 67.

قتلك؟ قال: قتلني فلان، ثم عاد ميتاً كما كان1. قال الطبري: "قوله: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى} مخاطبة من الله لعباده المؤمنين، واحتجاج منه على المشركين المكذبين بالبعث، وأمرهم بالاعتبار بما كان منه جل ثناؤه من إحياء قتيل بني إسرائيل بعد مماته في الدنيا، فقال لهم تعالى ذكره: أيها المكذبون بالبعث بعد الممات، اعتبروا بإحيائي هذا القتيل بعد مماته، فإني كما أحييته في الدنيا، فكذلك أحي الموتى بعد مماتهم، فأبعثهم يوم البعث، وإنّما احتج جل ذكره بذلك على مشركي العرب، وهم قوم أميون لا كتاب لهم، لأنَّ الذين كانوا يعلمون ذلك من بني إسرائيل كانوا بين أظهرهم، وفيهم أنزلت هذه الآيات، فأخبرهم جل ذكره بذلك ليتعرفوا علم من قبلهم"2. 3- قصة الذين أخبر الله تعالى عنهم في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} 3. وهؤلاء هم قوم من بني إسرائيل، وقع فيهم الوباء، ففروا هاربين،

_ 1 انظر: تفسير الطبري 1/359-360، وتفسير ابن كثير 1/115، وتفسير القرطبي 1/457. 2 تفسير الطبري 1/361. 3 سورة البقرة الآية: 243.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كانوا أربعة آلاف، وعنه كانوا ثمانية آلاف، وعنه أيضاً أربعون ألفاً خرجوا فراراً من الطاعون، قالوا نأتي أرضاً ليس بها موت، حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا، قال الله لهم: "موتوا" فماتوا، فمرّ عليهم نبيٌ من الأنبياء، فدعا ربه أن يحييهم، فأحياهم"1. 4- {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 2. والذي مرّ على القرية هو: "عزير" عليه السلام على القول المشهور، والقرية المشهور أنها بيت المقدس، مرّ عليها عزير بعد تخريب بختنصر لها، وقتل أهلها، ذكر ذلك ابن كثير رحمه الله3. 5- سؤال إبراهيم عليه السلام عن كيفية إحياء الموتى، قال تعالى:

_ 1 تفسير الطبري 2/586، وتفسير ابن كثير 1/309-310. 2 سورة البقرة الآية: 259. 3 تفسير ابن كثير 1/326.

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 1. وقد ذكر المفسرون لسؤال إبراهيم عليه السلام أسباباً منها أنه لما قال للنمرود {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} ، أحب أنْ يترقى من علم اليقين، وأن يرى ذلك مشاهدة2. وأما حديث: "نحن أحق بالشك من إبراهيم إذْ {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى ... } "3 الآية، فإن إبراهيم عليه السلام لم يكن شاكاً في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى. وقد اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في معنى هذا الذي ورد من النبي صلى الله عليه وسلم على أقوال كثيرة، أحسنها وأصحها ما قاله أبو

_ 1 سورة البقرة الآية: 260. 2 تفسير ابن كثير 1/327. 3 صحيح البخاري بشرح الفتح 6/411 كتاب الأنبياء، باب قول الله عز وجل: {ونبئهم عن ضيف إبراهيم} الآية. ومسلم 1/133 كتاب الإيمان، باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة.

إبراهيم المزني وجماعة من العلماء، من أنَّ الشكَ مستحيلٌ في حق إبراهيم عليه السلام، فإنَّ الشك في إحياء الموتى لو كان متطرقاً إلى الأنبياء، لكنت أنا أحق به من إبراهيم، وقد علمتم أني لم أشك، فاعلموا أنَّ إبراهيم عليه السلام لم يشك، وإنّما خص إبراهيم بالذكر لكون الآية قد يسبق الأذهان الفاسدة منها احتمال الشك، فنفى ذلك عنه، وإنّما رجح إبراهيم على نفسه صلى الله عليه وسلم تواضعاً وأدباً، أو قبل أنْْ يعلم صلى الله عليه وسلم أنه خير ولد آدم1. وذكر ابن حجر رحمه الله عن بعض علماء العربية:" أن أفعل ربما جاءت لنفي المعنى عن الشيئين، نحو قوله تعالى: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} 2، أي لا خير في الفريقين، ونحو قول القائل: الشيطان خير من فلان، أي لا خير فيهما، فعلى هذا فمعنى قوله: "نحن أحق بالشك من إبراهيم" لا شك عندنا جميعاً "3ا.?. أما قوله تعالى: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} ، فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "أوثقهُّن فلما أوثقهن ذبحهن، ثم جعل على كل جبل منهم جزءاً، فذكروا أنه عمد إلى أربعة من الطير فذبحهن، ثم قطعهن

_ 1 شرح النووي على مسلم 2/183. 2 سورة الدخان الآية: 37. 3 فتح الباري 6/412.

ونتف ريشهن ومزقهن، وخلط بعضهن ببعض، ثم جزأهن أجزاء، وجعل على كل جبل منهن جزءاً، قيل أربعة أجبل، وقيل سبعة. قال ابن عباس: وأخذ رؤوسهن بيده، ثم أمره الله عز وجل أن يدعوهن فدعاهن كما أمره الله عز وجل، فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش، والدمّ إلى الدّم، واللحم إلى اللحم، والأجزاء من كل طائر يتصل بعضها إلى بعض، حتى قام كل طائر على حدته وأتينه يمشين سعياً، ليكون أبلغ له في الرؤية التي سألها، وجعل كل طائر يجيء ليأخذ رأسه الذي في يد إبراهيم عليه السلام، فإذا قدم له غير رأسه يأباه، فإذا قدم إليه رأسه تركب مع بقية جسده بحول الله وقوته"1. 6- ما أخبر الله تعالى في عيسى عليه السلام، أنه كان يحيى الموتى بإذن الله، وذلك في قوله سبحانه: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ} 2. وذكر المفسرون أنه أحيا أربعة أنفس من الموت3، وكان إحياء

_ 1 تفسير ابن كثير 1/328. 2 سورة آل عمران الآية: 49. 3 زاد المسير لابن الجوزي 1/392، وانظر تفسير القرطبي 4/94.

عيسى الموتى بدعائه لله، يدعو لهم فيستجيب له1. 7- ما أخبر الله عنه من قصة أصحاب الكهف، قال تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} 2. وقال تعالى عنهم: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} 3. وقال أيضاً: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاَثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} 4. قال ابن كثير رحمه الله: " ذكر غير واحد من السلف أنه قد حصل

_ 1 تفسير الطبري 3/278. 2 سورة الكهف الآيات: 10-12. 3 سورة الكهف الآية: 19. 4 سورة الكهف الآيتان: 25-26.

لأهل ذلك الزمان شك في البعث وفي أمر القيامة، وقال عكرمة: كان منهم طائفة قد قالوا: تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد، فبعث الله أهل الكهف حجةً ودلالةً وآيةً على ذلك"1. الثاني: الاستدلال بالنشأة الأولى: جاء ذلك في آيات كثيرة منها ما يلي: 1- قال تعالى: {وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا} 2. والمعنى: أن المشركين المكذبين بالبعث، قالوا إذا أصبحنا عظاماً نخرة، وذرات متفتتة كالتراب، هل سنبعث ونخلق خلقاً جديداً؟ ويجيبهم الله تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: لو كنتم من نوع الحجارة أو الحديد، لقدر الله تعالى على بعثكم وإحيائكم، فضلاً عن كونكم من العظام والرفات، لأنَّ الله تعالى لا يعجزه شيء {أَوْ

_ 1 تفسير ابن كثير 3/82-83. 2 سورة الإسراء الآيات: 49-51.

خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} أي: أو كونوا خلقاً آخر أبعد عن الحياة من الحجارة والحديد، مما يصعب في نفوسكم تصور الحياة فيه {فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا} أي: من الذي يردنا إلى الحياة بعد الممات {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} ، أي: قل لهم يا محمد: القادر العظيم الذي خلقكم وأنشأكم من العدم أول مرة، هو الذي يعيدكم {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ} أي: يحركون رؤوسهم قائلين في استهزاء وتعجب واستنكار، متى يكون هذا البعث الذي تدعيه؟ وهنا يقول الحق لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا} أي: لعله يكون قريباً، فإن كلَّ ما هو آت قريب1. 2- وقال تعالى: {وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلاَ يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} 2. وفي هذه الآية الكريمة، ينبه الله تعالى الجاحد للبعث على خلقه

_ 1 انظر: تفسير ابن كثير 3/49، والمراغي 15/56-57. 2 سورة مريم الآيتان: 66-67.

الأول، ليستدل به على الإعادة، ويعلم أنَّ الذي خلقه من العدم، قادر على أنْ يعيده بعد الفناء وتشتت الأجزاء. قال بعض العلماء: "لو اجتمع كلُّ الخلائق على إيراد حجة في البعث على هذا الاختصار، لما قدروا عليها، إذ لا شك أنَّ الإعادة ثانياً أهون من الإيجاد أولاً"1. 3-وقال تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} 2. 4-وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ

_ 1 التفسير الكبير للفخر الرازي 21/241. 2 سورة الأنبياء الآية: 104.

فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ} 1. فهذه الآيات الكريمة تقوم على مقدمات وحقائق واضحة بنيت عليها نتائج ثابتة، مع ما فيها من السهولة والوضوح التام. فالله تعالى يذكر للمجادلين في قدرة الله تعالى، المنكرين للبعث، دليلين واضحين على إمكان البعث: أحدهما: في الإنسان نفسه. والآخر في النبات. فأما الدليل الذي في الأنفس، فهو يشتمل عليه صدر الآية الكريمة، وهو متعلق بالنشأة الأولى: (فكأن الله سبحانه قال: إن كنتم في ريب مما وعدناكم من البعث، فتفكروا في خلقكم الأول، لتعلموا أنَّ القادر على خلقكم أولاً، قادرٌ على خلقكم ثانياً) 2. ومعنى ذلك فإن شككتم أيها المنكرون للبعث في قدرة الله على إحيائكم بعد موتكم، فانظروا في أصل خلقكم ليزول ريبكم، فقد خلقنا أصلكم "آدم" عليه السلام من التراب، ثم جعلنا خلقكم بعد ذلك من نطفة ماء، ثم إلى علقة، وهو الدم الجامد، ثم إلى مضغة، وهي القطعة من اللحم متبينة الخلق والصورة، وغير متبينة في شكلها وخلقها، لنيبن لكم

_ 1 سورة الحج الآيات: 5-7. 2 التفسير الكبير للفخر الرازي 23/7.

قدرتنا على الخلق والإعادة {وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} ، أي: ونثبت من الحمل في الأرحام من أردنا أن نقره فيها، حتى زمن الوضع {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} أي: ثم نخرج هذا الجنين فينمو شيئاً فشيئاً {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} ، أي: كمال قواكم وعقولكم {وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى} فيموت في شبابه، {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} ، فيصل إلى سن الشيخوخة والهرم {لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} فيعود إلى ما كان عليه في أوان الطفولة من الضعف وقلة الفهم والإدراك. فالآية الكريمة تخاطب المنكر للبعث، قائلة له: إنْ كنت تستبعد البعث والنشور، فما عليك إلا أنْ تنظر إلى أصل خلقك، ونشأتك الأولى وحياتك المتعددة، فعند ذلك تعلم علم اليقين، أنَّ القدرة التي صنعت ذلك لا يعجزها إحياؤك بعد موتك. وأما دليل النبات أو إحياء الأرض بعد موتها، فقد جاء في قوله تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} ، وسيأتي إيضاح هذا الاستدلال في موضعه. قال الفخر الرازي: "ثم إنه لما قرر هذين الدليلين رتب عليهما ما هو المطلوب والنتيجة وذكر أموراً خمسة:

1- قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} ، والحق هو الموجود الثابت، فكأنه سبحانه بين أن هذه الوجوه دالة على وجود الصانع، وحاصلها راجع إلى حدوث هذه الأعراض وتواردها على الأجسام دليل على وجود الصانع. 2- قوله تعالى: {وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى} ، فهذا تنبيه على أنه لما لم يستبعد من الإله إيجاد هذه الأشياء، فكيف يستبعد منه إعادة الأموات. 3- قوله تعال: {وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} يعني: أنَّ الذي يصح منه إيجاد هذه الأشياء، لا بدّ أنْ يكون قديراً قادراً على الإعادة أيضاً. 4- قوله تعالى: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا} ، والمعنى أنه لما أقام الدلائل على أن الإعادة في نفسها ممكنة، وأنه تعالى قادر على كل شيء، وجب القطع بكونه قادراً على الإعادة في نفسها، وإذا ثبت الإمكان، وأخبر الصادق عن وقوعه، وجب القطع بوقوعه. 5- {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ} ، أي: ولتوقنوا بأنَّ الله حينئذ يبعثُ من في القبور أحياء إلى مواقف الحساب. ثم قال الرازي: واعلم أنّ تحرير هذه الدلائل على الوجه النظري، أنّ

يقال الإعادة في نفسها ممكنة، والصادق أخبر عن وقوعها، فلا بدّ من القطع بوقوعها"1ا.?. 4- ومن أدلة البعث قياساً على النشأة الأولى، قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} 2. 5- وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 3. وقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} ، أي: وهو الذي يبدأ الخلق من غير أصل له، فينشئه بعد أنْ لم يكن شيئاً، ثم يفنيه بعد ذلك، ثم يعيده كما بدأه، وذلك أسهل عليه حسب ما يدور في عقول المخاطبين، من أنّ

_ 1 التفسير الكبير 23/9-10 بتصرف، وانظر تفسير المراغي 17/90. 2 سورة المؤمنون الآيات: 12-16. 3 سورة الروم الآية: 27.

من فعل شيئاًَ مرة، كانت الإعادة أسهل عليه، وإلاّ فكل الممكنات بالنظر إلى قدرة الله تعالى سواء1. ومثل هذه الآية قوله تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} 2. والمعنى: أفعجزنا عن ابتداء الخلق، حتى نعجز عن إعادته بعد الموت؟ قال ابن كثير رحمه الله: "والمعنى أنَّ الخلق لم يعجزنا، والإعادة أسهل منه"3. 6- وقال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} 4.

_ 1 انظر: تفسير الطبري 21/35، وتفسير المراغي 21/41. 2 سورة ق الآية: 15. 3 تفسير ابن كثير 4/239. 4 سورة السجدة الآيات: 7-11.

7- وقال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} 1. قال مجاهد وعكرمة وعروة بن الزبير والسدي وقتادة: جاء أبيّ بن خلف لعنه الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظم رميم، وهو يفتته ويذره في الهواء، وهو يقول: يا محمد، أتزعم أنَّ الله يبعث هذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: "نعم يميتك الله تعالى، ثم يبعثك، ثم يحشرك إلى النار". ونزلت هذه الآيات من آخر يس. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنّ العاص بن وائل أخذ عظماً من البطحاء ففته بيده، ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيحيي اللهُ هذا بعد ما أرى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم يميتك الله، ثم يحييك، ثم يدخلك جهنم"، قال ونزلت الآيات من آخر يس2. قال ابن كثير: "وعلى كل تقدير، سواء كانت هذه الآيات نزلت في أبيّ بن خلف، أو العاص بن وائل، أو فيهما، فهي عامة في كل

_ 1 سورة يس الآيتان: 78-79. 2 الحاكم في المستدرك 2/429، وصححه ووافقه الذهبي. وأسباب النزول للسيوطي ص: 182، وأسباب النزول للواحدي ص: 209.

منكر للبعث"1. 8- وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى} 2. ومعنى الآيات الكريمة، أفيظن الإنسان أنْ يترك هملاً من غير بعث ولا حساب؟ وبدون تكليف، بحيث يبقى كالبهائم، أما كان هذا الإنسان نطفة له ماء مهين، يخرج من بين صلب الرجل، وترائب المرأة، ثم كان علقة من دم غليظ متجمد، فخلقه الله بقدرته في أحسن صورة وأجملها، كما قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} 3، فكان من هذا الإنسان الذكر والأنثى بقدرته تعالى، أليس الذي أنشأ الإنسان هذه النشأة العجيبة، بقادر على إعادة خلقه بعد فنائه؟ "سبحانك اللهم بلى". إلى غير ذلك من الآيات التي أوردها القرآن في اثبات البعث مستدلاً على ذلك بالنشأة الأولى.

_ 1 تفسير ابن كثير 3/607. 2 سورة القيامة الآية: 36-40. 3 سورة التين الآية: 4.

الثالث: الإستدلال على البعث بخلق السموات والأرض بطريق الأولى، ومن الحجج التي استدل القرآن بها على منكري البعث، بيان قدرته العظيمة على خلق الأكوان، ومن ذلك خلقه للسموات والأرض، كما في قوله تعالى: {وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا} 1. وقوله تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ} 2. وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 3. وقوله تعالى: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} 4.

_ 1 سورة الإسراء الآيتان: 98-99. 2 سورة يس الآية: 81. 3 سورة الأحقاف الآية: 33. 4 سورة النازعات الآيتان: 27-28.

فهذه الآيات الكريمة، وما في معناها من أكبر الأدلة والبراهين على قدرة الخالق العظيم، لأنه من المعروف ببداهة العقول السليمة، أنَّ خلق السموات والأرض أعظم من البعث وإعادة خلق الناس. الرابع: الاستدلال بخلق النبات: ومن أدلة القرآن على إمكان البعث، قياس إحياء الأرض بعد موتها بالمطر والنبات، جاء ذلك في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 1. ومن ذلك قوله تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ} 2. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ

_ 1 سورة الأعراف الآية: 57. 2 سورة الحج الآيتان: 6-7.

فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ} 1. وقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 2. فهذه الآيات الكريمة، استدل بها القرآن الكريم على بعث الموتى من قبورهم، وذلك أنَّ الله تعالى ينزل الأمطار على الأرض المجدبة القاحلة، فتحيا بعد أن كانت ميتة هامدة، وتهتز وتربو وتنبت من أصناف النباتات المختلفة، وكذلك الأموات يخرجون كما تخرج هذه النباتات من الأرض الميتة، إذ أنَّ القادر على هذا قادر على ذلك، ولو كانت إعادة الحياة إلى الإنسان مستحيلة، لما عادت الحياة إلى النباتات بعد موتها، لأنَّ المشابهة واضحة. ولقد لفت القرآن الكريم أنظار المنكرين للبعث إلى التأمل والتبصر في المخلوقات المحسوسة والمشاهدة، لأخذ العبرة منها، ليعود للنفوس إيمانها فتشعر بالاستقرار والطمأنينة. الخامس: الاستدلال بإخراج النار من الشجر الأخضر: قال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ

_ 1 سورة فاطر الآية: 9. 2 سورة فصلت الآية: 39.

تُوقِدُونَ} 1. قال الفخر الرازي: "ووجهه هو أنَّ الإنسان مشتمل على جسم يحس به، وحياة سارية فيه، وهي كحرارة جارية فيه، فإن استبعدتم وجود حرارة وحياة فيه، فلا تستبعدوه، فإنَّ النار في الشجر الأخضر الذي يقطر منه الماء، أعجب وأغرب، وإن استبعدتم خلق جسمه، فخلق السموات والأرض أكبر من خلق أنفسكم، فلا تستبعدوه، فإنَّ الله خلق السموات والأرض"2. وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ} 3. ووجه الاستدلال من الآيتين: أنَّ من قدر على إيداع النار في الشجر الأخضر، لا يعجز عن إيداع الحرارة الغريزية في بدن الميت4. السادس: الإستدلال بحصول اليقظة بعد النوم: فإنَّ النوم أخو الموت، واليقظة شبيهة بالحياة بعد الموت، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى

_ 1 سورة يس الآية: 80. 2 التفسير الكبير للفخر الرازي 26/110. 3 سورة الواقعة الآية: 71. 4 انظر: التفسير الكبير للفخر الرازي 29/184.

ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} 1. ثم ذكر عقيبه أمر الموت والبعث، فقال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} 2. وقال تعالى في آية أخرى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} 3. والمراد من ذلك الإستدلال بحصول هذه الأحوال على صحة البعث والحشر والنشر4. وهناك استدلالات أخرى، ذكرها بعضُ العلماء أمسكنا عنها اختصاراً5.

_ 1 سورة الأنعام الآية: 60. 2 سورة الأنعام الآيتان: 61-62. 3 سورة الزمر الآية: 42. 4 التفسير الكبير للفخر الرازي 17/18. 5 للإستزادة انظر مناهج الجدل في القرآن الكريم، د. زاهر عواض الألمعي ص304 وما بعدها، منهج القرآن في الدعوة إلى الإيمان د. علي بن محمد ناصر فقيهي ص293 وما بعدها.

المبحث الثالث: بيان الحق في أمر الشفعاء:

المبحث الثالث: بيان الحق في أمر الشفعاء: معنى الشفاعة لغة: قال ابن الأثير: "الشفعة في كل ما لم يقسم، وهي مشتقة من الزيادة، لأنّ الشفيع يضم المبيع إلى ملكه فيشفعه به، كأنه كان واحداً وتراً، فصار زوجاً شفعاً، والشافع هو الجاعل الوتر شفعاً ... وقد تكرر ذكر الشفاعة في الحديث فيما يتعلق بأمور الدنيا والآخرة، وهي السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم بينهم، يقال: شفع شفاعة، فهو شافع وشفيع، والمُشَفِّع: الذي يَقْبَلُ الشفاعة، والمُشَفَّع الذي تقبل شفاعته"1. وفي المفردات للراغب: "والشفاعة الإنضمام إلى آخر ناصراً له وسائلاً عنه، وأكثرُ ما يستعمل في إنضمام من هو أعلى حرمة ومرتبة إلى من هو أدنى، ومنه الشفاعة في القيامة"2. وقال ابن فارس: "الشين والفاء والعين، أصل صحيح يدل على مقارنة الشيئين"3. وفي القاموس المحيط: "وشفعته فيه تشفيعاً حين شفع شفاعة،

_ 1 النهاية لابن الأثير 2/485. وانظر: لسان العرب لابن منظور 8/184. 2 المفردات في غريب القرآن للأصفهاني ص: 263. 3 معجم مقاييس اللغة 3/201.

واستشفعه إلينا سأله أن يشفع"1. ومن هذا يظهر لنا أنَّ الشفاعة في اللغة، تدورُ حول اقتران شيء بشيء، أو إنضمام شيء إلى شيء لزيادته أو لنصرته، أو للتجاوز عنه. وإذا بحثنا الشفاعة في كتاب الله تعالى، نجد أنَّها تنقسم إلى قسمين: شفاعة في الدنيا، وشفاعة في الآخرة، ونجد أنّ الشفاعة في الدنيا خاصة بالعباد، وتقع لبعضهم من بعض، لأنهم يملكونها، وهي تنقسم إلى قسمين: شفاعة حسنة وشفاعة سيئة، ومثال الشفاعة الحسنة: ما إذا استشفع شخص بشخص آخر عند ذي مال أو منصب أو سلطان ليشفع له عنده برفع حاجته إليه، لإظهار حقه أو إزالة الضرر والظلم عنه، فإنَّ تلك الشفاعة جائزة، وينال فاعلها الثواب من الله تبارك وتعالى، بدليل قوله تعالى: {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا} 2. وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء" 3.

_ 1 القاموس المحيط للفيروزابادي 3/46. 2 سورة النساء الآية: 85. 3 صحيح البخاري بشرح الفتح 3/299 كتاب الزكاة، باب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها. ومسلم 4/2026 كتاب البر والصلة، حديث رقم: 145. وأحمد في المسند 4/400.

أما الشفاعة السيئة: فهي ما إذا استشفع شخصٌ بشخص آخر في تعطيل حد من الحدود، أو إسقاط حق من الحقوق، أو إلحاق الضرر بآخر، فإنَّ تلك الشفاعة غير جائزة، وينال فاعلُها العقاب، بدليل قوله تعالى: {وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا} 1. وقد أمر الله تعالى عباده بالتعاون على فعل الخيرات، ونهاهم عن المنكرات، فقال تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 2. أما الشفاعة في الآخرة، فلا تكون إلا بأمر الله وحده، لا يملكها غيره، وخاصة بمن له ملك السموات والأرض، كما قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلاَ يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 3.

_ 1 سورة النساء الآية: 85. 2 سورة المائدة الآية: 2. 3 سورة الزمر الآيتان: 43-44.

قال الفخر الرازي: "وتقرير الجواب، أنّ هؤلاء الكفار إما أن يطمعوا بتلك الشفاعة من هذه الأصنام، أو من أولئك العلماء والزهاد الذين جعلت هذه الأصنام تماثيل لها. والأول باطل؛ لأنّ هذه الجمادات وهي الأصنام لا تملك شيئاً، ولا تعقل شيئاً، فكيف يعقل صدور الشفاعة عنها. والثاني باطل؛ لأنّ في يوم القيامة لا يملك أحدٌ شيئاً، ولا يقدر أحد على الشفاعة إلا بإذن الله، فيكون الشفيع في الحقيقة هو الله الذي يأذن في تلك الشفاعة، فكان الاشتغال بعبادته أولى من الاشتغال بعبادة غيره، وهذا هو المراد من قوله {قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} "1. وقال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} 2. وتنقسم الشفاعةُ في الآخرة إلى قسمين: شفاعة مثبتة، وشفاعة منفية. فأما الشفاعة المثبتة، فهي: شفاعة العبد المأمور الذي لا يشفع ولا يتقدم بين يدي مالكه حتى يأذن له3.

_ 1 التفسير الكبير للفخر الرازي 26/285. 2 سورة الانفطار الآيات: 17-19. 3 إغاثة اللهفان لابن القيم 1/220.

ومن ذلك شفاعات النبي صلى الله عليه وسلم، وهي كثيرة منها الشفاعة العظمى، وهي الشفاعة في فصل القضاء، وهي المقام المحمود الذي ذكر في قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} 1. وهي الشفاعة التي يتراجع عنها الأنبياء آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم عليهم السلام، حتى تنتهي إليه صلى الله عليه وسلم2. ومنها شفاعته صلى الله عليه وسلم فيمن دخل النار من أمته، فيخرج منها أناس بشفاعته صلى الله عليه وسلم، لما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لكلِّ نبي دعوةٌ مستجابة، فتعجّل كلُّ نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة، فهي نائلةٌ إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئاًَ" 3.

_ 1 سورة الإسراء الآية: 79. 2 انظر الحديث في صحيح البخاري بشرح الفتح 11/417 كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار. ومسلم 1/180 كتاب الإيمان، حديث: 322. 3 صحيح البخاري بشرح الفتح 13/447 كتاب التوحيد، باب في المشيئة والإرادة. ومسلم 1/189 كتاب الإيمان، حديث رقم: 338، وهذا لفظه.

وصح أنَّ القرآن الكريم يشفعُ لأهله، لما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اقرأوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه" 1. ومن خلال آيات القرآن الكريم يتبين لنا أنَّ الشفاعة التي أثبتها الله تعالى، هي مقيدة بأمرين: الأمر الأول: أذن الله تعالى للشافع، فإن لم يأذن له فلا يشفع. الأمر الثاني: رضا الله سبحانه عن المشفوع له، فإن لم يرض فلا شفاعة. قال تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} 2. وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} 3. وقال الله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ

_ 1 صحيح مسلم 1/553 كتاب صلاة المسافرين وقصرها، حديث رقم: 252. 2 سورة البقرة الآية: 255. 3 سورة يونس الآية: 3.

لَهُ قَوْلاً} 1. وقال تعالى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} 2. وقال تعالى: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى} 3. ففي هذه الآيات الكريمة أخبر اللهُ سبحانه وتعالى أنَّ الشفاعة في ذلك اليوم كلها عند من له ملك السموات والأرض، وهو الله سبحانه وحده، لا عند غيره من الملائكة والأنبياء والأولياء وغيرهم، فهو الذي يأذن لمن شاء أن يشفع فيه، كما أخبر أنّها لا تكون إلاّ بعد إذنه للشافع، وإن لم يأذن له فلا يشفع، وأخبر أنّها لا تكون نافعة إلا لمن كان مرضياً عنده سبحانه وتعالى قولاً وعملاً، ولا يكون مرضياً إلاّ إذا كان مؤمناً خالصاً، ولهذا كان أسعد الناس بشفاعة سيد الشفعاء يوم القيامة أهل التوحيد، الذين جردوه وخلّصوه من تعلقات الشرك وشوائبه، وهم الذي ارتضى الله سبحانه وتعالى4.

_ 1 سورة طه الآية: 109. 2 سورة الأنبياء الآية: 28. 3 سورة النجم الآية: 26. 4 انظر: إغاثة اللهفان لابن القيم 1/220-221. بتصرف.

ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة، قال: "من قال لا إله إلاّ الله خالصاً من قلبه أو نفسه" 1. وواضح من صريح القرآن الكريم، أنَّ الشفاعة لا تشمل من مات على الكفر والشرك، وذلك لحكم الله تعالى بخلود الكافرين والمشركين في النار، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} 2. وأما الشفاعة المنفية: فهي الشفاعة المعروفة لدى الناس عند الإطلاق، وهي: أن يشفع الشفيع إلى غيره ابتداء، فيقبل شفاعته3. وهذه الشفاعة هي الشفاعة الشركية، وهي التي أثبتها المشركون، فاتخذوا من دون الله شفعاء من الملائكة والأنبياء والصالحين، وصوروا تماثيلهم، وقالوا: هؤلاء خواص الله، فنحن نتوسل إلى الله بدعائهم وعباداتهم، ليشفعوا لنا، كما يتوسل إلى الملوك بخواصهم، لكونهم أقرب

_ 1 صحيح البخاري بشرح الفتح 1/193 كتاب العلم، باب الحرص على الحديث. وأحمد 2/373. 2 سورة البينة الآية: 6. 3 انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية 1/118.

إلى الملوك من غيرهم، فيشفعوا عند الملوك بغير أذن الملوك1. قال الله تعالى حكاية عنهم: { ... وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 2. وقال تعالى: {أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 3. وقد أبطل الله تعالى هذه الشفاعة في كتابه، وذم المشركين عليها وكفرهم، فقال تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} 4. وقال تعالى: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن

_ 1 انظر: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لابن تيمية ص: 11. 2 سورة يونس الآية: 18. 3 سورة الزمر الآية: 3. 4 سورة البقرة الآية: 123.

دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} 1. وقال سبحانه: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} 2. وقال عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} 3. وقال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} 4. وقال عز وجل: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ

_ 1 سورة الأنعام الآية: 51. 2 سورة الأنعام الآية: 94. 3 سورة السجدة الآية: 4. 4 سورة الأنبياء الآيات: 26-28.

ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ... } 1. فهذه الآيات الكريمة صريحة في قطع أطماع المشركين من القبورين وأشباههم قديماً وحديثاً، أن يكونوا أهلاً لشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن المعلوم أنّ الإنسان إذا نطق بالشهادتين في حال تلبسه بالأعمال المناقضة لشروطهما -كحال القبوريين مثلاً- الذين يستحلون محارم الله، بصرف شيء من العبادة للأموات، كالصلاة والدعاء والذبح والنذور ونحوها - فإنَّ نطقهم حينئذ بالشهادتين لا يُفيدُهُم شيئاًَ، لأنَّ أعمالهم الشركية تنافي ذلك وتنقضه. ومن أراد شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فعليه أن يطلبها من الله تعالى وحده، وأن يعمل صالحاً. ومن أهم مظاهر العمل الصالح الأمور الآتية: 1- إخلاص العبادة لله تعالى في كل شيء، ونفي جميع أنواع الشرك عنه سبحانه وتعالى، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله

_ 1 سورة سبأ الآيتان: 22-23.

عليه وسلم: "من قال لا إله إلاّ الله خالصاً من قلبه أو من نفسه" 1. 2- تمام المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما أمر به، أو نهى عنه.

_ 1 صحيح البخاري بشرح الفتح 1/193 كتاب العلم، باب الحرص على الحديث. وأحمد في المسند 2/373.

المبحث الرابع: بيان الحق في أمر الأولياء.

المبحث الرابع: بيان الحق في أمر الأولياء: معنى الولي لغة: اسم من الوَلْي، والولي هو القرب والدنو1. قال ابن فارس: "الواو واللام والياء، أصل صحيح يدل على قرب"2. ويطلق الولي على الصديق والنصير والتابع والمحب، والمولاة ضد المعاداة3. قال ابنُ الأثير: "الولي هو الناصر، وقيل المتولي لأمور العالم والخلائق القائم بها ... وهو الربُّ المالك، والسيد المنعم، والمعتق والناصر والمحب والتابع.. وكلّ من وليَ أمراً أو قام به، فهو مولاه ووليه.."4. ومن هذا يتبين لنا أنَّ معنى الولي والولاية في اللغة، يدور حول القرب والدنو، والصديق والنصير، والتابع والمحب، والناصر والمتولي للأمور، ونحو ذلك. أما ولاية الله للعبد، فهي هدايته إلى الإيمان، وإلى طاعته ومحبته ونصرته له، وتقريبه إليه عز وجل حتى يحبه، فإذا أحبه قرب منه وتولى

_ 1 لسان العرب لابن منظور 15/411، والقاموس المحيط للفيروزابادي 4/401. 2 معجم مقاييس اللغة 6/141. 3 لسان العرب 15/411. 4 النهاية في غريب الحديث 5/227-228.

أموره، ونصره وحفظه، فكان بذلك وليه، كما قال تعالى: {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 1. ومعنى ذلك أن الله تعالى: يتولى المؤمنين بعونه وتوفيقه، ويخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.. وأنه ولي المؤمنين ومبصرهم حقيقة الإيمان وسبله وشرائعه وحججه وهاديهم"2. وإذا كان الله ينصر عبده المؤمن، ويعينه ويتولى أموره، فهذا يدلُّ على أنَّ ربه يحبه ويرضى عنه، ويقربُه منه، قال تعالى: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} 3. وقال تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} 4. وقال تعالى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات: {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ

_ 1 سورة البقرة الآية: 257. 2 انظر: تفسير ابن جرير الطبري 3/21. 3 سورة آل عمران الآية: 76. 4 سورة الأعراف الآية: 56.

وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} 1. وأما ولاية المؤمن لله تعالى، فهي: الإيمان به تبارك وتعالى قولاً وعملاً واعتقاداً، ونصرة دينه والمحافظة على شرائعه، وموالاته في ما يحبه ويرضاه، وعدم معاداة من والاه. وخلاصة القول في هذا: فإنَّ ولاية العبد لله تكون في الموافقة في ما يحبُّ الله ويبغض، وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه. والفرق بين الولايتين بين واضح، وذلك أنّ الله تعالى لا يوالي أحداً من خلقه افتقارا له واحتياجا إليه، وإنّما يواليه إكراماً له، وإنعاماً عليه؛ لأنّ الله تعالى غني عن كل ما سواه، والخلق كلهم في حاجة إليه، وقد نفى الله تعالى أن يكون له ولي من الذل، فقال سبحانه: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} 2. وأما العبد فإنه يوالي ربه لشدة فقره واحتياجه إلى هدايته ونصرته وإعانته، ورعايته ومحبته ورضاه عنه، وتقريبه إليه، وهو في حاجة ملحة إلى ربه تبارك وتعالى في كل أمر من أموره في دنياه وآخرته.

_ 1 سورة البينة الآية: 8. 2 سورة الإسراء الآية: 111.

وقد بين القرآن الكريم أن المشركين ما عبدوا الأصنام واتخذوا الأولياء والشفعاء إلا بتقربهم إلى الله زلفى، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 1. ومعنى الآية الكريمة: أنّ هؤلاء المشركين اتخذوا من دون الله أولياء من الأصنام والأوثان، يقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله منزلة، وحظوة وتشفع لنا عنده في النصر والرزق، وما ينوبنا من أمور. وقد هددهم الله تعالى، وبين لهم عاقبة ما يفعلون، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} ، أي: إنَّ الله يحكم بينهم وبين خصومهم في موضوع التوحيد والإشراك، ويجازي كلاً بما هو أهل له، فيدخل المخلصين الموحدين الجنة، ويدخل المشركين النار. وقد ظنّ الجهلةُ أنّ من يظهر لدية أمور خارقة للعادة، أنّه من أولياء الله المقربين، ولو كانت أفعال ذلك الشخص وأعماله تخالف شريعة الله، وتخالف سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا فقد تجرأ كثيرٌ من الجهلة

_ 1 سورة الزمر الآية: 3.

إلى تعظيم ومحبة وموالاة من ليس بولي، حتى وصل بهم الأمر إلى دعائهم والاستغاثة بهم، سواء كان الولي المتقرب إليه حياً أو ميتاً، وهذه الأعمال والاعتقادات هي شرك محض. يقول صاحب كتاب صراع بين الحق والباطل: "يفهم الناسُ اليوم الولاية فهماً معكوساً يخالف حقيقتها ومعناها، فإنّه لفرط جهلهم بأمور الدين، وعدم معرفتهم لحقيقة الولاية، نسبوا الأمر إلى غير أهله، وخلعوا الشيء على من ليس جديراً به، فأطلقوا لفظ الولي على من لا يستحقون من المتعطلين الخاملين الذين عطّلوا جوارحهم، وتعطلوا عن العمل والسعي والكفاح، بحجة التواكل والزهد والانقطاع للعبادة، ولزوم التكايا وزوايا الأضرحة، وأطلقوا أيضاً على كل من سال لعابه ولبس الثياب الممزقة المرقعة، وأطال شعر رأسه، وأرخى لحيته، وأطبق يديه على مسبحة طويلة، ووضع على رأسه عمامة كبيرة ... وظهر أمام الناس في زي عجيب، حتى البله ومن في عقولهم خبل وهوس. وأعطوا كذلك لبعض المجرمين الأشقياء ... الذين يعيشون آمنين متسترين تحت لعب الولاية، ويباشرون أعمال الدجل والشعوذة والكذب باسم الدين. وهكذا ظن السذج من الناس أنّ كل من ظهر على هذه الصورة

الخادعة قطب كبير، وصاحب سر باتع، وأنه واصل ومتصل مع الله اتصالا مباشراً بدون حجاب ... "1. ويقول الميلي الجزائري: "الولي عند الناس اليوم: إما من انتصب للآذان بالأوراد الطرقية، ولو كان في جهله بدينه مساوياً لحماره، وإما من اشتهر بالكهانة وسمّوه حسب اصطلاحهم "مرابطاً"، ولو تجاهر بترك الصلاة وأعلن شرب المسكرات، وإما من انتهى إلى مشهور بالولاية، ولو كان إباحياً لا يحرم حراماً". ثم يقول: "وحق هؤلاء الأولياء على الناس الجزم بولايتهم، وعدم التوقف في دخولهم الجنة، ثم الطاعة العمياء، ولو في معصية الله، وبذل المال لهم ولو أخلّ بحق زوجته وصبيته، فهم المطلوبون في كل شدة، وهم حماة للأشخاص وللقرى والمدن كبيرها وصغيرها، حاضرها وباديها، فما من قرية بلغت في البداوة أو الحضارة إلاّ ولها ولي تنسب إليه، فيقال: سيدي فلان هو مولى البلد الفلاني، ويجب عند هؤلاء الناس أن يكون بعض علماء الدين خدمة لهؤلاء الأولياء، مقرين لأعمالهم وأحوالهم، غير منكرين لشيء منها"2ا.?.

_ 1 صراع بين الحق والباطل لسعد صادق محمد ص: 15-16، منشورات دار اللواء الرياض، ط الرابعة 1398?. 2 رسالة الشرك ومظاهره للميلي الجزائري ص: 165.

هذا هو مفهوم الولاية والأولياء عند جهلة الناس في كثير من أنحاء العالم الإسلامي اليوم، وهو كما ترى، جهل واضح، وخطأ فادح لا يستند إلى شيء من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. أما أولياء الله الحقيقيون، فقد بينهم الله تعالى في كتابه الكريم، فقال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} 1. فالآيات الكريمة تبين أنّ أولياء الله هم الذين آمنوا به وبرسوله، واتبعوا شرائعه وامتثلوا أوامره، واجتنبوا نواهيه، ووافقوه فيما يحب، وابتعدوا عن مساخطه، ووالوا أولياءه، وعادوا أعداءه. وقال تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} 2. وفي هاء الكناية في قوله {وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ} قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى المسجد، وهو قول الجمهور، والمعنى أنّ المشركين قالوا: نحن أولياء المسجد الحرام، فرد الله عليهم بهذا.

_ 1 سورة يونس الآيات: 62-64. 2 سورة الأنفال الآية: 34.

والثاني: أنها تعود إلى الله عز وجل1. قال ابن جرير: "وما لهؤلاء المشركين ألاّ يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام، ولم يكونوا أولياء الله، أي: ما أولياء الله إلا المتقون، يعني: الذين يتقون الله بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، ولكن أكثر المشركين لا يعلمون أنّ أولياء الله المتقون"2. ومن هذا يتبين لنا أنّ ولي الله هو المؤمن التقي الصالح، المؤمن بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، المطيع فيما يأمرُ به، المجتنب لما ينهى عنه. وإذاً فالمظاهر وحدها لا تدلّ على الولاية، ونحن لا يمكننا أن نقطعَ لأحد بالولاية والتقوى، وإنّما يمكن أنْ نَحْكُم بإسلام شخص من خلال ما يظهر لنا من أحواله وسيرته على قاعدة: "لنا الظاهر والله يتولى السرائر". أمّا القطع بولاية شخص وتقواه، فهذا مردّه إلى الذي يعلم سرائر العباد، سبحانه وتعالى، قال عز وجل: {وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} 3.

_ 1 زاد المسير لابن الجوزي 3/352. 2 تفسير ابن جرير الطبري 9/239. 3 سورة النساء الآية: 25.

وقال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} 1. وقال تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} 2. وقد دعا القرآن الكريم المؤمنين أنْ يتخذ بعضُهم بعضاً أولياء لنصرة دين الله، وإعلاء كلمته، والدفاع عن عقيدة التوحيد ومحاربة الشرك، ومقاومة البدع والخرافات المنتشرة بين الناس باسم الدين، ومعاونة بعضهم بعضاً فيما يعود عليهم بالخير والنفع في أمور الدنيا والآخرة. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} 3. وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ

_ 1 سورة النجم الآية: 30. 2 سورة النجم الآية: 32. 3 سورة الأنفال الآية: 72.

أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 1. وقد نهى الله تعالى المؤمنين أنْ يتخذوا أعداءه من الكافرين والمشركين أولياء، يتوددون إليهم ويناصرونهم ضد إخوانهم من المؤمنين الذين يعملون لإعلاء كلمة الله ونصرة الحق. قال تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ} 2. وقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا} 3. وقال تعالى: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} 4.

_ 1 سورة التوبة الآية: 71. 2 سورة آل عمران الآية: 28. 3 سورة النساء الآية: 139. 4 سورة الأعراف الآية: 3.

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 1. ومن خلال الآيات الكريمة، يتبين لنا أنّ أولياء الله الحقيقيين لا يعلنون عن أنفسهم، لأنّ الولاية الحقة إنّما تكون في القلوب إيماناً وتقوى، وليس لها آثار معروفة أو ملموسة سوى الاستقامة على طاعة الله سبحانه وتعالى، والمحبة الخالصة له ولرسوله صلى الله عليه وسلم، والانقياد لأوامر الدين، والابتعاد عن نواهيه. وموقفهم تجاه دين الله يتمثل في العمل به ونصرته، وعلاقتهم مع الله سبحانه باتخاذه وحده ولياً لهم دون غيره، وعلاقتهم بعضهم ببعض يتمثل في التعاون والتناصح والتأييد والنصرة في الحق. وعلاقتهم مع أعداء الله يكون في عدم محبتهم أو مناصرتهم. روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله قال من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبد بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها،

_ 1 سورة المائدة الآية: 51.

وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته"1. هذه الولاية الحقة، وهذا ما فهمه السلف الصالح عنها، لا كما يدعي الدجالون في هذا الزمان. يذكر الأستاذ رشيد رضا جوانب هامة عن حياة هؤلاء الأدعياء تحت عنوان "أولياء الخيال وأولياء الطاغوت والشيطان"، فيقول: " فأولياء الله الذين يشهد لهم كتابه بالولاية هم المؤمنون الصالحون المتقون، ولكن اشتهر بين المسلمين بعد عصر السلف ما يدلّ على أنّ الأولياء عالم خيالي غير معقول، لهم من الخصائص في عالم الغيب، والتصرف في ملكوت السموات والأرض، فوق كل ما ورد في كتاب الله وأخبار رسوله الصادقة، في أنبياء الله المرسلين، وينقلون مثل هذه الدعاوى عن بعض من اشتهروا بالولاية ممن لهم ذكر في التاريخ، ومن لا ذكر لهم إلا في كتاب الأدعياء الذين فتنوا المسلمين والمسلمات بهم، ممن يسمون بالمتصوفة وأهل الطريق، ينقلون عنهم ما يؤيدون به مزاعمهم الخرافية الشركية"2. هذه بعض صور أولياء الله عند أولئك القوم، وهم في الحقيقة أعداء الله ورسوله والمؤمنين؛ لأنهم تركوا ما أمروا به، وفعلوا ما يخالف كتاب

_ 1 صحيح البخاري بشرح الفتح 11/340 كتاب الرقاق، باب التواضع. 2 تفسير المنار 11/420 مع بعض اختصار.

الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد أبطل الله تعالى تلك الولاية والموالاة، لأنها لا تكون إلا لله عالم الغيب والشهادة، المتصرف في ملكوت السموات والأرض، المطلوب في كل شدة، لأجل هذا عاب الله المشركين لاتخاذهم الأولياء من دونه، فقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أنْ يقول لهم، أجعلتم لله شركاء وعبدتموهم من دون الله، وهم لا يقدرون على نفع أنفسهم، ولا دفع الضر عنها، فكيف يستطيعون لغيرهم، وذلك ما ورد نصه في قوله تعالى: { ... قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} 1. وقال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} 2. وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم

_ 1 سورة الرعد الآية: 16. 2 سورة البقرة الآية: 107.

مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} 1. وقال تعالى: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً} 2. فالله وحده هو الولي الحق الناصر للمؤمنين الصادقين، لا مولى سواه، ولا ناصر غيره، قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 3. وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَاء يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ} 4. وقال عز وجل: {مِن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْئًا وَلاَ مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 5.

_ 1 سورة التوبة الآية: 116. 2 سورة الكهف الآية: 102. 3 سورة الشورى الآية: 9. 4 سورة الشورى الآية: 46. 5 سورة الجاثية الآية: 10.

وقد شبه القرآن الكريم الذين اتخذوا من دون الله أولياء يرجون نفعهم بالعنكبوت في اتخاذها بيتاً لا يغني عنها في حرٍ ولا برد، ولا مطر ولا أذى. قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} 1. وقد أكد القرآن أنّ هذه الولاية الشركية إنّما هي نتيجة لموالاة مشركي الإنس، واستمتاعهم بالشياطين، كما جاء في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} 2. وقال تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} 3.

_ 1 سورة العنكبوت الآية: 41. 2 سورة الأنعام الآيتان: 112-113. 3 سورة الأنعام الآية: 121.

وقال تعالى: {وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا ... } 1. وقال تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} 2. وأما كيفية استمتاع شياطين الإنس وشياطين الجن بعضهم ببعض، فذكر الصحابة أنّ ذلك في الدنيا، وقال ابن جريج: كان الرجل في الجاهلية ينزل الأرض، فيقول: أعوذ بكبير هذا الوادي، فذلك استمتاعهم فاعتذروا به يوم القيامة، وأما استمتاع الجن بالإنس، فإنه كان فيما ذكر، ما ينال الجن من الإنس من تعظيمهم في استعانتهم بهم، فيقولون: قد سُدْنا الإنس والجن3 ا.?. وقد بين القرآن أنّ من يطع الشيطان ويواليه، ويترك أمر الله، فقد خسر وهلك هلاكاً مبيناً واضحاً.

_ 1 سورة الأنعام الآية: 128. 2 سوة الأعراف الآية: 30. 3 انظر: تفسير الطبري 8/33، وتفسير ابن كثير 2/190.

قال تعالى: {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا} . نعوذ بالله من موالاة الشياطين وأوليائهم.

_ سورة النساء الآية: 119.

الفصل الثاني: دحض شبهات المشركين حول الرسالة.

الفصل الثاني: دحض شبهات المشركين حول الرسالة. المبحث الأول: دحض أكاذيب المشركين على القرآن. ... الفصل الثاني: دحض شبهات المشركين حول الرسالة: ويشتمل على ثلاثة مباحث: المبحث الأول: دحض أكاذيب المشركين على القرآن: ويشتمل على ما يلي: 1- زعمهم بأن القرآن أساطير الأولين: والأساطير: جمع أسطورة، كأحدوثة وأحاديث، وأرجوحة وأراجيح. وفي اللسان: الأساطير: الأباطيل، والأساطير: أحاديث لا نظام لها ... وسطّرها ألفها، وسطر علينا: أتانا بالأساطير.."1. قال الراغب: "أساطير الأولين، أي شيء كتبوه كذباً وميناً فيما زعموا"2. وقد زعم المشركون بأنّ القرآن الكريم إنّما هو أساطير من أساطير الأولين، جاء ذلك عنهم في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ

_ 1 لسان العرب 4/363. وانظر: القاموس المحيط للفيروزابادي 2/48. 2 المفردات في غريب القرآن ص: 132.

أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} 1. ذكر ابن الجوزي في سبب نزولها: أن نفراً من المشركين منهم عتبة، وشيبة، والنضر بن الحارث، وأمية وأبي ابنا خلف، جلسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستمعوا إليه، ثم قالوا للنضر بن الحارث: ما يقول محمد؟ فقال: والذي جعلها بَنِيَّةً ما أدري ما يقول. إلا أني أرى تحرك شفتيه، وما يقول إلا أساطير الأولين، مثلما كنت أحدثُكُم عن القرون الماضية2. قال ابن هشام: "وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش، وممن كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة، وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم واسفنديار3، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثاً مني؟ وأضاف ابن هشام يقول: وهو الذي قال فيما بلغني: {سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا

_ 1 سورة الأنعام الآية: 25. 2 زاد المسير 3/18. وانظر: روح المعاني للألوسي 7/124-125. 3 وقيل: اسبنديار، قيل: اسفنديار. انظر: هامش السيرة النبوية لابن هشام 1/300، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري.

أَنَزلَ اللهُ} 1"2. قال ابن إسحاق: "وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول فيما بلغني، أنزل فيه ثمان آيات من القرآن: قول الله عز وجل: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} 3. وكل ما ذكر فيه من الأساطير من القرآن". وهذه المقالة: "كانوا يطلقونها على الحكايات التي تتضمن الخوارق المتعلقة بالآلهة والأبطال في قصص الوثنيات، وأقربها إليهم كانت الوثنية الفارسية وأساطيرها"4. ومعنى قولهم ذلك: "أي: ما هذا الذي جئت به إلا مأخوذ من كتب الأوائل، ومنقول عنهم"5. يقول الفخر الرازي عن مقصود المشركين بهذه التهمة:" اعلم أنه كان مقصود القوم من ذكر قولهم: {إِن هَذَا إلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} القدح في

_ 1 سورة الأنعام الآية: 93. 2 سيرة ابن هشام 1/300، 358. وانظر الروض الأنف للسهيلي 2/52. 3 سورة القلم الآية: 15، والمطففين الآية: 13. 4 انظر: في ظلال القرآن لسيد قطب 3/177. 5 تفسير ابن كثير 2/138.

كون القرآن معجزاً، فكأنهم قالوا: إنّ هذا الكلام من جنس سائر الحكايات المكتوبة، والقصص المذكورة للأولين، وإذا كان هذا من جنس تلك الكتب المشتملة على حكايات الأولين، وأقاصيص الأقدمين، لم يكن معجزاً خارقاً للعادة"1. ومن الآيات التي قصها الله علينا من قولهم في هذا الصدد: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} 2. وقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} 3. وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} 4. كما ذكر القرآن الكريم هذا الافتراء على لسان المشركين في سورة المؤمنون والنمل، في معرض إنكارهم للبعث. قال تعالى في سورة المؤمنين: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ

_ 1 التفسير الكبير 12/188. 2 سورة الفرقان الآية: 5. 3 سورة الأنفال الآية: 31. 4 سورة النحل الآية: 24.

هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} 1. وقال في سورة النمل: {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} 2. وعن مغالطات المشركين ومجادلاتهم الباطلة، يقول سيد قطب: "وهم يعلمون جيداً أنّ هذا القرآن ليس بأساطير الأولين، ولكنهم إنّما كانوا يجادلون، ويبحثون عن أسباب الرد والتكذيب، ويتلمسون أوجه الشبهات البعيدة، وكانوا يجدون فيما يتلى عليهم من القرآن قصصاً عن الرسل وأقوامهم، وعن مصارع الغابرين من المكذبين، فمن باب التمحل والتماس أوهى الأسباب، قالوا عن القصص وعن القرآن كله: {إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} "3. قال صاحب تفسير المنار: "وهذا شأن من ينظر إلى الشيء نظراً سطحياً، لا يستنبط منه علماً ولا برهاناً.. وأنّ مثلهم في هذا كمثل الطفل الذي يشاهد ألعاب الصور المتحركة، يديرها قوم لا يعرف لغتهم،

_ 1 سورة المؤمنون الآية: 83. 2 سورة النمل الآية: 68. 3 في ظلال القرآن 3/177.

وكل حظه مما يرى من المناظر، ومن المكتوبات المفسرة لها، لا يعدو التسلية"1. 2- زعمهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم تلقاه عن بشر: ومن مفتريات المشركين على القرآن وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً، زعمهم بأنّ القرآن الكريم إنّما هو من تعليم بشر. قال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} 2. واختلفت الروايات في تعيين الشخص الذي زعموا أنه يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم، قيل: كانوا يشيرون إلى رجل أعجمي كان بين أظهرهم، غلام لبعض بطون قريش، وكان بياعاً يبيع عند الصفا، وربما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس إليه ويعلمه بعض الشيء، وذلك كان أعجمي اللسان لا يعرف العربية، أو أنه كان يعرف الشيء اليسير، بقدر ما يرد جواب الخطاب فيما لا بد منه3. قال محمد بن إسحاق: "كان الرسول صلى الله عليه وسلم فيما

_ 1 تفسير المنار 7/348. 2 سورة النحل الآية: 103. 3 تفسير ابن كثير 2/636.

بلغني كثيراً ما يجلس عند المروة إلى سبيعة، غلام نصراني يقال له: جبر، عبد لبعض بني الحضرمي، فأنزل الله {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ... } الآية"1. وهناك روايات ضعيفة تذهب إلى أن اسمه " يعيش". وقيل: "عايش"2. وروى ابن جرير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قناً يعلم بمكة، وكان اسمه "بلعام"، وكان أعجمي اللسان، وكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليه ويخرج من عنده، فقالوا: إنّما يعلمه بلعام، فأنزل الله هذه الآية3. وقال آخرون: بل كانا غلامين اسم أحدهما: يسار، والآخر: جبر، وقيل: "خير"، بدل: "جبر"4. وعن الزهري عن سعيد بن المسيب:" إنّ الذي قال ذلك رجل من المشركين، كان يكتب الوحي للرسول صلى الله عليه وسلم، فارتد بعد

_ 1 سيرة ابن هشام 1/393. 2 تفسير ابن كثير 2/636، وزاد المسير لابن الجوزي 4/493، والسيرة النبوية الصحيحة د. أكرم العمري 1/165. 3 تفسير ابن جرير 14/177، وتفسير ابن كثير 2/636. 4 تفسير الطبري 14/178، وتفسير ابن كثير 2/636، والإصابة 4/419.

ذلك عن الإسلام، وافترى هذه المقالة قبحه الله"1. وقيل: المقصود بذلك سلمان الفارسي، وهذا القول ضعيف؛ لأن هذه الآية مكية، وسلمان إنّما أسلم بالمدينة2. وقد ردّ الله تعالى على هذه الفرية بقوله: {لِِِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} ، أي: فكيف يتعلم من جاء بهذا القرآن في فصاحته وبلاغته، ومعانيه التامة التي هي أكمل من معاني كل كتاب نزل على بني إسرائيل، كيف يتعلم من رجل أعجمي؟ إنّه لا يقول هذا من له أدنى مسكة عقل3. نعم: كيف يتعلم محمد صلى الله عليه وسلم هذا القرآن العظيم في فصاحته وبلاغته وقوة معانيه من رجل أعجمي؟!

_ 1 انظر هذه الروايات في: تفسير الطبري 14/177-178، ولباب النقول في أسباب النزول للسيوطي ص: 134، وتفسير ابن كثير 2/636، والحاكم في المستدرك 2/357 بإسناد ضعيف. وانظر: سيرة ابن هشام 1/393، وزاد المسير لابن الجوزي 4/493. 2 تفسير ابن كثير 2/636. 3 انظر هذه الروايات في: تفسير الطبري 14/177-178، ولباب النقول في أسباب النزول للسيوطي ص: 134، وتفسير ابن كثير 2/636، والحاكم في المستدرك 2/357 بإسناد ضعيف. وانظر: سيرة ابن هشام 1/393، وزاد المسير لابن الجوزي 4/493.

ومن أين للأعجمي أنْ يأتي بهذا الكتاب الذي تحدى الله به الإنس والجن على حد سواء؟! وقال تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} 1. يقول سيد قطب رحمه الله: "وهذه المقالة منهم يصعب حملها على الجد، وأغلب الظن أنها كيد من كيدهم الذي كانوا يريدونه ويعلمون كذبه وافتراءه، وإلاّ فكيف يقولون - وهم أخبر بقيمة هذا الكتاب وإعجازه – أنّ أعجمياً يملك أنْ يعلم محمداً هذا الكتاب؟ ولئن كان قادراً على مثله، لظهر به لنفسه"2. ويضيف سيد قطب قائلاً: "واليوم بعدما تقدمت البشرية كثيراً، وتفتقت مواهب البشر عن كتب ومؤلفات، وعن نظم وتشريعات، يملك كل من يتذوق القول، وكل من يفقه أصول النظم الاجتماعية، والتشريعات القانونية أنّ مثل هذا الكتاب لا يمكن أنْ يكون من عمل بشر". ومن الآيات التي تذكر افتراءات المشركين في هذا الصدد: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ

_ 1 سورة الإسراء الآية: 88. 2 في ظلال القرآن 5/282.

* اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} 1. والمعنى وكما فصلنا الآيات من بيان التوحيد، وأنه لا إله إلاّ الله وحده، كذلك نوضح الآيات ونبينها، وليقول المشركون والكافرون المكذبون: دارست يا محمد من قبلك من أهل الكتاب وقارأتهم، وتعلمت منهم. ذكر ذلك ابن جرير وابن كثير عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وغيرهم2. والحق أنه لا يوجد أحد من أهل الكتاب على هذا المستوى الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه كتب أهل الكتاب التي كانت بين أيديهم يومذاك، ما تزال بين أيدينا، والمسافة شاسعة بين هذا الذي في أيديهم وبين القرآن الكريم. إنَّ ما بين أيديهم إنْ هو إلا روايات لا ضابط لها عن تاريخ الأنبياء والملوك، مشوبة بأساطير وخرافات من صنع أشخاص مجهولين -هذا فيما يختص بالعهد القديم-. أما العهد الجديد -وهو الأناجيل- فما يزيد كذلك على أن يكون روايات رواها تلاميذ المسيح عليه السلام بعد عشرات السنين، وتداولتها

_ 1 سورة الأنعام الآيتان: 105-106. 2 تفسير ابن جرير الطبري 7/305، وما بعدها، وتفسير ابن كثير 2/176.

المجامع بالتحريف والتبديل والتعديل على مر السنين، وحتى المواعظ الخلقية والتوجيهات الروحية لم تسلم من التحريف والإضافة والنسيان. وهذا هو الذي كان بين أيدي أهل الكتاب حينذاك، وما يزال ... فأين هذا كله من القرآن الكريم؟ 1 ثم أتبع الله سبحانه وتعالى الآية السابقة بقوله: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * وَلَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} 2. والمعنى اتبع يا محمد ما أُوحِيَ إليك من القرآن العظيم، الذي أوحاه الله إليك، ولا تشغل بالك وقلبك بإعراض المشركين عن دعوتك، وإصرارهم على الشرك، ولا تبالي بأقوالهم فيك، كقولهم: "درست"، لأن الحق يعلو متى ظهر بالقول والعمل، واقترن بالإخلاص.. ثم يخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أنه لو شاء الله تعالى ألا يشرك الناس لما أشركوا، بأنْ يخلقوا مؤمنين طائعين بالفطرة كالملائكة،

_ 1 انظر: في ظلال القرآن لسيد قطب 3/334-335. هذا وقد أوردت عدة شواهد على التحريف والتناقض اللذين أصابا العهدين في رسالتي الماجستير: "منهج القرآن في دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام". 2 سورة الأنعام الآيتان: 106-107.

لكنه سبحانه وتعالى له الحكمة فيما يشاؤه ويختاره {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} 1. وفي قوله: {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} 2، أي: وما جعلناك يا محمد رقيباً تحفظ أقوالهم وأعمالهم لتحاسبهم بها، وتجازيهم عليها، وما أنت موكل على أمورهم وأرزاقهم، وإنّما عليك البلاغ، والله هو الذي يتولى حسابهم. ومن هنا نفهم أنه ينبغي للداعية أنْ يوجه اهتمامه للذين استجابوا للدعوة، لأنهم في حاجة إلى بناء كيانهم كله على قاعدة العقيدة الصحيحة، أما الذين يقفون في الجانب الآخر، فإنّ الداعية إلى الله يكتفي بمجادلتهم بالتي هي أحسن، بعد إبلاغهم الدعوة وبيان الحق لهم. ثم فإنّ الله تعالى سيجري سننه في خلقه، حيث يقذفُ بالحقّ على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق. هذا وقد وردت آيات بينات، تؤكد أنّ الذي نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي وما فيه من قصص وأخبار عن السابقين، إنّما هو تنزيل من رب العالمين، علىّ الرسول صلى الله عليه وسلم

_ 1 سورة الأنبياء الآية: 23. 2 سورة الأنعام الآية: 107.

الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب، ولا يعلم شيئاً من ذلك، لا هو ولا قومه. قال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} 1. وقال سبحانه: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} 2. وقال عز وجل: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} 3. 3- زعمهم بأن القرآن سحر أو كهانة: ومن الشبه التي اعترض بها المشركون قولهم بأنّ القرآن سحر، أو كهانة. والسحر في اللغة هو عبارة عما خفي ولطف سببه، وعمله كفر، كما قال تعالى: { ... وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ

_ 1 سورة هود الآية: 49. 2 سورة يوسف الآية: 3. 3 سورة يوسف الآية: 102.

السِّحْرَ} 1. وقد تقدم تعريف السحر عند الحديث عن ألوان من الشرك في العبادات. أما الكهانة: فقد عرّفها ابن حجر في الفتح: بأنها ادعاء علم الغيب، كالإخبار بما سيقع في الأرض مع الاستناد إلى سبب، والكاهن لفظ يطلق على العراف، والذي يضرب بالحصى والمنجم، ويطلق على من يقوم بأمر آخر، ويسعى في قضاء حوائجه2. وذكر ابن حجر قول الخطابي: "الكهنة قوم لهم أذهان حادة، ونفوس شريرة، وطباع نارية، فألفتهم الشياطين لما بينهم من التناسب في هذه الأمور، ومساعدتهم بكل ما تصل قدرتهم إليه". ثم قال: "وكانت الكهانة في الجاهلية فاشيةً، خصوصاً في العرب، لانقطاع النبوة فيهم، وهي على أصناف: منها ما يتلقونه من الجن.. ولما جاء الإسلام، ونزل القرآن، حرست السماء من الشياطين، وأرسلت عليهم الشهب، فبقي من استراقهم ما يتخطفه الأعلى، فيلقيه إلى الأسفل قبل أن يصيبه الشهاب، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ

_ 1 سورة البقرة الآية: 102. 2 فتح الباري 10/222.

الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} 1. ومنها ما يخبر الجني به من يواليه بما غاب عن غيره، مما لا يطلع عليه الإنسان غالباً ... ومنها ما يستند إلى ظن وتخمين وحُدس ... ومنها ما يستند إلى التجربة والعادة. ومن هذا القسم الأخير ما يضاهي السحر، وقد يعتضد بعضهم في ذلك بالزجر والطرق والنجوم، وكل ذلك مذموم شرعاً "2ا.? ومن هذا يظهر لنا أن الكهانة تقوم على التخرص والتنبؤ ببعض الأمور الغيبية والسحر –كما عرفنا- يقوم على خفة اليد والحركة، ومهارة الساحر بإظهار أمور للناس على غير حقيقتها. والمقارن بين طبيعة هذه الأعمال القائمة على الخداع والتمويه، والشعوذة وإدعاء علم الغيب، وبين شخصية محمد صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين، يجد الفرق الواسع والبون الشاسع. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فالشياطين تنزل على من يحصل مقصودها بنزولها عليه، وهو المناسب لها في الكذب والإثم، فأما الصادق البار فلا يحصل به مقصود الشياطين، فإن الشيطان لا يتطلب الصدق والبر، إنما يتطلب الكذب والفجور، ومحمد صلى الله عليه وسلم

_ 1 سورة الصافات الآية: 10. 2 فتح الباري 10/216-217.

ما زال قومه يعرفونه بينهم بالصادق الأمين، لم تجرب عليه كذبة واحدة"1. وقد فنّد القرآن الكريم هذه الشبهة، فقال تعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ} 2. وقال تعالى: {وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 3. وقد وصف الله تعالى القائلين بأنّ القرآن سحر بالكفر، قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} 4. وبين القرآن الكريم بأنّ الرسول ما هو إلا بشر، يتلقى الوحي من الله تعالى، أما علم الغيب، فعلمه إلى الله تعالى وحده، جاء ذلك على لسان نوح عليه السلام: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا اللهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي

_ 1 الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 4/40. 2 سورة الطور الآية: 29. 3 سورة الحاقة الآية: 42. 4 سورة الأحقاف الآية: 7.

أَنفُسِهِمْ} 1. وقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} 2. ويقول تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 3. وقال تعالى: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} 4. وقد نفى القرآن الكريم نفياً قاطعاً أنْ يكون للشياطين أي اتصال بقلب النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} 5.

_ 1 سورة هود الآية: 31. 2 سورة الأنعام الآية: 50. 3 سورة الأعراف الآية: 188. 4 سورة النمل الآية: 65. 5 سورة الشعراء الآيات: 210-212.

وأخبر تعالى بأنّ الشياطين إنّما تتنزل على كل كذاب فاجر، مبالغ في الكذب والعدوان، لا على أتقى خلق الله، وسيد ولد عدنان، قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} 1. والمطالع للسنة النبوية يجد نهياً قاطعاً، وتحذيراً شديداً من السحر والكهانة، والتنجيم والشعوذة، وبيان الخطر الكبير من تصديق السحرة والكهنة والمنجمين. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله، والسحر" 2 الحديث. وفي صحيح مسلم عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة" 3.

_ 1 سورة الشعراء الآيات: 221-223. 2 صحيح البخاري بشرح الفتح 10/232 كتاب الطب، باب الشرك والسحر من الموبقات. وصحيح مسلم 1/92 كتاب الإيمان، حديث رقم: 145. 3 صحيح مسلم 4/1751 كتاب السلام، حديث رقم: 125.

وفي سنن أبي داود ومسند الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد" 1. وقال البخاري في صحيحه عن قتادة: "خلق الله هذه النجوم لثلاث، زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها بغير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به"2. وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي3، وحلوان الكاهن4" 5.

_ 1 سنن أبي داود 4/15 باب في الكاهن، حديث رقم: 3904. ومسند الإمام أحمد 2/429. والحاكم 1/8، وصححه على شرطهما. والبيهقي 8/135 مرفوعاً بسند صحيح. 2 صحيح البخاري بشرح الفتح 6/295 كتاب بدء الخلق، باب في النجوم. 3 مهر البغي: هو ما تأخذه الزانية على الزنا، وسماه مهراً لكونه على صورته، وهو حرام بإجماع المسليمن. انظر: شرح النووي على مسلم: 10/231. 4 حلوان الكاهن: هو ما يعطاه على كهانته، يقال منه حلوته حلواناً إذا أعطيته، قال الهروي وغيره: أصله الحلاوة شبه بالشيء الحلو، حيث أنه يأخذه سهلاً بلا كلفة، ولا مقابلة مشقة، يقال حلوته إذا أطعمته الحلو، كما يقال عسلته إذا أطعمته العسل. انظر: شرح النووي على مسلم 10/231. 5 صحيح البخاري بشرح الفتح 4/426 كتاب البيوع، باب ثمن الكلب. ومسلم 3/1198 كتاب المساقاة، باب تحريم ثمن الكلب وحلوان الكاهن ومهر البغي. وسنن أبي داود 3/753 كتاب البيوع والإجارات، باب في أثمان الكلاب. والترمذي 3/575 كتاب البيوع، باب ما جاء في ثمن الكلب. والنسائي 7/309 في البيوع، باب بيع الكلب. وابن ماجه 2/730 كتاب التجارات، باب النهي عن ثمن الكلب ومهر البغي.. والموطأ 2/656 كتاب البيوع، باب ما جاء في ثمن الكلب.

4- زعمهم بأنّ القرآن شعر: ومن الشبهات التي آثارها المشركون في وجه الرسالة اتهامهم للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه شاعر، وقد ذكر الله تعالى هذه الشبهة في كتابه الكريم، وردّ عليها. قال تعالى: {بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ} 1. والحق إن المقارن بين موضوعات القرآن الكريم، وموضوعات الشعر، ليجد الفرق الكبير، والبون الشاسع، وذلك أنّ القرآن الكريم قد خلا من أغراض الشعر من مدح وهجاء، ونسيب ورثاء وغزل وغيرها من الأغراض التي يسبح فيها خيال الشاعر وتصوراته.

_ 1 سورة الأنبياء الآية: 5.

وفي المقابل نجد أن القرآن الكريم يحتوي على عقائد وشرائع وحكم وأخلاق، وحقائق تسمو بالإنسان عن الأغراض الجاهلية. وقد صور القرآن الكريم الشعر والشعراء في تلك الأغراض التافهة، التي لا تحمل عقيدة ولا ترشد إلى هدى، بالأحوال التي تخالف حال النبوة، وأن أتباع الشعراء هم الغاوون لا الراشدون، قال الله تعالى: {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ} 1. قال الطبري: "وهذا مثل ضربه الله لهم في افتتانهم في الوجوه التي يفتنون فيها بغير حق، فيمدحون بالباطل قوماً ويهجون آخرين"2. وقال صاحب الكشاف: "إنه لا يتبعهم على باطلهم وكذبهم وفضول قولهم، وما هم عليه من الهجاء وتمزيق الأعراض والقدح في الأنساب، والنسيب بالحرم والغزل والابتهار3، ومدح من لا يستحق المدح، ولا يستحسن ذلك منهم، ولا يطرب على قولهم إلا الغاوون والسفهاء"4.

_ 1 سورة الشعراء الآيات: 224-226. 2 تفسير الطبري 19/78. 3 الابتهار: قول الكذب والحلف عليه. اللسان 4/83. 4 الكشاف للزمخشري 3/133.

وقد ردّ القرآن الكريم على هذه الشبهة، ونفى هذه التهمة بآيات صريحة، قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ * لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} 1. وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ * بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ * إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الأَلِيمِ * وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} 2. وقال تعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُم بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ} 3. وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ *

_ 1 سورة يس الآيتان: 69-70. 2 سورة الصافات الآية: 35-39. 3 سورة الطور الآيات: 29-34.

وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} 1. وفي الصحيح عن عبد الله بن الصامت قال: قال أبو ذر: "خرجنا من قومنا غفار، وكانوا يحلون الشهر الحرام، فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا.. إلى أن قال: فانطلق أنيس حتى أتى مكة، ثم جاء فقلت: ما صنعت؟ قال: لقيت رجلاً بمكة على دينك، يزعم أن الله أرسله، قلت: فما يقول الناس؟ قال يقولون: شاعر، كاهن، ساحر، وكان أنيس أحد الشعراء. قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة، فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر، فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، والله إنه لصادق، وإنهم لكاذبون.."2. فهذه الأدلة ترد على المشركين قوله إنه شاعر، أو أنّ ما أتى به من قبيل الشعر، فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس بشاعر، والقرآن الكريم ليس بشعر، لأنّ الشعر كلام موزون، مزخرف، مبني على خيالات وأوهام واهية، لا تدنوا من منزلة القرآن العظيم، الذي تنزه عن مماثلة كلام البشر.

_ 1 سورة الحاقة الآيات: 40-43. 2 صحيح مسلم 4/1919-1920 فضائل الصحابة، حديث رقم: 2473.

أما ما ورد على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم من بعض كلام العرب الموزون، كقوله: أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب1 أو ما ورد في القرآن الكريم من بعض المقاطع التي تشبه وزناً شعرياً مثل قوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} 2، وقوله: {نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} 3، وقوله: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ} 4، ونحو ذلك. فلا اعتبار لها في هذا المقام، لأنّ الشاعر لا ينال هذا الوصف بكلمة عابرة تجري على لسانه، والكتاب لا يأخذ وصف الشعر لورود بعض عبارات فيه تشبه الشعر، فقد يجري على لسان متحدث كلمات موزونة، وهو لا يقصد بها شعراً، فإنها لا تعتبر شعراً، ولا يعد قائلها من الشعراء5.

_ 1 صحيح البخاري مع الفتح 8/28 كتاب المغازي، رقم: 4315. وصحيح مسلم 3/1400 كتاب الجهاد والسير، رقم: 1776. 2 سورة آل عمران الآية: 92. 3 سورة الصف الآية: 13. 4 سورة سبأ الآية: 13. 5 انظر: إعجاز القرآن للباقلاني ص: 51 وما بعدها، والكشاف للزمخشري 3/329، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 15/52 وما بعدها، وإعجاز القرآن لمصطفى صادق الرافعي ص: 307 وما بعدها.

المبحث الثاني: دحض مفترياتهم على الرسول صلى الله عليه وسلم.

المبحث الثاني: دحض مفترياتهم على الرسول صلى الله عليه وسلم 1- اعتراض على بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم: ومن الشبه التي أثارها المعاندون المعرضون عن قبول الحق، عدم إمكانية الجمع بين البشرية والنبوة في الذات الواحدة، ومعنى ذلك: عدم تصديق الرسول المرسل بسبب كونه من البشر. وقد ذكر القرآن الكريم هذه الشبهة في سور عديدة، عند الكلام على رسالات الرسل، كما بين القرآن الكريم أنّ هذه الشبهة لم تكن جديدة، وإنّما هي شبهة قديمة، وأنها كانت تثار في وجه الدعاة إلى الإيمان من الأنبياء والمرسلين السابقين. فقد قيلت لنوح عليه السلام: {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا} 1. وعجب قومه أنّ بعث الله فيهم رجلاً من أنفسهم، فقال الله تعالى حكاية عن خطاب نبيهم لهم: {أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ

_ 1 سورة هود الآية: 27.

مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 1. واستبعدوا أنْ ينزل الوحي على بشر، فقالوا: {مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ} 2. وقيلت لنبي الله صالح عليه السلام: {مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} 3. وقيلت لشعيب عليه السلام: {وَمَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} 4. وقالتها عاد وثمود لأنبيائها. قال تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا

_ 1 سورة الأعراف الآية: 63. 2 سورة المؤمنون الآيتان: 33-34. 3 سورة الشعراء الآية: 154. 4 سورة الشعراء الآية: 186.

لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} 1. وعجب قوم هود عليه السلام من أن ينزلَ الوحي على رجل منهم، فقال تعالى: {أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 2. وكذلك قيلت لموسى وهارون عليهما السلام: {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} 3. وقالها مشركوا قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَّسُولاً} 4. وإذا لم يكن الرسول من الملائكة، فليس أقل من أن ينزل عليه ملك ليصدقه على ما يدعيه.

_ 1 سورة فصلت الآيتان: 13-14. 2 سورة الأعراف الآية: 69. 3 سورة المؤمنون الآية: 47. 4 سورة الإسراء الآية: 94.

قال ابن إسحاق: "ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام، وكلمهم فأبلغ إليهم، فقال له زمعة بن الأسود، والنضر بن الحارث، والأسود بن عبد يغوث، وأبي بن خلف، والعاص بن وائل: لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس، ويرى معك، فأنزل الله تعالى في ذلك قوله: {وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} 1"2. وذكر الكلبي أن مشركي مكة قالوا: يا محمد، والله لا نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله، ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله، وأنك رسوله ... 3. وقد ذكر الله تعالى قولهم: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلاَ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} 4.

_ 1 سورة الأنعام الآيتان: 8-9. 2 سيرة ابن هشام 1/395. 3 أسباب النزول للواحدي ص: 122. 4 سورة الفرقان الآية: 7.

وتتلخص شبهة المشركين في هذه القضية: أنهم اقترحوا على النبي صلى الله عليه وسلم أحد أمرين: إما أنْ تنزل عليهم الملائكة مباشرة. أو ينزل ملك على الرسول صلى الله عليه وسلم يرونه ويشاهدونه بأعينهم. والواقع أنّ هذا الاقتراح لو لم يقيد بالرؤية والمشاهدة، لم يكن له فائدة، لأنه ثبت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يتلقى القرآن الكريم من الله تعالى عن طريق جبريل عليه السلام، كما قال تعالى: {َإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} 1. قال ابن الجوزي: "والمراد بالروح الأمين جبريل، وهو أمين على وحي الله تعالى إلى أنبيائه"2. وثبت في الحديث الصحيح أنّ جبريل عليه السلام كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة بشرية، كما في حديث الإسلام والإيمان والإحسان وعلم الساعة، عن ابن عمر عن أبيه رضي الله عنهما قال: "بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع

_ 1 سورة الشعراء الآيات: 192-194. 2 زاد المسير 6/144.

علينا رجل، شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه ... " ثم ذكر أسئلته للرسول صلى الله عليه وسلم ... وفي نهاية الحديث بين الرسول صلى الله عليه وسلم أنّ هذا الرجل هو جبريل عليه السلام، بدليل قوله: "يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" 1. والقرآن الكريم حينما يحرص على تفنيد هذه الشبهة، ويرد على قائليها، إنما ليبين أنّ لغة الماديين واحدة، مهما تباعدت الأزمنة والأمكنة. وعلى الرغم من سذاجة هذه الشبهة وتفاهتها، لكونها لم تدعم بدليل، ولم تؤيد ببرهان؛ لأنها تقيد مشيئة الله تعالى وقدرته العظيمة، وهو الفعال لما يريد، وهو الذي يختص برحمته من يشاء من خلقه، فإنّ القرآن الكريم لم يمر على هذه الشبهة دون الردّ عليها، وإبطالها، وذلك لتثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وتقوية عزائم المؤمنين، وخذلان الباطل،

_ 1 صحيح البخاري مع الفتح 1/114 كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة.. رقم: 37. وصحيح مسلم 1/37-38 كتاب الإيمان، حديث رقم: 1، وفي 1/40 كتاب الإيمان، رقم: 5، 7.

وإظهار الحق ونصرته. ويرد القرآن الكريم على الاقتراحين السابقين من وجهين، كما جاء في قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} 1. فالوجه الأول: أنه لو أنزل اللهُ تعالى ملكاً كما اقترحوا، لقضي الأمر بإهلاكهم ثم لا ينظرون.. بل يأخذهم العذاب عاجلاً كما مضت به سنة الله فيمن قبلهم. قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية: ولو أتاهم ملك في صورته، لأهلكناهم، ثم لا يؤخرون طرفة عين، وقال قتادة، يقول: لو أنزل الله ملكاً ثم لم يؤمنوا لعجل لهم العذاب. وقال مجاهد في قوله: {لَّقُضِيَ الأمْرُ} ، أي: لقامت الساعة2. وذكر صاحب المنار عن المفسرين في قضاء الأمر هنا عدة وجوه3:

_ 1 سورة الأنعام الآيتان: 8-9. 2 انظر: تفسير ابن جرير الطبري: 7/151-152، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6/393. 3 تفسير المنار 7/314-315. وانظر: تفسير القرطبي 6/393-394.

نختار منها: 1- أنّ سنة الله في أقوام الرسل الذين قامت عليهم الحجة، أنهم كانوا إذا اقترحوا آية وأُعطوها، ولم يؤمنوا بها، يعذبهم الله بالهلاك والاستئصال الذي تتولى تنفيذه الملائكة، والله تعالى لا يريد أن يستأصل هذه الأمة، التي بعث فيها خاتم رسله نبي الرحمة، فالرحمة العامة تنافي هذا العذاب العام {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} 1. 2- أن المراد أنهم لو شاهدوا الملك بصورته الأصلية، كما يطلبون، لزهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون. والوجه الثاني في الرّد عليهم: قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} ، أي: لو جعل الرسول ملكاً، لجعل الملك متمثلاً في صورة البشر، ليمكنهم رؤيته وسماع كلامه الذي يبلغه عن الله تعالى، ولو جعله ملكاً في صورة البشر، لاعتقدوا أنه بشر، لأنهم لا يدركون منه إلا صورته، وصفات البشرية التي تمثل بها، وحينئذ يقعون في نفس اللبس والاشتباه الذي يلبسونه على أنفسهم باستنكار جعل الرسول بشراً2.

_ 1 سورة الأنبياء الآية: 107. 2 انظر: تفسير المنار 7/314-315، وزاد المسير لابن الجوزي 3/8.

وهناك أمر آخر، وهو أنّ طلبهم كان على وجه العناد، لا على وجه طلب الهداية والرشاد، فلهذا لم يجابوا إلى كثير مما طلبوا. قال تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} 1. وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} 2. 2- اتهام الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنون: ومن الحرب النفسية التي شنها المشركون ضدّ الرسالة اتهامهم للنبي صلى الله عليه وسلم بالجنون، وقد ذكر القرآن الكريم هذه المقالة عنهم، وكر عليها بالدحض والإبطال، كما أبطل غيرها من المقالات الباطلة.

_ 1 سورة الأنعام الآيات: 109-111. 2 سورة الإسراء الآية: 59. انظر البداية والنهاية لابن كثير 3/55.

قال تعالى: {وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} 1. وقال تعالى عنهم: {إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} 2. قال تعالى: {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} 3. وقال تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ} 4. وقال تعالى: {وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} 5. وقد بين الله تعالى في كتابه الكريم، بأنَّ هذه الاعتراضات الظالمة لم تختص بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإنّما قالها المكذبون الأولون لرسلهم، فقال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} 6.

_ 1 سورة الحجر الآية: 6. 2 سورة المؤمنون الآية: 25. 3 سورة الصافات الآية: 36. 4 سورة الدخان الآية: 14. 5 سورة القلم الآية: 51. 6 سورة الذايات الآيتان: 52-53.

والعرب وغيرهم يعرفون مرض الجنون، وكيف يتخبط المصاب به، ويهذي بكلام لا يقبله العقلاء، ويتصرف التصرفات التي تتنافى مع وقار الإنسان واحترامه لنفسه، وضبطه لسلوكه ووصوله إلى غايته. وإذا قارنا بين هذه الأعراض، وما اتصف به محمد صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها من الحكمة والاتزان، والحلم والأناة في السياسة لأسرته ولأصحابه وللدولة، وما أنيطت به من مسئوليات تشريعية وقضائية وتنفيذية، وقيادة عسكرية، ومسئوليات في التربية والتعليم وغيرها، وما اتصف به من الأخلاق العالية في الصدق والوفاء، والأمانة والحلم، والكرم والشجاعة والصفح وغيرها من الصفات الجليلة، فكان بذلك قدوة الآباء والحكام والقضاة، والقادة والمعلمين والتجار والعمال، وبقية أفراد المجتمع، يجدون في شخصيته العظيمة الخلق العظيم، والمثل الأعلى للكمال الإنساني. ولقد ردّ القرآن الكريم على هذه التهمة، رداً عنيفاً وشديداً، جاء ذلك في كثير من الآيات البينات. قال تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} 1. وقال تعالى: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ * أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ

_ 1 سورة الأعراف الآية: 184.

جَاءهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} 1. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} 2. وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ * بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} 3. وقال تعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ} 4. وقال تعالى: {مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} 5. قال الفخر الرازي: "ومعناه أنّ تلك الصفة المحمودة إنّما حصلت، والصفة المذمومة إنّما زالت بواسطة إنعام الله ولطفه وإكرامه.. ثم إنه قرن بهذه الدعوة ما يكون كالدلالة القاطعة على صحتها، وذلك لأنّ قوله بنعمة ربك، يدل على أنّ نعم الله تعالى كانت ظاهرة في حقه من

_ 1 سورة المؤمنون الآيتان: 69-70. 2 سورة سبأ الآية: 46. 3 سورة الصافات الآيات: 35-37. 4 سورة الطور الآية: 29. 5 سورة القلم الآية: 2.

الفصاحة التامة، والعقل الكامل، والسيرة المرضية، والبراءة من كل عيب، والاتصاف بكل مكرمة. وإذا كانت هذه النعم محسوسة ظاهرة، فوجودها ينافي حصول الجنون، فنبه الله تعالى على هذه الدقيقة، لتكون جارية مجرى الدلالة اليقينية على كونهم كاذبين في قولهم إنه مجنون. ومن الآيات التي ردّت هذه الفرية: قوله تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ} 1. وقوله: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} 2"3. ومن هذا يتبين لنا أنّ القرآن الكريم قد ردّ هذه الفرية، وهذا الباطل رداً قاطعاً بما لا مزيد عليه. 3- اتهام الرسول صلى الله عليه وسلم بالافتراء والكذب: واتهم المشركون النبي صلى الله عليه وسلم بأنّه افترى على الله كذباً حين بلغهم أمر ربه تبارك وتعالى، بأن يعبدوا الله وحده، وأن الوحي ينزل عليه من عند الله تعالى.

_ 1 سورة التكوير الآية: 22. 2 سورة التكوير الآية: 25. 3 التفسير الكبير للفخر الرازي 30/79-80.

جاء هذا الاتهام في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} 1. وقالوا: {إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} 2. وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا وَزُورًا} 3. وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} 4. وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ * أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلاَلِ الْبَعِيدِ} 5.

_ 1 سورة النحل الآية: 101. 2 سورة المؤمنون الآية: 38. 3 سورة الفرقان الآية: 4. 4 سورة السجدة الآية: 3. 5 سورة سبأ الآيتان: 7-8.

{وَقَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى} 1. وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} 2. قال الراغب الأصفهاني:" استعمل الافتراء في القرآن في الكذب والشرك والظلم"3. ونقل الفخر الرازي عن أبي مسلم: "الافتراء افتعال من فريت، وقد يقال في تقدير الأديم: فريت الأديم، فإذا أريد قطع الإفساد قيل: أفريت وافتريت واختلقت، ويقال فيمن شتم امرءاً بما ليس فيه افترى عليه"4. وفي اللسان: "يقال فرى فلان الكذب يفريه إذا اختلقه، والفرية من الكذب"5. وهذه الفرية إنّما هي من قبيل افتراء المشركين على النبوة، كفريتهم بأنّ هذا القرآن أساطير الأولين، أو أنه تلقاه عن بشر، أو أنه سحر، أو

_ 1 سورة سبأ الآية: 43. 2 سورة الشورى الآية: 24. 3 المفردات في غريب القرآن ص: 379. 4 التفسير الكبير للفخر الرازي 24/50. 5 لسان العرب لابن منظور 15/154.

كلام شاعر، وغيرها من التهم المؤدية إلى نفي نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند ربه تبارك وتعالى. ولهذا فإنّ ردّ القرآن الكريم على هذه التهمة يعتبر رداً على جميع الافتراءات والشبه التي يثيرها المشركون. وقد بين القرآن الكريم أنّ تلك التهمة لا تعدو كونها من قبيل الظلم والزور والبهتان. قال الفخر الرازي عند قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا وَزُورًا} . "واعلم أنّ الله تعالى أجاب عن هذه الشبهة بقوله: {فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا وَزُورًا} ، وبين الرازي أنّ هذا القدر إنّما يكفي جواباً عن الشبهة المذكورة؛ لأنه قد علم كل عاقل أنه عليه الصلاة والسلام تحداهم بالقرآن، وهم في نهاية الفصاحة، وقد بلغوا في الحرص على إبطال أمره كل غاية، حتى أخرجهم ذلك إلى ما وصفوه به في هذه الآيات، فلو أمكنهم أن يعارضوه لفعلوا، ولكان ذلك أقرب إلى أنْ يبلغوا مرادهم فيه، مما أوردوه في هذه الآية وغيرها، ولو استعان محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك بغيره، لأمكنهم أيضاً أن يستعينوا بغيرهم، لأنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم كأولئك المنكرين في معرفة اللغة، وفي المكنة من الاستعانة،

فلما لم يفعلوا ذلك، والحالة هذه، علم أنّ القرآن قد بلغ النهاية في الفصاحة، وانتهى إلى حد الإعجاز. ولما تقدمت هذه الدلالة مرات وكرات في القرآن، وظهر بسببها سقوط هذا السؤال، ظهر أنّ إعادة هذا السؤال بعد تقدم هذه الأدلة الواضحة، لا يكون إلا للتمادي في الجهل والعناد، فلذلك اكتفى الله في الجواب بقوله تعالى: {فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا وَزُورًا} "1. وأضاف الرازي يقول: "إن الله وصف كلامهم بأنّه ظلم وزور، أما أنه ظلم فلأنهم نسبوا هذا الفعل القبيح إلى من كان مبرأ منه، فقد وضعوا الشيء في غير موضعه، وذلك هو الظلم، وأما الزور فلأنهم كذبوا فيه. وقال أبو مسلم: الظلم تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم والرد عليه، والزور كذبهم عليه"ا.?. والحق أنّ هذا القرآن يحمل دليل صدقه معه من عند الله تعالى، إذ تلتقي رسالته برسالات الأنبياء في أصولها، وجوهرها وأهدافها ومبادئها، وفيه زيادة بيان وتفصيل للشرائع والعقائد والأحكام. وقد سلّى الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بإعلام المكذبين له أنّ تكذيب الرسل هو ديدن الأمم السابقة مع رسلها وأنبيائها، قال

_ 1 التفسير الكبير 24/50.

تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} 1. وقال تعالى: { ... مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 2. وقال عز وجل: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} 3. وبالإضافة إلى إعجاز القرآن البلاغي، وما يشتمل عليه من معجزات في الإخبار عن قصص السابقين، التي لم يحط بها النبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك إخباره عن بعض المغيبات، فإنّ إعجازه

_ 1 سورة يونس الآيات: 37-39. 2 سورة يوسف الآية: 111. 3 سورة الشورى الآية: 13.

بالشريعة الكاملة في تقريرها للأحكام السمحة، وقيامها على مبادئ العدل والحكمة وكرامة الإنسان، وصلاحيتها لكل زمان ومكان، لا يزال يتحدى العالمين ويبرهن لهم أنّ النبي الأمي الذي لم يقرأ ولم يكتب لا يستطيع أنْ يأتي بمثل هذا القرآن، وإنه تنزيل من حكيم حميد. قال الله تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} 1. وعن صحة القرآن الكريم، وما فيه من حقائق علمية، يقول الطبيب الفرنسي موريس بوكاي في خاتمة سفره النفيس، الذي كتبه عن القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم: "إنّ مقارنة عديد من روايات التوراة مع روايات نفس الموضوعات في القرآن تبرز الفروق الأساسية بين دعاوي التوراة غير المقبولة علمياً، وبين مقولات القرآن التي تتوافق تماماً مع المعطيات الحديثة. ولا يستطيع الإنسان تصور أنّ كثيراً من المقولات ذات السمة العلمية كانت من تأليف بشر، وهذا بسبب حالة المعارف في عصر محمد صلى الله عليه وسلم، لذا من المشروع تماماً أنْ ينظر إلى القرآن على أنه تعبير الوحي من الله، وأنْ تعطى له مكانة خاصة جداً، حيث أنّ صحته

_ 1 سورة الإسراء الآية: 105.

أمر لا يمكن الشك فيه، وحيث أنّ احتواءه على المعطيات العلمية المدروسة في عصرنا تبدو كأنها تتحدى أي تفسير وضعي، عقيمةٌ حقاً المحاولات التي تسعى لإيجاد تفسير للقرآن بالاعتماد فقط على الاعتبارات المادية"1.

_ 1 دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة ص: 286، دار المعارف.

المبحث الثالث: إعانتهم للرسول صلى الله عليه وسلم بطلب المعجزات والخوارق.

المبحث الثالث: إعانتهم للرسول صلى الله عليه وسلم بطلب المعجزات والخوارق ولما رأى زعماء المشركين في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم تحدياً لزعامتهم، وتهديداً لمكانتهم ومصالحهم، وضربة قاضية لتقاليدهم الموروثة، أخذوا يتحدون النبي صلى الله عليه وسلم بطلب المعجزات؛ لتأييد صدق دعوته وصلته بالله عز وجل. وقد ذكر الله تعالى عنهم تلك المطالب في كتابه الكريم، كما ذكر الردود على تلك التحديات. ومن الآيات التي تبين مدى التحدي والإحراج الذي واجهه النبي صلى الله عليه وسلم، قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ} 1. وقد تقدّم الرد على اعتراضهم بعدم إمكانية الجمع بين البشرية والنبوة في الذات الواحدة، في بحث اعتراضهم على بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ

_ 1 سورة الأنعام الآية: 8.

عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} 1. وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس باستطاعته الإتيان به، مما ينم عن جهلهم بحقيقة النبوة والرسالة. قال تعالى: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً} 2. وقال تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلاَ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا} 3. وأقسم المشركون بأعظم الأيمان وأشدها، لئن جاءتهم معجزة أو أمر

_ 1 سورة الأنعام الآية: 37. 2 سورة الإسراء الآيات: 90-93. 3 سورة الفرقان الآية: 7-8.

خارق مما اقترحوه ليؤمنن بها، قال تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} 1. أما ردود القرآن الكريم عن هذه التحديات، فإنّ محمداً صلى الله عليه وسلم قد جاء بالمعجزة الخالدة، وهي معجزة القرآن الكريم، بعلومه ومعارفه، وأسلوبه وبلاغته، وأخباره الماضية والمستقبلة. وهذا ما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: "ما من نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة" 2. وقد تحدى النبي صلى الله عليه وسلم العرب خاصة بل الناس جميعاً بالقرآن الكريم، فعجزوا عن الإتيان بسورة واحدة من مثله، ولو بأقصر السور، إذ لم يتقدم واحد منهم إلى الإتيان بشيء من مثله، على الرغم مما بروزا فيه من الفصاحة والبلاغة، قال تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ

_ 1 سورة الأنعام الآية: 109. 2 أخرجه البخاري في صحيحه 6/97 كتاب الفضائل، باب كيف نزول الوحي وأول ما نزل. وتقدم ص: 399.

عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} 1. ومن ردود القرآن الكريم على المشركين في هذا الصدد، قول الله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 2. وهذا استفهام توبيخي للمشركين، والمعنى أولم يكف المشركين من الآيات هذا الكتاب العظيم، المعجز الذي يقرع أسماعهم؟ وكيف يطلبون آية تؤيد ما جاء به، والقرآن أعظم الآيات وأوضحها دلالة على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم. قال ابن كثير رحمه الله: "بين تعالى كثرة جهلهم، وسخافة عقلهم، حيث طلبوا آيات تدّل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وقد جاءهم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، الذي هو أعظم من كل معجزة، إذ عجزت الفصحاء والبلغاء عن

_ 1 سورة الإسراء الآية: 88. وقد تقدمت مراحل التحدي بالقرآن، في الأدلة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم. 2 سورة العنكبوت الآيتان: 51-52.

معارضته، بل عن معارضة سورة منه، أولم يكفيهم آية أنا أنزلنا عليك هذا الكتاب العظيم، الذي فيه خبر ما قبلهم ونبأ ما بعدهم، وحكم ما بينهم، وأنت رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب، ولم تخالط أحداً من أهل الكتاب، فجئتهم بأخباء ما في الصحف الأولى ببيان الصواب، مما اختلفوا فيه، وبالحق الواضح البين الجلي"1. وبالإضافة إلى شهادة الله تعالى له على صدقه، وكفى بها شهادة، وما أيده الله تعالى به من القرآن وما فيه من معجزات أخرى كالأخبار عن أمور غيبية، وقصص السابقين، والرسول صلى الله عليه وسلم رجل أمي لا يقرأ ولا يكتب، فقد أيد الله تعالى نبيه بمعجزات حسية، كانشقاق القمر الذي ذكره الله تعالى في كتابه: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} 2. فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن مسعود قال: "انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين، فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه، فقال رسول الله صلى الله عليه

_ 1 تفسير ابن كثير 3/435-436. 2 سورة القمر الآيتان: 1-2.

وسلم: اشهدوا" 1. وكذلك معجزة الإسراء والمعراج، يُسرى بالرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس، ويعرج به إلى السموات، ويطلع على آيات الله العظيمة، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 2. إلى غير ذلك من معجزاته صلى الله عليه وسلم الحسية، كنبع الماء بين أصابعه، وتسبيح الحصى، واستجابة دعائه، وعصمته من الناس، وحراسة السماء بالشهب3.

_ 1 صحيح البخاري بشرح الفتح 8/617 كتاب التفسير، باب {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ. وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا} . ومسلم 1/2158 كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب انشقاق القمر حديث: 43. وانشقاق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قول جميع المفسرين، وشذ قوم فقالوا سينشق يوم القيامة، قال ابن الجوزي: "وهذا القول الشاذ لا يقاوم الإجماع". زاد المسير 8/88. 2 سورة الإسراء الآية: 1. 3 انظر: مقدمة شرح النووي على مسلم 1/ 2.

غير أن القرآن الكريم لم يعتبر ما طلبه المشركون من الآيات هو الأصل في برهان النبوة، بل لفت عقول الناس ليستدلوا على صدق النبي صلى الله عليه وسلم من خلال ما آتاهم به من معجزة بيانه، مع أنه رجل أمي لم يقرأ، ولم يكتب. ونظراً لأنّ المشركين لم يقتنعوا بما جاءهم من الحق، وأخذوا يلحون على الرسول صلى الله عليه وسلم بطلب نزول الآيات الحسية، فإنّ القرآن الكريم يرجع ذلك أولاً إلى تقرير مشيئة الله تعالى وقدرته العظيمة، بعدم استجابة التحدي، كما بينته الآيات السابقة، وكما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} 1. وقال تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} 2. وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ

_ 1 سورة الرعد الآية: 7. 2 سورة الرعد الآية: 27.

كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} 1. فهذه الآيات الكريمة تفيد أن نزول الآيات يخضع لمشيئة الله تعالى، وأنّ حكمة الله تعالى اقتضت ألا تكون الخوارق برهاناً لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ودليلاً على صحة رسالته. وأمر آخر هو أن الله تعالى علم أنه ليس السبب في عدم إيمانهم التباس أو غموض في صدق الدعوة، وإنّما السبب هو ما انطوت عليه نواياهم من عدم الرغبة في قبول الحق، بحيث لو أنزل الله تعالى عليهم أعظم الآيات لما آمنوا. قال تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} 2. وقال تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} 3. وهناك سبب آخر ذكره الله تعالى في منع نزول الآيات، قال تعالى:

_ 1 سورة الأنعام الآية: 111. 2 سورة الأنعام الآية: 7. 3 سورة الحجر الآيتان: 14-15.

{وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا} . فهذه الآية تضمنت تقريراً صريحاً بأن حكمة الله تعالى اقتضت الامتناع عن إجابة الكفار بإرسال الآيات التي طلبوها، لأنه ثبت بالتجربة من الأمم السابقة، أنهم كذبوا بالآيات ولم يؤمنوا بها، فأهلكهم الله ودمرهم. وأما قوم محمد صلى الله عليه وسلم، فإنّ حكمة الله تعالى اقتضت إمهالهم وعدم إهلاكهم؛ لأن الله تعالى علم أن منهم ومن ذريتهم من يؤمن وينفع الله به، فلم يجبهم إلى ما طلبوا، حتى لا يكون مصيرهم مصير الأقوام السابقين من الهلاك والدمار، والله أعلم.

_ سورة الإسراء الآية: 59.

الباب الرابع: النقلة بالمشركين في العبادات والسلوك وموقف الإسلام منهم.

الباب الرابع: النقلة بالمشركين في العبادات والسلوك وموقف الإسلام منهم. الفصل الأول: النقلة بهم في العبادات. ... الباب الرابع: النقلة بالمشركين في العبادات والسلوك وموقف الإسلام منهم تمهيد: وكما أحدث الإسلام نقلة عميقة وشاملة في مجال العقيدة، تُمثل تحويلاً عظيماً من عبادة الأشياء المحسوسة كالأصنام والأوثان والكواكب التي يرونها ويلمسونها، إلى عبادة الله الواحد الأحد الذي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} 1. والذي: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 2. أحدث الإسلام في مجال العبادات والسلوك تغييراً جذرياً بين ما كان عليه الناس في جاهليتهم من عادات باطلة، وما دعا إليه الإسلام من عبادات وأحكام شرعية، وأخلاقية لها وزنها وقيمتها في تربية الفرد والجماعة، فالأمة على منهاج الله تبارك وتعالى الملائم للفطرة البشرية، ولها

_ 1 سورة الشورى الآية: 11. 2 سورة الأنعام الآية: 103.

وزنها وارتباطها بالعقيدة، وتحقيق العبودية لله تعالى وحده. وأوضح دليل على هذه النقلة هو ما جاء في حديث جعفر بن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة، إذ يمثل صورة واضحة لما كان عليه العرب في الجاهلية من ضلال وفساد في العبادات والسلوك، كما يوضح لنا النقلة الكبيرة التي أحدثها الإسلام الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم. وإليك نص الحديث، قال جعفر: "أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبده نحن وآباؤنا من دونه، من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام ... "1.

_ 1 انظر: سيرة ابن هشام 1/336، بإسناد حسن عن أم سلمة رضي الله عنها، والسيرة النبوية لابن كثير 2/ 11، والبداية والنهاية 3/43 وما بعدها، وفتح الباري لابن حجر 7/189، وعيون الأثر لابن سيد الناس 1/118، وزاد المعاد لابن القيم 2/51، والسيرة النبوية الصحيحة لأكرم العمري 1/174، والسيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية لمهدي رزق ص: 208-209.

هذا وسنتناول بعض الأمور التي أشار إليها هذا الحديث في الفصلين التاليين:

الفصل الأول: النقلة بهم في العبادات ومن هذه العبادات والأحكام الشرعية التي جاء بها الإسلام: 1- الصلاة: فأما الصلاة فقد اهتم الدين الإسلامي بإقامتها والمحافظة عليها، وبين القرآن الكريم أن مشروعيتها كانت على الأمم السابقة، ففي دعاء إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء} 1. وامتدح الله إسماعيل عليه السلام لإقامته لها وأمره لأهله بها، قال تعالى: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} 2.

_ 1 سورة إبراهيم الآية: 40. 2 سورة مريم الآية: 55.

وأمر الله رسوله موسى عليه السلام بإقامتها في بداية تكليفه بالرسالة، قال تعالى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي} 1. ويوحي الله تبارك وتعالى إلى موسى وأخيه هارون: {أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} 2. وينطق المسيح عليه السلام في مهده قائلاً: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} 3. وكان من وصية لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} 4. أما العرب الذين بعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم فلم يكن لهم صلاة معروفة، إلا ما كانوا يدعون الله به عند تلبية الحج من قولهم: (لبيك

_ 1 سورة طه الآيتان: 13-14. 2 سورة يونس الآية: 87. 3 سورة مريم الآية: 31. 4 سورة لقمان الآية: 17.

اللهم لبيك، لا شريك لك، إلاّ شريك هو لك، تملكه وما ملك) 1. وكذلك ما أخبر الله تعالى به عنهم في قوله سبحانه: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً} 2. والمكاء الصفير، والتصدية: التصفيق. قال ابن عباس: كانت قريش يطوفون بالبيت عراة يصفرون ويصفقون. وقال مجاهد: كانوا يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف ويستهزئون به، ويصفرون ويخلطون عليه طوافه وصلاته. وقال مقاتل: كان إذا صلى الرسول في المسجد يقومون عن يمينه ويساره بالتصفيق والتصفير ليخلطوا عليه صلاته3. قال الفخر الرازي: "فعلى قول ابن عباس، كان المكاء والتصدية نوع عبادة لهم، وعلى قول مجاهد ومقاتل كان إيذاء للنبي صلى الله عليه

_ 1 تفسير ابن جرير 13/79، والأصنام لابن الكلبي ص: 7، وسيرة ابن هشام 1/78، والبداية والنهاية لابن كثير 2/188، والفتاوى لابن تيمية 1/156، وإغاثة اللهفان لابن القيم 2/210. 2 سورة الأنفال الآية: 35. 3 انظر هذه الأقوال في: تفسير الطبري 9/240-242، وتفسير ابن كثير 2/328-329، والفخر الرازي 15/159-160.

وسلم، والأول أقرب لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً} "1. فلما جاء الإسلام الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم، زاد من الاهتمام والعناية بالصلاة، وجعلها ركناً من أركان الإسلام، لا يصح إسلام الشخص بدون إقامتها، وكانت عمود الدين، وخير الأعمال عند الله تعالى، وأول ما يحاسب عنه المسلم يوم القيامة من أعمال العبادات. ومن الآيات التي وردت في الأمر بها: قوله تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ} 2. وقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} 3. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 4.

_ 1 تفسير الفخر الرازي 15/159-160. 2 سورة العنكبوت الآية: 45. 3 سورة الإسراء الآية: 78. 4 سورة الحج الآية: 77.

ويؤكد القرآن المحافظة على الصلاة في حالة الحضر أو السفر، وفي حالة الأمن أو الخوف، قال تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} 1. وجعل القرآن الكريم إقامتها من صفات المتقين، قال تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} 2. كما جعلها صفة لازمة للمؤمنين، وقد بدأ القرآن حديثه بالخاشعين في صلاتهم، وختمه بالمحافظين عليها في الآيات التالية: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِك َ

_ 1 سورة البقرة الآيتان: 238-239. 2 سورة البقرة الآية: 1-3.

فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} 1. وللصلاة نظافة وتطهر، وزينة وتجمل في البدن والثوب، والمكان من كل خبث ومستقذر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} 2. وقال تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} 3. وشرع التزيّن للصلاة، فقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} 4.

_ 1 سورة المؤمنون الآيات: 1-9. 2 سورة المائدة الآية: 6. 3 سورة المدثر: 3. 4 سورة الأعراف الآية: 31.

وينذر القرآن بالويل والهلاك لمن يسهون عن صلاتهم حتى يضيعوا وقتها، قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} 1. ويدمغ بالذم والغي من أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات، قال تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} 2. والصلاة تمد المؤمن بقوة روحية تعينه على مواجهة متاعب الحياة، ومصائب الدنيا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} 3. وقال سبحانه: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} 4. وفي الصلاة قوة خُلُقيّة للمؤمن تقويه على فعل الخير، وترك الشر، ومجانبة الفحشاء والمنكر، ومقاومة الجزع عند الشر، والمنع عند الخير، قال

_ 1 سورة الماعون الآيتان: 4-5. 2 سورة مريم الآية: 59. 3 سورة البقرة الآية: 153. 4 سورة البقرة الآيتان: 45-46.

تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} 1. وقال تعالى: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلاَّ الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ} 2. إلى غير ذلك من السمات التي تضفي على هذه العبادة كثيراً من المزايا الجميلة.

_ 1 سورة العنكبوت الآية: 45. 2 سورة المعارج الآيات: 19-23.

2- الزكاة: وأما الزكاة فهي كذلك عبادة عرفت في الرسالات السماوية السابقة، وذكرها الله في وصاياه إلى رسله، وفي وصايا رسله إلى أممهم، يقول عن إبراهيم الخليل وابنه إسحاق وحفيده يعقوب: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} 1. ويمتدح إسماعيل بقوله: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} 2. ويذكر الله في مواثيقه لبني إسرائيل فيقول: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ} 3.

_ 1 سورة الأنبياء الآية: 73. 2 سورة مريم الآية: 55. 3 سورة البقرة الآية: 83.

وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ} 1. وينطق المسيح وهو في مهده بقوله: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} 2. ويقول تعالى في شأن أهل الكتاب بصفة عامة: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 3. ويأتي الأمر موجهاً إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: { ... وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} 4.

_ 1 سورة المائدة الآية: 12. 2 سورة مريم الآية: 31. 3 سورة البينة الآيتان: 4-5. 4 سورة الأنعام الآية: 141.

روى الطبري في تفسير الآية أقوالاً عن العلماء تدور في مجملها على أنّ المراد بذلك الصدقة الواجبة1. وقد امتدح الله المؤمنين المؤدين لزكاتهم، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} 2. وقد وضح ابن كثير رحمه الله معنى وجوب الزكاة في العهد المكي، وتنظيمها في العهد المدني، فقال: "الأكثرون على أنّ المراد ها هنا زكاة الأموال، مع أنّ هذه الآية مكية، وإنّما فرضت الزكاة بالمدينة في سنة اثنتين من الهجرة، والظاهر أنّ التي فُرضت بالمدينة إنّما هي ذات النصب والمقادير الخاصة، وإلا فالظاهر أنَّ أصل الزكاة كان واجباً بمكة، قال تعالى في سورة الأنعام وهي مكية: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} "3. وقال الشيخ الخضري: "ومما فرض بمكة الزكاة، وقلما وجد من الأوامر المكية ذكر الصلاة، إلا وبجانبه إيتاء الزكاة، واستشهد بآية سورة الأنعام {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} ". ثم قال:" إلاّ أنّ هذه الحقوق الواجبة لم تفصل بمكة، فقد كان ذلك

_ 1 تفسير الطبري 8/53. 2 سورة المؤمنون الآية: 4. 3 تفسير ابن كثير 3/251.

موكولاً لما في النفوس من الجود، وبحسب حاجة الناس "1ا.?. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} 2. وقال تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} 3. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} 4. وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} 5. وقد أنذر الله المشركين بالويل، وجعل من أخصّ أوصافهم عدم إيتاء الزكاة، فقال تعالى: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} 6. ويعلل القرآن الكريم جزاء من يسجر في الجحيم، ويسحب في

_ 1 تاريخ الأمم الإسلامية 1/92. 2 سورة الشورى الآية: 38. 3 سورة الذاريات الآية: 19. 4 سورة المعارج الآية: 24. 5 سورة المزمل الآية: 20. 6 سورة فصلت الآيتان: 6-7.

السلاسل والأغلال بقوله: {إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} 1. ويسجل القرآن اعتراف المجرمين في النار، فيقول عنهم: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} 2. وقد نهى الله تعالى عن قهر اليتيم ونهر المسكين، فقال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ} 3. وبين أن من أوصاف الذي يكذب بالجزاء والحساب، أنه يدفع اليتيم بجفوة وغلظة، ويظلمه حقه، ولا يطعمه ولا يحسن إليه، ولا يحضّ على طعام المسكين، قال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} 4. قال الرازي: "فإنْ قيل: لم قال {وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} ولم

_ 1 سورة الحاقة الآيتان: 33-34. 2 سورة المدثر الآيتان: 43-44. 3 سورة الضحى الآيتان: 9-10. 4 سورة الماعون الآيات: 1-3.

يقل: "ولم يطعم المسكين"؟ فالجواب: أنه إذا منع اليتيم حقه، فكيف يطعم المسكين من مال نفسه؟ بل هو بخيل من مال غيره، وهذا هو النهاية في الخسة، ويدل على نهاية بخله، وقساوة قلبه، وخساسة طبعة"1. هذه بعض عناية القرآن الملحة بالبر، ورعاية المساكين، وأداء حق السائل والمحروم، مما يبعث في النفوس البشرية الانقياد والتسليم والرضا برب العالمين وحده. كما أن الزكاة التي جاء بها الإسلام ليست مقصورة على البر والإنفاق العام فحسب، ولكنها أصبحت ركناً من أركان هذا الدين، ودعامة من دعائم الإيمان، وإيتاؤها مع إقامة الصلاة والشهادة لله بالوحدانية، ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، عنوان الدخول في الإسلام، واستحقاق أخوة المسلمين، قال تعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} 2. وقال الله تعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} 3.

_ 1 التفسير الكبير للفخر الرازي 31/162. 2 سورة التوبة الآية: 5. 3 سورة التوبة الآية: 11.

وعلم الله تعالى المسلمين منذ اللحظة الأولى أن التوسط في النفقة يحمي المجتمع من الضيق الاقتصادي، قال تعالى: {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} 1. وقال سبحانه: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} 2. وجعل القرآن الكريم هذا المبدأ من سمات المؤمنين، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} 3. وبيّن القرآن أن توزيع الأرزاق موكل إلى الله جل شأنه وحده، فقال تعالى: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 4.

_ 1 سورة الإسراء الآيتان: 26-27. 2 سورة الإسراء الآية: 29. 3 سورة الفرقان الآية: 66. 4 سورة الشورى الآية: 12.

3- الصيام: وفرض الله الصيام على عباده، وبين لهم أنه ليس تشريعاً جديداً، وإنّما هو تشريع كان مفروضاً على الأمم السابقة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 1. وكان الصيام معروفاً عند العرب قبل الإسلام، فقد روى البخاري بسنده إلى عائشة رضي الله عنها أنّ قريشاًَ كانت تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيامه حتى فرض رمضان، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شاء فليصمه، ومن شاء أفطره" 2. وروى ابن إسحاق في حديث بدء الوحي، وكان يجاور في غار حراء، من كل سنة شهراً، وكان ذلك مما تحنثت به قريش في الجاهلية، إلى أن قال: "فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور ذلك الشهر من كل سنة، يطعم من جاءه من المساكين ... وذلك الشهر هو رمضان.."3. الذي أنزل عليه فيه القرآن.

_ 1 سورة البقرة الآية: 183. 2 صحيح البخاري بشرح الفتح 4/102 كتاب الصوم، باب وجوب صوم رمضان. 3 سيرة ابن هشام 1/235-236، والسيرة النبوية لابن كثير 1/390.

فيُفْهَمُ من ذلك أنّ الصوم ما تتعبد به قريش في جاهليتهم، ويُفْهَم من ذلك أيضاً أنّ أصل مشروعة الصيام كان بمكة، حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوم عاشوراء حتى فرض صوم رمضان بالمدينة1.

_ 1 انظر الأحاديث في صيام يوم عاشوراء في صحيح البخاري مع الفتح 4/244. وصحيح مسلم 2/797 كتاب الصيام، باب أي يوم يصام في عاشوراء.

4- الحج: وكان العرب قبل الإسلام كسائر الأمم، يحجون إلى بيت الله الحرام الذي بناه إبراهيم، وابنه إسماعيل عليهما السلام بمكة، قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} 1. وقال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} 2. وقال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ

_ 1 سورة البقرة الآيتان: 127-128. 2 سورة آل عمران الآيتان: 96-97.

لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} 1. وعلى ذلك مضى أمرُ العرب من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، إلى أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فقد غيروا كثيراً مما كان عليه إبراهيم وإسماعيل، وخلطوا حقاً بباطل، فحرفوا الحج عن وجهته، وملأوا الكعبة -بيت التوحيد- بالأنصاب والأوثان، وجعلوها على ظهر البيت وبجواره، وعلى الصفا والمروة، واتخذوا هذه الأنصاب آلهة مع الله يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى، ونذروا لها، وذبحوا باسمها، وقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا. ثم إنهم ابتدعوا في الحج بدعاً ما أنزل الله بها من سلطان، ومن هذه البدع طوافهم بالبيت عراة، زاعمين أنه لا يليق بهم أن يطوفوا ببيت الله بثياب ارتكبوا فيها الذنوب والآثام، وكان النساء يطفن بالليل، وكانت إحداهن تضع ثيابها كلها إلا درعاً يسترها عن الحمس2 من قريش، ثم

_ 1 سورة الحج الآيات: 26-29. 2 الحمس أو الأحماس جمع الأحمس: وهو لقب قريش ومن ولدت قريش، وكنانة، وجديلة قيس، ومن تابعهم في الجاهلية، سموا بذلك لتحمسهم في دينهم، أي تشددوا، وكانوا يقفون بمزدلفة ولا يقفون بعرفة، ويقولون نحن أهل الله فلا نخرج من الحرم، وكانوا لا يدخلون البيوت من أبوابها وهم محرمون. انظر: لسان العرب لابن منظور 6/58، والنهاية لابن الأثير 1/440. أو سموا بذلك لالتجائهم بالحمساء، وهي الكعبة، لأن حجرها أبيض يميل إلى السواد، والحماسة الشجاعة، والأحمس الشجاع. القاموس المحيط للفيروزابادي 2/208.

تطوف في هذا الدرع الذي لا يستر العورة، وقد حرموا على أنفسهم من الزينة والرزق ما لم يحرمه الله عليهم. فلما جاء الإسلام، أبطل هذه العادات الجاهلية، ونقى الحج من تلك الضلالات الباطلة، وجعل الحج كله خالصاً لله تعالى، وأبطل العري المزري، وذلك التحريم للطيبات التي حرموها يغير دليل. قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} 1. فهاتان الآيتان هما ردّ على أولئك المشركين فيما كانوا يفعلونه من الطواف بالبيت عراة، وفي تحريمهم على أنفسهم شيئاً من الزينة والرزق لم يحرمه الله عليهم.

_ 1 سورة الأعراف الآيتان: 31-32.

روى الإمام مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة، فتقول: من يعيرني تطوافاً1 تجعله على فرجها، وتقول: اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدى منه فلا أحله فنزلت هذه الآية: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} الآية2. ذُكر عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أهل الجاهلية من قبائل العرب، كانوا يطوفون بالبيت عراة، الرجال بالنهار، والنساء بالليل، وكانوا إذا وصلوا إلى مسجد منى، طرحوا ثيابهم وأتوا المسجد عراة، وقالوا: لا نطوف في ثياب أصبنا فيها الذنوب، ومنهم من يقول: نفعل ذلك تفاؤلاً حتى نتعرى من الذنوب، كما تعرينا من الثياب، وكانت المرأة منهم تتخذ ستراً تعلقه على حقويها، لتستتر به عن الحمس، وهم

_ 1 تطوافاً: هو ثوب تلبسه المرأة وتطوف به. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 18/162. 2 صحيح مسلم 4/2320 كتاب التفسير، باب قوله تعالى {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} . والنسائي 5/233-234 في الحج، باب قوله عز وجل {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} .

قريش فإنهم كانوا لا يفعلون ذلك. وكانوا لا يصلون في ثيابهم، ولا يأكلون من الطعام إلا قوتاً، ولا يأكلون دسماً، فقال المسلمون: يا رسول الله فنحن أحق أن نفعل ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية، أي: "البسوا ثيابكم وكلوا اللحم والدسم، واشربوا ولا تسرفوا"1. وقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} الآية. أي: قل يا محمد منكراً وموبخاً لهؤلاء الجهلة الذين يطوفون ببيت الله عراة، ويحرمون على أنفسهم ما أحل لهم من الطيبات، من حرّم عليكم الطيبات من المآكل والمشارب، أو الملابس المخلوقة لنفعكم؟ ثم أمر الله تعالى نبيه أن يقول لهؤلاء المشركين إنّ هذه الزينة والطيبات الموجودة في الحياة الدنيا، إنّما هي مخلوقة للمؤمنين، وإنْ شاركهم فيها الكفار، وستكون للمؤمنين خالصة يوم القيامة، لا يشاركهم فيها أحد، لأن الله تعالى حرّم الجنة ونعيمها على الكافرين2..

_ 1 انظر: تفسير الطبري 8/163، وأسباب النزول لأبي الحسن الواحدي النيسابوري ص: 129، والتفسير الكبير للفخر الرازي 14/60، وتفسير ابن كثير 2/226-227، ولباب النقول في أسباب النزول للسيوطي ص: 105. 2 تفسير ابن كثير 2/227 بتصرف.

وعليكم أيها المشركون والناس جميعاً أن تتدبروا حكمة الله وتفقهوا تشريعه.. وكانت قريش لا تخرج من الحرم، وإنما يقفون في طرف الحرم، عند أدنى الحل، ويقولون نحن أهل الله في بلدته وقطان بيته، فكانوا يقفون بالمزدلفة ويدفعون منها، ولا يقفون في عرفة1. فرد الله تعالى عليهم بقوله: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} 2. وقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس، وكان سائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات، ثم يقف بها، ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} 3.

_ 1 انظر: تفسير ابن جرير الطبري 2/291، وتفسير ابن كثير 1/151. 2 سورة البقرة الآية: 199. 3 صحيح البخاري بشرح الفتح 8/186-187 كتاب التفسير (35) باب: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} .

دخول البيوت من غير أبوابها: ومن سخافات الجاهلية التي أبطلها الإسلام، الدخول إلى المنزل بعد الرجوع من السفر من غير الباب، قال تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 1. وفي الصحيحين عن البراء رضي الله عنه قال: "نزلت هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا حجوا فجاؤا لم يدخلوا من قبل أبواب بيوتهم، ولكن من ظهورها، فجاء رجل من الأنصار فدخل من قبل بابه، فكأنه عير بذلك، فنزلت: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} "2. وروى الحديث أبو داود الطيالسي عن شعبة عن أبي إسحاق عن

_ 1 سورة البقرة الآية: 189. 2 صحيح البخاري بشرح الفتح 3/621 كتاب العمرة، باب قول الله تعالى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} . و 8/183 كتاب التفسير، باب {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} وهذا لفظه. وصحيح مسلم 4/2319 كتاب التفسير حديث رقم: 23.

البراء قال: "كانت الأنصار إذا قدموا من سفر، لم يدخل الرجل من قبل بابه، فنزلت هذه الآية"1. وعن هذه العادة الجاهلية يقول سيد قطب رحمه الله: "وسواء كانت هذه عادتهم في السفر بصفة عامة، أو في الحج بصفة خاصة، وهو الأظهر في السياق، فقد كانوا يعتقدون أنّ هذا هو البر -أي الخير أو الإيمان- فجاء القرآن ليبطل هذا التصور الباطل، وهذا المتكلف الذي لا يستند إلى أصل ولا يؤدي إلى شيء، وجاء يصحح التصور الإيماني للبر، فالبر هو التقوى، هو الشعور بالله ورقابته في السر والعلن، وليس شكلية من الشكليات التي لا ترمز إلى شيء من حقيقة الإيمان، ولا تعني أكثر من عادة جاهلية، كذلك أمرهم بأن يأتوا البيوت من أبوابها، وكرر الإشارة إلى التقوى، بوصفها سبيل الفلاح.. وأبطل العادة الجاهلية الفارغة من الرصد الإيماني"2 ا.?. وبهذا نرى أن الإسلام جدد دين إبراهيم عليه السلام، الذي كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين، وجعل بيت الله الحرام منسك هذه الأمة، فأمر بحجه وعمرته، كمال قال تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ

_ 1 مسند أبي دواد الطيالسي ص: 98 رقم: 717. 2 في ظلال القرآن 1/264.

مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} 1. وقال تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} 2. وأمر بإخلاص التوحيد لله رب العالمين، وترك ما كان عليه أهل الجاهلية من إثم وباطل، قال تعالى: { ... فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} 3. هذا وقد تقدم معنا في الباب الأول صور من الشرك في العبادات، كالدعاء والغلو في قبور الأنبياء والصالحين، والذبح والنذر وغيرها، فلا داعي لإعادة الحديث عنها.

_ 1 سورة آل عمران الآية: 96. 2 سورة البقرة الآية: 196. 3 سورة الحج الآيتان: 30-31.

الفصل الثاني: النقلة بهم في السلوك والأخلاق.

الفصل الثاني: النقلة بهم في السلوك والأخلاق تمهيد: ولما كانت الأخلاق هي الدعامة الأولى لحفظ كيان الأمم، وهي ضرورة للفرد والمجتمع، فقد جاء الإسلام داعياً وموجهاً إلى التمسك بالأخلاق الطيبة، والفضائل السامية، لأنها تحقق الخير والسعادة في الدنيا والآخرة. ومحذراً ومنفراً من الرذائل والعادات الجاهلية الباطلة، لأنها تسبب الضرر في العاجل والآجل. لذلك يجدر بنا أنْ نستعرض بعض الجوانب في هذا السبيل بإيجاز، لنرى مدى ما تحقق لمعتنقي الإسلام بعد عهد الجاهلية والظلام. وسنقسم الحديث في ذلك إلى قسمين: القسم الأول: في الترغيب في الفضائل القسم الثاني: في التحذير من الرذائل.

القسم الأول: في الترغيب في الفضائل. ومن ذلك: 1- بر الوالدين وصلة الأرحام: وتأتي رابطة الأسرة بعد رابطة العقيدة في رحاب الإيمان بالله والخضوع لربوبيته، جلّ شأنه فهو أرحم بالناس من بعضهم لبعض، وكثيراً ما يقرن الله سبحانه وتعالى، بين الأمر بعبادته والإحسان إلى الوالدين، كقوله تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا} 1. وقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} 2.

_ 1 سورة النساء الآية: 36. 2 سورة الإسراء الآيتان: 23-24.

والوصية بالوالدين والطاعة لهما، والرأفة والرحمة والإحسان إليهما مقيدة بغير معصية الله تعالى. قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} 1. وفي الترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال: أنزلت في أربع آيات، فذكر قصته وقال: فقالت أم سعد: أليس قد أمر الله بالبر، والله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أموت، أو تكفر، قال: فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها، فنزلت هذه الآية: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} ، الآية2. ومثل الآية السابقة، قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِن

_ 1 سورة العنكبوت الآية: 8. 2 الجامع الصحيح للترمذي 5/341 كتاب تفسير القرآن، سورة العنكبوت. وقال: حديث حسن صحيح. وأورده السيوطي في الدر 5/165 في سورة لقمان، وزاد نسبته لأبي يعلى، وابن مردويه، وابن عساكر. والقصة في صحيح مسلم 4/1877 كتاب فضائل الصحابة، رقم: 43، 44.

جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} 1. وكما أمر الله تعالى بطاعته وتقواه، والحث على عبادته وحده، أمر بصلة الرحم وعدم قطعها، فقال تعالى: {وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} 2. وقرن قطيعة الرحم بالفساد في الأرض، فقال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} 3. ومدح الله الواصلين لرحمهم بقوله: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} 4. فهذه الآيات الكريمة تبين ما للرحم من مكانة عظيمة عند الله تعالى،

_ 1 سورة لقمان الآية: 14-15. 2 سورة النساء الآية: 1. 3 سورة محمد الآيتان: 22-23. 4 سورة الرعد الآية: 21.

والحث على صلتها والإحسان إليها، والتحذير من قطعها وهضمها حقها؛ لأنّ ذلك من عادات الجاهلية التي جاء الإسلام بمحوها، وقد أكد القرآن الكريم هذه الرابطة بقوله: {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} 1. 2-العدل والوفاء: ولما كان الظلم والجور من العادات الجاهلية، فقد اهتم الإسلام بالعدل، وجعله أساساً للعلاقات والتعامل بين المسلمين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} 2. وقال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} 3. وقال عز وجل: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 4.

_ 1 سورة الأنفال الآية: 75. 2 سورة المائدة الآية: 8. 3 سورة الأنعام الآية: 152. 4 سورة النحل الآية: 90.

إن العدل يكفل لكل فرد وكل جماعة الثقة البريئة من الميل إلى الهوى، وعدم التأثر بالحب والبغض، أو التبدل لعلاقة النسب والمصاهرة، والغنى والفقر، والقوة والضعف، إنّما تمضي الأمة في ظل الإسلام والعدل، تشق طريقها المستقيم، تكيل بمكيال واحد للجميع، وتزن بميزان واحد للكل. وهذا العدل الذي يدعو إليه الإسلام متفق مع عالمية الإسلام الخالدة، فقد جاء الإسلام لينشئ أمة مثالية، وقيماً ربانية، وموازين ثابتة للإنسانية كلها بعيداً عن التعصب لقبيلة أو أمة أو جنس أو لون، إنّما هي آصرة واحدة، ورابطة فريدة، يجتمع عليها الأسود والأبيض والأحمر والأصفر من أجل تحقيق العبودية لله رب العالمين. ومن أجل العدل والمساواة، كان الوفاء في الكيل والميزان بالقسط من أهم الأحكام الشرعية والأخلاقية، التي قررها القرآن الكريم، قال تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} 1. وقال تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا

_ 1 سورة الإسراء الآية: 35.

كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} 1. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، كانوا من أخبث الناس كيلاً، فأنزل الله تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} ، فأحسنوا الكيل بعد ذلك"2. وقال الله تعالى: {وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} 3. وقال تعالى حكاية عن قوم شعيب عليه السلام لقومه: { ... فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ

_ 1 سورة المطففين الآيات: 1-3. 2 أخرجه ابن ماجه 2/748 كتاب التجارات، باب التوقي في الكيل والوزن، حديث 2223، وفي الزوائد إسناده حسن. والطبري في التفسير 3/91، والواحدي في أسباب النزول ص: 253. وأورده السيوطي في الدر المنثور 6/323، وزاد نسبته إلى الطبراني وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان. وصحيح ابن حبان 11/287، وسنن البيهقي 6/32، وفتح الباري 8/696. 3 سورة الأنعام الآية: 152.

إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} 1. 3- الإحسان: وفي مجال الإحسان، جاءت توجيهات القرآن الكريم تشهد بأنه كتاب روحي، يرتقي إلى أعلى مراتب السمو، ويعلو عن أية قوانين أو أخلاق بشرية. وبيّن القرآن الكريم أن الإحسان يجب أن يكون الواجب الطبيعي للإنسان، وأن الله تعالى كما أحسن إلى العبد نفسه، عليه هو أن يحسن إلى الخلق، كما قال تعالى: {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} 2. وبيّن القرآن أن ثمرة الإحسان تعود إلى المحسن نفسه. قال تعالى: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} 3. وقد أمر الله بالإحسان، وألح عليه، فقال تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ

_ 1 سورة الأعراف الآية: 85. 2 سورة القصص الآية: 77. 3 سورة الإسراء الآية: 7.

لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 1. وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} 2. ورغب في الإتيان بالحسنات بقوله: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} 3. ووعد المحسنين بحسن المثوبة والأمان يوم القيامة، قال تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} 4. وقد خص القرآن الكريم بعض الناس بالإحسان لما بينهم وبين المحسن من رابطة القربى كالإحسان إلى الوالدين وذوي القربى من الأخوة والأعمام والأخوال وسائر الأقربين، أو الجوار، أو لفئات من الناس فقدوا المعين والنصير، وأصبحوا في حاجة إلى مدّ يد العون والمساعدة.

_ 1 سورة النحل الآية: 90. 2 سورة النساء الآية: 125. 3 سورة الأنعام الآية: 160. 4 سورة النمل الآية: 89.

والإحسان إلى اليتامى لأنهم فقدوا من يقوم بمصالحهم، ومن ينفق عليهم، والإحسان إلى المساكين وهم المحتاجون الذين لا يجدون من يقوم بكفايتهم، وكذلك الإحسان إلى الجار من ذوي القرابة، والجار الذي ليس بينه وبين المحسن قرابة، كما أوصى الله بالإحسان إلى الصاحب بالجنب، وهو الرفيق في المجلس، أو في السفر، أو في العمل ونحو ذلك. وأوصى بالإحسان إلى ابن السبيل، وهو المسافر الذي فقد ماله في الطريق قبل أن يصل إلى بلده وأهله، وكذلك الإحسان إلى الرقيق، ومن الإحسان إليهم تحريرهم وعتقهم، وحسن معاملتهم. وفي ذلك كله يقول تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} 1. وبيّن تعالى أنّ الجهاد في سبيل الله بالنفس أو بالمال، هو من الإحسان، قال تعالى: {وَالَّذِينَ َجَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} 2.

_ 1 سورة النساء الآية: 36. 2 سورة العنكبوت الآية: 69.

وقد فسّر الرسول صلى الله عليه وسلم الإحسان بقوله كما في حديث جبريل المشهور "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك" 1. وعلى هذا فالإحسان يشمل كل عمل، وكل تعامل يقوم به الإنسان في علاقة العبد بربه، وعلاقاته مع جميع المخلوقين، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله كتب الإحسان على كل شيء ... " 2. 4- الأمانة: والأمانة مسئولية أخلاقية عظيمة، لم تستطع السموات والأرض والجبال حملها عندما عرض الله ذلك عليها، بل أشفقن من تبعاتها وتكاليفها، وقد حمل الإنسان أعباء هذه الأمانة، وعليه أن يقوم بالوفاء بها. فمن قام بها وفق منهج الله تعالى، فاز بخيري الدنيا والآخرة، ومن خان أمانته، وضيع ما استأمنه الله عليه، خسر دنياه وآخرته. وقد تحدث القرآن الكريم عن هذه المسئولية الأخلاقية العظيمة،

_ 1 صحيح مسلم 1/37 كتاب الإيمان حديث رقم: 1. 2 صحيح مسلم 3/1548 كتاب الصيد والذبائح، باب الإمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة، رقم: 57.

فقال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} 1. وقد اتصف أنبياء الله ورسله بالأمانة، قال تعالى عن نوح عليه السلام: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} 2. وقال تعالى عن هود عليه السلام: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} 3. وقال تعالى عن صالح عليه السلام: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} 4. وكذلك قال قوم لوط وشعيب وموسى عليهم السلام لأقوامهم. وقد جمع الله محاسن الأمانات وأكملها لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فأكمل الله به الدين، وأتم به النعمة على المؤمنين إلى يوم القيامة، وقد استأمنه الله على أعظم كتاب أنزل على خير نبي، واختصه بالشفاعة

_ 1 سورة الأحزاب الآية: 72. 2 سورة الشعراء الآيتان: 106-107. 3 سورة الشعراء الآيتان: 124-125. 4 سورة الشعراء الآيتان: 142-143.

العظمى التي يتخلى عنها أولو العزم من الرسل. وقد مدح الله المؤمنين الذين من أجلّ صفاتهم حفظ الأمانات ورعايتها، وحفظ العهود، فقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} 1. ومن هنا نرى أنّ الأمانة من أعظم أمهات الأخلاق والفضائل التي جاء بها الإسلام، وحفظها الأنبياء عليهم السلام. 5- الصبر: ولما كان الهلع والجزع والتسخط، وعدم الصبر والتحمل من العادات الجاهلية، فقد جاء الإسلام يدعو إلى الصبر وعدم الجزع عند وقوع المصيبة، وعلى المسلم أنْ يحتسب الأجر عند الله تعالى. قال عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} 2. وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال

_ 1 سورة المؤمنون الآيات: 1-8. 2 سورة البقرة الآيات: 155-157.

النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية" 1. قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: "وليس منا" أي: من أهل سنتنا وطريقتنا، وليس المراد به إخراجه عن الدين، ولكن فائدة إيراده بهذا اللفظ، المبالغة في الردع عن الوقوع في مثل ذلك، كما يقول الرجل لولده عند معاتبته: لست منك ولست مني ... وقوله: "لطم الخدود" خص الخد بذلك لكونه الغالب في ذلك، وإلاّ فضرب بقيه الوجه داخل في ذلك، وقوله: "وشق الجيوب" جمع جيب، وهو ما يفتح من الثوب ليدخل فيه الرأس، والمراد بشقه: إكمال فتحته إلى آخره، وهو من علامات السخط"2ا.?. ودعوى الجاهلية: "هي النياحة وندبة الميت، والدعاء بالويل ونحوه، والمراد بالجاهلية: ما كان قبل الإسلام"3. وقد دعا القرآن الكريم إلى الصبر في موطن تحمل أذى الناس، قال

_ 1 صحيح البخاري بشرح الفتح 3/163 كتاب الجنائز، باب ليس منا من شق الجيوب، وهذا لفظه. وصحيح مسلم 1/99 كتاب الإيمان، باب تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية. 2 فتح الباري 3/163-164. 3 انظر شرح النووي على مسلم 2/110.

تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} 1. ودعا إليه في موطن المثابرة على العبادة، قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} 2. وقال عز وجل: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} 3. وقد وعد الله الصابرين بالأجر الوفير، والثواب العظيم يوم القيامة، قال تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} 4. وقال تعالى: {وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} 5. وقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} 6. والصبر أنواعه كثيرة، وميادينه واسعة، وقد تحدث عنها القرآن

_ 1 سورة النحل الآية: 126. 2 سورة مريم الآية: 65. 3 سورة طه الآية: 132. 4 سورة الأعراف الآية: 128. 5 سورة الإنسان الآية: 12. 6 سورة الزمر الآية: 10.

الكريم في أكثر من تسعين موضعاً، كما روى الإمام أحمد رحمه الله1، ولكنها في الجملة ترجع إلى الصبر على طاعة الله، والصبر عن معاصي الله، والصبر على أقدار الله المؤلمة2. 6-الصدق: الكذب سلوك جاهلي، يؤدي إلى تصدع بنيان المجتمع، وإلى خلل سيره، لذلك جاء الإسلام الحنيف بالتحذير منه، وتوعد القرآن الكريم الكاذبين بالعذاب الأليم يوم القيامة. قال تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 3. وأمر الإسلام بالصدقِ في الأقوال والأعمال، واعتبره أساساً من أسس الفضائل التي تبنى عليها المجتمعات، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} 4.

_ 1 انظر: مدارج السالكين لابن القيم 2/158. 2 انظر: المرجع السابق 2/171 وما بعدها. 3 سورة النحل الآية: 116-117. 4 سورة التوبة الآية: 119.

قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا} 1. وأخبر القرآن بأنّ الصدق من أخلاق الأنبياء، قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا} 2. وقال تعالى عن إسماعيل عليه السلام: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا} 3. كما وصف القرآن إدريس ومريم عليهما السلام وغيرهما بهذه الصفة الأخلاقية النبيلة، وتحدث القرآن عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأنه جاء بالصدق، وهو القرآن الكريم، فقال تعالى: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} 4. وبيّن تعالى أنّه سيميز بين الصادقين في الإيمان، وبين الكاذبين فيه، فقال تعالى: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} 5.

_ 1 سورة الأحزاب الآية: 70. 2 سورة مريم الآية: 41. 3 سورة مريم الآية: 54. 4 سورة الزمر الآية: 33. 5 سورة العنكبوت الآية: 3.

وقال تعالى: {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} 1. إلى غير ذلك من الآيات التي تبين ما للصدق والصادقين من مكانة عظيمة عند الله تعالى. 7- الاستقامة وتزكية النفس: وعن الابتعاد عن الضلالات والجهالات، أمر الإسلام بالاستقامة على توحيد الله وطاعته، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} 2. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} 3. وبيّن القرآن الكريم أنَّ من اتقى ربه بفعل الطاعات، وترك المحرمات، وأصلح نفسه، فإنه لا خوف عليه في الآخرة، ولا يصيبه الحزن، قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى

_ 1 سورة محمد الآية: 21. 2 سورة فصلت الآية: 30. 3 سورة الأحقاف الآية: 13.

وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} 1. وقال تعالى: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} 2. وقد امتدح الله تعالى من طهر نفسه من الأخلاق الرذيلة، واتبع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} 3. وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَاوَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} 4.

_ 1 سورة الأعراف الآية: 35. 2 سورة المائدة الآية: 39. 3 سورة الأعلى الآية: 14. 4 سورة الشمس الآيتان: 9-10.

القسم الثاني: في التحذيرات من الرذائل ومن ذلك: 1- تقاليد الجاهلية في الحرث والأنعام: وحول ما كان يزاوله المشركون في شأن الثمار والأنعام، يقول تبارك وتعالى: {وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} 1. والمعنى أن مشركي قريش جعلوا لله مما خلق من الزرع والأنعام نصيباً مما ينفقونه على الفقراء، ولشركائهم نصيباً يصرفونه على سدنتها، فقد روي: "أنهم كانوا يجعلون نصيب الله لقرى الضيفان، وإكرام الصبيان، والتصدق على المساكين، ونصيب آلهتهم لسدنتها وقرابينها، وما ينفق على معابدها"2. وجعلوا لله مما خلق من الزرع والثمار والأنعام جزءاً وقسماً،

_ 1 سورة الأنعام الآية: 136. 2 تفسير المراغي 8/42.

فقالوا: هذا النصيب لله بزعمهم، وهذا النصيب لشركائنا وأصنامنا، وما كان للأصنام فلا يصل إلى الله منه شيء، وما كان من نصيب الله، فهو يصل إلى أصنامهم، فقبح هذا العمل لإيثارهم المخلوق العاجز على الخالق القادر على كل شيء، ولعملهم شيئاً لم يشرعه الله تعالى لهم. قال ابن عباس: "إنّ أعداء الله كانوا إذا حرثوا حرثاً، أو كانت لهم ثمرة، جعلوا لله منه جزءاً وللوثن جزءاً، فما كان من حرث أو ثمرة من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه، وإنْ سقط منه شيء فيما سمي لله ردوه إلى ما جعلوه للوثن، وقالوا إنّ الله غني والأصنام أحوج"1. وقال تعالى: {وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ} 2. وفي هاتين الآيتين الكريمتين بيان لقبائح المشركين وجرائمهم، حيث

_ 1 تفسير الطبري 8/41، وتفسير ابن كثير 1/622 بتصرف. 2 سورة الأنعام الآيتان: 138-139.

خصوا بعض الأنعام والزروع لأوثانهم، ومنعوها على غيرهم، ولا يطعمونها إلا من يريدون بزعمهم الباطل من غير دليل ولا برهان، ومن الأنعام لا يذكرون اسم الله عليها عند الذبح، وإنما يذكرون عليها اسم أصنامهم افتراء على الله وكذباً. ومن قبائحهم أنهم قالوا: ما في بطون هذه الأنعام حلال لذكرونا خاصة، ومحرم على أزواجنا، بمعنى أنه لا يجوز على زعمهم أن تأكل منه أزواجهم، وإن كان المولود منها ميتة، اشترك في أكله الذكور والإناث.. وسيحاسبهم الله تعالى على هذا العمل في التحليل والتحريم، بغير علم. قال تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ

غَفُورٌ رَّحِيمٌ} 1. فهذه الآيات الكريمة هي على شاكلة الآيات السابقة، فيما كان يفعله مشركوا العرب قبل الإسلام من التحليل والتحريم، إذ كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة، وإناثها تارة، وأولادها تارة أخرى، وقد بين الله تعالى كذبهم وافترائهم في نسبة ذلك التحليل والتحريم إلى الله تعالى، كما أخبرهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم عن ما هو حلال، وما هو حرام في كتابه تبارك وتعالى. وكان المشركون يحرمون من أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، ويجعلونها للأوثان، ويزعمون أنّ الله تعالى أمرهم بذلك كذباً وبهتاناً واتباعاً لآبائهم. قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} 2.

_ 1 سورة الأنعام الآيات: 143-145. 2 سورة المائدة الآيتان: 103-104.

والبحيرة هي: الناقة كانت إذا ولدت خمسة أبطن، فكان آخرها ذكراً، بحروا أذنها –أي شقوها- واعفوا ظهرها من الركوب والحمل والذبح، ولا تمنع عن ماء ترده، ولا من مرعى، وإذا لقيها المُعيي المنقطع به لم يركبها1. والسائبة هي: الناقة تسيب في الجاهلية، وذلك أنه إذا قدم الرجل من سفر بعيد، أو برئ من علة، أو نجته دابته من مشقة أو حرب، قال: ناقتي -أي تسيب فلا ينتفع بظهرها، ولا تمنع عن ماء، ولا من كلأ، ولا تركب2. وقال ابن الأثير: "كان الرجل إذا نذر لقدوم من سفر، أو برءٍ من مرض، أو غير ذلك، قال ناقتي سائبة، فلا تمنع من ماء، ولا من مرعى، ولا تحلب، ولا تركب.. وأصله من تسيب الدواب، وهو إرسالها تذهب وتجيء حيث شاءت"3. والوصيلة: قال المفسرون: كانت في الشاء خاصة، كانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم، وإذا ولدت ذكراً جعلوه لآلهتهم، فإذا ولدت ذكراً

_ 1 لسان العرب لابن منظور 4/43، والمفردات للراغب ص: 37، وتفسير ابن كثير 2/117. 2 لسان العرب لابن منظور 1/478، والمفردات للراغب ص: 246، وتفسير الطبري 7/88، وتفسير ابن كثير 2/117. 3 النهاية لابن الأثير 2/431.

وأنثى قالوا وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم.. وهي الشاء التي ولدت سبعة أبطن عناقين عناقين، فإنْ ولدت في السابع عناقاً قيل: وصلت أخاها، فلا يشرب لبن الأم إلا الرجال دون النساء، وتجري مجرى السائبة..1. وقيل: إذا ولدت الشاة ستة أبطن، نظروا فإن كان السابع ذكراً ذبح وأكل منه الرجال والنساء، وإن كانت أنثى تركت في الغنم، وإن كانت أنثى وذكراً قالوا: وصلت أخاها فلم يذبح وكان لحمها حراماً على النساء.."2. والحامي: هو الفحل من الإبل يضرب الضراب المعدود، قيل: عشرة أبطن، فإذا بلغ ذلك قالوا: هذا حام، أي حمى ظهره فيترك فلا ينتفع منه بشيء، ولا يمنع من ماء ولا مرعى3. فلما جاء الإسلام أبطل هذه العادات الجاهلية كلها، فلا بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} ، فيقولون أمرنا بهذا وأكثرهم لا يعقلون إنّ هذا افتراء

_ 1 تفسير الطبري 7/88، وتفسير ابن كثير 2/117، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6/337، والمفردا للراغب ص: 525، واللسان 11/729. 2 اللسان 11/729. 3 اللسان 14/202، وتفسير الطبري 7/88، والمفردات للراغب ص: 133.

وكذب على الله تعالى؛ لأنهم يقلدون في ذلك الآباء والأجداد، ولو كانوا لا يعلمون من الدين شيئاً، ولا يهتدون إلى الحق والصواب. وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} 1. قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم: "نزلت إنكاراً على المشركين فيما كانوا يحلون ويحرمون من البحائر والسوائب والوصائل.."2. والمعنى: أخبروني أيها المشركون الجاهلون عما خلق الله لكم من الرزق الحلال فحرمتم بعضه وحللتم بعضه.. وقد أمركم الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أنْ يقول لكم: {آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ} . قال المراغي: "والخلاصة أنه لا مندوحة لكم من الاعتراف بأحد أمرين:

_ 1 سورة يونس الآيتان: 59-60. 2 تفسير ابن كثير 2/451.

إما دعوى الأذن من الله لكم بالتحريم والتحليل، وذلك اعتراف بالوحي، وأنتم تنكرونه وتزعمون أنه محال. وإما الافتراء على الله، وهو الذي يلزمكم إذا أنكرتم الأول"1. وقد أنكر الله تعالى على هؤلاء المشركين لاتخاذهم شرعاً لم يأمر الله به، فقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 2. وقد نهى الله تعالى المشركين ووبخهم في شأن ما تصفه ألسنتهم من الكذب هذا حلال وهذا حرام، من غير دليل ولا برهان، قال تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} 3. وأخبرهم أنّه سيحاسبهم يوم القيامة على ما ارتكبوا من الكذب والبهتان، قال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللهِ لَتُسْأَلُنَّ

_ 1 تفسير المراغي 11/125. 2 سورة الشورى الآية: 21. 3 سورة النحل الآية: 116.

عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ} 1. ومن هذا يتبيّن لنا أنّ الذي يجعل الحلال حلالاً، والحرام حراماً هو الله سبحانه دون سواه، فما أحله الله؛ فهو الحلال إلى يوم القيامة، لا يملك كائن من كان أن يحرمه، وما حرمه الله تعالى؛ فهو حرام إلى يوم القيامة، لا يملك كائن من كان أن يحله. 2- أحكام الجاهلية: وقد أبطل الله تعالى أحكام الجاهلية المبنية على الظلم والجور، والمستمدة من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعوها من عند أنفسهم، وجعل الحكم كله لله وحده. قال تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 2. روى ابن جرير الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:" قال

_ 1 سورة النحل الآية: 56. 2 سورة المائدة الآيتان: 49-50.

كعب بن أسد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس بعضهم لبعض: اذهبوا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فأتوه فقالوا: يا محمد إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم، وأنا إنْ اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا، وإنّ بيننا وبين قومنا خصومة، فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم ونؤمن لك ونصدقك، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله فيهم: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ} ... إلى قوله: {لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} "1. والآية الكريمة إقرار لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما فعل، وأمر له بالثبات وعدم الانخداع بكلام اليهود، فإنّ أعرضوا عن حكمك بعد تحاكمهم إليك، فاعلم أنّ حكمة الله في ذلك هي أن إرادته تمت على أن يعذبهم ببعض ذنوبهم في الحياة الدنيا قبل الآخرة، لأنّ استثقالهم لأحكام التوراة الموجودة لديهم، وتحاكمهم إليك لعلك تتبع أهواءهم، ومحاولتهم لفتنتك عن بعض ما أنزل الله إليك من القرآن كل هذه أمارات على فساد الأخلاق وانحلال روابط الاجتماع، ولا بدّ أن تكون نتيجتها

_ 1 تفسير ابن جرير 6/273-274. وانظر: أسباب النزول للنيسابوري ص: 113، وتفسير ابن كثير 2/72، والدر المنثور للسيوطي 2/290، والجامع لأحكان القرآن 6/213، وزاد المسير لابن الجوزي 2/49، ولباب النقول في أسباب النزول ص: 92.

وقوع العذاب بهم، وقد حلّ بيهود المدينة وما حولها -بسبب غدرهم- ما حلّ. فقد أجلى النبي صلى الله عليه وسلم بني النضير عنها، وقتل بني قريظة، وقوله: {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} أي: متمردون في الكفر، مصرون عليه، خارجون من الحدود والشرائع التي اختارها الله لعباده. ثم بين تعالى بأنّهم إذا أعرضوا عن حكم النبي صلى الله عليه وسلم، فهل حكم الجاهلية يطلبون، وهو حكم مبني على التحيز والهوى لجانب دون آخر، وترجيح القوي على الضعيف، وإنه لا أحد أحسن حكماً من حكم الله عند قوم يوقنون ويذعنون لشرعه1. المراد بالجاهلية في الآية: والمراد بالجاهلية: إما الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى الموجبة للميل والمداهنة في الأحكام، فيكون تعبيراً لليهود بأنهم مع كونهم أهل كتاب وعلم، يبغون حكم الجاهلية التي هي هوى وجهل، لا يصدر عن كتاب، ولا يرجع إلى وحي. وإما أهل الجاهلية وحكمهم، فهو ما كانوا عليه من التفاضل فيما بين القتلى2.

_ 1 انظر: تفسير المراغي 6/132-133 بتصرف. 2 انظر: تفسير أبي السعود 3/47، والدر المنثور 2/284.

قال الإمام القرطبي: "والمعنى أن الجاهلية كانوا يجعلون حكم الشريف خلاف حكم الوضيع.. وكانت اليهود تقيم الحدود على الضعفاء الفقراء، ولا يقيمونا على الأقوياء الأغنياء، فضارعوا الجاهيلة في هذا الفعل ... "1. ثم يضيف القرطبي صورة أخرى، وهي ما روي عن طاووس قال: "كانوا إذا سألوه عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض، يقرأ هذه الآية: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} ، فكان طاووس يقول: (ليس لأحد أنْ يفضل بعض ولده على بعض، فإن فعل لم ينفذ ونسخ) . واستطرد القرطبي قائلاً: (ثم إنه ينشأ عن ذلك العقوق الذي هو أكبر الكبائر، وذلك محرم، وما يؤدي إلى المحرم فهو ممنوع) ، وقد أورد القرطبي في هذا الصدد بعض الأحاديث والآثار فانظره"2. وفي قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} استفهام إنكاري وتوبيخ لمن يعرضون عن حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، ويبتغون حكم الجاهلية. قال ابن كثير رحمه الله: "ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله

_ 1 الجامع لأحكام القرآن 6/214. 2 المرجع السابق 6/214-215.

المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم"1. ولما كان القصد هو الإيمان بالله تعالى وحده، والكفر بالطاغوت بأنواعه، فقد أنكر الله تعالى على اليهود الذين تركوا هداية كتابهم التوراة، بل وتركوا العقل والفطرة وآمنوا بالجبت من الأوهام والدجل والخرافات، وآمنوا بالطاغوت وهو كل ما عبد من دون الله من الأوثان والأصنام والأشخاص والأهواء وغيرها، ونصروا المشركين على المؤمنين الذين اتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَن يَلْعَنِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} 2. روى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:" لما قدم كعب بن الأشرف مكة، قالت له قريش: أنت حبر أهل المدينة وسيدهم؟ قال:

_ 1 تفسير ابن كثير 2/72. 2 سورة النساء الآيتان: 51-52.

نعم، قالوا: ألا ترى إلى هذا الصنبور1 المنبتر من قومه، يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة، وأهل السقاية؟ قال: أنتم خير منه، قال: فأنزلت: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} 2، وأنزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} إلى قوله: {فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} "3. وعن ابن عباس قال: "كان الذين حزّبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق، وأبو رافع والربيع بن أبي الحقيق وأبو عامر ... وسائرهم من بني النضير"4. ولا شك أنّ البشرية عندما تحيد عن حكم الله وشرعه، تصير إلى حكم الطواغيب، وإلى حكم الجاهلية، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ

_ 1 قال ابن الأثير: "أي أبتر لا عقب له، وأصل الصنبور: سعفة تنبت في جذع النخلة لا في الأرض، أرادوا أنه إذا قلع انقطع ذكره. النهاية 3/55. وقد كذبوا فيما زعموا، ونصر الله رسوله عليهم، وقطع دابرهم. 2 سورة الكوثر الآية: 3. 3 تفسير ابن جرير 5/133، والدر المنثور للسيوطي 2/171، وزاد في نسبته لأحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم، وإسناده صحيح. انظر: زاد المسير لابن الجوزي 2/106 الهامش. 4 تفسير ابن كثير 1/545.

أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا} 1. قال ابن كثير: "ذكر في سبب نزول الآية: أنها في رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخاصما، فجعل اليهودي يقول بيني وبينك محمد، وذاك يقول: بيني وبينك كعب بن الأشرف، وقيل في جماعة من المنافقين ممن أظهروا الإسلام، أرادوا أن يتحاكموا إلى أحكام الجاهلية، وقيل غير ذلك"2. والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة، وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت هنا. وروى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه" 3. ومن هذا يتبين لنا أن من ترك الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى

_ 1 سورة النساء الآية: 60. 2 تفسير ابن كثير 1/551. 3 صحيح البخاري بشرح الفتح 12/210، كتاب الديات، باب من طلب دم امرئ بغير حق.

الله عليه وسلم وحكم بقوانين وضعها البشر، أو بأعراف الأسلاف، أو تقليد الآباء والأجداد، مع المخالفة للشريعة الإسلامية، معتقداً بأفضلية تلك الأحكام على حكم الإسلام، فقد حكم بغير ما أنزل الله، وبالتالي فقد عبد غير الله؛ لأن الحكم في أمر العبادة والدين هو لله وحده، كما قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} 1. هذا وقد استحدث كثير من المسلمين اليوم من الشرائع والقوانين، مثل ما استحدث الذين من قبلهم، وتركوا الحكم بما أنزل الله عليهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله. 3- وأد البنات2: ومن العادات الجاهلية التي أبطلها الإسلام قتل الأولاد، ووأد البنات، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ

_ 1 سورة يوسف الآية: 40. 2 وأد ابنته يئدها وأداً: دفنها في القبر وهي حية، أنشد ابن الأعرابي: ما لقي المؤود من ظلم أمهكما لقيت ذهل جميعاً وعامر أراد من ظلم أمه إياه بالوأد. تهذيب اللغة 14/243، ولسان العرب 3/442، والنهاية لابن الأثير 5/143، ومختار الصحاح للرازي ص: 705.

لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاء اللهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} 1. وهذه الأعمال التي زينتها الشياطين التي توسوس لهم، ترجع لأحد وجوه ثلاثة2: الوجه الأول: اتقاء الفقر الواقع أو المتوقع، فالأول هو ما بينه الله تعالى بقوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} 3. والثاني: ما بينه بقوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا} 4. الوجه الثاني: اتقاء العار، وهو خاص بوأد البنات –أي دفنهن حيات- خشية أن يكن سبباً للعار إذا كبرن، فهم يصورون البنت لوالدها الجبار العاتي، ترتكب الفاحشة أو تقترن بزوج دونه في الشرف والكرامة، فتلحقه الخسة، أو تُسْبى في القتال. الوجه الثالث: التدين بنحر الأولاد للآلهة تقرباً إليها، بنذر أو بغير نذر، وكان الرجل ينذر في الجاهلية لئن ولد له كذا غلاماً لينحرنّ

_ 1 سورة الأنعام الآية: 137. 2 انظر: تفسير المنار لمحمد رشيد رضا 8/124. 3 سورة الأنعام الآية: 151. 4 سورة الإسراء الآية: 31.

أحدهم، كما حلف عبد المطلب بن هشام لئن ولد له عشرة نفر لينحرن أحدهم لله عند الكعبة، وضربت الأقداح فخر القدح على عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه فداه بذبح مائة من الإبل1. ولولا الشرك الخبيث وتزيين الشياطين للقوم، لما راجت هذه الوسوسة عندهم، قال تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاء عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} 2. لقد خسروا بقتل أولادهم وبوأد بناتهم خسراناً عظيماً، قال صاحب المنار: "وذلك أن خسران الأولاد يستلزم خسران كل ما يرجى من فوائدهم من العزة والنصرة والبر والصلة، والفخر والزينة والسرور، كما يستلزم خسران الوالد القاتل لعاطفة الأبوة ورأفتها، وما يتبع ذلك من القسوة والغلظة والشراسة، وغير ذلك من مساوئ الأخلاق التي يضيق بها العيش في الدنيا، ويترتب عليها العقاب في الآخرة"3. ولذلك علل سبحانه هذا الجرم بسفه النفس، وهو اضطرابها

_ 1 للاستزادة انظر: سيرة ابن هشام 1/151-155، وزاد المسير لابن الجوزي 3/130، وبلوغ الأرب للألوسي 3/46-49. 2 سورة الأنعام الآية: 140. 3 تفسير المنار لمحمد رشيد رضا 8/131.

وحماقتها، وبالجهل أي: عدم العلم بما ينفع ويضر.. فهذه الأعمال أقبح ما كانت عليه العرب من غواية الشرك. قال قتادة: "هذا صنيع أهل الجاهلية، كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السباء والفاقة، ويغذو كلبه"1. وقد فشا وأد البنات بين القبائل العربية، وخاصة بني تميم، وقد قيل أنّ رجلاً واحداً اسمه قيس بن عاصم، وأد بضع عشرة من بناته في الجاهلية2. وروي أنّ أول قبيلة وأدت من العرب ربيعة، حيث أن بنتا لأمير لهم وقعت أسيرة في أيدي قبيلة أغارت عليها، فلما عقد الصلح، لم تشأ البنت العودة إلى بيت أبيها، واختارت بيت آسرها، فغضب وسن لقومه الوأد، وقلدته بقية العرب. ويذكر أن الوأد كان مستعملاً في قبائل العرب قاطبة فكان يستعمله واحد، ويتركه عشرة، فجاء الإسلام، وقد قل ذلك فيها إلا من بني تميم، فإنهم تزايد فيهم ذلك قبيل الإسلام3.

_ 1 تفسير الطبري 8/51. 2 بلوغ الأرب للألوسي 3/43. 3 بلوغ الأرب للألوسي 3/42-43، وتاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي 5/299.

وقد شنع القرآن الكريم على الذين يئدون البنات، وقبح فعلهم المبني على الظلم والجور والجهل، قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} 1. وقال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} 2. قال صاحب التسهيل: "الموؤدة هي البنت التي كان بعض العرب يدفنها حية، من كراهته لها أو غيرته عليها، فتسأل يوم القيامة بأي ذنب قتلت؟ على وجه التوبيخ"3. وكان من الأمور الهامة التي بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها النساء، عدم قتل أولادهن، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ

_ 1 سورة النحل الآيتان 58-59. 2 سورة التكوير الآيتان: 8-9. 3 التسهيل لعلوم التنزيل لابن الكلبي 4/346.

فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} 1. وثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ} 2 الآية"3. 4- الزنا: ولما كان الزنا من الفواحش الشائعة في الجاهلية، فقد جاء الإسلام يحذر منه أشذ الحذر؛ لأنه لا يمكن قيام أسرة ولا قيام مجتمع، في وحل

_ 1 سورة الممتحنة الآية: 12. 2 سورة الفرقان الآية: 68. 3 صحيح البخاري بشرح الفتح 8/163، كتاب التفسير، باب قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ومسلم 1/90 كتاب الإيمان، باب الشرك أقبح الذنوب ... حديث رقم: 141-142.

الفواحش ما ظهر منها وما بطن. قال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} 1. ذكر الطبري في تفسيرها عن السدي: "أما ما ظهر منها: فزواني الحوانيت، وأما ما بطن: فما خفي". وعن ابن عباس قال: "كانوا في الجاهلية لا يرون بالزنا بأساً في السر، ويستقبحونه في العلانية، فحرّم الله الزنا في السر والعلانية"2. وقال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} 3. ومعنى قوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى} أي: ابتعدوا ولا تدنوا من الزنا، وهو أبلغ من قوله: "لا تزنوا"، لأنه يفيد النهي عن مقدمات الزنا كاللمس، والنظرة، والقبلة والغمز وغير ذلك مما يجر إلى الزنا. والقرآن الكريم يحذر من مجرد مقاربة الزنا، لأن الزنا تدفع إليه شهوة عنيفة، فالتحرز من المقاربة أضمن، فعند المقاربة من أسبابه لا يكون هناك ضمان، ومن ثم يغلق الإسلام الطريق على أسبابه الدافعة إليه،

_ 1 سورة الأنعام الآية: 151. 2 تفسير ابن جرير الطبري 8/83. وانظر: زاد المسير لابن الجوزي 3/148، وروح المعاني للألوسي 8/54. 3 سورة الإسراء الآية: 32.

توقياً للوقوع فيه. يحرم الاختلاط، ويحرم الخلوة، وينهى عن التبرج بالزينة، ويحض على الزواج لمن استطاع، ويوصي بالصوم لمن لا يستطيع، ويمنع الحواجز التي تقف في طريق الزواج؛ كالمغالاة في المهور، وينفي الخوف من العيلة والإملاق بسبب الأولاد، ويحض على مساعدة من يبتغون الزواج ليحصنوا أنفسهم، ويوقع أشد العقوبة على الجريمة حيث تقع، وعلى رمي المحصنات الغافلات دون برهان ... إلى آخر وسائل الوقاية والعلاج، ليحفظ الأسرة المسلمة من التردي والانحلال"1. وقال تعالى: {وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ} 2. ذكر ابن كثير عن مجاهد: أي: المعصية في السر والعلانية. وفي روايته عنه: هو ما ينوي مما هو عامل. وعن قتادة: أي سره وعلانيته قليله وكثيره. وقال السدي: ظاهره الزنا مع البغايا ذوات الرايات، وباطنه الزنا مع الخليلة والصدائق والأخدان.

_ 1 انظر: في ظلال القرآن لسيد قطب 5/322 بتصرف. 2 سورة الأنعام الآية: 120.

وقال عكرمة: ظاهره نكاح ذوات المحارم1. ثم قال ابن كثير: "والصحيح أن الآية عامة في ذلك كله"2. وكان من شروط مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء في العقبة، عدم الزنا.... قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} 3. وقد رغب الإسلام في الزواج الشرعي بصور متعددة، فذكره تارة بأنه من سنن الأنبياء، وهدى المرسلين، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} 4.

_ 1 تفسير ابن كثير 2/182. وانظر: تفسير الطبري 8/13-14. 2 تفسير ابن كثير 2/182. 3 سورة الممتحنة الآية: 12. 4 سورة الرعد الآية: 38.

وذكره تارة في معرض الامتنان: {وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} 1. ويلفت القرآن الكريم نظر المرء إلى أنّ الله تعالى سيجعل الزواج سبيلاً إلى الغنى، قال تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى2 مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 3. ومن سمو الإسلام أنه شرع العقوبة الزاجرة لرذيلة الزنا: مائة جلدة للبكر، قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} 4. أو الرجم للمحصن، كما ورد في السنة الصحيحة من ذلك ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أتى رجل من المسلمين

_ 1 سورة النحل الآية: 72. 2 الأيامى جمع أيم، وهم الذين لا أزواج لهم من الرجال والنساء. لسان العرب 12/39، والمفردات في غريب القرآن للأصفهاني ص: 32. 3 سورة النور الآية: 32. 4 سورة النور الآية: 2.

رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو في المسجد- فناداه، فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأعرض عنه فتنحى تلقاء وجهه، فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأعرض عنه، حتى ثنى عليه ذلك عليه أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبك جنون؟ قال: لا، قال: فهل أحصنت؟ قال: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهبوا به فارجموه" 1. 5- التبرج: ومن الأمور التي حذّر الإسلام منها تبرج النساء، بإظهار الزينة والمحاسن للرجال الأجانب، لأنّ ذلك من أعمال الجاهلية التي جاء الإسلام بإبطالها. قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ

_ 1 صحيح البخاري بشرح الفتح 9/389 كتاب النكاح، باب الطلاق في الإغلاق والكره ... وصحيح مسلم 3/1318 كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا، حديث رقم: 16.

الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} 1. والتبرج في اللغة: يقال ثوب مبرج صورت عليه بروج فاعتبر حسنه، فقيل تبرجت المرأة، أي تشبهت به في إظهار المحاسن، وقيل: ظهرت من برجها، أي: قصرها2. والتبرج: إظهار المرأة زينتها ومحاسنها للرجال3. قال مجاهد: "كانت المرأة تخرج تمشي بين الرجال، فذلك تبرج الجاهلية"4. وقال قتادة: "وكانت لها مشية تكسر وتغنج، فنهى الله تعالى عن ذلك"5. وقال مقاتل بن حيان: "والتبرج إنها تُلقي الخمار على رأسها، ولا تشده، فيداري قلائدها، وقرطها وعنقها، ويبدوا ذلك كله"6. وفسّر الإمام القرطبي حقيقة التبرج بأنه: "إظهار ما ستره أحسن،

_ 1 سورة الأحزاب الآية: 33. 2 المفردات للراغب ص: 41. 3 اللسان 2/212. وانظر: مختار الصحاح للرازي ص: 46. 4 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 14/180، وتفسير ابن كثير 3/503. 5 الطبري 22/4، وتفسير ابن كثير 3/503. 6 تفسير ابن كثير 3/503.

وهو مأخوذ من السعة، يقال في أسنانه برج إذا كانت متفرقة. وهو أيضاً التكشف والظهور للعيون بغير حائل يستر. وقيل: إنّ المرأة كانت تلبي الدرع من اللؤلؤ غير مخيط، وتلبس الثياب الرقاق ولا تواري بدنها"1 ا.?. واختلف الناس في الجاهلية الأولى2، فقيل: هي الزمن الذي ولد فيه إبراهيم عليه السلام، وقيل ما بين آدم ونوح، وهي ثمانمائة سنة، وقيل: ما بين نوح وإدريس، وقيل: ما بين نوح وإبراهيم، وقيل: ما بين موسى وعيسى، وقيل: ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم.. وقال العباس المبرد: والجاهلية الأولى كما تقول: الجاهلية الجهلاء، قال وكان الناس في الجاهلية الجهلاء يظهرون ما يقبح إظهاره. ويشاركه في الرأي ابن عطية، إذ قال: "والذي يظهر عندي أنه أشار للجاهلية التي لحقنها، فأمر بالنقلة عن سيرتهن فيها، وهي ما كانت قبل الشرع من سيرة الكفرة، وكان النساء دون حجاب، وجعلها أولى بالنسبة إلى ما كن عليه، وليس المعنى أنّ ثم جاهلية أخرى، وقد أوقع اسم الجاهلية على تلك المدة التي قبل الإسلام، فقالوا: جاهلي في الشعراء، وقال ابن عباس في البخاري سمعت أبي في الجاهلية يقول غير هذا.

_ 1 الجامع لأحكام القرآن 14/179-180. 2 المرجع السابق.

ويؤيد القرطبي هذا الرأي بتحفظ، حيث قال: "قلت: وهذا قول حسن". ويعترض بأنّ العرب كانت أهل قشف وضنك في الغالب، وأنّ التنعم وإظهار الزينة إنما جرى في الأزمان السابقة، وهي المراد بالجاهلية الأولى. وأن المقصود من الآية مخالفة من قبلهن من المشية على تدلل وتكسر، وإظهار المحاسن للرجال، إلى غير ذلك مما لا يجوز شرعاً، وذلك يشمل الأقوال كلها "1ا.? ولا شك أن الدين الإسلامي أنكر التبرج الذي كان سائداً بين نساء العرب، ومنعه بالأوامر والتوجيهات التي جاء بها القرآن الكريم، فاسمع إلى خطاب الله تعالى إلى زوجات وبنات النبي صلى الله عليه وسلم ونساء المؤمنين بإدناء الجلابيب، كي لا يتعرض لهن فاسق بأذى، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} 2. ومن هنا يتبين لنا أنّ القرآن الكريم نهى عن التبرج والسفور، ليطهر

_ 1 المرجع السابق. 2 سورة الأحزاب الآية: 59.

المجتمع الإسلامي من آثار الجاهلية، ويبعده عن عوامل الفتنة ودواعي الغواية. وفي مقابل نهي الإسلام للنساء عن عادات الجاهلية الشريرة، أمرهن بالخير والبر، من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وطاعة الله ورسوله في جميع الأوامر والنواهي؛ لينلن الخير والفلاح. 6- الإكراه على البغاء: ومن العادات الجاهلية التي قضى عليها الإسلام، ما كان يفعله بعض الجاهليين من إكراه إمائهم على الزنا من أجل أخذ عرض من أعراض الدنيا، قال تعالى: {وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} 1. وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "كان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة، أرسلها تزني وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كل وقت، فلما جاء الإسلام نهى الله المؤمنين عن ذلك، وكان سبب نزول هذه الآية الكريمة فيما ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف في شأن عبد الله بن أبي بن سلول، فإنّه كان له إماء، فكان يكرههن على البغاء

_ 1 سورة النور الآية: 33.

طلباً لخراجهن، ورغبة في أولادهن، ورياسة منه فيما يزعم"1. وذكر المفسرون: أنّ عبد الله بن أبي كانت له ست جوار يكرههن على الزنا، وضرب عليهم ضرائب، فشكت اثنتان منهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية، وفيه من زيادة تقبيح حالهم وتشنيعهم على ما كانوا عليه من القبائح ما لا يخفى، فإنّ من له أدنى مروءة لا يرضى بفجور من يحويه حرمة من إمائه، فضلاً عن أمرهن به، أو إكراههن عليه، لا سيما عند إرادتهن التعفف2. وقوله: {لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، أي: من أجل أن تحصلوا على حطام الدنيا الزائل بطريق الرذيلة والفاحشة، وقد "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن" 3. وقوله: {وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، أي: ومن يجبرهن على ارتكاب فاحشة الزنا، فإنّ الله غفور لهن رحيم بهن، وسينتقم الله ممن أكرههن على الزنا شر انتقام.

_ 1 تفسير ابن كثير 3/302. 2 انظر: الفخر الرازي 23/220، وتفسير أبي السعود 6/173. 3 صحيح البخاري بشرح الفتح 4/426 كتاب البيوع، باب ثمن الكلب. ومسلم 3/1198 كتاب المساقاة، باب تحريم ثمن الكلب وحلوان الكاهن ومهر البغي. وتقدم ص: 650.

7- أكلهم للميتة والدم وما أهل به لغير الله والمنخنقة.. الخ وأكل الجاهليون الخبائث، كالميتة والدم، وما ذبح للأصنام، فذكر عليه غير اسم الله تعالى، كقولهم باسم اللات والعزى ونحو ذلك. ولهذا جاء الإسلام الحنيف بتحريم هذه الخبائث للأضرار الناتجة عنها دينياً ودنيوياً. قال تعالى في سورة البقرة: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} 1. ومثل ذلك في سورة النحل2: والميتة هي كل ما أُزهق روحه من الحيوان بغير تذكية3، وحرمت لأنّ الحيوان إذا مات حتف أنفه احتبس الدم في عروقه، وتعفن وفسد، وحصل من أكله من مضار عظيمة4. ويستثنى من الميتة السمك، فإنه حلال، سواء مات بتذكية أو غيرها، لما رواه أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ماء

_ 1 سورة البقرة الآية: 173. 2 النحل الآية: 115. 3 المفردات للراغب ص: 277. 4 انظر التفسير الكبير للفخر الرازي 11/132.

البحر؟ فقال: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته" 1. وكذلك الجراد لما في الصحيحين من حديث أبي أوفى قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد2. وحرم "الدم"، والمراد به الدّم المسفوح. قال ابن كثير: "وذلك أنّ أحدهم كان إذا جاع يأخذ شيئاً محدداً من عظم ونحوه، فيعضد به بعيره أو حيواناً من أي صنف كان، فيجمع ما يخرج منه من الدم فيشربه، ولهذا حرم الله الدم على هذه الأمة"3. وحرم "لحم الخنزير" أنسيه ووحشيه، وجميع أجزائه حتى الشحم4، وذلك للأضرار الناتجة عن أكله صحياً وأخلاقياً.

_ 1 سنن أبي داود 1/64 كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر حديث: 83. والترمذي 1/101 كتاب الطهارة، باب ما جاء في البحر أنه طهور، وقال: هذا حديث حسن صحيح. والنسائي 1/50 كتاب الجهارة، باب ماء البحر. وابن ماجه 1/136 كتاب الطهارةن باب الوضوء بماء البحر. وموطأ الإمام مالك 1/22 كتاب الطهارة، باب الطهور للوضوء حديث رقم: 12. وأحمد 2/237، والحاكم في المستدرك 1/140-141. 2 صحيح البخاري بشرح الفتح 9/620 كتاب الذبائح والصيد، باب أكل الجراد. ومسلم 3/1546 كتاب الصيد والذبائح، باب إباحة الجراد حديث رقم: 52. 3 تفسير ابن كثير 2/8. 4 المرجع السابق والصفحة.

وقد أثبت العلم الحديث أن في لحمه ودمه وأمعائه دودة شديدة الخطورة "الدودة الشريطية وبويضاتها المكتسبة". يقول سيد قطب: "ولما كان هذا الاكتشاف قد احتاج إلى قرون طويلة ليكتشف آفة واحدة، فمن ذا الذي يجزم بأن ليس هناك آفات أخرى من لحم الخنزير لم يكشف بعد عنها؟ "1. فسبحان الحكيم العالم بما يصلح لخلقه وما يضرهم. وأما {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} فهو ما ذكر عليه غير اسم الله، أو ذبح لغير الله، كقولهم باسم اللات والعزى2، ونحو ذلك. أما من ألجأته ضرورة إلى أكل شيء من المحرمات، بشرط ألا يكون متجاوزاً مقدار الحاجة، أو خارجاً في معصية الله، فإنّ له أن يتناول هذه المحرمات بقدر حاجته، فالله غفور رحيم بعباده، ومن رحمته أنْ أباح لهم هذه المحرمات عند الضرورة. وقال تعالى في سورة المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ

_ 1 في ظلال القرآن 1/221 بتصرف. 2 تفسير الطبري 6/68، وتفسير ابن كثير: 2/8.

إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ... } 1. قال صاحب الكشاف: "كان أهل الجاهلية يأكلون هذه المحرمات: البهيمة التي تموت حتف أنفها، والفصيد وهو الدم في الأمعاء، يشوونه ويقولون لم يحرم من فزد -أي فَصَدَ له ... "2. وقد سبق بيان معنى الميتة والدم وما أهل لغير الله به في الكلام عن آية البقرة السابقة. وأما {الْمُنْخَنِقَةُ} فهي التي تموت بالخنق3. {وَالْمَوْقُوذَةُ} هي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدد، كالعصا والحجر. قال ابن عباس وغيره: "هي التي تضرب بالخشبة حتى يقذها فتموت". وقال قتادة: "كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصا، حتى إذا ماتت

_ 1 سورة المائدة الآية: 3. 2 الكشاف للزمخشري 1/592. 3 تفسير الطبري 2/68، وتفسير ابن كثير 2/9.

أكلوها"1. وفي الصحيح أن عدي ابن حاتم قال: قلت يا رسول الله: إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب، قال: "إذا رميت بالمعراض فخرق فكله، وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله" 2. وأما {الْمُتَرَدِّيَةُ} فهي التي تقع من شاهق، أو موضع عال، فتموت بذلك. قال ابن عباس: "المتردية التي تسقط من جبل". وقال قتادة: "هي التي تتردى في بئر". وقال السدي: "هي التي تقع من جبل أو تتردى في بئر"3. وأما {َالنَّطِيحَةُ} فهي التي ماتت بسبب نطح غيرها لها4، فتموت قبل أن تذكى. {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ} ، هي في الحقيقة من جنس

_ 1 تفسير الطبري 6/69، وتفسير ابن كثير 2/9. 2 صحيح البخاري بشرح الفتح 4/292 كتاب البيوع، باب تفسير الشبهات. وأخرجه أيضاً في 9/604 كتاب الذبائح والصيد، باب ما أصاب المعراض بعرضه. 3 انظر هذه الأقوال في: تفسير الطبري 6/70، وتفسير ابن كثير 2/11. 4 تفسير الطبري 6/70، وتفسير ابن كثير 2/11، والمفردات للراغب ص: 496.

الميتة؛ لأنّ كل واحدة منها ماتت ولم يسل دمها، فكانت كالميتة حتف أنفها1. وأما {مَا أَكَلَ السَّبُعُ} فهي ما عدا عليها سبع من السباع، فأكل بعضها فماتت بذلك. وكان أهل الجاهلية يأكلون ما أفضل السبع من الشاة، أو البعير، أو البقرة، أو نحو ذلك2. وأما قوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} ، قال الزمخشري: "كانت لهم حجارة منصوبة حول البيت، يذبحون عليها، ويشرّحون اللحم عليها، يعظمونها بذلك ويتقربون به إليها تسمى الأنصاب. قال الأعشى: وذا النصب المنصوب لا تعبدنه ... لعاقبة والله ربك فاعبدا3 قال ابن كثير: "فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع، وحرم عليهم أكل هذه الذبائح، حتى ولو كان يذكر عليه اسم الله، لما في الذبح عند النصب من الشرك الذي حرمه الله ورسوله"4 ا.?

_ 1 انظر: الفخر الرازي 11/133. 2 تفسير الطبري 6/72، وتفسير ابن كثير 2/11. 3 الكشاف 1/593. 4 تفسير ابن كثير 2/12.

وقوله: {وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ} ، قال الأزهري: "معنى الاستقسام: هو طلب معرفة ما قسم له من الخير والشر، مما لم يقسم له بواسطة ضرب القداح"1. وقال عن الأزلام: "والأزلام كانت لقريش في الجاهلية، مكتوب عليها أمر ونهي وافعل ولا تفعل، وقد زلمت وسويت ووضعت في الكعبة، يقوم بها سدنة البيت، فإذا أراد رجل سفراً أو نكاحاً أتى السادان فقال: اخرج لي زلماً، فيخرجه وينظر إليه فإذا خرج قدح الأمر مضى على ما عزم عليه، وإنْ خرج قدح النهي قعد عما أراده، وربما كان مع الرجل زلمان، وضعهما في قرابه، فإذا أراد الاستقسام أخرج أحدهما، قال الحطيئة يمدح أبا موسى الأشعري: يجز الطير إنْ مرت به سنحاً ... ولا يفيض على قسم بالأزلام2 وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما "أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الصور في البيت، لم يدخل حتى أمر بها فمحيت، ورأى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بأيديهما الأزلام، فقال: قاتلهم

_ 1 تهذيب اللغة 3/218، واللسان 12/270. 2 تهذيب اللغة 8/420، واللسان 12/270.

الله، والله إن استقْسما بالأزلام قط" 1. وفي صحيح البخاري أيضاً أن سراقة بن مالك بن جعشم لما خرج في طلب النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وهما ذاهبان إلى المدينة مهاجرين، قال: فاستقسمت بالأزلام هل أضرهم أم لا، فخرج الذي أكره لا تضرهم، قال: فعصيت الأزلام، واتبعتهم، ثم إنه استقسم بها ثانية، وثالثة، كل ذلك يخرج الذي يكره لا تضرهم، وكان كذلك، وكان سراقة لم يسلم إذ ذاك، ثم أسلم بعد ذلك2. وقال مجاهد عن الأزلام: هي سهام العرب، وكعاب فارس والروم كانوا يتقامرون. ويعلق ابن كثير على قول مجاهد، فيقول: "وهذا الذي ذكر عن مجاهد في الأزلام أنها موضوعة للقمار فيه نظر، اللهم إلا أن يقال إنهم كانوا يستعملونها في الاستخارة تارة وفي القمار أخرى، والله أعلم فإنّ الله

_ 1 صحيح البخاري بشرح الفتح 6/387 كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلا} . 2 صحيح البخاري بشرح الفتح 7/238 كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.

سبحانه قد قرن بينها وبين القمار، وهو الميسر، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 1"2. 8- الخمر: الخمر في اللغة: أصل الخمر ستر الشيء، ومنه خمار المرأة، قال تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} 3. وخمرت الإناء غطيته، وأخمرت العجين جعلت فيه الخمير، والخميرة سميت لكونها مخمورة من قبل، ومنه قولهم: دخل في خمار الناس، أي في جماعتهم الساترة لهم، والخمر سميت لكونها خامرة لمقر العقل4. جاء في اللسان: سميت الخمر خمراً لأنها تركت فاختمرت، واختمارها تغير ريحها، ويقال سميت بذلك لمخامرتها العقل5.

_ 1 سورة المائدة الآية: 90. 2 تفسير ابن كثير 2/13. 3 سورة النور الآية: 31. 4 المفردات للأصفهاني ص: 159. 5 اللسان 4/255.

ويطلق الخمر على الشجر الملتف1. ومن هذا يتبين لنا أن كلمة "الخمر" تدور حول الستر، والتغطية والمخالطة، والترك وتغير الرائحة، وهي تستر عقل شاربها وتحجبه، ومن ثم يصير شاربها مستور العقل، ويتصرف بلا وعي ولا شعور. أما الخمر في الشرع فهي: كل ما من شأنه أنْ يسكر يعتبر خمراً، ولا عبرة بالمادة التي أخذت منه، فما كان مسكراً من أي نوع من الأنواع فهو خمر شرعاً، ويأخذ حكمه، ويستوي في ذلك ما كان من العنب أو التمر أو العسل أو الحنطة أو الشعير، وما كان على شكل حبوب أو سوائل أو فواكه وغيرها. وقد كان حب الخمر من عادات العرب التي تغلغلت في نفوسهم ودأبوا عليها، حتى خالط قلوبهم حبها. فلما جاء الإسلام الحنيف، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويهديهم سبل السلام وطرق الخير، بغرس المبادئ السامية في الإنسان، حيث جعله لا يعبد إلا الله ولا يؤمن إلا به.. جاء يحرّم الخمر -أم الخبائث- على الناس، وذلك لما تجلبه من أضرار سيئة في النفس والبدن والخلقة على الفرد والجماعة. ونظراً لتغلغل حب الخمر في نفوس الجاهليين، فقد كان تحريمها على

_ 1 النهاية لابن الأثير 2/77.

خطوات: الخطوة الأولى: لما كثر سؤال المسلمين عنها، وعن لعب الميسر، لِمَا كانوا يرونه من شرورهما ومفاسدهما، أنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} 1. والميسر: القمار، يقال: يَسَرَ الرجلُ يَيْسِرُ، فهو يسر وياسر، والجمع أيسار2. قال مجاهد: "كل القمار من الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز"3. ومعنى الآية الكريمة: يسألونك يا محمد عن حكم الخمر وحكم القمار، فقل لهما إنّ في تعاطيهما ضرراً عظيماً وإثماً كبيراً، ومنافع مادية ضئيلة، لأنّ ضياع العقل وذهاب المال، وتعريض البدن للمرض في الخمر وما يسببه القمار من خراب البيوت، ودمار الأسر، وحدوث العداوة والبغضاء بين اللاعبين لا يساوي ما فيهما من نفع قليل تافه. ومن هذه الآية يتبين لنا أنّ الإثم أرجح من المنافع في الخمر والميسر،

_ 1 سورة البقرة الآية: 219. 2 النهاية لابن الأثير 5/296. 3 تفسير الطبري 2/357. وانظر: النهاية لابن الأثير 5/296.

وفي هذا ترجيح لجانب التحريم، ولكنه ليس تحريماً قاطعاً. ثم تأتي الخطوة الثانية في تحريم الخمر أثناء الصلاة، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} 1. وقد ذكر في سبب نزولها: أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاماً وشراباً، فدعا نفراً من الصحابة رضوان الله عليهم، فأكلوا وشربوا حتى ثملوا، فلما جاء وقت صلاة المغرب، قدموا أحدهم ليصلي بهم، فقرأ: {قل يا أيها الكافرون. لا أعبد ما تعبدون. وأنتم عابدون ما أعبد} من سورة الكافرون، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ} 2. وبعد أن تهيأ المسلمون لقبول حكم الله في الخمر، جاءت الخطوة الأخيرة، والقاضية بتحريم الخمر والميسر، تحريماً صريحاً، في كل وقت وحين. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ

_ 1 سورة النساء الآية: 43. 2 انظر: تفسير الطبري 5/95، وتفسير ابن كثير 1/530.

رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} 1. روى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي عن عمر أنه قال: -لما نزل تحريم الخمر- قال اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في البقرة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الآية، فدعى عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى} ، فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى أن: لا يقربن الصلاة سكران، فدعى عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في المائدة، فدعى عمر فقرئت عليه، فلما بلغ: {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} ، قال عمر: انتهينا انتهينا2.

_ 1 سورة المائدة الآية: 90-91. 2 المسند 1/53. وسنن أبي داود 4/78 كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر، حديث 3669. وسنن الترمذي 5/253-254 كتاب التفسير، سورة المائدة، وقال: وقد روي عن إسرائيل هذا الحديث مرسلاً.

قال القفال: "والحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب، أنّ الله تعالى علم أنّ القوم كانوا ألفوا شرب الخمر، وكان انتفاعهم بها كثيراً، فعلم الله أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق عليهم، فلا جرم استعمل في التحريم هذا التدرج وهذا الرفق"1. 9- الربا: الربا لغة: الزيادة، يقال: ربا المال يربو ربواً، إذا زاد وارتفع2. وهو في الشرع: الزيادة على أصل المال من غير عقد تبائع3. وقد كان هذا الوباء منتشراً في الجاهلية إنتشاراً واسعاً، ولا ريب أنّ لليهود الذين سكنوا الجزيرة العربية اليد الطولى في انتشار هذا الداء بينهم، فاليهود هم الذين {قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} 4. والربا قسمان5: 1-ربا النسيئة. 2-وربا الفضل.

_ 1 التفسير الكبير للفخر الرازي 6/40. 2 انظر: النهاية لابن الأثير 2/191، والمفردات للأصفهاني ص: 187. 3 النهاية لابن الأثير 2/19. 4 سورة آل عمران الآية: 75. 5 انظر فقه السنة لسيد سابق 3/135.

وربا النسيئة (التأجيل) هو الزيادة المشروطة التي يأخذها الدائن من المدين نظير التأجيل. وربا الفضل وهو بيع النقود بالنقود، أو الطعام بالطعام مع الزيادة. وبالنظر إلى الآيات الواردة في الربا، نجد أنّ القرآن الكريم قد تعرض لهذا الداء الوبيل في أربعة مواضع: ففي المرحلة الأولى يقول تعالى: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} 1. والآية الكريمة كما تبين أنّ الربا ليس له ثواب عند الله، فهي كذلك لم تذكر أنّ الله قد أجل لآكله عقاباً، كما تبين الآية أنّ ما أخذه المرابي من المحتاج عن طريق الاستغلال ليزيد به في ماله بلا مقابل، فإنّ ماله لن يزيد عند الله تعالى. أما المرحلة الثانية: فقد كانت درساً وعبرة قصها علينا القرآن الكريم عن سيرة اليهود الذين حرّم عليهم الربا، فأكلوه، وعاقبهم الله بمعصيته، قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ

_ 1 سورة الروم الآية: 39.

وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} 1. وواضح أنّ هذه العبرة لا تقع موقعها إلاّ إذا كان من ورائها ضرب من تحريم الربا على المسلمين، ولكنه حتى الآن تحريم بالتلويح والتعريض لا بالنص الصريح، ومهما يكن من أمر، فإنّ هذا الأسلوب كان من شأنه أن يدع المسلمين في موقف ترقب وانتظار لنهي يوجه إليهم قصداً في هذا الأمر. ثم تأتي المرحلة الثالثة: تحمل النهي الصريح عن الربا، ولكنه لم يكن إلاّ نهياً جزئياً عن الربا الفاحش، الذي يتزايد حتى يصير أضعافاً مضاعفة2. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 3. قال ابن جرير: "إنّ الرجل كان يكون له على الرجل مال إلى أجل، فإذا حل الأجل طلبه من صاحبه فيقول الذي عليه المال: أخر عني دينك وأزيدك على مالك، فيفعلان ذلك، فذلك هو الربا أضعافاً مضاعفة،

_ 1 سورة النساء الآيتان: 160-161. 2 انظر: تفسير المراغي 3/60. 3 سورة آل عمران الآية: 130.

فنهاهم الله عز وجل في إسلامهم عنه"1. وفي النداء للمؤمنين بهذا الوصف، دليل على أنّ الإيمان يتنافى مبدئياً مع أكل الربا الذي لا يكون إلا مع الجشع والظلم واستغلال المحتاجين، والإيمان إنّما يكوِّن مجتمعاً نظيفاً سليماً يبني معاملاته كلها على التراحم والتعاون على الخير. وأخيراً تأتي المرحلة الرابعة، والتي ختم بها التشريع في الربا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} 2. والنص الكريم يعلق إيمان الذين آمنوا على ترك ما بقي من الربا، فإنه لا إيمان بغير طاعة وانقياد لما أمر الله به، والنص القرآني لا يدعهم في شبهة من الأمر، ولا يدع إنساناً يتستر وراء كلمة الإيمان، بينما هو لا يطيع ولا يرتضي ما شرع الله، ولا ينفذه في حياته، ولا يحكمه في معاملاته. ولقد ترك لهم ما سلف من الربا لم يقرر استرداده منهم، ولا

_ 1 تفسير ابن جرير الطبري 4/90. 2 سورة البقرة الآيتان: 278-279.

مصادرة أموالهم كلها، أو جزء منها، بسبب أنّ الربا كان داخلاً فيها.. إذ لا تحريم بغير نص، ولا حكم بغير تشريع.. وفي الوقت ذاته علق اعتبارهم مؤمنين على قبولهم لهذا التشريع وإنفاذه في حياتهم منذ نزوله وعلمهم به.. واستجاش قلوبهم –مع هذا- شعور التقوى لله، وهو الشعور الذي ينوط به الإسلام تنفيذ شرائعه، ويجعله الضمان الكامن في ذات الأنفس، فوق الضمانات المكفولة بالتشريع ذاته. وإلى جوار صفحة الترغيب هذه صفحة الترهيب.. الترهيب الذي يزلزل القلوب: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرسُولِهِ} . يا للهول حرب من الله ورسوله.. حرب تواجهها النفس البشرية، حرب رهيبة معروفة المصير، مقررة العاقبة.. فأين الإنسان الضعيف الفاني من تلك القوة الجبارة الساحقة الماحقة؟ "1. ولقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات إلى عتاب بن أسيد نائب مكة، من أجل محاربة بني المغيرة إذا لم يقلعوا عن التعامل بالربا، فقالوا: "نتوب إلى الله ونذر ما بقي من الربا" فتركوه كلهم2.

_ 1 انظر: في ظلال القرآن لسيد قطب 1/485، باختصار وتصرف يسير. 2 انظر: تفسير ابن جرير الطبري 3/107، وتفسير ابن كثير 1/343. وانظر: أسباب النزول للنيسابوري ص: 50-51، ولباب النقول في أسباب النزول للسيوطي ص: 50 عن أبي يعلى في مسنده.

وقد أمر صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع بوضع كل ربا في الجاهلية، وأوله ربا عمه العباس عن كاهل المدينين الذين ظلّوا يحملونه إلى ما بعد الإسلام. فقال في خطبته: "وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا، ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله" 1. هذا وقد أفاض القرآن الكريم في بيان العبادات، وأصول الأخلاق، وحقوق الإجتماع، وشرحها شرحاً وافياً حيث حبب إلى الناس الإيمان، وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وجفاء الطبع، وحقد القلب، وخشونة اللفظ، وأمر بالقصاص لضرورة حماية الأنفس وصيانة المجتمعات من الفوضى وانتهاك المحارم، وأمر بالجهاد والطاعة، والوضوء والغسل من الجنابة، وأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحث على الزواج الشرعي لبقاء النسل، وقضاء الوطر في لقاء طاهر شريف بين الذكر والأنثى من بني البشر. وأمر بالتعاون على البر والتقوى، ونهى عن التعاون على الإثم والعدوان، وأمر بالشكر والورع والحياء، وكف الأذى، ونصرة المظلوم،

_ 1 صحيح مسلم 2/889 كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم. وسنن أبي داود 2/461 كتاب المناسك، باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم. وسنن ابن ماجه 2/1025 كتاب المناسك، باب حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ونهى عن الظلم والاحتقار، والغيبة والنميمة، والتجسس والجهر بالسوء من القول، والتباغض والتحاسد والكذب وشهادة الزور، والهمز واللمز، والغش والخداع، ودعوى الجاهلية واعتبارها خبيثة منتنة. وأمر بالاستئذان وغض البصر، وحفظ الفرج، وحفظ اللسان، والحب في الله، والبغض في الله، وأمر بإفشاء السلام، وحسن الخلق، والإحسان إلى الجار، واليتامى والمسكين وابن السبيل ... إلى آخره. ونستطيع القول بأنّ النقلة التي أحدثها الإسلام تشمل الحياة كلها من أدب الأكل والشرب، وقضاء الحاجة إلى بناء الدولة وسياسة الحكومة وسياسة المال، وشئون المعاملات والعقوبات وأصول العلاقات الدولية في السلم والحرب. وتفصيل الأمر في ذلك يحتاج إلى مجلدات ضخمة.

الفصل الثالث: موقف الإسلام من المشركين.

الفصل الثالث: موقف الإسلام من المشركين: ويشتمل على ما يلي: 1- تمهيد: أطلق القرآن الكريم لفظ المشركين على عبّاد الأوثان والأصنام، وقد أصبح هذا اللفظ علماً عليهم يميزهم عن بقية الأديان الأخرى، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 1. وقال تعالى: {مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ} 2، وقال تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً} 3. وقال الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ} 4.

_ 1 سورة الحج الآية: 17. 2 سورة البقرة الآية: 105. 3 سورة آل عمران الآية: 186. 4 سورة المائدة الآية: 82.

ففي هذه الآيات، نرى أن القرآن قد ميز أهل الكتاب –على ما فيهم من ضلال وباطل- عن عبدة الأوثان والأصنام. قال صاحب المغني: "وسائر آي القرآن الكريم يفصل بينهما، فدلّ على أن لفظ المشركين بإطلاقها غير متناولة لأهل الكتاب"1. وقال القرطبي في هذا الخصوص: "ففرق بينهم في اللفظ، وظاهر العطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه"2. ووصف القرآن الكريم لعبدة الأوثان والأصنام على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم بالمشركين فيه تسفيه لعقولهم، وأنّ عبادتهم تلك باطلة وفاسدة؛ لأنها مبنية على الجهل والضلال، وفيه الدعوة لهم إلى تحكيم عقولهم، والنظر إلى معبوداتهم بعين الازدراء والاحتقار، وأنْ يخلصوا العبادة لرب الأرباب، والذي بيده الخير والعطاء والمنع والحرمان. ولتلوث المشركين بهذه العبادات القذرة، أصبحوا نجساً، فلا يحلّ لهم دخول المسجد الحرام، ولا تجوز مناكحتهم، ولا أكل ذبائحهم، ولا الاستغفار لهم.. وكان لا بدّ من قتالهم ونقض عهودهم، لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، قال تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} 3.

_ 1 المغني لابن قدامة 6/590. 2 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3/69. 3 سورة التوبة الآية: 33.

2- لا يحل لهم دخول المسجد الحرام واعتبارهم نجس: وقد أصبح المسجد الحرام خاصاً بالمسلمين؛ لأنه مكان لعبادة الله وحده، فلا يجوز عبادة أحد مع الله فيه، ولذلك أمر الله المؤمنين بإبعاد المشركين عن المسجد الحرام، وألاّ يقربوه بعد نزول هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 1. وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً مع أبي بكر رضي الله عنهما سنة تسع من الهجرة، وأمره أن ينادي في المشركين أن لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان2. يقول سيد قطب رحمه الله: "إنّما المشركون نجس.. فهم بكليتهم وبحقيقتهم نجس، يستقذره الحس، ويتطهر منه المتطهرون، وتلك غاية في

_ 1 سورة التوبة الآية: 28. 2 انظر: صحيح البخاري بشرح الفتح 8/317 كتاب التفسير، باب {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} ، وباب {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} . وصحيح مسلم 2/982 كتاب الحج، باب لا يحج البيت مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، حديث: 435.

تحريم وجودهم بالمسجد الحرام، حتى لينصبَّ النهي على مجرد القرب منه، ويعلل سيد قطب بأنهم نجس، وهو عدم الطهور، ولكن الموسم الاقتصادي الذي ينتظره أهل مكة والتجارة التي يعيش عليها معظم الظاهرين في الجزيرة، ورحلة الشتاء والصيف، التي تكاد تقوم عليها الحياة، إنها كلها ستتعرض للضياع بسبب منع المشركين من الحج، وبإعلان الجهاد على المشركين كافة، نعم ولكنها العقيدة، والله يريد أن تخلص القلوب كلها للعقيدة، وبعد ذلك فالله هو المتكفل بأمر الرزق من وراء الأسباب المعهودة المألوفة، وحين يشاء الله يستبدل أسباباً بأسباب، وحين يشاء يغلق باباً ويفتح الأبواب"1. نوعية نجاسة المشرك: اختلف العلماء في نجاسة المشرك هل هي حسية أو معنوية؟ فذهب أهل الظاهر إلى نجاسة أبدانهم2، وروى صاحب الكشاف عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ أعيانهم نجسة، كالكلاب والخنازير3. وقال الحسن البصري: "من صافح مشركاً فليتوضأ"4.

_ 1 انظر: في ظلال القرآن 4/167. 2 تفسير ابن كثير 2/371. 3 الكشاف 2/183. 4 تفسير ابن جرير 10/106، والقرطبي 8/103، وزاد المسير لابن الجوزي 3/417.

وهو مروي عن عمر بن عبد العزيز1. واستدلوا بظاهر الآية الكريمة، وما جاء في الحديث الصحيح: "إن المؤمن لا ينجس" 2. وقد رجح هذا الرأي الفخر الرازي3 والألوسي4. وذهب الجمهور إلى أنّ ذلك على التشبيه، أي هم بمنزلة النجس أو كالنجس لخبث اعتقادهم، وكفرهم بالله، جعلوا كأنهم النجاسة بعينها، مبالغة في وصفهم بها. وأجابوا عن الحديث بأنّ المراد أن المؤمن طاهر الأعضاء، لاعتياده مجانبة النجاسة، بخلاف المشرك لعدم تحفظه عن النجاسة. وعن الآية الكريمة بأنّ المراد أنهم نجس في الاعتقاد والاستقذار، وحجتهم أنّ الله تعالى أباح نكاح نساء أهل الكتاب، ومعلوم أنّ عرقهن لا يسلم منه من يضاجعهن، ومع ذلك فلم يجب عليه من غسل الكتابية

_ 1 زاد المسير لابن الجوزي 3/417. 2 صحيح البخاري بشرح الفتح 1/391 كتاب الغسل، باب الجنب يخرج ويمشي في السوق وغيره. ومسلم 1/282 كتاب الحيض، باب الدليل على أنّ المسلم لا ينجس، حديث رقم: 15. 3 التفسير الكبير 26/24. 4 روح المعاني 10/76.

إلا مثل ما يجب عليه من غسل المسلمة، فدلّ على أنّ الآدمي الحي ليس بنجس العين، إذ لا فرق بين النساء والرجال1. والمشركون أنجاس فاسدوا الاعتقاد، يشركون بالله ما لا يضر ولا ينفع، ويعبدون الرجس من الأوثان والأصنام، ويدينون بالخرافات والأوهام، ويأكلون الميتة والدم وهي أقذار حسية، ويستحلون القمار والزنا.. وهم لا يجتنبون النجاسات ولا يتطهرون، فالنجاسة ملازمة لهم حساً ومعناً، من أجل ذلك لا يصح أنّ يدخلوا أرض الحرم، فضلاً عن دخول البيت نفسه، وطوافهم فيه عراة، ويشركون بربهم في التلبية، وإذا صلوا لم تكن صلاتهم إلا مكاء وتصدية. وهنا أودّ أن أذكر قصة أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم مع أبيها أبي سفيان، "لقد جاء أبو سفيان -قبل أن يسلم- من مكة إلى المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش الرسول صلى الله عليه وسلم طوته عنه، فقال: يا بنية، ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش، أو رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت رجل مشرك نجس ... "2.

_ 1 فتح الباري لابن حجر 1/390. 2 المغازي للواقدي 2/792-793، وسيرة ابن هشام 2/396، وتاريخ الطبري 3/46، والطبقات لابن سعد 8/99-100، وصفة الصفوة لابن الجوزي 1/358، وزاد المعاد لابن القيم 2/179.

وقد فعلت ذلك رضي الله عنها لقوة إيمانها بالله تعالى، وشدة محبتها لرسوله صلى الله عليه وسلم. لا يجوز لهم عمارة المسجد الحرام: وكما منع القرآن الكريم المشركين من دخول المسجد الحرام، منعهم من عمارة سائر المساجد، لأنهم يشركون مع الله غيره في عباداتهم. قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} 1. والمعنى أنه لا يصح ولا يليق بالمشركين أنْ يعمروا شيئاً من مساجد الله التي بنيت على اسمه وحده، ومن أعظم المساجد بيت الله الحرام، فلا يجوز لهم الإقامة فيه للعبادة، أو الخدمة والولاية عليه، ولا أنْ يزوروه حجاجاً أو معتمرين، وهم شاهدين على أنفسهم بالكفر، ناطقين به بأقوالهم وأفعالهم، وذلك أنه لا يستقيم لهم أنْ يجمعوا بين أمرين متناقضين:

_ 1 سورة التوبة الآيتان: 17-18.

عمارة المسجد الحرام، والإشراك بالله والكفر به وبعبادته. وقوله: {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} ، أي: أولئك المشركون بالله تعالى، الكافرون بما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، قد بطلت أعمالهم التي كانوا يفخرون بها من عمارة المسجد الحرام، وسقاية الحاج، ونحو ذلك مما كانوا يعملونه في الدنيا، بسبب مخالطتها للشرك بالله تعالى، وهم في نار جهنم ماكثون أبداً لا أحياء ولا أمواتاً، والعياذ بالله. وقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ} بيان من الله تعالى أنّ المستحقين لعمارة المساجد هم الجامعون بين الإيمان بوحدانية الله تعالى على الوجه الذي بينه في كتابه، والإيمان باليوم الآخر الذي يحاسب الله فيه عباده، ويجزي كل نفس ما كسبت، مع إقامة الصلاة المفروضة على وجه جامع بين أركانها وشروطها وسننها وآدابها، وإعطاء زكاة الأموال لمستحقيها من الفقراء والمساكين، وبقية المستحقين لها، وخشية الله دون غيره مما لا ينفع ولا يضر، كالأصنام وغيرها. وقوله: {فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} ، قال ابن عباس: "إنّ أولئك هم المفلحون، كقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ

رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} 1، وهي الشفاعة، وكل عسى في القرآن، فهي واجبة"2. ويستمر السياق مخاطباً مشركي قريش، منكراً عليهم وموبخاً لهم، أنْ تكون سقاية الحجيج، وسدانة بيت الله الحرام، كإيمان من آمن بالله وجاهد في سبيله. قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} 3. جاء في سبب نزول الآية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال العباس بن عبد المطلب حين أسر يوم بدر: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد، لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج، ونفك

_ 1 سورة الإسراء الآية: 79. 2 تفسير ابن جرير الطبري 10/94، وتفسير ابن كثير 2/365. 3 سورة التوبة الآيتان: 19-20.

العاني، فأنزل الله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ ... } الآية1. وأخرج مسلم عن النعمان بن بشير قال: "كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، فقال رجل منهم: ما أبالي ألا أعمل لله عملاً بعد الإسلام إلا أنْ أسقي الحاج، وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر: بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك يوم الجمعة، ولكن إذا صليتُ الجمعة دخلتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأستفتيه فيما اختلفتم فيه، فدخل بعد الصلاة فاستفتاه، فأنزل الله: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ ... } الآية"2. والمعنى أجعلتم يا معشر المشركين أو يا من تنازعتم من المؤمنين -أي الأعمال أفضل- سقاية الحجيج وسدانة بيته العتيق، كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيله؟ وذلك أنّ السقاية والعمارة وإن كانتا من أعمال الخير والبر، فإنّ أصحابهما لا يدانون ولا يساوون أهل الإيمان بالله تعالى والجهاد في سبيله في علو المرتبة وشرف المنزلة، فضلاً عن أن

_ 1 لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي ص: 115، وأسباب النزول للواحدي ص: 139، وتفسير الطبري 10/95، وتفسير ابن كثير 2/366. 2 صحيح مسلم 3/1499 كتاب الإمارة، باب فضل الشهادة في سبيل الله، حديث رقم: 111.

يفضلهما كما يزعم كبراء مشركي قريش. {وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ، لأنّ المشركين ظلموا أنفسهم بعدم الإيمان بوحدانية الله، وظلموا المسجد الحرام، حيث جعلوه متعبداً لأوثانهم، وأما الذين طهروا أنفسهم من دنس الشرك بالإيمان بالله وحده، وتركوا دورهم وديارهم وجاهدوا في دين الله بأموالهم وأنفسهم، أعظم درجة عند الله وأرفع منزلة عنده من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام مع الإشراك بالله تعالى. وهؤلاء الذين وصفهم الله تعالى بالإيمان والهجرة والجهاد في سبيله، هم الفائزون بالجنة، الناجون من النار يوم القيامة.

3- تحريم نسائهم وذبائحهم: ولما كان الزواج سكينة ومودة، فإنه لا يمكن أن يكون بين طرفين متناقضين متباعدين، لذلك حرّم الإسلام الزواج من المشركين. قال تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} 1. قال مقاتل: نزلت هذه الآية في أبي مرثد الغنوي، وقيل: في مرثد بن أبي مرثد، واسمه كناز بن حصين الغنوي، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة سراً ليخرج رجلاً من أصحابه، وكانت له بمكة امرأة يحبها في الجاهلية، يقال لها: "عناق" فجاءته فقال لها: إنّ الإسلام حرم ما كان في الجاهلية، قالت: فتزوجني، قال: حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى النبي فاستأذنه، فنهاه عن التزوج بها لأنه كان مسلماً وهي مشركة2.

_ 1 سورة البقرة الآية: 221. 2 رواه الواحدي في أسباب النزول ص: 39، وزاد المسير لابن الجوزي 1/245، وأسباب النزول للسيوطي ص: 42، والجامع لأحكام القرآن 3/67، وروح المعاني للألوسي 2/117.

وروى السدي عن ابن عباس أنّ هذه الآية نزلت في عبد الله بن رواحة، وكانت له أمة سوداء، وأنه غضب عليها فلطمها ثم إنه فزع، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بخبرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما هي يا عبد الله؟ قال: يا رسول الله تصوم وتصلي وتحسن الوضوء، وتشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقال: هذه مؤمنة، فقال عبد الله: فوالذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنها، ففعل، فطعن عليه ناس من المسلمين فقالوا نكح أمة، وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في أنسابهم، فأنزل الله: {وَلاَ تَنكِحُواْ} الآية1. ومعنى الآية الكريمة أي: ولا تتزوجوا أيها المسلمون بالوثنيات حتى يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر، ولأمة مملوكة مؤمنة بالله ورسوله خير وأفضل من حرة مشركة، ولو أعجبتكم المشركة بجمالها ومالها، وسائر ما

_ 1 انظر: أسباب النزول للواحدي ص: 39، وتفسير الطبري 2/378، وتفسير ابن كثير 1/267، وروح المعاني للألوسي 2/118، وزاد المسير لابن الجوزي 1/245-246، وأسباب النزول للسيوطي ص: 42.

يوجب الرغبة فيها من حسب أو نسب أو جاه وغيره، ولا تُزوجوا أيها المسلمون بناتكم من المشركين حتى يؤمنوا بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ولأن تزوجوا بناتكم من عبد مؤمن، خير لكم من أن تزوجوهن من حر مشرك، مهما أعجبكم في الحسب والنسب والجمال؛ لأن المشركين والمشركات الذين حرمت عليكم مصاهرتهم ومناكحتهم يدعونكم إلى ما يوصلكم النار من الكفر والفسوق والعصيان، فحقكم ألا تتزوجوا منهم ولا تزوجوهم. وذلك لأن الله تعالى يريد بكم الخير، ويدعوكم إلى ما فيه سعادتكم، وهو العمل الذي يوجب الجنة ومغفرة الذنوب، ويبين الله لكم حججه وأدلته لتتذكروا وتميزوا بين الخير والشر، والطيب والخبيث. ومن الآية يتبين لنا أنه لا يجوز للمسلم أن يتزوج بمشركة، كما لا يجوز للمسلمة أن تتزوج بمشرك؛ للاختلاف الشاسع بين من يعبد الله وحده ويؤمن برسوله، ومن يعبد الأصنام والأوثان. استثناء الكتابيات: هذا وقد خص من هذا العموم إباحة نكاح الكتابيات لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا

آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ... } 1. وبما روي أن عثمان رضي الله عنه تزوج نائلة الكلبية، وهي نصرانية على نسائه، وأن طلحة بن عبيد الله تزوج يهودية من أهل الشام، ولم ينقل أن أحداً من الصحابة أنكر ذلك، فعلم أنهم متفقون على جواز نكاح الكتابيات2. أما ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه لا يرى ذلك، ويحتج بقوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} 3، ويقول: لا أعلم شركاً أعظم من أن تقول ربها عيسى أو عبد من عبيد الله، فقد أجاب الجمهور أن ظاهر لفظ المشركات إنما يتناول عند الإطلاق عبدة الأوثان، ولا يدخل فيه أهل الكتاب بدليل قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} 4. وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ

_ 1 سورة المائدة الآية: 5. 2 انظر: المغني لابن قدامة 6/589، وأحكام القرآن للجصاص 3/324. 3 سورة البقرة الآية: 221. 4 سورة البينة الآية: 1.

خَالِدِينَ فِيهَا} 1. وقوله تعالى: {مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ} 2. وفي سائر آي القرآن الكريم يفصل بينهما، فدل على أن لفظة "المشركين بإطلاقها غير متناولة لأهل الكتاب"3. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإنْ قيل: فقد وصفهم الله بالشرك في قوله تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 4. قيل: إنّ أهل الكتاب ليس في أصل دينهم شرك، فإنّ الله إنما بعث الرسل بالتوحيد، فكل من آمن بالرسل والكتب لم يكن في أصل دينهم شرك، ولكن النصارى ابتدعوا الشرك، كما قال تعالى: {سُبْحَانَهُ عَمَّا

_ 1 سورة البينة الآية: 6. 2 سورة البقرة الآية: 105. 3 المغني لابن قدامة 6/590. 4 سورة التوبة الآية: 31.

يُشْرِكُونَ} ، فحيث وصفهم بأنهم أشركوا، فلأجل ما ابتدعوه من الشرك الذي لم يأمر الله به، وجب تمييزهم عن المشركين"1. والقول الراجح في هذا: هو ما ذهب إليه الجمهور، من جواز نكاح الكتابيات لوضوح الدليل، ولعل ابن عمر كره الزواج منهن خشية على الزوج أو على الأولاد من الفتنة، فإنّه إذا كان كذلك فإنّ الزواج لا يجوز، أما إذا لم يكن هناك خطر من فتنة على الزوج والأولاد، أو كان هناك طمع في إسلامها، فلا وجه للقول بالمنع والله أعلم. تحريم ذبائحهم: وأما ذبائح المشركين، فهي محرمة، لأنهم يذبحونها لغير الله تعالى، قال عز وجل: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ ... } 2. قال ابن كثير رحمه الله:" {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ} هو: ما ذبح على غير اسم الله تعالى من الأنصاب والأنداد والأزلام ونحو ذلك، مما كانت

_ 1 الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 32/179. 2 سورة البقرة الآية: 173.

الجاهلية ينحرون له"1. وقال القرطبي رحمه الله: "ولا خلاف بين العلماء أن ذبيحة المجوسي لناره، والوثني لوثنه لا يؤكل"2. وذكر القرطبي عن ابن عطية أنه نقل عن الحسن البصري أنه سئل عن امرأة مترفة صنعت للُعبها عرساً فنحرت جزوراً، فقال الحسن: لا يحل أكلها، فإنها إنما نحرت لصنم3. كما أورد القرطبي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عما يذبحه العجم لأعيادهم، فيهدون منه للمسلمين، فقالت: "ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا منه، وكلوا من أشجارهم"4. واستدل ابن كثير رحمه الله بتحريم طعام المشركين لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} 5، حيث قال: "فدل بمفهوم المخالفة على أن طعام من عداهم من أهل الأديان الأخرى لا يحل"6.

_ 1 تفسير ابن كثير 1/211. 2 الجامع لأحكام القرآن 2/223. 3 المرجع السابق 2/224. 4 المرجع السابق والصفحة. 5 سورة المائدة الآية: 5. 6 تفسير ابن كثير 2/21.

ومن الأدلة على تحريم ذبائح المشركين قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} 1. قال الطبري رحمه الله: "يعني بقوله جل ثناؤه {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ} : لا تأكلوا أيها المؤمنون مما مات فلم تذبحوه أنتم أو يذبحه موحدون لله بشرائع شرعها له في كتاب منزل، فإنه حرام عليكم، ولا ما أهل به لغير الله، مما يذبحه المشركون لأوثانهم، فإنّ أكل ذلك فسق، يعني معصية.."2. ومن هذا نرى أنّ الآية الكريمة قد بينت أنه لا يجوز للمسلمين أن يأكلوا مما أهل لغير الله به، وهو ما ذبحه المشركون لأوثانهم، وإن أكل شيء من ذلك فسق ومعصية لله تعالى، كما جاء في الآية الأخرى: {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ..} 3.

_ 1 سورة الأنعام الآية: 121. 2 تفسير الطبري 8/15. 3 سورة الأنعام الآية: 145.

قال صاحب المغني رحمه الله: "وسائر الكفار غير أهل الكتاب كمن عبد ما استحسن من الأصنام والحجارة والشجر والحيوان، فلا خلاف بين أهل العلم في تحريم نسائهم وذبائحهم"1. وذكر ابن القيم رحمه الله أن ذلك "اتفاق من الصحابة رضي الله عنهم"2.

_ 1 المغني لابن قدامة 6/592. 2 أحكام أهل الذمة 1/10 تحقيق صبح الصالح الطبعة الثانية 1401?.

4- عدم الاستغفار لهم: وبيّن القرآن الكريم أنه لا يصح ولا يجوز الاستغفار للمشركين بعد إصرارهم على الشرك وموتهم على ذلك. قال تعالى {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ} 1. وفي الصحيحين عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة، دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال: "أي عم قل لا إله إلاّ الله كلمة أحاج لك بها عند الله عز وجل" فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال: أنا على ملة عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" فنزلت: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن

_ 1 سورة التوبة الآيتان: 113-114.

يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} الآية1. ونزلت: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} 2. والمعنى: أنه لا ينبغي ولا يصح من النبي صلى الله عليه وسلم ولا من المؤمنين أن يطلبوا من الله المغفرة للمشركين، ولو كان المشركون أقرباء، لهم حق البر والصلة، من بعد ما ظهر لهم بالدليل أنهم من أصحاب النار لموتهم على الشرك والكفر. ثم أجاب القرآن الكريم عن سؤال قد يختلج بالخاطر، فيقال كيف يمنع النبي والمؤمنون من الاستغفار لأقربائهم، وقد استغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه. فقال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} ، أي: إنما كان استغفار إبراهيم لأبيه بقوله: {وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} 3.

_ 1 صحيح البخاري بشرح الفتح 7/193 كتاب مناقب الأنصار، باب قصة أبي طالب، و 8/341 كتاب التفسير، باب {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} . ومسلم 1/54 كتاب الإيمان، باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت ما لم يشرع في النزاع. وأحمد 5/433. 2 سورة القصص الآية: 56. 3 سورة الشعراء الآية: 86.

إلا من أجل وعد تقدم له بقوله: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} ، وهذا الاستغفار إنما كان قبل أن يتحقق إصراره على الشرك {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} ، أي: فلما تبين لإبراهيم أنّ أباه مصر على الكفر مستمر على الضلال، تبرأ منه بالكلية، فضلاً عن الاستغفار له، كما قال تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} 1. ثم بيّن الله تعالى سبباً آخر في حمل إبراهيم عليه السلام على الاستغفار لأبيه، وهو فرط ترحمه وصبره على أبيه، حيث وصفه ربه تبارك وتعالى بقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ} ، أي: كثير التأوه من فرط الرحمة والمبالغة في خشيته، صبور على الأذى من أبيه الذي توعده بقوله: {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأََرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} 2.

_ 1 سورة المجادلة الآية: 22. 2 سورة مريم الآية: 46.

5- البراءة من عهودهم: ولما كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين عهود ومواثيق، كما هو الحال في صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة –حيث كان من شروط الصلح التي تم الاتفاق عليها بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش: -أن تضعَ الحربُ أوزارها بين الطرفين لمدة عشر سنوات. -أن من أحب الدخول في عقد محمد وعهده، دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدها دخل فيه1. وبناء على ذلك، دخلت خزاعة في عقد محمد صلى الله عليه وسلم وعهده، ودخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم، ثم لم تلبث خزاعة أن

_ 1 انظر: صحيح البخاري مع الفتح 7/444 كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية رقم: 4159، و 7/453 رقم: 4180، 1481. ومسلم 3/1409 كتاب الجهاد والسير، رقم: 1783، 1784، 1785. وسيرة ابن هشام 2/317-318، والمغازي للواقدي 2/611، وتاريخ الطبري 2/634-635، والكامل لابن الأثير 2/138، والبداية والنهاية لابن كثير 4/168-169، وعيون الأثر لابن سيد الناس 1/156. وانظر نص وثيقة الصلح في كتاب (الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة) لمحمد حميد الله ص77 وما بعدها.

دخلت في الإسلام. إلاّ أنَّ المشركين لم يحترموا تلك العهود، بل نقضوها واعتدوا على خزاعة أحلاف الرسول صلى الله عليه وسلم1. لهذا جاءت سورة التوبة تعلن إلغاء عهود المشركين، ونبذها إليهم على وضوح وبصيرة، لأنّ الناكثين لا يتورعون عن الخيانة كلما سنحت لهم الفرصة، ولذلك فقد قطع الله ما بين المسلمين والمشركين من صلات، فلا عهد لهم ولا أمان، بعد أن منحهم الله تعالى فرصة كافية هي السياحة في الأرض أربعة أشهر، ينطلقون فيها آمنين، ليتمكنوا من النظر والتدبر في أمرهم، ويختاروا ما يرون فيه المصلحة لهم. قال تعالى: {بَرَاءةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} 2. وفي الصحيحين أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: "بعثني أبو بكر رضي الله عنه في تلك الحجة في المؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى، أنْ

_ 1 سيرة ابن هشام 2/389-390، والمغازي للواقدي 2/781، وتاريخ الطبري 3/43 وما بعدها. 2 سورة التوبة الآيتان: 1-2.

لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، قال حميد: ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب فأمر أنْ يؤذن ببراءة، قال أبو هريرة: فأذّن معنا عليٌ في أهل منى يوم النحر ببراءة، وأنْ لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان"1. وقد أعلن الله تعالى للمشركين في السنة التاسعة للهجرة، وفي يوم الحج الأكبر، قيل: يوم عرفة، وقيل: يوم النحر، وهو الأرجح لأنه ثبت في الصحيحين أن الله بريء من عهودهم، ورسوله بريء منهم كذلك، إلا الذين سبق لهم عهد ولم ينقضوا ذلك العهد، فإنه يوفى لهم عهدهم. قال تعالى: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ

_ 1 صحيح البخاري بشرح الفتح 8/317 كتاب التفسير، باب فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، باب {وَأَذَانٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} . وصحيح مسلم 2/982 كتاب الحج، باب لا يحج البيت مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، حديث: 435، وتقدم ص: 799

الْمُتَّقِينَ} 1. أما إذا مضت الأشهر الأربعة التي حُرّم فيها قتالهم، ولم يراجعوا فيها أنفسهم، فيحنئذ لا بد من قتالهم في أي مكان أو زمان من حل أو حرم، وأخذهم بالأسر، ومنعهم من التنقل في بلاد المسلمين، والقعود لهم في كل طريق يسلكونه، إلا إذا تابوا عن الشرك وأدوا ما فرضه الله عليهم من الصلاة والزكاة، فإنه على المسلمين عند ذلك أن يكفوا عنهم، ولا يتعرضوا لهم، فإن الله تعالى واسع المغفرة والرحمة لمن تاب وأناب. قال تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} 2. ومن سماحة الإسلام أنه إذا جاء أحد المشركين بعد انقضاء الأشهر، وليس بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم عهد مسبق، وطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسمع ما يدعو إليه من التوحيد والقرآن، فإن له الأمان حتى يسمع كلام الله ويتدبره ويتطلع حقيقة أمره3.

_ 1 سورة التوبة الآيتان: 3-4. 2 سورة التوبة الآية: 5. 3 انظر: الكشاف للزمخشري 2/175 بتصرف.

قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} 1. وهذا في غاية حسن المعاملة وكرم الأخلاق، لأن المراد ليس النيل من الكافرين، بل المقصود إقناعهم وهدايتهم حتى يعرفوا الحق فيتبعوه، ويتركوا الكفر والضلال. ومع ذلك فإن القرآن الكريم يستبعد ثبات المشركين على العهد والتزامهم به. قال تعالى: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} 2. والآية الكريمة تحمل استفهاماً إنكارياً، أي: كيف يكون للمشركين عهد معتد به عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم استدركت الآية الكريمة أن الذين كانت لهم معاهدة عند المسجد الحرام، ولم ينقضوها واستقاموا على ذلك، فلهم الوفاء، فإن الله تعالى يحب من اتقاه،

_ 1 سورة التوبة الآية: 6. 2 سورة التوبة الآية: 7.

ووفى بعهده، وترك الغدر والخيانة. ويتكرر الاستبعاد لثباتهم على العهد، لأنهم إن يظفروا بالمسلمين لا يراعوا فيهم عهداً ولا ذمة، وإنما يرضونهم بالكلام الجميل، إن كان الظفر للمسلمين عليهم، وتمتنع قلوبهم عن الإذعان والوفاء بما يبدونه بألسنتهم. قال تعالى: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} 1. ويضيف القرآن الكريم في ذم المشركين وتوبيخهم ما لم يتوبوا، فيصبحوا إخواناً مسلمين، فيقول تعالى: {اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} 2. أما إذا نكث المشركون الذين لهم عهود ومواثيق مع المسلمين، وعابوا الدين، وانتقصوه، فإنّ النتيجة الحتمية هي القتال لصناديدهم ورؤسائهم، لأنهم لا أيمان لهم ولا عهود يوفون بها، لعلهم يكفوا عن

_ 1 سورة التوبة الآية: 8. 2 سورة التوبة الآيات: 9-11.

الإجرام، وينتهوا عن الطعن في دين الإسلام. قال تعالى: {وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} 1. ويحض القرآن الكريم المؤمنين على قتال المشركين الناكثين لعهودهم وأيمانهم، الذين هموا بحبس الرسول صلى الله عليه وسلم أو قتله، أو إخراجه من مكة، بل قرّ قرارهم على أن يقتلوه على أيدي مجموعة من شبابهم، حتى يتفرق دمه بين القبائل، كما قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} 2. ذكر أهل التفسير وأهل السير عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن نفراً من أشراف قريش اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل، فلما رأوه قالوا: من أنت؟ قال: شيخ من نجد سمعت باجتماعكم فأردت أن أحضركم، ولن يعدمكم مني رأي ونصح. قالوا: أجل فادخل، فقال: انظروا في شأن هذا الرجل –يعني محمداً صلى الله عليه وسلم-. فقال قائل: احبسوه في وثاق ثم تربصوا به ريب المنون، حتى يهلك،

_ 1 سورة التوبة الآية: 12. 2 سورة الأنفال الآية: 30.

فصرخ عدو الله وقال: والله ما هذا لكم برأي، فليوشكن أن يثب أصحابه عليه، حتى يأخذوه من أيديكم فيمنعوه منكم. فقال قائل: أخرجوه من بين أظهركم حتى تستريحوا منه، فإنه إذا خرج فلن يضركم ما صنع وأين وقع، فقال الشيخ المذكور: والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حلاوة قوله، وطلاقة لسانه، وأخذه القلوب بحديثه؟ والله لئن فعلتم لتجتمعن عليكم العرب حتى يخرجوكم من بلادكم، ويقتلوا أشرافكم، قالوا صدق، فانظر رأياً غير هذا. فقال أبو جهل: والله لأشيرن عليكم برأي ما أرى غيره، قالوا: وما هو؟ قال: نأخذ من كل قبيلة غلاماً شاباً جلداً، ونعطي كل واحد سيفاً صارماً يضربونه ضربة رجل واحد، ويتفرق دمه في القبائل كلها، ولا أظن بني هاشم يقدرون على حرب قريش كلها، فيقبلون الدية، ونستريح منه، ونقطع عنا أذاه، فصرخ عدو الله إبليس: هذا والله الرأي لا أرى غيره، فتفرقوا على ذلك، فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره وأمره أن لا يبيت في مضجعه، وأذن له بالهجرة، وأنزل الله عليه بعد قدومه المدينة يذكره نعمته عليه {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ... } الآية"1.

_ 1 سيرة ابن هشام 1/480-482، ولباب النقول في أسباب النزول للسيوطي ص: 109، وتفسير الطبري 9/227، ومجمع الزوائد للهيثمي 7/27، والدر المنثور للسيوطي 3/179.

فإذن المشركون قرروا قتل الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، وقبل ذلك فعلوا بالمستضعفين من المؤمنين الذين لا ذنب لهم سوى أنهم آمنوا بالله تعالى، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولا، وبعد ذلك صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين عن المسجد الحرام، ثم بدأوا المسلمين بالعداوة، حيث قاتلوا بني خزاعة أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرجوا لقتال المسلمين في بدر. وقد أهاب النبي صلى الله عليه وسلم لذلك بالمؤمنين، وحثهم على قتال أعدائهم أعداء الإسلام والمسلمين، ليشفي الله قلوب المؤمنين بإعلاء كلمة "لا إله إلا الله" وتعذيب المشركين وخزيهم، ويذهب ما أصاب المؤمنين من غيظ وكرب. ويعذب المشركين ويجزيهم. قال تعالى: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 1. وفي أمر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بنبذ عهود الخائنين

_ 1 سورة التوبة الآيات: 13-15.

للعهد، قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} 1. قال القرطبي: "والمعنى: وإما تخافن من قوم -بينك وبينهم عهد- خيانة فانبذ إليهم العهد، أي: قل لهم قد نبذت إليكم عهدكم وأنا مقاتلكم، ليعلموا بذلك فيكونوا معك في العلم سواء، ولا تقاتلهم وبينك وبينهم عهد، وهم يثقون بك، فيكون ذلك خيانة وغدراً"2.

_ 1 سورة الأنفال الآية: 58. 2 الجامع لأحكام القرآن 8/32.

6- الأمر بقتالهم: ومن أجل إبلاغ الدعوة، ورفع كلمة "لا إله إلا الله" على سائر المعتقدات، ومن أجل قمع الشرك والمشركين، أعداء الله والإسلام والمسلمين، خاض المسلمون عدة معارك حاسمة مع المشركين، بعد أن أذن الله لهم بالقتال لتأمين الدعوة وإزالة العقبات من طريقها، حتى يدخل من يريد الدخول في الإسلام، وهو مطمئن، قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} 1. ثم فرض الله عليهم قتال الكفار الذين يقاتلونهم، قال تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} 2. وبعد ذلك جاء الأمر الحاسم في قتالهم، قال تعالى: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} 3. وعلى إثر هذا الأمر بدأ القتال وخوض المعارك بين المسلمين

_ 1 سورة الحج الآية: 39. 2 سورة البقرة الآية: 190. 3 سورة التوبة الآية: 36.

وأعدائهم، ففي قتال المشركين كانت وقعت بدر الكبرى في السنة الثانية من الهجرة، وبدأ فيها أنه لا مهادنة بين قوة الإسلام، وقوة الشرك، كما ظهر فيها أنّ المشركين مصممون على إبادة الجماعة المؤمنة، فقد وقف أبو جهل بعد أن علم أن تجارة قريش نجت، وقال -متحدياً قوة الإيمان، ومستهتراً بتدبير الله وقدرته: "والله لا نرجع حتى نرد بدراً، فنقيم عليه ثلاثاً فننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقى الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبداً بعدها"1. فدارت عليهم الدائرة، ونزلت بجيشهم الهزيمة، وحق نصر الله للمؤمنين. قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ ... } 2.

_ 1 سيرة ابن هشام 1/618-619، وعيون الأثر لابن سيد الناس 1/301، وتاريخ الطبري 2/424-438، والطبقات الكبرى لابن سعد 2/13، والمغازي للواقدي 2/43. 2 سورة آل عمران الآيات: 123-125.

وتلتها معركة أحد في السنة الثالثة، وفيها تلقى المسلمون درساً لم ينسوه حين ترك الرماة مواقعهم، فباغتهم المشركون، وحاقت بالمسلمين الهزيمة، وقتل منهم من قتل، ومحّص الله الصف الإسلامي بهذه الموقعة، فظهر أهل الإيمان بإيمانهم، وأهل الكفر بكفرهم ونفاقهم. وفي السنة الخامسة كانت غزوة الخندق أو الأحزاب، التي تكالب فيها أعداء الله على المدينة النبوية، عاصمة الإسلام الأولى، يريدون إطفاء نور الله، إذ استطاع اليهود تأليب القبائل العربية على غزو الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة. وقد ابتلي فيها المسلمون ابتلاءً عظيماً، قال تعالى: {إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا} 1. ولكن رد الله تعالى كيد الأعداء في نحورهم، قال تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} 2.

_ 1 سورة الأحزاب الآيتان: 10-11. 2 سورة الأحزاب الآية: 25.

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم بعد رجوع المشركين وانصراف الأحزاب عن المدينة: "الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم" 1. وقد تحقق قول الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم تغزهم قريش بعد هذه الغزوة، حتى غزاهم المسلمون وفتحوا مكة. وفي آخر السنة السادسة من الهجرة، كان صلح الحديبية بين المسلمين وكفار قريش، حيث كان فتحاً للمسلمين، وهزيمة لأعدائهم المشركين، قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} 2. قال عمر رضي الله عنه: "أو فتح يا رسول الله؟ قال: نعم"3. وقد دلت الحوادث على أن صلح الحديبية كان في حقيقته فتحاً على المسلمين، وطريقاً إلى فتح مكة، ونشراً للدعوة خارج الجزيرة العربية، حيث كتب عليه الصلاة والسلام بعد هذا الصلح لملوك ورؤساء العالم، يدعوهم إلى الإسلام.

_ 1 صحيح البخاري بشرح الفتح 7/405 كتاب المغازي، باب غزوة الخنذق. 2 سورة الفتح الآيات: 1-3. 3 صحيح مسلم 3/1412 كتاب الجهاد والسير، باب صلح الحديبية في الحديبية.

نقل ابن هشام عن الزهري قال: "فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة، ووضعت الحرب، وأمن الناس بعضهم بعضاً، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئاً إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين، مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر"1. ثم قال ابن هشام: "والدليل على قول الزهري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة، في قول جابر بن عبد الله، ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين، في عشرة آلاف"2. وفي السنة الثامنة كان فتح مكة، وتم تطهير بيت الله الحرام من أرجاس الجاهلية وأوثانها، وصار مثابة للناس وأمناً. فبعد أن نقضت قريش العهد الذي وقع في الحديبية، سار الجيش الإسلامي بقيادة المصطفى صلى الله عليه وسلم متوجهاً إلى مكة، لتأديب قريش، وكبح جماحها، وردّ ظلمها، وقد هيأ الله أسباب النصر لنبيه، فدخل مكة فاتحاً، وأصدر الرسول صلى الله عليه وسلم عفواً شاملاً حيث جمع قريشاً وقال لهم: "ما ترون أني فاعل بكم؟ " قال: خيراً، أخ كريم،

_ 1 سيرة ابن هشام 2/322، وتاريخ الطبري 2/638، والمغازي للواقدي 2/609-610، 624. 2 سيرة ابن هشام 2/322.

وابن أخ كريم، قال: "فإني أقول لكم كما قال يوسف لأخوته، لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء" 1. وطهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت الله الحرام من الأوثان، والأصنام، وأزال منه الصور والتماثيل وأخذ يطعنها وهو يقول: "جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً" 2. وأمر بلالاً أن يصعد على الكعبة فيرفع الأذان، ورؤساء قريش يسمعون كلمة التوحيد تعلو، وفجاج مكة ترتج بها، لقد كان لفتح مكة في قلب الجزيرة العربية ومركزها الروحي والسياسي أثر بالغ في تدعيم قواعد العدل، ونشر مبادئ المساواة، ورفع راية الإسلام على جزيرة العرب، وإزالة العوائق من طريق الدعوة، فأقبل الناس على الإسلام –بعد خضوع قريش، إقبالاً لم يعرف قبل ذلك، وصاروا يدخلون في دين الله أفواجاً3. كما في قوله تعالى: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ

_ 1 سيرة ابن هشام 2/412، وزاد المعاد لابن القيم 2/183-184، وعيون الأثر لابن سيد الناس 2/230، وفتوح البلدان للبلاذري ص: 55. 2 سورة الإسراء الآية: 81. 3 انظر: زاد المعاد لابن القيم 2/184، وعيون الأثر لابن سيد الناس 2/231.

فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} 1. ولقد كان لهذا الفتح أثر كبير في نفوس القبائل، حيث كان بين بعض القبائل وبين قريش حلف، وكانت ممتنعة عن الدخول في الإسلام لمكانة هذا الحلف، وكانت بعض القبائل ترهب قريشاً، وتجلها، فلما رأتهم استسلموا للإسلام رغبت فيه، وزال الحاجز، كما كانت بعض القبائل تعتبر مكة لا يفتحها ولا يدخلها ملك جبار أو من يريد لها سوءاً، ولا يزال فيها من عاصر حادثة الفيل، وشاهد ما فعل بأبرهة، فيقولون: "اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق"2. فلما ظهر عليه الصلاة والسلام على قريش، ودخل مكة آمناً، أقبل الناس على الإسلام، وهم آمنون مقتنعون3.

_ 1 سورة النصر. 2 صحيح البخاري بشرح الفتح 8/22 كتاب المغازي، باب وقال الليث حدثني يونس.. وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد مسح وجهه عام الفتح. 3 انظر: السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي ص: 289 دار الشروق ط1، 1397?.

7- الخلاف في أخذ الجزية منهم: وقد اختلف الفقهاء في أخذ الجزية من المشركين: فقال مالك: إنَّ الجزية تقبل من جميع الكفار، إلاّ من ارتد، وبه قال الأوزاعي وفقهاء الشام1. وقال الشافعي وأحمد في أظهر الروايتين وأبو ثور، أن الجزية لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب والمجوس2. وقال أبو حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى أنه لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف3. والسبب في اختلافهم معارضة العموم للخصوص، أما العموم، فقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ} 4. وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى

_ 1 بداية المجتهد لابن رشد 1/389، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8/110، ونيل الأوطار للشوكاني 9/214. 2 المجموع للنووي 18/207، والمغني لابن قدامة 1/500، وفتح الباري لابن حجر 6/259، والإفصاح لابن هبيرة 2/292. 3 أحكام القرآن للجصاص 4/285، والمغني لابن قدامة 8/500، والإفصاح لابن هبيرة 2/292. 4 سورة البقرة الآية: 193.

يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله" 1. وأما الخصوص فما ثبت في صحيح مسلم من حديث علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لأمراء السرايا الذين يبعثهم إلى مشركي العرب: " ... وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهن أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإنْ أبوا أن يتحولوا منها، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنية والفيء شيء، إلا أنْ يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فَسَلْهُمُ الجزية، فإنْ هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإنْ هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم" 2.

_ 1 صحيح البخاري بشرح الفتح 1/75 كتاب الإيمان، باب {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} . ومسلم 1/53 كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، رقم: 22. 2 صحيح مسلم 3/1357 كتاب الجهاد، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم، حديث رقم: 1731.

فمن رأى أن العموم إذا تأخر عن الخصوص، فهو ناسخ له، قال لا تقبل الجزية من مشرك، عدا أهل الكتاب، لأنّ الآية الآمرة بقتالهم على العموم هي متأخرة عن ذلك الحديث، وذلك أن الأمر بقتال المشركين عامة هو في سورة (براءة) ، وذلك عام الفتح، وذلك الحديث إنما هو قبل الفتح، بدليل دعائهم فيه إلى الهجرة. ومن رأى أنّ العموم يبنى على الخصوص، تقدم أو تأخر أو جهل التقدم والتأخر بينهما، قال: تقبل الجزية من جميع المشركين. وأما تخصيص أهل الكتاب من سائر المشركين، فخرج من ذلك العموم باتفاق، لقوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 1. قال ابن القيم رحمه الله: "إنما لم يأخذها عليه الصلاة والسلام من مشركي العرب، لأنها إنّما نزل فرضها بعد أن أسلمت دارة العرب، ولم يبق فيها مشرك، فإنّها نزلت بعد فتح مكة، ودخول العرب في دين الله أفواجاً، فلم يبق بأرض العرب مشرك، ولهذا غزا بعد الفتح تبوك، وكانوا نصارى، ولو كان بأرض العرب مشركين لكانوا يلونه، وكانوا أولى

_ 1 بداية المجتهد 1/389. والآية: 29، من سورة التوبة.

بالغزو من الأبعدين. ومن تأمل السير وأيام الإسلام، علم أنّ الأمر كذلك، فلم تؤخذ منهم الجزية لعدم من يؤخذ منه، لا لأنهم ليسوا من أهلها، قالوا: وقد أخذها من المجوس، وليسوا بأهل كتاب، ولا يصح أنه كان لهم كتاب ورفع، وهو حديث لا يثبت مثله، ولا يصح سنده، ولا فرق بين عباد النار، وعباد الأصنام، بل أهل الأوثان أقرب حالاً من عباد النار أعداء إبراهيم الخليل، فإذا أخذت منهم الجزية، فأخذها من عباد الأصنام أولى"1 ا.? والذي يبدو لي صحيحاً من هذه الآراء هو رأي القائلين بأن الجزية تؤخذ من جميع الكفار، وهو قول المالكية، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والشيخ محمد بن عثيمين وغيرهم رحم الله الجميع2.

_ 1 زاد المعاد 2/89-90. 2 انظر: الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية لعلاء الدين البعلي ص: 319، وزاد المعاد لابن القيم 2/89-90، والشرح الممتع على زاد المستنقع للشيخ محمد العثيمين 8/63.

الخاتمة وفي نهاية هذا البحث أقدم للقارئ الكريم لمحة موجزة عن أهم الأفكار والمحتويات التي تضمنتها الرسالة فيما يلي: 1- أثبت القرآن الكريم والسنة النبوية أنّ عقيدة التوحيد قد صاحبت البشرية منذ بدايتها، بدءاً بآدم عليه السلام الذي عرّف بنيه بربهم وبالإسلام، وتلقى أبناؤه من بعده هذه العقيدة من جيل إلى جيل، يعبدون الله وحده ولا يشركون به شيئاً. ولما طال الزمان، انحرف الناس عن الفطرة بسبب جهلهم وبعدهم عن العلم وإغواء الشياطين لهم، وعبدوا مع الله غيره من الأصنام والأوثان وقبور الصالحين، وعند ذلك بعث الله إليهم نوحاً عليه السلام، فجدد الدعوة إلى التوحيد وأعاد إلى العقيدة نقاءها وصفاءها، وحاول -جاهداً- بكل ما يملك من طاقة أن يخرج الناس مما انتكسوا فيه من ضلال وكفر، وكانت النتيجة أنْ نجى الله نوحاً والذين آمنوا معه، وأغرق من عداهم من عبدة الأصنام والأوثان.2- ثم استمر موكب الإيمان يتجدد من وقت لآخر، وفي كل أمة يبعث الله الأنبياء والرسل يبينون للناس الحق والهدى، كلما انتكسوا أو انحرفوا، كهود وصالح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وشعيب وموسى وعيسى وغيرهم، كان أول دعوة هؤلاء عليهم السلام،

وأكبر هدفهم هو تصحيح العقيدة في الله تعالى، وتصحيح الصلة بين العبد وربه، والدعوة إلى إخلاص الدين، وإفراد العبادة لله وحده، وأنه النافع الضار المستحق لجميع أنواع العبادة، وكانت حملتهم مركزة وموجهة إلى الوثنية القائمة في عصورهم، الممثلة بصورة واضحة في عبادة الأوثان والأصنام، والصالحين من الأحياء والأموات، وعبادة الكواكب ونحوها. 3- وقبيل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم كان جو العالم كله يموج بالاضطرابات الوحشية، إلى حد كبير، وكان اعتماد الناس على وسائل الشر أكثر من اعتمادهم على وسائل الخير والصلاح. فقد انتشرت في الجزيرة العربية العقائد الفاسدة، وعلى رأسها عبادة الأصنام والأوثان، وجرفتها تيارات العصبية الممقوتة، وسادت فيها الأوضاع الاجتماعية الجائرة.. وبنو إسرائيل حرفوا وغيروا كتب الله وشرائعه، وكفروا بنعمه، وركنوا إلى المادة، وأصبح بأسهم بينهم شديد، كما عبدت الفرس والهند الأوثان، وعاش الناس جمعاً في ظلام من الشك والجهل.. 4- وفي ظل هذا الجو المظلم، بعث الله خاتم أنبيائه وصفوة خلقه محمداً صلى الله عليه وسلم، فسار على نهج إخوانه من الأنبياء والرسل في الدعوة إلى الله تعالى، وأكمل الله به الدين، وأتم به النعمة، وكان القرآن الكريم والسنة النبوية فيهما العلاج الناجع والبلسم الشافي لأمراض البشرية كلها، بل فيهما كل ما يحتاج إليه الناس في دينهم ودنياهم.

5- ومسلك القرآن الكريم في دعوة المشركين وغيرهم لم يكن جدلاً عقيماً، أو تفلسفاً مذموماً، أو قولاً يستعصى على العقول فهمه، ولكنه جاء سهلاً واضحاً يفهمه البدوي في مضارب البادية، كما يفهمه أهل الحضارة والثقافة في أرجاء الأرض، ويتذوقه من عاصر الوحي، وشهد تنزلاته. 6- والقرآن الكريم يعتبر قضية وجود الله تعالى أمراً فطرياً في النفوس البشرية السليمة، لا يحتاج إلى جدال أو نقاش، وكل إنسان عاقل يدرك بنفسه هذه الحقيقة. لكن الإنسان في هذه الدنيا تحيط به مؤثرات كثيرة تجعله ينحرف، ومن أسباب انحرافه تقليد الأبناء لضلال الآباء، وما قد يلقيه الكتاب المنحرفون في أفكار الناشئة، بما يبدل هذه الفطرة ويكدرها، ويلقي عليها غشاوة، فلا تتجه إلى الحقيقة. ومن طلب الدلائل التي تحرك الفطرة، وتشير إلى وجود الله ووحدانيته وجدها أكثر من أن تحصى، فهي تنبعث من خلق الإنسان نفسه، ونفسه أقرب شيء إليه، ويجدها في السماء والأرض والشمس وفي القمر وفي تعاقب الليل والنهار، وسير النجوم، وهبوب الرياح، وتسخير السحاب، وهطول الأمطار، وفي عالم الحيوان وعالم النبات. فمن تأمل ذلك أدرك بعقله وبصيرته أن هذا الخلق، وهذا النظام، وهذا الإبداع لا يمكن أن يحدث من غير محدث، أو يوجد من غير موجد،

لأن تلك المخلوقات عاجزة عن إيجاد ذلك النظام الدقيق، والترتيب المحكم، وصدق من قال: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد 7- ولما كان المشركون لا ينكرون وجود الله تعالى، وإنما اتخذوا معه آلهة يظنون أن لها حظوة ومكانة عند الله تقربهم إليه. فقد أقام القرآن الكريم عليهم كثيراً من الحجج والبراهين الملزمة لهم بالاعتراف بالوحدانية لله تعالى، ومن أهم ذلك: أ- الأدلة القوية على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم المتمثلة في شهادة ربه تبارك وتعالى له، وكفى بها شهادة، وكذلك شهادة أهل الكتاب بصدقه، وشهادة المشركين أنفسهم له بالصدق والأمانة، وكان رأيهم في ذلك يعد إجماعاً منهم على كريم أخلاقه صلى الله عليه وسلم. ولعل من أعظم علامات صدقه صلى الله عليه وسلم أن تحداهم بالقرآن الكريم، بل تحدى الإنس والجن على أن يأتوا بسورة من مثله، ولو بأقصر السور، ولم يتقدم واحد منهم إلى الميدان، على الرغم من أنهم أئمة الفصاحة، وفرسان البلاغة في هذا الشأن. ب- استجواب المشركين عن أمور لا يمكنهم إنكارها، كالرزق والحواس، وأحوال الموت والحياة، وشئون التدبير، والاستقلال بالملك والتصرف في الكون، وما فيه من سائر صنوف المخلوقات، لأنهم عند ذلك لا يجدون محيداً عن الجواب الصحيح، وهو أن ذلك كله بيد لله،

ومن هنا فإنه يلزمهم الإعتراف بأنّ الذي ابتدأ الخلق والإيجاد والإبداع، هو المستحق للعبادة وحده. ج- وكذلك ألزمهم بتقرير وحدانية الله تعالى، باعترافهم بأن الخالق لكل ما في الكون من سماء وأرض، وشمس وقمر، وليل ونهار، وسحاب وأنهار، وحيوان ونبات: هو الله تعالى وحده، لأنه إذا كان الله تعالى هو رب كل شيء ومليكه، وهو الخالق الرازق وحده، فلماذا يعبدون غيره؟ د- وألزمهم أيضاً بأن إقرارهم بتوحيد الله عند الشدائد، وما لا يطاق من اللأواء وشدة الكرب والفزع في البر والبحر - حيث ثبت أنهم لا يتوجهون في تلك اللحظات إلى صنم، ولا إلى كوكب، ولكنهم يتوجهون إلى الله وحده مخلصين له الدين سراً وجهراً- فذلك يوجب عليهم الإقرار بتوحيده في الأمن والرخاء. ?- ودعاهم القرآن الكريم عن طريق السؤال والجواب في آن واحد، حتى لا يسأموا من الدعوة إلى التوحيد، وفي نفس الوقت، كان هذا إلزاماً لهم بالحجة الواضحة التي لا يمكنهم إنكارها. و وفي مجال ضرب البراهين العقلية: دعاهم القرآن إلى النظر والتدبر فيما يشاهدونه من خلق السموات والأرض، وما فيهما من إبداع، وليس لآلهتهم في صنعها يد، فلا بد أن تكون العبادة لمن خلق كل ذلك

ز- وضرب لهم الأمثال للتذكير والوعظ والاعتبار، وتصوير الشرك في صورة محسوسة، ليكون ذلك أقرب إلى الأنظار، وأثبت في الأذهان، وأدعى إلى الامتثال. ح- وجادلهم القرآن الكريم سالكاً معهم في الاستدلال على وحدانية الله تعالى مسلكين: 1- دليل التمانع، وذلك أنه لو كان مع الله شركاء في كونه، لما قبلوا أن يكونوا في مركز أدنى، ولسعوا ليكونوا شركاء منافسين له في كل شيء، وعند ذلك يفسد الكون بين رغبات الشركاء، ولكن ثبت انتظام الكون وسلامته من الخلل والتصادم والفساد، فعلم أن الله واحد ليس له شريك. 2- التركيز على إبطال معبودات المشركين، ومناقشتهم فيها مناقشة واضحة صريحة، وفي شأن معبوداتهم التي لا تقدر على خلق ذبابة، ولا تستطيع أن تدفع عن نفسها ضراً، ولا تجلب لنفسها نفعاً، فضلاً عن نفع غيرها، أو إلحاق الضرر به. ط- وطالبهم القرآن الكريم على وجه التعجيز أنْ يأتوا بدليل عقلي أو نقلي يقر عبادتهم، ولما كان صريح العقل حاكماً بأنه لا يجوز إسناد جزء من أجزاء هذا العالم إلى معبودات المشركين، وإن كان ذلك الجزء أقل الأجزاء، ولا يجوز أيضاً إسناد الإعانة إليها في أقل الأفعال وأذلها. وكذلك فإن إثبات ما يعتقدونه عن طريق أي نقل، فإنه أمر محال،

ولأنه قد علم بالتواتر الضروري إطباق جميع الكتب على المنع من عبادة غير الله تعالى. ولما بطل الكل، ثبت أن الاشتغال بعبادة الأصنام عمل باطل واعتقاد فاسد. 8- واشتمل مسلك القرآن الكريم على كثير من التوجيهات والتحذيرات التي تدعو المشركين إلى الإيمان بوحدانية الله تعالى وانضوائهم تحت لواء الإسلام، من أهمها ما يلي: أ- دعوتهم بالأمر الجازم بعبادة الله وحده، والنهي عن عبادة ما سواه. ب- مطالبتهم بأنْ يحاكموا تقاليدهم وعقائدهم الجاهلية الموروثة إلى ميزان العقل، إن كانت لديهم عقول. ج- استعمال أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة في دعوتهم، وعدم سب آلهتهم لئلا يسبوا الله تعالى بسبب جهلهم وعدم علمهم. د- واستعمل معهم أسلوب القصة لتقرير التوحيد بأبلغ أسلوب، وأقوى حجة، ونفي للشرك بأوضح بيان. ?- دعوتهم إلى التأمل في مصير المكذبين من الأمم السابقة، لأخذ الدرس والعبرة بسنن الله في الخلق؛ لأنّ السعيد من اتعظ بغيره، وتعلم من أخطاء الآخرين. و وبين لهم سخف ما هم عليه من عقيدة واهية، وما اتخذوه من

دون الله تعالى من آلهة مزعومة، لا تملك لنفسها ولا لغيرها نفعاً ولا تدفع ضراً.. إذ كيف ينزل العقل الإنساني إلى هذا الدرك الأسفل، من التخلف العقلي في عبادة تلك المعبودات الواهية، مع اعترافه بأن للوجود رباً خالقاً رازقاً؟ ولم لا يتوجه إلى هذا الخالق الرازق مباشرة؟ ز- وذكرهم بأنواع من النعم الكثيرة، التي امتن الله بها عليهم وعلى عباده، لعلهم يشكرون الله ويؤمنون به، وحذرهم من النقم، وتهددهم بالجوع والخوف والمنع والحرمان، لعلهم يرعوون عن شركهم وجحودهم. ح- ولما كان الشرك بالله تعالى أكبر الكبائر، وأعظم الذنوب، وأفظع المحرمات وأشنعها، وأن صاحبه خالد مخلد في النار إذا لم يتب إلى الله قبل الموت؛ فإن الله تعالى أخبر بأنه لا يقبل أي عمل من الأعمال مع الإشراك به، وأن مصير المشرك هو: الخلود الأبدي السرمدي في نار جهنم. وأكد لهم أنه لن يتسامح مع مرتكبي هذا الجرم الفظيع، وأن الشرك يقطع الصلة بين الله تعالى وبين عباده، فلا يبقى لهم معه أمل في المغفرة والرحمة إذا ماتوا وهم على ذلك. 9- ودحض القرآن الكريم كل ما يثيره المشركون من شبهات

حول بعض المسائل الغيبية، سواء ما يتعلق بالملائكة أو البعث، أو ما يتعلق بأمر الشفعاء والأولياء، وبين الحق في ذلك، ووضحه تمام الوضوح. 10- وكذلك فنّد القرآن جميع الشبهات التي يثيرها المشركون حول الرسالة، سواء ما يتعلق منها بالقرآن أو بصاحب الرسالة عليه أفضل الصلاة، وأتم التسليم. 11- كما أحدث الإسلام تغييراً جذرياً في ما كان عليه الناس في جاهليتهم من عادات باطلة، حيث اشتمل الإسلام على عبادات وأحكام شرعية وأخلاقية، لها وزنها وقيمتها في تربية الفرد والجماعة والأمة على منهاج الله تعالى الملائم للفطرة البشرية. 12- ثم قرر الإسلام موقفه الحاسم من المشركين، والمتمثل في إبعادهم عن المسجد الحرام، ومنعهم من عمارته؛ لأنه لا يستقيم لهم أن يجمعوا بين أمرين متناقضين، هما: عمارة المساجد من جهة، والإشراك بالله من جهة أخرى، كما اعتبرهم نجساً، وحرم الزواج منهم للاختلاف الشاسع بين من يعبد الله وحده، ويؤمن برسوله صلى الله عليه وسلم، ومن يعبد الأصنام والأوثان، وحرّم ذبائحهم؛ لأنهم يذبحونها لغير الله تعالى، وبين أنه لا يجوز الاستغفار لهم بعد إصرارهم على الشرك، وموتهم على ذلك. كما قرر إلغاء عهودهم ونبذها إليهم؛ لأن المشركين لم يحترموا عهود المسلمين ومواثيقهم، بل نقضوها، وتآمروا على الإسلام ورسول

الإسلام بشتى الوسائل والأساليب: تارة بالمكر والخديعة. وتارة بالكذب والافتراء على القرآن ورسول الإسلام. وأخرى بالتآمر مع اليهود على حرب المسلمين. وقد استبعد القرآن أنْ يثبت المشركون على العهد؛ لأنهم إن يظفروا بالمسلمن لا يرقبوا فيهم عهداً ولا ذمة، وإنما يرضونهم بالكلام المنمق، وتمتنع قلوبهم عن الإذعان والوفاء بما يبدونه بألسنتهم. 13- ومن أجل رفع كلمة لا إله إلا الله على سائر المعتقدات، ومن أجل قمع الشرك والمشركين أعداء الإسلام والمسلمين. خاض المسلمون عدة معارك حاسمة مع المشركين بعد أن أذن الله لهم في قتالهم، وبذلك زالت العقبات التي كانت تقف في طريق الدعوة إلى الإسلام، وإلى رفع راية التوحيد. وأخيراً: أرجو أن أكون قد وفقت فيما قدمت من جهد في هذا الموضوع المهم. وأسأل الله عز وجل أن يجعلني من الدعاة إلى الإسلام على بصيرة، وأن يوفقني لخدمة كتابه الكريم، وسنة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأسأله تعالى أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين

مصادر ومراجع

مصادر ومراجع ... فهرس بأهم المصادر والمراجع القرآن الكريم. الإتقان في علوم القرآن (جزءان في مجلد واحد) للإمام جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت911?) شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الرابعة 1398?. الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة: لشهاب الدين ابن أحمد إدريس المالكي، المعروف بالقرافي، مطبوع بهامش كتاب الفارق بين المخلوق والخالق، لعبد الرحمن بك باجه جي زادة، مطبعة التقدم بمصر سنة 1322?، الطبعة الأولى. أحكام أهل الذمة (جزءان) للإمام العلامة شمس الدين محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية (ت751?) تحقيق الدكتور صبحي الصالح، الطبعة الثانية 1401?، دار العلم للملايين بيروت. أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام: للدكتور عبد الكريم زيدان، نشر مؤسسة الرسالة بيروت، ومكتبة القدس ببغداد 1402?. أحكام القرآن (5أجزاء) : للإمام أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص (ت370?) الطبعة الثانية، نشر دار

المصحف-القاهرة. تحقيق محمد الصادق قمحاوي. إحياء علوم الدين (5أجزاء) : للإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي (ت505?) مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع- القاهرة 1387?. أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار (جزءان في مجلد واحد) : لأبي الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد الأزرقي (ت223?) تقريباً، مطابع دار الثقافة- مكة المكرمة، الطبعة الرابعة 1403?، تحقيق رشيد الصالح ملحس. الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، علاء الدين البعلي الدمشقي (ت803?) ، مكتبة الرياض الحديثة. أديان الهند الكبرى: للدكتور أحمد شلبي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة الطبعة الرابعة 1976م. الأديان دراسة تاريخية مقارنة، القسم الأول الديانات القديمة، تأليف الدكتور: رشدي عليان، وسعدون الساموك، دار الحرية للطباعة –بغداد 1396? 1976م. الأديان في القرآن: للدكتور محمود بن الشريف، دار عكاظ للطباعة والنشر 1399?، الطبعة الثالثة -جدة. الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة: للشيخ عبد القادر شيبة الحمد، مطابع شركة المدينة للطباعة والنشر –جدة.

أسباب النزول لأبي الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري (ت468?) دار الكتب العليمة –بيروت، الطبعة الأولى 1402? 1982م. استخراج الجدل من القرآن الكريم: لإمام ناصح الدين عبد الرحمن بن نجم المعروف بالحنبلي (ت634?) مطابع الفرزدق التجارية، الطبعة الثانية 1401?، تحقيق الدكتور زاهر عوض الألمعي. الاستقامة، لشيخ الإسلام ابن تيمية (ت728?) ، ط 2، 1409?، مكتبة السنة، تحقيق محمود رشاد سالم. الإسلام في عصر العلم: للأستاذ محمد فريد وجدي، دار الكتاب اللبناني –بيروت. الإصابة في تمييز الصحابة (8أجزاء) لشهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت852?) الطبعة الأولى سنة 1328? دار صادر –بيروت، تحقيق علي محمد البجاوي. الأصول الثلاثة وأدلتها، للشيخ محمد بن عبد الوهاب التميمي، مطابع القصيم –الرياض. أصول الدعوة: لعبد الكريم زيدان، جمعية الأماني ببغداد، الطبعة الثالثة، سنة 1396?.

أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (9أجزاء) للشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي (ت1393?) رحمه الله، مطبعة المدني سنة 1386? -القاهرة. إظهار الحق (جزءان في مجلد واحد) ، للشيخ رحمة الله خليل الهندي (ت1386?) دار التراث العربي للطباعة والنشر –بمصر. الاعتصام لأبي إسحاق الشاطبي (ت790?) ، اعتناء رياض عبد الهادي 1417? 1997م، ط 1 –بيروت. اعتقادات فرق المسلمين والمشركين: للإمام محمد بن عمر ابن حسين الرازي (ت606?) دار الكتب العلمية –بيروت 1402? 1982م. إعجاز القرآن: لأبي بكر محمد الطيب الباقلاني (ت403?) دار المعارف -بمصر، الطبعة الثالثة. إعجاز القرآن والبلاغة النبوية: لمصطفى صادق الرافعي، دار الكتاب العربي –بيروت، الطبعة التاسعة 1393?. أعلام الموقعين عن رب العالمين (4 أجزاء) : لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية (751?) دار الجيل للنشر والتوزيع والطباعة – بيروت 1973م. أعلام النبوة: لأبي الحسن على بن محمد الماوردي الشافعي (ت

450?) دار الكتب العلمية –بيروت، الطبعة الثانية 1401?. إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان (جزءان) لابن القيم الجوزية، دار المعرفة –بيروت، تحقيق محمد حامد الفقي. الإفصاح عن معاني الصحاح (جزءان) للوزير عون الدين أبي المظفر يحيى بن محمد نب هبيرة الحنبلي (ت560?) المؤسسة السعيدية بالرياض. اقتضاء الصراط المستقيم: لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد ابن عبد الحليم بن عبد السلام بن أبي القاسم الخضر بن تيمية النمر الحراني (ت728?) مطبعة الحكومة –بمكة، 1389?. الأمثال في القرآن: لشمس الدين أبي عبد الله المعروف بابن قيم الجوزية (ت751?) ، دار المعرفة للطباعة والنشر –بيروت، تحقيق سيد محمد نمر الخطيب. الله (كتاب في نشأة العقيدة الإلهية) لعباس محمود العقاد، الطبعة السابعة، دار المعارف –بمصر. الله يتجلى في عصر العلم: تأليف نخبة من العلماء الأمريكيين، ترجمة الدكتور: الدمرداش عبد المجيد سرحان، مؤسسة الحلبي وشركاه –القاهرة. أنوار التنزيل وأسرار التأويل (جزءان) : لناصر الدين أبي

الخير عبد الله بن عمر البيضاوي (ت791?) مطبعة البابي الحلبي بمصر، الطبعة الثانية 1388?. إيثار الحق على الخلق: لأبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن علي ابن المرتضى اليماني، دار الكتب العلمية –بيروت 1318?. الإيمان وآثاره والشرك ومظاهره: لزكريا يوسف علي، مكتبة السلام العالمية، القاهرة، الطبعة الثانية. الإيمان: لعبد المجيد الزنداني، دار القلم دمشق، ومكتبة طيبة بالمدينة المنورة، الطبعة الثانية 1403?-1983م. الإيمان كما يصوره الكتاب والسنة: للدكتور علي عبد المنعم، دار البحوث العلمية –الكويت، الطبعة الأولى 1398?. (ب) بداية المجتهد ونهاية المقتصد (جزءان) : لمحمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي الأندلسي (595?) الطبعة الثالثة سنة 1379?، شركة البابي الحلبي وأولاده –بمصر. البداية والنهاية (14 جزءاً في سبع مجلدات) : لأبي الفداء الحافظ عماد الدين بن كثير الدمشقي (ت774?) مكتبة المعارف –بيروت. البرهان في علوم القرآن (4أجزاء) : للإمام بدر الدين محمد ابن عبد الزركشي (ت794?) ، الطبعة الثانية 1391?، دار

المعرفة –بيروت، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب (3 أجزاء) : للسيد محمود شكري الألوسي البغدادي (1270?) دار الكتب العلمية- بيروت. بهجة الناظرين فيما يصلح الدنيا والدين: عبد الله جار الله السوادي، ط 1، 1410? -جدة. البيان والتبيين: لعمرو بن بحر الجاحظ (ت255?) الشركة اللبنانية للكتاب –بيروت. البيهقي وموقفه من الإلهيات: لأحمد بن عطية الغامدي، ط 2، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، 1402?-1982م. (ت) تاريخ التشريع الإسلامي: للشيخ محمد الخضري بك، المكتبة التجارية الكبرى -بمصر، الطبعة السابعة 1960م. تاريخ الجاهلية: للدكتور عمر فروخ، دار العلم للملايين- بيروت، الطبعة الثانية 1984م. تاج العروس من جواهر القاموس (10أجزاء) لمحب الدين أبي الفيض السيد محمد مرتضى الحسيني الواسطي الزبيدي (ت1205?) ، المطبعة الخيرية 1306?، نشر مكتبة الحياة- بيروت. تاريخ الدعوة: للدكتور جمعة بن علي الخولي، دار الطباعة

المحمدية –القاهرة، الطبعة الأولى 1404?-1984م. تاريخ الرسل والملوك (11جزءاً) : لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت310?) الطبعة الثانية، دار المعارف بمصر، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. تاريخ الإسلام السياسي (3 أجزاء) : للدكتور حسن إبراهيم حين، الطبعة التاسعة 1979م، مكتبة النهضة المصرية –القاهرة. تاريخ العرب قبل الإسلام (7 أجزاء) : للدكتور جواد علي، مطبعة المجمع العلمي العراقي سنة 1375?. التبيان في أقسام القرآن: لشمس الدين ابن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية –بيروت، سنة 1402?-1982م. الترتيب والبيان عن تفصيل آي القرآن (جزءان) : ترتيب وتفسير محمد زكي صالح، الطبعة الثانية 1399?-1979م، المكتبة العلمية –بغداد. الترغيب والترهيب من الحديث الشريف (4 أجزاء) : للإمام الحافظ زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري (ت656?) ، نشر إحياء التراث العربي –بيروت، الطبعة الثالثة 1388? -تعليق مصطفى محمد عمارة. التشريع والفقه الإسلامي: لمناع القطاع، مكتبة وهبة –

القاهرة، الطبعة الأولى 1396?-1976م. تفسير أبي السعود المسمى إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم (9 أجزاء في خمس مجلدات) : لقاضي القضاء أبي السعود محمد بن محمد العمادي (ت951?) دار إحياء التراث العربي –بيروت. التفسير الحديث (12جزءاً) لمحمد عزة دروز، دار إحياء الكتب العربية. تفسير القاسمي المسمى محاسن التأويل (17جزءاً في 9 مجلدات) : لمحمد جمال الدين القاسمي (ت1332?) دار الفكر –بيروت. تفسير القرآن الجليل المسمى لباب التأويل في معاين التنزيل (4 أجزاء) : للعلامة علاء الدين علي بن محمد المعروف بالخازن، دار المعرفة –بيروت. تفسير القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار (12 جزءاً) : لمحمد رشيد رضا، دار المعرفة –بيروت، الطبعة الثانية 1393?. تفسير القرآن العظيم (4 أجزاء) : للحافظ عماد الدين أبي الفداء ابن كثير (ت774?) ، مطبعة الفجالة الجديدة –القاهرة، الطبعة الأولى 1384?، نشر مكتبة النهضة الحديثة.

التفسير القيم لابن قيم الجوزية (مجلد واحد) جمع محمد إدريس الندوي، دار الكتب العلمية –بيروت 1398?. التفسير الكبير (32 جزءاً في 17 مجلدا‍ً) : للإمام محمد الرازي فخر الدين بن العلامة ضياء الدين (ت606?) ، دار الكتب العلمية –طهران، تصوير عن الطبعة البهية المصرية. التفسير الكبير المسمى بالبحر المحيط (8 أجزاء) : لأثير الدين أبي عبد الله محمد يوسف بن علي بن يوسف بن حيان الأندلسي الشهير بأبي حيان (ت754?) ، مكتبة ومطابع النصر الحديثة –الرياض. تفسير الكشاف (4 أجزاء) : لأبي القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري (ت538?) دار المعرفة –بيروت. تفسير المراغي (30 جزءاً في 10 مجلدات) : لصاحب الفضيلة الأستاذ أحمد مصطفى المراغي، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثانية 1985م. تلبيس إبليس: للحافظ الإمام جمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي البغدادي (ت597?) ، دار الكتب العلمية –بيروت. تهذيب اللغة (15 جزءاً) : لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت1370?) ، الدار المصرية للتأليف والترجمة.

تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد: للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (ت1233?) ، الطبعة الرابعة –المكتب الإسلامي. تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (8 أجزاء في 4 مجلدات) للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، مؤسسة مكة للطباعة والإعلام. (ج) جامع الأصول في أحاديث الرسول (11 جزءاً) : للإمام مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد بن الأثير الجزري (ت606 ?) ، نشر مكتبة الحلواني ومطبعة الملاح ومكتبة دار البيان، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط، توزيع رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالسعودية. الجامع لأحكام القرآن (20 جزءاً في 10 مجلدات) : لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي (ت671?) دار إحياء التراث العربي –بيروت. جامع البيان عن تأويل آي القرآن المعروف بتفسير الطبري (30 جزءاً في 12 مجلداً) : لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ت310?) ، شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة الثالثة 1388?.

الجامع الصحيح للترمذي (5 أجزاء) : للحافظ أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي (ت279?) ، دار إحياء الترث العربي. جامع العلوم والحكم: لابن رجب (ت795?) ط 5، 1414?، مؤسسة الرسالة –بيروت. الجاهلية قديماً وحديثاً: لأحمد أمين عبد الغفار، شركة الشعاع للنشر –الكويت. الجدل في القرآن: لمحمد التومي، طبع بالشركة التونسية لفنون الرسم 1400?-1980م. جمهرة الامتثال (جزءان في مجلد واحد) : لأبي هلال حسن بن عبد الله العسكري النحوي (ت395?) بهامش الأمثال للميداني. الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (4 أجزاء في مجلدين) : لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الخضر بن تيمية النمري الحراني (ت728?) ، مطابع المجد التجارية. جواهر الأدب (جزءان في مجلد واحد) : للسيد أحمد الهاشمي، مؤسسة المعارف –بيروت. (ح) حتى يغيروا ما بأنفسهم: لجودت سعيد، الطبعة الرابعة،

1398?-1978م، الطبعة بدون. حضارة العرب: لغوستاف لبون، طبع بمطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، ترجمة عادل زعيتر. الحيوان: لعمرو بن بحر الجاحظ (ت255?) ، دار صعب –بيروت، الطبعة الثانية 1397?. (خ) خاتم النبيين (جزءان) : لمحمد أبي زهرة، طبع على نفقة الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، الدوحة 1400?. الخصائص الكبرى (3 أجزاء) : للحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (ت 911?) دار الكتب الحديثة –بمصر، تحقيق محمد خليل هراس. (د) دراسات قرآنية: لمحمد قطب، دار الشروق –بيروت، الطبعة الثالثة 1402?-1982م. دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة: لموريس بوكاي، دار المعارف –بمصر. الدر المنثور في التفسير بالمأثور (6 أجزاء) : للإمام جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت 911?) دار المعرفة للطباعة والنشر –بيروت.

دستور الأخلاق في القرآن: للدكتور محمد عبد الله دراز، مؤسسة الرسالة –بيروت، الطبعة الرابعة 1402?. الدستور القرآني والسنة النبوية في شئون الحياة (جزءان) : لمحمد عزة دروزة، المكتب الإسلامي. الدعوة إلى الإسلام: لتوماس. و. أرنولد، مكتبة النهضة المصرية –القاهرة، ترجمة الدكتور حسن إبراهيم، والدكتور عبد المجيد عابدين، وإسماعيل النحراوي، الطبعة الثالثة، 1970م. الدعوة إلى الإسلام: لأبي بكر ذكرى، مكتبة دار العروبة –القاهرة. دعوة التوحيد: للدكتور محمد خليل هراس، دار الكتب العلمية –بيروت، توزيع دار الباز للنشر والتوزيع –مكة المكرمة، الطبعة الأولى، 1406?. دعوة الرسل إلى الله تعالى: لمحمد أحمد العدوي، نشر دار المعرفة للطباعة والنشر –بيروت 1399?. الدعوة الإسلامية أصولها ووسائلها: للدكتور أحمد أحمد غلوش، دار الكتاب المصري، ودار الكتاب اللبناني. الدعوة إلى الله في سورة إبراهيم الخلييل: لمحمد بن سيدي بن الحبيب، دار الوفاء –جدة، الطبعة الأولى 1406?.

دقائق التفسير (6 أجزاء في 3 مجلدات) : لشيخ الإسلام ابن تيمية، مؤسسة علوم القرآن –دمشق، بيروت، الطبعة الثانية 1404?-1984م، جمع وتقديم محمد السيد الجليند. دلائل النبوة: للحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي (ت 458?) القسم الأول، طبع بمطبعة دار النصر للطباعة –القاهرة، ونشرته مكتبة السلفية بالمدينة المنورة 1389?، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، والقسم الثاني مخطوط بالجامعة الإسلامية تحت رقم (2593) . دلائل النبوة: لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، (ت430?) طبع في سنة 1397?، دون ذكر اسم المطبعة أو الناشر. دور المنهج الرباني في الدعوة الإسلامية: لعدنان علي رضا النحوي، الطبعة الرابعة 1405?-1985م. ديوان الحماسة: لأبي تمام حبيب بن أوس الطائي، مطبعة السعادة، الطبعة الثالثة 1346?. الديانات القديمة: لمحمد أبي زهرة، دار الفكر العربي –القاهرة. الدين بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان: للدكتور محمد عبد الله دراز، دار القلم –الكويت، 1400?-1980م.

(ذ) ذيل الملل والنحل للشهرستاني: تأليف محمد سيد كيلاني، دار المعرفة للطباعة والنشر –بيروت. (ر) الرسائل السلفية في إحياء سنة خير البرية: للشيخ محمد بن علي الشوكاني (ت1250?) طبعة سنة 1348?-1930م، نشر دار الكتب العلمية –بيروت. رسالة التوحيد: للشيخ محمد عبده، دار إحياء العلوم –بيروت، الطبعة الثالث 1399?. الرسل والرسالات: للدكتور عمر سليمان الأشقر، مكتبة الفلاح –الكويت، لاطبعة الثالثة 1405?. روح الدين الإسلامي: لعفيف عبد الفتاح طبارة، دار العلم للملايين –بيروت، الطبعة السابعة 1966م. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (30 جزءاً في 15 مجلداً) : لشهاب الدين السيد محمود الألوسي البغدادي (ت1270?) ، نشر إدارة الطباعة المنيرية، ودار إحياء التراث العربي –بيروت، الطبعة الثانية. الروض الأنف في تفسير السيرة النبوي لابن هشام (4 أجزاء) : للإمام المحدث عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد

الخثعمي السهيلي (ت581?) نشر دار الكتب الحديثة –القاهرة 1398?-1978م. رياض الصالحين: للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي (ت676?) ، دار المأمون للتراث –دمشق. زاد المسير في علم التفسير (9 أجزاء) : للإمام أبي الفرج جمال الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي القرشي البغدادي (ت 597?) المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة 1403?- 1983م. زاد المعاد في هدي خير العباد (4 أجزاء في مجلدين) : للإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية (ت 751?) ، شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر. (س) سبيل النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الإشراك: للشيخ حمد بن علي بن عتيق، دار القرآن الكريم –بيروت، الطبعة الخامسة 1400?. سلسلة الأحاديث الصحيحة لمحمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي. سنن أبي داود (5 أجزاء) للإمام الحافظ أبي داود سليمان

ابن الأشعث السجستاني الأزدي (ت275?) ، دار الحديث للطباعة والنشر والتوزيع –بيروت، الطبعة الأولى 1388?. إعداد وتعليق عزت عبيد الدعاس وعادل السيد، وكذلك طيعة إحياء السنة النبوية تعليق محمد محي الدين عبد الحميد في (4 أجزاء) . سنن ابن ماجه (جزءان) : للحافظ أبي عبد الله بن يزيد القزويني (ت275?) ، دار الفكر، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. السنن الكبرى (10 أجزاء) للحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي (ت458?) ، دار الفكر. سنن النسائي (8 أجزاء في 4 مجلدات) : للحافظ أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي النسائي (ت303?) ، المكتبة العلمية –بيروت. السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون (3 أجزاء) لعلي بن برهان الدين الحلبي (ت 1044?) دار المعرفة –بيروت. السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية: د. مهدي رزق الله، ط 1، 1412?-1992م. السيرة النبوية لأبي الحسن علي الحسين الندوي، دار الشروق، الطبعة الثاني –جدة 1399?.

السيرة النبوية (4 أجزاء) لأبي الفداء إسماعيل بن كثير (ت 774?) ، دار المعرفة للطباعة والنشر –بيروت، تحقيق مصطفى عبد الواحد. السيرة النبوية الصحيحة: د. أكرم العمري، مكتبة العلوم والحكم بالمدينة المنورة. السيرة النبوية لابن هشام (جزءان) : لأبي محمد عبد الملك ابن هشام (ت 218?) دار الكنوز الأدبية، تحقيق مصطفى السقا، وإبراهيم الأبيار، وعبد الحفيظ شلبي. (ش) شرح الصدور بتحريم رفع القبور: للعلامة محمد بن علي الشوكاني، (ت1250?) مطبعة المدني –جدة 1395? من مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. شرح العقيد الطحاوية: للإمام علي بن محمد بن أبي العز الحنفي (ت321?) المكتب الإسلامي- دمشق، بيروت، الطبعة الرابعة سنة 1391?، تحقيق جماعة من العلماء، وخرج أحاديثها محمد ناصر الدين الألباني. الشرح الممتع على زاد المستقنع: للشيخ محمد بن صالح العثيمي، ط 1، مؤسسة آسام الرياض، 1417?-1997م. شرح النووي لصحيح مسلم (18 جزءاً في 9 مجلدات) :

للإمام الحافظ محي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف بن مري الحزامي الشافعي النووي (676?) دار الفكر –بيروت. الشرح الممتع على زاد المستقنع: لفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله، دار الوسام –الرياض، ط 1 1417?-1997م. الشرك وأنواعه: لجعفر أفندي وهاب، رسالة ماجستير بالجامعة الإسلامية عام 1403/1404?. (ص) صحيح البخاري بشرح فتح الباري (13جزءاً) : للإمام محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري (ت256?) طبع المكتبة السلفية. وكذلك صحيح البخاري (8 أجزاء في أربع مجلدات) : المكتبة الإسلامية إستانبول –تركيا، توزيع مكتبة العلم السعودية –جدة. صحيح مسلم (5 أجزاء) للإمام الحافظ أبي الحسين مسلم ابن الحجاج القشيري النيسابوري (261?) دار إحياء التراث العربي –بيروت، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. وكذلك صحيح مسلم بشرح النووي، دار الفكر -بيروت. صراع بين الحق والباطل: لسعد صادق محمد، منشورات

دار اللواء للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الرابعة 1398?-1978م. صفة الصفوة: لابن الجوزي (ت597?) تحقيق محمد فاخوري، دار المعرفة –بيروت، ط 3، 1405?-1985م. صفوة التفاسير (3 أجزاء) : لمحمد علي الصابوني، دار القرآن، بيروت، الطبعة الثانية 1401?. صيحة الحق: لأبي الوفاء الشيخ محمد درويش، مطابع قطر الوطنية، الطبعة السادسة. (ط) الطبقات الكبرى (9 أجزاء) : لابن سعد محمد بن سعد بن منيع البصري الزهري، المكنى بأبي عبد الله (230?) ، دار صادر –بيروت. طريق الدعوة في ظلال القرآن: لأحمد فائز، مؤسسة الرسالة –بيروت 1401?. (ع) العبادة في الإسلام: للدكتور يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر –بيروت، الطبعة التاسعة 1401?-1981م. العبودية: لشيخ الإسلام ابن تيمية، دار الكتب العلمية –

بيروت، الطبعة الأولى 1401?. العقائد الإسلامية: لسيد سابق، دار التراث العربي، الطبعة الثالثة 1396?. العقائد السلفية بأدلتها النقلية والعقلية: أحمد بن حجر آل أبو طامي، دار الكتب القطرية، ط 1، 1415?-1994م. عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي: د. صالح بن عبد الله العبود، طبع الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ط 1، 1408?. العقيدة في الله: لعمر سليمان الأشقر، مكتبة الفلاح –الكويت، الطبعة الخامسة 1984م. عقيدة المسلمين والردّ على الملحدين والمبتدعين: للشيخ صالح بن إبراهيم البليهي، الرياض، ط 2، 1404?. عقيدة المؤمن: للشيخ أبي بكر جابر موسى الجزائري، مطبعة النهضة الجديدة، الطبعة الأولى سنة 1397?. العقيدة والعبادة والسلوك في ضوء الكتاب والسنة والسيرة النبوية: لأبي الحسن علي الحسني الندوي، دار العلم –الكويت، الطبعة الثانية 1403?-1983م. العلم يدعو للإيمان: تأليف أ-كريس موريسون، ترجمة محمود صالح الفلكي، مكتبة النهضة المصرية –القاهرة،

الطبعة الخامسة 1965م. عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير (جزءان في مجلد واحد) : لفتح الدين أبي الفتح محمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن سيد الناس (ت 734?) دار المعرفة –بيروت. (غ) غزوة بني قريظة: لمحمد أحمد باشميل، دار الفكر –بيروت، الطبعة الثانية 1391?. الفارق بين المخلوق والخالق: لعبد الرحمن بك باجة جي زادة، مطبعة التقدم بمصر، سنة 1322?. فتح الباري شرح صحيح الإمام البخاري (13 جزءاً) للإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت852?) طبع المكتبة السلفية، تحقيق الشيخ عبد العزيز بن باز، ومحمد فؤاد عبد الباقي، ومحب الدين الخطيب. فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (5 أجزاء) : لمحمد بن علي الشوكاني (ت1250?) ، الناشر محفوظ العلمي –بيوت. فتوح البلدان (3 أجزاء) : لأبي الحسن أحمد بن يحيى بن جابر المعروف بالبلاذري (ت279?) ، مكتبة النهضة المصرية، تحقيق صلاح الدين المنجد.

فتح المجيد شرح كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد: للعلامة الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (ت1285?) ، أنصار السنة المحمدية لاهور، بتحقيق محمد حامد الفقي. فجر الإسلام: لأحمد أمين، دار الكتاب العربي –لبنان، الطبعة العاشرة 1969م. الفصل في الملل والأهواء والنحل (5 أجزاء في 3 مجلدات) : لأبي محمد بن علي بن أحمد بن حزم الظاهري (ت456?) دار المعرفة –بيروت، الطبعة الثانية 1395?. فقه السنة (3 أجزاء) : لسيد سابق، دار الكتاب العربي –بيروت. فقه السيرة: لمحمد الغزالي، دار الكتب الحديثة بمصر، الطبعة السابعة 1976م. في ظلال القرآن (8 أجزاء) : لسيد قطب، إحياء التراث العربي-بيروت، الطبعة السابعة 1391?. (ق) قاعدة جليلة في التول والوسيلة: لشيخ الإسلام ابن تيمية، دار العربية للطباعة والنشر والتوزيع –بيروت 1390?-1970م.

القاموس المحيط (4 أجزاء) : لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزابادي (ت817?) ، مؤسسة الحلبي وشركاه -القاهرة. قصة الإيمان بين الفسلفة والعلم والإيمان: للشيخ نديم الجسر، طرابلس -لبنان. فصة الحضارة (36 جزءاً) لول ديورانت، نشر الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية، مطابع الدجوى –القاهرة، ترجمة محمد بدران. قصص الأنبياء (جزءان في مجلد واحد) : للإمام أبي الفداء إسماعيل بن كثير (ت774?) دار الكتب الإسلامية –القاهرة، الطبعة الأولى 1401?، تحقيق عبد القادر أحمد عطا. قصص الأنبياء: لعبد الوهاب النجار، مؤسسة الحلبي وشركاه –القاهرة 1386?. (ك) الكامل في التاريخ (9 أجزاء) : للعلامة عز الدين أبي الحسن علي بن محمد بن عبد الكريم المعروف بابن الأثير الشيباني (ت630?) ، دار الكتاب العربي –بيروت. كتاب الكبائر وتبيين المحارم: للحافظ أبي عبد الله محمد بن

أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي (ت748?) ، مؤسسة علوم القرآن –دمشق، بيروت، الطبعة الأولى 1404?، تحقيق محي الدين مستو. كتاب التسهيل لعلوم التنزيل (4 أجزاء في مجلدين) : للإمام الحافظ أبي القاسم محمد بن أحمد بن جزي الكلبي الغرناطي (ت741?) ، دار الكتب الحديثة –القاهرة، تحقيق محمد عبد المنعم اليونسي، وإبراهيم عطوة عوض. كتاب الأصنام: لأبي المنذر هشام بن محمد السائب الكلبي، الدار القومية للطباعة والنشر –القاهرة، تحقيق أحمد زكي. الكتاب المقدس: (العهد القديم والعهد الجديد) ، طبع بنفقة جمعية التوراة الأمريكانية. الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل (4 أجزاء) : لأبي القاسم جار الله بن محمود بن عمر الزمخشري (ت538?) شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر 1392?. الكشاف الفريد عن معاول الهدم ونقائض التوحيد (مجلدان) : لخالد محمد علي الحاج، إدارة إحياء التراث الإسلامي بدولة قطر، الطبعة الأولى 1403?-1983م، تحقيق عبد الله إبراهيم الأنصاري.

الكليات (5 أجزاء) لأبي البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكوفي (ت1094?) منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي –دمشق 1975م. الكواشف الجلية عن معاني الواسطية: للشيخ عبد العزيز المحمد السلمان، مؤسسة مكة للطباعة والإعلام، الطبعة الرابعة. (ل) لباب النقول في أسباب النزول: لجلال الدين عبد الرحمن ابن أبي بكر السيوطي (ت911?) ، دار إحياء العلوم –بيوت، الطبعة الثانية 1979م. لسان العرب (15 جزءاً) : لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور (ت 711?) ، دار صادر –بيروت. (م) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: لأبي الحسن علي الحسيني الندوي، دار الكتاب العربي –بيروت، الطبعة السادسة 1385?. مباحث في علوم القرآن: لمناع القطان، مؤسسة الرسالة –بيروت، الطبعة الخامسة 1398?. المجتمع الإسلامي: للدكتور أحمد شلبي، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الرابعة 1974م.

مجمع الأمثال: لأبي الفضل أحمد بن محمد النيسابوري المعروف بالميداني (ت518?) الطبعة الخيرية 1310?. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (10 أجزاء) : للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي (ت807?) ، مكتبة القدس –القاهرة سنة 1353?. مجموعة التوحيد: لشيخ الإسلام ابن تيمية، والشيخ محمد بن عبد الوهاب (ت1206?) المكتبة السلفية بالمدينة المنورة. مجموعة الرسائل الكبرى (مجلدان) لشيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الدمشقي (ت728?) ، دار إحياء التراث العربي –بيروت. مجموعة الرسائل المنيرية، ط 1، سنة 1343?، نشر دار إحياء التراث العربي –بيروت. المجموع شرح المهذب (20 جزءاً) : للإمام أبي زكريا محي الدين بن شرف النووي (ت676?) ، المكتبة العالمية بالفجالة –القاهرة، تحقيق وتكملة محمد بخيت المطيعي. مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (37 جزءاً) جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد، الطبعة السعودية تصوير عن الطبعة الأولى 1398?.

مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ عبد العزيز بن باز ط 1411?، طبع الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض. مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة: للدكتور محمد حميد الله، دار الإرشاد للطباعة والنشر والتوزيع –بيروت، الطبعة الثالثة 1389?. محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية: للشيخ محمد الخضري بك، المكتبة التجارية الكبرى بمصر. محاضرات في النصرانية: لمحمد أبي زهرة، دار الفكر العربي، الطبعة الثالثة 1381?. مختار الصحاح: للإمام محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، مؤسسة علوم القرآن –بيروت، ومكتبة النووي –دمشق، طبع سنة 1398?. مدارج السالكين (3 أجزاء) للإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزي (ت751?) دار الكتب العلمية –بيروت، الطبعة الأولى 1403?-1983م. مدخل إلى القرآن الكريم: للدكتور محمد عبد الله دراز، دار القلم –الكويت، 1400?، ترجمة محمد عبد العظيم علي. المدخل لدراسة القرآن: لمحمد محمد أبي شهبة، دار الكتب-

القاهرة، الطبعة الثانية 1972م. مذكرة التوحيد: الشيخ عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلامي –بيروت، 1403?-1983م. مروج الذهب ومعادن الجوهر (4 أجزاء) لأبي الحسن علي ابن الحسين بن علي المسعودي (ت 346?) المكتبة التجارية الكبرى بمصر، الطبعة الرابعة 1384?. مسائل الجاهلية: للشيخ محمد بن عبد الوهاب، طبع في مؤسسة مكة للطباعة والإعلام، من مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. المستدرك على الصحيحين في الحديث (4 أجزاء) : للحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدوية (ت405?) ، دار الفكر –بيروت 1398?. مسند الطيالسي: تأليف سليمان بن داود بن الجارود الفارسي الشهير بابن داود الطيالسي (ت204?) ، دار المعرفة –بيروت. المسند (6 أجزاء) للإمام أحمد بن حنبل: الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني (ت241?) ، دار صادر –بيروت. المسيحية: للدكتور أحمد شلبي، مكتبة النهضة المصرية –

القاهرة، الطبعة السادسة 1978م. المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، للعلامة أحد بن محمد بن علي المقرئ الفيومي (ت770?) ، مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، تصحيح مصطفى السقا. مصرع التصوف: لبرهان الدين البقاعي، دار الكتب العلمية بيروت، 1400?-1980م، تحقيق عبد الرحمن الوكيل. مصرع الشرك والخرافة: للشيخ خالد محمد علي الحاج، إدارة الشئون الدينية بدولة قطر 1398?-1978م، تحقيق عبد الله بن إبراهيم الأنصاري. مطلع النور: لعباس محمود العقاد، منشورات المكتبة العصرية- بيروت، صيدا. معارج القبول (جزءان) : للشيخ حافظ بن أحمد حكمي، المطبعة السلفية ومكتبتها، شارع الفتح بالرضة. معالم تاريخ الإنسانية: ?. ج. ولز، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر –القاهرة، الطبعة الأولى 1956م، مراجعة الأستاذ محمد مأمون نجا، والدكتور عبد الحميد يونس. معركة النبوة مع المشكرين أو قصة الرسالة كما تعرضها سورة الأنعام: للدكتور إبراهيم زيد الكيلاني، مكتبة الأقصى –عمان الأردن.

مع الأنبياء في القرآن الكرين: لعفيف عبد الفتاح طبارة، دار العلم للملايين –بيروت، الطبعة الثانية عشرة 198م. معجم البلدان (5 أجزاء) : للشيخ شهاب الدين أبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي الرومي البغدادي (ت626?) ، دار إحياء التراث العربي –بيروت، 1399?-1979م. المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي (7 أجزاء) : تأليف لفيف من المستشرقين، نشره د/ أ. ي. ونسنك، أستاذ العربية بجامعة ليدن، سنة 1936م. المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم: محمد فؤاد عبد الباقي، ط دار الكتب العلمية المصرية- القاهرة. معجم مقاييس اللغة (6 أجزاء) : لأبي الحسن أحمد بن فارس ابن زكريا (ت395?) على القول الراجح، دار الكتب العلمية –إيران، تحقيق عبد السلام محمد هارون. المغازي (3 أجزاء) : لأبي عبد الله محمد بن عمر بن واقد (ت207?) ، عالم الكتب –بيروت، الطبعة الثالثة 1404?-1984م، تحقيق الدكتور مارسدن جونس. المغني (9 أجزاء) : لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة (ت620?) ، مكتبة الجمهورية بمصر. مفتاح دار السعادة (جزءان في مجلد واحد) : لأبي عبد الله

شمس الدين المعروف بابن قيم الجوزية (ت751?) ، دار الكتب العلمية –بيروت. المفردات في غريب القرآن: لأبي القاسم الحسين بن محمد بن الفضل الراغب الأصفهاني (ت502?) ، دار المعرفة –بيروت، تحقيق وضبط محمد سيد كيلاني. المفضل في تاريخ العرب قبل الإسلام: للدكتور جواد علي، دار العلم للملايين –بيروت، ومكتبة النهضة ببغداد، نشر بمساعدة جامعة بغداد، الطبعة الأولى 1970م. الملل والنحل (جزءان) : لأبي الفتح محمد عبد الكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني (ت548?) دار المعرفة –بيروت 1400?، تحقيق محمد سيد كيلاني. مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول: لأحمد إبراهيم الشريف، دار الفكر العربي –القاهرة، الطبعة الثانية. مناهج الجدل في القرآن الكريم: للدكتور زاهر عواض الألمعي، مطابع الفرزدق التجارية، الطبعة الثانية، 1400?. منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمة والعقل: د. ربيع ابن هادي المدخلي، الدار السلفية، ط 1، 1406?، الكويت. المنعج العلمي للإعتقاد: لشاكر عبد الجبار، نشر مكتبة

القدس –بغداد، الطبعة الأولى 1984م. مناهل العرفان في علوم القرآن (جزءان) : لمحمد عبد العظيم الزرقاني، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه بمصر. منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية (4 أجزاء) : لشيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الدمشقي (ت728?) ، مكتبة دار العروبة، مطبعة المدني القاهرة، تحقيق محمد رشاد سالم. منهاج المسلم: لأبي بكر جابر الجزائري، دار الفكر، ط 8، 1396?-1976م. منهج القرآن الكريم في تربية المجتمع: للدكتور عبد الفتاح عاشور، مكتبة الخانجي بمصر، مطبعة دار الجيل للطباعة والنشر، الفجالة 1399?. منهج القرآن في الدعوة إلى الإيمان: للدكتور علي بن محمد ابن ناصر الفقيهي، الطبعة الأولى 1405?-1984م. الموافقات في أصول الشريعة (4 أجزاء) : لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي المالكي المعرفو بالشاطبي (ت790?) ، دار المعرفة –بيروت.

موجز تاريخ العالم: تأليف ?. ج. ولز، مكتبة النهضة المصرية، ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد، ومراجعة محمد مأمون نجا. موسوعة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية (7 أجزاء) : للكتور أحمد شلبي، مكتبة النهضة المصرية –القاهرة، الطبعة الثامنة 1978م. الموطأ (جزءان) للإمام أبي عبد الله مالك بن أنس بن مالك الأصبحي، (ت179?) ، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه، تصحيح وترقيم وتعليق محمد فؤاد عبد الباقي. (ن) النبأ العظيم: لمحمد عبد الله دراز، دار القلم –الكويت، الطبعة الثانية 1390?. النهج السديد في تخريخ أحاديث تيسير العزيز الحميد: تصنيف أبي سليمان جاسم الفهيد الدوسري، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي –الكويت، الطبعة الأولى 1404?-1984م. النهاية في غريب الحديث والأثر (5 أجزاء) : للإمام مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد الجزري المعروف بابن

الأثير (ت606?) المكتبة الإسلامية لصاحبها الحاج رياض الشيخ، تحقيق طاهر احمد الزاوي، ومحمود محمد الطناحي. نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار (9 أجزاء في 4 مجلدات) : لمحمد بن علي بن محمد الشوكاني (ت1250?) ، دار الجيل –بيروت، 1973م. (و) الوحدة الموضوعية في القرآن الكريم: للدكتور محمد محمود حجازي، مطبعة المدني بالقاهرة 1390?-1970م. وفاء الوفاء (4 أجزاء في مجلدين) لنور الدين علي بن أحمد المصري السمهودي (ت911?) ، دار إحياءؤ التراث العربي –بيروت، الطبعة الثالثة 1404?، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد. (ي) اليهودية: للدكتور أحمد شلبي، مكتبة النهضة المصرية –القاهرة، الطبعة الخامسة 1978م.

§1/1